

بسم الله الرّحمن
الرّحيم
(وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ
مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ
إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
الذكرى المئوية
السابعة
لرحيل العلّامة
الحلّي قدسسره
إنّ تقدير العلماء
وتخليد ذكرهم يعدّ من صفات الأمم الراقية والمجتمعات الواعية ، لأنّه يساهم في
تكريس قيمة العلم ، وإعلاء دوره ومكانته ، وفي جعل العالم في موضع الأنموذج والقدوة
الّتي تحتذى ، ممّا يحفّز همم الأجيال الصاعدة للتسابق إلى كسب العلم ، وإحراز
المواقع المتقدّمة في ميادينه.
كما أنّ تجديد
ذكرى العلماء المتميّزين يوجّه أنظار أبناء الأمّة إلى آرائهم وعطائهم ومواقفهم ،
فتصبح محورا للدراسة والاهتمام ، وموردا للبحث والاستلهام.
ولأجل ذلك ، نرى
المجتمعات المتقدّمة تبتكر مختلف الأساليب والوسائل لتقدير وتخليد عظمائها
وعلمائها ، كعقد المؤتمرات لدراسة أفكارهم وآرائهم ، ورصد الجوائز التقديرية
بأسمائهم ، والسعي إلى إبرازهم على
المستوى العالمي
كرموز وشخصيات عالمية تستقطب الاهتمام والاحترام على الصعيد البشري العامّ.
وفي تاريخ أمّتنا
الإسلامية الحضاري والعلمي كفاءات عظيمة وشخصيات رائدة لكنّها لم تنل ما يناسب
حقّها ومكانتها من الاحترام والتقدير ، فأغلب تلك الكفاءات واجهت في حياتها
المشاكل والصعوبات من قبل الحاكمين المستبدين ، والحاسدين الحاقدين ، والجهلاء
الغوغائيين ؛ وبعد وفاتها قوبلت بالتجاهل والإهمال.
لقد ضاع كثير من
تراث علمائنا السابقين ، ولا يزال قسم كبير منه مخطوط يتراكم عليه الغبار ، ولم
تتح له فرصة النشر والظهور.
وكم من أفكار
عميقة ، وآراء دقيقة ، ونظريات ثريّة ، تفتقت عنها أذهان علماء أفذاذ ، تستحق
الدراسة والبحث ، وأن تعقد حولها المؤتمرات ، ولكنّها بقيت مركونة مهملة بسبب
أجواء التخلّف الّتي أبعدتنا عن الاهتمام بتقدير العلماء وتخليد ذكراهم ، فكان في
ذلك حرمان لأجيال الأمّة ، وخسارة لمستقبلها في العلم والمعرفة.
وفي طليعة علماء الأمّة
الأفذاذ الذين يستحقّون أعلى درجات التقدير والتمجيد والتخليد ، نابغة عصره ونادرة
دهره آية الله العلّامة الحلّي الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الأسدي (٦٤٨ ـ ٧٢٦
ه).
لقد ظهر نبوغه
العلمي في حداثة سنه ، وانتهت إليه زعامة الشيعة الإماميّة الذين لا يلقون أزمة
أمورهم ومرجعيتهم الدينية إلّا للمتفوّق على أهل زمانه في العلم والفضل.
كان رحمهالله كتلة من النشاط والحركة العلمية الدائبة طوال حياته
الشريفة ، لم يترك البحث والتأليف حتّى في حالة السفر وركوب الدابة.
ومن أهم نقاط
تميّزه العلمي ، عمق أبحاثه ودقّة تحقيقاته وثراء عطائه في مجال الأصولين : أصول
الدين وأصول الفقه ، حيث تبلغ مؤلّفاته في هذين الحقلين أكثر من ثلاثين كتابا ،
بعضها يقع في عدة مجلدات ، إضافة إلى كتاباته المختلفة في سائر مجالات العلوم ،
كمؤلّفاته الكثيرة العميقة في الفقه الإسلامي.
ولو لم يكن من عطاء
العلّامة الحلّي إلّا كتابه (نهاية الوصول إلى علم الأصول) لكفى ذلك في إظهار
عبقريته ، وإبراز تفوّقه ، وكشف عمق تفكيره وسعة معارفه ، وإحاطته بالآراء
المطروحة في المسائل الأصولية في زمانه.
كما يكشف الكتاب
عن مستوى أخلاقي متقدّم لدى العلّامة الحلّي يتجلّى في أمانة نقله لآراء الآخرين ،
واجتهاد في فهم مقولاتهم على أفضل فروض الصحة ما أمكن ، ثم التزام النهج العلمي
والموضوعية في مناقشة الآراء بعيدا عن التعصّب والانحياز ، إلّا إلى ما يقود إليه
الدليل الصادق والبرهان الصحيح.
إنّ هذا النهج في
البحث العلمي والحوار الموضوعي الّذي سلكه العلّامة الحلّي وأرسى قواعده في
كتاباته المختلفة ، لهو النهج الّذي تحتاجه الأمّة لتجاوز حالات القطيعة والنزاع
بين طوائفها واتّباع مذاهبها الإسلامية المختلفة.
فالتعارف الصحيح
الّذي يوضح صورة كلّ طرف أمام الآخر على حقيقتها ، وليس من خلال الإشاعات
والاتّهامات الباطلة ، هو الأرضية المناسبة للتقارب والتواصل بين فئات الأمّة على
تنوّع مشاربها ومذاهبها ، كما يقول الإمام
شرف الدين رحمهالله : إنّ المسلمين إذا تعارفوا تآلفوا.
كما أنّ الحوار
العلمي الموضوعي شرط ضروري لإثراء المعرفة ، وبلورة الرأي والاقتراب من موقع
الحقيقة والصواب.
ومن توفيق الله
تعالى لمؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام أن تقوم بتحقيق هذا الكتاب وتقديمه إلى عالم الفكر
والمعرفة بطباعة أنيقة جميلة.
* * *
ونودّ الإشارة
أخيرا إلى أنّ هذا العامّ (١٤٢٦ ه) يصادف الذكرى المئوية السابعة لوفاة العلّامة
الحلّي سنة (٧٢٦ ه) لذا نهيب بحوزاتنا العلمية ، ومؤسّساتنا الدينية ، أن تستثمر
هذه المناسبة في الاحتفاء بذكرى هذا الطود العظيم في العلم والمعرفة ، الّذي كرّس
حياته للدفاع عن خط أهل البيت عليهمالسلام وتبيين معالم مدرستهم في العقيدة والشريعة.
ومن أهم مظاهر
الاحتفاء بذكرى العلّامة الحلي الاهتمام بتحقيق وطبع تراثه العلمي ونتاجه المعرفي
على شكل موسوعة كاملة ، وترجمة بعض مؤلّفاته إلى اللغات العالمية الحيّة ، ليرى
المفكرون المعاصرون سعة أفق الفكر الإسلامي وعمق مدرسة أهل البيت عليهمالسلام.
كما أنّ عقد مؤتمر
علميّ في هذه المناسبة لدراسة حياة هذا الرجل العظيم وقراءة أفكاره وآرائه ، سيبعث
حركة وموجا ثقافيا فكريا في أوساطنا العلمية وساحتنا الإسلامية.
رحم الله العلّامة
الحلّي وأعلى درجته ومقامه ، ووفق الله العاملين في
خدمة الدين والعلم
، لمواصلة مسيرته المقدسة ، وتخليد ذكراه العطرة ، بإحياء آثاره وعلومه.
وفي الختام يتقدّم
المؤسس بالشكر الجزيل للعلّامة الحجة الشيخ إبراهيم البهادري الّذي قام بتحقيق هذا
الكتاب على أحسن وجه ، شكر الله مساعيه الجميلة ووفقه لأعمال علمية أخرى.
والحمد لله رب
العالمين
|
جعفر السبحاني
مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام
قم المقدسة
١٠ ربيع الأوّل ١٤٢٦ ه
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
شبهات وإيضاحات
حول أصول الفقه
للشيعة الإماميّة
لقد قمنا بزيارة
المملكة المغربية في مستهلّ عام ١٤٢٥ ه ، وتعرّفت على رجال الفكر والثقافة في تلك
البلاد من خلال إلقاء المحاضرات في غير واحدة من جامعاتها وحول مواضيع مختلفة.
وقد دوّنت خاطراتنا حول هذه الرحلة في كتاب سمّي «على ضفاف جبل طارق» وسيصدر قريبا إن شاء الله تعالى.
وممّا يجب ذكره :
إنّي قد ألقيت محاضرة حول تطوّر أصول الفقه عند الإمامية في جامعة القرويين في
مدينة فاس بتاريخ ٤ محرم الحرام ١٤٢٥ ه ، وذكرت فيها التطوّر الّذي أحدثه علماء
الإمامية في علم الأصول عبر القرون على نحو لا يرى نظيره في المدارس الأخرس ،
وذكرنا نماذج من تقدم الحركة الأصولية ، وقد أعقبت هذه المحاضرة مناقشات
واستفسارات أجبنا عنها حسب ما سمح لنا الوقت بذلك.
وفي اليوم الأخير
من سفرنا والّذي غادرنا فيه المملكة المغربية زرنا صباحا مؤسسة «دار الحديث
الحسنية» الّتي يديرها الدكتور أحمد الخمليشي ، وقد استقبلونا بحفاوة وتكريم ،
وتعرّفنا هناك على عدد من الأساتذة المحترمين من أصحاب الاختصاصات المتنوّعة ، وقد
دار الحديث خلال هذه الزيارة في مواضيع عديدة لا يسع المجال لذكرها هنا.
كلّ ذلك كان بفضل
ربنا سبحانه وتعالى حيث التقينا بشخصيات علمية بارزة ، ولمسنا منهم حب المعرفة
والاطّلاع على مذهب الشيعة الإماميّة والتقريب بين المسلمين ، والاهتمام بالتبادل
الثقافي بين الجمهورية الإسلامية والمملكة المغربية.
* * *
وقد وقفنا في هذه الأيام على مقال نشر
في العدد الثاني من مجلة «الواضحة» ، الصادرة عن «دار الحديث الحسنية» في المغرب المؤرخ في ١٤٢٥ ه ـ ٢٠٠٤ م تحت
عنوان «أصول الفقه عند الشيعة الإمامية ـ تقديم وتقويم» بقلم : الدكتور أحمد
الريسوني ، الأستاذ في جامعة محمد الخامس في الرباط.
ومن حسن الحظ أنّا
قد التقينا بصاحب المقال مرتين :
الأولى : خلال إلقاء محاضرة في كلية الآداب والعلوم الإسلامية جامعة محمد
الخامس ، والّتي كان موضوعها : «الفقه الإسلامي وأدواره التاريخية».
الثانية : كانت خلال الحفل الّذي أقيم في سفارة الجمهورية الإسلامية في المغرب
لتكريم ضيفها.
ونشكر الله الّذي
هيّأ لنا هذه اللقاءات الأخوية.
وقد قرأت المقال
ووجدت أنّ المواضيع الّتي تخضع للبحث والنقاش فيه عبارة عمّا يلي :
١. تأخّر الشيعة
في تدوين علم الأصول عن السنّة.
٢. أدلّة الأحكام
عند الشيعة الإمامية ، ومنها سنّة الأئمة الاثني عشر والإجماع.
٣. الإمامية ترفض
الأخذ بالقياس والاستصلاح لأنّها أدلّة ظنية ، وفي الوقت نفسه يعملون بالظنّيات
كالعمل بأخبار الآحاد.
٤. الإمامية
يقولون بحجّية الدليل العقلي بينما يرفضون القياس وهو من بديهيات العقول
وأوّلياتها.
٥. الإمامية ترفض
حجّية المصلحة؟! ولكنّهم يأخذونها بأسماء وأشكال متعدّدة.
هذه هي المحاور
الّتي يدور عليها مقال الدكتور الّذي مارس النقد البنّاء ، واستعرض وجهة نظره
بعبارات مهذّبة ، ونحن نتناول تلك الأمور بالبحث والمناقشة ضمن فصول ، خضوعا لما
أفاده في مقدّمة مقاله قائلا :
على أنّني حين أضع
هذا المقال في سياق التقريب والسعي نحو التفاهم ، فإنّي لا أنفي حتمية النقاش
الصريح والنقد الحر المتبادل ، لأنّ التقريب المنشود لا يمكن أن يبنى على المجاملة
أو المحاباة ، ولكنّه بحاجة إلى تحسين الظن ، وتهذيب الخطاب ، وتحمّل النقد بحثا
عمّا فيه من حق لقبوله ، لا بحثا ـ فقط ـ عمّا فيه من مداخل لنقضه وتسفيهه.
١
التقدّم في التأسيس أو التدوين
إنّ واقع العلم
المنتشر قائم بأمرين :
١. إلقاء الأفكار
الّتي تقدح في أذهان المؤسّسين إلى تلاميذهم.
٢. تدوين الأفكار
من قبل المؤسّسين أو تلاميذهم الذين اقتبسوا من أضوائهم واستلهموا تلك الأفكار.
وليس علم الأصول
شاذّا عن هذه القاعدة.
إذا كانت الغاية
من علم الأصول هو تعليم الفقيه كيفية إقامة الدليل على الحكم الشرعي واستنطاق
الأدلّة الشرعية لاستنباط الحكم الشرعي في الحقول المختلفة ، فإنّ أئمة أهل البيت عليهمالسلام ـ لا سيّما الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام ـ هم السابقون في هذا الميدان ، فقد أملوا على أصحابهم
قواعد كلّيّة تتضمّن قواعد أصولية تارة وقواعد فقهية تارة أخرى ، فربّوا جيلا
كبيرا من الفقهاء في مجال الاجتهاد والاستنباط حفلت معاجم الرجال والتراجم
بأسمائهم وآثارهم.
فمن سبر ما وصل
إلينا من آثار الفقهاء في القرن الثاني والثالث ممّن تربّوا في أحضان أهل البيت عليهمالسلام ، يقف على مدى رقيّهم في سلم الاجتهاد ، فمن باب
المثال انظر إلى
ما بقي إلى هذا الوقت من اجتهادات تلاميذ الإمامين الصادقين عليهماالسلام ، نظير :
١. زرارة بن أعين (المتوفّى
عام ١٥٠ ه) الّذي يقول في حقّه ابن النديم : زرارة أكبر رجال الشيعة فقها وحديثا.
٢. محمد بن مسلم
الثقفي (المتوفّى عام ١٥٠ ه).
٣. يونس بن عبد
الرحمن (المتوفّى عام ٢٠٨ ه).
٤. الفضل بن شاذان
(المتوفّى عام ٢٦٠ ه) ، مؤلف كتاب «الإيضاح» المطبوع.
إلى غيرهم من
الفقهاء البارزين ، الذين تركوا تراثا فقهيا مستنبطا من قواعد أصولية وفقهية على
نحو يبهر العقول ، وقد ذكرنا شيئا من فتاواهم واجتهاداتهم في كتابنا (تاريخ الفقه
الإسلامي وأدواره ج ١ ص ١٩٥ ـ ٢٠٢).
وقد كانت
اجتهاداتهم واستنباطاتهم على ضوء قواعد تلقّوها عن أئمتهم عليهمالسلام واستضاءوا بنور علومهم. وقد جاءت هذه القواعد مبثوثة في
ضمن أحاديث موجودة في جوامعنا الحديثية.
وقد قام جماعة من
المحدّثين بفصل هذه الروايات وجمعها في مكان واحد ، نذكر منهم :
١. فقد جمعها
العلّامة المجلسي (١٠٣٧ ـ ١١١٠ ه) ضمن موسوعته الكبيرة
«بحار الأنوار» ، في كتاب العقل
والعلم.
__________________
٢. ألّف الشيخ
الحر العاملي (المتوفّى ١١٠٤ ه) كتابا مستقلا في هذا المضمار أسماه
«الفصول المهمة في أصول الأئمة» وقد اشتمل على ٨٦ بابا أودع فيها الأحاديث الّتي تتضمّن قواعد أصولية وفقهية ممّا
يبتنى عليها الاستنباط.
٣. صنّف المحدث
الخبير السيد عبد الله شبّر (المتوفّى ١٢٤٢ ه) كتابا أسماه «الأصول الأصلية
والقواعد الشرعية» يحتوي على مائة باب ، وقد طبع الكتاب في ٣٤٠ صفحة.
٤. أخيرهم لا
آخرهم العلّامة الفقيه السيد محمد هاشم الخوانساري الاصفهاني (المتوفّى ١٣١٨ ه)
الّذي خاض بحار الأحاديث وصرف برهة من عمره في جمع هذا النوع من الروايات المروية
عن أهل البيت عليهمالسلام (والّتي تتضمن
الأصول والقواعد الّتي يبتنى عليها الاستنباط) في كتاب سماه «أصول آل الرسول»
وأورد فيه خمسة آلاف حديث من هذا النوع ، ولو أسقطنا المتكرر منها لكان في الباقي
غنى وكفاية ، وهذا يشهد على تقدّم أئمة أهل البيت عليهمالسلام في تأسيس الفكرة وهداية الأمّة إلى تلك القواعد والأصول.
هذا وإنّ كثيرا من
أئمة الفقه كانوا سبّاقين في التأسيس لا في التدوين ، وإنّما قام بالتدوين تلاميذ
منهجهم. ومن المعلوم أنّ الفضل للمؤسّس لا للمدوّن.
هذا الإمام أبو
حنيفة النعمان بن ثابت (٨٠ ـ ١٥٠ ه) أحد أئمة المذاهب الأربعة ، ومؤسّس الفقه
الحنفي قد أسّس مدرسة فقهية توسّعت على يد تلاميذه ، وأخصّ بالذكر منهم : تلميذه
المعروف محمد بن الحسن الشيباني (١٣١ ـ
١٨٩ ه) ، وتلميذه
الآخر القاضي أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (١١٣ ـ ١٨٢ ه) ، وهذان الفقيهان
اتّصلا بأبي حنيفة وانقطعا إليه وتفقّها على يديه وبهما انتشر المذهب ، والفضل
للمؤسّس لا للمدوّن.
وهذا هو أحمد بن
محمد بن حنبل (١٦٤ ـ ٢٤١ ه) الحافظ الكبير حيث لم يصنّف كتابا في الفقه يعدّ أصلا
ومرجعا ، وإنّما جمع أصوله تلميذ تلميذه «الخلال» من الفتاوى المتشتّتة الموجودة
بين أيدي الناس ، وجاء من جاء بعده فاستثمرها وبلورها حتى صارت مذهبا من المذاهب.
يقول الشيخ أبو
زهرة : إنّ أحمد لم يصنّف كتابا في الفقه يعدّ أصلا يؤخذ منه مذهبه ويعدّ مرجعه
ولم يكتب إلّا الحديث.
ومع هذا فقد صقل
تلاميذه مذهبه وألّفوا موسوعة فقهية كبيرة ، كالمغني لابن قدامة ...
وأمّا مسألة
التدوين فهي وإن كانت أمرا مهما قابلا للتقدير لكن لا نخوض فيها ، على الرغم من
وجود تآليف في أصول الفقه للشيعة الإمامية يعود تاريخها إلى نهاية القرن الثاني
وأوائل القرن الثالث الهجري.
ومن سبر تاريخ
الحديث والفقه ودور الأئمة الاثنى عشر وخاصّة الباقر والصادق عليهماالسلام في حفظ سنة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وتوعية الناس ، يقف على أنّ حضور مجالسهم كان واسعا جدا ،
فكان يحضر فيها فئات مختلفة من طوائف المسلمين ، وكانت خطاباتهم موجهة إلى عامّة
الحاضرين .. فإنّ الفوارق الّتي نشاهدها اليوم بين السنّة والشيعة لم تكن في عصر
الإمامين عليهماالسلام على حد تصد
__________________
غير شيعتهم عن
الاختلاف إلى مجالسهم ومحاضراتهم ، فقد كان يشهد حلقات دروسهم فريق من التابعين
وتابعي التابعين ، من غير فرق بين من يعتقد بإمامتهم وقيادتهم أو من يرى أنّهم
مراجع للعقائد والأحكام.
هذا هو التاريخ
يحكي عن أنّ حلقة درس الإمام الصادق كانت تضم عددا كبيرا من رجال العلم ، وها نحن
نذكر فيما يلي أسماء البارزين منهم :
١. النعمان بن
ثابت (المتوفّى ١٥٠ ه) صاحب المذهب الفقهي المعروف. يقول محمود شكري الآلوسي في
كتابه «مختصر التحفة الاثنى عشرية» : هذا أبو حنيفة رضى الله عنه وهو من بين أهل
السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان : لو لا السنتان لهلك النعمان ، يريد السنتين
اللتين صحب فيهما ـ لأخذ العلم ـ الإمام جعفر الصادق عليهالسلام.
يقول أبو زهرة :
وأبو حنيفة كان يروي عن الصادق كثيرا ، واقرأ كتاب الآثار لأبي يوسف ، والآثار
لمحمد بن الحسن الشيباني فإنّك واجد فيهما رواية عن جعفر بن محمد في مواضع ليست
قليلة.
٢. مالك بن أنس (المتوفّى
١٧٩ ه) وكانت له صلة تامّة بالإمام الصادق عليهالسلام ، وروى الحديث عنه ، واشتهر قوله : ما رأت عين أفضل من
جعفر بن محمد.
٣. سفيان الثوري (المتوفّى
١٦١ ه) من رؤساء المذهب وحملة الحديث
__________________
وكان له اختصاص
بالإمام الصادق ، وقد روى عنه الحديث ، كما روى كثيرا من آدابه وأخلاقه ومواعظه.
٤. سفيان بن عيينة
(المتوفّى ١٩٨ ه) وهو من رؤساء المذاهب البائدة.
٥. شعبة بن الحجاج
(المتوفّى ١٦٠ ه) ، خرّج له أصحاب الصحاح والسنن.
٦. فضيل بن عياض (المتوفّى
١٨٧ ه) ، أحد أئمة الهدى والسنّة. خرّج له البخاري.
٧. حاتم بن
إسماعيل (المتوفّى ١٨٠ ه) خرج له البخاري ومسلم ، أخذ عن الصادق عليهالسلام وأخذ عنه خلق كثير.
٨. حفص بن غياث (المتوفّى
١٩٤ ه) روى عن الصادق عليهالسلام وروى عنه أحمد وغيره.
٩. إبراهيم بن
محمد أبو إسحاق المدني (المتوفّى ١٩١ ه) روى عن الصادق.
١٠. عبد الملك بن
جريج القرشي (المتوفّى ١٤٩ ه).
هذه عشرة كاملة
ومن أراد أن يقف على حملة علمه وتلامذة منهجه من السنّة ، فعليه بكتاب «الإمام
الصادق والمذاهب الأربعة» لأسد حيدر ج ١ ص ٤٠٠ ـ ٤٢١.
هذه نبذة ممّن
استناروا بنور الصادق عليهالسلام الوهّاج وانتهلوا من نميره العذب وتلقّوا عنه الفقه والحديث
كما تلقّاهما عنه غيرهم من شيعته.
* * *
٢
أدلّة الأحكام عند الإماميّة
اتّفقت الشيعة
الإمامية على أنّ منابع الفقه ومصادره لا تتجاوز الأربعة ، وهي :
١. الكتاب.
٢. السنّة.
٣. الإجماع.
٤. العقل.
وما سواها إمّا
ليست من مصادر التشريع ، أو ترجع إليها.
هذا هو فقيه القرن
السادس محمد بن إدريس الحلي (٥٤٣ ـ ٥٩٨ ه) يذكر الأدلّة الأربعة في ديباجة كتابه (السرائر)
ويحدّد موضع كل منها ، ويقول : فإنّ الحق لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب الله
سبحانه ، أو سنّة رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم المتواترة المتّفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ؛ فإذا فقدت الثلاثة
فالمعتمد في
__________________
المسائل الشرعية
عند المحقّقين الباحثين عن مأخذ الشريعة ، التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها
مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية
في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها.
تقسيم الأدلّة إلى
اجتهادية وأصول عملية
تقسيم الأدلّة إلى
اجتهادية وأصول عملية من خصائص الفقه الشيعي ، وأمّا الفرق بينهما فهو كالتالي :
وهو انّه لو كان
الملاك في اعتبار شيء حجّة على الحكم الشرعي هو كونه أمارة للواقع وطريقا إليه عند
المعتبر فهو دليل اجتهادي كالأدلّة الأربعة. فإنّ الملاك في حجّيتها هو ما ذكرنا ،
فإنّ كلّا من الكتاب والسنّة حتّى الخبر الواحد منها طريق إلى الواقع وكاشف عنه
إما كشفا تاما كما إذا أفاد القطع ، أو كشفا غير تام كما في خبر العدل ، وعلى كلّ
تقدير فالملاك لاعتباره حجّة هو كاشفيته عن الواقع.
وأمّا إذا كان
الملاك بيان الوظيفة ووضع حلول عملية للمكلّفين عند قصور يد المجتهد عن الواقع فهو
أصل عملي ، فالملاك لاعتبار هذا القسم من الأدلّة هو رفع التحيّر وإراءة الوظيفة
عند اليأس عن العثور على دليل موصل للواقع ، ولذلك أخذ في لسان حجّيتهم الجهل
بالواقع وعدم توفر طريق في
__________________
متناوله. وهذه
الأصول العامّة الّتي تجري في عامّة أبواب الفقه لا تتجاوز الأربعة ، وهي :
١. أصالة البراءة.
٢. أصالة
الاشتغال.
٣. أصالة التخيير.
٤. أصالة
الاستصحاب.
ولكلّ منها مجرى
خاص :
أمّا الأولى : فمجراها هو الشكّ في التكليف ، فإذا كان المجتهد شاكّا في
أصل الوجوب أو الحرمة ، وتفحّص عن مظانّ الأدلة ولم يقف على دليل وحجّة على الحكم
الشرعي ، فوظيفته الحكم بالبراءة عن التكليف. كما إذا شكّ مثلا في وجوب الدعاء عند
رؤية الهلال مثلا أو ما أشبهه ذلك ، والأصل له رصيد قطعي وهو :
أ. قول الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع عن أمّتي تسعة ... وما لا يعلمون.
ب. حكم العقل بقبح
عقاب الحكيم دون بيان واصل.
وأمّا الثانية : فمجراها فيما إذا علم بالحكم الشرعي ولكن تردّد الواجب أو
الحرام بين أمرين ، فيجب عليه الجمع بين الاحتمالين بالإتيان بهما عند تردّد
الواجب ، والاجتناب عنهما عند تردّد الحرام.
مثلا إذا علم بفوت
صلاة مردّدة بين المغرب والعشاء يجب عليه الجمع بينهما ، أو إذا علم نجاسة أحد
الإنائين من غير تعيين يجب الاجتناب عن كليهما.
وأمّا الثالثة : إذا دار حكم الشيء بين الوجوب والحرمة ولم يقف على دليل
شرعي يوصله إلى الواقع ، فالوظيفة العملية هي التخيير.
وأمّا الرابعة : وهو ما إذا علم بوجوب شيء أو بطهارته لكن شك في بقاء
الحكم أو بقاء الموضوع وتفحّص ولم يقف على بقائه أو زواله ، فالمرجع هو الأخذ
بالحالة السابقة أخذا بقول الإمام الصادق عليهالسلام «لا ينقض اليقين
بالشك».
هذه هي الأصول
العملية الأربعة الّتي استنبطها المجتهدون من الكتاب والسنّة ، وليس لها دور إلّا
عند فقد النص على الحكم الشرعي ، ولكلّ مجرى خاصّ وليس الملاك في اعتبارها كونها
كاشفة عن الواقع بل كونها مرجعا للوظيفة الفعلية.
تقسيم الأصول إلى
محرز وغير محرز
إنّ الأصول
العملية تنقسم إلى : أصول محرزة. وأصول غير محرزة ، والمراد من الإحراز ، هو إحراز
الواقع والكشف عنه ، وذلك لأنّ بعض الأصول فيه جهة كشف عن الواقع ، كشفا ضعيفا ،
لكن العقلاء لا يعتبرون في معاملاتهم وسياساتهم كونه حجّة لهذه الجهة ، بل الملاك
لاعتباره هو تسهيل الأمر في الحياة ووضع حلول عملية في ظرف الجهل والشكّ ، كما أنّ
الشارع الّذي أمضاه واعتبره حجّة في الفقه ، لم يعتبره لهذه الغاية حتى يكون أمارة
عقلانية كخبر الثقة.
ومثّلوا لذلك
بالأصول العملية الثلاثة :
١. الاستصحاب.
٢. قاعدة اليد.
٣. قاعدة التجاوز.
فالأوّل منها أصل
عام يجري في عامّة أبواب الفقه ، بخلاف الأخيرين فإنّهما خاصان ببعض الأبواب.
وما سوى ذلك أصل
غير محرز كأصالة البراءة والاشتغال والتخيير.
هذه هي أدلّة
الأحكام عند الشيعة الإمامية ، فهلمّ معي ندرس ما ذكره الأستاذ حول أدلّة الأحكام
عند الشيعة لنرى فيه مواقع الخطأ والالتباس على ضوء الدراسة الصحيحة لأصول الفقه
عند الإمامية.
١. مسلك الشيعة هو
مسلك الغزالي
يقول الأستاذ :
جعلت الشيعة أدلّة الأحكام المعتمدة أربعة : الكتاب والسنّة والإجماع والعقل ، ثم
قال : ولا يخفى على الدارس أنّ هذا هو مسلك الإمام الغزالي في باب الأدلّة.
يلاحظ عليه : لا
نظن أنّ الأستاذ يتّهم الشيعة بمتابعتهم الغزالي في حجّية الكتاب والسنّة ، فإنّ
المسلمين قاطبة يقولون بذلك. وإنّما مظنّة التهمة قولهم بحجّية العقل.
فنقول : هناك فرق
واضح بين المسلكين : الإمامي والغزّالي ، فإنّ الأوّل يعتمد على التحسين والتقبيح
العقليين ، والغزّالي تبعا لإمام مذهبه يرفض ذلك
__________________
ويقول : إنّ لله عزوجل إيلام الخلق وتعذيبهم من غير جرم سابق ، لأنّه متصرّف في
ملكه ...
والعقل الّذي هو
مصدر التشريع عند الإمامية أو كاشف عن التشريع الإلهي ـ على الاصح ـ هو العقل المعتمد
على حكمين ينبعان من صميم العقل.
١. التحسين
والتقبيح العقليان.
٢. الملازمات
العقلية.
وأين الغزّالي
ومنهاج أستاذه عن القول بهما؟!
وتضافرت الروايات
عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام على حجّية العقل قبل أن يولد الغزالي بقرون ، قال الإمام
الصادق عليهالسلام : «حجّة الله على العباد النبي ، والحجّة فيما بين العباد
وبين الله ، العقل».
وقال الإمام موسى
بن جعفر عليهالسلام (المتوفّى : ١٨٣ ه)
مخاطبا هشام بن الحكم : «يا هشام إن لله على الناس حجتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة
باطنة ؛ فأمّا الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة ، وأمّا الباطنة فالعقول».
إنّ أئمة أهل
البيت عليهمالسلام أعطوا للعقل أهمية كبيرة ، فهذا هو الإمام الباقر عليهالسلام يقول : «إنّ الله لمّا خلق العقل استنطقه ـ إلى أن قال : ـ
وعزّتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحبّ إليّ منك ، ولا أكملتك إلّا في من أحب ، أما
إنّي إيّاك
__________________
آمر وإيّاك أنهى ،
وإيّاك أعاقب وإيّاك أثيب».
فكان المترقب من
الأستاذ المحترم أن لا يقضي في الموضوع إلّا بعد الإحاطة بأصول الشيعة الإماميّة.
٢. تقييم تعريفه
للأدلّة الاجتهادية والأصولية العلمية :
قد تعرّفت على ما
هو الفرق بين الأدلّة الاجتهادية والأصولية العملية ، وعلى تقسيم الأصول إلى أصل
محرز وغير محرز.
وللأستاذ كلام في
هذا الصدد نأتي به :
أ. الأدلّة
الأربعة المعتمدة المشار إليها آنفا تسمى الأدلة المحرزة ـ الكتاب ، السنّة ،
العقل ، والإجماع ـ ويقابلها الأصول العملية باعتبارها تعطي حلولا عملية للمكلّفين
حين يتعذر عليها إحراز الحكم الشرعي من دليله.
يلاحظ عليه : أنّه
أصاب في التفريق بين الأدلة الأربعة والأصول العملية إلّا أنّ وصف الأدلّة الأربعة
بالأدلّة المحرزة ، خلاف المصطلح وإنّما يوصف بها بعض الأصول ، فمنها أصل محرز
ومنها غير محرز. كما تقدّم في كلامنا ، وإنّما توصف الأدلّة الأربعة ، بالأدلّة
الاجتهادية.
ب. ويدخل ضمن هذه
الأصول العملية جملة قواعد : أهمها قاعدة الاحتياط ، انطلاقا من أنّ الأصل هو شغل
الذمّة بالتكليف وانّ لله في كلّ نازلة حكما يتعيّن الالتزام به ، وقاعدة البراءة
الأصلية ، انطلاقا من أنّ الأصل براءة
__________________
الذمّة من التكليف
، قاعدة الاستصحاب الّتي تقضي بإبقاء ما كان على ما كان انطلاقا من أنّ اليقين لا
يرتفع بالشكّ.
يلاحظ عليه : أنّ
قاعدة الاحتياط تنطلق من العلم القطعي بنفس التكليف في الواقعة بلا تردد فيه ،
والجهل بالموضوع ، كما إذا علم بفوت إحدى الصلاتين المغرب أو العشاء ، فيجب عليه
قضاؤهما ، وما ذكره من المنطلق يعني أنّ «الأصل هو شغل الذمّة بالتكليف» له لا صلة
له بقاعدة الاحتياط ، بل أساسه هو العلم بالتكليف والجهل في المتعلّق.
والعجب انّه عند
ما يفسّر قاعدة الاحتياط عند الإمامية ، يقول : الأصل شغل الذمّة بالتكليف.
وعند ما يفسّر
قاعدة البراءة عندهم بقوله : الأصل براءة الذمّة من التكليف ، وهذا هو نفس التناقض
، فلو كان الأصل هو الاشتغال فما معنى كون الأصل هو البراءة؟!
وهذا يكشف عن أنّ
الأستاذ لم يكن ملمّا بأصول الفقه عند الإمامية حيث ارتكب في بيانها التناقض.
كما أنّ ما ذكره :
«أنّ لله في كلّ نازلة حكما يتعيّن الالتزام به» وجعله منطلقا للاحتياط عجيب جدا ،
لأنّ العلم بأنّ لله في كلّ نازلة حكما لا يسبب الاحتياط ، وإذ من المحتمل أن يكون
حكم الله في المورد هو الإباحة أو الكراهة ، أو الاستحباب.
__________________
٣
هل سنّة وراء سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
السنّة هي المصدر
الثاني للعقيدة والشريعة ، سواء أكانت منقولة باللفظ والمعنى ، أو كانت منقولة
بالمعنى فقط ، إذا كان الناقل ضابطا في النقل.
وقد خصّ الله بها
المسلمين دون سائر الأمم حيث إنّهم اهتموا بنقل ما أثر عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من قول وفعل وتقرير ، وبذلك صارت السنّة من مصادر التشريع
الإسلامي.
وقد أكد أئمة أهل
البيت عليهمالسلام على أنّ السنّة الشريفة هي المصدر الرئيسي بعد الكتاب ،
وأنّ جميع ما يحتاج الناس إليه قد بيّنه سبحانه في الذكر الحكيم أو ورد في سنّة
نبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قال الإمام الباقر
عليهالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة
إلّا أنزله في كتابه وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ
عليه ، وجعل على من تعدّى ذلك الحدّ حدّا».
وقال الإمام
الصادق عليهالسلام : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة».
__________________
وروى سماعة عن
الإمام أبي الحسن موسى الكاظم عليهالسلام ، قال : قلت له : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه ، أو
تقولون فيه؟
قال : «بل كلّ شيء
في كتاب الله وسنّة نبيه».
روى أسامة ، قال :
كنت عند أبي عبد الله عليهالسلام وعنده رجل من المغيرية ، فسأله عن شيء من السنن؟ فقال : «ما من شيء يحتاج إليه
ولد آدم إلّا وقد خرجت فيه سنّة من الله ومن رسوله ، ولو لا ذلك ، ما احتجّ علينا
بما احتج؟»
فقال المغيري :
وبما احتج؟
فقال أبو عبد الله
عليهالسلام : «قوله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) فلو لم يكمل سنّته وفرائضه وما يحتاج إليه الناس ، ما
احتجّ به».
روى أبو حمزة ، عن
أبي جعفر ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في خطبته في حجّة الوداع : «أيّها الناس اتّقوا الله ما من
شيء يقرّبكم من الجنّة ويباعدكم من النار إلّا وقد نهيتكم عنه وأمرتكم به».
إلى غير ذلك من
النصوص المتضافرة عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام من التأكيد على السنّة والركون إليها.
__________________
أئمة أهل البيت عليهمالسلام حفظة سنن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم
كان النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم يقوم بأمور ومهام لها صلة بالجوانب المعنوية ـ بالإضافة
إلى إدارة دفّة الحكم ـ وهي :
١. تبيين الأحكام
الشرعية والإجابة عن الحوادث المستجدّة الّتي لم يبيّن حكمها في الكتاب ولا في
السنّة الصادرة إلى يومها.
٢. تفسير القرآن
الكريم وتبيين مجملاته وتقييد مطلقاته وتخصيص عموماته.
٣. الردّ على
الشبهات والتشكيكات الّتي يطلقها أعداء الإسلام من اليهود والنصارى بعد الهجرة.
ومن المعلوم أنّ
من يقوم بهذه المسئوليات ، سوف يورث فقده فراغا هائلا في نفس هذه المجالات ، ومن
الخطأ أن نتّهم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ـ والعياذ بالله ـ أنّه قد ارتحل من دون أن يفكّر في ملء
تلك الثغرات المعنوية الحاصلة برحيله ...
فإذا رجعنا إلى
أحاديث النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نقف على أنّه قد سدّ هذه الثغرات باستخلاف من جعلهم قرناء
الكتاب وأعداله ، وأناط هداية الأمّة بالتمسّك بهما ، ونذكر نماذج من كلماته صلىاللهعليهوآلهوسلم في هذا المجال :
١. روى ابن الأثير
الجزري في «جامع الأصول» عن جابر بن عبد الله ، قال :
رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجّة الوداع يوم عرفة وهو على ناقته القصواء
يخطب ، فسمعته
يقول : «إنّي تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي أهل بيتي».
٢. وأخرج مسلم في
صحيحه عن زيد بن أرقم ، قال :
قام رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يوما فينا خطيبا بماء يدعى خما بين مكة والمدينة ، وحمد
الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ، ثمّ قال :
أمّا بعد : ألا
أيّها الناس فإنّما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين
: أوّلهما : كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به فحثّ على
كتاب الله ورغب فيه.
ثمّ قال : وأهل
بيتي أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل بيتي ، أذكّركم الله في أهل
بيتي.
٣. أخرج الترمذي
في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : رأيت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حجّة يوم عرفة على ناقته القصواء يخطب فسمعته ، يقول :
يا أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا : كتاب الله وعترتي.
٤. أخرج الإمام
أحمد عن أبي سعيد الخدري ، قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر : كتاب
الله حبل ممدود إلى السماء
__________________
والأرض ، وعترتي
أهل بيتي ، وانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض.
وهذا الحديث
المعروف بحديث الثقلين رواه عن النبي أكثر من ثلاثين صحابيا ، ودوّنه ما يربو على
ثلاثمائة عالم في كتبهم في مختلف العلوم والفنون ، وفي جميع الأعصار والقرون ، فهو
حديث صحيح متواتر بين المسلمين ، وقد عيّن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ببركة هذا الحديث من يسدّ هذه الثغرات ويكون المرجع العلمي
بعد رحيله وليس هو إلّا أهل بيته.
وبهذا يتبين أن
العترة عليهمالسلام عيبة علم الرسول وخزنة سننه وحفظة كلمه ، تعلموها بعناية
من الله تبارك وتعالى كما تعلّم صاحب موسى بفضل من الله دون أن يدرس عند أحد ،
ولذلك تمنّى موسى عليهالسلام أن يعلمه ممّا علّم.
قال سبحانه حاكيا
عن لسان نبيه موسى عليهالسلام : (قالَ لَهُ مُوسى هَلْ
أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).
وعلى ضوء ذلك فليس
لأئمة أهل البيت عليهمالسلام سنّة ولا تشريع ، وما أثر عنهم من قول وفعل أو تقرير
فإنّما يعتبر ، لكونهم حفظة سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يصدرون ولا يحكمون إلّا بسنّته.
فلو قيل : إنّ قول
الإمام عليهالسلام أو فعله أو تقريره سنّة إنّما يراد به أنّهم تراجم سنّة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأقواله وأفعاله.
فما قاله العلّامة
الشيخ المظفر قدسسره من أنّ المعصوم من آل البيت عليهمالسلام يجري
__________________
قوله مجرى قول
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم من كونه حجة على العباد ، إنّما يريد ذلك وما أحسن قوله «يجري
مجرى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم» ، فلو كان أئمة أهل البيت عليهمالسلام هم أصحاب سنن في عرض سنّة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم فلما ذا قال «يجري قولهم مجرى قول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم»؟!
هذه عقيدة
الإمامية من أوّلهم إلى آخرهم ؛ فالتشريع لله سبحانه فقط ، والنبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم هو المبلّغ عن الله سبحانه في ما شرّعه ، وأئمة أهل البيت
خلفاء رسول الله وحفظة سننه وتراجم كلمه ، والمبلّغون عنه السنن حتى يجسّدوا إكمال
الدين في مجالي العقيدة والشريعة.
وحين قال سبحانه :
(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ) فإنّما هو لأجل نصب علي عليهالسلام أوّل أئمة أهل البيت عليهمالسلام للخلافة لكي يقوم بنفس المسئوليات الّتي كان النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قائما بها طيلة أيّام رسالته ، ويملأ الثغرات الّتي
أعقبتها رحلته صلىاللهعليهوآلهوسلم غير أنّه نبي يوحى إليه وهذا وصي حافظ لسننه.
سنّة الصحابة في
مقابل سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
لقد تبيّن لنا أنّ
الأستاذ قد عجب من وجود سنّة لأهل البيت عليهمالسلام ، وقد فسّرنا معنى ذلك عند الإماميّة ، وقلنا بأنّه ليس
للأئمة سنّة سوى ما سنّه النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولكن ألفت نظره إلى أنّ أهل السنّة قد قالوا بوجود سنن
أخرى بعد سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإليك ما يشير إلى ذلك :
__________________
١. الحديث المعروف
عندهم : «عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء المهديين الراشدين ، تمسكوا بها وعضّوا عليها
بالنواجذ».
يقول ابن قيم
الجوزية في تفسير الحديث : فقد قرن سنّة خلفائه بسنّته وأمر باتّباعها كما أمر
باتباع سنّته ، وهذا يتناوله ما أفتوا به وسنّوه للأمّة وإن لم يتقدّم للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم فيه شيء وإلّا كان ذلك سنّة.
فالرواية تدل على
أنّ للصحابة سنّة كسنّة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فعندهم سنّة أبي بكر وسنّة عمر وسنّة عثمان وسنّة علي.
٢. روى السيوطي
قال حاجب بن خليفة : شهدت عمر بن عبد العزيز يخطب وهو خليفة فقال في خطبته : على
أنّ ما سنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وصاحباه فهو دين نأخذ به وننتهي إليه ، وما سنّ سواهما
فإنّا نرجئه.
أبعد هذه النصوص
يصحّ للأستاذ أن يستغرب من وجود سنّة لأئمة أهل البيت عليهمالسلام : أعلام الهدى ومصابيح الدجى وقرناء الكتاب ، وثاني
الثقلين ...
ولو لا المخافة من
تكدير مياه الصفاء لبسطنا القول في ذلك.
طرق علم الأئمة
بالسنّة
قد أشرنا إلى أنّه
ليس لأئمة أهل البيت عليهمالسلام سنّة خاصّة ، بل هم حفظة سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولسائل أن يسأل : ما هي طرقهم إلى سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وأكثرهم لم
__________________
يعاصروه ولم
يسمعوها عنه مباشرة. ومن المعلوم أنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد عاصره الإمام علي والإمامان الحسن والحسين عليهمالسلام ، فقط؟
والإجابة عن هذا
السؤال واضحة لمن عرف أحاديث الشيعة وأنس بجوامعهم ، فإنّ لهم عليهمالسلام طرقا إلى سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم نأتي ببعضها :
الأوّل : السماع
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم
إنّ الأئمة عليهمالسلام يروون أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم سماعا منه بلا واسطة أو بواسطة آبائهم ، ولذلك ترى في كثير
من الروايات أن الإمام الصادق عليهالسلام يقول : حدّثني أبي عن زين العابدين عن أبيه الحسين بن علي
عن علي أمير المؤمنين عن الرسول الأكرم.
وهذا النمط من
الروايات كثير في أحاديثهم.
فأئمة أهل البيت عليهمالسلام رووا أحاديث كثيرة عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن هذا الطريق دون أن يعتمدوا على الأحبار والرهبان أو على
مجاهيل أو شخصيات متسترة بالنفاق.
الثاني : كتاب علي
عليهالسلام
كان لعلي عليهالسلام كتاب خاص بإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد حفظته العترة الطاهرة عليهمالسلام وصدرت عنه في مواضع كثيرة ونقلت نصوصه في موضوعات مختلفة ،
وقد بث الحرّ العاملي في موسوعته الحديثية ، أحاديث ذلك الكتاب
حسب الكتب الفقهية
من الطهارة إلى الديات ، ومن أراد فليرجع إلى تلك الموسوعة.
وإليك شذرات من
أقوال الأئمة بشأن هذا الكتاب الّذي كانوا يتوارثونه وينقلون عنه ويستدلّون به :
قال الإمام الحسن
المجتبى عليهالسلام : «إنّ العلم فينا ونحن أهله ، وهو عندنا مجموع كلّه
بحذافيره ، ومنه لا يحدث شيء إلى يوم القيامة حتّى أرش الخدش إلّا وهو عندنا مكتوب
، بإملاء رسول الله وخطّ علي بيده».
وقال أبو جعفر
الباقر عليهالسلام لأحد أصحابه ـ أعني حمران بن أعين ـ وهو يشير إلى بيت كبير
: «يا حمران إنّ في هذا البيت صحيفة طولها سبعون ذراعا بخطّ علي عليهالسلام وإملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لو ولّينا الناس لحكمنا بما أنزل الله ، لم نعد ما في
هذه الصحيفة».
وقال عليهالسلام أيضا لبعض أصحابه : يا جابر إنّا لو كنّا نحدّثكم برأينا
وهوانا لكنّا من الهالكين ، ولكنّا نحدّثكم بأحاديث نكنزها عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم».
وقال الإمام
الصادق عليهالسلام عند ما سئل عن الجامعة : «فيها كلّ ما يحتاج الناس إليه ،
وليس من قضية إلّا فيها حتّى أرش الخدش».
وقال الإمام
الصادق عليهالسلام في تعريف كتاب علي عليهالسلام : «فهو كتاب طوله سبعون ذراعا إملاء رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم من فلق فيه ، وخط علي بن أبي طالب عليهالسلام بيده ، فيه والله جميع ما يحتاج إليه الناس إلى يوم
القيامة ، حتّى أنّ
__________________
فيه أرش الخدش
والجلدة ونصف الجلدة».
ويقول سليمان بن
خالد : سمعت أبا عبد الله عليهالسلام يقول : «إنّ عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعا ، إملاء رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟ وخطّ عليّ عليهالسلام بيده ، ما من حلال ولا حرام إلّا وهو فيها حتّى أرش الخدش».
وقد كان علي عليهالسلام أعلم الناس بسنّة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكيف لا يكون كذلك ، وهو القائل : «كنت إذا سألت رسول الله
صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاني ، وإذا سكت ابتدأني».
الثالث : انّهم
محدّثون
لأجل إيقاف القارئ
على المحدّث في الإسلام ومفهومه نذكر شيئا في توضيحه.
«المحدّث» من
تكلّمه الملائكة بلا نبوّة ورؤية صورة ، أو يلهم له ويلقى في روعه شيء من العلم
على وجه الإلهام والمكاشفة من المبدأ الأعلى ، أو ينكت له في قلبه من حقائق تخفى
على غيره.
فالمحدّث بهذا
المعنى ممّا أصفقت الأمّة الإسلامية عليه ، بيد أنّ الخلاف في مصاديقه ، فالسنّة
ترى عمر بن الخطاب من المحدّثين ، والشيعة ترى عليا وأولاده الأئمة منهم.
__________________
أخرج البخاري في
صحيحه : عن أبي هريرة قال : قال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : لقد كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلّمون من غير أن
يكونوا أنبياء ؛ فإن يكن من أمّتي منهم فعمر.
وقد أفاض شرّاح
صحيح البخاري الكلام حول المحدّث.
وللمحدّثين من أهل
السنّة كلمات حول المحدّث نأتي بملخّصها :
يقول القسطلاني
حول الحديث : يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوة.
وأخرج مسلم في
صحيحه في باب فضائل عمر عن عائشة عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد كان في الأمم قبلكم محدّثون ، فإن يكن في أمّتي منهم
أحد فإنّ عمر بن الخطاب منهم.
وقال النووي في
شرح صحيح مسلم : اختلف تفسير العلماء للمراد ب «محدّثون» فقال ابن وهب : ملهمون ،
وقيل : يصيبون إذا ظنّوا فكأنّهم حدّثوا بشيء فظنّوه ، وقيل : تكلّمهم الملائكة
وجاء في رواية مكلّمون.
وقال الحافظ محب
الدين الطبرسي في «الرياض» ، ومعنى «محدّثون» ـ والله أعلم ـ أن يلهموا الصواب ،
ويجوز أن يحمل على ظاهره وتحدّثهم
__________________
الملائكة لا لوحي
، وإنّما بما يطلق عليه اسم حديث ، وتلك فضيلة عظيمة.
وحصيلة الكلام :
انّه لا وازع من أن يخصّ سبحانه بعض عباده بعلوم خاصّة يرجع نفعها إلى العامّة من
دون أن يكونوا أنبياء ، أو معدودين من المرسلين ، والله سبحانه يصف مصاحب موسى
بقوله : (فَوَجَدا عَبْداً
مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا
عِلْماً) ولم يكن المصاحب نبيّا ، بل كان وليّا من أولياء الله
سبحانه وتعالى بلغ من العلم والمعرفة مكانة ، دعت موسى ـ وهو نبيّ مبعوث بشريعة ـ إلى
القول : (هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً).
ويصف سبحانه
وتعالى جليس سليمان ـ آصف بن برخيا ـ بقوله : (قالَ الَّذِي
عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ
طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).
وهذا الجليس لم
يكن نبيّا ، ولكن كان عنده علم من الكتاب ، وهو لم يحصّله من الطرق العاديّة التي
يتدرّج عليها الصبيان والشبان في المدارس والجامعات ، بل كان علما إلهيا أفيض عليه
لصفاء قلبه وروحه ، ولأجل ذلك ينسب علمه إلى فضل ربّه ويقول : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي).
والإمام علي
والأئمة من بعده ، الذين أنيطت بهم الهداية في حديث
__________________
الثقلين ، ليسوا
بأقلّ من مصاحب موسى عليهالسلام ، أو جليس سليمان ، فأي وازع من أن يقفوا على سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم عن طريق الإشراقات الإلهية.
الرابع :
الاستنباط من الكتاب والسنّة
هذا هو الطريق
الرابع ، فقد كانوا عليهمالسلام يستدلّون على الأحكام الإلهية بالكتاب والسنّة بوعي متميز
يبهر العقول ويورث الحيرة ، ولو لا خشية الإطالة في المقام لنقلنا نماذج كثيرة من
ذلك ، ونكتفي هنا بانموذج واحد وهو : قدّم إلى المتوكل رجل نصراني فجر بامرأة
مسلمة فأراد أن يقيم عليه الحد ، فأسلم ، فقال يحيى بن أكثم : الإيمان يمحو ما
قبله ، وقال بعضهم : يضرب ثلاثة حدود ، فكتب المتوكّل إلى الإمام علي الهادي عليهالسلام يسأله ، فلمّا قرأ الكتاب ، كتب : يضرب حتى يموت ، فأنكر
الفقهاء ذلك ، فكتب إليه يسأله عن العلة ، فكتب عليهالسلام : بسم الله الرحمن
الرحيم. (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ. فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ
خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ).
فأمر به المتوكل
فضرب حتى مات.
إنّ الإمام الهادي
ببيانه هذا شقّ طريقا خاصّ ا لاستنباط الأحكام من الذكر الحكيم ، طريقا لم يكن
يحلم به فقهاء عصره ، وكانوا يزعمون أنّ مصادر
__________________
الأحكام الشرعية
هي الآيات الواضحة في مجال الفقه الّتي لا تتجاوز ثلاثمائة آية ، وبذلك أبان
للقرآن وجها خاصّا لدلالته ، لا يلتفت إليه إلّا من نزل القرآن في بيته ، وليس هذا
الحديث غريبا في مورده ، بل له نظائر في كلمات الإمام وغيره من آبائه وأبنائه عليهمالسلام.
هذه إلمامة عابرة
في بيان طرق أهل البيت عليهمالسلام إلى النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
فما روي عن الإمام
موسى بن جعفر عليهالسلام حول علمهم بالسنّة فانما هو ناظر إلى ما سبق ذكره.
سئل الإمام موسى
بن جعفر عليهالسلام : أكل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه ، أو تقولون فيه؟ فقال
: «لا بل كل شيء في كتاب الله وسنّة نبيه».
فالإمام يريد
بالسنّة ما ذكرنا (مصادرها وطرقها) لا خصوص السنّة الموجودة في أفواه الناس وعلى
ألسنتهم ، وإن كان ربّما يلتقي علمهم بالسنن بما رواه الناس عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في بعض المواضيع.
هذه الرواية
العابرة توقفنا على مدى ما تلقاه الأئمة عليهمالسلام من سنن النبي ، أفبعد هذا يصح أن نعتمد على ما رواه
البخاري عن أبي جحيفة الّذي قال : قلت لعلي : عندكم كتاب؟ قال لا إلّا كتاب الله ،
أو فهم أعطيه رجل مسلم ، أو ما في هذه الصحيفة. قال : قلت : فما في هذه الصحيفة؟
قال : العقل وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر.
__________________
كيف لا يكون عند
علي عليهالسلام كتاب يجمع فيه سنن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وهؤلاء هم أبناء علي عليهالسلام ينقلون عنه ويعتمدون عليه؟!
والعجب ما ورد في
هذه الرواية من أنّ الصحيفة الّتي كان يحتفظ بها علي لم تشتمل إلّا على جمل محدودة
، فلو لم يكن عند علي وأبنائه المعصومين إلّا ما جاء في هذه الرواية ، فمن أين هذه
العلوم الموروثة عنه وعن أبنائه الصادقين الّتي بهرت العقول؟!
كيف لا يكون عند
علي عليهالسلام سوى ما في هذه الصحيفة أو ما في ألسن الناس مع أنّ المسلّم
عند الفريقين أنّ عليا كانت عنده علوم وأسرار لم تكن عند غيره ، وكان الصحابة
يرجعون إليه في المشاكل والمسائل العويصة ، فهذا عمر بن الخطاب وسائر الخلفاء
كانوا يرجعون إليه ويسألونه ، كيف لا وهو باب مدينة علم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقد قام زميلنا
الجليل المغفور له الشيخ علي الأحمدي. بجمع ما ورد في كتاب علي عليهالسلام ممّا هو مبثوث في الجوامع الحديثية ورتّبه على ٢٦ بابا ،
وما جمعه إنّما هو غيض من فيض وقليل من كثير ممّا كان في الأصل.
__________________
٤
تقييم الإجماع عند الإماميّة
عدّ الأصوليون
الإجماع من أحد الأدلّة الشرعية ، غير أنّهم اختلفوا في ملاك الحجيّة فالمحقّقون
من السنّة قالوا : إنّ الإجماع يجب أن يكون مستندا إلى دليل شرعي قطعي أو ظنّي
كالخبر الواحد والمصالح المرسلة والقياس والاستحسان.
فلو كان المستند
دليلا قطعيا من قرآن أو سنّة متواترة ، يكون الإجماع مؤيدا معاضدا له ؛ ولو كان المستند دليلا ظنيا ، فيرتقي الحكم بالإجماع من
مرتبة الظن إلى مرتبة القطع واليقين. ومثله إذا كان المستند هو المصلحة أو دفع
المفسدة ، فالاتفاق على حكم شرعي ـ استنادا إلى ذلك الدليل ـ يجعله حكما شرعيا قطعيا
إلهيا وإن لم ينزل به الوحي.
وعلى ضوء ذلك
فالإجماع عند أهل السنّة من مصادر التشريع في عرض
__________________
الكتاب والسنّة ،
لكن بشرط أن يكون الحكم مستندا إلى دليل ظني ، فعندئذ يجعله إجماع العلماء حكما
قطعيا.
وأمّا عند الشيعة
فالإجماع بما هو هو ليس من مصادر التشريع وانّما يكشف عن وجود الدليل ، فالاتّفاق
مهما كان واسعا ، لا يؤثر في جعل الحكم ، شرعيا إلهيّا وانّما المؤثر في ذلك
المجال ، نزول الوحي به فقط.
نعم للإجماع دور
في كشف الدليل الأعم من القطعي والظنّي ، وقد اختلفوا في كيفية كشفه إلى أقوال
يجمعها أمران :
١. استكشاف الدليل
بالملازمة العادية بين فتوى المجمعين وقول الإمام.
٢. استكشاف
الإجماع موافقة الإمام عليهالسلام لكونه من جملة المجمعين.
أمّا الثاني
فمشروط بشرطين :
أ. ان يكون الإمام
ظاهرا لا غائبا.
ب. أن تتوفر
الحرية في الفتوى ويكون للإمام حرية تامة في إظهار رأيه ، ومثل ذلك لم يتّفق في
عصر الحضور إلّا في فترة قليلة ، وهي الّتي عاصرها الإمامان الصادقان : الباقر
والصادق عليهماالسلام. وبسبب عدم توفر هذين الشرطين في عصر الأئمة لم يلتفت
إليها إلّا القليل من العلماء ، وإنّما المهم استكشاف وجود الدليل عن إجماع
المجمعين بأحد الطريقين التاليين :
أ. تراكم الظنون
مورث لليقين بالحكم الشرعي ، لأنّ فتوى كلّ فقيه وإن كانت تفيد الظن ، إلّا أنّها
تعزز بفتوى فقيه ثان فثالث ، إلى أن يحصل للإنسان من إفتاء جماعة على حكم ، القطع
بالصحة ، إذ من البعيد أن يتطرق البطلان إلى فتوى هؤلاء الجماعة.
ب. الإجماع كاشف
عن دليل معتبر.
إنّ حجيّة الإجماع
ليس لأجل إفادته القطع بالحكم ، بل لأجل كشفه عن وجود دليل معتبر وصل إليهم ولم
يصل إلينا ، وهذا هو الّذي اعتمد عليه صاحب الفصول ، وعدّة من المتأخرين.
قال صاحب الفصول :
سنكشف قول المعصوم عن دليل معتبر باتّفاق علمائنا الذين كان ديدنهم الانقطاع إلى
الأئمة في الأحكام وطريقتهم التحرّز عن القول بالرأي والاستحسان.
قراءة صاحب المقال
للاجماع عند الشيعة
إنّ الدكتور أحمد
الريسوني «حفظه الله» بعد أن ذكر أنّ الإجماع عند الشيعة ليس حجة بما هو هو ،
وانّما ملاك حجّيته كشفه عن الدليل ، حاول أن يطبق نظرية أهل السنّة على نظرية
الشيعة. فقال :
وهذا القول في
حقيقة الإجماع وحقيقة حجّيته ليس بغريب على أصوليّ السنّة ، فهو بعض ما يتضمّنه
قولهم : «الإجماع لا بدّ فيه من مستند» ، ثم ذكر كلام إمام الحرمين والشريف
التلمساني .
وما استنتجه من
التوفيق بين النظريتين عمل مشكور عليه ، إلّا أنّنا نشير إلى أنّهما ليستا متحدتين
بالشكل الّذي ذكره الأستاذ ، وانّما هما متحدتان في شيء ومختلفتان في شيء آخر.
__________________
١. تشتركان في أنّ
إجماع المجمعين لا بدّ أن يكون على أساس دليل ، ولا يصح إفتاؤهم بلا دليل.
٢. وتختلفان في
أنّ للإجماع ـ عند أهل السنّة ـ دورا في إضفاء المشروعية على الحكم المجمع عليه ،
بحيث يجعله حكما ـ كسائر الاحكام الواردة في الكتاب والسنّة ـ سواء أصح المستند
الظني في الواقع أم لم يصح ، وكأنّ الاتفاق ، عملية كيمياوية تقلب النحاس ذهبا.
إمّا مطلقا وفي عامّة الموارد ، أو فيما إذا كان مستند الإجماع ، مثل القياس
والمصالح والمفاسد العامّة ، وهذا ليس شيئا خفيا على من له إلمام بأصول الفقه لدى
السنّة ، وقد وقفت على كلام الفقيه المعاصر «وهبة الزحيلي» حتى أنّ الكاتب صرح
بذلك في مقاله الّذي يقول فيه :
«وقد يكون إجماعهم
ناشئا عن قياس ظنّي في أصله ، ولكن الإجماع على الحكم أضفى عليه صوابا ويقينا لا يحتمل الشك.
وقد يكون الإجماع
منعقدا عن نظر استصلاحي سديد ، ومن خلال الإجماع عليه تأكّدت موافقته القطعية
للشرع وللمصالح الّتي اعتبرها.
هذا الّذي عليه
السنّة وأمّا الشيعة فهم عن بكرة أبيهم ، لا يقيمون للإجماع دورا سوى الكشف عن
الدليل : القطعي أو الظنّي ، وليس له دور في إضفاء الصواب على الدليل والمشروعية
على الحكم ـ لو فرض عدم صحته ـ فلذلك ليس الإجماع بما هو هو ، من مصادر التشريع.
__________________
نقد الإجماع
الدخولي
قد عرفت أنّ ملاك
حجّية الإجماع هو كشفه عن الدليل بأحد الوجهين التاليين :
أ. كشفه عن دخول
الإمام في المجمعين.
ب. كشفه عن وجود
الدليل والحجة.
أمّا القسم الأوّل
فقد عرفت اختصاصه بعصر الحضور ، لكن بشرط أن تسود الحرية عامّة أهل الفتوى في
البلد الّذي يقيم فيه المعصوم ، كالمدينة المنورة كما كان ذلك في بعض الأعصار
أيّام نشوب الصراع بين الأمويين والعباسيين.
فلو وصل إلينا أنّ
كلّ من يؤخذ عنه الفتوى في المدينة أفتوا على حكم من الأحكام ولم يشذّ منهم أحد ،
نكشف اتّفاق الإمام الباقر والصادق معهم ، لأنّ لسان الإجماع هو كلّ من يؤخذ عنه
الفتوى ، وهما من أبرز من يؤخذ منهم الفتوى.
وعلى ضوء ذلك نقف
على مدى صحة رأي الأستاذ حول الإجماع الدخولي. قال :
«ولست أدري كيف
استساغ علماء الإمامية وأذكياؤهم هذا التناقض الواضح ، إذ يعتبرون الإجماع كاشفا
عن قول المعصوم ، ثم يشترطون دخول هذا المعصوم؟ وإذا دخل المعصوم في الإجماع ـ بحيث
كان قوله معروفا وثابتا ـ
فأي كشف بقي
للإجماع أن يقوم به؟ ثم إذا كان قول المعصوم حجة في ذاته فأي حاجة وأي قيمة
للإجماع مع ثبوت قول المعصوم؟ (الصفحة ٩٣).
ويلاحظ عليه :
أنّه تصوّر أنّ الإجماع الدخولي عبارة عن معرفتنا بدخول الإمام شخصيا ضمن المجمعين
فرتّب عليه ما رتب ، حيث قال : «فعند ذلك أي كشف بقي للإجماع أن يقوم به».
وبعبارة أخرى :
تصور انّ الإجماع الدخولي عبارة عن رؤية الإمام شخصيا بين المجمعين ، أو سماع صوته
منهم ، أو ثبوت تواجده بين المجمعين بخبر قطعي ، فعند ذلك قال: «فأي دور يبقى
للإجماع بعد معرفة الإمام».
ولكن خفي عليه
واقع هذا القسم من الإجماع ، فالمراد به ما إذا ثبت بخبر قطعي ، أنّ علماء المدينة
وكلّ من يؤخذ عنه الفتوى ، اتّفقوا على حكم من الأحكام الشرعية وكان أهل البيت
يتمتّعون بالحرية لإظهار رأيهم وإبداء ما عندهم ، فعند ذلك نستكشف دخول الإمام
المعصوم في المجمعين وتواجده فيهم على نحو لو لا هذا الإجماع والاتّفاق بالنحو الّذي
عرفت لم يكن لدينا طريق لمعرفة قول الإمام ، وعندئذ يكون للإجماع دور الكشف عن
دخولهم فيهم.
وبذلك تقف على ما
هو المقصود للمحقّق حيث قال : «فلو خلت المائة من علمائنا من قوله ، لما كان حجّة
ولو حصل في اثنين كان قولهما حجة».
إنّ الممعن في
كلامه من أوّله إلى آخره يقف على أنّ الغاية من هذا المقال ، هو التركيز على أنّ
حجّية الإجماع ، لأجل وجود الإمام في المجمعين إمّا دخولا ، أو كشفا عن دليل وصل
إلى يد المجمعين ، عنهم عليهمالسلام فجاء قوله كمثال يبين مقصده.
٥
خبر الواحد والقياس ظنّيان
فلما ذا التفريق بينهما؟
قد عجب الدكتور
أحمد الريسوني من تفريق الإماميّة بين خبر الواحد والقياس في الحجيّة قائلا بأنهما
ظنّيان ، فلما ذا فرّقت الإماميّة بينهما وقالوا بحجية الأوّل دون الثاني؟ وقد
أطال الكلام في ذلك وما ذكرناه لبّ إشكاله ، ولإيضاح المقام نقدم أمورا :
الأمر الأوّل :
اتّفقت الأمّة الإسلامية على أنّ البدعة أمر محرم كتابا وسنّة وإجماعا وعقلا ، وهي
عبارة عن إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين في الدين ، هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنّ
الاعتماد على الظن ـ الّذي لم يقم على حجّيته دليل قطعي من الشارع ـ والإفتاء على
وفقه والالتزام بأنّ مؤدّاه حكم الله تعالى في حقّه وحقّ غيره ، هو نفس البدعة ومن
مصاديقها ، فبضم الثاني إلى الأوّل يتشكّل قياس منطقي ينتج حرمة العمل بالظن الّذي
لم يقم الدليل القطعي على حجّيته ، فتكون صورة القياس كالتالي :
العمل بالظن الّذي
لم يقم على حجّيته دليل شرعي بدعة في الدين.
البدعة في الدين
حرام بالاتّفاق.
فتكون النتيجة :
العمل بالظن الّذي
لم يقم على حجّيته دليل شرعي حرام بالاتّفاق.
وعلى ضوء هذا تقول
الإمامية بأنّ الضابطة الكلّية في العمل بكلّ ما لم يقم دليل على حجّيته ، سواء أكان
مفيدا للظن أو لا ، هي المنع لكونه تشريعا قوليا وبدعة فعلية وعملية ، وتقوّلا على
الله بغير علم.
نعم لو قام الدليل
القطعي على حجّية ظن مثلا في مورد أو موارد يؤخذ بهذا الظن بحكم الشرع ، لأنّه
يكون العمل عندئذ بإذن الشارع وأمره فيخرج عن الضابطة الكلية : «العمل بالظن الّذي
لم يقم دليل شرعي على حجيته : بدعة».
الأمر الثاني :
ذهب جمهور الإمامية إلى خروج عدّة من الظنون عن الضابطة خروجا عن الموضوع لا خروجا
عن الحكم ، وهي الظنون الّتي قام الدليل على حجّيتها ، ولأجل ذلك توصف بالظنون
العلمية ، أي إنها ظنون ولكن دلّ الدليل العلمي على جواز العمل بها وهي عبارة عن :
١. خبر الواحد إذا
أخبر عن حسّ.
٢. حجّية الظواهر
على القول بأنّها ظنّية الدلالة.
٣. الإجماع
المنقول ـ بخبر الواحد ـ في مقابل الإجماع المحصّل ـ إذا كشف نقل الإجماع عن وجود
دليل معتبر عن المجمعين إلى غير ذلك.
هذا هو رأي جمهور
الإمامية ، نعم قد خالف في حجية خبر الواحد قليل
من المتقدّمين
كالسيد المرتضى والقاضي ابن البرّاج وأمين الإسلام الطبرسي وابن إدريس الحلي رضي
الله عنهم.
ثمّ إنّ القائلين
بالحجية ألّفوا في ذلك المجال كتبا ورسائل أجابوا فيها عن شبهات النافين ، شأن كلّ
مسألة نظرية لا تخلو من مخالف.
هذا إجمال الكلام
حول حجّية خبر الواحد الّذي عليه بناء العقلاء ، وعليه تدور رحى حياتهم ومعاشهم
بالشروط المذكورة في محلها.
وأمّا القياس فقد
رفضه علماء الإمامية عن بكرة أبيهم إذا كان مستنبط العلّة ، لأجل أنّ القياس مفيد
للظن ، والضابطة الكلّية في الظن حرمة العمل به ما لم يقم دليل على حجّيته.
ثم إنّهم استثنوا
من حرمة العمل بالقياس موارد أبرزها ما يلي :
١. إذا كانت العلة
منصوصة من جانب الشرع كأن يقول الخمر حرام لكونه مسكرا ، فيحكم بحرمة كلّ مسكر.
قالوا : إنّ ذلك
في الحقيقة ليس عملا بالقياس وإنّما هو عمل بالسنّة ، أي عموم العلّة كما لا يخفى.
٢. القياس
الأولويّ ، فإذا قال الشارع : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ) يفهم منه حرمة الشتم والضرب بطريق أولى ، لحصول القطع
والعلم بالحكم.
ثم إنّ رفض
الإمامية العمل بالقياس في مجال مستنبط العلة ، لأجل أنّ استخراج علّة الحكم
بالسبر والتقسيم مظنة للاشتباه ، وذلك بالبيان التالي :
__________________
أوّلا : نحتمل أن
يكون الحكم في الأصل معللا عند الله بعلّة أخرى غير ما ظنّه القائس ، مثل كونه
صغيرا أو قاصر العقل ، في قوله : «لا يزوّج البكر الصغير إلّا وليّها» حيث ألحق بها
أصحاب القياس الثّيب الصغيرة ، بل المجنونة والمعتوهة ، وذلك بتخريج المناط وانّه
هو قصور العقل وليس للبكارة مدخلية في الحكم ، فهل يمكن ادّعاء القطع بذلك ، وقد
قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ
الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)؟!
إنّ الإنسان لم
يزل في عالم الحسّ تنكشف له أخطاؤه ، فإذا كان هذا حال عالم المادة الملموسة ،
فكيف بملاكات الأحكام ومناطاتها المستورة عن العقل إلّا في موارد جزئية كالإسكار
في الخمر ، أو إيقاع العداء والبغضاء في الميسر ، أو إيراث المرض في النهي عن
النجاسات؟ وأمّا ما يرجع إلى العبادات والمعاملات خصوصا فيما يرجع إلى أبواب
الحدود والديات فالعقل قاصر عن إدراك مناطاتها الحقيقية وإن كان يظن شيئا.
قال ابن حزم : وإن
كانت العلّة غير منصوص عليها ، فمن أيّ طريق تعرف ولم يوجد من الشارع نصّ يبيّن
طريق تعرّفها؟ وترك هذا من غير دليل يعرّف العلّة ، ينتهي إلى أحد أمرين : إمّا
أنّ القياس ليس أصلا معتبرا ، وإمّا أنّه أصل عند الله معتبر ولكن أصل لا بيان له
وذلك يؤدي إلى التلبيس ، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا ، فلم يبق إلّا نفي
القياس.
ثانيا : لو
افترضنا أنّ القائس أصاب في أصل التعليل ، ولكن من أين يعلم
__________________
أنّها تمام العلّة
، ولعلّها جزء العلّة وهناك جزء آخر منضم إليه في الواقع ولم يصل القائس إليه؟
ثالثا : احتمال أن
يكون القائس قد أضاف شيئا أجنبيا إلى العلّة الحقيقية لم يكن له دخل في المقيس
عليه.
رابعا : احتمال أن
يكون في الأصل خصوصية في ثبوت الحكم وقد غفل عنها القائس.
ولأجل وجود هذه
الاحتمالات الّتي لا تنفك عن ذهن القائس ، رفضت الإماميّة ، العمل بالقياس إذا كان
مستنبط العلّة.
التفريق بين
الظنّيين لما ذا؟
إنّ الدكتور أحمد
الريسوني ـ حفظه الله ـ قد أخذ على علماء الإمامية بموارد ، قائلا : إنّهم يقولون
بعدم حجّية الظن ومع ذلك يعملون به في الموارد التالية :
١. الخبر الواحد.
٢. الظواهر.
٣. المرجّحات
الظنية عند التعارض.
٤. الأصول
العمليّة.
وإليك دراسة هذه
الموارد من رؤية الدكتور وما يمكن القول حولها ، ونذكر كلامه ضمن مقاطع قال :
١. انّ الإمامية
إذ يرفضون الأخذ بالقياس والاستصلاح باعتبار أنّ إفادتهما ظنّية ، فإنّهم يقبلون
الظنّيات في كثير من أصولهم وقواعدهم ، في مقدّمها أخذهم بأخبار الآحاد فإنّهم
يسلّمون بكون أخبار الآحاد لا تسلم من الظنية والاحتمال ، وأذن الشرع استثناء في
اعتبارها. ويكون الإجماع لديهم على حجّيتها.
أقول : هذا ملخّص
كلامه ، والقارئ الكريم ـ بعد الاطّلاع على ما ذكرنا من الأمور ـ يقف على الفرق
الواضح عندهم بين خبر الواحد العدل ، والقياس ، فإنّ الأخذ بالأوّل ليس بملاك
إفادته الظن ، بل لأجل قيام الدليل الشرعي على حجّيته ، ولو كان الدليل قائما على
حجّية القياس لأخذوا به.
وبعبارة أخرى :
انّ خبر الواحد ممّا قام الدليل القطعي على حجّيته فصار ظنا علميا ، أي ظنا بالذات
ولكن ذو رصيد علمي ، بخلاف القياس إذ لم يرد عندهم دليل يثبت حجّيته لو نقل بقيام
الدليل على خلافه.
ولأجل أن يقف
الأستاذ الكريم على الفوارق بين خبر الواحد والقياس نقترح عليه مراجعة كتابنا
المعنون : «أصول الفقه المقارن فيما لا نص فيه».
٢. ومن المواطن
الّتي أخذوا فيها بالظنيات أيضا قولهم بحجية الظواهر ، أي أنّهم يعتمدون اعتمادا
أساسيا على ما يفهم من ظواهر النصوص ، والظواهر كما هو معلوم لا تكاد تسلم من
الظنية والاحتمال .
أقول : إنّ العمل
بالظواهر ممّا أطبق العقلاء على العمل به ، ولا نجد بينهم
__________________
من ينكر حجّية
الظواهر ، فإن رحى الحياة في المجتمع الإنساني تدور عليها ، وليس كلّ كلام ، نصا
في مدلوله.
إنّ النبي الأكرم صلىاللهعليهوآلهوسلم وأئمة أهل البيت عليهمالسلام وأصحابهم يعلّمون الناس بظواهر كلماتهم ، والمستمعون
يتلقّونها حجّة شرعية دون أن يناقشوا في حجّية الظواهر.
فأين الظواهر من
القياس الظني الّذي تضاربت فيه الآراء وأنكر حجيته أئمة أهل البيت ولفيف من
الصحابة والتابعين. أضف إلى ذلك قيام الدليل على حجّية الظواهر دون القياس ، فهذا
هو الفارق بينهما.
٣. ان الترجيحات ـ
عند تعارض الخبرين ـ كلّها أو معظمها ترجيحات ظنية تعليلية وتقريبية ، فقد جرى
ديدنهم على ترجيح ما ظهر أنّه الأقرب إلى واقع الحكم الشرعي الحقيقي ، وهذا كما لا
يخفى ليس إحرازا للحكم الشرعي بالضرورة وانّما هو ظني وتقريب.
أقول : هذا هو
المورد الثالث الّذي أثار إعجاب الأستاذ من التفريق بينه وبين القياس والاستحسان
وأمثالهما حيث أخذوا بالمرجّحات الظنية ورفضوا القياس والاستحسان.
ولكن الإجابة عنه
واضحة ، وهي قيام الحجّة على لزوم الترجيح بالمرجّحات ، وقد تضافرت الأخبار الّتي
ثبتت حجّيتها على لزوم الترجيح بالمرجحات المنصوصة كموافقة الكتاب وموافقة السنّة
وموافقة المشهور وغيرها.
__________________
نعم هناك من
يستنبط من هذه الروايات لزوم الترجيح بكلّ مرجّح وإن لم يكن منصوصا كالشيخ
الأنصاري في فرائده ، ومنهم من لا يقبل ذلك ، وعلى كلّ تقدير فالفارق بين العمل
بالمرجّحات والقياس والاستحسان وجود الدليل على لزوم الترجيح بها وعدمه في القياس
والاستحسان.
ولو أنّ صاحب
المقال أحاط بأصول الفقه عند الإمامية لما أثار عجبه هذا التفريق ، بل وجه اهتمامه
إلى التركيز على موضوع آخر وهو طرح القياس على صعيد البحث على ضوء دراسة أدلّة
المثبتين والنافين دون أن يربط العمل بالقياس بالعمل بخبر الواحد والظواهر.
٤. وممّا أخذه
الأستاذ على الإمامية هو العمل بالأصول العملية ، أعني : البراءة والاشتغال
والتخيير والاستصحاب ، فقد قال : إنّ ما يسمّونه أصولا عملية هي قواعد توصل إلى
الظن ، والرجحان ، ومع ذلك أجازوا بل أوصوا بالعمل بها عند عدم الدليل الصريح.
أقول : أظن انّ
القارئ في غنى عن تكرار الجواب فإنّ الإشكال في الجميع واحد والجواب مثله ، وهو
أنّ الفارق وجود الدليل على حجّية الأصول ، سواء أكانت مفيدة للظن أم لا ، ومن درس
الأصول العملية في الكتب الأصولية للشيعة الإمامية يقف على أنّهم يستدلّون عليها
بطرق مختلفة من الكتاب والسنّة والإجماع والعقل. فكيف يقاس ذلك بالقياس الّذي
تواتر النهي عن العمل به عن أئمة أهل البيت عليهمالسلام ، وهذا هو قول الإمام الصادق عليهالسلام لأبان بن تغلب : «إنّ السنّة إذا قيست محق الدين».
__________________
استدلاله على حجية
القياس عن طريق العقل
إنّ الأستاذ
الفاضل يستدلّ على حجّية القياس عن طريق العقل قائلا : إنّ الإمامية وبخاصة
متأخّريهم يجعلون من الأدلّة الشرعية «الدليل العقلي» ، بينما هم يرفضون القياس
وهو من بديهيات العقول وأوّلياتها ، يقوم على قاعدة لا ينكرها عقل ولا عاقل ، وهي «أنّ
ما ثبت لشيء ثبت لمثله» ، وهذا هو العدل الّذي قامت به الأرض والسماوات وجاءت به
الكتب والرسالات.
أقول : لا شكّ أنّ
العقل أحد الحجج الشرعية ، وذلك في مجالات خاصة ، ممّا للعقل إليها سبيل ، ونمثل
لذلك بنموذجين :
الأوّل : إذا
استقل العقل بحسن فعل بما هو فعل صادر عن الفاعل المختار أو قبحه وتجرّد في قضائه
عن كلّ شيء إلّا النظر إلى نفس الفعل يكون حكم العقل كاشفا عن حكم الشرع ، وهذا
نظير استقلال العقل بقبح العقاب بلا بيان ، وحسنه معه ، فيستكشف منه أنّ الشرع
كذلك.
الثاني : إذا أمر
المولى بشيء واستقلّ العقل بوجود الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أو وجوب
الشيء وحرمة ضده ، أو امتناع اجتماع الأمر والنهي على شيء واحد بعنوانين ، أو
جوازه إلى غير ذلك من أنواع الملازمات ، فيكشف حكم العقل عن حكم الشرع.
ففي هذين الموردين
وما يشبههما يكون العقل قاطعا بالحسن والقبح أو الملازمة بين الوجوبين أو الحرمتين
، وعند ذلك نستكشف من خلال كونه
سبحانه حكيما لا
يعبث ، الحكم الشرعي ؛ للحسن والقبح ، أو للمقدّمة وضد الواجب.
وأمّا القياس فهو
ليس دليلا عقليا قطعيا ، وإنّما هو دليل ظني بشهادة أنّه لو كان دليلا قطعيا لما
اختلف فيه اثنان كما لم يختلفوا في حجية خبر المتواتر أو المحفوف بالقرائن المفيدة
للعلم.
فإنّ إطلاق الدليل
العقلي على القياس على وجه الإطلاق غير صحيح ، بل يجب أن يقال الدليل العقلي الظني
، لأنّ الدليل العقلي ـ عند الإطلاق ـ ينصرف إلى الدليل العقلي المفيد للعلم.
الخلط بين المماثل
والمشابه
والّذي ألفت نظر
الأستاذ إليه هو أنّ القياس ليس من باب المماثلة ، بل من باب المشابهة ، وكم هو
الفرق بين التماثل والتشابه ، فما ذكره من أنّ «ما ثبت لشيء ثبت لمثله» راجع إلى
المتماثلين ، والفرق بينهما واضح ، وذلك لأنّ التماثل عبارة عن دخول شيئين تحت نوع
واحد وطبيعة واحدة ، فالتجربة في عدة من مصاديق طبيعية واحدة تفيد العلم بأنّ
النتيجة لطبيعة الشيء لا لأفراد خاصة ، ولذلك يقولون : إنّ التجربة تفيد العلم ،
وذلك بالبيان التالي :
إذا أجرينا ـ مثلا
ـ تجربة على جزئيات من طبيعة واحدة ، كالحديد ، تحت ظروف معينة من الضغط الجوي ،
والجاذبية ، والارتفاع عن سطح البحر ، وغيرها مع اتّحادها جميعا في التركيب ،
فوجدنا أنّها تتمدد مقدارا معينا ، ولنسمّه (س) ، عند درجة خاصة من الحرارة
ولنسمّها (ح). ثمّ كررنا هذه التجربة على هذه
الجزئيات ، في
مراحل مختلفة ، في أمكنة متعددة ، وتحت ظروف متغايرة ، ووجدنا النتيجة صادقة تماما
: يتمدد الحديد بمقدار (س) عند درجة (ح). فهنا نستكشف أنّ التمدد بهذا المقدار
المعين ، معلول لتلك الدرجة الخاصة من الحرارة فقط ، دون غيرها من العوامل. فعندئذ
يقال : «ما ثبت لشيء ، ثبت لمثله» أو حكم الأمثال ـ فيما يجوز وما لا يجوز واحد.
وأمّا التشابه فهو
عبارة عن وقوع فردين مختلفي الطبيعة تحت صفة واحدة توجب التشابه بينهما ، وهذا
كالخمر والفقاع فإنّهما نوعان وبينهما تشابه في الإسكار. فلو أثبتت التجربة أنّ
للخمر اثرا خاصا ، لا يمكن القول بثبوته للفقاع والنبيذ بل لا بد من التماس الدليل
على المشاركة ، وراء المشابهة.
وأوضح من ذلك
مسألة الاستقراء ، فإنّ ما نشاهده من الحيوانات البرية والبحرية ، أنواع مختلفة.
فلو رأينا هذا الحيوان البري وذلك الحيوان البحري كلّ يحرك فكّه الأسفل عند المضغ
ربما نحكم ـ بلا جزم ـ بذلك على سائر الحيوانات من دون أن تكون بينها وحدة نوعية
أو تماثل في الحقيقة ، والدافع إلى ذلك التعدّي في الحكم هو التشابه والاشتراك
الموجود بين أنواع الجنس الواحد رغم اختلافها في الفصول والأشكال ، ولكن لا يمكن
الجزم بالحكم والنتيجة على وجهها الكلي لإمكان اختلاف أفراد نوعين مختلفين في
الحكم.
وبذلك يعلم أنّ
القياس عبارة عن تعميم حكم مشابه إلى مشابه لا حكم مماثل إلى مماثل ، ومن المعلوم
أنّ تعميم الحكم من طبيعة إلى طبيعة أمر مشكل لا يصار إليه إلّا إذا كان هناك
مساعدة من جانب العرف لإلغاء الخصوصية ، وإلّا يكون التعميم عملا بلا دليل.
مثلا دلّ الكتاب
العزيز على أنّ السارق والسارقة تقطع أيديهما ، والحكم على عنوان السارق ، فهل
يلحق به النبّاش الّذي ينبش القبر لأخذ الأكفان؟ فإنّ التسوية بين العنوانين أمر
مشكل ، يقول السرخسي :
لا يجوز استعمال
القياس في إلحاق النبّاش بالسارق في حكم القطع ، لأنّ القطع بالنصّ واجب على
السارق.
والحاصل : أنّ
هناك فرقا واضحا بين فردين من طبيعة واحدة ، فيصحّ تعميم حكم الفرد إلى الفرد
الآخر لغاية اشتراكهما في النوعية ، وأنّ حكم الأمثال في ما يجوز وما لا يجوز واحد
، لكن بشرط أن يثبت أنّ الحكم من لوازم الطبيعة لا الخصوصيات الفردية.
وأمّا المتشابهان
فهما فردان من طبيعتين ـ كالإنسان والفرس ـ يجمعهما التشابه والتضاهي في شيء من
الأشياء ، فهل يصحّ تعميم حكم نوع إلى نوع آخر؟ كلّا ، إلّا إذا دلّ الدّليل على
أنّ الوحدة الجنسية سبب الحكم ومناطه وملاكه التام ، كما دلّ الدليل في أنّ سبب الحرمة في الخمر ، هو الإسكار
، وإلّا فلا يصحّ إسراء حكم من طبيعة إلى طبيعة أخرى بمجرد التشابه بينهما ، أو
الاشتراك في عرض من الأعراض.
__________________
٦
الدليل العقلي وحجيّة المصلحة
قد تعرفت على أنّ
العقل أحد مصادر التشريع أو ـ بالأحرى ـ أحد المصادر لكشف الحكم الشرعي.
ومجال الحكم
العقلي ـ غالبا ـ أحد الأمور التالية :
١. التحسين والتقبيح
العقليان.
٢. أبواب
الملازمات من قبيل الملازمة بين وجوب الشيء ومقدمته وحرمة ضدّه ، والملازمة بين
النهي عن العبادة أو المعاملة وفسادها ، إلى غير ذلك ممّا يرجع إلى باب الملازمة.
٣. أبواب التزاحم
أي تزاحم المصالح الّتي لا بدّ من أخذها كإنقاذ الغريقين مع العجز عن إنقاذ كليهما
، أو تزاحم المصالح والمفاسد كتترس العدو بالمسلمين فإنّ للعقل دورا فيها ، وله
ضوابط لتقديم إحدى المصلحتين على الأخرى ، أو تقديم المصلحة على المفسدة أو بالعكس
(وهي مذكورة في مظانّها).
ولا غبار على
حجّية العقل في هذه الموارد ، إنّما الكلام في حجّية
المصلحة وعدّها من
مصادر التشريع فيما لا نصّ فيه. فقد ذهب عدة من فقهاء السنّة إلى حجّية المصلحة
وسمّاها المالكية بالمصالح المرسلة والغزّالي بالاستصلاح ، وحاصل دليلهم على حجّية
المصلحة وكونها من مصادر التشريع كالتالي :
إنّ مصالح الناس
تتجدّد ولا تتناهى ، فلو لم تشرع الأحكام لما يتجدّد من صالح الناس ، ولما يقتضيه
تطورهم واقتصر التشريع على المصالح الّتي اعتبرها الشارع فقط ، لعطّلت كثير من
مصالح الناس في مختلف الأزمنة والأمكنة ، ووقف التشريع عن مسايرة تطورات الناس
ومصالحهم ، وهذا لا يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس.
وحاصل هذا الوجه
ادّعاء وجود النقص في التشريع الإسلامي لو اقتصر في مقام الاستنباط على الكتاب
والسنّة ، لأنّ حاجات المجتمع إلى قوانين جديدة لا زالت تتزايد كلّ يوم ، فإذا لم
تكن هناك تشريعات تتلاءم مع هذه الحاجات لم تتحقّق مقاصد الشريعة.
ثم إنّ السبب
لجعلهم المصالح مصادر للتشريع هو الأمور التالية :
١. إهمال العقل
وعدم عدّه من مصادر التشريع في مجال التحسين والتقبيح العقليين.
٢. إقفال باب
الاجتهاد في أواسط القرن السابع إقفالا سياسيا ، فقد صار ذلك سببا لوقف الدراسات
الفقهية منذ قرون ، وفي ظل ذلك توهّم المتأخّرون وجود النقص في التشريع الإسلامي
وعدم كفايته لتحقيق
__________________
مقاصد الشريعة
فلجئوا إلى عدّ المصالح المرسلة من مصادره. وبذلك وجّهوا قول من يعتقد بحجية
المصالح المرسلة من أئمة المذاهب.
٣. عدم دراسة
عناوين الأحكام الأوّلية والثانوية ، كأدلّة الضرر والحرج والاضطرار والنسيان ،
فإنّ هذه العناوين وما يشابهها تحل أكثر المشاكل الّتي كان علماء السنّة
يواجهونها. من دون حاجة لعدّ الاستصلاح من مصادر التشريع.
٤. عدم الاعتراف
بصلاحيات الفقيه الجامع للشرائط بوضع أحكام ولائية كافية في جلب المصلحة ودفع
المفسدة أحكاما مؤقتة ما دام الملاك موجودا.
والفرق بين
الأحكام الواقعية والولائية هي أنّ الطائفة الأولى أحكام شرعية جاء بها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لتبقى خالدة إلى يوم القيامة ، وأمّا الطائفة الثانية
فإنّما هي أحكام مؤقتة. أو مقررات يضعها الحاكم الإسلامي (على ضوء سائر القوانين)
لرفع المشاكل المتعلّقة بحياة المجتمع الإسلامي.
هذه هي حقيقة
المصالح المرسلة.
ثم إنّهم مثّلوا
للمقام بأمثلة ، نذكر منها ما يلي :
١. جمع القرآن
الكريم في مصحف بعد رحيل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
٢. قتال مانعي
الزكاة.
٣. وقف تنفيذ حكم
السرقة في عام المجاعة.
٤. إنشاء
الدواوين.
٥. سك النقود.
٦. فرض الإمام
العادل على الأغنياء من المال ما لا بدّ منه ، لتكثير الجند وإعداد السلاح وحماية
البلاد وغير ذلك.
٧. سجن المتهم كي
لا يفر.
٨. حجر المفتي
الماجن والطبيب الجاهل والمكاري المفلس.
ثمّ إنّ بعض
المغالين ربّما يتجاوز فيمثّل بأمور لا تبرّرها أدلّة التشريع الواقعي كتنفيذ
الطلاق ثلاثا ، مع أنّ الحكم الشرعي هو كونه طلاقا واحدا في عصر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وبرهة بعد رحيله ، وهذا من باب تقديم المصلحة على النص.
ثم إنّ للإمامية
في العمل بالمصالح مذهبا وسطا أوضحناه في كتابنا. وليست الإماميّة ممّن ترفضه بتاتا كما تصوّره الأستاذ أو
تقبله في عامّة الصور.
هذا إجمال الكلام
في المصالح المرسلة ـ والتفصيل مع ما لها وما فيها يطلب من محله ـ إذا عرفت ذلك
فهلمّ معي نقرأ ما ذكره الدكتور الرسيوني حول هذا الموضوع ، قال :
«أمّا حجية
المصلحة ، فإنّهم وإن كانوا ينكرونها بالاسم إلّا أنّهم يأخذون بها بأسماء وأشكال
متعدّدة :
ـ فتارة تدخل تحت
اسم «الدليل العقلي» حيث يدرجون ضمنه ـ مثلا ـ اعتبار «الأصل في المنافع الإباحة ،
وفي المضار الحرمة» وهذا عين اعتبار المصلحة. كما أنّ من القواعد المعتبرة عندهم
ضمن دليل العقل قاعدة «وجوب مقدّمة الواجب» وهي المعبر عنها ب «ما لا يتم الواجب
إلّا به فهو واجب» ذلك أنّ معظم المصالح المرسلة هي من قبيل «ما لا يتم الواجب
إلّا به» فهي مقدّمات أو وسائل لواجبات أخرى ، ومثلها قاعدة «كلّ ما هو ضد الواجب
فهو غير جائز» فهذا ما يعبر عنه بدرء المفاسد. وأخرى يدخلون العمل بالمصلحة من باب
ما
__________________
يسمّى عندهم السيرة
العقلائية. وبناء العقلاء ، وهو في الوقت نفسه من المصالح المرسلة».
وحاصل كلامه :
انّه تدخل تحت حجّية المصلحة القواعد التالية :
١. وجوب مقدّمة
الواجب.
٢. حرمة ضد
الواجبة.
٣. حجّية بناء
العقلاء وسيرتهم.
٤. الأصل في
المنافع الإباحة ، وفي المضار الحرمة.
فهي نفس العمل
بالمصلحة مع أنّهم يدخلونها تحت «الدليل العقلي».
يلاحظ عليه : أنّ
اشتمال هذه القواعد على المصالح ودرء المفاسد ، غير كون المصلحة سببا لتشريعها
ومبدأ لتقنينها ، فإنّ الدليل على وجوب مقدّمة الواجب أو حرمة ضد الواجب حكم العقل
بالملازمة بين الإرادتين ، فمن حاول الوقوف على السطح ، لا محيص له من إرادة نصب
السلّم ، أو ركوب المصعد.
فاشتمال المقدّمة
على المصلحة أو اشتمال الضد على المفسدة أمر جانبي لا مدخلية له في الحكم بالوجوب
والحرمة.
وأمّا حجّية بناء
العقلاء ، فإنّ أساسها كونه بمرأى ومسمع من الشارع وهو إمضاؤه ، لهذا لو كان غير
مرضيّ عنده لما سكت عن النهي عنه ، لقبح السكوت عمّا يوجب إغراء الأمّة ، ولو لا
إمضاؤه لما صحّ الاعتماد عليه في الفقه ، كما هو
__________________
الحال في السّير
الّتي رفضها الشارع كبيع الخمر والكلب والخنزير والتملك بالمقارنة.
وبه يظهر حكم
القاعدة الرابعة ، فإنّ الحكم بجلب المنفعة أو درء المفسدة هو العقل الحصيف ، لا
قاعدة المصالح المرسلة ، وإن كان في الجلب والدرء مصلحة ، وبالجملة : الأمور
الجانبية ، ليست أساسا لحكم العقل في مورد هذه القواعد.
نحن نفترض أن لهذه
المسائل طابعا عقليا كما أن لها طابعا استصلاحيا ، فلو كان الوصول إليها من دليل
العقل أمرا غير صحيح فليكن الوصول إليها عن طريق الاستصلاح مثله ، فلما ذا يوجّه
اللوم إلى الفريق الأوّل دون الثاني أوليس هذا المورد من مصاديق المثل السائر : «رمتني
بدائها وانسلت»؟
* * *
هذه بعض الملاحظات
على كلام الأستاذ ، حفظه الله ونفعنا بعلومه. وبقيت في كلامه أمور أخرى يظهر النظر
فيها من بعض ما ذكرنا.
وفي الختام ندعو
له ولعامّة الاخوان في المملكة المغربية والأساتذة والطلاب في دار الحديث الحسنية
بدوام التوفيق والسداد.
والسلام عليكم
ورحمة الله وبركاته
|
جعفر السبحاني
قم المقدسة ـ إيران
غرّة ربيع الأوّل ١٤٢٦ ه
|
الفصل الثامن
في النّهي
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في حقيقته
النّهي مقابل
للأمر ، فحدّه مقتضب عن حدّ الأمر.
وكنّا قلنا : إنّ
الأمر هو طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء ، ولا يحسن المقابل هنا في الطلب ،
لاشتمال النّهي عليه ، ولا في القول لذلك ، ولا في جهة الاستعلاء ، لتحقّقه كما
قلنا في الأمر ، فلم يبق إلّا الفعل.
فالنّهي حينئذ طلب
الترك بالقول على جهة الاستعلاء.
والخلاف في أنّ له
صيغة تخصّه ، كما قلنا في الأمر.
__________________
ومن حدّ الأمر
بأنّه اقتضاء فعل ، غير كفّ على جهة الاستعلاء ، حدّ النّهي بأنّه اقتضاء كفّ عن
فعل على جهة الاستعلاء.
وينتقض بقولنا «كفّ»
.
والكلام في أنّها
تقتضي التحريم ، أو الكراهة ، أو القدر المشترك ، أو الوقف ، كما تقدّم في الأمر.
ويشترك الأمر
والنّهي في أمور :
الأوّل : جواز
استعمال كلّ منهما في خلاف ما يقتضيه صيغته ، فصيغة كلّ منهما يجوز استعمالها في
غير ما وضع له.
الثاني : أنّ كلّ
واحد منهما إنّما يوصف بما يوصف به بحال فاعله.
الثالث : اعتبار
الاستعلاء.
الرابع : كلّ
منهما يتقيّد بما قيّد به من شرط أو صفة.
الخامس : اعتبار
كثير من الشرائط في جنسهما ، نحو : أن يكون غرض المكلّف التعريض للثواب ، ويكون
عالما بإثابة المطيع ، وغير ذلك.
ويفترقان بأمور :
الأوّل : الصيغة ،
ففي الأمر «افعل» وفي النّهي «لا تفعل».
الثاني : ما
يتميّز به كلّ منهما عن صاحبه.
الثالث : مطلق
الأمر لا يقتضي التأبيد ، ومطلق النّهي يقتضيه عند جماعة ،
__________________
ولهذا أمكن النظر
في أنّ الأمر للفور أم لا بخلاف النّهي عندهم.
الرابع : شرط حسن
النّهي قبح المنهيّ عنه ، وشرط حسن الأمر ، انتفاء قبح المأمور به.
واعلم أنّ الصّيغة
قد ترد لسبعة أمور :
الأوّل : التحريم.
الثاني : الكراهة.
الثالث : التحقير [كقوله
تعالى :](لا تَمُدَّنَّ
عَيْنَيْكَ.)
الرابع : بيان
للعاقبة [كقوله تعالى :](وَلا تَحْسَبَنَّ
اللهَ غافِلاً).
الخامس : الدعاء :
لا تكلني إلى نفسي.
السادس : (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ).
السابع : الإرشاد [كقوله
تعالى :](لا تَسْئَلُوا عَنْ
أَشْياءَ).
لكنّها حقيقة في
التحريم في نظر الشّرع ، كما قلنا في الأمر ولقوله تعالى : (وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) وجب الانتهاء ، لما تقدّم من أنّ الأمر للوجوب : وهو
المراد من قولنا : النّهي للتحريم ، ومن جعل الأمر للقدر المشترك بين الوجوب
والندب ، جعل النّهي للقدر المشترك بين التحريم والكراهة.
__________________
المبحث الثاني :
في أنّ المطلوب في النهي ما ذا؟
اختلف الناس هنا
فقال أبو هاشم وجماعة كثيرة : المطلوب بالنّهي : نفس أن لا يفعل المنهيّ عنه.
وقالت الأشاعرة :
المطلوب : فعل ضدّ المنهيّ عنه.
لنا : أنّ من لم
يزن مع دعاء الداعي إليه يمدحه العقلاء على أنّه لم يزن ، وإن لم يخطر ببالهم فعل
ضدّ الزّنا ، فوجب أن يكون العدم متعلّق التّكليف.
احتجّت الأشاعرة :
بأنّ العدم نفي محض ، فلا يكون مقدورا ، لأنّ القدرة لا بدّ لها من أثر ، ولا أثر
للمعدوم.
ولأنّ العدم وإن
أمكن إسناده إلى القدرة ، لكنّ العدم الأصليّ لا يمكن إسناده إليها ، لامتناع
تحصيل الحاصل.
وإذا بطل أن يكون
العدم متعلّق القدرة ، وجب أن يكون ثبوتيّا ، وهو الضدّ.
والجواب : لو لم
يكن العدم مقدورا لم يكن الوجود مقدورا ، لأنّه يلزم أن تكون صفة القدرة مؤثّرة في
الوجود لا غير ، وذلك وجوب لا قدرة ، وعدم الفعل أمر عقليّ يمكن تعلّق القدرة به ،
لتميّزه عن غيره ، وإن كان نفيا في الخارج.
والعدم الأزليّ
وإن لم يكن مقدورا ، لكن المقارن للقدرة أمكن تعلّقها به ، فإنّ القادر على الفعل
قادر على أن يتركه على العدم الأصليّ ، وأن لا يغيّره ، فعدم التغيّر مقدور له ،
فجاز أن يتناوله التّكليف.
المبحث الثالث :
في أنّ النّهي قد يقتضي التكرار
اختلف الناس هنا ،
فذهب الأكثر إليه ، وقال آخرون بعدمه.
والأقرب الأوّل ،
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ
النّهي يقتضي منع المكلّف من إدخال الماهيّة المصدر في الوجود ، وهو إنّما يتحقّق
إذا امتنع من إدخال كلّ فرد من أفرادها في الوجود ، إذ مع إدخال فرد من أفرادها
يكون قد أدخل تلك الماهيّة في الوجود ، لاشتمال ذلك الفرد على تلك الماهيّة ، وهو
ينافي قولنا : إنّه منع من إدخال تلك الماهيّة في الوجود.
قيل عليه : الامتناع عن إدخال الماهية في الوجود ، قدر مشترك بين
التّكرار وعدمه ، ولا دلالة للعامّ على ما به يمتاز كلّ واحد من القسمين عن صاحبه.
وفيه نظر ، لأنّ
الامتناع عن الإدخال إنّما يتحقّق مع الدوام ، إذ مع عدمه يتحقّق الإدخال الممنوع
منه.
الثاني : المفهوم
في عرف اللّغة التناقض بين قولنا : اضرب ولا تضرب ، لاشتمال لا تضرب على كلّ مفهوم
اضرب وزيادة حرف النّهي ، وقولنا : اضرب يفيد المرّة ، فلو كان لا تضرب كذلك ، لم
يتناقضا ، فيجب العموم .
__________________
قيل عليه : إن أردت بدلالة الأمر والنّهي على مفهومين متناقضين :
دلالة الأمر على الإثبات ، والنّهي على النّفي ، فمسلّم ، لكن ذلك لا يوجب التناقض
إلّا مع اتّحاد الوقت ، لأنّ صدق الإثبات في وقت يستلزم صدق الإثبات ، وصدق النفي
في وقت يستلزم صدق النفي ، وكما لا تناقض بين الإثبات في وقت والنفي في آخر ، كذا
لا تناقض بين المطلقين.
وفيه نظر ، لأنّا
استدللنا بالعرف على التناقض على كون النّهي للدّوام ، لما قرّره من امتناع التّناقض بين المطلقين.
الثالث : قولنا : «لا
تضرب» يمكن حمله على التكرار ، وقد دلّ الدليل عليه ، فيجب المصير إليه.
أمّا الأوّل
فلإمكان امتناع الإنسان عن الفعل دائما من غير عسر.
وأمّا الثانية
فلانتفاء دلالة الصيغة على وقت دون وقت ، فإمّا أن يحمل على الكلّ ، وهو المراد أو
لا يحمل على شيء البتّة ، وهو محال ، أو يحمل على البعض دون الآخر ، ويلزم منه الترجيح
من غير مرجّح.
قيل عليه : لا دلالة في النّهي إلّا على مسمّى الامتناع ، فحيث
تحقّق هذا المسمّى ، وقع الخروج عن عهدة التكليف.
وفيه نظر ، لأنّ
مسمّى الامتناع إنّما يتحقّق بدوامه.
__________________
الرابع : السيّد
إذا نهى عبده عن فعل ، فمضت مدّة يمكنه ايقاع الفعل فيها ، ثمّ فعله صحّ ذمّه ،
وحسن من السيّد عقابه والتّعليل أنّه فعل المنهيّ عنه.
وليس للعبد أن
يقول : إنّك نهيتني عن الفعل وقد مضت مدّة يمكن إيقاعه فيها ولم أفعله فيها ، ولم
يتناول نهيك ما بعد الوقت.
ولا يقبل العقلاء
عذره بذلك.
الخامس : هاهنا
مقدّمتان :
إحداهما : أنّ
المنهيّ عنه ، منشأ المفسدة ، ولا يصحّ النهي عنه.
والثانية : الحكم
ببقاء ما كان ، على ما كان إلى أن يظهر دليل الإزالة ، ودليله ما يأتي ، من كون
الاستصحاب حجّة.
ومع تسليمها فنقول
: المنهيّ عنه قد ظهر أنّه منشأ مفسدة ، والأصل بقاء تلك المفسدة في جميع الأوقات
، فيتعلق النهي بالجميع.
السادس : لم يزل
العلماء في جميع الأوقات يستدلّون على الدوام في النّهي.
السابع : لو لا
الدّوام لما ثبت دوام تحريم الزّنا والرّبا ، وغير ذلك من المنهيّات.
والتالي باطل
بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
الثامن : الاحتياط
يقتضي الانتهاء دائما ، فيتعيّن العمل به ، إذ مع تركه لا يأمن ارتكاب المحظور.
__________________
احتجّ المخالف :
بأنّ النّهي قد يراد منه التكرار بالإجماع ، وقد يراد منه المرّة الواحدة ، كقول
الطبيب للمريض : لا تشرب الماء ، ولا تأكل اللّحم ، والمراد في هذه الساعة.
ويقول المنجّم :
لا تفصد ، وليس مراده بذلك التعميم.
والحائض نهيت عن
الصلاة والصوم ، وليس المراد من ذلك في كلّ الأوقات.
والاشتراك والمجاز
على خلاف الأصل ، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك.
وأيضا ، يصحّ أن
يقيّد بالدّوام ونقيضه ، من غير تكرار ولا تناقض في أحدهما ، فيكون موضوعا للقدر
المشترك.
وأيضا ، لو كان
للدّوام ، لكان عدم الدّوام في بعض الصّور على خلاف الدّليل ، وهو ممتنع.
والجوب عن الأوّل
: أنّ عدم الدّوام ، إنّما يكون لقرينة حاليّة أو مقاليّة ، أمّا مع تجرّده عن
القرائن ، فلا نسلّم أنّه يراد به المرّة.
والقرينة الحاليّة
ثابتة فيما ذكرتم من صورة الطبيب والمنجّم ، اذ المتعارف أنّ نهيهما ليس للتكرار.
والمقاليّة ثابتة
في الحائض ، لدخولها تحت الأوامر العامّة بالصّلاة والصوم.
والأصل فيه ، أنّ
الطهارة لما كانت شرطا ، وقد انتفت ، انتفى التكليف ، ولهذا
__________________
قلنا بالتكرار هنا
أيضا ، فيجب ترك العبادة كلّما جاء الحيض ، ويدوم بدوامه ، ولو صلّت أو صامت وقت
الحيض ، حسن ذمّها.
وعن الثاني : أنّ
القرائن المنضمّة إلى الألفاظ ، قد تخرجها عن حقائقها ، والتأكيد مستعمل في العرف.
وعن الثالث : أنّه
لو لم يكن للدّوام ، بل للمرّة ، لكان استعماله في الدّوام على خلاف الدّليل ، على
أنّ الدليل قد يخالف عند قرائن تحتفّ به.
ونحن إنّما قلنا :
إنّه لا يفيد التكرار ، لو وجدت قرينة صارفة له عن التكرار ، والخلاف إنّما هو في
المجرّد.
تذنيب
لمّا ثبت أنّ
النّهي للتكرار ، وجب أن يفيد الفور ، لاستلزام التكرار ذلك ، والقائلون بعدمه لم
يوجبوا الفور فيه.
المبحث الرابع :
في امتناع اجتماع الأمر والنهي
اعلم أنّ الواحد
قد يكون واحدا بالنّوع ، وقد يكون واحدا بالشّخص.
أمّا الأوّل ،
فيمكن توارد الأمر والنهي معا إليه ، بأن يكون أحد جزئيّاته مأمورا به ، والآخر
منهيّا عنه ، لعدم التنافي بينهما.
وذلك كالسجود ،
فإنّه نوع ينقسم إلى السجود لله تعالى ، وهو مأمور به ، وإلى السجود للصّنم ، فهو
منهيّ عنه.
وقد خالف في ذلك
بعض المعتزلة ، وتوهّم المناقضة ، من حيث إنّ السجود نوع واحد وهو مأمور به
فيستحيل أن ينهى عنه ، بل السّاجد للصّنم عاص بقصد تعظيم الصّنم ، لا بنفس
السّجود.
وليس بجيّد ، إذ
لا تناقض مع تغاير المحلّ ، والسجود لله تعالى مغاير للسجود للصّنم ، فإنّ اختلاف
الإضافات والصفات يوجب المغايرة ، والشيء لا يغاير نفسه ، وقد قال الله تعالى : (لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا
لِلْقَمَرِ) ثمّ أمر بالسّجود لله تعالى ، وليس المأمور به ، هو
المنهيّ عنه ، ولا خلاف في عصيان الساجد للصّنم والشمس بنفس السجود والقصد معا.
وقولهم : السجود
نوع واحد.
قلنا : نعم ،
لكنّه منقسم بانقسام المقاصد ، فإنّ مقصود هذا السجود تعظيم الصنم ، دون الله
تعالى ، واختلاف وجوه الفعل ، كاختلاف نفس الفعل في حصول الغيريّة ، المانعة من
التّضاد ، فإنّ التّضاد إنّما يكون مع الإضافة إلى واحد ، ولا وحدة مع المغايرة.
وأمّا الثاني
فإمّا أن يكون ذا جهة واحدة ، أو ذا جهتين.
فالأوّل ، لا خلاف
في استحالة توجّه الأمر والنهي معا إليه ، إلّا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق.
__________________
وأمّا الثاني ،
ففيه النزاع كالصلاة في الدّار المغصوبة ، فإنّها قد اشتملت على وجهتين : إحداهما
: كونها صلاة ، وأخرى : كونها غصبا وفيه النزاع :
فمنع منه جماعة
الإماميّة ، والزيديّة ، والظاهريّة ، والجبائيّان ، وهو مرويّ عن مالك ، وهو
اختيار فخر الدين الرّازي ، وذهبوا إلى أنّ الصلاة غير واجبة ولا صحيحة ، ولا يسقط بها
الفرض ، ولا عندها ، ووافقهم على ذلك القاضي أبو بكر إلّا في موضع واحد ، فإنّه قال : يسقط الفرض معها لا بها.
وهذا الّذي
اخترناه ، مذهب جمهور المتكلّمين.
وقال الغزّالي ، وجماعة الأشاعرة بالجواز.
لنا : أنّ المأمور
به مطلوب التحصيل ، فلا حرج في فعله ، والمنهيّ عنه مطلوب العدم ، ويتعلّق بفعله
الحرج ، والجمع بينهما ممتنع.
لا يقال : إنّما
يمتنع الجمع لو اتّحد الوجه ، أمّا مع تعدّده ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، حيث
كان لها جهتا صلاة وغصب ، وكلّ واحد منهما يصحّ انفكاكه عن الأخرى ، فلا استبعاد
في الأمر بها من حيث إنّها صلاة ، والنّهي من حيث إنّها غصب ، كما لو قال السيّد
لعبده : «خط [هذا] الثوب ولا تدخل الدّار» فخاط الثوب في الدار فإنّه يكون ممتثلا
لأمر الخياطة ، عاصيا لنهي الدخول ، واستحقّ العقوبة بأحد الاعتبارين ، والإحسان
بالآخر ، كذا الصّلاة هنا اشتملت على أمرين :
أحدهما مطلوب
الوجود ، والآخر مطلوب العدم.
__________________
ويعارض : بأنّ
الصّلاة في الدّار المغصوبة صلاة ، لأنّها صلاة خاصّة بكيفيّة مخصوصة ، وثبوت المقيّد
يقتضي ثبوت المطلق.
والصّلاة مأمورا
بها ، لقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ.)
لأنّا نقول :
متعلّق الأمر والنّهي إن اتّحد ، لزم تكليف ما لا يطاق ، والخصم يسلّم أنّه ليس من
هذا الباب ، وإن تغايرا ، فإن تلازما ، كان كلّ منهما من ضروريّات الآخر ، والأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ ذلك الشيء إلّا به
، ويعود المحذور ، وهو كون متعلّق الأمر والنّهي واحدا.
وإن لم يتلازما ،
صحّ تعلّقها بهما إجماعا ، وهو غير صورة النّزاع.
لا يقال : يجوز
انفكاك أحدهما عن الآخر في الحكم ، إلّا أنّهما في الصورة المعيّنة يتلازمان.
لأنّا نقول :
فيكون المأمور به في [هذه] الصورة الخاصّة منهيّا عنه ، وهو محال.
وامّا الصلاة في
الدار المغصوبة ، فإنّها باطلة ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل
إجماعا ، إلّا عند من جوّز التكليف بالمحال ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الصلاة مركّبة من أمور :
أحدها : الحركة ،
والسّكون ، وهما مشتركان في حقيقة الكون ، أعني الحصول في الحيّز وشغله ، وهذا
الشغل منهيّ عنه ، فأحد أجزاء هذه الصّلاة
__________________
منهيّ عنه ،
فيستحيل أن تكون هذه الصّلاة مأمورا بها ، لاستلزام الأمر بالمركّب ، الأمر
بأجزائه ، فيكون هذا الجزء ، مأمورا به ، منهيّا عنه.
والصلاة ، والغصب
وإن تغايرا ، لكنّ مطلق الشّغل الحيّز ، جزء ماهيّة مطلق الصّلاة ، والشغل المعيّن
جزء ماهيّة الصّلاة المعيّنة ، وهذا الشغل المعيّن ، منهيّ عنه ، فجزء ماهيّة هذه
الصّلاة منهيّ عنه ، فهذه الصلاة لا تكون مأمورا بها.
نعم الصّلاة مطلقا
مأمورا بها ، ولا نزاع فيه ، بل في هذه الصّلاة.
قيل عليه : «لا نزاع في انّ الفعل المعيّن إذا أمر به بعينه لا ينهى
عنه ، إنّما النزاع في الفعل المعيّن إذا كان فردا من أفراد الفعل المأمور به هل
ينهى عنه ، وما نفيتموه جوازه ظاهر إذ عندكم الأمر بالماهيّة ليس أمرا بشيء من
أفرادها ، ولأنّه لو امتنع ذلك ، لامتنع النهي عن فعل ما ، لأنّ نفس الفعل مأمور
به ، لكونه جزءا من الفعل المأمور به ، وكلّ منهيّ عنه فرد من أفراد نفس الفعل».
وبين الصّلاة في
الدار المغصوبة ، والمثال الّذي ذكروه فرق ، فإنّ الخياطة غير الدخول ، ولا تلازم
بينهما ، فلهذا صحّ اجتماع الأمر والنّهي ، والصلاة المأمور بها ليس المطلق ، بل
الواقعة على الوجه المطلوب شرعا ، بأن تستجمع شرائطه ، ولهذا لا يصحّ أن نقول :
الصلاة بغير طهارة صلاة ، والصلاة مأمور بها.
__________________
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل : قد كرهت الصلاة في الأماكن
المخصوصة ، والأوقات
المخصوصة ، وكما يتضادّ الوجوب والتحريم ، كذا يتضادّ الوجوب والكراهة.
الثاني : لو لم تصحّ الصّلاة في الدار
المغصوبة ، لما سقط التكليف
، والتالي باطل بالإجماع فإنّ أحدا من العلماء لم يأمر الظلمة بقضاء صلواتهم في
الأماكن المغصوبة ، فالمقدّم مثله.
والشرطيّة ظاهرة ،
فإنّ الباطل غير مسقط للفرض.
الثالث : لو لم تصحّ الصّلاة ، لكان
البطلان لاتّحاد متعلّق
الأمر والنهي ، إذ لا مانع سواه إجماعا ، ولا اتّحاد ، فإنّ الأمر بالصّلاة ،
والنّهي عن الغصب ، واختيار المكلّف جمعهما لا يخرجهما عن حقيقتهما ، وهو التّغاير
وعدم التلازم.
والجواب عن الأوّل : أنّ متعلّق الأحكام
إن اتّحد ، منعنا التكليف
بمثل هذه الصورة ، وإن تغاير لم يفد ، لرجوع النهي إلى وصف منفكّ ، مثل التعرّض
لنفار الإبل في الصّلاة في المعاطن ، ولسيل الوادي في الصلاة في الوادي ، وللتعرّض للرّشاش في
الحمام ، وغير ذلك من النظائر.
وعن الثاني : بمنع الإجماع على سقوط
القضاء ، فإنّ الإماميّة
أجمع ، أوجبوا قضاءها ، وهو مذهب أحمد بن حنبل ، وجماعة من الفقهاء ، ولو كان ذلك
إجماعا ، لما خفي عنهم.
__________________
وعن الثالث : ما تقدّم ، من أنّ الكون
الّذي هو غصب منهيّ عنه ، وهو بعينه صلاة
، فلا يكون مأمورا به ، والكون المطلق قد ينقسم إلى نوعي الغصب والصلاة ، وهما وإن
انفكّ أحدهما عن الآخر ، إلّا أنّهما في هذه الصورة متلازمان ، إذ فعل العبد هنا :
الحركة ، والسكون ، لا غير ، وهما منهيّان.
وأيضا ، لو صحّت
الصّلاة لصحّ صوم يوم النحر بالجهتين.
والاعتذار بأنّ
نهي التحريم لا يعتبر فيه تعدّد الّا بدليل ، ضعيف ، وهذه المسألة قطعيّة.
أمّا من يعتقد
البطلان ، فلاستلزام الصّحّة الجمع بين الضدّين ، وهو مستحيل قطعا.
ومن يعتقد الصحة ،
فيعتمد على الإجماع.
تذنيب
قال أبو هاشم : من
توسّط أرضا مغصوبة عصى باللبث والخروج ، وجعل الخروج متعلّق الأمر والنهي معا.
وهو خطأ ،
لاستلزامه التكليف بالمحال ، فإنّ الخروج متعيّن عليه للأمر ، فيعلم أنّ انتفاء
المعصية به وبشرطه ، فلا يكون متعلّق النهي.
وفيه نظر ، فإنّ
الخروج تصرّف في ملك الغير ، فيكون حراما ، ويمتنع
__________________
وجوبه ، بل الواجب
ترك التصرّف في كلّ آن ، وكونه في الزّمن الثاني لا يتمّ إلّا بالخروج مستندا إلى
فعله الّذي هو التوسّط ، فلا يستلزم وجوبه.
المبحث الخامس :
في التضادّ بين تحريم الوصف ووجوب الأصل
اعلم أنّ الشيء
إذا كان حرام الوصف ، كان مضادّا لوجوب أصله ، وهو مذهب الشافعي ، خلافا لأبي
حنيفة.
وصورة المسألة :
أنّه إذا أوجب الصّوم وحرّم إيقاعه في يوم العيد ، أو أوجب الطواف، ونهى عن إيقاعه
مع الحدث.
والأصل في ذلك :
أنّ القائلين بصحّة الصلاة في الدّار المغصوبة ، قسّموا النّهي إلى ما يرجع إلى
ذات المنهيّ عنه ، فيضادّ وجوبه ، وإلى ما يرجع إلى غيره ، فلا يضادّ وجوبه ، وإلى
ما يرجع إلى وصف المنهيّ عنه ، لا إلى أصله ، وقد اختلفوا :
فعند أبي حنيفة ،
الصّوم ، من حيث إنّه صوم ، مشروع مطلوب ، ومن حيث إنّه واقع في يوم النحر ، غير
مشروع.
والطواف ، مشروع
وإيقاعه في حال الحدث منهيّ عنه.
والبيع من حيث
إنّه بيع مشروع ، ومن حيث وقوعه مقرونا بشرط فاسد أو زيادة في العوض في الربويّات
، منهيّ عنه.
والطلاق ، من حيث
إنّه طلاق ، مشروع ، ومن حيث وقوعه في الحيض ، منهيّ عنه.
وحراثة الولد ، من
حيث إنّه حراثة ، مشروع ، ومن حيث وقوعه في غير المنكوحة مكروه.
فجعل أبو حنيفة
هذا قسما ثالثا ، وزعم أنّ ذلك يوجب فساد الوصف ، لا انتفاء الأصل ، لأنّه راجع
إلى الوصف لا [إلى] الأصل ، فجعل الحرام هو إيقاع الصوم يوم النحر ، لا الصّوم
الواقع فيه.
والشافعي ألحق هذا
بكراهة الأصل ، ولم يجعله قسما آخر ، والشافعي خرج عن قاعدته في طلاق الحائض ،
وتأوّل ذلك بأن صرف النّهي عن أصله ، ووصفه إلى تطويل العدّة ، أو لحوق الدّم عند
الشكّ في الولد.
وأبو حنيفة خرج عن
قاعدته في بطلان صلاة المحدث دون طوافه ، لأنّ الدليل دلّ على كون الطهارة شرطا في
صحّة الصلاة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا صلاة إلّا بطهور» فهو نفي الصّلاة لا نهي.
لنا : أنّه لا فرق
عند أهل اللغة بين قوله : حرّمت عليك الصوم في هذا اليوم ، وبين قوله : حرّمت عليك
إيقاعه فيه ، إذ لا معنى لإيقاع الصّوم في اليوم سوى فعله فيه ، فإذا كان فعله فيه
محرّما ، كان ذلك مضادّا لوجوبه لا محالة.
ولو قال السيّد
لعبده : أطلب منك الخياطة ، وأنهاك عن إيقاعها في وقت الزوال ، فإذا خاط وقت
الزّوال ، لم يأت بالمطلوب ، فإنّ المكروه هي الخياطة وقت الزوال ، لا الوقوع في
وقت الزوال ، مع بقاء الخياطة مطلوبة ، إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن
الواقع.
__________________
والصّلاة في
الأوقات المكروهة ، والأماكن المكروهة ، من الفقهاء من منع من صحّتها ، فلا يرد
عليه شيء ، لتردّده في أنّ النّهي نهي عن إيقاع الصلاة من حيث إنّه إيقاع صلاة ،
أو من أمر آخر مقرون به.
ومنهم من صحّحها ،
وصرف النّهي عن أصل الصلاة ، ووضعها إلى غيره.
وتفاصيل المسائل
ليس على الأصولي ، بل إلى نظر المجتهد في الفروع ، وليس على الأصولي إلّا حصر
الأقسام الثلاثة ، وهو ما يرجع النّهي فيه إلى ذات المنهيّ أو وصفه ، أو خارج ،
وبيان حكمها في التضادّ وعدمه.
المبحث السّادس :
في أنّ النّهي هل يدلّ على الفساد؟
اختلف النّاس في
ذلك والتحقيق أن نقول : المنهيّ عنه ضربان :
أحدهما ، لا يصحّ
فيه معنى الفساد ، والصحّة ، والإجزاء ، كالجهل ، والظّلم ، ونحوهما ، ممّا لا
يتعلّق به أحكام شرعيّة.
ومنها ، ما يصحّ
فيه ذلك ، كالطّلاق ، والنكاح ، والبيع ، والصّلاة ، لتعلّق الأحكام بذلك.
فإذا قلنا :
النّهي هل يدلّ على الفساد أم لا ، فإنّما نشير بذلك إلى الثاني من القسمين ، وقد
اختلف العلماء :
فمنهم من قال :
إنّه يدلّ على الفساد.
ومنهم من منع.
ومنهم من لم يجعله
دالّا من حيث اللّغة ، ويدلّ من حيث الشرع.
ونحن نقول : النهي
إن كان عن الشيء لغيره ، لم يدلّ على الفساد ، وذلك كالنّهي عن البيع وقت النّداء
، خلافا للشيخ أبي جعفر الطّوسي من علمائنا ولمالك وأحمد.
وإن كان النهي عن
الشيء لنفسه ، أو لوصفه ، فإن كان الفعل من العبادات دلّ على الفساد ، وإن كان من
المعاملات ، لم يدلّ على الفساد ، وهو اختيار أبي الحسين البصري وفخر الدين الرّازي.
وقال جمهور فقهاء
الشّافعيّة ، ومالك ، وأبو حنيفة ، والحنابلة ، وأهل الظّاهر كافّة ، وجماعة من
المتكلّمين : إنّ النّهي يدلّ على الفساد مطلقا.
وذهب جماعة من
الأشاعرة كالقفال ، والغزّالي ، وغيرهما ، وجماعة من الحنفيّة ، وجماعة من المعتزلة ، كأبي
عبد الله البصري ، وأبي الحسن الكرخي ، والقاضي عبد الجبّار إلى أنّه لا يدلّ على الفساد مطلقا.
__________________
ومنهم من قال :
يدلّ من حيث الشرع ، لا من حيث اللّغة ، وإليه مال السيّد المرتضى .
فهنا مقامان :
[المقام] الأوّل :
في أنّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد
وبيانه : أنّ
المراد بفساد العبادة ، عدم الإجزاء ، وهو متحقّق مع النهي ، لأنّه بعد الإتيان
بالمنهيّ عنه ، لم يأت بالمأمور به ، فيبقى في عهدة التكليف.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ المنهي عنه ، ليس المأمور به ، فإنّ المنهيّ عنه قبيح ، والمأمور
به حسن ، وهو إنّما أتى بالمنهيّ عنه ، فلم يكن آتيا بالمأمور به ، كما لو أمر
بالصّلاة فتصدّق.
وأمّا المقدّمة
الثانية ، فظاهرة ، فإنّ تارك المأمور به عاص ، والعاصي يستحقّ العقاب ، لما تقدّم
من أنّ الأمر للوجوب.
فإن قيل : يجوز أن
يكون فعل المنهيّ عنه سببا للخروج عن العهدة ، فإنّه لا استبعاد في أن يقول الشارع
: «لا تفعل في الثوب المغصوب فإن فعلت أسقطت عنك الفعل».
ولأنّ اللّفظ لا
يدلّ عليه بمنطوقه ، إذ لا يفيد إلّا المنع من الفعل ، والفساد : عدم الإجزاء ،
وهما متغايران ، ولا بمفهومه ، لانتفاء التلازم ، فإنّه لا يلزم من النهي الفساد ،
كما لو قال : «لا تصلّ في الثوب المغصوب ، وإن صلّيت
__________________
صحّت صلاتك» ولو
كان الفساد لازما للنّهي ، لزم التناقض.
ولأنّ النهي لو
دلّ على الفساد ، لكانت الصّلاة في الأماكن المكروهة ، والأوقات المكروهة ، فاسدة.
والجواب : قد
بيّنا أنّ المنهيّ عنه مغاير للمأمور به ، وإذا لم يأت بالمأمور به ، لم يخرج عن
العهدة ، فضلا عن أن يأتي بالمنهيّ عنه ، فإنّه أولى بعدم الخروج.
والمثال الّذي
ذكروه ، لو وقع لدلّ على أنّ المنهيّ عنه ليس عن الصّلاة ولا عن صفتها ، بل عن وصف
منفكّ ، كما في الصّلاة في الأماكن المكروهة.
والفرق بينه وبين
الصلاة في المكان المغصوب : أنّ مماسّة الإنسان للثوب ليست جزءا من ماهيّة الصّلاة
، ولا مقدّمة لشيء من أجزائها ، فيكون آتيا بعين الصّلاة المأمور بها من غير خلل
غير أنّه ضمّ إلى ذلك الفعل فعلا آخر محرّما ، ولا يقدح ذلك في الخروج عن العهدة.
وبه ظهر الجواب عن
النّهي في الأماكن المكروهة ، والأوقات المكروهة ، لرجوع النهي هناك إلى وصف خارج
عن ماهيّة الصلاة ، ومجموع الأمر والنّهي دلّ على الفساد بالالتزام ، فإنّ النّهي
دلّ على المنع ، وقد ثبت أنّ المنهيّ عنه مغاير للمأمور به ، فلا يكون بفعله آتيا
بالمأمور به ، فلا يخرج عن العهدة ، فلا يكون محرّما ، وهو المراد بالفساد هنا.
المقام الثاني :
في أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد
قد عرفت أنّ
الفساد في المعاملات يراد به عدم ترتّب أحكامها عليها ، فإذا قيل : هذا بيع فاسد ،
كان معناه : أنّه لم يفد الملك ، وإذا قيل : طلاق فاسد ، كان معناه : أنّه لم يفد
بينونة ، ولا تحريما ، وإذا قيل : نكاح فاسد ، كان معناه : أنّه لم يثمر إباحة
البضع.
إذا ثبت هذا فنقول
: لو دلّ النّهي على الفساد بهذا المعنى ، لدلّ إمّا بالمطابقة ، أو بالتضمّن ، أو
بالالتزام ، والكلّ باطل ، فانتفت الدلالة.
أمّا انتفاء
الأوّلين ، فظاهر ، إذ قوله : «لا تبع» مثلا ليس موضوعا للفساد بمعنى عدم ترتّب حكم البيع عليه ،
ولا هو جزؤه.
امّا انتفاء
الثالث ، فلأنّ شرط هذه الدّلالة ، الملازمة الذّهنية ، وهي منتفية ، فإنّه لا
يلزم من تصوّر تحريم البيع ، تصوّر عدم ترتّب حكمه عليه.
ولا استبعاد في أن
يقول الشارع : نهيتك عن البيع ، وإن فعلت ، يحصل لك الملك ، كما في البيع وقت
النّداء وكذا : «نهيتك عن إزالة النجاسة بالماء المغصوب ، أو عن الثوب المغصوب مع
حصول الطّهارة ، ونهيتك عن الذبح بسكّين الغير ، لكن إن فعلت ، حلّت الذبيحة ، ولا
تناقض.
بخلاف [قوله :]
حرّمت عليك الطلاق ، وأمرتك به ، أو أبحتك إيّاه.
والوطء في الحيض
يلحقه أحكام الوطء الصحيح ، من لحوق
__________________
الولد ، ووجوب
المهر ، والتحليل للزّوج الأوّل.
وأيضا ، النّهي عن
العقد أو الإيقاع إنّما يدلّ إذا صدر عن حكيم على قبحه ، ووجوب الإحلال به أو على كراهيته ، وقد يكون
الفعل قبيحا مكروها ، وحكمه ثابت ، لأنّ قبح البيع ، لا ينافي ثبوت الملك به ،
فإنّه قد ينهى عن البيع ، لأنّ الملك لا يقع به تارة ، ولأنّه مفسدة في نفسه ، وإن
وقع به الملك تارة ، ولأنّه يتشاغل به عن واجب ، نحو البيع مع تعيّن وجوب التحريم.
وإذا أمكن ذلك ،
أمكن أن يكون النّهي عن البيع أو غيره ، لغرض مغاير لانتفاء أحكامها.
لا يقال : ينتقض
ما ذكرتم بالنّهي في العبادات ، فإنّه يدلّ على الفساد.
لأنّا نقول : قد
بيّنا اختلاف الفساد في العبادات والمعاملات.
احتجّ القائلون
بأنّه يدلّ على الفساد ، بوجوه :
الأوّل : الفعل
المنهيّ عنه معصية ، والملك نعمة ، والمعصية تناسب المنع من النعمة ، ومحلّ
الاعتبار بعد ظهور المناسبة ، جميع المناهي الواردة.
الثاني : المنهيّ
عنه لا يجوز أن يكون منشأ المصلحة الخالصة أو الرّاجحة ، وإلّا لزم أن يكون الأمر
والنهي بخلاف الحكمة ، ولا منشأ المصلحة المساوية ، وإلّا لكان النّهي عبثا.
وأيضا ، الاشتغال
بالعبث محذور عند العقلاء ، والقول بالفساد يفضي إلى دفع هذا المحذور ، فوجب القول
به ، فوجب أن يكون منشأ المفسدة الخالصة أو
__________________
الرّاجحة ، وعلى
كلّ التقديرين ، يجب الحكم بالبطلان ، لاشتماله على إعدام تلك المفسدة.
الثالث : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو ردّ» .
والمنهيّ عنه ليس
من الدّين ، فيكون مردودا ، ولو ترتّب عليه حكمة ، لم يكن مردودا.
الرابع : الإجماع
منعقد على الفساد ، فإنّه لم يزل العلماء يستدلّون على فساد الزنا ، والرّبا
بمجرّد النهي.
الخامس : النّهي
نقيض الأمر ، والأمر قد ثبت أنّه يدلّ على الإجزاء فالنّهي يدلّ على الفساد.
السادس : النّهي
يدلّ على مفسدة خالصة ، أو راجحة ، والقول بالفساد سعي في إعدامها ، فيكون مشروعا ، قياسا على جميع المناهي الفاسدة.
السابع : لو ثبت
أحكام المنهيّ عنه ، لكان طريق ذلك ، الشرع : إمّا أمر ، أو إباحة ، أو ايجاب وكلّ
ذلك يمنع منه النهي.
الثامن : النهي عن
الفعل إذا منع منه ، وجب أن يكون مانعا من أحكامه التابعة له.
__________________
التاسع : الإجزاء
يعاقب الفساد ، فإذا كان بالنهي ينتفي كون الشيء شرعيّا ، فالإجزاء لا يعلم إلّا
شرعا ، فليس بعد ذلك إلّا الفساد.
العاشر : لو لم
يعقل من النهي الفساد ، لم يكن التحريم دليلا عليه ، وكان لا يعقل من قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) فساد هذه الأنكحة وبطلانها.
الجواب عن الأوّل
: إفادة الملك عن المعصية نعمة أيضا ، فتناسب الشرعيّة ، ويمنع الفساد في جميع المناهي
الواردة ، مع أنّه يجوز أن يكون الحكم عليه بالصحّة مناسبا للنهي ، فإنّ زوال
الملك عن البائع ، لارتكابه المنهيّ عنه ، أمر مناسب له.
وعن الثاني : ما
تقدّم ، من جواز كون الفساد لا من نفس المنهيّ عنه ، بل لمنعه عن فعل مطلوب
للشارع.
وعن الثالث : أنّ
البيع وقت النّداء يوصف بأمرين :
أحدهما : أنّه غير
مطابق لأمر الله تعالى.
والثاني : أنّه
سبب الملك ، والقول بالأوّل إدخال في الدّين ما ليس منه ، فكان ردّا ، وأمّا
الثاني فلا نسلّم أنّه ليس من الدين ، حتّى يكون القول به ردّا ، فإنّه نفس
النزاع.
وأيضا ، إنّما يكون
مدخلا للفعل في الدّين ، إذا اعتقد أنّه من الدّين ، فإنّ الزّاني ، وفاعل المباح
لا يكون مدخلا للزنا والفعل المباح في الدين ، فلا يخلو إمّا أن يريدوا أنّ الفاعل
لما نهي عنه مدخلا للفعل في الدين ، أو لأحكامه ، والأوّل
__________________
باطل ، فإنّ
المزيل للنجاسة بالماء المغصوب ، لا يعتقد أنّ ذلك من الدين ، بل يعتقد أنّه بدعة.
وإن أرادوا الثاني
، منعنا أنّه ليس من الدّين.
لا يقال : فحينئذ
لو فعل الإنسان ذلك معتقدا أنّه من الدّين ، لزم أن يكون مردودا عليه ، فلا يثبت
أحكامه.
لأنّا نقول : إنّما
يجب أن يكون ردّا من الدّين ، لا غير ، وإنّما يكون كذلك ، إذا جعلناه بخلاف ما
اعتقده ، كما لو قال انسان : «من رام الدخول إلى داري ، فهو مردود» أفاد أنّه
مردود من الدّار ، (ولا يلزم عدم ثبوت أحكامه) .
وأجاب قاضي القضاة
بوجوه :
الأوّل : لفظ «الرّد»
يفيد نفي استحقاق الثواب ، لأنّ «الرّدّ» ضدّ «القبول» ، والقبول يفيد استحقاق
الثواب ، فلفظ «الرّدّ» كالنهي ، في اقتضاء القبح ، ونفي استحقاق الثواب ، ونحن
نقول : إنّ المنهيّ عنه لا يستحقّ به الثواب.
الثاني : يجب أن
نبيّن أنّ الحكم بإجزاء الفعل ليس من الدين ، ثمّ نردّه ، وهذا إنّما يتوجّه على
من قال في استدلاله : «إنّ الإجزاء ليس من الدين» ، لا إلى من قال : «إنّ الفعل
نفسه ليس من الدّين».
ثمّ استدلّ بذلك
على انتفاء أحكامه.
الثالث : النّهي
أبلغ من لفظ «الردّ» لأنّ طاعات الكافر مردودة ، وليست منهيّا عنها ، فإذا لم تظهر
دلالة النّهي على الفساد ، فلفظ «الردّ» أولى بذلك.
__________________
الرابع : هذا خبر
واحد لا يصحّ التعلّق به في ذلك.
وعن الرّابع :
بالمنع من رجوع الصحابة إلى النهي في الفساد في الجميع ، ولهذا حكموا في كثير من
المنهيّات بالصحّة ، فلا بدّ وأن يكون أحد الحكمين للقرينة ، فعليكم الترجيح.
وهو معنا ، لأنّا
لو حكمنا بالفساد ، لكان الحكم بعدمه في بعض الصور تركا للظاهر.
ولو قلنا : إنّه
لا يقتضي الفساد ، كان إثباته في البعض لدليل منفصل ، لا يكون تركا للظاهر.
وعن الخامس : لا
يلزم من دلالة الأمر على الإجزاء ، دلالة النّهي على الفساد ، لإمكان اشتراك
الأشياء المتضادّة في الأحكام.
سلّمنا ، لكن لما
دلّ الأمر على الإجزاء ، وجب أن لا يدلّ النّهي عليه ، لا أن يدلّ على الفساد.
وعن السادس : ما
تقدّم من أنّ النهي قد يكون لوصف عارض لا لفساد في الماهيّة.
وعن السابع : لا
نسلّم انحصار طريق دلالة ثبوت الأحكام في الأمر ، والإيجاب ، والإباحة ، فإنّه قد
يقول : «نهيتكم عن البيع ، وإذا بعتم على هذا الوجه ، فقد ملكتم» أو بالعقل.
__________________
وعن الثامن :
بالمنع من الملازمة ، والأحكام تابعة لوجود الفعل أو لصحّته معا.
وعن التاسع : إن
أردتم بأنّ النّهي ينفي كونه شرعيّا أنّه ينفي كونه مرادا ، أو طاعة وقربة ، فيصح
، وإن أردتم نفي الأحكام الشرعيّة ، فممنوع.
وإذا كان الإجزاء
والفساد لا يعلمان إلّا شرعا فيجب أن لا يستفيد أحدهما من مطلق الأمر.
لا يقال : إجزاؤه
لا يعلم إلّا شرعا ، ولا شرع فيه ، فيكون فاسدا.
لأنا نقول :
وفساده لا يعلم إلّا شرعا ، ولا شرع فيه ، فيكون صحيحا.
والصّواب ،
التوقّف عن حكم بصحّة أو فساد على دليل مفصل.
وعن العاشر : أنّ
مطلق التحريم لا يدلّ على الفساد ، كما قلنا في النّهي ، وإنّما علم فساد أنكحة
الأمّهات ، بغير وضع النهي في اللّغة ، وعلى الجملة بدليل.
المبحث السابع :
في مواضع من هذا الباب وقع فيها الخلاف
الأوّل : قال أبو
عبد الله البصري : المنهيّ عنه إذا كان متى فعل على الوجه المنهيّ عنه
انتفى عنه شرط من شرائطه الشرعيّة ، فإنّه يجب أن يفسد ، كبيع «الغرر».
ومتى لم ينتف عنه
شرط من شرائطه الشرعيّة لم يفسد.
__________________
اعترضه أبو الحسين
: بأنّ الفساد يجب لو كان ذلك شرطا في صحّته ، ولو لم يكن شرطا في صحّته ، لم
يجب فساده.
ولا فرق بين الشرط
الشرعي وغيره ، فلا معنى للتقييد بكونه شرعيّا.
وأيضا ، إذا فسد
لانتفاء شرطه الشرعي ، فإن علمتم ذلك بظاهر النّهي ، فقد سلّمتم أنّ ظاهر النهي
يدلّ على الفساد ، وإن علمتم بقرينة ، فأخبرونا عن تلك القرينة ، لتكونوا قد أشرتم
إلى الفرق بين ما لا يدلّ على الفساد.
وإن قالوا : علمنا
أنّ ذلك شرط في الصحّة بدليل غير النهي ، نحو أن نعلم أنّ الوضوء شرط في الصلاة ،
ثمّ نهى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الصّلاة بغير وضوء ، فيعلم أنّها فاسدة بغير وضوء.
وقد أشار قاضي
القضاة إلى ذلك.
قلنا : فحينئذ
نعلم الفساد بما دلّ على أنّ الوضوء شرط في صحّتها ، فإنّا إذا علمنا ذلك ، علمنا
فساد الصلاة إذا لم يكن الوضوء ، سواء نهينا عن الصّلاة بغير وضوء ، أو لا.
الثاني : المنهيّ
عنه الفاسد هو ما توصّل به إلى تحليل محرّم في الأصل ، كأكل الميتة ، واستحلال
الفروج ، وغير الفاسد ما لم يكن وصلة إلى محرّم في الأصل ، وهذا باطل ، فإنّ
مرادهم إن كان أنّ الحرام صار به حلالا على التحقيق ، فهو مناقضة ، لأنّه إذا صار
به حلالا ، فهو صحيح غير فاسد ، إذ لا معنى لكون الوصلة صحيحة ، إلّا أنّها وصلة
إلى تحليل هذا المحرّم من الفروج.
__________________
ثمّ هنا أمور نهي
عنها ، وهي وصلة إلى تحليل ما كان حراما ، وهي غير فاسدة كبيع حاضر لباد ، هو
منهيّ عنه ، وقد صار به ملك الغير حلالا للمشتري.
وإن أرادوا بذلك
انّه إذا توصّل بالمنهيّ عنه إلى تحليل ما هو حرام في نفسه ، فلا يجوز أن يصير حلالا ، لزم تعليل الشّيء بنفسه ، لأنّ معنى كون
هذه الوصلة المنهيّ عنها فاسدة ، كونها لا توصل إلى تحليل هذا المحرّم ، فكأنّهم
قالوا : إنّما لم يوصل إلى إباحة هذا المحرّم ، لأنّه لا يوصل إلى إباحته.
الثالث : النهي عن
الفعل إذا كان لمعنى يختصّه اقتضى فساده ، كبيع الغرر ، وإذا لم يكن لمعنى يختصّه
، لم يقتض فساده ، كالبيع وقت النّداء ، وهو باطل ، فإنّ المقتضي للفساد ، هو فقد
شرط من شرائط الصحّة ، ولا يمتنع أن يرجع ذلك تارة إلى الشيء المنهيّ عنه ، كما لا
يمتنع أن يرجع إلى غيره ، فإنّ بيع المحجور عليه منهيّ عنه ، لمعنى في العاقد لا
في العقد ، ومع ذلك فهو فاسد.
لا يقال : ما يختص
بالعاقد والمعقود عليه ، يتعلّق بالعقد ، ويرجع إليه.
لأنّا نقول : فيجب
أن يفسد بيع حاضر لباد ، لأنّ النّهي عن ذلك ، إنّما كان لمعنى في المتعاقدين.
الرابع : قال
بعضهم : ما نهي عنه لحقّ الغير لا يفسد ، وما نهي عنه لشرط شرعيّ ، فإنّه يفسد.
وهذا باطل ، لأنّ الإنسان قد نهي عن بيع ملك غيره ، لحقّ ذلك الغير ، فإنّه لو أذن
فيه ، جاز ، ومع ذلك يفسد العقد لو لم يأذن.
ويدخل في هذه
الصّلاة في الدّار المغصوبة فقال جلّ الفقهاء ، وأبو
__________________
اسحاق النظام : إنّ الصّلاة مجزئة ، مسقطة للفرض. ومنع الجبائيّان ،
والإماميّة ، والظاهريّة ، والزيديّة من ذلك ، لما تقدّم.
ولأنّ صحّة
الصّلاة إمّا أن يراد بها أنّها داخلة تحت التعبّد ، أو أنّها تقوم مقام ما يدخل
تحت التعبّد ، والأوّل باطل ، لاستحالة التعبّد بالنّسخ ، والثاني يكفي في نفيه أن
لا يدلّ دليل على أنّها تقوم مقام ما يدخل تحت التكليف وإذا لم يدلّ دليل على ذلك
، ولا هي داخلة تحت التّكليف ، وجب إعادتها لبقاء التّعبّد.
وعلى هذا التقرير
، لا يجوز صلاة من ستر عورته بثوب مغصوب ، وعليه المعتزلة ، واختلفوا في سترها
بثوب مملوك إذا لبس فوقه ثوبا مغصوبا ، فجوّزها بعضهم ، لأنّ فعله في الثوب الأعلى
، ليس من الصّلاة.
ومنعها آخرون ،
لأنّ قيامه وقعوده تصرّف في كلا الثوبين.
وهو الحقّ عندي.
وقالت المعتزلة
أيضا : إنّ المودع أو الغاصب إذا طولب بردّ الوديعة والغصب ، فتشاغل بالصّلاة مع
اتّساع الوقت ، لا تصحّ صلاته ، وإن ضاق الوقت بحيث يخاف الفوت لو تشاغل بالردّ لم
تبطل إن لم يتضرّر المالك بالتأخير ضررا شديدا ، وإن تضرّر بطلت.
وكذا قالوا : لو
صلّى وهو يرى من يغرق ، أو يهلك بنار ، ويرجو تخليصه بطلت.
__________________
وهو حقّ ، لقبح
الصلاة في هذه المواطن أجمع.
أمّا إيمان الغاصب
في الدار المغصوبة ، فإنّه حقّ وطاعة ، لأنّ ذلك ليس تصرّفا في الدار ، فلا يكون قبيحا ، وكذا لو منع من الخروج عن الدّار الّتي
غصبها ، فإنّ صلاته صحيحة ، لأنّه مع المنع ينتفي تحريم القعود ، وإذا جاز له
القعود ، صحّت صلاته.
وكذا لو صلّى في
ملكه ، وقبض يده على رجل فمنعه من التصرّف ، لأنّ ذلك وإن كان قبيحا ، فليس من
الصّلاة.
قالوا : والذّبح
بسكّين مغصوبة لا يقتضي تحريم الذّبيحة ، لأنّ الذبح منهيّ عنه ، وقبيح ، إلّا
أنّه لمّا كان وصلة إلى إباحة اللّحم كان كالبيع الّذي هو وصلة إلى إباحة التصرّف
، والنهي لا يدلّ على فساد مثل ذلك ، لأنّه نهي عنه لقبحه في نفسه ، لا لأنّه وصلة
إلى إباحة اللحم.
ولو كان الذّبح ممّا
يتعبّد به ، فكذلك ، لأنّا إذا علمنا انّ الغرض بالذّبح التصدّق باللّحم ،
وعلمنا أنّ اللحم يصير مباحا بالذّبح بسكّين مغصوبة ، جاز التصدّق به.
والماء المغصوب ،
إذا أزيل به النجاسة ، والسّكين المغصوبة إذا وقع بها الختان ، كالمملوك في إزالة
النجاسة وإزالة ذلك القدر من اللّحم ، فلم يبق بعد إزالتها وبعد ما يجب قطعه في
الختان ، شيء ، يتوجّه الأمر إليه فيمتثل.
__________________
قالوا : والصّوم
في شهر رمضان ، مع الخوف على النّفس ، يسقط به الفرض ، لأنّه لم يوجد عليه في
الصوم أفعال ، وإنّما أخذ عليه الكفّ عن المفطرات.
وليس بجيّد عند
الإماميّة ، لأنّه قد أخذ عليه فعل نيّة الصوم ، ومن حقّها أن تكون طاعة. وكلّف
الكفّ عن هذه الأفعال ، ومن حقّ الكفّ عنها أن يكون طاعة حتّى يكون صوما.
والكفّ مع الخوف
على النّفس معصية وكلّف أن ينوي الصوم ، وفي ضمن كونه صوما كونه طاعة ، فإذا كان
الصّوم معصية ، لم يمكن أن ينوي به الطاعة.
لا يقال : نيّة
الصوم لا يدخل في ضمنها نيّة الطاعة ، ولا من حقّ الصوم أن يكون طاعة.
لأنّا نقول : نمنع
ذلك ، لأنّه يجب أن يوقعه متقرّبا به إلى الله تعالى.
وأيضا ، يلزمكم
مثله في الصّلاة.
وادّعاء الإجماع
في أحدهما ، كادّعائه في الآخر.
وقد سأل المعتزلة
أنفسهم فقالوا : كما لم يبق بعد إزالة النجاسة بالماء المغصوب نجاسة تزال ، فلم لا
يقال مثله في الصّلاة في الدار المغصوبة ، وإن كانت قبيحة ، فإنّها تقوم مقام
الصّلاة الواجبة في المصلحة ، فلا يبقى بعدها مصلحة.
__________________
وأجاب قاضي القضاة
: بأنّ الأمّة أجمعت بأنّ الّذي يسقط فرض الصّلاة ، هو ما دخل تحت التكليف ، ولهذا
لمّا كانت الصّلاة بغير طهارة ، غير داخلة تحت التكليف ، لم تقم مقام الواجب ،
والصّلاة في الدار المغصوبة ، لم يدخل تحت التكليف.
قال السيّد
المرتضى : تصحّ الصّلاة في الضّيعة المغصوبة ، لقضاء العادة بأنّ صاحبها لا يحظر
على أحد الصلاة فيها ، والتّعارف كالإذن وكذا من ليس بغاصب لو دخل الدّار مجتازا ،
للعادة بانّ النّاس يسوغون الصلاة لغير الغاصب.
امّا من صلّى وهو
يدافع الأخبثين ، فإنّ صلاته صحيحة ، لأنّ وجه النهي تأثير المدافعة في التثبّت ،
والخشوع ، والطمأنينة الكاملة ، ونحن نعلم صحّة الصّلاة وإن فقدت هذه ، وقد يدافع
الأخبثين ، ويتصبّر على أداء ما يجب عليه.
ثمّ قال : الإيمان
إذا جعلناه اعتقادا بالقلب ، أو قولا باللسان ، صحّ في الدّار المغصوبة ، لأنّه لا
تعلّق له بالدّار على كلا التفسيرين ، بخلاف الصلاة ، حيث كان غاصبا ومتصرّفا في
ملك غيره .
وفيه نظر ، فإنّ
الإيمان إذا جعلناه إقرارا باللّسان ، كان تصرّفا في ملك الغير بإحداث كونه في بعض
أعضائه ، وهو منهيّ عنه ، ولزمه تجويز صلاة المومي بإخفائه لشدّة مرضه.
__________________
المبحث الثّامن :
في أنّ النهي هل يدلّ على الصحّة أم لا؟
نقل أبو زيد عن
أبي حنيفة ومحمد بن الحسن : أنّ النهي يدلّ على الصحّة.
وخالفهما جماهير
المعتزلة والأشاعرة.
احتجّ الجمهور
بوجهين :
الأوّل : لو دلّ النهي على الصحّة ، لدلّ إمّا بلفظه أو بمعناه ، والتالي بقسميه باطل ،
فالمقدّم مثله ، والشرطيّة ظاهرة.
وبيان بطلان
التالي : أنّ الصحّة عبارة عن ترتّب أحكام الفعل عليه ، والنّهي لغة إنّما يدلّ
على طلب ترك الفعل ، فلا إشعار له بغير ذلك نفيا ولا إثباتا بشيء من الدّلالة .
الثاني : أجمعنا على وجود النهي من غير
صحّة ، كما في بيع
الملاقيح والمضامين ، وحبل الحبلة ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصّلاة أيّام
__________________
أقرائك» وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ).
فلو كان النّهي
يدلّ على الصحّة ، لزم صحّة هذه المنهيّات ، وليس كذلك بالإجماع، أو وجود الدّليل
من غير وجود مدلوله ، وهو خلاف الأصل.
احتجّا بأنّ
المنهيّ عنه إمّا الشرعي أو غيره ، والثاني باطل ، أمّا أولا ، فلأنّ الألفاظ
الموضوعة إذا أطلقت ، إنّما يراد بها ما وضعت له ظاهرا ، سواء كان الوضع من اللّغة
، أو الشرع ، أو العرف ، ولهذا إذا أطلق الشّارع لفظا ، وكان قد وضعه لمعنى ،
حملناه على متعارفه الشرعيّ وألقينا غيره من اللّغة والعرف.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّا نعلم أنّه لم ينه في صوم يوم النحر عن الإمساك المطلق ، ولا في نكاح
الأمّهات عن الالتقاء وكذا باقي الألفاظ ، فلم يبق النهي متوجّها إلّا إلى الشرع
، فنقول : ذلك المعنى الشرعي ، إمّا أن يمكن تحقّقه أو لا ، والثاني باطل ، وإلّا
لزم تكليف ما لا يطاق فثبت الأوّل.
وإذا أمكن تحقّق
الصّوم الشرعيّ في يوم النحر ، ثبت المطلوب ، فإنّ الشرعيّ هو الصّحيح المعتبر في
نظر الشارع ، فالنهي عن صوم يوم النحر يدلّ على انعقاده ، إذ لو استحال انعقاده
لما نهي عنه ، فإنّ المحال كما لا يؤمر به ، كذا لا
__________________
نهى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
ينهى عنه ، فلا
يقال للأعمى : «لا تبصر» كما لا يقال له : «أبصر» والنّهي عن الرّبا يدلّ على
انعقاده.
وأجيب عنه بوجوه :
الأوّل : المنع من
وجود عرف الشرع في هذه الأسماء.
وليس بجيّد ، لما
بيّنا ، من ثبوت الحقائق الشرعيّة.
الثاني : سلّمنا
أنّ له عرفا ، لكن في الأوامر ، والنواهي ممنوع ، وعلى هذا ، فالنّهي إنّما هو عن
التصرّف اللّغوي دون الشرعي.
وليس بجيّد ،
فانّا قد بيّنا أنّ النّهي لم يقع في هذه المنهيّات عن اللّغوي ، بل عن الشرعي ،
فإنّ الحائض لم تنه عن الصلاة اللّغويّة ، لجواز أن تدعو إجماعا.
الثالث : نمنع أن
يكون عرف الشرع البيع المنعقد ، بل ما يمكن صحّته ، فيحمل عليه جمعا بين الأدلّة ،
ولا يلزم من كون التصرّف ممكن الصّحّة وقوع الصّحّة .
وليس بجيّد ، فإنّ
ممكن الصّحّة ، إنّما هو الصحيح ، إذ ما لا صحّة فيه شرعا ، لا يمكن صحّته شرعا.
الرّابع : ما
ذكرتموه يقتضي صرف النهي عن ذات المنهيّ عنه إلى غيره ، فإنّه لو كان منهيّا عنه
في عينه ، استحال أن يكون عبادة منعقدة ، ومطلق النّهي عن
__________________
الشيء ، يدلّ على
النّهي عن عينه ، إلّا أن يدلّ دليل ، فلا معنى لترك الظاهر من غير ضرورة.
وليس بجيّد ،
لدلالة ما قلناه على صرف النهي إلى غيره.
الخامس : لو كانت
الصّلاة عبارة عن الصحيحة ، لدخل الوضوء وغيره في مسمّاها ، والتالي باطل بالإجماع
، فالمقدّم مثله.
وليس بجيّد ، فإنّ
الشرط ليس جزءا من المسمّى ، ولو قيّدنا الصّلاة بالصّحيحة ، لم يدخل الوضوء فيها
، ولا غيره من الشرائط ، فكذا مع الإطلاق.
السادس : النقض
بالمناهي المذكورة كبيع الملاقيح ، والمضامين ، وصلاة الحائض.
أجيب بأنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصّلاة أيّام أقرائك» وقوله تعالى (وَلا تَنْكِحُوا ما
نَكَحَ آباؤُكُمْ) حمل فيه الصّلاة ، والنكاح ، على المعنى اللّغوي ، على
خلاف الوضع ، لدليل دلّ عليه.
وقوله : «لا صلاة
إلّا بطهور» نفي لا نهي.
السابع : يجوز حمل
النّهي على النسخ ، كما إذا قال للوكيل : «لا تبع» فإنّه وإن كان نهيا في الصّيغة
، لكنّه نسخ في الحقيقة.
وبالجملة ،
فالمسألة لا تخلو من تعسّف.
__________________
المبحث التاسع :
في التخيير في النهي
فصّل أبو الحسين
هنا جيّدا ، فقال :
النّهي عن الأشياء
إمّا أن يكون نهيا عنها على الجمع ، أو عن الجمع بينها ، أو نهيا عنها على البدل ،
أو نهيا عن البدل فالأقسام أربعة :
الأوّل : النهي
على الجمع ، بأن يقول الناهي للمخاطب : «لا تفعل هذا ولا ذاك» ويوجب عليه الخلوّ
عنهما أجمع.
وتلك الأشياء ،
قسمان :
الأوّل : أن يمكن
الخلوّ عنها أجمع ، فيصحّ النهي ، الثاني : أن يمنع فيصحّ ، إلّا عند من يجوّز
تكليف ما لا يطاق.
ولا فرق بين أن
يكون النّهي إيجابا للخلوّ من الشيء ونقيضه ، أو منه ومن ضدّه إذا لم يكن هناك ضدّ
غير المنهيّ عنها.
الثاني : النهي عن
الجمع ، مثل : «لا تجمع بين كذا وكذا» فإن كان الجمع ممكنا جاز النّهي إجماعا إلّا
أن يكون ملجأ إلى الجمع بينهما ، فلا يحسن نهيه.
وإن لم يكن الجمع
ممكنا ، استحال النّهي عنه ، لأنّه عبث ، إلّا عند من جوّزه كالأشعريّة.
الثالث : النهي
على البدل ، مثل : «لا تفعل هذا إن فعلت ذاك» أو «لا تفعل
__________________
ذلك إن فعلت هذا»
بأن يكون كلّ واحد منهما مفسدة عند الآخر ، وهو يرجع إلى النهي عن الجمع بينهما.
الرابع : النهي عن
البدل ، ويفهم منه أمران :
الأوّل : أن ينهى [الإنسان]
عن أن يفعل شيئا ، ويجعله بدلا عن غيره ، وذلك يرجع إلى النّهي عن أن يقصد به
البدل ، فهو غير ممتنع.
الثاني : أن ينهى
عن أن يفعل أحدهما دون الآخر ، بل يجمع بينهما ، وهو قبيح إن تعذّر الجمع ، وحسن
مع إمكانه وامكان الإخلال به.
واعلم أنّ جماعة
من المعتزلة ، جوّزوا إمكان خلوّ المكلّف من الأفعال أجمع ، كالمستند ، والمستلقي
، وكانت الأكوان باقية ، والباقي مستغن عن المؤثّر ، فحينئذ أمكن قبح جميع أفعال
جوارحه ، فجاز تناول النهي لها أجمع.
أمّا إذا كانت
الحال حالا لا يصحّ خلوّه فيها من الأفعال ، فلا يمكن قبح جميعها ، وإلّا لزم أن
لا ينفكّ من القبيح ، وأن يكون معذورا فيه.
وقد يصحّ أن يقبح
منه كلّ أفعاله على وجه ، ويحسن على آخر ، فمن دخل زرع غيره على سبيل الغصب ، فله
الخروج بنيّة التخلّص ، وليس له التصرّف بنيّة الفساد ، ويصحّ أن يقبح بعض تصرّفه
على كلّ حال.
والنهي عن ضدّين
على الجمع يقبح من حيث يستحيل وجودهما معا ، فلا يقع من حكيم.
قال السيد المرتضى
: واعلم أنّه غير ممتنع في فعل أن يقبح لكون ما يسدّ مسدّه معدوما ، كما لا يمتنع
أن يكون صلاحا إذا كان غيره معدوما ، فغير ممتنع
على هذه الجملة أن
ينهى الحكيم عن فعلين مختلفين على التخيير والبدل ، بأن يقبح كلّ واحد منهما بشرط
عدم الآخر ، فلا يمكن القول بقبحهما جميعا على الإطلاق ، لأنّ الاشتراط الّذي
ذكرناه يقتضي أنّهما متى وجدا لم يقبح واحد منهما ، ومتى وجد أحدهما قبح لا محالة.
فالنّهي عن
المختلفين ـ إذا صحّ ما ذكرناه ـ على سبيل التخيير صحيح جائز وليس يجري المختلفان
في هذا الحكم ، مجرى الضّدّين ، لأنّ كلّ واحد من الضّدّين متى وجد ، وجب عدم
الآخر ، وما يجب (لا محالة) يبعد كونه شرطا في قبحه ، وهذا في المختلفين أشبه بالصّواب
، وكذا المتماثلان.
واعلم أنّ بعضهم
منع من تحريم أحد الأمرين لا بعينه ، وهو خطأ لإمكانه ، مثل : «لا تكلّم زيدا أو
عمرا فقد حرّمت عليك كلام أحدهما لا بعينه ، ولست أحرّم عليك الجميع ، ولا واحدا
بعينه».
وهذا أمر معقول لا
شكّ فيه.
احتجّ : بأن «أو»
في النّهي للجمع دون التخيير ، كقوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ
آثِماً أَوْ كَفُوراً).
وليس بشيء ، لأنّ
التّعميم هنا من خارج ، لا من الآية.
__________________
المقصد الخامس : في العموم والخصوص
وفيه أبواب
[الباب] الأوّل :
في العموم
وفيه فصلان :
الفصل الأوّل
في ألفاظه
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في تعريفه
قال أبو الحسين :
العامّ كلام مستغرق لجميع ما يصلح له ، لأنّه المعقول من كون الكلام عامّا ، فإنّ
قولنا : «الرّجال» عامّ من حيث استغرق جميع ما يصلح له ، وكذا لفظة «من» في
الاستفهام ، فإنّها تستغرق كلّ عاقل.
ولا يرد التثنية ،
مثل «رجلان» ولفظ العدد ك «ثلاثة رجال» فإنّ ذلك لا
يستغرق كلّ ما
يصلح له ، فإنّه يصلح لهذين الرّجلين ، ولهذين الآخرين ، وكذا «ثلاثة» يصلح لكلّ
ثلاثة من الرّجال ، ولا يستغرقها أجمع.
ولفظ النكرة ،
عامّ على البدل ، فلا يتناوله الحدّ من حيث الجمع ، ويتناوله من حيث البدل ، لأنّه
يتناول كلّ رجل على البدل.
قال : وقد زاد
قاضي القضاة ما احترز به عن التثنية والجمع ، فقال : [العموم] لفظ مستغرق لجميع ما
يصلح له في أصل اللّغة من غير زيادة ، فإنّ التثنية والجمع ، إنّما يكونان بزيادة
تدخل على الواحد.
واعترضه أبو
الحسين : بأنّه ينتقض بالعدد ، فإنّ قولنا : «عشرة» تستغرق آحادها بلا زيادة.
وأيضا ، يخرج منه
اسم الجنس ، إذا دخله اللّام ، مثل : الرّجل و «الرّجال» فإنّ لام الجنس زيادة
دخلت على الاسم .
(وفيه نظر ، فإنّ
العشرة وإن استغرقت أجزاءها إلّا أنها لا تستغرق جزئيّاتها ، ولا فرق بين العشرة
وكلّ لفظ يدلّ على معنى مركّب ، والغالب استعمال الزيادة في أجزاء الجملة) .
واعترض على أبي الحسين في حدّه بوجوه :
__________________
الأوّل : أنّه
عرّف العامّ بالمستغرق ، وهو مرادف ، وليس المراد تعريف اللّفظ.
الثاني : أنّه غير
مانع ، لدخول «ضرب زيد عمرا» ، فإنّه لفظ مستغرق لجميع ما هو صالح له ، وليس
بعامّ.
الثالث : يدخل فيه
«عشرة».
وفيه نظر ، للمنع
من الترادف في العامّ ، والمستغرق.
وقولنا : ضرب زيد
عمرا ، جملة من المحدود والمفرد.
وعشرة ، وإن
استغرقت آحادها ، لكنّها لا تستغرق كلّ عشرة ، فهي بمنزلة رجل ورجال.
وقال السيّد
المرتضى : العموم ما تناول لفظه شيئين فصاعدا .
وينتقض بالمثنّى
والجمع المنكّر ، وأسماء العدد ، إلّا أن يجعلها عامّة بالنّسبة إلى ما يندرج
تحتها.
وقال الغزّالي :
العامّ اللّفظ الواحد الدالّ من جهة واحدة على شيئين فصاعدا ، واحترزنا بقولنا : «من
جهة واحدة» عن قولهم : ضرب زيد عمرا ، وعن قولهم : ضرب زيد وعمرو فإنّه قد دلّ على شيئين ، لكن بلفظين لا بلفظ واحد ، ومن
جهتين لا من جهة واحدة.
__________________
واعترض بخروج «المعدوم» ، و «المستحيل» ، لأنّ مدلولهما ليس بشيء
، و «الموصولات» ، لأنّها ليست بلفظ واحد.
ويدخل فيه المثنّى
وأسماء العدد ، فإنّ عشرة ليست عامّة ، وهي مع اتّحادها تدلّ على شيئين فصاعدا.
وقيل : العام هو اللفظ الواحد الدالّ على مسمّيين فصاعدا مطلقا
معا.
فقولنا : «اللفظ»
وإن اشترك بين العامّ والخاصّ إلّا أنّه يفيد اختصاص العموم بالألفاظ ، لكونه من
عوارضها.
وقولنا : «الواحد»
احتراز عن مثل «ضرب زيد عمرا».
وقولنا : «الدّالّ
على مسمّيين» ليندرج تحته الموجود والمعدوم ، ويخرج عنه المطلق ، كرجل ودرهم ،
وأسماء الأعلام ، فإنّ النّكرة وإن صلحت لكلّ واحد ، إلّا أنّها لا تتناول الجميع معا
، بل على البدل.
وقولنا : «فصاعدا»
احتراز عن اثنين.
وقولنا : «مطلقا»
احتراز عن «عشرة» و «مائة» ونحوهما ، ولا حاجة إلى قولنا : «من جهة» واحدة في
الاحتراز به عن المشتركة والمجازيّة.
أمّا من يعتقد
العموم فيهما ، فلا يكون الحدّ مع هذا القيد جامعا.
__________________
وأمّا من لا
يعتقده ، فلأنّ المشترك غير دالّ على مسمّياته معا ، بل على طريق البدل ، وكذا
الحقيقة والمجاز.
وفي الحدّ ، ما
يمنع النقض بهما ، وهو قولنا : «الدالّ على مسمّيين معا» .
وقيل : «ما دلّ على مسمّيات باعتبار أمر اشتركت فيه مطلقا ضربة».
فقولنا : «اشتركت
فيه» ليخرج به نحو «عشرة» و «مطلقا» ليخرج المعهودون ، و «ضربة» ليخرج نحو «رجل».
وفيه نظر ، فإنّه
تعريف بالأخفى ، ومع ذلك فهو دوريّ لأنّ قوله : «مسمّيات» إن عنى به أنّها مسمّيات باسم
العامّ ، فهو خطأ ، وإن عنى به مطلق التسمية ، دخل فيه نحو عشرة ، ولا يخرج بقوله «باعتبار
أمر اشتركت فيه» فإنّ العشرة دلّت على مسمّيات باعتبار أمر اشركت فيه ، وهو
الانضمام.
وقال فخر الدين
الرازي : هو اللّفظ المستغرق لجميع ما يصلح بحسب وضع واحد ، فإنّ الرّجال مستغرق
لجميع ما يصلح له ، ولا يدخل عليه النكرات ، لعدم الاستغراق ، وكذا التثنية والجمع
، لصلوحهما لكلّ
__________________
رجلين ولكلّ ثلاثة
، ولا ألفاظ العدد ، لعدم استغراق الخمسة كلّ خمسة.
وخرج «بحسب وضع
واحد» المشترك والحقيقة والمجاز ، فإنّ عمومه لا يقتضي أن يتناول مفهوميه معا.
وفيه نظر ، فإنّ
المشترك لا يستغرق جميع ما يصلح له ، وكذا الحقيقة والمجاز.
وقيل : انّه اللّفظة الدالّة على شيئين فصاعدا ، من غير حصر ،
فخرج باللفظة ، المعاني العامّة ، والألفاظ المركّبة ، وبالدالّة : الجمع المنكّر
، فإنّه يتناول جميع الأعداد على وجه الصلاحيّة ، لا الدّلالة وعلى شيئين عن
النكرة المنفيّة ومن غير حصر أسماء الأعداد.
وفيه نظر ، فإنّ
الجمع المنكّر يدلّ على شيئين فصاعدا ، من غير حصر ، ودلالته على جميع الأعداد على
وجه الصّلاحية لا يخرجه عن دلالته على شيئين فصاعدا.
والأقرب : أنّ
العامّ هو اللّفظ الواحد المتناول بالفعل لما هو صالح له بالقوّة ، مع تعدّد
موارده.
فخرج بالواحد ،
نحو ضرب زيد عمرا ، وبالباقي النكرة ، ومع تعدّد موارده ، الدالّ على معنى واحد.
__________________
ولا ينتقض بأسماء
العدد ، لتناولها لما لا يتناهى من مراتبها قوّة وعدمه فعلا.
المبحث الثاني :
في معروضه
اختلف الناس في
أنّ العموم هل هو من عوارض المعاني ، بعد اتّفاقهم على أنّه من عوارض الألفاظ
حقيقة؟
فقال قوم ـ وهم
الأكثر ـ : إنّه ليس حقيقة فيها ، وهو اختيار أبي الحسين البصري والغزالي والسيّد المرتضى وجماعة من المحقّقين.
وقال الأقلّ :
إنّه حقيقة فيها.
والذين منعوا
الإطلاق حقيقة اختلفوا في الإطلاق مجازا ، فنفاه قوم ، وأثبته آخرون.
لنا : أنّه لو كان
حقيقة في المعنى لاطّرد ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
والشرطيّة ظاهرة ،
لكونها من علامات الحقيقة.
وأمّا بطلان
التّالي فظاهر إذ لا يوصف شيء من المعاني الخاصّة الواقعة في امتداد الإشارة إليها
، كزيد وعمرو ، بكونه عامّا لا حقيقة ولا مجازا.
__________________
وفيه نظر ، فإنّا
لم نجعل العموم من عوارض كلّ معنى ، حتّى ينتقض بمثل زيد وعمرو ، بل جعلناه عارضا
لكلّ كليّ ذي أفراد متعدّدة ، فلا يرد ما ذكرتموه نقضا.
وأيضا ، فإنّ
أسماء هذه المعاني لا يعرض لها العموم حقيقة ولا مجازا ، فإن كان عدم اطّراده في
المعاني يبطل عروضه لها حقيقة كان عدم اطّراده في الألفاظ يبطل عروضه لها حقيقة ،
كان عدم اطّراده في الألفاظ ، يبطل عروضه لها حقيقة أيضا.
واحتجّ المثبتون :
بأنّ أهل اللّغة أطلقوا إطلاقا شائعا : عمّ العطاء ، والإنعام ، والخصب ، والخير ،
والمطر وغيرها ، وهذه الأمور من المعاني ، لا من الألفاظ ، والأصل في الإطلاق
الحقيقة.
أجيب : بأنّ من
لوازم العامّ أن يكون متّحدا ، ومع اتّحاده متناولا لأمور متعدّدة من جهة واحدة.
والعطاء الحاصل لزيد ، غير الحاصل لعمرو ، وكذا المطر وغيره ، بخلاف اللفظ الواحد
كالإنسان ، وحقيقة عموم المطر والخصب أن يكون بجملته حاصلا لكلّ واحد منهم ، وهو
مستحيل بل جملة المطر يحصل بجملة النّاس وأجزاؤه لأجزائهم.
أمّا لفظ «المشركين»
، فإنّ تناوله لهذا ولهذا على حدّ واحد ، وليس يتناول جزء منه لشخص وجزء منه لآخر
، وليس في الوجود فعل واحد هو عطاء ، وتكون نسبته إلى زيد وعمرو واحدة ، وإن كانت
حقيقته واحدة في العقل .
__________________
وكذا الرّجل ، له
وجود في الأعيان وفي الأذهان وفي اللّسان.
فالعينيّ لا عموم فيه ، إذ ليس في الوجود رجل مطلق ، بل إمّا زيد ،
وإمّا عمرو ، وليس يشملهما شيء واحد ، وهو الرجوليّة.
وأمّا في اللسان ،
فلفظ الرّجل قد وضع للدلالة ، ونسبته إلى زيد وعمرو في الدّلالة واحدة ، فيسمّى
عامّا باعتبار نسبة دلالته إلى المدلولات.
وأمّا الذهنيّ ،
فالرّجل يسمّى كليّا من حيث إنّ العقل إذا شاهد صورة زيد استفاد معنى الرّجل ،
فإذا رأى عمرا لم يستفد منه صورة أخرى ، وكان ما أخذه أوّلا نسبته إلى عمرو
المتحدّد كنسبته إلى زيد الأوّل ، فهذا معنى كليّته ، ويجوز أن يسمّى عامّا بهذا
الاعتبار ، من حيث إنّه متّحد ومطابق لماهيّته لمعاني الجزئيّات المندرجة تحته ،
من جهة واحدة ، كمطابقة اللّفظ العامّ لمدلولاته.
وإذا كان عروض
العموم للفظ (العامّ لموازاته) إنّما كان لمطابقته مع اتّحاده للمعاني الدّاخلة تحته من
جهة واحدة ، فهذا بعينه متحقّق في المعاني الكليّة بالنسبة إلى جزئيّاتها ، فصحّ إطلاق العموم عليها ، لكن بنوع من المجاز.
__________________
المبحث الثالث :
في الفرق بين المطلق والعامّ
اعلم أنّ كلّ شيء
متحقّق في الأعيان أو متصوّر في الأذهان ، فإنّ له ماهيّة وحقيقة
يتميز بها عما عداه ، ويكون هو بها ما هو ، لا يشاركه فيها غيره.
ثمّ تلك الحقيقة ،
يعرض لها عوارض ، وتتّصف بأمور ، وتلك العوارض والأمور غير داخلة في الحقيقة ، بل
خارجة عنها ، والمفهوم من تلك الحقيقة ، يكون مغايرا للمفهوم من تلك الأمور ، سواء
كانت تلك الأمور من اللوازم ، أو من العوارض المفارقة ، وسواء كانت إيجابا أو
سلبا.
فإذا تقرّر هذا
فنقول : المطلق هو اللّفظ الدالّ على تلك الحقيقة من حيث هي هي ، لا باعتبار كونها
واحدة أو كثيرة ، أو عامّة أو خاصّة ، بل ولا من حيث هي مجرّدة عن تلك الاعتبارات
، فإنّ اعتبار تجرّدها مغاير لاعتبارها من حيث هي هي.
فالإنسان ، من حيث
هو إنسان ، لا واحد ، ولا كثير ، ولا عامّ ، ولا خاصّ ، بل صالح لعروض أيّ هذه
الأمور فرض.
فالحيوان إذا أخذ
من حيث هو ، كان مطلقا وإذا أخذ باعتبار عروض العموم ، كان عامّا ان لم تكن الكثرة
معيّنة ، وكانت شاملة ، وإن كانت معيّنة ، فهو اسم العدد ، وإن لم تكن معيّنة ولا
شاملة ، فهو الجمع المنكّر ، فإذن العامّ أخصّ من المطلق.
__________________
والفرق بينهما ،
فرق بين أخذ الماهيّة صالحة للعروض وأخذها مع العروض.
والفرق بين المطلق
والنكرة ، ظاهر ، فإنّ المطلق هو اللّفظ الدّالّ على الماهيّة ، لا باعتبار الوحدة
، ولا الكثرة ، وإن كانت لا تنفكّ عنهما.
والنكرة لفظ دالّ
على الماهيّة بقيد وحدة غير معيّنة ، ويسمّى الشخص المنتشر.
وبهذا ظهر فساد
قول من ظنّ أنّ المطلق هو الدالّ على واحد لا بعينه ، فإنّ كونه واحدا ، وكونه غير
معيّن قيدان زائدان على الماهيّة.
المبحث الرّابع :
في أقسام العامّ
المفيد للعموم
إمّا أن تكون إفادته لغة ، أو عرفا ، أو عقلا.
والأوّل : إمّا أن
يفيده على الجمع أو على البدل.
والّذي يفيده على
الجمع ، إمّا أن يفيده لكونه اسما موضوعا للعموم ، أو لأنّه اقترن به ما أوجب
عمومه.
والموضوع للعموم ،
إمّا أن يتناول «العالمين» خاصّة ك «من» في المجازاة ، والاستفهام.
أو غير العالمين
خاصّة : إمّا الجميع ، وهو «ما».
وقيل : إنّها تتناول «العالمين» [كقوله تعالى :](وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أو البعض ، ك «متى» المختصّة بالزّمان ، و «أين» و «حيث»
المختصّتين بالمكان.
وأمّا المفيد
للعموم باعتبار الدّاخل عليه : فإمّا في الثبوت ، وهو «لام الجنس الداخلة على
الجمع» كالرّجال ، والإضافة كعبيدي.
وإمّا في العدم
كالنكرة المنفية.
وأمّا المفيد
للعموم على البدل ، فالنكرة المثبتة ، على اختلاف مراتبها في العموم والخصوص.
والمفيد للعموم
عرفا كقوله [تعالى] : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) فإنّه يفيد عرفا تحريم جميع وجوه الاستمتاع.
والمفيد عقلا
ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
اللّفظ مفيدا للحكم وعلّته ، فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلّة.
الثاني : أن يكون
المفيد للعموم ما يرجع إلى سؤال السائل ، مثل : أن يسأل [النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم] عمّن أفطر؟ فيقول : «عليه الكفّارة» فنعلم العموم لكلّ
مفطر.
__________________
الثالث : دليل
الخطاب عند من يقول به كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في سائمة الغنم زكاة» فإنّه يدلّ على النفي في كلّ ما
ليس بسائمة.
واعلم أنّ اللّفظ
إمّا خاصّ مطلقا ، وهو ما يمنع فيه الشركة ، كزيد ، وعمرو.
وإمّا عامّ مطلقا
، كالمعلوم ، والمذكور ، إذ لا يخرج منه معدوم ، ولا موجود.
وإمّا عامّ وخاصّ
بالإضافة ، كالمؤمنين ، فإنّه عامّ باعتبار شموله لآحاد المؤمنين ، وخاصّ بالإضافة
إلى جملتهم ، فإنّه يتناولهم خاصّة دون المشركين ، فهو عامّ باعتبار شموله لما
شمله ، وخاصّ باعتبار اقتصاره على ما شمله ، وقصوره عمّا لم يشمله.
ومن هنا قيل : ليس في الألفاظ عامّ مطلق ، فإنّ المعلوم لا يتناول
المجهول ، والمذكور لا يتناول المسكوت عنه.
المبحث الخامس :
في إثبات صيغته
اختلف النّاس في
ذلك ، فذهبت المرجئة إلى أنّ العموم لا صيغة له تخصّه في لغة العرب ، وهو مذهب
السيد المرتضى .
وذهب جماعة من
المعتزلة والشافعي وكثير من الفقهاء إلى أنّ للعموم
__________________
صيغة تخصّه وهي
أقسام يأتي بيانها إن شاء الله تعالى.
وذهب آخرون إلى
أنّ كلّ صيغة يدعى فيها العموم ، فهي للخصوص حقيقة ، ومجاز فيما عداه.
ونقل عن الأشعري
مذهبان :
الاشتراك بين
العموم والخصوص ، والوقف.
ووافقه القاضي أبو
بكر على الوقف.
ومن الواقفيّة من فصّل بين الإخبار ، والوعد ، والوعيد ، والأمر ،
والنّهي ، فقال بالوقف في الإخبار والوعد والوعيد ، دون الأمر والنّهي.
لنا : المعقول ،
والمنقول.
أمّا المعقول ،
فوجهان : القدرة على وضع الألفاظ للعموم ثابتة بالضّرورة ، والدّاعي موجود ، إذ
الحاجة ماسّة إلى إعلام الغير معنى العموم وإلى التّعبير عنه ، ليفهم السّامع ،
أنّ المتكلّم قصده ، وهو معنى ظاهر مشهور بين النّاس تكثر مزاولتهم له ، ويحتاجون
فى أكثر محاوراتهم إليه ، ولا مفسدة فيه ، ولا مانع من عقليّ أو نقليّ.
وإذا ثبتت القدرة
على الفعل والدّاعي ، وانتفى الصّارف ، وجب وجود الفعل.
__________________
اعترض الغزالي
عليه : بأنّه قياس في اللّغة.
سلّمنا الوجوب ،
لكن نمنع عصمة الواضع ، حتّى لا يخالف الحكمة.
سلّمنا ، لكن نمنع
عدم الوضع ، فإنّ المشترك موضوع ولا يخرج عن الوضع باشتراكه.
والجواب : أنّا لم
نستدلّ بما ذكرناه على أنّه قياس ، بل استدللنا بوجود العلّة على وجود المعلول ،
ولا نفي بالواجب هنا ، الّذي يستحقّ تاركه الذّمّ ، حتّى يشترط العصمة ، وإذا
ضممنا إلى دليلنا أنّ الأصل عدم الاشتراك ، تمّ المطلوب.
الثاني : معنى
العموم ظاهر مشهور ، يجري مجرى «السّماء» و «الأرض» وغيرهما في ظهورهما ، وشدّة
الحاجة إلى العبارة عنهما ، ولا مانع هناك من الوضع ، وكما لم يجز مع هذه الأوصاف
أن تتوالى الأعصار لأهل اللّغة ، ولا يضعوا للسّماء والأرض لفظا يخصّ كلّ واحد
منهما ، مع أنّهم قد وضعوا الأسماء للمعاني ، ولما لا حاجة شديدة إليه ، بل قد
وضعوا للمعنى الواحد ألفاظا كثيرة ، كذا لا يجوز أن يهملوا الاستغراق ، ولا يضعوا
له أسماء تدلّ عليه ، وكيف يجوز من الامم العظيمة في الأعصار المترادفة
ان يضعوا الأسماء الكثيرة للمعنى الواحد ، وأن يضعوا ألفاظا لاصطلاحات
__________________
خاصّة ، ويعدلوا
عن وضع لفظ يختص معنى ظاهرا.
لا يقال : لا
يمتنع من الأمم إهمال ذلك ، فإنّ العرب مع كثرتها ، لم يضعوا الفعل الحال عبارة
تخصّه دون الفعل المستقبل ، ولا وضعوا للاعتماد سفلا ، ولا للاعتماد علّوا ، ولا
لرائحة الكافور ، ولا للكون يمنة ويسرة ألفاظا تخصّها ، مع ظهورها وشدّة الحاجة
إلى التعبير عنها.
لأنّا نقول : أجاب
قاضي القضاة بمنع ظهورها ، فلذلك لم يضعوا لها ألفاظا.
اعترضه ابو الحسين
بأنّه لا شيء أظهر من رائحة الكافور ومفارقتها لرائحة المسك ، والاعتماد
والمدافعة.
ثمّ أجاب : بأنّا
أوجبنا للشيء الظاهر عبارة تدلّ على التعبير عنه إمّا مفردة أو مركّبة ، وعند
خصومنا ليس في اللّغة كلام مفرد لا مركّب يدلّ على الاستغراق وحده.
وهذه الأشياء لها
عبارات تعرف بها ، وهي أسماء مضافة ، فإذا قلنا : «رائحة المسك» و «الاعتماد سفلا»
أو «علوّا» أو «يضرب الآن» تميّزت هذه المعاني من غيرها.
ثمّ اعترض نفسه :
بأنّ الاشتراك بين الاستغراق والبعض ، معنى معقول تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ،
وتدعو الضّرورة إلى أن يجعل المتكلّم غيره في
شكّ من استغراق
كلامه أو قصره على البعض ، فينبغي أن يكون في اللّغة لفظ يفيده.
وأجاب بحصول ذلك
بالترديد ، فيقول : «جاءني إمّا كلّ الناس أو بعضهم».
فإن قالوا : إنّ
في اللّغة ما يفيد الاستغراق ، وهو قولنا : «استغراق».
قلنا : مذهبكم
خلاف ذلك ، وهو : أنّ حسن الاستفهام ، والتأكيد ، والاستثناء ، يدلّ على عدم
الاستغراق ، ونحن نعلم حسن «استغرقت أكل الخبز إلّا هذا الرغيف» ويحسن الاستفهام
والتأكيد فيقول : «استغرقت أكل الخبز كلّه».
لا يقال :
الاستغراق يستغنى عنه بأن يعدّد المتكلّم الأشخاص الدّاخلين تحت حكمه.
لأنّا نقول : قد
يريد الإنسان أن يعبّر عن جميع الناس ، ليدلّ على حكم شامل لهم ، ويمتنع أن يعدّهم
واحدا واحدا ، ولا يكفي التعليل في التعميم مثل : «كلّ من دخل داري ضربته ، لأنّه
دخل داري» لخفاء علل أكثر الأحكام ، كما إذا أراد أن يخبر بأنّ كلّ إنسان في الدار
نائم ، أو ضارب ، وغيرهما ممّا يكثر تعدّده ، لم تعرف علّة ذلك ، وقد تختلف العلل
بالنسبة إلى الأشخاص ، فلا يمكن تعميم العلّة فيهم.
لا يقال : إنّما
يلزم ذلك لو كانت اللّغة وضعيّة ، حتّى إذا وضعوا أسماء
__________________
لغرض هو قائم في
الاستغراق ، وجب أن يضعوا له كلاما أيضا ، ولا يلزم لو كانت توقيفيّة.
لأنّا نقول : على
تقدير التوقيف يجب إذا لم يوقفوا على وضع كلام لمعنى تشتدّ حاجتهم إلى التعبير عنه
أن يضعوا له ، كما أنّ المستحدث للصّناعة يلتجئ إلى وضع اسم لها ، وإن كان أصل
الوضع ليس له ، وكذا من ولد له ولد ، وإذا وجب ذلك في الشخص الواحد ، فالأمم
الكثيرة في الأزمنة المتطاولة المتّصلة ، أولى بوجوب ذلك .
وأمّا المنقول فمن
وجوه :
الأوّل : لو كانت
الألفاظ الّتي يدعى عمومها مشتركة بين العموم والخصوص ـ كما ذهب إليه القائلون
بأنّه لا صيغة للعموم تخصّه ـ لكان التأكيد يزيد الاشتباه ، والتّالي باطل
بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه إذا قال : «رأيت القوم كلّهم أجمعين» يكون قد أكّد لفظة «كلّ» وهي مشتركة بين
الاستغراق ، وما تحته من الجموع ، والتأكيد يفيد تقوية المعنى ، فيلزم زيادة
الالتباس والإبهام ، وهو باطل قطعا ، للعلم بأنّ مقاصد اللّغة في ذلك الإيضاح ،
دون تأكيد الاشتراك.
ولو أرادوا تأكيد
الإبهام ، لم يعمدوا إلى هذا التأكيد.
ولفظة «أجمعين»
عندهم مشتركة أيضا ، وكلّ من دلّ على شيء
__________________
بدلالة ، ثمّ تابع بين الأدلّة عليه ، فإنّه يتأكّد ذلك المدلول ،
وجرى قولنا : «رأيت القوم كلّهم أجمعين» مجرى «رأيت جمعا إمّا كلّ القوم أو بعضهم»
ثمّ تكرّر هذا الكلام مرّة أخرى ، في أنّه يؤكّد الالتباس.
الثاني : لو كانت
لفظة «كلّ» وما أشبهها من ألفاظ العموم ، للاشتراك بين الاستغراق والبعض ، لجاز أن
تكون لفظة «كلّ» مؤكّدة للاستغراق ، والتالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ كلّ واحدة من هذه الألفاظ حقيقة في الكلّ ، وحقيقة في البعض ، فلو جاز أن
يتأكّد باللفظة [الثانية] «الكلّ» ، جاز أن يتأكّد بها البعض.
لا يقال : إنّ
لفظة «كلّ» و «أجمعين» أكثر استعمالا في الاستغراق من غيره.
لأنّا نقول : إن
كانت حقيقتها الاستغراق خاصّة ، فهو مذهبنا ، وإن كانت مشتركة ، لزم ما قلناه ولا
يلزم من غايتها زوال الاشتراك ، والّا فهو مطلوبنا.
لا يقال : إذا قال
: «رأيت النّاس كلّهم أجمعين» علمنا أنّه رأى أكثر ممّا لو قال : «رأيتهم كلّهم»
أو «رأيتهم أجمعين».
لأنّا نقول : إذا
كانت كلّ واحدة من لفظتي : «كلّ» و «أجمعين» لا يفيد هذه
__________________
الكثرة ، وجب على
الاجتماع مثله ، لأنّ المركّب من الكلام إنّما يفيد تركيب معان مفردة فقط ، دون
شيء زائد.
الثالث : قال قاضي
القضاة : الّذي يفسد قول الذاهبين إلى أنّ «لفظ العموم مشترك بين الاستغراق وبين
ما دونه» أنّ أهل اللّغة فصّلوا بين لفظ العموم وبين النّكرة المثبتة ، كرجل ، ولن
يتمّ ذلك إلّا مع القول بأنّ في العموم ضربا من الاستغراق.
واعترض : بأنّ ذلك يتمّ من دون ما ذكره ، لأنّ النكرة في الإثبات
تتناول واحدا غير معيّن ، ولفظ «العموم» يفيد الجمع المستغرق وغير المستغرق على
البدل.
الرابع : فرّق أهل
اللغة من تأكيد العموم وتأكيد الخصوص ، فقالوا : «رأيت زيدا نفسه» ولم يقولوا : «أجمعين»
وقالوا : «رأيت القوم أجمعين» ولم يقولوا : «نفسه» ، فكما اختلف التأكيد لا بالقصد
، كذا يجب اختلاف المؤكّد لا بالقصد.
وهذه الدلالة يبطل
بها قول من جعل اللّفظ العامّ للخصوص خاصّة ، لا للجمع المشترك بين كلّ الجموع ، ولا يقع على
الواحد إلّا مجازا.
الخامس : كلّ من
أراد أن يخبر عن الاستغراق فلا بدّ له من استعمال هذه
__________________
الألفاظ الّتي يدّعى
أنّها للعموم ، فيجب أن تكون موضوعة له ، لأنّه لا مندوحة عنها ، وجرى مجرى كلّ
الحقائق الّتي يفزع [فيها] إلى العبارات الموضوعة لها.
احتجّ منكرو
العموم : بأنّ العلم بكون هذه الصّيغ موضوعة للعموم ، إمّا أن يكون عقليا ، وهو
محال ، إذ لا مجال للعقل في الوضع ، وإمّا أن يكون نقليّا ، وهو باطل ، إذ لا
تواتر ، وإلّا لعرفه الكلّ ، والآحاد لا تفيد التّعيين ، بل الظنّ ، والمسألة
علميّة ، فلا يجوز الاستدلال فيها بالظّنّ.
والجواب : المنع
من كونه غير معلوم ، فإنّ كلّ من استقرأ اللّغات ، علم بالضّرورة أنّ لفظة «كلّ» و
«جميع» للعموم.
سلّمنا ، لكن نعلم
بالعقل ، وله مجال في اللّغات بواسطة مقدّمات نقليّة.
سلّمنا ، لكن جاز
التمسّك في هذه بالآحاد.
ونمنع كونها
علميّة.
واحتجّ القائلون
بالخصوص بوجوه :
الأوّل : الخصوص
متيقّن ، والعموم محتمل ، فحمله على المتيقّن أولى.
الثاني : غالب استعمال
هذه الصيغ في الخصوص كما يقال : جمع السلطان ، التّجار ، والصّنّاع ، وكلّ صاحب
حرفة ، وأنفقت دراهمي ، وغير ذلك ، والأصل ، صرف الأغلب إلى الحقيقة.
الثالث : إذا قال
السيّد لعبده : «أكرم الرجال ، ومن دخل داري فاعطه درهما» فإنّه لا يحسن منه
الاستفسار عن إرادة البعض من ذلك ، ويحسن
الاستفسار عن
إرادة الجميع ، وجعل الصيغة حقيقة فيما لا يحسن الاستفسار عنه ، أولى ممّا يحسن ،
لأنّ الاستفهام ، طلب الفهم ، وطلب الفهم عند حصول المقتضي للفهم عبث ، لكنّ من
المعلوم حسن أن يقول العبد : كلّ الرجال أكرمهم وكلّ داخل أعطيه أو بعضهم حتّى الفسّاق.
الرابع : لو كان
قوله : «رأيت الرّجال» مثلا للعموم ، لكان إذا أريد به الخصوص ، يلزم كذب المخبر ،
كما لو قال : «رأيت عشرين» وكان قد رأى عشرة بخلاف ما إذا كانت للخصوص ، وأريد بها
العموم.
الخامس : لو كانت
للعموم ، لم يفد تأكيدها شيئا غير ما أفادت ، وذلك عبث.
السادس : لو كانت
للعموم ، لكان الاستثناء نقضا لإفادة الاستغراق بأوّل الكلام ، ثمّ بالاستثناء رجع
عن تلك الإفادة ، كما لو قال : «ضربت كلّ من في الدّار» ثمّ يقول : «لم أضرب كلّ
من في الدّار».
ولأنّ العموم لو
استغرق ، لكان قوله : «ضربت الكلّ» بمنزلة «ضربت زيدا وعمروا وخالدا» ثمّ يقول : «إلّا
زيدا» ، ولمّا لم يحسن هنا ، فكذا ثمّ ، ولمّا حسن ثمّ ، دلّ على أنّها ليست
للاستغراق.
السابع : لو كانت
للعموم ، لما صحّ جمعها ، فإنّ الجمع يفيد ما لا يفيده المجموع ولا كثرة بعد الاستغراق ، فلا يجمع.
__________________
والتّالي باطل ،
لقولهم : «منان ، منون» .
الثامن : يصحّ
إدخال لفظي «كلّ» و «بعض» على ما ادّعيتم عمومه ، مثل : «كلّ من دخل داري أكرمه ،
وبعض من دخل» من غير تكرير ولا نقض.
والجواب عن الأوّل
: المنع من تيقّن الخصوص ، وإلّا لم يكن العموم محتملا ، وأنتم قد اعترفتم به.
سلّمنا ، لكنّ ذلك
لا يدلّ على أنّه حقيقة في الخصوص ، فإنّ الثلاثة متيقّنة الإرادة من العشرة ، ولا
يلزم كون لفظة «العشرة» حقيقة في الثلاثة ومجازا في الزائد.
لا يقال : الزيادة
على الثلاثة في العشرة متيقّنة.
لأنّا نقول : لو
كانت متيقّنة ، لامتنع الاستثناء.
والحاصل ، أنّ
الخصوص إن كان كلّ المراد ، لم يكن متيقّنا ، وإن كان مرادا في الجملة ، لم يدلّ
على الوضع له.
سلّمنا ، لكن
يعارض بكونه حقيقة في العموم ، إذ من المحتمل أن يكون مراد المتكلّم العموم ، فلو
حمل لفظه على الخصوص ، لم يحصل مراده ، ولو أراد الخصوص ، حصل مقصوده لو حمل على
العموم ، وليس أحدهما أولى من الآخر.
__________________
وعن الثاني :
بالمنع من كونها للخصوص في الأمثلة.
سلّمنا ، لكن نمنع
عليه الاستعمال.
وما ذكرتموه من
الأمثلة وغيرها نادر بالنّسبة إلى مظانّ العموم في هذه الصّيغ.
سلّمنا ، لكنّ الغلبة
لا تدلّ على الحقيقة ، فإنّ المجازات العرفيّة غالبة ، ولم تخرج عن كونها مجازات
فيما غلب استعمالها فيه.
وعن الثالث : حسن
الاستفهام عن إرادة العموم لا يخرج الصّيغة عن كونها حقيقة في العموم إذ التأكيد
أمر مطلوب ، كما إذا قال : «رأيت السّلطان» حسن أن يستفهم هل رأيت السلطان نفسه أو
أتباعه.
وعدم حسن
الاستفهام عن البعض لتيقّنه لا يقتضي كونه حقيقة فيه.
ولو كان حسن
الاستفهام لأجل الاشتراك ، لوجب أن لا يحسن الجواب إلّا بعد الاستفهام عن جميع
الأقسام الممكنة.
ثمّ نقول :
الاستفهام إمّا أن يقع ممّن يجوز عليه السهو ، أو ممّن لا يجوز عليه والأوّل قد
يحسن لغير ما ذكرتم :
الأوّل : ربّما
ظنّ السّامع أنّ القائل غير متحفّظ في كلامه ، أو هو كالساهي ، فيستفهمه حتّى إن
كان ساهيا زال سهوه ، فأخبر عن تيقّظ ، ولهذا يحسن أن يجاب عن الاستفهام بعين ما
وقع عنه الإخبار.
__________________
الثاني : قد يظنّ
السّامع لأجل أمارة أنّ المتكلّم أخبر بالعامّ عن جماعة على سبيل المجازفة ،
وتشتدّ عناية السامع الى المعرفة فيستفهم ، ليعلم المتكلّم شدّة اهتمامه فلا يجازف
بكلامه.
ولهذا إذا قال :
رأيت كلّ من في الدار ، فيقال : أرأيت زيدا فيهم؟ فإذا قال : نعم ، زالت التهمة ،
لقلّة احتمال الخاصّ ، وقد لا يتحقّق من قرينة فتدعوه معرفته لشدّة اهتمام السائل إلى أن يقول : لا أتحقّق رؤيته.
الثالث : قد
يستفهم طلبا لقوّة الظّنّ.
الرابع : أن توجد
قرينة تقتضي التخصيص ، مثل ما لو قال : ضربت كلّ من في الدار ، وكان فيها الوزير ،
فإنّ الظنّ يقضي بعدم ضربه ، ومع التعارض يحتاج إلى الاستفهام ، ليقع الجواب [عنه]
بخاصّ لا يقبل التخصيص.
وأمّا إن وقع ممّن
لا يجوز عليه السّهو فذاك لأنّ دلالة الخاصّ أقوى ، فيطلب الخاصّ بعدم العامّ ، تحصيلا
لتلك القوّة.
وعن الرابع : أنّ
الكذب إنّما يلزم لو لم يرد المجاز مع صلوحه ، كما لو قال : «رأيت أسدا» بخلاف
العشرة والعشرين ، فإنّ لفظة العشرين ، لم توضع للعشرة ، حقيقة ولا مجازا.
__________________
وعن الخامس : انّ
المراد بالتأكيد التقوية والعلم بعدم مجازفة المتكلّم ، وعدم إرادة التخصيص.
وأيضا ، المتكلّم
إمّا أن يجوز عليه السّهو ، فيحسن التأكيد ، لما تقدّم ، أولا يجوز ، فيفيد قوّة
الظّن ، ويعارض بجواز تأكيد المتخصّص ، مثل : جاء زيد نفسه ، وتأكيد ألفاظ العدد
مثل : عشرة كاملة ، ولأنّ التأكيد تقوية ما كان حاصلا ، فلو كان الحاصل هو
الاشتراك لتأكّد ذلك الاشتراك على ما مرّ تقريره.
لا يقال : التأكيد
يعيّن اللّفظ لأحد مفهوميه.
لأنّا نقول : إنّه
حينئذ يكون بيانا لا تأكيدا.
وعن السادس :
النّقض بالفاظ العدد ، فإنّها صريحة في ذلك العدد ، مع صحّة الاستثناء منه ،
والفرق بين الاستثناء والنّقض : أنّ الاستثناء كالجزء من الكلام ، لعدم استقلاله ،
فيجب تعلّقه بما تقدّم ، فتصير الجملة شيئا واحدا ، يفيد إرادة ما عدا المستثنى ، بخلاف
«ضربت كلّ من في الدّار ، لم أضرب كلّ من في الدّار» لاستقلال كلّ من الكلامين
بنفسه ، فلا حاجة إلى تعلّقه بما تقدّم عليه ، وإذا لم يتعلّق به ، أفاد الأوّل
ضرب الجميع ، والآخر نفيه وكان نقضا.
وأمّا الثاني :
فلا جامع فيه.
ثمّ الفرق : أنّ
الاستثناء إخراج بعض من كلّ ، بخلاف «ضربت زيدا وعمرا إلّا زيدا» لانصراف إلّا
زيدا ، إلى زيد ، لا إلى عمرو ، لأنّ زيدا ليس بجزء منه ، ولا إليهما معا ،
لاستقلال كلّ منهما بنفسه ، ولا يشملهما لفظ واحد ، وهو كلّ
(لهما) فيكون الاستثناء قد دلّ على أنّ لفظة «الكلّ» مستعملة فيما
عداه ، فصار نقضا.
بخلاف «رأيت كلّ
الناس إلّا زيدا».
وأيضا ، كونه
حقيقة في الاستغراق لا ينافي جواز التجوّز بغيره ، والاستثناء دليل على عدم
استعمال المجاز فيه.
ثمّ نقول : ظاهر
العموم الاستغراق مع التجرّد عن الاستثناء ، أو مع عدمه ، فإن قالوا بالأوّل ولم
يتجرّد في الاستثناء ، فلا يكون نقضا ، وإن قالوا بالثاني منعنا ذلك ، على أنّ
العموم إنّما يستغرق ما دخل عليه ، فإذا كان معه استثناء ، فهو داخل على ما عدا
المستثنى ، وهو مستغرق له ، ولم يكن الاستثناء نقضا ، فإنّه لا فرق بين قولنا : «كلّ
من في الدار الّا بني تميم» وبين قولنا : «كلّ من في الدار من غير بني تميم» لأنّ
كلّ واحد منهما يفيد عموم الحكم فيمن عدا بني تميم ، وحينئذ لم يستعمل كلّ في غير
ظاهرها ، ولا يكون الاستثناء نقضا.
والحاصل : أنّ
العموم فيما عدا المستثنى كالمقيّد بالشرط والصفة ، وكما لا يصحّ العموم المشروط ،
كذا العموم المستثنى بعضه.
وعن السابع : أنّه
ليس بجمع في الحقيقة ، على ما اتّفق عليه أهل اللّغة ، وإنّما هو إشباع الحركة ،
وإلحاق زيادة النّون.
__________________
سلّمنا كونه جمعا
، لكن قال سيبويه : إنّه إنّما تجمع حالة الوقف ، إذا حكي بها الجمع المنكّر
، وحينئذ لا تكون للعموم.
وعن الثامن : أنّ
لفظ العموم قد استعمل في غيره مجازا من غير نقض ، وقد يؤكّد ، فلا يكون مكرّرا.
احتجّ القائلون
بالاشتراك بوجهين :
الأوّل : الألفاظ
الّتي يدّعى عمومها ، قد استعمل في العموم تارة ، ولا نزاع فيه ، وفي الخصوص أخرى
، فإنّ من قال : «من دخل داري وهبته» قلّما يريد به العموم ، والاستعمال دليل
الحقيقة في كلا المعنيين ، فيكون مشتركا ، فإنّ الظاهر من استعمال اللفظ في شيء
كونه حقيقة فيه ، لأنّه الأصل ، وإلّا لتعذّر علينا الحكم بكون اللفظ حقيقة في شيء
، إذ لا طريق سواه.
ولأنّه لو لم يكن
حقيقة في العموم والخصوص ، لكان مجازا في أحدهما ، واللفظ لا يستعمل في المجاز
إلّا مع قرينة ، والأصل بخلافه.
ولأنّ القرينة إن
عرفت ضرورة ، امتنع وقوع الخلاف فيها ، ولا تعرف نظرا ، لأنّا لمّا نظرنا في أدلّة
المثبتين لهذه القرينة ، لم نجد فيها ما يعوّل عليه.
الثاني : حسن
الاستفهام عن إرادة الجميع أو البعض ، يدلّ على اشتراكه فيهما.
__________________
والجواب عن الأوّل
: إن ادّعيت أنّ الاستعمال لا يكون إلّا مع الحقيقة ، بطل المجاز ، وإن سلّمت جواز
اقترانه مع المجاز ، لم يبق مطلق الاستعمال دليلا على الحقيقة.
لا يقال :
الاستعمال مع كون المجاز على خلاف الأصل ، دليل على الحقيقة.
لأنّا نقول : قولك
: «المجاز على خلاف الأصل» ظنيّ ، والمسألة عندك علميّة.
وأيضا ، فالاشتراك
على خلاف الأصل أيضا ، والمجاز خير منه عند التّعارض.
وفساد طريق آخر
على كون اللفظ حقيقة ، لا يدلّ على صحّة هذا الطريق ، أعني الاستعمال.
لأنّا قد بيّنا
فساده ، فلا يصير صحيحا لفساد غيره (ونمنع انحصار الطريق).
والضروريّ قد
ينازع فيه الأقلّ ، وأكثر أهل اللغة سلّموا العموم.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّه لم يوجد ما يدلّ على المجاز في الخصوص ، وعدم الوجدان لا يدلّ على عدم
الوجود.
والسيّد المرتضى
على هذا عوّل وكلامه يدلّ على المطالبة بالدلالة
__________________
على كون هذه
الصّيغة مجازا في الخصوص ، مع أنّه شرع في الاستدلال على كونها مشتركة بين العموم
والخصوص .
وعن الثاني : ما
تقدّم ، من أنّ حسن الاستفهام لا يدلّ على الاشتراك.
احتجّ القائلون
بالتعميم في الأمر والنّهي دون الخبر ، بانعقاد الاجماع على التكليف بأوامر عامّة
ونواه عامّة ، فلو لم يكن الأمر والنّهي للعموم ، لما عمّ التكليف ، أو كان تكليفا
بما لا يطاق.
أمّا الخبر ، فليس
بتكليف ، ولأنّه يجوز وروده بالمجهول من غير بيان ، كقوله [تعالى] : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ
قَرْنٍ).
والجواب : لا فرق
بين الأمر والخبر ، فإنّه كما وقع التكليف بأوامر عامّة ، كذا وقع التكليف بمعرفة
، بالأخبار العامّة مثل : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، وكذلك عمومات الوعد والوعيد ، للانزجار عن المعاصي ،
والانقياد إلى فعل الطّاعات.
وإذا تساوى
التكليف ، فلا فائدة في الفرق بين الأمر والخبر.
__________________
المبحث السادس :
في صيغ العموم
وفيه مطالب :
[المطلب] الأوّل :
في أنّ لفظي «كلّ» و «جميع» للعموم
ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل : قولنا : «جاءني
كلّ فقيه» يناقضه عرفا : «ما جاءني كلّ فقيه» ولهذا يستعمل كلّ منهما في تكذيب
الآخر ، وإنّما يتحقّق التناقض لو أفاد الكلّ الاستغراق ، لأنّ النّفي عن الكلّ لا
يناقض الثبوت في البعض.
وفيه نظر ، لأنّ
التناقض لا يتوقّف على أن يكون «كلّ» للعموم ، فإنّه على تقدير أن يكون سور إيجاب
جزئيّ يكون نفيه سور سلب كليّ كما في قولنا : «واحد من الناس كاتب ليس ولا واحد من
الناس بكاتب».
وأيضا ، يكفي في
التناقض اتّحاد المورد.
الثاني : لفظ الكلّ
والبعض متقابلان ، وإنّما يحصل التقابل لو كانت لفظة الكلّ ، غير محتملة للبعض.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
القائلين بالخصوص ، يمنعون التّقابل بينهما.
سلّمنا ، لكن يكفي
في التقابل احتمال كلّ للعموم ، دون البعض.
الثالث : سبق
الفهم دليل الحقيقة ، وإذا قال «رأيت كلّ من في الدّار» سبق الفهم إلى أنّه رأى
الجميع ، ولو كان لفظ الكلّ مشتركا بين الجميع والبعض لما حصل السّبق ، كما في
الألفاظ المشتركة.
الرابع : لو قال
السّيّد لعبده : «كلّ من دخل داري فاعطه درهما» فلو أعطى العبد كلّ داخل ، لم
يتوجّه عليه ذمّ ، ولو أعطى طويلا ، فقال السّيّد : لم أعطيته مع أنّي أردت القصار؟
كان للعبد أن يقول : إنّك أمرتني بإعطاء الجميع دون القصار ، وهذا قد دخل ، وكلّ
عاقل سمعه لام السّيّد على تعيينه ، وعذر العبد على فعله ، ولو انعكس الحال ،
فأعطى الطوال خاصّة ، ومنع القصار ، كان للسيّد أن يذمّه على منع القصار ، ولا
يقبل عذر العبد بأنّ فلانا قصير ولفظ السيّد عامّ فلعلّه أراد الطوال ، واستحقّ
العبد المؤاخذة.
وفيه نظر ، لأنّ
القائل بعدم العموم يمنع من عدم توجّه الذّمّ بإعطاء الجميع قبل الاستفهام.
وذمّ السيّد على منع القصار لا باعتبار العموم بل باعتبار التخصيص مع
احتمال اللفظ على السّويّة.
__________________
الخامس : لو قال :
«أعتقت كلّ عبدي ، وكلّ نسائي طوالق» حكم بعتق الجميع وطلاق النسوة ، بخلاف ما لو
قال : غانم حرّ ، وله عبدان ، اسم كلّ منهما «غانم» فإنّه يجب أن يستفهم منه مراده
، ولو كان لفظ الكلّ مشتركا لما افترق البابان ، ولوجب الاستفسار فيه كما في غانم.
السادس : الفرق واقع
بين : جاءني فقهاء ، وجاءني كلّ الفقهاء ، ولو لا دلالة الثاني على الاستغراق لما
بقي فرق.
وفيه نظر ، لأنّ
الاشتراك في الثّاني دون الأوّل.
السابع : التجاء
أهل اللّغة عند إرادة التعبير عن الاستغراق إلى استعمال لفظي «الكلّ» و «الجميع»
دون الجمع المنكّر ، يدلّ على العموميّة ، وكلّ ما فرض من القرائن ، يمكن عدمه ،
حتّى أنّه لو كتب كتابا ، وقال : اعملوا بكلّ ما فيه ، عمّ مع عدم القرينة.
والأعمى يفهم
العموم ، مع عدم وقوفه على القرائن البصريّة ، لفقد آلته ، والسّمعيّة ، لفرض
عدمها.
الثامن : سمع
عثمان قول لبيد :
__________________
..................
...
|
|
وكلّ نعيم لا
محالة زائل
|
فقال له : كذبت
فإنّ نعيم أهل الجنّة لا يزول ، ولو لا أنّه فهم العموم ، لما كان كاذبا.
وفيه نظر ،
لمعارضة قول عثمان بقول الشاعر.
التاسع : لو قال :
رأيت كلّ من في البلد ، عدّ كاذبا بتقدير عدم رؤية البعض.
وفيه نظر ، للمنع
من تكذيبه.
العاشر : لو قال :
كلّ الناس علماء ، كذبه [قول القائل :] كلّ الناس ليسوا علماء ، ولو لم يكن كلّ
للعموم ، لما صحّ التكذيب ، لجواز تناول كلّ واحد منهما غير ما تناوله الآخر.
الحادي عشر : لو
كان قول القائل «كلّ» لا يفيد العموم ، ولكنّه يعبّر تارة عن البعض ، وتارة عن
العموم حقيقة ، لكان قول القائل «كلّهم» بيانا لأحد الأمرين فيما دخل عليه ، لا
تأكيدا له ، كما لو قال رأيت عينا باصرة.
الثاني عشر : لو
قال : اعط كلّ من دخل درهما ، حسن استثناء كلّ عدد
__________________
شيئا سوى الجميع ،
واستثناء أيّ واحد شيئا على الإطلاق ، والعلم بحسن الاستثناء معلوم من عادة أهل
اللغة ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، لوجوه :
الأوّل : المستثنى
من الجنس لا بدّ وأن يصحّ دخوله تحت المستثنى منه ، فإمّا أن يعبّر الوجوب مع هذه
الصحّة أو لا.
والثاني باطل ،
وإلّا لما بقي الفرق بين الاستثناء من الجمع المنكّر والمعرّف ، لاشتراكهما في
الصحّة ، والتالي باطل ، للعلم من أهل اللغة بالفرق ، فالمقدّم مثله ، فوجب أن
يكون الجمع المستغرق يفيد العموم.
الثاني :
الاستثناء إخراج ، وإنّما يتحقّق مع الدّخول.
الثالث : أكثر أهل
اللغة عليه ، وقول الأكثر حجّة.
ولإجماعهم على
أنّه إخراج جزء من كلّ ، والجزء يجب كونه جزءا لكلّه.
الرابع :
الاستثناء من العدد يخرج من الكلام ما لولاه لوجب دخوله ، فيكون في غيره كذلك.
أمّا الصغرى ،
فبالإجماع ، فإنّه لو قال : له عندي عشرة إلّا درهما ، لزمه تسعة ، ولو قال : عشرة
، ولم يستثن لزمه عشرة.
وأمّا الثانية ،
فلأنّه لولاه ، لزم إمّا الاشتراك أو المجاز ، وكلاهما خلاف الأصل.
__________________
الخامس : لو صحّ
الاستثناء لإخراج ما يصحّ [دخوله] لا ما يجب [دخوله] لصحّ «ضربت رجلا إلّا زيدا»
لصلاحيّة دخوله تحت لفظ رجل ، ويصحّ «رأيت رجلا إلّا زيدا».
(وفيه نظر ،
لبطلان الاستثناء المستغرق ، وعدم دلالة رجل على التعدّد) .
فإن قيل :
الاستثناء لا يوجب التعميم ، فإنّه يصحّ من جمع القلّة كالأفعل ، والأفعال ،
والأفعلة ، والفعلة ، وجمع السلامة ، أيّ فرد شئنا.
مع أنّ شيئا من
هذه لا يقتضي العموم بالإجماع.
ولأنّه يصحّ : «أصحبت
جمعا من الفقهاء إلّا فلانا» ومعلوم أنّ المستثنى هنا لا يجب دخوله تحت المستثنى
منه المنكّر.
ولأنّه يصحّ : «صلّ
إلّا في اليوم الفلاني» ولنا أن نستثني ما شئنا من الأيام.
ولو كان الاستثناء
يخرج ما لولاه لوجب دخوله ، لكان الأمر يقتضي الدّوام والفور ، وقد تقدّم
بطلانهما.
سلّمنا ، لكن نمنع استثناء كلّ أحد من قوله : «من دخل [داري] أكرمه»
، فإنّه لا يحسن منه استثناء الملائكة والجنّ واللّصوص ، ولا ملك الهند ، وملك
الصين ، وهو كثير النظائر.
__________________
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ الاستثناء يقتضي وجوب الدخول لولاه ، فإنّه يصحّ الاستثناء من غير الجنس
إجماعا ، مع عدم الدّخول وجوبا وصلاحيّة.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّه لو لا الوجوب ، لم يبق فرق بين الاستثناء من الجمع المعرّف والمنكّر ،
فجاز أن يكون الفرق غير ما ذكرتم.
سلّمنا ، لكنّ
معنا ما يدلّ على الاكتفاء بالصّحّة ، وهو أنّ الصحّة أعمّ من الوجوب ، فحمل
اللّفظ على الصحّة حمل على الأعمّ فائدة ، ويحسن : «أكرم جمعا من العلماء إلّا
زيدا» ، واقتل فرقة من الكفّار إلّا فلانا ، مع عدم وجوب الدّخول ، وإلّا لكان
المنكّر للاستغراق.
سلّمنا ، لكن ما
ذكرتم إنّما يتمّ لو لم تجز المناقضة على الواضع حتّى يتمّ الاستدلال بالمقدّمتين
النقليّتين على النتيجة.
نعم لو ثبت أنّ
اللّغات توقيفيّة ، تمّ ذلك ، لكن ذلك غير معلوم.
سلّمنا دلالة
الاستثناء على العموم ، لكنّه يدلّ على عدمه ، لأنّه لو كان للعموم لكان الاستثناء
نقضا.
والجواب : نمنع
حسن استثناء أيّ عدد شئنا من جمع القلّة ، فإنّه يصحّ «أكلت الأرغفة ، إلّا ألف
رغيف» ولا يصحّ لو قال : «أكلت كلّ الأرغفة إلّا ألف رغيف».
وفيه نظر ، لأنّ
الاستثناء هنا لخصوص المادّة.
__________________
وكون الاستثناء في
«أصحبت جمعا من الفقهاء إلّا زيدا» يخرج ما لولاه لصحّ ، فلم قلت إنّه في سائر
الصّور كذلك؟
على أنّا نمنع حسن
ذلك في اللّغة ، ولهذا يتداولونه ويقولون في «أصحبت رجالا إلّا زيدا» : إنّ إلّا
بمنزلة ليس ، كأنّه قال : ليس زيدا منهم.
والأمر وإن كان
لذاته لا يقتضي التكرار ولا الفور ، لكن لا يمنع منهما ، فيجوز أن يكون اقتران «إلّا»
به يوجب دلالته عليهما.
ولم يحسن استثناء
الملائكة ، والجنّ وملك الهند و [ملك] الصّين ، للعلم بخروجهم عن الحكم ، والمقصود
من الاستثناء الإخراج ، ولهذا يحسن استثناؤهم في المشتبه دخولهم فيه ، ولهذا يحسن
من الله تعالى استثناء مثل : «أطعمت من خلقت إلّا الملائكة أو نظرت بعين الرّحمة
إلى جميع الخلق إلّا الملوك المتكبّرين».
على أنّه مشترك
الإلزام ، فإنّ الاستثناء لو كان يخرج من الكلام ما لولاه لصحّ فحسن استثناء الملائكة والجنّ ، لصحة تناول الخطاب لهم.
وأيضا ، فنحن قلنا
: الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب ، ولم نقل : إنّ كلّ ما لولاه لوجب يصحّ
استثناؤه ، والاستثناء من غير الجنس ممنوع فانّ جماعة من الفضلاء منعوه سلّمناه
لكنّه مجاز لانّ الاستثناء مشتق من الثّني ، و [هو] الصّرف ، وإنّما يحتاج إلى
الصّرف لو كان بحيث لو لا الصّارف لدخل.
__________________
ثمّ إنّه مشترك
الإلزام ، فإنّه لو لا الاستثناء لم يصحّ الدّخول ، وإنّما قلنا بنفي الفارق بين
الجمع المنكّر والمعرّف ، لأنّ الجمع المنكّر هو الّذي يدلّ على جمع يصلح أن
يتناول كلّ واحد من الأشخاص ، فلو كان الجمع المعرّف كذلك ، انتفى الفرق.
وحمل الاستثناء
على الصحّة وإن كان أولى ، من حيث العموم ، لكنّه معارض بأنّ الصّحّة جزء من
الوجوب ، فلو حملناه على الوجوب ، لكنّا قد أفدنا به الصّحّة والوجوب معا.
ولو حملناه على
الصّحّة ، لم نفد به الوجوب ، والجمع بين الدّليلين أولى.
سلّمنا أنّ
الاستثناء من الجمع المنكّر لدفع الصّحّة ، فلم يكون في كلّ كذلك.
والأصل عدم
التناقض ، خصوصا وقد قرّر الله تعالى ذلك الوضع.
والاستثناء ليس
بنقض على ما يأتي.
واعلم أنّ في
الوجوه الخمسة الّتي ذكرناها نظر.
أمّا الأوّل :
فلأنّا لو سلّمنا الفرق ، فلم قلتم بالعموم وعدمه؟ ولم لا يجوز أن يكون بكثرة
الأفراد وقلّتها؟ كما فرّقوا بين جمع الكثرة وجمع القلّة وإن لم يفد العموم إجماعا
، وحينئذ جاز أن يكون الجمع المعرّف يفيد ما يفيده جمع الكثرة لا العموم.
وأمّا الثاني :
أنّ الإخراج متحقّق مع الصّحّة ، كما يتحقّق مع الوجوب ، فإنّك إذا قلت : رأيت
رجالا ، صحّ دخول زيد وإذا قلت : إلّا زيدا ، خرج من الصّلاحيّة كما يخرج عندكم في العرف من الوجوب.
وأمّا الثالث : إن
ادّعيتم أنّ أهل اللّغة قالوا : إنّه إخراج ما لولاه لدخل قطعا ، منعنا دعواكم ولا
برهان عليها ، وإن ادّعيتم ما لولاه لدخل مطلقا ، بحيث يدخل فعلا وصلاحيّة ،
سلّمناه والشيء قد يكون جزءا على طريق الصّحّة وعلى طريق الوجوب ، فالأوّل نحو : اضرب
رجالا ، فإنّه يجوز أن يكون زيد جزءا منهم ، والثاني فالأعداد ، وحينئذ فليس في
نصّ أهل اللّغة أنّ الاستثناء يخرج ما يجب أن يكون جزءا من كلّ.
وأمّا الرّابع :
فإنّ الاستثناء من العشرة إنّما حسن لأنّه لولاه لصحّ دخوله في الخطاب ، لا لوجوب
دخوله ، فإنّ وجوب الدّخول لا يمنع صحّته.
لا يقال : كيف
يجتمع فيه صحّة دخوله ووجوبه؟
لأنّا نقول : إنّ
صحّة دخوله تحت العشرة يعنى به أنّ اسم العشرة يتناوله مع غيره على سبيل الحقيقة ،
ووجوب دخوله تحته يعنى به أنّه لا يكون الخطاب حقيقة إلّا إذا دخل تحته ، ومعلوم
أنّ الأوّل داخل تحت الثاني.
وأمّا الخامس :
فلأنّ قوله : اضرب رجالا إلّا زيدا ، فحسنه لازم لكم ، لأنّه يتناول كلّ رجل على
البدل على سبيل الوجوب ، لا على سبيل الصّحّة ، فكان
__________________
ينبغي أن يحسن
استثناء زيد منه ، ليخرج من وجوب تناول الخطاب له على البدل.
لا يقال : إنّما
يحسن ذلك ، لأنّ قوله : «اضرب رجالا» لا يتناول كلّ رجل على جهة الشمول ،
والاستثناء يخرج ما لولاه لوجب دخوله تحته على الشمول والجمع.
لأنّا نقول : جاز
أن يكون الاستثناء يخرج ما لولاه لصحّ دخوله تحته على جهة الشّمول.
وأمّا رأيت رجلا
إلّا زيدا ، فإنّه لا يستعمل ، لأنّه وإن لم يفد رجلا بعينه ، فإنّا نعلم أنّ
رؤيته ما يتناول إلّا شخصا معيّنا ، وإن لم يكن معينا عندنا.
والشيء المعيّن
الواحد لا يجوز أن يستثنى منه ، لأنّه لم يدخل معه غيره على جهة الشمول ولا على
جهة البدل.
المطلب الثاني :
في أنّ «من» و «ما» و «أين» و «متى» في الاستفهام للعموم
هذه الصّيغ ، إمّا
أن تكون للعموم فقط ، أو للخصوص فقط ، أو لهما على سبيل الاشتراك ، أو لا لواحد
منهما ، والجميع باطل إلّا الأوّل.
أمّا الثاني ،
فلأنّه لو كان كذلك ، لما حسن الجواب بذكر الجميع ، لوجوب المطابقة بين السؤال
والجواب.
والتالي باطل
بالإجماع ، وكذا المقدّم.
وأمّا الثالث ،
فلأنّه لو كان للاشتراك ، لما حسن الجواب إلّا بعد الاستفهام عن [جميع] الأقسام
الممكنة ، كما لو سأله من عندك؟ فكان يجب أن يقول : تسألني عن الرجال أو النساء؟
فإذا أجاب بالرّجال ، قال : عن العرب أو العجم؟ فإذا قال : العرب ، قال عن ربيعة ،
أو مضر؟ وهلم جرّا إلى أن يستوفي الممكن ، إذ ليس مشتركا بين الاستغراق وبين مرتبة
معيّنة من مراتب الخصوص ، لعدم القائل به ، لكن لا يحسن السؤال عن جميع المراتب ،
لعدم تناهيها ، فيستحيل السؤال عنها مفصّلا.
ولأنّا نعلم
استقباح أهل اللّسان مثل هذا السؤال.
ولأنّ الأصل عدم
الاشتراك.
وأمّا الرابع ،
فباطل بالإجماع ، وأيضا يحسن في المجازات الاستثناء مثل : من دخل داري أكرمه إلّا
فلانا وفلانا.
وأيضا لو قال : «أكرم
من دخل داري» وأخلّ العبد بإكرام بعض ، استحقّ اللّوم.
فإن قيل : لا
نسلّم أنّها ليست موضوعة للخصوص ، ويحسن الجواب بذكر الجميع إذا وجد مع اللّفظ
قرينة تجعلها للعموم ، وحكم المركّب مخالف لحكم المفرد.
__________________
سلّمنا ، لكنّه
مشترك ، ولا يحسن جميع الاستفهامات لوجود قرينة تعيّن المراد.
سلّمنا عدم
القرائن ، لكن إنّما يصحّ ذكر الكلّ لو لم يكن مفيدا للمطلوب ، ولا شكّ في افادته
المطلوب وغيره إن كان السؤال عن البعض ، وللمطلوب قطعا إن كان السؤال عن الجميع ،
بخلاف ذكر البعض ، فكان ذكر الجميع أولى.
سلّمنا ، لكن نمنع
صحّة الاستفهام ، ولهذا يحسن الجواب عن قوله : من عندك؟ أعن الرجال تسألني أم عن
النّساء؟ وأ عن الأحرار أو العبيد؟ غاية ما يقال : إنّ الاستفهام عن كلّ الأقسام
قبيح ، لكن ليس الاستدلال بقبح بعض تلك الاستفهامات على عدم الاشتراك أولى من
الاستدلال بحسن بعضها على الاشتراك ، وعليكم التّرجيح.
سلّمنا ، لكن
يعارض بأنّها لو كانت للعموم فقط ، لما حسن الجواب إلّا بقوله : لا أو نعم ، فإنّ
من عندك؟ ، في تقدير : أكلّ الناس عندك؟ ، والجواب أنّ على تقدير عدم تلك القرينة
لا يحسن الجواب بذكر الجميع ، ونحن نعلم حسنه من عادة أهل اللّغة ، وإن لم توجد
قرينة أصلا.
ولأنّ القرينة يجب
علمها للسّامع والمجيب ، لاستحالة جعلها طريقا إلى العلم بعموميّة هذه الصّيغة ،
مع عدم علمنا بتلك القرينة.
وليست القرينة
لفظا ، لفرض عدمه ، ولا غيره ، لعدم تعقّله في غير اللّفظ ، والإشارة المنتفية في
حقّ الأعمى مع حسن جوابه بالجميع.
ولأنّا لو كتبنا :
من عندك؟ حسن الجواب بالجميع ، مع عدم جميع القرائن.
وهو الجواب عن
قرينة الاشتراك ، ولأنّ الإجماع وقع على جواز خلوّ المشترك عن جميع القرائن
المعيّنة.
وذكر ما هو أعمّ
من المطلوب ، يقتضي حسن الجواب بالنساء والرّجال عن مثل : من عندك من الرجال لأنّ
تخصيص السؤال عن الرّجال يدلّ على عدم الحاجة عن السؤال عن النساء ، مع أنّه كما
احتمل كون غرضه بالسؤال ذكر الجميع ، احتمل أن يكون غرضه السؤال عن البعض ،
والسّكوت عن الباقي.
وقوله : ليس
الاستدلال بقبح البعض على نفي الاشتراك أولى من الاستدلال بحسن البعض على [ثبوت]
الاشتراك.
قلنا : الإجماع
على أنّ هذه الصّيغة ليست مخصوصة ببعض المراتب دون البعض ، فلو كانت حقيقة في
الخصوص ، لكانت حقيقة في جميع مراتبه ، فكان يجب الاستفهام عن جميعها ، ولمّا لم
يكن كذلك علمنا بطلان الاشتراك.
وحسن بعض
الاستفهامات ، لا يدلّ على وقوع الاشتراك ، لما في الاستفهام من الفوائد غير
الاشتراك.
والسّؤال لم يقع
عن التصديق حتّى يجب الجواب بلا أو بنعم ، بل عن التصوّر وقوله : من عندك؟ معناه :
اذكر لي الجميع ولا تخلّ أحدا عندك إلّا واذكره ، وهذا لا يحسن الجواب بلا أو نعم.
المطلب الثالث :
في أنّ صيغتي «ما» و «من» في المجازاة للعموم
ويدلّ عليه وجوه :
الأوّل : لو كان
مشتركا ، لما حسن الفعل إلّا عند الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة ، لكنّه حسن ،
فدلّ على عدم الاشتراك.
الثاني : يحسن
استثناء كلّ واحد من العقلاء عن قوله : من دخل [داري] فأكرمه.
الثالث : لمّا نزل
قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال ابن الزّبعرى : لأخصمنّ محمّدا ، ثمّ جاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «يا محمّد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى»؟
فتمسّك بالعموم ، ولم ينكره النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى نزل [قوله تعالى] : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى).
لا يقال : السؤال
خطأ لأنّ ما لما لا يعقل.
لأنّا نمنع ذلك ،
لقوله [تعالى] : (وَالسَّماءِ وَما
بَناها).
__________________
المطلب الرابع :
في النّكرة المنفيّة
النّكرة في معرض
النفي للعموم ، لوجوه :
الأوّل : صحّة
الاستثناء.
الثاني : العقلاء
إذا أرادوا تكذيب ما أكلت شيئا ، قالوا : قد أكلت كذا ، وإذا كذّبوا أكلت شيئا ،
قالوا : ما أكلت شيئا ، والإثبات للجزئيّ قطعا ، فلو كان السلب له لم يتناقضا ،
لما عرف من عدم التناقض بين الجزئيّتين ، ولهذا لما أراد الله تعالى تكذيب الكفّار
في السلب الكلّي حيث قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ
عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) بموجبة جزئيّة ، فقال: (قُلْ مَنْ أَنْزَلَ
الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى).
الثالث : لو لم
يكن للعموم ، لم يكن قولنا : لا إله إلّا الله نفيا لجميع الآلهة ما عدا الله
تعالى.
الرابع : الإجماع
من العلماء على التمسك بتحريم نكاح كلّ عمّة وكلّ خالة بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها وعلى خالتها» وتحريم قتل كلّ صيد بقوله [تعالى] : (لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ
حُرُمٌ) «ولا يرث القاتل»
__________________
ولا يقتل والد
بولده ، «ولا يقتل مؤمن بكافر» إلى غير ذلك ممّا لا يحصى كثرة.
ولمّا نزل قوله
تعالى : (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) الآية ، قال ابن أمّ مكتوم وكان ضريرا ما قال ، فنزل قوله
تعالى : (غَيْرُ أُولِي
الضَّرَرِ) فعقل الضرير وغيره عموم لفظ المؤمنين.
ولمّا نزل (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) قالت الصحابة : فأيّنا لم يظلم نفسه ، فبيّن أنّه أراد ظلم النّفاق والكفر.
الخامس : النكرة ،
إمّا أن يقال : إنّها للعموم على سبيل الجميع ، أو للخصوص ، أو مطلقا.
والأوّل باطل
بالإجماع ، فإنّ أحدا لم يقل : إنّ «رأيت رجلا» مستغرق لكلّ رجل جمعا.
وأمّا الثاني
والثالث فنقول : إن كان موضوعا لشخص بعينه كان علما لا نكرة ، وإن كان موضوعا
لواحد غير معيّن فنفيه إنّما يحصل باستغراق
__________________
النفي وعمومه ،
لعدم التّعاند بين اثبات حكم لشخص ما ، ونفيه عن شخص ما.
وفي هذا الموضع
بحث لطيف ، ذكرناه في كتبنا المنطقيّة.
تذنيب
النكرة المثبتة في
معرض الخبر ليست عامّة لا على الجمع ولا على البدل ، مثل : جاءني رجل.
أمّا الجمع فظاهر
، وأمّا البدل ، فلأنّ الإخبار وقع عن مجيء شخص بعينه فلا يعمّ ، وأمّا في معرض الأمر
فللعموم على البدل ، لقوله : أعتق رقبة ، للإجماع على الخروج عن العهدة بأيّ رقبة
كانت ، ولو لا العموم لما كان كذلك.
المطلب الخامس :
في أنّ الجمع المعرّف بلام الجنس للعموم
الجمع إذا دخل
عليه لام العهد ، انصرف إلى المعهود إجماعا ، وإن دخل عليه لام الجنس ، أفاد
العموم ، خلافا للواقفيّة وأبي هاشم.
لنا وجوه :
الأوّل : لما طلب
الأنصار «الإمامة» لنفسهم احتجّ عليهم أبو بكر بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الأئمّة من قريش» وسلّم الأنصار تلك الحجة ، ولو لا العموم لما
__________________
تمّت إذ يبقى التقدير بعض الأئمّة من قريش ، فلا ينافي كلّهم ،
بخلاف كلّ الأئمّة من قريش.
الثاني : لمّا
قاتل أبو بكر مانعي الزّكاة أنكر عمر بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلّا الله»
احتجّ عليه بعموم اللفظ ، ولم ينكر عليه أبو بكر ولا غيره من الصحابة ذلك ، بل عدل
أبو بكر إلى الاستثناء وقال : أليس قد قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إلّا بحقّها» ، والزكاة من حقّها.
الثالث : هذا
الجمع يؤكّد بما يقتضي العموم ، فوجب أن يفيده.
أمّا الأولى ،
فظاهرة ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ).
وأمّا الثانية ،
فلأنّه بعد التأكيد للاستغراق بالإجماع ، وإذا كان كذلك ، وجب أن يكون كذلك قبل
التأكيد ، لانّ التأكيد يفيد تقوية المعنى الّذي كان ثابتا في الأصل ، فلو
لم يكن الاستغراق حاصلا ، وإنّما حصل بالتأكيد ، لكان تأثير هذا اللفظ في إثبات
حكم جديد ، وابتداء وضع مستأنف ، لا في تقوية الأوّل ، فلا يكون مؤكّدا.
__________________
لا يقال : ينتقض
بتأكيد جمع القلّة بهذه المؤكّدات ، بل وتأكيده عند الكوفيّين ، فإنّهم نقلوا :
قد صرّت البكرة
يوما أجمعا
|
|
..................
|
وذلك كلّه لا يفيد
الاستغراق ، فلو كان التأكيد يدلّ عليه ، لخرجت اللفظة عن مدلولها بالتأكيد ،
فيكون نقضا لا تأكيدا.
ولأنّ سيبويه نصّ على أنّ جمع السّلامة للقلّة.
لأنّا نقول : يمنع
تأكيد جمع القلّة والنّكرة على قول البصريّين ، ونصّ سيبويه محمول على الجمع
الخالي من اللام الجنسيّة.
الرابع : لو لم
يكن للعموم لم يفد اللّام تعريفا ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه على تقدير الخصوص ، لا تحصل المعرفة ، فإنّه ليس بعض الجموع أولى من البعض ،
فكان مجهولا ، فيجب صرفه إلى الكلّ ، لتحصل المعرفة ، لأنّه معلوم المخاطب.
وأمّا بطلان
التالي ، فلأنّ أهل اللغة قالوا : إنّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم ، صار
معرفة.
__________________
لا يقال : إذا
أفاد المنكّر جمعا من [هذا] الجنس ، أفاد اللّام تعريف ذلك الجنس.
لأنّا نقول : هذه
الفائدة كانت حاصلة قبل اللّام ، فإنّ قولك : رأيت رجالا ، أفاد جنس الرّجال ، فلم
يبق للألف واللام فائدة سوى الاستغراق.
الخامس : يصحّ
استثناء أي عدد شئنا ، فهو يفيد العموم على ما تقدّم.
السادس : كثرة
المعرّف أكثر من كثرة المنكّر ، فيكون للعموم.
أمّا الصّغرى ،
فلصحّة : جاء رجال من الرّجال ، دون العكس ، والمنتزع منه أكثر من المنتزع.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ المفهوم من [الجمع] المعرّف إمّا الجمع ، وهو المطلوب ، أو ما دونه ، وهو
باطل ، فإنّه لا عدد أقلّ من الكلّ إلّا ويصحّ انتزاعه من الكلّ ، فثبت أنّه
للكلّ.
السّابع : اللّام
العهديّة تعمّ ، فكذا الجنسيّة.
أمّا الأولى ،
فلانّ من فاخر غيره في ذكر رجال معيّنين ، ثمّ قال : أحدّثك عن الرّجال ، عقل منه
جميعهم ، لأنّ الّذي جرى ذكره ، هو الجميع ، فليس انصرافه إلى البعض أولى من
انصرافه إلى الآخر.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ الجنس هو المتعارف إذا لم يكن عهد ، وكان للجميع ، لعدم أولويّة البعض.
احتجّ المانعون
بوجوه :
الأوّل : لو كانت [هذه
الصيغة] للعموم ، لكان استعمالها في العهد مجازا أو اشتراكا ، وهما خلاف الأصل.
الثاني : يلزم
التكرير في جاء كلّ الناس ، والنّقض في بعضهم.
الثالث : يقال :
جمع الأمير الكتّاب ، مع أنّه ما جمع الكلّ ، والأصل [في الكلام] الحقيقة ، فهذه
الصيغة حقيقة فيما دون الاستغراق ، فلا تكون حقيقية فيه ، دفعا للاشتراك.
الرابع : إذا قال
: جاءني رجال ، اقتضى جمعا من الرّجال غير مستغرق ، واللّام أفادت التعريف ، فمن
أين جاء الاستغراق؟
الخامس : لو أفاد
الاستغراق ، لكان قولنا : فلان يلبس الثياب بمنزلة : يلبس كل الثياب ، ونفيه وهو :
فلان لا يلبس الثّياب صادق ، ويحسن إطلاقه على كلّ واحد ، إذ كلّ أحد لا يلبس كلّ
الثياب ومعلوم أنّ أهل اللغة لا يستحسنون إطلاق ذلك إلّا على من لا يلبس شيئا من
الثّياب ، فعلمنا أنّ قولنا : فلان يلبس الثياب ، يفيد الجنس ، فنفيه يفيد نفي
الجنس أصلا ، فلذلك عمّ.
وكذلك ينبغي أن
يوصف كلّ أحد بأنّه لا يباشر النّساء ولا يأكل الطعام ، لعدم مباشرته لجميع
النساء.
والجواب عن الأوّل
: أنّ اللّام للتعريف ، فينصرف إلى ما السامع به أعرف ، فإن كان هناك معهود ، حمل
عليه ، لأنّ السامع به أعرف ، وإلّا حمله على الجميع ،
لأنّه بالكلّ أعرف
من البعض ، لتعدّد الأبعاض ووحدة الكلّ.
سلّمنا ، لكنّه
مجاز في العهد ، لافتقار الحمل عليه إلى قرينة ، وهو من علامات المجاز.
وعن الثاني : أنّه
تأكيد وتخصيص ، لا تكرير ونقض.
وعن الثالث : أنّه
تخصيص بالعرف ، مثل : من دخل داري أكرمه ، فإنّ العرف أخرج اللّصّ.
وعن الرابع : لا
منافاة بين إفادة التعريف والاستغراق خصوصا ، وقد بيّنا أنّه متى حملت على بعض غير
معيّن نقض ذلك التعريف بجهالته ، وإفادة الجنس حصلت قبل اللّام.
وعن الخامس : أنّ
النّفي ورد على اللبس للكلّ وهو سلب جزئيّ يمكن معه صدق السّلب الكليّ ، فيحمل عليه
فيما عهد فيه السّلب الكليّ.
وما ذكرتموه من
الأمثلة قد عهد فيه السلب الكليّ وكان محمولا عليه.
__________________
المطلب السادس :
في بقايا صيغ العموم
فمنها : الجمع
المضاف ، مثل : عبيدي أحرار ، أو عبيد زيد ، لما تقدّم من الاستثناء وغيره ،
ولقوله تعالى : (وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ
فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) تمسّكا منه بقوله تعالى : (إِنَّا مُنَجُّوكَ
وَأَهْلَكَ) وأقرّه تعالى على ذلك ، وأجابه بما دلّ على أنّه ليس من
أهله ، فلو لا أنّ إضافة الأهل إلى نوح للعموم ، لما صحّ ذلك.
ولقوله تعالى : (إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ
الْقَرْيَةِ) فهم إبراهيم من أهل القرية العموم ، حيث قال : (إِنَّ فِيها لُوطاً).
والملائكة أقرّوه
على ذلك ، وأجابوه بتخصيص لوط وأهله بالاستثناء واستثناء امرأته من الناجين.
وأيضا ، احتجّت
فاطمة عليهاالسلام على أبي بكر ، حيث منعها من فدك والعوالي في توريثها من
أبيها فدك والعوالي بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) ولم ينكر عليها أحد من الصحابة ، بل عدل أبو بكر إلى رواية
رواها
__________________
عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم وهي : «نحن معاشر الأنبياء لا نورث» .
وأيضا ، لو قال :
عبيدي أحرار عتق جميع عبيده ، وكذا : نسائي طوالق ، تطلق كلّ امرأة له بالإجماع ،
ولو لم يكن للعموم لم يجب ذلك.
ومنها : الكناية ،
كقوله : فعلوا ، فإنّها تقتضي مكنيّا عنه ، والمكنيّ عنه قد يكون للاستغراق ، وقد
لا يكون ، والكناية تابعة.
ومنها : إذا أمر
جمعا بصيغة جمع ، أفاد الاستغراق فيهم ، لأنّ السيّد إذا أمر غلمانه بقوله : قوموا
، استحقّ من يتخلّف عن القيام الذّمّ ، ولو لا العموم لما كان كذلك ، ولا يجوز
استفادة ذلك من القرينة ، لأنّها إن كانت من لوازم الصيغة ، ثبت المطلوب ، وإن
كانت من عوارضه ، فرضنا تجرّدها.
__________________
الفصل الثاني :
فيما لحق بالعام وليس منه
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في أنّ الواحد المعرّف بلام الجنس ليس للعموم
ذهب أبو علي
الجبّائي والمبرّد وجماعة من الفقهاء إلى أنّ المعرّف باللّام للعموم ، سواء كان
مشتقّا أو غير مشتقّ ، وذهب أبو هاشم وجماعة المحقّقين إلى أنّها للجنس لا للعموم.
لنا وجوه :
الأوّل : عدم
تبادر العموم إلى الفهم لو قال : أكلت الخبز ، وشربت الماء ، (نظرا للقرينة) .
الثاني : لا يجوز
تأكيده بما يؤكّد به الجمع ، فلا يقال : جاء الرجل كلّهم ، ولا أجمعون ، ولو كان
للعموم لصحّ ، كما جاز : جاءني الرّجال كلّهم أجمعون.
__________________
وفيه نظر ،
لاحتماله اشتراط تتابع الصّيغة.
الثالث : لا ينعت
بنعت الجمع ، فلا يقال : جاءني الرجل العاقلون ، وقولهم أهلك النّاس الدينار
الصّفر ، والدّرهم البيض للمجاز ، لعدم الاطّراد.
ولأنّه لو كان
حقيقة ، لكان الدّينار الأصفر مجازا ، كما أنّ الدنانير الصفر لما كان حقيقة ، كان
الدينار الأصفر خطأ أو مجازا.
وفيه ما تقدّم.
الرّابع : البيع
من حيث هو جزء من مفهوم هذا البيع ، فحلّ هذا البيع يستلزم حلّ جزئه ، فلو كان
للعموم لزمت إباحة كلّ بيع ، وهو معلوم البطلان.
لا يقال : اللّفظ
المطلق إنّما يفيد العموم لو تعرّى عن لفظ التّعيين ، أو أنّه يقتضي العموم ، لكن
لفظ التعيين يقتضي خصوصه.
لأنّا نقول :
العدم لا مدخل له في التأثير .
وفيه نظر ، لأنّه
شرط لا مؤثّر ، والأجود أنّ عدم الشرط حينئذ ينافي العموم ، والأصل عدم التّعارض ،
وهو الجواب عن الثاني.
الخامس : المطلق
إنّما يدلّ على الماهيّة ، كما يوجد مع العموم ، كذا يوجد مع الخصوص ، فإنّ هذا
الإنسان مشتمل على الإنسان مع قيد هذا ، فالآتي بهذا
__________________
الفرد آت بالماهيّة
، فيخرج عن عهدة التكليف بالعمل بذلك النصّ ، فلا دلالة للفظ على العموم.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : يجوز
الاستثناء ، فيكون للعموم.
أمّا الأولى ،
فلقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا).
وأمّا الثانية ،
فلأنّ الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لوجب ، كما تقدّم.
الثاني : الألف
واللّام للتعريف ، وليس لتعريف الماهيّة لحصوله بأصل الاسم ولا لواحد بعينه ، لعدم
دلالة اللّفظ عليه ، ولا لبعض مراتب الخصوص ، لعدم الأولويّة ، فيكون للجميع.
الثالث : ترتيب
الحكم على الوصف مشعر بالعليّة ، لأنّ قوله [تعالى] : (السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) مشعر بأنّ استحقاق القطع لمجرد السّرقة ، وكذا (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) مشعرا بأنّه إنّما كان حلالا لكونه بيعا ، وهو يقتضي
العموم في الحكم ، لعموم علّة.
الرابع : اختلف
النّاس بين قائل بالعموم في الواحد والجمع ، وبين قائل بعدمه فيهما ، فالقول
بالفصل خارق للإجماع ، وقد ثبت أنّ الجمع للعموم ، فيكون المفرد كذلك.
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّه مجاز ، لعدم الاطّراد ، لقبح «رأيت الإنسان إلّا المؤمن».
ولأنّ الخسران
لمّا لزم جميع أفراد النوع إلّا المؤمن ، جاز الاستثناء.
وعن الثاني : أنّ
لام الجنس تفيد تعيين الماهيّة ، ونفس الماهيّة لا تقتضي الكليّة .
وفيه نظر ، لأنّ
تعيين الماهيّة قد استفيد من المنكّر.
والأجود أن يقال :
إنّ المنكّر يفيد واحدا من الجنس غير معيّن ، والألف واللام دلّتا على عدم إرادة
الوحدة والكثرة.
وعن الثالث :
بالمنع من إشعاره بالعليّة.
سلّمنا ، لكن ذلك
يكون دليلا غير اللّام ، ولا نزاع فيه.
وعن الرابع :
بالمنع من الإجماع ، وإنّما يعلم ما ذكره من قول الشيخين ، ومن تبعهما فقط.
على أنّا نمنع من
الفرق بين المسألتين إذا جمعهما طريق واحد ، ولا طريق واحد هنا.
__________________
المبحث الثاني :
في الجمع المنكّر
وفيه مطلبان :
[المطلب] الأوّل :
في أنّ أقل الجمع ثلاثة
وهو قول أبي حنيفة
، والشافعي ، وإليه ذهب ابن عباس ، ومشايخ المعتزلة ، وجماعة من أصحاب الشافعي.
وقال الغزّالي وجماعة من أصحاب الشافعي : إنّ أقلّه اثنان ، وهو مذهب زيد
بن ثابت ، ومالك ، وداود ، والقاضي أبي بكر ، والأستاذ أبي إسحاق.
وقال الجويني :
يمكن ردّ لفظ الجمع إلى الواحد.
والتحقيق أن نقول
: هنا أمران :
أحدهما : أنّ
قولنا : «جمع» ما الّذي يفيد.
والثاني : أن يقال
: الألفاظ الموصوفة بأنّها «جمع» هل تفيد الاثنين حقيقة أو لا؟ نحو قولنا : جماعة
، ورجال.
__________________
أمّا قولنا : «جمع»
فإنّه يفيد من حيث الاشتقاق ضمّ الشّيء إلى الشيء ، وفي عرف اللّغة ألفاظ مخصوصة ،
نحو : هذا اللّفظ جمع ، وهذا تثنية.
وأمّا قولنا :
جماعة ، ورجال ، فإنّه يفيد ثلاثة فصاعدا ، ولا يفيد الاثنين إلّا مجازا.
والثاني ، هو
المتنازع فيه.
لنا وجوه :
الأوّل : فرّق أهل
اللّغة بين التثنية والجمع ، كما فرّقوا بين الواحد والجمع ، والواحد والتثنية.
الثاني : فرّقوا
بين الضّميرين ، فقالوا في التثنية : قاما ويقومان ، وفي الثلاثة : فعلوا ،
ويفعلون ، وفي الأمر للاثنين : افعلا ، وفي الثلاثة : افعلوا.
الثالث : ينعت
الجمع بالثلاثة فما زاد ، دون التثنية ، وبالعكس فيقال : رجال ثلاثة ، وثلاثة رجال
، ولا يقال : رجال اثنان ، ولا اثنان رجال ولا رجال عاقلان ، ولا رجلان عاقلون.
وفيه نظر ، لإرادة
التطابق لفظا.
الرابع : يصحّ :
ما رأيت رجالا بل رجلين ، ولو كان حقيقة فيهما لم يصحّ نفيه.
__________________
وفيه نظر ، لدلالة
قرينة الإضراب على الجمع.
الخامس : لو قال :
له عليّ دراهم ، لزمه ثلاثة فما زاد ، وكذا لو أوصى ، أو نذر.
(وفيه نظر ، للمنع).
السّادس : روي عن
ابن عبّاس أنّه قال لعثمان لمّا ردّ الأمّ من الثّلث إلى السّدس بأخوين : قال الله
تعالى : (فَإِنْ كانَ لَهُ
إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) ، وليس الأخوان إخوة في لسان قومك ، فقال عثمان : لا
أستطيع أن انقض أمرا كان قبلي ، ولو لا أنّ ذلك مقتضى اللّغة لما احتجّ به ابن
عباس على عثمان وأنكر عليه ، مع أنّه كان من فصحاء العرب.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَكُنَّا
لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ) والمراد : داود وسليمان.
[وقوله تعالى :](إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) وكانا اثنين ، لقوله تعالى : (خَصْمانِ).
__________________
[وقوله تعالى :](هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي
رَبِّهِمْ).
[وقوله تعالى :](إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ
مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ).
[وقوله تعالى :](إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) وأراد به موسى وهارون.
[وقوله تعالى :](عَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ
جَمِيعاً) والمراد : يوسف واخوه.
[وقوله تعالى :](وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
اقْتَتَلُوا).
[وقوله تعالى :](إِنْ تَتُوبا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما).
[وقوله تعالى :](فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ) وأراد به الأخوين.
الثاني : ما روي
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : الاثنان فما فوقهما جماعة .
الثالث : معنى
الاجتماع حاصل في الاثنين.
الرابع : لو أخبر
اثنان عن فعلهما لقالا : قمنا ، وقعدنا كما تقول : الثلاثة ، بلفظ الجمع.
__________________
الخامس : لو أقبل
عليه رجلان في مخافة قال : أقبل الرجال ، والأصل في الإطلاق ، الحقيقة.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الحكم مصدر ، فيضاف تارة إلى الفاعل ، وأخرى إلى المفعول ، وإذا اعتبرنا
المتحاكمين مع الحاكم ، كانوا ثلاثة ، فالكناية وقعت عن الجميع.
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع صحّة إضافته إلى الفاعل والمفعول دفعة ، وإن صحّ إضافته إلى كلّ واحد منها
منفردا.
والجواب الأوّل
للسيّد المرتضى ، ونقل عمّن تقدّمه جوابين : أحدهما : أنّه للتعظيم ، والثاني :
أنّه أضاف الحكم إلى سائر الأنبياء المتقدّمين.
واعترضه بأنّ
التعظيم باستعمال النون ، دون غيره ، ولم تجر العادة بأن نقول عن اثنين:
قاموا ، ونضيف
إليهما ثالثا.
وفيه نظر ، فإنّ
التعظيم باعتبار إقامة الواحد مقام الجميع ، وهو غير مختصّ بالنّون ، وقد ورد (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ)(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ) وغيرهما.
__________________
والخصم ، مصدر يقع
على الواحد والكثير ، يقولون : هذا خصم ، وهذان خصم ، وهؤلاء خصمي ، بلفظ واحد.
وفيه نظر ، فإنّا
نسلّم صدق المصدر على الواحد والكثير ، لكنّ القصّة تقتضي أنّهما اثنان للتثنية ،
ولحكاية حالهما ، فصدق ضمير الجمع في (تَسَوَّرُوا
الْمِحْرابَ) يعطي صدق الجمع على الاثنين.
وكذا [قوله :](فَفَزِعَ مِنْهُمْ).
نعم يصلح ما
ذكرتموه جوابا عن قوله (هذانِ خَصْمانِ).
و [موسى وهارون و]
فرعون مراد من قوله (إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ).
[ويوسف وأخوه]
والأخ الثالث شمعون الّذي قال : (فَلَنْ أَبْرَحَ
الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) مراد من قوله : (أَنْ يَأْتِيَنِي
بِهِمْ جَمِيعاً) ، والمطابقة تصدق على الجميع.
والقلب يطلق على
الجارحة بالحقيقة ، وعلى الميل الموجود فيه بالمجاز ، فيقال للمنافق : ذو قلبين ،
كما يقال : ذو جهتين و [ذو] لسانين ، ولمن لا يميل قلبه إلّا إلى واحد : له قلب
واحد ، ولسان واحد.
__________________
ولمّا خالفتا أمر
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بما يأمر وقع في قلبهما دواع مختلفة ، وأفكار متباينة ،
فأطلق عليها اسم القلوب ، لأنّ القلب لا يوصف بالصّغو ، بل يوصف به الميل.
والحجب مع الأخوين
للإجماع ، لا للآية.
والحديث يراد به
إدراك فضل الجماعة أو أنّه نهى عن السفر إلّا في جماعة ، ثمّ قال : «الاثنان فما
فوقهما جماعة» لجواز السّفر.
والبحث لم يقع
فيما تفيده لفظة الجمع بل عمّا يتناوله لفظ الرّجال ، وأحدهما غير الآخر.
وأيضا ، فإنّ
ماهيّة اشتقاق لفظ الجماعة في الثلاثة وإن وجد في الاثنين ، إلّا أنّه لا يلزم
الإطلاق ، لأنّه قياس في اللّغة ، ولهذا لم يجب في القارورة.
ولفظ «قمنا» لا
يدلّ على الجمع ، فإنّ الواحد يصحّ أن يقول ذلك ، وليس بجمع .
وفيه نظر ، فإنّ
الواحد إنّما يصحّ فيه ذلك إن قصد التعظيم لنفسه ، بأن يقاوم الجماعة ويساويهم في
الكثرة ، وإن كان واحدا في الحقيقة ، بخلاف المثنّى في هذه الصّيغة.
والإطلاق الثاني
صادق في الواحد ، فنقول : جاء الرّجال مجازا ، كما في الاثنين.
__________________
المطلب الثاني :
في أنّ الجمع المنكّر ليس للعموم
بل يحمل على أقلّه
، الخلاف هنا مع أبي علي ، فإنّه قال : إنّه للعموم.
لنا : أنّ لفظ
رجال يمكن نعته بأيّ جمع شئنا ، فيقال : رجال ثلاثة ، وأربعة وهكذا ، ويمكن تقسيمه
إليها.
ومورد التقسيم
مشترك بين الأقسام ، مغاير لكلّ واحد منها ، وغير مستلزم لها ، فاللّفظ الدّال على
ذلك المورد لا إشعار له البتّة بشيء منها ، أمّا الثلاثة ، فإنّها واجبة الدخول
قطعا ، لأنّه إذا قصد الأكثر دخلت قطعا.
احتجّ بوجوه :
الأوّل : حمله على
الاستغراق حمل له على جميع حقائقه ، فيكون أولى من حمله على البعض ، لعدم
الأولويّة.
الثاني : لو أراد
المتكلّم البعض لعيّنه ، وإلّا كان مراده مبهما ، ولمّا بطل التعيين ، ثبت أنّه
للعموم.
الثالث : يصحّ
استثناء كلّ عدد منه سوى الاستغراق ، والاستثناء إخراج جزء من كلّ.
والجواب عن الأوّل
: أنّ حقيقة هذا الجمع الثلاثة من غير بيان عدم الزائد ووجوده ، وهو أمر مشترك بين
الثلاثة لا غير ، وبين الثلاثة مع غيرها ، واللفظ الدّال على القدر المشترك ، لا
دلالة له البتّة على شيء من جزئيّاته ، فضلا عن أن يكون حقيقة فيها.
وعن الثاني :
المراد في الجمع المنكّر ، كالمراد في النكرة ، وكما لا يجب التعيين هناك إلّا مع
إرادة المعيّن ، كذا هنا.
وعن الثالث :
المنع من صحّة الاستثناء لكلّ عدد.
سلّمنا لكنّ
الفائدة هنا عدم الصلاحيّة.
المبحث الثالث :
في نفي الاستواء
ذهب أكثر فقهاء
الشافعية إلى أنّه للعموم ، كما في قوله تعالى : (لا يَسْتَوِي
أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ) فإنّه يقتضي نفي المساواة في جميع الأمور.
ومنعه أبو حنيفة
فقال : إذا وقع التفاوت ولو من وجه واحد ، صدق نفي المساواة.
ويتفرّع على
الخلاف القصاص للذّمي من المسلم ، فعند الشافعي لا يثبت ، وإلّا لزم تساويهما ،
وأثبته أبو حنيفة.
والقائل الأوّل
احتجّ بوجهين :
الأوّل : الجملة
نكرة وقد دخل عليها النّفي ، فتكون عامّة كغيرها.
الثاني : إذا قلنا
: لا مساواة بين زيد وعمرو ، فقد دخل النفي على مسمّى
__________________
المساواة ، فلو
وجدت المساواة من وجه ، لما كان مسمّى المساواة منتفيا ، وهو خلاف مقتضى اللّفظ.
احتجّ الآخرون
بوجوه :
الأوّل : نفي
المساواة أعمّ من نفي المساواة من كلّ الوجوه أو بعضها ، والدّال على القدر
المشترك ، لا إشعار له بأحد الجزئيّات.
الثاني : إطلاق
لفظ المساواة إنّما يصحّ على تقدير الاستواء من كلّ الوجوه ، وإلّا لوجب صدقها على
أيّ شيئين فرضا حتّى المتناقضين ، إذ ما من شيئين إلّا ويصدق مساواتهما في بعض
الأشياء ، كالشيئيّة ، والمعلوميّة ، وسلب ما عداهما عنهما.
وإذا صدقت
المساواة بين كلّ شيئين ، لم يصدق نقيضهما بينهما ، وحينئذ يكفي في نفي المساواة
نفي الاستواء من بعض الوجوه ، لأنّ النقيض الكلّيّ جزئيّ ، فقولنا : لا يستويان ،
لا يفيد نفي الاستواء من كلّ الوجوه.
الثالث : لو كان
نفي المساواة يقتضي نفي المساواة من كلّ وجه ، لما صدق نفي المساواة حقيقة على
شيئين أصلا ، لأنّ كلّ شيئين لا بدّ وأن يستويا في شيء ما حتّى النقيضين ، لكنّ
الأصل في الإطلاق الحقيقة.
الرابع : المساواة
في الإثبات للعموم ، وإلّا لم يستقم إخبار بمساواة ، لعدم الاختصاص ، ونقيض
الكلّيّ الموجب جزئيّ سالب.
والتحقيق أن نقول
: المساواة من الأمور الإضافيّة ، لا تعقل إلّا مضافة إلى غيرها ، وكما يمكن
إضافتها إلى بعض الصّفات ، يمكن إضافتها إلى الجميع ، فإن
كان العرف يقتضي
بأنّ الإطلاق عائد إلى الجميع ، فنفيه لا يوجب العموم وإلّا وجب.
والوجوه التي قيلت
من الطّرفين لا تخلو من دخل.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الاستواء وإن كان نكرة إلّا أنّ متعلّقه إذا كان جزئيّا لم يعمّ النفي ، بل
عموم نفي الاستواء من ذلك الوجه ، فإنّ قولنا : لم يضرب زيد عمرا ، يقتضي عموم نفي
ضرب زيد لعمرو لا مطلق ضرب زيد.
وأمّا الثاني :
فكذلك ، فإنّ نفي مطلق المساواة ، يقتضي عمومه ، لا عموم المضاف إليه.
وأمّا الثالث :
فلأنّ المساواة أعمّ من المساواة من كلّ وجه ، ومن المساواة من بعضها ، والدالّ
على المشترك ، لا إشعار له بأحد الجزئيّات ، فنفيه للعموم.
وأمّا الرابع :
فلأنّه معارض بمثله ، فإنّ نفي المساواة إنّما يصحّ على تقدير نفيها من كلّ الوجوه
، فإنّه ما من شيئين إلّا وهما غير متساويين من وجه ما ، وإذا صدق النفي كليّا ،
كان نقيضه جزئيّا.
وأمّا الخامس :
فإنّ الحقيقة إذا تعذّرت ، وجب الحمل على المجاز ، وهنا نقول : إن أمكن نفي
المساواة من كلّ وجه بطل منعكم ، وإلّا وجب الحمل على المجاز ، وكون الحقيقيّ
ممتنع الوجود ، لا يخرج اللّفظ عن وضعه.
__________________
وأمّا السادس :
فالمعارضة كما مرّ ، من أنّ نفي المساواة للعموم ، وإلّا لم يستقم إخبار نفي
المساواة ، لعدم الاختصاص.
قيل : إنّه يمكن أن يكون المراد لا يستويان في صفة من الصّفات.
وأجيب : بأنّ نفي
المساواة علق بأصحاب الجنّة وأصحاب النار ، ولم يعلّق بصفاتهم ، وإذا علق
بالفريقين ، كفى في افتراقهما أن يتنافيا في بعض الصفات.
وقد أجاب قاضي
القضاة عن تمسّك الشافعيّة بالآية ، بأنّا قد علمنا استواءهم في صفات الذّات ،
فعلمنا أنّه أراد : لا يستويان في بعض الصفات ، فإذا لم يذكر ذلك البعض ، صارت
الآية مجملة ، وقد ذكرنا في الآية الافتراق في الفوز ، فيجب حمل الآية عليه.
اعترضه ابو الحسين
بأنّا لو سلّمنا لهم أنّ الآية تفيد نفي اشتراكهم في كلّ الصفات أجمع ، لم يضرّهم
اشتراكهم في كثير من الصّفات ، لأنّ العموم إذا خرج بعضه ، لم يمنع من التعلّق
بباقيه .
__________________
المبحث الرّابع :
في الخطاب المصدّر بالنّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم
إذا ورد خطاب صدّر
بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مثل (يا أَيُّهَا
النَّبِيُ) ، (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ) ، (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) ، (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) لا يعمّ الأمّة إلّا بدليل منفصل ، وهو قول الشافعيّة.
وقال أبو حنيفة
وأحمد بن حنبل وأصحابهما : إنّه يكون خطابا للأمّة ، إلّا ما دلّ الدّليل فيه على
الفرق.
لنا : أنّ الخطاب
المخصوص بواحد ، لا يدلّ على حكم غيره في عرف اللّغة ، فإنّ من خاطب بعض عبيده
بخطاب موجّه إليه لا يكون ثابتا في حقّ الباقي ، وليس للسيّد ذمّهم على ترك
ما أمر به ذلك البعض.
وأيضا ، لو تناول
غيره ، لكان إخراج ذلك الغير تخصيصا ، وليس كذلك اتّفاقا.
وأيضا ، يحتمل أن
يكون الأمر للواحد المعيّن مصلحة له ، وهو مفسدة في حقّ غيره ، كما خصّ النبيّ
بأحكام لم يشاركه فيها أحد من أمّته ومع امتناع
__________________
اتّحاد الخطاب
وجواز الاختلاف في الحكم والمقصود ، يمتنع التشريك إلّا لدليل خارجيّ.
والمخالفون في ذلك
، إن زعموا أنّ مساواة حكم غيره له ، مستفاد من هذا اللفظ ، فهو جهالة ، وإن زعموا
أنّه مستفاد من دليل آخر ، مثل [قوله تعالى :](وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) وما شابهه ، فخروج عن هذه المسألة ، لأنّ الحكم لم يجب على
الأمّة بمجرّد خطاب النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بل بدليل آخر.
وإذا ثبت ذلك ،
ثبت أيضا أنّ خطاب الأمّة خاصّة لا يتناوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
احتجّ بأنّ العادة
قاضية بأنّ من كان مقدّما على قوم فإنّ أمره أمر لأولئك القوم ، ولهذا إذا أمر السّلطان
الوزير بالرّكوب إلى مبادرة العدوّ ، فإنّ أهل اللّغة يعدّون ذلك أمرا لأتباعه ،
وكذا إذا أخبر عنه بأنّه فتح البلد ، وكسر العدوّ ، فإنّه يكون إخبارا عن أتباعه.
والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قدوة للأمّة ، ومتبوع لهم ، فأمره ونهيه يكون أمرا لأتباعه.
ويؤيّده وضوحا
قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ولم يقل : إذا طلّقت النّساء فطلقهنّ ، وهو يدلّ على أنّ
خطابه خطاب أمّته.
__________________
وأيضا ، قال تعالى
: (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ) أخبره بأنّه اباحه ذلك ليكون مباحا [للأمّة] ولو كانت
الإباحة مختصّة به ، لم ينتف الحرج عن الأمّة.
وأيضا ، لو لم
يتعدّه الخطاب لم يكن لقوله [تعالى] : (خالِصَةً لَكَ)(نافِلَةً لَكَ) فائدة.
والجواب عن الأوّل
: يمنع من كون أمر المقدّم أمرا لأتباعه لغة ، ولهذا صحّ : أمر المقدّم ، ولم يأمر
الأتباع ، ولو حلف أنّه لم يأمر الأتباع لم يحنث.
وما ذكرتموه من
الأمثلة أمور جزئيّة استفيد منها مشاركة الأتباع لخصوصيّة الوقائع ، ولزوم توقّف
المقصود على أمر الأتباع ، بخلاف أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بشيء من العبادات ، أو بتحريم شيء من الأفعال.
وآية الطلاق ذكر
النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أوّلا للتشريف.
وعن الثاني : أنّ
قوله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها) لا حجّة فيه على المقصود وقوله تعالى : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ) لا يدلّ على أنّ نفي الحرج عن المؤمنين في أزواج أدعيائهم
مدلول
__________________
لقوله (زَوَّجْناكَها) بل غايته : أنّ رفع الحرج عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان لمقصود رفع الحرج عن المؤمنين ، وذلك حاصل بقياسهم
عليه بواسطة رفع الحاجة وحصول المصلحة ، وعموم الخطاب غير متعيّن لذلك.
وعن الثالث : أنّ
الفائدة نفي الإلحاق.
المبحث الخامس :
في الخطاب بالنسبة إلى المذكّر والمؤنّث
اللّفظ إن اختصّ
وصفا بأحدهما لم يتناول الآخر ، فلفظ الرّجال ، لا يتناول الإناث ، وكذا النّساء ،
لا يتناول الذّكور ، وإلّا حمل عليهما إن لم يقترن به ما يدلّ على أحدهما ،
كالنّاس ، ومثل : من دخل داري من أرقّائي فهو حرّ ، وكذا لو أوصى بهذه الصيغة ، أو
ربط بها توكيلا.
وقيل : إنّه مختص
بالذّكور ، لقولهم : من ، منان ، منون ، منة ، منتان ، منات.
وليس بصحيح ، لما
بيّنّا من أنّ ذلك ليس جمعا.
وإن اقترن به ما
يدلّ على التأنيث مثل : قمن ، لم يتناول الذكور إجماعا.
وإن اقترن به ما
يدلّ على الذكور مثل : قاموا ، والمسلمون ، لم يتناول الإناث على المذهب الحقّ.
لنا : أنّ الجمع
تضعيف الواحد ، وقولنا : قام المسلم ، لا يتناول المؤنّث ، فكذا تضعيفه وهو قاموا
، والمسلمون.
__________________
وأيضا ، قوله
تعالى : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ
وَالْمُسْلِماتِ) عطف جمع المؤنّث على جمع المذكّر ، ولو كان داخلا فيهم لم
يحسن العطف ، لعدم الفائدة.
وفيه نظر ، لجواز
عطف الخاصّ على العامّ ، كقوله : (وَجِبْرِيلَ) لقصد التنصيص.
وأيضا ، قالت أمّ
سلمة : إنّ النساء قلن : إنّ الله لم يذكر إلّا الرّجال ، فأنزل الله (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) ولو دخلن امتنع السؤال والتقرير عليه.
وأيضا ، روي أنّه عليهالسلام قال : «ويل للّذين يمسّون فروجهم ، ثمّ يصلّون ، ولا
يتوضئون» فقالت عائشة : «هذا للرّجال فما للنساء» ولو لا خروجهنّ من الجمع ، لما صحّ السؤال ولا التقرير
عليه.
احتجّوا بنصّ أهل
اللّغة على تغليب التذكير عند الاجتماع.
والجواب : لا نزاع
فيما نصّ أهل اللّغة عليه ، وليس محلّ النزاع ، فإنّ أهل اللّغة قالوا : «إذا
اجتمعا غلب المذكّر» وليس في ذلك دلالة على أنّ صيغة المذكّر توجب دخول المؤنّث
فيها.
قالوا : أكثر خطاب
الشرع بلفظ التذكير ، مع وقوع الإجماع على دخول
__________________
النساء في تلك
الأوامر ، ولو لا دخولهنّ في الخطاب ، لما كان كذلك.
قلنا : وكذا أكثر
اختصاص المذكّرين بخطاب التذكير ، كالجهاد وأحكامه ، وأحكام الجمعة ، فلو كان خطاب
التذكير يتناولهنّ ، لكان إخراجهنّ عن هذه الأحكام خلاف الأصل.
المبحث السادس :
في أنّ المقتضي لا عموم له
اعلم انّ المقتضي
هو ما أضمر لضرورة صدق المتكلّم ، وذلك بأن يكون اللّفظ لا يمكن إجراؤه على ظاهره
إلّا بإضمار شيء فيه ، إذا عرفت هذا فنقول :
إذا كان ما يمكن
إضماره متعدّدا ، بحيث أيّ واحد منها فرض إضماره صدق الكلام وتمّ ، فهل يجوز إضمار
الجميع أم لا؟
الحقّ : أنّه لا
يجوز ، وهذا معنى قول الفقهاء : «المقتضي لا عموم له» مثاله قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع عن أمّتي الخطاء والنسيان وما استكرهوا عليه» فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أخبر عن رفع الخطأ والنسيان ، ويتعذّر حمله على الحقيقة
تحقق الخطأ والنسيان من الأمّة ، فلا بدّ من إضمار حكم يمكن نفيه من الأحكام
الدّنيوية أو الأخرويّة ، ضرورة صدقه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وذلك الحكم المضمر
، قد يكون في الدّنيا ، كإيجاب الضّمان ، وقد يكون في الآخرة كرفع التأثيم ، ولا
يمكن إضمارهما ، لأنّ الدّليل ينفي جواز الإضمار ،
__________________
خالفناه في الحكم
الواحد للضّرورة ، ولا ضرورة في غيره ، فيبقى على أصل المنع.
لا يقال : اللّفظ
يدلّ على رفع الجميع ، لأنّ رفعهما مستلزم لرفع جميع أحكامهما وإذا تعذّر العمل به
في نفي الحقيقة ، تعيّن العمل به في نفي الأحكام.
سلّمنا أنّه لا
يدلّ وضعا ، فلم لا يدلّ عرفا؟ بيانه : أنّه يقال : ليس للبلد سلطان ، وليس له
ناظر ولا مدبّر ، ويراد به نفي الصفات.
سلّمنا ، لكن يجب
إضمار الجمع ، لأنّه يجعل وجود الخطأ كعدمه ، ولعدم أولويّة البعض ، فإمّا أن لا
يضمر بشيء البتّة ، وهو باطل بالإجماع ، أو يضمر الجميع ، وهو المراد.
لأنّا نقول :
إنّما يستلزم اللّفظ نفي جميع الأحكام بواسطة نفي حقيقة الخطأ ، فإذا لم يكن [الخطأ]
منفيّا ، لم يكن مستلزما لنفي الجميع ، والأصل في الكلام الحقيقة.
وفيه نظر ، لتعذّر
الحقيقة هنا ، فيحمل على أقرب مجازاتها ، وهو الجمع.
والتحقيق : رجوع
هذا إلى التعارض بين المجاز والإضمار ، والعرف طار ، إذ ليس المراد بقولنا : ليس
للبلد سلطان ، نفي الجميع ، وإلّا لم يكن موجودا ولا عالما ولا قادرا.
__________________
ونفي الجميع ، وإن
كان أقرب إلى الحقيقة ، لكنّه يوجب تكثّر مخالفة الدليل المقتضي للأحكام ، وهو
وجود الخطأ والنسيان.
وعدم الأولويّة ،
إنّما يلزم لو أضمرنا واحدا معيّنا ، ولسنا نقول به ، بل نضمر واحدا لا بعينه ،
والتعيين من الشارع.
لا يقال : يلزم
الإجمال ، وهو على خلاف الأصل.
لأنّا نقول :
وإضمار الكلّ يستلزم زيادة الإضمار وتكثّر مخالفة الدّليل على ما تقدّم ، وكلّ
منهما على خلاف الأصل.
ثمّ أصولنا إن
كانت راجحة على ما ذكروه ، لزم العمل بها ، وإن كانت مساوية ، فهو كاف في هذا
المقام في نفي زيادة الإضمار ، وهما تقديران.
وما ذكروه ، يمكن
التمسّك به لو كان راجحا ، وما يتمّ التمسّك به على تقديرين ، أرجح ممّا لا يمكن
التمسّك به إلّا على تقدير واحد.
وأيضا ، الإجمال
إنّما يلزم لو لم يظهر أولويّة إضمار البعض ، ونحن نمنع ذلك ، فإنّ أكثر ما يجب
إضمار شيء فيه ، يعرف من حيث العادة ما هو المضمر فلا إجمال.
المبحث السّابع :
في الفعل المتعدّي [إلى مفعول]
مثل : والله لا
آكل ، أو إن أكلت فأنت حرّ ، لا بدّ له من مفعول.
وقد اختلفوا :
فذهبت الأشاعرة ، والإماميّة إلى تعلّقه بمفعول عامّ يعمّ جميع المأكولات ، وبه
قال أبو يوسف.
وقال أبو حنيفة :
إنّه لا يعمّ الجميع.
وتظهر الفائدة في
أنّه لو نوى مأكولا معيّنا قبل عند الأشاعرة ، والإماميّة ، حتّى أنّه لا يحنث
بأكل غيره ، لأنّ اللّفظ عامّ يقبل التخصيص ببعض مدلولاته.
وقال أبو حنيفة :
لا يقبل التّخصيص ، لأنّ التخصيص من توابع العموم ، ولا عموم هنا.
حجّة القائلين
بالتعميم ، أمّا في النفي ، كما في قوله : والله لا أكلت ، أنّ الفعل فيه لا بدّ
له من مفعول ، ويتعدّى إليه بصيغته ووضعه ، فإذا قال : «لا أكلت» فقد نفى حقيقة
الأكل من حيث هو أكل ، ويلزم منه نفيه بالنسبة إلى كلّ مأكول ،
__________________
وإلّا لم يكن
نافيا لحقيقة الأكل من حيث هو أكل ، وهو خلاف دلالة لفظه ، وإذا ثبتت دلالة لفظه
على نفي حقيقة الأكل بالنسبة إلى كل مأكول فقد ثبت عموم لفظه بالنّسبة إلى كلّ
مأكول ، فكان قابلا للتّخصيص.
وأمّا في طرف
الإثبات وهو : إن أكلت فأنت حرّ ، فلأنّ وقوع الأكل المطلق يستدعي مأكولا مطلقا ،
لكونه متعدّيا إليه ، والمطلق ما كان شائعا في جنس المقيّدات الدّاخلة تحته ، فكان
صالحا لتفسيره وتقييده بأيّ واحد منها كان ، ولهذا لو قال الشّارع : أعتق رقبة ،
صحّ تقييدها بالمؤمنة ، ولو لا دلالة المطلق على المقيّد دلالة ، لما صحّ تفسيره
به.
وأيضا ، أجمعنا
على أنّه لو قال : إن أكلت أكلا ، صحّت نيّة التخصيص فكذا لو قال : إن أكلت ، لأنّ
الفعل مشتقّ من المصدر ، والمصدر موجود فيه.
لا يقال : على
الأوّل أنّ حقيقة الأكل لا يتمّ نفيا ، ولا إثباتا ، إلّا بالنّسبة إلى المكان
والزمان ، ومع ذلك لو نوى بلفظه مكانا معيّنا ، وزمانا معيّنا ، لم يقبل.
وعلى الثاني ، أنّ
المصدر هو الماهيّة ، وهي لا تقبل التخصيص.
وأمّا قوله : «أكلا»
فليس في الحقيقة مصدرا ، لأنّه يفيد أكلا واحدا منكّرا ، والمصدر ماهيّة الأكل
وقيد التكثير والوحدة خارجان عن الماهيّة.
وكونه منكّرا ،
ليس وصفا قائما به ، بل معناه : أنّ القائل ما عيّنه ، والّذي
__________________
يكون متعيّنا في
نفسه ، لكنّ المتكلّم ما عيّنه قابل للتعيين ، فقد نوى ما يحتمله الملفوظ.
لأنّا نجيب عن
الأوّل ، بالمنع من عدم قبول التخصيص في الطرفين ، وبالفرق ، فإنّ الفعل غير متعدّ
إليهما بل هما من ضروراته ، فلم يكن اللّفظ دالا عليه بالوضع ،
فلذلك لم يقبل تخصيص لفظه به ، لأنّ التّخصيص هو حمل اللّفظ على بعض مدلولاته لا
غير ، بخلاف المأكول.
وفيه نظر ، لأنّ
الدّلالة أعمّ من الالتزاميّة وغيرها ، والجميع قابل للتخصيص.
وعن الثاني ، بأنّ
المحلوف عليه ليس هو المفهوم من الأكل الكلّي الّذي لا وجود له إلّا في الأذهان ،
وإلّا لما حنث بالأكل الخاصّ ، إذ هو غير المحلوف عليه ، فلم يبق المراد إلّا أكلا
مقيّدا من جملة الأكلات المقيّدة الّتي يمكن وقوعها في الأعيان أيّ واحد منها كان
، وإذا كان لفظه لا إشعار له بغير المقيّد ، صحّ تفسيره به.
حجّة القائلين
بعدم التّعميم : أنّ نيّة التخصيص لو صحّت لصحّت إمّا في الملفوظ ، أو في غيره ،
والقسمان باطلان ، فبطلت تلك النيّة.
أمّا بطلان
الملفوظ ، فلأنّه هو الأكل ، وهو ماهيّة واحدة ، لأنّه مشترك بين أكل هذا الطّعام
، وأكل ذلك الطّعام ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز ، فماهيّة
__________________
الأكل من حيث هي
هي ، مغايرة لقيد هذا أو ذاك ، وغير مستلزمة لها ، والمذكور إنّما هو الماهيّة ،
وهي لا تقبل العدد ، فلا تقبل التخصيص.
نعم الماهيّة ،
إذا اقترنت بهذا أو ذلك وما عداهما من العوارض الخارجيّة ، تعدّدت ، فقبلت
التّخصيص ، لكنّها قبل تلك العوارض لا تكون متعدّدة فلا تحتمل التخصيص ، لكنّ تلك
الزوائد غير ملفوظة ، فالمجموع الحاصل منها ومن تلك الماهيّة غير ملفوظ.
وأمّا الثاني ،
وهو أن يكون التخصيص في غير الملفوظ ، فإنّه وإن كان جائزا عقلا إلّا أنّ الدّليل
الشرعيّ منع منه ، لأنّ إضافة ماهيّة الأكل إلى مأكول معيّن تارة ، وإلى غيره أخرى
إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول به.
وإضافتها إلى هذا
اليوم وذاك وإلى هذا المكان وذاك ، إضافات عارضة بحسب اختلاف المفعول
فيه.
ثمّ الإجماع على
عدم قبول التخصيص في المكان والزمان ، فكذا في المفعول به ، يجامع رعاية الاحتفاظ
في تعظيم اليمين ، وممّا تقدّم يعرف الجواب على التقديرين.
__________________
المبحث الثامن :
في ترك الاستفصال
اعلم أنّ ترك
الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال يقوم مقام العموم في المقال ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لابن غيلان وقد أسلم على عشر [نسوة] : «أمسك أربعا منهنّ ، وفارق
سائرهنّ» ، ولم يسأل عن كيفية العقد عليهنّ هل وقع دفعة أو مترتّبا
، وكان إطلاق القول دالّا على عدم الفرق بين الترتيب في العقود ، وبين حصولها
دفعة.
والأقرب ، التفصيل
فنقول : إن علم أو ظنّ أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يعلم خصوص الحال ، وجب القول بالعموم ، وإلّا لبيّن صلىاللهعليهوآلهوسلم الفرق ، وإن لم يعلم ذلك ، لم يحكم بالعموم ، لاحتمال أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم عرف خصوصيّة الواقعة ، فترك الاستفصال ، بناء على معرفته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
المبحث التاسع :
في العطف على العامّ
العطف على العامّ
لا يقتضي العموم ، لأنّ مقتضاه الجمع مطلقا ، وذلك جائز بين الخاصّ والعامّ. قال
الله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ) وهذا عامّ ، ثمّ قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهو خاصّ .
وفيه نظر ، فإنّ
الكناية هنا عائدة إلى المطلّقات المذكورة أوّلا ، وإنّما يتحقّق حكم المعطوف في
الرّجعيّات ، فيكون المعطوف عليه هو الرّجعيّات أيضا.
على أنّ لمانع أن
يمنع كون ذلك عطفا على المطلّقات ، لاحتمال كونه عطف جملة على أخرى ، فليطلب غير
هذا المثال.
المبحث العاشر :
في الخطاب الشفاهي
اختلف الناس في
ذلك ، نحو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) هل هو خطاب للموجودين في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم أو هو عامّ لهم ولمن بعدهم؟
فذهب المعتزلة
وأكثر الأشاعرة والحنفية ، إلى أنّه مختصّ بالموجودين
__________________
في عصره صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا يثبت حكمه في حقّ الموجودين بعده إلّا بدليل آخر.
وذهبت الحنابلة
وجماعة من الفقهاء ، إلى أنّ ذلك الخطاب يتناول من بعدهم.
حجّة الأوائل
وجهان :
الأوّل : الّذين
سيوجدون لم يكونوا موجودين في ذلك الوقت ، ومن لم يكن موجودا في ذلك الوقت لم يكن
إنسانا ، ولا مؤمنا ، فلا يتناوله خطاب المؤمنين.
الثاني : المجنون
والصبيّ أقرب إلى الخطاب ، لوجودهما واتّصافهما بالإنسانيّة ، وأصل الفهم ،
وقبولهما التأديب بالضّرب وغيره ، مع أنّ المخاطب لهما سفيه فكيف المعدوم الّذي هو عمّا ذكرناه أبعد.
حجّة الآخرين وجوه
:
الأوّل : قوله
تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بعثت إلى الأسود والأحمر» وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة».
__________________
الثاني : لو لم
يكن خطابه صلىاللهعليهوآلهوسلم متناولا لنا ، لم يكن رسولا إلينا ، والتّالي باطل
بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
الثالث : إجماع
الصحابة ، ومن بعدهم من التابعين ، وغيرهم ، قرنا بعد قرن على الاحتجاج في المسائل
الشرعية على من وجد بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالآيات والأخبار المنقولة عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولو لا عموم تلك الدلائل اللّفظيّة لمن وجد بعد ذلك ، لم
يكن التمسّك بها صحيحا ، والإجماع لا ينعقد على الخطأ.
الرابع : كان صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا أراد تخصيص أحد بحكم ، نصّ عليه وبيّنه كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأبي بردة : «يجزئ عنك ولا يجزئ عن أحد بعدك» وخصّص عبد الرّحمن بن عوف بلبس الحرير ، وحيث لم يتبيّن التخصيص علم العموم.
والفريق الأوّل
حكموا في حقّنا بحكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم وبالآيات الواردة في حقّ من شافهه صلىاللهعليهوآلهوسلم بالخطاب ، للعلم الضروريّ بذلك من دين محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثمّ أجابوا عن الأوّل : بأنّ [لفظ] الناس ، والجماعة ،
والأسود ، والأحمر ، إنّما يتناول الموجودين في ذلك الزّمان ، فيختص بالحاضرين ،
ويدخل تحت صورة النزاع ، فلا يجوز التمسّك به فيه.
__________________
وأيضا ، النّصوص
الدّالة على كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم مبعوثا إلى الناس كافّة ، إنّما تلزم لو توقّف مفهوم
الرّسالة والبعثة إلى كلّ النّاس على المخاطبة للكلّ بالأحكام الشّرعية شفاها ،
وليس كذلك ، بل ذلك يتحقّق بتعريف البعض بالمشافهة ، وتعريف الآخرين بنصب الدّلائل
والأمارات ، واجتهاد المجتهد باستخراج أحكام بعض الوقائع من بعض ، لكثرة الأحكام
الشرعية ، وعدم النصّ على كلّ واحد منها عينا ، وكثرة الوقائع.
ولا يلزم من ذلك
أن لا يكون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم رسولا ولا مبلّغا بالنسبة إلى الأحكام الّتي لم تثبت
بالنصوصيّة من خطابه ، وكذا في الأحكام الّتي لم تثبت بالخطاب شفاها.
لا يقال : الدلائل
الّتي يمكن الاحتجاج بها في الأحكام الشرعيّة على من وجد بعد النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم غير الخطاب ، إنّما يعلم كونها حجّة بالدلائل الخطابيّة ،
فإذا كان الخطاب الموجود في زمن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لا يتناول من بعده ، فقد تعذّر الاحتجاج به عليه.
لأنّا نقول : يمكن
معرفة كونها حجّة بالنّقل عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، أنّه حكم بكونها حجّة على من بعده ، أو بالإجماع المنقول
عن الصّحابة وغيرهم على ذلك ، وهو الجواب عن الثاني.
وعن الثالث : أنّ
الإجماع على أنّا مكلّفون بمثل ما كلّفوا به ، أمّا على أنّا مخاطبون بذلك الخطاب
ممنوع ، وذلك لأنّ الله تعالى عرّفنا أنّا مكلّفون حال وجودنا بمثل تكليف من عاصر
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ الخطاب للمعدوم ممتنع
بالضّرورة ، فيجب
اعتقاد استناد أهل الإجماع بالنّصوص من جهة معقولها ، لا من جهة ألفاظها ، جمعا
بين الأدلّة.
وعن الرابع : أنّ
التخصيص لفائدة قطع الإلحاق.
المبحث الحادي عشر
: في رواية الرّاوي
ويشتمل على مسائل
:
الأولى : قول الصّحابي : «نهى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن البيع الغرر» لا يفيد العموم في كلّ غرر ، وكذا : «قضى بالشفعة للجار»
لا يقتضي تعميم كلّ جار وعليه أكثر الأصوليّين ، خلافا لشذوذ.
لنا : أنّه حكاية
والحجة في المحكيّ لا الحكاية ، ولعلّ الرّاوي رأى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نهى عن فعل خاصّ لا عموم له فيه غرر ، وكذا قضى لجار
مخصوص بالشفعة ، كما تقوله الإماميّة من ثبوتها للجار مع الشركة في الطريق أو
النّهر ، فنقل صيغة العموم لظنّه عموم الحكم.
ويحتمل أنّه سمع
صيغة ظنّها عامّة ، وليست [عامّة] ، وبالجملة فالاحتمال قائم ، وحينئذ لا قطع
بالعموم. بل ولا ظنّ ، والاحتجاج إنّما هو في المحكيّ لا الحكاية.
__________________
ويمكن أن يقال :
إن كان الرّاوي من أهل المعرفة بمفهومات الألفاظ ، فالظاهر العموم ، لأنّه لم ينقل
صيغة العموم ، إلّا وقد سمع صيغة تدلّ عليه ، وإلّا كان طعنا في معرفته أو عدالته
، إذ هما يقتضيان المنع من إيقاع الناس في ورطة الالتباس ، وذلك يثمر الظنّ بالعموم ، فيكون حجّة ، لوجوب العمل بظنّيات الأدلّة
النقليّة كمعلوماتها.
وأمّا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «قضيت بالشفعة للجار» وقول الرّاوي : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قضى بالشفعة للجار فإنّ الاحتمال وإن كان قائما ، إلّا أنّ
جانب العموم أقوى.
الثانية : قول الرّاوي : إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يجمع بين الصلاتين قيل : إنّه يقتضي التكرار في العرف
، فإنّه لا يقال : كان فلان يتهجّد باللّيل ، إذا تهجّد مرّة واحدة ، وكذا لو قيل
: كان فلان يكرم الضّيف ، فإنّه يفيد التكرار.
وقيل : لا يفيده ، لأنّ لفظة كان لا تفيد إلّا تقدّم الفعل ،
فأمّا التكرار فلا.
الثالثة : قيل : قول الرّاوي : «صلّى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم بعد الشّفق» أنّه محمول على أنّه صلّى بعد الشّفقين ، أعني
الحمرة والبياض ، فهذا إنّما يصحّ لو قلنا إنّ المشترك يراد به كلا معنييه ، فكأنّ
الرّاوي قال : إنّه صلّى بعد الشّفقين.
__________________
وقد بيّنا أنّه
إنّما يراد المجموع على سبيل المجاز ، لكنّ المجاز خلاف الأصل ، لا يصار إليه إلّا
لدليل ، وحينئذ احتمل أن يكون «قد صلّى بعد الحمرة» وأن يكون «قد صلّى بعد البياض»
فلا يمكن حمل ذلك على وقوع الصّلاة بعدهما.
الرابعة : الفعل وإن انقسم إلى أقسام وجهات ، فالواقع منه لا يقع إلّا
على وجه واحد منها ، فلا يكون عامّا لجميعها بحيث يحمل وقوعه على جميع جهاته ، وذلك كما روي ، أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم «صلّى داخل الكعبة»
فإنّ الصّلاة الواقعة احتمل أن تكون فرضا ، وأن تكون نفلا ، فلا يمكن وقوعها على
وجهي الفرض والنفل معا ، وحينئذ لا يمكن الاستدلال بذلك على جواز الفرض والنّفل
داخل الكعبة ، إذ لا عموم للفعل ولا يمكن تعيين أحدهما إلّا بدليل.
وكذا قول الرّاوي
: إنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يجمع بين الصّلاتين في السّفر ، فإنّه يحتمل وقوع ذلك
في وقت الأولى ، ويحتمل وقوعه في وقت الثانية ، وليس في نفس وقوع الفعل ، ما يدلّ
على وقوعه فيهما ، بل في أحدهما ، والتّعيين يفتقر إلى الدّليل.
وأمّا وقوع ذلك
منه صلىاللهعليهوآلهوسلم متكرّرا ، على وجه يعمّ سفر النّسك وغيره ، فالبحث فيه قد
تقدّم.
وقد ظهر من هذا
أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم سواء كان واجبا أو مباحا ، لا عموم له
__________________
بالقياس إلى غيره
، إلّا أن يدلّ دليل من خارج على التأسّي.
لا يقال : الإجماع
على وجوب الغسل من التقاء الختانين ، والمستند قول عائشة : «فعلته أنا ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم فاغتسلنا» ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان إذا سئل عن حكم أجاب بما يخصّه ، وأحال معرفة ذلك على
فعل نفسه ، كما سألته أمّ سلمة عن الاغتسال ، فقال : أمّا أنا فأفيض الماء على
رأسي ، وسئل عن قبلة الصّائم قال : أنا أفعل ذلك ، ولو لا عموميّة الفعل ، لما كان
كذلك.
لأنّا نقول : قد
ثبت عموم التأسّي به صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا بحث فيه.
ولأنّ قول عائشة :
«فعلته أنا ورسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم» يشعر بعموميّة الحكم في حقّها ، فيكون عامّا في حقّ
الكلّ.
وجوابه صلىاللهعليهوآلهوسلم بفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم عقيب السؤال يشعر بالعموميّة ، وإلّا لزم تأخير البيان عن
وقت الحاجة ، وهو محال.
المبحث الثاني عشر
: في المفهوم
قال الغزالي : «المفهوم
على رأي من يقول به ، لا عموم له ، لأنّ العموم لفظ تتشابه دلالته بالإضافة إلى
مسمّياته ، والمتمسّك بالمفهوم والفحوى لا يتمسّك بلفظ ، بل بسكوت ، فإذا قال «في
سائمة الغنم زكاة» فنفي الزكاة عن المعلوفة ، ليس بلفظ حتّى يكون عامّا أو خاصّا ،
وقوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
__________________
أُفٍ) دلّ على تحريم الضّرب لا بلفظه المنطوق [به] حتّى يتمسّك
بعمومه ، والعموم من عوارض الألفاظ لا المعاني والأفعال».
قيل عليه : إن كنت
لا تسمّيه عموما ، لأنّك لا تطلق لفظ العامّ إلّا على الألفاظ ، فالنّزاع لفظيّ ،
وإن كنت لا تسمّيه عموما ، لأنّه لا يعرف منه انتفاء الحكم عن جميع ما عداه ،
فباطل ، لأنّ البحث عن المفهوم هل له عموم ، فرع كونه حجّة ، فإذا ثبت كونه حجّة ،
لزم الحكم بنفي الحكم عمّا عداه ، إذ لو ثبت في غير المذكور ، انتفت فائدة التخصيص
بالذّكر.
والتّحقيق : أنّ
النزاع هنا لفظيّ ، لأنّ مفهومي المخالفة والموافقة عامّ فيما سوى المنطوق بلا
خلاف.
والغزالي أراد أنّ
العموم لم يثبت بالمنطوق ، ولا خلاف فيه فإذن النّزاع هنا غير متحقّق.
المبحث الثالث عشر
: في الجمع المضاف إلى الجمع
قال الأكثر : إنّ
قوله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) يقتضي أخذ الصّدقة من كلّ نوع من أنواع المال.
والأقرب ، المنع.
__________________
لنا : أنّه بصدقة
واحدة يصدق أنّه أخذ منها صدقة ، فيحصل الامتثال.
ولأنّه لو كان
كذلك ، لوجب أن يأخذ من كلّ دينار ، وهو باطل اتّفاقا.
احتجّوا بأنّ
المعنى : خذ من كلّ مال» فيجب العموم.
والجواب ، المنع ،
فإنّ كلّا ، للتفصيل ، ولهذا فرق بين قولهم : «للرّجال عندي درهم» وبين «لكلّ رجل
عندي درهم».
والأصل في ذلك أنّ
هذه الإضافة تقتضي توزيع الجميع على الجميع ، فلا يجب التّعميم في كلّ فرد من
أفراد المضاف ، بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد المضاف إليه.
__________________
الباب الثاني :
في الخصوص
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في تعريفه
قيل : الخاصّ هو كلّ ما ليس بعامّ ويدخل فيه الألفاظ المهملة.
ولأنّ العامّ
والخاصّ متباينان ، فتعريف أحدهما بالآخر دوريّ ، وإن جعلا ضدّين ، لم يكن تعريف
أحدهما بالآخر ، أولى من العكس.
ولأنّ الخاصّ من الأمور
الإضافيّة ، فالإنسان خاصّ بالنسبة إلى الحيوان ، ومع ذلك فهو عامّ ، إلّا ان يعنى
بالخاصّ الجزئيّ الحقيقيّ.
وإن قيل : إنّه
ليس بعامّ من جهة ما هو خاصّ دار.
والتحقيق أن نقول
: الخاصّ قد يكون مطلقا لا بالقياس إلى غيره ، وهو
__________________
الجزئيّ الحقيقيّ
، وقد يكون إضافيّا بالقياس إلى ما هو عامّ ، ويقال بإزائه ، وهو اللّفظ الّذي
يقال على مدلوله وعلى غير مدلوله لفظ آخر من جهة واحدة ، كالإنسان ، فإنّه خاصّ ،
ويقال على مدلوله وعلى غيره كالفرس لفظ الحيوان من جهة واحدة.
وأمّا التخصيص ،
فقال أبو الحسين : إنّه إخراج بعض ما تناوله الخطاب عنه .
قيل : انّه لا يمكن حمله على ظاهره على كلّ مذهب :
أمّا [على] مذهب
أرباب الخصوص ، فلأنّ الخطاب عندهم منزّل على أقلّ ما يحتمله اللّفظ ، فلا يتصوّر
إخراج شيء منه.
وأمّا [على] مذهب
أرباب الاشتراك ، فلأنّ العمل بالمشترك في بعض محامله لا يكون إخراجا لبعض ما
تناوله الخطاب عنه ، بل غايته استعمال اللّفظ في بعض محامله دون البعض.
وأمّا [على] مذهب
الوقف ، فلأنّ اللّفظ عندهم موقوف ، لا يعلم كونه للخصوص أو للعموم ، وهو صالح
لاستعماله في كلّ واحد منهما ، فإن قام الدّليل على أنّه أريد به العموم ، وجب
حمله عليه ، وامتنع إخراج شيء منه.
وإن قام الدليل
على أنّه للخصوص ، فلم يكن دالّا على العموم ، ولا متناولا له ، فلا يتحقّق بالحمل
على الخاصّ إخراج بعض ما تناوله اللفظ على بعض محامله الصّالح لها.
__________________
وأمّا [على] مذهب
العموم ، فغايته أنّ اللّفظ حقيقة في الاستغراق ، ومجاز في الخصوص ، فإن لم يقم
دليل على مخالفة الحقيقة ، وجب إجراء اللّفظ على جميع محامله ، من غير إخراج شيء
منها ، وإن قام [دليل] على مخالفتها ، وامتناع العمل بالاستغراق ، وجب صرفه إلى
محمله المجازيّ ، وهو الخصوص.
وعند حمل اللفظ
على المجاز ، لا يكون اللّفظ متناولا للحقيقة ، وهي الاستغراق ، فلا يتحقّق إخراج
بعض ما تناوله الخطاب عنه ، لأنّ عند كونه مستعملا في معناه المجازيّ ، لا يكون
مستعملا في الحقيقة ، فإطلاق القول بتخصيص العامّ ، أو أنّ هذا عامّ مخصوص ، لا
يكون حقيقة ، ويناسب قول أرباب العموم : إنّ التخصيص [هو] تعريف أنّ المراد
باللّفظ الموضوع للعموم حقيقة ، هو الخصوص ، وقول الاشتراك : تعريف أنّ المراد
باللفظ الصالح للعموم والخصوص ، إنّما هو الخصوص ، والمعرّف لذلك أيّ شيء كان ،
يسمّى مخصّصا ، واللّفظ المصروف عن جهة العموم إلى الخصوص ، مخصّصا .
وفيه نظر ، فإنّ
الإخراج كما يكون عن الدّخول بالفعل ، كذا يكون عن الدخول بالصّلاحيّة.
والقائلون بالخصوص
، وإن كان اللّفظ إنّما يفيد قطعا أقلّ مراتبه ، إلّا أنّه صالح للعموم ، وكذا عند
القائلين بالاشتراك وبالوقف ، فتحقّق الإخراج حقيقة ،
__________________
لصلاحيّة دخول
المخرج بالتّخصيص تحت اللّفظ.
وأمّا القائلون
بالعموم ، فالإخراج عندهم ظاهر ، إذ اللّفظ موضوع للعموم ، ولو لا المخصّص لدخل
المخصوص في التناول قطعا أو ظاهرا ، لكن وجوده منع من الدّخول ،
ولا نعني بالإخراج سوى ذلك.
فقولنا : العامّ
مخصوص ، معناه : أنّ المتكلّم استعمل العامّ في بعض ما وضع له.
وعند الواقفية ،
أنّه أراد به بعض ما يصلح له ذلك اللفظ دون البعض.
وأمّا المخصّص
للعموم ، فيقال على سبيل الحقيقة على شيء واحد ، [و] هو إرادة المتكلّم لأنّها هي
المؤثّرة في إيقاع ذلك الكلام لإفادة البعض ، فإنّ الخطاب إذا صلح للعموم والخصوص
، صرف إلى أحدهما بالإرادة.
وأمّا بالمجاز
فيقال [على شيئين : أحدهما] على من أقام الدّلالة على كونه مخصوصا في ذاته ، و [ثانيهما]
على من اعتقد ذلك ، وإن كان ذلك الاعتقاد باطلا ، ويقال : إنّ فلانا خصّ العموم
بمعنى : أنّه علم من حاله ذلك بالدّليل ، ويقال : خصّه بمعنى : وصفه .
__________________
المبحث الثاني :
في الفرق بين التخصيص والنسخ
قالت المعتزلة :
الفرق بينهما باعتبار تراخي الوقت وعدمه ، فإنّ النسخ يجب فيه التراخي ، دون
التخصيص.
واعلم أنّ النسخ
في الحقيقة راجع إلى نوع تخصيص ، لأنّه رفع الحكم بعد ثبوته في زمان آخر ، فكان
تخصيصا للحكم بزمان معيّن بطريق خاصّ ، فيكون الفرق بينهما فرق ما بين العامّ
والخاصّ.
وقد ذهب قوم إلى
أنّ التخصيص ليس جنسا للنسخ ، واعتبروا في التخصيص أمورا لفظيّة أخرجوه بها عن
كونه جنسا ، وهي سبعة :
الأوّل : التخصيص
إنّما يكون فيما يتناوله اللفظ ، والنسخ قد يصحّ فيما علم بالدّليل أنّه مراد وإن
لم يتناوله اللّفظ.
الثاني : يصحّ نسخ
شريعة بأخرى ، ولا يمكن ذلك في التخصيص.
الثالث : النسخ
رفع الحكم بعد ثبوته ، والتخصيص ليس كذلك.
الرابع : النسخ يجب
فيه التراخي دون التخصيص ، فإنّه قد يجب فيه المقارنة.
الخامس : التخصيص
قد يقع بخبر الواحد ، بخلاف النسخ.
السادس : التخصيص
إنّما يكون في جملة ، والنسخ يدخل على العين الواحدة.
السابع : النسخ قد
يكون لفعل بفعل ، بخلاف التخصيص.
وأمّا الفرق بين
التخصيص والاستثناء فرق ما بين العامّ والخاصّ أيضا.
وقيل : إنّ
الاستثناء مع المستثنى منه ، كاللّفظ الواحد الدالّ على شيء واحد ، والتخصيص ليس
كذلك.
ولأنّ التخصيص ،
يثبت بقرائن الحال فقوله : رأيت الناس ، يفهم بالقرينة عدم رؤية الجميع ،
والاستثناء لا يحصل بالقرينة.
ولأنّ التخصيص ،
يجوز تأخيره لفظا ، ولا يجوز تأخير الاستثناء.
والوجه ما قلناه ،
من أنّ التخصيص جنس للنسخ والاستثناء.
المبحث الثالث :
فيما يجوز تخصيصه
قد عرفت فيما سلف
أنّ التخصيص هو : إخراج بعض ما تناوله الخطاب ، فلا بدّ وأن يكون ذلك الخطاب فيه
عموم ، وشموله إمّا مطلق أو بالاضافة ، فإنّ ما لا عموم فيه البتّة بوجه ما ، لا
يصحّ فيه التخصيص ، إذ لا يعقل له بعض يخرج عنه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لأبي بردة : «يجزئ عنك ، ولا يجزئ أحدا بعدك» لا يعقل
التخصيص في الحكم الأوّل ، لعدم تعدّده بالنّسبة إلى الشّخص المفعول ، لا بالنّسبة
إلى متعلّقات الفعل من الطرف وغيره ، ويعقل في الثاني.
وإذا عرفت هذا ،
فالّذي يتناول أكثر من واحد ، إمّا أن يكون عمومه من جهة اللّفظ ، ويصحّ تطرّق
التخصيص إليه ، أو من جهة المعنى ، وهو ثلاثة :
الأوّل : العلّة
الشرعية ، وفي تخصيصها خلاف يأتي.
الثاني : مفهوم
الموافقة ، كدلالة تحريم التأفيف ، على تحريم الضّرب ، ويقبل التخصيص إذا لم يعد
بالنقض على الملفوظ ، كتقييد الأمّ إذا فجرت ، وقتل الوالد إذا ارتدّ ، أمّا لو
عاد بالنقض إليه ، فإنّه لا يجوز.
الثالث : مفهوم
المخالفة ، ويقبل التخصيص مطلقا ، فإنّه يفيد انتفاء الحكم
في المسكوت عنه ،
ويجوز قيام دلالته على ثبوته في بعض أفراده.
إذا ثبت هذا ، فلا
فرق بين الأمر والخبر إذا اشتملا على شمول وعموم في جواز تخصيصهما ، وإطلاق لفظ
العامّ فيهما لإرادة الخاصّ.
وقد حكي أنّ قوما
منعوا من ذلك في الأمر والخبر ، والمحقّقون على جوازه فيهما.
أمّا الخبر ،
فلأنّ المقتضي لقبول التخصيص موجود فيه ، والمانع لا يصلح للمانعيّة ، فوجب القول
بجوازه.
أمّا الأوّل ،
فنقول : التخصيص إنّما هو من حيث العموم والشمول ، وجواز إرادة الخاصّ من العامّ
على سبيل المجاز.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ التّجوز غير ممتنع في ذاته ، وإلّا لزم من فرضه محال ، ولا من حيث الوضع ،
فإنّه يصحّ أن يقول اللّغوي : «جاءني كلّ الناس» وإن تخلّف بعضهم ، ولا بالنظر إلى
الداعي ، والأصل عدم كلّ مانع سوى ذلك.
وأيضا ، الوقوع
دلّ على جوازه ، وقد ثبت لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ).
(وَهُوَ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ) وليس خالقا لذاته ، ولا قادرا عليها.
__________________
وقوله : (ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وقد أتت على الأرض والجبال ، ولم تجعلها رميما.
وقوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ)(وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
إلى غير ذلك من
الآيات.
احتجّوا بأنّه
يوهم الكذب ، فإنّه إذا أراد بالعامّ بعضه في الخبر ، لزم ذلك ، لما فيه من مخالفة
المخبر للخبر ، ولو كان جواز حمله على التخصيص مانعا من كونه كذبا ، لم يوجد كذب
البتّة.
والجواب : لا كذب
مع قيام دليل التّخصيص.
وأمّا الأمر ،
فلما تقدّم.
ولقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) مع خروج أهل الذمّة عنه.
وكذا قوله تعالى :
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) و (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) مع عدم قطع كلّ سارق ، وعدم جلد كلّ زان ، وغيرها من
الآيات.
احتج المخالف
بأنّه يوهم البداء.
__________________
والجواب لا بدّ له
مع قيام المخصّص ، وقد بيّنا أنّه تعالى يجوز أن يخاطب بالمجاز كما يخاطب
بالحقيقة ، وفي القرآن ضروب كثيرة من المجاز ، وأكثر عمومات القرآن قد أريد بها
الخصوص حتّى قيل : إنّه لم يرد عامّ إلّا وهو مخصّص إلّا في قوله تعالى (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
ولمّا ثبت أنّه
تعالى حكيم ، وجب أن يكون في الخطاب بالمجاز وجه مصلحة زائدة على وجهها في الخطاب
بالحقيقة ويمكن أن يكون الوجه في ذلك التعريض لزيادة الثواب ، لاشتمال النظر في
ذلك والفكر ، على زيادة مشقّة ، يستحقّ به زيادة الثواب ، كما نقوله في حسن الخطاب
بالمتشابه ، ويجوز أن يعلم أنّه يؤمن عند ذلك ويطيع من لولاه لم يطع.
وقد ظنّ بعض الناس
جواز التّساوي في الحقيقة والمجاز عند الحكيم في جميع الوجوه ، ويكون مخيّرا في
الخطاب بأيّهما شاء.
وليس بصحيح ، لأنّ
العدول عن الحقيقة ، الّتي هي الأصل ، إلى المجاز ، لا بدّ له من غرض زائد ، ولو
كونه أفصح وأبلغ وأوجز.
__________________
المبحث الرّابع :
في غاية التخصيص
اتّفق الناس كافّة
على جواز انتهاء التخصيص في ألفاظ الاستفهام والمجازاة إلى الواحد ، واختلفوا فيما
عداهما ، فحكي عن أبي بكر القفّال أنّه لا يجوز تخصيص الجمع المعرّف ، بحيث لا يبقى أقلّ من
الثلاثة.
ومنهم من جوّز
انتهاء التخصيص في جميع ألفاظ العموم إلى الواحد وقال أبو الحسين البصري : انّ
نهاية التخصيص في جميع الفاظ العموم أجمع يقرب من مدلول اللفظ ، وإن لم يكن محدودا
، إلّا أن يستعمل في حقّ الواحد على سبيل التعظيم.
وهو الأقرب.
لنا : أنّ أهل
اللّغة يستقبحون قول الرّجل : أكلت كلّ الرّمان من البيت ، ويكون فيه ألف رمانة ،
وقد أكل واحدة أو ثلاثة ، ولا كذا لو حمل على الكثرة القريبة من مدلول اللفظ.
اعترض : بأنّه
إنّما يكون مستهجنا إذا لم يكن مريدا للواحد من جنس
__________________
ذلك العدد ، الّذي
هو مدلول اللفظ ، ولم يقترن به قرينة.
أمّا إذا أراد
الواحد مع قرينة فلا ، للنصّ والإطلاق أمّا النصّ فقوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ
النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) وأراد بالنّاس القائلين ، نعيم بن مسعود الأشجعي.
وأمّا الإطلاق ،
فلصحّة قول القائل : «أكلت اللحم» والمراد به واحد من جنس مدلولات العامّ.
وفيه نظر ، فإنّ
الأوّل أريد به التعظيم ، واللحم ليس للعموم ، فيصحّ إرادة الواحد منه ، لكون
المراد الجنس.
احتجّ الآخرون
بوجوه :
الأوّل : استعمال
العامّ في غير الاستغراق على سبيل المجاز ، وليس بعض الأفراد أولى من البعض ، فوجب
جواز استعماله في جميع الأقسام إلى أن ينتهي إلى الواحد.
الثاني : قوله
تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) والمراد به نفسه وحده.
الثالث : قال عمر
لسعد بن أبي وقاص ، وقد أنفذ إليه القعقاع مع ألف
__________________
فارس : «قد انفذت
إليك ألفي فارس» أطلق اسم الألف الأخرى ، وأراد به القعقاع.
الرابع : لو امتنع
الانتهاء في التخصيص إلى الواحد ، لكان إمّا لأنّ الخطاب صار مجازا ، أو لعدم
استعماله في حقيقته ، ولو كان أحدهما مانعا ، لزم امتناع تخصيص العامّ مطلقا ،
لأنّه يكون مجازا في الباقي ، وغير حقيقة فيه ، وهو باطل بالإجماع.
الخامس : قد عرفت
الخلاف في أنّ أقلّ الجمع اثنان أو ثلاثة ، فيحمل العامّ بعد التخصيص عليه.
السادس : لو قال :
أكرم الناس إلّا الجهّال ، جاز ، ولو لم يبق إلّا الواحد.
والجواب عن الأوّل
: المنع من عدم الأولويّة ، فإنّ الأكثر أقرب إلى الجمع من الأقلّ.
وعن الثاني : أنّه
غير محلّ النزاع ، لأنّ الآية خرجت مخرج التعظيم ، وليس هناك تخصيص.
وعن الثالث : أنّ
عمر قصد قيام الواحد مقام الألف ، وليس بتخصيص.
وعن الرابع :
بالمنع من الحصر ، بل المانع عدم استعماله لغة.
وعن الخامس : أنّ
الجمع ليس بعامّ.
وعن السادس : بمنع
حسنه ، على أنّ بعضهم جوّز الانتهاء إلى الواحد في الاستثناء ، والبدل ، وإلى
اثنين في الصفة ، وفي المحصور القليل.
__________________
المبحث الخامس :
العامّ المخصوص هل هو مجاز أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، فقال قوم من الفقهاء : إنّه لا يصير مجازا ، كيف كان المخصّص ، وهو مذهب
جماعة من الأشاعرة ، وإليه مال الغزّالي وكثير من المعتزلة ، وجماعة من الحنفيّة كعيسى بن أبان وغيره.
وقال آخرون : إنّه
يكون مجازا في حال دون حال ، واختلفوا في تفصيل تلك الحال ، فقال بعضهم : إن خصّ
بدليل لفظيّ لم يصر مجازا ، متّصلا كان الدليل ، أو منفصلا ، وإن خصّ بدليل عقليّ
، كان مجازا.
وقال آخرون : إنّه
يكون مجازا ، إلّا أن يخصّ بلفظ متّصل.
وقال القاضي أبو
بكر : إنّه يكون مجازا ، إلّا أن يكون المخصّص شرطا أو استثناء .
__________________
وقال قاضي القضاة :
إنّه يكون مجازا ، إلّا أن يكون المخصّص شرطا أو صفة.
وقال جماعة من
الحنفية : إن كان الباقي جمعا ، فهو حقيقة ، وإلّا فمجاز ، وإليه ذهب أبو بكر
الرّازي .
وقال الجويني :
إنّه حقيقة في تناوله ، مجاز في الاقتصار عليه.
وقال أبو الحسين
البصري : القرينة المخصّصة ، إن استقلّت بنفسها ، صار مجازا ، سواء كانت عقليّة ،
كالدلالة على أنّ غير القادر ليس مرادا من الخطاب بالعبادات ، أو لفظيّة نحو أن
يقول المتكلّم : «أردت بالعام البعض الفلاني» وإن كانت غير مستقلّة ، فهو حقيقة ،
سواء كان صفة أو شرطا.
والأقرب أنّه يصير
مجازا مطلقا.
لنا : أنّ اللّفظ
وضع للعموم ولم يرد ، فيكون إطلاقه على أزيد منه مجازا.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فالخلاف فيها مع المانعين من العموم ، وقد سبق برهانه.
ولأنّا نبحث على
تقديره.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ التقدير أنّه مخصوص ، وقد بيّنا أنّ التخصيص هو إخراج بعض ما تناوله اللفظ
عن الإرادة.
__________________
وأمّا الثالثة ،
فظاهرة أيضا ، لما عرفت من أنّ المجاز ، هو استعمال اللفظ فيما لم يوضع له.
ولأنّ اللفظ ، إذا
كان حقيقة في الاستغراق ، فصرفه إلى البعض بالقرينة ـ كيف ما كانت القرينة ـ إمّا
أن يكون لدلالة اللفظ عليه حقيقة أو مجازا ، ويلزم من الأوّل الاشتراك بينه وبين
الاستغراق ، ضرورة اختلاف معنييهما بالجزئيّة والكليّة ، وعدم اشتراكهما في معنى
جامع يكون مدلولا للفظ ، والمشترك لا يكون ظاهرا بلفظه في بعض مدلولاته دون البعض
، وهو خلاف مذهب القائلين بالعموم.
لا يقال : جاز أن
يكون حقيقة فيهما باعتبار أمر مشترك ، هو الجنسيّة فينتفي الاشتراك والمجاز ،
ويدلّ على كونه حقيقة في الباقي ، أنّ اللفظ كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ،
فخروج غيره عن عموم اللفظ لا يؤثّر فيه.
سلّمنا ، لكن يجوز
كون اللّفظ المجرّد حقيقة في الاستغراق ، ومع القرينة حقيقة في البعض.
لأنّا نقول :
الكلّ والبعض وان اتّحدا في الجنسيّة ، إلّا أنّ اللّفظ العامّ حقيقة في الكلّ ،
من حيث هو كلّ ، لا في مطلق الجنس ، ولهذا تعذّر حمله على البعض إلّا لقرينة
بإجماع القائلين بالعموم ، والاستغراق ليس ثابتا في الباقي.
ونمنع كون اللفظ
حقيقة في الباقي قبل التخصيص ، نعم قد كان حقيقة في الجمع الّذي هو أحد أفراده ، فلا يلزم كونه حقيقة فيه لا مع الاجتماع
ولا
__________________
حالة الانفراد ،
فإنّ العشرة حقيقة في مجموع آحادها لا في الخمسة ، سواء ضمّت إلى مثلها أو انفردت.
ثمّ ينتقض بالواحد
، فإنّ اللفظ قد كان متناولا له حقيقة قبل التخصيص ، وبعد التخصيص ، وهو مجاز فيه
إجماعا.
وتجويز كون اللّفظ
حقيقة في البعض مع القرينة ، يرفع المجاز أجمع ، فإنّ كلّ مجاز يمكن أن يقال :
إنّه مع القرينة حقيقة في مدلوله.
ولأنّه ، لو كان
كما ذكروه ، لكان استعمال ذلك اللفظ في الاستغراق مع اقترانه بالقرينة المخصّصة له
بالبعض ، استعمالا له في غير الحقيقة وصارفا له عن الحقيقة ، وهو خلاف إجماع
القائلين بالعموم.
احتجّ أبو الحسين
على كونه مجازا لو خصّص بقرينة مستقلّة ، بأنّ اللفظ وضع لغة في الاستغراق
فاستعماله في البعض استعمال في جزء المسمّى بقرينة مخصّصة ، وهو عين المجاز.
وعلى كونه حقيقة
مع المتّصل ، بأنّه إذا قال : جاء بنو تميم الطوال ، وأكرم بني تميم إن قاموا إلّا
فلانا ، فلفظ العموم حال انضمام الشرط ، والصفة ، والاستثناء ، لا يفيد البعض ،
وإلّا لم يبق شيء يفيد الشرط أو الصفة أو الاستثناء ، وإذا لم يفد البعض ، استحال
أن يقال : إنّه مجاز في إفادة البعض ، بل المجموع الحاصل من لفظ العموم ، ولفظ
الشرط أو الصفة ، أو الاستثناء دليل على ذلك البعض ، وإفادة ذلك المجموع لذلك
البعض حقيقة.
__________________
والجواب : اقتران
اللفظ بالمنفصل ، لا يخرجه عن حقيقته وصورته ، وإلّا لكان كلّ مقترن بشيء خارجا عن
حقيقته ، ويلزم نفي الاقتران أيضا ، وإذا كان باقيا على حقيقته ، فمعناه لا يكون
مختلفا ، بل يصير مصروفا عن معناه باعتبار ذلك المقترن ، وهو التجوّز بعينه.
قوله : اللفظ مع
الاقتران لا يفيد البعض ، وإلّا لم تفد القرينة شيئا.
قلنا : ممنوع ،
فانّ القرينة هي الّتي صرفت اللفظ عن افادته للمجموع إلى إفادته للبعض ، كما في
كلّ مجاز ، فإنّ ذلك لو كان معتبرا ، لكان لقائل أن يقول : إنّ اللّفظ الحقيقيّ لا
يراد به معناه المجازيّ حالة انضمامه إلى القرينة ، وإلّا لم تفد القرينة شيئا ،
بل معناه الحقيقي ، وانّما تفيد المجازيّ باعتبار القرينة ، وذلك يخرجه عن كونه
مجازا.
لا يقال : الشرط ،
والصفة ، والاستثناء ، غير مستقلّ ، فلا يخرج اللّفظ عن حقيقته ، كقولنا : «مسلم»
فإنّه يدلّ على معنى ، فإذا قال : «المسلم» أو «مسلمون» أفاد بانضمام الألف
واللّام والواو والنون معنى غير الأوّل ، ولم يصر باعتبار هذه الزيادة مجازا ،
وكذا الشرط ، والصفة ، والاستثناء ، لجامع عدم الاستقلال.
لأنّا نقول :
الألف واللّام والنون زيادات أفادت زيادات في المعاني من غير تغيّر الوضع الأوّل ،
فلا يقال : إنّه صار مجازا ، بخلاف صورة النّزاع.
احتجّت الحنابلة ،
بأنّ التناول باق ، فكان حقيقة.
__________________
وأيضا ، فإنّه
يسبق إلى الفهم ، وهو دليل الحقيقة.
والجواب : ما
تقدّم ، من أنّه حقيقة فيه مع غيره ، والسبق إلى الفهم بقرينة وهو دليل المجاز.
احتجّ الرازي :
بأنّه إذا بقى غير منحصر ، كان معنى العموم باقيا.
والجواب : أنّه
كان للجميع.
احتجّ الجويني ،
بأنّ العامّ كتكرار الآحاد ، وإنّما اختصر ، فإذا خرج بعضها بقى الباقي حقيقة.
والجواب بالمنع ،
فإنّ العامّ ظاهر في الجميع ، فإذا خصّ خرج قطعا ، والتكرّر نصّ.
واحتجّ القاضي أبو
بكر والقاضي عبد الجبّار ، بمثل ما احتجّ به أبو الحسين ، من أنّ ما لا يستقلّ
إذا أوجب تجويزا في نحو قولك : الرجال المسلمون ، وأكرم بني تميم إن دخلوا ، لكان
نحو «مسلمين» للجماعة مجازا ، ولكان نحو «المسلم» للجنس أو للعهد مجازا ، ونحو (فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا
خَمْسِينَ عاماً) مجازا ، لأنّ الصفة عند أبي بكر كأنّها مستقلّة ،
والاستثناء عند عبد الجبّار ليس بتخصيص.
__________________
والجواب : ما
تقدّم.
وأيضا ، فإنّ «الواو»
في «مسلمون» ك «ألف» ضارب و «واو» مضروب ، و «اللام» في المسلم وإن كان كلمة ،
حرفا أو اسما ، فالمجموع الدّال والألف موضوعة للألف ، وكذا «الخمسون» للخمسين ،
وإلّا للرفع ، ومعرفة الباقي حصلت بالحساب.
تذنيب
إذا قال الله
تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) وقال النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : في الحال «إلّا زيدا» فهذا تخصيص بدليل متّصل أو منفصل؟
فيه احتمال ، ينشأ من تغاير المتكلّمين ، ومن كونه صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما نطق بالوحي ، فكان الخطاب منه تعالى في الحقيقة.
__________________
المبحث السّادس :
في جواز التمسّك بالعامّ المخصوص
اختلف الناس في
ذلك ، فمنع عيسى بن أبان ، وأبو ثور من التمسّك بالعامّ المخصوص ، فيما عدا المخصوص على كلّ
حال.
وأجاز آخرون
التمسّك به على كلّ حال.
وأجاز قوم ذلك في
حال دون حال ، واختلفوا في تفصيل تلك الحال :
فقال : الكرخي : إن خصّ بشرط أو استثناء ، صحّ التعلّق به فيما عدا
المخصوص ، وإن خصّ بمنفصل ، لم يصحّ.
وقال البلخي : ان خصّ بمتّصل كالشّرط والصّفة والاستثناء ، كان حجّة
وإلّا فلا.
وقال أبو عبد الله
: إن كان التّخصيص والشرط قد منعا من تعلّق الحكم
__________________
بالاسم العامّ ،
وأوجبا تعلّقه بشرط لا ينبئ عنه الظاهر ، لم يجز التعلّق به ، وإن لم يمنعا من
تعلّقه باسم العامّ ، صحّ التعلّق به.
فالأوّل كقوله
تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) لأنّ قيام الدلالة على اعتبار الحرز ومقدار المسروق يمنع
من تعلّق القطع بالسرقة ، ويقتضي وقوعه على الحرز الّذي لا ينبئ اللفظ عنه ، فلم
يجز التعلّق به.
والثاني ، كقوله
تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) لأنّ قيام الدّليل على المنع من قتل معطي الجزية ، لا يمنع
من تعلّق القتل بالشّرط ، فلم يمنع التعلّق به من قتل من لم يعط الجزية.
وقال قاضي القضاة
: إنّ كان العموم المخصوص والمشروط ، لو تركنا وظاهره من دون الشرط والتخصيص كنّا
نمتثل ما أريد منّا ، ونضمّ إليه ما لم يرد منّا ، احتجنا إلى بيان ما لم يرد منّا
، ولم نحتج إلى بيان ما أريد ، إذ كنّا نصير إليه من دون البيان ، ويصحّ التعلّق
بالظاهر فيه ، كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ).
وإن كنّا لو تركنا
والظاهر من دون الشرط ، لم يمكننا امتثال ما أريد منّا ، احتجنا إلى بيان ما أريد
منّا ، إذ لسنا نكتفي بالظاهر فيه ، ولم يصحّ التمسّك به كقوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).
__________________
وهذا الذي ذكره
عقد مذهب ودلالة ، وينبغي أن يزاد في الأوّل أن لا يكون العموم قد خصّص تخصيصا
مجملا.
وقيل : إنّه حجّة في أقلّ الجمع لا فيما زاد ، واتّفق الكلّ على
أنّه إذا خصّ بمجمل ، فإنّه لا يبقى حجّة إلّا بعد البيان.
والحقّ أنّه حجّة
، لنا وجوه :
الأوّل : اللفظ
العامّ كان متناولا للكلّ ، فكونه حجّة في كلّ واحد من تلك الأقسام ، إمّا أن يكون
موقوفا على كونه حجّة في الآخر ، أو على كونه حجّة في الكلّ ، أو لا يتوقّف على
شيء منهما.
والأوّل باطل ،
لأنّه إن كان كونه حجّة في كلّ واحد من تلك الأقسام مشروطا بكونه حجّة في الآخر ،
لزم الدّور.
وإن افتقر كونه
حجّة في هذا ، على كونه حجّة في ذلك ، من غير عكس ، لزم الترجيح من غير مرجّح ،
لأنّ نسبة اللفظ إلى كلّ واحد على السويّة ، فليس جعل البعض مشروطا بالآخر ، أولى
من العكس.
ولأنّه يلزم
المطلوب ، لأنّ كونه حجّة في الكلّ يتوقّف على كونه حجّة في كلّ واحد من تلك
الأقسام ، لأنّ الكلّ لا يتحقّق إلّا بتحقّق جميع الأفراد ، فلو توقّف كونه حجّة
في البعض على كونه حجّة في الكلّ ، لزم الدّور.
__________________
وحيث بطل القسمان
، ثبت كونه حجّة في ذلك البعض لا يتوقّف على كونه حجّة في البعض الآخر ، ولا على
كونه حجّة في الكلّ ، فإذن هو حجّة في البعض ، سواء ثبت كونه حجّة في البعض الآخر
أو لا.
أعترض : بأنّه لا يلزم من عدم توقّف الشيء على غيره جواز وجوده
بدونه كما في المتلازمين ، وإن عنى بتوقّفه عليه عدم وجوده بدونه ، لم يلزم الدّور
في المتلازمين.
الثاني : المقتضي
لثبوت الحكم في غير محلّ التخصيص قائم ، والمعارض الموجود لا يصلح معارضا ، فوجب
ثبوت الحكم في غير محلّ التخصيص.
إنّما قلنا : إنّ
المقتضي قائم ، لأنّه هو اللّفظ الدالّ على ثبوت الحكم في كلّ الصور والدالّ عليه
في كلّ الصّور دالّ عليه في محل التخصيص وغيره ، فثبت قيام المقتضي في غير محلّ
التخصيص.
وأمّا عدم المعارض
، فلأنّ المعارض ليس إلّا كون الحكم غير ثابت في صورة التّخصيص ، ولا يلزم من عدم
الحكم في هذه الصورة عدمه في الأخرى ، كما لا يلزم من ثبوته في صورة ثبوته في
الأخرى .
وفيه نظر ، لأنّ
المقتضي هو اللّفظ الدّالّ على الجميع ، مع
__________________
إرادته ،
وبالتخصيص خرج عن ذلك.
الثالث : الإجماع
وقع على الاحتجاج بالعامّ المخصوص فيكون حجّة.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ فاطمة عليهاالسلام احتجّت على أبي بكر في ميراثها من أبيها بعموم قوله تعالى
: (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) مع أنّه مخصّص بالكافر والقاتل ، ولم ينكر أحد من الصحابة
احتجاجها ، مع ظهوره واشتهاره ، بل عدل أبو بكر في حرمانها من الميراث إلى حديث
رواه.
ولأنّ عليّا عليهالسلام احتجّ على جواز الجمع بين الاختين في الملك بقوله تعالى : (أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) مع أنّه مخصوص بالأخت والبنت.
واحتجّ ابن عبّاس
على تحريم نكاح المرضعة بعموم قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) وقال : قضاء الله أولى من قضاء ابن الزبير ، مع أنّه مخصوص بشرائط الرضاع.
وأمّا الثانية ،
فظاهرة لما يأتي من بعد أنّ الإجماع حجّة.
__________________
الرابع : العامّ
قبل التخصيص حجّة في كلّ أقسامه بالإجماع ، فيكون بعد التخصيص كذلك ، لأنّ الأصل
بقاء ما كان على ما كان ، إلّا أن يوجد معارض ، والأصل عدمه.
الخامس : لو قال :
أكرم كلّ من دخل داري ، ثمّ قال بعد : لا تكرم فلانا ، أو قال في الحال : إلّا
فلانا ، فترك ، عدّ عاصيا.
احتج ابن أبان
بوجوه :
الأوّل : دلالة
العامّ على ما عدا محلّ التخصيص على سبيل المجاز ، وإلّا لم يكن للعموم ، أو كان
مشتركا ، والتقدير خلافهما ، وإذا كان مجازا ، كان متردّدا بين أقلّ الجمع وما عدا
صورة التخصيص.
ولا يمكن الحمل
على الجميع ، لما فيه من تكثّر جهات التجوّز ، وليس حمله على أحد المجازات أولى ،
لعدم دلالة اللّفظ عليه وكان مجملا.
الثاني : أنّه
بالتخصيص خرج عن كونه ظاهرا وما لا يكون ظاهرا لا يكون حجّة.
الثالث : العامّ
بعد التخصيص ينزّل منزلة قوله تعالى : «اقتلوا المشركين إلّا بعضهم» والمشبّه به ليس
بحجّة ، فكذا المشبّه.
والجواب عن الأوّل
: المنع من عدم أولويّة البعض ، فإنّ كلّ الباقي بعد التخصص أقرب إلى الاستغراق من
بعض الباقي ، فيكون هو المراد ، وينتفي الإجمال.
ثمّ يعارض بأنّه
قبل التخصيص كان حجّة في كلّ قسم بالإجماع ، فإن كان مجازا عاد ما ذكرتموه من
المحذور.
وعن الثاني : إن
أراد بقوله : «ليس ظاهرا» أنّه ليس حقيقة ، فمسلّم ، لكن كونه حجّة ، لا يتوقّف
على كونه حقيقة.
وإن أراد أنّه لا
يكون حجّة ، فهو ممنوع ، والأصل في ذلك أنّه ليس بظاهر في العموم ، وهو ظاهر في
الباقي.
وعن الثالث :
بالمنع من التساوي ، لحصول الجهالة في المشبّه به ، دون المشبّه.
احتجّ من قال :
إنّه يحمل على أقل الجمع ، بأنّه المتيقّن ، وما زاد مشكوك فيه.
والجواب : حمله
على أقلّ الجمع يقتضي الإجمال لإبهامه ، بخلاف ما قلناه ، من الحمل على كلّ
الباقي.
ولأنّه أقرب إلى
الحقيقة ، فكان أولى.
ولأنّ حمله على
أقلّ الجمع مخلّ بمراد المتكلّم ، وحمله على ما قلناه غير مخلّ به.
المبحث السابع :
في جواز التمسّك بالعام قبل البحث عن المخصّص
الخلاف هنا مع ابن
سريج فإنّه قال : لا يجوز التمسّك بالعامّ ما لم يستقص في طلب المخصّص ، فإذا لم
يوجد بعد ذلك مخصّص ، جاز التمسّك به.
وقال الصّيرفي : يجوز التمسّك به ابتداء ، ما لم تظهر دلالة مخصّصة.
والأقرب الأوّل.
لنا : أنّ المجتهد
يجب عليه البحث عن الأدلّة وكيفيّة دلالتها ، والتخصيص كيفيّة في الدلالة ، فيجب
عليه البحث عن ثبوته وعدمه بقدر الإمكان ، لأنّ العامّ بتقدير قيام المخصّص ، لا
يكون حجّة في صورة التخصيص ، فقبل البحث عن وجود المخصّص يجوز أن يكون العامّ حجّة
ويجوز أن لا يكون ، والأصل عدم كونه حجّة.
__________________
لا يقال : ظنّ
كونه حجّة أقوى من ظنّ كونه غير حجّة ، لأنّ إجراءه على العموم أولى من حمله على
التخصيص ، ولمّا ظهر هذا القدر من التفاوت ، كفى ذلك في ثبوت الظنّ.
لأنّا نقول : نمنع
من قوّة ظنّ كونه حجّة ، وإنّما يحصل بعد البحث عنه.
احتج الصّيرفي
بوجهين :
الأوّل : لو لم
يجز التمسّك بالعامّ إلّا بعد طلب المخصّص ، لما جاز التمسّك بالحقيقة إلّا بعد
طلب أنّه هل وجد ما يقتضي الصّرف إلى المجاز ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المانع من التمسّك في العامّ قبل البحث عن المخصّص ، ليس إلّا احتمال الخطأ ،
وهذا المعنى موجود في الحقيقة والمجاز ، فيشتركان في الحكم.
وبيان بطلان
التالي : أنّ العرف خاصّ يحمل الألفاظ على ظواهرها من غير بحث [عن] أنّه هل وجد ما
يصرف اللفظ عن حقيقته أو لا.
وإذا كان في العرف
كذلك ، وجب في الشرع لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : ما رآه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن.
الثاني : الأصل
عدم التخصيص ، وهذا يوجب ظنّ عدم المخصّص ، فيكفي في إثبات ظنّ الحكم.
والجواب عن الأول
: بالفرق بين العامّ والحقيقة ، فإنّ كلّ العمومات
__________________
مخصوصة إلّا قوله
تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) فكان حمل اللّفظ على عمومه مرجوحا في الظنّ قبل البحث عن
المخصّص ، وأمّا الحقيقة ، فإنّ أكثر الألفاظ محمولة على الحقائق.
وعن الثاني : أنّه
معارض بأنّ الأصل عدم كونه حجّة.
تذنيب
لمّا أوجبنا البحث
عن المخصّص ، لم نوجب العلم بنفيه في دلالة العامّ ، لعدم إمكانه ، بل نوجب اجتهاد
المجتهد في ذلك ، بأن يتصفّح الأدلّة العقليّة والنقليّة ، فإذا لم يجد مخصّصا ،
وغلب على الظنّ النفي ، وليس ذلك بقطعيّ ، فإنّ عدم الوجدان لا يوجب عدم الوجود
قطعا بل ظنّا.
__________________
الباب الثالث :
في المقتضي للتخصيص
وفيه فصول :
الفصل الأوّل :
في الأدلّة المتّصلة
وفيه مطالب :
المطلب الأوّل :
في الاستثناء
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في حقيقة الاستثناء
وهو استفعال من
الثني ، وهو الرّجوع ، وهو هنا كذلك ، فإنّ الحاكم على جملة بشيء إذا استثنى بعضها
عن ذلك الحكم ، فكأنّه قد رجع عمّا حكم به أوّلا في ذلك المستثنى.
وهو إمّا متّصل ،
وهو الّذي يكون المستثنى من جنس المستثنى منه.
وإمّا منفصل ، وهو
الّذي يكون من غير جنسه.
وهو حقيقة في
المتّصل إجماعا ، واختلف في المنفصل ، فقيل : إنّه حقيقة فيه أيضا.
وقيل : مجاز.
وقيل : إنّه للقدر
المشترك بين المتّصل والمنفصل على ما يأتي تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.
إذا عرفت هذا
فنقول : من جعله متواطئا حدّه بأنّه «ما دلّ على مخالفة ب «إلّا» غير الصفة ،
وأخواتها».
ومن جعله مشتركا
بينهما ، أو حقيقة في المتّصل دون المنفصل لم يكن له جمعهما في حدّ واحد ، وحينئذ
يقال في المنقطع : إنّه ما دلّ على مخالفة ب «إلّا» غير الصفة وأخواتها ، من غير
إخراج.
وأمّا المتّصل ،
فقد اختلف في تعريفه ، فقال الغزالي ، إنّه قول ذو صيغ مخصوصة محصورة ، دالّ على
أنّ المذكور [فيه] لم يردّ بالقول الأوّل.
وأورد على طرده التخصيص بالشّرط ، والوصف ب «الّذي» والغاية ،
__________________
ومثل : «قام القوم
ولم يقم زيد» ولا يرد الأوّلان.
وأورد على عكسه : «قام
القوم إلّا زيدا» فإنّه ليس بذي صيغ.
وقال الآخرون :
الاستثناء إخراج بعض الجملة عن الجملة بلفظ «إلّا» أو ما يقوم مقامه.
ونقض بمثل «قام
القوم ولم يقم زيد» فإنّه قائم مقام قوله «إلّا زيدا» في إخراج بعض الجملة.
وقيل : إنّه عبارة
عمّا لا يدخل في الكلام إلّا لإخراج بعضه بلفظ «إلّا» ، ولا يستقلّ بنفسه ، لأنّ
المخرج إن كان معنويّا ، كالعقل والقياس ، خرج عن الحدّ.
وإن كان لفظيّا
منفصلا ، كان مستقلّا بالدّلالة ، وإلّا لكان لغوا ، وهو خارج عن الحدّ.
وإن كان متّصلا ،
فإن كان صفة مثل : «أكرم بني تميم الطّوال» خرج منهم القصار ، ولفظ «الطّوال» لم
يتناول القصار ، بخلاف «أكرم بني تميم إلّا زيدا» وكذا إن كان شرطا.
وإن كان غاية ،
فقد يدخل «كالمرافق» بخلاف الاستثناء.
واعترض : بأنّ
الاستثناء لإخراج بعض ما دلّ عليه الكلام ، لا لإخراج بعض الكلام وما يناقضه
بقولنا : «جاء القوم غير زيد» فإنّه استثناء مع أنّ «غيرا» قد يدخل صفة مثل : «عندي
درهم غير جيّد» فقد دخلت لا لإخراج بعضه.
__________________
وقيل : إنّ الاستثناء عبارة عن لفظ متّصل بجملة لا يستقلّ بنفسه
دالّ على أنّ مدلوله غير مراد ممّا اتّصل به ، بحرف «إلّا» أو أحد أخواتها.
فقولنا : «لفظ»
احتراز عن الدلائل العقليّة والحسيّة الموجبة للتخصيص.
وقولنا : «بجملة»
احتراز عن الدلائل المنفصلة.
وقولنا : «ولا
يستقلّ بنفسه» احتراز عن مثل [قولنا] : «قام القوم ، ولم يقم زيد».
وقولنا : «دالّ»
احتراز عن الأسماء المؤكّدة والصّفة ، مثل : «قام القوم العلماء كلّهم».
وقولنا : «بحرف
إلّا أو أخواتها» احتراز عن مثل : «قام القوم دون زيد» .
وفيه نظر ، لأنّه
حدّ الاستثناء بأنّه لفظ ، والاستثناء معنى ، واللفظ دالّ عليه.
ولأنّ قوله : «متّصل
بجملة» ينتقض بالاستثناء المفرّغ مثل : «ما قام إلّا زيد».
ولأنّ مدلول كلّ
استثناء متّصل مراد بالأوّل.
وقيل : الاستثناء
لفظ متّصل بجملة لا يستقلّ بنفسه ، دالّ على أنّ مدلوله غير مراد بما اتّصل به ،
ليس بشرط ، ولا صفة ، ولا غاية.
ويرد مع ما تقدّم
: «قام القوم إلّا زيدا».
وقيل : إخراج ب «إلّا»
و «أخواتها».
وقيل : إخراج بعض الجملة من الجملة بلفظة «إلّا» وما يقوم
مقامه.
__________________
والأقرب : أنّه
إخراج بعض ما تناوله اللّفظ عن الإرادة بإحدى الصّيغ الموضوعة له في اللّغة.
المبحث الثاني :
في شروطه
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
في أنّ شرط الاستثناء الاتّصال
ذهب المحقّقون من
الفقهاء والمتكلّمين إلى أنّ شرط الاستثناء اتّصاله بالمستثنى منه ، بحيث لا
يتخلّل بينهما شيء يفصل بينهما عرفا ، واحترزنا بذلك عن النّفس والسعال وطول
الكلام ، فإنّه لا يعدّ في العرف فاصلا.
ونقل عن ابن عباس
صحّة الاستثناء المنفصل وإن طال الزمان شهرا.
وقال بعض
المالكيّة : يجوز تأخير الاستثناء ، لفظا ، لكن مع إضماره متّصلا بالمستثنى منه ،
ويكون المتكلّم به مدينا فيما بينه وبين الله تعالى.
وقال بعض الفقهاء
: يجوز المنفصل في كتاب الله تعالى دون غيره.
لنا وجوه :
الأوّل : لو جاز
تأخير الاستثناء لما استقرّ شيء من العقود ، في الطلاق والعتاق والبيوع والإقرار ،
ولا يتحقّق الحنث أصلا ، لجواز أن يرد عليه الاستثناء فيغيّر حكمه.
__________________
الثاني : العرف
قاض بإلغاء المنفصل ، فإنّ من قال لوكيله : بع ثوبي من أيّ شخص كان ، ثمّ قال في
غد : إلّا من زيد ، فإنّه لا يجعل الاستثناء عائدا إلى ما تقدّم.
وكذا لو قال : «لفلان
عليّ عشرة» ثمّ قال بعد شهر : إلّا درهما ، عدّ لاغيا.
وكذا لو قال : «رأيت
زيدا» ثمّ قال بعد شهر : قائما ، فإنّهم لا يعدّون ذلك مخبرا عن زيد بشيء.
وكذا لو قال : «أكرم
زيدا» ثمّ قال بعد شهر : إن دخل داري ، فإنّه لا يعدّ شرطا.
الثالث : روى
المخالف أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «من حلف على شيء فرأى غيره خيرا منه ، فليأت الّذي هو
خير ، وليكفّر عن يمينه» ولو كان الاستثناء المنفصل صحيحا ، لأرشد الله النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إليه ، لكونه طريقا مخلصا للحالف عن الحنث ، وهو أسهل من
التكفير ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما يقصد الأسهل والأيسر ، فحيث لم يرشد إليه دلّ على
عدم صحّته.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع الحديث أوّلا ، وثانيا بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أرشد إلى ما هو أكثر ثوابا.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : يجوز
تأخير النّسخ والتخصيص ، فكذا الاستثناء.
الثاني : روي أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «والله لأغزونّ قريشا» ثمّ سكت ، ثم قال بعده :
__________________
«إن شاء الله
تعالى» ولو لا صحّة الاستثناء بعد السكوت ، لما فعله.
الثالث : ما روي
عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه سألته اليهود عن عدّة أهل الكهف ، وعن مدّة لبثهم فيه
، فقال : «غدا أجيبكم» ولم يقل : «إن شاء الله تعالى» ، فتأخّر عنه الوحي بضعة عشر
يوما ، ثمّ نزل عليه (وَلا تَقُولَنَّ
لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً* إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ
إِذا نَسِيتَ) فقال : إن شاء الله ، بطريق الإلحاق بخبره الأوّل ، ولو لم
يكن صحيحا ، لما فعله.
الرابع : ابن
عبّاس كان من فصحاء العرب ، ويلقّب بترجمان القرآن ، وقد قال بصحّة [الاستثناء]
المنفصل ، ولو كان باطلا لم يخف عنه ذلك.
الخامس :
الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأوّل ، فجاز تأخيره ، كالأدلّة المنفصلة.
السادس :
الاستثناء رافع لحكم اليمين ، فجاز تأخيره ، كالكفّارة.
والجواب عن الأوّل
: المطالبة بالجامع ، والنقض بالشرط وخبر المبتدأ.
وعن الثاني : أنّ
السكوت كان لعارض كنفس أو سعال.
وعن الثالث : أنّ
قوله : «إن شاء الله» ليس عائدا إلى الخبر الأوّل إلى «أفعل ذكر الرّب» كما إذا
قال لغيره : افعل كذا ، فقال إن شاء الله ، أي أفعله إن شاء الله.
__________________
وعن الرابع : أنّ قول
ابن عبّاس ، إن ثبت ، فمحمول على إضمار الاستثناء ، ويدين المكلّف في ذلك ، فيما
بينه وبين الله تعالى ، وإن تأخّر الاستثناء لفظا ، أو على الاستثناء المأمور به ،
وهو الاستثناء بالمشيئة إن قلنا بجواز تأخيرها.
وعن الخامس : أنّه
قياس في اللّغة ، فلا يصحّ ، ثمّ ينقض بالخبر والشرط ، كما سبق.
وعن السادس :
بالفرق ، فإنّ الكفّارة رافعة ، لإثم الحنث ، لا لنفس الحنث ، والاستثناء مانع من
الحنث وإثمه ، فما التقيا في الحكم حتّى يصحّ قياس أحدهما على الآخر ، كيف وإنّ
الخلاف إنّما وقع في صحّة الاستثناء المنفصل من جهة اللّغة ، لا من جهة الشّرع ،
ولا قياس في اللّغة.
المسألة الثانية :
في الاستثناء المنفصل
قد عرفت أنّ
الاستثناء قسمان : متّصل ومنفصل ، وكلاهما مستعمل إجماعا.
أمّا الأوّل ، فهو
المتداول بين العقلاء في أكثر محاورات الاستثناء.
وأمّا الثاني ،
فيدلّ عليه قوله تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ) وغير ذلك ممّا يأتي.
__________________
والخلاف هنا في
شيء واحد ، وهو أنّ استعمال المنفصل على سبيل الحقيقة أو على سبيل المجاز؟ مع وقوع
الاتّفاق على أنّه حقيقة في المتّصل.
والحقّ هو الثاني
، خلافا للقاضي.
لنا وجوه :
الأوّل :
الاستثناء مأخوذ من الثني ، وهو إخراج بعض ما تناوله اللّفظ ، ولا يتحقّق ذلك في
غير الجنس ، فإنّ من قال : رأيت الناس [إلّا الحمر] ، لا يدخل فيه غيرهم من
الأجناس ، فلا يتحقّق الاخراج حينئذ ، لعدم تحقّق الدّخول الّذي هو شرط الإخراج ،
بل الجملة الأولى باقية بحالها لم يخرج عنها شيء.
وفيه نظر ، لإمكان
ثبوت المسبوقيّة هنا ، فإنّ الحاكم على جملة ، يحتمل حكم على أخرى به ،
وبالمنفصل يخرج الاحتمال ، ويتحقّق الثني ، خصوصا والمنفصل إنّما يحسن مع احتمال
المشاركة.
الثاني :
الاستثناء من غير الجنس إمّا أن يكون من اللفظ ، أو من المعنى ، والقسمان باطلان ،
فيبطل من غير الجنس حقيقة.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ اللّفظ الدّالّ على الشيء فقط ، لا يدلّ على ما يخالف مسمّاه ، وإذا لم يدلّ
اللّفظ على ذلك المخالف ، لم يحتج إلى صارف يصرفه عنه.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه لو جاز حمل اللّفظ على المشترك بين مسمّاه
__________________
وبين المستثنى ،
حتّى يصحّ استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، لأنّ كلّ شيئين لا بدّ وأن يشتركا من بعض
وجوه ، فإذا حمل المستثنى على ذلك المشترك ، صحّ الاستثناء.
ولمّا لم يصحّ في
العرف استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، علمنا بطلان هذا القسم.
وفيه نظر ، لأنّ
أهل اللّغة إن منعوا من ذلك ، لم يلزم خروج اللّفظ عن كونه حقيقة في المطلق ، وإن
لم يمنعوا منعنا من عدم الصّحّة.
الثالث : استعماله
في المنفصل إمّا لكون اللّفظ حقيقة فيه بخصوصيّة ، أو لمعنى مشترك بينه وبين
المتّصل ، والقسمان باطلان ، فاستعماله منه على سبيل الحقيقة باطل امّا الأوّل
فلانّه ان كان حقيقة في المتصل لزم الاشتراك ، وهو خلاف الأصل ، وإن لم يكن حقيقة
فيه ، كان مجازا فيه ، وحقيقة في المنفصل ، وذلك خلاف الإجماع.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه لو كان كذلك ، لكان متواطئا ، والتالي باطل ، وإلّا لم يسبق الفهم إلى أحد
جزئيّاته ، إذ هو شأن المتواطئ ، لكن السّبق موجود ، ولهذا حكم فقهاء الأمصار عليه
، دون المنقطع ، إلّا عند تعذّره وتأوّلوا : «له عندي مائة درهم إلّا ثوبا» وشبهه
بقوله: إلّا قيمة ثوب.
وفيه نظر ، لجواز
التشكيك ، وإضمار القيمة ليس باعتبار المجاز ، بل لضرورة الإخراج.
__________________
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً).
الثاني : قوله
تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ) ولم يكن من الملائكة ، بل من الجنّ لقوله تعالى : (إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) وكان له ذريّة ولا ذريّة للملائكة.
ولأنّه مخلوق من
نار ، والملائكة من نور.
الثالث : قوله
تعالى : (لا تَأْكُلُوا
أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ
مِنْكُمْ) استثنى التجارة من الباطل ، وذلك من غير الجنس.
الرابع : قوله
تعالى : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ) والظّنّ ليس من جنس العلم.
الخامس : قوله
تعالى : (لا يَسْمَعُونَ فِيها
لَغْواً وَلا تَأْثِيماً* إِلَّا قِيلاً سَلاماً سَلاماً) والسّلام ليس من جنس اللغو.
__________________
السادس : قوله
تعالى : (فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ) استثنى الباري تعالى من جملة ما كانوا يعبدون من الأصنام
وغيرها.
السابع : قوله
تعالى : (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ
وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ* إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا) استثنى الرّحمة من نفي الصريخ والإنقاذ ، وهو من غير
الجنس.
الثامن : قوله
تعالى : (لا عاصِمَ الْيَوْمَ
مِنْ أَمْرِ اللهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ومن رحم ليس بعاصم ، بل معصوم ، وليس المعصوم من جنس
العاصم.
وفيه نظر ، فإنّ
العاصم هنا اسم فاعل ، والمراد به المعصوم مجازا ، ويكون الاستثناء حينئذ من
الجنس.
التاسع : قال
الشاعر :
وبلدة ليس لها
أنيس
|
|
إلا اليعافير
وإلا العيس
|
وقال النابغة :
..................
|
|
... ما بالرّبع من أحد
|
__________________
إلّاأواريّ
..................
|
|
...................
|
العاشر : قالوا : «ما
زاد إلّا ما نقص» و «ما نفع إلّا ما ضرّ».
الحادي عشر :
الاستثناء يقع تارة عمّا يدلّ عليه اللفظ دلالة المطابقة أو التضمّن ، وتارة عمّا
يدلّ عليه بالالتزام ، فإذا قال : لفلان عليّ دينار ، إلّا ثوبا ، فمعناه : إلّا
ثمن ثوب.
الثاني عشر :
الاستثناء لا برفع جميع المستثنى منه ، فصحّ ، كاستثناء الدّراهم من الدّنانير ،
وبالعكس.
الثالث عشر : إذا
قال : قام القوم إلّا زيدا ، فإمّا أن يكون زيد داخلا في القوم ، وهو محال ، وإلّا
لزم التناقض ، وإمّا أن يكون خارجا عنهم ، فيكون استثناء من غير الجنس ، فلو كان
الاستثناء من غير الجنس باطلا ، بطل الاستثناء منه ، والتالي باطل بالإجماع.
والجواب عن الأوّل
: أنّ إلّا بمعنى لكن وليس استثناء ، ويكون التقدير : «وما كان لمؤمن أن يقتل
مؤمنا إلّا إذا أخطأ ، فظنّ أنّه ليس مؤمنا إمّا باختلاطه بالكفّار ، فيظنّه منهم
، أو برؤيته من بعد فظنّه صيدا ، أو حجرا.
وذكر أبو هاشم على
مذهبه وجها استحسنه المرتضى ، وهو : أنّ المراد
__________________
لاحظ ديوانه : ٣٠.
انّ مع كونه مؤمنا
يقع منه الخطأ ولا يقع منه العمد» .
وعن الثاني :
بالمنع من كونه ليس من جنس الملائكة ، ولا تنافي بين كونه من الملائكة ومن الجنّ ،
فإنّه قد نقل عن ابن عبّاس وغيره من المفسّرين : أنّ إبليس كان من الملائكة من
قبيل يقال لهم الجنّ ، لأنّهم كانوا إخوان الجانّ وكان إبليس رئيسهم ، ويسمّى جنيّا لاختفائه واجتنانه.
ويؤيّده ، أنّه
استثني من الملائكة ، والأصل في الاستثناء الاتّصال ، للإجماع على صحّته ، والخلاف
في المنفصل.
ولأنّ الأمر
بالسجود لآدم ، إنّما هو للملائكة في قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْنا
لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) ولو لم يكن إبليس منهم ، لم يكن عاصيا بتركه ، إذ الأصل
عدم أمر وراء هذا الأمر.
ولا تنافي بين كونه
من الملائكة وثبوت الذريّة.
وكون التّوالد
إنّما يكون بين الذّكر والأنثى ولا إناث في الملائكة لإنكاره تعالى.
وقولهم : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ
هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) لا ينافي ما قلناه ، لاحتمال كون الأنثى من غير الملائكة ،
لإمكان التوالد من جنسين.
__________________
ويمكن تولّده من
نار ، وتولّد الملائكة من نور ، ويشتركان في حقيقة الملائكة.
سلّمنا أنّه ليس
من الملائكة ، لكن حسن الاستثناء ، لأنّه مشارك لهم في الأمر بالسجود ، فيصير
التقدير : «فسجد الملائكة المأمورون بالسجود إلّا إبليس».
وعن الثالث
والرابع : أنّ «إلّا» بمعنى «لكن» عند البصريّين وبمعنى «سوى» عند الكوفيّين وهو
الجواب عن باقي الآيات.
على أنّ الظنّ قد
يسمّى علما ، فقوله : (ما لَهُمْ بِهِ مِنْ
عِلْمٍ) أشار إلى كلّ ما يسمّى علما ، والظنّ يسمّى علما ، لقوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) وأراد ظننتموهنّ ، وذلك إن كان من الأسماء المواطئة ، فلا
يكون الاستثناء من غير الجنس ، وإن كان من الأسماء المشتركة أو المجازيّة ، فهو من
جملة الأسماء العامّة.
وفيه نظر ، فإنّ
المنفيّ إن كان الأعمّ ، لزم نفي الأخصّ ، فلا يجوز استثناؤه ، وإن كان الأخصّ ،
لزم الاستثناء من غير الجنس.
وعن التاسع : أنّ «الأنيس»
سواء فسّرناه بالمؤنس ، أو المبصر ، أمكن استثناء اليعافير والعيس منه ، والأحد
يصدق على كلّ واحد ، وإن لم يكن حيوانا ، كما يقال أحد الحجرين ، وأحد العمودين فيكون الاستثناء من الجنس.
__________________
وعن العاشر : أنّ
التقدير «ما زاد شيء إلّا الّذي نقص» فيكون استثناء من الجنس.
وعن الحادي عشر :
أنّه لو صحّ الاستثناء من المعنى ، صحّ استثناء كلّ شيء من كلّ شيء ، وقد بيّنا
بطلانه.
وعن الثاني عشر :
أنّه لا يلزم من عدم رفع الجميع صحّة الاستثناء من غير الجنس.
واستثناء الدينار
من الدّراهم وبالعكس نفس النزاع.
وعن الثالث عشر :
ما يأتي في تقدير الاستثناء إن شاء الله تعالى.
المسألة الثالثة :
في استثناء المستوعب والأكثر
اتّفق النّاس على
فساد الاستثناء المستغرق ، فلو قال : له عندي عشرة إلّا عشرة ، لزمته العشرة ،
لأنّه رفع للإقرار والإقرار لا يجوز رفعه ، وكذا كلّ منطوق به لا يرفع ، نعم يجوز
أن يتمّم بما يجري مجرى الجزء من الكلام ، وكما أنّ الشرط جزء من الكلام ، فكذا
الاستثناء ، وإنّما لا يكون رفعا بشرط أن يبقى للكلام معنى.
وهل يلغو
الاستثناء ويمنع من استثناء البعض؟ فيه احتمال ، من حيث إنّ استثناء الأكثر يستلزم
استثناء الأقل ، فجاز استثناء الأقلّ ، ومن حيث ، إنّه باطل.
وقد فصّل به بين
المستثنى والمستثنى منه ، فكان الثاني باطلا أيضا.
وقد اختلف الناس
في استثناء الأكثر وغيره على مذاهب ثلاثة :
الأوّل : منع قوم
من استثناء الأكثر وجوّز استثناء النّصف وأقلّ ، وهو اختيار ابن درستويه النّحوي .
الثاني : منع
القاضي أبو بكر والحنابلة من استثناء الأكثر والمساوي ، وأوجبوا استثناء الأقلّ.
الثالث : جوّز قوم
الجميع ، وهو اختيار علمائنا وأكثر الأشاعرة وأكثر الفقهاء والمتكلّمين ، فلو قال
: له عليّ عشرة إلّا تسعة ، لزمه درهم واحد.
ونقل عن بعض أهل
اللّغة استقباح استثناء عقد صحيح ، فلا نقول : له عليّ مائة إلّا عشرة ، بل نقول :
إلّا خمسة.
لنا وجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) ثمّ قال : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ).
وجه الاستدلال :
أنّه تعالى استثنى في الأولى «الغاوين» من عباده وفي الثانية استثنى «المخلصين من
الغاوين» فإن تساويا لزم جواز استثناء المساوي ، وإن كان أحدهما أكثر ، لزم جواز
استثناء الأكثر.
__________________
وبالجملة فهذه
الآيات تدلّ على إبطال قول من منع من المساوي والأكثر ، إذ لو كان المستثنى أقلّ
من المستثنى منه ، لزم أن يكون اتّباع إبليس والمخلصين كلّ واحد منهما أقلّ من
الآخر .
وفيه نظر ، لأنّ
الغاوين لو كانوا أقلّ من مطلق عباده ، لم يلزم أن يكونوا أقلّ من مخلصي عباده.
واعترض أيضا : بأنّ «الّا» بمعنى «لكن» أو بأنّ المنع من استثناء
الأكثر إنّما هو إذا كان عدد المستثنى والمستثنى منه مصرّحا ، مثل : «خذ مائة إلا
تسعين» ولا يمنع : «خذ ما في الكيس إلّا الزيوف» فإنّه يصحّ ، وإن كانت الزيوف
أكثر.
وفيه نظر ، لأنّه
غير المتنازع.
وقيل في الاستدلال : إنّه تعالى استثنى الغاوين ، وهم أكثر ،
لقوله : (وَما أَكْثَرُ
النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).
الثاني : لو قال :
«له عليّ عشرة إلّا تسعة» لزمه واحد بإجماع الفقهاء ، ولو لا صحّة هذا الاستثناء
لما كان كذلك.
الثالث : قال
الشاعر :
__________________
أدّوا الّتي
نقصت تسعين من مائة
|
|
..................
|
وفيه نظر ، إذ ليس
هنا استثناء.
الرابع :
الاستثناء لفظ يخرج من الجملة ما لولاه لدخل [فيها] ، فجاز إخراج الأكثر به ،
كالتخصيص بالمنفصل وكاستثناء الأقلّ.
الخامس : قوله
تعالى : (يا أَيُّهَا
الْمُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً* نِصْفَهُ) استثنى النصف من الليل ، وهو يخصّ من منع من المساوي
والأكثر.
واعترض بأنّ النّصف غير مستثنى ، بل هو ظرف للقيام [فيه] ،
وتقديره : «قم اللّيل نصفه إلّا قليلا».
السادس : المنع
إمّا أن يكون لعدم فهم المراد منه ، وهو باطل ، لأنّ من قال : «لزيد عندي عشرة
إلّا تسعة» فهم السّامع منه أنّه أقرّ بدرهم.
أو لعدم استعماله
في اللّغة ، وهو باطل لأنّ عدم الاستعمال دعوى ، نعم أنّه غير كثير في كلامهم ،
لأنّ الحاجة لا تدعو إليه إلّا نادرا ، فلهذا لم ينقل في كلامهم ، أو نقل نادرا.
__________________
أو لأنّ الحكمة
تمنع من ذلك ، وهو باطل ، إذ قد يتّفق أن يكون على زيد ألف درهم ، وقد قضى منها
تسعمائة وتسعين ، وينسى ذلك ، فيقرّ بالألف فيتذكّر في الحال القضاء ، فيستدرك
بالاستثناء.
وقد يحتمل أن يكون
لزيد على عمرو درهم ، ولخالد على عمرو ألف درهم فيروم عمرو أن يقرّ لخالد بالألف ،
فسبق لسانه بالإقرار لزيد ، فلا يجد إلى دفع ذلك عنه سبيلا إلّا بالاستدراك.
وإذا كان كذلك ،
لم تمنع الحكمة منه ، ولهذا لو صرّح المستثنى بأحد العددين ، لم يكن عليه لوم ولا
مانع سوى هذه بالاستقراء ، وإذا انتفت صحّ حسن الاستثناء.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : المقتضي
لفساد الاستثناء قائم ، وما لأجله ترك العمل به في الأقلّ غير موجود في المساوي
والأكثر ، فوجب أن يفسد فيهما.
وبيان المقتضي
للفساد : أنّه إنكار بعد إقرار ، فلا يكون مقبولا.
وأمّا القارن ،
فلأنّ القليل في معرض النّسيان ، لقلّة المبالاة به ، وعدم التفات النّفس إليه ،
بخلاف الأكثر ، فإنّه يكون متذكّرا محفوظا ، لكثرة التفات النفس إليه ، فإنّ من
يقرّ بعشرة ، ربّما كانت ناقصة شيئا يسيرا ، أو يكون قد أدّى منها شيئا قليلا ،
ثمّ نسيه لقلّته ، فلا جرم أقرّ بعشرة كاملة ، ثمّ تذكّر بعد الإقرار ، فوجب
تمكّنه من استدراكه ، دفعا للضّرر ، فلذلك سوّغنا استثناء الأقلّ من الأكثر ، ولم
يوجد هذا المعنى في استثناء المثل والأكثر ، لأنّهما في مظنّة التذكّر ، ومع الفرق
يبقى المقتضي سليما عن المعارض.
الثاني : حكمة
الاستثناء موجودة في الأقلّ دون المساوي والأكثر ، بيانه :
أنّ الاستثناء
إنّما يفعل للاستدراك أو الاختصار ، فالأوّل أن يظنّ الإنسان أنّ لزيد عليه عشرة ،
فيقرّ وتذكّر في الحال أنّ له عليه تسعة ، فيستثني درهما.
والاختصار نحو :
أن يستطيل الإنسان أن يقرّ بتسعة دراهم وخمسة دوانيق ، فيقرّ بعشرة إلّا دانقا ،
وليس من الاختصار أن يقول : لزيد عليّ ألف درهم إلّا تسعمائة وتسعة وتسعين.
وليس من العادة أن
يكون على الإنسان درهم فيظنّ أنّ عليه ألف درهم ، ثمّ تذكّر في الحال أنّ عليه
درهما فيستدرك ذلك بالاستثناء.
الثالث : يقبح أن
يقال : له عليّ ألف إلّا تسعمائة وتسعة وتسعين ، ولا يصحّ : له ألف إلّا درهما ،
والاستقباح يدلّ على أنّه ليس من اللّغة.
الجواب عن الأوّل
: المنع من كونه إنكارا بعد إقرار ، لأنّ الاستثناء مع المستثنى كاللفظ الواحد الدالّ
على ذلك القدر.
وعن الثاني : ما
بيّناه ، من وجود الحكم.
وعن الثالث : أنّ
الاستقباح لا يمنع الصحّة ، كما لو قال : له عليّ عشرة إلّا درهما ، لم يكن قبيحا
، ولو قال : له عليّ عشرة إلّا دانقا ودانقا إلى عشرين ، كان قبيحا.
المبحث الثالث :
في أحكامه
وفيه مسائل :
المسألة الأولى :
في تقدير دلالته
وقد اختلف في
تقدير الدّلالة في الاستثناء فقال الأكثر في قوله : عشرة إلّا ثلاثة ، أنّ المراد
بعشرة هنا سبعة والأقربيّة دالّة عليه كالتخصيص بغيره.
وقال القاضي :
عشرة إلّا ثلاثة بإزاء سبعة فللسبعة اسمان : مفرد وهو سبعة ، ومركّب هو عشرة إلّا
ثلاثة.
والحقّ : أنّ
المراد بعشرة عشرة باعتبار الأفراد ، ثمّ أخرجت ثلاثة ، والاسناد بعد الاخراج ، فلم يسند إلّا الى سبعة.
لنا على بطلان
الأوّل وجوه :
الأوّل : نعلم أنّ
من قال : اشتريت الجارية إلّا نصفها ، لم يرد استثناء النّصف من النصف.
الثاني : يلزم
التسلسل.
الثالث : نعلم أنّ
الضّمير للجارية ، لا للنّصف.
__________________
الرابع : إجماع
أهل العربيّة على أنّ الاستثناء إخراج بعض من كلّ.
الخامس : دلالة
العشرة على معناها نصّ ، فيلزم إبطاله.
السادس : نعلم
أنّا نسقط الخارج بالاستثناء ، فنعلم أنّ المسند إليه ما بقي.
وعلى بطلان الثاني
وجوه :
الأوّل : يلزم
الخروج عن قانون اللّغة ، إذ لم يعهد فيها تركيب من ثلاثة ، ولا يعرف الأوّل وهو
غير مضاف.
الثاني : يمتنع
إعادة الضمير على جزء الاسم في قوله : إلّا نصفها.
الثالث : إجماع
أهل العربيّة على أنّ الاستثناء إخراج بعض من كلّ.
احتجّ الأوّلون
بأنّه لا يستقيم أن يراد عشرة بكمالها ، لأنّا نعلم قطعا أنّه إنّما أقرّ بسبعة ،
فتتعيّن إرادتها من لفظ العشرة.
ولأنّه لو كان
المراد عشرة ، امتنع من الصّادق مثل : (فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً).
واحتجّ القاضي :
بأنّه لمّا بطل أن يكون المراد بعشرة عشرة ، وبطل أن يكون سبعة ، تعيّن أن يكون
الجميع السّبعة.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الحكم بالإقرار باعتبار الإسناد ، ولم يسند إلّا بعد الإخراج.
وهو الجواب عن
البواقي.
__________________
إذا عرفت هذا ،
فالاستثناء على قول القاضي ليس بتخصيص إن لم يرد بعشرة عشرة ، وعلى المذهب المشهور
هو تخصيص وعلى ما قلناه محتمل.
المسألة الثانية :
في المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه
اعلم أنّ حكم
الذهن بشيء على آخر ، إمّا أن يكون بالإيجاب أو بالسّلب ، وكذا الطّلب إمّا أن
يكون للوجود فيكون أمرا ، أو للعدم فيكون نهيا ، إذا عرفت هذا ، وقد عرفت أنّ
الاستثناء إخراج بعض ما تناوله الخطاب عن الإرادة ، فيجب قطعا المخالفة بين
المستثنى والمستثنى منه ، فإن كان الاستثناء من الإثبات افاد النفي إجماعا ، وإن
كان من النّفي ، فالأكثر على أنّه يفيد الإثبات.
وخالف أبو حنيفة
في ذلك.
لنا وجوه :
الأوّل : النقل عن
أئمّة اللّغة.
الثاني : لو لم
يكن الاستثناء من النفي إثباتا ، لم يكن قولنا : «لا إله إلّا الله» توحيدا ، إذ
يقتضي نفي الإلهيّة عن غيره ، دون ثبوت الإلهيّة له تعالى ، ولو لم يكن كذلك لم
يتمّ به الإسلام ، وهو بالإجماع باطل ، فإنّ الإسلام يتمّ بمجرّد ذلك.
الثالث : إذا قال
: «لا عالم في البلد إلّا زيد» يبادر إلى الذهن ثبوت العلم له ،
__________________
بل هو أدلّ الألفاظ
على علم زيد ، والتبادر دليل الحقيقة ، وكذا في كلّ ما ساواه.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو كان
الاستثناء من النفي يفيد الإثبات ، لوجب ثبوت النّكاح بمجرّد الوليّ ، والصّلاة
بمجرّد الطّهارة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا نكاح إلّا بوليّ» و «لا صلاة إلّا
بطهور» ولا شكّ في أنّه لا يجب تحقّق النكاح عند حضور الوليّ ،
ولا تحقق الصلاة عند حصول الوضوء ، بل إنّما يدلّ على عدم صحّتهما عند عدم هذين
الشرطين.
الثاني : بين
الحكم بالنفي ، والحكم بالإثبات ، واسطة ، وهي عدم الحكم ، فمقتضى الاستثناء ، بقاء
المستثنى غير محكوم عليه ، لا بالنّفي ولا بالإثبات.
الثالث : الألفاظ
تدلّ على الصّور المرتسمة في الأذهان ، والأكثر أنّ الصّور الذهنيّة مطابقة للأمور
الخارجيّة ، فالاستثناء المذكور في اللّفظ ، إن صرفناه إلى الحكم ، أفاد زوال
الحكم ، وإن صرفناه إلى ذلك العدم ، أفاد زوال ذلك العدم ، وحينئذ يجب الثبوت ،
إلّا أنّ الأوّل أولى ، لأنّ تعلّق اللّفظ بالحكم الذّهني ، تعلّق بغير واسطة ،
وتعلقه بالأحوال الخارجيّة إنّما هو بواسطة الأحكام الذهنيّة ، فكان الأوّل أولى.
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّ الطهور والوليّ لا يصدق عليه اسم ما استثني منه ، فكان استثناء من غير جنس
وإنّما سبق هذا الكلام لبيان اشتراط الطهور في الصّلاة ، والوليّ في النكاح ،
والشرط وإن لزم من فواته فوات المشروط ، فلا يلزم من وجوده وجود المشروط ، وإذا لم
يكن مخرجا من الصلاة والنكاح ، لم يكن استثناء متّصلا.
فإن قال : انّ
تقديره : «لا صلاة إلّا صلاة بطهور» ، اطّرد وأفاد الإثبات.
وإن قال : إنّ
تقديره : «لا صلاة تثبت بوجه إلّا بذلك» فلا يلزم من الشرط المشروط ، على ما
تقدّم.
والإشكال في
المنفيّ الأعمّ في مثله ومثل قولنا : ما زيد إلّا قائم ، إذ لا
يستقيم نفي جميع الصّفات المعتبرة.
وأجيب : بأنّ
الغرض المبالغة بذلك.
ولأنّه آكدها ،
والقول بأنّه منقطع بعيد ، لأنّه مفرّغ ، وكلّ مفرّغ متّصل ، لأنّه من تمامه.
وعن الثاني
والثالث : أنّهما واردان في طرف الإثبات أيضا.
وفيه نظر ، فإنّ
نفي الحكم بالإثبات ، يستلزم البقاء على الأصل ، وهو العدم.
__________________
المسألة الثالثة :
في الاستثناء المتعدّد
الاستثناء إذا
تعدّد ، فإمّا أن يقترن بحرف العطف ، أو يتجرّد عنه.
فالأوّل ، يرجع
الكلّ فيه إلى المستثنى منه ، مثل : «له عندي عشرة ، إلّا أربعة وإلّا ثلاثة»
لامتناع عوده إلى الأوّل فإنّ المستثنى لا يعطف على المستثنى منه ، ولا إلى
المجموع ، وإلّا لزم التناقض.
وأمّا الثاني ،
فالاستثناء الثاني فيه إمّا أن يزيد على الأوّل ، أو يساويه ، أو ينقص عنه.
فإن كان الأوّل ،
رجعا معا إلى المستثنى منه أيضا ، مثل : «له عشرة إلّا أربعة إلّا خمسة» لامتناع
عوده إلى الأوّل ، لزيادته عليه ، وقد بيّنا امتناع المستوعب ، فكيف الأزيد ، ولا
إليهما للتناقض.
وإن ساواه فكذلك ،
مع احتمال التأكيد هنا.
وإن قصر عنه ، رجع
إلى الأوّل ، لامتناع عوده إلى المستثنى منه لبعده ، والقريب إذا لم يكن أولى من
البعيد ، فلا أقلّ من المساواة.
ولا إليهما ، فإنّ
المستثنى منه مع الاستثناء الأوّل ، لا بدّ وأن يكون أحدهما نفيا ، والآخر إثباتا
، فالاستثناء الثاني لو عاد إليهما معا ، وقد عرفت أنّ الاستثناء من الإثبات نفي ،
ومن النّفي إثبات ، فيكون الاستثناء الثاني قد نفى عن أحد الأمرين السابقين عليه
[عين] ما أثبته الآخر ، فينجبر النقصان بالزّيادة ، فيبقى ما كان حاصلا قبل
الاستثناء ، فيصير الاستثناء الثاني لغوا.
ولأنّه يلزم
التناقض ، لأنّ الاستثناء الثاني لو رجع إلى استثناء الأوّل والمستثنى منه معا ،
كان نفيا باعتبار المستثنى منه ، وإثباتا باعتبار الاستثناء.
لا يقال : إنّما
بيّنا في النفي والإثبات لو اتّحد المتعلق والوجه ، أمّا مع التعدّد فلا.
لأنّا نقول :
المتعلّق هنا واحد ، لأنّه إذا قال : له عليّ عشرة إلّا ثلاثة إلّا واحدا ،
فالثاني لمّا رجع إلى المستثنى منه ، أخرج رابعا ولمّا رجع إلى الاستثناء الأوّل ،
أثبت ذلك الدّرهم ، فيكون ذلك الاستثناء نفيا وإثباتا من المستثنى منه.
وإذا امتنع عود
الاستثناء الثاني إليهما ، وقد بيّنا عدم عوده إلى المستثنى منه ، وجب عوده إلى
الأوّل ، لامتناع عدم عوده إلى شيء.
المسألة الرابعة :
في الاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة
اعلم أنّ
الاستثناء إذا تعقّب جملا متعدّدة ، وصحّ عوده إلى كلّ واحدة منها ، هل يرجع إلى
الجميع أو الى ما يليه؟
قال الشافعي
وأصحابه بالأوّل.
وقال أبو حنيفة
وأصحابه بالثاني.
وجوّز السيّد
المرتضى كلّ واحد من القولين للاشتراك.
__________________
وقال قاضي القضاة
: إذا لم يكن الثاني منهما إضرابا عن الأوّل ، وخروجا إلى قصّة أخرى ، وصحّ رجوع
الاستثناء إليهما ، وجب رجوعه إليهما ، وإن كان إضرابا عن الأوّل وخروجا إلى قصّة
أخرى ، فإنّه يرجع إلى ما يليه.
وتوقّف القاضي أبو
بكر في الجميع.
وفصّل أبو الحسين
هنا جيّدا ، فقال : إمّا أن تكون الجملتان من نوع واحد ، أو من نوعين ، فإن كان
الأوّل فإمّا أن تكون إحدى الجملتين متعلّقة بالأخرى ، أو لا تكون.
فإن كان الثاني ،
فإمّا أن يكونا مختلفي الاسم والحكم ، أو متّفقي الاسم ، مختلفي الحكم ، أو مختلفي
الاسم ، متّفقي الحكم.
فالأوّل ، مثل : «أطعم
ربيعة ، واخلع على مضر إلّا الطّوال».
والأقرب ، رجوع
الاستثناء هنا إلى الجملة الأخيرة ، فإنّ الظاهر أنّه لم ينتقل عن الجملة
المستقلّة بنفسها إلى الجملة الأخرى المستقلّة بنفسها ، إلّا بعد تمام غرضه من
الأولى.
والقول بعود
الاستثناء إلى الأولى ، ينافي ذلك.
والثاني ، مثل : «أطعم
ربيعة واخلع على ربيعة إلّا الطّوال».
والثالث ، مثل : «أطعم
ربيعة ، وأطعم مضر إلّا الطوال».
والحكم في هذين
كما تقدّم.
__________________
وأمّا إن تعلّقت
إحداهما بالأخرى ، فإمّا أن يكون حكم الأولى مضمرا في الثانية ، مثل : «أكرم ربيعة
، ومضر إلّا الطّوال».
أو اسم الأولى
مضمرا في الثانية ، مثل : «أطعم ربيعة ، واخلع عليهم إلّا الطّوال» فالاستثناء في
هذين ، يرجع إلى الجملتين ، لأنّ الثانية لم تستقلّ ، وإنّما تتمّ مع الأولى ،
فوجب رجوع حكم الاستثناء إليهما.
وإن كانت الجملتان
نوعين من الكلام ، فإن اختلفت القضيّة مثل : «أكرم ربيعة ، والعلماء هم المتكلّمون ، إلّا أهل
البلد الفلاني» فالاستثناء يرجع إلى ما يليه ، لاستقلال كلّ منهما بنفسها.
وإن اتّحدت ،
كقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) فالقضيّة واحدة ، والجملة الأولى أمر ، والثانية نهي ، والثالثة خبر
، فالاستثناء وإن كان مقتضاه أن يرجع إلى الأخيرة ، لاستقلال كلّ منهما بنفسها ،
إلّا أنّ في الآية ما يدلّ على رجوعه إلى الجميع ، وهو نوعان الاتّحاد في الغاية ،
فإنّ ردّ الشهادة مع الجلد ، والحكم بالفسق ، يجمعهما أمر واحد ، وهو الانتقام
والذّم ، وإضمار الأولى ، في الثانية والثّالثة.
احتجّ الشافعي
بوجوه :
__________________
الأوّل : الشرط
المتعقّب للجمل ، يعود إلى الجميع ، فكذا الاستثناء ، لجامع عدم استقلال كلّ منهما
بنفسه ، واتّحاد معنييهما ، فإنّ قوله : (وَأُولئِكَ هُمُ
الْفاسِقُونَ* إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) جار مجرى قوله : «[وأولئك هم الفاسقون] إن لم يتوبوا».
الثاني :
الاستثناء بالمشيئة يعود إلى الجميع ، فكذا في غيرها.
الثالث : حرف
العطف يصيّر الجمل المتعدّدة واحدة ، إذ لا فرق بين [أن تقول :] رأيت بكر بن زيد ،
ورأيت بكر بن خالد ، و [بين أن تقول :] رأيت البكرين ، وإذا كان الاستثناء عقيب
الواحدة يرجع إليها ، فكذا ما هو بحكمها.
الرّابع : على
تقدير إرادة عود الاستثناء إلى الجميع لو ذكره لفظا على سبيل التكرار ، كان ركيكا
، بل إنّما يذكره عقيب الأخيرة ، ويكون راجعا إلى الجميع في هذه الصّورة ، والأصل
في الكلام الحقيقة وإذا كان حقيقة في هذه الصورة ، كان حقيقة في الجميع ، دفعا
للاشتراك والمجاز.
الخامس : لو قال :
عليّ خمسة ، وخمسة ، إلّا سبعة ، رجع إلى الجملتين ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك
والمجاز.
السادس :
الاستثناء صالح أن يعود إلى كل واحدة من الجمل ، وليس البعض أولى من البعض ، فوجب
العود إلى الجميع ، كالعامّ.
السابع : لو قال :
«بنو تميم وبنو ربيعة اكرموهم إلّا الطّوال» عاد الاستثناء إلى
__________________
الجميع ، فكذا إذا
تقدّم الأمر بالإكرام ، ضرورة اتّحاد المعنى.
الثامن : لو قال :
«اضربوا بني تميم وبني ربيعة إلّا من دخل الدّار» كان معناه من دخل الدار من
الفريقين.
التاسع : لواحق
الكلام وتوابعه من شرط أو استثناء يجب أن يلحق الكلام ما دام الفراغ لم يقع منه ،
وما دام الكلام متّصلا لم ينقطع ، فاللواحق لا حقة ومؤثّرة فيه ، فالاستثناء إذا تعقّب جملا متّصلة
معطوفا بعضها على بعض ، فالواجب ان يؤثّر في جميعها.
والاعتراض : على
الأوّل : المنع من ثبوت الحكم في الأصل ، بل يعود إلى الأخيرة أيضا.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من اشتراكهما في عدم الاستقلال واقتضاء التخصيص اشتراكهما في كلّ الأحكام ،
وإلّا لما تعدّدا ، واتّحاد معنى الشرط والاستثناء إن كان بمعنى عدم الفرق بينهما
باعتبار ما كان قياس أحدهما على الآخر ، قياس الشيء على نفسه ، وإن كان بينهما فرق
، لم يجب اشتراكهما في الحكم ، لجواز استناده إلى الفارق.
واعلم أنّ
الحنفيّة ، سلّموا الحكم بعود الشرط إلى الجميع ، وفرّقوا بينه وبين الاستثناء ،
لأنّ الشرط له صدر الكلام ، فإذا تعقّب الجمل ، وقع في غير موقعه ، وكأنّه مذكور
في أوّل الكلام ، فلهذا تعلّق بالجميع.
__________________
والاستثناء إذا
تعقّب الجمل ، فهو واقع في مكانه.
وليس بجيّد ،
لأنّا نسلّم أنّ له صدر الكلام ، لكن إنّما يثبت له ذلك في الكلام الّذي تعلّق به
الشرط ، لا كلّ كلام مع أنه لو تقدّم على الجميع لم يجب تعلّقه بالجميع.
و [الاعتراض] على
الثاني : بما تقدّم ، من أنّه ليس باستثناء ، لعدم حرف الاستثناء فيه ، ولا شرط وإن وجد
فيه حرفه ، لأنّه قد يدخل على الماضي ، فيقول : لقيت زيد إن شاء الله ، وإنّما
دخلت المشيئة في كلّ هذه المواضع ، ليقف الكلام عن النّفوذ ، والمضيّ لا لغير ذلك.
لا يقال : فتقف
الجملة الأخيرة.
لأنّا نقول : لو
لا الإجماع لقلنا به ، لكنّ الإجماع دلّ على العود إلى الجميع.
و [الاعتراض] على
الثالث : إن ادّعيتم عدم الفرق ، بطل القياس ، وإن سلّمتموه جاز استناد الحكم إلى
الفارق ، فيبطل القياس أيضا.
مع أنّه قياس في
اللغة.
ونمنع صيرورة
الجملتين كالجملة الواحدة بواسطة العطف ، ومعلوم أنّ الجملتين إذا تعقّبهما
استثناء ، صحّ من المستثنى أن يصرّح بأنّه إنّما استثنى من إحداهما دون الأخرى ،
ولا يجوز أن يصرّح في الجملة الواحدة بأنّ الاستثناء غير عائد إليها.
__________________
و [الاعتراض] على
الرابع : يمكن رعاية الاختصار بذكر ذلك الاستثناء الواحد عقيب الجمل مع الإشارة
إلى ما يقتضي عوده إلى الكلّ ، ولا يقدح ذلك في الفصاحة.
أو لأنّا نمنع
الاستقباح ، لما فيه من الدلالة على شمول الاستثناء للجميع بيقين.
سلّمنا الاستقباح
، لكنّ وضع اللّغة غير مشروط بالمستحسن ، فإنّه لو وقع الاستثناء كذلك ، لصحّ لغة
وثبت حكمه ، ولو لا أنّه من وضع اللّغة لم يكن كذلك.
و [الاعتراض] على
الخامس : لمّا امتنع رجوع الاستثناء إلى إحدى الجملتين ونسبة كلام العاقل إلى الهدر
، وجب صرفه إليهما معا ، فالحاصل أنّ الاستثناء هنا رجع إلى الجملتين لمعنى غير
الاستثناء ، وهو رفع محذور الهدريّة.
ونحن نسلّم جواز
رجوعه اليهما لقيام دليل ، والنزاع إنّما وقع فيما إذا ورد الاستثناء مقارنا
للجملة الأخيرة من غير دليل يوجب عوده إلى ما تقدّم.
على أنّ بعض
الشافعية منع من مثل هذا الاستثناء.
و [الاعتراض] على
السادس : أنّ عوده إلى البعض أولى من عوده إلى الجميع ، لما في الاستثناء من
مخالفة الأصل ، وكلّما قلّ كان اولى.
ثمّ صلاحيّة
اللّفظ لشيء لا يقتضي صرفه إليه ، كما في المجاز.
ونمنع عدم
الأوليّة للبعض ، فإنّ الأخير لكونه أقرب ، أولى من الأبعد.
و [الاعتراض] على
السابع : أنّه قياس في اللّغة ، وقد ظهر بطلانه ، مع قيام الفرق ، فإنّه إذا تأخّر
الأمر ، اقترن الاستثناء باسم جميع وهو قوله : «أكرموهم»
بخلاف الأمر
المتقدّم ، فإنّه لم يتّصل باسم الفريقين.
و [الاعتراض] على
الثامن : بالمنع من أنّ معناه من الفريقين ، بل من ربيعة.
و [الاعتراض] على
التاسع : أنّ الكلام إذا لم يقع الفراغ منه ، وكان المتكلّم متشاغلا به ، صحّ أن
تعود إليه اللّواحق المؤثّرة ، من شرط واستثناء ، ومشيئة ، فأمّا وجوب تعلّقها
بالجميع وإن كان منفصلا وبعيدا عن محل المؤثّر فغير مسلّم ، وإنّما راعوا اتّصال
الكلام وانقطاعه لينفصل حكم ما يصحّ أن يلحق بالكلام ممّا لا يصحّ لحوقه به للفراغ
والانفصال.
ولو كان بهذا
الّذي اقتصر عليه اعتبار ، لوجب إذا قال : أكرمت جيراني وضربت غلماني الطوال ، أن
تردّ لفظة الطّوال ، إلى الجملتين ، لأنّ الفراغ ما حصل من الكلام ، كما يفعل في
الاستثناء.
لا يقال : لو
رددناه إلى ما تقدّم ، لكنّا قد فصلنا بين الصّفة والموصوف.
لأنّا نقول : قد
فعل ذلك في مواضع ، وكذا لو رددنا الاستثناء إلى الجميع ، لكنّا قد فصلنا بين
الاستثناء والمستثنى منه ، وهو مكروه عندهم.
واحتجّ أبو حنيفة
بوجوه :
الأوّل :
الاستثناء خلاف الأصل ، لاشتماله على مخالفة الحكم الأوّل ، فالدليل يقتضي عدمه ،
تركنا العمل به في الجملة الواحدة ، لدفع محذور الهدريّة ، فيبقى الدليل في باقي
الجمل سالما عن المعارض ، فلا يجوز تعلّقه بالجمل المتعدّدة.
وإنّما خصّصناه
بالأخيرة ، لأنّها أقرب ، والاتّفاق واقع على عوده إلى الأقرب ، وكما اعتبر القرب
في الأقرب من العاملين عند البصريّين.
وفي قولنا : ضرب
زيد عمرا ، وضربته ، فجعلوا «الهاء» عائدة إلى عمرو ، دون زيد ، للقرب ، وكذا
جعلوا الأقرب فاعلا في قولنا : «ضرب موسى عيسى» لمّا انتفى الأعراب ، والقرينة
اعتبار القرب ، وكذا في قولنا : «أعطى زيد عمرا بكرا» أنّ بكرا هو المفعول [الثاني]
فكذا وجب اعتبار القرب في الاستثناء.
ولأنّه لا قائل
بعوده إلى غير الأخيرة خاصّة ، فإنّ من النّاس من جعله عائدا إلى الجميع ، ومنهم
من اعاده إلى الأخيرة خاصّة.
الثاني : لو رجع
الاستثناء إلى الجميع ، فإن أضمر مع كلّ جملة استثناء ، لزم مخالفة الأصل في
الإضمار ، مع عدم الحاجة إليه ، وفي الاستثناء يتضاعف مخالفة الأصل.
وإن لم يضمر ، كان
العامل في ما بعد الاستثناء اكثر من واحد ، لكن لا يجوز تعدّد العامل في إعراب
واحد ، لنصّ سيبويه عليه ، وقوله حجّة.
ولئلّا يجتمع
المؤثّران المستقلّان على الأثر الواحد.
الثالث :
الاستثناء من الاستثناء مختصّ بما يليه ، فكذا في غيره ، دفعا للاشتراك.
__________________
الرابع : الظاهر
أنّه لم ينتقل المتكلّم من الجملة الأولى إلى الثانية إلّا بعد استيفاء غرضه منها
، فإنّه لمّا كان السكوت يدلّ على استكمال الغرض من الكلام (الأوّل) ، فكذا الشروع في كلام آخر لا تعلّق له بالأوّل ، يدلّ على
استكمال الغرض من الأوّل ، فلو جعلنا الاستثناء عائدا إلى الجميع ، لزم إبطال ما
أصلناه ، من أنّ الانتقال يدلّ على تماميّة الغرض.
الخامس : المقتضي
لرجوع الاستثناء إلى ما تقدّمه ، عدم استقلاله بنفسه ، فإنّه لو كان مستقلّا بنفسه
عن غيره لم يجز تعليقه بذلك الغير ، وإذا علّق بما يليه استقلّ وأفاد ، فلا معنى
لتعليقه بما بعد عنه ، إذ لو جاز مع إفادته واستقلاله أن تعلّق بغيره لوجب فيه لو
كان مستقلّا بنفسه أن تعلّق بغيره.
السادس : من حق
العموم المطلق أن يحمل على عمومه وظاهره ، إلّا لضرورة تقتضي خلافه ، ولمّا خصّصنا
الجملة الّتي يليها الاستثناء بالضّرورة ، لم يجز تخصيص غيرها ، ولا ضرورة.
السابع : قال الله
تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ
تابُوا) فإنّه لا يرجع إلى الجلد إجماعا.
وقال تعالى : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) وهو راجع إلى الدّية دون الإعتاق بالإجماع.
الثامن : أنّه
استثناء تعقّب جملتين ، فلا يكون بظاهره عائدا إليهما كما لو
__________________
قال : «أنت طالق
ثلاثا وثلاثا ، إلّا أربعة» فإنّه لا يعود إلى الجميع ، وإلّا لوقع طلقتان لا ثلاث
[طلقات].
التاسع : دخول
الجملة الأولى تحت لفظه معلوم ، ودخولها تحت الاستثناء مشكوك فيه ، والشكّ لا يرفع
اليقين.
والاعتراض على
الأوّل : المنع من مخالفة الاستثناء الأصل ، لأنّا قد بيّنا أنّ المستثنى
والمستثنى منه كاللّفظ الواحد الدّالّ على الباقي ، مع انتقاضه بالاستثناء بمشيئة
الله تعالى وبالشرط ، فإنّهما عائدان إلى الجميع مع عدم الاستقلال.
لا يقال : الشرط
وإن تأخّر ، لكنّه متقدّم ، فصار جميع ما بعده مشروطا به ، فالاستثناء بالمشيئة
يقتضي صيرورة الكلام بأسره موقوفا ، فلا يختصّ بالبعض.
لأنّا نقول : نمنع
تقدّم الشّرط على جميع الجمل ، بل على الأخيرة.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ التقدّم يقتضي العود إلى الجميع ، بل إلى ما يليه.
وأمّا الاستثناء
بالمشيئة ، فلم لا يختصّ بالأخيرة؟ وإنّما يتمّ كلام الحنفيّة لو منعوا هذين
الإلزامين.
وعلى الثاني :
بالمنع من عدم اجتماع العاملين على معمول واحد.
ونصّ سيبويه ،
معارض بنصّ الكسائي على الجواز وليست العلل الإعرابيّة مؤثّرة ، بل معرّفة.
وعلى الثالث :
أنّه لمّا امتنع عوده إلى الجميع ، وجب عوده إلى البعض ،
__________________
ونحن نقول كذلك في
الجمل : إنّه لو امتنع العود إلى بعضها اختصّ بما يمكن عوده إليه.
على أنّ قياس
الجمل على الاستثناء من الاستثناء خال عن الجامع ، إذ لا جمل هناك.
وعلى الرابع :
بالمنع من أنّه لم ينتقل عن الأوّل إلّا بعد استيفاء غرضه منها ، فإنّه نفس
النزاع.
وعلى الخامس :
انّه لا يمتنع من تعلّقه بما تقدّم أجمع ، كما لا يوجبه ، فلا حجّة لكم فيه
والاستقلال وإن اقتضى أن لا يجب تعليقه بغيره ، لكنّه لا يمنع الجواز.
وقوله : لو جاز
ذلك ، لجاز في الاستثناء إذا كان مستقلّا بنفسه ان تعلقه بغيره باطل ، لأنّ ما
يستقلّ بنفسه ولا تعلّق له بغيره جائزا أو لا واجبا لا يجوز أن تعلقه بغيره.
والاستثناء
المتعقب بجملتين غير مستقلّ بنفسه ، فبالضرورة تعلّقه بما يليه المستقلّ ، غير
أنّه وإن استقلّ بذلك ، فمن الجائز أن يتعلّق بما تقدّمه وإن لم يكن واجبا.
ثمّ ينتقض بالشرط
، فإنّه متى تقدّم أو تأخّر إذا علّق ببعض الجمل ، أفاد واستقلّ إجماعا ، مع أنّه
يجب أن يتعلق بالجميع ، مع حصول الاستقلال بالبعض.
وعلى السادس :
بالنقص بالشرط أوّلا ، وبالمنع من كون اللفظ على ظاهر
العموم مع تعقيب
الاستثناء ، وإنّما يكون ظاهرا في العموم ، لو خلا عن الاستثناء.
وعلى السّابع :
أنّ الجلد إنّما لم يرجع الاستثناء لكنّه محافظة لحقّ الآدميّ ويرجع عندنا إلى
جميع ما تقدّم عداه ، ونحن لا نمنع من عدم الرجوع إلى البعض لمانع.
وإنّما امتنع عود
الاستثناء إلى الإعتاق ، لأنّه حقّ الله تعالى ، وتصدّق الوليّ لا يسقط حقّه
تعالى.
وعلى الثامن :
بالمنع من تعدّد الطلاق على مذهبنا.
وأمّا من جوّزه ،
فقد ذهب بعض الشافعيّة إلى عوده إلى الجميع ، وأنّ الواقع طلقتان.
سلّمنا ، لكنّ
المعتبر من قوله : «ثلاثا ثلاثا» إنّما هو الجملة الأولى دون الثانية ، فلو عاد
الاستثناء إليها لكان مستغرقا ، وهو باطل.
وعلى التاسع :
بالمنع من الدخول على تقدير الاستثناء ، ثمّ لو منع ذلك من عود الاستثناء إلى
الجمل المتقدّمة ، يمنع من اختصاصه بالأخيرة ، لجواز عوده بدليل آخر إلى الجملة
المتقدّمة دون المتأخرة ، فيبقى الشكّ حاصلا في الأخيرة ، كما حصل في المتقدمة.
ثمّ ينقض بالشرط
والوصف على باقي الجمل.
واحتجّ السيد
المرتضى على الاشتراك بوجوه :
الأوّل : يحسن
الاستفهام عن إرادة المتكلّم للعود إلى الجميع أو الأخيرة ، والاستفهام دليل
الاشتراك.
الثاني : الاستعمال
في القرآن العزيز ولسان العرب ، يدلّ على عود الاستثناء تارة إلى الجميع ، وأخرى
إلى الأخيرة ، والاستعمال دليل الحقيقة ، فوجب الاشتراك.
الثالث : الحال
والظرفان يصح تعلّقها بالجميع ، وبالأخيرة ، فكذا الاستثناء ، بجامع
الاشتراك في الفضلة .
والاعتراض على
الأوّل والثاني : بما تقدّم في باب العموم.
مع أنّه يجوز أن
يكون الاستفهام لعدم المعرفة بالمدلول الحقيقيّ والمجازيّ أصلا ، كما تقوله
الواقفيّة.
أو لأنّه حقيقة في
البعض ، مجاز في البعض ، والاستفهام للحصول على اليقين ودفع الاحتمال البعيد.
وعلى الثالث : بالمنع
من ثبوت الحكم في الأصل ، بل الحال والظرفان تعود إلى الجميع كما ذهب إليه الفريق
الأوّل في الاستثناء ، أو إلى الأخيرة كما ذهب إليه الفريق الثاني.
مع أنّه قياس في
اللغة ، وهو باطل.
مع أنّ الاشتراك
في بعض الوجوه ، لا يقتضي التساوي من كلّ الوجوه.
__________________
المطلب الثاني :
في الشرط والغاية والصفة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في حدّ الشرط
قال الغزّاليّ :
الشرط هو ما لا يوجد المشروط دونه ، ولا يلزم أن يوجد عند وجوده.
وهو خطأ ، إذ
المشروط لا يعرف إلّا بالشرط ، فيدور.
وينتقض أيضا ،
بجزء السّبب وبالشرط المساوي ، فإنّه يلزم أن يوجد عند وجوده ، وإن كان اللّزوم من
حيث المساواة.
وقال بعض الأشاعرة
: ما يقف عليه تأثير المؤثّر في تأثيره ، لا في ذاته.
وينتقض على مذهبهم
، بالحياة القديمة ، فإنّها شرط في وجود علمه تعالى ، ولا تأثير هناك.
وقيل : الشرط هو ما يلزم من نفيه نفي أمر ما على وجه لا يكون
سببا لوجوده ، ولا داخلا في السّبب.
__________________
وهو إمّا عقليّ ،
كالحياة للعلم ، أو شرعيّ كالطهارة ، أو لغويّ.
وله أدوات ك «إن» و
«إذا» و «من» و «ما» و «مهما» و «حيثما» و «أينما» و «إذ ما».
وأمّ الباب «إن»
لأنّها حرف ، والأصل في إفادة المعاني للأسماء ، إنّما هو الحروف.
قيل : ولدخولها في جميع صور الشرط ، بخلاف البواقي ، لاختصاص «من»
بالعقلاء و «ما» بغيرهم ، و «إذا» لما لا بدّ من وقوعه ، مثل : أتيتك إذا احمرّ
البسر.
وفيه نظر ، فإنّ «إن»
إنّما تدخل على المحتمل خاصّة ، و «إذا» تدخل عليهما تقول «أتيتك إذا احمرّ البسر ، وإذا دخلت الدار» ولا تقول
: «أتيتك إن طلعت الشّمس».
المبحث الثاني :
في أحكامه
وهي أربعة :
الأوّل : الشرط
والمشروط قد يتحد كلّ منهما ، وقد يتعدّد ، وقد يتّحد الأوّل ، ويتعدّد الثاني
وبالعكس.
فالأوّل : إن
جئتني أكرمتك.
__________________
والثاني : إن
جئتني ودخلت الدار ، أكرمتك وأعطيتك.
والثالث : إن
جئتني أكرمتك وأعطيتك.
والرابع : إن
جئتني ودخلت الدار أكرمتك.
واعلم أنّ التعدّد
قد يكون على الجميع ، وقد يكون على البدل ، وتتكثّر الأقسام حينئذ.
أمّا التعدّد على
الجميع ، فقد سبق.
وأمّا على البدل
فمثال تعدّدهما : «إن جئتني أو دخلت الدار أكرمتك أو أعطيتك».
ومثال تعدّد
المشروط : «إن جئتني أكرمتك أو أعطيتك».
ومثال تعدّد الشرط
: «إن جئتني أو دخلت الدار أكرمتك».
واعلم أنّ
الشّرطين إذا دخلا على جزاء واحد ، فإن كانا على الجمع ، لم يحصل المشروط إلّا عند
حصولهما معا ، وإن كانا على البدل ، توقّف المشروط على حصول أحدهما ، وهنا
بالحقيقة الشرط أحد الأمرين ، وهو واحد ، ويعدم بعدمهما معا.
وإن تعدّد الجزاء
، فإن كانا على الجمع ، توقّف كلّ واحد من المشروطين على مجموع الشرطين ، لا على
التوزيع ، بل على سبيل الجمع.
وإن كانا على
البدل كان وجود أحد المشروطين متوقّفا على وجود أحد الشرطين.
وإن كان الشرط على
الجمع ، والمشروط على البدل ، كان وجود أحد المشروطين موقوفا على مجموع الشرطين.
ولو كان بالعكس ،
توقّف مجموع المشروطين على وجود أحد الشرطين.
الثاني : الشرط
إمّا أن يستحيل دخوله في الوجود إلّا دفعة واحدة ، سواء كان لانتفاء التركيب ، أو
لاستحالة تقدّم أحد أجزائه على الآخر.
وإمّا أن يستحيل
دخوله بجميع أجزائه في الوجود ، كالحركة والكلام ، فإنّ المتكلّم إذا أوجد حرفا
يكون الثاني معدوما ، وعند وجود الثّاني يعدم الأوّل.
وإمّا أن يصحّ
دخوله في الوجود دفعة ، أو تتعاقب أجزاؤه.
وعلى التقديرات
الثلاثة ، فالشرط إمّا عدمها ، أو وجودها.
فإن كان الشرط
عدمها ، حصل الحكم في الأقسام الثلاثة في أوّل زمان عدمها.
وإن كان الشرط
وجودها ، ففي الأوّل يحصل الحكم مقارنا لأوّل زمان وجود الشرط.
وفي الثاني عند
حصول آخر جزء من أجزاء الشرط ، إذ لا وجود لذلك المجموع في التحقيق ، وإنّما أهل العرف
يحكمون [عليه] بالوجود ، عند وجود آخر جزء من أجزائه ، وقد علّق الحكم على وجوده ،
فيكون في ذلك الوقت.
__________________
وفي الثالث إنّما
يتحقّق وجوده حقيقة عند دخول أجزائه دفعة في الوجود.
وإنّما اعتبرنا
آخر جزء من المجموع في الثاني ، لضرورة عدم اجتماع أجزائه ، فيبقى ما يمكن اجتماع
أجزائه على الحقيقة ، بحيث إن اجتمعت الأجزاء دفعة واحدة ، حصل الجزاء ، وإلّا
فلا.
الثالث : ذهب
الشافعي وأبو حنيفة معا إلى أنّ الشرط الداخل على الجمل يقتضي تخصيص الجميع به.
وقيل : يختصّ بما يليه ، فإن كان متأخّرا اختصّ بالأخير ، وإن
كان متقدّما ، اختصّ بالأوّل.
الرابع : لا خلاف
في وجوب اتّصال الشّرط بالكلام ، لعدم استقلاله بنفسه ، وأجمعوا على جواز التقييد
بالشرط المخرج للأكثر ، حتّى لو بقي الواحد لم يكن قبيحا ، ولم يختلفوا كما
اختلفوا في الاستثناء.
ويجوز تقديم الشرط
لفظا ، وتأخيره ، والأولى تقديمه ، لأنّ الشرط متقدّم طبعا ، لأنّه شرط لتأثير
المؤثّر فيه ، فاستحقّ التقدّم وضعا.
__________________
المبحث الثالث :
في التقييد بالغاية
غاية الشيء طرفه ،
ونهايته.
وألفاظها «حتّى» و
«إلى» كقوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ولا بدّ وأن يكون الحكم فيما بعدها مخالفا لما قبلها ، إذ
لو بقي الحكم ثابتا فيما وراء الغاية لم تكن الغاية غاية وطرفا ، بل كانت وسطا.
وقيل : الغاية إن
انفصلت عن ذي الغاية بمفصّل معلوم ك (أَتِمُّوا الصِّيامَ
إِلَى اللَّيْلِ) وجب أن يكون حكم ما بعدها بخلاف ما قبلها للعلم حسّا
بانفصال أحدهما عن الآخر.
وإن لم يكن كذلك ،
مثل (إِلَى الْمَرافِقِ) والمرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس ، لم يجب فيه
المخالفة ، فإنّه لمّا كان المرفق غير منفصل عن اليد بمفصل محسوس ، لم يكن تعيين
بعض المواضع في اليد أولى ، فهاهنا يجوز أن يكون ما بعدها داخلا فيما قبلها.
واعلم أنّ الحكم
الواحد قد يكون له غايتان ، كما لو قيل : «لا تقربوهنّ حتّى يطهرن و [حتّى] يغسلن»
، وفي الحقيقة ، الغاية هنا الأخيرة ، وعبّر عن الأوّل بالغاية ، لقربه منها .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
الغايات قد لا تترتّب ، فيكون المجموع هو الغاية ، وكلّ واحد جزء الغاية ، لا ما
ذكر أخيرا.
وقد تتعدّد على
البدل ، فتكون الغاية في الحقيقة أحدهما ، مثل : «أكرم بني تميم إلى أن يدخلوا
الدار أو السّوق».
وقد تتعقّب جملا
متعددة ففي رجوعها إلى الجميع أو الأخيرة ، خلاف ، كما في الاستثناء.
المبحث الرّابع :
في التقييد بالوصف
الحكم قد يتخصّص
بالوصف ، كقولنا : «أكرم بني تميم الطّوال» ، فقيد الطّوال منع من دخول القصار تحت
الأمر ، وقد كان ثابتا قبل الوصف.
والوصف المخصّص قد
يكون ثبوتيّا ، وقد يكون عدميّا ، وهو قد يتعقّب جملة واحدة ، كما تقدّم ، وقد
يتعقّب جملا ، مثل : «أكرم بني تميم ، واخلع على ربيعة الطّوال».
والبحث في عود
الوصف إلى الجميع أو الأخيرة ، كما تقدّم في الاستثناء.
الفصل الثاني
في الأدلّة المنفصلة
تخصيص العامّ ،
إمّا أن يكون بالعقل ، أو بالحسّ ، أو بالسّمع فهاهنا مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في تخصيص العامّ بالعقل
اختلف النّاس في
ذلك ، فذهب الجمهور إلى جوازه ، ومنعه طائفة شاذّة من المتكلّمين.
والتحقيق : أنّ
النزاع لفظيّ ، فإنّه لا خلاف في المعنى ، لأنّ اللفظ لمّا دلّ على ثبوت الحكم في
جميع الصور ، والعقل منع من ثبوته في حقّ العاجز ، فإمّا أن يحكم بمقتضى العقل ،
والنقل معا ، ويلزم اجتماع النقيضين.
أو يرجّح النقل
على العقل ، وهو محال ، لأنّ العقل أصل النّقل ، فلو قدحنا فيه لتصحيح فرعه لزم
إبطالهما معا.
أو يرجّح العقل
على النقل ، وهو المقصود من تخصيص العموم ، مثال ذلك قوله تعالى : (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِ
شَيْءٍ) فإنّ ذاته تعالى مندرجة تحت الشّيء ، مع أنّه يستحيل إرادة
ذاته من هذا الخطاب.
وكذا قوله تعالى :
(وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، والصبيّ والمجنون غير مرادين.
وإخراج ذاته تعالى
عن عموم الخطاب الأوّل ، معلوم بضرورة العقل ، وإخراج الصّبيّ والمجنون عن الخطاب
الثاني معلوم بنظره ، لعدم الفهم في حقّهما ، فمعنى التخصيص موجود.
وأمّا اطلاق لفظ
المخصّص ، فإن أريد به الأمر الّذي يؤثّر في اختصاص اللّفظ العامّ ببعض مسمّياته ،
فالعقل غير مخصّص ، لأنّ المقتضي لذلك الاختصاص هو الإرادة القائمة بالمتكلّم ،
والعقل دليل على تحقّقها ، فهو دليل المخصّص لا نفسه ، لكن هذا كما منع العقل من
تسميته بالمخصّص ، فكذا يمنع الكتاب والسنّة ، لأنّ المؤثّر هو الإرادة لا
الألفاظ.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : التخصيص
إخراج بعض ما تناوله اللّفظ عنه ، وهو غير متصوّر هنا ، لأنّ دلالة الألفاظ وضعيّة
تابعة لقصد المتكلّم ، ونحن نعلم قطعا أنّ المتكلّم لا يريد بلفظه الدلالة على ما
يخالف صريح العقل ، فلا يكون لفظه دالّا عليه لغة ، ومع انتفاء الدّلالة اللغويّة
على الصّورة المخرجة بالعقل ، لا يكون تخصيصا.
__________________
الثاني : التخصيص
بيان والمخصص مبين ، والبيان تابع للإشكال فيكون متأخرا عن المبين. والعقل سابق
فلا يكون مبيّنا ولا مخصصا.
الثالث : لو جاز
التخصيص بالعقل ، لجاز النّسخ به ، لاشتراكهما في كونهما بيانا وتخصيصا.
الرابع : يحتمل أن
تكون صحّة الاحتجاج بالعقل مشروطة بعدم معارضة عموم الكتاب.
الخامس : نمنع
تخصيص الصّبيّ والمجنون ، فإنّ خطابهما ممكن ، كما في أرش الجنايات وقيم المتلفات
وإجماع الفقهاء على صحّة صلاة الصّبيّ ، واختلافهم في صحّة إسلامه ، ولو لا دخوله
تحت الخطاب لما كان كذلك.
والجواب عن الأوّل
: امتناع قصد المتكلّم لا يقتضي امتناع الدخول لغة ، ونحن نسلّم امتناع القصد ، لا
امتناع الدخول لغة ، والتخصيص إنّما حصل باعتبار الدخول لغة إلى القصد ، وإلّا لزم
التناقض.
وفيه نظر ، لبقاء
التناول له بعد التخصيص.
فالتحقيق : أنّه
تخصيص باعتبار قصور جزئيّات المراد عن جزئيّات التناول.
وعن الثاني : أنّ
المخصّص يجب تأخّره باعتبار كونه مخصّصا ومبيّنا لا باعتبار ذاته.
وعن الثالث : أنّ
امتناع النسخ بالعقل ، من حيث ، إنّ الناسخ معرّف لبيان مدّة الحكم المقصودة في
نظر الشرع ، وذلك ممّا لا سبيل للاطّلاع عليه عقلا ،
بخلاف معرفة
استحالة كون ذاته تعالى مخلوقة أو مقدورة.
على أنّا نمنع كون
العقل ليس بناسخ ، فإنّ تجدّد عجزه ، قد نسخ عنه الفعل بالعقل .
وعن الرابع : ما
تقدّم ، من أنّه مع التعارض بين النّقل والعقل ، يجب تقديم العقل وتأويل النّقل.
وعن الخامس : أنّ
تعلّق الحقّ بمالهما من باب خطاب الوضع ، وهو غير متعلّق بالصّبيّ ، ووجوب الأداء
ثابت بخطاب التكليف متعلّق بالوليّ ، لا بهما.
وصحّة صلاته
وإسلامه لا تدلّ على دخوله تحت خطاب التكليف ، فإنّ صحّة الصلاة معناها ، انعقادها
سببا لثوابه ، وسقوط الخطاب عنه بهما إذا صلّى في أول الوقت ، وبلغ في آخره ، لا
بمعنى أنّه امتثل أمر الشرع حتّى يكون داخلا تحت خطاب التكليف ، بل إن كان ولا بدّ
، فهو داخل تحت خطاب الوليّ لفهمه بخطابه ، دون خطاب الشّرع ، وكذا صحّة إسلامه.
على أنّ منع تخصيص
الصّبيّ غير مضرّ ، إذ ليس القصد آحاد المسائل.
لا يقال : إذا كان
الفهم شرطا فما معنى قول الفقهاء : النائم في جميع الوقت مخاطب بالصّلاة.
لأنّا نقول : ليس
المراد أنّه يصلّي وهو نائم ، أو أنّه يزيل النّوم عن نفسه ، بل
__________________
ما ذكره قاضي
القضاة في تفسير قولهم : إنّ الإنسان مخاطب ، وهو لوجوه :
الأوّل : أنّه
مكلّف بما تضمّنه الخطاب.
الثاني : أنّ سبب
الوجوب حاصل كالنائم ، لأنّه قد اختصّ بسبب وجوب القضاء ، بخلاف المجنون ، ولهذا
قالوا : الحائض مخاطبة بالصّوم ، دون الصّلاة.
الثالث : تقدّم
لزوم حكم الخطاب ، كما في السكران.
لا يقال : فصّل
الفقهاء بين صلاة الصّبيّ بطهارة وبغيرها.
لأنّا نقول :
مرادهم أنّها على الصفة الّتي يسقط فرض البالغ ، وليس كذلك إذا خلت عن الطّهارة ،
أو أنّها إذا وقعت بطهارة فقد وقعت على الوجه الّذي أمرنا أن نأخذه بها.
واعلم أنّ العقل ،
كما دلّ على التخصيص ، فكذلك الحسّ ، لقوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) [وقوله تعالى](تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) مع خروج السّماوات والأرض حسّا [وقوله تعالى](ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ
إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) وقد أتت على الجبال ، والأرض ، ولم تجعلهما رميما بالحسّ.
__________________
المبحث الثاني :
في تخصيص الكتاب بمثله
اتّفق المحقّقون
عليه ، ومنع أهل الظاهر من جوازه.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ قوله
تعالى : (وَأُولاتُ الْأَحْمالِ
أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ) ورد مخصّصا لقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وكذا قوله : (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) مخصوص بقوله تعالى : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) والوقوع دليل الجواز.
الثاني : الخاصّ
والعامّ دليلان متعارضان ، ولا يمكن إجراء كلّ واحد منهما على ظاهره ، وإلّا لزم
التناقض ، ولا إهمالهما بالكليّة ، وإلّا لزم إبطال دليل خال عن المعارض ، والتالي
باطل قطعا ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ ما عدا الخاصّ من جزئيّات العامّ ، لا يعارض لدليل ثبوت الحكم فيه ، ولو
أبطلنا العامّ فيه ، لزم المحال ، ولا إهمال العامّ بالكليّة ، لما
__________________
تقدّم ، ولا الخاصّ
بالكليّة ، لأنّ دلالته على محلّه أقوى من دلالة العامّ عليه.
وإذا تعارض دليلان
، وأحدهما أرجح ، وجب العمل بالرّاجح ، فلم يبق إلّا العمل بالدليلين ، والجمع
بينهما ، وذلك بأن يعمل بالعامّ في غير صورة التخصيص ، وبالخاصّ في محلّه.
الثالث : قد بينّا
امتناع الجمع بين دلالة العامّ على عمومه والخاصّ على خصوصه ، فلا بدّ من الترجيح
لأحدهما ، فنقول : زوال الزائل إن كان على سبيل التخصيص ، ثبت المطلوب ، وإن كان على سبيل
النسخ فكذلك ، فإنّ كلّ من جوّز نسخ الكتاب بمثله ، جوّز التخصيص بمثله.
على أنّا نقول : التخصيص
أولى من النّسخ ، لاستدعاء النسخ ثبوت أصل الحكم في الصورة الخاصّة ، ورفعه بعد
ثبوته ، والتخصيص عدم إرادة المتكلّم باللفظ العامّ للصّورة المخصوصة ، فما يتوقّف
عليه النسخ أكثر ، فهو مرجوح.
ولأنّ النسخ رفع
بعد الإثبات ، والتخصيص منع من الإثبات ، والمنع أسهل من الرفع.
ولأنّ وقوع
التخصيص في الشرع أغلب من النسخ ، فكان الحمل على التخصيص أولى.
احتجّ المانعون
بقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) فوّض
__________________
البيان إليه فلا
يحصل إلّا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم والمخصّص مبيّن.
والجواب :
المعارضة بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ).
ولأنّ تلاوته صلىاللهعليهوآلهوسلم لآية التخصيص بيان منه.
لا يقال : ما
ذكرتموه وإن صحّ فيما إذا كان الخاصّ متأخّرا ، لكن لا يصحّ مع جهل التاريخ ،
لاحتمال تقدّم الخاصّ ، فيكون العامّ ناسخا ، وتأخّره ، فيكون الخاصّ مخصّصا له ،
ولا ترجيح ، فيتساقطان ، وحينئذ يرجع إلى دليل غيرهما ، كما اختاره أبو حنيفة ،
والقاضي أبو بكر.
سلّمنا كون الخاصّ
مخصّصا على تقدير الجهل بالتاريخ ، لكن لو علم تأخّر العامّ ، تعيّن أن يكون ناسخا
، لأنّ ذكر العامّ يجري مجرى ذكر جزئيّاته ، ولو نفي الحكم عن الجزئيّ المعيّن ، لكان ناسخا لثبوته السابق ،
فكذا إذا أدرجه في النّفي تحت العامّ.
__________________
ولأنّ الخاصّ
المتقدّم يمكن نسخه ، والعامّ [الوارد بعده] يمكن أن يكون ناسخا ، فيكون ناسخا.
ولأنّ الخاصّ
المتقدّم متردّد بين كونه منسوخا ، ومخصّصا لما بعده ، فلا يكون مخصّصا للتنافي
بين البيان والتلبيس.
ولقول ابن عباس «كنّا
نأخذ بالأحدث فالأحدث».
لأنّا نقول : ما
سبق من الأدلة يقتضي كون الخاصّ راجحا على العامّ فيما إذا جهل التاريخ ، ونمنع
إجراء ذكر العامّ مجرى ذكر الجزئيّات ، إذ ذكر الجزئيّات ينافي التّخصيص ، بخلاف
ذكر العامّ.
ولا يلزم من إمكان
النسخ وقوعه.
والتردّد بين كون
الخاصّ منسوخا ومخصّصا ، إن أريد به تساوي الاحتمالين ، فهو ممنوع ، وإن أريد به
تطرّق الاحتمال في الجملة ، فلا يمنع من كونه مخصّصا ، ولو منع ذلك من كونه مخصّصا
، لمنع تطرّق احتمال كون العامّ مخصّصا بالخاصّ أكثر من كونه ناسخا.
وقول ابن عباس
وحده ، ليس حجّة.
__________________
المبحث الثالث :
في تخصيص السنّة المتواترة بمثلها
ذهب الأكثر إلى
جوازه ، لأنّ العامّ والخاصّ إذا تعارضا ، لم يمكن العمل بهما من كلّ وجه ، ولا
تركهما من كلّ وجه ، ولا العمل بالعامّ في كلّ الصّور ، وإهمال الخاصّ ، لما تقدّم
، فلم يبق إلّا العمل بالخاصّ في مورده ، وبالعامّ في غير صورة التخصيص ، جمعا بين
الدليلين.
وأيضا ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما سقت السماء العشر» وهو عامّ في النّصاب وغيره.
وقال : «لا زكاة
فيما دون خمسة أوسق» وهو مخصّص لذلك العموم.
احتجّوا بقوله تعالى
: (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) جعله منصوبا لتبيين الأحكام ، فلا يجوز افتقار سنّته إلى
بيان.
والجواب : هذا لا
يمنع من كونه مبيّنا لما ورد على لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم من السنّة.
__________________
المبحث الرابع :
في تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة وبالعكس
لا خلاف في ذلك ،
والأصل فيه ما تقدّم.
وأيضا ، فقد وقع ،
أمّا بالقول فكما خصّصوا عموم [قوله تعالى :](يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ) بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «القاتل : لا يرث» وبقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يتوارث أهل ملّتين» .
وأمّا بالفعل ،
فإنّهم خصّصوا قوله تعالى : (الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) بما تواتر عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من رجم المحصن.
وفيه نظر ، للمنع
من كون اسم الجنس المحلّى باللّام للعموم ، ويمكن الاحتجاج هنا بالإجماع على
عموميّته.
وأمّا العكس ، وهو
تخصيص السنّة المتواترة بالكتاب ، فإنّه جائز ، وعليه أكثر الناس ، لما مرّ من
امتناع العمل بهما ، وإهمالهما ، والعمل بالعامّ خاصّة ، فتعيّن العمل بالخاصّ في
صورته ، والعامّ فيما عدا تلك الصورة.
__________________
احتجّ المخالف بقوله
تعالى : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) جعله مبيّنا للكتاب ، وهو إنّما يكون لسنّته ، فلو كان
الكتاب مبيّنا للسنّة ، لزم الدّور.
ولأنّ المبيّن أصل
، والبيان تابع ، فلو كان الكتاب مبيّنا ، لكان تابعا للسنّة.
والجواب : لا نمنع
ما ذكرتموه من كون النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبيّنا للسنّة بما يرد على لسانه من القرآن ، فإنّ السنّة
منزلة أيضا ، لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ
الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) وإنّما لم يكن قرآنا ، لأنّه ليس متلوّا.
ثمّ ما ذكرتموه ،
معارض بقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ
الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) والسنّة شيء ، والتبعيّة باطلة للإجماع.
على أنّ القرآن
مبيّن لقوله تعالى : (تِبْياناً لِكُلِّ
شَيْءٍ) وأيّ شيء قدّرنا كون القرآن مبيّنا له ، لزم أن يكون تابعا
على ما ذكرتموه.
ولأنّ القطعيّ قد
يبيّن الظنيّ ولا ينحط عن درجته.
__________________
المبحث الخامس :
في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بالإجماع
لا خلاف في ذلك ،
لما تقدّم من أنّ الدّليلين إذا تعارضا ، وجب العمل بهما بقدر الإمكان.
ولأنّه واقع ،
فإنّهم خصّصوا آية الإرث بالإجماع على أنّ العبد لا يرث ، وخصصوا آية الجلد
بالإجماع على أنّ العبد كالأمة في تنصيف الجلد.
وأمّا العكس ، وهو
تخصيص الإجماع بالكتاب أو بالسنّة المتواترة ، فإنّه باطل بالإجماع ، لأنّ الإجماع
على الحكم العامّ مع سبق المخصّص خطأ ، والإجماع لا يقع خطأ.
واعلم انّ التحقيق
هنا أن نقول : إنّ الإجماع نفسه لا يقع مخصّصا للقرآن ولا للسّنّة ، بل هو كاشف
على أنّه قد حصل مخصّص لذلك العامّ ، لأنّا إذا رأينا أهل الإجماع قاضين بما يخالف
العموم في بعض الصّور ، علمنا أنّهم إنّما قضوا بذلك ، لدليل وقفوا عليه ، وإلّا
لكان الإجماع خطأ ، وهو باطل.
وكذا إذا قلنا :
الإجماع ناسخ ، فإنّه كاشف عن وجود النّاسخ ، لا أنّه ناسخ بنفسه.
__________________
المبحث السادس :
في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بفعل الرّسولصلىاللهعليهوآلهوسلم
اختلف القائلون
بكون فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حجّة على غيره ، هل يجوز أن يخصّص به العموم أو لا.
فأثبته الأكثرون ،
كالشافعيّة ، والحنفيّة ، والحنابلة.
ومنعه أبو الحسين
الكرخي.
والتحقيق أن نقول
:
اللّفظ العامّ إن
كان متناولا للرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كما قال : «الوصال حرام على كلّ مسلم» فإذا فعل ما
ينافيه ، كان ذلك الفعل مخصّصا للعموم في حقّه إجماعا.
وأمّا في حقّ غيره
، فكذلك إن دلّ الدّليل على أنّ حكم غيره كحكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم في الكلّ مطلقا ، أو في الكلّ إلا ما خصّصه الدليل ، أو في
تلك الواقعة ، لكن المخصّص للعموم لا يكون ذلك الفعل وحده ، بل الفعل مع ذلك
الدّليل.
وفي الحقيقة ، لا
يكون ذلك تخصيصا بل نسخا ، وإن لم يكن كذلك ، لم يجز تخصيص ذلك العامّ في حقّ
غيره.
__________________
وإن كان اللّفظ
العامّ غير متناول للرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل للأمّة فقط ، فإن دلّ الدّليل على أنّ حكم غيره مثل
حكمه ، صار العامّ مخصوصا بالنسبة إلى الأمّة ، وفي الحقيقة يكون نسخا لمجموع فعل
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مع ذلك الدليل ، وإلّا فلا.
وأمّا في حقّ
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإنّه لا يكون تخصيصا ، لعدم تناول اللفظ له ، وعلى هذا
التقدير فلا كثير اختلاف في ذلك ، أمّا إذا كان هو المخصّص عن العموم وحده ، فلعدم
الخلاف فيه ، لأنّ اللفظ إن تناوله ، وقد فعل خلافه ، كان العامّ مخصوصا في حقّه.
وأمّا في باقي
الأقسام فلعدم تحقّق التّخصيص ، بل إن وقع نزاع في ذلك ، فإنّما هو في كون فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ناسخا لحكم العموم.
احتجّ المانعون من التخصيص : بأنّ المخصّص للعامّ هو الدّليل الدّالّ على وجوب المتابعة
، وهو قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) وهو أعمّ من العامّ الدالّ على بعض الأشياء ، فالتخصيص
بالفعل يكون تقديما للعامّ على الخاصّ ، وهو باطل.
والجواب : ليس
المخصّص مجرّد قوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) بل هو مع الفعل ، ومجموعهما أخصّ من العامّ الّذي يدّعى
تخصيصه بالفعل.
__________________
المبحث السّابع :
في التخصيص بالتقرير
إذا فعل الواحد من
أمّته فعلا بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم بخلاف مقتضى العموم ، ولم ينكر عليه ، مع علمه صلىاللهعليهوآلهوسلم به ، فهو مخصّص لذلك العامّ في حقّ ذلك الفاعل عند الأكثر
، خلافا لشذوذ.
لنا : أنّ تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم وعدم إنكاره منه على الفاعل دليل قاطع في تخصيص ذلك العموم
في حقّ ذلك الفاعل ، وإلّا لكان فعله منكرا ، ولو كان منكرا لاستحال من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم السكوت عنه ، وعدم الإنكار عليه ، فترك الإنكار دليل على
الجواز.
واحتمال نسخ ذلك
الحكم مطلقا ، أو غير ذلك الواحد بعينه بعيد ، واحتمال تخصيصه من العموم أولى
وأقرب.
إذا ثبت هذا ، فإن
عقل معنى ، أوجب تخصيص ذلك الواحد عن ذلك العموم ، كان كلّ مشارك في ذلك المعنى ،
مخصوصا أيضا ، مطلقا عند القائلين بالقياس.
وعندي إذا كانت
العلّة منصوصة أو ان ثبت أنّ حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم في الواحد حكمه في الكلّ ، كان غيره مخصوصا ، وإلّا فلا.
وعلى تقدير مشاركة
الغير ، لا يكون تخصيصا في الحقيقة ، بل يكون نسخا.
لا يقال : التقرير
لا صيغة له ، فلا يقع في مقابلة ما له صيغة ، فلا يكون
مخصّصا للعموم ،
ولو كان مخصّصا فيجب أن يكون غير ذلك الواحد مشاركا له في حكمه ، وإلّا لوجب
تصريحه صلىاللهعليهوآلهوسلم بتخصيصه بذلك الحكم ، دون غيره ، دفعا لمحذور التلبيس [على
الأمّة] باعتقاد المشاركة لذلك الواحد في حكمه.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم :
«حكمي على الواحد
حكمي على الجماعة».
لأنّا نقول :
التقرير وإن لم يكن له صيغة ، إلّا أنّه حجّة قاطعة في جواز الفعل دفعا لمحذور
تطرّق الخطأ على النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بخلاف العامّ ، فإنّه ظنّيّ يقبل التخصيص.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «حكمي على الواحد» يمنع عمومه.
والتّلبيس ، مندفع
، فإنّ الأصل عدم المشاركة.
ولو شاركه الأمّة
، لم يكن تخصيصا ، بل نسخا ، على ما تقدّم.
__________________
المبحث الثامن :
في تخصيص الكتاب بخبر الواحد
اختلف الناس في
ذلك ، فجوّزه الفقهاء الأربعة ، وقال قوم : لا يجوز أصلا ، وهو اختيار السيّد
المرتضى إلّا أنّه قال : قد كان يجوز أن يتعبّدنا الله تعالى بذلك
، فيكون واجبا ، غير أنّه ما تعبّدنا به.
وقال عيسى بن أبان
: إن كان خصّ قبل ذلك بدليل مقطوع ، جاز ، لأنّه يصير مجازا ، فصارت دلالته
ظنيّة ، وخبر الواحد دلالته قطعيّة وإن كان متنه ظنيّا وإلّا فلا.
وقال أبو الحسين
الكرخي : إن كان قد خصّ بدليل منفصل ، صار مجازا ، وجاز تخصيصه ،
وإن خصّ بدليل متّصل ، أو لم يخصّ أصلا ، لم يجز.
وتوقّف القاضي أبو
بكر :
والوجه الأوّل ، لنا
وجوه :
الأوّل : العموم
وخبر الواحد دليلان تعارضا ، وخبر الواحد أخصّ من العموم ، فيجب العمل به في صورته
، وبالعامّ في غير صورة التخصيص ، جمعا بين الدّليلين.
__________________
الثاني : العمل
بالعامّ إبطال للخاصّ ، والعمل بالخاصّ بيان للعامّ لا إبطال له ، والبيان أولى من
الإبطال.
الثالث : إجماع
الصحابة ومن بعدهم على تخصيص الكتاب بخبر الواحد في قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) بخبر عبد الرّحمن بن عوف في المجوس : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب».
وخصّوا قوله تعالى
: (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ) بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تنكح المرأة على عمّتها ولا خالتها».
وخصّوا قوله (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يرث القاتل» ولا يرث الكافر من المسلم .
وخصّوا قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا قطع إلّا في ربع دينار».
__________________
اعترض : بأنّ إجماعهم على التخصيص إن ثبت ، فالمخصّص الإجماع ،
وإلّا سقط الدليل.
لا يقال : لا بدّ
لهذا الإجماع من مستند.
لأنّا نقول : نمنع
الاستناد إلى هذه الأخبار ، ويؤيّده ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا روي عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله تعالى ، فما
وافقه فاقبلوه ، وما خالفه فردّوه».
وأيضا ، فإنّ أكثر
الإجماعات خفي مستندها ، ولا يلزم من موافقة الخبر المخصّص الاستناد إليه.
وأيضا ، جاز أن
تكون هذه الأخبار متواترة أوّلا ، ثمّ صارت آحادا.
وأيضا ، جاز أن
يكون المخصّص عندهم ليس الخبر مطلقا ، بل مع انضمام قرائن إليه [مفيدة للعلم].
وفيه نظر ، لأنّه لا يلزم من إجماعهم على التخصيص استناده إليه ،
__________________
لأنّا فرضنا
إجماعهم على التخصيص بأخبار الآحاد.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «وما خالفه فردّوه» نمنع دلالته على صورة النزاع ، فإنّ
المخصّص مبيّن لا مخالف ، لأنّه دل على أنّ المراد من العموم ، ما عدا صورة
التخصيص ، فلا يكون مخالفا ، والتخصيص إذا لم يكن له سبب ظاهر ، ووجد ما يصلح
للسببيّة ، غلب على الظنّ استناد الحكم إليه.
وفرض التواتر
أوّلا ، بعيد ، لعدم خفائه عن الصحابة.
سلّمنا ، لكن لا
يضرّنا ، لأنّ البحث عن المخصّص الآن لعموم المتواتر هل يجوز أن يكون خبر واحد ،
لأنّ المفسدة الّتي يذكرونها ، وهو ترجيح المظنون على المعلوم متحقّقة هنا ،
والأصل عدم القرائن.
احتجّ المانعون
بوجوه :
الأوّل : الإجماع
على المنع ، كما روي عن عمر أنّه قال في خبر فاطمة بنت قيس ، حيث روت عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه لم يجعل لها سكنى ولا نفقة : كيف ندع كتاب ربّنا
وسنّة نبيّنا بقول امرأة لا ندري صدقت أو كذبت .
الثاني : روي أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «إذا ورد عنّي حديث فاعرضوه على كتاب الله ،
__________________
فإن وافقه فاقبلوه
وإن خالفه فردّوه» والمخصّص للكتاب ، على مخالفة الكتاب ، فوجب ردّه.
الثالث : الكتاب
مقطوع به ، وخبر الواحد ظنيّ ، والمقطوع أولى من المظنون.
الرابع : لو جاز
التخصيص بخبر الواحد ، لجاز الفسخ به ، والتالي باطل إجماعا ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ النسخ نوع من التخصيص ، فإنّه يخصّص في الأزمان ، والتخصيص المطلق أعمّ منه ،
فلو جاز التخصيص بخبر الواحد ، لكانت العلّة أولويّة تخصيص العامّ على الخاصّ ،
وهو قائم في النسخ.
والجواب عن الأوّل
: قول عمر ليس حجّة ، فضلا عن أن يكون إجماعا.
على أنّا نقول
بموجبه ، فإنّ الخبر المشكوك في صدقه لا يجوز التخصيص به ، بل بما يظنّ صدقه ،
وانتفاء التهمة والنسيان عنه ، بل هو دليل لنا ، لأنّه علّل بعدم علمه بصدقها أو
بكذبها ، لا بكونها خبر واحد.
وفيه نظر ، لوجود
العلّة في التنازع.
__________________
وعن الثاني : أنّه
ورد في السنّة المتواترة أيضا وما تقدّم.
وعن الثالث : أنّه
منقوض بالبراءة الأصليّة.
وأيضا ، فإنّ
الكتاب وإن كان مقطوعا به ، لكن في متنه ، دون دلالته ، فإنّه مظنون فيها ، وخبر
الواحد مقطوع في دلالته مظنون في متنه ، فتعادلا .
وأيضا ، فإنّ
الدليل القطعيّ ، لمّا دلّ على وجوب العمل بخبر الواحد ، لم يكن العمل به مظنونا ،
فإنّ الله تعالى لو قال : «مهما ظننتم صدق الرّاوي فاعلموا أنّ حكمي ذلك» ثمّ
ظننّا صدق الراوي ، صار ذلك الحكم قطعيّا.
وعن الرابع :
بالإجماع على الفرق بين النسخ ، والتخصيص ، فإنّه دلّ على الثاني بخبر الواحد ،
دون الأوّل.
ولأنّ التخصيص ،
أهون من النّسخ ، ولا يلزم من تأثير الشّيء في الضّعيف تأثيره في القويّ.
__________________
الفصل الثالث
في بناء العام على الخاص
إذا ورد خبران عن
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهما كالمتنافيين ، فإمّا أن يكونا عامّين ، أو خاصّين ،
أو أحدهما عامّا والآخر خاصّا وهذا الأخير إمّا أن يعلم تاريخهما أو لا.
والأوّل ، إمّا أن
يقترنا أو لا ، وحينئذ فإمّا أن يتقدّم العامّ أو الخاصّ ، فالأقسام أربعة:
الأوّل : أن يعلم
الاقتران مثل أن يقول : «في الخيل زكاة» ثمّ يقول عقيبه : «ليس في الذكور من الخيل
زكاة» وهنا يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ عند الجمهور وقال بعض من شذّ : إنّ ذلك
القدر من العامّ يصير معارضا بالخاصّ.
لنا وجوه :
الأوّل : الخاصّ
في دلالته على محلّه أقوى من دلالة العامّ عليه ، والأقوى راجح.
__________________
بيان الصغرى : أنّ
العامّ يجوز إطلاقه من غير إرادة صورة الخاصّ ، ولا يمكن ذلك في الخاصّ.
وأمّا الكبرى :
فظاهرة لأنّ العمل بالمرجوح أو ترك راجح لأجله ، خلاف المعقول.
الثاني : العمل
بالعامّ في جميع الصور ، يقتضي إلغاء الخاصّ بالكليّة ، والعمل به في غير صورة
الخاصّ ، مع العمل بالخاصّ ، عمل بالدّليلين ، فيكون الثّاني أولى.
الثالث : العرف
يقتضي بما قلناه ، فإنّ من قال لعبده : إذا دخلت السوق فاشتر كلّ لحم ، ولا تشتر
لحم بقر ، فإنّه يفهم إخراج لحم البقر من كلامه الأوّل ، وشراء غيره ، إمّا على
سبيل البداء ، أو أنّه لم يرده من لفظ العموم.
لا يقال : جاز أن
يكون الأمر بالعامّ للندب وعدم الزكاة في الذّكور على نفي الوجوب ، وهو وإن كان
مجازا في استعمال العامّ المقطوع ، إلّا أنّ تخصيصه مجاز أيضا ، فلم كان أحد
المجازين أولى من الآخر؟
لأنّا نقول : ظاهر
العموم يقتضي الإيجاب في الإناث والذكور ، فلو حملناه على النّدب لكنّا قد عدلنا
عن ظاهره في الإناث لا لدليل ، لانّه يتناول الإناث ، وليس كذلك إذا أخرجنا الذكور
عن الوجوب ، لأنّا حينئذ نكون قد عدلنا عن ظاهر العامّ في صورة الذكور خاصّة لدليل
تناولها واقتضى إخراجها.
وأيضا ، فإنّ ذلك
غير صورة النزاع ، إذ التقدير ينافي النّصّين في الأحكام ، وما ذكرتموه لا تنافي
فيه ، فإنّ ثبوت الاستحباب ونفي الإيجاب غير متنافيين ، إنّما النزاع في حكمين
متنافيين بأن نقول : تجب الزكاة في الخيل ، ثمّ [نقول :] لا
تجب في ذكور الخيل
، ولا يمكن هنا الاعتذار بما ذكرتموه.
وفيه نظر ، لأنّ
التنازع في المتنافيين ظاهرا لاستحالته حقيقة منه صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو ثابت هنا ، وإنّما حملناه على الندب ، لثبوته ظاهرا ،
ولا يلزم من امتناع العذر فيما ذكرتم امتناعه هنا.
الثاني : أن
يتأخّر الخاصّ ، فإن ورد [الخاصّ] قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، كان بيانا للتخصيص
كالأوّل ، ويجوز ذلك عند من يجوّز تأخير بيان العامّ ، ولا يجوز عند المانعين منه
، ولا يكون نسخا إلّا عند من يجوّز نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به.
وإن ورد [الخاصّ]
بعد حضور وقت العمل بالعامّ ، كان نسخا وبيانا لمراد المتكلّم فيما بعد ، دون ما
قبل ، لأنّ البيان لا يتأخّر عن وقت الحاجة.
الثالث : أن
يتأخّر العامّ ، وقد اختلف فيه.
فقال الشافعي :
العامّ يبنى على الخاصّ ، وبه قال أبو الحسين البصري وهو الأقوى.
وقال أبو حنيفة
والقاضي عبد الجبار : إنّ العامّ المتأخّر ينسخ الخاصّ المتقدّم.
وتوقف ابن القاصّ .
__________________
لنا ما تقدّم ، من
أنّ الخاصّ أقوى دلالة ، فيكون العمل به أرجح.
ومن أنّ العمل
بالعامّ في جميع الصور ، يوجب إلغاء الخاصّ ، واعتبار الخاصّ لا يوجب إلغاء واحد
منهما ، فكان أولى.
وفيه نظر ، فإنّه
على تقدير تأخير العامّ عن وقت العمل بالخاصّ ، فيكون نسخا ، لا إلغاء للخاصّ ، إذ
قد عمل به أوّلا ، فكان التخصيص في زمانه ، وليس التخصيص في أعيان العامّ ، أولى
من التخصيص في أزمان الخاصّ.
واحتجّ أبو الحسين
: بأنّ قوله : «لا تقتلوا اليهود» يمنع من قتلهم أبدا ، وقوله من بعد : «اقتلوا
الكفّار» يفيد قتلهم في حالة من الحالات ، والخبر الخاصّ يمنع من قتلهم في تلك
الحالة ، فإذا تمانعا ، والخاصّ أخصّ باليهود ، وأقلّ احتمالا ، وجب القضاء به.
ولو قال : «اقتلوا
اليهود» ثمّ قال : «لا تقتلوا الكفّار» وقد بقيت من اليهود بقيّة لم يقتلوا ،
فالأمر يقتضي قتلهم في حال من الحالات ، والنّهي يمنع من ذلك ، فإذا تمانعا في تلك
الحال ، قضي بالخاصّ.
واحتجّت الشافعيّة
: بأنّ الخاصّ معلوم دخول ما تناوله تحته ، ودخول ذلك تحت العامّ مشكوك فيه ،
والعامّ لا يترك بالشك.
وهو ضعيف ، لأنّهم
إن أرادوا أنّ العامّ لو انفرد لم يعلم دخول ما تناوله تحته ، فممنوع ، وإن ارادوا
أنّه لا يعلم ذلك لأجل الخاصّ ، ففيه النّزاع ، وهو ترك
__________________
قولهم أيضا ،
لقطعهم على خروج ذلك من العموم ، ولا يشكّون فيه.
واحتجّوا أيضا :
بأنّ تقدّم الخاصّ [على العامّ] كالعهد بين المتكلّم والمخاطب ، فانصرف الخطاب
العامّ إليه.
وهو ضعيف ، فإنّ
معنى قولهم : إنّه كالعهد ، أنّ المتكلّم قد دلّ بالخاصّ المتقدّم على أنّ مراده
بالعامّ ما دون الخاصّ ، وأنّه لا يفهم السامع إلّا ذلك ، وفيه النّزاع.
واحتجّ أبو حنيفة
بوجوه :
الأوّل : تناول
العامّ لآحاده يجري مجرى ألفاظه خاصّة ، يتناول كلّ واحد منها ما دلّ عليه ، فإنّ
قوله : «اقتلوا المشركين» بمنزلة قوله : «اقتلوا زيدا المشرك ، وعمرا ، وخالدا»
ولو قال ذلك بعد قوله : «لا تقتلوا زيدا» كان الثاني ناسخا ، فكذا ما قلناه.
الثاني : الخاصّ
المتقدّم يمكن نسخه ، والعامّ يمكن أن يرفعه ، فكان ناسخا له.
الثالث : تردّد
الخاصّ المتقدّم بين كونه منسوخا ومخصّصا يمنع من كونه مخصّصا ، لأنّ البيان لا
يكون ملبسا .
الرابع : قال ابن
عباس : «كنّا نأخذ بالأحدث فالأحدث» فإذا كان العامّ متأخّرا ، وجب الأخذ به.
__________________
الخامس : لفظان
متعارضان ، وعلم التاريخ ، فوجب تسليط الأخير على الأوّل ، كما لو كان الأخير
خاصّا.
واحترزنا بقولنا :
«لفظان» عن العامّ المخصوص بالعقل ، فإنّ المتقدّم هناك هو المتسلّط.
والجواب عن الأوّل
: بالمنع من التساوي ، فإنّ تعديد الجزئيّات يمنع من تخصيص بعضها ، لما فيه من
المناقضة ، بخلاف ذكر العامّ ، فإنّه وإن جرى مجرى ألفاظ خاصّة بآحاد ما تناوله في
كونه متناولا لها ، فإنّه لا يجري مجراها في امتناع دخول التخصيص عليه ، لأنّ
الخاصّ لم يدخل تحته أشياء فيخرج بعضها ، والعامّ قد تناول أشياء يمكن أن يراد به
بعضها ، فصحّ قيام الدّليل عليه.
وعن الثاني : أنّه
لا يلزم من إمكان رفعه له ، أن يكون رافعا ، مع أنّه كما يمكن أن يتصوّر فيه كونه
رافعا للخاصّ المتقدّم ، يمكن أن يتصوّر فيه كونه مخصوصا بالخاصّ المتقدّم.
فإن قالوا :
تأخّره يقتضي كونه ناسخا.
قلنا : انّه نفس
النزاع.
وأيضا ، فإنّما
يمكن أن ينسخ المتقدّم إذا لم يثبت كونه مخصوصا بالمتقدّم ، فبيّنوا ذلك ، وقد تمّ
مطلوبكم.
وعن الثالث : أنّ
الخصم يقول : إنّه ليس تردّد عندي بين هذين ، بل قد صحّ كونه مخصّصا.
ثمّ إن هذا
التردّد من كونه بيانا للتخصيص ، منع التردّد من كون العامّ ناسخا للخاصّ.
وعن الرابع : أنّ
قول الصحابة ليس حجّة.
مع أنّا نخصّه بما
إذا كان الأحدث هو الخاصّ ، لأنّ لفظه ليس للعموم.
سلّمنا ، لكن ذلك
مع تعارض الدّليلين وتنافي الحكمين ، فإنّ المتأخّر يكون ناسخا ، ويتعيّن العمل به
حينئذ ، ويمنع التعارض هنا ، فإنّ صورة الخاصّ ليست مرادة من العامّ المتأخّر.
وعن الخامس :
بالمنع من التعارض ، لما بيّنا من منع كون صورة الخاصّ مرادة من لفظ العامّ.
سلّمنا ، لكنّ
الفرق بين صورة النزاع وبين ما إذا تأخّر الخاصّ واقع ، فإنّ الخاصّ أقوى ، فوجب
تقديمه.
ولأنّا لو لم
نسلّط الخاصّ المتأخّر على العامّ المتقدّم ، لزم إلغاء الخاصّ بالكليّة ، أمّا لو
لم نسلّط العامّ المتأخّر على الخاصّ المتقدّم ، لم يلزم ذلك.
احتجّ القائلون
بالوقف : بأنّ كلّ واحد من هذين الخطابين ، أعمّ من صاحبه من وجه ، وأخصّ من [وجه]
آخر ، فإنّه إذا قال : «لا تقتلوا اليهود» ثمّ قال بعده : «اقتلوا المشركين» كان
بينهما عموم من وجه.
فإنّ قوله : لا
تقتلوا اليهود ، أخصّ باعتبار أنّ اليهود أخصّ من المشركين ، وأعمّ من حيث إنّه
دخل في المتقدّم من الأوقات ما لم يدخل فيها المتأخّر ، وهو الزّمان المتخلّل بين
ورود المتقدّم والمتأخّر ، فالخاصّ المتقدّم أعمّ في الزّمان
وأخصّ في الأعيان
، والعامّ المتأخّر بالعكس .
وإذا كان كلّ
منهما أعمّ من وجه ، وجب الوقف ، والرجوع إلى الترجيح ، كما في العامّين أو
الخاصّين.
والجواب : أنّ
العموم من وجه إنّما عرض باعتبار فرض المتقدّم نهيا ، فإنّه يعمّ الأزمنة ، أمّا
لو فرضناه أمرا ، فإنّه لا يقتضي العموم ، بل يكون خاصّا باعتبار الأزمان والأعيان
، لعدم إفادة [الأمر] التكرار.
وعلى تقدير كون
العامّ المتأخّر نهيا ، يكون أعمّ من المتقدّم في الأعيان والأزمان ، لعدم تناول
الأمر كلّ الأزمان.
وفيه نظر ، فإنّ
النّهي كالأمر في أنّه لا يقتضي التكرار على ما بيّناه.
والأقرب منع
العموميّة هنا ، وإلّا لزم المحال ، وهو نفيها على تقدير ثبوتها ، لأنّها إنّما
تثبت لو ثبت الخاصّ المتقدّم مع العامّ المتأخّر في زمان المتأخّر ، بحيث تتحقّق
عموميّة حكم الخاصّ بالنّسبة إلى الزّمان ، لكن لو ثبت ذلك تقدّم حكم العامّ عليه
من هذه الحيثيّة ، بمعنى أنّه يبطل حكمه ، فلا يساويه في الثبوت ، فلا تتحقّق
العموميّة.
الرابع : أن يجهل
التاريخ ، وقد اختلفوا هنا.
فقال الشافعي :
يبنى العامّ على الخاصّ ، ويخصّ الخاصّ العامّ.
وقال أبو حنيفة ،
بالوقف والرجوع إلى غيرهما ، أو إلى ما يترجّح به
__________________
أحدهما على الآخر
، وهو سديد على أصله ، لأنّ الخاصّ دائر بين أن يكون منسوخا ، أو مخصّصا ، أو
ناسخا مقبولا ، أو ناسخا مردودا ، وحينئذ يجب التوقّف.
واحتجّ الشافعيّ
بوجوه :
الأوّل : ليس
للخاصّ مع العامّ إلّا المقارنة ، أو التقدّم ، أو التأخّر ، وعلى التقادير
الثلاثة ، يكون الخاصّ مخصّصا للعامّ ، فكذا مع جهل التاريخ.
ويضعّف : بأنّ
الخاصّ المتأخّر إن ورد قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، كان مخصّصا ، وإن ورد بعده ،
كان ناسخا.
وحينئذ ، فإن كانا
قطعيّين ، أو ظنّيّين ، أو العامّ ظنّيا ، والخاصّ قطعيّا ، وجب ترجيح الخاصّ على
العامّ ، لتردّده بين أن يكون ناسخا ، أو مخصّصا.
ولو كان العامّ
قطعيّا ، والخاصّ ظنيّا ، فإن كان الخاصّ مخصّصا ، جاز ، لما بيّنا من جواز تخصيص
الكتاب بخبر الواحد.
وإن كان ناسخا ،
لم يجز العمل به ، فيكون مردودا.
فقد تردّد الخاصّ
بين أن يكون مخصّصا ، وبين أن يكون ناسخا مقبولا ، وبين أن يكون ناسخا مردودا ،
وحينئذ لا يجب تقديم الخاصّ على العامّ.
الثاني : العامّ
يخصّ بالقياس مطلقا ، فلأن يخصّ بخبر الواحد أولى.
وهو ضعيف ، للمنع
من الأصل.
ولأنّ القياس
يقتضي أصلا يقاس عليه ، وذلك الأصل إن كان مقدّما على العامّ ، لم يجز القياس عليه
، وكذا إذا لم يعلم تقدّمه وتأخّره.
الثالث : فقهاء
الأمصار في هذه الأعصار يخصّصون أعمّ الخبرين بأخصّهما ، مع فقد علمهم بالتاريخ.
لا يقال : إنّ ابن
عمر لم يخصّ قوله تعالى : (وَأُمَّهاتُكُمُ
اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ) بقول النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تحرّم الرّضعة ولا الرّضعتان.
وعنه [أيضا] أنّه
لمّا سئل عن نكاح النصرانيّة حرّمه ، لقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) وجعل هذا العامّ رافعا لقوله : (وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتابَ) مع خصوصه.
لأنّا نقول :
إنّما ادّعينا إجماع أهل هذه الأعصار ، مع أنّه يحتمل أن يكون ابن عمر امتنع من
ذلك لدليل ، أو لأنّه لا يرى تخصيص الكتاب بخبر الواحد.
وقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ) جاز أن يكون متأخّرا فيرفع حكم المتقدّم وإن كان عامّا ،
لأنّه ربما كان يعتقد ذلك.
الرابع : إذا جهل
التاريخ ، وجب حملها على الاقتران ، كالغريقين إذا جهل التقدّم والاقتران ، فإنّ
أمرهما يحمل على الاقتران.
ويضعّف بأنّ
الأمّة لم تجمع على ذلك ، بل جماعة من الصحابة ورّث كلّ واحد منهما من الآخر ،
ومنهم من لم يورّث أحدهما من الآخر.
__________________
الخامس : إذا وجب
تخصيص العموم بالاستثناء ، فكذا بالخبر الخاصّ.
وهو ضعيف ، لعدم
الجامع.
مع قيام الفرق ،
فإنّ الاستثناء لمّا لم يستقلّ بنفسه ، علم اقترانه [للعموم] ، فلم يمكن أن يكون
منسوخا ، بخلاف الخاصّ المستقلّ ، فإنّه يمكن أن يكون متقدّما ، وإنّما يماثل
الاستثناء الخاصّ المقارن.
السادس : القياس
يعترض به على العامّ ، فالخبر الخاصّ أولى بذلك.
وهو ضعيف ، فإنّ
أصل القياس إن كان متقدّما على العامّ ، وكان منافيا له ، فإنّه لا يجوز القياس
عليه عند الخصم ، لأنّه منسوخ بالعامّ ، مثل أن يقول : «لا تبيعوا البرّ» ثم يقول
بعد وقت : «أحللت جميع البياعات» فإنّ المخالف ينسخ تحريم البرّ ، ولا يجوز قياس
الأرز عليه في التحريم ، وإن اشتبه تقدّمه ، لم يجز القياس عليه أيضا.
وإن كان أصل
القياس غير متقدّم للعامّ على وجه ينافيه ، صحّ القياس عليه ، وخصّ به العامّ ،
مثل أن ينهى عن بيع البرّ ، ثمّ يقول بعد مدة : «أبحت بيع ما سوى البرّ» فإنّه لا
ينسخ النهي عن بيع البرّ ، فيجوز أن يقاس على البرّ المكيلات ، ويخصّ من جملة هذا
العموم ، ولا يشبه ذلك مسألتنا ، لأنّ صورة النزاع يمكن أن يكون الخبر المتقدّم منسوخا
بالعامّ.
السابع : لو لم
يخصّ العامّ بالخاصّ ، لزم إلغاء الخاصّ.
__________________
وهو ضعيف ، فإنّ
إلغاء الخاصّ إن أريد أن لا يستعمل أصلا ، فالحكمة تمنع منه ، ونحن لا نقول به.
وإن أردتم أن لا
نستعمله الآن ، وإن كان مستعملا في وقت ، فذلك جائز عندنا ، وهذه حالة المنسوخ ولو
جعل اللّازم إمكان الإلغاء تمّ الدليل.
الثامن : لو لم
يخصّ العامّ بالخاصّ ، لوجب إمّا نسخ الخاصّ بالعامّ ، أو إلغاؤهما ، والأوّل باطل
، مع فقد التاريخ ، وكذا الثاني ، لأنّ كلام الحكيم لا يجوز إلغاؤه.
وهو ضعيف ، فإنّ
الخصم يقول : إنّ التخصيص يحتاج إلى تاريخ ، لأنّه لا يخصّ العامّ بخبر متقدّم.
وإن أريد
بإلغائهما الرّجوع إلى غيرهما ، أو إلى ترجيح ، فالخصم لا يمنع منه ، لأنّ المنع
منه ، انّما يكون إذا أمكن استعمال الكلامين ، ولا يمنع مع فقد الإمكان. وقد علم أنّه ليس الحمل على التخصيص أولى
من النسخ ، ولا بالعكس.
واحتجّت الحنفيّة
بوجوه :
الأوّل : العامّ
يجري في تناوله الآحاد مجرى ألفاظ خاصّة بالأعداد ، وهذه لا يعترضها الخاصّ ، فكذا
العامّ.
وقد تقدّم ضعفه ،
على أنّه يقتضي منع التّخصيص مطلقا.
__________________
الثاني : لو خصّ
أخصّ الخبرين أعمّهما ، لخصّ أخصّ العلّتين أعمّهما.
وهو قياس بغير
جامع.
على أنّه يقتضي
منع التّخصيص أيضا مع المقارنة ، ومنع تخصيص العلّة.
ثمّ قالوا : إذا
وجب التوقّف في الخبرين ، وجب العدول إلى الترجيح.
وقد ذكر عيسى بن
أبان وجوها له.
الأوّل : اتّفاق
الأمّة على العمل بأحدهما ، كخبر الأوساق.
الثاني : عمل
الأكثر بأحدهما ، وعيبهم على تارك العمل به ، كعملهم بخبر أبي سعيد ، وعيبهم على
ابن عبّاس حين نفى الرّبا في النقدين.
الثالث : أن تكون
الرواية لأحدهما أشهر.
وزاد أبو عبد الله
البصري أمرين :
أن يكون أحدهما
بيانا للآخر بالاتّفاق ، كاتّفاقهم على أنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا قطع إلّا في ثمن المجنّ» بيان لآية السرقة ، فوجب لذلك بناؤها عليه.
وأن يتضمّن أحدهما
حكما شرعيّا.
وهذه الأمور أمارة
لتأخّر أحد الخبرين ، فإنّه لو كان متقدّما منسوخا ، لما
__________________
اتّفقت الأمّة على
استعماله ، ولما عابوا من ترك استعماله ، ولما كان نقله أشهر ، ولما أجمعوا على
أنّه بيان لناسخه. وكون الحكم غير شرعيّ يقتضي كون الخبر الّذي تضمّنه مصاحبا
للعقل ، وأنّ الخبر المتضمّن للحكم الشرعيّ متأخّر عنه.
وهذا الوجه ضعيف.
وأمّا حكم
العامّين المتعارضين ، والخاصّين المتعارضين ، فسيأتي البحث فيه إن شاء الله تعالى
في باب التّراجيح.
* * *
قال المحقّق :
جاء في نسخة «ج»
ما هذا نصّه :
تمّ الجزء الأوّل
من نسخة المصنّف بخطّه دام ظله.
وفي نسخة «ألف» :
تمّ الجزء الأوّل من كتاب «نهاية الوصول إلى علم الأصول» ويتلوه الجزء الثاني في
الفصل الرابع «فيما ظنّ أنّه من مخصّصات العموم وليس كذلك» ، وفيه مباحث.
والحمد لله وحده ،
وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ وآله الطّاهرين.
__________________
الفصل الرابع :
فيما ظنّ أنّه من مخصّصات العموم ، وليس كذلك
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في تخصيص عموم الكتاب والسّنّة بالقياس
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأبو الحسين البصري ، وأبو الحسن الأشعري ، وأبو هاشم أخيرا إلى جوازه.
وقال أبو عليّ
الجبائيّ وأبو هاشم أوّلا بالمنع مطلقا ، وهو مذهب
__________________
الإماميّة ، ومنهم
من فصّل ، وفيه أربعة وجوه :
الأوّل : قال عيسى
بن أبان : إن تطرّق التخصيص إلى العموم جاز ، وإلّا فلا.
والثاني : قال
الكرخي : إن خصّ بمنفصل جاز ، وإلّا فلا.
الثالث : قال ابن
سريج وجماعة من الفقهاء : يجوز بالقياس الجليّ ، دون الخفيّ.
ثم اختلف هؤلاء في
تفسير الجليّ والخفيّ على ثلاثة أوجه :
الأوّل : الجليّ :
قياس المعنى ، والخفيّ : قياس الشبه.
الثاني : الجليّ
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقضي القاضي وهو غضبان» وتعلّل بما يدهش العقل عن إتمام الفكر ، حتّى يتعدّى إلى
الجائع ، والعطشان ، والحاقن .
الثالث : قال أبو
سعيد الاصطخريّ : الجليّ هو الّذي لو قضى القاضي بخلافه نقض قضاؤه.
__________________
الرابع : قال
الغزّاليّ : القياس والعامّ إن تفاوتا في إفادة الظّنّ رجّحنا الأقوى ، وإن تعادلا
توقّفنا .
وقال القاضى أبو
بكر والجويني بالوقف.
قال الجويني :
القول بالوقف يشارك القول بالتّخصيص.
وبيانه باعتبارين
:
أمّا اعتبار
المشاركة ، فلأنّ المطلوب من تخصيص العامّ بالقياس إسقاط الاحتجاج بالعامّ ،
والوقف يشاركه فيه.
وأمّا اعتبار
المباينة ، فلأنّ القائل بالتخصيص يحكم بمقتضى القياس ، والواقف لا يحكم به.
واعلم أنّ نسبة
قياس الكتاب إلى عموم الكتاب ، كنسبة قياس المتواتر إلى عموم المتواتر ، وكنسبة
قياس خبر الواحد إلى عموم خبر الواحد ، والخلاف آت في الجميع ، وكذا قياس المتواتر
بالنّسبة إلى عموم الكتاب ، وبالعكس.
أمّا قياس خبر
الواحد إذا عارضه عموم الكتاب ، أو عموم خبر المتواتر ، فإنّ تجويزه أبعد.
والّذي نذهب نحن إليه : أنّ القياس إذا نصّ على علّته ، جاز العمل به ، وسيأتي
بيانه في باب القياس.
__________________
وعلى هذا التقدير
لو دلّ قياس منصوص العلّة على حكم خاصّ مناف لعموم الكتاب أو السّنّة المتواترة ،
فالأقرب جواز تخصيصهما به ، وإلّا فلا.
لنا : أنّهما
دليلان تعارضا ، فيجب تقديم الخاصّ ، وبناء العامّ عليه ، لما تقدّم.
أمّا كون العامّ
دليلا ، فبالإجماع وأمّا كون القياس المنصوص العلّة دليلا ، فلما سيأتي.
وأمّا وجوب بناء
العامّ على الخاصّ ، فلما مرّ.
احتجّ المانعون
بوجوه :
الأوّل : العامّ
دليل مقطوع به ، والقياس الخاصّ مظنون ، وإذا تعارض المعلوم والمظنون ، وجب العمل
بالمعلوم وترك المظنون.
الثاني : القياس
فرع النصّ ، فلو خصّصنا النصّ به ، قدّمنا الفرع على الأصل.
الثالث : حديث
معاذ دلّ على أنّه لا يجوز الاجتهاد إلّا بعد فقد الحكم
__________________
في الكتاب والسنّة
، وهو يمنع من تخصيص النّصّ بالقياس.
الرابع : الإجماع
دلّ على أنّ شرط القياس عدم ردّ النصّ له ، فإذا كان العموم مخالفا له ، فقد ردّه.
الخامس : لو جاز
التّخصيص بالقياس ، لجاز النّسخ به ، لما تقدّم ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
السّادس : إنّما
يطلب بالقياس حكم ما ليس منطوقا به ، فما هو منطوق به ، كيف يثبت بالقياس؟
السّابع : العامّ
في محلّ التخصيص : إمّا أن يكون راجحا على القياس المخالف له ، أو مرجوحا أو
مساويا ، فإن كان الأوّل ، امتنع تخصيصه بالمرجوح ، وإن كان مساويا ، لم يكن العمل
بأحدهما أولى [من الآخر] ، وإنّما يمكن التّخصيص بتقدير أن يكون القياس في محلّ
المعارضة راجحا ، ولا شكّ في أنّ
__________________
وقوع احتمال من
احتمالين أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
الثامن : العموم
ظاهر في كلّ صورة من آحاد الصّور الداخلة تحته ، وجهة ضعفه غير خارجة عن احتمال
تخصيصه أو كذب الرّاوي ، إن كان [العامّ] خبر واحد.
وأمّا احتمالات
ضعف القياس ، فكثيرة جدّا ، وذلك ، لأنّه وإن كان متناولا لمحلّ المعارضة بخصوصه ،
إلّا أنّه يحتمل أن يكون دليل حكم الأصل من أخبار الآحاد الّتي يتطرّق إليها الكذب
، وبتقدير أن يكون طريق إثباته قطعيّا ، فيحتمل أن يكون المستنبط للقياس ليس أهلا
له ، وبتقدير أن يكون أهلا ، يحتمل أن لا يكون الحكم معلّلا بعلّة ظاهرة ، وبتقدير
التّعليل ، يحتمل أن يكون غير ما ظنّه المعلّل ، أو لعلّه ظنّ وجودها في الفرع ،
وليس .
وبتقدير الوجود
يحتمل حصول مانع السّبب في الفرع أو للحكم ، أو فات شرط السّبب [فيه] أو شرط الحكم
، فكان العموم راجحا.
التاسع : العامّ
من جنس النصّ ، والنّصّ غير مفتقر في جنسه إلى القياس ، والقياس يفتقر إلى النصّ ،
لأنّ كونه حجّة إن ثبت بالنّصّ فظاهر ، وإن كان بالإجماع ، والإجماع متوقّف على
النّصّ ، كان القياس متوقّفا على النّصّ ، فكان جنس النّصّ راجحا ، ولهذا وقع
القياس مؤخّرا في حديث معاذ .
__________________
والاعتراض على
الأوّل : أنّ كلّ واحد من العامّ والخاصّ اجتمع فيه صفتا العلم والظّنّ باعتبارين
، فالعامّ مقطوع في متنه مظنون في دلالته ، والقياس الخاصّ بالعكس ، فلا أولويّة.
قال المرتضى :
ونمنع كون القياس هنا ظنيّا ، فإنّ دليل العبادة بالقياس يقتضي العلم ، فما خصّص
إلّا بمعلوم ، ولا اعتبار بطريق هذا العلم ، ظنّا كان أو غيره .
وفيه نظر ، فإنّ
البحث وقع عن القياس لا عن دليله.
وعلى الثاني : أنّ
القياس المخصّص [للنّصّ] ليس فرعا على النّصّ المخصوص ، بل على غيره ، فلا يحصل
تقديم الفرع على الأصل ، فإنّا إذا خصّصنا بقياس الأرز على البرّ عموم قوله تعالى
: (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) لم يخصص الأصل بفرعه ، فإنّ الأرز فرع حديث البرّ ، لا فرع
إحلال البيع.
وأيضا ، يلزم أن
لا يخصّص عموم القرآن بخبر الواحد ، لأنّ خبر الواحد فرع لثبوته بأصل من كتاب أو
سنّة ، فيكون فرعا له ، وقد سلم التّخصيص به من منع التخصيص بالقياس.
لا يقال : القياس
إذا كان فرعا لنصّ آخر ، فكلّ مقدّمة لا بدّ فيها من دلالة
__________________
النّصّ على الحكم
كانت معتبرة في الجانبين ، وأمّا المقدّمات الّتي يفتقر القياس إليها في دلالته ،
فهي مختصّة بجانب القياس ، فإثبات الحكم بالقياس يتوقّف على مقدّمات أكثر من
مقدّمات العموم ، فيكون العموم أولى ، لأنّ إثبات الحكم به أظهر ، والأقوى لا يصير
مرجوحا بالأضعف.
لأنّا نقول :
العمومات قد تتفاوت في الدّلالة على مدلولاتها ، فبعضها يكون أقوى من بعض ، فجاز
أن يكون العامّ المخصوص أضعف دلالة على محلّ النزاع من دلالة العامّ الّذي هو أصل
القياس على مدلوله.
وحينئذ يظهر ترجيح
قول الغزّالي هنا.
وعلى الثالث : أنّ
حديث معاذ إن اقتضى منع تخصيص الكتاب والسنّة بالقياس ، اقتضى منع تخصيص الكتاب
بالسّنّة المتواترة ، ولا شكّ في فساده.
وأيضا ، كونه
مذكورا في الكتاب مبنيّ على كونه مرادا بالعموم ، وهو مشكوك فيه ، فكونه مذكورا في
الكتاب مشكوك فيه.
وأيضا ، حكم العقل
الأصليّ في براءة الذمّة ، يترك بخبر الواحد وبقياس خبر الواحد ، لأنّه ليس يحكم
به العقل مع ورود الخبر ، فيصير مشكوكا فيه معه ، فكذا العموم.
وعلى الرابع :
بالمنع من كون النّصّ هنا مرادا للقياس ، وإنّما يكون كذلك
لو كان القياس
رافعا لكلّ ما اقتضاه النّصّ ، أمّا إذا كان رافعا لبعض ما تناوله فلا
، فإنّه نفس المتنازع.
وعلى الخامس :
بأنّ الإجماع فرّق بين التخصيص والنسخ ، ولو لاه لساغا معا ، والأصل فيه أنّ
التّخصيص أهون من النسخ ، لبقاء الحكم في الأوّل دون الثاني ، ولا يلزم من تأثير
الشيء في الأضعف تأثيره في الأقوى.
وعلى السادس :
بالمنع من كونه منطوقا به ، لأنّ زيدا في قوله [تعالى] : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) ليس كقوله «اقتلوا زيدا» فإذا كان كونه مرادا من آية قتل
المشركين مشكوكا فيه ، كان كونه منطوقا به مشكوكا فيه ، لأنّ العامّ إذا أريد به
الخاصّ ، كان ذلك نطقا بذلك القدر ، ولم يكن نطقا بما ليس بمراد ، ولهذا جاز
تخصيصه بدليل العقل القاطع ، ودليل العقل لا يجوز ان يقابل النّطق الصّريح من
الشارع ، لامتناع تعارض الأدلّة.
لا يقال : ما
أخرجه العقل عرف عدم دخوله تحت العموم.
لأنّا نقول : تحت
لفظه أو تحت الإرادة؟ فإن قلتم بالأوّل ، فالله تعالى شيء ، وهو داخل تحت لفظ (هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ).
وإن قلتم : لا
يدخل تحت الإرادة ، فكذلك القياس يعرّفنا ذلك ، ولا فرق.
__________________
وعلى السابع :
انّه آت في كلّ تخصيص وقد يرجّح بالجميع.
وعلى الثامن : أنّ
التقدير رجحان القياس على العموم ، فإنّه حينئذ يتعيّن التخصيص.
وأيضا ، فإنّه
وارد في خبر الواحد والمتواتر ، فإنّه يخصّ به ، مع أنّ تطرّق الاحتمال إلى خبر
الواحد أكثر ، ولم يعتبر ذلك ، بل مجرّد التخصيص واعتبار كونه دليلا في نفسه ،
فكذا هنا.
وعلى التاسع :
انّه وارد في خبر الواحد والكتاب ، فإنّ خبر الواحد مفتقر في جنسه إلى الكتاب ،
لأنّه الدالّ على العمل به ، دون العكس ، ومع ذلك فإنّه يجوز تخصيصه به.
وأيضا ، نمنع من
كون افتقار الجنس إلى الجنس مقتضيا عدم التخصيص عند قوّة النّوع على النّوع.
ونقل المرتضى حجّة
أخرى ، هي : «أنّ الأمّة إنّما حجبت الأمّ بالأختين فما زاد بالقياس ، وذلك أبلغ
من
التخصيص ، وأنّ
العبد كالأمة في تنصيف الحدّ».
__________________
ثمّ منع ذلك ،
لأنّ المعوّل في ذلك إلى الإجماع لا القياس.
احتجّ القائلون
بتقديم القياس بوجوه :
الأوّل : أنّ
العموم يحتمل المجاز ، والخصوص ، والاستعمال في غير ما وضع له ، والقياس لا يحتمل
شيئا من ذلك ، فيكون العمل بالقياس أولى.
الثاني : العامّ
يخصّص بالنصّ الخاصّ مع إمكان كونه مجازا أو مؤولا ، فالقياس أولى.
الثالث : تخصيص
العموم بالقياس جمع بين الدليلين ، فهو أولى من تعطيل أحدهما. أو تعطيلهما معا.
والاعتراض على
الأوّل : أنّ احتمال الغلط في القياس ليس أولى من احتمال الخصوص والمجاز ، فإنّ
القياس يجوز أن يكون أصله خبر الواحد ، فيتطرّق الاحتمال إلى أصله ، وغير ذلك من
المفاسد الّتي سلفت.
وهو الاعتراض على
الثاني.
وعلى الثالث :
بأنّ القدر الّذي وقع فيه التقابل ليس فيه جمع ، بل هو رفع للعموم وعمل بالقياس
خاصّة.
وفيه نظر ، لأنّا
لا نعني بالجمع بين الدليلين سوى العمل بالعامّ في غير صورة الخاصّ ، والعمل
بالخاصّ في موضعه.
__________________
احتجّ القائلون بالوقف ، بأنّه قد ظهر ضعف كلام الفريقين ، وكلّ واحد من القياس
والعموم دليل لو انفرد ، وقد تقابلا ، ولا ترجيح ، لأنّه امّا بالعقل ، أو النقل ،
والعقل إمّا ضروريّ أو نظريّ ، والنقل إمّا متواتر أو آحاد ، والكلّ منتف ، فلا
ترجيح ، فيتعيّن الوقف.
اعترض : بأنّ هذا مخالف للإجماع ، لوقوعه قبل القاضي على ترجيح
أحدهما. وإن اختلفوا في تعيينه ، ولم يذهب أحد إلى الوقف قبل القاضي.
ولأنّ القول
بالوقف يؤدّي إلى تعطيل الدّليلين ، والمحذور فيه فوق المحذور من العمل بأحدهما ،
فالعمل بالقياس أولى ، إذ العمل بالعامّ إبطال للقياس مطلقا.
أجاب القاضي :
بأنّهم لم يصرّحوا ببطلان التوقّف قطعا ، ولم يجمعوا عليه ، وكلّ واحد رأى ترجيحا
، ولا يثبت الإجماع بمثل ذلك ، وكيف ومن لا يقطع ببطلان مذهب مخالفه في ترجيح
القياس ، كيف يقطع بخطئه إن توقّف ، فإنّ كلّ واحد من المجتهدين لا يقطع بإبطال
مذهب مخالفه مع مصيره إلى نفي ما أثبته أو إثبات ما نفاه ، فكيف يقطع ببطلانه في
توقّفه ، والعمل بالقياس مبطل للعمل بالعامّ في صورة المعارضة.
احتجّ الفارقون بين جليّ القياس وخفيّه
: بأنّ الجليّ قويّ
، وهو أقوى من العموم ، والخفيّ ضعيف.
__________________
ويبطل بأنّ خفيّ
القياس قد يكون أظهر من تناول العموم لمحلّ التخصيص ، فإنّ العموم قد يضعف ، بأن
لا يظهر قصد التعميم منه ، وذلك بأن يكثر المخرج منه ، ويتطرّق إليه تخصيصات كثيرة
، كقوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) فإنّ دلالة قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أينقص إذا جفّ؟» على تحريم بيع العنب بالزبيب أظهر من دلالة هذا العامّ على
تحليله ، لكثرة ما أخرج منه ، فضعف قصد العموم.
ولا شكّ في أنّ
العمومات تختلف في القوّة والضعف بالنّسبة إلى بعض الآحاد ، لاختلافها في ظهور
إرادة قصد ذلك البعض.
وكما أنّه اذا
تقابل العمومان قدّم أقواهما ، وكذا القياسان ، وكذا العموم والقياس مطلقا عند
القائلين به ، ومع التنصيص على العلّة على ما اخترناه نحن إذا تقابلا.
وكما يمكن أن يكون
عموم قويّ أغلب على الظنّ من قياس ضعيف ، كذا يمكن أن يكون قياس قويّ أغلب من عموم
ضعيف ، وإن تعادلا وجب الوقف.
فإن قيل : هذا الخلاف [هل] يختصّ بقياس مستنبط من الكتاب إذا خصّص به
عموم الكتاب ، أو يجري في قياس مستنبط من الاخبار؟
قلنا : قد بيّنا
أنّ نسبة قياس الكتاب إلى عمومه ، كنسبة قياس [الخبر]
__________________
المتواتر إلى
عمومه ، والخلاف آت في الجميع.
واعلم أنّه لا
استبعاد في هذه المسألة في الحكم بالوقف أو الترجيح بحسب نظر المجتهد في آحاد
الوقائع بحسب القرائن المرجّحات الموجبة للتفاوت أو التساوي من غير تخطئة.
فإنّ الأدلّة فيها
ظنّية غير قطعيّة ، فكانت ملحقة بالمسائل الظنيّة الاجتهاديّة دون القطعية ، وسياق
كلام القاضي أبي بكر يدلّ على أنّ القول بتقديم خبر الواحد على عموم الكتاب ، ممّا
يجب القطع بخطإ المخالف فيه ، لأنّه من مسائل الأصول.
المبحث الثاني :
في تخصيص العامّ بالمفهوم
المفهوم قسمان :
مفهوم الموافقة ، ومفهوم المخالفة.
والأوّل حجّة قطعا
، فيجوز التّخصيص به ، كما لو قال لعبده : «اضرب كلّ من دخل الدار» ثم قال : «زيد
لا تقل له أفّ إن دخل الدار» فإنّه يدلّ بالمفهوم على تحريم ضربه ، وأنّ زيدا خارج
عن العموم باعتبار مفهوم الموافقة ، وما سيق له الكلام من كفّ الأذى عنه ، سواء
قلنا إنّ تحريم ضرب زيد مستفاد من منطوق اللّفظ ، أو من القياس الجليّ.
وأما الثاني ، فإن
قلنا : إنّه حجّة ، فلا شكّ أنّ دلالته أضعف من دلالة المنطوق ، فهل يجوز التخصيص
به أم لا؟ اختلف فيه :
فقال الأكثر :
إنّه يجوز التخصيص به ، كما لو ورد لفظ عامّ يدلّ على
وجوب الزكاة في
الأنعام كلّها ثم قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : في سائمة الغنم زكاة ، فإنّه يكون مخصّصا للعموم بإخراج
معلوفة الغنم عن وجوب الزكاة بمفهومه ، لأنّ كلّا منهما دليل شرعيّ ، وقد تقابلا ،
وأحدهما أعمّ من الآخر ، فيخصّ العامّ بالخاصّ ، لما فيه من العمل بالدّليلين ، وهو
أولى من إبطال أحدهما بالكليّة.
وقيل : لا يخصّص ،
لأنّ الخاصّ إنّما قدّم على العامّ ، لأنّ دلالته على ما تحته أقوى من دلالة
العامّ على ذلك الخاصّ ، والأقوى راجح ، وهنا ليس كذلك ، فإنّ المفهوم وإن كان من
حيث إنّه خاصّ أقوى ، إلّا أنّ دلالة المفهوم على مدلوله أضعف من دلالة العامّ على
ذلك الخاصّ ، لأنّ العامّ منطوق به في محلّ المفهوم ، والمفهوم ليس منطوقا به ،
والمنطوق أقوى في دلالته من المفهوم ، لافتقار المفهوم في دلالته إلى المنطوق ،
وعدم افتقار المنطوق في دلالته إلى المفهوم.
فلو خصّص العامّ
بالمفهوم كان ترجيحا للأضعف على الأقوى ، وهو غير جائز.
والجواب : أنّ
العمل بالمفهوم لا يلزم منه إبطال العمل بالعموم مطلقا ، والجمع بين الدليلين ولو
من وجه ، أولى من العمل بظاهر أحدهما وإبطال الآخر بالكليّة.
المبحث الثالث :
في التخصيص بالسبب
الخطاب الوارد
جوابا لسؤال إن لم يستقلّ بنفسه لأمر يرجع إليه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد سئل عن بيع الرّطب بالتمر : أينقص الرطب؟ قالوا : نعم
، قال : فلا إذا.
أو يكون عدم
استقلاله لأمر يرجع إلى العادة ، كما لو قيل له : «كل عندي» فقال : «والله لا آكل»
فإنّ هذا الجواب مستقلّ بنفسه ، لكنّ العرف اقتضى عدم استقلاله ، وصار مقصورا على
السّبب الّذي خرج عليه ، فإنّه يتبع السّبب ، وهو السؤال في عمومه وخصوصه إجماعا ،
فإنّ عدم استقلاله اقتضى عدم إفادته إلّا مع سببه ، فيكون السّبب في تقدير الوجود
في كلام المجيب ، وإلّا لم يفد.
ولو أنّ المجيب ذكر
السّبب فقال : والله لا أكلت عندك ، صار الجواب مقصورا على الأكل عنده.
وإن استقلّ ،
فإمّا أن يكون أعمّ من محلّ السؤال ، أو أخصّ ، أو مساويا.
ولا إشكال في
المساوي ، لعدم قصور إفادته عن خصوصيّات محل السؤال ، وعدم تجاوزه عنها ، كما إذا
سئل عن المجامع في شهر رمضان ، فيقول : على المجامع في شهر رمضان الكفّارة.
ولا يجوز خروج شيء
من السؤال عن الجواب ، إلّا أن تدلّ دلالة مقارنة
أو متقدّمة على
خروج بعضه من الجواب ، بل يحكم بتبعيّة الجواب للسؤال في عمومه وخصوصه.
أمّا في عمومه ،
فكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد سئل عن ماء البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته».
وأمّا في خصوصه :
فكقوله للأعرابي : «أعتق رقبة» لمّا سأله عن وطئه في نهار رمضان.
وحكم هذا القسم ،
حكم غير المستقلّ في تبعيّته في عمومه كقوله «فلا إذا» عقيب السؤال عن النّقص ، أو
خصوصه ، كما لو قيل : «توضأ بماء البحر» ، فقال : «يجزيك».
وأمّا الأخصّ ،
فإنّ الحكم مقصور عليه ، ولا يجوز تعدية الحكم من محلّ التخصيص إلى غيره إلّا
بدليل خارج عن اللفظ ، لأنّ اللّفظ لا عموم له ، بل وفي هذه الصورة ، الحكم
بالخصوص أولى منه فيما إذا كان السؤال خاصّا وطابقه الجواب ، لأنّه هنا عدل عن
سؤال السائل بالجواب عن بعض موارده ، مع دعوى الحاجة إليه ، بخلاف تلك الصورة ،
فإنّه طابق بجوابه سؤال السائل.
وهذا القسم إنّما
يجوز من الحكيم بشرائط ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
السائل من أهل الاجتهاد.
الثاني : عدم فوات
المصلحة باشتغال السائل بالاجتهاد.
الثالث : أن يكون
في الخارج من الجواب تنبيه على ما لم يخرج.
وأمّا الأعمّ
فقسمان :
الأوّل : أن يكون
أعمّ في غير ما سئل عنه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد سئل عن ماء البحر : «هو الطهور ماؤه الحلّ ميتته» ولا
خلاف في إجرائه على عمومه.
الثاني : أن يكون
أعمّ ممّا سئل عنه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقد سئل عن بئر بضاعة : «خلق الله الماء طهورا لا ينجّسه شيء إلّا ما غيّر لونه
أو طعمه أو ريحه» .
والحقّ : أنّ
العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب.
وقال المزني وأبو ثور : إنّ خصوص السبب مخصّص لعموم اللّفظ ، وقال الجوئي : وهو الّذي صحّ عند الشافعي.
لنا وجوه :
الأوّل : المقتضي
للعموم ثابت ، والمعارض الموجود لا يصلح للمانعيّة.
أمّا المقتضي ،
فهو اللّفظ الموضوع للعموم ، ولا شكّ في ثبوته.
__________________
وأمّا نفي المانع
، فلأنّه ليس إلّا خصوص السّبب ، وإنّه غير صالح للمانعيّة إذ يمكن الجمع بينهما ،
فيصرّح الشارع بقوله : يجب حمل اللّفظ على عمومه ولا تخصّوه بالسّبب ، وهو يدلّ
على عدم المنافاة ، فلا يكون مانعا.
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع ثبوت المقتضي.
قوله : المقتضي هو
اللّفظ الموضوع للعموم.
قلنا : متى إذا
قارن السّبب الخاصّ أو لا؟ الأوّل ممنوع والثاني مسلّم.
قوله : المعارض لا
يصلح للمانعيّة.
قلنا : ممنوع ،
فإنّ ورود العامّ عقيب السّبب من غير تقدّم ولا تأخّر مشعر باختصاصه به ، وأنّ
سياقه لبيان حكم السّبب خاصّة ، والتّصريح بالعمل بالعامّ لا ينافي التخصيص بدونه
، فإنّ كلّ لفظ دلّ على معناه بالحقيقة ، يجوز خروجه عن مدلوله بذكر إرادة المجاز
، ولا يخرج بذلك المجاز من منافاة الحقيقة.
الثاني : الإجماع
على أن أكثر آيات الأحكام وردت على أسباب خاصّة ، فإنّ آية السرقة نزلت في سرقة
المجنّ ، أو رداء صفوان ، وآية الظّهار نزلت في
__________________
سلمة بن صخر وآية اللعان في هلال بن أميّة ، مع أنّ الأمّة عمّوا أحكام هذه الآيات ، ولو كانت العبرة
بخصوص السبب لما عمّ الحكم .
وفيه نظر ، فإنّ
إعلام هذه الأحكام بالوحي عقيب الاشتباه ، لا يقتضي تخصيص الأحكام بتلك الوقائع.
سلّمنا ، لكن لما
دلّ الإجماع على تعميم هذه الأحكام ، عرفنا انتفاء المخصّص ، ولا منافاة بين كون
الشيء مخصّصا عند تجرّده ، وخروجه عن صلاحيّة التخصيص عند اقترانه بما ينافيه ،
فإنّ تقييد الحكم بالوصف ، يدلّ على التخصيص ، كما لو قال : «في الغنم السائمة
الزكاة» فلو دلّ إجماع على تعميم الحكم ، خرج التقييد عن دلالة
التّخصيص.
الثالث : اللّفظ
لو تجرّد عن السبب كان عامّا ، وليس ذلك إلّا لاقتضائه العموم بلفظه ، لا لعدم
السّبب ، فإنّ عدم السّبب لا مدخل له في الدّلالات اللّفظيّة ، ودلالة العموم
لفظيّة ، وإذا كانت دلالته على العموم مستفادة من لفظه ، فاللّفظ
__________________
وارد مع وجود
السبب ، حسب وروده مع عدم السبب ، وكان مقتضيا للعموم .
وفيه نظر ، لأنّ
اللّفظ تختلف دلالته على تقدير التجرّد والاقتران ، كما في الحقيقة والمجاز.
واعلم أنّ اللّفظ
وإن كان عامّا إلّا أنّ دلالته على محلّ السّبب أقوى من دلالته على غيره ، واحتمال
التخصيص في غير السّبب أقرب ويقنع فيه بدليل أخفّ وأضعف.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو لم
يكن المراد بيان حكم السّبب لا غير ، بل بيان القاعدة العامّة ، لما أخّر البيان
إلى حالة وقوع تلك الواقعة ، والتالي باطل ، وإذا كان المقصود بيان حكم السّبب
الخاصّ ، وجب الاقتصار عليه.
الثاني : المراد
من ذلك الخطاب إمّا بيان ما وقع السؤال عنه أو غيره ، فإن كان الأوّل ، وجب أن لا
يزاد عليه ، وذلك يقتضي أن يتخصّص بتخصّص السّبب ، وإن كان الثاني ، وجب أن لا
يتأخّر ذلك البيان عن تلك الواقعة.
الثالث : لو كان
الخطاب عامّا ، لكان جوابا وابتداء ، وقصد الجواب والابتداء متنافيان.
الرابع : لو عمّ
الخطاب غير السبب ، لجاز إخراج السّبب عن العموم بالاجتهاد ، كما في غيره من
الصّور المندرجة تحت العامّ ، لتساوي نسبة العامّ إلى جميع جزئيّاته ، وهو خلاف
الإجماع.
__________________
الخامس : لو لم
يكن للسّبب مدخل في التأثير ، لما نقله الراوي لعدم فائدته.
السادس : لو قال
لغيره : كل عندي ، فقال : «والله لا أكلت» كان مقصورا على سببه ، ولم يحنث بأكله
عند غيره ، ولو لا اقتضاء السبب التخصيص ، لما كان كذلك.
السابع : الأصل
تطابق السؤال والجواب ، لأنّ الزيادة عديمة التّأثير فيما يتعلّق به غرض السائل.
الثامن : ثبوت
الحكم فيما وقع السؤال عنه ، يمنع من ثبوته فيما عداه ، إمّا لأنّه ينافيه ، أو من
دليل الخطاب.
والجواب عن الأوّل
: أنّه غير وارد على الأشاعرة ، لأنّهم لا يعلّلون بالأغراض ، بل ينشئ التكليف في
أيّ وقت شاء لا لفائدة وغرض ، ولا على المعتزلة ، لعلمه بأنّ التأخير إلى الواقعة
لطف ومصلحة للعباد ، داعية إلى الانقياد ، ولا يحصل ذلك بالسّبق والتّأخير ، ثمّ
يلزم بهذه العلّة اختصاص الرّجم ب «ماعز» وكذا باقي الأحكام الواردة على وقائع الأشخاص ، لأنّه
تعالى أخّر البيان إلى وقوع الحوادث النازلة بهم ، وهو خلاف الإجماع.
وأيضا ، كما جاز
أن تتعلّق المصلحة بهذا الوقت فيما سئل عنه وفيما
__________________
تعدّى الجواب إليه
ممّا ليس من جنس السؤال ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «الحلّ ميتته» جاز
في الجنس.
وأيضا ، يحتمل أن
يكون قد بيّن حكم ما زاد على السؤال قبل ذلك ، وبيّنه الآن أيضا ، ودلّ عليه.
وعن الثاني : أنّه
يقتضي كون الحكم مقصورا على ذلك السائل ، وفي ذلك الزمان ، والمكان والهيئة.
سلّمنا ، لكن يجوز
أن يكون السؤال الخاصّ اقتضى ذلك البيان العامّ.
سلّمنا ، لكن نمنع
الحصر ، لجواز أن يكون المراد بيان ما وقع السّؤال عنه وغيره.
وعن الثالث : إن
أردتم بأنّه جواب وابتداء : أنّه جواب عمّا وقع السؤال عنه ، وبيان لحكم ما لم يسأل عنه ، فهو مسلّم ، والقصد إليه لا ينافي.
وإن أردتم غير ذلك
، فثبّتوه.
وعن الرابع :
بالمنع من تساوي النّسبة إلى الجزئيّات ، للإجماع على أنّ كلامه سيق لبيان الواقعة
، بخلاف غيرها من الصّور.
والخلاف في أنّه
بيان له خاصّة ، أو له ولغيره ، فتناول اللّفظ له مقطوع به ، وتناوله لغيره ظاهر ،
ولا يجوز أن يسأل عن شيء فيجيب عن غيره ، ويجوز أن يجيب عنه وعن غيره ، أو عن غيره
بما ينبّه على الجواب عن محلّ السؤال
__________________
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته.
على أنّ أبا حنيفة
جوّز إخراج السّبب عن عموم اللّفظ بالاجتهاد ، كما جوّز إخراج غيره ، فأخرج الأمة
المستفرشة عن عموم قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش ، ولم يلحق ولدها بمولاها ، مع وروده في وليدة ابن زمعة ،
وقد قال عبد الله : هو أخي وابن وليدة أبي ولد على فراشه.
ولعلّه فعل ذلك ،
لعدم اطّلاعه على ورود الخبر على ذلك السبب.
وعن الخامس :
الفائدة ظاهرة ، وهي معرفة أسباب التنزيل والسّير والقصص واتّساع علم الشريعة ،
وامتناع إخراج السبب بحكم التخصيص بالاجتهاد ، ولهذا غلط أبو حنيفة في إخراج الأمة
المستفرشة عن قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الولد للفراش ، حيث لم يبلغه السّبب ، فأخرج الأمة من
العموم مع وروده فيها.
وعن السّادس : أنّ
المقتضي للتخصيص هو العادة ، فإنّ العرف قاض به ، لفهمهم ذلك ، بخلاف أسباب الشرع
، حيث لم يفهم منها القصر عليها ، فإن ادّعوا فهم ذلك كان محلّ النّزاع.
وعن السابع : إن
أردتم بالمطابقة المساواة ، فهو ممنوع ، إذ لا مقتضي لاشتراطها ، وإن أردتم بها
الكشف عنه ، فهو مسلّم ، وهو لا يقتضي ترك كشف
__________________
غيره ، ولهذا لمّا
سئل صلىاللهعليهوآلهوسلم عن ماء البحر فأجاب عنه وبيّن حكما آخر ، وهو قوله «الحلّ
ميتته».
وعن التاسع :
المنع من دليل الخطاب.
سلّمناه ، لكن
نمنع تحقّقه هنا.
تذنيب
العامّ لا يجب
تساوي نسبته إلى جزئيّاته في الدلالة عليها ، بل قد تتفاوت في الوثاقة والضعف ،
وهذا العامّ من هذا القبيل ، فإنّه وإن كان حجّة في موضع السؤال وغيره ، إلّا أنّ
دلالته على محلّ السؤال أقوى منه في غيره ، لأنّه سيق لبيان حكمه ، وهذا صالح للترجيح.
المبحث الرابع :
في التخصيص بمذهب الراوي
الحقّ : أنّ
العامّ لا يخصّص بمذهب الراوي وإن كان صحابيّا ، وبه قال الشافعي.
وقال أصحاب أبي
حنيفة والحنابلة وعيسى بن أبان وجماعة من الفقهاء : إنّ العامّ يخصّص بمذهب الصحابيّ.
لنا : أنّ المقتضي
للعموم قائم ، والمعارض لا يصلح للمانعيّة.
__________________
أمّا وجود المقتضي
فلأنّ اللفظ موضوع للعموم ، وهو ثابت.
وأمّا أنّ المعارض
لا يصلح للمانعيّة ، فلأنّ مخالفة الرّاوي لا تصلح للمانعيّة ، ولا مانع سواها
إجماعا ، لأنّ مخالفته يحتمل أقساما ثلاثة : طرفين ، وواسطة.
فطرف الإفراط : أن
يقول الراوي : أعلم بالضرورة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أراد بالعامّ ذلك الخاصّ ، إمّا بخبر آخر قاطع أو بشيء من
قرائن الأحوال ويعارض هذا الاحتمال أنّه لو كان كذلك لوجب على الرّاوي بيانه ،
ليزيل التّهمة عنه والشبهة عن غيره.
وطرف التفريط أن
يقال : إنّه ترك العموم لغير حجّة ولا شبهة بل بمجرّد الهوى ، ويعارضه ظهور
عدالته.
والواسطة المخالفة
لدليل في ظنّه ، وإن لم يكن في نفس الأمر.
وإذا تطرّقت هذه
الاحتمالات وجب اطراح مذهب الرّاوي والمصير إلى العموم.
احتجّ المخالف
بأنّ مخالفة الرّاوي إن لم يكن لدليل ، قدح ذلك في عدالته ، وهو يقتضي القدح في
متن الخبر.
وإن كانت لدليل ،
فإن كان محتملا للنّقيض ، وجب ذكره ، ليزيل التهمة عن نفسه ، والشبهة عن غيره.
ولينظر المجتهدون فيه ، وإن لم يكن محتملا للنقيض ، كان قطعيّا ، لتعيّن المصير
إليه.
والجواب : يجوز أن
يكون لا لدليل ، ولا يقدح في العدالة إمّا لأنّه من الصغائر ، أو لأنّ تجويز
المخالفة لا عن دليل لا يوجب الفسق ، بل
تحقّق المخالفة ،
فلا يتطرّق القدح في متن الخبر.
وفيه نظر ، لأنّ
الترديد لما في نفس الأمر ، لا بالنسبة إلى الذهن عندنا.
سلّمنا ، لكن لم
لا تكون المخالفة لدليل ظنيّ؟ ولا يجب ذكره إلّا مع المناظرة ، فلعلّه لم تتّفق
تلك المناظرة.
سلّمنا ، لكن نمنع
أنّه لم يذكره ، فلعلّه ذكره ولم ينقل ، أو نقل ، ولم يشتهر.
سلّمنا ، لكن لم
لا يتوهّم أنّه قطعيّ؟ فيظنّ اعتقاد كلّ أحد له ، فلم ينقله.
سلّمنا ، لكن لم
لا يكون قطعيّا عنده؟ وإن لم يكن عندنا قطعيّا ، فإنّ الأدلّة لا تجب تساويها في
الوثاقة والضعف عند المستدلّين بها.
واعلم أنّ الشافعي
قال : إذا كان الرّاوي حمل الخبر على أحد محمليه صرت إلى قوله ، وإن ترك الظاهر ،
لم أصر إلى قوله خلافا لعيسى بن أبان ، كما روى أبو هريرة : «انّ الإناء يغسل من ولوغ الكلب سبعا»
فإنّه خصّ ذلك بمذهب أبي هريرة في أنّه يغسل ثلاثا ، وفي كونه تخصيصا نظر.
وقال بعض الناس :
إن وجد خبر يقتضي تخصيصه ، أو وجد في الأصول ما يقتضي ذلك ، لم يخصّ الخبر بمذهبه
، وإلّا خصّ بمذهبه.
__________________
المبحث الخامس :
في التخصيص بذكر الأخصّ
ذهب المحققون إلى
أنّ العامّ لا يجوز تخصيصه بذكر بعضه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أيّما إهاب دبغ فقد طهر» لا يخصّ بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في جلد شاة ميمونة : «دباغها طهورها» ، لأنّ المخصّص للعامّ يجب أن يكون بينه وبين العامّ
منافاة ، لاقتضاء العامّ اندراج ذلك المخصوص في حكمه ، واقتضاء الخاصّ إخراجه عنه
، ولا منافاة بين الكلّ والجزء ، لاحتياج الكلّ إلى الجزء ، ولا منافاة بين
المحتاج والمحتاج إليه.
وقال أبو ثور : العموم إذا علّق حكما على أشياء ، وورد لفظ يفيد تعليق
ذلك الحكم على بعضها ، وجب انتفاء الحكم عمّا عدا ذلك البعض ، كما في الخبرين ،
لأنّ تخصيص الشيء بالذكر يدلّ على نفي الحكم عمّا عداه ، فتخصيص الخاصّ بالذّكر
يدلّ على نفي الحكم عن غيره ، وذلك يقتضي تخصيص العامّ.
والجواب : أنّ
المفهوم ضعيف وبالخصوص مفهوم اللّقب ، فإنّا قد بيّنا أنّه ليس حجّة.
__________________
سلّمنا ، لكن ظاهر
العموم أولى منه ، لأنّ العموم صريح ، فهو أولى من دليل الخطاب.
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دباغها طهورها» من أقسام دليل الاسم ، وهو أضعف من دليل
الصّفة.
المبحث السادس :
في التخصيص بالعادات
اعلم أنّ العادة
المخالفة للعموم قسمان :
الأوّل : عادة في
الفعل بأن يعتاد النّاس شرب بعض الدّماء ، ثم يحرّم الله تعالى الدّماء بكلام
يعمّها ، ومثل : حرّمت الرّبا في الطعام ، وعادتهم تناول البرّ ، وهذا القسم لا
يجوز تخصيص العامّ فيه بالعادة ، خلافا للحنفيّة ، لأنّ أفعال العباد ليست حجّة
على الشرع ، بل أفعالهم تابعة للشّرع ، فلا يجوز أن يجعل التابع متبوعا.
نعم لو أجمعوا
عليه صحّ التخصيص ، لكنّ المخصّص ليس العادة بل الإجماع ، وكذا إن كانت حاصلة في
زمان الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم علم بها ، ولم يمنعهم منها ، فإنّها تكون مخصّصة ، وليس
التخصيص في الحقيقة مستندا اليها بل إلى تقريره صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولا يجوز استناد
التخصيص في المثال إلى الاباحة الأصليّة.
أمّا أوّلا ،
فلأنّ حكم الأصل إنّما يصار إليه ما لم ينقل عنه شرع ، والعموم دليل شرعيّ ، فيجب
أن ينقل به.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ المخصّص حينئذ ليس هو العادة ، بل دليل الأصالة.
وأمّا ثالثا ،
فلأنّا نمنع من أصالة الإباحة ، ولأنّ اللّفظ عامّ لغة وعرفا ، ولا مخصّص.
احتجّوا بأنّ
العرف والعادة يخصّصان اسم الدابّة بذوات الأربع ، والثمن عند إطلاقه بالنقد
الغالب في البلد.
ولأنّه لو قال :
له اشتر اللّحم ، والعادة تناول لحم الضأن ، حمل عليه.
والجواب : الفرق
أنّ غلبة اسم الدابة على الخيل ، والثمن بالنقد الغالب ، يقتضي الاختصاص به ،
بخلاف غلبة تناوله ، فالعادة إنّما هي مطّردة في اعتياد أكل ذلك الطعام المخصوص ،
لا في تخصيص اسم الطعام بذلك الخاصّ ، فلا يكون قاضيا على ما اقتضاه عموم لفظ
الطعام مع بقائه على الوضع الأصلي ، بخلاف الدابّة ، فإنّه صار بعرف الاستعمال
ظاهرا في ذوات الأربع وضعا ، حتّى لا يفهم من إطلاق [لفظ] الدابّة غيره ، فكان قاضيا
على الاستعمال الأصليّ ، حتّى لو كانت العادة في الطعام المعتاد أكله ، خصّصت بعرف
الاستعمال اسم الطعام بذلك الطعام ، لكان لفظ الطعام منزّلا عليه دون غيره ، ضرورة
تنزيل مخاطبة الشارع للعرب على ما هو المفهوم [لهم] من لغتهم.
والصرف إلى الضأن
، للقرينة في المطلق لا العموم.
الثاني : عادة في
الاستعمال ، بأن يكون العموم مستعرفا في اللّغة ويتعارف الناس استعماله في بعض تلك
الاشياء ، كالدابّة الموضوعة لغة لكلّ ما يدبّ ، ثمّ
__________________
استعملت عرفا في
الخيل ، فهنا إذا أمر الله تعالى في الدابّة بشيء ، حمل على الخيل ، لما بيّنا من
أولويّة الحمل على المعنى العرفي ، وليس هذا تخصيصا في الحقيقة ، لأنّ اسم الدابّة
لا يصير مستعملا بالعرف إلّا في الخيل ، فصار كأنّه لم يستعمل إلّا فيها ، فلا
يكون تخصيصا في الحكم ، وإن كان تخصيصا بالنسبة إلى الاستعمال.
المبحث السابع :
في أنّ كونه مخاطبا لا يقتضي تخصيصه عن العموم
ذهب المحقّقون إلى
أنّ كون المخاطب مخاطبا ، لا يخرجه عن عموم خطابه ، سواء كان العامّ خبرا ، كقوله
تعالى : (وَهُوَ بِكُلِّ
شَيْءٍ عَلِيمٌ) أو أمرا مثل : من أحسن إليك فأكرمه ، أو نهيا مثل : من
أحسن إليك فلا تسيء إليه ، لأنّ اللفظ عامّ لغة وهو يقتضي كون كلّ شيء معلوما له
تعالى وذاته شيء ، فتكون داخلة تحت عموم الخطاب ، لعدم التنافي بينهما.
وكذا الأمر
بالإكرام يتناول كلّ محسن ، فإذا أحسن السيد إليه ، صدق أنّه من جملة المحسنين ،
فوجب على العبد إكرامه بمقتضى عموم خطاب السيّد.
وقال شاذّ : إنّه
مخصّص ، وإلّا لكان الله تعالى داخلا في قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ).
__________________
ولأنّ السيّد لو
قال لعبده : من دخل [داري] تصدّق عليه بدرهم ، لم يحسن من العبد الصّدقة عليه ،
ولو كان داخلا لوجب.
ولأنّ كونه آمرا
قرينة مخصّصة.
والجواب :
الامتناع من الدخول في الآية لا من حيث كونه مخاطبا ، بل من امتناع نسبة
المخلوقيّة إليه ، فالمخصّص هنا العقل ، ونحن لا نمنع منه ، كما في قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ).
نعم هو داخل من
حيث الوضع خارج عن الإرادة من حيث العقل ، والاضافات بينهما ، وكذا القرينة
الحاليّة خصّصت السيّد عن الإرادة ، والأمر ليس قرينة في التخصيص ، كما قلناه في
قوله : من أحسن إليك فأكرمه ، نعم الآمر هل يدخل تحت عموم أمره؟ تقدّم البحث في ذلك.
المبحث الثامن :
في أنّ علوّ منصبه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يقتضي التخصيص
إذا ورد الخطاب
على لسان الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم وكان عامّا مثل : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا)(يا أَيُّهَا النَّاسُ)(يا عِبادِيَ) يدخل فيه الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عند أكثر العلماء.
وقال جماعة من
الفقهاء والمتكلمين : إنّه غير داخل.
__________________
وقال أبو بكر
الصيرفي والحليمي من الشافعيّة : إن صدر الخطاب ب «قل» مثل : (قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ) فهو غير داخل ، وكلّ خطاب لم يصدر بأمر الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بتبليغه ، مثل : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
،) دخل.
لنا : انّ هذه
الصيغة عامّة لكلّ إنسان ، وكلّ مؤمن ، وكلّ عبد ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم سيّد المؤمنين والعباد ، والنبوّة غير مخرجة [له] عن إطلاق
هذه الأسماء عليه ، فلا تكون مخرجة له عن العمومات.
ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، كان إذا أمر أصحابه بأمر ، وتخلّف عنه ، سألوه عن سبب
الترك ، ولو لم يعقلوا دخوله فيما أمرهم به ، لما سألوه عن ذلك ، ولم ينكر عليهم
ما فهموه من الدخول ، بل اعتذر ، كما قالوا : لم أمرتنا بفسخ الحجّ إلى العمرة ،
ولم تفسخ؟ فقال : «إنّي قلّدت هديا» .
احتجوا بوجوه.
الأوّل : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر الأمّة بهذه الأوامر فلو دخل فيها لكان آمرا مأمورا
بخطاب واحد ، وهو ممتنع.
ولأنّه يلزم أن يكون
الإنسان آمرا لنفسه ، وهو محال ، لأنّ الأمر طلب
__________________
الأعلى من الأدنى
، ولانتفاء فائدته ، ولامتناع أن يكون الشخص آمرا لنفسه على الخصوص ، فكذا له
ولغيره.
الثاني : يلزم أن
يكون بخطاب واحد مبلّغا ومبلّغا إليه ، وهو محال.
الثالث : انّه صلىاللهعليهوآلهوسلم اختصّ بأحكام لم تشاركه فيها الأمّة ، كوجوب ركعتي الفجر
والأضحى وتحريم الزكاة عليه ، وغير ذلك من خواصّه ، وهو يعطي كونه على مرتبة
وانفراد عن الأمّة بأحكام التكليف ، فلا يدخل تحت خطابهم.
الرابع : علوّ
منصبه يقتضي إفراده بالذّكر لقبح أمر السلطان وزيره وأدون أمّته بخطاب واحد.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الآمر هو الله تعالى ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم مبلّغ لأمره تعالى ، وفرق بين الآمر والمبلّغ للأمر.
وعن الثاني : أنّه
مبلّغ للأمّة بما ورد على لسانه ، وليس مبلّغا لنفسه بذلك الخطاب ، بل المبلّغ له
جبرئيل عليهالسلام.
وعن الثالث : أنّ
اختصاصه ببعض الأحكام لا يوجب خروجه عن العموم ، فإنّ كلّا من الحائض والمسافر
والمريض والمرأة قد اختصّ بأحكام لا يشاركه فيها غيره ، ولم يخرج عن العمومات.
وعن الرابع : بمنع
القبح.
والوجه عندي ما
قاله الصيرفي ، لأنّ تصدير الخطاب ب «قل» يشعر بأمره بالتبليغ ، وخروجه عنه ، لقبح
قوله لنفسه ، بخلاف (يا أَيُّهَا النَّاسُ).
والتحقيق : أنّ
خطابه تعالى مكتوب في اللّوح المحفوظ ، وجار على لسان جبرئيل عليهالسلام ولسان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا شكّ في دخوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الأوّلين ، دون ما جرى على لسانه صلىاللهعليهوآلهوسلم آمرا به غيره من الأمّة.
المبحث التاسع :
في دخول العبد والكافر
اختلف الناس في
دخول العبد تحت خطاب التكاليف بالألفاظ العامّة المتناولة له لغة كلفظ «الناس» و «المؤمنين»
و «العباد».
فذهب الأكثر إليه
، خلافا للأقلّ.
وقال أبو بكر
الرازي من الحنفية : إنّه داخل في العمومات المثبتة لحقوق الله
تعالى دون حقوق الآدميّ.
لنا : أنّ اللّفظ عامّة نسبته إليه كنسبته إلى الحرّ ، فيتساويان
في الدخول ، لتساويهما في الاندراج لغة ، والمانع المقتضي للتخصيص خلاف الأصل ،
فيثبت الدخول إلّا أن يدلّ دليل على إخراجه منه ، مثل كون العبادة مترتّبة على
الملك المنتفي في حقّه عند أكثر الفقهاء أو غيره من الأدلّة.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : العبد
مال لسيّده ، لتمكّنه من التصرّف فيه حسب تصرّفه في سائر الأموال ، فيكون بمنزلة
البهائم ، فلا يندرج تحت خطاب الشّرع.
الثاني : أفعاله
الّتي هي متعلّق التكليف ، ويحصل بها الامتثال ، مملوكة
__________________
لسيّده ، ويجب
صرفها إلى سيّده للخدمة شرعا ، فلا يكون الخطاب متعلّقا بصرفها إلى غير منافعه
للتّناقض.
الثالث : الإجماع
على خروجه عن الخطاب بالحجّ ، والعمرة ، والجمعة ، والتبرّع ، والإقرار بالمال ،
والحقّ البدنيّ ، فلو كان داخلا تحت العموم ، لكان خروجه [عنها] في هذه الصور على
خلاف الأصل.
الرابع : الرقّ
مقتض لإخراجه عن العموم ، لأنّه مشغول بسببه في جميع أوقاته بخدمة سيّده ، وحقّ
السيّد مقدّم ، لتمكّنه من منعه من النوافل ، وهي حقّ له تعالى.
ولأنّ حقوقه تعالى
مبنيّة على المسامحة ، لعدم تضرّره بفوات حقّه ، وعدم انتفاعه بحصوله ، بخلاف
الآدميّ.
لا يقال : إنّما
يلزمه الخدمة لو فرغ من العبادات في هذه الأوقات.
لأنّا نقول : ليس
تخصيص الدّليل الدالّ على وجوب الخدمة بما دلّ على وجوب العبادة أولى من تخصيص ما
دلّ على وجوب العبادة بما دلّ على وجوب خدمة السيّد.
والجواب عن الأوّل
: كونه مالا لا يخرجه عن جنس المكلّفين ، إلى جنس البهائم ، وإلّا لما توجّه
الخطاب إليه بالصّلاة والصّوم والخدمة.
وعن الثاني :
بالمنع من كون جميع المنافع مملوكة للسيّد في جميع الأوقات ، حتّى في وقت تضييق
العبادة المأمور بها ، بل في غيره ، فاندفع التناقض .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
العبادة إنّما تخصّص وجوب طاعة السيّد لو وجبت عليه ، وهو المتنازع.
وعن الثالث : أنّ
خروجه عن هذه العمومات ، لا يدلّ على إخراجه عن تناول العمومات له لغة ، غايته
أنّه خصّ في البعض لدليل ، والتخصيص غير مانع من العموم لغة ، والتخصيص أولى من
رفع العموم لغة مع تحقّقه ، فأشبه المريض والحائض والمسافر في تخصيصهم بالصلاة ،
والصّوم ، والجهاد.
وعن الرابع : بمنع
تعلّق حقّ السيّد بمنافعه المصروفة إلى العبادات المأمور بها عند ضيق أوقاتها ،
كما سبق ، والرّقّ وإن اقتضى ذلك للمناسبة والاعتبار إلّا أنّه لا يقع في مقابلة
دلالة النصّ على العبادة في ذلك الوقت ، والنّصوص الدالّة على خدمة السيّد في حكم
العامّ ، وما دلّ على وجوب العبادة في حكم الخاصّ ، فإنّ كلّ عبادة يتناولها لفظ
خاصّ كآية الصلاة ، وآية الصوم ، والخاصّ مقدّم على العامّ ، فالنصوص وإن تناولت
العبد بعمومها ، إلّا أنّها متناولة للعبادة في وقتها المعيّن بخصوصها.
والرّقّ وإن كان
مقتضيا لحقّ السيّد بخصوصه ، إلّا أنّ اقتضاءه لذلك الحقّ في وقت العبادة لعمومه ،
فيتقابلان ، ويسلم الترجيح بالتنصيص.
ونمنع كون حقّ
الآدميّ مرجّحا على حقّ الله تعالى مطلقا ، فإنّ حقّه تعالى يترجّح على حقّ السيّد
فيما وجب على العبد بالخطاب الخاصّ به إجماعا.
ومنع السيّد له من
النوافل ، وإن اقتضى ترجيح حقّه ، لكن لا مطلقا بل في النوافل دون الفرائض.
وأمّا الكفر ،
فإنّه غير مقتض للتخصيص ، لما بيّنا من أنّ الكفّار مخاطبون بالشرائع.
المبحث العاشر :
في أنّ قصد المدح والذمّ غير مقتض للتّخصيص
اللّفظ العامّ إذا
قصد به المخاطب المدح أو الذمّ ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْأَبْرارَ
لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) وقوله : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لا يخرج عن عمومه بقصدهما عند أكثر المحقّقين.
وقال الشافعي :
انّه يخرج عن عمومه.
لنا : أنّه لفظ
وضع للعموم فرضا ولا منافي لإرادته ، إذ ليس إلّا قصد المدح أو الذمّ ، وهو غير
صالح للمانعيّة ، لإمكان إرادة العموم مع إرادة أحدهما ، فيحمل على موضوعه ، كغيره
من الألفاظ.
احتجّ الشافعي :
بأنّ الآية سيقت بقصد المبالغة في الحثّ أو الزجر ، ولم يكن العموم مقصودا ،
ومنع من التمسّك بهذه الآية في ثبوت الزكاة في الحليّ.
والجواب : فهم
الذمّ من الآية ، لدلالة اللّفظ عليه ، وهو يدلّ على العموم ، فوجب إثباته ، وليس
دلالتها على الذمّ مانعة من دلالتها على العموم ، بل العموم أبلغ.
__________________
المبحث الحادي عشر : في أنّ المعطوف هل
يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره ممّا في المعطوف عليه؟ وهل إذا وجب ذلك ، وكان المضمر في المعطوف عليه مخصوصا ،
وجب أن يكون المعطوف ، عليه مخصوصا أم لا؟
اختلف الناس في
ذلك ، فقال العراقيّون بذلك كلّه ، ومنع الشافعيّة منه ، مثاله قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» .
استدل الشافعي به
على أنّ المسلم لا يقتل بالذّميّ ، وكذا أصحابنا ، لأنّ اللّفظ عامّ بالنسبة إلى
كلّ كافر حربيّا كان أو ذميّا.
اعترضه الحنفيّة :
بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عطف عليه ذا العهد ، فيكون معناه : ولا ذو عهد في عهده
بكافر ، لأنّ حكم المعطوف حكم المعطوف عليه ، ومعلوم أنّ ذا العهد يقتل بالكافر
الذميّ ، ولا يقتل بالحربيّ ، فكان قوله : «لا يقتل مؤمن بكافر» معناه : «كافر
حربيّ» لأنّ المضمر في المظهر هو المظهر في المعطوف عليه ، فأضمروا في المعطوف ما
هو مظهر في المعطوف عليه ، من القتل والكافر.
ولمّا رأوا أنّ
ذلك إن أضمر في المعطوف ، كان مخصوصا في الحربيّ ، أوجبوا تخصيص المعطوف عليه أيضا
بالحربيّ.
وأجاب قاضي القضاة
بوجهين :
__________________
الأوّل : منع
إضمار الكافر في المعطوف ، لأنّ المعطوف إنّما يضمر فيه من المعطوف عليه ما يضمر
به مستقلّا ، لأنّ فقد استقلاله هو الموجب للإضمار ، ومن المعلوم استقلال قوله : «ولا
ذو عهد في عهده» بإضمار القتل ، فإنّ قولنا : «ولا يقتل ذو عهد في عهده» كلام
مستقلّ.
الثاني : سلّمنا
إضمار «الكافر» لكن لا يجب تخصيص المعطوف عليه لو كان المضمر مخصّصا بالحربيّ ،
لأنّ مقتضى العطف مطلق الاشتراك ، لا الاشتراك من كلّ الوجوه ، فلا يجب ما قالوه ،
ولهذا لو قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده بكافر» ثمّ
علمنا بدلالة أنّ ذلك مخصوص بالحربيّ ، لم يجب أن يكون المعطوف عليه كذلك.
اعترض أبو الحسين
على الأوّل : بأنّ الإضمار لا يقف على ما يستقلّ به الكلام ، فإنّ من قال : «لا
يقتل اليهود بالحديد ولا النصارى» لكان معناه : ولا يقتل النصارى بالحديد ولا
يقتصر فيه على إضمار القتل فقط.
وكذا [لو قال :] «لا
تشتر اللحم بالدراهم الصّحاح ولا الخبز» لأفاد «ولا تشتر الخبز بالدراهم الصّحاح»
لأنّ العطف يفيد الاشتراك في حكم المعطوف عليه ، وهاهنا المنع هو الشراء بالدّراهم
الصّحاح دون المنع بالشراء بالدّراهم مطلقا ، لأنّ المنع بالشراء بالدراهم مطلقا
غير مذكور.
فلو قلنا : إنّ
قولنا : «لا تشتر اللحم بالدّراهم الصحاح ولا الخبز» معناه : «ولا تشتر الخبز أصلا»
لم يكن قد شركنا بينهما في الحكم المذكور.
وعلى الثاني : أنّ
العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في
حكمه ، وحكمه هو
ما شاء المتكلّم وأراده ، دون ما لم يعنه ، فلو جعل الكافر في المعطوف عليه عامّا
، وفي المعطوف خاصّا لم يكن العطف مفيدا لاشتراكهما فيما قصده المتكلّم ، لأنّه
قصد بالأوّل العموم ، وبالثاني الخصوص ، ولكان الثاني معطوفا على بعض الأوّل ،
وظاهر العطف يمنعه.
ولا يمكن أن يقال
: العطف يفيد اشتراك المعطوف والمعطوف عليه في لفظ الكافر ، لأنّ اللّفظ ليس
موجودا في المعطوف ، وانّما حكم المعطوف عليه يوجد فيه ، فإنّ المتكلّم يقصد
بالعطف اشتراكهما في معنى قصده ، دون اللفظ.
ثمّ أجاب عن كلام
الحنفيّة : بأنّ المعطوف إذا قيّد بصفة ، لم يجب أن يضمر فيه من المعطوف عليه إلّا
ما يصير به مستقلّا ، فإنّ الإنسان لو قال : «لا تقتل اليهود بالحديد ، ولا
النصراني في الأشهر الحرم» لم يجب أن يضمر فيه إلّا القتل حتى يكون معناه : «ولا
تقتل النصارى في الأشهر الحرم» ولا يجب إضمار «الحديد» حتّى يصير «ولا تقتل
النصارى بالحديد في الأشهر الحرم» لأنّه لمّا قيّد المعطوف بزيادة ليست في المعطوف
عليه ، علم أنّه أراد المخالفة بينهما في كيفيّة القتل ، وأن يشرك بينهما في القتل
فقط ، لا في الزيادة الّتي في المعطوف عليه .
وهذا الكلام جيّد
، لأنّ قوله : «ولا ذو عهد في عهده» كلام تامّ ، لأنّه لو قال : «لا يقتل ذو العهد»
لكان من الجائز أن يتوهّم أنّ من وجد منه العهد ، ثمّ خرج
__________________
عن عهده ، فإنّه
لا يجوز قتله ، فلمّا قال «في عهده» علمنا أنّ النهي اختصّ بكونه في العهد.
وإذا كان تامّا ،
لم يجر إضمار الزّيادة ، لأنّ الإضمار على خلاف الأصل ، فلا يصار إليه إلّا
لضرورة.
لا يقال : إنّ
قوله : «في عهده» كالتأكيد لقوله : «ولا ذو عهد» ولا يفيد حكما آخر ، لأنّه لو لم
يقله لعلمنا بقوله «ولا ذو عهد» أنّه لا ينبغي أن يقتل في عهده ، لأنّ زوال العهد
يخرجه عن كونه ذا عهد ، وإذا كانت للتأكيد ، وكان قوله : «ولا ذو عهد» يفيد بكافر
، فكذا قوله : «ولا ذو عهد في عهده».
وليس يقال : إنّ
قوله : «في عهده» يفيد فائدة مجدّدة ، وهي أنّ المانع من قتله هو العهد ، لأنّه لو
أفاد لاستفيد من قوله : «ولا ذو عهد».
لأنّا نقول : نمنع
اقتضاء زوال العهد ، لخروجه عن كونه ذا عهد ، لما تقدّم من عدم وجوب بقاء المشتقّ
منه في الاشتقاق.
سلّمنا ، لكن ما
ذكرتم يقتضي أنّه لو قال : لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا رجل في عهده ، أن لا يضمر فيه
«الكافر» حتّى يكون معناه «ولا يقتل رجل في عهده بكافر» لأنّه يكون قوله : «في
عهده» قد استفيد منه فائدة مجدّدة ، فيجب أن يكون قوله : «ولا ذو عهده» يمنع من أن
يضمر فيه «بكافر» لأنّه ينزّل منزلة قوله : «ولا رجل في عهده» في إفادة صفة قد منع
من القتل معها ، فإذا كان قوله : «في عهده» للتأكيد لم يضمر في المنع من هذا
الإضمار.
وإذا امتنع إضمار
الكافر فيه ، امتنع تخصيص ما تقدّم.
قال أبو الحسين :
إن وجب إضمار الكافر في المعطوف ، فالأولى القول بالوقف ، لأنّه ليس التمسّك بظاهر
العطف وترك ظاهر عموم أوّل الكلام وحمله على الخصوص أولى من التمسك بظاهر العموم ، وترك ظاهر العطف في وجوب اشتراك
المعطوف والمعطوف عليه في خصوص ما اتّفقا فيه.
واحتجّ أصحابنا
والشافعي بأمور :
الأوّل : المعطوف
لا يستقلّ بنفسه في إفادة حكمه ، واللّفظ الدالّ على حكم المعطوف عليه ، لا دلالة
له على حكم المعطوف بصريحه ، وإنّما أضمر حكم المعطوف عليه في المعطوف ، ضرورة
الإفادة ، وحذرا من التعطيل ، والإضمار على خلاف الأصل ، فيجب الاقتصار على ما
تندفع به الضرورة ، وهو التّشريك في أصل الحكم دون تفصيله من صفة العموم وغيره ،
تقليلا لمخالفة الدّليل.
وفيه نظر ، إذ فيه
تسليم إضمار حكم المعطوف عليه في المعطوف ، فلو كان الكافر الأوّل للعموم ، أو لم
يقيّد الثاني بالكافر ، لكان المضمر غيره.
الثاني : قد ورد
عطف الخاصّ على العامّ في قوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
__________________
يَتَرَبَّصْنَ) فإنّه عامّ في الرجعيّة والبائن ، وقوله : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) خاصّ.
وورد عطف الواجب
على المندوب في قوله : (وَآتُوهُمْ) فإنّ الإيتاء واجب ، والكتابة مستحبّة ، وعطف الواجب على
المباح في قوله : (وَآتُوا حَقَّهُ
يَوْمَ حَصادِهِ) ولو اقتضى العطف التسوية في أصل الحكم وتفصيله ، لكان
العطف في ذلك على خلاف الأصل.
وفيه نظر ، للمنع
من عموم (وَالْمُطَلَّقاتُ) على ما يأتي ، وعطف الأحكام المختلفة جائز ، لم ينازع فيه
أحد ، وليس البحث فيه ، بل في أنّ التقييد في المعطوف عليه بعامّ ، وكان مضمرا في
المعطوف ، هل يقتضي تقييد المضمر أو لا.
الثالث : الاشتراك
في أصل الحكم متيقّن ، وفي صفته محتمل ، فجعل العطف أصلا في المتيقّن دون المحتمل
أولى.
وفيه نظر ، فإنّ
أصل الحكم هو عدم القتل ، ولا يمكن التشريك فيه.
الرابع : لو كان
التقييد مشتركا لكان نحو : «ضربت زيدا يوم الجمعة وعمرا» أي يوم الجمعة.
__________________
واعترض بالتزامه ،
وبالفرق بأنّ ضرب عمرو في غير يوم الجمعة ، ليس بممتنع واحتجّت الحنفيّة بوجوه :
الأوّل : لو لم
يقدّر شيء لامتنع قتله مطلقا ، وهو باطل ، فيجب الأوّل للقرينة.
وفيه نظر ، فإنّ
الإطلاق إن عني به عدم قتله وإن خرج عن العهد ، منعنا الملازمة ، وإن عني عدم قتله
ما دام في عهده مطلقا ، منعنا بطلان التالي
الثاني : حرف
العطف يوجب جعل المعطوف والمعطوف عليه في حكم جملة واحدة ، فالحكم على أحدهما يكون
حكما على الآخر.
واعترض : بأنّ العطف يقتضي اتّحادهما فيما فيه العطف ، لا فيما زاد
على أصل الحكم.
الثالث : المعطوف
إذا لم يستقلّ ، فلا بدّ من الإضمار ، وليس غير حكم المعطوف عليه إجماعا ، ولا
بعضه ، لأنّ غير المعيّن يقتضي الإجمال ، وهو خلاف الأصل ، والمتعيّن منتف ، فوجب إضمار كلّ ما ثبت للمعطوف عليه.
اعترض : بالتشريك في أصل الحكم المذكور دون صفته ، وهو مدلول
اللّفظ من غير إبهام ولا إجمال.
__________________
المبحث الثاني عشر : في أنّ رجوع الضمير
إلى البعض ، هل يقتضي التخصيص أم لا؟
اعلم أنّ العموم
إذا تعقّبه ضمير يرجع إلى بعضه خاصّة ، إمّا في استثناء ، أو صفة ، أو حكم ، هل
يجب أن يكون المراد بذلك العموم ذلك البعض أو لا؟
أمّا الاستثناء ،
فكقوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ
إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ) ثمّ قال : (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) فاستثنى العفو ، وعلّقه بكناية راجعة إلى النساء.
ومعلوم أنّ العفو
إنّما يصحّ من المالكات لأمورهنّ دون الصغيرة والمجنونة ، فهل يقال : الصغيرة
والمجنونة غير مرادتين من لفظ النساء في أوّل الكلام.
وأمّا الصّفة ،
فكقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ) ثمّ قال : (لا تَدْرِي لَعَلَّ
اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً) يعني الرّغبة في مراجعتهنّ ، ومعلوم أنّه لا يتأتّى في
البائنة.
وأمّا الحكم ،
فكقوله تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَ
__________________
ثَلاثَةَ
قُرُوءٍ) ثمّ قال : (وَبُعُولَتُهُنَّ
أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ) وهذا لا يتأتّى في البائنة.
فنقول : اختلف
الناس في ذلك ، فذهب قاضي القضاة إلى أنّه لا يجب تخصيص ذلك العموم بتلك الأشياء ،
وهو اختيار جماعة من المعتزلة والأشاعرة.
وذهب آخرون إلى
وجوب التخصيص ، وهو الحقّ.
وتوقّف السيد
المرتضى ، وأبو الحسين البصري ، والجويني ، وفخر الدين الرازي .
احتجّ القاضي عبد
الجبار : بأنّ اللّفظ عامّ يجب إجراؤه على عمومه إلّا أن يضطرّنا شيء إلى تخصيصه ،
وكون آخر الكلام مخصوصا ، لا يقتضي تخصيص أوّله.
واحتجّ غيره :
بأنّ مقتضى اللّفظ إجراؤه على ظاهره من العموم ، ومقتضى اللّفظ الثاني عود الضّمير
إلى جميع ما دلّ عليه اللّفظ المتقدّم إذ لا أولويّة
__________________
لاختصاص بعض
المذكور السابق به دون البعض ، وإذا قام الدّليل على تخصيص الضمير ببعض المذكور
السابق ، وخولف ظاهره ، لم يلزم منه مخالفة الظاهر الآخر ، بل يجب إجراؤه على
ظاهره إلى أن يقوم دليل على تخصيصه.
والدّليل على ما
قلناه ، أنّ الضّمير لا بدّ وأن يرجع إلى السّابق قطعا ، فإمّا أن يرجع إلى كلّه ،
أو بعضه.
والثانى محال ،
لعدم الأولويّة ، ولاستلزامه الإجمال ، فثبت الأوّل ، وإنّما يصحّ لو كان المراد
بالأوّل من يصحّ العود إليه.
والجواب عن حجّة
القاضي : أنّ التخصيص يقتضي تخصيص أوّل الكلام ، لوجوب رجوع الضمير إلى جميع ما
تقدّم ، لأنّ معنى (إِلَّا أَنْ
يَعْفُونَ) إلّا أن يعفو النّساء اللّواتي طلّقتموهنّ ، ولو أنّه
تعالى صرّح بذلك ، لكان لفظ النّساء مقصورا على من يصحّ عفوه.
وعن الثاني : أنّ
الضمير ليس للعموم ، وهو عبارة عمّا تقدّم ، إذ الضّمير هو المظهر في الحقيقة ،
وإنّما اختلفا في الإضمار والإظهار ، فلا يكون الأوّل للعموم.
احتجّ المتوقّفون
: بأنّ ظاهر العموم المتقدّم يقتضي الاستغراق ، وظاهر الكناية يرجع إلى كل ما
تقدّم ، لأنّ الكناية يجب رجوعها إلى المذكور المتقدّم ، وهو المطلّقات ، وليست
رعاية ظاهر العموم أولى من رعاية ظاهر الكناية فوجب التوقف.
__________________
أجاب القائلون
بالعموم : بأنّ إجراء اللّفظ على عمومه ، وتخصيص المتأخّر أولى من العكس ، لأنّ
دلالة الأوّل ظاهرة ، ودلالة الثاني غير ظاهرة ، ولا يخفى أنّ دلالة المظهر ، أقوى
من دلالة المضمر.
أعترضه أبو الحسين
: بأنّه ليس القول بأنّ العموم أولى ، لأنّه ظاهر ، بأولى من أنّ التمسّك بالكناية
أولى ، لأنّها كناية .
وليس بجيّد ، لأنّ
الظاهر لا يتوقّف على الكناية في الدلالة ، والكناية تتوقّف على الظاهر ، والموقوف
عليه أولى.
والجواب الصحيح :
أنّ مراعاة ظاهر الكناية أولى ، لأنّ تعميم الظاهر يقتضي إلى الإضمار والإجمال.
أمّا الإضمار ،
فلأنّ التقدير يصير : «إلّا أن يعفو بعضهنّ» ومراعاة ظاهر الكناية يقتضي التخصيص ،
وقد تقدّم أنّ التخصيص خير من الإضمار.
وأمّا الإجمال ،
فلعدم إشعار المضمر بالمراد منه.
قيل : لو خصّص
الأوّل لزم تخصيصهما معا ، فيلزم مخالفة ظاهرين.
وليس بجيّد ، لأنّ
الثاني بعد تخصيص الأوّل لا يكون عامّا ، فلا يلزم مخالفة ظاهر آخر.
__________________
المبحث الثالث عشر
: في الحكم الخاص المقترن بالعلة
إذا حكم النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم بحكم في واقعة خاصّة ، وذكر العلّة ، فقال الشافعي : إنّه
يعمّ من وجدت تلك العلّة في حقّه ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في حقّ أعرابيّ محرم وقصت به ناقته : «لا تخمروا رأسه ، ولا تقربوه طيبا ، فإنّه
يحشر يوم القيامة ملبّيا» . وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في قتلى «أحد» : «زمّلوهم بكلومهم ودمائهم ، فإنّهم يحشرون يوم القيامة ، وأوداجهم تشخب دما»
. وكما لو قال : حرّمت الخمر لكونه مسكرا.
ومنعه القاضي أبو
بكر .
والحقّ أن يقال :
إنّ عموم الحكم ليس بالنظر إلى الصيغة الواردة ، فإنّه لو كان كذلك لكان إذا قال
لوكيله : «أعتق سالما لكونه أسود» لاقتضى عتق كلّ عبد أسود ، كما لو قال : «أعتق
عبيدي السّودان» نعم أنّه مستفاد من العلّة إن قيل به ، على ما يأتي البحث فيه.
فإن قلنا به ، لم
يندرج قوله لوكيله : «أعتق سالما لكونه أسود» لأنّ الوكيل
__________________
إنّما يتصرّف فيما
يأمره الموكّل نصّا ، لا بالقياس على ما يأمره به ، والفائدة في ذكر العلّة معرفة
كون الحكم معلّلا ، إلّا أن يكون اللّفظ عامّا لغير محلّ التخصيص.
قال القاضي أبو
بكر : يحتمل أن يكون النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم علّل ذلك في حقّ الأعرابيّ بما علمه من كونه مات مسلما
مخلصا في عبادته ، محشورا ملبّيا وقصت به ناقته ، لا بمجرّد إحرامه ، وفي قتلى «أحد»
لعلوّ درجتهم في الجهاد ، وتحقّق شهادتهم ، لا بمجرّد الجهاد ، وفي تحريم الخمر ،
لكونه خمرا مسكرا.
وهذا وإن كان
موجّها ، إلّا أنّه على خلاف ما ظهر من تعليله صلىاللهعليهوآلهوسلم بمجرّد الإحرام والجهاد ، وسيأتي.
المبحث الرّابع
عشر : في أنّ خطابه صلىاللهعليهوآلهوسلم يقتضي تخصيصه به
إذا خاطب النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم واحدا من أمّته لم يكن ذلك خطابا للباقين إلّا بدليل منفصل
عند أكثر المحقّقين.
وقال جماعة من
الحنابلة أيضا : إنّه يكون خطابا للباقين.
لنا : أنّ الخطاب توجّه إلى الواحد ، وهو موضوع في اللّغة لذلك
الواحد ، فلا يكون متناولا لغيره بوضعه.
احتجّوا بوجوه :
__________________
الأوّل : قوله
تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ).
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بعثت إلى النّاس كافّة» .
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «بعثت إلى الأسود والأحمر» وهو يقتضي التشريك.
الثاني : قوله : «حكمي
على الواحد حكمي على الجماعة» نصّ في التعميم عند خطاب الواحد.
الثالث : إجماع
الصحابة على الاحتجاج في الحوادث بحكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم على آحاد الأمّة كحكمهم في الزنا بما حكم به على «ماعز»
وضرب الجزية على المجوس بضربها على مجوس هجر ولو لا أنّ حكمه على واحد يقتضي التعميم ، لم يجز التّعدية
إلّا بدليل ، والأصل عدمه.
ولأنّه لو كان ، لبيّنوه.
الرابع : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم خصّص بعض الصحابة بأحكام دون غيره ، ونصّ عليه ،
__________________
وفي كلام الإمام أمير المؤمنين عليهالسلام
كتخصيص أبي بردة في التضحية بعناق ، وقال : «تجزئك ولا تجزئ أحدا بعدك» وتخصيص خزيمة بقبول شهادته وحده ، وتخصيص عبد الرحمن بن عوف بلبس الحرير.
ولو لا أنّ الحكم
بإطلاقه على الواحد حكم على الأمّة ، لما احتاج إلى التنصيص بالتخصيص.
والجواب عن الأوّل
: أنّا نقول بموجبه ، فإنّه مرسل إلى النّاس كافّة ، ومبعوث إلى كلّ واحد ، ولكن
لا يجب تساويهم في الأحكام ، بل بمعنى لكلّ شخص حكمه الخاصّ به ، كأحكام المريض ،
والصحيح ، والمقيم ، والمسافر ، والحرّ ، والعبد ، والحائض ، والطاهر ، وغير ذلك ،
ولا يلزم من ذلك اشتراك الجميع في كلّ حكم.
وعن الثاني : أنّ
التعميم ثبت حينئذ من هذا الحديث ، لا من مجرّد حكمه على الواحد ، لأنّ الحكم هو
الخطاب ، وخطاب الواحد ليس خطابا لغيره ، فإنّه لو كان خطابا لغيره لزم منه
التخصيص بإخراج من لم يكن
__________________
موافقا لذلك
الواحد ، في السبب الموجب للحكم عليه.
ولأنّه لو كان
خطابه المطلق خطابا للجماعة ، لما احتاج إلى قوله : «حكمي على الواحد» أو كانت
فائدته التأكيد ، والأصل في دلالة اللّفظ التأسيس.
سلّمنا ، لكن حكمه
على الواحد ، لو كان حكما على الجماعة لهذا الحديث ، لم يلزم أن يكون حكمه للواحد
حكما للجماعة ، والفرق ظاهر ، والخلاف واقع في الجميع.
وفيه نظر ، فإنّ
المراد بحكمه عليه التشريع في حقّه ، سواء كان له أو عليه ، لأنّ قبول الأمر
والانقياد إلى حكمه وإن كان له ، واجب.
ولأنّه إذا ثبت
الأوّل ثبت الثّاني ، لعدم القائل بالفرق.
وعن الثالث : أنّه
حكاية حال ، فلا يقتضي التعميم ، ولأنّ حكمهم إنّما كان لعلمهم بالمشاركة في السبب
، للإجماع على أنّهم لو لم يعلموا السبب وتساويهم فيه ، لما حكموا بالتشريك في
الحكم.
وعن الرابع : أنّ
الفائدة زوال توهّم المساواة أو التأكيد.
__________________
المبحث الخامس عشر : في أنّ قوله تعالى
: (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً)
هل هو للعموم أم لا؟
ذهب الأكثر إلى
عموم هذا ، وأنّه يقتضي أخذ الصدقة من كلّ نوع من أنواع مال كلّ مالك.
وخالف فيه الكرخي وقصره على أخذ صدقة واحدة من نوع واحد.
احتجّ الأوّلون :
بأنّ «أموالا» جمع أضيف إلى مثله ، فيفيد العموم ، لما تقدّم ، فيصير التقدير : «خذ
من كلّ نوع من أموالهم صدقة» فتتعدّد الصّدقة بتعدّد الأموال.
قال الكرخي : «صدقة»
نكرة مضافة إلى جملة الأموال ، فإذا أخذ من نوع واحد من المال صدقة ، صدق قوله : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) لأنّ المال الواحد جزء من جملة الأموال ، فإذا أخذت
الصّدقة من جزء المال ، صدق أخذها من المال ، ولهذا وقع الإجماع على أنّ كلّ درهم
ودينار موصوف بأنّه مال ، ولا يجب أخذ الصدقة منه ، والأصل أن يكون ذلك لعدم دلالة
اللّفظ عليه لا للمعارض.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
القائل بالتعميم لم يقل به بالنظر أي صدقة النكرة ، بل بالنظر إلى الجمع المضاف ،
وقد سبق أنّه للعموم ، ونمنع صدق أخذ الصدقة من أموالهم عند أخذها من مال واحد.
والتحقيق : أنّ
الجمع هنا إن كان بمنزلة كلّ واحد ، وجب أن يأخذ من كلّ واحد صدقة ، وإن كان للكلّ
، من حيث هو كليّ مجموعيّ ، صدق بأخذ صدقة واحدة من مال واحد.
خاتمة
تشتمل على مسائل :
الأولى : قد بيّنا أنّه لا يجوز
التّمسّك بالعامّ قبل المخصّص ، ولا يشترط القطع ، بل الظّنّ المستند إلى البحث التامّ بحيث لو كان لظهر
عليه.
وقال القاضي أبو
بكر : يشرط القطع بنفي المخصّص ، لأنّ الاعتقاد الجازم من غير دليل قاطع جهل ، وقد
سلك في العلم بنفي المخصّص مسلكين :
أحدهما : إذا بحث
في مسألة قتل المسلم بالذّمّي مثلا من مخصّصات قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا يقتل مؤمن بكافر» وقال : هذه مسألة كثر الجدال فيها
، وطال خوض العلماء ، فيستحيل عادة أن يشذّ عن جميعهم دليل ، والأدلّة المنقولة
عنهم علم بطلانها فأعلم انتفاء المخصّص.
الثاني : يمكن أن
يدّعي المجتهد اليقين ، وإن لم يدّع الإحاطة بجميع
__________________
المدارك ، إذ يقول
: لو كان الحكم خاصّا لنصب الله عليه دليلا للمكلّفين ، ولبلغهم ذلك ، وما خفى
عليهم.
واعترض الغزالي
على الأوّل بوجهين :
الأوّل : أنّه حجر
على الصّحابة أن يتمسّكوا بالعموم في كلّ واقعة لم يكثر الخوض فيها ، ولم يطل
البحث عنها ، ولا شكّ في عملهم معه ، وجواز التخصيص ، بل مع جواز نسخ لم يبلغهم ،
كما حكموا بصحّة المخابرة بدليل عموم إحلال البيع ، حتّى روى رافع بن خديج النّهي عنه.
الثاني : أنّه بعد
طول الخوض لا يحصل اليقين ، بل إن سلّم أنّه لا يشذّ المخصّص عن جميع العلماء ،
ومن أين عرف أنّه بلغه كلام جميعهم؟ فلعلّ منهم من تنبّه لدليل ، ولم يكتبه في
تصنيف ، ولا نقل عنه.
والثاني كالأوّل ، فإنّه لو اجتمعت الأمّة على شيء أمكن القطع بأن
لا دليل يخالفه ، إذ يستحيل إجماعهم على الخطأ ، أمّا في مسألة الخلاف كيف يتصور
ذلك؟
وفيه نظر ، فإنّه
لم يحجر على أحد بل ادّعى أنّ العموم إذا لم يعلم انتفاء
__________________
المخصّص لا يجوز
التمسّك به ، والصحابة عارفون بالأحكام ، لقرب عهدهم بالرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فقلّ أن يخفى عنهم بعد البحث اليسير ، بخلاف غيرهم ،
لتطاول الأزمنة المقتضي لاندراس الأقوال وأدلّتها ، والعلماء المشهورون قلّ أن
يخفى كلامهم ، والمعتبر إنّما هو قول من بلغ رتبة الاجتهاد ، وقلّ خفاء مثله ، ومع
ذلك فالوجه ما قلناه من الاكتفاء بالظّنّ.
[المسألة] الثانية : ظنّ قوم أنّ قوله
تعالى : (وَافْعَلُوا
الْخَيْرَ)
من العامّ ، وتمسّكوا به على
إيجاب الوتر ، وإخراج ما دلّ على عدم وجوبه عنه لا يمنع التمسّك به ، وقد بيّنا
أنّ المفرد المحلّى باللّام لا يقتضي العموم ، نعم أنّ قوله تعالى : (مَا اسْتَطَعْتُمْ) قرينة تدلّ على حثّ فعل كلّ ما صدق عليه اسم الخير ، أمّا
لفظ الخير فلا.
وقال الغزاليّ :
إنّه مجمل .
وليس بمعتمد.
الثالثة : قوله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)
للعموم ، فيجوز التمسّك
به في منع قتل المسلم بالذّميّ ، لأنّه يفيد نفي السّلطنة ، إلّا ما دلّ [عليه]
الدليل من الدّية ، والضمان ، والسرقة ، وطلب الثمن ، وغيره.
__________________
والأصل فيه : أنّه
نكرة في معرض النفي ، وقد بيّنا أنّها للعموم.
وقال الغزالي :
إنّه مجمل.
وليس بجيّد ، وكذا
قال في نفي الاستواء : إنّه مجمل.
الرابعة : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
: «فيما سقت السماء العشر»
من قبيل العامّ إلّا ما خصّه
الدليل ، لما تقدّم من أنّ «ما» للعموم.
وقال قوم : لا
يجوز أن يتمسّك بعمومه ، لأنّ المقصود ذكر الفصل بين العشر ونصف العشر ، وهو غلط ،
لعدم التنافي.
الخامسة : قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ)
ليس عامّا ولا مجملا ، وتردّد الشافعي
في كونه مجملا أو عامّا ، من حيث إنّ الألف واللام احتمل أن تكون فيه للتعريف ،
ومعناه : أحلّ الله البيع الّذي عرّف الشرع شرطه.
السادسة : قال الغزّالي : اسم المفرد
يفيد العموم في مواضع ثلاثة :
الأوّل : ان يحلّى
بلام التعريف مثل «لا تبيعوا البرّ بالبرّ».
الثاني : دخول
النّفي عليه مثل : «ما رأيت رجلا» فإنّ النفي لا خصوص فيه ، بل هو مطلق ، فإذا
أضيف إلى منكّر مبهم لم يتخصّص ، بخلاف : «رأيت
__________________
رجلا» فإنّه إثبات
، والإثبات يتخصّص في الوجود ، فإذا أخبر عنه لم يتصوّر عمومه ، فإذا أضيف إلى
مفرد اختصّ به.
الثالث : أن يضاف
إليه أمر أو مصدر ، والفعل بعد غير واقع ، بل منتظر ، مثل : «أعتق رقبة» أو «فتحرير
رقبة» فإنّه تمثيل بعتق أيّ رقبة كانت ، والاسم متناول لها ، فنزّل منزلة العموم ،
بخلاف : «أعتقت رقبة» فإنّه إخبار عن فعل ماض دخل في الوجود ، ولا يدخل إلّا فعل
خاصّ .
أمّا الأوّل ، فقد
تقدّم أنّه ليس للعموم.
وأمّا الثاني ،
فقد بيّنا أنّه للعموم.
وأمّا الثالث ،
فإنّه مطلق لا عامّ.
* * *
__________________
الباب الرّابع :
في المطلق والمقيّد
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في ماهيّتهما
وقد عرفت فيما سبق
أنّ المطلق هو اللّفظ الدالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، لا يفيد العموم ، ولا
الخصوص ، ولا يفيد الوحدة والكثرة بل نفس الماهيّة ونريد به هنا أعمّ من ذلك ، وهو هذا
والنكرة المثبتة ، إمّا في معرض الأمر مثل : «أعتق رقبة» أو مصدر الأمر مثل : «فتحرير
رقبة» أو الإخبار عن المستقبل مثل : «سأعتق رقبة» ولا يتصوّر المطلق في معرض الخبر
عن الماضي مثل : «ضربت رجلا» ضرورة تعيّنه باعتبار إسناد الضرب إليه.
ورسم : «بأنّه
اللّفظ الدالّ على مدلول شائع في جنسه».
__________________
فاللفظ كالجنس
للمطلق وغيره ، وخرج بالدّال المهمل ، وقولنا : «على مدلول» ليعمّ الوجود والعدم ،
وخرج بالشائع في جنسه ، أسماء الأعلام والمعارف ، والعمومات ، لاستغراقها.
وفي إخراجها به
نظر ، فالأولى زيادة «على البدل».
وأمّا المقيّد ،
فيقال لمعينين :
الأوّل : ما كان
من الألفاظ دالّا على معنى ، كزيد ، وهذا الرّجل.
الثاني : ما كان
من الألفاظ دالّا على وصف مدلوله المطلق بصفة زائدة كقولنا : «ثوب مصريّ» وهذا وإن
كان مطلقا في جنسه من حيث هو ثوب مصريّ ، إلّا أنّه مقيّد بالنّسبة إلى مطلق الثوب
، فهو مطلق ومقيّد باعتبارين.
ورسم : بأنّه ما
أخرج من شياع بوجه ، ك «رقبة مؤمنة».
__________________
المبحث الثاني :
في حكم الجمع بينهما
كلّما تقدّم في
باب تخصيص العموم من المتّفق عليه ، والمختلف فيه ، والمزيّف ، والمختار ، فإنّه
جار في تقييد المطلق ، وإذا تعقّب التقييد جملة واحدة ، فلا خلاف في أنّه يغيّر
حكمها من الإطلاق إلى التقييد.
ففي هاهنا البحث
عن حكم الجمع بينهما ، فنقول : المطلق والمقيّد إذا وردا فإمّا أن يكون حكم أحدهما
مخالفا لحكم الآخر ، كقوله : (آتُوا الزَّكاةَ) وأعتقوا رقبة مؤمنة ، أو أطعم طعاما من أطعمة العراق ،
واكس ثوبا ، وهذا لا خلاف في أنّه لا يحمل المطلق هنا على المقيّد ، ولا يتقيّد
الثوب بقيد العراق ، لإمكان الجمع بينهما من غير تناف.
ولعدم تعلّق
أحدهما بالآخر ، إلّا في صورة واحدة ، وهي في مثل : أعتق رقبة ، في كفّارة الظهار
، ثمّ يقول : لا تملك رقبة كافرة ، فإنّه يقتضي تقييد الرقبة بعدم الكفر ، لكنّ
القيد هنا في المطلق ضدّ القيد في المقيّد ، لامتناع الجمع بينهما.
وإمّا أن لا يكون
مخالفا ، فإمّا أن يتّحد السّبب ، أو يتكثّر ، إمّا مع التماثل ، أو لا ، وعلى كلّ
تقدير ، فالخطاب الوارد إمّا أمر ، أو نهي ، فالأقسام ستّة :
الأوّل : أن يتّحد
السبب في الأمر ، كقوله في الظهار : أعتق رقبة ، ثمّ يقول فيه : أعتق رقبة مؤمنة ،
فهاهنا تجب رقبتان بظاهر الأمرين إن كان الأمر المتكرّر يفيد تكرار المأمور ، وإن
علم اتّحاد العتق في الموضعين وعدم تكرّره ، وجب تقييده بالإيمان ، ويحمل المطلق
على المقيّد إجماعا بيانا لا نسخا ، لأنّ المطلق جزء من المقيّد والآتي بالكلّ آت
بالجزء لا محالة ، فالآتي بالمقيّد يكون عاملا بالدليلين ، والآتي بالمطلق يكون
مهملا لأحدهما.
والعمل بالدّليلين
أولى من إهمال أحدهما ، مع إمكان العمل به.
لا يقال : نمنع من
كون المطلق جزءا من المقيّد ، فإنّهما ضدّان ، فلا يجتمعان.
سلّمنا ، لكنّ حكم
المطلق عند عدم التّقييد يمكّن المكلّف من الإتيان بأيّ فرد شاء من أفراد تلك
الحقيقة ، وخروج عهدة المكلّف بالإتيان بأيّ فرد ، والتقييد يمنع من ذلك ، فيضاد
حكماهما ، وزالت المكنة ، فليس تقييد المطلق بالمقيّد أولى من حمل المقيّد على
المندوب ، والمطلق على أصله.
لأنّا نقول :
المطلق هو الحقيقة ، والمقيّد هي مع قيد زائد ، فالحقيقة أحد جزئي المقيّد.
ويمنع التّضادّ
بين الإطلاق والتقييد ، فإنّ الإطلاق كون اللّفظ دالّا على الحقيقة من حيث هي هي
مع حذف القيود الإيجابيّة والسلبيّة ، وهو لا ينافي التقييد حينئذ.
ولا نريد بالإطلاق
دلالة اللّفظ على الحقيقة من حيث هي عارية عن القيود.
فالأوّل هو أخذ
الحقيقة لا بشرط شيء والثاني أخذها بشرط لا شيء ، وبينهما فرق.
ولأنّ شرط الخلوّ
عن كلّ القيود غير معقول ، لأنّ الخلوّ قيد ، ودلالة المطلق على التمكّن من أيّ
فرد ليست لفظيّة وضعيّة ، ودلالة المقيّد على وصف التقييد وضعيّة من حيث اللّغة ،
فهو أولى بالرّعاية.
وفيه نظر ، فإنّ
حمله على الندب لا يقتضي ضعف دلالته على معناه ، ولا إهمال شيء منها ، أقصى ما في
الباب ، أنّه حمل الأمر فيه على الندب ، إمّا على سبيل المجاز أو لا على الخلاف ، ودلالة
المقيّد على التقييد لا يتعيّن في حالتي الحمل على الوجوب أو الندب.
بل الوجه في
الجواب أن يقال : حمله على الوجوب يقتضي يقين البراءة والخروج عن العهدة بيقين ،
بخلاف حمله على الندب ، فإنّ يقين البراءة لا تحصل ، بل ولا ظنّها ، لقوّة كون
الأمر للوجوب أو للاشتراك اللفظيّ ، ومعها لا براءة يقينيّة.
أو يقال : حمل
المطلق على المقيّد لا يخرجه عن حقيقته إلى مجازه قطعا ، بل يكون العامل برقبة
مؤمنة موفيا للعمل باللّفظ المطلق في حقيقته ، ولهذا لو أنّه أدّاه قبل
ورود التقييد ، لكان قد عمل باللّفظ في حقيقته ، بخلاف تأويل المقيّد وصرفه عن
حقيقته إلى مجازه ، ولا شكّ في أولويّة استعمال اللّفظ في حقيقته من مجازه.
__________________
ولأنّ الإطلاق
يجري مجرى العامّ ، والتّقييد يجري مجرى الخاصّ ، والخاصّ مقدّم.
على أنّ هذا الحمل
ممتنع لو صرّح في المقيّد بالوجوب.
وقيل : إن تأخّر
المقيّد عن المطلق كان نسخا.
وليس بجيّد ،
وإلّا لكان التخصيص نسخا ، ولكان تأخّر المطلق نسخا.
احتجوا : بأنّه لو
كان تقييدا ، لكان المراد باللّفظ المطلق إنّما هو المقيّد ، فيكون المراد من لفظ
الرّقبة إنّما هو المؤمنة ، لأنّ المعنيّ بكونه بيانا كونه مبيّنا لمراد المتكلّم
، لكنّ دلالة الرّقبة على المؤمنة ، إنّما هو بالمجاز ، لأنّ المطلق لم يوضع
للمقيّد ، وإذا كان مجازا ، والأصل عدمه ، كان نسخا لا تقييدا.
والجواب : أنّه آت
فيما إذا تقدّم المقيّد على المطلق ، مع أنّكم تحملون المطلق على المقيّد.
وينتقض بتقييد الرقبة في الظهار بالسّلامة عن العيوب ، لأنّ
الرقبة مطلقة فدلالتها على السليمة مجاز.
والتحقيق : أنّ
المطلق دالّ على عتق أيّ رقبة كانت ، فيكون المرجع بالتّقييد إلى التّخصيص.
الثاني : أن
يتّحدا في السبب في النهي أو النّفي ، مثل أن يقول في
__________________
كفّارة الظّهار :
لا تعتق مكاتبا ، ثمّ يقول فيه : لا تعتق مكاتبا كافرا ، ولا خلاف في العمل بهما ،
والجمع بينهما في النهي ، لإمكانه فيجري المطلق على إطلاقه في المنع من عتق
المكاتب في الظهار أصلا على التأبيد ، لأنّ النّهي يفيده ولا يخصّه النّهي المقيّد بالكفر ، لأنّه بعض ما دخل تحته ، والعموم
لا يخصّص بذكر بعضه.
فإن علمنا بدليل
خارجيّ انّ المنهيّ عنه بأحد النّهيين ، هو المنهيّ عنه بالآخر ، من غير فرق
بينهما في عموم ولا خصوص ، وجب أن يقيّد المطلق بالكفر ، فيصير التّكليف في
الموضعين النّهي عن التكفير بالكافرة.
الثالث : أن يتّحد
الحكم ويختلف السّبب ، كإطلاق الرّقبة في كفّارة الظهار ، وتقييدها في القتل
بالإيمان.
وللناس فيه ثلاثة
مذاهب ، طرفان وواسطة.
الأوّل : قال بعض
الشافعية : تقييد أحدهما يقتضي تقييد الآخر لفظا ، لأنّ الشافعي ينزّل المطلق على
المقيّد ، فناوله بعضهم بالحمل على التقييد مطلقا ، من غير حاجة إلى دليل
آخر.
ومنهم من حمله على
ما إذا وجد بينهما علّة جامعة مقتضية للإلحاق.
الثاني : قول
جماعة الحنفيّة : إنّه لا يجوز تقييد المطلق بطريق ما البتّة.
__________________
الثالث : قول أكثر
المحقّقين كأبي الحسين ، والسيد المرتضى ، وغيرهما : إنّه يجوز تقييد المطلق بالمقيّد على تقدير
تسويغ القياس مع وجود شرائطه ، لا أنّه يجب التقييد بالقياس مطلقا.
والأوّل باطل ،
فإنّه لو قال : «أوجبت في كفّارة القتل رقبة مؤمنة ، وأوجبت في الظّهار أيّ رقبة
كانت» لم يكن أحد الكلامين مناقضا للآخر ، فليس تقييد أحدهما مقتضيا تقييد الآخر .
وفيه نظر ، فانّ «أعتق
أيّ رقبة شئت» سيق في التخيير ، بخلاف «أعتق رقبة» فلا يجوز حمل الثاني على الأوّل
نعم أعتق رقبة ، كما يجامع التقييد ، فكذا التخيير بين أيّ فرد ، ولا دلالة للعامّ
على الخاصّ.
ولأنّ ظاهر المطلق
يقتضي إجراء الحكم على إطلاقه ، فلو خصّ بالمقيّد ، لوجب أن يكون بينهما ربط يوجب
تقييد أحدهما بما قيّد به الآخر ، وإلّا لم يكن تقييده به أولى من عدم تقييده.
والربط إمّا من
حيث اللّفظ أو الحكم.
أمّا اللفظ ، فبأن
يكون بين الكلامين تعلّق بحرف عطف أو إضمار ، وهو منتف هنا.
__________________
وأمّا الحكم ،
فبأن يتّفق الحكمان في علّة التقييد بالصّفة ، وهو تقييد بالقياس ، وليس هو
المتنازع ، أو بأن يمتنع في التقييد أن يكون الحكم مقيّدا في كفّارة وغير مقيّد في
أخرى ، وهذا غير ممتنع لأنّه كما يجوز أن تكون المصلحة فيهما التقييد ، جاز أن
تكون المصلحة فيهما أن يختلفا في التقيد.
فلو جاز مع فقد
الوصلة والربط أن يقيّد أحدهما بما يقيّد به الآخر ، جاز أن يثبت لأحدهما بدل ،
لأنّ للآخر بدلا ، أو يخصّ أحد العمومين ، لأنّ الآخر مخصوص ، هذا دليل أبي الحسين
.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع الأولويّة لو انتفى الربط ، فإنّها ثابتة ، إذ التقييد بالإيمان يدلّ على
أولويّته ورجحانه ، فيجب التقييد به ، طلبا للمصلحة الراجحة ، والحصر ممنوع.
احتجوا بوجوه :
الأوّل : القرآن
كالكلمة الواحدة ، وإذا ثبت التقييد في أحد الحكمين ، ثبت في الآخر ، وإلّا لزم
الاختلاف المنافي للوحدة.
الثاني : الشهادة
لمّا قيّدت بالعدالة مرّة واحدة ، وأطلقت في سائر الصّور ، حمل المطلق على المقيّد
، فكذا هنا.
الثالث : قوله
تعالى : (وَالذَّاكِراتِ) حمل على قوله [في أوّل الآية :] : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً) من غير دليل خارج.
__________________
والجواب عن الأوّل
: ان عنيت بوحدة القرآن عدم تناقضه ، فهو مسلّم ، لكن لا تناقض هنا.
وإن عنيت اتّحاده
في كلّ الأشياء فهو باطل بالضرورة ، فإنّ فيه العامّ ، والخاصّ ، والمجمل ،
والمبيّن ، والظاهر ، والمأوّل ، والأمر ، والنهي ، وغير ذلك ، فلم لا يكون فيه
الإطلاق والتقييد؟
على أنّهم سلّموا
ثبوته في غير الأحكام المتماثلة.
وعن الثاني :
التقييد في الشهادة في كلّ حكم بالإجماع ، لا من كونها مقيّدة في أحد الحكمين.
وعن الثالث : أنّ
التقييد لدليل اقتضاء العطف التسوية ، لعدم استقلال المعطوف بالدلالة ، فوجب ردّه
إلى ما هو معطوف عليه ، ومشارك له في حكمه.
ولأنّ الفرق حصول
الرّبط هنا بالعطف ، بخلاف صورة النزاع.
وأمّا الحنفيّة ،
فإنّهم اختلفوا ، فقال بعضهم : سبب المنع من التقييد بالإيمان ، أنّ قوله : أعتق
رقبة ، يقتضي تمكّن المكلّف من إعتاق أيّ رقبة شاء من رقاب الدّنيا ، فلو دلّ
القياس على أنّه لا يجوز إلّا المؤمنة ، لكان القياس دليلا على زوال تلك المكنة
الثابتة بالنّصّ ، فيكون القياس ناسخا ، وأنّه غير جائز.
ولأنّ تقييده
بالإيمان زيادة على النصّ ، والزيادة على النصّ نسخ ، والنسخ لا يجوز بالقياس.
وقال آخرون : إنّ
تقييده بالإيمان زيادة على حكم قد قصد استيفاؤه.
وقال آخرون : إنّ
تخصيصه وتقييده بالإيمان ، هو مخصّص لحكم قد قصد استيفاؤه.
والجواب عن الأوّل
: نمنع تحقّق النسخ ، فإنّه رفع حكم ثبت بخطاب سابق ، وليس ذلك ثابتا هنا ، بل هو
تقييد لمطلق ، وهو لا يزيد على تخصيص العامّ ، وعندكم يجوز التخصيص بالقياس ، فكذا
التقييد ، فينتقض كلامكم.
وأيضا ، انّكم
اعتبرتم سلامة الرقبة من كثير من العيوب ، فإن كان اشتراط الإيمان نسخا ، كان نفي
تلك العيوب نسخا.
وعن الثاني : بالمنع من الاستيفاء بدون القيد لأنّ الخصم يقول : قيام
الدلالة على صحّة علّة القياس يدلّ على أنّه تعالى لم يستوف حكم المطلق بهذا
الكلام كما في العموم.
ولأنّ تقييد
المطلق بالقياس إمّا لأنّ المطلق لا يتأتّى فيه التخصيص ، كما لا يتأتّى في العين
الواحدة ، وهو باطل ، فإنّ المطلق يشتمل على جميع الصفات والأحوال ، أو لأنّ
القياس غير دليل ، أو هو دليل لكن لا يخصّ به العامّ ، ونحن إنّما بحثنا على تقديره
، وباقي الأقسام ظاهر ممّا تقدّم.
__________________
المبحث الثالث :
في الجمع بين المطلق والمقيد
إذا أطلق الحكم في
موضع ، وقيّد مثله في موضعين بقيدين متضادّين ، كقضاء رمضان ، ورد مطلقا في قوله
تعالى (فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) وقيّد صوم التمتّع بالتفريق في قوله تعالى : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ
أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ) وقيّد صوم كفّارة الظّهار بالتتابع في قوله تعالى : (فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ).
فالحنفيّة ، منعوا
من التقييد هنا ، لأنّه مع القيد الواحد باق على إطلاقه ، فمع المقيّد بالضّدّين
أولى بالبقاء.
وأمّا القائلون
بأنّ المطلق يتقيّد بالمقيّد لفظا ، فإنّه منع هنا من ذلك ، لأنّه ليس تقييده
بأحدهما أولى من تقييده بالآخر.
وأمّا من حمل المطلق
على المقيّد بقياس ، فإنّه يحمله هنا على أحدهما إن كان القياس عليه أولى من الآخر
، وإلّا بقى على إطلاقه.
* * *
__________________
المقصد السادس : في باقي صفات الدلالة
وفيه أبواب :
[الباب] الأوّل :
في المجمل والمبيّن
وفيه فصول :
[الفصل] الأوّل :
في المجمل
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في الماهيّة
قد عرفت فيما
تقدّم انّ اللفظ إن لم يحتمل غير ما أريد به كان نصّا ، فإن احتمل ، فإن تساويا ،
فالمجمل بالنسبة إلى كلّ منهما ، وإن ترجّح أحدهما ، فالرّاجح ظاهر ، والمرجوح
مأوّل.
أمّا النصّ ، فهو
كلّ كلام تظهر إفادته لمعناه ، ولا يتناول أكثر منه ، هذا ما ذكره فخر الدين
الرازي واحترز بالكلام عن أدلّة العقل والأفعال ، الّتي لا تسمّى
نصوصا ، وعن المجمل مع البيان ، فإنّه لا يسمّى نصّا ، لأنّ قولنا : نصّ ، عبارة
عن خطاب واحد دون ما يقترن به.
ولأنّ البيان قد
يكون غير القول ، والنصّ لا يكون إلّا قولا.
واحترزنا بقولنا :
تظهر إفادته لمعناه ، عن المجمل.
لا يقال : إنّه قد
يقال : نصّ الله تعالى على وجوب الصلاة وإن كان قوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) مجملا.
لأنّا نقول : إنّه
نصّ في إفادة الوجوب ، وليس بمجمل فيه ، بل في متعلّقه.
واحترزنا بقولنا :
لا يتناول أكثر منه ، لأنّ الرّجل إذا قال لغيره : اضرب عبيدي ، لم يقل أحد إنّه
نصّ على ضرب سالم من عبيده ، لأنّه لا يفيده على التّعيين ، ويقال : إنّه نصّ على
ضرب جملة عبيده ، لأنّه لا يفيد سواهم.
وفيه نظر ، لأنّ
إدخال لفظي الكلّ والبعض في الحدّ غلط.
ولأنّه يدخل فيه
الظاهر ، وهو قسيم له.
والاعتذار بإخراج
المجمل مع البيان ، بأنّ النصّ كلام واحد غير مفيد لانتقاض الحدّ بصدقه على ما لا
يصدق المحدود عليه.
__________________
وقوله : «لا
يتناول أكثر منه» لا يقع احترازا عن ضرب سالم من عبيده ، لأنّه بعض المعنى.
وقال الشافعي :
النّصّ خطاب يعلم ما أريد به من الحكم ، سواء كان مستقلّا بنفسه، أو علم المراد
بغيره ، وكان يسمّي المجمل نصّا.
وهو خلاف المتعارف
من الفرق بينهما ، ومع ذلك فإنّه ليس بجيّد ، لأنّ الحكم عنده هو خطابه تعالى
المتعلّق بأفعال المكلّفين ، ويصير الحدّ : النّصّ خطاب يعلم ما أريد به من خطاب
الله تعالى المتعلّق بأفعال المكلّفين بالاقتضاء أو التخيير.
وفيه تخصيص للنصّ
بما يستفاد منه خطاب الله تعالى خاصّة ، وتخصيص بما يتعلّق بأفعال المكلّفين.
وقال قاضي القضاة
: النّصّ هو خطاب يمكن أن يعرف به المراد .
ويدخل فيه المجمل
والظاهر.
وقال أبو الحسين :
يجب أن يشترط النصّ على ثلاث شرائط :
أن يكون كلاما.
وأن لا يتناول
إلّا ما هو نصّ فيه ، وإن كان نصّا فى أشياء كثيرة وجب أن لا يتناول سواها.
__________________
وأن تكون إفادته
لما يفيده ظاهرة غير مجملة.
أمّا كونه عبارة ،
فلأنّ أدلّة العقول والأفعال لا تسمّى نصوصا.
وأمّا ظهور
الدلالة ، فلأنّ المفهوم من قولنا : إنّ العبارة نصّ في هذا الحكم ، إفادتها على
جهة الظهور.
ولأنّ النصّ لغة
مأخوذ من الظهور ، وبهذا يقال : «منصّة العروس» لما ظهرت وارتفعت.
وأمّا اشتراط
افادة ما هو نصّ فيه فقط ، لأنّ الإنسان إذا قال لغيره : «اضرب عبيدي» لم يقل [أحد]
إنّه نصّ على ضرب «زيد» من عبيده ، لما أفاده وأفاد غيره ، ويقال : إنّ كلامه نصّ
في ضرب جملة عبيده ، لما لم يفد سواهم ، فإذا كان كذلك ، وجب أن يحدّ بأنّه كلام
تظهر إفادته لمعناه ، ولا يتناول أكثر ممّا قيل : إنّه نصّ.
وفخر الدين أخذه ،
وأفسد الحدّ بإدخال لفظة كلّ ، وأصلحه بإسقاط لفظة نصّ ، لئلّا يدور.
وأمّا المجمل ،
فهو في اللّغة عبارة عن الجمع ، يقال : «أجمل الحساب» إذا جمعه ، ولهذا يوصف
العموم بأنّه «مجمل» بمعنى أنّ المسمّيات قد أجملت تحته.
وقيل : [هو]
المحصّل ومنه «أجملت الشيء إذا حصّلته».
__________________
وأمّا في الاصطلاح
فقد حدّه بعض الأشاعرة بأنّه اللّفظ الّذي لا يفهم منه عند الإطلاق شيء.
وهو باطل ، فإنّه
ليس بمانع لدخول المهمل فيه ، وليس بمجمل ، لأنّ الإجمال والبيان من صفات الألفاظ
الدالّة ، ولا دلالة في المهمل.
ويدخل فيه قولنا :
مستحيل ، فإنّه لا يفهم منه عند الإطلاق شيء ، وليس بمجمل ، لأنّ مدلوله ليس بشيء.
وليس بجامع ، لأنّ
المجمل المتردّد بين محامل ، يفهم منه انحصار المراد به في أحدها ، وإن لم يكن
معيّنا ، وكذا ما هو مجمل من وجه ، ومبيّن من آخر ، كقوله تعالى : (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ).
لا يقال : المراد
به أنّه الّذي لا يفهم منه شيء عند إطلاقه من جهة ما هو مجمل.
لأنّا نقول : إنّه
تعريف المجمل بالمجمل ، ولا يصحّ تعريف الشيء بنفسه.
ولأنّ الإجمال قد
يكون في دلالة الأفعال ، كما في دلالة الأقوال ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لو قام مصلّيا تردّد بين الوجوب والندب ، فلا يصحّ تقييده
باللّفظ.
وقال الغزالي :
إنّه اللّفظ الصّالح لأحد معنيين ، الّذي لا يتعيّن معناه لا بوضع اللغة ولا بعرف
الاستعمال.
ويبطل بأنّه خصّصه
باللّفظ ، وينتقض بالمطلق.
__________________
وقال السيّد
المرتضى : إنّه الخطاب الّذي لا يستقلّ بنفسه في معرفة المراد به.
وذكر أبو الحسين
له ، ثلاثة حدود :
الأول : أنّه ما
أفاد جملة من الأشياء.
ويدخل فيه العامّ
والمركّبات.
الثاني : ما لا
يمكن معرفة المراد [به].
ويبطل بالمهمل ،
وبالمجاز إذا أريد ، فإنّه لا يفهم المراد منه .
وفيه نظر ،
لاحتمال أن يريد ما لا يمكن معرفة المعنى الّذي أريد باللّفظ ، فيخرج المهمل ،
والمجاز المراد مجمل.
الثالث : ما أفاد
شيئا من جملة أشياء هو متعيّن في نفسه ، واللّفظ لا يعيّنه ، ولا يلزم «اضرب رجلا»
لإفادته «ضرب رجل» وليس بمتعيّن في نفسه ، بل أيّ رجل ضربته جاز ، بخلاف اسم القرء
، فإنّه يفيد الطّهر وحده ، أو الحيض وحده ، واللّفظ لا يعيّنه.
وقوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) يفيد وجوب فعل متعيّن في نفسه ، غير شائع .
__________________
وهو يشعر بتقييد
الحدّ باللّفظ حيث قال : «واللفظ لا يعيّنه» فلا يكون جامعا ، لخروج الإجمال في
دلالة الفعل.
وقيل : المجمل ما لم تتّضح دلالته.
وينتقض بالمجاز ،
ويمنع عدم دخوله.
وقيل : ما له
دلالة على أحد أمرين ، لا مزيّة لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه ، ولا يمكن حمله
على المراد منه إلّا بدليل من خارج.
فقولنا : «ما له
دلالة» يعمّ القول والفعل وغيرهما من الأدلّة المجملة.
وقولنا : «على أحد
أمرين» ليخرج ما له دلالة على واحد لا غير.
وقولنا : «لا مزية
لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه» احتراز عن اللّفظ الّذي هو ظاهر في معنى وبعيد عن
غيره كالحقيقة والمجاز ، والقيد الآخر احتراز عن المطلق.
المبحث الثاني :
في أقسام المجمل
الدليل الشرعيّ
إمّا أن يكون أصلا ، أو مستنبطا منه.
والأوّل ، إمّا أن
يكون لفظا ، أو فعلا.
فاللفظ إمّا أن
يكون مجملا ، أو لا.
والمجمل ، إمّا أن
يحكم عليه بالإجمال ، حال كونه مستعملا في
__________________
موضوعه ، أو حال
كونه مستعملا في بعض موضوعه ، أو حال كونه مستعملا لا في موضوعه ، ولا في بعض
موضوعه.
فالأوّل أن يكون
اللّفظ محتملا لمعان كثيرة ، فلا يكون حمله على البعض أولى.
فإن كان وضعه لتلك
المعاني بحسب معنى واحد مشترك فيه ، فهو المتواطئ كقوله : (وَآتُوا حَقَّهُ) أو لا بحسب معنى واحد ، وهو المشترك كالقرء.
والثاني ، وهو أن
يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا في بعض موضوعه ، فهو كالعامّ المخصوص بصفة
مجملة ، كقوله تعالى : (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما
وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ) فلو لا قيد الإحصان لم يحتج إلى بيان ، فبالقيد صار مجملا
، لعدم العلم بالإحصان ، فلم ندر ما أبيح لنا.
أو باستثناء ،
كقوله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمْ
بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ).
أو بدليل منفصل
مجهول ، كما لو قال صلىاللهعليهوآلهوسلم في قوله تعالى (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) : المراد بعضهم.
والثالث : وهو أن
يحكم عليه بالإجمال حال كونه مستعملا ، لا في موضوعه ، ولا في بعضه ، فهو الأسماء
الشرعيّة وغيرها.
__________________
فالأوّل : كأمره
بالصّلاة ، ولم نعلم انتقال الأسماء إلى هذه فإنّا نفتقر إلى البيان.
والثّاني : أن
يدلّ الاسم على عدم إرادة الحقيقة ، والمجازات متعدّدة ، ولا أولويّة لإرادة
أحدهما ، فيفتقر إلى البيان.
وأمّا الفعل فإنّ
مجرّد وقوعه لا يدلّ على وجه وقوعه إلّا أن يقترن به ما يدلّ على الوجه ، فيستغنى
عن البيان ، كما لو قام إلى صلاة بأذان وإقامة ، فإنّا نعلم وجوبها ، وكما إذا
داوم على الإتيان بالسجودين ، فإنّا نعلم أنّه من أفعال الصلاة.
وأمّا إذا لم
يقترن به قرينة تدلّ على الوجه ، فلا بدّ من البيان.
وأمّا المستنبط ،
فهو القياس ، ولا إجمال فيه حتّى يحتاج إلى بيان.
وأمّا غير المجمل
، فهو المبيّن ، فإن اكتفى بنفسه وصريحه في معرفة المراد ، فلا يحتاج إلى بيان ،
إذ لو احتاج لناقض قولنا : إنّه يكفي بنفسه ، نحو قوله [تعالى] : (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
وإن لم يكف بنفسه
، فإمّا أن لا يختلّ بيانه على السّامع أو يختلّ.
والأوّل إمّا أن
يكون بيانه بالتعليل أو لا ، والأوّل إمّا بطريق الأولى ، كتحريم التأفيف في
دلالته على المنع من الضرب ، لأنّه تقرّر في العقل أنّ من منع من شيء لغرض فإنّه
يمنع ممّا ساواه فيه أو زاد عليه في معنى ذلك
__________________
الغرض ، فاللّفظ
يدلّ عليه ، وإن لم يكن موضوعا له.
أو لا بطريق
الأولى كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم في الهرّة : «إنّها ليست بنجسة ، إنّها من الطوّافين عليكم
والطّوّافات» فيعلم بذلك العلّة في الطهارة ، ومشاركة غيرها ، لأنّ
العلّة يتبعها حكمها.
وأمّا البيان
الّذي لا يختلّ وليس بتعليل فضربان :
الأوّل : أن يكون
الخطاب أمرا بشيء ، فيعلم وجوب ما لا يتمّ إلّا به ، وإلّا كان إيجابا ، لما لا
يطاق.
الثاني : أن يظهر
في العقل كون ظاهر الخطاب غير مراد ، ويعلم بالعادة أنّه مستعمل في وجه من وجوه
المجاز ، فيعلم أنّه المراد نحو : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
وأمّا الّذي يختلّ
على السامع بيانه ، فقد تقدّم في أقسام المجمل.
واعلم أنّ الإجمال
قد يكون في لفظ مفرد إمّا بالأصالة ، كالمشترك عند القائلين بامتناع تعميمه ، وذلك
إمّا بين مختلفين ، كالعين ، أو نقيضين كالقرء ، للطّهر والحيض ، أو ضدّين ،
كالجون للأسود والأبيض ، وكالمجازات المتعدّدة بعد تعذّر الحقيقة ، أو بالإعلال ،
كالمختار للفاعل والمفعول.
__________________
وقد يكون في مركّب
، كقوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) فإنّ جميع هذه الألفاظ متردّدة بين الزّوج والوليّ.
وقد يكون بسبب
التردّد في عود الضمير إلى ما تقدّم كقولنا : كلّ ما علمه الفقيه فهو كما علمه»
فإنّ الضمير متردّد بين العود إلى الفقيه وإلى معلومه ، ويختلف المعنى باعتبار
ذلك.
وقد يكون بسبب
تردّد اللّفظ بين جمع الأجزاء وجمع الصفات ، كقولنا : «الخمسة زوج وفرد» فيصدق على
تقدير جمع الأجزاء ويكذب على تقدير جمع الصفات.
وقد يكون بسبب
الوقف والابتداء ، كقوله تعالى : (وَالرَّاسِخُونَ فِي
الْعِلْمِ) فالواو متردّدة بين العطف والابتداء ، وهو داخل تحت
المشترك.
وقد يكون بسبب
تركيب المفصل كطبيب ماهر في الخياطة ، فإذا قيل : طبيب ماهر ، احتمل فيه وفي غيره.
وليس بجيّد ،
فإنّه لا إجمال هنا ، لظهور رجوعه إلى المذكور.
__________________
المبحث الثالث :
في إمكان ورود المجمل في كلامه تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم
اتّفق المحقّقون
عليه ، لأنّه قد وقع كما في الآيات المتقدّمة والأحاديث المشهورة ، والوقوع دليل
الجواز.
احتجّ المانعون :
بأنّ الكلام إن لم يقصد به الإفهام كان عبثا ، وهو غير لائق من الحكيم ، وإن قصد
به الإفهام ، فإن قرن بالمجمل ما يبيّنه ، كان تطويلا من غير فائدة ، لأنّ التنصيص
عليه أسهل وأدخل في الفصاحة من ذكر المجمل ، ثمّ يعقّبه ببيان.
ولاشتماله على
المفسدة ، إذ يجوز أن يسمع المكلّف المجمل ولا يسمع بيانه ، فيختلّ المقصود به.
وإن لم يقترن به
ما يدلّ عليه ، كان تكليفا بما لا يطاق ، لأنّ إرادة الإفهام مع عدم لفظ يدلّ عليه
ولا قرينة تكليف بالمحال.
والجواب : إن أردت
بعدم الإفهام من كلّ وجه ، فهو مسلّم ، وإن أردت من بعض الوجوه منعنا كونه عبثا ،
فإنّه يجوز أن يخاطب بالمجمل ، ليعلم المكلّف أنّه قد كلّف بشيء فيشتغل للامتثال
أو المنع ، فيحصل له ثواب أو عقاب.
ويمنع عدم الفائدة
لو قرن به ما يبيّنه ، لجواز اشتمال ذكر المجمل ثمّ إردافه بالبيان على مصلحة لا
يطّلع عليها البشر ، ومع هذا التجويز ينتفي القطع.
المبحث الرابع :
في أنّ إضافة الأحكام إلى الأعيان ليس مجملا
ذهب المحقّقون من
الأشاعرة والمعتزلة إلى أنّ إضافة الحكم إلى العين كقوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) لا إجمال فيه.
وقال أبو عبد الله
البصري وأبو الحسن الكرخي وقوم من القدريّة : إنّه مجمل.
لنا : أنّه يسبق
إلى الفهم بحسب العرف إضافة الحكم إلى الفعل المتعلّق بتلك العين المناسب له ،
فيفهم من قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) تحريم الاستمتاع ، ومن قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) تحريم الأكل ، كما يقال : «حرّمت عليك طعامي».
ويفهم من قوله : «هذا
طعام حرام» تحريم أكله ، ومن تحريم الثوب تحريم لبسه ، دون النظر واللمس ،
والمبادرة دليل الحقيقة وإن كان مجازا من حيث الوضع اللّغوي إلّا أنّه حقيقة من
حيث العرف ، كما يفهم الخيل عند إطلاق اسم الدابّة من حيث العرف ، ولا إجمال هنا.
__________________
وأيضا ، قال صلىاللهعليهوآلهوسلم «لعن الله اليهود
حرّمت عليهم الشحوم فجمّلوها فباعوها» فدلّ على أنّ تحريم الشّحوم أفاد تحريم كلّ أنواع التصرّف
وإلّا لم يتوجّه الذّم عليهم بالبيع.
وأيضا ، يفهم من
قولنا : «فلان يملك الدّار» قدرته على التّصرّف فيها بالسّكنى والبيع ، ومن قولنا
: «[فلان] يملك الجارية» قدرته عليها بالتّصرّف بالبيع ، والوطء ، والاستخدام ،
وإذا جاز أن تختلف فائدة الملك على هذا النحو ، جاز مثله في التحليل والتحريم.
احتجّوا : بأنّ
الأعيان غير مقدورة لنا لو كانت معدومة ، فكيف لو كانت موجودة؟ فيستحيل تعلّق
التحليل والتحريم بها ، وإضافتهما إليها ، فلا يمكن إجراء اللّفظ على ظاهره ، بل
المراد : تحريم فعل من الأفعال المتعلّقة بتلك الأعيان ، وذلك الفعل غير مذكور ،
فيجب إضمار ما يكون متعلّقا بذلك الحكم من الأفعال ، حذرا من إهمال الخطاب
بالكليّة.
ولا يجوز إضمار
الجميع ، لأنّ الإضمار على خلاف الأصل ، فيجب أن يتقدّر ما تندفع به الضرورة
تقليلا للإضمار المخالف للأصل.
وليس إضمار البعض
أولى من البعض الآخر ، لعدم دلالة دليل على تعيينه ، فيتحقّق الإجمال.
وأيضا فالآية لو
دلّت على تحريم فعل معيّن ، لوجب أن يتعيّن ذلك الفعل
__________________
في كلّ تلك المواضع
، وليس كذلك ، لأنّ المراد من [قوله تعالى :](حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) حرمة الاستمتاع ومن [قوله :](حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) حرمة الأكل.
والجواب : المنع
من عدم أولويّة إضمار البعض ، فإنّ العرف يقتضي إضافة ذلك التحريم إلى الفعل المطلوب
من تلك العين ونمنع الحاجة إلى الإضمار ، لأنّه إنّما يجب إذا لم يكن اللفظ ظاهرا
بعرف الاستعمال في الفعل المقصود من تلك العين ، أمّا إذا كان ظاهرا فلا.
وبيان الظهور :
أنّ كلّ من مارس ألفاظ العرب واطّلع على عرف أهل اللّغة ، يتبادر إلى فهمه عند
قوله : «حرّمت الطعام والشراب» تحريم الأكل والشرب ، وعند قوله : «حرمت عليك
النّساء» تحريم الوطء.
سلّمنا ، لكن لم لا يجوز إضمار جميع التصرّفات المتعلقة بالعين ،
المضاف إليها التحليل والتحريم؟
قوله : «زيادة
الإضمار على خلاف الأصل» قلنا : إضمار البعض إمّا أن يفضي إلى الإجمال أو لا.
والثاني يبطل
مذهبكم.
والأوّل يوجب
إضمار الجميع ، حذرا من تعطيل دلالة اللّفظ.
__________________
لا يقال : إضمار
البعض وإن أفضى إلى الإجمال ، فليس في ذلك ما يفضي إلى تعطيل دلالة اللّفظ مطلقا ،
لإمكان معرفة تعيين المراد بدليل آخر.
وأمّا محذور إضمار
جميع التصرّفات فلازم مطلقا ، ومعلوم أنّ التزام المحذور الدّائم أعظم من التزام
المحذور الّذي لا يدوم.
لأنّا نقول : بل
إضمار الجميع أولى ، لكثرة استعمال الإضمار في اللّغة ، وقلّة المجمل بالنّسبة
إليه ، ولو لا أنّ المحذور في الإضمار أولى ، لما كان استعماله أكثر.
ولانعقاد الإجماع
على وجود الإضمار في اللّغة والقرآن ، واختلف في الإجمال ، وهو يدلّ على قلّة
محذور الإضمار.
وقال قوم : إنّ
إضافة الحكم إلى العين من قبيل المحذوف ، كقوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أي أهل القرية ، [و] كذا قوله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي أكل بهيمة الأنعام.
وهذا إن أراد به
إلحاقه بالمجمل ، فهو خطأ ، وإن أراد حصول الفهم مع كونه محذوفا ، فهو صحيح ، وإن
أراد به إلحاقه بالمجاز ، فهو مسلم ، كما أنّ الأسماء العرفيّة مجازات لغويّة
حقائق عرفيّة.
__________________
المبحث الخامس : في أنّ قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)
ليس بمجمل
ذهب المحققون إلى
نفي الإجمال هنا.
وقال بعض الحنفية
: إنّه مجمل ، لأنّه يحتمل مسح جميع الرّأس ، ومسح بعضه ، وليس أحدهما أولى من
الآخر ، فكان مجملا.
وما روي أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم مسح بناصيته ، بيان لمجمل الآية.
والحقّ نفيه ،
لأنّ ظاهر «الباء» في اللّغة للإلصاق.
قال قاضي القضاة
قوله تعالى : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) يفيد من حيث اللّغة ، مسح جميع الرأس ، لأنّ «الباء»
المفيدة للإلصاق دخلت على المسح ، وقرنته بالرأس ، وهو اسم للجملة لا لبعض العضو ،
فإنّه لا توصف الناصية بأنّها رأس.
ثمّ قال : لكنّ
العرف يقتضي إلصاق المسح بالرأس فقط ، سواء عمّ المسح الجميع أو البعض ، فإنّ من
قال : «مسحت يدي بالمنديل» عقل منه أنّه ألصق المسح بالمنديل وجوّز السّامع أنّه
مسحه بجميعه وبعضه ، ولو أمره بالمسح بالمنديل خرج عن العهدة بالجميع وبالبعض
أيضا.
__________________
وإذا أفادت هذه
اللفظة في العرف الأمر الكليّ الشامل للجميع والبعض ، حمل عليه المسح في الآية ،
فلا إجمال.
وقال ابن جني : لا فرق في اللّغة بين أن يقال : «مسحت بالرّأس» وبين
«مسحت الرّأس» ، والرأس اسم للعضو بتمامه فوجب مسحه أجمع.
وقال بعض
الشافعيّة : «الباء» للتبعيض ، وهو يفيد مسح بعض الرأس.
والتحقيق أن نقول
: «الباء» إمّا أن يفيد التبعيض أولا ، وعلى كلا التّقديرين لا إجمال.
أمّا إذا أفادت ،
فلأنّ الأمر تناول البعض وهو اختيار الإماميّة والشافعي ، لكنّ المرتضى قال : إنّه
مجمل حينئذ لانتفاء الدالة على التعيين والتخيير .
واعترضه بأنّه لو
كان معيّنا لبيّنه.
وأجاب بأنّه لو
أراد التخيير.
وليس بجيّد ، لأنّ
الإطلاق يقتضي التخيير.
وأمّا إن لم تفد ،
فلأنّ الأمر من حيث اللّغة تناول الجميع ، وهو قول مالك ،
__________________
والقاضي عبد
الجبار ، والحسن البصري ، وأبي علي الجبائيّ.
ثمّ إن قلنا : إنّ
العرف أخرجه عن ذلك إلى الأمر المشترك بين الكلّ والبعض ، حمل عليه ، لصرف اللّفظ
إلى الحقيقة العرفيّة ، وكفى في العمل به مسح أقلّ جزء من الرّأس ، لكنّ المرتضى
قال هنا : إنّه مجمل لعدم العلم بإرادة الجميع أو بعض معيّن أو غير معيّن.
وليس بجيّد ، لأنّ
إرادة الجميع منفيّة بالأصل وإن احتملت ، فلو أراده لبيّنه.
وعلى كلّ تقدير
فلا إجمال ، بل إنّما يتحقّق الإجمال لو قلنا : إنّ «الباء» لا تفيد التبعيض ،
وأنّ اللّفظ لا يحمل على الحقيقة اللغويّة أو العرفيّة إلّا بقرينة ، فيبقى مشتركا
مجملا ، لكنّ الحقّ خلافه.
وفيه نظر ، فإنّ
العرف إنّما اقتضى الأمر الكلّي في الأمر بالمسح بالمنديل لحصول الغرض بالبعض ،
وهو إزالة الرّطوبة من اليد ، بخلاف الأمر بالمسح في الرأس ، لأنّ التعبّد هنا وقع
بالمسح ، لا لما تقدّم من غرض مسح اليد بالمنديل ، إلّا أنّه لا إجمال أيضا ، لأنّ
«الباء» إن لم تفد التبعيض ، وجب مسح الجميع إلّا لدليل خارجيّ ، وإن أفادته كفى
البعض ، فلا إجمال.
__________________
المبحث السّادس :
في أنّ الأفعال المنفيّة ليست مجملة
اختلف النّاس في
الأفعال المنفيّة ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب ، ولا عمل إلّا بنيّة ، ولا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من الليل ، ونحوه.
فذهب الكلّ إلى
نفي الإجمال فيه.
وقال القاضي أبو
بكر ، وأبو عبد الله البصري : إنّه مجمل.
وقسّم أبو الحسين
الفعل الّذي دخل عليه حرف النفي إذا لم يكن على صفة من الصفات إلى قسمين :
أحدهما : أن يكون
انتفاء الفعل متى لم تحصل تلك الصّفة ممكنا ، بأن يكون النّفي داخلا على اسم شرعيّ
، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» لأنّ كلامه صلىاللهعليهوآلهوسلم يحمل على معانيه الشرعيّة ، فظاهره يقتضي نفي الصّلاة
الشرعيّة ، وهو يقتضي كون القراءة شرطا ، ويقتضي أن يكون قولنا : «صلاة
__________________
فاسدة» مجازا ،
أعني وصفنا لها بأنّها صلاة ، ويكون المراد أنّها على صورة الصّلاة.
وكذا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من اللّيل».
الثاني : أن لا
يمكن انتفاء ذلك الفعل ، بأن يكون النفي داخلا على مسمّى حقيقيّ ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الأعمال بالنيّات» فإنّ أعظم متأوّله أن يجري مجرى قوله : «لا عمل إلّا بنيّة»
ومعلوم أنّه ليس يخرج العمل من كونه عملا إذا فقدت النّية ، فعلمنا أنّ المراد به
أحكام الفعل في الإجراء أو الكمال ، وليس بأن يحمل على أحدهما ، أولى
من الآخر ، فيبقى مجملا.
واحتجّ أبو عبد
الله البصري على الإجمال : بأنّ الصّلاة والعمل موجودان ، فلا يمكن صرف النفي
إليهما ، فوجب صرفه إلى حكم آخر ، وليس البعض أولى من البعض.
فإمّا أن يحمل على
الكلّ ، وهو إضمار من غير ضرورة.
ولأنّه قد يفضي
إلى التناقض ، لأنّا لو حملناه على نفي الصحّة ونفي الكمال معا ، وفي نفي الكمال ثبوت
الصحّة ، فيلزم التناقض.
وفيه نظر ، فإنّ
نفي الكمال إنّما يقتضي ثبوت الصحّة لو لم تكن منفيّة
__________________
أيضا ، أمّا مع
نفيها فلا ، كما في تعميم نفي الصفات.
أو لا يحمل على
شيء ، بل يتوقّف ، وهو معنى الإجمال.
والحقّ أنّه لا
إجمال هنا ، أمّا فيما له مسمّى شرعيّ فلإمكان نفيه ، والشرع أخبر عن انتفاء ذلك
المسمّى عند انتفاء الوصف المخصوص.
لا يقال : إنّه قد
يقال : هذه صلاة فاسدة ، فدلّ على أنّ بقاء المسمّى مع الفساد ، والفاسد ليس صلاة
شرعيّة.
لأنّا نقول :
التوفيق بين الدليلين : أن نصرف ذلك إلى المسمّى الشرعيّ ، وهذا إلى المسمّى
اللّغوي .
وليس بجيّد ، إذ
ليس المراد بقولنا : صلاة فاسدة ، أي دعاء فاسد ، ولا غيره من المحامل اللغويّة ،
بل الوجه قول أبي الحسين : إنّه مجاز.
وأمّا ما لا اسم
شرعيّ له ، كقوله : «لا عمل إلّا بنية» فلا إجمال فيه أيضا ، خلافا لأبي الحسين ،
لأنّ الإجمال إنّما يتحقّق لو لم يكن اللفظ ظاهرا بعرف استعمال أهل اللّغة قبل
ورود الشرع في شيء ، وهذا اللّفظ يدلّ ظاهرا على نفي الفائدة ، فإنّ المتبادر إلى
الأفهام من نفي كلّ فعل كان متحقّق الوجود ، إنّما هو نفي فائدته مثل : «لا علم
إلّا ما نفع» و «لا كلام إلّا ما أفاد» و «لا حكم إلّا لله» و «لا ملك إلّا
للسلطان» وغير ذلك ، وكما يقال : هذا الشيء لفلان ، على معنى أنّه يعود نفعه إليه.
__________________
فقولنا : «لا عمل
لمن لا نيّة له» معناه : أن لا يعود نفعه إليه ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون للفعل
حكم واحد كقوله : «لا شهادة لمحدود في قذف» فإنّه لا يمكن صرف النفي إلى ذات
الشهادة ، لأنّها قد وجدت ، فلا بدّ من صرفه إلى حكمها ، وليس لها إلّا حكم واحد ،
هو الجواز ، لأنّ الشّهادة إذا كانت فيما ندبنا إلى ستره ، لم يكن لإقامتها مدخل
في الفضيلة ، وكقوله : «لا إقرار لمن أقرّ بالزّنا مرة واحدة» لأنّ الأولى له أن
يستر ذلك عن نفسه ، فلا حكم له إلّا الجواز ، فإذا لم يكن له إلّا هذا الحكم وقد
انتفى ، فلا إجمال.
وبين أن يكون له
أكثر من واحد ، كالفضيلة والجواز.
سلّمنا أنّه لا
عرف للشّرع ولا لأهل اللّغة ، وأنّه لا بدّ من إضمار ، لكنّ الاتّفاق وقع على أنّه
لا خروج للمضمر هنا عن الصحّة ، والكمال ، فيجب ظهوره فيهما.
أمّا أوّلا ،
فلأنّه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النّفي ، لأنّ قوله : «لا صلاة» دلّ على
نفي أصل الفعل بالمطابقة ، وعلى صفاته بالالتزام ، فإذا تعذّر العمل بدلالة
المطابقة ، تعيّن العمل بالالتزام ، تقليلا لمخالفة الدّليل.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ اللّفظ دلّ على عدم الفعل ، فيجب عند تعذّر حمل اللّفظ على حقيقته ، حمله
على أقرب المجازات الشبيهة به ، ولا يخفى أنّ مشابهة الفعل الّذي ليس بصحيح ولا
كامل للفعل المعدوم أكثر من مشابهة الفعل الّذي نفي عنه أحد الأمرين خاصّة ، وكان
الحمل عليه أولى.
لا يقال : يلزم [منه]
زيادة الإضمار والتجوّز المخالف للأصل.
ولأنّ حمله على
نفي الكمال خاصّة ، متيقّن ، إذ يلزم من نفي الصحّة نفي
الكمال ، دون
العكس ، وإذا تقابلت الاحتمالات لزم الإجمال.
لأنّا نقول : ما
ذكرناه أرجح ، لأنّه على وفق النفي الأصليّ ، وما ذكرتموه على خلافه.
ولأنّ ما ذكرناه
لا يلزم منه تعطيل دلالة اللفظ ، بخلاف ما ذكرتموه.
سلّمنا وجوب إضمار
أحدهما خاصّة ، لكن صرفه إلى الجواز أولى من صرفه إلى الفضيلة ، لأنّ المدلول [عليه]
باللّفظ نفي الذات ، والدالّ على نفي الذات يدلّ على نفي جميع الصّفات ، لاستحالة
بقاء الصّفة مع عدم الذات ، فقوله : «لا عمل» يدلّ على نفي الذات ونفي الصحّة ونفي
الكمال ، ترك العمل به في الذات ، فيبقى معمولا به في الباقي.
لا يقال : دلالة
الالتزام تابعة ، فإذا انتفت دلالة المطابقة ، انتفى تابعها.
ولأنّ هذا اللفظ
قد جاء لنفي الفضيلة ، والأصل [في الكلام] الحقيقة.
لأنّا نقول :
دلالة اللّفظ على نفي الصحّة وإن كانت تابعة لدلالته على نفي الذات ، لكن بعد
استقرار تلك الدلالة صار اللّفظ كالعامّ بالنّسبة إليها بأسرها ، فإذا خصّ في بعض
الصّور وهو الذات ، وجب أن يبقى معمولا به في الباقي.
وفيه نظر ، فإنّ
العموم إنّما حصل بسبب اعتبار الدلالتين معا ، فإذا عدمت المطابقة الّتي هي الأصل
، وجب عدم الأخرى.
بل الحقّ : أنّ
الدّلالة الأصليّة باقية ، وإن كان الحكم منتفيا ، ووروده في نفي الفضيلة لدليل
خارج ، ولا امتناع في صرف اللّفظ عن حقيقته العرفيّة
__________________
أو اللغويّة إلى
مجازه ، وعن عمومه إلى خصوصه لدليل.
ولأنّ المشابهة
بين المعدوم وبين ما لا يصحّ ، ولا يفضل أتمّ من المشابهة بين المعدوم وبين ما
يوجد ويصحّ ولا يفضل ، والمشابهة إحدى أسباب المجاز ، فكان حمله على نفي الصحّة
أولى.
ولأنّ الخلل
الحاصل في الذات عند عدم الصحّة أشدّ من الخلل الحاصل فيها عند بقاء الصحّة ، وعدم
الفضيلة.
لا يقال : [هذا]
إثبات اللّغة بالترجيح.
لأنّا نقول : بل
هو إثبات المجاز بالعرف في مثله.
واعلم أنّ القاضي
إنّما خالف أبا الحسين في الفرق بين الأسماء الشرعيّة وغيرها ، من حيث إنّه نفى
الأسماء الشرعيّة ، وأنكر أن يكون للشرع فيها عرف يخالف الوضع ، فيلزمه إضمار شيء
في قوله : «لا صيام» كما ألزم هو وأبو الحسين الإضمار في قوله : «لا عمل إلّا
بنيّة».
احتجّ القائلون
بالإجمال : بأنّ العرف الشرعيّ مختلف في الكمال والصحّة ، ومتردّد بينهما على سواء
، وورودهما معا ، فيتحقّق الإجمال.
والجواب : عرف
الشرع واحد ، وهو نفي الحقيقة الشرعيّة ، والتردّد إنّما هو لاختلاف الفقهاء في
تقديره.
سلّمنا التردّد ،
لكن لا نسلّم الاستواء بين نفي الكمال ونفي الصحّة ، بل الترجيح لنفي الصحّة ،
لقربه من المعدوم.
المبحث السابع :
في أنّ آية السّرقة ليست مجملة
ذهب السيّد
المرتضى ومن تبعه ، إلى أنّ آية السّرقة مجملة في اليد.
وربما توهّم آخرون
أنّها مجملة في القطع أيضا.
والباقون على خلاف
القولين ، عملا بالأصل ، وهو أنّ اللّفظ له حقيقة واحدة ، وعدم إرادة المجاز
فينتفي الإجمال.
احتجّ السيد
المرتضى : بأنّ لفظ «اليد» يطلق على العضو من المنكب ، وعليه من المرفق ، ومن
الكوع ومن أصول الأنامل ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، فثبت الاشتراك.
وأمّا القطع ،
فإنّه يطلق على الإبانة ، كما يقال : قطعت الغصن. وعلى الشقّ كما يقال : «قطع يده
عند بري القلم» ويراد الجرح.
والجواب : نمنع
الاشتراك بل اليد حقيقة في العضو من المنكب ، لأنّه لا يقال : قطعت يد فلان كلّها
وجميعها ، إذا قطع الكفّ ، فلو كان اسم اليد يتناول هذا المقدار حقيقة صحّ أن يقال
ذلك ، لأنّ الكفّ كلّ وجميع.
والاستعمال لا
يدلّ على الحقيقة دائما ، والمجاز أولى من الاشتراك.
سلّمنا دلالته على
الحقيقة ، لكن يجوز أن يكون متواطئا ، كما يجوز أن يكون مشتركا ، واعتقاد التواطؤ
أولى من الاشتراك.
__________________
سلّمنا تساوي
الاحتمالات ، لكنّ الاشتراك أحد أمور ثلاثة ، والباقيان اثنان منها ، ووقوع اثنين
من ثلاثة أرجح من وقوع واحد منها.
قيل : إنّه إثبات
اللّغة بالترجيح ، وأنّه لا يكون مجمل أبدا.
لا يقال : الإجماع
على عدم القطع من المنكب والمرفق ، وعند جماعة من الكوع ، وعند آخرين من أصول
الأصابع ، يدلّ على أنّ اليد حقيقة فيهما ، وإلّا لما وجب الاقتصار على ذلك ،
لئلّا يلزم مخالفة الظاهر.
لأنّا نقول : نمنع
الدلالة ، فإنّ المجاز قد يستعمل ، ومخالفة الظاهر أولى من الإجمال ، لأنّ الإجمال
يفضي إلى تعطيل اللّفظ في الحال إلى قيام دليل المرجّح ، ولا كذلك في الحمل على
المجاز ، فإنّه وإن لم يظهر دليل التجوّز عمل بالحقيقة ، فلا يتعطّل اللّفظ ، فكان
أولى.
وأمّا القطع ، فهو
الإبانة في اللّغة ، فإذا أضيف إلى أيّ شيء أفاد إبانة ذلك الشيء ، والشقّ إذا حصل
في جلد اليد حصلت الإبانة في تلك الأجزاء ، لكن إطلاق اسم اليد عليه مجاز من باب
اسم الكلّ على جزء ، فيكون المجاز في اليد لا القطع.
وفيه نظر ، فإنّ
أحدا لم يتجوّز باليد في الجلد ، فجعله في القطع أولى.
__________________
المبحث الثامن :
في أنّ رفع الخطأ ليس مجملا
اختلف الناس في
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان» هل هو مجمل أم لا؟
فقال أبو الحسين
البصري : إنّه مجمل ، لأنّ الخطأ واقع غير مرفوع ، وكذا النسيان ،
وكلام النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم صادق ، فلا بدّ من نفي الحكم ، فإمّا أن يضمر نفي جميع
الأحكام ، وهو باطل ، لأنّ الإضمار على خلاف الأصل ، وإنّما يصار إليه لدفع
الضرورة اللّازمة من تعطيل العمل باللفظ ، فيجب الاقتصار على ما تندفع به الضرورة
، وهو بعض الأحكام.
ولأنّ من جملة
الأحكام لزوم الضمان وقضاء العبادة ، وغيرها ، وليس منفيّا بالإجماع.
وإما أن يضمر
البعض ، فإمّا أن يكون معيّنا ، وهو باطل ، لعدم دلالة اللفظ عليه فيبقى أن يكون
غير معيّن ، وهو نفس الإجمال.
والجواب : إنّما
يلزم الإضمار لو لم يكن اللّفظ ظاهرا بعرف استعمال أهل اللّغة قبل ورود الشرع في
نفي المؤاخذة ، لكنّ اللّفظ ظاهر فيه ، فإنّ كلّ عاقل ، يحكم عند سماع قول السيّد
لعبده : «رفعت عنك الخطأ» بأنّه رفع عنه المؤاخذة والعقاب عليه ، والتبادر دليل
الحقيقة.
__________________
أمّا اللغويّة أو
العرفيّة فلا إجمال ، فكذا إذا قال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمّته : «رفعت عنكم الخطأ» فهم ما يتوقّع من مؤاخذته
لأمّته به ، وهو الأحكام الشرعية ، فكأنّه قال : رفعت عنكم الأحكام الشرعية في
الخطأ.
لا يقال : لو كان
عرف الاستعمال ما ذكرتم ، لاندفع عنه الضمان ، لأنّه من جملة المؤاخذات والعقوبات.
لأنّا نقول : نمنع
كون الضّمان عقوبة ، ولهذا يجب في مال الصّبي والمجنون ، وليسا أهلا للعقوبة ،
ويجب على المضطرّ في المخمصة إذا أكل مال غيره الضمان مع وجوب الأكل ، حفظا لنفسه
، والواجب لا عقوبة عليه.
وكذا يضمن الرّامي
إلى صفّ الكفّار إذا أصاب مسلما ، مع أنّه مأمور بالرّمي ، مثاب عليه.
والعاقلة يضمن من
غير جناية ، بل بسبب الغير ، فالضّمان في هذه الأشياء إنّما وجب امتحانا ليثاب
عليه ، لا للانتقام.
سلّمنا أنّه عقاب
، لكن غايته لزوم تخصيص عموم اللفظ الدالّ على نفي كلّ عقاب، وهو أسهل من الإجمال.
على أنّا نمنع
العموم في المضمر وهو الحكم ، لأنّه ليس من صيغ العموم حتّى يجعل عامّا في كلّ حكم
، كما لم يجعل قوله (أُمَّهاتُكُمْ) عامّا في كلّ فعل ، مع وجوب إضمار الفعل كالحكم ، هذا
الّذي يجب إضماره ، لإضافة الرفع إليه إضافة التحريم الى الفعل.
__________________
قال أبو الحسين :
لو كان المراد هنا نفي المؤاخذة لم يبق لأمّته مزية.
وليس بجيّد ، أمّا
أوّلا فللمنع من قصد المزيّة لاحتمال بيانه صلىاللهعليهوآلهوسلم رفع حكم الخطاء عن أمّته ، كما ارتفع عن غيرهم.
وأمّا ثانيا
فلاحتمال أن يكون من تقدّمه من الأمم مؤاخذين على الخطأ.
امّا لو ورد في
موضع لا عرف فيه يدرك به خصوص معناه ، فإنّه مجمل يحتمل نفي الأثر مطلقا ، ونفي
آحاد الآثار ، ويصلح لإرادة الجميع ، ولا يترجّح أحد الاحتمالات.
ومن جعل للعموم
صيغة لم يحكم بالعموم هنا ، فإنّه لا صيغة للمضمرات ، وهذا قد أضمر فيه أثر.
لا يقال : إنّه
يقتضي نفي المؤثّر والأثر معا ، فإذا تعذّر نفي المؤثّر بقرينة الحسّ نفي الأثر
متعيّنا.
لأنّا نقول : قوله
: «رفع الخطأ» ليس عامّا في نفي المؤثّر والأثر ، حتى إذا تعذّر في المؤثّر بقي في الأثر بل هو لنفي المؤثر فقط والأثر ينتفي بالتبعيّة ،
ضرورة انتفاء مؤثّره ، لا باعتبار شمول اللفظ له وعمومه ، فإذا تعذّر حمله على
المؤثّر صار مجازا ، إمّا عن جميع آثاره أو عن البعض ، ولا تترجّح الجملة على
البعض .
وفيه نظر ، لأنّ
نفي جميع الصفات والآثار مجاز أقرب.
__________________
المبحث التاسع :
في باقي أمور ظنّ أنّها مجملة
وهي ستة :
الأوّل : إذا ورد
لفظ من الشارع يمكن حمله على ما يفيد معنيي ، وحمله على ما يفيد معنى واحدا ، قال
الغزّالي وجماعة إنّه مجمل ، لوروده بين هذين الاحتمالين من غير ترجيح.
وقال الأكثر :
إنّه ليس مجملا بل هو ظاهر فيما يفيد معنيين ، لأنّ الكلام إنّما وضع للإفادة ،
خصوصا كلام الشّارع وظاهر أنّ ما يفيد معنيي أكثر في الفائدة ، فيجب اعتقاد ظهور
اللّفظ فيه ، كما لو دار بين ما يفيد وما لا يفيد ، فإنّه يتعيّن حمله على المفيد
، لأنّ المعنى الثاني ممّا يقصر اللّفظ عن إفادته إذا حمل على الوجه الآخر ، فحمله
على الوجه المفيد بالإضافة إليه أولى.
لا يقال : هذا
الترجيح معارض بترجيح آخر ، وهو أنّ الغالب من الألفاظ الواردة إنّما هي الألفاظ
المفيدة لمعنى واحد ، بخلاف المفيدة لمعنيين ، وعند ذلك فاعتقاد إدراج ما نحن فيه
تحت الأعمّ الأغلب أولى.
لأنّا نقول : يجب
اعتقاد الترجيح فيما ذكرناه ، لأنّ القول بالتّساوي يستلزم تعطيل دلالة اللفظ
وامتناع العمل به مطلقا ، إلى أن يقوم دليل خارجيّ ، وهو على خلاف الأصل ، فلا بدّ
من الترجيح ، فإمّا أن يكون الرّاجح ما يفيد معنى واحدا ، وهو باطل لعدم القائل به
، أو الآخر وهو المراد.
__________________
واعترض : بأنّ فيه إثبات اللغة بالترجيح.
وليس بجيّد ، بل
هو إثبات أولويّة الحمل على أحد معنيين المشترك.
وفرّق الغزّالي
بين المهمل وبين ما يفيد معنى واحدا ، بقبح الأوّل للعبث بخلاف الثّاني ، وحمل
كلامه على ما يفيد معنى واحدا أكثر.
الثاني : إذا أمكن
حمل اللّفظ على حكم شرعيّ مجدّد وحمله على الموضوع اللّغوي ، أو التقرير على الحكم
الأصليّ أو العقليّ.
قال الغزّالي :
إنّه مجمل لتردّده بين الجميع ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الاثنان فما فوقهما جماعة» فإنّه يحتمل أن يكون المراد به أنّه يسمّى جماعة حقيقة ،
وأن يكون المراد به انعقاد الجماعة ، أو حصول فضيلتها.
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الطواف بالبيت صلاة» يحتمل أن يكون المراد به الافتقار إلى الطهارة أي هي
كالصلاة حكما ويحتمل أنّ فيه دعاء كما في الصلاة ، ويحتمل أن يسمّى صلاة شرعا ،
وإن كان لا يسمّى في اللّغة صلاة ، لتطرّق الاحتمال بالنسبة إلى كلّ محمل من هذه
المحامل.
ولم يثبت أنّ رسول
الله صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينطق بالحكم العقلي ولا الأصلي ولا الاسم اللّغوي ، بل
قد تكلّم بالجميع.
__________________
وذهب الأكثر إلى
أنّه ظاهر في الحكم الشرعي ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم إنما بعث ليعرّف الأحكام الّتي لا تعرف إلّا من جهته ،
فوجب حمل لفظه عليه ، لما فيه من مواقعة مقصود البعثة.
وهذا هو الحقّ ،
لأنّ الواضع إنّما قصد بوضعه حمل اللّفظ إذا سمع منه أو ممّن يتحدّث ، على لغته
على ما وضعه له ، والتقدير أنّ اللّفظ هنا له عرف شرعيّ ، فيجب حمل كلامه عليه ،
تحصيلا لغرضه من الوضع ، كما يحمل اللّفظ العرفي على المتعارف ، لا على الوضع
اللّغويّ.
لا يقال : حمل
اللّفظ على الحكم الشرعيّ مخالف للنفي الأصليّ ، بخلاف الحمل على الموضوع الأصليّ.
لأنّا نقول : حمله
على اللّغوي يفيد التأكيد بتعريف ما هو معروف لنا ، وحمله على الحكم الشرعيّ يفيد
التأسيس ، ويفيد ما ليس معروفا لنا ، ولا شكّ أنّ التأسيس أولى.
الثالث : إذا ورد
لفظ وضعه أهل اللّغة في معنى ، والشارع في آخر ، قال القاضي أبو بكر تفريعا على القول بالأسماء الشرعيّة ، لأنّه ينكرها : إنّه
مجمل.
وقال الغزّالي : إن ورد في الإثبات حمل على الشرعيّ ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لعائشة : «أعندك شيء؟ فقالت : لا ، فقال : إنّي إذن أصوم» إن حمل على
__________________
[الصّوم] الشرعيّ
دلّ على صحّة الصّوم بنيّة من النهار ، بخلاف حمله على الصوم اللّغويّ.
لكنّ الأوّل أظهر
، لأنّ المتكلّم إنّما يحمل كلامه على مصطلحه.
وإن ورد في طرف
النّهي . كنهيه عن صوم يوم النحر فهو مجمل.
وقال قوم : إنّه
في النّهي محمول على اللّغوي ، وفي الإثبات مجمل.
وقال الباقون :
إنّه محمول على الشرعي مطلقا.
وهو الحقّ ، لنا :
ما تقدّم من أنّ الأصل استعمال الواضع لفظه فيما وضع له عند إطلاقه.
احتجّ القاضي :
بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم كان يحاور العرب بلغتهم تارة ، وبلغته أخرى ، فثبت الإجمال
.
وهو ممنوع ، لغلبة
استعماله فيما وضعه له ، هو فيحمل المطلق على الغالب ، لظهوره.
احتجّ الغزّالي
بما قلناه في طرف الإثبات ، وأمّا النّفي كنهيه عن بيع الخمر ، والحرّ ، وحبل
الحبلة ، والملاقيح والمضامين ، فإنّه يحمل على اللّغوي ، لاستحالة وقوع الشرعي فيه ،
وإلّا لزم أن يكون متصوّرا ، لاستحالة النهي عما لا
__________________
تصوّر له ، وهو
خلاف الإجماع ، وأن يكون الشارع قد نهى عن التصرّف الشرعيّ ، وهو محال ، لما فيه
من إهمال المصلحة المعتبرة شرعا ، أو أن يقال مع ظهوره في المسمّى الشرعي بتناوله
ويصرف إلى المسمّى اللّغوي ، وهو خلاف الأصل (وقد استعمل أيضا في الشرعي في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» فيتحقق الإجمال).
والجواب : ليس
معنى الشرعي الصّحيح ، وإلّا لزم في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» كون المنهيّ عنه الصّلاة
الصحيحة ، وهي مستحيلة التصوّر ، فلا يمكن حمل النّهي على الصلاة اللغويّة لتسويغ
الدعاء منها.
الرابع : قال بعض
الشافعية : قوله تعالى : (وَالَّذِينَ هُمْ
لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) مجمل ، لخروج الكلام مخرج المدح والذمّ.
والحقّ خلافه ،
لعدم التنافي بين العموم وقصد المدح أو الذمّ ، كما أنّ قوله : (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) حملوه على العموم ، وإن كانت صيغته أضعف في الدلالة.
__________________
مع أنّ القصد به
الزجر والتخويف ، لعدم التنافي بينه وبين عموم الحكم ، وقد تقدّم بطلانه.
الخامس : قال بعض
الناس : لا يجوز التمسّك بلفظ الجمع الخالي عن الألف واللام ، كقوله : أعطه دراهم
، لجواز أن يكون المراد به أكثر من ثلاثة ، وجعلوه مجملا ، فإن قصد عدم قصر هذه
اللفظة على ثلاثة ، فهو كما قال ، لتناوله كلّ جمع ، وإن قصد منع حمله على الثلاثة
مطلقا من غير إشعار بالزّيادة وعدمها ، فلا يكون مجملا.
السادس : قال بعض
النّاس : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في الرّقة ربع العشر» مجمل ، لأنّه إنّما يدل على وجوب ربع العشر في هذا الجنس ،
ويحتاج إلى بيان القدر الّذي يوجد منه ذلك ، وجعلوا خبر الأواقيّ مبيّنا ، لا مخصّصا
، واختاره المرتضى .
وقال آخرون : إنّ
قوله : «في الرّقة ربع العشر» يقتضي الاستغراق ، حتّى لو خلّينا ومجرّده لأوجبنا
ربع العشر في قليله وكثيره ، فخبر الأواقيّ مخصّص لا مبيّن.
ونحن لمّا بيّنا
أنّ اسم الجنس المحلّى باللّام لا يفيد الاستغراق ، لم يكن للعموم ، بل يدلّ على
إيجاب ربع العشر في هذا الجنس.
__________________
الفصل الثاني
في البيان والمبيّن
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في ماهيّته
اعلم أنّ البيان
في أصل اللّغة مشتقّ من البيّن ، يقال بيّن وتبيينا وبيانا ، كقولهم : كلّم تكليما
وكلاما ، وأذّن تأذينا وأذانا ، فالبيّن يفرق بين الشيء وما شاكله ، فلهذا قيل :
البيان هو الدلالة.
إذا عرفت هذا
فنقول : البيان لمّا كان متعلّقا بالتعريف والإعلام بما ليس بمعلوم وكان ذلك ممّا
يتوقّف على الدليل ، والدليل مرشد إلى المطلوب الّذي هو علم أو ظنّ حاصل عن الدليل
، لا جرم أمكن تفسير البيان بهذه المتعلّقات ، الّتي هي التعريف والدليل والمطلوب
الحاصل منه.
وقد اختلف الناس
في ذلك ، فقال أبو بكر الصيرفي وجماعة : إنّ البيان هو التعريف وفسّره بأنّه إخراج الشيء
عن حيّز الإشكال إلى حيّز الوضوح والتجلّي.
__________________
وليس بجامع ،
لخروج ما يدلّ على الحكم ابتداء من غير سابقة إجمال عنه ، وهو بيان.
وفيه نظر ، للمنع
من كونه بيانا ، نعم يقال له مبيّن ، أمّا أنّه بيان فلا.
ويبطل أيضا
باستعمال المجاز فيه بذكر الحيّز ، الّذي هو حقيقة في الجوهر.
ولأنّ فيه زيادة
التجلّي ، لدلالة الوضوح عليه ، والحدّ يجب أن يصان عن التجوّز والزيادة.
واعترضه أبو
الحسين أيضا : بأنّ إخراج الشيء عن حيّز الإشكال إلى حيّز التّجلّي حد للتبيين لا
للبيان.
وقال أبو عبد الله
الحسن بن علي البصري : إنّ البيان هو العلم الحاصل من الدليل الّذي يتبيّن به
الشيء .
وأبطله المرتضى
بصحّة قول القائل بيّنت لك هذا الشيء ، فما بيّنته ، فلو كان البيان هو العلم ،
لتناقض ، ويثبت هذا الوصف مع عدم العلم ، فكيف يقال : إنّه حدوث العلم ، ويلزم أن
يكون من لم يعلم الشيء لم يبيّنه الله تعالى له ، ولا نصب له بيانا عليه ولا شبهة
في بطلانه .
__________________
واعترضه أيضا : بأنّ الحاصل عن الدليل كما يكون علما ، فقد يكون
ظنا فتخصيص اسم البيان بالعلم ، دون الظنّ ، لا معنى له ، مع أنّ اسم البيان يعمّ
الحالتين.
وقال السيد
المرتضى والشيخان أبو علي وأبو هاشم البيان هو الدلالة.
وقال أبو الحسين
البصري : البيان منه عامّ وهو الدلالة ، يقال : بيّن لي فلان كذا بيانا حسنا ،
فتوصف دلالته وكشفه بأنّه بيان ، ويقال : دللت فلانا على الطريق وبيّنته له ،
فلمّا اطّرد ذلك ، كان حقيقة.
ومنه خاصّ ، وهو
المتعارف عند الفقهاء ، وهو كلام أو فعل دالّ على المراد بخطاب لا يستقلّ بنفسه في
الدلالة على المراد ، ويدخل فيه بيان العموم.
وفيه نظر ، لخروج
بيان الفعل عنه.
وقال الغزّالي
وأكثر المعتزلة كأبي الحسين : إنّ البيان هو الدّليل ، لأنّ من ذكر دليلا لغيره ،
فأوضحه غاية الإيضاح ، يصحّ أن يقال : إنّه بيان حسن ، وقد تمّ بيانه ، ويشار به
إلى الدليل المذكور.
وقيل : البيان هو الذي دلّ على المراد بخطاب لا يستقلّ بنفسه في
الدّلالة على المراد.
__________________
وفيه نظر ، لأنّه
يخرج منه بيان الأفعال.
وقال الشافعي :
البيان اسم جامع لمعان مجتمعة الأصول ، متشعبة الفروع ، وأقلّ ما فيه انّه بيان
لمن نزل القرآن بلسانه.
قال أبو الحسين :
هذا ليس بحدّ ، وإنّما هو وصف للبيان بأنّه يجمعه أمر جامع ، وهو أنّه يتبيّنه أهل
اللغة ، وأنّه يتشعّب إلى أقسام كثيرة ، فإن حده بأنّه «بيان لمن نزل القرآن بلغته»
كان قد حدّ الشيء بنفسه ، وإن كان قد حدّ البيان العام ، فإنّه يخرج منه الأدلّة
العقليّة ، وإن حدّ البيان الخاصّ ، دخل فيه الكلام المبتدأ إذا عرف به المراد ،
كالعموم والخصوص ، وهذا ليس هو البيان الخاصّ.
وقال قوم : البيان
هو الكلام والخطّ والإشارة.
وليس بجيّد وإنّما
هو تعديد وليس مستوفيا لجميع أعداده ، لأنّه يخرج منه الأدلّة العقليّة.
وأمّا المبيّن ،
فقد يراد ما هو محتاج إلى بيان ، وقد ورد بيانه عليه ، كالمجمل بعد بيان المراد
منه ، والعامّ بعد التّخصيص ، والمطلق بعد التقيد ، والفعل المقترن بما يدلّ على
وجهه ، إلى غير ذلك.
وقد يراد به
الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان بنفسه.
والمفسّر كذلك قد
يقال لما هو مستغن بنفسه عن التفسير ، ولما ورد عليه تفسيره.
__________________
المبحث الثاني :
في أقسام البيانات
بيان الأحكام
الشرعيّة بكلّ ما يقع به المبيّن ، وهو إمّا بالقول ، أو بالفعل ، أو بالترك.
أمّا القول ،
فظاهر.
وأمّا الفعل ،
فإمّا أن يكون الدالّ على البيان شيئا يحصل بالمواضعة ، أو شيئا تتبعه المواضعة ،
أو شيئا تابعا للمواضعة.
والأوّل ،
كالكتابة وعقد الأصابع ، وقد وقع البيان بالكتابة في اللوح المحفوظ ، وفيما كتبه
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إلى عمّاله ، وبعقد الأصابع ، كما بين صلىاللهعليهوآلهوسلم بقوله : «الشهر هكذا وهكذا. وهكذا» وأشار بيده ، وهذا
مستحيل في حقّه تعالى.
والثاني : هو
الاشارة ، لافتقار المواضعة إليها ، دون العكس ، وإلّا افتقرت المواضعة إلى إشارة
أخرى ، وتسلسل.
وقد بيّن بها
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الحرير حيث وضعه في يده وقال : «هذا حرام على ذكور
أمّتي».
والثالث : كما لو
قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هذا الفعل بيان لهذه الآية» أو يقول : «صلّوا كما
رأيتموني أصلّي».
والفعل يبيّن
الصفة ولا يدلّ على الوجه.
__________________
وأمّا الترك ، فإنّه يدلّ على نفي وجوب الفعل ، وهو أقسام :
الأوّل : أن يقوم
من الركعة الثانية إلى الثالثة ، ويمضي في صلاته ، فيعلم أنّ التّشهد ليس بواجب ،
لاستحالة أن يترك الواجب.
الثاني : أن يسكت
عن حكم الحادثة ، فيعلم أنّه ليس فيها حكم شرعيّ.
الثالث : أن يكون
ظاهر الخطاب يتناوله وأمّته على السّواء ، فإذا تركه دلّ على أنّه مخصوص الخطاب.
الرابع : أن يترك
بعد فعله إيّاه ، فيعلم أنّه قد نسخ عنه ، ثمّ ينظر فإن كان حكم الأمّة حكمه ، فقد
نسخ عنهم أيضا ، وإلّا كان حكمهم بخلافه.
المبحث الثالث :
في أنّ الفعل يكون بيانا
اختلف الناس في
ذلك ، فالأكثر عليه ، ومنعه شاذّ.
لنا : الوقوع ،
فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم عرّف الصلاة والحجّ بفعله ، حيث قال : «صلّوا كما رأيتموني
أصلّي» و «خذوا عنّي مناسككم».
ولانعقاد الإجماع
على كون القول بيانا والفعل أولى ، فيكون أولى.
قال أبو الحسين :
المانع إمّا أن يريد أنّه لا يصحّ وقوع البيان بالأفعال ، أو لا يحسن من حيث
الحكمة.
__________________
والأوّل إمّا أن
يعنى أنّ الفعل لا يؤثّر في وقوع الشّيء أصلا ، أو لا يؤثّر إلّا مع غيره ، بأن يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم : «هذا الفعل بيان لهذا الكلام».
والأوّل باطل ،
لما مرّ ، من أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بيّن الحجّ والصلاة بفعله ، وبيّن الصحابة الوضوء بفعله.
والثاني ، وهو
افتقار الفعل في كونه بيانا إلى الغير ، فإجماع إلّا أنّ المبيّن هو الفعل خاصّة ،
لانّه هو المتضمّن لصفة الفعل ، دون القول المعلّق للفعل الواقع بيانا على المجمل
، وتحقيقه : أنّ الفعل بيان للمجمل ، والقول بيان لكون الفعل بيانا.
والثالث : وهو عدم
حسنه في الحكمة ، باطل ، لجواز أن يعلم الله تعالى من المكلّف أنّ بيان المجمل
بهذا الطريق أصلح له.
احتجّوا : بأنّ
الفعل قد يطول ، فيتأخّر البيان عن وقت الحاجة ، وهو غير جائز ، ومنعوا من بيان
الصلاة والحج بالفعل ، بل لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صلّوا» و «خذوا».
والجواب : القول
قد يكون أطول ، فإنّ وصف أفعال الصلاة وتروكها على الاستقصاء أطول من الإتيان
بركعة واحدة في كونها بيانا ، مع أنّه أبعد في كونه بيانا.
وربما احتيج إلى
تكرير في أزمنة كثيرة أو إيقاع فعل مبيّن .
__________________
سلّمنا أنّ البيان
بالفعل قد يكون أطول ، لكن جاز في الحكمة تأخير البيان ذلك القدر ، وهي ظاهرة هنا
، لإيجاد أقوى البيانين ، وقد بيّنّا أنّ «صلّوا» و «خذوا» ليسا مبيّنين للعبادة.
تذنيب
يعلم كون الفعل
بيانا للمجمل بأمور ثلاثة :
الأوّل : أن يعلم
ذلك بالضرورة من قصده.
الثاني : أن يعلم
بالدليل اللّفظيّ ، بأن يقول صلىاللهعليهوآلهوسلم : هذا الفعل بيان لهذا المجمل ، أو يقول : أقوالا يلزم من
مجموعها ذلك.
الثالث : أن يدلّ
العقل عليه ، بأن يذكر المجمل وقت الحاجة إلى العمل به ، ثمّ يفعل فعلا صالحا لأن
يكون بيانا ، ولا يفعل شيئا آخر فيعلم أنّه بيان ، لئلّا يلزم تأخير البيان عن وقت
الحاجة.
المبحث الرابع :
في أنّ القول هل يقدّم في البيان على الفعل أم لا؟
قال أبو الحسين :
هذا البحث يشتمل على مسألتين :
إحداهما : أن يقال
: إذا كان القول بيانا والفعل بيانا فأيّهما أكشف؟
فالجواب : أنّ
الفعل أكشف ، لأنّه يوضح صفة المبيّن مشاهدة ، والقول إخبار عن صفته.
الثانية : أن يرد
بعد المجمل فعل وقول يحتمل أن يكون كلّ منهما بيانا ،
فيقال : أيّهما
قصد به البيان؟ فنقول : إن لم يتنافيا فالمتقدّم هو البيان ، والمتأخّر مؤكّد
لحصول التعريف بالأوّل ، فلا حاجة إلى البيان ، إلّا أن يكون الثاني دون الأوّل في
الدّلالة ، لاستحالة تأكيد الشّيء بما هو دونه في الدلالة.
وإن لم يعلم
المتقدّم ، حكم على الجملة أنّ أحدهما بيان والآخر مؤكّد.
وإن لم يعلم
مفصّلا ، إن تساويا في الدلالة وإن كان أحدهما أرجح على حسب اختلاف الوقائع
والأقوال ، فالأشبه أنّ المرجوح هو المتقدّم ، ليقع التأكيد بالراجح ، وإلّا لكان
الثاني غير مفيد البتة : إمّا للبيان ، فلوقوعه بالأوّل ، وإمّا للتأكيد فلامتناعه
بالأدون.
وإن تنافيا ،
كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من قرن الحجّ إلى العمرة فليطف لهما طوافا واحدا» مع ما روي عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّه قرن ، وطاف طوافين ، وسعى سعيين ، فإن تقدّم أحدهما كان هو البيان ، لأنّ الخطاب المجمل إذا
تعقّبه ما يجوز أن يكون بيانا له كان بيانا ، فإن كان هو القول ، كان الطواف
الثاني غير واجب ، وإن كان هو الفعل كان واجبا.
وقيل : إن كان القول متقدّما ، فالثاني غير واجب ، وفعل النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم يحمل على الندب ، وإلّا لكان ناسخا لما دلّ عليه القول ،
والجمع أولى من التعطيل.
__________________
وإن كان الفعل
متقدّما ، فهو ، وإن دلّ على وجوب الثاني ، إلّا أنّ القول بعده يدلّ على عدم
وجوبه ، ولا يجوز إهمال دلالة القول ، فيكون ناسخا لوجوب [الطواف] الثاني الّذي
دلّ عليه الفعل ، أو يحمل على بيان وجوب الأوّل في حقّ أمّته دونه ، وهو أولى ،
لما فيه من الجمع بين البيانين من غير نسخ ولا تعطيل.
وقيل : يكون القول
بيانا مطلقا ، من غير تفصيل إلى تقدّمه وتأخّره ، لأنّه بيان بنفسه ، والفعل لا
يدلّ حتّى يعرف ذلك إمّا بالضّرورة أو بالاستدلال بدليل قوليّ أو عقليّ ، فإذا لم
ينقل ذلك لم يثبت كون الفعل بيانا.
وليس بجيّد ، لأنّ
الغرض كون كلّ منهما صالحا للبيان ، فإذا فرضنا تقدّم الفعل ، فهو بيان لوقوعه بعد
إجمال ورود التعبّد به ، فيكون بيانا له على ما تقدّم.
وإن جهل التاريخ ،
قال أبو الحسين : يكون البيان هو القول ، لأنّا لو جعلنا الفعل هو البيان
، لأوجبنا إثبات ما تعلّقه بالمبيّن من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّ هذا بيان لهذا» وإن لم يعلم ذلك باضطرار من قصده ،
ولا يجوز إثبات ذلك إلّا عن ضرورة ، ولا ضرورة إلى ذلك مع إثبات قول يمكن أن يكون
بيانا.
لا يقال : فليجز
أن يكون الفعل هو لبيان وان لم يقطعوا عليه.
لأنّا نقول : لا
يجوز ذلك إلّا لضرورة ، ولا ضرورة.
__________________
وإذا كان الفعل
إنّما يتمّ كونه بيانا لو اقترن به ما يعلم أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قصد به البيان ، وكان القول مستغنيا عن ضميمة تقترن به ،
لاستقلاله بنفسه في الدلالة ، كان جعل القول بيانا أولى.
ولأنّا لو قدّرنا
تقدّم القول ، أمكن حمل الفعل بعده على ندبيّة الطواف الثاني ، كما تقدّم تعريفه
ولو قدّرنا تقدّم الفعل يلزم منه [إمّا] إهمال دلالة القول ، أو كونه ناسخا لحكم
الفعل ، أو أن يكون الفعل بيانا لوجوب الطواف في حقّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم دون أمّته ، والقول دليل على عدم وجوبه في حقّ أمّته دونه.
والإهمال والنسخ
على خلاف الأصل ، والفرق بين النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم والأمّة في وجوب الطواف الثاني مرجوح بالنظر إلى ما ذكرناه
من التشريك الغالب دون الافتراق.
المبحث الخامس :
في أنّ البيان كالمبيّن
قال أبو الحسين :
هذا الباب يشتمل على مسألتين :
إحداهما أنّ
البيان هل هو كالمبيّن في القوة؟
والأخرى هل هو
كالمبيّن في الحكم؟
أمّا الأولى ،
فقال الكرخي : إنّ بيان المعلوم معلوم ، ولا يجوز أن يكون المبيّن
معلوما ، وبيانه مظنون ، ولهذا لم يقبل خبر الأوساق مع قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما سقت السماء العشر» .
__________________
وفيه نظر ، لأنّه
تخصيص ، والمحقّقون على خلاف ذلك ، وأنّه يجوز أن يكون كلّ من البيان والمبيّن
معلومين ومظنونين ، وأن يكون المبيّن معلوما ، والبيان مظنونا ، وبالعكس ، كما جاز
تخصيص القرآن بخبر الواحد ، لإمكان تعلّق المصلحة بذلك ، هذا فيما يرجع إلى
الطريق.
وأمّا ما يرجع إلى
الدلالة ، فنقول : إن كان المبيّن مجملا كفى في بيانه تعيين أحد احتماليه بأدنى ما
يفيد الترجيح ، وإن كان عامّا أو مطلقا ، فلا بدّ وأن يكون المخصّص والمقيّد في
دلالته أقوى من دلالة العامّ على صورة التخصيص ، ودلالة المطلق على صورة التقييد ،
إذ لو تساويا لزم الوقف ، ولو كان مرجوحا لزم إلغاء الراجح بالمرجوح ، وهو ممتنع.
وقال بعض الناس :
المجمل فيما يعمّ به البلوى كأوقات الصلاة ، وكيفيّتها ، وعدد ركعاتها ، ومقادير
الركعات ، وجنسها ، لا يجوز أن يبيّن إلّا بطريق قاطع.
وأمّا ما لا يعمّ
به البلوى ، كقطع يد السّارق ، وما يجب على الأمّة في الحدود ، وأحكام المكاتب ،
والمدبّر ، فيجوز أن يبيّن بخبر الواحد ، وسيأتي بيان التساوي.
وأمّا الثانية ،
فقال قوم : إنّ بيان الواجب واجب ، وهؤلاء إن أرادوا أنّ المبيّن إذا كان واجبا ،
كان بيانه صفة شيء واجب ، فهو صحيح ، وإن أرادوا أنّ الفعل إذا كان واجبا ،
ويتضمّن البيان صفاته وتفصيل أحواله ، فهذه التفاصيل واجبة ، لأنّها صفات الواجب ،
وكذلك المندوب يكون بيان أحواله وأوصافه كذلك ، فهو صحيح أيضا.
__________________
وإن أرادوا أنّه
يدلّ على الوجوب كما يدلّ المبيّن ، فغير صحيح ، لأنّ البيان يتضمّن صفة المبيّن ،
وليس يتضمّن لفظا يفيد الوجوب ، فإنّ صورة الصلاة الواجبة والمندوبة واحدة.
وإن أرادوا به
أنّه إذا كان المبيّن واجبا ، كان بيانه على الرّسول واجبا ، وإن لم يكن المبيّن
واجبا ، لم يجب على الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بيانه ، فهو باطل ، فإنّ بيان المجمل واجب سواء تضمّن فعلا
واجبا ، أو ندبا ، أو مباحا ، أو غيرها من الأحكام ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
وأيضا ، لو تساويا
في الحكم ، وكان ما دلّ عليه البيان من الحكم هو ما دلّ عليه المبيّن ، لم يكن
أحدهما بيانا للآخر ، وإنّما يكون أحد الأمرين بيانا للآخر إذا كان دالّا على صفة
مدلول الآخر ، لا على مدلوله ، ومع ذلك ، فلا اتّحاد في الحكم .
وفيه نظر ، لأنّه
لا يلزم من تساويهما في الحكم التساوي من كلّ وجه.
لا يقال : المراد
من الاتّحاد في الحكم أنّه إن كان حكم المبيّن واجبا ، كان بيانه واجبا ، وإن لم
يكن واجبا ، لم يكن البيان واجبا.
لأنّا نقول : إن
لم تكن الحاجة داعية إلى البيان في الحال ، لم يجب البيان عند قوم ، ولا فرق بين
أن يكون [حكم] المبيّن واجبا أو لا.
وإن دعت لم يجب
البيان أيضا عند من يجوّز التكليف بالمحال ، وإلّا كان واجبا إن كان المبيّن واجبا
، لاستحالة التكليف بالمحال.
__________________
وإن لم يكن
المبيّن واجبا ، لم يلزم من عدم إيجاب البيان التكليف بما لا يطاق ، إذ لا تكليف
فيما ليس بواجب ، لأنّ ما لا يكون واجب الفعل ، ولا واجب الترك ، إمّا مندوب ، أو
مباح ، أو مكروه ، وكلّ واحد من هذه الأقسام الثلاثة ، فلا تكليف فيه على ما
تقدّم.
ولا يلزم من القول
بالوجوب حذرا من تكليف ما لا يطاق الوجوب مع عدم التكليف أصلا ، اللهمّ إلّا أن
ينظر إلى التكليف بوجوب اعتقاده ، على ما هو عليه من إباحة أو ندب أو كراهة ،
فيكون من القسم الأوّل.
وفيه نظر ، فإنّ
المندوب والمكروه وإن لم يكونا من التكليف إلّا أنّ أحدهما مطلوب الفعل والآخر
مطلوب الترك ، فيجب فيهما البيان ، لأنّ طلب الفعل والترك يستدعي الفهم.
ولأنّ الخطاب بهما
أو بالمباح ، لا بدّ فيه من البيان ، تحصيلا للغرض من الخطاب ، وهو الإفهام.
المبحث السّادس :
في وقت البيان
اتّفق العقلاء
إلّا من جوّز التكليف المحال على امتناع تأخير بيان الخطاب عن وقت الحاجة ، لأنّ
التّكليف مع عدم الطريق إلى العلم به ، تكليف بالمحال.
وأمّا تأخيره عن
وقت الخطاب إلى وقت الحاجة ، فقد اختلف فيه ، وتقرير البحث في ذلك أن نقول :
__________________
الخطاب المحتاج
إلى البيان ضربان :
أحدهما ، له ظاهر
وقد استعمل في خلافه.
والثاني ، لا ظاهر
له ، كالمشترك. والأوّل أقسام :
أحدها : بيان
التخصيص.
وثانيها : بيان
النسخ.
وثالثها : بيان
الأسماء الشرعيّة.
ورابعها : بيان
اسم النكرة إذا أريد به شيء معيّن.
إذا عرفت هذا
فنقول : ذهب جماعة من الأشاعرة والحنفيّة إلى جواز تأخير البيان في ذلك كلّه.
وذهب بعض الأشاعرة
كأبي إسحاق المروزي وأبي بكر الصّيرفي وبعض الحنفيّة والظاهريّة إلى امتناعه.
وقال السيّد
المرتضى والكرخي وجماعة من الفقهاء : يجوز تأخير البيان المجمل خاصّة.
__________________
وقال آخرون : يجوز
تأخير بيان الأمر دون الخبر.
وقال الجبائيّان
والقاضي عبد الجبّار : يجوز تأخير بيان النسخ دون غيره.
وقال أبو الحسين
البصري : يجوز تأخير بيان ما ليس له ظاهر كالمجمل ، وأمّا ما له
ظاهر وقد استعمل في غير ظاهره ، كالعامّ والمطلق والمنسوخ ، فيجوز تأخير بيانه
التفصيلي ، ولا يجوز تأخير البيان الإجمالي ، بأن يقول وقت الخطاب : هذا العامّ
مخصوص ، وهذا المطلق مقيّد ، وهذا الحكم سينسخ وإن لم يبيّن بأيّ شيء ولا وقته.
وهو الحقّ ،
فهاهنا ثلاث دعاو.
الأوّل : المنع من
تأخير بيان ما له ظاهر قد استعمل في خلافه.
الثاني : الاكتفاء
بالبيان الإجمالي.
الثالث : جواز
تأخير بيان ما لا ظاهر له.
أمّا الدعوى
الأولى : فلأنّ العموم خطاب لنا في الحال إجماعا ، فإن لم يقصد الإفهام لم يكن
مخاطبا ، إذ مفهوم أنّه «مخاطب» توجّه الخطاب نحونا ، ومعناه قصد إفهامنا.
ولانّه لو لم يقصد
الإفهام في الحال ، مع أنّ ظاهره يقتضي كونه خطابا لنا في الحال ، كان إغراء لنا ،
بأن نعتقد انّه قصد إفهامنا في الحال ، فيكون قد قصد أن
__________________
نجهل ، لأنّ من
خاطب قوما بلغتهم ، فقد أغراهم بأن يعتقدوا فيه أنّه قد عنى ما عنوة.
ولأنّه لو لم يقصد
إفهامنا كان عبثا ، لأنّ الفائدة في الخطاب إفهام المخاطب.
ولأنّه لو جاز أن
لا يقصد إفهامنا بالخطاب ، لجاز مخاطبة الزّنجيّ بالعربيّة ، وهو لا يحسنها ، لعدم
وجوب إفهام المخاطبين ، بل ذلك أولى بالجواز ، لأنّ الزّنجيّة ليس لها ظاهر عند
العربيّ يدعوه إلى اعتقاد معناه ، ولو جازت مخاطبة العربيّ بالزّنجيّة وبيّن له
بعد مدّة ، جازت مخاطبة النائم ، وبيّن له بعد مدّة ، وأن يقصد الإنسان بالتصويت
والتّصفيق شيئا يبيّنه بعد مدّة.
لا يقال : خطاب
الزّنجي لا يفهم منه العربيّ شيئا ، فلم يجز أن يخاطبوا به ، بخلاف خطاب العربيّ
بالمجمل ، الّذي يفهم منه شيئا ، فإنّ قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) قد فهم منه الأمر بشيء ، وإن لم يعرف ما هو.
لأنّا نقول : لو
جاز أن يكون اسم الصلاة واقعا على الدّعاء ، ويريد الله تعالى به غيره ، ولا يبيّن
لنا ، جاز أن يكون ظاهر قوله : (أَقِيمُوا) للأمر ، ولا يستعمله في الأمر ، ولا يبيّن لنا ذلك ، وفي
ذلك مساواته لخاطب الزّنجيّ ، لأنّا لا نفهم منه شيئا أصلا.
وإن قصد إفهامنا
في الحال ، فإمّا أن يريد أن يفهم منه ظاهره ، أو
__________________
غير ظاهره ، فإن
أراد الأوّل ، فقد أراد منّا الجهل.
وإن اراد الثاني ،
فقد أراد منّا ما لا سبيل اليه.
وهذه الدلالة
تتناول العامّ المستعمل في الخصوص ، والمطلق ، والمقيّد ، والمنكّر ، والمنسوخ ،
والأسماء المنقولة الشرعيّة ، والنكرة إذا أريد بها شيء معيّن ، لأنّ الكلّ مستعمل
في غير ظاهره.
وأيضا ، لو جاز
تأخير البيان ، لم يكن لنا طريق إلى معرفة وقت الفعل الّذي يقف وجوب البيان عليه ،
لأنّه لو قيل لنا : «صلّوا غدا» جوّزنا أن يكون المراد بقوله «غدا» بعد غد ، وما
بعده أبدا ، لأنّ كلّ ذلك يسمّى غدا مجازا ، ولا يبيّنه لنا ، ولا يقف وجوب البيان
على غاية ، وهو يقتضي تعذّر علمنا بمراد الخطاب.
لا يقال : يبيّن
في غد صفة العبادة ، ثمّ يقول : افعلوها الآن فيعلم وجوب فعلها حينئذ.
لأنّا نقول : نمنع
ذلك ، لجواز أن يريد بقوله الآن وقتا غيره مجازا ، ولا يبيّنه [لنا] في الحال ، بل
يجوز أن يتجوّز بلفظة الأمر عن غيره ، وبلفظة الصّلاة غيرها.
وأيضا ، لو جاز
تأخير البيان ، فإمّا إلى مدّة معيّنة ، وهو تحكّم لم يقل به أحد ، أو إلى غير
نهاية ، فيلزم بقاء المكلّف عاملا أبدا بعموم قد أريد به الخصوص ، وهو في غاية
التجهيل.
وأمّا الدّعوى
الثانية ، فظاهرة ، إذ المفسدة تنتفي مع البيان الإجماليّ ، كانتفائه مع
التفصيليّ.
وأمّا الثالثة ،
فلانتفاء المانع ، وهو التجهيل مع وجود المقتضي ، وهو إمكان تعلّق الغرض بالخطاب
بالمجمل ، لأنّه منشأ مصلحة تتعلّق به ، كما في الخطاب بالمبيّن.
اعترض على الأوّل من حيث المعارضة ومن حيث الجواب.
أمّا المعارضة ،
فمن وجوه أربعة :
الأوّل : العموم
خطاب لنا في الحال مع أنّه لا يجوز اعتقاد استغراقه عند سماعه ، بل لا بدّ من
تفتيش الأدلّة السمعيّة والعقليّة لينظر هل فيها ما يخصّه؟ فإن لم يجد قضى بالعموم
، ففي زمان التوقف الخطاب بالعموم قائم ، مع أنّه لا يجوز اعتقاد ظاهره.
لا يقال : من لم
يجوّز إسماع العامّ دون الخاصّ ، لا يرد عليه ، ومن جوّزه يجيب بأنّ علم المكلّف
بكثرة السنن والأدلّة الّتي يجوز وجود ما يدلّ على خلاف الظاهر كالمشعر بالتّخصيص.
لأنّا نقول : منع
إسماع المكلّف العامّ دون الخاصّ عندكم باطل ، وتخريج النّقض بالمذهب الباطل باطل.
وتجويز إقامة علمه
بكثرة السّنن مقام الإشعار بالتخصيص تجويز أن يكون احتمال قيام المخصّص في الحال
مانعا من اعتقاد الاستغراق في الحال ، وهو يقتضي أن يكون تجويزه لحدوث التخصيص في
ثاني الحال ، مانعا عن اعتقاد الاستغراق في الحال.
__________________
الثاني : تجويز
تأخير البيان المخصّص بزمان قصير ، وعطف جملة من الكلام على [جملة] أخرى ، ثمّ
تبيّن عقيب الثانية ، وأن يبيّن المخصّص بكلام طويل.
لا يقال : نمنع من
تأخير البيان إلّا مقدار ما لا ينقطع عن السامع توقّع شرط يرد على الكلام ، وإنّما
نجوّز البيان بالطويل من القول أو الفعل لو لم يتمّ البيان إلّا بهما ، وحينئذ لا
يكون فيه تأخير البيان.
لأنّا نقول : ظاهر
لفظ العامّ يفيد الاستغراق ، فحال سماعه يتوجّه تقسيم المتكلّم ، من أنّ الغرض
إمّا الإفهام للظاهر أو لغيره ، أو غير الإفهام.
فإن قلت : تجويز
السامع بأن يأتي المتكلّم بعد كلامه بشرط أو استثناء يمنعه من حمل ذلك اللّفظ على
ظاهره.
قلت : فيجوز في
صورة النزاع أن نقول : تجويز السامع أن يأتي المتكلّم حال إلزام التكليف بدليل
مخصّص يمنعه من حمل اللّفظ على ظاهره ، وهذا هو أوّل المسألة.
الثالث : يجوز أن
يأمر الله تعالى المكلّفين بالفعل ، مع تجويز كلّ واحد منهم أنّه يموت قبله ، ولا
يكون مرادا بالخطاب ، وهو يستلزم الشكّ فيمن أريد بالخطاب ، وهذا التخصيص لم
يتقدّم بيانه.
الرابع : أنّ أكثر
المعتزلة اتّفقوا على جواز تأخير [بيان] النسخ إجمالا وتفصيلا ، وينتقض دليلهم به
، لأنّ اللّفظ يفيد الدوام وهو غير مراد ، فإن أراد ظاهره ، فقد أراد منّا الجهل ،
وإن أراد غيره ، لزم التكليف بما لا يطاق.
أمّا الجواب فمن
وجهين :
الأوّل : إن عنيت
بالإفهام في قولك «المخاطب إمّا أن يريد إفهامنا أو لا» إفادة القطع أو الاعتقاد
الرّاجح المشترك بين المانع من النّقيض وغيره.
والأوّل ليس غرضا
، ولا يلزم من نفيه العبث والإغراء بالجهل ، بخلاف خطاب العربيّ بالزنجيّة ، لعدم
تمكّنه من الاعتقاد الرّاجح ، إذ لا يفهم منه شيئا.
والثاني مسلّم ،
لكن لا يمنع من ورود المخصّص ، وإلّا لكان مانعا من النقيض ، مع فرض خلافه.
ثمّ يدل على أنّ
الغرض المشترك بين المانع من النقيض والّذي يجوز معه النقيض أنّ دلالات الألفاظ
ظنيّة ، لما تقدّم من توقّفها على المقدّمات لتوقف الغير الظنيّة ، وإذا احتمل
النقيض لم يمنع التخصيص ، فإنّ الغيم الرّطب يفيد ظنّ المطر ، وقد يتخلّف عنه ،
ولا يقدح في الظنّ ، وإلّا لتوقّف الظّنّ على انتفاء هذا العدم ، فيكون قطعا لا
ظنّا.
الثاني : اللّفظ
العامّ إن وجد مع المخصّص دلّ المجموع على الخاصّ ، وإن خلا عنه دلّ مع العدم على
الاستغراق ، والعامّ متردّد بين هاتين الحالتين ، كتردّد المشترك بين مفهوماته ،
والمتواطئ بالنّسبة إلى جزئيّاته ، وكما يجوز عندكم ورود اللّفظ المشترك والمتواطئ
خاليا عن البيان ، لإفادته إرادة أحد تلك المسمّيات ، فكذا العامّ قبل العلم بوجود
المخصّص معه ، وبعدمه يعلم إرادة العموم والخصوص ، ويعلم أنّ اللّفظ إن وجد معه
المخصّص أفاد الخاصّ ، وإن
وجد معه عدمه أفاد
العامّ ، فلا فرق بينه وبين المشترك ، فيجوز هنا تأخير البيان كما جاز.
لا يقال : هذا قول
باشتراك الصّيغة بين العموم والخصوص ، ونحن نفرّع على أنّها للعموم خاصّة.
لأنّا نقول : نمنع
أنّه قول بالاشتراك ، بل هي وحدها موضوعة للاستغراق ، فانفصل عن القول بالاشتراك.
لكنّا نقول : يجوز
ورود المخصّص ، فإذا ورد أفاد الخاصّ لا غير ، فالشك في وجود المخصّص وعدمه ،
يستلزم الشكّ في أنّه هل يفيد الاستغراق أم لا ، لأنّ الشكّ في الشّرط يوجب الشّك
في المشروط.
وعلى الثاني بأنّ
اللّفظ وإن كان محتملا ، إلّا أنّه قد وجد في القرائن ما يفيد القطع بأنّ المراد
من اللّفظ ظاهره ، وحينئذ يزول السؤال.
فإن لم توجد قرينة
وحضر وقت العمل وجب [العمل] لقيام الظنّ مقام العلم في وجوب العمل ، لا فيما
يتعلّق بالعمل ، فظنّ كونه دالّا على وجوب العمل في الحال ، يكفي في القطع بوجوب
العمل في الحال ، لكنّ عدم المخصّص لا يكفي في القطع بعدم التخصيص ، فظهر الفرق.
وعلى الثالث ،
أنّه يجوز تأخيره إلى وقت الحاجة إلى البيان ، وهو معيّن عنده تعالى ، وأيّ وقت
وجب على المكلّف العمل فهو وقت الحاجة إلى البيان ، وقبل وقت الوجوب فلا عمل
للمكلّف حتّى يقال : إنّه عامل بعموم أريد به الخصوص.
والجواب عن الأوّل
: أنّ العامّ قبل التفتيش والبحث عن المخصّص ليس دليلا ، وإنّما تتمّ دلالته بعد
البحث ، فذلك الزّمان زمان طلب تتميم الدّليل ، والمخاطب قصد إفادة ما يدلّ هو والمخصّص
أو عدمه عليه من العموم وعدمه.
لا يقال : يأتي
ذلك في المتنازع ، بأن يقصد الإفهام لما يدلّ العامّ وما يبيّنه بعد ذلك من
التخصيص عليه.
لأنّا نقول :
الفرق أنّ المخصّص في صورة النزاع ثابت ، والتفريط من المكلّف ، حيث لم يبحث في
الأدلّة الثابتة في نظر الشرع ، بخلاف صورة النقض.
وعن الثاني : أنّا
إنّما نجوّز تأخيره في الزّمان القصير إذا لم يعدّ المتكلّم معرضا عن كلامه الأوّل
، لأنّ كلامه الثاني حينئذ مع الأوّل يعدّ كالجملة الواحدة ، وذلك لا يعدّ تأخير
البيان ، بخلاف الزمان الطويل الّذي يعدّ المتكلّم معه معرضا عن كلامه ، ولهذا
فإنّه يجوز عرفا ولغة أن يتكلّم الإنسان بكلام يقصر فهم السامع عنه ، ويبيّنه بعد
الزمان القصير ، فلا يلزم من التأخير ثمّ ، التأخير هنا.
والجمل المعطوفة
تنزل منزلة الجملة الواحدة ، فالبيان المتعقّب للجمل المعطوفة ، ينزله منزلة
تعقّبه للجملة الواحدة ، فالاحتمال في هذه الصّور راجح على الاحتمال المذكور في
صورة النزاع.
ومنع الرّاجح من
الحمل على الظاهر لا يستلزم منع المرجوح منه.
والكلام الطويل ،
إنّما يجوز البيان به إذا لم يحصل [البيان] إلّا منه ، أو كانت المصلحة فيه أتمّ
من القصير وإلّا فلا.
وفيه نظر ، فانّه
تخريج لتجويز البيان الطويل ، ونحن نسلّم أنّه إذا لم يتمّ إلّا به أو كانت المصلحة
منوطة به ، وجب ، لكنّ الإشكال عائد ، لأنّ الخطاب من غير بيان قد وجد ، سواء كان
بيانه ممتنعا أو ممكنا ، فإنّ النقض يتمّ بهما.
وعن الثالث :
بالمنع من الشكّ بالمراد لتجويز الموت مع ظنّ البقاء ، والدليل اللّفظي يفيد
الظنّ.
وعن الرابع : أنّه
لا يرد علينا ، والفارق بين النسخ وغيره يقول : إنّ العلم حاصل بانقطاع التّكليف ،
فجاز تأخير بيان النسخ للعلم به ، بخلاف غيره.
وعن الجواب الأوّل
: أنّه لو كان الغرض إفادة الظنّ لما دلّ اللّفظ عليه ظاهرا ، لزم منه إرادة الظنّ
الكاذب ، وهو ممتنع.
وعن الثاني :
بالمنع من كون المشترك ، والمتواطئ ، كالعامّ بالنّسبة إلى الاحتمالين.
وعن الاعتراض على
الثاني : بالمنع من حصول القطع ، بل ومن الظنّ مع تطرّق الاحتمال الّذي ذكرناه.
واحتجّت الأشاعرة
على جواز التأخير مطلقا فيما له ظاهر وفيما لا ظاهر له بوجوه :
__________________
الأوّل : قوله
تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنا بَيانَهُ) ومعنى (قَرَأْناهُ) أنزلناه إليك ، و (ثُمَ) للتراخي ، وهو عامّ في الجميع.
الثاني : وهو خاصّ
بالنكرة أنّه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة موصوفة غير منكّرة ، ثمّ لم يبيّنها
، حتّى سألوا سؤالا بعد سؤال.
أمّا عدم التنكير
فلقوله : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ
يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها) وقوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا
فارِضٌ وَلا بِكْرٌ) ، (إِنَّها بَقَرَةٌ
صَفْراءُ) ، (إِنَّها بَقَرَةٌ لا
ذَلُولٌ) ينصرف إلى ما أمروا بذبحه من قبل ، وهذه الكنايات تدلّ على
أنّ المأمور به إنّما هو ذبح بقرة معيّنة.
ولأنّ الصفات
المذكورة في جواب السؤال الثاني إمّا أن تكون صفات البقرة الّتي أمروا بذبحها
أوّلا ، أو صفات بقرة وجبت عليهم عند السؤال ، وانتسخ ما كان واجبا قبله.
والأوّل هو
المطلوب.
والثاني يقتضي
وقوع الاكتفاء بالصّفات الأخيرة ، وهو باطل إجماعا.
وأمّا عدم البيان
قبل السؤال فظاهر.
__________________
الثالث : وهو يدلّ
على تأخير التخصيص أنّه لما نزل قوله تعالى : (إِنَّكُمْ وَما
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) قال ابن الزّبعرى : قد عبدت الملائكة وعبد المسيح ، فهؤلاء حصب جهنم؟ فتأخّر
بيان ذلك إلى أن ينزل قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ).
الرابع : قوله
تعالى : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ
آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ) و (ثمّ) للتراخي.
الخامس : قوله
تعالى : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) وأراد به بيانه للناس.
السادس : قول
الملائكة : (إِنَّا مُهْلِكُوا
أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) ولم يبيّنوا إخراج لوط ومن معه من المؤمنين عن الهلاك
بقوله : (نَحْنُ أَعْلَمُ
بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) إلّا بعد سؤال إبراهيم عليهالسلام ، وقوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً).
__________________
السابع : أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بعث معاذا إلى اليمن ليعلّمهم الزكاة وغيرها ، فسألوه عن
الوقص ، فقال : «ما سمعت فيه شيئا من رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم حتّى أرجع إليه فأسأله» وهو يدلّ على أنّ بيانه لم يتقدّم.
الثامن : لو كان
تأخير البيان ممتنعا ، فإمّا أن يعرف بالضرورة ، أو النظر ، وهما منفيّان ، فلا
امتناع.
التاسع : لو قبح
تأخير البيان ، لكان ذلك لعدم تبيّن المكلّف ، وذلك يقتضي قبح الخطاب إذا بيّن له
ولم يتبيّن ، فإنّه لا فرق في ذلك بين ما إذا امتنع لأمر يرجع إلى نفسه أو غيره ،
ولهذا يسقط تكليف الإنسان إذا مات ، سواء قتل نفسه أو قتله غيره ، واللازم باطل
بالإجماع.
العاشر : قوله
تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما
غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ) الآية ، ثمّ بيّن بعد ذلك انّ السّلب للقاتل ، وأنّ «ذوي
القربى» هم بنو هاشم وبنو المطلب ، دون بني أميّة وبني نوفل ، لمنعهم من ذلك حتّى
سئل عن ذلك ، فقال : «إنّا وبنو المطلب لم نفترق في جاهليّة ولا إسلام ولم نزل
هكذا» وشبّك بين أصابعه.
الحادي عشر : روي
أنّ جبرئيل عليهالسلام قال للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم : اقرأ قال : وما أقرأ؟ كرّر عليه ثلاث مرّات ، ثمّ قال له
: (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) فأخّر بيان الأمر الأوّل والثاني إلى الثالث ، مع إجماله
مع إمكان بيانه أوّلا.
__________________
الثاني عشر : انّه
تعالى خاطبنا بإقامة الصلاة ، وايتاء الزكاة ، ولم يرد بهما حقائقهما اللغويّة ،
ولم يقترن بها البيان ، بل أخّر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها إلى أن ينزل جبرئيل عليهالسلام بعد ذلك ، وبيّنه للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بيّن بعد بيان جبرئيل عليهالسلام لأمّته.
وكذا في الزكاة
بيّن بعد الأمر المطلق مقدار الواجب ، وصفته في الأثمان والمواشي وغيرهما.
وكذا آية السّرقة
، ورد القطع لليد مطلقا ، ثمّ بيّن نصاب القطع ومقدار العضو المقطوع.
وكذا خاطب بالجهاد
بقوله تعالى : (وَجاهِدُوا
بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) ثمّ نزل تخصيصه بقوله تعالى : (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى
الْمَرْضى) وبيّن العمومات الواردة في البيع والنكاح والإرث على
التدريج ، وأوضح ما يصحّ بيعه وما لا يصحّ ، ومن يباح نكاحها ويحرم ، وصفات العقود
وشروطها ، ومن يرث ومن لا يرث ، ومقادير المواريث ، ونهى عن المزابنة. وشكا إليه
الأنصار بعد ذلك ، فرخّص في العرايا ، وهي نوع من المزابنة ، مع أنّه لم يقترن به
بيان إجماليّ ولا تفصيليّ.
الثالث عشر : لو
امتنع تأخير البيان ، فإمّا لذاته ، وهو محال ، لأنّا لو فرضناه واقعا ، لم يلزم
منه محال.
__________________
وإمّا لغيره ، ولا
فارق بين وجود البيان وعدمه سوى علم المكلّف بالمراد من الكلام ، حالة وجود البيان
، وجهله به حالة عدمه ، فلو امتنع تأخير البيان ، لكان لما قارنه من جهل المكلّف
بالمراد المستند إلى عدم البيان ، ولو كان كذلك ، لامتنع تأخير بيان النسخ ، لما
فيه من الجهل بمراد المتكلّم الدالّ بوضعه على تكرّر الفعل على الدّوام ، واللازم
ممتنع ، فالملزوم كذلك.
وهذا لازم على من
منع من تأخير بيان المجمل والعامّ ، وكلّ ما أريد به غير ما هو ظاهر فيه ، وجوّزه
في النسخ كالجبائيّين والقاضي عبد الجبار.
قال القاضي عبد
الجبار : الفرق بين تأخير بيان النسخ وتأخير بيان المجمل [هو :] أنّ تأخير بيان
النسخ ممّا لا يخلّ من التمكّن في الفعل في وقته ، بخلاف تأخير بيان صفة العبادة ،
فإنّه لا يتأتّى معه فعل العبادة في وقتها للجهل بصفتها ، والفرق بين تأخير بيان
تخصيص العموم وتأخير بيان النسخ من وجهين :
الأوّل : الخطاب
المطلق الّذي أريد نسخه معلوم الارتفاع ، بانقطاع التكليف ، بخلاف المخصوص.
الثاني : تأخير
بيان تخصيص العموم ، مع تجويز إخراج بعض الأشخاص منه من غير تعيين ، يوجب الشكّ في
كلّ واحد من أشخاص المكلّفين ، بل هو مراد بالخطاب أم لا ، ولا كذلك في تأخير بيان
النسخ.
__________________
اعترض : بأنّ وقت العبادة إنّما هو وقت دعوّ الحاجة إليها ، لا
قبله ، ووقت الحاجة إليها لا يتأخّر البيان عنه ، فلا يلزم من تأخير بيان صفة
العبادة عنها في غير وقتها ، ووجوده في وقتها ، تعذّر الإتيان بها في وقتها.
والخطاب وإن علم
ارتفاعه بانقطاع التكليف بالموت في الحالتين ، إلّا أنّ الخلاف فيما قبل حالة
الموت ، مع وجود الدليل الظاهر المتناول لكلّ الأشخاص ، واللّفظ الظاهر المتناول
لجميع أوقات الحياة ، وعند ذلك ، إذا جاز رفع حكم الخطاب الظاهر المتناول لجميع
الأوقات ، مع فرض الحياة والتمكّن منه من غير دليل مبين في الحال ، جاز تخصيص بعض
ما تناوله اللفظ بظهوره مع التمكّن من غير دليل مبين في الحال أيضا ، لتعذّر الفرق
بين الحالتين.
وأمّا تأخير بيان
التخصيص ، فإنّه وإن أوجب التردّد في كلّ واحد من أشخاص المكلّفين أنّه داخل تحت
الخطاب أم لا ، فتأخير بيان النّسخ ممّا يقتضي التردّد في أنّ العبادة في كلّ يوم
عدا الأوّل هل هي داخلة تحت الخطاب العامّ لجميع الأيّام أم لا.
وإذا جاز ذلك في
أحد الطرفين ، جاز في الطرف الآخر ضرورة تعذّر الفرق.
وفيه نظر ، لأنّ
الفرق واقع لحصول الفهم وإمكان إيقاع التكليف في النسخ في الوقت الأوّل ، بخلاف
التخصيص.
__________________
وأيضا ، فإنّه إذا
أمر بعبادة في وقت مستقبل أمرا عامّا ، فإنّ كلّ شخص يمكن اخترامه قبل الوقت ،
ويخرج بذلك عن دخوله تحت الخطاب العامّ ، وهو يوجب التردّد في كلّ واحد واحد من
الأشخاص هل هو داخل تحت ذلك الخطاب إذا لم يرد البيان به ، ومع ذلك فإنّه غير
ممتنع اجماعا.
الرابع عشر :
البيان إنّما يجب ليتمكّن المكلّف من أداء ما كلّف به ، والتمكّن من ذلك غير محتاج
إليه عند الخطاب ، وانّما يحتاج إليه قبل الفعل بلا فصل ، فلا يجب تقديمه عند
الخطاب ، كما لا يجب تقديم القدرة عند الخطاب.
الخامس عشر : سأل
عمر عن «الكلالة» فقال له النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم : «يكفيك آية الصّيف» فكان يقول عمر : اللهم مهما شئت ، فإنّ عمر لم يتبيّن.
السادس عشر : وردت
أخبار مستفيضة في بيان آيات من القرآن ، وإنّما تستفيض بعد مدّة ، وفي ذلك تأخير
بيانها عنها إلى أن يستفيض الخبر.
السابع عشر :
الصحابة نقلت أخبارا عند نزول الحاجة إليها ، وهي مخصّصة للعموم ، كالخبر في أخذ
الجزية من المجوس ، وغير ذلك ، فلو لم يجز تأخير البيان ما نقلت ذلك.
الثامن عشر : يحسن
من الملك أن يأمر بعض عمّاله بأمر ، ولا يبيّنه له ، بل يقول له: ولّيتك البلد
الفلاني ، فاخرج إليه غدا ، وأنا أكتب لك تذكرة بتفصيل ما تعمله ، وكذا يحسن من
السيّد أن يقول لغلامه : أنا آمرك بالخروج إلى السوق في
__________________
غد وآمرك بشراء ما
أبيّنه لك غدا ، ويكون القصد التأهّب لقضاء الحاجة ، والعزم عليها ، وقطع العوائق
والشواغل.
والجواب عن الأوّل
: نمنع أنّ كلمة «ثمّ» للتراخي مطلقا ، فقد يرد بمعنى الواو كقوله تعالى : (ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) ، (ثُمَّ كانَ مِنَ
الَّذِينَ آمَنُوا) ، (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ) لاستحالة صيرورته تعالى شهيدا بعد أن لم يكن.
سلّمنا ، لكن ليس
المراد من البيان بيان العموم والمجمل ، بل إظهاره بالتنزيل.
لا يقال : إنّ فيه
مخالفة الظاهر.
لأنّا نقول : يلزم
من حفظ هذا الظاهر مخالفة ظاهر آخر ، وهو أنّ الضّمير في قوله : (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) راجع إلى القرآن كلّه ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أمر باتّباعه ، وهو عامّ في جميع القرآن.
ولأنّه لو حمل على
البعض من غير بيان ، كان مجملا وهو خلاف الأصل ومعلوم أنّ جميعه لا يحتاج إلى بيان
، فليس حفظ أحد الظاهرين أولى من الآخر.
سلّمنا ، لكن يجوز
أن يكون المراد تأخير البيان التفصيلي.
__________________
لا يقال : البيان
مطلق فحمله على التفصيل تقييد من غير دليل.
لأنّا نقول :
المطلق لا يحمل على جميع صوره ، وإلّا كان عامّا ، بل إذا عمل به في صورة ، كفاه
وتنزيل البيان في الآية على الإجمالي دون التفصيليّ أو بالعكس تقييد للمطلق من غير
دليل ، وهو ممتنع ، وإن لم يقل بتنزيله عليه ، فلا حجّة فيه.
سلّمنا أنّ المراد
مطلق البيان ، لكن يجوز أن يريد بقوله : (إِنَّ عَلَيْنا
جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ) جمعه في اللوح المحفوظ ، ثمّ ينزّل إلى الرسول ، ثمّ
يبيّنه ، وذلك متراخ عن الجمع.
سلّمنا ، لكنّ
الآية تدلّ على وجوب تأخير البيان ، ولم يقل به أحد ، فما تدلّ الآية عليه وهو
الوجوب ، لا يقولون به ، وما يقولون به ، وهو الجواز لا تدلّ الآية عليه فبطل
الاستدلال.
وفيه نظر ، لأنّه
إن دلّ فعلى تأخير الوجوب ، لا وجوب التأخير.
سلّمنا ، لكن في
الاستدلال به نظر ، لأنّه يدل على تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وهو باطل بالإجماع
، ثمّ كيف يأمر بالاتّباع ثمّ يبيّنه بعد ذلك.
اعترض : بأنّ كلمة «ثمّ» للتراخي ، بالتواتر ، والآيات المذكورة ، المراد هناك التأخير في الحكم.
__________________
ولا يجوز أن يكون
المراد من البيان إظهاره بالتنزيل ، لأنّ قوله (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) أمر له صلىاللهعليهوآلهوسلم باتّباع قرآنه ، وإنّما يكون مأمورا بذلك بعد نزوله ،
فإنّه قبله لا يكون عالما به ، فكيف يمكنه اتّباع قرآنه؟
فاذن المراد من
قوله : (فَإِذا قَرَأْناهُ) الإنزال ، ثمّ إنّه تعالى حكى بتأخير البيان عن ذلك ، وهو
يقتضي تأخير البيان عن وقت الإنزال ، وإذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون المراد من
البيان الإنزال ، لاستحالة كون الشيء سابقا على نفسه.
سلّمنا ، لكنّه
خلاف الظاهر ، ونمنع أنّ لفظ القرآن للجميع ، فإنّه كما يتناوله يتناول بعضه ،
فإنّه لو حلف أن لا يقرأ القرآن ، ولا يمسّه ، فقرأ أو لمس البعض ، فإنّه يحنث في
يمينه.
سلّمنا أنّ لفظ
القرآن ليس حقيقة في البعض ، لكنّ إطلاق اسم الكلّ على البعض ، أسهل من إطلاق لفظ
البيان على التنزيل ، لأنّ الكلّ مستلزم للجزء ، والبيان غير مستلزم للتنزيل.
ولا يجوز حمل
البيان على التفصيليّ ، لأنّ اللّفظ مطلق ، فتقييده خلاف الظاهر.
ولا يجوز حمل
الجمع على جمعه في اللوح المحفوظ ، لما تقدّم ، من أنّه تعالى أخّر البيان عن
القراءة الّتي يجب على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم متابعتها ، وهو يستدعي تأخير البيان عن الإنزال.
__________________
واقتضاؤه لوجوب
تأخير البيان نقوله به.
وفيه نظر ، فإنّا
ما منعنا من كونها للتراخي ، بل قلنا إنّها قد ترد بمعنى الواو لما بين الجمع
المطلق ، وموصوفا بالتراخي من التلازم ، فجاز أن يكون الجمع هو المراد ، والدليل
إنّما يتمّ لو سلم عن جميع الاحتمالات.
ولا يجوز أن يكون
المراد في قوله : (ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ)(ثُمَّ آتَيْنا) التراخي في الحكم ، لأنّه بيّنه تعالى ، فلا يتأخّر عمّا
تقدّم خصوصا عندهم ، حيث قالوا بقدم الكلام.
وكما أنّ حمل
البيان على الإظهار بالتنزيل ، يستلزم الأمر بالاتّباع قبل نزوله وهو محال ، كذا حمله على بيان المجمل وغيره يستلزم الأمر
بالاتّباع قبل معرفته ، وهو محال ، فلا بدّ من التأويل عندنا وعندكم.
ويمنع صدق اسم
القرآن على البعض حقيقة عرفيّة ، ولهذا يقال : كلّ القرآن وبعضه.
والحنث بمسّ البعض
، لأنّه المتعارف في المسّ ، حيث يقال : مسّ الثوب ، وإن لم يمسّ جملته.
وكون إطلاقه على
البعض أولى من إطلاق البيان على الإظهار بالتنزيل ، للاستلزام في الأوّل دون
الثاني.
__________________
وعن الثاني بوجوه
:
الأوّل : لا يجوز
التمسّك بهذه الآية ، لأنّ الوقت الّذي أمروا فيه بذبح بقرة كانوا محتاجين إلى
ذبحها ، فلو أخّر البيان ، لزم تأخيره عن وقت الحاجة ، وهو باطل إجماعا.
الثاني : المأمور
به ليس ذبح بقرة معيّنة ، بل ذبح أيّ بقرة كانت ، لدلالة ظاهر الأمر على التنكير ،
وهو يقتضي الخروج عن العهدة بذبح أيّ بقرة اتّفقت ، فلا يكون من صور النزاع.
لا يقال : انّهم
سألوا عن تعيينها ، ولو كانت منكّرة لما سألوا عن تعيينها.
لأنّا نقول : ظاهر
الأمر يدلّ على التنكير ، لقوله : «بقرة» والتعيين مخالف له ، وليس الحمل على
التعيين ضرورة تصحيح سؤالهم ، ومخالفة ظاهر النصّ أولى من العكس ، بل موافقة ظاهر
النصّ أولى.
وإذا كان المأمور
به ذبح بقرة مطلقة بطل الاستدلال ، والتعيين باعتبار السؤال ، فإنّهم لمّا سألوا
تغيّرت المصلحة ، ووجبت عليهم بقرة موصوفة باعتبار سؤالهم ، ولا يحصل الاكتفاء
بالصفات الأخيرة ، لإمكان وجوب الصفات الأولى عقيب السؤال الأوّل ، والثانية عقيب
الثاني ، وهكذا.
ولا نسلّم عود
الكنايات إلى البقرة المذكورة ، لجواز أن تكون كنايات عن القصّة والشأن.
الثالث : سلّمنا
أنّ هذه الكنايات تقتضي كون البقرة المأمور بها ، موصوفة ، ولكن هنا ما يدلّ على
التنكير ، وهو : أنّ الأمر إنّما هو بذبح بقرة مطلقة ، وهو
يقتضي أن يكون
اعتبار الصّفة بعد ذلك تكليفا جديدا.
ولأنّه لو كان
المأمور به ذبح بقرة معيّنة لما استحقّوا الذّمّ والتعنيف على السؤال وطلب البيان
، بل كانوا يستحقّون المدح عليه ، فلمّا عنّفهم [الله] بقوله (وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) علمنا تقصيرهم في الإتيان بما أمروا به أوّلا ، وذلك إنّما
يكون لو كان المأمور به ذبح بقرة منكّرة.
ولما روي عن ابن
عباس أنّه قال : «لو ذبحوا أيّة بقرة أرادوا لأجزأت ، عنهم لكنّهم شدّدوا على
أنفسهم ، فشدّد الله عليهم».
الرابع : يجوز أن
يكون المأمور به ذبح بقرة موصوفة تبيّنت لهم بيانا تامّا ، لكنّهم لم يتبيّنوا
لبلادتهم ، فاستكشفوا طلبا لزيادة ، فحكى الله تعالى ذلك.
الخامس : سلّمنا
أنّ البيان التامّ لم يتقدّم ، فجاز أن يقال : إنّ موسى عليهالسلام كان قد أشعرهم أنّ البقرة ليست مطلقة بل معيّنة ، فطلبوا
البيان التفصيليّ ، فالبيان الإجماليّ كان مقارنا ، والتفصيليّ كان متأخّرا ، وليس
تقييد سؤالهم بطلب البيان مع إطلاقه ، بالإجماليّ ، أولى من التفصيليّ.
اعترض : بأنّ تأخير البيان يلزم لو كان الأمر للفور ، ونحن لا
نقول به.
ولا يجوز عود
الكنايات إلى ضمير الشأن ، وإلّا لم يبق ما بعده مفيدا ، لعدم الفائدة في قوله : (بَقَرَةٌ صَفْراءُ) بل لا بدّ من إضمار شيء ، وهو خلاف
__________________
الأصل ، وإذا جعلت
الكنايات عائدة إلى المأمور به أوّلا ، لم يلزم هذا المحذور.
ولأنّ عود الضمير
إلى الشأن خلاف الأصل ، لأنّ الكنايات يجب عودها إلى شيء جرى ذكره ، والشّأن لم
يجر ذكره ، خولف في بعض المواضع للضرورة ، فيبقى ما عداه على الأصل.
ولأنّ من المعلوم
أنّ قوله : (ما لَوْنُها) [و](ما هِيَ) عائد إلى البقرة المأمور بها ، فوجب في قوله : (إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ) عوده إليها ، وإلّا لما يطابق الجواب والسؤال.
وظاهر الأمر وإن
اقتضى الإطلاق ، لكنّ المراد غير ظاهره.
مع أنّه تعالى ما
بيّنه.
والتّعنيف لا
لأنّهم فرّطوا في أوّل القصّة ، بل لأنّهم كادوا يفرّطون بعد البيان التامّ ،
واللّفظ محتمل لكلّ منهما ، فيحمل على الأخير ، وهو أنّهم لمّا وقفوا على تمام
البيان توقّفوا عند ذلك.
وقول ابن عباس خبر
واحد لا يعارض نصّ الكتاب.
وحصول البيان ،
يستلزم أنّهم تنبّهوا ، لأنّهم كانوا يلتمسون البيان ، ولو كان البيان حاصلا لما
التمسوا ، بل كانوا يطلبون التفهيم.
ولأنّ فقد التبيّن
عند حضور هذا البيان متعذّر هاهنا ، لأنّ ذلك البيان ليس
__________________
إلّا وصف تلك
البقرة ، والعارف باللّغة إذا سمع تلك الأوصاف استحال أن لا يعرفها.
ولو كانوا يطلبون
البيان التفصيلي ، لذكره الله تعالى إزالة للتهمة.
وفيه نظر ، فإنّ
الفور وإن لم يكن الأمر موضوعا له ، لكنّه كما يصدق مع التراخي يصدق معه ، ويجوز
للمكلّف الإتيان به على الفور ، بل هو أولى ، وهذا هو وقت الحاجة إلى البيان ، كما
في التراخي.
ومخالفة الأصل
يجوز مراعاة لحفظ أصل آخر ، وهو الإطلاق في النكرة ، وأنّ المأمور به مبيّن لا
مجمل.
وقول ابن عباس
تفسير لما دلّ اللّفظ عليه ، لا أنّه معارض له.
ويمنع أنّهم طلبوا
البيان بل التّفهم ، ولا شكّ في أنّهم طلبوا البيان التفصيليّ ، لأنّ الإجماليّ
حصل بالجواب عن السؤال الأوّل.
وعن الثالث : بأنّ
لفظة «ما» لمن لا يعقل ، فلا يدخل المسيح ولا الملائكة.
ولأنّ قوله (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ) خطاب مع العرب ، وهم ما كانوا يعبدون المسيح والملائكة بل
الأوثان.
ولأنّ العقل هنا
مخصّص للعموم ، فإنّه دلّ على خروج الملائكة
__________________
والمسيح ، إذ لا
يجوز تعذيبهم بذنب الغير ، وهذا الدليل كان حاضرا في عقولهم ، فلا يكون من هذا الباب.
ولأنّ المسألة
علميّة ، وهذا خبر واحد ، فلا يجوز إثباته به.
ولأنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما سكت انتظارا للوحي ليتأكّد البيان العقليّ بالنقليّ.
لا يقال : لفظة «ما»
يتناول أولي العلم ، لقوله تعالى : (وَما خَلَقَ
الذَّكَرَ وَالْأُنْثى).
(وَالسَّماءِ وَما
بَناها).
(وَلا أَنْتُمْ
عابِدُونَ ما أَعْبُدُ).
ولأنّ «ما» بمعنى
الّذي ، ويصحّ إطلاقها على من يعقل إجماعا ، لقولنا : الّذي جاء زيد ، فكذا ما هو بمعناه.
ولصحّة قوله : «ما
في داري من العبيد أحرار».
ولأنّ ابن
الزّبعرى كان من الفصحاء ، وقد فهم تناول «ما» لمن يعقل ، والنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينكر عليه.
ولأنّها لو اختصّت
بغير من يعلم ، لما احتيج إلى قوله (مِنْ دُونِ
__________________
اللهِ) وحيث كانت بعمومها متناولة لله تعالى احتاج إلى التقييد
بقوله : (مِنْ دُونِ اللهِ).
لأنّا نقول :
الإطلاقات تعطي جواز إطلاق «ما» على من يعقل ، ولا يلزم من ذلك أن تكون ظاهرة فيه
، بل هي ظاهرة فيمن لا يعقل ، ويدلّ عليه قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لابن الزّبعرى ردّا عليه : «ما أجهلك بلغة قومك ، أما علمت
أنّ «ما» لما لا يعقل ، و «من» لمن يعقل» والجمع بين الأمرين والتوفيق بين الأدلّة أولى من تعطيل
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم والعمل بما ذكروه.
وإذ كانت «ما»
ظاهرة فيمن لا يعقل دون من يعقل ، وجب تنزيلها على ما هي ظاهرة فيه.
وقول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أولى بالاتّباع مما توهّمه ابن الزبعرى.
وفائدة قوله : (مِنْ دُونِ اللهِ) التأكيد ، وحمل الكلام على التأسيس وإن كان أولى ، لأنّه
الأصل ، غير أنّه يلزم من حمله على فائدة التأسيس مخالفة ظاهر قول النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والجمع أولى.
ونزول (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا
الْحُسْنى) للتأكيد بضمّ [الدليل] الشرعيّ إلى العقليّ.
واعترض : بأنّه قد كان في العرب من يعبد الملائكة والمسيح.
__________________
ولأنّه لو كان
خطابا مع عبدة الأوثان لا غير ، لما جاز توقّفه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن تخطئة السائل.
وتعذيب كلّ أحد
بجرم الغير وإن كان قبيحا ، لكن يصحّ دخول الشبهة في أنّ أولئك المعبودين هل كانوا
راضين بذلك أم لا؟ فصحّ السؤال.
ولا نسلّم أنّ هذه
الرّواية من باب الآحاد ، فإنّ المفسّرين اتّفقوا على ذكرها في سبب نزولها ، فكان
إجماعا.
ولأنّ التمسّك
بالأدلّة اللّفظيّة لا يفيد إلّا الظنّ.
وفيه نظر ، فإنّا
بعد التسليم بوجود من يعبد الملائكة والمسيح نمنع تناول الآية لهم للدّليل العقلي
المخرج لهم عن الدخول ، ونمنع توقّفه عن التخطئة ، وقد تقدّم ، ولا يدخل الشبهة في
رضا المعبودين من الملائكة والمسيح ، خصوصا في السائل ، ونمنع الإجماع ، والدّليل
اللّفظيّ قد يفيد اليقين.
وعن الرابع : نمنع
أنّ المراد من التفصيل بيان المراد من المجمل والظاهر المستعمل في غير ما هو ظاهر
فيه ، بل المراد : أحكمت في اللوح المحفوظ ، وفصّلت في الإنزال.
وعن الخامس : أنّ
ظاهره المنع من تعجيل نفس القرآن ، لا بيان ما هو المراد منه ، لما فيه من الإضمار
المخالف للأصل ، وإنّما منعه من تعجيل القرآن ، أي من تعجيل أدائه عقيب سماعه ،
حتّى لا يختلط عليه السّماع بالأداء ، فإنّه لو أراد به البيان ، لما منعه بالنّهي
، للاتّفاق على أنّ تعجيل البيان بعد الأداء غير منهيّ عنه.
__________________
أقول : ويحتمل أن
يكون المراد : «ولا تعجيل بطلب القرآن في تعريف الأحكام من قبل أن يقضى إليك وحيه»
لدلالة قوله : (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) عليه.
وعن السادس :
بالمنع من تأخير البيان في هذه الآية ، بل هو مقرن بها ، لأنّ الملائكة علّلوا
الهلاك بأنّ أهلها كانوا ظالمين ، وذلك لا يدخل فيه إلّا من كان ظالما ، ولم
يتخلّل بين قول الملائكة غير سؤال إبراهيم ، وهو قوله : (إِنَّ فِيها لُوطاً) وذلك لا يعدّ تأخيرا للبيان بجريان مثل ذلك بسبب انقطاع
نفس أو سعال.
ومبادرة إبراهيم عليهالسلام إلى السؤال ، ومنعهم من اقتران البيان بالمبيّن نازل منزلة
انقطاع النفس والسّعال ، حتّى أنّه لو لم يبادر بالسّؤال ، لبادروا بالبيان.
وعن السابع : أنّه
لا يلزم من عدم علم معاذ وعدم سماعه ومعرفته بالوقص ، عدم اقتران البيان بالمبيّن
خصوصا ، والأصل عدم وجوب الزكاة في الأوقاص ، وغيرها ، فإذا أوجب الشارع الزكاة في
غيرها ، بقيت هي على حكم الأصل ، وهذا صالح للبيان والتخصيص.
وعن الثامن : وهو
دليل القاضي أبي بكر ، أنّه معارض بمثله ، وهو أنّه لو كان جائزا ، فإمّا أن
يعرف بالضرورة أو النّظر ، وكلّ منهما منتف ، فلا جواز ، وليس أحدهما أولى من
الآخر.
__________________
وفيه نظر ، لقضاء
العقل بالجواز ، لأنّه الأصل ، بخلاف الامتناع ، فكان الحكم بالجواز أولى.
واعترضه الغزّالي
: بأنّه لا يورث العلم ببطلان الإحالة ، ولا بثبوت الجواز ، إذ يمكن أن يكون وراء
ما ذكره وفصّله دليل على الإحالة لم يخطر لهؤلاء ، ويمكن أن لا يكون دليل لا على الإحالة ، ولا على الجواز
، فعدم العلم بدليل الجواز لا يثبت الإحالة ، فكذا عدم العلم بدليل الإحالة لا
يثبت الجواز ، بل عدم العلم بدليل الإحالة لا يكون علما بعدم الإحالة ، فلعلّ عليه
دليلا لم يعلمه أحد.
وعن التاسع :
بالفرق بين فقد التّبيّن مع وجود البيان ، وتأخير البيان ، في أنّ الثاني قبيح دون
الأوّل ، لأنّ القبح في تأخير البيان منسوب إلى المخاطب ، وفي فقد التبيين منسوب
إلى تقصير المكلّف ، وسقوط التكليف عن الميّت إنّما هو لعدم تمكّنه المشروط في
التكليف ، وذلك لا يفترق بأن يكون قد مات بفعله أو بفعل غيره.
على أنّ ذلك ينتقض
بدنوّ حال الفعل ، لأنّه لا يجوز أن لا يبيّن له ، وإن كان لو بيّن له ، فلم
يتبيّن ، لم يوجب ذلك قبح التكليف ولا قبح البيان.
وعن العاشر : بأنّ
المتأخّر هو البيان التفصيليّ لا الإجماليّ ، فيمكن أن يكون الاجماليّ متقدّما بل
والتفصيليّ أيضا.
__________________
اعترض : بأنّه لو كان لنقل ، مع أنّ الأصل عدمه.
وفيه نظر ،
للاستغناء بنقل التفصيليّ عنه.
وعن الحادي عشر :
بأنّه خبر واحد ، فلا يصحّ التعليق به هنا.
ولأنّ الأمر مطلق
فإن اقتضى الفور لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وإن كان للتراخي ، فلا شكّ في
إفادته جواز الفعل في الزمن الثاني من [وقت] الأمر ، فتأخير البيان عنه تأخير عن
وقت الحاجة أيضا ، وهو ممتنع بالإجماع ، فإنّه لا فرق في وجوب البيان بين ما وجب
فعله على الفور أو التراخي ، فلا بدّ لنا ولهم من ترك الظاهر.
اعترض : بأنّ الأمر ليس للفور ، وجواز الفعل في الزّمان الثاني
من وقت الأمر ، إنّما يكون إذا كان المأمور به مبيّنا ، أمّا إذا لم يكن فلا ،
ونمنع كون الحاجة داعية إلى معرفته مع قطع النّظر عن وجوبه وعدم المؤاخذة بتركه ،
بدليل ما قبل الأمر.
وفيه نظر ، لأنّ
جواز الفعل في الزمن الثاني معلوم من الأمر ، وإلّا لم يكن الزّمن الثاني وقتا له
، وهو خلاف الإجماع ، فإنّ القائل بالفور أوجب فعله في الزّمن الثاني ، ومن جعله
للتراخي جوّزه ، فلو أخّر البيان لزم تأخيره عن وقت الحاجة ، والحاجة ظاهرة ، لأنّ
المسارعة مستحبّة ، وفرق بين ما بعد الأمر وما قبله.
__________________
وعن الثاني عشر :
بجواز تقدّم الإجماليّ على التفصيليّ ، وظاهر وجوب مقارنة الإجماليّ للخطاب لأنّه
إمّا للفور أو التراخي ، وتمام البحث ما تقدّم.
على أنّا نقول :
لو لم يعرّفنا صلىاللهعليهوآلهوسلم عند النقل للصلاة عن المعنى اللّغوي إلى غيره ، لكان
السامع يحمله على المعنى اللّغويّ ، لكنّه قد نقل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم سئل عن الصلاة لمّا أمر بها.
أو نقول : إنّه قد
كان بيّنها بالقول ، وأخّر البيان بالفعل إلى وقتها ، ليتأكّد البيان.
والحجّ بيّنه
بالقول قبل الفعل ، ولهذا فإنّ النّاس حجّوا قبل حجّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وعن الثالث عشر :
بأنّا نوجب اقتران البيان الإجماليّ بالمنسوخ والمخصوص معا.
وعلى رأي الفارقين
[نجيب ب] ما ذكره القاضي عبد الجبار ، وهو أنّ التردّد في الإيجاب بعد الزمن
الثاني في المنسوخ ، لا يقتضي عدم التكليف في الأوّل ، فيستفاد منه الوجوب في
الزّمن الأوّل ، بخلاف المخصوص ، فافترقا.
وعن الرابع عشر :
بالمنع من حصر وجوب البيان في تمكّن المكلّف من الفعل ، نعم كما أنّه علّة فيه ،
كذا خروج الخطاب من كونه عبثا أو إغراء بالجهل
__________________
علّة أيضا ، ولهذا فإنّه لو لم يفتقر إلى البيان إلّا للتمكّن من
الأداء ، لجاز أن يخاطبنا الله تعالى بما لا نفهم به شيئا البتّة ، كخطاب الزّنج ،
والخصم يمنع منه ، ويقول : لا بدّ من أن يعرف السامع بالخطاب شيئا ما.
لا يقال : لا يلزم
من تأخير البيان كون الخطاب عبثا وإن لم يفهم به المراد في الحال ، فإنّه يفيد
العزم والاعتقاد.
لأنّا نقول :
إنّما يجب العزم والاعتقاد لو علم أنّ الخطاب أمر ، ومن جوّز تأخير بيان العموم
وكلّ ما له ظاهر ، لا يأمن أن تكون صيغة الأمر لم تستعمل في الأمر ، وأنّه يبيّن
له ذلك فيما بعد.
وعن الخامس عشر :
بجواز عدم تأخير البيان لكن عمر لم يتبيّن ، ويدلّ عليه كلامه ، ولا بدّ للمستدلّ من
أن يقول به : لأنّ الحاجة قد حضرت.
وعن السادس عشر :
أنّ بيان القرآن منه ما لا يجوز نقله إلّا متواترا ، وهو ما تعبّدنا فيه بالعلم
دون الظنّ ، وليس يمتنع أن يتواتر ذلك في حال تواتر نقل القرآن ، وإن كان نقل
القرآن أشدّ استفاضة.
ومنه ما يجوز نقل
بيانه بالآحاد وهو المظنون من الأحكام ، ولا يجب أن يستفيض ذلك ، فيقال : إنّه
إنّما يستفيض في مدّة فيتأخّر عنها البيان.
وعن السابع عشر :
انّ بعض مانعي تأخير البيان جوّز أن لا يسمع المكلّف الخبر الخاصّ ، ويقول : يلزمه
البحث والطلب إذا خوّفه الخاطر ، فيجوز أن يكون
__________________
في الأدلّة ما
يخصّص العموم ، فلا يرد السؤال عليه.
وعن الثامن عشر :
أنّ قول الملك لوزيره والسيّد لعبده : «غدا آمرك بشيء» ليس فيه أمر في الحال ، بل
إعلام بورود أمر مجمل ، وتأخيره جائز عندنا.
واحتجّ المانعون
من تأخير بيان المجمل بعدم الفرق بين الخطاب بالمجمل الّذي لا يعرف مدلوله من غير
بيان ، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان ، وكما يصحّ الثاني ،
فكذا الأوّل.
ولأنّ المقصود من
الخطاب إنّما هو التفاهم ، والمجمل الّذي لا يعرف مدلوله من غير بيان له في الحال
لا يحصل منه التفاهم ، فلا يكون مفيدا ، فلا تحسن المخاطبة به ، لكونه لغوا ، وهو
قبيح من الشارع ، كما لو خاطب بكلمات مهملة لم توضع في لغة من اللّغات لمعنى على
ان يبيّن المراد منها بعد ذلك.
والجواب : المجمل
يعرف منه التكليف بأحد مدلولاته ، فيحصل بالخطاب به فائدة الثواب والعقاب بالعزم
على الفعل والترك ، بخلاف الخطاب بما لا يفهم منه شيء البتة.
والخطاب بالمجمل
خطاب بما لا يحتاج إلى بيان من وجه ، وهو إرادة أحدهما لا بعينه ، فإن أراد
المتكلّم بالقرء شيئا سوى الطّهر والحيض ، فقد أراد به غير ظاهره ، فحينئذ يجب
بيانه إمّا مجملا أو مفصّلا على ما تقدّم.
وفيه نظر ، فإنّ
النزاع فيما لو كانت صيغة الأمر مشتركة ، كما في صيغة المأمور.
__________________
احتجّوا أيضا ،
بأنّه تعالى إن أراد التخيير في الأمر بالاعتداد بالقرءين أيّهما شاءت أو واحدا
بعينه ، فقد أراد ما لا سبيل للمجتهد إلى فهمه ، فإنّ اللّفظ لا ينبئ عن التخيير
عندكم ، ولا عن واحد بعينه ، فوجبت مقارنة البيان.
ولأنّه لو حسن
الخطاب بالمجمل ، تحسن مخاطبة الزّنجيّ بالعربيّة ، والجامع جهل السّامع بمراد
المتكلّم.
والجواب عن الأوّل
: أنّه أراد واحدا بعينه ، ولم يرد من المجتهد فهمه في الحال ، لعدم نصب دليل عليه
، بل دلّهم على الجملة ، وأراد منهم فهمها ، كما لو قال : «اعتدّي بواحد من أحد
شيئين بعينه ، وسأبيّنه لك» و «اضرب رجلا معيّنا سأبيّنه لك» وبالجملة كما يتعلّق
الغرض بالبيان التفصيليّ كذا يتعلّق بالإجماليّ.
وعن الثاني :
بالفرق ، فإنّ السامع للمشترك يفهم أنّ المراد أحد معنييه لا بعينه ، وهو التردّد
الّذي اقتضاه اللفظ والحصر في معانيه ، بخلاف مخاطبة الزنجيّ بالعربيّة ، لأنّه لا
يفهم شيئا إجمالا ولا تفصيلا ، فقبح خطابه من غير بيان ، بخلاف المشترك.
لا يقال : لو كان
في كلام الزّنج ما هو مشترك بين الأمر والنهي وجميع أقسام الكلام ، يحسن أن يخاطب
العربيّ ، لأنّه يعتقد أنّه أراد واحدا من ذلك.
لأنّا نقول : كما
يجوز أن يكون في كلام الزّنج ما هو مشترك بين ذلك ، فإنّه يجوز خلافه ، فلا يعتقد
السامع في ذلك الكلام ما يفيده من التردّد بين هذه الأقسام ، ولو اعتقد ذلك
لاعتقده بغير الكلام ، إمّا لاعتقاده حكمة المتكلّم ، أو لظنّه حكمته ، وأنّ
الحكيم لا بدّ أن يريد بخطابه شيئا ما.
المبحث السابع :
في جواز تأخير التبليغ
اختلف المانعون من
جواز تأخير بيان المراد من الخطاب عن وقت الخطاب ، فقال أكثرهم : يجوز تأخير تبليغ
ما يوحى إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم من الأحكام والعبادات إلى وقت الحاجة ومنع منه آخرون.
لنا : أنّ التبليغ
تابع للمصلحة ، وجاز أن يكون في تقديمه مفسدة ، فيجب تأخيره إلى وقت الحاجة.
ولأنّه لو امتنع
تأخيره فإمّا لذاته ، وهو محال ، إذ لا يلزم من فرض وقوعه محال وإمّا لغيره ،
والأصل عدمه.
ولأنّه في الشاهد
قد يقبح تقديم الإعلام على حضور وقت العمل ، وقد يقبح ترك التقديم ، وقد يكون بحيث
يجوز الأمران ، وإذا كان كذلك ، لم يمتنع أن يعلم الله تعالى اختلاف مصلحة
المكلّفين في تقديم الإعلام وفي تركه ، فلا يكون التقديم واجبا على الإطلاق.
ولأنّه لو وجب
التقديم لكان إمّا عقليّا أو نقليّا والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل :
فلأنّه لو كان كذلك ، لكان له وجه وجوب يرجع إلى التّكليف ، إمّا لأنّه تمكين ، أو
لأنّه لطف ، فإن كان تمكينا ، فإمّا من الفعل ، أو من فهم المراد من الخطاب ،
ومعلوم أنّه لم يتقدّم خطاب مجمل يكون هذا بيانه ، ولا يقف إمكان فعل العبادة على
تقديم أدائها على الوقت الّذي إذا بلغت العبادة فيه ، أمكن المكلّف أن يستدلّ
بالخطاب على وجوبها ، فيفعلها في وقتها.
فأمّا اللّطف ،
فليس في العقل طريق إليه ، كما أنّه ليس في العقل طريق إلى كون تقديم تعريف الله
تعالى بالعبادة الّتي يريد أن يعبّدنا بها بعد سنة لطفا ، ولهذا لم يعرّف الله
سبحانه على لسان نبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم جميع ما يريد أن يتعبّدنا به في حالة واحدة.
وأمّا الثاني :
فلعدم دليل سمعيّ يدلّ عليه.
احتجّ الآخرون
بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) والأمر للفور.
والجواب : المنع
من كونه للفور.
سلّمنا ، لكن ليس
المراد تبليغ الأحكام الّتي وقع النزاع فيها ، وإنّما المراد القرآن ، لأنّه
المفهوم من المنزل. قاله قاضي القضاة ، وأجاب قاضي القضاة أيضا : بأنّ هذا الأمر
إنّما يفيد وجوب تبليغه على الحدّ الّذي أمر أن يبلّغ عليه ، من تقديم أو تأخير.
اعترضه أبو الحسين
: بأنّ الوجه الّذي أمر أن يبلّغ عليه ، هو التعجيل ، بدلالة هذا الأمر .
وفيه نظر ، لأنّ
الوجه إنّما يكون هو التعجيل لو كان هذا الأمر للفور.
__________________
المبحث الثامن :
في ذكر من يجب له البيان
اعلم أنّه لا يجب
في أحكام الله تعالى عمومها ، بل فيها ما هو عامّ ، وفيها ما هو خاصّ ، والخطاب
المحتاج إلى البيان إذا لم يتناول حكما عامّا بل اختصّ ببعض المكلّفين لم يجب على
غيرهم فهمه ، وقد يجب بكلّ من أراد الله تعالى إفهامه ، وجب أن يبيّن له ، ومن لا
، فلا.
أمّا الأوّل :
فلقبح تكليف ما لا يطاق.
وأمّا الثاني :
فلأنّه لا تعلّق له بالخطاب ، فلا وجه لوجوب بيانه.
والّذين أراد الله
فهم خطابه منهم ضربان : منهم من أراد منه فعل ما تضمّنه الخطاب ، إن كان ما تضمّنه
الخطاب فعلا.
ومنهم من لم يرد.
والأوّل : هم
العلماء ، وقد أراد الله تعالى منهم فهم مراده من آية الصلاة وأن يفعلوها.
والثاني : هم
العلماء في أحكام الحيض ، فإنّه قد أريد منهم فهم الخطاب ، ولم يرد منهم فعل ما
تضمّنه الخطاب.
والّذين لم يرد
الله تعالى منهم فهم مراده ولم يوجب ذلك عليهم ضربان : منهم من لم يرد منهم فعل ما
تضمّنه الخطاب ، وهم أمّتنا مع الكتب السالفة ، فإنّه تعالى لم يرد منا فهمها ولا
فعل ما تضمّنه الخطاب فيها.
ومنهم من أراد
منهم الفعل ، وهم النّساء في أحكام الحيض ، لأنّه تعالى
أراد منهنّ التزام
أحكام الحيض بشرط الاستفتاء ، ولم يوجب عليهنّ فهم مراده بالخطاب ، فإنّه لم يوجب
عليهنّ سماع أخبار الحيض ، ولا البحث عن رواتها ، ولا عن بيان مجملها ، وتخصيص
عامّها ، والترجيح بين متعارضاتها.
المبحث التاسع :
في جواز تأخير إسماع المخصّص
اعلم أنّ العامّ
قد يخصّص بدليل سمعيّ ، كما قد يخصّص بدليل عقليّ على ما سلف بيانه.
والعقليّ قد يكون
ضروريّا ، وقد يكون نظريّا فيحتاج في حصوله إلى طلب واستدلال ، إذا ثبت هذا فنقول
: اختلف النّاس في أنّه هل يجوز من الحكيم أن يسمع المكلّف العامّ من غير أن يسمعه
المخصّص السمعيّ أم لا؟ فمنع منه أبو الهذيل العلّاف وأبو علي الجبائيّ ، وأجازا أن يسمعه العامّ المخصوص
بأدلّة العقل ، وإن لم يعلم السّامع أنّ في العقل ما يدلّ على تخصيصه.
وجوّزه النّظّام وأبو هاشم ، وأبو الحسين البصري وهو الحقّ.
لنا وجوه :
الأوّل : الوقوع ،
فإنّ كثيرا من الصحابة سمعوا قوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
__________________
الْمُشْرِكِينَ) ولم يسمعوا [قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم :] «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» إلّا بعد حين.
الثاني : يجوز
الخطاب بالعامّ المخصوص بالعقل ، من غير أن يخطر بباله ذلك المخصوص إجماعا ، فجاز
الخطاب بالعامّ المخصوص بالسمع من غير أن يسمعه ذلك المخصّص بجامع يمكّنه في
الصّورتين من معرفة المراد.
الثالث : إنّا نجد
من أنفسنا سماع كثير من العمومات المخصوصة قبل سماع مخصّصاتها ، وانكاره مكابرة.
الرابع : قد
بيّنّا جواز تأخير المخصّص عن الخطاب إذا كان سمعيّا ، مع أنّ عدم سماعه لعدمه في
نفسه ، أتمّ من عدم سماعه مع وجوده في نفسه ، فإذا جاز تأخير المخصّص ، فجواز
تأخير إسماعه مع وجوده أولى.
الخامس : العامّ
المخصوص يمكّن المكلّف من اعتقاد تخصيصه إذا سمع بالدليل المخصّص ، كما يمكّنه ذلك
، إذا لم يسمع به ، فجاز إسماعه العامّ ، وإن تكلّف اعتقاد تخصيصه في الحالين ،
لأنّه فيهما متمكّن ممّا كلّف به.
لا يقال : نمنع
تمكّنه من اعتقاد المخصّص إذا لم يسمع المخصّص.
لأنّا نقول :
التمكّن ظاهر ، فإنّه تعالى قادر على أن يخطر بباله جواز كون المخصّص في الشرع ،
ويشعره بذلك ، فيجوّزه ، وإذا جوّزه ، وجب عليه طلبه كما
__________________
يجب عليه المعرفة
عند خوفه بالخاطر ، وإذا طلب المخصّص وجده ، وإذا نظر فيه ، اعتقد التخصيص ، وبمثل
هذا يعلم التخصيص إذا كان المخصّص عقليّا.
لا يقال : دلالة
العقل حاضرة عند السامع للعموم ، فأمكنه العلم بالتخصيص ، وليس كذلك التّخصيص
بالسّمعيّ إذا لم يسمعه.
لأنّا نقول : لا
فرق بينهما ، لأنّ كثيرا من المذاهب لا يعلم الإنسان أنّ عليها دليل عقليّ ، بل
ربما استبعد أن يكون عليها دليلا عقليّا ، كما لا يعلم أنّ على كثير من المذاهب
دلالة شرعيّة ، فكما جاز أن يكلّف طلب أحدهما بالخاطر ، جاز مثله في الآخر.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : إسماع
العامّ دون إسماع المخصّص ، إغراء بالجهل ، فيمتنع صدوره من الحكيم ، لقبحه.
الثاني : ذلك
العامّ لا يدلّ على ذلك المخاطب ، فإسماعه وحده كخطاب العربيّ بالزنجيّة.
الثالث : دلالة
العامّ مشروطة بعدم المخصّص ، فلو جاز سماع العامّ دون سماع المخصّص ، لما جاز
الاستدلال بشيء من العمومات إلّا بعد البحث التامّ ، وسؤال كلّ عالم في الدنيا :
هل وجد [له] مخصّص أو لا؟ وهو يفضي إلى سقوط العمومات.
الرابع : لو جاز
أن يسمعه العامّ دون الخاصّ ، لجاز أن يسمعه المنسوخ دون الناسخ والمجمل دون
البيان.
الخامس : لو أسمعه
العام دون الخاص لوجب على المكلّف التوقّف حتى تفحّص عن المخصّص ، وذلك قول أصحاب
الوقف.
السادس : يجب على
الإنسان العمل على ما يعلمه من الأدلّة الشرعيّة ، ولا يلزمه طلبها ، ألا ترى أنّه
يلزمه أن يعمل على ما في عقله ، ولا يجب عليه أن يتوقّف ويطوف البلاد ليعلم هل بعث
نبيّ ينقله عمّا في عقله أو لا؟ فكذا ينبغي إذا سمع العامّ أن يعتقد استغراقه ،
ولا يلزمه طلب ما يخصّصه ، فلو جاز أن يسمع العامّ دون الخاصّ ، لكان مباحا له أن
يعتقد استغراقه ، وفي ذلك إباحة الجهل.
والجواب عن الأوّل : المنع من كونه إغراء بالجهل إذا أشعره بالمخصّص
، وأخطره بباله ، وخوّفه من ترك طلبه.
وأيضا ، يلزم ما
ذكرتم في المخصّص العقليّ.
وعن الثاني :
بالفرق ، فإنّ الزنجيّ لا يفهم من العربيّة شيئا ، وليس كذلك من خوطب بالعامّ ،
وهو يجوّز كون المخصّص في الشرع ، وينتقض بالعقليّ.
وعن الثالث : أنّ
كون اللّفظ للاستغراق حقيقة ، وهو مجاز في غيره ، يفيد ظنّ الاستغراق ، والظنّ حجة
في العمومات.
وفيه نظر للمنع من
الظنّ مع تجويز المخصّص الغالب في عمومات الشرع.
__________________
وأيضا يلزم عدم
البحث عن المخصّص.
وعن الرابع :
بجواز ذلك إذا أشعره بالناسخ والبيان ، وكان أبو علي تارة يسوّي بين إسماع العموم
من دون المخصّص ، وبين إسماع المنسوخ من دون الناسخ ، وتارة لا يجيز ذلك في العموم
، ويجيزه في الناسخ ، والوجه التسوية في المنع والجواز.
وعن الخامس :
بالنقض بالمخصص العقليّ.
وأيضا ليس في ذلك
دخول في قول أصحاب الوقف ، فإنّهم يقفون في العموم ، مع علمهم بتجرّده عن القرائن
، ونحن لا نقف فيه حينئذ.
وعن السادس : أنّه
يلزمهم مثله في العموم إذا كان المخصّص عقليا.
وأيضا ، فإنّه
يدلّ على جواز أن يسمع الله تعالى [المكلّف] العامّ ، ولا يسمعه الخاصّ ، ويجوز [له]
أن يعمل بالعامّ ، من غير أن يطلب الخاصّ ، كما يجوز أن لا يعرّفه الله سبحانه
أنّه قد بعث نبيّا ، ولا يلزمه طلبه ، بل يعمل على ما في عقله ، فدليلهم يدلّ على
شيء فاسد عندنا وعندهم ، وهو جواز أن لا يسمع الخاصّ ولا يلزمه الطلب.
وأيضا ، فإنّ الذي
ذكروه هو أنّه لا يجب على الإنسان أن يطوف البلاد ويسأل هل بعث نبيّ أم لا؟ بل
يفعل بحسب ما في عقله ، ونظيره إذا سمع المكلّف العامّ ، أن لا يلزمه ان يطوف
البلاد بطلب المخصّص ، وكذلك نقول ، فإنّ الواجب عليه العمل بالعامّ ، وإن كان
مخصوصا ، فإنّما يلزمه تخصيصه بشرط أن يبلغه المخصّص ، فأمّا إذا سمع بنبيّ في بلد
، فإنّه يجب عليه أن يسأل عنه ، كما يلزمه أن يسأل عمّا يخصّص العموم في بلده.
فإن قيل : إذا كان
العموم ناقلا عمّا في العقل ، وكان العمل به قد حضر وقته ، وضاق الوقت عن طلب
المخصّص ما الّذي يلزمه؟
قلنا : الأقرب
أنّه يلزمه العمل على العموم ، لأنّه لو لم يجز ذلك لم يسمعه الله تعالى إيّاه قبل
تمكينه من المعرفة بالمخصّص ، فيجب [عليه] العمل بالعامّ ، ثمّ يطلب المخصّص فيما
بعد.
ويحتمل أن يقال :
يعمل على ما في عقله ، لأن من شرط العمل على العموم أن يعلم فقد المخصّص ، وهو غير
حاصل ، ويجوز أن يكون له مصلحة في سماع العموم في ذلك الوقت.
المبحث العاشر :
في البيان التدريجي
اختلف القائلون
بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب في جواز التدريج في البيان ، فذهب بعضهم إلى
المنع ، وآخرون إلى الجواز.
احتجّ الأولون
بأنّ التنصيص على إخراج البعض دون غيره ، يوهم وجوب استعمال اللّفظ في الباقي ،
وانتفاء التخصيص بشيء آخر ، وهو تجهيل للمكلّف ، وإنّما ينتفي هذا التجهيل
بالتنصيص على كلّ ما هو خارج عن العموم واحتجّ الآخرون : بالوقوع فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بيّن قوله تعالى : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) على التدريج من ذكر نصاب السرقة أوّلا ، وعدم الشبهة ثانيا
، مع عموم اللّفظ لكلّ سارق.
__________________
وكذا بيّن قوله
تعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) بتفسير الاستطاعة بذكر الزّاد والراحلة أوّلا ، ثمّ ذكر
الأمن في الطريق ، والسّلامة من طلب الخفارة ثانيا ، وغير ذلك ، والوقوع دليل
الجواز.
ثمّ أجابوا عن
حجّة المانعين : بأنّ الاقتصار على الخطاب العامّ دون ذكر المخصّص ، مع كونه ظاهرا
في التعميم بلفظه ، إذا لم يوهم المنع من التخصيص ، جائز ، فإخراج بعض ما تناوله
اللفظ ، مع أنّه لا دلالة على إثبات غير ذلك البعض بلفظه ، أولى أن لا يكون موهما
لمنع التخصيص ، وهذا البحث ساقط عنّا.
المبحث الحادي عشر
: في حكم العامّ قبل دخول وقته
إذا ورد لفظ عامّ
بعبادة أو بغيرها ، قبل دخول وقت العمل به ، قال أبو بكر الصّيرفي : يجب اعتقاد عمومه جزما قبل ظهور المخصّص ، وإذا ظهر
المخصّص ، تغيّر ذلك الاعتقاد.
وغلطه الباقون ،
لأنّ احتمال إرادة الخصوص به قائم ، ولهذا لو ظهر المخصّص لم يكن ممتنعا ، ووجب
اعتقاد الخصوص ، وما هذا شأنه يمتنع اعتقاد عمومه جزما ، قبل الاستقصاء في البحث
عن مخصّصه ، وعدم الظفر به ، على وجه يسكن النّفس إلى عدمه ، فلا بدّ في الجزم
باعتقاد عمومه من اعتقاد انتفاء مخصّصه بطريقه.
__________________
وقد أجمع
الأصوليّون على امتناع العمل بالعامّ قبل البحث عن المخصّص ، لكن اختلفوا : فقال
القاضي أبو بكر وجماعة من الأصوليّين : يمتنع العمل به واعتقاد عمومه إلّا
بعد القطع بانتفاء المخصّص ، وإلّا فالجزم بعمومه ، وبالعمل به مع احتمال وجود
المعارض ممتنع ، ومعرفة انتفاء المخصّص بطريق القطع ممكن : بأن تكون المسألة الّتي
تمسّك فيها بالعموم ممّا يكثر الخلاف فيها بين العلماء ، ويطول النزاع بينهم ، ولم
يطلع أحد منهم على موجب التخصيص ، مع كثرة البحث ، فلو كان هناك مخصّص لامتنع
خفاؤه عنهم.
ولأنّه لو كان
المراد بالعموم الخصوص ، لوجب أن ينصب الله تعالى عليه دليلا ويبلّغه للمكلّفين.
وذهب ابن سريج ، والجويني والغزّالي وأكثر الأصوليّين إلى امتناع اشتراط القطع في ذلك ، إذ لا
طريق إلى معرفته إلّا بالسبر ، وهو غير يقينيّ ، ووجوب اطّلاع العلماء عليه لو كان
ظنّيّ ، ولو اطّلع بعضهم لم يقطع بوجوب نقله ، وليس كلّ عامّ كثر خوض العلماء فيه
، بل الواجب الظّنّ المستند إلى البحث بحيث لو كان مخصّص لظهر.
أمّا القطع
بالنّفي ، فإنّه يقتضي تعطيل أكثر العمومات ، وكذا البحث في كلّ دليل مع معارضه.
__________________
الباب الثاني :
في الظاهر والمؤوّل
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في الماهيّة
«الظاهر» في
اللّغة هو الواضح المنكشف ، من : ظهر الأمر الفلاني أي وضح وانكشف.
وأمّا في الاصطلاح
وقد اختلفوا في حدّه : فقال أبو الحسين البصري وتبعه الإمام فخر الدين : «الظاهر هو : ما لا يفتقر في افادته لمعناه إلى غيره
سواء أفاده وحده أو مع غيره».
__________________
وبهذا القيد
الأخير يمتاز عن النصّ امتياز العامّ عن الخاصّ.
وفيه نظر ، فإنّ
النصّ والظاهر نوعان مندرجان تحت الحكم ، فلا يجوز تعريفه بما يندرج النوع الآخر
فيه.
وقيل : الظاهر هو
ما ظهر المراد به وغير المراد ، لكنّ المراد أظهر ، وهو تعريف دوريّ ، ولأنّ
الكلام متى وضح المراد به فقد ظهر ، سواء كان محتملا لغيره أو لا.
وقال الغزّالي :
الظاهر اللّفظ الّذي يغلب على الظنّ فهم معنى منه ، من غير قطع.
اعترض : بأنّه غير جامع ، لأنّه يخرج منه ما فيه أصل الظّنّ دون
غلبة الظنّ مع كونه ظاهرا ، ولهذا يفرق بين قولنا : ظنّ ، وغلبة ظنّ.
ولأنّ غلبة الظنّ
ما فيه أصل الظّنّ وزيادة.
ولأنّه اشتمل على
زيادة مستغن عنها ، وهي قوله : «من غير قطع» فإنّ من ضرورة كونه مفيدا للظنّ أن لا
يكون قطعيّا.
وفيه نظر ، لأنّ
المراد هنا بغلبة الظنّ : هو الظنّ الغالب على الشك.
__________________
ولأنّ مراتب الظنّ
غير منحصرة وإن كانت محدودة بطرفي العلم والشكّ ، لكن كلّما يفرض ظنّا يفرض ما هو
دونه وفوقه ، فيكون ظنّا غالبا ، وما يفيد غلبة الظنّ ، قد يفيد العلم فلا بدّ من
التعرض لنفيه.
وقيل : «اللفظ الظاهر ما دلّ على معنى بالوضع الأصلي أو العرفي
، ويحتمل غيره احتمالا مرجوحا».
فقولنا : بالوضع
الأصلي أو العرفي ، احتراز عن دلالته على المعنى الثاني ، إذا لم يصر عرفيّا ،
كلفظ الأسد في الإنسان وغيره.
وقولنا : «يحتمل
غيره ، احتراز عن القاطع الّذي لا يحتمل التأويل.
وقولنا : احتمالا
مرجوحا ، احتراز عن الألفاظ المشتركة».
وفيه نظر ، لعدم
اختصاص الظاهر بما دلّ بالأصل أو العرف ، بل كلّ لفظ يترجح معنى فيه فهو ظاهر
بالنسبة إليه.
والتحقيق : أنّه
من الأمور الإضافيّة يختلف باختلاف ما ينسب إليه ، وهو قد يضاف تارة إلى الأشخاص ،
وتارة إلى المعاني ، والأخير هو المراد هنا ، وهو ما تترجّح دلالته على ما أضيف إليه
، فإن جعلناه جنسا للنصّ ، اقتصرنا عليه ، وإلّا أضيف إليه ترجيحا غير مانع من
النقيض.
__________________
وأمّا المؤوّل :
فاعلم أنّ التأويل في اللّغة مأخوذ من آل يئول أي رجع ، ومنه قولهم : تأوّل فلان
الآية بكذا ، أي نظر إلى ما يؤول إليه معناها.
وفي الاصطلاح قال
الغزالي : إنّه احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظنّ من المعنى الّذي دلّ عليه الظاهر .
واعترض عليه بوجوه :
الأوّل : التأويل
ليس هو نفس الاحتمال الّذي حمل اللّفظ عليه ، بل [هو] حمل اللّفظ عليه ، وبينهما
فرق.
الثاني : يخرج منه
ما صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره بدليل قاطع.
الثالث : أنّه حدّ
التأويل ، من حيث هو تأويل وهو شامل للتأويل بدليل وغيره ، ولهذا يقال : تأويل
بدليل ، وتأويل بغير دليل ، فلا يجوز حدّه بأحد أخصّيه ، إلّا أن يقال : إنّه حدّ
التأويل الصحيح.
وقيل : التأويل المطلق : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه ، مع
__________________
احتماله له ،
والتأويل الصحيح : حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل
يعضده.
فالحمل على غير
مدلوله ، احتراز عن الحمل على نفس مدلوله.
وقولنا : الظاهر
منه ، احتراز عن صرف اللفظ المشترك من أحد مدلوليه إلى الآخر ، فإنّه لا يسمّى تأويلا.
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع كون المشترك دالّا على أحد معانيه وإن كان موضوعا له.
وقولنا : مع
احتماله له ، احتراز عن صرف اللفظ عن ظاهره إلى ما لا يحتمله أصلا ، فإنّه لا يكون
تأويلا صحيحا.
وقولنا : بدليل
يعضده ، ليخرج التأويل من غير دليل ، وهو يعمّ القاطع والظنيّ.
إذا ثبت هذا ،
فالتأويل لا يتطرّق إلى النصّ ، ولا إلى المجمل ، بل إلى ما كان ظاهرا لا غير.
__________________
المبحث الثاني :
في جواز التأويل
الدليل إمّا عقليّ
أو نقليّ ، والعقليّ لا يمكن الرجوع عنه ، والعدول إلى غيره ، إذ شرط كونه دليلا
سلامته عن جميع الاحتمالات ، سواء القريب والبعيد في ذلك ، فإنّ البعيد كالقريب في
العقليّات ، ودليل العقل لا يمكن مخالفته بوجه ما ، والبعيد يمكن أن يكون مرادا من
اللّفظ بوجه ما ، فلا يجوز التمسّك في العقليات إلّا بالنصّ القاطع الّذي لا
يتطرّق إليه احتمال لا قريب ولا بعيد.
أمّا النقلي ،
فانّه قابل للتأويل ، ويجوز مخالفته لدليل أقوى منه.
ولا خلاف في أنّ
التأويل مقول ، معمول به مع حصول شرائطه ، وقد أجمع علماء الأمصار عليه في كلّ
الأعصار.
ويشترط فيه كون
اللفظ قابلا للتأويل ، بأن يكون ظاهرا فيما صرف عنه محتملا لما صرف إليه.
وأن يكون الدليل
الصّارف للفظ عن مدلوله الظاهر راجحا على ظهور
اللفظ في مدلوله ،
ليتحقّق صرفه عنه إلى غيره ، إذ لو كان مساويا له ، حصل التردّد ، ولم يجز العدول
، لأنّه ترجيح من غير مرجّح.
ولو كان مرجوحا ،
لم يجز العدول باعتباره اتّفاقا ، فلا بدّ وأن يكون الدليل الصارف للفظ عن مدلوله
راجحا على ظهور اللفظ ، ويختلف الترجيح باعتبار قوّة الظهور وضعفه.
قيل : ويشترط أيضا كون الناظر المتأوّل أهلا لذلك.
وفيه نظر ، إذ
الاعتبار بالدليل لا بالناظر.
ويشبه أن يكون كلّ
تأويل صرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز ، ويدخل فيه تخصيص العامّ ، فإنّ وضعه وإن
كان للاستغراق ، إلّا أنّ الاقتصار على البعض مجاز.
واعلم أنّ
الاحتمال قد يكون قريبا على ما بيّناه ، فيكفي فيه دليل قريب وإن لم يكن بالغا في
القوّة.
وقد يكون بعيدا ،
فيفتقر إلى دليل قويّ ، بحيث يكون ذلك الاحتمال البعيد أغلب على الظنّ من مخالفة
ذلك الدليل.
وقد يكون ذلك
الدّليل ظاهرا آخر أقوى منه.
وقد يكون دليلا
عقليّا ، أو قياسا منصوص العلّة.
وقد يكون قرينة
قرب تأويل لا ينقدح إلّا بتقدير قرينة ، وان لم تنقل
__________________
القرينة كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما الربا في النسيئة» ، فإنّه لا يجوز حمله على ظاهره لثبوت رباء الفضل بالإجماع
، فيحمل على مختلفي الجنس ، ولا ينقدح هذا التخصيص إلّا بتقدير واقعة وسؤال عن
مختلفي الجنس ، ولكن يجوز بتقدير مثل هذه القرينة إذا اعتضد بنصّ.
وقوله عليهالسلام : لا تبيعوا البرّ بالبرّ إلّا سواء بسواء ، نصّ في إثبات ربا الفضل ، وقوله عليهالسلام «إنّما الرّبا في
النسيئة» ، حصر للرّبا في النسيئة ، ونفي لربا الفضل.
فالجمع بالتأويل
الّذي ذكرناه أولى من مخالفة النصّ ، وإذا كان الاحتمال قريبا ، والدليل قربيا ،
وجب على المجتهد الترجيح والمصير إلى ما غلب على ظنّه ، فليس كلّ تأويل مقبولا ،
بل هو مختلف ، ولا ضابط له ، إلّا أنّا نذكر أمثلة لتأويلات مقبولة وأخرى مردودة ،
ليتميّز الناظر فيها ، ويستعدّ لتأويل ما يرد عليه من الألفاظ المفتقرة إليه.
__________________
المبحث الثالث :
في ذكر أمثلة التأويلات
ويشتمل على مسائل
:
المسألة الأولى
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لفيروز الدّيلمي وقد أسلم عن عشر نسوة : «أمسك أربعا وفارق سائرهن» محمول على ظاهره ، لا يفتقر
إلى التأويل عندنا ، وبه قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة :
إنّه متأوّل ، والأصل في ذلك أنّ الكافر إذا تزوّج أكثر من أربع نسوة ، ثمّ أسلم
تخيّر في إمساك أربع منهنّ ، ويفارق البواقي ، سواء ترتب عقدهنّ ، أو اصطحب عندنا
وعند الشافعي.
وقال أبو حنيفة :
يصحّ نكاح الأوائل دون الزائد على الأربع.
__________________
واستدلّ أصحابنا
بهذا الحديث ، وتأوّله أبو حنيفة بتأويلات ثلاثة :
الأوّل : يحتمل
أنّه أراد بالإمساك ابتداء النكاح ، ويكون معنى قوله «أمسك أربعا» أنكح منهنّ
أربعا ، ومعنى «فارق سائرهنّ» : لا تنكحهنّ.
الثاني : يحتمل
أنّ النكاح كان واقعا في ابتداء الإسلام قبل حصر عدد النساء في أربع ، فكان ذلك
النكاح واقعا على وجه الصحّة ، والباطل من أنكحة الكفّار ليس إلّا ما كان مخالفا
لما ورد به الشرع حال وقوعها.
الثالث : يحتمل
أنّه أمر الزوج باختيار أوائل النساء ، وهذه التأويلات وإن كانت منقدحة عقلا إلّا
أنّ القرائن يدفعها ، فإنّ التأويل وان احتمل لكن قد تجمع قرائن تدلّ على فساده
وآحاد تلك القرائن لا تدفعه ، لكن يخرج بمجموعها عن أن يكون منقدحا غالبا ،
والظاهر هنا قد اعتضد بقرائن جعلته أقوى في النّفس من التأويل المحتمل ، وان استند
إلى قياس.
أمّا التأويل
الأوّل ، فبعيد بوجوه.
الأوّل : المتبادر
إلى الفهم من لفظ الإمساك إنّما هو الاستدامة دون الابتداء والتجديد.
الثاني : أنّه
قارن لفظ الإمساك بلفظ المفارقة ، وإنّما يفهم من المفارقة المجانبة بعد الاتّصال.
الثالث : أنّه
فوّض الإمساك والمفارقة إلى اختياره ، وعندهم إنّهما غير واقعين باختياره ، لوقوع
الفراق بنفس الإسلام ، وتوقّف النكاح على رضا المرأة.
الرابع : انّه لو
أراد ابتداء النكاح لذكر شرائطه ، لأنّه وقت الحاجة إليه ، فلا
يجوز تأخير البيان
عنه مع دعاء الحاجة إليه ، لقرب عهده بالإسلام.
الخامس : أمر
الزوج بإمساك أربع من العشر ، وبمفارقة البواقي والأمر إمّا للوجوب أو الندب ،
وحصر التزويج في العشر ليس واجبا ولا مندوبا إليه ، والمفارقة ليست من فعل الزوج
حتّى يكون الأمر متعلّقا بها.
السادس : الظاهر
من الزوج المأمور إنّما هو امتثال أمر النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والمخالفة بعيدة ولم ينقل أحد تجديد النكاح في هذه
الصورة ، فدلّ على أنّ المراد بالإمساك مفهومه الظاهر.
السابع : أنّه لا
يتوقّع في طرد العادة اتّفاقهنّ على الرّضا على حسب مراده ، بل ربما كان يمتنع
جميعهنّ فكيف أطلق الأمر مع هذا الإمكان؟
الثامن : قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم «أمسك» أمر ،
وظاهره الإيجاب ، فكيف أوجب عليه ما لم يجب ، فلعلّه أراد أن لا ينكح أصلا.
التاسع : أنّه
ربما أراد أن لا ينكحهنّ بعد أن قضى وطره بهنّ ، فكيف حصره فيهنّ؟ بل كان ينبغي أن
يقول : انكح أربعا ممّن شئت من نساء العالمين من الأجنبيّات ، فإنّهن عنده كسائر
نساء العالم.
العاشر : الزّوج
إنّما سأل عن الإمساك بمعنى الاستدامة ، لا التجديد ، وعن الفراق بمعنى انقطاع
النكاح ، والأصل في جوابه صلىاللهعليهوآلهوسلم المطابقة.
وأمّا تأويل
الثاني ، فبعيد أيضا ، لأنّه لو لم يكن الحصر ثابتا في ابتداء الإسلام ، لما خلا
ابتداء الإسلام عن الزيادة عن الأربع عادة ، ولم ينقل عن أحد من الصحابة ذلك في
ابتداء الإسلام ، ولو وقع ، لنقل.
وأمّا التأويل
الثالث ، فبعيد أيضا ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لواحد كان قد أسلم على خمس نسوة : اختر منهنّ أربعا وفارق
واحدة ، قال المأمور : فعمدت إلى أقدمهنّ عندي ، ففارقتها.
تذنيب
وقد تأوّلوا قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لفيروز الديلمي وقد أسلم على أختين : «أمسك أيّتهما شئت وفارق الأخرى» بما
تقدّم من التأويلات الثلاثة.
والتأويل الأوّل
بعيد لما تقدّم من الوجوه ، وكذا الثاني.
وقوله تعالى : (وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ
إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) قال المفسّرون : المراد به ما سلف في الجاهلية قبل بعثة
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
والثالث هنا أبعد
، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمسك أيّتهما شئت ، فإنّه نصّ على التّخيير بالتصريح وهو
ينافي مذهبهم.
المسألة الثانية
قال علماؤنا وأبو
حنيفة في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في أربعين شاة شاة» المراد به
__________________
مقدار قيمة شاة ،
وإنّما احتاجوا إلى هذا التأويل ، لما علم من أنّ المقصود من إيجاب الزكاة إنّما
هو دفع حاجة الفقراء وسدّ خلاتهم ، وذلك يحصل بالقيمة ، كما يحصل بالعين ، بل ربما
كانت القيمة أبلغ في حصول المقصد ، لإمكان صرفها إلى أيّ نوع شاء الفقير من شراء
الشاة وغيرها.
واستبعده الشافعي
لوجوه ثلاثة : الأوّل : أنّه يرفع النصّ ، لأنّ قوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ) نصّ ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في أربعين شاة شاة ، بيان للنصّ ، وهو نصّ في وجوب الشاة
، وإيجاب القيمة رفع وجوب الشاة وإسقاطها ، فيكون رفعا للنصّ.
الثاني : سدّ
الخلة وإن كان مقصودا ، إلّا أنّه ليس كلّ المقصود ، بل ربّما قصد مع ذلك التعبّد
باشتراك الفقير في جنس مال الغنيّ ، فالجمع بين الظّاهر وبين التعبّد ومقصود سدّ
الخلّة أغلب على الظنّ في العبادات الّتي مبناها على الاحتياط من تجريد النظر إلى
مجرّد سدّ الخلّة.
الثالث : التعليل
بسدّ الخلّة مستنبط من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في أربعين شاة شاة ، يرجع إلى الأصل بالإبطال ، أو على
الظاهر بالرفع ، وظاهره وجوب الشاة على التعيين وهذا التأويل يرفع هذا الوجوب بما
استنبط منه من العلّة الّتي هي دفع الحاجة ، وإذا استنبطت العلّة من الحكم وأوجبت
رفعه ، كانت باطلة.
والجواب عن الأوّل
: بالمنع من كون إيجاب القيمة إسقاطا للشاة ورفعها لها ، بل هو توسيع للوجوب لا
إسقاطه ، وإنّما إسقاطه ترك الشاة لا إلى بدل أمّا إذا
__________________
لم يجز تركها إلّا
ببدل يقوم مقامها ، فلا يخرجها عن كونها واجبة ، كما في خصال الكفّارة إذا فعل
واحدة فقد أدّى واجبا ، وإن كان الواجب يتأدّى بالخصلة الأخرى.
نعم أنّه يرفع
تعيين الوجوب لا أصله ، واللّفظ نصّ في أصل الوجوب لا في تعيينه وتضييقه ، وإن كان
ظاهره التّعيين ، لكنّه يحتمل التخيير ، كما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «استنج بثلاثة أحجار» فإنّ إقامة المدر مقامه لا يبطل
وجوب الاستنجاء ، لأنّ الحجر آلة يجوز أن يتعيّن ، ويجوز أن يتخيّر بينها وبين ما
في معناها.
وعن الثاني : أنّ
التعبّد بإيجاب العين وإن كان محتملا إلّا أنّ ذكر عين الشاة معيار لمقدار الواجب
، فلا بدّ من ذكرها ، فإنّ القيمة تعرف بها ، وهي تعرف بها ولو فسّر رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم كلامه بذلك لم يكن فيه تناقض.
وعن الثالث :
بالمنع من رجوع الاستنباط على الأصل بالإبطال ، وقد بيّنّا أنّه توسيع للواجب.
المسألة الثالثة
قال علماؤنا قوله
تعالى : (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ) الآية ، محمول على بيان المصرف وشروط الاستحقاق ، لا على
التمليك لكلّ صنف
__________________
صنف ، فجوّزوا
الاقتصار على البعض نظرا إلى أن مقصود الآية إنّما هو رفع الحاجة في جهة من الجهات
المذكورة ، لا رفع الحاجة عن الكلّ.
واستبعده الشافعي
، لأنّه تعالى أضاف الصدقة إليهم بلام التمليك وعطف بواو التشريك البعض على البعض
، وما استنبط من هذا الحكم من العلّة يكون رافعا لحكم المستنبط منه ، فيكون باطلا
، وكون الآية لبيان المصرف وشروط الاستحقاق لا ينافي ما قلناه ، لجواز كونه مقصودا
، وكون الاستحقاق بصفة التشريك مقصودا ، وهو الأولى ، موافقة لظاهر الإضافة والعطف
، والصرف إلى واحد إبطال.
والجواب : أنّ
سياق الآية يدلّ على ما قلناه ، لأنّ الله تعالى ذكر حال قوم يلمزون في الصّدقات
بقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ
يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ) الآية ، ويقولون : إنّ محمّدا صلىاللهعليهوآلهوسلم يعطي الصدقات من أحبّ ، فإن أعطاهم كثيرا رضوا وإن منعهم
سخطوا ، فإنّ الله تعالى ردّ عليهم بقوله : (وَلَوْ أَنَّهُمْ
رَضُوا) وذكر أنّ فعل محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم حقّ ، لأنّه يعطيها المستحقّين ومن حصلت فيه الشرائط في
قوله (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ) ثم عدّ شروط الاستحقاق ليبيّن مصرف الزكاة ، ومن يجوز
صرفها إليه ، ليقطع طمعهم في الزكاة ، مع خلّوهم عن شرائط الاستحقاق.
ثمّ في قوله : «لا
منافاة بين كون الآية لبيان المصرف وشرائط الاستحقاق
__________________
وبين ما قلناه»
نظر ، للتنافي بينهما ، فإنّ الأوّل لا يقتضي التشريك بخلاف ما قالوه.
المسألة الرابعة
قوله تعالى : (فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً) جاز على ظاهره ، من وجوب إطعام هذا العدد ، غير متأوّل عند
علمائنا ، وهو مذهب الشافعي ، للأصل الدالّ على جريان الألفاظ الظاهرة على معانيها
الّتي هي ظاهرة بالنسبة إليها.
وقالت الحنفيّة :
إنّه متأوّل ، وتقديره فإطعام طعام ستّين مسكينا ، فلم يوجبوا العدد ، إذ المقصود
هو دفع الحاجة ، ولا فرق بين دفع حاجة ستّين مسكينا يوما واحدا ، وبين دفع حاجة
مسكين واحد ستّين يوما.
وهو غلط لوجهين :
أمّا أوّلا :
فلأنّ قوله : (فَإِطْعامُ) يستدعي مفعولا ، وقوله (مِسْكِيناً) صالح له ، ويمكن الاستغناء به مع ظهوره.
والطّعام وإن كان
صالحا للمفعوليّة إلّا انّه مسكوت عنه غير ظاهر ، فتقدير حذف المظهر ،
وإظهار المفعول المسكوت عنه بعيد في اللّغة ، بل الواجب عكسه.
__________________
وإذا كان هذا
ظاهرا في وجوب رعاية العدد ، فما استنبط منه ، يكون موجبا لرفعه ، فكان ممتنعا.
وأمّا ثانيا :
فلأنّا نمنع كون دفع الحاجة هي كلّ المقصود ، إذ لا استبعاد في أن يقصد الشارع
رعاية العدد واجبا ستّين مهجة ، تبرّكا بدعائهم ، فإنّه قلّ أن يخلو مثل هذا الجمع
من وليّ الله تعالى يغتنم دعاؤه ، ويعود نفعه إلى المكفّر ، وقلّ ما يحتمل مثل ذلك في الواحد.
المسألة الخامسة
قوله تعالى : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ
وَأَرْجُلَكُمْ) جار على ظاهره ، غير متأوّل عند علمائنا ، ومقتضاه عطف
الأرجل على الرءوس ، فيشتركان في الحكم من المسح.
وتأوّله الجمهور
بالغسل ، وهو في غاية البعد ، لما فيه من ترك العمل بما اقتضاه ظاهر العطف من
التشريك بين الرءوس والأرجل في المسح من غير ضرورة.
احتجّوا : بأنّ
العطف إنّما هو على «الوجوه» و «اليدين» لأنّ قوله : (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) قدر المأمور به إلى الكعبين كما قدر غسل اليدين إلى
المرفقين ، ولو
__________________
كان الواجب هو
المسح لما كان مقدّرا كالرأس.
وللقراءة بالنصب
وقراءة الجرّ متأوّلة بالمجاورة.
سلّمنا العطف على
الرءوس ، لكن لا يجب الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في تفاصيل حكم المعطوف
عليه ، بل في أصله ، ولمّا كان الغسل والمسح قد اشتركا في أنّ كلّا منهما قد اشتمل
على إمساس العضو بالماء ، كفى في صحّة العطف كما في قوله :
ولقد رأيتك في
الوغا
|
|
متقلّدا سيفا
ورمحا
|
والرمح لا يتقلّد
به ، بل لما شارك السّيف في أصل الحمل صحّ العطف وكذا قوله :
علّفتها تبنا
وماء باردا
|
|
[حتّى شتت همّالة عيناها]
|
مع أنّ الماء لا
يعلف لكنّه شارك في التناول.
والجواب : العطف
على البعيد إنّما يستعمل مع الضرورة ، ولا ضرورة هنا ، والفصل بين المعطوف
والمعطوف عليه بجملة لا تعلّق لهما بها من أقبح الأشياء ، فإنّ قولنا : «فاغسلوا
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم» جار على قانون
اللّغة واستعمال الفصحاء ، بخلاف ما لو قدّم المسح على قوله «وأرجلكم» مع إرادة
الغسل.
__________________
والتقدير بالكعبين
، غير مانع من العطف على الرءوس غير المقدّرة ، كما في اليدين مع الوجوه ، وأيّ
دلالة في ذلك؟
وحمل قراءة النّصب
بالعطف على الموضع أولى من حمل قراءة الجرّ على المجاورة ، لوجوه :
الأوّل : اتّفاق
أهل اللسان على التسوية بين العطف على اللّفظ وعلى الموضع ، بخلاف الجرّ بالمجاورة
، فإنّه شاذّ نادر منحصر في ألفاظ قليلة شاذّة.
الثاني : الجرّ
بالمجاورة إنّما ورد لا مع الفاصل ، كما في قوله :
..................
|
|
كبير أناس في
بجاد مزّمل
|
فإنّه وصف لكبير ،
فيكون مرفوعا ، لكن جرّ بالمجاورة ، وكذا [في النثر] «جحر ضبّ خرب» و «ماء شنّ
بارد» ولم يرد مع الفاصل في الشعر والنثر ، فلا يجوز حمل الآية على ما لم يستعمل
في اللّغة البتّة.
الثالث : منع
الزجاج من الجرّ بالمجاورة في القرآن ، وقال : إنّه لم يرد به
الكتاب العزيز ، وهو يدلّ على شذوذه في اللّغة.
وأجمع اللغويّون
على التشريك في الحكم بين المعطوف بالواو والمعطوف عليه في الحكم الثابت للمعطوف
إلّا ما خرج بدليل.
__________________
على أنّا نمنع نصب
«رمح» بالعطف على «سيف» وعطف «الماء» على «التّبن» بل انتصبا بعامل محذوف دلّ
اللّفظ عليه ، وهو «وحاملا» رمحا «وسقيتها» ماء باردا.
المسألة السادسة
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أيّما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليّها ، فنكاحها باطل
باطل باطل» لو ثبت عند علمائنا ، لكان متأوّلا ، وبه قال أبو حنيفة
وتأوّلوه بأمور :
الأوّل : الصغيرة.
الثاني : الأمة
والمكاتبة.
الثالث : أراد
بالبطلان أنّه يئول إليه عند اعتراض الأولياء لها إذا زوّجت نفسها من غير كفو عند
بعضهم.
ومنعه الشافعي
وأجراه على عمومه ، أمّا أوّلا ، فلأنّه صدّر الكلام بأيّ ، وهي من كلمات الشرط
العامة.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّه أكّده فقال : «أيّما» وهي من المؤكّدات المستقلّة بإفادة العموم أيضا.
وأمّا ثالثا ،
فلأنّه قال : «فنكاحها باطل» رتّب الحكم على الشرط في معرض الجزاء ، وذلك أيضا
يؤكّد قصد العموم.
__________________
وأمّا رابعا ،
فلأنّه أكّد البطلان بذكره «ثلاثا» .
وفيه نظر ، إذ لا
مدخل لهذا التأكيد في إرادة العموم.
قالوا : ولا يمكن
حمله على الصغيرة ، لأنّه حكم بالبطلان ، وعقد الصغيرة من دون إذن الوليّ موقوف
على إجازة الوليّ ، ولا على الأمة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فإن مسّها فلها المهر بما استحلّ من فرجها» ولا مهر للأمة بل لسيّدها ، ولا على المكاتبة ، لأنّها
بالنسبة إلى جنس النساء نادرة.
ولفظ «أيّما امرأة»
من أقوى صيغ العموم ومن القبيح في لغة العرب إطلاق اللفظ العامّ على النّادر جدّا.
ونمنع صحّة
الاستثناء بحيث لا يبقى إلّا الأقلّ النادر من المستثنى عنه.
وحمل البطلان على
الضّرورة إليه بعيد أيضا ، لأنّ مصير العقد إلى البطلان نادر ، والتعبير باسم
الشّيء عمّا يؤول إليه إنّما يصحّ ، إذا كان المآل إليه قطعا ، كما في تسمية
العصير خمرا.
ولأنّ قوله : «فإن
أصابها فلها المهر بما استحلّ من فرجها» يعطي فساد العقد ، فإنّه لو كان صحيحا
لكان المهر بالعقد لا بالاستحلال.
وفيه نظر ، إذ
يمكن الجواب بأنّ قوله : «بدون إذن وليّها» يعطي ثبوت الولاية عليها ، وهو ظاهر في
الصغيرة والأمة والمكاتبة حينئذ ، والمهر وإن كان
__________________
للسيّد ، فإنّه لمّا
كان بواسطة الأمة صحّ إضافته إليها ، فقد يضاف الشيء إلى غيره بأدنى ملابسة ، كما
يقال لأحد حاملي الخشبة : خذ طرفك.
ومعنى البطلان : عدم ترتّب الحكم عليه ، ونكاح الصغيرة والمكاتبة والأمة
لمّا كان موقوفا على إذن الوليّ ، لم يترتّب عليه بانفراده حكم ، فكان كالباطل.
المسألة السابعة
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من الليل» حمله أبو حنيفة على القضاء والنذر.
ومنعه الباقون ،
لأنّه نفي دخل على نكرة ، فيكون للعموم ، ولا يسبق منه إلى الفهم إلّا الصوم
الأصليّ الشرعيّ ، وهو الفرض أو التطوّع ، والتطوّع غير مراد ، فلم يبق إلّا الفرض
الّذي هو ركن في الدّين ، وهو صوم رمضان.
فأمّا القضاء
والنذر فإنّما يجبان بأسباب عارضة فكانا كالنّادر ، لا يفهم من إطلاق الصوم ، كما
لا يفهم من قوله : «أكرم أقربائي» أقارب السبب دون النسب لندوره.
__________________
المسألة الثامنة
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» قال بعض الشافعية : إنّه محمول على الأب ، وأنكره الباقون
، لأنّ ظهور وروده لتأسيس قاعدة ، وتمهيد أصل في سياق الشرط والجزاء ، والتنبيه
على حرمة الرحم ، قويّ الظهور في قصد التعميم لكلّ ذي رحم محرم ، وذلك يمنع من
التأويل بالحمل على الأب دون غيره ، لامتيازه بكونه على عمود النسب عمن هو على
حاشيته من الأرحام ، وهو يوجب اختصاصه بالتنصيص عليه ، إظهارا لشرف قربه ، فلو كان
القصد الأب دون غيره ، لما عدل عن التنصيص عليه الى ما يعمّه وغيره ، لما فيه من
إسقاط حرمته ، فإنّه لو قال لعبده : «أكرم النّاس» وقصد أبويه خاصّة ، كان مستهجنا.
ولأنّه يلزم منه
الالتباس.
المسألة التاسعة
قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) تأوّل علماؤنا ذي القربى بالإمام خاصّة القائم مقام الرسول
بعده ، لنقل وارد عن الأئمّةعليهمالسلام.
__________________
وقال أبو حنيفة :
المراد به من كان محتاجا من ذي القربى ، فاعتبر الحاجة مع القرابة ، ثمّ جوّز
حرمان ذوي القربى مع انتفاء الحاجة.
وقال أصحاب
الشافعي : هذا التخصيص باطل لا يحتمله اللفظ ، لأنّه أضاف المال إليهم بلام
التمليك ، وعرّف كلّ جهة بصفة ، وعرّف هذه الجهة في الاستحقاق بالقرابة.
وأبو حنيفة ألغى
القرابة المذكورة ، واعتبر الحاجة المتروكة ، وهو مناقضة للفظ ، لا تأويل له.
ويمنع التناقض ،
لأنّه نوع تخصيص بالقرينة ، فإنّ ذكره في إعطاء المال مقارنا للمساكين ، يدلّ على
اعتبار الحاجة.
المسألة العاشرة
قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «فيما سقت السماء العشر ، وفيما سقي بنضح أو دالية نصف
العشر» ذهب بعض الفقهاء إلى أنّه لا يحتجّ به في إيجاب العشر من الخضراوات ، لأنّ
المقصود منه الفرق بين العشر ونصفه ، لا بيان ما يجب فيه العشر حتّى يتعلّق
بعمومه.
__________________
وليس بصحيح ، لأنّ
الصيغة للعموم ، فإن أخرج منه فلدليل آخر ، وهو قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ليس في الخضراوات صدقة» لا تفصيل ما يجب ، لاحتمال أن يكون كلّ منهما مقصودا ،
لإمكان الجمع بينهما.
* * *
__________________
الباب الثالث :
في المنطوق والمفهوم
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في الماهيّة
قال بعضهم : «المنطوق
ما فهم من اللفظ في محلّ النطق» وهو مع أنّه دائر منقوض بدلالة الاقتضاء ، فإنّ الأحكام
المضمرة فيها مفهومة من اللفظ في محل النطق ، مع أنّه لا يقال فيها : إنّها دلالة
المنطوق.
واحترز بعضهم عن
الثاني بأن قال : «المنطوق ما فهم من دلالة اللّفظ قطعا في محل النطق» كما
في وجوب الزكاة المفهوم من قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في
__________________
الغنم السائمة
زكاة ، وكتحريم التأفيف في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍ).
والوجه أن يقال :
المنطوق هو ما دلّ اللّفظ عليه بصريحه دلالة أوّليّة.
والمفهوم قيل : «هو ما فهم من اللفظ في غير محل النطق ، وهو دائر ،
ويمكن الجواب : بأنّ المفهوم المحدود غير المأخوذ في الحدّ ، فانّ المأخوذ في
الحدّ هو الفهم بالمعنى المتعارف عند الناس.
المبحث الثاني :
في الأقسام
دلالة غير المنظوم
ـ وهو ما دلالته لا بصريح صيغته ووضعه ـ إمّا أن يكون مدلوله مقصودا للمتكلّم أو
لا.
والأوّل : إمّا أن
يتوقّف صدق المتكلّم أو صحّة الملفوظ به ، عليه ، أو لا ، ويسمّى الأوّل دلالة الاقتضاء.
والثاني ، إمّا أن
يكون مفهوما في محلّ تناوله اللّفظ نطقا ، ويسمّى دلالة
__________________
التنبيه والإيماء
، أو لا يكون فيه ، ويسمّى دلالة المفهوم.
وإن كان مدلوله
غير مقصود للمتكلّم ، فدلالة اللّفظ عليه تسمّى دلالة الإشارة.
فالاقسام أربعة :
الأوّل : دلالة الاقتضاء ، وهي ما كان المدلول فيه مضمرا ، إمّا لضرورة صدق المتكلّم
، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وقوله : «لا صيام لمن لم يبيّت الصّيام من الليل» وقوله : «لا عمل إلّا بنية» فإنّه لا بدّ من إضمار حكم يرد النفي عليه ، كنفي المؤاخذة
في الأوّل ، والصحّة في الثاني ، والفائدة في الثالث.
وإمّا لصحّة وقوع
الملفوظ به ، إمّا عقلا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) أو شرعا ، مثل «اعتق عبدك عنّي» .
الثاني : دلالة التنبيه والايماء ، وسيأتي في باب القياس.
الثالث : دلالة الإشارة ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «النساء ناقصات عقل ودين» فقيل : يا رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وما نقصان دينهنّ؟ قال : «تمكث إحداهنّ في قعر بيتها شطر
__________________
دهرها لا تصلّي
ولا تصوم» فهذا الخبر سيق لبيان نقص دينهنّ ، لا لبيان أكثر الحيض
وأقلّ الطهر ، ومع ذلك لزم منه تساوي أيّامها ، فإنّه لو كان زمان الحيض يزيد على
أقلّ الطهر لذكره ، لأنّه ذكر شطر الدهر ، مبالغة في بيان نقص دينهنّ.
وكذا قوله تعالى :
(وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) وقال : (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ).
الرابع : المفهوم
، وهو قسمان :
مفهوم الموافقة ، وهو أن يكون الحكم في محل السكوت موافقا له في محل النطق ،
ويسمّى أيضا فحوى الخطاب ، ولحن الخطاب ، أي معناه ، كقوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي [في] معناه ، كدلالة تحريم التأفيف على تحريم الضرب ،
وكقوله تعالى : (وَمِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ
إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ
__________________
لا
يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) فإنّ كلّا منهما يدلّ على أولويّة حكمه في الآخر.
والحكم هنا في
محلّ السكوت أولى منه في محلّ النّطق ، وإنّما يكون كذلك إن لو عرف المقصود من
الحكم في محلّ النطق من سياق الكلام ، وعرف أنّه أشدّ مناسبة واقتضاء للحكم في
محلّ السّكوت من اقتضائه في محلّ النطق ، كما في آية تحريم التأفيف حيث عرف أنّ القصد كفّ الأذى عن الأبوين ، وأنّ أذى الضّرب
أشدّ ، فكان بالتحريم أولى.
ولو قطع النظر عن
ذلك لم يجب التّعدية فانّ الملك قد يأمر بقتل والده إذا عرف أنّه ينازعه في الملك
، وينهى عن التأفيف ، حيث لم يندفع محذور المنازعة بالثاني بل بالأوّل ، فلا يجب
حينئذ من إباحة أشدّ المحذورين إباحة أضعفهما ، ولا من تحريم الأضعف تحريم الأشدّ.
الثاني : مفهوم المخالفة ، وهو ما يكون الحكم في محلّ السكوت مخالفا له في محلّ
النطق ، ويسمّى دليل الخطاب ، وأصنافه عشرة :
الأوّل : تقييد
المطلق بالوصف ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في الغنم السائمة زكاة.
الثاني : مفهوم
الشرط ، مثل : إن دخل أكرمه.
__________________
الثالث : مفهوم
الغاية [كقوله تعالى] : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ).
الرابع : مفهوم «إنّما»
، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّما الأعمال بالنيات.
الخامس : التخصيص
بالأوصاف التي تطرأ وتزول بالذكر ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : في السائمة زكاة.
السادس : مفهوم
اللّقب ، كتخصيص الأشياء الستّة في الذكر بتحريم الربا.
السابع : مفهوم
الاسم المشتق الدالّ على الجنس ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لا تبيعوا الطعام بالطعام» ، وهو قريب من مفهوم اللّقب.
الثامن : مفهوم
الاستثناء : لا عالم في البلد إلّا زيد.
التاسع : تعليق
الحكم بعدد خاصّ ، كتخصيص حدّ الزاني بمائة.
العاشر : مفهوم
حصر المبتدأ في الخبر : العالم زيد وصديقي وعمرو.
__________________
المبحث الثالث :
في أنّ مفهوم الموافقة حجّة
اتّفق العلماء
عليه ، خلافا لداود الظاهري لأنّ اللّفظ يدلّ عليه دلالة ظاهرة بل قطعيّة ، فإنّ
السّيد لو قال لعبده : لا تظلم أحدا ب [مثقال] حبّة ، فهم كلّ عاقل منعه عن الظلم
بأزيد منها ، وكذا لو قال : لا تقل له أفّ ، فهم منه تحريم ضربه ، وكما أنّ ذلك
حجّة في تحريم الظلم بحبّة والتأفيف ، لدلالة اللفظ عليه ، فكونه حجّة في تحريم
الظلم بأزيد والضرب أولى ، لقوّة الدلالة فيهما ، والمنكر لذلك مكابر.
نعم اختلف
القائلون بكونه حجّة ، في أنّه حجّة من باب القياس ، أو من فحوى اللفظ؟
والحقّ الثاني ،
لوجوه :
__________________
الأوّل : العرب
وضعت هذه الألفاظ للمبالغة في تأكيد ثبوت الحكم في محلّ السكوت ، وهو أفصح من
التصريح ، وكما أنّ دلالة اللّفظ في محلّ التصريح لفظيّة باعتبار فهمه منه ، فهنا
أولى ، فإنّ دلالة قولنا : فلان يؤمن على ألف قنطار على أنّه يؤمن على دينار أقوى
من قولنا : إنّه يؤمن على دينار.
الثاني : لا يشترط
في القياس كون المعنى المناسب للحكم في الفرع ، أشدّ مناسبة من حكم الأصل إجماعا ،
وشرط هذا النوع ، الأشديّة ، فلا يكون قياسا.
الثالث : الأصل في
القياس يمتنع اندراجه في الفرع ، وكونه جزءا منه إجماعا وهذا النوع من الاستدلال
قد يكون ممّا يتوهم أنّه أصل فيه جزء مما يتوهم أنّه فرع ، كما لو نهاه عن إعطاء
حبّة ، فإنّه يدلّ على امتناع إعطاء دينار فما زاد ، والحبّة داخلة فيه.
الرابع : كلّ من
خالف في القياس أثبت هذا النوع حجّة عدا داود الظاهري ، ولو كان قياسا ، لوقع فيه
الخلاف.
الخامس : أنّا
نقطع بالتّعدية قبل شرع القياس ، فلا يكون منه.
احتجّ الآخرون :
بأنّا لو قطعنا النظر عن المعنى الّذي سيق له الكلام من كفّ الأذى عن الأبوين ،
وعن كونه في الشتم والضرب ، أشدّ منه في التأفيف ، لما حكم بتحريم الشتم والضرب
إجماعا ، فالتأفيف أصل ، والضرب فرع ، ورفع الأذى علّة ، والتحريم حكم ، ولا معنى
للقياس إلّا الجامع لهذه الأربعة ، وسمّوه
قياسا جليّا ،
لأنّ الوصف الجامع بين الأصل والفرع ثابت بالتأثير .
والجواب : كون
المعنى ثابتا ، وكونه أولى في محل السكوت ، شرط تحقّق الفحوى ، فلا يجب أن يكون
قياسا ، ولا مناقضة بين تحقّق المعنى والفحوى.
واعلم أنّ هذا
النوع من المفهوم ، ينقسم إلى قطعيّ وإلى ظنيّ.
فالأوّل : ما علم
فيه المعنى المقصود ، وأولويّته في محلّ السكوت ، كآية التأفيف.
والثاني : ما كان
أحد هذين ظنيّا كقوله تعالى في كفّارة قتل الخطأ : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ) فإنّه وإن دلّ على وجوب الكفّارة في قتل العمد ، لأنّه
أولى بالمؤاخذة ، إلّا أنّه ليس قطعيّا ، لإمكان أن لا تكون علّة التكفير في الخطأ
المؤاخذة ، وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان والمراد به رفع المؤاخذة ، بل نظرا للخاطئ بإيجاب ما يكفّر
ذنبه في تقصيره ، ولهذا سمّيت كفّارة ، وجناية العمد فوق جناية الخطأ ، ولا يلزم
من كون الكفّارة مسقطة لإثم أضعف الذّنبين أن تكون مسقطة لإثم أقواهما.
__________________
المبحث الرابع :
في مفهوم المخالفة
قد سبق الخلاف في
أنّ ربط الحكم باسم عامّ مقيّد بصفة خاصّة ، كقولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : في الغنم السائمة زكاة ، هل يدلّ على نفيها عن غير
السائمة أم لا؟ وذكرنا الحجج من الطّرفين ، وكذا البحث قد سبق في مفهوم الشرط ،
والغاية ، وإنّما ، والأوصاف الطارئة ، ومفهوم اللقب ، والاسم المشتقّ ، لقربه من
مفهوم اللّقب ، والعدد الخاصّ ، ومفهوم الاستثناء ، إذ حاصله راجع إلى أنّ
الاستثناء من النّفي إثبات ، فإنّ بعضهم قال في قولنا : لا عالم إلّا زيد ، لا
يقتضي ثبوت العلم له ، بل إخراجه عن نفي العلم ، وقد سلف تحقيقه.
وأمّا مفهوم حصر
الخبر في المبتدأ ، كقولنا : العالم زيد ، وصديقي عمرو ، وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّما الأعمال بالنّيات ، فذهب جماعة من المتكلّمين والحنفيّة والقاضي أبو بكر إلى أنّه لا يدلّ على الحصر ، وقال الغزّالي وجماعة من الفقهاء : إنّه يدلّ.
__________________
واختلف مثبتو
الدلالة ، فقال بعضهم : إنّه منطوق ، وقال آخرون : إنّه مفهوم.
احتجّ الأولون :
بأنّه لو أفاد الحصر لأفاده العكس ، لأنّه فيهما ليس للجنس ، ولا لمعهود معيّن ،
لعدم القرينة.
ولأنّه لو كان ،
لكان التقديم بغير مدلول الكلمة ، وليس كذلك ، إذ ليس فيه سوى تغيير الجزء الصوري.
احتجّ الآخرون :
بأنّه لو لم يكن دالّا على حصر الأعمال في المنويّة ، والعالم في زيد ، والصداقة
في عمرو ، لكان المبتدأ أعمّ من خبره ، فيكون كذبا ، كما لو قال : الحيوان إنسان ،
لتعذّر الجنس والعهد ، فوجب جعله لمعهود ذهنيّ بمعنى الكامل والمنتهى.
واعترض : بأنّ
الكذب إنّما يلزم لو كان الالف واللام للعموم ، حتّى يصير التقدير : كلّ عمل بنيّة
، وهو ممنوع ، بل هي ظاهرة في البعض ، والتقدير : بعض الأعمال بالنية ، وبعض
العالم زيد ، وبعض صديقي عمرو ، فإذن هو لمعهود ذهنيّ ، مثل : أكلت الخبز.
وأيضا ، يلزمه : زيد العالم بعين
ما ذكر.
فإن زعم أنّه مخبر
بالأعمّ عن الأخصّ ، فغلط ، لأنّ شرط جعل الأعمّ مخبرا به ، التنكير ، لما عرف من قواعدهم أنّ الألف واللام في المحمول يدلّ
على المساواة.
__________________
وإن جعل اللام في
قولنا : «زيد العالم» لزيد ، لقرينة تقدّمه ، كان خطأ أيضا :
[أ] لاستقلال
اللّام بالتعريف وإن لم يذكر زيد ، لكونه خبر المبتدأ.
[ب] ووجوب استقلال
الخبر بالتعريف عند كونه معرفة.
[ج] واستلزام ذلك
وجوب استقلال اللام بالتعريف منقطعا عن زيد ، وهذا الاستقلال يمنع كون اللّام لزيد
، لتوقف تعريفه حينئذ على تقدّم قرينة زيد.
__________________
المقصد السابع : في الأفعال
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في عصمة الأنبياء عليهمالسلام
أمّا قبل البعثة ،
فذهب الإماميّة كافّة إلى وجوب عصمتهم من كلّ ذنب صغير أو كبير على سبيل العمد ،
أو السهو ، أو التأويل ، لأنّه لو وقع منهم شيء من ذلك لسقط محلّهم من النّفوس
وانحطّت درجتهم ، وأوجب ذلك هضمهم والاحتقار بهم ، والنفرة عن اتّباعهم ، وعدم
الانقياد إلى أوامرهم ونواهيهم ، وذلك ينافي الغرض من البعثة ، ويخالف مقتضى
الحكمة.
وخالفهم في ذلك
جميع الفرق.
أمّا أكثر
المعتزلة ، فقد جوّزوا وقوع الصغائر منهم ، أمّا الكبائر فقد وافقوا الشيعة على
امتناعها منهم.
وأمّا الاشاعرة ،
فقال أكثرهم وجماعة من المعتزلة : إنّه لا يمتنع عليهم المعصية كبيرة كانت أو
صغيرة ، بل ولا يمتنع عقلا إرسال من أسلم عن كفر ، لانتفاء دليل سمعيّ على عصمتهم عن ذلك ، ودليل العقل
مبنيّ على التحسين والتقبيح ، ووجوب رعاية الحكمة في أفعاله تعالى.
وأمّا بعد النبوّة
، فعند الإماميّة أنّهم معصومون عن كلّ ذنب صغير أو كبير ، وقع عن عمد ، أو سهو ،
أو تأويل ، لوجوب ذلك قبلها ، فبعدها أولى.
وأمّا الجمهور فقد
اختلفوا ، وحاصل الاختلاف يرجع إلى أقسام أربعة :
الأوّل : ما يقع
في باب الاعتقاد ، وقد اتّفقوا على أنّه لا يجوز منهم الكفر إلّا الفضليّة من الخوارج ، فإنّهم قالوا : قد وقع منهم ذنوب ، وكلّ ذنب
عندهم كفر وشرك ، وأمّا الاعتقاد الخطأ الّذي لا يبلغ الكفر كاعتقاد عدم بقاء الأعراض
، فمنهم من منعه ، لكونه منفّرا ومنهم من جوّزه.
الثاني : ما يرجع
إلى التبليغ ، واتّفقوا على امتناع التغيير عليهم ، وإلّا لزال الوثوق بما يقولونه
، وجوّز بعضهم ذلك على جهة السّهو لا العمد.
الثالث : ما
يتعلّق بالفتوى ، واتّفقوا على امتناع الخطأ فيه ، وجوّزه قوم على سبيل السهو.
__________________
الرابع : ما يتعلق
بأفعالهم ، واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
الأوّل : قول من
جوّز عليهم الكبائر عمدا ، ومنهم من قال بوقوع هذا الجائز وهم الحشوية.
وقال القاضي أبو
بكر : إنّه جائز عقلا غير واقع سمعا.
الثاني : قال
الجبائيّ : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ولا صغيرة عمدا ، لكن يجوز أن يأتوا به على
سبيل التأويل.
الثالث : قال
بعضهم لا يجوز ذلك ، لا عمدا ولا من جهة التأويل ، لكن على سبيل السهو ، وهم
مؤاخذون بما يقع منهم على وجه السهو وإن كان موضوعا عن أمّتهم ، لقوّة معرفتهم ،
وتمكّنهم من التحفظ بخلاف اتباعهم ...
الرابع : قول أكثر
المعتزلة : لا يجوز أن يرتكبوا كبيرة ، وقد وقعت منهم صغائر عمدا وخطأ وسهوا
وتأويلا ، إلّا ما ينفّر ، كالكذب والتطفيف ، وسرقة قدر بذر.
وهنا قول آخر : أنّه لم يقع منهم ذنب صغير ولا كبير عمدا ، وأمّا
سهوا فقد وقع ، لكن بشرط أن يتذكّروه في الحال ، ويعرّفوا غيرهم أنّه سهو.
والحقّ ما قلناه
عن الإماميّة ، والاستقصاء مذكور في كتبنا الكلاميّة.
__________________
المبحث الثاني :
في معنى التأسّي والموافقة والمخالفة
لمّا دل الإجماع
والنصّ على وجوب التأسي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجملة ، وجب معرفة التأسّي ، والموافقة ، والمخالفة.
فالتأسي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، قد يكون في فعله وفي تركه ، أمّا في الفعل فبأن نفعل
صورة ما فعل ، على الوجه الّذي فعل ، لأجل أنّه فعل.
وأمّا في الترك ،
فبأن نترك مثل الّذي ترك ، على الوجه الّذي ترك ، لأجل أنّه ترك ، فاتّحاد الصّورة
لا بدّ منه لتحقّق التأسّي معه ، فانّه لو صلّى ، وصمنا ، لم نكن متأسّين به.
وأمّا الوجه ، فهو
الغرض ، والنيّة بذلك الفعل ، ولا بدّ من اتّحاده ، فكلّما هو غرض في الفعل وجب
اعتباره ، ويدخل في ذلك نيّة الوجوب والندب ، فإنّه لو صام على وجه الوجوب ، وصمنا
على وجه الندب ، لم يتحقّق التأسّي به ، وكذا بالعكس.
ولو انتفى الغرض
المخصوص في الفعل ، لم يجب اعتباره ، فإنّه لو أزال النجاسة لا لأجل الصلاة ، لم
يجب إذا تأسينا به من إزالتها أن ننوي ذلك.
وإذا عرف أنّ
للمكان أو الزمان مدخلا في الغرض ، وجب اعتبارهما ،
كالوقوف بعرفة ،
وصوم شهر رمضان ، وصلاة الجمعة ، وإلّا فلا ، كما لو تصدّق صلىاللهعليهوآلهوسلم واتّفق ذلك في زمان ما ، فإنّه يتحقّق التأسّي به وإن تصدّقنا في
غير ذلك المكان أو الزمان ، إذا علمنا انتفاء تعلّق الغرض بهما.
وقولنا : «لأجل
أنّه فعل» لانتفاء التأسّي بدونه ، فإنّه لو اتّفق شخصان في فعل واحد ، ولم يفعل
أحدهما لأجل فعل الآخر ، لم يكن أحدهما متأسّيا بصاحبه.
ولو صلّى صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فصلّى مثل صلاته رجلان من أمّته لأجل أنّه صلّى ، لوصف
كلّ منهما أنّه متأسّ بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا يوصف كلّ واحد منهما بأنّه متأسّ بالآخر.
ولا يشترط في
التأسّي استفادة المتأسّي صورة الفعل ووجوبه ممن يتأسّى به ، فإنّا موصوفون
بالتأسّي بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في الصّبر على الشدائد ، والشكر على النّعم ، إذا فعلنا
ذلك لأجل فعله ، وإن لم نستفد صورة ذلك منه ، ولا وجوبه.
ولا يمتنع أن نفعل
ذلك لأجل أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم فعله ، ولعلمنا بوجوبه أو حسنه عقلا.
وقال أبو علي بن
خلّاد : إنّ الفعل الّذي وقع التأسّي فيه ، يجوز أن يكون حسنا من الثاني ، قبيحا من
الأوّل ، كالنصراني لو مشى إلى بيعة للتعبّد
__________________
بدينه ، فتبعه
مسلم ليردّ وديعة كانت عنده ، في البيعة ، كان متأسّيا به ، والمشي حسن من المسلم
، قبيح من النصرانيّ .
واعترضه أبو
الحسين بانتفاء التأسّي مع اختلاف الأغراض.
وقال أبو عبد الله
البصري : ينبغي اعتبار المكان الّذي وقع الفعل فيه ، إلّا أن يدلّ
دليل على عدم اعتباره.
ولا بأس به عندي.
وقال قاضي القضاة
: إنّ اعتبار الزّمان والمكان يمنع من التأسّي لفوات الزمان ، واستحالة اجتماع
شخصين في مكان واحد في زمان واحد.
اعترضه أبو الحسين
: بأنّ هذا إنّما يمنع من اعتبار زمان معيّن ، ولا يمنع من اعتبار مثل الزمان ،
كما في وقت صلاة الجمعة ، ولا يمنع من اعتبار [ذلك] المكان في زمان آخر ، ولا من
اعتباره إذا كان [المكان] متّسعا ، كعرفة ، والواجب اعتبار الزمان والمكان بحسب
الإمكان ، إذا علم دخولهما في الأغراض.
وفيه نظر ، فإنّ
الغرض إن تعلّق بالزمان ومماثله ، لم يكن للزمان المخصوص مدخل في الغرض ، وكذا
المكان المتّسع.
__________________
وقال قاضي القضاة
: لا اعتبار بطول الفعل وقصره ، لعدم إمكان ضبطه.
اعترضه أبو الحسين
: بوجوب اعتباره بحسب الإمكان ، إذا علم دخول ذلك في الأغراض .
وأمّا اتّباع
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد يكون في القول ، بأن يصير إلى مقتضاه من وجوب ، أو
ندب ، أو حظر ، لأجله.
وفي الفعل وفي
الترك ، بأن يتأسّى به.
ويمكن أن يقال :
اتّباع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم هو المصير إلى ما تعبّدنا به على الوجه الّذي تعبّدنا به ،
لأنّه تعبّدنا به ، ويدخل فيه القول ، والفعل ، والترك.
وإنّما شرطنا في
الاتّباع ما شرطناه في التأسّي ، لأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لو صلّى فصمنا ، أو صام فرضا ، فصمنا ندبا ، أو صمنا لا
لأنّه صام ، لم نكن متّبعين.
وأمّا الموافقة :
فقد تكون في المذهب ، بأن يتشاركا فيما نسبت الموافقة إليه ، فإذا قيل: وافق فلان
فلانا في الرؤية ، جاز أن يختلفا في السبب ، بأن يعتقد أحدهما أنّه يرى بهذه
الحاسّة ، والآخر أنّه يرى بحاسّة سادسة ، بعد أن يتّفقا في مطلق الرؤية ، لأنّ
النسبة وقعت فيها.
أمّا لو وافقه في
أنّه يرى بهذه الحاسّة ، أفاد الاشتراك في الرؤية بهذا الحدّ.
ولا يشترط في
الموافقة في المذهب أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.
وقد تكون في الفعل
، بأن يتشاركا في صورته ووجهه ، فإنّ المصلّي لا
__________________
يوافق الصائم ،
وكذا المصلّي نفلا لا يوافق المصلّي فرضا.
وفيه نظر ، فإنّ
الموافقة من الأمور الإضافيّة ، فتصدق وإن اختلفا في الوجه ، للتشارك في الصورة ،
كما لو قيّدت الموافقة فقيل : قد وافقه في صورة الفعل ، فإنّه لا يقتضي التشارك في
الوجه ، فكذا في المطلق ، إلّا أن يعني بالموافقة المطلقة الموافقة الكلّية بجميع
الاعتبارات ، لكن تلك أحد أنواع مطلق الموافقة.
ولا يشترط في
الموافقة هنا أيضا أصالة أحدهما وتبعيّة الآخر.
وأمّا المخالفة ،
فقد يكون في القول ، وهي العدول عمّا اقتضاه القول من إقدام أو إحجام ، وفي الفعل
، وهي العدول عن امتثال مثله ، إذا وجب امتثال مثله ، وإذا لم يجب لم يقل للتارك :
إنّه قد خالف ، ولهذا لا يصدق في حقّ الحائض بترك الصلاة : أنّها مخالفة.
لا يقال : فيجب أن
يكون ترك ذلك الفعل مخالفة للدليل الدالّ على وجوب المشاركة له في الفعل ، ولا
يكون مخالفة في الفعل.
لأنّا نقول : نمنع
الوجوب ، لأنّ الدليل إذا دلّ على وجوب مشاركته صلىاللهعليهوآلهوسلم في فعله ، فأيّ فعل فعله كان دليلا على وجوب مثله علينا ،
فصحّ أن يوصف من لم يفعله بأنّه مخالف.
__________________
المبحث الثالث :
في أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل يدلّ على حكم في حقّنا أم لا؟
أمّا ما كان من
أفعال الجبليّة ، كالقيام ، والقعود ، والأكل ، والشرب ، ونحوه ، فلا خلاف في أنّه
على الإباحة بالنّسبة إليه وإلى أمّته.
وأمّا ما هو من
خواصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يدلّ فعله على التشريك بيننا وبينه إجماعا ،
كاختصاصه بوجوب الوتر ، والتهجد بالليل ، والمشاورة ، والتخيير لنسائه ، وإباحة
الوصال ، والاصطفاء ودخول مكة بغير إحرام ، والزيادة في النكاح على أربع ، إلى
غير ذلك ممّا ثبت أنّه من خواصّه.
وأمّا ما وقع
بيانا لنا ، فهو دليل إجماعا ، وذلك إمّا تصريح كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : صلّوا كما رأيتموني اصلّي ، وخذوا عنّي مناسككم.
وإمّا بقرائن
الأحوال ، كما إذا ورد لفظ مجمل ، أو عامّ أريد به الخصوص ، أو مطلق أريد منه
المقيّد ، ولم يبيّنه ، قبل الحاجة إليه ، ثم فعل عند الحاجة فعلا صالحا للبيان ،
فإنّه يكون بيانا لئلّا يكون مؤخّرا للبيان عن وقت الحاجة إليه ، كقطع يد السّارق
بيانا لقوله تعالى : (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ) والبيان
__________________
تابع للمبيّن في
وجوبه ، وندبه ، وإباحته.
وأمّا ما عدا ذلك
من أفعاله ، فإمّا أن يظهر فيه قصد القربة أو لا.
والأوّل اختلفوا
فيه ، فذهب قوم إلى أنّه محمول على الوجوب في حقّه وفي حقّنا ، وبه قال ابن سريج وابو سعيد الاصطخري وابن أبي هريرة وأبو علي بن خيران ، والحنابلة ، وجماعة ، من المعتزلة ، ونقله المرتضى عن مالك.
وقال إمام الحرمين
: إنّها للندب وهو محكيّ عن الشافعي.
وقال آخرون : إنّه
للإباحة ، وهو منقول عن مالك.
وقال الصيرفي وأكثر المعتزلة والسيد المرتضى بالوقف.
وأمّا ما لم يظهر
فيه قصد القربة ، فقد اختلفوا فيه على نحو اختلافهم فيما
__________________
ظهر فيه قصد
القربة ، إلّا أنّ القول بالوجوب والندب فيه أبعد ، والوقف والإباحة أقرب ، وبعض
من جوّز المعاصي على الأنبياء قال : إنّها على الخطر.
فالحقّ عندي : أنّ
ما ظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بين الواجب والندب ، وهو مطلق الترجيح في
حقّه وحقّنا ، وما لم يظهر فيه قصد القربة فهو للقدر المشترك بينهما وبين الإباحة
، وهو رفع الحرج عن الفعل.
أمّا مع ظهور
القربة ، فلأنّها لا ينفكّ عن أحد قيدي الوجوب أو الندب ، و [القدر] المشترك
بينهما هو مطلق الترجيح ، ولا دلالة للأعمّ على الأخصّ ، وكلّ واحد من القيدين
مشكوك فيه ، وليس أحدهما أولى من الآخر.
وأمّا إذا لم يظهر
قصد القربة ، فلأنّه لا ينفكّ عن أحد القيود الثلاثة : الوجوب ، والندب ، والإباحة
، والمشترك هو مجرد رفع الحرج ، ولا دلالة على الخصوصيّات ، فالمتيقّن هو المشترك
، وكلّ واحد من الخصوصيّات مشكوك فيه.
هذا في حقه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وأمّا في حقّنا ،
فلأنّ النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم وإن كان قد اختصّ بأمور ، لكنّها بالنسبة إلى الأحكام
نادرة ، وحمل المجهول على الأغلب أولى من حمله على النادر ، فكانت المشاركة أظهر.
احتج القائلون
بالوجوب بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) وقد تقدّم
__________________
أنّ الأمر حقيقة في
الفعل ، والتحذير عن مخالفة فعله يقتضي وجوب موافقة فعله.
الثاني : قوله
تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) ويلزمه بعكس النقيض من لم يتأس به لم يكن راجيا لله واليوم
الآخر ، وهذا توعّد وزجر.
الثالث : قوله
تعالى : (وَاتَّبِعُوهُ) أمر بالمتابعة ، والأمر للوجوب ، والمتابعة هي الإتيان
بمثل فعله.
الرابع : قوله
تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي) دلّت [الآية] على أنّ الاتّباع لازم للمحبّة ، والمحبّة
واجبة بالإجماع ، ولازم الواجب واجب.
الخامس : قوله
تعالى : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) فإذا فعل فقد آتانا بالفعل ، فيجب أخذه إلى العمل بمثله.
السادس : قوله
تعالى : (أَطِيعُوا اللهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) أوجب طاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، والإتيان بمثل فعله ، لأجل أنّه فعله ، طاعة له ، فكان
واجبا.
السابع : قوله
تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ) إلى قوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى
__________________
الْمُؤْمِنِينَ
حَرَجٌ) بيّن إنّما زوّجه بها ليكون حكم أمّته مساويا له وهو
المطلوب.
الثامن : روي عن
الصحابة أنّهم خلعوا نعالهم لما خلع نعله ، فهموا وجوب المتابعة له في فعله ،
والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أقرّهم على ذلك ، ثمّ بيّن لهم علّة انفراده بذلك.
التاسع : روي أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرهم بفسخ الحجّ إلى العمرة ، ولم يفسخ ، فقالوا له : ما
بالك أمرتنا بفسخ الحجّ إلى العمرة ولم تفسخ؟ ففهموا أنّ حكمهم حكمه ، والنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لم ينكر عليهم ، ولم يقل : «إنّ حكمي مخالف لحكمهم» بل
بيّن عذرا يختصّ به.
العاشر : روي أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم نهى الصحابة عن الوصال في الصوم وواصل ، فقالوا : نهيتنا
عن الوصال ، وواصلت ، فقال : «لست كأحدكم إنّي أظلّ عند ربّي يطعمني ويسقيني» فأقرّهم على ما فهموه من مشاركته في الحكم ، واعتذر بعذر ،
يختصّ به.
الحادي عشر : روي
عن أمّ سلمة أنّها سألته عن قبلة الصائم ، فقال لها : «لم لم تقولي لهم : إنّي
أقبّل وأنا صائم» ولو لم يجب اتّباعه في أفعاله ، لم يكن لذلك معنى.
__________________
الثاني عشر :
سألته أمّ سلمة عن بلّ الشعر في الاغتسال ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمّا أنا فيكفيني أن أحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء» ولو لا وجوب متابعته ، لما حسن هذا الجواب.
الثالث عشر : روي
أنّه أمر الصحابة بالتحلّل بالحلق والذبح ، فتوقّفوا ، فشكا ذلك إلى أمّ سلمة
فأشارت إليه بأن يخرج وينحر ويحلق ، ففعل ذلك ، فذبحوا وحلقوا ، ولو لا أنّ فعله متّبع ، لما كان كذلك.
الرابع عشر : الإجماع
على وجوب متابعته ، فإنّ الصحابة اختلفوا في الغسل من التقاء الختانين ، فقالت
عائشة : «فعلته أنا ورسول الله فاغتسلنا» فرجعوا إلى ذلك ، فإجماعهم إنّما كان لفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فقد اجمعوا هنا على أنّ مجرّد الفعل للوجوب ، وخلع خاتمه
فخلعوا.
وكان عمر يقبّل
الحجر الأسود ، ويقول : إنّي أعلم أنّك حجر لا تضرّ ولا تنفع ، ولو لا أنّي رأيت
رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقبّلك لما قبّلتك.
الخامس عشر :
الاحتياط يقتضي حمل الشيء على أعظم مراتبه ، لأنّه يتضمّن رفع ضرر الخوف عن النفس
بالكليّة ، ودفع الخوف واجب ،
__________________
واعظم مراتب فعل
الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يكون واجبا عليه وعلى أمّته ، فوجب حمله عليه.
السادس عشر : يجب
تعظيم الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم في الجملة ، وإيجاب الإتيان بمثل فعله تعظيم له ، بدليل
العرف ، والتعظيمان يشتركان في قدر من المناسبة ، فيجمع بينهما بالقدر المشترك ،
فيكون ورود الشرع بإيجاب ذلك التعظيم يقتضي وروده بأن يجب على الأمّة الاتيان بمثل
فعله.
السابع عشر :
أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم تقوم مقام أقواله في بيان المجمل ، وتخصيص العموم ، وتقييد
المطلق من الكتاب والسنّة ، فكان أفعاله محمولا على الوجوب كالقول.
الثامن عشر : ما
فعله النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم حقّ وصواب ، وترك الحقّ والصواب يكون خطأ وباطلا ، وهو
ممتنع.
التاسع عشر : فعله
صلىاللهعليهوآلهوسلم يحتمل أن يكون واجبا ، وأن لا يكون واجبا ، واحتمال وجوبه
أظهر من احتمال عدمه ، لأنّ الظاهر من حاله أنّه لا يختار إلّا الأكمل ، والواجب
أكمل ، وإذا كان واجبا وجب اعتقاد مشاركة الأمّة له.
العشرون : كونه
نبيّا يقتضي وجوب الاتّباع ، والّا نفّر عنه.
الحادي والعشرون :
الفعل آكد من القول في الدلالة عن صفة
__________________
الفعل ، ولهذا كان
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يحقّق أمره بفعله ، كما فعله في الحج والصّلاة ، فاذا أفاد
الأمر الوجوب ، كان في الفعل أولى بذلك.
والاعتراض على
الأوّل : بالمنع من كون الأمر حقيقة في الفعل ، وقد تقدّم.
سلّمنا ، لكنّه
حقيقة في القول إجماعا ، فليس حمله على الفعل أولى من حمله على القول.
سلّمنا ، لكن لا
يمكن حمله على الفعل ، لتقدّم ذكر الدعاء والمخالفة يمنع من حمله عليه ، فإنّ
القائل لو قال لغيره : «لا تجعل دعائي كدعاء غيري ، واحذر مخالفة أمري» فهم القول
دون الفعل.
ولأنّه قد يراد به
القول إجماعا ، فلا يجوز حمله على الفعل ، لامتناع حمل المشترك على معانيه جميعا.
سلّمنا ، لكن
الضمير في أمره عائد إلى الله تعالى ، لأنّه أقرب.
اعترضه أبو الحسين : بأنّ القصد الحثّ على اتّباع الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لأنّ قوله تعالى : (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً).
حثّ على الرجوع
إلى أقواله وأفعاله ، ثمّ عقب بقوله : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ) ، فعلم أنّ المراد أمر الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
وأجيب بأنّ عود الضمير إليه تعالى مؤكّد لهذا الغرض أيضا ، لأنّه
لمّا حثّ على الرجوع إلى أقوال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم حذّر عن مخالفة أمر الله تعالى ، فكان مؤكّدا للحثّ على
المتابعة.
سلّمنا ، لكن لم قلت : إنّ عدم الإتيان بمثل فعله مخالفة لفعله؟
لا يقال :
المخالفة ضدّ الموافقة ، لكنّ موافقة فعل الغير أن يفعل مثل فعله ، فمخالفته أن لا
يفعل مثل فعله ، وهو يصدق مع فعل الضدّ وعدم الفعل.
ولأنّ المعقول من
المختلفين هما اللّذان لا يقوم أحدهما مقام الآخر ، وهو متحقّق في الوجود والعدم ،
فإنّه لا يقوم أحدهما مقام الآخر البتّة.
لأنّا نقول :
إنّها في الأصل وإن كانت كذلك ، لكنّها في عرف الشرع ليست كذلك ، ولهذا لا يسمّى
إخلال الحائض بالصّلاة مخالفة للمسلمين ، بل هي عبارة عن عدم الإتيان بمثل فعله ،
إذا كان الإتيان به واجبا.
وعلى هذا لا يسمّى
ترك مثل فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم مخالفة إلّا إذا دلّ فعله على الوجوب ، وإذا بيّنّا ذلك
بهذا ، لزم الدور .
وفيه نظر ، فإنّه
ليس من شرط المخالفة وجوب الفعل ، ولهذا يصدق في المندوب ، بل وفي جميع الأحكام.
__________________
وإنّما لم يوصف
فعل الحائض بمخالفة المسلمين ، لاشتماله على وصف ذمّ ، مع أنّ تركها من فعل
المسلمين ، لأنّ حكمه تعالى في حقّها ذلك.
بل الوجه أن يقال
: الممنوع منه إنّما هو المخالفة في الواجب ، لا مطلق الفعل ، فالاستدلال به على
الوجوب دور.
وعلى الثاني : أنّ
التأسّي هو الإتيان بمثل فعل الغير على وجهه لا مطلقا ، فليس مطلق فعل الرسول سببا
للوجوب في حقّنا ، فإنّ فعله قد لا يكون واجبا ، فلو فعلناه واجبا لم يكن تأسّيا.
وقال أبو الحسين :
إنّه ليس تهديدا ، لأنّ الإنسان قد يرجو المنافع ، كما يرجو دفع المضارّ ، ولو كان
تهديدا لدلّ على وجوب التأسّي ، وقد بيّنّا أنّ التأسّي في الفعل هو إيقاعه على
الوجه الّذي أوقع عليه ، فالآية تدلّ على ما نقوله ، قال : وقد قيل : إنّ قوله (لَكُمْ) ليس من ألفاظ الوجوب ، ولو دلّ على الوجوب لقال «عليكم».
واعترضه : بأنّه
لا يصحّ الاستدلال بذلك على نفي الوجوب ، لأنّ معنى قولنا : «لنا أن نفعل كذا» هو
أنّه لا حظر علينا في فعله ، والواجب ليس بمحظور الفعل.
وفيه نظر ، فإنّ
المعترض منع من الاستدلال به على الوجوب ، ولم يستدلّ به على نفيه.
__________________
وعلى الثالث :
أنّه إن لم يفد قوله (وَاتَّبِعُوهُ) العموم ، يسقط الاستدلال ، وإن أفاده فبتقدير أن لا يكون
ذلك الفعل واجبا عليه وعلينا ، وجب ان نعتقد فيه عدم الوجوب ، فالحكم بالوجوب
يناقضه ، فلا يكون متحقّقا ، ونمنع كون هذا الأمر للوجوب.
سلّمنا ، لكن
صريحه اتّباع شخصه صلىاللهعليهوآلهوسلم وليس مرادا ، لإضمار الفعل والقول معا ، لزيادة خلاف الأصل
، مع اندفاع الضرورة بدونه ، وليس أحدهما أولى ، بل القول ، للإجماع عليه ،
والخلاف في الفعل ، كيف والمتابعة في الفعل إنّما تجب في الفعل الواجب لا مطلق
الفعل.
وعلى الرابع بذلك
أيضا .
وفيه نظر ،
لدلالتهما على وجوب المتابعة ، لما ثبت من أنّ الأمر للوجوب ، وانّما يتحقّق في
الجميع.
أمّا أوّلا ،
فلعدم دليل التخصيص ببعض الأفعال ، ويلزم منه الإجمال.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ المفهوم من المتابعة المطلقة الموافقة في كلّ الأفعال.
وأمّا ثالثا ،
فلأنّ المراد إيجاب طاعته ، وانقياد العباد إلى امتثال أمره ، خرج عنه المندوب وما
ليس بواجب بدليل بيّنه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيبقى الباقي على الأصل.
__________________
وعلى الخامس :
بالمنع من كون فعله إتيانا لنا ، لمقابلة قوله (وَما نَهاكُمْ) والثاني بالقول فكذا الأوّل.
ولأنّ الإتيان
إنّما يتأتّى في القول ، لأنّا نحفظه ، وامتثاله يصير كأنّنا أخذناه ، وكأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم أعطاناه.
وفيه نظر ، لأنّ
الترك كالنّهي ، فصحّت المقابلة بالفعل في النّهي.
وأيضا ، لا منافاة
بين الأمر بالامتثال في المأتيّ به ، فعلا كان أو قولا ، والانتهاء إذا نهى بالقول
، والإتيان قد يكون في الترك ، وبامتثاله نصير كأنّنا أخذناه.
وعلى السادس :
بأنّ الطاعة هي الإتيان بالمأمور [به] أو المراد ، على اختلاف الرّأيين ، ونحن لا
نسلّم أنّ مجرّد فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم يدلّ على أنّا أمرنا بمثله ، أو أريد منّا مثله ، فإنّه
نفس النزاع.
وعلى السابع :
بأنّ غايتها الدلالة على أنّ حكم أمّته مساو لحكمه في الوجوب والندب والاباحة ،
ولا يلزم من ذلك أن يكون كلّ ما فعله واجبا ليكون فعلنا له واجبا.
وعلى الثامن :
بالمنع من أنّهم فعلوا ذلك واجبا ، ويمكن أن يكونوا لمّا
__________________
سمعوا قوله تعالى
: (خُذُوا زِينَتَكُمْ
عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) ورأوه قد خلع نعله ، ظنّوا أنّه مأمور به غير مباح ، لأنّه
لو كان مباحا لما ترك به المسنون في الصلاة ، على أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال لهم : «لم خلعتم»؟ فقالوا : لأنّك خلعت ، فقال : «إنّ
جبرئيل عليهالسلام أخبرني أنّ فيها أذى» فدلّ ذلك على أنّه ينبغي أن يعرفوا
الوجه الّذي أوقع عليه فعله ثمّ يتّبعوه ، وهذا هو قولنا.
ولأنّه دليل لنا ،
لأنّ إنكاره عليهم يدلّ على أنّ متابعته في مطلق فعله ليست واجبة إلّا مع علم
الوجوب.
وعلى التاسع :
بأنّ فهم المتابعة إنّما كان لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خذوا عنّي مناسككم» فلما خالفهم سألوه عن السبب.
على أنّ فيه نظرا
من وجوه :
الأوّل : الإجماع
على التشارك في الحجّ بينه وبينهم ، فسألوه عن المخالفة.
الثاني : اتّفقوا
على الإحرام ، وأمرهم بفسخ إحرامهم دونه ، فسألوه عن المخالفة.
الثالث : سألوه
لتجويز النّسخ أو لكونه من خواصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الرابع : سألوه عن
سبب المخالفة ، وليس فيه دلالة على وجوب الموافقة.
وعلى العاشر :
بأنّهم أمروا بالصّوم وصام معهم ، فظنّوا أنّ فعله بيان
__________________
الواجب فتبيّن لهم
الاختصاص به ، وأنكر عليهم الموافقة.
ولأنّ الوصال لم
يكن واجبا على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بل غايته أنّه كان مباحا ، ووجوب المتابعة فيما أصله غير
واجب ممتنع ، بل ظنّهم أنّما كان في مشاركته في إباحة الوصال ونحن نقول به.
وعلى الحادي عشر :
بذلك أيضا.
فإنّ فيه نظرا ،
فإنّ عبادته صلىاللهعليهوآلهوسلم أكمل من عبادتهم ، فلمّا سألوه عن القبلة هل تثلم الصّوم
وتنقضه؟ فأجاب صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّه يفعلها ، ولو أنقضت العبادة ، كان أولى بالامتناع
منهم.
وعلى الثاني عشر :
بعدم دلالته على وجوب بلّ الشعر في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا غيره ، ولعلّه أراد بذلك الكفاية في الكمال لا في
الوجوب.
وأيضا فيه نظر ،
فإنّ استظهاره صلىاللهعليهوآلهوسلم في التطهير أبلغ من غيره ، وإذا اكتفى فيه بما ذكر ، فغيره
أولى.
وعلى الثالث عشر :
بأنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم وقع بيانا لقوله : «خذوا عنّي مناسككم» ولا خلاف في وجوب
اتّباعه فيه إذا ورد بيانا لخطاب سابق ، وهو أبلغ دلالة من القول المجرّد عن الفعل
، لأنّه يدلّ بالمشاهدة على المقصود.
وأيضا ، فإنّ وجوب
التحلّل وقع مستفادا من أمر النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم لهم بذلك ، غير أنّهم كانوا ينتظرون إنجاز وعد الله تعالى
لهم بالفتح والظهور على قريش في
__________________
تلك السنة ، وأن
ينسخ الله عنهم الأمر بالتحلّل وأداء ما كانوا فيه من الحجّ ، فلمّا تحلّل صلىاللهعليهوآلهوسلم آيسوا من ذلك فتحلّلوا.
وعلى الرابع عشر :
بالمنع من استناد الإجماع إلى فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، بل إلى قوله : «إذا التقى الختانان» وسؤال عمر لعائشة
إنّما كان ليعلم أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم هل وقع موافقا لأمره أم لا.
وخلع الخاتم مباح
، فلمّا خلع أحبّوا موافقته ، لا لاعتقادهم وجوبه عليهم.
وتقبيل الحجر غير
واجب على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا على غيره ، أقصى ما في الباب : أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم يدلّ على ترجيحه من غير وجوب ، وهو متّفق عليه.
وعلى الخامس عشر :
أنّ الاحتياط ان يحمل الفعل على الوجوب إذا دلّت الدلالة عليه ، فإذا لم تدلّ
أمنّا ضرر تركه ، والخطر حاصل في اعتقاد وجوبه ، لأنّا لا نأمن أن يكون غير واجب ،
فنكون معتقدين اعتقادا لا نأمن كونه جهلا.
ولأنّ الاحتياط
إنّما يمكن القول به لو خلا عن احتمال الضرر قطعا ، وفيما نحن فيه يحتمل أن يكون
الفعل حراما على الأمّة.
اعترض بأنّه لو غمّ الهلال ليلة الثلاثين من رمضان ، احتمل أن
يكون يوم الثلاثين يوم العيد ، ومع ذلك يجب صومه احتياطا ، وإن احتمل تحريمه.
__________________
بل الحقّ أنّ
أولويّة الاحتياط إنّما هي لما ثبت وجوبه ، كالصلاة المنسيّ بعينها ، أو كان الأصل
وجوبه ، كصوم ثلاثين ، أمّا ما عساه أن يكون واجبا وغيره ، فلا ، وما نحن فيه كذلك
، حيث لم يتحقّق فيه وجوب ولا الأصل وجوبه.
وعلى السادس عشر :
بالمنع من كون الإتيان بمثل فعل العظيم تعظيما له ، وفي كون تركه إهانة ، بل قد
يكون تعاطي الإتيان بمثل فعل الغير حطّا من قدره واستنقاصا به ، فإنّه يقبح من
العبد الجلوس على سرير سيّده ، والركوب على مركبه ، ولو فعله استحق الذمّ.
ثمّ لو كانت
متابعته في أفعاله موجبة لتعظيمه ، وتركها موجبا لإهانته ، لوجب متابعته عند ما
إذا ترك بعض ما تعبّدنا به من العبادات ، ولم يعلم سبب تركه ، وهو خلاف الإجماع .
وفيه نظر ، إذ
الأمر ورد باتّباعه صلىاللهعليهوآلهوسلم وترك المخالفة له ، والمشاقّة بأن يكون في شقّ ونحن في آخر
، وهذا يقتضي كون الإتيان بجميع ما فعله تعظيما له ، ومبالغة في الامتثال
بالتبعيّة ، والانقياد إلى الطاعة ، بخلاف جلوس العبد على سرير مولاه ، لأنّه
الّذي يمتاز به المولى عنه ، وليس البحث في الفعل الّذي تعبّدنا فيه بشيء ، بل
فيما جهلنا حاله ، بخلاف تركه صلىاللهعليهوآلهوسلم لما تعبّدنا بالإتيان به.
وعلى السابع عشر :
بأنّه لا يلزم من كون الفعل بيانا للقول أن يكون موجبا
__________________
لما يوجبه القول ،
ولهذا فإنّ الخطاب القوليّ يستدعي وجوب الجواب ، ولا كذلك الفعل.
وعلى الثامن عشر :
بتسليم كونه حقّا وصوابا بالنسبة إليه ، لا أنّ حكم أمّته حكمه.
وعلى التاسع عشر :
بأنّ كون الواجب أكمل ، لا يقتضي كون جميع أفعاله واجبة ، بل أغلب أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم غير الواجب من المندوب والمباح ، وليس حمل فعله على النادر
أولى من حمله على الغالب.
وعلى العشرين :
يمنع التنفير على تقدير عدم مشاركتنا في الفعل ، ولو ثبت في ذلك تنفير ، لكان
إنّما يحصل لو لم يجب علينا مثل ما وجب عليه ، فإذا لم نعلم أنّ ما فعله واجب عليه
فلا تنفير في كونه غير واجب علينا.
وعلى الحادي
والعشرين : بأنّ الفعل آكد في الإبانة عن صفة الفعل من القول ، وليس الفعل وصفا
للوجوب ، حتّى يكون أدلّ عليه من الأمر.
احتجّ القائلون
بالندب بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) جعل التأسّي به حسنة ، وأقلّ درجاتها الندب ، فيحمل عليه
أخذا بالمتيقّن.
الثاني : الظاهر
من أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم أنّها لا تكون إلّا حسنة ، وهي لا تخرج عن الواجب والندب ،
وحمله على الندب أولى ، لأنّه الغالب من أفعاله.
__________________
الثالث : تطابق
أهل الاعصار على الاقتداء في الأفعال بالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو يدلّ على انعقاد الإجماع على أنّه يفيد النّدب.
الرابع : فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس راجح العدم ، لامتناع الذّنب منه ، ولا مساويه ، وإلّا
كان عبثا ، فتعيّن رجحان الوجود.
ولمّا انقسمت
أفعاله إلى واجبة ومندوبة ، والقدر المشترك ، هو رجحان الوجود ، وعدم الوجوب ثابت
بمقتضى الأصل ، فأثبتنا الرّجحان المطلق مع عدم الوجوب.
والاعتراض على الأوّل : «بما تقدّم ، من أنّ التأسّي هو إيقاع الفعل
على وجهه ، فلو فعله واجبا أو مباحا ، وفعلناه ندبا ، لما يحصل التأسّي».
وفيه نظر ، فإنّ
استحباب التأسّي غير استحباب الفعل ، فالنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إذا فعل فعلا علمنا وجهه ، استحبّ لنا الإتيان بمثله على
وجهه ، وان لم نعلمه حملناه على الندب لأصالة البراءة.
وعلى الثاني :
بالمنع من عموميّة الندب في أفعاله ، بل المباح.
وعلى الثالث :
أنّا لا نسلّم أنّهم استدلّوا بمجرّد الفعل ، فلعلّهم استندوا معه إلى قرائن أخرى.
وعلى الرابع :
بأنّ فعل المباح ليس عبثا ، لاشتماله على منفعة ناجزة ، والعبث ، الخالي عن الغرض.
احتجّ القائلون
بالإباحة : بأنّ الذنب لا يصدر عنه ، فينحصر فعله في
__________________
الواجب ، والندب ،
والمباح ، وهي مشتركة في رفع الحرج ، فيجب تحقّقه ، والزائد عليه مشكوك فيه ،
والأصل عدمه ، عملا بالاستصحاب ، فقد ثبت انتفاء الحرج في فعله قطعا ، وانتفاء
الرجحان ظاهرا ، فيكون مباحا ، إلّا ما دلّ الدليل على وجوبه أو ندبه ، وإذا كان
مباحا ظاهرا في حقّه ، كان كذلك في حقّنا ، لدليل التأسّي.
والاعتراض : ما
تقدّم على آية التأسّي ، مع أنّا نقول به فيما لم يظهر فيه قصد القربة.
احتج القائلون
بالوقف : بأنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم متردّد بين أن يكون خاصّا به وغير خاصّ ، والثاني متردّد
بين الأحكام الثلاثة ، ولا صيغة للفعل تدلّ على أحدهما بخصوصه ، وليس البعض أولى ،
فيجب الوقف.
والاعتراض : إن
أرادوا بالوقف أنّا لا نحكم بإيجاب ولا ندب إلّا أن يقوم دليل عليه ، فهو حقّ.
وإن أرادوا به أنّ
الثابت أحد هذه ، لكنّا لا نعرفه بعينه ، فخطأ ، لأنّ ذلك يستدعي دليلا ، وقد
بيّنّا أنّه لا دلالة للفعل على شيء سوى مطلق الترجيح ، مع ظهور قصد القربة ، وعلى
نفي الحرج مطلقا ، مع عدم ظهوره.
المبحث الرّابع :
في وجوب التأسي
اختلف الناس في
ذلك فذهب جماهير الفقهاء والمعتزلة إليه ، على معنى أنّه إذا علمنا أنّ الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم فعل فعلا على وجه الوجوب ، فقد تعبّدنا أن نفعله على وجه
الوجوب ، وإن علمنا أنّه تنفّل به ، كنا متعبّدين بالتنفّل به ، وإن علمنا أنّه
فعل على وجه الإباحة ، كنا متعبّدين باعتقاد إباحته ، وجاز لنا فعله.
وقال أبو علي بن
خلّاد تلميذ أبي هاشم من المعتزلة : إنّا متعبّدون بالتأسّي به في العبادات ، دون
غيرها من المناكحات والمعاملات.
وأنكر بعض النّاس
ذلك كلّه.
احتجّ الأوّلون
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ
مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ
أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) ولو لا أنّه متّبع في أفعاله مقتدى به ، لم يكن للآية
معنى.
__________________
الثاني : قوله
تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) جعل الاتّباع لازما للمحبّة الواجبة ، فلو لم تجب المتابعة
، لزم من عدمها عدم المحبّة الواجبة ، وهو حرام بالإجماع.
وقوله تعالى : (فَاتَّبِعُوهُ) وهو يتناول أفعال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم كما يتناول أقواله.
الثالث : قوله
تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ
الْآخِرَ) جعل التأسّي من لوازم رجاء الله ، ويلزم من عدم التأسّي
عدم الملزوم ، وهو كفر ، ولم يفرق الله تعالى بين أفعال النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم المباحة وغيرها.
الرابع : أجمعت
الصحابة على الرجوع إلى أفعاله ، كالرجوع في الغسل من التقاء الختانين ، وتقبيل
الحجر ، وغيرهما ممّا لا يحصى كثرة ، وهو يدلّ على أنّ أفعاله لا بدّ وأن يتّبع
فيها.
اعترض على الأوّل : بأنّ التأسّي فى التزويج لا يدلّ على
المتابعة في غيره.
وعلى الثاني
والثالث بمنع العموم فيهما ، إذ لا عموم فيهما ، ولهذا يحسن أن يقال : «لفلان أسوة
بفلان في كلّ شيء ، أو في شيء معيّن ، دون غيره» ولو كان
__________________
لفظ الأسوة عامّا
لم يقبل القسمة إليه وإلى ما ينافيه ، وإذا انتفى العموم كفى في العمل بمقتضاه
التأسّي به في فعل ما ، ونحن نوجب التأسّي في أقواله ، وفيما دلّ الدليل على
التأسّي به في أفعاله ، كقوله : «صلّوا» و «خذوا».
وعلى الرابع :
المنع من استناد أفعالهم إلى التأسّي بأفعاله ، أمّا في المباح فإلى الأصل ، وأمّا
في غيره من الأحكام فإلى قوله الدالّ عليها.
والجواب عن الأوّل
: لا دلالة في الآية على خصوص المتابعة في ذلك ، ولو لا وجوب المتابعة في الجميع
وإلّا لما فهم المؤمنون من إباحة ذلك للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم إباحة ذلك لهم ، ولا يمكن الاستناد إلى الإباحة الأصليّة ،
وإلّا لم يكن للتعليل معنى.
وفيه نظر ، لأنّ
التخصيص ثابت بالتنصيص على هذا الحكم ، لقوله (لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ) فكيف يعتقد في مثل هذا العموم؟
وعن الثاني : أنّ
المقصود من إيجاد التأسّي والاتّباع إظهار شرفه ، فإمّا أن يكون باتّباعه في جميع
الأشياء ، وهو المطلوب أو في فعل معيّن ، ولا دلالة للفظ عليه ، أو مبهم ، وهو
أبعد من عادة الشرع في خطابه ، لأنّه موضح وكاشف.
ولأنّه لا إظهار
فيه لشرف النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقولنا : «لك أسوة في فلان في جميع الأشياء» يفيد
التأكيد ، وليس تكرارا خاليا عن الفائدة.
وقولنا : «في هذا
الشيء» لا تناقض فيه ، لأنّ عموم المتابعة إنّما يستفاد من التأسّي المطلق ،
والمتابعة المطلقة ، وهذا ليس بمطلق ، بل معيّن.
أمّا إذا قلنا : «لك
اسوة في فلان» فإنّه يفيد العموم ، إذ العرف إنّما يطلق ذلك إذا كان فلان قدوة لك
في جميع الأشياء.
وقوله : (فَاتَّبِعُوهُ) وإن لم يفد العموم ، فإنّه يفيد اتّباعه في أفعاله ، لأنّ
ذلك اتّباع له ، والخطاب مطلق.
وأيضا ، فانّه إذا
لم يكن للعموم ، أفاد التأسّي به في الجملة ، وهو المطلوب.
وعن الثالث : بأنّ
المشهور المأثور عن الصحابة اتّفاقهم بعد اختلافهم على التمسّك بأفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم والرجوع إليها ، واحتجاج بعضهم على بعض بها.
احتجّ المانعون : بالأصل.
وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) إنّما يفيد التأسّي به في شيء واحد ، لكونه نكرة ، واخبارا
عن الماضي ، وهو يكفي فيه وقوع التأسّي به فيما مضى.
والجواب : ما
تقدّم من ثبوت التعميم.
والأصل مخالف
لدليل ، وقد بيّنّاه.
__________________
المبحث الخامس :
في جهة العلم بالتأسي
اعلم أنّه لا
دلالة عقليّة على وجوب مثل فعل النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ولا سمعيّة ما لم يعرف وجه فعله.
أمّا العقليّة ،
فلأنّه لو علم بالعقل لعلم وجه وجوبه ، لامتناع وجوب ما لا يختصّ بوجه وجوب ،
ويمتنع أن يعلم بالعقل وجوب شيء دون آخر ، إلّا وقد علم افتراقهما فيما اقتضى وجوب
أحدهما ، ولا وجه يعقل لوجوب اتّباعه في أفعاله ، إلّا أن يقال : ما يجب على
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم يجب أن يكون واجبا علينا ، أو يقال : إذا لم يتّبعه في
أفعاله نفّر ذلك عنه.
والوجهان باطلان ،
أمّا الأوّل ، فلأنّه إنّما تعبّد بالفعل ، لأنّه مصلحة له ، ولا يعلم وجه كونه
مصلحة ، ليعلم الاشتراك فيه ، بخلاف المعرفة لأنّ وجه وجوبها مشترك بين العقلاء.
ولأنّه ، لا يجب
اشتراك المكلّفين في جميع المصالح ، فإنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أبيح له ما لم يبح لنا ، وأوجب عليه ما لم يوجب علينا.
__________________
وأمّا الثاني ،
فلأنّ التنفير إن حصل بالمفارقة في فعل واحد ، لزم التنفر بما فارقناه من المناكح
، ووجوب صلاة الليل ، وغير ذلك من خصائصه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وإن حصل بالمفارقة في جميع الأفعال ، فهو باطل ، لانّه
لو قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّي متعبّد بما في العقل ، وبأداء ما أؤدّيه إليكم ،
وما عدا ذلك مصلحة لكم دوني» لم يكن في ذلك تنفير ، فكذا ما ذكرناه.
على أنّه لو ثبت
ذلك ، لم يحصل منه كوننا متعبّدين بمثل ما فعله من جهة العقل ، لأنّ الّذي يقبح هو
مفارقته في الجميع ، لا في البعض ، فلا بدّ من دليل غير العقل يميّز لنا بين ما
تعبّدنا به من أفعاله ، ممّا لم نتعبّد به.
لا يقال : لو لم
يلزم الرجوع إلى أفعاله من جهة العقل لم يلزم الرجوع إلى أقواله ، ولأنّا لو لم
نتّبعه في أفعاله ، كنّا قد خالفناه ، ولا يجوز مخالفته صلىاللهعليهوآلهوسلم.
لأنّا نقول :
الفرق ظاهر بين الأقوال ، والأفعال ، فإنّ الأقوال موضوعة في اللّغة لمعانيها ، من
الأمر ، والنهي ، والخبر والحكمة تقتضي أنّ من خاطب قوما بلغتهم يعني بالخطاب ما
عنوه ، وهذه [الطريقة] ليست ثابتة في الأفعال ، ولو كنّا متعبّدين بالرجوع إلى
أفعاله ، لكان الوجه ما تقدّم من الأمرين.
ومخالفته هي أن لا
نفعل ما أوجبه علينا ، أو أن نفعل ما حرّمه ، ونحن نمنع دلالة أفعاله على الإيجاب
علينا ، ولا يوصف بكوننا مخالفين له صلىاللهعليهوآلهوسلم فيما اختصّ به من العبادات وغيرها.
وأمّا انتفاء
الدلالة السّمعيّة إلّا مع علم الوجه فلما تقدّم في المبحث الرابع.
واعلم أنّ جماعة
استدلّوا على أنّ أفعاله ليست على الوجوب بوجوه :
الأوّل : لا دليل
على وجوب مثل فعله علينا فيكون منفيّا.
وهو غلط ، فإنّه
لا يلزم من نفي الدليل نفي المدلول.
الثاني : دليل
اتّباعنا لأفعاله هو قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
وقوله : (فَاتَّبِعُوهُ) وقد بيّنّا أنّ التأسّي [هو] إيقاع ما أوقعه على الوجه
الّذي أوقعه ، واتّباعه إنّما هو مع اتّحاد الوجه.
اعترضه أبو الحسين
: بأنّ دليل التأسّي والاتّباع اقتضى إيقاع ما أوقعه ، على الوجه الّذي أوقعه ،
فمن أين ، أنّ ما لا يعلم الوجه فيه ، لا يجب علينا فعله؟
فإن قلتم : لعدم
دليل على الاتّباع والتأسّي سوى الآيتين.
قلنا : فإذن
الدالّ على عدم وجوب فعله علينا من غير اعتبار الوجه ، هو عدم الدليل ، وهذا هو
الدليل الأوّل.
الثالث : إمّا أن
يجب مثل فعله علينا باعتبار الوجه ، وهو قولنا ، أو من غير اعتباره ، فيجب علينا ،
وإن علمنا أنّه أوقعه على وجه الندب ، وهو باطل بالإجماع وبدليل التأسّي.
اعترضه أبو الحسين
: بتجويز أن تكون مصلحتنا أن نفعل مثل فعله ، إذا لم نعلم الوجه ، وإذا عرفنا أنّه
أوقعه لا على وجه الوجوب ، كان فعلنا له واجبا
__________________
مفسدة ، ولهذا لو
ورد التصريح بالتعبّد بذلك شاع.
لا يقال : إذا
كنّا لو عرفنا أنّه تنفّل به ، كان فعلنا لمثله واجبا مفسدة ، فيجب إذا فعلناه على
وجه الوجوب ، ونحن لا نعلم الوجه الّذي أوقعه عليه أن نكون مقدمين على ما لا نأمن
كونه مفسدة ، لتجويز كونه قد تنفّل به.
لأنّا نقول :
إيقاعنا الفعل على وجه الوجوب ، إذا لم نعلم الوجه الّذي أوقعه هو المصلحة ، وإن
أوقعه على جهة الندب ، وإذا علمنا ذلك من حاله ، فإيقاعنا له على وجه الوجوب مفسدة
.
وفيه نظر ، فإنّ
تجويز المصلحة لا يستلزم الوجوب ، وكيف يصحّ الجزم بكونه مصلحة مع تجويز المخالفة
الّتي هي مفسدة.
الرابع : لو دلّ
فعله على وجوب مثله علينا ، لدلّ عليه مطلقا ، من غير اعتبار وقت ، لعدم إمكان ان
يدلّ على وجوب مثله في ذلك الوقت بعينه ، لتعذّره ، ولا يمكن أن يدلّ على وجوب
مثله في مثل ذلك الوقت ، لأنّه ليس بأن يدلّ على ذلك ، بأولى من أن يدلّ على وجوب
مثله في أقرب الأوقات إليه.
فظهر أنّه لو دلّ
على وجوب مثله ، لدلّ عليه مطلقا ، فيجب إذا فعل صلىاللهعليهوآلهوسلم فعلا ثمّ تركه ، وفعل ضدّه ، أن يدلّ فعله وفعل ضدّه على
وجوبهما علينا في حالة واحدة ، وهو محال.
لا يقال : ينتقض
بما إذا أمرنا صلىاللهعليهوآلهوسلم به ، وأمسك عن الأمر به ، فإنّه يستلزم أن يجب علينا الفعل
وضدّه.
__________________
لأنّا نقول :
إمساكه عن الأمر ، ليس مشاركا للأمر به في صيغته الموضوعة للوجوب ، وضدّ الفعل
مشارك للفعل في كونه فعلا ، فقد شاركه في دلالته على الوجوب.
اعترضه [أبو
الحسين] : بأنّ فعله إمّا أن يدلّ على وجوب مثله في مثل وقته ، فيجب علينا مثل
فعله في مثل وقته ، وفعل ضدّه في مثل وقت فعل ضدّه ، ولا امتناع في إيجاب الضّدّين
في وقتين.
وإمّا أن يدلّ على
وجوب مثله لا في وقت معيّن ، فيلزم إذا فعل فعلا وضدّه ، أن يجب علينا الفعل وضدّه
في وقتين غير معيّنين حتّى نفعل كلّا منهما في وقت ، أيّ وقت شئنا.
على أنّه ينتقض
بما إذا فعل فعلا. وقال : إنّه واجب ، ثمّ فعل ضدّه ، ونص على وجوبه أيضا.
الخامس : لو دلّ
فعله على وجوب مثله علينا ، لدلّ على وجوب مثله عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
اعترضه [أبو
الحسين] : بأنّه دعوى مجرّدة عن برهان ، فللخصم أن يقول : قد دلّ الدليل عندي على وجوب مشاركتنا له
صلىاللهعليهوآلهوسلم في صورة الفعل ، ولم يدلّ على وجوب تكرار الفعل منه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
وينتقض بما لو نصّ
على الوجوب ، فإنّه يجب التأسّي علينا ، لا التكرار عليه.
السادس : لو دلّ
فعله على وجوب مثله علينا ، لدلّ على أنّه كان واجبا عليه ، والتالي باطل إجماعا ،
فكذا المقدّم.
بيان الشرطية :
أنّا إنّما نفعله تبعا له ، فإذا لم يدلّ على أنّه كان واجبا عليه ، فأولى أن لا
يدلّ على أنّه يجب علينا مثله.
اعترضه بأنّه
إنّما يجب أن تكون دلالته على وجوب مثله علينا موقوفة على دلالته على أنّه كان
واجبا عليه ، لو ثبت أنّه لا يجوز أن يجب علينا مثل فعله إلّا إذا كان قد أوقعه
على وجه الوجوب ، وهو نفس المتنازع ، فلا يجوز هنا الدلالة عليه.
فإن قلت : إنّما
كان وجوبه علينا موقوفا على وجوبه عليه ، لأنّ قوله (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) يدلّ عليه.
قلنا : هذا عدول
إلى دلالة أخرى .
وفيه نظر ، للعلم
القطعيّ بأن الفعل لا يجب علينا إلّا إذا كان واجبا عليه.
إذا عرفت هذا
فنقول : جهة العلم بالتأسّي إنّما هو السّمع لا مطلقا ، بل فيما علم الوجه فيه ،
على ما سبق.
__________________
المبحث السّادس :
في طريق معرفة أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم
اعلم انّ ما يسند
إليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ممّا يتعلّق به التكليف ، ممّا ليس بقول ، ضربان : فعل
وترك.
والفعل ، إمّا أن
يختصّ به ، كالصلاة والصّوم ، أو يتعلّق بغيره ، كعقوبة الغير.
والترك ، إمّا
مختصّ به ، كتركه الجلسة في الركعة الثانية ، أو متعلّق بغيره ، كتركه عقوبة الغير
، وتركه القضاء عليه.
وكلّ من هذه إمّا
واجب ، أو ندب ، أو مباح ، لامتناع صدور المعصية عنه.
وكلّ واحد من ذلك
، إمّا أن يكون قد امتثل فيه طريقة معروفة لنا ، أو غير معروفة ، فإن كانت معروفة
لنا ، فإمّا أن تكون عقليّة أو سمعيّة.
وما امتثل فيه
طريقة غير معروفة لنا ، فإمّا أن تكون مبتدأة لا تتعلّق بشيء من الأدلّة ، أو
تتعلق بشيء منها ، وهذا الأخير إمّا أن يتعلّق به على طريق الموافقة ، وهو بيان
صفة المجمل ، أو يتعلّق به لا على طريق الموافقة ، وهو ضربان : [أحدهما] بيان
التخصيص ، و [الآخر :] بيان النسخ.
وبيان التخصيص ،
إمّا بيان تخصيص قول أو فعل ، وبيان النسخ [أيضا] إمّا بيان نسخ قول أو فعل.
ولمّا وجب علينا
التأسّي بفعله ، وجب علينا معرفة الوجه الّذي يقع عليه فعل الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فطريق معرفة الإباحة أربعة :
الأوّل : نصّه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّه مباح.
الثاني : وقوعه
امتثالا لآية تدلّ على الإباحة.
الثالث : وقوعه
بيانا لها.
الرابع : عدم دليل
على الوجه ، مع العلم بأنّه لا يذنب ، وأصالة عدم الزائد على الحسن.
ويعرف الندب بسبعة
: الثلاثة الأول ، وأربعة أخرى.
الأوّل : علم قصد
القربة منه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع أصالة عدم الوجوب.
الثاني : أن يخيّر
بينه وبين فعل مندوب ، فيعلم أنّه ندب ، لامتناع التخيير بين الندب وغيره.
الثالث : أن يقع
قضاء لعبادة مندوبة ، لاستحالة ترجيح الفرع على الأصل.
الرابع : أن يداوم
على الفعل ، ثمّ يخلّ به احيانا من غير نسخ ، فالدوام دليل الطاعة ، والإخلال دليل
نفي الوجوب.
ويعرف الواجب
بالثلاثة الأول وبأمور خمسة أخرى.
الأوّل : التخيير
بينه وبين واجب ، لامتناع التخيير بين الواجب وغيره.
الثاني : أن يكون
قضاء لعبادة واجبة.
__________________
وفيه نظر ، إذ
وجوب الأداء لا يستلزم وجوب القضاء.
الثالث : أن يقترن
بالفعل أمارة الوجوب ، كما لو صلّى بأذان وإقامة.
الرابع : أن يكون
جزاء لشرط موجب ، كفعل ما وجب بالنذر.
الخامس : أن يكون
فعلا لو لم يجب لم يجز ، كالجمع بين ركوعين في [صلاة] الكسوف.
ويعرف أنّ فعله
وتركه امتثال لدلالة نعرفها ، بأن يكون مطابقا لبعض الأدلّة العقليّة أو الشرعيّة
الّتي نعرفها.
ويعرف أنّ فعله
بيان بأمرين :
الأوّل : أن يقول
: هذا بيان ذلك.
الثاني : أن يرد
خطاب مجمل من الله تعالى أو من رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم فعل ما يحتمل أن يكون بيانا له ، ولا يوجد بيان غيره
، مع حضور الحاجة ، فيعلم أنّه بيان ، وإلّا لزم تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه.
وفي الترك ، نحو أن يترك الجلسة في الركعة الثانية ، فينسخ به ، فلا
يرجع ، فيعلم أنّها غير واجبة.
ويعرف كون فعله أو
تركه نسخا للقول ، بأن يقول ما يدلّ على تكرار الفعل منه ومن غيره ، ويفعل موجبه ،
ثمّ يفعل ضدّه أو يتركه ، فيعلم نسخه عنه.
ويعرف كون فعله أو
تركه مخصّصا لقوله ، بأن يصدر منه قول يعطي
__________________
وجوب فعل عليه
وعلينا ، ثمّ يفعل ضدّه في الحال ، أو يتركه ، فيعلم أنّه مخصوص من ذلك الدليل.
ويعرف كونهما
مخصّصين لفعله ، بأن يفعل ما يدلّ دليل على إدامته عليه وعلينا ، ثمّ يفعل ضدّه في
الحال أو يتركه ، فيعرف أنّه مخصوص.
والأشبه ، أنّ هذا
الفعل مخصّص لما دلّ على وجوب فعله في المستقبل ، وفي التحقيق: أنّه ناسخ.
وأمّا أفعاله
المتعلقة بغيره ، فهي الحدود ، والتعزير ، والقضاء على الغير ، فالحدّ والتعزير
يدلّ على إقدام الغير على كبيرة ان كان على وجه النّكال ، وإن كان على سبيل
الامتحان لم يدلّ على أنّه الآن مقيم على كبيرة.
وأمّا قضاؤه على
غيره وإن كان من قبيل الأقوال ، فإنّه يقتضي لزوم ما قضى به ، لأنّ القضاء هو
الإلزام.
قال قاضي القضاة : اختلف الناس في حكمه صلىاللهعليهوآلهوسلم بأنّ زيدا فاضل ، أو أنّه أفضل من غيره ، هل هو على الظاهر
أو على سبيل القطع؟ فقال بعضهم بالأوّل ، وآخرون بالثاني ، وكذا اختلفوا في نسبته صلىاللهعليهوآلهوسلم زيدا إلى عمرو ، على القولين ، ولم يختلفوا في أنّ حكمه
على غيره بالدّين حكم بالظاهر لا يقطع به على الباطن ، قال : فأمّا إذا قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لغيره : «هذا الحقّ عليك» فإنّ فيه الخلاف المتقدّم ، وإذا
ملّك غيره شيئا ملّكه في الحقيقة ، لأنّ التمليك يقتضي إباحة تصرّف خاصّ ، وإذا
أباح إنسان النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أكل طعامه ، فاستباح
__________________
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أكله ، فإنّه لا يدلّ على أنّه ملكه قطعا ، للاكتفاء في استباحة الأكل بظاهر اليد.
وأمّا ترك الإنكار
فيقول : إذا فعل واحد بحضرته صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو عالم به ، قادر على إنكاره ، فسكت عنه ، فإن كان قد
سبق منه الإنكار ، وعلم من الفاعل الإصرار عليه ، ومن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم الإصرار على قبح ذلك وتحريمه ، فالسكوت عنه لا يدلّ على
جوازه إجماعا ولا يتوهّم كونه منسوخا ، كاختلاف أهل الذمّة إلى كنائسهم.
وإن لم يكن قد علم
الإصرار ، فالسكوت يدلّ على نسخه عن ذلك الشخص ، وإلّا لما ساغ السكوت ، حتّى لا
يتوهّم أنّه منسوخ ، فيقع في محذور المخالفة.
ولا يجوز أن يقال
: إنّه قبيح ، وإنّما لم ينكر لأنّه ظنّ أنّ إنكاره غير مؤثّر ، لأنّ إنكار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لا بدّ وأن يؤثّر ، وليس كإنكار غيره. هكذا قاله قاضي
القضاة.
وقال أبو الحسين :
إنّه صحيح إذا كان فاعل القبيح يعتقد نبوّته ، فامّا من يكذّبه ويطرح أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلا يمكن أن يقال : إنّ إنكاره عليه لا بدّ من أن يؤثّر
على كلّ حال .
وفيه نظر ، إذ قد
يرجع عن تكذيبه وينقاد إلى قوله ، فترك الإنكار يوهم
__________________
النسخ وإن لم يكن
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم قد سبق منه النهي عن ذلك الفعل ، ولا عرف تحريمه بسكوته عن
فاعله ، وتقريره عليه يدلّ على تسويغه خصوصا إن وجد منه استبشار وثناء على فاعله ،
لاستحالة السكوت عن الإنكار مع القدرة ، والاستبشار مع تحريم الفعل.
لا يقال : يحتمل
أنّه لم ينكر عليه ، لعلمه بأنّه لم يبلغه التحريم ، فلم يكن الفعل حينئذ حراما
عليه.
أو لأنّه علم بلوغ
التحريم إليه ، فلم يفد وأصرّ على فعله.
أو لأنّه منعه
مانع من الإنكار.
لأنّا نقول : عدم
بلوغ التحريم إليه غير مانع من الإنكار ، بل يجب عليه إعلامه بتحريم ذلك الفعل ،
لئلّا يعود إليه.
وأمّا إذا علم
الفاعل التحريم وأصرّ مع إسلامه ، فلا بدّ من تجديد الإنكار عليه ، لئلّا يتوهّم
نسخه ، بخلاف عدم تجديد الإنكار على أهل الذمّة في اختلافهم إلى كنائسهم ، إذ هم
غير متّبعين له.
والأصل عدم المانع
، خصوصا بعد ظهور دعوته وقوّة شوكته.
واعلم أنّ الشافعي
تمسّك في باب إلحاق النسب بالقيافة بما نقله عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من ترك الإنكار والاستبشار في باب القيافة ، لما قال مجزّز
المدلجي حين نظر إلى أقدام زيد وأسامة تحت ملحفة وقد ظهرت
__________________
له أقدامهما : إنّ
هذه الأقدام بعضها من بعض .
ولو لا تسويغ
القيافة ، وثبوت الأنساب بها ، لأنكرها ولما استبشر بها.
وأورد القاضي أبو
بكر عليه : أنّ ترك الإنكار إنّما كان لأنّ قول المدلجيّ كان موافقا
للحقّ ، وكان المنافقون يغمزون في نسب زيد وأسامة ، طلبا لأذى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وكان الشرع قد حكم بالتحاق أسامة بزيد ، وكان قول
المدلجيّ موافقا لقول الشارع ، وكان ترك الإنكار لذلك ، من حيث إنّه إلزام
المنافقين على أصلهم الّذي هو القيافة ، ومكذّب لهم ، لأنّ المنافقين تعرّضوا
للغمز ، وكان أصلهم الّذي هو القيافة ، مكذّبا لهم ، فاستبشره لذلك ، ولا يدلّ ذلك
على صحّة الطريق.
واعترض : بأنّ موافقة الحقّ لا يمنع من الإنكار إذا كان الطريق
منكرا ، وإلّا كان ترك الإنكار موهما حقيّة الطريق.
وفيه نظر ، لأنّها
حكاية حال ، فلعلّه صلىاللهعليهوآلهوسلم أنكر ذلك متكرّرا ، وعرف عدم قبول المنافقين منه.
__________________
المبحث السابع :
في التعارض في أقواله وأفعاله
الفعلان لا
يتعارضان ، لأنّ التعارض إنّما يتمّ مع التنافي ، وإنّما يتنافى الفعلان إذا
تضادّا ، وكان محلّهما واحدا ، وكذا وقتهما ، ويستحيل وجود فعل وضدّه في وقت واحد
في محلّ واحد.
فأمّا الفعلان
الضدّان في وقتين ، فلا يتعارضان بأنفسهما ، لعدم تنافي وجودهما ، بل قد يتعارضان
باعتبار غيرهما ، نحو أن يفعل صلىاللهعليهوآلهوسلم فعلا ، ويعلم بالدليل أنّ غيره متعبّد به ، ثمّ يراه عقيب
ذلك ، قد أقرّ بعض النّاس على فعل ضدّه ، فيعلم أنّه خارج منه.
وكذا إذا علمنا
أنّ ذلك الفعل يلزم النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في مثل تلك الأوقات ما لم يرد دليل ناسخ ، ثمّ يفعل صلىاللهعليهوآلهوسلم ضدّه في مثل ذلك الوقت ، فيعلم أنّه قد نسخ عنه ، غير أنّ
النسخ والتخصيص إنّما لحقا ما علمنا به لزوم ذلك الفعل له صلىاللهعليهوآلهوسلم في مستقبل الأوقات ، وأنّه يلزم غيره ، وإنّما يقال : إنّ
ذلك الفعل قد لحقه النسخ ، على معنى أنّه قد زال التعبّد بمثله ، وأنّ التخصيص قد
لحقه على معنى أنّ بعض المكلّفين لا يلزم مثله.
وأمّا إذا عارضه
قوله ، فإمّا أن يعلم تقدّم القول أو الفعل ، أو لا يعلم تقدّم أحدهما؟ فالأقسام
ثلاثة :
الأوّل : أن يعلم تقدّم القول. والفعل المعارض إمّا أن يتعقّبه ، أو يتراخى عنه.
وعلى التقديرين ،
فالقول إمّا أن يتناوله خاصّة ، أو يتناول أمّته خاصّة ، أو يعمّهما.
وعلى كلّ تقدير ،
فإمّا أن يدلّ دليل على تكرار الفعل وعلى وجوب التأسّي به ، أو يدلّ على التكرار
خاصّة ، أو على التأسّي خاصّة ، أو لا يدلّ دليل على أحدهما.
فالأقسام كذا :
الأوّل : أن يكون
القول متقدّما على الفعل ومختصّا به ، مثل أن يقول : «يتلبّس الفعل الفلاني واجب
عليّ في وقت الفلاني» ثمّ يتلبّس بضدّه في ذلك الوقت ، ولا دليل على تكرّر ، ولا
تأسّ ، وهو محال عند من منع النسخ قبل الفعل ، لأنّه ليس تخصيصا ، لاتّحاد المحلّ
فيهما ، فيكون نسخا.
ومن جوّزه قال :
الفعل ناسخ لحكم القول ، ولا تعلّق للأمّة بهما ، أمّا القول فلأنّه منسوخ ومختصّ
به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأمّا الفعل فلعدم دليل التأسّي والتكرار.
الثاني : أن يكون
الحال كذلك ويدلّ دليل على تكرّر الفعل.
الثالث : أو على
التأسّي.
الرابع : أو
عليهما ، وحكمه ما تقدّم إلّا في حقّ الأمّة في الأخيرين ، فإنّ حكم الفعل
يتناولهم.
__________________
الخامس : أن يكون
القول خاصّا بنا ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فيجب المصير إلى القول ، دون
الفعل ، لاختصاص الفعل به ، ولا يلغو ، لثبوت حكمه في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ولا القول ، ولو صرنا إلى الفعل لزم إلغاء القول
بالكليّة.
السادس : أن يدلّ
دليل على تكرّر الفعل دون التأسّي ، وحكمه ما تقدّم.
السابع : أن يدلّ
على التأسّي دليل.
الثامن : أن يدلّ
عليه وعلى التكرار ، وحكمهما في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ما تقدّم.
وأمّا في حقّنا
فكما في الأوّل ، يمنع عندنا ، ويجوز عند من جوّز النسخ قبل الفعل.
التاسع : أن يكون
الفعل متراخيا ، والقول مختصّ به ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فيكون مقتضى القول منسوخا عنه دوننا.
العاشر : أن يدلّ
دليل على تكرّره فكذلك.
الحادي عشر : أن
يدلّ دليل على التأسّي.
الثاني عشر : أو
عليه وعلى التكرار ، وحكمها في حقّه أن يكون الفعل ناسخا.
وأمّا في حقّنا
فالتعبّد بالفعل ، ولا يتحقّق النسخ في حقّنا ، لعدم تناول القول لنا.
الثالث عشر : أن
يكون القول عامّا لنا وله ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ،
__________________
ولا تراخ ، فإنّ
فعله مخصوص به ، وهو دالّ على أنّه مخصوص من القول ، وأمّته داخلة فيه قطعا.
الرابع عشر : أن
يدلّ على التكرّر فكذلك.
الخامس عشر : أن
يدل على التأسّي.
السادس عشر : أو
عليه وعلى التكرار ، فإنّهما جائزان عند من يجوّز النسخ قبل الفعل ، لتضمّن الفعل
مع دليل التأسي النسخ في حقّنا قبل حضور الوقت.
السابع عشر : أن
يكون الفعل متراخيا ، والقول خاصّا فينا ، ولا دليل على تكرّر ولا تأسّ ، فإنّ حكم
القول ثابت في حقّنا ، لاختصاصه بنا من غير تجدّد مزيل وحكم العقل ثابت في حقّه ، ولا نسخ.
الثامن عشر : أن
يدلّ دليل على تكرّر ، وحكمه كذلك.
التاسع عشر : أن
يدلّ دليل على التأسّي.
العشرون : أو عليه
وعلى التكرار ، فيجب المصير فيهما إلى الفعل ، عملا بدليل التأسّي ، ويكون حكم
القول منسوخا في حقّنا ، ولا نسخ في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لاختصاص القول بنا.
الحادي والعشرون :
أن يكون القول عامّا لنا وله ، والفعل متراخ ، ولا دليل على تكرّر.
__________________
الثاني والعشرون :
أو كان عليه دليل ، وحكمهما أن يكون الفعل ناسخا لمقتضى القول في حقّه وحقّنا.
القسم الثاني : أن
يعلم تقدّم الفعل
فالقول إمّا أن
يتعقّبه أو يتراخى عنه.
فإن كان الأوّل ،
فإن كان القول خاصّا به ، ودلّ دليل على تكرّر الفعل والتأسّي به ، كان القول
مخصّصا له عن عموم إيجاب الفعل لكلّ مكلّف في المستقبل ، وناسخا للفعل عنه في
المستقبل دون أمّته ، لعدم تناول القول لهم.
وإن لم يدلّ دليل
على تكرّره ولا على التأسّي ، فلا تعارض بين القول والفعل ، فإنّ القول لم يرفع
حكم ما تقدّم من الفعل في الماضي ولا في المستقبل ، وقد أمكن الجمع بين حكم القول
والفعل.
وإن دلّ دليل على
تكرّره في حقّه ، كان القول ناسخا في حقّه.
وإن دلّ دليل على
التأسّي ، كان نسخا في حقّنا أيضا.
وإن كان القول
متناولا لنا خاصّة ، دلّ على أنّ حكم الفعل ، مختصّ به ، دون أمّته إن لم يدلّ
دليل على التأسّي ، وإلّا كان ناسخا في حقّنا.
وإن كان عامّا لنا
وله ، دلّ على سقوط حكم الفعل عنّا وعنه.
__________________
وإن كان القول
متراخيا ، ودلّ دليل على التأسّي والتكرار ، كان ناسخا لحكم الفعل عنه وعنّا.
ولو دلّ على
التكرار خاصّة ، كان ناسخا في حقّه دوننا ، وكنّا متعبّدين بالقول.
وإن دلّ على
التأسّي خاصّة ، لم يكن رافعا لحكم الفعل في الماضي ولا المستقبل ، على ما تقدّم.
وإن كان متناولا
لأمّته خاصّة ، فيكون الفعل منسوخا عنهم دونه ، إن دلّ دليل على التأسّي والتكرار.
وإن تناوله خاصّة
، كان منسوخا عنه دون أمّته.
القسم الثالث : أن
يجهل التاريخ ولا يعلم تقدّم أحدهما
فإن دلّ دليل على
التكرار والتأسّي ، فإن كان القول خاصّا به ، فلا معارضة بين قوله وفعله بالنّسبة
إلى الأمّة ، لعدم تناول قوله لهم وامّا بالنسبة إليه ، فقد اختلف فيه :
فقال بعضهم : يجب
العمل بالقول ، لأنّه يدلّ بنفسه من غير واسطة ، والفعل إنّما يدلّ على الجواز
بواسطة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يفعل المحرّم.
ولأنّ القول ممّا
يمكن التعبير به عمّا ليس بمحسوس ، وعن المحسوس ، والفعل لا ينبئ عن غير محسوس فكانت دلالة القول أتمّ.
__________________
ولأنّ القول قابل
للتأكيد بقول آخر ، بخلاف الفعل ، فكان القول أولى.
ولأنّ العمل
بالقول ممّا يفضي إلى نسخ مقتضى الفعل في حقّه صلىاللهعليهوآلهوسلم دون الأمّة ، والعمل بالفعل يفضي إلى إبطال مقتضى القول
بالكليّة ، والجمع بينهما ولو من وجه أولى .
وفيه نظر ، لأنّ
الواسطة المذكورة ثابتة في القول أيضا ، كثبوتها في الفعل ، فإنّ القول إنّما يدلّ
بواسطة أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يقول إلّا الحقّ ، وعموم دلالة القول لا يدلّ على زيادة
قوّته في الدلالة على دلالة الفعل الخاصّة ، وكذا قبوله التأكيد.
ولأنّ جهلنا
بالتاريخ لا يوجب تقدّم أحدهما وتأخّر غيره ، فلا يعلم الناسخ ، وهو صلىاللهعليهوآلهوسلم إنّما يتعبّد بالناسخ وهو يعلمه دوننا ، فلا يجوز لنا أن
نعتقد تقديم احدهما بالنسبة اليه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
وقال آخرون : يجب
العمل بالفعل ، لأنّه آكد في الدلالة ، لأنّه يبيّن به القول ، والمبيّن لغيره آكد
في الدلالة من ذلك الغير بيانه :
أنّ جبرئيل عليهالسلام بيّن كيفيّة الصلاة للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم بالفعل ، وكذا بيّنها صلىاللهعليهوآلهوسلم لأمّته حيث قال : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي» وبيّن الحجّ
بفعله حيث قال : «خذوا عنّي مناسككم» وبيّن الشهر بأصابعه حيث قال : «الشهر هكذا
وهكذا».
ولأنّ كلّ من أراد
الأسهل في التعليم استعان بالإشارة بيده ، والتخطيط ، ووضع الأشكال ، ولو لا قوّة
دلالة الفعل لما كان كذلك ويرد ما تقدم.
__________________
وقيل بالوقف.
(وهو حقّ بالنسبة
إلى اعتقادنا ، لا بالنسبة إلى ما يعتقده عليهالسلام) وكذا إذا كان القول خاصّا بنا أو عامّا لنا وله ، وهنا
العمل بالقول عندي أقوى من الأوّل ، لأنّا نعلم أنّ القول قد تناولنا ، وأمّا
الفعل فبتقدير أن يتأخّر ، كان متناولا لنا ، وبتقدير أن يتقدّم لا يتناولنا ،
فتناوله لنا مشكوك فيه ، والمعلوم مقدّم على المشكوك فيه.
واعلم أنّ كلّ
واحد من الثاني والثالث ، يشمل على أقسام الأوّل ، ويعرف أحكامها ممّا تقدّم.
هذا حكم قوله
وفعله ، إذا تعارضا من كلّ وجه ، فإن تعارضا من وجه دون وجه كنهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن استقبال القبلة واستدبارها للغائط والبول ، وجلوسه
لقضاء الحاجة في البيوت مستقبل بيت المقدس ، وذلك يحتمل أن يكون مباحا في البيوت
لكلّ أحد أو له خاصّة.
ويحتمل أن يكون
نهيه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن استقبال القبلة واستدبارها عامّا لأمّته في البيوت
والصحارى ، وأن يكون خاصّا في الصحارى ، وقد اختلف في ذلك من غير تفصيل ، فقال
الشافعي : إنّ نهيه مخصوص بفعله.
وقال الكرخي نهيه جار على إطلاقه ، ويخصّ فعله به صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وتوقّف قاضي القضاة.
__________________
احتجّ الشافعي :
بأنّ النّهي عامّ ، ومجموع الدليل الدالّ على التأسّي مع كونه مستقبل القبلة في
البنيان عند قضاء الحاجة ، أخصّ من ذلك النهي ، والخاصّ مقدّم.
واعترضه أبو
الحسين : بأنّ فعله وإن كان أخصّ ، لأنّ نهيه عامّ في البيوت والصحارى ، وفعله
خاصّ بالبيوت ، إلّا أنّه لا يتعدّى إلينا ، ونهيه يتعدّى إلينا.
وأيضا ، إذا جعلنا
النّهي هو المخصّص ، كنّا قد خصّصنا به وحده قوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ
فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
وإذا كان المخصوص
، هو هذه الآية ، وهي أعمّ من النّهي ، كان تخصيصها أولى.
ولهم أن يقولوا :
نحن إذا خصّصنا هذا النّهي ، فإنّا نخصّه بفعل النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم ، مع ما ثبت من التأسّي ، ومجموعهما أخصّ من النّهي.
__________________
المقصد الثامن : في النسخ
وفيه فصول :
[الفصل] الأوّل :
في حقيقته
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في ماهيّته
لمّا كان أصول
الفقه باحثا عن طرق الفقه الّتي يرجع كلّها أو أكثرها إلى الكتاب والسنّة ، وكان النسخ متطرّقا
إليهما ، وباعتباره يخرج المنسوخ عن كونه طريقا صالحا للاستدلال ، ويتعين الناسخ ،
وجب على الأصوليّ معرفة النسخ ، وشرائطه ، وحسنه ، والناسخ ، والمنسوخ ، والفرق
بينه وبين البداء وما يلحق به ،
__________________
وهو ما أخرج منه ،
وما أدخل فيه وليس منه ، والطريق الى معرفة كون الشيء ناسخا ومنسوخا ولنبدأ بفائدة
اسمه ، ثمّ نعقّبه بحدّه ثمّ نذكر باقي أحكامه بتوفيق الله تعالى.
واعلم أنّ اسم
النسخ في اللّغة موضوع للإزالة ، وللنقل والتحويل.
فأمّا الإزالة ،
ففي قولهم : نسخت الشّمس الظلّ ، أي أزالته ، لأنّه قد لا يحصل [الظلّ] في مكان
آخر فيظنّ أنّه انتقل إليه ، ويقال : نسخت الرّيح آثار القوم.
وأمّا النقل
والتحويل ، فقولهم : نسخت الكتاب ، أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر ، ومنه تناسخ
الأرواح ، وتناسخ القرون قرنا بعد قرن ، وتناسخ المواريث ، ويراد
تحويلها ونقلها من وارث إلى آخر ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّا كُنَّا
نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي ننقله إلى الصحف.
وقد اختلف هنا فقال
القاضي أبو بكر ، والغزّالي وغيرهما : إنّه مشترك بين هذين.
__________________
وقال أبو الحسين
البصري : إنّه حقيقة في الأوّل ومجاز في الثاني .
وهو الحقّ عندي.
وقال القفّال من الشافعية : إنّه حقيقة في النقل والتحويل.
لنا وجوه :
الأوّل : المجاز
أولى من الاشتراك على ما تقدّم ، وقد استعمل في هذين ، ولم يقل أحد : إنّه لقدر
مشترك بينهما ، فيكون حقيقة في أحدهما ، وجعله حقيقة في الأوّل أولى ، لمشابهة
الثاني له في الزوال عن الأوّل.
الثاني : إطلاق
اسم النسخ على النقل في قولهم : «نسخت الكتاب» مجاز ، لأنّ ما في الكتاب لم ينقل
حقيقة ، وإذا كان اسم النسخ مجازا في النقل ، كان حقيقة في الإزالة ، لعدم
استعماله فيما سواهما ، وهو حجّة أبي الحسين.
وفيه نظر ، لأنّ
المجاز هنا في النقل الّذي هو مرادف للنسخ ، ولا يلزم من كونه مجازا في هذه الصورة
باعتبار مجازيّة النقل كونه مجازا في النقل.
ولأنّ النقل كما
لم يتحقّق لما في الكتاب ، كذا لا تتحقّق الإزالة ، فلو منع من كونه في النقل
حقيقة ، منع من كونه في الإزالة حقيقة.
نعم أنّه يبطل
الاستدلال بهذا المثال على كونه حقيقة في النّقل.
__________________
واعترض أيضا : بأنّ إطلاق اسم النسخ في الكتاب إن كان حقيقة ، بطل
كلامكم ، وإن كان مجازا ، امتنع أن يكون التجوّز مستعارا من الإزالة لأنّه غير
مزال ، ولا يشبه الإزالة.
فلا بدّ من
استعارته من [معنى] آخر ، وليس الّا النّقل ، فكان مستعارا منه ، ووجه استعارته
منه : أنّ تحصيل مثل ما في المنسوخ في المنقول إليه ، يجري مجرى نقله وتحويله ،
فكان منه بسبب من أسباب التجوّز ، وإذا كان مستعارا من النقل ، كان اسم النسخ
حقيقة في النقل ، لأنّ المجاز لا يتجوّز به في غيره بإجماع أهل اللغة.
سلّمنا أنّه مجاز
في نسخ الكتاب ، لكنّه ليس مجازا في نسخ المواريث وغيرها.
الثالث : يطلق على
الإزالة اسم النّسخ ، كما تقدّم ، والأصل في الإطلاق الحقيقة ، وإذا كان حقيقة في
الإزالة ، لم يكن حقيقة في النقل ، دفعا للاشتراك.
اعترض : بأنّ وصف الريح بأنّها ناسخة ، وكذا الشّمس ، مجاز ،
لأنّ المزيل هو الله تعالى ، وإذا كان مجازا ، امتنع الاستدلال به على كون اللفظ
حقيقة في مدلوله.
وبالمعارضة بأنّ
النسخ قد أطلق على النقل والتحويل ، والأصل الحقيقة ، فلا يكون حقيقة في غيره ،
دفعا للاشتراك.
__________________
والجواب عن الأوّل
من وجهين :
الأوّل : لا يمنع
أن يكون الله تعالى هو الناسخ لذلك من حيث إنّه فعل السّبب المؤثّر ، وهو الشمس
والريح المؤثّرين في تلك الإزالة ، ويكونان أيضا ناسخين ، لاختصاصهما بذلك
التأثير.
الثاني : أهل
اللّغة إنّما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشّمس والريح ، ونحن إنّما تمسّكنا بإطلاقهم
لفظ النسخ على الإزالة ، لا بإسنادهم إلى غير الله تعالى.
وعن الثاني :
النّقل أخصّ من الزوال ، لأنّ وجود النقل يستلزم عدم صفة ، وحصول أخرى عقيبهما ،
فإذن مطلق العدم أعمّ من عدم يحصل عقيبه شيء آخر ، وإذا دار اللّفظ بين العامّ
والخاصّ ، كان جعله حقيقة في العامّ أولى.
واعترض : بمنع كون
الإزالة أعمّ ، لأنّ النقل كما استلزم إعدام صفة وتجدّد أخرى ، كذا الإزالة لأنّها
[هي] الإعدام ، وهو يستلزم زوال صفة الوجود وتجدّد صفة العدم ، وهما [صفتان]
متقابلتان ، مهما انتفت إحداهما تحقّقت الأخرى ، وإذا تساويا عموما وخصوصاً ، فلا
أولويّة.
وبالجملة فالبحث
في ذلك راجع إلى اللّغة.
__________________
المبحث الثاني :
في حدّه
اختلف الناس في
حدّه ، فقال القاضي أبو بكر ، وارتضاه الغزّالي : إنّه الخطاب الدالّ على ارتفاع الحكم الثابت بالخطاب
المتقدّم ، على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.
فقولنا : «الخطاب»
يشتمل اللّفظ والفحوى والمفهوم ، ويجوز النسخ بجميع ذلك ، فهو أولى من قولنا : «النصّ».
وقولنا : «على
ارتفاع الحكم» لتناول الأمر والنّهي والخبر.
وقولنا : «بالخطاب
المتقدّم» ليخرج ابتداء الأحكام ، لأنّ ابتداء إيجاب العبادات في الشرع ، يزيل حكم
العقل من براء الذّمة ، ولا يسمّى نسخا ، لأنّه لم يزل حكم خطاب.
وقلنا : «لولاه
لكان ثابتا» لأنّ حقيقة النسخ هو الرفع ، وإنّما يكون رافعا ، لو كان المتقدّم
بحيث لو لا طريانه لبقي.
وقلنا : «مع
تراخيه عنه» لأنّه لو اتّصل به ، كان بيانا ، لا نسخا.
واعترض من وجوه :
الأوّل : الخطاب
الدالّ على الارتفاع ناسخ للحكم ، لا نسخ له ، فإنّ النسخ
__________________
هو الارتفاع لا ما
به الارتفاع ، أعني الرافع ، وبينهما فرق.
وقد اجيب : بأنّ النسخ هو الرفع الّذي هو الفعل ، لا الارتفاع الّذي
هو الانفعال ، والرفع هو الخطاب الدالّ على الارتفاع ، لأنّ الرفع الّذي هو الفعل
صفة الرافع ، وذلك هو الخطاب.
وفيه نظر ، فإنّ
الناسخ في الحقيقة هو الله تعالى ، واللّفظ دليل عليه ، والنسخ مغاير للفظ الّذي
أسند إليه النسخ مجازا.
الثاني : الناسخ
قد يكون فعلا ، كما إذا فعل صلىاللهعليهوآلهوسلم فعلا ، وعلمنا بالضّرورة أنّه قصد به رفع ما كان ثابتا ،
فإنّه نسخ وليس بخطاب.
لا يقال : الناسخ
في الحقيقة هو الخطاب الدالّ على وجوب متابعته في فعله.
لأنّا نقول : لو
لم يوجد لفظ دالّ على وجوب المتابعة ، ثمّ فعل ، ووجدت قرائن تفيد العلم بأنّ غرضه
إزالة الحكم الّذي كان ثابتا ، فإنّه يكون نسخا إجماعا ، مع انتفاء الخطاب في هذه
الصورة.
وأجيب : بأنّ فعله
صلىاللهعليهوآلهوسلم ليس ناسخا لانّه مبلّغ عنه تعالى ، ففعله دليل على الخطاب
الدالّ على نسخ الحكم ، لا أنّ نفس الفعل هو الدالّ على الارتفاع.
وفيه نظر ، فإنّا
نسمّي الناسخ كلّ خطاب رفع حكما ، إمّا بالذات أو بالتبعيّة ، ولهذا يجوز نسخ
السنّة بالسنّة وبالكتاب ، وبالعكس.
__________________
الثالث : إذا
اختلف الأمّة على قولين ، سوّغت للعامّي الأخذ بأيّهما شاء ، فإذا أجمعت بعد ذلك
على أحد القولين ، حرم تقليد الآخر فهذا الإجماع الثاني خطاب نسخ جواز الأخذ
بأيّهما كان ، مع أنّ الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به.
ويمكن الجواب :
بأنّ ما ذكرناه حدّ مطلق النسخ ، لا الجائز شرعا.
وأجيب : بأنّ الحكم غير مستند إلى قول أهل الإجماع ، بل إلى
الدّليل السمعيّ الموجب لإجماعهم على ذلك الحكم.
ويضعّف بما تقدّم.
الرابع : كون
النسخ رفعا باطل ، على ما يأتي ، فلا يجوز أخذه في الحدّ.
الخامس : قوله : «بالخطاب
المتقدّم» خطأ ، لأنّ المرتفع لو ثبت بفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لكان رافعه ناسخا.
السادس : قوله : «متراخ
عنه» زيادة مستغنى عنها ، فإن قوله : «على وجه لولاه لكان ثابتا» يغني عنه ، لأنّ
ذكر التراخي إنّما وقع احترازا عن الخطاب المتّصل ، كالاستثناء ،
والشرط ، والغاية ، وفي الحدّ ما يدفع النقض بذلك ، وهو : ارتفاع الحكم ، والخطاب
المتّصل بالخطاب الأوّل في هذه الصّور ، ليس رافعا لحكم الخطاب المتقدّم في الذّكر
، بل هو مبيّن أنّ الخطاب المتقدّم لم يرد الحكم
__________________
فيما استثنى ،
وفيما خرج عن الشرط ، والغاية ، والتقيد بالرفع يدفع النقض بالخطاب الوارد بما
يخالف حكم الخطاب المتقدّم إذا كان حكمه موقّتا ، من حيث إنّ الخطاب الثاني لا
يدلّ على ارتفاع حكم الخطاب الأوّل ، لانتهائه بانتهاء وقته.
وقال الجويني :
النسخ اللّفظ الدالّ على ظهور انتفاء شرط دوام الحكم الأوّل.
ويضعّف بأنّ
اللّفظ دليل النسخ لا نفسه ، ولا يطّرد فإنّ لفظ «العدل نسخ حكم كذا» ، ليس بنسخ ، ولا ينعكس ، لأنّه قد يكون بفعله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ثمّ حاصله :
اللّفظ الدالّ على النسخ ، لأنّه فسّر الشرط بانتفاء النسخ ، وانتفاء انتفائه
حصوله.
وقالت الفقهاء :
إنّه النّصّ الدالّ على انتهاء مدّة الحكم الشرعيّ مع التأخّر عن مورده.
ويردّ بما تقدّم ،
من أنّ النصّ دليله وعدم الاطّراد والانعكاس ، كما سبق.
واعلم أنّ
القائلين بأنّ النسخ ليس هو الرفع بل ما دلّ عليه ، إن هربوا من الرفع ، لكون
الحكم قديما ، والتعلّق قديما ، فانتهاء أمد الوجوب ينافي بقاءه
__________________
عليه ، وهو معنى
الرفع ، وإن هربوا لأنّه لا يرتفع التعلّق بالمستقبل ، لزمهم منع النسخ قبل الفعل
، كما هو مذهب المعتزلة.
وإن كان لأنّه
بيان أمد التعلّق بالمستقبل المظنون استمراره ، فلا بدّ من زواله.
وقالت المعتزلة : «النسخ
اللّفظ الدالّ على أنّ مثل الحكم الثابت بالنصّ المتقدّم زائل على وجه لولاه لكان
ثابتا».
ويرد ما تقدّم على
حدّ القاضي ، والمقيّد بمرّة واحدة مدّة العمر ، ثمّ ينسخ ، فإنّ اللّفظ الدالّ
عليه ، لا يكون دالّا على أنّ مثل الحكم الثابت بالخطاب المتقدّم زائل على وجه
لولاه لكان المثل ثابتا ، لأنّه يكون هو بعينه ثابتا لا مثله.
وقال قوم : «النسخ
إزالة الحكم بعد استقراره».
واعترضه أبو
الحسين : بأنّ استقرار الحكم هو كونه مرادا ، فإزالته بعينه بلاء .
وقيل : «إنّه
إزالة مثل الحكم بعد استقراره» وهذا يلزم عليه أن يكون متى زال الحكم بالعجز ، أن
يكون زواله نسخا.
وقيل : «إنّه نقل
الحكم إلى خلافه» ويلزم أن يكون نقل الحكم إلى خلافه بالشرط ، والغاية ، والعجز
نسخا.
والأولى : أنّ
النسخ هو : رفع الحكم الشرعيّ بطريق شرعيّ متأخّر ،
__________________
فخرج المباح بالأصل ، والرفع بالنوم والغفلة ، لأنّه الرفع
بالعقل ، والحكم المقيّد بوقت ، مثل : صلّ إلى وقت كذا ، والمخصّصات المتّصلة
كالشروط ، والاستثناء.
واعترض : بأنّ
الحكم خطابه تعالى وهو قديم ، فلا يصحّ رفعه.
والجواب : أنّه
غير وارد علينا ، لأنّ الحكم عندنا حادث.
واعتذر بعض
الأشاعرة : بأنّ المراد بالحكم هنا ما يحصل على العبد بعد أن لم يكن ، وهو تعلّق
الخطاب بأفعال المكلّفين تعلّق التخيير ، لا التعلّق المعنويّ ، ولهذا فإنّ الوجوب
المشروط بالعقل غير ثابت عند انتفائه ، ولا شكّ في أنّ العقل حادث ، فيكون الوجوب
حادثا.
ولأنّا نقطع بأنّه
إذا ثبت تحريم شيء بعد أن كان واجبا ، انتفى ذلك الوجوب ، وهو المعنيّ من الرفع ،
بعد أن نعلم أنّ رفع الخطاب المتعلّق إنّما يكون برفع تعلّق الخطاب ، لا برفع نفس
الخطاب.
وفيه نظر ، فإنّ
الحكم لا يعقل إلّا متعلّقا ، فحدوث التعلّق الّذي هو لازم ، يستدعي حدوث ملزومه.
__________________
المبحث الثالث :
في أنّ النسخ رفع أو بيان
ذهب القاضي أبو
بكر إلى أنّ النسخ رفع ، وعنى بذلك أنّ خطابه تعالى تعلّق بالفعل بحيث لو لا طريان
الناسخ ، لبقي حكمه ، لكن زال بطريان الناسخ.
وقال الاستاذ أبو
اسحاق : إنّه بيان انتهاء مدّة الحكم ، على معنى أنّ الخطاب الأوّل انتهى بذاته في
ذلك الوقت ، وحصل بعده حكم آخر ، لا تأثير له في زوال الأوّل.
احتجّ القاضي :
بأنّ النسخ لغة الإزالة ، فيكون في الشرع كذلك ، لأصالة عدم التغيير.
وأيضا ، الخطاب قد
كان متعلّقا بالفعل ، وذلك التعلّق إن عدم لذاته ، استحال وجوده ، فلا بدّ من مزيل
، وليس إلّا الناسخ.
اعترض : بأنّ التمسّك بالألفاظ ، لا يعارض الأدلة العقليّة ،
وكلام الله تعالى عنده قديم ، كان متعلّقا من الأزل إلى الأبد باقتضاء الفعل إلى
وقت النسخ ، والمشروط يعدم بعدم شرطه ، فلا يفتقر في زواله إلى مزيل آخر.
__________________
واحتج أبو اسحاق
بوجوه :
الأوّل : الناسخ
طارئ متضادّ للمنسوخ المتقدّم ، وليس زوال الباقي بطريان الحادث أولى من ارتفاع
الطارئ ، لأجل بقاء الباقي ، ويستحيل وجودهما معا ، وكذا عدمهما ، أو سبب عدم كلّ
واحد وجود صاحبه ، فلو عدما معا لوجدا معا ، وهو باطل بالضرورة.
لا يقال : الحادث
أقوى من الباقي ، لكونه متعلّق السّبب ، بخلاف الباقي ، لاستغنائه عن السبب ،
وإلّا لزم تحصيل الحاصل أو خلاف الغرض.
ولأنّ الحادث ،
جاز أن يكون أكثر من الباقي.
ولأنّ عدم الطارئ
بالباقي ، يستلزم الجمع بين النقيضين ، وهو وجود الطارئ وعدمه دفعة.
لأنّا نقول : كما
أنّ الحادث متعلّق السبب ، فكذا الباقي ، لإمكانه وهو المحوج إلى العلّة ، فوجوده
يستدعي وجود علّة الحاجة ، والتأثير في التبعيّة ، وهي حادثة يحتاج الباقي إليها.
وأيضا ، الباقي
إمّا أن يحصل له حالة البقاء أمر زائد على ما كان حاصلا له حالة الحدوث أو لا.
فإن كان الأوّل ،
كان ذلك الزائد حادثا ، فهو لحدوثه يساوي الضدّ الطارئ في القوّة ، وإذا استويا
امتنع الترجيح من غير مرجّح ، وإذا امتنع عدم كيفيّة الباقي ، امتنع عدمه قطعا.
وإن كان الثاني ،
وهو : أن لا يحصل [أمر] زائد ، كانت قوّته حالة البقاء مساوية لقوّة الحادث ،
فيمتنع الرجحان.
وفيه نظر ، لجواز
تجدّد الضعيف ، ويمنع اجتماع الأمثال ، ونحن لا نقول : الطارئ يوجد ويعدم حالة
وجوده ، بل الباقي يمنعه من الدخول في الوجود.
واعترض بمنع عدم الأولويّة ، إذ العلة التامّة لعدم الشيء ، تنافي
وجوده وبالعكس ، ولو لا الأولويّة لامتنع حدوث العلّة التامّة لعدم الشيء ولا
لوجوده.
وفيه نظر ، فإنّ
أبا اسحاق إنّما حكم بعدم الرفع ، لأنّ التنافي حاصل من الطّرفين ، فليس تعليل
أحدهما بالآخر أولى من العكس ، نظرا إلى التنافي ، ولا دليل غيره ، للأصل ، فامتنع
الحكم بالرفع.
الثاني : طريان
الحكم الطارئ مشروط بزوال المتقدّم ، فلو كان زوال المتقدّم معلّلا بطريان الطارئ
، لزم الدور.
اعترض : بمنع أنّه مشروط ، ولا يلزم من منافاة الشيء لغيره كون
وجوده مشروطا بزواله ، كالعلّة مع عدم المعلول.
وفيه نظر ، فإنّا
لم نستدلّ بالمنافاة على كون الطارئ مشروطا بزوال
__________________
المتقدّم ، بل الطارئ
مشروط بمحلّ يطرأ عليه ، وليس كلّ محلّ صالحا لأن يحلّ فيه كلّ عرض، بل لا بدّ في
كلّ عرض من محلّ خاصّ به ، قابل له ، وإنّما يكون قابلا لو خلا عن المقابل له ،
فمن هذه الحيثيّة شرطنا في الطارئ زوال السابق ، والمعترض توهّم الاشتراط بمجرّد
المنافاة ، ولم يتفطّن الوجه فيه.
الثالث : حدوث
الطارئ إن كان حال كون الأوّل معدوما ، لم يؤثّر في عدمه ، لاستحالة إعدام المعدوم
، وإن كان حال كونه موجودا ، اجتمعا في الوجود ، فلا يتنافيان ، فلا يرفع أحدهما
الآخر.
وليس ذلك كالكسر
مع الانكسار ، لأنّ الانكسار عبارة عن زوال تلك التأليفات عن أجزاء الجسم ،
والتأليفات أعراض غير باقية ، فلا يكون للكسر أثر في إزالتها.
اعترض : بأنّ إثبات العدم ليس إعدام المعدوم ، كما أنّ إثبات
الوجود ليس إيجاد الموجود على معنى اختيار القسم الأوّل ، وهو أن يوجد مع عدمه ، ولا
يلزم من ذلك إعدام المعدوم ، وانّما يلزم لو لم يكن هو المعدوم ، أمّا إذا كان هو
المعدوم ، والعدم المثبت للعدم ، كما أنّ الموجد هو المثبت للوجود ، فلا يلزم
إعدام المعدوم.
والتحقيق أن نقول
: إن عنيت المعيّة الذاتيّة لم تكن حدوث الطارئ حالة عدم الزائل ، ولا يلزم
الاجتماع في الوجود.
__________________
وإن عنيت
الزمانيّة لم يلزم انتفاء التأثير كالعلّة مع المعلول.
الرابع : كلامه
قديم ، فلا يجوز رفعه.
والاعتذار بأنّ
المرفوع تعلّق الخطاب ، باطل ، لأنّه إن لم يكن ثبوتيّا ، استحال رفعه وإزالته ،
وإن كان ثبوتيّا ، فإن كان حادثا كان محلّا للحوادث ، وإن كان قديما لزم عدم
القديم.
وفيه نظر ، لأنّ
المرفوع لا يجب أن يكون ثبوتيّا.
واعترض أيضا : بأنّ حدوث التعلّق لا يوجب كون الباري محلّا
للحوادث.
وفيه نظر ، فإنّ
التعلّق صفة للحكم ، فيقوم به لا بغيره ، والحكم صفة لله تعالى عندهم ، فيقوم به ، والقائم بالقائم بالشيء قائم بذلك
الشيء.
وهذه الوجوه أقوى
لزوما للقاضي من غيره ، لأنّه هو الّذي عوّل عليها في امتناع إعدام الضدّ بالضدّ ،
والقول بكون النسخ رفعا ، هو نفس القول بالإعدام بالضدّ.
الخامس : علمه
تعالى إن تعلّق باستمرار الحكم أبدا ، استحال نسخه ، وإلّا لزم انقلاب علمه تعالى
جهلا ، وإن تعلّق باستمراره إلى الوقت المعيّن ، بطل القول بالرفع ، لأنّه تعالى
علم عدم بقائه إلّا إلى ذلك الوقت ، فيستحيل وجوده
__________________
بعده ، لاستحالة
انقلاب علمه ، وإذا كان ممتنع الوجود بعد ذلك ، استحال أن يقع [زواله] بمزيل ، لأنّ
الواجب لذاته ، يمتنع أن يكون واجبا لغيره ، وهذه حجّة الجويني.
واعترض بجواز أن يتعلّق علمه تعالى بعدم بقاء الحكم إلّا إلى ذلك
الوقت ، لطريان الناسخ ، وإذا علم زواله بالناسخ ، لم يقدح في تعليل زواله بالناسخ
، كما أنّه تعالى علم بوجود العالم وقت وجوده ، فيجب وجوده ، ولا يقدح الوجوب في
افتقاره إلى المؤثّر ، لأنّه علم أنّه يوجد في ذلك الوقت بذلك المؤثّر.
المبحث الرابع :
في الفرق بين النسخ والبداء
البداء هو الظهور
يقال : بدا لنا سور القرية : إذا ظهر بعد خفائه ، وليس الأمر والنهي عن البداء
بسبيل ، لكنّهما قد يدلّان عليه ، وذلك بأن يتّحد الأمر والنهي في جميع ما
يتعلّقان به ، فيكون الأمر واحدا ، وكذا المأمور به والزمان والوجه.
ولمّا كان النسخ
يتضمّن الأمر بما نهي عنه ، والنّهي بما أمر به ، وحصل الوهم لبعض الناس بأنّ
المصلحة والمفسدة لازمان ، لا يتعاقبان على فعل واحد ، ظنّ أنّ الأمر بعد النهي
وبالعكس ، إنّما يكون لخفاء المصلحة أوّلا وظهورها ثانيا.
ولمّا خفي الفرق
بين النسخ والبداء على بعض اليهود ، منعوا من النسخ ،
__________________
كما امتنع البداء
عليه تعالى ، والفرق ظاهر ، فإنّ شرائط البداء إذا اختلّ بعضها انتفى البداء ، دون النّسخ.
__________________
والنسخ جائز على
الله تعالى ، لأنّ حكمه تابع للمصالح ، وهي ممّا يتغيّر بتغيّر الأزمان ، والأشخاص
، والأحوال ، فيتغيّر الحكم حينئذ ، وهو معنى النسخ.
والبداء لا يجوز
عليه ، لأنّ أمره ونهيه إذا اتّحد متعلّقهما من كلّ وجه ، دلّ على الجهل ، أو على
فعل القبيح ، وهما محالان في حقّه تعالى.
المبحث الخامس :
في الفرق بين التخصيص والنسخ
النسخ والتخصيص
مشتركان في أنّ كلّ واحد منهما مخصّص للحكم ببعض ما تناوله اللّفظ لغة ، إلّا أنّ
بينهما فرقا ، وقد ذكروا الفرق بينهما من وجوه عشرة.
الأوّل : التخصيص
يبيّن أنّ الخارج به عن العموم لم يرد المتكلّم بلفظه الدلالة عليه ، والنسخ يبيّن
أنّ الخارج به لم يرد التّكليف به ، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه.
وفيه نظر ، لما
تقدّم ، من قبح الخطاب بدون ذكر ما يدلّ على نسخه إجمالا أو تفصيلا.
الثاني : التخصيص
لا يرد على الأمر بمأمور واحد ، والنسخ قد يرد على الأمر بمأمور واحد.
__________________
وفيه نظر ، لمنع
ورود النسخ في الواحد.
الثالث : النسخ لا
يكون في نفس الأمر إلّا بخطاب من الشارع ، بخلاف التخصيص الجائز بالقياس وغيره من
الأدلة السمعيّة.
الرابع : الناسخ
لا بدّ وأن يكون متراخيا عن المنسوخ ، بخلاف المخصّص ، فإنّه يجوز أن يتقدّم
العامّ وأن يقارنه وأن يتأخّر عنه.
الخامس : التخصيص
لا يخرج العامّ عن الاحتجاج به مطلقا في مستقبل الزمان ، لأنّه يبقى معمولا به
فيما عدا صورة التخصيص ، بخلاف النّسخ ، فإنّه قد يخرج الدّليل المنسوخ حكمه عن
العمل به في مستقبل الزمان بالكليّة ، عند ما إذا ورد النسخ على الأمر بمأمور
واحد.
وفيه ما تقدّم من
النظر.
السادس : يجوز
التخصيص بالقياس ، ولا يجوز النّسخ به ، وهو راجع إلى ما تقدّم.
السابع : النسخ
رفع الحكم بعد ثبوته ، بخلاف التخصيص.
الثامن : يجوز نسخ
شريعة بشريعة ، ولا يجوز تخصيص شريعة بأخرى.
التاسع : العامّ
يجوز نسخه حتى لا يبقى منه شيء ، بخلاف التّخصيص.
العاشر : التخصيص
أعمّ من النّسخ ، فإنّ النّسخ تخصيص الحكم ببعض الأزمان ، والتخصيص قد يكون بإخراج
بعض الأزمان ، وقد يكون بإخراج بعض الأعيان وبعض الأحوال.
واعترض بأنّ ما ذكر من صفات التخصيص الفارقة بينه وبين النسخ إن
ثبت دخولها في مفهوم التخصيص ، أو كانت لازمة خارجة لا وجود لها في النسخ ، فلا
يكون التخصيص أعمّ من النسخ ، لوجوب صدق الأعمّ مع جميع صفاته اللازمة لذاته على
الأخصّ ، وذلك ممّا لا يصدق على النسخ تحقيقا ، وإلّا فلقائل أن يقول : ما ذكر من
الصفات الفارقة بين النسخ والتخصيص ، إنّما هي فروق بين أنواع التخصيص ، وليست من
لوازم مفهوم التخصيص ، بل التخصيص أعمّ من النسخ ، ومن جميع الصّور المذكورة.
__________________
الفصل الثاني :
في جواز النسخ
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في شرائط النسخ
شرائط النسخ قسمان
:
منها : ما هو
متّفق عليه.
ومنها : ما هو
مختلف فيه.
وعلى كلا
التقديرين ، فإمّا أن يكون لوصف النسخ نسخا ، أو لصحّته ، أو لحسنه.
أمّا شرائط الوصف
: فإن يكون الحكمان : الناسخ والمنسوخ شرعيّين ، فإنّ العجز يزيل التعبّد الشّرعيّ
، والشرع يزيل حكم العقل ، ولا توصف هاتان الإزالتان بأنّهما نسخ.
وأن يكون الناسخ
منفصلا من المنسوخ إمّا في الجملة أو التفصيل ، فإنّ المتصل كالغاية لا يكون ناسخا
، بل المنفصل إمّا اجمالا أو تفصيلا ، كقوله تعالى :
(فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي
الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللهُ لَهُنَّ
سَبِيلاً) فلمّا دلّ الدليل على تفصيل هذا السبيل ، ثبت اسم النسخ.
وليس من شرط اسم
النسخ أن يكون الكلام المنسوخ متناولا للفظ المنسوخ ، فإنّ الأمر لا يفيد التكرار
، فلو أمر الله تعالى بالفعل ، ثمّ دلّ دليل على التكرار ، ودلّ دليل على رفع بعض
المرّات ، كان رفعه نسخا.
وأمّا شرط الصحّة
، فهو : أن يكون إزالة لحكم الفعل ، دون نفس الفعل وصورته ، فإنّ صورة الصلاة إلى
بيت المقدس ، لا تصحّ إزالتها بالأدلّة الشرعيّة ، وإنّما الأدلّة الشرعيّة دلّت
على زوال وجوبها.
وليس من شرط
الصحّة أن يكون المنسوخ شائعا في جملة المكلّفين ، بل يصحّ أن يكون الحكم المنسوخ
لم يتوجّه جنسه إلّا إلى مكلّف واحد.
وأمّا شرط الحسن :
فإن لا يكون إزالة لنفس ما تناوله التعبّد ، على الحدّ الّذي تناوله ، بل لا بدّ
من أن يزيل التعبّد بمثله في وقت آخر وعلى وجه آخر ، ولهذا لم يحسن نسخ الشيء قبل
وقته ، ولا نسخ ما لا يجوز أن يتغيّر وجهه ، كالمعرفة ، لأنّ كونها لطفا لا يتغيّر
، ولا نسخ قبح الجهل ، لعدم تغيّره ، ويحسن نسخ قبح بعض الآلام ، أو حسن بعض
المنافع.
ويشترط أيضا تمييز
الناسخ من المنسوخ عند المكلّف ، وقدرته عليه.
__________________
المبحث الثاني :
في جواز النسخ
اتّفق المسلمون
على جواز النسخ عقلا ، وهو قول أرباب الشرائع إلّا بعض اليهود.
واتّفقوا على
وقوعه سمعا ، إلّا ما نقل عن أبي مسلم بن بحر الأصفهاني ، فإنّه أنكره سمعا ، وجوّزه عقلا وعن بعض اليهود أيضا ، وعن
بعضهم جوازه عقلا ووقوعه سمعا.
لنا على الجواز :
أنّ أفعاله تعالى إمّا أن تكون معلّلة بالأغراض والمصالح والحكم أو لا ، وعلى
التقديرين ، فالجواز ظاهر.
أمّا على رأي
النفاة ، كالاشاعرة ، فإنّه يفعل ما يشاء كيف يشاء ، ويغيّر ويبدّل على حسب إرادته
ومشيئته ، فلا استبعاد حينئذ من أن يأمر بشيء ، وينهى عنه ، لتساوي نسبتهما إليه
تعالى.
وأمّا على رأي
المعتزلة ، فإنّ المصالح تتغيّر بتغيّر الأزمنة ، كما تتغيّر بتغيّر الأشخاص ،
وكما جاز أن يأمر زيدا بشيء ، وينهى عمرا عنه ، في وقت واحد ،
__________________
كذا جاز أن يأمر
زيدا في وقت ، ونهاه عنه في وقت آخر.
وأيضا ، فكما جاز
أن يقول : «تمسكوا بالسبت ما عشتم إلّا السبت الفلاني» جاز أن يقول : «تمسّكوا
بالسبت ما عشتم ما لم أنسخه عنكم» والعلم بذلك قطعيّ ، ولهذا اختلفت الأزمنة في
وقوع العبادات فيها ، فبعضها يجب وقوع العبادة فيه ، وبعضها يجوز ، وبعضها يحرم ،
وقد خصّ الشارع كلّ زمان بعبادة غير عبادة الزمان الآخر ، كأوقات الصلوات والحجّ
والصوم ، ولو لا اختلاف المصالح باختلاف الأوقات لما كان كذلك.
وعلى الوقوع وجوه
:
الأوّل : الأدلة
القاطعة على نبوّة نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم قائمة ، وإنّما يصحّ مع القول بالنسخ.
الثاني : إجماع
الأمّة على وقوع النسخ ، كما في الاستقبال إلى الكعبة ، الناسخ للاستقبال إلى بيت
المقدس ، والاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيّام الناسخ للاعتداد بالحول ، وغير ذلك من
الآيات.
الثالث : قوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).
وجه الاستدلال :
أنّ صحّة التمسّك بالكتاب إن توقّفت على صحّة النسخ ، عاد الأمر إلى أنّ نبوّة
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم لا تصحّ إلّا مع القول بالنسخ ، وقد صحّت
__________________
نبوّته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فصحّ النسخ ، وإن لم تتوقّف تمسّكنا بالآية.
واعترض : بأنّ ملزوميّة الشيء لغيره لا يقتضي وقوعه ولا صحّة
وقوعه.
ولنا على اليهود
وجوه :
الأوّل : ورد في
التوراة أنّ الله تعالى قال لنوح عليهالسلام عند خروجه من الفلك : «إنّي جعلت لك كلّ دابّة مأكلا لك
ولذريّتك ، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب ، ما خلا الدّم فلا تأكلوه» ثمّ حرم على
موسى وعلى بني اسرائيل كثيرا من الحيوانات.
الثاني : ورد في
التوراة أنّ الله تعالى أمر آدم أن يزوّج بناته من بنيه ، وقد حرم ذلك في شريعة من
بعده.
الثالث : لا شكّ
في تجدّد إيجاب أو حظر بعد أن لم يكن ، وهو ناقل عن حكم الأصل ، الّذي هو الإباحة
، إمّا لحكمة تجدّدت ومصلحة حضرت أو لا لذلك ، على اختلاف الرأيين ، فجاز أن
يتجدّد ايجاب أو حظر ينقل عن حكم آخر ناقل عن حكم الأصل لأحد الاعتبارين.
الرابع : أباح
السّبت ثمّ حرّمه ، وجوّز الختان ثمّ أوجبه.
واعترض : بأنّهما ناقلان عن حكم الأصل ، فلا يكونان نسخا.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
التقدير : أنّه أباح ، والإباحة وإن كانت هي الأصل ، إلّا أنّه لا ينافي حكم
الشارع بها ، فرفعها يكون نسخا.
واحتجّ منكرو النسخ
عقلا : بأنّ الفعل إن كان حسنا ، قبح النّهي عنه ، وإن كان ، قبيحا قبح الأمر به.
والجواب ما تقدّم
، من جواز كون الفعل مصلحة في وقت ، ومفسدة في آخر ، فيأمر به في وقت علمه بكونه
مصلحة فيه ، وينهى عنه في وقت كونه مفسدة فيه ، كما أنّه تعالى يعلم أنّ مرض زيد
أو فقره مصلحة له في وقت فيفعل ذلك به ، وأنّ عافيته وغناه مصلحة في آخر ، فيفعل
به ذلك.
واحتج منكروه شرعا
بوجوه :
الأوّل : لمّا
بيّن [الله] شرع موسى عليهالسلام ، فإمّا أن يكون قد دلّ على دوامه أو لا.
فإن كان الأوّل ،
فإمّا أن يضمّ إليه ما يدلّ على أنّه سينسخه أو لا ، والأوّل باطل :
إمّا أوّلا ،
فللتنافي بين التنصيص على الدوام وعلى عدمه.
وإمّا ثانيا ،
فلأنّه لو كان ، لنقل متواترا ، كما نقل شرعه ، لأنّه كيفيّة فيه ، وإذا نقل الأصل
وجب نقل الكيفيّة ، وإلّا لجاز في شرعنا أن ينقل أصله دون نقل كيفيّة وردت ، وحينئذ
ينتفي طريق القطع بدوام شرعنا ، وهو محال.
ولأنّه من الوقائع
العظيمة الّتي تتوفّر الدّواعي على نقلها ، لما فيها من التخفيف بسقوط التكليف.
ولو كان كذلك ،
لنقل متواترا ، وكان العلم بتلك الكيفيّة ، كالعلم بأصل الشرع ، حتّى يكون علمنا
بأنّ موسى عليهالسلام نصّ على أنّ شرعه سينسخ ، كعلمنا بأصل شرعه ، ولو كان كذلك
لاستحال منازعة الجمع العظيم فيه ، وحيث نازعوا دلّ على أنّه لم ينصّ على
الكيفيّة.
وإن لم يضمّ إليه
ما يدلّ على أنّه سيصير منسوخا ، فيستحيل أن ينسخ ، وإلّا كان تلبيسا ، إذ ذكر لفظ
يدلّ على الدّوام مع أنّه غير مراد عين التلبيس .
ولتطرّقه في شرعنا
، لانتفاء طريق إلى العلم بانتفاء نسخه ، أقصى ما في الباب : انّ الشارع نصّ على
تأبيد هذه الشريعة ، وأنّها لا تنسخ ، لكن ذلك ثابت أيضا في شريعة موسى عليهالسلام ، مع تحقّق النسخ ، فجاز في شرعنا ذلك وهو محال.
وينتفي الوثوق
بوعده ووعيده مع تجويز مخالفة الظاهر.
والإجماع لا يفيد
بيان دوامه ، لأنّه إنّما يعرف كونه دليلا بآية أو حديث ، وإنّما تتمّ دلالتهما لو
أجرينا لفظهما على ظاهره ، فإذا جوّزنا خلافه انتفى دليل الإجماع.
ولا التواتر لانتهائه إلى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «شريعتي مؤبّدة غير
__________________
منسوخة» أو معناه
، لكنّه لعلّه أراد شيئا يخالف ظاهرها.
وإن لم يكن قد بين
دوام شرع موسى عليهالسلام ، ولا انقطاعه ، اقتضى الفعل مرّة واحدة لما تقدّم من أنّ
الأمر لا يقتضي التكرار ، وهو باطل ، أمّا أوّلا ، فللإجماع على دوام شرعه إلى
ظهور عيسى عليهالسلام ، وأمّا ثانيا ، فلأنّه حينئذ لا يقبل النسخ.
الثاني : تواتر
النقل عن موسى عليهالسلام أنّه قال : «تمسّكوا بالسبت ما دامت السماوات والأرض»
والتواتر حجّة ، وكذا قول عيسى عليهالسلام.
الثالث : نسخ ما
أمر به ، إمّا أن يكون لحكمة ظهرت لم تكن ظاهرة حال الأمر ، وهو قول بالبداء ، أو
لا لحكمة ظهرت ، فيكون عبثا ، وهو قبيح على الحكيم.
الرابع : لو جاز
نسخ الأحكام الشرعيّة باعتبار اختلاف الأوقات في المصلحة والمفسدة ، لجاز نسخ ما
وجب من الاعتقادات في باب التوحيد والعدل وغير ذلك ، والتالي باطل بالإجماع.
الخامس : الحكم
المنسوخ ، إمّا أن يكون موقّتا ، فلا يقبل النسخ ، لانتهاء الحكم بانتهاء مدّته ،
أو مؤبّدا ، فيستلزم الجهل ، لاستلزام اعتقاد المكلّف دوام الحكم عليه وتأبيده ،
والجهل قبيح وأن ينتفي طريق معرفة التأبيد بتقدير إرادة التأبيد وذلك يوجب عجز
الربّ تعالى عن تعريفنا تأبيد الحكم ، وهو محال.
السادس : لو جاز
رفع الحكم بعد وقوعه ، فإمّا أن يكون رفعه قبل وجوده ، ولا يتصور رفع ما لم يوجد ،
أو بعد عدمه ، وارتفاع المعدوم محال ، أو حال وجوده ، وهو جمع بين النقيضين.
السابع : الفعل إن
كان طاعة ، استحال النهي عنه ، وإن كان معصية ، استحال الأمر به.
الثامن : إن كان [الفعل]
مرادا ، فقد صار بالنّهي مكروها ، وإن كان مكروها ، فقد صار بالأمر مرادا.
واعترض مانع النسخ
من المسلمين على الأوّل من أدلة الوقوع : بمنع توقّف نبوّة محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم على النسخ ، لجواز أن يكون موسى وعيسى عليهماالسلام أمرا باتّباع شرعهما إلى ظهور محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فحينئذ يزول التعبّد بشرعهما ، ويثبت التعبّد بشرع محمّد
صلىاللهعليهوآلهوسلم من غير نسخ ، ولهذا قد ورد عن موسى وعيسى عليهماالسلام البشارة بمحمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم في القرآن.
وعلى الثاني :
بمنع الإجماع مع ظهور الخلاف.
والجواب عن الأوّل
: أنّ المسلمين اتّفقوا على أنّه تعالى بيّن شرع موسى بلفظ يدلّ على الدوام ، لكن
اختلفوا فقال أبو الحسين وجماعة : يجب أن يذكر معه ما يدلّ على أنّه سيصير منسوخا
في الجملة ، إزالة للتلبيس ومنعه آخرون وقد تقدّم.
إذا ثبت هذا فنقول
: على اختيار أبي الحسين يجوز أن يكون الله تعالى قد بيّن على سبيل الإجمال أنّ
شرعه سينسخ ، وقد نقل في القرآن وفي التوراة أيضا.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن لا ينقله أهل التواتر لإجماله ، فلذلك لم يشتهر اشتهار أصل شريعته.
لا يقال : إذا وصل
أصل الشرع إلى أهل التواتر ، دون المخصّص ، أوصله إليهم ولم ينقلوه ، كما نقلوا
الأصل ، جاز مثله في شرعنا ، فينتفي القطع بدوام شرعنا مع هذا التجويز ، بل نقل
محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم نسخ الصلوات الخمس ، وصوم رمضان ، ولم ينقل ، وإن انتفى
هذان الاحتمالان ، بطل النسخ.
لأنّا نقول :
إنّما يلزم ذلك ، لو كان في اليهود من العدد من يحصل العلم بقولهم في كلّ عصر ،
وليس كذلك ، فإنّ «بخت نصّر» استأصلهم ، وانقطع تواترهم ، فلا جرم انقطعت الحجّة
بقولهم ، بخلاف شرعنا ، فإنّ نقلته بلغوا حدّ التواتر في كلّ عصر ، فلم يجز
الإخلال بشيء ممّا أبلغه إلى حدّ التواتر.
وعلى اختيار
الباقين ، يمنع كونه تلبيسا ، بل هو كإنزال المتشابهات على ما سبق.
وعن الثاني بوجوه
:
الأوّل : نمنع أنّ
موسى عليهالسلام قال ذلك ، وتواتر اليهود انقطع ، وقد نسب وضع هذا القول
إلى ابن الراوندي ليعارض به دعوى الرسالة من محمّد صلىاللهعليهوآلهوسلم ، لما ظهر من استهزائه بالدّين ، ولهذا لمّا أسلم أحبارهم
__________________
مثل : كعب الأحبار
، وابن سلام ، ووهب بن منبّه ، وغيرهم ، وقد كانوا أعرف من غيرهم بالتوراة ، لم يذكروا
ذلك ، ولو كان ذلك حقّا لعارضوا به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.
الثاني : سلّمنا
صحّة النقل لكن لفظ التأبيد قد جاء في التوراة للمبالغة في طول الزمان دون الدوام
، فإنّه قال في العبد : «يستخدم ستّ سنين ، ثمّ يعتق في السابعة ، فان أبى العتق ،
فلتثقب أذنه ، ويستخدم أبدا».
وقال في البقرة
الّتي أمروا بذبحها : «يكون ذلك سنّة أبدا» ثمّ انقطع التعبّد بذلك عندهم.
وأمرهم في قصّة دم
الفصيح بأن يذبحوا الجمل ، ويأكلوا لحمه ملهوجا ، ولا يكسروا منه عظما ، ويكون لهم
هذا سنّة أبدا ، ثمّ زال التعبّد بذلك.
__________________
وقال في السفر
الثاني : «قرّبوا إليّ كلّ يوم خروفين : خروفا غدوة ، وخروفا عشيّة ، قربانا دائما
لاحقا بكم».
ففي هذه الصور
وجدت ألفاظ التأبيد من غير دوام ، فكذا ما ذكرتموه.
الثالث : قال قاضي
القضاة : الأمر بالفعل أبدا لا يقتضي الدوام ، لعلمنا أنّ التكليف منقطع ، ولهذا
لا يفهم من قول القائل لغيره : «لازم فلانا أبدا» أو «أحبسه أبدا» [الدوام].
واعترضه أبو
الحسين : «بأنّ التأبيد يفيد الدّوام في الأوقات كلّها ، وإنّما يخرج ما بعد الموت
والعجز من الخطاب للدلالة ، وما عداهما باق على الظاهر ، كما لو قال : «افعل
في كلّ وقت إلّا أن تعجز أو تموت» حسب ما نقوله في ألفاظ العموم كلّها» .
وفيه نظر ، فإنّا
نعلم أنّ التكليف كما ينقطع بالموت والعجز ، كذا ينقطع بالنسخ ، فإذا اقتضى الأوّل
الخروج عن الدّلالة ، اقتضاه الثاني ، وحينئذ لا منافاة بين كلام موسى عليهالسلام وبين النسخ ، كما لا منافاة بينه وبين الموت والعجز.
وعن الثالث : أنّ
النسخ ليس بحكمة ظهرت ، بل تجدّدت لتجدّد الوقت ، وقد كانت معلومة في الأزل ولم
تكن حاصلة ، لعدم وقتها.
__________________
وعن الرابع : أنّ
النسخ لا يرد على جميع الأحكام ، بل على ما يقبل التبديل والتّغيير ، على ما يأتي.
والأصل في ذلك :
أنّ اعتقاد التوحيد وكلّ ما تستند معرفته إلى العقل ، فإنّ وجوبه ثابت بالعقل عند
المعتزلة ، ويمنع نسخ ما ثبت وجوبه عقلا ، لأنّ الشارع لا يأتي بما يخالف العقل.
ولأنّ الأحكام
الشرعية إنّما هي ألطاف في الواجبات العقليّة ، ومقرّبة إليها ، فلا تكون رافعة
لها.
وعند الأشاعرة ،
يجوز نسخه ، ومنعوا الإجماع ، لأنّ العقل يجوز أن لا يرد الشرع بوجوبه ابتداء ،
فضلا عن نسخه بعد وجوبه.
وعن الخامس :
بالمنع من عدم قبول الوقت النسخ ، فإنّه جائز عند الأشاعرة ، كما لو قال : «صم
رمضان هذه السنة» ثمّ ينسخه في شعبان.
وأمّا على رأي
المعتزلة ، فيمنع من عدم قبول التأبيد للنسخ فلا جهل.
أمّا عند أبي
الحسين ، فلوجوب اقتران اللفظ بما يدلّ على النسخ إجمالا.
وأمّا عند غيره ،
فإنّ دلالة الخطاب على التأبيد ، لا يستلزم التأبيد مع القول بجواز النسخ ، فإذا
اعتقد المكلّف التأبيد ، فالجهل إنّما جاء من قبل نفسه لا من
__________________
مقتضى الخطاب ، بل
الواجب اعتقاد التأبيد بشرط عدم النّاسخ.
سلّمنا اقتضائه
إلى الجهل في حقّ العبد ، لكنّ عند الأشاعرة أنّه لا يقبح منه تعالى ، ثمّ منعوا
قبحه إذا اشتمل على مصلحة زائدة على مفسدة جهله ، من زيادة الثواب باعتقاد الدوام
، والعزم عليه ، والانقياد له ، وامتثال حكمه تعالى في الأمر والنهي ، ولا يلزم
تعجيزه تعالى ، لجواز أن يخلق فينا العلم الضروريّ بدوامه.
وعن السادس : بأنّ
فيه نظرا ، فإنّ الرفع إن عني به نفي الأثر ، فهو حالة العدم ، وإن عني به الإعدام
، فهو متقدّم بالذات على العدم تقدّم العلّة على المعلول.
وقيل : إنا وإن أطلقنا لفظة الرفع في النسخ إنّما نريد به
امتناع استمرار المنسوخ ، وأنّه لو لا الخطاب الدالّ على الانقطاع لاستمرّ.
وفيه نظر ، لأنّه
يستلزم استعمال المجاز في الحدّ ، وهو منهيّ عنه.
وأيضا ، فهو مبنيّ
على أنّ النسخ بيان لا رفع.
وعن السابع : أنّ
الطاعة والمعصية ليستا من صفات الأفعال مطلقا ، بل من حيث صدورهما عن العبد
امتثالا للأمر أو للإرادة على الخلاف ، فالفعل الصادر عن المكلّف إذا كان مأمورا
به ، كان طاعة ، وإذا نهي عنه ففعله كان معصية.
__________________
وعن الثامن : أنّه
مراد ومكروه باعتبار الوقتين ، ولا استحالة في ذلك.
على أنّ الأشاعرة
منعوا من استلزام الأمر والنهي الإرادة والكراهة.
قال قاضي القضاة : قولهم : الأمر المؤبّد يقتضي اعتقاد وجوب العبادة أبدا ،
والعزم على أدائها أبدا ، باطل لأنّه إنّما يقتضي ذلك بشرط كون الفعل مصلحة.
وأجاب عن قولهم : «إنّ
ذلك يمنع من القدرة على تعريفنا دوام الشريعة» بأنّ ذلك غير مانع ، لأنّه يجوز أن
يضطرّ الأمّة إلى قصد نبيّها أنّ شريعته لا تنسخ ، ويجوز أن يعلموا ذلك بأن يقول :
«شريعتي مصلحة ما بقي التكليف» وبأن ينقطع الوحي.
وأجاب عن قولهم :
إنّ في تأخير بيان النسخ إلباس ، بأنّ الإلباس إنّما يثبت إذا لم يبيّن الحكيم ما
يجب بيانه ممّا يحتاج المكلّف إليه ، وما لا يحتاج إليه فلا يجب بيانه ، فلا إلباس
في فقد بيانه ، وليس يحتاج المكلّف في حال الخطاب إلى معرفة وقت ارتفاع العبادة ،
وبأنّ العبادة تنقطع بالعجز ، ولا يعلم متى يطرأ ، ولم يكن في ذلك إلباس ، فكذا في
النسخ.
فإن قلت : الأمر
بالفعل مشروط بالتمكّن.
قلنا : والأمر
بالعبادة مشروط بكونها مصلحة.
__________________
فإن قلت : إنّما
نعلم كونها مصلحة بالأمر ، فإذا كان الأمر مؤبّدا ، كانت المصلحة مؤبّدة.
قلنا : إنّما
علمنا كون الفعل مصلحة ، من حيث علمنا أنّ الحكيم لا يأمر بما ليس بمصلحة ، وكما
علمنا ذلك ، فقد علمنا أنّه لا يأمر بما لا يقدر عليه ، فإن دلّ الأمر المؤبّد على
دوام المصلحة ، دلّ أيضا على دوام التمكن.
وبأنّ الشاهد قد
فرّق بين النسخ وبيان وصف العبادة ، فإنّه من أمر عبده بأخذ وظيفة [له] في كلّ يوم
، لم يلزمه أن يبيّن له في الحال متى يقطع ذلك ، ولا يجوز أن لا يبيّن له في الحال
صفة الوظيفة.
واعترض أبو الحسين
على الأوّل : بأنّه يعلم أنّ الأمر المؤبّد مصلحة بنفس الأمر المؤبّد ، فيلزم أن يعتقد
وجوب فعله أبدا من غير اشتراط ذلك.
وعلى الثاني :
بأنّه إن جاز أن تعلم الأمة ذلك من قصد نبيّها فالنبيّ لا بدّ من أن يعرف انّ
شريعته لا تنسخ بخطاب أو تنتهي إلى خطاب ، فإن جاز أن يعترض الأمر المؤبّد النسخ ، جاز مثله في ذلك الخطاب الّذي عرّف
به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم أو جبرئيل أنّ الشريعة لا تنسخ.
وإنّما يعلم أنّ الوحي منقطع إذا قال النبيّ : «شريعتي دائمة ولا نبيّ
بعدي» فإن جاز تأخير بيان النسخ مع تناول الأمر لجميع الأوقات ، جاز أن يكون
__________________
مراده «لا نبيّ
بعدي إلّا فلان» ويتأخّر بيان هذا التخصيص.
وقوله : «شريعتي
مصلحتي ما بقي التكليف» يقتضي ظاهره دوام المصلحة بشرعه مدّة التكليف ، كما يفيد
ذلك ، الأمر بها أبدا ، لأنّ أمر الحكيم بالفعل يدلّ على كونه مصلحة في الأوقات
الّتي أمر بالفعل فيها ، كما أنّ خبره عن كونه مصلحة يدلّ على ذلك ، فإن جاز تأخير
بيان نسخ أحدهما جاز مثله في الآخر.
وعلى الثالث :
بأنّه لا يحتاج أيضا في حالة ورود العموم ، [و] الخصوص ، والخطاب المجمل ، إلى أن
تعرف صفة المجمل ، ومن لم يدخل تحت العموم ، وإنّما يحتاج إلى ذلك عند الفعل.
فإن قلت : يحتاج
في تلك الحال إلى بيان صفة العبادة ، وتخصيص العامّ ، ليعلم من دخل تحت العام ممّن
لم يدخل تحته ، وليعلم صفة ما كلّف ، فعدم بيان ذلك مخلّ بعلمه.
قلت : وكذلك تأخير
بيان النسخ مخلّ بعلمه أنّ العبادة دائمة.
__________________
المبحث الثالث :
في جواز النسخ في القرآن
اتّفق المسلمون
على ذلك وخالف فيه أبو مسلم بن بحر الأصفهاني.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ
الاعتداد بالحول منسوخة بأنّ الاعتداد بأربعة أشهر وعشرة أيّام.
أجاب [أبو مسلم] :
بأنّ الاعتداد بالحول لم يزل بالكليّة ، لأنّها لو كانت حاملا وامتدّ حملها حولا ،
اعتدّت به ، وإذا بقي الحكم في بعض الصور ، كان تخصيصا ، لا نسخا.
وهو خطأ ، فإنّ
عدّة الحامل تنقضي بأبعد الأجلين من وضعه ومضيّ
__________________
أربعة أشهر وعشرة
، فلو وضعت لأقلّ من سنة أو أكثر إن فرض ، انقضت العدّة ، فجعل السّنة مدّة العدّة
قد زال بالكلّية.
الثاني : أمر الله
تعالى بتقديم الصدقة بين يدي [نجوى] الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ثمّ نسخه.
أجاب أبو مسلم :
بأنّ زواله لزوال سببه ، وهو امتياز المنافقين من حيث إنّهم لا يتصدّقون عن
المؤمنين ، فلمّا حصل الغرض زال التعبّد بالصدقة.
واعترض : بأنّه لو كان كذلك ، لكان من لم يتصدّق منافقا ، وهو
باطل ، لأنّه لم يتصدّق غير عليّ عليهالسلام.
ويدلّ عليه قوله
تعالى : (فَإِذْ لَمْ
تَفْعَلُوا وَتابَ اللهُ عَلَيْكُمْ).
وفيه نظر ، فإنّا
نقول : بفسق من لم يتصدّق مع المناجاة ، ونمنع ذلك في أكابر الصحابة ، لقصر
المدّة.
الثالث : أمر
بثبات الواحد للعشرة ، ثمّ نسخه بالثبات للاثنين.
__________________
الرابع : قوله
تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ
آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها).
أجاب أبو مسلم :
بأنّ النسخ الإزالة ، والمراد هنا الإزالة من اللّوح المحفوظ.
واعترض [بوجهين] :
[١]. بأنّ الإزالة
من اللوح المحفوظ لا تختصّ ببعض القرآن ، وهذا النسخ مختصّ ببعضه.
[٢]. ولأنّه ليس
المراد الإزالة عن اللوح المحفوظ ، فإنّه قال تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها
نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها) والقرآن خير كلّه ، من غير تفاوت فيه ، فلو كان المراد من
نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ ، وكتابة أخرى بدلها ، لما تحقّق هذا الوصف ،
وإنّما تتحقّق الخيريّة بالنّسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنّا
، والموضوعة علينا ، من حيث إنّ البعض قد يكون أخفّ من البعض فيما يرجع إلى تحمّل
المشقّة ، أو أنّ ثواب البعض أجزل من البعض ، على اختلاف المذاهب ، فوجب حمل النسخ
على نسخ أحكام الآيات ، لا على ما ذكروه.
وفيهما نظر ، لمنع
مقولتي الأول ، فإنّه يجوز أن لا يزول جميع القرآن من
__________________
اللوح المحفوظ ،
ويمنع اختصاص النسخ بمعنى الإزالة ببعضه.
والآية الّتي حكمها خير من الأخرى الّتي هي مجرّدة عن أحكام
التكليف فجازت إزالتها وإثبات ما يتضمّن التكليف ، ويمنع عدم تفاوت الآيات في
الخيريّة ، فالأفصح خير.
الخامس : قوله
تعالى : (سَيَقُولُ
السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا
عَلَيْها).
ثمّ أزالهم عنها
بقوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ
شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ).
أجاب أبو مسلم :
بأنّ حكم تلك القبلة لم يزل بالكلّية ، لجواز التوجّه إليها عند الإشكال أو العذر.
واعترض : بعدم الفرق حينئذ بين بيت المقدس وسائر الجهات ،
فالخصوصيّة الّتي بها امتاز بيت المقدس عن غيره من الجهات ، قد بطلت ، فكان نسخا.
السادس : قوله
تعالى : (وَإِذا بَدَّلْنا
آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ
مُفْتَرٍ).
__________________
والتبديل يشمل على
رفع وإثبات ، والرفع نسخ إمّا للتلاوة ، أو الحكم ، أو لهما معا.
لا يقال : يجوز أن
يريد انّه أنزل إحدى الآيتين بدلا عن الأخرى فتكون النازلة بدلا عمّا لم ينزل.
لانّا نقول : جعل
المعدوم مبدلا غير جائز.
احتجّ أبو مسلم
بقوله تعالى : (لا يَأْتِيهِ
الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) والنسخ إبطال.
والجواب : المراد
لم يتقدّمه من كتبه تعالى ما يبطله ، ولا يأتيه من بعده ما يبطله ، لا ما توهّمه.
* * *
قال المحقّق : نجز
الجزء الثاني ـ بحمد الله تعالى ـ حسب تجزئتنا ، ويتلوه الجزء الثالث مبتدأ ب «الفصل
الثالث في المنسوخ».
والحمد لله أوّلا
وآخرا وباطنا وظاهرا
وصلّى الله على
سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
__________________
فهرس محتويات الكتاب
الذكرى
المئوية السابعة لرحيل العلّامة الحلّي قدسسره...................................... ٥
مقدمة تحت عنوان :
شبهات وإيضاحات حول أصول الفقه للشيعة
الإماميّة............................ ١١
١. التقدّم في التأسيس أو التدوين................................................ ١٤
٢. أدلّة الأحكام عند الإماميّة................................................... ٢٠
تقسيم
الأدلّة إلى اجتهادية وأصول عملية....................................... ٢١
تقسيم الأصول إلى
محرز وغير محرز............................................ ٢٣
أ. مسلك الشيعة هو
مسلك الغزالي............................................ ٢٤
ب. تقييم تعريفه
للأدلّة الاجتهادية والأصولية العلمية............................ ٢٦
٣. هل سنّة وراء سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم؟............................................... ٢٨
أئمة أهل البيت عليهمالسلام
حفظة سنن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.................................. ٣٠
سنّة الصحابة في مقابل سنّة النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.......................................... ٣٣
طرق علم الأئمة بالسنّة......................................................... ٣٤
الأوّل : السماع
عن رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم......................................... ٣٥
الثاني : كتاب علي
عليهالسلام..................................................... ٣٥
الثالث : انّهم
محدّثون........................................................ ٣٧
الرابع :
الاستنباط من الكتاب والسنّة.......................................... ٤٠
٤. تقييم الإجماع عند الإماميّة................................................... ٤٣
قراءة صاحب المقال
للإجماع عند الشيعة........................................ ٤٥
نقد الإجماع
الدخولي......................................................... ٤٧
٥. خبر الواحد والقياس ظنّيان................................................... ٤٩
فلما ذا التفريق بينهما؟.......................................................... ٤٩
التفريق بين الظنّيين لما ذا؟....................................................... ٥٣
استدلاله على حجية القياس عن طريق العقل....................................... ٥٧
الخلط بين المماثل والمشابه........................................................ ٥٨
٦. الدليل العقلي وحجيّة المصلحة................................................ ٦١
الفصل
الثامن
في
النّهي..................................................................... ٦٧
المبحث الأوّل : في حقيقته....................................................... ٦٧
المبحث الثاني : في أنّ المطلوب في
النهي ما ذا؟..................................... ٧٠
المبحث الثالث : في أنّ النّهي قد يقتضي
التكرار................................... ٧١
المبحث الرابع : في امتناع اجتماع الأمر
والنهي...................................... ٧٥
المبحث الخامس : في التضادّ بين تحريم
الوصف ووجوب الأصل....................... ٨٢
المبحث السّادس : في أنّ النّهي هل يدلّ
على الفساد؟.............................. ٨٤
المقام الأوّل :
في أنّ النهي في العبادات يدلّ على الفساد.......................... ٨٦
المقام الثاني :
في أنّ النهي في المعاملات لا يدلّ على الفساد....................... ٨٨
المبحث السابع : في مواضع من هذا الباب
وقع فيها الخلاف......................... ٩٤
المبحث الثّامن : في أنّ النهي هل يدلّ
على الصحّة أم لا؟......................... ١٠١
المبحث التاسع : في التخيير في النهي............................................ ١٠٥
المقصد
الخامس : في العموم والخصوص
الباب
الأوّل
في
العموم.................................................................. ١٠٩
الفصل الأوّل : في ألفاظه...................................................... ١٠٩
المبحث الأوّل : في تعريفه................................................... ١٠٩
المبحث الثاني : في معروضه................................................. ١١٥
المبحث الثالث : في الفرق بين المطلق
والعامّ................................... ١١٨
المبحث الرّابع : في أقسام العامّ.............................................. ١١٩
المبحث الخامس : في إثبات صيغته........................................... ١٢١
المبحث السادس : في صيغ العموم........................................... ١٣٩
المطلب الأوّل :
في أنّ لفظي «كلّ» و «جميع» للعموم......................... ١٣٩
المطلب الثاني :
في أنّ «من» و «ما» و «أين» و «متى» في الاستفهام للعموم..... ١٤٩
المطلب الثالث :
في أنّ صيغتي «ما» و «من» في المجازاة للعموم.................. ١٥٣
المطلب الرابع :
في النّكرة المنفيّة.............................................. ١٥٤
المطلب الخامس :
في أنّ الجمع المعرّف بلام الجنس للعموم....................... ١٥٦
المطلب السادس :
في بقايا صيغ العموم....................................... ١٦٢
الفصل الثاني : فيما لحق بالعام وليس
منه........................................ ١٦٤
المبحث الأوّل :
في أنّ الواحد المعرّف بلام الجنس ليس للعموم................... ١٦٤
المبحث الثاني :
في الجمع المنكّر.............................................. ١٦٨
المطلب الأوّل :
في أنّ أقل الجمع ثلاثة....................................... ١٦٨
المطلب الثاني :
في أنّ الجمع المنكّر ليس للعموم................................ ١٧٥
المبحث الثالث :
في نفي الاستواء............................................ ١٧٦
المبحث الرّابع :
في الخطاب المصدّر بالنّبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم.............................. ١٨٠
المبحث الخامس :
في الخطاب بالنسبة إلى المذكّر والمؤنّث........................ ١٨٣
المبحث السادس :
في أنّ المقتضي لا عموم له................................. ١٨٥
المبحث السّابع :
في الفعل المتعدّي إلى مفعول................................. ١٨٨
المبحث الثامن :
في ترك الاستفصال.......................................... ١٩٢
المبحث التاسع :
في العطف على العامّ........................................ ١٩٣
المبحث العاشر :
في الخطاب الشفاهي........................................ ١٩٣
المبحث الحادي عشر
: في رواية الرّاوي....................................... ١٩٧
المبحث الثاني عشر
: في المفهوم............................................. ٢٠٠
المبحث الثالث عشر
: في الجمع المضاف إلى الجمع............................ ٢٠١
الباب
الثاني
في
الخصوص............................................................... ٢٠٣
المبحث الأوّل : في تعريفه...................................................... ٢٠٣
المبحث الثاني : في الفرق بين التخصيص
والنسخ.................................. ٢٠٧
المبحث الثالث : فيما يجوز تخصيصه............................................ ٢٠٩
المبحث الرّابع : في غاية التخصيص............................................. ٢١٣
المبحث الخامس : العامّ المخصوص هل هو
مجاز أم لا؟............................ ٢١٦
المبحث السّادس : في جواز التمسّك
بالعامّ المخصوص............................. ٢٢٣
المبحث السابع : في جواز التمسّك بالعام
قبل البحث عن المخصّص................ ٢٣٠
الباب
الثالث
في
المقتضي للتخصيص..................................................... ٢٣٣
الفصل الأوّل : في الأدلّة المتّصلة................................................ ٢٣٣
المطلب الأوّل :
في الاستثناء................................................. ٢٣٣
المبحث الأوّل :
في حقيقة الاستثناء.......................................... ٢٣٣
المبحث الثاني :
في شروطه.................................................. ٢٣٧
المسألة الأولى :
في أنّ شرط الاستثناء الاتّصال................................ ٢٣٧
المسألة الثانية :
في الاستثناء المنفصل......................................... ٢٤٠
المسألة الثالثة :
في استثناء المستوعب والأكثر.................................. ٢٤٨
المبحث الثالث :
في أحكامه................................................ ٢٥٤
المسألة الأولى :
في تقدير دلالته............................................. ٢٥٤
المسألة الثانية :
في المخالفة بين المستثنى والمستثنى منه........................... ٢٥٦
المسألة الثالثة :
في الاستثناء المتعدّد.......................................... ٢٥٩
المسألة الرابعة :
في الاستثناء عقيب الجمل المتعدّدة............................. ٢٦٠
المطلب الثاني :
في الشرط والغاية والصفة...................................... ٢٧٤
المبحث الأوّل :
في حدّ الشرط.............................................. ٢٧٤
المبحث الثاني :
في أحكامه................................................. ٢٧٥
المبحث الثالث :
في التقييد بالغاية........................................... ٢٧٩
المبحث الرّابع :
في التقييد بالوصف.......................................... ٢٨٠
الفصل الثاني : في الأدلّة المنفصلة............................................... ٢٨١
المبحث الأوّل :
في تخصيص العامّ بالعقل..................................... ٢٨١
المبحث الثاني :
في تخصيص الكتاب بمثله..................................... ٢٨٦
المبحث الثالث :
في تخصيص السنّة المتواترة بمثلها.............................. ٢٩٠
المبحث الرابع :
في تخصيص الكتاب بالسنّة المتواترة وبالعكس.................... ٢٩١
المبحث الخامس :
في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بالإجماع................... ٢٩٣
المبحث السادس :
في تخصيص الكتاب والسنّة المتواترة بفعل الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم....... ٢٩٤
المبحث السّابع :
في التخصيص بالتقرير...................................... ٢٩٦
المبحث الثامن :
في تخصيص الكتاب بخبر الواحد.............................. ٢٩٨
الفصل الثالث : في بناء العام على الخاص........................................ ٣٠٤
الفصل الرابع : فيما ظنّ أنّه من
مخصّصات العموم ، وليس كذلك................... ٣١٨
المبحث الأوّل :
في تخصيص عموم الكتاب والسّنّة بالقياس...................... ٣١٨
المبحث الثاني :
في تخصيص العامّ بالمفهوم..................................... ٣٣١
المبحث الثالث :
في التخصيص بالسبب..................................... ٣٣٣
المبحث الرابع :
في التخصيص بمذهب الراوي................................. ٣٤٢
المبحث الخامس :
في التخصيص بذكر الأخصّ................................ ٣٤٥
المبحث السادس :
في التخصيص بالعادات................................... ٣٤٦
المبحث السابع :
في أنّ كونه مخاطبا لا يقتضي تخصيصه عن العموم.............. ٣٤٨
المبحث الثامن :
في أنّ علوّ منصبه صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يقتضي التخصيص................ ٣٤٩
المبحث التاسع :
في دخول العبد والكافر..................................... ٣٥٢
المبحث العاشر :
في أنّ قصد المدح والذمّ غير مقتض للتّخصيص................ ٣٥٥
المبحث الحادي عشر
: في أنّ المعطوف هل يجب أن يضمر فيه جميع ما يمكن إضماره
ممّا في المعطوف
عليه؟....................................................... ٣٥٦
المبحث الثاني عشر
: في أنّ رجوع الضمير إلى البعض ، هل يقتضي التخصيص أم لا؟ ٣٦٣
المبحث الثالث عشر
: في الحكم الخاص المقترن بالعلة.......................... ٣٦٧
المبحث الرّابع
عشر : في أنّ خطابه صلىاللهعليهوآلهوسلم يقتضي تخصيصه به................. ٣٦٨
المبحث الخامس عشر
: في أنّ قوله تعالى : (خُذْ مِنْ
أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) هل هو للعموم أم لا؟ ٣٧٢
خاتمة.................................................................... ٣٧٣
الباب
الرّابع
في
المطلق والمقيّد.......................................................... ٣٧٨
المبحث الأوّل : في ماهيّتهما................................................... ٣٧٨
المبحث الثاني : في حكم الجمع بينهما........................................... ٣٨٠
المبحث الثالث : في الجمع بين المطلق
والمقيد...................................... ٣٨٩
المقصد
السادس : في باقي صفات الدلالة
الباب
الأوّل
في
المجمل والمبيّن......................................................... ٣٩١
الفصل الأوّل : في المجمل...................................................... ٣٩١
المبحث الأوّل :
في الماهيّة................................................... ٣٩١
المبحث الثاني :
في أقسام المجمل............................................. ٣٩٧
المبحث الثالث :
في إمكان ورود المجمل في كلامه تعالى وكلام رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم....... ٤٠٢
المبحث الرابع :
في أنّ إضافة الأحكام إلى الأعيان ليس مجملا................... ٤٠٣
المبحث الخامس :
في أنّ قوله تعالى (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) ليس بمجمل.......... ٤٠٧
المبحث السّادس :
في أنّ الأفعال المنفيّة ليست مجملة........................... ٤١٠
المبحث السابع :
في أنّ آية السّرقة ليست مجملة............................... ٤١٦
المبحث الثامن :
في أنّ رفع الخطأ ليس مجملا.................................. ٤١٨
المبحث التاسع :
في باقي أمور ظنّ أنّها مجملة.................................. ٤٢١
الفصل الثاني : في البيان والمبيّن................................................. ٤٢٧
المبحث الأوّل :
في ماهيّته.................................................. ٤٢٧
المبحث الثاني :
في أقسام البيانات........................................... ٤٣١
المبحث الثالث :
في أنّ الفعل يكون بيانا..................................... ٤٣٢
المبحث الرابع :
في أنّ القول هل يقدّم في البيان على الفعل أم لا؟................ ٤٣٤
المبحث الخامس :
في أنّ البيان كالمبيّن........................................ ٤٣٧
المبحث السّادس :
في وقت البيان............................................ ٤٤٠
المبحث السابع :
في جواز تأخير التبليغ....................................... ٤٧٦
المبحث الثامن :
في ذكر من يجب له البيان................................... ٤٧٨
المبحث التاسع : في
جواز تأخير إسماع المخصّص............................... ٤٧٩
المبحث العاشر :
في البيان التدريجي.......................................... ٤٨٤
المبحث الحادي عشر
: في حكم العامّ قبل دخول وقته.......................... ٤٨٥
الباب
الثاني
في
الظاهر والمؤوّل.......................................................... ٤٨٧
المبحث الأوّل : في الماهيّة...................................................... ٤٨٧
المبحث الثاني : في جواز التأويل................................................ ٤٩٢
المبحث الثالث : في ذكر أمثلة التأويلات........................................ ٤٩٥
الباب
الثالث
في
المنطوق والمفهوم....................................................... ٥١٢
المبحث الأوّل : في الماهيّة...................................................... ٥١٢
المبحث الثاني : في الأقسام..................................................... ٥١٣
المبحث الثالث : في أنّ مفهوم الموافقة
حجّة...................................... ٥١٨
المبحث الرابع : في مفهوم المخالفة............................................... ٥٢١
المقصد
السابع : في الأفعال
المبحث الأوّل : في عصمة الأنبياء عليهمالسلام......................................... ٥٢٥
المبحث الثاني : في معنى التأسّي
والموافقة والمخالفة................................. ٥٢٨
المبحث الثالث : في أنّ فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم
هل يدلّ على حكم في حقّنا أم لا؟............. ٥٣٣
المبحث الرّابع : في وجوب التأسي............................................... ٥٥٢
المبحث الخامس : في جهة العلم بالتأسي......................................... ٥٥٦
المبحث السّادس : في طريق معرفة أفعاله صلىاللهعليهوآلهوسلم.................................. ٥٦٢
المبحث السابع : في التعارض في أقواله
وأفعاله.................................... ٥٦٩
القسم الأوّل : أن
يعلم تقدّم القول.......................................... ٥٧٠
القسم الثاني : أن
يعلم تقدّم الفعل........................................... ٥٧٣
القسم الثالث : أن
يجهل التاريخ ولا يعلم تقدّم أحدهما......................... ٥٧٤
المقصد
الثامن : في النسخ
الفصل الأوّل : في حقيقته..................................................... ٥٧٩
المبحث الأوّل :
في ماهيّته.................................................. ٥٧٩
المبحث الثاني :
في حدّه.................................................... ٥٨٤
المبحث الثالث :
في أنّ النسخ رفع أو بيان.................................... ٥٩٠
المبحث الرابع :
في الفرق بين النسخ والبداء................................... ٥٩٥
المبحث الخامس :
في الفرق بين التخصيص والنسخ............................ ٥٩٧
الفصل الثاني : في جواز النسخ................................................. ٦٠٠
المبحث الأوّل : في شرائط النسخ............................................... ٦٠٠
المبحث الثاني : في جواز النسخ................................................. ٦٠٢
المبحث الثالث : في جواز النسخ في
القرآن....................................... ٦١٧
فهرس الموضوعات............................................................. ٦٢٢
|