

بسم الله الرّحمن
الرّحيم
(وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ
مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
(مقدّمة المشرف :
آية الله جعفر
السبحاني
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
إجماع العترة الطاهرة
يعدّ كتاب «نهاية
الوصول إلى علم الأصول» موسوعة أصولية تتكفّل ببيان القواعد الأصولية الّتي يبتني
عليها استنباط الأحكام الشرعية ، وقد نهج مؤلفه رحمهالله في ترصيف هذا الكتاب المنهج المقارن ، فلذلك نجده يعرض
آراء الأصوليّين من مختلف المذاهب الإسلامية ويذكر أدلّتهم في مسألة واحدة ثم يقضي
ويبرم ويخرج بالنتيجة المطلوبة ، وقلّما تجد مثيلا لهذا الكتاب بين المؤلّفات
الأصولية ، إذ يسلك أغلب الأصوليّين منهجا خاصّا يوافق مذهب إمامه ومتبنّياته.
ومن المسائل
الأصولية الهامّة الّتي وردت في هذا الجزء : مسألة الإجماع محصّله ومنقوله وما
تبتني عليه حجّية الاتفاق ، وقد أغرق المصنّف نزعا في التحقيق فلم يبق في القوس
منزعا.
ومن العناوين
الطرّة في هذا الفصل الّتي ألفتت نظري هو إجماع العترة الّذي غفل عنه أكثر
الأصوليين ، إلّا نجم الدين الطوفي ، فقد عدّه من مصادر التشريع الإسلامي في
رسالته .
ويا للعجب أنّ بعض
الأصوليّين يعدّون إجماع أهل المدينة ، بل إجماع أهل الكوفة وإجماع الخلفاء من
مصادر التشريع ، بل ربّما يعدّون ما هو أنزل من ذلك كقول الصحابي ، ولكن لا يذكرون
شيئا عن إجماع العترة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا!!
ومع ذلك كلّه فقد
اختصر المؤلّف الكلام في هذا البحث ، على الرغم من ضرورة التفصيل فيه حتّى يتّضح
الحق بأجلى صوره ، ولذلك رأينا أن نذكر في تقديمنا هذا شيئا ممّا يرجع إلى حجّية
أقوال العترة الطاهرة فضلا عن إجماعهم ، وذلك بالبيان التالي :
إجماع العترة
كلّ من كتب في
تاريخ الفقه الإسلامي وتعرض لمنابع الفقه والأحكام غفل عن ذكر أئمّة أهل البيت عليهمالسلام وحجّية أقوالهم فضلا عن حجّية اتّفاقهم ، وذلك بعين الله
بخس لحقوقهم ، وحيث إنّ المقام يقتضي الاختصار نستعرض المهم من الأدلّة الدالّة
على حجّية أقوالهم فضلا عن اتّفاقهم على
__________________
حكم من الأحكام ،
كقوله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
والاستدلال بالآية
على عصمة أهل البيت ، وبالتالي حجّية أقوالهم رهن أمور :
الأوّل : الإرادة
في الآية إرادة تكوينية لا تشريعية ، والفرق بين الإرادتين واضحة ، فإنّ إرادة
التطهير بصورة التقنين تعلّقت بعامّة المكلّفين من غير اختصاص بأئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، كما قال سبحانه : (وَلكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ).
فلو كانت الإرادة
المشار إليها في الآية إرادة تشريعية لما كان للتخصيص والحصر وجه مع أنّا نجد فيها
تخصيصا بوجوه خمسة :
أ. بدأ قوله
سبحانه بالأداة (إِنَّما) المفيدة للحصر.
ب. قدّم الظرف (عَنْكُمُ) وقال : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ) ولم يقل ليذهب الرجس عنكم ، لأجل التخصيص.
ج. بيّن من تعلّقت
إرادته بتطهيرهم بصيغة الاختصاص ، وقال : (أَهْلَ الْبَيْتِ) أي أخصّكم.
د. أكّد المطلوب
بتكرير الفعل ، وقال : (وَيُطَهِّرَكُمْ) تأكيدا لقوله : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ
الرِّجْسَ).
__________________
ه. أرفقه بالمفعول
المطلق ، وقال : (تَطْهِيراً).
كلّ ذلك يؤكد أنّ
الإرادة الّتي تعلّقت بتطهير أهل البيت غير الإرادة الّتي تعلّقت بعامّة
المكلّفين.
ونرى مثل هذا
التخصيص في خطابه لمريم البتول قال سبحانه : (إِنَّ اللهَ
اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ).
الثاني : المراد
من الرجس كلّ قذارة باطنية ونفسية ، كالشرك ، والنفاق ، وفقد الإيمان ، ومساوئ
الأخلاق ، والصفات السيئة ، والأفعال القبيحة الّتي يجمعها الكفر والنفاق والعصيان
، فالرجس بهذا المعنى أذهبه الله عن أهل البيت ، ولا شكّ انّ المنزّه عن الرجس
بهذا المعنى يكون معصوما من الذنب بإرادة منه سبحانه ، كيف وقد ربّاهم الله سبحانه
وجعلهم هداة للأمّة كما بعث أنبياءه ورسله لتلك الغاية.
الثالث : المراد
من أهل البيت هو : علي وفاطمة وأولادهما ، لأنّ أهل البيت وإن كان يطلق على النساء
والزوجات بلا شك ، كقوله سبحانه : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ
أَمْرِ اللهِ رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) ، ولكن دلّ الدليل القاطع على أنّ المراد في الآية غير
نساء النبي وأزواجه ، وذلك بوجهين :
أ. نجد أنّه
سبحانه عند ما يتحدّث عن أزواج النبي يذكرهنّ بصيغة
__________________
جمع المؤنث ولا
يذكرهنّ بصيغة الجمع المذكر ، فإنّه سبحانه أتى في تلك السورة (الأحزاب) من الآية
٢٨ ـ ٣٤ باثنين وعشرين ضميرا مؤنثا مخاطبا بها نساء النبي ، وهي كما يلي :
١. (كُنْتُنَّ ،) ٢. (تُرِدْنَ ،) ٣. (فَتَعالَيْنَ ،) ٤. (أُمَتِّعْكُنَّ ،) ٥. (أُسَرِّحْكُنَّ.)
٦. (كُنْتُنَّ ،) ٧. (تُرِدْنَ ،) ٨. (مِنْكُنَّ).
٩. (مِنْكُنَّ).
١٠. (مِنْكُنَّ).
١١. (لَسْتُنَّ ،) ١٢. (إِنِ اتَّقَيْتُنَّ ،) ١٣. (فَلا تَخْضَعْنَ ،) ١٤. (قُلْنَ).
١٥. (قَرْنٍ ،) ١٦. (فِي بُيُوتِكُنَّ ،) ١٧. (تَبَرَّجْنَ ،) ١٨. (أَقِمْنَ ،) ١٩. (آتِينَ ،) ٢٠.
(أَطِعْنَ اللهَ).
٢١. (اذْكُرْنَ ،) ٢٢. (فِي بُيُوتِكُنَّ).
وفي الوقت نفسه
عند ما يذكر أئمة أهل البيت عليهمالسلام في آخر الآية ٣٣ يأتي بضمائر مذكّرة ويقول : (لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ
الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ ،) فإنّ هذا العدول دليل على أنّ الذكر الحكيم انتقل من موضوع
إلى موضوع آخر ، أي من نساء النبي إلى أهل بيته ، فلا بدّ أن يكون المراد منه غير
نسائه.
__________________
ب. أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أماط الستر عن وجه الحقيقة ، فقد صرّح بأسماء من نزلت
الآية بحقّهم حتّى يتعيّن المنظور منه باسمه ورسمه ولم يكتف بذلك ، بل أدخل جميع
من نزلت الآية في حقّهم تحت الكساء ومنع من دخول غيرهم.
ولم يقتصر على
هذين الأمرين (ذكر الأسماء وجعل الجميع تحت كساء واحد) بل كان كلّما يمرّ ببيت
فاطمة عليهاالسلام إلى ثمانية أشهر يقول : الصلاة ، أهل البيت : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
وقد تضافرت
الروايات على ذلك ، ولو لا خوف الإطناب لأتينا بكلّ ما روي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولكن نذكر من كلّ طائفة أنموذجا :
أمّا الطائفة
الأولى : أخرج الطبري في تفسير الآية عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نزلت الآية في خمسة : فيّ وفي علي رضى الله عنه وحسن رضى
الله عنه ، وحسين رضى الله عنه ، وفاطمة رضي الله عنها ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ
عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) الحديث .
وأمّا الطائفة
الثانية : فقد روى السيوطي وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وابن جرير وابن أبي
حاتم والحاكم عن عائشة رضي الله عنها ، قالت : خرج رسول الله غداة وعليه مرط مرجل
من شعر أسود ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما فأدخلهما معه ، ثمّ جاء علي
فأدخله معه ، ثمّ قال :
__________________
(إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً.)
ولو لم تذكر فاطمة
في هذا الحديث ، فقد جاء في حديث آخر ، حيث روى السيوطي ، قال : واخرج ابن جرير
والحاكم وابن مردويه عن سعد ، قال : نزل على رسول الله الوحي ، فأدخل عليا وفاطمة
وابنيهما تحت ثوبه ، قال : «اللهمّ إنّ هؤلاء أهل بيتي».
وفي حديث آخر جاء
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى فاطمة ومعه حسن وحسين ، وعلي حتّى دخل ، فأدنى عليا
وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كلّ واحد منهما على فخذه ، ثمّ لفّ
عليهم ثوبه ، ثمّ تلا هذه الآية : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
وأمّا الطائفة
الثالثة : فقد أخرج الطبري عن أنس أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يمرّ ببيت فاطمة ستة أشهر كلّما خرج إلى الصلاة فيقول
: الصلاة أهل البيت (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً).
والروايات تربو
على أربع وثلاثين رواية ، رواها من عيون الصحابة : أبو سعيد الخدري ، أنس بن مالك
، ابن عباس ، أبو هريرة الدوسي ، سعد بن أبي وقاص ، واثلة بن الأسقع ، أبو الحمراء
ـ أعني : هلال بن حارث ـ وأمهات المؤمنين : عائشة وأمّ سلمة.
__________________
وبذلك تبيّنت حجية
أقوال كلمات أهل البيت عليهمالسلام في مجالي العقيدة والشريعة لاعتصامهم بحبل الله تعالى ،
فإذا كان قول واحد منهم حجة فكيف هو حال إجماعهم؟
فما أصدق قول
القائل :
فوال أناسا
قولهم وكلامهم
|
|
روى جدّنا عن
جبرئيل عن الباري
|
رزقنا الله
زيارتهم في الدنيا ، وشفاعتهم في الآخرة.
عصمة أولي الأمر
دلت آية التطهير
على عصمة أهل البيت عليهمالسلام كما عرفت آنفا وفي الوقت نفسه دلّت آية الطاعة ـ بالإضافة
إلى وجوب طاعتهم ـ على عصمة الرسول وأولي الأمر ، أعني قوله سبحانه : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ).
والاستدلال مبني
على دعامتين :
١. إنّ الله
سبحانه أمر بطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق ؛ أي في جميع الأزمنة والأمكنة ، وفي
جميع الحالات والخصوصيات ، ولم يقيّد وجوب امتثال أوامرهم ونواهيهم بشيء كما هو
مقتضى الآية.
٢. إنّ من الأمر
البديهي كونه سبحانه لا يرضى لعباده الكفر
__________________
والعصيان : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) من غير فرق بين أن يقوم به العباد ابتداء من دون تدخّل أمر
آمر أو نهي ناه ، أو يقومون به بعد صدور أمر ونهي من أولي الأمر.
فمقتضى الجمع بين
هذين الأمرين (وجوب إطاعة أولي الأمر على وجه الإطلاق ، وحرمة طاعتهم إذا أمروا
بالعصيان) أن يتّصف أولوا الأمر الذين وجبت إطاعتهم على وجه الإطلاق ، بخصوصية
ذاتية وعناية إلهية ربّانية ، تصدّهم عن الأمر بالمعصية والنهي عن الطاعة. وليس
هذا إلّا عبارة أخرى عن كونهم معصومين ، وإلّا فلو كانوا غير واقعين تحت تلك
العناية ، لما صحّ الأمر بإطاعتهم على وجه الإطلاق بدون قيد أو شرط. فنستكشف من
إطلاق الأمر بالطاعة اشتمال المتعلّق على خصوصية تصدّه عن الأمر بغير الطاعة.
وممّن صرّح بدلالة الآية على العصمة الإمام الرازي في تفسيره ، ويطيب لي أن أذكر
نصّه حتّى يمعن فيه أبناء جلدته وأتباع طريقته ، قال :
إنّ الله تعالى
أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية ، ومن أمر الله بطاعته على سبيل
الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوما عن الخطأ ؛ إذ لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان
بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته ، فيكون ذلك أمرا بفعل ذلك
الخطأ ، والخطأ لكونه خطأ منهيّ عنه ، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل
الواحد بالاعتبار
__________________
الواحد ، وأنّه
محال ، فثبت أنّ الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم ، وثبت أنّ كلّ
من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوما عن الخطأ ، فثبت قطعا أنّ
أولي الأمر المذكور في هذه الآية لا بدّ وأن يكون معصوما .
بيد أنّ الرازي ،
وبعد أن قادته استدلالاته المنطقية إلى هذه الفكرة الثابتة المؤكّدة لوجوب العصمة
بدأ يتهرّب من تبعة هذا الأمر ، ولم يستثمر نتائج أفكاره ، لا لسبب إلّا لأنّها لا
توافق مذهبه في تحديد الإمامة ، فأخذ يؤوّل الآية ويحملها على غير ما ابتدأه وعمد
إلى إثباته ، حيث استدرك قائلا بأنّا عاجزون عن معرفة الإمام المعصوم ، عاجزون عن
الوصول إليه ، عاجزون عن استفادة الدين والعلم منه ، فإذا كان الأمر كذلك ،
فالمراد ليس بعضا من أبعاض الأمّة ، بل المراد هو أهل الحلّ والعقد من الأمّة.
إلّا أنّ ادّعاءه
هذا لا يصمد أمام الحقيقة القويّة التي لا خفاء عليها ، وفي دفعه ذلك الأمر مغالطة
لا يمكن أن يرتضيها هو نفسه ، فإنّه إذا دلّت الآية على عصمة أولي الأمر فيجب
علينا التعرّف عليهم ، وادّعاء العجز هروب من الحقيقة ، فهل العجز يختص بزمانه أو
كان يشمل زمان نزول الآية؟ لا أظنّ أن يقول الرازي بالثاني. فعليه أن يتعرّف على
المعصوم في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وعصر نزول الآية ، وبالتعرّف عليه يعرف معصوم زمانه ،
__________________
حلقة بعد أخرى ،
ولا يعقل أن يأمر الوحي الإلهي بإطاعة المعصوم ثمّ لا يقوم بتعريفه حين النزول ،
فلو آمن الرازي بدلالة الآية على عصمة أولي الأمر فإنّه من المنطقي والمعقول له أن
يؤمن بقيام الوحي الإلهي بتعريفهم بواسطة النبيّ الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ إذ لا معنى أن يأمر الله سبحانه بإطاعة المعصوم ، ولا
يقوم بتعريفه.
إكمال : أهل
السنّة ووجه حجّية الإجماع
قد حقّق المصنّف
في ثنايا بحثه عن حجّية الإجماع ، أنّ الإجماع بما هو هو ليس بحجّية شرعية وليس من
أدلّة التشريع ، وإنّما هو حجّة لأجل كشفه عن دليل شرعي يعدّ حجّة في المسألة.
وأمّا الإجماع عند
أهل السنّة فهو من أدلّة التشريع ويعدّ حجّة في عرض الكتاب والسنّة ، وهذا لا يعني
تقابله معهما ، بل بمعنى أنّ كلّ واحد حجّة في مضمونه ومحتواه ، وذلك بالبيان
التالي :
إذا اتّفق
المجتهدون من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في عصر من العصور على حكم شرعي ، يكون المجمع عليه حكما
شرعيا واقعيا عند أهل السنّة ولا تجوز مخالفته ، وليس معنى ذلك أنّ إجماعهم على
حكم من تلقاء أنفسهم يجعله حكما شرعيا ، بل يجب أن يكون إجماعهم مستندا إلى دليل
شرعي قطعي أو ظنّي ، كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.
فلو كان المستند
دليلا قطعيا من قرآن أو سنّة متواترة يكون الإجماع مؤيدا ومعاضدا له؛ ولو كان
دليلا ظنّيا كما مثلناه ، فيرتقي الحكم حينئذ بالإجماع من مرتبة الظن إلى مرتبة
القطع واليقين.
ومثله ما إذا كان
المستند هو المصلحة أو دفع المفسدة ، فالاتّفاق على حكم شرعي استنادا إلى ذلك
الدليل يجعله حكما شرعيا قطعيا ، كزيادة أذان لصلاة الجمعة في عهد عثمان لإعلام
الناس بالصلاة كي لا تفوتهم ، حتّى صار الأذان الآخر عملا شرعيا إلهيا وإن لم ينزل
به الوحي .
فلو صحّ ذلك فقد
أعطى سبحانه للإجماع واتّفاق الأمّة منزلة كبيرة على وجه إذا اتّفقوا على أمر ،
يصبح المجمع عليه حكما شرعيا قطعيا كالحكم الوارد في القرآن والسنّة النبويّة ،
ويكون من مصادر التشريع.
يلاحظ عليه : أنّه
لو كان الإجماع بما هو هو من أدلّة التشريع وأنّ الدليل الظني ببركة الإجماع يرتقي
إلى مرتبة القطع واليقين ويكون حجّة في عرض سائر الحجج ، فمعنى ذلك أنّ التشريع
الإسلامي لم يختتم بعد رحيل الرسول الأعظم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأنّ هناك نبوة بعد نبوّته ، وهو على خلاف ما اتّفق
المسلمون عليه من إغلاق باب الوحي والتشريع واختتام النبوة ، فلا محيص عن القول
إلّا بالرجوع إلى ما عليه الشيعة الإمامية من أنّ الإجماع كاشف عن الدليل الصادر
عن الصادع بالحق صلىاللهعليهوآلهوسلم كما أنّ حجّية العقل في
__________________
مجالات التشريع من
هذه المقولة فليس العقل مشرعا وإنّما هو كاشف عن الحكم الإلهي في موارد خاصة.
هذه خلاصة القول
في المقام والتفصيل يطلب من موسوعاتنا الأصولية.
خبر مؤسف
يعزّ علينا أن
نكتب هذا التقديم ونحن نفتقد علما من أعلام التحقيق في مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام ألا وهو العلّامة الشيخ إبراهيم البهادري تغمده الله
برحمته الواسعة الّذي لبّى دعوة ربّه في خامس شهر شعبان المعظم من شهور عام ١٤٢٦ ه
، وقد شيّع جثمانه الطاهر في موكب مهيب ودفن في مدينة قم المقدسة.
والشيخ البهادري رحمهالله بكلمة قصيرة كان رجلا زاهدا دءوبا في العمل لا يبتغي إلّا
مرضاة الله تعالى ، فهو من أبرز مصاديق ما قاله العلّامة الكبير السيد هبة الدين
الشهرستاني : إن الناشر (والمحقّق) لصحائف العلماء الأمناء ، يؤمّن لقومه الحياة
الطيبة أكثر ممّن ينوّرون الطرق في الظلماء ، و [يمهدون السبيل] إلى الماء.
كرّس المغفور له
عمره في تحقيق تراث أهل البيت عليهمالسلام ونشر علومهم ، مدة من عمره تناهز ربع قرن.
__________________
وقد قام بتحقيق
كتب قيّمة نذكر منها : «تحرير الأحكام» للعلّامة الحلّي في ستة أجزاء ، و «الاحتجاج»
للطبرسي في جزءين ، و «معالم الدين في فقه آل ياسين» لابن قطّان الحلّي في جزءين ،
و «غنية النزوع إلى علمي الأصول والفروع» لابن زهرة الحلبي في جزءين ، و «إصباح
الشيعة» للكيدري ، وغيرها.
ومن أبرز ما حقّقه
في أواخر عمره الجزء الأوّل والثاني وبداية الجزء الثالث من هذه الموسوعة
الأصولية.
فسلام الله عليه
يوم ولد ، ويوم مات ويوم يبعث حيّا.
شكر وتقدير
وقد أنيطت مهمة
إتمام هذا المشروع إلى لجنة التحقيق في المؤسسة المتمثّلة بالمحقّقين الأفاضل :
١. السيد عبد
الكريم الموسوي.
٢. الشيخ خضر ذو
الفقاري.
٣. الحاج محمد عبد
الكريم بيت الشيخ.
فقام الأفاضل ـ وفّقهم
الله ـ بتحقيق الكتاب على أكمل وجه وبجميع مراحله من مقابلة النسخ الخطية ، وتقويم
نص الكتاب وضبطه ، ومراجعة النصوص مع مصادرها الأصلية ، وتخريج الأحاديث من كتب
الفريقين ،
وإعراب الآيات
وتخريجها ، وتصحيح الكتاب بدقّة حتّى ظهر بهذا الشكل اللائق ، فشكر الله سعيهم
ووفّقهم للمزيد من البذل والعطاء وخدمة الإسلام.
والحمد لله رب
العالمين
|
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام
قم المقدسة ـ إيران
٢٥ من صفر المظفر
١٤٢٧ ه
|
الفصل الثالث :
في المنسوخ
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في النسخ قبل الفعل
نسخ الشيء قبل
فعله ضربان :
الأوّل : نسخه بعد
انقضاء وقته ، ولا خلاف في جوازه ، لأنّ مثل الفعل يجوز أن يصير مفسدة في المستقبل
، ومصلحة في الحال ، فيأمر بفعله في الحال ، ثمّ ينهى عنه في المستقبل.
ولا فرق بين
المطيع والعاصي في حسن توجّه الأمر والنهي معا إليهما ، فإنّه قد يحسن أن يأمر
بالفعل من يعصيه ، كما يحسن أن يأمر من يطيعه.
وإذا كان لو أمره
فأطاع ، لجاز النسخ إجماعا ، فكذا إذا أمره فعصى ، لأنّ بالطّاعة والمعصية لا
يتغيّر حسن النسخ التابع لتعريف المصالح في المستقبل.
وأيضا ، فقد بيّنا
أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع ، فالنسخ قد يتناولهم وإن عصوا بالترك ، وإذا جاز
ذلك فيهم ، جاز في غيرهم.
الثاني : نسخه قبل
حضور وقته ، أو نقضه ، وقد اختلف الناس في ذلك : فمنعه المعتزلة وبعض أصحاب أبي
حنيفة ، وأبو بكر الصيرفي من الشافعية.
وذهب الأشاعرة
وأكثر الشافعية إلى جوازه.
والحق الأوّل
لوجوه :
الأوّل : لو جاز
ذلك لزم كون الشخص الواحد مأمورا به ، منهيّا عنه عن فعل واحد في وقت واحد على وجه
واحد ، والتالي محال ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المسألة مفروضة فيه ، فإنّه لمّا أمره غدوة بصلاة ركعتين عند الغروب ، ثمّ
نهاه وقت الظهر عن صلاة ركعتين عند الغروب ، فقد تعلّق الأمر والنهي بشيء واحد في
وقت واحد من وجه واحد ومكلّف واحد ومكلّف واحد ، حتّى لو اختلّ شرط منها لم تكن
صورة النزاع.
ولأنّ قوله : صلّ
عند الغروب ركعتين ، موضوع للأمر بالصلاة في ذلك الوقت لا غير ، لغة وشرعا ، وقوله
: لا تصلّ عند الغروب ركعتين ، موضوع للنهي عنها في ذلك الوقت لغة وشرعا.
ولأنّ النّهي لو
تعلّق بغير ما تعلّق به الأمر ، فإن كان المنهيّ عنه أمرا ،
__________________
يلزم من الانتهاء
عنه وقوع الخلل في متعلّق الأمر ، فيكون المتأخّر رافعا للمتقدّم استلزاما ،
فيتوارد الأمر والنهي على شيء واحد في وقت واحد من وجه واحد.
وإن لم يلزم ، لم
يكن صورة النزاع.
ولأنّا أجمعنا على
أنّ الأمر بالشيء يجامع النّهي عن غيره ، إذا لم يلزم من الانتهاء عنه الإخلال
بالمأمور به.
وبيان بطلان
التالي : أنّ متعلّق الأمر إن كان حسنا ، استلزم النهي عنه القبيح أو الجهل ، أو
الحاجة ، وإن كان قبيحا ، استلزم الأمر به أحدها ، واللوازم ممتنعة في حقّه تعالى.
الثاني : إذا أمر
بالفعل في وقت معيّن ، ثمّ نهى عنه ، فقد بان أنّه لم يرد إيقاعه ، ويكون قد أمر
بما لم يرده ، ولو جاز ذلك ، لم يبق لنا وثوق بأقوال الشارع ، لجواز أن يكون
المراد بذلك القول ضدّ ما هو دالّ على إرادته ، وهو محال.
الثالث : أنّه
يفضي إلى أن يكون الفعل الواحد مأمورا به منهيّا عنه ، والأمر والنهي عند
المجوّزين كلامه تعالى ، وكلامه صفة واحدة ، فيكون الكلام الواحد أمرا ونهيا بشيء
واحد في وقت واحد ، وهو محال.
اعترضوا على الأوّل : بأنّه مبنيّ على الحسن والقبح العقليّين ،
وهو ممنوع.
__________________
لا يقال : إن لم
يكن حسنا ولا قبيحا ، فإمّا أن يكون مشتملا على مصلحة أو مفسدة ، ويلزم الأمر
بالمفسدة ، والنهي عن المصلحة.
لأنّا نقول : إنّه
مبنيّ على رعاية الحكمة ، في أفعاله تعالى ، ونحن لا نقول به ، بل يجوز أن يكون
الأمر والنهي لا لمصلحة ولا لمفسدة وإن سلّم عدم خلوّه من المصلحة والمفسدة ، لكن
لا نسلّم أنّه يلزم منه الأمر بالمفسدة والنهي عن المصلحة ، بل جاز أن يقال : إنّه
مشتمل على المصلحة حالة الأمر ، ومشتمل على المفسدة حالة النّهي ، ولا مفسدة حالة
الأمر ، ولا مصلحة حالة النّهي.
وأيضا لو سلّم
الحسن والقبح ، لكن كما يحسن الأمر والنهي لحكمة تنشأ من المأمور به والمنهيّ عنه
، فقد يحسنان أيضا لحكمة تتولّد من نفس الأمر والنهي ، فإنّ السيّد قد يقول لعبده
: اذهب إلى القرية غدا راجلا ، وغرضه حصول الرّياضة في الحال ، وعزمه على أداء ذلك
الفعل ، وتوطين النفس عليه ، مع علمه بأنّه يسقط عنه غدا.
والأمر بالفعل
إنّما يحسن إذا كان كلّ من المأمور به ، والأمر منشأ المصلحة ، فلو كان المأمور به
منشأ المصلحة دون الأمر أو بالعكس ، لم يكن الأمر به حسنا ، فالآمر لما أمر كان
كلّ منهما منشأ المصلحة ، فحسن منه الأمر.
__________________
وفي الوقت الثاني
بقي المأمور به على حالة منشأ المصلحة ، ولم يبق الأمر ، فحسن النهي عنه.
لا يقال : لمّا
بقي الفعل منشأ المصلحة كما كان ، فالنهي عنه يكون منعا عن منشأ المصلحة ، وهو غير
جائز.
لأنّا نقول : يكفي
في المنع من الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات المفسدة ، وهذا المأمور به وإن
بقي منشأ المصلحة ، لكنّ الأمر به لمّا صار منشأ المفسدة ، كان الأمر به قبيحا ،
نظرا إلى نفس الأمر ، وإن كان حسنا ، نظرا إلى المأمور به ، وذلك كاف في قبحه.
وأيضا ، نمنع
اتّحاد متعلّق الأمر والنهي ، فإنّه جائز أن يتناول النهي مثل الفعل الّذي تناوله
الأمر الأوّل ، أو أنّ الأمر تناول اعتقاد وجوب الفعل أو العزم عليه ، والنهي
تناول الفعل أو أنّ لهذه الصلاة في هذا الوقت المخصوص وجهين ، يقع على كلّ منهما ،
فإذا وقعت على أحدهما كانت واجبة ، وإذا وقعت على الآخر ، كانت قبيحة ، فالأمر
تناولها على وجه الحسن ، والنهي تناولها على وجه القبح.
ثمّ اختلفوا في
كيفيّة اختلاف الوجهين ، فقال قوم : هو مأمور بشرط بقاء الأمر ، منهيّ عنه عند
زواله ، وهما حالتان مختلفتان.
وقال آخرون : إنّه
مأمور بالفعل بشرط أن يختاره ، ويعزم عليه ، وينهى عنه إذا علم عدم اختياره ،
وجعلوا حصول ذلك في علم الله تعالى بشرط هذا النسخ.
وقال آخرون : يأمر
بشرط كونه مصلحة ، وإنّما يكون مصلحة مع دوام الأمر ، أمّا بعد النهي فيخرج عنها.
وقال قوم : إنّما
يأمر في وقت يكون الأمر مصلحة ، ثمّ يتغيّر الحال ، فيصير النهي مصلحة ، وإنّما
يأمر الله تعالى به مع علمه بأنّ الحال ستتغيّر ليعزم المكلّف على فعله إن بقيت
المصلحة في الفعل ، والكلّ متقارب.
وعلى الثاني :
بأنّ الأمر ليس من شرطه إرادة المأمور به وعدم الوثوق بأقوال الشارع إن أرادوا به
أنّه إذا خاطب بما يحتمل التأويل أنّا لا نقطع بإرادته لما هو الظاهر من كلامه ،
فمسلّم ، ولكن نمنع امتناعه ، فإنّه أوّل المسألة.
وإن أرادوا به
أنّه لا يمكن الاعتماد على ظاهره ، مع احتمال إرادة غيره من الاحتمالات البعيدة ،
فغير مسلّم ، وغير ذلك ، ليس بمتصوّر.
وعلى الثالث :
أنّه يلزم كون الفعل الواحد في وقت واحد مأمورا منهيّا معا ، أو لا معا ، الأوّل
ممنوع والثاني مسلّم.
ونمنع وحدة كلامه [تعالى]
على مذهب عبد الله بن سعيد. وعلى مذهب أبي الحسن الأشعري نمنع إحالته.
قولهم : يلزم [منه]
أن تكون الصفة الواحدة أمرا نهيا.
قلنا : إنّما
تسمّى الصفة الواحدة بهذه الأسماء بسبب اختلاف تعلّقاتها ومتعلّقاتها ، فإن تعلّقت
بالفعل سمّيت أمرا ، وإن تعلّقت بالنّهي سمّيت نهيا ، وذلك إنّما يمتنع إذا اتّحد
زمان التعلّق بالفعل والترك ، أمّا مع اختلافه فلا ،
والمأمور والمنهيّ
وإن كان زمانه متّحدا ، لكنّ زمان تعلّق الأمر به غير زمان تعلّق النهي به ، ومع
التغاير فلا امتناع.
والجواب : قد
تقدّم إثبات الحسن والقبح العقليّين ، وحكمته تعالى قد أثبتناها في كتبنا
الكلاميّة ، ولو لا هذان المقامان انتفت الشرائع بالكلّية ، وبقاء الأمر وانتفاء
النهي لا يكونان وجها في قبح الفعل ولا حسنه ، ولا يؤثّران في وقوعه على وجه يقتضي
مصلحة أو مفسدة ، فإنّ الفعل لا يحسن بالأمر ولا يقبح بالنهي ، ولا تأثير لهما في
الوجوه الّتي يقع عليها.
قوله : قد يكون
المأمور به منشأ المصلحة دون الأمر ، فيحسن النهي بعد الأمر عند كونهما معا منشأ
المصلحة.
قلنا : قد بيّنا
أنّ الأمر والنهي لا مدخل لهما في وجوه الأفعال من حسن وقبح ، ولا تأثير لهما في
الوجوه الّتي يقع عليها.
لا يقال : انّهما
وان لم يقتضيا قبح فعل ولا حسنه ، ولم يؤثّرا في وجه يقع الفعل عليه ، لكنّهما دليلان
على وجهي الحسن والقبح ، وإذا دلّا ، فلا بدّ من ثبوت وجه يقتضي أحدهما ، لأنّ
الدلالة إنّما تدلّ على صحّته ، فلا استبعاد في أن يأمر الله تعالى بالصلاة وقت
الغروب ، وتكون الصلاة واجبة في ذلك الوقت متى استمرّ حكم الأمر بها ، وان لم يرد
نهي عنها ، وإن ورد النهي يغيّر حالها ، فإذا أمر بالصلاة اعتقد وجوبها عليه ، متى
لم ينه عنها ، فإذا ورد النهي اعتقد قبحها ، ويكون الغرض في هذا التكليف مصلحة
المكلّف ، كأنّا نقدّر أنّه تعالى علم أنّه إن كلّفه على هذا الوجه ، كان مصلحة له
، في واجب عليه يفعله أو قبيح يجتنبه.
لأنّا نقول : هذه
الصلاة المأمور بها ، إن كان فعلها في هذا الوقت مصلحة في الدين ، لم يتغيّر حالها
بورود النهي ، ويجب قبح النهي المتناول لها ، وإن كانت مفسدة في نفسها ، لم يتغيّر
حالها بتناول الأمر أو استمراره ، فيجب قبحها وقبح الأمر المتناول.
قوله : نمنع الاتّحاد
لتعلّق النهي بمثل ما تعلّق بالأمر ، لا بعينه.
قلنا : إنّه باطل
من وجوه :
الأوّل : غير محلّ
النزاع ، إذ المسألة مفروضة في النسخ الّذي هو رفع ، وليس هنا رفع حينئذ.
الثاني : المكلّف
لا يميّز بين فعله المثلين في وقت واحد ، فتكليف فعل أحدهما بعينه ، وتجنّب الآخر
المنهيّ عنه بعينه ، مع أنّهما لا يتميّزان ، تكليف بما لا يطاق.
الثالث : يمتنع أن
يكون أحدهما مصلحة والآخر مفسدة ، لتماثلهما ، واتّحاد وقتهما ومتعلّقهما.
قوله : الأمر
يتعلّق بالاعتقاد أو العزم.
قلنا : هذا باطل
من وجوه :
الأوّل : العزم
والاعتقاد مغايران للصلاة ، ولا يعبّر عنهما بها ، والأمر
__________________
ورد بالصّلاة ،
فلا يتناولهما لغة ولا شرعا ، لا حقيقة ولا مجازا.
الثاني : لو كان
اسم الصلاة عبارة عنهما شرعا ، لما تأخّر بيانه عن وقت الخطاب ، وذلك يخرج البحث
عن مسألة النسخ إلى مسألة تأخير البيان.
الثالث : لا بدّ
في الأمر بالاعتقاد أو العزم من فائدة ، ولا فائدة مع عدم وجوب الفعل الّذي تعلّقا
به.
لا يقال : الفائدة
اختبار المكلّف.
لأنّا نقول :
حقيقة الاختبار إنّما تجوز على من لا يعرف العاقبة دون من يعلمها.
وفيه نظر ، فإنّ
العلم تابع.
الرابع : لا يحسن
إيجاب العزم والاعتقاد على الإطلاق ، والفعل غير واجب ، لقبح اعتقاد وجوب ما ليس
بواجب.
لا يقال : أمر [المكلّف]
بالعزم على الفعل بشرط كونه واجبا.
لأنّا نقول : لا
حاجة إلى هذا التمحّل فإنّه يمكنكم أن تقولوا : «أمر بالفعل بشرط كونه واجبا»
ولا تضمروا العزم الّذي ليس بمذكور.
وفيه نظر ، للفرق
بين : «أمرتك بالعزم بشرط كون الفعل واجبا» وبين :
__________________
«أوجبت عليك الفعل
بشرط كونه واجبا».
الخامس : ليس
القول بأنّه أمر بالعزم على الصلاة بشرط كونها واجبة ، ويتوصّل إلى ذلك بظاهر
النهي ، بأولى من القول بأنّه نهى عن إرادة الفعل المأمور به بشرط كونه قبيحا ، لا
يتجدّد به أمر آخر ، ويجوز ورود أمر آخر ويتوصّل إلى ذلك بظاهر الأمر.
قوله : يجوز أن
يكون للفعل وجهان ، يؤمر به باعتبار أحدهما ، وينهى عنه باعتبار الآخر.
قلنا : هذا باطل ،
أمّا أوّلا فلأنّه غير محلّ النزاع ، إذ النّزاع في فعل اتّحد الوجه فيه ، والوقت
وجميع الأمور المعتبرة فيه.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّه لا نسخ حينئذ ، إذ المأمور به والمنهيّ عنه باقيان على حدّ التكليف ، لم
يرتفع أحدهما ، والتمحّلات الّتي ذكروها في وجه التغاير باطلة ، فإنّ الشرط ما يتصوّر
أن يوجد وأن لا يوجد ، وما لا بدّ منه لا معنى لشرطيّته ، والمأمور به لا يقع
مأمورا إلّا عند دوام الأمر ، وعدم النهي ، فكيف يحسن أن يقول : «آمرك بشرط أن لا
أنهاك»؟ فكأنّه قال : آمرك بشرط أن آمرك ، وبشرط أن يتعلّق الأمر بالمأمور ، وبشرط
كون الفعل المأمور به حادثا ، [أ] وعرضا ، وغير ذلك ممّا لا بدّ منه ، وهذا لا
يصلح للشرطيّة.
ولأنّه تعالى
يستحيل أن يأمر بشرط أن لا ينهى عنه ، لأنّه تعالى عالم
__________________
بأنّ هذا الشرط لا
يحصل ، فلا يأمر به ، والأمر بشرط إنّما يحصل ممّن لا يعرف العواقب.
قال الغزالي :
والعجب من إنكار المعتزلة ثبوت الأمر بالشرط ، مع أنّهم جوّزوا الوعيد منه تعالى بشرط ، فوعد على الطاعة [ثوابا] بشرط عدم ما
يحبطها من الفسق والردة ، وعلى المعصية العقاب ، بشرط خلوّها عمّا يكفّرها من
التوبة.
وفيه نظر ، للفرق
بين «آمرك بشرط أن لا أنهاك» وهو عالم بالعاقبة ، وبين : «أثيبك إن أطعت وأعاقبك
إن عصيت» لوقوع الثاني خبرا عن فعله ، بخلاف الأوّل.
ولأنّ النهي ليس بوجه يقع عليه الفعل.
احتجّ المجوّزون
بوجوه :
الأوّل : أنّه
تعالى أمر إبراهيم بذبح إسماعيل ، ثمّ نسخه قبل الفعل.
الثاني : قوله
تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما
يَشاءُ وَيُثْبِتُ) دلّ على أنّه يمحو كلّ ما يشاء محوه ، على كلّ وجه ، فيدخل
محو العبادة قبل دخول وقتها.
__________________
الثالث : أنّه
تعالى أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة ، فأشار عليه موسى عليهالسلام بالرجوع ، وقال له : «أمّتك ضعفاء لا يطيقون ذلك فاستنقص
الله ينقصك» ، فسأل الله تعالى في ذلك فنسخ الخمسين على التدريج إلى أن بقي خمس
صلوات ، وذلك نسخ قبل الفعل وقبل وقته.
الرابع : يجوز أن
يأمر الله تعالى زيدا بفعل في الغد ، ويمنعه منه بمانع عائق له منه قبل الغد ،
فيكون مأمورا بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع ، وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء
المانع مع تعقّبه بالمنع ، جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ مع تعقّبه
بالنّسخ.
الخامس : أنّه
تعالى نسخ تقديم الصدقة بين يدي المناجاة قبل فعلها.
السادس : النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم صالح قريشا يوم الحديبية على ردّ من هاجر إليه ، ثمّ نسخ ذلك قبل الردّ بقوله تعالى : (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ
فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ).
السابع : وافقنا
الخصم على أنّه تعالى لو أمر بالمواصلة في الصوم سنة ، جاز أن ينسخه عنّا بعد شهر منها ، وذلك نسخ للصّوم فيما بقي من السّنة
قبل حضور وقته.
__________________
الثامن : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أحلّت لي مكّة ساعة من نهار». ومع ذلك منع من القتال فيها ، وهو نسخ قبل وقت الفعل.
التاسع : التكليف
قبل وقت الفعل ثابت ، فوجب جواز رفعه بالنسخ ، كما جاز رفعه بالموت ، لاشتراكهما
في قطع تعلّق التكليف عن المكلّف.
العاشر : لو منع
من النسخ قبل وقت الفعل لزم إبطال النسخ بالكلّية ، فإنّ كلّ نسخ إنّما هو رفع
الحكم قبل وجود وقته ، لأنّ الفعل بعد الوقت ومعه يمتنع نسخه ، وإلّا لزم اجتماع النقيضين ، فلم يبق النسخ واردا
إلّا على الفعل قبل حضور وقته ، وبالجملة فالنسخ إنّما يتحقّق فيما لم يفعل ، وما
فعل كيف ينسخ؟
الحادي عشر :
الطهارة انّما تجب لوجوب الصلاة ، ومع ذلك فقد يمنع المكلّف بالموت عن الصلاة ،
وإن كان قد توضّأ ، فأيّ فرق بين منعه بالموت ومنعه بالنهي.
والجواب عن الأوّل من
وجوه :
الأوّل : يمنع
الأمر بالذبح ، بل بمقدّماته ، من الإضجاع ، وأخذ المدية ، مع الظنّ الغالب بالأمر
بالذبح ، ولهذا قال : (قَدْ صَدَّقْتَ
الرُّؤْيا).
__________________
ولو كان قد فعل
بعض ما أمر به لقال : «قد صدّقت بعض الرؤيا».
لا يقال : قوله
تعالى : (إِنِّي أَرى فِي
الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) لا بدّ وأن يعود إلى شيء ، والمذكور الذبح ، فوجب صرفه
إليه ، فكان مأمورا به.
ولأنّ قوله تعالى
: (إِنَّ هذا لَهُوَ
الْبَلاءُ الْمُبِينُ) إشارة إلى الذبح ، لعدم وصف مقدّماته بأنّها بلاء مبين.
ولقوله تعالى : (وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، ولو لا الأمر بالذّبح لما احتاج إلى الفداء.
لأنّا نقول :
الرؤيا لا تدلّ على كونه مأمورا بذلك.
وقوله : (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) يفيد [الأمر] في المستقبل ، فلا ينصرف إلى ما مضى من رؤياه
في المنام.
وإضجاع الابن ،
وأخذ المدية مع غلبة الظنّ بأنّه مأمور بالذبح بلاء عظيم.
والفداء كان لما
يتوقّعه من الذبح.
الثاني : يمنع
أنّه نسخ عنه ، لما روي أنّه كان كلّما قطع موضعا من الحلق ، وتعدّى إلى غيره أوصل
الله تعالى ما تقدّم قطعه.
__________________
ويمنع اشتراط
بطلان الحياة في حقيقة الذبح ، بل هو قطع في مكان مخصوص مطلقا ، فإنّه يقال : ذبح
هذا الحيوان ولم يمت بعد.
وأيضا ، روي أنّ
الله تعالى جعل على عنقه صفيحة من حديد ، فكان إذا أمرّ إبراهيم عليهالسلام السّكّين لم يقطع شيئا من الحلق.
ولا يتمشّى على
قواعد المعتزلة أنّه تكليف ما لا يطاق ، إلّا إذا كان مأمورا بالإضجاع وإمرار
السكّين على الحلق لا بالذّبح ، فهو يرجع إلى الأوّل.
الثالث : قيل :
إنّه منام لا أصل له ، فلا يثبت به الأمر.
وهو خطأ ، فإنّ
منام الأنبياء وحي معمول به ، وأكثر وحي الأنبياء كان بالمنام ، وقد نقل أنّ وحي
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كان بالمنام ستّة أشهر ، ولهذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الرؤيا الصالحة جزء من ستّة وأربعين جزءا من النبوّة» ، وكانت نسبة ستّة أشهر من ثلاث وعشرين سنة من نبوّته
كذلك.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما احتلم نبيّ قطّ». يعني ما تشكّل له الشيطان في المنام على الوجه الّذي
يتشكّل لأهل الاحتلام.
ولأنّه لو كان
خيالا لا وحيا ، لم يجر لإبراهيم عليهالسلام العزم على الذبح المحرّم بمجرّد منام لا أصل له ، ولما
سمّاه بلاء مبينا ، ولما احتاج إلى الفداء.
__________________
الرابع : لا نسلّم
أنّه نسخ الذبح قبل التمكّن من الامتثال ، بل كان بعده ، والخلاف إنّما هو فيما
قبل التمكّن لا بعده ، ولا سبيل إلى بيان أنّه نسخ قبل التمكّن من الامتثال إلّا
بعد بيان أنّ مطلق الأمر يقتضي الوجوب على الفور ، أو أنّ وقت الأمر كان مضيّقا و امتناع الصغائر على الأنبياء.
واعترض : بأنّ ذلك
لا يمنع رفع تعلّق الوجوب بالمستقبل ، لأنّ الأمر باق عليه ، وهو المانع عندهم ،
ولأنّه لو كان موسّعا ، لقضت العادة بتأخّره ، رجاء نسخه ، أو موته لكبر سنّه ،
وعظم هذا الأمر.
وفيه نظر ، لأنّ
الأنبياء عليهمالسلام أسرع امتثالا من غيرهم إلى الأوامر ، والأمر وإن كان
موسّعا ، إلّا أنّ تقديمه أولى ، ومنزلة النبوّة تمنع من الإخلال بالأولويّة (ويمنع
كون المانع تعلّق الأمر مطلقا ، وإلّا امتنع النّسخ عند القائلين بالرّفع).
وعن الثاني بوجوه :
الأوّل : أنّها
تدلّ على محو كلّ ما يشاء ، وليس فيها ما يدلّ على أنّه يشاء محو العبادة قبل دخول
وقتها ، مع كونه ممتنعا ، فإن بيّن إمكان مشيئة ذلك بغير الآية ، ففيه ترك
الاستدلال بالآية.
الثاني : حقيقة
المحو هي محو الكتابة ، والمراد به محو ما يكتبه
__________________
الملكان من
المباحات ، وتبقية ما يشاء من الطاعات والمعاصي.
الثالث : قيل :
المراد به محو البلايا والنكبات بالصدقة ، على معنى أنّه لولاها لنزل ذلك.
الرابع : روي أنّه
تعالى يمحو من اللوح المحفوظ ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ، لما يتعلّق بذلك من صلاح
الملائكة.
وعن الثالث بوجوه :
الأوّل : أنّه خبر
واحد فلا يقبل فيما يجب أن يعلم.
الثاني : الخبر
يتضمّن ما يدفعه العقل ، وفيه من الشّبه والأباطيل ما يدلّ على فساده ، لتضمّنه
أنّ المصالح الدّينيّة تتعلّق بمشورة الخلق وإيثارهم.
الثالث : أنّه
يقتضي نسخ شيء قبل وقته ، وقبل تمكّن المكلّف من العلم به ، وعلّة المخالف تقتضي
منع ذلك ، لأنّه يجوّز هذا النسخ على أن يكون الغرض في التعبّد بالمنسوخ العزم على
أدائه ، والاعتقاد لوجوبه ، وهذا لا يتمّ إلّا مع علم المكلّف بالتعبّد بالمنسوخ.
اعترض على الأوّل : بأنّ المسألة اجتهاديّة ، فجاز إثباتها بخبر الواحد.
__________________
وعلى الثاني
والثالث : بأنّه قد نسخ عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد علمه.
سلّمنا أنّه نسخ
عن المكلّفين قبل علمهم به ، ولكن لم قالوا بامتناعه؟
وفائدة الثواب
والعقاب باعتقاد الوجوب والعزم على فعله مبنيّ على رعاية الحكمة في أفعاله.
وفيه نظر ، لأنّها
وإن كانت اجتهاديّة ، لكن قصّة المعراج من الأمور الشهيرة ، فكان يجب اشتهار
روايته إلى أن يتاخم العلم.
والنسخ على النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم غير مفيد في منع القبح من النسخ عن الأمّة قبل تمكّنهم من
العلم بما كلّفوا فيه ، فلا معنى لذكره هنا.
وحكمته تعالى
ثابتة في علم الكلام.
وعن الرابع : يمنع
أن يأمره بفعل ثمّ يمنعه عنه ، لأنّه إمّا أن يأمره مطلقا ، أو بشرط زوال المنع ،
فإن كان الأوّل ، فمنعه منه بعد ذلك يكون تكليفا بما لا يطاق ، وهو محال ، وإن كان
الثاني فالأمر بالشرط لا يجوز وقوعه من العالم بعواقب الأمور ، على ما تقدّم.
ويخالف هذا ما إذا
أمر جماعة أن يفعلوا الفعل في غد ، فإنّه يجوز أن يمنع بعضهم من الفعل ، لكنّا
نستدلّ بهذا المنع على أنّ ذلك البعض غير مراد بالخطاب ، ولا مكلّف به ، ولا يجوز
أن يمنع جميعهم.
وعن الخامس : أنّ النسخ
بعد حضور وقت الفعل ، ولهذا ناجى عليّ عليهالسلام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد أن قدّم الصّدقة ، ولهذا عاتبهم الله تعالى بقوله : (أَأَشْفَقْتُمْ
ـ إلى أن قال : ـ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ) ، فعلم أنّ وقت الفعل كان قد حضر سواء ناجاه غيره أو لا.
وعن السادس :
بإمكان أنّ قوله : (فَإِنْ
عَلِمْتُمُوهُنَ) نزل بعد مضيّ وقت ، كان يجوز أن يهاجرن إليه ، فيردّهن ،
فيكون النسخ واقعا بعد وقت الفعل وقد روى الواقدي : أنّ أبا جندل لمّا ردّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى قريش انحاز مع جماعة ممّن أسلم من قريش ، وكان يمنع من
قدوم الميرة على أهل مكّة ، فأرسلت قريش إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بأرحامها إلّا ردّ أبا جندل والنفر
__________________
الّذين معه إليه ،
وأن لا يردّ عليهم أحدا هاجر إليه ، فإذا كان العهد وقع على ردّ المهاجرين إليهم ،
لأنّهم آثروا ذلك وشرطوه ، فمتى كرهوه زال الشرط ، فلم يجب ردّهم ، ولم يكن ذلك
نسخا.
وعن السابع : بأنّ
نسخه قبل السّنة يدلّنا على أنّه عنى بالسّنة بعضها ، ولم يكن أراد الفعل إلّا في
بعض السّنة ، فيكون النسخ بيانا للمراد بالخطاب على وجه يكون الأمر تناول غير ما
تناوله النهي ، وليس كذلك إذا ورد النسخ قبل حضور كلّ شيء من أوقات الفعل ، لأنّه
يكون قد نسخ جميع ما تناوله الأمر فيتّحد متعلّق الأمر والنهي.
وعن الثامن : أنّ
إباحة القتال في تلك الساعة ، لا تقتضي وقوعه فيها ، لعدم وجوب إيقاع المباح ، فلا
يمتنع أن يكون نهي عن القتال بمكّة بعد تلك الساعة.
على أنّ قوله : «أحلّت
لي مكّة ساعة» لا يدلّ على إباحة القتال ، بل لعلّه أراد بذلك إباحة قتل قوم
معيّنين ، كابن خطل وغيره ، فالنهي عن القتال لا يكون نسخا لإباحة القتال.
وعن التاسع : بمنع
تكليف من يعلم موته قبل تمكّنه من الفعل.
وعن العاشر : بمنع
الملازمة ، والفرق ظاهر ، فإنّ وقوعه بعد الامتثال يشعر بعدم إرادة ما بعده من
خطاب التكليف ، بخلاف ما لو اتّحد المتعلّق.
__________________
وعن الحادي عشر :
بأنّ الطهارة لم تجب على الواحد منّا لأجل وجوب الصّلاة عليه ، وكيف يكون كذلك ،
وهو لا يعلم قبل مضيّ وقت الصّلاة وجوبها عليه؟ بل إنّما تجب الطهارة لظنّ وجوب
الصلاة عليه ، وهو يظنّ وجوبها عليه ، وإن جوّز المنع.
وفيه نظر ، فإنّ
مطلق الظّنّ لا يقتضي وجوب الطهارة بل [الظنّ] الصّادق.
والتحقيق : أنّ
وجه وجوب الطهارة إن كان هو الصّلاة ، منعنا وجوبها وورود الخطاب بها على من
أحرم قبل تمكّنه من الصّلاة ، لكن ذلك مظنون ، والمعلوم توجّه الأمر بالطّهارة ، فلهذا جزمنا
بوجوبها وإن لم يعلم بقاء المتطهّر.
المبحث الثاني :
في أنّ إثبات البدل ليس شرطا في النسخ
اعلم أنّه كما
يحسن النّسخ إلى البدل كذا يحسن نسخه إلى غير بدل عند المحقّقين ، خلافا لقوم.
والبدل قد ينافي
المبدل ، كالتوجّه إلى بيت المقدس والكعبة ، وقد لا ينافيه ، كصوم عاشوراء ورمضان
، لأنّه تعالى نسخ وجوب الصدقة بين يدي
__________________
النّجوى ، ووجوب
الإمساك بعد الفطر في الليل ، وتحريم ادّخار لحوم الأضاحي ، من غير بدل في ذلك
كلّه.
ولأنّ المقتضي
للمنع زائل ومقتضي الجواز ثابت ، فثبت الجواز :
أمّا المقدمة
الأولى ، فلأنّ المقتضي للمنع.
إمّا امتناع
تسميته نسخا ، وهو باطل ، لأنّ النسخ ، هو الإزالة ، ولا دليل على اشتراط البدل في
الاسم ، فلا يشترط فيه كغيره.
ولأنّ الأمّة سمّت
رفع صدقة المناجاة نسخا ، ولا بدل هناك.
وإمّا انتفاء حسنه
، وهو باطل ، لجواز أن يكون مثل المصلحة مفسدة في وقت آخر ، من غير أن يقوم مقامها
فعل آخر ، كما يجوز ذلك ، وإن قام مقامها [فعل] آخر ، ولا فرق في العقل بينهما ،
فجاز نسخها إلى غير بدل ، كما جاز إلى بدل.
وإمّا لعدم وقوعه
في الشرع ، وهو باطل لوقوعه في المناجاة وغيرها.
ولأنّ عدم الوقوع
لا ينافي الجواز.
وإمّا لورود الشرع
بمنع وقوعه ، وهو باطل ، لأنّ وقوعه في الشرع يدلّ
__________________
على بطلان ذلك ،
ولم يوجد في الشريعة ما يدلّ على المنع.
احتجّوا بقوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).
والجواب : أنّ نسخ
الآية يفيد نسخ لفظها ، ولهذا قال : (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها أَوْ مِثْلِها) وليس لنسخ الحكم ذكر.
وفيه نظر ، لأنّ
النسخ شرعا هو رفع الحكم ، والأصل حمل اللّفظ الشرعيّ على ما وضعه ، لا على العرف
اللغويّ.
والوجه في الجواب
أن يقال : يجوز أن يكون نفي ذلك الحكم وإسقاط التعبّد به خيرا من ثبوته في ذلك
الوقت.
المبحث الثالث :
في جواز النسخ إلى الأثقل
ذهب المحقّقون إلى
ذلك ، خلافا لبعض أهل الظاهر وبعض الشافعية ، ومنع بعضهم من الوقوع دون الجواز.
لنا : أنّه تعالى
في ابتداء الإسلام خيّر بين صوم رمضان والفدية بالمال ، فأوجب الصوم مخيّرا ثمّ
حتم الصوم عينا ، ولا شكّ في أنّ التعيين أثقل من التخيير.
__________________
ونسخ الحبس في
البيوت بالجلد والرّجم ، وهو أشقّ.
وأمر الصحابة بترك
القتال ، ثمّ أمرهم بالقتال مع التشديد بأن يثبت الواحد لعشرة.
ونسخ جواز تأخير
الصلاة عند الخوف إلى إيجابها في أثناء القتال.
ونسخ صوم عاشوراء
بصوم رمضان ، وهو أثقل.
وكانت الصّلاة
ركعتين عند قوم فصارت أربعا في الحضر.
احتجّوا بوجهين :
الأوّل : قوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) أي أخفّ (أَوْ مِثْلِها) أي مساو.
الثاني : قوله
تعالى : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ) [أي] يريد الله أن
يخفّف عليكم.
والجواب : لا
نسلّم أنّ الأخفّ مطلقا خير ، بل الأشقّ خير ، لكثرة ثوابه وكونه أصلح في المعاد ،
وإن كان أثقل في الحال.
واليسر محمول على
اليسر في الآخرة ، لئلّا يتطرّق إليه مخصّصات كثيرة ، وكذا التخفيف.
__________________
المبحث الرّابع :
في جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس
ذهب أكثر العلماء
إلى ذلك ، ونقل عن شاذّ من المعتزلة المنع.
لنا : العقل
والنقل ، أمّا العقل فلأنّ التلاوة حكم شرعيّ يثاب المكلّف عليه ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قرأ القرآن وأعربه ، فله بكلّ حرف منه عشر حسنات».
والحكم أيضا شرعيّ
وقد بيّنا إمكان اختلاف الأوقات في نسبة المصلحة لعبادة معيّنة إليها ، فتكون
العبادة مصلحة في وقت ومفسدة في آخر ، ولهذا جوّزنا النسخ ، فجاز في هاتين
العبادتين أن تكونا مصلحتين في وقت ومفسدتين في آخر ، وأن تكون إحداهما مصلحة في
وقت والأخرى مفسدة في بعض الأوقات دون بعض ، أو أن تكون إحداهما مصلحة في وقت
والأخرى في آخر ، فلا استبعاد حينئذ في نسخهما معا ، ونسخ إحداهما كغيرهما من
العبادات.
وأمّا النقل فما
ورد من نسخ التلاوة خاصّة فيما روي من قوله : الشيخ والشيخة إن زنيا فارجموهما
البتّة نكالا من الله.
__________________
وعن أنس بن مالك
في قتلى بئر معونة : «بلّغوا إخواننا أنّا لقينا ربّنا فرضي عنّا وأرضانا».
وعن أبي بكر :
كنّا نقرأ من القرآن «لا ترغبوا عن آبائكم فإنّه كفر بكم».
__________________
وأمّا العكس ، ففي
الاعتداد بالحول ، وثبات الواحد للعشرة ، والصدقة قبل المناجاة إلى غير ذلك من الآيات.
والفائدة فيه حصول
العلم بأنّه تعالى أزال مثل هذا الحكم رحمة منه على عباده.
وأمّا نسخهما لما روي أنّ سورة الأحزاب كانت تعدل البقرة.
__________________
احتجّوا : بأنّ
الحكم مع التلاوة ينزّل منزلة العلم مع العالميّة ، والمنطوق مع المفهوم ، وكما لا
يمكن الانفكاك بين العلم والعالميّة ، والمنطوق والمفهوم ، فكذا هنا.
ولأنّ بقاء
التلاوة خاصّة ، يوهم بقاء الحكم فيؤدّي إلى اعتقاد الجهل ، وهو قبيح من الحكيم.
ولأنّ بقاء
التلاوة دون الحكم يستلزم خلوّ القرآن عن الفائدة.
ولأنّ بقاء الحكم
خاصّة ، يشعر بزواله ، لأنّ الآية ذريعة إلى معرفة الحكم ، فإذا نسخت ، أشعر ذلك
بارتفاع الحكم ، وهو تعريض المكلّف لاعتقاد الجهل.
ولأنّ هذا النسخ
عبث ، حيث لم يلزم من ذلك إثبات حكم ولا رفعه.
والجواب : نمنع
التساوي بين العلم والعالميّة ، والمفهوم والمنطوق ، وبين التلاوة والحكم ، بل
التلاوة
كالأمارة والعلامة
على الحكم في ابتداء ثبوته دون دوامه.
وإنّما يلزم الجهل
ببقاء الحكم لو لم ينصب الله تعالى على نسخه للحكم دليلا.
__________________
ونمنع انتفاء
الفائدة ، وقد سلفت ، أو لحكمة خفيّة ، أو للثواب على تلاوتها.
والجهل لازم لو
لزم من انتفاء دلالة الحكم انتفاؤه ، وهو ممنوع.
ونمنع العبث ، وقد
سبق.
المبحث الخامس :
في نسخ الخبر
منع أكثر الناس من
نسخ الأخبار ، واختاره أبو عبد الله البصري وقاضي القضاة ، والسيّد المرتضى ، وأبو الحسين.
وتحرير القول فيه
: أنّ النسخ إمّا أن يكون لنفس الخبر أو لمدلوله ؛ فان كان الأوّل ، فإمّا أن تنسخ
تلاوته أو تكليفنا به ، بأن نكون قد كلّفنا أن نخبر بشيء فينسخ عنّا التكليف بذلك
الإخبار.
وهذان جائزان
إجماعا ، سواء كان ما نسخت تلاوته ماضيا أو مستقبلا ، وسواء كان ما نسخ تكليف
الإخبار به ممّا لا يتغيّر مدلوله ، كالإخبار بوجود الله تعالى وحدوث العالم ، أو
يتغيّر ، كالإخبار بكفر زيد وإيمانه ، لأنّ ذلك حكم شرعيّ ، فجاز اختلاف الأوقات
فيه ، بأن يكون في بعضها مصلحة
__________________
وفي بعضها مفسدة ،
وذلك كما ندب المتطهّر إلى القرآن ، وحرم على الجنب بعضه.
وإذا جاز الاختلاف
بالمصلحة والمفسدة بالنسبة إلى الأحوال ، جاز بالنسبة إلى الأزمان.
وهل يجوز أن ينسخ
تكليفنا بالإخبار عمّا لا يتغيّر تكليفا بالإخبار بنقيضه؟
الحقّ ، المنع ،
وعليه العدليّة كافّة ، لأنّه كذب فيقبح منه تعالى تكليفا به.
وأطبقت الأشاعرة
على جوازه ، وجواز أن يكلّفنا بالإخبار بنقيض الحقّ ، لانتفاء الحسن والقبح عندهم.
أمّا ما يتغيّر ،
فإنّه يجوز أن نؤمر بالإخبار بنفي ما أمرنا أن نخبر به ، مثل أن نؤمر بالإخبار
بكفر زيد ، ثمّ نؤمر بالإخبار عن إيمانه.
وفي هذا الإطلاق
نظر ، والوجه أن يقال : يشترط أن لا يتضمّن الكذب باجتماع شرائط التناقض فيه ، ولا
فرق في ذلك بين الماضي والمستقبل.
وإن كان لمدلول
الخبر فنقول : فائدة الخبر ومدلوله إمّا أن لا تتغيّر كالإخبار عن الله تعالى
وصفاته ، وقبح الظلم ، فهذا لا يجوز نسخ الفوائد فيه إجماعا ، لأنّ الإخبار عن
زوالها كذب.
وإمّا أن تتغيّر ،
فإن كانت أحكاما ، كالإخبار عن وجوب الحجّ أبدا ، فإنّه
__________________
يجوز نسخه في
المستقبل ، لأنّ المقتضي لنسخ الحكم ، إنّما هو جواز تغيره من المصلحة إلى المفسدة
قائم هنا ، فيثبت مقتضاه.
وإن كانت غير
أحكام ، فإنّه يجوز نسخها أيضا ، سواء كانت ماضية أو مستقبلة ، وإن لم يسمّ نسخا.
أمّا المستقبلة ،
فيجوز أن يخبر الله تعالى بأنّه يعذّب العصاة أبدا ، فإنّه يجوز أن يدلّنا في
المستقبل بأنّه أراد بالتأبيد ألف سنة ، إمّا مع الإشعار في ابتداء الخطاب عند أبي
الحسين أو مطلقا عند آخرين.
وأمّا الماضي ،
فيجوز أن يخبر الله تعالى بأنّه عمّر زيدا ألف سنة ، ويشعرنا بأنّه أراد البعض ،
ثمّ يدلّنا في المستقبل أنّه عمّره ألف سنة إلّا خمسين.
ومنع مشايخ
المعتزلة غير أبي الحسين وجماعة من الفقهاء من نسخ الوعد والوعيد ، وبعضهم منع من
نسخ مدلول الخبر مطلقا ، سواء كان حكما شرعيّا أو لا ، وسواء كان ماضيا أو
مستقبلا.
ومنع آخرون من نسخ
الماضي دون المستقبل.
والوجه ، الجواز
مطلقا ، لأنّ ما دلّ عليه الأخبار ، إذا كان متكرّرا ، والخبر عامّ فيه ، أمكن أن
يكون الناسخ مبيّنا لإخراج بعض ما تناوله اللّفظ ، وأنّ المراد بعض ذلك المذكور ،
كالأمر والنّهي.
__________________
احتجّ المانعون :
بأنّ نسخ الخبر يوهم الكذب ، بخلاف الأمر والنّهي.
والجواب : إيهام
الكذب إنّما يلزم لو اتّحد المدلولان ، أمّا مع التغاير فلا ، والتغاير هنا ثابت ،
لأنّ قوله : «لأعذّبن الزاني أبدا» وإن دلّ بظاهره على التأبيد ، إلّا أنّ قرينة
النسخ دلّت على أنّ المراد بذلك مدّة معيّنة ، كالأمر والنهي ، فإنّ التعبّد بهما
إذا كان مؤبّدا ، ثمّ نسخه ، لم يلزم البداء.
لا يقال : إنّما
لم يلزم البداء لدلالة النهي على أنّ الأمر لم يتناول ما تناوله النهي.
لأنّا نقول :
والدليل الناسخ دلّ على أنّ الخبر المنسوخ لم يتناول ما تناوله الدليل الناسخ ،
وإذا تغاير المتعلّقان ، ارتفع الكذب ، كما ارتفع البداء في الأمر والنهي.
احتجّ الفارقون :
بأنّ الخبر المتناول للأحكام في معنى الأمر بالفعل ، فإنّ معنى «أمرتكم» و «نهيتكم»
و «أوجبت عليكم» مساو لمعنى الأمر والنهى ، بخلاف غيره.
والجواب : لا فرق
بينهما ، فإن كان أحدهما مستلزما للكذب ، كان الآخر كذلك.
وقولهم معارض
بمثله ، فإنّ قولكم : «إنّما دخل النسخ على الخبر ، لأنّه في معنى الأمر» معارض
بقولنا : «إنّما دخل على الأمر لأنّه في معنى الخبر عن وجوب الفعل» .
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
أحدا لم يقل انّ النسخ دخل الأمر لرجوعه إلى الخبر بخلاف العكس.
والتحقيق أن نقول
: الخبر حكاية عن المخبر تابع له ، وهيئته مطابقة للمخبر عنه ، سواء كان ماضيا أو
مستقبلا ، فالمخبر عنه إن زال بعد ثبوته ، كان نسخا في أصل الخبر ، وحكاية عن
المخبر بالأصالة ، وفيه بالتبعيّة ، لكن ذلك لا يسمّى نسخا في الحقيقة.
قال الجبائيّان :
لو قال : «أهلك الله عادا» ثمّ قال : «ما أهلكهم» كان كذبا.
والجواب : إهلاكهم
غير متكرّر ، فإذا قال : «ما أهلك بعضهم» كان تخصيصا للأشخاص ، لا نسخا في الأزمان
، بخلاف الخبر عن تكرار الفعل.
تذنيب
قال قاضي القضاة : يبعد أن يبقى وجوب الفعل ، ويحرم العزم على أدائه ، إلّا
أن يجوز كون العزم عليه مفسدة ، ويستحيل أن يحرم علينا إرادته المقارنة له ، لأنّه
لا يكون الفعل واقعا على ما أمرنا أن نوقعه عليه إلّا مع مقارنتها.
__________________
المبحث السّادس :
في جواز نسخ الأمر المقيّد بالتأبيد
ذهب بعض الناس إلى
أنّ الله تعالى لو قال لنا : «افعلوا هذا الفعل أبدا» لم يجز نسخه.
والحقّ ، خلافه ،
كما ذهب إليه الأكثر لوجوه :
الأوّل : لفظ
التأبيد يقتضي استغراق الأزمنة المستقبلة ، كما يقتضي لفظ العموم استغراق الأشخاص
المندرجة تحته ، وكما جاز إخراج بعض الأشخاص بلفظ يقتضي التخصيص ، كذا جاز إخراج
بعض الأزمنة بلفظ يقتضي النسخ ، والجامع هو الحكمة الداعية إلى جواز التخصيص.
الثاني : النسخ
إنّما يرد على عبادة أمر بها بلفظ يفيد الاستمرار ، أو دل الدليل على أنّ المراد
به الاستمرار ، لامتناع وروده على المرّة الواحدة ، ولفظ «التأبيد» كغيره من
الأدلّة والألفاظ المفيدة للاستمرار ، فكما جاز دخول النسخ على هذه الألفاظ ، إمّا
بمقارنة إشعار النسخ لها ، أو من غير مقارنة ، على اختلاف المذهبين ، كذا جاز
دخوله على لفظ «التأبيد» ولا معنى للفرق بينهما.
الثالث : العادة
في لفظ التأبيد المستعمل في الأمر ، المبالغة في طول الزمان لا الدوام ، فإنّه
المفهوم من قول القائل : «لازم فلانا أبدا» ، أو «أحبسه أبدا» أو «امض إلى السوق
أبدا».
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل : لفظ «التأبيد»
يفيد استمرار وجوب الفعل في كلّ أوقات الإمكان ، فجرى مجرى أن ينصّ الله تعالى على
وجوب العبادة في كلّ وقت من تلك الأوقات على سبيل التنصيص ، فكما لا يجوز النسخ
هنا ، فكذا ثمّ.
الثاني : لو أمر
بالعبادة بلفظ يقتضي الاستمرار ، لجاز دخول النسخ عليه ، فلو جاز ذلك مع التقييد
بالتأبيد ، لم يكن في التقييد به فائدة.
الثالث : لو جاز
نسخ ما ورد بلفظ «التأبيد» لم يكن لنا طريق إلى العلم بدوام العبادة.
الرابع : لفظ «التأبيد»
يفيد الدوام ، إذا وقع في الخبر ، فإذا أخبر بلفظ يفيد التأبيد ، لم يجز نسخه ،
فيجب في الأمر مثله.
والجواب عن الأوّل
: بالفرق بين ذكر الشيء مفصّلا ومجملا ، ولهذا جاز التخصيص في اللفظ العامّ وإن
تناول كلّ فرد فرد ، بخلاف إخراج بعض الأفراد الّتي فصّلت.
وأيضا ، فإنّ ذلك
يمنع من النسخ كلّه ، لأنّ المنسوخ لا بدّ من كونه لفظا يفيد الاستدامة إمّا بنفسه
، أو بدلالة ، لامتناع وروده على المرّة.
وأيضا ، نمنع
تنزيله منزلة التنصيص على كلّ وقت بعينه ، بل هو في العرف يطلق على المبالغة ، كما
في قولنا «لازم فلانا أبدا».
وعن الثاني :
بالمنع من الملازمة ، فإنّ الفائدة تأكيد الاستمرار والمبالغة فيه ، وذلك لا يمنع
من النسخ ، كما لا يمنع تأكيد العامّ من تخصيصه ، وكما يعلم بعد التخصيص أنّ
المراد بتأكيد العموم المبالغة فيه ، كذا يعلم بعد النسخ أنّ المراد من التأبيد ،
تأكيد المبالغة في الاستمرار لا نفس الاستمرار.
وعن الثالث : أنّه
إنّما يتمّ لو كان لفظ «التأبيد» يفيد العلم ولا طريق سواه ، وهما ممنوعان ، لما
بيّنا من أنّه يفيد المبالغة في الاستمرار.
ولأنّ الألفاظ لا
تفيد العلم الضّروريّ ، ويجوز أن يخلق الله تعالى فينا العلم الضّروريّ بالدّوام
أو يقترن باللّفظ قرائن تفيده.
وعلى قول أبي
الحسين طريق آخر : أن لا يقترن بالأمر [بالعبادة] ما يدلّ على أنّ المراد به بعض
الأزمان ، إمّا مجملا أو مفصلا .
وعن الرابع :
بالمنع في الخبر أيضا ، فإنّ إفادة الدوام فيهما لا يمنع من قيام الدلالة على أنّ
المراد به غير ظاهره ، كما في جميع ألفاظ العموم.
__________________
المبحث السّابع :
في امتناع نسخ جميع التكاليف
اتّفق العقلاء على
جواز رفع التكاليف بإعدام العقل الّذي هو شرط التكليف ، ولا يسمّى نسخا ، وعلى
استحالة أن يكلّف الله تعالى أحدا بالنّهي عن معرفته ، إلّا عند من يجوّز تكليف
المحال ، لأنّ تكليفه بالنّهي عن معرفته ، يستدعي العلم بنهيه ، المتوقّف على
العلم به ، فإنّ غير العارف به ، يمتنع عليه معرفة نهيه ، فإذا تحريم معرفته
يتوقّف على معرفته ، وهو دور ممتنع .
وفيه نظر ، فإنّه
لا دور هنا ، نعم انّه تكليف بالمحال ، وكذا لا يجوز أن يكلّفه معرفة شيء من
الحوادث على خلاف ما هو به ، لأنّه محال يستحيل فعله وتركه.
بقي الخلاف في
موضعين :
الأوّل : هل يجوز
نسخ وجوب معرفته تعالى ، وشكر المنعم ، وتحريم الكفر والظلم ، وغير ذلك ممّا قيل
بوجوبه لحسنه ، وتحريمه لقبحه ، وبالجملة ما يجب استمراره على وجه واحد من الأفعال
إمّا لصفة هو عليها كوجوب الإنصاف ، وقبح الكذب والجهل ، أو لكونه لطفا لا يتغيّر
، كالمعرفة بالله تعالى ، وعدله وتوحيده؟
__________________
فمنع منه المعتزلة
كافّة ، للحسن ، والقبح ، ورعاية الحكمة في أفعاله تعالى ، فإنّ المقتضي لهذه
الأحكام إنّما هو صفات ذاتيّة لا يجوز تبديلها وتغييرها ، وربما بنوا على هذا صحّة
إسلام الصّبي ، فإنّ وجوبه بالعقل ، وانّ استثناء الصّبي عنه غير ممكن.
وجوّزه الأشاعرة ،
بناء على نفي الحسن والقبح العقليّين ، وعدم وجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى.
الثاني : على
تقدير جواز نسخ هذه الأحكام ، هل يجوز من الله تعالى بعد أن كلّف العبد أن ينسخ
عنه جميع التكاليف؟
منع منه الغزّالي
، لأنّه لا يعرف النسخ من لا يعرف الناسخ ، وهو الله تعالى ، ويجب على المكلّف
معرفة النسخ والناسخ ، والدليل المنصوب عليه ، فيبقى هذا التكليف بالضرورة.
قيل عليه : النسخ وإن قلنا إنّه لا يحصل في حقّ المكلّف دون علمه
بنزول النسخ فلا يمتنع تحقّق النسخ بجميع التكاليف في حقّه عند علمه بالنسخ ، وإن
لم يكن مكلّفا بمعرفة النسخ.
__________________
المبحث الثامن :
في استحالة نسخ الإجماع
ذهب أكثر الناس
إلى ذلك ، وجوّزه الأقلّ.
لنا : أنّ الإجماع
إنّما ينعقد بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه ما دام حيّا لا ينعقد الإجماع من دونه ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم سيّد المؤمنين ، وإذا وجد قوله لم يعتبر قول غيره ،
فالإجماع إنّما ينعقد بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ويستحيل حينئذ نسخه بالكتاب والسنّة ، لاستحالة حدوثهما
بعده صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا إجماع ، وبعده يستلزم حكم جميع الأمّة على خلاف الكتاب
والسنّة ، فيكون باطلا.
وبالإجماع لأنّ الثاني ، إن لم يكن عن دليل ، كان خطأ ، وإن كان عن
دليل ، فإن كان موجودا حال انعقاد الإجماع الأوّل ، لزم كون الأوّل خطأ ، وهو محال
، وإن لم يكن موجودا ، استحال تجدّده.
لا يقال : ينتقض
بإجماع الأمّة على تسويغ العاميّ بأخذ أحد قولهما ،
__________________
١. نسخ الإجماع بالكتاب.
٢. نسخ الإجماع بالسنّة.
٣. نسخ الإجماع بالإجماع.
٤. نسخ الإجماع بالقياس.
ثمّ أخذ في تحقيقها ، فلاحظ.
ثمّ على تحريمه لو
اتّفقت على أحدهما ، فالثاني ناسخ للأوّل.
لأنّا نقول :
أنّما سوّغت [الأمّة] للعاميّ الأخذ بأيّ القولين شاء ، بشرط أن لا يحصل الإجماع
على أحد القولين ، فكان الإجماع الأوّل مشروطا بهذا الشرط ، فإذا اتّفقت زال شرط [الإجماع]
الأوّل ، فانتفى ، لانتفاء شرطه من غير نسخ.
وبالقياس ، لأنّ شرط صحّته ، عدم الإجماع ، فإذا وجد لم يكن القياس
صحيحا ، فلا يجوز نسخه به.
ولأنّ القياس لا
بدّ له من أصل ، والحكم في ذلك الأصل إمّا أن يكون بدليل متجدّد بعد الإجماع
الأوّل ، أو سابق عليه ، فإن كان بمتجدّد ، فهو إمّا إجماع أو قياس ، لاستحالة
تجدّد النصّ ، فإن كان إجماعا ، فلا بدّ له من دليل ، وإن كان قياسا على أصل آخر ،
تسلسل أو انتهى إلى أصل ثابت بالنصّ.
والتسلسل محال ،
والنصّ يجب أن يكون سابقا على الإجماع الأوّل ، وحينئذ صحّة القياس عليه مشروط
بعدم الإجماع الأوّل على مناقضته ، ونسخ الإجماع الأوّل متوقّف على صحّته ، وهو
دور ممتنع.
وإن كان نصّا ،
لزم سبقه ، فيكون الإجماع على خلافه خطأ ، وإن كان
__________________
سابقا ، فعدول أهل
الإجماع عنه ، دليل على عدم صحّة القياس عليه ، وإلّا كان إجماعهم خطأ ، وهو محال.
وعلى رأي
الإماميّة الإجماع إنّما يتحقّق بقول المعصوم ، لأنّه سيّد المؤمنين ، فالعبرة
بقوله ، ولا يجوز نسخه ، لعدم تجدّد دليل من كتاب أو سنّة بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والقياس لا عبرة
به مع قول المعصوم.
قال المرتضى : إنّ
الإجماع مستقرّ قبل انقطاع الوحي وبعده على ما يأتي.
ولأنّه تعالى أمر
باتّباع المؤمنين قبل الوحي وبعده ، والنسخ لا يتناول الأدلّة ، بل الأحكام ، فجاز
أن يثبت حكم دليل بالإجماع قبل انقطاع الوحي ، ثمّ ينسخ بآية تنزل.
المبحث التاسع :
في نسخ القياس
منع قاضي القضاة
من نسخ القياس وتبعه الحنابلة ، لأنّ القياس تبع للأصول ، فلم يجز رفعه
مع ثبوتها ، إذ لا يتصوّر رفع حكمه مع بقاء أصله.
ولأنّه إنّما يثبت
بعد انقطاع الوحي وقال : إنّ القياس إن كان معلوم العلّة ، جاز نسخه ، لأنّ النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم لو نصّ على أنّ علّة تحريم الربا في البرّ
__________________
هي الكيل ، وأمر بالقياس
، لكان ذلك كالنصّ في تحريم الربا في الأرز ، فكما جاز أن يحرّم الربا في الأرز
ثمّ ينسخه ، جاز أن ينسخ عنّا تحريم الأرز المستفاد بهذه العلّة المنصوص عليها ،
ويمنع من قياسه على البرّ.
ومنعت الإماميّة
منه ، لأنّه ليس دليلا عندهم.
وقال أبو الحسين :
إن كان القياس موجودا في زمن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بأن يكون قد نصّ على أصل كتحريم بيع البرّ بالبرّ
متفاضلا ، وتعبّد النّاس بقياس غير البرّ على البرّ بواسطة الكيل مثلا ، بأمارة تدلّ عليه ، فإذا قضى بتحريم
بيع الأرزّ بناء على القياس على البرّ ، أمكن نسخه بالنصّ على إباحة بيع الأرزّ ،
وبالقياس على ما نصّ على إباحته من المأكولات وتعبّد بالقياس عليه بواسطة كونه
مأكولا بأمارة هي أقوى من أمارة التحريم.
وإن كان بعده ، بأن يؤدّي اجتهاد مجتهد بعد البحث عن الأدلّة إلى تحريم
شيء ، ثمّ يطّلع على نصّ أو قياس أرجح أو إجماع متقدّم ، أو تختلف الأمّة على
قولين قياسا ثم تجتمع على أحدهما ، فإنّ إجماعهم الثاني رافع لحكم القياس الّذي
اقتضاه القول الآخر ، لزم رفع حكم قياسه الأوّل ، وإن كان ذلك لا يسمّى نسخا.
وهذا كلّه انّما
يتمّ على القول بإصابة كلّ مجتهد ، حيث إنّه تعبّد بالقياس الأوّل ، ثمّ رفع ، ومن
منعه ، لم يكن القياس الأوّل متعبّدا به.
__________________
وقيل : علّة القياس إن كانت منصوصة ، فهي في معنى النصّ ، فيمكن
نسخ حكمه بنصّ أو بقياس في معناه.
ولو ذهب إليه ذاهب
بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لعدم اطّلاعه على ناسخه بعد البحث عنه ، فإنّه وإن كان
متعبّدا باتّباع ما أوجبه ظنّه ، فرفع حكمه في حقّه بعد اطّلاعه على الناسخ لا
يكون نسخا متجدّدا ، بل ظهر أنّه كان منسوخا ، وبين الأمرين فرق.
وإن كانت [العلّة]
مستنبطة بنظر المجتهد ، فحكمها في حقّه غير ثابت بالخطاب ، فرفعه في حقّه عند
الظفر بدليل يعارضه ، ويترجّح عليه لا يكون نسخا على قول أنّ النسخ رفع حكم خطاب ،
وإن شارك النسخ في رفع الحكم وقطع استمراره ، سواء قلنا إنّ كلّ مجتهد مصيب أو لا.
المبحث العاشر :
في حكم الفرع هل يبقى مع نسخ حكم أصله؟
اختلف الناس في
نسخ حكم أصل القياس هل يبقى معه حكم الفرع أم لا؟
فذهبت الحنفيّة
إلى بقائه ، خلافا للباقين.
والوجه ، الأخير.
لنا : أنّ ثبوت
الحكم في الفرع تابع لاعتبار العلّة في نظر الشرع بإثبات
__________________
حكم الأصل ، فإذا
نسخ حكم الأصل خرجت العلّة المستنبطة عن الاعتبار ، فبطل تابع الاعتبار.
قالوا : يلزم ممّا
ذكرتم نسخ حكم الفرع بالقياس على حكم الأصل ، حيث حكمتم بتبعيّة رفع حكم الفرع
لرفع حكم الأصل ، والنسخ بالقياس باطل.
سلّمنا ، لكن
إنّما يلزم من انتفاء المتبوع انتفاء التابع لو افتقر الحكم في دوامه إلى دوام
سببه ، وهو ممنوع.
سلّمنا ، لكن
ينتقض بالأب ، فإنّ ولده الصغير تابع له في الإسلام والكفر ، ولا يلزم من زوال
إسلام الأب زوال إسلامه.
والجواب : ليس رفع
حكم الفرع بالقياس على رفع حكم الأصل ، وإلّا لافتقر إلى علّة جامعة ، بل رفعه
لانتفاء علّته.
والحكم إن افتقر
في دوامه إلى دوام علّته فالمطلوب ، وإلّا فالإجماع على أنّه لا بدّ من دوام
احتمال الحكمة ، حتّى أنّه لو انتهت حكمة الحكم قطعا ، امتنع بقاؤه بعدها ، وإذا
وجب دوام احتمال الحكمة ، وجب اعتبارها ، لاستحالة بقاء الحكم لحكمة غير معتبرة ،
وإذا انتسخ حكم الأصل زال اعتبارها.
وليس إسلام الأب
علّة لإسلام الولد ، ولا دوام إسلام الأب معتبرا في دوام إسلام الابن ، حتّى يلزم
من الانتفاء الانتفاء ، لأنّ المرتدّ بحكم المسلم.
المبحث الحادي عشر
: في نسخ الفحوى
اتّفق النّاس
كافّة على جواز النسخ بفحوى الخطاب ، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ،
لأنّه إن دلّ على تحريم الضرب لغة ، فاللفظ المفيد للشيء من جهة اللّغة يجوز أن
يقع النسخ به ، وإن كان يدلّ من جهة الأولى فهو آكد من اللّفظ ، فجاز النسخ به
أيضا.
واتّفقوا على جواز
نسخهما معا.
وإنّما اختلفوا في
جواز نسخ الأصل دون الفحوى ، وبالعكس ، وأطبق الأكثر على أنّ نسخ الأصل يفيد نسخ
الفحوى ، لأنّ الفحوى تابع فلا يتصوّر بقاؤه مع ارتفاع متبوعه.
وأمّا نسخ الفحوى
دون الأصل فقد تردّد فيه القاضي عبد الجبار فجوّزه تارة ، لأنّه جار مجرى التنصيص
على تحريم التأفيف والضرب ، فكأنّه حرّمهما ، فرفع حكم أحدهما لا يفيد رفع حكم
الآخر ، ومنع أخرى ، وهو اختيار أبي الحسين لئلا ينتقض الغرض ، فإنّ الغرض من تحريم التأفيف الإعظام [للوالدين]
، فلو سوّغ الضرب نقض غرضه.
__________________
وقال المرتضى : لا
يحسن أن يقال : «لا تقل لهما أفّ واضربهما» لكن يحسن (أن يقول) «لا تضربهما وإن
قلت لهما أفّ» فيجوز نسخ الأكبر وتبقية الأصغر ، ولا يجوز عكسه ، ثمّ قال :
وغير ممتنع أن
يقال : إنّ الحال فيما بيّنّا يخالف المصالح الدّينية ، لامتناع أن يمنع من
التأفيف في الشاهد إلّا لأجل الترفيه والتنزيه عن الاضرار به ، فلا يجوز أن يجامع
إرادة الاضرار الأكبر ، ومصالح الدّين غير ممتنع أن تختصّ تارة بالأكبر والأخرى
بالأصغر ، فالأولى جواز نسخ كلّ منهما مع تبقية صاحبه .
وفيه نظر ، لأنّ
البحث في المفهوم ، وهو الّذي عرف الغرض وثبوته في محلّ السكوت ، وأولويّة ثبوته
فيه ، فحينئذ يمتنع نسخ الأصغر مع بقاء الأكبر.
وقيل : إثبات تحريم الضرب في محلّ السّكوت ، إن ثبت بالقياس كان
نسخ حكم الأصل موجبا لرفع حكم الفرع ، لاستحالة بقاء الفرع دون أصله ، وإن لم يسمّ
ذلك نسخا ، وإنّ رفع حكم الفرع لا يوجب رفع حكم الأصل ، فإنّ رفع التابع لا يوجب
رفع متبوعه.
__________________
وإن ثبت باللّفظ
لغة ، فدلالة اللفظ على تحريم التأفيف بجهة صريح اللّفظ ، وعلى تحريم الضرب بجهة
الفحوى ، وهما دلالتان مختلفتان ، غير أنّ دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق ،
فأمكن أن يقال : رفع حكم إحداهما لا يستلزم رفع حكم الأخرى.
لا يقال : إذا
كانت دلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق ، امتنع بقاء الفرع مع رفع الأصل.
ولأنّ الغرض إعظام
الأبوين ، فرفع حكم الفحوى مخلّ بالغرض من دلالة المنطوق ، فيمتنع معه بقاء حكم
المنطوق.
لأنّا نقول :
دلالة الفحوى وإن كانت تابعة ، لكن نسخ حكم المنطوق ليس نسخا لدلالته ، بل لحكمه ،
ودلالة الفحوى تابعة لدلالة المنطوق على حكمه ، لا أنّها تابعة لحكمه ، ودلالته
باقية بعد نسخ حكمه ، كما كانت قبل نسخه ، فما هو أصل لدلالة الفحوى غير مرتفع ،
وما هو مرتفع ليس أصلا للفحوى.
وأمّا الثاني ،
فغاية ما يلزم من نسخ حكم الفحوى إبطال الغرض من أصل إثبات الحكم فيه ، ولا يخفى
أنّ غرض إثبات التحريم للتأفيف ، مغاير لغرض تخصيصه بالذكر ، تنبيها بالأدنى على
الأعلى ، ولا يلزم من إبطال أحد الغرضين إبطال الآخر.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
تحريم الضرب إنّما استفيد من تحريم التأفيف ، فرفعه يقتضي البقاء على ما كان الحكم
عليه قبل التنصيص ، ونسخ الفحوى يستلزم إبطال الأصل ، لأنّ الفحوى هي الغاية ،
فإبطالها يستلزم إبطال ذي الغاية.
الفصل الرابع :
في الناسخ
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في حدّه
يطلق الناسخ على
الناصب للدلالة الناسخة ، فيقال إنّه تعالى ناسخ للتوجّه إلى بيت المقدس ، قال
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها) وقال : (فَيَنْسَخُ اللهُ ما
يُلْقِي الشَّيْطانُ).
وعلى الحكم ،
فيقال : «وجوب صوم رمضان ناسخ وجوب صوم عاشوراء».
وعلى المعتقد لنسخ
الحكم ، فيقال : «فلان نسخ الكتاب بالسنّة» أي يعتقد ذلك.
وعلى طريق النسخ ،
فيقال : «القرآن ناسخ للسنّة» و «آية كذا نسخت آية
__________________
كذا» ، وكذا خبر
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وفعله وتقريره ، إلّا أنّ الإجماع وقع على أنّه مجاز في
الحكم والمعتقد.
وإنّما الخلاف بين
المعتزلة والأشاعرة في أنّه حقيقة في الله تعالى ، أو في الطّريق المعرّف ،
لارتفاع الحكم.
فعند المعتزلة :
أنّه حقيقة في الطريق فقالوا في حدّه : الناسخ قول صادر من الله تعالى ، أو رسوله
، أو فعل منقول عن رسوله يفيد إزالة مثل الحكم الثابت بنصّ صادر عنه تعالى ، أو عن
رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو فعل منقول عنه ، مع تراخيه عنه ، على وجه لو لاه لكان
ثابتا.
وعند الأشاعرة :
الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، وأنّ خطابه الدالّ على ارتفاع الحكم هو النسخ ،
ويسمّى ناسخا مجازا.
والتحقيق : أنّ
النزاع هنا لفظيّ ، لأنّ الناسخ إن كان هو الفاعل ، فهو الله تعالى ، وإن كان هو
الدّليل ، فهو الطريق ، ولكلّ أحد إطلاقه على ما يشاء.
وقد حدّ قاضي
القضاة الطريق الناسخ بأنّه : «ما دلّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ غير ثابت
على وجه ، لو لاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه».
وغرضه بهذا الحدّ
أن يتناول كلّ ما كان طريقا إلى النسخ ، سواء كان متواترا أو آحادا ، قاله أبو
الحسين ، قال : ويخرج منه خبر الواحد ، لأنّه لا يوصف بأنّه دليل على الحقيقة ،
وما دلّ على نسخ الحكم الثابت بالعقل ، ويلزم أن يكون العجز ناسخا ، لأنّه دلّ على
أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ غير
ثابت ، وأن تكون
الأمّة إذا اختلفت على قولين فسوّغت للعاميّ الأخذ بأيّهما شاء ، ثمّ أجمعت على
أحدهما أن يكون ذلك «ناسخا» ، لأنّها كانت نصّت على إباحة تقليد الطائفة الأخرى.
ثمّ حدّه هو بأنّه
: «قول صادر عن الله تعالى ، أو منقول عن رسوله ، أو فعل منقول عن رسوله يفيد
إزالة مثل الحكم الثابت بنصّ صادر عن الله تعالى أو بنصّ أو فعل منقولين عن رسوله
، مع تراخيه عنه ، على وجه لولاه لكان ثابتا» .
ويدخل فيه خبر
الواحد ، لأنّه وإن كان أمارة ، لكنّه يوصف بأنّه يفيد إزالة مثل الحكم الثابت.
ويخرج منه اتّفاق
الأمّة بعد الخلاف ، لأنّ قولها ليس صادرا عن الله تعالى وعن رسوله.
ولا يكون الشرع
ناسخا لحكم العقل ، لأنّ العقل ليس بقول ولا فعل منقول عن الرسول ، ولهذا لا يلزم
عليه «العجز المزيل للحكم» ولا تقييد الحكم بغاية ، أو شرط ، أو صفة ، أو استثناء
لعدم تراخيه.
ولا البداء ،
لأنّه إزالة نفس الحكم ، ولا ما إذا أمرنا الله بفعل واحد ، ثمّ نهانا عن مثله ،
لأنّه وإن أزال مثل الحكم ، إلّا أنّه لو لم يكن هذا النهي ، لم يكن مثل حكم الأمر
ثابتا.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
ذكر جزئيّات المحدود في الحدّ غلط.
والأولى أن يقال :
الناسخ طريق شرعيّ يدلّ على أنّ ذلك الحكم الّذي كان ثابتا بطريق شرعيّ لا يوجد
مثله بعد ذلك مع تراخيه عنه ، على وجه لولاه لكان ثابتا.
المبحث الثاني :
في شرائط الناسخ على الإجمال
وهي أمور :
الأوّل : أن يكون
خطابا ، فارتفاع الحكم بموت المكلّف ليس نسخا ، لأنّ ثبوت الحكم ما دام حيّا فلا
يحتاج إلى الرفع.
الثاني : أن يكون
متراخيا.
الثالث : وروده
بعد الوقت لا قبله عند المعتزلة خاصّة.
الرابع : دخوله
على خطاب يدخله التخصيص ، لاستحالة اتّحاد متعلّق الأمر والنهي.
ولا يشترط أن يكون
رافعا للمثل بالمثل ، بل أن يكون رافعا فقط.
ولا في ناسخ
القرآن أن يكون قرآنا ، ولا في ناسخ السنّة أن يكون سنّة ، بل يكفي أن يكون ممّا
يصحّ النسخ به.
ولا أن يكونا
نصّين قاطعين ، بل يجوز نسخ خبر الواحد بمثله وبالمتواتر ، وإن لم يجز نسخ
المتواتر بخبر الواحد.
ولا أن يكون
الناسخ منقولا بمثل لفظ المنسوخ ، بل أن يكون ثابتا بأيّ طريق كان.
ولا أن يكون
مقابلا للمنسوخ من كلّ وجه حتّى لا ينسخ الأمر إلّا بالنهي ، والنهي إلّا بالأمر ،
بل يجوز نسخ كليهما بالإباحة ، وأن ينسخ الواجب المضيّق بالموسّع.
وإنّما يشترط أن
يكون رافعا حكما من المنسوخ أيّ حكم كان.
ولا كونهما ثابتين
بالنصّ ، بل يجوز أن يكون بلحن القول ، أو بفحواه وظاهره.
المبحث الثالث :
في جواز نسخ الكتاب بمثله وبالسنّة المتواترة
اتّفق القائلون
بجواز النسخ سمعا ، على جواز نسخ الكتاب بمثله ، لوقوعه في آية الاعتداد ، والمناجاة مع تقديم الصدقة ، وثبات الواحد للعشرة ، وغير ذلك.
وأمّا نسخ الكتاب
بالسنّة المتواترة ، فقال بجوازه ووقوعه أكثر العلماء ، وهو قول جمهور المتكلّمين
من الأشاعرة ، والمعتزلة ، والإماميّة ، ومن الفقهاء مالك ، وأصحاب أبي حنيفة ،
وابن سريج.
__________________
وقطع الشافعي ،
وأكثر الظاهريّة وأحمد بن حنبل في رواية إلى امتناع ذلك.
لنا : أن كلّ واحد
منهما دليل يوجب العلم والعمل ، وكما جاز نسخ الكتاب بمثله ، جاز نسخه بالسنّة
لمساواتها له.
وأمّا الوقوع ، فلأنّ جلد الزاني ثابت بقوله تعالى : (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا) وقد نسخ بالرّجم الثابت بالسنّة.
وهو ممنوع ، أمّا
أوّلا فلما فيه من نسخ القرآن بخبر الواحد ، وأمّا ثانيا فلجواز نسخه بقرآن نسخت
تلاوته ، كما روي عن عمر أنّه قال : كان فيما أنزل «الشيخ والشيخة إذا زنيا
فارجموهما البتة نكالا من الله ورسوله».
لا يقال : روي عن
عمر أنّه قال : لو لا أنّني أخشى أن يقال : زاد عمر في القرآن ما ليس منه ، لكتبت «الشيخ
والشيخة إذا زنيا» على حاشية المصحف ، وهو يدل على أنّه لم يكن قرآنا.
لأنّا نقول :
يحتمل أنّه منسوخ التلاوة ، ولا يلزم أنّه لم يكن قرآنا.
لا يقال : «الشيخ
والشيخة» لم يثبت بالتواتر ، بل بقول عمر ، ونسخ المتواتر بالآحاد ممتنع.
لأنّا نقول :
والسنّة وهو رجم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما هو من باب الآحاد ،
__________________
وغايته إجماع
الأمّة على الرّجم ، والإجماع ليس بناسخ ، بل [هو] دليل على وجود الناسخ المتواتر
، وليس إحالته على سنّة متواترة لم تظهر لنا أولى من إحالته على قرآن متواتر لم
يظهر [تواتره] بسبب نسخ تلاوته.
والتحقيق : أنّ
لفظ الزّانية والزاني إن كان عامّا كان رجم المحصن تخصيصا لا نسخا ، وإن كان مطلقا
كان تقييدا ، فلا نسخ هنا (إلّا مع ثبوت المتأخر عن وقت العمل وهو ممنوع).
واحتجّوا على
الوقوع أيضا : بأنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا وصيّة لوارث» ناسخ لآية الوصيّة.
وهو ضعيف ، لأنّه
خبر واحد ، لأنّه لو كان متواترا لبقي الآن كذلك ، لتوفّر الدواعي على نقله ، من
حيث إنّه في واقعة مهمّة ، وحيث لم يبق متواترا دلّ على أنّه لم يكن متواترا.
على أنّه قد منعه
أكثر الناس مع اتّفاقهم على منع نسخ المتواتر بخبر الواحد.
احتجّ الشافعي
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) أخبر بأنّه يأتي بخير منه أو مثله ، فيجب أن يكون من جنسه
، كما
__________________
لو قال إنسان : ما
آخذ منك من ثوب إلّا آتيك بخير منه ، فإنّه يفيد إتيانه بثوب خير منه ، وجنس
القرآن قرآن.
وبأنّه المنفرد
بالإتيان بذلك الخير ، وذلك هو القرآن الّذي هو كلامه ، دون السنّة الّتي يأتي بها
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولأنّ قوله : (نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها) يفيد أنّ المأتيّ خير من الآية ، والسنّة ليست خيرا من
القرآن.
ولأنّ قوله : (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) دلّ على أنّ الآتي بخير منها هو المختصّ بالقدرة على
إنزاله ، وهو القرآن دون غيره.
الثاني : قوله
تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فوصفه بأنّه مبيّن للقرآن ، ونسخ القرآن رفعه ، والرفع ضدّ البيان.
الثالث : قوله
تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ) أخبر بأنّه المبدّل.
الرابع : حكى
تعالى عن المشركين أنّهم قالوا عند تبديل الآية بالآية : (إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ) ، ثمّ إنّه تعالى أزال هذا الإبهام بقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
__________________
الْقُدُسِ
مِنْ رَبِّكَ) ، وهو يدلّ على أنّ ما لم ينزّله روح القدس من ربّك لا
يكون مزيلا للإبهام.
الخامس : قوله
تعالى : (قالَ الَّذِينَ لا
يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ
لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى
إِلَيَ) يدلّ على أنّ القرآن لا تنسخه السنّة.
السادس : أنّه
يوجب التهمة (والنفرة) .
السابع : السنّة
إنّما وجب اتّباعها بالقرآن ، وهو قوله تعالى : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وقوله : (وَاتَّبِعُوهُ).
فهي فرع القرآن ،
فلا ترجع عليه بالإبطال ، كما لا ينسخ القرآن والسنّة بالقياس المستنبط منهما.
الثامن : القرآن
أقوى من السنّة ، لأنّ معاذا قدّمه في الحكم [على السنّة] وأقرّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولأنّ لفظه معجز.
ولوجوب الطهارة من
الجنابة والحيض على تاليه ، ومطلقا على من مسّه ، فلا يرفع [الأقوى] بالأضعف.
__________________
والجواب عن الأوّل
من وجوه :
الأوّل : قال أبو
هاشم قوله (نَأْتِ بِخَيْرٍ
مِنْها) ليس المراد منها أنّ ذلك الخير يكون ناسخا ، فجاز أن يكون
مغايرا له ، يحصل بعد النسخ.
ويؤيّده أنّ الآية
دلّت على ترتيب الإتيان بذلك الخير على نسخ الآية الأولى فلو كان نسخها مرتّبا على
الإتيان بذلك الخير دار.
الثاني : قال أبو
هاشم أيضا : المفهوم من نسخ الآية نسخ التلاوة دون الحكم فقط ، فإنّه لا يطلق
النسخ على ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته ، ولهذا يقال : «ما نسخت الآية بل نسخت حكمها».
ومنعه أبو الحسين
، لأنّ الناس يطلقون النسخ على آية المناجاة ، وتلاوتها باقية .
الثالث : نمنع كون
الخير من جنس الآية المنسوخة ، والمثال معارض بمثل : «من يلقني بحمد وثناء جميل
ألقه بخير منه» ، فإنّه لا يقتضي أنّ الّذي يلقاه به من جنس الحمد والثناء ، بل من
العطاء.
على أنّا نمنع
بالجنسيّة بين الثوب وجزائه ، فإنّه لا بدّ من إضمار ، وليس إضمار «ثوب خير منه»
أولى من إضمار «شيء خير منه».
والقرآن والسنّة
متساويان في إسنادهما إليه تعالى ، فإنّ المراد بالإتيان شرع الحكم وإلزامه ،
والسنّة كالقرآن في أنّ المثبت لهما هو الله تعالى.
__________________
وليس المراد من
نسخ الآية نسخ رسمهما لعدم التفاضل بين الآيات في الخيريّة ، لتساويها كلّها في
كونها خيرا ، بل نسخ حكمها.
وجاز أن يكون حكم
السنّة الناسخة خيرا من حكم القرآن المنسوخ ، ويكون أصلح في التكليف ، وأنفع
للمكلّف.
والله تعالى هو
المتمكّن من تبديل الحكم وإزالته ، والإتيان بخير منه ، سواء كان ظهوره بالقرآن أو
السنّة ، وهو المنفرد بالقدرة عليه.
وعن الثاني : النسخ نوع من البيان ، كما أنّ التخصيص نوع منه ، لتشاركهما فى مطلق التخصيص.
وأيضا ، تحمل «لتبيّن»
على معنى «لتظهر» لكونه أعمّ من بيان المجمل والعموم ، لأنّه يتناول كلّ شيء حتى
المنسوخ ، وإظهار المنسوخ أعمّ من إظهاره بالقرآن.
ولأنّ وصفه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّه «مبيّن» لا يمنع من كونه ناسخا.
والتحقيق أن نقول
: النسخ إمّا أن يكون بيانا أولا ، فإن كان الأوّل اندرج تحت العموم ، وإلّا جاز
صدوره عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ الآية مختصّة بما يحتاج إلى البيان.
وعن الثالث : أنّ المبدّل هو الله تعالى
سواء كان بالقرآن
أو السنّة.
والتحقيق أنّه لا
حجّة في هذه الآية لدلالتها على الملازمة بين التبديل
__________________
وقولهم بالافتراء
، وليس فيها دلالة على أنّ النسخ إنّما يكون بالآية.
وعن الرابع : أنّها لا تدلّ على امتناع
نسخ القرآن بالسنّة إلّا أن تكون
السنّة لم ينزل بها روح القدس ، وهو ممنوع ، لأنّها من الوحي وإن كانت لا تتلى.
ولأنّ من يتّهم
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يشكّ في نبوّته ، ومن تكون هذه حاله ، فالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مفتر عنده ، سواء نسخ الكتاب بمثله أو بالسنّة ، والمزيل
لهذه التهمة هو التمسك بمعجزاته.
وعن الخامس : أنّها تدلّ على أنّه لا
ينسخ إلّا بوحي ونحن نقول بموجبه
، لأنّ السنّة منه.
وعن السادس : أنّ النفرة زائلة ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى).
وعن السابع : أنّ السنّة لم ينسخ أصلها
بل غيره ولا امتناع فيه.
ولأنّ القرآن ،
دلّ على وجوب اتّباعه ، فإذا حكم بنسخ الآية وجب اتّباعه فيه.
ولأنّ السنّة ، لم
ترفع القرآن بل حكمه ، وحكمه ليس أصلا لها ، فالمرتفع ليس الأصل.
وعن الثامن : أنّ ما ذكروه لا يمنع من
نسخه ، كما لو تعارض
عموم الكتاب وخصوص السنّة ، فإنّه يجب تقديم خصوص السنّة على عموم
__________________
الكتاب ، وكذا لو
تعارض [دليل] عقليّ وعموم آية ، فإنّ العقل يقدّم ، وكذا الإجماع وخبر الواحد.
على أنّ السنّة
الناسخة ليست منافية للقرآن ، بل مبيّنة ومخصّصة للأزمان.
المبحث الرابع :
في نسخ السنّة المتواترة بمثلها وبالقرآن
اتّفق القائلون
بالنسخ على جواز نسخ السنّة المتواترة بمثلها ، لتساويهما في الدلالة وقوّتها ،
ووجوب الرجوع إليها.
وأمّا نسخ السنّة
بالقرآن ، فذهب إليه أكثر الناس من الأشاعرة والمعتزلة ، والإماميّة ، والشافعي في
أحد قوليه ، ومنع في الآخر من جوازه عقلا ، ووقوعه سمعا.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّهما
دليلان من الله تعالى قطعيّان ، فكما جاز نسخ أحدهما بجنسه ، جاز بغيره ، لتساويهما.
الثاني : التوجّه
إلى بيت المقدس ، كان واجبا في ابتداء الإسلام بالسنّة ، لعدم قرآن يدلّ عليه ،
إلّا قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وليس دليلا عليه ، بل على التخيير بين الجهات.
__________________
اعترض : بجواز وجوبه بقرآن نسخت تلاوته ، أو أنّ نسخه بالسنّة
أيضا ، ولا يلزم من ثبوت التوجّه إلى الكعبة بالكتاب أن يكون التحويل عن بيت
المقدس بالكتاب ، لأنّ الظاهر أنّه حوّل عن بيت المقدس ، ثمّ أمر بالتوجّه إلى
الكعبة ، ولهذا كان تقلّب وجهه في السّماء ، لانتظار ما يؤمر بعد التحويل.
وأجيب بأنّ تجويز ذلك يسدّ باب إثبات النسخ بشيء من الأدلّة لشيء
منها ، إذ ما من ناسخ إلّا ويجوز فيه أن يكون النسخ تقدّمه بدليل آخر ، وما من
دليل منسوخ إلّا ويكون المنسوخ دليلا غيره يوافقه في حكمه.
وإنّما حكمنا
بالنسخ في الآيات الّتي اعتقدنا النسخ فيها ، للصلاحيّة والاقتران ، لأنّها طريق
صالح للارتفاع ، وقد قارنها الارتفاع ، فيسند إليها.
وفيه نظر : لأنّ
الطرق الدالة على معرفة الناسخ والمنسوخ إذا وجدت في شيء ، حكمنا بثبوتهما فيه ،
ولا ينسدّ الباب ، وأمّا المنسوخ فإنّه متى وجد ما ينافيه من الأدلّة ، حكم بأنّه
منسوخ وإن استند الحكم إلى غيره.
الثالث : قوله
تعالى : (فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَ) نسخ لتحريم المباشرة بالليل على الصائم في ابتداء الإسلام
، وقد كان ثابتا بالسنّة.
__________________
الرابع : نسخ صوم
يوم عاشوراء بصوم رمضان ، وكان صوم عاشوراء ثابتا بالسنّة.
الخامس : صلاة
الخوف وردت في القرآن ناسخة لما ثبت بالسنّة من جواز تأخيرها إلى انقضاء القتال ،
حتّى قال صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم الخندق ، وقد أخّر الصلاة : «حشا الله قبورهم نارا» لحبسهم له عن الصلاة.
السادس : قوله
تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ) نسخ ما كان صلىاللهعليهوآلهوسلم قد صالح أهل مكّة عام الحديبيّة على أنّ من جاءه مسلما
ردّه ، حتّى أنّه ردّ أبا جندل وجماعة من الرّجال ، فجاءت امرأة ، فأنزل الله
تعالى : (فَلا تَرْجِعُوهُنَ) والسؤالان المذكوران واردان هنا.
السابع : لو امتنع
، فإمّا من حيث القدرة والصحّة ، أو من حيث الحكمة ، والقسمان باطلان :
أمّا الأوّل :
فبأن يقال : إنّه تعالى لا يوصف بالقدرة على كلام ناسخ لسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو لو أتى بكلام هذا سبيله ، لم يكن دالّا على النسخ ،
وهما باطلان ، لأنّه تعالى قادر على جميع أقسام الكلام ، ولا يجوز خروج كلامه عن
كونه دليلا على ما هو موضوع له.
وأمّا الثاني :
فبأن يقال : لو نسخ الله تعالى كلام نبيّه ، لنفّر عنه وأوهم أنّه
__________________
لم يرض بسنّته.
وهو باطل ، لأنّ النسخ يرفع الحكم بعد استقرار مثله ، وذلك يمنع من هذا التوهم ،
لأنّه لو لم يرض بها سنّة لم يقرّ عليه ، على أنّ ذلك لو نفّر عنه لنفر نسخ سنّته
بمثلها.
احتج الشافعي
بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وهو يدلّ على أنّ كلامه بيان للقرآن ، والناسخ بيان
المنسوخ ، فلو كان القرآن ناسخا للسنّة ، لكان القرآن بيانا للسنّة ، فيكون كلّ
منهما بيانا لصاحبه.
والجواب : لا
دلالة فيه على أنّه لا يتكلّم إلّا بالبيان.
سلّمنا ، لكنّ
البيان [هو] الإبلاغ ، لأنّه عامّ في كلّ القرآن ، بخلاف بيان المراد ، لتخصيصه
بالمجمل (سلّمنا لكن جاز اختلاف الحجّة) .
المبحث الخامس :
في نسخ خبر الواحد
اتّفق القائلون
بالنسخ والعمل بخبر الواحد ، على جواز نسخ خبر الواحد بمثله ، وقد وقع في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها» .
واتّفقوا على نسخ
خبر الواحد بالتواتر من القرآن والسنّة.
__________________
واختلفوا في وقوع
نسخ المتواتر به ، بعد اتّفاقهم على جوازه ، فأثبته داود وأهل الظاهر ، ونفاه
الباقون.
أمّا الجواز فظاهر
، لأنّ الخبر طريق إلى معرفة الأحكام ومخصّص للعمومات المتواترة ، والنسخ نوع منه.
وأيضا ، لا
استبعاد في أن يتعبّدنا الله تعالى برفع حكم متواتر بما يصل إلينا آحادا.
والتحقيق : أنّ
خبر الواحد ليس هو الناسخ ، بل كلامه إلى رسوله هو الناسخ ، وإنّما وصوله إلينا بالآحاد ، وقد تعبّدنا
الله تعالى بالعمل بخبر الواحد ، ولا فرق بين أن يرفع الحكم عن بعض الأشخاص وبعض
الأزمان.
وأمّا عدم الوقوع ،
فلوجوه :
الأوّل : ترك
الصحابة العمل به إذا رفع حكم الكتاب ، قال علي عليهالسلام : لا ندع كتاب ربنا وسنّة نبيّنا بقول أعرابي بوّال على
عقبيه .
وقال عمر : لا ندع
كتاب ربّنا وسنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت.
__________________
واعترض : بأنّه لا يلزم من امتناع العمل بخبر واحد لا يعلم صدقه
امتناع العمل به مطلقا ، ولهذا علّلا بعدم الدّراية بصدقهما.
وفيه نظر ، فإنّ
خبر الواحد لا يفيد العلم مطلقا ، فلو علّل الردّ بعدم إفادته العلم ، لزم ردّه
مطلقا ، بل الإعراض أنّ عليّا عليهالسلام علّل بالفسق.
الثاني : الآحاد
ضعيف ، والمتواتر أقوى ، فلا يرفع الأضعف الأقوى. ونقض بالتخصيص ، ولأنّه وإن ضعف
من حيث كونه آحادا إلّا أنّه أقوى من جهة خصوصه ، والظنّ الحاصل من الخاصّ إذا كان
آحادا أقوى من الظنّ الحاصل من العامّ المتواتر ، لأن تطرّق الضّعف إلى الواحد من
جهة كذبه ، واحتمال غلطه ، وتطرّق الضعف إلى العامّ من جهة تخصيصه ، واحتمال إرادة
بعض ما دلّ عليه دون البعض ، واحتمال تطرّق التخصيص إلى العامّ أكثر من تطرّق
الكذب إلى العدل ، فكان الظنّ المستفاد من خبر الواحد أقوى.
الثالث : النهي
ورد بالعمل بخبر الواحد ، فلا يكون ناسخا ، وسيأتي الجواب عنه.
احتج الظاهريون
بوجوه :
الأوّل : يجوز
تخصيص المتواتر بخبر الواحد ، فجاز نسخه به ، والجامع دفع الضّرر المظنون ، بل
النسخ أولى ، لأنّه يرفع مثل الحكم بعد
__________________
كون الحكم مرادا ،
فالمتواتر والتخصيص يفيدان ما يتناوله ما كان مرادا من العامّ.
الثاني : خبر
الواحد دليل شرعيّ ، فإذا عارض المتواتر ، وجب تقديم المتأخّر ، كغيره بجامع
الدلالة.
الثالث : نسخ
الكتاب بأخبار الآحاد قد وقع في قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ...) بنهيه عن أكل كلّ ذي ناب من السّباع.
وقوله : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) منسوخ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا على خالتها».
وقوله : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ
أَحَدَكُمُ ...) منسوخ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا وصيّة لوارث».
والجمع بين وضع
الحمل والمدّة منسوخ بأبعد الأجلين.
وإذا جاز نسخ
الكتاب بخبر الواحد ، جاز نسخ المتواتر به ، لعدم القائل بالفرق.
الرابع : قبل أهل
قبا نسخ القبلة بخبر الواحد ، ولم ينكر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم.
__________________
الخامس : كان صلىاللهعليهوآلهوسلم ينفذ الآحاد إلى الأطراف لتبليغ الأحكام الّتي من جملتها
الناسخ والمنسوخ.
السادس : الحكم
بأخبار الآحاد معلوم بدليل قاطع ، فالحكم به كالحكم بالآية ، فجاز نسخ الآية به ،
كما جاز بآية مثلها.
والجواب عن الأوّل
: بالفرق بين النسخ والتخصيص بالإجماع ، ودليلهم دلّ على الجواز العقليّ ، أمّا
الوقوع فالإجماع منع منه.
وعن الثاني : أنّ
المتواتر مقطوع به ، بخلاف الواحد ، فجاز أن يكون هذا التفاوت مانعا من ترجيح خبر
الواحد.
وعن الثالث :
بالمنع من النسخ في هذه الآيات ، لأنّ قوله : (قُلْ لا أَجِدُ) إنّما يتناول الموحى إليه إلى تلك الغاية ، ولا يتناول ما
بعده ، فلم يكن النهي [الوارد] بعده نسخا.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها» مخصّص تلقّته الأمّة
بالقبول ، ولا ناسخ له.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا وصيّة لوارث» منعه جماعة كثيرة.
والاعتداد بأبعد
الأجلين ، جاز أن يكون الإجماع صدر عن خبر ، ثمّ لم ينقل ذلك الخبر أصلا ، استغناء
بالإجماع عنه ، وإذا جاز ذلك ، فأولى أن يصدر إجماعهم عن خبر ، ثمّ يضعف نقله
استغناء بالإجماع عنه ، فلا يمتنع أن يكون الخبر مقطوعا عندهم ، ثمّ يضعف نقله ،
لإجماعهم على العمل بموجبه.
على أنّا نمنع
النسخ هنا.
وعن الرابع :
لعلّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبرهم بذلك قبل وقوع الواقعة ، فلهذا قبلوا خبر الواحد
فيه ، أو لعلّه انضمّ إليه من القرائن ما أفاد العلم ، كقرب المسجد وارتفاع الأصوات بأنّ القبلة قد استدارت.
وعن الخامس :
باحتمال أن يكون المبعوث مفتيا لا راويا.
وعن السادس : أنّ
ما ثبت من الإجماع يمنع من كون الحكم بأخبار الآحاد معلوما إذا كانت رافعة لحكم
الكتاب.
المبحث السادس :
في أنّ الإجماع لا يقع ناسخا
هذا مذهب الأكثر ،
خلافا للسيّد المرتضى ، وبعض المعتزلة ، وعيسى بن أبان.
لنا : أنّ المنسوخ
بالإجماع إما نصّ أو إجماع أو قياس ، والكلّ باطل.
أمّا الأوّل ،
فلاقتضائه وقوع الإجماع على خلاف النصّ ، وخلاف النصّ خطأ ، فالإجماع يكون خطأ.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ الإجماع المتأخّر إن اقتضى كون الأوّل وقع خطأ ، استلزم تخطئة الإجماع ، وهو
باطل ، وإن اقتضى كونه صوابا إلى هذه الغاية ،
__________________
فالأوّل إن كان
مطلقا ، لم يكن مفيدا للحكم الموقّت إلى غاية ، وإن كان مقيّدا إلى غاية فذلك
الإجماع ينتهى عند حصول تلك الغاية بنفسه ، فلا يكون الإجماع المتأخّر رافعا له.
وأمّا الثالث ،
فلأنّه إنّما يتصوّر لو اقتضى القياس حكما ، ثمّ أجمعوا على خلافه فحينئذ يزول حكم
ذلك القياس بعد ثبوته ، لتراخي الإجماع عنه ، وهو محال ، لأنّ شرط صحّة القياس عدم
الإجماع ، فإذا وجد فقد زال شرط صحّة القياس ، وزوال الحكم لزوال شرطه لا يكون
نسخا.
وفيه نظر ، لأنّا
إذا كنّا متعبّدين بالقياس ثمّ دلّ على شيء ، وجب علينا العمل به ، وتجدّد الإجماع
ليس بمحال ، فإذا تجدّد ارتفع حكم القياس ، وهو معنى النسخ.
ولو كان كون عدم
ظهور الإجماع شرطا في القياس مانعا من النسخ ، لكان كلّ دليل كذلك ، إذ كلّ دليل
مشروط بانتفاء معارض متجدّد ، فظهور الناسخ مزيل لشرط الدليل الأوّل ، فيزول لزوال
شرطه من غير نسخ.
احتجوا : بأنّ
الإجماع دليل قطعيّ فجاز النسخ به كالقرآن والسنّة المتواترة.
وبأنّ ابن عباس
رضى الله عنه لما قال لعثمان : كيف تحجب الأمّ عن الثلث بالأخوين ، والله تعالى
يقول (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ)
__________________
والأخوان ليسا
بإخوة؟ قال عثمان : حجبها قومك يا غلام. وهو دليل النسخ بالإجماع.
والجواب عن الأوّل
: النّقض بالقياس عند القائلين به ، والفرق بأنّ القرآن والسنّة أصلان بخلاف
الإجماع.
وعن الثاني : أنّ
الحكم ليس بمنسوخ ، بل إنّه دلّ على صدق الجمع على الاثنين وهو نزاع في اللغة.
المبحث السابع :
في أنّ القياس لا يكون ناسخا
اختلف الناس في
ذلك ، فمنعه الإماميّة ، لاعتقادهم بطلان القياس ، وذهب جماعة كثيرة ممن سوّغه إلى
ذلك أيضا.
وقال آخرون : يجوز
النسخ به لدليل ظنيّ وقطعيّ.
وفصّل بعض
الشافعية فقال : يجوز النسخ بالقياس الجليّ دون الخفيّ.
قال الغزالي : إن
أراد بالجليّ المقطوع به فصحيح أمّا المظنون فلا .
وما يتوهّم القطع
به ثلاث مراتب :
الأولى : ما يجري
مجرى النصّ وأوضح منه ، كتحريم الضرب لتحريم
__________________
التأفيف ، فلو كان
قد ورد نصّ سابق بإباحة الضرب ، كان هذا القياس المتأخّر ناسخا.
الثانية : لو ورد
نصّ بأنّ العتق لا يسري ، ثمّ ورد قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من أعتق شركا من عبد قوّم عليه الباقي» لقضينا بسريان
عتق الأمة ، قياسا على العبد ، لأنّه مقطوع به ، للعلم القطعيّ بأنّ قصد الشارع
إلى المملوك ، لأنّه مملوك لا الذكوريّة.
الثالثة : أن يرد
النصّ بإباحة النّبيذ ، ثمّ يقول الشارع : حرّمت الخمر لشدّتها ، فإنّه ينسخ إباحة
النّبيذ بقياسه على الخمر إن تعبّدنا بالقياس عند قوم ، ومطلقا عند آخرين ، لعدم
الفرق بين : حرّمت كلّ مشتدّ ، وحرّمت الخمر لشدّتها ، ولذلك أقرّ النظّام والمفيد
من الإماميّة بالقياس على العلّة المنصوصة ، وإن أنكرا أصل القياس وهو الذي
اخترناه نحن.
لنا على المنع :
أنّه لا يجوز أن ينسخ كتابا ، ولا سنّة ، ولا إجماعا ، بالإجماع ولا قياسا آخر ،
لأنّ الثاني لا بد وأن يترجّح على الأوّل ، فحينئذ إمّا أن نقول إنّ القياس الأوّل
ليس بقياس ، لعدم ترجيحه ، والترجيح شرط في الاقتضاء ، أو نقول : إنّه وإن لزم منه
رفع حكمه فهو في معنى النسخ ، لكنّه ليس بنسخ لأنّا قلنا : النسخ هو خطاب دالّ على
الارتفاع.
احتج المخالف بقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
__________________
أَلْفٌ
يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ) نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة ، وليس مصرّحا به ، وإنّما هو
منبّه عليه ، وهو نفس نسخ حكم النصّ بالقياس.
ولأنّ النسخ أحد
البيانين ، فجاز بالقياس كالتخصيص.
والجواب : ليس
ثبات الواحد للاثنين الرافع لثبوت الواحد للعشرة مستفادا من القياس ، بل من نفس
مفهوم اللفظ.
والقياس ينتقض بالإجماع ودليل العقل وخبر الواحد ، فإنّها تخصّص
ولا ينسخ بها.
تذنيب
استحالة رفع
المعلوم بالمظنون ليس عقليّا ، لإمكان أن يتعبّدنا بنسخ النصّ بالقياس على نصّ آخر
، نعم يستحيل أن يتعبّد بنسخ النصّ بقياس مستنبط من ذلك النصّ لأدائه إلى مناقضته
لنفسه ، وإنّما دلّ عليه السّمع ، كقول معاذ : «أجتهد رأيي» بعد فقد النصّ ، وإجماع الصحابة على ترك القياس لو عارض
خبر واحد ، فكيف المتواتر؟ لاشتهار قولهم عند سماع خبر الواحد ، لو لا هذا لقضينا
فيه برأينا.
__________________
المبحث الثامن :
في طريق معرفة الناسخ والمنسوخ
قد يعلم ذلك
باللفظ ، وبالتاريخ مع التنافي.
أمّا اللفظ ، ف [هو]
أن يوجد لفظ النسخ ، فيقال : هذا ناسخ لذلك ، أو هذا منسوخ بكذا ، أو نسخ كذا بكذا
إمّا من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أو الإمام ، أو الأمّة كلّها.
وأمّا التاريخ مع
التنافي ، فبأن يتنافى الحكمان بحيث لا يمكن الجمع بينهما مع علم التاريخ ، إمّا
بأن يتناقضا كقوله تعالى : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ) فإنّه نسخ ثبات الواحد للعشرة ، لأنّ التخفيف نفي للثقل
المذكور ، أو يتضادّا كالتحويل من قبلة إلى أخرى لتضادّ التوجّه إليهما.
ويعلم التاريخ
تارة باللفظ ، بأن يكون أحد الخبرين قبل الآخر ، أو يوجد في اللفظ ما يدلّ على
التقديم ، مثل : «كنت نهيتكم» ، (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ
عَنْكُمْ) وتارة بغيره ، وهو وجوه :
الأوّل : أن يقول
: هذا الخبر ورد في سنة كذا ، والآخر في سنة كذا.
الثاني : أن يعلّق
أحدهما على زمان معلوم التقدّم ، والآخر بالعكس ، كقوله : كان هذا في غزاة بدر ،
والآخر في غزاة أحد ، وهذه الآية نزلت قبل الهجرة ، وهذه بعدها.
الثالث : أن يروي
أحدهما متقدّم الصحبة للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ويروي الآخر
__________________
متأخّرها ، مع
انقطاع صحبة الأوّل عند ابتداء صحبة الآخر ، بخلاف ما لو دامت.
وهنا طرق ضعيفة.
الأوّل : قال قاضي
القضاة : إذا وافق أحد الخبرين حكم العقل ، علمنا تقدّمه ، وليس
كذلك ، لإمكان ابتداء الشريعة بما يخالف الأصل ، ثمّ نسخ بما يقتضيه العقل.
الثاني : قال
القاضي عبد الجبار أيضا : إذا قال الصحابي في أحد الخبرين المتواترين : إنّه كان
قبل الآخر ، قبل ذلك وإن لم يقبل قوله في نسخ المعلوم ، كما تقبل شهادة الاثنين في
الإحصان الّذي يترتّب عليه الرجم ، وإن كان لا يقبل في إثبات الرجم ، ويقبل قول
القابلة في أنّ الولد من أحد المرأتين ، وإن كان يترتّب على ذلك ثبوت النّسب للولد
من صاحب الفراش ، مع عدم قبول شهادتها في النسب ، فلا يمتنع أن لا يتعلّق الحكم
بالشّيء ، ويتعلّق بسبب من أسبابه.
قال أبو الحسين :
هذا يقتضي الجواز العقلي في قبول الخبر الواحد في تاريخ الناسخ ، ولا يقتضي وقوعه
إلّا إذا بيّن أنّه يلزم من ثبوت أحد الحكمين ثبوت الآخر ، وليس كلّ شيء لم يمتنع
فهو ثابت لا محالة ، بل يحتاج ثبوته إلى دليل.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
القاضي لم يستدلّ على الثبوت بعدم الامتناع ، بل ذكر أنّ هذا المانع لا يصلح
للمانعية.
الثالث : لو قال
الصحابي : كان هذا الحكم ثمّ نسخ ، كقولهم : إنّ خبر «الماء من الماء» نسخ بخبر «التقاء
الختانين» لم يكن حجّة ، لجواز أن يكون قوله عن اجتهاد.
وفصّل الكرخي فقال
: إن عيّن الناسخ فقال : هذا منسوخ بكذا ، لم يقبل ، لجواز ان يكون قوله عن اجتهاد
ولا يجب الرّجوع إليه ، وإن لم يعيّن بل قال : هذا منسوخ ، وجب قوله ، لأنّه لو لا
ظهور النسخ فيه لم يطلق .
وهو باطل ، لجواز
ظهوره في ظنّه ، لا في نفس الأمر.
الرابع : الاعتبار
بكون أحدهما مثبتا في المصحف بعد الآخر ، فإنّ ترتيب الآيات في المصحف ليس على
ترتيب النزول ، كآية العدة ، ولا يكون تساوي أحدهما من إحداث الصحابة ، لأنّه قد ينقل
عمن تقدّمت صحبته وإن روى عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من غير واسطة ، لجواز أن تكون رواية متقدم الصحبة متأخّرة
، ولا أن يكون إسلام أحدهما أسبق.
__________________
المبحث التاسع :
في أنّ الناسخ إذا كان مع جبرئيل عليهالسلام أو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، هل يثبت حكمه أم لا؟
اتّفق الناس كافّة
على أنّ الناسخ إذا كان مع جبريل عليهالسلام ، لم ينزل به إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يثبت له حكم في حق المكلّفين ، بل هم في التكليف بالحكم
الأوّل على ما كانوا عليه قبل إلقاء الناسخ إلى جبرئيل عليهالسلام.
واختلفوا فيما إذا
ورد النسخ إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يبلّغ الأمّة ، هل يتحقّق النسخ في حقّهم بذلك أم لا؟
ذهب بعض الشافعية
إلى الإثبات ، وبعضهم إلى النفي ، وبه قالت الحنفيّة وأحمد بن حنبل ، والوجه الأوّل.
لنا وجوه.
الأوّل : التكليف
منوط بإذن الشرع وقد ارتفع ، فيرتفع لازمه.
الثاني : النسخ
إسقاط حقّ ، لا يعتبر فيه رضا من عليه ، فلا يعتبر علمه كالطلاق والعتق.
الثالث : نسخ
الحكم إباحة تركه الّذي هو حقّ الشارع ، فيثبت قبل علم من أبيح له ، كما لو أباح
ثمرة بستانه لكلّ داخل ، فإنّه يباح للجاهل كالعالم.
الرابع : إذا علم
المكلّف نسخ الحكم تحقّق رفعه ، فإمّا أن يستند الرفع
إلى النسخ أو إلى
العلم بالنسخ ، والثاني باطل ، فإنّ العلم غير مؤثّر في الرفع ، فيتعيّن الأوّل.
الخامس : النسخ
إباحة ترك الفعل بعد إيجابه ، أو إباحة فعله بعد حظره ، فلا يتوقّف على علم من
أبيح له ، كما لو قال لزوجته : إن خرجت بغير إذني فأنت طالق ، ثم أذن لها من حيث
لا تعلم ، فإنّه يثبت حكم الإباحة في حقّ الزّوجة ، ولا يقع الطّلاق بخروجها.
احتجّ المخالف
بأنّ النسخ له لازم ، وهو ارتفاع حكم الخطاب السابق ، وامتناع الخروج بالفعل
الواجب أوّلا عن العهدة ، ولزوم الإتيان بالفعل الواجب الناسخ ، والإثم بتركه ،
والثواب على فعله ، وهذه اللّوازم منتفية ، فينتفي ملزومها.
أمّا عدم ارتفاع
الحكم السابق ، فلأنّ المكلّف يثاب على فعله ، ويخرج به عن العهدة ، ويأثم بتركه
له قبل بلوغ النسخ إليه ، ولهذا فإنّ أهل «قبا» لمّا بلغهم نسخ التوجّه إلى بيت
المقدس بالتوجّه إلى الكعبة استداروا ، ولم يأمرهم صلىاللهعليهوآلهوسلم بإعادة ما فعلوه إلى الجهة المنسوخة.
وأمّا عدم لزوم
الخطاب بالنسخ للمكلّف قبل البلوغ ، فلقوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) ، وقوله : (لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
__________________
ولأنّ المكلّف ،
لو فعل العبادة الّتي ورد بها الناسخ على وجهها ، كان عاصيا آثما غير خارج عن
العهدة.
وفيه نظر ، للمنع
من الثواب على فعله ، نعم يثاب على عزمه وطاعته وانقياده إلى أوامره تعالى.
ويمنع الإثم بتركه
قبل بلوغ النسخ إليه ، فإنّه المتنازع ، والجاهل بالقبلة لا يعيد صلاته.
ولأنّ التكليف
منوط بالعلم ولم يعلموا ، فصحّت صلاتهم.
والنسخ لا يستلزم
التعذيب ، لاشتراطه بالعلم.
المبحث العاشر :
في أنّ الزّيادة على النصّ هل هي نسخ أم لا؟
اعلم أنّ الزيادة
إمّا أن تكون متّصلة بالمزيد عليه ، أو منفصلة.
والأوّل إمّا أن
تكون مؤثّرة في المزيد عليه ، بأن يعتبر حكمه في الشريعة ، حتّى لو وقع مستقلّا من
دونها لم يعتدّ به ، كزيادة ركعتين على ركعتين كما روي أن فرض الصلاة كان ركعتين ،
فزيد في الحضر.
وإمّا غير مؤثّرة
، كزيادة عشرين على حدّ القاذف ، والتغريب على حدّ الزاني ، والرّجم على حدّ
المحصن.
وأمّا المنفصلة
فكزيادة صلاة سادسة أو صوم شهر ثان ، أو صدقة غير الزكاة.
__________________
وقد اتّفق العلماء
كافّة على أنّ الأخيرة ليست ناسخة ، لأنّها لم ترفع حكما شرعيّا ، وإنّما جعل أهل
العراق زيادة صلاة سادسة على الصلوات الخمس نسخا ، لقوله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ
الْوُسْطى) ، لأنّه يجعل ما كان وسطى غير وسطى.
واعترضهم قاضي
القضاة بالتزام أنّ زيادة عبادة على آخر العبادات ، يكون نسخا
لأنّه يجعل الأخيرة غير أخيرة ، ولو كانت الفروض عشرا خرجت عن كونها عشرا.
وفيه نظر ، لوقوع
الإطلاق الشرعي على الوسطى بذلك ، بخلاف ما ذكرتموه ، وإنّما الخلاف في القسمين
الأوّلين ، وهو زيادة الركعتين وزيادة العشرين في الجلد ، فقال الشيخان : أبو علي
وأبو هاشم وأصحاب الشافعي إنّهما ليسا نسخا على كلّ حال.
وقال أبو عبد الله
البصري وأبو الحسن الكرخي : إنّ الزّيادة نسخ على كلّ حال.
ومنهم من فصّل ،
فقال السيّد المرتضى وقاضي القضاة : إن كانت الزيادة قد غيّرت المزيد عليه
تغييرا شرعيّا حتّى صار المزيد عليه لو فعل بعد الزيادة على حدّ ما كان يفعل قبلها
، كان وجوده كعدمه ، ووجب استينافه كان نسخا ، كزيادة الركعتين وإلّا فلا ، كزيادة
التغريب.
__________________
وقال أبو علي وأبو
عبد الله : إن كانت الزيادة مغيّرة حكم المزيد عليه في المستقبل كانت نسخا ، وإن
لم تغيّر حكمه في المستقبل بل كانت مقارنة له لم يكن نسخا ، فزيادة التغريب في
المستقبل على الحدّ يكون نسخا.
فأمّا الزيادة
الّتي لا (تنفك عن) المزيد عليه ، فنحو أن يجب علينا ستر الفخذ ، فيجب علينا
ستر بعض الركبة ، ولا يكون وجوب ستر بعضها نسخا ، ولم يجعلوا الزيادة عند التعذّر
نسخا ، نحو قطع الرجل السّارق بعد قطع يديه وإحدى رجليه.
وقال قوم : إن كان
النصّ أفاد من جهة دليل الخطاب أو الشرط خلاف ما أفادته الزيادة ، كانت نسخا ،
لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في سائمة الغنم زكاة» ، فإنّه يفيد نفي الزكاة عن المعلوفة بدليل الخطاب ، فإذا
زيدت الزكاة في المعلوفة ، كانت نسخا.
وقال أبو الحسين
ونعم ما قال : الكلام في الزيادة على النصّ يقع في مواضع ثلاثة لا رابع
لها :
الأوّل : في معنى
النسخ.
الثاني : في اسمه.
الثالث : في حكمه.
__________________
أمّا الأوّل :
فبأن يقال هل الزيادة على النصّ تفيد معنى النسخ أم لا؟ والحقّ أنّها تفيده ، لأنّ
معنى النسخ هو الإزالة ، وكلّ زيادة فهي مزيلة لحكم من الأحكام ، لأنّ إثبات كلّ
شيء لا أقلّ من أن يقتضي زوال عدمه الّذي كان ، وإنّما يتمّ كلامه هذا لو استعمل
النسخ هنا بالمعنى اللغوي.
وأمّا الثاني :
فبأن يقال : هل الزيادة على النصّ تسمّى نسخا أم لا؟ والحقّ أنّ الزائد بهذه
الزيادة الّتي كلامنا فيها وهي الزيادة الشرعيّة إن كان حكما شرعيّا ، وكانت
الزيادة متراخية عنه ، سمّيت الزيادة نسخا ، وسمّي الدليل المثبت لها ناسخا ، وإن
كان عقليّا لم تسمّ نسخا.
وأمّا الثالث :
فبأن يقال : هل يجوز إثبات الزيادة على النصّ بخبر الواحد وقياس أم لا؟ والحقّ انّ
الزائد إن كان حكما عقليّا جاز إثبات الزيادة بخبر الواحد والقياس إلّا أن يمنع
مانع ، نحو ان يكون الثابت بالزيادة مما يعمّ به البلوى ، فلا يقبل فيه خبر الواحد
عند بعضهم ، أو يكون حدّا ، أو كفّارة ، أو تقديرا ، فلا يقبل فيه القياس عند
بعضهم ، لا باعتبار النسخ ، بل باعتبار أمور أخر.
وإن كان شرعيّا
وكان دليل الزيادة متأخّرا عن ذلك ، لم يجز إثباته بالقياس ، لأنّ القياس المتأخر
لا يرفع حكم النصّ.
وإن كان خبر واحد
، وكان الحكم المرفوع ثابتا بخبر الواحد ، جاز أن يقبل في الزيادة.
وإن كان بقطعيّ لم
تجز إزالته بخبر الواحد ، وإن أجمعت الأمّة على
قبول خبر الواحد
في ذلك ، علمنا أنّه كان مقارنا ، وأنّه كان مخصّصا ، فهذا ممّا يتعلّق بالأصل ، ويتفرع على ذلك أحكام تسعة :
الحكم الأوّل :
زيادة التغريب أو زيادة عشرين على جلد ثمانين ، لا تزيل حكما شرعيّا ، بل تنفي
وجوب الزيادة ، وهو معلوم بالعقل ، لأنّ إيجاب الثمانين أعمّ من إيجابها مع نفي
الزائد ، ومع ثبوته ، لصدقه على كلّ أحد من التقديرين ، وما به الاشتراك لا يدلّ
على ما به الامتياز نفيا ولا إثباتا ، فإيجاب الثمانين لا يدلّ على عدم الزائد ،
وإنّما عرف نفي الزائد بالبراءة الأصليّة ، وهي دليل عقليّ ، ولم ينقلنا عنه دليل
شرعيّ ، فالمثبت للزيادة لا يرفع حكما شرعيّا ، فلا يكون نسخا ، ويجوز إثباته بخبر
الواحد والقياس ، إلّا أن يمنع مانع عن النسخ.
وأمّا كون
الثمانين وحدها مجزئة أو كمال الحدّ ، أو تعليق ردّ الشهادة عليها ، فكلّ ذلك تابع
لنفي وجوب الزيادة ، فلمّا كان ذلك النفي معلوما بالعقل ، جاز قبول خبر الواحد فيه
، كما أنّ الفروض الخمسة يتوقف على أدائها الخروج عن عهدة التكليف وقبول الشهادة ،
فلو زيد فيها شيء آخر لتوقّف الخروج عن العهدة وقبول الشهادة على أداء ذلك ، مع
جواز إثباته بخبر الواحد ، فكذا هنا.
أمّا لو قال الله
تعالى : «الثمانون كمال الحدّ ، وعليها وحدها يتعلّق ردّ الشّهادة» لم يقبل في
الزيادة خبر الواحد والقياس ، لأنّ نفي وجوب الزيادة
__________________
ثبت بدليل شرعيّ
متواتر ، فرفعه يكون نسخا ، وكذا لو كان إيجاب الثمانين يقتضي من حيث المفهوم نفي
الزائد ، ويثبت أنّ مفهوم المتواتر لا يجوز نسخه بخبر الواحد والقياس ، لم يجز
إثبات الزيادة بخبر الواحد والقياس.
الحكم الثاني : لو
أوجب عتق رقبة وأطلق ، ثمّ قيّدها بالإيمان ، جرى مجرى التخصيص ، لأنّه قبل
التقييد قد كان يجزئ عتق الكافرة ، وبه خرج عتق الكافرة عن الخطاب ، فإن كان
المقتضي لهذا التقييد خبر واحد أو قياسا ، وكان متراخيا ، لم يقبل ، لأنّ عموم
الكتاب أجاز عتق الكافرة فتأخّر حظر عتقها هو النسخ بعينه ، وإن كانا مقارنين كان
تخصيصا ، فجاز ، لقبول خبر الواحد والقياس فيه.
وفيه نظر ، لأنّ
إجزاء الكافرة لم يثبت بالنصّ ، بل بالنظر الدالّ على أصالة براءة الذمة من
التقييد ، فكما أنّ إيجاب الثمانين أعمّ من إيجابها مع ثبوت الزيادة وعدمها ، ولا
دلالة للعامّ على الخاصّ ، كذا إيجاب عتق الرقبة أعمّ من إيجابها مقيّدة بالإيمان
أو بالكفر ، ولا دلالة للعامّ على الخاصّ فلم يكن هذا التقييد نسخا كالأوّل.
الحكم الثالث :
إذا قطعت يد السّارق ثمّ سرق ، فإباحة قطع رجله الأخرى رفع لحظر قطعها ، وذلك
الحظر إنّما يثبت بالعقل ، فجاز رفعه بخبر الواحد والقياس ولم يسمّ نسخا.
الحكم الرابع :
إذا أوجب علينا فعلا ، أو قال : هو واجب عليكم ، ثمّ
__________________
خيّرنا بين فعله
وفعل آخر ، لم يكن هذا التخيير نسخا ، لأنّه لم يغيّر حكما شرعيّا ، بل أزال حظر
ترك ما أوجبه علينا ، إلّا أنّ حظر تركه كان معلوما بالبقاء على حكم العقل ، لأنّ
قوله : «أوجبت هذا الفعل» يقتضي ترتّب استحقاق الذمّ على تركه ، وهذا لا يمنع أن
يقوم مقامه واجب آخر ، وإنّما يعلم أنّ غيره لا يقوم مقامه ، لأنّ الأصل أنّه غير
واجب ، ولو كان واجبا بالشرع لدلّ عليه دليل شرعيّ ، فصار علمنا بنفي وجوبه موقوفا
على أنّ الأصل نفي وجوبه ، فالمثبت لوجوبه إنّما رفع حكما عقليّا ، فجاز إثباته
بالقياس أو خبر الواحد ، ووافقه المرتضى.
وفيه نظر ، لأنّه
إذا أوجبه فإمّا على صفة التخيير أو التضييق ، فإن كان الأوّل لم يتجدّد شيء وخرج
عن الفرض ، ولأنّه كان يجب عليه أن يبيّنه.
وإن كان الثاني ،
فقد حرم عليه الترك ، وهو حكم شرعيّ ، فرفعه يكون نسخا.
ولأنّ الأمر إمّا
للوجوب ، فيفيد حظر تركه شرعا ، وإمّا للندب فيفيد أولويّة الفعل ، فرفعهما رفع
حكم شرعيّ.
وكذا إذا خيّر بين
شيئين ، ثمّ خير بينهما وبين ثالث ، أمّا لو قال تعالى : هذا الفعل واجب وحده ، أو
قال : لا يقوم غيره مقامه ، فإنّ إثبات بدل له فيما بعد ، يرفع حكما شرعيّا ، لأنّ
قوله : «واجب وحده» صريح في نفي وجوب غيره ، فالمثبت لغيره يرفع حكما شرعيّا ، فلا
يجوز بخبر الواحد والقياس.
__________________
وأمّا التضييق بعد
التخيير ، كإيجاب صوم رمضان عقيب التخيير بينه وبين الفدية ، فقال السيّد المرتضى
: إنّه نسخ ، لأنّ أحد المخيّر فيه خرج عن حكمه الشرعيّ .
وهو جيّد وقيل :
إذا خيّر بين الواجب أوّلا وغيره كان نسخا ، ولو أثبت بدلا ثالثا لما وجبا على
التخيير لم يكن نسخا.
وليس بجيّد.
الحكم الخامس :
الحكم بالشاهد واليمين ليس نسخا لمقتضى الآية ، أمّا أوّلا ، فلأنّ الآية دلّت على
جواز الحكم بالشاهدين ، والشاهد والمرأتين ، وأنّ شهادتهما حجّة ، وليس فيه ما
يدلّ على امتناع الحكم بحجّة أخرى ، إلّا بالنظر إلى المفهوم ولا حجّة فيه ، فرفعه
ليس بنسخ ، فجاز بخبر الواحد.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتانِ) خيّر بين استشهاد رجلين ، أو رجل وامرأتين ، والحكم
بالشاهد واليمين زيادة في التخيير وهي ليست نسخا.
ومن قال : الحكم
بالشاهد واليمين نسخ لهذه الآية ، يلزمه أن يكون الوضوء بالنّبيذ نسخا لقوله تعالى
: (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا).
وأمّا ثالثا ،
فقال السيّد المرتضى : الشاهد الثاني شرط ولا يمتنع أن يقوم
__________________
مقام الشرط غيره ،
وإذا لم تمنع الآية ممّا ورد به الخبر لم يكن فيه نسخ لها.
ثمّ اعترض من نفسه
بأنّ الآية تمنع من اليمين مع الشاهد في المعنى ، من حيث كانت اليمين قول
المدّعي ، فجرت مجرى دعواه.
ثمّ أجاب بإمكان
أن لا يكون لدعواه حكم ، ويكون ليمينه حكم ، وإن كانا معا قولا له ، فإنّ الإنكار
لا حكم له ، والنكول عن اليمين له حكم ، وإن كانا راجعين إلى قوله ، وكذا لا حكم
لإنكاره في إسقاط الدّعوى واليمين ، وليمينه هذا الحكم ، فكذا لا يمتنع إذا حلف مع
شاهد أن يكون لقوله من الحكم ما لا يكون لدعواه إذا تجرّدت.
الحكم السادس :
إذا زاد ركعة في الصّبح قبل التشهد ، لم يكن نسخا للركعتين ، لأنّ النسخ لا يتناول
الأفعال ، ولا لوجوبهما لبقائه ، ولا لإجزائهما ، لأنّهما مجزئتان ، وإنّما كانتا
مجزئتين من دون ركعة أخرى والآن لا تجزءان إلّا مع ركعة أخرى ، وذلك تابع لوجوب
ضمّ ركعة أخرى ، ووجوب ركعة أخرى ليس يرفع إلّا نفي وجوبها ، ونفي وجوبها حصل
بالعقل ، فلا يمنع من هذه الجهة قبول خبر الواحد فيه.
نعم انّه يكون
نسخا لوجوب التشهد عقيب الركعتين ، وذلك حكم شرعيّ معلوم بطريقة معلومة ، فلا يثبت
بخبر الواحد والقياس.
وأمّا إذا زيدت
الركعة بعد التشهد وقبل التحلّل ، فإنّه يكون نسخا
__________________
لوجوب التحلل
بالتسليم ، أو ندبه ، وذلك حكم شرعيّ معلوم ، فلا يثبت بخبر الواحد والقياس .
اعترض : بأنّه قد كان تحريم الزيادة على الركعتين والتحريم حكم
شرعيّ ، وقد ارتفع بالزيادة.
وأجيب بأنّه يصحّ
لو كان الأمر بالركعتين مقتضيا للنهي عن الزيادة عليها ، وليس كذلك ، بل أمكن أن
يكون ذلك مستفادا من دليل آخر ، فزيادة الركعة على الركعتين ، ليس بناسخ لحكم
الدليل الدالّ على وجوب الركعتين.
وفيه نظر ، فإنّ
البحث وقع في زيادة تغيير حكم المزيد عليه ولم يقل أنّ الأمر بالركعتين من حيث هو
نهي عن الزيادة ، بل إيجاب الركعتين وتعقيبهما بالتشهد والتسليم ، يقتضي النهي عن
الزيادة ، فيكون نسخا.
واعترض أيضا ،
بأنّ النسخ إنّما هو لإجزاء الركعتين بتقدير انفرادهما ، وهو حكم شرعيّ.
قيل عليه : معنى
الإجزاء الخروج عن عهدة الأمر ، ومعنى الخروج عن العهدة ، أنّه لا يجب مع فعلها
شيء آخر ، وليس ذلك حكما شرعيّا ، ليكون رفعه نسخا ، بل هو من مقتضيات النفي
الأصلي.
__________________
قال السيّد
المرتضى : هذه الزيادة غيّرت الأحكام الشرعيّة ، لأنّه لو فعل بعد زيادة الركعتين على ما كان يفعلهما عليه أوّلا ، لم يكن لهما حكم ، وكأنّه
ما فعلهما ، ومع هذه الزيادة يتأخّر ما يجب من تشهّد وسلام ، ومع فقد [هذه]
الزيادة لا يكون كذلك.
ولا يلزم أن يقال
: كلّ جزء من الصلاة له في استحقاق الثواب حكم نفسه ، ولا يقف على غيره ، لأنّ
النسخ إنّما يدخل في الأحكام الشرعيّة ، واستحقاق الثواب عقليّ ، وعلى هذا لو زاد
في زمان الصّوم زيادة كانت ناسخة.
فأمّا زيادة ركن
على أركان الحجّ ، فليس يبين فيه أنّه يكون نسخا ، لانفصال بعض أركان الحجّ من بعض
، بخلاف الصّوم والصّلاة .
الحكم السّابع :
زيادة غسل عضو في الطهارة ليست بنسخ لإجزائها ولا لوجوبها ، وإنّما هو رفع لنفي
وجوب على ذلك العضو ، وذلك النفي معلوم بالعقل ، وذلك ابتداء عبادة ، وكذا زيادة
شرط آخر في الصلاة ليست نسخا لوجوب الصلاة.
وأمّا كونها غير
مجزئة بعد زيادة الشرط الثاني فهو تابع لوجوب ذلك الشرط وإجزاؤها تابع لنفي وجوبه
، ونفي وجوبه لم يعلم بالشرع ، فكذا ما يتبعه ، فجاز قبول خبر الواحد فيه ، هذا إن
لم يكن قد علمنا نفي وجوب
__________________
هذه الأشياء من
دين النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم باضطرار ، أمّا لو علمناه صار معلوما من جهة الشرع ، فلا
يثبت رفعه بخبر الواحد والقياس.
الحكم الثامن :
قوله تعالى : (أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ) يفيد كون أوّل اللّيل طرفا وغاية للصيام ، كما يفيده لو
قال : «آخر الصيام وغايته الليل» لأنّ لفظة «إلى» للغاية وضعا ، فإيجاب الصوم إلى
غيبوبة الشفق يخرج أوّله من كونه طرفا ، مع أنّ الخطاب أفاده ، فيكون نسخا لا يقبل
فيه خبر الواحد والقياس ، لأنّ نفي وجوب صوم أوّل اللّيل معلوم بدليل قاطع.
أمّا لو قال : «صوموا
النهار» ثمّ ورد الخبر بإتمام الصّوم إلى غيبوبة الشفق ، لم يكن نسخا ، لأنّ النصّ
لم يتعرّض في الليل بالصوم ولا بعدمه ، وإنّما نفينا صوم الليل بالأصل .
وفيه نظر ، فإنّه
لا فرق بين «صوموا النّهار» وبين «صوموا إلى الليل» في أنّ كلّ واحد منهما أوجب
الصوم إلى اللّيل ، وهو أعمّ من تحريمه بعده وتسويغه عقلا ، نعم إن قلنا : الحكم
فيما بعد الغاية يجب أن يخالف ما قبلها ، كان قوله : «صوموا إلى الليل» نسخا بخلاف
«صوموا النهار».
والتحقيق : أنّ
الغاية هنا إن كانت للصوم كان إيجابه بعدها نسخا ، وإن كان لوجوبه لم يكن نسخا.
الحكم التاسع : لو
قال : «صلّوا إن كنتم متطهّرين» جاز أن يثبت بشرط
__________________
آخر في الصلاة
بخبر الواحد ، لأنّ إثبات بدل للشرط لا يخرجه عن كونه شرطا ، لإمكان تعدّد شرط
الحكم الواحد ، بخلاف إثبات صوم جزء من الليل ، لأنّه يخرج أوّل اللّيل عن كونه
غاية ، فأمّا نفي كون الشرط الآخر شرطا ، فلم يعلم إلّا بالعقل فلم يكن رفعه رفعا
لحكم شرعيّ.
وكذا قوله تعالى :
(وَلْيَطَّوَّفُوا
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) مقتض لوجوب الطواف مطلقا مع الطهارة وبدونها ، فإيجاب
الطهارة من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الطواف بالبيت صلاة» ليس نسخا لوجوب الطواف لبقائه ، ولا لإجزائه ، لأنّه لم
يجزئ لوجود الشرط ، وفي الأوّل قد كان مجزئا ، لعدم الشرط الثابت بالأصل ، ولا
لدلالة الأمر على عدم الشرط ، لثبوته بالأصل ، ولهذا منعت الإماميّة والشافعي من
الإجزاء ، للحديث.
وأبو حنيفة لمّا
لم يسعه مخالفة الخبر ، قال بوجوب الطهارة ، مع بقاء الطواف مجزئا من غير طهارة ،
حيث اعتقد أنّ رفع الإجزاء نسخ للكتاب بخبر الواحد.
احتجّ القائلون :
بأنّ زيادة التغريب على الحدّ نسخ ، بوجوه :
الأوّل : الجلد قد
كان قبل الزيادة كمال الحدّ ، فصار بعدها بعضه ، فقد أزالت الزيادة كون الجلد كمال
الحدّ.
الثاني : الجلد قد
كان وحده مجزئا ، وبعد الزيادة غير مجز بانفراده ، فزال الإجزاء بالزيادة.
__________________
الثالث : الجلد
وحده كان يتعلّق به ردّ الشهادة ، فلمّا زيد التغريب ، صار لا يتعلّق به وحده.
والجواب عن الأوّل
: معنى أنّه كمال الحدّ عدم ضمّ غيره إليه ، ومعنى أنّه بعض الحدّ وجوب ضمّ غيره
إليه ، فقولهم : هذه الزيادة نسخ لأنّها صيّرت الجلد بعض الحدّ الواجب فعله ،
معناه انّما كانت الزيادة نسخا ، لأنّها زيادة ، فمعنى العبارتين واحد.
وأيضا ، الكلّ
والبعض من أحكام العقل دون الشرع.
اعترضه أبو الحسين
بأنّ الكلّ والبعض في الجملة يعلمان بالعقل ، أمّا كون الشيء كلّ الحكم الشرعيّ أو
بعضه ، فإنّما يعلم بالشرع.
وفيه نظر ، فإنّ
الكلّ والبعض مطلقان إلى أيّ شيء أضيفا ، سواء أضيفا الى الحكم الشرعيّ أو غيره من
أحكام العقل ، ولا يصيران شرعيّين باعتبار إضافتهما إلى الحكم الشرعيّ.
وعن الثاني : أنّ
معنى عدّ الإجزاء وجوب ضمّ شيء آخر إليه فيعود إلى تعليل الشيء بنفسه. وأيضا لو
كانت زيادة التغريب نسخا لجاز أن يقدر وجوده لا إلى بدل ، وهو غير ممكن هنا.
اعترضه أبو الحسين
بأنّه ليس بجواب بل هو استئناف دليل ، وهو مع ذلك غير صحيح ، لأنّ النسخ هو
الإزالة ، فالخصم يقول : قد يجوز إزالة
__________________
اجزاء الثمانين لا
إلى بدل أصلا ، وقد يجوز إزالته إلى بدل غير الثمانين ، وقد يجوز إزالته بزيادة
على الثمانين ، ولا يجوز إزالته بالزيادة على الثمانين إلى بدل الثمانين ، لأنّ في
قولنا : «زيادة على الثمانين» إثبات للثمانين ، فإسقاطها إلى بدل حينئذ متناقض.
وعن الثالث : بأنّ
ردّ الشّهادة إنّما يتعلّق بالقذف لا بإقامة الحدّ كما يتعلق بفعل سائر الكبائر.
سلّمنا ، لكن
زيادة التغريب قد نسخ تعلّق ردّ الشهادة بالجلد ، لا أنّه نسخ الجلد.
سلّمنا ، ردّ
الشهادة يتعلّق بما هو حدّ ، فتغيّر الحدّ إلى زيادة أو نقصان لا يرفع تعليق ردّ
الشهادة بما هو حدّ ، كما أنّ تغيّر العدّة بزيادة أو نقصان لا يرفع تعلّق أحكامها
[بها] ، ومعلوم أنّ الفروض لو كانت خمسا لوقف قبول الشهادة على أدائها ، فلو زيد
فيها لوقف على الفرض السادس ، ولم يوجب نسخا.
اعترضه أبو الحسين
بأنّه لو زيد في مدّة العدّة ، لكان نسخا لتعلّق أحكامها بالمدة المزيد عليها ،
ولو زيد في الفرائض [فرض] آخر ، لنسخ تعلّق قبول الشهادة بأداء تلك الفرائض وحدها
، لا أنّه يكون نسخا للفرائض.
__________________
المبحث الحادي عشر
: في أنّ النقصان هل هو نسخ أم لا؟
اتّفق الناس كافّة
على أنّ النقصان من العبادة نسخ لما اسقط ، وعلى أنّ نسخ ما لا يتوقف عليه صحّة
العبادة لا يكون نسخه نسخا للعبادة ، كما لو أوجب الصلاة والزكاة ، ثمّ نسخ
إحداهما ، وكما لو نسخ سنّة من سنن العبادة ، كنسخ ستر الرأس ، أو الوقوف على يمين
الإمام.
لكن اختلفوا في
أنّ نسخ ما يتوقّف عليه صحّة العبادة هل يكون نسخا لتلك العبادة أم لا؟
فذهب أبو الحسين
البصري ، وأبو الحسن الكرخي إلى أنّه لا يكون نسخا للعبادة ، سواء
كان المنسوخ جزءا من مفهوم العبادة ، كالركعة من الصلاة أو شرطا خارجا ، كالوضوء.
وذهب قوم من
المتكلّمين إلى أنّه نسخ للعبادة مطلقا ، وإليه مال الغزالي .
ومنهم من فصّل ،
فأوجب نسخ العبادة بنسخ جزئها دون شرطها ، وهو قول القاضي عبد الجبار .
وقال السيد
المرتضى : إن كان ما بقي من العبادة بعد النقصان لو فعل لم
__________________
يكن له حكم في
الشريعة ولم يجر مجرى فعله قبل النقصان ، فهو نسخ كما لو نقص من الصّلاة ركعة ،
وإن لم يكن كذلك لم يكن نسخا ، كما لو نقص من الحدّ عشرين.
والحقّ الأوّل.
لنا أنّ المقتضي
للكلّ كان متناولا للجزءين معا ، فخروج أحدهما لا يقتضي نسخ الجزء الآخر ، كسائر
أدلّة التخصيص.
ولأنّ نسخ الوضوء
ليس نسخا لصورة الصلاة ، لأنّ النسخ رفع الأحكام دون صورة الأفعال ، ولا لحكم من
أحكامها ، لبقاء وجوبها وإجزائها وكونها عبادة ، نعم الزائل نفي الإجزاء مع فقد
الطهارة ، فإنّه تابع لسقوط وجوب الطهارة ، وكذا نسخ ركعة ليس نسخا لباقي الرّكعات
، لأنّ النسخ لا يتناول صورة الفعل ، ولا لوجوب باقي الركعات ، ولا لكونها شرعيّة
ومجزئة لبقاء ذلك كلّه ، نعم يرتفع وجوب تأخير التشهد ونفي إجزائها من دون الركعة
، فإن كانت الركعة لما نسخت أوجب علينا إخلاء الصلاة منها ارتفع إجزاء الصلاة إذا
فعلناها مع الركعة المنسوخة ، وإجزاء الصلاة مع الركعة قد كان حكما شرعيّا فجاز أن
يكون رفعه نسخا ، لا للعبادة بل للمرتفع خاصّة ، وهي الأحكام المذكورة التابعة
للركعة الباقية وهي مغايرة لذاتها ، فكان نسخها مغايرا لنسخ تلك الذات.
احتجّ المرتضى : بأنّ نسخ الركعة يقتضي نسخ وجوب أصل
__________________
العبادة ، لا أنّه
نسخ للبعض وإبقاء للباقي ، فإنّ الركعتين الباقيتين ليست بعض الثلاث ، بل هي عبادة
أخرى ، وإلّا لكان من صلى الصّبح ثلاثا آتيا بالواجب وزيادة ، كما لو وجب أن
يتصدّق بدرهم ، فتصدّق باثنين.
والجواب : إن أراد
بالمغايرة أنّها بعض منها ، والبعض مغاير للكلّ ، فهو مسلّم ، ولكن لا يكون
نسخا للركعتين وإن كان نسخا لوجوب الكلّ من حيث هو كلّ ، وإن أراد أنّها ليست بعضا
من الثلاث فهو غير مسلّم.
قوله : «وإلّا
لكان من صلّى الصبح ثلاثا قد أتى بالواجب وزيادة».
قلنا : ولو لم يكن
بعضا من الواجب الأوّل بل عبادة أخرى افتقر في وجوبها إلى ورود أمر يدلّ على
وجوبها ، وهو خلاف الإجماع وإنّما لم يصحّ الصّبح عند الإتيان بثلاث ، لإدخال ما
ليس من الصلاة فيها.
تذنيبات
الأوّل : نسخ
الطهارة بعد إيجابها غير مقتض لنسخ الصّلاة عند السيّد أيضا ، لأنّ حكم الصّلاة باق على ما كان عليه من قبل ، ولو
كان نسخ الطهارة يقتضي نسخ الصّلاة ، لوجب مثله في نجاسة الماء وطهارته ، وقد
علمنا ان تغيّر أحكام نجاسة الماء وطهارته لا يقتضي نسخ الطهارة ، لأنّه إنّما قيل
له : تطهّر بالماء الطاهر ، ثمّ بالماء الطاهر منه ، والماء النجس موقوف
__________________
على البيان ، وقد
يتغيّر بزيادة ونقصان ، ولا يتعدّى ذلك التغيّر إلى نسخ الطهارة ، بخلاف نقصان
الركعة ، لأنّ الصلاة بعد النقصان قد تغيّر حكمها الشرعي ، ولو فعلت على الحدّ
الذي كانت تفعل عليه من قبل ، لم تجز ، فجملتها عنده منسوخة.
الثاني : نسخ
القبلة ، قال الكرخي : إنّه ليس بنسخ للصّلاة ، وبه قال أبو الحسين البصري.
وقال قاضي القضاة
: إنّه نسخ لها ، وإن كان نسخ الشرط المنفصل عنده ليس نسخا للمشروط.
وفصّل المرتضى
جيّدا فقال : إن نسخ بالتوجّه إلى جهة أخرى ، كالتوجّه إلى بيت المقدس ، نسخ
بالكعبة ، كان نسخا للصلاة ، لأنّه لو أوقع الصلاة إلى بيت المقدس على حدّ ما كان
يفعله أوّلا ، لم يكن له حكم ، وكان وجوده في الشرع كعدمه ، وإن أسقط وجوب التوجّه
إليها ، وخيّر فيما عداها من الجهات ، لاستحالة خلوّ الصلاة من توجّه إلى جهة ما ،
فإن حرم عليه التوجّه إلى الجهة الأولى ، كان نسخا للصلاة ، لأنّه لو أوقعها على
الحدّ الّذي كان يفعلها أوّلا لم يجز ، فصارت منسوخة ، وإن نسخ وجوب التوجّه بأن
خيّر في جميع الجهات ، لم يكن نسخا للصّلاة ، لأنّه لو فعلها على الحدّ الّذي كان
يفعلها عليه من قبل ، لكانت صحيحة ، وإنّما نسخ التضييق بالتخيير.
__________________
الثالث : قال
الكرخي : نسخ صوم عاشوراء ليس نسخا للصوم أصلا وقال عند ذلك : إنّ
ما كان من شروط الصوم وما لم يكن من شروطه ، لا يلحقه النسخ ، فلذلك لمّا جاز صوم
عاشوراء بنيّة غير مبيّتة ، لم يكن ذلك منسوخا ، وثبت مثله في شهر رمضان.
وقال أبو الحسين :
«إنّ نسخ صوم عاشوراء نسخ للصّوم ، لعدم وجوب الصّوم في غير ذلك اليوم ، فرفع
وجوبه فيه يقتضي رفع وجوبه على الإطلاق ، لأنّه لم يبق وقت آخر كان الصّوم واجبا
فيه ، ولو قيل : «لا تصلّوا في هذا اليوم» ثمّ قيل : «لا تصلّوا فيه ، وصلّوا في
يوم غيره» كانت الصلاة الأولى قد نسخت وتوجّه إلينا إيجاب عبادة أخرى بأمر آخر ،
فكذا نسخ صوم عاشوراء برمضان.
وإذا كانت جملة
الصّوم قد نسخت ، لم تبق شروطه ، ولم يجب أن تكون شروط الصوم الثاني هي شروط الصوم
المنسوخ ، لإمكان اختلاف العبادات في الشروط.
وقول أبي الحسن
الكرخي : «النسخ يتناول الوقت» ليس بصحيح ، لأنّ النسخ يرفع أحكام الأفعال دون
الأوقات» .
* * *
__________________
في بعض النسخ :
تمّ الجزء الثاني
من كتاب «نهاية الأصول» ويتلوه الجزء الثالث في المقصد التاسع في الإجماع ، وفيه
فصول.
والحمد لله ربّ
العالمين وصلى الله على محمد وآله أجمعين.
المقصد التاسع
في الإجماع
وفيه فصول :
الفصل الأوّل :
في ماهيّته وتحقّقه وكونه حجّة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في ماهيّته
وهو من الألفاظ
المشتركة في وضع اللغة بين أمرين :
الأوّل : العزم ،
قال تعالى : (فَأَجْمِعُوا
أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ.) وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا صيام لمن لم يجمع الصّيام من اللّيل». ويصدق بهذا الاعتبار اسم الإجماع على الواحد.
الثاني : الاتّفاق
، يقال : أجمع القوم على كذا ، إذا اتّفقوا عليه ، وأجمع الرّجل : إذا صار ذا جمع
، كما يقال : «ألبن وأتمر» ، فقولنا : «أجمعوا على كذا» معناه صار ذا جمع عليه ،
فاتّفاق كلّ طائفة على أيّ أمر كان يصدق عليه اسم الإجماع.
__________________
وأمّا في الاصطلاح
فقد اختلفوا في حدّه ، فقال النظّام : هو كلّ قول قامت حجّيته ، حتّى قول الواحد ،
وقصد بذلك الجمع بين إنكاره كون الإجماع حجّة ، وبين موافقته للمشهور من تحريم
مخالفة الإجماع.
وينتقض بقول
الواحد ، فإنّه لا يسمّى في الاصطلاح إجماعا.
وقال الغزالي :
الإجماع اتّفاق أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم خاصّة على أمر من الأمور الدينيّة.
وهو يشعر بعدم
انعقاد الإجماع إلى يوم القيامة ، فإنّ أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم كلّ من تابعة إلى يوم القيامة ، وكلّ موجود في عصره ،
فإنّه بعض أمّته.
سلّمنا ، لكن لو
فرض انقراض العلماء في عصر من الأعصار ، واتّفق عوامه على أمر دينيّ كان إجماعا
شرعيّا ، وليس كذلك عنده.
سلّمنا ، لكن يخرج
اتّفاقهم على القضايا العقليّة أو العرفيّة.
وقيل : «إنّه اتّفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم على أمر من الأمور.
ونعني بالاتّفاق
الاشتراك ، إمّا في الاعتقاد ، أو القول أو الفعل ، أو إذا اتّفق بعضهم على الاعتقاد ، وبعضهم على القول ، أو الفعل
الدّالّين على الاعتقاد.
__________________
ونعني بأهل الحلّ
والعقد المجتهد في الأحكام الشرعية ، وقلنا : على أمر من الأمور ، ليدخل الشرعيّة
والعقليّة واللغويّة».
ويرد عليه ما ورد
على الغزالي أوّلا.
وقيل : إنّه اتّفاق جملة أهل الحلّ والعقد من أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في عصر من الأعصار على حكم واقعة من الوقائع ، وإن شرطنا
قول العامي قلنا عوض أهل الحلّ والعقد المكلّفين.
فقولنا : «اتّفاق»
يعمّ الأقوال والأفعال والتقرير.
وقولنا : «جملة
أهل الحلّ والعقد» ليخرج البعض والعامّة.
وقولنا : «من أمّة
محمّد» ليخرج اتّفاق أهلّ الحل والعقد من أرباب الشرائع السالفة.
وقولنا : «في عصر
من الأعصار» ليندرج فيه إجماع أهل كلّ عصر.
وقولنا : «على حكم
واقعة» ليندرج فيه الإثبات والنفي والأحكام الشرعيّة والعقليّة.
__________________
المبحث الثاني :
في تحقّقه
المشهور ذلك ،
لإمكان اطّلاع كلّ مجتهد على دليل حكم ما يعتقده ، وتتّفق الآراء على ذلك ويتحقّق
الإجماع.
ومن الناس من أحال
ذلك فيما لا يعلم بالضرورة كاستحالة إجماعهم في الساعة الواحدة على مأكول
واحد وكلام واحد ، وكما أنّ اختلاف العقلاء في الضروريّات محال ، فكذا اتّفاقهم في
النظريات.
وهو خطأ ، فإنّ
اتّفاقهم انّما يمتنع فيما يتساوى فيه الاحتمال كالمأكول المعيّن ، والكلمة
المعيّنة ، أمّا ما يوجد فيه الرجحان عند قيام دلالة أو أمارة ظاهرة فهو غير ممتنع
، كالإجماع على نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وضروريّات شرعه ، واتّفاق طوائف المسلمين كلّ على مذهبه
مع انتشارهم وتعدّدهم ، مع أنّ أكثر أقوالهم صادرة عن الأمارات.
وقيل : الاتّفاق يمكن ، لكن العلم به محال ، لأنّه ليس وجدانيّا
، للعلم الضروري بأنّ العلم باتّفاق أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم على حكم ما ليس كالعلم بالشبع والجوع وغيرهما من
الوجدانيّات ، ولا نظريّا ، إذ لا محال للعقل النظري في أنّ فلانا قال بكذا أو لا.
__________________
بقي الحسّ أو
الخبر ، ومن المعلوم أنّ الإحساس بكلام الغير أو الإخبار عن كلامه ، إنّما يمكن
بعد معرفته ، فحينئذ يمنع الحكم باتّفاق الأمّة قبل معرفة كلّ واحد ، وهو ممتنع
لتفرّقهم شرقا وغربا ، وربما كان إنسان في مطمورة لا نعلم قوله.
مع أنّا نعلم أنّ
الذين في المشرق لا علم لهم بعلماء أهل المغرب ، فضلا عن العلم بكلّ واحد منهم
ومعرفة مذهبه على التفصيل.
سلّمنا العلم بكلّ
واحد ، لكن لا يمكن معرفة اتّفاقهم إلّا بالرجوع إلى كلّ واحد منهم ، وهو لا يفيد
القطع به ، لاحتمال أن يفتي بخلاف معتقده خوفا وتقيّة أو لأمر آخر.
سلّمنا معرفة كلّ
قول معتقد ، لكن يحتمل رجوع أهل كلّ بلدة عن قولهم بعد الخروج عنهم إلى غيرهم قبل
فتوى أهل البلدة الأخرى ، وحينئذ لا يحصل الاتّفاق ، لأنّا لو قدّرنا انقسام
الأمّة قسمين ، وأفتى أحدهما بحكم والآخر بنقيضه ، ثمّ انقلب المثبت نافيا وبالعكس
لم يحصل الإجماع ، بل لو اتّفق اجتماعهم كلّهم في بلدة ورفعوا أصواتهم دفعة واحدة
بإفتاء ذلك الحكم لم يفد العلم بالإجماع ، مع امتناع هذا الفرض ، لاحتمال أن يكون
البعض مخالفا وخاف من مخالفة الجمع العظيم أو خالف وخفي صوته.
لا يقال : يبطل ما ذكرتم بالعلم الضّروري باعتراف المسلمين بنبوّة
__________________
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ووجوب الصّلوات الخمس ، واتّفاق الشافعيّة على بطلان البيع
الفاسد ، والحنفية على انعقاده ، وإن كانت الوجوه الّتي ذكرتموها حاصلة هنا.
وبالعلم بأنّ
الغالب على بلاد الفرس والعرب الإسلام ، والغالب على بلاد الهند الكفر وإن كنّا ما
لقينا كلّ واحد من ساكني هذه البلاد.
لأنّا نقول :
المسلمون هم المعترفون بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقولكم : يعلم اتّفاق المسلمين على نبوّة محمّد يجري
مجرى أن يقال يعلم أنّ القائلين بنبوة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم اتّفقوا على القول بنبوّته.
وإن عنيت
بالمسلمين غير ذلك منعنا القطع بأنّ القائل بذلك قائل بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ونمنع القطع بأنّ كلّ من قال بنبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم قال بوجوب الصلوات الخمس وصوم رمضان ، وإن كنّا نعترف
بحصول الظنّ ، فإنّ الناس قبل المعرفة بالمقالات الغريبة يعتقدون جزما أنّ ما بين
الدفّتين كلام الله تعالى ، ثم بعد الوقوف على المقالات يوجد فيه اختلاف كثير ،
نحو ما روي عن ابن مسعود أنّه أنكر كون الفاتحة والمعوّذتين من القرآن ، وأنكر قوم
من الخوارج كون سورة يوسف من القرآن ، ونقل جماعة من قدماء الشيعة أنّ القرآن غيّر
وبدّل ، فحينئذ يعلم من هذا أنّا قد نعتقد في الشيء أنّه مجمع عليه اعتقادا قويّا
لكن لا يبلغ ذلك الاعتقاد حدّ العلم ، ولا يرتفع عن درجة الظنّ.
والعلم باستيلاء
بعض المذاهب على بعض البلاد ، مستفاد من التواتر وفرق بين معرفة حال الأكثر ومعرفة
حال الكلّ ، فإنّ من دخل بلدة ورأى
شعار الإسلام في
محالّها ، عرف غلبة المسلمين ، ولا يقطع بنفي غير المسلم ظاهرا وباطنا عنها.
قال فخر الدين :
والإنصاف أنّه لا طريق لنا إلى معرفة حصول الإجماع إلّا في زمن الصحابة ، حيث كان
المؤمنون قليلين يمكن معرفتهم بأسرهم على التفصيل.
وليس بجيّد ،
فإنّا نجزم بالمسائل المجمع عليها جزما قطعيّا ، ونعلم اتّفاق الأمّة عليها علما
وجدانيّا ، حصل بالتسامع وتطابق الأخبار عليه.
المبحث الثالث :
في أنّ الإجماع حجّة
هذا هو المشهور
عند أكثر الناس ، ومنع منه النظّام والخوارج ، وقالت الإمامية : إنّه صواب ، لأنّ
الإجماع نعني به اتّفاق الأمّة والمؤمنين والعلماء فيما يراعى فيه إجماعهم.
وعلى كلّ الأقسام
فلا بدّ وأن يكون قول الإمام المعصوم داخلا فيه ، لأنّه سيّد المؤمنين والأمّة
والعلماء ، فالاسم مشتمل عليه ، ولا ينعقد بدونه ، وما يقول به المعصوم فإنّه حجّة
وصواب وحقّ لا باعتبار الإجماع ، بل باعتبار اشتماله على قول المعصوم ، ولو انفرد
لكان قوله الحجّة ، وإنّما نقول بأنّ قول الجماعة الّتي قوله موافق لها حجّة لأجل
قوله.
__________________
والباقون قالوا :
إنّه تعالى علم أنّ جميع هذه الأمّة لا يتّفق على خطأ ، وإن جاز الخطأ على كلّ
واحد بانفراده ، فللإجماع تأثير.
واحتجّت الإمامية
على أنّه حجّة بأنّ زمان التكليف لا يخلو عن إمام معصوم ، فيكون الإجماع حجّة.
أمّا الاولى فلأنّ
كلّ زمان لا يخلو من إمام ، لأنّه لطف ، للعلم الضّروريّ بأنّ الخلق مع وجود رئيس
قاهر يمنعهم عن القبائح ، ويحثّهم على الواجبات ، يكون حالهم في الإتيان بالواجبات
والانتهاء عن القبائح أتمّ من حالهم إذا لم يكن لهم هذا الرئيس ، واللّطف واجب ،
لأنّه يجري مجرى التمكين في كونه إزاحة لعذر المكلّف ، ولمّا كان التمكين واجبا ،
كان اللطف كذلك.
وإنّما قلنا :
إنّه يجري مجراه ، لأنّ الواحد منّا إذا دعا غيره إلى أكل طعامه ، وكان غرضه نفعه
، وبقي عليه الى وقت التناول ، وعلم أنّه لا يطيعه إلّا إذا استعمل معه نوعا من
التواضع ، فإنّ ترك ذلك النوع يجري مجرى ردّ الباب عنه ، ومنعه من الدّخول.
وأيضا لو لم يجب
فعل اللطف من المكلّف لم يقبح منه فعل المفسدة ، لعدم الفرق بين فعل يختار المكلّف
عنده القبيح وبين ترك ما يخلّ المكلّف عنده بالواجب ، فثبت أنّ اللطف واجب ، وأنّه
لا بدّ في كلّ زمان تكليف من إمام.
ويجب أن يكون
معصوما ، وإلّا لزم التسلسل ، لأنّ العلّة المحوجة إلى
الإمام صحّة
القبيح عن المكلّف وإمكانه منه ، فلو كان الإمام كذلك افتقر إلى إمام آخر ، فثبت
أنّه لا بدّ في زمان التكليف من إمام معصوم ، فكان الإجماع حجّة ، لأنّه مهما
اتّفق قول العلماء على حكم فلا بدّ وأن يوجد في أثناء قولهم قول ذلك المعصوم ،
لأنّه سيد العلماء ، وقوله حقّ ، فإذن إجماع الأمّة يكشف عن قول المعصوم الّذي هو
حقّ.
وظهر بهذا أنّ
العلم بكون الإجماع حجّة لا يتوقّف على العلم بالنبوّة أصلا ، وأنّ إجماع كلّ
الأمم حجّة ، كما أنّ إجماع أمّتنا حجّة.
والاعتراض لا نسلم
أنّ الخلق إذا كان لهم رئيس يمنعهم من القبائح ويحثّهم على الطاعات كانوا أقرب
إليها ممّا إذا لم يكن هذا الرئيس ، لأنّكم تزعمون أنّه تعالى ما أخلى العالم قطّ
من رئيس ، فقولكم : «وجدنا العالم متى خلا من رئيس حصلت المفاسد» باطل ، لأنّهم
إذا لم يجدوا العالم خاليا ، كيف يمكنهم قول : إنّا وجدنا العالم متى خلا عن
الإمام حصلت المفاسد ، بل الذي جرّبناه انّ الإمام إذا كان خائفا حصلت هذه المفاسد
لكنّكم لا توجبون ظهوره وقوله.
سلّمنا إمكان هذه
التجربة ، لكنّا نقول : تدّعون اندفاع هذه المفاسد بوجود الرئيس كيف كان ، أو
بوجود رئيس قاهر على الأمم؟ الأوّل ممنوع والثاني مسلّم ، واستقراء العرف إنّما
يشهد بالثاني ، لأنّ الانزجار انّما يحصل من السلطان القاهر دون الضّعيف ، بل
الغائب الذي لا يعرف في الدّنيا خبره لا يحصل الانزجار به ، وأنتم لا توجبون
الأوّل بل الثاني ، وهو غير لطف.
لا يقال : نحن في
إثبات أصل الإمام ولا نتكلم الآن في التفصيل وسبب استتاره ظاهر ، فإنّه لو كان أمن
لظهر ولزجر الناس عن القبائح ، فلمّا أخافوه كان الذنب منهم.
لأنّا نقول : إن
عنيتم وجوب نصب إمام كيف كان سواء كان ظاهرا أو مخفيا بأنّه لطف ، لأنّ الخلق معه
أقرب إلى الطاعة ، وهذه المقدّمة لا تتمّ عند وجود إمام كيف كان ، بل عند إمام
قاهر ، فيجب إثبات التفاوت بين حال الخلق مع إمام كيف كان وبدونه.
سلّمنا التفاوت ،
لكن نصبه إنّما يجب لو خلا عن جميع جهات القبح ، فلو اشتمل على وجه ما من وجوه
القبح لم يجب نصبه ، لأنّه يكفي في قبح الشيء اشتماله على جهة واحدة من جهات القبح
، ولا يكفي في حسنه اشتماله على جهة من جهات الحسن ما لم يخلو عن كلّ جهات القبح ،
فيجب عليكم الدّلالة على خلوّ نصبه من جميع جهات القبح ولا يكفي جهة الحسن.
لا يقال : لو قدح
ما ذكرتموه في كون الإمام لطفا لقدح في كون المعرفة لطفا ، لأنّ دليل كونهما لطفا
هو انّها باعثة على أداء الواجبات والاحتراز عن القبائح العقليين ولم يوجب أحد
بيان خلوّها عن كلّ جهات القبح ؛ ولأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر القطع بوجوب شيء عليه
تعالى لكونه لطفا لقيام الاحتمال في كلّ ما يدّعى فيه كونه لطفا ، ولأنّه لا دليل
على اشتمال الإمامة على جهة قبح ، وما لا دليل عليه يجب نفيه ، ولأنّ جهات القبح
محصورة
نحو كون الفعل
كذبا أو ظلما أو جهلا أو غير ذلك من الوجوه ، وهي منتفية عن الإمام.
لأنّا نقول : هذا
الاحتمال إن تحقّق في المعرفة وجب الجواب عنه في الموضعين ولا يحكم بسقوطه ،
لتعذّر الجواب عنه ، وإن حصل الفرق بين المعرفة والإمامة بطل القياس ، ثمّ الفرق
أنّ معرفته تعالى لطف يجب علينا فعله ، ويكفي في الإيجاب علينا العلم باشتمال
المعرفة على المصلحة وعدم العلم باشتمالها على المفسدة ، لأنّه يفيد ظن انتفاء
المفسدة ، والظن في حقنا قائم مقام العلم في اقتضاء العمل.
أمّا الإمامة فهي
لطف بوجوبها على الله تعالى ، ولا يكفي في الإيجاب عليه تعالى ظن كونها لطفا ،
لأنّه تعالى عالم بجميع المعلومات ، فيجب إثبات خلو الفعل عن جميع جهات القبح حتّى
يمكن إيجابه عليه تعالى ؛ ونحن لا نقول في فعل معيّن إنّه لطف فيجب عليه تعالى ،
لقيام الاحتمال فيه ، بل نقول كلّ ما يكون لطفا في نفسه فإنّه يجب على الله تعالى
فعله ، فيندفع الاحتمال ؛ وما لا دليل عليه في نفس الأمر لا يجب نفيه فضلا عمّا لا
دليل عليه في علمنا ، فإنّه لو وجب نفي ما لا يعلم عليه دليلا لوجب على العوام نفي
أكثر الأشياء ، لعدم علمهم بأدلّتها.
ونمنع أيضا عدم
دليل في نفس الأمر ، فلعلّه وجد ولا نعلم به ، ولا يكفي : «بحثت ما وجدت» ، لأنّ
عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
__________________
ونمنع انحصار وجوه
القبح ، فإنّ قبح صوم أوّل يوم من شوال لا من حيث كونه ظلما ولا جهلا ولا كذبا ،
فيجوز هنا مثله.
سلّمنا وجوب تعيين
جهة المفسدة في القدح في كونه لطفا لكن هنا جهتان :
الأوّل : نصبه يقتضي كون المكلّف تاركا للقبيح لا لكونه قبيحا ، بل للخوف
من الإمام ؛ وعند عدمه تركه لا للخوف بل لقبحه ، ولا ينتقض بترتّب العقاب على فعل
القبيح ، فإنّه يقتضي كون المكلّف تاركا للقبيح لا لقبحه بل للخوف من العقاب ،
لأنّه لا يلزم من قولنا ترتيب العقاب عليه لا يقتضي هذه الجهة من المفسدة ، أن
يكون نصب الإمام غير مقتض لها لجواز اختلاف حالتهما .
وبيانه : إنّ
ترتّب العقاب على فعل القبيح إنّما يعلم بالشرع ، فقبله يجوز أن يكون مفسدة من هذه
الجهة ، فلمّا ورد به الشرع علمنا انتفاء هذه المفسدة.
فإن قلتم : يجوز
قبل ورود الشرع أن يكون نصب الإمام مفسدة من هذه الجهة ، فلمّا ورد به الشرع علمنا
انتفاء المفسدة ، صار وجوب نصب الإمام شرعيا.
__________________
الثاني : فعل
الطاعة وترك المعصية عند عدم الإمام أشقّ منهما عند وجوده ، فيكون نصبه سببا
لنقصان الثواب ، فيمتنع حسنه فضلا عن وجوبه.
سلّمنا أنّ الإمام
لطف ، لكن في كلّ الأزمنة أو بعضها ، الأوّل ممنوع والثاني مسلّم ، فجاز أن يوجد
قوم يستنكفون عن طاعة الغير ، ويعلم تعالى أنّه لو نصب لهم رئيسا قتلوه ، وإذا لم
ينصبه امتنعوا من القبائح ، فيكون [نصبه] مفسدة حينئذ ، وهذا وإن كان نادرا لكن
كلّ زمان يحتمل أن يكون ذلك النادر ، فيمتنع الجزم بوجوب نصبه في شيء من الأزمنة.
لا يقال :
الاستنكاف إنّما يحصل من رئيس معيّن وكلامنا في المطلق ، ولأنّ هذه مفسدة نادرة ،
والمفاسد حال عدم الإمام غالبة ، والغالب أولى بدفعه.
لأنّا نقول : قد
يتّفق الاستنكاف من المطلق كالمعيّن ، ثمّ إذا كان الاستنكاف قد يحصل من
المعيّن فيكون نصبه مفسدة ، فإذا لم يحصل المطلق إلّا في ذلك المعيّن كما هو قولكم
في تعيين الأئمة كان ذلك مفسدة أيضا ، وهذه المفسدة وإن ندرت إلّا أنّ كلّ زمان
يحتمل أن يكون هو ، فلا يحصل قطع بوجوب نصبه في زمان ما.
سلّمنا كونها لطفا
في جميع الأزمنة لكن جاز أن يقوم غيرها مقامها في اللطفية فلا يتعيّن للوجوب ،
وبيان الاحتمال انّكم توجبون العصمة لئلّا
__________________
يلزم التسلسل ،
فللإمام لطف غير الإمام يحصل به الانزجار عن القبائح وأداء الواجبات ، فإذا جاز أن
يكون له لطف مغاير للإمامة جاز للأمّة ذلك.
سلّمنا كون الإمام
لطفا على التعيين لكن في المصالح الدنيوية لا الدينية ، لأنّ منفعية حصول نظام
العالم واندفاع الهرج والمرج والتغالب وكلّ ذلك دنيوي ، وتحصيل الأصلح في الدّنيا
غير واجب على الله تعالى ، أو في إقامة الصّلوات وأخذ الزكوات وهي مصالح شرعية لا
تجب عقلا ، فما هو لطف فيه أولى بعدم الوجوب العقلي.
لا يقال : إنّه
لطف في المصالح الدينيّة العقلية ، لأنّ تكرار زجرهم عن القبائح وأمرهم بالواجبات
يثمر تمرين النفوس عليها ، فيؤدي إلى ترك القبائح لقبحها وفعل الواجبات لوجه
وجوبها ، وهي مصالح دينية.
لأنّا نقول : نمنع
تفاوت حال الخلق في هذا المعنى بسبب وجود الإمام ، فإنّ عند وجوده ربّما وقعت
أحوال القلوب على ما ذكرتم ، وربّما صارت بالضد ، لأنّهم إذا بغضوه بقلوبهم ازدادت
المفسدة ، فربّما أقدموا على فعل الواجب وترك القبيح للخوف خاصة.
وبالجملة فأحوال
الخلق إنّما تتفاوت في المصالح الدنيوية أو الشرعية دون العقلية.
سلّمنا أنّه لطف
لكن نمنع أنّ كلّ لطف واجب ، وجريانه مجرى التمكين قياس لا يفيد التعيين ، ونمنع مساواته للتمكين.
__________________
وترك التواضع لا
يقدح في الإرادة على الإطلاق لاختلاف الإرادات ، فجاز أن يريد منه أكل طعامه إرادة
لا يبلغ تقبيل قدمه لو لم يفعل إلّا به ، وجاز أن يبلغ فترك التقبيل يقدح في
الثانية لا الأولى ، فلم قلتم إنّه تعالى أراد الطاعات إرادة تبلغ حد فعل اللطف؟
فإنّ التكليف تفضّل فلا يجب عليه أن يأتي بأقصى مراتب التفضّل ، وفرق بين فعل
المفسدة وترك اللطف ، فإنّ الأوّل إضرار قبيح ، والثاني ترك نفع فلا يقبح.
سلّمنا وجوب اللطف
لكن المحصّل أو المقرّب ، الأوّل مسلّم والثاني ممنوع ، فلم قلت إنّ الإمام لطف
محصّل ، فإنّه لا يمكن القطع بأنّ عند وجود الإمام يفعل الإنسان الطاعة ويجتنب
المعصية؟ نعم يكون أقرب ، ونمنع وجوب اللطف المقرّب على الله تعالى ، والضيف إنّما
يجب عليه التواضع لو علم أو ظن الإجابة معه ، ولو علم عدمها لم يحسن منه التواضع
فضلا عن وجوبه ، فحينئذ لا يبعد وجود زمان يعلم تعالى أنّ الإمام لا يكون لطفا
محصلا فلا يجب نصبه فيه.
سلّمنا وجوب اللطف
مطلقا ، لكن إذا أمكن لا بدونه ، فلو علم الله تعالى أنّ كلّ مخلوق في ذلك الزمان
يكفر أو يفسق لم (يمكن خلق) المعصوم فيه ، فلم قلت إنّه حينئذ لا يحسن التكليف؟ وإذا
حسن التكليف في ذلك الزمان جوزنا في كلّ زمان أن يكون هو ذلك الزمان ، فلا يمكن
القطع بوجوب الإمام في شيء من الأزمنة ، والتواضع إنّما يجب على
__________________
الضّيف لو كان
مقدورا ، ولو لم يكن حسن طلب تناول الطعام من دون التواضع.
سلّمنا لكن كلّ
ذلك مبني على الحسن والقبح العقليين ، ثمّ ينتقض الدّليل بالقضاة والأمراء فإنّهم
لو كانوا معصومين كان حال الخلق أقرب إلى الصلاح ، ولو وجد في كلّ بلد إمام معصوم
كانوا أقرب أيضا ، ولو كان الإمام عالما بالغيوب قادرا على التصرف في الشرق والغرب
والسماء والأرض لكانوا أقرب ، ولو كان بحيث إذا شاء اختفى وطار مع الملائكة اشتدّ
خوف المكلّفين منه ، لأنّ كلّ واحد يقول لعلّه معي وإن كنت لا أراه.
ولا خلاص عن هذه
الإلزامات إلّا بأن يقال : هذه الأشياء وإن حصلت منها هذه المنافع لكن علم الله
تعالى فيها وجه مفسدة خفي ، فلم يجب عليه فعلها.
أو يقال : إنّها
وإن خلت عن جميع المفاسد لكن لا يجب عليه فعلها ، وكلّ واحد من هذين قائم فيما
ذكرتموه.
سلّمنا لكن لا
نسلّم أنّه معصوم.
قوله : وإلّا
لافتقر إلى لطف آخر.
قلنا : نعم ،
ويجوز أن يكون هو الأمّة ، فإنّ الإجماع وإن لم يثبت بعد كونه حجّة لكن جاز أن
يكون حجّة ، فجاز أن يكون الإمام لطفا لكلّ واحد
__________________
من آحاد الأمّة ومجموع
الأمّة لطف للإمام ، ولا يكفي في عدم عصمة مجموع الأمّة الطعن في أدلّة الإجماع.
سلّمنا عصمته ،
لكن نمنع اشتمال الإجماع على قوله ، لعدم العلم باتّفاق كلّ واحد من الأمّة بحيث
لا يشذّ منهم أحد على القول به.
سلّمنا اندراجه ،
لكن يجوز عندهم التقية والإفتاء بالباطل عند الخوف ، فجاز أن يخاف من الجماعة
فيوافقهم على غير الصحيح ، وقد أظهر علي عليهالسلام عندهم مع الهاشميين والأمويّين والأنصار التقية خوفا من
أبي بكر وعمر مع قلّة أنصارهما ، فإذا جاز الخوف في هذه الصورة فجوازه في الرجل
الواحد مع العالم كلّهم أقرب.
والجواب : انّ
إنكار كون الخلق مع الرئيس أقرب إلى الطاعة يجري مجرى إنكار السوفسطائية ، لأنّه
معلوم بالوجدان ولا يشترط في الحكم بذلك وقوع الخلو ، بل فرضه وتقديره وترتيب
الحكم عليه ثمّ خلو بعض الأصقاع يدلّ عليه ، ونحن نوجب السلطان القاهر ، وقد وجد
لكنّ الأمّة قد أخطأت في إخافته ؛ فاللطف الّذي يجب عليه تعالى قد فعله ، والذي
يجب على الإمام عليهالسلام من قبول ما كلّف به قد فعله ، والأمّة تركت ما وجب عليها
وهو الانقياد لأوامره ، فالذّنب لهم والانزجار يحصل مع الاختفاء ، لأنّ كلّ واحد
من العصاة يجوز ظهوره في تلك الحال فينزجر بذلك عن الإقدام على المعصية وهو كاف في
اللطفية. وجهات القبح منفية هنا ، لأنّها معلومة لنا ، لأنّا مكلّفون باجتنابها ،
فيستحيل وجود وجه قبح لا نعلمه ، ولا شك في انتفاء وجوه القبح في الإمامة فتبقى
المصلحة خالصة ، ولأنّ المفسدة
إمّا أن تكون
لازمة للإمامة أو عارضة لها ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّه لو كان كذلك لقبح نصبها في وقت ما من الأوقات ، وهو باطل لقوله تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً).
وأمّا الثاني ،
فلأنّ العارض يجوز زواله فيخلو حينئذ من جهات المفاسد فيجب نصبه حينئذ ، وكلّ من
أوجب نصبه في وقت ما من الأوقات على الله تعالى أوجب نصبه دائما ، ولأنّه كما يقبح
منه تعالى نصب الإمام لتجويز المفسدة يقبح منه الأمر به ، وهم يقولون بوجوبه على
الأمّة ، ولمّا كان الغالب على البشر الفساد والتغالب كان عدم الإمام مقتضيا
لكثرته وانتشاره واستمراره ، ووجوده مقتضيا لقلّته وانقطاعه ، ثمّ يستمر الانزجار
عن المفاسد والانقياد إلى الطاعات إلى أن يصير ملكة راسخة ويتمكّن في النفس إلى أن
يبقى الوجوه والاعتبارات هي الغايات دون الخوف ، ونمنع كونهما أشقّ عند عدمه.
سلّمنا لكن هذا
التفاوت نزولا يقتضي مفسدة ، بل فوات بعض المصلحة ، وعدم الإمام يقتضي فسادا كليا
عاما ، وعدم انقياد الأمّة في بعض الأزمنة إلى قوله لا يخرج المقتضي عن مقتضاه وهو
المصلحة الناشئة عن نصبه ، ووجود لطف للإمام لا يخرج الإمام عن انحصار اللطف فيه
للأمّة ، إذ لو كان في وقت من الأوقات لعرف ولفعله
__________________
تعالى ، وعصمة
الأمّة غير ممكن في الحكمة لئلّا يبطل التكليف.
وأيضا لا يخرج
الإمام عن كونه لطفا ، فيجب هو أو غيره من الألطاف القائمة مقامه ، وكلّ من قال
بوجوب أحدهما قال بوجوب نصب الإمام عينا ، ومنع قرب العالم إلى الصّلاح الديني مع وجود الإمام منع مكابرة.
وكون اللطف كالتمكين ليس بقياس ، بل هو حكم بالتساوي بينهما ، لاتّحادهما في
المعنى ، والإرادة المفروضة جازمة فيستتبع وجوب التواضع ، والله تعالى يريد إرادة
جازمة إرشاد العالم وامتثال أوامره ونواهيه ، فيجب نصب اللطف لهم كالتمكين والآلات
، ونحن نوجب اللطف المقرّب بحصول الغرض به. وفرض كفر كلّ الأمّة في زمان ما مع
التكليف محال لوجوب الإمام فيه ، وفساد القضاة والأمراء منجبر بالإمام والخوف منه
والمراجعة إليه ، بخلاف فساد حال الإمام ، فلهذا أوجبنا عصمته دون عصمتهم.
وكما لم يجب تمكين
كلّ واحد من الأمّة من فعل ما يريده ، ويعلم الغيب ، ويصعد إلى السماء ، ويطير مع
الملائكة كذا لا يجب في الإمام ذلك ، والفرق بينهما وبين نصب الإمام ظاهر.
والإجماع لا يجوز أن يكون لطفا ، لأنّه إذا جاز على كلّ واحد الخطأ جاز على
المجموع للعلم القطعي بأنّ القدرة لا تعدم بمجامعة الغير ، فكما جاز الكذب مع
انفراده جاز مع الاجتماع ، ومنع اشتمال الإجماع على قوله منع للمسلّم وهو خطأ ،
فإنّ الإجماع إنّما يتمّ لو اشتمل على قوله ، فلا يجوز منع دخوله بعد فرضه ،
__________________
وحمله على التقية
كذلك ، لأنّا فرضنا وقوع الإجماع الصادر عن الاختيار ، وهو لازم عليهم في آحاد
العلماء.
المبحث الرّابع :
في حجج الجمهور على كونه حجّة
احتجّ الجمهور على
كون الإجماع حجّة ، وأنّ مجموع الأمّة معصوم مع انتفاء عصمة كلّ واحد منهم ، بوجوه
:
[الوجه] الأوّل :
حجّة الشافعي
وهي قوله تعالى : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ
ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ
ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ) جمع بين
__________________
مشاقّة الرسول
واتّباع غير سبيل المؤمنين في الوعيد ، فيشتركان في التحريم ، لقبح الجمع بين
المحلّل والمحرّم في التوعّد ، فلا يقال : إن زنيت وشربت الماء عاقبتك ، وإذا حرم
اتّباع غير سبيل المؤمنين ، وهو عبارة عن متابعة قول وفتوى يخالف قولهم وفتواهم ، وجب أن يكون متابعة قولهم وفتواهم
واجبة ، إذ لا خروج عن القسمين.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : لا نسلّم
تحريم متابعة غير سبيل المؤمنين مطلقا ، بل جاز اشتراط التحريم بمشاقّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لا مطلقا ، ولا يلزم : إن زنيت وشربت الماء عاقبتك ،
لإباحة الشرب مطلقا ومقيدا.
__________________
لا يقال : إذا كان
اتّباع غير سبيل المؤمنين حراما عند حصول المشاقّة وجب أن يكون اتّباع سبيلهم
واجبا عند المشاقّة ، والتالي باطل ، لأنّ المشاقة ليست هي المعصية كيف كانت وإلّا
لكان كلّ عاص مشاقّا له ، بل هي الكفر وتكذيبه ، وإذا كان كذلك لزم وجوب العمل
بالإجماع عند تكذيب الرّسول ، وهو باطل ، لأنّ العمل بصحّة الإجماع متوقّف على
العلم بالنبوة فإيجاب العمل به حال عدم العلم بالنبوة تكليف بالجمع بين الضدين ،
وهو محال.
لأنّا نقول : لا
نسلّم أنّ تحريم اتّباع غير سبيل المؤمنين عند المشاقّة يستلزم وجوب اتّباع سبيلهم
عندها لثبوت الواسطة ، وهي عدم الاتّباع ؛ ونمنع امتناع وجوب اتّباع سبيل المؤمنين عند المشاقّة ، وأنّها
لا تحصل إلّا مع الكفر ، لأنّها مشقّة من كون أحد الشخصين في شق والآخر في آخر ،
ويكفي فيه مطلق المخالفة وإن لم يبلغ حد الكفر.
سلّمنا أنّ
المشاقّة لا تحصل إلّا عند الكفر ، لكن لا ينافي الكفر تمكّن العمل بالإجماع ،
لأنّ الكفر كما يكون بالجهل بصدقه عليهالسلام فقد يكون بغيره ، كشدّ الزنّار ، وإلقاء المصحف في النجاسات ، والاستخفاف بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع الاعتراف بصدقه ونبوته ، وإنكار نبوته باللّسان مع
العلم بكونه نبيا ، وكلّ ذلك لا ينافي العمل بوجوب الإجماع.
__________________
سلّمنا ، فلم قلتم
: إنّها مانعة من التكليف به ، فإنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملته
تصديق الله تعالى في جميع ما أخبر به ، ومن جملته أنّه لا يؤمن فيكون مكلفا بأنّ
يؤمن بأنّه لا يؤمن ؛ وكذا في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) ، فأولئك كانوا مكلّفين بالإيمان ، ومن جملته تصديقه بهذا
الخبر.
الثاني : الآية
إنّما تدلّ على تحريم متابعة غير سبيل المؤمنين بشرط تبيّن الهدى لا مطلقا ، لأنّه
تعالى ذكر المشاقّة وشرط فيها تبيّن الهدى ثمّ عطف الاتّباع ، فيجب اشتراط التبيّن
في التوعّد على الاتّباع قضية للعطف ؛ واللام في الهدى للاستغراق ، فلا يحصل
التوعّد على اتّباع غير سبيل المؤمنين إلّا بعد تبيّن جميع أنواع الهدى ، ومن
جملته الدّليل الذي ذهب المجمعون إلى الحكم باعتباره ، فتنتفي فائدة الإجماع حينئذ ؛ ولأنّ من قال لغيره : إذا ظهر لك
صدق فلان فاتّبعه ، فهم منه ظهور صدق قوله بشيء غير قوله ، فكذا هنا وجب أن يكون
تبيّن صحّة إجماعهم بشيء غير إجماعهم ، وإذا توقّف التمسّك بالإجماع على دليل
منفصل يدلّ على صحّة ما أجمعوا عليه ضاعت فائدته.
الثالث : نمنع
التوعّد على متابعة كلّ ما كان غير سبيل المؤمنين ، لأنّ لفظي الغير والسبيل ليسا
للعموم.
__________________
سلّمنا ، لكن يسقط
الاستدلال حينئذ ، لأنّه يصير التقدير : كلّ من اتّبع كلّ ما كان مغايرا لكلّ ما
كان سبيلا للمؤمنين استحقّ العقاب ، وهو لا يقتضي أن يكون المتبع لبعض ما غاير
سبيل المؤمنين مستحقّا للعقاب ، بل الآية تدلّ على المتابعة في البعض ، وهو حق ،
فإنّه يحرم بعض ما غاير بعض سبيل المؤمنين أو بعض ما غاير كلّ سبيل المؤمنين ، أو
كلّ ما غاير بعض سبيل المؤمنين ، وهو السّبيل الذي صاروا به مؤمنين ، والذي يغايره
هو الكفر. فمفهوم الآية ويتبع غير سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين ، كمفهوم
قولنا لا يتبع غير سبيل الصالحين ، وهو المنع من متابعة غير سبيل الصالحين فيما
صاروا به صالحين. ولا يفهم المنع من متابعة غير سبيل الصالحين في كلّ شيء حتى في
المباحات كالأكل والشرب ، وأيضا الآية نزلت في رجل ارتدّ ، وهو يدلّ على أنّ الغرض
المنع من الكفر.
الرابع : لفظ
السّبيل حقيقة في الطريق الذي يحصل فيه الشيء وليس مرادا إجماعا ، فيبقى مجملا ،
إذ ليس بعض المجازات أولى ، وأيضا لا يمكن جعله مجازا عن اتّفاق أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم على الحكم ، لعدم المناسبة بين الطريق المسلوك واتّفاق
الأمّة على حكم شرعي ، وشرط المجاز المناسبة.
سلّمنا ، لكن (يجوز
جعله) مجازا عن الدليل الذي لأجله أجمعوا ، لأنّ إجماعهم إن لم يكن عن دليل كان
خطاء ، وإن كان عن دليل حصل سبيلان : الفتوى والاستدلال عليه ، فليس حمله على الفتوى أولى من
__________________
حمله على دليل
الفتوى ، بل هذا أولى للتناسب بين الدليل والطريق ، فإنّ الحركة الفكرية في
مقدّمات الدليل موصلة إلى المطلوب كإيصال الحركة البدنية في الطريق المسلوك إلى
المطلوب ؛ فمقتضى الآية وجوب اتّباعهم في سلوك طريقهم الذي لأجله أجمعوا عليه وهو
الاستدلال بدليلهم ، فلا يبقى الإجماع بانفراده حجة.
الخامس : لا يمكن
حمل «من» على العموم ولا لفظ المؤمنين ، وإلّا لزم تطرّق التخصيص إلى الآية لعدم
دخول العوام والصبيان والمجانين في الإجماع.
السادس : لا يلزم
من تحريم اتّباع غير سبيلهم وجوب اتّباع سبيلهم ، لأنّ لفظ غير وإن استعمل في
الاستثناء لكنّه في الأصل للوصف ، وهناك واسطة وهي ترك الاتّباع.
لا يقال : ترك
متابعة سبيل المؤمنين غير سبيل المؤمنين ، فمن ترك اتّباع سبيلهم اتّبع غير
سبيلهم.
لأنّا نقول : شرط
المتابعة الإتيان بمثل فعل المتبوع لأجل أنّه فعله ، فمن ترك متابعة سبيل المؤمنين
لأجل أنّ غير المؤمنين تركه اتّبع غير سبيل المؤمنين ؛ أمّا من تركه لدلالة دليل
على وجوب ذلك الترك ، أو لأنّه لمّا لم يدلّ شيء على متابعة المؤمنين تركه على
الأصل ، لم يكن متّبعا لأحد ، فلا يدخل تحت الوعيد.
السابع : نمنع
دلالة الآية على متابعة المؤمنين في كلّ الأمور لوجوه :
أ. لو اتّفقوا على
فعل مباح لم يجب اتّباعهم فيه وإلّا لناقض الإباحة.
ب. أهل الإجماع
قبله كانوا جازمين بجواز البحث عن الحكم وصيرورة كلّ واحد إلى اجتهاده ، وبعده
منعوا منه ، فلو وجب اتّباعهم عامّا لزم اتّباعهم في النقيضين.
لا يقال : الإجماع
الأوّل كان مشروطا بعدم الاتّفاق على حكم واحد فلمّا اتّفقوا زال شرط الإجماع
الأوّل لزوال شرطه.
لأنّا نقول :
المفهوم من عدم حصول الإجماع حصول الخلاف ، فلو شرطنا تجويز الخلاف بعدم الإجماع
لزم اشتراط تجويز وجود الشيء بوجوده ، ولأنّه لو جاز اشتراط أحد الإجماعين جاز
اشتراط الآخر ، وهكذا فلا يستقر إجماع ما.
ج. الإجماع إن لم
يكن عن دليل كان خطأ فلا يكون حجّة ، وإن كان عن دليل لم يكن هو الإجماع ، لأنّه
إمّا نفس حكمهم أو نتيجة حكمهم ، ودليل الحكم متقدّم عليه وعلى نتيجته ، فإذا كان
عن الإجماع وجب اتّباعهم في الاستدلال على الحكم بغير الإجماع ، فيكون إثباته
بالإجماع اتّباعا لغير سبيلهم ؛ فإذن تعميم المتابعة يستلزم التناقض ، ونحن نقول
بالمتابعة في البعض ، وهو الإيمان لوجوه :
أ. لو قال : اتّبع
سبيل الصالحين ، فهم فيما به صاروا صالحين.
٢. حمل الآية عليه
يقتضي كون ذلك السّبيل حاصلا في الحال ، ولو حمل على الحكم الشرعي كان ممّا سيصير
سبيلا لهم لعدم تحقّقه
في حياة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالحمل على الأوّل أولى.
٣. لو قال السلطان
: من يشاقق وزيري ويتّبع غير سبيل هؤلاء ـ ويشير إلى قوم متظاهرين بطاعة الوزير ـ عاقبتهم
، لفهم سبيلهم في طاعة الوزير دون سائر السبيل.
الثامن : لفظ
المؤمنين جمع معرف بلام الجنس فيفيد الاستغراق ، ولأنّ إجماع البعض غير معتبر
إجماعا ، ولأنّ أقوال الفرق متناقضة وكلّ المؤمنين هم الذين يوجدون إلى يوم
القيامة ، فلا يكون إجماع كلّ عصر حجّة.
لا يقال :
المؤمنون هم المصدقون وهم الموجودون ، لأنّ من لم يوجد ليس بمؤمن.
لأنّا نقول : إذا
وجد أهل العصر الثاني لم يكن أهل العصر الأوّل كلّ المؤمنين ، فلا يكون إجماعهم
حجّة على أهل الثاني.
التاسع : الآية
نزلت في زمن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فتكون الآية مختصّة بمؤمني ذلك الوقت فيكون إجماعهم حجّة ،
والتمسّك بالإجماع إنّما يقع بعد وفاة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فما لم يثبت بقاء الموجودين عند نزول هذه الآية إلى بعد
وفاته واتّفاق أقوالهم لم تدل الآية على صحّة ذلك الإجماع ، لكنّه غير معلوم في
شيء من الإجماعات ، بل المعلوم خلافه ، لموت كثير منهم في حياته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
العاشر : لا يمكن
إرادة كلّ المؤمنين في كلّ عصر ، لعدم اعتبار قول
__________________
العوام والصبيان
والمجانين ؛ بل بعض مؤمني كلّ عصر ، وهو المعصوم.
الحادي عشر :
الإيمان عبارة عن التصديق القلبي وهو خفي عنّا ، فكيف نعلم كون المجمعين مصدّقين
ولا عبرة بتصديق اللّسان لجواز كفرهم بالقلب ، وإذا جهلنا إيمانهم لم يجب علينا
اتّباعهم ؛ وهو لازم على المعتزلة أيضا القائلين بأنّ المؤمن هو المستحق للثواب ،
لأنّه غير معلوم أيضا ، ولأنّ الأمة إذا أجمعت لم يعلم كونهم مستحقّين للثواب إلّا
بعد العلم بصدقهم في ذلك الحكم ، إذ لو جوّزنا خطاءهم وأن يكون كبيرة جوّزنا
خروجهم عن استحقاق الثواب واسم الإيمان. فإذن لا يعرف إيمانهم إلّا بعد معرفة كون
حكمهم صوابا ، فلو استفيد كونه صوابا من إجماعهم دار.
لا يقال : يجوز أن
يكون المراد من المؤمنين المصدّقين باللسان مثل (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ).
لأنّا نقول : اسم
المؤمن على المصدّق بلسانه مجاز ، فإذا جاز حمله عليه جاز أن يحمل على آخر ، وأن يكون المراد إيجاب متابعة السبيل الذي من
شأنه أن يكون سبيلا للمؤمنين ، كما لو قال : «اتّبع سبيل الصّالحين» أراد اتّباع
السبيل الذي يجب أن يكون (سبيلا للصالحين) لا وجوب اتّباع سبيل من يعتقد كونه صالحا.
__________________
الثاني عشر :
دلالة الآية على الإجماع ظنّية لما تقدّم من أنّ دلالة الألفاظ ظنّية ، والمسألة
قطعية فلا يجوز التمسّك فيها بالظنّي ، ولا يمكن جعل المسألة ظنية لأنّ أحدا لم
يقل إنّ الإجماع بصريح القول ظنّي ، بل بعضهم نفى كونه دليلا أصلا ، وبعضهم جعله
قطعيا ، فكونه ظنيا ثالث لم يقل به أحد. والعجب أنّ الفقهاء أثبتوا الإجماع
بعمومات الآيات والأخبار ، وأجمعوا على أنّ منكر ما تدلّ عليه العمومات لا يكفّر
ولا يفسّق إذا كان عن تأويل ، ثمّ يقطعون بما دلّ عليه الإجماع وبكفر مخالفه أو
فسقه ، فجعلوا الفرع أقوى من الأصل!
الثالث عشر :
المعارضة بالكتاب والسنّة والعقل.
أمّا الكتاب
فالآيات الدالّة على منع كلّ الأمّة من القول الباطل والفعل الباطل ، كقوله : (لا تَقُولُوا)
(وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ) ، والنهي إنّما يصحّ عن المتصوّر.
وأمّا السنّة
فوجوه :
أ. قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تقوم الساعة إلّا على شرار أمّتي.
ب. لم يذكر معاذ
الإجماع ، ولو كان دليلا شرعيا لذكره ولبيّنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لامتناع تأخير البيان عن وقت الحاجة.
__________________
ج. قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض» .
د. قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الله تعالى لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد
، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالم اتّخذ الناس رؤساء جهّالا
فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا» .
ه. قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : تعلّموا الفرائض فإنّها أوّل ما ينسى.
وقوله عليهالسلام : «من أشراط الساعة أن يرتفع العلم ويكثر الجهل» .
__________________
فهذه الأخبار تدلّ
على خلو الزمان عمّن يقوم بالواجبات.
وأمّا المعقول
فوجهان :
أ. كلّ واحد يجوز
عليه الخطأ فالمجموع كذلك ، كما أنّ كلّ زنجي أسود فكذلك المجموع.
ب. الإجماع إن كان
لدلالة فالواقعة الّتي أجمع عليها كلّ علماء العالم تكون عظيمة ، لتوفر الدواعي
على نقل دليلها القطعي الذي أجمعوا لأجله ، فلا يبقى في الإجماع فائدة ؛ وإن كان
لأمارة لزم اتّفاق الخلق على مقتضى أمر ظني ، وهو محال لاختلاف أحوال الناس فيها ،
ولأنّ في الأمة من ينكر الأمارة ، وإن كان لا لهما كان خطأ.
والجواب عن الأوّل
: أنّ التوعّد ليس مشروعا بالمشاقّة ، لأنّ المعلّق على الشرط إن لم يعدم بعدمه
حصل غرضنا ، وإلّا لكان اتّباع غير سبيل المؤمنين جائزا مطلقا عند عدم المشاقّة ،
وهو باطل ، لأنّ خلاف الإجماع إن لم يكن خطأ فلا شك في أنّه ليس صوابا مطلقا.
وفيه نظر ، لأنّ
التوعّد إذا كان مشروطا بالمشاقّة وانتفى الشرط انتفى المشروط الذي هو التوعّد ،
ولا يلزم منه كون مخالفة الإجماع صوابا لامتناع المخالفة حينئذ ، وفيه بحث.
__________________
واعترض أيضا بأنّه
لا يلزم حصول الغرض من القسم الأوّل ، لجواز أن لا يكون المعلّق بالشرط عدما عند
عدمه ، ويكون حرمة اتّباع غير سبيل المؤمنين عدما عند عدم مشاقّة الرّسول ، وإن
ردد في عدم هذه الحرمة عند عدم المشاقّة لم يلزم جواز مخالفة الإجماع في جميع
الصّور عند عدم المشاقّة وإن كانت الحرمة عدما عنده ، إذ انتفاء
حرمة كلّ اتّباع لغير سبيل المؤمنين لا يوجب جواز كلّ اتّباع لغير سبيلهم. ثمّ
إثبات القسم الثاني حق الترديد الأوّل يحصل غرضه.
وأيضا لم يرد
المعترض بذلك تعليق الحرمة بالمشاقّة ، بل ترتيب الوعيد على
المشاقّة الاتّباع المذكورين مجموعا ، ولا يلزم منه ترتّبه على كلّ واحد
منهما منفردا ، وما ذكره ليس جوابا عنه.
وعن الثاني : أنّ
تبيّن الهدى ليس شرطا في إيجاب متابعة سبيل المؤمنين ، بل هو شرط في لحوق الوعيد
عند المشاقّة لا عند اتّباع غير سبيل المؤمنين ، ولا يلزم تساوي المعطوف والمعطوف
عليه في شرط المعطوف عليه.
سلّمنا لكنّ الهدى
ـ الذي هو شرط ـ هو دليل الوحدانية والنبوة لا دليل أحكام الفروع ، وإذا لم يكن
دليل الفروع شرطا في لحوق الوعيد على
__________________
المشاقّة لم يكن (شرطا
في الوعيد) على اتّباع غير سبيل المؤمنين.
سلّمنا لكن هنا ما
يمنع منه ، وهو خروج هذه الآية مخرج المدح للمؤمنين ، وعلى ما ذكره السائل يبطل
ذلك ، فإنّا لو عرفنا أنّ قول اليهود في بعض الأحكام هدى لزمنا القول بمثله ولا
فضيلة لهم فيه ، ولأنّ اتّباع المؤمنين هو الرجوع إلى قولهم لأجل أنّهم قالوه لا (لصحة
بالدليل) ، فإنّا لسنا متّبعين لليهود والنصارى في إثبات الصانع
ونبوة موسى وعيسى ، لأنّا لم نذهب إليه لأجل قولهم.
وفيه نظر ، إذ مع
الحمل على (وَمَنْ يُشاقِقِ
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى) الموجب لعدم المشاقّة (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) من بعد ما تبيّن له الهدى الموجب لعدم المتابعة يحصل الغرض
من العطف ، ومثله ممكن وهو الظاهر من الآية.
وعن الثالث : أنّ
العموم حصل من اللفظ والإيماء.
أمّا اللفظ فمن
وجهين :
أ. لو قال : «من
دخل غير داري ضربته» فهم العموم لصحة استثناء كلّ دار مغايرة لداره.
ب. لو حمل على
سبيل واحد وهو غير معيّن لزم الإجمال بخلاف العموم ، وحمل كلامه تعالى على ما هو
أكثر فائدة أولى ، خصوصا مع أنّ عرف هذا اللفظ للعموم.
__________________
وأمّا الإيماء
فلما يأتي من أنّ ترتيب الحكم على اسم مشعر بكون المسمّى علة له فعلّة التهديد كونه اتّباعا لغير سبيل المؤمنين ، فيلزم الحكم
بعموم هذا المقتضي.
قوله : لو حمل على
الكلّ سقط الاستدلال.
قلنا : إنّما يلزم
ما قلتم لو حمل على الكلّ المجموعي ، أمّا على كلّ واحد فلا ، ومعلوم أنّه
المتبادر إلى الفهم ، لأنّ من قال : «من دخل غير داري فله درهم» لم يفهم أنّه أراد
من دخل جميع الدور المغايرة.
قوله : المراد
المنع من متابعة غير سبيل المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين وهو الكفر.
قلنا : الأصل
إجراء الكلام على عمومه ، ولأنّه لا معنى لمشاقّة الرسول إلّا اتّباع غير سبيل
المؤمنين فيما به صاروا غير مؤمنين ، فلو حملنا الاتّباع عليه لزم التكرار.
قوله : نزلت في
رجل ارتدّ.
قلنا : العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب.
وفيه نظر ، لأنّ
لفظة «غير» و «سبيل» لا خلاف في أنّهما ليستا من ألفاظ العموم والاستثناء للصلاحية
وانّه قرينة ، ولا إجمال لفهم فيما صاروا به مؤمنين و (نمنع علّة) المسمّى ، وألفاظ العموم للكلّ المجموعي لا لكلّ
__________________
واحد لأصالة
البراءة خرج الكلّ المجموعي للنّص فيبقى الآخر على الأصل ، ولا تكرار لو حمل على
قوله فيما صاروا به مؤمنين ، لتوجّه الذم على الكفر وعلى ترك الإيمان الذي هو سبيل مستحق المدح ، فكأنّ
للمخالفة أثرا في توجه الذم ، وبالخصوص إذا تضمّنت مخالفة المؤمنين المؤيدين
بالعقل ، وخصوص السّبب وإن لم يوجب التخصيص لكن يضعف معه العموم.
وعن الرابع : يمنع
كون السّبيل الطريق لقوله : (هذِهِ سَبِيلِي) ، (ادْعُ إِلى سَبِيلِ
رَبِّكَ).
سلّمنا ، لكنّه
غير مراد هنا ، وأهل اللغة تطلق السّبيل على ما يختاره الإنسان لنفسه في القول
والعمل ، فيحمل عليه لظهوره لأصالة عدم مجاز آخر.
قوله : المراد
متابعتهم في الاستدلال بدليلهم.
قلنا : لمّا أمر
باتّباعهم في الاستدلال بدليلهم ثبت انّ كلّ ما اتّفقوا عليه حق ، ولأنّ من أثبت
الحكم لدليل لم يكن متّبعا لغيره.
وفيه نظر ، فإنّ
أهل اللغة نصّوا على أنّه الطريق ، والأصل الحقيقة وقوله (هذِهِ سَبِيلِي) و (سَبِيلِ رَبِّكَ) مجاز قطعا ، وكذا مختار الإنسان ، لأنّه طريق
__________________
الحركة الفكرية ،
ولا يلزم من صحّة الدليل صحّة كلّ ما قالوه ، والاتّباع كما يصدق في القول يصدق في
الاستدلال.
وعن الخامس : بما
تقدّم في العموم.
وفيه نظر ، لأنّ
العموم وإن كان ظاهرا لكنّه ليس قطعيا والإجماع قطعي.
وعن السادس : بأنّ
العرف قاض بأنّ قولنا : لا تتبع غير سبيل الصالحين أمر باتّباع سبيل الصالحين حتى
لو قال : لا تتبع غير سبيل الصالحين ولا سبيلهم كان ركيكا. نعم لو قال : «لا تتبع
سبيل غير الصالحين» لم يفهم الأمر بمتابعة سبيلهم ، ولهذا يصحّ لا تتبع سبيل غير
الصالحين ولا سبيلهم ، ففرق بين لا تتبع غير سبيل الصالحين وبين لا تتبع سبيل غير
الصالحين.
وفيه نظر ، لأنّ
منشأ الفرق كون الأوّل كالسالب البسيط والثاني كالموجب المعدول ، فوجه الفرق كون
الأوّل أعمّ ، لكن لا مدخل للعموم هنا ، إذ كونه أعمّ باعتبار صدقه في غير سبيل
أحد أصلا.
وعن السابع : بأنّ
الواجب اتباع سبيل المؤمنين في الكلّ لصحّة الاستثناء ، ولأنّه لمّا ثبت النّهي عن
متابعة كلّ ما هو غير سبيل المؤمنين وثبت انّه لا واسطة بينها وبين اتّباع سبيل
المؤمنين ، لزم أن يكون اتّباع سبيل المؤمنين واجبا في كلّ شيء ، وتخصيص المباحات
لضرورة التناقض لا يخرج كونه حجّة في غيرها ، ولا امتناع في اشتراط جواز الاختلاف
لوقوع الاختلاف ولا يلزم جواز مثله في سائر الإجماعات ، لأنّ أهل
__________________
الإجماع حذفوا هذا
الشرط عند حصول الاتّفاق على حكم ولم يحذفوه عند الاتّفاق على جواز الاختلاف ،
وأهل الإجماع لمّا أثبتوا الحكم بدليل غير الإجماع فعلوا أمرين : إثبات الحكم
بدليل ، وتمسّكهم بغير الإجماع ، والآية دلّت على العموم وترك العمل به في أحدهما
لانعقاد الإجماع على عدم وجوب الاستدلال بدليلهم فيبقى الباقي ، ولا يفهم من قوله
: «اتّبع سبيل الصالحين» وجوب المتابعة فيما به صاروا صالحين ، لأنّ سبيل الصالح يضاف إلى الصالح فهو خارج عنه ، والصلاح جزء من ماهية
الصالح داخل فيه ، والخارج غير الداخل.
سلّمنا لكن
المتابعة في الصلاح ممكنة دون المتابعة في الإيمان ، لأنّه لا يحصل بالتقليد ، والاتّباع هو الإتيان بمثل فعل الغير لأجل أنّه فعله.
قوله : لو حمل على
الإيمان كان حاصلا في الحال.
قلنا : لمّا بيّنا
عدم جواز حمله على الإيمان صار مجازا باسم ما يؤول إليه ، ولا امتناع فيه. وقول
السلطان : من يشاقق وزيري ويتبع غير سبيل هؤلاء ـ ويعني المطيعين ـ إنّما يفهم من
ذلك سبيلهم في طاعته ، لوجود قرينة عرفية ، واللفظ عام فهو راجح على القرينة
العرفية المخصّصة.
وفيه نظر ، لما
تقدّم من أنّ الاستثناء لإخراج الصلاحية لا الدخول ، وثبوت النهي عن متابعة كلّ ما
هو غير سبيل المؤمنين مبني على العموم وهو المتنازع ويمتنع اشتراط جواز وقوع الشيء
بوقوعه وإلّا دار ، و (نمنع
__________________
انّ) إثبات الحكم بغير الإجماع مخصوص من الآية والمضاف لا يجب
خروجه عن المضاف إليه. نعم يجب المغايرة والجزء مغاير فصحّت الإضافة ، والصلاح ليس
جزءا من الصّالح ، بل عارض له فصحّت الإضافة ، والمتابعة وان كانت حقيقة فيما
قلتم لكنّها مجاز في المماثلة.
وليس القول
بالتخصيص أولى من هذا المجاز ، خصوصا وقد بيّنا أولوية التخصيص مطلقا. وليس
استعمال المجاز في الإيمان أولى منه في الاتّباع ونمنع رجحان اللفظ على القرينة
العرفية ، فإنّ القرائن تصرف الذّهن عن مقتضى الألفاظ.
وعن الثامن : نمنع
كون كلّ المؤمنين هم الموجودون إلى يوم القيامة ، لأنّ المؤمن هو المتّصف
بالإيمان فيكون موجودا ، وما سيوجد مستقبلا ليس بموجود.
قوله : الموجودون
في العصر الأوّل لا يصدق عليهم في العصر الثاني أنّهم كلّ المؤمنين.
قلنا : لمّا صدق
عليهم أوّلا أنّهم كلّ المؤمنين وقد اتّفقوا في العصر الأوّل على تحريم مخالفتهم
في جميع الأعصار ، وجب صدق الحكم في العصر الأوّل فيثبت في كلّ الأعصار ، إذ لو لم يكن حقّا في العصر الثاني
__________________
لما صدق في العصر
الأوّل انّه حق في كلّ الأعصار ، ولأنّه تعالى علّق العقاب على مخالفة كلّ
المؤمنين زجرا عن مخالفتهم وترغيبا في الأخذ بقولهم ، فلا يكون المراد كلّ
المؤمنين إلى يوم القيامة ، لانتفاء الفائدة في التمسّك بقولهم بعد قيام السّاعة.
وفيه نظر ، لأنّ
الحقيقة إن كانت للموجودين وقت الخطاب ولم يكن غيرها مرادا اندفع الاستدلال في
باقي الأعصار ، وإن كانت لمن وجد أو سيوجد أو أريد المجاز لوجه السؤال ، ولا
منافاة بين الزجر وإرادة المؤمنين إلى يوم القيامة إذا كان الغرض ويتبع غير سبيل
المؤمنين فيما يعلم اتّفاقهم عليه أو (ما ينافي عدمه الإيمان) .
وعن التاسع : أنّه
لا يجوز إرادة إيجاب اتّباع مؤمني عصر نزول الآية ، لأنّ قولهم إن طابق قول
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت الحجّة في قوله فيصير قولهم لغوا ، وإلّا كان باطلا ،
بل المراد إيجاب العمل بقول الموجودين في أي عصر كان.
وفيه نظر ، لأنّ
عدم جواز إرادة مؤمني عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم متوقّف على صحّة الاستدلال بالآية على ثبوت الإجماع ، فإنّ
من يحمل الآية على مفهومها وهو يتّبع غير سبيل المؤمنين في نصرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والانقياد له وتوله ما تولّى يكون لقولهم فائدة وإن اختصت
الآية بهم.
وعن العاشر : انّ
عدم اعتبار قول العوام والأطفال أو المجانين لا يخرج
__________________
اللفظ عن إرادة
الكلّ بخروجهم بدليل ، ولا يجوز حمله على المعصوم ، لأنّ الوعيد على مخالفة
المؤمنين ، فحمله على الواحد ترك الظاهر.
وفيه نظر ، لأنّ
خروجهم لدليل ينافي إرادة الكلّ ، فإنّا لم نشرط في إرادة الكلّ إرادة من لا يخرج
لدليل ، والمعصوم لا نسلّم وحدته فإنّه متعدّد في زمان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ومن بعده من الأئمّة ، لوجود أولادهم المعصومين معهم ، أو
باعتبار تعدّدهم وإن تعدّدت أزمنتهم ، أو يحمل على الواحد مجازا كما في قوله : (وَهُمْ راكِعُونَ) والمراد علي عليهالسلام.
وكذا قوله : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) ، والمراد علي عليهالسلام أيضا.
وقوله : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) ، والمراد واحد وهو نعيم بن مسعود الأشجعي.
وليس ترك ظاهر
الجمع أولى من ترك ظاهر العلم بالإيمان الثابت في حقّ المعصوم خاصة ، بل ذلك أولى
لوجهين :
الأوّل : انّه
يستلزم المجاز في الجمع ، لعدم دخول العوام والمجانين والصّبيان في المؤمنين ، وما
قلناه يستلزم مجازا ثبت مثله في مواضع كثيرة من القرآن ، فيكون أولى.
__________________
الثاني : اختصاص
الجمع بالمجاز ان اعتبر مؤمني كلّ زمان لتعدد المعصومين حينئذ ، وإلّا اختصت الآية
بمؤمني عصره عليهالسلام.
سلّمنا ، لكنّ
الأمر بالاتّباع إمّا مع العلم بصدقهم أو لا.
والثاني قبيح
لجواز الخطأ عليهم ، فالأمر بالاتّباع مطلقا أمر بالاتّباع فيما يجوز كونه خطأ ،
وهو قبيح.
والأوّل إمّا أن
يعلم باعتبار قولهم وليس ذلك إلّا المعصوم ، أو بموافقة الدّليل لقولهم فتضيع
فائدة الإجماع.
وعن الحادي عشر :
انّ المؤمن لغة المصدق بلسانه فيحمل عليه إلى أن يقوم المعارض ، ويدلّ عليه أنّه
تعالى أوجب علينا اتّباع سبيلهم ، والاطّلاع على الباطن ممتنع ، فلو لم يحمل على
التصديق باللسان لزم تكليف المحال ولا يجوز حمله على السبيل الّذي من شأنه أن يكون
سبيلا للمؤمنين ، لأنّه عدول عن الظاهر لغير ضرورة.
وفيه نظر ، لقبح
تكليف اتّباع من لا يعلم صدقه ولا يلزم تكليف ما لا يطاق إذا حمل على المعصوم.
وعن الثاني عشر :
انّ الاجتماع ظني ونمنع الإجماع على أنّه قطعي.
قوله : أعطيتم
الفرع أقوى من الأصل.
قلنا : نحن لا
نكفّر مخالف الإجماع ولا نفسّقه ، لأنّه عندنا ظني.
وفيه نظر ، لأنّ
مخالف الإجماع إمّا كافر أو فاسق عند الأكثر.
وعن الثالث عشر :
المعارضة بالآيات انّ النهي خطاب مع كلّ واحد لا مع الكلّ ، ونحن ندّعي عصمة الكلّ
لا كلّ واحد.
سلّمنا ، لكن
النهي لا يقتضي إمكان المنهي عنه من كلّ وجه ، لأنّ نهي المؤمن عن الكفر مع علمه
بأنّه لا يفعله ، وما علم أنّه لا يوجد محال الوجود.
وفيه نظر ، لأنّ
النهي كما يتناول كلّ واحد يتناول الكل ، والإمكان شرط لقبح النّهي عن المحال ، وخلاف المعلوم ليس بمحال على ما تقدّم.
وعن الأحاديث أنّ
قوله عليهالسلام : «لا تقوم الساعة إلّا على شرار أمّتي» يدلّ على حصول
الشرار في ذلك الوقت لا أنّ كلّهم شرار.
وحديث معاذ بأنّه
لم يذكر الإجماع ، لأنّه ليس حجّة في زمانه عليهالسلام.
وقوله : «لا
ترجعوا بعدي كفّارا» في صحّته كلام.
سلّمناه ، ولكن
ربّما كان خطابا لقوم معينين ، ولا يستلزم تجويز الخطأ على كلّ واحد تجويزه على
الكلّ ، والمثال لا يدلّ على عمومية.
سلّمنا ، لكن
الكلّ يجوز عليه الخطأ ، وليس كلّ جائز واقعا ، والله تعالى لمّا أخبر أنّه لا يقع
منهم الخطأ علمنا انّهم لا يفعلونه.
قوله : إجماعهم
إمّا لدليل أو الأمارة.
__________________
قلنا : جاز أن
يكون لدليل إلّا أنّهم لم ينقلوه اكتفاء بالإجماع فإنّه مغن عن غيره.
الوجه الثاني : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
والوسط العدل ،
لأنّ وسط كلّ شيء خياره ، وقد أخبر تعالى أنّ هذه الأمّة خير فلو اتفقوا على محرّم
لم يكونوا خيرا فقولهم : حق.
والاعتراض من وجوه :
الأوّل : الآية
متروكة الظاهر ، لأنّ وصف الأمّة بالعدالة يقتضي اتصاف كلّ واحد بها ، وهو معلوم
البطلان ، فيحمل على البعض وهو المعصوم.
الثاني : يمنع أنّ
وسط كلّ شيء خياره ، لأنّ العدالة هي فعل الواجب واجتناب المحرم وهو من أفعال
العبد لكن الله تعالى أخبر أنّه جعلهم وسطا فيغاير العدالة ، ولأنّ وسط حقيقة في
المتوسط بين الشيئين فلو كان حقيقة في العدل لزم الاشتراك.
الثالث : الخيرية
يكفي فيها اجتناب الكبائر فيصدق مع فعل الصغائر وجاز أن يكون الإجماع صغيرة.
ويؤيده انّه جعلهم
عدولا ليكونوا شهداء على الناس ، والشهادة تسمع مع الصغائر.
الرابع : سلّمنا
اجتنابهم عن الصغائر أيضا ، لكنّه تعالى إنّما جعلهم عدولا كذلك للشهادة على الناس
وانّما يتحقّق في الآخرة فتثبت
__________________
عدالتهم هناك ،
لأنّ العدالة تعتبر حين الأداء لا التحمّل ، ونحن نقول به ، فإنّ الأمّة معصومون في الآخرة.
الخامس : الخطاب
توجّه للموجودين عند نزول الآية لاستحالة خطاب المعدوم ، وهو يقتضي عدالتهم دون
غيرهم ، فإجماع أولئك حق ، فلا يتمسّك بالإجماع إلّا مع علم حصول قول أولئك فيه ،
وهو يتضمّن العلم بأعيانهم وبقائهم بعد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولمّا تعذّر ذلك تعذّر التمسّك بشيء من الإجماعات.
السادس : قوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ) ليس عاما يدلّ على قبول شهادتهم في كلّ شيء ، بل هو مطلق
في المشهور به ، وهو غير معيّن فتكون الآية مجملة ، ولا حجة في المجمل.
السابع : سلّمنا
عدم الإجمال ، لكنّا قد علمنا بها في قبول شهادتهم على من بعدهم بإيجاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العبادات عليهم وتكليفهم بما كلّفهم به ، فلا يبقى حجّة في
غيره لتوفية العمل بدلالة الآية.
الثامن : انّها
مخصوصة بالفساق والنساء والصبيان والمجانين إجماعا ، والعام بعد التخصيص ليس حجّة.
التاسع : لا تدلّ
على عصمتهم مطلقا ، بل فيما يشهدون به لا فيما يحكمون به من الأحكام الشرعية بطريق
الاجتهاد ، فإنّ ذلك ليس من باب الشهادة في شيء وهو المتنازع.
__________________
العاشر : إمّا أن
يكون خطابا مع جميع أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى يوم القيامة ، أو مع الموجودين وقت الخطاب ؛ فإن كان
الأوّل لم يبق حجّة في إجماع أهل كلّ عصر ، إذ ليس كلّ الأمّة ؛ وإن كان الثاني لم
يكن إجماع غيرهم حجّة ، وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس حجّة ، فلا يكون
الإجماع حجّة.
الحادي عشر : جاز
أن يكون المراد انّ أكثرهم عدل.
والجواب عن الأوّل
: نمنع أنّها متروكة الظاهر.
قوله : يقتضي كون
كلّ واحد عدلا.
قلنا : لمّا ثبت
أنّه لا يجوز إجراؤها على ظاهرها ، وجب أن يكون المراد منه امتناع خلو هذه الأمّة
عن العدول ، وليس المعصوم ، لأنّ قوله (جَعَلْناكُمْ) صيغة جمع ، فحمله على الواحد خلاف الظاهر.
وفيه نظر ، فإنّه
منع أنّها متروكة الظاهر ، ثم في بيانه اعترف به ، وعدالة بعض الأمّة لا يقتضي كون
الإجماع حجّة لاحتمال عدم دخوله فيهم ، والخطاب وإن توجّه إلى مجموع الأمّة لكن
المراد بعضهم على ما قلتم ، فجاز أن يكون واحدا ، ولأنّ المعصوم أكثر من واحد.
وعن الثاني : الوسط
من كلّ شيء خياره ، لقوله تعالى : (قالَ أَوْسَطُهُمْ) أي أعدلهم.
__________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خير الأمور أوسطها» أي أعدلها. وقيل كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوسط قريش نسبا.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بالنمط الأوسط».
وقول الشاعر : «هم
وسط يرضى الأنام بحكمهم».
وقال الجوهري :
وسطا أي عدلا ، ولأنّ الوسط حقيقة في البعد عن الطّرفين ، فالبعيد عن طرفي
الإفراط والتفريط اللّذين هما رديّان متوسط ، فكان فضيلة ، ولهذا يسمّى الفاضل في
كلّ شيء وسطا ،
__________________
وعدالتهم من الله
تعالى إذ لا فعل لهم.
وفيه نظر ، لما
تقدّم من اسناد الأفعال إلى العبد ، نعم لما خلق القدرة والآلات والألطاف المقربة
إلى العدالة صحّ إضافة الفعل إليه تعالى.
وعن الثالث : أنّ
بعضهم أنكر الصغيرة مطلقا ، بل كلّ ذنب صغير بالنسبة إلى ما فوقه كبير بالنّسبة
إلى ما تحته ، فسقط السؤال.
ومن اعترف به قال
: إنّه تعالى عالم بالباطن والظاهر فلا يجوز أن يحكم بعدالة أحد وصحّة شهادته إلّا
مع مطابقة المخبر عنه للخبر ، فلمّا أطلق تعالى القول بعدالتهم وجب عدالتهم في كلّ
شيء ، بخلاف شهود الحاكم حيث يجوز شهادتهم وإن جاز عليهم الصغيرة ، إذ لا سبيل
للحاكم إلى معرفة الباطن فاكتفى بالظاهر.
وفيه نظر ، لأنّ
علمه تعالى بالباطن والظاهر ووصفه بعدالتهم لا يقتضي امتناع الصغائر عليهم ،
لأنّها لا تنافي العدالة ، وليس المقتضي لقبول الشهادة مع الصغائر خفاءها عن
الحاكم ، ولا المقتضي لردّ الشهادة مع الكبائر ظهورها عند الحاكم ، فإنّه لو انعكس
الفرض لم يتغيّر الحكم ، ووصفهم بالعدالة لا يقتضي الحكم بصحّة الشهادة وإن وجب
الحكم بها ، ولو علم الحاكم الصغيرة لم يمتنع عن قبول الشهادة.
وهذا الجواب ذكره
أبو الحسين عن اعتراض آخر ، وهو أنّ
__________________
المراد بذلك انّه
جعل أكثرهم عدولا في الظاهر لا في الحقيقة ليشهدوا من جهة الخبر.
وأجاب بأنّ الظاهر
من قوله : (جَعَلْناكُمْ أُمَّةً
وَسَطاً) انّهم كذلك على الحقيقة ، لأنّ الخبر يقتضي كون المخبر على
ما تناوله ، كما لو أخبر أنّه جعلهم بيضا وسودا.
وعن الرابع : لو
كان المراد عدالتهم في الآخرة لقال سيجعلكم ، ولأنّ جميع الأمم عدول في الآخرة ،
فلا يبقى في الآية تخصيص لأمّته صلىاللهعليهوآلهوسلم بهذه الفضيلة.
وعن الخامس : انّه
لا سبيل إلى حمل لفظ الأمّة على كلّ من آمن بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى يوم القيامة لما تقدّم ، ولا على من كان موجودا في
زمانه عليهالسلام لعدم العبرة بقولهم في زمانه ، ولا وجود لهم بعد وفاته
لموت كثير منهم قبله ، فلا يبقى لقوله : (لِتَكُونُوا شُهَداءَ
عَلَى النَّاسِ) فائدة ، فيحمل على أهل كلّ عصر ، تحقيقا لفائدة كونهم
شهداء.
وعن السادس : يجب
اعتقاد العموم في قبول الشهادة دفعا للإجمال ، ولأنّ الاحتجاج في الوصف بالعدالة ،
وإذا كانوا عدولا وجب قبولهم في كلّ شيء وهو جواب السابع.
وعن الثامن : أنّ
العام المخصوص حجّة في الباقي على ما تقدّم.
__________________
وعن التاسع : أنّ
عدالتهم تمنع من الخطاء في الشهادة وفيما يروونه من الأحكام ويخبرون به منها.
وعن العاشر : ما
تقدّم.
وعن الحادي عشر :
انّ الخطاب للجميع فيكونون عدولا لا أكثرهم خاصة.
سلّمنا ، لكن إذا
أجمع الكلّ دخل الأكثر.
الوجه الثالث : قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ
لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).
ولام الجنس
للاستغراق ، فيكونون آمرين بكلّ معروف وناهين عن كلّ منكر ، فلو كان إجماعهم خطأ
لكانوا آمرين بالمنكر ناهين عن المعروف.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : أنّها
متروكة الظاهر لاقتضاء اتّصاف كلّ واحد بذلك والمعلوم خلافه ، وإذا لم يجز إجراؤها
على ظاهرها حمل على بعض الأمّة ، وهو المعصوم.
الثاني : المفرد
المعرف بلام الجنس ليس للعموم ، على ما تقدّم.
الثالث : أنّها
تقتضي اتّصافهم بذلك في الماضي ونمنع بقاؤهم عليه في الحال.
__________________
لا يقال : إنّها
خرجت مخرج المدح في الحال ، ولا يجوز المدح بما فعل في الماضي مع الخروج عنه ،
فإنّ الأمر بالمعروف إذا نهى عنه استحقّ الذم.
لأنّا نقول : نمنع
خروجها مخرج المدح ، بل بمجرد الإخبار بأنّ هذه الأمّة كانت خيرا من سائر الأمم
ومجرد الخبر لا يقتضي المدح ، أو يجوز المدح في الحال بما صدر في الماضي وإن
استحقّ الذم في الحال بذنب يقع في الحال ، فإنّ الجمع بين استحقاق المدح والذم
جائز لما ثبت في مسألة الإحباط.
الرابع : قوله : (كُنْتُمْ) منطوقه حصول الوصف في الماضي ومفهومه عدم حصوله في الحال
عليه ، فيدلّ عليه كما دلّ على المنطوق.
الخامس : اتّصافهم
في الحال لا يقتضي عدم الخروج عنه فيما بعد ، فيجوز خروجهم ويحسن مدح الإنسان بصفة
حالية وإن علم زوالها مستقبلا.
لا يقال : يصير
إجماعهم حجّة في ذلك الزمان.
لأنّا نقول : لا
نعلم أي الإجماعات حصل في ذلك الزمان ، وإذا وقع الشك في الجميع خرج عن كونه حجّة.
السادس : أنّها
خطاب مع الموجودين في ذلك الوقت فيكون قولهم حجّة دون غيرهم.
__________________
والجواب عن الأوّل
: المخاطب ليس كلّ واحد ، لأنّه وصف المخاطب بهذا الخطاب بكونه خير أمّة ، فلو كان كلّ واحد من الأمّة لزم
وصف كلّ واحد بأنّه أمّة ، وليس كذلك إلّا على المجاز ، لتبادر فهم المجموع في
قولهم حكمت الأمة بكذا ؛ ولأنّه يلزم أن يكون كلّ واحد خير أمّة أخرجت للناس ،
فيكون كلّ واحد خيرا من صاحبه الذي هو خير منه ، فإذن الخطاب للمجموع كقول الملك
لعسكره : أنتم خير عسكر تفتحون البلاد وتكسرون الجيوش ، ولا يفهم وصف الملك كلّ
واحد بذلك ، بل المجموع بمعنى أنّ في العسكر من هو كذلك ، فكذا هنا وصف الله تعالى
المجموع بالآمر بالمعروف بمعنى أنّ فيهم من هو كذلك ، وحمله على المعصوم باطل ،
لأنّه واحد ولفظ الأمّة للجمع.
وفيه نظر ، لأنّ
المعنى إذا كان في الأمّة من هو كذلك جاز أن يكون واحدا.
وعن الثاني : أنّ
في الأمّة من يحمله على العموم ، ولأنّ المعروف إن لم يكن للاستغراق كان للماهية ،
فيكفي في العمل به ثبوته في صورة واحدة ، فيكون معناه أنّهم أمروا بمعروف واحد
ونهوا عن منكر واحد ، وهو حاصل في جميع الأمم ، لأنّ كلّ واحد منهم قد أمر بمعروف
واحد ونهى عن منكر واحد وهو الكفر ، فلا تكون هذه الأمّة خيرا من جميع الأمم ،
فيحمل على الاستغراق تحصيلا للغرض.
__________________
وفيه نظر ، لجواز
حمله على الماهية ، ولا يصدق هنا في الواحد ، لأنّ مفهوم قولنا : «كان فلان يتهجّد»
المداومة عليه في أكثر أحواله فكذا هنا ، ولا يلزم التعميم ولا الوحدة ولا مساواة
الأمّة لمن تقدّمها.
وعن الثالث : أنّ
قوله : «يأمرون وينهون» ليس للماضي.
وفيه نظر ، لأنّه
حكاية حال لقوله : (كُنْتُمْ) كما يقال : «كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يفعل كذا».
وعن الرابع : منع
كون (كُنْتُمْ) للماضي ، لأنّها إن كانت ناقصة فهي ، وإن كانت تفيد المضي
لكن قوله : (تَأْمُرُونَ) يقتضي كونهم كذلك مستقبلا ، ودلالة (كُنْتُمْ) على ما تقدّم الوصف لا يمنع من حصوله مستقبلا ، فتبقى
دلالة (تَأْمُرُونَ) على الاستقبال سليما عن المعارض ، وإن كانت زائدة أو تامة
تمّ الاستدلال.
وفيه نظر ، لما
بيّنّا من عدم دلالة تأمرون المحكية على الاستقبال.
وعن الخامس : أنّ
صيغة المضارع كالعام بالنسبة إلى الحال أو المستقبل فيتناولهما معا.
وفيه نظر ، لأنّها
كالمشترك أو المطلق فيكفي الواحد.
وعن السادس : ما
تقدّم.
الوجه الرابع :
قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا
تَفَرَّقُوا).
نهي عن التفرّق ،
ومخالفة الإجماع تفرّق فيكون منهيّا عنه ، ولا معنى لكون الإجماع حجّة سوى النهي
عن مخالفته.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : نمنع
عموم النهي عن التفرق في كلّ شيء ، بل في الاعتصام بحبل الله لأنّه المفهوم ،
ولهذا لو قال : «ادخلوا البلد أجمعين ولا تفرّقوا» حمل على النهي عن التفرّق في الدخول ، وما لم يعلم أنّ ما أجمع أهل
العصر عليه اعتصام بحبل الله لم يكن التفرّق منهيا عنه.
الثاني : لا يجوز
حمله على العموم ، لأنّ قبل الإجماع كلّ واحد من المجتهدين مأمور باتّباع اجتهاده
المستند إلى ظنّه ، والظنون مختلفة فيكون التفرّق مأمورا به لا منهيا عنه.
الثالث : انّه
متناول للموجودين في حال الخطاب.
والجواب عن الأوّل
: انّه أمر بالاعتصام ونهي عن التفرّق مطلقا في كلّ شيء ويجب الحمل عليه ، وإلّا
كان النهي عن التفرّق في الاعتصام بحبله مفيدا لما أفاده الأمر بالاعتصام ، فيكون
تأكيدا والأصل التأسيس.
وفيه نظر ، لمنع
عموم التفرّق.
وعن الثاني : أنّ
العام حجّة بعد التخصيص ، فيبقى حجّة في امتناع التفرّق بعد الإجماع.
__________________
وعن الثالث : بما
تقدّم.
قال أبو الحسين استدلّ بهذه الآية بأنّ أمره بالاعتصام بحبل الله تعالى
يدلّ على أنّهم قد اعتصموا به وهو باطل ، لأنّ الأمر لا يدلّ على وقوع امتثاله.
قال : ويمكن أن
يستدل من وجوه.
الأوّل : أهل
العصر إذا أجمعوا على قول لم يجز لبعضهم تركه وإلّا كانوا قد تفرقوا وقد نهي عنه.
الثاني : إذا أجمع
أهل العصر على قول لم يجز لأهل الثاني أن يخالفوهم وإلّا كان أهل العصر الثاني قد
تفرّقوا.
الثالث : إذا خالف
أهل العصر الثاني أهل الأوّل صار أهل الأوّل مع الثاني متفرّقين ، والنهي يمنع
منه.
وأجاب عن الأوّل :
بأنّ ما أجمعوا عليه إن كان حقّا فقد حرم عليهم التفرّق عنه ، وإن كان خطاء وجب
عليهم بأجمعهم العدول عنه والاجتماع على الحق وأن لا يتفرّقوا عنه ، فالمخالف يقول
: إنّه محرم عليهم التفرّق وإن لم يجعل الإجماع حقّا.
وعن الثاني : أنّه
لا يوصفون بأنّهم متفرّقون إذا أجمعوا على مخالفة أهل الأوّل ، فإن افترقوا هم على
قولين فقد نهوا عن ذلك ، لأنّه يجب عليهم الاجتماع على الحق.
__________________
وعن الثالث : أنّ
أهل العصر الأوّل غير موجودين في هذه الحال فيقال انّهم مع أهل الثاني منهيون عن
التفرق ، وأيضا فالمفهوم من قوله : (وَلا تَفَرَّقُوا) هو أن لا يتفرّقوا في الاعتصام ، فيجب أن يبيّن المستدلّ
أنّ ما أجمع عليه أهل العصر اعتصام بحبل الله حتى يعلم من بعدهم أنّهم قد نهوا عن
مفارقتهم فيه ، وهو غير ظاهر.
الوجه الخامس : قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ
فَرُدُّوهُ).
شرط في الرد إلى
الكتاب والسنّة التنازع ، فإذا عدم التنازع وحصل الاتفاق لم يجب الرد إليهما قضية للشرط ، بل يكفي الاتّفاق ، وهو معنى كون
الإجماع حجّة.
واعترض بأنّ سقوط
وجوب الرد إلى الكتاب والسنّة عند الاتّفاق على الحكم إن كان بناء على الكتاب
والسنّة كفيا في الحكم ولا حاجة إلى الإجماع ، وإن كان لا بالبناء عليهما لزم تجويز وقوع الإجماع من غير دليل وهو
مانع من صحّة الإجماع ، كيف وانّا لا نسلّم بقاء الشرط فإنّ الكلام إنّما هو مفروض
فيما إذا وجد النزاع ممّن تأخر إجماع المتقدمين.
وأجيب بجواز
الاستناد إلى غير الكتاب والسنّة من القياس والاستنباط.
سلّمنا ، لكن ليس
في ذلك ما يدلّ على عدم اكتفاء من وجد بعد أهل
__________________
الإجماع واكتفاء
من وجد في عصرهم من المقلّدة بإجماعهم عن معرفة الكتاب.
قال أبو الحسين ـ اعتراضا على الاستدلال بالآية ـ : أيسقط وجوب الردّ إلى
الكتاب والسنّة ويصير ترك ذلك مباحا إذا أجمعوا بالردّ إلى الكتاب والسنّة ، أو
إذا اتفقوا على ذلك من غير ردّ إليهما.
والثاني يقتضي
تجويز وجود الإجماع من غير دليل.
والأوّل يقتضي
نسبة الله تعالى إلى ما لا يجوز ، لأنّ طلب الحكم من الكتاب والسنّة بعد ما وجد
فيهما محال ، إذ طلب الموجود مستحيل ، فإباحة ترك المستحيل عبث لا يصدر عن حكيم ،
وإنّما المراد بالآية الحثّ على طاعة أولي الأمر فيما يدبّرونه من أمر الدنيا
والدين إذا لم يعلم خطأهم فيه.
الوجه السادس : التمسّك بالروايات
الدالّة على عدم اجتماع الأمّة على الخطاء.
لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطاء» والبحث إمّا في متنه أو كيفية الاستدلال به.
وللناس في الأوّل طرق ثلاثة :
الأوّل : ادّعاء
الضرورة في تواتر معناه لنقله بألفاظ مختلفة بلغ
__________________
مجموعها التواتر
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على خطاء».
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لا تجتمع أمّتي على الضلالة.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : يد الله على الجماعة.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : سألت ربي ان لا تجتمع أمّتي على ضلالة فأعطانيها.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لم يكن الله ليجمع أمّتي على ضلال.
وروي : ولا على
خطأ.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : عليكم بالسّواد الأعظم. وذلك جماعة الأمّة ، لأنّ الأمّة أعظم من كلّ من دونهم.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : يد الله على الجماعة ، ولا نبالي بشذوذ من شذ.
__________________
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من
عنقه.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : من خرج من الطاعة وفارق الجماعة مات ميتة جاهلية.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق لا يضرهم من خالفهم.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحق حتى يقاتلون
الدجّال.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق حتى يأتي أمر الله.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : ثلاث لا يغل عليهن قلب المؤمن إخلاص العمل لله ، والنصح
لأئمة المسلمين ، ولزوم الجماعة فإنّ دعوتهم تحيط من ورائهم.
__________________
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، فإنّ الشيطان مع
الواحد وهو عن الاثنين أبعد .
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : لا يزال طائفة من أمّتي على الحق لا يضرّهم من ناواهم
إلى يوم القيامة.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : ستفترق أمّتي كذا وكذا فرقة كلّها في النار إلّا فرقة
واحدة ، قيل : ومن تلك الفرقة؟ قال : هي الجماعة.
فقد اشتركت هذه
الأحاديث في الدلالة على معنى واحد ، وهو أنّ الأمّة بأسرها لا تتفق على الخطاء.
الثاني :
الاستدلال وهو من وجهين :
الأوّل : هذه
الأحاديث لو صحّت لثبت بها أصل عظيم مقدّم على الكتاب والسنّة ، فيتوفّر الدواعي
على البحث عنه بأقصى الوجوه ، أمّا الأولياء فلتصحيح مثل هذا الأصل العظيم بها ؛
وأمّا الأعداء فلدفعه ، فلو كان في متنها خلل امتنع ذهولهم عنه ، فلمّا لم يقدر
أحد على الطعن فيها مع شدة بحثهم وطلبهم علمنا صحّتها.
الثاني : ظهر من
التابعين إجماعهم على أنّ الإجماع حجّة بهذه
__________________
الأخبار ،
والاستقراء دلّ على أنّ أمتنا إذا أجمعوا لأجل خبر ، كان مقطوعا بصحّته.
الثالث : سلّمنا
أنّ هذه أخبار آحاد ، لكنّها تدلّ على أنّ الإجماع حجّة ، فيحصل ظن أنّه حجّة ،
فيجب العمل به لوجوب دفع الضرر المظنون ، وهو أجود الطرق.
أمّا الطريق
الأوّل وهو ادّعاء التواتر ، فبعيد ، لمنع بلوغ مجموعها حدّه ولو كانت ألفا ،
لجواز صدور الكذب عن الجماعة.
ثمّ ادّعاء
الضرورة إمّا في لفظها بأن يقال : يجوز في كلّ واحد من هذه أن يكون كذبا ، لكنّا
نعلم أنّ مجموعها يستحيل أن يكون كذبا ، فيكون بعضها صحيحا ؛ أو في معناها بأن
يقال : الألفاظ اشتركت في إفادة معنى واحد منقول بالتواتر.
والأوّل مسلّم لكن
يجب إبانة أنّ كلّ واحد من هذه الألفاظ يدلّ على الإجماع حجّة قطعا ، إذ لو دلّ
البعض ظاهرا لم يحصل الغرض ، لاحتمال أن يكون ذلك البعض هو الصحيح. لكنّا نرى
المستدلّين بهذه الأخبار يتمسّكون بواحد منها عينا ، وهو : «لا تجتمع أمّتي على
خطأ» ويبالغون في الاعتراض عليه والجواب.
وأمّا الثاني فإن
كان المشترك هو أنّ الإجماع حجّة فقد ادّعيتم أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «الإجماع حجّة» وهو معلوم البطلان ولا يجري مجرى
غزاة بدر وأحد وانتفى الخلاف ، ولأنّكم تتمسكون بهذا الحديث وتوردون عليه
الأسئلة والأجوبة
، ولو كان متواترا كان الاستدلال عليه عبثا ، بخلاف شجاعة علي عليهالسلام وسخاء حاتم فإنّه متواتر المعنى بسبب أخبار متفرّقة لم
يحتج إلى الاستدلال ببعض تلك الأخبار على شجاعة علي عليهالسلام ، بل يحصل العلم الضروري بذلك ، وهنا يفتقر إلى الاستدلال
ببعضها على المطلوب بعد سماعه ، فيكون الإجماع حجة ليس جزءا من مفهومها وإن كان
المشترك معنى يلزم منه كون الإجماع حجّة وجبت الإشارة إلى ذلك المعنى وإقامة
الدلالة على الاستلزام.
لا يقال : المشترك
تعظيم الأمّة وبعدها عن الخطأ.
لأنّا نقول : مطلق
التعظيم مسلّم لا التعظيم المنافي لإقدامهم على الخطأ والمطلوب الثاني.
وأمّا الطريق
الثاني فضعيف ، ونمنع عدم الطعن فيها فقد طعن بأنّها آحاد.
لا يقال : اتّفق
الصحابة بأنّها متواترة.
سلّمنا ، لكن يجب
الطعن فيها على التفصيل.
لأنّا نقول :
النقل بأنّها متواترة إن كان متواترا فهي متواترة عندنا ، لأنّ الخبر متى كان
متواترا وصحّ بالتواتر أنّه متواتر كانت متواترة عندنا ، لكنّكم سلّمتم عدم
تواترها عندنا. وإن كان آحادا كانت أخبار آحاد ، لأنّ تواترها عند الصحابة
والتابعين إذا لم يثبت إلّا بالآحاد كانت من باب الآحاد ، لاشتراط استواء الطّرفين
والواسطة في التواتر.
قوله : يجب الطعن
فيها على التفصيل.
قلنا : ليس كلّ ما
لا يعلم بصحّته وجب أن يعلم فساده ، فالصحابة والتابعون ما عرفوا صحّة هذه الأخبار
ولا فسادها ، بل ظنّوا صحّتها فلم يجب عليهم الطعن فيها على التفصيل.
قوله : أجمع
التابعون على صحّة الإجماع بناء على صحّة هذه الأخبار.
قلنا : نمنع
الإجماع على صحّة الإجماع.
سلّمنا ، لكن لا
لصحّة هذه الأخبار ، بل للآيات ، فإن ادّعوا تواتر هذين كان مكابرة ، فإنّ تلك
الأخبار أظهر من ادّعاء هذين المقامين ، ولمّا لم يدّعوا التواتر في تلك الأخبار
كان عدمه فيها أولى.
سلّمنا لكن نمنع
جريان عادتهم بعدم إجماعهم على موجب خبر ، لأجله إلّا وقد قطعوا بصحّته ، فإنّ
الصحابة أجمعوا على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن ، وعلى أنّ المرأة لا تنكح على
عمّتها وخالتها بخبر واحد ، فثبت أنّ أجودها الطريق الثالث.
وأمّا كيفية
الاستدلال فيتمسّك بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطأ». واعترض من وجوه :
الأوّل : إن أراد
بأمّته كلّ مؤمن إلى يوم القيامة خرج الإجماع عن كونه حجّة ، وإن أراد الموجودين
وقت الخبر كان إجماعهم حجّة ؛ لكنّا لا نعرف أعيانهم وبقاءهم بعده عليهالسلام.
الثاني : سلمنا
انّ المراد بالأمّة أهل كلّ عصر ، لكن نمنع دلالتها على
نفي الخطأ ،
لاحتمال أن يكون نهيا لأمّته عن الاجتماع على الخطأ بسكون العين ، فاشتبه على
الراوي فنقله مرفوعا على أنّه خبر.
الثالث : سلّمنا
أنّه خبر ، لكن لم قلتم : إنّه يدلّ على نفي كلّ الخطاء عنهم؟! ونمنع عموم النكرة
المنفية ، فيحمل على نفي السهو أو الكفر جمعا بينه وبين قوله : لا تجتمع أمّتي على
ضلال.
الرابع : سلّمنا
إصابتهم ، لكن يجوز مخالفتهم ، فإنّ المجتهد قد يكون مصيبا ويتمكّن آخر من
مخالفته.
والجواب عن الأوّل
: أنّه مدفوع بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تزال طائفة من أمّتي متظاهرين على الحق.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
[وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم] : من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
وعن الثاني : أنّ
عدالة الراوي تفيد ظن صحّة الرواية وهو كاف ، ولو جوّزنا ذلك انسد باب الاستدلال
بأكثر النصوص ، مع أنّه مدفوع بباقي الروايات.
وعن الثالث : قد
تقدّم أنّ النكرة المنفية للعموم.
وفيه نظر ، لورود
النفي على «تجتمع» لا على خطأ ، والحمل على السهو باطل لامتناع اجتماع الخلق
العظيم على السهو فلا يذكر للتعظيم ، ولعدم اختصاص أمّته به ، وكذا على الكفر ،
وقوله : «لا تجتمع أمّتي على
الضلال» خبر مستقل
بنفسه ، ولأنّ الضلال لا يقتضي الكفر لقوله : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) [وقوله تعالى :] (فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ).
وعن الرابع : أنّ
الأمّة على قولين : كون الإجماع حجّة لا يجوز مخالفته ، ومنع كونه حجّة. فالقول
بأنّه حجّة يجوز مخالفته خارج عن قول كلّ الأمّة ولو كان حقّا لكانت الأمّة
متّفقين على الخطأ ، وهو ينافي الخبر.
الوجه السّابع :
دليل العقل
وهو الذي عوّل
عليه الجويني فقال : اجتماع الخلق العظيم على الحكم الواحد يستحيل أن يكون لا
لدلالة ولا أمارة ؛ فإن كان لدلالة كشف الإجماع عن وجودها فخلافه خلاف الدلالة ،
وهو باطل ؛ وإن كان لأمارة والتابعون قطعوا بالمنع من مخالفة هذا الإجماع ، فلو لا
اطّلاعهم على دلالة قاطعة مانعة من مخالفة مثل هذا الإجماع ، وإلّا لاستحال
اتّفاقهم على المنع من المخالفة.
والاعتراض لعلّهم
اتّفقوا لا لدلالة ولا لأمارة ، والمبطلون اتّفقوا على الحكم الباطل وهم منتشرون
في الشرق والغرب.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يكون لأمارة ونمنع الاتّفاق على المنع من المخالفة.
__________________
سلّمنا ، لكن لما
جاز الإجماع لأمارة جاز أن يكون إجماع المخالفة عنها.
لا يقال : إنّهم
لا يتعصّبون في الإجماع الصادر عن الأمارة وقد تعصّبوا في هذا الإجماع فدلّ على
أنّه ليس عن أمارة.
لأنّا نقول : إذا
سلمت أنّهم لا يتعصّبون في إجماع صادر عن أمارة بطل قولكم إنّهم منعوا من مخالفة
هذا الإجماع.
واعترض أيضا بأنّ
فيه إثبات الإجماع بالإجماع وإثبات الإجماع بنص يتوقّف عليه.
وأجيب بأنّ المثبت
كونه حجّة ثبوت نص عن وجود صورة منه بطريق عادي لا يتوقّف وجودها ولا دلالتها على
ثبوت كونه حجّة ، فلا دور.
الوجه الثامن : أجمعوا على تقديم
الإجماع على القاطع فدلّ على أنّه
قاطع وإلّا تعارض الإجماعان ، لأنّ القاطع مقدّم.
لا يقال : يلزم أن
يكون المجمع عليه عدد التواتر في هذا الدليل وفيما سبق.
لأنّا نقول : لو
سلم لم يضر.
الوجه التاسع : قد
ثبت دوام شرعنا إلى انقضاء التكليف فوجب أن يكون قول الأمّة حجّة لدوام قيام
الدلالة على اتصال الشرع.
والاعتراض :
الحجّة عند الإمامية قول المعصوم ، وغيرهم القرآن
__________________
وأخبار الآحاد
والاجتهاد ، على أنّ شرعنا منقطع بانقطاع التكليف كانقطاع شرع من قبلنا بالنسخ ،
فدوام كلّ واحد من الشرعين كدوام الآخر أو يقاربه ، فكما لا يجب قول إحدى الأمّتين
حجّة لم يجب في الأخرى مثله.
احتج المنكرون
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) ، وصف الكتاب العزيز بأنّه مبيّن لكلّ شيء ، ومن جملته
الأحكام التي أجمعوا عليها ، فلا حاجة إلى الإجماع.
الثاني : قوله
تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) اقتصر على الكتاب والسنّة ، وهو ينفي الحاجة إلى الإجماع.
الثالث : الآيات
الدالّة على وقوع الذنب من مجموع الأمّة كقوله : (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، و [قوله :] (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) ، وغيرهما يدلّ على وقوع الخطاء من مجموع الأمّة فجاز أن
يكون إجماعهم منه.
الرابع : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بدأ الإسلام غريبا وسيعود كما بدأ» دلّ على خلو الزمان من جمع تقوم الحجّة بقولهم. وكذا : «ولا
ترجعوا بعدي كفارا». وقوله : «تعلّموا الفرائض وعلّموها الناس بعدي فإنّها أوّل ما
ينسى» وقال :
__________________
«خير القرون القرن
الّذي أنا فيه ، ثمّ الذي يليه ، ثمّ يبقى حثالة كحثالة التمر لا يعبأ الله بهم».
الخامس : كلّ واحد
يجوز عليه الخطاء فكذا المجموع.
السادس : أمّة
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم كغيرهم من الأمم ، فلا يكون إجماعهم حجّة كغيرهم.
السابع : الأحكام
الشرعية لا تثبت إلّا بدليل ، فلا يكون الإجماع دليلا كالتوحيد وغيره.
والجواب عن الأوّل
: انّ كون الإجماع حجّة ثبت بالكتاب ، وهو قوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) كما في خبر الواحد وغيره من الأدلّة.
وعن الثاني : أنّ
المجمع عليه لم يقع فيه تنازع فلا يجب ردّه ، ولأنّا رددناه إلى القرآن والسنّة
حيث أثبتنا الإجماع بهما.
وعن الثالث :
أنّها تتناول كلّ واحد من الأمّة ولا يستلزم جواز الذنب من المجموع ، ولأنّ
التجويز لا ينافي الامتناع الشرعي.
وعن الرابع : انّ
قوله : «بدأ الإسلام» يدل على أنّ أهل الاسلام هم الأقلّون لا على أنّه لا يبقى من تقوم الحجّة بقوله : «ولا ترجعوا بعدي كفّارا» يحتمل أن
يكون خطابا مع جماعة معيّنين ، أو أنّ النهي لا يستلزم الوقوع.
وقوله : «تعلّموا
الفرائض» يعطي جواز انقراض العلماء ، ونحن نمنع
__________________
من الإجماع مع
الانقراض ، وكلامنا في اجتماع من كان من العلماء وكذا ما بعده. ومعارض لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي على الحق حتى يأتي أمر الله
وحتى يظهر الدجّال».
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وا شوقاه إلى إخواني» قالوا : يا رسول الله ألسنا
إخوانك؟ فقال : «أنتم أصحابي ، إخواني قوم يأتون من بعدي يهربون بدينهم من شاهق
إلى شاهق ، ويصلحون إذا فسد الناس» .
وعن الخامس : أنّ
كلّ واحد منهم يجوز عليه الخطاء منفردا في قوله لا في القول الذي اتّفقوا عليه ،
ونمنع أنّ كلّ واحد يجوز أن يخطأ في القول الذي اتّفقوا عليه.
وعن السادس :
بالفرق ، فإنّه تعالى فضّل أمّة محمد على غيرهم وميّزهم من بينهم وجعلهم شهداء على
الناس في تبليغ رسلهم إليهم ، على أنّ أبا إسحاق الأسفرائيني وجماعة من العلماء
ذهبوا إلى أنّ إجماع علماء من تقدّم من الأمم حجّة قبل النسخ.
وعن السابع : يجوز
إثبات التوحيد بالإجماع.
سلّمنا لكن الفرق
تجويز التقليد في الأحكام الشرعية دون العقلية ، وإذا جاز تقليد الواحد في الحكم
الشرعي فتقليد الكلّ أولى.
__________________
الفصل الثاني
فيما أخرج من الإجماع وهو منه
وفيه مباحث :
الأوّل : في إحداث
القول الثالث
كلّ مسألة اشتملت
على موضوع كلّي على الإطلاق فالحكم فيها إمّا بالإيجاب الكلّي ، أو السّلب الكلّي
، أو الإيجاب في البعض والسلب في الباقي ؛ فإذا اختلف أهل العصر على قولين من هذه
الاحتمالات الثلاثة بأن يقول بعضهم بالإيجاب الكلّي والباقون بالسّلب الكلي ، أو
بالاقتسام ، أو قال بعضهم بالسلب الكلّي والباقون بالاقتسام فهل يجوز لمن بعدهم أن
يقول بالثالث؟
منعه الجمهور
والإمامية ، وجوّزه أهل الظاهر وبعض الحنفية ؛ ونقل بعضهم عن بعض الشيعة جوازه ، وهو غلط ؛ وحجّتهم في ذلك ظاهرة ، لأنّ الأمّة إذا اختلفت على قولين فالحق
واحد منهما وهو الذي
__________________
اشتمل على قول
المعصوم ، فيكون الثاني باطلا ، فالثالث أولى بالبطلان.
احتجّ النافون
بوجوه :
الأوّل : القول
الثالث إنّما يجوز لو أمكن كونه حقّا ، ولا يمكن ذلك إلّا عند بطلان الأوّلين
ضرورة انّ الحقّ واحد ، فيلزم إجماعهم على الباطل.
الثاني : الأمّة
لمّا اختلفت أوجب كلّ من الفريقين الأخذ إمّا بقوله أو بقول الآخر ، فتجويز الثالث
يبطل ذلك وهو حجّة القاضي عبد الجبار.
الثالث : القول
الثالث إن لم يكن عن دليل كان خطاء فيمتنع القول به ، وإن كان لزم نسبة الأمّة إلى
الخطاء بتضييعه وغفلتهم عنه ، وهو حجّة الغزالي.
والاعتراض على
الأوّل : أنّه غير وارد على القائل بأنّ كلّ مجتهد مصيب ، فإنّه لا يلزم من حقّية
أحد الأقسام بطلان الباقي ؛ وأمّا من يعتقد وحدة المصيب لم يلزم من التمكّن من
إظهار القول الثالث كونه حقّا ، لأنّ المجتهد قد تمكّن من العمل بالاجتهاد الخطأ.
وفيه نظر ، لأنّ
المجتهد إنّما يتمكّن من العمل بالاجتهاد الخطأ إذا لم يعلم كونه خطأ أمّا مع علمه
فلا ، وهنا لمّا اتّفقت الأمّة على قولين فإن كان الحق خارجا عنهما لزم اتّفاقهم
على الخطأ ، وإن لم يكن كان الثالث معلوم الخطأ فلا يمكن العمل به.
__________________
وعلى الثاني : أنّ
إيجاب الأخذ بأحد القولين مشروط بأن لا يظهر الثالث ، فإذا ظهر زال شرط ذلك
الإجماع.
لا يقال : لو جاز
ذلك لجاز أن يقال : إنّما أوجبوا التمسّك بالإجماع على القول الواحد بشرط أن لا
يظهر وجه القول الثاني ، فإذا ظهر زال شرط ذلك الإجماع ، فجاز الخلاف.
لأنّا نقول : إنّه
جائز لكنّهم منعوا من اعتباره فليس لنا ان نحكم عليهم بوجوب التسوية.
وفيه نظر ، لأنّ
كلّ واحد منهما يعتقد أنّه على الحق وأنّ القول المخالف له غلط ، فقد أجمعوا على
تخطئة الثالث ، ونمنع أنّ كلّ منهما سوّغ الأخذ بقوله أو بقول صاحبه.
وعلى الثالث :
انّما يلزم نسبة الأمّة إلى الخطأ لو كان الحقّ في المسألة معيّنا ، أمّا على
تقدير إصابة كلّ مجتهد فلا.
احتج المجوّزون
بوجوه :
الأوّل : الاختلاف
على قولين دليل تسويغ الاجتهاد ، والثالث صدر عن اجتهاد فكان سائغا.
الثاني : لو
استدلّ الصحابة بدليل جاز للتابعين الاستدلال بغيره ، فكذا القول هنا.
الثالث : الوقوع
ثابت فيكون جائزا والملازمة ظاهرة. وبيان المقدّمة : انّ الصّحابة اختلفوا في زوج
وأبوين وفي زوجة وأبوين ، فقال ابن عباس :
__________________
للأم ثلث الأصل
بعد فرض الزّوجين ، وقال الباقون : للأم ثلث الباقي بعد فرضهما ، وأحدث التابعون
ثالثا ، فقال ابن سيرين بقول ابن عبّاس في الزوج دون الزوجة ، وقال تابعيّ آخر
بالعكس.
واختلف الصحابة في
قوله : «أنت عليّ حرام» على ستة أوجه ، فأحدث مسروق التابعي سابعا هو : انّه لا
يتعلّق به حكم.
والجواب عن الأوّل
: انّه يدلّ على تسويغ الاجتهاد منهم أو من غيرهم ، الأوّل مسلّم والثاني ممنوع.
وعن الثاني :
الفرق ظاهر بين الدّليل المؤكّد لما صار إليه الأمّة من الحكم وبين القول الثالث ،
ولأنّ اتّفاقهم على دليل واحد لا يمنع من دليل آخر ، واتّفاقهم على حكم واحد مانع
من إبداع حكم آخر مخالف له ، فافترقا.
وعن الثالث : بأنّ
مسألة الزوج والزّوجة مع الأبوين من قبيل ما لا يرفع ما اتفق عليه الفريقان ، بل
قول ابن سيرين وغيره غير مخالف للإجماع ، بل هو قائل في كلّ صورة بمذهب ذي مذهب ،
ولأنّه لم يخالف بعد استقرار الإجماع على أحدهما بل حالة الاتفاق فلا يكون خارقا
للإجماع لأنّه منهم ، وقال آخرون : إحداث الثالث إن لزم منه الخروج عن ما أجمعوا
عليه لم يجز ؛ كالجد مع الأخ على قولين ، منهم من قال المال كلّه للجد ، ومنهم من
قال بمقاسمة الأخ ، فحرمان الجد ثالث يستلزم رفع الإجماع ، وهو إعطاء
الجد قسطا من المال.
__________________
وكالجارية إذا
وطأها المشتري فوجد بها عيبا ، قال بعضهم : نمنع الردّ ، وقال آخرون بالردّ مع
العقر ، فالقول بالردّ مجانا خارق للإجماع.
وكالنّية في
الطهارات قيل إنّها معتبرة في الجميع ، وقيل في البعض ، فالقول بعدم اعتبارها في
شيء منها خارق للإجماع ، وإن لم يلزم من إحداث الثالث رفع ما اتّفقوا عليه جاز ،
لأنّ المحذور مخالفة الإجماع أو ما يستلزمها ، فإذا لم يكن الثالث كذلك جاز ، كما
لو قال بعضهم باعتبار النية في جميع الطهارات وقال الباقون بعدم اعتبارها في
الجميع جاز أن يقول متجدّد باعتبارها في البعض موافقة لمعتبرها في الجميع في تلك
الصورة وبعدم اعتبارها في البعض الآخر موافقة لمن لم يعتبرها في الجميع في ذلك
البعض ، وليس في ذلك رفع حكم مجمع عليه.
وكنسخ النكاح
بالعيوب الخمسة ، وهي : الجذام والجنون والبرص مع الرتق والقرن في الزوجة والجب
والعنّة في الزوج ، فقال بعضهم بالفسخ بها أجمع ، وقال آخرون بعدمه فيها أجمع ،
فالفرق لا يرفع إجماعا.
وكالأبوين مع
الزوج قال بعضهم : للزوج حصّته من الأصل وللأم ثلث الأصل وللأب الباقي ، وقال
آخرون : للزوج حقّه وللأمّ ثلث الباقي وللأب الثلثان ، ثمّ جعلوا حكم الزوجة حكم
الزّوج ، فمن جعل للأم ثلث الأصل مع الزوج جعله لها مع الزوجة ، ومن أعطاها ثلث
الباقي في الأوّل أعطاها ثلثه هنا ، فإعطاؤه ثلث الأصل في إحدى المسألتين وثلث
الباقي في الأخرى ثالث لا يرفع إجماعا ، وهو الوجه.
__________________
لا يقال : إنّه
فصل ، ولم يفصل أحد فقد خالف الإجماع.
لأنّا نقول : عدم
القول بالفصل ليس قولا بعدمه ، وإلّا لامتنع القول في واقعه يتحدد فإنّ عدم القول
حينئذ يكون قولا بالعدم.
البحث الثاني : في
عدم الفصل بين المسألتين
إذا لم تفصل
الأمّة بين مسألتين فهل لمن بعدهم الفصل بينهما؟
وتحقيقه أنّ
الأمّة ان نصّوا على عدم الفصل بينهما فإنّه لا يجوز الفصل ، سواء حكموا بعدمه في
كلّ شيء ، أو في بعض الأحكام.
وأقسامه ثلاثة :
ان تحكم الأمّة بحكم واحد فيهما إمّا بالتحليل أو الحرمة ، أو أن يحكم البعض فيهما
بالتحريم والآخر بالتحليل ، أو أن لا ينقل إلينا منهم حكم فيهما.
ففي هذه الصور إذا
دلّ دليل على حكم في إحداهما كان في الأخرى كذلك ، وإن لم ينصّوا على عدم الفرق
لكن لم يكن فيهم من فرّق بينهما فإن علم اتّحاد طريقة الحكم فيهما جرى مجرى النصّ
على عدم الفرق.
مثاله : من ورّث
العمة ورّث الخالة ، ومن منع إحداهما منع الأخرى ، لاتّحادهما في الطريقة وهي حكم
ذوي الأرحام. فهذا لا يسوّغ خلافهم فيه بتفريق ما جمعوا بينهما ، إلّا أنّه متأخّر
عن سائر الإجماعات لضعفه.
__________________
وإن لم يعلم
اتّحاد الطريقة فالحق جواز الفرق لمن بعدهم ، عملا بالأصل السالم عن معارضة مخالفة
حكم مجمع عليه ، أو علّته ؛ ولأنّ منع المخالفة يستلزم أن من قلّد مجتهدا في حكم أن
يوافقه في كلّ حكم ذهب إليه ، وهو ظاهر البطلان.
احتجّ المانعون من
الفصل مطلقا بأمرين :
الأوّل : إذا قال
نصف الأمّة بالتحريم في المسألتين ونصفها بالتحليل فيهما ، فقد اتّفقوا على أنّه
لا فصل بين المسألتين ، فيكون الفصل ردا للإجماع.
الثاني : إذا
اختلفت الأمّة على قولين فقد أوجبت كلّ طائفة منهما القول بقولها أو بقول الأخرى
ومنعت من غيرهما ، فتسويغه رفع لهذا الإجماع.
والجواب عن الأوّل
: ليس النزاع فيما إذا نصّوا على اتّحاد الحكم أو علّته ، فإن أردتم أنّ كلّ قائل
بأحد المسألتين قائل بالأخرى فهو مسلّم ، لكن نمنع عدم الفصل حينئذ فإنّه المتنازع.
وعن الثاني :
أنّهم أوجبوا بشرط عدم الفرق من بعض المجتهدين بين المسألتين ، فإن منعوا الالتفات
إلى هذا الشرط ، فهو النزاع.
وقال بعض العلماء
: يجوز الفصل مطلقا ، لأنّ ابن سيرين قال في زوج وأبوين : للأمّ ثلث الباقي ، وقال
في زوجة وأبوين : للأم ثلث الأصل ؛ فقال
__________________
في إحداهما بقول
ابن عباس ، وفي الأخرى بقول باقي الصحابة.
وقال الثوري :
الجماع ناسيا يفطر والأكل ناسيا لا يفطر ، ففرّق بين المسألتين مع اتّحاد الطريقة.
البحث الثالث : في
جواز الإجماع بعد الخلاف
إذا اختلف أهل كلّ
عصر في المسألة على قولين فهل يجوز لهم أن يتفقوا بعد استقرار خلافهم على أحد
القولين والمنع من الآخر ويكون إجماعا كالمبتدإ؟
اختلفوا فمن اعتبر
انقراض العصر في الإجماع قطع بجوازه ؛ ومن لم يعتبره اختلفوا ، فمنهم من جوّزه
بشرط أن يكون مستند اتّفاقهم على الخلاف القياس والاجتهاد لا دليل قاطع ، ومنهم من
منع من ذلك مطلقا ، وهو قول أبي بكر الصيرفي ، والحق الجواز.
لنا : إنّ الحق لم
يتعيّن في أحد القولين بعينه لعدم الاتّفاق عليه أوّلا ، فجاز العدول عنه إلى
الآخر ، لأنّه لا يخرج بذلك عن قول كلّ الأمّة وبعد الاتّفاق تصير إجماعا يحرم
مخالفته كالمبتدإ.
__________________
قال المرتضى : هذا
على مذهبنا ظاهر ، لأنّ المعتبر قول المعصوم ، فإذا فرض الإجماع على أحد القولين
فقد فرض دخول الإمام فيه فيكون حقّا ، إنّما الإشكال عند المخالفين لقولهم بصحّة
الاجتهاد.
احتجّ المانعون
بأنّ الإجماع واقع من الطائفتين على جواز الأخذ بأي القولين كان إذا أدّى الاجتهاد
إليه ؛ فلو أجمعوا على أحدهما كان الإجماعان حقّين ، فيكون المتأخّر ناسخا
للمتقدّم ، لكن نسخ الإجماع والنسخ به باطل على ما مرّ ، ولأنّه لو جاز ذلك لجاز
أن يتّفق أهل عصر على قول ويتّفق أهل العصر الثاني على خلافه.
والجواب منع
إجماعهم على الأخذ بأي القولين كان ، لأنّ أحدهما لا بد وأن يكون خطأ ؛ لقوله عليهالسلام : «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران» ، ولا يجوز إجماع الأمّة على الخطأ.
سلّمنا ، لكن مطلق
أو بشرط عدم الاتّفاق ، الأوّل ممنوع والثاني مسلّم ، لكن الاتّفاق قد وقع فيزول
المشروط بعدمه.
سلّمنا ، لكنّهم
جوّزوا الأخذ بأحد القولين ، فإذا أجمعوا عليه كان موافقا لاجماعهم ، وموافق الإجماع
صواب لا خطاء ، ولأنّه لو اتّفق أهل العصر إلّا واحدا على حكم وخالفهم عليه ذلك
الواحد لم يمتنع أن يظهر له ما ظهر لنا في العصر وأن يؤدّيه اجتهاده إلى تصويبهم
وأنّه قد كان على
__________________
الخطاء ، فإن
منعناه من المصير إليه لزم إيجاب الخطاء عليه ومنعه من الحكم بالدليل الذي ظهر له
ولباقي الأمّة وإلزامه بما يعلم بطلانه ، وهو باطل قطعا ، وإن لم يمنعه منه فقد
حصل الوفاق بعد الخلاف.
وأجاب بعض
المخالفين : بأنّا لا نحرّم عليه الرجوع إليه لكنّا نقول : إنّه يستحيل ظهوره عليه
لا من جهة العقل ، بل من جهة السّمع ، وهو ما يقضي إليه من تعارض الإجماعين.
وليس بجيد ،
لاستلزامه التكليف بالمحال ، لأنّه تعالى كلّفه إصابة الحق ، فإذا نصب عليه دليلا
ومنعه من الوصول إليه لزم المحال ، وتعارض الإجماعين مدفوع باشتراط الأوّل كما
تقدّم ، والفرق واقع بين الاتّفاق والخلاف ، ونحن جوّزنا الإجماع عقيب الاختلاف لا
عقيب اتفاق مخالفه له على أنّهم منعوا من الإجماع عقيب الإجماع ولم يمنعوا منه
عقيب الاختلاف ، وليس لنا الحكم عليهم ، بل أمرنا بمتابعتهم فيما أجمعوا عليه.
تذنيب
لو اختلفوا في
المسألة على قولين هل يجوز لهم الاتّفاق على ثالث؟
الوجه التفصيل ،
وهو أنّهم إن نصّوا على عدم الثالث لم يجز ، وإلّا فالوجه الجواز ، لما تقدّم عند
المخالفين ، أمّا عندنا فلا يجوز ، لأنّه إحداث لقول ثالث ، وقد تقدّم تحقيق القول
فيه.
البحث الرابع : في
جواز اتّفاق أهل العصر الثاني
إذا اختلف أهل
العصر الأوّل على قولين هل يجوز لأهل العصر الثاني الاتّفاق على أحدهما؟
الحق ذلك ، فإنّه
يكون إجماعا يحرم مخالفته ويمتنع على المجتهد المصير إلى القول الآخر.
وهو قول المعتزلة
وكثير من أصحاب الشافعي وأبي حنيفة ، وقال أبو بكر الصيرفي من الشافعية وأبو الحسن
الأشعري والجويني والغزّالي وجماعة من الأصوليّين بامتناعه.
لنا : انّ إجماعهم
ممكن للعلم بعدم استحالة صيرورة كلّ مجتهد الى ما صار إليه الآخر لظهور دليله عنده
، وإذا جاز ذلك للواحد جاز للجميع والعلم به ضروري ، وإذا جاز وقوع الإجماع كان
حجّة لثبوت المقتضي وهي أدلّة الإجماع السالمة عن معارضة مانعية سبق الخلاف ،
لتناول الأدلّة حال سبق الخلاف وعدمه ، ولأنّه إجماع حدث بعد ما لم يكن فيكون حجّة
، كما إذا حدث بعد تردّد أهل الإجماع فيه حال الفكر ، وهذا المقيس عليه ينقض أكثر
أدلّة المخالف.
وبالجملة فالنزاع
في ذلك ضائع ، لأنّه إمّا في وقوع الإجماع وإمكانه ، ولا شك فيه ولأنّه المقدّر ،
وإمّا في كونه حجّة وأدلّة الإجماع تتناوله قطعا.
واستدلّ قاضي
القضاة أيضا على ذلك بوجهين اعترضهما أبو الحسين .
١. قوله عليهالسلام : «لا تجتمع أمّتي على خطأ» فلا يكون قول أهل العصر الثاني
خطأ.
لا يقال : نسلّم
أنّه ليس خطأ ، لكن يجوز لمن بعدهم المخالفة.
لأنّا نقول :
أجمعوا على أنّه لا يجوز أن نخالفهم.
اعترضه بمنع
الإجماع فيه ، لأنّ الأمّة مختلفة في اتّفاق أهل العصر على أحد القولين هل يجوز
مخالفته أم لا؟
وأيضا فيه نظر ،
لأنّ ما ذكره لا يدفع الاعتراض ، فإنّ السائل يقول يجوز مخالفتهم في هذا الإجماع.
٢. الإجماع
المبتدأ لا يجوز مخالفته ، وكذا إذا اختلف الصحابة ، ثمّ اتّفقت فيجب مثله في
التابعين إذا اتّفقوا بعد اختلاف الصحابة.
اعترضه بأنّه إن
أوجبتم ذلك لدخول اتّفاقهم تحت أدلّة الإجماع فذلك رجوع إلى الأدلّة السابقة ، وإن
كان للقياس فأين العلّة؟
لا يقال : العلّة
انّه إجماع.
لأنّا نقول : ليست
هذه علّة معلومة ، والأصل في الجماعة جواز اتّفاقهم على الخطأ ، وانّما منعنا من
ذلك للأدلّة فيجب اعتبارها دون القياس ، لأنّه
__________________
لا نظفر من ذلك
بعلّة معلومة ، وليس لكم أن تجعلوا العلّة في الأصل كونه إجماعا أولى من أن يجعلها
كونه إجماعا مبتدأ ، على أنّه قد حكى قاضي القضاة في الدرس عن قوم أنّهم قالوا :
اتّفاق الصحابة بعد اختلافهم لا يحرّم الخلاف.
واحتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ) أوجب الردّ إلى كتاب الله عند التنازع ، وهو حاصل ، لأنّ
حصول الاتّفاق في الحال لا ينافي ما تقدّم من الخلاف ، فوجب فيه الردّ إلى كتاب
الله تعالى.
الثاني : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهديتم» جوّز الأخذ بقول
كلّ واحد من الصحابة وأطلق ، وهو يتناول ما حصل بعده إجماع وما لم يحصل.
الثالث : اختلافهم
على قولين يتضمّن الإجماع على الأخذ بأيهما كان ، فلو انعقد الإجماع الثاني تصادم
الإجماعان.
الرابع : لو كان
قولهم إذا اتّفقوا حجّة لكان قول إحدى الطائفتين إذا ماتت الأخرى حجة ، والتالي باطل
، لأنّ الموت لا يصيّر ما ليس بحجّة حجّة ، فالمقدم مثله ، والشرطية ظاهرة ، لأنّ
المقتضي وهو كون المجمعين في العصر الثاني كلّ المؤمنين موجود في الطائفة الباقية.
__________________
الخامس : لو كان
اتّفاق العصر الثاني حجّة لكان قولهم لدليل وإلّا لكان خطأ ، والتالي باطل ، لأنّه
لو وجد لما خفي على أهل العصر الأوّل.
السادس : أهل
العصر الثاني بعض الأمّة ، فلا يكون إجماعهم وحده حجّة.
السابع : قد ثبت
أنّ أهل العصر الأوّل لو اختلفوا على قولين لم يجز لمن بعدهم إحداث ثالث ، وأهل
العصر الأوّل لما اختلفوا لم يكن القطع بذلك الحكم قولا لواحد منهم ، فيكون القطع
بذلك إحداث الثالث .
الثامن : الصحابة
كالأحياء ، ولهذا تحفظ أقوالهم ويحتجّ بها وعليها ، وإذا لم ينعقد الإجماع مع تلك
الأقوال التي اختلفوا فيها حال حياتهم ، فكذا لا ينعقد بعدهم.
التاسع : لو كان
هذا الإجماع حجّة لوجب ترك القول الآخر ولما انعقد به حكم حاكم ووجب نقضه بعد
الإجماع على خلافه ، لوقوعه على ضد الدليل القاطع ، والتالي باطل ، لانعقاد إجماع
العصر الأوّل على نفوذ هذا القضاء ، فنقضه على خلاف الإجماع.
والجواب عن الأوّل
: أنّ التعلّق بالإجماع ردّ إلى الله تعالى وإلى الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولأنّ الشرط وهو التنازع مفقود في العصر الثاني.
وعن الثاني : بعد
تسليم الحديث انّه مخصوص بتوقّف الصحابة في
__________________
الحكم حال
الاستدلال مع أنّه لا يجوز الاقتداء به في ذلك بعد انعقاد الإجماع ، فوجب تخصيص
محلّ النزاع فيه ، ولأنّه مخصوص بالصحابة ، ولأنّه محمول على ما إذا لم يخالفه أحد
، أمّا مع المخالفة فلا يمكن الاهتداء بقول أيّهما كان بل بالمصيب.
وعن الثالث : بما
مر أنّ الإجماع على الأخذ بهما كان مشروط بعدم الاتّفاق عند القائلين بأنّ كلّ
مجتهد مصيب ، ولأنّه منقوض باتّفاقهم حالة الاستدلال على تجويز الأخذ بأي قول ساق
الدّليل إليه وعلى الوقف مع عدم الدّليل ، ولأنّه إذا جاز أن لا يكون اتّفاق أهل
العصر الثاني حجّة جاز أن لا يكون اتّفاق أهل العصر الأوّل حجّة لعدم الأولوية ،
وإذا لم يكن الأوّل حجّة لم يلزم محذور من الاتّفاق الثاني ، فقد ثبت تناقض هذه
الحجّة ، ومن يجعل المصيب واحدا يحتمل إجماع الفريقين على الأخذ بقول أيّهما كان ، لأنّ الحقّ
واحد وأنّ عليه دليلا والمخطئ غير معذور فيه.
وعن الرابع : أنّا
نتبيّن بموت إحدى الطائفتين أنّ قول الثانية حجّة ، (لا أنّ الموت نفسه هو الحجة).
وعن الخامس : أنّه
لم يخف عن بعضهم ولا يجب عدم خفائه عن الجميع.
__________________
وعن السادس : لو
كان أهل العصر الثاني بعض الأمّة لم يكن إجماعهم ، إذا لم يسبقه خلاف ، حجّة.
وعن السابع : نمنع
كون القطع ليس قولا لأحد على ما سبق.
سلّمنا ، لكن لا
يجوز إحداث الثالث لو انعقد الإجماع على عدم جوازه مطلقا ، أمّا إذا كان مشروطا
بشرط فإنّه يجوز عند عدم ذلك الشرط ، كما قلنا من إجماعهم على التوقّف حالة
الاستدلال مع أنّه لا ينافي إجماعهم بعد ذلك.
وعن الثامن : إن
عنيتم ببقاء أقوالهم بعدهم كونها مانعة من انعقاد الإجماع فهو المتنازع ، وإن
عنيتم علمنا بأنّهم ذكروا هذه الأقوال فليس مانعا من انعقاد الإجماع ، وإن عنيتم
ثالثا فبيّنوه.
وعن التاسع : أنّا
لا ننقض الحكم لصيرورته مقطوعا به في زمان عدم هذا الإجماع ، وانّما ننقض لو حكم
حال قيام الدلالة القاطعة على فساده.
تذنيب
لو انقسم أهل
العصر إلى قسمين ثمّ مات أحد القسمين كان قول الباقين حجّة. أمّا عندنا فلوجوب
بقاء المعصوم ؛ وأمّا عند المخالف ، فلأنّ الموت كشف عن اندراج ذلك القسم وحده تحت
أدلّة الإجماع ، وكذا لو كفر أحد القسمين.
__________________
البحث الخامس : في
أنّ انقراض العصر هل هو شرط أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك فذهب الإمامية إلى أنّه ليس بشرط ، وهو مذهب المعتزلة والأشاعرة وأكثر أصحاب
الشافعي وأبي حنيفة ، وقال أحمد بن حنبل والأستاذ أبو بكر بن فورك : إنّه شرط ؛
وفصّل بعض الناس فقال : إن كان اتّفاقهم عن قول أو فعل أو عنهما لم يكن شرطا ، وإن
كان عن قول بعضهم وسكوت الباقين كان شرطا.
لنا : وجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) وصفهم بالعدالة ، وهي تنافي الإجماع على الخطاء.
وكذا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على الخطأ» ، وقوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) من أدلّة الإجماع.
الثاني : الإجماع
إنّما يتحقّق لو دخل المعصوم فيهم وقوله حجة فلا يشترط غيره.
الثالث : لو اعتبر
انقراض العصر لم يستقر الإجماع ، لأنّه قد حدث في زمن الصحابة مجتهدون من التابعين
فيجوز لهم مخالفتهم لعدم انقراض العصر ، ولا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفة
المتجدّدين ، ثمّ الكلام في
__________________
عصر التابعين
كالكلام في عصر الصحابة فجاز أن لا ينقرض عصرهم حتى يحدث تابع التابعين فيكون
إجماعهم مشروطا بموافقته ، وهكذا.
لا يقال : يشترط
انقراض عصر المجتهدين عند حدوث الواقعة لا من تجدد فلا يلزم اعتبار عصر التابعين
إذا حدث فيهم مجتهد بعد الواقعة.
لأنّا نقول : على
تقدير أن يحدث في التابعين واحد من المجتهدين قبل انقراض عصر المجتهدين من الصحابة
عند الواقعة ، وكذا يحدث في تبع التابعين قبل انقراض عصر من كان مجتهدا من
التابعين ، وهلمّ جرّا إلى زماننا ، يلزم عدم تحقّق الإجماع على ذلك التقدير ،
وهذا الاحتمال متحقّق في كلّ إجماع فلا ينعقد إجماع ما.
اعترض أبو الحسين بأنّ من اشترط انقراض العصر اختلفوا في إدخال من أدرك من
التابعين في إجماعهم فقال أحمد بن حنبل : لا مدخل للتابعي في إجماع أهل ذلك العصر مع أنّه يشترط
انقراض العصر ، وفائدته تجويز رجوع المجمعين أو بعضهم عمّا أجمعوا عليه ، وحينئذ
يندفع الإشكال. وبتقدير تسليم دخول التابع لهم في إجماعهم فلا يمتنع أن يكون الشرط
هو انقراض عصر المجمعين عند حدوث الحادثة ، واعتبار موافقة من أدرك ذلك العصر من
المجتهدين لا عصر من أدرك عصرهم ، فيندفع الإشكال.
وفيه نظر ، فإنّ
المجتهد التابعي المتجدّد يجوز له المخالفة إذا لم يسبقه
__________________
إجماع مخالف له هو
حجّة عليه ، وإنّما تسوغ المخالفة لو احتمل كون قول المجمعين خطاء ، إذ لو لاه لم
يجز له المخالفة وانقراضهم لا يوجب تصويب قولهم وصيرورته حقّا قطعا ، فقول أحمد
ليس بجيّد ، وعدم اشتراط انقراض عصر التابعي ـ مع أنّه من أهل الإجماع وقوله شرط
فيه ومعتبر في تحقّقه واشتراط انقراض غيره ـ تحكّم محض ، لأنّ المقتضي لاشتراط
الانقراض هو إمكان رجوع بعضهم عن قوله إلى ما يخالفه لظهور دليل عنده ثابت هنا.
الرابع : لا خلاف
في أنّ الإجماع حجّة بعد انقراض العصر ، والحجّة ليست في انقراض العصر وإلّا لكان
حجّة من دون الاتّفاق ، وهو باطل قطعا ؛ ولا في مجموع الأمرين ، وهو اتّفاقهم
وانقراض العصر ، وإلّا لكان موتهم مؤثرا في كون أقوالهم حجّة ، وهو محال كما في
موت النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فالمؤثر في كونه حجّة هو الاتّفاق لا غير.
اعترض بجواز كون
اتّفاقهم حجّة بشرط عدم المخالف لهم في عصرهم.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، فلو لم يسوغ لهم الرجوع عمّا أجمعوا عليه لكانوا شهداء
على أنفسهم.
الثاني : سئل علي عليهالسلام عن بيع أمّهات الأولاد؟ فقال : «كان رأيي ورأي
__________________
عمر أن لا يبعن
فرأيت بيعهنّ» فقال له عبيدة السلماني : رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك ، فدلّ قول
عبيدة على حصول الإجماع مع مخالفة علي عليهالسلام.
الثالث : كان أبو
بكر يرى التسوية في القسم ولم يخالفه أحد في زمانه ، ثمّ خالفه عمر بعد ذلك.
الرابع : المجتهد
ما دام حيّا يبحث ويتفحّص عن الأدلّة ، ويكون في التأمّل والنظر ، فلا يستقر
الإجماع.
الخامس : قول
المجمعين لا يزيد على قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فإذا كان موته شرطا في استقرار الحجّة في قوله ، فاعتباره
في أهل الإجماع أولى.
السادس : الإجماع
ربّما كان عن اجتهاد وظن ، ولا حجر على المجتهد إذا تغيّر اجتهاده وإلّا كان
الاجتهاد مانعا من الاجتهاد ، وهو باطل ، لأنّ الرأي الأوّل مذموم ، لقوله تعالى :
(وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ
إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ) فلا يكون مانعا من الثاني.
__________________
السابع : لو لم يعتبر
المخالفة في عصرهم لبطل مذهب المخالف ، لهم في عصرهم بموته، لأنّ من بقي بعده كلّ
الأمّة ، وهو خلاف الإجماع.
والجواب عن الأوّل
: لا يلزم من كونهم شهداء على غيرهم أن لا يكونوا شهداء على أنفسهم إلّا من حيث
المفهوم وليس حجّة ، بل قبول شهادتهم على أنفسهم أولى لعدم التهمة ، وفائدة
التخصيص التنبيه بالأدنى على الأعلى ، كما قد يقبل إقرار المرء على نفسه ولا تقبل
شهادته على غيره ، ولأنّ المراد كونهم شهداء يوم القيامة على الأمم بإبلاغ
أنبيائهم إليهم ، فلا يكون حجّة في صورة النزاع.
وعن الثاني : قول
عبيدة (رأيك في الجماعة) لا يدلّ على أنّه إجماع ، وإنّما أراد انضمام القولين
أرجح من الانفراد ، على أنّ قول عبيدة ليس حجّة ، وقول علي عليهالسلام لا يدلّ على الإجماع ، بل على أنّ قوله وقول عمر خاصة ثمّ
انفرد هو عليهالسلام. على أنّ الإمامية منعوا هذا الحديث بالكلّية لأنّ عليا عليهالسلام لم يكن يقول بالرأي.
وعن الثالث : نمنع
الإجماع على قول أبي بكر فإنّ عمر نازعه في التسوية وقال له : أتجعل من يجاهد في
سبيل الله بنفسه وماله كمن دخل في الإسلام كرها؟! فقال أبو بكر : إنّما عملوا لله
وإنّما أجرهم على الله تعالى وإنّما الدنيا بلاغ.
وعن الرابع : إن
أرادوا بنفي الاستقرار عدم حصول الاتّفاق ، فهو باطل ، لأنّ كلامنا في أنّه لو حصل
لكان حجّة ، وإن أرادوا أنّه لا يكون حجّة بعد حصوله فهو المتنازع.
وعن الخامس : أنّه
جمع بين الموضعين بغير دليل مع ظهور الفرق ، فإنّ قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في معرض النسخ ، وهو إنّما يكون بوحي قاطع ، ورفع القاطع
بمثله على طريق النسخ جائز بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بالاجتهاد.
وعن السادس : أنّ
الإجماع عندنا يشترط فيه قول المعصوم فلا يكون عن اجتهاد فلا يجوز الرجوع عنه ،
وعند المخالف لا يجوز الرجوع عنه أيضا ، لأنّ كلّ واحد وإن ذهب إلى الحكم عن
اجتهاد وظن ، ولكن بعد اتّفاقهم على الحكم لا يجوز الرجوع عنه بالاجتهاد ،
لصيرورته بعد الإجماع قطعيا ، فلا يجوز الرجوع عنه بالظّني بخلاف الرجوع عن
الاجتهاد الظني بمثله.
وعن السابع : قال
بعضهم ؛ نعم يبطل قول المخالف بموته وينعقد الإجماع بقول من بقي ، وقيل : إنّما لم يبطل مذهبه ولا ينعقد إجماع بعده ، لأنّ من
بعده ليسوا كلّ الأمّة بالنسبة إلى هذه المسألة التي خالف فيها الميّت فإنّ فتواه
لا تبطل بموته.
وفيه نظر ، لأنّهم
لو أجمعوا بعد موته على حكم آخر لكان حجّة ، لأنّهم كلّ المؤمنين وكلّ الأمّة ،
وهو وصف حقيقي لا يعتبر بالنسبة إلى فتوى أو حكم ، فكذا في صورة النزاع.
__________________
تذنيب
ذهب كثير ممّن لم
يعتبر انقراض العصر في الإجماع القولي إلى اعتباره في السكوتي ، لاحتمال رجوع
سكوته إلى التفكّر في الحكم ، فإذا مات عرف أنّ سكوته كان عن رضا.
وليس بشيء ، لأنّ
السكوت إن دلّ على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت ، وإلّا لم يحصل بالموت ،
لاحتمال موته على ما كان عليه قبل موته.
البحث السادس : في
أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة
اختلف الناس في
ثبوت الإجماع بخبر الواحد ، فأجازه جماعة من الشافعية والحنفية والحنابلة ، وهو
الحق ، ومنعه جماعة من الحنفية والغزّالي من الشافعية.
لنا : إنّ خبر
الواحد دليل شرعي تثبت به الأحكام وتخصّص به العمومات ويقيّد المطلق ، فجاز أن
يثبت به الإجماع كغيره من الأحكام ، ولأنّ ظن العمل به حاصل فيجب دفعا للضرر
المظنون ، ولأنّ الإجماع نوع من الحجّة فيجوز التمسّك بمظنونه كمعلومه قياسا على
السنّة ، ولأنّ أكثر الناس ذهب إلى أنّ أصل الإجماع ظني فتفاصيله أولى ، ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نحن
__________________
نحكم بالظاهر
والله يتولّى السّرائر» فيدخل فيه الإجماع المنقول بخبر الواحد لكونه ظاهرا ظنيا ،
ولأنّ نقل الظني موجب للعمل فالقطعي أولى.
احتجّ المخالف
بأنّ الإجماع أصل من أصول الدين فلا يثبت بخبر الواحد لكونه ظاهرا ظنّيا ، ولأنّ
الإجماع المنقول آحاد أصل من أصول الفقه ، كالقياس وخبر الواحد عن الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك ممّا لم يرد من الأمّة فيه إجماع قاطع يدل على جواز
الاحتجاج به ، ولا نصّ قاطع من كتاب أو سنّة وما عدا ذلك فمن الظواهر غير محتجّ
بها في الأصول وإن احتج بها في الفروع.
والجواب : كلام
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أصل من أصول الدين ، وقد قبل فيه خبر الواحد.
وبالجملة فالمسألة
دائرة على اشتراط كون دليل الأصل مقطوعا به ، وعلى عدم اشتراطه ، فمن اشترط القطع
منع من كون خبر الواحد مفيدا في نقل الإجماع ، ومن لم يشترط ذلك كان الإجماع
المنقول على لسان الآحاد عنده حجّة.
والظهور في هذه
المسألة للمعترض من الجانبين ، إمّا من جهة النافي فإن يقول : لا نسلم أنّ نقل كلّ
ظنّي موجب للعمل بمقتضاه ، وإمّا من جهة المثبت فإن يقول : لا نسلم امتناع إثبات
الأصول بالظواهر.
__________________
البحث السابع : في
أنّ إجماع العترة حجّة
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب إليه الإماميّة والزيدية وأنكره الباقون.
لنا : وجوه :
الأوّل : ما ثبت
من عصمة الإمام.
الثاني : قوله
تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ
اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) ، والخطاء رجس ، فيكون منتفيا عنهم ، وقد أكّد الله تعالى
ذلك بوجوه :
أ. لفظة (إِنَّما) الدالّة على الحصر والتأكيد.
ب. لام التأكيد في
(لِيُذْهِبَ.)
ج. الإتيان بلفظ
الإذهاب الدالّ على الإزالة بالكلّية.
د. الإتيان
بالماهية التي يستلزم نفيها نفي جميع الجزئيات.
ه. الإتيان بلفظ
أن يذهب الدال على تحقّقه في كلّ حال دون الإذهاب الصادق بعد تقضّي الفعل ، فالفرق بينهما فرق بين أن يفعل والفعل.
__________________
و. تقديم لفظة (عَنْكُمُ) الدالّة على شدّة العناية.
ز. الإتيان بما
يدلّ عليهم لا بأسمائهم تعظيما لهم.
ح. البداء على وجه
الاختصاص ، نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف.
ط. تأكيد ذلك بلفظ
التطهير الدالّ على التنزيه عن كلّ دنس.
ي. تأكيد التطهير
بالمصدر.
اعترض بحمله على الزوجات ، لأنّ ما قبلها وما بعدها خطاب معين.
والجواب من وجوه :
أ. لو كان كذلك
لقال عنكنّ ويطهركنّ ، كما تقدّم.
ب. أهل البيت هم
علي وفاطمة والحسن والحسين عليهمالسلام ، للإجماع على أنّه لمّا نزلت هذه الآية لفّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عليهم كساء وقال : «هؤلاء أهل بيتي».
ج. لمّا قالت أمّ
سلمة : ألست من أهل البيت؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم لها : «إنّك على
__________________
خير» ولم يجعلها منهم ، فلو كان راجعا إلى الزوجات لدخلت فيهن
ولأجابها بنعم.
د. لفظة «إنّما»
للحصر فهي دالّة على أنّه تعالى ما أراد أن يزيل الرجس عن أحد إلّا عن أهل البيت ،
لكنّه غير جائز ، لأنّه تعالى أراد زوال الرجس عن الكلّ ، وإذا تعذّر حمله على
ظاهره وجب حمله على زوال [بعض] الرّجس عنهم ، لأنّ ذكر السبب لإرادة المسبب جائز ،
وزوال الرجس هو العصمة ، فهي دالّة على عصمة أهل البيت عليهمالسلام ، وكلّ من قال ذلك حصر المراد في علي وفاطمة والحسن والحسين
عليهمالسلام ، فلو حمل على غيرهم لزم خرق الإجماع.
ه. مراد الله
تعالى واجب الوقوع مطلقا عندهم وعندنا في أفعاله ، فيكون وقوع الرجس عنهم محالا ،
وهو إنّما ثبت في حقّ المعصومين لا الزوجات لوقوع الذنب منهن.
__________________
اعترض على أ : بأنّ التذكير يمنع من قصر الخطاب عليهم لا من
دخولهن فيه.
وعلى ب : بما روي
عن أمّ سلمة أنّها قالت : قلت : يا رسول الله ألست من أهل البيت؟ فقال : «بلى إن
شاء الله» .
ولأنّ أهل البيت
حقيقة فيهنّ لغة ، فتخصيصه بغيرهن خلاف الأصل.
وعلى ج : نمنع
دلالة الآية على إزالة كلّ رجس ، لأنّ المفرد المحلّى بلام التعريف لا يفيد
العموم.
والجواب عن أ :
أنّ الخطاب المتناول للمذكورين حقيقة لا يندرج فيه المؤنث إلّا بدليل ولم يوجد ،
وقد سبق في باب العموم ، ولأنّ دخولهنّ في الخطاب ممتنع لعدم العصمة في حقّهن.
وعن ب : أنّ
الرواية ما قلنا ، وهو قوله عليهالسلام : «إنّك على خير» ، ونمنع
__________________
كون أهل البيت
حقيقة فيهن ، وخلاف الأصل يصار إليه عند تعذّر الأصل ، وقد بيّنا امتناعه.
وعن ج : بما تقدّم
من أنّ المنفي الماهية من حيث هي هي ، إذ اللام إمّا للعموم فالمطلق ، أو للعهد ولا سبق لذكر الرجس ، أو لتعريف الماهية
والطبيعة ، وانّما يصحّ نفيها عند نفي كلّ الجزئيات.
الثالث : قوله
تعالى : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ
عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) جعل أجر الإرشاد إلى ما يستحق به الثواب الدائم مودة ذي
القربى ، فتكون واجبة ، وإنّما تجب مع عصمتهم ، إذ مع وقوع الخطأ منهم يجب
اجتنابهم وترك مودتهم ، لقوله : (لا تَجِدُ قَوْماً
يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ
__________________
الْآخِرِ
يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ).
الرابع : تواتر
النقل عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلوا :
كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، حبلان متّصلان لن يفترقا حتى يردا علي الحوض». حصر التمسّك بهما.
اعترض بأنّه خبر واحد والإمامية تمنع من العمل به ، ولأنّه يقتضي
وجوب التمسّك بالكتاب والعترة فلم قلتم إنّ قول العترة وحدها حجّة؟
والجواب : انّ
الأمّة اتّفقت على قبوله ونقله بعضهم للاستدلال به على صحّة إجماعهم ، وبعضهم
للاستدلال به على فضيلتهم ، ولا يتوقّف كون قول العترة حجّة على مضامة الكتاب
كالعكس.
الخامس : أهل
البيت مهبط الوحي والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيهم ومنهم ، فالخطأ عليهم أبعد ، ولا ينتقض بالزوجات
لعلّة ملامستهنّ له وعدم تميزهم واعتبارهم في الأحكام الشرعية.
__________________
احتجّ المخالف
بأنّ عليا عليهالسلام قد خالف الصحابة في كثير من المسائل ولم يقل لأحد ممّن
خالفه : إنّ قولي حجّة فلا تخالفني.
والجواب : انّه عليهالسلام عرف انّه لا يتّبعه ، وإلّا لم يخالفه.
البحث الثامن : في
انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين في الأصول من المسلمين
اختلف الناس في
انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين من أهل القبلة في مسائل الأصول ، فقيل بانعقاده
، وهو الحقّ عندنا لاستحالة أن يكون قول الإمام خارجا عن الجميع فرضا ، ولا يجوز
أن يكون الإمام هو ذلك المبتدع ، فتعيّن أن يكون من الباقين وقوله حجّة.
وأمّا الجمهور
فاختلفوا وتقريره : أنّه إن لم يكفر ببدعته فقد اختلف فيه ، فقيل : لا ينعقد دون
موافقته ، لأنّه من المؤمنين ومن الأمّة ، فيكون من عداه بعض المؤمنين ، فلا يكون
قوله حجّة غايته أنّه يكون فاسقا وفسقه غير مخلّ بأهليّته في الاجتهاد ، والظاهر
من حاله فيما يخبر به عن اجتهاده الصدق كإخبار غيره من المجتهدين.
لا يقال : الفاسق
لا يقبل إخباره فيجري مجرى الكافر والصبي.
لأنّا نقول :
إنّما لم يقبل قوله فيما يخبر به إذا لم يدلّ على صدقه وكان عالما بفسقه بخلاف
الصبي لعدم أهليته.
__________________
وقيل : ينعقد دونه
كما قلناه لفسقه ولا يعذر الفاسق بجهله كالكافر لا يعذر بجهله.
وقيل : الإجماع لا
ينعقد عليه ، بل على غيره فيجوز له مخالفة إجماع من عداه ولا يجوز ذلك لغيره ، وإن
كفر ببدعته لم يعتبر قوله في الإجماع بالإجماع لعدم دخوله في مسمّى الأمّة المشهود
لهم بالعصمة.
وفيه نظر ، لأنّ
الأمّة إمّا من شهد بالرسالة ، أو من بعث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إليه على اختلاف التفسير وهو منهم ، والشهادة بالعصمة
للجميع لا لكلّ واحد عندهم وعلى تقدير انعقاد الإجماع بدونه لا اعتبار بجهله بكفره
؛ فلو خالف في مسألة فروعية وبقى مصرا على المخالفة حتى تاب عن بدعته ، فلا أثر
لمخالفته لانعقاد إجماع جميع الأمّة قبل إسلامه ، كما لو أسلم ثمّ خالف ان شرط في
الإجماع انقراض عصر المجمعين ؛ ولو ترك بعض الفقهاء العمل بالإجماع بخلاف هذا
المبتدع المكفر ، فهو معذور وإن لم يعلم ببدعته ولا يؤاخذ بالمخالفة ، كعمل الحاكم
بشهادة الزور مع جهله. وإن علم بدعته وخالف الإجماع بجهله انّ تلك البدعة مكفّرة
لم يعذر ، لتقصيره عن البحث والسؤال من علماء الأصول العارفين بأدلّة الإيمان
والتكفير حتى يحصل له العلم بذلك بدليله لا بالتقليد إن كان من أهل الاجتهاد ،
وإلّا قلّدهم إن سوّغناه في الأصول.
واعلم أنّه لا
يجوز لنا التمسّك على كفرهم في تلك المسائل بإجماعنا ، لأنّه إنّما يثبت خروجهم عن
الإجماع بعد ثبوت كفرهم في تلك المسائل ، فلو أثبتنا كفرهم فيها بإجماعنا وحدنا
دار. أمّا قول العصاة من أهل
القبلة فإنّه
معتبر في الإجماع عند أكثر المخالفين ، لأنّها لا تزيل اسم الإيمان ، فيكون قول من عداهم قول
بعض المؤمنين ، وليس معتبر عند الباقين بخروجهم عن اسم الإيمان بالمعصية ، وكذا
عند الإمامية للعلم بدخول الإمام في غيرهم.
__________________
الفصل الثالث
في ما أدخل في الإجماع وليس منه
وفيه مباحث :
الأوّل : في
الإجماع السكوتي
إذا قال بعض أهل
العصر قولا وكان الباقون حاضرين لكنّهم سكتوا ولم ينكروا ، فقد اختلف الناس في ذلك
:
فقال الشافعي
وجماعة من الفقهاء وداود الظاهري والسيد المرتضى وجماعة من الحنفية وأبو عبد الله
البصري : إنّه ليس بإجماع ولا حجّة. وهو الحقّ.
وقال أبو علي
الجبّائي وجماعة من الفقهاء وبعض الشافعية : إنّه إجماع وحجّة. ولكن من هؤلاء من
شرط في ذلك انقراض العصر كالجبائي.
وقال أبو هاشم
وجماعة من الفقهاء : ليس بإجماع لكنّه حجّة.
وقال أبو علي ابن
أبي هريرة : إن كان هذا القول من حاكم لم يكن
إجماعا ولا حجّة ،
وإن لم يكن من حاكم كان إجماعا وحجّة.
لنا : إنّ السكوت
يحتمل وجوها ، غير الرضا :
الأوّل : أن يكون
في باطنه ما يمنعه عن إظهار القول ، وقد تظهر عليه قرائن السخط.
الثاني : ربّما
رآه قولا سائغا لمن أدّى اجتهاده إليه وإن لم يوافقه.
الثالث : أن يعتقد
إصابة كلّ مجتهد فلا يرى وجوب الإنكار.
الرابع : ربّما
أخّر الإنكار لوجود مكنة ورأى المبادرة مفسدة فسكت.
الخامس : ربّما
اعتقد عدم القبول من إنكاره وعدم الالتفات إليه فيلحقه ذلّ وانكسار في نفسه من غير
فائدة.
السادس : ربّما
هاب القائل وخشى وقوع فتنة بسبب الإنكار ، كما نقل عن ابن عباس وافق عمر في مسألة
العول وأظهر الإنكار عليه بعده وقال : هبته وكان مهيبا.
السابع : ربّما
كان في مهلة النظر ، فلم يسغ له المسارعة إلى الإنكار ، لجواز كونه صوابا.
الثامن : ربّما ظن
أنّ غيره أنكر وقام مقامه في هذا الواجب وإن كان قد غلط فيه.
__________________
التاسع : ربّما
اعتقد ترك الإنكار صغيرة ، فلم ينكره وأقدم على فعلها.
العاشر : ربّما
اعتقد كون الفتوى من الصغائر ، فسكت عن إنكارها.
ومع هذه
الاحتمالات لم تبق الدلالة على الرضا قطعا ولا ظنا ، ومن هنا قال الشافعي ونعم ما
قال : لا ينسب الى ساكت قول.
اعترض بأنّ هذه
الاحتمالات وإن كانت منقدحة عقلا ، فهي خلاف الظاهر من أرباب الدين ، لبعد عدم الاجتهاد
في الواقعة من الخلق الكثير ، لما فيه من إهمال حكم الله تعالى فيما حدث مع وجوبه
عليهم وبعد عدم تأدية الاجتهاد الى شيء من الأحكام ، لأنّ الظاهر أنّه ما من حكم
إلّا ولله تعالى دلائل وأمارات تدلّ عليه.
والظاهر ممّن له
أهلية الاجتهاد انّما هو الاطّلاع عليها والظفر بها ، واحتمال تأخير الإنكار
للتروّي والتفكّر محال عادة في حقّ الجميع خصوصا مع مضي أزمنة كثيرة من غير نكير.
واحتمال السكوت
عنه لكونه مجتهدا لا يمنع من مباحثته ومناظرته وطلب الكشف عن مأخذه ، كمناظرة
المجتهدين وأئمّة الدين فيما بينهم لتحقيق الحقّ ، كما في مسألة الجد والإخوة
والعول وغيره وقوله : «أنت عليّ حرام» وغيرها.
__________________
واحتمال التقية
بعيد ، لأنّه إنّما يكون فيما يحتمل المخالفة ظاهرا وليس كذلك ، لأنّ مباحث
المجتهدين غير مستلزمة له ، لأنّ الغالب أنّهم أهل الدّين وأربابه فلا يخاف
المباحث لهم مع أنّ ذلك قد وقع من غير خوف ؛ كما أنكر علي عليهالسلام على عمر في عزمه على إعادة الجلد على أحد الشهود على
المغيرة بقوله : إن جلدته فارجم صاحبك.
وردّ معاذ عليه في
عزمه على جلد الحامل بقوله : إن جعل الله لك على ظهرها سبيلا فما جعل لك على ما في
بطنها سبيلا. حتّى قال عمر : لو لا معاذ لهلك عمر.
وردّت المرأة على
عمر لما نهى عن المغالاة في مهور النساء بقولها : أيعطينا الله بقوله : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا
تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً) ويمنعنا عمر ، حتى قال عمر : امرأة خاصمت عمر فخصمته.
وفيه نظر ، لأنّ
كثيرا من الأحكام خفيت عنهم ولم يجب عليهم البحث عنها ، لعدم وقوعها وعدم الحاجة
إليها. والدليل قد لا يصار إليه لخفائه أو لقصور الناظر فلا يجب أداء الاجتهاد إلى
الإصابة ، وقول ابن عباس يقرب
__________________
احتمال الخوف
واحتمال السكوت لكونه مجتهدا يمنع من مباحثته ومناظرته لاعتقاده إصابة كلّ مجتهد.
احتجّ الجبّائي بأنّ العادة جارية بأنّ الناس إذا تفكّروا في مسألة مدة
طويلة فإذا اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول أظهروه إذا لم تكن هناك تقية ، ولو كانت
لظهرت واشتهرت فيما بين الناس ، فلمّا لم يظهر سبب التقية ولا الخلاف ، علمنا حصول
الموافقة.
الجواب : ما تقدّم
من الاحتمالات.
احتجّ أبو هاشم بأنّ الناس يحتجّون في كلّ عصر بالقول المنتشر بين الصحابة
إذا لم يعرف له مخالف فيكون إجماعا.
والجواب : المنع من
الإجماع على ذلك.
واحتجّ ابن أبي
هريرة : بأنّ القول إذا كان من حاكم لم يدلّ السّكوت على الإجماع ، لأنّ الواحد
منّا قد يحضر مجالس الحكام ويشاهدهم يحكمون بخلاف ما يعتقده فلا ينكر عليهم. وإن
كان من غيره كان إجماعا. وهو ضعيف ، لأنّ عدم الإنكار إنّما يكون بعد استقرار
المذاهب ، فأمّا حال الطلب فالخصم لا يسلّم جواز السكوت إلّا عن الرضا ، سواء كان
مع الحاكم أو مع غيره.
__________________
البحث الثاني : في
قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف
اختلفوا فيما إذا
قال بعض الصحابة أو بعض أهل الحلّ والعقد في أي عصر كان قولا ولم ينتشر بين أهل
عصره لكنّه لم يعرف له مخالف هل يكون إجماعا أم لا؟
الحقّ أنّه ليس
كذلك وعليه الأكثر ، لأنّه إنّما يتخيّل كونه إجماعا من أهل العصر إذا علموا
بقوله وسكتوا عن الإنكار كما تقدم ؛ فأمّا إذا لم يعلموا به ، امتنع رضاهم به أو
سخطهم ، وحينئذ يحتمل أن لا يكون لهم في تلك المسألة قول ، لعدم خطورها ببالهم.
وإن كان لهم فيها
قول احتمل أن يكون موافقا للمنقول إلينا ، و [احتمل] أن يكون مخالفا ، فلا يتحقّق
الإجماع حينئذ.
البحث الثالث : في
استدلال أهل العصر بدليل أو مصيرهم إلى تأويل
إذا استدلّ أهل
العصر بدليل أو ذكروا تأويلا ثمّ استدلّ أهل العصر الثاني بدليل آخر أو ذكروا
تأويلا آخر ، فقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز إبطال التأويل المتقدّم ، وإلّا لكانوا
قد أجمعوا على الخطاء ، وهو باطل.
__________________
وأمّا التأويل
الجديد فإن لزم من ثبوته القدح في التأويل المتقدّم لم يصحّ ، كما لو فسّروا
المشترك بأحد معنييه ثمّ جاء قوم فسّروه بالآخر ، لأنّ المشترك لا يجوز إرادة
معنييه منه ؛ فصحّة هذا التأويل تقتضي فساد المتقدّم ، أو يقال : إنّه تعالى تكلم
باللفظة مرتين ، وهو باطل ، لانعقاد الإجماع على ضده.
وإن لم يلزم من
صحّة التأويل الجديد فساد المتقدّم ، فإن كان أهل العصر الأوّل قد نصّوا على إبطال
الجديد من التأويل والدّليل لم يجز إحداثه لما فيه من تخطئة الأمّة فيما أجمعوا
عليه ؛ وإن نصّوا على صحّته جاز إحداثه قطعا ، إذ لا تخطئة فيه ؛ وإن سكتوا عن
الأمرين فقد ذهب الجمهور إلى جوازه ، وهو الحقّ ، وقال آخرون بالمنع.
لنا : إنّ الناس
في كلّ وقت يستخرجون أدلّة ويتأوّلون بتأويلات متجدّدة من غير إنكار أحد ، فكان
إجماعا.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : الدّليل
الجديد مغاير لسبيل المؤمنين فيكون حراما ، لقوله [تعالى] : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ).
الثاني : قوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) خطاب مع الحاضرين ، فلا
__________________
يتناول ما عدا
العصر الأوّل ، وقوله : (تَأْمُرُونَ
بِالْمَعْرُوفِ) يقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف ، فكلّ ما لم يأمروا به ولم
يذكروه لم يكن معروفا فيكون منكرا.
الثالث : لو كان
الدّليل الثاني والتأويل الجديد صحيحا لم يجز ذهول الصحابة عنه مع تقدّمهم في
العلم.
والجواب عن الأوّل
: قوله تعالى : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) خرج مخرج الذم ، فيختصّ بمن اتّبع ما نفاه المؤمنون ، وما
لم يتعرض له المؤمنون بنفي أو إثبات لا يقال فيه : إنّه اتّباع لغير سبيل
المؤمنين.
والحاصل : أنّ
الذمّ على ترك العمل بما اتّفقوا عليه من نفي أو إثبات ، والمحدث للدليل الثاني
والتأويل غير تارك لدليل أهل العصر الأوّل ولا لتأويلهم ، بل غايته ضم دليل إلى
آخر ، وتأويل إلى آخر ولم يترك ما نهوا عنه ، إذ التقدير انّهم لم ينهوا عن
الدّليل الثاني ؛ وأيضا الحكم بفساد ذلك الدّليل لم يكن سبيلا للمؤمنين ، فوجب
كونه باطلا.
وعن الثاني :
المعارضة بقوله : (وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ) يقتضي نهيهم عن كلّ منكر ، فلمّا لم ينهوا عن الدّليل
الثاني والتأويل الثاني لم يكن منكرا.
وعن الثالث :
أنّهم اكتفوا بالدّليل الواحد والتأويل الواحد عن غيره ، فلم يطلبوا الزيادة.
__________________
البحث الرابع : في
أنّ إجماع المدينة ليس حجّة
هذا هو المشهور
عند الناس كافّة عدا مالكا فإنّه قال : إنّ إجماع أهل المدينة حجّة.
واختلف أصحابه
فقال بعضهم : إنّه أراد ترجيح روايتهم على رواية غيرهم ، ومنهم من قال : أراد أنّ
اتّباع إجماعهم أولى ولا تمتنع مخالفته ، وقال بعضهم : أراد بذلك أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّهم
بعض المؤمنين وبعض الأمّة ، وأدلّة الإجماع وردت بلفظين : المؤمنين في آية
المشاقّة ، والأمّة في غيرها ، وهما غير مختصّين ببلد دون آخر ، بل عامّة في
الجميع فوجب اعتباره.
الثاني : الأمكنة
غير مؤثرة في ترجيح الأقوال بالضرورة ، ولا يصير ما ليس بصواب صوابا ، ولا بالعكس.
الثالث : أنّه
يؤدّي إلى المحال ، وهو أنّ من سكن المدينة كان قوله حجّة وإذا خرج لا يكون حجّة ،
ومن كان قوله حجّة في مكان كان حجّة في كلّ مكان ، كالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
اعترض على الأوّل
: بأنّ تلك الأدلّة لا تمنع كون إجماع أهل المدينة حجّة ، فجاز إثباته بدليل
منفصل.
وعلى الثاني :
بجواز اختصاص أهل بلدة معينة بالعصمة ، كما أنّه لا استبعاد في تخصيص أهل زمان
معين به.
وعلى الثالث :
أنّه قياس طردي في مقابلة النص فيكون باطلا ، وليس بجيد ، لأنّ أدلّة الإجماع لا
تتناول أهل المدينة خاصة مع أصالة عدم كون إجماعهم حجّة ، فيبقى الأصل سالما عن
معارضة الأدلّة ؛ وفرق بين عصمة أهل زمان وعصمة أهل بلد ، لأنّ الأمكنة متساوية ،
ولو خرج أهل المدينة عن بلدهم لم يتغير وصفهم بخلاف الأزمان ، على أنّا نقول عصمة
هذه الأمّة لا باعتبار الزمان ، بل لحصول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيهم ، والنص مدفوع الظاهر بالإجماع ، فيجب التأويل بعد
تسليمه ، ولم يحتجّ فيه بالقياس ، بل بأمر قطعي هو خروج المكلّف عن وصف الطّاعة
عند انتقاله من مكانه ، وهو غير معقول.
احتجّ مالك بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد». والخطاء خبث فيكون منفيا عنهم ، وبسببه عملهم بروايتهم ، ولأنّ العادة تقضي بأنّ مثل هذا الجمع
المنحصر من العلماء اللاحقين بالاجتهاد لا يجمعون إلّا عن راجح.
__________________
لا يقال : يجوز أن
يكون متمسّك غيرهم أرجح ولم يطّلع عليه بعضهم.
لأنّا نقول :
العادة تقتضي باطّلاع الأكثر والأكثر كاف ، والجواب عن الخبر متروك الظاهر بالإجماع ، لأنّه
يقتضي أنّ كلّ خارج عنها فإنّه من الخبث الذي تنفيه المدينة ، وهو باطل قطعا ،
لأنّه قد خرج منها أكابر الصحابة حتّى عدّ الخارج منها إلى العراق ثلاثمائة ونيفا
، وفيهم : علي عليهالسلام وعبد الله بن عباس ، وتخلّف الأدون كأبي هريرة وأضرابه.
واعترض بأنّ الخبر
يقتضي أنّ كلّ خبث فإنّ المدينة تخرجه ، ولا يقتضي أنّ كلّ خارج عن المدينة فهو
خبث.
سلّمنا ، لكنّه
خبر واحد فلا يجوز التمسّك به في العلميات.
سلّمنا ، لكن يجوز
أن يكون المراد من خرج عنها لكراهية المقام بها. ثمّ إنّ في المقام بها بركة عظيمة
بسبب جوار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وجوار مسجده مع ما ورد من الثناء على المقيم بها ، وكراهة
المقام بها حينئذ ضعف في الدّين فيكون خبثا.
سلّمنا ، لكن
صيغته ليست للعموم.
سلّمناه ، لكن
يجوز أن يكون القول مختصا بزمانه ، والمراد بالخبث الكفّار. وتشبيه العمل بالرّواية تمثيل لا دليل مع قيام الفرق ، وهو أنّ
الرواية ترجّح بالكثرة بخلاف الاجتهاد ، والعادة غير مختصّة بالمدينة ، بل
__________________
كلّ بلد مساو لها
، فإن كان ذلك دليلا جاز أن يقتصر في الإجماع على قول كلّ بلد ، وهو ممنوع.
واعلم أنّ الغزالي
نقل عن مالك أنّ الحجّة في إجماع أهل المدينة خاصة ، وقال قوم : المعتبر إجماع
الحرمين ـ مكة والمدينة ـ والمصرين ـ الكوفة والبصرة ـ. وعلّلوا بأنّ هذه المواضع
جمعت أهل الحلّ والعقد. وهو ممنوع ، فإنّ المجتهدين لم يزالوا منتشرين في البلاد
المتباعدة ، ولا ينعقد الإجماع بدون اتّفاقهم.
البحث الخامس : في
إجماع الخلفاء الأربعة
حكى أبو بكر
الرازي عن القاضي أبي خازم من الحنفية أنّه كان يقول : إجماع الخلفاء الأربعة حجّة ،
ولأجل هذا لم يعتد بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام ، وحكم بردّ أموال حصلت
في بيت مال المعتضد إلى ذوي الأرحام وقبل المعتضد فتواه ، وأنفذ قضاءه ، وكتب به
إلى الآفاق. وهو قول أحمد في رواية.
__________________
واحتجّ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضّوا
عليها بالنواجذ» .
وقال الأكثر :
إنّه ليس حجّة وعارضوا الحديث بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، مع أنّ قول كلّ واحد ليس بحجّة على أنّه عام في كلّ
الخلفاء الراشدين فلا ينحصر في الأربعة.
وأمّا الشيعة فإنّ
عليا عليهالسلام لمّا كان أحد الأربعة وهو معصوم ، كان قوله حجّة.
تذنيب
قال قوم : إجماع
الشيخين حجّة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اقتدوا باللّذين من بعدي
__________________
أبي بكر وعمر ، ولمّا لم يمكن الاقتداء بهما حالة الاختلاف وجب ذلك حال
اتّفاقهما ، ويعارض بما تقدّم.
البحث السادس : في
إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين
اختلف الناس في
إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ، فأكثر الجمهور على أنّه ليس
بحجّة خلافا للبعض ، وعند الإمامية انّه حجّة ، لأنّ من الصحابة المعصوم فيكون
قوله حجّة ، وإن خالف التابعي.
ثمّ اختلف
القائلون بأنّه لا يعتدّ بإجماعهم مع مخالفته :
فمن لم يشترط
انقراض العصر قال : إن كان التابعي من أهل الاجتهاد قبل انعقاد إجماع الصحابة فلا
يعتد بإجماعهم مع مخالفته ، وإن بلغ رتبة الاجتهاد بعد انعقاد إجماع الصحابة ، لا
يعتد بخلافه. وهذا هو مذهب أصحاب الشافعي وأكثر المتكلّمين وأصحاب أبي حنيفة وأحمد
في إحدى الروايتين عنه.
ومن شرط انقراض
العصر قال : لا ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفته ، سواء كان من أهل الاجتهاد حالة
إجماعهم ، أو صار مجتهدا بعد إجماعهم ، لكن في عصرهم.
__________________
وذهب آخرون إلى
أنّه لا عبرة بمخالفته أصلا. وهو مذهب بعض المتكلّمين ، وأحمد في رواية.
احتجّ الجمهور بأنّه لو كان قول التابعي باطلا لما جاز رجوع الصحابة
إليهم ، لكنّهم رجعوا إليه. روي أنّ ابن عمر سئل عن فريضة فقال : سلوا سعيد بن
جبير فإنّه أعلم بها.
وكان أنس يسأل عن
شيء فيقول : سلوا مولانا الحسن فإنّه سمع وسمعنا ، وحفظ ونسينا.
وسئل ابن عباس عن
النذر بذبح الولد؟ فأشار إلى مسروق ، ثمّ أتاه السائل بجوابه ، فتابعه عليه.
وقال أبو سلمة بن
عبد الرحمن بن عوف : تذاكرت أنا وابن عباس وأبو هريرة في عدّة الحامل المتوفّى
عنها زوجها ، فقال ابن عباس : عدّتها أبعد الأجلين ، وقلت أنا : عدّتها أن تضع
حملها ، وقال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي ، فسوغ ابن عباس لأبي سلمة أن يخالفه مع
أبي هريرة ، إلى غير ذلك من الوقائع.
__________________
وقد كان مشهورا
عندهم أنّ الصحابة سوّغت للتابعين المعاصرين لهم الاجتهاد معهم في الوقائع الجارية
في عصرهم ، كسعيد بن المسيب وشريح القاضي والحسن البصري ومسروق وأبي وائل والشعبي
وسعيد بن جبير وغيرهم ، ولو كان قول التابعي باطلا لما ساغ للصحابة تجويزه والرجوع
إليه.
والاعتراض : أنّ الاجتهاد
إنّما سوّغوه للتابعين عند اختلاف الصحابة ، ولا يلزم من الاعتداد بقوله عند
الاختلاف الاعتداد به عند الاتّفاق ، وأيضا الصحابة مع التابعين المجتهدين بعض
الأمّة وبعض المؤمنين فلا تتناولهم الأدلّة.
احتجّ الآخرون
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ
عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) وإنّما يرضى عنهم لو لم يقع منهم معصية ، والقول الباطل
معصية ، فيكون قولهم حجّة.
الثاني : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين من بعدي» ، [وقوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم :] «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ، [وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم :] «لو أنفق غيرهم ملء الأرض ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم» وهو
يدلّ على أنّ التابعي إذا اختلف لم يكن محقّا.
__________________
الثالث : أنكرت
عائشة على أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف مجاراته للصحابة وكلامه فيما بينهم
وخلافه على ابن عباس في عدّة المتوفّى عنها زوجها وهي حامل وزجرته عن ذلك وقالت :
فرّوج يصيح مع الديكة.
الرابع : الصحابة
لهم مزية الصحبة على غيرهم ، فقولهم أقرب إلى الحق من غيرهم.
والجواب عن الأوّل
: أنّها مختصّة بأهل بيعة الرضوان ، وليسوا مختصّين بالإجماع إجماعا.
وعن الثاني :
أنّها تدل على فضيلتهم ، أمّا على اختصاصهم بقبول قولهم دون غيرهم من المجتهدين
فلا.
وعن الثالث : أنّ
فعل عائشة ليس حجّة ، ويحتمل أنّها أنكرت عليه لأنّه خالف بعد الإجماع ، أو في
مسألة قطعية ، أو أنّه لم يكن حين المخالفة من المجتهدين ، أو أساء أدبه في
المناظرة.
البحث السابع : في
أنّ إجماع الأكثر ليس بحجّة
إجماع الأكثر ليس
حجّة عند الأكثر فلو خالف واحد أو اثنان لم يتمّ الإجماع.
وقال محمد بن جرير
الطبري وأبو بكر الرازي وأبو الحسين الخيّاط من المعتزلة وأحمد بن حنبل في رواية
أنّه ينعقد إجماع الأكثر ولا عبرة بمخالفة الأقل.
وقال قوم : إنّ
عدد الأقل إن بلغ عدد التواتر لم ينعقد الإجماع مع مخالفته ، وإلّا انعقد.
وقال أبو عبد الله
الجرجاني : إن سوّغت الجماعة الاجتهاد في مذهب المخالف كان خلافه معتدا به ، كخلاف
ابن عباس في مسألة العول ، وإن أنكرت الجماعة عليه كخلافه في تحريم ربا الفضل لم
يعتد به.
ومنهم من قال :
إنّ قول الأكثرين يكون حجّة ، وليس بإجماع.
ومنهم من قال :
إنّ اتّباع الأكثر أولى ، وإن جاز خلافه.
وعند الإمامية :
انّ المخالف إن عرف باسمه ونسبه انعقد الإجماع دونه لدخول المعصوم في الأكثر ، وإن
لم يعرف لم ينعقد لجواز أن يكون المخالف هو الإمام.
أمّا الجمهور : فاستدلّوا بأنّ جميع الصحابة أجمعوا على ترك قتال مانعي
الزكاة وخالفهم أبو بكر وحده ، ولم يقل أحد أنّه غير معتد بخلافه ، بل رجعوا إليه
لمّا ناظروه وكذا ابن عباس وابن مسعود خالفا الصحابة في مسائل الفرائض وخلافهما
باق إلى الآن.
وأيضا الجماعة مع
مخالفة الواحد بعض الأمّة وبعض المؤمنين فلا يندرج حكمه تحت أدلة الإجماع وأيضا
إذا خالف واحد كان الحكم مختلفا فيه. وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ).
__________________
وأيضا لو انعقد
الإجماع مع مخالفة الأقل فإمّا أن ينعقد الإجماع عليه فيلزم ترك ما علم بالدّليل
والرجوع إلى التقليد ، وذلك ممتنع في حقّ المجتهد ؛ وإن لم ينعقد عليه لم يكن
الإجماع حجّة مقطوعا بها ، فإنّه لو كان مقطوعا به لما ساغت مخالفته بالاجتهاد.
واعترض عليه بأنّا
إن قلنا انعقاد إجماع الأكثر دون الأقلّ حجّة قاطعة ، فالقول برجوع المجتهد الواحد
إليه واجب ، وإن كان خلاف ما أدّاه اجتهاده إليه لوجوب الرجوع عن الاجتهاد إلى
الدليل القاطع ، كما لو أجمع أهل العصر على حكم ثمّ جاء مجتهد أدّاه اجتهاده بعدهم
إلى مخالفتهم لم يجز العمل باجتهاده ، بل وجب عليه الرّجوع إليهم.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لفظ
المؤمنين والأمّة يتناول الأكثر إذا كان الأقل نادرا كالواحد والاثنين ، كشعر
فارسي فيه عربية قليلة ، وكثور أسود فيه شعرات بيض ، وكالزنجي يقال له : أسود مع
بياض حدقته وأسنانه.
الثاني : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «عليكم بالسّواد الأعظم» ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الشيطان مع الواحد» ، وهو يدلّ على تخطئة الواحد
المنفرد ووجوب اتّباع الأكثر ، ولا نعني بكونه حجّة سوى هذا.
الثالث : الإجماع
حجّة على المخالف ، فإن لم يوجد في العصر مخالف لم يتحقّق هذا المعنى.
__________________
الرابع : إنكار
الصحابة على ابن عباس خلافه للباقين في الصرف ، ولو لم يكن انفراده خطأ لما ساغ
الإنكار.
الخامس : اعتمدوا
في الإمامة لأبي بكر بإجماع الأكثر مع مخالفة سعد بن عبادة وعلي عليهالسلام وجماعة كثيرة.
السادس : كثرة
العدد مرجّحة في رواية الأخبار ، فكذا في أقوال المجتهدين.
السابع : تطرّق
الكذب إلى الواحد والاثنين محتمل دون تطرّقه للجمع العظيم للعادة ، فإذا أخبر
الجمع العظيم عن أنفسهم بأنّهم مؤمنون لم يحتمل الكذب ، بخلاف ما لو أخبر الواحد
والاثنان عن أنفسهم بإيمانهم ، فيكون ما اتّفق عليه الكلّ إلّا الواحد والاثنين
سبيل المؤمنين قطعا ، فيكون حجّة.
الثامن : لو اعتبر
خلاف الواحد والاثنين لم ينعقد الإجماع البتة ، لعدم ادّعاء اتّفاق الكلّ بحيث لا
يشذ واحد على الحكم.
التاسع : خبر
الواحد بأمر لا يفيد العلم وخبر الجماعة إذا بلغ عددهم التواتر أفاده ، فليكن مثله
في باب الاجتهاد والإجماع.
والجواب عن الأوّل
: أنّ تناول الكلّ للأكثر على سبيل المجاز ، والأصل عدمه.
وعن الثاني :
السّواد الأعظم كلّ الأمّة ، لأنّ ما عدا الكلّ فالكل أعظم منه ، ولو لا ما ذكرناه
لدخل فيه النصف إذا زاد على النصف الآخر بواحد.
وفيه نظر ، لأنّ
كون الكلّ أعظم من كلّ ما عداه لا يخرج ما عداه عن كونه أعظم بالنسبة إلى ما دونه.
وقوله : «الشيطان
مع الواحد» لا يريد مع كلّ واحد لخروج الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والمعصومين منه ، ولأنّ المراد به الحثّ على طلب الصاحب في
الطريق ، ولهذا قال : «وهو عن الاثنين أبعد والثلاثة ركب».
وعن الثالث :
المخالف لا يجب أن يكون في العصر ، بل لو كان بعده كان الإجماع حجّة عليه ، وإلّا
لوجب في كلّ إجماع أن يكون فيه مخالف شاذ.
وعن الرابع : انّ
إنكارهم على ابن عباس لم يكن لإجماعهم ، بل لمخالفة ما رووه له من الأحاديث كخبر
أبي سعيد.
وعن الخامس : انّ
الإمامة عند الجمهور لا يشترط فيها الإجماع ، بل البيعة كافية.
وعن السادس :
الإجماع ليس كالرواية ، وإلّا لقبل قول الواحد والاثنين كما تقبل روايته.
وعن السابع : ذلك
الجمع وإن كانوا مؤمنين لكن ليسوا كلّ المؤمنين ، فلم يجب الحكم بقولهم.
وأيضا فيه نظر ،
فإنّ كلّ واحد يخبر عن إيمانه ولا معرفة له بإيمان غيره ، فلا فرق بين العدد
الكثير في ذلك والقليل.
وعن الثامن : أنّا
نفرض إجماع الكلّ ويحكم بأنّه حجّة ، فإن حصل فذاك ، وإلّا كان غير المفروض.
وعن التاسع : أنّ
خبر العدد الكثير إنّما يفيد العلم لو أخبر عن محسوس لا عن اجتهاد ، إذ لو كان قول
كلّ من أفاد خبره العلم إجماعا ، لوجب أن يكون قول أهل كلّ بلد مع مخالفة البلد
الآخر لهم إجماعا لإفادته العلم ، وليس كذلك.
تذنيب
إذا لم يحصل في
الإجماع قول من هو متمكّن من الاجتهاد وإن لم يكن مشهورا لم يكن حجّة ، لأنّ غيره
بعض المؤمنين ، فلا يندرج تحت الأدلّة .
__________________
الفصل الرابع
في مدرك الإجماع
وفيه مباحث :
الأوّل : في أنّه
لا يجوز الإجماع إلّا عن مستند
اتّفق الناس ـ إلّا
من شذ ـ على أنّه لا يقع الإجماع إلّا عن مأخذ ومستند يوجب الإجماع.
وقال شاذ : يجوز
انعقاده على سبيل التبخيت ويقع عن توفيق لا توقيف بأن يوفقهم الله لاختيار الصواب من
غير دليل.
__________________
لنا وجوه :
الأوّل : القول في
الدّين بغير دلالة أو أمارة خطأ ، فلو اتّفقوا عليه لكانوا قد أجمعوا على الخطأ ،
وهو يقدح فيه.
وفيه نظر ، لأنّ
المراد من الخطأ إن كان هو مخالفة ما اتّفقوا عليه بحكمه تعالى فهو ممنوع ، لجواز
أن يكون هو الحكم الّذي أوجبه الله تعالى ؛ وإن كان عبارة عن أنّ قولهم عن غير
دليل حرام فهو المتنازع ، على أنّا نقول : إنّما يكون حراما لو لم يجمعوا عليه ،
أمّا مع الإجماع فلا.
الثاني : مع فقد
الدّليل لا يجب الوصول إلى الحقّ.
واعترض بأنّه متى
لا يلزم الوصول مع الإجماع أو بدونه؟ الأوّل : ممنوع والثاني : مسلم ، فجاز أن
يوفّقهم الله تعالى للصّواب إذا أجمعوا لاستحالة إجماعهم على الخطاء.
وفيه نظر ، فإنّ
البخت إذا لم يكن موصلا إلى الحقّ بالنسبة إلى كلّ واحد لم يكن بالنسبة إلى
المجموع إذا لم يتجدّد دليل باعتبار الإجماع ، وتجويز أن يوفّقهم الله تعالى
للصواب لا يكفي في كونه حجّة ، كما في الواحد فانّه يجوز أن يوفقه الله تعالى
للصّواب.
الثالث : ليسوا
أكمل من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان لا يقول إلّا عن وحي ، فالأمّة أولى أن لا تحكم في
دين الله تعالى إلّا بدليل.
__________________
اعترض بالفرق ،
لأنّ الدليل إذا دلّ على امتناع الخطأ من الرسول فيما يقول فكذا الأمّة ، فلو قال
الرسول قولا وحكم من غير دليل لكان حقّا ، لاستحالة الخطأ عليه ، غير أنّه يمتنع
منه الحكم والقول من غير دليل ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).
وأمّا الأمّة فقد
دلّ الدليل على استحالة الخطأ عليهم فيما أجمعوا عليه ، ولم يدلّ على أنّهم لا
يحكمون إلّا عن دليل ، فافترقا.
وفيه نظر ، لأنّ
القول من غير دليل خطأ في نفس الأمر ، فلا يجوز صدوره من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل لمّا دلّ الدّليل على عصمته دلّ على أنّ قوله عن
دليل.
الرابع : لو جاز
أن يحكموا من غير مستند ، لجاز لكلّ واحد ، فإنّهم إنّما يجمعون على الحكم بأن
يقول كلّ واحد منهم به ، ولو جاز ذلك لآحادهم لم يكن للجمع مزية في ذلك على
الآحاد.
اعترض بالمزية من
حيث إنّ إجماعهم يكون حجّة بخلاف قول كلّ واحد.
وبأنّ جواز ذلك
للآحاد مشروط بضم قول الباقي إليه ، لا أنّه جائز من غير ضم ، ولا كذلك قول الجميع
، فإنّه جائز على الإطلاق.
وفيه نظر ، لأنّ
المستدلّ نفى المزية في هذا الحكم لا في كونه حجّة ، وتجويز ذلك لكلّ واحد بشرط
انضمام قول الآخر إليه مستلزم للدور ، لأنّ
__________________
ضم قول الآخر إنّما
يجوز لو جاز للآخر ذلك القول ، وإنّما يجوز للآخر لو قال هذا ، وإنّما يقول هذا لو
جاز له ، وهو مشروط بقول الآخر.
الخامس : المقالة
إذا لم تستند إلى دليل لا يعلم انتسابها إلى وضع الشارع ، وما يكون كذلك لا يجوز
الأخذ به.
اعترض بأنّه إن
أريد بعدم معرفة الانتساب إلى وضع الشرع أنّه لا يعرف ذلك عن دليل شرعي ، فهو
مسلّم ، وهو المتنازع ؛ أو أنّه لا يعلم كونها مصيبة لحكم الشرع فهو نفس النزاع.
السادس : لو جاز
انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد في قول المجمعين معنى ، وهو
محال للإجماع على اشتراط الاجتهاد.
اعترض بأنّ
الاجتهاد شرط لاحالة الإجماع ، أمّا عنده فهو المتنازع.
احتجّ المخالف
بوجهين :
الأوّل : لو لم
ينعقد الإجماع من غير دليل لكان الدليل هو الحجّة فتنتفي فائدة الإجماع.
الثاني : الإجماع
لا عن مستند واقع ، كإجماعهم على بيع المراضاة وأجرة الحمّام.
والجواب عن الأوّل
: أنّه يقتضي أن لا يصدر الإجماع عن مستند وأنتم لا تقولون به ، ولأنّ فائدته
الكشف عن وجود دليل في المسألة من غير
__________________
حاجة إلى معرفته
والبحث عن كيفية دلالته على المطلق ، ولأنّ فائدته تحريم المخالفة وتقديمه على غيره من
الأدلّة ، ولأنّه ينقض بقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فإنّه حجّة إجماعا مع أنّه لا يقول إلّا عن دليل وهو ما
يوحى إليه.
وعن الثاني : بمنع
الإجماع في تلك الصور عن غير دليل فجاز ولم ينقل للاستغناء بالإجماع عنه.
البحث الثاني : في
أنّه لا يقع الإجماع إلّا عن دليل
القائلون باشتراط
المستند في الإجماع اختلفوا :
فقالت الإمامية
وداود وابن جرير الطبري : إنّه لا يصحّ الإجماع إلّا عن دليل ، ولا يصحّ عن أمارة
كقياس واجتهاد.
وجوّزه الأكثر ،
لكن اختلفوا في الوقوع نفيا وإثباتا.
والمثبتون اختلفوا
فقال بعضهم : إنّه يكون حجّة يحرم مخالفته ، وهم الأكثر منهم.
وقال آخرون : لا
تحرم مخالفته.
وقال قوم :
الأمارة إن كانت جلية جاز ، وإلّا فلا.
__________________
لنا وجوه :
الأوّل : قول
المعصوم شرط في الإجماع ، وهو لا يقول إلّا عن دليل قطعي.
الثاني : يمتنع
اتّفاق الخلق على كثرته وتباعد الأمكنة والبقاع في لحظة واحدة على القول بالأمارة
مع اختلاف دواعيهم وخفاء الأمارات واختلافهم في الذكاء والبلادة ، كما يمتنع
اتّفاقهم في ساعة واحدة على مأكول واحد أو التكلّم بلفظة واحدة ، بخلاف اتّفاقهم
على القول بالدّليل والشبهة ، لقوّة الدلالة وجريان الشبهة مجراها عند من صار
إليها ، وبخلاف اجتماع الخلق الكثير في الأعياد لتوفّر الدّواعي إليه.
الثالث : لا يخلو
زمان من الأزمنة ولا وقت من الأوقات من مجتهدين يمنعون من العمل بالقياس والرأي
فلا يوافق في الحكم به فلا ينعقد الإجماع ، فإنّه لا يتصوّر الإجماع عن قياس ،
وأصل القياس مختلف فيه.
الرابع : لو جاز
ذلك تنافت الأحكام ، لأنّ الحكم الصادر عن الاجتهاد لا يفسق مخالفه ويجوز مخالفته
، والحكم المجمع عليه بالعكس ، فلو صدر الإجماع عن الاجتهاد لاجتمع النقيضان.
الخامس : الإجماع
أصل من أصول الأدلّة وهو معصوم عن الخطأ ، والقياس فرع وعرضة للخطإ ، ويمتنع
استناد الأصل المعصوم عن الخطأ إلى
__________________
الفرع الجائز عليه
الغلط ، وكيف يجوز إجماع الأمّة على ما يجوز فيه الخطأ وهو الاجتهاد؟!
اعترض على الثاني : بالنقض باتّفاق الشافعية على قول الشافعي
والحنفية على قول أبي حنيفة.
وليس بجيد ،
لأنّهم ليسوا كلّ الأمّة ، فجاز الخطأ عليهم بخلاف الجميع.
وعلى الثالث :
بأنّ الخلاف في صحّة القياس حادث ، ولأنّه يجوز أن تشتبه الأمارة بالدلالة فيثبت
الحكم بالأمارة على اعتقاد أنّه أثبته بالدلالة ، ولانتقاضه بالعموم وخبر الواحد
فإنّه يجوز صدور الإجماع عنهما مع وقوع الخلاف فيهما.
وليس بجيد ، لأنّ
إنكار القياس قد وقع من أكابر الصحابة على ما يأتي ، واشتباه المعلوم بالمظنون لا
يصدر عن مجتهد ، ومن ينكر العموم وخبر الواحد يمنع الإجماع بهما.
وعلى الرابع : أنّ
تلك الأحكام المرتّبة على الاجتهاد مشروطة بأن لا تصير المسألة إجماعية ، فإذا
صارت زال الشرط ، فزالت تلك الأحكام.
وليس بجيد ، لأنّ
كلّ واحد منهم كما قال بالحكم قال بجواز مخالفته ، فكما صار الحكم مجمعا عليه
باعتبار موافقة كلّ واحد منهم له ، كذا صار جواز المخالفة مجمعا عليه.
__________________
احتجّ المخالف بالوقوع فإنّ عمر شاور الصحابة في حدّ الشارب :
فقال علي عليهالسلام : «إنّه إذا سكر هذى ، وإذا هذى افترى ، وحدّ المفتري : ثمانون»
.
وقال عبد الرحمن
بن عوف : هذا حدّ وأقلّ الحدّ ثمانون.
لا يقال : لعلّهم
أجمعوا على أنّ الحدّ ثمانون لنص استغنوا بالإجماع عن نقله.
لأنّا نقول : إنّه
جائز لو لم ينصّوا على مصيرهم إلى الاجتهاد ، ولأنّ أبا بكر أثبتوا إمامته بالقياس
على تقديمه في الصلاة ثمّ أجمعوا عليها.
والجواب : أنّ
عليا عليهالسلام بيّن علّة الحكم وحكمته المقتضية لثبوته لا أنّه قياس ،
كيف وإنكاره للقياس معلوم بالضرورة من مذهبه ومذهب أولاده والقائلين بمقالته؟
وإمامة أبي بكر لو كانت بالقياس لم تتم ، لأنّه أنكر القياس ، ولأنّه يمتنع قياس
الأعظم على الأدنى ويمتنع الإجماع عليها.
البحث الثالث : في
الإجماع الموافق للخبر
إذا اجتمعت الأمّة
على حكم ووجد في الأخبار ما يدلّ عليه قال أبو عبد الله البصري : إنّه يدلّ على
أنّ ذلك الإجماع لأجل ذلك الخبر.
__________________
وقال أبو الحسين
البصري : إن كان الخبر متواترا وكان نصا لا يحتاج إلى بحث وتأمّل فالإجماع مستند
إليه ، إذ لا يجوز مع تواتره أن لا يتّفقوا عليه مع طلبهم لما يدلّ على الحكم ،
ولا يجوز مع ظهوره أن لا يدعوهم إلى الحكم ، سواء ظهر فيهم خبر قبله أو لا.
وإن احتاج إلى
البحث والاستدلال لم يجب استنادهم إليه ، لإمكان استنادهم إلى متواتر هو أجلى ،
واكتفي بالإجماع عن نقله ، أو استدلّ به بعضهم واستدلّ الباقي بخبر واحد أو قياس
وإن كان آحادا ؛ فإن لم ينقل إلينا ظهوره فيهم جاز استناده إليه وقد كان ظاهرا
عندهم ولم ينقل ظهوره وإلى غيره أو بعضهم لأجله وبعضهم لغيره ؛ وإن كان قد ظهر ،
فإن روي آحادا جوّزنا صدق الراوي وأن يكون إجماعهم لأجله وجوّزنا كذبه ، فلا يعلم
أنّ إجماعهم لأجله لكن صدقه مظنون ، وإن نقل ظهوره بالتواتر جاز أن يجمعوا لأجله ؛
ويقطع على ذلك بأن يقولوا أجمعنا لأجله ، أو كنّا متوقّفين عن الحكم بأجمعهم ، أو
كان بعضهم حكم بخلافه فلما سمعوه قالوا به وجاز أن يجمعوا لأجل غيره.
والأصل فيه أنّ
اجتماع الدّلائل الكثيرة على مدلول واحد جائز. إذا ثبت هذا فلو أجمعوا على مقتضى
خبر الواحد لم يقطع على صدق المخبر ، لجواز أن تكون المصلحة الحكم بما ظن صدقه من
الأخبار ، سواء كانت صادقة أو كاذبة ، ولا يلزم من كذب الخبر كذب الحكم.
__________________
الفصل الخامس
في المجمعين
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في أنّه لا يعتبر في الإجماع اتّفاق الأمّة إلى يوم القيامة
اعلم أنّ الخطأ
جائز على هذه الأمّة ، إلّا المعصوم ، كغيرها من الأمم. فعند الجمهور : الدلائل السمعية منعت منه في حقّ هذه الأمّة. وعند
الإماميّة : أنّه يجب في كلّ زمان وجود معصوم يكون قوله حقّا.
والأدلّة السمعية
وردت بلفظين : المؤمنين ، والأمّة.
ولفظ المؤمنين
للاستغراق ، لأنّه جمع محلّى باللام الجنسية.
وأمّا الأمّة
فإنّه يتناول جميع الأمّة.
فحينئذ يجب عندهم
في الإجماع اعتبار قول كلّ المؤمنين وكلّ الأمّة إلّا ما يخرج بالدّليل ، وإن اكتفى
بالبعض لم يمكن إثباته بهذه الأدلّة ، بل بأدلّة أخرى ، وهذه الأدلّة كما لا تدلّ
عليه كذا لا تمنع منه ، ولا يلزم
__________________
من انتفاء دليل
معيّن انتفاء المدلول ، وقد سبق أكثر الأدلّة.
واحتجّ آخرون على
قبول إجماع العدد الكثير بأنّهم أجمعوا على القطع بتخطئة المخالف ، والعادة تحيل
اجتماع هذا العدد الكثير من العلماء المحقّقين على قطع في شرعي من غير قاطع ، فوجب
تقدير نصّ فيه بخلاف اجتماع اليهود والفلاسفة.
لا يقال : إنّه
إثبات الإجماع بالإجماع أو إثبات الإجماع بنص يتوقّف عليه.
لأنّا نقول :
الّذي يثبت به كون الإجماع مطلقا حجّة إنّما هو ثبوت نص دالّ عليه ، وثبوت ذلك
النصّ مستفاد من وجود صورة من صور الإجماع مطلقا وهو الإجماع الثاني ، وإنّما كان
هذا الإجماع مقيدا لوجود النص للعادة على ما قلناه ، ووجود تلك الصورة ـ أعني :
الإجماع الثاني ـ ودلالتها على ثبوت ذلك النص لا يتوقّفان على كون الإجماع مطلقا
حجّة ، فلا دور.
أمّا عدم توقّف
وجود تلك الصورة عليه فلأنّ وجدانها مستفاد من التواتر لا من كون الإجماع حجّة.
وأمّا عدم توقّف
دلالتها ، فلأنّ دلالتها مستفادة من العادة وهو مبني على اشتراط عدد التواتر ،
وسيأتي.
إذا تقرّر هذا
فنقول : لا يشترط في الإجماع اتّفاق أمّة الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى يوم القيامة ، لأنّ الدليل على الإجماع دليل على
الاستدلال به ، وذلك الاستدلال لا يصحّ بعد يوم القيامة إجماعا لانقطاع التكليف ،
ولا قبله لجواز حصول آخرين.
__________________
البحث الثاني : في
عدم اعتبار قول الكفّار
لا خلاف في أنّه
لا اعتبار بموافقة من هو خارج عن الملّة ولا بمخالفته ، لأنّ الأدلّة السّمعية
الدالّة على كون الإجماع حجّة وردت بلفظ المؤمنين وبلفظ الأمّة ، وكلاهما لا يندرج
الكافر فيهما ، لأنّه ليس من المؤمنين ، والمفهوم من لفظ الأمّة في عرف شرعنا
الذين قبلوا دين الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولأنّ الكافر لا يقبل قوله ، فلا يعتبر في إثبات حجّة
شرعية ولا في إبطالها.
إذا عرفت هذا
فأسباب الكفر ثلاثة :
أ. اعتقاد ما هو
كفر ، كإنكار الصانع وصفاته والنبوة.
ب. اعتقاد ما
يمنعه اعتقاده من الاعتراف بالصّانع وصفاته وتصديق رسوله ويلزمه إنكار ذلك من حيث
التناقض.
ج. فعل ما ورد
التوقيف انّه لا يصدر إلّا من كافر ؛ كعبادة النيران ، والسجود للصنم ، وجحود سورة
من القرآن ، وتكذيب بعض الرسل ، وإنكار بعض الملائكة ، واستحلال ما عرف بالتواتر
تحريمه ، وهذا البحث ظاهر عند الإمامية ، إذ المعتبر عندهم في الإجماع إنّما هو
قول المعصوم.
__________________
البحث الثالث : في
قول العامي
ذهب الأكثر إلى
أنّه لا اعتبار بقول العامّي في الإجماع ، وقال القاضي أبو بكر : لا ينعقد الإجماع
مع خلافه.
لنا وجوه :
الأوّل : قول
العامّي : لا عن دليل ولا أمارة قول في الدين ، فيكون خطأ ، فلو كان قول العالم
المخالف له خطأ لزم اجتماع الكلّ على الخطأ وإن تعدّدت الجهة.
الثاني : العصمة
من الخطأ لا تتصور إلّا في حقّ من يتصور في حقّه الإصابة ، والعامّي لا يتصوّر في
حقّه ذلك ، لأنّ القول في الدين بغير دليل غير صواب قطعا.
الثالث : أجمع
الصحابة الخاصّة والعامّة على أنّه لا عبرة بقول العوام.
الرابع : العامي
ليس من أهل الاجتهاد فلا عبرة بقوله ، كالصبي والمجنون ، لأنّ الأمّة إنّما كان
قولها حجّة إذا استند إلى استدلال.
الخامس : العامّي
يلزمه تقليد العلماء بالإجماع ، فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد
فيه.
السادس : قول
العامّي في الدين من غير دليل خطأ مقطوع به ، والمقطوع بخطائه لا تأثير لموافقته
ولا لمخالفته.
__________________
السابع : الأمّة
إنّما عصمت عن الخطأ في استدلالها ، لأنّ إثبات الأحكام الشرعية من غير دليل خطأ ،
والعامي ليس من أهل الاستدلال ، فلا يتصوّر ثبوت العصمة في حقّه.
وفي الأوّل نظر ،
لأنّ تخطئة العالم في الحكم مغايرة لتخطئة العامّي في القول بغير دليل ، وذلك
يستلزم تخطئة كلّ واحد لا فيما اتّفقوا عليه ، فيكون بمنزلة الثالث إذا لم يرفع
إجماعا ، وإنّما هو محال عند الإمامية.
واعترض على الثاني
باحتمال أن يكون العامّي لا يتصوّر منه الإصابة لو انفرد بالحكم ، فما المانع من
تصويبه مع الجماعة بتقدير موافقته لهم في أقوالهم ، ولا شك في أنّ العامّي مصيب في
موافقته للعلماء ، وعلى هذا جاز أن تكون موافقته شرطا في جعل الإجماع حجّة.
وفيه نظر ، لأنّ
قول العلماء إن كان حقّا لم يعتبر موافقة العامّي فيه ، فاستحال جعلها شرطا في
كونه حجّة ، بل شرط كونه حجّة كونه حقّا ؛ وإن كان خطأ لم يصر بموافقة العامّي
حقّا ، فلا يكون شرطا في كونه حجّة.
وعلى الثالث :
نمنع إجماع الصحابة عليه.
وعلى الرابع :
أنّه وإن كان لا بدّ في الإجماع من الاستدلال ، لكن من أهل الاستدلال أو مطلقا ،
والأوّل مسلم والثاني ممنوع. وعلى هذا أمكن أن يكون موافقة العامّة للعلماء
المستدلّين شرطا في جعل الإجماع حجّة وإن
__________________
لم يكن العامي
مستدلّا ، ولا يلزم من عدم اشتراط موافقة الصبيان والمجانين عدم اشتراط موافقة
العامّة ، لما بينهما من التفاوت في قرب الفهم في حقّ العامة الموجب للتكليف وبعده
في حقّ الصبيان والمجانين المانع من التكليف.
وفيه نظر ، فإنّ
الإجماع إذا توقّف على الدليل وجب الرجوع إليه ، سواء انضم إليه قول العامّي أو لا
، فإنّ انضمام قول العامّي اتّفاقي كطلوع الشمس معه ، وكما لا يجوز جعل طلوع الشمس
شرطا فكذا انضمام قول العامّي.
وعلى الخامس :
أنّه وإن كان يجب على العامّي الرّجوع إلى قول العلماء ، فليس في ذلك ما يدلّ على
أنّ أقوال العلماء دونه حجّة قاطعة على غيرهم من المجتهدين من بعدهم ، لجواز أن
يكون الاحتجاج بأقوالهم على من بعدهم مشروطا بموافقة العامة لهم وإن لم يكن ذلك
شرطا في وجوب اتّباع العامّة لهم فيما يفتون به.
وفيه نظر ، لأنّ
قول العامّي ليس حجّة لا بانفراده ولا مع انضمامه ، والعبرة في قول العلماء خاصة ،
فلا يجوز أن يكون شرطا في أصله.
وعلى السادس : أنّ
قول العامّي في الدين من غير دليل وإن كان خطأ ، لكن لا نمنع من كون موافقته
للعلماء في أقوالهم شرطا في الاحتجاج بها على غيرهم.
وفيه نظر ، فإنّ
ما يعلم كونه خطأ لا يجوز جعله شرطا في الحجة.
وعلى السابع : أنّ
العامّي وإن لم يكن من أهل الاستدلال فلا يمتنع أن تكون موافقته من غير استدلال
شرطا في كون الإجماع حجّة ، وقد تقدّم الكلام عليه.
احتجّ المخالف
بأنّ أدلّة الإجماع تقتضي وجوب متابعة الكلّ الذي من جملته العامّي ، ولا يمتنع أن
تكون العصمة من صفات الهيئة الاجتماعية من الخاصة والعامة ، فلا تكون العصمة
الثابتة للكلّ ثابتة للبعض ، لأنّ الثابت للكلّ لا يجب كونه ثابتا للبعض.
والجواب : إيجاب
متابعة الكلّ لا يقتضي أن لا يجب متابعة غيرهم ، ولأنّ العامّي في العلم بخروجه
كالصّبي والمجنون ، وأدلّة الإجماع المقتضية لوجوب الاتّباع يقتضي وجوب متابعة
العلماء ، فوجب القول به.
البحث الرّابع :
في اشتراط إجماع أهل كلّ فن بأهله
ذهب المحقّقون من
الجمهور إلى أنّ المعتبر بالإجماع في كلّ فنّ بأهل الاجتهاد من ذلك الفن ، وإن لم
يكونوا مجتهدين في غيره.
فمسائل الكلام
يعتبر في إجماعها اتّفاق المجتهدين في علم الكلام ، ومسائل الفقه يعتبر في إجماعها
اتّفاق المجتهدين في علم الفقه ، ولا عبرة بالمتكلّم في الفقه ولا بالعكس ، بل كلّ
مجتهد في فن من الفنون يشترط إجماعه في ذلك الفن ، فالعالم بمسائل الفرائض خاصة
يشترط موافقته في علم الفرائض لا الحج.
ولا عبرة بالفقيه
الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن متمكّنا من
الاجتهاد ، لأنّ
كلّ هؤلاء كالعوام فيما لا يتمكّنون من الاجتهاد فيه فلا عبرة بقولهم ، وأمّا
الأصولي المتمكّن من الاجتهاد إذا لم يكن حافظا للأحكام ، فإنّ خلافه معتبر عند
المحقّقين لتمكّنه من الاجتهاد الّذي هو الطريق إلى التمييز بين الحقّ والباطل ،
خلافا لقوم.
البحث الخامس : في
عدم اشتراط عدد التواتر
اختلف الناس في
ذلك فمن أخذ الإجماع من دليل العقل واستحالة الخطأ بحكم العادة كالجويني فيلزمه الاشتراط ، ومن أخذه من السمع اختلفوا : فمنهم من
شرط ، ومنهم من لم يشترط ، وهو الأشهر.
لنا : تناول
الأدلّة للمؤمنين والأمّة وإن قلّوا ، وانّهم معصومون وإن بلغوا ـ والعياذ بالله ـ
إلى الواحد.
احتجّ المخالف
بوجهين :
الأوّل : إذا نقص
عددهم لم يعلم إيمانهم بقولهم فضلا عن غيره.
الثاني : لو نقص
عدد المسلمين ـ والعياذ بالله ـ عن عدد التواتر أدّى إلى انقطاع التكليف ، فإنّ
التكليف يدوم بدوام الحجّة ، والحجة تقوم بخبر التواتر عن أعلام النبوة وعن وجود
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتحدّيه بالنبوة ، والكفّار لا
__________________
يقومون بنشر اعلام
النبوة ، بل يجتهدون في طمسها ، والسلف مجمعون على دوام التكليف إلى يوم القيامة.
والجواب [عن
الأوّل :] قد يعلم إيمان الواحد بالقرائن أو بخلق علم ضروري ، فينا على أنّه آت في
الكثير على ما تقدّم.
وعن الثاني : إن
قلنا : إنّ أهل الإجماع هم أهل الحلّ والعقد فلا يلزم من نقصان عددهم عن عدد
التواتر انقطاع الحجة بالتكليف ، لإمكان حصول المعرفة بذلك من أخبار المجتهدين
والعامة جميعا ، فإنّه ليس من شرط التواتر أن يكون ناقله مجتهدا.
وإن قلنا : إنّ
العوام داخلة في الإجماع ومع ذلك فعدد الجميع دون عدد التواتر ، فلا يلزم أيضا
انقطاع ذلك لإمكان أن يديم الله تعالى ذلك بإخبار المسلمين ، والكفّار معهم ولم
يعترفوا بالنبوة لكن يخبرون بظهوره ووجود معجزاته وإن لم يعترفوا بكونه معجزا ،
وبخبر العدد القليل المحتف بالقرائن المفيدة للعلم ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يزال طائفة من أمّتي تقوم بالحقّ حتى يأتي أمر الله».
أمّا الواحد فقد
اختلف فيه : فقال بعضهم : إنّ قوله حجّة متبعة ، لأنّه إذا لم يوجد سواه صدق عليه
اسم الأمة ، لقوله تعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ
كانَ أُمَّةً).
ومنهم من منع ،
لأنّ الإجماع مشعر بالاجتماع وإنّما يكون بين اثنين فصاعدا.
__________________
البحث السادس : في
عدم اشتراط كون المجمعين من الصحابة
ذهب المحقّقون إلى
أنّ الإجماع لا يختصّ بالصحابة ، بل لو فرض في كلّ عصر كان حجّة ، وخالف داود
ومتابعوه من الظاهرية وقالوا : إنّ إجماع التابعين ومن بعدهم ليس بحجّة وإنّما
الحجّة إجماع الصحابة خاصة.
لنا : أدلّة
الإجماع وهي : الكتاب والسنّة والمعقول تتناول أهل كلّ عصر ، لأنّ قولهم سبيل
المؤمنين فيجب اتّباعه ، ولأنّهم أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم فيدخل تحت قوله : «لا تجتمع أمّتي على خطاء» [وقوله تعالى
:] (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ ،) ولأنّ العادة تحيل اجتماع الخلق العظيم على الكذب ، ولأنّ
المعصوم موجود في كلّ عصر.
احتجّ [المخالف] بأمور
تسعة :
الأوّل : أدلّة
الإجماع إنّما تتناول الصحابة ، لأنّ قوله : (جَعَلْناكُمْ ،
كُنْتُمْ) خطاب مواجهة فلا يتناول إلّا الحاضرين. وكذا قوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ ،) لأنّ من سيوجد بعد [ذلك] لا يصدق عليه في الحال أنّه مؤمن ، فلا تتناول
الآية إلّا من كان مؤمنا حال نزولها ، فلا يجوز القطع بأنّ إجماع غيرهم حجّة لعدم
الدّليل عليه.
الثاني : إجماع
التابعين إن كان لقياس فهو باطل ، لأنّه ليس حجّة عند
__________________
الكلّ فلا يكون
طريقا إلى صدور الإجماع من الكلّ ؛ وإن كان لنص ، وهو إنّما وصل إليهم من الصحابة
، فكان إجماع الصحابة على ذلك الحكم لأجل ذلك النص أولى ، فلمّا لم يوجد علم عدمه.
الثالث : يشترط في
الإجماع اتّفاق كلّ أهل العصر ، وذلك لا يحصل إلّا مع المشاهدة والعلم بقول كلّ
واحد وموافقته للباقين ، وهو ممتنع لانتشارهم في الأرض ، وإنّما يتم في زمن
الصحابة لانحصارهم وقلّتهم.
الرابع : أجمع
الصحابة على تسويغ الاجتهاد في كلّ ما لم يجمع عليه ، فالمسألة التي لم يجمع
الصحابة عليها محلّ الاجتهاد بإجماع الصحابة ، فلو أجمع التابعون فيها على حكم
خرجت عن محل الاجتهاد ، فيتصادم الإجماعان.
الخامس : إذا
اختلف الصحابة على قولين ثمّ أجمع التابعون على أحدهما لم يصر القول الثاني مهجورا
على ما تقدّم في المسائل السابقة وحينئذ نقول : المسألة التي أجمع التابعون عليها
جاز أن يكون لبعض الصحابة فيها قول بخلاف قول التابعين ولم ينقل إلينا فلا يثبت
الإجماع.
لا يقال : فتح هذا
الباب يقتضي عدم بقاء شيء من النصوص ، لاحتمال تطرّق النسخ والتخصيص ولم ينقل.
لأنّا نقول :
الفرق انّ إجماع التابعين مشروط بعدم قول لبعض الصحابة يخالف قولهم ، فالشك فيه شك
في شرط الإجماع ، فيكون شكّا في الإجماع ، والأصل بقاؤه على العدم ؛ أمّا النصّ
فظاهر اللفظ يقتضي العموم
والشك وقع في
طريان المزيل والأصل عدم طريانه ، فافترقا.
السادس : الأدلّة
تتناول اتّباع كلّ المؤمنين وكلّ الأمّة وليس التابعون كلّ الأمّة ، فإنّ الصحابة
لم يخرجوا بموتهم عن الأمّة ، ولذلك لو خالف واحد من الصحابة فيما أجمع عليه
التابعون لا يكون قول جميع الأمّة ولا يحرم الأخذ بقول الصحابي ، فإذا كان خلاف
بعض الصحابة يرفع إجماع التابعين فعدم وفاقهم أيضا يرفعه ، لأنّهم بالموت لم
يخرجوا من الأمة.
لا يقال : يتبعّض
بالصحابة.
لأنّا نقول :
مقتضى الدليل ذلك وانتظار التابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة لكن اعتباره يرفع
الانتفاع بالإجماع ، فثبت أنّ وصف الكلية لمن دخل في الوجود وهم الصحابة خاصة.
السابع : الأصل
عدم الرجوع إلى قول أحد سوى الصادق المعصوم لتطرّق الخطأ والكذب إلى من عداه لكن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أثنى على أصحابه لقوله : «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم
اهتديتم» ، «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الراشدين بعدي» ، وذمّ الأعصار المتأخّرة بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ثم يفشو الكذب ، وانّ الرّجل يصبح مؤمنا ويمسي كافرا ،
وانّ الواحد منهم يحلف على ما لا يعلم ، ويشهد قبل أن يستشهد» وغير ذلك ، فوجب أن يقتصر بالإجماع على قول أصحابه.
__________________
الثامن : لو كان
في الأمّة من هو غائب لم ينعقد الإجماع دونه وإن لم يكن له في المسألة قول بنفي
ولا إثبات ، لكونه لو كان حاضرا لكان له فيها قول ، فكذلك الميت من الصحابة قبل
التابعين.
التاسع : الصحابة
اختصّت بمشاهدة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والحضور عند الوحي فلهم مزية على غيرهم.
والجواب عن الأوّل
: انّه يقتضي أنّه لو مات واحد من الحاضرين عند نزول الآية أخرج إجماع الباقين عن
كونه حجّة ، وذلك يفضي إلى سقوط العمل بالإجماع ، وهم لا يقولون به. ويقتضي أيضا
أن لا يعتدّ بخلاف من أسلم بعد نزولها بخروجه عن المخاطبين.
وعن الثاني : جاز
أن يصدر إجماعهم عن نص نقله بعض الصحابة ولم يعلم به الباقون لعدم حدوث الواقعة
عندهم فلم يبحثوا عنه ، أو بعضهم عن ذلك النصّ وبعضهم عن قياس أو اجتهاد.
وعن الثالث : نمنع
عدم معرفة كلّ المجتهدين فإنّهم مشهورون وإن تباعدت أمكنتهم.
سلّمنا ، لكن
التقدير حصول الإجماع فيكون حجّة ولا نزاع في التعذّر.
وعن الرابع : نمنع
الإجماع على تسويغ الاجتهاد.
__________________
سلّمنا ، لكنّه
مشروط بعدم تجدّد إجماع آخر.
وعن الخامس :
بأنّه يتطرّق في الصحابة مثله لاحتمال أن يكون الصحابي الّذي مات قبل وفاة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم له فيه قول فلا يكون إجماع الباقين حجّة.
وفيه نظر ، لعدم
اعتبار الإجماع وأقوال الصحابة في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل بعد وفاته.
وعن السادس : أنّ
الماضي من الصحابة لا يعتبر والمستقبل لا ينتظر ، وإلّا لم ينعقد إجماع بعد أن
استشهد حمزة ، وقد اعترفوا بصحّة إجماع الصحابة بعد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وبعد موت من مات بعد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيكون وصف الكلّية حاصلا لكلّ الموجودين في كلّ وقت ،
ونمنع جواز المصير إلى قول الصحابي الميت المخالف لإجماع التابعين.
وعن السابع :
أدلّة الإجماع لا تفرّق بين أهل عصر وعصر ، ومدح الصحابة لا يقتضي ذمّ غيرهم ،
وذمّ الأعصار المتأخّرة يقتضي ظهور الفساد والكذب لا على خلو كلّ عصر ممّن يقوم
الحجّة بقوله.
وعن الثامن : أنّه
ينتقض بالصحابة فإنّه لو مات واحد منهم انعقد إجماع الباقي ، ولو كان غائبا لم
ينعقد ، والأصل أنّ الغائب في الحال له أهلية القول والحكم والموافقة والمخالفة
بخلاف الميت.
وعن التاسع : لا
نسلم أنّ ذلك يوجب لهم مزية في كون قولهم حجّة دون غيرهم.
الفصل السادس
في الحكم الثابت بالإجماع
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في ضابط ما يثبت بالإجماع
قد ثبت أنّ
الإجماع حجّة في الأحكام الشرعية ويجوز أن يكون حجّة في الأحكام العقلية لعموم
الأدلّة ، ولا يجوز أن يكون حجّة في كلّ الأحكام لاستلزامه الدور ، لأنّ من
الأحكام ما هو مقدّمة في حقيقة الإجماع ، فلو ثبت به دار.
والحاصل : أنّ كلّ
ما لا يتوقّف العلم بكون الإجماع حجّة على العلم به أمكن إثباته بالإجماع ، وكلّ
ما يتوقّف لا يمكن ثبوته به.
فإثبات الصانع
وكونه تعالى عالما قادرا عالما بكلّ معلوم والنبوة لا يمكن إثباته بالإجماع ،
لتوقّف كونه حجّة عليها ، إذ كونه حجّة إنّما عرف بالسّمع المتوقّف على هذه
المطالب.
أمّا حدوث الأجسام
فيمكن إثباته به ، لإمكان إثبات الصانع بحدوث
الأعراض ، ثمّ
يعرف صحّة النبوة ثمّ يعرف به كون الإجماع حجّة ، ثمّ يعرف به حدوث الأجسام.
ويصحّ إثبات
الوحدانية بالإجماع ، لإمكان العلم بصحّة الإجماع قبل العلم بالوحدانية.
أمّا الإمامية
فلمّا كان دليل الإجماع عندهم كون المعصوم داخلا فيه ، أمكن إثبات هذه المطالب
كلّها بالإجماع.
البحث الثاني : في
الإجماع في الأمور الدنيوية
إذا أجمع أهل
العصر على أمر يتعلّق بالدنيا كالإجماع على ما يتّفق عليه من الآراء في الحروب
وتدبير الجيوش وترتيب أمور الرّعية ، كقولهم : لا حرب إلّا في الموضع الفلاني ، هل
يكون حجّة يحرم مخالفته أم لا؟
اختلف قول قاضي
القضاة فيه فتارة منع المخالفة ، وهو مذهب السيد المرتضى وطائفة أخرى ؛ وتارة سوّغها ، وهو مذهب جماعة أخرى.
احتج الأوّلون
بعمومات أدلّة الإجماع وأنّ الأمة معصومة عن الخطأ ، ويجب اتّباعهم في الذي أجمعوا
عليه ، فيحمل على عمومه لعدم المخصّص.
احتج الآخرون بأنّ
حالهم ليست أعظم من حال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومعلوم أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لو رأى رأيا في الحرب لساغ مراجعته.
__________________
والجواب : المنع
من مخالفة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في ذلك ، والمراجعة إن أرادوا بها المخالفة منعناه ، وإن
أرادوا تأكيد المعرفة فهو مسلّم.
قال أبو الحسين
البصري : الفرق أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يمتنع عليه الخطأ فيما دلّ المعجز عليه وهو أمور الدين ،
وذلك لا يتعلّق بأمور الدنيا ، وليس كذلك الأمّة. وهو بناء على عدم عصمته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقد بيّنا أنّه معصوم في علم الكلام.
البحث الثالث : في
الإجماع في الأديان السالفة
اختلف الأصوليون
في الإجماع في الأديان السالفة هل كان حجّة أم لا؟ على قولين :
منهم من قال :
إنّه حجّة ، وهو قول من يثبت الإجماع بالدليل العقلي ويشترط في ذلك عدد التواتر ،
والإمامية أيضا قائلون به لوجوب المعصوم عندهم في كلّ وقت.
وأمّا من أثبت
الإجماع بالدلائل السمعية فإنّه في محل التوقّف ، لعدم دليل عقلي وسمعي على كلّ
واحد من طرفي النقيض ، فيبقى الشك.
وبعضهم جزم بالمنع
، والّا لم يبق مزية لهذه الأمّة على سائر الأمم السالفة مع أنّ الله تعالى قد جعلهم
شهداء عليهم.
__________________
البحث الرابع : في
أنّه لا يجوز تخطئة الأمّة في الأحكام المتعدّدة
إذا انقسمت الأمّة
إلى قسمين وقال كلّ قسم منهما بحكمين متقابلين في مسألتين متعدّدتين هل يجوز تخطئة
كلّ قسم في مسألة والأخرى في الأخرى ، كما لو قال نصف الأمّة بأنّ القاتل لا يرث
والعبد يرث ، وقال النصف الآخر بأنّ القاتل يرث والعبد لا يرث.
اختلفوا في ذلك
فالأكثر على عدم الجواز ، وهو قول الإمامية ، لأنّ المعصوم داخل في أحد القسمين
وقوله صواب في الحكمين.
واستدلّ الآخرون
بأنّ خطاءهم في مسألتين لا يخرجهم عن الاتّفاق على الخطاء ، وهو منفي عنهم.
احتجّ المجوزون
بأنّ الممتنع الخطأ على كلّ الأمّة لا البعض ، والمخطئ في كلّ واحدة من المسألتين
بعض الأمّة.
البحث الخامس : في
امتناع الكفر على الأمّة
هذا على مذهب
الإمامية ظاهر لامتناع الارتداد على المعصوم.
وأمّا غيرهم فقد
اختلفوا فالأكثر على ذلك أيضا ، لأنّه تعالى أوجب علينا اتّباع سبيل المؤمنين ،
وهو مشروط بوجودهم ، وما لا يتمّ الواجب
__________________
المطلق إلّا به
فهو واجب. هذا إذا حملنا لفظ المؤمنين على الإيمان بالقلب ؛ أمّا إذا حملناه على
التصديق باللسان كان أظهر وتصير الآية دالّة على أنّ المصدّقين في الظاهر لا يجوز
اجتماعهم على الخطاء وهو يؤمننا من إجماعهم على الكفر.
وفيه نظر ، لأنّ
وجوب الاتّباع ليس مطلقا ، بل مشروط بوجود المتبوع ، إذ هو المفهوم من الاتّباع
ولا يلزم وجوب شرط الوجوب بل شرط وقوع الواجب.
احتجّ الآخرون
بأنّه جائز على كلّ واحد فكان جائزا على الجميع ، والأدلّة لا تتناولهم حينئذ ،
لأنّهم خرجوا بذلك عن كونهم أمّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم وعن كونهم مؤمنين ، فيبطل الاستدلال بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تجتمع أمّتي على خطاء» وبقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ
الْمُؤْمِنِينَ) وبقوله : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) ، وهذا لا يتصوّر عند الإمامية كما بيّناه.
__________________
البحث السادس : في
جواز اشتراك الأمّة في عدم العلم بما لم يكلّفوا به
اختلف الناس في
ذلك ، فالأكثر على جوازه ، لأنّ عدم العلم بذلك الشيء إذا كان صوابا لم يلزم من اجتماعهم
عليه محذور.
احتجّوا بأنّهم لو
اجتمعوا على عدم العلم بذلك الشيء لكان عدم العلم به سبيلا لهم ، فكان يجب
اتّباعهم فيه حتى يحرم تحصيل العلم به.
ومن هذا الباب
إمكان وجود خبر أو دليل ولا معارض له وتشترك الأمّة في عدم العلم به ، والخلاف ما
تقدّم ، والوجه جوازه إن كان عملهم موافقا لمقتضاه ، لعدم تكليفهم بمعرفة ما لم
يبلغهم ولم يظهر لهم ، وقوله : (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) لا يتناول ذلك ، لأنّ المفهوم من السّبيل الفعل المقصود
المعصوم ، وعدم العلم ليس مقصودا فلا يكون سبيلا ، فيجوز اتّفاقهم فيه وان يخالفهم
في طلبه ، كيف؟ والشرع لا يحثّ على الجهل بأدلّته الشرعية.
أمّا لو عملوا على
خلافه فإنّه محال ، لما فيه من إجماع الأمّة على الخطأ.
__________________
البحث السابع : في
أنّ الأخذ بالأقل ليس للإجماع
اختلف الناس في
دية الذمّيّ ، فقال قوم : إنّ ديته مثل دية المسلم ، وقال آخرون : إنّها نصفه ،
وقال آخرون : إنّها ثلثه ، وعند الإمامية : ثمانمائة درهم.
وقال الشافعي
بالثلث ، وهو الأقلّ عند الجمهور مجمع عليه عندهم ، فقيل : إنّه تمسك فيه بالإجماع
، إذ القول بالكلّ والنصف يشتملان على الثلث ، وليس بصحيح ، لأنّ الحصر في الثلث
مشتمل على حكمين : وجوب الثلث ونفي الزيادة ؛ والأوّل وإن كان مجمعا عليه فالثاني
ليس كذلك ، بل مستفاد إمّا من دليل أو من أصالة براءة الذمّة ، وليس ذلك من
الإجماع.
__________________
الفصل السابع
في حكم الإجماع
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في حكم جاحده
اختلف الناس في
جاحد الحكم المجمع عليه ، فقال قوم من الفقهاء : إنّه كافر مطلقا ؛ ومنعه آخرون ، لأنّ أصل أدلّة الإجماع لا يفيد العلم ، فما يفرع عليه
أولى أن لا يكون كذلك ، فغايته الظن ، وجاحد المظنون ليس بكافر إجماعا.
سلّمنا كونه
معلوما لكن العلم به غير داخل في ماهية الإسلام ، وإلّا لوجب على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن لا يحكم بإسلام أحد حتى يعرّفه كون الإجماع حجّة ،
ولمّا لم يفعل ذلك ولم يصرّح بهذه المسألة طول عمره علمنا عدم دخوله في الإسلام ،
وإذا لم يكن العلم بأصل الإجماع معتبرا في الإسلام فكذا تفاريعه.
__________________
وقيل : إن كان حكم
الإجماع داخلا في مفهوم اسم الإسلام ، كالعبادات الخمس واعتقاد التوحيد والرسالة ،
كان جاحده كافرا ، وإلّا فلا.
البحث الثاني : في
امتناع تجدّد إجماع مخالف لسابق
ذهب الأكثر الى
امتناع انعقاد الإجماع بعد إجماع سابق يخالفه ، وجوّزه أبو عبد الله البصري.
لنا : إنّ أحدهما
يكون خطاء فلا تجتمع الأمّة عليه.
احتجّ بإمكان
إجماع الأمّة على قول بشرط عدم طريان إجماع آخر ، لكن أهل الإجماع لمّا اتّفقوا
على أنّ جميع ما أجمعوا عليه يجب دوام العمل به لم يقع هذا الجائز ، وهذا لا يتأتى
على مذهبنا لوجود المعصوم فيهما وأقواله غير متناقضة.
وفخر الدين قوى
مذهب البصري ، وهو خطأ ، لأنّ تجويزه يقتضي تطرّقه إلى الإجماع بوجوب
الدوام ، فلا يستقر الإجماع البتة ، ولا يمكن الاستدلال به.
__________________
البحث الثالث : في
الإجماع إذا عارضه قول الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
اعلم أنّه يمتنع
تناقض الأدلّة ، وكلّ من الإجماع وقول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم دليل قطعي ؛ فإن علم أنّ قصد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بكلامه ظاهره ، وكذا أهل الإجماع وتنافيا ، امتنع ذلك.
وإن علم أنّ
أحدهما أراد الظاهر وجهلنا الآخر ، قدّم ما علم ظاهره وتأوّلنا الآخر ، لأنّه أولى
من حذفه.
وإن لم يعلم أنّ
واحدا منهما أراد ظاهره ، فإن كان أحدهما أخصّ خصصنا به الآخر جمعا بين الدليلين ،
وإلّا تعارضا ، لأنّا نقطع أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والأمّة أراد أحدهما بكلامه غير ظاهره لكنّا جهلنا تعيينه
، فتساقطا ووجب الرجوع إلى غيرهما.
* * *
إلى هنا انتهى
الجزء الثاني حسب تقسيم المؤلّف قدسسره حيث قال الناسخ : تمّ الجزء الثاني من كتاب «نهاية الوصول
في علم الأصول» ويتلوه الجزء الثالث بعون الله تعالى وتوفيقه المقصد العاشر في
الخبر وفيه فصول الأوّل في ماهيته ، وقد فرغت من تسويده غرّة شهر صفر ختم بالخير
والظفر سنة إحدى وأربعين وألف.
* * *
بسم الله الرّحمن الرّحيم
وبه نستعين
المقصد العاشر
في الخبر
وفيه فصول :
الفصل الأوّل
في ماهيته
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في لفظ الخبر
لفظ الخبر يطلق
على القول المخصوص وعلى غيره من الإشارات والدلائل ، كقوله :
تخبرني العينان
ما القلب كاتم
|
|
..................
|
وقوله :
وكم لظلام الليل
عندك من يد
|
|
تخبر انّ
المانوية تكذب
|
__________________
وقول المعرّي :
نبيّ من الغربان
ليس على شرع
|
|
يخبّرنا أنّ
الشعوب إلى صدع
|
وهو حقيقة في
القول المخصوص إجماعا ومجاز في غيره ، لتبادر الأوّل إلى الذهن دون الثاني في
قولنا : أخبر فلان بكذا وفلان مخبر ، والغالب انّما هو استعمال اللّفظ في حقيقته
دون مجازه.
وهو عند بعض
الأشاعرة مشترك بين القول المخصوص والمعنى القائم بالنّفس ، وعند آخرين ، انّه
مجاز في الثاني حقيقة في الأوّل لتبادره إلى الفهم دون الثاني ، وأمّا عند
المعتزلة فإنّه حقيقة في القول وليس مستعملا في
__________________
الثاني لا حقيقة
ولا مجازا لعدم الثاني عندهم ، والبحث في ذلك موكول إلى علم الكلام.
البحث الثاني : في
أنّه هل يحدّ أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب قوم إلى أنّه لا يحدّ لأنّه ضروري ، وقال آخرون : إنّه يحدّ وإنّه معلوم
بالاكتساب.
احتجّ الأوّلون
بوجهين :
الأوّل : كلّ عاقل
يعلم بالضرورة معنى قولنا : أنا موجود ، أنا لست بمعدوم ، وانّ الشيء الواحد لا
يوصف بالوجود والعدم ، ومطلق الخبر جزء من هذا الخبر الخاص ، والعلم بالكلّ موقوف
على العلم بالخبر ، فلو كان تصوّر ماهية مطلق الخبر موقوفا على الاكتساب كان تصوّر
الخبر الخاص موقوفا عليه ولم يكن ضروريا ، هذا خلف.
الثاني : كلّ عاقل
يعلم بالضّرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر وتميّزه عن الموضع الذي يحسن فيه الآخر
، ولو لا أنّ هذه الحقائق متصوّرة بالبديهة لم يكن الأمر كذلك.
لا يقال : الخبر
نوع من الألفاظ وأنواع الألفاظ ليست بديهيّة التصوّر ، فكيف يكون تصوّر ماهية
الخبر بديهيا؟
لأنّا نقول : حكم
الذهن بين أمرين بأنّ أحدهما هو الآخر أو له الآخر أو ليس كذلك معقول واحد لا
يختلف باختلاف الزمان والمكان ، ويدركه
كلّ أحد من نفسه
ويفرق بينه وبين الأحوال النفسانية كالألم واللّذة والطلب.
وإذا ثبت هذا
فالمراد من الخبر إن كان هو الحكم الذهني ، فلا شكّ في أنّ تصوّره في الجملة
بديهيّ ؛ وإن كان المراد منه اللفظ الدّال على هذه الماهية ، فالإشكال ساقط أيضا ،
لأنّ مطلق اللفظ الدال على البديهي التصوّر يكون تصوّره بديهيا.
وفي الأوّل نظر من
وجوه :
الأوّل : نمنع كون
المطلق جزءا من الخبر الخاص ، لأنّه إمّا مطابق في نفس الأمر أو لا ، وأيّهما كان
لم يصدق على الآخر ، والانقسام إليهما باعتبار الجزئيات لا الماهية فهو عارض.
الثاني : نمنع
توقّف العلم بالكلّ على العلم بالجزء ، لجواز العلم باعتبار ما.
الثالث : نمنع
استلزام بداهة الكلّ بداهة الجزء ، لصدق الأوّل باعتبار ما.
وفي الثاني نظر ،
فإنّ الحكم بالتميّز بين أمرين لا يستدعي بداهتهما ، فإنّا نميّز بين وجود الجنّ
والملك وعدمهما وبين النفس وعدمها وهو كسبي.
واعترض ؛ بأنّ
الاستدلال على أنّه ضروري دليل على أنّ العلم به غير ضروري ، لأنّ الضّروري هو
الذي لا يفتقر العلم به إلى نظر ودليل يوصل
إليه ، وما يفتقر
إلى ذلك فهو نظري لا ضروري.
لا يقال : ما
ذكرناه تنبيه لا دليل ، ومن الضروريات ما يفتقر إلى تنبيه.
لأنّا نقول : لو
قيل ذلك لأمكن دعوى الضرورة في كلّ علم نظري ، لأنّ الدليل فيه بطريق التنبيه.
سلّمنا ، لكن
الخبر المطلق ليس جزءا من الخبر الخاص ، لأنّه أعمّ ، فلو كان جزءا لانحصر الأعم
في الأخصّ ، والتفرقة بين الأمر والخبر إنّما تصحّ بعد العلم بهما.
نعم تعلم التفرقة
بين ما يجده الإنسان في نفسه من طلب الفعل والنسبة بين أمرين على وجه خاص ، وليس
هو العلم بحقيقة الأمر والخبر ، فإن عنيت بالأمر والخبر هذا المعلوم الخاص كان
عودا إلى التحديد ثمّ إنّه يقتضي استغناء الأمر عن التحديد كاستغناء الخبر ، وهذا
المستدل عرف الأمر.
وهذا كلّه ليس بجيّد
، لأنّ الاستدلال على أنّه ضروري ليس استدلالا على الضّروري ، بل على وصف له هو
كونه ضروريا وهو مغاير له ، وكون الشيء ضروريا جاز أن يكون كسبيا ، وكون العام ليس
جزء من الخاص لعدم انحصاره فيه غلط ، فإنّ الخبر قد يكون أعمّ وتفسير اللفظ ليس
بالتحديد.
وقال آخرون : إنّه
يحد ، لأنّ العلم به لا يجري مجرى العلم بالبديهيات وباقي الضروريات. والحقّ
الأوّل والضرورة قاضية به.
البحث الثالث : في
حدّه
اختلف القائلون
بأنّ الخبر يحدّ ، في حدّه.
فقال الجبائيان
وأبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وغيرهم من المعتزلة : الخبر هو الكلام
الذي يدخله الصدق والكذب.
وأورد عليه
إشكالات :
الأوّل : الصدق
والكذب نوعان من الخبر ، والجنس جزء من النوع لا يمكن معرفة النوع إلّا به ،
فتعريفه بالنوع دور.
الثاني : الصدق
والكذب من الأعراض الذاتية لمطلق الخبر ، ولا يمكن تعريف العرض الذاتي إلّا بذكر
موضوعه فيدور.
الثالث : إن عطف
بين الصدق والكذب ب «أو» لزم الشك في الحد ، وهو محذور عنه ؛ وإن عطف ب «الواو»
انتفى المحذور ، إذ الصدق والكذب متقابلان لا يجتمعان في شيء واحد.
الرابع : خبر الله
تعالى وخبر رسوله صدق قطعا ، ولا يمكن دخول الكذب فيه.
الخامس : قول
القائل محمد ومسيلمة صادقان خبر وليس صادقا ولا كاذبا.
__________________
السادس : لو قال :
«كلّ كلامي في هذه الساعة كاذب» ولم يوجد منه سوى هذا الكلام لم يكن صادقا فيه ،
وإلّا لكان كاذبا فيه فيجتمع النقيضان ؛ ولم يكن كاذبا ، وإلّا لكان بعض أفراده
صادقا وليس إلّا هذا الفرد ؛ وكذا لو كانت جميع إخباراته كاذبة وقال : «كلّ كلامي
كذب» لم يكن كذبا ، وإلّا لصدق في بعضها ، والفرض خلافه ؛ ولا صدقا ، لأنّه من
جملة إخباراته.
والجواب من حيث
الإجمال ومن حيث التفصيل :
أمّا الإجمال فإنّ
التعريف قد يكون للماهية وقد يكون للاسم ، وتعريف الخبر بالمعنى الثاني وهو انّما
يتم لو قلنا : إنّه ضروري.
وأمّا التفصيل
فالجواب عن الأوّل : أنّ النوع تتوقّف معرفته على معرفة الجنس ، إذا كانت معرفته
تامّة أمّا الناقصة فلا.
وعن الثاني : أنّ
الموضوع خارج عن ماهية العرض الذاتي ، فيكون التعريف به رسما لا حدّا ، والرسوم لا
تنحصر في شيء بعينه.
وأجاب قاضي القضاة
بأنّ الخبر معلوم لنا ، وما ذكرناه لم يقصد به تعريف الخبر ، بل تمييزه عن
غيره من أساليب الكلام ، فإذا عرفنا الصدق والكذب بالخبر فلا دور.
واعترض بأنّه إذا
كان تمييز الخبر عن غيره إنّما يكون بالنظر إلى الصدق والكذب فتمييز الصّدق والكذب
بالخبر دور ، بل لو قيل : إنّ الصدق والكذب وان كان داخلا في حدّ الخبر ومميزا له
فلا نسلّم انّ الصدق
__________________
والكذب مفتقر في
معرفته إلى الخبر ، بل الصّدق والكذب معلوم بالضّرورة لكان أولى.
وفيه نظر ، لأنّ
تمييز الخبر بالصّدق والكذب وتعريف حقيقة الصّدق والكذب بالخبر لا يقتضي الدور ،
واحتياج الخبر إلى المعرّف يستلزم احتياج الصدق والكذب اللّذين هما نوع منه إليه.
وعن الثالث : أنّ
المراد قبوله لأحدهما فلا شك.
وعن الرابع : ليس
المراد من دخول الكذب فيه الدخول فعلا ، بل القبول وهو ثابت في كلّ خبر باعتبار
النسبة الحكمية لا من حيث صدوره عن صادق وغيره ، فخبر الله تعالى من حيث إنّه خبر
لا بالنظر إلى المخبر محتمل للأمرين ، وهو لا ينافي امتناع دخول الكذب فيه بالنظر
إلى المخبر لاختلاف الاعتبار ، ولأنّ خبر الله تعالى صدق فقد قبل أحدهما.
وعن الخامس : قال
أبو علي الجبّائي : إنّه كاذب ، لأنّه يفيد صدق أحدهما في حال صدق الآخر ،
فكأنّه قال : أحدهما صادق من حيث صدق الآخر.
وليس بجيّد ، لأنّ
النسبة لا تستلزم المصاحبة. نعم هو كاذب باعتبار أنّه أضاف الصدق إليهما وهو كاذب.
وقال أبو هاشم : إنّه كخبرين أحدهما إضافة الصدق إلى
__________________
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والآخر إضافته إلى مسيلمة ، والخبران لا يوصفان بالصدق ولا
الكذب فكذا هنا ، وإنّما يوصف بالصّدق والكذب الخبر الواحد من حيث هو خبر.
وليس بجيّد ، بل
هما خبران في الحقيقة ، وكلّ واحد منهما يوصف بالصدق أو الكذب لكن أحدهما صدق قطعا
والآخر كذب قطعا.
وقال القاضي عبد
الجبار : المراد من قولنا ما دخله الصدق والكذب أنّ اللّغة لا
تحرّم أن يقال للمتكلّم قد صدقت أو كذبت.
واعترض بأنّ حاصله
يرجع إلى التصديق والتكذيب ، وهو غير الصدق والكذب في نفس الخبر. فإنّ أهل اللغة
انّما يسوّغون ذلك فيما كان كاذبا في نفس الأمر وصادقا ، وليس كذلك فيما نحن فيه ،
فإنّ قول القائل هذا صدق يتضمّن تصديقه في إضافة الصّدق إلى مسيلمة ، وذلك مع فرض
عدم صدقه فيمتنع.
وليس بجيّد ،
فإنّه محتمل لأحدهما من حيث إنّه خبر ويتّصف بها في نفس الأمر وفي قول القائل.
وقال أبو عبد الله
البصري : إنّه كذب ، لأنّه أفاد إضافة الصدق إليهما مع عدم إضافته
إليهما. وهو الذي اخترناه في الجواب أوّلا.
واعترض بأنّه إذا
كان كاذبا لا يدخله الصدق ، وقيل : الخبر ما يدخله الصدق والكذب.
__________________
وليس بجيّد فإنّا
لا نريد إضافة الأمرين معا في كلّ خبر ، بل أحدهما.
وعن السادس : انّ
الصّدق والكذب إنّما يعرضان لخبر مغاير للمخبر عنه حتى يتصور فيه المطابقة فيحكم
بصدقه ، وعدمها عدم الملكة فيحكم بكذبه ، وهنا اتحدا فلا يدخله الصدق والكذب.
وقيل في الحدّ
الخبر ما يحتمل التصديق والتكذيب ، أو أنّه ما يقال لقائله : إنّه صادق أو كاذب.
واعترض بأنّ التصديق والتكذيب عبارة عن الإخبار عن كون الخبر صدقا
أو كذبا ، فقولنا : الخبر ما يدخله التصديق والتكذيب جار مجرى أن يقال : الخبر هو
الذي يجوز الإخبار عنه انّه صدق أو كذب ، فيكون تعريفا للخبر بالخبر ، وبالصدق
والكذب.
والأوّل تعريف
الشيء بنفسه ، والثاني بما لا يعرف إلّا به.
وقال أبو الحسين : الخبر كلام يفيد بنفسه إضافة أمر من الأمور إلى أمر من
الأمور إثباتا أو نفيا. واحترز «بنفسه» عن الأمر ، فإنّه يفيد وجوب الفعل لا بنفسه
، لأنّ ماهية الأمر استدعاء الفعل ، والصيغة لا تفيد إلّا هذا القدر. ثمّ إنّها
تفيد كون الفعل واجبا تبعا لذلك ، وكذا القول في دلالة النهي على قبح الفعل ؛
فأمّا قولنا : هذا الفعل واجب أو قبيح ، فإنّه يفيد بصريحه تعلّق الوجوب والقبح
بالفعل.
__________________
واعترض عليه بوجوه
:
الأوّل : الوجود
عنده نفس الماهية ، فإذا قلنا : السواد موجود كان خبرا ، مع أنّه لا يفيد إضافة
شيء إلى شيء آخر.
لا يقال : السؤال
يلزم لو قلنا إلى أمر آخر ونحن قلنا إلى أمر ، وهو أعمّ من أن يكون آخر ونفسه ،
ولأنّ معنى السواد موجود ، المسمّى بلفظ السواد مسمّى بلفظ الموجود.
لأنّا نقول :
الإضافة مشعرة بالتغاير ، ولو لا اعتباره لدخل اللفظ المفرد في الخبر.
والإلزام ليس في
الإخبار عن التسمية ، بل عن وجوده وحصوله في نفسه ومعلوم أنّ من عرف ماهية المثلث
أمكنه الشك في وجوده.
وفيه نظر بمنع
كونه خبرا إن جعلناهما لمعنى واحد ، لتنزّله منزلة الإنسان بشر إلّا أن يعني
التسمية.
الثاني : إذا قلنا
الحيوان الناطق يمشي ، اقتضى نسبة الناطق إلى الحيوان ، مع أنّه ليس بخبر للفرق
الضروري بين الخبر والوصف.
لا يقال : لو زيد
في الحدّ بحيث يتمّ معه الكلام فيخرج النعت.
لأنّا نقول : إن
عنيت بتمام الكلام إفادته لمفهومه دخل النعت لإفادة قولنا الحيوان الناطق لمعناه
بتمامه ، وإن عنيت إفادته لتمام الخبر توقفت على معرفة الخبر فيدور.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
المراد من الإضافة نسبة الإثبات أو النفي واعترض بإرادة صحّة السكوت عليه.
الثالث : أنّه
تعريف دوري ، لأنّ النفي الإخبار عن عدم الشيء ، والإثبات الإخبار بوجوده.
البحث الرابع : في
أنّه هل يشترط في الخبرية الإرادة؟
قال السيّد
المرتضى وأبو الحسين : لا بدّ في الخبر من الإرادة على معنى أنّ الصّيغة تكون
خبرا مستعملة في فائدتها بشرط الإرادة ولا تشترط الإرادة في كون الخبر على صيغة
الخبر.
واحتجّا بأنّ هذه
الصيغة قد تصدر عن الساهي والحاكي والمتجوّز بها عن الأمر ، كقوله تعالى : (وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) وإذا كانت صالحة للخبرية وغيرها لم ينصرف إلى أحد الأمرين
دون الآخر ، إلّا لمرجّح وهو الإرادة والدّاعي.
وخالف فيه
الأشاعرة ، وقد تقدّم مثله في باب الأمر.
وأيضا قال
الجبائيان : إنّ لصيغة الخبر حال كونها خبرا صفة معلّلة بتلك الإرادة.
وخالف فيه
الأشاعرة ، فإنّه لا معنى لكون الصّيغة خبرا ، إلّا أنّ المتلفّظ
__________________
بها تلفّظ وكان
مقصوده تعريف الغير بثبوت المخبر به للمخبر عنه أو سلبه عنه ، وقد تقدّم أيضا في
الأمر.
البحث الخامس : في
مدلول الخبر
إذا قلنا : «العالم
حادث» كان مدلوله الحكم بثبوت الحدوث للعالم لا نفس ثبوت الحدوث للعالم ، وإلّا
لكان حيث وجد قولنا : «العالم محدث» كان محدثا ، فحيث يوجد الخبر يوجد المخبر عنه
، فلا يكون الكذب خبرا.
ولمّا بطل ذلك عرف
أنّ مدلول الصيغة هو الحكم بالنسبة ، لا نفس النسبة.
قيل : هذا الحكم
ليس هو الاعتقاد ، فقد يخبر الإنسان عمّا لا يعتقد ، كمن يخبر بوجود زيد وهو لا
يعتقده ؛ ولا الإرادة ، لأنّ الإخبار قد يكون عن الواجب والممتنع ، مع أنّ الإرادة
يمتنع تعلّقها بهما ، فلم يبق إلّا أن يكون الحكم الذهني مغايرا لجنس الاعتقادات
والقصود ، وذلك هو كلام النفس ، ولم يقل به إلّا الأشاعرة.
وفيه نظر ، لمنع
الإخبار عمّا لا يعتقده المخبر. نعم توجد صورة الإخبار وصفته ، كالسّاهي والحاكي ،
لا نفس الخبر ثمّ إنّه مخالف للأشعرية ، لأنّهم يقولون بمغايرة الكلام النفساني
للخبر وغيره من أساليب الكلام.
__________________
البحث السادس : في
أقسامه
اعلم أنّ الخبر
ينقسم ثلاثة أنواع :
الأوّل : انقسامه
إلى الصدق والكذب.
الثاني : إلى
التواتر والآحاد.
الثالث : إلى ما
يعلم صدقه ، وما يعلم كذبه ، وما يجهل فيه الأمران.
وهذه متداخلة.
وقد أطبق
المحقّقون كافّة على أنّ القسمة إلى الصدق والكذب حاصرة وأنّه لا ثالث لهما ، لأنّ
الخبر إمّا مطابق للمخبر عنه أو لا.
والأوّل الصدق
والثاني الكذب. وأثبت الجاحظ واسطة بينهما ، لقوله تعالى : (أَفْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَمْ بِهِ
جِنَّةٌ) ، حصروا دعوى النبوة في الكذب والجنّة ، وليس إخباره
بالنبوة حالة الجنون كذبا ، لأنّهم جعلوها في مقابلة الكذب ؛ ولا صدقا لأنّهم لم
يعتقدوا صدقه ، فتثبت الواسطة وهي حالة الجنّة بين الصدق والكذب.
__________________
ولأنّ من أخبر عن
حصول زيد في الدار عن ظن ، ثمّ ظهر البطلان ، لم يحكم بكذبه في هذا الخبر ولا
يستحق الذم ؛ وليس صدقا ، لعدم المطابقة.
ولو أخبر عن حصوله
في الدار مع اعتقاد أنّه ليس فيها وكان فيها لم يوصف بالصدق ، ولا يستحق المدح ،
وإن كان خبره مطابقا ؛ ولا بالكذب للمطابقة.
فعلم أنّ المطابقة
وعدمها ليس كافيين في الوصف بالصدق والكذب ، بل لا بدّ من العلم والقصد.
ولأنّ أكثر
العمومات والمطلقات مخصّصة ومقيدة ، فلو كان الخبر الذي لا يطابق كذبا تطرّق الكذب
إلى كلام الشرع.
ولأنّ بين العلم
والجهل المركب واسطة في الاعتقاد وهي اعتقاد المقلد المطابق ، فجاز أن يثبت بين
الصدق والكذب واسطة في الخبر.
والجواب : الخبر
الذي قصد به الإخبار ، والمجنون لا قصد له ، فصار كالسّاهي والنائم إذا صدر عنهما
صيغة الخبر ، فإنّه لا يكون خبرا ، وحيث لم يعتقدوا صدقه لم يبق إلّا أن يكون
كاذبا أو لا يكون ما أتى به خبرا ، وإن كان بصورة الخبر.
وأيضا فإنّ فيه
نظرا ، لأنّ الكذب أعمّ من افترائه والافتراء أخصّ من نقيض الصدق الذي هو الكذب ،
فكأنّ الصورة التي باعتبارها كان أعمّ هي صورة الجنة ، ونمنع الكذب في صورة الجنّة
، ونمنع الكذب في صورة المخبر عن ظن مع عدم المطابقة وان لم يستحق الذم ، وكذا
نمنع الصدق مع
المطابقة وان لم
يستحق المدح ، وحمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد وإن لم يكن محمولا على
ظاهره ليس بكذب ، لأنّه محمول على مجازه ، معدول به عن حقيقته ، والمجاز ليس بكذب
، وأي ملازمة بين ثبوت الواسطة في الاعتقاد بين العلم والجهل المركّب وبين ثبوتها
في الخبر ، ولو كان التمثيل كافيا لثبتت الواسطة بين السلب والإيجاب وبين كلّ
قسمين أحاطا بطرفي النقيض.
احتجّ الجمهور
باتّفاق الأمّة على تكذيب اليهود والنصارى ، مع أنّا نعلم أنّ فيهم من لا يعلم فساد
تلك المذاهب.
واعترض بأنّ أدلّة الإسلام لمّا كانت قوية جليّة لا جرم أشبهت
حالهم حال من يخبر عن الشيء مع العلم بفساده.
والنزاع في هذه
المسألة لفظي حيث أطلق بعضهم الكذب على كلّ خبر غير مطابق ، وخصّصه آخرون باشتراط
الاعتقاد.
__________________
الفصل الثاني
في المتواتر
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في أنّه يفيد العلم
مقدّمة :
التواتر لغة مجيء
الواحد بعد الواحد بفترة بينهما ، قال تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا تَتْرا) ، أي رسولا بعد رسول بينهما فترة.
وكذا في الاصطلاح
عبارة عن توارد الأخبار على السمع خبرا بعد خبر ، لكن بشرط أن يكون تكثّر الأخبار
إلى أن يحصل العلم بقولهم.
وقد حدّ بعض
الأشاعرة التواتر بأنّه : عن جماعة بلغوا في الكثرة إلى حيث حصل العلم بقولهم. وهو
غلط ، فإنّ التواتر ليس هو الجماعة.
إذا عرفت هذا
فنقول : ذهب أكثر الناس إلى أنّه يفيد العلم ، سواء كان
__________________
خبرا عن أمور
موجودة في زماننا ، كالإخبار عن البلدان النائية ؛ أو عن أمور ماضية ، كالإخبار عن
وجود الأنبياء والملوك الماضين.
وأنكره السّمّنيّة
والبراهمة وقالوا : إنّه يفيد الظنّ.
ومنهم من يسلم
إفادته العلم لو كان عن أمور موجودة في زماننا لا في الأمور السالفة.
لنا : انّا نجد أنفسنا جازمة بوجود البلاد النائية والأمم
الخالية والأنبياء والملوك الماضية جزما ضروريا جاريا مجرى جزمنا بالمشاهدات ،
فالمنكر لها مكابر.
فإن قيل : الظنّ
لا شك في وجوده أمّا العلم فلا ، لكن الظنّ إذا كان قويا اشتبه بالعلم ، وهو هنا
كذلك لا أنّه معلوم.
أمّا أوّلا ،
فلأنّه فرع تصوّر إجماع الخلق الكثير على الإخبار بشيء واحد ، وهو ممنوع لاختلافهم
في الأمزجة والأخلاق والآراء والأغراض وقصد الصدق والكذب ، وكما لا يتصوّر اتّفاق
الخلق الكثير على أكل طعام واحد معيّن واتّفاق أهل بلد على محبة الخير أو الشر ،
كذا لا يتصوّر اتّفاقهم على الصدق.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ كلّ واحد يجوز عليه الكذب حالة الانفراد فكذا حالة
__________________
الاجتماع ، وإلّا
انقلب الجائز ممتنعا ، وإذا جاز الكذب على كلّ واحد حالة الاجتماع ، والجملة عبارة
عن الآحاد مجتمعة ، جاز الكذب عليها فلا نعلم صدقهم.
وأيضا هذا العلم
يمتنع أن يكون يقينا لوجوه :
الأوّل : أنّه
يجوز أن يخبرنا جماعة مثلهم بنقيض خبرهم ، مثلا يخبر جماعة لا يجوز تواطؤهم على
الكذب بوجود زيد ويخبرنا مثلهم بموته ، ويستحيل حصول العلم بالنقيضين وعدم
الأولوية في أحدهما.
الثاني : لو أفاد
خبر الجماعة العلم يحصل العلم بما ينقله اليهود عن موسى عليهالسلام والنصارى عن عيسى عليهالسلام من الأمور المكذّبة لنبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا علمناه بالتواتر ويستحيل تناقض العلوم.
الثالث : لو حصل
العلم الضروري بخبر المتواتر لما خالف في نبوة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم أحد ، لأنّ عاقلا لا يخالف ما يعلم ولا يعاند في اعتقاده.
الرابع : لو كان
معلوما لما وقع الفرق بين علمنا بوجود جالينوس
__________________
وأقليدس ، وبين علمنا بأنّ الواحد نصف الاثنين ، وانّه لا واسطة
بين النفي والإثبات ، لكن التفاوت معلوم وإنّما يحصل لو تطرق احتمال إلى الاعتقاد
الثاني ، وقيام الاحتمال فيه كيف كان يخرجه عن كونه يقينا.
الخامس : الجزم
بوجود مقتضى الخبر ليس أقوى من الجزم بأنّ ما شاهدناه ثانيا هو الذي شاهدناه
بالأمس مع أنّه ليس بقطعي ، لجواز أن يخلق الله تعالى مثله من كلّ وجه ، وهذا
التجويز ثابت عند المسلمين والفلاسفة.
لا يقال : تجويز
كونه مغايرا لما شهدته بالأمس يؤدي إلى الشكّ في المشاهدات ، والله تعالى وإن كان
قادرا ، لكن يمتنع منه تعالى لإفضائه إلى التلبيس.
لأنّا نقول : لا
نسلّم كون تجويزه يفضي إلى الشك في المشاهدات ، فإنّ المشاهد هو وجود هذان ، أمّا
أنّ هذا هو ذلك فليس بمشاهد لكن حكم من النفس يقع فيه الخطاء ، ولا يلزم من الشكّ
فيه الشك في المشاهد.
ودليل الامتناع لا
يدفع الإلزام ، لأنّ هذا الجزم إن كان بناء على ذلك البرهان كان الجاهل بالبرهان
جاهلا بذلك الجزم ، والعوام لا يعرفون هذا الدّليل ، فكان يجب أن لا يحصل لهم ذلك
الجزم.
السادس : لو كان
العلم الضروري حاصلا من خبر التواتر لم يخالف
__________________
فيه أحد ، لأنّ
الضروريات لا يخالف فيها.
والجواب من حيث
الإجمال ، ومن حيث التفصيل.
أمّا من حيث
الإجمال : فهو أنّ ذلك تشكيك في مقابلة الضروري ، فلا يسمع كشبه السوفسطائية.
وأمّا من حيث
التفصيل : فلو جوّزنا مساواته للظنّ لتطرق في كلّ ضروري ذلك ، واجتماع الخلق
الكثير على الإخبار بمحسوس ليس بمحال ، لجواز وقوعه بينهم بخلاف اجتماعهم على أكل
شيء معين. وجواز الكذب على كلّ واحد لا يستلزم جوازه على المجموع من حيث هو مجموع
، والمجموع وإن كان هو الآحاد لكن لا كلّ واحد ، ولا يمكن اجتماع الخلق الكثير على
الإخبار بما يناقض ما أخبر به الخلق الكثير إذا كان كلّ منهما مفيدا للعلم ، ففرضه
محال.
وتواتر اليهود
انقطع في قضية بخت نصر ، والنصارى لا تواتر لهم في المبدأ لقلّتهم جدّا.
__________________
والضروريات
المحسوسة أو التي هي مبدأ الإحساس لا يجب اشتراك الناس فيها ، والتواتر يفيد العلم
في الأمور المحسوسة لا في النبوة المستفادة بالبحث والنظر ، ونمنع التفاوت.
سلّمنا ، لكن لا
ينافي العلم الضروري فإنّ الضروريات متفاوتة ، والضرورة باتحاد ما شاهدناه ثانيا
مع ما شاهدنا أوّلا ضروري لا يقبل الشك ، والتجويز بالنسبة إلى القدرة لا ينافي
عدمه بالنسبة إلى الاعتقاد ، على أنّ جماعة قالوا العلم العادي قاصر عن الضروري.
والخلاف من المكابر لا يرفع الحكم الضروري ، كخلاف السوفسطائيّة.
البحث الثاني : في
أنّ العلم المستفاد منه ضروري
أكثر العقلاء على
ذلك. وقال أبو الحسين البصري وأبو القاسم البلخي من المعتزلة والجويني والغزالي والدقّاق من الأشاعرة : إنّه كسبي. وتوقّف المرتضى فيها.
لنا وجوه :
الأوّل : لو كان
نظريا لما حصل إلّا لمن كان من أهل النظر والتأمّل والبحث ، والتالي باطل فإنّه
حاصل للصّبيان والبله ، فيكون ضروريا.
__________________
اعترض أبو الحسين والمرتضى بشيء واحد وهو : أنّ الدليل ليس إلّا
ترتيب العلوم بأحوال المخبرين ، وهذا أمر حاصل للعامّة والمراهقين بحصول علوم
كثيرة لهم ، وهم قادرون على استنتاج علوم أخر من تركيبها اذا كانت مقدّماتها قريبة
من الطبع ، وإن عجزوا عن المسائل الغامضة كحدوث العالم ووجود الصانع والاستدلال
على صفاته ، وسيأتي بيان غموض الدليل لو كان.
الثاني : كلّ عاقل
يجد من نفسه العلم بوجود مكة وبغداد والبلاد النائية عند تواتر الأخبار عليه ، مع
أنّه لا يجد من نفسه سابقة فكر ونظر فيما يناسبه من العلوم المتقدّمة عليه ولا في
ترتيبها المفضي إليه ، ولو كان نظريا لتوقّف على المقدّمات وترتيبها.
الثالث : العلم
بخبر المتواتر لا ينتفي بالشبهة ، وهذه هي أمارة الضرورة.
الرابع : لو كان
نظريا لأمكن الإضراب عنه كما في سائر النظريات ، وحيث لم يمكن ذلك دلّ على كونه
ضروريا.
الخامس : لو كان
نظريا لوقع فيه الخلاف بين العقلاء كغيره ، وحيث لم يقع كان ضروريا.
احتجّ القائلون
بأنّه نظري بوجوه :
__________________
الأوّل : لو كان
ضروريا لما اختلف فيه العقلاء كغيره من الضروريات.
الثاني : خبر
المتواتر لا يزيد في القوة على خبر الله تعالى وخبر رسوله ، بل هو مماثل أو أدنى ،
والعلم بخبر الله ورسوله نظري ، فالمماثل الأدنى أولى.
الثالث : استدلّ
أبو الحسين بأنّ الاستدلال ترتيب علوم ليتوصل به إلى آخر ، فكلّ ما توقّف وجوده
على ترتيب فهو نظري ، والعلم الواقع بخبر المتواتر كذلك فكان نظريا.
وبيانه أنّه إنّما
يعلم عقيب الخبر لو علمنا أنّ المخبر لم يخبر عن رأيه ، بل عن أمر محسوس لا لبس
فيه وأنّه لا داعي له إلى الكذب ، فعلم أنّه لا يكون كذبا فيكون صدقا ، ومهما
اختلّ شيء من هذه الأمور لم يعلم صحّة الخبر ، وهذا هو معنى النظري.
والجواب عن الأوّل
: بالمنع من الملازمة ، فإنّ كثيرا من الضروريات قد اختلف العقلاء فيها إمّا لقصور
فهمهم عن تصوّراتها ، أو لعدم أسبابها عندهم كالأعمى والأخرس.
وعن الثاني :
بالمنع ، فإنّ خبر الله تعالى ورسوله متوقّف على العلم بهما ، وهو نظري ، فكذلك
كان ما يتوقّف عليه نظريا.
وعن الثالث : أنّ
كلّ ضروريّ يمكن فرض مثل هذا التوسط فيه وهذا الترتيب.
البحث الثالث : في
احتجاج من ادّعى الاكتساب
احتجّ أبو الحسين على أنّ خبر التواتر صدق بأنّه لو كان كذبا لكان المخبرون
إمّا أن يخبروا مع علمهم بكونه كذبا ، أو لا معه. والتالي بقسميه باطل ، فالمقدّم
مثله ، وإذا بطل كونه كذبا وجب أن يكون صدقا ، فكان مفيدا.
أمّا بطلان الأوّل
، فلأنّهم إن قصدوا الكذب لا لغرض ومرجّح لزم حصول الفعل عن القادر مع ثبوت الصارف
، وهو الكذب الّذي هو قبح ، وجهة القبح صارفة ، وانتفاء الدّاعي فرضا ، وهو محال.
وإن قصدوه لغرض ،
فإمّا نفس كونه كذبا ، وهو محال ، لأنّه جهة صرف لادعاء ؛ وإمّا غيره ، فإمّا أن
يكون دينيا أو دنيويا.
وعلى التقديرين
فإمّا أن يكون رغبة أو رهبة.
وعلى التقديرات
فإمّا أن يقال كلّهم كذبوا لداع واحد من هذه الأقسام ، أو يختلفون فيه.
وعلى كلّ
التقديرات فإمّا أن تحصل تلك الدواعي بالمشافهة ، أو بالتراسل. والأقسام كلّها
باطلة.
أمّا انتفاء داعية
الدين فلأنّ قبح الكذب متّفق عليه بين الأديان ، سواء كان ذلك عقليا أو شرعيا ،
فكان صارفا دينيا لا داعيا دينيا.
__________________
وأمّا الرغبة
الدنيوية فإمّا رجاء عوض على الكذب ، وهو باطل ، لأنّ بعض الناس لا يرضى على الكذب
العوض الكبير وإن احتاج ، أو لأجل أن يسمع غيره شيئا غريبا وإن لم يكن له أصل ،
والأكثر لا يرضى لنفسه ذلك.
وأمّا الرهبة
فإنّما تكون من السّلطان ، ويتعذّر عليه جمع الخلق العظيم على الكذب ، فإنّا نشاهد
عجزه عن ذلك في أهل بلد واحد لعدم علمه بكلّ واحد فلا يجعله مضطرا إلى الكذب.
ولأنّ السلطان كثيرا ما يخوّف الرّعية عن التحدّث بشيء ثمّ يظهر منهم آخر الأمر.
ولأنّا نعلم في
كثير من الأمور انتفاء غرض السّلطان في الحمل على الكذب. ولا يجوز أن يقال :
الجماعة الكثيرة كذب بعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم للتديّن ، لأنّ كلامنا في
جماعة عظيمة أبعاضها جماعات عظيمة يمتنع تساوي أحوالها في قوة هذه الدواعي.
وأمّا بطلان كذبهم
لا مع العلم بالكذب ، فلأنّه غير ممكن إلّا مع الاشتباه ، ولا يمكن وقوع الاشتباه
في الضروريات ، وشرط التواتر استناده إلى ضروري محسوس ، هذا إن أخبرونا عن
المشاهدة.
وإن أخبرونا عن
جماعة أخبروهم عن المحسوس ، أو عن جماعة أخرى أيضا ، فإنّه لا يحصل العلم إلّا بعد
اتّصاف الوسائط والطرفين بشرائط التواتر.
وإنّما يعلم بأن
يخبرنا أهل التواتر أنّ أولئك الماضين كانوا جامعين للشرائط.
وأنّ كلّ ما ظهر
بعد خفاء ، وقوي بعد ضعف فلا بدّ وأن يشتهر بين الناس حدوثه ووقت حدوثه ، كما
اشتهرت مقالة الكرّامية والجهمية وحدوثها ووقت حدوثها ، ولمّا لم يظهر شيء من ذلك
عرف أنّ الأمر كذلك في كلّ الأزمنة.
وهذا على طوله لا
يفيد اليقين لوجوه :
الأوّل : التقسيم
إنّما يكون قطعيا لو اشتمل على طرفي النقيض وبطلان ما عدا المطلوب ، وهذه
التقسيمات ليست كذلك.
الثاني : يجوز أن
يكذبوا لا لغرض ولا يفتقر الفعل إلى المرجّح وإلّا لزم الجبر ، لأنّ قدرة العبد
صالحة للضدين وإلّا لزم الجبر ؛ فإن افتقر في ترجيح أحدهما إلى مرجّح ، فإن كان من
العبد تسلسل ، وإن كان منه تعالى فإن وجب ترتّب أثره عليه لزم الجبر ، وإلّا كان
اختصاص وقت الترتّب دون الآخر إن كان لمزية اختصّ بها ذلك الوقت ، فقبلها لم يكن
المرجّح التام حاصلا ، وقد فرضناه حاصلا ، هذا خلف.
ثمّ ينقل الكلام
إلى تلك المزية ، إمّا أن يكون من فعله تعالى أو من فعل العبد. وإن لم يكن لمزية
تساوت الأوقات ، فالترجيح في بعضها يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن لا لمرجح ، وهو
محال.
فظهر أنّ العبد إن
لم يحصل له مرجّح من الغير امتنع أن يكون فاعلا ، ومع المرجّح من الغير يجب فعله ،
وهو عين الجبر.
سلّمنا انّ بتقدير
حصول المرجّح من الغير لا يجب ترتّب الأثر عليه
لكن الإشكال باق ،
لأنّ حصول مرجّح الوجود إذا جاز أن لا يوجد كان العدم واقعا لا عن مرجّح ، لأنّ
عند حصول مرجّح الوجود يستحيل حصول مرجّح العدم ، فعند حصول مرجّح الوجود لو حصل
العدم لكان لا عن مرجّح ، وإذا جاز ذلك بطل قولك : الفعل لا يقع إلّا عن الداعي ،
فجاز من أهل التواتر أن يكذبوا لا لداع.
وفيه نظر ، لما
تقدّم مرارا من أنّ الوجوب المستند إلى الداعي لا ينافي القدرة.
الثالث : عند حصول
الصارف إن وجب الترك لزم الجبر ، وإلّا جاز الكذب عند الصارف.
وفيه نظر ، لعدم
الجبر والوجوب بالنظر إلى الدّاعي.
الرابع : سلّمنا
وجود الصارف لكن يجوز وجود شهوة متعلّقة بالكذب لكونه كذبا فيقدّم عليه لا لغرض
سواه.
لا يقال : يستحيل
أن يشتهي العاقل الكذب بمجرد كونه كذبا ، ولو جاز في الواحد والاثنين لم يجز في
الخلق الكثير كما جاز في الواحد أكل طعام معين في وقت بعينه ويمتنع اجتماع الخلق
كلّهم عليه.
لأنّا نقول :
يمتنع امتناع ذلك ، فإنا نرى جماعة اعتادوا الكذب ولا يصبرون عنه وهم يعلمون ضرره
عاجلا وآجلا ، واجتماع الخلق العظيم على أكل طعام معيّن وإن كان مظنون العدم لكنّه
ليس معلومه ، كيف وانّه جائز على كلّ واحد؟ وجوازه على كلّ واحد لا يمنع صدوره عن
الباقين ،
فيكون صدوره عن
الكلّ كصدوره عن كلّ واحد ، ومع هذه الحجّة القطعية كيف يدّعى الامتناع منه؟
وفيه نظر ، لأنّ
الجواز هنا كالجواز في العلوم العادّية ، وكما أنّ ذلك الجواز لا ينافي القطع
بالعدم كذا هنا.
الخامس : لا نسلّم
الحصر في الغرض الديني والدنيوي والرغبة والرهبة.
وفيه نظر ، فإنّ
الغرض ثابت بين ما يتعلّق بمصالح الدنيا وبين ما يتعلّق بمصالح الآخرة ، وذلك
الغرض إمّا جلب نفع أو دفع ضرر.
السادس : سلّمنا
لكن جاز أن يكون لمصلحة دينية ، ونمنع اتّفاق الناس على تحريمه ، فإنّ منهم من
اعتقد جوازه ، بل وجوبه إذا أفضى إلى مصلحة في الدين والدنيا ، ولهذا فإنّ كثيرا
من الزهاد وضعوا أشياء كثيرة من الأحاديث في فضائل الأوقات لغرض حمل الناس على
العبادات ، فلعلّهم اتّفقوا على الكذب لما اعتقدوا فيه مصلحة دينية.
السابع : جاز أن
يكون لرغبة دنيوية ولا ينحصر في أخذ المال وإسماع الغير كلاما غريبا ومع الحصر
نمنع فسادهما ، ونمنع القطع بامتناع اشتراك الخلق العظيم في الرغبة إلى أحدهما ،
فإن حصل اعتقاد فظني فإنّه إذا جاز في العشرة والمائة جاز في الكلّ ، لأنّ ثبوت الحكم
للبعض لا يمنع من ثبوته للباقي ؛ فإنّا نعلم لو أنّ أهل بلد علموا أنّ سائر البلاد
لو عرّفوهم ما في بلدهم من الوباء العامّ لامتنعوا من المضيّ إليهم فتختل معيشتهم
، فإنّه يجوز
حينئذ تطابق أهل
البلدة على الكذب وإن كثروا جدا ، فقد اتّفق الخلق العظيم على الكذب للرغبة.
الثامن : جاز
تطابقهم للرهبة ، ونمنع ادّعاء اليقين في عدم تمكّن السلطان من ذلك.
لا يقال : أخذ
العلم الضروري بذلك من غير دلالة.
لأنّا نقول : هذا
الاعتقاد ليس أقوى من اعتقاد وجود محمد وموسى وعيسى عليهمالسلام فادّعوا الضرورة في ذلك.
التاسع : يجوز اختلاف
دواعيهم فبعضهم للرغبة وبعضهم للرهبة وبعضهم بالمشافهة وبعضهم بالتراسل ، وليس من
شرط التواتر أن يكون أبعاض عدده بالغين حد التواتر ، وإلّا لزم اشتراط ذلك في
أبعاض الأبعاض ويتسلسل.
يجوز أن يكذبوا
سهوا للاشتباه ، وهو جائز في المحسوسات عقلا ونقلا.
أمّا عقلا ،
فلأنّه تعالى قادر على خلق مثل زيد في شكله وتخطيطه فينتفي الاعتماد على التواتر ،
لجواز أن يشاهدوا مثل زيد فيخبروا بوجود زيد فإنّ الأجسام المعدنية والنباتية
متشابهة بحيث يعسر التمييز بينهما ، فيجوز في الأشخاص مثله [وإن كان نادرا] ،
والندرة لا تمنع الاحتمال.
ولأنّ غلط الناظر
أمر مشهور ، فإنّ الإنسان قد يشاهد المتحرك ساكنا وبالعكس ، وهو يقتضي اللبس في
الحسيّات.
وأمّا نقلا ، فإنّ
المسيح شبّه بغيره ، وجبرئيل عليهالسلام جاء إلى النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في صورة دحية الكلبي ، وتشكّلت الملائكة يوم بدر بأشكال
بني آدم ، وقد يحصل للإنسان عند الخوف الشديد أو الفكر الشديد صور لا تحقّق لها في
الخارج ، وكلّ ذلك يقتضي الاشتباه.
لا يقال : تشبّه
المسيح بغيره كان في زمن عيسى عليهالسلام وخرق العادة في زمن الأنبياء جائز لا في غيره ، ولأنّ
المصلوب تتغيّر خلقته وتشكّله فيكون الاشتباه فيه أكثر ، والمباشرون لذلك العمل
كانوا قليلين يجوز عليهم الكذب عمدا ، ولأنّهم نظروا إليه من بعيد وهو مظنة
الاشتباه.
لأنّا نقول :
جوازه في زمن الأنبياء يقتضي عموم الجواز فينتفي القطع ، ولأنّ الكرامات جائزة ،
ومنعها لا يسمع من أبي الحسين لاعترافه بها ؛ ولأنّ امتناعها ليس بضروري بل ببرهان
فقبل العلم به ، يبقى التجويز ثابتا ، والعلم بصحّة التواتر متوقّف على صحّة فساد
هذا الاحتمال ، فمن لا يعرف امتناع الكرامات لا يحصل له العلم بالتواتر.
والتغيير إنّما هو
بعد الصلب لا حالته ، والاشتباه حصل حال الصلب ، إذ لو ميّزوا بين ذلك الشخص وبين
المسيح لم يصلبوه.
والذين مارسوا
الصلب كانوا قريبين وناظرين إليه ، والنصارى تواتروا على أنّه بقي بعد الصلب وقبل
الموت مدة طويلة بحيث يراه الجمع العظيم في بياض النهار.
وليس بجيّد ، لأنّ
القرآن العزيز يدفع ذلك.
العاشر : سلّمنا
حصول العلم عقيب التواتر عن الأمور الموجودة ، لكنّا نمنع الشرائط في الأمور
الماضية ، ونمنع إخبار كلّ واحد من الّذين أخبروه باجتماع الشرائط فيمن أخبرهم ،
أقصى ما يقال : إنّهم أسندوه إلى السماع من أشخاص كثيرة ، فإنّ أكثر الفقهاء
والنحويين لا يعرفون هذه الدعوى ، فكيف يدّعى عليهم بذلك.
الحادي عشر : نمنع
ظهور المقالات الحادثة ووقته ، لجواز أن يضع الواحد مقالة ويذكرها لجماعة قليلين ،
وكلّ منهم يذكره لجماعة أخرى من غير اسناد إلى القائل الأوّل إلى أن يشتهر ذلك
الخبر جدا ، مع أنّ واحدا منهم لا يعرف زمان حدوثها ، وباعتبار ذلك تحصل الأراجيف
بين الناس ؛ ولأنّ الوقائع الكبار لعظماء الملوك قبل الإسلام وكيفية وقائع
الأنبياء السابقين لم تنقل آحادا ، فكيف تواترا مع أنّها من العظائم.
لا يقال : عدم
النقل لتطاول المدة أو لعدم الداعي إلى نقلها.
لأنّا نقول : لا
بدّ من ضبط طول المدة وقصرها ، ولأنّه يلزم أن لا يكون خبر التواتر بوجود نوح
وإبراهيم عليهماالسلام مفيدا للعلم ، لأنّه لا يفيد ما لم يثبت استواء الطرفين
والواسطة في نقل الرواة ، ولا يثبت ذلك إلّا بأنّه لو كان موضوعا لاشتهر الواضع
وزمان الوضع ، فإذا لم يجب ذلك عند تطاول المدة لم يفد ذلك الخبر العلم.
سلّمنا ، لكن يعارض
بوجوه :
الأوّل : لو أفاد
العلم لكان إمّا ضروريا ، وهو باطل ، لأنّ الضروري لا
يلزم من الشكّ في
غيره من القضايا الشك فيه ؛ وهنا يلزم ، لأنّا لو جوّزنا كذبهم إما لغرض أو لا له
، لم يحصل الجزم بأنّ الأمر كما أخبروا ، فلا يكون العلم ضروريا.
وأمّا نظريا ، وهو
باطل ، لعدم النظر في حقّ الصبيان والمجانين فكان لا يحصل لهم العلم ، لكن اعتقاد
العقلاء هنا لا يزيد في القوة على اعتقاد الصبيان والبله ، فإذا لم يكن اعتقادهم
علما فكذا العقلاء.
وفيه نظر ، فإنّ
فرض الشك في سبب الضروري يقتضي الشك فيه ، وهنا الشك وقع في سببه.
الثاني : كون
التواتر مفيدا للعلم يتوقّف على عدم تطرق اللبس على الحس ، لكنّ اللبس ثابت على ما
مرّ فلا يفيد التواتر العلم.
الثالث : ان حصل
العلم عقيب التواتر مع جواز أن لا يحصل امتنع القطع بحصوله ، فلا يمكن القطع
بإفادة التواتر العلم ، بل جرى حصول العلم عقيب التواتر مجرى حصوله عند صرير الباب
وسماع صوت الغراب.
وإن حصل مع وجوبه
فالمستلزم ليس قول كلّ واحد للعلم الضروري بأنّ قول الواحد لا يفيد العلم ، ولأنّ
قول كلّ واحد إذا استقلّ بالاستلزام فإن حصلت دفعة اجتمع على الأثر الواحد مؤثرات
كثيرة ، وهو محال ؛ وإن تعاقبت فإن حصل بالسابق امتنع حصوله باللاحق لامتناع تحصيل
الحاصل ومثله فيخلو اللاحق عن التأثير ، فالعلة القطعية منفكة عن معلولها ، وهو
محال.
ولا قول المجموع ،
لأنّ قول كلّ واحد إن بقي عند الاجتماع كما كان عند الانفراد ولم يحدث زائد عند
الاجتماع ، فكما لم يكن الاستلزام حاصلا عند الانفراد لم يحصل عند الاجتماع.
وإن حصل زائد إمّا
بالزوال أو الحدوث فالمقتضي له إن كان كلّ واحد عاد المحذور ، وإلّا تسلسل.
ولأنّ المستلزمية
نقيض اللامستلزمية الّتي هي عدمي ، فالمستلزمية ثبوتية ، فلو كانت صفة للمجموع لزم
حصول الصفة الواحدة في الأشياء الكثيرة ، وهو محال.
ولأنّ التواتر
غالبا إنّما يكون بورود خبر عقيب آخر ، فعند حصول كلّ واحد يكون الباقي معدوما فلا
وجود للمجموع في زمان البينة ، فيستحيل أن يكون المؤثر المجموع ، لأنّ إيجاد الغير
موقوف على وجود المؤثر.
ولأنّ المشهور أنّ
كلّ واحد لمّا لم يكن مؤثرا وجب أن لا يكون الكلّ كذلك ، كما أنّ كلّ واحد من
الزنج لما لم يكن أبيض استحال أن يكون الكلّ أبيض.
وفيه نظر ، فإنّ
المجموعية حاصلة بالضّرورة مع عود التقسيم فيها.
الرابع : المستلزم
للعلم إمّا آحاد حروف الخبر وهو باطل قطعا ، أو المجموع ، ولا وجود له فلا يستلزم
شيئا ولا الحرف الأخير بشرط وجود سائر الحروف قبله أو بشرط مسبوقية الحرف الأخير
بسائر الحروف ، لأنّ الشرط لا بدّ من حصوله حال حصول المشروط ، والحروف السابقة
غير
موجودة حال حصول
الحرف الأخير ؛ ومسبوقية الشيء بغيره ليست صفة ، وإلّا لكانت حادثة ، فمسبوقيتها
بالغير صفة أخرى وتسلسل ؛ وإذا كانت المسبوقية عدمية ، استحال أن يكون جزء العلة
أو شرطها.
وفيه نظر ، فإنّ
العلم الضروري حاصل عنه تعالى عقيب تواتر الأخبار لحصول العلم بالمحسوس عقيب
الإحساس منه تعالى.
واحتجّ منكرو (إفادة
التواتر عن الماضي العلم) بوقوعه عن أمور باطلة ، كتواتر اليهود والنصارى والمجوس
وغيرهم مع كثرتهم وتفرّقهم في الشرق والغرب في أمور باطلة عند المسلمين ، وهو يقدح
في التواتر.
لا يقال : شرط
التواتر استواء الطرفين والواسطة ، وهو منتف في هذه الفرق ، لقلّة اليهود في زمن
بخت نصر والنصارى في الابتداء وكذا المجوس.
لأنّا نقول : ليس
الطّريق إلى استواء الطّرفين والواسطة العقل المحض.
والنقل إن كان من
الواحد لم يفد العلم إلّا أن يكون معصوما.
أو من الجمع بأنّ
يخبر أهل التواتر على كثرتهم أنّهم كانوا كذلك أبدا ، لكن كما يدّعي المسلمون ذلك
كذا هذه الفرق.
والمركّب من العقل
والنقل بأن يقال : لو كان خبرنا موضوعا لعرّفنا أنّ الأمر كذلك. وقد عرفت ضعف ذلك.
__________________
ثمّ إنّ جميع
الفرق يصحّحون تواترهم بهذه الطريقة ، فلا أولوية في قبول أحدهم دون الباقين.
ونمنع استيصال بخت
نصّر ، لأنّهم أمّة عظيمة يمتنع فيهم ذلك.
ولو لم يكن
النصارى في المبدأ قد بلغوا حد التواتر لم يكن شرعه حجة إلى زمان ظهور محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وهذه الأسئلة
والمعارضات لا شك في فساد بعضها ، لكن ذلك إنّما يكفي في ادّعاء الظنّ القوي لا
اليقين التام.
وقول أبي الحسين :
«إنّ الاستدلال بخبر التواتر على صدق المخبرين سهل متقرر في العقول حتى الصبيان
والبله» ليس بحق ، ولا يتمّ مقصوده إلّا بعد الجواب عن هذه الإشكالات. وإنّما يمكن
بعد تدقيق عظيم ، وكلّ عاقل يعلم أنّ علمه بوجود مكة ومحمد صلىاللهعليهوآلهوسلم أظهر من علمه بصحّة هذه الدلالة ، وإبطال ما فيها من
الأقسام سوى القسم المطلوب ، ولا يجوز بناء الواضح على الخفي.
فالحقّ أنّ العلم
الحاصل عقيبه ضروري ، ولا يحتاج إلى الجواب حينئذ.
__________________
البحث الرابع : في
شرائط التواتر
وفيه مطلبان :
المطلب الأوّل :
في الشرائط الصحيحة
الضابط في اجتماع
الشرائط حصول العلم عقيب الإخبار ، فإن حصل علم أنّه متواتر ، وإلّا فلا حاجة إلى
اعتبار حال المخبرين ، بل الواجب أن يعتبر السامع حال نفسه ، فإن حصل العلم عرف
حصول الشرائط فيهم ، فنقول :
لو لم يكونوا على
هذه الصفة لم يقع العلم بخبرهم ، ثمّ الشرائط المتّفق عليها إمّا أن ترجع إلى
المخبرين ، أو إلى السامعين :
أمّا الأوّل فأربعة :
١. أن ينتهوا في
الكثرة إلى حدّ يمتنع تواطؤهم على الكذب.
٢. أن يكونوا
عالمين بما أخبروا به لا ظانّين.
٣. أن يستند علمهم
إلى الحسّ لا إلى العقل.
٤. استواء
الطّرفين والواسطة في هذه الشروط ، لأنّ خبر أهل كلّ عصر مستقل بنفسه وكانت هذه
الشروط معتبرة.
وأمّا الثاني فأمران :
١. أن لا يكونوا
عالمين بما أخبروا عنه اضطرارا ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، ومثله التقوية في
الضروري.
٢. قال السيد
المرتضى : يجب أن لا يكون السّامع قد سبق بشبهة أو تقليد إلى اعتقاد نفي موجب
الخبر ، لأنّ العلم الحاصل عقيب التواتر إذا كان بالعادة جاز أن يختلف باختلاف
الأحوال ، فيحصل للسامع إذا لم يكن قد اعتقد نقيض ذلك الحكم قبل ذلك ، ولا يحصل له
إذا اعتقد ذلك.
قال السيّد :
وإنّما احتجنا إلى هذا الشرط لئلّا يقال لنا : أيّ فرق بين خبر البلدان والأخبار
الواردة بمعجزات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غير القرآن ، كحنين الجذع وانشقاق القمر ، وتسبيح الحصى ،
وأي فرق أيضا بين الخبر عن البلدان وعن النصّ الجلي على أمير المؤمنين عليهالسلام الذي ينقله الإمامية ، وإلّا جاز أن يكون العلم بذلك كلّه
ضروريا.
لا يقال : يلزمكم
أن تجوزوا صدق من أخبر بأنّه لم يعلم بوجود البلدان الكبار والحوادث العظام
بالأخبار المتواترة ، لأجل شبهة اعتقدها في نفي تلك الأشياء.
لأنّا نقول : لا
داعي يدعو العقلاء إلى سبق اعتقاد نفي هذه الأشياء ، ولا شبهة في نفيها .
__________________
تذنيب :
يشترط أن يكون
المستمع متأهلا لقبول العلم بما أخبر به ، وإن جعلنا العلم الحاصل عن التواتر
ضروريا أمكن كون السّامع عالما بالاكتساب.
المطلب الثاني :
في أمور ظنّ أنّها شروط
الأوّل : العدد
ظن قوم أنّ لحصول
العلم عقيب خبر التواتر يشترط عدد معيّن. وليس بحق ، فإنّ العلم هو القاضي بعدد
الشهادات دون العكس ، فربّ عدد أفاد العلم في قضية أو لشخص ولا يحصل مع مثله في
تلك القضية لغير ذلك الشخص ، أو في غيرها له.
واختلف هؤلاء فقال
بعضهم أقل العدد خمسة.
وجزم القاضي أبو
بكر بأنّ قول الأربعة لا يفيد العلم ، قال : وأتوقّف في الخمسة. لأنّ ما دونها وهو الأربعة بيّنة شرعية يجوز للقاضي عرضها
على المزكّين بالإجماع ليحصل عليه الظنّ ، ولو كان العلم حاصلا بقول الأربعة لما كان
كذلك ، ولأنّه لو حصل العلم بقول أربعة صادقين لوقع بخبر كلّ أربعة صادقين ،
والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
__________________
بيان الشرطية :
أنّه لو وقع بقول أربعة ، ولا يقع بقول مثلهم مع تساوي الأحوال والقائلين
والسامعين في جميع الشروط ، لم يمتنع أن تخبرنا قافلة الحاج بوجود مكة فنعرفها ،
ثمّ يخبروننا بأعيانهم بوجود المدينة ولا نعرفها ، ولمّا بطل ذلك ، صحّ قولنا.
وأمّا بطلان
التالي ، فلأنّه لو وقع العلم بخبر كل أربعة إذا كانوا صادقين لكان إذا شهد عند
الحاكم أربعة بالزنا ، فإن حصل العلم بخبرهم كانوا صادقين واستغنى القاضي عن
الاستزكاء ، وإن لم يحصل قطع بكذبهم فاستغنى عن الاستزكاء أيضا ، ولمّا لم يكن
كذلك ، بل أجمعوا على إقامة الحدّ وإن لم يعلم القاضي صدقهم ، علمنا أنّ العلم لا
يحصل بخبر الأربعة.
اعترض بمنع الملازمة ، ولا يلزم من حصول العلم بقول أربعة حصوله
بقول كلّ أربعة.
لأنّ العلم عقيب
الإخبار من قبله تعالى فجاز أن لا يخلق العلم عند أربعة ويخلقه عند أربعة أخرى
غيرها ، ولا يستمر العادة في ذلك على قانون واحد ، وإن استمرت في إخبارات الجماعات
الكثيرة ، كما أنّ التكرار على البيت الواحد ألف مرة سبب الحفظ مطردا ، وتكراره
مرتين أو ثلاثا قد يكون سبب لحفظه وقد لا يكون.
سلّمنا انّ اطّراد
العادة في شيء يقتضي اطّرادها في مثله ، لكن لا يلزم من حصول العلم عقيب رواية
أربعة حصوله عقيب شهادتهم ؛ فإنّ الشهادة
__________________
وإن كانت خبرا في
المعنى لكن لفظها يخالف لفظ الخبر الّذي ليس بشهادة ، فجاز أن يجري الله تعالى
العادة بخلق العلم عقيب الخبر دون عقيب الشهادة.
سلّمنا : عدم
تأثير الفرق بين لفظ الشهادة ولفظ الخبر الذي ليس بشهادة ، لكن جاز أن يقال : لمّا
كان من شرط الشهادة اجتماع المخبرين عند الشهادة والاجتماع يوهم الاتّفاق على
الكذب ، فلم يفد العلم بخلاف الرواية.
سلّمنا : انّ ما
ذكرتم يقتضي الجزم بأنّ الأربعة لا يفيد قولهم العلم ، لكنّه يقتضي أنّ قول الخمسة
كذلك ، لأنّه لو أمكن أن يفيد فإذا شهدوا عند الحاكم فإن كانوا صادقين أفاد قولهم
العلم الضروري ، وإن لم يحصل وجب القطع بكذبهم.
سلّمنا : لكن يلزم
أن يقطعوا بأنّ عدد القسامة يفيد العلم كما تقدّم في الخمسة.
وأجيب بورود
الثلاثة الأول. وعن المعارضة بالخمسة بجواز وقوع العلم بخبر خمسة ، والحاكم لم
يعلم صدقهم ، وإن وجب عليه إقامة الحد ، لجواز أن يشاهد أربعة منهم والخامس لم
يشاهده ، فلزمه إقامة الحد بقول أربعة منهم وإن لم يعرفهم بأعيانهم وكان الخامس
كاذبا فوجب عليه البحث عن التزكية ، بخلاف الأربعة فإنّه إذا لم يحصل العلم بقولهم
: وجب أن يكون فيهم واحد كاذبا.
وبهذا التقدير
تسقط الحجّة بقولهم ، ولزم الحاكم ردّ قولهم ، وإقامة الحد عليهم.
وهذا الجواب يقتضي
القطع بكذب واحد ، والقطع بأنّ قول الخمسة لا يفيد العلم أصلا ، أو القول بأنّه لا
يلزم من كون قول خمسة مفيدا للعلم أن يكون قول كلّ خمسة كذلك.
وقال أهل العراق
عن القسامة : إنّه يحلف خمسون من المدّعى عليهم أنّ كلّ واحد منهم ما قتل ، ولا
عرف قاتلا ، فكلّ واحد يخبر عن غير ما يخبر عنه الآخر.
وعند الإمامية
والشافعية يحلف خمسون من المدّعين كلّ واحد منهم بحسب اعتقاده ، فخبر كلّ واحد غير
خبر الآخر.
وقال آخرون : إنّ
أقلّ عدد يحصل التواتر معه اثنا عشر بعدد نقباء بني إسرائيل ؛ قال تعالى : (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ
نَقِيباً) خصّهم بذلك العدد بحصول العلم بخبرهم.
وقال أبو الهذيل :
أقلّه عشرون ، لقوله تعالى : (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) أوجب الجهاد على العشرين ، وإنّما خصّهم بالجهاد لأنّهم
إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم.
وقال قوم : أقلّه
أربعون ، لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ
__________________
اتَّبَعَكَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) نزلت في الأربعين ، ولأنّه عدد أقلّ الجمعة.
وقال قوم سبعون ؛
لقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى
قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً) خصّهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون.
وقال آخرون :
ثلاثمائة وثلاثة عشر عدد أهل بدر ، خصّوا بذلك ليعلم ما يخبرون به المشركين.
وقيل : عدد بيعة
الرضوان.
والحقّ خلاف ذلك
كلّه ، وأنّه لا ضابط في ذلك ولا عدد معلوم فيه ، فإنّه لا عدد يفرض إلّا ويمكن
عقلا صدور الكذب فيه ، وأنّ الناقص عنه بواحد أو الزائد عليه بواحد لا يتميّز عنه
في جواز الكذب.
لا يقال : إذا كان
العلم معرّفا لكمال العدد لم يمكن الاستدلال به على الخصم.
لأنّا نقول : لا
يستدلّ على حصول العلم في التواتر ، بل المرجع فيه إلى الوجدان.
الثاني : شرط قوم في أهل التواتر أن لا
يحويهم بلد ، ولا يحصرهم عدد. وهو غلط ؛ فإنّ أهل الجامع لو أخبروا بسقوط المؤذن من المنارة فيما بين الخلق
أفاد العلم.
الثالث : شرط اليهود أن لا يكونوا على
دين واحد. وهو غلط ، فإنّ
__________________
التهمة إن حصلت لم
يحصل العلم ، اتّحدت الأديان أو اختلفت ، وإن لم تحصل حصل العلم كيف كانت أديانهم.
الرابع : شرط قوم أن لا يكونوا من نسب
واحد ، ولا من بلد واحد ؛ وهو باطل ، لما
تقدّم.
الخامس : شرط ابن الراوندي وجود المعصوم
فيهم لئلّا يتّفقوا على
الكذب وهو غلط ؛ لأنّ المفيد للعلم حينئذ قول المعصوم ولا عبرة بغيره.
السادس : شرط بعضهم الإسلام والعدالة ؛ لأنّ الكفر عرضة للكذب ، والتحريف والإسلام والعدالة ضابط
الصدق ، وبهذا اعتبر إجماع المسلمين دون غيرهم ؛ ولأنّه لو وقع العلم عند إخبار
الكفّار لوقع عند إخبار النصارى مع كثرتهم عن قتل المسيح وصلبه ، وهو غلط ، فإنّ
العلم قد يحصل عند خبر الكفّار إذا عرف انتفاء الداعي إلى الكذب ، كما لو أخبر أهل
بلد كافرون بقتل ملكهم ، والإجماع اختصّ بالمسلمين عند بعضهم لاستفادته من السمع
المختص بإجماع المسلمين ، وأخبار النصارى غير متواترة لقلّتهم في المبدأ.
السابع : شرطت اليهود أن يكون مشتملا
على إخبار أهل الذلّة والمسكنة ليؤمن تواطؤهم على الكذب. وهو غلط ؛ فإنّا نجد العلم حاصلا عقيب إخبار الأكابر
والمعظّمين والشرفاء أكثر من حصوله عقيب خبر المساكين وأهل الذلّة ، لترفع أولئك
عن رذيلة الكذب لئلّا يثلم شرفهم.
__________________
البحث الخامس : في
التواتر المعنوي
اعلم أنّ الأخبار
التي لا تفيد العلم قد تشترك في معنى كلّي يبلغ حدّ التواتر وإن كانت الجزئيات
آحادا ؛ كما نقل جماعة يفيد قولهم الظنّ أنّ عليّا عليهالسلام قتل عدّة من الكفّار في غزوة بدر ، ونقل جماعة أخرى غيرهم
لا يبلغ قولهم التواتر أنّه قتل عدّة من الكفّار في غزاة أحد ، وهكذا تنقل الآحاد
أفراد الغزوات وبلغوا حدّا لو أخبروا بشيء واحد أفاد العلم فإنّه يحصل العلم
بشجاعته المشتركة بين آحاد الغزوات [لوجهين :].
لأنّ كلّ واحد من
تلك الأخبار اشتركت في كلّي هو الشجاعة ، والراوي للجزئي راو للكلّي المشترك فيه
بالتضمّن ، فإذا بلغوا حدّ التواتر صار ذلك الكلّي مرويا بالتواتر.
أو نقول هؤلاء
الرواة بأسرهم لم يكذبوا ، بل لا بدّ وأن يصدق واحد منهم ، فيصدق جزئي واحد من هذه
الجزئيات المروية ، وأي جزئي ثبت أفاد الشجاعة.
البحث السادس : في
كيفية العلم عقيب التواتر
اتّفقت الأشاعرة
والمعتزلة وجميع الفقهاء على أنّ خبر التواتر لا يولد العلم ، وقال بعض الناس :
إنّه يولده.
احتجّ الأوّلون
بوجهين :
الأوّل : لو أفاد
العلم تولدا فإمّا أن يتولّد عن الاخير خاصة أو عنه وعن جملة الاخبار السابقة
عليه.
والأول محال وإلّا
لتولد بتقدير انفراده ، وكذا الثاني لأنّها متعدّدة والمسبّب الواحد لا يصدر عن
سببين.
واعترض بجواز
تولّده عن الأخير بشرط تقدّم ما وصف من الأخبار أو عن الهيئة الاجتماعية.
نعم لو قيل : إنّ
جملة الأخبار معدومة فلا يولد ، كان متّجها.
وفيه نظر ، لأنّه
وإن كان كلّ خبر معدوما لكن حصل منه في النفس هيئة قابلة للزيادة ، وتلك الهيئة
ثابتة في النفس وحصل العلم عند اجتماع تلك الهيئات النفسانية وليست معدومة.
الثاني : قالوا :
كلّ ما هو طالب جهة من الجهات فإنّه يجوز أن يتولّد عنه شيء في غير محلّه
كالاعتماد والحركة ، وما ليس كذلك لا يتولّد عنه شيء في غير محلّه ، والقول والخبر
ليس له جهة فلا يتولد عنه
العلم ، لأنّه لو
تولّد عنه العلم لتولّد في غير محلّه ، وهو محال.
وللأشاعرة دليل
آخر ، وهو امتناع موجد غير الله تعالى ، وقد أبطلناه في كتبنا الكلامية.
__________________
البحث السابع : في
عدم وجود اتّحاد الأعداد
قال أبو الحسين
البصري والقاضي أبو بكر : كلّ عدد وقع العلم بخبره في واقعة لشخص
لا بد وأن يكون مفيدا للعلم بغير تلك الواقعة لغير ذلك الشخص إذا سمعه. وهذا إنّما
يصحّ على إطلاقه لو كان العلم قد حصل بمجرّد ذلك العدد من غير أن يكون للقرائن
المحتفّة به مدخل في التأثير ، لكن العلم قد يحصل بالقرائن العائدة إلى أخبار
المخبرين وأحوالهم واختلاف السامعين في قوة السماع للخبر والفهم لمدلوله ، ومع فرض
التساوي في القرائن قد يفيد آحادها الظنّ ، ويحصل من اجتماعها العلم ، فأمكن حصول
العلم بمثل ذلك العدد في بعض الوقائع للمستمع دون البعض ، لما اختص به من القرائن
التي لا تحصل لغيره.
ولو سلّم اتّحاد
الواقعة وقرائنها لم يلزم من حصول العلم بذلك العدد لبعض الأشخاص حصوله لشخص آخر
لتفاوتهما في الفهم للقرائن ، وتفاوت الأشخاص في الادراك والذكاء معلوم بالضرورة.
__________________
الفصل الثالث
في باقي الأخبار المعلومة الصدق
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في خبره تعالى
اتّفق الناس كافّة
على أنّ خبره تعالى صدق وإن اختلفوا في الدلالة عليه.
أمّا المعتزلة
فاحتجّوا عليه بأنّ الكذب قبيح بالضرورة ، والله تعالى عالم بقبحه غني عنه ، حكيم
في فعله ، فلا يصدر عنه بالضرورة.
واعترض بأنّ البحث في امتناع الكذب عليه تعالى موقوف على تصوّر
الكذب لتوقّف التصديق على التصوّر ؛ فإن كان المراد منه الكلام الذي لا يطابق
المخبر عنه في الظاهر بحيث لو أضمر فيه زيادة أو نقصان صحّ ، لم يمكن الحكم بقبحه
وبامتناعه عليه تعالى ، لأنّ أكثر العمومات مخصوص ، وإذا كان كذلك لم يكن ظاهر
العموم مطابقا للمخبر عنه.
__________________
وكذا الحذف
والإضمار فإنّه واقع في كلامه تعالى ، بل في أوّله ، فإنّ من الناس من قدّم المضمر
في بسم الله الرحمن الرحيم ومنهم من
أخّره ، وكذا قالوا في (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) معناه قولوا : الحمد لله.
واتّفقوا على حسن
المعاريض ، ومعناه الخبر الّذي يكون ظاهره كذبا ، ويصدق عند إضمار شرط خاص أو قيد
خاص.
وإن كان المراد
الكلام الّذي لا يكون مطابقا ولا يمكن إضمار ما به يصير مطابقا فيه فهو قبيح
بتقدير الوقوع ، لكنّه غير ممكن الوجود ، لأنّه لا خبر يفرض كذبه إلّا وهو بحيث لو
أضمر فيه شيء لصدق ، فيرتفع الأمان عن ظواهر الكتاب والسنّة.
لا يقال : لو كان
مراده تعالى غير ظواهرها لوجب أنّ يبيّنها ، وإلّا كان تلبيسا.
ولأنّا لو جوّزنا
ذلك انتفت الفائدة في كلامه تعالى ، فيكون عبثا ، وهو غير جائز.
لأنّا نقول : إن
عنيت بالتلبيس أنّه تعالى فعل ما لا يحتمل إلّا التلبيس والتجهيل ، فهو غير لازم ،
لأنّه تعالى قرّر في عقول المكلّفين أنّ اللفظ المطلق جاز أن يذكر ، ويراد به
المقيّد بقيد غير مذكور معه ، ثمّ أكّده بأن بيّن للمكلّف وقوعه في أكثر الآيات
والأخبار ، فقطع المكلف بمقتضى الظاهر جهل من نفسه لا من قبله تعالى ، حيث قطع لا
في موضع القطع كما في إنزال المتشابهات ، فإنّها موهمة للجهل إلّا أنّها لمّا
احتملت غير الظواهر
الباطلة كان القطع
بإرادتها جهلا وتقصيرا من المكلف ، لا تلبيسا منه تعالى.
والعبث ممنوع ،
فإنّا لو ساعدنا على أنّه لا بدّ له تعالى في كلّ فعل من غرض ، لكن نمنع أنّه لا
غرض من تلك الظواهر إلّا فهم معانيها الظاهرة ، كما أنّ الغرض من إنزال المتشابهات
ليس فهم ظواهرها ، بل أمور أخر فيجوز هنا كذلك.
لا يقال : جواز
إنزال المتشابهات مشروط بأنّ الدليل قائم على امتناع ما أشعر به ظاهر اللفظ ، فما
لم يتحقّق هذا الشرط ، لم يكن إنزال المتشابه جائزا.
لأنّا نقول :
معلوم أنّ إنزال المتشابه غير مشروط بأن يكون الدليل المبطل للظواهر معلوما للسامع
، بل هو مشروط بوجود الدليل في نفسه ، علمه سامع المتشابه أو لا ، فحينئذ ما لم
يعلم السامع انّه ليس في نفس الأمر دليل مبطل لذلك الظاهر لم يكن إجراؤه على
ظاهره.
ثمّ لا يكفي في
العلم بعدم الدليل المبطل للظاهر عدم العلم بهذا الدليل ، فإنّه لا يلزم من عدم
العلم العدم. وإذا كان كذلك فلا ظاهر نسمعه إلا ويجوز وجود دليل عقلي يمنع من حمله
على ظاهره ، ومع هذا التجويز لم يبق الوثوق بشيء من الظواهر.
وهو ليس بجيد ،
لأنّ المراد من الكذب الإخبار بما لا يكون مطابقا مع إرادة ما دلّ اللفظ عليه
ظاهرا ، وتقدير الزيادة والنقصان لا يخرجه عن الكذب مع عدم إرادته وإن كان جائزا ،
وكذا التلبيس المراد به فعل ما يحصل
معه التلبيس بقصد
التلبيس وإن احتمل غيره إذا لم يكن مرادا ، ونحن لا ننازع في إنزال المتشابهات لما
علم أنّ ظاهرها غير مقصود له تعالى.
واحتجّت الأشاعرة
بوجوه :
الأوّل : أخبر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بامتناع الكذب عليه تعالى ، فيكون خبره صدقا.
الثاني : كلامه
تعالى قائم بذاته ويستحيل الكذب في كلام النفس على من يستحيل الجهل عليه ، إذ الخبر
يقوم بالنفس على وفق العلم ، والجهل عليه تعالى محال. وهما دليلا الغزالي.
الثالث : الصادق
أكمل من الكاذب بالضرورة ، فلو كان كاذبا لكان الواحد منّا حال صدقه أكمل منه
تعالى ، وهو معلوم البطلان.
الرابع : لو كان
كاذبا لكان إمّا بكذب قديم فيستحيل عليه الصدق ، لكنّا نعلم أنّ من قدر على أن
يخبر أنّ العالم ليس بحادث أمكنه أن يخبر بأنّ العالم حادث ، لاستلزام القدرة على
المركب القدرة على المفردات ؛ وإمّا بكذب حادث ، فيكون محلا للحوادث.
اعترض على الأوّل
: بأنّ العلم بصدق الرسول موقوف على دلالة المعجز على صدقه ، لأنّ المعجز قائم
مقام التصديق بالقول ، فصدق الرسول مستفاد من تصديق الله تعالى إيّاه ، وذلك انّما
يدلّ لو ثبت أنّه تعالى صادق ،
__________________
إذ مع تجويز الكذب
عليه لا يلزم من تصديق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كونه صادقا ، فالعلم بصدق الرسول موقوف على العلم بصدقه
تعالى ، فلو استفيد منه دار.
لا يقال : نمنع
توقّف دلالة تصديقه تعالى للرسول على كونه صادقا ، لأنّ قوله أنت رسولي إنشاء ،
وهو يدلّ على الرسالة فلا دور.
لأنّا نقول :
تأثير الإنشاء في الأحكام الوضعية لا [في] الأمور الحقيقية ، فلا يلزم من قوله : «أنت
رسولي» صدق الرسول في كلّ أقواله ، لأنّ صدق الرجل أمر حقيقي فلا يختلف باختلاف الجعل
الشرعي ، فإذن لا طريق إلى معرفة صدق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما يخبر عنه إلّا من قبل كونه تعالى صادقا ، فيدور.
وفيه نظر ، لأنّ
الصدق وإن كان من الصفات الحقيقية لكنّه يتوقّف على الإنشاء الذي لا يدخله الصدق ،
فلا دور.
وعلى الثاني :
بأنّ بحث أصول الفقه لا يتعلّق بالكلام النفساني ، بل بالمسموع المركّب من الحروف
والأصوات المقطّعة ، ولا يلزم من كون النفساني صدقا كون المسموع صدقا.
سلّمنا ، لكن لم
قلت : إنّ النفساني صدق ولا يلزم من انتفاء الجهل استحالة أن يخبر بالكلام
النفساني خبرا كاذبا ، فإنّها برهانية لا ضرورية ، فأين البرهان؟
وفي الثالث نظر ،
فإنّ هذا إنّما يتمّ على تقدير القول بالحسن والقبح العقليّين ، وهم ينكرونه.
وبالجملة فهذا
البحث إنّما يتمشّى على قواعد المعتزلة ، أمّا على قول الأشاعرة فلا.
وفي الرابع نظر ،
لإمكان استحالة الصدق فيما أخبر به كذبا وإن أمكن صدقه في غيره. والقدرة إنّما
تتوجّه إلى الحادث ، أمّا الكلام النفساني القديم عندهم فلا.
البحث الثاني :
خبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
اتّفق الناس على
صدق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في إخباره الذي دلّ المعجز على صدقه فيه ، وأمّا ما عداه
فاختلفوا ؛ فمذهب الإمامية وجوب صدقه في كلّ شيء ، لأنّ العصمة شرط ، وقال آخرون :
لا يجب. وقد تقدّم البحث في العصمة.
واحتجّ الغزالي
بأنّ المعجز يدلّ على صدقه مع استحالة ظهوره على يد الكذّابين ، إذ لو أمكن لعجز
الله تعالى عن تصديق رسوله.
واعترض بأنّه إن كان اقتداره تعالى على إظهار المعجز على يد
الكاذب مستلزما لعجزه عن تصديق الرسول ، فكذا يلزم من الحكم بعدم اقتداره عليه
عجزه ، فلم كان نفي أحد العجزين عنه أولى من الآخر.
وأيضا إذا فرضنا
أنّه تعالى قادر على إقامة المعجز على يد الكاذب
__________________
فمع هذا الفرض إن
أمكن تصديق الرسول بطل قوله : إنّه ملزوم من قدرته على إظهار المعجز على يد الكاذب
عجزه عن تصديق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وإن لم يمكن فلا
عجز ، إذ العجز إنّما هو عمّا يصح أن يكون مقدورا في نفسه ، ولهذا لا يوصف بالعجز
عن خلق مثله تعالى.
وأيضا إذا استحال
ان يقدر الله تعالى عن تصديق الرسول ، إلّا إذا استحال منه إظهار المعجز على يد
الكاذب. وجب أن ينظر أوّلا أنّ ذلك هل هو محال أم لا؟ وأن لا يستدلّ باقتداره على
تصديق الرسول على عدم قدرته على إظهاره على يد الكاذب ، لأنّ ذلك تصحيح الأصل
بالفرع وهو دور.
وأيضا التأمّل
يعطي إمكانه ؛ فإنّ قلب العصا حيّة لمّا كان مقدورا له تعالى وممكنا في نفسه ولم
يقبح منه فعله في شيء من الأوقات وشيء من الجهات ، فلو قال زيد : أنا رسول الله وكان
كاذبا ، لم يخرج عن القدرة ولم ينقلب الممكن ممتنعا.
سلّمنا ، لكنّ
المعجز يدلّ على صدقه في ادّعاء الرسالة فقط ، أو في كلّ ما يخبر عنه. الأوّل
مسلّم ، والثاني ممنوع.
بيانه : أنّه إذا
ادّعى الرسالة وأقام المعجز كان المعجز دالّا على صدقه فيما ادّعاه ، وهو الرسالة
، لا في غيرها. نعم لو ادّعى صدقه في كلّ شيء ثمّ ظهر المعجز المصدّق له ثبت عموم
صدقه. فالدليل المذكور يتوقّف على عموم الدعوى واقترانه بالمعجز. وذلك لا يكفي فيه
قيام المعجز على
ادّعاء الرسالة
خصوصا ، وقد اختلف العلماء في جواز الصغائر عليهم حتّى جوز بعضهم الكبائر ، واتّفق
الناس عدا الإمامية على جواز السهو عليهم ، والحق أنّ هذه الدعوى إنّما تتمشّى على
قواعد الإمامية .
البحث الثالث : في
الخبر المحتفّ بالقرائن
اختلف الناس في
أنّ الخبر الذي لا يعلم صدقه هل يحصل العلم عقيبه إذا احتفّ بقرائن خارجة؟
فقال به النظّام
والغزالي والجويني وأنكره الباقون . والحقّ الأوّل.
لنا : إنّ الضرورة
قاضية بثبوت العلم عند الخبر المحتفّ بالقرائن ، فإنّه قد تحصل أمور يعلم بالضرورة
عند العلم بها كون الشخص خجلا أو وجلا ، ولا يمكن التعبير عن تلك القرائن ولا تفي
العبارات بتفاصيل أحوالها ، لعجزنا عنه ؛ وقد يخبر المريض عن الم ، وينضم إليه من
القرائن ما يعلم صدقه ؛ ولو فرض ملك مشرف على التلف ورئيّ نشر الشّعر في ولده
وغلمانه والصراخ العظيم والنحيب علم بالضرورة صدقهم.
احتجّ المنكرون
بأمور :
__________________
الأوّل : لو أفاد
الخبر مع القرائن ـ التي يذكرها النظّام ـ العلم لم ينكشف عن الباطل ، والتالي
باطل ، إذ قد ينكشف عنه ، فإنّ المخبر عن الموت مع القرائن كالصراخ وإحضار الجنازة
والأكفان قد يظهر بطلانه بأن يكون قد أغمي عليه أو لحقه سكتة ، أو لإظهار ذلك
للسلطان ليمتنع عن قتله ، فالمقدّم مثله ، والملازمة ظاهرة.
الثاني : لو كانت
القرائن هي المفيدة للعلم لم يحصل العلم عقيب التواتر إذا خلا عنها ، ولمّا لم يجز
ذلك ، بطل قوله.
الثالث : لو وجب
العلم عند خبر واحد لوجب في كلّ خبر واحد ، كما أنّ المتواتر لمّا أفاد العلم
أفاده في كلّ موضع.
والجواب عن الأوّل
: القدح في صورة خاصة لا يقتضي القدح في كلّ الصور ، والقرائن لا ضابط لها يرجع
إليه ، بل إفادة العلم.
وعن الثاني :
التزام ذلك فإنّ خبر التواتر إن لم تنضم إليه القرائن لم يفد العلم بجواز أن
يجمعهم جامع من رغبة أو رهبة.
سلّمنا ، لكن
إنّما يلزم ذلك لو قلنا إنّ العلم يستند إلى القرائن لا غير.
سلّمنا ، لكن نمنع
انفكاك المتواتر عنها.
وعن الثالث :
العلم لم يحصل من خبر الواحد لذاته ، بل مع القرائن ، فمتى حصل المجموع مع أي خبر
كان أفاد العلم.
__________________
سلّمنا ، لكن
العلم عقيب التواتر بالعادة فجاز حصوله هاهنا بالعادة ، والعادة لا يجب اطّرادها
في كلّ شيء فجاز أن يطّرد في التواتر دون خبر الواحد المقترن بالقرائن.
البحث الرابع : في
بقايا الإخبارات الصادقة
١. الخبر الذي عرف
وجود مخبره بالضرورة صدّق.
٢. الخبر الّذي
عرف وجود مخبره بالاستدلال. صدّق ، هذا إن لم يشترط سوى المطابقة ، أمّا إن شرطنا
العلم أو الاعتقاد فلا.
٣. خبر كلّ الأمّة
صدق ، أمّا عندنا فلدخول المعصوم ، أمّا عند الجمهور فللدلائل الدالّة على صدق
الإجماع.
٤. خبر الجمع
العظيم عن الصفات القائمة بقلوبهم من الشهوة والنفرة لا يجوز أن يكون كذبا.
٥. وأيضا الجمع
العظيم البالغ حدّ التواتر إذا أخبر كلّ واحد عن شيء غير ما أخبر به الآخر فلا بد
وأن يقع فيها ما يكون صدقا ، ولهذا يقطع بأنّ في الأخبار المروية عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بطريق الآحاد ما هو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإن كنّا لا نعرف ذلك بعينه.
وفيه نظر ، لأنّ
خبر الجماعة انّما يفيد العلم لو اشتركوا في أمر كلّي
__________________
يخبر به كلّ واحد
إمّا مطابقة أو تضمنا أو التزاما. أمّا إخبار كلّ واحد عن شهوته ونفرته فهو إخبار
عن شيء مختصّ به لا يشاركه في الإخبار به غيره فلا يفيد قوله العلم في حق نفسه ولم
يخبر عن غيره ، فلم يعتضد خبر كلّ واحد بقول الآخر ، ولم يحتف به من القرائن ما
يفيد العلم.
٦. بقاء النقل مع
توفّر الدواعي على إبطاله يدلّ على الصحّة ، كخبر الغدير والمنزلة ، فإنّ نقلهما
سلم في زمن بني أميّة مع توفّر الدواعي على إبطاله.
واعترض باحتمال أنّه كان من أخبار الآحاد ثمّ اشتهر بحيث عجز
العدوّ عن إخفائه ، لأنّ الصارف من بني أمية وإن حصل ، لكن الدّاعي من جهة الشيعة
حصل ، ولأنّ منع الناس عن إفشاء فضيلة تحرّضهم على شدة إظهارها.
وليس بجيد ، فإنّ
العادة تقضي بصيرورة المتواتر مع الخوف آحادا دون العكس. والشّيعة كانوا خائفين في
الغاية ، فكيف يحصل بسببهم داع؟!
البحث الخامس :
فيما ظن أنّه من هذا الباب
الأوّل : قال بعض
الناس : إذا أخبر واحد بحضرة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن شيء ولم ينكر عليه دلّ على صدقه.
والحقّ التفصيل :
وهو إن كان عن ديني اشترط في الدلالة على الصدق
__________________
أمران : أن لا
يتقدّم بيان ذلك الحكم ، وأن يجوز تغيير الحكم عمّا بيّنه أوّلا ؛ لأنّ بيان الحكم
لو تقدّم وأمنّا عدم تغيّره ، كان فيما سبق من البيان ما يغني عن استئناف البيان ،
ولهذا لا يجب عليه تجديد الإنكار على الكفّار في تردّدهم إلى كنائسهم .
وإن كان عن دنيوي
فسكوته إنّما يدلّ على الصّدق بشرطين : أن يستشهد بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويدّعي عليه علمه بالمخبر عنه ، وان يعلم الحاضرون علم
النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بتلك القضية ؛ ففي هذين يجب صدق المخبر ، لأنّ سكوته صلىاللهعليهوآلهوسلم يوهم التصديق ، فلو كان المخبر كاذبا لزم صدور التلبيس عنه
صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو محال.
الثاني : إذا أخبر
واحد بحضور جماعة كثيرة عن شيء بحيث لو كان كذبا لما سكتوا عن التكذيب كان دليلا
على صدقه ، لبطلان سكوتهم مع علمهم بكذبه لقيام الداعي إلى التكذيب وانتفاء الصارف
، فيجب الفعل ، فلمّا لم يوجد دلّ على عدم علمهم.
أمّا الداعي فلأنّ
من استشهد على الكذب لا يصبر عن التكذيب ويجد مشقة عظيمة لو صبر ، فدلّ على وجود
الدّاعي.
وأمّا انتفاء
الصارف ، فلأنّه إمّا رغبة أو رهبة ، والجمع العظيم لا يعمّهم رغبة ورهبة تحملهم
على كتمان ما يعلمونه ، ولهذا لم يجتمعوا على كتمان الرخص والغلاء.
__________________
وبطلان سكوتهم لا
مع علمهم بالكذب لبعد عدم اطّلاع واحد من الجمع العظيم عليه.
وهذا يفيد الظنّ ،
إذ لا يمكن القطع بامتناع اشتراك الجماعة الحاضرين في رغبة أو رهبة مانعة من السكوت.
سلّمناه ، لكن
يمكن غفلة الحاضرين عن معرفة كونه كذبا لعدم غرض يتعلّق بالبحث عنه.
الثالث : زعم أبو
هاشم والكرخي وتلميذها أبو عبد الله البصري : أنّ الإجماع إذا وقع على العمل بموجب
الخبر دلّ على صحّته ، وهو باطل.
لأنّ عملهم بمقتضى
الخبر يجوز أن يكون لدليل آخر ، فإنّ قيام الدلائل الكثيرة على مدلول واحد جائز.
ولأنّ عمل كلّ
الأمّة بمقتضاه لا يتوقّف على القطع بصحّة ذلك الخبر ، لأنّ العمل بخبر الواحد
واجب في حقّ الكلّ فلا يكون عملهم متوقفا على القطع به ، وإذا لم يتوقّف على القطع
به لم يلزم من ثبوته ثبوته.
احتجّوا بأنّ عادة
السلف فيما لم يقطعوا بصحّته أن يردّ مدلوله بعضهم ، ويقبله آخرون.
والجواب : منع
العادة لاتّفاقهم على حكم المجوس بخبر عبد الرحمن.
الرابع : اعتمد
كثير من الفقهاء والمتكلّمين في تصحيح خبر الإجماع
وأمثاله بأنّ
الأمّة فيه على قولين : منهم من احتجّ به ، ومنهم من اشتغل بتأويله ، وهو يدلّ على
اتّفاقهم على قبوله.
واعترض باحتمال أنّهم قبلوه ، كما يقبل خبر الواحد.
والجواب : خبر
الواحد انّما يقبل في الظنّيات لا العلميّات ، وهذه المسألة علمية ، فلمّا قبلوا
الخبر فيها دلّ على اعتقاد صحّته.
واعترض بمنع قبول كلّ الأمّة ، بل كلّ من لم يحتجّ به في الإجماع
طعن فيه ، بأنّه خبر واحد فلا يجوز التمسّك به في مسألة علمية.
نعم ربّما لم
يطعنوا فيه على التفصيل لكن لا يلزم من عدم الطعن من جهة واحدة عدم الطعن مطلقا.
__________________
الفصل الرابع
في الخبر المقطوع بكذبه
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في الخبر المخالف للمعلوم
الخبر الّذي ينافي
مخبره وجود ما علم إمّا بالضرورة المستند إلى الحس أو الوجدان أو البداهة أو
بالدليل القطعي (كذب قطعا) لعدم المطابقة ومنه قول من لم يكذب قط : «أنا كاذب» فإنّه
كذب قطعا ؛ لأنّ المخبر عنه فيه إمّا الأخبار الماضية ، وهو يدلّ على كذبه لانتفاء
الكذب فيها فرضا ؛ أو نفسه ، وهو باطل ، لأنّ الخبر متأخّر في الرتبة عن المخبر
عنه ، فلو جعلنا الخبر خبرا عنه لزم تأخّر الشيء عن نفسه بالرتبة ، وهو محال.
أمّا ما يخالف
الدليل القاطع إن احتمل التأويل أمكن صدقه ، لجواز أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم تكلّم به لإرادة ذلك المعنى ، كما في إنزال المتشابهات.
__________________
ولو لم يقبل
التأويل أو كان التأويل بعيدا حكم بكذبه ، أو بأنّه قد حذف منه أو زيد فيه ما يصحّ
الكلام معه.
ويلحق بذلك الخبر
الذي يروى في وقت قد استقرت فيه الأخبار ، فإذا فتش عنه في بطون الكتب وصدور الرواة لم يوجد له أثر ، فإنّه يعلم أنّه لا أصل له ،
بخلاف عصر الصحابة فإنّ الأخبار لم تستقر حينئذ ، فيجوز أن يروي أحدهم ما لم يوجد
عند غيره.
البحث الثاني :
فيما يتوفر الدواعي على نقله
الأمر الذي تتوفّر
الدواعي على نقله لو وجد إمّا لتعلّق الدين به ، كأصول الشرع ، أو لغرابته كسقوط
مؤذن من المنارة ، أو هما معا كالمعجزات ؛ فإذا لم يوجد ذلك مع انتفاء التقية
والخوف دلّ على الكذب ؛ وإلّا لجوّزنا وجود بلدة بين البصرة وبغداد أعظم منهما مع
أنّ الناس لم يخبروا عنها ، ولجوّزنا أن يكون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أوجب عشر صلوات ولم تنقل الأمة سوى الخمسة ، ولمّا كان ذلك
باطلا ، فكذا ما أدّى إليه.
أمّا مع وجود
التقية كما يقوله الشيعة فإنّه لا يدلّ على كذبه ، لوجود الصارف عن النقل.
__________________
فإن قيل : العلم بعدم هذه الأمور إن توقّف على العلم بأنّه لو كان
لوجب نقله ، وجب أن يكون الشاك في الأصل شاكّا في هذه الفروع ، لكن الناس كما
يعلمون ضرورة وجود بغداد والبصرة يعلمون ضرورة عدم بلدة بينهما أكبر منهما ،
والضروري لا يتوقّف على النظري ، وإن لم يتوقّف ، فالعلم بعدم البلدة غير متوقّف
على العلم بأنّها لو كانت لنقلت ، ولا يلزم من عدم هذا عدم ذلك.
سلّمنا توقّف
العلم بعدم هذه الأمور على العلم بأنّها لو كانت لنقلت ، لكن ما ذكرتموه مثال واحد
، فلا يلزم حصوله في كلّ الصور ، فإن قستم باقي الصور على المثال لم يفد اليقين ،
لجواز أن يكون الفارق بين الأصل والفرع شرطا في الأصل ، أو مانعا في الفرع ، فلم
يبيّن عدم العمومية في كلّ الصور عدم تواتر الإقامة ، فبعض نقلها أفرادا وبعضهم
مثنّاة ، مع أنّها من أجلّ الأشياء وأعظمها تكرارا.
وكذا هيئة الصلاة
: من رفع اليدين والجهر بالتسمية ، وغير ذلك مع ظهورها غاية الظهور ، ولم تنقل
متواترا.
وكذا انشقاق القمر
، وتسبيح الحصى ، وإشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، ونبوع الماء من بين
أصابعه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأمور العظام والأشياء العجيبة ولم يتواتر نقلها.
__________________
وكون القرآن معجزا
لا يعرف إلّا بدقيق النظر ، وإعجاز هذه الأشياء ظاهر فلا يقوم نقله مقام نقلها ،
وكذا أقاصيص الأنبياء المتقدّمين.
والجواب : لم لا
يتوقّف العلم بعدم الواقعة العظيمة على أنّها لو كانت لنقلت.
قوله : العلم
بانتفاء بلدة بين بغداد والبصرة ضروري ، وهذه القاعدة نظرية فلا
يتوقّف عليه.
قلنا : نمنع كونه
ضروريا ، ولهذا لو سئل كلّ من يدّعي عدمها ، عن سبب علمه ، لأجاب بأنّها لو كانت
موجودة لاشتهر خبرها كاشتهار بغداد والبصرة ، فعلم أنّ ذلك العدم مستفاد من هذا
الأصل ، والمثال ذكر للتنبيه على القاعدة الكلية ، والنقض بالإقامة.
أجاب القاضي أبو
بكر بأنّ ذلك من المؤذّن ، فلعلّه كان يفرد تارة ويثنّي أخرى والراوي لم ينقل ذلك
، لأنّه نقل البعض وأهمل الباقي ، وهو استناد ذلك إلى المؤذن اعتقادا منه بسهولة
هذا التساهل.
أو لأنّهم عرفوا
أنّ المسألة من الفروع التي لا يوجب الخطأ فيها كفرا ولا بدعة ، فتساهلوا فيها
خصوصا مع اشتغالهم بالحروب.
والجهر بالبسملة ،
لعلّه من اختلاف فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم حيث كان يجهر تارة ويخافت أخرى ؛ أو لأنّه يخفي صوته في
ابتداء القراءة ثمّ يعلوا به بعد ذلك
__________________
على التدريج ،
فيسمع القريب منه جهر التسمية لا البعيد.
وأمّا المعجزات
فجاز أن يكون ناقل كلّ معجزة قليلا لا يبلغ حد التواتر ، ولم تتواتر أقاصيص
الأنبياء لعدم تعلّق غرض ديني بروايتها.
واعلم أنّ النص
الجليّ على إمامة علي عليهالسلام وإن نقل عن الإمامية متواترا خلفا عن سلف ، إلّا أنّه لم
يتواتر عند غيرهم للتقية والخوف ولقصور الدواعي عن نقله ، كدلالة قوله تعالى : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ
وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ
راكِعُونَ) ، ودلالة خبر الغدير ، وخبر المنزلة ، والطائر ، وغير ذلك
وإن كانت خفية إلّا أنّها صارت سببا لفتور الدواعي عن نقل النصّ الجليّ.
البحث الثالث : في
وجود الكذب في الأخبار
[الأخبار] المروية
عن رسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قد وجد فيها ما هو كذب قطعا ، لوجوه :
الأوّل : روي أنّه
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «سيكذب عليّ». هذا الخبر إن كان صدقا ثبت في الأخبار المروية كذب بعضها ،
وإن كان كذبا فالمطلوب.
الثاني : في الأخبار
ما لا يجوز نسبته إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا يقبل التأويل ، فوجب القطع بكذبه.
__________________
الثالث : روي عن
شعبة : «أنّ نصف الحديث كذب» .
والداعي إلى الكذب
إمّا من جهة السلف ، وهم منزّهون عن تعمّد الكذب. وإنّما يقع لوجوه :
أ. أن يكون الراوي
يروي نقل الخبر بالمعنى ، فيبدل لفظا بآخر يتوهّم أنّه لمنزلته ، وهو لا يطابقه.
ب. ربّما نسي لفظا
، لأنّهم لم يكن من عادتهم الكتابة لما يسمعونه فيبدله بغيره ، وربّما نسي زيادة
يصحّ بها الخبر.
ج. ربّما روى عن
الواسطة ونسي ذلك فأسنده إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم توهما أنّه سمعه منه لكثرة صحبته له ، ولهذا كان صلىاللهعليهوآلهوسلم يستأنف الحديث إذا دخل عليه شخص ليكمل له الرواية ؛ كما
روي أنّه قال : «الشؤم في ثلاثة : المرأة والدار والفرس» ، فقالت عائشة : إنّما قال صلىاللهعليهوآلهوسلم ذلك حكاية عن غيره.
__________________
د. ربّما خرج
الحديث على سبب ، وهو مقصور عليه ويصحّ معناه به ، فيجب روايته مع السبب ، فإن حذف
سببه أوهم الخطاء ؛ كما روي أنّه قال : «التاجر فاجر» ، فقالت عائشة : إنّما قاله في تاجر دلّس.
ه. روي أنّ أبا
هريرة كان يروي أخبار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكعب كان يروي أخبار اليهود ، ويشتبه على السامعين ، فيروي
بعضهم ما سمعه من كعب عن أبي هريرة.
وإمّا من جهة
الخلف فوجوه :
أ. الملاحدة وضعوا
أباطيل نسبوها إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لتنفير الناس عنه ، كما روي ذلك عن عبد الكريم بن أبي
العوجاء.
ب. ربّما يكون
الراوي يجوّز الكذب المؤدّي إلى إصلاح الأمّة ، فإنّ مذهب الكرّامية وضع الأخبار
في المذهب إذا صحّ عندهم ، لأنّه سبب لترويج الحق.
__________________
ج. الرغبة ، كما
وضع في ابتداء دولة بني العباس أخبار في النصّ على إمامة العباس وولده.
قال فخر الدين
الرازي : ومن ذلك انّ الإمامية يسندون إلى الرسول كلّ ما صحّ عندهم عن بعض أئمتهم
، قالوا : لأنّ الصادق عليهالسلام قال : حديثي حديث أبي ، وحديث أبي حديث جدّي ، وحديث جدي
حديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا حرج عليكم إذا سمعتم منّا حديثا أن تقولوا : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وليس بجيد أمّا
أوّلا : فلأنّه معصوم لا يخبر إلّا بالحق ، فكما يجوز لنا اسناد ما يخبرنا به رسول
الله إلى الله تعالى بيقين كذا هنا.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ الراوي إذا قال : إذا حدّثت حديثا فإنّما أرويه عن فلان ، ثمّ حدث ؛ جاز أن
يروي عمّن اسند إليه ، فكيف إذا قال الإمام المعصوم حديثي حديث أبي؟!
البحث الرابع : في
أحكام الصحابة
المشهور أنّ
الصحابة كغيرهم من المسلمين ، بل هم أفضل وأكمل ، وأنّ الأصل فيهم العدالة ، إلّا
عند ظهور المعارض. لدلالة الكتاب ، وهو قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ) ، (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً).
__________________
وفيه نظر ، لما
بيّنّا في باب الإجماع من عدم اختصاص الآيتين بالصحابة.
ودلالة السنّة
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خير الناس قرني».
وبالغ إبراهيم
النظّام في الطعن فيهم فقال : رأينا بعضهم قادحا في البعض ، وذلك يوجب القدح إمّا
في القادح أو المقدوح فيه. وبيّن القدح من وجوه :
الأوّل : قال
عمران بن الحصين : والله لو أردت لتحدّثت يومين متتابعين عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّي سمعت كما سمعوا ، وشاهدت كما شاهدوا ، ولكنّهم
يحدّثون أحاديث ما هي كما يقولون ، وأخاف أن يشبّه لي كما شبّه لهم.
الثاني : كان
حذيفة يحلف لعثمان بن عفان بالله على أشياء أنّه ما قالها ، وقد سمعناه قالها ، فقلنا
له فيه فقال : إنّي أشتري ديني بعضه ببعض مخافة أن يذهب كلّه.
الثالث : ابن عباس
بلغه أنّ ابن عمر يروي أنّ الميت ليعذب ببكاء أهله فقال عبد الرحمن : إنّما مرّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بيهودي يبكى عليه ، فقال : إنّه ليبكي عليه وإنّه ليعذّب.
الرابع : ابن عمر
عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في الضب لا آكله ولا أحلّه ولا أحرّمه ، فقال زيد بن
الأصم : قلت لابن عباس : إنّ ناسا يقولون : إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال
__________________
في الضب لا آكله
ولا أحلّه ولا أحرّمه ، قال : بئس ما قلتم ، ما بعث الله النبي محلّلا ولا محرّما.
الخامس : ابن عمر
أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على قتلى في قليب بدر فقال : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟
ثمّ قال : إنّهم الآن يسمعون ما أقول. فذكروه لعائشة فقالت : لا ، بل قال : إنّهم
ليعلمون أنّ الّذي كنت أقول لهم هو الحق.
قال النظّام :
وهذا عين التكذيب.
السادس : روت
فاطمة بنت قيس أنّ زوجي طلّقني ثلاثا ولم يجعل لي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سكنى ولا نفقة. فقال عمر : لا يقبل قول امرأة لا ندري
أصدقت أم كذبت.
وقالت عائشة : يا
فاطمة قد فتنت الناس. ومعلوم أنّها كانت من المهاجرات مع أنّها عند عمر وعائشة
كاذبة.
السابع : أراد عمر
ضرب أبي موسى في خبر الاستئذان حتى شهد له أبو سعيد.
قال النظّام :
وأنتم تقولون لا يجوز تهمتهم.
__________________
الثامن : كان علي عليهالسلام يستحلف الرواة ، ولو كانوا غير متّهمين لما حلّفهم ، فإنّ
عليّا عليهالسلام أعلم بهم منّا.
التاسع : روى أبو
سعيد الخدري وجابر وأنس أنّه قال صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ وذكر سنة مائة ـ «لا يبقى على ظهرها نفس منفوسة».
ثم يروي أنّ عليا عليهالسلام قال لابن مسعود : إنّك تفتي الناس؟ قال أجل وأخبرهم أنّ
الأخير شر ، قال : فأخبرني ما سمعت منه ، قال : سمعته يقول : لا يأتي على الناس
طرفة وعلى الأرض غير مطرفة ، فقال علي عليهالسلام : أخطأت ، وأخطأت في أوّل فتواك ، إنّما قال ذلك لمن حضره
يومئذ ، وهل الرجاء إلّا بعد مائة.
العاشر : روى أبو
هريرة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «الشمس والقمر بدران مكوّران في النار يوم القيامة».
قال الحسن : ما
ذنبهما؟! قال أبو هريرة : أحدثك عن رسول الله. وهذا من الحسن ردّ على أبي هريرة.
الحادي عشر : قال
علي عليهالسلام لعمر في قصة الجنين : «إن كان هذا جهد رأيهم فقد قصروا ،
وإن كانوا قاربوك فقد غشّوك». وهذا من علي عليهالسلام حكم عليهم بجواز الغش.
الثاني عشر : قال
ابن الاشعث : كنّا في غزاة وعلينا معاوية فأصبنا ذهبا وفضة ، فأمر معاوية رجلا
ببيعها للناس في عطياتهم ، فتسارع الناس فيها ،
__________________
فقام عبادة بن
الصامت فنهاهم ، فردّوها ، فأتى الرجل معاوية فشكا إليه ، فقام
معاوية خطيبا فقال : ما بال أقوام يحدّثون عن رسول الله أحاديث يكذبون فيها.
فقام عبادة فقال :
والله لنحدّثنّ عن رسول الله وإن كره معاوية. وهو يدل إمّا على كذب معاوية أو كذب
عبادة.
الثالث عشر : قام
أبو موسى على منبر الكوفة لمّا بلغه أنّ عليا عليهالسلام أقبل يريد البصرة ، فحمد الله ثمّ قال : يا أهل الكوفة
والله ما أعلم واليا أحرص على إصلاح الرعية منّي ، والله لقد منعتكم حقّا كان لكم
بيمين كاذبة فأستغفر الله منها.
وهذا إقرار منه
على نفسه باليمين الكاذبة.
الرابع عشر : روى
أبو بكر وعمر يوم السقيفة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الأئمة من قريش. ثمّ رويتم أشياء أخر تناقضه.
كقول عمر في آخر
موته : لو كان سالم حيا لما تخالجني فيه شك ،
__________________
وسالم مولى امرأة
من الأنصار ، وهي أخذت ميراثه.
وكقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : اسمع وأطع ولو كان عبدا حبشيا.
ورويتم عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : لو كنت مستخلفا من هذه الأمّة أحدا من غير مشورة
لاستخلفت ابن أم عبد.
الخامس عشر : روى
أبو هريرة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : إنّ المرأة والكلب والحمار يقطعون الصلاة. فمشيت
عائشة في خف واحدة ، وقالت : لأخشينّ أبا هريرة ، فإنّي ربّما رأيت الرسول وسط
السرير وأنا على السرير بينه وبين القبلة.
السادس عشر : روى
أبو هريرة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنّ الميت على من غسله الغسل ، وعلى من حمله الوضوء» ،
فبلغ ذلك عائشة فقالت : أنجاس موتاكم. وهذا تكذيب.
السابع عشر : عن
إبراهيم أنّ عليا عليهالسلام بلغه أنّ أبا هريرة يبتدئ بميامينه في الوضوء ، وفي اللباس
فدعا بماء فتوضّأ وبدأ بمياسيره ، وقال : لأخالفنّ أبا هريرة.
الثامن عشر : انّ
أصحاب عبد الله لمّا بلغهم خبر أبي هريرة : «من قام من منامه فلا يغمس يده في
الإناء حتى يغسلها ثلاثا» قالوا : إنّ أبا هريرة مكثار ، فكيف نصنع بالمهراس.
التاسع عشر : لمّا
قال أبو هريرة : حدثني خليلي ، قال له علي عليهالسلام : متى كان خليلك؟
العشرون : لما روى
أبو هريرة : من أصبح جنبا فلا صوم له ، أرسل مروان
في ذلك إلى عائشة
وحفصة فقالتا : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يصبح جنبا ثم يصوم. فقال للرسول : اذهب إلى أبي هريرة
وأخبره بذلك ، فقال أبو هريرة : أخبرني بذلك الفضل بن عباس.
قال النظّام :
والاستدلال به من ثلاثة أوجه.
أ. استشهد ميّتا.
ب. لو لم يكن
متّهما فيهم لما سألوا غيره.
ج. عائشة وحفصة
كذّبتاه.
الواحد والعشرون :
لمّا روى أبو سعيد الخدري خبر الربا ، قال ابن عباس : نحن أعلم بهذا وفينا نزلت
آية الربا ، فقال الخدري : أحدّثك عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتقول لي ما تقول؟ والله لا أظلّني وإيّاك سقف بيت. وهذا
تكاذب بين ابن عباس وأبي سعيد.
الثاني والعشرون :
لمّا قدم ابن عباس البصرة سمع الناس يتحدّثون عن أبي موسى عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم (فكتب إليه) فقال أبو موسى : لا أعرف منها إلّا حديثا.
الثالث والعشرون :
كان عمر إذا ولّى أصحاب رسول الله الأعمال وشيّعهم قال لهم عند الوداع : أقلّوا
الحديث عن رسول الله.
__________________
قال النظّام : فلو
لا التهمة وإلّا لما جاز المنع من العلم.
الرابع والعشرون :
رووا عن سهل بن أبي حثمة في القسامة ثمّ إنّ عبد الرحمن بن عبيد قال : والله ما كان
الحديث كما حدّث سهل ، ولقد وهم ، وإنّما كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كتب إلى أهل خيبر : انّ قتيلا وجد في أفنيتكم فدوه ،
فكتبوا يحلفون بالله ما قتلوه ، ففداه الرسول من عنده.
قال محمد بن إسحاق
: سمعت عمر بن شعيب في المسجد الحرام يحلف بالله الّذي لا إله إلّا هو أنّ حديث
سهل ليس كما حدّث.
الخامس والعشرون :
قال أصحاب الشعبي له : إنّ إبراهيم النخعي يحكي عنك انّك لا ترى طلاق المكره. قال : أنتم تكذبون عليّ
وأنا حيّ ، فكيف لا تكذّبون على إبراهيم وقد مات.
السادس والعشرون :
قال ابن أبي مليكة : ألا تعجب حدّثني عروة عن
__________________
عائشة أنّها قالت
: أهللت بعمرة. وقال القاسم إنّها قالت : أهللت بحجّة.
السابع والعشرون :
قال صدقة بن يسار سمعت أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في الّذي يسافر وحده وفي الاثنين : «شيطان وشيطانان».
قال : فلقيت
القاسم بن محمّد فسألته عنه فقال : كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يبعث البريد وحده ، وكان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وصاحبه (وحدهما) .
وهذا من القاسم
تكذيب بهذا الخبر.
الثامن والعشرون :
كان ابن سيرين يعيب الحسن في التفسير وكان الحسن يعيبه في التعبير ويقول : كأنّه
من ولد يعقوب.
التاسع والعشرون :
قال ابن عباس : الحجر الأسود من الجنة ، وكان أشدّ بياضا من الثلج حتى سوّدته
خطايا أهل الشرك. فسئل ابن الحنفية عن الحجر وقيل : إنّ ابن عباس يقول : هو من
الجنة ، فقال : هو من بعض هذه الأودية.
قال النظّام : ولو
كان كفر أهل الجاهلية سوّد الحجر لكان إسلام المؤمنين يبيضّه ، لأنّ الحجارة قد
تكون سوداء وبيضاء ، ولو كان ذلك السواد من الكفر لوجب أن يكون سوادها بخلاف سائر
الأحجار ، ليحصل
__________________
التمييز ؛ ولأنّه
لو كان كذلك لاشتهر ، ذلك لأنّه من الوقائع العجيبة.
الثلاثون : روى
أبو سعيد الخدري : أنّه لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية ، فقال له مروان : كذبت
، وعنده رافع بن خديج وزيد بن ثابت وهما قاعدان على سريره ، فقال أبو سعيد : لو شاء هذان
لعرّفاك ، ولكن هذا يخاف أن تنزعه عن عرافة قومه ، وهذا يخشى أن تنزعه عن الصدقة ،
فسكتا ، فرفع مروان عليه الدرة ، فلمّا رأيا ذلك قالا : صدق.
الواحد والثلاثون
: قيل لعطاء بن أبي رباح : روى عكرمة عن ابن عباس أنّه كان يقول : سبق الكتاب الخفّين ، فقال :
كذاب أنا رأيت ابن عباس يمسح على الخفّين.
الثاني والثلاثون
: قال أيوب لسعيد بن جبير : إنّ جابر بن
__________________
زيد يقول إذا زوّج السيّد العبد فالطلاق بيد السيّد ، قال :
كذب جابر.
الثالث والثلاثون
: قال عروة لابن عباس : أضللت الناس يا بن عباس قال : وما ذاك يا عروة؟ قال : تأمر
الناس بالعمرة في هذه الأيام وليست فيها عمرة ، قال : أفلا تسأل أمّك عن هذا
فإنّها قد شهدته ، فقال عروة : فإنّ أبا بكر وعمر لا يفعلانه ، قال : هذا الّذي
أضلّكم أحدّثكم عن رسول الله وتحدّثونني عن أبي بكر وعمر ، فقال عروة : أبو بكر
وعمر كانا أتبع لسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأعلم بها منك. وهذا تكذيب من عروة لابن عباس.
الرابع والثلاثون
: قال أبو بكر : أيّ سماء تضلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله برأيي.
وثمّ سئل عن
الكلالة. فقال : أقول فيها برأيي ، فإن كان صوابا فمن الله ، وإن كان خطأ فمني ومن
الشيطان.
قال النظّام :
وهذان الأثران متناقضان.
وقال عمر : إنّي
لاستحيي أن أخالف أبا بكر.
قال النظّام : فإن
كان عمر استقبح مخالفة أبي بكر ، فلم خالفه في سائر
__________________
المسائل؟! فإنّه
خالفه في الجدّ وفي أهل الردّة وفي قسمة الغنيمة.
وقدح النظّام في ابن مسعود خاصة في إنكاره كون المعوذتين من القرآن ،
وغير ذلك من الأخبار الكثيرة.
وأمّا الخوارج فقد طعنوا في الصحابة من وجوه :
الأوّل : قبلوا
خبر الواحد في مناقضة القرآن ، وهو يوجب القطع بفساد ذلك الخبر ، والطعن في العامل
به.
لأنّه تعالى ذكر
أنواع المعاصي من الكفر والقتل والسرقة ؛ واستقصى في الزنا بالنهي ، فقال : (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) ، ثمّ توعّد عليه بالنار ، ثمّ ذكر الجلد ، ثمّ خصّه
بإحضار المسلمين ، وبالنهي عن الرأفة عليه ، وجعل على من رمى غيره به جلده ثمانين
، ولو رماه بالكفر أو القتل وهما أعظم لم يكن عليه ذلك ، ثمّ منع من قبول شهادتهم
أبدا وأكّده بفسقهم ثمّ ذكر من رمى به زوجته وبيّن أحكام اللعان ، ثمّ قال : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً
أَوْ
__________________
مُشْرِكَةً) ، وخصّه بشهادة أربعة ، ومع هذه المبالغات العظيمة كيف
يجوز إهمال ما هو أعظم مراتبها ، وهو الرجم. مع أنّه نفاه :
لقوله : (فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما) ، وهو صريح في الجلد على كل الزناة ، وفي نفي الرجم.
وقوله : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى
الْمُحْصَناتِ) ، والرجم لا نصف له.
ولأنّه لو كان
مشروعا لنقل متواترا ، لأنّه من الوقائع العظيمة ، فحيث لم ينقل دلّ على انتفاء
المشروعية.
الثاني : خرج
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يوما على أصحابه وهم يكتبون أحاديث من أحاديثه فقال : ما
هذه الكتب أكتابا مع كتاب الله؟! يوشك أن يغضب الله لكتابه ، فلا يدع في قلب منه
شيئا إلّا أذهبه.
وروي أنّه عليهالسلام قال : «إذا حدّثتم بحديث فأعرضوه على كتاب الله ، فإن
وافقه فاقبلوه وإلّا فردّوه».
ومع ذلك جوّزتم
المسح على الخفّين مع صريح (وَامْسَحُوا).
وجعلتم جلد العبد
خمسين ، والله تعالى ذكر ذلك في الإماء حيث قال : (فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ
ما عَلَى الْمُحْصَناتِ).
__________________
ورددتم شهادة
العبيد مع قوله : (وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
عَدْلٍ مِنْكُمْ).
الثالث : ما روي
عن الصحابة من شتم بعضهم بعضا.
حكى ابن داب في
مجادلات قريش قال : اجتمع عند معاوية : عمرو بن العاص ، وعتبة بن أبي سفيان ،
والوليد بن عقبة ، والمغيرة بن شعبة ، ثمّ أحضروا الحسن بن علي عليهماالسلام ليشتموه ، فلمّا أحضر تكلّم عمرو بن العاص وذكر عليا عليهالسلام ولم يترك شيئا من المساوئ إلّا ذكر فيه ، وفيما قال : إنّ
عليا شتم أبا بكر وشرك في دم عثمان ـ إلى أن قال : ـ فاعلم أنّك وأباك من شر قريش.
ثمّ خطب كلّ واحد
منهم بمساوئ علي عليهالسلام والحسن ونسبوا عليا إلى قتل عثمان. فلمّا آل الأمر إلى
الحسن خطب ثمّ بدأ يشتم معاوية وطوّل فيه ـ إلى أن قال له ـ : إنّك كنت ذات يوم
تسوق بأبيك ويقود به أخوك هذا القاعد وذلك بعد ما عمى أبو سفيان ، فلعن رسول الله
الجمل وراكبه وقائده وسائقه ، وكان أبوك الراكب وأخوك القائد وأنت السائق.
ثمّ قال لعمرو بن
العاص : إنّما أنت سبّة كما أنت فأمّك زانية ، اختصم فيك خمسة نفر من قريش ، كلّهم
يدّعي عليك أنّك ابنه ، فغلب عليك جزّار من قريش ، من ألأمهم حسبا ، وأقلّهم منصبا
، وأعظمهم لعنة ما أنت إلّا شانئ محمد ، فأنزل الله على نبيه ، (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) ، ثمّ هجوت رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بسبعين قافية ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : اللهم إنّي لا أحسن الشعر ، اللهم العنه بكلّ قافية
لعنة.
وأمّا أنت يا بن
أبي معيط فو الله ما ألومك أن تبغض عليا وقد جلدك في الخمر وفي الزنا وقتل أباك
صبرا بأمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوم بدر ، وسمّاه الله تعالى في عشر آيات مؤمنا وسمّاك
فاسقا ، وأنت علج من أهل النوريّة.
وأمّا أنت يا عتبة
فما أنت بحصيف فأجيبك ، ولا عاقل فأعاتبك ، وأمّا وعيدك إيّاي بالقتل فهلا قتلت
الّذي وجدت على فراشك مع أهلك.
وأمّا أنت يا
مغيرة بن شعبة فمثلك مثل البعوضة إذا قالت للنخلة : استمسكي فإنّي عليك نازلة
وقالت النخلة : والله ما شعرت بوقوعك عليّ ، وأمّا زعمك أنّه قتل عثمان ، فلعمري
لو قتل عثمان ما كنت منه في شيء وإنّك لكاذب.
قالت الخوارج :
فهذه المشاتمة تدلّ على طعن بعضهم في بعض.
قالوا : وأخّر
عثمان عن عائشة بعض أرزاقها ، فغضبت ثمّ قالت : يا عثمان أكلت أمانتك وضيّعت
الرعية وسلّطت عليهم الأشرار من أهل بيتك والله لو لا الصلوات الخمس لمشى إليك قوم
ذو بصائر يذبحونك كما يذبح الجمل ، فقال لها عثمان : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ) الآية. فكانت عائشة تحرّض عليه جهدها وطاقتها وتقول :
أيّها الناس هذا قميص رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يبل وقد بليت سنّته ، اقتلوا نعثلا قتل الله نعثلا.
__________________
ثمّ ذهبت عائشة
إلى مكة فلمّا قضيت الحجّ وقربت من المدينة أخبرت بقتل عثمان ، فقالت : ثمّ ما ذا؟
فقالوا : بايع الناس علي بن أبي طالب ، فقالت عائشة : قتل والله مظلوما وأنا طالبة
بدمه ، والله ليوم من عثمان خير من علي الدهر كلّه.
فقال لها عبيد بن
أمّ كلاب : ولم تقولين ذلك؟ فو الله ما أظن أنّ بين السماء والأرض
أحدا في هذا اليوم أكرم على الله من علي بن أبي طالب فلم تكرهين ولايته؟ ألم
تحرضين الناس على قتله وقلت : اقتلوا نعثلا فقد كفر ، فقالت عائشة : إن قلت ذلك
فقد رجعت عمّا قلت ، وذلك أنّكم أسلمتموه حتى إذا جعلتموه في القبضة قتلتموه ، فو
الله لأطلبنّ بدمه ، فقال لها عبيد بن أمّ كلاب : هذا والله تخليط يا أمّ
المؤمنين.
وأيضا الخصومة
العظيمة التي كانت بين عبد الله بن مسعود وأبي ذر وعمّار وبين عثمان ، والخصومة
الّتي كانت بين عبد الله بن مسعود وزيد بن ثابت حتى آل الأمر إلى الضرب والنفي عن
البلد واللعن ، وكلّ ذلك يقتضي توجه القدح إلى عدالة بعضهم.
وأيضا مقتل عثمان
والجمل وصفين.
قالت الخوارج :
رأينا المحدّثين يجرحون الراوي بأدنى سبب ، ومع علمهم بهذه القوادح يقبلون
رواياتهم ويعملون برواية القادح والمقدوح
__________________
فيه ، بل هؤلاء
المحدّثون أتباع كلّ ناعق ، وعبيد كلّ من غلب ، يروون لأهل كلّ دولة في ملكهم ،
فإن انقضت دولتهم تركوهم.
ولأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ما كانت الصحابة تكتب كلامه من أوّله إلى آخره لفظا لفظا ،
وإنّما كانوا يسمعونه ثمّ يخرجون من عنده ، وربّما رووا ذلك الكلام بعد ثلاثين سنة.
ومن المعلوم أنّ
العلماء الذين تعوّدوا تلقّف الكلام لو سمعوا كلاما قليلا مرة واحدة فأرادوا
إعادته في تلك الساعة بعين تلك الألفاظ من غير تقديم ولا تأخير ، لعجزوا عنه فكيف
بالكلام الطويل بعد المدة الطويلة من غير تكرار ولا كتابة.
ومن أنصف علم أنّ
الألفاظ المروية ليست ألفاظه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم بعد المدة الطويلة لا يمكن إعادة المعنى بتمامه ،
فإنّ الإنسان مظنّة النسيان ، بل إنّما يعيد بعضه خصوصا ، وقد جرّبناهم فرأيناهم
يروون المعنى الواحد بألفاظ كثيرة مختلفة مع زيادات ونقصانات.
وهذه المطاعن
كلّها روايات آحاد لا تعارض الآيات والأحاديث المشهورة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الثناء على أصحابه ، وهذه المطاعن مروية
__________________
بالآحاد فإن فسدت (رواية
الآحاد فسدت) رواية هذه المطاعن. وإن صحّت فسدت هذه المطاعن أيضا.
ومطاعن الخوارج
مبنية على أنّه لا يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد ، وقد تقدّم جوازه ؛ وقولهم :
الظاهر أنّ هذه الألفاظ ليست ألفاظ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ضعيف بالظاهر من عدالة الرواة.
__________________
الفصل الخامس :
في خبر الواحد
وفيه مباحث :
الأوّل : في حدّه
قال بعضهم : خبر الواحد ما أفاد الظنّ ، وهو غير مطّرد بالقياس فإنّه
يفيد الظنّ وليس خبر واحد ، وغير منعكس فإنّ الواحد لو أخبر بما لم يحصل معه الظنّ
فإنّه خبر واحد. وإن لم يفد الظنّ ، فقد وجد المحدود دون الحد في الثاني وبالعكس
في الأوّل مع أنّ الظنّ قد يراد به العلم لقوله تعالى : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ
مُلاقُوا رَبِّهِمْ) أي يعلمون. والحد يجب عدم استعمال المشترك فيه.
وفيه نظر ، لأنّ
استعماله في العلم مجاز ، فلا يمنع من ذكره في الحد إذا أريد منه حقيقته.
وقيل : ما كان من الأخبار غير منته إلى حد التواتر.
__________________
والأقرب أنّه ما
لم يفد العلم من الأخبار ، وإن زاد رواته على ثلاثة سمّي مشهورا ومستفيضا.
البحث الثاني : في
أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم
ذهب المحقّقون إلى
أنّ خبر الواحد العدل إذا تجرد عن القرائن لا يفيد العلم.
وقال بعض أهل
الظاهر وأحمد بن حنبل في رواية : إنّه يفيد العلم في كلّ شيء.
وقال بعضهم : إنّه
يفيد العلم في بعض الأشياء لا في الجميع.
لنا وجوه :
الأوّل : لو أفاد
خبر الواحد العلم لأفاده كلّ خبر ، كالمتواتر لما أوجب العلم ، كان كلّ متواتر
موجبا له.
اعترض بأنّه قياس تمثيلي لا يفيد العلم ، ولأنّ العلم عقيب
التواتر إن كان ضروريا كان من فعله تعالى ، فجاز أن يخلقه عقيب كلّ تواتر لمصلحة
يعلمها مختصة بالتواتر. وإن كان مكتسبا فإنّ استواء جميع أخبار التواتر فيما لا
بدّ منه في حصول العلم ولا يلزم من ذلك استواء جميع أخبار الآحاد.
وفيه نظر ، لأنّ
المقتضي يستلزم وجوده وجود معلوله ، فلو كان خبر
__________________
الواحد موجبا
للعلم لاستند إلى كونه خبر واحد ، وهو موجود في كلّ خبر واحد.
الثاني : تأثيرات
الأدلّة في النفوس بحسب المؤثر ولا نجد في أنفسنا من خبر الواحد وإن بلغ الغاية في
العدالة سوى ترجيح صدقه على كذبه من غير قطع ، وذلك غير موجب للعلم.
اعترض بأنّ حاصلها يرجع إلى محض الدعوى في موضع الخلاف من غير
دلالة ، ومع ذلك فهي معارضة بالمثل فإنّ الخصم يقول : أنا أجد في نفسي العلم.
الثالث : لو أفاد
خبر الواحد العلم ، لما روعي فيه شرط الإسلام والعدالة كما في التواتر.
اعترض بجواز أن يكون الله تعالى أجرى العادة بخلق العلم عنده إن
جعل العلم عقيب التواتر ضروريا ، وهو غير لازم في خلقه عند خبر من ليس بمسلم ولا
عدل ، أو أن يكون التواتر من حيث هو تواتر مشتملا على ما يوجب العلم ، إن قيل إنّه
كسبي ، وخبر من ليس بمسلم ولا عدل غير مشتمل على ذلك.
الرابع : لو أفاد
العلم لتناقضت الأحكام عند تناقض الروايات.
وفيه نظر ،
لاحتمال أن تكون الإفادة مشروطة بعدم المعارض ، كما لو
__________________
أخبر جماعة لو لا
حصول معارض لإخبارهم لأفاد العلم مع عدم الطعن في إفادة المتواتر للعلم.
الخامس : كلّ عاقل
يجد من نفسه تزايد اعتقاده المستفاد من خبر الواحد عند ازدياد الإخبار ، ولو كان
الأوّل مفيدا للعلم لامتنعت الزيادة.
لا يقال : العلوم
تتفاوت في الزيادة والنقصان كالضروري فإنّه أقوى من الكسبي.
لأنّا نقول : نمنع
التفاوت بين العلوم من حيث هي علوم بزيادة أو نقصان ، لاستحالة احتمال النقيض عنها
قطعا وإلّا لم تكن علوما. والتفاوت بين النظري والضروري ليس في نفس العلم بالمعلوم
، بل من حيث الافتقار في النظري وعدمه في الضروري.
السادس : لو أفاد
العلم لحصل العلم بنبوة من أخبر بكونه نبيا من غير حاجة إلى معجزة دالّة على صدقه
، ولوجب أن يحصل للحاكم العلم بشهادة الواحد فيستغني عن آخر وعن التزكية.
وفيه نظر ، لأنّ
خبر المتواتر يشترط فيه عدم الداعي إلى التواطؤ على الكذب ففي خبر الواحد أولى ،
وهنا داع إلى الكذب وأمّا الشهادة فلمّا عارضها قول المنكر لم يبق الواحد مفيدا
للعلم.
السابع : لو حصل
العلم بخبر الواحد لوجب تخطئة مخالفه بالاجتهاد وتفسيقه ، ولصحّ معارضه بالتواتر ،
وأن يمتنع التشكيك بما يعارضه كما في التواتر.
وفيه نظر ، لإمكان
اتّصاف غير العالم بما ينافي العلم كما شرط المرتضى في إفادة التواتر العلم عدم
السبق بشبهة تخالف الخبر.
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل : قال
تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) نهى عن اتّباع غير العلم ، وقد أجمعنا على قبول خبر الواحد
، فلو لم يفد العلم لكان الإجماع منعقدا على مخالفة النص ، وهو باطل.
الثاني : ذمّ
تعالى اتّباع الظنّ ، فلو لم يفد خبر الواحد العلم لدخل العامل به تحت الذم.
الثالث : لو لم
يفد العلم لما أوجبه ، وإن كثر العدد إلى حد التواتر ، لأنّ ما جاز على الأوّل جاز
على ما بعده.
الرابع : لو لم
يفد العلم ، لما شاع قتل المقر على نفسه بالقتل ، ولا بشهادة اثنين عليه لكونه
قاضيا على دليل العقل وأصالة البراءة.
قال علي عليهالسلام : «ما حدّثني أحد بحديث إلّا استحلفته إلّا أبا بكر» .
وقطع بصدقه وهو
واحد. هذه حجّة من فرق بين خبر وخبر.
والجواب عن الأوّل
والثاني : أنّ الإجماع دلّ على وجوب العمل بخبر
__________________
الواحد ، فاتّباعه
اتّباع العلمي لا الظني ، أو يحمل على المنع من اتّباع الظنّ في أصول الدين كوجود
الصانع وصفاته.
وعن الثالث : أنّ
حكم الجملة [قد] يخالف حكم الآحاد.
وعن الرابع : أنّ
أحكام الشرع لا تتوقّف على اليقين بالإجماع ، ولأنّ فيه نظر فإنّا لم نقتله
باعتبار أنّه قتل ، بل باعتبار إقراره أو البيّنة الّتي جعلهما الشارع سببا لترتيب
الأحكام.
وعن الخامس : لا
يلزم من عدم الاستحلاف القطع بالتصديق بل الظن.
البحث الثالث : في
جواز التعبد عقلا بخبر الواحد
الأكثر على جواز
التعبّد بخبر الواحد العدل عقلا ، خلافا للجبّائي وجماعة من المتكلمين.
لنا : إنّ فرض
وقوعه لا يستلزم المحال فكان جائزا ، بل ولا استبعاد فيه ، وتجويز الكذب لا يمنع
من ذلك ، كما في المفتي والشاهدين ؛ ولأنّه واقع على ما يأتي فيكون جائزا بالضرورة
، ولأنّه خبر فجاز التعبّد بالعمل به كالمتواتر ، والفارق لا يصلح مناطا للحكم ،
لأنّه شيئان :
الأوّل : العمل
بخبر الواحد غير معلوم ، وهو باطل بأن يدلّ دليل قاطع على وجوب العمل به فيحصل
العلم بوجوب العمل به كالمتواتر.
__________________
الثاني : العمل به
موقوف على صدق الخبر ووجوب العمل وصحّته لا يقفان على الظن. وهو باطل ، لجواز
توقّفه على الظن ، لأنّ الفعل الشرعي إنّما يجب لكونه مصلحة ، ولا يمتنع أن يكون
مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة مخصوصة وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة من صفاتنا
فدخلت في جملة أحوالنا الّتي يجوز كون الفعل عندها مصلحة. ولهذا يلزم المسافر سلوك
طريق وتجنب آخر إذا أخبر بسلامة ذاك واختلال هذا من يظن صدقه ، ويجب على الحاكم
العمل بالشهادة مع ظنّه.
فإن قيل : نمنع عدم استلزام المحال باعتبار أمر خارج وإن لم يكن
ذاتيا.
وبيانه : أنّ
التكليف مبني على المصلحة ودفع المفسدة ، فلو تعبدنا باتّباع خبر الواحد والعمل به
، لزم الإقدام على المفسدة بأن يتضمّن الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سفك الدم أو استحلال محرّم مع احتمال كذبه ، فلا يكون في
العمل بمقتضى قوله مصلحة ، بل محض مفسدة ، وهو خلاف الشرع ، ولهذا امتنع العمل
بخبر الصبيّ والفاسق.
ثمّ فرّقوا بين
الشهادة والخبر من وجوه :
الأوّل : الشهادة
إنّما تقبل فيما يجوز فيه الصلح وفي أمور الدّنيا ، بخلاف الخبر عن الله وعن
الرسول ، فكانت المفسدة في الشهادة أبعد.
__________________
الثاني : الخبر
يقتضي إثبات الشرع بخلاف الشهادة بأنّ زيد قتل وسرق فإنّه لا يثبت به شرع.
الثالث : الحكم
عند الشهادة يثبت بدليل قطعي وهو الإجماع ، والشهادة شرط وخبر الواحد عندكم دليل
مثبت للحكم الشرعي ولا يجعلونه شرطا.
والجواب : ينتقض
ما ذكروه أوّلا : بورود التعبّد بقبول شهادة الشهود وقول المفتي ، ويجوز ورود
الخبر فيما يتعلّق بأمور الدنيا كالأخبار المتعلّقة بأنواع المعاملات.
وينتقض بالشهادة فيما
لا يجري فيه الصلح كالفروج.
والخبر كما يقتضي
إثبات أمر شرعي ، فكذا الشهادة على القتل والسرقة وغير ذلك يستلزم إثبات أمر شرعي
وهو وجوب القتل أو القطع.
والحكم عند الخبر
يثبت بدليل قاطع ، فوجب العمل به كالشهادة.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : خبر
الواحد يوجب الظنّ ، وقد نهي عن العمل به في قوله : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وقوله : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) ، وقوله : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً).
__________________
الثاني : لو جاز
قبول خبر الواحد في الأحكام الشرعية عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عند ظن الصدق ، لجاز التعبّد بخبر الواحد عن الله تعالى في
الأحكام الشرعية بدون اقتران المعجز. والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
الثالث : لو جاز
التعبّد به في الفروع لجاز في الأصول.
الرابع : لو جاز
التعبّد به لجاز في نقل القرآن.
الخامس : أخبار
الآحاد قد تتعارض فلو ورد التعبّد بها لكان واردا بالعمل بما لا يمكن العمل به
ضرورة التعارض الممتنع على الشارع.
السادس : الشرعيات
مصالح ، والواحد يجوز أن يكذب في إخباره من فعل أو ترك فلا نأمن أن يكون ما تضمّنه
خبره مفسدة.
والجواب من حيث
الإجمال ومن حيث التفصيل.
أمّا الإجمال :
فالنقض بخبر المفتي والشاهد والمقوّم والقسّام وغير ذلك.
وأمّا التفصيل
فالجواب :
عن الأوّل : أنّ
العمل بخبر الواحد معلوم لا مظنون وهو الإجماع ؛ ولأنّ دلالة الآيات على المنع من
خبر الواحد ليست معلومة ، بل مظنونة ، فهو لازم على الخصم.
__________________
وعن الثاني : أنّ
الخبر إنّما يجب العمل به لو حصل ظن صدقه ، أمّا عند ظن الكذب فلا ، وكذب المخبر
عن الله بغير ظهور معجزة مظنون.
وعن الثالث : بمنع
الملازمة ، فإنّ المعتبر في الأصول القطع واليقين دون الظن بخلاف الفروع.
وعن الرابع : أنّ
القرآن معجز الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم دالّ على صدقه ، فيجب القطع في إثباته ليحصل العلم
بالنبوة.
وعن الخامس :
التعارض لا يمنع من التعبّد بالراجح ، وبالتخيير مع عدمه ، سلّمنا لكن لا يلزم من
بطلان العمل بالخبر مع قيام معارض بطلان العمل به مطلقا.
وعن السادس : قال
قاضي القضاة : الّذي لا بدّ منه في الواجب الشرعي كونه مصلحة مدلولا
عليه إمّا بعينه أو بصفته ، فإذا قامت الدلالة على وجوب العمل عند خبر الواحد
وظننا صدقه ، علمنا أنّ العمل صلاح لنا ، كما نعلم أنّ قطع اليد صلاح عند البيّنة.
اعترضه أبو الحسين
بأنّه لا يبطل قول المخالف ، لأنّ الراوي إذا جاز عليه الكذب لم يأمن أن يخبر
بالمفسدة.
ومتى ثبت للمخالف
ذلك ، كان له أن يقول : لا يجوز أن يدلّ الدلالة على ما ذكرتم.
__________________
لا يقال : قيام
الدلالة على وجوب العمل بما ظنناه يدلّ على صدق الخبر.
لأنّا نقول : فيجب
أن يقطعوا على صدقه ، ولأنّه لو جاز ذلك لجاز أن تدلّ الدلالة على أن نحكم بما
نريد ، فيعلم أنّ كلّ ما نريد الحكم به فهو صواب.
فإن منعتم من
جوازه في كلّ ما نريده منعنا اتّفاق الصواب في كلّ ما يظنّ صدق الراوي فيه ، وما
ذكره من الحكم عند البيّنة نقض عليهم ، لأنّه يجوز كذب الشهود فيقطع يدا لا يستحق
قطعها.
وأجاب : بأنّ الفعل قد يكون صلاحا إذا فعلناه ونحن على حالة
مخصوصة ، ولا يمتنع أن يكون متى ظننا صدق الراوي أو كنّا ممّن يجوز ظن صدقه لأمارة
صحيحة ، فمصلحتنا أن نفعل ما اقتضاه الخبر ، صدق الراوي أو كذب ، كما نقوله في
الحكم عند البيّنة ، وإذا لم يمتنع ذلك لم يجب ما قالوه من أنّ جواز كذب الراوي
يلزمه تجويز كون الفعل الذي رواه مفسدة ، كما لا يلزم مثله في البيّنة.
لا يقال : إن
جعلتم ظنّكم صدق الراوي طريقا إلى المصلحة ومنعتم من جواز الخطأ فقد جعلتم الظن
علما ولزمكم قبول خبر الواحد في الاعتقادات. وإن جوّزتم الخطأ في الظن لم يجز كونه
طريقا إلى القطع على أنّ ما فعلتموه مصلحة ، وإن جاز ذلك مع جواز كونه خطأ جاز أن
يكون طريقا إلى الاعتقادات وجاز ورود التعبّد به فيها ، وإن جعلتموه شرطا في
__________________
كون فعلكم مصلحة
فلم لا يجوز كون الفعل مصلحة إذا ظننا كذب الراوي أو اشتهينا فعله ، وإذا اخترناه
وأن يرد التعبّد بذلك.
لأنّا نقول : أجاب
قاضي القضاة بجواز كون هذه الأشياء أسبابا يجب عندها الفعل.
وأجاب أبو الحسين : بأنّا جوّزنا كون الفعل مصلحة عند حالة من حالاتنا ، ثمّ
بيّنّا أنّ ظن صدق الراوي ممّا يشهد العقل بجواز كونه شرطا في المصلحة بما ذكرناه
من الحكم بالبيّنات ، وكما أنّ العقل شاهد بذلك فهو شاهد بأنّ ما ذكرتموه لا يكون
شرطا في وجوب الفعل ، على أنّ القول بأنّه «ينبغي أن يعمل الإنسان بما يشتهيه»
إسقاط للتكليف ، لأنّه بمنزلة أن يقال : افعل ما تختاره دون ما لا تختاره ، ونحن
إنّما نتكلّم في تكليف على صفة هل يحسن أم لا؟ وقصد السائل أن يلزمنا على هذا
التكليف تكليفا آخر على صفة أخرى ، وليس قصده إلزامنا إسقاط التكليف ، فقد ظهر
أنّه لم يلزم ما قصد إلزامنا.
لا يقال : يجوز أن
يقال : إذا اخترت الفعل واشتهيته ولم يصرفك عنه صارف فقد وجب عليك فعله ما دمت
مريدا له ، وإن لم تكن مختارا لم يجب عليك.
لأنّا نقول : لا
يجوز ذلك ، لأنّه والحال هذه لا بدّ من كونه فاعلا ، فإيجاب ذلك لا يصحّ.
__________________
البحث الرابع : في
وقوع التعبّد به
اختلف القائلون
بجواز التعبّد به عقلا ، فمنهم من قال : قد وقع التعبّد به ، ومنهم من قال : لا
يقع.
والأوّلون اتّفقوا
على أنّ الدليل السمعي دلّ عليه ، واختلفوا في الدليل العقلي هل دلّ عليه؟
فقال القفّال وابن
سريج وأبو الحسين البصري : إنّ الدليل العقلي دلّ على وقوع التعبّد به.
وقال الشيخ أبو
جعفر الطوسي وأكثر المعتزلة والأشاعرة : إنّ دليل التعبّد به السمع لا غير.
وأمّا الذين قالوا
لم يرد التعبد به فقد افترقوا ثلاث فرق :
الأولى : لم يوجد
ما يدلّ على كونه حجّة فوجب القطع على أنّه ليس بحجّة. وهو قول السيّد المرتضى.
الثانية : ورد في
الأدلّة السمعية ما يدلّ على أنّه ليس بحجّة.
__________________
الثالثة : الدليل
العقلي دلّ على امتناع العمل به.
واتّفق الناس كافّة
على جواز العمل بالخبر الّذي لا يعلم صحّته في الفتوى والشهادة وفي الأمور
الدنيوية.
والحقّ وقوع
التعبّد به لوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ) أوجب الحذر بإخبار الطائفة وهي عدد لا يفيد قولهم العلم ،
ووجوب الحذر يستلزم وجوب العمل.
أمّا وجوب الحذر ،
فلأنّه أوجبه عند إنذار الطائفة ، لقوله : (لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) ، وكلمة «لعلّ» للترجّي ، وهو محال في حقّه تعالى. وإذا
تعذّر حمله على ظاهره حمل على المجاز وهو الطلب ، لأنّ المترجّى طالب ، فإذا كان
الطلب لازما للترجّي وجب حمل اللّفظ على الطلب ، وطلب الله هو الأمر فيكون قد أمر
بالحذر. والإنذار الإخبار ، لأنّه عبارة عن الخبر المخوف ، والخبر داخل فيه ، فقد
أوجب الحذر عند إخبار الطائفة.
وهي عدد لا يفيد
قولهم العلم ، لأنّ كلّ ثلاثة فرقة ، وقد أوجب على كلّ فرقة خروج طائفة منها ،
والطائفة من الثلاثة واحد أو اثنان ، وقولهما لا يفيد العلم.
وبيان وجوب العمل
: انّ الراوي إذا روى لقوم خبرا يقتضي المنع من
__________________
فعل فعلوه ، فإن
وجب تركه فالمطلوب ، ويلزم من وجوب العمل به في هذه الصورة العمل به مطلقا لعدم
القائل بالفرق ، وإن لم يجب لم يكن الحذر واجبا ، وهو ينافي مقتضى الآية.
فإن قيل : لا
نسلّم أنّه أوجب الحذر عند إنذار الطائفة ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) لا يمكن حمله على ظاهره ، ونمنع حمله على ذلك المجاز لجواز
حمله على غيره.
سلّمنا وجوب الحذر
عند الإنذار ، لكن نمنع أنّ الإنذار هو الإخبار ، فإنّه من جنس التخويف ، فنحمل
الآية على التخويف الحاصل من الفتوى ، بل هو أولى ؛ لأنّه أوجب التفقّه لأجل
الإنذار ، والتفقّه إنّما يحتاج إليه في الفتوى لا في الرواية.
لا يقال : يتعذّر
الحمل على الفتوى ، والّا لاختصّ لفظ القوم بغير المجتهد ، فإنّ المجتهد ليس له
العمل بفتوى المجتهد ، لكن الآية مطلقة في وجوب إنذار القوم ، سواء كانوا مجتهدين
أو لا.
أمّا لو حملناه
على رواية الخبر لا يلزمنا ذلك ؛ لأنّه قد يروى للمجتهد وغيره ؛ ولأنّ من شرب
النبيذ فروى له إنسان ما يدلّ على أنّ شاربه في النار ، فقد أخبره بمخوف ، وهو
معنى الإنذار ، فصحّ وقوعه على الرواية. ثمّ إن لم يقع على الفتوى فالمطلوب من أنّ
المراد بالإنذار الرواية لا الفتوى. وإن وقع كان حقيقة في القدر المشترك ، وهو
الخبر المخوف دفعا للاشتراك ، فيكون متناولا للفتوى والرواية معا ، وذلك لا
يضرّنا.
لأنّا نقول : كما
يلزم من حمل الإنذار على الفتوى تخصيص القوم بغير
المجتهد ، يلزم من
حمله على الرواية تخصيص لفظ القوم بالمجتهد ، للإجماع على منع العامي من الاستدلال
بالحديث ، فالتقييد لازم عليكم كما لزمنا والترجيح معنا ، لأنّ غير المجتهد أكثر
من المجتهد ، وإذا أقلّ التقييد كان أولى.
والإنذار إذا كان
مشتركا بين الفتوى والرواية كفى في الامتثال الإتيان بصورة واحدة ، لأنّ المطلوب
إدخال القدر المشترك بين الفتوى والرواية في الوجود ، وهو يحصل في الفتوى ، فالقول
بكون الفتوى حجّة يكفي في العمل بمقتضى النصّ ، فتنتفي دلالته على وجوب العمل
بالرواية.
ولأنّ قوله : (لِيَتَفَقَّهُوا) يدلّ على أنّه ليس في الطائفة مجتهد ، إذ لو كان فيها
مجتهد لم يجب على بعضها أن ينفر للتفقّه فيكون الإنذار الإفتاء.
سلّمنا ، أنّ
المراد رواية الخبر خاصة ، لكن المراد أخبار القرون الماضية وما فعل الله تعالى
بهم ، لأنّ سماعه يقتضي الاعتبار لقوله : (لَقَدْ كانَ فِي
قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ) ؛ أو التنبيه على وجوب النظر والاستدلال.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ كلّ ثلاثة فرقة ، فإنّه تصديق الشافعية فرقة واحدة لا فرق ، ولأنّه يلزم
وجوب خروج واحد من كلّ ثلاثة للتفقّه ، وهو باطل إجماعا.
سلّمنا ، لكن
الطائفة اسم للواحد والاثنين وقوله : (وَلِيُنْذِرُوا)
__________________
ضمير جمع أقلّه
ثلاثة ، فهو إذن غير عائد إلى كلّ واحد من الطوائف ، بل المجموع ، فجاز أن يبلغ
حدّ التواتر.
سلّمنا ، لكن نمنع
وجوب العمل بذلك الخبر ووجوب الترك على الجماعة الذين خوّفوا من فعلهم للاحتياط ،
حتّى إن كان التارك عاميا وجب عليه الرجوع إلى المفتي ، فإن أذن له فيه جاز له
العود إليه ، وإن كان مجتهدا نظر في الأدلّة ، فإن وجد فيها ما يقتضي المنع من ذلك
الفعل امتنع منه ، وإلّا جاز له العود إليه.
سلّمنا ، لكن
نحتمل التفقّه في الأصول.
سلّمنا ، لكن وجوب
الإنذار لا يستلزم وجوب القبول على المنذر ، كما يجب على الشاهد أن يشهد ولا يجب
على الحاكم أن يحكم ، ويجب على كلّ واحد من المتواترين الإخبار ، ولا يجب على
السّامع أن يقول على خبره وحده فيما طريقة العلم ، ويجب على من خوّف بالقتل
إن لم يدفع ماله دفع ، ويقبح من المخوف أخذه.
أو يقول : يجب على
المنذر الحذر إذا انضاف إلى المخبر غيره حتّى يتواتر إنذارهم.
سلّمنا ، لكن نمنع
أنّ قوله : (وَلِيُنْذِرُوا) للأمر.
سلّمنا ، لكن نمنع
أن يكون هو الإخبار ، بل التخويف من فعل شيء أو
__________________
تركه بناء على
العلم بما فيه من المصلحة والمفسدة ، والتخويف خارج عن الإخبار.
سلّمنا ، لكن
الطلب اللازم للترجّي إنّما هو الطلب بمعنى ميل النفس ، وهو مستحيل في حقّه تعالى
لا الّذي هو بمعنى الأمر ، وإذا لم يكن الحذر مأمورا به لم يكن واجبا.
والجواب : أنّه
يفيد وجوب الحذر لثلاثة أوجه :
١. لا يمكن حمله
على ظاهره ، فيحمل على الأمر به. والأصل عدم مجاز آخر.
وفيه نظر ، لأنّ
الترجّي الممتنع في حقّه تعالى إنّما هو في ما يرجع إلى أفعاله لا إلى أفعال
العباد الاختيارية.
٢. قوله تعالى : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) يقتضي إمكان تحقّق الحذر في حقّهم والحذر [هو] التوقّي من
المضرة ، والفعل الّذي يقتضي خبر الواحد بالمنع منه قد لا يكون مضرا في الدنيا ،
فيكون مضرا في الآخرة ، وإلّا لم يمكن الحذر ، وضرر الآخرة العقاب ، فإذا كان بحيث
يحذر عنه ، فهو بحيث يترتّب العقاب على فعله ، وهو معنى قولنا : خبر الواحد حجّة.
وفيه نظر ، لأنّ
إمكان تحقّق الحذر على الفعل لا يقتضي إمكانه على مخالفة الخبر.
__________________
٣. قوله : (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) إن لم يقتض وجوب الحذر فلا أقل من أن يقتضي حسنه ، وهو
يقتضي جواز العمل بخبر الواحد ، والخصم ينكره.
قوله : يحمل على
الفتوى.
قلنا : يلزم تخصيص
القوم بغير المجتهد.
قوله : لو حمل على
الرواية لزم تخصيصه بالمجتهد.
قلنا : لا نسلّم ،
فإنّ الخبر كما يروى للمجتهد فقد يروى لغيره. نعم لا يجوز له التمسّك به ، لكن
ينتفع [به] من وجوه أخر ، كالانزجار عن فعله ، ويصير ذلك داعيا إلى الرجوع إلى
المفتي ، وربّما بحث عنه واطّلع على معناه.
ولأنّ كثيرا ممّن
يمنع من العمل بخبر الواحد يمنع العامّي من الأخذ بالفتوى ، أو يحمل على القدر
المشترك ، فإنّ التفقّه يكون بسماع الأخبار والتديّن بها ، وقد كان التفقّه هكذا
في الزمن الأوّل ، وهذه الحالة يتمّ معها الإنذار بالفتوى وبالإخبار ، فإذا لم
يفصّل الله تعالى الإنذار كان محمولا على كلّ واحد منهما.
قوله : الحمل على
القدر المشترك يكفي فيه العمل به في صورة واحدة.
قلنا : إنّه رتّب
الحذر على مسمّى الإنذار الّذي هو القدر المشترك
__________________
فيكون علّة للحكم
فيثبت الحكم أينما ثبت هذا المسمّى.
ولأنّ قبول الفتوى
إن كان مأمورا به قبل هذه الآية لم يجز حمل الآية عليه لعدم الفائدة ، وإن لم يكن
وجب حمله على الصورتين دفعا للإجمال.
وفيه نظر ، فإنّ
الحكم رتّب على الإنذار عقيب التفقّه ومفهوم ذلك الإنذار عقيب الفتوى ، فإن لم يكن
مختصّا به فلا أقل من الظهور ، وهو يدفع الإجمال.
قوله : إن قوله
تعالى : (لِيَتَفَقَّهُوا) يدلّ على أنّه ليس في الطائفة مجتهد.
قلنا : العبادات
في عصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كانت تتجدّد حالا فحالا ، ويرد نسخها بعد ثبوتها. فحصول
المجتهد في الطائفة لا يغني عن أن ينفر منها من يسمع ما يتجدّد من السنن المبتدأة
والناسخة ، وكذلك الأعصار المقاربة لعصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قبل استقرار السنن وانتشارها ، لجواز أن يكون في غيرها من
الطوائف من السنن ما لم تبلغها.
قوله : لا نسلّم
انّ كلّ ثلاثة فرقة.
قلنا : الفرقة
فعلة من فرق أو فرّق كالقطعة من قطع أو قطّع ، وكلّ شيء حصلت فيه الفرقة أو
التفريق كان فرقة ، كما أنّ كلّ شيء حصل فيه القطع أو التقطيع قطعة ، فالفرقة لغة
حقيقة في كلّ واحد من الأشخاص ، وخصصناها في الآية بالثلاثة ليمكن خروج الطائفة
منها ، فتبقى حقيقة في الثلاثة.
واتّحاد فرقة
الشافعية لامتيازهم بحسب المذهب عن غيرهم ، فلهذا الافتراق سمّوا فرقة واحدة ، وإن
كانوا بحسب الشخص فرقا متعدّدة.
ولما دلّ الإجماع
على عدم وجوب أن يخرج من كلّ فرقة طائفة ، ترك العمل به هنا ويبقى معمولا به في
الباقي.
قوله : مجموع
الطوائف قد يبلغ حد التواتر.
قلنا : لا يجوز
إرادة المجموع ، لقوله : (إِذا رَجَعُوا
إِلَيْهِمْ) وانّما يصحّ الرجوع إلى الموضع بعد الكون فيه ، ومعلوم أنّ
الطائفة من كلّ فرقة لم تكن في غير تلك الفرقة ، فلا يمكن رجوع كلّ طائفة إلى كلّ
الفرق ، بل إلى فرقتها الخاصة. وضمير الجمع قابل مجموع الطوائف بمجموع القوم
فيتوزع البعض على البعض.
قوله : يجب الترك
ليستفتي إن كان عامّيا.
قلنا : العامي لا
يجوز له الإقدام على الفعل قبل العلم بجوازه من جهة المفتي ، ومن علم الفتوى لم
يجب عليه الاستفتاء مرّة أخرى.
وأمّا المجتهد فإن
كان خبر الواحد حجّة فالمطلوب ، وإلّا لم يجب عليه التوقّف ، للإجماع على عدم منع
ما ليس بدليل عما دلّ دليل على جواز فعله.
قوله : يحتمل
التفقّه في الأصول.
قلنا : مفهوم التفقّه
في العادة التفقّه في الفروع ، ولأنّ المراد بالأصول إن كان أصول مسائل الكلام
كالتوحيد والعدل ، فالناظر يحذر من ترك النظر فلا يحتاج في الحذر من تركها إلى
السفر ، وإن كان أصول الشريعة كالصلوات الخمس فهو يثبت بالآحاد في ابتداء الشريعة
، فإنّ الواحد لو أخبر أهل الهند
بإيجاب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الصلوات الخمس لزمتهم ، وتكون من الفروع إلى أن يتواتر
نقلها ، وعلى هذا جرى الأمر في تحول أهل قبا عن القبلة.
قوله : وجوب
الإنذار لا يستلزم وجوب القبول.
قلنا : لا يستدلّ
على وجوب القبول بوجوب الإنذار ، بل بقوله : (لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ،) وذلك إمّا تعبد بالحذر أو إباحة له ، وأيّهما كان بطل مذهب
الخصم ، إذ الحذر إنّما يكون بالرجوع إلى موجب الخبر.
قوله : يجب الحذر
إذا انضم إلى المخبر غيره.
قلنا : فإذن إنّما
يحذرون عند تواتر الخبر لا عند إنذار من نفر للتفقّه ، ومقتضى الآية الحذر عند
إنذاره ولأجله ، وكون (لِيُنْذِرُوا) للأمر ظاهر والخبر والنقل متساويان في الظن ، فإذا وجب
الحذر عند أحدهما وجب عند الآخر ، وميل النفس وإن امتنع في حقّه تعالى لكن الطلب
المساوي له في الترجيح ثابت ، وهو المعنى المجازي هنا.
[الوجه] الثاني :
قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أمر بالتثبّت عند إخبار الفاسق ، وقد اجتمع فيه وصفان :
ذاتي هو كونه خبر واحد ، وعرضي وهو كونه فاسقا ، والمقتضي للتثبيت هو الثاني
للمناسبة والاقتران ، فإنّ الفسق يناسب عدم القبول ؛ فلا يصلح الأوّل للعلّية ،
وإلّا لوجب الاستناد إليه ، إذ التعليل بالذاتي الصالح للعلّية أولى من التعليل
__________________
بالعرضي ، لحصوله
قبل حصول العرضي ، فيكون الحكم قد حصل به قبل حصول العرضي. وإذا لم يجب التثبّت
عند إخبار العدل ، فإمّا أن يجب القبول وهو المطلوب ، أو الردّ فيكون حاله أسوأ من
حالة الفاسق وهو محال.
ولأنّ الأمر
بالتثبّت مشروط بكون الخبر صادرا عن الفاسق ، والمشروط عدم عند عدم الشرط ، فإذا
جاء غير الفاسق لم يجب التثبت ، بل إمّا القبول وهو المطلوب ، أو الردّ وهو محال
لما سبق.
ولأنّ سبب نزولها
أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط ساعيا الى بني المصطلق ،
فلمّا أبصروه أقبلوا نحوه ، فهابهم فعاد وأخبره بأنّ الذين بعثه إليهم قد ارتدّوا
وأرادوا قتله ، فأجمع النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على غزوهم وقتلهم ، وذلك حكم شرعي أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم العمل فيه بخبر الواحد ، ولو لم يكن جائزا لما أراده ،
ولأنكره الله تعالى عليه.
وفيه نظر ، لأنّ
الأمر بالتثبّت جاز أن لا يكون للنهي عن القبول ، بل عن الرد قطعا فيكون خبر العدل
مندرجا فيه من طريق البيّنة بالأعلى على الأدنى ، وهو وإن بعد لكنّه محتمل.
والرواية ممنوعة :
أمّا أوّلا :
فلأنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يفعل شيئا إلّا بوحي إلهي.
وأمّا ثانيا :
فلأنّه خبر واحد لا يستدلّ به في المسائل الأصولية.
وأمّا ثالثا : فلأنّه
قد روي أنّه بعث خالد بن الوليد وأمره بالتثبّت في
أمرهم ، فانطلق
حتى أتاهم ليلا فبعث عيونه ، فعادوا إليه وأخبروه بأنّهم على الإسلام ، وأنّهم
سمعوا أذانهم وصلواتهم ، فلمّا أصبحوا أتاهم خالد ورأى ما أعجبه ، فرجع إلى النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم فأخبره بذلك.
ولأنّ مفهوم
المخالفة ضعيف ، والآية إنّما تدلّ على المطلوب من حيث المفهوم لا المنطوق.
[الوجه] الثالث :
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) ، والمخبر بخبر لنا عن الرسول شاهد على الناس ، ولا يجوز
أن يجعله الله تعالى شاهدا ، وهو غير مقبول القول.
اعترض بأنّ الآية خطاب مع الأمّة لا مع الآحاد ، فلا تكون حجّة
في المتنازع.
[الوجه] الرابع :
قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) ، توعّد على كتمان الهدى ، فيجب إظهاره ، وما يسمعه الواحد
من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من الهدى فيجب إظهاره ، فلو لم يجب قبول قوله لكان كعدمه
فلا يجب إظهاره.
اعترض باحتمال إرادة من تقوم الحجّة به وإرادة ما دون ذلك.
__________________
وبتقدير الثاني
يحتمل أن يكون المراد ب (ما أَنْزَلْنا مِنَ
الْبَيِّناتِ وَالْهُدى) الكتاب العزيز ، وهو الظاهر لتبادره إلى الفهم ، وبتقدير
إرادة كل ما أنزل حتى السنّة فغاية التهديد على كتمان ذلك الدلالة على وجوب إظهار
ما سمع من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على ما سمعه ، ولا يدلّ على وجوب القبول على ما سمعه على
لسان الآحاد ، فإنّه بمقتضى الآية يجب على الفاسق إظهار ما سمعه ، وإن لم يجب على
السامع قبوله وتكون الفائدة وجوب الإظهار على كلّ واحد ليتألّف من المجموع خبر
التواتر.
[الوجه] الخامس :
قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ) أمر بسؤال أهل الذكر ، والأمر للوجوب ، ولم يفرّق بين
المجتهد وغيره وسؤال المجتهد لغيره منحصر في طلب الإخبار بما سمعه دون الفتوى ،
ولو لم يكن القبول واجبا لم يكن السؤال واجبا.
اعترض بمنع جعل (فَسْئَلُوا) أمرا ومعه نمنع أنّه للوجوب ، ومعه يحتمل إرادة الإفتاء ؛
ويحتمل أن يكون المراد من السؤال طلب العلم بالمخبر عنه ، وهو الظاهر ، لأنّه أوجب
السؤال عند عدم العلم ؛ فلو لم يكن المطلوب حصول العلم بالسؤال لكان السؤال واجبا
بعد حصول خبر الواحد ، لعدم حصول العلم بخبره ، فإنّه لا يفيد غير الظن ، وهو يدل
على أنّ العمل بخبر الواحد غير واجب ، إذ لا قائل بوجوب العمل بخبره مع وجوب
السؤال عن غيره ؛ وإذا كان المطلوب إنّما هو حصول العلم من السؤال ، فذلك إنّما
يتمّ بخبر التواتر.
__________________
[الوجه] السادس :
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ) أمر بالقيام بالقسط والشهادة لله ، والأمر للوجوب ،
والمخبر عن الرسول قائم بالقسط وشاهد لله ، فكان ذلك واجبا عليه ، وإنّما يكون
واجبا أن لو كان القبول واجبا ، وإلّا كان وجود الشهادة كعدمها.
اعترض بأنّ الشهادة لله والقيام بالقسط إنّما يكون فيما يجوز
العمل به ، أمّا ما لا يجوز فلا يكون قياما بالقسط ، ولا شهادة لله فحينئذ يتوقّف
العمل بالآية إلى وجوب قبول خبر الواحد على أنّه قام بالقسط ، وأنّه شاهد لله
وقيامه بالقسط وشهادته لله يتوقّف على قبول خبره وجواز العمل به ، وهو دور.
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع توقّف قيامه بالقسط وشهادته لله على قبول خبره ، بل على صدقه ونقله ما قال
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
[الوجه] السابع :
قوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) يقتضي ظاهره بيان جميع ما أنزل إليه لجميع من عاصره ولمن
يأتي بعده ، فلو وجب عليه أن يبيّن كلّ ذلك لمن يتواتر الخبر بنقله ، لكانت
الأخبار بأجمعها منقولة بالتواتر. إلّا أن يقال : إنّ بعض السامعين للخبر نقله دون
بعض ، وذلك يوجب تهمة السلف ، وجواز كون
__________________
شرائع لم ينقلها
بعضهم. ولا يجوز أن يكون كلّ ما نقل بأخبار الآحاد لم يقله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه يستحيل عادة أن تكون هذه الأخبار على كثرتها
كاذبة. ولا يجوز أن تتضمّن عبادات تختص من عاصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ أكثرها خطاب لأهل عصره ولمن يأتي بعده. فثبت أنّه
إنّما أوجب عليه أن يبيّن بعض شرعه لمن لا يتواتر الخبر بنقله ، وإن كان بيانا لمن
بعده ، وهو يتضمّن وجوب العمل به على من بعدهم.
اعترضه أبو الحسين
بإمكان كذب بعض أخبار الآحاد ، وبعضها أدّاها النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى من يتواتر الخبر بنقله ، لكن بعضهم نقله دون بعض ،
فأخطأ بعضهم وهو ممكن ، ويكون لزوم ذلك لنا مشروطا بتواتر الخبر إلينا.
[الوجه] الثامن :
السنّة المتواترة دلّت على قبول خبر الواحد فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يبعث رسله إلى القبائل لتعليم الأحكام مع أنّ كلّ واحد
منهم لم يبلغ حد التواتر.
اعترضه أبو الحسين
بسؤال واقع وهو أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما كان يبعثهم للفتوى لا للرواية ، فإنّ القبائل الذين
أنفذ إليهم في ابتداء الإسلام قلّ أن يكون فيهم مجتهد ، بل كانوا عوام فحاجتهم إلى
الإفتاء أشدّ من حاجتهم إلى الرواية.
[الوجه] التاسع :
إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد ، لأنّ بعض
__________________
الصحابة عمل به
ولم ينكر أحد عليه ، فكان إجماعا.
بيان الأوّل أنّ
أبا بكر احتجّ يوم السقيفة على الأنصار بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الأئمة من قريش» ولم ينكر عليه أحد ، فدلّ على أنّه أصل مقرر عندهم.
ولأنّ الصحابة
رجعوا إلى أخبار الآحاد في وقائع كثيرة ، كرجوع أبي بكر في توريث الجدة إلى خبر
المغيرة بن شعبة ؛ وقضى بين اثنين بقضية ، فأخبره بلال أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى بخلاف قضائه ، فنقضه.
وجعل عمر في
الخنصر ستة ، وفي البنصر تسعة ، وفي كلّ من الوسطى والسبّابة عشرة ، وفي الإبهام
خمسة عشر ، فلمّا روي له في كتاب عمرو بن حزم أنّ في كلّ إصبع عشرة رجع عن رأيه.
وقال في الجنين :
رحم الله امرءا سمع عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجنين
__________________
شيئا ، فقام إليه
حمل بن مالك فأخبره أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى فيه بقرة ، فقال عمر : لو لم نسمع هذا لقضينا فيه
بغيره.
وكان ما يرى توريث
المرأة من دية زوجها ، فأخبره الضحّاك صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه كتب إليه أن يورّث امرأة أشيم الضبابيّ من دية زوجها ، فرجع إليه.
وقال في المجوس :
ما أدري ما الّذي أصنع بهم ، فقال له عبد الرحمن بن عوف : إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب فأخذ منهم الجزية وأقرّهم
على دينهم.
ورجع عثمان إلى
قول فريعة بنت مالك أخت أبي سعيد الخدري حين قالت : جئت إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم استأذنه بعد وفاة زوجي في موضع العدّة؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «امكثي في بيتك حتى تنقضي عدّتك» ولم ينكر عليها الخروج للاستفتاء ، فأخذ عثمان بروايتها في
الحال في أنّ المتوفّى عنها
__________________
زوجها تعتدّ في
منزل الزوج ولا تخرج ليلا وتخرج نهارا إن لم يكن لها من يقوم بأحوالها.
وكان علي عليهالسلام يحلّف الراوي وقبل رواية أبي بكر من غير يمين ، والمقداد
في أمر المذي.
ورجع الجماعة إلى
قول عائشة في الغسل عند التقاء الختانين ، وفي الربا إلى خبر أبي سعيد.
وقال ابن عمر :
كنّا نخابر أربعين سنة فلا نرى به بأسا ، حتى روى لنا رافع بن خديج نهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن المخابرة .
وقال أنس : كنت
أسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب شرابا إذ أتى آت فقال : حرّمت الخمر ، فقال
أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه الجرار فاكسرها ، فقمت فكسرتها.
وعمل أهل قبا في
التحول عن القبلة بخبر الواحد.
وقيل لابن عباس :
إنّ فلانا يزعم أنّ موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل ، فقال ابن عباس : كذب
عدو الله أخبرني أبي بن كعب فقال : خطب بنا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وذكر موسى والخضر بشيء يدلّ على أنّ موسى صاحب الخضر هو
موسى بني إسرائيل.
__________________
وباع معاوية شيئا
من أواني الذهب والفضة بأكثر من وزنها ، فقال أبو الدّرداء : سمعت النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ينهى عنه. فقال معاوية : لا أرى به بأسا ، فقال أبو
الدرداء : من يعذرني من معاوية؟ أخبره عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو يخبرني عن رأيه ، لا أساكنك بأرض أبدا.
والأخبار في ذلك
كثيرة ، وإن لم يكن كلّ واحد منها متواترا ، لكنّ القدر المشترك بينها وهو العمل
بمقتضى الخبر متواتر.
وإذا ثبت أنّهم
عملوا على وفق هذه الأخبار كان العمل مستندا إليها ، وإلّا لوجب نقل ما استندوا
إليه من خبر سمعوه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أو اجتهاد منهم
للعادة بأنّ الجمع العظيم إذا اشتدّ اهتمامهم بشيء حصل فيه لبس ثمّ زال لدليل
سمعوه أو استنبطوه ، أظهروه واستبشروا بالظفر به وتعجّبوا من ذهابهم عنه.
ولأنّ عملهم بمضمون
الخبر يوهم استنادهم إليه ، فلو لم يكن كذلك لوجب عليهم إظهار المستند حذرا من
التلبيس.
ولأنّ أبا بكر طلب
من المغيرة شاهدا معه في إرث الجدّ ، وهو يدلّ على أنّه كان يرى الحكم بروايتهما ؛
وقال عمر في الجنين : لو لا هذه الرواية لقضينا فيه بغيره ، وغير ذلك.
__________________
فإن قيل : نمنع
عمل بعض الصحابة على وفق الخبر. ودعوى الضرورة ممنوعة ؛ قال المرتضى : الضرورة يجب اشتراكها مع الاشتراك في طريقها. والإمامية
وكلّ مخالف في خبر الواحد من النظّام وجماعة من مشايخ المتكلّمين يخالفونهم فيما
ادّعوا فيه الضرورة ، مع امتزاجهم بأهل الاخبار ، ويحلفون على انتفاء العلم ، بل
والظن ، ولا يمكن تكذيبهم للمعارضة بالمثل.
والاستدلال ضعيف ،
لأنّ الروايات الّتي ذكرتموها وإن بلغت المائة والمائتين فهي غير بالغة حدّ
التواتر ، فلا تفيد العلم ، فيرجع الكلام إلى إثبات خبر الواحد بخبر الواحد.
سلّمنا صحّة
الروايات ، لكن نمنع العمل بتلك الأخبار ، فجائز أن يعملوا بما يذكروه من الأدلّة
ووجوب ذكر المستند وإن كان ظاهرا ، لكن القطع بوجوبه ممنوع ، والمسألة قطعية فلا
تبنى على الظن.
سلّمنا ، لكن نمنع
عدم الإنكار ، فإنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم توقّف عن خبر ذي اليدين ، إلى أن شهد له أبو بكر وعمر ؛
وردّ أبو بكر خبر المغيرة في توريث الجدّة إلى أن أخبره محمد بن مسلمة ؛ وردّ أبو
بكر وعمر خبر عثمان فيما رواه من إذن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في ردّ الحكم بن أبي العاص حين طالباه بمن يشهد معه به ؛
وردّ عمر خبر أبي موسى الأشعري حتى شهد له أبو سعيد الخدري ؛ وردّ عمر خبر فاطمة
بنت قيس ؛ وردّ علي عليهالسلام خبر أبي سنان
__________________
الأشجعي ، وظهر
عنه تحليف الرواة ؛ وردّت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء أهله ؛ ومنع عمر
أبا هريرة من الرواية.
سلّمنا ، لكن
السكوت إنّما يدلّ على الإجماع لو وقع عن الرضا ، وهو ممنوع.
سلّمنا لكن
الإجماع ليس على قبول كلّ الأخبار ، بل على البعض ولا يلزم التعميم ، لاحتمال أن
يأمر الله تعالى بقبول نوع منها دون الباقي ، ولمّا لم ينقل ذلك النوع المجمع على
قبوله لم يعرف ، فلا نوع إلّا ويجهل حاله هل هو المجمع عليه أو لا؟ فيجب التوقّف
في الكلّ.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من جواز العمل به للصحابة جوازه لنا.
والفرق أنّ
الصّحابة شاهدوا الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وعرفوا مجاري كلامه ومناهج أموره وإشاراته ، وعرفوا أحوال
الرواة في العدالة وعدمها ، وما يوجب العدالة من الأفعال وينافيها. فيكون ظنّهم
بصدق الراوي أقوى من ظن من لم يشاهد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا عرف أحوال الرواة إلّا بالروايات المتباعدة والوسائط
الكثيرة. ولا يستلزم الإجماع على قبوله عند الظن القوي الإجماع على قبوله عند
الظنّ الضعيف.
لا يقال : كلّ من
قال بقبول نوع قال بقبول الجميع.
لأنّا نقول : هذه
الحجّة تنفع في زمن التابعين ، وقد تقدّم في باب الإجماع تعذّر العلم به لكثرة
المسلمين وتفرّقهم في الشرق والغرب.
والجواب : النقل
المتواتر حصل بحضور أبي بكر مع الأنصار يوم
السقيفة وتمسّكه
بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ الأئمة من قريش» ولم ينكر عليه أحد.
وقول المرتضى : إنّ النظّام والمعتزلة والقاساني والإمامية ينكرون
العلم. والظن ممنوع.
والنظّام لم ينكر
ذلك بل قال : إجماع الصحابة ليس حجّة ، وكذا سائر شيوخ المعتزلة.
وأمّا الإمامية
فالأخباريّون منهم ، مع أنّ كثرتهم في قديم الزمان ما كانت إلّا منهم ، لم يعوّلوا
في أصول الدين وفروعه إلّا على أخبار الآحاد المروية عن الأئمة عليهمالسلام.
والأصوليون منهم
كأبي جعفر الطوسي وغيره وافقوا على قبول خبر الواحد ، ولم ينكر سوى المرتضى وأتباعه ، لشبهة حصلت لهم منعتهم من اعتقاد الضرورة.
والعمل بتلك
الأخبار ظاهر للضرورة القاضية بأنّ الجمع العظيم إذا اشتبه عليهم أمر من الأمور ،
ثمّ إنّهم عند سماع شيء يوهم أنّه هو الدليل يذكرون شيئا آخر هو الدّليل حقيقة ،
فإنّه يستحيل اتّفاقهم على السكوت عن ذلك الدّليل ، ورفع ذلك الوهم الباطل.
قوله : من الصحابة
من رد خبر الواحد.
__________________
قلنا : الذين
نقلتم عنهم الرد نقلنا عنهم القبول ، والتوفيق قبول الخبر مع شرائط مخصوصة وردّه
لا معها.
ولأنّ الروايات
الّتي ذكرتموها للرد تضمّنت قبول خبر الاثنين والثلاثة ، وهو المطلوب ، لأنّه لم
يخرج بذلك عن الآحاد.
[الوجه] العاشر :
الإجماع على قبول الخبر الّذي لا يعلم صحّته في الفتوى والشهادة ، فكذا في الرواية
يجامع تحصيل المصلحة المظنونة ، أو دفع المفسدة المظنونة ؛ بل الرواية أولى
بالقبول من الفتوى ، لأنّ الفتوى إنّما تجوز إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم وعرف
كيفية الاستدلال به ، وهو دقيق يغلط فيه الأكثر. والرواية تحتاج الى السماع ، فهي
أحد أجزاء الفتوى ، فهي أولى بالقبول.
لا يقال : إنّه
قياس فلا يفيد اليقين ، ثمّ الفرق أنّ العمل بخبر الواحد يقتضي صيرورة ذلك الحكم
شرعا عاما في حقّ الكلّ ، والشهادة والفتوى ليس كذلك ، ولا يلزم من تجويز العمل
بالظنّ الذي قد يخطئ في حقّ الواحد تجويزه في حقّ الكلّ ؛ ولأنّ العمل بالفتوى
ضروري ، إذ لا يمكن تكليف كلّ أحد في كلّ واقعة بالاجتهاد ، وكذا الشهادة ضرورية
في الشرع ، ليتميّز الحق عن الباطل ؛ أمّا العمل بخبر الواحد فغير ضروري للرجوع
إلى البراءة الأصلية فيما لم يوجد فيه دليل قاطع ، ولا يلزم من جواز العمل بالظن
عند الضرورة جواز العمل به عند عدمها.
لأنّا نقول : نعم
هو قياس ظنّي والفرق الأوّل ملغى بشرعية أصل الفتوى ، فإنّه أمر لكلّ الخلق
باتّباع الظّن ، والثاني ضعيف ، إذ لا ضرورة في
الرجوع إلى
الشهادة والفتوى ، لإمكان الرجوع الى البراءة الأصلية.
الحادي عشر :
العمل بخبر الواحد يقتضي دفع ضرر مظنون ، لأنّ العدل إذا أخبر بأنّ الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر بفعل ، حصل ظنّ بالأمر ، ومخالفة الأمر سبب لاستحقاق
العقاب. فيحصل ظن استحقاق العقاب مع المخالفة ، فالعمل به يقتضي دفع الضرر المظنون
، ودفع الضرر المظنون واجب بالضرورة ، فيجب العمل به ، لأنّه لا يمكن العمل
بالمرجوح ، لاستحالة ترجيح المرجوح ، ولا بهما ولا تركهما.
الثاني عشر :
احتجاج أبي الحسين وجماعة من المعتزلة أنّ العقلاء يعلمون وجوب العمل بخبر
الواحد في العقليات ، ولا يجوز أن يعلموا وجوب ذلك إلّا وقد علموا علّة وجوبه ،
ولا علّة لذلك سوى أنّهم ظنّوا بخبر الواحد تفصيل جملة معلومة بالعقل.
وبيانه : أنّه قد
علم بالعقل وجوب التحرز من المضار ، وحسن اجتلاب المنافع ، فإذا ظننّا صدق من
أخبرنا بالمضرّة إن لم نشرب دواء معينا ، أو لا نقوم من تحت حائط مستهدم ، فقد
ظننّا تفصيلا لما علمناه جملة من وجوب التحرّز من المضار وبيان أنّ العلّة للوجوب
ما ذكرناه دورانه معها وجودا وعدما ، وهو بعينه موجود في خبر الواحد في الشرعيات ،
فوجب العمل به. وذلك لأنّا علمنا في الجملة وجوب الانقياد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما يخبرنا به من مصالحنا ودفع المضار عنّا ، فإذا ظننا
بخبر الواحد أنّ
__________________
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد دعانا إلى الانقياد له في فعل أخبر أنّه مصلحة ، وخلافه
مضرة ، فقد ظننا تفصيل ما علمناه في الجملة ، فوجب العمل به.
واعترض أبو الحسين
نفسه بأنّه وجب قبول الخبر في العقليات ، لأنّه لا يغلب على الظن وصول
المضرّة إليه إذا قبلناه ، بل يغلب على الظن وصولها إذا لم يقبله ؛ وليس كذلك
الشرعيات ، لأنّه لا يغلب على ظنّنا وصول المضرّة إذا لم يقبل خبر الواحد ، بل لا
نأمن أن يؤاخذنا المتعبّد لنا إذا قبلنا خبر الواحد.
وأجاب بأنّ كلامنا
في خبر مظنون الصدق لدينه وأمانته ، وخبر من هذه سبيله في الشرعيات يساوي خبره في
العقليات ، لأنّه وارد بتفصيل الانقياد للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذلك يقتضي أن يغلب على ظنّنا وصول المضرّة إلينا إن لم
يقبل خبره ويؤمننا من مؤاخذة المتعبّد إذا قبلناه.
واعترض قاضي
القضاة على قياس خبر الواحد في الشرعيات على قبوله في العقليات
والمعاملات ، بأنّ المعاملات مبنيّة على غالب الظنّ ، والشرعيات مبنيّة على
المصالح ، فإذا لم يأمن كذب المخبر لم يأمن أن يكون فعلنا ما أخبرنا به مفسدة.
وأجاب أبو الحسين
بأنّ قوله : «المعاملات مبنية على غالب الظن» هو الحكم الّذي ظننّا علّته ، وقسنا
بها خبر الواحد في الشرعيات على المعاملات ، فلا ينبغي أن يفرق بينهما بذلك ،
لأنّا نكون قد فرّقنا بين
__________________
المسألتين بنفس
الحكم والمصالح ، وإن كانت معتبرة في الشرعيات ؛ فالمضار والمنافع هما المعتبران
في العقليات والمعاملات ، لأنّا إنّما ننحو بما نفعله نحو المنافع والخلاص من
المضار ، كما أنّا ننحو بالشرائع تحصيل المصالح ، ولأجلها وجبت ، فإذا قام غالب
الظنّ في المنافع والمضار العقلية مقام العلم ، مع تجويز كذب المخبر ، فكذلك غالب
الظن بصدق المخبر في الشرعيات. ولو جاز أن لا يقبل خبر الواحد في الشرعيات بجواز
كذب المخبر ، فيكون ما أخبرنا به مفسدة ، جاز أن لا يقبل خبر الواحد في العقليات
لجواز كذب المخبر ، فيلحقنا المضرّة في اتّباعه ، على أنّ قوله : «لا نأمن أن يكون
المخبر كاذبا فنكون باتباعه فاعلين للمفسدة» يقتضي المنع من ورود التعبّد بقبول
خبره ، لأنّ فعل ما لا نؤمن كونه مفسدة قبيح.
واعترض أيضا قاضي
القضاة بأنّ العمل على غالب الظنّ في دفع المضار في الدنيا هو الأصل للعمل على
العلم بدفع المضار ، لأنّ أمور الدنيا المستقبلة غير معلومة ، وإنّما هي مظنونة ،
ولا يمكن أن يقال : أمور الدين المظنونة هي الأصل لأمور الدين المعلومة.
قال أبو الحسين :
إنّه فرق لا يؤثّر في وجه الجمع الّذي ذكرناه ، لأنّه لا يجب إذا أشبه الظن لأمور
الدين الظن لأمور الدنيا في وجوب العمل عليها أن يشتبها في كل وجه ، بل لا يمتنع
أن يجب العمل عليهما ، ويكون العمل على الظن في الدنيا أصلا للعمل على العلم في
أمور الدنيا ، وعلى العمل
__________________
على الظن في أمور
الدين (ويكون العمل على العلم في أمور الدّين) أصلا بنفسه.
الثالث عشر : صدق
الواحد في خبره ممكن ، فلو لم يعمل به لكنّا تاركين لأمر الله تعالى وأمر رسوله ،
وهو خلاف ما يقتضيه الاحتياط.
اعترض بأنّ صدق الراوي وإن كان ممكنا فلم قلتم بوجوب العمل به ،
والاحتياط بالأخذ بقوله وإن كان مناسبا ولكن لا بدّ له من شاهد بالاعتبار ، ولا
شاهد له سوى خبر التواتر وقول الواحد في الفتوى والشهادة ، ولا يمكن القياس على
الأوّل ، لإفادته العلم ، ولا يلزم من إفادته للوجوب إفادة الظنّي له ، ولا على
الثاني ، لأنّ براءة الذمّة معلومة ، وهي الأصل ، وغاية قول الشاهد والمفتي ، إذا
غلب على الظنّ صدقه مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد ، ولا يلزم من
العمل بخبر الشاهد والمفتي مع مخالفة البراءة الأصلية بالنظر إلى شخص واحد من
العمل بخبر الواحد المخالف لبراءة الذمة بالنظر إلى جميع الأشخاص.
الرابع عشر : إذا
وقعت واقعة ولم يجد المفتي سوى خبر الواحد ، فلو لم يحكم به لتعطّلت الواقعة عن
حكم الشرع ، وذلك ممتنع.
اعترض بإمكان
الخلو مع عدم دليل الحكم ، ولهذا فإنّه لو لم يظفر
__________________
المفتي في الواقعة
بدليل ولا خبر الواحد ، فإنّه لا يمتنع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي والرجوع إلى
البراءة الأصلية ، وعلى هذا فامتناع خلو الواقعة عن الحكم الشرعي عند الظنّ بخبر
الواحد يتوقّف على كون الخبر الواحد حجّة ودليلا ، وكونه حجّة يتوقّف على امتناع
خلو الواقعة مع وجوده عن الحكم الشرعي ، وهو دور ممتنع. كيف وإنّا لا نسلّم خلوّ
الواقعة عن الحكم الشرعي ، فإنّ حكم الله تعالى عند عدم أدلّة إثبات الحكم الشرعي
نفى ذلك الحكم ومدركه شرعي فإنّ انتفاء مدرك الشرع بعد ورود الشرع مدرك شرعي لنفي
الحكم.
وفيه نظر ، فإنّ
المعتزلة منعوا من خلو واقعة ما عن الحكم الشرعي ، فلا يكون ثبوته متوقّفا على
الدليل ، فلا دور ؛ وجعل حكم الله تعالى عند عدم أدلّة إثبات الحكم الشرعي نفي ذلك
الحكم وإنّ مدركه شرعي يشتمل على التناقض ؛ بل الوجه أن يقال : إنّ كلّ واقعة فيها
حكم شرعي من جملته الإباحة ، وله مدرك شرعي من جملته البراءة الأصلية.
الخامس عشر : لو
لم يجب قبول خبر الواحد ، لتعذّر تحقيق بعثة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى جميع أهل العصر ؛ والتالي باطل إجماعا ، ولقوله تعالى
: (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ) ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لا طريق إلى تعريف أهل العصر إلّا بالمشافهة أو الرسل ؛ والمشافهة متعذّرة في
حقّ الجماعة والرسالة إمّا بالتواتر أو الآحاد.
__________________
والأوّل متعذّر في
حق الكلّ ، فتعيّن الثاني ، فلو لم يكن خبر الواحد مقبولا لما تحقّق معنى التبليغ
والرسالة إلى جميع الخلائق.
اعترض بأنّه إنّما يمتنع ذلك أن لو كان التبليغ إلى كلّ من في
عصره واجبا ، وأن كلّ من في عصره مكلّف بما بعث به ، وليس كذلك ، بل إنّما هو
مكلّف بالتبليغ إلى من يقدر على إبلاغه إمّا بالمشافهة أو بخبر التواتر. وكذا كلّ
واحد من الأمّة إنّما كلّف بما أرسل به الرسول إذا علمه ، وأمّا مع عدم علمه به
فلا ، ولهذا فإنّ الموجودين في البلاد البعيدة والجزائر المنقطعة ، ولا سبيل إلى
إعلامهم ، لم يكن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مكلفا بتبليغهم ، ولا كلّ واحد منهم كان مكلّفا بما أرسل
به.
وليس بجيد ، لأنّ
بعثته صلىاللهعليهوآلهوسلم عامّة بالنسبة إلى كلّ المكلفين ؛ لقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً
لِلنَّاسِ).
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بعثت إلى الأسود والأحمر».
ولثبوت المقتضي ،
وهو وجوب اللطف المستند إلى البعثة في حقّهم.
وغير ذلك من
الأدلّة فخبر الواحد طريق إلى إثبات الحكم في الفروع ، وإلى وجوب البحث والنظر
والطلب في الأصول.
احتجّ المخالف
بوجوه :
__________________
الأوّل : قوله
تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) ، (وَإِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، وغير ذلك من الآيات الدالّة على منع اتّباع الظن والعمل
به وذمّ الصائر إليه.
الثاني : لو جاز
أن يقول تعالى : مهما غلب على ظنّكم صدق الراوي فاعملوا بخبره ، جاز أن يقول :
مهما غلب على ظنّكم صدق المدّعي للرسالة فاقبلوا شرعه وأحكامه ، لأنّا في كلتا
الصورتين نكون عاملين بدليل قطعي ، وهو إيجاب الله تعالى علينا العمل بالظنّ ، أو
إيجاب العقل علينا ذلك ، لكن التالي باطل فكذا المقدّم.
الثالث : لو جاز
التعبد بخبر الواحد في الفروع لجاز التعبد به في الأصول حتى يكتفي في معرفة الله
تعالى بالظنّ.
الرابع : الشرعيات
مصالح ، والخبر الّذي يجوز كذبه لا يجوز التعويل عليه في تحصيل المصالح.
لا يقال : يجوز أن
تكون المصلحة هي إيقاع ذلك الفعل المظنون.
لأنّا نقول : كون
الفعل مصلحة إمّا أن يكون سبب ذلك الظن ، أو لا بسببه.
__________________
والأوّل باطل ،
لأنّه لو جاز أن يؤثّر ظنّنا في صيرورة ما ليس بمصلحة مصلحة لجاز أن يؤثّر ظنّنا
بمجرد التشهّي في ذلك ، حتى يحسن من الله تعالى أن يقول : أطلقت لك أن تحكم بمجرّد
التشهّي من غير دليل ولا أمارة ، وهو معلوم البطلان.
وأمّا الثاني فإذا
لم يكن وصف المصلحة تابعا لظنّنا ، جاز أن يكذب الظنّ ، فيكون الإذن في العمل
بالظنّ إذنا في فعل ما لا يجوز فعله ، وهو باطل.
الخامس : الأصل
براءة الذمّة من الحقوق والعبادات وتحمّل المشاق ، وهو مقطوع به ، فلا يجوز
مخالفته بالمظنون الّذي يجوز كذبه.
السادس : العلم
بخبر الواحد يفضي إلى تركه ، فإنّه ما من خبر إلّا ويجوز أن يكون معه خبر آخر مقابل له.
السابع : قبول خبر
الواحد تقليد له ، فلا يجوز للمجتهد تقليد ذلك الواحد ، كما لا يجوز تقليده لمجتهد
آخر.
والجواب عن الأوّل
أنّ الذم إنّما هو على اتّباع الظنّ في مسائل الأصول ، لأنّه ذمّ للكفّار لا في
مسائل الفروع ، وأيضا فإنّه مخصوص بالفتوى والشهادة والأمور الدّنيوية ، فإنّ من
أخبر «هذا الطعام مسموم» وحصل ظنّ صدقه لم يجز له تناوله ، وبه تنتقض الوجوه
الباقية.
ونمنع الملازمة في
الثاني ، ولا جامع لهم فيه مع قيام الفرق ، أمّا أوّلا :
__________________
فلأنّ الرسالة
عامّة ، وأمّا ثانيا : فلأنّ دليل الصدق القطعي ممكن ، وهو ظهور المعجزة بخلاف خبر
الواحد.
وينتقض الثالث
بالفتوى والشهادة ، ويفرّق بأنّ المطلوب في الأصول العلم دون الفروع.
ونمنع الملازمة في
الرابع لانتفاء التكليف على تقدير استناد الأحكام إلى التشهّي دون اتّباع الظنّ
عند الخبر ، ولأنّ الإذن في المرجوح قبيح عقلا ، فتعيّن الراجح.
ونمنع الحكم في
الخامس فإنّ أصالة البراءة بعد التكليف مظنون لا معلوم وينتقض بالفتوى والشهادة.
ونمنع الحكم في
السادس فإنّ تجويز المعارض لا يمنع من التمسّك بالدليل ، وإلّا لما ساغ التمسّك
بظواهر الكتاب العزيز والسنّة المتواترة ، إذ كلّ دليل يحتمل نسخ حكمه وتخصيصه.
وعن السابع : أنّ
العمل بالرواية ليس تقليدا للراوي بل للمروي عنه.
سلّمنا لكن انّما
لم يجز للعالم تقليد مثله لاستوائهما في درجة الاجتهاد ، وليس تقليد أحدهما أولى
من الآخر ؛ ولا كذلك المجتهد مع الراوي ، فإنّهما لم يستويا في معرفة ما استند
بمعرفة الراوي من الخبر ، ولذلك وجب عليه تقليده فيما رواه.
الفصل السادس
في شرائط الراوي
وفيه مباحث
الأوّل : البلوغ
لمّا بيّنا وجوب
العمل بخبر الواحد ، فاعلم أنّه ليس كلّ خبر بمقبول ، بل ما جمع شرائط يرجع إلى
الراوي وإلى غيره ، والراجع إلى الراوي خمسة ينظمها شيء واحد كونه بحيث يكون
اعتقاد صدقه راجحا على اعتقاد كذبه.
١. العقل ، فلا
عبرة برواية المجنون والصبي غير المميّز إجماعا.
٢. البلوغ.
٣. الإسلام.
٤. العدالة.
٥. الضبط.
ولا نعني بالقبول
التصديق ، ولا بالرّد التكذيب ، بل يجب علينا
قبول قول العدل ،
وربّما كان كاذبا أو غالطا ، وردّ قول الفاسق وقد يكون صادقا ؛ بل نعني بالمقبول
ما يجب العمل به ، وبالمردود ما لا تكليف علينا في العمل به.
إذا عرفت هذا
فنقول : الصبي المميّز لا تقبل روايته ، لأنّ الفاسق لا تقبل روايته ، فأولى أن لا
تقبل رواية الصبي ، فإنّ الفاسق يخاف الله والصبي لا يخاف الله تعالى لانتفاء
التكليف في حقّه.
ولأنّه لا يحصل
الظنّ بقوله ، فلا يجوز العمل به ، كالخبر عن الأمور الدنيوية.
ولأنّ الصبي إن لم
يكن مميّزا لم يتمكّن من الاحتراز عن الخلل ، ولم تحصل الثقة بإخباره ، وإن كان
مميزا عرف أنّه غير مكلف وأنّه لا زاجر له عن الكذب ، فلا يحترز عنه.
لا يقال : يقبل
قول الصبي في إخباره عن كونه متطهّرا حتى يجوز الاقتداء به في الصلاة.
لأنّا نقول : نمنع
الاقتداء به أوّلا.
سلّمنا ، لكن صحّة
صلاة المأموم ليست موقوفة على صحّة صلاة الإمام.
إذا ثبت هذا فنقول
: إنّما يعتبر البلوغ عند الأداء لا التحمّل ، فلو كان صبيّا وقت التحمّل ، بالغا
عند الرواية وضبط ما سمعه طفلا ، قبلت روايته بوجوه :
__________________
الأوّل : إجماع
الصحابة على قبول رواية ابن عباس وابن الزبير والنعمان بن بشير ، ولم يفرّقوا بين
ما يحملوه وقت البلوغ أو بعده.
وفيه نظر ، لأنّ
ترك الاستفصال يحتمل أن يكون بناء على الظاهر من حال الراوي وعدالته المقتضية
لجواز الرواية ، ويكون من مذهبه جواز الرواية مع الصغر حالة التحمّل لا باعتبار
جواز القبول.
الثاني : إجماع
الكلّ على إحضار الصبيان مجالس الرواية. ولو لا قبول الرواية لم يكن فيه فائدة.
وفيه نظر ، لجواز
أن تكون الفائدة التمرين.
الثالث : إقدامه
على الرواية حال البلوغ يدلّ على ضبطه للحديث الّذي سمعه حال الصغر.
الرابع : الإجماع
على قبول شهادته الّتي تحملها حالة الصغر ، فكذا الرواية ، والجامع أنّه حال الأداء
مسلم عاقل بالغ ، فيحترز عن الكذب.
وفيه نظر ، للفرق
بأنّ شهادتهم تقبل حال الصغر في بعض الأحكام دون الرواية ، وبأنّ الشهادة تختصّ
بأشخاص معدودين دون الرواية الّتي هي شرع عام في حق الجميع ؛ ولأنّ الشهادة حقّ
لآدمي ، فيكون مضيّقا يسمع فيه شهادة الصبيان ، بخلاف حقّ الله تعالى ، ولهذا لم
يقبل في الزنا إلّا أربع شهود.
الخامس : المقتضي
موجود ، وهو حصول الظن برواية العدل ، والمانع لا يصلح للمانعية ، لأنّ ضابط
القبول ظن صدق الراوي ولا اعتبار بوقت التحمّل.
البحث الثاني : في
الإسلام
أجمع العلماء
كافّة على عدم قبول رواية الكافر الّذي لا يكون من أهل القبلة ، سواء علم من دينه
المبالغة في الاحتراز عن الكذب ، أو لا ، وإن كان بعضهم يرى قبول شهادة الذمّي على
مثله.
أمّا المخالف من
أهل القبلة كالمجسّم وغيره إذا كفّرناه هل تقبل روايته أم لا؟
الحقّ المنع. وبه
قال القاضي عبد الجبار والقاضي أبو بكر.
وقال أبو الحسين
البصري : إن كان من مذهبه جواز الكذب لم تقبل روايته ، وإلّا قبلت.
لنا وجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أمر بالتثبت عند إخبار الفاسق ، وهذا الكافر فاسق ، فوجب
التثبّت عند خبره.
الثاني : قوله
تعالى : (وَلا تَرْكَنُوا
إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، وهذا ظالم ، وقبول روايته ركون إليه.
الثالث : الرواية
من المناصب الشريفة والمراتب الجليلة فلا تليق بالكافر.
__________________
الرابع : الكافر
الأصلي لا تقبل روايته ، فكذا هذا بجامع الاشتراك في الكفر الّذي هو مظنّة الكذب.
الخامس : كفره
يقتضي الإهانة والإذلال ، وقبول روايته يقتضي التعظيم والإجلال ، وبينهما تناف ،
وجهله بكفره ليس عذرا ، لأنّه ضمّ إلى كفره جهلا آخر.
اعترض على الأوّل : بأنّ اسم الفاسق في عرف الشرع مختصّ بالمسلم
المقدم على الكبيرة.
وعلى الرابع بأنّ
كفر الخارج عن الملة أغلظ من كفر صاحب التأويل ، وقد فرّق الشرع بينهما في أمور
كثيرة ، ومع ظهور الفرق لا يجوز الإلحاق.
وفيهما نظر ، فإنّ
الفسق يصدق على هذا لاتّصافه بالإسلام وارتكابه أعظم الكبائر ، على أنّا نمنع
اختصاص الفاسق بالمسلم ، لقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) ، ثمّ قال : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) ، وزيادة الكفر لا مدخل لها في العلية وإلّا لم ترد رواية
المسلم الفاسق ، فيبقى الحكم مضافا إلى المشترك ويجوز الإلحاق حينئذ.
احتجّوا بأنّ المقتضى للعمل به قائم ولا معارض ، فوجب العمل به.
__________________
أمّا قيام المقتضى
، فلأنّ اعتقاده لحرمة الكذب يزجره عن الإقدام عليه ، فيحصل ظن صدقه ، فيجب العمل
به. وأمّا عدم المعارض فلإجماعهم على أنّ الكافر الّذي ليس من أهل القبلة لا تقبل
روايته ، وذلك الكفر منتف هنا.
وفيه نظر ، لأنّ
المقتضى ليس اعتقاد حرمة الكذب ، وإلّا لكان ثابتا في حقّ الكافر الأصلي الّذي
يعتقد حرمته ويتديّن في مذهبه والأصل عدمه ، وإلّا لوقع التعارض بين المقتضى
والمانع وهو الكفر الأصلي والأصل عدم التعارض ، بل المقتضى هو الإسلام ، ونمنع
اختصاص الكفر الأصلي بالمعارضة لوجودها في مطلق الكفر.
واحتجّ أبو الحسين
بأنّ كثيرا من أصحاب الحديث قبلوا أخبار السلف ، كالحسن وقتادة وعمرو بن عبيد ، مع علمهم بمذهبهم واعتقادهم كفر من يقول بقولهم.
__________________
وليس بجيد ، لأنّه
إن ادّعى الإجماع فهو باطل ، لأنّه محلّ الخلاف ، وإلّا لم يكن حجّة.
البحث الثالث :
العدالة
وهي كيفية راسخة
في النفس تبعث على ملازمة التقوى والمروءة.
وهي شرط في قبول
الرواية. فالفاسق إذا أقدم على الفسق ، عالما بكونه فسقا لم تقبل روايته إجماعا ،
وإن لم يعلم كونه فسقا فكونه فسقا إمّا أن يكون معلوما أو مظنونا.
فإن كان معلوما لم
تقبل روايته. وبه قال القاضي أبو بكر ، وقال الشافعي : يقبل.
لنا : إنّه فاسق
فيكون مردود الرواية ، غاية ما في الباب انّه جهل فسقه ، وجهل فسقه فسق آخر ، فإذا
منع أحد الفسقين من قبول الرواية كان منعهما معا أولى.
احتجّ الشافعي بأنّ ظنّ صدقه راجح ، والعمل بالظن واجب ، والمعارض المجمع
عليه منتف ، فيجب العمل به.
وليس بجيّد ، لأنّ
الظنّ غير كاف لحصوله لخبر الفاسق والصبي ، بل لا بدّ له من ضابط معتبر في نظر
الشرع ، وهو مستند إلى قول العدل.
__________________
لا يقال : إذا علم كونه فاسقا دلّ إقدامه عليه على جرأته على
المعصية ، بخلاف ما إذا لم يعلم.
لأنّا نقول : إنّه
وإن لم يعلم لا يخرج عن كونه فاسقا ، فيجب التثبّت عند خبره.
وإن كان مظنونا
قبلت روايته إجماعا. قال الشافعي : أقبل شهادة الحنفي ، وأحدّه إذا شرب النبيذ ،
وأقبل رواية أهل الأهواء ، كالرافضة وغيرهم وإن كان فسقهم معلوما ، إلّا الخطابية
، لأنّهم يرون الشهادة بالزور لموافقيهم.
وأمّا المخالف
الّذي لا نكفّره ولكن ظهر عناده ، فإنّه لا تقبل روايته إجماعا ، لأنّ المعاند يكذب
مع علمه بكونه كذبا ، فينتفي الظنّ بوقوع مخبره.
البحث الرّابع :
في رواية المجهول
اختلف الناس في
المجهول حاله هل تقبل روايته أم لا؟
فذهب الشافعي
وأحمد وأكثر العلماء إلى أنّه غير مقبول الرواية ، وهو الحقّ ، بل لا بدّ فيه من
خبرة باطنة بحاله ، ومعرفة سيرته وكشف سريرته أو تزكية من عرف عدالته.
__________________
وقال أبو حنيفة
وأصحابه : يكفي في قبول الرواية الإسلام ، وسلامة الظاهر عن الفسق.
لنا وجوه :
الأوّل : الدليل
يقتضي نفي العمل بخبر الواحد ، لقوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) ، خالفناه في حق من عرفنا عدالته ، لقوة الظن هناك ، فيبقى
المجهول على الأصل.
الثاني : عدم
الفسق شرط جواز الرواية ، لقوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) دلّ على المنع من قبول رواية الفاسق ، فيجب أن يكون العلم
بعدم الفسق شرطا لجواز الرواية ، لأنّ الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط ،
والمجهول حاله لا يعلم تحقّق الشرط فيه فلا يعلم جواز الرواية فيه.
الثالث : الدليل
ينفي جواز العمل إلّا إذا قطعنا بأنّ الراوي ليس بفاسق ترك العمل به فيما إذا غلب
على ظنّنا أنّه ليس بفاسق بكثرة الاختبار ، فيبقى فيما عداه على الأصل.
بيان الثاني : أنّ
عدم الفسق شرط جواز الرواية ، فالعلم به شرط ، لأنّ جهل الشرط يقتضي جهل المشروط.
وبيان الفارق :
أنّ العدالة من الأمور الباطنة لا يمكن الاطّلاع عليها
__________________
حقيقة ، وإنّما
الممكن الاستدلال بالأفعال الظاهرة ، وهو وإن لم يفد العلم ، لكنّه يفيد الظن ، ثم
إنّ الظن الحاصل بعد طول الاختبار أقوى من الظن الحاصل قبله ، ولا يلزم من مخالفة
الدليل للمعارض القوي مخالفته عند الضعيف.
الرابع : لمّا دلّ
الإجماع على أنّ الصبي والرق والكفر والحد في القذف موانع من الشهادة ، اعتبر في
قبول الشهادة العلم بعدمها ظاهرا ، فكذا العدالة بجامع الاحتراز عن احتمال
المفسدة.
الخامس : إجماع
الصحابة على ردّ المجهول ؛ ردّ عليّ عليهالسلام خبر الأشجعي في المفوضة وكان عليهالسلام يحلّف الراوي ، وردّ عمر خبر فاطمة بنت قيس وقال : كيف
نقبل قول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت ، ولم ينكر باقي الصحابة هذا الردّ ، فيكون
إجماعا.
السادس : أنّه
مجهول الحال فلا يقبل إخباره في الرواية دفعا لاحتمال مفسدة الكذب كالشهادة ، فإن
منعوا شهادة المال فقد سلّموا شهادة العقوبات ، ثم المجهول مردود في العقوبات
وطريق في الرواية والشهادة واحد.
السابع : أجمعنا
على أنّ العدالة شرط في قبول الرواية عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعلى أنّ بلوغ مرتبة الاجتهاد في الفقه شرط في قبول
الفتوى ، فإذا لم يظهر حال الراوي بالاختبار ، فلا تقبل أخباره دفعا للمفسدة
اللازمة من فوات الشرط ، كما إذا لم يظهر بالاختبار بلوغ المفتي رتبة الاجتهاد
فإنّه لا يجب على المقلّد اتّباعه.
وفي الجميع نظر.
أمّا الأوّل فلما بينّا من أنّ المراد النهي عن اتّباع الظن في الأصول ، ولأنّ
القوة والضعف تتفاوت باعتبار العدالة وقوتها وضعفها وباعتبار القرائن والأحوال
والوقائع ، فجاز أن يكون خبر المجهول يفيد ظنّا قويا في واقعة ، وخبر العدل يفيد
ظنا ضعيفا في غيرها فلا يبقى لوصف الجهالة أثر في ذلك.
وأمّا الثاني :
فإنّ الآية دلّت على أنّ الفسق شرط التثبّت ، وليس المراد الفسق في نفس الأمر
وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، بل في علمنا وهو يقتضي انتفاء المشروط عند عدم الشرط
الّذي هو علم الفسق ، والمجهول ليس معلوم الفسق فلا يجب معه التثبّت.
وأمّا الثالث :
فلما مرّ في الثاني.
وأما الرابع :
فلأنّ الشهادة أضيق ، ولهذا اعتبر فيها العدد والحرية والبصر وغير ذلك ، بخلاف
الرواية فلا يجوز الحمل عليها.
وأمّا الخامس :
فيمتنع الإجماع وردّ علي عليهالسلام خبر الأشجعي ، لعدم ظهور صدقه عنده ، ولهذا وصفه بكونه
بوّالا على عقبيه ، أي غير متحرّز في أمر دينه ؛ وردّ عمر خبر فاطمة ، لعدم ظهور
صدقها ، ولهذا قال : لا ندري أصدقت أم كذبت.
وأمّا السادس :
فإنّ احتمال الصدق مع ظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا أظهر من احتمال الكذب
فيكون القبول أولى ، بخلاف الشهادة لوجوب زيادة الاحتياط فيها.
وأمّا السابع :
المشترط في الرواية العدالة بمعنى ظهور الإسلام والسلامة عن الفسق ظاهرا والقياس
ضعيف ، لأنّ بلوغ رتبة الاجتهاد أبعد في الحصول من حصول صفة العدالة ، ولهذا كانت
العدالة أغلب وقوعا من رتبة الاجتهاد في الأحكام الشرعية. وهاهنا
وجوه أخر :
أ. الأصل عدم قبول
قوله إلّا بدليل ، ولا دليل عليه.
ب. شهادة الفرع لا
تسمع ما لم يعين الفرع شاهد الأصل ، ولو كان قول المجهول مقبولا لم يجب بعينه.
ج. ظهر من حاله صلىاللهعليهوآلهوسلم طلب العدالة والصدق والفقه في من كان ينفذه إلى الأعمال
وأداء الرسالة.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) علّق التثبّت على الفسق والمعلّق على الشرط عدم عند عدمه ،
فما لم يعلم فسقه لم يجب التثبّت.
الثاني : قبل
الصحابة قول العبيد والنسوان ، لما عرفوهم بالإسلام ولم يعرفوا منهم الفسق.
الثالث : قبل رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم شهادة الأعرابي على رؤية الهلال مع أنّه لم يظهر منه إلّا
الإسلام وأمر بالنّداء بالصوم.
__________________
الرابع : يقبل قول
المسلم في تذكية اللحم وطهارة الماء ورق الجارية وكونه على طهارة والقبلة في
الأعمى.
الخامس : لو أسلم
كافر وروى خبرا عقيب إسلامه قبلت روايته ، لوجود الإسلام وعدم وجود ما يوجب فسقه ،
فطول مدته في إسلامه أولى بالقبول.
السادس : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نحن نحكم بالظاهر» ورواية المجهول ظاهرة.
والجواب عن الأوّل
: لمّا وجب التثبّت عند وجود الفسق ، وجب أن نعرف حاله هل هو فاسق أم لا ، حتى
نعرف أنّه هل يجب التوقّف في قوله أم لا.
وعن الثاني : نمنع
قبول الصحابة رواية المجاهيل ، فإنّه المتنازع بل الظاهر أنّهم ردّوا كما ردّ علي عليهالسلام خبر الأشجعي ، وعمر خبر فاطمة بنت قيس.
وعن الثالث : نمنع
أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يعرف من حال الأعرابي سوى الإسلام.
سلّمناه ، لكن فيه
نظر ، فإنّه في ابتداء الإسلام هو عدل ، لسقوط العقاب عنه بالكفر السابق عند
إسلامه وعدم تجدّد ذنب منه حينئذ.
وعن الرابع : لا
نسلّم أنّ قبول قوله في هذه الأشياء يستلزم قبول قوله في الرواية ، والفرق علو
منصب الرواية ، وأيضا الإخبار فيما ذكروه مقبول مع ظهور الفسق بخلاف الرواية.
وعن الخامس : أنّه
حال إسلامه عدل بخلاف ما إذا استمر ، لاحتمال صدور المعاصي عنه خصوصا وهو في
ابتداء الإسلام شديد الحرص على امتثال أوامره واجتناب نواهيه.
وعن السادس : أنّه
ليس للعموم ، لانتقاضه بالفاسق والصبي وإنكار المنكر حتى احتاج إلى اليمين ،
ولأنّه أضاف إلى نفسه فلا يتعدّى إلى غيره إلّا بالقياس.
البحث الخامس : في
طريق معرفة العدالة
وهي أمران :
الاختبار ، والتزكية.
النظر الأوّل : الاختبار بالصحبة
المتأكّدة والملازمة بحيث
يظهر له أحواله ويطّلع على سريرة أمره بتكرار المعاشرة له ، حتى يظهر له من
القرائن ما يستدلّ به على خوف في قلبه رادع من الكذب والإقدام على المعصية.
لا يقال : إذا
رجعت العدالة إلى هيئة باطنة للنفس وأصلها الخوف وهو غير مشاهد ، بل يستدلّ عليه
بما ليس بقاطع ، بل بما يغلب على الظن فليرجع إلى أصل الإيمان الدالّ على الخوف
دلالة ظاهرة ويحصل به الاكتفاء.
لأنا نقول : الظن
إذا كان قويا عمل به بخلاف الضعيف ، ولهذا حكم بشهادة اثنين دون الواحد ، ومع
المعاشرة والصحبة ومشاهدة الأفعال البدنية
يستدلّ على
الأحوال النفسانية ، فيقوى ظنّ التعديل وعدمه والأيمان غير كاف في ذلك ، فإنّا
نعلم بالمشاهدة والتجربة أنّ عدد فسّاق المؤمنين أكثر من عدد عدولهم.
إذا عرفت هذا
فنقول : لا يشترط في العدالة اجتناب جميع المعاصي حتى الصغائر لتعذّره ، بل اجتناب
الكبائر وبعض الصغائر وبعض المباحات.
أمّا الكبائر فقد
روى ابن عمر انّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : الكبائر تسع : أ. الشرك بالله ، ب. وقتل النفس
المؤمنة ، ج. وقذف المحصنة ، د. والزنا ، ه. والفرار من الزحف ، و. والسحر ، ز.
وأكل مال اليتيم ، ح. وعقوق الوالدين المسلمين ، ط. والإلحاد في البيت الحرام .
وروي عن علي عليهالسلام زيادة على ذلك : أكل الربا والسرقة وشرب الخمر.
وأمّا بعض الصغائر
فما يدلّ فعله على نقص اليدين وعدم الرفع عن الكذب كسرقة لقمة والتطفيف بحبة.
__________________
وأمّا بعض
المباحات فما يدل على نقص المروءة ودناءة الهمّة ، كالأكل في الأسواق والبول في
الشوارع وصحبة الأراذل والإفراط في المزاح ، وما أشبه ذلك بما يدلّ على [سرعة]
الإقدام على الكذب ، فلا يحصل ظن الصدق.
النظر الثاني : التزكية ولها مراتب أربع :
الأولى : أعلاها
الحكم بشهادته.
الثانية : أن يقول
: هو عدل ، لأنّي عرفت منه كذا وكذا ، فإن لم يذكر السبب وكان عارفا بشرائط
العدالة كفى.
الثالثة : أن يروي
عنه ، والحق أنّه لا يكون تعديلا إلّا إذا عرف إمّا بصريح قوله أو بعادته أنّه لا
يستجيز الرواية إلّا عن عدل ، فحينئذ تكون روايته عنه تعديلا له ، وإلّا فلا ، إذ
من عادة أكثرهم الرواية عن كلّ أحد ولو كلّفوا الثناء عليه سكتوا.
ولا يكون ذلك غشا
في الدين ؛ لأنّه لم يوجب على غيره العمل ، بل قال : سمعت فلانا قال كذا ، وصدق
فيه ، ثمّ لعلّه لم يعرفه بالفسق والعدالة فروى عنه وأحال البحث عن حاله إلى من
يريد العمل بالرواية.
الرابعة : العمل
بروايته فإن أمكن حمله على الاحتياط أو على العمل بدليل آخر وافق الخبر فليس
بتعديل إجماعا ، وإن عرف يقينا أنّه عمل بالخبر فهو تعديل ، إذ لو عمل بخبر غير
العدل لفسق.
__________________
وفيه نظر ،
لاحتمال أن يعمل برواية المسلم إذا لم يعلم فسقه ولا تشترط العدالة.
والمرتبة الأولى
متّفق عليها ، وكذا الثانية مع ذكر السبب ، واختلفوا فيما إذا أطلق التعديل وأهمل
السبب وهو أنقص رتبة من ذكر السبب للاختلاف فيه والاتّفاق في الأوّل ، واختلفوا في
الثالثة ، فقيل : إنّه تعديل ، وقيل : ليس بتعديل ، والحقّ التفصيل ، وقد تقدّم.
البحث السّادس :
في أحكام التزكية والجرح
وهي أربعة :
الأوّل : اختلف
الناس في أنّه هل يجب ذكر سبب الجرح والتعديل؟
فقال قوم : يجب
ذكر السبب فيهما ولا يكفي الإطلاق ، لاختلاف الناس في سبب الجرح ، فقد يجرح بما لا
يكون جارحا ، ومطلق التعديل لا يحصل الثقة لمسارعة الناس إلى الثناء بناء على
الظاهر.
وقال قوم : يجب
ذكر سبب التعديل دون الجرح ، لأنّ مطلق الجرح يبطل الثقة ومطلق التعديل لا يحصّل
الثقة.
وقال الشافعي :
يجب ذكر سبب الجرح دون التعديل ، إذ قد يجرح بما لا يكون جارحا ، لاختلاف المذاهب
فيه ، وأمّا العدالة فلها سبب واحد.
__________________
وقال القاضي أبو
بكر : لا يجب ذكر السبب فيهما ، لأنّه إن لم يكن بصيرا بهذا الشأن لم يصلح للتزكية
، وإن كان بصيرا به فلا معنى للسؤال.
والوجه أنّ
المزكّي والجارح إن كانا عارفين بالأسباب قبل الإطلاق فيهما ، وإلّا وجب ذكر
السّبب فيهما.
الثاني : ذهب
الأكثر إلى أنّه لا يشترط العدد في المزكّي والجارح في الرواية ويشترط في الشهادة
فيهما ، لأنّ العدالة الّتي تثبت بها الرواية لا تزيد على نفس الرواية وشرط الشيء
لا يزيد على أصله ، فالإحصان يثبت بشاهدين والزنا لا يثبت إلّا بأربعة ، وأمّا
الشهادة فإنّ الواجب فيها الاستظهار بعدد المزكي.
وقال قوم : العدد
معتبر في المزكّي والجارح في الرواية والشهادة ، لأنّ الجرح والتعديل شهادة فيعتبر
العدد فيهما كالشهادة على الحقوق ، وهو معارض بأنّهما إخبار فلا يعتبر العدد في
قبولهما كالرواية.
لا يقال : في
العدد زيادة احتياط فيكون أولى.
لأنّا نقول : إنّ
فيه تضييع أوامر الله تعالى ونواهيه ، فيكون مرجوحا.
وقال القاضي أبو
بكر : لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا الراوي ، لأنّها نوع إخبار ، وهو ممنوع.
إذا عرفت هذا فمن
جعلهما ملحقين بالشهادة يلزمه عدم قبول تزكية العبد والمرأة في الرواية ، ومن
ألحقهما بالرواية جوّز تزكيتهما كما يقبل روايتهما.
الثالث : إذا تعارض
الجرح والتعديل فقد لا يتنافيان بأن يطلق المعدل التزكية ويذكر الجارح سببا في
الجرح قد يخفى عن المعدل ، فهنا يقدّم قول الجارح لاطّلاعه على ما لم يطّلع عليه
المعدّل ولا نفاه ، ولو نفاه لم يقبل لأنّها شهادة على النفي إلّا مع سبب يمكن
معرفته ، كما لو أسند الجرح إلى أنّه قتل فلانا مثلا في يوم كذا فيقول المعدل :
إنّني رأيته بعد ذلك حيّا ، وهنا يتعارضان ، ويجب الترجيح بكثرة العدد وشدة الورع
والضبط إلى غير ذلك من المرجّحات.
ولا يقدّم تعدّد
المعدل إذا زاد على عدد الجارح من غير تناف بينهما خلافا لقوم ، لأنّ سبب تقديم
الجرح اطّلاع الجارح على ما لم يطّلع عليه المعدل ، فلا ينتفي ذكره بكثرة العدد.
الرابع : ترك
الحكم بالشهادة ليس جرحا ولا قدحا في الرواية ، لأنّ الرواية والشهادة يشتركان في
العقل والتكليف والإسلام والعدالة ، وتختص الشهادة بأمور غير معتبرة في الرواية ،
كالحرية والذكورة والبصر والعدد وانتفاء العداوة. فإنّ للعبد أن يروي وإن ردّت
شهادته مطلقا عند قوم ، وفي البعض عند آخرين ؛ والأنثى أن تروي وقد لا تقبل
شهادتها.
والأعمى لا تقبل
شهادته فيما يشترط فيه البصر ، ومطلقا عند قوم ، وتقبل روايته فإنّ الصحابة رووا
عن زوجات النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أنّهم في حقّهن كالضرير. وترك العمل بروايته ليس جرحا
أيضا ، لجواز معارض.
والحد في شهادة
الزنا ليس جرحا لعدم النصاب ، لأنّه لم يأت بالقذف صريحا وإنّما جاء ذلك مجيء
الشهادة.
ولا يحصل الجرح
بمسائل الاجتهاد ، لأنّ كلّ واحد مكلّف بما أدّى إليه اجتهاده وإن كان مخطئا عند
الآخر في الحكم لا في التكليف.
ولا بالتدليس ،
كقول من لم يعاصر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكنه روى عمّن عاصره قولا يوهم أنّه لقيه ، وكذا قوله :
حدّثنا فلان من وراء النهر ، موهما أنّه يريد جيحان ويشير به إلى غيره ، لأنّه ليس
بكذب ، بل من المعاريض.
البحث السابع : في
الضبط
وهو من أعظم
الشرائط في الرواية ، فإنّ من لا ضبط له قد يسهو عن بعض الحديث ويكون ممّا يتم به
فائدته ويختلف الحكم بعدمه ، أو يسهو فيزيد في الحديث ما يضطرب به معناه ، أو يبدل
لفظا بآخر ، أو يروي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ويسهو عن الواسطة ، أو يروي عن شخص فيسهو عنه ويروي عن
آخر. فيجب أن يكون بحيث لا يقع له كذب على سبيل الخطأ بأن يكون ضابطا بحيث لا يكون
سهوه أكثر من ذكره ولا مساويا.
ويعرف ضبطه بكثرة
استعلام الأشياء منه مرة بعد أخرى على سبيل التكرير ، ويطلب منه إعادة ما حفظه بعد
وقت.
ولو قدر على ضبط
قصار الأحاديث دون مطوّلاتها ، قبل فيما عرف ضبطه فيه دون غيره.
والفرق بين عدم
الضبط وعروض السهو ظاهر ، فإنّ عادم الضبط لا يحصّل الحديث حال سماعه ، ومن يعرض
له السهو قد يضبط الحديث
حال سماعه ويحصله
، إلّا أنّه يشذّ عنه بعارض السهو.
لا يقال : لم لا
يقبل حديثه لأنّه لو لم يكن قد ضبطه أو ضبطه ثمّ سها عنه لم يروه مع عدالته.
لأنّا نقول :
عدالته تمنع من تعمّد الكذب والخطأ لا من سهوه ، فجاز أن يتوهّم فيما لم يضبطه
أنّه قد ضبطه ، وفيما سها عنه أنّه لم يسهو وإن كان عدلا.
لا يقال : أنكرت الصحابة على أبي هريرة كثرة روايته ، وقالت عائشة
: رحم الله أبا هريرة لقد كان رجلا مهذارا في حديث المهراس ، ومع ذلك قبلوا أخباره
؛ ولأنّ الخبر دليل والأصل فيه الصحّة. وتساوي الضبط والاختلال والذكر والنسيان
غايته أنّه يوجب الشك في الصحّة ، وذلك لا يقدح في الأصل كما لو كان متطهرا ثمّ شك
بعد ذلك في الحديث فإنّه لا يترك الأصل بهذا الشك.
لأنّا نقول :
الإنكار على أبي هريرة ليس لعدم ضبطه وغلبة النسيان عليه ، بل لأنّ الإكثار لا
يؤمن معه اختلال الضبط الّذي لا يعرض لقليل الرواية.
والخبر إنّما يكون
دليلا إذا حصل معه الظنّ بصدق الراوي وضبطه ، فإذا لم يعلم ترجيح ذكره على نسيانه
لم يغلب على الظنّ مقتضاه فلا يكون دليلا لوقوع الشكّ في كونه دليلا لا في أمر
خارج عنه ، ويقين الطهارة
__________________
السابقة لا يقدح
فيه شك الحدث الطارئ ، فيترجّح طرف الطهارة ، فلا يبقى معه الشك في الدوام حتى
أنّه لو بقي معه الشك مع النظر إلى الأصل لما حكم بالطهارة.
البحث الثامن : في
مسوّغات الرواية
الأمور التي يجب
ثبوتها حتى يجوز للراوي رواية الخبر لها أحوال :
الأوّل : أعلاها ؛
أن يعلم أنّه قرأه على شيخه ، أو حدّثه ، ويذكر ألفاظ قراءته ووقت القراءة ، وهذا
لا شبهة في أنّه يجوز له روايته والأخذ به.
الثاني : أن يعلم
أنّه قرأ جميع ما في الكتاب ، أو حدّثه به ، ولا يتذكّر ألفاظ قراءته ، ولا وقت
ذلك فيجوز له روايته أيضا ، لأنّه عالم في الحال أنّه سمعه.
الثالث : أن يعلم
أنّه لم يسمع ذلك ، ولا ظن أنّه سمعه ، أو شك فلا يجوز له أن يروي ، لأنّه لا يجوز
له أن يخبر بما يعلم أنّه كاذب فيه ، أو ظان ، أو شاك.
الرابع : ان لا
يتذكر قراءته ولا سماعه لما فيه ، لكنّه يظن ذلك لما يرى من خطّه ؛ فقال الشافعي :
يجوز له الرواية ، وبه قال أبو يوسف ومحمد للإجماع فإنّ الصحابة كانت تعمل على كتب
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم نحو كتابه
__________________
لعمرو بن حزم من
غير أن يقال : إنّ راويا روى ذلك الكتاب لهم وإنّما عملوا لأجل الخط ، وأنّه منسوب
إلى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فجاز مثله في سائر الرواة ؛ ولأنّ الظنّ هنا حاصل والعمل
بالظن واجب.
وقال أبو حنيفة :
لا يجوز ، لأنّه إذا لم يعلم السامع لم يأمن الكذب.
الفصل السابع
فيما ظن أنّه شرط وليس كذلك
وفيه مباحث :
الأوّل : العدد
ذهب أبو علي
الجبائي إلى أنّه لا يشترط في الراوي الكثرة ، فلا يقبل رواية الواحد العدل عنده
إلّا إذا عضّده ظاهر ، أو عمل بعض الصحابة ، أو اجتهاد أو كان منتشرا بينهم ؛
ويقبل رواية العدلين مطلقا.
وحكى عنه القاضي
عبد الجبار أنّه لا يقبل في الزنا إلّا خبر أربعة ، كالشهادة عليه.
والحق قبول الواحد
العدل في الزنا وغيره.
لنا : انّ خبر الواحد العدل يتضمن العمل به دفع ضرر مظنون
فيكون واجبا.
__________________
ولأنّ الصحابة
عملوا عليه عمل علي عليهالسلام على خبر المقداد ، وأبو بكر على خبر بلال ، وعمر على خبر
حمل بن مالك وعلى خبر عبد الرحمن في المجوس ، وعمل الصحابة على خبر عائشة في
التقاء الختانين ، ولم ينكر أحد فكان إجماعا.
لا يقال : إنّما
قبلوا ما اعتضد بالاجتهاد.
لأنّا نقول :
إنّهم كانوا يتركون الاجتهاد لهذه الأخبار ، كما قال عمر : لو لا هذا لقضينا فيه
برأينا ، وكانوا لا يرون بالمخابرة بأسا حتى روى لهم رافع بن خديج نهي النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عنها.
احتجّ الخصم بوجوه
:
الأوّل : لم يقبل صلىاللهعليهوآلهوسلم خبر ذي اليدين حتى شهد له أبو بكر وعمر.
الثاني : اعتبرت
الصحابة العدد ، حيث ردّ أبو بكر وعمر خبر عثمان في رد الحكم بن أبي العاص ، ولم
يقبل أبو بكر خبر المغيرة في الجدّة حتى رواه محمد بن مسلمة ، ولم يعمل عمر على
خبر أبي موسى في الاستئذان حتى رواه أبو سعيد الخدري.
الثالث : لا يقبل
في الشهادة الواحد فكذا الرواية ، بل هي أولى ، لأنّها تقتضي شرعا عامّا ،
والشهادة تقتضي شرعا خاصّا ، فإذا لم يقبل الواحد في الثاني ففي الأوّل أولى.
__________________
الرابع : الدليل
ينفي العمل بالظن ، وهو قوله تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) وغيره ، ترك العمل به في خبر العدلين ؛ لقوة الظنّ ،
ولاعتبار الشارع به في الشهادة ، فيبقى خبر الواحد على أصل المنع ، إذ ليس هو في
معناه لضعف الظن فيه.
والجواب عن الأوّل
: أنّ ذلك إن دلّ فإنّما يدلّ على اعتبار ثلاثة : أبي بكر وعمر وذي اليدين ،
ولقيام التهمة هناك حيث اختصّ (بخبر من) بين جماعة عظيمة يجب اشتهاره بخلاف الرواية.
وفي الأوّل نظر ،
لأنّ المحقّقين من علمائنا منعوا من هذه الرواية ، ومع ذلك فلا يلزم ما قالوه ،
لجواز أن تكون شهادة الثاني اتّفاقية.
وعن الثاني : انّ
اعتبارهم العدد هنا مع أنّا بيّنّا قبولهم خبر الواحد إنّما كان لحصول التهمة ،
لأنّ قبول الواحد يدلّ على أنّ العدد ليس شرطا.
وعن الثالث : أنّه
منقوض بالأمور المعتبرة في الشهادة دون الرّواية ، كالحرية والذكورة والبصر
وغيرها.
وعن الرابع : أنّ
الله تعالى أمر بالتمسّك بخبر الواحد ، فيكون التمسّك به معلوما لا مظنونا ، لئلّا
يندرج تحت النهي عن العمل بالظنّ.
__________________
البحث الثاني : في
عدم تكذيب الأصل
ذهب أكثر الحنفية
إلى أنّ راوي الأصل إذا لم يقبل الحديث قدح ذلك في رواية الفرع ، سواء جزم
بالتكذيب أو قال : لا أدري وهو رواية عن أحمد.
والوجه أن يقول :
الفرع إن كان جازما بالرواية وكان الأصل بفسادها لم يقبل ، لأنّ قبول الفرع لا
يمكن إلّا بالقدح في الأصل وهو قدح في الحديث ، ولأنّ أحدهما كاذب ولا يقدح في
عدالتهما. وإن لم يجزم بالفساد قبلت الرواية ، سواء قال الأصل : تغلب على ظنّي
أنّي رويته ، أو الأغلب على ظني أنّني ما رويته ، أو شك في الأمرين على السواء ،
أو لا يقول شيئا من ذلك عملا بالمقتضي ، وهو رواية الفرع العدل السالم عن معارضة
تكذيب الأصل فأشبه موت الأصل وحياته.
ولأنّ ربيعة بن
أبي عبد الرحمن روى عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة أنّه قضى باليمين مع الشاهد ، ثم
نسيه سهيل فقال
__________________
لربيعة : لا أدري
، فكان يقول : حدّثني ربيعة عنّي. واعترض بالتسليم وليس فيه وجوب العمل.
وإن لم يكن الفرع
جازما بل يقول : أظنّ أنّي سمعته منك ، فإن جزم الأصل بعدم الرواية ، تعيّن الرد ،
وكذا إن قال : أظنّ أنّي ما رويته لتعارض الظن بمثله ، والأصل العدم.
وإن شكّ الأصل أو
سكت أو ظنّ أنّه رواه ، فالأقرب القبول إن سوّغنا العمل بظنّ الرواية ، لأنّ
المقتضي موجود ولا معارض.
والضابط أنّ القولين
إن تعارضا أو ترجّح قول الأصل وجب الرد وإلّا القبول.
احتجّ المانعون مطلقا بأنّ الدليل ينفي قبول الخبر الواحد ، خولف فيما إذا
سلم عن معارضة التكذيب لقوّة الظن ، فيبقى فيما عداه على الأصل ، وبأنّه لو جاز
ذلك في الرواية لجاز في الشهادة ؛ ولأنّه لو عمل به لعمل الحاكم بحكمه إذا شهد
شاهدان به ونسيه.
والجواب عن الأوّل
: ما تقدّم.
وعن الثاني : أنّ
الشهادة أضيق.
وعن الثالث :
بالتزامه ، وهو قول مالك وأحمد وأبي يوسف ، وإنّما يلزم الشافعي.
__________________
البحث الثالث : في
أنّه لا يشترط فقه الراوي ولا يعقل روايته ولا معرفة نسبه
ذهب أكثر
المحقّقين إلى أنّه لا يشترط كون الراوي فقيها ، سواء وافقت روايته القياس أو لا.
وقال أبو حنيفة : لا يقبل إلّا الفقيه إذا خالفت روايته القياس.
لنا وجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أمر بالتثبّت عند مجيء الفاسق ، فينتفي وجوب التثبّت في
غير الفاسق ، سواء كان عالما أو جاهلا ، وهو مبني على أنّ المفهوم حجّة وأنّه
يدخله العموم.
الثاني : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نضّر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ،
فرب حامل فقه ليس بفقيه» .
وفيه نظر ، إذ لا
يدلّ على وجوب القبول فيما خالف القياس.
الثالث : خبر
الواحد يفيد ظن الصدق ، فوجب العمل به ، لما تقدّم من أنّ العمل بالظن واجب.
__________________
احتجّ الخصم
بوجهين :
الأوّل : الدليل
ينفي جواز العمل بخبر الواحد ، خالفناه إذا كان الراوي فقيها ، لأنّ روايته أوثق.
الثاني : الأصل أن
لا يرد الخبر على مخالفة القياس ، والأصل أيضا صدق الراوي فإذا تعارضا تساقطا ،
ولم يجز التمسّك بأحدهما ؛ ولأنّه على تقدير صدق الراوي لا يلزم القطع بكون الخبر
حجّة ، فإنّه لو جرى حديث منافق عند الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإذا جاء المنافق وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقتلوا الرجل ، فهم الفقيه العهد والعامي الاستغراق.
والجواب عن الأوّل
: ما مرّ من وجوب العمل بخبر الواحد.
وعن الثاني : أنّ
في التعارض تسليم صحة الخبر ، والتمييز بين العهد والاستغراق لا يتوقف على الفقه
بل كلّ من له تمييز وفطنة فرق بينهما ، ولأنّ ذلك يقتضي اعتبار الفقه في كلّ خبر
وإن وافق القياس ، بل وفي المتواتر.
ولا يشترط أن يكون
عالما بالعربية ولا معنى الخبر ، فإنّ الحجّة في لفظ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والأعجمي والعامي يمكنهما نقل اللفظ كما سمعاه كما
يمكنهما حفظ القرآن.
ولا تشترط الذكورة
، فإنّ الصحابة رووا عن عائشة وغيرها من النساء.
ولا الحرية ، فإنّ
العبد تقبل روايته مع العدالة الّتي هي مناط قبول الرواية.
__________________
ولا البصر ، فقد
قبل الصحابة رواية الأعمى ، ولا خلاف في ذلك كلّه.
ولا يعتبر كثرة
روايته ، فقد تقبل رواية من لم يرو سوى خبر واحد ؛ ولو أكثر الرواية ، فإن عرف
مخالطته بأهل الحديث وأمكنه تحصيل ذلك القدر في مثل زمانه ، قبلت رواياته ، وإلّا
فلا في الجميع ، لتوجّه الطعن فيها.
وإذا عرف من
الراوي التساهل في أمر حديث الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقبل خبره إجماعا. ولو عرف التساهل في غيره والاحتياط
في خبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ؛ فإن نقل فيما تساهل فيه الكذب وأصرّ عليه لم تقبل روايته
لفسقه ، وإلّا قبلت على خلاف لإفادته الظن مع عدم المعارض.
ولا يشترط في
الراوي أن يكون معروف النسب ، بل لو لم يعرف نسبه وحصلت الشرائط قبلت روايته عملا
بالمقتضي السالم عن معارضة الفسق ، ولو كان له اسمان وهو بأحدهما أشهر جازت
الرواية عنه ، ولو كان متردّدا بينهما وهو بأحدهما مجروح وبالآخر معدل لم تقبل ،
لأجل التردّد.
البحث الرابع : في
حكم الخبر مع المعارض
اعلم أنّ المعارض
للخبر إمّا دليل قطعي أو ظني.
فالأوّل يقتضي ترك
العمل بالخبر ، لأنّ شرطه عدم دليل قطعي يعارضه.
والمعارض إمّا بأن
ينفي ما أثبته الآخر كأن يأمر بقتل زيد في وقت
__________________
ومكان معينين على
وجه معين ، وينهى عن ذلك على ذلك الحد في ذلك الوقت ؛ أو بأن يثبت أحدهما ضد ما
أثبته الآخر على الحدّ الّذي أثبته بأن يوجب علينا صلاة في مكان معين ووقت معين ،
ويوجب الثاني صلاة أخرى في ذلك الوقت في غير ذلك المكان.
ثمّ المعارض
القطعي إن كان عقليا وقبل الخبر التأويل ـ ولو على أبعد الوجوه ـ تأوّلناه ولم
نحكم بردّه ، وإن لم يقبل التأويل على أي وجه كان حكم بفساده ، لعدم تطرّق التكذيب
في العقل القطعي واحتماله في الراوي إمّا سهوا أو عمدا ، إذ التقدير أنّه غير
محتمل للنقيض في دلالته ، فلو لم يحتمله في متنه وقع الكذب في كلام الشارع ، وهو
محال.
وإن كان سمعيا وهو
الكتاب والسنة المتواترة والإجماع ، فغير ممتنع عقلا أن يقول الله تعالى : أمرتكم
بالعمل بالكتاب والسنّة والإجماع بشرط أن لا يرد خبر واحد على مناقضته ، فإذا ورد
ذلك فاعملوا بخبره لا بالأدلّة القطعية ؛ لكن الإجماع دلّ على نفي هذا المحتمل ،
فحينئذ أن قبل أحدهما التأويل أوّلناه ، والّا عملنا بالقطعي ، للإجماع على أنّ
الدليلين إذا تساويا واختص أحدهما بمزيد قوة تعيّن العمل به.
وهذه الأدلّة
الثلاثة لمّا ساوت خبر الواحد في الدلالة واختصّت بقوة في متنها وهي كونها قطعية
فيه ، وجب تقديمها على خبر الواحد.
وأمّا المعارض
الظني فإن كان خبرا مثله وجب الترجيح بالوجوه الآتية في باب التراجيح ، فإن كان
قياسا فسيأتي إن شاء الله.
البحث الخامس : في
الخبر المعارض بالقياس
اعلم أنّ أكثر
علمائنا وجماعة من غيرهم منعوا من العمل بالقياس مطلقا ، وهؤلاء لا نزاع معهم
لوجوب العمل بالخبر وإن عارضه القياس ، لأنّه لا يصلح للمانعية ؛ وعند آخرين من
علمائنا وغيرهم جواز العمل بالقياس إذا نصّ على علّته ؛ وعند آخرين العمل به مطلقا
، والنزاع بين هؤلاء.
فنقول : خبر
الواحد والقياس إذا تعارضا ، فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر خصّ به. أمّا الخبر
فظاهر ، وأمّا القياس فعند من يجوز تخصيص العلّة يجمع بينهما ، ومن منع كان حكم
الخبر المخصّص للقياس كالمنافي له. وإن لم يمكن الجمع بينهما ولو بوجه ما ولا
اقتضى أحدهما تخصيص الآخر ، تنافيا بالكلية ، وكان كل واحد منهما مبطلا لكلّ
مقتضيات الآخر ، فأصل ذلك القياس إن ثبت بذلك الخبر قدّم الخبر إجماعا ؛ وإن كان
قد ثبت بغيره ، فالقياس يستدعي ثبوت حكم الأصل والتعليل بالعلّة المخصوصة وحصولها
في الفرع.
فإن كان كلّ من
الثلاثة قطعيّا ، قدّم القياس على الخبر قطعا ، لاقتضائه القطع واقتضاء خبر الواحد
الظنّ ، ومفيد القطع مقدّم على مفيد الظن.
وإن كان كلّ من
الثلاثة ظنيّا ، قدّم الخبر ، لأنّ الظن إذا قلّ كان أولى بالاعتبار.
وإن كان البعض
قطعيا والبعض ظنّيا ، فقد اختلفوا فقال الشافعي
وأحمد والكرخي
وجماعة من الفقهاء : يقدّم خبر الواحد على القياس.
وقال أصحاب مالك
يقدّم القياس.
وقال عيسى بن أبان
: إن كان الراوي ضابطا عالما غير متساهل فيما يرويه ، قدّم خبره على القياس ،
وإلّا فهو موضع اجتهاد.
وقال أبو الحسين :
العلّة الجامعة إن كانت منصوصة بنص قاطع قدّم القياس ، لأنّ النّص على العلّة
كالنصّ على حكمها ، وهو مقطوع به وخبر الواحد مظنون. وإن لم يكن مقطوعا به ولا
حكمها في الأصل مقطوعا به ، قدّم الخبر لاستواء النصّين في الظنّ واختصاص الخبر
بالدلالة على الحكم بصريحه من غير واسطة ، بخلاف النصّ الدالّ على العلّة ، فإنّ
دلالته على الحكم بواسطة ـ وإن كان حكمها ثابتا قطعا ـ فهو موضع اجتهاد.
وإن كانت مستنبطة
فحكم الأصل إن ثبت بخبر تعيّن العمل بالخبر ، وإن ثبت بقاطع فهو موضع الخلاف بين الناس. واختياره أنّه موضع اجتهاد ، وتوقّف القاضي أبو
بكر.
وقال بعضهم : متن الخبر إن كان قطعيا فعلّة الأصل إن كانت منصوصة
وساوى دليلها الخبر ، فالخبر أولى لدلالته على الحكم من غير واسطة ، وإن كان
مرجوحا فكذلك.
__________________
وإن كان راجحا ،
فوجود العلّة في الفرع إن كان قطعيا فالقياس أولى ، وإن كان ظنيا فالوقف ، وإن
كانت مستنبطة فالخبر مقدّم لوجوه :
الأوّل : لمّا بعث
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم معاذا قاضيا إلى اليمن قال : بم تحكم؟ قال : بكتاب الله ،
قال : فإن لم تجد؟ قال : بسنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قال : فإن لم تجد؟ قال : اجتهد رأيي. اجتزأ بالقياس على السنّة والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أقرّه على ذلك.
وفيه نظر ، لإمكان
حمل الاجتهاد على استنباط الفروع من الأصول ، وإدراج الجزئيات تحت العمومات لا
القياس ، أو بحمل السنّة على المتواتر أو ما سمعه من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الثاني : الإجماع
على تقديم الخبر ، قال عمر : لو لا هذا لقضينا فيه برأينا ، وقال : أعيتهم
الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا.
الثالث : احتمال
الخطأ في الخبر أقل ، لتوقّفه على عدالة الراوي ، ودلالة لفظه على الحكم ، وكونه
حجّة معمولا بها.
والقياس على هذه إن كان أصله خبر واحد. وإن كان دليلا قطعيا افتقر إلى
الاجتهاد في إمكان تعليل حكم الأصل ، وإلى استنباط وصف صالح للتعليل ، وإلى نفي
المعارض في الأصل ، وإلى وجوده في الفرع ، وإلى
__________________
نفي المعارض في
الفرع ، وإلى النظر في كونه حجّة ، وهذه سنّة ، فالخبر أولى.
اعترض بانتقاض خبر معاذ بما إذا كانت العلة مقطوعا بها وبوجودها
في الفرع.
والإجماع ممنوع ،
فإنّ ابن عباس خالف رواية أبي هريرة : إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في
الإناء حتى يغسلها ثلاثا ، لما خالف القياس.
وردّ أيضا خبره في
التوضّي ممّا مسّته النار بالقياس ، وقال : ألسنا نتوضّأ بماء الحمام.
ومفاسد الخبر أكثر
لتطرق كذب الراوي وكفره وفسقه وخطائه ، وتطرّق الإجمال في المتن ، والتجوّز
والإضمار والنسخ ، وشيء منها لا يتأتى في القياس.
ولأنّ القياس
يخصّص عموم الكتاب ، وهو أقوى من خبر الواحد ، فترك خبر الواحد به أولى.
ولأنّ الظنّ
المستند إلى القياس يحصل للمجتهد من نفسه واجتهاده ، والظن الحاصل من خبر الواحد
يحصل له من جهة غيره ، وثقة الإنسان بنفسه أتمّ من ثقته بغيره.
__________________
ولأنّ خبر الواحد
بتقدير إكذاب المخبر لنفسه يخرج عن كونه شرعيا ، ولا كذلك القياس.
والجواب : تخصيص
خبر معاذ في صورة لمعنى غير موجود في الخبر ليس بنقض ، ولا إبطال للدليل في غير
صورة التخصيص.
وردّ ابن عباس خبر
غسل اليدين ليس بالقياس ، بل لعدم إمكان الامتثال ، ولهذا قال: فكيف يصنع بالمهراس
، وكان حجرا عظيما يصب فيه الماء لأجل الوضوء ، ووافقته عائشة.
لا يقال : قد يمكن الامتثال بأن يغسل يده من إناء آخر ثم يدخلها في
المهراس.
لأنّا نقول : من
أين يعلم أنّ قياس الأصول يقتضي غسل اليدين من ذلك الإناء حتى يكون قد ردّه لذلك
القياس.
وردّ خبر التوضّي
بما مسّت النار ليس بالقياس ، بل بما روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أكل كتف شاة مصلية وصلّى ولم يتوضّأ. ثم ذكر القياس بعد
معارضته بالخبر.
ومفاسد الخبر انه
في أصل القياس إذا ثبت بخبر الواحد وهو من جملة صور النزاع ، وإن ثبت بقطعي فتطرق الخطأ إلى من ظهرت عدالته
__________________
أبعد من تطرّق
الخطأ إلى القياس في اجتهاده فيما ذكرناه من احتمال الخطأ في القياس ، لكونه
معاقبا على الكذب والكفر والفسق بخلاف الخطأ في الاجتهاد فإنّه غير معاقب عليه، بل
يثاب عليه.
وتطرّق التجوّز
والاشتراك والتخصيص والنسخ في الخبر لا يقتضي ترجيح القياس عليه ، لتطرّقها في
الكتاب والسنّة المتواترة ، وهو مقدّم على القياس.
وكما يجوز تخصيص
الكتاب بالقياس فكذا الخبر الواحد ، ولأنّ تخصيصه للكتاب ليس تعطيلا له بخلاف ما
إذا عارض خبر الواحد من كلّ وجه فإنّه يكون معطلا للخبر ؛ وكون ظن القياس من جهة
نفسه لا يقتضي الترجيح ، لأنّ تطرق الخطأ إليه أقرب من تطرّقه إلى خبر الواحد ؛
وتكذيب المخبر وإن أبطل الخبر ، إلّا أنّ الخبر يترجّح لاستناده إلى المعصوم ،
والقياس مستندا إلى اجتهاد المجتهد.
ولو قال : قصّرت
في الاجتهاد ، خرج عن كونه دليلا شرعيا كما قلتم في الخبر.
ولأنّ القياس
مفتقر إلى جنس النص في حكم الأصل ، وفي كونه حجّة ، وخبر الواحد لا يفتقر إلى شيء
من القياس.
ولأنّ خبر الواحد
قد يصير قطعيا إذا اعتضد بجنسه حتى صار متواترا ، بخلاف القياس فإنّه لا ينتهي إلى
القطعي بانضمام جنسه إليه.
البحث السادس : في
الخبر المعارض لفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعمل الأكثر
إذا روي عن الرسول
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه عمل بخلاف موجب الخبر لم يقدح في الخبر إن لم يتناوله
ولا ثبت التأسي ؛ لجواز أن يكون ذلك الحكم من خصائصه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يتنافى العمل والخبر ، لعدم اتّحاد الموضوع ، فلا
يردّ الخبر بذلك.
وإن ثبت التأسّي
فإن أمكن تخصيص أحدهما بالآخر خصّص ؛ وإن لم يمكن فإن كان أحدهما متواترا عمل به ،
وإن لم يكونا متواترين رجع إلى الترجيح بين الخبرين ، فيعمل بالراجح من فعله
ومقتضى الخبر.
وعمل أكثر الأمة
بخلافه لا يوجب ردّه ، لأنّ أكثر الأمّة بعض الأمّة ، فلا يكون قولهم حجّة ، إلّا
أنّ ذلك من المرجّحات.
ولو خالف بعض
الحفّاظ في بعض الخبر لم يقتض المنع من قبول الباقي إجماعا ، لوجود المقتضي ، وهو
رواية العدل السالم عن معارضة التكذيب ، والمخالفة في البعض لا تستلزم المخالفة في
الباقي.
أمّا القدر الّذي
خالفوه فيه فالأقوى عدم قبوله ، لأنّ تطرّق السهو والخطأ إلى الجماعة أبعد من
تطرقه إلى الواحد ، وقيل بالوقف ، لمعارضة هذا بأنّ تطرّق السهو إلى ما لم يسمعه
أنّه سمع أبعد من تطرّقه إلى ما سمع أنّه لم يسمع.
البحث السابع : في
عدم وجوب عرضه على الكتاب
إذا ورد خبر واحد
لا ينافي الكتاب وتكاملت شروط صحّته لم يجب عرضه على الكتاب. وبه قال الشافعي ،
لأنّه لا تتكامل شرائطه إلّا وهو غير مخالف للكتاب ، فلا يجب عرضه عليه.
وقال عيسى بن أبان
: يجب عرضه عليه لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا روي لكم عنّي حديث ، فأعرضوه على كتاب الله ، فإن
وافقه فاقبلوه ، وإلّا فردّوه».
والتحقيق أن يقال
: إن كان النزاع في خبر يخالف الكتاب من كلّ وجه ، فهذا يجب ردّه قطعا ؛ وإن لم
يكن بل من بعض الوجوه وأمكن الجمع بأن يكون مخصّصا لعمومه ، فهذا يجب قبوله إن
جوزنا التخصيص به ، وإلّا فلا ، وكذا يعمل به لو لم تحصل منه المخالفة من وجه ما.
إذا عرفت هذا
فاعلم أنّ الناسخ يجب تأخّره عن المنسوخ ؛ فإن علم أنّ خبر الواحد غير مقارن
للكتاب لم يقبل لامتناع نسخ الكتاب به.
وإن شك في
المقارنة وعدمها ، قال القاضي عبد الجبّار : يقبل لأنّ الصحابة رفعت بعض أحكام
القرآن بأخبار الآحاد ، ولم تسأل عن المقارنة وعدمها.
وفيه نظر ، لإمكان
اطّلاعهم فيما رفعوه بالمقارنة ، ولأنّ شرط العمل
__________________
بالخبر المخالف ،
المقارنة لوجوب ردّه عند عدمها ، والشك في الشرط شك في المشروط فلا يجوز العمل
إلّا مع علم المقارنة ولا يكفي الشكّ ، بل الظنّ ، نعم يمكن أن يقال
تقدير التأخير يقتضي تكذيب الراوي ، لوجوب إبلاغ الناسخ للمتواتر عدم التواتر والأصل عدالته ، فيبعد تقديره.
البحث الثامن : في
معارضة عمل الراوي للخبر
إذا كان مذهب
الراوي يخالف روايته ، قال بعض الحنفية : الراوي للحديث العام إذا خصّه رجع إليه ،
لأنّه لما شاهد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كان أعرف بمقاصده ، ولذلك حملوا رواية أبي هريرة في ولوغ
الكلب «أنّه يغسل سبعا» على الندب ، لأنّ أبا هريرة كان يقتصر على الثلاث.
وفيه نظر ، لأنّه
يجوز التخصيص.
وقال الكرخي :
ظاهر الخبر أولى.
وقال الشافعي : إن
كان تأويل الراوي بخلاف ظاهر الحديث رجع إلى الحديث ، وإن كان أحد محتملي الظاهر
رجع إلى تأويله.
وقال القاضي عبد
الجبار : إن لم يكن لتأويله ومذهبه وجه إلّا أنّه علم بالضرورة قصد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وجب المصير إليه ، وإن لم يعلم ذلك ، بل جوّزنا أن يكون قد
صار إليه لنصّ أو قياس ، وجب النظر فيه ، فإن اقتضى ما ذهب
__________________
إليه صير إليه ،
وإلّا فلا ، وكذا إن كان الحديث مجملا ، وبيّنه الراوي كان بيانه أولى.
احتج الشافعي بأنّ
المقتضي وهو ظاهر اللّفظ موجود ، والمعارض وهو مخالفة الراوي لا يصلح للمانعية ،
لاحتمال رجوعه إلى ما ظنه دليلا ، وليس كذلك ، فيجب العمل بمقتضى اللفظ.
لا يقال : ظاهر
دينه يقتضي رجوعه إلى دليل.
لأنّا نقول :
الدين يمنع من تعمد الخطأ لا من سهوه ، ولا دليل على نفي الغلط هنا.
تنبيه
المجمل إذا حمله
الراوي له على أحد محمليه تعيّن ، لأنّ الظاهر من حال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه لا يتكلّم بالمجمل ، لقصد التشريع وتعريف الأحكام من
غير ذكر قرينة حاليّة أو مقالية تعيّن المقصود من الكلام ، والراوي المشاهد للحال
أعرف بذلك من غيره.
والوجه عدم
التعيين ، بل يجب على المجتهد النظر ، فإن ظهر له وجه يوجب تعيين غير ذلك الاحتمال
اتبعه ، وإلّا كان تعيين الراوي صالحا للترجيح.
__________________
ولو كان ظاهرا في
معنى وحمله الراوي على غيره ، فذهب الشافعي والكرخي وأكثر الفقهاء إلى وجوب الحمل
على الظاهر دون تأويل الراوي.
قال الشافعي : كيف
اترك الحديث لقول قوم لو عاصرتهم لحاججتهم بالحديث.
البحث التاسع : في
نسبة المتن إلى المعلوم وغيره ممّا تعم البلوى به
خبر الواحد إن
اقتضى علما ، وكان في الأدلة القاطعة ما يدلّ عليه ، جاز لإمكان أن يكون صلىاللهعليهوآلهوسلم قاله واقتصر به على آحاد الناس واقتصر بغيرهم على الدليل
القطعي ؛ وإن لم يوجد ما يدل عليه قطعا ، وجب رده ، سواء اقتضى عملا أو لا ، لأنّه
لما قصر عن إفادة العلم مع ورود التكليف بالعلم لزم تكليف ما لا يطاق ، إلّا أن
يكون الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أوجب العلم به على من شافهه دون غيره ، وإن اقتضى عملا قبل
؛ سواء عمّت البلوى به كخبر ابن مسعود في نقض الوضوء بمسّ الذكر ، وخبر أبي هريرة
في غسل اليدين عند القيام من النوم ، وخبر المقداد في المذي وغير ذلك ، أم لا.
وقالت الحنفية : لا يقبل خبر الواحد فيما تعم به البلوى.
لنا : وجوه :
__________________
الأوّل : قوله
تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ) ، وهو عام فيما تعمّ به البلوى وغيره. وقوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا) ، وغير ذلك من النصوص العامة الدالّة على العمل بخبر
الواحد مطلقا.
الثاني : خبر
العدل يفيد الظن فتعين العمل به.
وفيه نظر ، لأنّ
إيراده فيما يعمّ به البلوى يقابل ظن صدقه.
الثالث : رجع
الصحابة إلى قول عائشة في التقاء الختانين مع عموم البلوى فيه ، وكذا رجوعهم إلى
أخبار الآحاد في أحكام القيء والرعاف والقهقهة في الصلاة ، ووجوب الوتر ، وقبل
الحنفية الآحاد فيها.
احتجّ الخصم بوجوه
:
الأوّل : ردّ أبو
بكر خبر المغيرة في الجدّة ، وردّ عمر خبر أبي موسى في الاستيذان ، ولم ينكر
عليهما أحد فكان إجماعا.
الثاني : ما يعمّ
به البلوى كمسّ الذكر ونقض الخارج من السبيلين ممّا يتكرر في كلّ وقت لأشخاص البشر
المنتشرين ، فلو كانت الطهارة ممّا ينتقض به لوجب على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إشاعته وان لا يقتصر على مخاطبة الآحاد ، بل كان يبلغ مبلغ
التواتر لئلّا يفضي ذلك إلى إبطال صلاة أكثر الناس من حيث لا يشعرون ، وهو ينافي
شفقته على الخلق.
__________________
الثالث : لمّا كان
القرآن ممّا تعم به البلوى نقله وامتنع إثباته بخبر الواحد.
والجواب عن الأوّل
: إنّما يجب ما قلتم لو لم يقبلوا فيه إلّا خبرا متواترا ، لكنّهم قبلوا خبر
الاثنين.
وعن الثاني : أنّه
إنّما يجب لو كان يتضمّن علما وأوجب العمل به على كلّ حال ، أمّا إذا أوجبه بشرط أن يبلغه فلا
؛ وكذا لو كان مكلّفا بالعمل بالظن لم يجب إبلاغه إلى الجميع. ولا يستلزم ذلك
إبطال طهارة أكثر الناس لوصول الخبر الواحد إلى الجميع ، ولو وجب ذلك فيما يعمّ به
البلوى وجب في غيره لجواز أن لا يصل إلى من كلّف به.
فإن قلتم : إنّه
كلّف العمل به بشرط أن يبلغه.
قلنا : فكذا فيما
يعمّ به البلوى.
وأعلم أنّ
السّمعيات إذا استقرأناها وجدناها على أقسام أربعة :
الأوّل : القرآن
ومعلوم أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم اعتنى بالمبالغة في إشاعته ، لأنّه المعجزة الدالّة على
صدقه.
الثاني : مباني
الإسلام الخمس الّتي هي أركان الشريعة ، كالشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج
، وقد أشاعه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إشاعة اشترك في معرفته الخاص والعام.
__________________
الثالث : أصول
المعاملات الّتي ليست ضرورية ، كأصل البيع والنكاح والطلاق والعتاق والاستيلاد
والتدبير والكتابة ، وهذه متواترة النقل عند العلماء وقامت بها الحجّة القاطعة
إمّا بالتواتر ، أو بنقل آحاد في مشهد عظيم مع سكوتهم لكن العوام لم يشاركوا
العلماء في العلم ، بل فرضهم قبول قول العلماء فيه.
الرابع : تفاصيل
هذه الأصول كالمفسد للصلاة وغيرها وناقض الطهارة وما يجب فيه الزكاة وشرائط الصوم
وجزئيات أفعال الحجّ ، فمنه ما نقل بالآحاد ، ومنه ما شاع وذاع واشتهر ، ومنه ما
تواتر.
البحث العاشر : في
المرسل
اختلف الناس في
الخبر المرسل ، وصورته ؛ قول العدل ـ الّذي لم يلق الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كذا ، وقول من لم يلق ابن عباس : قال ابن عباس كذا ، فقبله
أبو حنيفة ومالك وأحمد في أشهر الروايتين ، وجماهير المعتزلة كأبي هاشم وأتباعه ، وهو قول محمّد بن خالد من قدماء الإمامية.
وقال الشافعي : لا يقبل إلّا على إحدى الشرائط :
أ. أن يكون الّذي
أرسله مرة أسنده أخرى : أقبل مرسله.
__________________
ب. أن يرسله هو
ويسنده غيره ، وهذا إذا لم تقم الحجّة بإسناده.
ج. أن يرسله راو
آخر ويعلم أنّ رجال أحدهما غير رجال الآخر.
د. أن يعضده قول
صحابي أو فتوى أكثر العلماء.
ه. أن يعلم أنّه
لو نصّ لم ينص إلّا على من يسوغ قبول خبره.
قال : وأقبل
مراسيل سعيد بن المسيب ، لأنّي اعتبرتها فوجدتها بهذه الشرائط ، ومن هذا حاله
أحببت قبول مراسيله.
و. ولا أستطيع أن
أقول : إنّ الحجّة تثبت به كثبوتها بالمتصل.
اعترضه الحنفية بأنّ قوله : «يقبل مرسل الراوي إذا كان قد أسنده
مرة» فبعيد ، لأنّه إذا أسنده قبل من حيث الإسناد ، ولا تأثير لإرساله.
وقوله : «يقبل
المرسل إذا أسنده غيره» باطل ، لأنّ ما ليس بحجّة لا يصير حجّة إذا عضّدته الحجّة.
وقوله : «يقبل
المرسل إذا أرسله اثنان واختلف شيوخهما» باطل ، لأنّ ما ليس بحجّة إذا انضاف إلى
ما ليس بحجّة لا يصير حجّة ، إذا كان المانع من كونه حجة عند الانفراد ثابتا عند
الاجتماع ، وهو الجهل بعدالة الواسطة ، بخلاف الشاهد الواحد فإنّ مانع قبول شهادته
الوحدة ، فإذا انضم إليه شاهد آخر زال المانع.
__________________
أجيب بأنّ غرض
الشافعي شيء واحد ، وهو أنّا إذا جهلنا عدالة راوي الأصل لم يحصل ظنّ صدق الخبر ،
فإذا انضمت هذه الأشياء إليه حصل له بعض القوة ، فوجب العمل به دفعا للضرر المظنون
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نحن نحكم بالظاهر».
وقال عيسى بن أبان
: تقبل مراسيل الصحابة والتابعين وتابعي التابعين ومن هو من أئمة النقل مطلقا
دون من عدا هؤلاء. وأمّا القاضي أبو بكر وجماعة من الفقهاء فقد وافقوا الشافعي.
والوجه المنع إلّا
إذا عرف أنّه لا يرسل إلّا مع عدالة الواسطة ، كمراسيل محمّد بن أبي عمير من الإمامية.
لنا وجوه :
الأوّل : عدالة الأصل مجهولة فلا تقبل روايته أمّا الأوّل فلأنّ
عينه غير معلومة فصفته أولى بالجهالة ولم توجد إلّا رواية الفرع عنه ، وليست
__________________
تعديلا ، فإنّ
العدل قد يروي عمّن لو سئل عنه لتوقّف فيه ، أو جرحه. ولو عدله لم يصر عدلا ،
لجواز أن يخفى عنه حاله فلا يعرفه بفسق ، ولو عيّنه لعرفنا فسقه الّذي لم يطّلع
عليه المعدّل.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ قبول روايته [يقتضي] وضع شرع عامّ في حقّ كلّ المكلّفين من غير رضاهم ، وذلك
ضرر ، والضرر على خلاف الدليل ، ترك العمل به فيما إذا علمت عدالة الراوي ، فيبقى
في الباقي على الأصل.
فإن قيل : لا نزاع في جواز أن يروي عن غير العدل لكن روايته عن
العدل أرجح ؛ لأنّ الفرع مع عدالته لا يستجيز أن يخبر عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا وله الإخبار بذلك ، وليس له ذلك إلّا مع علمه ، أو
ظنّه أنّه قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إذ لو استوى الطرفان حرم الإخبار ، وإنّما يحصل العلم
والظن بأنّه قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لو علم عدالة الأصل.
ولأنّ الفرع مع
عدالته ليس له أن يوجب شيئا على غيره أو يطرحه إلّا إذا علم أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أوجب ذلك أو ظنه ، وهذا يقتضي عدالة الأصل ، فوجب قبول
روايته.
والجواب : لا شك
في أنّ للعدل أن يروي عن العدل وغيره ، ولا منافاة بين عدالته وروايته عن غير
العدل ، فتكون روايته عنهما ممكنة ، ولا يترجّح أحد الطرفين إلّا بمرجّح منفصل ،
وقول الفرع : قال الرسول يقتضي الجزم بأنّه مسند إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والجزم بالشيء مع تجويز نقيضه كذب ، وهو
__________________
يقدح في عدالته ،
فلا بدّ من صرفه إلى غير ظاهره. وليس المراد أنّي أظن أنّه قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أولى من أن يكون المراد سمعت أنّه قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكنّه لو صرّح بهذا القدر لم يكن فيه تعديل ، إذ له قول
ذلك وإن كان قد سمعه من كافر.
ونمنع أن تكون
روايته تقتضى إيجاب شيء على الغير إلّا بعد ثبوت عدالة الأصل ، فلو بينتم كونه
عدلا بأنّ هذه الرواية توجب على الغير ، لزم الدور ، ثمّ ينتقض ما ذكرتموه بشاهد
الفرع إذا لم يذكر شاهد الأصل ؛ فإنّ ما ذكرتموه من أنّه لا يجوز له أن يخبر إلّا
وله ذلك وإنّما يتمّ مع عدالة الأصل ، ومن أنّه لا يوجب على غيره شيئا إلّا إذا
علمه قائم فيه ، مع أنّه لا يقبل شهادته.
لا يقال : الفرق
أنّ الشهادة تتضمّن إثبات حق على الغير والخبر يتضمّن إثبات الحق مطلقا من دون
تخصيص ، فتنتفي التهمة هنا لا هناك ، فجاز أن يؤكّد الشهادة بما لا تؤكّد به
الرواية كالعدد ؛ ولأنّ شهود الأصل لو رجعوا ضمنوا ، فيجب على الحاكم معرفتهم
بأعيانهم.
لأنّا نقول :
الشهادة وإن ترجّحت على الخبر لكن الخبر قد ترجح من وجه آخر ، وهو أنّه يقتضي شرعا
عاما في حقّ جميع المكلّفين إلى يوم القيامة ، فيجب فيه الاحتياط أكثر من المثبت
للحق على مكلّف واحد.
والاعتذار بالرجوع
ملغى بما لو مات شاهد الأصل فقيرا فكيف يمكن تضمينه؟!
الثاني : جهالة
عين الراوي آكد من الجهل بصفته ، لأنّ مجهول الذات مجهول الصفة قطعا دون العكس ،
ولو كان معلوم العين مجهول الصفة لم يكن خبره مقبولا ، فإذا كان مجهول العين
والصفة كان أولى أن لا يقبل خبره.
الثالث : من شرط
قبول الرواية معرفة عدالة الراوي ، والمرسل لا يعرف عدالة راويه ، فلا يكون مقبولا
لفوات الشرط.
الرابع : لو جاز
العمل بالمرسل لم يكن لذكر الرواة والبحث عن عدالتهم معنى.
الخامس : لو جاز
العمل بالمرسل لجاز أن يعمل في عصرنا بقول الإنسان : قال رسول الله كذا وإن لم
يذكر الرواة ، وهو ممتنع.
وفيه نظر ، لأنّ
الظن يقوي نقله الرواة.
السادس : الخبر
إمّا متواتر أو آحاد ، ولو قال الراوي : أخبرني من لا أحصيهم عددا ، لم يقبل قوله
في التواتر ، ففي الآحاد أولى.
اعترض على الثاني : بأنّه لا يلزم من الجهل بعين الراوي الجهل
بصفته. وكذا على الثالث.
وعلى الرابع بأنّ
فائدة الذكر أنّه قد يشتبه على الراوي حال المروي عنه ، فتعيّنه لبحث الغير عنه
ولا تتأتى هذه الفائدة مع الإرسال ، ولأنّه مع
__________________
التعيين يكون ظن
المجتهد بالبحث عنه بنفسه أقوى من الظنّ الحاصل بسبب قبول قول الراوي.
وعلى الخامس :
نمنع الامتناع فإنّ المرسل للخبر في زماننا إذا كان عدلا ولم يكذبه الحفّاظ قبل.
وعلى السادس : أنّ
التواتر لا يحصل بقول الواحد.
وفيه نظر ، فإنّ
المراد بالوصف هنا وصف خاص به وهو العدالة المختصّة به ، ولا شكّ في جهالة هذا
الوصف عند جهالة العين بخلاف الأوصاف العامّة ، والفائدة في التعيين حاصلة مع
الإرسال ، إذ فائدة البحث ظن العدالة ، وهي حاصلة على تقدير الإرسال ، والقوة
والضعف لا تأثير لهما في العمل لعدم الضابط فيه.
احتجّ الخصم بوجوه
:
الأوّل : عموم
قوله تعالى : (وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ) وقوله : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، فإذا لم يجئ الفاسق وجب القبول ، والفرع ليس بفاسق ،
فوجب قبول خبره.
الثاني : الإجماع
على قبول المرسل ، قال البراء بن عازب : ليس كلّ ما حدّثناكم به عن رسول الله
سمعناه غير أنّا لا نكذب.
وقال أبو هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : من أصبح جنبا فلا صوم له.
__________________
وقال : أنا ما
قلته ورب الكعبة ولكن محمّد قاله. ثمّ ذكر أنّه أخبره به الفضل بن عباس.
وروى ابن عباس عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا ربا إلّا في النسيئة» ثمّ أسنده إلى أسامة.
وروي أيضا أنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يزل يلبّي حتى رمى جمرة العقبة ، ثمّ ذكر أنّه أخبره به الفضل أخوه ، وقبلوا رواياته مع
كثرتها.
وقد روي أنّه لم
يرو عن الرّسول أكثر من أربعة أحاديث لصغر سنّه.
وروى ابن عمر أنّ
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من صلّى على جنازة فله قيراط من الأجر». وأسنده بعد
ذلك إلى أبي هريرة.
وقد اشتهرت مراسيل
سعيد بن المسيب والشعبي وغيرهما.
وروى الحسن البصري
حديثا فلمّا رجع فيه قال : أخبرني به سبعون بدريا.
__________________
وهذه الروايات
تدلّ على أنّهم كانوا يقبلون المراسيل.
الثالث : لو لم
يقبل المرسل لم يقبل ما يجوز كونه مرسلا فكان إذا قال الراوي : عن فلان لم يقبل
حتى يسأل هل رواه له أحد عنه أو لا؟ فكانت تسقط الأحاديث المتعينة مع عدم التنصيص.
الرابع : الثقة
إذا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كذا ، وأظهر الجزم به كان الظاهر أنّه لا يستجيز ذلك إلّا
وهو عالم أو ظان أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قاله ، لأنّه لو
ظن أو شكّ أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يقله لم يحل له النقل الجازم لما فيه من التدليس على
السامعين ، وذلك يستلزم تعديل من روى عنه وإلّا لما كان عالما ولا ظانا بصدقه في
خبره.
والجواب عن
الأوّل. أنّ العمومات خصّت في الشهادة ، فكذا في الرواية ، والجامع الاحتياط.
وعن الثاني. نمنع
الإجماع ، وقول البعض ليس حجّة ؛ وعدم الإنكار إنّما كان ، لأنّ المسألة اجتهادية
، ولأنّ الصحابي الّذي رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كان الظاهر منه الإسناد ، فوجب على السامع قبوله. ثمّ إذا
بيّن الصحابي أنّه كان مرسلا ثمّ بيّن إسناده وجب قبوله أيضا ، وليس قبوله في أحد
الحالتين دليلا على العمل بالمرسل.
وعن الثالث. أنّ
المقتضي للعمل بالخبر إنّما هو الظن ، فإذا قال الراوي : قال فلان عن فلان مع طول
صحبته كان أمارة على أنّه سمعه منه ، ومتى لم يعلم صحبته لم يقبل حديثه.
وعن الرابع.
بالمنع من كونه تعديلا ، لما عرفت من أنّ الشخص قد يروي عمّن لو سئل عنه لقدح فيه
أو توقّف ، والراوي ساكت عن الجرح والتعديل ، فلا يكون سكوته عن الجرح تعديلا ،
وإلّا لكان السكوت عن التعديل جرحا.
ونمنع عدم الجزم
بالرواية عن الرسول مع تجويز كذب الأصل.
سلّمنا ، لكن نمنع
الجزم بأنّ الراوي له أن يقول : قال الرسول ، وليس حمل قوله على أعلم أو أظن أنّ
الرسول قال أولى من حمله على أنّي سمعت.
سلّمنا أنّه تعديل
، لكن لا بد من ذكر سبب العدالة ، فلو صرّح أنّه سمعه من عدل ثقة ، لم يلزم قبوله.
سلّمنا قبول
التعديل المطلق ، لكن في شخص نعرفه بعينه ولا نعرفه بفسق ، أمّا من لا يعرف عينه ،
فلا يقبل ، لأنّه ربّما لو ذكره لعرفناه بفسق لم يطّلع عليه العدل.
إذا عرفت هذا
فالحقّ عندي : أنّه إذا عرف أنّ الراوي العدل بصريح خبره أو بعادته أنّه لا يروي
إلّا عن ثقة قبل مرسله ، وإن لم يعرف ذلك فلا يقبل.
تذنيبات
الأوّل : إذا أرسل
الحديث وأسنده غيره قبل إجماعا ، لأنّ إسناد الثقة يقتضي القبول إذا لم يوجد مانع
، ولا يمنع منه إرسال المرسل ، لأنّه يجوز أن يكون أرسله ، لأنّه سمعه مرسلا ، أو
سمعه متّصلا لكنّه نسي شيخ نفسه ، وهو يعلم أنّه ثقة في الجملة. وكذا إذا أرسله
مرة وأسنده هو أيضا أخرى.
الثاني : إذا ألحق
الحديث بالنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ووافقه غيره على الصحابي فهو متّصل ، لجواز أن يكون
الصحابي رواه عن الرسول مرة ، وذكره عن نفسه على سبيل الفتوى ، فرواه كلّ منهما
بحسب سماعه ، أو سمعه أحدهما يرويه عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فنسي ذلك وظن أنّه ذكره عن نفسه.
الثالث : لو أوصله
بالنبي مرة وأوقفه على الصحابي أخرى كان متصلا ، لجواز أن يكون قد سمعه من الصحابي
يرويه عن النبي مرة وأخرى عن نفسه ، أو سمعه يرويه متصلا بالنبي فنسي ذلك وظن أنّه
ذكره عن نفسه ، أمّا لو أرسله أو أوقفه مدة طويلة ثمّ أسنده أو وصله بعد ذلك ،
فإنّه يبعد أن ينسى تلك المدة الطويلة إلّا أن يكون له كتاب يرجع إليه فيذكر ما
نسيه.
الرابع : من يرسل
الأخبار إذا أسند خبرا ، قبل على الأقوى لاختصاص إرساله بالمرسل دون المسند ، فوجب
قبول مسنده.
ومنهم من لم يقبله
، لأنّ إرساله يدلّ على أنّه إنّما لم يذكر الراوي لضعفه فستره له والحال هذه
خيانة.
واختلف القائل
بقبول المرسل إذا أسنده كيف يقبله.
فقال الشافعي : لا
يقبل من حديثه إلّا ما قال فيه : حدّثني أو سمعت فلانا ، ولو أتى بلفظ موهم لم
يقبل.
وقال بعض
المحدّثين : لا يقبل إلّا إذا قال : سمعت فلانا ، وهؤلاء يفرّقون بين أن يقال :
حدّثني وأخبرني فيجعلون الأوّل دالّا على أنّه شافهه بالحديث ، ويجعلون الثاني
متردّدا بين المشافهة والإجازة والكتابة.
الخامس : إذا روى
الراوي عن رجل يعرف باسم فذكره باسم لا يعرف ، فإن فعل ذلك لأنّ من يروي عنه لا
يقبل حديثه كان غشا ، فترد الرواية.
وإن لم يذكر اسمه
لصغر سنّه لا للجرح فيه ، قبل عند من يكتفي بظهور الإسلام في العدالة ؛ ومن يشترط
الفحص عن العدالة بعد إسلامه لم يقبله ، لأنّه لا يتمكّن من الفحص عن عدالته حيث
لم يذكر اسمه فأشبه المرسل. أمّا من يقبل المرسل فإنّه ينبغي له قبوله ، لأنّ
عدالة الراوي تقتضي أنّه لو لا ثقته عنده لما ترك [ذكر] اسمه.
البحث الحادي عشر
: في نقل الحديث بالمعنى
اختلف الناس في
أنّه هل يجوز نقل الحديث المروي عن النبي بالمعنى؟ فجوّزه الشافعي وأبو حنيفة
ومالك وأحمد والحسن البصري وأكثر الفقهاء ، وخالف فيه ابن سيرين وبعض المحدّثين.
__________________
والمجوّزون شرطوا
أمورا ثلاثة :
الأوّل : أن لا
تكون الترجمة قاصرة عن الأصل في إفادة المعنى.
الثاني : أن لا
تكون فيها زيادة ولا نقصان.
الثالث : أن تكون
الترجمة مساوية للأصل في الجلاء والخفاء ، لأنّ الخطاب قد يقع بالمحكم والمتشابه
لحكمة خفية ، فلا يجوز تغيرها عن وضعها.
والمانعون جوّزوا
إبدال اللفظ بمرادفه ومساويه في المعنى ، كما يبدل القعود بالجلوس ، والعلم
بالمعرفة ، والاستطاعة بالقدرة ، والحظر بالتحريم. وبالجملة ما لا يتطرّق إليه
تفاوت في الاستنباط والفهم ، وإنّما ذلك فيما فهمه قطعا لا في ما فهمه بنوع من
الاستدلال الّذي يختلف فيه الناظرون.
واتّفقوا على منع
الجاهل بمواقع الخطاب ودقائق الألفاظ ، وإنّما الخلاف في العالم الفارق بين المجمل
وغيره والظاهر والأظهر والعام والأعم ، والوجه الجواز.
لنا وجوه :
الأوّل : الصحابة
نقلوا قصة واحدة مذكورة في مجلس واحد بألفاظ مختلفة ، ولم ينكر بعضهم على بعض فيه
، وهو يدلّ على قبوله.
وفيه نظر ، لأنّه
حكاية حال ، فلعلّهم عرفوا أنّ الراوي قصد نقل المعنى أو نبّه بما يدلّ عليه.
__________________
الثاني : يجوز شرح
الشرع للعجم بلسانهم ، وهو إبدال العربية بالعجمية ، فبالعربية أولى. ومعلوم أنّ
التفاوت بين العربية وترجمتها أقل ممّا بينها وبين العجمية.
وفيه نظر ، فإنّ
السامع للترجمة يعلم أنّ المسموع ليس كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بل معناه.
الثالث : روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : إذا أصبتم المعنى فلا بأس.
وفيه نظر ، إذ
المراد نفي البأس في العمل بمقتضى ما دلّ عليه الحديث لا النقل عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الرابع : كان ابن
مسعود إذا حدّث قال : قال رسول الله كذا أو نحوه.
وفيه نظر ، إذ
الفرق واقع بينما إذا أطلق أو قال : قال هكذا أو نحوه ، فإنّ فيه تصريحا بنقل
المعنى وإنّ اللفظ منه.
الخامس : يعلم
قطعا أنّ الصحابة لم يكتبوا ما نقلوه ولا كرّروا عليه ، بل كما سمعوا أهملوا إلى
وقت الحاجة إليه بعد مدد متباعدة ، وذلك يوجب القطع بأنّهم لم ينقلوا نفس اللفظ ،
بل المعنى.
السادس : اللفظ
غير مقصود لذاته وإنّما القصد للمعنى واللفظ أداة في استعلامه ، فلا فرق بين الإتيان بذلك المعنى بأي لفظ اتّفق.
__________________
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها ،
فربّ مبلغ أوعى من سامع ، ورب حامل فقه ليس بفقيه ، وربّ حامل فقه إلى من هو أفقه
منه». وأداؤه كما سمعه هو أداء اللفظ المسموع ، ونقل الفقه إلى من هو أفقه منه
معناه : أنّ الأفقه قد يتفطّن بفضل معرفته من فوائد اللفظ بما لا يتفطّن إليه غير
الفقيه الّذي رواه.
الثاني : التجربة
دلّت على أنّ المتأخّر يستخرج من فوائد ألفاظ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أفضل الصلوات وأجمل التحيات ما لم يسبقه المتقدّم إليه ،
فعرفنا أنّ السامع لا يجب أن يتنبّه لفوائد اللفظ في الحال وإن كان فقيها ذكيا ،
فجاز أن يتوهّم في اللفظ المبدل أنّه مساو للآخر وبينهما تفاوت لم يتفطّن له.
الثالث : لو جاز
للراوي تبديل لفظ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بلفظ من عنده ، لجاز للراوي عن الراوي تبديل لفظ الأصل ،
بل هو أولى ، فإنّ تبديل لفظ الراوي أولى من تبديل لفظ الشارع ، ولو جاز ذلك لجاز
للثالث الراوي عن الثاني والرابع الراوي عن الثالث وهكذا ، وذلك يستلزم سقوط
الكلام الأوّل بالكلية ، فإنّ المعبر إذا ترجم وبالغ في المطابقة تعذّر عليه إلّا الإتيان بلفظ
بينه وبين الأوّل تفاوت وإن قلّ ، فإذا تضاعف ذلك التفاوت اختلّ
__________________
المعنى الأوّل
بالكلية ، وانتفت المناسبة بين كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وبين كلام الراوي.
والجواب : من أدّى المعنى بتمامه وصف بأنّه أدّى كما سمع ، وإن اختلفت
الألفاظ ، ولهذا يوصف الشاهد والمترجم بأداء ما سمعا وإن عبّرا بلفظ مرادف ؛ على
أنّ هذا الحديث حجّة لنا ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ذكر العلّة وهو اختلاف الناس في الفقه ، فما لا يختلف فيه
الناس من الألفاظ المترادفة لا يمنع منه ؛ على أنّ هذا الحديث بعينه قد نقل بألفاظ
مختلفة والمعنى واحد ، فروي : رحم الله امرءا ، ونضّر الله امرءا ، وربّ حامل فقه
لا فقه له ، وروي : غير فقيه ، وهذه الألفاظ وإن أمكن أن يكون جميعها قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في أوقات مختلفة لكن الأغلب أنّه حديث واحد.
البحث الثاني عشر
:
في كيفية ألفاظ الراوي
وفيه مطلبان :
المطلب الأوّل :
في كيفية نقل الصحابي
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
في مسمّى الصحابي
قال جماعة من
الأشاعرة وأحمد بن حنبل : إنّ الصحابي عبارة عمّن رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وصحبه ولو ساعة واحدة ، وإن لم يختصّ به اختصاص المصحوب
ولا روى عنه ولا طالت مدة صحبته.
وقال آخرون :
الصحابي إنّما يطلق على من رأى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واختصّ به اختصاص المصحوب ، وطالت مدّة صحبته وإن لم يرو
عنه.
وقال عمر بن يحيى
: الصحابي من طالت صحبته للنبي وأخذ عنه العلم. والنزاع لفظيّ ، والأوّل أقرب لوجوه :
__________________
الأوّل : الصاحب
مأخوذ من الصحبة المشتركة بين القليل والكثير ، ولهذا يقبل التقسيم إليهما ، ومورد
القسمة مشترك بين الأقسام.
الثاني : لو حلف
أن لا يصحب غلاما حنث باللحظة.
الثالث : يصحّ أن يقال
: هل صحبت فلانا ساعة؟ وهل أخذت عنه العلم؟ ورويت عنه أم لا؟ ولو لا شمول الصحبة
الجميع لما حسن ذلك.
احتجّوا بأنّ الصاحب عرفا إنّما هو الملازم ، كما يقال : أصحاب
القرية ، أصحاب الكهف ، أصحاب الجنة ، أصحاب الحديث للملازمين دراسته ، ولصحّة :
فلان لم يصحب فلانا لكنّه وفد عليه أو رآه ، والأصل الحقيقة.
احتجّ الآخرون
بأنّه يصح أن يقال : المزني صاحب الشافعي ، وأبو يوسف ومحمد صاحبا أبا حنيفة لما
أخذا عنه العلم والرواية ، ولا يصلح أن يقال لمن عاشره طويلا ولم يأخذ عنه أنّه
صاحبه.
والجواب : نمنع
اشتراط الملازمة في اسم الصاحب لما تقدّم من صدقه على من صحبه ساعة واحدة ، والأصل
الحقيقة في القدر المشترك ، وهو مطلق المصاحبة دفعا للاشتراك والمجاز وصحّة النفي
للعرف فإنّه في الاستعمال الطارئ إنّما يطلق على من طالت صحبته ، فإن أريد نفي
الصحبة العرفية فحق وإلّا فلا ، وكذا في اشتراط أخذ العلم والرواية.
إذا ثبت هذا فلو
قال العدل : أنا صحابي ، قبل منه بناء على ظهور صدقه
__________________
المستند إلى
عدالته مع إمكان ما أخبر به.
وقيل : لا يقبل ،
لأنّها رتبة يدّعيها لنفسه ويثبتها له فيكون متّهما ، كما لو قال : أنا عدل ، أو
شهد لنفسه بحق.
المسألة الثانية
أعلى مراتب الرواية أن يقول الصحابي : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول كذا ، أو حدّثني أو أخبرني أو شافهني.
فإن قال : قال
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فهو أدون من المرتبة الأولى. وظاهره النقل عن الرسول
وليس نصا صريحا ، فإنّ الواحد منّا يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم اعتمادا على ما نقل إليه وإن لم يسمعه منه ، والأكثر على
أنّه يحمل على سماعه من الرسول فيكون حجّة.
وقال القاضي أبو
بكر : لا يحكم بذلك ، بل هو متردّد بين سماعه منه ومن غيره.
وبتقدير سماعه من
غيره فمن قال بعدالة جميع الصحابة ، فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومن قال : لا فرق
بين الصحابي وغيره فحكمه حكم المرسل ، ولا خلاف في أنّ ذلك لو قاله غير الصحابي
كان مرسلا.
__________________
المسألة الثالثة :
لو قال الصحابي : أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
بكذا أو نهى عن كذا ، كان أقلّ مرتبة
من السابقة لتطرّق الاحتمال الأوّل مع مريد آخر ، وهو أنّ الناس قد اختلفوا في صيغ الأوامر والنواهي ،
فقد يظن ما ليس بأمر أمرا ، واختلف في أنّه حجّة أم لا.
وكذا اختلفوا لو
قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يأمر بكذا أو ينهى عن كذا.
فإنّ الاحتمال
الأوّل وإن انتفى عنه لكن الثاني متطرّق إليه ، والأكثر على أنّه حجّة ، لأنّ
الظاهر من حاله أنّه لا يطلق هذه اللفظة إلّا إذا تيقّن مراد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّ الظاهر من حال الصحابي مع معرفته وعدالته واطّلاعه
على أوضاع اللغة أن يكون عارفا بمواقع الخلاف والوفاق ، فحينئذ لا ينقل إلّا ما
تحقّق أنّه أمر أو نهي من غير خلاف ، دفعا للتدليس بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد
الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمرا ونهيا ، وهو يقدح في عدالته.
وقيل : إنّه ليس
حجّة ، ولا يلزم في الإطلاق اشتراط العلم بمراد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل يكفي الظن. وقولكم : لو أطلق الراوي مع تجويز خلافه
كان قد أوجب على السامع ما ليس بواجب ، وهو يقدح في عدالته ، يستلزم
__________________
الدور ، لأنّه لا
يمكنكم العلم بأنّ الراوي ما أطلق هذه اللفظة إلّا بعد علمه بمراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلّا إذا علمتم أنّه حجّة وأنتم إنّما أثبتم كونه حجّة بذلك
، فلزم الدور. وأيضا فقول الراوي : أمر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بكذا لا يدلّ على أنّه أمر للكلّ أو البعض ، وهل هو أمر
دائم أو غير دائم؟ فلا يجوز التمسّك به إلّا بانضمام قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : حكمي على الواحد حكمي على الجماعة.
المسألة الرابعة
لو قال الصحابي : أمرنا بكذا أو نهانا
عن كذا ، وأوجب كذا وأبيح
كذا وحرّم كذا.
اختلفوا ، فقال
الشافعي وجماعة أخرى : إنّه يفيد أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم هو الآمر ، وخالف فيه الكرخي وجماعة أيضا. والظاهر الأوّل.
لنا وجهان :
الأوّل : تبادر
الذهن إليه عند قول متبع الرئيس : أمرنا بكذا أو نهينا ، إذ كلّ أحد يحمل كلامه
على أمر رئيسه ، ولو قال من يعتاد خدمة السلطان : أمرنا بكذا في دار السلطان فهم
نسبة الأمر إلى السلطان.
الثاني : دلالة
الألفاظ تابعة للأغراض والمقاصد ، فإذا عرف أنّ غرض المتكلّم من لفظه شيء يحتمله
حمل عليه ، ومن المعلوم أنّ غرض الصحابي أن يعرّفنا الشرع ، فيحمل لفظه على من
يصدر الشرع عنه دون
__________________
الولاة والحكّام ؛
ولا يحمل على أمر الله تعالى ، لظهوره بالنسبة إلى الصحابي وغيره ، فلا يستفاد من
قول الصحابي ، ولا على أمر جماعة الأمّة ، لأنّ ذلك الصحابي منهم وهو لا يأمر
نفسه.
وفيه نظر ، لإمكان
حمله على أمر الله تعالى ، ويمنع تساوي نسبته في الظهور إلى الجميع ، لافتقار
استخراجه من الأدلّة القرآنية إلى فكر وتأمّل.
سلّمنا ، لكن لا
يجب في الصحابي أن يكون مجتهدا ، فجاز أن يقول ذلك ويسنده إلى قول المفتي الّذي
يجب عليه اتّباع قوله ويحرم عليه مخالفته ، أو على قول الأمّة ؛ ولا يكون قوله
شرطا في الإجماع ، لأنّه عامّي ، أو يكون مجتهدا ويصحّ نسبة أمرنا إلى قوله مع قول
الباقين ؛ ولا يكون قد أمر نفسه ، لأنّ قبول قوله بانفراده ليس بواجب ، فإذا انضم
إلى قول باقي الأمّة صار واجبا ، ويكون الأمر هنا مستندا إلى الجميع لا إلى
الآحاد.
احتجّ الكرخي بأنّ قوله متردّد بين نسبة قوله إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإلى غيره من قياس وشبهه ، وصحّ نسبة ذلك إلى القياس في غيره من الأدلّة حيث أمرنا باتّباعه.
والجواب : أنّ
قوله : «أمرنا» خطاب مع الجماعة ، والقياس وإن أمرنا باتّباعه لكنّه غير موجب
للأمر باتّباع من لم يظهر له ذلك القياس ؛ ولأنّ قوله : «أمرنا ونهينا» حقيقة في
مطلق الأمر والنهي لا الأمر باتّباع حكم القياس.
__________________
المسألة الخامسة
إذا قال الصحابي من السنّة كذا ، ذهب الأكثر إلى أنّه محمول على سنّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، خلافا للكرخي للوجهين السابقين في المسألة الرابعة.
احتجّ الكرخي
بوجهين :
أ. قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من سنّ سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها» ، وأراد سنّة غيره.
ب. السنّة مأخوذة
من الاستنان ، وهو غير مختصّ بشخص دون آخر.
والجواب : لا نمنع
ذلك بحسب الوضع اللغوي ، لكن نحن نقول : إنّه بحسب عرف الشرع يفيد ما قلناه ، ولو
قال الصحابي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حمل على أنّه سمعه ظاهرا. وقيل : يحتمل أنّه أخبره آخر عن
الرسول وهو لم يسمعه منه ، ولا ريب في تطرّق الاحتمال ، لكن الأوّل أظهر.
ولو قال الصحابي :
كنّا نفعل كذا أو كانوا يفعلون كذا ، كقول عائشة : كانوا لا يقطعون في الشيء
النادر.
وكقول إبراهيم
النخعي : كانوا يحذفون التكبير حذفا ، حمل عند الأكثر
__________________
على فعل الجماعة
دون بعضهم ، خلافا لبعض الأصوليّين ؛ لأنّ الظاهر من حال الصحابي أنّه إنّما أورد ذلك فى معرض
الاحتجاج ، وإنّما يكون حجّة لو كان ما نقله مستندا إلى فعل الجميع ، فإنّ فعل
البعض ليس حجّة على البعض الآخر.
لا يقال : لو كان
ذلك مستندا إلى فعل الجميع لكان إجماعا ، ولما ساغ مخالفته بطريق الاجتهاد.
لأنّا نقول :
تسويغ الاجتهاد فيه ، لأنّ إضافة ذلك إلى الجميع أمر ظنّي لا قطعي ، كما يسوغ
الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لما كان الطريق مظنونا ، ولو كان معلوما بالتواتر لم يسغ
فيه الاجتهاد.
والأولى التفصيل
وهو أنّه إن قصد بهذا الكلام : أن يعرّفنا شرعا ، ولا يكون كذلك ، إلّا وقد كانوا
يفعلونه في عهد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع علمه بذلك ، وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينكره عليهم ، اقتضى كونه شرعا.
وإن لم يعرف ذلك
لكنّه قال قولا كان للاجتهاد فيه مجال ، فإن كان عدلا ثقة اقتضى حسن الظنّ به أن
يكون قاله عن طريق ، لكن الوجه أنّه لا يكون حجّة ؛ وإن لم يكن للاجتهاد فيه مجال
فليس إلّا لسماعه من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
المطلب الثاني :
في كيفية رواية غير الصحابي
ومراتبه سبع :
الأولى : أن يقول
الراوي : حدّثني فلان ، أو أخبرني ، أو سمعت فلانا ، فالسامع يجب عليه العمل بهذا
الخبر. ثمّ الشيخ إن قصد إسماعه خاصة ، أو كان في جمع قصد الراوي إسماعهم ، جاز له
أن يقول : حدّثني وأخبرني ، وسمعته يحدّث عن فلان. ولو لم يقصد إسماعه تفصيلا ،
ولا جملة كان له أن يقول : سمعته يحدّث عن فلان ، وليس له أن يقول : أخبرني ولا
حدّثني ، لأنّه لم يحدّثه ولا أخبره. هذا إذا قرأه الشيخ عليه ، وهو أعلى المراتب.
الثانية : أن
يقرأه الراوي على الشيخ ويقول بعد الفراغ من القراءة عليه : الأمر كما قرئ عليّ ،
أو يقال للراوي : هل سمعت هذا الحديث عن فلان؟ فيقول : نعم ، فهاهنا يجب العمل
بالخبر على السامع.
وله أن يقول :
حدّثني ، أو أخبرني ، أو سمعت فلانا ، إذ لا فرق في الشهادة على البيع بين أن يقول
البائع : بعت ، وبين أن يقرأ عليه كتاب البيع فيقول : الأمر كما قرئ عليّ.
الثالثة : أن يكتب
إلى غيره : بأنّي سمعت كذا من فلان ، فللمكتوب إليه
__________________
أن يعمل بكتابه
إذا علم أنّه كتابه ، وكذا إن ظنّ أنّه خطّه ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يأمر بالكتابة وإنفاذ الكتب وكذا الأئمّة عليهمالسلام ، لكن ليس له أن يقول : سمعته أو حدّثني ، لأنّه ما سمع
ولا حدّث. نعم يجوز أن يقول : أخبرني ، لأنّ من كتب إلى غيره كتابا يعرّفه فيه
واقعة جاز أن يقول : أخبرني.
وقال آخرون : لا
يجوز له أن يروي عنه ، إذ ليس في الكتابة ما يدلّ على تسويغ الرواية عنه ولا على
صحّة الحديث في نفسه ، وسواء قال : هذا خطي أو لم يقل ، لأنّه قد يكتب ما سمعه ثمّ
يشكّك فيه ، فلا بدّ من التسليط من قبل الشيخ على الرواية عنه بطريقه ، إذ ليس
لأحد رواية ما شك في روايته إجماعا ، ولهذا لو روى كتابا عن بعض المحدّثين وشكّ في
حديث واحد منه غير معيّن ، لم يجز له رواية شيء منه ، لأنّه ما من واحد من تلك
الأحاديث إلّا ويجوز أن يكون هو المشكوك فيه.
وكذا لو روى عن
جماعة حديثا وشكّ في روايته عن بعضهم من غير تعيين ، فليس له الرواية عن واحد منهم
، لأنّه ما من واحد إلّا ويجوز أن يكون هو المشكوك.
نعم لو غلب على
ظنّه رواية الحديث عن بعض المشايخ وسماعه منه فقد اختلف فيه.
فقال أبو حنيفة :
لا يجوز روايته ولا العمل به ، لأنّه حكم على المروي عنه بأنّه حدّثه ، فلا يجوز
مع عدم العلم كما في الشهادة.
وقال الشافعي وأبو
يوسف ومحمّد : يجوز له الرواية والعمل به ، لغلبة
الظن بصحّته ،
ولهذا فإنّ آحاد أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كانوا يحملون كتب الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى أطراف البلاد في أمور الصدقات وغيرها ، وكان يجب على
كلّ أحد الأخذ بها بإخبار حاملها أنّها من أخبار الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن لم يكن فيها ما سمعه الحامل ولا المحمول إليه ، لكونها
مغلبة على الظن ، ولا كذلك في الشهادة ، لأنّه قد اعتبر فيها من الاحتياط ما لم
يعتبر مثله في الرواية .
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع العمل بمجرّد الكتب المنفذة ، بل باعتبار إبلاغ الرسل الّتي نفذت الكتب معهم.
وعلى هذا لو قال عدل من عدول المحدّثين عن كتاب من كتب الحديث أنّه صحيح ، فالحكم في جواز الأخذ به والخلاف فيه كما لو ظن أنّه يروي مع
الاتّفاق هنا على أنّه لا يجوز روايته عنه ، بخلاف ما إذا ظن الرواية عنه.
الرابعة : أن يقال
له : هل سمعت هذا الخبر؟ فيشير برأسه ، أو بإصبعه ، فالإشارة هنا إن عرف منها
الحكم بالثبوت كانت كالعبارة في وجوب العمل ، لكن لا يجوز أن يقول : حدّثني أو
أخبرني أو سمعته ، لأنّه ما سمع شيئا.
الخامسة : أن يقرأ
عليه : حدّثك فلان فلا ينكر ، ولا يقرّ بعبارة ، ولا إشارة بل يسكت ، فإن لم يغلب
على الظن إسناد السكوت إلى الرضا
__________________
والتصديق بأنّ
الأمر كما قرئ عليه ، لم يعمل به إجماعا.
وإن غلب على الظن
أنّه ما سكت إلّا لأنّ الأمر كما قرئ عليه ، وإلّا كان ينكره ، لزم السامع العمل
به عند الأكثر ، خلافا لبعض الظاهرية ، لأنّه حصل ظنّ أنّه قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّه لو لم يكن صحيحا لكان سكوته عن الإنكار فسقا لما
فيه من إيهام صحّة ما ليس بصحيح ، والعمل بالظنّ واجب.
واختلفوا فى جواز
الرواية ، فعامّة الفقهاء والمحدّثين جوّزوه ، والمتكلّمون أنكروه ، وقال بعض
أصحاب الحديث : ليس له أن يقول : أخبرني مطلقا ، بل يقول : أخبرني قراءة عليه ،
لأنّ الإطلاق بالإخبار يشعر بنطق الشيخ ، وذلك من غير نطق كذب.
وكذا الخلاف فيما
لو قال القارئ للراوي بعد قراءة الحديث عليه : أرويه عنك؟ فيقول : نعم ،
فالمتكلّمون منعوا من الرواية هنا أيضا خلافا للفقهاء.
احتجّ الفقهاء
بأنّ الإخبار في أصل اللغة الخبر والعلم ، والسكوت لا لعارض يوجبه من غفلة وشبهها
يفيد العلم بأنّ المسموع كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيكون إخبارا ، ولأنّ كلّ قوم لهم اصطلاحات مخصوصة
يستعملونها في معان مخصوصة إمّا على سبيل التجوّز ثم غلب المجاز وصارت الحقيقة
مغلوبة ، أو النقل إلى تلك المعاني بحسب عرفهم ؛ ولفظ أخبرني وحدّثني
__________________
هنا كذلك ،
لمشابهة السكوت الإخبار في إفادة الظنّ والمشابهة إحدى أسباب المجاز.
وإذا جاز هذا
الاستعمال مجازا ، واستقرّ عرف الأخباريّين عليه صار كالمنقول بعرفهم ، أو المجاز
الغالب ، وإذا ثبت ذلك وجب جواز استعماله قياسا على سائر الاصطلاحات.
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع اصطلاحهم على إطلاق اسم الإخبار على السكوت ، فإنّه المتنازع ، فلو أخذ
مقدّمة في الدليل دار.
احتجّ المتكلّمون
بأنّه لم يسمع من الراوي شيئا ، فقوله : حدّثني وأخبرني وسمعته كذب.
وأجيب بأنّ الكذب
منتف بطريان العرف على إطلاقه على السكوت.
السادسة :
المناولة ، وذلك بأن يشير الشيخ إلى كتاب يعرف ما فيه فيقول : قد سمعت ما في هذا
الكتاب ، فإنّه يكون بذلك محدّثا ، ويكون لغيره أن يروي عنه ، سواء قال له : اروه
عني ، أو لم يقل ، ولو قال : حدّث عنّي ما في هذا الكتاب ولم يقل له : إنّني قد
سمعته ، فإنّه لا يكون بذلك محدّثا له ، وإنّما أجاز التحدّث له ، وليس له أن
يحدّث به عنه ، لأنّه يكون كاذبا.
ولو سمع الشيخ نسخة
من كتاب مشهور فليس له أن يشير إلى نسخة أخرى من ذلك الكتاب ويقول : سمعت هذا
لاختلاف النسخ ، إلّا مع العلم بالاتّفاق.
السابعة : الإجازة
، وهي أن يقول الشيخ لغيره : قد أجزت لك أن تروي
ما صحّ عنّي من
أحاديثي ، أو : قد أجزت لك أن تروي عنّي الكتاب الفلاني.
واعلم أنّ ظاهر
الإجازة يقتضي أنّ الشيخ أباح له أن يحدّث عنه بما لم يحدّثه به ، وذلك إباحة
الكذب لكن في العرف يجري مجرى أن يقول : ما صحّ عندك أنّي سمعته فاروه عني.
وقد اختلفوا في جواز الرواية بالإجازة ، فجوّزه أصحاب الشافعي وأحمد بن
حنبل وأكثر المحدّثين ، واتّفقوا على تسليط الراوي على قوله : أجاز لي فلان كذا ،
وحدّثني إجازة ، وأخبرني إجازة.
وهل له أن يقول :
حدّثني وأخبرني مطلقا؟ فالّذي عليه الأكثر عدم الجواز ، لأنّ ذلك مشعر بنطق الشيخ
بذلك ، وهو كذب.
وقال أبو حنيفة
وأبو يوسف : لا تجوز الرواية بالإجازة مطلقا.
وقال أبو بكر
الرازي من الحنفية : إن كان المجيز والمجاز له قد علما ما في الكتاب الّذي أجاز له
روايته ، جازت روايته بقوله : أخبرني وحدّثني. وكذا لو كتب إنسان صكّا والشهود
يشاهدونه وقال : اشهدوا علي بجميع ما في هذا الصك ، جاز لهم إقامة الشهادة عليه
بما في ذلك الكتاب ، وإلّا فلا.
احتجّ الأوّلون بأنّ المجيز عدل ثقة ، والظاهر أنّه لم يجز إلّا ما علم
أنّه يرويه ، وإلّا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقا ، وهو بعيد عن العدل. وإذا
علمت الرواية أو ظنت جازت الرواية عنه ، كما لو كان هو القارئ.
__________________
اعترض بأنّ المحدث لم يوجد منه فعل الحديث ولا ما يجري مجرى فعله
، فلم يجز أن يقول الراوي عنه : أخبرني ، ولا حدّثني ؛ لأنّه يكون كذبا ، ولأنّه
قادر على أن يحدّث به ، فحيث ما حدث به دلّ على أنّه غير صحيح عنده.
وأجيب بانتقاض ذلك
بما إذا كان الراوي عن الشيخ هو القارئ ، فإنّه لم يوجد من الشيخ فعل الحديث ، ولا
ما يجري مجراه وهو قادر على القراءة بنفسه ، ومع ذلك فإنّه يجوز للراوي أن يقول :
أخبرني وحدّثني حيث كانت قراءته عليه مع السكوت دليل صحّة الحديث.
وكذا الخلاف في ما
إذا ناوله كتابا فيه حديث هو سماعه وقال : قد أجزت لك أن تروي عني ما فيه ، وله أن
يقول : ناولني فلان كذا ، وأخبرني ، أو حدّثني مناولة.
وكذا الحكم لو كتب
إليه الحديث وقال : قد أجزت لك روايته عنّي ، فإنّه يدلّ على صحّته ، وتسليط
الراوي على أن يقول : كاتبني بكذا ، وحدّثني أو أخبرني بكذا مكاتبة.
ولو اقتصر على
المناولة أو الكتابة دون لفظ الإجازة لم يجز له الرواية ، إذ ليس في الكتابة
والمناولة ما يدلّ على تسويغ الرواية عنه ولا على صحّة الحديث في نفسه.
__________________
تذنيبات :
الأوّل : نقل
السيد المرتضى عن بعض الناس أنّه منع الراوي من لفظ الجمع إذا كان قاطعا على أنّه
ما حدّث غيره ، فلا يقول : حدّثنا وأخبرنا. وضعّفه السيد ، لجواز أن يأتي بلفظ الجمع
على سبيل التعظيم ، كما يقول الملك : فعلنا وصنعنا.
الثاني : لو قرأ
الحديث على الشيخ فقرّره عليه فأقرّ به على ما قرأه عليه جوّز المرتضى العمل به تفريعا على العمل بخبر الواحد ، ويعلم أنّه حدّثه
وأنّه سمعه لإقراره له بذلك ، ولا يجوز أن يقول : حدّثني ولا أخبرني ، كما لا يجوز
[أن يقول :] سمعت ، لأنّ معنى حدّثني وأخبرني أنّه نقل حديثا وخبرا عن ذلك ، وهذا
كذب محض. قال : وكيف يمتنع سمعت دون حدّثني وأخبرني ، ومن خبّر وحدّث لا بدّ أن
يكون سامعا.
وأجاب عن جواز
الشهادة بالإقرار بالبيع إذا أقرّا عليه وأشهد على نفسه بما فيه بعد تسليمه بأنّ
إقراره به وقراءته عليه لا يقتضيان أن يكذب ، فيقول : حدّثني ولم يحدّثه ، أو
أخبرني ولم يخبره ، كما لا يقتضيان أن يقول : سمعت ، وإنّما يقتضي ذلك الثقة بأنّه
حديثه وسماعه وروايته.
__________________
والشاهد لا يحسن
منه أن يقول : حدّثني ، أو سمعت لفظه ، بل يشهد على إقراره واعترافه.
وللراوي أن يقول
كالشاهد : اعترف لي أنّه سمعه ورواه على ما قرأته عليه ، وليس له أن يقول : حدّثني
وأخبرني.
قال : وقول بعضهم
يجب أن يقول : «حدّثني قراءة عليه» حتى يزول الإبهام ، ويعلم أنّ لفظة : حدّثني
ليست على ظاهرها ، فمناقضة ، لأنّ قوله : حدّثني يقتضي أنّه سمعه من لفظه ، وأدرك
نطقه به ، وقوله : قراءة عليه يقتضي نقض ذلك ، فكأنّه نفى ما أثبت.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع اقتضاء حدّثني حال انضمامها إلى لفظة قراءة أنّه سمعه من لفظه وأدرك نطقه به.
الثالث : قال
السيد : الإجازة لا حكم لها ، لأنّ ما للمتحمّل أن يرويه ، له ذلك أجازه أو لم
يجزه ، وما ليس له أن يرويه محرّم عليه مع الإجازة وفقدها ، وليس لأحد أن يجري
الإجازة مجرى الشهادة على الشهادة في أنّها تفتقر إلى أن يحملها شاهد الأصل لشاهد
الفرع ، لأنّ الرواية بالإجماع لا يحتاج فيها إلى ذلك ، وأنّ الراوي يروي ممّا
سمعه وإن لم يحمله ، والرواية تجري مجرى شهود الأصل في أنّهم يشهدون وإن لم يحملوا.
__________________
قال : و [أمّا] من
يفصل في الإجازة بين حدّثني وأخبرني ، فغير مصيب ، لأنّ كلّ لفظ من ذلك كذب ، لأنّ
المخبر ما خبّر كما أنّه ما حدّث.
البحث الثالث عشر
: في انفراد الراوي بالزيادة
إذا روى اثنان أو
جماعة خبرا وانفرد أحدهم بزيادة لم يروها الآخر ولا تخالف الزيادة المزيد عليه ؛
كما لو روى جماعة أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم دخل البيت ، وزاد بعضهم وصلّى ، وهما ممّن يقبل روايتهما ،
فإن تغاير المجلس قبلت الزيادة ؛ فإنّه لا يمتنع أن يكون الرسول في وقت دخل ولم
يصل ودخل في وقت آخر وصلّى ، أو أنّه دخل وصلّى لكن البعض أهمل نقل الصلاة ونقلها
الآخر.
وكذا لا يمتنع أن
يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قال في مجلس سئل فيه عن ماء البحر : هو الطهور ماؤه ، ثم
قال في مجلس آخر سئل فيه عن ذلك بعينه ثم زاد الحل ميته ؛ وإذا كان كذلك فعدالة
الراوي تقتضي قبول قوله ، ولم يوجد ما يقدح فيه ، فوجب قبوله.
وإن اتّحد المجلس
فالذين لم يرووا الزيادة إن كانوا عددا لا يجوز أن يذهلوا عمّا يضبطه الواحد ، لم
تقبل الزيادة ، وحملت رواية راويها على سهوه وأنّه قد سمعها من غير النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وظن أنّه سمعها منه. هذا إن نفوا
__________________
الزيادة ، وإلّا
فالوجه القبول لوجود المقتضي للقبول ، وهو رواية العدل السالم عن معارضة التكذيب.
وإن كانوا عددا
يجوز أن يذهلوا عن ضبط ما رواه الواحد ، فإن لم تكن الزيادة مغيّرة لإعراب الباقي
قبلت ، إلّا أن يكون الممسك عنها أضبط من الراوي لها. وبه قال جماعة الفقهاء
والمتكلّمين ، وقال بعض المحدثين وأحمد في رواية : لا تقبل.
لنا : إنّ عدالة الراوي لها يقتضي قبول خبره ، وإمساك الراوي
الثاني عن روايتها لا يقدح فيه ، لاحتمال عروض سهو له حال ذكر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم تلك الزيادة ، أو عروض شغل قلب بفكر وغيره أو عطاس أو دخول
إنسان أو الالتفات إلى محدث له إلى غير ذلك من الشواغل. وإذا وجد المقتضي السالم
عن المعارض وجب القبول.
لا يقال : كما
يجوز السهو على الممسك يجوز على الراوي.
لأنّا نقول : لا
نزاع في الجواز لكن راوي الزيادة أبعد عن السهو ، فإنّ ذهول الإنسان عمّا سمعه
أكثر من توهّمه في ما سمع أنّه سمعه. نعم لو صرّح الممسك بنفي الزيادة ، وقال :
إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم وقف على قوله : «هو الطهور ماؤه» وانتظرته فلم يأت بعده بكلام حصل التعارض ورجع إلى الترجيح.
__________________
لا يقال : لعلّ
راوي الزيادة سمعها من غير الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فتوهّمها منه ، وليس حمل إهمال الممسك على السهو أولى من
هذا السهو ، أو لعلّ راوي الزيادة ذكرها على سبيل التأويل والتفسير فظنّ السامع
أنّها زيادة في الحديث المروي ، كما روى ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه نهى عن بيع الطعام قبل أن يستوفي ، قال ابن عباس : ولا أحسب غير الطعام إلّا كالطعام ،
فأدرجه بعض الرواة في الحديث.
وكذلك ما روي عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال : «فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت
الفريضة» ، فظنّ الراوي أنّ الاستئناف إعادة الفرض في المائة الأولى
، فقال : في كلّ خمس شاة ، فأدرج ذلك في كلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم. ومع تعارض الاحتمالات فليس العمل بالزيادة أولى من تركها ،
بل الترجيح للترك بوجهين :
الأوّل : احتمال
تطرق السهو والغلط على الواحد أكثر من احتمال تطرّقه إلى الجماعة.
الثاني : الترك
على وفق النفي الأصلي والإثبات على خلافه ، فكان أولى.
__________________
والجواب : بعيد
حمل الرواية على التأويل ، فإنّ الظاهر من حال العدل أنّه لا يدرج في كلام النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ما ليس منه ، لأنّه تدليس ، ولو جوّز ذلك لجاز في كلّ
حديث.
والترجيح الأوّل
للترك لا يطّرد على تقدير تساويهما ، والثاني ينتقض بما لو كانت الزيادة مقتضية
لنفي حكم لولاه لثبت.
وإن كانت الزيادة
مغيّرة لإعراب الباقي كما لو روى أحدهما : أدّوا عن كلّ نسمة صاعا من بر» وروى
الآخر : «نصف صاع من بر» لم تقبل ، خلافا لأبي عبد الله البصري ، لحصول التعارض ، إذ الصاع معربا بالنصب غير الصاع معربا
بالجر ومعارض له وضده ، فيرجع إلى الترجيح.
تذنيب
لو اتّحد راوي
الزيادة ومسقطها فروى الحديث مرة مع الزيادة وأخرى بدونها ، فإن أسندهما إلى
مجلسين قبلت ، سواء تضاد الإعراب أو لا.
وإن اتّحد المجلس
فإن غيّرت الإعراب تعارضت روايتاه كما تتعارض روايتا الراويين ؛ وإن لم تغيّره ،
فإن كان عدد روايته للزيادة أقل من عدد إمساكه لم تقبل ، لأنّ حمل الأقلّ على
السهو أولى من حمل الأكثر عليه ،
__________________
إلّا أن يقول سهوت
في تلك المرات وتذكّرت هذه المرة ، فهنا يرجّح الأقل على الأكثر لأجل التصريح.
وفيه نظر ، لأنّ
السهو عمّا سمع أقرب من السهو في ما لم يسمعه أنّه قد سمعه ، فيتعارض الترجيحان من
الطرفين ويرجع إلى غيرهما.
وإن كان عدد
الزيادة أكثر قبل ، لأنّ حمل الأقل على السهو أولى ، ولأنّ حمل السهو على نسيان ما
سمعه أولى من حمل السهو على توهم أنّه سمع ما لم يسمع.
وإن تساويا قبلت
الزيادة ، لأنّ هذا السهو أولى من ذلك.
تنبيه
إذ سمع الراوي
حديثا وأراد نقل بعضه وحذف البعض ، فإن كان المحذوف لا يتعلّق به شيء من الباقي
جاز ذلك إجماعا ، لأنّه بمنزلة أخبار متعدّدة ، ومن سمع أخبارا متعدّدة فله رواية
البعض ، وإن كان الأولى نقل الخبر بتمامه ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها فأدّاها كما سمعها».
وإن كان للباقي به
تعلّق كأن يشتمل على ذكر غاية ، مثل نهيه عن بيع
__________________
الثمار حتى تزهى ؛
أو على شرط ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من بدّل دينه فاقتلوه» ، أو استثناء كقوله : «لا تبيعوا البر بالبر إلّا سواء بسواء»
لم يجز حذف البعض الّذي هو الشرط والغاية والاستثناء ، لتغيّر الحكم حينئذ
ويلزم منه تبديل الشرع.
__________________
المقصد الحادي عشر
في القياس
وفيه فصول :
الأوّل :
في ماهيته وأركانه
وفيه مباحث :
الأوّل : في
الماهية
القياس لغة :
التقدير ، يقال : قست الأرض بالقصبة وقست الثوب بالذراع : أي قدّرته بذلك ، وهو من
الأمور النسبية فيستدعي أمرين يضاف أحدهما إلى الآخر بالمساواة.
وأمّا في الاصطلاح
الجاري بين الفقهاء فيقال لمعنيين :
الأوّل : قياس
العكس ، وهو عبارة عن تحصيل نقيض حكم معلوم في غيره لافتراقهما في علّة الحكم ؛
كما يقال : لو لم يكن الصوم شرطا في الاعتكاف لم يكن شرطا له عند نذره أن يعتكف
صائما كالصلاة فإنّها لمّا لم تكن شرطا في الاعتكاف لم تكن شرطا له إذا نذر أن
يعتكف مصلّيا ، والأصل الصلاة والفرع الصوم ، وحكم الصلاة أنّها ليست شرطا في
الاعتكاف والثابت في الصوم نقيضه وهو أنّه شرط ، وقد افترقا في العلّة الّتي
لأجلها لم تكن
الصلاة شرطا في الاعتكاف انّها لم تكن شرطا فيه حالة النذر ، وهذه العلّة غير
موجودة في الصوم ، لأنّه شرط في الاعتكاف حالة النذر إجماعا.
الثاني : قياس
الطرد ، وقد اختلف في حدّه فقال بعضهم : إنّه إصابة الحق. ويبطل بإصابة الحق بالكتاب
والسنّة والإجماع ، ولأنّ إصابة الحق نتيجة القياس لا نفسه.
وقال آخرون : إنّه
بذل الجهد في استخراج الحق. ويبطل بما تقدّم.
وقيل : إنّه عبارة
عن التشبيه ، ويلزم منه أن يكون تشبيه أحد الشيئين بالآخر في المقدار وفي بعض صفات
الكيفيات كاللون والطعم قياسا شرعيا.
وقيل : إنّه
الدليل الموصل الى الحق ويبطل بالأدلّة كلّها.
وقال أبو هاشم :
إنّه عبارة عن حمل الشيء على غيره ، وإجراء حكمه عليه.
وليس بجامع لخروج
القياس الّذي فرعه معدوم ممتنع لذاته ، فأنّه ليس بشيء ؛ ولأنّ حمل الشيء على غيره
وإجراء حكمه عليه قد يكون من غير جامع ، فلا يكون قياسا.
وقال القاضي عبد
الجبار : إنّه حمل الشيء على الشيء في بعض أحكامه بضرب من التشبيه ، وهو باطل بما
تقدّم.
وقال أبو الحسين
البصري : إنّه تحصيل حكم الأصل في الفرع
__________________
لاشتباههما في
علّة الحكم عند المجتهد. وقصد بذلك حدّ مطلق القياس.
ثمّ اعترض على
نفسه بأنّ الفقهاء يسمّون قياس العكس قياسا؟ وليس هو تحصيل حكم الأصل في الفرع
لاشتباههما في علة الحكم ، بل هو تحصيل نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علّة
الحكم.
وأجاب بأنّ تسمية
قياس العكس قياسا من باب المجاز لفوات خاصية القياس فيه ، وهو إلحاق الفرع بالأصل
في حكمه لما بينهما من المشابهة.
وأورد على حدّه :
أنّ الحاصل في الفرع ليس نفس حكم الأصل بل مثله ، ولأنّ تحصيل حكم الأصل في الفرع
هو حكم الفرع ، ونتيجة القياس ونتيجة الشيء لا تكون هي نفسه.
وفيه نظر ، فإنّ
حكم الأصل لمّا كان مساويا لحكم الفرع في النوع صحّ إطلاق الوحدة عليهما ، وقد
يعرف الشيء بغايته ، كما يقال : الكوز آلة يشرب بها الماء ، والكرسي ما يجلس عليه.
وقال القاضي أبو
بكر واختاره جمهور الأشاعرة : إنّه حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما ، أو نفيه
عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أو صفة أو نفيهما عنه.
ذكر المعلوم
ليتناول الموجود والمعدوم ، والقياس يجري فيهما ، ولم
__________________
يذكر الشيء
لاختصاصه بالموجود ، ولو ذكر الفرع أوهم اختصاصه بالموجود.
وأيضا فلا بدّ من
معلوم ثان يكون أصلا ، لأنّ القياس التسوية ، وإنّما يتحقّق بين أمرين ، ولأنّه لو
لا الأصل كان إثبات الحكم في الفرع بمجرّد الحكم. وأيضا الحكم قد يكون نفيا وقد
يكون إثباتا ، وأيضا الجامع قد يكون حقيقيا وقد يكون حكما شرعيا ، وكلّ منهما قد
يكون نفيا وقد يكون إثباتا ، والحد منطبق على الجميع.
واعترض عليه من
وجوه :
الأوّل : إن أردت
بحمل أحدهما على الآخر إثبات مثل حكم أحدهما للآخر كان قوله : «في إثبات حكم لهما
أو نفيه عنهما» تكرارا من غير فائدة ، وإن أردت غيره فبيّنه ، والتكرار والخفاء
محذّر عنهما في الحد.
وبتقدير أن يكون
المراد منه شيئا آخر ، لا يجوز ذكره في تعريف القياس ، لتمام ماهية القياس من دونه
، فيكون زائدا لا يجوز ذكره في الحد.
الثاني : قوله : «في
إثبات حكم لهما» يشعر باستناد الحكم في الأصل والفرع إلى القياس ، وهو باطل ؛ فإنّ
القياس فرع ثبوت الحكم في الأصل ، فلو كان ثبوته في الأصل فرعا عليه دار.
الثالث : الثابت
بالقياس أعمّ من أن يكون حكما أو صفة ، كقولنا : الله تعالى عالم ، فله علم قياسا
على الشاهد ، فالصفة إن اندرجت في الحكم لزم
__________________
التكرير في قوله
من حكم أو صفة ، لأنّ الصفة أحد أقسام الحكم ؛ وإن لم يندرج كان التعريف ناقصا ،
لأنّه ذكر ثبوت الحكم وعدمه ولم يذكر ثبوت الصفة وعدمها ، فلا يخلو عن الزيادة أو
النقصان.
الرابع : المعتبر
في ماهية القياس إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر بجامع مطلقا ولا يتعرض في الحد
لجزئيات الجامع من كونه حكما أو صفة ونفيا للحكم أو الصفة لوجود ماهية القياس
منفكة عن كلّ واحد من تلك الجزئيات وإن كان لا بدّ له من قسم ما ، وما ينفك عنه
الماهية لا يعتبر في تحقّق الماهية.
ولأنّ الجزئيات لو
وجب ذكرها في الحد لوجب ذكر جميع الجزئيات. والجامع كما ينقسم إلى الحكم والصفة
ونفيهما فكذا ينقسم إلى الوجوب والحظر وغيرهما ، والوجوب ينقسم إلى الموسع والمضيق
والمخير والمعين وغير ذلك.
الخامس : كلمة أو
للإبهام ، وماهية كلّ شيء معينة ، والإبهام ينافي التعيين فلا يجوز ذكره في الحد.
لا يقال : كونه
بحيث يلزمه أحد هذه الأمور حكم معيّن.
لأنّا نقول :
فالمعتبر في الماهية ملزوم هذه الأمور ، وهو كونه جامعا من حيث إنّه جامع فيكون
ذكر الزوائد لغوا.
السادس : القياس
الفاسد نوع من مطلق القياس ، لأنّه قابل للتقسيم إليهما ؛ ولأنّه قياس مع كيفية
فيكون قياسا ، وهو خارج عن التعريف ، لأنّ
قوله : «بأمر جامع»
يختص بالقياس الصحيح ، فيجب أن يقال : «بأمر جامع في ظن المجتهد» فإنّ القياس
الفاسد حصل فيه الجامع في ظنّ المجتهد ، وإن لم يحصل في نفس الأمر.
وأجيب عن الأوّل : أنّ المراد من الحمل التشريك بينهما في حكم أحدهما مطلقا
، وقولنا : «في إثبات حكم أو نفيه» إشارة إلى ذكر تفاصيل ذلك الحكم وأقسامه ،
وذكرها بيانا لا يكون تكرارا.
وفيه نظر ، فإنّ
التشريك والحمل واحد.
وعن الثاني : أنّ
القياس مركّب من أصل وفرع وجامع ، وحكم الأصل لا يستند في ثبوته ونفيه إلى مجموع
هذه الأمور لعدم توقّفه على نفسه ولا على الفرع ، بل يتوقّف على الوصف الجامع وهو
العلة حيث إنّ الشرع لم يثبت الحكم في الأصل إلّا بناء عليه ولهذا قيل في الحد : «في
إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع» والوصف الجامع ركن في القياس ، وليس هو
نفس القياس ، فلا يكون ثبوت الحكم في الأصل ولا نفيه بالقياس ، بل بالعلّة وليست
هي نفس القياس ، والثابت والمنفي بالقياس إنّما هو حكم الفرع لا غير.
وفيه نظر ، لأنّا
منعنا من استناد حكم الأصل إلى القياس ، فلهذا اعترضنا على الحدّ بأنّه يشعر بنقيض
ذلك.
وعن الثالث : أنّ
الحد إنّما هو للقياس الشرعي ، وليست الصفة حكما شرعيا.
__________________
وعن الرابع : أنّ
ذكر أقسام الجامع وإن لم يكن شيء منها داخلا في ماهية القياس ، لكنّه ليس لتوقّف
مفهوم القياس عليه ، بل للمبالغة في الكشف والإيضاح بذكر الأقسام.
وفيه نظر ، لأنّ
الجزئيات أخفى من الكلّي ، ولأنّ ما ليس جزء لا يجوز ذكره في الحد ، ولأنّ الجزء
أظهر من كلّ شيء.
وعن الخامس : أنّ
التحديد والتعريف قد تمّ بقولنا : «حمل معلوم على معلوم بأمر جامع بينهما» وما وقع
فيه الترديد بحرف أو ذكر لزيادة البيان.
وعن السادس : أنّ
المراد تحديد الصحيح ثمّ اعترض على الحد بأنّ الحكم في الفرع نفيا وإثباتا فرع على
القياس إجماعا وليس ركنا في القياس ، لأنّ نتيجة الدليل لا تكون ركنا فيه وإلّا
لزم الدور ، فيلزم من أخذ إثبات الحكم في الفرع ونفيه عنه في حد القياس أن يكون
ركنا فيه وهو ممتنع ، وقد أخذه حيث قال : «في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما» وهو
إشارة إلى الفرع والأصل.
ثمّ جعلوا الحد
أنّ القياس استواء بين الفرع والأصل في العلّة المستنبطة وحكم الأصل. ويبطل بما ذكره فإنّ الاستواء في حكم الأصل عبارة عن ثبوت
الحكم في الفرع ، فإن ورد عليه الدور ورد على حدّه ، ثمّ يخرج منه القياس المنصوص
على علّته.
__________________
وقيل : إنّه عبارة عن إثبات مثل حكم معلوم لمعلوم آخر لأجل
اشتباههما في علّة الحكم عند المثبت.
فالإثبات يراد به
القدر المشترك بين العلم والاعتقاد والظن ، سواء تعلّقت هذه الثلاثة بثبوت الحكم
أو بعدمه ، وقد يطلق الإثبات ويراد به الخبر باللسان ، لدلالته على الحكم الذهني.
وأمّا تصوّر المثل
فبديهي ، لعلم كلّ أحد بمماثله الحار للحار ومخالفته للبارد ، ولو لم يحصل تصور
ماهية التماثل والاختلاف إلّا بالاكتساب ، لكان الخالي عن ذلك الاكتساب خاليا عن
ذلك التصور ، فيكون خاليا عن هذا التصديق.
ولمّا علمنا أنّ
قبل كلّ اكتساب نعلم بالضرورة هذا التصديق المتوقّف على ذلك التصوّر ، علمنا أنّ
حصول ذلك التصور غنيّ عن الاكتساب.
والحكم قد مر
تعريفه.
ولا نعني بالمعلوم
متعلّق العلم فقط ، بل والاعتقاد والظن لإطلاق الفقهاء العلم على هذه الأمور.
وسيأتي تعريف
العلّة. وقولنا : «عند المثبت» ليشتمل [على] الصحيح والفاسد.
لا يقال : ينتقض
بقياس العكس وقياس التلازم كقولنا : إن كان هذا
__________________
إنسانا فهو حيوان
ثمّ يستثني العين للعين أو النقيض للنقيض ، وبالمقدّمتين ، والنتيجة مثل كلّ جسم
مؤلّف وكلّ مؤلّف محدث.
فإن منعتم اسم
القياس في التلازم والمقدمتين ، لأنّه عبارة عن التسوية ولا تحصل إلّا عند تشبيه
صورة بأخرى ، وهو منفي عن التلازم والمقدّمتين مع النتيجة.
قلنا : التسوية
حاصلة ، لأنّ الحكم في كلّ من المقدّمتين معلوم ، وفي النتيجة مجهول ، فاستلزام
المطلق من المقدّمتين يوجب صيرورة الحكم المطلوب مساويا للحكم في المقدّمتين في
صفة المعلومية.
لأنّا نقول : قياس
العكس في الحقيقة تمسّك بنظم التلازم ، وإثبات لإحدى مقدّمتي التلازم بالقياس ،
فإنّا نقول لو لم يكن الصوم شرطا للاعتكاف لم يصر شرطا له بالنذر ، لكنّه يصير
شرطا له بالنذر ، فهو شرط له مطلقا فهو تمسك بنظم التلازم ، واستثناء لنقيض اللازم
لانتاج نقيض الملزوم ثمّ يثبت الشرطية بالقياس ، لأنّ ما لا يكون شرطا للشيء في
نفسه لم يصر شرطا له بالنذر كما في الصلاة ، وهو قياس طردي. ويمنع في التلازم وفي
المقدمتين مع النتيجة القياسية.
ولو كفى هذا الوجه
في إطلاق اسم القياس لوجب أن يسمّى كلّ دليل به ، فإنّ المتمسّك بالنص يجعل مطلوبه
به مساويا للنص في المعلومية ، ولو صحّ ذلك لامتنع أن يقال ثبت الحكم في محل النصّ
بالنص ، بل بالقياس.
ولو أريد تعريف
القياس ، قيل : إنّه قول مؤلّف من أقوال إذا سلّمت لزم عنها لذاتها قول آخر.
البحث الثاني : في
أركانه
قد عرفت أنّ
القياس هو تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع بعلّة متّحدة فيهما ، فلا تتحقّق ماهيته
إلّا بهذه الأمور الأربعة ، لأنّه نسبة بين شيئين هي التساوي لا من كلّ وجه ، بل
في الحكم الشرعي لا مجازا ، بل لجامع صالح للتعليل فالأمور الأربعة ضرورية :
أ. الأصل ، ب.
الفرع ، ج. العلّة ، د. الحكم. فإذا قسنا النبيذ على الخمر في التحريم فأصل القياس
إمّا أن يكون هو الحكم الثابت في الخمر ، أو علّة ذلك الحكم ، أعني : الباعث عليه
وهو الإسكار المناسب له ، أو النصّ الدال على ثبوت ذلك الحكم.
فالفقهاء جعلوا
الأصل اسما لمحلّ الحكم المنصوص عليه ، وهو الخمر ؛ والمتكلّمون جعلوه اسما للنصّ
الدال على ثبوت ذلك الحكم.
ويضعف قول الفقهاء
بأنّ أصل الشيء ما تفرع عليه غيره ، والحكم المطلوب إثباته في النبيذ ليس
متفرعا عن الخمر ، لأنّ الخمر لو لم يوجد فيه ذلك الحكم وهو التحريم لم يمكن تفريع
التحريم في النبيذ عليه ؛ ولو وجد ذلك الحكم في صورة أخرى ولم يوجد في الخمر أمكن
تحريم النبيذ عليه ، فالحكم المطلوب إثباته غير متفرّع على الخمر ، بل على الحكم
الحاصل فيه.
__________________
ويضعف قول
المتكلّمين من هذا الوجه ، لأنّا لو قدّرنا علمنا بحرمة الخمر
بالضرورة أو بالعقل أمكننا تفريع حكم النبيذ عليه ، ولو قدّرنا أنّ النصّ لم يدل
على الحرمة في صورة خاصة لم يمكن أن نفرّع عليه حكم النبيذ تفريعا قياسيا ، وان
أمكن تفريعا نصّيّا. وإذا كان كذلك لم يكن النصّ أصلا للقياس ، بل لحكم محل الوفاق
، فبقي أن يكون هو الحكم الثابت في محل الوفاق ، أو علّة ذلك الحكم.
إذا عرفت هذا
فنقول : الحكم أصل في محل الوفاق فرع في محل الخلاف ، والعلة فرع في محل الوفاق
أصل في محل الخلاف. فإنّا ما لم نعلم ثبوت الحكم في محلّ الوفاق لا نطلب علّته ،
وقد يعلم ذلك الحكم ولا يطلب علّته أصلا ، فلمّا توقّف إثبات علّة الحكم في الوفاق
على إثبات ذلك الحكم ، ولم يتوقّف إثبات الحكم على إثبات علّته ، كانت العلّة فرعا
على الحكم في محل الوفاق ، والحكم أصلا فيه.
وأمّا في محلّ
الخلاف فما لم نعلم حصول العلّة فيه ، لا يمكننا إثبات الحكم فيه ولا ينعكس ،
فكانت العلة أصلا في محلّ الخلاف والحكم فرعا فيه.
ولا يخلو قول
الفريقين من وجه ، لأنّه ثبت أنّ الحكم الحاصل في محل الوفاق أصل ، وثبت أنّ النص
أصل لذلك الحكم ، فالنص أصل أصل الحكم المطلوب ، وأصل الأصل أصل ، فجاز تسمية النص
بالأصل. كما قال المتكلّمون.
__________________
ولأنّ الحكم الذى
هو الأصل محتاج إلى محلّه ، فكان محلّ الحكم أصلا للأصل ، فجاز أن يسمّى أصلا كما
قال الفقهاء ، لكن تسمية العلّة في الفرع أصلا أولى من تسمية محل الحكم في الأصل
الّذي هو محلّ الوفاق أصلا ، لأنّ العلّة مؤثّرة في الحكم ، والمحلّ غير مؤثّر في
الحكم ، فجعل علّة الحكم أصلا له أولى من جعل محل الحكم أصلا له ، لأنّ التعلّق
الأول أقوى من الثاني.
وفيه نظر ، فإنّ
مطلق العلّة ليس هو المؤثّر ، بل العلّة المؤثّرة ومطلق العلّة شامل للمحل ، لأنّه
علّة قابلة ، كما أنّ المؤثر علّة فاعلة.
واعلم أنّ الأصل
ما يبنى عليه غيره ، كقولنا : معرفة الله تعالى أصل في معرفة الرسالة ، من حيث إنّ
معرفة الرسول تبنى على معرفة المرسل.
ويقال أيضا : لمّا
عرف بنفسه من غير افتقار إلى غيره ، كما نقول في تحريم الخمر أنّه أصل ، لأنّه لا
يفتقر إلى غيره.
فحينئذ حصل الخلاف
في الأصل ما هو؟ هل هو النصّ ، أو الخمر ، أو الحكم الثابت في الخمر وهو التحريم
مع الاتّفاق على أنّ العلة في الخمر وهي الشدّة المطربة ليست هي الأصل؟ .
فعند المتكلّمين
أنّه النّص الدالّ على تحريم الخمر كما تقدّم ، لأنّه الّذي يبنى التحريم عليه.
وعند الفقهاء :
الخمر ، لأنّ الأصل ما كان حكم الفرع مردودا إليه
__________________
ومقتبسا منه ، وهو
إنّما يتحقّق في الخمر.
وقال آخرون : إنّه
الحكم الثابت في الخمر ، لأنّ الأصل ما يبنى عليه غيره وكان العلم به موصلا إلى
العلم بغيره ، وهذه الخاصية موجودة في حكم الخمر لا النص ، لأنّه الطريق الموصل
إلى العلم بالحكم ولا الخمر ، لأنّا قد نعلم الخمر ، ولا نعلم أنّ الحرمة ثابتة
فيه ، ولا في الفرع ، بخلاف ما إذا علم الحكم ، وهذا النزاع لفظي.
وأمّا الفرع فعند
الفقهاء عبارة عن محلّ الخلاف ، وعند الآخرين الحكم المطلوب إثباته ، لأنّ محل
الخلاف غير متفرّع على الأصل ، بل الحكم المطلوب إثباته فيه هو المتفرّع عليه.
واعلم أنّ إطلاق
لفظ الأصل على محلّ الوفاق أولى من إطلاق لفظ الفرع على محلّ الخلاف ، لأنّ محلّ
الوفاق أصل أصل ، لأنّه أصل للحكم الحاصل فيه ، لأنّه محل والحكم فيه أصل للقياس ،
فالمحل أصل أصل القياس.
وأمّا محلّ الخلاف
فإنّه أصل فرع ، لأنّه أصل للحكم المطلوب إثباته فيه ، وذلك الحكم فرع للقياس فكان
أصل فرع القياس ، وإطلاق اسم الأصل على أصل الأصل أولى من إطلاق اسم الفرع على أصل
الفرع.
إذا عرفت هذا
فالمباحث الآتية إنّما هي على مصطلحات الفقهاء في أنّ الأصل محلّ الوفاق ، والفرع
محلّ الخلاف.
وأمّا العلّة فهي
الوصف الجامع بين الأصل والفرع كالإسكار في
التحريم وجوهر
الثمنية أو الكيل والوزن أو الطعم في تحريم الربا.
واعلم أنّ هذا
الوصف الجامع بين الأصل والفرع قد يكون باعثا على الحكم ، وقد يكون أمارة عليه على
ما سيأتي. وأمّا الحكم فهو المطلوب إثباته في الفرع من الأحكام الشرعية الخمسة
الّتي هي الوجوب ومقابلاته أو الثابتة بخطاب الوضع كالصحة والبطلان وغيرهما.
البحث الثالث : في
تقسيم القياس
وهو على ستة أوجه :
الأوّل : قسمته
بالنسبة إلى العلم والظن ، والقياس إمّا قطعي أو ظني.
أمّا القطعي ، فهو
ما كانت مقدّماته قطعية ، ولا خلاف في وجوب العمل به. فإنّا إذا اعتقدنا اعتقادا
يقينيا أنّ الحكم في محلّ الوفاق معلل بوصف ، ثمّ علمنا حصول ذلك الوصف بتمامه في
محل النزاع حصل لنا اعتقاد يقيني بأنّ الحكم في محل النزاع كالحكم في محل الوفاق.
ولو كانت
المقدّمتان ظنيتين أو إحداهما ، فالنتيجة ظنية ، فإن كان في الأمور الدنيوية كان
حجّة عند الجميع ، وإن كان في الأحكام الشرعية فقد اختلفوا فيه على ما يأتي.
ومعنى قولنا :
إنّه حجّة أنّه إذا حصل ظن تساوي الصورتين في الحكم
__________________
كان مكلّفا بالعمل
به ومفتيا غيره ، ومن نفى كونه حجّة منع منهما.
واعلم أنّ الجمع
بين الأصل والفرع تارة يكون بإلغاء الفارق ، ويسمّى تنقيح المناط.
وتارة يكون
باستخراج الجامع ، وهنا لا بدّ من بيان أنّ الحكم في الأصل معلّل بكذا ، ثمّ من
بيان وجود ذلك المعنى في الفرع ، ويسمّى الأوّل : تخريج المناط ، والثاني : تحقيق
المناط.
الثاني : قسمته
بالنسبة إلى أولوية الحكم في الفرع وعدمها.
وتقريره : أنّ
المعنى الجامع بين الأصل والفرع إمّا أن يكون اقتضاؤه للحكم في الفرع أولى منه في
الأصل ، أو يكون مساويا ، أو أدنى.
فالأول كتحريم
الضرب بالنسبة إلى تحريم التأفيف وما في معناه ، وسواء كان قطعيا أو ظنيا.
والثاني كما في
إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق.
والثالث مثل إلحاق
النبيذ بالخمر في التحريم. وهذا الثالث قد وقع الإجماع على أنّه قياس ، واختلفوا
في الأوّلين ، فقيل : إنّهما قياس ، وقيل : إنّهما ليسا بقياس.
الثالث : القياس
إمّا جليّ ، أو خفيّ.
__________________
فالجليّ ما كانت
العلّة فيه منصوصة أو غير منصوصة ، إلّا أنّ الفارق بين المقيس والمقيس عليه مقطوع
بنفي تأثيره ؛ فالأول كإلحاق تحريم ضرب الأبوين بتحريم التأفيف بعلّة كف الأذى
عنهما ؛ والثاني كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب حيث عرفنا أنّه لا فارق
بينهما سوى الذكورة في الأصل والأنوثة في الفرع ، وعلمنا عدم التفات الشارع إلى
هذا الفارق في أحكام العتق وإن التفت إليه في غيره.
وأمّا الخفيّ فهو
ما كانت العلّة فيه مستنبطة من حكم الأصل كقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد.
الرابع : القياس
إمّا مؤثر أو ملائم. فالمؤثر يطلق باعتبارين :
الأوّل : ما كانت
العلّة الجامعة فيه منصوصة بالصريح ، أو بالإيماء ، أو مجمعا عليها.
الثاني : ما أثر
عين الوصف الجامع في عين الحكم ، أو عينه في جنس الحكم ، أو جنسه في عين الحكم.
وأمّا الملائم فما
أثر جنسه في جنس الحكم ، ومنهم من جعل المؤثّر ما أثر عينه في عين الحكم خاصة ،
والملائم باقي الأقسام.
الخامس : القياس
ينقسم إلى قياس علّة ، وإلى قياس دلالة ، وإلى القياس في معنى الأصل لأنّ الوصف
الجامع بين الأصل والفرع إن كان قد صرّح به ، فإن كان هو العلّة الباعثة على الحكم
في الأصل ، فهو قياس العلة ، كالجمع
بين النبيذ والخمر
في تحريم الشرب بجامع الشدة المطربة ، وسمّي قياس العلة للتصريح فيه بالعلّة.
وإن كان دليل
العلّة لانفسها ، فهو قياس الدلالة ، كالجمع بين النبيذ والخمر بجامع الرائحة
الفائحة الملازمة للشدة المطربة ، وكالجمع بين الأصل والفرع بأحد موجبي العلّة في
الأصل استدلالا به على الموجب الآخر ، كالجمع بين قطع أيدي الجماعة ليد الواحد ،
وقتل الجماعة للواحد ، في وجوب القصاص عليهم بواسطة الاشتراك في وجوب الدية عليهم
بتقدير إيجابها.
وإن لم يصرّح
بالوصف الجامع ، كما في إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك بواسطة نفي
الفارق ، سمّي القياس في معنى الأصل.
السادس : القياس
إن كان طريق إثبات العلّة المستنبطة فيه المناسبة سمّي قياس الإحالة.
وإن كان الشبه
سمّي قياس الشبه.
وإن كان السبر
والتقسيم سمّي قياس السبر.
وإن كان الطرد
والعكس سمي قياس الطرد.
الفصل الثاني :
في أنّه هل يعتد بالقياس أم لا؟
وفيه مباحث :
الأوّل : في جوازه
عقلا
اختلف الناس في
ذلك فجوّزه أكثر الصحابة والتابعين وبعض الإمامية كالسيّد المرتضى وغيره والشافعي وأبو حنيفة ومالك وأحمد وأكثر الفقهاء
والمتكلّمين.
وقال بعض الشيعة
والنظّام وجماعة من معتزلة بغداد ، كيحيى الاسكافي وجعفر بن مبشر وجعفر بن حرب : يستحيل ورود التعبد
__________________
بالقياس ، وإن
اختلفوا في المأخذ وهؤلاء اختلفوا ، فقال بعضهم : المنع يختصّ بشرعنا ، وبعضهم منع
من التعبّد به في كلّ الشرائع.
وقال القفّال من
الشافعية وأبو الحسين البصري : إنّ العقل موجب لورود التعبد بالقياس. والحقّ الجواز
عقلا وإن امتنع سمعا.
لنا وجوه :
الأوّل : لا
استبعاد عند العقلاء كافّة في أن يقول الله تعالى : لا يقضي القاضي وهو غضبان ،
لأنّ الغضب موجب لاضطراب الفهم ، وقيسوا عليه ما كان في معناه ، كالجوع والعطش
وغيرهما ؛ وكذا : حرمة شرب الخمر ، ومتى غلب على ظنّكم أنّ علّة التحريم الإسكار
المفضي إلى وقوع الفتن والعداوة ، فقيسوا عليه كلّما شاركه في ذلك وانّه يكون حسنا
غير قبيح ، ولو كان ممتنعا عقلا لما حسن ذلك.
الثاني : القياس
يفيد الظنّ وكما جاز التعبد بالظن في الفتوى والشهادة وخبر الواحد عند القائلين به
والرجوع في التقويم إلى قول من لا يوجب قوله العلم ، فليجز التعبّد به في القياس ،
لعدم الفرق بين الأمرين.
الثالث : التعبّد
بالقياس فيه مصلحة لا تحصل بدونه ، وهي ثواب المجتهد على اجتهاده وإعمال فكره
وبحثه في استخراج علّة الحكم المنصوص عليه لتعديته إلى محلّ آخر ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ثوابك على قدر نصبك.
__________________
احتجّ المانعون
بوجوه :
الأوّل : قال
النظّام : سبرنا أحكام الشرع وجدناها مبنية على استواء المختلفات واختلاف
المتماثلات ، فحينئذ يمتنع القياس.
أمّا المقدمة
الأولى فظاهرة ، فإنّ بعض الأزمنة والأمكنة أشرف من بعض مع استواء الجميع في
الحقيقة ، قال تعالى : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ
خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، وشرّف الكعبة على جميع البقاع.
وجعل التراب طهورا
مع أنّه ليس صالحا للغسل ، بل يزيد في تشويه الخلقة.
وفرض الغسل من
المني ، والرجيع أنتن منه وأولى بالتنظيف عنه.
ونهى عن إرسال
السبع على مثله ، وأباح إرساله على البهيمة الضعيفة.
ونقّص الرباعية
دون الثنائية والثلاثية.
وأسقط الصلاة
والصوم عن الحائض ، وأوجب قضاء الصوم والصلاة أعظم قدرا منها.
وجعل الحرة
القبيحة الشوهاء تحصن ، والمائة من الجواري الحسان لا يحصّن.
وحرّم النظر إلى
شعر العجوز الشوهاء مع أنّها لا تفتن الشباب ، وأباح النظر إلى محاسن الأمة
الحسناء مع أنّها تفتن الشيخ.
__________________
وقطع سارق القليل
، وعفا عن غاصب الكثير.
وجلد بالقذف
بالزنا ، ولم يجلد بالقذف بالكفر.
وقبل في القتل
والكفر شاهدين ، وأوجب في الزنا أربعة ، وهو دونهما.
وجلد قاذف الحر
الفاجر ، وعفا عن قاذف العبد العفيف.
وأوجب على الصبية
المتوفّى عنها زوجها العدة ، وفرّق في العدة بين الموت والطلاق ، مع أنّ حال الرحم
لا يختلف فيهما.
وجعل استبراء
الأمة بحيضة ، والحرة المطلقة ثلاث حيض.
وأوجب غسل أعضاء
الطهارة بالخارج من أحد السبيلين مع أنّ غسل ذلك المكان أنسب.
وإذا ثبت ذلك [فنقول
: إنّ] مدار القياس على أنّ الصورتين إذا تماثلتا في الحكمة والمصلحة وجب
استواؤهما في الحكم امتنع القول به ، وإلّا لامتنع التفريق بين المتماثلات والجمع
بين المختلفات في تلك الصور ، فلمّا لم يمتنع ذلك ، علمنا فساد الإلحاق. وهذه حجّة
النظّام على امتناع العمل بالقياس في شرعنا.
الثاني : البراءة
الأصلية قطعية والقياس ظنّيّ ، فالحكم الثابت بالقياس إن وافقها انتفت فائدته ،
وإن خالفها لم يجز العمل به ، لما عرف من أنّ الظني لا يعارض القطعي.
__________________
الثالث : انّما
يتمّ القياس إذا سلّم أنّ الأصل بقاء كلّ شيء على ما كان عليه ، إذ لولاه لم يعلم
بقاء التكليف بالقياس ليكلّف به ، ولما عرف بقاء حكم الأصل فالحكم الثابت بالقياس إن
كان نفيا فلا حاجة فيه إلى القياس ، لأنّا علمنا أنّ هذا الحكم كان معدوما في
الأزل ، والأصل بقاؤه فيحصّل ظن ذلك العدم ، فيكون إثبات ذلك الظن بالقياس مرّة
أخرى عبثا.
لا يقال : ثبوته
بدليل لا يمنع ثبوته بآخر.
لأنّا نقول : مسلم
، لكن بشرط أن لا يفتقر الدليل الثاني إلى الأوّل ، أمّا إذا افتقر فلا ، لأنّه
يكون تطويلا من غير فائدة.
وإن كان إثباتا
وقد سبق أنّ الأصل البقاء ، واستلزامه ظن عدم الحكم لسبق العدم ، فلو اقتضى القياس
ثبوته مع أنّ القياس متفرّع على أصالة البقاء ، لزم التعارض بين أصالة البقاء
الّذي هو الأصل والقياس الّذي هو الفرع ، ومثل هذا التعارض يقتضي ترجيح الأصل على
الفرع ، فيبطل القياس.
الرابع : القياس
إنّما يفيد ظن الحكم لو ظننا كونه في الأصل معلّلا بالوصف ، والتالي باطل بما يأتي من استحالة تعليل الأحكام الشرعية.
وهذه الوجوه
الثلاثة حجج من أنكر إفادة القياس الظن ومنعوا من القياس في جميع
الشرائع.
__________________
الخامس : القياس
يفيد الظنّ ، والظن لا يجوز اتّباعه ، لأنّه قد يخطئ وقد يصيب ، فالأمر به أمر بما
يجوز أن يكون خطأ ، وهو باطل. وهذه حجّة من منع من اتّباع الظن.
السادس : العمل بالقياس عمل بأدون البيانين ، لأنّ تنصيص صاحب الشرع على الحكم أظهر في البيان من
التفويض إلى القياس بالضرورة ، ونحن قادرون على أعلاهما ، لإمكان التنصيص على
أحكام القواعد الكلية ، بخلاف الشهادة والفتوى وقيم المتلفات وأروش الجنايات
والتمسك بالأمارات في معرفة القبلة والأمراض والأرباح والأمور الدنيوية ،
لاختلافها باختلاف الأشخاص والأزمان والأمكنة والاعتبارات والوجوه فيتعذر التنصيص
عليها ، لأنّه تنصيص على ما لا يتناهى فلهذا اكتفي فيها بالظن ، لكن الاقتصار على
الأدون مع القدرة على الأعلى باطل ، لأنّه إذا لم يقع البيان على أبلغ الوجوه حسن
من المكلف حمل عدم التبيين على صعوبة البيان لا على تقصيره ، فالإتيان بالبيان
الكامل إزاحة لعذر المكلّف ، فكان كاللطف وترك المفسدة في الوجوب.
السابع : التعبّد بالقياس يفضي إلى الاختلاف بأن يظنّ كلّ واحد من
المجتهدين خلاف ظنّ الآخر إمّا في العلّة أو غيرها ، والاختلاف ليس من
__________________
الدين ، لقوله
تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً).
وقوله تعالى : (وَلا تَتَفَرَّقُوا).
[وقوله] : (وَلا تَنازَعُوا).
[وقوله] : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ
وَكانُوا شِيَعاً).
[وقوله] : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا
وَاخْتَلَفُوا) ذكر ذلك كلّه في معرض الذمّ ، فلو كان من الدين لم يكن
عليه ذم.
الثامن : إذا
اختلفت الأقيسة في نظر المجتهدين ، فإن قيل : كلّ مجتهد مصيب ، لزم كون الشيء
ونقيضه حقا ، وهو محال ؛ وإن قيل : المصيب واحد ، فليس تصويب أحدهما أولى من
الآخر.
التاسع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أوتيت جوامع الكلم واختصرت لي الحكمة اختصارا». فلو كان التنصيص منه على الأشياء الستة في الربا قصدا
لقياس ما عداها عليها مع أنّه كان قادرا على ما هو أصرح وللخلاف والجهل أدفع بأن
يقول : «حرّمت الربا في كلّ مطعوم» لكان قد عدل عن المفهوم الظاهر عند كلّ أحد
المعمول به بين الناس الى أمر خفي مختلف فيه بين العقلاء ، وهو مناف للحكمة
والفصاحة.
__________________
العاشر : حكم
الأصل إن ثبت بالنص امتنع إثباته في الفرع التابع له ، لعدم وجود النصّ فيه ويمتنع
إثباته فيه بغير طريق حكم الأصل ، وإلّا لما كان تابعا ولا فرعا له.
وإن ثبت لعلّة كان
الحكم المقطوع به في الأصل معلّلا بعلّة مظنونة وهو محال ؛ ولأنّ العلّة في الأصل
مستنبطة من حكم الأصل ومتفرّعة عليه ، والمتفرّع عن الشيء لا يكون مثبتا لذلك
الشيء وإلّا دار.
الحادي عشر :
النصّ على العلّة لا يستلزم التعدية لقصور اللفظ عنه ، فإنّه لو قال : «اعتقت كلّ
أسود» عتق جميع السودان ، بخلاف ما لو قال : اعتقت غانما لسواده ، فالمستنبطة
أولى.
الثاني عشر : لو
جاز التعبّد بالقياس عقلا في الفروع لظنّ المصلحة ، لجاز مثله في أصول الأقيسة ،
والتالي محال ، وإلّا لزم التسلسل.
الثالث عشر :
الشرعيات مصالح ، فلو جاز إثباتها بالقياس لجاز أن يتعبّد بالأخبار عن كون زيد في
الدار عند غلبة الظن بكونه فيها بالأمارات ، وهو محال.
الرابع عشر :
القياس رجم بالظن ، فلا يجوز تكليف الخلق به لئلّا يتخبطوا فيه فيحكمون بما يكون
مخالفا للحق.
الخامس عشر : حكم
الله تعالى خبره ، وذلك لا يعرف إلّا بالتوقيف لا بالقياس الّذي هو من فعلنا ، لا
من توقيف الشارع.
يقال : الجلي من
الأحكام الشرعية لا يعرف إلّا بالنص ، فالخفي أولى
كالمدركات ، فإنّ
الجليّ والخفي متساويان في أنّهما لا يدركان إلّا بالحسّ.
السادس عشر : لو
كان للشرعيات علل لاستحال انفكاكها ، كما في العلل العقلية فإنّه يستحيل انفكاك
الحركة القائمة بالجسم عن كونه متحركا لما كانت الحركة علّة لكونه متحركا ، وذلك
يقتضي ثبوت الأحكام الشرعية قبل ورود الشرع لتقدّم العلل عليه ، وهو محال.
السابع عشر : لو
كان القياس صحيحا لكان حجّة مع النص ، والتالي باطل بالإجماع.
الثامن عشر : نظر
القائس لا بدّ له من متعلّق ، ولا منظور فيه سوى النص والحكم ، وهو الواجب والحرام
وغيرهما ، وليس المنظور فيه النص ، لاختصاصه بالأصل والحكم من فعل المكلّف ؛ فيلزم
إذا لم يوجد فعل المكلف أن لا يصحّ القياس ، ويلزم من فساد الأمرين فساد القياس
الشرعي.
التاسع عشر : لو
جاز التعبد بالتحريم أو التحليل أو الوجوب عند ظنّ المشابهة لأصل آخر بناء على
أمارة ، لجاز أن يتعبّد بذلك عند ظنّ المشابهة من غير أمارة ، وهو محال.
العشرون : لو جاز
التعبّد بالقياس لكان على علّيته دلالة ، والدلالة عليها. أمّا النص وهو منتف في
المستنبطة الّتي فيها الخلاف. أو العادات وليست مثبتة للأحكام الشرعية ، فلا تكون
مثبتة لأماراتها.
الواحد والعشرون :
لو كانت المعاني المشروعة من الأصول أدلّة على ثبوت الأحكام في الفروع لم يقف
كونها أدلّة على شيء سواها كما في
النصوص ؛
والاتّفاق واقع على احتياج المستنبطة إلى دليل ، والمحتاج إلى الدليل لا يكون
دليلا كما في الأحكام.
الثاني والعشرون :
لو غلب على الظن تحريم ربا الفضل في البر ، لكونه مطعوم جنس أو مكيل جنس أو قوتا
أو مالا وجب رعاية المصلحة في ذلك ، ولا مصلحة في تحريم بيع ما هذه صفته.
الثالث والعشرون :
لو صحّ معرفة الحكم الشرعي مع كونه غيبيا بالقياس لصحّ معرفة الأمور الغيبية
بالقياس ، والتالي باطل.
الرابع والعشرون :
القياس من فعلنا ، فلا يجوز أن يتوصّل به إلى معرفة المصالح.
الخامس والعشرون :
لا بدّ في القياس من علّة مستنبطة من حكم الأصل ، والحكم في الأصل ، جاز أن لا
يكون معللا.
وبتقدير التعليل
جاز أن تكون العلّة غير ما استنبطه.
وبتقدير ثبوته بما
استنبطه احتمل أن لا يكون متحقّقا في الفرع إذا كان وجوده فيه ظنّيا ، وما هذا
حكمه لا يصلح دليلا.
السادس والعشرون :
التعبّد بالقياس يستلزم تقابل الأدلة وتعاندها ، وأن يكون الله تعالى موجبا للشيء
ومحرّما له ، والتالي باطل فكذا المقدّم.
بيان الشرطية :
أنّ الفرع إذا تردّد بين أصلين حكم أحدهما الحل والآخر الحرمة ، فإذا ظهر في نظر
المجتهد شبه الفرع لكلّ منهما لزم الحكم بالحل والحرمة في شيء واحد ، وهو محال.
السابع والعشرون :
لا بدّ في القياس من علّة جامعة ، والعلل الشرعية لا بد وأن تكون على وزان العلل
العقلية ، لكن العلل الشرعية عند القائلين بالقياس يجوز أن تكون ذات أوصاف ، والعلّة
النقلية ليست كذلك ، فإنّها تستقل بحكمها كاستقلال الحركة بكون المحلّ الّذي قامت
به متحركا ، واستقلال السّواد بكون محلّه أسود ونحوه.
والاعتراض على الأوّل بأنّ غالب أحكام الشرع معلّل برعاية المصالح
المعلومة ، والصور الّتي ذكرتموها لبيان خلاف ذلك محصورة قليلة نادرة بالنسبة إلى
عادة الشرع ، فلا يقدح في الغالب ، كما أنّ الغيم الرطب يظن وقوع المطر عنده ، وإن
كان في بعض الأحيان يتخلّف عنه ولا يقدح ذلك في الظن. كذا هنا إذا ظنّ الجامع بين
الأصل والفرع وظهرت صلاحية التعليل ، فالعقل لا يمنع من ورود التعبد فيه بالإلحاق
، وحيث فرّق الشارع في الصور المذكورة ، لم يكن ذلك لاستحالة ورود التعبّد بالقياس
، بل إنّما كان لعدم صلاحية ما وقع جامعا ، أو لمعارض في الأصل أو الفرع ، وحيث
جمع بين مختلفات الصفات إنّما كان لاشتراكها في معنى جامع صالح للتعليل ، أو
لاختصاص كلّ صورة بعلّة صالحة للتعليل ، فإنّه لا مانع عند اختلاف الصور وإن اتّحد
نوع الحكم أن تعلّل بمختلفات ، لأنّ الحكم يثبت في الكلّ بالقياس.
وعلى هذا نقول :
ما لم يظهر تعليله وصحّة القياس عليه إمّا لعدم
__________________
صلاحية الجامع أو
لتحقّق الفارق ، أو لظهور دليل التعبّد ، فلا قياس فيه أصلا ، وإنّما القياس في ما
ظهر كون الحكم في الأصل معلّلا فيه ، وظهر الاشتراك في العلّة وانتفى الفارق.
وفيه نظر ، فإنّ
الأشاعرة لا يتأتّى منهم الاعتذار بأنّ الشارع يعتبر المصالح ، لأنّه مناف
لمذهبهم.
سلّمنا ، لكنّه
حجّة عليكم ، لأنّ المصالح الشرعية خفية غالبا ، فجاز أن لا يكون المشترك منشأ
المصلحة في شرعية الحكم.
وعلى الثاني :
بالنقض بالعمل بالفتوى والشهادة وتقويم المقومين وبالعمل بالظنّ في الأمور
الدنيوية وبالإقرار.
وفيه نظر ، لأنّ
صور النقض إن وقع الإجماع عليها حصل الفرق ، لعدم الإجماع على العمل بالقياس ،
وإلّا منعنا الحكم في الأصل.
وعلى الثالث :
بانتقاضه بالأمور المذكورة.
وعلى الرابع : ما
يأتي من جواز التعليل.
وعلى الخامس :
بالنقض بالأمور المذكورة ، وقد سلف وجه النظر فيه.
وعلى السادس :
بالتزام جواز ارتكاب أدون البابين مع إمكان أعلاهما.
وعلى السابع :
بأنّ الاختلاف بين المجتهدين غير محذور مطلقا ، فإنّ جميع الشرائع والملل من عند
الله تعالى وهي مختلفة ، ولو كان الاختلاف
__________________
مذموما على
الإطلاق لكانت الصحابة مع اشتهار اختلافهم مخطئة.
وفيه نظر ، فإنّ
اختلاف الملل حصل بالنسخ والحكمان المختلفان غير مجتمعين فيها ، بخلاف اختلاف
المجتهدين المستلزم لارتكاب الخطأ من بعضهم ، وقد ذمّ علي عليهالسلام اختلاف الحكام في الأحكام في قوله : «ترد على أحدهم القضية
في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه ، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم
فيها بخلاف قوله ، ثمّ يجمع القضاة بذلك عند الإمام الّذي استقضاهم فيصوّب آراءهم
جميعا ، وإلههم واحد ونبيّهم واحد وكتابهم واحد ، أفأمرهم الله سبحانه بالخلاف
فأطاعوه ، أم نهاهم عنه فعصوه ، أم أنزل الله سبحانه دينا ناقصا فاستعان بهم على
إتمامه ، أم كانوا شركاء له فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى ، أم أنزل الله دينا
تاما فقصّر الرسول عن تبليغه وأدائه؟ والله يقول : (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وفيه تبيان كلّ شيء ، وذكر أنّ الكتاب يصدق بعضه بعضا ،
وأنّه لا اختلاف فيه ، فقال سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، وإنّ القرآن ظاهره أنيق ، وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه
، ولا تنقضي غرائبه ، ولا تكشف الظلمات إلّا به». وهذا نص في ذمّ الاختلاف.
وعلى الثامن :
بأنّ كلّ مجتهد مصيب ، لأنّ حكم الله تعالى في حقّ كلّ واحد ما أدّى إليه اجتهاده
، وهو لا يمنع من كون كلّ من المتناقضين حقّا
__________________
بالنسبة إلى شخصين
، كالصلاة وتركها في حق الحائض والطاهر ، وكالجهات المختلفة في القبلة.
وفيه نظر ، لما
يأتي من امتناع تصويب المجتهدين وأحكام الله تعالى تابعة للمصالح لا لاختيار
العباد ، وإلّا لبطل التكليف ، والصلاة وتركها ليس من هذا الباب ، لأنّهما فرضان
مختلفان بالنسبة إلى شخصين غير تابعين لاختيارهما.
وعلى التاسع : أنّ
العدول من أوضح الطريقين إلى أخفاهما لا يخل بالبلاغة ، لورود الكتاب بألفاظ مجملة
لإرادة المعيّن ، وبألفاظ عامّة لإرادة الخاص ، وبألفاظ مطلقة لإرادة المقيد ؛
ولأنّ الفائدة الإرشاد إلى القياس ليزداد الثواب بالاجتهاد.
وعلى العاشر : أنّ
حكم الأصل وإن ثبت بالنص أو الإجماع لا بعلّة فإنّ ذلك غير متحقّق في الفرع ،
ونمنع وجوب ثبوت الحكم في الفرع بمثل طريق حكم الأصل ، فإنّه يجوز إثبات حكم الأصل
بدليل قطعي وفي الفرع بظنّي ، ولا يلزم من تبعية الفرع بحكم الأصل اتّحاد الطريق
المثبت للحكم فيها ، وإلّا انتفت التبعيّة.
وعلى الحادي عشر :
بأنّ بعضهم قال : إن علم قطعا قصده للسواد ، عتق كلّ أسود.
وقال آخرون : لا
يكفي القصد ، بل لا بدّ من أن ينوي بهذا اللفظ عتق جميع السودان ، فإنّه كاف في
كلّ عبد له أسود.
وغايته إطلاق
الخاص وإرادة العام ، وهو سائغ لغة ، كما في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) حمل على النهي على الإتلاف العام.
وكذا لو قال :
والله لا شربت لك ماء.
وقال آخرون : لا
يكفي مجرد النيّة والإرادة في العتق ، بل لو قال مع ذلك : قيسوا عليه كلّ أسود عتق
كلّ عبد أسود ، وهو اختيار الصيرفي من الشافعية.
والحقّ أن يقول :
لا يكفي القصد ولا النية ولا القياس ، لأنّ حق الآدمي مضيّق فإنّما يعتق من نصّ
على عتقه بالخصوصية ، بخلاف التعبّد بالأمور الشرعية ، لأنّ العتق من باب التصرف
في أملاك العبيد بالزوال ولا كذلك في الأحكام الشرعية ، وعلى أنّه لو لم يرد النص
بالحكم في أصول الأقيسة ، وإلّا لكان التعبّد بإثبات أحكامها بالقياس على أصل آخر
جائزا ، وان امتنع ذلك لما فيه من التسديد فلا يرد به التعبّد لاستحالته في نفسه.
وعلى الثاني عشر :
بالمنع من استحالة ورود التعبّد بأخبارنا عن كون زيد في الدار عن ظن إذا ظهرت
أمارة كونه في الدار بجواز أن ينصب الله تعالى على كونه في الدار أمارة ، فإذا
ظننا فيها جاز أن يتعبّدنا بأن ننتقل عن ظن كونه فيها إلى العلم لكونه فيها ،
ويتعبّدنا بالخبر عن كونه فيها ، هكذا حكى قاضي القضاة عن أبي عبد الله.
__________________
ثمّ اعترضه بأنّه
لم يسوّ بينهما ، لأنّ الأمارة الدالّة على الكون في الدار نقلها من الظن إلى
العلم ، وهنا لم ينقل ظن حكم الفرع إلى العلم.
وحكى القاضي عن
أبي هاشم المنع من جواز الاخبار.
وقرّره أبو الحسين
بأنّ السائل إن أراد تجويز التعبّد بالأخبار عن ظنّ الكون التزمناه وإلّا كان
قبيحا ، لأنّ شرط حسن الخبر صدقه ، أمّا العبادات الشرعية فإنّها تتبع المصالح ،
وقد يكون الفعل مصلحة إذا فعلناه ونحن على صفة ما ، ومتى لم يكن عليها لم يكن
مصلحة ، والظن يشبه الفرع للأصل صفة.
وعلى الثالث عشر :
بعد تسليم وجوب المصالح بجواز كون التعبّد بالقياس مصلحة وقد استأثر الله تعالى
بالعلم بها ، وما ذكروه ينتقض بورود التعبّد بالنصوص الظنّية وقبول الشهادة والاجتهاد
في القبلة والتقويم وأرش الجنايات وتقدير النفقات.
وعلى الرابع عشر :
أنّه مهما لم يقم دليل على وجوب التعبّد بالقياس من نص أو إجماع ، فإنّا لا نثبت
به الحكم ولا ننفيه ؛ وإن كان يجوز ورود التعبّد به عقلا ، فإذا قال الشارع : «قد
تعبّدتكم بالقياس ، فمهما رأيتم الحكم قد ثبت في صورة وغلب على ظنّكم أنّه ثبت
لعلّة ، وأنّها متحقّقة في صورة أخرى ، فقيسوها» كان ذلك إخبارا عن إثبات الحكم في
الفرع ؛ وإن لم يرد مثل هذا النصّ ، فانعقاد الاجماع عليه يكون كافيا فيه.
__________________
وعلى الخامس عشر :
أنّه قياس تمثيلي من غير جامع.
وعلى السادس عشر :
بالفرق فإنّ العلل العقلية مقتضية للحكم بذاتها لا بوضع ، بخلاف الشرعية فانّها
معرفات ، ولا امتناع في كون الوصف علامة على الحكم في زمان دون
آخر ، ويمكن أن يكون الوصف باعثا لما يختص به من المصلحة في بعض الأزمان دون بعض ،
كما أوجب الصوم في وقت وحرّمه في آخر ، ويكون مناط معرفة ذلك اعتبار الشارع للوصف
في وقت وإلغاءه في آخر.
وعلى السابع عشر :
بأنّ القياس جاز أن يكون حجّة مع النصّ الموافق لا المخالف الراجح ، كخبر الواحد
فإنّه لا مع النص المخالف الراجح.
وعلى الثامن عشر :
أنّ نظر القائس في الفرع ، وإن لم يكن في دلالة النص فهو ناظر في المعنى الجامع
والدلالة على كونه علة وإثبات الحكم في الفرع ، وليس الحكم فعل المكلّف ، بل
الوجوب أو التحريم المتعلّق بفعله.
وعلى التاسع عشر :
أنّ الظن إن حصل بمشابهة شيء لآخر محرم من غير أمارة ، جوّز العقل ورود التعبّد
بتحريمه ، وإن لم يرد الشرع به. وفرق بين الظن عند سبب وأمارة وبينه مجردا عن
الأمارة.
وعلى العشرين :
بمنع الحصر ، فجاز تعريف كون الوصف علّة بالأسماء أو غيره من طرق التخريج.
__________________
وعلى الواحد
والعشرين : أنّ كون الأوصاف المستنبطة أدلّة على الأحكام في الفروع ليست أدلّة
لذواتها وصفاتها الذاتية ، كما في العلل العقلية ، بل بالوضع والتوقيف وجعل الشرع
لها أدلّة ، فلذلك افتقرت في جعلها أدلّة إلى غيرها.
وعلى الثاني
والعشرين : أنّ بحث الأصول في هذه المسألة غير مختص بتصحيح الأقيسة الخاصة في آحاد
المسائل ، بل في جواز التعبّد بالقياس في الجملة ، والوجه في ظهور المصلحة في
التعليل بمطعوم جنس ، أو مكيل جنس ، أو غير ذلك ممّا قد تكلّف بيانه في مسائل
الفروع ، فالناظر في آحاد المسائل إذا لم يظهر له وجه المصلحة ، ولا دفع المفسدة
من الأوصاف المستنبطة بدليله ، فالقياس باطل.
وعلى الثالث
والعشرين : أنّ ذلك حكم شرعي فكلّ أمر مغيب عنّا إذا جعل الله عليه أمارة دالّة
عليه كما في الأحكام الشرعية ، كان الحكم في معرفته ، كما في الأحكام ، وحيث لم
يجعل له أمارة تدلّ عليه لم يكن معلوما.
وعلى الرابع
والعشرين : نمنع استناد التوصّل إلى معرفة المصالح إلى فعل القائس ، وإنّما فعل
القائس إثبات مثل حكم الأصل في الفرع ، تبعا لمعرفة المصلحة المأخوذة من حكم
الأصل.
وعلى الخامس
والعشرين : أنّه متى غلب على ظنّ القائس كون الحكم
__________________
معلّلا ، وظهرت له
علّة في نظرة مجرّدة عن المعارض ، وتحقّق وجودها في الفرع كان له القياس ، وإلّا
فلا.
وعلى السادس
والعشرين : أنّ العلل الشرعية غير موجبة لذاتها ، فإذا تقابل في نظر القائس قياسان
على التحليل والتحريم مثلا ، فكلّ واحدة من العلّتين غير موجبة لحكمها لذاتها ،
فلا يلزم من ذلك اجتماع الحكمين. فإن ترجّحت إحداهما عمل بها ، وإلّا توقّف أو
تخيّر.
وعلى السابع
والعشرين : بالمنع من موازنة الشرعية للعقلية ، لأنّ الشرعية أمارة. ولا يمتنع أن
يكون الظن الحاصل منها من مجموع أوصاف لا يستقل البعض بها ، كظن وقوع المطر عند
هبوب الرياح وتكاثف الغيم ورطوبته.
احتجّ القائلون
بوجوب التعبّد بالقياس عقلا بوجوه :
الأوّل : الصور
الّتي هي محلّ الأحكام غير متناهية والنصوص متناهية ، فلو لا وجوب التعبّد بالقياس
لتعذّرت معرفة ما كلّفنا به من الأحكام.
الثاني : إذا غلب
على الظن أنّ المصلحة في إثبات الحكم بالقياس ، وأنّه مزيل للضرر ، وجب اتّباعه
عقلا ، تحصيلا للمصلحة ودفعا للمفسدة ، كما يجب القيام من تحت حائط ظن سقوطه لفرط
ميله ، وإن جاز أن تكون السلامة في القعود والتلف في النهوض.
الثالث : العلل
الشرعية ومناسبتها للأحكام مدركة بالعقل ، فكان العقل
__________________
موجبا لورود
التعبّد بها ، كما توجب أحكام العلل العقلية.
والجواب عن الأوّل
: نمنع عدم تناهي الصور ، فإنّ الجزئيات وإن كانت غير متناهية لكنّها مندرجة
تحت أجناسها المتناهية ، فإذا ورد النصّ على تلك الأجناس دخلت الجزئيات تحته وكانت
منصوصا عليها وإن كانت غير متناهية.
لا يقال : يفتقر
في إدراج كلّ جزئي تحت كلّيّه إلى الاجتهاد ليتم إثبات الحكم فيه بالنص.
لأنّا نقول : ذلك
من باب تحقيق متعلّق الحكم لا أنّه قياس.
سلّمنا ، لكن نمنع
كون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مكلّفا بالتعميم ، لإمكان أن يقال : إنّما كلّف بما يقدر
على تبليغه بطريق المخاطبة.
وعن الثاني : العقل
موجب عند ظهور المصلحة في نظر العاقل إذا كان علمه تعالى متعلّقا بما ظنه العبد
على وفقه ، أمّا على خلافه فلا ، فجائز أن يعلم الله تعالى انتفاء المصلحة في
القياس وأنّه مضر في حقّهم ، فلا يكون العقل موجبا للقياس.
سلّمنا إيجاب ذلك
، لكن إذا لم يمكن إثبات الحكم في الفرع بطريق غير القياس.
وعن الثالث :
انّها مبنية على أنّه لا طريق إلى معرفة الحكم في الفرع
__________________
سوى القياس ، وعلى
علمه تعالى بأنّ المصلحة في القياس كما ظنه العبد ، وذلك ممنوع ؛ ولأنّ العلّة
الجامعة قد لا يكون طريق إثباتها المناسبة.
سلّمنا انحصار
الطريق في المناسبة ، وأنّه لا طريق إلى معرفتها إلّا بالعقل فلا ، ثم إنّه يلزم
من ذلك وجوب التعبّد بها عقلا. وما ذكروه من العلل العقلية فالعقل انّما يقضي
بملازمة معلول العلّة العقلية لها ، لكونها مقتضية لمعلولها بذاتها ، ولا كذلك
العلل الشرعية ، فإنّها انّما كانت عللا بمعنى الأمارات فلا يصحّ القياس.
البحث الثاني : في
المنع من التعبّد بالقياس
اختلف القائلون
بجواز التعبّد بالقياس عقلا ، فقال بعضهم : وقع التعبّد به ، وقال آخرون : لم يقع.
واتّفق الأوّلون
على أنّ السمع قد دلّ عليه ، واختلفوا في ثلاثة مواضع :
الأوّل : هل في
العقل ما يدلّ عليه؟ قال أبو الحسين البصري والقفّال من الأشاعرة به ، وأنكر
الباقون من الأشاعرة والمعتزلة ذلك.
الثاني : قال أبو
الحسين : دلالة السمع عليه ظنّية ، وقال الباقون : قطعية.
الثالث : ذهب
النهرواني والقاشاني إلى أنّ العمل بالقياس في صورتين خاصة :
__________________
الأولى : إذا كانت
العلّة منصوصا عليها بصريح اللفظ ، أو بإيمائه.
الثانية : قياس
تحريم الضرب على تحريم التأفيف.
وقال الباقون
بسائر الأقيسة.
وأمّا القائلون
بأنّ التعبد بالقياس لم يقع ، فمنهم من قال : لم يوجد في السمع ما يدلّ على وقوع
التعبّد به ، فوجب الامتناع من العمل به ؛ ومنهم من لم يقنع بهذا ، بل تمسك في
نفيه بالأدلة السمعية ، وهو الحق.
لنا وجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، والقول بالقياس تقديم بين يدي الله ، فيكون منهيا عنه.
الثاني : قوله
تعالى : (وَأَنْ تَقُولُوا
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) ، والقول بالقياس قول على الله بما لا يعلم فيكون منهيا
عنه.
الثالث : قوله
تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، والقول بالقياس اقتفاء ما ليس به علم.
الرابع : قوله
تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ) و (إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ
__________________
الْحَقِّ
شَيْئاً) أن يظن إلّا ظنّا ، والقياس ظنّيّ خرج عنه ما أجمعنا عليه
، فيبقى الباقي على النهي.
الخامس : قوله
تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) ، وإثبات الحكم في الفرع لأجل القياس حكم بغير ما أنزل
الله.
السادس : قوله
تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله : (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) فيه تبيان كلّ شيء ، دلّ على اشتمال الكتاب على الأحكام
بأسرها ، فكلّ ما ليس في الكتاب وجب أن لا يكون حقا ، فما دلّ عليه القياس إن دلّ
عليه الكتاب فهو ثابت بالكتاب لا بالقياس ، وإن لم يدلّ عليه كان باطلا.
السابع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «تعمل هذه الأمّة برهة بالكتاب ، وبرهة بالسنّة ، وبرهة
بالقياس ، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلّوا».
الثامن : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ستفترق أمّتي على بضع وسبعين فرقة ، أعظمهم فتنة قوم
يقيسون الأمور برأيهم ، فيحرّمون الحلال ويحلّلون الحرام» .
لا يقال : هذه
أخبار آحاد فلا تعارض الأدلّة العقلية.
لأنّا نقول :
الدليل الّذي يستدلّون به هو أنّ القياس يفيد الضرر
__________________
المظنون ، فيجب
الاحتراز عنه ، وخبر الواحد يفيد الظن ، فإذا أورد في المنع من العمل بالقياس أفاد
ظن أنّ التمسّك به سبب الضرر ، وذلك يوجب الاحتراز عنه. وليس أحد الظنّين أقوى من
الآخر ولا أولى بالعمل ، بل ما قلناه أولى ، لأنّ المسألة علمية والبلوى بها عامّة
، وهي أصل من أصول الدين فلا يقبل فيها الظن ويقبل في نفيها.
التاسع : إجماع الصحابة على التصريح بذمّ القياس ، قال أبو بكر :
أيّ سماء تظلّني وأيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب الله برأيي.
وقال عمر : إيّاكم
وأصحاب الرأي ، فإنّهم أعداء السنن ، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها ، فقالوا بالرأي
فضلّوا وأضلّوا.
وعنه : إيّاكم
والمكايلة ، قيل : وما المكايلة؟ قال : المقايسة.
وكتب إلى شريح وهو
قاض من قبله : اقض بما في كتاب الله ، فإن جاءك ما ليس فيه فاقض بما في سنّة رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ،
فإن لم تجد فلا عليك أن لا تقضي.
__________________
وقال علي عليهالسلام : «لو كان الدين يؤخذ قياسا لكان باطن الخف أولى بالمسح من
ظاهره» .
وقال عليهالسلام : «من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه» .
وقال ابن عباس :
يذهب قرّاؤكم وصلحاؤكم ويتّخذ الناس رؤساء جهّالا يقيسون الأمور برأيهم.
وقال : إذا قلتم
في دينكم بالقياس أحللتم كثيرا ممّا حرّم الله وحرّمتم كثيرا ممّا أحلّ الله.
وقال : إنّ الله
تعالى قال لنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ) ولم يقل بما رأيت.
وقال : لو جعل
لأحدكم أن يحكم برأيه لجعل ذلك لنبيّه ، ولكن قيل له : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما
أَنْزَلَ اللهُ).
وقال : «وايّاكم
والمقاييس ، فإنّما عبدت الشمس والقمر بالمقاييس.
__________________
وعن ابن عمر :
السنّة ما سنّه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لا تجعلوا الرأي سنّة للمسلمين.
وعن مسروق : لا
أقيس شيئا بشيء ، أخاف أن تزلّ قدمي بعد ثبوتها.
وكان ابن سيرين
يذم القياس ويقول : أوّل من قاس إبليس.
وقال الشعبي لرجل
: لعلّك من القائسين. وقال : إن أخذتم بالقياس أحللتم الحرام وحرّمتم الحلال.
وقالت عائشة :
أخبروا زيد بن أرقم أنّه أحبط جهاده مع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بفتواه بالرأي في مسألة العينة.
وقال الشعبي : ما
أخبروك عن أصحاب أحمد فاقبله ، وما أخبروك عن رأيهم فالقه في الجش .
وهذا الإنكار من
الصحابة والتابعين يدلّ على الإجماع.
لا يقال : يعارض
ذلك بالأحكام الّتي اختلفوا فيها مع أنّه لا طريق لهم إلى تلك المذاهب إلّا
القياس.
__________________
لأنّا نقول : ما
ذكرناه أولى ، لأنّ التصريح راجح على ما ليس بتصريح.
العاشر : إجماع
العترة ، فإنّا نعلم بالضرورة أنّ مذهب الباقر والصادق والكاظم عليهمالسلام وآبائهم وأولادهم إنكار القياس وذمّه والمنع من العمل به ،
كما أنّا نعلم المذاهب المنقولة عن الشافعي وأبي حنيفة وغيرهما. وقد تقدّم أنّ
إجماع العترة حجّة.
الحادي عشر : لو
جاز العمل بالقياس لما كان الاختلاف منهيا عنه ، والتالي باطل ، لقوله تعالى : (وَلا تَنازَعُوا) فالمقدّم مثله.
وبيان الشرطية :
أنّ العمل بالقياس يقتضي اتّباع الأمارات ، وهو يقتضي وقوع الاختلاف قطعا ،
لامتناع الاتّفاق فيها كما يمتنع اتّفاق الخلق الكثير على أكل طعام معين في وقت
معيّن.
الثاني عشر : لو
قال الرجل : اعتقت غانما لسواده ، فقيسوا عليه لم يعتق سائر عبيده السود ، فضلا
عمّا إذا لم يأمر بالقياس. فإذا قال الله تعالى : «حرمت الخمر للإسكار» كيف يجوز
القياس عليه؟
الثالث عشر : لو
كان الله تعالى ورسوله قد تعبّدنا بالقياس ، لكان القائسون مطيعين للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وفي ذلك كونه عالما بهم وبما يؤدّيهم اجتهادهم إليه.
الرابع عشر : لو
جاز التعبّد بالقياس لم يجز التعبد بمقاييسكم ، فإنّه ما من فرع إلّا ويشبه أصلين
متضادي الحكم ، وذلك يقتضي ثبوتهما
__________________
فيه ، وهو محال ،
فعلمنا أنّه تعالى لم يتعبّدنا بذلك.
الخامس عشر :
سلّمنا جواز التعبّد بالقياس ، لكن ثبوت التعبّد به موقوف على ثبوت الحاجة إليه
وتناول النصوص الخاصة والعامّة والأدلّة العقلية للحوادث كلّها يرفع الحاجة إليه ،
فإذن لسنا متعبّدين به.
اعترض على الأدلّة
من القرآن بأنّ الدلالة لمّا دلّت على وجوب العمل بالظن المستند إلى القياس ، صار
كأنّ الله تعالى قال : مهما ظننت أنّ هذه الصورة تشبه تلك الصورة في علّة الحكم ،
فاعلم قطعا أنّك مكلّف بذلك الحكم ؛ وحينئذ يكون الحكم معلوما لا مظنونا البتة على
أنّ قوله : (لا تُقَدِّمُوا) يتوقّف على كون العمل بالقياس تقدّما بين يدي الله ورسوله
على كون الحكم به غير مستفاد من الله ورسوله ، وذلك متوقّف على كون الحكم به
تقدّما بين يدي الله ورسوله فلا يكون حجّة ، والنهي عن العمل بالظن حجّة عليكم ،
لأنّ ترك القياس ليس قطعيا ، بل ظنّيّا ، ومن حكم بما هو مستنبط من المنزل فقد حكم
بالمنزل على أنّ ذلك مختصّ بالرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لإمكان استفادته الأحكام من الوحي بخلاف غيره ، وكون
الكتاب لم يفرط فيه بيان كلّ شيء لما يدل ألفاظه من غير واسطة أو بواسطة الاستنباط
منه.
وعلى الأحاديث
بأنّها معارضة بالأحاديث الدالّة على القياس ، والتوفيق صرف النهي إلى البعض
والعمل إلى البعض ، وكذا على الإجماع ، فإنّ الذين رويتم عنهم الإنكار روى عنهم
العمل به والتوفيق ما تقدّم من
صرف النهي إلى بعض
أنواعه ونحن نقول به ، لأنّ العمل بالقياس لا يجوز إلّا عند شرائط مخصوصة.
وعلى إجماع العترة
بمنعه ، وروايات الإمامية معارضة بروايات الزيدية فإنّهم ينقلون عن الأئمة جواز
العمل بالقياس.
وعلى استلزامه
الاختلاف بوروده على الأدلّة العقلية والنصوص فجوابكم هنا هو جوابنا.
وعتق جميع السودان
لا يثبت لو صرح وقال : قيسوا سائر عبيدي ، ولو نصّ الله تعالى الحكم ثمّ قال :
قيسوا عليه ، جاز القياس إجماعا ، فظهر الفرق ، والأصل فيه أنّ حقوق العباد مبنية
على الشح لكثرة حاجتهم وسرعة رجوعهم عن دواعيهم وصوارفهم.
وعلى الثالث عشر :
قال قاضي القضاة : لا يمتنع أن يكون الله تعالى قد أعلم نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالقائسين مفصّلا وأراد القياس [منهم] وكانوا مطيعين له ،
ولا يمتنع أن يكون قد أراد في الجملة من المجتهدين أن يجتهدوا الاجتهاد الصحيح
ويفعلوا بحسبه ، فكلّ من فعل ذلك يكون مطيعا للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فإن قلت : متى
أراد الله تعالى حكم الفرع من المكلّف؟
قلت : ذكر القاضي
عبد الجبار في موضع أنّ من يجعل المصيب واحدا وعليه دليل ، يقول : إنّه أراد حكم
الفرع بنصب الأدلّة على ذلك. ومن يصوب كلّ مجتهد اختلفوا :
__________________
قال بعضهم : أراد
أحكام الفروع عند نصب الأمارات.
وقال آخرون : عند
نصب الأدلّة على العمل بالقياس. واختاره القاضي في بعض كتبه.
ومنهم من قال أراد
ذلك عند النص الدال على حكم الأصل واختاره في موضع آخر.
وقال أبو الحسين : إنّه تعالى أراد الحكم عند نصب الأدلة على صحّة القياس
مع نصب الأمارة الدالّة على علّة الحكم ، وجودها في الفرع ، لتوقّف العلم بحكم
الفرع على جميع ذلك ، وليس البعض مترتّبا على الباقي.
وعلى الرابع عشر :
نمنع كون كلّ فرع يشبه أصلين.
سلّمنا ، لكن من
منع التخيير يقول : إنّه تعالى جعل طريقا في معرفة قوة شبهه بأحد الأصلين ، فإذا
رجع المجتهد ظفر به ، ومن يجوّزه يحكم بالتخيير.
وعلى الخامس عشر :
نمنع تناول النصوص جميع الحوادث.
وفيه نظر ، لمنع
دلالة الأدلّة على العمل بالقياس.
ونمنع قطعية الحكم
والمشابهة لقوله : متى ظننت الحكم فقد أوجبته قطعا ، وإلّا لكانت الأحكام تابعة
للظنون لا للمصالح ، وهو باطل ، بل كما أنّ الحكم مظنون كذا وجوب العمل بهذا الظن.
__________________
ومعنى التقدّم بين
يدي الله ورسوله اعتقاد ثبوت حكم شرعي في ما لم ينص الشارع عليه وترك القياس للأصل
، وهو معلوم إلى أن يظهر المزيل عنه.
ونمنع وصف
المستنبط من المنزل بأنّه منزل وهو ظاهر. وإذا نهى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الاجتهاد مع قوة نظره وكمال فطنته وعدم اتّصافه بما
يضاد المعرفة ، فنهي آحاد الأمّة عنه أولى ، وكون الوحي طريقا لا ينافي تعبّده
بهذا الطريق لو كان حقا.
ونمنع كون
الاستنباط من الكتاب ، والصحابة لم يمنعوا من نوع خاص ، لأنّهم أطلقوا النهي عن
القياس وذمّوا العامل به ، ومنعوا من العمل به من غير تقييد ، ومصيرهم في الأحكام
الّتي زعمتم انّ استنادهم فيها إلى القياس ليس إليه ، بل إلى الأحاديث وغيرها.
سلّمنا لكن النوع
الّذي أمروا به غير متميّز عن المنهى عنه ، فلا يجوز التمسّك بشيء منه.
ومنع إجماع العترة
مكابرة ، فإنّ من عرف الأخبار ويطّلع على المقالات علم أنّ الأئمة عليهمالسلام أنكروا القياس إنكارا تامّا وحرّموا الرجوع إليه ، وهو
معلوم بالضرورة من دين الإمامية. وقول الزيدية ليس بصحيح ، لأنّهم يرجعون إلى أبي
حنيفة في مذاهبهم والأدلّة العقلية والنصوص لا اختلاف فيها ، لأنّ مقتضى العقل
واحد ومدلول النصّ والمراد منه كذلك ، وإنّما يحصل الاختلاف للناظر فيهما لقصور في
النظر وعدم استيفاء البحث والاجتهاد.
وعتق جميع السودان
إن كان مباشرة بأن يقول : اعتقت غانما لسواده فقيسوا عليه ، لم يقع ، لعدم العبارة
الّتي جعلها الشارع مناطا للعتق ، وإن كان توكيلا بأن يقول لوكيله : اعتق غانما
لسواده وقس عليه سائر العبيد كان للوكيل عتق الجميع ، والطاعة والأمر لا يثبتان
بالاحتمال ، ونحن لا ندّعي أنّ كلّ فرع يشبه أصلين ، بل أكثر الفروع يشبه أصولا
متعدّدة ، ولا أولوية للبعض والنصوص والأدلّة العقلية من أصالة البراءة والعدم
والاستصحاب وغيرها وافية بجميع الأحكام.
البحث الثالث : في
شبه القائلين بالقياس والردّ عليها
اعلم أنّ الناس
طوّلوا في هذا الباب واستدلّوا بالكتاب والسنّة والإجماع والمعقول ، ونحن نبيّن
قصور أدلّتهم إن شاء الله تعالى.
الأوّل : قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا
أُولِي الْأَبْصارِ) أمر بالاعتبار ، وهو مأخوذ من العبور وهو المرور ، يقال :
عبرت النهر ، والمعبر : السفينة الّتي هي أداة العبور والموضع الّذي يعبر عليه ،
والعبرة : الدمعة الّتي عبرت من الجفن ، وعبّرت الرؤيا وعبّرتها : أي جاوزتها إلى
ملازمها.
فثبت بهذه
الاستعمالات أنّ الاعتبار حقيقة في المجاوزة ، فلا يكون حقيقة في غيرها دفعا
للاشتراك.
__________________
والقياس داخل تحت
الأمر ، لأنّه عبور من حكم الأصل إلى الفرع وتجاوز منه إليه.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : نمنع كون
الاعتبار المجاوزة ، بل الاتّعاظ ، فإنّه لا يقال لمستعمل القياس العقلي إنّه
معتبر.
ويقال للبالغ في
رتبة القياس ومعرفة شرائطه وإثبات الأحكام به إذا لم يتفكّر في أمر معاده أنّه غير
معتبر ، أو قليل الاعتبار.
ولقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) و (إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ
لَعِبْرَةً) والمراد الاتعاظ.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «السعيد من وعظ بغيره» أي اعتبر والأصل الحقيقة ، فلا يكون في غير الاتّعاظ دفعا
للاشتراك ، وليست أدلّتكم أولى من هذه الأدلّة ، بل الترجيح معنا لسبقه إلى الفهم.
الثاني : سلّمنا
أنّ ما ذكرتموه حقيقة لكنّ شرط الحمل عليها عدم المانع ، وهو هنا موجود ، فإنّ
تركيب الكلام لا يناسبه ، فلو قال : «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فقيسوا
الذرة على البر» كان تركيبا خارجا عن قانون اللغة والعرف وعدّ ركيكا ، فلا يقع من
الشارع.
__________________
الثالث : سلّمنا
عدم المانع من حمله على المجاوزة ، لكن ليس الأمر بها أمرا بالقياس الشرعي ، فإنّ
كلّ من استدلّ بدليل فقد عبر منه إلى المدلول ، فمسمّى الاعتبار مشترك بين
الاستدلال بالدليل العقلي القاطع والنصّ والبراءة الأصلية والقياس الشرعي ، وكلّ
منها يخالف الآخر بخصوصية ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز وغير مستلزم له ،
فاللفظ الدالّ على ما به الاشتراك غير دالّ على الخصوصيات بإحدى الدلالات الثلاث
فلا يدلّ على النوع الّذي ليس هو إلّا مجموع ما به الاشتراك والامتياز ، فلا يدلّ
الاعتبار على القياس الشرعي لا بلفظه ولا بمعناه.
لا يقال : القدر
المشترك بين الأنواع إنّما يوجد عند وجود أحدها ، والأمر بالشيء أمر بما هو من
ضروراته ، فالأمر بإدخال الاعتبار في الوجود أمر بإدخال أحد أنواعه فيه ، وليس
تعيين أحدها أولى من الباقي ، لتساوي نسبة القدر المشترك إليها ، وأمّا أن لا يجب
ثبوت شيء منها ، وهو باطل ، لاستلزام الإخلال بالجميع الإخلال بالماهية ، فلا يكون
المسمّى مأمورا به ؛ أو يجب الجميع ، وهو المراد فيدخل القياس فيه.
لأنّا نقول : نمنع
عدم أولوية بعض الأنواع ، لأنّ الاعتبار المأمور به في الآية لا يمكن أن يكون هو
القياس الشرعي فقط ، وإلّا لصار معنى الآية «يخرّبون بيوتهم بأيديهم وأيدي
المؤمنين فقيسوا الذرة على البر» وهو معلوم البطلان ، فوجب تقدير نوع آخر غيره وهو
الاتعاظ ، إلّا انّا نقول : إنّه يفيد الاتّعاظ فقط ، وأنتم تقولون : إنّه يفيده
مع إفادة القياس الشرعي.
فإذن الأمر
بالاعتبار يستلزم الأمر بالاتّعاظ ، ومسمّى الاعتبار حاصل
في الاتّعاظ ، ففي
إيجاب الاتّعاظ يحصل إيجاب مسمّى الاعتبار من غير حاجة إلى إيجاب سائر أنواعه.
الرابع : سلّمنا
إيجاب نوع آخر غير الاتّعاظ ، فهنا أنواع من القياس نحو : توجيبا كالمنصوص على
علّته.
وقياس تحريم الضرب
على تحريم التأفيف.
والأقيسة العقلية.
والأقيسة في أمور
الدنيا.
وتشبيه الفرع
بالأصل في عدم استفادة حكمه إلّا من النص.
والاتعاظ
والانزجار بالقصص والأمثال.
فظهر انّا أثبتنا
الاعتبار في صور متعددة ، فلا يبقى له دلالة على إيجاب القياس الشرعي ، لأنّ الآتي
بفرد من أفراد ما يسمّى اعتبارا يكون خارجا عن عهدة الأمر.
الخامس : سلّمنا
اقتضاء اللفظ العموم ، لكنّه محال هنا ، لأنّ حمله عليه يفضي إلى التناقض ، فإنّ
التسوية بين الأصل والفرع في الحكم نوع من الاعتبار والتسوية بينهما في أنّه لا
يستفاد حكم الفرع إلّا من النص كما أنّه في الأصل كذلك.
[ولأنّه] نوع آخر
من الاعتبار ، والأمر بأحد هذين الاعتبارين ينافي الأمر بالآخر ، فلو حمل على
العموم اقتضى الأمر بالمتنافيين معا ، وهو
محال. ثمّ ليس
إخراج أحد القسمين من تحت ظاهر العموم لإبقاء الآخر أولى من العكس ، وعليكم
الترجيح. وهو معنا ، لأنّ تشبيه الفرع بالأصل في أنّه لا يستفاد حكمه إلّا من
النصّ عمل بالاحتياط واحتراز عن الظن الذي لا يغني من الحقّ شيئا.
السادس : سلّمنا
انتفاء التناقض ، لكنّه ليس حجّة ، لأنّه عام مخصوص.
فإنّ الرجل لا
يكون مأمورا بالاعتبار عند تعادل الأمارات ، وفي ما لم ينصب الله عليه دليلا ،
كمقادير الثواب والعقاب وأجزاء السموات والأرض ، وفي ما عرف حكمه بالاعتبار فإنّ
المكلّف لا يكون مأمورا بعده باعتبار آخر.
وفي ما لو قال
لوكيله : اعتق غانما لسواده ، فليس لوكيله أن يعتق غيره.
وفي ما إذا عدم
النص فإنّه لا يكون مأمورا بالقياس ، وفي ما إذا تعارضت الأقيسة.
السابع : سلّمنا
أنّه حجّة لكن ظنية لا قطعية لأنّكم بيّنتم أنّ الاعتبار اسم للمجاوزة بالاشتقاق ،
والتوسّل به إلى تعيين المسمّى ظني ، ومسألة القياس قطعية فلا يجوز بناؤها عليه.
الثامن : سلّمنا
أنّه يفيد اليقين لكنّه أمر ، والأمر لا يفيد التكرار ، ولا يتناول كلّ الأوقات.
__________________
التاسع : سلّمنا
أنّه يتناول الجميع ، لكنّه خطاب مشافهة ، فيختص بالحاضرين في عصر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أجيب عن الأوّل :
بأنّ جعله حقيقة في المجاوزة أولى لقولهم : اعتبر فلان واتّعظ ، فيجعلون الاتّعاظ
معلولا للاعتبار فيتغايران. [و] لأنّ معنى المجاوزة حاصل في الاتّعاظ ، فإن من لم
يستدل بغيره على حاله لا يتّعظ.
فإذا جعل حقيقة في
المجاوزة كان حقيقة في الاتّعاظ وغيره على سبيل التواطؤ. ولو كان حقيقة في
الاتّعاظ بخصوصية كان مجازا في غيره أو مشتركا ، وهما خلاف الأصل.
ونمنع عدم صدق
المعتبر على القائس لصحّة : فلان يعتبر الأشياء العقلية بغيرها ، نعم لا يصدق معتبر على الإطلاق لمن قاس مرة ، كما
لا يقال : إنّه قائس على الإطلاق ، لقصر لفظ المعتبر والقائس على المستكثر منهما.
وإنّما يصدق نفي المعتبر على القائس غير المتّعظ مجازا لعدم إتيانه بالمقصود
الأصلي ، وهو العمل للآخرة ، كما يقال لغير المتدبّر في الآيات : إنّه أعمى أو
أصمّ.
ومعنى المجاوزة
حاصل في قوله : (إِنَّ لَكُمْ فِي
الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً*) لإفادة النظر في خلقها العلم بصانعها.
وفيه نظر ، لمنع
اعتبر فاتّعظ ، نعم يؤكّد أحدهما بالآخر فيقال : اعتبر
__________________
واتّعظ ، ولا
يستلزم ذلك التغاير المعنوي ، فقد يؤكّد بنفس اللفظ فالمرادف أولى.
سلّمنا لكن
المفهوم منه في الآية ليس مطلق المجاوزة ، بل علّة الاتّعاظ ، وذلك لا يصدق في
القياس الشرعي قطعا.
وعن الثاني :
بتسليم الركة لو نصّ على صفة ما قلتم لعدم المناسبة ، لكن لم قلتم : إنّه لو أمر
بمطلق الاعتبار الّذي يكون القياس الشرعي أحد جزئيّاته يكون ركيكا كما لو أجاب عن
مسألة بما لا يتناولها ، يكون باطلا ، ولو أجاب بما يتناولها وغيرها كان حسنا.
وفيه نظر ، فإنّ
المأمور به إن كان هو القياس الشرعي انتفت المناسبة بين الكلامين ، وإلّا
فالمطلوب.
وعن الثالث : أنّه
للعموم ، لأنّ ترتيب الحكم على المسمّى يقتضي تعليل الحكم بالمسمّى ، وهو يقتضي
أنّ علّة الأمر بالاعتبار هو مجرّد كونه اعتبارا ، فيكون كلّ اعتبار مأمورا به.
ولصحّة استثناء أي
اعتبار كان ، والاستثناء إخراج ما لولاه لدخل.
وفيه نظر ، لمنع
تعلّق الأمر بمطلق الاعتبار ، بل بالمناسب للكلام السابق وهو الاتّعاظ.
سلّمنا ، لكن نمنع
العلّية على ما يأتي. وقيل أيضا : إنّه إثبات القياس بالقياس ، والاستثناء إخراج
الصّلاحية لا الدخول.
وعن الرابع :
بأنّه لا يجوز أن يكون المراد منه تشبيه الفرع بالأصل في
عدم استفادة حكمه
إلّا من النص ؛ لأنّ الاعتبار المذكور هاهنا لا بدّ من مناسبته لما قبل الآية
وبعدها ، وإلّا جاءت الركّة ، واللائق به هو التشبيه في الحكم لا المنع منه ،
وإلّا لصار المعنى : «يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين ، فلا تحكموا بهذا
الحكم في حق غيرهم إلّا بنص وارد في حق ذلك الغير» ، وهو معلوم البطلان ، فيجب
حمله على التشبيه في الحكم عملا بعموم اللفظ.
ولأنّ المتبادر إلى
الفهم من لفظ الاعتبار التشبيه في الحكم ، لا المنع منه ، كما لو ضرب عبده على ذنب
ثمّ أمر آخر بالاعتبار به ، فهم منه الأمر بالتسوية في الحكم ، لا الأمر بالمنع.
وفيه نظر ، لأنّ
الاعتبار المناسب ليس إلّا الاتّعاظ ، فإن اعتبرت المناسبة وجب القصر عليه وإلّا ورد الإشكال ، وكما تحصل الرّكة لو قال : لا
تحكموا إلّا بنص وارد في حقّ ذلك الغير ، تحصل الوارد الشرعي.
وعن الخامس : بأنّ
العام المخصوص حجّة.
وفيه نظر ، لأنّه
ليس حجّة عند الجميع ، وأيضا فإنّ دلالته تضعف ويمكن القياس على محلّ التخصيص.
وعن السادس : بعموم
السؤال في كلّ السمعيات ، فلا يختصّ بهذه المسألة.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
التعميم لا يقتضي بطلانه.
سلّمنا ، لكن نمنع
التعميم ، فإنّ من السمعيات ما هو معلوم على ما تقدّم.
وعن الثامن : انّه
لما كان أمرا بجميع الأقيسة كان متناولا لجميع الأوقات.
فيه نظر ، للمنع
من تعميمه على ما تقدّم ، فإنّ اعتبروا مثل اقتلوا ، ولمّا لم يكن الثاني مقتضيا
لكلّ قتل ، وإلّا لقتل كل إنسان كذا الأوّل.
سلّمنا ، لكن نمنع
تعميم الأزمنة.
وعن التاسع :
بالإجماع على عدم الفرق بيننا وبين من شافهه في ذلك.
* * *
الثاني : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ
مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ). وظاهر الردّ يفيد القياس ، لأنّه لو أراد بالردّ إلى الله
الاستدلال بظاهر كتاب الله لزم التكرير ، لأنّه مستفاد من قوله : (أَطِيعُوا اللهَ) فإنّه أمر بامتثال خطاب الله كلّه.
والاعتراض من وجوه
:
__________________
أ. لا نسلّم أنّ
المراد من «الرد» القياس والردّ إلى ما استنبط من الأمر والنهي ، بل يمكن أن يكون
المراد البحث عن كون المتنازع فيه مأمورا أو منهيا حتى يدخل تحت قوله : (أَطِيعُوا اللهَ ،) فالأمر الأوّل بالطاعة للأمر والنهي ، والثاني بالبحث عن
المتنازع فيه هل هو مأمور أو منهي أو لا؟ فلا تكرار ، والغرض من الآية أمرنا بطاعة
الله فيما نعلم أنّه أمرنا به ، وأمرنا بما لا نعلم أنّه أمرنا به ممّا اختلفنا
فيه أن نرده إلى كتاب الله وسنّة نبيه بأن يفحص عنه فيهما ، حتّى إذا علمنا أنّه
ممّا أمرنا الله تعالى به دخل في ما قد أوجبه علينا في أوّل الآية من طاعته وطاعة
رسوله ، فلا تكرار.
ب. هو خطاب مواجهة
، وظاهره قصره على الحاضرين بالطاعة لله ولرسوله ، فإن تنازعوا في شيء لم يظهر من
الكتاب ولا السنّة ردّوه إلى الرسول بالسؤال عنه.
لا يقال : القصر
على الحاضرين تخصيص من غير دليل ، وهو باطل.
لأنّا نقول : ظاهر
المواجهة يقتضي القصر على الحاضرين ، فالتعميم خلاف الأصل. وأيضا لو سلّمنا ظهور
العموم لكن تركنا للظاهر من هذا الوجه تمسّك بالظاهر من وجه آخر حيث جعلناه عامّا
في أهل الاجتهاد وغيرهم ، وأنتم تخصّون به أهل الاجتهاد ، فكلّ منّا ومنكم تارك
الظاهر ، وأنتم مستدلّون فعليكم الترجيح ، وهو معنا بالأوّل.
لا يقال : الأمر
بالطّاعة عام في الجميع في كلّ زمان فكذا الأمر بالردّ ، لأنّ الضمير في المخاطب
بالردّ عائد إلى المخاطب بالطاعة ، فإذا كان الثاني عاما بالنسبة إلى كلّ زمان
فكذا الأوّل.
لأنّا نقول : إنّ
الطاعة واجبة بالنسبة إلى كلّ زمان ، لكن لا من هذه الآية ، لأنّه خطاب مشافهة.
ج. نمنع أن يكون
الردّ بالقياس بل يخلد أمره إلى الله ، ولا نحكم نحن فيه بشيء ، ولا يكون من باب
التكليف.
الثالث : قوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ
مِنْهُمْ) والاستنباط هو القياس ، وكذا الردّ.
والاعتراض من
وجهين :
أ. أنّه عائد إلى
الأمن والخوف السابقين في قوله تعالى : (وَإِذا جاءَهُمْ
أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ) ، فلمّا كان الضمير في الإذاعة متعلّقا بهما ، فكذا في (رَدُّوهُ) وفي (لَعَلِمَهُ) و (يَسْتَنْبِطُونَهُ) وليس ذلك من القياس في شيء.
ب. لو سلّمنا عود
الضمير إلى الأحكام لكن جاز أن يكون المراد استخراج الحكم من دليله إمّا باستخراجه
من عمومات النص أو أصالة البراءة أو غيرهما من الأدلّة ، وذلك أعمّ من القياس.
الرابع : قوله تعالى : (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا
بَشَرٌ مِثْلُنا) أورده في معرض
__________________
صدّهم عمّا كان
يعبد آباؤهم ، لما بينهم من المشابهة في البشرية ، ولم ينكر عليهم ، وذلك هو
القياس.
والاعتراض من
وجهين :
أ. نمنع عدم
الإنكار ، لأنّ الآية إنّما خرجت مخرج الإنكار لقولهم لقوله : (إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ
وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ).
ب. سلّمنا أنّه
قياس في الأمور العقلية ، فلا يلزم مثله في الأحكام الشرعية إلّا بطريق القياس
أيضا ، وهو محال.
الخامس : لمّا بعث معاذا قاضيا إلى اليمن قال : «بم تحكم؟» قال : بكتاب
الله ، قال : «فإن لم تجد؟» قال : بسنّة رسول الله ، قال : «فإن لم تجد؟» قال :
اجتهد رأيي ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أقرّه على ذلك وقال : «الحمد لله الّذي وفّق رسول رسول
الله لما يحبه الله ورسوله» .
واجتهاد الرأي لا
بد وأن يكون مردودا إلى أصل وإلّا كان مرسلا ، والرأي المرسل غير معتبر ، وذلك هو
القياس.
ولمّا بعث معاذا
وأبا موسى إلى اليمن قال : «بم تقضيان؟» فقالا : إن لم نجد الحكم في الكتاب ولا في
السنّة قسنا الأمر بالأمر فما كان أقرب إلى
__________________
الحقّ عملنا به. صرّحا بالعمل بالقياس ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أقرّهما عليه فكان حجّة.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : أنّه
مشتمل على الخطأ فلا يكون صحيحا ، لأنّ قوله : «فإن لم تجد في كتاب الله» يناقض
قوله : (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) ، (وَلا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).
ولاشتماله على
تصويبه في الاجتهاد وهو خطأ ، لأنّ الاجتهاد في زمان الأنبياء لا يجوز.
ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم سأله عمّا به يقضي ، والقضاء الإلزام ، فيقع السؤال عن
الّذي يجب به الحكم ، والسنّة لا تصلح جوابا عنه ، لأنّها تذكر في مقابلة الفرض
حيث يقال هذا سنّة وليس بواجب.
ولأنّ الحديث
يقتضي سؤاله عمّا به يقضي بعد نصبه للقضاء ، وهو لا يجوز ، لأنّ نصبه للقضاء مشروط
بمعرفة صلاحيته له ، وإنّما تثبت الصلاحية لو كان عالما بالشيء الّذي يجب به أن
يقضي ، والّذي لا يجب.
ولاقتضاء الحديث
عدم جواز الاجتهاد إلّا عند عدم وجدان
__________________
الكتاب والسنّة ،
وهو باطل لجواز تخصيصهما به.
الثاني : روي أنّ
معاذا لمّا قال : اجتهد رأيي ، قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اكتب إلي أكتب إليك» ولا يمكن تصحيحهما ، لأنّ
الروايتين نقلتا في واقعة واحدة ، فلا يمكن الجمع بينهما.
الثالث : لا خلاف
بين أهل الحديث في أنّه مرسل ، رواه جماعة من أهل حمص غير مذكورين عن معاذ ، فلا
يكون حجّة.
الرابع : [أنّه]
خبر واحد ورد في إثبات أصل عظيم في الشرع ، وهو القياس والاجتهاد ، والدواعي
متوفّرة على نقله ، فيجب بلوغه حدّ التواتر ، ولما لم يبلغ علم أنّه ليس بحجّة.
والحاصل : أنّه
مرسل ، فلا يقبل عند الشافعي وجماعة أخرى. وانّه فيما تعم به البلوى ، فلا يقبل عند أبي حنيفة وجماعة
أخرى.
الخامس : أنّه خبر
واحد ، فلا يقبل في المسائل القطعية.
لا يقال : مثبتو
القياس كانوا يتمسّكون به في إثبات القياس ونفاته يتأوّلونه ، وهو اتّفاق على
نقله.
لأنّا نقول : قد
تقدّم ضعف مثل هذا.
السادس : لا يدل
على كون القياس حجّة. أمّا قوله : «اجتهد رأيي» فإنّ
__________________
الاجتهاد استفراغ
الجهد في الطلب ، فيحمل على طلب الحكم من النصوص الخفية.
لا يقال : إنّما
صار إليه بعد فقده من الكتاب والسنّة ، ومدلول الخفي من النص موجود فيهما.
لأنّا نقول : نمنع
أنّ قوله : «فإن لم تجد» للعموم ، لصحّة استفهام «هل» يعني فإن لم تجد في صرائحه
فقط ، أم فيه وفي جميع وجوه دلالته على أنّه هنا لا يمكن حمله على العموم ، لأنّ
العمل بالقياس عندكم مفهوم من الكتاب والسنّة.
السابع : قوله : «اجتهد»
يكفي في العمل به نوع واحد من أنواع الاجتهاد ، فيحمل على البراءة الأصلية ، أو
على التمسّك بما ثبت في العقل من أنّ الأصل الإباحة أو التحريم.
الثامن : لا نسلّم
أنّه إذا لم يحمل على النص الخفيّ ولا دليل العقل يحمل على القياس الشرعي ، ولا
دليل على الحصر ؛ فإنّ هنا طرقا أخرى ، كالاحتياط في تنزيل اللفظ على أكثر
مفهوماته أو أقلّها ، والمصالح المرسلة ، وقول الشرع : احكم فانك لا تحكم إلّا
بالصواب.
التاسع : سلّمنا
إرادة الشرعي ، لكن يكفي فيه إثبات نوع واحد ونحن نقول كالنظّام بالقياس المنصوص
على علّته ، سواء ورد العمل بالقياس أو لا ، أو بقياس تحريم الضرب على تحريم
التأفيف.
العاشر : سلّمنا
دلالته على العمل بالقياس الشرعي لكن في حياة
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أو بعده؟ الأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع.
والأصل فيه أنّه
شرط في العمل بالقياس عدم الوجدان في الكتاب والسنّة ، وهو غير ممكن في زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم لعدم استقرار الشرع ، أمّا بعد نزول (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ) فلا ، لأنّ الدين إنّما يكون كاملا لو بيّن جميع إحكامه ،
وهو إنّما يكون بالتنصيص على كليّات الأحكام ؛ وإذا كان العمل بالقياس مشروطا بعدم
الوجدان فيهما ، وهما قد اشتملا على الجميع ، لم يجز العمل بالقياس بعد زمان
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
أجيب عن الأوّل. بأنّ قوله تعالى : (ما فَرَّطْنا) يدلّ على اشتمال الكتاب على كلّ الأمور بواسطة وهو مسلّم ،
فإنّ الكتاب لما دلّ على وجوب قبول قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقول الرسول دلّ على أنّ القياس حجّة ، والقياس دلّ على
هذه الأحكام ، كان الكتاب دالّا عليها. ولا يمكن دلالته ابتداء لخلوّه عن دقائق
الهندسة والحساب ، وتفاريع الحيض والوصايا.
ولا محذور في
العمل بالاجتهاد في زمانه عليهالسلام في واقعة لا يمكن تأخير الحكم فيها إلى أن يصل الخبر من
اليمن إلى المدينة ، ثمّ منها إلى اليمن لتعذّر النص حينئذ.
والسنّة عبارة عن
الطريقة كيف كانت. والبعث انّما يكون بعد المعرفة بشرائط القضاء ، والمراد لمّا
عزم على البعث ، وجماعة منعوا من تخصيصها به.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
العزم على البعث كالبعث في اشتراط العلم بحال المبعوث ، وأنّه هل يصحّ الإنفاذ أم
لا؟ وذلك لا يمكن إلّا بعد اطّلاعه على معرفته بمدارك الأحكام ولا يجوز [أن] يخرج
النصّ عن المذهب الباطل.
وعن الثاني : بأنّ
روايتنا مشهورة وهذه غريبة لم يذكرها أحد من المحدّثين فلا يكون معارضا ، وكيف
يجوز أن يقول : «اكتب إليّ» وقد يعرض من الحكم ما لا يجوز تأخيره. وأيضا يمكن
الجمع بينهما وإن وردا في واقعة واحدة بأن يقال : الحادثة إن احتملت التأخير وجب
عرضها ، وإن لم تحتمل وجب الاجتهاد.
وفيه نظر ، لأنّه
يجوز التأخير إلى تحصيل معرفة الحكم بالفكر وقد يتطاول ، فكذا يجوز إلى وقت
الإنفاذ والشهرة ، وقد بيّنّا أنّها في خبر مرسل فاشتبه الغرابة والتفصيل ليس في
أحد الحديثين ، فلا يمكن وجه الجمع بينهما به ، لأنّ الثاني إنكار لقوله : اجتهد
مطلقا وأمر له بالمكاتبة مطلقا.
وعن الثالث :
بأنّه مرسل تلقّته الأمّة بالقبول ، فيعمل به.
وفيه نظر ، للمنع
من تلقّي الأمّة له بالقبول ، فإنّ منكري القياس لم ينقله إلّا على الوجه الذي
قلناه.
وعن الرابع : أنّ
عموم البلوى لا يوجب تواتره ، كالمعجزات المنقولة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وفيه نظر ، لأنّه
وإن لم يوجب تواتره لكن العادة تقضي به أو تشهد به ، وهما منفيان عنه لأنّه مرسل.
وعن الخامس : أنّ
خبر الواحد يثبت به ظن أنّ القياس حجّة وإن لم يثبت به القطع عليه.
وفيه نظر ، لأنّ
ظن كونه حجّة لا يقتضي كونه كذلك ، للمعارضة بما يدلّ على ذمّ اتّباع الظن.
وعن السادس : قوله
: «فإن لم تجد» يقتضي نفي النص جليا كان أو خفيا ويدلّ على كون «فإن لم تجد»
للعموم صحّة الاستثناء. ودلالة الكتاب والسنّة على العمل بالقياس لكنّهما لا
يشتملان على الحكم الحاصل بالقياس ، وهو كاف في أن يقال : إنّه غير موجود في
الكتاب والسنّة ، وقول معاذ : أحكم بكتاب الله ، أراد ما دلّ الكتاب عليه بذاته لا
مطلقا ، وإلّا لكان قوله : أحكم بالسنّة إذا لم أجد في الكتاب ، خطأ.
وعن السابع : بأنّ
البراءة الأصلية معلومة لكلّ أحد ، فلا حاجة في معرفتها إلى الاجتهاد ، فلا يجوز
حمل «اجتهد» عليه.
وفيه نظر ، لأنّ
دلالة البراءة إنّما تعلم بعد فقد الأدلّة العقلية والسمعية ، وذلك من المشكلات
الّتي يحتاج فيها إلى الاجتهاد.
وعن الثامن :
بإجماع الأمة على الحصر ، فوجب القطع به.
وفيه نظر ، فإنّ
الإجماع دلّ على نفيه كالاحتياط ، وأيضا اختلفوا في الطرق الباقية كالمصالح
المرسلة وغيرها.
وعن التاسع : بأنّ
الشرع سكت عند قوله : «اجتهد» لعلمه بأنّ الاجتهاد واف بجميع الأحكام ، ولو حمل
على المنصوص على علّته أو
على تحريم التأفيف
لم يف بذلك ولا بعشر عشر الأحكام.
وفيه نظر ، فإنّه
لا يلزم من عدم إيفائه بجميع الطرق جعل القياس طريقا.
* * *
السادس : سأل عمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن قبلة الصائم؟ فقال : أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكنت شاربه.
شبّه قبلة الصائم
من غير إيلاج بالمضمضة من غير ازدراد ، وأجرى حكم أحدهما على الآخر ، وهذا قياس ،
لأنّه أورد هذا الكلام ليدلّ على أنّ الجامع بينهما ما يفهمه كلّ عاقل عند سماعه
من أنّه لم يحصل عند المقدمتين الثمرة المطلوبة منهما ، فيجب أن لا يكون حكم
المقدّمة حكم المطلوب.
وإذا كان قياسا
وجب كون القياس حجّة لوجوب التأسّي.
ولأنّ قوله : «أرأيت»
خرج مخرج التقرير ، فلو لا أنّ التعبد بالقياس قد تمهّد عند عمر لما قرّره عليه ،
ولهذا جاز ممّن يعتقد الحكم بالكتاب أن
__________________
يقول لمثله : أليس
قد قال تعالى كذا؟ ولا يجوز لو كان هو والمخاطب لا يعتقدان كونه حجّة.
اعترض بأنّه خبر
واحد فلا يتمسّك به في العلميات ، وبأنّ مثل هذا القياس حجّة للتنبيه على العلّة ،
ولأنّ الحديث وإن دلّ على إجراء القبلة مجرى المضمضة ، لكن ليس فيه أنّ النص أوجب
ذلك أو القياس ، ومع الاحتمال فلا قطع على أحدهما.
أجيب بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينصّ على العلّة ، بل ذكر أصل القياس ، والعلّة سابقة
إلى الذهن ، وليس التنصيص على الأصل تنصيصا على العلّة.
قوله : ليس فيه
دلالة على إجراء القبلة مجرى المضمضة ، لنص أو قياس.
قلنا : بيّنّا أنّ
مفهوم «أرأيت» أنّ كلّ واحد منهما لم يحصل منه الثمرة المطلوبة بذلك الفعل ،
والعامي يفهم لو استفتى عن القبلة فقال المفتي : «أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته»
أنّ القبلة لا تفسد الصوم ويعلم إجراء أحدهما مجرى الآخر من الوجه الّذي ذكرناه ،
فبطل أن يقال : هذا الكلام لا يدلّ على الوجه الجامع بينهما ، وأنّه لا يمتنع أن
يكون بعض الظواهر اقتضى الجمع.
وفيه نظر ، للمنع
من ذكر ذلك القياس عليه ، بل لإزالة الاستبعاد.
سلّمنا ، لكن قوله
إنّه ليس نصا على العلّة ، بل على الأصل ينافي قوله : فبطل أن يقال هذا الكلام لا
يدل على الوجه الجامع بينهما.
السابع : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم للجارية الخثعمية لمّا سألته : يا رسول الله انّ أبي
أدركته فريضة الحج شيخا زمنا لا يستطيع أن يحج إن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال لها :
«أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك؟» ، قالت : نعم ، قال : «فدين
الله أحق بالقضاء» . ألحق دين الله بدين الآدمي في وجوب القضاء ، وهو عين
القياس.
وفيه نظر ، للمنع
من استفادة ذلك من القياس أمّا أوّلا فلما يأتي من أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يجوز له الاجتهاد.
وأمّا ثانيا
فلاستفادة ذلك من قوله تعالى : (عَلَى النَّاسِ حِجُّ
الْبَيْتِ) ، فيكون كدين الآدمي في عدم سقوطه إلّا بفعله ، ولم يذكر صلىاللهعليهوآلهوسلم الدين ليقاس عليه بل للتشبيه والتقريب ، ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إنّه أحق بالقضاء» والحكم في الفرع لا يكون أولى
منه في الأصل إلّا في مثل تحريم الضرب لتحريم التأفيف ، ونحن نقول به.
الثامن : روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قال لأمّ سلمة وقد سألته عن قبلة الصائم : هلّا
أخبرتيه إنّي أقبّل وأنا صائم. وإنما ذكر ذلك تنبيها على قياس غيره عليه.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع قصد القياس ، بل فعله واجب علينا لوجوب التأسّي ، ولمّا عرف صلىاللهعليهوآلهوسلم منهم الانقياد إلى متابعته ، ولهذا قلّ أن يفعلوا
__________________
بخلاف فعله ، بل
كانوا يتابعونه كما روي أنّه خلع فخلعوا.
التاسع : أمر سعد
بن معاذ بأن يحكم في بني قريضة برأيه ، وأمرهم بالنزول على حكمه ، فحكم بقتلهم
وسبي نسائهم ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لقد وافق حكمه حكم الله تعالى.
وفيه نظر ، لعدم
استلزام الحكم بالرأي في أمور الحرب الحكم بالقياس ، لأنّ الرأي أعمّ من القياس ،
فجاز أن يكون المراد الاستنباط من العمومات أو الاجتهاد في الأخذ بالأصلح للمسلمين
، وذلك راجع إلى أمور الدنيا.
العاشر : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لعن الله اليهود حرّمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها
وأكلوا أثمانها». حكم بتحريم الثمن باعتبار تحريم أكلها.
واعترض بأنّ تحريم
البيع ليس بالقياس على تحريم الأكل ، بل تحريم الشحوم تحريم مضاف إلى الأعيان
فينصرف إلى المعاني المعهودة منها ، والبيع من جملة عوارضها فدخل تحت التحريم ،
ولو كان تحريم الأكل مصرحا به لكان المراد منه تحريم التصرف ، لقوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ) ، وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) ، (وَلا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ) والمراد التصرّف بغير حق.
__________________
الحادي عشر : ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه علّل كثيرا من الأحكام ، وهو يقتضي وجوب اتّباع
العلّة أين كانت ، وذلك عين القياس. لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي لأجل الدافّة فادّخروها» .
[وقوله :] «كنت
نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها ، فإنّها تذكركم الآخرة» .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لمّا سئل عن بيع الرطب بالتمر «أينقص إذا يبس؟» فقالوا : نعم
فقال : «فلا آذن».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حق محرم وقصت به ناقته : «لا تخمّروا رأسه ولا تقربوه طيبا فانه يحشر
يوم القيامة ملبيا» .
__________________
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حقّ شهداء أحد : «زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دما ،
اللون لون الدم ، والريح ريح المسك».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الهرة : «إنّها ليست نجسة ، إنّها من الطوافين عليكم
والطوافات» .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا استيقظ أحدكم من نوم الليل فلا يغمس يده في الإناء
حتى يغسلها ثلاثا ، فإنّه لا يدري أين باتت يده».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الصيد : «فإن وقع في الماء فلا تأكل منه ، لعلّ الماء
أعان على قتله».
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا أقضي بينكم بالرأي فيما لم ينزل فيه وحي» .
__________________
والرأي تشبيه
الشيء بآخر ، وهو عين القياس.
والاعتراض بأنّ
النصّ على العلّة لا يستلزم الإلحاق فإنّه المتنازع ، والأخبار ما دلّت على
الإلحاق ، بل على التعليل ، والفائدة فيه تعريف الباعث على الحكم ليكون أقرب إلى
الانقياد ، ولهذا نصّ الشارع على العلل القاصرة ولا قياس هناك.
سلّمنا دلالتها
على الإلحاق لكن لا بأس بالعمل بمثل هذا النوع من القياس عند أكثر الناس ، وما روي
من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي أحكم بالرأي بما لم ينزل فيه وحي» مناف لقوله
تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى).
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ الرأي هو القياس.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من جوازه للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم المعصوم عن الخطأ جوازه للأمة الجائز عليهم الغلط.
وأيضا فيه نظر ،
لاحتمال عود قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما لم ينزل فيه وحي» إلى الأحكام الدنيوية الّتي ليس
من شأنها نزول الوحي فيها.
الثاني عشر : وهو
الّذي عوّل عليه أكثر القائلين بالقياس أنّ الصحابة أجمعوا على العمل به فيكون
حجّة.
وبيان الإجماع أنّ
بعض الصحابة عمل به أو قال ، ولم ينكر عليه أحد ، فيكون إجماعا.
__________________
أمّا عمل بعض
الصحابة فلوجوه :
الأوّل : كتب عمر
إلى أبي موسى : اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الأمور برأيك. وهو صريح في المقصود.
الثاني : أنّهم
صرّحوا بالتشبيه ، فإنّ ابن عباس أنكر على زيد قوله الجد لا يحجب الإخوة ، وقال :
ألا يتّقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ، ولا يجعل أب الأب أبا. وظاهر أنّ غرضه ليس تسمية الجدّ أبا ، لعدم خفاء مثله عن
ابن عباس وكان متقدّما في علم اللغة ، فكيف يطلق على الجد اسم الأب حقيقة ومع صحّة
نفيه فيقال : ليس أبا بل هو جد فنفى أن يريد أنّه بمنزلة الابن في حجب الإخوة ، كما أنّ ابن الابن بمنزلة الابن فيه. وعن علي عليهالسلام وزيد أنّهما شبّهاهما بغصني شجرة وجدولي نهر فعرفا بذلك
قربهما من الميت ، ثمّ شرّكا بينهما في الميراث.
الثالث : اختلفوا
في مسائل كثيرة ، وقالوا أقوالا مختلفة فيها ، ولا يمكن إلّا عن القياس ، وأكثر
الأصوليّون منها ، وأظهرها أربعة :
أ. مسألة الحرام :
قالوا فيها بخمسة أقوال :
فنقل عن علي عليهالسلام وزيد وابن عمر أنّه في حكم التطليقات الثلاث.
__________________
وعن ابن مسعود
أنّه في حكم الطلقة الواحدة ، إمّا بائنة أو رجعية على خلاف بينهم.
وعن أبي بكر وعمر
وعائشة أنّه يمين يلزم فيه الكفّارة.
وعن ابن عباس أنّه
في حكم الظهار.
وعن مسروق أنّه
ليس بشيء ، لأنّه تحريم لما أحلّ الله تعالى فصار كقوله : هذا الطعام عليّ حرام.
والمرتضى وباقي
الإمامية رووا هذا القول عن علي عليهالسلام.
ب. اختلفوا في
الجد مع الإخوة ، فورّثه بعضهم معهم ، ومنعه آخرون.
واختلف الأوّلون
فقال بعضهم : إنّه يقاسم الإخوة ما دامت المقاسمة خيرا له من الثلث ، فأجراه مجرى
الأم ولم ينقص حقّه عنها ، لأنّه جمع بين الولادة والتعصيب.
ومنهم من قال :
يقاسم الإخوة ما كانت المقاسمة خيرا له من السدس ، وأجراه مجرى الجدّة في عدم
النقصان من السدس.
ج. اختلفوا في
المشتركة وهي : زوج وأمّ وإخوة لأمّ وإخوة لأب وأم ، حكم عمر فيها بالنصف للزوج ،
وبالسدس للأمّ ، وبالثلث للإخوة من الأم ، ومنع الإخوة من الأبوين ، فقالوا له :
هب أن أبانا كان حمارا ألسنا من أم واحدة؟ فشرّك بينهم وبين الإخوة من الأمّ في
الثلث.
__________________
د. اختلفوا في
الخلع هل يهدم من عدد الطلاق شيئا ، أو يبقى عدد الطلاق كما كان ، فقال ابن عباس :
إنّه ليس بطلاق ، وهو رواية عن عثمان ، والأخرى إنّه طلاق.
فهذه المسائل إن
لم يصر أحد منهم فيها عن طريق كانوا متّفقين على الخطأ ، وهو باطل.
وإن كان عن طريق ،
فذلك ليس العقل ، لأنّ حكمه واحد ، وهو البراءة الأصلية ، وأكثر هذه الأقاويل
يخالف حكم الأصل. فهو السمع. فإن كان نصا قوليا أو فعليا جليّا أو خفيّا وجب
إظهاره ، لأنّ عادتهم تعظيم نصوص النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والإنكار على مخالفها حتى نقلوا منها ما لا يتعلق به حكم ،
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «نعم الإدام الخل» ، ومن عادتهم التفحّص عن النصوص والحثّ على نقلها إليهم
ليتمسّكوا بها إن كانت موافقة لمذاهبهم ، أو ليرجعوا عنها إن كانت مخالفة ، ومن
هذه عادته لا يجوز أن يحكم لنص ثم يسكت عن ذكره.
فثبت أنّه لو كان
هناك نصّ لأظهروه ، ولو أظهروه لاشتهر ، ولو اشتهر لنقل ، ولو نقل لعرفه الفقهاء
والمحدّثون ؛ ولكنّه لم ينقل ، لأنّا بعد البحث
__________________
الشديد والطلب
التام والمخالطة بالفقهاء والمتكلّمين ما وجدناه ، وإذا انتفى النص بقي القياس.
الرابع : نقل عن
الصحابة القول بالرأي ، وهو القياس.
قال أبو بكر :
أقول في الكلالة برأيي.
وقال عمر : أقضي
في الجد برأيي.
وفي الجنين لمّا
سمع الحديث : لو لا هذا لقضينا فيه برأينا.
وقال عثمان لعمر :
إن اتّبعت رأيك فرأيك رشيد ، وإن تتبع رأي من قبلك فنعم ذو الرأي.
وعن علي عليهالسلام : اجتمع رأيي ورأي عمر في أمّ الولد أن لا تباع ، وقد رأيت
الآن بيعهنّ.
وإنّما قلنا : إنّ
الرأي القياس ، لأنّه يقال في مقابلته فيقال : أقلت هذا برأيك أو بالنص؟ فلا يتناول الاستدلال بالنص
وإن كان خفيا. فثبت بهذه الوجوه الأربعة قول البعض.
وأمّا عدم الإنكار
، فلأنّه لو وجد لنقل ، لأنّ القياس أصل عظيم في
__________________
الشرع ، ونقله
أولى من نقل اختلافهم في مسائل جزئية ، ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا لتوفر الدواعي
عليه. وإنّما قلنا : إنّه إجماع ، لأنّ السكوت ليس للخوف بشدة انقيادهم إلى الحق ،
ولأنّ بعضهم خالف ، فلو كان هناك خوف يمنع من إظهار ما في قلوبهم لم يخالفوا ، فهو
عن الرضا.
والاعتراض من وجوه
:
الأوّل : لا نسلم
أنّ أحدا من الصحابة ذهب إلى القياس ، والروايات الّتي ذكرتموها لا يزيد رواتها
على المائتين ، وهو لا يفيد القطع بالصحة ، لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب ،
والأحاديث المستدلّ بها على أعيان المسائل مشهورة لكن لمّا انتهت إلى الواحد
والاثنين لم نقطع بها ، فكذا هنا.
لا يقال : الأمّة
بين معترف بها ، ومتأوّل ، فيلزم اتّفاقهم على النقل.
لأنّا نقول : سبق
عدم إفادة مثل هذا الجزم بالصحّة.
الثاني : نمنع
دلالة الأحاديث على العمل بالقياس ، فقول عمر : اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور
برأيك ، ليس في «اعرف الأشباه» حجّة ، لأنّه تعالى قد نصّ على حكم كلّ جنس ونوع ،
فيجب على المستدلّ معرفة الأشباه والنظائر ليدرج الشيء تحت جنسه ولا يخرجه منه.
وقد يحصل الاشتباه فيفتقر إلى التأمّل الكثير.
ولا في قوله : «وقس»
لأنّ القياس في اللغة التسوية ، فمعنى قس الأمور
__________________
برأيك : اعرض
الأشياء على فكرتك ، والفكر استحضار علوم أو ظنون ليتوصّل به إلى تحصيل علم أو ظن
، فالمتفكّر يريد التسوية بين النتيجة المجهولة والمقدمات المعلومة ، ليصير
المجهول معلوما. وهو متعيّن ، لأنّ الرأي هو الرويّة ، فقوله : «قس الأمور برأيك»
معناه : سوّ الأشياء برويّتك والتسوية بالرويّة عبارة عمّا قلناه ، فيرجع الأمر
إلى أنّه أمره بأن لا يحكم بالتشهّي ، والتمنّي ، بل بالاستدلال ، وليس ذلك عبارة
عن القياس الشرعي.
سلّمنا إرادة
تشبيه الفرع بالأصل ، لكن كما يحتمل أن يكون المراد التشبيه في ثبوت الحكم كذا
يحتمل إرادة التسوية في عدم إثبات الحكم في الفرع إلّا بالنصّ.
وأمّا تشبيه ابن
عباس فيمنع أنّه جمع بين الأمرين بعلّة قياسية ، فجاز أن يكون الإنكار لأجل أنّه
كما يسمّي النافلة بالابن مجازا ، وكفى هذا الاسم المجازي في اندراج النافلة تحت
قوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) ، كذا الجد يسمّى أبا مجازا فجاز الاكتفاء بهذا الاسم المجازي
في الاندراج تحت : (وَوَرِثَهُ أَبَواهُ).
ويؤيده نسبة ابن
عباس زيدا إلى مفارقة التقوى ، وتارك القياس لا يكون كذلك ، بل تارك النصّ ، ووجه
ترك زيد النص ما قلناه.
وأمّا ذهاب كلّ
منهم إلى ما صار إليه ، فجاز أن يستند إلى ما ظنه نصّا ، سواء أصاب في ظن دلالته
أو أخطأ.
__________________
ونمنع وجوب النقل
والاشتهار والوصول إلينا.
ولا يلزم من
تعظيمهم للنص اقتضاء ظهور النصّ الّذي لأجله ذهبوا إلى ذلك القول ؛ لأنّ التعظيم
إنّما يقتضي الإظهار عند الحاجة إلى إظهاره ، وهي منتفية ، لأنّ الحاجة ليست مع
المناظر هنا لعدم اجتماعهم في محفل للمناظرة ، ولم تجر عادتهم بذلك. ولا مع
المستفتي لانتفاء الفائدة بذكره معه.
سلّمنا أنّ شدّة
التعظيم تقتضي إظهار النص ، لكن بشرط أن يتمكّن السامع من الانتفاع به ، ولم يوجد
هناك ، لأنّه إذا روى ذلك النصّ ، كان خبر واحد وليس بحجة ، فلا فائدة في إظهاره.
الثالث : سلّمنا
أنّه يجب الإظهار ، لكن إذا كان جليا ، لأنّ الداعي إنّما يحصل في إظهار دليل
المذهب لو كان ظاهرا قويا ، أمّا إذا كان خفيا فلا.
الرابع : سلّمنا
دلالة ما ذكرتموه على المطلوب ، لكنّه معارض بأنّه لو كان ذهابهم إلى مذاهبهم لأجل
القياس لوجب عليهم إظهاره كالنص ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة القياس الذي لأجله
ذهب إلى ما ذهب إليه.
لا يقال : الفرق
أنّ القياس لا يجب اتّباع العالم فيه بخلاف النص.
لأنّا نقول :
القياس الجلي يجب الاتباع فيه ، وإلّا لما حسنت المناظرة بين القائسين.
الخامس : لا نسلّم
أنّهم لم يظهروا النصوص ولا يجب الاشتهار ، لأنّه ليس من الوقائع العظام الّتي يجب
توفّر الدواعي على نقلها.
لا يقال : لما
توفّرت الدواعي على نقل مذاهبهم ، مع انتفاء الفائدة فيها ، فنقل الأدلّة مع ما
فيها من الفوائد أولى.
لأنّا نقول : لم نمنع
من نقل الأمور الّتي لا تكون عظيمة ، بل لم يوجبه ، وبينهما فرق.
السادس : سلّمنا
أنّه من الأمور العظيمة ، لكن لا يجب نقلها ، كالمعجزات ، وأمر الإقامة في التثنية
والإفراد مع ظهوره مع أنّه لم ينقله إلّا واحد واثنان ، فجاز أن لا ينقله ذلك
الواحد أيضا.
السابع : سلّمنا
أنّها لو اشتهرت لنقلت ، لكن نمنع عدم النقل ، ولا يجب أن يعرفه كلّ أحد فإنّه لا
يمكن ادّعاء معرفة كلّ واحد بما نقل عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والصحابة ، فجاز أن يكون البعض يعرفه.
الثامن : سلّمنا
أنّه لو نقل لعرفه كلّ أحد ، لكن لا نسلم أنّا لا نعرفه ، فإنّ من قال في مسألة
الحرام أنّه يمين ذهب إلى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ) إلى قوله (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ). وأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حرّم على نفسه مارية القبطية فأنزل الله تعالى هذه الآية ،
وسمّاه يمينا.
ومن قال لا اعتبار
به تمسّك بقوله تعالى : (لا تُحَرِّمُوا
طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ) والنهي يدلّ على الفساد ، أو البراءة الأصلية.
ومن قال : إنّه
كالطلاق ثلاثا زعم أنّه قد يجعل كناية عن الطلاق ،
__________________
فوجب تنزيله على
أعظم أحواله وهو الطلاق ثلاثا. ومن قال : إنّه ظهار ، جعله كناية عنه ، والكنايات
في اللغة ليست قياسا شرعيا.
التاسع : سلّمنا
أنّ قولهم ليس للنص ، فلم قلت : إنّه للقياس ، بل جاز أن يصيروا إلى تنزيل اللفظ
على أقل المفهومات ، أو على الأكثر ، أو إلى الاستصحاب ، أو إلى المصالح المرسلة
الخالية عن شهادة الأصول ، أو إلى الاستقراء ؛ وفرق بينه وبين القياس ، لأنّه
استدلال بالجزئيات على الكلّي والقياس استدلال بجزئي على آخر ، أو أنّه كان من
مذهبه أنّ مجرد قوله حجّة ، ومستند ذلك الوهم أنّ مجرد قول بعض الأنبياء حجّة ،
فيكون قول هذا العالم حجّة.
والأوّل : لقوله
تعالى : (إِلَّا ما حَرَّمَ
إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ) أضاف التحريم إليه.
والثاني : لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل» فهذه الشبهة تقتضي أنّ مجرد قول العالم حجّة ، واستندوا
إلى الإجماع.
لا يقال : يستحيل
حصول الإجماع في محل الخلاف.
لأنّا نقول :
المقصود من الإجماع ثبوت الواسطة بين النص والقياس في الجملة.
__________________
العاشر : لا نسلّم
أنّ الرأي هو القياس ، لأنّه مرادف للرؤية ، فلا يكون حقيقة في القياس ، دفعا
للاشتراك. وإذا لم يكن في اللغة للقياس ، فكذا في عرف الشرع ، لأنّ النقل على خلاف
الأصل.
ولأنّ الرأي لو
كان اسما للقياس لكان اللفظ المشتق منه دليلا على القياس ، فيكون معنى فلان يرى
كذا أي يقيس ، وهو معلوم البطلان.
وقال أبو بكر : «أقول
في الكلالة برأيي» ليس بالقياس ، لأنّ اللغة لا تفسّر بالقياس.
الحادي عشر :
سلّمنا التقابل بين النص والرأي لكن نمنع وجوب كون الرأي قياسا ، فإنّ النص هو
اللفظ الدال على الحكم دلالة جلية ، فما لا يكون كذلك لا يكون نصا ، فجاز أن يكون
استدلالا لفظيا خفيا. وبالجملة الحصر بين النص والقياس ممنوع.
الثاني عشر :
سلّمنا عمل البعض ، لكن نمنع عدم الإنكار ، فإنّه قد نقل إنكار الرأي والقياس وذم
من أثبت الحكم بغير الكتاب والسنّة ، وهو مشهور عندهم على ما تقدّم في الفصل
السابق.
لا يقال : الذين
نقلتم عنهم منع القياس نقلنا نحن عنهم العمل به ، فلا بدّ من التوفيق وليس إلّا
المنع من العمل به إلّا مع شرائط خاصة.
__________________
لأنّا نقول : نحن
نقلنا تصريح المنع والردّ على الإطلاق من غير تقييد بصورة خاصة وأنتم لم تنقلوا
التصريح بالعمل ، بل رويتم أحكاما ثمّ استدللتم بوجوه غامضة على أنّ تلك الأحكام
دالّة على قولهم بالقياس ، ومعلوم أنّ تصريح الردّ أقوى ممّا ذكرتموه.
سلّمنا ، لكن يمكن
التوفيق بوجه آخر ، وهو أنّ بعضهم كان قائلا بالقياس حين كان البعض الآخر منكرا
ثمّ انقلب القائل به منكرا أو بالعكس ، فيكون كلّ منهم مادحا للقياس وذامّا له من
غير تناقض ، ولا يحصل به إجماع على العمل.
الثالث عشر : قول
البعض وسكوت الباقين لا يدلّ على الإجماع لإمكان السكوت للخوف والتقية.
قال النّظام : هنا لم يجمع الصحابة على القياس ، بل القائل به قوم
معدودون قليلون ، كعمر وعثمان وابن مسعود وأبي وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء
وأبي موسى وغيرهم من أصاغر الصحابة ، ولمّا كان فيهم عمر وعثمان من السلاطين ومعهم
الرغبة والرهبة ، شاع ذلك في الدهماء ، وانقادت لهم العامة والباقون لم يعلموا به وجاز لهم
التقية لعلمهم أنّ إنكارهم غير مقبول.
قال : ويدل عليه
أنّه قال في الفتيا عبد الله بن عباس ، والعباس أكبر منه ولم يقل شيئا في الفتيا
من غير عجز ولا عيّ ولا غيبة عن شيء شهده ابنه.
__________________
وقال في الفتيا
عبد الله بن الزبير ، والزبير أعظم منه ولم يقل فيه شيئا.
وكان أبو عبيدة
ومعاذ بالشام ، فقال معاذ ولم يقل أبو عبيدة مع أنّ أبا عبيدة أعظم منه.
وكيف يقال الخوف
قد كان زائلا ، وقد قال ابن عباس : هبته وكان مهيبا.
ولأنّ العظيم إذا
اختار مذهبا ، شقّ عليه إبطاله وصار ذلك سببا للعداوة.
قوله : لو كان
الخوف مانعا من المخالفة لما اختلفوا في مسألة الجدّ والحرام وغيرهما.
قلنا : القياس أصل
عظيم في الشرع نفيا وإثباتا ، وكان النزاع فيه أصعب من النزاع في الفروع ، ولهذا
حكم من لم يعتقد القياس من أهل زماننا بضلال القائل به بخلاف فروع الفقه.
الرابع عشر :
سلّمنا عدم ظهور أسباب الخوف ، لكن أجمع المسلمون على عدم عصمتهم ، فجاز ارتكابهم
لما لا ينبغي ، وحسن الظن بهم لا يكفي في الأمور القطعية.
الخامس عشر :
لعلّهم سكتوا لعدم ظهور بطلان القياس وحقّيّته ، ففرضهم حينئذ السكوت لو اعتقد
خطأه ، لكنّه من الصغائر فلا يجب
__________________
الإنكار ، أو
اعتقد كلّ منهم أنّ غيره أولى بالإنكار.
السادس عشر :
سلّمنا أنّهم بأسرهم رضوا ، لكن نمنع حصوله دفعة ، فإنّ ذلك لا يعلمه إلّا الله
تعالى ، ولم يجلسوا في محفل واحد قطعوا بصحّته دفعة واحدة ، فجاز أن يكون حين رضى
أحدهم ، توقّف الآخر وأنكره بقلبه.
لا يقال : هذا
الاحتمال يمنع من انعقاد الإجماع.
لأنّا نقول : أهل
الإجماع كانوا قليلين في زمن الصحابة فأمكن اجتماعهم في محفل واحد وقطعهم بالحكم
فيخلو هذا الإجماع عن الاحتمال ، وهو سؤال الظاهر به ، ولهذا قالوا : لا حجّة إلّا
في إجماع الصحابة.
السابع عشر :
سلّمنا انعقاد الإجماع على نوع من الأقيسة ، لكن لم ينقل خصوصية ذلك النوع ، ولا
العمل بكلّ أنواعه ، ولا يلزم من الإجماع على العمل بنوع الإجماع على العمل
بالجميع ، فلا نوع إلّا ويحتمل أن يكون هو المجمع عليه ، وأن يكون غيره. فكلّ نوع
مشكوك فيه ، فلا يجوز العمل بشيء منه.
لا يقال : بعض
الأمّة نفى العمل بالقياس وبعضهم أثبته ، وكلّ من أثبته أثبت نوعا معينا مثلا ،
فلو أثبتنا غيره كان خرقا للإجماع.
لأنّا نقول : نمنع
أنّ كلّ من أثبت القياس أثبت نوعا معينا لانقسامه إلى نوعي المناسب وغيره ، ووقوع
الاختلاف في كلّ نوعيه. فردّ قوم المناسب ، لابتنائه على تعليل الأحكام بالمصالح
والأغراض ، وهو باطل عند الأشاعرة. وردّ الأكثر غيره ، فلا قياس مجمع عليه.
الثامن عشر :
سلّمنا الإجماع على نوع منه ، لكن جاز أن يكون هو قياس تحريم الضرب على تحريم
التأفيف والمنصوص عليه.
التاسع عشر :
سلّمنا إجماع الصحابة في زمانهم على العمل به ، فلا يلزم التعدية إلى زماننا ،
فإنّ الصحابة لمشاهدتهم الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم والوحي فربّما عرفوا من القرائن الحالية أنّ غرض الحكم
الخاص رعاية الحكمة العامّة ، فجاز لهم التعبّد به أمّا غيرهم فلا لانتفاء
مشاهدتهم القرائن.
لا يقال : كلّ من
جوّز للصحابة جوّزه لغيرهم.
لأنّا نقول : لا
يمكن القطع بأنّ أحدا من الفرق مع كثرتهم وتفرّقهم منع الفرق ، وعدم العلم بالشيء لا يقتضي العلم بعدمه.
أجيب عن الأوّل : بأنّ اختلاف الصحابة في الجدّ والحرام
والمشتركة والإيلاء والخلع وتقدير حدّ الشرب وقولهم بالتشبيه والرأي
، وما نقل من الأحاديث في القياس كخبر معاذ وابن مسعود والخثعمية والقبلة وأمر عمر
أبا موسى بالقياس ، قد بلغ مجموع هذه الروايات فيها حدّ التواتر ، ومن طالع
الأخبار قطع بشيء منها ، وأي واحد صحّ كان دالّا على المطلوب.
سلّمنا أنّه ظني ،
لكن نمنع كون المسألة قطعية ، لأنّها عملية ، فيقوم
__________________
الظن مقام العلم
في وجوب العمل ، فلا فرق بين أن يتواتر النقل عن الشرع بالأمر بالقياس وبين أن
يخبرنا من يظن صدقه في وجوب العمل.
وفيه نظر ، فإنّ
الظنّ إنّما يحصل مع عدم المعارض ، وقد بيّنا النقل عمّن نقلتم عنه بالمنع من
العمل بالقياس على سبيل التصريح ، فإن لم يكن راجحا فلا أقل من المساواة ، فيمتنع
حصول الظن والعلم.
وعن الثاني : أنّ
مقدّمة كلام عمر ومؤخّرته تبطل حمل قوله : (اعرف الأشباه) على معرفة الجنس ليندرج
فيه أنواعه ويخرج عنه غيرها ، وهو قوله : «الفهم عند ما يختلج في صدرك ممّا لم
يبلغك في كتاب ولا سنّة اعرف الأشباه والنظائر ، وقس الأمور عند ذلك ، ثمّ اعمد
إلى أحبّها إلى الله وأشبهها بالحق فيما ترى». وهو صريح في الأمر بالقياس الشرعي.
وهو جواب عن تجويز
إرادة تشبيه الفرع بالأصل في عدم استفادة حكمه من غير النص ، وتجويز إرادة المجاز
في تسمية الجد أبا باطل ، فإنّه لا يجوز أن يكون إنكار ابن عباس على زيد لأجل
امتناعه من المجاز في أحد الموضعين دون الثاني ، لأنّ حسن المجاز في أحد الموضعين
لا يوجب القطع به في الثاني. وإذا لم يكن الإنكار على التفرقة في إطلاق اسم
المجازي توجّه إلى التفرقة في الحكم الشرعي ، فيكون تصريحا بالقياس الشرعي.
وجاز أن يكون هذا
القياس جليّا عند ابن عباس واعتقد أنّ الخطأ فيه مخرج عن التقوى ، فلهذا حكم عليه
بمفارقة التقوى فيه ، أو أنّه محمول على المبالغة.
واستقراء العرف
يشهد بأنّ في إظهار النص تعظيم حال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه من حكم بشيء غريب يخالفه جمع ، يوافقونه على تعظيم
شخص بعينه ، ووجد ذلك الحاكم حجّة من قول العظيم فإنّه يذكر لهم ذلك القول ويصرّح
به.
والحاجة إلى ذكره
حاصلة مطلقا ، لأنّ من يعتقد إثبات مذهبه بالنصّ فإنّه يعلم أنّ مخالفته لا لطرق ،
أو لطريق مرجوح مخالف للنصّ ، والمساوي يستلزم التوقّف ، فيكون الحكم بأحدهما
حراما والراجح يكون هو مخالفا للنصّ.
فإذن من أثبت
مذهبه بالنصّ يعتقد فيمن خالفه ، أو في نفسه كونه مخالفا للنصّ لكن شدّة إنكارهم
على مخالف النصّ تقتضي شدة احترازهم عنها ، ولا طريق إلى الاحتراز إلّا بذكر ذلك
النصّ. فشدّة التعظيم له صلىاللهعليهوآلهوسلم تقتضي إظهار نصوصه مطلقا.
وبهذا يظهر الجواب
عن الثالث : لأنّ دليل التعظيم يستلزم ذكر النص خفيّا كان أو جليّا.
وفيه نظر ، لأنّ
كلام عمر أوّلا وآخرا لا ينافي الحمل على معرفة الأجناس ، لأنّ الجزئي المندرج تحت
الجنس ليس منصوصا عليه بخصوصه وإن دخل تحت المنصوص ، ولمّا كان الجزئي قد يندرج
تحت كلّيات متضادة في الأحكام ، وجب معرفة الذاتي منها دون العرضي ليندرج ذلك
الجزئي تحت ذاتيّة لا عرضيّة ، ليكون أشبهها بالحقّ ، وليس ذلك من القياس في شيء.
وإنكار ابن عباس في التسمية لا في التفرقة في الحكم
الشرعي ، بل من
حيث إنّ إحدى الإضافتين إذا صدقت وجب صدق الأخرى ، فإنّ الابن إذا صدقت عليه إضافة
البنوة إلى الجد وجب صدق إضافة الأبوّة على الجد ، فالتخلّف محال فلهذا أنكر ابن
عباس على زيد.
وقد خفيت كثير من
النصوص إلى وقت الحاجة إليها عن كثير من الصحابة ، كحكم المجوس ، وعدد فصول
الإقامة والأذان مع إظهار أمرها وإكثار الإشعار بهما وغير ذلك ، ولا ينافي ذلك
تعظيمهم للرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا يلزم انحصار الطرق في ظاهر النصوص والقياس ، فجاز
المصير إلى النصّ الخفيّ والاستصحاب والبراءة الاصلية ، فلا يجب ذكر المستند ،
ولئن وجب فإنّما هو عند التنازع والتجادل.
وعن الرابع :
بالفرق من وجوه :
أ. إنكارهم على
مخالف النص فوق إنكارهم على مخالف القياس ، ولا يلزم من ترك أقل الإنكارين ترك
أعظمها.
ب. الخواطر مستقلة
بمعرفة العلل القياسية فلا يجب التنبيه عليها ، وغير مستقلة بمعرفة النصوص ، وهو
يقتضي وجوب التنبيه عليها.
لا يقال : لو لم
يجب التنبيه على العلل القياسية لما حسنت المناظرات. لأنّا نقول : ليس كلّ ما لا
يجب لا يحسن.
ج. النصوص يجب
اتّباعها ، فيجب نقلها بخلاف الأقيسة ، لأنّ كلّ مجتهد مصيب فلا يجب اتّباعها ولا
نقلها.
د. النصوص يمكن
الإخبار عنها على كلّ حال ، وقد يتعذّر التعبير عن
الأمارات ،
كالأمارة في قيم المتلفات وأروش الجنايات ويعجز المقوم عن ذكر أمارة ملخصة في
تقدير القيمة بالقدر المعين.
لا يقال : فقهاء
الزمان يعبرون عن الأمارات.
لأنّا نقول :
المتأخّر يلخّص في كلّ علم ما لا يلخصه المتقدّم.
سلّمنا وجوب الذكر
لكن التنبيه كاف فلا يجب التصريح. وقد نبّهوا على العلل بالإشارة إلى الأصول الّتي
ذكروها ، لأنّهم اتّفقوا على أنّ حكم : «أنت عليّ حرام» على حكم الطلاق أو الظهار
أو اليمين ، وعلّته ظاهرة ، لأنّه موضوع للتحريم ، فيؤثّر فيه إذا توجّه إلى
الزوجة كهذه المسائل.
ثمّ إنّ كلّا منهم
رجّح أصلا اختاره ، فمن رجّح الاحتياط جعله كالطلاق ثلاثا.
ومن رجّح اليقين
جعله طلقة واحدة.
ومن جعله ظهارا
رجّح مشابهته إيّاه في اقتضاء التحريم ومباينته لصرائح الطلاق وكناياته ، ثمّ جعل
كفّارته كفّارة الظهار ، أخذا بالاحتياط ، لأنّها أغلظ من كفّارة القتل.
ومن رجّح كفّارة
اليمين أوجبها أخذا بالأقل ، فذكر هذه الأصول ينبه على كيفية قياساتهم.
وعن الخامس : أنّ
هذه المسائل ممّا يكثر وقوعها فاشتدت الحاجة إلى معرفة حكم الله تعالى فيها
بالدليل فتتوفر الدواعي على حفظ النصوص الواردة فيها ، وهذا وإن لم يفد القطع
فإنّه يفيد الظن.
وفيه نظر ، لأنّ
ذلك لو أوجب النقل لأوجب التواتر ، والتالي باطل إجماعا.
وعن السادس : انّا
لا ندّعي أن يعرفه كلّ أحد ، بل أن يكون مشهورا في الكتب بحيث يجده كلّ من حاول
تحصيله.
وفيه نظر ، لأنّه
إذا لم يجب عموم نقله لم يختص الناقل بالمصنّف للكتب ، فجاز أن ينقله غيره ولم
يضعه في كتاب فلم يوجد في الكتب المشهورة.
وعن السابع : أنّ
قوله تعالى : (لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكَ) لا يدلّ على أنّ حكمه ما هو إذا حرّم. ثم إن دلّ فإنّما
يدلّ على مذهب مسروق فأمّا قوله : (قَدْ فَرَضَ اللهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ) ، فليس في الآية أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لبعض نسائه : أنت عليّ حرام ، بل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم حرّم ما أحلّ الله له ، فيجوز أن يكون قد حرمه بلفظ اليمين
بأن كان قد حلف أنّه لا يقرب مارية القبطية ، بل هذا أولى ، لأنّ اليمين هو القسم
بالله ؛ وليس في قوله : «أنت عليّ حرام» قسما بالله ، فلا دلالة لهذه الآية على
حكم المسألة.
ولأنّه لو نزلت
بسبب قوله لمارية : «أنت عليّ حرام» لكان نصّا في الباب ، فلم يجز لأحد العدول عنه
لشدة إنكارهم على مخالف نصّه.
وأمّا من جعله
كالطلقات الثلاث فليس من صرائح ألفاظه ، ولا ممّا
__________________
أجمعوا على أنّه
من كناياته ، فلا بدّ وأن نقول : إنّه مثل حكم الصريح أو الكناية ، وهذا التشبيه
نفس القياس ، نعم بعد ثبوت هذه المشابهة يدخل تحت قوله : (إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ).
ومن حمله على
الواحدة أخذا بالمتيقّن ، فإنّما يكون بعد تشبيهه بالصريح أو الكناية ، فلا بد من
القياس.
ومن جعله كالظهار
إن أجراه مجراه في الحكم فهو القياس.
ومسروق لم يعتمد
على البراءة الأصلية ، بل قاسه على قصعة من ثريد حيث قال : لا فرق عندي بينه وبين
تحريم قصعة من ثريد.
ولأنّ مسروقا
تابعيّ فإن عاصر الصحابة وقت اختلافهم ، فقد تركت الصحابة البراءة الأصلية بسبب
القياس لما بيّنّا من أنّهم ما ذهبوا إلى مذاهبهم لأجل النص ؛ فيقتضي عمل بعض
الصحابة بالقياس ، وهو مطلوبنا ، وإن لم يعاصرهم ذلك الوقت كان إجماعهم حجّة.
وفيه نظر ، فإنّ
دلالته على مذهب مسروق يبطل احتجاجهم به ، وجاز أن يكون السبب خفيّا عند بعض
الصحابة فخالف. والتشبيه بالقصعة هو عين البراءة الأصلية كالقصعة المحلّلة بالأصل.
وعن التاسع : أنّ
كلّ من قال بأنّ الصحابة لم يرجعوا في تلك الأقاويل إلى البراءة الأصلية وإلى
النصوص الجليّة أو الخفيّة قال : إنّهم عملوا فيها بالقياس.
__________________
وفيه نظر ، للمنع
من الحكم الكلّيّ ، ثمّ من جواز رجوعهم إلى أحد الثلاثة.
وعن العاشر : أنّ
الرأي وإن لم يختص لغة بالقياس ، لكنّه مختصّ به شرعا لقيام دليله ، وهو ما رويتم
من ذم الرأي ، وأنتم وافقتم على أنّ المراد به القياس ، فعرفنا أنّ عرف الشرع
يقتضي التخصيص.
وفيه نظر ، لجواز
كون الذم قرينة على التخصيص.
وعلى الثاني عشر :
بأنّ روايات الإنكار وإن كانت صريحة وروايات الاعتراف غير صريحة لفظا ، لكنّها
صريحة بحسب الدلالة فلم قلتم : إنّه يبقى ما ذكرتم من الترجيح؟
ولو انقلب المنكر
معترفا وبالعكس لاشتهر ، لأنّه من الأمور العجيبة ، ولمّا لم يشتهر لم يقع.
وفيه نظر ، لأنّا
بيّنّا عدم دلالة ما ذكرتم على الاعتراف ، ولو دلّ لكانت دلالته أضعف من دلالة
التصريح قطعا ، وهو كاف في الترجيح ، وأي عجب في رجوع المفتي عن فتواه لظهور ما لم
يكن ظاهرا عنده.
وعلى الثالث عشر :
أنّ شدّة انقياد الصحابة إلى الحق ينفي الخوف.
وفيه نظر ،
لمنافاة قول ابن عباس وتصريحه في هيبته وكان مهيبا.
وعلى الخامس عشر :
أنّ التوقّف إن كان في أوّل الأمر ، أمّا بعد انقضاء الأعصار فالظاهر ظهور الحقيّة
أو البطلان.
قوله : لعلّ كلّ
واحد اعتقد أنّ غيره أولى بالإنكار.
قلنا : لا بدّ وأن
يكون واحد منهم أولى بذلك ، أو يكون الكلّ في درجة واحدة ، وكيف كان فإجماعهم على
ترك الإنكار إجماع على الخطأ.
وفيه نظر ، لجواز
ظهور البطلان ، وقد وجد ما يدلّ عليه وهو ذمّ القائل به ، وليس إذا كان واحدا أولى
بالإنكار يلزم إجماعهم على الخطأ لو تركوا الإنكار ، أقصى ما في الباب أنّه يكون
ذلك الواحد مرتكبا للخطإ.
وعلى السادس عشر :
أنّ الأصل في كلّ ثابت بقاؤه على ما كان.
وعلى السابع عشر :
بانعقاد الإجماع على أنّ القياس المناسب حجّة.
وفيه نظر ، لمنع
الإجماع فإنّه المتنازع.
وعلى التاسع عشر :
أنّ أحدا لم يفرّق بين الصحابة وغيرهم ، فيكون الإجماع حاصلا ظاهرا.
وفيه نظر ، لأنّ
أحدا لم ينص على عدم الفرق ، أقصى ما في الباب عدم العلم بالفارق ، وذلك لا يستلزم
العلم بعدمه.
واعلم أنّ بعض
الأصوليين قرر الإجماع على وجه آخر وهو : أنّ الصحابة اختلفوا في فروع كثيرة بالضرورة وذهبوا
فيها إلى آراء مختلفة ، فإن لم يكن عن طريق كان إجماعا على الباطل ، وهو محال ؛
وإن كان عن طريق فليس العقل ، لأنّه يقتضي البراءة الأصلية لا غير ، ويمتنع أن
يكون قول كلّ من المختلفين قولا بالبراءة الأصلية ، فيكون سمعيا ، فإن كان قياسا
فالمطلوب.
__________________
وإن كان نصّا
استحق مخالفة العقاب العظيم ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) ، ولم يكن كلّ واحد من المختلفين يعتقد كون صاحبه يستحق
العقاب العظيم بسبب المخالفة.
وما ليس بنصّ ولا
قياس باطل ، لأنّ كلّ من قال : إنّهم لم يتمسّكوا في مذاهبهم بالنصوص الجليّة ولا
الخفيّة ولا البراءة الأصلية قال : إنّهم تمسّكوا بالقياس ، فلو أثبتنا غيره لزم
خرق الإجماع.
وفيه نظر ، لأنّك
إذا ادّعيت الإجماع على الإفتاء بالعمل بالقياس أو باستنادهم إليه كان مكابرة ،
ولو سلّم فلا نسلّم أنّ إجماع الكلّ عليه لإنكار كثير منهم ، بل الّذي يمكن
ادّعاؤه إجماع طائفة منهم ، وهو ليس حجّة لما عرف من أنّ الأشهر أنّ حال الصحابة
كحال غيرهم في وجوب البحث عنهم ، بل قد طعن جماهير المعتزلة في عائشة وطلحة
والزبير وجميع أهل العراق والشام بقتالهم عليا عليهالسلام ، وقال قوم من سلف القدرية : يجب رد شهادة عائشة وطلحة
والزبير مجتمعين ومفترقين ، لأنّ فيهم فاسقا لا نعرفه بعينه ، وقال قوم : نقبل
شهادة كلّ واحد إذا انفرد ، لأنّه لم يتعيّن فسقه ، ويرد إذا كان مع مخالفه للعلم
بأنّ أحدهما فاسق ، وشكّ بعضهم في فسق عثمان وقتلته .
__________________
سلّمنا ، لكن نمنع
عدم مصيرهم إلى نصوص خفية أو إلى أدلّة العقل على ما تقدّم.
* * *
الثالث عشر : القياس يفيد ظنّ الضرر فوجب جواز العمل به.
أمّا الأولى فلأنّ
من ظن أنّ علّة حكم الأصل كذا وأنّها موجودة في الفرع ، فإنّه يظن أنّ حكم الفرع
كالأصل ، ومعلوم أنّ مخالفة حكم الله تعالى سبب للعقاب ، فيتولّد من ذلك الظنّ ،
وهذا العلم ظنّ ان ترك العمل به سبب للعقاب.
وأمّا الثانية
فللعلم بعدم إمكان الخروج عن النقيضين والجمع بينهما ووجوب العمل بما يرجح في الظن
خلّوه عن المضرة والترك للمرجوح ، وهذا هو معنى جواز العمل بالقياس.
والاعتراض من وجوه
:
أ. دليلكم مبني
على إمكان ما يدلّ على أنّ الحكم في الأصل معلّل بعلّة ، ثمّ على وجود ذلك الدليل
، ثمّ على إمكان ما يدلّ على حصول ذلك الوصف في الفرع ، ثمّ على وجود ما يدلّ عليه
، ثمّ على أنّه يلزم من حصول ذلك الوصف في الفرع حصول ذلك الحكم فيه. وسيأتي
الكلام على هذه المقدّمات الخمس.
__________________
ب. سلّمنا حصول
الظن ، وما ذكرتم من ترجيح الخالي عن الضرر على المشتمل عليه منقوض بعدم وجوب قبول
قول الشاهد الواحد مع ظنّ صدقه ، وعدم قبول الشاهدين والثلاثة في الزنا ؛ وبما إذا
ظهرت مصلحة لا يشهد باعتبارها حكم شرعي ، وبما إذا ادّعى المظنون صدقه النبوّة ،
وبما إذا غلب على ظن الدهري والكافر قبح هذه الشرائع ، فإنّه لا يجوز العمل بالظن
في شيء من ذلك وإن كانت راجحة.
لا يقال : المظنة
إنّما تفيد الظنّ لو انتفى الدليل القاطع على فسادها ، وفي هذه الصور وجد القاطع على فساده.
لأنّا نقول :
فالقياس إنّما يفيد ظنّ الضرر إذا انتفى دليل فساده ، فيصير نفي دليل الفساد جزءا
من مقتضى ظنّ الضرر ، فعليكم بيان النفي حتى يمكن ادّعاء ثبوت ظنّ الضرر.
ج. متى يجب
الاحتراز عن الضرر إذ أمكن تحصيل العلم به أو لا؟
الأوّل ممنوع
والثاني مسلّم ، فإنّ الشيء إذا أمكن تحصيل العلم به قبح الاكتفاء فيه بالظن ،
لأنّه إقدام على ما لا يؤمن فيه الخطأ والقبح مع إمكان الاحتراز عنه ، وهو قبيح
إجماعا.
أمّا إذا لم يمكن تحصيل العلم فإنّه يكفي الظن ، وإنّما يجوز الاكتفاء بالظن
في مسائل الشرع إذا بيّنتم عدم طريق العلم فيها ، وإنّما يصحّ
__________________
لو ثبت انتفاء ما
يدلّ عليها في الكتاب والسنّة ولا وجد إمام معصوم يعرفنا تلك الأحكام ، إذ على
تقدير ثبوت أحدها يحصل يقين الحكم.
د. سلّمنا عدم
طريق العلم لكن لم قلت : إنّه لم يوجد طريق ظن أقوى من ظن القياس؟ إذ بتقديره يكون
القول بالقياس قولا بأضعف الظنين مع التمكّن من الأعلى ، وهو غير جائز.
أجيب عن ب. بأنّ الدليل الشرعي لمّا قام على عدم الالتفات إلى
تلك المظان لم يبق الظن ، ولا يجوز أن يكون عدم الدليل المبطل جزءا من المقتضي
وليس كلّ ما يمنع وجوده من عمل المقتضي كان عدمه جزءا منه ، فإنّ مانع الثقيل من
النزول لا يصير عدمه جزءا من علّة النزول ، لاستحالة كون العدم جزءا من علة
الوجود.
وفيه نظر ، فإنّ
الظنّ قائم بالوجدان والّذي قام الدليل الشرعي عليه عدم الالتفات إليه ، أمّا على
عدم الظن فلا ، ولا يلزم من الدليل على المنع من العمل بهذا الظن عدم الظن في نفسه
، والعدم جزء من العلّة لتوقّف وجود المعلول عليه.
وعن ج. بالمنع من
اشتراط الرجوع إلى الظن في الشرعيات بعدم التمكّن من العلم ، فإنّه إذا حصل الظن
الغالب بسبب القياس باشتمال أحد الطرفين على المفسدة والآخر على المصلحة وفي مدة استقصاء طلب
__________________
العلم لا بدّ وأن
يرجح أحد الطرفين على الآخر ، لامتناع ترك النقيضين ، وصريح العقل يشهد بأنّه لا
يجوز ترجيح المرجوح ، فتعيّن ترجيح الراجح ، وهو الجواب أيضا عن الإمام المعصوم.
وفيه نظر ، للإجماع
على أنّ تسويغ العمل بالظن مشروط بعدم العلم فلا يتوجه المنع عليه ، ومدة استقصاء
الطلب هي مدة النظر وهو غير مكلّف بالفعل حينئذ ، وينتقض بما إذا شهد أحد الشاهدين
وانتظر الآخر ، فإنّ الظن حاصل ولا يجوز الحكم.
الرابع عشر : عقلت
الأمّة من قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) انّ المنع من ضربهما ، ولم يعقل ذلك إلّا قياسا.
والاعتراض : نمنع
أنّ قولهم بذلك للقياس ، بل عقلت الأمّة المنع من الضرب لفظا ، كما أنّ قول القائل
: «ما لفلان عندي حبّة» يفيد في عرف اللغة نفي القليل والكثير. أو نقول : إنّه
قياس معلوم ، لأنّ منع التأفيف معللا بالأذى ، وكون الأذى علّة معلوم غير مظنون ،
وهذه العلّة موجودة في الضرب بالضرورة.
الخامس عشر :
أجمعت الأمّة على قياس الزناة على ما عزّ في الرجم.
والاعتراض : نمنع
استنادهم إلى القياس ، بل أجمعوا على أنّ حكم الزنا حكم ما عزّ من قصد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ضرورة ، أو لقوله : «حكمي على الواحد
__________________
حكمي على الجماعة»
، أو أنّه قياس معلوم ، فإنّ كون الزنا بشرط الإحصان علّة في الرجم معلوم لا
مظنون.
السادس عشر : قد
تعبّدنا الله تعالى بالاستدلال بالأمارات على جهة القبلة مع الاشتباه ، وأن نصلي
إلى الجهة الّتي ظننا أنّ القبلة فيها ، وهذا تعبّد بالاستدلال بالأمارات وبالعمل
بحسبها.
والاعتراض : من
الناس من منع من الاجتهاد في القبلة وأوجب الصلاة إلى أربع جهات ، ومنهم من سوّغه
، وفرق بأنّ أمارات القبلة عقلية لا سمعية ، ولا مانع من التعبّد بالأمارة في
القبلة دون الأمارات المظنونة الشرعية ، ولا يلزم من التعبّد بالأمارة في موضع
التعبّد بها في كلّ موضع إلّا لجامع.
لا يقال : إذا جاز
التعبّد بالأمارة في موضع جاز في كل موضع ، لأنّ المسوغ واحد وكذا المانع ، ولأنّ
التعبّد في القبلة إنّما كان لأنّه لمّا لم يحصل العلم بها بالمعاينة لم يبق إلّا
التعبّد بالأمارة. وكذا مع فقد النص على الحوادث لا يبقى إلّا التعبّد بالأمارة.
لأنا نقول :
الأوّل يدلّ على جواز التعبّد بالأمارة في الحوادث الشرعية وليس ذلك مسألتنا.
وجاز في الثاني
التعبّد بوجوه أخر ، كحكم العقل فيبقى في الحوادث
__________________
على مقتضى العقل.
ولا يلزم عند اشتباه القبلة الصلاة إلى جهة من الجهات ، ويمكن التعبّد إلى جميع
الجهات ، أو إلى أي جهة اخترنا .
السابع عشر : كلّ حادثة
لا بدّ فيها من حكم ، ولا بدّ وأن يكون إليه طريق. وكثير من الحوادث لا نصّ فيها ،
ولا إجماع ، وليس بعدهما إلّا القياس ، ولو لم يكن حجّة خلت أكثر الحوادث من أن
يكون إلى حكمها طريق.
والاعتراض : لا
نسلم الخلو على تقدير عدم القول بالقياس لاشتمال النصوص على جميع الحوادث إمّا
شمولا ظاهرا أو خفيّا ، ولا يبعد ذلك وإن كثرت الحوادث إذا كانت النصوص عامّة ،
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما سقت السماء العشر» فإنه شامل لجميع ما سقت السماء وإن كثر عدده ، وأيضا إن
أراد المستدل أنّه لا بدّ في كلّ حادثة من حكم ، أي من قضية إمّا نفيا أو إثباتا ،
فصحيح لكن لا يلزم أن يكون طريق ذلك الشرع ، بل قد يجوز أن يكون الطريق شرعيا
وعقليا ، وإن أراد بالحكم حكما شرعيا منعناه بجواز خلو كثير من الحوادث منه.
الثامن عشر : روى
أبو هريرة أنّ رجلا من فزارة قال للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ امرأتي ولدت غلاما أسود ـ معرّضا بزناها ـ فلم يجعله
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قاذفا ، ولكن قال صلىاللهعليهوآلهوسلم له : «ألك إبل؟» ، قال : نعم ، قال : «ما ألوانها» ، قال :
__________________
حمر ، قال : «فهل
فيها أسود» قال : نعم ، قال : «فأنى ذلك؟» ، قال : لعل عرقا نزعه ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وهذا لعلّ عرقا نزعه».
والاعتراض : ليس
في ذلك قياس ، بل هو تنبيه على أمارة عقلية في حكم عقلي.
البحث الرابع : في
القياس المنصوص على علّته
اختلف الناس في
النصّ على علّة الحكم هل هو تعبّد بالقياس بها أم لا بدّ من تعبّد زائد؟
فقال أبو الحسين :
قال الجعفران وبعض أهل الظاهر : ليس النصّ على العلّة تعبّدا بالقياس بها.
وقال أبو إسحاق
النظّام والفقهاء وبعض الظاهرية : إنّ النصّ عليها يكفي في التعبّد بالقياس بها.
وقال أبو هاشم :
يجب القياس بها ، ولم يذكر ورود التعبّد بالقياس.
وقال أبو عبد الله
البصري : إن كانت العلّة المنصوصة علّة في التحريم ، كان النص عليها تعبّدا
بالقياس بها ؛ وإن كانت علّة في إيجاب الفعل أو كونه ندبا ، لم يكن النص عليها
تعبّدا بالقياس بها.
__________________
والوجه عندي قول
النظّام.
لنا وجوه :
الأوّل : الأحكام
الشرعية تابعة للمصالح الخفيّة والشرع كاشف عنها ، فإذا نصّ على العلّة عرفنا
أنّها الباعثة والموجبة لذلك الحكم ، فأين وجدت العلّة وجب وجود المعلول.
الثاني : قوله :
حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، ينزل منزلة ؛ حرمت كلّ مسكر ، إذا لم يكن للخصوصية مدخل
في العلّة.
الثالث : قوله :
حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، يقتضي إضافة الحرمة إلى الإسكار ، وهو يدلّ على أنّ
العلة هي الإسكار ، فوجب أن يترتّب الحكم عليه أينما وجد.
الرابع : إذا قال
: حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، فإمّا أن تكون العلّة هي مطلق الإسكار ، أو الإسكار
المختصّ بالخمر. فإن كان الأوّل لزم وجود التحريم أين وجد ، إذ يلزم من وجود
العلّة التامّة وجود معلولها.
وإن كان الثاني لم
تكن العلّة هي نفس كونه مسكرا ، لأنّه قدر مشترك بين الخمر وغيره لتغاير الخصوصيات
الّتي بها يمتاز بعض الأنواع عن بعض ، والحكم إنّما إذا أضيف إلى كونه مسكرا وهو
القدر المشترك ، فلا يكون للخصوصية أثر العلّيّة.
احتجّ المانعون مطلقا بأنّ قوله : حرّمت الخمر لكونها مسكرة
__________________
يحتمل أن تكون
العلّة هي الإسكار ، وأن تكون هي إسكار الخمر ، بحيث يكون قيد كونه مضافا إلى
الخمر معتبرا في العلّة ، وإذا احتمل الأمران لم يجز القياس إلّا عند أمر مستأنف
بالقياس.
والجواب : لا نسلم أنّ قيد كون الإسكار في ذلك المحل يحتمل أن يكون
جزءا من العلّة ، فإنّ تجويز ذلك يستلزم تجويز مثله في العقليات ، حتى يقال :
الحركة إنّما اقتضت المتحرّكيّة لقيامها بمحلّ خاص ، وهو محلّها ، فالحركة القائمة
بغيره لا تكون علّة للمتحرّكية.
سلّمنا ، إمكان
كونه معتبرا في الجملة لكنّ العرف يسقط هذا القيد عن درجة الاعتبار ، فإنّ الأب لو
قال لابنه : لا تأكل هذه الحشيشة لأنّها سمّ ، يقتضي منعه عن أكل كلّ حشيشة تكون
سمّا ، فيكون في الشرع كذلك لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن».
سلّمنا أنّه غير
ساقط عرفا إلّا أنّ الظنّ قاض بسقوطه ، لأنّ علّة الحكم وجب أن تكون منشأ الحكمة ،
ولا مفسدة في كون الإسكار قائما بهذا المحل أو بذاك ، بل منشأ المفسدة كونه مسكرا
فقط ، فإذا غلب على ظنّنا ذلك ، وجب الحكم به احترازا عن الضرر المظنون.
سلّمنا أنّ إلغاء
هذا القيد غير ظاهر ، لكنّ دليلكم إنّما يتمشّى فيما إذا
__________________
قال الشرع : حرّمت
الخمر لكونه مسكرا ؛ أمّا لو قال : علّة حرمة الخمر هي الإسكار ، انتفى ذلك
الاحتمال.
اعترض : بأنّ الحركة إن عنى بها معنى يقتضي المتحرّكيّة فهذا
المعنى يمتنع فرضه بدون المتحرّكيّة ، وإن عنيت شيئا آخر بحيث يبقى فيه ذلك
الاحتمال ، فهناك نسلّم أنّه لا بدّ في إبطال ذلك الاحتمال من دليل منفصل.
قوله : العرف
يقتضي إلغاء هذا القيد.
قلنا : ذاك عرف بالقرينة
، وهي شفقة الأب المانعة من تناول المضر ، فلم قلت : إنّه في العلّة المنصوصة كذلك؟
قوله : الغالب على
الظنّ إلغاء هذا القيد.
قلنا : هب أنّ
الأمر كذلك ، ولكن إنّما يلحق الفرع بالأصل ، لأنّه لمّا غلب على ظنّنا كونه في
معناه ، ثمّ دلّ الدليل على وجوب الاحتراز من الضرر المظنون ، فحينئذ يجب الحكم في
الفرع بمثل حكم الأصل ، لكن هذا هو الدليل الّذي دلّ على كون القياس حجّة ،
فالتنصيص على علّة الحكم لا يقتضي إثبات مثله في الفرع إلّا مع الدليل الدالّ على
وجوب العمل بالقياس.
قوله : لو صرّح
بأنّ العلّة هي الإسكار لا يبقى فيه هذا الاحتمال.
قلنا : في هذه
الصورة يستلزم الإسكار الحرمة أين وجد ، لكنّه ليس
__________________
بقياس ، لأنّ
العلم بأنّ الإسكار من حيث هو إسكار يقتضي الحرمة يوجب العمل بثبوت هذا الحكم في
كلّ محالّه. ولم يكن العلم بحكم بعض تلك المحال متأخّرا عن العلم بالبعض ، فلم يكن
جعل البعض فرعا ، والآخر أصلا أولى من العكس ، فلا يكون هذا قياسا ، بل يكون قياسا
لو قال : حرّمت الخمر لكونه مسكرا ، فحينئذ يكون العلم بثبوت هذا الحكم في الخمر
أصلا للحكم به في النبيذ ، ومتى قال على هذا الوجه انقدح الاحتمال المذكور.
واعلم أنّ التحقيق
في هذا الباب أن يقال : النزاع هنا لفظي ، لأنّ المانع إنّما منع من التعدية ،
لأنّ قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» فيحتمل أن يكون في تقدير التعليل بالإسكار
المختص بالخمر فلا يعمّ ، وأن يكون في تقدير التعليل بمطلق الإسكار فيعمّ ،
والمثبت يسلّم أنّ التعليل بالإسكار المختص بالخمر غير عام ، وأنّ التعليل بالمطلق
يعمّ. فظهر أنّهم متّفقون على ذلك.
نعم النزاع وقع في
أنّ قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» هل هو بمنزلة انّ علّة التحريم الإسكار أو
لا؟ وهذا غير البحث الّذي وقع نزاعهم فيه ، فنحن نقول : إن كان قوله : «حرّمت
الخمر لكونه مسكرا» مختصّا بإسكار الخمر لم يكن مطلق الإسكار علّة ، بل العلّة
الّتي نصّ الشارع عليها إسكار الخمر وتكون قاصرة ، فلا يثبت الحكم في غير المنصوص
؛ وإن كان قوله : «حرّمت الخمر لكونه مسكرا» في قوة علّة التحريم الإسكار وجب
التعميم ، فيجب أن يجعل البحث هل قوله : «حرّمت الخمر لإسكاره» بمنزلة علّة
التحريم الإسكار
أو لا؟ لا أنّ النصّ على العلّة هل يقتضي ثبوت الحكم في جميع مواردها فإنّ ذلك
متّفق عليه.
احتجّ البصري بأنّ من ترك أكل رمّانة لحموضتها وجب أن يترك أكل كلّ
رمانة حامضة ، أمّا من أكل رمّانة لحموضتها لا يجب عليه أن يأكل كلّ رمّانة حامضة.
واعترض بمنع وجوب
ترك الكلّ ، لاحتمال أن يكون الداعي إلى الترك حموضة هذه الرمّانة لا مطلق حموضة
الرمّان ، وحموضة هذه الرمّانة غير حاصلة في سائر الرمّانات.
سلّمناه ، لكن لا
فرق في ذلك بين الفعل والترك.
قوله : من أكل
رمانة لحموضتها لا يجب أن يأكل كلّ رمّانة حامضة.
قلنا : الموجب
لذلك أنّه لم يأكل لمجرد الحموضة ، بل مع قيام الشهوة وخلاء المعدة عن الرمّان ،
وعلمه بعدم تضرره بها ، وهذه القيود لم توجد في أكل الرمّانة الثانية.
وفي الأوّل نظر ،
لما قلنا من أنّ التنصيص إن كان على الحموضة المقيّدة بهذه المحل صارت العلّة
قاصرة ، وامتنع التعميم إجماعا.
__________________
البحث الخامس : في
تعدية التحريم من التأفيف إلى باقي أنواع الأذى
اختلف الناس في
إلحاق تحريم الضرب بتحريم التأفيف ، فقيل : إنّه قياس وسمّوه جليا ، وقيل : إنّه
ليس بقياس بل العرف نقله عن موضوعه اللغوي إلى المنع من أنواع الأذى.
احتجّ الأوّلون بأنّه لو دلّ تحريم التأفيف على تحريم أنواع الأذى فإمّا
بحسب اللغة ، وهو باطل بالضرورة ، لأنّ التأفيف غير الضرب ، فالمنع من التأفيف لا
يكون منعا من الضرب.
وإمّا بحسب العرف
، وهو باطل ، لأنّه على خلاف الأصل.
ولأنّه لو ثبت هذا
النقل في العرف ، لما حسن من الملك إذا استولى على عدوه أن ينهى الجلّاد عن
الاستخفاف به ، وإن كان يأمره بقتله. وإذا بطلت دلالة اللفظ عليه ، علمنا أنّ
تحريم الضرب مستفاد من القياس.
وفيه نظر ، لأنّ
هذا النقل وإن كان على خلاف الأصل إلّا أنّه مشهور متعارف حتى صار أصلا يقاس عليه
، ولأنّ التعدية أيضا على خلاف الأصل فلم كان أحدهما أولى من الآخر ، وحسن نهي
الجلاد عن الاستخفاف لما فيه من الرذالة.
__________________
واحتجّ الآخرون
بوجوه :
الأوّل : لو كان
ذلك بالقياس لما قال به المانع منه.
الثاني : لو منع
الله تعالى من التعبّد بالقياس الشرعي لم يعلم العاقل حرمة الضرب عند تحريم التأفيف.
الثالث : أجمعنا
على أنّ قولنا : «فلان لا يملك حبّة» يفيد أنّه لا يملك شيئا البتّة وإن كان أقل
من حبّة ، وكذا إذا قلنا : «فلان مؤتمن على قنطار» فإنّه يفيد في العرف أنّه مؤتمن
مطلقا ، والفهم يسارع إلى هذه المعاني العرفية عند إطلاق هذه الألفاظ فكانت منقولة
بالعرف ، فيكون تحريم التأفيف موضوعا بحسب العرف للمنع من الإيذاء ، لمسارعة الفهم
إليه.
واعترض على الأوّل ؛ أنّ من القياس يقيني ، كمن علم علّة الحكم في
الأصل ووجود مثلها في الفرع فإنّه لا بدّ وأن يعلم ثبوت الحكم في الفرع.
ومنه ظنّيّ ، وهو
الّذي تكون إحدى مقدّمتيه أو كلتاهما ظنّية ، والقياس في هذه المسألة من النوع
الأوّل ، فلم يقدح الخلاف في القياس الظنّي فيه ، وهو الجواب عن الثاني.
وعن الثالث : أنّ
قوله : «ليس عندي حبّة» يفيد نفي الأكثر من الحبّة ، لوجود الحبّة فيه لا ما نقص
لعدم تعرّض كلامه له.
__________________
وقولهم : لا يملك
نقيرا أو لا قطميرا يفيد أنّه ليس له شيء البتّة وإن كان النقير في اللغة عبارة عن
: النقرة الّتي هي على ظهر النواة. والقطمير ما في شقّها وإنّما حكمنا فيه بالنقل
العرفي للضرورة ، ولا ضرورة في مسألتنا.
وقولنا : «فلان
مؤتمن على قنطار» يفيد كونه مؤتمنا على ما دونه لدخوله فيه ، أمّا ما فوقه فلا
يدخل فيه.
وفيه نظر ، فإنّ
من يخرج هذا النوع عن القياسيّة ويجعله دالّا على تحريم أنواع الأذى بالعرف الطارئ
لا يجعل علّة الحكم هنا معلومة ، لأنّه لا عليّة هنا ولا قياس ، فكيف يكون يقينيا
ولا ينسحب ما ذكره جوابا عن الثاني ، لأنّ العلم الضروري حاصل بتحريم الضرب من
تحريم التأفيف وإن منع من القياس الشرعي وحرّمه ، فكيف يكون القياس يقينيا حينئذ
إلّا أن يمنع تجويز المنع من التعبّد بالقياس الشرعي ، وذلك ممّا لم يقل به أحد.
وقوله : «إن ليس
له عندي حبّة» يفيد نفي الأكثر منها لوجود الحبّة فيه ؛ ليس بجيد ، لأنّ ذلك يفيد
نفي الأزيد وإن لم تكن الحبّة موجودة فيه إذا تغاير الجنس.
البحث السادس : في
التناسب بين حكم الأصل والفرع
ثبوت الحكم في
الأصل إن كان يقينيا استحال أن يكون الحكم في الفرع أقوى منه ، لأنّه ليس فوق
اليقين درجة ؛ وإن لم يكن فثبوته في الفرع قد يكون أقوى من ثبوته في الأصل ، كقياس
تحريم الضرب على تحريم التأفيف فإنّ تحريم الضرب وهو الفرع أقوى ثبوتا من تحريم
التأفيف الّذي هو الأصل.
وفيه نظر ، فإنّ
تحريم التأفيف يقيني ، فهو من قبيل الأول. نعم أنّ الحكم في الفرع أولى وهو مغاير
للأقوى ، فلا يعدّ الثاني قسما للأوّل ؛ وقد يكون مساويا ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يبولنّ أحدكم في الماء الراكد» فإنّه يقاس عليه البول في الكوز وصبّه في الراكد ، ولا
تفاوت بين الحكم في الأصل والفرع ، وهذا يسمّى بالقياس في معنى الأصل ؛ وقد يكون
دونه ، وذلك كجميع الأقيسة الّتي تمسّك بها الفقهاء في مناظراتهم وبحسب مراتب
الظنون يحصل مراتب التفاوت ، وهي غير محصورة لعدم انحصار مراتب الظن.
__________________
تذنيب
لمّا ظهر بطلان
العمل بالقياس إلّا ما كان منصوصا على علّته ، وجب النظر في القياس وأركانه
الأربعة ، وبيان شرائطها ، ومعرفة العلل المنصوص عليها ، وإبطال ما عداها من
المستنبطات بالطرق الّتي بيّنها الخصم ، وقبح تلك الطرق وما يلحق بذلك ، ونحن نذكر
جميعه بعون الله تعالى.
الفصل الثالث :
في طرق التعليل
وفيه مباحث :
الأوّل : في
إمكانه
اعلم أنّ حاصل
القياس يرجع إلى أصلين : كون الحكم في الأصل معلّلا بكذا ، وثبوت ذلك الوصف في
الفرع. والأوّل أعظمهما.
وقد نازع في ذلك
نفاة القياس فقالوا : إمّا أن يراد بالعلّة المؤثر في الحكم ، أو ما يكون داعيا
للشرع إلى إثباته ، أو ما يكون معرّفا له ، أو معنى رابعا.
والأقسام [الثلاثة]
الأول باطلة ، وكذا الرابع لعدم إفادة تصوّره.
إنّما قلنا : إنّه
ليس المراد من العلّة المؤثر في الحكم والموجب له ، لأنّ حكمه تعالى عند الأشاعرة
خطابه الّذي هو كلامه القديم ، والقديم يمتنع تعليله ، فضلا عن أن يعلّل بعلّة
محدثة.
وعلى قول المعتزلة
الأحكام أمور عارضة للأفعال ، معلّلة بوقوع تلك
الأفعال على جهات
مخصوصة مبني على القبح والحسن العقليين ، وقد أنكرها الأشاعرة فلا يليق منهم تفسير
العلّة بالموجب.
وأيضا الواجب ما
يستحق العقاب على تركه ، واستحقاق العقاب وصف ثبوتي ، لأنّه يقتضي الاستحقاق ، وتركه هو أن لا يفعله ، وهو عدميّ ، فلو كان
ذلك الاستحقاق معلّلا بهذا الترك لكان معلّلا بالعدم ، وهو محال.
لا يقال : يجوز أن
يقال : القادر لا ينفك عن فعل الشيء أو فعل ضده ، فإذا ترك الواجب فعل ضده ،
فاستحقاق العقاب على فعل الضد وهو الثبوتي.
لأنّا نقول : هذا لا يستقيم على رأي أبي هاشم وأبي الحسين وأتباعهما ،
بجواز خلوّ القادر من الفعل والترك عندهم ، ولأنّ فعل الضد لو لم يستلزم الإخلال
بالواجب لم يستلزم استحقاق الذمّ والعقاب ، ولو فرض الإخلال بالواجب من غير فعل
الضد استحقّ الذمّ والعقاب. فإذن المستلزم بالذات لهذا الاستحقاق هو أن لا يفعل
الواجب ، لا فعل ضده.
وأيضا لو كانت
العلل الشرعية مؤثّرة لم تجتمع العلل الكثيرة على الحكم الواحد ، والتالي باطل ،
فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المعلول يجب عند وجود علّته التامّة فيستغني عن
__________________
غيرها ، فلو
تعدّدت استغنى بكلّ منها عن الأخر ، فيكون محتاجا إلى كلّ حالة استغنائه عنه ، وهو محال.
وبيان بطلان
التالي : أنّه لو زنا وارتدّ ، أو بال وتغوّط ، كان كلّ منهما علّة مستقلة في
الحكم ، وهو واحد لامتناع اجتماع المثلين.
وبتقدير وقوعه
يلزم المحال من جهة أخرى ، وهو امتناع ترجيح إسناد أحد الحكمين إلى أحد العلّتين
من غير مرجّح.
وأيضا كون القتل
العمد العدوان قبيحا ، وموجبا لاستحقاق الذمّ والعقاب والقصاص لو كان معلّلا بكونه
قتلا عمدا عدوانا مع أنّ العدوانية صفة عدمية ، لأنّ معناها أنّها غير مستحقّة ،
كان العدم جزءا من علّة الأمر الوجودي ، وهو محال.
ولا يجوز أن يكون
شرطا لصدور الأثر عن المؤثر ، لأنّ العلّيّة لم تكن حاصلة قبل حصول هذا الشرط ثمّ
حدثت عند حصوله ، فوصف العلّية أمر حادث لا بدّ له من مؤثر وهو الشرط ، فلو جعلنا
الشرط عدما لزم تعليل العلّيّة بالعدم ، وهو محال.
اعتذر بعض الفقهاء
بأنّ هذه الإشكالات إنّما تتوجّه على تقدير جعل الأوصاف مؤثّرات لذواتها في
الأحكام ، ونحن نقول كونها عللا أمر ثبت لها بالشرع ، فهي لا توجب لذاتها الأحكام
، بل بجعل الشرع. وعليه عوّل
__________________
الغزالي ، وهو باطل ، لأنّك إن أردت بجعل الزنا موجبا للرجم أنّ
الشرع قال : مهما زنا إنسان فاعلموا أنّي أوجبت الرجم ، فمسلّم لكن يرجع حاصله إلى
كون الزنا معرّفا ، وهو غير ما نحن فيه.
وإن أردت أنّه جعل
الزنا مؤثّرا في الحكم فهو باطل [من وجهين] :
أمّا أوّلا :
فلأنّه معترف بأنّ الحكم خطابه القديم ، فلا يمكن تعليله بالصفة المحدثة ، سواء
كانت تلك الموجبة بالذات أو بالجعل.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ الشارع إن لم يصدر عنه أمر البتّة عند جعله الزنا علّة فلا جعل ؛ وإن صدر
فإمّا الحكم ، فالمؤثر فيه الشارع لا الوصف ، وقد فرض أنّ المؤثّر الوصف ، هذا
خلف.
أو ما يؤثّر في
الحكم ، فيكون تأثير الشارع في إيجاد ذلك المؤثر ، ثمّ بعد وجوده يؤثّر في الحكم
لذاته فتكون موجبيّته لذاته لا بالشرع.
أو لا الحكم ولا
ما يوجبه ويؤثر فيه ، لم يحصل الحكم حينئذ ، فلم يجعل الشرع ذلك الوصف موجبا له ،
وقد فرض كذلك ، هذا خلف.
وأمّا الداعي
فلأنّه في الحقيقة موجب ، لأنّ القادر لما صحّ منه فعل الشيء وضده لم تترجّح
فاعليّته لأحدهما إلّا إذا علم أنّه مصلحة ، فيكون العلم هو الّذي لأجله صار فاعلا
لأحدهما بدلا عن كونه فاعلا للآخر ، فالعلم هو الموجب لتلك الفاعليّة والمؤثر فيها
، وهو معنى قول القائل : أكلت للشبع.
__________________
وإذا ثبت هذا ،
فهو محال في حقّه تعالى ، لأنّ كلّ فاعل لغرض مستكمل به ، لأنّ حصول ذلك الغرض ولا
حصوله بالنسبة إليه في اعتقاده إن استويا استحال أن يكون غرضا ، وإن كان أحدهما
أولى كان حصول تلك الأولوية معلّقا بفعل ذلك الغرض ، وكلّ معلّق على غيره ليس
واجبا لذاته ، فحصول ذلك الكمال غير واجب لذاته فهو ممكن ، فلا يكون كماله تعالى
صفة واجبة ، بل ممكنة الزوال ، وهو محال.
لا يقال : حصول
ذلك الغرض وعدمه سواء بالنسبة إليه تعالى وليس سواء بالنسبة إلى الغير فيفعله
تعالى لغرض عائد إلى الغير لا إليه.
لأنّا نقول : كونه
فاعلا للفعل الّذي هو أولى بالعبد ، وكونه غير فاعل له ، إن تساويا بالنسبة إليه
تعالى من كلّ الوجوه ، استحال أن يكون داعيا له إلى الفعل. ثمّ لا يصحّ من
المعتزلة ، لقولهم : لو لم يفعل لاستحقّ الذم ولما كان مستحقا للمدح. وإن كان
أحدهما أولى به عاد الإشكال.
وأيضا البديهة
حاكمة بانحصار الغرض في جلب النفع ودفع المضرة ، والمنفعة هي اللّذة أو ما يكون
وسيلة إليها ، والمضرّة الألم أو ما يكون وسيلة إليه ، والوسيلة إلى اللّذة مطلوبة
بالعرض والمطلوب بالذات هو اللّذة.
وكذا وسيلة الألم
مهروب عنها بالغرض ، والمهروب عنه بالذات الألم خاصّة ، فرجع حاصل الغرض إلى تحصيل
اللّذة ، ورفع الألم ، والله تعالى قادر على تحصيل كلّ لذّة ودفع كلّ ألم من غير
واسطة ، فيستحيل أن يكون فاعليّته لشيء لأجل تحصيل اللّذّة ودفع الألم ، لأنّ
الشيء إنّما يعلّل بغيره لو لزم من عدم ما فرض علّة ، أو ما يقوم مقامها عدمه
وإلّا انتفت العلّيّة ولهذا لم
يثبت علّيّة صرير
الباب ونعيق الغراب للسماء والأرض.
وإذا ثبت هذا
فنقول : لمّا لم تكن فاعليّته تعالى لتحصيل اللّذات ودفع الآلام متوقّفة على هذه
الوسائط ، ولم تكن فاعليّته للوسائط متوقّفة على فاعليّته لتلك اللّذات والآلام ،
استحال تعليل أحدهما بالآخر. وإذا بطل التعليل بطل كونها داعية لما بيّنّا أنّ
الداعي علّة لعلّيّة العلّة الفاعلية.
وأمّا المعرّف
فإنّه باطل أيضا ، لأنّا إذا قلنا : الحكم في الأصل معلّل بكذا لم يرد المعرّف
وإلّا لصار معنى الكلام : الحكم في الأصل إنّما عرف ثبوته بواسطة الوصف الفلاني ، وهو
باطل ، لأنّ علّيّة الوصف لذلك الحكم لا تعرف إلّا بعد معرفة ذلك الحكم ، فكيف
يكون الوصف معرّفا؟
والجواب : أمّا الأشاعرة فإنّهم يفسّرون العلّة بالمعرّف.
قوله : الحكم
معرّف بالنص ، ولا يمكن كون الوصف معرّفا له.
قلنا : الحكم
الثابت في محلّ الوفاق فرد من أفراد ذلك النوع من الحكم ثمّ بعد ذلك يجوز قيام
الدلالة على كون ذلك الوصف معرّفا لفرد آخر من أفراد النوع من الحكم.
وعلى هذا التقدير
لا يكون ذلك تعريفا للمعرّف. ثمّ إذا وجدنا ذلك الوصف في الفرع حكمنا بحصول ذلك
الحكم ، كما أنّ الدليل لا ينفك عن المدلول.
__________________
وأمّا المعتزلة
فإنّهم يفسّرون العلّة الشرعيّة تارة بالموجب ، وأخرى بالداعي ، فيحتاجون إلى
الجواب عن هذه الكلمات.
واعلم أنّ القياس
والتعليل لا يتمشّى على قواعد الأشاعرة ، لأنّ الإسكار إن كان علّة في تحريم الخمر
بمعنى الباعث ، بطل قولهم : إنّه لا يفعل لغرض ؛ وإن كان بمعنى الأمارة ، فأمّا في
الخمر وهو باطل لثبوت الحكم فيه بالنص وكون المعرف هو النصّ لا غيره ، وأمّا في
غيره ولا دليل على كونه علّة فيه ، إذ الموجب للتعليل هو الاقتران ولم يعلم بعد
وفي صورة الاقتران وهو الأصل لا علّته.
وأمّا المعتزلة
فإنّهم يسندون الأحكام إلى الحكم والمصالح ويجعلون الشرع كاشفا عنها لا أنّه جعل
الوصف علّة وباعثا ، فإنّ الوصف علّة لذاته لا بجعل جاعل ، فيبطل ما أوردوه من
الشّبه.
أمّا أ. فلما ثبت
من الحسن والقبح العقليّين.
وأمّا ب. ففيه نظر
، إذ لا يصحّ الاستدلال بكون الاستحقاق عدميا على أنّ الاستحقاق ثبوتي ، لأنّ
الظاهر عند العقل إنّما هو الأمور الثبوتية وبواسطتها نعرف العدميات ، ودخول حرف
السلب لا يصحّ دليلا لوجوده في العدميات كما يوجد في الأمور الثبوتية ، وترك
الواجب من القادر مستند إلى إرادة وداع فاستحق العقاب لهذه العلّة الوجودية ، على
أنّا نمنع كون الاستحقاق ثبوتيا ، بل هو وصف اعتباري وإلّا لزم التسلسل.
وفي ج. نظر ، لمنع
اتّحاد الحكمين وتماثلهما ، فإنّ استحقاقية القتل
بالردّة مغاير
بالنوع لاستحقاقيته بالنوع وبالزنا ، ولهذا لو تاب عن أحدهما دون الآخر قبل ولا
يقبل بالعكس.
وفي د. نظر ، فإنّ
العدوانية ليست عدما مطلقا ، بل هي وصف اتّصف بعدم الاستحقاق.
سلّمنا : لكن
العدمي جاز أن يكون جزءا من العلّة وشرطا ، والعلّيّة ليست وصفا ثبوتيا وإلّا لزم
التسلسل ، بل هي أمر اعتباري فجاز إسناد مثله إليه. وكون العلّة لم تكن حاصلة قبل
الشرط وحصلت عنده لا يقتضي تعليلها به ، وأمّا كون الغرض مقتضيا للنقصان فمدفوع
بمثله ، فإنّ العبث عين النقص والله تعالى كامل لذاته فلا يقع عنه العبث ، ونمنع
الاستكمال بالغرض ، لأنّ الله تعالى كامل لذاته والكامل لذاته لا يفعل إلّا ما هو
الأولى في نفسه ، ولا يستلزم ذلك تحصيل كمال له قد كان فاقده.
سلّمنا حصول
الأولوية ، لكنّها من الاعتبارات الإضافية كالخالقية والرازقية والموجدية. ونمنع
انتفاء الداعي لو تساوى نفع الغير وعدمه بالنسبة إليه ، لأنّ نفع الغير مطلوب في
نفسه حسن عند العقل.
وبالجملة قول
الأشاعرة الفاعل لغرض مستكمل به حكم أخذوه من الحكماء واستعملوه في غير موضعه ،
لأنّ الحكماء لم ينفوا العلل الغائيّة ولا سوق الأشياء إلى كمالاتها ، وإلّا لبطل
علم منافع الأعضاء وفوائد الغايات وعلم الهيئة وأكثر الطبيعيات وغيرها ، بل قالوا
: إيجاد الموجودات عنه تعالى على أكمل ما يمكن لا بأن يخلق الشيء ناقصا ثم يكمله
بقصد ثان ، لأنّه
تعالى كامل لذاته
، قادر على تكميل كلّ ناقص بحسب استعداده ، فيخلقه مشتاقا إلى كماله من غير
استئناف تدبير ، والغرض الّذي نفوه استيناف ذلك التدبير في الإكمال بالقصد الثاني
، واستيفاء الكلام في هذا المقام ذكرناه في «نهاية المرام» لأنّه الفن المتعلّق
به.
البحث الثاني : في
النصّ على العلّة
النصّ على العلّة
قد يكون قطعيا ، وهو ما يكون صريحا في المؤثرية ، مثل لعلّة كذا ، أو بسبب كذا ،
أو لمؤثر كذا ، أو لموجب كذا ، أو من أجل كذا ، إمّا من الكتاب أو السنّة.
وقد يكون ظاهرا
غير قطعي ، وهو ما ورد فيه حرف من حروف التعليل ، كاللام وكي ومن وإن والباء.
فاللام كقوله
تعالى : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «كنت قد نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة» أي القوافل السيارة ، وهو يدلّ على التعليل بالوصف الّذي
دخلت اللام عليه لتصريح أهل اللغة به.
__________________
لا يقال : اللام
ليست صريحة في العلّية لدخولها على لفظ العلّة ، كما يقال : لعلة كذا ، ولو كان
للعلّة كان تكريرا.
ولأنّه تعالى قال
: (وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) ، وبالإجماع لا يجوز أن يكون ذلك غرضا.
ولقول الشاعر :
لدوا للموت
وابنوا للخراب
|
|
..................
|
وليست اللام
للغرض.
ولأنّه يقال :
أصلّي لله تعالى ، ولا يجوز أن تكون ذاته تعالى غرضا.
ولأنّه يقال : لم
فعلت كذا؟ فنقول : لأنّي قصدت أن أفعله.
وكلّ هذه ليست
عللا ، لأنّها ليست مؤثرات ولا بواعث على التأثير.
لأنّا نقول : صرّح
أهل اللغة بأنّ اللام للتعليل ، وقولهم حجّة ، وهذه
__________________
الأشياء إن لم تكن
عللا وجب القول بكونها مجازا فيها.
وأيضا في أ. نظر ،
لأنّ التأكيد مشهور في اللغة من غير تكرير ، فجاز أن يكون دخوله للتأكيد كما تدخل
فاء التعقيب عليه.
وفي ب. نظر ،
لأنّا لم نجعل اللام مطلقا للعلّة ، بل في حكم اقترن بوصف صالح للتعليل ولا محمل
له سواه ، مثل دخلت السوق لشراء اللحم ، ودخلت الحمام للاغتسال ، وأطعمت الفقير
لرفع حاجته ، ولا يقول : إنّها للتعليل فيما وردت فيه للاستحقاق مثل الجلّ للفرس.
وأمّا «كي» فكقوله
تعالى : (كَيْ لا يَكُونَ
دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ) ، أي كي لا تبقى الدولة بين الأغنياء بل تنتقل إلى غيرهم.
وأمّا «من» فكقوله
تعالى : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ
كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ).
وأمّا «ان» فكقوله
صلىاللهعليهوآلهوسلم في قتلى أحد : «زمّلوهم بكلومهم ودمائهم فإنّهم يحشرون يوم
القيامة وأوداجهم تشخب دما ، اللون لون الدم ، والريح ريح المسك».
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حقّ محرم وقصت به ناقته : «لا تقربوه طيبا فإنّه يبعث
يوم القيامة ملبّيا».
__________________
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّها من الطوّافين انّها دم عرف.
وأمّا «الباء»
فكقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ
شَاقُّوا اللهَ) ، (جَزاءً بِما كانُوا
يَعْمَلُونَ).
واعلم أنّ أصل
الباء الإلصاق ، وذات العلّة لمّا اقتضت وجود المعلول حصل معنى الإلصاق فحسن
استعماله فيه مجازا.
واعلم أنّا قد
بيّنّا أنّ القياس المنصوص على علّته صحيح أمّا غيره فلا ، وقد ذكرنا النصّ
والإجماع كالنصّ في جواز دلالته على التعليل ووجوب التعدية ، كما لو دلّ إجماع
الأمّة عصر ما على أنّ وصفا ما علّة في حكم ما إمّا قطعا أو ظنّا ، كإجماعهم على
كون الصغر علة لثبوت الولاية.
لا يقال : كيف
يسوغ الخلاف في مسائل الاجتهاد مع تحقّق الإجماع على العلّة قطعا.
لأنّا نقول :
إنّما يسوغ لو كان وجودها في الأصل أو الفرع ظنّيا. ونحن الآن نذكر الطرق الّتي
جعلها القائسون دلائل على العلّة من غير النصّ ، وسيتبيّن فسادها بعون الله تعالى.
__________________
البحث الثالث : في
الإيماء والتنبيه
اعلم أنّ اللفظ
إذا لم يكن دالّا بوضعه على التعليل لكن يكون التعليل لازما من مدلوله كان دالّا
على العلّة بالتنبيه والإيماء ، وأنواعه ستة :
الأوّل : ترتيب الحكم على الوصف بفاء التعقيب في كلامه تعالى ، أو
كلام رسوله ، أو الراوي عنه. كقوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) ، (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا).
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» .
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ملكت نفسك فاختاري».
وكقول الراوي :
زنا ما عزّ فرجم.
وهذا على وجهين :
__________________
الأوّل : أن تدخل
الفاء على العلّة ويكون الحكم متقدّما ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في المحرم الّذي وقصت به ناقته : «لا تقربوه طيبا فإنّه
يحشر يوم القيامة ملبّيا».
الثاني : أن تدخل
الفاء على الحكم وتكون العلّة متقدّمة إمّا بأن تدخل على كلام الشارع ، مثل (فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ،) أو على كلام الراوي ، مثل : «فرجم» ، وقد ذهب القائسون إلى
أنّها تدلّ على أنّ ما رتّب عليه الحكم بها يكون علّة للحكم ، لأنّ الفاء للتعقيب
ويلزم منه السببيّة ، إذ لا معنى لكون الوصف سببا إلّا ما ثبت الحكم عقيبه.
وليس ذلك بجيد ،
لأنّ موضوع الفاء التعقيب ، وكما تكون في الأسباب تكون في غيرها ، بل في ضدها ،
كما يقال : «أحسنت إليك فظلمتني» ، وقد ترد لمطلق الجمع بمعنى الواو.
تذنيب
قالوا : دخول
الفاء في كلام الشارع أبلغ في إفادة العلّيّة من قول الراوي ، إذ يتطرّق إلى
الراوي من الخلل ما لا يتطرّق إلى الشارع ، وما ورد في كلام الراوي يتفاوت في
القوة والضعف ، فالراوي الفقيه أقوى وغيره يحصل به ظن أيضا ، لأنّ
تديّنه وعلمه بكون الفاء للتعقيب يقتضيان أنّه لو لم يفهم سببيّة الزنا للرجم لما
رتّب الرجم عليه بالفاء لما فيه من التلبيس بنقل
__________________
ما يفهم منه
السببية ولا يكون سببا ، ولما كان تعليقه بالزنا أولى من تعليقه بالقيام والأكل
وغيرهما.
واعلم أنّ الّذي
تقوم العلّة فيه على الحكم أقوى في الإشعار بالعلّيّة من الآخر ، لأنّ إشعار
العلّة بالمعلول أقوى من إشعار المعلول بالعلّة ، لأنّ الطرد واجب في العلل دون
العكس.
النوع الثاني :
أن يرفع إلى النبي
صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر فيحكم عقيبه بحكم وجودا وانتقاء ، فإنّه يدلّ على
التعليل حيث أورده في معرض الجواب ؛ كما روي أنّ أعرابيا جاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو لاطم وجهه ناتف شعره ممزق ثوبه وهو يقول : هلكت وأهلكت
، فقال له النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما ذا صنعت؟ فقال : واقعت أهلي في نهار رمضان ، فقال له
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : «اعتق رقبة» ، فإنّه يدلّ على كون الوقاع علّة للعتق ، لأنّا نعلم أنّ
الأعرابي إنّما سأل عن واقعة لبيان حكمها شرعا ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما ذكر ذلك الحكم في معرض الجواب ، لأنّه لو ذكره
ابتداء لكان قد أخلى السؤال عن الجواب وأخّر البيان عن وقت الحاجة ، وهو وإن كان
جائزا إلّا أنّه على خلاف الظاهر ؛ وإذا كان جوابا عن سؤاله كان السؤال
__________________
كالمعاد في الجواب
فيصير التقدير جامعت فأعتق ، وحينئذ يلتحق بالنوع الأوّل ، ولكنّه دونه في الظهور
والدلالة.
والاعتراض : مسلّم
صلاحيته هذا الجواب لكن لا نسلّم أنّ مثل هذا الكلام إذا ذكر عقيب السؤال حصل ظنّ
كونه جوابا عن ذلك السؤال ، فربّما ذكره جوابا عن سؤال آخر سبق ، أو لغرض آخر ، أو
زجرا له عن هذا السؤال كما لو قال العبد لسيده : دخل فلان دارك ، فيقول السيد :
اشتغل بأمرك واترك الفضول. ولا يبطل هذا بأنّه لو لم يكن جوابا عن هذا السؤال لكان
تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة ؛ وهو غير جائز ، لاحتمال معرفته صلىاللهعليهوآلهوسلم بانتفاء حاجة ذلك المكلّف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت ،
فلا يكون إعراض الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ذلك الجواب تأخيرا للبيان عن وقت الحاجة.
وأيضا فيه نظر ،
وهو أنّه يمكن عدم وحي في تلك القضية المسئول عنها ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما أخّر الجواب انتظارا للوحي.
سلّمنا أنّ قول
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مشعر بالتعليل لكن نمنع أنّ قول الراوي كذلك ، لاحتمال
اشتباه الأمر عليه فظنّ ما ليس بجواب جوابا.
أجيب عن الأوّل
بأنّ الأكثر حمل الكلام الصالح لكونه جوابا عن السؤال المذكور عقيبه على كونه
جوابا ، والصورة الّتي ذكرتموها نادرة ، وهو مرجوح.
وعن الثاني أنّ
العلم بكون الكلام المذكور بعد السؤال جوابا عنه أمر ظاهر ، يعرف بالضرورة عند
مشاهدة المتكلّم ولا يفتقر إلى نظر دقيق.
وفيه نظر ، فإنّ
الأشاعرة لا يقبل منهم ذلك حيث لم يعلّلوا الأحكام بالحكم والمصالح ، فلا حكم يصلح
لكونه جوابا دون حكم ، بل كلّ شيء صالح أن يكون جوابا عن كلّ شيء والضرورة منفية ،
ولا يشترط في كلام الراوي أن يعرف كونه جوابا بالضرورة عندهم ، بل الظن كاف فيه.
النوع الثالث :
أن يذكر الشارع في
الحكم وصفا ، لو لم يكن موجبا للعلم لم يكن في ذكر فائدة. وهو يقع على أقسام :
الأوّل : أن يدفع
السؤال المذكور في صورة الإشكال بذكر الوصف ، كامتناعه صلىاللهعليهوآلهوسلم من الدخول على قوم عندهم كلب فقيل : ألم يدخل على فلان
وعندهم هرة؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوافين عليكم والطوافات».
فلو لم يكن للطواف أثر في التطهير لم يكن لذكره عقيب الحكم بطهارتها فائدة.
وفيه نظر ، أمّا
أوّلا : فلأنّ حرف التعليل هنا موجود ، وهو «أن» ، فيدخل تحت المنصوص عليه.
وأمّا ثانيا :
فلاحتمال أن لا يكون ذلك علّة ، بل يكون باعثا آخر معارضا لنجاسة الكلب.
__________________
الثاني : أن يذكر
وصفا في محل الحكم لا حاجة إلى ذكره ابتداء ، فيعلم أنّه إنّما ذكره لكونه مؤثّرا
في الحكم ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ثمرة طيبة وماء طهور» حين توضّأ بماء كان قد نبذ فيه تمر ، فإنّه لو لم يقدر كون
ما ذكره علّة لجواز الوضوء به وإلّا كان ذكره حشوا.
وفيه نظر ، لجواز
أن يذكر ذلك لنفي المانعية لا لإثبات العلّيّة.
الثالث : أن يقرر
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم على وصف الشيء المسئول عنه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أينقص الرطب إذا جف؟» لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر ،
فقالوا : نعم ، فقال : «فلا إذن» .
وفيه دلالة وتنبيه
على العلّية من ثلاثة أوجه :
أ. لو لم يقدّر
النقصان علّة كان السؤال عنه عبثا.
ب. رتّب الحكم
عليه بفاء التعقيب.
ج. قوله : «فلا
إذن» وإذن للتعليل لغة.
وفيه نظر ، لأنّه
دخل في قسم المنصوص.
الرابع : أن يقرّر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم على حكم ما يشبه المسئول عنه ، وينبّه على وجه الشبه ،
فيعلم أنّ وجه الشبه هو العلّة في ذلك الحكم ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعمر وقد سأله عن قبلة الصائم هل يفطر أم لا؟ فقال : «أرأيت
لو تمضمضت
__________________
بماء أكان ذلك الماء
يفسد الصوم» فقال : لا
، فنبّه بهذا على عدم الفساد بالمضمضة والقبلة لعدم حصول الأثر المطلوب منهما.
وفيه نظر ، لأنّ هذا القسم ليس من هذا
القبيل ، لأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
إنّما ذكر ذلك بطريق النقض لما توهّمه عمر من كون القبلة مفسدة للصوم لكونها
مقدّمة للوقاع المفسد للصوم ، فنقض النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذلك بالمضمضة فإنّها مقدّمة للشرب المفسد للصوم وليست مفسدة له ، أمّا أن يكون ذلك
تنبيها على تعليل عدم الإفساد بكون المضمضة مقدّمة للفساد فلا ، لأنّ كون القبلة
والمضمضة مقدّمة لإفساد الصوم ليس فيه ما يتخيّل أن يكون مانعا من الإفطار ، بل
غايته أن لا يكون مفطرا فالأشبه بما ذكره النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم
أن يكون نقضا لا تعليلا ، ولأنّ الأصل أن يكون الجواب طبقا للسؤال لا زائدا عليه
ولا ناقصا ، لعدم تعلّق الغرض بالزيادة وإخلال النقض بالمقصود ، وعمر سأل عن كون
القبلة مفسدة أم لا ، فالجواب إنّما يكون بما يدلّ على الإفساد أو عدمه ، وكون
القبلة علّة لنفي الفساد غير مسئول عنه ، فلا يكون اللفظ الدالّ عليه جوابا مطابقا
للسؤال ، بخلاف النقض فإنّه يتحقّق به أنّ القبلة غير مفسدة ، فكان جوابا مطابقا
للسؤال.
الخامس : أن يعدل في الجواب إلى ذكر
نظير محل السؤال ، كما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم
أنّه لمّا سألته الجارية الخثعمية وقالت : يا رسول الله إنّ أبي أدركته الوفاة
وعليه فريضة الحجّ فإن حججت عنه أينفعه ذلك؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته أكان ينفعه ذلك»؟ فقالت : نعم ، قال :
__________________
«فدين الله أحق
بالقضاء» .
فالخثعمية إنّما سألت عن الحجّ والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ذكر دين الآدمي والحجّ من حيث هو دين نظير لدين الآدمي ، فذكره لنظير المسئول عنه
مع ترتيب الحكم عليه يدلّ على التعليل به ، وإلّا لكان ذكره عبثا.
ويلزم من كون نظير الواقعة علّة للحكم
المرتّب عليها أن يكون المسئول عنه أيضا علّة لمثل ذلك الحكم ضرورة المماثلة. ومثل
هذا يسمّيه الأصوليون التنبيه على أصل القياس ، فكأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم
نبّه على الأصل ، وعلى علّة حكمه ، وعلى صحّة إلحاق المسئول عنه بواسطة العلّة
المومى إليها.
النوع الرابع
:
أن يفرّق الشارع بين شيئين في الحكم
بذكر صفة ، فيعلم أنّه لو لم تكن تلك الصفة علّة لم يكن لذكرها معنى. وهو ضربان :
الأوّل : أن لا يكون حكم أحدهما مذكورا
في الخطاب ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «القاتل لا يرث» فإنّه قد تقدّم بيان إرث الورثة ، فلمّا قال : «القاتل لا يرث»
وفرّق بينه وبين جميع الورثة بذكر القتل الجائز كونه مؤثّرا في نفي الإرث ،
__________________
علمنا أنّه العلّة
فيه فيكون علّة ، وإلّا لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ وهو تلبيس يصان منصب
الشرع عنه.
وفيه نظر ، لأنّه بناء على مفهوم الخطاب
وقد سبق عدم دلالته.
الثاني : أن يكون الحكمان مذكورين في
الخطاب وأنحاؤه خمسة :
أ. أن يفرق بما جرى مجرى الشرط ، مثل : «إذا
اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يدا بيد»
بعد النهي عن بيع البر بالبر متفاضلا ، فيدلّ على أنّ اختلاف الجنس علّة في جواز
البيع.
ب. أن يفرّق بالغاية ، مثل : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ).
ج. أن يفرّق بالاستثناء ، كقوله تعالى :
(إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ).
د. أن يفرّق بما يجري مجرى الاستدراك ،
كقوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ
اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ
الْأَيْمانَ)
، فيدلّ على أنّ العقد مؤثر في المؤاخذة.
ه. أن يستأنف أحد الشيئين بذكر بعض
صفاته الجائز تأثيرها بعد ذكر الآخر ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «للراجل سهم وللفارس سهمان».
واعتمدوا في
__________________
هذين النوعين على
أنّه لا بدّ للتفرقة من سبب ، ولا بدّ في ذكر ذلك الوصف من فائدة ، فإذا جعلنا
الوصف سببا للتفرقة حصلت الفائدة.
النوع الخامس :
النهي عن فعل يمنع
ما تقدّم للزوم وجوبه علينا ، فيعلم أنّ العلّة في النهي منعه من الواجب ، كقوله
تعالى : (فَاسْعَوْا إِلى
ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، فإنّه لمّا أوجب علينا السعي ونهانا عن البيع مع علمنا
بانتفاء جواز ذكر النهي في هذا الموضع على تقدير كون النهي عن البيع مانعا من
السعي ، فذلك يدلّ على أنّ علّة النهي المنع من الواجب ؛ وكتحريم التأفيف ، فإنّ
العلّة فيه كونه مانعا من الإعظام الواجب ، فالشارع في آية الجمعة أنشأ كلاما
لبيان أمر مقصود ، وهو بيان أحكام الجمعة وذكر في أثنائه شيئا آخر لو لم يقدر كونه
علّة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلّق بالكلام ، كالنهي عن البيع لو لم يعتقد
كون البيع علّة للمنع عن السعي الواجب لم يكن مرتبطا بأحكام الجمعة وما سبق له
الكلام لا تعلّق به.
__________________
النوع السّادس :
أن يذكر الشارع مع
الحكم وصفا مناسبا ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» فإنّه يشعر بكون الغضب علّة مانعة من القضاء لاشتماله على
تشويش الفكر.
وكذا : «أكرم
العلماء وأهن الجهّال» فإنّه يسبق إلى الفهم كون العلم علّة للإكرام والجهل علّة
للإهانة لما عرف من اعتبار الشرع اعتبار المناسبات دون إلغائها ، فإذا قرن بالحكم
وصف مناسب غلب في الظن اعتباره.
ولأنّ عادة الشرع
عدم إخلاء الحكم عن المصالح والحكم ، فإنّ الأحكام إنّما شرّعت لمصالح العبيد ،
وهذا لا يتأتّى من الأشاعرة القائلين بنفي الأغراض ، فهذه أنواع الإيماءات.
وهنا مسائل :
المسألة الأولى
: الظاهر في أقسام الإيماء وإن دلّ على العلّيّة لكنّه قد يترك لدليل أقوى معارض ، نحو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقضي القاضي
__________________
وهو غضبان». ظاهره
يدلّ على أنّ العلّة هي الغضب ، لكن لمّا علم أنّ الغضب اليسير الّذي لا يمنع من استيفاء
الفكر غير مانع من القضاء ، وأنّ الجوع والألم المبرّحين يمنعان من استيفاء الفكر
وأنّهما يمنعان من القضاء ، علمنا أنّ علّة المنع ليست هي الغضب بل تشويش الفكر.
فقول من قال : العلّة هي الغضب ، لكونه
مشوشا غلط ، لأنّ الدوران وهو ملازمة المنع للتشويش وجودا وعدما دالّ على أنّ
العلّة التشويش خصوصا وقد يختلف عن الغضب وجودا وعدما ، وليس بين التشويش والغضب
ملازمة لوجود كلّ منهما منفكا عن صاحبه. نعم يجوز إطلاق لفظ الغضب لإرادة التشويش
إطلاق اسم السبب على المسبب.
المسألة الثانية
: في أنّه هل يشترط في الوصف المومى إليه المناسبة أم لا؟
اختلف الأصوليّون في ذلك فقال قوم
بالاشتراط ، ونفاه الغزالي وجماعة أخرى لوجهين:
الأوّل : لو قال : أكرم الجهّال واستخف
بالعلماء ، استقبح منه ذلك في العرف ، وليس علّة الاستقباح أنّه جعل الجاهل
مستحقّا للإكرام والعالم
__________________
مستحقّا للإهانة ،
لانتفاء موجب القبح هناك ، فإنّ الجاهل قد يستحق الإكرام لوصف آخر كالنسب والشجاعة
والكرم ، والعالم قد يستحق الإهانة لفسقه أو بخله أو غير ذلك ، فليس إلّا فهم أنّه
جعل الجهل علّة في الإكرام والعلم علّة في الاستخفاف ، فإذن ترتيب الحكم على الوصف
يفيد كونه علّة وإن لم يكن مناسبا ، اعترض بأنّ علة الاستقباح اقتران الحكم بما
ينافيه ، فإنّ الجهل مانع من الإكرام والعلم مانع من الاستخفاف ، فلمّا أمر بإكرام
الجاهل فقد أثبت الحكم مع قيام منافيه ، وأيضا الحكم في هذا المثال لا يستلزم
التعميم في كلّ الصور.
وأجيب عن أ. بما تقدّم من إمكان استحقاق
الإكرام مع الجهل ، فلا يكون الجهل مانعا منه ، وإلّا لزم مخالفة الأصل.
وعن ب. أنّ ثبوته في بعض الصور يستلزم
ثبوته في الجميع دفعا للاشتراك المخالف للأصل.
وفيه نظر ، فإنّ المنافاة ثابتة قطعا
بين الجهل والإكرام ، ولهذا حكموا بالاستقباح فيه ، ولو لا المنافاة بطل أصل
دليلهم ، ولا اشتراك هنا إذ لا وضع.
ب. أنّه لا بدّ للحكم من علّة ، وإلّا
لكان عبثا ، وهو ممتنع عليه تعالى ، ولا علّة إلّا هذا الوصف ، لأنّ غيره كان
معدوما والأصل البقاء فلا يكون علّة.
وفيه نظر ، أمّا أوّلا : فلأنّه غير
مسموع من الأشاعرة لانتفاء الأغراض عندهم وعدم استقباح العبث.
وأمّا ثانيا : فلأنّ التعليل بالوصف غير
المناسب محض العبث.
المسألة الثالثة
: اتّفق القائلون بالقياس على صحّة الإيماء فيما إذا كان حكم الوصف المومى إليه مدلولا
عليه بصريح اللفظ كالأمثلة السابقة ، واختلفوا فيما إذا كان اللفظ يدلّ على الوصف
بصريحه ، والحكم مستنبط منه غير مصرّح به ، كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)
فإنّه صريح في الحلّ ، والصحة مستنبطة منه ، لأنّه لو لم يكن صحيحا انتفت فائدته ،
إذ هو معنى نفي الصحّة وإذا لم يفد كان عبثا والعبث لا يحلّ ، لأنّه مكروه ، فيلزم
من الحل الصحّة لتعذّر الحلّ مع انتفائها.
فذهب قوم إلى أنّه
ليس مومى إليه ، لأنّ الإيماء إنّما يتحقّق لو دلّ بوضعه على الوصف والحكم كما
قلناه في الأمثلة.
أمّا إذا دلّ على
الوصف بالوضع واستنبط منه الحكم ، فلا يدلّ ذلك على كونه مومى إليه ، كما لو دلّ
اللفظ على الحكم بوضعه ، واستنبط الوصف ، فإنّه لا يدلّ على الإيماء إلى الوصف ،
كما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حرمت الخمر لعينها» فإنّه يدلّ على الحكم ، وهو التحريم
وضعا ،
__________________
والشدة المطربة
علّة مستنبطة منه وليست مومى إليها.
وذهب آخرون إلى
الإيماء ، لأنّ اللفظ إذا دلّ بصريحه على الوصف وهو الحل ، والصحّة لازمة له ،
فإثبات الحكم وضعا يدلّ على إرادة ثبوت الصحّة ضرورة كونها لازمة للحل ، فيكون
ثابتا بإثبات الشارع له مع وصف الحل ، وإثبات الشارع للحكم مقترنا بذكر وصف مناسب
دليل على الإيماء إلى الوصف ، كما لو ذكر معه الحكم بلفظ يدلّ عليه وضعا لتساويهما
في الثبوت ، وإن اختلفا في طريق الثبوت بأن يثبت أحدهما بدلالة اللفظ وضعا ، والآخر
مستنبط من مدلول اللفظ وضعا ، لأنّ الإيماء إنّما كان مستفادا عند ذكر الحكم
والوصف بطريق الوضع من جهة اقتران الحكم بالوصف ، لا من حيث كون الحكم ثبت بطريق
الوضع. وهذا بخلاف ما إذا كان الحكم مدلولا عليه وضعا والوصف مستنبط منه ، لأنّ
الوصف المستنبط من الحكم المصرّح به في المثال المذكور ، لم يكن وجوده لازما من
الحكم المصرّح به ، ولا مناسبة لتحقّقه قبل شرع الحكم بخلاف الصحّة مع الحكم.
والمعتبر في
الإيماء أن يكون الوصف المومى إليه مذكورا في كلام الشارع مع الحكم ، أو لازما من
مدلول كلامه وقد فقد في الوصف المستنبط بخلاف الحلّ مع الصحة.
* * *
نجز الجزء الثالث حسب تجزئتنا ويتلوه
الجزء الرابع إن شاء الله تعالى
والحمد لله رب العالمين
فهرس المحتويات
مقدّمة المشرف آية
الله جعفر السبحاني : إجماع العترة الطاهرة.......................... ٧
اجماع العترة................................................................... ٨
عصمة أولي الأمر........................................................... ١٤
إكمال : أهل
السنّة ووجه حجّية الإجماع....................................... ١٧
خبر مؤسف................................................................ ١٩
شكر وتقدير............................................................... ٢٠
الفصل الثالث : في المنسوخ...................................................... ٢٣
المبحث الأوّل :
في النسخ قبل الفعل........................................... ٢٣
المبحث الثاني :
في أنّ إثبات البدل ليس شرطا في النسخ......................... ٤٣
المبحث الثالث :
في جواز النسخ إلى الأثقل..................................... ٤٥
المبحث الرّابع :
في جواز نسخ التلاوة دون الحكم وبالعكس....................... ٤٧
المبحث الخامس :
في نسخ الخبر............................................... ٥١
المبحث السّادس :
في جواز نسخ الأمر المقيّد بالتأبيد............................. ٥٦
المبحث السابع :
في امتناع نسخ جميع التكاليف................................. ٥٩
المبحث الثامن :
في استحالة نسخ الإجماع...................................... ٦١
المبحث التاسع :
في نسخ القياس.............................................. ٦٣
المبحث العاشر :
في حكم الفرع هل يبقى مع نسخ حكم أصله؟.................. ٦٥
المبحث الحادي عشر
: في نسخ الفحوى....................................... ٦٧
الفصل الرابع : في الناسخ........................................................ ٧١
المبحث الأوّل :
في حدّه...................................................... ٧١
المبحث الثاني :
في شرائط الناسخ على الإجمال.................................. ٧٤
المبحث الثالث :
في جواز نسخ الكتاب بمثله وبالسنّة المتواترة...................... ٧٥
المبحث الرابع :
في نسخ السنّة المتواترة بمثلها وبالقرآن............................. ٨٣
المبحث الخامس :
في نسخ خبر الواحد......................................... ٨٦
المبحث السادس :
في أنّ الإجماع لا يقع ناسخا................................. ٩١
المبحث السابع :
في أنّ القياس لا يكون ناسخا................................. ٩٣
المبحث الثامن :
في طريق معرفة الناسخ والمنسوخ................................. ٩٦
المبحث التاسع :
في أنّ الناسخ إذا كان مع جبرئيل عليهالسلام أو النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، هل يثبت حكمه أم لا؟ ٩٩
المبحث العاشر :
في أنّ الزّيادة على النصّ هل هي نسخ أم لا؟.................. ١٠١
المبحث الحادي عشر
: في أنّ النقصان هل هو نسخ أم لا؟..................... ١١٦
المقصد التاسع
في الإجماع
الفصل الأوّل : في ماهيّته وتحقّقه
وكونه حجّة..................................... ١٢٥
المبحث الأوّل :
في ماهيّته.................................................. ١٢٥
المبحث الثاني :
في تحقّقه................................................... ١٢٨
المبحث الثالث :
في أنّ الإجماع حجّة........................................ ١٣١
المبحث الرّابع :
في حجج الجمهور على كونه حجّة ، وفيه وجوه.................. ١٤٤
الوجه الأوّل :
حجّة الشافعي................................................ ١٤٤
الوجه الثاني :
قوله تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً)...................... ١٦٧
الوجه الثالث :
قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ).................. ١٧٣
الوجه الرابع :
قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)............ ١٧٧
الوجه الخامس :
قوله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ)................... ١٧٩
الوجه السادس :
التمسّك بالروايات الدالّة على عدم اجتماع الأمّة على الخطاء..... ١٨٠
الوجه السّابع :
دليل العقل.................................................. ١٨٨
الوجه الثامن :
أجمعوا على تقديم الإجماع على القاطع........................... ١٨٩
الفصل الثاني : فيما أخرج من الإجماع
وهو منه.................................... ١٩٣
البحث الأوّل : في
إحداث القول الثالث..................................... ١٩٣
البحث الثاني : في
عدم الفصل بين المسألتين.................................. ١٩٨
البحث الثالث : في
جواز الإجماع بعد الخلاف................................. ٢٠٠
البحث الرابع : في
جواز اتّفاق أهل العصر الثاني............................... ٢٠٣
البحث الخامس : في
أنّ انقراض العصر هل هو شرط أم لا؟.................... ٢٠٩
البحث السادس : في
أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد حجّة...................... ٢١٥
البحث السابع : في
أنّ إجماع العترة حجّة..................................... ٢١٧
البحث الثامن : في
انعقاد الإجماع مع مخالفة المخطئين في الأصول من المسلمين..... ٢٢٣
الفصل الثالث : في ما أدخل في الإجماع
وليس منه................................ ٢٢٦
البحث الأوّل : في
الإجماع السكوتي......................................... ٢٢٦
البحث الثاني : في
قول الصحابي إذا لم يعرف له مخالف........................ ٢٣١
البحث الثالث : في
استدلال أهل العصر بدليل أو مصيرهم إلى تأويل............ ٢٣١
البحث الرابع : في
أنّ إجماع المدينة ليس حجّة................................. ٢٣٤
البحث الخامس : في
إجماع الخلفاء الأربعة..................................... ٢٣٧
البحث السادس : في
إجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين........... ٢٣٩
البحث السابع : في
أنّ إجماع الأكثر ليس بحجّة............................... ٢٤٢
الفصل الرابع : في مدرك الإجماع................................................ ٢٤٨
البحث الأوّل : في
أنّه لا يجوز الإجماع إلّا عن مستند.......................... ٢٤٨
البحث الثاني : في
أنّه لا يقع الإجماع إلّا عن دليل............................. ٢٥٢
البحث الثالث : في
الإجماع الموافق للخبر..................................... ٢٥٥
الفصل الخامس : في المجمعين................................................... ٢٥٧
البحث الأوّل : في
أنّه لا يعتبر في الإجماع اتّفاق الأمّة إلى يوم القيامة............. ٢٥٧
البحث الثاني : في
عدم اعتبار قول الكفّار.................................... ٢٥٩
البحث الثالث : في
قول العامي............................................. ٢٦٠
البحث الرّابع :
في اشتراط إجماع أهل كلّ فن بأهله............................ ٢٦٣
البحث الخامس : في
عدم اشتراط عدد التواتر................................. ٢٦٤
البحث السادس : في
عدم اشتراط كون المجمعين من الصحابة................... ٢٦٦
الفصل السادس : في الحكم الثابت
بالإجماع...................................... ٢٧١
البحث الأوّل : في
ضابط ما يثبت بالإجماع................................... ٢٧١
البحث الثاني : في
الإجماع في الأمور الدنيوية.................................. ٢٧٢
البحث الثالث : في
الإجماع في الأديان السالفة................................ ٢٧٣
البحث الرابع : في
أنّه لا يجوز تخطئة الأمّة في الأحكام المتعدّدة.................. ٢٧٤
البحث الخامس : في
امتناع الكفر على الأمّة.................................. ٢٧٤
البحث السادس : في
جواز اشتراك الأمّة في عدم العلم بما لم يكلّفوا به............ ٢٧٦
البحث السابع : في
أنّ الأخذ بالأقل ليس للإجماع............................. ٢٧٧
الفصل السابع : في حكم الإجماع............................................... ٢٧٨
البحث الأوّل : في
حكم جاحده............................................ ٢٧٨
البحث الثاني : في
امتناع تجدّد إجماع مخالف لسابق............................ ٢٧٩
البحث الثالث : في
الإجماع إذا عارضه قول الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم..................... ٢٨١
المقصد العاشر
في الخبر
الفصل الأوّل : في ماهيته...................................................... ٢٨٣
البحث الأوّل : في
لفظ الخبر................................................ ٢٨٣
البحث الثاني : في
أنّه هل يحدّ أم لا؟........................................ ٢٨٥
البحث الثالث : في
حدّه................................................... ٢٨٨
البحث الرابع : في
أنّه هل يشترط في الخبرية الإرادة؟............................ ٢٩٤
البحث الخامس : في
مدلول الخبر............................................ ٢٩٥
البحث السادس : في
أقسامه................................................ ٢٩٦
الفصل الثاني : في المتواتر....................................................... ٢٩٩
البحث الأوّل : في
أنّه يفيد العلم............................................ ٢٩٩
البحث الثاني : في
أنّ العلم المستفاد منه ضروري............................... ٣٠٤
البحث الثالث : في
احتجاج من ادّعى الاكتساب............................. ٣٠٧
البحث الرابع : في
شرائط التواتر ، وفيه مطلبان................................ ٣١٩
المطلب الأوّل :
في الشرائط الصحيحة........................................ ٣١٩
المطلب الثاني :
في أمور ظنّ أنّها شروط....................................... ٣٢١
الأوّل : العدد............................................................. ٣٢١
الثاني : شرط قوم
في أهل التواتر أن لا يحويهم بلد ، ولا يحصرهم................ ٣٢٥
الثالث : شرط
اليهود أن لا يكونوا على دين واحد............................. ٣٢٥
الرابع : شرط قوم
أن لا يكونوا من نسب واحد ، وبلد واحد.................... ٣٢٦
الخامس : شرط ابن
الراوندي وجود المعصوم فيهم.............................. ٣٢٦
السادس : شرط
بعضهم الإسلام والعدالة..................................... ٣٢٦
السابع : شرطت
اليهود أن يكون مشتملا على إخبار أهل الذلّة................. ٣٢٦
البحث الخامس : في
التواتر المعنوي........................................... ٣٢٧
البحث السادس : في
كيفية العلم عقيب التواتر................................ ٣٢٨
البحث السابع : في
عدم وجود اتّحاد الأعداد.................................. ٣٣٠
الفصل الثالث : في باقي الأخبار
المعلومة الصدق................................. ٣٣١
البحث الأوّل : في خبره تعالى............................................... ٣٣١
البحث الثاني : خبر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.......................................... ٣٣٦
البحث الثالث : في الخبر المحتفّ
بالقرائن...................................... ٣٣٨
البحث الرابع : في بقايا الإخبارات
الصادقة................................... ٣٤٠
البحث الخامس : فيما ظن أنّه من هذا
الباب................................. ٣٤١
الفصل الرابع : في الخبر المقطوع بكذبه........................................... ٣٤٥
البحث الأوّل : في
الخبر المخالف للمعلوم..................................... ٣٤٥
البحث الثاني :
فيما يتوفر الدواعي على نقله.................................. ٣٤٦
البحث الثالث : في
وجود الكذب في الأخبار................................. ٣٤٩
البحث الرابع : في
أحكام الصحابة.......................................... ٣٥٢
الفصل الخامس : في خبر الواحد................................................ ٣٧٠
البحث الأوّل : في
حدّه.................................................... ٣٧٠
البحث الثاني : في
أنّ خبر الواحد لا يفيد العلم................................ ٣٧١
البحث الثالث : في
جواز التعبد بخبر الواحد................................... ٣٧٥
البحث الرابع : في
وقوع التعبّد به............................................ ٣٨٢
الفصل السادس : في شرائط الراوي.............................................. ٤١٤
الأوّل : البلوغ............................................................. ٤١٤
البحث الثاني : في
الإسلام.................................................. ٤١٧
البحث الثالث :
العدالة.................................................... ٤٢٠
البحث الرابع : في
رواية المجهول.............................................. ٤٢١
البحث الخامس : في
طريق معرفة العدالة...................................... ٤٢٧
البحث السادس : في
أحكام التزكية والجرح.................................... ٤٣٠
البحث السابع : في
الضبط................................................. ٤٣٣
البحث الثامن : في
مسوّغات الرواية.......................................... ٤٣٥
الفصل السابع : فيما ظن أنّه شرط وليس
كذلك................................. ٤٣٧
البحث الأوّل :
العدد...................................................... ٤٣٧
البحث الثاني : في
عدم تكذيب الأصل...................................... ٤٤٠
البحث الثالث : في
أنّه لا يشترط فقه الراوي ولا معرفة نسبه.................... ٤٤٢
البحث الرابع : في
حكم الخبر مع المعارض.................................... ٤٤٤
البحث الخامس : في
الخبر المعارض بالقياس.................................... ٤٤٦
البحث السادس : في
الخبر المعارض لفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولعمل الأكثر................. ٤٥٢
البحث السابع : في
عدم وجوب عرضه على الكتاب........................... ٤٥٣
البحث الثامن : في
معارضة عمل الراوي للخبر................................. ٤٥٤
البحث التاسع : في
نسبة المتن إلى المعلوم وغيره ممّا تعم البلوى به................. ٤٥٦
البحث العاشر : في
المرسل.................................................. ٤٥٩
البحث الحادي عشر
: في نقل الحديث بالمعنى................................. ٤٧٠
البحث الثاني عشر
: في كيفية ألفاظ الراوي................................... ٤٧٥
الأوّل : في كيفية
نقل الصحابي.............................................. ٤٧٥
المطلب الثاني :
في كيفية رواية غير الصحابي................................... ٤٨٣
البحث الثالث عشر
: في انفراد الراوي بالزيادة................................ ٤٩٢
المقصد الحادي عشر
في القياس
الفصل الأوّل : في ماهيته وأركانه................................................ ٥٠١
البحث الأوّل : في
الماهية................................................... ٥٠١
البحث الثاني : في
أركانه.................................................... ٥١٠
البحث الثالث : في
تقسيم القياس........................................... ٥١٤
الفصل الثاني : في أنّه هل يعتد بالقياس
أم لا؟.................................... ٥١٨
البحث الأوّل : في
جوازه عقلا.............................................. ٥١٨
البحث الثاني : في
المنع من التعبّد بالقياس..................................... ٥٣٨
البحث الثالث : في
شبه القائلين بالقياس والردّ عليها........................... ٥٤٩
البحث الرابع : في
القياس المنصوص على علّته................................. ٦٠٣
البحث الخامس : في
تعدية التحريم من التأفيف إلى باقي أنواع الأذى............. ٦٠٩
البحث السادس : في
التناسب بين حكم الأصل والفرع......................... ٦١٢
الفصل الثالث : في طرق التعليل................................................ ٦١٤
البحث الأوّل : في
إمكانه.................................................. ٦١٤
البحث الثاني : في
النصّ على العلّة.......................................... ٦٢٢
البحث الثالث : في
الإيماء والتنبيه........................................... ٦٢٦
فهرس المحتويات............................................................... ٦٤١
|