
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
(وَما كانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
أصول الفقه
بين الماضي والحاضر
الإسلام عقيدة
وشريعة. فالعقيدة هي الإيمان بالله سبحانه وصفاته والتعرّف على أفعاله.
والشريعة هي
الأحكام والقوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد والمجتمع في حقول مختلفة ، تجمعها
العناوين التالية : العبادات ، والمعاملات ، والإيقاعات والسياسات.
فالمتكلّم
الإسلامي من تكفّل ببيان العقيدة ، وبرهن على الإيمان بالله سبحانه وصفاته
الجمالية والجلالية ، وأفعاله من لزوم بعث الأنبياء ونصب الأوصياء لهداية الناس
وحشرهم يوم المعاد.
كما أنّ الفقيه من
قام ببيان الأحكام الشرعيّة الكفيلة بإدارة الفرد والمجتمع ، والتنويه بوظيفتهما
أمام الله سبحانه ووظيفة كلّ منهما بالنسبة إلى الآخر.
بيد أنّ لفيفا من
العلماء أخذوا على عاتقهم بكلتا الوظيفتين ، فهم
في مجال العقيدة
أبطال الفكر وسنامه ، وفي مجال التشريع أساطين الفقه وأعلامه ، ولهم الرئاسة
التامّة في فهم الدين على مختلف الأصعدة.
فإذا كانت الشريعة
جزءاً من الدين ففهمها واستخراجها من الكتاب والسنّة رهن أمور ، أهمها : العلم
بأصول الفقه ، وهو العلم الذي يرشد إلى كيفيّة الاجتهاد والاستنباط ، ويذلّل
للفقيه استخراج الحكم الشرعي من مصادره الشرعيّة.
إنّ كلّ علم يوم
حدوثه ونشوئه لم يكن إلّا مسائل عديدة لا تتجاوز عدد الأصابع شغلت بال الباحث أو
الباحثين ، ولكنّها أخذت تتكامل وتتشعّب عبر الزمان حتّى صارت علما متكامل الأركان
، له خصوصيّات كلّ علم ، أعني : تعريفه ، وموضوعه ، ومسائله.
وهذه خصيصة كلّ
علم من العلوم الّتي تسير مع تكامل الإنسان.
وأمامك علم المنطق
؛ فقد نقل الشيخ الرئيس في آخر منطق الشفاء عن أرسطوطاليس أنّه قال : إنّا ما
ورثنا عمّن تقدّمنا في الأقيسة إلّا ضوابط غير مفصّلة. وأمّا تفصيلها وإفراد كلّ
قياس بشروطه وضروبه وتمييز المنتج عن العقيم إلى غير ذلك من الأحكام ، فهو أمر قد
كددنا فيه أنفسنا وأسهرنا أعيننا حتّى استقام على هذا الأمر ، فإن وقع لأحد ممّن
يأتي بعدنا فيه زيادة أو إصلاح فليصلحه ، أو خلل فليسدّه .
هذا هو نفس العلم
، وفي جانب كلّ علم ، بحث آخر ربّما يسمّى بتاريخ
__________________
العلم ، وهو غير
العلم نفسه ، حيث يستعرض الباحث في تاريخ العلم الأسباب الّتي أدّت إلى نشوئه ، أو
صارت سببا لتكامله خلال العصور ، والإلماع إلى العلماء الذين كان لهم دور في تطوّر
العلم ، إلى غير ذلك من المباحث الّتي تناسب تاريخ العلم.
وهنا نفترض أنّ
سفينة تجري على ضفاف البحر ، وتشقّ الأمواج العاتية في وسطه ، متقدّمة إلى الأمام
، فهناك راكب فيها ، كما أنّ هناك ناظر إليها من بعيد ، ولكلّ بالنسبة إلى السفينة
رؤية خاصّة ، فالراكب إذا أراد وصفها فسوف يصف معدّاتها الداخلية وما فيها من غرف
الملّاحين ، ومخازن الأطعمة والأشربة ، ومقاعد الركاب وغرفهم ، إلى غير ذلك ممّا
يقع نظره عليه.
وأمّا الآخر فهو
ينظر إليها بما أنّها مصنوع قام بصنعها كبار المهندسين ومهرة العمّال وفق تخطيط
دقيق باستخدام أدوات مختلفة ، وموادّ متنوعة ، حتّى صارت جاهزة تقلّ الركّاب وتنقل
البضائع من ميناء إلى ميناء.
فالنظرة الأولى
نظرة فاحصة متعلّقة بما في داخل السفينة ، والنظرة الثانية نظرة فاحصة تتعلق
بخارجها.
وعلى ضوء هذا
المثال يمكن التفريق بين نفس العلم وتاريخه ، فالنظر إلى داخل العلم بما له من
موضوعات ومسائل وغايات ، هي دراسة لنفس العلم.
كما أنّ النظر
إليه من حيث نشوئه وتكامله بيد أساتذته عبر الزمان ، هي دراسة لتاريخ العلم وسيره
من بداية نشوئه إلى الحد الّذي بلغه.
وعلى هذا ف «أصول
الفقه» علم له تعريفه وموضوعه ومسائله وغاياته ، وقد أفاض فيه علماء الأصول في
بحوثهم ودراساتهم وكتبهم ، ونحن هنا
لا نخوض فيه ، بل
ننتقل إلى الجانب الثاني ـ أعني : دراسة تاريخ هذا العلم ـ والأسباب التي أدّت إلى
نشوء هذا العلم وتدوينه بصورة رسائل وكتب.
حاجة الفقيه إلى
أصول الفقه :
إنّ الإسلام عقيدة
وشريعة. فالعقيدة هي الإيمان بالله سبحانه وصفاته والتعرّف على أفعاله.
والشريعة هي
الأحكام والقوانين الكفيلة ببيان وظيفة الفرد والمجتمع في حقول مختلفة تجمعها
العناوين التالية :
«العبادات ،
المعاملات ، الإيقاعات ، والسياسات». فإذا كانت الشريعة جزءاً من الدين ، فلم يترك
الدين شيئا يحتاج إليه المجتمع في عاجله وآجله ، وأغنى الإنسان المسلم عن كلّ
تشريع وضعي سوى ما شرّعه الدين.
يرشدنا إلى إغناء
التشريع الإسلامي عن كلّ قانون سواه ، لفيف من الآيات والروايات ، ونكتفي بما يلي
:
١. قال سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً).
٢. قال أبو جعفر
الباقر عليهالسلام : «إنّ الله تبارك وتعالى لم يدع شيئا تحتاج إليه الأمّة
إلّا أنزله في كتابه ، وبيّنه لرسوله ، وجعل لكلّ شيء حدّا ، وجعل عليه دليلا يدلّ
عليه».
__________________
٣. قال الإمام
جعفر الصادق عليهالسلام : «ما من شيء إلّا وفيه كتاب أو سنّة».
٤. وقال أبو الحسن
الإمام موسى بن جعفر عليهالسلام في جواب من سأله : أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه.
قال : «بلى كلّ
شيء في كتاب الله وسنّة نبيّه».
هذا من جانب ، ومن
جانب آخر ، أنّه كلّما توسّع نطاق الحضارة ، وبلغ الإنسان منها ما بلغ ، احتاج في
تنظيم حياته إلى تشريعات خاصّة أزيد ممّا كان يحتاج إليها في الظروف الغابرة ؛
وبما أنّ الحضارة الإنسانيّة ما زالت تتوسّع وتتكامل ، فذلك يستتبع حاجة الإنسان
إلى تشريعات جديدة تستنبط من الكتاب والسنّة مع سائر الأدلّة.
وهذا الأمران هما
:
١. استغناء المسلم
عن كلّ تشريع سوى تشريع السماء.
٢. تزايد الحاجة
إلى التشريعات الجديدة.
فهذان الأمران
يفرضان على الفقيه الدقّة والإمعان في الكتاب والسنّة ، واستنطاقهما مع سائر
الأدلّة في الحوادث المستجدّة ، وهذا هو نفس الاجتهاد الّذي فتح الله بابه على
الأمّة الإسلاميّة منذ رحيل الرسول إلى يومنا هذا.
ومن المعلوم : أنّ
استنطاق الأدلّة الأربعة يجب أن يكون تابعا لنظام منطقيّ يصون المجتهد عن الخطأ في
الاستنباط. وهذا هو علم «أصول الفقه» فإنّ دوره هو تعليم المجتهد كيفيّة استنطاق
الدليل الشرعي لاستنباط الحكم الإلهي في حقول مختلفة.
__________________
إنّ إغناء الكتاب
والسنّة والإجماع والعقل عن كلّ تشريع سواه ، رهن اشتمالها على مادّة حيويّة وأصول
وقواعد عامّة تفي باستنباط آلاف من الفروع الّتي يحتاج إليها المجتمع البشري عبر
القرون والأجيال.
وهذه الثروة
العلميّة من مواهبه سبحانه للأمّة بين سائر الأمم.
ومن المعلوم أنّ
تبسيط المادة الحيويّة وتهيئتها للإجابة على مورد الحاجة دون نظام خاص يسهّل إنتاج
الأحكام الفرعية من هذه الموادّ والأصول ، يوجد الفوضى في حقل الاستنباط.
فوزان علم الأصول
بالنسبة إلى الفقه ، وزان علم المنطق إلى الفلسفة ، فكما أنّ المنطق يعلّم الباحث
كيفية الاستدلال والبرهنة على المسائل العقليّة أو الكونيّة أو المعارف الإلهية ،
فهكذا علم الأصول يرشد المجتهد إلى كيفيّة ردّ الفروع إلى الأصول.
المسلمون الأوائل
والمسائل المستجدّة :
واجه المسلمون في
فتوحاتهم واحتكاكهم مع الأمم الاخرى مسائل وموضوعات مستجدّة لم يجدوا حلّها في
الكتاب والسنّة بصراحة ـ مع العلم بكمال الدين في حقلي العقيدة والشريعة ـ فأخذ
كلّ صحابي أو تابعي بالإجابة وفق معايير خاصّة ، دون أن يكون هناك منهج خاص يصبّ
تمام الجهود على مورد واحد ، فمسّت الحاجة إلى تدوين أصول وقواعد تضفي على
الاجتهاد منهجيّة ونظاما خاصّا يخرجه عن الفوضى في الإفتاء ، فعند ذلك جاء دور
أصول الفقه المتكفّل لبيان المنهج الصحيح للاستنباط.
جذور علم الأصول
في أحاديث أهل البيت عليهمالسلام
إنّ أئمة أهل
البيت عليهمالسلام لا سيّما الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام أملوا على أصحابهم قواعد كلّيّة في الاستنباط يقتنص منها
قواعد أصوليّة أوّلا وقواعد فقهيّة ثانيا على الفرق المقرّر بينهما. وقد قام غير
واحد من علماء الإماميّة بتأليف كتاب في جمع القواعد الأصوليّة والفقهيّة الواردة
في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهمالسلام ، ونخصّ بالذكر الكتب الثلاث التالية :
أ ـ الفصول المهمة
في أصول الأئمّة : للمحدّث الحرّ العاملي (المتوفّى ١١٠٤ ه).
ب ـ الأصول
الأصليّة : للعلّامة السيّد عبد الله شبّر الحسيني الغروي (المتوفّى ١٢٤٢ ه).
ج ـ أصول آل
الرسول ، للسيد هاشم بن زين العابدين الخوانساري الاصفهاني (المتوفّى ١٣١٨ ه).
وبمحاذاة تلك
الحركة بدأ نشاط تدوين علم أصول الفقه عند الإماميّة على ضوء القواعد الكلّية
الواردة في أحاديث أئمّتهم ، مضافا إلى ما جادت به أفكارهم.
فألّف يونس بن عبد
الرحمن (المتوفّى ٢٠٨ ه) كتابه «اختلاف الحديث ومسائله» وهو نفس باب التعادل
والترجيح في الكتب الأصوليّة.
كما ألّف أبو سهل
النوبختي إسماعيل بن علي (٢٣٧ ـ ٣١١ ه) كتاب : الخصوص والعموم ، والأسماء
والأحكام ، وإبطال القياس.
إلى أن وصلت
النوبة إلى الحسن بن موسى النوبختي ، فألّف كتاب : «خبر الواحد والعمل به». وهذه
هي المرحلة الأولى لنشوء علم أصول الفقه عند الشيعة القدماء.
وبذلك يعلم أنّ
أئمّة الشيعة عليهمالسلام سبقوا غيرهم في إملاء القواعد الأصولية ، كما أنّ تلامذتهم
شاركوا الآخرين في حلبة التأليف والتصنيف.
وأمّا الآخرون فقد
اشتهر أنّ أوّل من ألّف في أصول الفقه هو الإمام الشافعي.
قال الإمام الرازي
: اتّفق الناس على أنّ أوّل من صنّف في هذا العلم ـ أي أصول الفقه ـ الشافعي ، وهو
الّذي رتّب أبوابه ، وميّز بعض أقسامه في بعض ، وشرح مراتبها في القوة والضعف .
وما ذكره الرازي
موضع تأمّل ، وإن اشتهر بين المتأخّرين أنّ الإمام الشافعي أوّل من ألّف في علم
الأصول والّذي طبع باسم «الرسالة» ، وذلك :
١. أنّ أبا يوسف
يعقوب بن إبراهيم المتوفّى (عام ١٨٢ ه) أوّل من ألّف في أصول الفقه على وفق مذهب
أستاذه أبي حنيفة.
٢. أنّ محمد بن
حسن الشيباني المتوفّى (عام ١٨٩ ه) هو أحد من ألّف في أصول الفقه ، كما صرّح به
ابن النديم ، فلم يعلم تقدّم الشافعي على العالمين لو لم نقل
بتقدّمهما عليه.
__________________
وعلى كل تقدير فنحن
نقدر ونثمن جهود الفقهاء الّتي بذلوها في تنمية أصول الفقه وإظهاره للوجود ثم
تطويره وتكامله ، وهو من مواهب الله سبحانه.
تعريف أصول الفقه
:
إنّ البحث السابق
رفع الستار عن واقع أصول الفقه وبالتالي عن تعريفه.
وهو عبارة عن :
العلم بالقواعد الّتي يتوصّل بها الفقيه إلى استنباط الأحكام الشرعيّة من أدلّتها
، أو ينتهي إليها المجتهد بعد اليأس من العثور على الأدلّة الشرعيّة ، وهذا
كالأصول العمليّة من البراءة والاشتغال والتخيير والاستصحاب ، فالمستنبط يلتجئ
إليها عند اليأس من العثور على الدليل التفصيلي.
فالمجتهد تارة يستنبط
الحكم الشرعي الواقعي ، كما إذا كان في المسألة دليل من الكتاب والسنّة ؛ وأخرى
يرشد المكلّف إلى وظيفته الفعلية من العمل بالبراءة والاحتياط وغيرها. والفرق بين
الأمرين واضح لمن مارس أصول الفقه لدى الإماميّة.
موضوع علم الأصول
:
المشهور أنّ موضوع
أصول الفقه هو الأدلّة الأربعة ، أو الحجّة في الفقه ؛ والثاني هو الأظهر ،
لاختلاف الفقهاء في تحديد الأدلّة بالأربعة ، وهناك من يحتجّ بالعقل ، ومنهم من لا
يحتجّ به.
وبما أنّ موضوع
كلّ علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة ، فللأصولي
أن يبحث في أصول
الفقه عن عوارض «الحجّة في الفقه» ، وعندئذ يقع الكلام في العوارض الّتي تعرض على «الحجّة
في الفقه» والأصولي يبحث عنها؟ وهذا ما يحتاج إلى بيان زائد ، وهو :
إنّ العارض على
قسمين :
أ ـ عارض خارجيّ
يخبر عن عروض شيء على المعروض خارجا ، كالبحث عن عوارض الأجسام الخارجيّة كما في
الفيزياء ، أو الداخليّة كما في الكيمياء ، إلى غير ذلك من الأعراض.
ب ـ عارض تحليلي
وعقلي ، وهذا نظير ما يبحث عنه الحكيم في الفلسفة عن تعيّنات الموجود بما هو موجود
، حيث إنّ الموضوع لهذا العلم هو الوجود المطلق العاري عن كلّ قيد ، فالحكيم يبحث
عن تعيّناته وتشخّصاته ، فصار يقسّمه إلى واجب وممكن ، وعلّة ومعلول ، ومادّي
ومجرّد ، وواحد وكثير.
وعلى ضوء هذا ،
فالموضوع في علم أصول الفقه هو «الحجّة في الفقه» ، فإنّ الفقيه يعلم وجدانا بأنّ
بينه وبين ربّه حججا تتضمّن بيان الشريعة والأحكام العمليّة. فيبحث عن تعيّنات هذه
الحجج المعلومة بالإجمال ، وأنّها هل تتشخّص بخبر الواحد أو لا؟ وبالقياس وعدمه ،
إلى غير ذلك.
فقولنا : خبر
الواحد حجّة أو القياس حجّة ، يرجع واقعهما إلى تعيّن الحجّة الكليّة غير
المتشخّصة في خبر الواحد والقياس وغيرهما ، حتّى أنّ البحث عن كون الأمر ظاهرا في
الوجوب ، والنهي في الحرمة ، يرجع لبّ البحث فيه إلى وجود الحجّة على لزوم إتيان
الأمر الفلاني ، أو وجود الحجّة على تركه.
__________________
اتّجاهان في تدوين
أصول الفقه
قام بتدوين أصول
الفقه في أوّل الأمر طائفتان هما : المتكلّمون والفقهاء.
الطائفة الأولى :
كانت تمثّل المذهب الشافعي في الفقه.
والطائفة الثانية
: كانت تمثّل مذهب الإمام أبي حنيفة.
ولأجل التعرّف على
كلا الاتّجاهين عن كثب ، نذكر شيئا منهما ، ثم نشير إلى أسماء الكتب الّتي ألّفت
في هذين المضمارين.
طريقة المتكلّمين
تمتّعت طريقة
المتكلّمين بالأمور التالية :
أ. النظر إلى أصول
الفقه نظرة استقلاليّة ، حتى تكون ذريعة لاستنباط الفروع الفقهيّة ، فأخذوا
بالفروع لما وافق الأصول وتركوا ما لم يوافق ، وبذلك صار أصول الفقه علما مستقلا
غير خاضع للفروع التي ربّما يستنبطها الفقيه من دون رعاية الأصول.
ب. تميّزت كتب هذه
الطريقة بطابع عقلي واستدلالي استخدمت فيه أصول مسلّمة في علم الكلام ، فترى فيها
البحث عن الحسن والقبح العقليّين ، وجواز تكليف ما لا يطاق وعدمه ، إلى غير ذلك.
ج. ظهر التأليف
على هذه الطريقة في أوائل القرن الرابع.
يقول الشيخ أبو
زهرة في وصف هذه المدرسة : «الاتّجاه الّذي
سمّي أصول
الشافعيين أو أصول المتكلّمين ، كان اتّجاها نظريا خالصا ، وكانت عناية الباقين
فيه متّجهة إلى تحقيق القواعد وتنقيحها من غير اعتبار مذهبيّ ، بل يدلّ انتاج أقوى
القواعد ، سواء أكان يؤدّي إلى خدمة مذهبهم أم لا يؤدّي ـ إلى أن قال ـ وقد كثرت
في هذا المنهاج ، الفروض النظريّة والمناحي الفلسفيّة والمنطقيّة ، فتجدهم قد
تكلّموا في أصل اللغات ، وأثاروا بحوثا نظرية ، ككلامهم في التحسين العقلي
والتقبيح العقلي ، مع اتّفاقهم جميعا على أنّ الأحكام في غير العبادات معلّلة
معقولة المعنى.
ويختلفون كذلك في
أنّ شكر المنعم واجب بالسمع والعقل ، مع اتّفاقهم على أنّه واجب.
وهكذا يختلفون في
مسائل نظريّة لا يترتب عليها عمل ، ولا تسن طريقا للاستنباط ، ومن ذلك اختلافهم في
جواز تكليف المعدوم.
بل إنّهم لم
يمتنعوا عن أن يخوضوا في مسائل من صميم علم الكلام ، ولا صلة لها في الفقه إلّا من
ناحية أنّ الكلام فيها كلام فيها كلام في أصل الدين ، ومن ذلك كلامهم في عصمة
الأنبياء قبل النبوّة ، فقد عقدوا فصلا تكلّموا فيه في عصمة الأنبياء قبل النبوة».
ثمّ أضاف وقال :
وإنّ ذلك الاتّجاه أفاد علم الأصول في الجملة ، فقد كان البحث فيه لا يعتمد على
تعصّب مذهبي ، ولم تخضع فيه القواعد الأصوليّة للفروع المذهبيّة ، بل كانت القواعد
تدرس على أنّها حاكمة على الفروع ، وعلى
__________________
أنّها دعامة الفقه
، وطريقة الاستنباط ، وأنّ ذلك النظر المجرّد قد أفاد قواعد أصول الفقه ، فدرست
دراسة عميقة بعيدة عن التعصّب في الجملة ، فصحبه تنقيح وتحرير لهذه القواعد ، ولا
شك أنّ هذه واحدها فائدة علميّة جليلة ، لها أثرها في تغذية طلّاب العلوم الإسلاميّة
بأغزر علم وأدقّه.
وسوف توافيك قائمة
بأسماء بعض الكتب التي ألّفت على هذا المنهاج ، مع الإشارة إلى الفصول الّتي لا
تقع ذريعة لاستنباط الحكم الشرعي.
طريقة الفقهاء
وهناك طريقة أخرى
تمتاز بما يلي :
أ. إنها تنظر إلى
أصول الفقه نظرة آلية ، بمعنى أنّ الملاك في صحّة الأصول وعدمها هو مطابقتها
للفروع التي عليها إمام المذهب ، فكانوا يقرّرون القواعد الأصوليّة طبقا لما قرّره
أئمة المذهب في فروعهم الاجتهادية الفقهيّة ، وتكون القاعدة الأصوليّة منسجمة مع
الفروع الفقهيّة ، فلو خالفتها لما قام لها وزن وإن أيّده البرهان وعضده الدليل ؛
فتجد كثرة التخريج تشكّل الطابع العام في كتبهم التي ألفت على هذه الطريقة.
ب. خلوّ هذه
الطريقة من الأساليب العقليّة والقواعد الكلاميّة.
ج. ظهور هذه
الطريقة في أوائل القرن الثالث ، وأوّل من ألّف على هذا الأسلوب هو عيسى بن أبان
بن صدقة الحنفي (المتوفّى ٢٢٠ ه).
__________________
قال أبو زهرة في
تبيين ذلك الاتّجاه : الاتّجاه الثاني هو الاتّجاه المتأثر بالفروع ، وقد اتّجه
فيه الباحثون إلى قواعد الأصول ليقيسوا بها فروع مذهبهم ، ويثبتوا سلامتها بهذه
المقاييس. وبذلك يصحّحون بها استنباطها ويزودون بها في مقام الجدل والمناظرة ،
فكانت دراسة الأصول على ذلك النحو صورة لينابيع الفروع المذهبيّة وحججها ، ولقد
قال بعض العلماء : إنّ الحنفيّة أوّل من سلكوا هذه الطريقة ولم تكن لهم أصول فقهية
نشأت في عهد الاستنباط .
نظرة إلى طريقة
الفقهاء :
إذا كانت الغاية
من تدوين علم الأصول هي التعرّف على قواعد تسهّل الاستنباط ، وتأخذ بيد المجتهد
إلى استنباط الحكم الشرعي ؛ فيجب أن تكون القواعد الأصوليّة حاكمة على الفروع
ودعامة للفقه ، وطريقة للاستنباط ، وهذا لا ينطبق إلّا على طريقة المتكلّمين.
وأمّا إذا كانت
الغاية هي تصحيح الفروع التي أفتى بها الإمام ومخرجو مذهبه ، فيكون حينئذ قليلة
الجدوى ، لأنّه يصبح دفاعا عن مذهب معيّن ، فلو وافقها أخذ به ، وإن خالفها رفضها.
والحاصل أنّ علم
الأصول هو العلم الذي يعدّ منهاجا للاستنباط وطريقا إليه ، وأمّا إذا كانت الغاية
منه تأييد المذهب والدفاع عنه ، فيصبح علم الأصول أداة طيّعة لفتوى الإمام ، ولا
يكون منهاجا للاجتهاد.
__________________
ولأجل هاتين
الرؤيتين المختلفتين ، نرى اختلافا واضحا بين الأصوليّين لأتباع أئمّة المذاهب.
نعم الذي يؤاخذ
على طريقة المتكلّمين هو أن الكتب الأصوليّة عندهم ، قد أصبحت مقتصرة على ذكر
القواعد والأصول دون تطبيقها على مصاديقها ، وبذلك أصبحت لا تنفع للفقيه ، من حيث
التطبيق والتدريب. نعم قام بعضهم بالجمع بين الأمرين في بعض كتبهم.
وهذا الإشكال ـ ذكر
القواعد بلا تطبيقات وتمرينات ـ داء منتشر ولا يختصّ بكتب علم الأصول فقط ، بل
يعمّ كتب النحو والصرف والمعاني والبيان ، فيجد المتعلّم فيها قواعد جافّة دون أن
يطبقها على موارد في الكتاب والسنّة ، أو كلمات البلغاء وأشعار الفصحاء.
ولأجل أن يقف
القارئ على نماذج ممّا ألّف في هذين المضمارين ، نشير إلى بعض من ذلك.
المؤلّفون على
طريقة المتكلّمين :
قام غير واحد من
الأصوليّين بتأليف كتب أصوليّة على هذه الطريقة ، ونشير إلى أسمائهم مع كتبهم على
وجه الإيجاز :
١. أبو بكر
الصيرفي (المتوفّى ٣٣٠ ه) :
مؤلّف : «البيان
في دلائل الاعلام على أصول الأحكام».
٢. محمد بن سعيد
القاضي (المتوفّى ٣٤٦ ه) :
مؤلف : «الهداية»
وكان علماء خوارزم يتداولونه.
٣. القاضي أبو بكر
الباقلاني (المتوفّى ٤٠٣ ه) :
مؤلّف : «التقريب
والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد».
٤. قاضي القضاة
عبد الجبار (٣٢٤ ـ ٤١٥ ه) :
مؤلّف : «النهاية»
و «العمد».
٥. أبو الحسين
البصري محمد بن علي بن الطيب (المتوفّى ٤٣٦ ه) :
مؤلّف : «المعتمد».
٦. أبو الوليد
الباجي (المتوفّى ٤٧٤ ه) :
مؤلف كتاب «إحكام
الفصول في أحكام الأصول».
٧. أبو إسحاق
الشيرازي (المتوفّى ٤٧٦ ه) :
مؤلّف : «اللمع»
وكتاب «التبصرة».
٨. أبو نصر أحمد
بن جعفر بن الصباغ (المتوفّى ٤٧٧ ه) :
مؤلّف : «العدّة» و
«تذكرة العامل» و «الطريق السالم».
٩. إمام الحرمين
عبد الملك بن عبد الله الجويني (المتوفّى ٤٧٨ ه) :
مؤلّف : «الورقات»
، وكتاب «البرهان».
١٠. أبو حامد محمد
بن محمد الغزالي الشافعي (المتوفّى ٥٠٥ ه) :
مؤلّف : «المستصفى»
، و «المنخول من تعليقات الأصول».
١١. أحمد بن علي
بن برهان البغدادي (المتوفّى ٥١٨ ه) :
مؤلّف : كتاب «الوصول
إلى علم الأصول».
١٢. فخر الدين
محمد بن عمر الرازي (المتوفّى ٦٠٦ ه) :
مؤلّف : «المحصول
في علم أصول الفقه».
١٣. سيف الدين
الآمدي (المتوفّى ٦٣١ ه) :
مؤلّف : «الإحكام
في أصول الأحكام».
١٤. ابن الحاجب
المالكي (المتوفّى ٦٤٦ ه) :
مؤلّف : «منتهى
السؤل والأمل في علمي الأصول والجدل» ، وكتاب «مختصر المنتهى».
إلى غير ذلك من
المؤلّفات على هذا الطراز.
إنّ التأليف على
هذا الغرار وإن دام قرونا ، ولكن أكثر ما كتب تلخيص لكتب ثلاثة :
١. «المعتمد» لأبي
الحسين البصري.
٢. «البرهان»
لإمام الحرمين الجويني.
٣. «المستصفى»
للغزالي.
وهناك ملاحظة أخرى
، وهي أن مؤلّفي أكثر هذه الكتب قد أدخلوا في علم الأصول ما لا يمتّ له بصلة إلّا
على وجه بعيد ، فهذا هو الآمدي قد أدخل في كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» ـ الّذي
طبع في أربعة أجزاء ـ كثيرا من المباحث الكلاميّة نظير :
١. التعرّف على
مبدأ اللغات وطرق معرفتها.
٢. التكليف بما لا
يطاق.
٣. تكليف المعدوم.
٤. في عصمة
الأنبياء عليهمالسلام.
٥. في حقيقة الخبر
وأقسامه.
٦. في أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم كان متعبدا بالاجتهاد فيما لا نصّ فيه.
٧. جواز الاجتهاد
للنبي صلىاللهعليهوآلهوسلم.
إلى غير ذلك من
المباحث ، التي ليس لها علاقة بأصول الفقه ، ولا تمثّل تكاملا لهذا العلم ، بل هي
بحوث زائدة إذا لم تكن مضرّة به.
وقد وقف أبو
الحسين البصري (المتوفّى ٤٣٦ ه) على ما ذكرنا وقال في مقدّمة كتابه «المعتمد» :
ثم الّذي دعاني إلى تأليف هذا الكتاب في أصول الفقه ، بعد شرحي «كتاب العمد»
واستقصاء القول فيه ، أنّي سلكت في «الشرح» مسلك الكتاب في ترتيب أبوابه ، وتكرار
كثير من مسائله ، وشرح أبواب لا تليق
بأصول الفقه من
دقيق الكلام ، نحو القول في أقسام العلوم وحدّ الضروري منها والمكتسب ، وتوليد
النظر العلم ونفي توليده النظر ، إلى غير ذلك. فطال الكتاب بذلك وبذكر ألفاظ «العمد»
على وجهها ، وتأويل كثير منها.
فأحببت أن أؤلّف
كتابا مرتّبة أبوابه غير مكرّرة ، وأعدل فيه عن ذكر ما لا يليق بأصول الفقه من
دقيق الكلام. إذ كان ذلك من علم آخر ، لا يجوز خلطه بهذا العلم ، وإن يعلق به من
وجه بعيد. فإنّه إذا لم يجز أن يذكر في كتب الفقه التوحيد والعدل ـ وأصول الفقه ،
مع كون الفقه مبنيا على ذلك مع شدة اتّصاله به ـ ، فبأن لا يجوز ذكر هذه الأبواب
في أصول الفقه ، على بعد تعلّقها بها ، ومع أنّه لا يقف عليها فهم الغرض بالكتاب ،
أولى.
وأيضا فإنّ القارئ
لهذه الأبواب في أصول الفقه إن كان عارفا بالكلام ، فقد عرفها على أتمّ استقصاء ،
وليس يستفيد من هذه الأبواب شيئا. وإن كان غير عارف بالكلام ، صعب عليه فهمها ،
وإن شرحت له ، فيعظم ضجره وملله ، إذ كان قد صرف عنايته وشغل زمانه بما يصعب عليه
فهمه. وليس بمدرك منه غرضه. فكان الأولى حذف هذه الأبواب من أصول الفقه.
الكتب المؤلّفة
على طريقة الفقهاء :
قد تقدّم أنّ طائفة
من الأصوليّين نهجوا منهجا غير منهج السابقين فألّفوا كتبا أصوليّة طبقا لما قرّره
أئمّة المذهب في فروعهم الفقهيّة ، وهذا النوع خال
__________________
من الأساليب
العقليّة والقواعد الكلاميّة. وقد قام غير واحد من المهتمّين بأصول الفقه بتأليف
كتب على هذا الغرار ، نظير :
١. أبو الحسن
الكرخي (المتوفّى ٣٤٠ ه) :
وله رسالة في
الأصول.
٢. أبو منصور
الماتريدي (المتوفّى ٣٣٣ ه) :
مؤلّف : «ماخذ
الشرائع في الأصول».
٣. أبو زيد عبيد
الله بن عمر القاضي (المتوفّى ٣٤٠ ه) :
مؤلّف : «تقويم
الأدلّة».
٤. أبو بكر
الجصّاص (المتوفّى ٣٧٠ ه) :
مؤلّف : «أصول
الجصّاص».
٥. فخر الإسلام
البزدوي (المتوفّى ٤٨٢ ه) :
مؤلّف كتاب : «كنز
الوصول إلى معرفة الأصول».
٦. شمس الأئمة
السرخسي (المتوفّى ٤٨٢ ه) :
مؤلّف : «تمهيد
الفصول في الأصول».
٧. الحافظ النسفي (المتوفّى
٧٠١ ه) :
مؤلّف : «منار
الأنوار في أصول الفقه».
وقد عمدوا إلى
الفروع يؤلّفونها إلى مجاميع يوجد بينها التشابه ، ثمّ يستنبطون منها الضوابط
والقواعد.
وعلى ضوء ذلك ،
فأصول الفقه عندهم أشبه بالقواعد الفقهيّة ، حيث إنّ الفقيه يضمّ مسألة إلى مسألة
ثم يوحّد بينهما وبين الآخرين ، وينتزع من الجميع قاعدة فقهيّة تعمّ الجميع.
مثلا إنّ الفقيه
إذا وقف على أنّ صحيح الإجارة وفاسدها يوجب الضمان ، كما أنّ البيع أيضا يوجب
فاسده وصحيحه الضمان ، إلى غير ذلك من المسائل الّتي فيها مبادلة بين المالين أو
بين المال والمنفعة ، فينتزع من الجميع قاعدة كلّية ويقول : كلّ ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده.
فالقواعد الفقهيّة
أشبه بطريقة الفقهاء ، وعندئذ فكلّ قاعدة لا تنسجم مع ما وقف عليه الفقيه في ثنايا
استنباطه تكون مردودة ، وإن كان البرهان يوافقه.
طريقة الإماميّة
في تدوين الأصول :
وأمّا طريقة
الإماميّة فالموجود ما بين أيدينا من القرن الرابع أشبه بطريقة المتكلّمين ،
مستمدّين من بعض الأحاديث عن الأصول والقواعد الواردة في أحاديث الأئمة الطاهرين عليهمالسلام ، فإنّهم طرحوا أصولا وقواعد لها دور في استنباط الحكم
الشرعي ، وربّما ألجأتهم الظروف إلى إدخال المسائل الكلاميّة في كتبهم ، نظراء :
١. محمد بن محمد
النعمان (المتوفّى ٤١٣ ه) :
مؤلّف كتاب : «التذكرة
في أصول الفقه».
٢. الشريف المرتضى
(المتوفّى ٤٣٦ ه) :
مؤلّف : «الذريعة».
٣. سلّار الديلمي (المتوفّى
٤٤٨ ه) :
مؤلّف : «التقريب
في أصول الفقه».
٤. محمد بن الحسن
الطوسي (المتوفّى ٤٦٠ ه) :
مؤلّف : «العدة في
أصول الفقه».
٥. ابن زهرة
الحلبي (المتوفّى ٥٥٨ ه) :
مؤلّف : «الغنية».
٦. سديد الدين
الحمصي (المتوفّى حوالي ٦٠٠ ه) :
مؤلّف : «المصادر
في أصول الفقه».
٧. نجم الدين
الحلي (المتوفّى ٦٧٦ ه) :
مؤلّف : «المعارج
في أصول الفقه».
٨. العلّامة
الحلّي نابغة العراق الحسن بن مطهر (المتوفّى ٧٢٦ ه) :
مؤلّف : عدة كتب
في الأصول ، أعظمها : «نهاية الوصول إلى علم الأصول».
٩. عميد الدين
الأعرجي (المتوفّى ٧٥٤ ه) :
مؤلّف : «منية
اللبيب في شرح التهذيب».
١٠. ضياء الدين
الأعرجي (كان حيا ٧٤٠ ه) :
مؤلّف : «النقول
في تهذيب الأصول».
١١. فخر المحقّقين
محمد بن الحسن الحلّي (المتوفّى ٧٧١ ه) :
مؤلّف : «غاية
الأصول في شرح تهذيب الأصول».
١٢. الشهيد الأوّل
محمد بن مكي العاملي (المتوفّى ٧٨٦ ه) :
مؤلّف : «القواعد
والفوائد» ويشتمل على قواعد أصولية وفقهيّة.
١٣. المقداد بن
عبد الله السيوري (المتوفّى ٨٢٦ ه) :
مؤلّف : «نضد
القواعد».
١٤. زين الدين بن
نور الدين الشهيد الثاني (المتوفّى ٩٦٥ ه) :
مؤلّف : «تمهيد
القواعد».
إلى هنا تمّت
المرحلة الأولى الّتي طواها علم الأصول.
وبعد أن ظهرت
الحركة الأخباريّة في أواخر القرن العاشر وبداية القرن الحادي عشر ، عمّ الركود
على الفكر الأصولي عبر قرنين. إلى أن برز المحقّق البهبهاني إلى الساحة ، فقام
بالرد على فكرة الأخباريّة وإبطال أسسهم ، واستطاع أن يشيّد للأصول أركانا جديدة
ودعامات رصينة ، فنهض بالأصول من خموله الّذي دام قرنين.
وبذلك انتهى عصر
الركود ، وبدأ عصر الإبداع والابتكار من زمانه إلى نهاية القرن الرابع عشر ، ففي
هذه الفترة بلغ علم الأصول ذروة التكامل ، فأسّست قواعد ومسائل لم يكن لها أيّ أثر
في زبر السابقين ، سنّة وشيعة.
إلى أن صار علم
الأصول الحديث عند الإماميّة بالنسبة إلى القديم منه ، كأنهما علمين مختلفين ، أو
أن أحدهما بداية الأصول والآخر نهاية.
وها نحن نذكر شيئا
من ابتكارات علمائنا في القرنين الأخيرين بما يدهش العقول ويبهر النفوس :
تطوّر علم الأصول عند الإماميّة
نحن نقدّر ما
كابده علماء الفريقين في سبيل هذا العلم إبداعا وابتكارا ، أو بيانا وإيضاحا حتّى
أوصلوه إلى القمّة ، ومع ذلك كلّه لا نرى مانعا من بيان ما يختصّ بالإماميّة من
تنشيط وتصعيد الحركة الأصوليّة عبر القرون ، وقد تمّ تحقيق هذا التنشيط بإحداث
قواعد وضوابط تمدّ المستنبط في مختلف الأبواب ، وها نحن نشير إلى بعضها :
١. تقسيم الواجب
إلى مشروط ومعلّق :
إنّ تقسيم الواجب
إلى مطلق كمعرفة الله ، ومشروط كالصلاة بدخول الوقت ، تقسيم معروف.
وأمّا تقسيم
الواجب إلى مشروط ومعلّق ، فهو من خصائص أصول الفقه للإماميّة.
والفرق بينهما :
أنّ القيد في الأوّل يرجع إلى الهيئة ، وفي الثاني يرجع إلى المادة.
وبعبارة أخرى :
كلا الواجبين مقيّدان ، إلّا أنّ القيد في الواجب
المشروط قيد
للوجوب ، كالوقت بالنسبة إلى الصلاة ، فما لم يدخل الوقت لا وجوب أصلا. ولكنّه في
الواجب المعلّق قيد للواجب ، فالوجوب حاليّ لكن الواجب مقيّد بوقت متأخر.
وهذا نظير من
استطاع الحجّ ، فوجوب الحجّ مشروط بالاستطاعة ، فلا وجوب قبلها ، وبحصولها يكون
الوجوب فعليا ، ولكن الواجب استقبالي مقيّد بظرفه ، أعني : أيّام الحجّ.
ويترتّب على
التقسيم ثمرات مذكورة في محلّها ، ونقتصر على ذكر ثمرة واحدة.
إنّ تحصيل مقدّمة
الواجب المشروط غير لازم ، لأنّ وجوب المقدّمة ينشأ من وجوب ذيها ، فإذا كان ذو
المقدّمة غير واجب ، فلا تجب مقدّمته شرعا ، فلا يجب تحصيلها.
هذا بخلاف مقدّمة
الواجب المعلّق ، فبما أنّ الوجوب فعليّ ـ بحصول الاستطاعة ـ يجب تحصيل مقدّمات
الحجّ ، وإن كان الواجب استقباليا.
٢. دلالة الأمر
والنهي على الوجوب والحرمة :
لقد بذل الأصوليون
جهودهم في إثبات دلالة الأمر والنهي على الوجوب والحرمة ، دلالة تضمنيّة أو
التزاميّة ، وطال النقاش بين الموافق والمخالف ، ولكن المحقّقين المتأخّرين من
الإماميّة دخلوا من باب آخر ، وهو أنّ السيرة المستمرّة بين العقلاء هي : أنّ أمر
المولى ونهيه لا يترك بدون جواب ـ رغم عدم
دلالتهما على
الوجوب والحرمة لفظا ـ وكيفيّة الجواب عبارة عن لزوم الإتيان في الأوّل ، والترك
في الثاني. وهو عبارة عن الوجوب والحرمة.
كما أنّ العقل
يدعم موقف العقلاء فيؤكّد على متابعة الأمر والنهي حذرا من احتمال المخالفة.
وبالرغم من أنّ
أمر المولى على قسمين : واجب ومندوب ، كما أنّ نهيه كذلك : حرام ومكروه ، ومع ذلك
يلزم العقل العبد المكلّف على الامتثال حذرا من المخالفة الاحتماليّة.
٣. الترتّب أو
الأمر بالضدّين مترتّبا :
إنّ ثمرة القول
بأنّ الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضدّه ، هو بطلان الضدّ المنهيّ عنه إذا كان
عبادة ، وهذا كما إذا وقعت المزاحمة بين واجب مضيّق ، وأخر موسّع ، كإزالة النجاسة
عن المسجد ، والفريضة الموسّع وقتها ، فالأمر بالأولى يقتضي النهي عن الثانية ،
وتكون الثمرة بطلانها لأنّ الصحّة والزجر عن الفعل لا يجتمعان.
وربما قيل ببطلان
الثمرة وانّ الصلاة باطلة ، ولا يحتاج في بطلان الفريضة إلى تعلّق النهي بها ، إذ
يكفي في البطلان عدم تعلّق الأمر بها ـ عند تعلّق الأمر بالإزالة ـ لأنّ الأمر بها
وإن لم يلازم النهي عن الصلاة ، لكنّه يلازم عدم الأمر بها ، وإلّا يلزم طلب
الضدّين. وبما أنّ طلبهما باطل ، فلا محيص عن عدم تعلّق الأمر بالصلاة وهو يكفي في
البطلان.
ثمّ إنّ جماعة
سلّموا بطلان الثمرة ، لكنّهم حاولوا تصحيح الصلاة بالأمر بهما عن طريق الترتب ،
بأن يكون الأمر بالضدّ ، مشروطا بعصيان الأمر الأوّل ، ويقال : أزل النجاسة عن
المسجد ، وإن عصيت فصلّ.
وهذه هي المسألة
المعروفة بالترتّب ، ولها دور في استنباط قسم من الأحكام ، واطلب تفاصيلها عن
المحصول.
٤. العام بعد
التخصيص ليس بمجاز :
الرأي المعروف عند
الأصوليين أنّ العام المخصّص مجاز ، لأنّ المخصّص قرينة على استعماله في غير
المعنى الموضوع له ، ولكن المحققين من أصحابنا أثبتوا أنّه بعد التخصيص أيضا حقيقة
مطلقا ، سواء كان المخصّص متصلا أم منفصلا ، بتصوير أنّ للمتكلّم إرادتين : إرادة
استعماليّة ، وارادة جديّة ، والعام مطلقا مستعمل بالإرادة الاستعماليّة في المعنى
الموضوع له ، والتخصيص إنّما يتوجّه إلى الإرادة الجدّية ، فهو يستعمل العامّ في
المعنى الموضوع ، ثمّ يشير بدليل آخر إلى أنّ قسما منه ليس بمراد جدّا ، ولا يلزم
لاستعمال العام من بدء الأمر في الخصوص.
ويترتّب على ذلك
ثمرة أصوليّة وهي صحّة التمسك بالعام عند الشك في وجود تخصيص زائد ، لأنّ العام
حسب الفرض ، استعمل في العموم بالإرادة الاستعماليّة ، وانعقد ظهوره فيه ، وهو
حجّة فيه ، ولا يصحّ رفع اليد عنه إلّا بمقدار ما قام الدليل على خلافه ، والمفروض
عدم قيامه إلّا في مورد واحد.
__________________
٥. دلالة المطلق
على الشيوع عقليّة :
عرّف الأصوليّون
القدماء المطلق بأنّه ما دلّ على معنى شائع في جنسه ، وظاهر ذلك أنّ دلالة المطلق
على الفرد الشائع دلالة لفظيّة ، وليست كذلك ، لأنّ البيع ـ مثلا ـ في قوله سبحانه
: (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) موضوع للطبيعة المعرّاة عن كلّ قيد ، وليس فيه ما يدلّ على
الشيوع ولا على فرد منها ، بل مدلولها نفس الطبيعة. هذا من جانب ، ومن جانب آخر :
أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام مطلوبه ومراده ، فلو كان متعلّق التحليل بيع خاص
لبيّنه.
فانضمام هذين
الأمرين ، يثبت أنّ الامتثال يحصل بإتيان أيّ فرد من أفراد الطبيعة ، لأنّها توجد
بفرد ما ، فالشيوع بمعنى كفاية إتيان كلّ فرد في مقام الامتثال حكم عقلي لا لفظي.
٦. التمسك بالعام
في الشبهة المصداقية :
كان الرائج بين
قدماء الأصوليين ، جواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصّص ، مثلا إذا قال
: أكرم العلماء ، ثمّ قال : لا تكرم العالم الفاسق ، وثبت أنّ زيدا عالم ، ولم
يثبت أنّه غير فاسق ، فالرائج عنه هو التمسك بالعام وإثبات وجوب إكرامه.
والشاهد على ذلك
افتاؤهم فما لو تلف مال الغير عند شخص ، وشكّ في أنّ يده كانت يدا أمانية أو غيرها
، فيحكم عليه بالضمان ، تمسكا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي.
مع أنّه من قبيل
التمسك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، لخروج اليد الأمانية عنه ، حيث إنّ الأمين
لا يضمن ما لم يكن هناك تفريط ، فالأمر دائر في بقاء زيد تحت العام إذا كانت يد
غير أمانية ، وخروجها عنه ودخولها تحت المخصّص إذا كانت أمانية. ومع دوران الأمر
بين الأمرين فكيف يصحّ التمسك بالعام ، وعلى ضوء ذلك ذهب أصحابنا إلى عدم صحّة التمسك
بالعام إلّا إذا ثبت بنحو من الأنحاء عدم عنوان المخصّص ، والتفصيل في محلّه.
وللمسألة دور كبير في الفقه ، يقف عليه من كان ممارسا للفقه.
٧. الإطلاق فرع
كون المتكلّم في مقام البيان :
إذا وقع لفظ كلّي
تحت دائرة الحكم ـ كما إذا قال : أعتق رقبة ـ يحكم الفقهاء بأنّ الموضوع مطلق ،
فلا فرق في مقام الامتثال بين كونها مؤمنة أو كافرة. فجعلوا دلالة المطلق على
الاجتزاء بكلّ فرد منه ، دلالة عقليّة بمعنى : أنّ الموضوع عند المشرّع هو ذات
المطلق ، فلو كان الموضوع مركبا من شيئين : المطلق وقيده ، لزم أن يركّز عليه
المشرّع ، فسكوته دليل على عدم مدخليته.
لكن الركن الركين
في جواز التمسّك بالمطلق ـ عند الإماميّة ـ كون المتكلّم في مقام بيان للموضوع من
جزء أو شرط ، ولو لا إحرازه لم يتمّ التمسّك بالمطلق.
وعلى هذا فلو قال
: الغنم حلال ، لا يصحّ التمسك بإطلاقه لإثبات حليّة مطلق الغنم (مملوكة ومغصوبة ،
الجلّال وغيره ،) بحجّة أنّ المتكلّم اتّخذ الغنم موضوعا لحكمه وهو صادق على
القسمين ، وذلك لأنّ المتكلّم بصدد
بيان حكم الغنم
بما هو هو ، لا بما إذا اقترن مع العوارض.
نرى أنّ بعض
الفقهاء أفتوا بجواز أكل ما أمسكته كلاب الصيد دون وجوب أن يغسل مواضع عضّها ،
تمسّكا بقوله سبحانه : (فَكُلُوا مِمَّا
أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) ولم يقل : فكلوا بعد غسل مواضع العض.
ولكن التمسّك
بإطلاق الآية غفلة عن الشرط اللازم للمطلق ، أعني : كون المتكلّم في مقام البيان ،
فليست الآية إلّا بصدد بيان حلّية ما اصطادته الجوارح ، وأنّه ليس من مقولة الميتة
، وأمّا أنّه يؤكل بغير غسل ، أو معه ، فليست الآية في مقام بيانه حتّى يستدلّ
سكوته على عدم شرطيّته.
وبالتدبّر في هذا
الأصل يظهر بطلان كثير من التمسّكات بالإطلاق في كثير من أبواب الفقه ، وهو غير
صالح للتمسّك.
٨. الملازمات
العقلية :
لقد طال البحث في
دلالة الأمر على وجوب المقدّمة ، والنهي على حرمة مقدّمته ، وحاول كثير من
الأصوليين إثبات الدلالة اللفظية بنحو من الأنحاء الثلاثة.
ولكن الإماميّة
طرقوا بابا آخر في ذلك المجال ، وانتهوا إلى نفس النتيجة ، لكن من طريق أوضح ، وهو
: وجود الملازمة العقلية بين إرادة الشيء وإرادة مقدّمته ، من غير فرق بين الإرادة
التكوينية والإرادة التشريعية ، فكما أنّ إرادة
__________________
الصعود إلى السطح
لا تفارق إرادة تهيئة السلّم واستخدامه ، فهكذا الإرادة التشريعيّة بمعنى تعلّق
إرادته بصعود الغير إلى السطح.
وقد استفاد
الأصوليّون من هذه القاعدة ـ الملازمة العقلية ـ في غير واحد من أبواب أصول الفقه
، كالملازمة بين الأمر بالشيء وإجزائه عن الإتيان به ثانيا ، والنهي عن العبادات
وفسادها ، والنهي عن المعاملات وفسادها عند تعلّق النهي بما لا يجتمع مع صحتها ،
كالنهي عن أكل ثمنها ، كما إذا قال : ثمن الميتة سحت ، أو ثمن المغنّية سحت.
٩. التعارض
والتزاحم والفرق بينهما :
إنّ التنافي بين
الدليلين إذا كان راجعا إلى مقام الجعل والإنشاء بأن يستحيل من المقنّن الحكيم ،
صدور حكمين حقيقيين لغاية الامتثال فهو المسمّى بالتعارض ، مثلا يستحيل جعل حكمين
باسم : «ثمن العذرة سحت ، ولا بأس ببيع العذرة» ، فلو كان تنافي الخبرين من تلك
المقولة ، فهذا ما يبحث عنه في باب التعادل والترجيح ، ويرجّح أحد الخبرين على
الآخر بمرجّحات منصوصة أو مستنبطة.
وأمّا إذا كان
التنافي راجعا إلى مقام الامتثال دون مقام الجعل والإنشاء ، وهذا كما إذا ابتلي
الإنسان بغريقين ، فالتنافي في المقام يرجع إلى عجز المكلّف عن الجمع بينهما ،
لأنّ صرف القدرة في أحدهما يمنع المكلّف عن صرفها في الآخر ، فهذا ما يعبّر عنه
بالتزاحم. وإلّا فلا تنافي في مقام التشريع بأن يجب إنقاذ كلّ غريق فضلا عن
غريقين.
وبذلك ظهر الفرق
بين التعارض والتزاحم بوجه آخر ، وهو أنّ ملاك التشريع والمصلحة موجود في أحد
المتعارضين دون الآخر ، بخلاف المتزاحمين فالملاك موجود في كل من الطرفين كإنقاذ
كلّ من الغريقين ، ولكن المانع هو عجز المكلّف ، وعند ذلك يجب رفع التزاحم
بالتخيير إذا كانا متساويين ، أو بالترجيح كما إذا كان أحدهما أهمّ من الآخر.
وبذلك يستطيع
الفقيه رفع التنافي بين كثير من الأدلّة التي يظهر فيها التنافي لعجز قدرة المكلّف
، مع كون الحكمين ذا ملاك. ورفع التنافي رهن إعمال مرجّحات خاصة بباب التزاحم ،
وها نحن نذكر رءوسها دون تفصيل :
١. تقديم ما لا
بدل له على ما له بدل.
٢. تقديم المضيّق
على الموسّع.
٣. تقديم الأهمّ
بالذات على المهمّ.
٤. سبق أحد
الحكمين زمانا.
٥. تقديم الواجب
المطلق على المشروط.
والتفصيل موكول
إلى محله.
ولنمثل لإعمال
الترجيح مثالا يوضح المقصود :
قد أصبح تشريح بدن
الإنسان في المختبرات من الضروريات الحيويّة ، التي يتوقّف عليها نظام الطب الحديث
، فلا يتسنّى تعلم الطب إلّا بالتشريح والاطّلاع على خفايا أجهزة الجسم وأمراضها.
غير أنّ هذه
المصلحة تصادمها ، مصلحة احترام المؤمن حيّه وميّته ،
إلى حدّ أوجب
الشارع ، الإسراع في تغسيله وتكفينه وتجهيزه للدفن ، ولا يجوز نبش قبره إذا دفن ،
ولا يجوز التمثيل به وتقطيع أعضائه ، بل هو من المحرّمات الكبيرة ، والذي لم
يجوّزه الشارع حتى بالنسبة إلى الكلب العقور ، غير أنّ عناية الشارع بالصحّة
العامّة وتقدّم العلوم ، جعلته يسوّغ ممارسة هذا العمل لتلك الغاية ، مقدّما بدن
الكافر على المسلم ، والمسلم غير المعروف على المعروف منه ، وهكذا ....
١٠. تقسيم حالات
المكلّف إلى أقسام :
إنّ تقسيم حالات
المكلّف إلى أقسام ثلاثة ـ أعني : كونه قاطعا بالحكم ، أو ظانّا ، أو شاكّا فيه ـ تقسيم
طبيعي في مورد الحكم الشرعي ، بل بالنسبة إلى كلّ شيء يفكر الإنسان فيه ويلتفت
إليه ، فهو بين قاطع وظان وشاك.
لا شكّ أنّ القاطع
يعمل بقطعه ، ولا يمكن نهيه عن العمل بالقطع ، لأنّه يرى نفسه مصيبا للواقع ، إنّما
الكلام في الشقين الأخيرين ، فالإماميّة لا يعتقدون بحجّية الظنون في مورد استنباط
الأحكام إلّا ما قام الدليل القطعي على حجّيته ، ويستدلّون على ذلك بأنّ الشكّ في
حجّية الظنّ يوجب القطع بعدم الحجّية ، ولعلّ بعض الناس يتلقاه لغزا ، إذ كيف
يتولّد من الظنّ بالحجّية ، القطع بعدمها ، ولكنّه تظهر صحته بأدنى تأمّل ، وذلك
لأنّ المراد من الظنّ هو الظنّ بالحكم الشرعي ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ،
العمل به مع التردد في الحجّية مصداق للبدعة ، والبدعة حرام قطعي لا مزية فيه.
وبعبارة أخرى :
إذا كانت البدعة عبارة عن إدخال ما لم يعلم كونه
من الدين في الدين
، فإذا عمل المكلّف بالظنّ ، مع الشك في حجّيته وإذن الشارع بالعمل به ، فقد أدخل
بعمله هذا ، ما لم يعلم كونه من الدين في الدين ، فإذا قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وهو غير عالم بأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال ، فقد نسب إليه حكما ما لم يعلم كونه منه ، ولذلك
أصبحت الضابطة الأولى عند الإماميّة حرمة العمل بالظنّ إلّا ما قام الدليل القطعي
على حجّته ، كخبر الثقة الضابط ، والبيّنة ، وقول أهل الخبرة ، إلى غير ذلك من
الظنون التي ثبتت حجّيتها من جانب الشرع.
وأمّا حكم الشاك
فهذا هو بيت القصيد في المقام. أقول : الشكّ على أقسام أربعة :
ألف. الشكّ في شيء
له حالة سابقة :
إذا شككنا في بقاء
حكم أو بقاء موضوع كنّا جازمين به سابقا ، وإنّما نشك في بقائه ، فهنا يؤخذ
بالحالة السابقة ، ويسمّى باصطلاح الأصوليين بالاستصحاب عملا بالسنّة : «لا تنقض
اليقين بالشك».
ب. الشكّ في أصل
تشريع الحكم :
إذا شككنا في حرمة
شيء أو وجوبه وليس له حالة سابقة ، كالشك في حرمة التدخين أو وجوب الدعاء عند رؤية
الهلال ، وأمثال ذلك ، فالمرجع هنا هو البراءة ، لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان
، ويعضده ما ورد في الشرع من قوله سبحانه : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) وبعث الرسول كناية عن بيان
__________________
الوظائف في
العقائد والأحكام ، وقول النبيّ الأكرم : «رفع عن أمّتي تسعة : ما لا يعلمون ...».
وهذا (الشكّ في
أصل الحكم) يسمّى في مصطلح الأصوليّين بالشبهة البدويّة.
ج. إذا كان عالما
بالحكم وجاهلا بالمكلّف به :
إذا كان المكلّف
عالما بالحكم الشرعي وجاهلا بالمكلّف به ، كما إذا علم بوجوب صلاة الظهر ولم يعرف
القبلة ، فيحكم العقل بالاشتغال ولزوم تحصيل البراءة اليقينية وهو الصلاة إلى أربع
جوانب ليعلم أنّه صلّى إلى القبلة.
من غير فرق بين
كون الجهل متعلّقا بالموضوعات الخارجية كالمثال المذكور ، أو بمتعلّقات الأحكام ،
كما إذا علم بأنّه فات منه صلاة واحدة مردّدة بين المغرب والعشاء ، فالعقل يحكم
بوجوب الجمع بينهما ، لأنّ الاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية ، وعلى هذا
الأصل فرّعوا فروعا كثيرة.
د. تلك الصورة
ولكن لم يكن الاحتياط ممكنا :
كما إذا دار أمر
الشيء بين كونه واجبا أو حراما ، فالمرجع هاهنا هو التخيير.
وبذلك ظهر أنّ
علاج الشكّ في الموضوع ، أو الحكم الشرعيين ، يتحقّق بإعمال القواعد الأربع حسب
مظانّها وهي :
أ. الاستصحاب ،
عند ما كانت هناك حالة سابقة.
ب. البراءة ، إذا
كان الشكّ في الحكم الشرعي ، ولم يكن هناك حالة سابقة بالنسبة إليه.
ج. قاعدة الاشتغال
، عند الشكّ في المكلّف به مع إمكان الاحتياط.
د. التخيير ، فيما
إذا لم يمكن الاحتياط.
إنّ بعض هذه
القواعد وإن كان يتواجد في أصول الآخرين ، ولكن بيان أحكام القاطع والظان والشاك
بهذا المنوال من خصائص أصول الإماميّة.
١١. أدلّة
اجتهاديّة وأصول عمليّة :
إنّ تقسيم ما
يحتجّ به المستنبط إلى دليل اجتهادي ، وأصل عملي من خصائص أصول الفقه عند الإماميّة
، لأنّ ما يحتجّ به المجتهد ينقسم إلى قسمين :
أ. ما جعل حجّة
لأجل كون الدليل بطبعه طريقا ومرآة إلى الواقع ، وإن لم يكن طريقا قطعيا بشكل كامل
، وهذا كالعمل بقول الثقة والبيّنة وأهل الخبرة وغير ذلك ، فإنّها حجج شرعية لأجل
كونها مرايا للواقع وتسمّى بالأدلّة الاجتهاديّة.
وهذا بخلاف الأصول
العمليّة كالاستصحاب ، والبراءة ، والتخيير ، والاشتغال ، فالمجتهد وإن كان يحتجّ
بها ، ولكن لا بما أنّها طرق إلى الواقع ومرايا له ، وإنّما يحتجّ بها لأجل
الضرورة ورفع الحيرة ، حيث انتهى المستنبط إلى طريق مسدود.
ويترتّب على ذلك
تقدم الدليل الاجتهادي على الأصل العملي ، فلا
يحتجّ بأصل
البراءة مع وجود الدليل كقول الثقة على وجوب الشيء أو حرمته ، ولا بالاستصحاب إذا
كان هناك دليل اجتهادي كالبيّنة على ارتفاع المستصحب.
وبذلك يظهر الخلط
بين كلمات الفقهاء ، فلم يميّزوا بين الأدلّة الاجتهاديّة والأصول العمليّة ،
فربّما جعلوا الأصل معارضا للدليل الاجتهادي.
١٢. تقديم أحد
الدليلين على الآخر بملاكات :
لا شكّ أنّ بعض
الأدلّة يتقدّم على الآخر ، ولكن المذكور في كلمات الأصوليين ملاك واحد ، وهو أنّ
المخصّص يتقدّم على العام ، وربّما يضاف إليه تقدّم الناسخ على المنسوخ ، وهذا
ممّا لا ريب فيه ، ولكن هناك موجبات أخرى توجب تقدّم أحد الدليلين الاجتهاديين على
الآخر ، وهي عبارة عن العنوانين التاليين :
أ. كون الدليل
حاكما على دليل آخر.
ب. كونه واردا على
الآخر.
أمّا «الحاكم» فهو
عبارة عن : أن يكون لسان أحد الدليلين بالنسبة إلى الدليل الآخر لسان التفسير ،
فيقدّم المفسّر على المفسّر ، مثلا : قال سبحانه : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) ، فالآية صريحة في الطهارة المائية ، وأنّ شرط صحّة الصلاة
هو تحصيل الطهارة المائيّة قبلها.
__________________
وإذا قيس قوله : «التراب
أحد الطهورين يكفيك عشر سنين» إلى الآية ، يأخذ لنفسه طابع التفسير ويوسّع الشرط
اللازم تحصيله قبل الصلاة ، فتكون النتيجة شرطيّة مطلق الطهارة : المائيّة
والترابيّة ، غاية الأمر أنّ الاجتزاء بالثانية رهن فقدان الأولى.
ونظير ذلك قوله : «الطواف
بالبيت صلاة» فيستدلّ به على وجوب تحصيل الطهارة قبل الطواف ، وذلك لأنّ الدليل
الثاني يجعل الطواف من مصاديق الصلاة ادّعاء وتشريعا ، فيكون الطواف محكوما
بالصلاة من أحكام.
وأمّا «الوارد»
فهو أن يكون أحد الدليلين مزيلا ورافعا لموضوع الدليل الآخر ، وهذا نظير قول الثقة
بالنسبة إلى أصل البراءة العقلية ، فإنّ موضوع البراءة هو قبح العقاب بلا بيان ،
أي بلا بيان من الشارع ، فإذا أخبر الشارع بحجّية قول الثقة ، فيكون قوله في مورد
الشك بيانا من الشارع ، فيكون رافعا له.
١٣. الأقل والأكثر
والشكّ في المحصّل :
إذا تعلّق الحكم
الشرعي بمركّب ذي أجزاء ، وشككنا في قلّة أجزائه وكثرته ، كما إذا شككنا في أنّ
الجلسة بعد السجدتين واجبة أو مستحبّة ، فالمرجع هو البراءة عن وجوبها ، لأنّ
الأجزاء الباقية معلومة الوجوب ، وهذا الجزء مشكوك وجوبه ، فيرجع فيه إلى أصل
البراءة ، أخذا بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي ما لا يعلمون» حيث إنّ وجوب هذا الجزء
ممّا لا يعلم.
وهذا ما يعبّر عنه
في مصطلح الأصوليّين من الإماميّة «بالأقلّ والأكثر الارتباطيين».
ولكنّهم استثنوا
صورة أخرى ، ربّما تسمّى بالشكّ في المحصّل تارة ، والشكّ بالسقوط ثانيا ، ومورده
ما إذا كان المكلّف به أمرا بسيطا لا كثرة فيه ، ولكن محقّقه ومحصّله في الخارج
كان كثيرا ذا أجزاء ، فشككنا في جزئيّة شيء لمحصّله وعدمه.
مثلا لو قلنا بأنّ
الطهور في قوله : «لا صلاة إلّا بطهور» اسم للطهارة النفسانية الحاصلة للنفس
الإنسانية ، لا للغسلات والمسحات ، ولكن نشكّ في جزئيّة شيء كالمضمضة والاستنشاق
وعدمه للمحصّل ، فيحكم هنا بالاشتغال ولزوم ضمّ الاستنشاق أو المضمضة إلى الوضوء.
وذلك لأنّ المحصّل
وإن كان مركّبا ذا أجزاء منحلا إلى ما علم وجوبه كالغسلات والمسحات ، وإلى ما شكّ
في وجوبه ، كالمضمضة والاستنشاق ، وهو في حدّ نفسه قابل لإجراء البراءة عن وجوده.
ولكن بما أنّ
تعلّق الوجوب بالطهور بمعنى الطهارة النفسانيّة وهو أمر بسيط لا يتجزأ ولا يتكثّر
، فلا تقع مجرى للبراءة ، بل العقل يبعث المكلّف إلى تحصيلها بالقطع والجزم ، لأنّ
الاشتغال اليقيني بهذا الأمر البسيط ، يقتضي البراءة اليقينيّة ، ولا تحصل البراءة
القطعيّة إلّا بضمّ الاستنشاق والمضمضة إلى سائر الواجبات والإتيان بهما رجاء
واحتمالا.
١٤. تقدّم الأصل
السببي على المسببي :
كثيرا ما يتصوّر
أنّ أحد الأصلين معارض للأصل الآخر ، وهذا صحيح إذا كان الأصلان في درجة ورتبة
واحدة ، وأمّا إذا كان أحد الأصلين متقدّما رتبة
على الآخر ، وكان
الأخذ بأحدهما رافعا للشكّ في الجانب الآخر ، فيؤخذ بالمتقدّم ويطرح الآخر ، وملاك
التقدّم هو كون الشكّ في أحد الأصلين ناشئا عن الشكّ في الأصل الآخر ، فإذا عملنا
بالأصل في جانب السبب ، يرتفع الشك عن الجانب المسبّب حقيقة ، ولنذكر مثالا :
إذا كان هناك ماء
طاهر ، شككنا في طروء النجاسة عليه ، ثمّ غسلنا به الثوب النجس قطعا ، فربّما
يتصوّر تعارض الأصلين ، فإنّ مقتضى استصحاب طهارة الماء ، هو كون الثوب المغسول به
طاهرا ، ومقتضى استصحاب نجاسة الثوب كون الماء نجسا ، فيقال : تعارض الاستصحابين.
ولكن الأصولي
الإمامي يقدّم استصحاب طهارة الماء على استصحاب نجاسة الثوب ، وذلك لأنّ الشكّ في
بقاء نجاسة الثوب بعد الغسل بالماء ، نابع عن كون الماء طاهرا وعدمه ، فإذا قلنا
بحكم الشارع : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بأنّ الماء طاهر ، يزول الشك في جانب
الثاني ، ويحكم عليه بالطهارة ، وذلك لأنّ كلّ نجس ، غسل بماء محكوم بالطهارة فهو
طاهر.
ومن هنا ينفتح
أمام الفقيه باب واسع لرفع التعارض بين الأصول العمليّة.
١٥. ما يصحّ أخذه
في المتعلّق وما لا يصحّ :
ومن ابتكاراتهم
تقسيم القيود إلى قسمين :
قسم يتعلّق به
الطلب ويقع تحت دائرته ، كالطهارة ، فيقال : صلّ مع الطهارة ، أو صلّ إلى القبلة ،
إلى غير ذلك من القيود المأخوذة في جانب المتعلّق.
وهناك قيود لا
يتعلّق بها الطلب ، ولا يتحقّق إلّا بعد تعلّق الطلب بالمتعلّق ، ومثلها ـ ما
يتولّد يعد تعلّق الطلب ـ لا يقع متعلّقا له ، كقصد الأمر ، وقصد الوجه (الوجوب أو
الندب) ، فإنّ هذه القيود ، قيود فوق دائرة الطلب وإنّما تتولّد بعده.
ويترتّب على ذلك
أنّه لو شكّ في أنّ واجبا كذا تعبديّ أو توصليّ ، لا يمكن الحكم بأنّه توصليّ
بحجّة أنّ قصد الأمر لم يقع في متعلّق الأمر ، لأنّ المفروض أنّ قصد الأمر على فرض
وجوبه لا يمكن أخذه في متعلّق الطلب ، فعدم أخذه فيه لا يكون دليلا على عدم أخذه
قيدا للمتعلّق.
وهذا التقسيم وإن
وقع موقفا للنقاش ولكنّه لا يخلو عن فائدة.
١٦. استصحاب
الزمان والزمانيات :
لما كان الاستصحاب
عند الإماميّة أصلا من الأصول ، ودلّ على حجّيته الأحاديث الصحيحة ، ذكروا حوله
بحوثا علميّة جليلة منها التقسيم التالي :
١. استصحاب الزمان
: ما إذا كان الزمان معنونا بعنوان وجودي ككونه ليلا أو نهارا.
٢. استصحاب الأمر
غير القارّ بالذات : وهذا كالحركة ، وجريان الماء ، وسيلان الدم ، وبقاء التكلّم ،
والمشي ، إذا شكّ في بقائها ، فإنّ ذات الأفعال في هذه المسألة أمور متدرّجة
بالذات ، متقضية بالطبع.
٣. استصحاب الأمر
القارّ بالذات المقيّد بالزمان : وهذا كالجلوس في المسجد إلى الظهر.
والغاية من هذا
التقسيم هو أنّ روح الاستصحاب هو إبقاء ما كان ، وهذا لا يتصوّر إلّا في القسم
الثابت ، مع أنّ المستصحب في كلّ من الأقسام الثلاثة غير ثابت.
أمّا الليل
والنهار فهي أمور زمانيّة ، والزمان لا يتصوّر فيه البقاء ، وأمّا الأمور
الوجوديّة المزيجة بالزمان كالحركة ، وجريان الماء ، فهي أيضا كالأمور الزمانية (الليل
والنهار) لأنّ المفروض أنّ الحركة أمر غير قارّ بالذات.
ومنه يظهر حال
القسم الثالث ، فإنّ الجلوس وإن كان قارّا بالذات ، لكن تقيده بالزمان يجعله مثله.
ومع هذا فقد ذكر
المحقّقون وجوها لجريان الاستصحاب فيها ، بتصوير أنّ بقاء كلّ شيء بحسبه ، وأنّ
للزمان والزمانيّات والأمور المقيّدة بالزمان بقاء وثباتا عرفيّة مشروحة في
محلّها.
١٧. تقسيم
المستصحب إلى جزئيّ وكليّ :
قسّم المستصحب إلى
كونه جزئيّا وكليّا. فلو علمنا بوجود زيد في الغرفة ، وشككنا في خروجه ، فيصحّ لنا
استصحاب وجوده الجزئي ، كما يصحّ لنا استصحاب وجود الإنسان ، لأنّ في العلم بوجود
زيد في الغرفة ، علما بوجود الإنسان فيه.
وعلى ذلك تترتّب
آثار في الفقه.
١٨. تقسيم
الاستصحاب إلى تنجيزيّ وتعليقيّ :
إذا كان الحكم
الشرعي محمولا على الموضوع بلا قيد ولا شرط ، فالحكم تنجيزيّ وإلّا فتعليقيّ ،
سواء عبّر عنه بالجملة الخبريّة التي قصد منها الإنشاء في نحو قولك : العصير
العنبي حرام إذا غلى ، أو بالجملة الإنشائيّة نحو قولك : اجتنب من العصير العنبي
إذا غلى.
وعندئذ يقسم
الاستصحاب حسب انقسام القضية ، إلى استصحاب تنجيزي واستصحاب تعليقي وقد وقع الكلام
في جواز التنجيزي وعدمه.
١٩. الأصول
المثبتة :
إنّ القدماء لمّا
قالوا بحجّية الاستصحاب من باب الظنّ والأمارة ، رتّبوا عليه الآثار العقليّة ،
وأمّا المتأخّرون من أصحابنا الإماميّة فلمّا قالوا بحجّية الاستصحاب بما أنّه أصل
لا أمارة ، والأصل لا يثبت به إلّا الحكم الشرعي دون الآثار العقليّة نفوا حجية
الأصل المثبت ، ونوضح ذلك بالمثال التالي :
إذا شككنا في حياة
زيد فمقتضى قوله : لا تنقض اليقين بالشك هو ترتيب الآثار الشرعيّة للحياة
الواقعيّة ، على الحياة التعبديّة الثابتة بالأصل ، فهو ـ بفضل الاستصحاب ـ مالك
لماله ، لا يقسّم باحتماله موته.
وأمّا الآثار
العقليّة للحياة ، كجريان الدم في عروقه ، فلا يثبت باستصحاب الحياة ، وإن كان من
لوازمها. وعلى ضوء ذلك لو ترتّب على جريان الدم
أثر شرعيّ ـ كإعطاء
الصدقة ـ للفقير ، فلا يثبت ولا يحكم به ، وذلك لتوسط الأمر العقلي (جريان الدم)
بين المستصحب (الحياة) ، والأثر الشرعي : (وجوب الصدقة) فالحياة ، تلازم جريان
الدم ، وهو موضوع لوجوب التصدّق.
وإيضاحا للحال
نأتي بمثالين :
١. إذا مات الوالد
في زوال يوم الجمعة ، وعلمنا بموت الولد أيضا ، لكن تردّد موته بين كونه قبل
الزوال أو بعده ، فموت الوالد لأجل كونه معلوم التاريخ غير مشكوك لا من جهة أصل
وجوده ولا زمانه ، فلا يجري فيه الأصل ، بخلاف موت الولد ، فإنّه يجري فيه الأصل ،
فيقال : الأصل بقاء حياة الولد إلى زوال يوم الجمعة.
فلو كان الأثر (الإرث)
مترتّبا على حياة الولد حين موت الوالد فيرثه الولد ، وأمّا لو قلنا بترتّبه على
تأخّر موته عن حياة الأب ، فلا يرث ، لأنّ عنوان التأخّر لازم عقليّ للمستصحب ،
حيث إنّ لازم بقاء حياة الولد ، إلى زمان موت الوالد مع العلم بموته أيضا ، هو
تأخّر موته عن موت الوالد.
٢. إذا علمنا
بإصابة البول بالماء القليل زوال يوم الجمعة ، ثمّ علمنا بأنّه صار كرّا إمّا قبل
الزوال أو بعده ، فالأصل لا يجري في معلوم التاريخ ، لعدم الشكّ فيه ، وإنّما يجري
في مجهوله فيقال : أصالة عدم صيرورته كرّا إلى زوال يوم الجمعة ، فلو كانت النجاسة
مترتّبا على الماء غير الكرّ ، فيحكم عليه بالنجاسة.
وأمّا لو كان
مترتّبا على تأخّر الكريّة عن إصابة البول ، فلا يحكم عليه بها ، لأنّ تأخّر
الكريّة عنها لازم عقليّ ، لعدم صيرورته كرّا إلى زوال يوم الجمعة مع العلم بحدوث
الكرّية أيضا.
٢٠. في استصحاب
حكم المخصص :
إذا ورد التخصيص
على عموم ، وعلم خروج فرد من تحته في فترة من الزمان ، ولكن شكّ في أنّ خروجه
يختصّ بها أو يعمّ ما بعدها ، كما في قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، وقد خرج منه العقد الغبني ، فالمغبون ذو خيار بين
الإمضاء والفسخ ، فشككنا في أنّ الخيار فوريّ أو ثابت إلى زمان لا يتضرّر البائع
من تزلزل العقد.
فحينئذ يقع البحث
هل المرجع بعد انقضاء الفور هو عموم العام ، أعني (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) فيكون العقد لازما.
أو المرجع استصحاب
حكم المخصّص أعني كونه جائزا ، وهناك تفصيل وتحقيق لا يسع المقام له.
هذه نماذج ممّا
ابتكره فحول الأصوليين عبر القرنين ، وهناك مسائل أخرى لا تنقص أهمّيتها ممّا
ذكرنا ، خصوصا بحوثهم حول العلم الإجمالي.
إنّ لأصحابنا حول
العلم الإجمال بحوثا ابتكاريّة نظير :
١. أنّ متعلّق
العلم الإجمالي تارة يكون محصورا ، وأخرى غير محصور.
٢. العلم الإجمالي
في المحصور ، منجّز للتكليف.
٣. هل هو منجّز
على وجه العلة التامة ، بحيث لا يجوز الترخيص في أطرافه ، أو منجّز على الوجه
المقتضي ، فيجوز الترخيص في بعض أطرافه.
__________________
٤. هل خروج أحد
الأطراف ، قبل تعلّق العلم الإجمالي أو مطلقا ، مانع عن تنجيزه أو لا ، أو فيه
تفصيل.
٥. هل طروء
الاضطرار على بعض الأطراف قبل تعلّق العلم الإجمالي ، مانع عن التنجيز أو لا.
٦. هل ملاقي بعض
أطراف الشبهة ، محكوم بنفس حكم الملاقى أو لا ، أو فيه تفصيل.
إلى غير ذلك من
مباحث لم يسبق إليها سابق.
رحم الله الماضين
من علمائنا
وحفظ الله الباقين
منهم
العلامة الحليّ
و
موسوعته الأصوليّة
إن من شروط
التعريف أن يكون المعرّف أجلى من المعرّف ، وهذا الشرط يقتضي إيقاف القلم عن
الإفاضة وعدم النبس ببنت شفة حول المؤلّف ، إذ أين الثرى من الثريا ، والندى من
البحر؟!
ولكن لو سمح
المؤلّف لأمثالنا أن نتجاوز هذا الشرط ، فنقول : إنّ المؤلّف من النوابغ القلائل
الذين يضن بهم الدهر إلّا في فترات متقطعة ، فهو من أعاظم فقهاء الإسلام وأكابر
المحقّقين في الفقه وأصوله ، وقد صرف برهة من عمره في تحقيق مسائلهما وحلّ
مشاكلهما ، فاستبطن دقائقهما وأحصى مسائلهما ، وأحاط بآراء أساتذتهما ، فعاد فقيها
مقداما وأصوليا محقّقا لا يباريه ولا يناضله إلّا القلائل.
التعريف بالمؤلّف
هو الحسن بن يوسف
بن المطهّر الحلّي (٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه) المعروف بالعلّامة على الإطلاق ، من أسرة عربية
عريقة من بني أسد ، ولد في الحلّة الفيحاء مهد الحضارات في تاريخ الإنسانية ،
وتربّى في أحضان رجال كبار ، كان
لكلّ منهم سهم في
تكوين شخصيّته وبروز مواهبه إلى عالم الوجود ، نشير إلى ثلّة منهم :
١. والده العلّامة
الفقيه الكبير الشيخ سديد الدين يوسف بن المطهّر الحلّي ، الّذي وصفه ابن داود في
رجاله بأنّه كان فقيها ، محقّقا ، عظيم الشأن.
٢. خاله نجم الدين
جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الهذلي (٦٠٢ ـ ٦٧٦ ه) صاحب الشرائع ، المعروف
بالمحقّق الحلّي ، الّذي اعترف القريب والبعيد بتبحّره بالفقه.
٣. الخواجه نصير
الدين محمد بن الحسن الطوسي (٥٩٧ ـ ٦٧٢ ه) الفيلسوف الكبير الطائر الصيت ، فقد
قرأ عليه الكلام والفلسفة والهيئة والرياضيات. إلى غير ذلك من المشايخ العظام
الذين أخذ عنهم بقسط وافر.
الثناء في حقّه
وقد أثنى عليه
علماء الفريقين على وجه لا يسعنا الإشارة إلّا إلى القليل من ذلك :
١. عرّفه معاصره
ابن داود الحلّي بقوله : شيخ الطائفة ، وعلّامة وقته ، وصاحب التحقيق والتدقيق ،
كثير التصانيف ، انتهت رئاسة الإماميّة إليه في المعقول والمنقول.
٢. وقال الصفدي :
الإمام العلّامة ذو الفنون ، عالم الشيعة وفقيههم ، صاحب التصانيف الّتي اشتهرت في
حياته .. وكان يصنّف وهو راكب .. وكان ريّض
__________________
الأخلاق ، مشتهر
الذكر ... وكان إماما في الكلام والمعقولات.
٣. وقال ابن حجر :
عالم الشيعة وإمامهم ومصنّفهم ، وكان آية في الذكاء ... وكان مشتهر الذكر ، حسن
الأخلاق.
إلى غير ذلك من
الكلمات الضافية الّتي ذكرها أصحاب المعاجم في حقه.
وكفاك أنّه برع
وتقدّم وهو لا يزال في مقتبل عمره على العلماء الفحول ، وفرغ من تصنيفاته الحكمية
والكلامية ، وأخذ في تحرير الفقه قبل أن يكمل له (٢٦) سنة.
ودرّس ، وأفتى ،
وتفرّد بالزعامة ، وأحدثت تصانيفه ومناظراته ضجّة ، كان من آثارها تشيّع السلطان
محمد خدابنده أولجايتو وعدد من الأمراء والعلماء ، وتداول كتبه في المحافل العلمية
تدريسا وشرحا وتعليقا ونقدا ، وازدهار الحركة العلميّة في الحلّة واستقطابها
للعلماء في شتّى النواحي.
ونحن نقتصر بهذا
المقدار في تعريف المؤلّف.
وننتقل إلى
التعريف بالكتاب فنقول :
نهاية الوصول إلى
علم الأصول :
إن العلّامة
الحليّ قد ضرب في علم الأصول بسهم وافر فألّف فيه مختصرات ومتوسطات ومطوّلات ،
فبلغ مجموعها ستّة كتب ، نشير إليها كما يلي :
__________________
١. «غاية الوصول
وإيضاح السبل» في شرح مختصر منتهى الوصول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن
الحاجب (المتوفّى ٦٤٦ ه) ذكره المصنّف في خلاصة الرجال.
٢. «مبادئ الوصول
إلى علم الأصول» ، مطبوع ذكره المصنّف لنفسه في الخلاصة ، وفي إجازته للسيد
المهنّا.
٣. «منتهى الوصول
إلى علمي الكلام والأصول» ذكره المصنّف في الخلاصة ، وفي إجازته للسيد المهنّا ،
فرغ منه يوم الجمعة السادس عشر من شهر جمادى الأولى سنة ٦٨٧ ه.
٤. «نهج الوصول
إلى علم الأصول» ، ذكره المصنّف في الخلاصة ، وإجازته للسيد المهنّا. وأحال في
مبحث الحقيقة الشرعيّة من هذا الكتاب إلى كتاب «نهاية الوصول» ص ٧٦.
٥. «تهذيب الوصول
إلى علم الأصول» مطبوع ، ذكره المصنّف في الخلاصة ، وإجازته للسيد المهنّا ، وله
شروح كثيرة.
٦. آخرها : «نهاية
الوصول إلى علم الأصول». وهذا هو ما يزفّه الطبع إلى القراء الكرام. ذكره المصنّف
في إجازته للسيد المهنّا.
وعرّفه في «الخلاصة»
بقوله : كتاب جامع في أصول الفقه لم يسبقه أحد ، فيه ما ذكره المتقدّمون
والمتأخّرون ألّفه بالتماس ولده فخر الدين.
وقال قدسسره في مقدّمة الكتاب : وقد صنّفنا كتبا متعددة في المختصرات
والمطوّلات ، الجامعة لجميع النكات ، وسأل الولد العزيز : محمد ـ أسعده الله تعالى
في الدارين ، وأيّده بتحصيل الرئاستين ، وتكميل القوّتين ، وجعلني الله فداه من
جميع ما يخشاه ، وحباه بكل ما يرجوه ويتمنّاه ـ إنشاء كتاب جامع
لما ذكره
المتقدّمون حاو لما حصّله المتأخّرون ، مع زيادة نسبية لم يسبقنا إليها الأوّلون.
* * *
ان الكتاب بحق
يعدّ دائرة معارف لعلم الأصول ، قد ألّف في أوائل القرن الثامن ، فقد جمع فيه
أقوال أئمة الأصول من الأشاعرة والمعتزلة والإماميّة وغيرهم ، وناقش الكثير من
الآراء مناقشة وافية ، وربّما تكهن لصاحب الآراء ببعض الأدلة التي لم تخطر بباله.
فالمؤلّف ينقل
آراء المخالفين بصدر رحب كأنّها آراؤه ، ثمّ يأخذ بالمناقشة ، فمن حاول الوقوف على
آراء الأصوليين من لدن عصر الشافعي ، إلى عصر المؤلّف فهذا الكتاب بمفرده كاف بذلك
، مضافا إلى أنّه يحتوي نقودا وآراء لمؤلّف كرس عمره في الفقه وأصوله ، وألّف كتبا
وربّى جيلا كبيرا من العلماء في العراق وخارجه. هذا ، وقد فرغ المؤلّف من تأليفه
سنة ٧٠٤ هو إليك صورة خطّه في آخر الكتاب :
«وكان الفراغ منه
في ثامن شهر رمضان المبارك سنة أربع وسبعمائة. وكتب العبد الفقير إلى الله تعالى
حسن بن يوسف المطهر الحلّي مصنّف هذا الكتاب ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد النبيّ
وآله الطاهرين المعصومين».
وهذا ما جاء في
النسخة المخطوطة الموجودة في مكتبة مدرسة مروي في طهران برقم ٣٦٣ ، وقد فرغ الناسخ
من نسخها في ١٠١٢ ه.
وبما أن هذا
الكتاب يعد موسوعة أصوليّة مهمّة فقد بذل المحقّق جهدا كبيرا في تصحيحه وتقويم
نصّه وإليك منهجه في العمل.
منهج التحقيق
قام المحقّق الشيخ
إبراهيم البهادري ـ حفظه الله ـ بتحقيق هذا الكتاب القيّم ، بمنهجية خاصة ، نشير
إليها بالنقاط التالية :
أ. قام بمقابلة
النسخ بعضها مع بعض ، واتّبع طريقة التلفيق ، فأثبت ما هو الصواب في المتن ، وأشار
أحيانا إلى الاختلافات بين النسخ في الهامش.
ب. قام بتقطيع
النص على مقاطع خاصّة ، ليسهل للقارئ مطالعة الكتاب ، حيث إنّ المؤلّف كسائر
القدامى يسترسلون في الموضوع دون أن يفصّلوا بين مطلب وأخر ، وهذا ربّما يوجب
الغموض في فهم المطلب.
ج. قام بتخريج
الآيات والأحاديث النبوية من مصادرها الأصليّة ، كما أخرج الأمثال والأشعار الّتي
استشهد بها المؤلّف على مرماه ، من الدواوين وكتب الأمثال.
د. لقد أكثر
المصنّف النقل عن المتقدّمين من الأصوليّين والمتأخّرين منهم ، فربّما ذكر اسم
المؤلّف وكتابه ، وربّما نقل بلا إشارة إلى التأليف والمؤلّف ، فبذل محقّقنا ـ الجادّ
في عمله ـ ، جهده للتعريف بمصادر الأقوال وقائليها. وقد أخذ منه ذلك العمل وقتا
كثيرا لا يقوم به إلّا عشاق التحقيق وروّاد العلم.
ه. قد لخّص
المؤلّف أقوال الآخرين وآراءهم وبراهينهم الّتي أقاموها على أفكارهم ، وربّما أوجد
ذلك صعوبة في فهم المراد ، فاستعان المحقّق في إيضاح مرامهم بالرجوع إلى الكتب
الّتي رجع إليها المؤلّف في نقل الأقوال وتلخيصها ، وأوضح ما صعب فهمه في الهامش.
النسخ التي اعتمد
عليها
وقد اعتمد المحقّق
في تحقيق الكتاب على عدّة نسخ نذكر منها ما يلي :
أ. النسخة
الموجودة في مكتبة السيد المرعشي النجفي قدسسره والتي تحمل رقم ١٩٢٧ ، وتاريخ نسخها ١٢٣٥ ه ، وهي مؤلّفة
من ٣٢٣ ورقة ، وقد نسخت على نسخة قديمة كتبت في زمان المصنف قدسسره ، والتي ورد في آخرها : قال المصنّف أدام الله ظله ...
ورمز لها المحقّق بحرف (أ).
ب. النسخة
الموجودة في نفس المكتبة أيضا والتي تحمل الرقم ١٩٠٨ م ، وتاريخ نسخها ١٢٢٧ ه ،
وهي مؤلّفة من ٣٣٦ ورقة.
ورمز لها المحقّق
بحرف (ب).
ج. النسخة
الموجودة في مكتبة مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام والتي عليها تملك جعفر التبريزي السبحاني ، وهي غير مؤرّخة
، وهي نسخة مقروءة وجيدة.
هذا ولم يقتصر
المحقّق (حفظه الله) بالعمل على هذه النسخ ، بل أنّه قد رجع إلى نسخ أخرى حصل
عليها.
إنّ عمليّة تحقيق
المخطوطات ووضعها بيد القرّاء واضحة وجاهزة ومزدانة بتعاليق ، أشبه بتصفية الطين
وتبديله إلى ماء زلال شفاف ، تميل إليه النفس ؛ بل هي أصعب من ذلك.
ولو لا أنّ الله
سبحانه تبارك وتعالى قد أعطى للمحقّقين حبّ
العلم والاستطلاع
على نحو ينسون أنفسهم ولذّاتهم في طريقه ، لما قام هؤلاء بإنجاز هذه الأعمال
الكبيرة.
وقد صدر للمحقّق
الشيخ إبراهيم البهادري لحدّ الآن تحقيق الكتب التالية :
١. الاحتجاج :
لشيخنا أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي في جزءين.
٢. إشارة السبق :
تأليف الشيخ علاء الدين أبي الحسن علي بن أبي الفضل ، المعروف بالحلبي.
٣. إصباح الشيعة :
للفقيه الأقدم قطب الدين البيهقي الكيدري.
٤. تحرير الأحكام
: للعلّامة الحلّي في خمسة أجزاء ، سادسها الفهارس العامّة للكتاب.
٥. جواهر الفقه :
للقاضي ابن البراج.
٦. الرسائل
الاعتقادية : للشيخ الطوسي.
٧. عمدة عيون صحاح
الأخبار في مناقب إمام الأبرار عليّ بن أبي طالب عليهالسلام : لابن البطريق الحلّي في جزءين.
٨. غنية النزوع
إلى علمي الأصول والفروع : لابن زهرة الحلبي في جزءين.
٩. المسائل
الميّافارقيّة : للسيّد الشريف المرتضى.
١٠. معالم الدين
في فقه آل يس : للفقيه البارع شمس الدين محمد بن شجاع القطان الحلّي في جزءين.
مضافا إلى هذا
الكتاب الماثل بين يديك والّذي يزفّه الطبع إلى القرّاء الكرام.
ونحن نشكر الله
سبحانه على هذه الموهبة الّتي أعطاها للشيخ البهادري ، راجيا منه سبحانه أن يوفّقه
لإكمال هذا المشروع ، الّذي سيتمّ إن شاء الله تعالى في أجزاء أربعة ، ويتيح
لمؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام القيام بنشره وجعله في متناول روّاد العلم والفضيلة. إنّه
بذلك قدير وبالإجابة جدير.
|
جعفر السبحاني
قم المشرفة ـ مؤسسة الإمام الصادق عليهالسلام
٧ ربيع الثاني ١٤٢٥ ه
|
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وبه نستعين
الحمد لله المقدّس
بوجوب وجوده عن الأشباه والنظائر والأحزاب ، المنزّه بقدرته عن الأصحاب والأمثال والأتراب ، الّذي عجز عن إدراك
كماله بصائر أولي الألباب ، وحسرات عن الإحاطة لكنه ذاته أبصار أولي النّهى
والصّواب ، ربّ الأرباب ، ومسبّب الأسباب ، ومجيب سؤال الطلّاب ، الحكيم ، الكريم
، الوهّاب ، الغفور ، الودود ، التوّاب ، المتفضّل ، المتعطّف ، الأوّاب ، منه
المبدأ وإليه المآب.
الّذي وعد الثواب
، رافع منازل العلماء على غيرهم بغير شكّ ولا ارتياب ، ومفضّلهم على من عداهم بنصّ
الكتاب ، جاعل قلوبهم أوعية لما يرد عنه من الخطاب ، ومرجّح مدادهم على دماء
الشهداء في ميزان الحساب.
وصلّى الله على
سيّدنا محمّد المصطفى ، المبعوث من أشرف الأنساب ، وعلى آله الطّاهرين الأنجاب
البررة الأخيار الأطياب ، صلاة تتعاقب عليهم تعاقب الأعوام والأحقاب.
أمّا بعد : فإنّ الله
تعالى شرّف نوع الإنسان على غيره من المخلوقات ،
__________________
وفضّله على جميع
أصناف الموجودات وأجناس الممكنات ، وأوجب عليه امتثال أوامره واجتناب معاصيه ،
وحظّر عليه ارتكاب زواجره ونواهيه ، بدلائل من عنده على لسان نبيّه وعبده ، تفتقر
إلى النظر والاعتبار ، وتحتاج إلى استعمال قوى الأذهان والأفكار.
وأوجب على العلماء
الّذين هم ورثة الأنبياء إيضاح تلك الدلائل المشكلة وكشف المعاني المعضلة ، لتتمّ
فوائدها وتحصل مقاصدها.
ولمّا كان أصول
الفقه هو الباحث عن تلك الفوائد ، والمحصّل لغرر تلك الفرائد ، وجب صرف العناية
إلى البحث عن مطالبه ، وإيضاح الحقّ في مآربه.
وقد صنّفنا كتبا
متعدّدة من المختصرات والمطوّلات ، الجامعة لجميع النّكات ، وسأل الولد العزيز «محمّد»
أسعده الله تعالى في الدّارين وأيّده بتحصيل الرئاستين ، وتكميل القوّتين ، وجعلني
الله فداه من جميع ما يخشاه ، وحباه بكلّ ما يرجوه ويتمنّاه إنشاء كتاب جامع لما ذكره المتقدّمون حاو لما حصّله المتأخّرون ،
مع زيادة نفيسة لم يسبقنا إليها الأوّلون.
فصرفنا الهمّة إلى
وضع هذا الكتاب الموسوم ب «نهاية الوصول إلى علم الأصول» مشتملا على ما طلبه
وأراده ، نفعه الله تعالى بما فيه ، وزاده بمنّه وكرمه.
وقد رتّبناه على
مقاصد معتمدين على واجب الوجود ، إنّه خير موفّق ومعين.
* * *
__________________
المقصد الأوّل : في المقدّمات
وفيه فصول :
[الفصل] الأوّل
في ماهيّة هذا العلم
يجب على كلّ طالب
أمر أن يكون متصوّرا له إمّا إجمالا أو تفصيلا ، وفائدة مطلوبه ليخرج عن العبث ،
ولمّا كان أصول الفقه مركّبا ، ومعرفة المركّب مسبوقة بمعرفة الأجزاء لا من كلّ
وجه بل من الوجه الّذي لأجله وقع فيه التركيب ، وجب معرفة هذين المفردين أوّلا.
لا يقال : إن أردت
معرفة المركّب بالحقيقية افتقر إلى معرفة الأجزاء كذلك ، ولم يكف من حيث التركيب ،
وإن أردت معرفته باعتبار ما ، لم يستلزم معرفة الأجزاء من حيث التركيب.
لأنّا نقول :
المراد معرفة المركّب من حيث التركيب.
فالأصل ما يستند
إليه ، والمراد هنا الأدلّة ، لاستناد الفقه إليها.
__________________
والفقه لغة الفهم
وهو العلم.
وقيل بالمغايرة ، فإنّ الفهم جودة الذّهن من حيث استعداده
لاكتساب المطالب وإن كان المتّصف به جاهلا ، كالعامي الفطن.
واصطلاحا العلم
بالأحكام الشرعيّة العمليّة المستدلّ على أعيانها ، بحيث لا يعلم كونها من الدّين
ضرورة.
فالعلم جنس ،
وسيأتي تحقيقه ، وخرج بقولنا «الأحكام» الذوات والصفات الحقيقية ، وبقولنا «الشرعية»
الأحكام العقليّة ، كالتماثل والاختلاف ، والحسن والقبح ، وبقولنا «العمليّة» كون
الإجماع أو خبر الواحد أو الاستصحاب حجّة ، فإنّها أحكام شرعيّة لكنّها لا تتعلّق
بعمل ، و «بالمستدلّ على أعيانها» علم المقلّد بكثير من الأحكام ، حيث علم أنّ
المفتي أفتاه وأنّ ما أفتاه به فهو حكم الله تعالى في حقّه ، مع أنّ علومه ليست
فقها ، حيث لم يكن مستدلّا على أعيانها ، و [خرج] علم واجب الوجود تعالى ، وعلم
النبي صلىاللهعليهوآله بها والملائكة عليهمالسلام ، وبقولنا «بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة» العلم
بأصول العبادات ، كالعلم بوجوب الصّلاة والزّكاة والصّوم ، فإنّها لا تسمّى فقها ،
لأنّها معلومة من الدين ضرورة.
وقيل : هو العلم
بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة بالاستدلال.
لا يقال : الفقه
من باب الظنون فكيف جعلتم جنسه العلم ، ولأنّ المراد
__________________
إن كان جميع
الأحكام لم ينعكس ، فإنّ أكثر الفقهاء لا يحيطون بجميع الأحكام ، وقد سئل «مالك» عن أربعين مسألة فقال في ستّة وثلاثين منها : لا أدري .
وإن كان البعض لم
يطّرد ، فإنّ المقلّد يعرف بعض الأحكام وليس بفقيه.
لأنّا نجيب عن
الأوّل بأنّ المجتهد إذا غلب على ظنّه ثبوت الحكم بدليل ظنّي كخبر الواحد وشبهه
قطع بوجوب العمل بظنّه ، فالحكم معلوم والظنّ وقع في طريقه.
لا يقال : إذا
كانت إحدى مقدّمات الدّليل ظنيّة كان ظنّيا.
لأنّا نقول : هنا
مقدّمتان قطعيّتان إحداهما أنّ الحكم مظنون ، وهي وجدانيّة ، والثانية وجوب العلم
بالظّنّ ، وهي إجماعيّة ، فيحصل القطع بالحكم.
وعن الثاني أنّ
المراد الجميع ، وينعكس ، إذ المراد العلم بالفعل بأكثر الأحكام بحيث يقدر على
استخراج ما يرد عليه ممّا ليس حاضرا عنده إمّا بالقوّة أو الفعل ، ويطّرد ، فإنّ
المقلّد لا يعلم عن استدلال تفصيليّ على ما علمه.
واحترز بعضهم في الحدّ فقال : العلم بجملة غالبة من الأحكام.
وهو خطأ ، لعدم
الضبط.
__________________
وإذا عرفت معنى كلّ واحد منهما فنقول : إضافة اسم المعنى إلى المفرد
تفيد اختصاص المضاف بالمضاف إليه في المعنى الّذي عيّنت له لفظة المضاف ، كما تقول
: مكتوب زيد ، فأصول الفقه مجموع طرق الفقه.
واحدّه اصطلاحا :
العلم بالقواعد الّتي هي مجموع طرق الفقه على سبيل الإجمال ، وكيفيّة الاستدلال
بها وكيفيّة حال المستدلّ بها ، فالمجموع احتراز عن الباب الواحد منه ، فإنّه وإن
كان من أصول الفقه ، لكنّه ليس هو هو ، لوجوب المغايرة بين الشيء وجزئه ، ويشتمل
الطّرق والأدلّة والأمارات.
والمراد بالإجمال
: بيان كون تلك الأدلّة أدلّة ، كما يستدلّ على أنّ الخبر دليل ، أمّا على وجوده
في مسألة مسألة ، فذلك لا يذكر في أصول الفقه.
وأردنا بكيفيّة
الاستدلال بها ، شرائط تلك الطّرق.
وأردنا بكيفيّة
حال المستدلّ ، اجتهاد العالم وتقليد العامي.
وقيل : العلم بالقواعد الّتي تتوصّل بها إلى استنباط الأحكام
الشرعية الفرعية عن أدلّتها التفصيليّة.
__________________
الفصل الثاني
في غايته وبيان موضوعه
اعلم أنّه قد يراد
الشيء لذاته ، فتكون غايته هي ذاته ، وقد يراد لغيره ، فغايته ذلك الغير ، ثمّ ذلك
الغير قد يراد الثالث وهكذا إلى أن ينتهي إلى المراد لذاته.
ولمّا كان الغرض
من الفقه نيل السعادة الاخرويّة ، والخلاص من العقاب بسبب امتثال أوامره تعالى
واجتناب نواهيه ، كان ذلك غاية في علم الفقه.
ولمّا توقّف علم
الفقه على هذا العلم ، كان علم الفقه غاية لهذا العلم ، فعلم الفقه أدخل في الغاية
الذاتيّة من هذا.
وغاية هذا ،
الوصول إلى استعلام الأحكام الشرعيّة الّتي هي سبب السّعادة والخلاص عن الشقاوة ،
ولا استبعاد في أن يكون علم ما (هو) غاية لآخر ، كما لا بعد في كونه آلة له.
واعلم أنّ كلّ علم
لا بدّ له من موضوع يبحث فيه عن عوارضه الذاتيّة الّتي تلحقه لذاته أو لجزئه أو
لعرض مساو لازم لذاته.
__________________
ولمّا كان هذا
العلم باحثا عن الأحوال العارضة للأدلّة الموصلة إلى الأحكام الشرعيّة وأقسامها ،
وكيفيّة استنباط الأحكام منها على سبيل الإجمال ، كالعموم ، والخصوص ، والأوامر ،
والنواهي ، والنسخ ، والمجمل ، وغير ذلك من العوارض الذاتيّة للأدلّة الموصلة إلى
الأحكام ، لا جرم كان موضوع هذا العلم ، هو لأدلّة الخاصّة من تلك الحيثيّة.
__________________
الفصل الثالث
في مبادئه
كلّ علم على
الإطلاق فلا بدّ له من مسائل يبحث عنها فيه ومن مباد لتلك المسائل ، وهي قسمان :
تصوّرات وتصديقات.
فالمبادئ
التصوريّة هي الحدود ، وهي إمّا حدّ الموضوع ، أو حدّ أجزائه ، أو حدّ جزئيّاته إن
كانت ، أو حدود أعراضه الذاتية.
وأمّا المبادئ
التصديقيّة فهي المقدّمات الّتي يتوقّف ذلك العلم عليها ، وهي مسائل من علم آخر ،
أو معلومة بالضرورة.
فالمبادئ
التصوريّة هاهنا هي معرفة الأحكام الشرعيّة ، فإنّ الناظر في هذا العلم
إنّما ينظر في أدلّة الأحكام الشرعيّة ، فيجب أن يكون متصوّرا لتلك الأحكام.
ولا يجوز أن يكون
إثباتها من جملة المبادئ وإلّا لزم الدّور.
وأمّا المبادئ
التصديقيّة له فمن الكلام والعربيّة.
أمّا الكلام ،
فلأنّ هذا العلم باحث عن طرق الأحكام الشرعيّة ،
__________________
فيتوقّف على وجودها المتوقّف على معرفة الشارع وإثباته ، ومعرفة
النبي صلىاللهعليهوآله ، وما يجوز عليه تعالى وما لا يجوز.
وأمّا العربيّة
فلأنّ الأدلّة عربيّة لاسناد أكثرها إلى الكتاب والسنّة.
ونحن نذكر تفاصيل
ذلك إن شاء الله تعالى.
__________________
الفصل الرابع
في مرتبته ونسبته إلى غيره من العلوم
اعلم أنّ من
العلوم ما يحتاج إليه في معرفة كيفيّة العمل الدّيني ، ومنها ما
ليس كذلك ، كالحساب ، والهندسة ، والطّبّ وغيرها ، وغرضنا الآن متعلّق الأوّل ،
كالكلام ، والفقه ، وأصوله ، ومعرفة الحديث ، والتفسير.
وهذه العلوم
الدّينيّة منها كليّة ، وهو الكلام لا غير ، فإنّه الباحث عن الوجود الّذي هو أعمّ
من كلّ موضوع ، فهو كلّيّ بالنسبة إلى كلّ علم ، فإنّه يقسم الموجود أوّلا : إلى قديم ومحدث ، ويقسم المحدث إلى جوهر وعرض ،
ثمّ يقسم العرض إلى ما يفتقر إلى الحياة وإلى ما ليس كذلك.
ثمّ ينظر في
القديم فيثبت واحدته وعدم تكثّره ، ونفي القسمة عنه ، وما يجوز عليه ويستحيل ،
وأفعاله ، والألطاف ، والتكاليف ، والأعواض ، ويثبت الرسل وصدقهم وعصمتهم ،
والأئمّة عليهمالسلام ، والمعاد ، وهناك ينقطع البحث في الكلام.
ومنها جزئيّة ،
كالفقه الناظر فيه صاحبه في أحكام أفعال المكلّفين خاصّة.
__________________
والأصول الباحثة عن أحكام الأدلّة الشرعية خاصّة.
والتفسير الباحث
عن معاني الكتاب خاصّة.
وعلم الحديث
الباحث عن طريق الحديث خاصّة.
وفي علم الكلام
يبيّن مبادئ العلوم الجزئيّة ، فيأخذ المفسّر من جملة ما نظر فيه [المتكلّم] واحدا
خاصّا ، وهو الكتاب ، فينظر فيه.
ويأخذ المحدّث
واحدا خاصّا ، وهو السنّة.
ويأخذ الفقيه
واحدا خاصّا ، وهو فعل المكلّف ، فينظر في نسبته إلى خطاب الشرع من حيث الأحكام
الخمسة.
ويأخذ الأصولي
واحدا خاصّا ، وهو قول الرسول صلىاللهعليهوآله الّذي برهن المتكلّم على صدقه ، فينظر فيه من حيث دلالته على الأحكام
الخمسة ، إمّا من جهة المنطوق ، أو المفهوم ، أو فعله صلىاللهعليهوآله.
ومدار البحث
الأصولي قول الرّسول صلىاللهعليهوآله وفعله ، فإنّ الكتاب إنّما يؤخذ منه والإجماع يثبت بقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقول الرّسول إنّما يثبت كونه حجّة في علم الكلام.
فإذا علم الكلام
هو العلم الأعلى ، ومنه ينزل البحث إلى العلوم الدينيّة.
__________________
وعلم الكلام شرط
في كون العالم متّسما بالعلوم الدينيّة ، إذ مبادئها منه تؤخذ ، وليس شرطا في
كون الأصوليّ أصوليّا ، أو كون الفقيه أو المفسّر أو المحدّث فقيها أو مفسّرا أو
محدّثا ، فإنّ الفقيه إنّما ينظر في نسبة فعل المكلّف إلى خطاب الشرع في أمره
ونهيه ، ولا يجب عليه الردّ على المجبرة ، وإثبات الأفعال الاختياريّة للمكلّف ،
ولا وجود الأعراض ، فقد شكّ قوم في وجودها ، والفعل عرض ، ولا إقامة البرهان على
ثبوت خطاب الشرع وكيفيّة كلامه ، بل يأخذ جميع ذلك مسلّما في علمه مقلّدا فيه.
وكذا الأصولي
يتقلّد من المتكلّم صدق الرسول صلىاللهعليهوآله ، وأنّ قوله حجّة ، ثمّ ينظر في وجوه دلالة أقواله.
واعلم أنّه لمّا
كان ذو المبدأ متأخّرا عن مبدئه ، وجب تأخّر هذا العلم عن علم الكلام ، واللّغة ،
والنّحو ، لا عن الجميع بل عمّا يتوقّف عليه خاصّة ، وكذا لا يجب تأخّر جميع هذا
الفنّ ، بل ما يتوقّف منه خاصّة.
__________________
الفصل الخامس
في وجوب معرفته
قد ثبت في علم
الكلام وجوب التكليف فتجب معرفته ، وإنّما يتمّ بهذا العلم ، وما لا يتمّ الواجب
المطلق إلّا به يكون واجبا ، فتكون معرفة هذا العلم واجبة.
وسيظهر لك إن شاء
الله تعالى في هذا الفن أنّ الواجب قسمان :
أحدهما على
الأعيان.
والثاني على
الكفاية.
وهذا الواجب من
قبيل القسم الثاني ، لأنّ ما وجب هذا العلم لأجله وهو الفقه ، إنّما يجب على هذا
الحدّ ، فيستحيل في الحكمة إيجاب هذا على الأعيان.
الفصل السّادس
في مصادر يذكر تعريفها هنا للحاجة إليها
اعلم أنّ أصول
الفقه لمّا كان باحثا عن أدلّة الأحكام ، وكان الكلام فيها يحوج إلى معرفة الدليل
، وانقسامه إلى ما يكون النظر فيه يفيد العلم أو الظنّ ، وجب تعريف هذه الأشياء ،
فما هو بيّن الثبوت منها ، استغنى عن الحجّة في إثباته ، وما لم يكن بيّنا وجب أن
يحال بيانه إلى العلم الكلي الفوقاني الناظر في الوجود ولواحقه.
فها هنا مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في أنّ العلم هل يحدّ أم لا
اختلف الناس هنا
فذهب أكثر المحقّقين إلى انّه غنيّ عن التعريف ، لأنّه من الكيفيّات النّفسانيّة
الّتي يحدّها كلّ عاقل كالفرح والشّبع وغيرهما.
واستدلّ بعض
المتأخّرين عليه بأنّ ما عدا العلم لا ينكشف إلّا به ، فيستحيل أن يكون غيره كاشفا
عنه ، وإلّا لزم الدّور ولأنّي أعلم بالضرورة كوني عالما بوجودي ، وتصوّر مطلق
العلم جزء منه ، وجزء البديهيّ بديهيّ.
__________________
واعترض على الأوّل
: بأنّ المطلوب من حدّ العلم هو العلم بالعلم ، وما عدا العلم ينكشف بالعلم ، لا
بالعلم بالعلم ، وليس بمحال أن يكون هو كاشفا عن غيره ، وغيره كاشفا عن العلم به ،
بأن توقّف تصوّر غير العلم على حصول العلم بغيره لا على تصوّره ، فلا دور.
وبأنّ جهة توقّف
غير العلم على العلم من جهة كون العلم إدراكا له ، وتوقّف العلم على الغير لا من
جهة كون ذلك الغير إدراكا للعلم ، بل من جهة كونه صفة مميّزة له عمّا سواه ،
فاختلف منه جهة التوقّف فلا دور.
وعلى الثّاني :
بأنّه لا يلزم من حصول أمر ، تصوّره أو تقدّم تصوّره ، وبأنّ تصوّرات القضايا
البديهيّة ، جاز أن تكون كسبيّة.
وفيه نظر ، فإنّ
حدّ العلم من جملة ما يندرج تحت ما عدا العلم ، فهو إنّما يعلم بالعلم ، لكنّ
العلم يعلم به فيدور ، وحصول العلم لا يريد به الحصول الخارجي بل الذهني ، وهو عين
التصوّر وبه يبطل ما بعده.
وقيل : إنّه كسبيّ
يفتقر إلى التحديد.
واستدلّ بعض
المتأخرين بأنّه لو كان ضروريّا لكان بسيطا ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّه لو كان مركّبا لتوقّف العلم به على معرفة أجزائه ، والجزء مغاير للكلّ ،
والمتوقّف على غيره مكتسب.
وبيان بطلان
التالي : أنّه لو كان بسيطا لزم أن يكون كلّ معنى علما ، والتالي باطل بالضرورة ،
فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه حينئذ يكون مساويا للوجود والشيئيّة ، إذ لو كان أخصّ منهما لكان مركّبا من
العام وقيد الخصوصيّة ، وإذا كان مساويا لهما ، وجب صدقه على كلّ ما صدق عليه.
وهذا في غاية
السقوط ، فإنّه ليس كلّ متوقّف على غيره بمكتسب ، بل المتوقّف على طلب وكسب ، ولا
يلزم من كون الشيء أخصّ من غيره تركيبه من ذلك العامّ ومن قيد الخصوصيّة ، إذ لو كان كذلك لزم نفي
البسائط فتنتفي المركّبات.
المبحث الثاني :
في حدّه
اختلف القائلون
بتحديد العلم في حدّه ، فقال «أبو الحسن الأشعري » : العلم ما يوجب لمن قام به كونه عالما .
وهو خطأ ، فإنّ
المشتقّ إنّما يعلم بعد معرفة المشتقّ منه ، فلو استفيد معرفته من المشتقّ دار.
وفيه نظر ، إذ لا
تجب معرفة المشتقّ منه معرفة تامّة ، والحدّ كاسب للكمال.
وقال بعض الأشاعرة
: العلم تبيّن المعلوم على ما هو به.
__________________
ويرد عليه الأوّل
، وينتقض بعلم الله تعالى ، فإنّ التّبيين يشعر بوضوح الشيء بعد اشكاله.
وقال الأستاذ أبو
بكر : العلم ما يصحّ من المتّصف به إحكام الفعل وإتقانه.
وهو خطأ ، فإنّه
حدّ لعلم خاصّ هو المتعلّق بالعمل.
قال «الجويني » : ويلزم منه إدراج القدرة في حدّه ، فإنّ العلم لا يتأتّى
به الإحكام دون القدرة.
وفيه نظر.
وقال «المعتزلة» :
العلم اعتقاد الشيء على ما هو به مع طمأنينة النفس.
وينتقض باعتقاد
المقلّد للحقّ ، ويخرج عنه العلم بالمعدوم ، وليس بشيء.
وقال «القاضي » : العلم معرفة المعلوم على ما هو به. واعتذر عن أنّ
المعرفة هي العلم بأنّ الحدّ هو المحدود بعينه.
وهو خطأ إمّا
أوّلا فللزوم الدّور ، وإمّا ثانيا فلأنّ المعرفة والعلم لفظان
__________________
مترادفان لمعنى
واحد ، بخلاف الحدّ والمحدود.
وقال «السيّد
المرتضى» : العلم ما اقتضى سكون النفس.
وينتقض بالاعتقاد.
وقال «الغزالي » : الأشياء الظاهرة يعسر تحديدها ، وإنّما نشرح معناها
بتقسيم ومثال :
أمّا الأوّل فهو
أن نميّزه عمّا يلتبس به ، وظاهر تميّزه عن الإرادة ، والقدرة ، وصفات النفس ،
وإنّما يلتبس بالاعتقاد ، وظاهر تميّزه عن الشكّ والظنّ ، لانتفاء الجزم فيهما.
فالعلم عبارة عن
أمر جزم لا تردّد فيه ولا تجويز ، ولا يخفى تميّزه عن الجهل ، فإنّه متعلّق
بالمجهول على خلاف ما هو به ، والعلم مطابق [للمعلوم] وربما يلتبس باعتقاد المقلّد
للحقّ ويتميّز عنه ، بأنّ معنى الاعتقاد السبق إلى أحد معتقدي الشاكّ مع الوقوف
عليه من غير إخطار نقيضه بالبال ، وهو إن وافق المعتقد فهو جنس للجهل في نفسه ،
وإن خالفه بالإضافة.
فإنّ معتقد كون
زيد في الدار لو قدّر استمراره عليه حتّى خرج زيد من الدار بقي اعتقاده كما كان لم يتغيّر في نفسه ، وإنّما تغيّرت إضافته ، فإنّه طابق [المعتقد]
وقتا وخالف آخر.
وأمّا العلم
فيستحيل تقدير بقائه مع تغيّر المعلوم ، والاعتقاد عقدة على القلب ، والعلم انحلال
العقد ، وكشف وانشراح ، فهما مختلفان ، ولهذا لو أصغى المعتقد إلى المشكّك لوجد
لنقيض معتقده مجالا في نفسه ، والعالم لا يجد ذلك
__________________
في نفسه وإن أصغى
إلى الشّبهة المشكّكة ، فإن لم يعرف حلّها لم يشكّ في بطلانها.
وأمّا المثال فهو
أنّ إدراك البصيرة الباطنة يفهم بالمقايسة بالبصر الظاهر ، فإنّ معناه الانطباع ،
وكذا العقل تنطبع فيه صور المعقولات.
وهذا المسلك أخذه
من الجويني ، وهو على طوله رجوع إلى تحديده بمقابلاته ، وفيه زيادة
إخفاء .
وقال بعض
المتأخّرين : انّه صفة يحصل بها لنفس المتّصف بها التمييز بين حقائق
المعاني الكليّة حصولا لا يتطرّق إلى احتمال نقيضه.
فالصفة جنس وحصول
التمييز ، بها احتراز عن الحياة وما اشترط بها ، وحقائق الكليّات احتراز عن
الإدراك المميّز بين المحسوسات الجزئية دون الكلية.
وعلى قول أبي
الحسن انّ الإدراك نوع من العلم ، لا يفتقر إلى التمييز بالكليّ.
وأورد [عليه]
بالعلوم العاديّة ، فإنّها تستلزم جواز النقيض عقلا.
وأجيب بأنّ الجبل
حال العلم العادي بأنّه حجر يستحيل أن يكون ذهبا حينئذ ، وهو المراد.
__________________
ومعنى التجويز
العقل أنّه لو قدّر ، لم يلزم منه محال لنفسه ، لا أنّه محتمل وليس بجبل ، لأنّ
التجويز مناف للجزم.
والحقّ ما قلناه
نحن أوّلا من أنّه ضروريّ.
المبحث الثالث :
في أقسامه
العلم إمّا تصوّر
، وهو الحضور الذّهني.
أو تصديق ، وهو
الحكم بمتصوّر على آخر إيجابا أو سلبا ، وكلّ منهما ضروريّ وكسبيّ.
فالضروريّ من
التصوّر ما لا يتوقّف على طلب وكسب ، ومن التصديق ما يكفي فيه تصوّر طرفيه.
والكسبيّ من كلّ
منهما ما يقابل البديهيّ.
والضروريات
التصديقية :
إمّا أوّليّات ،
وهي الّتي يحكم بها العقل بمجرّد تصوّر الطرفين.
أو محسوسات ، وهي
ما يحكم بها العقل بمعاونة الحسّ الظّاهر.
وإمّا مجرّبات ،
وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بكثرة التجربة والاعتبار.
وإمّا وجدانيّات ،
وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بمساعدة القوى الباطنة.
وإمّا حدسيّات ،
وهي قضايا الّتي يحكم بها العقل لأجل حدس قويّ من النفس.
وإمّا متواترات ،
وهي القضايا الّتي يحكم بها العقل بتواتر الأخبار الّتي يحصل معها الحكم قطعا.
وإمّا نظريّة
القياس ، وهي قضايا الّتي يحكم بها العقل لأجل متوسّط لا يخلو الذهن عنه ، وتسمّى
قضايا قياساتها معها.
المبحث الرابع :
في الظّنّ
حكم الذهن بمتصوّر
على آخر إمّا أن يكون جازما أو لا ، والأوّل إمّا أن يكون مطابقا أو لا ، والمطابق
إمّا أن يكون ثابتا أو لا.
والجازم المطابق
الثابت هو العلم ، ويستجمع الجزم والمطابقة والثبات.
وإن خلا عن الجزم
فهو الظنّ الصّادق.
وإن خلا عنه وعن
المطابقة ، فهو الظّنّ الكاذب.
وإن خلا عن
المطابقة والثبات خاصّة ، فهو اعتقاد الجهّال.
وإن خلا عن الثبات
واحده ، فهو اعتقاد المقلّد للحق.
إذا عرفت هذا
فالظّنّ ، ترجيح أحد الطرفين مع تجويز خلافه والوهم مرجوح الظن والشك هو سلب
الرجحان.
واعلم أنّ رجحان
الاعتقاد مغاير لاعتقاد الرجحان والظن هو الأوّل لا الثاني فإن كان الظنّ مطابقا
كان حقّا ، وإلّا فهو كذب.
وأمّا اعتقاد
الرّجحان كما إذا اعتقد ترجيح نزول المطر عن الغيم الرطب.
فينقسم إلى العلم
والظنّ وغيرهما ، والترجيح هنا راجع إلى المعتقد ، وفي الظنّ راجع إلى الاعتقاد.
وقيل : ما عنه الذّكر الحكميّ إمّا أن يحتمل متعلّقه النقيض
بوجه ما أو لا ، والثاني العلم.
والأوّل إمّا أن
يحتمل النقيض عند الذاكر ، لو قدّره أو لا ، والثاني الاعتقاد ، فإن طابق ، فصحيح
، وإلّا ففاسد.
والأوّل إمّا أن
يحتمل النقيض ، وهو راجح أو لا ، والراجح الظّنّ ، والمرجوح الوهم ، والمساوي ،
الشّك.
المبحث الخامس :
في الدليل والنّظر
الدّليل يطلق في
اللغة على الدالّ ، وهو النّاصب للدليل.
وقيل : هو الذاكر للدليل وقد يطلق على ما فيه دلالة وإرشاد.
وعند الفقهاء : ما
يمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى العلم بمطلوب خبريّ.
والأمارة هي الّتي
يمكن أن يتوصّل بصحيح النظر فيها إلى الظنّ.
فبالإمكان يدخل
الدّليل الّذي لم ينظر فيه ، فإنّه لا يخرج عن كونه دليلا بعدم النظر لأنّ التوصّل به ممكن.
وبالصحيح عن النظر
الفاسد.
__________________
وبالخبريّ عن الحدّ
.
وقيل قول مؤلّف من
قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر.
وقد يطلق على
الاستدلال بالمعلول على العلّة.
وأقسام الدليل :
لميّ وإنّيّ ، فالأوّل هو الاستدلال بالعلّة على المعلول ، والثاني هو الاستدلال
بالمعلول على العلّة أو بأحد المعلولين على الآخر ، وهو مركّب من الأوّلين.
وأيضا فهو إمّا
عقليّ محض أو مركّب من العقلي والسّمعي ، ولا سمعيّ محض ، لتوقّفه على صدق الرسول
المكتسب عقلا لا سمعا وإلّا لزم الدّور.
وأمّا النظر فله
تعريفات كثيرة ، أجودها ما قلناه نحن في كتبنا الكلاميّة ، وهو : أنّه ترتيب أمور
ذهنيّة ليتوصّل بها إلى آخر ، فإنّ صحّت المادّة والصورة فصحيح ، وإلّا ففاسد ،
فإن كانت مقدّمتاه علميّتين ، كانت النتيجة علميّة ، وإن كانتا أو إحداهما ظنّية
فهي ظنيّة.
ولمّا كان محمول
النتيجة مفتقرا في ثبوته لموضوعها إلى وسط ، وجبت مقدّمتان تشتركان في حدّ وسط ،
فإن كان محمولا في الصغرى ، موضوعا في الكبرى فهو الأوّل ، وشرطه إيجاب الصّغرى
وكليّة الكبرى.
وإن كان محمولا
فيهما فهو الثاني ، وشرطه اختلاف ، مقدّمتيه كيفا وكليّة الكبرى.
وإن كان موضوعا
فيهما فهو الثالث ، وشرطه إيجاب الصغرى وكلّيّة إحداهما.
__________________
وإن كان موضوعا في
الصغرى ، محمولا في الكبرى ، فهو الرابع ، وشرطه اتّفاق مقدّمتيه في الإيجاب مع
كليّة الصغرى ، أو اختلافهما بالكيف مع كليّة إحداهما.
فهذه طرق اكتساب
التّصديقات.
وأمّا اكتساب
التصوّرات فإنّما يكون بالحدّ والرسم.
والحدّ منه تامّ
يشتمل على مجموع المقدّمات من الأجناس والفصول ، ومنه ناقص يشتمل على بعضها.
والرّسم منه تامّ
يفيد الامتياز عن كلّ شيء ، ومنه ناقص يفيد الامتياز عن البعض وشرطه الثلاثة الأول
الاطّراد والانعكاس.
وبيان هذه المناهج
ذكرناها في كتبنا المنطقيّة.
المبحث السادس :
في الحكم
اختلف الناس هنا ،
فالمعتزلة القائلون بحسن الأشياء وقبحها عقلا ذهبوا إلى أنّ الحكم صفة للفعل في
نفسه.
والأشاعرة منعوا
من ذلك ، وجعلوه أمرا شرعيّا لا صفة حقيقيّة للفعل.
واختلفوا في
تعريفه ، فقال الغزالي : إنّه خطاب الشرع المتعلّق بأفعال المكلّفين.
__________________
ويدخل فيه قوله : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) فإنّه خطاب الشرع متعلّق بأفعال المكلّفين وليس حكما
إجماعا.
وقال آخرون زيادة على ذلك بالاقتضاء ، أو التخيير .
والخطاب قيل :
إنّه الكلام الّذي يفهم السامع منه شيئا .
وليس بجيّد ،
لدخول ما لم يقصد المتكلّم إفهام السّامع.
وقيل : «اللفظ
المفيد الّذي يقصد به إفهام من هو متهيّئ لفهمه ، فخرجت الحركات والإشارات المفهمة
والمهملة وما لم يقصد به الافهام ، وقولنا «لمن هو متهيّئ له» احتراز به عن الكلام
لمن لا يفهم كالنائم والمغمى عليه ونحوه» .
وقال السيّد
المرتضى : الخطاب هو الكلام إذا وقع على بعض الوجوه ، ويفتقر الخطاب في كونه كذلك
إلى إرادة المخاطب لكونه خطابا لمن هو خطاب له ، لمشاركة ما ليس بخطاب له في جميع
صفاته من وجود وحدوث وصيغة وترتيب.
ولا بدّ من زائد
به يحصل مسمّى الخطاب ، وهو قصد المخاطب ، ولهذا قد يسمع الكلام جماعة والخطاب
لبعضهم دون بعض لأجل القصد ، ولهذا جاز أن
__________________
يتكلّم النائم ولم
يجز أن يخاطب كما لم يجز أن يأمر وينهى .
ثمّ قسّم الخطاب
إلى مهمل ومستعمل.
فالأوّل ما لم
يوضع في اللغة الّتي أضيف أنّه مهمل بالنّسبة إليها لشيء من المعاني والفوائد.
والثاني هو
الموضوع لمعنى وفائدة ، وهو إمّا أن يكون له معنى وإن كان لا يفيد فيما سمّي به
كالألقاب ، مثل زيد وعمرو ، فانّه بدل من الإشارة ، ولهذا لا يستعمل في الله
تعالى.
والفرق بينه وبين
المفيد أنّ اللّقب يجوز تغييره ، واللغة على ما هي عليه ، ولا يجوز في المفيد ذلك
، ولهذا كان الحقّ أنّ لفظة شيء ليست لقبا ، بل هي من قسم مفيد الكلام ، إذ لا
يجوز تبديلها ، واللغة على ما هي عليه.
وإنّما لم تفد
لفظة شيء ، لاشتراك جميع المعلومات في معناها ، فتتعذّر فيها طريقة الإبانة
والتمييز ، فعدم إفادتها لأمر يرجع إلى غيرها ، واللّقب لا يفيد لأمر ويرجع إليه.
وأمّا المفيد فهو
المقتضي للإبانة فإمّا أن يبيّن نوعا من نوع كلون ، وكون ، واعتقاد ، وإرادة ، أو
جنسا من جنس كجوهر ، وسواد ، أو عينا من عين كعالم وقادر وأسود وأبيض.
فالسيد المرتضى لم
يشترط في الخطاب الفهم ، ولا تهيّؤ السامع له ، ولا
__________________
بأس به ، ولهذا
ذمّ العقلاء من خاطب بغير المفيد أو للجماد وسمّوه خطابا ، أو أنّه استعمل في مورد القسمة الخطاب في
معنى الكلام مجازا.
وقولنا : «الشارع»
احتراز عن غيره.
وقولنا : «المتعلّق
بأفعال المكلّفين» يخرج عنه ما عداه.
وقولنا : «بالاقتضاء
[أ] والتخيير» يريد به الأحكام الخمسة ، فإنّ الاقتضاء ، قد يكون للوجود وللعدم
إمّا مع الجزم أو بدونه ، فيتناول الواجب ، والحرام ، والمندوب ، والمكروه.
أمّا التخيير فهو
الإباحة.
وقد اعترض عليه من
وجوه :
الأوّل : إذا كان
الحكم هو خطابه تعالى ، وخطابه كلامه ، وكلامه عند الأشاعرة قديم ، فيكون حكم الله
تعالى بالحلّ والحرمة قديما ، وهو باطل.
أمّا أوّلا :
فلأنّ حلّ وطء الزوجة وحرمة الأجنبيّة صفة فعل العبد ، فإنّه يقال : وطء حلال
وحرام ، وفعل العبد محدث فيستحيل أن يكون وصفه قديما.
وأمّا ثانيا
فلأنّه يقال : حلّت المرأة بعد أن لم تكن كذلك ، وهذا اعتراف بحدوث الحكم.
وأمّا ثالثا فلأنّ
المقتضي هو العقد أو ملك اليمين ، ومعلول الحادث حادث.
__________________
الثاني : يخرج عن
هذا الحدّ كون الشيء سببا ، وشرطا ، ومانعا ، وصحيحا ، وفاسدا.
الثالث : الحكم
الشرعي قد يوجد في غير المكلّف ، كما يجعل إتلاف الصّبيّ سببا لوجوب الضمان ،
والدلوك سببا لوجوب الصلاة.
الرابع : إدخال
كلمة «أو» في الحدّ خطأ ، لأنّها للترديد والتشكيك ، والحدّ للإيضاح.
أجابوا عن الأوّل
بالمنع من كون الحلّ والحرمة وصفين للفعل ، فإنّ معنى كون الفعل حلالا كونه مقولا
فيه رفعت الحرج عن فعله ، وكونه حراما كونه مقولا فيه لو فعلته لعاقبتك ، فحكم
الله تعالى هو كلامه ، والفعل هو متعلّق الكلام ، وليس لمتعلّق القول من القول صفة
وإلّا لحصل للمعدوم باعتبار كونه مذكورا أو مخبرا عنه ، ومسمّى بالاسم المخصوص وصف
ثبوتيّ ، وهو محال.
وقوله : «حلّت
لزيد بعد أن لم تكن».
قلنا : حكم الله
تعالى هو قوله في الأزل «سوّغت له حين وجوده في كذا» فحكمه قديم ومتعلّق حكمه
محدث.
وقوله : «الحكم
يعلّل بالأسباب».
قلنا : المراد من
السبب المعرّف لا الموجب.
وعن الثاني المراد
من كون الدلوك سببا : أنّا متى علمنا أنّه تعالى أمر بالصّلاة فلا معنى للسببيّة
إلّا الإيجاب.
وقولنا : «العقد
صحيح» معناه أنّ الشرع أذن في الانتفاع به ، وهو معنى الإباحة.
وقيل : يزاد في
الحدّ أو الوضع.
وعن الثالث : أنّ
معنى كون إتلاف الصّبي سببا لوجوب الضمان تكليف الولي بإخراج الضّمان من ماله.
ومعنى كون الدلوك
سببا تكليف الرجل بأداء الصلاة عنده.
وعن الرابع : أنّ
المراد أنّ كلّ ما وقع عليه أحد هذه الوجوه كان حكما.
وقيل : إنّ
السببيّة والشرطيّة ليست حكما.
وقال بعضهم :
الحكم خطاب الشارع المفيد فائدة شرعيّة تختص به أي لا يفهم إلّا منه ، لأنّه إنشاء
فلا خارج له.
وهذه الحدود كلّها باطلة عندنا لما عرفت من أنّ كلامه تعالى عبارة عن
الحروف والأصوات وهي حادثة ، وقد بيّناه في علم الكلام.
ولأنّ الحكم ليس
هو الخطاب بل المستفاد منه ، فإنّ الحكم ليس قول الشارع : أوجبت عليك بل نفس الوجوب المستفاد من ذلك الخطاب.
__________________
الفصل السّابع
في تقسيم الحكم
وهو على وجوه
ينظمها مباحث :
[المبحث] الأوّل : انقسامه إلى الأحكام
الخمسة : الواجب ، والندب ، والمباح ، والمكروه ، والمحظور.
وطريق الحصر أن
نقول : الخطاب إذا تعلّق بشيء فإمّا أن يكون طلبا للفعل أو الترك ، أو يتساوى
الأمران.
فالأوّل إن كان
جازما فهو الواجب ، وإلّا فهو المندوب.
والثاني إن كان
جازما فهو الحرام ، وإلّا فالمكروه.
والثالث هو
المباح.
أمّا الواجب ففي
اللغة الوجوب السقوط ، يقال : وجبت الشمس والحائط : إذا سقطا ، والثبوت والاستقرار.
وأمّا في العرف
الشرعي فعند المعتزلة أنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذمّ ، أو ما يستحقّ العقاب
بتركه ، أو ما يكون على صفة باعتبارها يستحقّ فاعله المدح وتاركه الذمّ ، أو ما
يكون تركه في جميع وقته سببا للذمّ.
فأمّا الأشاعرة
فقد رسمه القاضي أبو بكر بأنّه ما يذمّ تاركه شرعا على بعض الوجوه.
فقولنا : «يذمّ»
خير من قولنا : يعاقب تاركه ، لأنّ الله تعالى قد يعفو عن العقاب ، ولا يقدح ذلك
في وجوب الفعل ، ومن قولنا : يتوعّد بالعقاب على تركه ، لأنّ الخلف في خبر الله
تعالى محال ، وكان ينتفي العفو ، ومن قولنا : ما يخاف العقاب على تركه ، فإنّ
المشكوك في وجوبه وحرمته يخاف من العقاب على تركه مع أنّه غير واجب.
وقولنا : «شرعا»
ليخرج عنه مذهب من يوجب الأحكام عقلا.
وقولنا : «على بعض
الوجوه» ليدخل فيه المخيّر ، فإنّه يلام على تركه إذا ترك معه بدله ، والموسّع
لأنّه يذمّ إذا أخلّ به في جميع الوقت ، والواجب على الكفاية ، لأنّه يذمّ إذا
أخلّ به الجميع.
وأورد على طرده
السّاهي والنّائم والمسافر وغيرهم من أصحاب الأعذار ، فإنّ الصوم لا يجب عليهم ،
ويذمّون على تركه على وجه وهو انتفاء الأعذار ، فهؤلاء يذمّون على تركه على وجه وليس
واجبا.
فإن أجاب بأنّ
الوجوب ثابت على ذلك التقدير وإنّما يسقط بالنوم والسهو والسفر.
قلنا : فالواجب
على الكفاية والموسّع والمخيّر يسقط بفعل البعض وبفعل في آخر الوقت وبفعل بدله ،
فلا حاجة إلى القيد في الكفاية ، كما لم يحتج في المسافر وغيره.
__________________
واعترض بالسنّة ،
فإنّ الفقهاء قالوا : لو أنّ أهل البلد اتّفقوا على ترك الأذان قوتلوا عليه.
والجواب أنّه
للاستهانة لا للوجوب.
والأقرب أن نقول :
الواجب ما يذمّ تاركه عمدا مختارا ، ولا يرد المخيّر والموسّع والكفاية ، لأنّ
الواجب في المخيّر والموسّع هو الأمر الكلّي لا الجزئيات ، وفي الكفاية فعل كلّ
واحد يقوم مقام الآخر ، فكأنّ التارك فاعل ، أو نزيد في الحدّ قولنا : «لا إلى بدل».
واعلم أنّ الواجب
يطلق عليه اللازم ، والمحتوم ، والفرض.
وقالت الحنفيّة :
الفرض ما عرف وجوبه بدليل قطعيّ ، والواجب ما عرف وجوبه بدليل ظنيّ ، فان الفرض هو
التقدير ، قال تعالى : (فَنِصْفُ ما
فَرَضْتُمْ) أي قدّرتم ، والوجوب السقوط ، فخصّصنا الفرض بما عرف وجوبه
بدليل قطعيّ ، لأنّه هو الّذي علم منه أنّه تعالى قدّره علينا ، وأمّا الّذي عرف وجوبه فظنّي فإنّه الواجب ،
لأنّه ساقط علينا ، ولا نسمّيه فرضا لعدم علمنا بأنّه تعالى قدّره علينا.
وهذا في غاية
الضعف ، فإنّ الفرض هو التقدير سواء استند إلى علم أو ظنّ ، كما أنّ الواجب هو
السّاقط من غير اعتبار سببه ، وكما أنّ اختلاف طرق
__________________
النوافل غير موجب
لاختلاف حقائقها ، وكذا طرق الحرام ، فكذا طرق الواجب ، مع أنّه تعالى قد أطلق
الفرض على الواجب في قوله : (فَمَنْ فَرَضَ
فِيهِنَّ الْحَجَ) أي أوجب ، وللإجماع على أنّه يقال لمن أدّى صلاة مختلفا
فيها : انّه قد أدّى فرض الله تعالى ، والأصل في الإطلاق الحقيقة.
وأمّا المحظور فهو
ما يذمّ فاعله أو الّذي يستحقّ فاعله العقاب ، أو ما يشتمل على وصف باعتباره
يستحقّ فاعله الذمّ.
ويطلق في اللغة
على ما كثر افاته يقال : لبن محظور ، أي كثير الآفة ، وعلى المنع يقال : حظرت عليه
كذا ، أي منعته ، و [على] القطع ومنه الحظيرة وهي البقعة المنقطعة الّتي تأتي
إليها المواشي.
وقيل : انّه في
العرف عبارة عمّا ينتهض فعله سببا للذمّ بوجه ما من حيث هو فعل له.
وخرج بقولنا «بوجه
ما» المخيّر كما تقدّم في الواجب وقولنا «من حيث هو فعل له» المباح الّذي يستلزم
فعله ترك واجب ، فإنّه يذمّ عليه لكن لا من جهة فعله بل لما يلزمه من ترك الواجب
ويقال له محرّم ومعصية أيّ فعل ما كرهه الله تعالى ، وعند الأشاعرة فعل ما نهى
الله تعالى عنه ، وذنب أي المنهي عنه الّذي يتوقّع عليه العقوبة ، فلا يوصف أفعال
البهائم والأطفال به ، وربما وصف فعل المراهق به لاستحقاقه الأدب على فعله ، مزجور
عنه ومتوعّد عليه وقبيح.
وأمّا المباح ،
فهو في اللّغة مأخوذ من الإباحة ، وهي الإعلان ، ومنه باح
__________________
بسرّه ، ويطلق على الإطلاق والإذن ، يقال : أبحته كذا ، أي [أطلقته
و] أذنت له فيه.
وأمّا في الشرع
فقال قوم : إنّه ما خيّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعا ، ونقض بخصال الكفّارة
المخيرة ، فإنّه ما من خصلة منها إلّا والمكلّف مخيّر بين فعلها وتركها ، وبتقدير
فعلها تكون مباحة لا واجبة ، وكذا الموسّع كالصّلاة في أوّل وقتها.
وقيل : ما استوى
طرفاه في عدم الثواب والعقاب ونقض بفعله تعالى فانّه كذلك ولا يوصف بالاباحة.
وقيل : ما أعلم
فاعله أو دلّ عليه أنّه لا ضرر في فعله ولا تركه ولا نفع له في الآخرة ونقض بالفعل الّذي خيّر الشارع فيه بين الفعل والترك مع
إعلام فاعله ، أو دلالة السّمع على استواء فعله في المصلحة والمفسدة في الدّين
والدنيا ، فإنّه مباح وإن اشتمل فعله وتركه على الضرر.
وقيل : ما دلّ
السمع على تخيير الشارع فيه بين الفعل والترك من غير بدل. ويخرج بالأخير الموسّع
في أوّل الوقت والمخيّر.
وأمّا على قول
المعتزلة فإنّه ما لا ذمّ في فعله وتركه ، ولا صفة له زائدة على حسنه.
ويقال له : حلال
وطلق.
__________________
واعلم انّه قد
يوصف الفعل بأنّه مباح وإن كان تركه محظورا ، كما نصف دم المرتدّ بأنّه مباح ،
ومعناه : أنّه لا ضرر على من أراقه وإن كان الإمام ملوما بترك إراقته.
وأمّا المندوب فهو
في اللغة مأخوذ من الندب وهو الدعاء إلى أمر مهمّ.
وفي العرف ما يكون
فعله راجحا على تركه ، رجحانا غير مانع من النقيض.
وقيل : هو ما فعله
خير من تركه ونقض بالأكل قبل ورود الشرع ، فإنّه خير من تركه لما فيه
من اللذّة واستبقاء المهجة ، وليس مندوبا.
وقيل : ما يمدح
على فعله ولا يذمّ ويبطل بأفعاله تعالى ، فإنّها كذلك وليست مندوبة.
وقيل : هو المطلوب
فعله شرعا من غير ذمّ على تركه مطلقا ، فالمطلوب فعله يخرج عنه ما عدا الواجب من
الحرام والمكروه والمباح والأحكام الثابتة بخطاب الوضع ، ونفي الذمّ يخرج به
الواجب المخيّر والموسّع في أوّل الوقت.
وذمّ الفقهاء من
ترك النوافل جمع ، لأنّهم استدلّوا بذلك على استهانته بالطاعة.
ويسمّى «مرغّبا
فيه» و «مستحبّا» أي انّ الله تعالى أحبّه ، و «نفلا» أي طاعة غير واجبة ، وأن
للإنسان أن يفعله من غير حتم و «تطوّعا» أي انّ المكلّف انقاد
__________________
لله تعالى فيه ،
مع أنّه قربة من غير حتم و «سنّة» أي طاعة غير واجبة.
وقيل : انّه لا
يختصّ المندوب بل يتناول كلّما علم وجوبه أو ندبيّته بأمر النبي صلىاللهعليهوآله أو بإدامته فعله ، فإنّ السنّة مأخوذة من الإدامة ، ولهذا
يقال : الختان سنّة ، ولا يراد به أنّه غير واجب و «إحسانا» إذا
كان نفعا موصلا إلى الغير مع القصد إلى ايقاعه.
وأمّا المكروه فهو
مشترك بين ثلاثة :
١. ما نهي عنه نهي
تنزيه ، وهو ما أعلم فاعله أنّ تركه خير من فعله وإن لم يكن على فعله عقاب.
٢. والمحظور.
٣. وترك الأولى ،
كترك النافلة.
وسمّي مكروها لا
باعتبار النهي عن الترك ، بل لكثرة الفضل في فعلها.
وهو في اللّغة
مأخوذ من الكريهة وهي الشّدة في الحرب ، ويقال : حمل كره أي شديد الرأس.
المبحث الثاني :
الحكم قد يكون
بحسن العقل وقد يكون بقبحه.
قالت المعتزلة :
الفعل وهو ما وجد بعد أن كان مقدورا إمّا ألا يكون له
__________________
صفة زائدة على
حدوثه نحو كلام النائم ، وهذا لا يوصف بحسن ولا قبح.
وإمّا أن يكون
وينقسم إلى فعل الملجأ ولا يستحقّ به مدح ولا ذمّ وإلى فعل المخلّى.
فأمّا قبيح ، وهو
الّذي من شأنه أن يستحقّ فاعله مع العلم به والتخلية الذمّ.
وأمّا حسن ، وهو
ما لا يستحقّ فاعله به الذمّ ، ولا يجب في كل فعل أن يكون إمّا حسنا أو قبيحا
وإلّا لكان المقتضي له مجرّد الحدوث ، وحينئذ يقبح كلّ محدث أو يحسن.
لا يقال : قد
جعلتم فعل الساهي لا حكم له ، وعند الفقهاء يجب جبر الصلاة بالسجود ، والضمان على
النائم لو كسر إناء غيره ، وجزاء الصيد على المحرم السّاهي ، والدية على عاقلة
القاتل خطأ.
لأنّا نقول :
السجود إنّما يجب لجبران السهو في الصلاة ، فهو حكم يلزم عند السّهو في الصّلاة ،
لا أنّه يرجع عليه ، بل هو في الحقيقة سبب في التخفيف حيث لم يأت
بالمأمور به على وجهه ، فأسقط عنه التكليف ، وخرج عن العهدة بفعل السجود لأجل
السهو.
وإنّما نفينا عن
كلام النائم وحركته الّتي لا يتعدّاه الحسن والقبح ، وأمّا إذا أضرّ بغيره في حال
نومه ، فلفعله حكم القبيح وإن كان لا ذمّ عليه ، كما لا يذمّ الصّبي والبهيمة ،
لأنّ إمكان التحرز مفقود ، ولا استبعاد في تعلّق وجوب الضمان بذلك شرعا ، لأنّه لا
نسبة بين ذلك وبين ما نفيناه من الذّم.
__________________
وعلى هذا الوجه
لزم العاقلة الدّية شرعا وإن لم يكن من جهتهم فعل لا قبيح ولا حسن ، وإنّما صار
القتل سببا شرعيّا لوجوب ذلك عليهم.
والتحقيق أن نقول
: الإنسان إمّا أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة تكليف ، كالنائم والساهي
والمجنون والطفل ، وهذه لا يتوجّه عليها وعلى فاعلها لحوق مدح أو ذمّ وإن تعلّق بها وجوب الضمان في مالهم ، ويخرجه الولي.
وإمّا أن يكون على
حالة تكليف ، فإن كان للقادر عليه ، المتمكّن من العلم بحاله ، فعله فهو الحسن
وإلّا فهو القبيح ، فالقبيح هو الّذي ليس للمتمكّن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ،
ومعنى «ليس له [أن يفعله]» معقول ، ويتبع ذلك أن يستحقّ الذمّ بفعله.
ويعرّف أيضا بأنّه
: الّذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذمّ.
والحسن ما هو
للقادر عليه المتمكّن من العلم بحاله أن يفعله ، أو ما لم يكن على صفة تؤثّر في
استحقاق الذمّ.
واعترض بأنّ العاجز يقال : ليس له أن يفعل ، وللقادر الممنوع عنه
حسّا ، وللقادر مع النفرة ، وللقادر المزجور عنه شرعا.
والأوّلان غير
مرادين ولا الثالث ، لأنّه قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعيّة عنه وبالعكس ،
ولا الرابع لعوده إلى الشرع حينئذ ، ولا القدر المشترك وهو مطلق المنع إذ لا
اشتراك ، فإنّ معنى الأوّل : نفي القدرة عليه ، وهو عدميّ ، والرابع : أنّه يعاقب
عليه ، وهو وجوديّ ولا اشتراك بينهما.
__________________
وأمّا استحقاق
الذمّ فقد يقال : الأثر يستحقّ المؤثّر بمعنى افتقاره إليه لذاته ، والمالك يستحقّ
الانتفاع بملكه بمعنى أنّه يحسن منه ذلك الانتفاع.
والأوّل ظاهر
الفساد ، والثاني يقتضي الدور ، والذمّ قول ، أو فعل ، أو ترك قول ، أو ترك فعل
ينبئ عن اتّضاع حال الغير.
فإن عنيت
بالاتّضاع ما ينفر الطبع عنه ، لم يتحقّق في حقّه تعالى حسن ولا قبح ، لانتفاء
النفرة الطبيعيّة عنه ، وإن عنيت غيره فبيّنه.
والجواب : منع
الحصر ، فإنّ المراد بقولنا : «ليس له أن يفعله» أي من حيث الحكمة لما يتبعه من
الذّمّ ، وكذا يمنع الحصر في تغير الاستحقاق ، فإنّ المراد به هنا الطلب
والاستحباب ، والاتّضاع انخفاض المنزلة.
وأمّا الأشاعرة
فإنّهم يقولون : الفعل لا يوصف بحسن ولا قبح بذاته بل باعتبارات خمسة إضافيّة غير حقيقيّة :
الأوّل : الحسن
يقال على ما وافق الغرض ، والقبح على ما خالفه.
الثاني : الحسن
على ما أمر الشارع بالثناء على فاعله ، والقبح على ما أمر بذمّ فاعله.
الثالث : الحسن
على ما لا حرج في فعله ، والقبح مقابله.
الرابع : القبيح
المنهيّ عنه شرعا ، والحسن ما لا نهي عنه شرعا ، فيندرج فيه أفعال الله تعالى ،
وأفعال المكلّفين الواجبة والمندوبة والمباحة وأفعال السّاهي والنائم والبهائم.
__________________
الخامس : الحسن ما
أذن فيه شرعا ، فيخرج أفعاله تعالى.
ولو قيل : ما يصحّ
من فاعله أن يعلم أنّه غير ممنوع عنه شرعا ، خرج فعل النائم والبهائم ، ويدخل فيه
فعله تعالى ، وسيأتي تتمّة البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
المبحث الثالث :
الخطاب كما يرد بالحكم
الّذي يكون منقسما إلى الاقتضاء والتّخيير ، فكذا يرد بالحكم الّذي ينقسم إلى
السّببية ، والشرطية والمانعيّة ، فهاهنا مطالب :
[المطلب] الأوّل :
[في] السّبب
والسّبب يطلق في
اللغة على ما يمكن التوصّل به إلى مقصود ما ، ولهذا يسمى الحبل سببا ، والطريق
سببا ، لما أمكن التوصّل بهما إلى المقصود.
وفي الشرع هو
الوصف الظاهر المنضبط الّذي دلّ الدليل السمعي على كونه معرّفا لحكم شرعيّ.
وينقسم إلى ما
يستلزم في تعريفه للحكم حكمة باعثة عليه ، كجعل زوال الشمس أمارة على وجوب الصلاة
، وطلوع الهلال أمارة على وجوب الصوم ، وإلى ما لا يستلزم كالشدّة المطربة
المعرّفة لتحريم شرب النبيذ ، لا لتحريم الخمر ، فإنّ تحريمه معلوم بالنص والإجماع
لا بالشدة ، وإلّا لزم الدور ، إذ لا يعرف كونها علّة بالاستنباط إلّا بعد معرفة
الحكم في الأصل.
وعلى هذا فالحكم
الشرعيّ ليس هو نفس الوصف المجعول سببا ، بل جعله سببا ، فكلّ واقعة عرف الحكم فيها بالسّبب لا بدليل آخر ، فلله تعالى فيها
حكمان : أحدهما الحكم المعرّف بالسبب ، والآخر السببيّة المحكوم بها على الوصف
المعرّف للحكم ، فلله تعالى في الزاني حكمان : وجوب الحدّ عليه ، وجعل الزّنا سببا
لوجوب الحدّ ، فإنّ الزنا لا يوجب الحدّ بعينه ، بل بجعل الشارع.
والفائدة في نصب
الأوصاف وجعلها أسبابا معرّفات للحكم عسر وقوف المكلّفين على خطاب الشارع في كلّ
واقعة من الوقائع بعد انقطاع الوحي ، فأظهر الله تعالى خطابه لخلقه بأمور حسيّة
نصبها أسبابا لأحكامه ، وجعلها موجبة ومقتضية للأحكام على نحو اقتضاء العلة
الحسيّة معلولها لئلّا تخلو أكثر الوقائع عن الأحكام الشرعية ، سواء تكرّر الحكم
بتكرّر السّبب كما تقدّم ، أو لا كالحجّ مع الاستطاعة ، والإيمان مع نصب الادلّة ،
وإنّما لم يتكرّر لأنّ السبب واحد فلم يجب الحجّ إلّا مرّة واحدة والإيمان معرفة
فإذا حصلت دامت.
واسباب الغرامات
والكفّارات والعقوبات ظاهرة ، وقسم المعاملات ظاهر أسبابها ، فلحل المال والنكاح
وحرمتها العقود والطلاق.
واعترض بأنّ المراد من جعل الشارع الزنا سببا للحدّ إن كان عبارة
عن الإعلام بإيجاب الحدّ عنه فهو حقّ ، لكنّه يرجع إلى المعرّف ، وإن كان عبارة عن
جعل الزنا مؤثّرا في هذا الحكم فهو باطل [بوجوه].
__________________
أمّا أوّلا فلأنّ
حكمه تعالى عند الأشاعرة كلامه ، وكلامه عندهم قديم ، فلا يعلل بالمحدّث.
[وثانيا] فلأنّه
بعد جعل الزنا مؤثّرا ، إن بقي الزنا كما كان ولم يكن مؤثّرا فكذا بعده ، وإلّا
لكان إعداما له ، فلا يكون مؤثّرا بعد عدمه.
[وثالثا] فلأنّ
الشرع بعد الجعل ، إن لم يصدر عنه أمر استحال أن يقال : إنّه جعله علّة ، وإن صدر
فإن كان هو الحكم فالمؤثّر فيه هو الشارع لا الوصف ، وإن كان علّته كان المؤثّر في
الحكم وصفا حقيقيّا ، وهو قول المعتزلة ، وإن لم يكن الحكم ولا ما يوجبه لم يكن له
تعلّق بالحكم البتّة.
[ورابعا] فلأنّه
لو كانت السببيّة حكما شرعيّا ، افتقرت في معرفتها إلى سبب آخر فتسلسل.
[وخامسا] فلأنّ
الوصف المعرّف للحكم إمّا أن يعرّفه بنفسه ، فيكون معرّفا قبل ورود الشرع ، أو
بصفة زائدة ، ويتسلسل ، إذ الكلام في تلك الصفة كالكلام في الأوّل.
[وسادسا] فلأنّ
الطريق المعرّف لسببيّة الوصف إنّما هو الحكمة المستدعية للحكم ، من جلب مصلحة أو
دفع مفسدة ، وذلك ممتنع ، إذ لو كانت [الحكمة] معرّفة لحكم السّببية ، لأمكن تعريف
الحكم المسبب بها.
[وسابعا] فلأنّ
الحكمة إن كانت قديمة لزم قدم موجبها ، وهو معرفة السببيّة ، وإن كانت حادثة
افتقرت إلى معرّف آخر لخفائها ، ويعود التقسيم.
والجواب : المراد
جعل الزنا سببا لتعلّق الحكم به.
وليس بجيّد ، فإنّ
الحكم إضافيّ لا يعقل إلّا متعلّقا فلا يعقل تعلّقه مع قدمه بالحادث ، كما لا
تعلّل ذاته بالحادث ، وجاز بقاء حقيقة الزنا كما كانت لكن بحدوث صفة المؤثريّة.
وفيه نظر ، فإنّ
الحقيقة إذا لم توجب أوّلا ، فالمطلوب وهو أنّها بعد الجعل إن أثّرت فليست هي ،
وإلّا لم تكن سببا ، والصادر عن الشارع المؤثريّة ، وهي مغايرة للحكم والعلّيّة
ولها تعلّق بالحكم ، وليس بجيّد ، فإنّ المؤثريّة إنّما تستند إلى المؤثّر ،
ومعرفة السببيّة تستند إلى الخطاب أو إلى الحكمة الملازمة للوصف مع اقتران الحكم بها
في صورة ، فلا تستدعي سببا آخر يعرّفها حتّى يلزم التسلسل ، وبه يندفع ما بعده
وليس بجيّد ، فإنّ السبب حينئذ يساوي الحكم في الاستناد إلى الخطاب ، فافتقار
أحدهما يقتضي افتقار الآخر ، والحكمة كما لا تعرّف الحكم لخفائها ، كذا لا تعرّف
السّببية.
والحكمة المعرّفة
للسّببيّة حكمة مضبوطة بالوصف المقترن بالحكم ، لا مطلق الحكم ، فإنّها إذا كانت خفيّة غير مضبوطة بنفسها
ولا بملزومها من الوصف ، لم يكن تعريف الحكم بها لاضطرابها واختلافها باختلاف
الأشخاص والأحوال والأزمان.
وعادة الشرع في
مثل ذلك ردّ المكلّفين إلى المظانّ الظاهرة المنضبطة المستلزمة لاحتمال الحكمة
دفعا للمشقّة والحرج ، كما في التقصير المستند إلى المسافة الّتي هي مظنّة المشقّة
، ولم يستند الحكم إلى المشقّة لعدم ضبطها.
وليس بجيّد ، لأنّ
مطلق الحكمة إن جاز تعليل السّببية جاز تعليل الحكم
__________________
به ، وإن كانت
حكمة خاصّة افتقرت إلى ضابط آخر ويتسلسل.
والحكمة إذا كانت
مضبوطة بالوصف فهي معروفة بنفسها غير مفتقرة إلى معرّف آخر.
ولا يلزم من
تقدّمها على ورود الشرع أن تكون معرّفة للسببيّة ، لتوقّف ذلك على اعتبارها في نظر
الشّرع ، وقبل وروده لا اعتبار بها.
وليس بجيّد ، لأنّ
المعرّف حينئذ للسببيّة المجموع منها ومن اعتبار الشّرع.
__________________
المطلب الثاني :
في المانع
المانع من الأمور
الإضافيّة الّتي لا يعقل إلّا بالقياس إلى غيرها ، وإنّما يضاف إلى ما يقتضي شيئا
، فيكون مانعا لذلك عن الاقتضاء.
ولمّا كان
الاقتضاء يتعلّق بالسبب والحكم الّذي هو معلوله ، كان المانع منقسما إلى أمرين :
أحدهما مانع
السّبب ، وهو كلّ وصف يخلّ وجوده بحكمة السبب كالدّين في باب الزكاة مع ملك النصاب.
والثاني مانع
الحكم وهو كلّ وصف وجوديّ ظاهر منضبط مستلزم لحكمة تقتضي نقيض حكم السّبب ، مع
بقاء حكم السبب ، كالأبوّة المانعة من القصاص مع القتل العمد العدوان.
المطلب الثالث :
في الشرط
الشرط هو ما يكون
وجود الغير أو تأثيره متوقّفا عليه من غير أن يكون له مدخل في التأثير ، فخرج عنه
العلّة وجزؤها ، ولا يلزم من وجوده وجود الشرط ، بل يلزم من عدمه على ما يأتي
تحقيقه.
فإن كان عدمه
مخلّا بحكمة السّبب فهو شرط السبب كالقدرة على التسليم في باب البيع ، وما كان
عدمه مشتملا على حكمة مقتضاها نقيض حكم
__________________
المسبب مع بقاء
حكمة السبب فهو شرط الحكم ، كعدم الطّهارة في الصّلاة مع الإتيان بمسمّى الصّلاة ،
وحكم الشّارع ليس بالوصف المحكوم عليه بالشرطية والمانعيّة ، بل كون الوصف مانعا
أو شرطا.
المبحث الرابع :
في الصحّة والبطلان والإجزاء
الحكم قد يكون
حكما بالصحّة ، وقد يكون حكما بالبطلان ، وهما عارضان للأفعال الّتي يمكن وقوعها
على الوجهين ، فالصحّة قد يطلق في العبادات ، وقد يطلق في المعاملات.
وإطلاقها في
العبادات مختلف ، فالمتكلّمون عنوا بصحّتها كونها موافقة للشريعة سواء وجب القضاء
أو لا.
والفقهاء عنوا
بصحّتها ما أسقط القضاء.
ويظهر الخلاف في
صلاة من ظنّ أنّه متطهّر ، فعند المتكلّمين أنّها صحيحة ، لأنّها موافقة للأمر ،
والقضاء وجب بأمر متجدّد ، وفاسدة عند الفقهاء ، لأنّها لا تسقط القضاء.
وليس بجيّد ،
فإنّك إن أردت بكونه مأمورا في نفس الأمر فنمنع ذلك ، وإن أردت به ظاهرا فنمنع كون
الصحّة ذلك ، ويشكل على الفقهاء ما لا قضاء له كالعيد ، وما له قضاء مع صحّته
كصلاة فاقد المطهّر.
وأمّا في العقود
فكون العقد صحيحا ترتّب أثره عليه وحصول غايته منه.
__________________
ولو فسّرت الصّحة
في العبادات بذلك أمكن ، ولو فسّرت صحّة العقد بإذن الشارع في الانتفاع بالمعقود
عليه أمكن.
وأمّا الباطل فهو
ما يقابل الصحّة فيهما ، ففي العبادات كونها غير موافقة لأمر الشارع ، أو غير
مسقطة للقضاء ، وفي العقود هو الّذي لا يترتّب عليه أثره ، وهو يرادف الفاسد في
المشهور.
خلافا للحنفيّة ،
فإنّهم فرّقوا بينهما ، وجعلوه متوسّطا بين الصّحيح والباطل ، فإنّ العقد إن كان
مفيدا للحكم مشروعا بأصله وصفته فصحيح وإن لم يكن مفيدا وهو غير مشروع بأصله ووصفه
فصحيح ، وإن لم يكن مفيدا وهو غير مشروع بأصله ووصفه فباطل.
وإن كان مشروعا
بأصله غير مشروع بوصفه كعقد الرّبا ، فإنّه مشروع من حيث إنّه عقد بيع ، وممنوع من
حيث اشتماله على الزيادة سمّوه فاسدا ، فكان هذا متوسّطا بين الممنوع بأصله وبين
المشروع بأصله ووصفه معا.
وهذا تكلّف لا
حاجة إليه ، ولو صحّ هذا القسم لم نناقش في تخصيص اسم الفاسد به.
وأمّا الإجزاء فقد
يوصف به الفعل إذا كان يمكن وقوعه على وجهين أحدهما يترتّب عليه حكمة والثاني لا
يترتب كالصّلاة وشبهها.
أمّا ما لا يقع
إلّا على وجه واحد كمعرفة الله تعالى فلا يوصف بذلك ، وكذا ردّ الوديعة ، لا يقال
فيه : انّه مجز أو غير مجز.
__________________
واختلف في تفسير
الإجزاء ، فقيل : الاكتفاء بالاتيان به في سقوط التعبّد ، وإنّما يكون كذلك إذا
فعل المكلّف ما كلّف به بجميع الأمور المعتبرة فيه ، من حيث وقع التعبّد به.
وقيل : إنّه سقوط
القضاء ، ويبطل بأنّه لو مات بعد فعله مع الإخلال ببعض شرائطه لم يجب القضاء ولم
يكن مجزئا.
ولأنّا نعلّل وجوب
القضاء بعدم الإجزاء ، والعلّة مغايرة للمعلول.
ولأنّ القضاء
إنّما يجب بأمر جديد.
وفيه نظر ، إذ
سقوط القضاء مع الموت به لا بالفعل.
واعترض بأنّه لو فسّر الإجزاء بالاكتفاء بالفعل في سقوط القضاء
اندفع الأوّلان.
وليس بجيّد ، إذ
الأوّلان اعتراض على الحدّ المنقول.
المبحث الخامس :
في القضاء والأداء والإعادة
اعلم أنّ العبادة
قد توصف بكلّ واحد من هذه الثلاثة ، وذلك لأنّها إذا كانت موقّتة فخرج الوقت ولم
يفعلها المكلّف فيه ، بل في خارجه ، سواء كان مضيّقا أو موسّعا سمّي قضاء.
__________________
وإن فعلها فيه
سمّي أداء.
وإن فعلت على نوع
من الخلل ، ثمّ فعلت ثانيا في الوقت المضروب لها سمّي إعادة.
ولا استبعاد في
اجتماع الإعادة والقضاء في فعل واحد إذا لم يلحظ في الإعادة الفعل في الوقت ، ولا
في اجتماع الإعادة والأداء إذا لم يلحظ في الأداء الأوّليّة.
فحينئذ يبقى
التناسب بين الإعادة وبين كلّ من الأداء والقضاء بالعموم من وجه.
فروع
الأوّل : لو ظنّ موته لو لم يشتغل بالواجب الموسّع عصى بتأخيره ، فلو
أخّر وعاش فهو أداء ، لأنّه لما انكشف له بطلان ظنّه زال حكمه وبقي كما كان قبل
الظّنّ ، وهو اختيار الغزالي والجمهور.
وقال القاضي أبو
بكر : يكون قضاء لتعيين وقته بسبب غلبة الظنّ ولم يوقعه فيه ، ولهذا يعصي بالتأخير
إجماعا.
وليس بجيّد ، فإنّ
العصيان لا يستلزم كون الفعل قضاء ، لأنّ ذلك الوقت
__________________
كان وقتا للأداء ،
والأصل بقاء ما كان على ما كان ، بل ونمنع العصيان بعد ظهور بطلان ظنّه ووجوب
التضيّق عليه ، وإنّما يحكم بذلك لو استمرّ الظنّ ، وكيف يصحّ أن ينوي القضاء بفعل
فعل في وقته.
وأورد بعض
المتأخّرين على القاضي : أنّه لا يلزم من عصيان المكلّف بتأخير الواجب الموسّع عن
أوّل الوقت من غير عزم على الفعل عند القاضي : أن يكون فعل الواجب بعد ذلك في
الوقت قضاء.
وليس بجيّد ، لأنّ
العصيان هنا ليس باعتبار تضيّق الوقت بل بترك الواجب وبدله.
الثاني : من أخّر مع ظنّ السّلامة فمات فجأة في الوقت ، فالتّحقيق
أنّه لا يعصي.
قيل : بخلاف ما
وقته العمر .
وليس بجيّد.
الثالث : الواجب على الفور كالزكاة إذا أخّر عصى ، ويلزم القاضي أن
يكون قضاء.
وليس بجيّد ،
لأنّه لم يعيّن وقته بقدر ، وإنّما وجب البدار بقرينة الحاجة ، وإلّا فالأمر يقتضي
وجوب الأداء في جميع الأوقات.
__________________
وكذا من لزمه قضاء
صلاة على الفور فأخّر ، فلا نقول : إنّه قضاء القضاء ، ولهذا افتقرنا في القضاء
إلى أمر مجدّد.
وأمّا الأمر
بالأداء ، فإنّه كاف في دوام اللزوم ، فلا يحتاج إلى دليل آخر.
والحقّ : أنّ
القضاء مخصوص بما عيّن وقته شرعا ثمّ فات الوقت قبل الفعل.
الرابع : الفعل إنّما يسمّى قضاء إذا ثبت وجوب الأداء ولم يفعل ، أو
ثبت سببه.
فالأوّل ، كمن ترك
الصلاة عمدا حتّى خرج وقتها ثمّ أدّاها.
والثاني ، إمّا أن
يكون المكلّف لا يصحّ منه الأداء عقلا ، كالنائم والمغمى عليه ، أو شرعا كالحائض.
أو يصحّ ، لكنّ
المقتضي للسقوط جاء من جهته ، كالمسافر إذا علم أنّه يصل قبل الزّوال ، فإنّ السفر
منه ، وقد أسقط وجوب الصّوم ويصحّ منه ، أو من قبله تعالى ، كالمريض ، فإنّه قد
سقط وجوب الصوم عنه.
ففي جميع ذلك
يسمّى قضاء ، لوجود سبب الوجوب لا نفس الوجوب ، كما يقوله بعض من لا تحقيق له من
الفقهاء باعتبار وجوب القضاء ، فإنّ الواجب يمتنع تركه ، فلا يجامع جواز الترك أو
وجوبه ، وكيف تؤمر بما يقضى به لو فعلت.
المبحث السادس :
إطلاق اسم القضاء
على الأوّل ، وهو ما ثبت وجوبه ولم يفعل في وقته ، حقيقة قطعا.
واختلفوا في
الثاني فقيل : إنّه مجاز ، فإنّ صوم الحائض حرام ، فتسميته قضاء مجاز ، وحقيقته
انّه فرض مبتدأ ، لكنّه لمّا تجدّد هذا الفرض بسبب حالة عرضت منعت من إيجاب الأداء
، حتّى فات لفوات إيجابه ، سمّي قضاء.
والنائم والناسي يقضيان ، ولا خطاب عليهما ، لأنّهما منسوبان إلى الغافلة
والتقصير ، لكنّ الله تعالى عفا عنهما ، بخلاف الحائض ، ولهذا يجب عليهما التشبّه
بالصائمين بالإمساك بقيّة النهار ، دون الحائض.
وقيل : إنّ
الإطلاق حقيقة لما فيه من استدراك مصلحة ما انعقد سبب وجوبه ، ولم يجب للعارض ، لا
استدراك مصلحة ما وجب ، دفعا للمجاز والاشتراك.
__________________
المبحث السابع :
في الرخصة والعزيمة
العزم في اللغة
القصد المؤكّد ، قال الله تعالى : (فَنَسِيَ وَلَمْ
نَجِدْ لَهُ عَزْماً) أي قصدا ، وسمّي بعض الرّسل أولي العزم لتأكيد قصدهم في
طلب الحقّ.
وفي العرف الشرعيّ
عبارة عمّا لزم العباد بإيجاب الله تعالى أو ما جاز فعله من غير مانع.
وأمّا الرّخصة فهي
في اللّغة عبارة عن التيسير والتّسهيل ومنه رخّص السّعر إذا تراجع وسهل الشّراء.
وأمّا في الشرع
فقال بعض أصحاب الرّأي : إنّها عبارة عمّا أبيح فعله مع كونه حراما.
وفيه تناقض وليس
بجيّد ، لعدم اجتماع الحكمين في وقت.
وقيل : ما رخّص
فيه مع كونه حراما.
وهو مع التناقض
دائر ، وبيان التناقض : أنّ الرّخص مشتقّ من الرخصة وهو غير خارج عن الإباحة.
وقيل : ما جاز
فعله لعذر مع قيام السبب المحرّم .
__________________
وهو غير جامع ،
لأنّ الرّخصة كما تكون بالفعل تكون بتركه ، كإسقاط صوم رمضان ، والركعتين عن
المسافر.
والأقرب أن يقال :
الرّخصة ما شرع من الأحكام لعذر مع قيام السبب المحرّم ، ليعمّ النّفي والإثبات
معا ، فمباح الأصل كالأكل والشرب لا يسمّى رخصة ، وما لم يوجبه الله تعالى علينا
من صوم شوّال وصلاة النافلة لا يسمّى رخصة ، ويسمّى تناول الميتة رخصة ، وكذا سقوط
الصوم عن المسافر وسقوط الركعتين.
ثمّ الّذي يجوز
فعله مع قيام المقتضي للمنع قد يجب ، كأكل الميتة عند خوف التلف ، وقد لا يجب كترك
كلمة الكفر عند الإكراه.
واعلم أنّ اسم
الرخصة يطلق حقيقة ومجازا.
فالأوّل إباحة
النطق بكلمة الكفر بسبب الإكراه ، وإباحة شرب الخمر للمتغصّص بلقمة لا يسيغها إلّا
الخمر.
والثاني بعيد عن
الحقيقة ، كتسمية ما سقط عنا من أثقال الملل المنسوخة رخصة ، وما لم يوجب علينا ولا على غيرنا لا يسمّى رخصة ،
وذلك لأنّه لما وجب على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا به حسن إطلاق اسم الرخصة عليه ،
فإنّ الإيجاب على غيرنا ليس تضييقا في حقّنا ، والرّخصة [فسحة] في مقابل التضييق.
__________________
وتردّد بين هاتين
أمور بعضها أقرب إلى الحقيقة وبعضها إلى المجاز ، فالقصر للمسافر جدير بأن يسمّى
رخصة حقيقة ، لقيام السّبب وهو الشهر ، فيدخل تحت قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ) وأخرج عن العموم بعذر.
أمّا التيمّم عند
فقد الماء فلا يحسن اسم الرخصة فيه ، إذ لا يمكن التكليف باستعمال الماء مع عدمه ،
فلا يمكن قيام السّبب ، ويجوز عند الجراحة ، أو بيع الماء بأكثر من ثمن المثل إن
سوّغنا التيمم.
والسّلم : بيع ما
لا قدرة على تسليمه في الحال فيقال : إنّه رخصة لعموم نهيه حكيم بن حزام عن «بيع ما ليس عنده» فإنّه يوجب تحريمه ، وحاجة المفلس
اقتضت الرخصة في السلم ، وتزويج الأمة الآبقة صحيح ، لا [يسمّى] رخصة إلّا إذا
قوبل ببيع الآبق.
قيل : العذر المقتضي للرخصة إن كان راجحا على المحرّم ، لم يكن
مقتضاه رخصة بل عزيمة ، وإلّا لكان كلّ حكم ثبت بدليل راجح مع وجود المعارض
المرجوح رخصة ، وليس كذلك.
وإن كان مساويا ،
فإن قلنا بالتساقط والرجوع إلى حكم الأصل ، لم يكن
__________________
رخصة ، وإلّا لكان
كلّ فعل بنينا فيه على النفي الأصل قبل ورود الشرع رخصة.
وإن قلنا بالوقف
إلى ظهور المرجّح ، فلا رخصة ، بل يكون ذلك عزيمة.
وإن قلنا بالتخيير
لم يكن أكل الميتة حالة الاضطرار رخصة ، إذ لا تخيير بين جواز الأكل وتحريمه
لوجوبه.
وقد قيل : إنّه
رخصة ، فلم يبق إلّا رجحان المحرّم على المبيح ، ويلزم منه العمل بالمرجوح ، وهو
في غاية الإشكال ، لكنّه الأشبه باسم الرخصة ، لما فيه من التسهيل بالعمل بالمرجوح
، ومخالفة الراجح.
وفيه نظر ، لأنّ
هذا التقسيم إنّما يرد لو كان الدليلان متعارضين ، وإنّما يتعارضان لو توارد
الحكمان على مكلّف واحد ، وليس كذلك ، فإنّ التحريم للميتة ثابت في حقّ المختار ،
والوجوب ثابت في حقّ المضطرّ ، وقلنا بالإباحة هنا مع قيام المحرّم في نفس الأمر
على هذا المكلّف لو لم يكن مضطرّا ، وكونه رخصة باعتبار نسبة حالته الاضطراريّة
إلى حالته الاختياريّة.
واعلم أنّه لا
استبعاد في كون الشيء رخصة باعتبار وواجبا باعتبار ، كالقصر وأكل الميتة حال
المخمصة.
__________________
المبحث الثّامن :
في أنّ الحسن والقبح عقليّان
هذه المسألة هي
المعركة العظيمة بين المعتزلة والأشاعرة ، وأكثر قواعد الاعتزال بل أكثر القواعد
الإسلاميّة مبنيّة عليها ، وقد اضطرب العقلاء في ذلك اضطرابا عظيما ، فالّذي عليه
المعتزلة كافّة أنّهما حكمان عقليّان.
والأشاعرة قالوا :
الحسن والقبح قد يعنى بهما ملائمة الطبع ومنافرته ، وهما عقليّان بهذا الاعتبار.
وقد يعنى بهما كون
الشيء صفة كمال أو نقص كقولنا : العلم حسن والجهل قبيح ، وهما عقليّان بهذا
الاعتبار أيضا.
وقد يعنى بهما كون
الفعل متعلّق المدح أو الذمّ ، والنّزاع فيه ، فعند المعتزلة أنّه عقليّ ، وإنّما
يحسن الفعل أو يقبح لكونه واقعا على وجه مخصوص لأجله يستحقّ فاعله الذمّ أو المدح.
ثمّ ذلك الوجه قد
يعلم بالضرورة كحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضّارّ ، وقد يعلم بالاستدلال كحسن
الصدق الضّارّ وقبح الكذب النافع وقد لا تحصل معرفته بالعقل مستقلّا بل يفتقر إلى
مساعدة الشرع كحسن صوم رمضان وقبح صوم العيد ، فإنّ العقل لا يستقلّ بمعرفة ذلك ،
لكن لمّا ورد الشرع به علمنا اختصاص كلّ واحد منهما بالوجه الّذي ناسب حكمه من حسن
أو قبح ، ولو لا ذلك الاختصاص امتنع ورود الشرع به.
وذلك الوجه ما
اشتمل عليه من اللّطف المانع من الفحشاء الدّاعي إلى الطّاعة ، لكن العقل لا
يستقلّ بمعرفة هذا المذهب ، صار إليه جميع الإماميّة
والكراميّة والخوارج والبراهمة والثنويّة وغيرهم سوى الأشاعرة ، حتّى أنّ الفلاسفة حكموا
بحسن كثير من الأشياء وقبح بعضها بالعقل العملي.
ثمّ إنّ أوائل
المعتزلة ذهبوا إلى أنّ الأشياء حسنة وقبيحة لذواتها لا باعتبار صفة موجبة لذلك.
ومنهم من أوجب ذلك
كالجبائيّة وبعضها فصّل وأوجب ذلك في القبح دون الحسن.
والأشاعرة قالوا :
إنّ الحسن والقبح سمعيّ ، وإنّ العقل إنّما يحسن بأمر الله تعالى وإنّما يقبح
بنهيه عنه ، فلو نهى عن الحسن كان قبيحا وبالعكس.
والحقّ الأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : انّا
نعلم بالضرورة حسن الصدق النافع ، والإنصاف ، وردّ الودائع ،
__________________
وإنقاذ الغرقى ،
والإحسان إلى المستحقّين ، وقبح الظلم والكذب والجهل.
وأنّ من كلّف
الأعمى نقط المصاحف ، والزمن الطيران في الهواء ، حكم العقلاء كافّة بقبح ذلك منه
، وأوجبوا ذمّه ، ولا يتوقّف العقلاء في ذلك على شرع ، ولهذا حكم به منكر الأديان
والشرائع ، كالبراهمة.
لا يقال : حسن
الصدق ، لأنّه على وفق المصلحة ، والإحسان ، لأنّ الحكم به يقتضي إلى وقوعه ، وهو
ملائم لطبع كلّ واحد ، وقبح الكذب ، لأنّه على خلاف مصلحة العالم.
لأنّا نقول :
الضرورة قاضية بالقبح والحسن بمعنى تعلّق المدح والذمّ.
الثاني : أنّه لو
كان الحسن والقبح شرعيّين ، لم يقبح من الله تعالى شيء ، والتّالي باطل ، فالمقدّم
مثله ، والشرطيّة ظاهرة.
وبيان بطلان
التّالي : أنّه لو حسن منه كلّ شيء ، لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب ، ولو
حسن منه ذلك ، امتنع منّا الفرق بين الصّادق والكاذب ، وذلك يقضي إلى بطلان
الشرائع بالكليّة ، إذ كلّ نبيّ يظهر على يده المعجزة ، يتطرّق إليه الاحتمال.
لا يقال :
الاستدلال بالمعجزة على الصدق يتوقّف على مقامين : أحدهما أنّه تعالى خلقه لذلك و [الثاني] أنّ
كلّ من صدّقه الله تعالى فهو صادق ، والحسن والقبح إنّما ينفعان في الثاني فيمنع الأوّل.
__________________
ولو توقّف الرجحان
على المرجّح ، لزم الحسن فلا قبح ، وإن لم يتوقّف جاز أن يخلقه لا لغرض أو لغير
تصديق.
ويمنع قبح خلق
الموهم للقبح من غير إيجاب ، لأنّ تجويز المكلّف خلق المعجز عقيب الدعوى لا لتصديق
، يمنع من الجزم ، فإن جزم يصير كالمتشابهات.
لأنّا نقول :
الضرورة قاضية بأنّه خلقه للتصديق ، كالشاهد ، والمتشابهات قابلة للتأويل ، فلا
يقبح ، بخلاف ما يحصل الجزم بالصدق في غير محلّه.
الثالث : لو حسن
منه تعالى كلّ شيء ، لما قبح منه الكذب ، وحينئذ لا يبقى الاعتماد على وعده ووعيده
، فتنتفي فائدة التكليف.
والاعتذار
باستحالة كذب الكلام الأزليّ ، ممنوع ، ولو سلّم جاز أن تكون هذه الكلمات المسموعة
مخالفة لما في نفس الأمر ، فيعود السؤال.
الرابع : أنّه لو
لا اختصاص الواجب بما لأجله اتّصف بالوجوب ، كان اتّصافه به ترجيحا من غير مرجّح ،
وهو باطل بالضرورة ، وكذا باقي الأحكام والأفعال.
الخامس : نعلم
بالضرورة أنّا لو خيّرنا العاقل ، بين الصدق وإعطاء دينار ، وبين الكذب وإعطاء
دينار أيضا ، واستوى الصدق والكذب من جميع الوجوه والاعتبارات ، سوى وصفي الصدق
والكذب ، فإنّه يختار الصدق على الكذب ، فلو لا أنّ الصدق حسن ، وأنّ الكذب قبيح ،
لما اختار الصدق دون الكذب.
السادس : أنّ
الحسن والقبح لو لم يعلما قبل الشرع ، لاستحال العلم بهما بالشرع ، لاستحالة ورود
الشرع بما لا يعلم ولا يتصوّر.
السابع : أنّا متى
علمنا كون الشيء ظلما علمنا قبحه ، ومتى انتفى كونه
ظلما انتفى العلم
بقبحه ، فليس المقتضي للقبح في الظلم سوى كونه ظلما ، عملا بالدّوران.
الثامن : لو كان
الحسن والقبح شرعيّا لما فرق العاقل بين المحسن إليه والمسيء.
التاسع : لو كانا
شرعيين لما كان فعل الله تعالى حسنا قبل ورود السمع.
العاشر : لو كانا
شرعيّين ، لزم إفحام الأنبياء ، والتالي باطل وكذا المقدّم.
بيان الشرطيّة :
أنّ الوجوب حينئذ يكون سمعيّا ، وقبل الشرع لا وجوب ، فإذا أمر النبي صلىاللهعليهوآله المكلّف باتّباعه ، كان له أن يقول له : لا أتّبعك حتّى
يجب عليّ ، وإنّما يجب عليّ اتّباعك بالسمع ، والسمع إنّما يثبت بقولك ، وقولك ليس
حجّة إلّا بعد معرفة صدقك ، وصدقك إنّما يثبت بالنظر ، وأنا لا أفعل النظر حتّى
يجب عليّ ، ولا يجب عليّ إلّا بقولك ، وقولك ليس حجّة ، فينقطع النبي صلىاللهعليهوآله.
وأمّا بطلان
التالي فظاهر ، لانتفاء فائدة البعثة حينئذ.
الحادي عشر : قال
أبو الحسين : ينبغي أن نتكلّم في هذه المسألة في عدّة مواضع :
أحدها : أنّ حسن
الحسن وقبح القبيح معلومان.
والثاني : أنّهما
معلومان عقلا.
الثالث : أنّ
العلم ضروريّ ، أمّا قبح الضرر المحض الّذي لا غرض فيه سوى أنّه ضرر فلا شبهة فيه
، ومعنى «يقبح» أنّه ليس له فعله ، ويستحقّ الذمّ عليه ، فإنّه يقبح منّا تكليف
الكتابة من لا يد له ، والمشي من لا رجل له ،
ومؤاخذتهما على
ذلك ، واستبطاؤهما ، وتكليف الجماد السعيّ ، وذمّ الغير على ما لا تعلّق له به ،
بأن يذمّه على كون الكواكب في السماء ، وحصول المدّ والجزر بالبصرة دون بغداد.
وأمّا استناده إلى
العقل ، فلأنّا إذا راجعنا عقولنا وفرضناها خالية عن الشرع ، ونظرنا هل ينتفي
العلم بقبح ما ذكرناه كما ينتفي العلم بقبح شرب الخمر ، وبيع درهم بدرهمين؟ فنعلم
قطعا انتفاء الثاني دون الأوّل ، فيكون الحاكم به مجرّد العقل.
الثاني عشر : لو
كانا شرعيّين ، لجوّزنا من أمّة عظيمة لا تعرف جهة الشرع التمسّك بعقولها ، فلا
تفرّق بين من أحسن ومن أساء في استحقاق المدح والذمّ ، كما لا نفرّق بين حركة
الإصبع يمنة ويسرة.
ويجوز أن يكون من
أساء إليها هو الممدوح ، ومن أحسن هو المذموم ، بل هو أقرب ممّا يعتقده الخصم من
أنّ أهل الهند ومن ضارعهم ممّن لا يعتقد الشرائع ، إذا حكم بحسن الحسن وقبح القبيح
، فإنّه لشبهة دخلت عليه ، لكن لو أخبرنا من شاهد أنّه على مثل الاعتقاد الأوّل ،
لسارعنا إلى تكذيبه ، فدلّ على أنّ ذلك مقرّر في بداية العقول.
الثالث عشر : حكم
أكثر العقلاء بقبح الظلم وحسن الصدق في كلّ زمان ، وفي كلّ صقع ، لا يخلو إمّا أن
يكون علما ضروريّا ، أو استدلاليّا ، فيلزم المطلوب ، أو لا يكون علما ، فكان من المحال اتّفاق الأمم العظيمة عليه ، قرنا بعد قرن ، كما
لا يجوز أن يجمعوا على قبح شرب الخمر والزنا ، وليسوا أصحاب شريعة.
__________________
الرابع عشر : لو
علما بالشرع لما علما به ، لجواز تطرّق الكذب وإرادة غير الظاهر عندهم.
واحتجت الأشاعرة
بوجوه :
الأوّل : أنّ
أفعال العباد إمّا اضطراريّة أو اتّفاقية ، وعلى كلا التقديرين لا قبح.
بيان المقدّمة
الأولى : أنّ فاعل القبيح إمّا أن يتمكّن من الترك أو لا يتمكّن ، فإن لم يتمكّن
ثبت الاضطرار ، وإن تمكّن ، فإمّا أن يتوقّف رجحان الفعل على الترك على مرجّح أو
لا يتوقّف ، فإن كان الثاني ثبت الاتّفاق ، لأنّ القدرة نسبتها إلى الطرفين واحدة
، فإذا حصل الفعل بها في وقت دون آخر من غير مرجّح ، كان ذلك محض الاتّفاق.
وإن توقّف ، فذلك
المرجّح إن كان من فعل العبد ، نقلنا الكلام إليه ، وإن كان من غيره ، فعند حصوله
إن وجب الفعل ، لزم الاضطرار ، لأنّ الفعل معه واجب ، وقبله ممتنع ، فلا اختيار
للعبد.
وإن لم يجب جاز
الترك ، فلنفرض وقوعه في وقت وعدمه في آخر ، فاختصاص أحد الوقتين بالوقوع ، والآخر
بعدمه ، إن لم يتوقّف على مرجّح ، مع حصول المرجّح الأوّل في الوقتين ، فيكون
حصوله اتّفاقيّا ، وإن توقّف على مرجّح ، لم يكن الأوّل مرجّحا تامّا ، وقد فرضناه
تامّا ، هذا خلف.
ولأنّ البحث عائد
مع انضمام المرجّح الثاني ، فإن وجب الفعل لزم الاضطرار ، وإلّا ثبت الاتّفاق.
ولا ينفع الاعتذار
بأنّ القادر يرجّح الفعل على الترك لا لمرجّح ، لأنّ قولك «يرجّح» إن كان له مفهوم
زائد على كونه قادرا ، كان ذلك اعترافا بأنّ رجحان
الفاعليّة إنّما
يصحّ عند انضمام هذا القيد إلى القادريّة ، وإن لم يكن لم يبق لقولك «القادر يرجّح
أحد مقدوريه على الآخر» إلّا أنّ صفة القادريّة مستمرّة في الأزمان كلّها ، ثمّ
إنّه لم يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض ، من غير أن يرجّحه القادر أو
يقصده ، وذلك هو معنى الاتّفاق.
الثاني : انّ
العلم بالحسن والقبح إمّا أن يكون ضروريّا أو نظريّا.
والأوّل باطل ،
للفرق بين اعتقاد هذه الأمور وكون الواحد نصف الاثنين ، والتفاوت إنّما يكون
بتطرّق الاحتمال إلى النقيض ، وهو ينافي كونه ضروريّا ، بل كونه علما.
ولأنّه لو كان
ضروريّا ، لاشترك فيه العقلاء كغيرها من الضروريّات.
والتالي باطل ،
فكذلك المقدّم ، والتالي باطل ، لعدم القائل به.
الثالث : لو كان
الظلم قبيحا لكان القبح إمّا أن يرجع إلى ذاته ، أو إلى صفاته الثبوتيّة ، أو
السلبيّة ، أو إلى المجموع ، أو إلى خامس.
والأوّلان باطلان
، وإلّا لزم قبح الحسن ، وكذا الثالث ، لاستحالة تعليل الثبوتي بالعدمي ، والرابع
لاستحالة كونه جزءاً من المؤثّر ، والخامس ، لأنّ ذلك الأمر إن كان لازما للظلم ،
عاد التقسيم فيه ، وإن لم يكن لازما ، لم يكن القبيح المعلّل لازما.
الرابع : لو قال :
لأكذبنّ غدا ، فإمّا أن يجب عليه الكذب أو لا يجب ، وعلى التقديرين يخرج الكذب عن
كونه قبيحا.
الخامس : أنّ
النبيّ الهارب عند شخص إذا طلبه ظالم ، فإن أخبره به لزم حسن إيقاع الضرر بالنبيّ
، وإن حسن الكذب ، ثبت المطلوب.
السّادس : أنّ
تكليف ما لا يطاق واقع ، فينتفي الحسن والقبح.
وبيان الأوّل :
أنّ ما علم الله تعالى وقوعه واجب ، وما علم عدمه ممتنع ، وهما غير مقدورين.
ولأنّه تعالى كلّف
أبا لهب بالإيمان بجميع ما أخبر به النبي صلىاللهعليهوآله ، ومن جملة ما أخبر به أنّه لا يؤمن ، فيكون مكلّفا بأنّه
لا يؤمن بانّه لا يؤمن ، والجمع بينهما محال.
السّابع : لو قبح
الكذب لذاته ، لكان المقتضي له إمّا مجرّد اللفظ ، وهو باطل ، وإلّا لقبح حال كونه
صدقا ، أو عدم المخبر عنه ، فيكون العدم علّة للثبوتيّ ، أو المجموع ، فيكون العدم
جزءاً من المؤثّر ، أو لأمر خارج ، فإن لزم عاد المحذور ، وإلّا لم يلزم القبح.
الثامن : لو كان
الكذب قبيحا لذاته ، لكان المقتضي ثبوتيّا ، ضرورة اقتضائه للحكم الثبوتيّ ، فإن
كان صفة لمجموع الحروف كان عدميّا ، لاستحالة اجتماع الحروف في الوجود ، وإن كان
صفة لبعضها ، كانت أجزاء الخبر الكاذب كاذبة.
التّاسع : لو كان
الكذب قبيحا لذاته ، لما اختلف باختلاف الأوضاع ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
العاشر : الظلم
ضرر غير مستحقّ ، فيكون عدميّا ، لانتفاء جزء له فلا يقوم به القبح الوجودي.
الحادي عشر : قبح
الظلم مقدّم عليه ، ولهذا ليس لفاعله أن يفعله ، فليس معلولا له.
__________________
الثاني عشر : لو
كان الحسن والقبح ذاتيّين ، لزم قيام المعنى بالمعنى ، والتالي باطل ، فالمقدّم
مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ حسن الفعل زائد على مفهوم ، وإلّا لزم من تعقّل الفعل تعقّله ، وهو ثبوتيّ ،
لأنّ نقيضه وهو لا حسن عدميّ ، وإلّا استلزم محلّا ثانيا ، وهو عرضيّ للفعل ،
وإلّا افتقر في تصوّر الفعل إلى تصوّره ، فيلزم قيام الحسن بالفعل ، وقد تبيّن في
علم الكلام امتناع قيام العرض بالعرض.
الثالث عشر : لو
قبح الفعل أو حسن لغير الطلب ، أعني الأمر والنهي ، لم يكن تعلّق الطلب لنفس الفعل
، لتوقّفه على أمر زائد ، وهو لازم على الجبائيّة.
الرابع عشر : لو
كان الحسن والقبح لذات الفعل أو لصفته ، لم يكن الباري تعالى مختارا في الحكم ،
لأنّ الحكم بالمرجوح على خلاف المعقول ، فيجب الراجح ، فلا اختيار.
الخامس عشر : قوله
تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) نفى التعذيب من دون البعثة ، فلا يكون الفعل قبيحا ولا
حسنا قبلها.
والجواب عن الأوّل
: وهو أقوى شبّههم من حيث النقض ومن حيث المعارضة.
أمّا الأوّل :
فنقول : لم لا يجوز ألّا يتمكّن من الترك؟
قوله : «يلزم
الاضطرار».
__________________
قلنا : ممنوع فإنّ
الاضطرار إنّما يتمّ لو لم يكن له اختيار ، أمّا على تقدير صدور الفعل عن الاختيار
فلا اضطرار.
ولا منافاة بين
وجوب الفعل حالة الاضطرار وإمكانه قبله ، فإنّ القدرة والداعي إذا اجتمعا وجب
الفعل ، ولا يؤثّر ذلك في إمكانه.
قوله : «إن تمكّن
من الترك ولم يتوقّف الرجحان على مؤثّر لزم الاتّفاق».
قلنا : ممنوع
وإنّما يكون الفعل اتّفاقيا لو لم يصدر عن سبب ظاهر ، ونحن نسند الفعل هنا إلى
الفاعل ، أقصى ما في الباب أنّ رجحان أحد الطّرفين ليس لأمر زائد على قدرة الفاعل
واختياره.
سلّمنا لكن لم لا
يرجّح الفعل باشتماله على المصلحة الخالصة أو الراجحة في علم الفاعل أو ظنّه.
سلّمنا لكن لم لا
يكفي الرجحان المطلق من غير احتياج إلى رجحان مانع من النقيض ، فإنّ وقوع الممكن
حينئذ جائز بخروجه من حدّ التساوي الصّرف ، ولا يلزم الجبر ولا انتفاء القدرة.
وأمّا المعارضة
فنقول هذا الدّليل ثابت في حقّه تعالى ، فما هو الجواب عنه فهو جوابنا عن المكلّف.
وعن الثاني : أنّ
الضروريّات تتفاوت وكذا النظريّات بوثاقة الاعتقاد وضعفه ، ولا يلزم تطرّق احتمال
النقيض إلى أحد الطرفين ، والأصل في ذلك أنّ التصديقات الضروريّة قد تخفى عن كثير
من النّاس لخفاء تصوّراتها أو لغير ذلك.
ونحن نمنع
التّفاوت في هذه العلوم عند معتقديها ، ولهذا لو شكّ العاقل في قبح تكليف الزّمن
الطيران لم يعتوره شكّ ، كما لو شكّ في أنّ الواحد نصف الاثنين.
ولا يلزم اشتراك
العقلاء في الضروريّات لما بيّناه من حصول الخفاء في التصوّرات.
وعن الثالث : لم
لا يجوز أن يرجع إلى ذاته أو صفاته الثبوتيّة ، ولا يلزم قبح الحسن ، لاختلافهما
في الماهيّة.
سلّمنا لكن لم لا
يرجع إلى أوصافه السلبيّة.
ونمنع كون القبح
ثبوتيّا فإنّ القبيح هو الّذي ليس للعالم به المتمكّن منه أن يفعله.
سلّمنا لكن جاز أن
يكون العدميّ جزءاً من المؤثّر ، فإنّ عدم المانع جزء من الفاعل التامّ.
وعن الرابع : أنّه
يجب عليه ترك الكذب ، لأنّ قوله : «لأكذبنّ غدا» لا يخلو عن وجه قبح ولو بالعزم
والوعد عليه ، فلا يزول قبحه بفعله بل يزداد القبح ، فيجب الامتناع.
قالت العدليّة :
الخبر عن المستقبل إذا صدر عن عزم المخبر على أن يفعله ، ثمّ تغيّر عزمه لم يكن
كذبا ، لأنّه حين الإخبار كان عازما على الكذب ، وهو إنّما أخبر عن عزمه.
وفيه نظر ، فإنّ
المخبر أخبر عن الإتيان بالكذب لا عن عزمه عليه ،
ولهذا لو أخبرنا
انّه عزم الآن على الله الكذب في غد ، ثمّ لم يكذب في الغد لم يكن كاذبا في خبره ،
بخلاف صورة النزاع.
أو يقال : كلّ من
الصّدق والكذب هنا قبيح ، أو نقول : إنّ صدقه حسن وإن استلزم قبيحا ، فإنّه لا
يلزم من استلزامه القبيح قبحه ، أو إن استلزم قبحه لكن باعتبار آخر ، كما ذهب إليه الجبائيّان ، من التعليل
بالوجوه والاعتبارات.
وعن الخامس : أنّ
الحسن التّخليص ، لا الكذب ، وأنّه يمكنه التخليص بالتورية ، أو بالإتيان بصيغة
الخبر من غير قصد.
قالوا : لو جاز
ذلك لارتفع الوثوق بوعده ووعيده ، وانتفت فائدة البعثة ، لتطرّق هذا الاحتمال فيما
يخبره النبي صلىاللهعليهوآله.
وهو ضعيف ، لأنّه
متى أدّى ذلك إلى الجهل والإخلال بالمكلّفين ، لم يجز صدوره من الله تعالى ، ولا
من رسوله صلىاللهعليهوآله ، بخلاف الإنسان.
وعن السادس :
بالمنع من التكليف بالمحال ، والعلم حكاية عن المعلوم ، ومتأخّر عنه في الرتبة ،
فلا يؤثّر فيه وجوبا ولا غيره ، إذ هو تابع له.
والوجوب الحاصل من
العلم ، وجوب لاحق ، إذ لا فرق بين وضع أحد الطّرفين وبين وضع العلم به ، في أنّ
كلّ واحد منهما يقتضي وجوبا لاحقا ، إذ العقل قاض بالتطابق بين المعلوم والعلم.
ولأنّ الأصل في
هيئة التطابق ، إنّما هو المعلوم ، إذ لو لا تحقّقه على ما هو به ، لما تعلّق به
العلم ، وتمام تحقيق ذلك مذكور في كتبنا الكلاميّة.
__________________
ثمّ لو لزم من
العلم الوجوب وانتفاء القدرة ، لثبت ذلك في حقّه تعالى ، فانتفى اختياره ، تعالى
الله عن ذلك علوّا كبيرا.
وأما تكليف أبي
لهب بالإيمان ، فنمنع أنّه أخبر بأنّه لا يؤمن.
وقوله تعالى : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ) إلى آخرها ، لا يدلّ على أنّه لا يؤمن ، ويحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون
ما ذكره في هذه السورة إنّما يتناوله بشرط خروجه من الدنيا كافرا ، وإلّا لكانت
الآيات المتناولة لوعيد الكفّار ، متناولة لكلّ كافر ، سواء تاب أو لم يتب ، وهو
باطل إجماعا.
الثاني : أن تكون
هذه السورة نزلت بعد موته ، إذ لو كانت قد نزلت في حياته لقال: وما يغني عنه ماله.
سلّمنا ، لكنّه
كلّفه من حيث إنّه كان مختارا ، أو الإخبار بعدم الإيمان لا ينافي القدرة ، كما
قلناه في العلم ، فإنّ الإخبار بعدم الإيمان ، إنّما هو من حيث العلم الّذي لا
ينافي المكنة.
ثمّ كيف يصحّ
القول بالتكليف بالمحال مع قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) إلى غير ذلك من الآيات.
وعن السّابع :
المقتضي للقبح هو الخبر المعقول مع عدم المطابقة ، ولا استبعاد في كون العدميّ جزءاً
من علّة الأمر الاعتباري.
على أنّا قد بيّنا
أنّ القبح أمر عدميّ ، أو نجعله شرطا في القبح ، والشرط لا مدخل له في التأثير.
__________________
وعن الثامن :
بالمنع من كون القبح ثبوتيّا ، على ما مرّ.
سلّمنا ثبوته ،
لكن بالوجه الّذي وصفتموه بالخبر ، والكذب نصفه نحن بالقبح.
وعن التاسع : أنّ
المختلف باختلاف الأوضاع ، إنّما هو الحروف والأصوات ووضعها للمعاني المختلفة ،
أمّا ماهيّة الكذب والقبح فلا يختلفان ، فإنّ الكذب هو الخبر الغير المطابق بأيّ
عبارة كان ، والكذب قبيح لكونه كذبا بأي لسان اتّفق.
ويمكن أن يكون قبح
الخبر الكاذب مشروطا بالوضع وعدم مطابقته للمخبر عنه ، مع علم المخبر به ، كما كان
شرطا في كونه كذبا.
وعن العاشر : ما
تقدّم من كون القبح عدميّا.
سلّمناه ، لكن
نمنع كون الظلم عدميّا ، بل هو وجوديّ ، فإنّ عدم الاستحقاق جاز أن يكون لازما
للظلم ، لا داخلا في ماهيّته.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يكون الظلم علّة للقبيح ، لما فيه من الأمر الوجوديّ ، والعدم شرطه.
وعن الحادي عشر :
بالمنع من تقدّم قبح الظلم عليه ، وإنّما المتقدّم الخبر بكونه قبيحا.
وعن الثاني عشر :
بالمنع من كون نقيضه عدميّا ، والاستدلال بصورة النفي على الوجود دور ، لأنّه قد
يكون ثبوتيّا ، أو منقسما إلى ثبوتيّ وعدميّ.
سلّمنا ، لكن نمنع
امتناع قيام العرض بمثله ، فإنّ أكثر المحقّقين ذهبوا إلى ذلك ، كالسرعة ، والحركة
، والاستقامة ، والخطّ.
سلّمنا ، لكنّه آت
في صفة الإمكان.
وعن الثالث عشر :
بتسليم الملازمة ، ومنع كذب التّالي ، فإنّ الطلب إنّما يتوجّه إلى الفعل لأجل
حسنه.
وعن الرابع عشر :
أنّ القدرة لا تزول باعتبار عروض امتناع الصدور ، لأنّ حكمته تقتضي امتناع صدور
القبيح عنه.
وعن الخامس عشر :
أنّ المراد : وما كنّا معذّبين بالأوامر السمعيّة ، أو يجعل الرسول إشارة إلى
العقل.
واعلم أنّ
الأشاعرة يلزمهم نفي القبح بالكلّيّة ، لأنّ الواقع مستند إلى قدرته تعالى ،
وكلّما يفعل الله تعالى عندهم فهو حسن ، فتكون أنواع الكفر والظلم ، وجميع القبائح
الصّادرة عن البشر ، غير قبيحة.
واعتذارهم بأنّ
القبح المعلوم عندهم بالضرورة ، إنّما هو القبح بمعنى ملائمة الطبع ومنافرته ،
ضعيف ، فإنّ الظالم العاقل يميل طبعه إلى الظلم ، ومع ذلك فإنّه يجد صريح عقله
حاكما بقبحه.
وأيضا من خاطب
الجماد وأمره ونهاه ، لا ينفر طبعه عنه ، وهو قبيح قطعا.
ومن أنشأ قصيدة
حسنة في شتم الأنبياء والملائكة ، وقرأها بصوت طيب حسن ، فإنّه يميل الطبع إليه ،
وينفر العقل منه. فعلمنا المغايرة بين نفرتي العقل والطبع.
واعلم أنّه لا
يمكن الجزم بشيء من قواعد الإسلام ، ولا بشيء من أحكام الدين ، إلّا بالقول بالحسن
والقبح العقليّين.
وكيف يصحّ الجزم
من الأشاعرة بصدق النبي صلىاللهعليهوآله ، ووعد الله تعالى ووعيده ، مع إمكان الكذب والإضلال من
الله تعالى لعبده بخلق المعجز على يد الكذّاب؟
وإنّما طوّلنا
الكلام في هذه المسألة لكونها أحد المطالب الجليلة.
وقد جرت عادة
الأصوليّين بذكر مسألتين ، تتفرّعان على هذه المسألة.
إحداهما : وجوب
شكر المنعم.
والثانية : حكم
الأشياء قبل ورود الشرع ، فلنشرع فيهما بعون الله تعالى.
المسألة الأولى :
في أنّ شكر المنعم واجب عقلا
اختلف الناس في
ذلك ، فأوجبه المعتزلة ، ونفاه الأشاعرة .
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ
الضّرورة قاضية بذلك.
الثاني : أنّه
دافع للخوف ودفع الخوف واجب ولا يتمّ إلّا بالشكر ، فيكون الشكر واجبا.
أمّا إنّه دافع
للخوف ، فلأنّ العاقل إذا رأى عليه آثار النّعمة خاف من كفرانها.
وأمّا إنّ الشكر
دافع له ، فلأنّ الخوف إنّما هو من تركه ، إذ العاقل يعلم انّه إذا شكر النعمة ،
وأذعن بها ، واعترف بالإنعام ، أمن من المؤاخذة على ترك ذلك ، ويعلم أيضا
بالضّرورة أنّ طريقة الشكر امن من غيره.
__________________
وأمّا دفع الخوف
واجب فلقضاء الضرورة به.
وأمّا أنّ ما لا
يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب فسيأتي.
الثالث : انّه إذا
تعارض طريقان : أحدهما امن ، والآخر مخوف ، وجب سلوك الامن ، وهنا الشكر طريق امن
، والإعراض مخوف.
الرابع : لو لم
يجب شكر المنعم عقلا ، لم تجب المعرفة ، إذ لا فرق بينهما.
ولأنّ المقتضي
لوجوب المعرفة ، وجوب الشكر.
والتالي باطل ،
وإلّا لزم إفحام الأنبياء عليهمالسلام ، فإنّهم إذا أظهروا المعجزات ، وقال المكلّف : لا يجب
عليّ النظر في المعجزة إلّا بالشرع ، ولا يستقرّ الشرع إلّا بالنظر في معجزتكم ،
فينقطع النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهو باطل بالإجماع.
احتجّت الأشاعرة
بالعقل والنقل
أمّا النقل :
فقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ
وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ).
وأمّا العقل : فهو
أنّ الشكر إمّا أن يجب فائدة أو لا ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ الفائدة يستحيل عودها إلى الله تعالى ، لأنّه غنيّ ، وإلى غيره ، لأنّها
إمّا جلب نفع أو دفع ضرر.
والأوّل باطل ،
لعدم وجوبه عقلا ، فكيف يجب المفضي إليه.
__________________
ولأنّه يمكن خلوّ
الشكر عن جلب النفع ، فإنّ الشكر لمّا كان واجبا ، لم يكن أداؤه مقتضيا شيئا آخر.
ولأنّه تعالى قادر
على إيصال كلّ المنافع بدون الشكر ، فتوسّطه عبث.
والثاني باطل ،
لأنّ المضرّة إمّا عاجلة ، وهو باطل ، لأنّ الاشتغال بالشكر ، مضرّة عاجلة ، فلا
يكون دافعا لها ، أو اجلة ، وهو باطل ، لأنّ المضرّة الاجلة إنّما يحصل القطع
بثبوتها عند عدم الشكر ، لو كان الشكر ليسرّ المشكور ، ويسوؤه الكفر ، أمّا
المنزّه عن ذلك فلا ، بل احتمال العقاب على الشكر قائم ، لأنّه تصرّف في ملك الغير
بغير إذنه.
ولأنّ العبد ، لو
حاول مجازاة مولاه على نعمة ، استحقّ التأديب ، والاشتغال بالشكر ، اشتغال
بالمجازاة.
ولأنّ نعم الله
تعالى بالنسبة إليه أقلّ من نسبة اللقمة إلى الملك.
ولو أنّ إنسانا
شكر الملك على إعطائه إيّاه لقمة في المحافل ، فعل قبيحا واستحقّ التأديب ، فكذا
هنا.
ولأنّ الشاكر قد
لا يعرف كيفيّة الشكر ، فيأتي بغير اللائق بكماله تعالى ، فيستحقّ العقاب.
وأمّا الثاني ،
فلأنّه عبث ، وهو قبيح عقلا.
ولأنّ المعقول من
الوجوب ، ترتّب الذّمّ والعقاب على الترك ، فإذا فقد ذلك ، امتنع تحقّق الوجوب.
والجواب عن الأوّل
: ما تقدّم من التخصيص بالأوامر الشرعيّة ، أو المجاز في الرسول وهو العقل.
سلّمنا ، لكن نمنع
استحالة تحقّق الوجوب بدون العقاب ، فإنّه يكفي فيه استحقاق المدح بفعله ، والذمّ
بتركه.
ولأنّ العذاب يجوز
إسقاطه بعفو أو شفاعة ، فلا يكون لازما للواجب.
والآية الثانية لا
دلالة فيها إلّا على نفي عذر المكلّفين بانقطاع الرّسل.
وعن الثاني : لم
لا يجب الشكر بمجرّد كونه شكرا لا لشيء آخر ، فإنّه لا يلزم ثبوت الغايات لكلّ شيء
، وإلّا لزم التسلسل ، بل لا بدّ وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته ، ولا غاية له
سوى ذاته ، كما أنّ دفع الضرر واجب لذاته ، لا لغاية أخرى.
ولهذا يعلّل
العقلاء وجوبه ، بكونه شكرا للنّعمة ، لا لشيء آخر ، وإن لم يعلموا شيئا آخر من
جهات الوجوب.
سلّمنا ، لكن لم لا يجب لفائدة اجلة عائدة إلى المكلّف ، [و] هي الثواب؟
قوله : «يمكن
إيصالها بدون الشكر».
قلنا : ممنوع ،
فإنّ الثواب نفع مستحقّ ، وصفة الاستحقاق إنّما تحصل بواسطة العمل.
قوله : «جلب النفع
غير واجب فلا يجب سببه».
قلنا : ممنوع ،
فإنّ المنافع تختلف ، فجاز وجوب بعضها عقلا ، ولا نسلّم أنّ أداء الواجب ، لا
يقتضي شيئا آخر.
__________________
سلّمنا ، لكن لم
لا يجب لكونه دافعا للضرر المتأخّر؟
قوله : «الشكر
مضرّة عاجلة».
قلنا : الضرر
العاجل المندفع بضرر الشكر ، أكثر من ضرر الشكر وهو خوف العقاب ، فإنّه ضرر راجح
على ضرر الشكر ، وهو كاف في الوجوب.
سلّمنا ، لكن لم
لا يندفع به الضرر الاجل؟
قوله : «إنّما
يتحقّق ذلك في حقّ من يسرّه الشكر ، ويسوؤه الكفر».
قلنا : ممنوع ،
فإنّ ترك الواجب علّة في استحقاق العقاب بتركه.
قوله : «الشكر
تصرّف في ملك الغير».
قلنا : هذا ضعيف ،
فإنّا نعلم قطعا أنّ الاشتغال بوظائف الخدمة ، والقيام بالشكر والمواظبة عليه ،
أسلم من تركه والإعراض عن الخدمة والتشاغل عن الشكر.
وتمثيل النعم
باللّقمة باطل ، فإنّ نعم الله تعالى على العبد بإيجاده وإحيائه وإقداره وما منحه
من العقل والسلامة وإقداره على الملاذ والنعم أعظم من ملك الدنيا بأجمعها ، ثمّ
تكميلهم بإرسال الرّسل وإنزال الكتب من أعظم النعم ، كما قال سليمان وداود عليهماالسلام حين شكرا نعم الله تعالى على ذلك في قوله : (وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا
عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ).
وكذا شكر إبراهيم عليهالسلام في الأولاد ، وغيرهم من الأنبياء.
ولا يلزم من قلّة
ذلك بالنسبة إلى ملكه تعالى قلّته في نفس الأمر ، فإنّ
__________________
الملك لو أعطى
فقيرا ما يغنيه ويزيد عليه ، كان نعمة عظيمة ، وإن قلّت بالنسبة إلى ملكه.
سلّمنا ، لكن منع
العبث غير لائق من الأشاعرة ، فإنّ الأحكام بأسرها عندهم كذلك ، إذ عندهم أنّه
تعالى لا يفعل لغاية ولا غرض ، ولا معنى للعبث سوى ذلك ، وينكرون القبح العقلي.
سلّمنا ذلك ، لكن
ذليلكم ينفي وجوبه عقلا وشرعا .
المسألة الثانية :
في حكم الأشياء قبل الشرع
اعلم أنّ الأفعال
البشريّة منها ضروريّة ، ولا يمكنهم تركها ، كالتنفّس في الهواء ، ولا بدّ من
القطع بعدم المنع فيها إلّا عند مجوّزي تكليف ما لا يطاق.
ومنها : ما ليس
ضروريّا ، كأكل الفاكهة وشبهها ، ممّا لا يدرك العقل تقبيحه ولا تحسينه بضرورة.
وقد اختلف فيه ،
فذهب البصريّون من المعتزلة ، وجماعة من الفقهاء الشافعية والحنفية إلى أنّها على
الإباحة.
وذهب البغداديّون
من المعتزلة ، وطائفة من الإماميّة وأبو علي بن أبي هريرة من الشافعية إلى أنّها على الحظر.
__________________
وقال أبو الحسن الأشعري
وأبو بكر الصيرفي وجماعة من الفقهاء إلى أنّها على الوقف ، وفسّروه بأمرين :
أحدهما : أنّه لا
حكم.
وهذا ليس وقفا على
الحقيقة ، بل هو قطع بانتفاء الحكم.
والثاني : أنّا لا
نعلم ما الحكم فيه.
والحقّ الأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : ما عوّل
عليه أبو الحسين البصريّ وهو : أنّ تناول الفاكهة مثلا ، منفعة خالية عن المفسدة ،
ولا ضرر على المالك ، فوجب الحكم بحسنه.
أمّا إنّه منفعة ،
فضروريّ ، وأمّا خلوّه عن أمارات المفسدة ، فلأنّه مقدّر.
وأمّا انتفاء
الضرر على المالك ، فظاهر.
وأمّا الحكم بحسن
ذلك ، فللعلم بحسن الاستظلال بحائط الغير ، والنظر في مرآته ، والتقاط ما سقط من حبّ زرعه ، إذا خلا عن المفاسد.
__________________
وعلّة حسنه ، كونه
منفعة خالية عن أمارات المفسدة ، ولا ضرر على المالك فيها ، قضيّة للدّوران.
وهذه الأوصاف
ثابتة في مسألتنا ، فثبت الحكم فيها.
لا يقال : عدم
العلم بالمفسدة يثبت معه احتمالها ، وهو كاف في القبح.
لأنّا نقول :
العبرة ، في قبح التصرّف المستند إلى الأمارات ، أمّا الخالية ، فلا.
ولهذا لو قام
العاقل من تحت حائط محكم البناء ، مستو في وضعه ، لاحتمال سقوطه ، سفّهه العقلاء ،
بخلاف ما لو كان الحائط مائلا.
ولأنّ احتمال
المفسدة ثابت في الفعل والترك ، فيلزم انفكاكه عنهما ، وهو تكليف ما لا يطاق.
الثاني : أنّه
تعالى خلق الطعوم قائمة في الأجسام ، فلا بدّ له من غرض ، وإلّا لزم العبث ، وذلك
الغرض يعود إلى غيره ، لاستحالة النفع والضرر عليه.
وليس الغرض
الإضرار ، إجماعا ، ولاستلزامه المطلوب ، إذ الضرر إنّما يتمّ بالإدراك الثابت
بالتناول ، فيكون التناول مطلوبا ، فيكون [الغرض] هو الانتفاع ، إذ لا واسطة
اتّفاقا.
فإن كان [الانتفاع]
بإدراكها ، فالمطلوب.
وإن كان باجتنابها
، لكون تناولها مفسدة فيستحقّ الثواب باجتنابها ، أو بأن يستدلّ بها ، استلزما إباحة إدراكها ، إذ ثواب الاجتناب إنّما يكون مع دعاء
النفس إلى إدراكها ، فيستلزم تقدّم إدراكها.
__________________
وكذا الاستدلال
بها يتوقّف على معرفتها ، الموقوفة على إدراكها.
الثالث : أنّه
يحسن من كلّ عاقل أن يتنفّس في الهواء ، وأن يدخل منه أكثر ممّا تحتاج إليه الحياة
، ومن اقتصر على قدر تحتاج الحياة إليه عدّ سفيها.
ولا علّة لهذا
الحسن ، إلّا كونه نفعا خاليا عن المفسدة ، ولا ضرر فيه على المالك ، وهو ثابت
هنا.
الرابع : أنّه
تعالى حكيم لطيف بعباده ، فلو كان هذا المفروض واجبا أو
__________________
حراما ، لوجب على
الله تعالى إرشاد عباده إليه ، فإنّ عادته تعريفهم الحسن والقبيح فيما لا يدرك
بالعقل ضرورة ولا نظرا ، ولمّا انتفى المنع الشرعيّ والإذن الشرعيّ ، دلّ على أنّه
مباح.
الخامس : أنّه
تعالى أعلمنا أنّه نافع ولا ضرر فيه ، وذلك يستلزم الإذن فيه ، إذ لو كان مانعا
منه ، لكان تناوله مشتملا على الضرر ، وهو خلاف الفرض.
احتجّ القائلون
بالحظر ، بأنّه تصرّف في ملك الغير بغير إذنه ، فيكون قبيحا.
احتجّ القائلون
بنفي الحكم ، بأنّ الحسن والقبح شرعيّان ، وقبل الشرع لا حكم.
وبقوله تعالى : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى
نَبْعَثَ رَسُولاً) نفى العذاب قبل البعثة ، وهو يستلزم نفي الوجوب والحرمة.
والجواب عن الأوّل
: المنع من عدم الإذن ، فإنّه مأذون فيه بدليل العقل ، كالاستظلال بحائط الغير.
وعن الثاني : بما
تقدّم بأن الحسن والقبح عقليّان.
وعن الآية بما
تقدّم مرارا.
ولأنّ العقاب لازم
للوجوب الشرعيّ لا الوجوب العقليّ ، فيلزم من نفيه نفي ملزومه أعني الوجوب الشرعيّ
لا العقليّ.
__________________
سلّمنا ، لكن لا
دلالة في الآية على الإباحة والوقف ، لعدم ملازمة العذاب لشيء من ذلك إجماعا.
وقد ألزم الفريقان
الأشاعرة بالتناقض ، فإنّ قولهم : «لا حكم» حكم بعدم الحكم.
ولأنّ التصرّفات ،
إن كان المكلّف ممنوعا عنها ، كانت على الحظر ، وإلّا كانت على الإباحة ، ولا
واسطة.
وهذان غير واردين
، فإنّه لا تناقض في الحكم بعدم الإباحة والحظر وغيرهما من الأحكام الخمسة ، فإنّ
الحكم المنفيّ هو الخاصّ ، والثابت هو العامّ المرادف للتصديق.
ومرادهم بالوقف :
إمّا انتفاء العلم بأنّ الحكم هو الحظر أو الإباحة ، وحينئذ تثبت الواسطة.
أو عدم الحكم ،
وليس إباحة أيضا ، لأنّه حاصل في فعل البهيمة ، ولا يوصف بالإباحة ، بل المباح هو
الّذي أعلم فاعله أو دلّ على أنّه لا حرج عليه في الفعل والترك ، والإعلام إنّما
يكون بالشرع عندهم ، فإذا انتفى ، فلا إباحة.
__________________
المقصد الثاني : في اللّغات
وفيه مقدّمة
وفصول.
أمّا المقدمة ففيها بحثان :
[البحث] الأوّل :
في الماهيّة
اللّغة مأخوذة من
لغا يلغو : إذا لهج بالكلام.
وقيل : من لغي
يلغى ، وهي كلّ لفظ وضع لمعنى ، فاللفظ هو ما يلفظه الإنسان ويخرج به الإشارات والرقوم ، وخرج بالثاني المهمل.
وهذا الحدّ شامل
للمفرد والمركّب ، وهو مرادف للكلام عند الأصوليّين ، فإنّهم حدّوه بأنّه «المنتظم
من الحروف المسموعة المتميّزة المتواضع عليها ، إذا صدر عن قادر واحد».
فالمنتظم حقيقة في
الأجسام ، إذ معناه الترتيب ، ولكن لمّا توالت الأصوات على السمع مترتّبة ، شبّهت
بالأجسام.
__________________
وقيّد بالحروف ،
ليخرج المنتظم من غيره.
وقيل : احترز به عن الحرف الواحد ، فإنّ أهل اللغة قالوا : أقلّ
الكلام حرفان ، إمّا ظاهرا أو في الأصل ك «ق» ، و «ع» و «ش» فإنّه في الأصل «قي»
بدلالة الردّ في التثنية فيقال «قيا» لكن أسقطت تخفيفا.
وليس بجيّد ، فإنّ
الانتظام نسبة لا تعقل إلّا بين اثنين ، بل الوجه في القيد ما قلناه نحن أوّلا.
وقولنا : «المسموعة»
احتراز عن الكتابة.
وقولنا : «المتميّزة»
احتراز عن أصوات الطيور.
وقولنا : «المتواضع
عليها» ليخرج عنه المهمل.
وقولنا : «إذا
صدرت عن قادر واحد» احتراز من أن ينطق قادر بحرف وأخر بآخر ، فإنّه لا يسمّى
المجموع كلاما ، لما لم يصدر عن قادر واحد ، وهذا يقتضي كون الكلمة المفردة كلاما
، والنحويّون جعلوه اسما للمفيد ، وهو الجملة المفيدة خاصّة.
وأيضا فقولهم : «الكلام»
أقلّه حرفان إمّا ظاهرا أو في الأصل ، ينتقض بلام التمليك ، وباء الإلصاق ، وفاء
التعقب ، فإنّها أنواع الحرف ، وكلّ حرف كلمة ، وكلّ كلمة كلام مع أنّها غير
مركّبة.
والحركة تبعد أن
تكون حرفا ، ثمّ لا يمكن العذر به في «ياء» غلامي ، والتنوين ، ولام التعريف.
__________________
وفيه نظر ، فإنّا
نمنع كون كلّ كلمة كلاما ، بل يخصّ الكلام بالمركّب.
هذا على اصطلاح
الأصوليّين ، وأمّا على اصطلاح النّحاة ، فإنّه الجملة المفيدة كما تقدّم.
وهي إمّا اسميّة
مثل زيد قائم ، أو فعليّة نحو قام زيد.
وقد يتركّب تركّبا
ثانيا كالقضايا الشرطيّة. إمّا المتّصلة مثل إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ،
أو المنفصلة مثل العدد إمّا زوج أو فرد.
واعلم أنّ الكلام
يخرج عن كونه كلاما تامّا بالزيادة ، وأخرى بالنقصان ، كما لو زدت «إن» الشرطية في
قولك : قام زيد ، أو حذفت لفظة قام.
وأقسام التركيب
اثنا عشر ، ثلاثة مكرّرة ، وسبعة مهملة ، والمستعمل اثنان ، اسم مع مثله ومع فعل
محكوم به.
لا يقال : ينتقض
ما ذكرتم بحرف النداء ، فإنّه يفيد مع الاسم.
فإن قلت : إنّه
نائب عن الفعل.
قلت : لو كان كذلك
لاحتمل التصديق والتكذيب ، ولجاز أن يكون خطابا مع ثالث.
لانّا نقول : إنّه
إنشاء فلا يحتمل التصديق والتكذيب ، ولا كونه خطابا مع ثالث كسائر الإنشاءات.
البحث الثاني : في
الغاية
الإنسان مدنيّ
الطّبع لا يمكنه أن يعيش وحده كغيره من الحيوانات ، بل لا بدّ له من مشاركة أشخاص
أخر من بني نوعه ، بحيث يستعين بعضهم ببعض في إصلاح جميع ما يحتاج إليه كلّ واحد
منهم بحسب الشخص ، ويفعل كلّ واحد منهم بعض الأمور الضروريّة في البقاء ، من الحرث
وإصلاح المأكل والملبس والمسكن.
ولا بدّ في ذلك من
أن يعرف كل واحد منهم ما في نفس صاحبه من الحاجات فيضطرّ إلى سلوك طريق للتعريف ،
وهي متعدّدة كالحركات والإشارات والرّقوم.
إلّا أنّهم وجدوا
الكلام أنفع في هذا الباب من غيره.
أمّا أوّلا
فلسهولة إدخال الصوت في الوجود لتولّده من كيفيّة مخصوصة في إخراج النفس الضروري ،
فصرفه إلى وجه ينتفع به انتفاعا كلّيّا أولى من طريق آخر لا يخلو من مشقّة عظيمة.
وأمّا ثانيا فلأنّ
الصوت يوجد في وقت الحاجة إليه وينتفي عند انتفائها ، فكان وضعه أولى ، إذ غيره قد
لا يعدم وقت الاستغناء ، فيحصل بالوقوف عليه ضرر.
وأمّا ثالثا فلأنّ
الكلام كما يحصل التعبير به عن الأجسام وتوابعها ، كذا يحصل التعبير به عن
المجرّدات بل وعن المعدومات ، بخلاف الإشارات الّتي تختصّ بالمقارنات خاصّة.
على أنّها قد تقصر
عنها أيضا ، إذ الأجسام البعيدة تتعذّر الإشارة إليها ، والجسم ذو الأعراض
المتكثّرة تتعذّر الإشارة إلى بعضها دون بعض ، إذ لا أولويّة ، لانصراف الإشارة
إلى اللّون القائم بالجسم دون الطعم أو الحركة القائمين به.
وأمّا رابعا
فلكثرة المعاني الّتي يحتاج إلى التعبير عنها ، فلو وضعنا لكلّ معنى علامة خاصّة
كثرت العلامات ، ولم يمكن ضبطها ، أو يحصل الاشتراك في أكثر المدلولات ، وهو مخلّ
بالفهم.
وأمّا خامسا فلأنّ
الأصوات أخفّ الأشياء ، إذ الأفعال الاختياريّة أخفّ من غيرها.
والمستغني عن
الآلات والأدوات أخفّ.
والمنتفي عنه ضرر
الازدحام أخفّ.
وما لا بقاء له مع
الاستغناء عنه أخفّ.
والمقدور عليه في
كلّ الأوقات أخفّ.
وما لا تعب فيه
ولا مشقّة أخفّ.
وذلك كلّه حاصل في
الصوت ، وقد خصّ الله تعالى الإنسان دون غيره من الحيوانات تكرمة له بالمقاطع
الصوتيّة.
ومن اختلاف
تركيبات المقاطع الصوتيّة حدثت العبارات اللّغويّة.
الفصل الأوّل
في مباحث كلّية تتعلّق بالوضع
البحث الأوّل :
الواضع
اختلف الناس هنا ،
فذهب بعضهم إلى أنّ دلالة اللفظ طبيعيّة أي لذاته ، وهو منقول عن عبّاد بن سليمان
الصيمري وبعض المعتزلة وأصحاب الإكسير.
وقال المحقّقون :
إنّها بواسطة الوضع ، واختلفوا فذهب بعضهم إلى أنّ الواضع هو الله تعالى ، وبه قال
أبو الحسن الأشعري وابن فورك والظاهريّة وجماعة من الفقهاء ، ووضعه مستفاد من جهة
التوقيف الإلهيّ إمّا بالوحي أو بخلق أصوات وحروف ويسمعها واحد أو جماعة ، أو بخلق
علم ضروريّ بذلك.
وذهب أبو هاشم
وأصحابه وجماعة من المتكلّمين إلى أنّها اصطلاحيّة ،
__________________
إمّا من واحد أو
جماعة تواطئوا على وضع هذه الألفاظ لمعانيها ، ثمّ عرّفوا غيرهم بذلك الوضع
بالإشارات والقرائن كالأطفال والاخرس الّذين يتعلّمون الوضع بسبب التكرار.
وقال آخرون :
بعضها اصطلاحيّ وبعضها توقيفيّ ، واختلفوا ، فقال الأستاذ أبو اسحاق : القدر الضروريّ الّذي يقع به الاصطلاح توقيفيّ ، والباقي
اصطلاحيّ.
وقال آخرون بالعكس
وانّ ابتداء اللّغات بالاصطلاح والباقي بالتوقيف.
والجمهور من
المحقّقين توقّفوا هنا ، وهو اختيار القاضي أبي بكر ، والغزّالي .
وجزم الجميع
بإبطال قول عبّاد ، لأنّ الألفاظ لو دلّت بالذات لامتنع اختلافها باختلاف الأمم في
الأصقاع والأزمان ، ولا اهتدى كلّ واحد إلى كلّ وضع ، وهو معلوم البطلان ، ولأنّا
نعلم بالضرورة أنّا لو وضعنا لفظة الكتاب لمعنى الدار وبالعكس أمكن ودلّت
اللّفظتان كما دلّتا في اللغة.
احتجّ بأنّه لو لا
المناسبة الطبيعيّة بين اللّفظ ومعناه ، لكان اختصاصه بذلك المعنى ترجيحا من غير
مرجّح.
__________________
والجواب نمنع
الملازمة ، فإنّ الواضع إن كان هو الله تعالى كان تخصيصه بذلك كتخصيص حدوث العالم
بوقت حدوثه.
وإن كان هو البشر
، كان المخصّص هو خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما في الألقاب.
احتجّ الأشعري
وموافقوه بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ
الْأَسْماءَ كُلَّها) فتكون الأفعال والحروف كذلك ، إذ لا قائل بالفرق.
ولأنّ الاسم مأخوذ
من السّمة وهي العلامة ، والأفعال والحروف كذلك ، فتكون اسما لوجود المعنى المشتقّ
منه فيها.
ولتعذّر التكلّم
بالأسماء واحدها ، فتعليمها يستلزم تعليم الأفعال والحروف.
الثاني : أنّه
تعالى ذمّ من سمّى بغير توقيف بقوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا
أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ) فلو لم يكن ما عدا ما سمّوه توقيفا لم يحسن هذا الكلام.
الثالث : قوله
تعالى (وَاخْتِلافُ
أَلْسِنَتِكُمْ).
وليس المراد
الألسنة اللّحمانية ، إذ لا اختلاف في تركيبها وتأليفها ، ولو ثبت فإنّه في غيرها
أبلغ وأكمل ، وكان جعله آية أولى من هذه.
__________________
فوجب حمله على
اللغات الصادرة عن الألسنة.
وأطلق عليها اسم
الألسنة إطلاق اسم العلّة على المعلول ، وهو من أحسن وجوه المجاز.
الرّابع :
العمومات كقوله تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي
الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ)(تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ)(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) واللّغات داخلة في هذه العمومات.
الخامس : لو لم
تكن اللغات توقيفيّة لزم الدور أو التسلسل ، واللازم بقسميه باطل ، فالملزوم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ الاصطلاح إنّما يتمّ بأنّ تعرف الجماعة المصطلحون ما يقصده كلّ واحد منهم ،
وإنّما يتمّ ذلك بطريق كالألفاظ والكتابة.
وعلى كلّ
التقديرين فلا بدّ من طريق ، وذلك الطّريق لا يفيد لذاته بل بالاصطلاح ، فإن كان
الأوّل دار ، وإلّا تسلسل.
السادس : لو كانت
اللّغات اصطلاحيّة لزم ارتفاع الأمان عن الشرائع ، لاحتمال تبدّل لغاتها ، ولا يجب
اشتهارها ، فإنّ معجزات الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أشهر منها ، ولم يتواتر نقلها.
__________________
والأذان والإقامة
مع اشتهارهما وإظهارهما في زمن النبي صلىاللهعليهوآله والإعلان بهما على رءوس الأشهاد قد اختلف فيهما.
احتجّ أبو هاشم
بقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ) دلّت على سبق الوضع على الرسالة ، فلو كانت اللّغات
توقيفيّة لتأخّرت عنها ، إذ التوقيف من الله تعالى إنّما هو على لسان رسله.
ولأنّها لو كانت
توقيفيّة لكان إمّا بالعلم الضّروريّ بأنّه تعالى وضع تلك الألفاظ لمعانيها أو لا.
والأوّل إمّا أن
يكون ذلك العلم خلقه في عاقل ، أو غيره.
والأوّل باطل ،
وإلّا لزم أن يكون العلم به تعالى ضروريّا ، إذ العلم بأنّه وضع اللفظ للمعنى
مسبوق بالعلم به ، فإنّ العلم بالصفة مسبوق بالعلم بالموصوف ، لكن التالي باطل ،
وإلّا لبطل التكليف.
لكن قد ثبت وجوب
التكليف على كلّ عاقل.
والثاني باطل
لامتناع أن يخلق في غير العاقل علما ضروريّا بالألفاظ ومناسباتها وتراكيبها
العجيبة.
وأمّا الثاني وهو
ألّا يكون قد خلق العلم الضروري بذلك ، فهو باطل أيضا ، وإلّا لافتقر السّامع في
كون ما سمعه موضوعا بإزاء معناه إلى طريق ، وينتقل الكلام إليه ، فإمّا أن يتسلسل
أو ينتهي إلى الاصطلاح.
واحتجّ أبو اسحاق
بأنّ الاصطلاح يتوقّف على تعريف كلّ واحد منهم
__________________
غيره ما في ضميره
على ما تقدّم ، فإن عرّفه باصطلاح آخر تسلسل ، فلا بدّ في أوّل الأمر من التوقيف.
ثمّ من الجائز أن
تحدث بعد ذلك لغات كثيرة بالاصطلاح ، بل الواقع ذلك ، فإنّ كلّ وقت يتجدّد لأهله
اصطلاحات لم يكونوا يعرفونها من قبل.
والاعتراض على
الأوّل من وجوه :
الأوّل : جاز أن
يكون المراد من التعليم الإلهام بالاحتياج إلى الألفاظ ، وبعث عزمه على وضعها ،
ونسب التعليم إليه تعالى ، لأنّه الهادي إليه ، لا أنّه علّمه بالخطاب
كقوله : (وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ).
الثاني : إعطاؤه
ما يتمكّن به من الوضع ، وليس التعليم إيجاد العلم ، بل فعل صالح لأن يترتّب عليه
حصول العلم ، يقال : علّمته فلم يتعلّم.
الثالث : ما يفعله
العبد منسوب إليه تعالى باعتبار أنّه الموجد للعبد ، فالعلم الحاصل بعد الاصطلاح ،
يكون مستندا إليه تعالى بالاخرة ، فصحّ استناد التعليم إليه.
الرابع : يجوز أن
يكون المراد من الأسماء الصفات والعلامات ، مثل أنّ الخيل للركوب ، والجمل للحمل ،
والبقر للحرث ، إلى غير ذلك ، فإنّ الاسم مأخوذ من السّمة والعلامة ، أو من
السّموّ ، وكلّ معرّف لغيره اسم له.
وتخصيصه باللّفظ
المعيّن عرف خاصّ.
__________________
الخامس : جاز أن
يعلّمه ما اصطلح عليه قوم تقدّموه.
السّادس : أراد
كلّ الأسماء في كلّ زمان ، أو الأسماء الّتي في زمانه عليهالسلام؟
السّابع : يجوز أن
يكون قد أنساها ، أو لم يعلّمها أولاده فعدمت بموته عليهالسلام ، فاصطلح أولاده على وضع هذه اللغات الموجودة لنا ،
والكلام إنّما هو في هذه اللّغات.
الثامن : تجوز
إرادة المسمّيات بدليل قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ
عَلَى الْمَلائِكَةِ).
وفيه نظر ، لأنّ
تمام الآية (أَنْبِئُونِي
بِأَسْماءِ هؤُلاءِ) يدلّ على الأسماء ، لا على المسمّيات.
التاسع : توقّف
نطق الأسماء على نطق الحروف والأفعال ، لا يستلزم لو سلّم توقّف التّعليم على
التعلّم ، لجواز الاصطلاح فيهما.
العاشر : كون
الاسم من السّمة ، لا يستلزم صدقه على الأفعال والحروف ، إذ لا يجب صدق المشتقّ
على كلّ ما وجد فيه المعنى.
و [الاعتراض] على
الثاني : أنّ الذمّ ليس باعتبار التّسمية لا غير ، بل بإطلاق اسم الآلهة على الأصنام ، مع اعتقاد تحقّق المسمّى فيها.
و [الاعتراض] على
الثالث : إذا خرجت الحقيقة وتعيّن المجاز ، لم يكن حمله على اللّغات ، أولى من
حمله على الإقدار على اللّغات ، أو على المخارج.
__________________
وفيه نظر ،
لأولويّة اللّغات من وجهين :
أحدهما : أنّ
استعمال اسم العلّة في المعلول أولى من غيره ، واللّغة صادرة عن اللسان ، وليس
الإقدار على اللّغات صادرا عنه ، وكذا المخارج ، بل نسبة اللسان إليهما نسبة
المحلّ إلى الحالّ.
الثاني : أنّ في
هذا زيادة إضمار ، بخلاف ما قلناه.
و [الاعتراض] على
الرابع : أنّ المراد ما ورد في الكتاب لا تفريط فيه.
سلّمنا ، لكنّ
المراد : ما فرّطنا في شيء من الأحكام.
سلّمنا : أنّ
المراد تبيين كلّ شيء لكن جاز أن يكون معرّفا للغات من تقدّم ، وكذا باقي
الآيات.
و [الاعتراض] على
الخامس : النقض بتعليم الأطفال اللّغات من آبائهم بتكرير الخطاب عليهم مرّة بعد
أخرى.
سلّمنا ، لكن جاز
أن تكون هذه اللغات اصطلاحيّة ، ومعرفتها مسبوقة بمعرفة لغة أخرى توقيفيّة يعلّمنا
من تقدّمنا ، ثمّ اصطلحوا على هذه.
لا يقال : إذا كان
لا بدّ من لغة توقيفيّة فلتكن هذه.
لأنّا نقول : نمنع
ذلك ، وقولك لا يفيد اليقين.
وفيه نظر ، إذ
البحث غير مختص بلغة خاصّة.
و [الاعتراض] على
السادس : أنّه لو غيّر لاشتهر ، والمعجزات إنّما خفي بعضها حتّى صار آحادا ،
لاشتهار غيرها ، والاكتفاء بالكتاب العزيز عنها.
__________________
واختلاف فصول
الأذان ، لاحتمال تسويغ الجميع ، أو غلط المؤذّن فنقص أو زاد مرّة ، فنقل واشتهر ،
أو غلط السامع.
و [الاعتراض] على
الحجّة الأولى للبهشميّة ، المنع من انحصار التوقيف في البعثة، بل جاز أن يكون
بالوحي ، أو بعلم ضروريّ يخلقه الله تعالى.
وعلى الثانية :
يجوز أن يخلق علما ضروريّا بأنّ واضعا وضع هذه الألفاظ لمعانيها ، وإن لم يخلق
العلم الضروريّ بأنّ الواضع هو الله تعالى.
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من العلم الضروريّ بأنّه تعالى هو الواضع ، العلم الضروريّ بذاته وصفاته
الإيجابيّة والسلبيّة ، أقصى ما في الباب أنّه يحصل العلم به تعالى ببعض
الاعتبارات ، وذلك لا يكفي في معرفته تعالى ، فيبقى التكليف بمعرفته تعالى كما
كان.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّه ينافي التكليف مطلقا ، بل التكليف بمعرفته خاصّة لذلك الشخص ، ولا
ينافي التكليف بسائر الأشياء.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يخلقه بعد المعرفة النظريّة.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يخلقه في غير العاقل.
وإذ قد ظهر ضعف
الكلامين ، فالأقرب التوقّف ، وتجويز كلّ واحد منهما ، وإن كان التوقيف أقوى.
__________________
البحث الثاني : في
أنّ اللّغة لا تثبت بالقياس
اختلف الناس في
ذلك : فقال القاضي أبو بكر وابن سريج وجماعة من الفقهاء وأهل العربيّة : إنّها تثبت قياسا.
ونفاه أكثر
الشافعيّة والحنفيّة وجماعة من الأدباء.
وليس الخلاف في
أسماء الأعلام ، لأنّها غير موضوعة لمعان توجبها.
والقياس ، لا بدّ
فيه من جامعة تكون علّة باعثة أو معرّفة.
وإذا قيل : هذا
سيبويه ، فالمراد أنّه حافظ كتابه ، أو شبيه سيبويه ، أو محيط بعلمه.
ولا في أسماء
الصفات ، لأنّها وضعت للفرق ، كالعالم المتميّز بذلك عن غيره ، ولأنّ اطّرادها
واجب ، نظرا إلى تحقّق معنى الاسم ، فإنّ معنى العالم من قام به علم ، وهو متحقّق
في كلّ من قام به علم.
وإطلاق اسم العالم
عليه بالوضع لا بالقياس ، إذ ليس جعل أحدهما أصلا والآخر فرعا أولى من العكس ، ولا
في نحو رفع الفاعل ، لأنّه ضابط كلّيّ وقانون استفيد من وضع أهل اللغة ، فلا يرفع
هذا الفاعل ، قياسا على رفع ذلك الفاعل.
__________________
بل الخلاف إنّما
هو في أسماء وضعت على مسمّياتها مستلزمة لمعان في محالّها وجودا وعدما ، وذلك مثل
إطلاق اسم الخمر على النبيذ باعتبار مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة
المخمّرة على العقل ، ومثل إطلاق لفظة السّارق على النّباش بواسطة مشاركته للسّارق
من الأحياء في الأخذ خفية ، ومثل إطلاق اسم الزاني على اللائط بمشاركة الإيلاج
المحرّم.
والحقّ أنّه لا
قياس.
لنا وجوه :
الأوّل : ما سيأتي
من إبطال العمل بالقياس.
الثاني : إثبات
اللغة بالمحتمل.
الثالث : أنّ أهل
اللّغة إن وضعوا الخمر لكلّ مسكر كان تناوله للنبيذ بالتوقيف لا بالقياس ، وإن
وضعوه للمعتصر من العنب خاصّة ، كان التّجاوز إلى النبيذ على خلاف قانون اللّغة ،
وإن أطلقوا احتمل كلّا منهما على التّساوي فلا يدلّ على أحدهما دون الآخر.
احتجّوا بوجوه :
الأوّل : الدّوران
، وبيانه أنّ الاسم دار مع الوصف في الأصل وجودا وعدما ، وذلك يقتضي بالعلّية ، ووجود
الاسم في الفرع تبعا لوجود الوصف فيه.
الثاني : أنّ
العرب إنّما سمّت بالإنسان والفرس من كان في زمانهم ، ثمّ اطّردنا نحن الاسم لما وجد في زماننا ، وسلّمنا رفع الفاعل ونصب المفعول ،
__________________
فإنّ العرب إنّما
نطقت برفع ما نطقوا به فاعلا ، ونصبوا ما نطقوا به مفعولا ، ثمّ حملنا نحن الباقي
عليه ، للمشاركة في وصف الفاعليّة والمفعوليّة ، وذلك محض القياس.
الثالث : قوله
تعالى (فَاعْتَبِرُوا) فإنّه كما دلّ على القياس الشرعيّ دلّ على القياس اللّغوي.
الرابع : النبّاش
يقطع ، وشارب النّبيذ يحدّ ، وكذا اللائط ، من غير ورود شرع فيهم ، بل بمجرّد
القياس في الأسماء.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الدّوران هنا لا يدلّ على علّيّة الوصف بمعنى الباعث بل بمعنى الأمارة ،
وكما دار اسم الخمر مع الشدّة المطربة كذا دار مع الشدّة المعتصرة من ماء العنب.
وينقض ما ذكرتموه
بتسمية رجل الطّويل نخلة والفرس الأسود أدهم ، والمتلوّن بالبياض والسواد أبلق مع
عدم الاطّراد ، ودوران الاسم مع الوصف في الأصل وجودا وعدما.
وعن الثاني : أنّ
التّسمية ليست على نحو القياس ، بل العرب وضعت تلك الألفاظ لأسماء الاجناس بطريق
العموم لا لمعيّن ، ثمّ قسنا نحن على ذلك المعيّن.
وعن الثالث : نمنع
دلالته على القياس على ما يأتي.
__________________
ونمنع العموم في
كلّ اعتبار وإن عمّ المعتبر.
ونمنع حدّ شارب
النبيذ بالقياس في التسمية ، بل بالنصّ كما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إنّ من التمر خمرا ، وهو توقيف لا قياس في اللغة ، أو بالقياس في الحكم ، وهو
أنّ العلّة في حدّ شارب الخمر لأجل تناوله المسكر ، وهو موجود في النبيذ.
وحدّ اللّائط ،
للمشاركة في المعنى ، وهو الإيلاج المحرّم لا التسمية.
وقطع النبّاش ،
لمشاركة السّارق ، لا لإلحاقه في التسمية ، كما في الأقيسة الشرعيّة.
البحث الثالث : في
أنّه لا يجب أن يكون لكلّ معنى لفظ
والدّليل عليه :
أنّ المعاني غير متناهية ، والألفاظ متناهية ، وذلك يوجب أحد الأمرين : إمّا خلوّ
البعض عن الألفاظ ، وهو المراد ، أو وضع اللّفظ لما لا يتناهى من المعاني ، وهو
محال ، إذ وضعه لما لا يتناهى يستلزم تعقّله ، وتعقّله ما لا يتناهى محال.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ من جملة أنواع المعاني الأعداد ، وهي غير متناهية.
وأمّا الثانية ،
فلأنّه مركّب من الحروف المتناهية ، والمركّب من المتناهي ، يكون لا شكّ متناهيا.
__________________
وإذا ثبت خلوّ بعض
المعاني عن الألفاظ ، فنقول : المعاني قسمان :
منها : ما تكثر
الحاجة إلى التعبير عنه ، لكثرة تداولها بين الناس ، وغلبة مزاولتهم لها ، فيجب
وضع الألفاظ بإزائها ، لوجود القدرة ، والدّاعي ، وانتفاء الصّارف.
ومنها : ما لا
تكثر الحاجة إلى التعبير عنه ، فإنّه يجوز خلوّها عن الألفاظ ، وذلك كأنواع
الروائح.
واعلم أنّ اللّفظ
المشهور بين الناس الخواصّ والعوامّ ، لا يجوز وضعه لمعنى خفيّ لا يعرفه إلّا
الأذكياء ، كما يقوله أبو هاشم وجماعة من مثبتي الأحوال ، وأنّ الحركة ليست عبارة
عن التحرّك بين الناس ، بل هي موضوعة بإزاء معنى يوجب للجسم كونه
متحرّكا.
لأنّ المعلوم عند
الجمهور ، ليس إلّا كون الجسم متحرّكا ، فأمّا تلك الحالة الّتي يجعلونها معنى
يوجب المتحركيّة ، فغير معلوم لأكثر العقلاء ، فلا يكون اللّفظ موضوعا له ، بل لا
معنى للحركة إلّا نفس كون الجسم منتقلا.
وفيه نظر ، لأنّ
الواضع إن كان هو الله تعالى ، فنسبة المعاني إليه كلّها على السّواء ، فلا يجوز
أن يكون بعضها خفيّا عنده.
والخفاء عند
النّاس ، لا يمنع الوضع عنه تعالى.
__________________
وإن كان هو البشر
فكذلك ، لاحتمال أن يكون بعض البشر وقف على المعنى الدقيق ، فوضع اللفظ بإزائه ثمّ
خفي على غيره ذلك المعنى ، واستعمله في لازمه ، واشتهر الثاني ، وإن كان الأصل هو
ذلك المعنى الدّقيق.
البحث الرّابع :
في تعيين الغرض بالوضع
الغرض من وضع
الألفاظ المفردة لمسمّياتها الممكنة تفهيم ما يتركّب من مسمّياتها بواسطة تركيب
تلك الألفاظ المفردة ، وليس الغرض أن يفاد بها معانيها وإلّا لزم الدّور ، لأنّ
إفادة الألفاظ المفردة لمعانيها موقوفة على العلم بكونها موضوعة لتلك المسمّيات ،
وذلك متوقّف على العلم بتلك المسمّيات ، فلو استفيد العلم بتلك المسمّيات من تلك
الألفاظ المفردة لزم الدّور.
لا يقال : هذا
وارد في المركّب ، إذ لا يفيد معناه إلّا بعد العلم بوضع ذلك المركّب له ، فيستدعي
سبق العلم بمعناه ، فلو استفيد العلم بالمعنى من المركّب لزم الدّور.
لأنّا نقول : نمنع
توقّف إفادة المركّب لمعناه على العلم بوضعه له ، وذلك لأنّا متى علمنا وضع كلّ
واحد من المفردات لمعناه ، وعلمنا دلالة الحركات المخصوصة على النّسب المخصوصة
لتلك المعاني ، فإذا توالت الألفاظ المفردة بحركاتها المخصوصة على السّمع ، ارتسمت
تلك المعاني المفردة مع نسبة بعضها إلى بعض.
وإذا حصلت
المفردات مع النّسب ذهنا حصل العلم بالمعاني المركّبة.
وفيه نظر ، فإنّ
الغرض من وضع اللفظ قد بيّنا أنّه تعريف الغير ما في ضمير المتكلّم من المعاني
المدلول عليها بألفاظ ، سواء كانت المعاني مفردة أو مركّبة ، ولا دور هنا ، فإنّا
لا نستفيد العلم بتلك المسمّيات من تلك الألفاظ ، بل نستفيد قصد المتكلّم أو غرضه
من المعاني المفردة من اللفظ المفرد.
واعلم أنّ الألفاظ
لم توضع للدّلالة على الموجودات الخارجيّة بل للدلالة على الذهنيّة.
أمّا في المفردات
فلأنّا إذا ظننّا في جسم بعيد أنّه صخرة سمّيناه بذلك ، فإذا ظهر لنا انّه إنسان
سمّيناه باسم الإنسان ، فاختلاف الأسماء عند اختلاف الصّور الذّهنيّة يدلّ على أنّ
اللفظ يدلّ عليها.
وأمّا في
المركّبات فلأنّا إذا قلنا : «قام زيد» لم يفد قيامه ، وإلّا لم يكن كذبا ، بل
الحكم به فإذا عرفنا أنّ ذلك الحكم صواب استدللنا به حينئذ على الوجود الخارجيّ ،
فأمّا أن يكون اللفظ دالّا على ما في الخارج فلا.
وفيه نظر ، فإنّ
الواضع إنّما وضع الألفاظ للمعاني الخارجيّة والحقائق العينيّة ، وأمر من يتحدّث
على لغته باستعمال اللّفظ فيما وضعه له.
والمتخيّل للصخرة
إنسانا إنّما يسمّي الصخرة الخارجيّة بالإنسان لا ما يتصوّره من الصورة
الإنسانيّة.
__________________
نعم انّه حكم
بمطابقة ما في ذهنه للخارج فأخطأ في الإطلاق ، فاللّفظ الموضوع للخارجيّ لم يختلف
في نفس الأمر.
وجواز إطلاق
اللّفظ على الشّيء مشروط باعتقاد أنّه كذلك في الخارج ، والكذب في المركّب إنّما
يمتنع لو كانت دلالته قطعيّة.
البحث الخامس : في
تعريف الوضع
اعلم أنّ الأمور
الشرعيّة ترجع إلى الكتاب والسنّة ، وهما عربيّان ، فيجب البحث عن النّحو المتعلّق
بهما ، والتّصريف واللغة ، حيث إنّهما واردان بلغة العرب ، لما ستعرف من أنّ ما لا
يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب.
ولا طريق للعقل
المحض إلى معرفة هذه الأشياء ، لتعلّقها بالنّقل ، فإذا طريق المعرفة إمّا النقل ،
أو المركّب من العقل والنقل.
أمّا النقل ، فمنه
متواتر ، وهو ما يعلم وضعه بنقل مفيد للعلم ، كالسماء والأرض ، ورفع الفاعل ، ونصب
المفعول ، وإمّا آحاد ، وهو كثير.
وأمّا المركّب ،
فهو كما إذا استفدنا بالنّقل جواز الاستثناء من الجمع ، وأنّ الاستثناء إخراج ما
لولاه لدخل ، فيعلم بالعقل بواسطة النّقلين أنّ الجمع للاستغراق.
وقد اعترض بامتناع التواتر ، فإنّ الألفاظ الظاهرة المتداولة
المشهورة بين الناس ، اختلف الناس فيها اختلافا يمتنع معه القطع ، فكيف الألفاظ
الخفيّة.
__________________
وبيانه : أنّهم
اختلفوا في لفظة الله تعالى : فزعم قوم أنّها سريانيّة غير عربيّة.
وآخرون جعلوها
عربيّة واختلفوا : فقال قوم : إنّها موضوعة ، وآخرون : إنّها مشتقّة ، واختلف
الفريقان اختلافا عظيما.
وكذا اختلفوا في
الإيمان والكفر ، والصلاة والزكاة ، حتّى قال بعض المحقّقين في علم الاشتقاق : إنّ
الصّلاة مأخوذة من «الصّلوين» وهما عظما الورك ، ولا شكّ في أنّه غريب.
وكذا اختلفوا في
صيغة الأمر والنهي ، وصيغ العموم ، مع شدّة حاجتهم إلى التعبير عن ذلك كلّه ، وعظم
شهرتها.
وإذا كان الظاهر
حاله ذلك ، فكيف الخفيّ ، وكيف يدّعى التواتر في مثل ذلك.
ولا يكفي دعوى
التواتر في علم معانيها في الجملة ، كإطلاق لفظ الله على الإله تعالى ، وإن خفي
الموضوع له هل هو الذات ، أو المعبودية أو القادريّة؟ وكذا غيرها ، لأنّ ذلك يوجب
الشكّ في المسمّى.
لأنّا إذا علمنا
إطلاق لفظة الله تعالى على الإله ، من غير أن نعلم هل المسمّى الذات ، أو كونه
معبودا ، أو قادرا على الاختراع ، أو ملجأ الخلق ، أو كونه بحيث تتحيّر العقول في
إدراكه ، إلى غير ذلك من المعاني المستعمل فيها هذا اللفظ ، لم يعلم المسمّى قطعا.
وأيضا من شرط
التواتر استواء الطرفين والواسطة ، وذلك غير معلوم الثبوت في جميع الأزمنة في
النحو واللّغة والتّصريف وإن علمنا حصول الشرط في زماننا.
لا يقال : أخبرنا
من شاهدناه مع بلوغهم حدّ التواتر : أنّ من أخبرهم [كانوا] كذلك ، وهكذا إلى ان
ينتهي النقل إلى الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ولأنّها لو تجدّد
وضعها لاشتهر ، لتوفّر الدّواعي على نقله.
لأنّا نقول : كلّ
من سمع لغة معيّنة من غيره ، لم يسمع منه أنّه سمعها من أهل التواتر ، بل غاية
نقلهم الإسناد إلى أستاذ ، أو كتاب مصحّح ، وليس وضع اللفظ لمعنى من الأمور
العظيمة الّتي يشتهر نقلها ، وتتوفّر الدّواعي عليه.
ولأنّا نسمع من
كثير من العرب في زماننا ألفاظا فاسدة ، وإعرابا مختلّا ، مع أنّا لا نعرف المغيّر
ولا زمانه.
سلّمنا ، لكنّه قد
اشتهر بأنّ اللّغة إنّما أخذت عن جمع محصور ، كالخليل ، وأبي عمرو بن العلاء ، والأصمعيّ ، وأبي عمرو الشيباني ، وأمثالهم ، وهؤلاء ليسوا معصومين ، ولا بلغوا حدّ
التواتر ، فحينئذ لا يحصل القطع بقولهم ، ولا يكفي القطع بصدق بعضها ، فإنّه غير
معلوم العين ، فلا لفظ إلّا ويجوز أن يكون خطأ.
وأمّا الآحاد فلا
تفيد إلّا الظنّ ، ومعرفة القرآن والسّنة تتوقّف على معرفة
__________________
اللغة والنحو
والتصريف ، وإذا كانت مظنونة ، كان مدلول القرآن والسّنّة ظنيّا ، وهو باطل
بالإجماع.
ولأنّ خبر الواحد
إنّما يفيد الظنّ لو سلم عن المعارض والقدح في الناقل ، وهو منفيّ هنا ، فإنّ أجلّ
ما صنّف في اللغة كتاب «سيبويه» وكتاب «العين».
وقدح الكوفيّين في
كتاب سيبويه وفي مصنّفه ظاهر.
واتّفق جمهور أهل
اللّغة على القدح في كتاب «العين».
وأورد ابن جنّي في «الخصائص» بابا في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض ،
وبابا آخر في أنّ لغة أهل «الوبر» أصحّ من لغة أهل «المدر» ، وغرضه القدح في
الكوفيّين ، وبابا آخر في الغريب ، لم يعلم إلّا من ابن أحمر الباهلي .
__________________
وروي عن رؤبة وأبيه ، أنّهما ارتجلا ألفاظا لم يسبقا إليها ، وكذا قال المازني : ما قيس على كلام العرب فهو من كلامهم.
ونسب الأصمعيّ إلى
الخلاعة ، وزيادة ألفاظ في اللغة لم تكن.
ومن العجب إقامة
الأصوليّين الدّلالة على أنّ خبر الواحد في الشرع حجّة ، ولم يقيموا في اللّغة ،
الّتي هي الأصل ، فكانت أولى ، ويجب أن يبحثوا عن رواتها ، وجرحهم ، وتعديلهم ،
كما في رواة الشّرع.
__________________
وأيضا ، فإنّ
الرّواية تقبل مع عدم التطرّق إليها بالزيادة والنقصان ، وقد حصلا هنا.
أمّا الزيادة ،
فكما نقل عن رؤبة ، وأبيه ، والأصمعيّ ، والمازنيّ .
وأمّا النقصان ،
فقد روى ابن جنّيّ : «أنّ الشّعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه ، فتشاغلت العرب
عنه بالجهاد بعد ظهور الإسلام ، فلمّا اشتهر ورجعت العرب إلى أوطانها راجعوا الشعر
، وقد هلك أكثر العرب ولا كتاب هناك يرجع إليه ، فلم يظفر إلّا بالقليل».
وروى ابن جنّيّ عن
يونس بن حبيب وأبي عمرو بن العلاء : أنّ ما انتهى إلينا ممّا قالت العرب
إلّا أقلّه ، وروي كثيرا في معناه ، وهو يؤذن بتطرّق التغير واعتراض الأحداث على
اللّغة.
وقد عجز الصحابة
عن ضبط ما شاهدوا في اليوم خمس مرّات وهو : فصول الأذان والإقامة ، والجهر
بالقراءة ، ورفع اليدين ، فإذا كانت الظاهرة كذلك ، فكيف حال اللّغات وكيفيّة
الإعراب ، مع قلّة وقعها ، وعدم اشتغالهم بتحصيلها ، إلّا بعد انقراض عصر الصحابة
والتابعين.
وأمّا الاستدلال
بالمقدّمات النقلية فإنّما يتمّ لو امتنعت المناقضة على الواضع ، وانّما يمتنع لو
كان الواضع هو الله تعالى ، وذلك غير معلوم ، فلا يحصل الجزم بالإنتاج.
__________________
لا يقال : قد
أجمعوا على الاستدلال بهذا الطريق في مباحث النحو والتصريف ، والإجماع حجّة.
لأنّا نقول :
إثبات الإجماع سمعيّ وكلّ سمعي فرع على النحو واللغة والتصريف ، فلو أثبتنا الأوّل
بالإجماع دار.
والجواب عن هذه
الاشكالات : أنّ من النحو والتّصريف واللغة ما هو متواتر قطعا لا يقبل التشكيك ،
وأنّها في الأزمنة الماضية كذلك ، كلفظ السماء والأرض ، فإنّا نعلم قطعا
استعمالهما في معنييهما الآن في زمن الرّسول صلىاللهعليهوآله ، والقدح في مثل ذلك غير مقبول ، لجريانه مجرى شبه
السوفسطائيّة.
ومنها : ما يعلم
بالآحاد.
وأكثر ألفاظ
القرآن من [القسم] الأوّل في نحوه وتصريفه ، فقامت الحجّة به.
وأمّا الثاني :
فقليل جدّا ، ويتمسّك به في ظنّيّات المسائل لا في علميّاتها ، ووجوب العمل بالظنّ
ثبت بالإجماع ، والإجماع ثبت بالقسم الأوّل العلميّ لا بالثاني الظنّي.
__________________
الفصل الثاني
في تقاسيم دلالة الألفاظ
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : اللفظ إمّا أن يدلّ
على المعنى بتوسّط وضعه له ، فتكون الدلالة مطابقة ، كالبيت الموضوع لمجموع الجدار والسقف ، أو بتوسّط
دخوله فيما له الوضع ، فتكون الدلالة تضمّنيّا كدلالة البيت على أحد جزئيه ، أو
بتوسّط لزومه لما له الوضع ، وتسمّى دلالة الالتزام ، كدلالة البيت على وقاية
الحرّ والبرد ، ودلالة السّقف على الجدار.
والمراد من
الدّلالة فهم المعنى من اللفظ عند إطلاقه أو تخيّله بالنسبة إلى من هو عالم
بالوضع.
وقيدنا بالتوسّط
في الدلالات الثلاث ، ليخرج اللفظ المشترك بين الكلّ وجزئه ، أو بينه وبين لازمه.
والمطابقة وضعيّة
صرفة ، والباقيتان بمشاركة من الوضع والعقل ، فإنّ اللّفظ إذا وضع للمركّب أو
للملزوم ، كان فهم المركّب والملزوم مستلزما لفهم الجزء واللازم.
ويشترط في
الالتزام اللّزوم الذهنيّ ، وإلّا لم تحصل الدلالة الالتزامية ،
لعدم الوضع فيه
وعدم دخوله في الموضوع له اللفظ ، فلو لم يلزم من العلم بالماهيّة العلم به انتفت
الدلالة مطلقا.
ولا يشترط اللزوم
الخارجيّ ، قيل : لأنّ الجوهر والعرض متلازمان ، ولا يستعمل اللّفظ الدالّ
على أحدهما في الآخر.
وليس بجيّد ،
فإنّه لا يلزم من حصول الشرط حصول المشروط ، نعم الحقّ وجود الدلالة مع المعاندة
الخارجيّة كدلالة العدم على الملكة ، ثمّ اللزوم الذهنيّ شرط لا سبب.
المبحث الثاني :
في المفرد والمركّب
اعلم أنّ الألفاظ
تحذو حذو المعاني ، وكما أنّ من المعاني ما هو بسيط مفرد ، وما هو مركّب ، فكذا من
الألفاظ مفرد ومنها مركّب ، وذلك لأنّ الدالّ بالمطابقة إمّا ألا يقصد بجزئه
الدلالة على شيء البتّة حين هو جزؤه ، فيسمّى مفردا كزيد ، وإمّا أن يقصد كغلام
زيد فيسمّى مركّبا ومؤلّفا وقولا.
وقيل : المفرد ،
اللفظ بكلمة واحدة والمركّب ما اشتمل على كلمتين ، فنحو «بعلبكّ» مركّب بهذا
المعنى دون الأوّل ونحو «يضرب» بالعكس ، وألزم الأوّلون التركيب في نحو ضارب ومخرج
، ممّا لا ينحصر .
__________________
وليس بجيّد ، إذ
الدالّ المجموع وما يدلّ جزء من أجزائه دون الباقي غير واقع ، لأنّه ضمّ مهمل إلى
مستعمل وهو غير مفيد ، ونحو «عبد الله» إذا جعل علما على شخص مفرد حال العلميّة ،
لأنّ كلّ واحد من جزئيه حينئذ لا يقصد به الدلالة على شيء أصلا ، ولا ينافي ذلك
القصد بإرادة أخرى واعتبار آخر وهو اعتبار الوضعيّة ، فإنّه حينئذ يكون مركّبا.
المبحث الثالث :
في الذاتي والعرضي
اعلم أنّ اللفظ
المفرد إمّا أن يمنع نفس تصوّره من الشركة فيه ، وهو الجزئي الحقيقيّ ، ويطلق
الجزئي على كلّ أخصّ تحت أعمّ وهو أعمّ لا عموم الجنس ، لانفكاكهما تصوّرا.
أولا يمنع ، وهو
الكلّي.
وأقسامه بالنّسبة
إلى الوجود الخارجيّ وتعدّد أفراده ستّة.
وبالنسبة إلى
جزئيّاته قسمان : ذاتيّ وعرضيّ.
والذّاتيّ إمّا
نفس الماهيّة أو جزؤها ، فالأقسام ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
الكلّي نفس الماهيّة ، وهو النّوع الحقيقيّ ، ويرسم بأنّه : الكلّيّ المقول على
كثيرين مختلفين بالعدد فقط في جواب ما هو ، ولا تشترط الكثرة الخارجيّة ، ويطلق
النوع على أخصّ الكلّيين المقولين في جواب ما هو ، وهو الإضافيّ ، وبينهما عموم من
وجه.
الثاني : أن يكون
جزء الماهيّة ، فإن كان مقولا في جواب ما هو
بحسب الشركة ، فهو
الجنس ويرسم بأنّه الكلّيّ المقول على كثيرين مختلفين بالحقائق في جواب ما هو قولا
بحال الشركة ، فمنه قريب ، ومنه بعيد.
وإن لم يكن مقولا في
جواب ما هو بل في جواب أيّما هو ، فهو الفصل ، ويرسم بأنّه كلّيّ يقال على الشيء
في جواب أيّ شيء هو في جوهره.
الثالث : أن يكون
خارجا عن الماهيّة ، ويسمّى العرضيّ ، وهو إمّا أن يختصّ بحقيقة واحدة ، وتسمّى
الخاصّة ، وترسم بأنّها كلّيّة يقال على أفراد حقيقة واحدة فقط ، قولا عرضيّا.
وإمّا ألا يختصّ ،
ويسمّى العرض العامّ ، ويرسم بأنّه كليّ يقال على أفراد حقيقة واحدة وعلى غيرها
قولا عرضيّا ، فالكلّيّات هذه الخمس لا غير.
وللذّاتيّ خواصّ
ثلاث :
الأولى : أنّه
يمنع تصوّر الشّيء إلّا إذا تصوّر ما هو ذاتيّ له أوّلا ، أي يتقدّم عليه في
الوجودين والعدمين.
الثانية : أنّه
يمنع سلبه عمّا هو ذاتيّ له.
الثالثة : عدم
احتياجه إلى علّة مغايرة لعلّة الماهيّة ، فإنّ جاعل السّواد هو الّذي جعله لونا ،
والأوّل حقيقة ، والباقيتان إضافيّتان وقد تتصاعد الأجناس مرتبة ، فلا بدّ من
الانتهاء إلى ما لا جنس فوقه ، ويسمّى جنس الاجناس ، وتتنازل الأنواع إلى ما لا
نوع تحته وهو السّافل ، وبينهما مراتب متوسّطة.
والعرض قد يكون
لازما ، وقد يكون مفارقا ، واللازم إمّا للماهيّة أو للوجود.
والمفارق إمّا
سريع الزوال أو بطيئه ، وعلى كلّ التقديرين فإمّا سهل الزوال أو عسره.
واللازم إمّا بوسط
أو بغير وسط ، فهذه جملة مختصرة في الكلّيّات ، والاستقصاء ذكرناه في كتبنا
المنطقيّة.
المبحث الرابع :
في بسائط الكلام :
اللّفظ المفرد ان
لم يستقلّ بالدلالة ، فهو الحرف وإن استقلّ فإن لم يدلّ على الزّمان المعيّن
بصيغته ووزانه فهو الاسم.
وإن دلّ فهو الفعل
، ففصول الفعل ملكات بخلاف قسميه.
والاسم قد يدلّ
على معنى هو الزمان كاليوم والأمس ، وقد يدلّ على معنى جزئه الزمان كالمتقدّم
والمتأخّر والصّبوح والغبوق ، والزمان هنا غير معيّن ، وإنّما يتعيّن بالتصريف
، كتقدم ويتقدم واصطبح ويصطبح.
وقد لا يدلّ على
الزمان البتّة كالجسم.
وأيضا الاسم إمّا
أن يكون مفهومه مانعا من الشركة ، فإمّا أن يفتقر إلى ما يرجع إليه ، وهو المضمرات
أو لا وهو الاعلام ، أو لا يمنع ، فقد يكون اسما للماهية كالسواد ، وتسمية
النحويّين لون اسم الجنس أو لموصوفيّة أمر ما بصفة وهو المشتق كالضّارب وهو شيء ما
مجهول عند السّامع من حيث الذات معلوم من حيث هذا الوصف ، ويختصّ بصحّة الإخبار عن
مسمّاه بمجرد ذكره بخلاف قسميه.
__________________
لا يقال : هذا
إخبار عنهما خاصّ.
لأنّا نقول :
اخبرنا عنهما لا بمجرّد ذكرهما بل معبّرين عنهما باسمين.
لا يقال : يصحّ أن
يقال : «ضرب» فعل ماض و «في» حرف جرّ.
لأنّا نقول :
الإخبار هنا عن اللّفظ لا عن المسمّى.
لا يقال : يصحّ أن
يقال : ضرب لا يخبر عن مسمّاه : بمجرّد ذكره.
لأنّا نقول :
الإخبار هنا عن اللفظ أيضا ، لامتناع أن يكون لمسمّى «ضرب» مسمّى.
وينقسم إلى صحيح
وهو ما لم يكن في آخره ألف ولا ياء قبلها كسرة ، وإلى معتلّ إمّا مقصور وهو ما كان
في آخره ألف ، وإما منقوص وهو ما كان في آخره ياء قبلها كسرة ، وإن كان في آخره
همزة قبلها مدّ فهو الممدود.
وينقسم إلى معرب
إمّا منصرف وهو ما يصلح أن يدخله جرّ وتنوين ، أو غيره وهو ما لا يصلح ذلك فيه من
المعربات ، وإلى مبنيّ وهو ما شابه مبنيّ الأصل.
وأيضا فهو إمّا
ظاهر ، وأقلّ ما يكون من ثلاثة أحرف حذرا من الإجحاف به ، مع قوّته بالنسبة إلى
قسميه اللّذين يمكن وجود الثلاثة فيهما ، وقد يحذف الثالث لعارض كيد وأب ودم.
ولأنّ الأوّل لا
يمكن أن يكون ساكنا ، والموقوف عليه لا يكون متحرّكا ، ولا بد من متوسّط ، للتنافر
بين المتحرّك والساكن ، فوجبت الثلاثة.
لا يقال :
المتوسّط إن كان متحرّكا جعل التنافر بينه وبين الآخر ، وإن كان ساكنا تنافر هو
والأوّل.
لأنّا نقول : إنّه
متحرّك ولا منافرة بينه وبين الأخير حينئذ من حيث إنّ اللسان قد عرض له الكلال
بتوارد المتحرّكين ، فيطلب الراحة بالسّاكن.
وإمّا مضمر إمّا
متّصل كالتاء من «فعلت» والكاف من «ضربك» والياء من «غلامي».
وإمّا منفصل كهو
وأنت ، وتثنيتهما وجمعهما.
وإمّا مبهم كأسماء
الإشارة نحو «ذا» و «تا» وتثنيتهما وجمعهما ، وقد تدخل عليهما هاء التّثنية في
أوّله ، وكاف الخطاب في آخره.
والمنسوب ما دخل
عليه ياء النّسب كهاشميّ وعلويّ.
والفعل ينقسم
بانقسام الزمان إلى ماض كضرب ، ومضارع كيضرب ، وهو مشترك بين الحاضر والمستقبل ،
ويخلص لأحدهما بالقرائن كالآن في الحاضر ، والسّين وسوف في المستقبل.
ويختصّ المضارع
بحروف المضارعة في أوّله ، وهي الهمزة والنون والتاء والياء.
وأمّا فعل الأمر
فما ينزع حرف المضارعة.
والماضي إذا أسند
إلى ظاهر فهو مفرد وإلّا فمركّب ، لاشتماله على الضمير.
وأفعال المضارعة
عدا الغائب عند بعضهم مركّبة ، وعند آخرين مفردة.
وأمّا الحرف
فإنّما أتي به رابطة بين الاسم والفعل.
وأقسامه ثلاثة :
الأوّل : ما يكون
حرفا خاصّة ك «من» و «إلى» و «حتّى» و «في» و «الباء» و «اللّام» و «ياء القسم» وواوه
، وتائه.
والثاني : ما يكون
حرفا تارة واسما أخرى ك «على» و «عن» و «الكاف» و «مذ» و «منذ».
والثالث : ما يكون
حرفا تارة ، وفعلا أخرى ك «حاشا» و «عدا» و «خلا» وسيأتي البحث في ذلك كلّه إن شاء
الله تعالى.
المبحث الخامس :
في نسبة اللفظ إلى المعنى
اللّفظ المفرد
والمعنى إمّا أن يتّحدا أو يتكثّرا ، أو يتّحد اللّفظ ويتكثّر المعنى ، أو بالعكس
فالأقسام أربعة :
الأوّل : أن
يتّحدا معا ، فإن كان المعنى مانعا من الشركة لنفس تصوّره ، فهو العلم ، أو المضمر
، أو المبهم على ما سبق.
وإن لم يمنع فهو
الكلّي ، فإن تساوت أفراده ، فهو المتواطئ أي المتوافق لتوافق أفراده فيه.
وإن تفاوتت بأن
كان بعضها أشدّ من بعض فيه من الآخر ، كالبياض بالنسبة إلى بياض الثلج والعاج ، أو
كان بعضها أولى من الآخر ، كالوجود للجوهر والعرض ، أو كان بعضها أقدم من البعض
الآخر فيه ، كالوجود للعلّة والمعلول ، سمّي مشكّكا من حيث مشابهته للمتواطئ
باعتبار اتّحاد المعنى.
والمشترك باعتبار اختلاف أفراده فيه ، فالناظر فيه يشكّ هل هو مشترك
أو متواطئ .
ولنا فيه نظر ،
ذكرناه في كتبنا العقليّة.
الثاني : أن
يتكثّرا معا ، وهي الألفاظ المتباينة ، كإنسان وفرس ، سواء تباينت المسمّيات
بذواتها ، كهذا المثال ، أو كان بعضها صفة للبعض كالسيف والصارم ، أو صفة للصفة
كالناطق والفصيح.
الثالث : ان
يتكثّر اللّفظ ويتّحد المعنى ، ويسمّى المرادفة كالإنسان والبشر ، سواء كانت من
لغة واحدة أو من لغات.
الرابع : أن يتّحد
اللّفظ ويتكثّر المعنى ، فهذا اللفظ لا يخلو إمّا أن يكون قد وضع أوّلا لمعنى ثمّ
نقل إلى الثاني ، أو وضع لهما معا.
فالأوّل إن لم يكن
النقل لمناسبة فهو «المرتجل» .
وإن كان لمناسبة ،
فإن كانت دلالته بعد النقل على المنقول إليه أقوى ، سمّي بالنسبة إليه منقولا
لغويّا إن كان الناقل أهل اللّغة ، وشرعيّا إن كان هو الشرع ، كالصلاة والزكاة ،
وعرفيّا إن كان الناقل أهل العرف ، إمّا [العرف]
__________________
العامّ كالدابّة ،
أو الخاصّ كاصطلاحات النّحاة وغيرهم.
وإن لم تكن أقوى
يسمّى بالنّسبة إلى الأوّل حقيقة ، وبالنسبة إلى الثاني مجازا ، فإن كان جهة النقل
المشابهة سمّي مستعارا.
وإن كان اللفظ
موضوعا لهما معا دفعة ، فإن كانت إفادتهما إمّا على السواء ، فهو المشترك بالنّسبة
إليهما معا ، والمجمل بالنّسبة إلى كلّ واحد منهما ، فإنّ كون اللّفظ موضوعا لهذا
وحده ولذاك واحده معلوم ، فكان مشتركا من حيث هذه الحيثيّة ، وكون المراد هذا أو
ذاك غير معلوم ، فكان مجملا من هذه الحيثية.
وقيل : بالعكس.
وإن كانت دلالته
على أحدهما أقوى سمّيت اللّفظة بالنّسبة إلى الرّاجح «ظاهرا» وبالنّسبة إلى
المرجوح «مؤوّلا» .
وفيه نظر ، فإنّه
يعطي كون المشترك جزئيّا لما وضع اللفظ فيه لمعنيين دفعة ، وكون الظاهر والمأوّل
جزئيّا آخر له.
وليس بجيّد ، أمّا
أوّلا فلأنّا لا نشترط في المشترك اتّحاد زمان الوضع ، بل لو وضع أوّلا لمعنى
واستعمل فيه ، ثمّ وضع ثانيا لمعنى آخر واستعمل فيه ، وتساوى الاستعمال فيهما سمّي
مشتركا.
وأمّا ثانيا فلأنّ
«الظاهر» و «المأوّل» قد يوجد في الوضع الواحد كما في الحقيقة والمجاز.
__________________
والأجود أن يقال :
إن وضع لمعنيين وضعا أوّلا ، سواء كان الزمان واحدا أو متعدّدا ، وسواء كان الوضع
واحدا أو أكثر ، فهو المشترك ، وإلّا فما تقدّم من الأقسام.
ثمّ نقول : اللّفظ
إن لم يحتمل غير ما أفيد له وأريد منه ، فهو النّصّ.
وإن احتمل غيره
فإن تساويا فالمجمل ، وإلّا فالرّاجح هو «الظاهر» ، والمرجوح هو «المؤوّل».
واعلم أنّ الأقسام
الثلاثة الأوّل اشتركت في الواحدة وعدم الاشتراك فهي نصوص.
وأمّا الرابع
فينقسم إلى الأربعة ، إذا عرفت هذا فنقول :
النصّ والظاهر قد
اشتركا في مطلق الرجحان ، إلّا أنّ النصّ راجح مانع من النقيض ، والظاهر راجح غير
مانع من النّقيض ، فالمشترك فيه وهو مطلق الرّجحان ، يسمّى المحكم ، فهو جنس لنوعي
النّص والظّاهر.
والمجمل ليس براجح
ولا مرجوح.
والمأوّل مرجوح
فلا يكون راجحا قطعا ، فقد اشترك المجمل والمأوّل في عدم الرّجحان ، إلّا أنّ
المجمل وإن كان غير راجح فهو غير مرجوح ، والمأوّل مرجوح ، ويقال للمشترك بينهما :
المتشابه ، فهو جنس لنوعي المجمل والمأوّل.
__________________
المبحث السادس :
في اللّفظ المركّب
قد عرفت أنّ
الغاية في الوضع للألفاظ إفادة الغير ما في الضمير عند المحاورة ، وإنّما يكثر ذلك
في المركّبات ، فالقول المفهم إمّا أن يفيد طلب شيء إفادة أوّليّة أي وضعيّة أو
لا.
والأوّل إمّا أن
يفيد طلب ذكر ماهيّة الشيء ويسمّى الاستفهام ، أو طلب التحصيل ، فإن كان على وجه
الاستعلاء فهو الأمر ، وإن كان على وجه الخضوع فهو السؤال ، وإن كان على وجه
التساوي فهو الالتماس ، سواء كان الطلب لتحصيل الوجود أو العدم.
وإن لم يفد طلب
شيء إفادة أوّليّة ، فإمّا أن يحتمل التصديق والتكذيب لذاته ، وهو الخبر والقضيّة
والقول الجازم ، أو لا يحتملهما ويسمّى التّنبيه ، ويندرج فيه التّمنّي ،
والتّرجّي ، والقسم ، والنداء ، والتعجّب ، والحصر بالاستقراء.
وفيه نظر ، فإنّ
التمنّي والترجّي يشتملان على طلب الفعل ، وقد جعلا في التقسيم قسيمين ، وكذا «أطلب
منك القيام» فإنّه خبر يدلّ على طلب الفعل دلالة أوّليّة.
وأمّا دلالة
الالتزام ، فاعلم أنّ المستفاد منها إمّا أن يستفاد من معاني المفردات أو من
تركيبها.
__________________
فالأوّل إن كان
المدلول عليه بالالتزام شرطا للمدلول بالمطابقة ، سمّيت دلالة الاقتضاء.
وذلك الاشتراط قد
يكون عقليّا ، مثل «رفع عن أمّتي الخطأ» فإنّ العقل دلّ على عدم الصحّة إلّا باضمار الحكم الشرعيّ.
وقد يكون شرعيّا ،
كنذر العتق ، فإنّه يستلزم تحصيل الملك ، إذ لا يمكنه الوفاء به شرعا إلّا معه.
وإن كان المدلول
بالالتزام تابعا لتركيبها ، فإمّا أن يكون مكمّلا كدلالة تحريم التأفيف على تحريم
الضرب ، أو لا يكون.
وحينئذ فقد يكون
المدلول عليه بالالتزام ثبوتيّا ، كقوله تعالى : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) مع قوله : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) فإنّه يدلّ بالالتزام على أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر.
وقد يكون عدميّا ،
مثل : أنّ تخصيص الشيء بالذكر ، هل يدلّ على نفيه عمّا عداه؟
وفيه نظر فإنّ
دلالة «رفع عن أمّتي الخطأ» على الإضمار ، ليس مستفادا من المفردات بل من
التركيبات.
__________________
المبحث السّابع :
في تقسيم اللفظ بالنسبة إلى معناه
اعلم أنّ اللفظ إن
لم يكن له معنى كان مهملا ، وإن كان ، فإمّا أن يكون ذلك المعنى لفظا أو لا يكون ،
والثاني تقدّم.
والأوّل إمّا أن
يكون المدلول مفردا أو مركّبا ، وكلاهما إمّا أن يدلّ على معنى أو لا ، فالأقسام
أربعة.
الأوّل : لفظ دالّ
على لفظ مفرد دالّ على معنى مفرد ، وهو لفظ الكلمة وأنواعها وأصنافها ، فإنّ لفظ
الكلمة يتناول لفظ الاسم ، وهو لفظ مفرد ويتناول لفظة الرّجل ، وهو لفظ مفرد دالّ
على معنى مفرد ، وكذا الأمر والنهي ، والعامّ والخاصّ ، وأمثالها.
الثاني : لفظ دالّ
على لفظ مركّب وضع لمعنى مركّب ، كلفظ الخبر ، فإنّه يتناول قولنا : زيد قائم وهو
لفظ مركّب وضع لمعنى مركّب.
الثالث : لفظ دالّ
على لفظ مفرد لم يوضع لمعنى ، كالحرف المعجم ، فإنّه يتناول كلّ واحد من آحاد حروف
التهجي ، وتلك الحروف لا تفيد شيئا.
لا يقال : «الألف»
اسم لتلك المدّة فله معنى.
لأنّا نقول : لا
نريد من عدم دلالته سوى إفادته لتلك المدّة.
الرابع : لفظ دالّ
على لفظ مركّب لم يوضع لمعنى ، وليس بوجود ، إذ التركيب إنّما يحصل لغاية الإفادة
، فإذا انتفت الإفادة انتفى التركيب.
الفصل الثالث
في الأسماء المشتقّة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل : الاشتقاق قال الميداني : الاشتقاق أن تجد بين اللفظين تناسبا في المعنى والتركيب
، فتردّ أحدهما إلى الآخر.
وفيه نظر ،
لانتقاضه بالماضي إذا نسب إلى المستقبل ، والمصغّر بالنسبة إلى أصله ونظائرهما .
ولأنّ الاشتقاق
ليس الوجدان.
وقيل : «اقتطاع فرع من أصل يدور في تصاريفه حروف ذلك الأصل»
وينبغي التقيد بالأصول.
وقيل : ما وافق أصلا بحروفه الأصول ، ومعناه ، وقد يزاد بتغيير
ما.
__________________
وقيل : ما غيّر من
أسماء المعاني عن شكله بزيادة أو نقصان في الحروف أو الحركات أو فيهما.
وكيف ما عرّف فلا
بدّ له من أركان أربعة :
اسم موضوع لمعنى.
ولفظ آخر له نسبة
إلى ذلك المعنى.
ومشاركة بين
الاسمين في الحروف الأصلية.
وتغيير يلحق ذلك
الاسم في حرف فقط ، أو حركة فقط ، أو فيهما معا إمّا بالزيادة ، أو النقصان ، أو
بهما معا.
قال الفخر الرازي
: فالأقسام تسعة .
والحقّ أنّها خمسة
عشر ، والظاهر أنّ فخر الدين الرازي رأى التغيير بزيادة ونقصان وبهما في ثلاثة :
حرف ، وحركة ، وفيهما معا ، ومضروب الثلاثة في نفسها تسعة.
وليس كذلك ، فإنّ
الجنسين البسيطين أعني الزيادة والنقصان يجيء منهما ستّة أقسام: زيادة الحرف ،
زيادة الحركة ، نقصان الحرف ، نقصان الحركة ، وزيادتهما معا ، نقصانهما معا.
والجنس المركّب [منهما]
يجيء منه تسعة أقسام ، فإنّ الزيادة مع النقصان إمّا أن يقعا في الحركة فقط ، أو
في الحرف فقط ، أو فيهما معا.
فالّذي في الحركة
نقصانها مع زيادتها ، نقصانها مع زيادة الحرف ، نقصانها
__________________
مع زيادة الحركة
والحرف ، فهذه ثلاثة ، ذكر منها الثاني وأغفل الباقيين.
والّذي في الحرف
نقصانه مع زيادته ، نقصانه مع زيادة الحركة ، نقصانه مع زيادتهما ، فهذه الثلاثة
ذكر منها الثاني فقط.
والّذي فيهما معا
: نقصانهما معا مع زيادتهما معا ، نقصانهما معا مع زيادة الحركة ، نقصانهما مع
زيادة الحرف ، فهذه ثلاثة ذكر منها الأوّل فقط.
فقد ظهر أنّ
الأقسام خمسة عشر :
الأوّل : زيادة
الحركة فقط : طلب من «الطلب» زدت حركة الباء ، فإنّها في الفعل معتبرة ، لكونها
حركة بناء ، فهي لازمة بنيت الكلمة عليها من أوّل وهلة ، فصارت كالجزء من الفعل
بخلاف حركة المصدر ، فإنّها حركة إعراب وهي ساقطة الاعتبار غير معتدّ بها ، ولا
تعدّ تغييرا لطروئها على المعرب.
والاشتقاق إنّما
هو من صيغة المصدر الّتي بني عليها ، وحركة الإعراب طارية بعد البناء غير ثابتة
ولا لازمة ، فكان الأصل عدمها.
وفيه نظر ، فإنّا
نقول : ما تعني بحركة الإعراب؟ إن عنيت بها الشخصيّة كالرّفع أو النّصب ، سلّمنا
أنّها غير لازمة ، لكن لم قلت : إنّ مطلق حركة الإعراب غير لازمة ونظر الاشتقاق
ليس في حركة معيّنة ، بل في مطلق الحركة.
وإن عنيت بها مطلق
الحركة منعنا عدم لزومها.
فإن قلت : الإعراب
طار على الاسم بعد تمامه ، فأصله السكون ، وقول النحويّين : أصل الاسم الإعراب لا
ينافيه ، لأنّ نظر النحويّ إنّما هو في الاسم من
__________________
حيث عروض التركيب
، ولا شكّ في أصالة الإعراب من هذه الحيثيّة ، ونظر الاشتقاق في الاسم من حيث
الوضع الإفرادي.
قلت : فالفعل نظرا
إلى الوضع أصله الوقف ، فإنّهم نصّوا على أنّ أصل الفعل البناء ، وأصل البناء
الوقف ، فكيف تصير حركته العارضة البنائيّة أصلا؟
أو يقال في المثال
: ضرب من الضرب.
الثاني : زيادة
الحرف فقط : كاذب من «الكذب» زدت الألف فقط.
الثالث : زيادتهما
معا طالب من «الطّلب» زدت الألف وحركة البناء.
الرابع : نقصان
الحركة فقط : حذر من «حذر» نقصت حركة الرّاء للبناء.
الخامس : نقصان
الحرف فقط : خف من «الخوف» نقصت الواو فقط.
السادس : نقصانهما
معا : عدّ من «العدة» نقصت الهاء الّتي هي عوض الواو ، وحركة الدّال.
السابع : نقصان
الحركة مع زيادتها : كرم من «الكرم» ، وشرف من «الشّرف» نقصت فتحة الراء ، وزدت
ضمّة وكسرة.
وفيه نظر ، فإنّ
الاعتبار هنا بالحركة النوعيّة لا الشخصيّة ، وإلّا زادت الأقسام.
الثامن : نقصان
الحركة مع زيادة الحرف : عليم من «علم» نقصت فتحة الميم البنائيّة ، وزدت الياء ،
وكذا عادّ من «العدد» نقصت حركة الدّال وزدت الألف.
__________________
التاسع : نقصان
الحركة مع زيادتهما معا : اضرب من «الضّرب» نقصت حركة «الضّاد» وزدت الهمزة
متحرّكة ، وكسرة الراء.
العاشر : نقصان
الحرف مع زيادته : ديّان من «الدّيانة» نقصت التاء وزدت ياء ساكنة.
وفيه نظر ، لأنّ
الحركة اللازمة لنون الدّيانة معدومة في «ديّان» فهو من باب زيادة الحرف مع
نقصانهما ، والمثال الجيّد : واكف من «الوكيف».
الحادي عشر :
نقصان الحرف مع زيادة الحركة : نبت من «النّبات» نقصت الألف وزدت حركة الباء
البنائيّة.
الثاني عشر :
نقصان الحرف مع زيادتهما معا : خاف من «الخوف» نقصت الواو وزدت الألف ، وفتحة
الفاء.
الثالث عشر :
نقصانهما معا مع زيادتهما معا : ارم من «الرّمي» زدت الألف متحرّكة ، وكسرة الميم
، ونقصت الياء ، وفتحة الراء.
الرابع عشر :
نقصانهما معا مع زيادة الحركة : عد من «الوعد» نقصت الواو متحرّكة ، وزدت كسرة
العين.
الخامس عشر :
نقصانهما معا مع زيادة الحرف : كالّ من «الكلال» نقصت الألف الّتي بين اللّامين ،
وحركة اللّام الأولى ، وأدغمتها في الثانية ، وزدت ألفا بعد الكاف.
__________________
المبحث الثاني :
في قواعد الاشتقاق
اعلم أنّ
النّحويّين اختلفوا فذهب البصريّون إلى أنّ الفعل مشتقّ من المصدر ، وخالف فيه
الكوفيّون وادّعوا العكس.
والحقّ الأوّل.
لنا : أنّ المصدر
جزء من الفعل ، فيكون متقدّما ، فلا يجوز اشتقاقه منه.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ مدلول الفعل الحدث والزّمان ، ومدلول المصدر الحدث خاصّة ، والحدث
جزء من المجموع المركّب منه ومن الزّمان.
لا يقال : لا يلزم
من كون المعنى جزءاً سبق لفظه.
لأنّا نقول : قد
اشترك المعنيان في الحاجة إلى التعبير عنهما ، ووجود القدرة والدّاعي يوجبان الوضع
، وخطور الجزء سابق.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ الجزء متقدّم بالطبع على الكلّ.
وأمّا الثالثة ،
فلأنّ المصدر لو اشتقّ من الفعل لتأخّر عنه ، لكنّه متقدّم عليه فيدور.
وأمّا أسماء
الفاعلين والمفعولين فقد ذكر أبو علي في التكملة : أنّها مشتقة عن الأفعال ، وكذا
عبد القاهر.
واستدلّ أبو علي
بكونها جارية على سنن الأفعال وطريقتها ، فالأفعال ، أصولها القريبة ، والمصادر
الّتي هي أفعال حقيقة أصولها البعيدة.
وإذا ثبت هذا ،
كان لنا أن نشتقّها من الأفعال ، لأصالتها القريبة ، ومن المصادر لأصالتها
البعيدة.
واعلم أنّه لا
منافاة بين قولنا : إنّ حروف المشتقّ منه الأصول موجودة في المشتقّ ، وبين نقصان
الحرف ، فإنّ المشاركة في الحروف الأصليّة ثبتت بحقّ الأصل ، ثمّ يطرأ النقصان
لعارض يوجبه ، فإنّ «خف» من الخوف ، سقطت الواو فيه بعد انقلابها ألفا ، لعارض
التقاء الساكنين ، فالمشاركة في الحقيقة حاصلة لحصولها في الأصل قبل طريان الحذف.
واعلم أنّه ليس
مرادنا من زيادة الحركة أو نقصانها ، زيادة حركة واحدة أو نقصان حركة واحدة بالشخص
، بل زيادة الحركة بالنوع ، أو نقصانها بالنوع ، سواء زدنا حركة واحدة بالشّخص ،
أو حركتين أو أكثر ، وكذا أيضا حكم الحرف ، والمركّب من الحركة والحرف ، في
الزيادة والنقصان.
المبحث الثالث : في أنّ صدق المشتقّ قد
ينفكّ عن صدق المشتقّ منه
ذهب الجبائيّان إلى أنّ العالم والقادر والحيّ أسماء اشتقّت من «العلم» و
«القدرة» و «الحياة».
ثمّ إنّ هذه
الألفاظ صادقة في حقّه تعالى ، من غير حصول علم ، ولا قدرة ، ولا حياة ، لأنّ
المسمّى بهذه إنّما هي المعاني الّتي توجب العالميّة ، والقادريّة ، والحيّيّة ،
وهي غير ثابتة لله تعالى ، فالله تعالى قادر ، عالم ، حيّ ، من دون قدرة وعلم
وحياة.
أمّا أبو الحسين
البصري ، فإنّ المسمّى بالقدرة عنده ، نفس القادريّة ،
__________________
وبالعلم نفس
العالميّة ، وهذه أحكام ثابتة لله تعالى ، فيكون له تعالى علم وقدرة.
وأمّا الأشاعرة
فإنّهم أثبتوا لله تعالى المعاني ، وهي القدرة ، والعلم ، والحياة وغيرها ،
واشتقّوا منها هذه الأوصاف.
وهذه المسألة
تبيّن في علم الكلام ، وقد أوضحناها هناك.
وللمعتزلة أن
يقولوا : لمّا أوجبت هذه الأوصاف أحوالا للذّات ، كما أوجبت في حقّنا ، أطلقناها
عليه تعالى.
المبحث الرابع :
في أنّ بقاء المعنى هل هو شرط في الصدق أم لا؟
اختلفت النّاس هنا
: فقال قوم : إنّ بقاء وجه الاشتقاق شرط لصدق الاسم حقيقة ، واختاره فخر الدين الرازي .
وقال آخرون : إنّه
لا يشترط ، وإليه ذهب أبو علي بن سيناء وأبو هاشم الجبائيّ.
وقال قوم : إنّه
يشترط إن أمكن وإلّا فلا.
والأقرب عدم
الاشتراط.
__________________
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ
الضّارب من حصل له الضرب مطلقا ، وهو أعمّ من قولنا : حصل له الضرب الآن أو في
الماضي ، لأنّه قابل للقسمة إليهما ، ومورد التقسيم مشترك بين أقسامه.
الثاني : اتّفاق
أهل اللغة على أنّه لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي ، ولو لا صحّة إطلاقه على الماضي
، لما أمكن ذلك.
الثالث : لو كان
صدق المشتقّ مشروطا بحصول المشتقّ منه ، لما صحّ إطلاق اسم «المتكلّم» و «المخبر» و
«اليوم» و «الأمس» وما جرى مجراها حقيقة في شيء ، والتّالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ الكلام اسم لمجموع الحروف المتوالية المفيدة فائدة تامّة ، لا لكلّ واحد منها
، ومجموع تلك الحروف لا وجود له ، وإنّما الموجود منه دائما ، حرف واحد ، فلو كان
وجود المشتقّ منه شرطا ، لما صدق إطلاق المشتقّ هنا.
لا يقال : الكلام
اسم لكلّ واحد من تلك الحروف ، أو نخصّص الدعوى فنجعله شرطا إن كان الحصول ممكنا ،
وإلّا فلا ، أو نجعل الشرط حصول المشتقّ منه ، إمّا بمجموعه ، أو بأحد أجزائه ، أو
نقول : هذه الألفاظ ليست حقائق في شيء البتّة.
لأنّا نقول :
إجماع أهل اللّغة ينفي ذلك ، ثمّ ينتقض بالخبر ، فإنّه لا شكّ في أنّ كلّ واحد من
حروف «الخبر» ليس خبرا ، وكذا كلّ جزء من اليوم ، أو الشهر ، أو السّنة ، ليس يوما
، ولا شهرا ، ولا سنة.
والفرق بين ممكن
الثبوت وغيره ، منفيّ بالإجماع ، ونفي الحقيقة باطل ، إذ الاستعمال إن كان مجازا ،
استدعى الحقيقة ، وإلّا فالمطلوب.
وقد علم ضرورة
أنّها ليست حقائق في غير معانيها ، فتكون حقيقة فيها.
الرابع : الإيمان
يصدق حقيقة على من لا يباشر التصديق ولا العمل ولا المجموع ، مع أنّه حقيقة في
أحدها بالإجماع.
الخامس : الفرق
واقع بالضرورة بين قولنا : «ضارب» وبين قولنا : «ضارب في الحال» فلا يتّحد
معناهما.
السادس : يصدق في
الحال بعد انقضاء الضرب منه «أنّه ضارب أمس» فيصدق عليه أنّه «ضارب» لأنّه جزء من
قولنا : «انّه ضارب أمس» وصدق المركّب يستلزم صدق أجزائه.
واعترضوا على
الأوّل : بأنّ التقسيم كما يرد إلى الماضي والحاضر ، فكذا يرد على المقسوم إلى
الحاضر والمستقبل فإنّه يمكن أن يقال : ثبوت الضرب أعمّ من ثبوته في الحال
والمستقبل ، فإن اقتضى انقسامه كونه حقيقة في الماضي ، اقتضى ذلك في المستقبل ،
وهو خلاف الإجماع.
وعلى الثاني :
بأنّهم أيضا قالوا : إذا كان بمعنى المستقبل عمل ، فيكون المشتقّ حقيقة فيما سيوجد
، وهو باطل بالإجماع.
وعلى الثالث : أنّ
المعتبر حصوله بتمامه إن أمكن ، أو حصول آخر جزء من أجزائه.
__________________
وعلى الرابع :
بالمنع من كون إطلاق المؤمن على النّائم حقيقة ، كما لا يجوز أن يقال في أكابر
الصحابة : إنّهم كفرة ، لكفر تقدّم ، ولا لليقظان : إنّه نائم ، لنوم سبق.
والجواب عن الأوّل
: حصول الفرق ، فإنّ الضارب من ثبت له الضرب ، وفي المستقبل لم يثبت له الضّرب ،
فكان الأوّل حقيقة ، بخلاف الثاني ، ولأنّ فيه تقليل المجاز ، فكان أولى ، وهو الجواب
عن الثاني.
وعن الثالث : ما
بيّنا من عدم القائل بالفرق ، ولأنّه إذا صحّ في صورة ، صحّ في جميع الصور ، وإلّا
لكان المتكلّم قبل أن يتكلّم عارفا بكون المشتقّ منه هل يصحّ بقاؤه أو لا؟
فإن كان يصحّ
بقاؤه ، اشترط وجود المعنى بتمامه ، ومن المعلوم عدم التفات الناس إلى ذلك ، من
أهل اللغة والعرف.
وعن الرابع : أنّ
الشرع منع من إطلاق الكفر عليهم ، تعظيما لشأنهم ، والأصل في ذلك : أنّ لفظة «الكفر»
موضوعة في عرف الشرع لمعنى ، غير ما وضع في اللغة ، وللواضع أن يخصّص في وضعه ما
لو لا التخصيص لكان عامّا ، كما في الوضع اللّغوي ، حيث أطلقت «القارورة» و «النجم»
على معاني خاصّة ، لو لا تخصيصهم لكان أعمّ ، وهنا منع الشارع من إطلاق لفظة «الكفر»
الّذي وضعه بإزاء معنى ، على من زال عنه.
واحتجّوا على
مطلوبهم : بأنّه لو صدق عليه أنّه ضارب ، لكذب عليه أنّه
__________________
ليس بضارب ،
والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّهما نقيضان عرفا ، لأنّ من أراد تكذيب من قال : «زيد ضارب» قال : «زيد ليس
بضارب» ولو لا أنّه نقيضه وإلّا لما استعمل في ذلك ، وإذا تناقضا وصدق أحدهما وجب
كذب الآخر.
وبيان كذب التّالي
: أنّه يصدق عليه أنّه ليس بضارب في الحال ، فيصدق عليه أنّه ليس بضارب ، لأنّه
جزء منه ، وصدق المركّب يستلزم صدق أجزائه.
والجواب من وجوه :
الأوّل : أنّه
مغالطة ، وذلك لأنّ قولنا : «ضارب في الحال» مركّب ، ونفي المركّب لا يستلزم نفي
أجزائه ، فإنّه لا يلزم من صدق قولنا : «الزوج ليس بعدد فرد» صدق قولنا : «الزوج
ليس بعدد».
الثاني : يجوز أن
يكون حكم الشيء واحدة يخالف حكمه مع غيره ، فلا يلزم من صدق «ليس بضارب الآن» صدق
قولنا : «ليس بضارب».
الثالث : نمنع
التّناقض بينهما ، لما عرفت من أنّ المطلقتين لا تتناقضان ، بل لا بدّ من اعتبار
الدوام في إحداهما أو اتّحاد الوقت فيهما.
الرابع : سلب
الضاربيّة عنه في الحال إنّما يلزم سلبها عنه مطلقا لو لم يكن أعمّ من الضّاربيّة
في الحال ، وهو ممنوع ، وحينئذ لا يلزم من صحّة سلب الأخصّ سلب الأعم.
لا يقال : قولنا :
«هذا ضارب» لا يفيد سوى كونه ضاربا في الحال ، فإذا سلّم صحّة سلبه في الحال ، فهو
المطلوب.
__________________
لأنّا نقول : هذا
بعينه إعادة الدعوى ، بل «الضّارب» من حصل له الضرب ، وهو أعمّ من حصوله في الحال
، فالضّارب أعمّ من الضارب في الحال.
الخامس : إنّما
يستعملان في التناقض عند توافق المخاطبين على إرادة زمان معيّن إمّا حاضرا أو غيره
، أمّا مطلقا فلا.
السّادس : يعارض
بأنّه يصدق في الحال «أنّه ضارب أمس» فيصدق عليه أنّه ضارب ، لأنّه جزء من قولنا :
«ضارب أمس» وصدق المركّب يستلزم صدق أجزائه ، وإذا صدق «أنّه ضارب» كذب عليه «أنّه
ليس بضارب» لما ذكرتموه من التّناقض بينهما.
وفيه نظر ، فإنّ
لمانع أن يمنع من صدق ضارب عليه حقيقة ، ولهذا افتقر إلى التقييد بقولنا «في الأمس»
ولصحة سلبه في كلّ ان.
المبحث الخامس :
في أنّه هل يجب الاشتقاق مع القيام بالمحلّ
اختلفوا في أنّ
المعنى القائم بالشيء ، هل يجب أن يشتقّ له منه اسم أم لا؟
فأوجبه الأشاعرة ،
خلافا للمعتزلة.
ومبني الخلاف ،
قول المعتزلة : إنّ الكلام عبارة عن الحروف والأصوات وهي حادثة في الأجسام ، وكذا
كلام الله تعالى.
فقالت الأشاعرة :
لو كان كذلك لوجب أن يشتقّ لتلك الأجسام اسم المتكلّم ، لقيام المعنى الّذي منه
الاشتقاق بها ، والحقّ خلافه.
__________________
لنا : أنّ أنواع
الروائح والآلام قائمة بمحالّها ، مع أنّه لم يشتقّ لها منها أسماء.
وفيه نظر ،
لاستدعاء الاشتقاق وجود لفظ المعنى ، ولأنّ «القتل» و «الضّرب» أمور قائمة
بالمقتول والمضروب ، وقد اشتقّ منهما اسم الضّارب والقاتل لغير من قاما به.
وهذا الدليل كما
دلّ على مطلوب المعتزلة ، كذا دلّ على مطلوب لهم آخر ، وهو صحّة أن يشتقّ لغير
المحلّ اسم من ذلك العرض القائم بالمحلّ ، فإنّهم سمّوا الله تعالى متكلّما بكلام
قائم بالأجسام.
والخلاف فيه مع
الأشاعرة أيضا ، فإنّهم منعوا في المقامين.
اعترضت الأشاعرة
بأنّ «الجرح» ليس هو الأثر القائم بالمجروح بل تأثير قدرة القادر فيه ، وذلك
التأثير حاصل بالفاعل وقائم به ، وكذا القتل والضرب.
والجواب : لا معنى
لتأثير القدرة في المقدور إلّا نفس وجود الأثر ، إذ لو كان زائدا لزم التسلسل.
وأيضا إمّا أن
يكون قديما ، فيستلزم قدم الأثر ، لأنّ قدم النسبة يستلزم قدم ما يتوقّف عليه ،
وإمّا أن يكون حادثا فيفتقر إلى تأثير آخر ، ويتسلسل.
وأيضا الخالق أطلق
على الله تعالى وهو مشتقّ من الخلق ، والخلق نفس المخلوق ، والمخلوق غير قائم بذات
الله تعالى ، لأنّه لو كان غيره : فإن كان قديما ، لزم قدم العالم ، وإن كان محدثا
، تسلسل.
__________________
لا يقال : الخلق
عبارة عن التعلّق الحاصل بين المخلوق والقدرة حالة الإيجاد ، فلمّا نسب هذا
التّعلق إلى البارئ تعالى ، صحّ الاشتقاق ، وإنّما أطلق الخلق على هذا المعنى
المجازي ، الّذي هو من باب إطلاق اسم الملزوم ، أعني الخلق الحقيقي على اللازم ،
أعني التعلّق ، جمعا بين الأدلّة.
لأنّا نقول :
التعلّق ليس بقديم ، لكونه نسبة بين المخلوق والقدرة ، والنّسبة متأخّرة ، فهو
حادث وغير قائم بذاته تعالى ، لاستحالة قيام الحوادث به ، وهو عرض ، فهو إذن قائم
بالغير.
ولأنّه يستلزم
التسلسل ، لأنّه حادث ، فيفتقر إلى تعلّق آخر.
وأيضا المفهوم من
الضارب ، ليس إلّا شيء ذو ضرب أو له ضرب ، ولفظة «ذو» و «له» لا يقتضيان الحلول.
وأيضا لفظة «اللّابن»
و «التّامر» و «المكيّ» و «المدنيّ» و «الحدّاد» مشتقّة من أمور يمتنع قيامها بمن
له الاشتقاق.
المبحث السادس :
في مفهوم المشتقّ
مفهوم الأسود شيء
له سواد ، ولا يدلّ هذا على خصوصيّة ذات الشيء ، بل إنّما يستفاد من أمر خارج عن
مفهومه بطريق التزام ، كما أنّا نعرف أنّ الناطق إنسان بدليل من خارج ، لا من حيث
وضع النّاطق ، فإنّه وضع لشيء ذي نطق ، لأنّك إذا قلت : الناطق إنسان ، أو الأسود
جسم ، كان كلاما صحيحا مقبولا عند العقل.
ولو دلّ الناطق
على خصوصيّة الإنسان ، والأسود على خصوصيّة الجسم ، صار كأنّك قلت : الإنسان ، ذو
النطق إنسان أو الجسم ذو السّواد جسم ، وهو هدر.
وسبب الغلط
التلازم في الوجود في بعض المشتقّات.
الفصل الرّابع
في الألفاظ المترادفة والمؤكّدة
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل : [في]
الألفاظ المترادفة
[و] هي الألفاظ
المفردة الدالّة على مسمّى واحد باعتبار واحد.
فخرج بالمفردة
الحدّ مع المحدود.
وبقولنا : «باعتبار
واحد» ، اللّفظان إذا دلّا على شيء واحد باعتبار صفتين ، ك «الصارم» و «المهنّد» ، أو باعتبار الصّفة وصفة الصّفة ك «الفصيح» والناطق.
والفرق بينه وبين
المؤكّد ظاهر ، فإنّ المترادفين يفيدان فائدة واحدة ، من غير تفاوت ، والمؤكّد لا
يفيد عين [فائدة] المؤكّد بل تقويته.
والفرق بينه وبين
التّابع : أنّ التابع لا يفرد ولا يفيد وحده ، والمترادف بالضّد فيهما.
وقد ذهب قوم غير
محقّقين إلى أنّ الحدّ والمحدود مترادفان ، وكذا التّابع
__________________
والمتبوع ، وهو
خطأ ، فإنّ الحدّ يدلّ على المفردات ، والمحدود يدلّ على اسم الشيء جملة ،
والتّابع لا يفرد ، بخلاف المترادف ، كما تقدّم.
المبحث الثاني :
في إثباته
ذهب أكثر النّاس
إلى إثباته ، وذهب شاذّ من النّاس إلى عدمه.
والحقّ الأوّل ،
لنا :
أنّه ممكن في الحكمة
وواقع في اللغة ، أمّا إمكانه فضروريّ ، إذ لا امتناع في أن يضع واحد أو اثنان
لفظين لمعنى واحد.
أمّا مع تغاير
الواضع فلفائدة الوضع ، وأمّا مع اتّحاده فلاتّساع العبارة ، وكثرة العلامات
والدلائل ، وتحصيل الرّويّ والسجع ، وتيسير النظم ، وتسهيل القافية والزنة ،
والتجنيس ، والمطابقة ، وغير ذلك.
وأمّا الوقوع
فظاهر ، فإنّ معنى «جلوس» و «قعود» واحد ، ومعنى «أسد» و «ليث» و «سبع» واحد ،
وغير ذلك.
والتخريجات الّتي
يذكرها الاشتقاقيّون لا ضرورة إليها ولا دليل عليها.
احتجّ المانعون
بوجوه :
الأوّل : فائدة
الوضع ـ وهي إعلام الغير ما في الضمير ـ تحصل بأحد اللّفظين ، فيكون وضع الثاني
خاليا عن الفائدة ، وهو عبث لا يجوز صدوره عن الحكيم.
الثاني : الغالب
في الاستعمال تكثّر المسمّيات عند كثرة الأسماء ،
فيكون راجحا على
المتّحد من المسمّيات عند تعدّد الأسماء ، وأقرب إلى تحصيل غرض أهل الوضع ، فيكون
هو الأصل.
الثالث : حفظ
اللّفظ الواحد أخفّ مئونة من حفظ الزّائد عليه إذا أفاد فائدته ، والأصل التزام
أعظم المشقّتين لتحصيل أعظم الفائدتين والأدنى للأدنى.
الرابع : يلزم أحد
الأمرين وهو إمّا حصول المشقّة لكلّ أحد أو الإخلال بالفهم ، وانتفاء فائدة الوضع
، والتالي بقسميه باطل.
بيان الشرطيّة :
أنّ الوضع إذا تكثّر واتّحد المسمّى لم يخل إمّا أن يحفظ الجميع ، فيلزم المشقّة ،
أو البعض فيلزم الثاني ، لجواز أن يحفظ بعض النّاس أحد اللفظين والبعض الآخر
الثاني ، فلا تحصل فائدة التفاهم عند التخاطب.
والجواب عن الأوّل
: المنع من عدم الفائدة ، وقد بيّناها.
وعن الثاني : أنّ
الأغلبيّة غير مانعة من الوقوع ، كما في المجاز والمشترك.
وعن الثالث : أنّ
المشقّة منتفية بأن يحفظ البعض دون الجميع ، ولا يلزم الإخلال بالفهم ، لأنّ ذلك
البعض يحفظه كلّ الناس ، وهو الجواب عن الرابع.
المبحث الثالث :
في غايته
المترادف إن كان
من قبيلتين وهو الأكثريّ من سببه كان اتّفاقيّا ، وذلك بأن تضع قبيلة لفظا لمعنى ،
ثمّ تضع قبيلة أخرى لفظا آخر لذلك المعنى من غير شعور لها بالوضع الأوّل ، ثمّ
يشيع الوضعان ، فيحصل التّرادف.
وإن كان من قبيلة
واحدة فله فائدتان :
إحداهما : تسهيل
الاقتدار على الفصاحة ، فإنّه قد يمتنع وزن البيت
__________________
بأحد اللفظين
ويمكّن بالآخر ، وكذا القافية ، والسّجع ، والمقلوب ، والمجنّس ، وسائر أصناف
البديع ، كما بيّناه أوّلا.
الثانية : التمكّن
من التأدية للمقصود بإحدى العبارتين عند نسيان الاخرى.
واعلم أنّ أحد
المترادفين إذا كان أظهر عند بعض النّاس كان خفيّا بحسب الاسم الآخر ، وقد ينعكس
الأمر بالنسبة إلى قوم آخرين ، وقد ذهب قوم من المتكلّمين إلى أنّ معنى الحدّ هو
تبديل لفظ خفيّ بلفظ أوضح منه عند السّائل.
وهو خطأ ، فإنّ
الحدّ يدلّ بالتفصيل على ما يدلّ عليه الاسم بالإجمال.
المبحث الرابع :
في صحّة إقامة أحد المترادفين بدل صاحبه
اختلف النّاس في
ذلك فأجازه المحقّقون ، ومنع منه جماعة منهم فخر الدين الرازي.
والحقّ الأوّل ،
لنا :
أنّ التركيب
والاستناد بالفاعليّة أو المفعوليّة أو غيرهما بالقصد الأوّل وبالذّات عارض
للمعاني ، وثانيا وبالعرض للألفاظ.
فإذا اتّحدت
المعاني وصحّ الاستناد جاز بأيّ عبارة كان ، فإنّه لمّا صحّ نسبة معنى القعود إلى
زيد ، جاز أن تقول : قعد زيد وجلس.
ولمّا امتنع نسبة
المعنى إلى واجب الوجود تعالى استحال نسبة المعنى
__________________
إليه بالعبارتين
معا ، وأيّ عاقل يرضى لنفسه منع استناد المعنى إلى غيره إذا عبّر عنه بلفظ مع صحّة
نسبة ذلك المعنى إلى ذلك الغير بلفظ آخر ، وهل للعبارات مدخل في ذلك مع انّ كلا من
المترادفين يفيد عين ما يفيده الآخر وضمّ المعنى إلى غيره من توابع المعاني لا من
عوارض الألفاظ.
احتجّوا بأنّه لو
صحّ لصحّ «خدا أكبر» ، والتّالي باطل فكذا المقدّم.
والجواب : المنع
من الملازمة إن قصد تكبيرة الإحرام ، لأنّ الصلاة يجب فيها الإتيان بالعبارات
الخاصّة ، لا بما يرادفها ، تعبّدا شرعيّا لا عقليّا ولا لغويّا ، وإن قصد غيرها
جوّزناه ، ومنعنا انتفاء التّالي.
على أنّ جماعة من
الفقهاء جوّزوا ذلك مطلقا.
سلّمنا المنع
مطلقا لكن إنّما لم يجز ذلك لاختلاف اللّغتين ، فلم قلتم بالمنع في اللّغة الواحدة؟
المبحث الخامس :
في التأكيد
التأكيد هو :
اللّفظ الموضوع لتقوية ما يفهم من لفظ آخر .
وفيه نظر ، فإنّ
التأكيد معنى يغاير اللفظ ، بل الأجود أنّه تقوية المعنى بلفظ موضوع لها أو
للمعنى.
فقولنا : «بلفظ»
احترزنا به عن تقوية المعنى بغير الألفاظ من الإشارات والحركات.
__________________
وقولنا : «موضوع
لها» أردنا به مثل «كلّ» و «جميع» وغيرهما من ألفاظ التأكيد.
وقولنا : أو «للمعنى»
ليدخل فيه تأكيد اللفظ بنفسه ، مثل قام زيد زيد ، أو بمرادفه مثل رأيت أسدا ليثا.
وهذا الأخير خارج
من الحدّ الأوّل.
واعلم أنّ
التّأكيد إمّا أن يكون بنفس اللفظ ، إمّا في الجمل مثل : «والله لأغزونّ قريشا
والله لأغزونّ قريشا» ، أو في المفردات ، نحو : فنكاحها باطل باطل باطل.
أو يكون بغيره ،
وهو إمّا أن يخصّ بالمفرد ، وهو لفظ «النفس» و «العين» أو «المثنّى» وهو «كلا» و «كلتا»
أو الجمع ، وهو أجمعون وتوابعه ، وكلّ ، وهو أمّ الباب.
وقد يدخل على
الجمل مقدّما عليها ك «أنّ» الناصبة وما يجري مجراها.
واعلم أنّ جماعة
الملاحدة منعوا من التأكيد لما فيه من التكرير الخالي عن الفائدة.
وهو خطأ ، أمّا
جوازه فمعلوم قطعا ، وأمّا وقوعه فباستقراء اللّغات ، والقرآن يدلّ عليه.
وأمّا إفادته
فتقوية المعنى ، والدلالة على شدّة اهتمام القائل به ، إلّا أنّه متى أمكن حمل
اللفظ على غير التأكيد كان أولى من حمله عليه ، لما فيه من تكثّر فوائد الألفاظ
الفصل الخامس
في مباحث الاشتراك
وهي ثمانية
المبحث الأوّل :
اللّفظ المشترك
هو اللّفظ الواحد
الموضوع لأزيد من معنى واحد وضعا أوّلا من حيث هي متعدّدة.
فخرج بقولنا : «الواحد»
الألفاظ المتباينة وبقولنا : «لأزيد من معنى واحد» الألفاظ المفردة.
وقولنا : «وضعا
أوّلا» احتراز عمّا يدلّ على شيء بالحقيقة وعلى آخر بالمجاز.
وقولنا : «من حيث
هي متعدّدة» عن الألفاظ المتواطئة ، فإنّه يتناول الماهيّات المختلفة ، لكن لا من
حيث هي مختلفة ، بل من حيث اشتراكها في معنى واحد.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
المتواطئ يخرج بقولنا «لأزيد من معنى واحد» لأنّه وضع لمعنى واحد ، نعم هو متناول
لأفراده تبعا لتناول المعنى المشترك لها.
والأجود أن يقال :
هو اللّفظ الواحد المتناول لعدّة معان من حيث هو كذلك بطريق الحقيقة على السواء.
فبالقيد الأوّل
خرجت الألفاظ المتباينة ، وبالثاني العلم ، وبالثالث المتواطئ ، وبالرابع ما
يتناوله للبعض حقيقة وللبعض مجازا ، وبالخامس المنقول.
المبحث الثاني :
في إمكانه
اختلف النّاس في
ذلك على ثلاثة أقوال ، طرفان وواسطة ، فذهب قوم إلى وجوب المشترك في اللغة ،
وآخرون إلى امتناعه.
والحقّ الإمكان ،
لنا :
أنّه لا امتناع في
أن تضع قبيلة لفظا لمعنى ، وتضعه أخرى لآخر ، ويشيع الوضعان ، ويحصل الاشتراك.
وأيضا الوضع تابع
لأغراض المخاطبين ، وكما يتعلّق غرض المخاطب بإعلام المخاطب ما في ضميره على سبيل
التفصيل ، كذا يتعلّق غرضه بإعلامه على سبيل الإجمال ، وهو كثير الوقوع ، فوجب في
الحكمة وضع المشترك تحصيلا لفائدة العلم الإجمالي ، كما وجب في الحكمة
__________________
وضع المفرد تحصيلا
لفائدة العلم التفصيليّ.
احتجّ الموجبون
بوجهين :
الأوّل : الألفاظ
متناهية ، والمعاني غير متناهية ، والمتناهي إذا وزّع على غير المتناهي ، لزم
الاشتراك.
أمّا الأولى ،
فلتركّبها من الحروف المتناهية ، فتكون متناهية.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ أحد المعاني الموجودة ، العدد ، وهو غير متناه.
وأمّا الثالثة ،
فضروريّة.
الثاني : الألفاظ
العامّة : كالوجود والشّيء ، ضروريّة في اللّغات ، وقد ثبت أنّ وجود كلّ شيء نفس
ماهيّته ، فيكون وجود كلّ شيء مخالفا لوجود غيره ، فيكون قول الموجود عليها
بالاشتراك.
والجواب عن الأوّل
: من المنع من تناهي المركّب من الحروف المتناهية إلّا أن يكون ما يحصل من تضاعيف
التّركيبات متناهية ، والسند أسماء العدد والأمزجة.
واعلم أنّ التركيب
الثّنائي يحتمل قسمين ، والثّلاثي ستّة ، والرّباعيّ أربعة وعشرين ، والخماسي مائة
وعشرين ، والسّداسيّ سبعمائة وعشرين وهكذا.
سلّمنا ، لكنّ
المعاني المعقولة الّتي تحتاج إلى التعبير عنها متناهية ، لأنّهم إنّما يقصدون
التعبير عن المعاني المعقولة عندهم ، وما لا يتناهى يستحيل تعقّله على التفصيل.
سلّمنا ، لكنّ غير
المتناهى إنّما هو جزئيّات الكليّات ، أمّا الكلّيات فلا ،
وإذا وضع اللفظ
للكليّ ، حصل الغرض من الوضع لكلّ معنى ، من غير لزوم اشتراك.
سلّمنا ، لكنّ
الألفاظ المتناهية إذا دلّ كلّ واحد منها على معان متناهية ، لم تكن الألفاظ
المتناهية دالّة على معان غير متناهية ، فإنّ تضعيف المتناهي مرّات متناهية ، يكون
متناهيا.
وإن دلّت هي أو
بعضها على معان غير متناهية ، كان [القول به] مكابرة.
وعن الثاني : بالمنع
من الحاجة إلى الألفاظ العامّة في اللغات.
سلّمناه لكن لا
نسلّم كون وجود كلّ ماهيّة ، نفس حقيقتها ، فإنّه قد ظهر في علم الكلام ، أنّ
الوجود معنى واحد مشترك بين الموجودات.
سلّمنا ، لكن جاز
اشتراك الموجودات كلّها في معنى واحد غير الوجود ، وهو المسمّى بتلك اللفظة
العامّة.
واحتجّ القائلون
بالامتناع بأنّه مخلّ بالمقصود ، فلا يكون موضوعا.
بيان الأول : أنّ
القصد من الوضع إعلام الغير ما في ضمير المتكلّم ، وهو إنّما يحصل لو كان اللّفظ
الواحد ، له معنى واحد ، فإنّ مع تعدّد المعاني لا يفهم المخاطب قصد المتكلّم ، فتختلّ
فائدة الوضع.
والجواب ما
قدّمناه أوّلا ، من أنّ الغرض كما يتعلّق بالإعلام التفصيليّ ، كذا يتعلّق
بالإعلام الإجماليّ ، ثمّ لو قصد التفصيل ، أمكن المصير إليه بضمّ القرينة.
سلّمنا ، لكن يحصل
الإعلام الناقص ، ونقصه لا يوجب عدمه ، كأسماء الأجناس ، فإنّها غير دالّة على
أحوال مسمّياتها.
المبحث الثالث :
في وقوعه
اختلف المجوّزون
لوجوده في ثبوته ، فذهب المحقّقون إليه ، ونفاه شواذّ.
والحقّ الأوّل ،
لنا :
أنّ القرء للطّهر
والحيض معا على البدل من غير ترجيح ، وإذا سمعه المخاطب لم يفهم أحدهما ، بل يبقى
الذهن متردّدا بينهما ، إلّا أن يحصل قرينة تعيّن المراد منهما ، فكان مشتركا
بينهما ، إذ لو كان متواطئا ، أو حقيقة في أحدهما ومجازا في الآخر ، لم يحصل
التردّد.
لا يقال : جاز أن
يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك بينهما ، وخفي علينا ، أو لأحدهما بخصوصه واستعمل
في الآخر مجازا ، ثمّ خفي المجاز منهما وشاعا معا ، وكلاهما أقرب من الاشتراك ،
لما يأتي من أنّ المجاز أولى منه.
ومن أنّ الانفراد
أولى أيضا ، والمتواطئ منفرد.
لأنّا نقول :
أحكام اللغات لا تنتهي إلى القطع المانع من الاحتمالات البعيدة ، وما ذكرتموه
احتمال بعيد.
وأيضا فإنّه لا يبقى
كونه الآن حقيقة فيها ، وهو المقصود.
وأيضا ، الموجود
حقيقة في القديم تعالى والحادث قطعا ، إذ لو كان المجاز في أحدهما صحّ نفيه ، فإن
كان نفس الماهيّة ، ثبت الاشتراك ، وإن كان صفة زائدة فكذلك ، لأنّه واجب في
القديم وممكن في الحادث ، فلو تساوى الوجودان ، لزم تساويهما في الوجوب أو الإمكان
، وهو محال.
قيل : الوجوب
والإمكان لا يمنع التواطؤ ، كالعالم والمتكلّم.
وليس بجيّد ،
لأنّهما وصفان ملازمان ، لامتناع انفكاك الوجود عنهما ، واختلاف اللّوازم يدلّ على
اختلاف الملزومات.
واحتجّ المانعون
بما تقدّم من اختلال الفهم ، وما يدّعى اشتراكه ، فهو إمّا متواطئ ، أو حقيقة في
أحدهما مجاز في الآخر كالعين ، فإنّه وضع أوّلا للجارحة المخصوصة.
ثمّ نقل إلى
الدّينار ، لوجود الصفاء والغرّة فيهما.
وإلى الشمس ،
للاشتراك في الصفاء والضياء ، وإلى الماء ، للمعنيين.
والجواب : قد
بيّنا عدم المفسدة ، وهذه التخيّلات لم يقم عليها برهان.
تذنيب : اختلف
القائلون بوقوع المشترك في اللغة ، هل وقع في القرآن؟ فذهب المحقّقون إليه ، خلافا
لشذوذ.
لنا : قوله تعالى
: (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).
وقوله : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) وهو موضوع ل «أقبل» و «أدبر».
احتجّ المانعون
بأنّ المقصود منه إن كان هو الإفهام ، فإمّا أن يوجد معه القرينة الدالّة على أحد
معانيه أو لا.
والأوّل ، تطويل
من غير فائدة.
والثاني ، يلزم
منه تكليف ما لا يطاق ، إذ طلب فهم معنى من لفظ يدلّ عليه وعلى غيره بالسويّة ،
تكليف بالمحال.
__________________
وإن كان المقصود
منه غير الإفهام ، كان عبثا ممتنعا على الحكيم تعالى.
والجواب : المنع
من انتفاء الفائدة مع التطويل ، فإنّ الفائدة وهي التكليف بالنظر في تحصيل القرينة
ثابتة.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم التكليف بالمحال لو انتفت القرينة ، فإنّ ذلك إنّما يحصل لو قلنا : إنّه
مكلّف بالتّعريف التفصيليّ ، أمّا الإجماليّ فلا ، كأسماء الأجناس ، وفي الأحكام
الاستعداد للامتثال مع البيان ، فإنّ ذلك سبب لنيل الثواب بالعزم على الفعل الّذي
يتبيّن بعد.
المبحث الرابع :
فيما ظنّ أنّه مشترك وهو متواطئ وبالعكس
اعلم أنّ بين
المشترك والمتواطئ اشتراكا ، ربما ظنّ بسببه في أشياء من أحدهما أو من الآخر.
فالأوّل كقولنا : «مبدأ»
للنقطة ، والآن ، ظنّ أنّهما من قبيل المشترك ، لأجل اختلاف الموضوع المنسوب إليه
، وهو الخطّ والزّمان.
وليس كذلك ، فإنّ
إطلاق المبدأ عليهما إنّما هو بالنظر إلى أنّ كلّ واحد منهما أوّل لشيء ، لا
باعتبار كون ذلك الشيء خطّا أو زمانا ، فهو من المتواطئ.
وأمّا الثاني
فكقولنا : «خمريّ» للعنب ، باعتبار أنّه يؤول إلى الخمر ، وللّون الشبيه بلون
الخمر ، وللدّواء إذا كان يسكر كالخمر ، أو كان الخمر جزءاً منه ، فإنّه لمّا
اتّحد الخمر ، وهو المنسوب إليه ، ظنّ أنّه متواطئ.
وليس كذلك ، فإنّ
اسم «الخمريّ» وإن اتّحد المنسوب إليه ، إنّما كان بسبب النسب المختلفة إليه ، ومع
الاختلاف فلا تواطؤ.
__________________
ولو نظر إلى أنّ
إطلاق اسم «الخمريّ» في هذه الصّور ، باعتبار أمر اشتركت فيه ، من عموم النسبة
وقطع النظر عن خصوصيّاتها ، كان متواطئا.
المبحث الخامس :
في أقسام المشترك
قد بيّنا أنّه لا
مناسبة بين المعاني والألفاظ ، وإنّما الوضع تابع للقصد ، ولمّا جاز تعدّد
الواضعين ، أو تعدّد الوضع مع اتّحاد الواضع ، جاز وضع اللفظ الواحد لمعنيين
متباينين ، ومتلازمين.
فالأوّل ، كالقرء
الموضوع للطّهر والحيض ، وهما متباينان ، وكالجون الموضوع للسّواد والبياض ، وهما
ضدّان.
وأمّا الثاني ،
فقد يكون أحد المعنيين جزءاً من الآخر ، كالممكن الموضوع للعامّ بخصوصيّة ،
وللخاصّ بخصوصيّة ، والعامّ جزء من الخاصّ ، وكذا كلّ جنس سمّي باسم نوعه.
وهذا اللّفظ كما
أنّه يقع على المعنى الجنسيّ والنوعيّ بالاشتراك ، فكذا يقال على النّوعيّ وحده
بالاشتراك باعتبار مفهومه.
وقد يكون صفة ،
كشخص أسود سمّي بالأسود ، فإنّ صدق الأسود عليه ، باعتبار أنّه لقب له ، مغاير
لاعتبار أنّه مشتقّ ، وهو مقول عليه بالاشتراك.
ثمّ إنّا إذا
اعتبرنا لون ذلك الشخص ، ونسبناه إلى «القار» كان قول الأسود عليه وعلى «القار»
بالتواطؤ ، وإن اعتبرت اسمه ، كان قول الأسود عليه وعلى «القار» بالاشتراك.
واعلم أنّ اللّفظ
المشترك ، قد يكون كلّيّا في كلا مفهوميه ، كالعين ،
وقد يكون في
أحدهما ، كعبد الله ، وقد يكون جزئيّا فيهما ، كزيد.
وأيضا ، قد يقع
على الشيء وعلى صفته ، كالأسود الّذي تمثّلنا به أوّلا ، أو عليه وعلى وصفه ،
كالمقبل إذا سمّي به من له إقبال.
والفرق : أنّ
الأوّل وهو السّواد غير محمول ، بخلاف الثاني.
تنبيه
ذهب فخر الدين
الرّازي إلى أنّه لا يجوز أن يكون اللفظ مشتركا بين عدم الشيء وثبوته ، لأنّ اللفظ
لا بدّ وأن يكون بحال : متى أطلق أفاد شيئا ، وإلّا كان عبثا ، والمشترك بين النفي
والإثبات ، لا يفيد إلّا التردّد بينهما ، وهو معلوم لكلّ أحد.
وليس بجيّد ، إمّا
أوّلا ، فلأنّ هذا لو تمّ ، لكان ممتنعا من القبيلة الواحدة ، وأسباب الاشتراك غير
منحصرة في ذلك ، ولا يتمّ بالنسبة إلى قبيلتين ، فإنّه من المحتمل : أن تضع قبيلة
لفظا لمعنى ، ثمّ تضع أخرى ذلك اللّفظ لنقيضه ، فيحصل الاشتراك.
وإمّا ثانيا ،
فإنّه قد يحصل أمر زائد على ما كان قبل الوضع ، كالأمر بالاعتداد بالأقراء ، فإنّ
القرء مشترك بين الحيض والطّهر ، وهما نقيضان ، أو عدم وملكة.
__________________
فائدة :
للاشتراك سببان :
أكثريّ وهو : أن
تضع القبيلتان اللّفظ الواحد لمعنيين بالتّوزيع ، ويشتهران معا ، فيحصل الاشتراك.
وأقليّ وهو أن
يتّحد الواضع ، ويكون غرضه التمكّن من الكلام بالمجمل ، فإنّه أمر مطلوب تتعلّق به
مصالح العقلاء أحيانا.
[فائدة] أخرى :
العلم بالاشتراك
قد يكون ضروريّا بأن يسمع تصريح أهل اللّغة به ، وقد يكون نظريّا بأن توجد علامات
الحقيقة في كلا المعنيين.
وقيل : إنّ
الاستعمال وحسن الاستفهام يدلّان عليه وسيأتي.
المبحث السادس :
في أنّه هل يجوز استعمال المشترك المفرد في معنييه؟
اختلف الناس في
ذلك ، فذهب الشافعي والقاضي أبو بكر ، والجبائيّ ، والقاضي عبد الجبّار بن أحمد ، والسيّد المرتضى إلى جوازه إن أمكن
__________________
الجمع ، وإن لم
يمكن كاستعمال صيغة افعل في الأمر بالشيء والتهديد عليه ، لم يجز.
ثمّ قال الشافعي
والمرتضى وعبد الجبّار : مهما تجرّد اللفظ عن القرينة الصّارفة إلى أحد معنييه ،
وجب حمله عليهما معا.
ومنع منه أبو هاشم
وأبو عبد الله وأبو الحسين البصري والكرخي وفخر الدين الرازي .
ثمّ قال أبو عبد
الله البصري : يجب أن يعتبر فيه أربع شرائط : كون الكلام واحدا ،
والمعبّر واحدا ، والوقت واحدا ، والمعنيين مختلفين.
ثمّ اختلفوا فمنهم
من منع منه لأمر يرجع إلى القصد ، ومنهم من منع لأمر يرجع إلى الوضع ، وهو اختيار
أبو الحسين البصري ، والغزالي ، وفخر الدين الرّازي.
وهو الأقرب ، لنا
:
__________________
أنّ اللفظ موضوع
لكلّ واحد من المعنيين بخصوصية ، ولا يلزم من كون اللفظ موضوعا لهما على البدل
وضعه لهما على الجمع ، للتغاير بين المجموع وبين أفراده ، فحينئذ نقول : إمّا أن
يكون الواضع قد وضعه للمجموع ، كما وضعه لكلّ واحد من جزئه أو لا.
فإن كان الأوّل ،
كان استعمال اللفظ في المجموع استعمالا له في بعض موارده ، لأنّ اللّفظ حينئذ يكون
موضوعا لمعان ثلاثة : الفردان ، والمجموع.
إلّا أن يقال :
إنّه مستعمل في المجموع وكلّ من الفردين على سبيل الجمع ، لكن ذلك محال ، لأنّ
إفادة المجموع تقتضي عدم الاكتفاء بكلّ من الفردين بدلا عن صاحبه ، وإفادة الإفراد
تقتضي الاكتفاء بأيّهما كان ، والجمع بينهما محال.
وإن لم يكن موضوعا
للمجموع ، كان استعماله فيه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، فيكون مجازا (ولاستلزامه
كون كلّ لفظ مشترك ، مشتركا بين ما لا يتناهى) .
اعترض [بوجوه] :
[١] ـ بأنّ النزاع
في استعماله في كلّ واحد من المفهومات ، لا في كلّها ، وبينهما فرق.
[٢] ـ ثمّ استعمال
اللّفظ في معنى لا يوجب الاكتفاء به مع استعماله في
__________________
غيره معه ،
كاستعمال العامّ في كلّ واحد من أفراده وأفراد أنواعه.
[٣] ـ وأيضا
المحال المذكور يلزم من استعماله في كلّ واحد من الفردين ، فلا حاجة إلى عدم
التلازم بين الوضع لكلّ واحد على البدل وعلى الجمع.
[٤] ـ وأيضا إن
عنى بالوضع ما يعمّ الحقيقة والمجاز ، لم يستلزم من استعمال اللفظ في جميع معانيه
استعماله في المجموع.
وإن عنى به
المختصّ بالحقيقة لا يلزم من عدم الوضع له عدم جواز استعماله فيه.
والجواب : أنّ
الخلاف لم يقع في استعمال اللفظ في كلّ واحد من معانيه بل في الجميع جمعا ، فإنّ
أحدا لم يخالف في استعماله في كلّ واحد منهما.
والتحقيق أنّ
استعماله في كلّ واحد يؤخذ باعتبارات ثلاثة ، وضعه لكلّ واحد بشرط عدم انضمام غيره
إليه ، وبشرط انضمامه ، ومطلقا.
والثاني غير مراد
إجماعا.
والأوّل ينافي
المجموع.
والنزاع في الثالث.
قوله : استعمال
اللفظ في معنى لا يوجب الاكتفاء به ، مع استعماله في غيره كاستعمال العامّ.
__________________
قلنا : المراد
بالاستعمال هنا ، الاقتصار على ما فرض مستعملا فيه ، فإنّ الشارع لو قال لها : «اعتدّي
بالقرء» وأراد به الحيض بخصوصه ، والطهر بخصوصه ، والمجموع ، كان معناه : أنّك
متعبّدة بالاعتداد بأحدهما أيّهما كان ، وبالمجموع ، وذلك يقتضي التناقض ، كما
قدّمناه ، بخلاف العامّ ، فإنّه يتناول جميع الأفراد جمعا.
قوله : المحال
يلزم من استعماله في كلّ واحد من المفردين ، فلا حاجة إلى عدم التلازم بين الوضع
لكلّ واحد على البدل ، والوضع لكلّ واحد على الجمع.
قلنا : المحال لم
يلزم من استعماله في كلّ واحد من المفردين ، فإنّ ذلك ممكن ، فإن أمكن الاجتماع ،
حمل عليها معا ، لكن بقرينة صارفة إليه ، وإن لم يمكن ، كان الحكم فيه التخيير.
وإنّما نشأ المحال
من استعماله في كلّ واحد بخصوصه وفي المجموع ، إذ استعماله في كلّ واحد بخصوصه ،
يقتضي عدم اعتبار الجمع ، واستعماله في المجموع ، يقتضي وجوب اعتباره.
قوله : إن عنى
بالوضع ما يعمّ الحقيقة والمجاز ، لم يلزم من استعماله في جميع معانيه استعماله في
المجموع.
قلنا : المراد
الحقيقة خاصّة.
قوله : يجوز
استعماله.
قلنا : مجازا ،
ونحن نسلّمه.
قيل على أصل
الدّليل : «إنّه مبنيّ على أنّ الاسم المشترك موضوع لأحد مسمّياته
على سبيل البدل حقيقة ، وليس كذلك عند الشافعي والقاضي أبي بكر ، بل هو حقيقة في
المجموع ، كسائر الألفاظ العامّة.
ولهذا ، فإنّه إذا
تجرّد عن القرينة عندهما ، وجب حمله على الجميع ، وإنّما فارق باقي الألفاظ
العامّة ، من جهة تناوله لأشياء لا تشترك في معنى واحد يصلح أن يكون مدلولا للفظ ،
بخلاف باقي العمومات.
فنسبة اللّفظ
المشترك في دلالته إلى جملة مدلولاته وإلى أفرادها ، كنسبة غيره من الألفاظ
العامّة إلى مدلولاتها ، جملة وإفرادا.
وحينئذ ، بطل ما
قيل من التّقسيم المبنيّ على أنّ اللفظ المشترك ، موضوع لأحد مسمّياته على طريق
البدل حقيقة ، ضرورة كونه مبنيّا عليه ، وإنّما هو لازم على مشايخ المعتزلة ، حيث
اعتقدوا كون اللفظ المشترك موضوعا لأحد مسمّياته حقيقة على طريق البدل».
وهذا الكلام ليس
بجيّد ، لأنّه إنكار للمشترك بالكليّة ، ونحن إنّما بحثنا على تقدير وجوده.
وبيانه : أنّ
المشترك نعني به اللّفظ الموضوع لحقيقتين على البدل ، لا على الجمع ، وإلّا لم يكن
مشتركا.
وقد احتجّ أبو عبد
الله البصري على المنع : بأنّ الواحد منّا إذا رجع إلى نفسه ، علم
استحالة أن نريد بالعبارة الواحدة الحقيقتين ، ولو ساغ ذلك في الله
__________________
تعالى ساغ فينا ،
وهذا يستحيل ، كما يستحيل أن نريد بالفعل الواحد تعظيم زيد والاستحقار به.
وليس بجيّد ،
لأنّا نمنع استحالة ذلك ، والقياس على التعظيم والاستخفاف بزيد ، باطل ، إمّا
أوّلا ، فلعدم الجامع ، وإمّا ثانيا ، فللفارق ، وهو اتّحاد الشّخص.
واحتجّ المجوّزون
بوجوه :
الأوّل : يجب أن
تعتبر العبارة وما به تكون عبارة عمّا هي عبارة عنه ، فإن منع أحدهما من إرادة
المعنيين المختلفين ، قضي به ، وإلّا قضي بجوازه ، وينبغي ألا يعتبر غيرهما .
لأنّ الكلام ،
إنّما هو فيما يجوز أن يراد بالعبارة الواحدة ، فلا مدخل لغير العبارة ، وما به
يكون عبارة عنه في ذلك ، ولهذا لا مدخل ، لاستحالة اجتماع الضدّين في استحالة
إرادة معنيين مختلفين بالعبارة الواحدة.
أمّا اعتبار
العبارة الواحدة ، فإنّا نمنع إرادة المعنيين منها لأمر يرجع إليها ، بأن لا تكون
العبارة مستعملة لأحدهما في اللّغة ، لا حقيقة ولا مجازا ، فلا يجوز أن يراد بها ،
ما كان المتكلّم بها متّبعا لهم في اللغة.
وأمّا اعتبار ما
به تكون العبارة عبارة عمّا هي عبارة عنه ، فهو الإرادة والكراهة ، ومعلوم أنّه لا
يستحيل أن يريد الإنسان المعنيين المختلفين ، فوجود العبارة ، لا يمنع من اجتماع
هاتين الإرادتين ، لأنّهما لا يدخلهما أن يكونا ضدّين ، ولا تجريان مجرى الضدّين ،
فتجب صحّة وجود هاتين الإرادتين ، وهو متكلّم بالعبارة الواحدة.
__________________
أمّا الّذي يمنع
منه ، فهو أن نريد بالعبارة الخصوص والاقتصار عليه ، ونريد العموم ، لتنافيهما.
وبعبارة أخرى : لو
قدّرنا عدم التكلم بلفظ القرء ، لم يمتنع الجمع بين إرادة الاعتداد بالحيض ،
وإرادة الاعتداد بالطّهر ، فوجود اللفظ لا يحيل ما كان جائزا.
الثاني : الصّلاة
من الله تعالى هي الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ، ثمّ إنّه تعالى أراد بهذه
اللفظة كلا المعنيين في قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ
وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ).
الثالث : قوله
تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ) والمراد بالسّجود هنا الخشوع ، لأنّه المقصود من الدّوابّ
، ويراد أيضا وضع الجبهة على الأرض ، لأنّ تخصيص كثير من الناس بالسجود ، دون
غيرهم ممّن حقّ عليه العذاب ، مع استوائهم في السجود بمعنى الخشوع ، يدلّ على أنّ
المراد بالسجود وضع الجبهة.
الرابع : قوله
تعالى : (وَالْمُطَلَّقاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) وأراد به الطهر والحيض معا ، فإنّ المجتهدة متعبّدة بكلّ
واحد منهما بدلا عن صاحبه ، بشرط أن يؤدّي اجتهادها إليه.
__________________
الخامس : قال
سيبويه : قول الإنسان لغيره «الويل لك» دعاء وخبر.
السادس : يجوز لاثنين
ارادة المعنيين ، وهما حينئذ جاريان على قانون اللغة ، فليجز من الواحد.
والجواب عن الأوّل
: أنّ اعتبار العبارة أن يمنع من ذلك ، لما بيّنا من أنّ الواضع إنّما وضع اللّفظ
للأفراد على سبيل البدل ، ولم يضعه للمجموع من حيث هو مجموع.
سلّمنا ، لكن لم
لا يجوز أن يكون المانع هو الإرادة.
بيانه : أنّ
المتكلّم بالمشترك ، إمّا أن يريد الحقيقة أو المجاز ، فإن أراد المجاز ، جاز أن
يراد المجموع ، ولا منازعة حينئذ.
وإن أراد الحقيقة
، قلنا : اللّفظ حقيقة في كلّ من المعنيين بخصوصه ، فإذا أراد هذا المعنى ، لم يرد
المجاز أعني المجموع ، وإلّا لزم التناقض ، كما بيّناه.
وعن العبارة
الاخرى : أنّه لا منازعة في إرادة الشيئين ، لكن من اللّفظ الواحد.
وعن البواقي بوجوه
:
أحدها : يجوز
إرادة المجموع مجازا.
ثانيها : يجوز أن
تكون هذه الألفاظ الخاصّة ، موضوعة للمجموع ، كما وضعت للآحاد ، فإذا أريد المجموع
، كان إرادة معنى واحد من معاني المشترك.
ثالثها : يجوز أن
يكون اللفظ موضوعا لمعنى مشترك كالصّلاة ، فإنّ
__________________
مسمّاها القدر
المشترك من الاعتناء ، ومسمّى السّجود ، المشترك بين الخضوع والانقياد ، دفعا للاشتراك
والمجاز ، أو يجعل «كثير حقّ عليه العذاب» مندرجا تحت الساجد.
تذنيبات
الأوّل : جوّز بعض المانعين من إرادة المعنيين من المشترك المفرد ،
إرادة ذلك في الجمع ، أمّا في جانب الإثبات ، فلقوله : «اعتدّي بالأقراء».
ومنعه فخر الدين
الرازي ، لأنّ معناه «اعتدّي بقرء وقرء وقرء» ، وإذا لم يصحّ أن يفاد بلفظ «القرء»
كلا المدلولين لم يصحّ ذلك أيضا في الجمع الّذي لا يفيد إلّا عين فائدة الأفراد .
وليس بجيّد ، أمّا
أوّلا ، فلأنّ الجمع تعديد الأفراد ، وكما جاز أن يراد به الكلّ مع الأفراد بأن
يريد بالأوّل الطهر وبالثاني الحيض ، فكذا مع الجمع.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ الجمع لا يستدعي اتّحاد أفراده في المعنى ، بل في اللفظ ، فإنّك لو رأيت عين
الذّهب ، وعين الشّمس ، وعين الرّكبة ، وعين الماء ، صحّ أن تقول : رأيت عيونا ،
وكذا يجمعون الأعلام المفيدة للأشخاص المختلفة.
الثاني : قول الشافعي وأبي بكر وعبد الجبّار بوجوب الحمل على الجميع
عند التجرّد ليس بجيّد ، لأنّه إمّا أن يكون موضوعا للمجموع ، كما وضع
للأفراد ، أو لا ، فإن كان الأوّل ، كان دائرا بين المفردين والمجموع ، فحمله
__________________
على المجموع يكون
ترجيحا من غير مرجّح ، وهو باطل.
وإن كان الثاني لم
يجز حمله عليه ولا استعماله فيه ، والاحتياط كما يكون في الحمل على المجموع قد
يكون في المنع منه.
الثالث : منع أبو هاشم من إرادة المعنيين كما قلناه ، وقال : إنّهما
مرادان في قوله تعالى : (ثَلاثَةَ قُرُوءٍ) لأنّه تعالى تكلّم بالآية في وقتين ، فأراد في أحدهما
الطهر ، وفي الآخر الحيض ، ولا يلزم إثبات الآية متكرّرة في المصحف ، لجواز أن
تكون المصلحة في عدم التكرار ، إلّا أنّه يجب أن تنزل على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم متكرّرة ، ولا يجب أن يبلغها النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم إلينا متكرّرة بأن يقول لنا : انّ المراد بثلاثة «قروء»
الطّهر والحيض على حسب اجتهادكم.
قيل له : فيجوز أن
يسمعها جبرئيل عليهالسلام متكرّرة ، ولا ينقلها إلى النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم متكرّرة ، بل يقول له انّ المراد بذلك الطّهر والحيض على
حسب الاجتهاد فيجوز ذلك.
الرابع : اختلف القائلون بتجويز إرادة المعنيين :
فقال بعضهم : لا
يجوز أن يؤدّي اجتهاد المجتهد الواحد إلى إرادتهما معا ، وجوّزه بعضهم ، ثمّ
اختلفوا فمنهم من خيّر بين الأمرين حتّى إذا كانت المعتدّة مجتهدة خيّرت بين
العدّة بالحيض أو الطّهر.
ومنهم من أوجب
تكرّر الاجتهاد حتّى يترجّح أحدهما.
__________________
الخامس : القائلون بالمنع من إرادة المعنيين في الجمع إثباتا جوّز
بعضهم ذلك في طرف النفي ، حيث لم يقم دليل قاطع على أنّ الوضع ما استعمله في
إفادتهما جميعا.
وأجيب بأنّ النفي إنّما يفيد رفع مقتضى الإثبات ، فإذا لم يفد في
جانب الإثبات إلّا أمرا واحدا لم يرتفع عند النفي إلّا ذلك المعنى الواحد.
وقد بيّنا جواز
ذلك في الإثبات ففي النفي أولى.
أمّا لو قال : لا
تعتدّي بما هو مسمّى بالأقراء يتناول الحيض والطهر معا ، وكان
اللفظ متواطئا لا مشتركا ، إذ كون كلّ منهما مسمّى بلفظ الأقراء معنى مشترك
بينهما.
المبحث السابع :
في مرجوحيّة الاشتراك
إذا دار اللفظ بين
الاشتراك وعدمه كان الثاني أولى لوجوه :
الأوّل : قد بيّنا
أنّ الغرض من وضع اللفظ إفهام الغير ما في الضمير ، وإنّما يحصل ذلك غالبا لو
اتّحد المعنى ، إذ مع الاشتراك تردّد ذهن السامع بين تلك المعاني ، فلا يحصل الفهم
، فتختلّ فائدة التخاطب بالمفردات ، ولا يحصل غرض المتكلّم إلّا مع الاستكشاف ،
وقد عرفت حصول الفهم ، فكان الانفراد راجحا.
__________________
الثاني : لو لا
رجحان الانفراد لم تفد الأدلّة السّمعية الظّن فضلا عن العلم ، والتالي باطل إجماعا
فكذا المقدّم.
بيان الشرطيّة :
أنّ تلك الألفاظ كما دلّت على ما فهمناه تحتمل دلالتها على غيره احتمالا متساويا ،
فلا يجوز الحمل على المفهوم ، لاستلزامه الترجيح من غير مرجّح.
الثالث : الانفراد
أغلب فيكون أرجح.
أمّا المقدّمة
الأولى فاستقرائيّة.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ الكثرة تفيد ظنّ الرّجحان.
لا يقال : بل
الاشتراك أغلب ، فإنّ الكلمة امّا اسم أو فعل أو حرف ، وكتب النحو شاهدة باشتراك
الحروف.
وأمّا الفعل
كالماضي والمستقبل مشتركان بين الخبر والدعاء ، والمضارع مشترك بين الحال
والاستقبال.
وأمّا الأمر
فمشترك بين الوجوب والندب.
وأمّا الاسم
فالاشتراك فيه كثير ، فإذا ضمّ إليه الأفعال والحروف غلب الاشتراك على الانفراد.
لأنّا نقول :
الأصل في الكلام الأسماء ، والاشتراك فيها نادر وإلّا لما حصل التفاهم حالة
التخاطب.
الرابع : الاشتراك
مخلّ بفهم القائل والسامع ، فيكون مرجوحا.
أمّا السامع ،
فلأنّ الغرض الفهم وهو غير حاصل من المشترك ،
لتردّد الذّهن بين
مفهوماته ، وقد يتعذّر عليه السؤال عن التعبير ، إمّا لاستنكافه عنه ، أو لمهابة
المتكلّم عنده ، فحينئذ يحمله على غير المراد ، وقد يذكره لغيره فيكثر الجهل.
ومن هنا حكم
المنطقيّون بأنّ الغالب في الأغلاط الاشتراك اللّفظي.
وأمّا القائل ،
فلأنّه يحتاج مع إثباته بالمشترك إلى التلفّظ بالمفرد لتعيّن مراده ، فيبقى
التلفّظ بالمشترك عبثا.
ولأنّه قد يظنّ
وقوع ذهن السّامع على القرينة المعيّنة لمراده وليس فيه ضرر ، كما لو قال : أعطه
عينا ، وقصد الماء ، فيتوهّم السامع الذهب.
وهذه المفاسد إمّا
أن تقتضي امتناع وضع المشترك أو مرجوحيّته.
الخامس : الحاجة
إلى المفرد أكثر ، فيكون أرجح من المشترك.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ مهمّات المعاش إنّما تتمّ بإفهام الغير ما في الضمير لتحصل له
الاستعانة به ، والإفهام إنّما هو باللّفظ على ما تقدّم ، ومع الاشتراك لا يحصل
الفهم ، بل مع الانفراد.
وأمّا قلّة الحاجة
إلى المشترك ، فلأنّ الغاية التعريف الإجماليّ ، وهو يحصل بالترديد بين
المفردات ، فالغناء واقع في المشترك دون المنفرد ، فيكون المشترك مرجوحا وجودا
وتصوّرا.
اعترض على الأوّلين بأنّ ظنّ وضع اللّفظ للمعنى يوجب حمله عليه ،
__________________
وإن احتمل وضعه
لغيره احتمالا سواء ، وهو كاف في الفهم والظنّ.
و [اعترض ] على الآخرين بأنّهما لا ينفيان وضع القبيلتين ، وهو السبب
الأكثريّ للاشتراك.
وليس بجيّد ، أمّا
الأوّل ، فلأنّ الظنّ إنّما يحصل على تقدير أصالة الانفراد ، أمّا على تقدير
المساواة بينه وبين الاشتراك فلا.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ الغالب اتّحاد الواضع وتعدّده نادر ، وإذا قلّ السّبب قلّ مسبّبه.
المبحث الثامن :
في سبب التعيين
اللّفظ المشترك
إمّا أن يوجد معه قرينة تدلّ على تخصيص أحد معانيه ، أولا.
فإنّ كان الثاني ،
بقي مجملا ، لامتناع حمله على الجميع عندنا ، وتساوي نسبته إليها.
وإن كان الأوّل ،
فتلك القرينة إن دلّت على اعتبار كلّ واحد من تلك المعاني ، فإن كانت متنافية بقي
اللفظ متردّدا بينهما كما كان ، إلى أن يوجد مرجّح آخر.
وإن لم تكن
متنافية ، حمل على الجميع.
وقيل : يقع
التعارض بين الأدلّة المقتضية لحمل اللفظ على كلّ المعاني ،
__________________
وبين الأدلة
المانعة من إرادة المعاني المشترك منه ، فيصار إلى الترجيح.
وليس بجيّد ، لأنّ
الدلالة المانعة من حمل المشترك على [كلّ] معانيه قطعيّة ، لا تقبل المعارضة.
وإن قبلت ، لكن لا
تعارض هنا ، لاحتمال أن يكون اللفظ كما وضع لهما منفردين ، وضع للمجموع ، أو أنّ
المتكلّم تكلّم به مرّتين ، أو أراد المجاز ، وحينئذ يعمل بالدّليل الدالّ على
اعتبارهما معا ، لعدم منافيه.
وإن دلّت على
إلغاء كلّ واحد من تلك المعاني ، وجب حمل اللّفظ على مجازات تلك الحقائق الملغاة ،
إذ عند تعذّر الحمل على الحقيقة ، يحمل على المجاز.
ثمّ تلك الحقائق
الملغاة ، إن كان بعضها أرجح لو لا الإلغاء ، وتساوت المجازات في القرب ، كان مجاز
الراجحة راجحا.
وإن تفاوتت [المجازات]
فإن كان مجاز الراجحة راجحا ، كان أولى بالرّجحان ، وإلّا وقع التعارض بين
المجازين ، لأنّ الراجح من المجازين ، يعارض رجحانه ، مرجوحيّة حقيقته ، فقد اختصّ
كلّ منهما بنوع رجحان.
وإن تساوت الحقائق
، فإن كان أحد المجازات أقرب إلى حقيقته ، تعيّن العمل به ، وإلّا بقيت اللفظة
متردّدة بين المجازات ، لقيام الدّليل على امتناع حمله على جميع المعاني ، سواء
كانت حقيقيّة أو مجازيّة.
__________________
وفيه نظر ، إذ لا
يلزم من رجحان بعض الحقائق وتساوي مراتب المجازات ، ترجيح مجاز الرّاجحة ، لأنّه
قد ثبت إلغاؤها ، فلم يبق لرجحانها اعتبار ، وكذا إن تفاوتت وكان مجاز الراجحة
راجحا ، أو تساوت الحقائق ، وتفاوتت المجازات.
(وإن كان حمل
اللفظ على مجازه يقتضي اعتبار الحقيقة ، كان مجاز الراجحة أولى مطلقا ، وإن كان
ترجيح المجاز باعتبار نسبته إلى اللفظ ، حمل على الرّاجح مطلقا).
وإن دلّت على
اعتبار البعض ، فإن اتّحد ، حمل عليه قطعا ، وإن تعدّد ، كان متردّدا بين أفراد
البعض المعتبر.
وإن دلّت على
إلغاء البعض ، فإن لم تزد المعاني على اثنين ، تعيّن الحمل على الآخر ، وزال
الإجمال ، إذ يجب حمل اللفظ على معناه ، ولا معنى له سوى هذين ، وقد تعذّر الحمل
على أحدهما ، فيحمل على الآخر ، دفعا لمحذور الهدريّة.
وإن زادت ، بقي
اللّفظ مجملا بين الباقي بعد الإلغاء.
__________________
الفصل السادس
في الحقيقة والمجاز
ومطالبه ثلاثة :
[المطلب] الأوّل :
في الماهية
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في تفسير لفظيهما
الحقيقة في اللّغة
فعيلة من الحقّ ، وهو الثّابت ، لأنّ مقابله الباطل وهو المعدوم ، فيكون الحقّ هو
الثابت.
ويقال الحقّ ،
لدائم الثبوت ، وللواجب ، وللقول المطابق إذا نسب الأمر إليه ، ولو انعكست النّسبة
قيل : صدق.
والفعيل يأتي
بمعنى الفاعل ، كالعليم والرحيم ، وبمعنى المفعول كالقتيل والجريح.
فإن عني هنا
الأوّل ، كان معنى الحقيقة ، الثابتة ، وإن عني الثاني ، كان معناها المثبتة.
والتاء لنقل اللفظ
من الوصفيّة إلى الاسميّة الصّرفة ، فلا يقال : شاة أكيلة ولا نطيحة.
وأمّا المجاز
فإنّه مفعل من الجواز أعني التعدي والعبور ، يقال : جزت موضع كذا.
أو من الجواز
المقابل للوجوب والامتناع ، وهو في الحقيقة راجع إلى الأوّل ، فإنّ غير الواجب
والممتنع متردّد بينهما ، فكأنّه ينتقل من أحدهما إلى الآخر.
ويسمّى المجاز
اللّفظي كذلك ، فإنّه نقل من معناه الحقيقي إلى معناه المجازي ، وكأنّه
جاز موضعه فسمّي مجازا.
المبحث الثاني :
في تعريفهما
اعلم أنّ الحقيقة
والمجاز متقابلان ، وحدّ أحدهما ينبئ عن حدّ الآخر ويقضب منه.
وقد اختلف الناس
في حدّ الحقيقة والمجاز ، فقال الشيخان أبو علي وأبو هاشم : الحقيقة ما انتظم
لفظها معناها من غير زيادة ولا نقصان ولا نقل ، واختاره أبو عبد الله البصري أوّلا.
وحينئذ يكون
المجاز هو الّذي لا ينتظم لفظه معناه ، إمّا لزيادة ، أو نقصان أو نقل.
__________________
فالزيادة كقوله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) لو حذفنا الكاف لانتظم الكلام ، واستقام المعنى ، إذ
المقصود بيان الواحدة ، وإنّما يتمّ لو كانت الكاف زائدة ، إذ نفي مثل المثل لا
يوجب نفي المثل.
والنقصان هو الذي
ينتظم عند الزيادة كقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) لو قيل : واسأل أهل القرية صحّ الكلام حقيقة ، ولم يحتجّ
إلى إضمار.
والنّقل مثل :
رأيت أسدا ، وأردت الرّجل الشجاع.
وفيه تكرار لأنّ
الزيادة والنقصان إنّما كان المجاز بهما مجازا ، لأنّه نقل عن موضوعه الأصليّ إلى
موضوع آخر في المعنى والإعراب ، فلا يجوز جعلهما قسمين للنقل.
أمّا المعنوي
فلأنّ قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) نفي مثل مثله ، وهو غير مراد ، لاقتضائه نفيه تعالى وإثبات
المثل ، وهو كفر وشرك ، فلم يبق إلّا مجازه وهو نفي المثل ، فيكون قد نقل من نفي
مثل المثل إلى نفي المثل.
وفيه نظر ، لأنّ
السالبة تصدق عند عدم الموضوع ، فتصدق مع عدم المثل ، وثبوته تعالى سلب مثل المثل
، والمقصود حاصل لأنّه تعالى ثابت ، فتصدق السالبة بنفي المثل.
وقوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) موضوع لسؤال القرية ، وقد نقل إلى أهلها.
وأمّا الإعراب
فلأنّ الزيادة والنقصان ، إذا لم يغيّر إعراب الباقي لم
__________________
يكن مجازا ، فقولك
: جاء زيد وعمرو ، وحذف «جاء» لدلالة الأوّل عليه ، ولمّا لم يتغيّر الإعراب ، لم
يحكم عليه بالمجاز ، وكذا في طرف الزيادة.
ومع تغيّر الإعراب
يكونان مجازين ، وذلك إنّما يكون عند نقل اللفظ من إعراب إلى إعراب آخر.
وقال أبو عبد الله
البصري أخيرا : «الحقيقة ، ما أفيد بها ما وضعت له» والمجاز : «ما أفيد به غير ما
وضع له» نقله فخر الدين عنه .
واعترض عليه بأنّه
يدخل في الحقيقة ما ليس منها ، فإنّ لفظة الدّابّة إذا استعملت في الدودة والنّملة
فقد أفيد بها ما وضعت له في أصل اللغة مع أنّها بالنسبة إلى الوضع العرفيّ مجاز ،
فقد دخل المجاز العرفيّ فيما جعله حدّا لمطلق الحقيقة ، وهو باطل.
وقوله في المجاز :
إنّه ما أفيد به غير ما وضع له ، باطل بالحقيقة العرفيّة والشرعيّة ، فإنّ اللّفظة
أفيد بها ـ والحال هذه ـ غير ما وضعت له في أصل اللّغة ، فقد دخلت هذه
الحقيقة في المجاز.
وأيضا إمّا أن
يريد بقوله : «ما أفيد به غير ما وضع له» أنّه أفيد به غير ما وضع له بدون القرينة
أو معها.
والأوّل باطل ،
لعدم إفادة المجاز بدون القرينة.
والثاني ينتقض بما
إذا استعمل لفظ السماء في الأرض ، فإنّه قد أفيد به
__________________
غير ما وضع له ،
مع أنّه غير مجاز فيه ، وينتقض بالأعلام المنقولة.
لا يقال : العلم
لا يفيد.
لأنّا نقول :
مسلّم ، لأنّه لا يفيد صفة في المسمّى ، بل يفيد عين تلك الذات.
وفيه نظر ، فإنّ
اسم الدّابّة حقيقة في النّملة والدّودة وإن كان مجازا عرفيّا ، فإنّه لا يخرج
بذلك عن كونه حقيقة لغويّة ، وهو الجواب عن المجاز ، فإنّ الحقيقة العرفيّة
والشرعيّة مجاز لغويّ ، ولا يخرج عن كونه مجازا بكونه حقيقة عرفيّة أو شرعيّة.
ونقل أبو الحسين
البصريّ عنه في التعريف الآخر : أنّ الحقيقة هي ما أفيد به ما وضع له في اللّغة
الّتي يتكلّم المرء بها ، سواء كان ذلك في أصل اللّغة ، أو في عرف الشّرع ، أو في
عرف الاستعمال .
ولا يرد عليه ما
تقدّم.
والسيّد المرتضى
حدّها بذلك أيضا.
وقال ابن جنّي : الحقيقة : ما أقرّ في الاستعمال على أصل وضعه في اللّغة
، والمجاز ما كان بضدّه.
ويضعّف بخروج
الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عن حدّ الحقيقة ، ويدخلان فيما جعله مجازا.
__________________
وأيضا فقوله : «المجاز
ما كان بضدّ ذلك» معناه أنّه الّذي ما أقرّ في الاستعمال على [أصل] وضعه في اللّغة
، ويبطل باستلزام كون استعمال لفظ الأرض في السماء مجازا.
وقال عبد القاهر : الحقيقة كلّ كلمة أريد بها عين ما وقعت له في وضع واضع ،
وقوعا لا يستند فيه إلى غيره ، كالأسد للبهيمة المخصوصة.
والمجاز كلّما
أريد بها غير ما وقعت له في وضع واضعها لملاحظة بين الثّاني والأوّل.
وهذا يقتضي خروج
الحقيقة الشرعيّة والعرفيّة عن حدّ الحقيقة ودخولهما في حدّ المجاز ، وهو غير جائز
، ومع ذلك فاستعمال لفظة «كلّ» في الحدّ خطأ.
وقال أبو الحسين
البصري : الحقيقة ما أفيد بها ما وضعت له في أصل الاصطلاح الّذي وقع التخاطب ،
ويدخل فيه اللّغويّة ، والشرعيّة والعرفيّة.
والمجاز ما أفيد
به معنى مصطلحا عليه ، غير ما اصطلح عليه في أصل تلك المواضعة الّتي وقع التخاطب
فيها. لعلاقة بينه وبين الأوّل.
فالأخير لم يذكره
ولا بدّ منه ، وإلّا كان وضعا جديدا لا مجازا.
وقيد الاصطلاح
يعطي اشتراط الوضع في المجاز ، ومن لا يشترطه يحذفه.
__________________
لا يقال : يخرج من
حدّ المجاز المستعار ، لأنّ قولنا في الاستعارة : رأيت أسدا إنّما يحصل التعظيم لا
باعتبار إعادة الاسم خاصّة ، وإلّا لحصل التّعظيم لو جعلنا الأسد علما عليه ، بل
إنّما يحصل باعتبار تقدير ذلك الشخص في نفسه أسدا ، لبلوغه في الشّجاعة الخاصّة
بالأسد إلى غايتها ، فلمّا تصوّرنا فيه أنّه أسد ، وقدّرنا ذلك فيه أطلقنا عليه
اسم الأسد ، وحينئذ لا يكون اسم الأسد مستعملا في غير موضوعه الأصليّ.
لأنّا نقول : يكفي
في التعظيم تقدير حصول قوّة مساوية لقوّة الأسد ، فيكون استعمال لفظ الأسد فيه
مجازا.
والتحقيق أنّ هنا
أمورا ثلاثة : لفظ ، ووضع ، واستعمال ، ويمكن إطلاق الحقيقة على كلّ واحد منها ،
لأنّها مأخوذة إمّا من الثابت ، أو المثبت على ما بيّناه.
فإن أطلقناها على
اللّفظ صارت الحقيقة لفظ ثابت أو مثبت ، ونريد به ثبوته في معناه الّذي وضع له ،
ويكون حدّها على هذا ، اللّفظ المستعمل فيما وضع له في اللّغة الّتي وقع التخاطب
بها.
وإن أطلقناها على
الوضع ، صار الوضع ثابتا أو مثبتا ، بمعنى أنّه لم يتغيّر اللّفظ عن وضعه عند
استعماله.
وإن أريد الثالث
كان الاستعمال ثابتا أو مثبتا ، أي استعمال اللفظ في معناه الموضوع له في اللغة
المصطلح عليها ، ويكون حدّها على التقديرين الأخيرين ذلك.
والفرق بينه وبين
الأوّل : أنّ الأوّل يرجع إلى اللفظ ، والثاني إلى استعماله.
المبحث الثالث :
في انّ إطلاق الحقيقة والمجاز مجاز
قد بيّنا أنّ
الحقيقة مأخوذة من الحقّ وهو الثابت ، ثمّ نقل إلى العقد المطابق ، لأنّه أولى
بالوجود من العقد الغير المطابق ، ثمّ نقل إلى القول المطابق ، ثمّ نقل إلى
استعمال اللفظ في موضوعه الأصليّ ، فإنّ استعماله فيه تحقيق لهذا الوضع ، فهو مجاز
في المرتبة الثالثة من الوضع ، هذا بحسب اللّغة ، وإن كان حقيقة بحسب العرف.
والمجاز قد بيّنّا
أنّه مفعل من الجواز والعبور ، وإنّما يحصل ذلك في الأجسام الّتي يصحّ عليها
الانتقال من حيّز إلى آخر ، أمّا الألفاظ فإن أطلق عليها ذلك للمشابهة ، كان
الإطلاق فيها مجازا.
وأيضا المجاز مفعل
وبناؤه حقيقة إمّا في المصدر أو في الموضع ، وإطلاقه في الفاعل مجاز ، فاستعماله
في اللّفظ المنتقل يكون مجازا.
وإن كان مأخوذا من
الجواز المقابل للضرورة ، كان حقيقة ، فإنّه كما يمكن حصوله في الأجسام يمكن حصوله
في غيرها.
فاللّفظ يكون
موضوعا لذلك الجواز ، لأنّه موضوع لجواز أن يستعمل في غير معناه الأصليّ ، فيكون
حقيقة ، إلّا أنّ الجواز إنّما سمّي جوازا ، لأنّه مجاز عن معنى العبور والتعدّي.
المطلب الثاني :
في أقسام الحقيقة
وهي ثلاثة لغويّة
وعرفيّة وشرعيّة
وفيه أبحاث :
البحث الأوّل : في
اللغويّة
لا شكّ أنّ هنا
ألفاظا وضعت لمعان في اللّغة ، واستعملت فيها ، وذلك هو الحقيقة اللّغويّة.
واحتجّوا على
إثباتها بأنّ هاهنا ألفاظا مستعملة في معان ، فإن كانت هي الموضوعة لها ، كانت
حقائق ، وهو المطلوب.
وإن كانت غيرها
كانت مجازات ، والمجاز مسبوق بالحقيقة ، وفرع عليها ، ووجود الفرع يستلزم وجود
الأصل ، فالحقيقة موجودة قطعا.
وليس بجيّد ، فإنّ
المجاز تابع للوضع ومسبوق به ، لا بالاستعمال ، لكن مجرّد الوضع ليس حقيقة بل مع
الاستعمال.
__________________
البحث الثاني : في
الحقيقة العرفيّة
اعلم أنّه قد تخطر
معان يفتقر إلى التعبير عنها لم يوضع لها ألفاظ في اللّغة كما بيّناه ، فيضطرّ إلى
اختراع ألفاظ لها.
لكن لمّا كرهوا
الخروج عن قانون اللغة ، التجئوا إلى سلوك طريق يجمع تحصيل مطلوبهم ، والتزام
قانون اللغة ، فعمدوا إلى كلّ لفظ موضوع لمعنى يناسب معناه الّذي طلبوا التعبير
عنه ، فنقلوه إليه ، إذ كان ذلك جريا على قانون اللّغة ، ولم يخترعوا لتلك المعاني
ألفاظا من عندهم ، للعلّة المذكورة.
فإن غلب استعمالهم
في المعنى الثاني ، صار حقيقة عرفيّة ، إمّا بالعرف العامّ أو الخاصّ.
فإن أهمل الأوّل
صار استعمال اللّفظ فيه مجازا عرفيّا وإن كان حقيقة لغويّة ولا نزاع في تجويز ذلك
، وإنّما الخلاف في الوقوع ، والحقّ ثبوته ، لوجود القدرة والدّاعي.
واعلم أنّ العرف
العامّ منحصر في أمرين :
الأوّل : اشتهار
المجاز بحيث يصير حقيقة عرفيّة ، فيستنكر استعمالها ، وجهات المجاز متعدّدة تأتي ،
كحذف المضاف وإقامة المضاف إليه ، كتحريم الخمر ، وهو بالحقيقة مضاف إلى الشّرب ،
وكتسمية الشيء باسم شبيهه ، كما يطلق كلام زيد على حكايته ، وكتسمية المتعلّق باسم
المتعلّق ، كقضاء الحاجة بالغائط الّذي هو في اللّغة للمكان المطمئنّ ، وكتسمية
المزادة بالرّواية
الّتي هي اسم الجمل الحامل لها.
الثاني : تخصيص
الاسم ببعض مسمّياته كالدابّة المشتقّة من الدّبيب ، واختصّت ببعض البهائم ،
والملك مأخوذ من الألوكة وهي : الرسالة ، واختصّ ببعض الرّسل ، والجنّ من الاجتنان
واختصّ بالبعض ، والقارورة لما يستقرّ فيه الشيء ، والخابية لما يخبّأ فيه ،
واختصّا بالبعض.
فالتصرّف عرفا
إنّما هو على أحد الوجهين ، فلا يجوز إثبات ثالث ، وإنّما كانت هذه حقائق عرفيّة ،
لوجود علامات الحقيقة فيها.
وأمّا [العرف]
الخاصّ ، فهو ما لكلّ قوم من العلماء من اصطلاحات اختصّوا بها ، كما اختصّ الفقهاء
بالنقض والكسر وغيرهما ، والمتكلّمون بالجوهر والعرض وغيرهما ،
والنحويّون بالرّفع والنّصب وغيرهما ، وهو معلوم قطعا.
البحث الثالث : في
الحقيقة الشرعية
وهي اللفظة
المستعملة شرعا فيما وضعت له في ذلك الاصطلاح وضعا أوّلا ، سواء كان المعنى واللفظ
مجهولين عند أهل اللّغة ، أو معلومين ، لكنّهم لم يضعوا اللفظ بإزاء ذلك المعنى ،
أو كان أحدهما معلوما والآخر
__________________
مجهولا ، وقد وقع الاتّفاق على إمكانها ، وإنّما النزاع في
وقوعها.
فمنعه القاضي أبو
بكر مطلقا وجوزه المعتزلة مطلقا .
ثمّ قسم المعتزلة
والخوارج وبعض الفقهاء الأسماء الشرعيّة إلى ما اجريت على الأفعال كالصلاة ،
والصوم ، والزكاة ، والحجّ ، وغيرها.
وإلى ما أجريت على
الفاعلين كالمؤمن ، والفاسق ، والكافر ، وسمّوا الأخير بالدينيّة ، فرقا بينها
وبين الأوّل ، ويجمع القسمين العرف الشّرعي.
ونقل عنهم أنّ
الدينيّة ما نقله الشريعة إلى أهل الدين ، كالإيمان ، والكفر ، والفسق.
والأجود أنّها
حقائق شرعيّة ، مجازات لغويّة.
وقبل الخوض في
الدليل لا بدّ من تحقيق محلّ النزاع فنقول :
لا شكّ في وجود
ألفاظ استعملها العرب وجرت في ألفاظ الشرع على أنحاء ، لم يقصد في اللغة المحضة ،
كالصلاة فإنّها في اللسان للدّعاء ، أو المتابعة
__________________
والملازمة ، من
قولهم صلا بالنار ، والزكاة في اللّغة للنموّ ، والحجّ في اللغة للقصد ، والعمرة
للزيادة.
ثمّ إنّ الشارع
استعمل هذا الألفاظ في عبارات مخصوصة.
فقيل : إنّ الشرع
نقل تلك الألفاظ اللغويّة عن حكم وضع أهل اللّسان إلى مقاصده.
وقال القاضي أبو
بكر : إنّها مقرّة على حقائق اللغات لم تنقل ولم يزد في معناها.
وقال جماعة من
الفقهاء : إنّها أقرّت وزيدت في معناها.
والتحقيق أن نقول
: لا شكّ في وجود هذه الألفاظ في اللّغة ، وأنّ الشارع أراد بها أمورا لم يردها
واضع اللّغة.
لكن لمّا كانت تلك
الأمور الّتي أرادها الشارع تشتمل على الأمور اللّغويّة ، حصل الإشكال في أنّ
الشارع هل أطلق تلك الألفاظ على تلك المعاني لأجل اشتمالها على المعاني اللّغوية؟
أو على المعاني اللّغويّة الموجودة في تلك الأمور الشرعية خاصّة؟ أولم يعتبر
المعنى اللّغويّ البتّة؟
فنقول : إن أوجبنا
في الألفاظ الشرعيّة استعمال القوانين اللغويّة ، وجب اعتبار أحد الأمرين الأوّلين
، ليكون العرف الشرعيّ غير خارج من قانون اللّغة ، بل استعمل الحقيقة إن اعتبرنا
الثاني ، أو المجاز إن اعتبرنا الأوّل ، وإلّا فلا.
لكن لمّا كان حكم
الله تعالى بكون القرآن عربيّا وجب اعتبار أحد الأوّلين ، فهذا تحقيق محلّ النزاع.
__________________
لنا على استناد
الوضع إلى الشرع : أنّ الصلاة في الشرع للرّكعات المخصوصة ، والزكاة للقدر المخرج
من المال ، والحجّ للأفعال المخصوصة عند البيت ، والصوم للإمساك عن أشياء مخصوصة.
وفي اللغة للدّعاء
، والنموّ ، والقصد ، والإمساك مطلقا وإذا أطلقت في اصطلاح الفقهاء فهم ما وضعه
الشارع دون ما وضعه أهل اللغة فيه ، بحيث لا يسبق إلى الذهن إلّا ما قلناه.
وهذا من خواصّ
الحقيقة ، فكانت حقائق شرعيّة.
لا يقال : الحقيقة
اللغويّة موجودة في هذه المعاني ، والزيادات شروط.
لأنّا نقول : لا
نسلّم وجود المعنى اللّغويّ ، فإنّ الاخرس المنفرد غير داع ولا متّبع .
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم التفات الشارع إلى هذه المعاني ، بل إلى ما وضعه.
لا يقال : إنّها
مجازات فيما ذكرتم ، ضرورة استعمالها فيما لم يوضع له.
لأنّا نقول : إن
أردتم استعمال الشارع لها ، فهو المدّعى ، وإن أردتم أهل اللغة ، فليس كذلك ، لعدم
علمهم.
ولنا على أنّها
مجازات لغويّة : أنّها لو لم تكن لغويّة ، لم يكن القرآن كلّه عربيّا ، والمقدّمة
كالتالي باطل.
__________________
بيان الشرطية :
أنّ هذه الألفاظ مذكورة في القرآن ، فلو لم تكن إفادتها لهذه المعاني عربيّة ،
ثبتت الملازمة.
وأمّا فساد
التّالي فلقوله تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا) وقوله : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍ) وقوله (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ).
فإن قيل : هذا
الدّليل فاسد الوضع ، لاستلزامه غير المطلوب دونه ، إذ يقتضي كون هذه الألفاظ
مستعملة في المعاني اللّغويّة ، وليس كذلك إجماعا.
فإنّ الصّلاة لا
يراد بها في الشرع ، الدّعاء ولا المتابعة.
سلّمنا ، لكن نمنع
الملازمة ، فإنّ هذه الألفاظ عربيّة ، لوجودها في كلامهم ، وإن أفادت غير ما أفيد
منها شرعا.
سلّمنا ، لكن
لقلّتها لا يخرج القرآن بها عن كونه عربيّا ، كما يطلق الأسود على ثور أسود وفيه
شعرات بيض ، والشعر الفارسي يسمّى فارسيّا ، وإن وجدت فيه ألفاظ عربيّة.
سلّمنا ، لكن قوله
: (قُرْآناً عَرَبِيًّا) يراد به البعض ، لصدق القرآن عليه وعلى مجموعه بالاشتراك [لوجوه
أربعة :]
[١] ـ فإنّه لو
حلف ألا يقرأ القرآن حنث بالآية ، ولو لم يسمّ قرانا ، لم يحنث.
[٢] ـ ولأنّه
مأخوذ من القراءة أو القرء ، وهو الجمع.
[٣] ـ ولصحّة :
هذا كلّ القرآن وبعضه ، من غير تكرير ولا نقض.
__________________
[٤] ـ ولقوله في
سورة يوسف : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا) والمراد تلك السورة ، فلا يلزم من كون القرآن عربيّا ، كون
كلّه كذلك ، بخلاف المائة والرغيف.
سلّمنا دلالة
النّصوص على كون القرآن بجملته عربيّا ، لكن بطريق الحقيقة أو المجاز؟
والثاني : مسلّم ،
الأوّل ممنوع.
سلّمنا ، لكن
يعارض بما يقتضي أنّه ليس كلّه عربيّا ، وهو الحروف في أوائل السّور ، والمشكاة
حبشيّة ، والاستبرق والسّجيل فارسيّتان معرّبتان ، والقسطاس روميّ الأصل.
سلّمنا ، لكن
يعارض من حيث الإجمال ومن حيث التفصيل.
أمّا الإجمال فهو
: أنّه قد ثبت في الشرع معان ، لم يعقلها العرب فلم يضعوا لها أسامي ، ويفتقر إلى
التعبير عنها ، فوجب وضع الأسامي لها ، كالولد والأداة ، الحادثين.
وأمّا التفصيل ،
فما يدلّ على كل واحد [من هذه الألفاظ] أنّه استعمل في غير معناه الأصليّ.
أمّا الإيمان ،
فهو في اللغة التصديق ، وفي الشرع فعل الواجبات ، لوجوه :
الأوّل : أنّه
الدّين كقوله (وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ
__________________
حُنَفاءَ
وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وهو يرجع إلى كلّ ما تقدّم.
والدين ، الإسلام
لقوله : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ).
والإسلام ،
الإيمان ، إذ لو غايره لم يكن مقبولا لقوله : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ولقوله : (فَما وَجَدْنا فِيها
غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ولو لا الاتّحاد بطل الاستثناء.
الثاني : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) قيل : صلاتكم.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم «نهيت عن قتل
المصلّين» وأراد المؤمنين.
الثالث : قوله : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أمره فيها بالاستغفار لهم ، والفاسق لا يستغفر له حال فسقه
، بل يلعنه ويذمّه ، فلا يكون مؤمنا.
الرابع : قاطع
الطريق يخزى يوم القيامة ، لأنّه يدخل النار ، لقوله : (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) فيخزى لقوله : (إِنَّكَ مَنْ
تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) من غير تكذيب لهم ، والمؤمن لا يخزى لقوله : (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
الخامس : لو كان
الإيمان شرعا هو التصديق ، لم يوصف به حال عدمه ، لما
__________________
تقدّم في باب
الاشتقاق ، والتالي باطل ، إذ يقال للاتي بأفعال الإيمان من غير احتياط : إنّه
مؤمن ، وللنائم : إنّه مؤمن.
السادس : لو كان
الإيمان التّصديق ، لكان مصدّق الجبت والطاغوت مؤمنا.
السابع : من علم
بالله تعالى ثمّ سجد للشّمس يلزم أن يكون مؤمنا ، وهو خلاف الإجماع.
الثامن : قوله [تعالى]
: (وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) أثبت الإيمان مع الشرك ، والتصديق بالواحدانية لا يجامع
الشرك ، فيكون التصديق مغايرا للإيمان.
وأمّا الصّلاة فهي
لغة المتابعة ، ومنه يسمّى تابع السابق مصلّيا ، والدعاء كقوله :
....................
|
|
صلّى على دنّها ...
|
وعظم الورك ، كما
قيل : إنّما سمّيت صلاة ، لقضاء العادة بوقوف المسلمين صفوفا فرأس أحدهم حالة
الركوع عند صلا الآخر ، وهو : عظم الورك.
ولا يفيد شيئا
منها في الشرع ، لعدم إخطارها بالبال عند الإطلاق.
وصلاة الإمام
والمنفرد لم يوجد فيها المتابعة ، ولا محاذاة الرّأس عظم الورك.
__________________
وإذا انتقل [الإنسان]
من الدّعاء إلى غيره ، لا يقال : فارق صلاته.
وصلاة الاخرس لا
دعاء فيها.
والصّوم لغة
الإمساك مطلقا ، وشرعا الإمساك عن أشياء مخصوصة ، بل قد يوجد الصّوم الشرعي حيث لا
إمساك كما في وقت الأكل ناسيا ، وكذا البواقي.
والجواب : قوله :
هذا الدليل يقتضي كون هذه الألفاظ مستعملة في المعاني الّتى كانت العرب تستعملها
فيها.
قلنا : حقيقة أو
مطلقا؟
الأوّل ممنوع ،
والثاني مسلّم.
بيانه : أنّ العرب
قد تكلّمت بالحقيقة والمجاز ، الّذي من جملته تسمية الكلّ باسم الجزء ، والدعاء
جزء من الصّلاة الشرعيّة ، بل هو المقصود ، لقوله : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ
لِذِكْرِي).
ولأنّ القصد به
التضرّع ، فلم يكن خارجا عن اللغة.
لا يقال : شرط
المجاز النّصّ من أهل اللّغة ، وهو منفيّ هنا ، لعدم علمهم بالمعاني ، إذ لو علموها
جاز أن تكون حقائق لغويّة ، فإنّا إنّما تعيّنّا كونها حقائق لعدم علمهم.
لأنّا نقول : لا
نسلّم اشتراط النّصّ.
__________________
سلّمنا ، لكن
نصّوا إجمالا ، حيث قالوا : يجوز إطلاق اسم الجزء على الكلّ مجازا.
قوله : يجوز أن
تكون عربيّة باعتبار نطق العرب بها ، لا باعتبار الوضع.
قلنا : كون اللّفظ
عربيّا ، حكم تابع للدّلالة على معنى المخصوص ، لا من حيث ذاته ، فلو لم تكن
الدلالة عربيّة ، لم تكن الألفاظ عربيّة.
قوله : لا يخرج
القرآن عن كونه عربيّا بألفاظ قليلة.
قلنا : ممنوع ،
فإنّه حينئذ يصدق عليه أنّ كلّه ليس عربيّا ، ونمنع إطلاق الأسود على ما فيه شعرات
بيض ، والفارسيّ على ما فيه كلمات عربيّة حقيقة ، بل بالمجاز ، وإلّا لما جاز
الاستثناء .
وفيه نظر ،
لاحتمال أن يقال : يجوز أن يكون إطلاق اسم الكلّ عليه وعلى الأكثر حقيقة ،
والاستثناء يخرج الأقلّ عن كونه مسمّى باسم الكلّ لا الأكثر.
قوله : القرآن اسم
للبعض.
قلنا : ممنوع
للإجماع على أنّه تعالى ما أنزل إلّا قرانا واحدا.
والوجوه الأربعة ،
معارضة بأنّه يقال في كلّ آية أو سورة : إنّه بعض القرآن ومنه.
وفيه نظر ، لأنّ
المجموع الّذي يصدق اسمه عليه وعلى جزئه بالتواطؤ أو
__________________
الاشتراك ، يصدق
عليه أنّه قران واحد باعتبار مجموعه ، وأنّه قران متعدّد باعتبار أجزائه ، كما لو
أنزل ماء ، صدق عليه أنّه ماء واحد ، ولو اعتبرت أجزاؤه ، صدق تعدّده.
والوجوه الأربعة ،
لا يعارضها قولنا في السورة : إنّها بعض القرآن ، لصدق القرآن عليها وعلى المجموع
بالتواطؤ أو الاشتراك.
قوله : النصوص
تقتضي كون كلّه عربيّا مجازا.
قلنا : الأصل في
الاستعمال الحقيقة.
قوله : وجدت ألفاظ
غير عربيّة.
قلنا : ممنوع ،
والحروف قيل : إنّها اسماء السّور ، أو أجزاء من كلمات ، كما قيل : إنّ «الكاف» من كاف ، و «الهاء» من هاء ، وغير ذلك.
و «المشكاة»
وغيرها جاز أن يكون ممّا اتفقت فيه اللّغات ك «الصّابون» و «التّنّور».
سلّمنا ، لكن
تخصيص العامّ لا يخرجه عن كونه حجّة في الباقي.
قوله : المعاني
تجدّدت ، فلا بدّ من وضع جديد.
قلنا : يكفي
المجاز ، كتخصيص الصّلاة بدعاء معيّن ، وكذا البواقي.
والزكاة من المجاز
المنقول فيه اسم المسبّب إلى سببه.
__________________
قوله : فعل
الواجبات هو الدّين.
قلنا : ممنوع
ولفظة «ذلك» لا يرجع إلى جميع ما تقدّم لواحدتها ، وتذكيرها ، وكثرته.
وتأنيث إقامة
الصّلاة ، فلا بدّ من إضمار.
ولستم بإضمار «الّذي
أمرتم به» أولى منّا بإضمار «الإخلاص» أو «التديّن».
ومع ذلك فإضمارنا
أرجح ، لعدم تأديته إلى تغيير اللّغة ، بخلاف إضمارهم.
وفيه نظر ، لجواز
رجوعه إلى المجموع من حيث هو مجموع.
قوله : المراد
بقوله «إيمانكم» صلاتكم إلى بيت المقدس.
قلنا : ممنوع ، بل
التصديق بوجوب تلك الصلاة ، محافظة على بقاء الوضع.
وقوله عليهالسلام : «نهيت عن قتل المصلّين» أراد المصدّقين بتلك الصّلاة مجازا ، من باب التعلّق.
قوله : الفاسق غير
مؤمن ، للاستغفار للمؤمن دونه.
قلنا : الايمان
يجامع المعاصي ، لقوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا
__________________
إِيمانَهُمْ
بِظُلْمٍ) ، (وَإِنْ طائِفَتانِ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا).
ولأنّ محلّ
الإيمان القلب لقوله تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ)(وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ)(يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ).
وقوله عليهالسلام : «يا مثبّت القلوب ثبّت قلبي على دينك» فيكون مغايرا لعمل الجوارح.
قوله : قاطع
الطّريق يخزى.
قلنا : الآيات
الدالّة على مجامعة الإيمان للمعاصي يدفع ما ذكرتموه ، واستثناء المسلمين معارض
بقوله : (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا
وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا).
وقوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) يحتمل من كان في زمانه ، أو أنّه مستأنف ، وثبوت العذاب لا
يستلزم دخول النّار.
قوله : وقد يوصف
بالإيمان حال عدم مباشرة التصديق.
قلنا : وحال عدم
الأفعال أولى.
قوله : يكون
المصدّق بالجبت مؤمنا.
قلنا : الإيمان في
عرف الشرع تصديق النبيّ صلىاللهعليهوآله في جميع ما جاء به ، لا مطلق التصديق ، وهو الجواب عن
الباقي.
__________________
قوله : الصلاة
وغيرها غير مستعمل في العرف اللّغوي.
قلنا : مسلّم لكن
استعملت مجازات بالنسبة إليها.
احتجّ القاضي بأمرين :
الأوّل : أنّ
القرآن قد اشتمل على هذه الألفاظ فلو لم تكن عربيّة لم يكن القرآن كلّه عربيّا.
والتقريب ما تقدّم.
الثاني : أنّ
الشارع لو نقلها ، لوجب عليه أن يعرّف الأمّة ذلك حتّى يتمكّنوا من الامتثال
لأوامره ، ولو عرّفهم ذلك لنقل إلينا ، لأنّا متعبّدون مثلهم.
والنقل إمّا تواتر
أو آحاد ، والآحاد ليست حجّة ولا تواتر .
والجواب عن الأوّل
: إن أردت بكونها عربيّة نطق العرب بها أو استعملها في حقائق تناسب الحقائق الشرعية ، فهو مسلّم.
وإن أردت
استعمالها فيما استعمله الشّارع ، فهو لا شكّ بعيد.
وعن الثاني : أنّ
التواتر دلّ على النقل في أكثر الأسماء ، والآحاد تفيد في الأمور الشرعية.
ولأنّه إنّما يجب
عليه أن يوقفنا على مقصوده لو لم نفهمه من هذه الألفاظ بالتكرير والقرائن مرة بعد
أخرى ، فإذا فهم فقد حصل الغرض.
قوله : يلزم
التكليف بما لا يطاق لو كلّفهم فهمها قبل تفهيمهم.
__________________
وليس كذلك.
قوله : التفهيم
إنّما يكون بالنقل.
قلنا : ممنوع بل
بالتكرير والقرائن ، كما قلناه.
البحث الرّابع :
في اشتمال القرآن على المعرّب
ولقد يناسب ما نحن
فيه الكلام في أنّ القرآن هل اشتمل على كلمة غير عربيّة أم لا؟
فأثبته ابن عباس
وعكرمة .
ونفاه الباقون.
والأقرب الأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : اتّفاق
النحاة على أنّ مثل إبراهيم وإسماعيل غير منصرف ، للعجمة والعربيّة.
الثاني : أنّ
القرآن قد اشتمل على «مشكاة» وهي هنديّة و «استبرق» و «سجّيل» وهما فارسيّان ، و «طه»
وهي نبطيّة ، و «قسطاس» وهو روميّ.
الثالث : قال عليهالسلام : «بعثت إلى الأسود والأحمر» .
__________________
والإجماع أيضا دلّ
على عموم رسالته ، وأنّه مبعوث إلى أهل كلّ لسان.
والقرآن أيضا دلّ
عليه في قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ
إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ) فيمكن أن يكون الكتاب جامعا لكلّ لغة ، ليتحقّق خطابه
للكلّ إعجازا وبيانا.
الرابع : لا
استبعاد في وجود ذلك في الكتاب ، كوجود الحروف في أوائل السور.
واحتجّ الباقون
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ
قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ
وَعَرَبِيٌ) فنفى كونه أعجميّا ، وقطع اعتراضهم بتنويعه بين أعجميّ
وعربيّ ، ولا ينتفي الاعتراض وفيه أعجميّ.
الثاني : قوله
تعالى : (بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ
مُبِينٍ) وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ
قُرْآناً عَرَبِيًّا).
ثمّ اعترضوا على
الأوّلين بجواز اشتمال جميع اللّغات على هذه الألفاظ.
__________________
وعموم نبوّته صلىاللهعليهوآلهوسلم لا يوجب اشتمال القرآن على جميع اللّغات ، لعدم ذلك ، ولا
اعجاز في الكلمة الواحدة.
والجواب : المعنى
من سياق الآية : أكلام أعجميّ ومخاطب عربيّ لا يفهم؟ وهم قد كانوا يفهمونها.
سلّمنا نفي
التنوّع ، فالمعنى أعجميّ لا يفهم.
وقولهم : باتّفاق
اللّغات في تلك الألفاظ ، بعيد.
البحث الخامس : في
فروع النقل
وهي خمسة
الأوّل : النقل على خلاف الأصل ، لتوقّفه على الوضع اللّغوي ، ونسخه
، والوضع الأخير ، فيكون مرجوحا بالنسبة إلى ما يتوقّف على وضع واحد.
ولدلالة الاستصحاب
على بقاء الوضع الأوّل.
ولأنّه لو تساوى
احتمال النقل وعدمه ، لم يحصل التّفاهم حالة التخاطب إلّا بعد السؤال عن البقاء
على الوضع والنقل.
الثاني : لا نزاع في ثبوت المتواطئة في الأسماء الشرعيّة ، واختلفوا
في المشتركة.
والأجود وقوعها ،
فإنّ الصّلاة تستعمل في معان متعدّدة لا يجمعها
__________________
جامع ، فإنّها
تتناول ما لا قراءة فيه : كالاخرس ، وما لا سجود فيه ولا ركوع : كصلاة الجنائز ،
وما لا قيام فيه : كالقاعد والمومي ، وليس بينها قدر مشترك يجعل اسما للصلاة .
وفيه نظر ،
لاحتمال أن يكون بينها معنى مشترك وإن كنّا لا نعلمه ، فإنّه أولى من اعتقاد
الاشتراك الّذي هو على خلاف الأصل.
سلّمنا ، لكن الفعل
الواقع على أحد الوجوه المخصوصة جامع لها ، فجاز وضع لفظة «الصلاة» له.
سلّمنا ، لكنّ
الصلاة الشرعيّة حقيقة إنّما تقال على ذات الرّكوع والسّجود والقراءة.
وأمّا صلاة الاخرس
والجنائز والمومي ، فإنّها مجاز ، وهو أولى من الاشتراك.
الثالث : الألفاظ المترادفة لا توجد في عرف الشرع ، لأنّ الفعل
الشرعيّ ، على خلاف الأصل ، فيقدّر بقدر الحاجة ، ولا حاجة إلى المترادف ، فلا
يوجد.
الرّابع : الأفعال تابعة للمصادر ، فإن كانت المصادر شرعيّة ،
فالأفعال شرعيّة ، وإن كانت لغويّة ، فهي لغويّة ، ولم يضع الشارع فعلا ولا حرفا
بالاستقراء ، وكون الأفعال شرعيّة بالعرض لا بالذات.
__________________
الخامس : صيغ العقود مثل «بعت» و «طلّقت» إنشاءات لا إخبارات ، وإن
كانت بصيغة الإخبار في اللّغة ، وقد تستعمل شرعا فيها ، لكنّ البحث في أنّها إذا
نطق بها لتحصيل الأحكام ، كانت إنشاءات ، لوجوه :
الأوّل : من خواصّ
الخبر التصديق والتكذيب وهما منفيّان هنا.
الثاني : ليست
إخبارا عن الماضي والحال ، وإلّا لكانت كاذبة ، ولامتنع تعليقها على الشرط ، فإنّ
التعليق توقيف وجود المعلّق على وجود المعلّق عليه ، والداخل في الوجود لا يتوقّف
دخوله على غيره في الوجود ، لاستحالة تقدّم المشروط على شرطه.
ولا عن المستقبل ،
إذ ليس دلالتها على المستقبل بأقوى من قوله : ستصيرين طالقا في المستقبل ، ولو
صرّح بذلك لم يقع ، فكذا في قوله : أنت طالق .
وفيه نظر ، لأنّ
دلالة أنت طالق ، وطلّقت ، على وجود الطّلاق أقوى من دلالة «ستصيرين».
ولا يلزم من عدم
ترتّب الحكم على المسبّب الضعيف عدم ترتّبه على القويّ ، فجاز أن يرتّب الشارع
وقوع الطلاق على الإخبار بوقوعه في المستقبل بصيغة أقوى في الدلالة على الوجود ،
من غير اعتبار الاستقبال.
أو أنّه إخبار عن
الحال ولا دور ، لأنّه إخبار وسبب ، فتعدّدت الجهة ، والتعليق قرينة صارفة عن
الحقيقة.
__________________
الثالث : هذه
الإخبارات ، إن كانت كاذبة لم يعتدّ بها ، وإن كانت صادقة ، فإن توقّف وقوع الطلاق
على هذه الصّيغ ، دار ، لأنّ صدق الخبر يتوقّف على ثبوت مخبره ، فلو انعكس دار ،
فإنّ ثبوت المخبر هنا هو الطالقيّة.
وإن لم يتوقّف ،
افتقر إلى سبب ويقع مع تحقّقه وإن لم يوجد هذا الخبر ، وينتفي مع انتفائه وإن وجد
الخبر ، وهو باطل إجماعا.
ولا يمكن أن تكون
هذه الصيغة شرطا لتأثير السبب ، وإلّا لتقدّمت ، لكنّ الخبر الصدق يتقدّم مخبره
عليه ، فيدور .
وفيه نظر ، فإنّ
الدّور يلزم لو توقّف ثبوت المخبر على صدق الخبر ، وليس ، بل على ماهيّة الخبر.
ويمنع عدم
الاعتداد بالكذب كما في الظهار ، والقبح لا يسمع من الأشاعرة ، ويجوز عند المعتزلة
إذا اشتمل على مصلحة كليّة ، كتخليص النبي صلىاللهعليهوآله.
الرابع : أمر الله
تعالى بالطلاق في قوله : (فَطَلِّقُوهُنَ) فيجب أن يكون مقدورا ، وليس إلّا قوله : أنت طالق ، فيكون
هو المؤثّر.
__________________
المطلب الثالث :
في المجاز
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في إثباته في اللغة
المحقّقون عليه ،
ونفاه الأستاذ أبو إسحاق ومتابعوه.
لنا : انّه قد
اشتهر في اللّغة إطلاق الأسد على الشجاع ، والحمار على البليد ، وغير ذلك ، مع
الاتّفاق على أنّها لم توضع في اللّغة لهذه المعاني ، بل لغيرها ، وأطلقت على هذه
لمشابهة ما ، ولا نعني بالمجاز سوى هذا.
لا يقال : جاز أن
يكون حقائق في هذه أيضا.
لأنّا نقول : إنّه
سيظهر أولويّة المجاز على الاشتراك.
ولأنّ سبق تلك
المعاني إلى الذهن دون هذه ، مع عدم السبق في المشترك ، ينفي الاشتراك.
احتجّ المانعون :
بأنّه مخلّ بالفهم.
ولأنّه إن أفاد
المجازيّ مع القرينة ، لم يكن مجازا ، إذ لا يحتمل غيره حينئذ ، أو لا معها ،
فيكون حقيقة فيه ، أو لا يفيد شيئا مع عدمها ، فلا يكون حقيقة ولا مجازا.
__________________
ولأنّ كلّ معنى
مجازيّ فله لفظ موضوع له ، فلا يقع عن الحكيم التجاوز عن لفظه إلى استعارة غيره ،
لما فيه من التطويل إن ذكر القرينة ، وعدم الإفادة للمقصود إن أخلّ بها.
والجواب عن الأوّل
: المنع من الاختلال في الفهم ، لأنّه إذا أراد المجاز ذكر مع القرينة ، ولا
استبعاد.
وعن الثاني : أنّه
نزاع في العبارة ، أو نقول : اللّفظ الّذي لا يفيد إلّا مع القرينة هو المجاز.
ولا يقال : إنّ
اللّفظ مع القرينة يكون حقيقة فيه.
لأنّ القرينة ليست
موضوعة حتّى يجعل المجموع لفظا واحدا دالّا بالوضع ، والحقيقة والمجاز من عوارض
الألفاظ.
وعن الثالث : ما
سيأتي من فوائد المجاز.
المبحث الثاني :
في إثباته في القرآن
وكما أنّ المجاز
واقع في اللّغة ، فكذا هو واقع في القرآن والسنّة ، خلافا للظاهريّة ، وأخطأ من
نقل عن الإمامية موافقتهم ، فإنّهم نصّوا على وقوعه في القرآن.
__________________
لنا : قوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ)(جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) إلى غير ذلك من الآيات وهي كثيرة.
احتجّوا : بأنّ
المجاز كذب ، ولهذا يمكن نفيه.
ولأنّ المجاز ركيك
، والله تعالى منزّه عنه.
ولأنّه إنّما يصار
إليه عند العجز عن الحقيقة.
ولأنّه إنّما يفيد
مع القرينة ، وربما خفيت فيقع المكلّف في الجهل ، وذلك قبيح من الحكيم.
ولاستلزامه كونه
تعالى متجوّزا.
ولأنّ كلامه حقّ ،
وكلّ حقّ فله حقيقة ، والحقيقة مقابلة المجاز.
ثمّ اعترضوا بمنع
المجاز فيما قلناه ، أمّا قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) فإنّه موضوع لنفي التشبيه ، إذ الكاف للتشبيه.
وأمّا قوله : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فالقرية عبارة عن الناس المجتمعين ، لأنّها مأخوذة من
القرء وهو الجمع.
سلّمنا لكن لا
امتناع في إنطاق الجدران بقدرته تعالى خصوصا في زمن الأنبياء عليهمالسلام ، فإنّ خرق العادة فيها جائز.
وقوله : (يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ) حقيقة أيضا ، لإمكان أن يخلق الله تعالى في الجدار إرادة.
__________________
والجواب : المنع
من كون المجاز كذبا ، وإنّما يلزم لو أريدت الحقيقة ، على أنّ الناس يعدّون
المستعار والمجاز حسنا ، ويقبحون الكذب.
وليس المجاز من
الركيك ، بل هو أفصح وأبلغ في تحصيل مقاصد المتكلّم.
ولا يشترط في
الإتيان به العجز عن الحقيقة.
وخفاء القرينة
لتقصير المكلّف ، فلا يوجب المنع كالمتشابهات.
ولم يطلق عليه
تعالى اسم المتجوّز ، لإبهامه التسامح ، ولأنّ أسماءه تعالى توقيفيّة.
وكون كلامه تعالى
حقّا يستلزم الحقيقة بمعنى الصّدق ، لا بمعنى المقابل للمجاز.
والكاف موضوع لنفي
التشبيه وليس مرادا هنا ، وإلّا لزم نفي مثل مثله ، وهو شرك وكفر ، على ما تقدّم.
والقرية حقيقة
للموضع الّذي يجتمع فيه الناس ، لا للنّاس المجتمعين ، ولا للاجتماع.
والسؤال لم يقع
للجدران قطعا ، وإنّما قصدوا أهلها ، وكذا في إرادته.
على أنّ هنا آيات
تدلّ على المعاني بالمجاز من غير تأويل : كقوله :
(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).
(وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها).
__________________
(وَاشْتَعَلَ
الرَّأْسُ شَيْباً).
(وَاخْفِضْ لَهُما
جَناحَ الذُّلِ).
(الْحَجُّ أَشْهُرٌ
مَعْلُوماتٌ).
(لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ
وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ).
(اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ).
(اللهُ يَسْتَهْزِئُ
بِهِمْ).
(وَيَمْكُرُونَ
وَيَمْكُرُ اللهُ).
(كُلَّما أَوْقَدُوا
ناراً لِلْحَرْبِ) إلى غير ذلك من الآيات.
المبحث الثالث :
في غايته
الباعث عليه ـ مع
أنّه على خلاف الأصل على ما يأتي ـ قد يكون جوهر اللّفظ ، بأن يكون اللّفظ الحقيقي
ثقيلا على اللّسان ، إمّا لأجل مفردات حروفه ، أو لتنافر تركيبه ، أو لثقل وزنه ،
والمجازيّ يكون عذبا ، فيعدل إليه عنها.
وقد يكون عوارضه ،
بأن يكون اللفظ المجازيّ صالحا للسجع وازدواج الكلام ، كقوله تعالى : (وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ
تُغْمِضُوا فِيهِ)(فَإِذا فَرَغْتَ
__________________
فَانْصَبْ.
وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ).
وكقول بعضهم :
حتّى عاد تعريضك تصريحا وتمريضك تصحيحا.
وللمطابقة ، وهي :
الجمع بين الشيء وضدّه كقوله تعالى : (لِكَيْلا تَأْسَوْا
عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ).
وقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «خير المال عين ساهرة لعين نائمة» .
وللمجانسة ، وهي :
أن تورد كلمتين تجانس كلّ واحدة صاحبتها في تأليف حروفها ، كقوله تعالى : (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ).
وقال معاوية لعبد
الله بن العبّاس : ما بالكم يا بني هاشم تصابون في أبصاركم كما تصابون في بصائركم .
وللمقابلة ، وهي :
إيراد لكلام ثمّ مقابلته بمثله ، إمّا في المعنى
__________________
مثل : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً) والمكر منه تعالى العذاب ، جعله مقابلا لمكرهم برسله.
أو في اللفظ مثل :
ليس من جمع إلى الكفاية الأمانة ، كمن أضاف إلى العجز الخيانة، جعل مقابلة الكفاية
العجز وبإزاء الأمانة الخيانة ، وغيرها من أصناف البديع.
وللزنة والرويّ ،
ولا تصلح الحقيقة لذلك ، وقد يكون للمعنى نفسه بأن يكون أبلغ من الحقيقة ، فإنك لو
قلت : رأيت أسدا ، لكان أبلغ في الوصف بالشجاعة من قولك : رأيت رجلا كالأسد.
أو للتعظيم مثل :
سلام على المجلس العالي ، فإنّه ترك الحقيقة إجلالا.
أو للتحقير
كالغائط.
أو لزيادة البيان
، وهو الّذي يذكر للتوكيد.
أو لتلطيف الكلام
، فإنّ النفس إذا سمعت المعنى المجازيّ حصل لها شوق إلى الوقوف على كمال المعنى لا
يحصل مع الحقيقة ، إذ يحصل المعرفة التامّة ، فلا يحصل شوق إلى شيء ، لاستحالة
تحصيل الحاصل.
بخلاف المجاز
الّذي يحصل به التعريف من بعض الوجوه ، فيحصل بالوجه الّذي عرفته لذّة وبفقدان
الكمال ألم ، فتحصل لذّات وآلام متعاقبة ، واللّذة إذا حصلت عقيب الألم كانت أقوى
، وكان الشعور بها أتمّ.
فإذا عبّر عن
المعنى بلفظه الحقيقيّ حصلت المعرفة التامّة ، فلا تحصل اللّذة القويّة.
__________________
وإذا عرف بلازم
عرف لا على سبيل الكمال ، فتحصل حالة تشبه الدّغدغة النفسانيّة ، فلهذا كان المجاز
أولى.
المبحث الرابع :
في أقسامه
اعلم أنّ الألفاظ
منها بسائط ، ومنها مركّبات ، وكلّ واحد منهما قد يستعمل في موضوعه الأصليّ وهو
الحقيقيّ ، وقد ينقل عنه فيكون مجازا ، فالمجاز إذن إمّا إن وقع في المفردات ، أو
في المركّبات ، أو فيهما معا.
أمّا المفردات ،
فقد اتّفق عليه المحقّقون ، كالأسد للشجاع ، والحمار للبليد.
وأمّا في التركيب
فكذلك أيضا ، خلافا لبعضهم ، وذلك بأن يستعمل كلّ واحد من اللّفظين في معناه
الحقيقيّ ، لكن التركيب غير مطابق كقوله :
أشاب الصغير
وأفنى الكبي
|
|
ر كرّ الغداة
ومرّ العشيّ
|
فكلّ واحد من هذه
الألفاظ المفردة مستعمل في موضوعه ، لكن اسناد أشاب إلى كرّ الغداة ليس بحقيقيّ ،
لحصوله من الله تعالى.
ومثله طلعت الشّمس
، ومات زيد.
وأمّا الّذي يقع
فيهما ، فكقولك : أحياني اكتحالي بطلعتك ، فإنّ الاكتحال هنا مجاز إفرادي ،
والإحياء أيضا مجاز إفراديّ ، وإسناد الإحياء إليه مجاز
__________________
تركيبيّ ، لأنّه
غير مستند حقيقة إلى الاكتحال.
قال بعضهم : جهة الإسناد واحدة ، فالمجاز في المفرد خاصّة.
وليس بجيّد ، فإنّ
إسناد الفاعليّة والمفعوليّة متغايران ، فإذا كان اللّفظ بحيث يصحّ إسناده إلى آخر
إسناد الفاعليّة ، كان إسناد إليه اسناد المفعولية مجازا وبالعكس.
المبحث الخامس :
في أقسام [المجاز] المفرد
وهي ثلاثة عشر :
الأوّل : إطلاق اسم السبب على المسبّب ، فالقابل سال الوادي ، والصورة تسمية اليد قدرة ، والفاعل تسمية
المطر بالسّماء ، والغاية تسمية العنب خمرا ، والعقد نكاحا.
الثاني : العكس ، تسمية المرض الشديد موتا.
ولمّا كانت الغاية
علّة باعتبار ماهيّتها معلولة باعتبار وجودها ، جمعت العلاقتين ، فكان المجاز فيها
أولى من غيرها من باقي الأسباب .
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
العلّة الفاعليّة أقوى الأسباب ، فجاز أن يترجّح على الغاية الّتي ترجّحت
بالمعلوليّة المرجوحة.
ولمّا استلزم
السّبب المعيّن المسبّب المعيّن ، والسبب المعيّن السّبب المطلق لا المعيّن ، كان
نقل اسم السّبب إلى المسبّب أحسن من العكس.
الثالث : التسمية بالمشابهة ، كالشجاع بالأسد ، والبليد بالحمار ، ويسمّى هذا بالمستعار.
وهذه المشابهة قد
تكون في الشكل ، كالإنسان للصّورة ، أو في صفة ظاهرة ، كالأسد على الشجاع لا على
الأبخر لخفائها.
الرابع : التسمية باسم الضدّ (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ
سَيِّئَةٌ مِثْلُها)(فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ).
ويمكن أن يلحق
بالمشابهة ، للمشابهة بين السّيئة وجزائها.
الخامس : نقل اسم الكلّ إلى الجزء ، كإطلاق العامّ على الخاصّ (ويدخل
بنوع من الاعتبار تحت السّبب) .
السادس : عكسه ، كما يقال للزنجيّ : أسود ، والأوّل أولى ، لاستلزام
الكلّ الجزء دون العكس ، والملازمة سبب في التجوّز مستقلّ.
__________________
السابع : تسمية الإمكان بالوجود ، كما يقال في الخمر في الدّن :
إنّها مسكرة.
الثامن : إطلاق المشتقّ بعد زوال المشتقّ منه ، كضارب لمن فرغ منه ،
باعتبار أنّه كان عليه ، والمعتق عبدا.
التاسع : تسميته بما يؤول إليه كالشارب بالسكران.
العاشر : المجاورة ، كالرواية المنقولة من الجمل إلى الظرف.
الحادي عشر : المجاز بسبب ترك أهل العرف استعماله فيما كانوا يستعملونه
فيه ، كالدابة في الحمار.
لا يقال : كون لفظ
الدابّة مجازا ، إن كان باعتبار صيرورته مستعملا في الفرس وحده، فهو من باب إطلاق
اسم العامّ على الخاصّ ، وإن كان باعتبار المنع من استعماله في غيره ، وهو باطل ،
لأنّ المجازيّة كيفيّة تعرض للّفظ من جهة دلالته على معناه ، لا من جهة عدم دلالته
على الغير.
لأنّا نقول :
استعمال الدّابّة في الكلب والحمار مجاز بالنسبة إلى الوضع العرفيّ ، للعلاقة بينه
وبين موضوعه ، وحقيقة لغويّة ، إلّا أنّ المجاز من باب المشابهة ، فيدخل فيما
تقدّم.
الثاني عشر : المجاز باعتبار الزيادة والنقصان.
الثالث عشر : تسمية المتعلّق باسم المتعلّق ، كتسمية المعلوم علما ،
والمقدور قدرة.
المبحث السادس :
في محلّه
قد عرفت أنّ
الحقيقة والمجاز من عوارض الألفاظ ، وعرفت أيضا في غير هذه الصناعة أنّ بسائط
الألفاظ ثلاثة : اسم ، وفعل ، وحرف.
فالحرف لا يدخله
المجاز بالذّات ، لعدم استقلاله بالمفهوميّة ، وإنّما يفيد مع انضمامه إلى غيره ،
فإن ضمّ إلى ما ينبغي ضمّه إليه ، فلا مجاز ، وإن ضمّ إلى ما لا ينبغي ضمّه إليه ،
كان مجازا في التركيب ، لا في المفرد.
وفيه نظر ، فإنّا
لو استعملنا «من» في الانتهاء ، كان مجازا في المفرد.
وأمّا الفعل ، فهو
دالّ على ثبوت شيء لموضوع غير معيّن في زمان معيّن ، فهو مركّب من المصدر والزّمان
والنّسبة ، فما لم يدخل المجاز في المصدر ، استحال دخوله في الفعل الّذي لا يفيد
إلّا ثبوت ذلك المصدر لشيء ما.
وفيه نظر ، فإنّ
مجازيّة المركّب لا ينحصر في فرد بعينه ، فجاز كون الفعل مجازا باعتبار صيغته ،
بأن يدلّ وضعا على زمان ماض ويستعمل في المستقبل مجازا ، وليس في المشتقّ منه.
وأيضا ، فإنّ
المضارع قيل : إنّه مشترك.
__________________
وقيل : إنّه مجاز
في أحد الزّمانين ، حقيقة في الآخر ، واختلفوا في الحقيقيّ منهما ، واعتقاد المجاز
أقلّ من اعتقاد الاشتراك.
ولأنّ صيغة
الإخبار قد ترد في الإنشاء والتهديد وغيره ، واعتقاد المجاز فيها أولى من
الاشتراك.
وأمّا الاسم ،
فإمّا أن يكون علما ، أو اسما مشتقّا ، أو اسم جنس ، والأعلام ليست مجازات ، لأنّ
شرط المجاز استناد النقل إلى علاقة بين الأصل والفرع ، وهي منفية في الأعلام.
وأمّا المشتقّ فما
لم يتطرّق المجاز إلى المشتقّ منه لم يتطرّق إلى المشتقّ الّذي لا معنى له إلّا
أنّه أمر ما حصل له المشتقّ منه.
فإذن المجاز في
الحقيقة إنّما هو في أسماء الأجناس.
وفيه نظر ، فإنّ
المشتقّ مركّب من المشتقّ منه ومن صيغة خاصّة تدلّ على الفاعليّة أو المفعوليّة ،
فجاز أن يكون المجاز في الصّيغة ، كما قلنا في الفعل.
وأيضا قد بيّنا
أنّ اسم الفاعل إذا كان بمعنى الماضي عند بعضهم أو بمعنى المستقبل ، فإنّه يكون
مجازا لا باعتبار مجازيّة المشتقّ منه.
ولأنّ اسم الفاعل
قد يأتي بمعنى المفعول مجازا.
ولأنّ الفعيل قد
يأتي بمعنى الفاعل وبمعنى المفعول.
فاعتقاد المجازيّة
في أحدهما أولى من اعتقاد الاشتراك.
__________________
المبحث السابع :
في شرائطه
وهي ثلاثة :
الأوّل : لا بدّ فيه من العلاقة بين المعنى الحقيقيّ والمعنى
المجازيّ ، وإلّا كان اختراعا.
لا يقال : يلزم
منه القياس في اللّغة.
لأنّا نقول :
إنّما يكون قياسا لو سمّيناه حقيقة لأجل العلاقة ، ونحن لا نقول به ، بل إنّما
نسمّيه على سبيل المجاز ، ولهذا نسلبه عنه.
ولو أثبتنا حكم
الأصل والفرع ، لامتنع منّا سلبه كما امتنع في الأصل.
وفيه نظر ، لأنّا
نمنع الملازمة ، والسلب ليس للتسمية بل المعنى الحقيقي.
الثاني : انتفاء المانع ، بأن لا يمنع أهل اللّغة منه ، فإنّهم لو
منعوا منه لم يجز الاستعمال ، كما أنّهم منعوا من استعمال نخلة لطويل غير إنسان ،
وشبكة للصّيد ، وابن للأب ، وبالعكس ، وغير ذلك وألا يمنع الشرع منه ، كما منع من
إطلاق اسم الكافر على المؤمن باعتبار كفر تقدّم إن جعلناه مجازا ، أو باعتبار
المعنى الحقيقي كالتغطئة إذ صارت مجازا عرفيّا.
الثالث : شرط جماعة النقل ، بمعنى أنّ اللفظ لا يستعمل في معناه
المجازيّ في كلّ صورة إلّا بنصّ أهل اللّغة عليه.
ومنع منه آخرون.
وهو الأقرب لنا :
لو كان نقليّا لتوقّف أهل العربيّة عليه ، والتالي باطل فكذا المقدّم.
ولأنّا قد بيّنا
أنّ الشارع تجوّز بألفاظ عربيّة في معان لم يعرفها أهل اللغة ، وكذا كلّ أهل فنّ
من العلوم استخرجوا معاني وضعوا لها ألفاظا عربيّة للمناسبة ، فيكون مجازا.
وفيه نظر إذ
الثابت الوضع العرفيّ ، أمّا المجاز فلا ، وإسناد الوضع إلى المناسبة ممنوع.
ولأنّه لو كان
نقليّا لما افتقر إلى النظر في العلاقة ، مع أنّهم اتّفقوا على أنّ وجوه المجازات
والاستعارات ممّا يحتاج في استخراجها إلى الفكر والنظر الدقيق.
قيل : النظر
لاستخراج جهات حسن المجاز والاطّلاع على الحكمة.
ولأنّ النظر إنّما
هو للواضع.
وأيضا لو كان
نقليا لما افتقر إلى العلاقة ، بل كان النقل فيه كافيا.
قيل : الافتقار
إلى العلاقة إنّما كان لضرورة توقف المجاز من حيث هو مجاز عليها ، وإلّا كان إطلاق
الاسم عليه من باب الاشتراك لا من باب المجاز.
ولأنّك إذا قلت :
رأيت أسدا وعنيت به الشجاع ، فالغرض من التعظيم إنّما يحصل بإعارة معنى الأسد له ،
فإنّك لو أعطيت الاسم دون المعنى لم يحصل التعظيم.
وإذا كانت إعارة
اللّفظ تابعة لإعارة المعنى وكانت إعارة المعنى حاصلة بمجرّد قصد المبالغة ، لم
يتوقّف استعمال اللّفظ المستعار على السمع.
وفيه نظر ، لحصول
التعظيم بإعارة الشجاعة الّتي للأسد.
احتجّ المشترطون
بانّ العلاقة لو كفت لجاز تسمية غير الإنسان نخلة والصيد ، شبكة ، والثمرة شجرة ،
وظلّ الحائط حائطا ، والابن أبا ، لما بينها من المشابهة والعلاقة وليس كذلك.
ولأنّ إطلاق اسم الحقيقة عليه إمّا بالقياس أو أنّه اختراع من الواضع
المتأخر.
والثاني بقسميه
باطل فالمقدّم مثله.
ولأنّه يلزم خروج
القرآن عن كونه عربيّا.
والجواب عن الأوّل
: أنّ العلاقة كافية ، والمنع من التّسمية لمنع أهل اللغة عنه.
لا يقال : يقع
التعارض بين المقتضي للجواز وهو وجود العلاقة ، وبين المقتضي للمنع وهو منعهم.
لأنّا نقول : جاز
أن يكون المقتضي للجواز مشروطا بعدم ظهور المنع ، ومع الظهور ينتفي المقتضى.
وعن الثاني : أنّه
ليس بقياس ولا باختراع ، فإنّ أهل اللّغة إذا نصّوا على العلاقة بين المعنى
الحقيقيّ والمعنى المجازي ، فكلّما وجدنا تلك العلاقة جاز لنا التجويز.
وعن الثالث : أنّ
تلك الألفاظ مجازات لغويّة ، واستعمالها في معانيها لأجل المناسبة ، مع إعطاء
القانون الكليّ في التجوّز مطلقا مع وجود العلاقة.
__________________
المبحث الثامن :
في أنّ المجاز ليس غالبا
قال ابن جنّي : أكثر اللغة مجاز ، أمّا الفعل فإذا قلت : قام زيد ،
اقتضى الفعل إفادة الجنس ، وهو يتناول جميع الأفراد ، فيلزم وجود كلّ فرد من أفراد
القيام من زيد ، وهو معلوم البطلان .
وليس بجيّد ، لأنّ
المصدر دالّ على الماهيّة من حيث هي هي ، ولا يستلزم واحدة ولا كثرة وقد توهّم
أنّه دالّ على جميع أشخاص الماهيّة قال :
وإذا قلت : ضربت
زيدا كان مجازا من حيث إنّك ضربت بعضه لا جميعه ، بل لو قلت محتاطا : ضربت رأسه لم
تكن قد ضربته من جميع جوانبه.
واعتراض ابن
متّويه بأنّ المتألّم زيد لا بعضه ، خطأ ، لأنّ البحث في الضّرب
لا الألم ، والضّرب إمساس بعنف من جسم لجسم حيوان ، والإمساس يرجع إلى الأجزاء لا
الجملة.
وهاهنا مجاز من
وجه آخر ، فإنّك إذا قلت : رأيت زيدا أو ضربته ، ف «زيدا» ليس إشارة إلى هذه
الجملة المشاهدة ، لتطرّق الزيادة والنقصان والتبدل عليها ،
__________________
وإنّما هو أجزاء
أصليّة لا يعتورها شيء من ذلك ، فلعلّ تلك الأجزاء لم يقع عليها الرؤية ولا الضّرب
وقد أسندتهما إليها فكان مجازا.
مع أنّ الرؤية
إنّما تتناول سطحه الظاهر ، وذلك ليس حقيقة زيد ، بل إنّما خارج عنه أو جزء منه.
ومثل هذا المجاز
من باب المجاز التركيبيّ العقليّ ، لأنّ صيغتي رأيت أو ضربت قد استعمل في معناها
الحقيقيّ ، وزيد من الأعلام ، فلا يكون مجازا ، بل المجاز وقع في النّسبة
والتركيب.
المبحث التاسع :
في أنّ المجاز على خلاف الأصل
قد عرفت غير مرّة
أنّ فائدة الوضع إعلام الغير ما في الضمير باللفظ الموضوع للمعنى ، فإذن الأصل
الحقيقة تحصيلا لفائدة الوضع.
ولأنّها لو لم تكن
أصلا لكان إمّا أن يكون المجاز هو الأصل ، أو لا واحد منهما بأصل ، والقسمان
باطلان.
أمّا الأوّل
فبالإجماع ، وبأنّه مناف للحكمة ، فإنّه من الممتنع أن يضع الواضع لفظا لمعنى
ليكتفي به في التعبير عنه ، ثمّ يكون استعماله فيما لم يوضع له أصلا في تلك اللغة.
__________________
وأمّا الثاني ،
فلأنّه يحصل حينئذ التردّد ويختلّ الفهم ، ويصير كلام الشرع مجملا بين حقيقته
ومجازه ، وكذا جميع ما ينطق به العرب ، لتردّد تلك الألفاظ بين حقائقها ومجازاتها
، فكان لا يحصل الفهم إلّا بعد الاستكشاف ، (ولمنافاة الحكمة إن جعل أصلا في ثالث
، وزيادة الخلل في الفهم ، ولامتناع ثالث بينهما في الاستعمال) .
ولأنّه لو تجرّد
اللّفظ عن القرينة فإمّا أن يحمل على حقيقته وهو المطلوب.
أو على مجازه وهو
محال ، إذ شرط حمله على المجاز القرينة ، فإنّ الواضع لو أمر بحمله على مجازه عند
التجرّد كان حقيقة إذ هو معناها.
أو عليهما معا ،
وهو محال ، وإلّا لكان حقيقة في ذلك المجموع لو قال : احملوه عليهما معا.
ولو قال : احملوه
إمّا على هذا أو على هذا كان مشتركا.
أو لا على واحد
منهما وهو محال ، وإلّا لكان مهملا لا مستعملا.
ولأنّ المجاز
يتوقّف على أمور ثلاثة :
الوضع الأصليّ.
ونقله إلى الفرع.
وعلّة النقل.
والحقيقة يتوقّف
على الأوّل لا غير.
__________________
وكلّ ما كان أقلّ
شرطا كان أقلّ معاندا وأكثر وقوعا ، وهو دليل الأصالة.
ولأنّ الواضع
اكتفى به في الدلالة ، فكأنّه قال : إذا سمعتم منّي كذا فافهموا كذا ، فمن تابعة
في استعمال لغة وجب أن يجري على نهجه ، ولهذا سبق الحقيقيّ إلى الذّهن دون
المجازيّ.
ولو قال لنا : مثل
ذلك في المجاز كان حقيقة لا مجازا.
وللإجماع على أنّ
الأصل الحقيقة ، قال ابن عبّاس : ما كنت أعرف [معنى] الفاطر حتّى اختصم إليّ شخصان
في بئر ، فقال أحدهما : فطرها أبي ، أي اخترعها.
وقال الأصمعيّ : ما كنت أعرف الدّهاق حتّى سمعت جارية تقول : اسقني دهاقا
أي ملآن.
فاستدلّوا
بالاستعمال على الحقيقة ، ولو لا علمهم بأنّ الأصل هو الحقيقة ، وإلّا لما ساغ
ذلك.
تذنيب :
الحقيقة قد تهجر
ويكثر استعمال المجاز إلى حدّ يجعل التعاكس فيه ، فتصير الحقيقة مجازا عرفيّا ،
والمجاز اللغويّ حقيقة عرفيّة.
إذا عرفت هذا ،
فإذا دار اللفظ بين الحقيقة المرجوحة الّتي لم تخرج إلى
__________________
حدّ المجاز ، وبين
المجاز الرّاجح القاصر عن كونه حقيقة ، قال أبو حنيفة : الحقيقة أولى ، عملا بالأصل.
وقال أبو يوسف : المجاز أولى ، عملا بالراجح.
وقيل : بالتعارض ، لوجود وجه الرجحان في كلّ منهما ،
والمرجوحيّة باعتبارين ، فيحصل التّعادل.
المبحث العاشر :
في أنّ المجاز المركّب عقليّ
الفعل إذا كان
بحيث يصدر عن ذات ، فاستناده في الحقيقة إلى تلك الذّات ، لأنّها المؤثّرة فيه ،
فإذا أسند إلى غيرها كان مجازا عقليّا ، لأنّ الإسناد إلى المؤثّر حكم عقليّ ثابت
في نفس الأمر ، فنقله عن متعلّقه إلى غيره نقل لحكم عقليّ لا للفظ لغويّ كقوله
تعالى : (وَأَخْرَجَتِ
الْأَرْضُ أَثْقالَها)(مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ).
والإخراج والإنبات
إنّما يستندان في نفس الأمر وعلى سبيل الحقيقة إلى الله تعالى ، فإسنادهما إلى
الأرض يكون لا شكّ مجازا عقليّا.
__________________
لا يقال : أخرج
وأنبت في أصل الوضع بإزاء الخروج والنبات المستندين إلى المؤثّر القادر ، فإذا
استعملنا في صدورهما من الأرض ، فقد استعملنا في غير موضوعهما اللّغوي ، وكان
مجازا لفظيّا.
لأنّا نقول :
الأفعال تدلّ على صدور أمر عن شيء ما ، من غير دلالة على خصوصيّة ذلك المؤثّر ،
وإلّا لكان لفظة «أخرج» خبرا تامّا ، وكان يقبل التصديق والتكذيب من غير انضمام
شيء آخر إليه ، وليس كذلك.
ولصحّة أخرجه
القادر وغير القادر ، وليس الأوّل تكريرا ولا الثاني نقضا .
وفيه نظر ، لأنّ
التأكيد ليس تكريرا ، والتجوّز ليس نقضا ، وذكر غير القادر قرينة.
ولأنّه لو سلّم
استناده إلى القادر ، لكن لا دلالة له على خصوصيّة ذلك القادر ، وإلّا لزم حصول
الاشتراك اللّفظيّ بحسب تعدّد القادرين.
وإذا ثبت هذا فإذا
أضيف ذلك الفعل إلى غير ذلك القادر الّذي هو صادر عنه ، لم يكن التعبير واقعا في
مفهومات الألفاظ ، بل في الإسناد.
والفرق بين هذا
النوع من المجاز وبين الكذب ، القرينة الحاليّة ، كالعلم والظنّ بانتفاء كذب
المخبر ، فيعلم إرادة المجاز ، وكان يقترن بالكلام هيئات مخصوصة قائمة بالمتكلّم ،
دالّة على أنّ المراد ليس الحقيقة ، وكان يعلم بسبب خصوصيّة القضيّة انتفاء داع
للمتكلّم إلى ذكر الحقيقة ، فيعلم إرادة المجاز.
أو المقاليّة بأن
يذكر عقيب كلامه ما يدلّ على غير ظاهره.
__________________
المطلب الرابع :
في مباحث مشتركة بين الحقيقة والمجاز
وهي أربعة :
[المبحث] الأوّل :
في عدم التلازم بينهما
الحقّ ذلك ، أمّا
عدم استلزام الحقيقة المجاز ، فظاهر ، إذ الحقيقة استعمال اللفظ فيما وضع له ، ولا
يجب من وضع اللفظ واستعماله في موضوعه استعماله في غيره للعلاقة ، فلا يجب في
الحقيقة المجاز.
وأمّا العكس ، فقد
ذهب جماعة منهم فخر الدين الرازي إلى خلافه.
لنا : أنّ المجاز
هو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له لعلاقة بينه وبينه ، فهو لا شكّ مسبوق بالوضع
، لكن لا يجب من الوضع الاستعمال ، فأمكن انفكاك المجاز عن الحقيقة.
نعم يستحيل
انفكاكه عن الوضع الأصليّ ، لكونه تابعا ، فيستحيل وجوده بدون وجود متبوعه.
وأيضا لو استلزم
المجاز الحقيقة لكان للفظ «الرّحمن» ولنحو «عسى» حقائق ، وليس كذلك ، فإنّ «الرّحمن»
موضوع للانعطاف ، و «عسى» للتصرّف
__________________
ولم يستعملا في
ذلك ، بل استعمل لفظ «الرّحمن» في الله تعالى ، و «عسى» لغير المتصرّف.
وأيضا لو استلزم
لكان لنحو «قامت الحرب على ساق وشابت لمّة الليل» حقائق.
وفيه نظر ، فإنّ
المجاز هنا في التركيب ، وهو يستلزم حقائق في المفردات لا التركيب.
قيل : وهو مشترك الإلزام ، فإنّ المجاز يستلزم الوضع قطعا ، ولم
ينقل الوضع هنا.
وفيه نظر ، لأنّا
نعلم أنّه مجاز قطعا ، ونعلم استلزام المجاز الوضع المطلق ، ولا يلزم من عدم العلم
بخصوصيّته انتفاؤه ، بخلاف الحقيقة ، فإنّ الدّليل لم يدلّ عليها ولم ينقل الاستعمال.
واحتجّ المخالف
بأنّه لو لم يلزم لعرى الوضع عن الفائدة ، إذ غاية الاستعمال فيما وضع له ، فإذا
انتفى انتفت الفائدة.
وأيضا المجاز هو
المستعمل في غير موضوعه الأصليّ ، وهذا تصريح
__________________
بوضعه في الأصل
لمعنى آخر ، فاللّفظ متى استعمل في ذلك الموضوع ، كان حقيقة فيه.
والجواب عن الأوّل
من وجهين :
الأوّل : فائدته
الاستعمال ، ولم يتّفق وقوعه ، ولا يجب من الوضع الاستعمال في وقت معيّن ، بل ولا
مطلقا ، ولا يلزم انتفاء الفائدة ، إذ هي الاستعمال متى أراد المخاطب.
الثاني : فائدته
التجوّز في غير ذلك المعنى.
وعن الثاني :
بتسليم الوضع السابق.
قوله : فاللفظ متى
استعمل في ذلك الموضوع كان حقيقة.
قلنا : مسلّم لكن
ليس في هذا الكلام إشعار بوجوب الاستعمال ، ولو كان لم يقم ، فإذا لم يحصل
الاستعمال لم تحصل الحقيقة ، اللهم إلّا أن نقول : إنّه يلزم إمكان الحقيقة ،
فنقول كذلك المجاز ، فإنّ الحقيقة تستلزم إمكان المجاز.
ومن أغرب الأشياء
اعتراف فخر الدّين قبل ذلك بقليل باستلزام المجاز الوضع ، وكونه جائز الخلوّ عن
الحقيقة والمجاز.
__________________
المبحث الثاني :
في إمكان الخلوّ عنهما
قد بيّنا أنّ
الحقيقة هي استعمال اللّفظ فيما وضع له ، أو اللّفظ المستعمل فيما وضع له ،
ويقابله المجاز لا في اللفظ ولا في الاستعمال بل في الوضع ، فيكون هو اللّفظ
المستعمل في غير ما وضع له ، أو استعمال اللّفظ في غير ما وضع له.
ولا شكّ في أنّ
الاستعمال مسبوق بالوضع ، ففي حالة الوضع قبل الاستعمال لا يكون اللّفظ حقيقة ولا
مجازا ، وإنّما يصير أحدهما بعد الاستعمال.
نعم أنّه يندر ذلك
بل لا يوجد ، لعدم معظم فوائد الوضع.
وأيضا الأعلام
ليست حقيقة ولا مجازا ، لكونها من الألقاب.
والحقيقة استعمال
اللفظ فيما وضع له ، والمجاز في غير ما وضع له ، وهو يستدعي كونهما قد وضعا قبل
الاستعمال لغة ، وأسماء الأعلام ليست كذلك ، فإنّ مستعملها لم يستعملها فيما وضعه
أهل اللّغة ولا في غيره ، لأنّها لم تكن من وضعهم ، بل لفظ مستعمل من كلام العرب
ما عدا الوضع الأوّل ، فإنّه لا يخلو عن الحقيقة والمجاز.
واعلم أنّ فخر
الدين قال : إنّ دلالة اللفظ قد لا تكون حقيقة ولا مجازا ، واحتجّ بالأوّل .
وليس بجيّد ، فإنّ
الدلالة مسبوقة بالاستعمال.
__________________
المبحث الثالث :
في إمكان الجمع بينهما
اعلم أنّ الحقيقة
والمجاز من الأمور الاضافيّة منسوبة إلى الوضع ، ولا شكّ في جواز اجتماعهما عند
تعدّد المعاني ، فإنّ الأسد حقيقة في الحيوان المفترس ومجاز في الشجاع ، بل يجب
ذلك في كلّ ما استعمل في حقيقة وله مجاز.
وأمّا إذا اتّحد
المعنى ، فإنّ تعدّد الواضع أمكن ، وذلك بأن تضع إحدى القبلين لفظا لمعنى ، ويتجوّز به
آخرون في ذلك المعنى بعينه ، سواء كانوا قد وضعوا لفظا آخر أو لم يضعوا ، وكذا
العرف بالنّسبة إلى اللّغة ، فإنّ الدّابّة في الأسد حقيقة لغويّة ومجاز عرفيّ.
وأمّا إذا اتّحد
المعنى والواضع ، فلا يمكن اجتماعهما في لفظ واحد ، لاستحالة اجتماع المتقابلات .
تنبيه
إذا كان اللّفظ
حقيقة في شيء ومجازا في آخر ، هل يجوز إرادتهما معا من ذلك اللفظ؟
والقائلون بجواز
إرادة معنيي المشترك جوّزوه هنا.
__________________
ومن منع ثمّ ، منع
هنا ، لاستحالة إرادة المتناقضين.
نعم يجوز مجازا ،
أمّا حقيقة فلا.
تذنيب
الحقيقة قد تصير
مجازا وبالعكس ، فإنّ الحقيقة إذا قلّ استعمالها صارت مجازا عرفيّا.
والمجاز إذا كثر
استعماله صار حقيقة عرفيّة ، كالألفاظ العرفيّة ، فإنّ الغائط حقيقة عرفيّة في
قضاء الحاجة ، ومجاز عرفيّ في مكان المطمئنّ ، بل قد تهجر الحقيقة بالكلّية ،
فيبقى اللّفظ منقولا.
المبحث الرابع :
في المميّز بينهما
وهو يقع من وجوه :
الأوّل : تنصيص
أهل اللغة عليه : إمّا بأن يقول الواضع : هذا حقيقة ، وهذا مجاز ، أو يذكر أحدهما
، أو خواصّهما.
الثاني : سبق
المعنى إلى فهم أهل اللّغة عند سماع اللّفظ مجرّدا عن القرينة يعطي كونه حقيقة فيه ، إذ لو لا كونه موضوعا له دون غيره ،
لم يسبق فهمه.
__________________
والمجاز بخلافه ،
وهو الّذي لا يتبادر إلى الذّهن فيه من دون القرينة.
لا يقال : فينتقض
بالمجاز المنقول ، حيث يتبادر إلى الذهن فهمه دون حقيقته ، فينتقض الخاصّتان ،
وباللّفظ المشترك ، فإنّه لا يتبادر إلى الذهن شيء من مدلولاته مع كونه حقيقة
فيها.
لأنّا نجيب عن
الأوّل بأنّه إن علم كونه مجازا عند التبادر فلا بحث ، لأنّهم أخذوا في الخاصّة
التبادر من غير قرينة ، مع عدم العلم بكونه مجازا.
وإن لم يعلم
فالظّاهر أنّه يكون حقيقة فيه ، لاختصاص ذلك بالحقيقة في الغالب ، وإدراج النادر
بحسب الغالب أولى.
وليس بجيّد ، فإنّ
جعله حقيقة لغويّة مع فرض خلافه خطأ ، بل الوجه أن يقول : إنّه حقيقة عرفيّة ،
والتبادر بالنسبة إلى العرف غير التّبادر بالنسبة إلى اللّغة ، ونحن نريد بالتبادر
بالنسبة إلى اللّغة الّتي وقع التخاطب بها ، إمّا لغة أو عرفا أو شرعا.
وعن الثاني : بأنّ
المشترك إن كان عامّا في مدلولاته ، فلا بحث واندفع الإشكال ، وإلّا فهو حقيقة في
الواحد على البلد ، لا في الواحد عينا ، والّذي هو حقيقة فيه فهو يتبادر الفهم عند
إطلاقه ، وهو الواحد على البدل ، والّذي لا يتبادر إلى الفهم وهو الواحد المعيّن
غير حقيقة فيه.
وفيه نظر ، لأنّه
إن عنى بالواحد على البدل أحدها لا بعينه على أنّه كليّ ، لم يكن اللّفظ من قبيل
المشترك ، بل كان متواطئا إذ قد جعله حقيقة في أمر كليّ
__________________
شامل لمعانيه
اشتمال المعنى المشترك على أفراده ، وليس كذلك.
وإن عنى به كلّ واحد
بخصوصيّة ، ورد الإشكال.
والوجه أن نقول :
التّبادر دليل الحقيقة ، ولا يلزم من عدمه انتفاؤها.
الثالث : استعمال
أهل اللغة لفظا مجرّدا عند قصد الإفهام لمعنى معيّن ، ولو عبّروا عنه بغيره ، أو
عبّروا به عن غيره لم يجرّدوه بل ضمّوا إليه قرينة فيعلم أنّ الأوّل حقيقة ، إذ لو
لا علمهم باستحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لما اقتصروا عليها ، ويكون الثاني
مجازا.
الرابع : تعليق
اللفظ بما يستحيل تعلّقه به يقتضي كونه مجازا ، للعلم بانتفاء الوضع مثل : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
لا يقال : جاز أن
يكون مشتركا ، وتعذّر حمل اللّفظ المشترك على بعض محامله لا يوجب جعله مجازا.
لأنّا نقول :
الاشتراك على خلاف الأصل ، والمجاز أولى منه مع التعارض.
وإذا عرفت هذا
فنقول : مهما ثبت كون اللفظ حقيقة في بعض المعاني واستعمل في غيره ، حكم بكونه
مجازا إذا لم يكن بينهما معنى مشترك يصلح للموضوعيّة ولم يكن مشتركا.
الخامس : إذا
وضعوا اللفظ لمعنى ثمّ تركوا استعماله في بعض موارده ، ثمّ استعملوه بعد ذلك في
غير ذلك الشيء ، عرف كونه مجازا عرفيّا ، كالدّابة للحمار.
__________________
السادس : الاطّراد
في الحقيقة وعدمه في المجاز ، فقولنا : «عالم» لمّا صدق على «ذي علم» ، صدق على
كلّ ذي علم.
بخلاف المجاز ،
فإنّه صحّ (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) ولم يصحّ : واسأل البساط.
واعترض عليه بأنّ الدعوى العامّة لا تصحّ بالمثال الواحد.
وأيضا إن أراد
باطّراد الحقيقة استعمالها في جميع موارد نصّ الواضع ، فالمجاز أيضا كذلك ، لأنّه
يجوز استعماله في جميع موارد نصّ الواضع ، فلا يبقى بينهما فرق.
وإن أراد استعماله
في غير موضع نصّ الواضع لكونه مشاركا للمنصوص عليه في المعنى ، كان قياسا في
اللّغة ، وهو باطل.
سلّمنا جوازه ، لكن دعوى اطّراد الحقيقة ممنوعة ، فإنّها قد لا تطّرد ،
بأن يمنع منه العقل ، كالدليل عند من يجعله حقيقة في فاعل الدّلالة ، فإنّه لمّا
كثر استعماله في نفس الدّلالة ، لا جرم لم يحسن استعماله في حقّه تعالى إلّا
مقيّدا.
أو يمنع منه
السّمع كتسميته تعالى بالفاضل والسخيّ ، فانّ الحقيقة وإن وجدت ، لكن السّمع منع
منه.
أو يمنع منه أهل
اللّغة كالأبلق في غير الفرس.
__________________
فإن قالوا :
الأبلق موضوع لما اجتمع فيه اللّونان ، بشرط كونه فرسا.
قلنا : لو جاز هذا
، لجاز في كلّ مجاز ، ولا يطّرد الاعتذار بمثله ، فيبطل الاستدلال بعدم الاطّراد
على كونه مجازا.
وكذا القارورة
حقيقة في الزّجاجة الخاصّة ، لكونها مقرّا للمائعات ، وهذا المعنى موجود في الجرّة
، والكوزة ، ولا يسمّى قارورة.
قال بعض
المتأخّرين : علامة المجاز عدم الاطّراد في مدلوله ، مع عدم ورود المنع من اللغة
أو الشّرع ، ولا يرد اطّراد بعض المجازات ، مع أنّه ليس حقيقة ، لأنّ عدم الاطّراد
دليل المجاز ، ولم يجعل الاطّراد دليل الحقيقة.
والتزم بعضهم الدّور ، لأنّ عدم الاطّراد الّذي جعل علامة على المجاز ،
قد يوجد في الحقيقة كالسخيّ وغيره ، وهو حقيقة.
فإن قلت : عدم
الاطّراد هنا لمانع.
قلنا : فعدم
الاطّراد إنّما يدلّ على المجاز إذا لم يكن لمانع ، وإنّما يعرف بأنّه ليس لمانع ، لو كان مجازا.
وفيه نظر ، لمنع
الملازمة الأخيرة.
السابع : امتناع
الاشتقاق دليل على المجاز ، فإنّ الاسم إذا كان موضوعا
__________________
لصفة ، ولا يصحّ
أن يشتقّ لموضوعها منها اسم ، مع عدم المنع من الاشتقاق ، دلّ على كونه مجازا ،
وذلك أنّ لفظ الأمر لمّا كان حقيقة في القول اشتقّ منه الامر والمأمور ، ولمّا لم
يكن حقيقة في الفعل ، لم يوجد فيه الاشتقاق .
ويضعّف بعدم دلالة
المثال [الواحد] على العموميّة ، وبانتقاضه بقولهم للبليد : حمار ، وجمعه حمر. وفيه نظر ، لمغايرة الجمع الاشتقاق.
وأيضا ، الرائحة
حقيقة في معناها ، ولم يشتقّ منها الاسم ، فلا يقال للجسم الّذي قامت به الرّائحة
، متروّح.
الثامن : أن يكون
الاسم قد اتّفق على كونه حقيقة في غير المسمّى المذكور ، وجمعه يخالف جمع المسمّى
المذكور ، فيعلم أنّه مجاز فيه كالأمر ، فإنّه يجمع بالمعنى الحقيقيّ بأوامر ، وفي
الفعل بأمور .
ويضعّف بأنّ اختلاف الجمع لا إشعار فيه بكونه حقيقة في أحدهما ،
ومجازا في الآخر ، وقد يجمع اللّفظ الواحد الحقيقيّ بجموع كثيرة ، وقد يتّفق
الحقيقيّ والمجازي في الجمع.
التاسع : المعنى
الحقيقيّ إذا كان متعلّقا بالغير ، فإذا استعمل فيما لا يتعلّق به
__________________
شيء كان مجازا ،
فالقدرة إذا أريد بها المعنى الحقيقيّ ، وهو الصفة المؤثّرة ، كان متعلّقا
بالمقدور ، وإذا أطلقت على المقدور ، كما في قولهم : انظر إلى قدرة الله تعالى ،
فلا مقدور لها ، فلم يكن لها متعلّق ، فيكون مجازا.
وهو ضعيف ،
لاحتمال كون اللفظ حقيقة فيهما ، ويكون له بحسب إحدى حقيقتيه متعلّق دون الاخرى.
وبالجملة :
التعلّق ليس من توابع كون اللفظ حقيقيّا ، بل من توابع المسمّى.
العاشر : صحّة
النّفي دليل المجاز ، وعدمهما دليل الحقيقة ، فإنّه يصحّ نفي الحمار عن البليد ،
ولا يصحّ نفي الإنسانيّة عنه.
قيل : إنّه يلزم
الدّور ، لأنّ صحّة النفي لا تثبت إلّا بعد معرفة كونه مجازا.
الحادي عشر :
التزام تقييده دليل على المجاز ، مثل جناح الذّلّ ، ونار الحرب.
الثاني عشر :
توقّفه على المسمّى الآخر دليل المجاز ، مثل : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ).
__________________
الفصل السابع
في التعارض بين أحوال الألفاظ
وفيه مباحث :
الأوّل : انّه لمّا اتّسع مستعملو الألفاظ فيها بل الواضع نفسه ، فلم
يقتصروا باللفظ على المعنى الواحد ، ولم يوجبوا ثبوته في موضعه ، بل جوّزوا تزحزحه
عنه ، وحذفه بالكليّة مع بقاء ما يدلّ عليه التزاما .
وأفضى هذا
الاتّساع بهم إلى تجوّز اتّحاد اللفظ مع تكثّر معناه كالمشترك ، وإلى انتقاله عن
موضعه ، من غير إهمال له بالكليّة كالمجاز ، أو بالكليّة كالمنقول ، أو عن بعض
موارده كالمخصّص ، وإلى حذفه مع قيام ما ينبئ عنه كالإضمار ، فكانت هذه الأشياء
غير متضادّة ، بل يمكن اجتماعها في اللّفظ الواحد ، أو اجتماع عدّة منها ، وأمكن
الاكتفاء بأحدها عن صاحبه ، وكان الاكتفاء ممّا يجب المصير إليه مع إمكانه.
لا جرم وجب النظر
في أولويّة المكتفى به.
ولمّا كان اختلال
الفهم إنّما يحصل بأمور خمسة :
__________________
الأوّل :
الاشتراك.
الثاني : النقل
العرفي أو الشرعيّ.
الثالث : المجاز.
الرابع : الإضمار.
الخامس : التخصيص.
والاقتضاء : إثبات
شرط يتوقّف عليه وجود المذكور ، لا صحّة اللفظ.
وجب النظر في التعارض بينها.
ودليل الحصر : أنّ
مع انتفاء الاشتراك والنقل ، يكون اللّفظ موضوعا لمعنى واحد.
ومع انتفاء المجاز
والإضمار ، يكون المراد باللّفظ ما وضع له.
ومع انتفاء
التخصيص ، يكون المراد جميع ما وضع له.
وأنواع التعارض
عشرة ، لحصول أربعة من المشترك والأربعة الباقية ، وثلاثة من المنقول والثلاثة ،
واثنين من المجاز والباقيين ، وواحد من الباقيين.
فهنا مباحث :
[المبحث] الأوّل :
إذا تعارض النقل والاشتراك ، فالاشتراك أولى ، خلافا
__________________
لفخر الدين وجماعة ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : الطواف بالبيت صلاة .
فنقول : يشترط فيه
الطّهارة كالصلاة المنقولة.
فلو قال الخصم :
الصلاة مشتركة بين المعهود الشّرعيّ واللغويّ ، كان ادّعاء النقل أولى عندهم.
لنا وجوه :
[الوجه] الأوّل :
أنّ النقل يقتضي الوضع في معنيين على التّعاقب ونسخ الوضع الأوّل ، والاشتراك لا
يقتضي النسخ ، فيكون أولى ، لما يأتي من أولويّة الاشتراك من النسخ.
[الوجه] الثاني :
لم ينكر المحقّقون الاشتراك ، وأنكر كثير منهم النقل.
[الوجه] الثالث :
تطرّق الخطأ في المنقول ثابت دون المشترك ، فإنّ المشترك إن وجد معه القرينة ، عرف
السامع القصد عينا ، وإن لم يوجد تعذّر عليه العمل ، فيتوقّف ، فلا خطأ على
التقديرين.
وفي النقل ربّما
خفي عنه النقل إلى الجديد ، ففهم الأوّل ـ وليس مرادا ـ فحمله عليه فوقع في الخطأ.
[الوجه] الرابع :
النقل يقف على ما يقف عليه المشترك وزيادة ، فيكون مرجوحا ، وذلك أنّ الاشتراك
يمكن حصوله بوضع واحد ، فيقول الواضع :
__________________
وضعته بهذين ،
تحصيلا لغرض التعريف الإجماليّ.
أمّا النقل فيقف
على وضع أوّل ، ثمّ على نسخه ، ثمّ على وضع جديد ، والموقوف على أمور كثيرة ،
مرجوح بالنسبة إلى الموقوف على الواحد منها.
[الوجه] الخامس :
مفاسد الاشتراك قد تحصل في النقل دون العكس ، فإنّ السّامع قد يسمع استعمال اللّفظ
في المعنى الأوّل وفي المعنى الثّاني ، ولم يعرف أنّه نقل إلى الثاني ، فظنّه
مشتركا ، فحصلت له مفاسد الاشتراك مع مفسدة جهله بالنّقل ، وجميع مفاسد المنقول ،
فكان الاشتراك أولى.
[الوجه] السادس :
المشترك أكثر ، وهو دليل الرجحان ، وإلّا لرجّح الواضع أكثر المفاسد على أقلّها.
أجاب فخر الدين من
ذلك كلّه بأنّ الشّرع إذا نقل اللّفظ عن معناه اللّغوى إلى الشرعيّ ، فلا بدّ وأن
يشتهر ذلك النقل ، وأن يبلغه إلى حدّ التواتر ، فحينئذ تزول المفاسد جمع.
وليس بجيّد ، أمّا
أوّلا ، فلأنّ البحث ليس في نقل شرعيّ ، بل في مطلق النّقل ، ولا شكّ في أنّ العرف
وأهل اللغة لو نقلوا لفظا لم يجب عليهم إبلاغه إلى حدّ التّواتر.
وأمّا ثانيا ،
فلأنّ اشتهار النّقل كيف يزيل نسخ الوضع الأوّل وتوقّفه عليه وعلى وضع جديد وقلة
وجوده؟
وأمّا ثالثا ،
فلأنّ التواتر إنّما يحصل بالتدريج ، والمفاسد حاصلة قبله.
__________________
وأمّا رابعا ،
فلأنّهما يتعارضان في لفظ لا يعلم كونه منقولا ولا مشتركا.
نعم لو تعارض لفظ
منقول مع آخر مشترك في اثنين مثلا ، فالتمسّك بالمنقول أولى ، لاقتضاء النّقل
إرادة معيّن ، دون الاشتراك ، ولا يرد عليه شيء من تلك الوجوه.
ثمّ احتجّ بأنّ في
النّقل يكون اللّفظ موضوعا لحقيقة واحدة قبل النّقل وبعده ، إلّا أنّه في بعض
الأوقات مفرد بالإضافة إلى معنى ، وفي بعضها مفرد بالنّسبة إلى آخر ، والمشترك
مشترك في جميع الأوقات ، فكان الأوّل أولى.
والجواب : أنّ
اتّحاد المعنى مع حصول المفاسد الناشئة من تعدّده ، غير مفيد ، وقد بيّنا حصول
المفاسد بسبب التعدّد في المنقول أيضا.
[المبحث] الثاني :
في أنّ المجاز أولى من الاشتراك
إذا تعارض المجاز
والاشتراك ، فالمجاز أولى ، كما نقول في النّكاح : مجاز في الوطء ، فيكون حقيقة في
العقد ، فيحرم على الابن من عقد عليها الأب.
فلو قال الخصم :
بل هو حقيقة فيه ، فلعلّه المراد ، كان ادّعاء المجاز أولى ، لأنّه أغلب وأكثر ،
والأكثريّة دليل الأرجحيّة.
ولحصول الفائدة
دائما مع المجاز ، دون الاشتراك.
__________________
والغاية القصوى في
الوضع : الاستفادة من اللّفظ.
وبيان دوام
الفائدة : أنّ اللفظ إن تجرّد حمل على الحقيقة ، وإن لم يتجرّد حمل على المجاز ،
فدائما يحصل فيه الفائدة.
أمّا المشترك فإن
وجدت القرينة أفاد عين المراد ، وإلّا فلا.
ولأدّى المشترك
إلى مستبعد من استعمال اللفظ في المعنى وضدّه ، أو فيه وفي نقيضه.
ولأنّه يحتاج إلى
قرينتين.
ولأنّ المجاز قد
يكون أوجز وأبلغ وأوفق ، ويتوصّل به إلى السجع ، والمقابلة ، والمطابقة ،
والمجانسة ، والرويّ.
ولأنّه أوسع في
العبارة ، إذ قد يعبّر عن الشّيء الواحد بلفظ حقيقيّ وبألفاظ مجازيّة كثيرة.
فإن قيل :
الاشتراك أولى ، لوجوه :
الأوّل : المشترك
أبعد عن الخطأ ، لأنّه إن وجد معه القرينة حمل عليه ، وإلّا توقّف السّامع.
أمّا المجاز فإن
وجدت القرينة حمل عليه ، وإلّا فعلى الحقيقة ، فيقع في الخطأ على تقدير إرادة المجاز.
فعلى التقدير
الأوّل ، يحصل محذور واحد مع التجرّد عن القرينة ، وهو الجهل بمراد المتكلّم.
وعلى الثاني ،
يحصل محذوران : أحدهما الجهل.
والثاني اعتقاد ما
ليس بمراد مرادا.
الثاني : الاشتراك
يقف على شيء واحد وهو الوضع ، لأنّه قد يحصل بوضع واحد.
والمجاز يتوقّف
عليه ، وعلى وجود ما يصلح مجازا ، وعلى العلاقة المصحّحة ، وعلى تعذّر [الحمل على]
الحقيقة ، فيكون الأوّل أولى.
الثالث : المشترك
إذا دلّ دليل على تعذّر حمله على أحد معنييه ، انحصر في الآخر.
بخلاف المجاز ،
فإنّه لا ينحصر على تقدر تعذّر حمله على الحقيقة.
الرابع : المشترك
يفيد أحدهما لا بعينه ، ودلالة اللّفظ على هذا القدر حقيقة لا مجاز ، فيكون أولى
من المجاز.
الخامس : حمله على
المجاز يفضي إلى نسخ الحقيقة بخلاف المشترك.
السّادس : لا بدّ
للناظر مع الاشتراك من البحث عن القرينة ، فيبعد عن الخطأ.
بخلاف المجاز ، فإنّه
يحمله على الحقيقة ، فيقرب من الخطأ.
السّابع : الفهم
في صورة الاشتراك يحصل بأدنى القرائن ، فإنّه كاف في الرجحان.
وفي المجاز لا بدّ
من قرينة قويّة تعادل أصالة الحقيقة وتزيد عليها.
الثامن : المشترك
مطّرد ، لأنّه من خواصّ الحقيقة ، فلا يضطرب ، بخلاف المجاز.
التاسع : الاشتقاق
يحصل في كلّ واحد من الحقيقة فيشيع ، بخلاف المجاز.
العاشر : يصحّ
المجاز من كلّ واحد من معنيي المشترك ، فتكثر الفائدة ، بخلاف المجاز.
الحادي عشر :
المشترك مستغن عن العلاقة ، وعن الحقيقة ، وعن مخالفة ظاهر.
والجواب أنّ
المجاز أغلب وأكثر ، فلا يعارضه ما ذكرتموه.
المبحث الثالث :
في التعارض بين الاشتراك والباقيين
الأوّل : الإضمار
أولى من الاشتراك ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في خمس من الإبل شاة» .
فيقول الخصم :
الواجب عين الشاة ، لأنّ «في» مشتركة بين الظرفيّة والسببيّة.
فيقول الآخر : بل
مقدار الشاة ، لأنّ «في» الظرفيّة خاصّة فيصير «في خمس من الإبل مقدار شاة»
لاختصاص الإجمال الحاصل بسبب الإضمار ببعض الصّور ، وتعميمه في المشترك ، فكان
اختلال الفهم فيه أكثر.
__________________
لا يقال : الإضمار
يفتقر إلى ثلاث قرائن :
قرينة دالّة على
أصل الإضمار.
وأخرى على موضعه.
وثالثة على نفس
المضمر.
والمشترك يفتقر
إلى قرينة واحدة.
لأنّا نقول :
الإضمار وإن افتقر إلى ثلاث قرائن ، لكن في صورة واحدة لا في جميع الصّور.
وأيضا الإضمار
أوجز وأخصر ، ويعدّ من محاسن الكلام ، قال عليهالسلام : أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصارا.
وأيضا من شرط
الإضمار العلم بالمضمر ، فلا يحصل معه اختلال في الفهم ، بخلاف المشترك.
الثاني : التخصيص
أولى من الاشتراك ، كما قالوا : النكاح حقيقة في العقد ، فمقتضى قوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ) تحريم منكوحة الأب وإن كانت بنكاح فاسد إلّا أنّ هذه
المنكوحة خصّت عن قضيّة النّصّ ، فتبقى المنكوحة بالصحيح داخلة تحت التحريم.
فيقول الآخر : بل
النّكاح مشترك بين العقد والوطء ، وليس مراد النصّ
__________________
العقد ، وإلّا لزم
تخصيص المنكوحة بالفاسد ، فتعيّن أنّ المراد الوطء.
وجوابه : التخصيص
خير من الاشتراك ، لأنّه خير من المجاز ، على ما يأتي ، والمجاز خير من الاشتراك ،
على ما تقدّم.
المبحث الرابع :
في باقي المعارضات
الأوّل : المجاز
أولى من النقل ، مثل أن يقول المستدلّ : الصّلاة حقيقة في الدعاء ، مجاز في المعنى
الشرعيّ ، لاشتماله على الدّعاء ، من باب إطلاق اسم الجزء على الكلّ.
فيقول الخصم : بل
هو حقيقة في الشّرعيّ ، بالنقل.
وجوابه : أنّ
المجاز أولى ، لافتقار النقل إلى اتّفاق أهل اللّسان على تغيير الوضع ، وهو
متعذّر.
والمجاز يتوقّف
على قرينة صارفة عن الحقيقة ، وهي متيسّر.
لا يقال : إذا ثبت
النّقل فهم كلّ أحد مراد المتكلّم بحكم الوضع ، فينتفي الخلل في الفهم ، والحقيقة
إذا لم ترد فقد يتعدّد المجاز ، ويخفى وجهه ، فيقع الاختلال.
لأنّا نقول :
الحقيقة تعين على فهم المجاز ، إذ شرطه العلاقة بينه وبين الحقيقة ، والنقل إذا
خرج المعنى الأوّل بقرينة لم يتعيّن المنقول إليه ، فكان المجاز أقرب إلى الفهم ،
ولما في المجاز من الفوائد الّتي لم توجد في النقل.
الثاني : الإضمار
أولى من النقل ، لما قلناه في أولويّة المجاز ، مثل أن
يقول المستدلّ :
لا يجوز بيع الذّهب بمثله متفاضلا لأنّه ربا.
فيقول الآخر : بل
العقد صحيح ، والمحرّم الزيادة ، فيصير التقدير : وحرم أخذ الرّبا ، فيلزم الإضمار
، وهو أولى من النقل.
الثالث : التخصيص
أولى من النقل ، لأنّ التخصيص خير من المجاز على ما يأتي.
والمجاز أولى من
النقل على ما تقدّم ، مثل أن يقول الخصم في قوله تعالى : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) : لفظ البيع حقيقة في كلّ معاوضة ومبادلة تجري بين الناس ،
خصّ شرعا لكلّ معاوضة شرعيّة فتبقى الجامعة لشرائط الصحّة.
ويقول الآخر : بل
الشرع نقله إلى العقد الجامع لشرائط الصحّة.
الرابع : المجاز
والإضمار سواء ، كقوله عليهالسلام : «الطواف بالبيت صلاة» .
فيقول الخصم :
الطّواف يصدق عليه الصلاة مجازا ، لاشتماله على الدعاء ، من باب اسم الكلّ باسم
جزئه.
فيقول الآخر : بل
فيه إضمار ، وهو مثل الصلاة ، لاحتياج كلّ منهما إلى قرينة صارفة عن الظاهر ، وكما يخفى تعيين المضمر ، كذا يخفى تعيين المجاز.
لا يقال : الحقيقة
تعين على فهم المجاز :
__________________
لأنّا نقول : وهي
تعين على فهم الإضمار ، إذ حدّه سقوط شيء من الكلام يدلّ الباقي عليه.
الخامس : التّخصيص
أولى من المجاز ، كقوله تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ).
فيقول الخصم :
المراد الحقيقة ، خصّ عنه أهل الذّمة.
ويقول الآخر : بل
المراد غيرهم ، فيكون مجازا من باب إطلاق الكلّ على الجزء.
أو يقول : حقيقة
اللّمس ناقضة كقوله تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) لكن خصّ بمسّ المحرّم ، والصّغيرة ، والميتة ، لخروجهنّ عن
مظنّة الاستمتاع.
فيقول الآخر : بل
المراد الوطء ، فلا ينتقض الوضوء بحقيقته ، فيكون التخصيص أولى ، لحصول المراد
وغيره ، مع عدم الوقوف على قرينة التخصيص.
والمجاز إذا لم
يوقف فيه على قرينة ، يحمل على الحقيقة ، فلا يحصل المراد.
ولأنّ اللّفظ
انعقد في التخصيص دليلا على جميع الأفراد ، فإذا خرج البعض بدليل ، بقي معتبرا في
الباقي من غير افتقار إلى تأمّل وبحث واجتهاد.
وفي المجاز انعقد
اللفظ على الحقيقة ، فإذا خرجت بقرينة احتيج في
__________________
صرف اللفظ إلى
المجاز إلى الاستدلال ، فكان التخصيص أبعد عن الاشتباه ، فكان أولى.
السادس : التخصيص
أولى من الإضمار ، لأنّه خير من المجاز ، والمجاز والإضمار يتساويان ، كقوله عليهالسلام : لا صيام لمن لم يبيّت الصيام من الليل .
فيقول الخصم :
إنّه يتناول بعمومه الفرض والنفل ، خصّ فيه التطوّع ، لجواز انعقاد نيّته إلى
الزوال ، فتبقى حجّة في الفرض.
فيقول الآخر : بل
يجوز التأخير في الفرض إلى قبل الزوال ، وفي النصّ إضمار ، فتقديره : لا صيام
فاضل.
فروع
الأوّل : النسخ تخصيص في الأزمان ، ومرادنا في الترجيحات التّخصيص في الأعيان.
فلو تعارض النسخ
والاشتراك ، كان الاشتراك أولى ، لاحتياطهم في النسخ دون التخصيص ، ولهذا جوّزوا
تخصيص العامّ بخبر الواحد دون النسخ.
والأصل فيه أنّ
الخطاب بعد النسخ يصير كالباطل ، بخلاف التخصيص.
وفيه نظر ، فإنّ
هذا يقتضي ترجيح التخصيص على النسخ ، وقد ظهر في
__________________
الأوّل ، أنّ
التخصيص أولى من الاشتراك.
فقد حصل من مجموع
الأمرين أنّ التخصيص أولى من الاشتراك والنّسخ ، وهذا لا يقتضي رجحان الاشتراك على
النسخ ولا العكس ، بل الوجه توقّف الاشتراك على الوضع ، وتوقّف النّسخ عليه وعلى
رفعه.
الثاني : التواطؤ أولى من الاشتراك ، لاتّحاد المفهوم في الأوّل ، والتّعدّد في محالّه ،
والمشترك ليس بواحد.
الثالث : جعل اللّفظ مشتركا بين علمين أولى من جعله مشتركا بين معنيين لو تعارضا ، لانحصار
الأعلام في الأشخاص غالبا ، والمعاني أمور كلّيّة ، فاختلال الفهم مع الاشتراك
فيها أكثر.
وكذا جعله مشتركا
بين علم ومعنى ، أولى من جعله مشتركا بين معنيين لو تعارضا.
الرّابع : إذا تناول اللّفظ شيئا بجهة
اشتراك وبجهة التواطؤ ، فاعتقاد الثّاني
أولى ، كالأسود المتناول للقارّ والزنجيّ بالتواطؤ ، وللقارّ والمسمّى به
بالاشتراك ، فإذا وجد أسود اللّون مسمّى به وأطلق عليه أسود ، كان إطلاقه باعتبار
اللّون أولى من اللّقب ، إذ في الأوّل ثبوت الإطلاق بحسب التواطؤ ، والثاني بحسب
الاشتراك.
الفصل الثامن
في تفسير حروف يبحث عنها الفقهاء
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في الواو
اختلف الناس في
الواو العاطفة : فذهب أكثر الناس إلى أنّها للجمع المطلق من غير ترتيب ، حتّى قال
أبو علي الفارسي : اتّفق اللّغويون ، والنّحويّون ، البصريّون ، والكوفيّون
، على أنّ الواو للجمع المطلق من غير ترتيب.
وذكر سيبويه في سبعة عشر موضعا من كتابه : أنّها للجمع من غير ترتيب.
ونقل عن الفرّاء : أنّها للترتيب فيما يستحيل فيه الجمع ، مثل «اركعي
واسجدي».
__________________
وقال آخرون :
إنّها للترتيب مطلقا.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّها قد
تقع فيما يمتنع فيه الترتيب كالتفاعل ، مثل تقاتل زيد وعمرو ، ولهذا لا يصحّ تقاتل
زيد فعمرو أو ثمّ عمرو ، ولو كانت للترتيب لا يمتنع دخولها عليه امتناع دخول الفاء
وثمّ.
وفيه نظر ، لإمكان
أن يكون مجازا ، مثل (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) فإنّه لمّا علم امتناع استناد السؤال إلى القرية ، حكم
بكونه مجازا.
الثاني : لو كان
للترتيب لكان قولنا : قام زيد وعمرو قبله ، تناقضا ، وقام زيد وعمرو بعده ،
تكريرا.
لا يقال : حكم
الشيء منفردا مغاير لحكمه مجتمعا ، فجاز إفادة اللّفظ معنى حالة اجتماعه دون
انفراده ، وبالعكس ، فإنّك لو قلت : قام زيد ، أفاد الجزم ، ولو أدخلت الهمزة خرج
عن ذلك.
لأنّا نقول هذا
إشارة إلى وجود العارض ، والأصل عدمه.
قيل : لا تناقض مع احتمال التجوّز ، ولا تكرير ، لإفادة المنع
من الحمل على المجاز ، وهو مطلق الجمع.
وفيه نظر لأنّ
الأصل عدم المجاز.
__________________
الثالث : قوله
تعالى : (وَادْخُلُوا الْبابَ
سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ) قدّم الدّخول ، وفي آية أخرى (وَقُولُوا حِطَّةٌ
وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) أخّره ، والقصّة واحدة ، ولو أفادت الترتيب ، لكان مقدّما
مؤخّرا.
قيل : جاز أن يكون مجازا في إحدى الآيتين.
وفيه نظر لأنّ
الأصل عدم المجاز.
الرابع : قال الله
تعالى : (وَاسْجُدِي
وَارْكَعِي) وقد كان من شرعها تقديم الركوع على السجود.
الخامس : لو كان
للترتيب لكان قولنا : جاء زيد وعمرو حال مجيئهما معا كذبا ، والتالي باطل إجماعا ،
فكذا المقدّم.
قيل : لا كذب مع
إرادة المجاز ، مثل : رأيت أسدا.
وفيه نظر ، لأصالة
عدم المجاز ، بخلاف ما ثبت انّه مجاز كالأسد.
السادس : الترتيب
غير مراد في قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ) وقوله: (أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ)(وَالسَّارِقُ
__________________
وَالسَّارِقَةُ)(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي) والأصل ، الحقيقة.
السابع : إذا قال
لعبده : اشتر اللحم والخبز ، لم يفهم منه الترتيب.
الثامن : سئل [النبيّ
صلىاللهعليهوآلهوسلم] بأيّهما نبدأ عن الصفا والمروة؟
فقال : ابدءوا بما
بدأ الله به .
ولو كان للترتيب ،
لم يفتقروا إلى السؤال ، مع أنّ الصحابة من فصحاء العرب ، ولما احتيج في الابتداء
بالصّفا إلى الاستدلال .
وفيه نظر ،
لاحتمال تحقّق إرادة الحقيقة.
التاسع : قال أهل
اللغة : واو العطف في الأسماء المختلفة كواو الجمع وياء التثنية في المتّفقة ،
وحيث تعذّر جمع المختلفات استعملوا واو العطف.
ولمّا كان قولنا :
جاء الزيدون ، لا يوجب ترتيبا ولا معيّة ، بل مطلق الجمع ، كان قولنا : جاء زيد
وعمرو وخالد ، كذلك ، قضاء للتسوية.
ولا يمكن اختصاص
واو العطف بزيادة الترتيب ، لأنّه مناف للنصّ بالتسوية.
العاشر : لو كان
للترتيب ، لما حسن الاستفهام عن تقدّم أحدهما أو التقارن ، لكونه مفهوما من اللفظ.
__________________
وفيه نظر ،
لاحتمال إزالة توهّم استعمال المجاز.
الحادي عشر :
الجمع معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فلا بدّ من وضع لفظ يدلّ عليه ، وليس
إلّا الواو.
الثاني عشر : لو
اقتضت الترتيب ، لصحّ دخولها في جواب الشرط كالفاء ، والتالي باطل اتّفاقا ، فكذا
المقدّم.
وفيه نظر ، لمنع
الملازمة ، إذ ليس علّة الجواب الترتيب.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا) فإنّه يقتضي الترتيب.
الثاني : قال
النبي صلىاللهعليهوآله حين سأله الصحابة عن البداءة بالصّفا أو بالمروة : «ابدءوا
بما بدأ الله به» وذلك يدلّ على الترتيب.
الثالث : روي أنّ
شخصا قام بين يدي رسول الله وقال : «ومن أطاع الله ورسوله فقد اهتدى ومن عصاهما
فقد غوى» فقال صلىاللهعليهوآله : «بئس خطيب القوم أنت ، قل : ومن عصى الله ورسوله [فقد
غوى] .
ولو لم تفد
الترتيب لم يكن بين ما أمره به ونهاه عنه فارق.
الرابع : قال عمر
: ـ لشاعر قال :
__________________
....................
|
|
كفى الشّيب
والإسلام للمرء ناهيا
ـ
|
لو قدّمت الإسلام
على الشيب لأجزتك.
الخامس : أنكر
الصحابة على ابن عباس حيث أمر بتقديم العمرة ، وقالوا : «لم تأمرنا بالعمرة قبل
الحج» والله تعالى يقول : (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ
وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ)؟ ولو لا الترتيب ، لما صحّ ذلك.
السادس : لو قال
لغير المدخول بها : أنت طالق وطالق وطالق ، وقعت واحدة ، بخلاف أنت طالق ثلاثا ،
ولو لم يكن للترتيب ، لما افترقا.
السابع : الترتيب
لفظا يستدعي سببا ، والترتيب في الوجود صالح له ، فوجب الحمل عليه.
الثامن : الترتيب
على وجه التعقيب ، وضع له الفاء ، وعلى جهة التراخي وضع له ثمّ.
ومطلق الترتيب
معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب وضع لفظ بإزائه ، وهو الواو.
لا يقال : الجمع
أيضا معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، ولا لفظ له سوى الواو.
لأنّا نقول : لمّا
حصل التعارض وجب الترجيح ، وهو معنا ، لأنّ الجمع جزء من الترتيب ، ولازم له ،
فإذا كان حقيقة في الترتيب ، أمكن جعله مجازا
__________________
في لازمه ، وهو
مطلق الجمع بسبب الملازمة.
ولو جعلناه للجمع المطلق
، لم يكن الترتيب [المطلق] لازما له ، فلم يمكن جعله مجازا فيه ، لانتفاء
الملازمة.
والجواب عن الأوّل
: المنع من إفادة الآية الترتيب ، بل من فعله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «صلّوا كما رأيتموني أصلّي».
وعن الثاني : أنّه
لو كان للترتيب ، لما احتاجوا إلى السؤال.
قيل : ولو كانت
للجمع ، لما احتاجوا إليه أيضا ، فيتعارضان ، فيبقى قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ابدءوا بما بدأ الله به» دليلا على الترتيب ، خاليا عن
المعارض.
وفيه نظر ، فإنّ
الاستفسار واقع على تقدير الترتيب ، دون الجمع الشامل لأمور ثلاثة ، فاحتاجوا إلى
السؤال فيه دون الأوّل ، ولاستفادته من خارج حينئذ.
وعن الثالث : أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم أنكر عليه في ترك إفراد اسم الله تعالى بالذّكر ، فإنّه
أدخل في التعظيم ، لا لأجل الترتيب ، إذ لا ترتيب في قوله «ومن عصى الله ورسوله»
فإنّ معصيتهما متلازمتان ، فهذا بأن يدلّ على فساد قولهم أولى.
وعن الرابع : أنّ
عمر قصد التعظيم بتقديم ذكر الأعظم ، لا على قصد الترتيب ، بل باعتبار أنّ الأدب
يقتضي أن يكون المقدّم في الفضيلة ، مقدّما في الذكر.
__________________
وعن الخامس : أنّه
يعارض بأمر ابن عبّاس بتقديم العمرة ، وهو من فقهاء العرب وترجمان القرآن.
وأيضا ، يمنع
استناد الإنكار إلى فهم الترتيب ، بل لفهم مطلق الجمع ، وأنكروا عليه حيث أمرهم
بالتقديم ، مع انتفاء دلالة الآية عليه.
وعن السادس :
بالمنع من وقوع الثلاث في الموضعين.
سلّمنا ، لكن نمنع
عدم وقوعه في قوله : أنت طالق وطالق وطالق ، بل يقع الثلاث ، وهو القول القديم
للشافعي ، وبه قال أحمد بن حنبل ، وبعض أصحاب مالك ، والليث ابن سعد ، وربيعة بن
أبي ليلى.
سلّمنا ، لكنّ
الفرق ظاهر ، فإنّ قوله : أنت طالق ثلاثا ، تفسير الطلاق بالثلاث ، فكان مقبولا ،
وقوله ثانيا «وطالق» ليس تفسيرا لقوله : «أنت طالق» والكلام يعتبر بآخره ، فكان
الأوّل واقعا بخلاف الثاني ، حيث كان قوله : أنت طالق ، كلاما تامّا ، فبانت به ،
بخلاف قوله «ثلاثا» وأنّه في حكم البيان.
وعن السّابع :
بأنّ التقديم لفظا ، لا يقتضي التقديم في نفس الأمر ، كما لو قال : رأيت زيدا ،
رأيت عمرا ، فإنّ تقديم زيد في الذكر لا يقتضي تقديمه في نفس الأمر إجماعا.
على أنّه يحتمل أن
يكون السبب في التقديم اللّفظي ، لشدّة الاهتمام به ، أو قصد الإخبار عنه خاصّة ،
ثمّ تجدّد الإخبار عن غيره.
__________________
ولو كان الابتداء
بلفظ يدلّ على الترتيب ، لما احتيج إلى جعل الواو للترتيب.
وعن الثامن :
المعارضة بشدّة الحاجة إلى التعبير عن الأعمّ دون الأخصّ ، فإنّه متى احتيج إلى
ذكر الأخصّ ، احتيج إلى ذكر الأعمّ ولا ينعكس ، فكانت الحاجة إلى التعبير عن
الأعمّ أشدّ ، فكان أولى بالوضع.
واعلم أنّ الجويني
نقل عن أصحاب أبي حنيفة : أنّ الواو للجمع ، وعن أصحاب الشافعي أنّها للترتيب ،
ثمّ نسبهما إلى التحكّم ، وتوهّم أنّ قصد الحنفيّة أنّها تفيد المصاحبة.
ولا شكّ في أنّها
تحكّم إن قصدوا ذلك ، والظّاهر أنّ قصدهم ما اخترناه نحن ، من أنّها للجمع الصّادق
على الترتيب والمعيّة ، لا ما فهم هو.
المبحث الثاني :
في الفاء
الفاء تقتضي
التعقيب الممكن ، وقد أجمع النحويّون على أنّها تفيد الترتيب بغير مهلة ، وهو معنى
التعقيب.
وقيّدنا بالممكن ،
ليدخل مثل : دخلت بغداد فالبصرة.
وإجماع أهل اللغة
على إفادة التعقيب حجّة.
وأيضا ، لو لم تكن
للتعقيب ، لم تدخل على الجزاء إذا كان بغير لفظ الماضي والمضارع ، ولكنّها تدخل
فيه.
__________________
بيان الشرطية :
أنّ الجزاء لا بدّ وأن يحصل عقيب الشرط.
وبيان وجوب الدخول
: أنّ الجزاء إذا لم يكن بلفظ الماضي والمضارع وجبت الفاء مثل من دخل داري فله
درهم ، فهو مكرم.
وأنكر المبرّد
«من يفعل الحسنات الله يشكرها»
|
|
....................
|
ونقل [انّ الصحيح]
:
من يفعل الخير
فالرّحمن يشكره
|
|
....................
|
وفيه نظر ، لأنّ
قولك : من دخل داري أكرمته ، لا يقتضي وجوب الإكرام عقيب الدّخول بلا فصل ، أقصى
ما في الباب أنّه يقتضي الترتيب ، أمّا التعقيب فلا.
وكذا من دخل داري
فهو مكرم ، لأنّ الفاء انّما اقتضت تجويز الجزاء بالجملة الاسميّة.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قال الله
تعالى : (لا تَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ)
__________________
القائل هو عبد الرحمن بن حسان ، لاحظ «لسان
العرب» : ١ / ٣٢١ (بجل).
والإسحات لا يقع
عقيب الافتراء ، بل يتراخى إلى يوم القيامة ، فقد جاءت لا بمعنى التعقيب.
وقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ
تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) مع أنّ الرهن قد لا يحصل عقيب المداينة.
الثاني : الفاء قد
تدخل على لفظ التعقيب ، ولو كانت الفاء للتعقيب لما صحّ ذلك.
الثالث : التعقيب
يصحّ الإخبار عنه بمجرّد ذكره ، بخلاف الفاء ، فهي مغايرة له.
والجواب عن الأوّل
: بالحمل على المجاز ، ويجب تأويله بأنّ حكم الافتراء ، الإسحات ، وحكم
المداينة ، الرّهن.
أو نقول : لمّا
كان بوعد الله تعالى صدقا كان كالواقع عقيب الإخبار به.
أو نقول : لما حكم
الله تعالى في عدّة مواضع من الكتاب العزيز بقرب الساعة ، حتّى جعلها أقرب من لمح
البصر ، كان ذلك أبلغ معاني التعقيب ، وحيث خرجت آية المداينة مخرج الإرشاد اقتضى
ذلك التّعليم بتعقيب الرهن للدين.
وعن الثاني : أنّه
محمول على التأكيد.
وعن الثالث : أنّه
آت في جميع الحروف ، مع أنّها موضوعة لمعانيها ، والأصل في ذلك أنّ الفاء تدلّ على
التعقيب ، والدليل مغاير للمدلول ، ولا يلزم
__________________
من صحّة الإخبار
عن أحد المتغايرين صحّة الإخبار عن الآخر.
وقد ترد الفاء
بمعنى الواو كقوله :
....................
|
|
... بين الدّخول فحومل
|
المبحث الثالث :
في باقي الحروف
وهي خمسة مسائل :
الأولى : «في»
للظرفية ، إمّا تحقيقا ، مثل زيد في الدار ، وهو حقيقيّ بأن لا يزيد الظرف على
المظروف ، ومجازيّ وهو الّذي يزيد.
وأيضا ، فهو إمّا
طبيعيّ كالهرّ في إهابها ، أو عرضيّ كالإنسان في القميص.
وإمّا تقديرا ،
كقوله تعالى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ
فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) للمشابهة في التمكّن ، فإنّ المصلوب يتمكّن على الجذع ،
تمكّن المتمكّن في مكانه.
وكذا قولنا : زيد
في الصلاة ، وشاكّ في هذه المسألة.
وقال بعض الفقهاء
: إنّها للسببيّة لقوله عليهالسلام : في النفس المؤمنة مائة من الإبل .
__________________
ويضعّف بأنّ أهل
اللغة لم ينقلوه .
الثانية : لفظة «من»
ترد لابتداء الغاية من المكان ، مثل : سرت من الكوفة.
وضعف «من حجّ» و «من
دهر».
وللتبعيض مثل :
خاتم من فضّة.
وللتّبيين مثل : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الْأَوْثانِ).
وزائدة مثل : ما
جاءني من أحد ، وإنّما تزاد بعد النفي.
وقيل : إنّها
للتمييز لا غير ، فإنّ قولك : سرت من الكوفة ، ميّزت مبدأ السير.
وقولك : خاتم من
فضّة ، ميّزت الخاتم بأنّه من فضّة.
وقولك : ما جاءني
من أحد ، ميّزت الشيء الّذي نفيت عنه المجيء.
وفيه نظر ، إذ لا
يلزم من الاشتراك في معنى كليّ ، وضع اللّفظ له ، ولا من وضعه له ، عدم وضعه
للجزئيّات ، وإلّا لزم نفي الاشتراك بين الكلّ وجزئه ، والمرجع في ذلك إلى أهل
اللغة.
الثالثة : «إلى»
لانتهاء الغاية بالنّقل.
وقيل : إنّها مجملة ، لأنّ الفعل يدخل فيما بعدها تارة ، كقوله
تعالى :
__________________
(وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى
الْمَرافِقِ) فإنّ الغاية هنا داخلة ، وتارة تخرج الغاية لقوله تعالى : (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى
اللَّيْلِ).
وهو ضعيف ، لأنّ
الإجمال تابع للوضع وليست «إلى» موضوعة لدخول الغاية تارة وخروجها أخرى على سبيل
الاشتراك ، لامتناع وضع اللفظ للنقيضين.
وفيه نظر ، لما
تقدّم من جوازه ، وإنّما الحقّ في الجواب : أنّ لفظة «إلى» لا إشعار فيها بدخول
الغاية أو خروجها ، وانّما استفيد من خارج ، وهو : أنّ الغاية إن كانت مميّزة عن
ذي الغاية بمفصل حسيّ كاللّيل وجب خروجها ، وإلّا وجب دخولها ، كما في اليد
والمرفق ، إذ ليس بعض المقادير أولى بالإخراج من بعض ، فوجب دخول الجميع.
الرابعة : «الباء»
للإلصاق ، والاستعانة.
وقيل : إذا دخلت
على فعل متعدّ بنفسه ، أفادت التبعيض كقوله تعالى : (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) خلافا للحنفيّة.
وإن دخلت على ما
لا يتعدّى بنفسه ، مثل : كتبت بالقلم ، ومررت بزيد ، لم تفده ، بل الإلصاق.
واحتجّ فخر الدين
الرازي بالفرق بين قولنا : مسحت يدي بالمنديل والحائط ، وبين مسحت المنديل والحائط
، في أنّ الأوّل يفيد التبعيض ، والثّاني يفيد الشّمول.
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
الفعل مع ذكر المفعول الأوّل وهو قولك «يدي» لا يتعدّى بنفسه إلى المنديل ، ولو
حذفت «يدي» وجعلت «المنديل» ممسوحا لا آلة ، منعنا الفرق.
احتجّت الحنفيّة
بأنّ قولنا : مررت بزيد ، وكتبت بالقلم ، وطفت بالبيت ، يعقل منه الإلصاق لا غير.
ولأنّ ابن جنيّ قال : لا يعرف أهل اللغة قول بعضهم : «الباء» للتّبعيض.
والجواب عن الأوّل
: أنّ المرور والكتابة لا يتعدّيان بأنفسهما ، فلهذا لم يفيدا سوى الإلصاق.
وأمّا الطواف ،
فإنّ مفهومه الدّوران حول جميع البيت ، ولا يسمّى من دار حول بعضه طائفا ، فلهذا
لم يفد التبعيض ، بخلاف المسح ، فإنّ من مسح بعض رأسه ، يصدق عليه أنّه ماسح.
وقول ابن جنيّ
شهادة نفي ، لا تقبل.
الخامسة : «إنّما»
للحصر ، خلافا لشذوذ ، لوجوه :
الأوّل : قال أبو
علي الفارسي : إنّ النّحاة أجمعوا عليه ، وصوّبهم [فيه] وقوله حجّة.
__________________
الثاني : قال
الأعشى :
....................
|
|
وإنّما العزّة
للكاثر
|
وقال الفرزدق :
أنا الذّائد
الحامي الذّمار وإنّما
|
|
يدافع عن
أحسابهم أنا أو مثلي
|
ولا يتمّ مقصود
الشاعر إلّا بالحصر.
الثالث : لفظة «إنّ»
موضوعة للإثبات و «ما» للنّفي حالة الانفراد فيبقى الوضع حالة التركيب ، وإلّا لكان التركيب مخرجا
للألفاظ عن معانيها ، وهو باطل قطعا.
ولأنّ الأصل
البقاء على ما كان.
وإذا تقرّر هذا
فنقول : لا يمكن تواردهما على معنى واحد ، وإلّا لزم التناقض ، بل لا بدّ من
محلّين : فإمّا أن يكون الإثبات واردا على غير المذكور ،
__________________
لاحظ ديوانه : ١٩٣.
والنفي على
المذكور ، وهو باطل بالإجماع أو بالعكس ، وهو المراد من الحصر.
احتجّ المخالف
بقوله تعالى : (إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ).
وبالإجماع من ليس
كذلك مؤمن أيضا.
والجواب : أنّه
محمول على المبالغة.
__________________
المقصد الثالث : في كيفيّة الاستدلال
بخطاب الله تعالى على الإجمال
وفيه فصول :
[الفصل] الأوّل :
في الكتاب
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في تعريفه
قال : بعضهم : الكتاب ما نقل إلينا بين دفّتي المصحف من السبعة
المشهورة ، نقلا متواترا.
واعترض : بأنّه لا معنى بالكتاب سوى القرآن المنزل علينا على لسان
جبرئيل عليهالسلام ، وذلك ممّا لا يخرج حقيقته بتقدير عدم تواتره ، بل ولا
بتقدير عدم نقله إلينا بالكلّية.
__________________
غاية ما في الباب
: أنّا جهلنا وجود القرآن بتقدير عدم نقله ، وعدم علمنا بكونه قرانا ، بتقدير عدم
تواتره ، وعلمنا بوجوده غير مأخوذ في حقيقته ، فلا يمكن أخذه في تحديده.
وفيه نظر ، إذ لا
نريد اشتراط النقل المتواتر في حقيقة القرآن ، بل نريد به أنّ الّذي نقل نقلا
متواترا أنّه قران على سبيل التعريف الرسمي.
وقيل : هو القرآن
المنزل.
فقولنا : القرآن ،
احتراز عن سائر الكتب المنزلة ، كالتوراة ، والإنجيل ، فإنّها وإن كانت كتبا لله
تعالى ، إلّا أنّها ليست الكتاب المعهود لنا عند الإطلاق ، الّذي يحتجّ به في
شراعنا على الأحكام الشرعيّة الدينيّة.
وخرج به أيضا ما
أنزل من الوحي على النبيّ صلىاللهعليهوآله ممّا ليس بمتلوّ ، فإنّه ليس بكتاب.
وقيل : هو الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه.
المبحث الثاني :
في اشتراط التواتر في آحاده
اتّفقوا على أنّ
ما نقل إلينا نقلا متواترا من القرآن فهو حجّة ، واختلفوا فيما نقل إلينا [منه]
آحادا ، كمصحف ابن مسعود وغيره ، هل يكون حجّة أم لا.
__________________
فنفاه الشافعي.
وقال أبو حنيفة : إنّه حجّة ، وعليه
بنى وجوب التتابع في صيام كفّارة اليمين ، حيث نقل ابن مسعود في مصحفه قوله : «فصيام
ثلاثة أيّام متتابعات».
والحقّ الأوّل ،
لنا :
أنّ العادة تقضي
بالتّواتر في تفاصيل مثله.
ولأنّه نقله قرانا
، ونقله قرانا ، خطأ ، فلا يكون حجّة.
أمّا المقدمة الأولى
، فتقديريّة.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ النبي صلىاللهعليهوآله كان مكلّفا بإشاعة ما نزل عليه من القرآن إلى عدد التواتر
، ليحصل القطع بنبوّته فإنّه المعجزة له ، وحينئذ لا يمكن التوافق على عدم نقل ما
سمعوه منه.
والراوي الواحد إن
ذكره على أنّه قران ، فهو خطأ ، وإن لم يذكره على أنّه قران ، كان متردّدا بين أن
يكون خبرا عن النبي صلىاللهعليهوآله ، ومذهبا له ، فلا يكون حجّة.
فإن قيل : لا
نسلّم وجوب الإشاعة إلى حدّ التواتر ، ومعلوم خلافه ، فإنّ حفّاظ القرآن في زمانه
، كانوا نفرا يسيرا لم يبلغوا حدّ التواتر ، وجمعه إنّما كان بتلقّي آحاد الآيات
من آحاد الناس ، ولهذا اختلفت مصاحف الصّحابة.
__________________
ولو كان الناقلون
قد بلغوا حدّ التواتر لم يكن كذلك ، و [لهذا] اختلفوا في البسملة أنّها من
القرآن أو لا.
وأنكر ابن مسعود
كون الفاتحة من القرآن ، وكذا أنكر المعوذّتين.
سلّمنا ، لكن
إنّما يمتنع السّكوت عن نقله على الكلّ ، لأنّهم معصومون عن الخطأ ، أمّا بالنسبة
إلى البعض فلا.
وإذا كان مثل ابن
مسعود قد روى ما نقله ، لم يحصل اتّفاق الكلّ على الخطأ بالسكوت ، فيتعيّن حينئذ
حمل روايته على أنّه من القرآن ، فإنّ الظاهر من حاله الصّدق ، ولم يوجد ما
يعارضه.
غايته : أنّه غير
مجمع على العمل به ، لعدم تواتره ، وإن لم يصرّح بكونه قرانا ، أمكن أن يكون من
القرآن ، وأمكن أن يكون خبرا عن النبي صلىاللهعليهوآله ، وأمكن أن يكون مذهبا [له] ، وهو حجّة بتقديرين ، وليس
حجّة بتقدير واحد ، ووقوع احتمال من احتمالين ، أغلب من وقوع احتمال واحد بعينه.
سلّمنا أنّه ليس
بقران ، لكن احتمال كونه خبرا أرجح ، فإنّ روايته له توهم الاحتجاج به ، ولو كان
مذهبا [له] لأظهره ، إزالة للتلبيس ، خصوصا مع الخلاف في أنّ مذهب الصحابي حجّة
أولا.
والجواب : الإجماع
دلّ على وجوب إلقائه على عدد التواتر ، فإنّه المعجزة الدالّة على صدقه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلو لم يبلغه إلى حدّ التواتر انقطعت معجزته ، فلا يبقى
هناك حجّة على نبوّته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ونمنع عدم تواتر الحفّاظ في زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم.
__________________
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من عدم بلوغ حفّاظ جملة القرآن عدد التّواتر في زمانه صلىاللهعليهوآلهوسلم ، عدم بلوغ الحفّاظ لآحاده ، فجاز أن يكون آحاده متواترة
وإن لم يبلغ الحفّاظ لجملته عدد التواتر ، بأن تتواتر جماعة على نقل بعضه ، ثمّ
تتواتر جماعة أخرى على نقل بعض آخر ، وهكذا.
وتوقّف الجميع على
نقل الآحاد ليس بوارد ، لأنّه لم يكن في كونها قرانا بل في تقديمها وتأخيرها ،
وطولها وقصرها.
وأمّا اختلاف
المصاحف ، فكلّ ما هو من الآحاد فليس بقران ، وما هو متواتر ، فهو قران.
ونحوه الشّبهة في
التسمية ، لا في كونها قرانا ، بل في وضعها في أوّل كلّ سورة.
وإنكار ابن مسعود
للفاتحة والمعوّذتين ، لم يكن في إنزالها ، بل في إجرائها مجرى القرآن في حكمه.
قوله : إذا رواه
ابن مسعود لم يتّفقوا على الخطأ.
قلنا : مسلّم ،
لكن لا تقوم الحجّة به في كونه قرانا ، كيف وأنّ سكوت من سكت ، وإن لم يكن ممتنعا
، إلّا أنّه حرام ، لوجوب نقله عليه ، فلو كان ما تفرّد به ابن مسعود قرانا ، لزم
ارتكاب باقي الصحابة الخطأ ، حيث لم ينقلوه ، ولم يوصلوه إلى عدد التواتر.
ولو قلنا : إنّه
ليس بقران ، لم يقع الرّاوي ولا غيره من الصحابة في الخطأ.
ولو سلّمنا ارتكاب
ابن مسعود على الخطأ ، كان أولى من ارتكاب
باقي الجماعة ،
فبطل قولهم بظهور صدقه فيما نقله من غير معارض ، وتعيّن تردّده بين الخبر والمذهب.
قوله : «الخبر
أرجح».
قلنا : الإجماع
على أنّ كلّ خبر لم يصرّح فيه بكونه خبرا عن النبي صلىاللهعليهوآله ليس بحجّة ، وما نحن فيه كذلك ، بل الأولى الحمل على
المذهب ، لأنّه قد اختلف في كونه حجّة أم لا ، أمّا الخبر الّذي لم يصرّح فيه
بالخبريّة ، فإنّه ليس حجّة بالاتّفاق.
وأيضا فإنّه يوافق
النفي الأصليّ ، وبراءة الذّمة ، فيكون أولى.
المبحث الثالث :
في البسملة
اتّفق المسلمون
على أنّ البسملة بعض آية في سورة النمل ، واختلفوا في كونها آية من كلّ سورة في
القرآن ، فنقل عن الشّافعي قولان ، واختلف أصحابه في حملهما ، فقال بعضهم : إنّ
القولين محمولان على أنّها هل هي من القرآن في أوّل كلّ سورة حيث كتبت مع القرآن
بخطّ القرآن أم لا.
وقال آخرون :
إنّهما محمولان على أنّها هل هي آية برأسها في أوّل سورة ، أو هي بعض آية ، وأنّها
مع أوّل آية من كلّ سورة آية ، وهو الأصحّ.
وذهب القاضي أبو
بكر وجماعة من الأصوليين إلى أنّها ليست من القرآن في غير سورة النمل ، وحكم بخطإ
من قال : إنّها آية من القرآن في غير
__________________
سورة النمل من غير
تكفير ، لعدم النّصّ القاطع بإنكار ذلك.
وذهبت الإماميّة
أجمع إلى أنّها آية من كلّ سورة.
لنا : أنّها منزلة
على النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مع أوّل كلّ سورة ، ولهذا قال ابن عباس : كان رسول الله صلىاللهعليهوآله لا يعرف ختم سورة وابتداء أخرى حتّى ينزل جبرئيل عليهالسلام ببسم الله الرّحمن
الرّحيم ، فيكون من القرآن
حيث أنزلت.
وأيضا أنّها كانت
تكتب بخطّ القرآن في أوّل كلّ سورة بأمر النبي صلىاللهعليهوآله ، ولم ينكر أحد من الصحابة على كاتبها بخطّ القرآن مع شدّة
تحرّزهم ، وتحفّظهم في صيانة القرآن عن الزيادة والنقصان ، حتّى أنكروا على من
أثبت أوائل السّور والتّعشير والنقط وإن لم يكن بخطّ القرآن ، وذلك يقتضي اتّفاقهم
على أنّها من القرآن.
وأيضا قال ابن
عباس : سرق الشيطان من الناس آية من القرآن ، إلى أن ترك بعضهم قراءة التسمية في أوّل كلّ سورة.
وقال أيضا
: من ترك «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقد ترك مائة وثلاثة عشر آية ، ولم ينكر عليه ، فدلّ على أنّها من القرآن.
احتجّوا بأنّها لو
كانت قرانا ، لم يخل إمّا أن يشترط القطع في إثباتها ، أو لا يشترط.
فإن كان الأوّل
فما ذكرتموه من الوجوه الدالّة غير قطعيّة بل ظنّية ، فلا تصلح للإثبات.
__________________
وأيضا كان يجب على
النبي صلىاللهعليهوآله إظهار كونها من القرآن حيث كتبت معه شائعا ، قاطعا للشكّ ،
كما فعل في سائر الآيات.
وإن كان الثاني ،
فليثبت التتابع في صوم اليمين بما نقله ابن مسعود في مصحفه.
والجواب : لا خلاف
في كونها من القرآن ، وإنّما اختلف في وضعها آية في أوائل السّور ، ولا يشترط فيه
القطع ، ولهذا لم يكفّر أحد الخصمين صاحبه ، كما وقع في عدد الآيات ومقاديرها.
ولو لم تكن من
القرآن لوجب على النبي صلىاللهعليهوآله إظهار ذلك وإبانته شائعا ، قاطعا للشكّ ، كما فعل في
التعوّذ.
بل وجوب الإظهار
هنا أولى ، حيث كتبت بخطّ القرآن في أوّل كلّ سورة ، فإنّ ذلك ممّا يوهم أنّها من
القرآن ، مع علم النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك ، وقدرته على البيان ، بخلاف التعوّذ.
لا يقال : كلّ ما
هو من القرآن فإنّه منحصر يمكن بيانه ، بخلاف ما ليس من القرآن ، فإنّه غير منحصر
فلا يمكن بيانه ، فلهذا أوجبنا بيان ما هو من القرآن ، ولم نوجب بيان ما ليس منه.
لأنّا نقول : نحن
لم نوجب بيان كلّ ما ليس من القرآن ، بل إنّما نوجب بيان ما يشتبه أنّه من القرآن
وليس منه ، كالتسمية ، وهي أمر واحد منحصر. .
والحق أن نقول :
إنّها نقلت نقلا متواترا في أوّل كلّ سورة بخطّ القرآن من
__________________
غير شكّ ،
والتكرار لا يخرج المكرّر عن كونه قرانا ، ولا الشكّ فيه ، وإلّا لزم الشكّ في مثل
(وَيْلٌ) و (فَبِأَيِ).
وإذا كان كذلك وجب
الحكم بكونها قرانا كغيرها من الآيات.
وأمّا ما اعتذر به
أوّلا فليس بجيّد ، إذ لو لم يشترط التواتر في المحلّ بعد ثبوت مثله ، لجاز ثبوت
كثير من القرآن المكرّر ، وجواز إثبات ما ليس بقران.
لا يقال : إنّه
يجوز ، ولكن اتّفق تواتر ذلك.
لأنّا نقول : لو
قطع النظر عن ذلك الأصل لم يقطع بانتفاء السقوط ، ونحن نقطع بأنّه لا يجوز.
ولأنّه يلزم جواز
ذلك في المستقبل ، وهو باطل قطعا ، فإذن الحقّ ما قلناه ، من تواترها آية في أوّل
كلّ سورة.
المبحث الرابع :
في تواتر القراءات السبع
لنا : لو لم تكن
متواترة لخرج بعض القرآن عن كونه متواترا ك (مالِكِ) و (مُلْكِ) وأشباههما ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّهما وردا عن القرّاء السبعة ، وليس تواتر أحدهما أولى من تواتر الآخر ، فإمّا
أن يكونا متواترين ، وهو المطلوب ، أو لا يكون شيء منهما بمتواتر وهو باطل ، وإلّا
يخرج عن كونه قرانا ، هذا خلف.
__________________
الفصل الثاني :
في أحكام خطابه تعالى
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في أنّه يستحيل أن يخاطب الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم بشيء ولا يعني به شيئا
اتّفق الناس على
أنّه لا يجوز اشتمال القرآن وكلام الرّسول صلىاللهعليهوآله على ما لا معنى له إلّا الحشوية ، فإنّهم جوّزوا ذلك.
لنا : أنّ الكلام
بما لا يفيد شيئا نقص ، والله تعالى يستحيل عليه النقص.
ولأنّه تعالى وصف
القرآن بكونه هدى وشفاء وبيانا ، ولا يحصل ذلك إلّا مع القصد والإرادة.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : ورد في
القرآن مثل : (كهيعص) و (حم) و (الم) وغير ذلك ، وهي غير مفهومة المعنى ، وقوله (كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ)(تِلْكَ
__________________
عَشَرَةٌ
كامِلَةٌ)(نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)(لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ). فقوله (اثْنَيْنِ) لا يفيد شيئا.
الثاني : يجب
الوقف على قوله (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) وذلك يستلزم الخطاب بما لا يعلم.
أمّا مقدمة الأولى
، فلأنّه لولاه لاشترك المعطوف والمعطوف عليه في قوله : (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ رَبِّنا) فيصير التقدير : أنّ الله تعالى يقول : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا).
وذلك محال في حقّه
تعالى ، فلا تكون «الواو» هنا للعطف ، بل للابتداء ، فحينئذ ينحصر علم التأويل في
الله تعالى ، فالمتشابهات لا نعلمها ، وقد خوطبنا بها.
الثالث : خاطب [الله]
الفرس بلسان العرب ، وهم لا يفهمونه ، فجاز مطلقا.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الحروف إمّا أسماء السور ، أو موضوعة لمعان ذكرها المفسّرون.
والتمثيل برءوس
الشياطين ، القصد به التمثيل بالمستقبح ، وقد كانت العرب تستقبح ذلك ، فضرب بهم
المثل.
وقوله (عَشَرَةٌ كامِلَةٌ) و (نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) وغيرهما يراد به التأكيد ، وهو أمر معلوم مفيد لتقوية
المعنى.
وعن الثاني : لا
استبعاد في إرادة العطف ، وتخصيص الحال ببعض ما تقدّم ، فإنّه لا بعد في تخصيص
العام بدليل عقليّ.
وعن الثالث : أنّ
الفرس متمكّنون من فهم الخطاب بالتعبير ، بخلاف ما لا يفهم منه البتّة.
__________________
واعلم أنّ هذه
المسألة إنّما تتمشّى على قواعد المعتزلة القائلين بالحسن والقبح العقليّين ،
ويلزم الأشاعرة موافقة الحشويّة وإن لم يصرّحوا به.
المبحث الثاني :
في أنّه تعالى
يستحيل أن يخاطب بما يدلّ ظاهره على غير المقصود من غير قرينة
اتّفق الناس على
ذلك إلّا المرجئة .
لنا : أنّه قبيح ،
لاشتماله إمّا على الإغراء بالجهل أو تكليف ما لا يطاق ، فاللازم باطل والملزوم
مثله.
بيان الملازمة :
أنّه قصد إفهامنا ، وإلّا كان عبثا ، فأمّا أن يقصد فهم ظاهره ، وهو إغراء بالجهل
، إذ ليس ذلك مقصوده ، أو فهم غير ظاهره ، وذلك يستلزم تكليف ما لا يطاق ، إذ
يمتنع فهم غير الظاهر من اللّفظ من دون القرينة ، وإلّا كان هو الظاهر.
وأيضا اللّفظ
الخالي عن البيان ، يكون بالنسبة إلى غير ظاهره مهملا ،
__________________
وقد بيّنا أنّ
التكلم بالمهمل ممتنع على الله تعالى.
لا يقال : إن عنيت
بالمهمل ما لا فائدة فيه البتّة ، فلا نسلّم أنّ الأمر كذلك ، فإنّه [تعالى] لو
تكلّم بما يقتضي ظاهره التوعّد ولا يكون قاصدا له ، يحصل منه فائدة التخويف
للمكلّف ، فينقاد لأمره تعالى ، ويمتنع من الإقدام على ما ينهى عنه.
وإن عنيت أنّه لم
تحصل فائدة الإفهام ، سلّمنا ذلك ، لكن لم قلت : إنّه غير جائز على الله تعالى؟
فإنّ ذلك هو أوّل المسألة.
لأنّا نقول : قد
بيّنا امتناع حصول فائدة الإفهام والانقياد ، والامتناع عن الإقدام فرع قصد
الإفهام.
وأيضا لو فتحنا
هذا الباب لم يبق اعتماد على شيء من خبره تعالى ولا من خبر رسوله صلىاللهعليهوآله ، إذ لا خبر إلّا ويحتمل أن يكون المقصود منه غير المفهوم
، وهو معلوم البطلان.
واعلم أنّ هذه
المسألة أيضا لا تتمشّى على قواعد الأشاعرة ، حيث نفوا الحسن والقبح العقليّين ،
بل على قواعد المعتزلة.
احتجّت المرجئة بالآيات
المتشابهة ، والدالّة على اليد ، واليمين ، والوجه ، والرّوح ، ومكر الله ،
والاستواء على العرش ، وغير ذلك ، فإنّها لا يراد منها ما فهم عنها من ظواهرها ،
بل ما ليس بمعلوم عندنا.
والجواب : أنّ
الآيات المتشابهة لها تأويلات ظاهرة عند أهل التفسير ، فلا يكون خطابا بغير
المفهوم.
__________________
المبحث الثالث :
في أنّ الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة قد تكون قطعيّة
نازع في ذلك جماعة
، وزعموا أنّ الأدلّة اللّفظية كلّها ظنيّة ، واحتجّوا على ذلك بأنّه يتوقف على
مقدّمات كلّها ظنيّة ، والموقوف على الظنّيّ أولى أن يكون ظنيّا.
بيان المقدّمة
الأولى : أنّه يتوقف على مقدّمات عشر ظنيّة ، فتكون ظنيّة.
المقدّمة الأولى :
نقل اللّغة ، والنحو ، والتصريف ، في أمور ظنّية ، إذ المرجع في ذلك إلى أهل
اللّغة ، وقد وقع الإجماع على انتفاء عصمتهم وعدم تواترهم ، فجاز عليهم الخطأ
والغلط والتّصحيف ، وقد غلط بعضهم بعضا في مواضع متعدّدة.
والمرجع في النحو
والتصريف إلى أشعار القدماء ، لكنّ التمسك بتلك الأشعار ، يتوقف على مقدّمتين
ظنّيتين :
إحداهما : أنّ
رواتها آحاد ، والآحاد لا تفيد العلم.
وأيضا ، فإنّها
مرسلة ، والمرسل مردود عند الأكثر.
الثانية : سلّمنا
أنّه صحّ النقل عن ذلك الشاعر ، لكن جاز أن يلحن ويغلط.
أقصى ما في الباب
: أنّه عربيّ قد يلحن.
ولهذا ، فإنّ
جماعة من الأدباء حكموا بلحن أكابر شعراء الجاهليّة ، وإذا كانوا قد حكموا بلحنهم
تقدح امتنع الوثوق بقولهم.
لا يقال : هذه
الأغلاط نادرة ، فلا تقدح.
لأنّا نقول :
مسلّم أنّها لا تقدح في الظنّ ، لكن تقدح في اليقين قطعا ، لتطرّق الاحتمال في كلّ
واحد من الألفاظ والإعرابات أنّه ذلك اللّحن النادر ، فيرتفع اليقين.
المقدمة الثانية :
عدم الاشتراك ، إذ بتقديره يجوز أن يكون المراد من هذا الكلام غير ما فهم عنه ،
وهو ذلك المعنى ، ولا شك في أنّ عدم الاشتراك ظنّي ، إذ طريقه الرجوع إلى الأصل ،
وليس ذلك قطعيّا.
[المقدّمة]
الثالثة : عدم المجاز ، فإنّ بتقدير أن يريد الله تعالى بلفظه مجازه لا يريد
حقيقته ، فحمله على الحقيقة لا يتعيّن إلّا بتقدير عدم المجاز ، ولا شكّ في أنّ
عدم المجاز ظنّيّ ، وهو أنّ الأصل عدمه.
[المقدّمة]
الرابعة : عدم النقل ، إذ بتقدير أن يكون الشارع قد نقل اللّفظ عن معناه إلى معنى
آخر ، لم يبق الوثوق بإرادة المنقول عنه ، دون المنقول إليه ، فلا يتعيّن المعنى
الموضوع له إلّا بتقدير عدم النقل ، لكن عدم النقل ظنّيّ لا قطعيّ.
[المقدّمة]
الخامسة : عدم الإضمار ، إذ بتقديره لا يبقى اللّفظ مفيدا للظّاهر ، بل لذلك
المضمر ، فلا يتعيّن الحمل على الظاهر إلّا بعد العلم بانتفاء الإضمار ، وانتفاء
الإضمار ظنّيّ لا قطعيّ.
[المقدّمة] السادسة
: عدم التخصيص ، فإنّ العامّ إنّما يحمل على عمومه لو لم يكن مخصوصا ، لكن عدم
المخصّص ظنيّ لا قطعيّ.
[المقدّمة]
السّابعة : عدم النّاسخ ، فإنّ التعبّد إنّما يثبت بالدليل النقلي لو لم يكن
منسوخا ، إذ بتقدير نسخه يبطل حكمه ، لكن عدم الناسخ ظنّيّ لا قطعيّ.
[المقدّمة]
الثامنة : عدم التقديم والتأخير ، إذ بتقديره يتعيّن المعنى المعيّن المدلول عليه
باللّفظ ، فلا تتعيّن إرادة الظاهر إلّا مع العلم بانتفاء التقديم والتأخير ، وذلك
غير حاصل ، أقصى ما في الباب ظنّ انتفائه.
[المقدّمة]
التاسعة : عدم المعارض النقليّ الراجح عليه ، إذ مع وجود ما يعارضه من الأدلّة
النقليّة الراجحة عليه ، لا يجب المصير إليه ، فتعيّن العمل به إنّما يتمّ بنفي
المعارض الراجح ، لكن نفيه ظنيّ ، فإنّ عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود.
[المقدّمة]
العاشرة : عدم المعارض العقليّ ، إذ لو دلّ على نقضه دليل عقليّ لتعيّن المصير
إليه ، وتأويل النقليّ ، لما عرفت من أنّ العقليّ لا يعارضه النقليّ ، إذ لو
تعارضا لامتنع العمل بهما وتركهما ، لاستحالة الخلوّ عن النقيضين والجمع بينهما.
ويستحيل العمل
بالنقل ، إذ إبطال العقليّ يستلزم إبطال فرعه ، وهو النقليّ ، فلو رجّح النّقليّ
لزم إبطال الدليلين معا ، فلم يبق إلّا العمل بالعقليّ وتأويل النقليّ ، لكن عدم المعارض العقليّ ظنّيّ لا قطعيّ.
فعلم انّ الدّليل
النقليّ فرع هذه الأمور العشرة ، وهذه ظنيّة ، فيكون أولى بالظنيّة.
لا يقال : إذا
سمعنا دليلا نقليّا ، فلو كان فيه شيء من هذه المفاسد ، لوجب على الله تعالى
إظهاره.
__________________
لأنّا نقول : لا
نسلّم وجوب ذلك ، وظاهر أنّه ليس كذلك ، فإنّ كثيرا من العلماء يسمع آية أو حديثا
ولا يعلم ما اشتمل عليه من اللّغة ، والنحو ، والتصريف ، وغير ذلك.
والجواب : أنّ
محكمات القرآن مثل (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) وغيره يعلم أنّ المراد منها ظاهرها ، وأنّ هذه المطاعن
منتفية عنها علما قطعيّا ، فيكون مثل تلك تفيد اليقين.
المبحث الرابع :
في كيفيّة الاستدلال بالخطاب
اعلم أنّ اللّفظ
قد تقصر دلالته على معناه فيفتقر إلى ضمّ شيء آخر إليه ، لتتمّ دلالته على معناه ،
وقد يستغني عن تلك الضميمة.
ثمّ إمّا أن يدلّ
على الحكم بلفظه أو بمعناه ، فالأقسام ثلاثة :
[القسم] الأوّل :
ما يدلّ على الحكم بلفظه.
اعلم أنّ اللفظ
إذا أطلق وجب حمله على حقيقته ما لم يقم مانع يمنع منه ، ولمّا انقسمت الحقيقة إلى
اللّغوية ، والشرعيّة ، والعرفيّة ، انقسم اللّفظ إلى ما لا يوجد فيه سوى واحد
منها وهي اللّغوية ، وإلى ما يوجد فيه أكثر.
فالأوّل : يجب
الحمل عليه ، إذ لم يوجد مغيّر من قبل الشرع ولا من قبل العرف.
__________________
وأمّا الثاني :
فنقول : إذا كان اللّفظ في اللّغة موضوعا لمعنى واحد ، وفي العرف قد استعمل في
غيره ، فإمّا أن يخرج بالعرف عن حقيقته اللغويّة أو لا.
فإن خرج حتّى صار
مجازا في المعنى اللّغوي ، وجب الحمل على العرفي ، لأنّه المتبادر إلى الفهم
والظاهر من اللفظ .
وإن لم يخرج كان
مشتركا بينهما ، ويجب مثل هذا في الاسم المنقول إلى معنى شرعيّ.
فإذا ورد من الشرع
خطاب قد استعمل في اللغة لمعنى ، وفي العرف لآخر ، وفي الشرع لثالث ، وجب حمله على
الحقيقة الشرعيّة.
فإن لم يكن له
حقيقة شرعيّة وجب حمله على الحقيقة العرفيّة.
فإن انتفت فعلى
الحقيقة اللغويّة.
فان انتفت أو
تعذّر استعمالها فعلى المجاز اللغوي.
فإن خاطب الله
تعالى طائفتين بخطاب وكان عند إحداهما حقيقة في معنى ، وعند آخرين في آخر ، وجب أن
يحمل كلّ واحد منهما على ما تتعارفه ، أو توجد قرينة تعيّن المراد ، وإلّا لكان
مخاطبا بغير ما هو ظاهر عنده مع عدم القرينة ، وقد تقدّم بطلانه.
القسم الثاني : ما
يدلّ عليه بمعناه ، وهي الدلالة الالتزاميّة ، وقد سبقت.
[القسم] الثالث :
ما يتوقّف في الدّلالة على الضميمة ، بأن يكون بحيث لو ضمّ إليه شيء آخر ، صار
المجموع دليلا على الحكم ، وأقسامه أربعة :
__________________
الأوّل : أن ينضمّ
إلى النصّ نصّ آخر فيصير المجموع دليلا على الحكم.
إمّا بأن يدلّ
أحدهما على مقدّمة والآخر على الثانية ، مثل تارك المأمور به عاص ، لقوله [تعالى]
: (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) والعاصي يستحقّ العقاب لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ).
أو بأن يدلّ
أحدهما على ثبوت حكم لشيئين ، والآخر على أنّ بعضه لأحدهما ، فيثبت الباقي للثاني
، مثل (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) مع قوله (يُرْضِعْنَ
أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) فيبقى الباقي مدّة الحمل.
الثاني : أن ينضمّ
إلى النصّ إجماع ، كما إذا دلّ النّص على أنّ الخال يرث ، ودلّ الإجماع على مساواة
الخالة ، فيجب القطع بأنّها ترث.
الثالث : أن ينضمّ
إليه قياس ، كما دلّ النصّ على تحريم الرّبا في البرّ ، ودلّ القياس على مساواة
التّفاح له عند القائل بالقياس مطلقا وعندنا مع نصّ العلّة لقوله : «انتقص إذا جفّ».
الرابع : أن ينضمّ
إليه شهادة حال المتكلّم ، كما إذا كان كلام الشارع متردّدا بين الحكم العقليّ
والشرعيّ ، فحمله على الشرعيّ أولى ، لأنّه بعث لتعريف الأمور الشرعيّة لا
العقليّة.
هذا مع تردّد
الخطاب بينهما ، ولو ظهر في أحدهما لم يصحّ التّرجيح.
__________________
المبحث الخامس :
في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره
قد بيّنا أنّه يجب
الحمل على الظاهر مع التجرّد عن القرائن ، فإن دلّ دليل على امتناع الحمل على
ظاهره ، وجب العدول عنه ، ولا يجوز القول بإهماله ، بل لا بدّ أن يراد به معنى ما
لما تقدّم من استحالة أن يخاطب الحكيم بما لا مفهوم له ، وحينئذ نقول :
الخطاب إمّا أن
يكون خاصّا أو عامّا ، فإن كان خاصّا وكان حقيقة في شيء ، ثمّ وجد ما يصرفه عنه ،
فلا يخلو :
إمّا أن يدلّ ذلك
الموجود على أنّ المراد ليس هو الظّاهر ، أو على أنّ غير الظاهر مراد ، أو على أنّ
الظّاهر من الخطاب وغير الظاهر مرادان.
فإن كان الأوّل
خرج الظاهر عن الإرادة ، فيجب حمله على المجاز ، فإن اتّحد وجب الحمل عليه من غير
قرينة أخرى ، وإلّا لزم الإلغاء.
وإن تعدّد فإن دلّ
دليل على إرادة معيّن منها وجب المصير إليه ، وإن دلّ على أنّه غير مراد ، فإن لم
يبق إلّا وجه واحد حمل عليه ، وإلّا فإمّا أن تكون وجوه المجاز غير محصورة ، فعند
القاضي عبد الجبار يجب نصب دليل على المراد ، لامتناع إرادتها أجمع ، مع تعذّر
انحصارها علينا .
واعترض أبو الحسين
باحتمال إرادة الجميع على البدل ، فإنّه ممكن
__________________
مع فقد دلالة
التعيين ومع عدم الحصر ، وأنّه تعالى لو أوجب علينا ذبح بقرة كنّا مخيّرين فى أيّة
بقرة شئنا.
أمّا من لا يجيز
إرادة المعنيين المختلفين فما زاد من اللفظة الواحدة فيجب عنده إقامة دليل على
المراد ، لأنّ اللّفظ لم يوضع على التخيير.
وإن انحصرت وجوه
المجاز ، فإن كان البعض أقوى من الباقي حمل على الأقوى مراعاة لجانب القوّة ، وإن
تساوت حمل اللّفظ عليها بأسرها على البدل.
أمّا على الجميع ،
فلعدم أولويّة البعض بالإرادة.
وأمّا البدليّة ،
فلعدم عموم الخطاب حتّى يحمل على الجميع.
هذا عند من يجوّز
استعمال المشترك في مفهوميه ، ومن منع يقول : لا بدّ من البيان.
وإن كان الثاني ،
وهو أن يدلّ على ان غير الظاهر مراد ، فإن عيّنه الدّليل حمل عليه ، وإلّا
فكالأوّل.
وإن كان الثالث ،
وهو أن يدلّ على إرادة الظاهر وغيره فلا بدّ من إمكان الجمع بينهما ، وحينئذ إن
تعيّن ذلك الغير وجب الحمل على المجموع ، ويكون اللفظ موضوعا لهما إمّا لغة أو
شرعا أو قد تكلّم بالكلمة الواحدة مرّتين.
وإن لم يتعيّن ذلك
الغير فكالأوّل.
وإن كان [الخطاب]
عامّا حمل على العموم مع التجرّد ، وإن لم يتجرّد فإن دلّت القرينة على أنّ المراد
ظاهره وغير ظاهره ، وتعيّن ذلك الغير ، حمل اللّفظ عليه ، على ما تقدّم من التفصيل
، وإن لم يكن معيّنا ، فالكلام فيه كما في
الخاصّ إذا دلّ
الدّليل على أنّ المراد غير ظاهره.
وإن دلّت على أنّ
المراد ليس ظاهره ، أو على أنّ المراد غير ظاهره ، فلا بدّ من دليل على التعيين ،
لأنّه إذا لم يكن ظاهره مرادا ، جاز أن يكون المراد بعض ما يتناوله ، أو شيئا لم
يتناوله ، فلا يصحّ الجمع ، فلا بدّ من دليل التعيين.
وإن دلّت على أنّ
بعضه مراد ، لم يقتض خروج البعض الآخر عن الإرادة ، لعدم التنافي.
وإن دلّت على أنّ
المراد هو البعض الآخر ، خرج الأوّل عن الإرادة ، للدّلالة على أنّ الآخر هو كمال
المراد.
وإن دلّت على أنّ
بعضه ليس بمراد ، خرج عن الإرادة ، وبقي ما عداه مرادا.
المبحث السّادس :
في أنّ ثبوت حكم الخطاب إذا تناوله
مجازا ، لا يدلّ على أنّه مراد بالخطاب
ذهب الكرخي وأبو عبد الله البصري إلى وجوب ذلك.
ونفاه الباقون ،
وهو الحقّ.
مثاله : قوله
تعالى : (أَوْ لامَسْتُمُ
النِّساءَ) فإنّ الدّليل قائم على وجوب
__________________
التيمّم على
المجامع ، الّذي يتناوله اسم «الملامسة» بالمجاز من حيث الكناية ، ولا يدلّ على
أنّه هو المراد بالآية.
لنا : أنّ المقتضي
لإجراء الآية على ظاهرها موجود ، والمانع لا يصلح للمانعيّة فيجب الإجراء.
أمّا المقتضي
فظاهر.
وأمّا المانع وهو
ثبوت حكم الخطاب فيما تناوله مجازا ، فإنّه لا يصلح للمانعيّة ، لاحتمال ثبوته
بدليل آخر.
احتجّوا بأنّ ثبوت
الحكم في صورة المجاز يفتقر إلى دليل ، ولا دليل سوى هذا الظاهر ، وإلّا لنقل.
وإذا حمل [الظاهر]
على المجاز ، انتفى الحمل على الحقيقة ، لامتناع استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه
معا.
والجواب : المنع
من نفي الدّليل ، وعدم النقل للاستغناء بالإجماع عن نقله.
تذنيبات
الأوّل : لمّا كان اللّفظ لا يفيد بجنسه ، إذ يوجد في المهمل كوجوده
في المستعمل ، فلا بدّ من أمر باعتباره يفيد ، وهو الإرادة.
ولا يكفي الوضع في
الخطاب ، وإلّا لساوى كلام الساهي والنائم كلام القاصد.
ثمّ الإرادة الّتي
لكونها خطابا ، يحتاج إليها في سائر ضروب الخطاب (لأنّ هنا إرادتين :
إحداهما : إرادة
للخطاب نفسه ، وهي عامّة.
والاخرى : إرادة
لما يفيده الخطاب ، فهي مختصّة بالأمر ، كإرادة الصلاة من قوله : «أقيموا الصّلاة»
).
والّتي تتناول ما
يفيده الخطاب ، تتناول الأمر ، ولا يجب في الخبر.
ولمّا كانت إرادته
تعالى لا تعرف من كلامه إلّا بالاستدلال ، اشترط في الاستدلال بكلامه على ما أراده
أمور :
منها : أن يكون قد
أراد بخطابه أمرا ما.
ومنها : ألا يقع
كلامه على وجه قبح من كذب وغيره.
ومنها : ألا يعمّي
علينا مراده ، بل يريد ما وضع الكلام له ، فإن أراد غيره بيّنه ، إذ مع تجويز
عدم أحدها يتعذّر الاستدلال بكلامه على مراده.
ولهذا لم يصحّ من
الحشويّة الاستدلال بشيء من القرآن ، حيث قالوا : لا نعلم معناه إلّا بتفسير من
النبي صلىاللهعليهوآله.
ومن العجب أنّهم
يرجعون في التفسير إلى أخبار آحاد ، وإلى تفسير الضّحاك وأمثاله ، ويتركون ظاهر
الكتاب العزيز.
__________________
ولم يصحّ من
المجبّرة الاستدلال بشيء من القرآن ، لأنّهم لا يؤمنون أن تكون أخباره كذبا ،
وأمره أمرا بباطل ، ونهيه نهيا عن حقّ.
ولم يصحّ من
المرجئة الاستدلال بخطابه ، حيث قالوا : إنّ الله تعالى أراد بقوله (فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ) إن جازيته ، ولم يدلّنا على ذلك ، إذ لا يؤمن بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) أن يكون قد شرطه بإرادتنا ولم يبيّنه.
الثاني : يشترط في الاستدلال بخطاب الرسول صلىاللهعليهوآله ألا يجوز أن يكتم بعض ما أمر بتبليغه ، وألا يكذّب فيما
يؤدّيه عن الله سبحانه ، وألا يؤدّي على وجه يقتضي التنفير عن خطابه ، إذ مع
التنفير لا يحصل الغرض ، فإنّ العبد حينئذ ينفر عن النظر فيما أدّاه.
الثالث : لمّا كان الإجماع حجّة على ما يأتي ، وهو قول الأمّة ، وجب
أن يشترط في خطابهم ما شرطناه في خطاب الرّسول صلىاللهعليهوآله إلا التّنفير ، لتعذّره منهم على كثرتهم ، إذ التنفير يقع
بكلام على وجه ، ويتعذّر اتّفاقهم على ذلك القول على ذلك الوجه.
الرابع : الخطاب له تعلّق بالفعل ، وله تعلّق بالمخاطب ، وقد عرفت
أنّ المقتضي للخطاب هو الإرادة ، فلا بدّ وأن يريد كون العبارة عبارة عمّا هي
عبارة عنه ، ويريد كونها عبارة لمخاطب دون آخر ، وكلّ واحدة منهما مخالفة للاخرى.
وقد يختلفان في
العموم والخصوص ، مثل : يا زيد «صلّ الصلاة» أو «يا أيّها الناس صلّوا هذه الصلاة»
وقد يتّفقان عموما أو خصوصا.
__________________
المقصد الرّابع : في الأمر والنّهي
وفيه فصول
[الفصل] الأوّل :
في المقدّمات
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
اعلم أنّه لمّا
كان الأمر نوعا من الكلام ، وجب تقديم تحقيق ماهيّته ، وإن كان البحث عنه مصادرة
في هذا الفنّ ، وإنّما برهن عليه وعلى تحقيقه المتكلّم.
فنقول : اختلف
الناس في ماهيّة الكلام ، فالّذي عليه المحقّقون من المعتزلة والأوائل : أنّ
الكلام عبارة عن الحروف والأصوات ، وليس جنسا متميّزا في ذاته ، ولا حقيقة مغايرة لهذا
العبارات والأصوات الدالّة على المعاني.
__________________
وذهبت الأشاعرة
إلى أنّ الكلام معنى قائم في النفس وجنس حقيقيّ ، ومغاير للحروف والأصوات ، تدلّ
عليه هذه العبارات والرقوم والكتبة ، وما عداها من العلامات .
واختلف قول أبي
الحسن الأشعري في هذه الأصوات والعبارات ، والظاهر من قوليه : أنّ الكلام يطلق
عليها بنوع من المجاز ، كما يسمّى علوما باعتبار دلالتها عليها.
وذكر في جواب
المسائل البصرية : أنّها كلام حقيقة ، وكذا كلام النفس.
فعنده أنّ كلام
النفس معنى وجنس وحقيقة ، كالعلم والقدرة وغيرهما ، وأنّ ذلك المعنى مغاير للحروف
والأصوات ، ومغاير لتصوّرها ، ومغاير أيضا لإرادة ما دلّت الأصوات عليه والعلم به.
ويذهب أيضا إلى
أنّه في حقّ الله تعالى قديم ، وأنّه واحد ، ليس أمرا ولا نهيا ، ولا خبرا ولا غير
ذلك من أساليب الكلام.
وهذه الدّعاوي
كلّها مع غرابتها عن برهان غير متصوّرة ، والبحث في ذلك قد ذكرناه في كتبنا
الكلاميّة.
المبحث الثاني :
في حقيقة الأمر
اتّفق الناس على
أنّه حقيقة في القول المخصوص ، واختلفوا في كونه حقيقة في غيره.
__________________
فقال البغداديّون
: إنّه مشترك بين القول المخصوص والأدلّة الفعليّة على وجوب الأفعال.
وقال آخرون : إنّه
حقيقة في القول والفعل على سبيل الاشتراك اللّفظي. واختاره السيّد المرتضى وجماعة من الفقهاء.
وقال أبو الحسين
البصري : إنّه مشترك بين القول المخصوص ، وبين الشيء ، وبين الصّفة ، وبين الشأن ،
والطريق ، وزعم أنّه ليس حقيقة في الفعل من حيث إنّه فعل ، بل من حيث هو شأن.
والحق أنّه حقيقة
في القول المخصوص ومجاز فيما عداه.
لنا : أنّه قد ثبت
أنّه حقيقة في القول المخصوص ، فلو كان حقيقة في غيره لزم الاشتراك ، وهو على خلاف
الأصل.
لا يقال : إنّه مستعمل
في غيره ، ولو لم يكن حقيقة لزم المجاز ، وهو على خلاف الأصل أيضا.
لأنّا نقول : قد
بيّنا أولويّة المجاز على الاشتراك إذا تعارضا.
__________________
واحتجّ السيد
المرتضى باستعماله تارة في القول المخصوص ، وهو وفاق ، وأخرى في
الفعل ، فإنّهم يقولون : أمر فلان مستقيم وغير مستقيم ، ويريدون طرائقه وأفعاله
دون أقواله.
ويقولون : هذا أمر
عظيم ، كما يقولون : خطب عظيم ، ورأيت من فلان أمرا أهالني.
وقالت الزّباء :
لأمر ما جدع قصير
أنفه.
وقال الشاعر :
....................
|
|
لأمر ما يسوّد
من يسود
|
وفي الكتاب العزيز
(حَتَّى إِذا جاءَ
أَمْرُنا) ويريد به الأهوال والعجائب الّتي فعلها الله تعالى ، وخرق
بها العادة.
وقوله تعالى : (أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللهِ) وأراد الفعل.
وقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ).
__________________
[وقوله :] (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ
بِالْبَصَرِ).
[وقوله :] (تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ).
[وقوله :] (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ).
والأصل في الإطلاق
الحقيقة ، على ما تقدّم.
وأيضا فإنّه قد
جمع الأمر القولي على أوامر ، والفعليّ على أمور ، والاشتقاق دليل الحقيقة.
وأيضا لو كان مجازا لم يكن بالزّيادة ولا بالنّقصان ، وليس بين القول
والفعل شبه حتّى يكون بالنّقل.
والجواب لا نسلّم
أنّ الإطلاق دليل الحقيقة ، فإنّه قد يوجد في المجاز.
نعم الأصل في
الإطلاق الحقيقة ، ويعارضه أصالة عدم الاشتراك ، وقد بيّنا رجحان المجاز على
الاشتراك.
سلّمنا لكن لا
يجوز أن يكون المراد في تلك الأمثلة الشأن والطريق.
وقوله تعالى : (حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا) يحتمل إرادة القول أو الشأن ، والفعل يطلق عليه [اسم]
الأمر ، لعموم كونه شأنا ، لا لخصوص كونه فعلا وكذا الثانية.
__________________
وقوله : (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) يحتمل القول ، بل هو الظاهر ، لسبق (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ) أي أطاعوه فيما أمرهم.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يكون المراد شأنه وطريقه.
وقوله : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) لا يجوز إجراؤه على ظاهره ، وهو الفعل ، وإلّا لزم أن يكون
فعل الله واحدا ، وهو باطل ، وأن يحدث كلّه كلمح البصر في السرعة ، ومعلوم أنّه
ليس كذلك.
وإذا وجب صرفه عن
الظاهر ، حمل على أنّه إذا أراد شيئا وقع كلمح البصر.
وقوله (مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ) لا يحمل الأمر هنا على الفعل ، إذ الجري والتسخير إنّما
حصلا بقدرته ، لا بفعله ، فيحمل على الشأن والطريق.
والأمور جاز أن
تكون جمعا للأمر بمعنى الشأن ، لا بمعنى الفعل.
سلّمنا ، لكن
الجمع لا يدلّ على الحقيقة ، كما يجمع الحمار بمعنى البليد ، ويجمع بمعنى الحقيقة
بلفظ واحد.
على أنّ ابن
الحاجب كان يقول : لا يوجد فى لسان العرب «أوامر» في جمع الأمر، بل جمع الأمر
الواقع على الفعل والقول أمور. وأوامر جمع آمرة ، وكان يقول : إنّ هذا شيء يذكره
الفقهاء .
__________________
وأجاب أبو الحسين
عن الأخير بأنّه لا يطلق اسم الأمر على الفعل لا حقيقة ولا مجازا من حيث هو فعل ،
وإنّما يقال حقيقة على جملة الشأن .
ونقل عن أصحابه
جوابين :
الأوّل : أنّه يقع
على الفعل مجازا من حيث الزيادة المعنويّة ، لأنّ جملة أفعال الإنسان ، لمّا دخل
فيها القول ، سمّيت الجملة باسم جزئها.
الثاني : الأفعال
تشبه الأوامر في أنّ كلّ واحد منهما يدلّ على سداد أغراض الإنسان ، ولا يلزم تسمية
النّهي والخبر أمرا ، لعدم اطّراد المجاز.
واعترضهما بأنّه
يقال : أمر فلان في تجارته أو في صحّته مستقيم ، ولا يدخل في ذلك أمره الّذي هو
القول.
واللّفظ إنّما وقع
عليه اسم الأمر من حيث كان نعتا مخصوصا على الفعل ، وكان يجب أن يقع الشّبه بينه
وبين الفعل من هذه الجهة وإن لم يشتبها في فائدة الاسم من كل وجه ، وكان يجب. أن
يكون المتلفّظ باسم الأمر ، إذا عنى به الفعل ، أن يعني به ما ذكروه من الشّبه ،
ومعلوم عدم خطور ذلك بباله ، ولهذا إنّما يجوز التسمية بالأسد للشّبه في الشجاعة
الّتي هي معظم فائدة قولنا أسد ، ومن يسمّي الشّجاع أسدا يعني به شجاعته.
ثمّ احتجّ أبو
الحسين على مذهبه باشتباه الأمر على السّامع بين تلك
__________________
المعاني ، فإنّ من
قال : «هذا أمر» ، لم يعلم السّامع أيّ تلك أراد ، فإن قال : هذا أمر بالفعل ، علم
القول.
ولو قال : أمره
مستقيم ، عقل الشأن.
ولو قال : تحرّك
الجسم لأمر ، علم أنّه تحرّك لشيء.
ولو قال : جاء زيد
لأمر عقل الغرض ، وتوقّف الذهن عند السّماع يدلّ على تردّده بين الجميع ، وأنّه
حقيقة في كلّ واحد .
والجواب بالمنع من
تردّد الذهن بينها ، وإنّما يحصل التردّد مع وجود قرينة مانعة من حمله على القول ،
أمّا مع تجرّده ، فإنّما يفهم منه القول خاصّة.
واحتجّ من منع من
كونه حقيقة في الفعل بأمور :
الأوّل : عدم
الاطّراد ، فلا يسمّى الأكل والشرب أمرا ، فلا يكون حقيقة ، إذ هو لازمها.
الثاني : عدم
الاشتقاق ، فلا يسمّى الاكل والشارب امرا.
الثالث : لوازم
الأمر منتفية عن الفعل ، فلا يسمّى أمرا.
بيان الأوّل : أنّ
الأمر يدخل فيه الوصف بالمطيع والعاصي ، وضدّه النهي ، ويمنع منه الخرس والسكوت.
وعدّوه مطلقا من
أقسام الكلام ، كما عدّوا الخبر منه ، وكلّ ذلك إنّما يصحّ في القول.
__________________
الرابع : يصحّ
النفي ، فيقال : ما أمر فلان ، بل فعل ، وهو دليل المجاز.
الخامس : الأمر
الحقيقيّ له متعلّق ، وهو المأمور ، وهو غير متحقّق في الفعل ، فإنّه وإن سمّي
أمرا ، فلا يقال له : مأمور ، وانتفاء اللازم يوجب انتفاء الملزوم.
وهذه الوجوه
مدخولة.
امّا الأوّل :
فالمنع من وجود
اطّراد الحقيقة.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّه لا يقال : للأكل والشّرب : إنّه أمر.
سلّمنا ، لكن عدم
اطّراده في كلّ فعل ، إن كان ممّا يمنع من كونه حقيقة في بعض الأفعال ، فعدم
اطّراده في كلّ قول ممّا يمنع من كونه حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ
قول ، وهو غير مطّرد في كلّ قول على ما لا يخفى.
وإن كان لا يمنع
من ذلك في القول ، فكذا في الفعل.
لا يقال : إنّما
يجب اطّراد الاسم في المعنى الّذي كان الاسم حقيقة فيه ، لا في غيره ، والأمر
إنّما كان حقيقة في القول المخصوص ، لا في مطلق كلّ قول ، وهو مطّرد في ذلك القول
، فمثله لازم في الأفعال.
فإنّ للخصم أن
يقول : إنّما هو حقيقة في بعض الأفعال ، لا في كلّ فعل.
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
الخصم لم يجعله حقيقة في فعل معيّن ، بل في مطلق الفعل ، فورد عليه الإشكال.
بخلاف القول ،
فإنّ أحدا لم يجعله حقيقة في مطلق القول ، بل في قول معيّن.
وأمّا الثاني :
فبما تقدّم من أنّ الاشتقاق غير واجب في كلّ الحقائق وأنّه لو كان الأصل في الحقائق الاشتقاق ، لكان المنع من
اشتقاق اسم القارورة للجرّة والكوز من قرار المائع فيها على خلاف الأصل.
لا يقال : ولو لم
يكن الاشتقاق على وفق الأصل ، لكان على خلافه ، لكن المحذور منه أكثر ، لكثرة صور
الاشتقاق.
لأنّا نقول : لا
يلزم من عدم الأصالة في الاشتقاق أن يكون الاشتقاق على خلاف الأصل ، لجواز أن يكون
كلّ من الاشتقاق وعدمه على خلاف الأصل ، بل يتبعان النّقل ، فإنّه إذا جاز أن يكون
الاشتقاق من توابع الحقيقة ، جاز أن يكون من توابع بعض المسمّيات.
وليس أحد الأمرين
أولى من الآخر ، فلا يلزم من الاشتقاق في بعض المسمّيات الاشتقاق في غيره ، لعدم
الاشتراك في ذلك المسمّى .
وفيه نظر فانّ
القائلين بوجوب الاشتقاق يسلّمون كون الاشتقاق في الجرّة وغيرها لمانع ، وأنّه على
خلاف الأصل ، إذ الأصل الاشتقاق.
__________________
ولمّا وجدنا
الاشتقاق موجودا في جميع صور الحقيقة إلّا ما اشتمل على المانع ، حكمنا بتبعيّته
لها ، دون تبعيّته لبعض المسمّيات ، إذ قد يوجد في غيره.
وأمّا الثالث :
فإنّ العرب حكموا بأنّ تلك الصفات لازمة للأمر القولي ، لا لمطلق الأمر.
وأمّا الرّابع :
فالمنع من صحّة النفي مطلقا.
وأمّا الخامس :
فلما تقدّم.
المبحث الثالث :
في حدّه
ذهب أكثر المعتزلة
ومنهم البلخي إلى أنّ الأمر هو قول القائل لمن دونه : «افعل» أو ما يقوم
مقامه ، وأراد بما يقوم مقامه : في الدّلالة ، ليدخل فيه حقيقة الأمر من غير
العربيّ.
واعترض بوجوه :
الأوّل : قد توجد
صيغة «افعل» فيما ليس بأمر ، كالتهديد وغيره.
الثاني : يلزم أن
يكون صيغة «افعل» الواردة على لسان الرّسول صلىاللهعليهوآلهوسلم أمرا ، فيكون هو الامر ، ولا يكون رسولا.
__________________
الثالث : قد ترد
هذه الصّيغة من الأعلى للأدنى على سبيل الخضوع ، ولا يكون أمرا ، وقد ترد من
الأدنى نحو الأعلى ويكون أمرا إذا كانت على سبيل الاستعلاء ، ولهذا يوصف بالجهل
والحمق.
الرابع : لو فرضنا
أنّ الواضع لم يضع لفظة «افعل» لشيء أصلا ، حتّى كانت هذه اللفظة من المهملات ،
ففي تلك الحالة لو تلفّظ الإنسان بها مع من دونه ، لا يقال فيه : إنّه أمر.
الخامس : لو صدرت
هذا الصّيغة عن النائم والسّاهي ، أو على سبيل انطلاق اللّسان بها اتّفاقا ، أو
على سبيل الحكاية ، لا يقال فيه : إنّه أمر.
قيل عليه : لا
نسلّم أنّه قول لغيره افعل. .
وفيه نظر ، فإنّ
الغالط والساهي يقال : إنّه قال لغيره.
السادس : لو وضعت
هذه الصّيغة بإزاء الخبر ، وصيغة الخبر بإزاء الأمر ، لم تكن هذه الصيغة أمرا.
السابع : المطلوب
تحديد ماهيّة الأمر من حيث هي ، وتلك لا تختلف باختلاف اللّغات.
لا يقال : قولنا :
«أو ما يقوم مقامه» يزيل هذا الاشكال.
لأنّا نقول : إن
عنيت بقولك : أو ما يقوم مقامه في الدلالة على الطّلب ، كان تحديد الأمر باللفظ
الدّال على طلب الفعل كافيا ، ويقع التعرّض بخصوص صيغة افعل ضائعا.
__________________
وإن عنيت شيئا آخر
فبيّنه.
الثامن : ذكرت «أو»
في التحديد ، وهو محترز عنه.
وقال القاضي أبو
بكر من الأشاعرة وارتضاه أكثرهم كالجويني والغزالي وغيرهما : إنّه القول المقتضي طاعة المأمور بفعل المأمور
به.
وهو خطأ من وجوه :
الأوّل : لفظ
المأمور والمأمور به مشتقّان من الأمر ، فلا يمكن تعريفهما إلّا بالأمر ، فلو عرّف
بهما لزم الدور.
الثاني : الطاعة
عند الأشاعرة موافقة الأمر ، فلا يمكن تعريفها إلّا بالأمر ، ولو عرّفنا الأمر بها
دار.
الثالث : لا يقتضي
بنفسه الطاعة بل بالتوفيق أو بالاصطلاح.
وهذا الحدّان هما
المشهوران عند الفريقين ، ولكلّ منهما حدود أخر.
أمّا المعتزلة ،
فقال بعضهم : الأمر صيغة افعل على تجرّدها عن القرائن الصارفة لها من جهة الأمر
إلى جهة التهديد وغيره ، وهو دوريّ.
ومنهم من قال :
الأمر عبارة عن صيغة «افعل» بإرادات ثلاث :
إرادة إحداث
الصّيغة.
وإرادة الدّلالة
بها على الأمر.
__________________
وإرادة الامتثال.
واحترزنا بالأوّل
عن النائم إذا وجدت منه الصّيغة.
وبالثانية عن
التهديد وغيره.
وبالثالثة عن
الرسول المبلّغ ، فإنّه وإن أراد إحداث الصّيغة ، والدّلالة بها على الأمر ، فقد
لا يريد بها الامتثال.
وفيه : تعريف
الأمر بالأمر.
وأيضا الأمر الّذي
هو مدلول الصّيغة إن كان هو الصّيغة ، كان منافيا ، إذ رجع حاصله إلى أنّ الصّيغة
دالّة على الصيغة ، والدالّ غير المدلول.
وإن كان هو غير
الصّيغة ، امتنع أن يكون الأمر هو الصّيغة ، وقد قال : الأمر هو صيغة «افعل» بشرط
الدّلالة بها على الأمر ، فإنّ الشرط يغاير المشروط ، وإن كان [الأمر] غير الصيغة
، فلا بدّ من تعريفه.
وقال آخرون منهم :
الأمر إرادة الفعل .
وليس بجيّد إذ قد
توجد الإرادة من الأمر.
واعترض أيضا بأنّه يلزم وقوع المأمورات كلّها ، لأنّ الإرادة
مخصّصة بحال حدوثه ، فإذا لم يوجد لم تخصّص.
وفيه نظر ، فإنّ
الإرادة المخصّصة إنّما هي إرادة الفعل الصّادر عن المريد لا عن المأمور.
__________________
وقال أبو الحسين :
الأمر قول يقتضي استدعاء الفعل بنفسه لا جهة التذلّل ، وقد دخل فيه قولنا : افعل
وليفعل.
ولا يلزم أن يكون
الخبر عن الوجوب أمرا ، لأنّه لا يستدعى الفعل بنفسه ، لكن بواسطة تصريحه
بالإيجاب.
وكذا قول القائل :
أريد منك أن تفعل ، هو مقتض بنفسه إثبات إرادة الفعل ، وبتوسّطها يقتضي البعث على
الفعل.
وكذا النهي عن
جميع أضداد الشيء ، لا يستدعي فعل ذلك الشيء بنفسه ، وإنّما يقتضي ذلك بتوسّط
اقتضائه قبح تلك الأضداد ، واستحالة انفكاك المكلّف منها إلّا إلى ذلك الشيء.
وأمّا الأشاعرة
فقال بعضهم : الأمر عبارة عن الخبر بالثّواب على الفعل تارة ، والعقاب على الترك
تارة.
وهو باطل ،
لامتناع دخول الصّدق والكذب في الأمر ، ودخولهما على الخبر.
ولأنّ خبره تعالى
صدق فيجب الثواب والعقاب ، وهو باطل ، أمّا الثّواب فلجواز الإحباط بالرّدة ،
وأمّا العقاب فلجواز العفو والشّفاعة.
فإن احترز بقولهم
: إنّه الإخبار عن استحقاق الثواب والعقاب ، بقي عليه الإشكال الأوّل :
__________________
ومنهم من قال :
إنّ الأمر هو طلب الفعل على وجه يعدّ فاعله مطيعا .
وهو دوريّ ،
لتوقّف معرفة الطاعة على الأمر ، فيدور.
وقال بعضهم :
اقتضاء فعل غير كفّ على جهة الاستعلاء.
وإنّما قيّد بغير
كفّ ، ليخرج النهي ، على ما يأتي تحقيقه.
والأقرب أن يقال :
الأمر هو طلب الفعل بالقول على وجهه الاستعلاء.
فالطلب احتراز عن
النهي وغيره من أقسام الكلام.
وقولنا : «على جهة
الاستعلاء» احتراز عن الطلب على وجه الخضوع والالتماس.
وهو أولى من قول
بعضهم : على جهة العلوّ ، لما يأتي من عدم اعتبار الرتبة.
وبعض النّاس لم
يعتبر الاستعلاء أيضا ولا بدّ منه.
__________________
الفصل الثّاني :
في البحث عن الصيغة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في وجوه استعمالها
قال الأصوليون :
صيغة «افعل» تستعمل في خمسة عشر وجها :
الأوّل : الإيجاب (أَقِيمُوا الصَّلاةَ).
الثاني : الندب (فَكاتِبُوهُمْ).
ويقرب منه التأديب
، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم لابن عباس : كل ممّا يليك لندبيّة الأدب ، وإن كان بعضهم غاير بينهما.
الثالث : الإرشاد (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ).
وهو لمنافع الدنيا
، والندب لمنافع الآخرة ، إذ لا ينقص الثواب
__________________
بترك الإشهاد في
البيع ، ولا يزيد بفعله.
الرابع : الإباحة (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا).
الخامس : التهديد (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ).
ويقرب منه الإنذار
(قُلْ تَمَتَّعُوا) وإن كان قد جعلوه قسما آخر.
السادس : الامتنان
(فَكُلُوا مِمَّا
رَزَقَكُمُ اللهُ).
السابع : الإكرام (ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ).
الثامن : التسخير
: (كُونُوا قِرَدَةً).
التاسع : التعجيز (فَأْتُوا بِسُورَةٍ).
العاشر : الإهانة (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ
الْكَرِيمُ).
الحادي عشر :
التسوية (فَاصْبِرُوا أَوْ لا
تَصْبِرُوا).
الثاني عشر :
الدعاء «اللهم اغفر لي».
الثالث عشر :
التمنّي :
ألا أيّها
اللّيل الطويل ألا انجلي
|
|
....................
|
__________________
الرابع عشر :
الاحتقار : (أَلْقُوا ما أَنْتُمْ
مُلْقُونَ).
الخامس عشر :
التكوين (كُنْ فَيَكُونُ).
والإجماع واقع على
أنّها ليست حقيقة في الجميع ، إذ التسخير ، والتسوية ، والاحتقار ، وشبهها ، انّما
تفهم بقرائن.
بل النزاع وقع في
أمور خمسة :
الوجوب ، أو الندب
، أو الإباحة ، أو التنزيه ، أو التحريم.
فبعضهم جعلها
مشتركة بينها.
وبعضهم جعلها
مشتركة بين الوجوب والندب والإباحة.
ومنهم من جعلها
حقيقة في أقلّ المراتب وهو الإباحة.
وقال قوم : إنّها
للندب والوجوب.
وقال قوم : إنّها
للندب ، والوجوب بزيادة قرينة.
وقال آخرون :
إنّها للوجوب ، ولا يحمل على ما عداه إلّا بقرينة.
ونحن نبيّن الوجه
في ذلك بعون الله تعالى.
__________________
المبحث الثاني :
في أنّ للأمر صيغة تخصّه ، وأنّ صيغة «افعل» ليست حقيقة في الإباحة والتهديد
اعلم أنّ بعض
الناس قد ذهب إلى أنّ صيغة «افعل» مشتركة بين الواجب والندب ، اللّذين هما ترجيح
وطلب ، وبين الإباحة والتهديد ، المطلوب منه عدم الفعل.
والحقّ خلاف ذلك ،
لأنّا نفرق بين قوله : «افعل» وبين قوله : «لا تفعل» ، وبين قوله : إن شئت افعل
وإن شئت لا تفعل ونعلمه قطعا.
ونعلم أنّ الأوّل
أمر وطلب ترجيح الوجود ، بخلاف الباقيين ، وتحمل صيغة «افعل» عليه عند تجرّده عن
القرائن الحاليّة والمقاليّة ، بأن تنقل الصّيغة إلينا عن ميّت ، أو غائب ، لا في
فعل معيّن من صلاة وصيام ، بل في مطلق ، بحيث لا يتوهّم فيه قرينة مخصّصة لسبق
ذهننا إليه.
ونعلم قطعا أنّ
قوله : «افعل» وقوله : «لا تفعل» ، وقوله : إن شئت افعل وإن شئت لا تفعل ، أسماء
متباينة لا مترادفة.
كما ندرك تفرقة
بين قولنا : قام زيد ، وبين قولنا : هل قام زيد ، في أنّ الأوّل خبر ، والثاني
استفهام.
وكذا بين قام زيد
، ويقوم زيد ، في أنّ الأوّل للماضي ، والثاني للحال أو المستقبل ، وإن كان قد
يعبّر بأحدهما عن الآخر.
وكما ميّزوا بين
الحال والماضي ، كذا ميّزوا بين الأمر والنهي ، فقالوا
في الأوّل : «افعل»
وفي الثاني «لا تفعل» ، وأنّهما لا ينبئان عن معنى قوله : إن شئت افعل وإن شئت لا
تفعل.
فإن قيل : نمنع
الفرق ، لأنّه إنّما يتمّ على تقدير كونه حقيقة في البعض دون الباقي ، أمّا على
تقدير اشتراك الجميع فيه ، فلا نسلّم الفرق بين «افعل» وبين «لا تفعل».
سلّمنا ، لكن
الفرق : أنّ «افعل» مشترك بين الفعل والتهديد ، أمّا «لا تفعل» ، فإنّه لم يوضع
للأمر.
سلّمنا ، الرجحان
، لكن لم لا يجوز أن يكون ذلك للعرف الطارئ لا في أصل الوضع كما في الألفاظ
العرفيّة؟
سلّمنا ، لكن هنا
ما يقتضي نقض قولكم ، فإنّ صيغة «افعل» قد استعملت في الإباحة ، والتهديد ، والأصل
في الإطلاق ، الحقيقة.
ولأنّ أقلّ
المراتب ، الإباحة ، فيحمل عليه ، لأنّه المتيقّن.
والجواب : أنّ منع
الفرق مكابرة صريحة ، فإنّا نعلم قطعا أنّ عند انتفاء القرائن ، يفهم الطلب من
لفظة «افعل» ، وأنّه راجح على التهديد والإباحة.
وبهذا ظهر الجواب
عن الثاني ، لأنّ رجحان الطلب ، ينفي كون الفارق وضع «افعل» للجميع ، و «لا تفعل»
للتهديد.
وعن الثالث : أنّ
الأصل عدم التغيير.
وعن الرابع : ما
تقدّم من أولويّة المجاز على الاشتراك.
ووجه التجوّز
اشتراك الخمسة في الضدّية ، وإطلاق اسم الضدّ على
الآخر وجه من وجوه
المجاز.
وعن الخامس : أنّ
صيغة «افعل» محتملة للتهديد والمنع ، والطريق الّذي يعرّف أنّه لم يوضع للتهديد ،
يعرّف أنّه لم يوضع للتخيير.
وأيضا ، بل يحمل
على الإيجاب الّذي هو أعلى المراتب للاحتياط.
المبحث الثالث :
في التغاير بين الصّيغة والطلب
قد عرفت أنّ الأمر
طلب الفعل بالقول على جهة الاستعلاء ، وهذا الطلب معنى معقول للعقلاء ، فإنّ كلّ
عاقل يأمر وينهى ، ويدرك تفرقة ضروريّة بينهما ، ويعلم الفرق بين طلب الفعل ، وطلب
الترك ، وبين ماهيّة الخبر ، وأنّ ما يصلح جوابا لأحدهما ، لا يصلح جوابا للآخر.
وذلك الطلب مغاير
للصّيغة ، لاختلافها باختلاف النواحي والأمم ، بخلاف الطلب.
ولأنّ الصيغة يمكن
وضعها للخبر ، وصيغة الخبر يمكن وضعها للأمر ، بخلاف الطلب ، فماهيّة الطلب إذن
مغايرة للصّيغة ولصفاتها ، وهي أمر وجدانيّ تعقّله كلّ أحد من نفسه ، وهذه الصّيغ تدلّ عليها.
لكنّ النزاع وقع
هنا بين المعتزلة والأشاعرة ، فعند المعتزلة أنّ ذلك الطلب هو إرادة المأمور به ،
وقالت الأشاعرة بالمغايرة.
__________________
والحقّ الأوّل ،
لنا : انّا لا نجد أمرا آخر مغايرا للإرادة ، ولو ثبت لكان أمرا خفيّا لا يعقله
إلّا الآحاد ، فلا يجوز وضع لفظة الأمر المتداولة بين الخاصّ والعامّ بإزائه ،
وإنّما هي موضوعة من أهل اللّغة على المعنى المتعارف بينهم.
وأيضا ، لو لم تكن
إرادة المأمور به معتبرة ، لصحّ الأمر بالماضي ، والواجب ، والممتنع ، حملا على
الخبر ، فإنّه لمّا لم تكن إرادة المخبر عنه معتبرة فيه ، صحّ تعلّق الخبر بهذه
الأشياء.
واحتجّت الأشاعرة
بوجوه :
الأوّل : أنّ الله
تعالى أمر الكافر بالإيمان ولم يرده منه ، فيكون الأمر مغايرا للإرادة.
أمّا المقدمة الأولى
، فإجماعيّة.
وأمّا الثانية ،
فلأنّه تعالى عالم بأنّه لا يؤمن ، فيستحيل منه صدور الإيمان ، وإلّا لزم انقلاب
علمه تعالى جهلا ، وهو محال.
وإذا استحال صدور
الإيمان منه ، استحال أن يريده منه ، فإنّ الإرادة لا تتعلّق بالمحال.
ولأنّ صدور الفعل
من العبد ، يتوقّف على داعية يخلقها الله تعالى في العبد ، لاستحالة التسلسل ،
وذلك الدّاعي إن وجب عنده الفعل ، كان الله تعالى قد خلق في العبد ما يوجب الكفر ،
فلو أراد الله تعالى منه في هذه الحالة وجود الإيمان ، كان مريدا للضّدّين ، وهو
باطل بالاتّفاق.
الثاني : قد يقول الشخص
لغيره : أريد منك هذا الفعل ، لكنّني لم امرك به ، ولو كان الأمر هو الإرادة لزم
التناقض.
الثالث : السّلطان
إذا توعّد من ضرب عبده بالانتقام ، فاعتذر السيّد إليه بأنّ العبد يخالفه في
أوامره ، وطلب السّلطان منه إظهار صدقه بأن يكلّفه بأمره في نظره ، فإنّه يأمره
ولا يريد منه الفعل ، إظهارا لتمرّده.
الرابع : يجوز نسخ
الشيء قبل مضيّ [مدّة] الامتثال ، فلو كان الأمر والنهي عبارتين عن الإرادة
والكراهة ، كان الله تعالى مريدا كارها للفعل الواحد ، في الوقت الواحد ، من الوجه
الواحد ، وهو باطل إجماعا .
والجواب عن الأوّل
ما سبق ، من أنّ العلم تابع ، والاستحالة نشأت من فرض العلم كما تنشأ من فرض
النقيض ، إذ لا فرق بين فرض العلم والمعلوم ، والدّاعي من فعل العبد ، ولا تسلسل.
وقد تقدّم عدم
المنافاة بين الإيجاب بالنسبة إلى الدّاعي ، والإمكان من حيث القدرة ، وإثبات هذين
في أفعاله تعالى.
وقول الرّجل لغيره
: أريد منك هذا ولا امرك به باعتبار أنّ الإرادة الأولى لم تكن خالصة ، ويمكن أن
تحصل إرادة مشوبة بعوارض ، فلا توقع المريد الفعل بها ، فكذا هنا.
ووجود الأمر من
الحكيم ممنوع ، بل الوجود صيغة الأمر ، ولا يلزم من وجود الصّيغة الدالّة على
الأمر وجود الأمر كما في الساهي وغيره.
__________________
ثمّ إنّه وارد على
الطلب ، فإنّ العاقل كما لا يريد من عبده الفعل في تلك الحال ، كذا لا يطلبه طلبا
نفسانيا وإن وجدت منه صيغة الطّلب.
والنسخ قبل حضور
الوقت محال على ما يأتي.
وكما استحال أن
يكون مريدا وكارها ، كذا استحال أن يكون طالبا للفعل والترك في الوقت الواحد من
الوجه الواحد.
المبحث الرّابع :
في أنّ الصّيغة هي الأمر الاصطلاحي
قد عرفت أنّ الحقّ
هو أنّ الطلب والإرادة بمعنى واحد ، وهو معنى يقتضي ترجيح أحد الطّرفين على الآخر
، فنقول : هذا الترجيح قد يكون لجانب الفعل على الترك ، وقد يكون على العكس.
وعلى كلّ
التقديرين ، فالترجيح قد يكون مانعا من الطّرف الآخر ، كما في الوجوب والحظر ، وقد
لا يكون ، كما في الندب والكراهة.
والفرق بين أصل
الترجيح وبين الترجيح المانع من النقيض ، فرق ما بين الخاصّ والعامّ.
إذا عرفت هذا
فنقول : هنا لفظ دالّ على الترجيح ، ولفظ دالّ على التّرجيح المانع من النقيض ،
وعلى التقديرين ، فالمعتبر إمّا اللّفظة الدالّة عليه ، أو اللّفظة العربيّة ،
فالأقسام ستّة :
الأوّل : أصل
الترجيح.
الثاني : الترجيح
المانع من النقيض.
الثالث : مطلق
اللّفظ الدّالّ على الأوّل.
الرابع : مطلق
اللّفظ الدّالّ على الثاني.
الخامس : اللّفظة
العربيّة الدالّة على الأوّل.
السادس : اللّفظة
العربيّة الدالّة على الثاني.
والتحقيق يقتضي
زيادة ثلاثة أقسام أخر.
الأوّل : الترجيح
غير المانع من النقيض ، وهو المقابل بالضدّية للترجيح المانع.
الثاني : مطلق
اللّفظ الدال عليه.
الثالث : اللّفظة
العربيّة الدالّة عليه.
وأنت مخيّر في
إطلاق لفظ الأمر على أيّها شئت.
لكن من حيث اللّغة
جعله اسما للصيغة الدالّة على الترجيح ، أولى من جعلها اسما لنفس الترجيح لوجوه :
الأوّل : قالوا :
الأمر من الضّرب : اضرب ، جعلوا [نفس] الصّيغة أمرا .
وفيه نظر ،
للتقييد ، فلا يدلّ على الحقيقة.
الثاني : لو قال :
إن أمرت فعبدي حرّ ، ثمّ أشار بما يفهم عنه مدلول الصّيغة
__________________
لم يعتق ، ولو كان
اسما للترجيح لعتق ، ولا يعارض بالاخرس للمنع من العتق في طرفه.
وفيه نظر ، للمنع
من عدم العتق فيهما.
الثالث : الصيغة
دليل ، فجعله حقيقة فيها أولى من جعله حقيقة في المدلول لأنّ فهم الدّليل ملزوم
لفهم المدلول ، فجعله مجازا في اللّازم أولى.
وفيه نظر ، لأنّه
إثبات اللّغة بالتّرجيح.
الرابع : إذا قيل
: أمر فلان ، سبق الفهم إلى اللفظ ، دون ما في القلب ، ولو قام بقلبه شيء ولم ينطق به ، يقال : لم يأمر.
وفيه نظر ، لأنّ
السبق لظهور اللفظ وخفاء ما في القلب ، ولو علم الطّلب الجازم منعنا النفي.
واحتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى : (إِذا جاءَكَ
الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ
لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ).
كذّبهم في الشهادة
، ومن المعلوم صدقهم في النّطق [اللسانيّ] ، فيعود الكذب إلى الكلام النفسانيّ.
__________________
الثاني : قال عمر
: زوّرت في نفسي كلاما فسبقني إليه أبو بكر.
الثالث : قال
الأخطل :
إنّ الكلام لفي
الفؤاد وإنما
|
|
جعل اللّسان على
الفؤاد دليلا
|
الرابع : هذه
الألفاظ معرّفات ، فلو كانت كلاما لأجل تعريف المعنى النّفساني ، فلتكن الكتابة
والإشارة كلاما.
والجواب :
الشّهادة هي الإخبار [عن الشيء] مع العلم واعتقاده ، ولمّا انتفى الاعتقاد ،
كذّبهم في ادّعائهم الشهادة ، لا في المشهود به.
ويقال : زوّرت في
نفسي كلاما ، أي قدّرته وفرضته ، كما يقال : زوّرت دارا أو بناء.
وكون الكلام في
الفؤاد ، إشارة إلى تصوّره ، مع أنّه لم يكن عربيّا خالصا.
والقياس في اللغة
، باطل.
إذا ثبت هذا ،
فالحقّ أنّ الأمر اسم للّفظ الدّال على مطلق الطّلب ، لا لعربيّ ، فإنّ الفارسيّ
إذا طلب شيئا بلغته قيل : أمر ، ويحنث به.
__________________
المبحث الخامس :
في أنّ الرّتبة معتبرة أم لا؟
ذهب جماعة من
الأصوليّين إلى اعتبار الرتبة في الأمر ، فيجب أن يكون الامر أعلى رتبة من المأمور
حتّى يسمّى الطّلب أمرا.
وبه قال السيد
المرتضى وجمهور المعتزلة.
وذهب آخرون إلى
نفيه ، وهو الحقّ ، وإنّما المعتبر هو الاستعلاء ، وبه قال أبو الحسين البصري .
وقالت الأشاعرة :
لا يعتبر العلوّ ، ولا الاستعلاء.
لنا على عدم
اعتبار العلوّ : قوله تعالى حكاية عن فرعون إنّه قال لقومه : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) مع أنّه كان أعلى رتبة منهم.
وقال عمرو بن
العاص لمعاوية :
أمرتك أمرا
حازما فعصيتني
|
|
وكان من التوفيق
قتل ابن هاشم
|
وقال دريد بن
الصّمّة لنظرائه ، ولمن هم فوقه :
أمرتهم أمري بمنعرج
اللوى
|
|
فلم يستبينوا
الرشد إلّا ضحى الغد
|
__________________
وقال ابن المنذر
ليزيد بن المهلّب أمير خراسان والعراق :
أمرتك أمرا
حازما فعصيتني
|
|
فأصبحت مسلوب
الإمارة نادما
|
وعلى اعتبار
الاستعلاء : أنّهم فرّقوا بين الأمر والالتماس والسؤال ، فقالوا : إن كان الطّلب
باستعلاء كان أمرا ، وإن قارن الخضوع فهو السؤال ، وإن قارن التساوي فهو الالتماس
، ويستقبحون قول القائل : أمرت الأمير.
ولأنّ من قال
لغيره : افعل على سبيل الاستعلاء ، يقال : إنّه أمره وإن كان أدنى رتبة ، ومن قال
لغيره : افعل على سبيل التضرّع إليه ، لا يقال : إنّه أمره وإن كان أعلى رتبة من
المقول له.
واحتجّ السيّد
المرتضى بأنّه يستقبح في العرف أن يقال : أمرت الأمير ونهيته ، ولا يستقبح : سألته
وطلبت منه ، ولو لا أنّ الرّتبة معتبرة وإلّا لما كان كذلك.
قال السيد : والنهي
جار مجرى الأمر في هذه القضيّة ، وما له معنى الأمر وصيغته من الشفاعة تعتبر أيضا
فيه الرّتبة ، لأنّهم يقولون : شفع الحارس إلى الأمير ، ولا يقولون : شفع الأمير
إلى الحارس.
فالرتبة معتبرة في
الشفاعة بين الشافع والمشفوع إليه ، كما أنّها معتبرة في الأمر بين الامر والمأمور
، ولا اعتبار بها في المشفوع فيه ، كما ظنّه من خالفنا في الوعيد ، لأنّ الكلام
ضربان : فضرب لا تعتبر فيه الرّتبة ، وضرب تعتبر فيه
__________________
الرتبة ، فما
تعتبر فيه إنّما تعتبر بين المخاطب والمخاطب ، دون من يتعلّق الخطاب به.
ولهذا جاز أن يكون
أحدنا شافعا لنفسه ، وفي حاجة نفسه ، ولو اعتبرت الرّتبة في المشفوع فيه ، لما جاز
ذلك ، كما لا يجوز أن يكون امرا نفسه وناهيا.
والجواب : مسلّم
أنّه يستقبح ، وهو دليلنا على عدم اعتبار الرّتبة ، ودليل يدلّ على أنّ الرّتبة
معتبرة في حسن الأمر لا فيه ، ونمنع عدم اعتبار الرّتبة في الشفاعة بين الشافع
والمشفوع فيه.
ولا نسلّم صحّة
شفاعة أحدنا في نفسه إلّا على ضرب من التجوّز.
ثمّ إنّه نقل
احتجاج المخالف من وجوه :
الأوّل : حمل
الأمر على الخبر في عدم اعتبار الرّتبة.
الثاني : قوله
تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ
مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ).
والطاعة تعتبر
فيها الرّتبة كالأمر.
الثالث : قال
الشاعر :
ربّ من أنضجت
غيضا صدره
|
|
قد تمنّى لي
موتا لم يطع
|
والموت من فعل
الله تعالى ، ويستحيل عليه الطاعة.
ثمّ أجاب عن
الأوّل بأنّه لو ساوى الأمر الخبر في اعتبار الرّتبة ، لجاز أن
__________________
يقال : أمرت
الأمير ، كما يقال : أخبرته.
وقد تقدّم جوابه.
وعن الثاني : أنّه
استعار للإجابة لفظ الطاعة ، فإنّ أحدا لا يقول : إنّ الله أطاعني في كذا إذا
أجابني إليه.
ولأنّ ظاهر اللفظ
يقتضي أنّه ما للظّالمين شفيع يطاع ، ولا يلزم من ذلك نفي شفيع يجاب.
لا يقال : وكلّ
شفيع لا يطاع على مذهبكم سواء كان في ظالم أو غيره ، لأنّ الشّفيع يدلّ على انخفاض
منزلته عن منزلة المشفوع إليه ، والطاعة تقتضي عكسه.
لأنّا نقول : دليل
الخطاب باطل ، ولا امتناع في تخصيص الظالمين بنفي شفيع لهم يطاع ، وإن كان غيرهم
كذلك.
ويحتمل أن يريد ب «يطاع
غير الله» من الزبانية والخزنة ، والطاعة من هؤلاء لمن هو أعلى منزلة منهم ، من
الأنبياء عليهمالسلام والمؤمنين ، صحيحة.
والشاعر تجوّز
باستعمال لفظة «يطع» في موضع «يجب».
أو تمنّى في عدوّه
أن يقتله بعض البشر ، ويسمّى القتل موتا وبالعكس ، للتقارب بينهما ، فلم يطعه ذلك
القاتل.
__________________
المبحث السادس :
في أنّ دلالة الصيغة على الطلب بالوضع
اعلم أنّ لفظة
افعل وشبهها تدلّ على الطلب من غير حاجة إلى إرادة أخرى ، وهو مذهب الأشاعرة
والكعبي من المعتزلة.
وقال الجبائيّان : لا بدّ مع ذلك الوضع من إرادة أخرى.
لنا : أنّها
موضوعة للطلب ، فلا تتوقّف دلالتها عليه إلى إرادة ، كسائر الألفاظ.
ولأنّ الطّلب
النفساني أمر باطن ، فلا بدّ من الاستدلال عليه بأمر ظاهر ، والإرادة أمر باطن فيفتقر
إلى معرّف كافتقار الطلب ، فلو توقّفت دلالة الصيغة على الطلب على تلك الإرادة ،
لم يكن الاستدلال بالصيغة على الطّلب.
احتجوا بأنّا
نميّز بين الصّيغة إذا كانت طلبا ، وتهديدا ، ولا مائز إلّا الإرادة.
والجواب : أنّها
حقيقة في الطلب ، ومجاز في التهديد ، وكما يجب صرف الألفاظ إلى حقائقها ، وإجزاؤها
عليها عند التجرّد ، فكذا هنا.
__________________
المبحث السابع :
فيما به يصير الأمر أمرا
اختلف الناس في
ذلك على أقوال :
فذهب قوم إلى أنّ
الأمر إنّما كان بجنسه ونفسه ، وأنّه لا يتصوّر إلّا أن يكون أمرا ، وهو اختيار
البلخي من المعتزلة.
فقيل له : هذه
الصّيغة قد تصدر للتهديد والإباحة ، فقال : ذلك جنس آخر لا من هذا الجنس ، وجعل
صيغة افعل في الأمر حقيقة مغايرة لصيغة افعل في التهديد والإباحة مغايرة بالذات.
وقال آخرون :
إنّما كان كذلك لصورته وصيغته.
وقال قوم بذلك
بشرط التجرّد عن القرائن الصّارفة له عن جهة الأمر إلى التهديد والإباحة ، وإليه
ذهب جماعة من الفقهاء ، وزعموا أنّه لو صدر من النائم والمجنون أيضا ، لم يكن أمرا
للقرينة.
وهذا يعارضه قول
من يقول : إنّه لغير الأمر إلّا إذا صرفته قرينة إلى معنى الأمر ، لأنّه إذا سلم
إطلاق العرب هذه الصّيغة على أوجه مختلفة ، فحوالة البعض على الصّيغة ، والباقي
على القرينة تحكّم محض ، فيجب التوقّف فيه ، فيوقّف.
وقال آخرون :
إنّما كان أمرا ، لأنّ الامر أراد كونه أمرا وأجروه في هذه القضيّة مجرى الخبر.
__________________
وقال آخرون :
إنّما كان الأمر أمرا ، لأنّ الامر أراد الفعل المأمور به ، واختاره السيّد
المرتضى وهو مذهب محقّقي المعتزلة.
وربّما قال بعضهم
إنّما يصير أمرا بإرادات ثلاث : إرادة المأمور به ، وإحداث الصيغة ، والدلالة
بالصّيغة على الأمر ، دون الإباحة والتّهديد.
والأشاعرة منعوا
من ذلك ، وجعلوا أمرا بالوضع ، ولا يشترط الإرادة.
والأوّل باطل عند
المحقّقين.
واستدلّ السيد
المرتضى بأنّ الأمر قد يكون من جنسه ما ليس بأمر وأنّ ما يكون أمرا جاز أن يوجد غير أمر ، فلا بدّ من سبب
يقتضي كونه أمرا ، ولا سبب إلّا إرادة المتكلّم للمأمور به.
أمّا المقدمة
الأولى : فلأنّ اشتباه اللفظ حسّا عند كونه أمرا وتهديدا وإباحة يدلّ على التماثل
، كما في السّوادين ، وكما حكمنا بالتماثل هنا ، لالتباسهما حسّا ، فكذا هناك.
وبيان المقدّمة
الأولى : أنّ من سمع قم وهو امر لم يفصل بينه وبين كونه إباحة أو تهديدا ، ولقوّة
هذا الالتباس جوّز من يجوّز البقاء على الكلام ، أو الإعادة أن يكون ما سمعه ثانيا
هو ما سمعه أوّلا.
وأمّا بيان أنّ ما
كان يقع أمرا يجوز أن يوجد غير أمر فوجوه :
الأوّل : الألفاظ
العربيّة تدلّ بواسطة الوضع من أهل اللغة ، وهو يتبع
__________________
اختيارهم ، وليس
هناك وجوب ، فقد كان يجوز في هذا اللفظ المخصوص بالأمر أن يكون أمرا ، وحينئذ توجد
هذه الحروف بعضها ولا يكون أمرا.
الثاني : لو كان
الأمر يتعلّق بالمأمور من غير قصد المتكلّم ، لم يمتنع أن يقول أحدنا لغيره : افعل
ويريد منه الفعل ، فلا يكون أمرا ، أو لا يريد منه الفعل ، فيكون أمرا ، وذلك
معلوم البطلان.
الثالث : لو تغاير
لفظ الأمر ولفظ غيره ، لوجب أن يكون للقادر سبيل إلى التمييز بينهما ، ولمّا انتفى
، علمنا اتّحاد اللّفظ.
الرابع : هذا
القول يقتضي صحّة أن نعلم أنّ أحدنا أمر وإن لم نعلمه مريدا ، إذا كان القصد لا
تأثير له ، ومن المعلوم أنّ أحدنا إذا كان امرا ، فلا بدّ من كونه مريدا ، وإنّما
خالفنا المجبّرة في الله تعالى.
الخامس : هذا
القول يقتضي انحصار من يقدر على أن يأمره في كلّ حال ، حتّى يكون القويّ بخلاف
الضعيف.
بيان الوجوب : أنّ
القدرة الواحدة لا تتعلّق في الوقت الواحد ، في المحلّ الواحد ، من الجنس الواحد
بأكثر من جزء واحد ، وحروف قول القائل : «قم» مماثلة لكلّ ما هذه صورته من الكلام
، فيجب أن يكون أحدنا قادرا من عدد هذه الحروف في كلّ وقت على قدر ما في لسانه من
القدرة ، وهذا يقتضي انحصار عدد من يصحّ أن يأمره ، ومعلوم خلاف ذلك.
لا يقال : إذا جاز
أن يفعل أحدنا بالقدرة الواحدة في كلّ محلّ كونا في جهة بعينها ، ولم يجب أن يقدر
على كون واحد يصحّ وجوده في المحالّ على البدل بالإرادة ، فإلّا جاز مثله في
الألفاظ.
لأنّا نقول :
القدرة الواحدة ، لا ينحصر متعلّقها من المتماثل إذا اختلفت المحالّ ، كما لا
ينحصر متعلّقها في المختلف ، والوقت والمحلّ واحد.
وليس كذلك ما
يتعلّق به من المتماثل في المحلّ الواحد ، والوقت واحد ، لأنّها لا تتعلّق على هذه
الشروط بأكثر من جزء واحد.
لا يقال : محالّ
الحروف المتماثلة متغايرة ، كما قلنا في الأكوان.
لأنّا نقول : من
المعلوم اتّحاد محالّ مخرج الحرف الواحد ، ولهذا متى لحق بعض محالّ هذه الحروف آفة
، أثّر ذلك في كلّ حروف ذلك المخرج.
وإذ قد ثبت أنّ ما وقع أمرا قد كان يجوز أن يكون غير أمر ، فلا بدّ في
وقوعه أمرا من سبب ، فإمّا أن يرجع إليه وما يتعلّق به ، أو إلى فاعله.
وما يرجع إليه ،
إن كان وجوده ، أو حدوثه ، أو جنسه ، أو صفته ، بطل ، لوجود هذه الأشياء فيما ليس
بأمر.
وأيضا ، لو كان
أمرا بجنسه ، كان صفة نفسيّة ، وكان يرجع إلى الآحاد دون الجمل ، فكان يجب في كلّ
جزء من الأمر أن يكون أمرا ، وكان يجب أن يدرك على هذه الصفة ، فيعرف بالسمع كونه
أمرا من لا يعرف اللّغة ، وكان يحصل حال العدم ، كما يحصل حال الوجود ، لأنّ الصفة
النفسيّة كذلك ، فكان يجب في حال العدم أن يكون أمرا.
ولا يجوز أن يكون
أمرا لحدوثه على وجه ، ويراد به ترتيب صيغة ، لما بيّنا أنّ نفس هذه الصيغة قد
تستعمل في غير الأمر ، ولا لعدمه ، إذ عدمه يحيل
__________________
هذه الصفة ، وما
يحيل الصفة لا يكون علّة فيها.
ولا لعدم معنى ،
لعدم اختصاص ذلك به.
ولا لوجود معنى ،
إذ كلّ معنى يفرض غير الإرادة ، يصحّ وجوده ، ولا يكون أمرا.
وأمّا ما يتعلّق
بالفاعل ، فالقدرة غير مؤثّرة ، إذ تعلّق كونه قادرا به وهو امر كتعلّقها به وهو
غير امر.
ولأنّ كونه قادرا
لا يؤثّر إلّا في الإيجاد ، وكونه أمرا حكم زائد على الوجود.
وأمّا كونه عالما
، فإمّا أن يراد به كونه عالما بذات الامر ، والمأمور به ، أو كونه عالما بأنّ
الكلام أمر.
والأوّلان باطلان
، فإنّه قد يكون عالما بذات الامر والمأمور به ، ولا يكون كلامه أمرا.
والثالث باطل ،
لأنّ كلامنا فيما به صار أمرا ، فيجب أن يذكر الوجه فيه ، ثمّ يعلّق العلم به ، إذ
العلم غير مؤثّر في المعلوم ، وإلّا لكان علمنا بصفات القديم تعالى وصفات الأجناس
هو المؤثّر فى كونه تعالى على صفاته ، وكون الأجناس على ما هي عليه.
وأمّا كونه مدركا
أو مشتهيا أو نافرا فغير مؤثّر ، إذ قد يكون كذلك ، ويكون كلامه تارة أمرا وأخرى
غيره.
فلم يبق إلّا كون
فاعله مريدا للمأمور به ، لا لكونه أمرا ، وإلّا لجاز أن
يكون أحدنا أمر
بما لا يريده ، أو بما يكرهه غاية الكراهة.
وأيضا لو صحّ أن
يأمر بما لا يريد ، لصحّ أن يأمر بالماضي والقديم.
وأيضا لمّا صحّ في
الخبر أن يكون خبرا باعتبار إرادة كونه خبرا لا باعتبار إرادة المخبر عنه ، صحّ
تعلّق الخبر بالماضي والقديم ، ولمّا امتنع ذلك في الأمر ، علمنا أنّه إنّما يكون
أمرا إذا تعلّقت الإرادة بالمأمور به .
وهذا الكلام على
طوله فيه نظر ، للمنع من كون التماثل حسّا يدلّ على التماثل في نفس الأمر ، وباقي
كلامه مبنيّ على أصول المثبتين ، وهي ضعيفة.
واحتجّت الأشاعرة
على أنّ الإرادة ليست شرطا بوجوه :
الأوّل : لو كانت
الأمريّة صفة للصّيغة ، لكانت إمّا أن تكون حاصلة لمجموع الحروف ، وهو محال ، إذ
لا وجود لذلك المجموع ، أو الآحاد ، فيكون كلّ واحد من الحروف الّتي اشتقّت صيغة
افعل منها أمرا على الاستقلال.
الثاني : صيغة
افعل تدلّ بالوضع على معنى ، وذلك المعنى هو إرادة المأمور ، وإذا كانت الإرادة
نفس المدلول ، وجب ألا تفيد الصيغة الدالّة عليها صفة ، قياسا على سائر المسمّيات
والأسماء.
الثالث : يلزم أن
يكون قوله تعالى : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ
آمِنِينَ) و (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما
أَسْلَفْتُمْ) أمرا لأهل الجنة ، والأمر إنّما يتحقّق بوعد ووعيد ، فتكون
دار الآخرة دار تكليف ، وهو باطل إجماعا.
__________________
الرابع : يلزم أن
يكون الشخص امرا لنفسه ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ من قال لنفسه «افعل» مع إرادة الفعل من نفسه ، قد وجد منه المقتضي للأمر ،
فيكون أمرا.
وأمّا بطلان
التّالي : فإنّ الأمر هو المقتضي للفعل ، وأمره لنفسه لا يكون مقتضيا للفعل ، بل
المقتضي إنّما هو الدّاعى.
الخامس : لو كان
الأمر إنّما يكون أمرا إذا أراد الامر الفعل ، لم يجز أن يستدلّ بالأمر على
الإرادة ، لأنّه لا يعلم أمرا قبل العلم بالإرادة.
السّادس : أهل
اللغة قالوا : الأمر هو قول القائل : افعل مع الرتبة ، ولم يشترطوا الإرادة ، ولو
كانت شرطا لذكروها ، كما ذكروا الرّتبة ، وصار كقولهم : الأسد اسم لمسمّاه في أنّه
لا يشترط فيه الإرادة.
السّابع : قد يأمر
السيّد عبده بما لا يريد إظهارا لتمرّده ، كما سبق.
الثامن : أمر الله
تعالى إبراهيم بذبح إسماعيل ولم يرده.
والجواب عن الأوّل
: الأمريّة كالخبريّة ، فإنّهما صفتان معقولتان ، وإن لم تكونا قائمتين باللّفظ ،
فبالوجه الّذي عرفت صيغة الخبريّة ، تعرف صيغة الأمريّة.
والجواب فيهما
واحد ، وهو : أنّ الصيغتين عقليّتان تستدعيان محلّا عقليّا ، أمّا خارجيّا فلا.
وعن الثاني : أنّ
الصّيغة لما وجدت مع غير الأمر ، افتقر إلى المميّز وهو الإرادة ، وكذا كلّ لفظ
مشترك إنّما يدلّ على بعض معانيه دون البعض بالإرادة.
وعن الثالث : يجوز
أن يكون قد أراد ذلك منهم ، لأنّ في علمهم بإرادته ذلك منهم ، زيادة مسرّة ، ولا
يمتنع أن يكون ذلك إطلاقا وليس بأمر ، كما أنّ قوله لأهل النّار : (اخْسَؤُا) ذمّ وليس بأمر ، كما نقول لمن نذمّه : «إخسأ».
والأصل أنّ إرادة
الصيغة قد وجدت ، وكذا وجد إرادة المأمور ، لكن لمّا لم توجد الإرادة الثالثة وهي
إرادة دلالة الصّيغة على الأمر ، لم يكن أمرا.
وعن الرابع :
المنع من الملازمة ، فإنّه لا يلزم من وجود الإرادة الّتي هي شرط وجود الأمر ،
تحقّق المشروط ، فإنّ الأمر يعتبر فيه الرتبة والاستعلاء ، فإن عقل ذلك في الشخص
نفسه ، فليعقل في الأمر.
وعن الخامس : انّا
لا نستدلّ على الإرادة بالأمر من حيث كان أمرا ، بل من حيث إنّه على صيغة «افعل»
وقد تجرّد ، لأنّ الصيغة موضوعة للإرادة عند بعضهم ، فكلام الحكيم يجب حمله على
موضوعه إذا تجرّد.
وعندنا أنّ هذه
الصّيغة جعلت في اللّغة طلبا للفعل ، فإذا بان لنا أنّه لا معنى لكونها طلبا للفعل
، إلّا أنّ المتكلّم بها قد أراده ، وأنّه هو غرضه ، علمنا بذلك الإرادة عند علمنا
بالصّيغة.
وعن السادس : يجوز
أن يكون قد تركوا ذكر الإرادة لظهورها.
وأيضا فإنّهم لم
يشرطوا انتفاء القرائن ، والمخالف يشرط انتفاءها.
وأيضا فإنّهم
أجمعوا على أنّ الأمر هو الطّلب للفعل ، ونحن نعلم اتّحاده مع الإرادة ، ولو
فرضناه مغايرا لكان ذلك كلاما في المعقول لا في اللّغة.
__________________
قولهم : الأسد لا
يعتبر في كونه اسما لمسمّاه الإرادة إن أرادوا به أنّ الواضع لهذا الاسم وضعه
للأسد ، فصار اسما له ، من دون أن يريد تسميته بذلك ، فذلك باطل ، لأنّا نعلم أنّه
قد أراد ذلك.
وإن أرادوا أنّا
نحن نكون مستعملين لاسم الأسد في معناه من دون أن نريد ذلك ، فهو باطل أيضا ، إذ
لا بدّ من أن نريد ذلك.
وإن أرادوا أنّه
لا يكون اسما له في أصل الوضع ، بأن نريد نحن أن يكون موضوعا له ، [فصحيح] لأنّ
وضع الواضع الأسماء للمعاني لا يقف على إرادتنا ، فكذلك اسم الأمر لا يكون واقعا
على الصيغة في أصل الوضع بإرادتنا.
مع أنّ ذلك خارج
عمّا نحن فيه ، لأنّ الّذي نحن فيه هو : أنّ صيغة الأمر هل تستحقّ الوصف بأنّها
أمر وإن لم يكن قد أريد بها الفعل ، أم لا يجوز أنّه أن يقال : إنّ جسم الأسد
يستحقّ أن يوصف بأنّه أسد ، وإن لم يقصد بجسمه شيئا من الأشياء؟.
وعن السابع :
المنع من كونه أمرا وطلبا ، كما يقولون : إنّه لم يرد ، بل أنّه موهم للغلام أنّه
طالب منه ، وامر له.
وعن الثامن : أنّ
ما أمره به قد أراده ، وهو مقدّمات الذّبح ، أو أمره بالذّبح نفسه ، وقد فعله ،
لكنّ الله تعالى كان يلحم ما يفريه إبراهيم شيئا فشيئا إن قلنا إنّ إبراهيم رأى في
المنام صيغة الأمر.
وقول اسماعيل (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) يحتمل ما يؤمر في المستقبل.
__________________
المبحث الثّامن :
في جواز إقامة كلّ من الأمر والخبر مقام صاحبه
اعلم أنّ الأمر
يدلّ على وجود الفعل وطلب تحصيله ، والخبر يدلّ على وجود الفعل أيضا ، فقد اتّفقا
وتشابها من هذا الوجه ، وقد عرفت أنّ المشابهة مصحّحة للتجوّز ، فجاز أن يتجوّز
بكلّ من الأمر والخبر عن صاحبه.
أمّا الأمر فقد
يقوم مقام الخبر في مثل قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا لم تستح فاصنع ما شئت ، معناه : صنعت ما شئت.
وأمّا العكس فقوله
تعالى : (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ)(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ
بِأَنْفُسِهِنَ).
وأيضا فقد تجوز
إقامة النهي مقام الخبر ، وبالعكس ، كقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تنكح اليتيمة حتّى تستأمر معناه : لا تنكحوا إلى غاية الاستئمار.
وكقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا تنكح المرأة المرأة ولا المرأة نفسها ، وكقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُ إِلَّا
الْمُطَهَّرُونَ).
والمشابهة ما
تقدّمت ، فإنّ هذا الخبر يدلّ على عدم الفعل ، والنهي كذلك.
__________________
الفصل الثالث
في مقتضيات الصّيغة
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في أنّ الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟
هذه مسألة شريفة
يبتني عليها أكثر الأحكام الشرعيّة ، وقد طال التّشاجر بين القوم فيها ، واختلفوا
اختلافا عظيما.
ونحن نذكر الخلاف
، وحجّة كلّ فريق ، وتوضيح ما عندنا في ذلك إن شاء الله تعالى.
فنقول : أمّا مذهب
من جعل «افعل» للإباحة والتهديد فقد سلف بطلانه ، بقي تقرير مذاهب من جعلها
للترجيح ، وقد اختلفوا ، فذهب أكثر الفقهاء منهم الشافعي وجماعة من المتكلّمين
وأبو عليّ الجبائيّ في أحد قوليه ، وأبو الحسين البصري ، وفخر الدّين الرّازي إلى
أنّها حقيقة في الوجوب ، مجاز في الندب.
فقال الجويني :
لفظة افعل طلب محض لا مساغ فيه لتقدير الترك ولا للتخيير فيه ، وليس هو للإيجاب ،
فإنّ الوجوب لا يعقل إلّا بالتقييد بالوعيد
على الترك ، وليس
ذلك مقتضى تمحيض الطّلب ، فإذن الصّيغة لتمحيض الطلب ، والوجوب مستدرك من القرائن.
وقال قوم : إنّها
حقيقة تفيد النّدب ، وبه قال جماعة من المتكلّمين والفقهاء ، وهو منقول عن
الشّافعي أيضا ، ونقله قوم عن أبي هاشم.
ونقل أبو الحسين
البصري عنه أنّها تقتضي الإرادة ، فإذا قال القائل لغيره : «افعل» أفاد ذلك أنّه
مريد منه الفعل ، فإن كان القائل حكيما ، وجب كون الفعل على صفة زائدة على حسنه
يستحقّ لأجلها المدح ، إذا كان المقول له في دار التكليف ، واحتمل الوجوب والنّدب
، فإذا لم يدلّ دليل على الوجوب وجب نفيه ، والاقتصار على المتحقّق وهو الندب.
وربّما قال قوم :
إنّه يفيد الإيجاب والفرق بين الإيجاب والوجوب : أنّ الإيجاب دلالة الأمر على أنّ
الامر أوجب الفعل المأمور به ، والوجوب دلالة الأمر على أنّ المأمور به له صفة
الوجوب ، والخلاف في ذلك بين الأشاعرة والمعتزلة.
وقال السيد
المرتضى : إنّه مشترك بين الوجوب والندب من حيث اللّغة ، لكن العرف الشّرعي نقله
إلى الوجوب.
وقال قوم : إنّه
مشترك بين الوجوب والندب مطلقا.
وآخرون قالوا :
إنّه حقيقة في القدر المشترك بينهما وهو الترجيح مطلقا ،
__________________
ويقرب مذهب هؤلاء من مذهب القائل بالنّدب.
وتوقّف أبو الحسين
الأشعري وجماعة من أصحابه كالقاضي أبي بكر والغزالي وغيرهما.
والوجه عندي :
أنّها من حيث اللّغة موضوعة للطّلب مطلقا ، ومن حيث الشّرع للوجوب.
أمّا الأوّل
فلوجوه :
الأوّل : الطّلب
معنى تشدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ يدلّ عليه ، وهو لفظة «افعل»
، إذ لا لفظة له سواها.
الثاني : الطّلب
من حيث هو جنس للمانع من النقيض وعدمه ، وكلّ واحد منهما فصل له ، ولا يوجد إلّا
في أنواعه.
واللفظ الدالّ
عليه مع اقترانه بأحد الفصلين هو «افعل» ، وكذا مع اقترانه بالفصل الآخر ، من غير
أولويّة لأحدهما في إطلاقه عليه ، فوجب أن يكون حقيقة فيه.
الثالث : صيغة «افعل»
قد استعملت تارة في الوجوب ، وأخرى في
__________________
الندب ، والاشتراك
والمجاز على خلاف الأصل ، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما.
الرابع : قال أهل
اللغة : لا فرق بين الأمر والسؤال إلّا من حيث الرّتبة ، وذلك يقتضي اشتراكهما في
جميع الصفات سوى الرّتبة ، فكما أنّ السؤال لا يدلّ على الإيجاب بل مطلق الطّلب ،
فكذا الأمر.
وأمّا الثاني
فلوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) وليس استفهاما ، فهو ذمّ ، كما يقول السيّد لعبده : ما
منعك من الفعل وقد أمرتك ، إذا لم يكن مستفهما.
ولو لم يكن للوجوب
امتنع الذّمّ ، ولكان لإبليس أن يقول : إنّك لم توجبه عليّ فلي الترك.
لا يقال : لعلّ
الأمر في تلك اللّغة يفيد الوجوب ، فلم قلت : إنّه في هذه اللغة كذلك؟
لأنّا نقول : ظاهر
الآية يقتضي ترتّب الذّمّ على مخالفة الأمر من حيث هو ، فتخصيصه بأمر خاصّ خلاف
الظّاهر .
وفيه نظر أمّا
أوّلا : فلأنّه حكاية حال ، وسيأتي بيان عدم عمومها.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ الذّمّ وقع على المخالفة مع الاستكبار والافتخار.
__________________
ولأنّ سياق الآية
يفهم منها وجوب السّجود.
وأمّا ثالثا ،
فللمنع من كون قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ) صيغة ذمّ ، نعم هو لوم يحسن عقيب ترك المأمور مطلقا.
الثاني : قوله
تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) ذمّهم على الترك عند مطلق الأمر ، ولو لم يكن للوجوب قبح
الذّم ، كما يقبح لو قال : الأولى لكم الفعل.
لا يقال : الذمّ
إنّما هو على عدم اعتقاد حقيقة الأمر ، لقوله (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ
لِلْمُكَذِّبِينَ).
ولأنّ صيغة «افعل»
قد تفيد الوجوب لقرينة ، فلعلّ ذلك الأمر وجدت معه القرينة.
لأنّا نقول : إن
كان المكذّب هو التارك لمّا قيل لهم : اركعوا ، جاز استحقاقهم للذّمّ من حيث
الترك للركوع ، والويل من حيث التكذيب ، لأنّ الكافر مخاطب عندنا بالفروع.
وإن كان غيره ، لم
يتناف ذمّ مأمور بترك ما أمر به ، وإثبات الويل لآخر بسبب تكذيبه ، والقرينة
منتفية ، فإنّ الذمّ بمجرّد أنّهم تركوا الرّكوع عقيب الأمر .
__________________
وفيه نظر ، لجواز
استحقاق الذّم بسبب ترك النظر والاعتبار في أنّ الأمر الوارد بالرّكوع هل هو
للوجوب فيفعلونه ، أو للندب فيتخيّرون فيه ، فإنّ ذلك يدلّ على ترك المبالاة
بالتكاليف ، بخلاف قوله : الأولى لكم الفعل.
أو الذّمّ على ترك
الركوع عند مطلق الأمر ، سواء كان للوجوب أو النّدب ، وهو ممّا يستحقّ به الذّم.
وأيضا فهو حكاية
حال (أو يمنع كونه ذمّا) ، وقد سلف.
الثالث : إن كان
إلزام الأمر ملزما للفعل ، كان الأمر ملزما للفعل ، والمقدّم ثابت ، فالتّالي
مثله.
بيان الشرطية : أنّ
الأمر إذا لم يكن ملزما للفعل ، كان إلزام الأمر إلزاما لشيء لا يوجب فعل المأمور
به ، فوجب ألا يكون ذلك القدر سببا للزوم المأمور به.
وبيان المقدّم ،
قوله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ
وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ).
والقضاء الإلزام ،
وإذا انتفت الخيرة للمؤمنين في المأمور به إذا ألزم الله ورسوله ، ثبت المقدّم.
والأمر في الآية
يراد به المأمور به ، إذ لو أجريناه على ظاهره لصار معنى الآية : أنّه لا خيرة
للمكلّف في صفة الله تعالى ، وهو غير مفيد.
__________________
وإذا انتفت الخيرة
، بقي إمّا الوجوب أو الحظر.
والثاني باطل
بالإجماع ، فتعيّن الوجوب.
والحاصل أنّ
المراد من قوله : قضى «ألزم» ومن قوله : أمرا «مأمور به» وما لا خيرة فيه من
المأمور أن يكون واجبا.
لا يقال : القضاء
: الإلزام ، والأمر قد يرد بمعنى الشيء ، فمعنى الآية : إذا ألزم الله ورسوله شيئا
فلا خيرة.
ونحن نقول به ،
فإنّ الله تعالى إذا ألزمنا شيئا كان واجبا علينا ، لكن البحث في أنّه إذا أمر
بشيء فقد ألزمنا ، وهو ممنوع.
لأنّا نقول :
الأمر حقيقة في القول المخصوص لا في الشيء ، دفعا للاشتراك ، وحينئذ إذا ألزم الله
أمرا وهو بأن يوجّهه على المكلّف لزمه وإن كره.
وإلزام الأمر غير
إلزام المأمور به ، فإنّ الحاكم إذا حكم بإباحة شيء ، فقد ثبت إلزام الحكم دون
المحكوم به ، فكذا هنا ، وإلزام الأمر عبارة عن توجيهه على المكلف.
ثمّ ، الأمر إن لم
يقتض الوجوب لم يكن إلزام الأمر إلزاما للمأمور به ، وإن كان مقتضيا للوجوب فهو
الّذي قلناه .
وفيه نظر ، لأنّا
مع تسليم أنّ الأمر حقيقة في القول لا يلزم ما ذكروه ، لأنّ معنى الآية : أنّه تعالى
إذا ألزم أمرا كان واجبا ، ونحن نقول به ، وإنّما يتمّ مطلوبهم لو كان معنى «قضى» «أمر».
__________________
واعترض أيضا :
بأنّ سبق الذّهن إلى إيجاد الأمرين يوجب حمل الأوّل على الشيء وإن كان مجازا فيه.
الرابع : تارك ما
أمر الله تعالى ورسوله مخالف لذلك الأمر ، وكلّ مخالف لذلك الأمر يستحقّ العقاب.
أمّا الأولى ،
فلأنّ موافقة الأمر هي الإتيان بمقتضاه ، فالضدّ وهو المخالفة عبارة عن الإخلال
بمقتضاه.
وأمّا الثانية ،
فلقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ).
أمر مخالف الأمر
بالحذر عن العقاب ، وإنّما يحسن بعد قيام المقتضي لنزول العذاب ، وهو معنى قولنا : الأمر للوجوب.
لا يقال نمنع
تفسير الموافقة بما قلتم ، بل الإتيان بما يقتضيه الأمر على الوجه الّذي يقتضيه ،
إذ لو اقتضى الأمر الندب ، وأتى به على سبيل الوجوب ، كان مخالفا.
أو بالاعتراف بحقيّة ذلك الأمر ، وأنّه واجب القبول ، ومخالفته إنكار
ذلك.
__________________
سلّمنا ، لكن لو
كان مخالفة الأمر ترك المأمور به ، لكان ترك المندوب مخالفة أمره تعالى ، وذلك وصف
ذمّ.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ مخالف الأمر يستحقّ العقاب.
والآية لا تدلّ
على أمر من يكون مخالفا للأمر بالحذر ، بل على الأمر بالحذر عن مخالف الأمر.
سلّمنا ، لكنّها
دالّة على أنّ المخالف عن الأمر يلزمه الحذر.
فلم قلت : إنّ
مخالف الأمر يلزمه الحذر؟
ولا نسلّم أنّ
لفظة «عن» صلة زائدة ، لأنّ الأصل في الكلام الحقيقة ، خصوصا في كلامه تعالى.
سلّمنا أنّ مخالف
الأمر مأمور بالحذر عن العقاب ، فلم قلت : إنّه يجب عليه الحذر؟ وإنّما يلزم لو
كان الأمر للوجوب ، وفيه النزاع.
ولا ينفع الاعتذار
بحسن الحذر الملزوم لقيام المقتضي لنزول العقاب ، للمنع من اشتراط قيام
المقتضي للعقاب في حسن الحذر ، فإنّ الحذر يحسن عند احتمال العقاب ، والاحتمال هنا
قائم.
سلّمنا ، لكن نمنع العموم ، لأنّ قوله «عن أمره» يفيد أمرا واحدا ،
وهو مسلّم.
لأنّا نقول :
العبد إذا امتثل أمر السّيد حسن أن يقال : إنّه موافق للسيّد ، وإذا لم يمتثل قيل
: إنّه خالفه وما وافقه.
__________________
وما ذكرتموه فيه
تسليم أنّ موافقة الأمر إنّما تحصل عند الإتيان بمقتضاه ، ومقتضى الأمر هو الفعل و
«افعل» لا يدلّ إلّا على اقتضاء الفعل ، فإذا لم يوجد الفعل لم يوجد مقتضاه ، فلم
توجد الموافقة ، فتحصل المخالفة ، لانتفاء الواسطة.
واعتقاد حقّيّته
ليس موافقة الأمر ، بل موافقة الدّليل الدّال على أنّ ذلك الأمر حقّ ، فإنّ موافقة
الشيء عبارة عمّا يستلزم تقرير مقتضاه.
فالاعتراف بحقّيّة
الأمر بعد قيام الدّليل الدال على حقّيّته ، يكون ملزما تقرير مقتضى ذلك الدّليل.
والأمر لمّا اقتضى
دخول الفعل في الوجود ، فموافقته عبارة عمّا تقرّر دخوله في الوجود ، وإدخاله فيه
يقرّر دخوله [في الوجود] فموافقة الأمر فعل مقتضاه.
ونمنع كون المندوب
مأمورا به ، فإنّه نفس النزاع.
[قوله] ويجوز أن
يكون قوله «فليحذر» أمرا بالحذر عن المخالف ، لا أمرا للمخالف بالحذر.
مدفوع ، لاتّفاق
النّحاة على أنّ تعلّق الفعل بفاعله أقوى من تعلّقه بمفعوله ، فلو جعلناه أمرا
للمخالف بالحذر ، لأسندناه إلى فاعله ، ولو جعلناه أمرا بالحذر عن المخالف ، لم
يتعيّن المأمور به ، لأنّ الّذين يتسلّلون لواذا ، ليس
__________________
المأمور ، لأنّهم
الّذين خالفوه ، فلو أمروا بالحذر عن المخالف ، لأمروا بالحذر عن أنفسهم.
وأيضا ، لو جعلناه
أمرا بالحذر عن المخالف ، لصار هكذا : فليحذر المتسلّلون لواذا عن الذين يخالفون [أمره]
، فيبقى قوله : «أن يصيبهم» ضائعا ، إذ لا يتعدّى الحذر إلى مفعولين.
قوله : الآية تدلّ
على وجوب الحذر عمّن يخالف عن الأمر ، لا عمّن يخالف الأمر.
قلنا : كلمة «عن»
للمجاوزة ، فلمّا كانت مخالفة أمر الله تعالى بعدا عن أمره تعالى ، ذكره بلفظة «عن».
ولا ندّعي وجوب
الحذر ، بل جوازه المشروط بالمقتضي لوقوعه ، وإلّا لكان عبثا.
والعموم ثابت ، لاستثناء كلّ واحد من المخالفات.
ولأنّه رتّب
استحقاق العقاب على المخالفة ، فيشعر بالعلّيّة.
ولأنّ استحقاق
العقاب في البعض لعدم المبالاة ، وهو يناسب الزجر ، فيثبت في الجميع.
الخامس : تارك
المأمور به عاص ، فيستحقّ العقاب.
أمّا الصغرى ،
فلقوله تعالى : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي)(وَلا أَعْصِي لَكَ
__________________
أَمْراً)(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ).
وأمّا الكبرى ،
فلقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ).
لا يقال : نمنع
الصغرى لقوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ
ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) فإنّ العصيان لو كان هو الترك ، كان تكريرا.
وللإجماع على أنّ
الأمر قد يكون للاستحباب ، فيكون تارك المندوب عاصيا.
سلّمنا ، لكن لا مطلقا ، بل في أمر الوجوب ، فإنّ قوله : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) حكاية حال يكفي فيه الواحد ، فجاز أن يكون في الواجب.
سلّمنا ، لكنّ العاصي إنّما يستحقّ العقاب المقترن بالخلود مع الكفر
، لا مطلقا.
لأنّا نقول : لا
تكرير ، إذ الأوّل سيق لنفي الماضي ، والثاني لنفي المستقبل.
ونمنع كون المندوب
مأمورا به حقيقة ، بل مجازا ، لكون الاستحباب لازما للوجوب .
وكون الصّيغة
للوجوب ، محافظة على عموم (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
__________________
وَرَسُولَهُ) أولى من القول بأنّ المستحبّ مأمور به ، محافظة على صيغ
الأوامر الواردة في المندوبات ، للاحتياط .
ولأنّ حمله على
الوجوب يدخل فيه أصل الترجيح ، فيكون لازما للمقتضي ، فجاز جعله حينئذ مجازا في
الأصل الترجيح.
ولو جعل لأصل
الترجيح لم يبق الوجوب لازما ، فلم يمكن جعله مجازا عن الوجوب ، وكان الأوّل أولى.
والله تعالى رتّب
اسم المعصية على مخالفة الأمر ، فيكون المقتضي لاستحقاق هذا اللفظ هذا المعنى ،
فيعمّ الاسم لعموم ما يقتضي استحقاقه.
والخلود يطلق على
اللّبث الطويل لا الدّائم .
وفيه نظر ، فإنّ
العصيان إنّما يفهم منه عرفا مخالفة الأمر المفيد للوجوب ، لا الشامل له وللندب ،
إذ لولاه لكذبت الكبرى ، فإنّ العقاب إنّما يستحقّ مع العصيان في الواجب قطعا.
وصرف الأوّل إلى
الماضي ممنوع ، لأنّها حقيقة في المستقبل ، وليس ذلك أولى من أن يقال : لا يعصون
في أمر الواجب ، إذ هو المفهوم من العصيان كما تقدّم ، «ويفعلون ما يؤمرون» من
المندوبات.
والاحتياط ممنوع ،
إذ إيقاع المندوب على سبيل الوجوب وجه قبح ، فلا يقع مطلوبا للشّارع.
__________________
ولا ينحصر وجه
التجوّز في التّلازم ، فقد يتجوّز بأحد الضدّين عن الآخر ، بل العلاقة وهي موجودة
بين الواجب والندب من حيث التقابل ، أو بين الواجب وأصل الترجيح من حيث الكل
والجزء.
ولا نسلّم أنّ
المعصية مرتّبة على مخالفة مطلق الأمر ، بل الّذي للوجوب ، وقد تقدّم.
وللدليل تقرير آخر
، وهو أنّ تارك المأمور به عاص ، لأنّ بناء العصيان على الامتناع ، ومنه سمّيت
العصا ، للامتناع ، والجماعة عصا ، لمنع اجتماعهم ، والكلام مستعص أي ممتنع حفظه.
وقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو لا أنّا نعصي الله لما عصانا» أي لم يمتنع من إجابتنا.
فإذا كان لفظ «افعل»
يقتضي الفعل ، كان الامتناع عنه عصيانا ، فيكون الأمر للوجوب ، لأنّ الإنسان إنّما
يكون عاصيا للأمر وللامر إذا أقدم على ما يمنع الامر منه ، فإنّه تعالى لو أوجب
علينا فعلا ولم نفعله كنّا عصيناه ، بخلاف ما لو ندب.
ولأنّ العاصي
للقول مقدّم على مخالفته ، والمخالفة إمّا بالإقدام على ما يمنع منه الامر ، أو قد
تثبت بما لا يتعرّض له الأمر بمنع ولا إيجاب.
والثاني باطل ،
وإلّا لكنّا عصيناه بالصدقة اليوم إذ أمرنا بالصلاة غدا ، فيتعيّن الأوّل ، وإذا
كان تارك ما أمر به عاصيا للأمر ، والعاصي للأمر هو المقدم على مخالفة مقتضاه ،
والمقدم على مخالفة مقتضاه ، مقدم على ما يحظره الامر ، ثبت أنّ تارك المأمور به
يحظره الامر ، وهو معنى الوجوب .
__________________
وفيه نظر إذ
العصيان ليس مطلق الترك ، وإلّا لكان تارك المباح عاصيا ، من حيث امتنع عن فعله ،
بل تارك المحرّم ، وهو باطل بالعرف إجماعا.
وكذا تارك المندوب
لا يكون عاصيا عرفا ، بل العاصي في العرف هو التارك لما أوجبه الأمر.
والاستدلال
بالاشتقاق ، قد عرفت ضعفه.
السادس : دعا صلىاللهعليهوآلهوسلم أبا سعيد الخدري وهو في الصّلاة فلم يجبه ، فقال عليهالسلام : ما منعك ألا تستجيب ، وقد سمعت قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)؟ .
ذمّه على ترك
الاستجابة عند مجرّد الأمر ، ولو لا أنّه للوجوب ، لما صحّ ذلك.
لا يقال : لا يصحّ
الاستدلال بخبر الواحد في العلميّات.
وأيضا نمنع ذمّ
النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم له ، بل أراد بيان مخالفة دعائه لدعاء غيره.
لأنّا نقول : بل
المسألة ظنيّة فيكتفى فيها بالظنّ ، وهي وإن لم يكن عملية إلّا أنّها ذريعة إلى العمل ، إذ لا فرق بين حصول ظنّ
الحكم وحصول
__________________
سببه ، في جواز
التمسّك بهما في العمليّات .
وإذا لم يكن الأمر
للوجوب ، والمانع من الكلام وهو الصّلاة : فلم لم يجز من الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم السؤال عن المانع؟ فالسؤال إنّما يصحّ لو كان (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ) للوجوب.
ولأنّ ظاهر الكلام
، يقتضي اللّوم ، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر ، وذلك إنّما يكون إذا كان
الأمر للوجوب.
وفيه نظر ، لأنّه
حكاية حال ، فجاز أن يكون ذلك الدّعاء واجبا ، فلهذا لامه على ترك الاستجابة.
سلّمنا ، لكن قوله
: (اسْتَجِيبُوا) أمر إيجاب ، لا من حيث إنّ الأمر موضوع له ، بل باعتبار
أنّ وجوب إجابة النداء تعظيما لله تعالى ورسوله ، ونفيا للإهانة بالإعراض عنه ،
لما فيه من نقصه في النفس ، وإفضاء ذلك إلى الإخلال بمقصود البعثة.
السابع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لو لا أن أشقّ
على أمّتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة» .
نفى الأمر ، مع
ثبوت الندبيّة بالإجماع ، فلا يكون المندوب مأمورا به.
لا يقال : يجوز أن
يريد «لأمرتهم على وجه الوجوب» ونحن نجوّز ورود الأمر كذلك.
__________________
لأنّا نقول : كلمة
«لو لا» دخلت على مطلق الأمر ، فلا يكون حاصلا.
وفيه نظر لاحتمال
أن يكون «لأمرتهم» مجازا في «ألزمتهم» ، لما بينهما من المناسبة والعلاقة الّتي
بين العامّ والخاصّ ، خصوصا مع قرينة ثبوت المشقّة والندبيّة.
وليس حمل هذا على
الحقيقة ، وحمل أوامر الندب على المجاز ، أولى من العكس ، بل ما قلناه أولى ،
لأنّه تجوّز في هذا اللفظ الواحد ، والمندوب كثير.
الثامن : قال عليهالسلام لبريرة ، وقد عتقت تحت عبد وكرهته : «راجعيه» ، فقالت : أتأمرني
بذلك؟ فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا إنّما أنا شفيع ، فقالت : لا حاجة لي فيه .
نفى الأمر مع ثبوت
الشفاعة الدّالة على الندبيّة ، ونفي الأمر مع ثبوت الندبيّة ، يقتضي أنّ المندوب
غير مأمور به ، وعقلت أنّه لو كان أمرا لكان واجبا ، والنبيّ صلىاللهعليهوآله قرّرها عليه .
وفيه نظر لأنّ
قولها : «أتأمرني» أرادت به أمر الإيجاب ، للعلم باستحباب قبول شفاعته صلىاللهعليهوآله لا مطلق الأمر.
__________________
وقيل أيضا : إنّما سألت عن الأمر ، طلبا للثواب بطاعته ،
والثواب والطاعة قد يكون بفعل المندوب ، وليس في ذلك ما يدلّ على أنّها فهمت من
الأمر الوجوب ، فحيث لم يكن أمرا لمصلحة أخرويّة لا بجهة الوجوب ، ولا الندب ،
قالت : لا حاجة لي فيه.
قوله : إجابة الشّفاعة مندوب إليها ، فإذا لم يكن مأمورا بها ،
تعيّن أن يكون الأمر للوجوب.
قلنا : إذا سلّم
أنّ الشفاعة في خبر بريرة غير مأمور بإجابتها ، فلا نسلّم أنّها كانت في تلك
الصّورة مندوبة ، ضرورة أنّ المندوب عندنا مأمور به.
التاسع : تمسّك
الصحابة بالأمر على الوجوب ، ولم يظهر من أحد [منهم] إنكاره ، فكان إجماعا.
أمّا المقدّمة
الأولى : فلأنّهم تمسّكوا في إيجاب الجزية على المجوس بما روى عبد الرّحمن أنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب» .
وأوجبوا غسل
الإناء من ولوغ الكلب بالأمر به ، وإعادة الصلاة المنسيّة عند الذكر بقوله «فليقضها
إذا ذكرها».
وأمّا عدم الإنكار
، فلأنّه لو كان لنقل.
__________________
لا يقال : كما
اعتقدوا الوجوب عند هذه الأوامر ، كذا لم يعتقدوه عند غيرها [نحو] (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ).
(فَكاتِبُوهُمْ).
(فَانْكِحُوا).
(فَاصْطادُوا) وغير ذلك.
وليس القول بعدم
اعتقاد الوجوب في هذه الصور ، لدليل منفصل ، بأولى من القول باعتقاد الوجوب فيما
ذكرتم ، لدليل منفصل.
لأنّا نقول : لو
لم يكن الأمر للوجوب لم يفده في صورة البتّة ، فكان دليلهم على أخذ الجزية وما
عداه ، غير الأخبار ، فكان يشتهر المأخذ ، وحيث لم يشتهر ، لم يكن ثابتا.
أمّا لو قلنا :
بأنّه للوجوب ، لم يلزم من عدمه في بعض الأوامر ألا يفيد الوجوب ، لاحتمال تخلّف
الحكم لمانع
وفيه نظر ، لأنّه
حكاية حال فلا يعمّ ، وحينئذ يحتمل أنّهم فهموا في تلك الأوامر الوجوب ، لأجل
قرائن اختصّت بها ، وهي ظاهرة ، فإنّ الجزية بنصّ القرآن ، أقصى ما في الباب
اشتباه أنّهم من أهل الكتاب.
وقد ثبت أنّ الكلب
نجس العين ، فافتقر ما يلاقيه إلى الغسل.
__________________
والأمر بالصلاة
أمر بقضائها ، لأنّ الطّلب متحقّق ، وفواته في أحد الوقتين لا يستلزم فواته مطلقا.
العاشر : لفظة «افعل»
إمّا حقيقة في الوجوب فقط ، فهو المطلوب ، أو الندب فقط ، وهو باطل ، وإلّا
لم يكن الواجب مأمورا به ، لأنّه راجح مانع من النقيض ، وهو مخالف لما يجوز معه
النّقيض.
ولا ينعكس ، فإنّا
نسلّم أنّ المندوب غير مأمور به ، وهو مذهب جماعة كثيرة ، ولا يمكن أن يقال :
الواجب غير مأمور به.
أو فيهما معا إمّا بالتواطؤ ، فلا يمكن جعله مجازا في الواجب ، لأنّه
أخصّ ، فلا يكون لازما ، بخلاف العكس ، وهو جعله حقيقة في الوجوب ، فإنّه يمكن
جعله مجازا في أصل الترجيح.
أو بالاشتراك
اللّفظي ، وهو خلاف الأصل.
أو لا في شيء
منهما ، وهو خلاف الإجماع .
وفيه نظر ، فإنّ
كونه حقيقة في الندب لا يمنع من استعماله في الواجب على سبيل المجاز.
سلّمنا ، فلم لا
يكون حقيقة في القدر المشترك؟.
__________________
قوله : فلا يمكن
جعله مجازا في الواجب.
قلنا : ممنوع فإنّ
جهات المجاز لا تنحصر في اللّزوم.
سلّمنا ، لكن أيّ
حاجة إلى جعله مجازا في الواجب ، فإنّه إذا كان حقيقة في المشترك بينه وبين الندب
، كان تناوله على سبيل الحقيقة.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يكون حقيقة في كلّ منهما.
قوله : يلزم
الاشتراك ، وهو خلاف الأصل.
قلنا : لا شكّ في
استعماله فيهما ، فإمّا أن يكون على السّواء أو لا.
فإن كان الأوّل ،
ثبت الاشتراك ، إذ هو أولى من النقل.
وإن كان الثاني ،
فإمّا أن يكون الغالب هو الندب ، فيكون حقيقة فيه ، وهو المطلوب ، أو الواجب فيلزم
مخالفة أصلين :
أحدهما : عدم
المجاز.
الثاني : عدم
أصالة براءة الذّمة.
ومع الاشتراك يحصل
مخالفة أصل واحد فيكون أولى.
سلّمنا ، لكن جاز
أن يكون حقيقة في أحدهما.
والإجماع ممنوع ،
فإنّ جماعة ذهبوا إلى أنّه للإباحة ، والوجوب والنّدب زيادة.
الحادي عشر :
العبد إذا لم يفعل ما أمره مولاه ، ذمّه العقلاء ، وعلّلوا حسن ذمّه بترك المأمور
به ، وهو يدلّ على الوجوب.
لا يقال : ليس
الذّمّ لمجرّد الترك ، بل لعلمهم أنّ سيّده كاره للترك.
أو لأنّ الشريعة
دلّت على وجوب طاعة العبد لمولاه.
أو لأنّ السيّد
إنّما يأمر بما فيه نفعه ودفع ضرره ، والعبد يجب عليه إيصال المنافع ودفع المضارّ
عن سيّده.
سلّمنا ، أنّ
الذّم لأجل الترك خاصّة ، لكن نمنع أنّ فعلهم صواب ، فإنّ الأمر لو كان بمعصية لم
يستحقّ العبد الذمّ.
ولأنّ الأمر قد
ورد للندب ، فلو كان ترك المأمور به علّة للذّم ، لكان المندوب واجبا.
لأنّا نقول : إذا
انتقم السيّد من عبده عند عدم الامتثال ، علّل العقلاء الانتقام بعدم الامتثال ،
ولو لا أنّ علّة حسن الانتقام مخالفة الأمر ، لم يصحّ ذلك ، فعلم أنّ كراهة الترك
، لا مدخل لها في هذا الباب.
والشريعة أوجبت
الطاعة فيما أوجبه المولى ، لا مطلقا.
وجلب النفع ودفع
الضّرر ، لا يفيد الوجوب إلّا إذا أوجبه السيّد ، فإنّه لو قال : «لك أن تفعل ذلك
وألا تفعله ، لكن الأولى أن تفعل» ، لم يجب على العبد الفعل ، وكذا لو قام غيره مقامه
.
واشتراط كون الأمر
غير معصية ، مسلّم ، لكن يجب إجراؤه على الوجوب فيما عداه ، والمندوب ليس مأمورا
به .
__________________
وفيه نظر ، إذ من
يعتقد كونه للندب أو للقدر المشترك ، يمنع حسن الذّم بمجرّد مخالفة الأمر المطلق ،
بل مخالفة الأمر الدّالّ على الوجوب.
الثاني عشر : لفظ «افعل»
يدلّ على اقتضاء الفعل ووجوده ، فيكون مانعا من نقيضه ، كالخبر ، فإنّه لمّا دلّ
على المعنى منع من نقيضه.
والجامع : أنّ
اللفظ وضع لإفادة معنى ، فيكون مانعا من النقيض ، تكميلا لذلك المقصود ، وتقوية
لحصوله.
لا يقال : مسلّم
أنّ الدالّ على الشيء مانع من نقيضه ، لكن يجوز أن يدلّ «افعل» على أولويّة
الإدخال في الوجود ، فمنع من نقيضها.
لأنّا نقول :
الفعل مشتقّ من المصدر ، فلا يشعر إلّا به ، ومصدر «اضرب» هو الضرب ، لا أولويّته
، فإشعار الخبر والأمر به ، لا بالأولويّة ، فيمنع من نقيضه ، لا من نقيض
الأولويّة.
وفيه نظر ، فإنّ «افعل»
يدلّ على الطلب ، وهو يمنع من نقيضه ، لكن الطّلب قد يقارن المنع من نقيض المطلوب
، وقد يقارن جوازه ، وهو من حيث طلب ، أعمّ منهما ، فلا إشعار فيه بالوجوب.
الثالث عشر :
الأمر يفيد الرّجحان ، فيكون مانعا من النقيض.
أمّا الأوّل :
فلأنّ المأمور به إن كان خاليا عن المصلحة ، كان مجرّد مفسدة ، فلا يجوز الأمر به.
وإن كان مشتملا
على مصلحة مرجوحة ، فيعارض ما فيه من المصلحة
__________________
مساوية من المفسدة
، ويبقى الزائد من المفسدة مجرّد مفسدة خالية عن المعارض ، فيرجع إلى الأوّل ، وهو
اشتمال الأمر على مفسدة خالصة.
وإن تساويا ، كان
الأمر به عبثا غير لائق بالحكيم.
فلم يبق إلّا أن
يكون مصلحة خالصة ، أو زائدة على المفسدة.
وحينئذ لا يرد الإذن بالترك ، وإلّا لزم تفويت المصلحة الخالصة ،
لأنّه إن وجدت مفسدة مرجوحة ، صارت معارضة بمساويهما من المصلحة ، ويبقى الزائد من
المصلحة مصلحة خالصة ، وتفويت المصلحة الخالصة غير لائق بالحكيم ، لأنّه قبيح عرفا
، فيكون كذلك عند الله تعالى ، لقوله عليهالسلام : ما راه المسلمون حسنا ، فهو عند الله حسن ، وما راه
المسلمون قبيحا ، فهو عند الله قبيح .
والمندوب خفّف
الله تعالى فيه على العبد ، فيبقى الباقي على حكم الأصل.
لا يقال : كما أنّ
الإذن في تفويت المصلحة الخالصة قبيح ، فكذا إلزام المكلّف استيفاء المصلحة ، بحيث
لو لم يستوفها ، استحقّ العقاب قبيح أيضا ، إذ يقبح عرفا : «استوف هذه المنافع
لنفسك ، وإلّا عاقبتك».
لأنّا نقول : إنّه
وارد في جميع التكاليف ، فلو كان معتبرا بطلت .
__________________
وفيه نظر ، فإنّ
الفعل قد يكون مشتملا على مصلحة خالصة عن المفاسد ، ولا يكون واجبا.
نعم إن اشتمل تركه
على مفسدة كان واجبا ، وبهذا الحرف خرج المندوب عن الوجوب.
واعترض أيضا ،
بأنّه لما انتقض كلّ منهما ، وجب الترجيح.
فيه نظر ، فإنّا
نمنع النقض لأنّ الإذن في الترك إذن في إنكار القبيح ، وإلزام استيفاء
المصلحة إلزام بالحسن ، والأوّل قبيح دون الثاني.
الرابع عشر :
الأمر يدلّ على الرجحان قطعا ، وهو لا ينفكّ عن أحد قيدي : المنع من الترك ،
والإذن فيه.
وإفضاء المنع من
الترك إلى الوجود ، أكثر من إفضائه إلى العدم ، وإفضاء الإذن في الترك إلى العدم ،
أكثر من إفضائه إلى الوجود.
ومعلوم أنّ الّذي
هو أكثر إفضاء إلى الرّاجح ، راجح على الّذي يكون إفضاء إلى المرجوح ، فشرعيّة
المنع من الترك راجحة على شرعيّة الإذن فيه.
والعمل بالظنّ
واجب ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «أنا أقضي بالظاهر» .
ولأنّ العمل
بالمرجوح ترجيح بالمرجوح على الرّاجح ، وهو باطل بالضّرورة ، فيتعيّن الراجح.
__________________
ولأنّ العمل
بالفتوى ، والشهادات ، وقيم المتلفات ، وأروش الجنايات ، وتعيين القبلة عند الظنّ
، واجب بالإجماع.
وإنّما وجب ترجيح
الرّاجح على المرجوح ، وهو حاصل هنا ، فوجب العمل به .
وفيه نظر فإنّ
الأمر إذا دلّ على مطلق الرّجحان ، الّذي هو جنس للوجوب والنّدب ، لم يبق فيه
دلالة على الوجوب ، وشرعيّة المنع من الترك ، مرجوحة بالنّسبة إلى شرعيّة الإذن
فيه ، أمّا أوّلا فللأصل الدالّ على البراءة وعلى العدم.
وأمّا ثانيا
فللظنّ بأنّه لو كان على وجه المنع من الترك ، لبيّنه ، وأزال الشكّ والالتباس ،
ولم يقتصر في الدّلالة على ذلك ، مع أنّه يستحقّ تاركه العقاب على لفظ شامل للوجوب
وغيره.
الخامس عشر :
للوجوب معنى تشتدّ الحاجة إلى التعبير عنه ، فوجب أن يوضع له لفظ مفرد يدلّ عليه ،
لوجود القدرة على الوضع ، والدّاعي ، وانتفاء المانع ، وهي «افعل» ، لانتفاء غيرها
بالإجماع.
أمّا عند الخصم ،
فلأنّه ينكر ذلك على الإطلاق.
وأمّا عندنا ،
فلأنّا نقول به في غير صيغة «افعل».
لا يقال : نمنع
الدّاعي وشدّة الحاجة إلى التّعبير ، والحاجة إلى التعريف
__________________
باللّفظ ، لجواز
تعريف الوجوب بقرينة الحال.
سلّمنا اللّفظ ،
لكنه موجود وهو أوجبت ، وحتّمت ، وألزمت.
ونمنع الحاجة إلى
المفرد ، وانتفاء المانع ، إذ اللّغة توقيفيّة ، وكانوا ممنوعين من الوضع.
ونمنع وجوب الفعل
عند قيام الدّاعي ، وانتفاء الصّارف.
وتعارض المقدّمة
باشتداد الحاجة إلى لفظ يدلّ على الحال ، وأخر على الاستقبال ، ولم يوضع لهما مفرد
، وكذا أصناف الرّوائح مختلفة ، والحاجة إلى تعريفها شديدة ، وكذا أصناف
الاعتمادات.
ويعارض الحكم
باشتداد الحاجة إلى التعبير عن أصل الترجيح المشترك بين الواجب والندب ، كاشتداد
الحاجة إلى التعبير عن الوجوب ، فوجب وضع لفظ له ، وليس إلّا «افعل» ، وكذا من قال
: المندوب مأمور به.
ومن قال بالاشتراك
قال : قد تقع الحاجة إلى التعريف الإجماليّ لأحد هذين ، فلا بدّ له من لفظ وهو «افعل».
ولأنّ الحاجة إلى
التعبير عن الوجوب شديدة ، فلو كانت صيغة «افعل» موضوعة له ، وجب أن يعرف كلّ أحد
ذلك ، وزال الخلاف.
سلّمنا اشتداد
الحاجة إلى التعبير عن الوجوب ، وأنّه «افعل» ، فلم لا يجوز أن يكون موضوعا للندب
أيضا بالاشتراك؟
سلّمنا ، لكن هذا
الدّليل يقتضي ثبوت اللّغة بالقياس ، وهو باطل.
لأنّا نقول :
الإنسان الواحد لا يستقلّ بإصلاح كلّ ما يحتاج إليه ، بل يحتاج إلى جمع عظيم يعين
كلّ منهم صاحبه في مهمّه ، لينتظم حال النوع ، وتحصل مصلحة الكلّ من الكلّ ، فإذا
احتاج أحدهم إلى صاحبه في فعل ، فلا بدّ وأن يعرّفه إيّاه ، وأنّه لا بدّ منه ،
ولا يجوز له الإخلال به ، فظهر اشتداد الحاجة ، وقيام الداعي.
والقرائن لا تفيد
، لما تقدّم ، من أنّ التعريف لما في الضمير ، إنّما هو باللّفظ دون غيره ،
والمفرد أخفّ من المركّب وأوجز ، فيغلب على الظن وضعه ، كغيره من الألفاظ المفردة.
والموانع منتفية ،
لكونها في الأصل كذلك ، والأصل بقاء ما كان على ما كان.
والأصل عدم
التوقيف ، ولو سلّم فالدليل آت فيه ، وعدم المنع من الوضع ، فيحصل ظنّ بقاء ذلك.
وعند وجود القدرة
والدّاعي ، يجب الفعل ، لأنّ القادر إن لم يمكنه الترك تعيّن الفعل ، وإن أمكنه :
فإن لم يترجّح الفعل ، لم يكن الدّاعي داعيا ، وإن ترجّح وجب الوقوع ، وإلّا عاد
البحث.
ونمنع شدّة الحاجة
إلى التعبير عن الحال والاستقبال والروائح والاعتمادات ، كاشتداد الحاجة إلى تعريف
الإلزام ، فإنّ الإنسان قد تمضي عليه مدّة طويلة لا يحتاج إلى التعبير عمّا ذكرتم
، مع دوام حاجته إلى التعبير عن معنى الوجوب.
وجعل الصّيغة
للوجوب أولى من جعلها للمشترك ، لكون المشترك
لازما للوجوب ،
فأمكن جعله مجازا فيه ، بخلاف العكس.
والوجوب أولى من
الندب ، لعدم جواز الإخلال بالأوّل دون الثاني ، والإخلال ببيان ما يجوز الإخلال
به أولى من الإخلال ببيان ما لا يجوز الإخلال به.
وإنّما يلزم
الاشتهار ، لو سلم عن المعارض ، أمّا مع ثبوته ، فلا يظهر الفرق بينه وبين معارضه
إلّا على وجه غامض لم يلزم ذلك.
وقد تقدّم أنّ
الأصل عدم الاشتراك.
وفيه نظر ، لأنّ
الحاجة شديدة إلى التعبير عن الترجيح المطلق من حيث هو ، وإذا تعارضت الحاجتان كان
الوضع للأعمّ أولى.
السادس عشر : حمله
على الوجوب يفيد القطع بعدم الإقدام على مخالفة الأمر ، وحمله على الندب يقتضي
الشكّ ، فوجب حمله على الوجوب.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ المأمور به إن كان واجبا فحمله على الوجوب يقتضي القطع بعد الإقدام على
مخالفة الأمر.
وإن كان ندبا
فالقول بوجوبه سعي في تحصيل المندوب بأبلغ الوجوه ، وذلك يفيد القطع بعدم الإقدام
على مخالفة الأمر.
فعلى التقديرين ،
هو غير مقدم على المخالفة.
فلو حملناه على
النّدب فبتقدير النّدب لا تحصل المخالفة ، وبتقدير الوجوب يكون قد جوّزنا تركه ،
وكان الترك مخالفة للوجوب ، فحمله على
__________________
النّدب يقتضي
الشكّ في المخالفة ، فيجب حمله على الوجوب ، لقوله عليهالسلام : «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» .
ولأنّه إذا تعارض
طريقان : أحدهما امن قطعا والآخر مخوف ، وجب عقلا ترجيح الامن.
لا يقال : نمنع
أنّ حمله على المندوب يقتضي الشكّ في الإقدام على المحظور.
قوله : بتقدير
الوجوب يكون حمله على المندوب سعيا في الترك ، وأنّه محظور.
قلنا : نمنع إمكان
كون المأمور به واجبا ، فإنّا لو علمنا بدلالة لغويّة : أنّ الأمر لم يوضع للوجوب
، وعلمنا من الحكيم عدم تجرّده عن القرينة إلّا وهو غير واجب ، فإذا حملناه على
الندب أمنّا الضرر.
مع أنّ حمله على
الوجوب يحتمل الضرر ، إذ بتقدير انتفائه ، كان اعتقاد كونه واجبا ، جهلا ، وتكون
نيّة الوجوب قبيحة ، وكراهة أضداده قبيحة.
لأنّا نقول : إذا
علمنا أنّ «افعل» لا يجوز استعماله إلّا في الوجوب أو الندب ، فقبل علمنا بالتعيين
، لو حملناه على الوجوب ، لم نخالف الأمر قطعا ، ولا نقطع بعدم المخالفة لو حملناه
على النّدب ، فيقتضي العقل حمله على الوجوب قبل العلم بالتعيين ، ليحصل القطع بعدم
المخالفة.
__________________
ثمّ بعد ذلك ،
قيام الدّليل على كونه للندب ، إشارة إلى المعارض ، يفتقر مدّعيه إلى دليل.
قوله : حمله على
الوجوب يقتضي احتمال الجهل.
قلنا : هذا خطأ في
الاعتقاد ، وهو حاصل في الطرفين ، وما ذكرناه احتمال الخطأ في العمل ، وهو مختصّ
بالنّدب.
وإذا اشتركا في
أحد نوعي الخطأ ، واختصّ الندب بالنوع الآخر ، كان جانب الوجوب أولى .
وفيه نظر ، فإنّ
حمله على الوجوب كما هو خطأ في الاعتقاد ، كذا هو خطأ في المأمور به ، فإنّ
المندوب إذا فعل على وجه الوجوب ، يقع الخطأ في الاعتقاد ، ولا تحصل المندوب ،
لأنّه لم يقع على الوجه المطلوب شرعا.
احتجّ المنكرون
للوجوب بوجوه :
الأوّل : العلم
بأنّ الأمر للوجوب ليس عقليّا ، إذ لا مجال للعقل فيه ، ولا نقليّا متواترا ،
وإلّا لعرفه كلّ أحد ، ولا آحادا ، لأنّ المسألة العلميّة لا يحتجّ فيها بخبر
الواحد الظنّي.
وهذه حجّة أصحاب الوقف
، إذ لو قالوا بالنّدبية أو الاشتراك ، عاد عليهم النقض.
الثاني : نصّ أهل
اللّغة على عدم الفرق بين السؤال والأمر إلّا الرّتبة ، وهو
__________________
يقتضي الاشتراك في
جميع ما عداها ، فكما لا يدلّ السؤال على الإيجاب ، فكذا الأمر ، تحقيقا للتّسوية.
الثالث : قد وردت
الصّيغة في الوجوب والندب معا ، والأصل عدم الاشتراك والمجاز ، فيكون موضوعا للقدر
المشترك بينهما ، وهو أصل الترجيح.
ولا شكّ في أنّ
الدالّ على الكلّ لا يدلّ على شيء من الجزئيّات بإحدى الدّلالات الثلاث ،
فلا إشعار لهذا الصّيغة بالوجوب البتّة ، بل إنّما تدلّ على أصل الترجيح.
وأمّا جواز الترك
فقد كان معلوما بالعقل ، ولم يوجد المزيل ، فيحكم ببقائه ، وحينئذ يجب الحكم
برجحان الفعل ، مع كونه جائز الترك ، وهو معنى النّدب.
الرابع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن
شيء فانتهوا .
فوّض [الأمر] إلى
استطاعتنا ، وهو دليل الندب.
والجواب عن الأوّل
: يجوز أن يكون لدليل مركّب من النقل والعقل ، مثل : إنّ تارك المأمور به عاص ،
والعاصي يستحقّ العقاب ، فيلزم عقلا من تركيب هاتين النقليّتين أنّ الأمر للوجوب.
__________________
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم أنّ المسألة قطعيّة ، بل ظنيّة فيكفي خبر الواحد.
وعن الثاني : أنّ
السؤال للإيجاب ، وإن كان لا يلزم منه الوجوب ، فإنّ السائل قد يقول [للمسئول منه]
: لا تخلّ بمقصودي ، ولا بدّ لي منه ، وذلك صريح في الإيجاب.
وعن الثالث : أنّ
المجاز قد يصار إليه لدليل.
وعن الرابع :
المنع من دلالة الحديث على الندب ، بل على الوجوب.
واعلم أنّ السيّد
المرتضى نقل الإجماع من الإماميّة على أنّ الأمر في العرف الشرعيّ للوجوب .
وهو الّذي اخترناه
نحن ، وإنّما طوّلنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمّات.
المبحث الثاني :
في الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان
ذهب أكثر الفقهاء
القائلين بأنّ الأمر للوجوب إلى أنّ الصّيغة لو وردت عقيب حظر أو استئذان أفادت
الإطلاق ورفع الحظر.
وذهب الباقون إلى
أنّها تفيد ما يفيد عقيب غيرهما ، من وجوب ، أو ندب ، أو اشتراك.
وهو الحقّ ، لنا :
أنّ المقتضي للوجوب مثلا موجود ، والمعارض لا يصلح للمانعيّة ، فثبت الوجوب.
__________________
أمّا الأوّل ،
فلأنّ المقتضي إنّما هو الصّيغة على ما تقدّم.
وأمّا انتفاء
المانع ، فلأنّه كما أمكن الانتقال من الحظر إلى الإباحة ، أمكن الانتقال من الحظر
إلى الوجوب قطعا.
ولأنّه لو أمر
ولده بالخروج من الحبس إلى المكتب ، لم يكن للإباحة ، بل للوجوب ، مع أنّه أمر بعد
الحظر المستفاد من الحبس.
وفيه نظر ،
لاستفادة الوجوب هنا من القرينة ، وكذا أمر الحائض والنفساء بالعبادة عقيب تحريمها
، وهو للوجوب ، وهذا كثير النظائر.
ولأنّ الأمر إنّما
يدلّ على ما يدلّ عليه ، لكونه أمرا ، وهذه الصّيغة موجودة بعد الحظر.
ولأنّ الحظر
العقلي اكد من السمعيّ ، وقد علمنا أنّ وروده بعد الحظر العقليّ لا يمنع من الوجوب
، فكذا بعد السمعيّ.
احتجّوا بأنّ
الأوامر الإلهيّة إذا وردت عقيب الحظر أفادت الإباحة :
(فَإِذا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا).
(وَإِذا حَلَلْتُمْ
فَاصْطادُوا).
(فَإِذا تَطَهَّرْنَ
فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ).
(فَالْآنَ
بَاشِرُوهُنَ).
__________________
ولأنّ العرف يقضي
بذلك ، فإنّ السيّد إذا منع عبده من فعل شيء ، ثمّ قال له : افعل فهمت الإباحة.
والجواب : يشكل
بقوله تعالى :
(فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ).
فإنّه يفيد الوجوب
، إذ الجهاد من فروض الكفايات.
وقوله [تعالى] : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى
يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ) وحلق الرأس نسك لا مباح.
والعرف معارض
بصورة أمر الصبيّ بالخروج إلى المكتب.
قال قاضي القضاة :
إنّ الأمّة إنّما حملت (فَاصْطادُوا
فَانْتَشِرُوا) على الإباحة ، لأنّها علمت من قصد النبيّ صلىاللهعليهوآله ، ضرورة أنّ هذه الأشياء مباحة لو لا ما عرض من إحرام أو
تشاغل بالصلاة.
فائدة : القائلون
بأنّ الأمر بعد الحظر للإباحة ، اختلفوا في النهي الوارد عقيب الوجوب ، فقال بعضهم
: إنّه للإباحة.
وقال آخرون : لا
تأثير للوجوب السّابق بل يفيد التحريم.
__________________
المبحث الثالث :
في أنّ الأمر لا يقتضي التكرار
اختلف الناس في
الأمر المجرّد عن القرائن ، فقال أبو اسحاق الاسفرايني وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين : إنّه يقتضي التكرار
المستوعب لمدّة العمر مع الإمكان.
وقال آخرون : إنّه
لا يقتضي واحدة ولا تكرارا من حيث المفهوم ، إلّا أنّ ذلك المطلوب لمّا حصل
بالمرّة الواحدة ، اكتفي بها.
وهو الحقّ ، وهو
مذهب سيّد المرتضى وأبي الحسن البصري وفخر الدين الرّازي .
وقال قوم : إنّه
يقتضي الواحدة.
وآخرون توقّفوا
إمّا لادّعاء الاشتراك بين المرّة والتكرار ، أو لعدم العلم بأنّه حقيقة في المرّة
أو التكرار.
لنا وجوه :
الأوّل : الصيغة
قد وردت في المرّة تارة ، وفي التكرار أخرى.
أمّا في الشرع ،
فكالأمر بالحجّ والعمرة ، فإنّه للمرّة ، والأمر بالصّلاة والزّكاة ، فإنّه
للتكرار.
__________________
وأمّا في العرف ،
فلأنّ السيّد إذا أمر عبده بالدخول إلى منزله ، أو بشراء اللّحم ، لم يفهم منه
التكرار ، حتّى أنّ العبد لو كرّر ذلك لامه العقلاء ، ولو ذمّه السيّد على عدم
التكرار ، لامه العقلاء أيضا.
ولو أمره بحفظ
الدابّة ، فحفظها ساعة ثمّ أهمل ، لامه العقلاء ، لفهم التكرار.
فقد ظهر استعمال
اللّفظ في كلّ منهما عرفا وشرعا ، فيكون موضعا لقدر المشترك بينهما ، وهو مطلق
إدخال الماهيّة في الوجود ، لا يفيد واحدة ولا تكرارا ، دفعا للاشتراك والمجاز.
وإذا كان موضوعا
للقدر المشترك ، لم يكن فيه دلالة البتّة على أحد القيدين ، لعدم دلالة الجنس على
شيء من فصوله ومميّزاته.
نعم لمّا كانت
المرّة من ضرورات إدخال الماهيّة في الوجود ، لا جرم دلّ على المرّة من حيث
الالتزام ، لا من حيث الوضع.
الثاني : نصّ أهل
اللّغة على عدم الفرق بين «يفعل» و «افعل» إلّا في كون الأوّل خبرا ، والثاني
أمرا.
ولمّا كان مقتضى
الأوّل يحصل بالمرّة ، فكذا الثاني ، وإلّا لحصل الفرق بينهما في غير الخبريّة
والأمريّة.
الثالث : إفادة
التكرار يستلزم الاستغراق في جميع الأوقات ، واللازم باطل ، فالملزوم مثله.
بيان الشرطية :
عدم أولويّة بعض الأوقات دون بعض ، إذ لا إشعار في اللفظ ولا في المعنى.
وأمّا بطلان التّالي
فبالإجماع.
ولأنّه يلزم إذا
أمره بعبادتين متعاقبتين أن تكون الثانية ناسخة للأولى ، لوجوب استيعاب الوقت
للأولى ، واقتضاء الثانيّة إزالتها عن بعضها ، والنسخ ليس إلّا رفع الحكم بعد
ثبوته.
ومن المعلوم
بالضّرورة أنّ الحجّ ليس نسخا للصلاة ، ولا أمر غسل اليد ناسخا لغسل الوجه ، ولا
الأمر بالصّلاة نسخا للوضوء.
الرّابع : يحسن
تقييده بهما ، فيقال : افعل مرّة أو متكرّرا ، من غير نقض ولا تكرار لأحدهما ،
فكان موضوعا للقدر المشترك.
الخامس : المرة
والتكرار من الصفات ، كالقليل ، والكثير ، ولا دلالة للموصوف على الصّفة.
السادس : يحسن
الاستفهام عند مطلق الأمر ، عن الواحدة والتكرار.
احتجّ القائلون
بالتكرار بوجوه :
الأوّل : تمسّك
الصحابة بتكرار الزّكاة بقوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ) وسوغوا قتال مانعيها ، وكذا الصلاة وغيرها من الأوامر
الشرعيّة.
الثاني : الأمر
والنّهي اشتركا في مطلق الطلبيّة ، إلّا أنّ الأمر طلب الفعل ، والنهي طلب التّرك وإذا كان النّهي يفيد التكرار ، كان الطّلب الآخر كذلك.
__________________
الثالث : لو لم
يفد التكرار لم يجز الاستثناء منه ، لأنّه حينئذ يكون نقضا ، ولما جاز نسخه ،
والتاليان باطلان ، فكذا المقدّم.
الرابع : ليس في
اللّفظ إشعار بوقت معيّن ، فإمّا أن يجب دائما وهو المطلوب ، أو وقتا بعينه ،
فيلزم الترجيح من غير مرجّح ، إذ ليس اقتضاء إيقاع الفعل في ذلك الزمان ، أولى من
اقتضاء إيقاعه في آخر ، فإمّا ألا يقتضي إيقاعه في شيء البتّة ، وهو باطل بالإجماع
، أو إيقاعه في الجميع ، وهو المطلوب.
الخامس : التكرار
أحوط ، فيكون أولى ، إذ بالتكرار يأمن من الإقدام على مخالفة أمر الله تعالى ،
بخلاف المرّة ، فيكون أولى ، دفعا لضرر الخوف.
السادس : قوله
تعالى : (فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ) يعمّ كلّ مشرك ، فقوله : «صم» يعمّ جميع الأزمان ، لأنّ
نسبة اللّفظ إلى الزمان كنسبته إلى الأشخاص.
السابع : الأمر
بالصّوم اقتضى فعله ، واعتقاد وجوبه ، والعزم عليه أبدا ، فكذا الموجب الآخر.
الثامن : قوله عليهالسلام «إذا أمرتكم بأمر
فأتوا منه ما استطعتم» وهو يدلّ على وجوب التكرار.
التاسع : سأل عمر
النبيّ صلىاللهعليهوآله لمّا راه قد جمع بطهارة واحدة بين صلاتين
__________________
عام الفتح قال : «أعمدا
فعلت هذا يا رسول الله صلىاللهعليهوآله؟ فقال : نعم» .
ولو لا أنّه فهم
تكرار الطّهارة من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ) لكان السّؤال عبثا.
العاشر : إذا قال
: أحسن عشرة فلان ، فهم الدّوام.
الحادي عشر : لو
لم يقتض التكرار ، لكان المفعول الثاني قضاء لا أداء.
الثاني عشر : لو
لم يفد التكرار ، لكان المكلّف إذا ترك الفعل في الأوّل ، احتاج في فعله في الثاني
إلى دليل.
الثالث عشر :
الأمر بالشيء نهي عن ضدّه ، والنّهي يعمّ ، فيلزم التكرار.
واحتجّ القائلون
بالواحدة بوجوه :
الأوّل : أجمع أهل
اللغة على أنّ من أمر غيره بفعل ولا عادة متقدّمة ، أنّه يفعل مرّة واحدة بلا
زيادة.
الثاني : اشتقّ
أهل اللغة من الضرب أمثلة : ضرب ويضرب واضرب ، وقد علمنا أنّ جميع ما اشتقّوه لا
يفيد التكرار ، فيكون الأمر كذلك.
الثالث : حملوا
الأمر على الإيقاعات والتمليكات في أنّه لا يفيد التكرار.
الرابع : لو حلف ليصلّينّ
أو ليصومنّ ، عدّ ممتثلا بالمرّة.
واحتجّ القائلون
بالاشتراك بحسن الاستفهام ، فيقال : أردت مرّة أو
__________________
التكرار؟ ، ولهذا حسن
سؤال سراقة النبيّ صلىاللهعليهوآله : أحجّتنا لعامنا هذا أم للأبد؟
ولأنّه استعمل
فيهما ، فيكون مشتركا ، إذ الأصل في الكلام الحقيقة.
احتجّ القائلون
بالوقف بأنّه لو حمل على التكرار أو المرّة لكان لدليل ، ولا مجال للعقل ، ولا
تواتر ، والآحاد لا تفيد.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الأمر وإن لم يقتض التكرار فلا ينافيه ، فجاز حمله عليه عند اقتران ما يدلّ
عليه ، فلعلّ الصحابة سمعوا من النبي صلىاللهعليهوآله ما يدلّ على التكرار فيما ثبت فيه التكرار ، لا لمجرّد
الأمر.
وعن الثاني :
بالفرق ، فإنّ الانتهاء [عن الفعل] أبدا ممكن ، بخلاف الفعل أبدا.
ولأنّ النّهي
كنقيض الأمر ، فإذا اقتضى النّهي الدّوام ، اقتضى الأمر عدمه.
وعن الثالث : بمنع
ورود النسخ ، فإن فرض ، كان قرينة في إرادة التكرار.
ومن يقول بالفور
يمنع الاستثناء ، أمّا من ينفيه فإنّه يقول بتخيير المكلّف بالإتيان به في أيّ وقت
شاء ، فالاستثناء يرفع المستثنى عن تسويغ إيقاع الفعل فيه.
وعن الرابع : أنّ
الأولويّة ثابتة عند القائلين بالفور ، ومن ينفيه يجعل الأمر
__________________
دالّا على طلب
الفعل من غير بيان الواحدة ، والعدد ، والزّمان الحاضر ، والآتي ، بل على القدر
المشترك بين الجميع.
وعن الخامس : أنّ
المكلّف إذا علم عدم اقتضاء اللفظ التكرار أمن ، مع وجود الخوف في التكرار ، كما
في شراء اللحم ، ودخول الدّار.
وعن السادس : أنّ
صيغة المشركين للعموم في الأشخاص ، بخلاف «صم».
أمّا لو قال : «صم
أبدا» ، أو في كلّ زمان ، أفاد التعميم.
وعن السابع : أنّ
دوام اعتقاد الوجوب مع قيام دليل الوجوب ، مستفاد من أحكام الإيمان ، لا من مجرّد
الأمر ، فتركه يكون كفرا ، والكفر منهيّ عنه دائما ، ولهذا كان اعتقاد الوجوب دائما في الأمر المقيّد بالواحدة.
ولا نسلّم وجوب
العزم ، ولهذا فإنّ من دخل عليه الوقت وهو نائم ، لا يجب على من حضره إنباهه ، ولو
وجب العزم ، لوجب إنباهه.
سلّمنا وجوب العزم
، لكن نمنع وجوب دوامه ، فإنّه تبع لوجوب المأمور به.
سلّمنا ، لكن لا
نسلّم كونه مستفادا من نفس الأمر ، بل من دليل اقتضى دوامه غير الأمر الوارد بالعبادة
، ولهذا وجب في الأمر بالفعل مرّة واحدة.
وعن الثامن : أنّه
إنّما يتمّ الاستدلال به لو قلنا : إنّ الزائد على المرّة مأمور به ، وهو ممنوع.
__________________
وأيضا ، فإنّ
دلالته على عدم التكرار أولى ، إذ جعل ذلك موكولا على استطاعتنا ومشيّتنا.
وعن التاسع : أنّ
عمر حيث جوّز السّهو على النبيّ صلىاللهعليهوآله ، سأله عن التعمّد ، فحيث أجابه صلىاللهعليهوآلهوسلم بذلك ، عرف أنّ الأمر بالطّهارة لا يتكرّر بتكرّر الصّلاة
، وقد كان محتملا.
سلّمنا ، لكنّ
الأمر عقيب الشرط قد حمله قوم على التكرار ، وذلك غير محل النّزاع.
وعن العاشر : أنّ
الأمر بحسن العشرة والتعظيم ، إنّما كان لوجود السبب ، وهو استحقاق المأمور بحسن
عشرته للتعظيم ، والسّبب يدوم مسبّبه بدوامه ، لا من مجرّد الأمر.
وعن الحادي عشر :
أنّ ذلك إنّما يلزم لو قلنا : الأمر للفور ، وهو الجواب عن الثاني عشر.
وعن الثالث عشر :
بالمنع من المقدّمتين ، وسيأتي.
وعن الأوّل من حجج
القائلين بالواحدة : بالمنع من إجماع أهل اللّغة على ما ذكرتم ، فإنّ من يقول
بالتكرار يمنع ذلك.
سلّمنا ، لكن لمّا
كانت المرّة من ضروريّات الفعل ، كانت مأمورا بها قطعا ، بخلاف الزائد ، فعدّ
ممتثلا بالمرّة ، حيث أتى بما علم أنّه مأمور به ، ولم يعدّ مخالفا للأمر بترك
الأزيد ، حيث لم يعلم الأمر به.
وعن الثاني : أنّه
مسلّم لا يقتضي التكرار ، لكن لا يقتضي الواحدة أيضا ، وهو مذهبنا ، وكذا عن
الثالث.
وعن الرّابع : ما
تقدّم في الأوّل.
وحسن السؤال لا
يفيد الاشتراك ، لجواز التواطؤ ، ويكون القصد بالسؤال إزالة إبهام إرادة جزئيّ من
الجزئيّات.
وكما أنّ الأصل
الحقيقة ، فكذا الأصل عدم الاشتراك ، فوجب جعله حقيقة في القدر المشترك ، ولا يحمل
على أحدهما إلّا بالدّليل ، ولا يلزم الوقف ، بل الجزم بإرادة المعنى الكليّ.
سلّمنا ، لكن يحمل
على المرّة ، لدلالة الأمر على الطّلب المشترك بينهما وبين الزائد ، والأصل الدالّ
على البراءة ، ينفي الزائد ، فتبقى المرّة مرادة.
المبحث الرّابع :
في الأمر المعلّق بشرط أو صفة
أجمع القائلون
بتكرار الأمر المطلق ، على تكرّره هنا ، واختلف الآخرون :
فذهب قوم إلى أنّه
لا يفيده هنا أيضا ، وهو اختيار السيّد المرتضى وجماعة من الفقهاء.
وقال آخرون : إنّه
يتكرّر بتكرّر الشّرط والصّفة.
والأقرب أن نقول :
إن كان الوصف علّة مؤثّرة ، اقتضى تكرّر الأمر بتكرّره ، وإلّا فلا.
__________________
لنا وجوه :
الأوّل : إذا قال
السيّد لعبده : اشتر اللّحم إن دخلت السوق ، لم يتكرّر بتكرّر الدّخول.
الثاني : لو قال :
إن ردّ الله عليّ دابّتي أو صحّتي فلله عليّ كذا ، لم يتكرّر الجزاء بتكرّر الشرط
، وكذا لو قال لوكيله : طلّق زوجتي إن دخلت الدار.
الثالث : الخبر
المعلّق على الشرط لا يتكرّر بتكرّره ، فكذا الأمر.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فللإجماع على أنّ من قال : سيدخل زيد الدار إن دخلها عمرو ، صدق بالمرّة
وإن لم يتكرّر دخول زيد عند تكرّر دخول عمرو.
وأمّا الثانية ،
فبالقياس بجامع دفع الضرر الحاصل بالتكرار.
الرّابع : اللّفظ
دلّ على تعليق الأمر على الشيء ، والتعليق المطلق أعمّ من تعليقه عليه في كلّ صورة
، أو في صورة واحدة ، ولهذا يقبل القسمة إليهما ، ومورد التقسيم مشترك بين تلك
الأقسام ، والمشترك لا دلالة فيه على أحد جزئيّاته.
الخامس : لو أفاد
التكرار لكان إمّا أن يستفاد من مطلق الأمر ، وهو باطل ، لما تقدّم في المسألة
الأولى من أنّ الأمر لا يقتضي التكرار ، أو من الشرط ، وهو باطل أيضا ، فإنّه ليس
في لفظة «إن» و «إذا» إشعار بتكرار.
لا يقال : مستفاد
من المجموع أو من المعنى.
لأنّا نقول : أمّا
المجموع فإنّه لا يفيد إلّا تخصيص الأمر بالشرط ، وقد
قلنا : إنّ الأمر
إنّما يدلّ على الواحدة مع احتمال التعدّد ، فالمجموع ، إنّما يفيد تخصيص تلك
المرّة بالشرط.
وأمّا المعنى ،
فإنّه إنّما يفيد من حيث كان الشرط علّة ، وليس كذلك ، فإنّ الشرط ما يقف عليه
تأثير المؤثّر ، ولا امتناع في أن يتكرّر الشرط ولا يتكرّر المؤثّر ، فلا يتكرّر
الحكم.
وأمّا إذا كان
الوصف علّة تامّة للحكم ، فإنّه يلزم من تكرّره تكرّر الحكم ، قضاء لملازمة
المعلول العلّة.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : ورد في
كتاب الله عزوجل أوامر معلّقة بشروط وصفات ، وقد تكرّرت بتكرّرها كقوله
تعالى :
(إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ).
(وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ).
(الزَّانِيَةُ
وَالزَّانِي).
ولو لم يكن مقتضيا
للتكرار لم يكن متكرّرا.
الثاني : أنّ
تكرّر الحكم بتكرّر العلّة ، تكرّر بتكرّر الشرط ، والمقدّم حقّ بالإجماع ،
فالتالي مثله.
__________________
وبيان الشرطيّة :
أنّ الشّرط أقوى من العلّة ، لانتفاء الحكم بانتفاء الشرط ، بخلاف العلّة ، فكان
اقتضاؤه للتكرار أولى.
الثالث : نسبة
الحكم إلى أعداد الشرط [نسبة] واحدة ، فلا يختصّ بالموجود الأوّل منها ، دون ما
بعده ، فإمّا أن يجب انتفاء الحكم عند وجود الشرط أوّلا ، كما انتفى عند وجوده
ثانيا وثالثا ، أو وجوده في جميع صور وجود الشرط ، والأوّل باطل إجماعا ، فتعيّن
الثاني ، لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.
الرابع : لو لم
يكن الأمر مقتضيا لتعليق الحكم بجميع الشروط ، بل بالأوّل منها ، لزم أن يكون فعل العبادة مع [الشرط] الثاني أو
الثالث ، دون الأوّل ، قضاء ، فكانت مفتقرة إلى دليل آخر ، وهو باطل إجماعا.
الخامس : قد بيّنا
تشارك الأمر والنهي في الطّلب والاقتضاء ، والنّهي مع الشرط يقتضي التكرار ، فيكون
الأمر كذلك.
بيان الأوّل :
أنّه لو قال : «إن دخل فلا تعطه درهما» ، اقتضى التكرار ، فكذا الأمر ، لاشتراكهما
في الطلب.
السادس : الأمر
يدوم بدوام الشّرط ، فيكون تعليقه على الشرط المتكرّر يقتضي دوامه.
بيان الأوّل :
أنّه لو قال : «إذا وجد شهر رمضان فصمه» فإنّ الصّوم يكون دائما بدوام الشّهر.
__________________
وبيان الثاني :
أنّ التعليق على الشرط المتكرّر ، في معناه ، فكان دائما.
والجواب عن الأوّل
: أنّ المطلق لا ينافي جزئيّاته ، ومطلق التعليق يوجد مع التكرار وعدمه ، فلا يلزم
من وجوده متكرّرا في بعض الصّور وضعه كذلك ، كما لا يلزم من عدم تكرّره بتكرّر
الشرط في مثل الأمر بشراء اللّحم عند دخول السوق ، وضعه كذلك.
على أنّا نقول :
نحن قد بيّنّا وجوب التكرار عند وجود الوصف أو الشرط إذا كان علّة في الحكم ، ولا شكّ في كون الزّنا علّة لوجوب الحدّ ،
والسّرقة علّة للقطع ، فالتكرار هنا لا من حيث التّعليق على مطلق الشرط والوصف ،
بل لوجود العلّة ، إذ لو كان لمطلق التّعليق ، لوجب التكرّر في شراء اللّحم عند
دخول السّوق ، والحجّ عند وجود الاستطاعة.
وعن الثاني :
المنع من كون الشرط أقوى ، فإنّه لا يلزم من وجوده وجود الشرط ، بخلاف العلّة.
قوله : الشرط يلزم
من عدمه عدم المشروط.
قلنا : وكذا
العلّة ، والحكم الموجود عقيب علّة أخرى ، إمّا مماثل نوعا ، أو أنّ العلّة ،
الأمر الكلّي.
سلّمنا ، لكن لمّا
لم يكن الشرط مؤثّرا في الحكم ، لم يلزم من تكرّر الحكم بتكرّر المؤثّر تكرّره
بتكرّر غيره.
وعن الثالث : أنّه
لازم على من يعتقد الفور ، وأمّا نحن فلا ، بل الأمر مقتض
__________________
للامتثال مع
استواء التقديم والتأخير فيه ، إذا علم تجدّد الشرط ، وغلب على الظّنّ بقاء
المأمور ، ويكون الأمر قد اقتضى تعلّق المأمور به على الشروط كلّها على طريق البدل
، من غير اختصاص له ببعضها دون بعض.
وأمّا إن لم يغلب
على الظّنّ تجدّد الشرط ، ولا بقاء المأمور إلى حالة وجود الشرط الثاني ، فقد
تعيّن اختصاص المأمور بالشرط الأوّل ، لعدم تحقّق ما سواه.
وبه يظهر الجواب
عن الرابع.
وعن الخامس : أنّ
قياس الأمر على النهي قياس في اللغة ، وهو باطل.
سلّمنا ، لكن دوام
النّهي هنا لا باعتبار تكرّر الشرط ، بل لاقتضاء النّهي الدوام.
وعن السادس : أنّ
المأمور به هنا واحد ، والشرط أيضا واحد ، بخلاف صورة النزاع.
واعلم أنّ مجوّزي
القياس ذهب بعضهم إلى أنّه يتكرّر الأمر بتكرّر الشرط والوصف من حيث القياس
، لأنّه لو قال : إن كان زانيا فارجمه ، دلّ على أنّه تعالى جعل الزّنا علّة
الرّجم ، وحينئذ يتكرّر بتكرّر الوصف.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّ القائل لو قال : إن كان عالما فاقتله ، وإن كان جاهلا فأكرمه ،
استقبحه العقلاء ، فإمّا أن يكون لأنّه جعل العلم موجبا للقتل ، والجهل موجبا
للإكرام أو لا لذلك .
__________________
فإن كان الأوّل ،
فهو المطلوب ، وإن كان الثاني ، فهو باطل ، إذ لا امتناع في استحقاق العالم
الإكرام باعتبار علمه ، والقتل بسبب آخر ، وكذا الجاهل يستحقّهما باعتبارين ، فلم
يكن الاستقباح من العقلاء ثابتا.
ولمّا ثبت ، علمنا
أنّ الاستقباح إنّما حصل ، لأنّه أفاد القائل بكلامه جعل العلم سببا للقتل ،
والجهل سببا للإكرام.
فإذا صدر التّعليق
من الله تعالى ، دلّ على جعل المعلّق علّة للمعلّق عليه ، فيتكرّر الحكم بتكرّره
عند القائسين.
لا يقال : ينتقض
بمثل : إن دخلت السوق فاشتر اللّحم ، وإن دخلت الدّار فأنت طالق وغيرهما من
النظائر.
ونمنع تعليل
الاستقباح بجعل الوصف علّة ، بل من حيث إنّ العلم مناف للقتل ، فإثبات الحكم مع
قيام المنافي يوجب الاستقباح.
سلّمنا إفادة
العليّة هنا ، فلم قلتم : إنّه في كلّ الصّور كذلك؟
سلّمنا ، لكن لا
يلزم من تكرّر العلّة تكرّر الحكم ، لجواز توقّفه على شرائط ، كالسّرقة ، فإنّها
موجبة للقطع ، لكن يتوقف إيجابها على شرائط متعدّدة.
لأنّا نقول : لا
يلزم من جعل الإنسان شيئا علّة لحكم ، ترتّب ذلك الحكم عليه دائما ، فإنّه لو قال
: أعتقت [عبدي] غانما لسواده ، ولعلّة كونه أسود ، لم يلزم عتق السّودان من عبيده.
والتنبيه على
العلّة لا يزيد على التصريح ، فلا يلزم تعدّد الطلاق ، وشراء اللّحم بتعدّد الشرط.
بخلاف الشارع ،
فإنّا لو علمنا أو ظننّا أنّه جعل شيئا ما علّة لحكم ، فإنّه يتكرّر الحكم
بتكرّرها عند القائسين ، فلا يكون هذا التكرير مستفادا من الأمر بل من الأمر
بالقياس.
وفيه نظر ،
لافتقار العتق إلى الصّيغة.
ونمنع المنافاة
بين الفسق والإكرام ، فإنّ الفاسق قد يستحقّ الإكرام بجهات أخر ، والأصل تخريج
الأحكام على وفق الأصول.
وإذا ثبت ظنّ
العلّية هنا ، ثبت في الجميع بالقياس.
والجامع : أنّ
الحكم إذا كان مذكورا مع علّته ، كان أقرب إلى القبول ، وذلك مصلحة للمكلّف ،
فناسب المشروعيّة.
ولأنّا نذكر صورا
كثيرة ، ثمّ نقول : لا بدّ من قدر مشترك ، وهو إمّا ترتّب الحكم على الوصف ، أو
غيره.
والثاني باطل ، لأنّ
الأصل عدم سائر الصفات ، فتعيّن الأوّل ، والحكم يتكرّر بتكرّر العلّة ، للإجماع
بين القائسين .
واعلم أنّه لا فرق
بين ما اخترناه وبين هذا القول ، لأنّ الشرط إنّما يكون علّة شرعيّة لو ناسب الحكم
، كما في قوله : «إن كان زانيا فارجمه» ، ومثل هذا يتكرّر الحكم بتكرّره عملا بالعلّة.
__________________
أمّا فيما لا
مناسبة فيه مثل : إن قام زيد فأكرمه ، فإنّه لا يدلّ على العليّة ، لعدم المناسبة
، وهنا لا يلزم من تكرّر الشّرط تكرّر الحكم.
المبحث الخامس :
في أنّ الأمر لا يقتضي الفور
اختلف الناس هنا ،
فقال جماعة من الحنفيّة والحنابلة وكلّ من أوجب التكرار : إنّه يجب الفور.
وذهب الجبائيّان ،
وأبو الحسين البصري ، والقاضي أبو بكر وجماعة من الشّافعيّة ، وجماعة من الأشاعرة إلى التراخي ،
وجواز التأخير عن أوّل أوقات الإمكان.
وقال السيد
المرتضى وجماعة بالوقف ، لكن منهم من قال : التوقّف إنّما هو في
المؤخّر هل هو ممتثل أم لا؟ وأمّا المبادر فإنّه ممتثل قطعا ، لكن هل يأثم
بالتأخير؟ اختلفوا :
فمنهم من قال
بالتأثيم.
__________________
ومنهم من لم يؤثم.
ومنهم من توقّف في
المبادر أيضا ، وخالف في ذلك إجماع السّلف.
والحقّ : أنّ
الأمر يدلّ على الطلب المشترك بين الفور والتراخي ، ولا دلالة على أحدهما إلّا من
خارج ، وإنّ الآتي به على الفور والتراخي ممتثل.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّه قد
ورد فيهما ، فيكون حقيقة في القدر المشترك ، وهو مطلق الطلب ، دفعا للمجاز
والاشتراك.
والموضوع للقدر
المشترك لا إشعار فيه بخصوصيّة لأحد جزئيّاته ، لأنّ تلك الخصوصيّة مغايرة للمشترك
، وغير لازمة له ، فانتفت الدّلالات الثلاث.
الثاني : يحسن
تقييده بكلّ منهما ، من غير نقض ولا تكرار ، فكان للمشترك بينهما.
الثالث : حكم أهل
اللّغة بالتسوية بين «يفعل» و «افعل» إلّا في الخبريّة والأمريّة ، والخبر لا
إشعار له بشيء من الأوقات ، لصدقه عند الإتيان به في أيّ وقت كان من المستقبل ،
فكذا الأمر ، وإلّا لافترقا فيما عدا ذلك.
الرابع : قال أهل
اللّغة : «افعل» أمر ، وهو مشترك بين الأمر بالشيء على الفور وعلى التراخي ، فإنّ
الأمر على الفور مع قيد الفوريّة ، والأمر على التراخي مع قيد التراخي ووجود المفرد لازم لوجود المركّب ، فمسمّى الأمر قدر
مشترك.
__________________
وإذا ثبت أنّ «افعل»
أمر ، وأنّ الأمر مشترك بينهما ، ثبت عدم دلالة «افعل» على غير المشترك.
احتجّ القائلون
بالفور بوجوه :
الأوّل : قوله
تعالى لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ).
ذمّه على ترك
السّجود عقيب الأمر ، ولو كان للتراخي لم يستحقّ الذّمّ ، إذ كان له أن يقول :
إنّك أمرتني ، والأمر لا يقتضي الفور ، فلا يستحقّ الذمّ في الحال.
الثاني : قوله
تعالى : (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ
مِنْ رَبِّكُمْ).
[وقوله :] (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ).
الثالث : لو جاز
التأخير ، لجاز إمّا إلى بدل ، أو لا إلى بدل ، والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ البدل هو الّذي يقوم مقام المبدل من كلّ الوجوه ، فإذا أتى بهذا البدل ، وجب
أن يسقط عنه التكليف ، وهو باطل إجماعا.
ولا يجوز أن يقوم [البدل]
مقام المبدل في ذلك الوقت لا دائما ، لأنّ مقتضى الأمر الإتيان بتلك الماهيّة مرّة
واحدة ، وهذا البدل يقوم مقامه ، وقد فعل ما هو المقصود من الأمر بتمامه ، فوجب
سقوط الأمر بالكليّة.
وأمّا الثاني ،
فإنّه يمنع من كونه واجبا ، فإنّه لا يفهم من قولنا : ليس بواجب ، إلّا جواز تركه
لا إلى بدل.
__________________
الرابع : لو جاز
التأخير ، لجاز إمّا إلى غاية ، أو لا إلى غاية ، والقسمان باطلان ، فجواز التأخير
باطل.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ تلك الغاية إمّا معيّنة أو غير معيّنة ، فإن كانت معيّنة ، فليست إلّا غلبة
ظنّ المكلّف أنّه لو لم يشتغل [بأدائه] فاته ذلك الفعل ، فإنّ كلّ من جوّز التأخير
إلى غاية معلومة قال : إنّ الغاية ذلك فالقول بإثبات غاية غيرها خرق الإجماع.
لكنّ الظّنّ إن لم
يكن لأمارة لم يتعدّ به ، وجرى مجرى الظّنّ السوداويّ.
وإن كان لأمارة
فليست إلّا المرض الشّديد ، أو علوّ السنّ ، إذ لا قائل بغيرهما ، لكن ذلك باطل ،
فإنّ كثيرا من الناس من يموت من غير كبر ولا مرض ، وذلك يقتضي خروجه عن هذا
التكليف في علم الله تعالى ، مع أنّ ظاهر الأمر الوجوب.
وإن لم تكن [الغاية]
معلومة ، أو لم تكن معيّنة لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّه يكون مكلّفا بتحريم
التأخير عن وقت معيّن ، مع أنّه لا يعرفه ، أو عن وقت غير معيّن ، وهو غير معلوم
أيضا ، ولا شكّ في كونه تكليفا بما لا قدرة عليه.
وأمّا الثاني
فلأنّه يستلزم كون الواجب غير واجب ، لأنّه إذا جاز التأخير أبدا
جاز الترك أبدا ، وهو مناف للوجوب.
الخامس : لو أخّر
العبد أمر السيّد بشرب الماء ، ذمّه العقلاء ، ولو لا فهم التّعجيل ، لم يحسن ذمّه
، واسناد ذلك إلى القرينة على خلاف الأصل.
__________________
السادس : يجب
اعتقاد وجوب الفعل على الفور بالإجماع ، فيجب الفعل كذلك ، لأنّه أحد موجبي الأمر
، قياسا على الآخر بجامع تحصيل مصلحة المسارعة إلى الامتثال.
بل فوريّة الفعل
أولى ، لأنّ الأمر يتناوله ، دون اعتقاد وجوبه ، فإذا كان ما لا يتناوله الأمر على
الفور ، كان ما يتناوله أولى.
السابع : الأمر
مشارك للعقد من حيث إنّه يقتضي إيقاع الفعل ، كما اقتضى الإيجاب والقبول في البيع
وقوع العقد عندهما ، لأنّه استدعاء فعل بقول مطلق ، فاقتضى التعجيل ، كالإيجاب في
البيع.
الثامن : الأمر
بالشّيء نهي عن ضدّه ، والنهي يقتضي الانتهاء في الحال ، والانتهاء عن تركه في
الحال إنّما يكون بالإقدام على الفعل في الحال ، فيكون الأمر للفور.
التاسع : النهي
والأمر ضدّان وقد اشتركا في حقيقة الطّلب ، وكما اقتضى النهي الفور ، فكذا الأمر.
العاشر : الاحتياط
يقتضي وجوب الفور ، فإنّه لو سارع خرج عن العهدة بيقين ، بخلاف ما لو أخّر.
الحادي عشر :
الأمر اقتضى وجوب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، فإنّ المكلّف لو أوقعه
فيه لأسقط الفرض بذلك عن نفسه ، فجواز تأخيره عنه ، نقض لوجوبه فيه ، وإلحاق له
بالنافلة فيه.
__________________
الثاني عشر : لو
جاز التّأخير لخرج الواجب عن كونه واجبا ، والتّالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المكلّف لو فعله في ثاني وقت الأمر لسقط ، عنه الفرض وفعل ما وجب عليه ،
فعلمنا أنّ الأمر قد تناول ذلك ، وهذا يمنع من الإخلال به ، لأنّه بالإخلال به
يفوت ، إذ كان ما يقع فيما بعد ليس هو ذلك المأمور به بعينه ، وإنّما هو مثله ،
لأنّ أفعال العباد يختص بالأوقات ، فما يصحّ أن يوجدوه في وقت ، لا يصحّ إيجاده في
غيره.
وأمّا بطلان
التّالي فظاهر ، وبعبارة أخرى : الإيجاب بالأمر يقتضي فعلا واحدا ، وقد ثبت
بالدّليل العقليّ أنّ أفعال العباد لا يصحّ فيها التقديم والتأخير ، فيجب أن يكون
المراد أن يقع عقيبه ، ليكون الفعل واحدا.
ولأنّ الفعل إذا
علمنا أنّه واحد ، واتّفقنا على أنّ المفعول عقيبه مراد وصلاح ، وجب الحمل عليه.
الثالث عشر :
القول بالتراخي والتخيير يقتضي إثبات بدل له ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه إذا خرج من كونه واجبا مضيّقا ، فلا بدّ له من بدل ، ليفصله عن النّدب.
وبيان بطلان
التالي : أنّ البدل لا دليل عليه من جهة الأمر ، فيجب بطلان التخيير .
__________________
والجواب عن الأوّل
: أنّه حكاية حال ، فجاز أن يكون ذلك الأمر للفور.
ولأنّ الفور
مستفاد من قوله : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ).
رتّب السّجود على
هذه الأوصاف بفاء التّعقيب ، وهي تقتضي الفور من غير مهلة.
ولأنّ التوبيخ
باعتبار ترك الفعل مطلقا ، والامتناع من الإتيان به ، لا باعتبار التأخير ، لقوله
: (إِلَّا إِبْلِيسَ
أَبى وَاسْتَكْبَرَ).
وعن الثاني : أنّه
مجاز ، من حيث إنّه ذكر المغفرة ، وأراد سببها ، وليس في الآية أنّ المقتضي لطلب
المغفرة هو الإتيان بالفعل على سبيل الفور .
وفيه نظر ، فإنّ
المقتضي للمغفرة هو الفعل ، فالمسارعة إليه هو الفور.
ولأنّ هذه الآية
لو دلّت على وجوب الفور لم يكن فيها حجّة على أنّ الأمر للفور ، لأنّ الفور حينئذ
مستفاد منها لا من مطلق الأمر.
ولأنّها أمر ،
فدلالتها على الفور نفس النزاع.
وعن الثالث
والرابع : أنّهما واردان فيما نصّ فيه على تسويغ
__________________
التأخير ، كقضاء
الواجبات الموسّعة ، كالنّذور ، والكفّارات ، وكلّ الواجبات الموسّعة ، وكما صرّح
وقال : أوجبت عليك أن تفعل هذا الفعل في أيّ وقت شئت.
وعن الخامس : أنّ
الفور هناك لقرينة الحاجة إلى الشرب ، ومعارض بما إذا أمر السيّد عبده ، ولم يعلم
العبد حاجة السيّد إلى الفعل في الحال ، فإنّه لا يفهم التعجيل.
لا يقال : إنّ
السيّد يعلّل مؤاخذته بأنّه أخّر الامتثال ، ولو لا الفوريّة لما صحّ ذلك.
لأنّا نقول : وقد
يعتذر العبد بأنّي ما علمت التعجيل ، ولا أمرتني به ، ويكون مقبولا.
وعن السادس :
المعارضة بما تقدّم من الكفّارات ، وبقوله : افعل في أيّ وقت شئت ، وبالخبر ،
فإنّه لو قال الشارع : زيد يقتل عمرا ، وجب الفور في الاعتقاد دون الفعل.
ولأنّ وجوب
الاعتقاد ليس مستفادا من الأمر ، بل كلّ عاقل يعلم بالنظر وجوب امتثال أوامره
تعالى.
وعن السابع : أنّه
يبطل بقوله : «افعل أيّ وقت شئت» ، ولأنّ جامعهم [وصف] طرديّ.
وعن الثامن : نمنع
أنّ الأمر بالشّيء نهي عن ضدّه ، وسيأتي.
وعن التاسع : أنّ
النهي يفيد التكرار ، فأفاد الفور ، بخلاف الأمر.
وعن العاشر :
بالمعارضة بقوله : «افعل في أيّ وقت شئت» ، وهو وارد على أكثر أدلّتهم.
وفيه نظر ، للنّص
على جواز التأخير هنا .
وعن الحادي عشر :
بتسليم أنّ الأمر يقتضي إيجاب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ، لكن لا عينا بل على
وجه التخيير بينه وبين ثاني الحال وثالثه ، وهكذا ، ففي أيّ وقت فعله يكون مؤدّيا
للواجب ، بخلاف النافلة ، وسيأتي زيادة تحقيق لذلك.
وعن الثاني عشر :
بالمنع من اختصاص أفعال العباد بكلّ فعل بوقت ، بل نقول : إنّ الفعل الواحد يمكنه
أن يوقعه في الزمن الأوّل ، أو الثاني ، أو الثالث ، وهكذا.
سلّمنا أنّ للوقف
مدخلا في التشخّص ، لكنّه مكلّف بصورة الفعل ، فإذا فعله في الأوّل ، فقد أتى بتلك
الصّورة وكذا في غيره.
سلّمنا أنّ للوقت
مدخلا في التشخّص ، لكنّه مكلّف بصورة الفعل ، فإذا فعله في الأوّل ، فقد أتى بتلك
الصورة ، وكذا في غيره.
سلّمنا ، لكن لو
تناول الأمر الأفعال المختصّة بالأوقات ، لم يمتنع أن يتناول أعيان ما يختصّ بكلّ
وقت على البدل ، فيجوز ترك ما يختصّ بكلّ وقت
__________________
على البدل ، فيجوز
ترك ما اختصّ بالأوّل إلى ما يختصّ بالثاني والثالث ، لأنّ كلّ واحد من ذلك بدل
عن صاحبه.
وعن الثالث عشر :
بالمنع من إثبات البدل على تقدير التراخي أو التخيير ، ومن عدم دلالة الأمر عليه ،
وسيأتي إن شاء الله تعالى.
واحتجّ السيّد
المرتضى على الوقف ، بحسن الاستفهام ، وبالاستعمال فيهما .
والجواب : لا
منافاة بين ذلك وبين ما قلناه ، فإنّ وضعه للقدر المشترك يحسن الاستفهام ،
والاستعمال.
والعجب أنّه صدّر
الاستدلال بهذين باستدلال أوّل ، وهو : أنّ اللّفظ خال من توقيت لا بتعيين ولا
تخيير ، وليس يجوز أن يفهم من اللفظ ما لا يتناوله ، كما لا يفهم منه الأماكن
والأعداد.
ثمّ عقّب الأدلّة
بقوله : يحسن أن يقال : «قم الآن أو بعد وقت أو متى شئت» ، فلو كان اللفظ موضوعا
لفور أو تراخ ، لم يحسن ذلك.
وهو عين ما قلناه
نحن أوّلا.
__________________
المبحث السّادس :
في أنّ الأمر المعلّق بشرط ، عدم عند عدمه
اختلف النّاس في
الأمر المعلّق على الشيء بحرف «إن» هل يعدم بعدم الشرط أم لا؟
فذهب قاضي القضاة
إلى أنّه لا يلزم العدم ، وحكاه عن أبي عبد الله البصري ، وهو مذهب القاضي أبي بكر .
وقال أبو الحسين
البصري وابن سريج وجماعة من الشافعيّة وأبو الحسن الكرخي إلى العدم.
وهو الحقّ ، لنا
وجوه :
الأوّل : أنّ كلمة
«إن» تسمّى عند النّحاة حرف شرط ، والشّرط ما ينتفي الحكم عند انتفائه.
أمّا المقدمة
الأولى : فظاهرة.
وأمّا الثانية :
فإنّهم يقولون : الوضوء شرط الصلاة ، والحول شرط وجوب
__________________
الزكاة ، ويعنون
بذلك ما ينتفى الحكم بانتفائه ، والاستعمال دليل الحقيقة.
لا يقال : اصطلاح
النّحاة ليس حجّة في الوضع ، فإنّهم قد اصطلحوا على أشياء ، لم توضع في اللغة ،
كالحركات ، والفاعل ، والمفعول ، وغيرها.
سلّمنا ، لكنّ
الشرط هو العلامة ، ومنه أشراط السّاعة ، ويلزم من ثبوته ثبوت المشروط دون العدم ،
كما في العلامة.
سلّمنا ، لكن
الشرط إنّما ينتفي الحكم بانتفائه لو لم يكن هناك شرط آخر يقوم مقامه ، أمّا مع
وجود شرط آخر فلا ، وحينئذ لا يلزم من عدم الشرط عدم الحكم ، لجواز شرط آخر.
لأنّا نقول : لو
لم يكن في وضع اللغة كذلك ، لكان منقولا ، والأصل عدمه ، ولو كان الشّرط ما يدلّ
على ثبوت الشيء ، امتنع كون الوضوء يسمّى شرطا ، وكذا الحول ، والإحصان ، إذ لا
يلزم من وجود الوضوء صحّة الصّلاة.
وسمّيت أشراط
السّاعة ، لامتناع وجود السّاعة بدونها ، وهو المراد.
وإثبات شرط آخر
ينفي كون الأوّل شرطا ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشرط ما ينتفي الحكم عند نفيه.
نعم يكون الشرط
أحدهما لا بعينه.
الثاني : روي أنّ
يعلى بن أميّة سأل عمر بن الخطاب : ما بالنا نقصر الصلاة وقد أمنّا؟
__________________
فقال : عجبت ممّا
عجبت منه ، فسألت رسول الله صلىاللهعليهوآله فقال : صدقة تصدّق الله بها عليكم ، فاقبلوا صدقته.
ولو لا كون
المشروط عدما عند عدم الشرط ، لما أقرّه النبي صلىاللهعليهوآله على ذلك.
لا يقال : التعجّب
باعتبار كون الصلاة تامّة في أصل الخطاب ، واستثنيت حالة الخوف ، فيبقى ما عداها
على الأصل من وجوب الإتمام ، فلمّا حصل القصر عند عدم الخوف ، حصل التعجّب.
ثمّ هو دليل عليكم
، لوجود المشروط فيه عند عدم الشرط ، للإجماع على القصر في السفر عند عدم الخوف.
لأنّا نقول : آيات
الصّلاة لا تدلّ على الإتمام ، وإلّا كان هو الأصل ، فقد روت عائشة : أنّ الصّلاة
كانت ركعتين سفرا وحضرا ، فأقرّت صلاة السفر ، وزيدت في الحضر.
والتعجّب لمّا حصل
لوجود المشروط عند عدم الشرط ، يصلح دليلا لنا لا علينا.
الثالث : لا يلزم
من وجود الشرط وجود المشروط ، فلو لم يلزم من عدمه عدمه ، كان كلّ شيء شرطا لكلّ
شيء ، والتالي باطل بالضّرورة ، فكذا المقدّم ، والشّرطيّة ظاهرة.
واحتج المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو كان
المعلّق على الشيء عدما عند عدم الشيء ، لكان قوله تعالى :
__________________
(وَلا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ، دليلا على تسويغ الإكراه عند عدم إرادة التحصّن.
الثاني : قوله
تعالى : (فَكاتِبُوهُمْ إِنْ
عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً).
وقوله : (وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ إِنْ
كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ).
وقوله : (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ
خِفْتُمْ).
وقوله : (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ
مَقْبُوضَةٌ).
لا تدلّ على عدم
المشروط عند عدم الشرائط فيها.
الثالث : لو قال :
إن دخلت الدار فأنت طالق ، لم يناف وقوعه قبل الدخول ، حتّى لو نجّز ، أو علّق على
آخر لم يكن مناقضا للأوّل ، ولو لزم عدم المشروط عند عدم الشرط لزم التناقض.
والجواب عن الأوّل
: قال أبو الحسين ونعم ما قال : إنّ الظاهر يقتضي أن لا يحرم الإكراه على البغاء
إذ لم يردن التحصّن ، لكن لا يلزم من عدم الحرمة ثبوت الإباحة ، فإنّ انتفاء
التحريم قد يكون بطريان المحلّ ، وقد يكون لامتناع وجوده عقلا ، وهو هناك كذلك ،
فإنّ على تقدير عدم إرادة التحصّن يردن البغاء ، فيمتنع تحقّق الإكراه عليه حينئذ.
وعن الثاني : أنّ
استحباب الكتابة إنّما يثبت عند علم الخير الّذي هو
__________________
المال ، أو
الصّلاح ، والمجموع ، فعند انتفائه ينتفي استحباب الكتابة ، ويبقى الجواز ، وهو
مذهبنا.
والأمر بالشكر لله
تعالى إنّما يثبت على من يعبده ، أمّا من لا يعبده فلا يشكره ، ولأنّ الشرط هنا
خرج مخرج الأغلب ، وكذا في الرهن.
وعن الثالث : أنّ
القائلين بوقوع المشروط ، يذهبون إلى وقوع المعلّق لو دخلت وإن وقع المنجّز ، ولو
كان المنجّز ثلاثا فتحلّلت ، ثمّ تزوّجت به ثمّ دخلت ، وقع المعلّق عندهم.
المبحث السابع :
في الحكم المعلّق بعدد
اختلف الناس هنا :
فقال قوم : إنّ
الحكم إذا علّق بعدد ، دلّ على أنّ ما عداه بخلافه.
ومنهم من قال : لا
يدلّ.
والحقّ أن نقول :
إذا كان العدد الناقص علّة لعدم أمر ، امتنع ثبوت ذلك الأمر في الزائد ، لأنّ
الناقص موجود في الزائد ، ووجود العلّة يستلزم وجود المعلول ، فعدم ذلك الأمر
متحقّق في الزائد ، كما لو حرّم الله تعالى جلد الزاني مائتين ، فالزّائد عليهما
أولى بالتحريم ، لأنّ المائتين موجودة في الزائد.
وكما لو قال : إذا
بلغ الماء كرّا لم يقبل نجاسة ، كان الزائد على الكرّ أولى في عدم قبول النّجاسة.
ولو كان العدد
الناقص موصوفا بحكم ، لم يجب أن يكون الزّائد
عليه موصوفا به ،
إذ لا يلزم من وجوب عدد أو إباحته وجوب الزائد عليه أو إباحته ، هذا في جانب
الزّيادة.
أمّا النقصان ،
فالحكم إمّا أن يكون إباحة ، أو إيجابا ، أو حظرا.
فالأوّل ، يلزم
منه إباحة ما دون ذلك العدد إن كان داخلا تحته على كلّ حال ، كإباحة جلد مائة ،
فإنّه يستلزم إباحة الخمسين ، ولا يدلّ إذا لم يدخل في كلّ حال ، كإباحة الحكم
بشاهدين ، فإنّه لا يدلّ على إباحة الحكم بالشاهد الواحد ، لأنّ الحكم بالشاهد
الواحد غير داخل تحت الحكم بشهادة الشاهدين.
ولو كان يدخل تارة
، وتارة لا يدخل ، كاستعمال الكرّ إذا وقعت فيه نجاسة ، فإنّه قد أباح استعمال
نصفه من ذلك الكرّ ، ولا يباح استعمال نصفه منفصلا إذا وقعت فيه نجاسة.
ولو حرّم الله
تعالى عددا ، فقد يدلّ على تحريم ما دونه من طريق الأولى ، كما أنّه حرّم استعمال
نصف كرّ إذا وقعت فيه نجاسة ، فإنّه يقتضي أولويّة تحريم استعمال ربعه.
وقد لا يدلّ ، كما
لو حرّم جلد الزاني مائتين ، فإنّه لا يدلّ على تحريم المائة ، ولو أوجب جلد
الزّاني مائة ، فإنّه يوجب جلد خمسين ، حيث لا يمكن فعل الكلّ إلّا بفعل الجزء ،
لكنّه ينفي قصر الوجوب على الجزء.
وقد ظهر ممّا
تقدّم أنّ الحكم المعلّق على عدد ، لا يدلّ تعليقه عليه على حال ما دونه ولا ما
فوقه بثبوت أو نفي.
احتجّوا بقوله
تعالى : (إِنْ تَسْتَغْفِرْ
لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ) ،
__________________
فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «والله لأزيدنّ على السّبعين» فعلم أنّ الحكم منتف عن الزيادة.
ولأنّ الإجماع
واقع على نفي زيادة على الثمانين في حدّ القاذف بمجرّد إباحة الثمانين.
ولأنّ الحكم لو
ثبت فيما زاد ، لم يكن لتعلّقه على ذلك العدد فائدة.
والجواب عن الأوّل
: أنّ تعليق الحكم على السبعين كما لا ينفيه عن الزائد ، فكذا لا يوجبه ، فكان
الاحتمال ثابتا فيما زاد على السّبعين ، فجوّز صلىاللهعليهوآلهوسلم حصول الغفران لو زاد على السّبعين.
وعن الثاني : أنّ
النفي عقل بالبقاء على الأصل.
وعن الثالث : ما
سيأتي في دليل الخطاب.
المبحث الثامن :
في الأمر المقيّد بالاسم
ذهب المحقّقون من
المعتزلة والأشاعرة إلى أنّ تقييد الأمر والخبر بالاسم ، لا يدلّ على حكم ما عداه
نفيا ولا إثباتا ، وذلك نحو قول القائل : زيد في الدار ، فإنّه لا يدلّ على أنّ
عمرا ليس فيها ، ولا أنّه فيها.
وكذا إذا أمر بشيء
، فإنّه لا يدلّ على عدم وجوب غيره.
__________________
وقال أبو بكر
الدقّاق من الأشاعرة : إنّه يدلّ على نفيه عن غيره فيهما.
لنا وجوه :
الأوّل : اتّفق
الكلّ على جواز قول : زيد أكل ، مع العلم بأنّ عمرا أكل.
الثاني : لو دلّ
لكان إمّا من حيث اللفظ ، أو من حيث المعنى ، والقسمان باطلان.
أمّا اللفظ ،
فلأنّه ليس فيه ذكر غير زيد ، فكيف يدلّ على حكم غير زيد.
وأمّا المعنى ،
فلأنّه قد يشترك زيد وعمرو في فعل ، ويعلمه المخبر ، ويقصد إلى الإخبار عن أحدهما
به ، لغرض له في ذلك ، فلا يدلّ لا من حيث المعنى ، ولا من حيث اللفظ.
الثالث : أكل زيد
ليس موضوعا لعدم أكل عمرو ، ولا لمعنى هو جزؤه ، وليس ملزوما له ، لانفكاكهما وجودا
وتصوّرا ، فانتفت الدلالات الثلاث.
الرابع : لو دلّ
لزم الكفر إذا قلنا : زيد موجود ، لدلالته حينئذ على الحكم بنفي الوجود عن الله
تعالى وعن الأنبياء عليهمالسلام ، وكذا إذا قلنا : عيسى رسول الله ، لزم نفي رسالة محمّد صلىاللهعليهوآله ، وهو باطل بالإجماع.
الخامس : لو دلّ
لبطل القياس ، فإنّ التنصيص على حكم الأصل ، يقتضي
__________________
التنصيص على عدم
الحكم عن الفرع ، فلا يجوز إثباته فيه بالقياس ، لأنّ النصّ مقدّم على القياس.
السادس : الدلالة
فهم المعنى من اللفظ ، ونحن نعلم قطعا أنّا إذا سمعنا من مخبر بأنّ زيدا اكل ، لا
يفهم منه أنّ عمرا ليس باكل ، فانتفت الدّلالة.
السابع : لو دلّ
لما حسن من الإنسان أن يخبر به إلّا بعد أن يعلم أنّ غير زيد ليس باكل ، لأنّه إن
لم يعلم ذلك ، كان قد أخبر بما يعلم أنّه كاذب فيه ، أو بما لا يأمن أن يكون كاذبا
، ونحن نعلم استحسان العقلاء الإخبار بأكل زيد ، مع جهل غيره.
احتجّ الدّقاق
بأنّه لا بدّ في التخصيص من فائدة ، وليست إلّا نفي الحكم عمّا عداه.
ولأنّه لو قال
لغيره : «أمّا أنا فليس لي أمّ ولا أخت ولا امرأة زانية» فهم نسبة الزّنا إلى زوجة
خصمه وأمّه وأخته ، ولهذا أوجب أصحاب أحمد ومالك حدّ القذف .
والجواب : المنع
في المقدّمة الثانية ، فإنّ الفائدة تعلّق الغرض بالإخبار عمّن أخبر عنه دون
المسكوت عنه.
وفهم نسبة الزنا
من قرينة الحال لا المقال ، ونمنع وجوب الحدّ.
__________________
المبحث التاسع :
في الأمر المقيّد بالصّفة
اختلف الناس في
أنّ تقييد الحكم بالوصف ، هل يدلّ على نفيه عمّا عداه أم لا؟
فقال الشافعي
ومالك ، وأحمد بن حنبل ، وأبو الحسن الأشعري ، وجماعة من الفقهاء والمتكلّمين ،
وأبو عبيد ، وجماعة من أهل العربية : إنّه يدلّ.
ومنع منه أبو
حنيفة وأصحابه والقاضي أبو بكر وابن سريج ، والقفّال وجماهير المعتزلة.
وقال أبو عبد الله
البصري : إنّه يدلّ في مواضع ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
الخطاب قد ورد للبيان ، كما في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «في الغنم السائمة زكاة».
الثاني : أن يكون
للتّعليم ، كما في خبر «التحالف عند التخالف والسلعة قائمة».
__________________
الثالث : أن يكون
ما عدا الصفة داخلا تحتها ، كالحكم بالشاهدين ، فإنّه يدلّ على نفيه عن الشاهد
الواحد ، لدخوله في الشاهدين ، ولا يدلّ [على النفي] فيما عدا ذلك.
والأقرب : أنّه لا
يدلّ إلّا أن يكون علّة.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّه لو
دلّ على ثبوت الحكم مع الوصف على نفيه عمّا عداه ، لدلّ إمّا بلفظه ، أو بمعناه ،
والقسمان باطلان.
أمّا الأوّل :
فلأنّ اللفظ الدالّ على ثبوت الحكم في أحد القسمين ، إن لم يكن موضوعا لنفي الحكم
في قسم الثاني ، لم يكن [له] عليه دلالة لفظيّة.
وإن كان موضوعا له
، كان موضوعا لثبوت الحكم في أحد القسمين ، ونفيه عن الآخر ، ولا نزاع فيه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ الدّلالة المعنويّة هي دلالة الالتزام ، وهي مشروطة باللّزوم الذهني ، وهو
منتف هنا ، فإنّ السائمة لا تدلّ على المعلوفة من حيث الوضع ، ولا يلزم من فهم
أحدهما فهم الآخر ، لجواز انفكاكهما في التصوّر ، فثبوت الحكم في إحداهما لا
يستلزم نفيه عن الآخر ، لجواز اشتراك الصورتين في الحكم ، وتختصّ إحداهما بالبيان
، إمّا لأنّ بيان الاخرى ليس بواجب ، أو إن كان واجبا ، لكن يبيّنه بطريق آخر.
ولأنّ المتكلّم
خطر له أحد القسمين دون الثّاني ، وهذا لا يتأتّى في حقّ واجب الوجود تعالى.
أو لأنّ السّامع
يحتاج إلى أحد القسمين ، كمن يملك السائمة ، ولا يملك المعلوفة ، فإنّه بعد حولان
الحول يحتاج إلى معرفة حكم السّائمة خاصّة ، فيحسن من الشّارع تخصيص البيان له.
أو يكون أحد
القسمين دليلا على الآخر ، كما في منع قتل الأولاد خشية الإملاق ، فإنّه يدلّ على
المنع مع الغنى بطريق الأولى.
أو لقصد قوّة البيان ، فإنّ دلالة العامّ على جزئيّاته ، أضعف من
التنصيص على كلّ جزء ، لاحتمال تطرّق التخصيص إلى الأوّل دون الثّاني.
أو ليجتهد المكلّف
في استخراج الدّليل ، بأن يستنبط من التنصيص على الجزئيّ عليّة المشترك ، فيحمل
الاخرى عليها ، فيزداد ثوابه لزيادة المشتقّة.
أو بأن يبقى
المجتهد على حكم الأصل ، كما لو قال : لا زكاة في السائمة ، فننفي نحن في المعلوفة
على الأصل.
وإنّما خصّ نفي
الزكاة بالسّائمة في الذكر لموضع الاشتباه ، فإنّ السائمة لمّا كانت مئونتها أخفّ
، كان احتمال الوجوب فيها أكثر من احتماله في المعلوفة.
لا يقال : دلالة
الالتزام إذا كانت ظنّية لم تقدح في عدم اللّزوم في بعض الموارد ، فإنّ الغيم
الرّطب لمّا دلّ على المطر ظاهرا ، لم تبطل دلالته بعدم المطر أحيانا.
ونحن نقول : إنّ
ثبوت الحكم مقيّدا ، يدلّ ظاهرا على نفيه عند نفي القيد ، فلا يقدح العدم في بعض
الصّور إلّا مع تساوي الاحتمالات ، ولم تثبتوه.
__________________
لأنّا نقول :
تعليق الحكم بالوصف لا يدلّ على نفيه عمّا عداه [لا] قطعا ولا ظاهرا ، لأنّه لو
دلّ عليه ظاهرا لكان صرفه إلى الوجوه الّتي ذكرناها مخالفة للظّاهر ، والأصل عدمه .
وفيه نظر ، فإنّ
هذا التقسيم إنّما يلزم لو قلنا : إنّ التقييد خاصّة يدلّ على النفي ، أمّا على
تقدير أن يكون مقدّمة فلا ، وتقريره أن نقول : هذا تخصيص فلا بدّ له من فائدة ،
ولا فائدة سوى النّفي.
الثاني : الأمر
المقيّد بالوصف قد يرد مع نفي الحكم عمّا عداه اتّفاقا ، ومع ثبوته ، كما في قوله
تعالى : (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ).
(وَمَنْ قَتَلَهُ
مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ).
والاشتراك والمجاز
على خلاف الأصل ، فيبقى حقيقة في القدر المشترك ، وهو ثبوت الحكم في المذكور ، مع
عدم الدّلالة في غيره نفيا وإثباتا.
وفيه نظر ، إذ لا
يلزم من عدم الإرادة في بعض المواضع لمانع عدم الوضع ، ونحن إنّما نقول بالعدم لو
لم يكن للتخصيص فائدة سوى العدم ، أمّا مع وجود فائدة أخرى فلا ، وذلك كما إذا خرج
التقييد مخرج الأغلب ، فإنّه لا يدلّ على النفي اتّفاقا ، كما في قتل الأولاد ،
فإنّ الغالب أنّه
__________________
لخشية الإملاق ،
وكذا الغالب أنّ القتل إنّما يكون مع التعمّد.
الثالث : ثبوت
الحكم في إحدى الصّورتين لا يلزم منه ثبوته في الاخرى ، والإخبار عن ثبوته في
إحداهما لا يلزم منه الإخبار عنه في الاخرى.
فإذن الإخبار عن
ثبوته في إحداهما ، لا يلزمه الحكم في الاخرى ثبوتا ولا عدما.
أمّا أنّ ثبوته في
إحداهما لا يستلزم ثبوته في الاخرى ولا عدمه ، فلأنّه يمكن عقلا اشتراك المختلفين
في بعض الأحكام كالاختلاف ، ويمكن اختلافهما في بعض الأحكام.
فإذا ثبت الحكم في
هذه الصورة ، لم يلزم من مجرّد ثبوته فيها ثبوته في الاخرى ولا عدمه.
وأمّا أنّ الإخبار
عن حكم إحداهما لا يستلزم الإخبار عن حكم الاخرى ، لأنّ إحداهما مخالفة للاخرى [من
بعض الوجوه] والمختلفان لا يجب تساويهما في الحكم ، فلا يلزم من كون إحداهما
متعلّق غرض الإنسان بالإخبار عنه كون الاخرى كذلك ، بل المتساويان لا يجب تساويهما
في الأغراض ، والإخبار عن الحكم عارض ، فثبت أنّ الإخبار عن إحداهما لا يستلزم
الإخبار عن الاخرى.
وإذا ثبتت
المقدّمتان ثبت أنّ الإخبار عن ثبوت الحكم في هذه الصورة لا يدلّ على حال الاخرى
وجودا ولا عدما.
__________________
الرابع : لو دلّ
التخصيص بالصّفة على نفيه عمّا عداه ، لدلّ التخصيص باللّقب ، والتالي باطل لما
تقدّم ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ المقتضي للنّفي في صورة الصّفة ليس إلّا ثبوت غرض في التخصيص بالذّكر ، ولا
غرض سوى نفي الحكم عمّا عداه ، والعلم بثبوت الغرض وأنّ هذا المعنى يصلح للغرضيّة
يوجب الظّنّ بأنّ هذا هو الغرض ، والعمل بالظّنّ واجب ، لكن ذلك كلّه موجود في
الاسم ، فوجب أن يكون التخصيص بالاسم موجبا لنفي الحكم عمّا عداه ، وليس كذلك.
احتجّ الخصم بوجوه
:
الأوّل : قال أبو
عبيد القاسم بن سلّام : إنّ دليل الخطاب حجّة ، وهو من أهل اللغة ، فيكون قوله
حجّة.
أمّا المقدّمة
الأولى : فلأنّه قال في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته» ، إنّه أراد أنّ ليّ من ليس بواجد لا يحلّ عرضه ولا عقوبته
، واللّيّ : المطل ، والواجد : الغنيّ ، وإحلال عرضه : مطالبته ، وعقوبته : حبسه .
وقال في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «مطل الغني ظلم» : مطل غير الغنيّ ليس بظلم. وقال في قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «لأنّ يمتلئ جوف أحدكم قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا ،
وقد قيل له : إنّما أراد النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم الهجاء من الشعر ، أو هجاء الرسول.
__________________
فقال : لو كان ذلك
هو المراد لم يكن لتعليق ذلك بالكثرة وامتلاء الجوف معنى ، لأنّ ما دون ملء الجوف
من ذلك مثل كثيرة .
وأمّا المقدمة
الثانية ، فلأنّه من أهل اللغة ، فيصدق في نقله.
واعترض (في نقله) بأنّ هذا القول منه إن كان عن اجتهاد ، لم يكن مقبولا منه
، ولا مقلّدا فيه.
وإن كان نقلا عن
العرب ، فهو مسلّم ، لكن ليس في كلامه ما يدلّ على أنّه نقل من العرب ذلك.
مع أنّا نمنع قبول
نقله ، فإنّه خبر واحد في هذه المسألة المشهورة.
ثمّ هو معارض
بمذهب الأخفش ، وهو من أهل اللغة ، ولم يقل بدليل الخطاب .
والجواب : أنّ هذه
الدّلالات من توابع الوضع وأبو عبيد لغويّ أعرف بالوضع وفوائده من غيره.
وقول الأخفش هنا
ليس حجّة ، لأنّه يرجع إلى الشّهادة على النفي.
الثاني : منع ابن
عبّاس من توريث الأخت مع البنت بقوله تعالى : (إِنِ
__________________
امْرُؤٌ
هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ) فهم من توريث الأخت مع عدم الولد امتناع توريثها مع البنت
، لأنّها ولد.
الثالث : أجمع
الصحابة على أنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا التقى الختانان ، وجب الغسل» ناسخ لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الماء من الماء» لأنّ قوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «الماء من الماء» يدلّ على نفي الغسل من غير إنزال ،
فكان نسخا له.
الرابع : لو قال
لوكيله : «اشتر لي عبدا أسود» فهم منه عدم شراء الأبيض ، حتّى لو اشتراه لم يكن
ممتثلا.
الخامس : تعليق
الحكم بالوصف يفيد نفيه عن غيره عرفا ، فكذا لغة.
أمّا الأولى ،
فلأنّ من قال : الإنسان الطويل لا يطير ، واليهودي الميّت لا يبصر ، استهزئ به ،
ويقال : إذا كان القصير لا يطير ، والميّت المسلم لا يبصر ، فأيّ فائدة في القيد؟
وأمّا الثانية ،
فلأنّ الأصل عدم النّقل.
السادس : التخصيص
لا بدّ له من مخصّص ، وإلّا لزم الترجيح من غير مرجّح ، ونفي الحكم عن غيره صالح
لذلك ، وليس هناك شيء آخر ، فيجب حمله على النّفي ، تكثيرا لفوائد كلام الشارع ، أو للمناسبة والاقتران.
__________________
السابع : تعليق
الحكم على الوصف يشعر بعليّته له ، فيلزم من نفيه نفيه.
ولأنّ تعليل
الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة على خلاف الأصل.
الثامن : فرّق أهل
اللّغة بين المطلق والمقيّد بالصّفة ، كما فرّقوا بين المطلق والمقيّد بالاستثناء
، وكما أنّ الاستثناء يدلّ على المخالفة ، فكذا الوصف.
التاسع : القول
بالنفي يقتضي تكثير فائدة الكلام.
العاشر : نقل أنّه
صلىاللهعليهوآلهوسلم قال : «طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبعا» لو كان ما دون السّبع مطهّرا لم يستند التّطهير إلى السّبع
، لورود السّابعة على محلّ طاهر ، فتبطل فائدة المنطوق ، وكذا «عشر رضعات يحرّمن» .
والجواب عن الأوّل
: ما تقدّم ، من أنّ قول أبي عبيد ليس حجّة ، لأنّ الظاهر أنّه لم ينقله لغة ،
وإنّما فهم ذلك باجتهاده.
وعن الثاني : أنّ
فهم ابن عبّاس إنّما هو باعتبار أنّ الأصل عدم التوريث ، فلمّا ورثت الأخت بشرط
عدم الولد ، بقيت حالة وجود البنت الّتي هي ولد على أصل النفيّ.
وعن الثالث : أنّه
لا نسخ هنا ، إذ الحكمان باقيان ، فإنّ الغسل يجب مع
__________________
الإنزال وإن لم
يحصل الالتقاء ، ومع الالتقاء وإن لم يحصل الإنزال.
وعن الرابع : أنّ
الوكيل إنّما يعدّ مخالفا ، لأنّه ممنوع من التصريف فيما لم يأذن له الموكّل.
وعن الخامس : أنّ
أهل العرف يضحكون من قول القائل : «زيد الطويل لا يطير» وبالإجماع التخصيص هنا لا
يفيد نفي الحكم عمّا عداه ، وللمستدلّ أن يمنع عدم الإفادة ، لأنّ قوله : «زيد
الطويل لا يطير» تعليق بالوصف ، وأنّه نفس النزاع.
نعم لو قال : «زيد
لا يطير» كان تعليقا بالاسم ، وهنا لا يقولون : إنّ تعليقه بالاسم عبث ، بل إنّه
بيان الواضحات ، وفرق بين أن يكون بيانا للواضح و [بين] عدم الفائدة في ذكر هذه
الصفة ، وحينئذ يندفع النقض .
وفيه نظر ، فإنّ
الاستهزاء هناك إنّما كان لأنّه بيان الواضحات.
وعن السادس :
بالمنع من سبب التخصيص ، فإنّ الهارب من السّبع إذا عرضه طريقان سلك أحدهما لا لمرجّح.
والجائع إذا حضره
رغيفان ، والعطشان إذا قدم إليه إناءان ، فإنّه يتناول أحدهما لا لمرجّح.
والله تعالى خصّص
إحداث العالم بوقت حدوثه ، دون ما قبله وبعده ، من غير مرجّح.
__________________
سلّمنا ، لكنّ
الفائدة ما تقدّم ، ومع ذلك فينتقض الدّليل بالتّخصيص بالاسم.
وعن السابع :
بالمنع من امتناع تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة ، فإنّ الاختلاف
والتضادّ متساو في المختلفين والمتضادّين ، وهما مختلفان.
وعن الثامن : أنّا
نقول بالفرق ، فإنّ الحكم في المطلق يثبت في جميع موارده ، قطعا أو ظنّا ،
والمقيّد ينفي الظنّ والقطع ، ويبقى مشكوك في الباقي.
وعن التاسع :
تكثير الفائدة لا يوجب الوضع.
وعن العاشر : أنّه
جعل العدد علّة للتطهير والتحريم ، فينتفيان عند عدم العدد.
تذنيبات
الأوّل : لو كان الوصف المعلّق على الحكم علّة ، لزم من عدمه عدم
الحكم ، وإلّا لزم إمّا كون ما فرضناه علّة غير علّة ، أو وجود المعلول بدون
العلّة ، واللازم بقسميه باطل ، فالملزوم مثله.
بيان الملازمة :
أنّ الوصف إذا انتفى ، فإن بقي الحكم فإمّا أن يستند إلى علّة أو لا ، والثاني
يلزم منه وجود المعلول بدون العلّة ، وإن استند إلى غير تلك العلّة ، لم يكن ما
فرضناه علّة ، بعلّة ، بل العلّة أحد الأمرين.
__________________
وأمّا بطلان
القسمين فظاهر.
الثاني : شرط دليل الخطاب عند القائلين به ، ألا يظهر أولويّة ولا
مساواة في المسكوت عنه للمنطوق ، فيكون موافقه ، كما لو قال : ضحّوا بشاة ، فإنّه
قد يتوهّم متوهّم أنّه لا يجوز التضحية بشاة عوراء ، فإذا قال : ضحّوا بشاة عوراء
، كان ذلك أدلّ على التضحية بما ليست عوراء.
وكذا لو قال : «لا
تقتلوا أولادكم» يتوهّم أنّه لم يرد النّهي عن قتلهم عند خشية الإملاق ، فإذا قال
: (وَلا تَقْتُلُوا
أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ) كان أدلّ على المنع من قتلهم عند عدم الخشية.
وألا يكون قد خرج
مخرج الأغلب ، كما في قوله تعالى : (وَإِنْ خِفْتُمْ
شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا) ، لأنّ الباعث على التخصيص هو العادة ، فإنّ الخلع لا يجري
غالبا إلّا عند الشّقاق.
وإذا احتمل أن
يكون سبب التخصيص هو العادة ، لم يغلب على الظنّ أنّ سببه نفي الحكم عمّا عداه.
وكذا يشترط عدم
عموم المذكور ، كما في قوله : (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ).
وألا يكون لسؤال
سائل ، كما لو قال : «أفي سائمة الغنم زكاة»؟ فقال : «في سائمة الغنم زكاة».
__________________
وألا يكون لحدوث
واقعة وقعت.
وبالجملة الشرط
شيء واحد ، وهو ألا يكون للتخصيص سبب ظاهر إلّا نفي الحكم عمّا عداه.
الثالث : تعليق الحكم على وصف في جنس ، يقتضي نفيه عمّا عداه في ذلك
الجنس إن قلنا بدليل الخطاب ، ولا يقتضي نفيه عمّا عداه في غير ذلك الجنس ، كما «في
سائمة الغنم زكاة» فإنّه يقتضي نفيه عمّا عداه في ذلك الجنس ، ولا يقتضي نفيه في
سائر الأجناس.
وقال بعض فقهاء
الشافعيّة : إنّه يقتضي نفي الزكاة عن المعلوفة في جميع الأجناس.
لنا أنّ دليل
الخطاب نقيض المنطوق ، فكما يتناول المنطوق سائمة الغنم ، كان نقيضه مقتضيا
لمعلوفة الغنم دون غيرها.
احتجّوا بأنّ
السّوم يجري مجرى العلّة في وجوب الزكاة ، ويلزم من عدم العلّة عدم الحكم ، لأصالة
اتّحاد العلّة.
والجواب : المذكور
سوم الغنم ، لا مطلق السوم ، فيكون علّة في جنسه خاصّة.
الرابع : الوصفان المتضادّان إذا علّق أحدهما ، اقتضى نفيه عن الضدّ
عند القائلين بدليل الخطاب ، وهل يقتضي نفيه عن النقيض؟ إشكال.
__________________
الخامس : تقييد الحكم بغاية مثل : «صوموا إلى اللّيل» يمنع ظاهرها من
ثبوت الحكم بعدها ، لأنّ معناه : «صوموا صوما غايته وآخره اللّيل».
ولو قال ذلك ،
لمنع من وجوب الصّوم بعد اللّيل ، إذ لو وجب أن يصوم بعد ذلك ، خرج الليل من أن
يكون طرفا ، وصار وسطا للصّوم.
ويمكن أن يدلّ
دليل على خلاف ظاهر الغاية ، فيوجب صيام قطعة من اللّيل ، فيدلّ حينئذ على أنّه
سمّي اللّيل طرفا للصوم مجازا.
وقاضي القضاة قال
: الغاية تدلّ على أنّ ما بعدها بخلافها ، لأنّ فائدة ضرب الغاية ، زوال الحكم
بعدها .
وهذا مساو لمن قال
: إنّ التقييد بالوصف يدلّ على نفيه عمّا عداه.
المبحث العاشر :
في أنّ الامر هل يدخل تحت الأمر؟
فصّل أبو الحسين هنا جيّدا فقال : هذا الباب يتضمّن مسائل :
الأولى : هل يمكن
أن يقول الإنسان لنفسه : «افعل» مع أنّه يريد ذلك الفعل؟ ولا شكّ في إمكانه.
الثانية : هل
يسمّى ذلك أمرا؟
الحقّ عدمه ،
لاعتبار الاستعلاء في الأمر ، وإنّما يتحقّق بين اثنين ، ومن
__________________
يحذف الاستعلاء
يقول : الأمر طلب الفعل من الغير ، ولا مغايرة بين الشخص ونفسه ، فلا أمر.
الثالثة : هل يحسن
ذلك أم لا؟
الحقّ العدم ،
فإنّ فائدة الأمر إعلام الغير طلبه ، ولا فائدة في إعلام الشخص نفسه ما في قلبه ،
بل لا يتحقّق ذلك.
الرابعة : إذا
خاطب الإنسان غيره بالأمر ، فإن نقل كلام ذلك الغير دخل ، كقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ) لأنّه خطاب مع المكلّفين.
وإن نقل أمر غيره
بكلام نفسه دخل أيضا إن يتناوله ، مثل : «إنّ الله تعالى يأمرنا بكذا» ، وإن لم
يتناوله ، لم يدخل ، مثل : «إنّ الله يأمركم».
المبحث الحادي عشر
: في الأمرين المتعاقبين
إذا ورد أمر عقيب
آخر ، فإمّا أن يكون مختلفين أو لا ، فإن كان الأوّل تغاير مقتضاهما إجماعا ، وإن
صحّ اجتماعهما وجب على المأمور فعلهما إمّا مجتمعين أو مفترقين إلّا أن يدلّ دليل منفصل على إيجاب أحدهما ، كقوله : «صم» «صلّ».
وإن امتنع الجمع ،
إمّا عقلا ، كالصّلاة في مكانين ، أو سمعا ، كالصّلاة
__________________
والصدقة ، وجب
فعلهما معا مفترقين ، وسواء في ذلك ورود الثاني بحرف عطف أو بغيره.
وإن كان الثاني ،
فإمّا أن يصحّ فيه الزائد أو لا ، فالأوّل إن كان مجرّدا عن العطف ، قال القاضي
عبد الجبّار : إنّه يفيد غير ما يفيده الأوّل إن لم تمنع العادة ، كقوله «اسقني
ماء» «اسقني ماء» فإنّ العادة تمنع من تكرار سقيه في حالة واحدة غالبا.
أو يكون الثاني
معرّفا ، مثل «صلّ ركعتين» «صلّ الركعتين» فإنّ اللام تنصرف إلى العهد غالبا.
أمّا إذا تعرّى
عنهما فإنّه يقتضي المغايرة ، مثل «صلّ غدا ركعتين ، صلّ غدا ركعتين».
وقال أبو الحسين
بالوقف .
احتجّ القاضي بأنّ
الأمر يقتضي الوجوب ، والفعل الأوّل وجب بالأمر الأوّل ، فيستحيل وجوبه بالثاني ،
وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، فلو انصرف الثاني إلى الفعل الأوّل ، لزم حصول علّة
الوجوب من دون المعلول ، فوجب صرفه إلى فعل آخر.
ولأنّ صرفه إلى
الأوّل يفيد التأكيد ، وإلى غيره يفيد التأسيس ، والثاني أولى .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
تحصيل الحاصل إنّما يلزم لو لم يفد التأكيد ، أمّا على تقدير إفادته فلا ، كما في
المعرّف.
وما تمنع العادة
من تكرّره ، فإنّ الثاني يفيد ما أفاده الأوّل إجماعا.
وفائدة التأسيس
وإن كانت أولى ، إلّا أنّ أصالة براءة الذّمّة واستصحاب حال العدم راجح على
ضدّهما.
نعم الاحتياط
يقتضي التغاير ، لاحتمال أن يكون للوجوب في نفس الأمر وفي تركه محذور فوات المقصود
من الواجب ، وتحصيل مقصود التأكيد ، ومعلوم أنّ تفويت مقصود التأكيد وتحصيل مقصود
الواجب أولى.
وإن كان هناك عطف
، فإن خلا عن التعريف تغايرا ، لامتناع عطف الشيء على نفسه ، مثل : «صلّ ركعتين» «وصلّ
ركعتين» وإن عرّف الثاني مثل «صلّ ركعتين» «وصلّ الرّكعتين» توقّف أبو الحسين إذ يمكن حمله على تلك الصلاة باعتبار التعريف ، وعلى غيرها
باعتبار العطف ، ولا أولويّة.
وقيل : الثاني أولى ، إذ لام الجنس قد تكون لتعريف الماهيّة ،
كما تكون لتعريف المعهود السابق ، ومع إرادة العهد يمكن أن يكون المعهود هو
الصّلاة الّتي تناولها الأمر الأوّل ، أو غيرها ممّا تقدّم ، فيبقى العطف سليما عن
المعارض .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ «الواو»
تحتمل أن تكون للابتداء ، كما تحتمل العطف ، ولو عطف بغير الواو احتمل التأكيد.
وإن كان الثاني ،
وهو ما لا يصحّ فيه الزائد إمّا عقلا كقتل زيد ، وصوم يوم ، أو شرعا كعتق زيد ،
فإنّه قد كان يجوز تزايده ، ويقف تمام الحرّيّة على عدد كالطّلاق.
فإن كان الأمران
عامّين أو خاصّين ، اتّحد المأمور ، وحمل الثاني على التأكيد ، سواء كان هناك حرف
عطف أو لا ، مثل : «اقتل كلّ إنسان واقتل كلّ إنسان» ، «واقتل زيدا ، واقتل زيدا».
وإن اختلفا في
العموم ، سواء تقدّم العامّ أو الخاصّ ، فإن كان هناك عطف ، مثل : صم كلّ يوم ،
وصم يوم الجمعة.
قيل : إنّ الثاني
غير داخل ، ليصحّ العطف .
وقيل بالوقف إذ ليس ترك ظاهر العموم أولى من ترك ظاهر العطف ، وحمله
على التأكيد.
وإن تجرّد مثل : «صم
كلّ يوم ، صم يوم الجمعة» ، حمل الثاني على التأكيد ، لعموم الأوّل الدالّ على
أنّه لم يبق من ذلك الجنس شيء لم يدخل تحت العامّ ، وقد سلم عن معارضة العطف.
__________________
الفصل الرّابع :
في أقسام الأمر
اعلم أنّ الأمر له
تعلّق بالمأمور به ، والمأمور ، والزّمان ، وله بحسب كلّ واحد من هذه ، أقسام.
أمّا بالنظر إلى
الأوّل ، فإنّه ينقسم إلى معيّن ، وإلى مخيّر.
وأمّا بالنظر إلى
الثاني ، فإلى ما يجب على التعيين ، وعلى الكفاية.
وأمّا بالنظر إلى
الثالث فإلى مضيّق وإلى موسّع.
فهاهنا مباحث :
المبحث الأوّل :
في الواجب المخيّر
اختلف الناس هنا ،
فقالت المعتزلة : الأمر بالأشياء على التخيير كما في خصال الكفّارة ، يقتضي وجوب
الكلّ على التخيير.
وذهبت الأشاعرة
والفقهاء إلى أنّ الواجب واحد لا بعينه ، ويتعيّن بفعل المكلّف.
والظاهر أنّه لا
خلاف بينهما في المعنى ، لأنّ المعتزلة قالوا : نريد
بوجوب الكلّ على
البدل : أنّه لا يجوز للمكلّف الإخلال بها أجمع ، ولا يلزمه الجمع بينها ، وله
الخيار في تعيين أيّها شاء.
والفقهاء عنوا
بقولهم : «الواجب واحد لا بعينه» ، هذا ، فلا خلاف معنويّ بينهم.
نعم هنا مذهب
تبرّأ كل من المعتزلة والأشاعرة منه ، ونسبه كلّ منهم إلى صاحبه ، واتّفقا على
فساده ، وهو : أنّ الواجب واحد معيّن عند الله تعالى غير معيّن عندنا ، إلّا أنّ
الله تعالى يعلم أنّ ما يختاره المكلّف هو ذلك المعيّن عنده تعالى .
والدليل على
بطلانه : أنّ الواجب إذا كان واحدا معيّنا عند الله تعالى ، استحال منه تعالى أن
يخيّر فيه ، إذ معنى التخيير تجويز ترك كلّ واحد بشرط الإتيان بالآخر.
وكونه معيّنا عند
الله ، معناه : المنع من تركه بعينه ، سواء فعل الآخر أو لا ، والجمع بين جواز
الترك ، وعدم جوازه متناقض.
لا يقال : لا
منافاة بين التخيير والتعيين ، لأنّه تعالى وإن خيّر بين الكفّارات ، لكنّه علم
أنّ المكلّف لا يختار إلّا ذلك الّذي هو واجب عليه ، فلا يقع الإخلال بالواجب.
أو نقول : يجوز أن
يكون لاختيار المكلّف تأثير في كون ما اختاره واجبا.
أو يمكن أن يكون
ما عداه مباحا ، يسقط به الفرض ، كما جوّز بعضهم سقوط الفرض بالمحظور.
__________________
لأنّا نقول : لمّا
خيّر الله تعالى بينه وبين غيره ، فقد أباح تركه ، وإيجابه على التعيين معناه :
أنّه لا يجوز تركه وإن فعل غيره ، ولا شكّ في التنافي بينهما.
وقبل : اختيار
المكلّف لا بدّ من الوجوب ، فمحلّه إن كان معيّنا ، كان منافيا للتخيير.
وإن كان غير معيّن
، فهو محال الوجود ، وأيضا فليس محلّ النزاع.
وإن كان [الواجب]
الجميع بشرط التخيير فهو المطلوب.
والإجماع واقع على
أنّ الآتي بأيّ الخصال كان ، أتى بالواجب لا ببدله.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو لم
يكن الواجب واحدا معيّنا ، لكان المكلّف إذا فعلها أجمع ، فالمقتضي لسقوط الفرض إن
كان هو الجميع ، كان الجميع واجبا ، ولا شك في أنّ الإتيان بالكلّ ليس بواجب ، وإن
كان كلّ واحد ، لزم اجتماع العلل المستقلّة بالتأثير على المعلول الواحد ، وهو
محال ، وإلّا لزم أن يكون بكلّ واحد منها واجب الوجود ، فيستغنى عن الآخر ، لكن
المؤثّرات معا ، فالاستغناء معا ، لكنه محتاج ، فيلزم أن يكون غنيّا عنها معا ومحتاجا
إليها معا ، هذا خلف.
وإن كان [سقوط
الفرض] بواحد ، استحال أن يكون غير معيّن ، لأنّ غير المعيّن لا وجود له في الخارج
، والأثر المعيّن موجود في الخارج ، فلا يكون معلولا له ، فلا يكون سقوط الفرض
معلّلا بما يمتنع الإتيان به في الخارج ، فيكون معيّنا ، وليس معيّنا عندنا ،
فيكون [معيّنا] عند الله تعالى ، وهو المطلوب.
الثاني : لو فعل
المكلّف الجميع ، فالموصوف بالوجوب ليس المجموع ، ولا كلّ واحد ، وإلّا لكان الكلّ
واجبا على التعيين لا التّخيير ، ولا واحدا غير معيّن ، لاستحالة وجوده ، فيستحيل
إيجابه ، فيكون معيّنا في نفسه ، غير معلوم لنا.
الثالث : إذا فعل
المكلّف الجميع ، فإن استحقّ ثواب الواجب بها أجمع ، أو لكلّ واحد منها ، لزم
إيجاب الجميع عينا ، وإن كان بواحد وجب أن يكون معيّنا ، لأنّ استحقاق الثواب على
فعله حكم ثابت له معيّن ، فيستدعي محلّا معيّنا.
ولأنّ فعل شيء غير
معيّن محال ، فيكون ذلك الواجب معيّنا في نفسه غير معلوم [للمكلّف].
الرابع : إذا فعل
الجميع ، فإمّا أن ينوي الواجب في فعل الجميع ، أو كلّ واحد ، ويلزم منها وجوب
الكلّ عينا ، أو فعل غير معيّن ، وهو محال ، فيكون في فعل معيّن عند الله تعالى لا
عندنا.
الخامس : لو أخلّ
المكلف بها أجمع ، فإن استحقّ العقاب على ترك كلّ واحد منها ، كان كلّ واحد واجبا
، أو على ترك واحد غير معيّن ، وهو محال ، فإنّه إذا لم يتميّز أحدها بصفة الوجوب
، استحال إسناد العقاب إلى واحد منها ، وإلّا لزم التّرجيح من غير مرجّح.
ولأنّ استحقاق
العقاب على الترك ، أمر معيّن ، فيستدعي محلّا معيّنا.
ولأنّ استحقاق
العقاب على الترك ، يستدعي إمكان الفعل ، ولا إمكان لفعل غير المعيّن.
والجواب عن الأوّل
: علل الشرع معرّفات لا موجبات ، فجاز تعدّدها.
ولأنّ المقتضي
للسقوط ، الكلّي وهو موجود في الخارج.
وعن الثاني : إن
أردت بقولك : كلّها واجبة لزوم فعلها بعد أن فعلت ، فهو محال ، وغير لازم.
وإن أردت أنّها
قبل دخولها في الوجود هل كانت بحيث يجب تحصيلها إمّا على الجمع ، أو البدل؟
قلنا : بل على
البدل ، على معنى أنّها بعد وجودها ، يصدق عليها أنّها قبل الوجود ، بحيث يجب
تحصيل أيّ واحد اختاره المكلّف بدلا عن صاحبه.
على أنّ هذين
يلزمان الخصم ، حيث يوجب ما يختاره المكلّف ، فإنّه لو اختار الجميع ، لزم ما
قالوه.
وعن الثالث : أنّه
يستحقّ على فعل كلّ واحد منها ثواب [الواجب] المخيّر لا المضيّق ، بمعنى : أنّه
يستحقّ على فعل أمور ، كان له ترك كلّ واحد [منها] بشرط الإتيان بصاحبه ، لا ثواب
فعل أمور كان يجب عليه إتيان كلّ واحد منها بعينه ، ولا كما قاله بعضهم : إنّه
يستحقّ ثواب الواجب على فعل أكثرها ثوابا ، وإلّا لكان هو الواجب.
الجواب عن الرابع
وعن الخامس : أنّه يستحقّ العقاب على ترك أمور كان مخيّرا في الإتيان بأيّها كان
وترك أيّها كان ، بشرط إتيان صاحبه ، لا كما قيل : من أنّه يستحقّ على ترك أقلّها
عقابا.
__________________
واحتجّ القائلون
بوجوب واحد غير معيّن بأنّ الإنسان لو عقد على قفيز من صبرة لم يكن معيّنا ، بل
الخيار للمشتري في التعيين ، فقد صار الواجب غير المعيّن معيّنا باختيار المكلّف.
وكذا لو طلّق إحدى
زوجاته ، أو أعتق أحد عبيده ولم يعيّن ، أو لو خطب المرأة اثنان ، فإنّه يحرم
الجميع.
ولأنّ السيّد لو
قال لعبده : «قد أوجبت عليك في هذا اليوم أحد الأمرين : إمّا الخياطة أو البناء ،
ولا أوجبتهما معا عليك ، ولا أوجبت واحدا بعينه ، بل أيّهما شئت فافعل ، ولا أبيح
لك تركهما معا.
فإنّ السيّد هاهنا
، لم يسقط عنه وجوبهما ، ولا أوجبهما معا ، ولا أوجب واحدا بعينه ، فتعيّن أن يكون
قد أوجب واحدا غير معيّن.
والجواب : أنّ كلّ
قفيز ، معقود عليه على البدل ، إذ لا أولويّة لأحدهما باختصاص العقد ، بل الخيار
للمشتري.
وكذا في الطلاق
والعتق ، فإنّ كلّ واحد من الزوجات مطلّقة على البدل ، وأيّ امرأة اختار فراقها
تعيّنت للفرقة ، وحلّت الاخرى ، وأيّ عبد اختار تعيينه للعتق ، عتق وحلّ له
استخدام الباقي.
وكذا إيجاب
الخياطة والبناء ، فإنّ كلّ واحد منهما واجب على البدل ، ولا اختصاص لأحدهما
بالإيجاب.
قال أبو الحسين
البصري ، ونعم ما قال : «ينبغي أن نبيّن معنى قولنا : الأشياء واجبة على البدل ،
ومعنى إيجاب الله سبحانه إيّاها على البدل ، ونبيّن الشرط في إيجابها على البدل ،
ونبيّن جواز ورود التعبّد بها على البدل ،
ونبيّن الطريق إلى
ثبوت التعبّد بالأشياء على البدل ، ونبيّن أنّ الله تعالى قد تعبّدنا بأشياء على
البدل ، ونبيّن كيفية التعبّد بها.
أمّا قولنا : الأشياء
واجبة على البدل ، فمعناه : أنّه لا يجوز الإخلال بالجميع ، ولا فعل الجميع ، وفعل
كلّ واحد موكول إلى اختياره ، لتساويهما في وجه الوجوب.
ومعنى إيجاب الله
تعالى هو : أنّه كره ترك جميعها ، وأراد كلّ واحد منها ، ولم يكره ترك كلّ واحد
منها إذا فعل المكلّف الآخر ، وفوّض إلى المكلّف فعل أيّها شاء ، وعرّفه جميع ذلك
، وقد يجوز أن يريد جميعها على البدل ، وعلى الجميع.
ويفارق هذا ،
الواجب المرتّب ، كالتيمّم والوضوء ، لأنّ ذلك ليس موكولا إلى اختيار العبد.
وأمّا شرط التعبّد
بالواجب المخيّر فأمران : تمكّن العبد من الفعلين ، بأن يقدر عليهما ، ويتميّزان
له ، وتساويهما في الصّفة الّتي تناولها التعبّد ، بأن يكونا واجبين أو ندبين ،
فإنّه لو خيّر تعالى بين قبيح ومباح ، لكان قد أذن في فعل القبيح.
ولو خيّر بين ندب
ومباح ، لكان قد جعل للمكلّف أن يفعله ، وألا يفعله ، من غير أن يرجّح فعله على
تركه ، وذلك يدخله في كونه مباحا.
ولو خيّر بين واجب
وندب ، لكان قد فسح في ترك الواجب ، لأنّه قد أباح تركه إلى غيره.
فأمّا التخيير بين
تقديم الزّكاة وتأخيرها ، فإنّه ليس تأخيرا بين
واجب وندب ،
وإنّما خيّر الإنسان بين أن يجعل نفسه عند حئول الحول على الصّفة الّتي تجب معها
الزكاة ، بأن لا يقدّم الزّكاة ، وبين أن يخرج نفسه عن هذه الصّفة ، بأن يقدّمها.
وقيل : إنّه إنّما خيّر بين التقديم والتأخير ، لأنّ كلّ واحد
منهما يسدّ مسدّ صاحبه في المصلحة ، ولا يجوز أن يخيّر الإنسان بين أن يفعل الفعل
ولا يفعله ، إلّا إذا كان مباحا.
وأمّا الدّليل على
جواز التعبّد بالمخيّر ، فهو : أنّه لا يمتنع عقلا أن يصلح زيد عند كلّ واحد من
فعلين ، كما لا يمتنع أن يصلح عند فعل واحد معيّن.
وكما جاز أن يكون
الفعل صلاحا لشخص واحد ، جاز أن يكون الفعلان صلاحا في واجب واحد.
وعلى هذا التقدير
، لا يحسن ألا يكلّف شيئا منهما ، لما فيه من تفويت المصلحة ، ولا إيجابهما جمعا ،
ولا أحدهما عينا ، وإلّا لزم الفصل بينهما في الوجوب ، مع اشتراكهما في وجهه .
وأمّا طريق
التعبّد به فأمران : عقليّ بأن يعلم عقلا تساوي شيئين أو أكثر في وجه الوجوب ،
كردّ الوديعة بكلّ واحدة من اليدين.
وشرعيّ ، وهو
قسمان : مشروط بطريق عقليّ ، نحو أن يأمرنا الله تعالى بأشياء في وقت يستحيل الجمع
بينها ، فيعلم أنّها على التّخيير.
__________________
وغير مشروط ، إمّا
بأن يرد السمع بتساوي أشياء في وجه الوجوب ، أو يرد بإيجاب اشياء على التخيير» .
واعلم أنّ التقرير
الّذي ذكرناه أوّلا ، يرفع الخلاف بين الفريقين.
لا يقال : لو كان
الواجب واحدا من حيث هو أحد الثلاثة ، لوجب أن يكون المخيّر فيه ، واحدا لا بعينه
، من حيث هو أحدها ، فإن تعدّدا ، لزم التخيير بين واجب وغير واجب ، وإن اتّحدا ،
لزم اجتماع التخيير والوجوب.
لأنّا نقول : إنّه
لازم في الجنس والخاطبين.
والأقرب أنّ الّذي
وجب لم يخيّر فيه ، والمخيّر فيه لم يجب ، لعدم التعيين.
والتعدّد يمنع كون
المتعلّقين واحدا ، كما لو حرّم واحدا ، وأوجب واحدا.
لا يقال : يعمّ ،
ويسقط ، وإن كان بلفظ التخيير كالكفاية.
لأنّا نقول :
الإجماع في الكفاية على تأثيم الجميع بترك الكلّ ، وهنا الإثم بترك واحد.
وأيضا فالفرق واقع
، فإنّ تأثيم واحد من ثلاثة لا بعينه محال ، بخلاف الإثم على ترك واحد من ثلاثة.
__________________
لا يقال : يجب أن
يعلم الامر الواجب.
لأنّا نقول :
يعلمه كما أوجبه ، وإذا أوجب غير معيّن ، وجب أن يعلمه غير معيّن.
لا يقال : علم ما
يفعل ، فكان الواجب .
قلنا : يكون واجبا
، لكونه واحدا منها لا لخصوصه ، للقطع بأنّ الخلق فيه سواء.
وأيضا لو كان
الواجب واحدا بعينه ، لوجب عليه تعالى بيانه وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
وأيضا لو كان الواجب
واحدا بعينه ، لكان الله قد تخيّر بين الواجب وما ليس بواجب.
لا يقال : يعلم
الله تعالى أنّ المكلّف لا يختار إلّا الواجب.
لأنّا نقول : إن
لم يكن لاختيار المكلّف تأثير في كونه مصلحة ، وواقعا على وجه الوجوب ، لزم أن
يتّفق وقوع المكلّفين على كثرتهم وطول أزمنتهم ، على المصلحة دون المفسدة ، وذلك
محال قطعا ، وأن يجوز اتّفاق تصديق أنبياء من جملة كذّابين ممّن لا يعلم الفرق
بينهم.
__________________
وأيضا ، لو صحّ
وقوع الواجب اتّفاقا ، لم يخرج الباري تعالى من كونه مخيّرا لنا بين الواجب وما
ليس بواجب ، ومبيحا لنا الإخلال بالواجب ، وإن علم أنّا لا نخلّ به.
وأيضا ، فالإجماع
على أنّ من كفّر بواحدة ، لو كفّر بغيرها ، أجزأه ، وكان مكفّرا بما تعبّد به ،
فلو لم يكن واجبا ، لم يكن مجزئا.
وإن كان لاختياره
تأثير ، فإمّا أن تكون مصادفة الاختيار لأيّ فعل أشير إليه ، تجعله مصلحة ، حتّى
يكون الاختيار هو المؤثّر في كون [الفعل] المختار صلاحا ، أو تكون مصادفته لواحدة
من الكفّارات الثلاث ، هو المصلحة.
فإن كان الأوّل ،
جاز أن يكفّر بغير الثلاثة.
وإن كان الثاني ،
فإمّا أن يشترك الثلاث في الوجه الّذي فارقت به غيرها ، وهو أن صار الفعل مصلحة
إذا قارنه الاختيار ، أو لا تشترك ، بل الواحد منها هو المختصّ بهذا الوجه.
فإن كان الثاني ،
كان ما هو مصلحة إذا اخترناه واحدا منها لا غير ، فيمتنع أن يخيّر الله تعالى فيه
وفي غيره ، ويجب عدم الإجزاء لو فعلنا غيره ، والإجماع واقع على الإجزاء بغيره.
وإن اشتركت ، وجب
أن يكون كلّ واحد منها لو فعله ، سدّ مسدّ الآخر في المصلحة ، وهو مذهبنا بعينه
إلّا في شيء واحد ، وهو : أنّكم قلتم : للاختيار تأثير
__________________
في كون الفعل
مصلحة ، مع ما عليه الفعل من الوجه ، وهذا لا معنى له ، فإنّ العبد عالم بما يفعله
، فيجب أن يقصد ويريد ما يفعله.
وما لا بدّ منه في
الفعل ، لا معنى لاشتراطه في المصلحة ، وإلّا لجاز أن يجعل اختيار كلّ واجب ، شرطا
في كونه واجبا ، ولزم الدور ، وخرج الجميع عن الوجوب لو لم يخيّر.
لا يقال : جاز أن
يكون ما عدا تلك الكفّارة مباحا ، ويسقط به الفرض ، كما أنّ الفرض قد يسقط
بالقبيح.
لأنّا نقول :
الإجماع على أنّه لو كفّر بغيرها لكفّر بالواجب.
ولأنّ القبيح
إنّما يسقط به الفرض ، إذا سدّ مسدّه في وجه المصلحة ، وإنّما قبح ولم يدخل تحت
التكليف ، لما فيه من وجه القبح.
ولأنّه إذا فعله
المكلّف ، صار لو فعل ذلك الواجب لم يكن على صفة المصلحة ، فيسقط وجوبه لهذا.
أمّا المباح ، فلو
سقط به الواجب ، لكان إمّا أن يسقط به ، لأنّه ساواه في وجه الوجوب ، فيلزم كونه
واجبا ، لانتفاء وجه القبح المانع من وجوبه عنه ، أو لأنّه يصير الواجب معه غير
مصلحة ، وذلك يجعله مفسدة ، لأنّ عنده يبطل لطف ، المكلّف ، ويصير فاعلا للقبيح ،
ولولاه لكان له لطف يصرفه عن ذلك القبيح.
وأمّا أنّ الله
تعالى تعبّد بأشياء على البدل ، فظاهر من خصال الكفّارات.
وأمّا كيفيّة
التعبّد ، فاعلم أنّ الأشياء الواجبة الّتي لا تجب جمعا ، قد
تجب على الترتيب ،
كالتيمّم والوضوء ، فإمّا أن يكون الجمع مرادا وإن لم يجب ، كالعتق ، والصوم في
كفّارة اليمين ، وإن لم يكن الصوم بعد العتق كفّارة ، أو لا يكون ، كتناول الميتة
، وأكل المباح.
وقد تجب على البدل
، وهو ضربان : أحدهما أن يكون بأجمعها مرادة ، وإن لم يجب الجمع ، كخصال الكفّارة
، أو لا يكون كالتزويج من الكفأين.
وقد بقي حجج من
الفريقين ، فقالت الأشاعرة : لو كان الجميع واجبا لكان الأمر بإيجاب عتق عبد من
العبيد على وجه التخيير موجبا للجمع ، وهو باطل.
ولأنّه يمنع من
التخيير ، فإنّه لا يحسن أن يقول : «أوجبت صلاتين فصلّ أيّتهما شئت واترك أيّتهما
شئت».
ولأنّ الواجب ما
لا يجوز تركه مع القدرة عليه ، وهذا الجمع يجوز تركه.
وقالت المعتزلة :
لو كان الواجب واحدا لا بعينه ، لكان شيء منها لا بعينه غير واجب ، فيلزم التخيير
بين الواجب وما ليس بواجب.
ولأنّه لو كان
الواجب واحدا لا بعينه ، ثمّ كفّر ثلاثة كلّ واحد من الخصال بغير ما كفّر به الآخر
، لكان الواحد لا بعينه هو المكفّر بالواجب دون الباقين.
والجواب عمّا
تقدّم : أنّا نقول : نعم الجميع واجب مخيّر فيه ، وإيجاب الصلاتين مع التخيير
بينهما إنّما يصحّ في المخيّر لا المعيّن ، ونحن لا نقول بوجوب الإتيان بالجميع
حتّى نمنع من تركه.
واعلم أنّ التحقيق
في هذا الباب أن نقول : الواجب هو الكلّي لا الجزئيّات.
لا يقال : يلزم
حينئذ ألا يكون الواجب مخيّرا فيه ، ولا المخيّر فيه ، أعني الجزئيّات واجبا.
لأنّا نقول :
الواجب هو الكلّي ، وهو لا يوجد إلّا في [ضمن] الأفراد ، فيكون الأفراد مخيّرا
فيها ، على معنى : أنّ المكلّف مأمور بتحصيل الكلّيّ في أيّ جزء شاء .
المبحث الثاني :
في الواجب على الكفاية
اعلم أنّ غرض
الشارع قد يتعلّق بتحصيل الفعل من كلّ واحد من المكلّفين عينا ، وقد يتعلّق
بتحصيله مطلقا.
والأوّل : هو
الواجب على الأعيان ، والأمر يتناولهم على سبيل الجمع ، وهو قسمان:
الأوّل : أن يكون
فعل بعضهم شرطا في فعل البعض الآخر : كالجمعة.
الثاني : ألا يكون
كذلك ، مثل «أقيموا الصلاة».
__________________
والثاني هو الواجب
على الكفاية ، والأمر يتناول الجماعة لا على سبيل الجمع ، وهو إنّما يكون إذا كان
الغرض يحصل بفعل البعض ، كالجهاد المقصود منه حراسة المسلمين ، فمتى حصل بالبعض
سقط عن الباقين.
والتكليف فيه
موقوف على الظنّ ، فإذا ظنّ بعض قيام غيرهم ، سقط عنهم ، وإن ظنّوا عدم قيامهم وجب عليهم.
وإن ظنّ كلّ منهم
عدم قيام غيره ، وجب على كلّ واحد القيام به.
وإن ظنّ كلّ فريق
قيام غيرهم ، سقط عن الجميع ، لأنّ تحصيل العلم بأنّ غيره هل يفعل ، غير ممكن ، بل
الممكن الظنّ.
واعلم أنّ الواجب
على الكفاية واجب على الجميع ، ويسقط بفعل البعض ، خلافا لقوم.
لنا : أنّ الإثم
حاصل للجميع على تقدير الترك بالإجماع.
احتجّ المخالف
بأنّ الواجب ما يستحقّ تاركه الذّمّ والعقاب ، وهذا التارك لا يستحقّ ذمّا ولا
عقابا إذا فعله غيره ، فلا يكون واجبا عليه.
ولأنّ الواجب لا
يسقط بفعل الغير.
ولأنّه كما أمر
بواحد مبهم جاز أمر بعض مبهم.
ولأنّه تعالى أوجب
النفور للتّفقّه في الدّين على بعض غير معيّن.
__________________
والجواب : أنّ ما
ذكرتموه حدّ الواجب المعيّن ، أمّا المخيّر فلا.
ولأنّه على تقدير فعل
الغير يسقط ، فلا يبقى واجبا عليه ، فلا يستحقّ ذمّا ولا عقابا.
ولا استبعاد في أن
يسقط الواجب على الشخص بفعل غيره ، إذا كان الغرض تحصيل ذلك الفعل وإدخاله في
الوجود لا من مباشر معيّن.
والفرق بين الأمر
بالمبهم ، والأمر له : إمكان الإثم على ترك المبهم ، وإثم واحد مبهم غير معقول.
ويجب تأويل الآية
على من يسقط الواجب بفعله ، جمعا بين الأدلّة.
ولأنّا نقول
بموجبه ، فإنّ إيجاب النفور على بعض كلّ فرقة من غير تعيين ، يستلزم الوجوب على
الجميع على الكفاية ، فإنّه أوّل المسألة.
المبحث الثالث :
في الواجب الموسّع
الفعل بالنسبة إلى
الوقت على أقسام ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
الوقت قاصرا عنه ، ويقبح التكليف بذلك إلّا عند من يجوّز تكليف ما لا يطاق ، أو
يكون القصد من ذلك وجوب القضاء ، كما لو بلغ الصبيّ ، أو طهرت الحائض وقد بقي من
الوقت مقدار ركعة ، لأنّ التكليف بذلك تكليف ما لا يطاق ، فإنّ التكليف بإيقاع
الفعل في وقت يقصر عنه تكليف بالمحال.
الثاني : أن يكون
الوقت وفق الفعل ، كإيجاب صوم يوم ، ولا نزاع في هذين.
الثالث : أن يكون
الوقت فاضلا عن الفعل ، وقد اختلف الناس في ذلك : فمنهم من جوّزه ، ومنهم من نفاه.
واختلف المجوّزون
: فقال محمّد بن شجاع الثلجيّ وأصحاب الشافعي والجبائيّان وأصحابهما : إنّ الوجوب ثابت
في جميع أجزاء الوقت ، وهو مذهب السيّد المرتضى وأبي الحسن البصري .
إلّا أنّهم
اختلفوا : فمنهم من لم يثبت للصلاة في أوّل الوقت ووسطه بدلا فيه ، وهو اختيار أبي
الحسن البصري.
ومنهم من أثبت
بدلا في أوّله ووسطه ، واختلفوا : فقال الجبائيّان : إنّ البدل هو العزم ، وهو قول السيّد المرتضى .
وقال بعض الحنفيّة
: إنّ لها في أوّل الوقت ووسطه بدلا يفعله الله تعالى.
وأمّا النّفاة فقد
اختلفوا : فقال جماعة من الأشاعرة : إنّ الوجوب مختصّ
__________________
بأوّل الوقت ، وإن
أتى به في آخر الوقت ، كان قضاء.
وقال جماعة من
الحنفية : الوجوب مختصّ بآخر الوقت ، لو فعله في أوّله ، كان جاريا مجرى تقديم ،
الزكاة ، فيكون نفلا ، يسقط به الفرض.
ونقل عن الكرخي مذاهب ثلاثة :
الأوّل : المشهور
عنه : أنّ الصلاة المفعولة في أوّل الوقت موقوفة ، فإن أدرك المصلّي آخر الوقت ،
وهو على صفة المكلّفين ، كان ما فعله واجبا ، وإن لم يبق على صفات المكلّفين ، كان
نفلا.
الثاني : حكى عنه
أبو عبد الله البصري : إن أدرك المصلّي آخر الوقت وهو على صفة المكلّفين ، كان
ما فعله مسقطا للفرض ، قال أبو الحسين : وهذا أشبه من الحكاية الأولى.
الثالث : حكى أبو
بكر الرازي [عن أبي الحسن]
أنّ الصّلاة يتعيّن وجوبها بأحد شيئين : إمّا بأن تفعل ، أو بأن يضيّق وقتها .
والحقّ ما ذهب
إليه أبو الحسين.
__________________
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ
الوجوب مستفاد من الأمر وقد تناول الوقت ، فإمّا أن يراد أنّ كلّ جزء من أجزاء
الوقت صالح لإيقاع العبادة فيه ، أو إيقاع الفعل في جميع أجزاء الوقت.
فإن كان الأوّل ،
فهو المطلوب.
وإن كان الثاني ،
فإمّا أن يراد إيجاد فعل واحد من أوّل الوقت إلى آخره ، أو إيجاد أفعال متعدّدة في
جميع أجزاء الزّمان.
والقسمان باطلان
بالإجماع ، فتعيّن الأوّل.
وإذا كان كلّ جزء
صالحا لإيقاع الفعل فيه ، كان إيقاعه في كلّ جزء امتثالا للأمر.
الثاني : الأمر
يتناول الوقت من أوّله إلى آخره ، ولا تعرّض فيه لجزء من أوّله أو آخره ، إذ لو
دلّ على تخصيصه ببعض أجزاء الوقت ، لكان غير صورة النّزاع.
وإذا لم يكن في
الأمر تخصيص ، وكان كلّ جزء قابلا له ، وجب أن يكون حكم الأمر إيجاب إيقاع ذلك
الفعل في أيّ جزء من أجزاء ذلك الوقت الّذي أراده المكلّف.
الثالث : يمكن
عقلا تساوي أجزاء الزمان في المصلحة ، بأن يكون الفعل في أوّله وآخره ، ووسطه
متساويا في كونه لطفا داعيا إلى إيجاب طاعة بعد خروج الوقت ، وداعيا إلى طاعة مندوب إليها قبل خروج
الوقت.
__________________
ولا يمتنع أن يكون
داعيا إلى طاعة واجبة بعد خروج الوقت فقط ، ولا يكون فعلها بعد خروج الوقت مصلحة
فيما كانت مصلحة [فيه] قبل خروج الوقت ، لكن إذا فرّط المكلّف في فعلها ، لزمه
قضاؤها ، لأنّ قضاءها يكون مصلحة في دون ما كان الأداء مصلحة فيه.
فحينئذ لا يجوز أن
يضيّق الله تعالى فعلها في [أوّل] الوقت ، مع أنّ الغرض بإيجابها وهو المصلحة يحصل
بفعلها في آخر الوقت.
ولا يجوز ألا
يضيّق الله تعالى فعلها في آخره ، مع أنّ المصلحة لا تحصل إذا أخّرت عنه.
والأمر يخصّص ،
فعلها بوقت معيّن من أجزاء ذلك الوقت ، مع تساوي الجميع في تحصيل المصلحة ، فيجب
تساوي جميع أجزاء الوقت في النسبة إلى ذلك الفعل ، على معنى : أنّه في أيّ جزء وقع
ذلك الفعل كان واجبا بنفسه.
الرابع : كلّ جزء
من أجزاء الوقت لو وقع الفعل فيه لكان مجزئا بالإجماع ، وإنّما يكون كذلك لو كان
تحصيلا لمصلحة الواجب ، وكان إيقاعه في كلّ وقت قائما مقامه في غيره من الأوقات ،
فيكون واجبا ، لأنّه لو لم يكن محصّلا لمصلحة الواجب ، لزم :
إمّا فوات مصلحة
الواجب ، بتقدير فعل الصلاة في غير وقت الوجوب ، فتكون الصّلاة حراما ، لأنّها قد
فوّتت مصلحة الواجب ، وهو باطل إجماعا.
وإمّا بقاء مصلحة
الوجوب ، ويلزم وجوب فعل الصّلاة ثانيا ، لبقاء مقصودها الموجب لها بعد فعل
الصّلاة في الوقت المفروض ، وهو باطل بالإجماع.
الخامس : لو كان
الوقت معيّنا ، لكان المصلّي في غيره إمّا مقدّما للفعل على وقته ، فلا يصحّ ، أو
مؤخّرا له عن وقته ، فيكون قاضيا فيعصي ، وكلاهما خلاف الإجماع.
السادس : لو اختصّ
الوجوب بأوّل الوقت ، لاستحق الذّمّ بتأخيره إلى آخر الوقت ، كما يستحقّ بتأخيره
عن الوقت ، ولانتفت فائدة ضرب الوقت ، لأنّ ما يفعل بعده يكون قضاء كما يفعل فيه.
ولو اختصّ بآخره
لزم محالات :
الأوّل : يكون في
أوّله نفلا ، كما اختاروه ، وكان يجب فيه الفعل ، لمطابقها لما عليه الصّلاة في
نفسها ، والتالي باطل إجماعا ، فكذا المقدّم.
الثاني : يلزم
تحريم الأذان والإقامة في أوّل الوقت ، لاختصاصهما بالفرائض.
الثالث : يلزم أنّ
من لم يؤدّ الصلاة إلّا في أوّل وقتها ، غير مؤدّ لفرائض الصلاة ، ولا قائما
بالواجب منها.
الرابع : تقديم
المغرب أفضل من تأخيرها ، والنّفل لا يكون أفضل من الفرض.
احتجّ المخالف
بأنّه لو كان واجبا في أوّل الوقت ، لما جاز تأخيره ، والتالي باطل بالإجماع فكذا
المقدّم.
__________________
والشرطية ظاهرة ،
فإنّ ما يكون واجبا لا يجوز تركه ، والفعل في الأوّل الوقت يجوز تركه ، فلا يكون
واجبا ، ويكون نفلا ، لأنّه يثاب بفعله مع جواز تركه.
لا يقال : إنّه
ليس بنفل ، لأنّ النّفل يجوز تركه مطلقا طول العمر ، وهذا لا يجوز تأخيره عن جميع
الوقت.
ولأنّ النّفل لا
يجب العزم على فعله الّذي هو بدل الفعل بتقدير تركه ، وهذا يجب فيه بدل هو العزم.
لأنّا نجيب عن
الأوّل : بأنّا لم نقل إنّه نفل مطلقا ، بل في أوّل الوقت ، لجواز تركه فيه ، مع
أنّه يثاب بفعله فيه.
وعن الثاني بما
سيأتي من بطلان البدل.
والجواب : المنع
من الملازمة.
والتحقيق أن نقول
: هذا الواجب في الحقيقة يرجع إلى الواجب المخيّر ، وذلك : أنّ الله تعالى أوجب
عليه إيقاع هذا الفعل في هذا الوقت ، ومنعه من إخلائه عنه ، وسوّغ له الإتيان في
أيّ جزء كان من هذا الوقت وعدمه في أيّ جزء كان ، بشرط الإتيان به في بعض الآخر.
فإنّ اختار
المكلّف إيقاعه في أوّله ، فقد فعل الواجب ، وكذا لو اختار في وسطه أو آخره ، كما
أنّ الواجب المخيّر يتّصف الجميع فيه بالوجوب ، على معنى : أنّه لا يجوز الإخلال
بالجميع ، ولا يجب الإتيان بالجميع ، والأمر في اختيار أيّ واحد منها مفوّض إلى
رأي المكلّف.
فكذا هنا لا يجب
إيقاعها في الجميع ، ولا يجوز إخلاء الجميع عنه ، وتعيين ذلك الجزء ، مفوّض إلى
المكلّف.
هذا إذا كان في
الوقت سعة ، فإن ضاق ، تعيّن عليه الفعل ، وإلّا لزم إخلاء الجميع.
أمّا القائلون بالعزم
، فإنّهم فرّقوا بين هذا الواجب والنّفل : بأنّ هذا الواجب لا يجوز تركه إلّا إلى
بدل ، والمندوب يجوز تركه من غير بدل ، لأنّه لو لا البدل لم ينفصل عن المندوب.
وكلّ من أثبت بدلا ، قال : إنّه العزم.
وأطبق المحقّقون
على عدم وجوبه بدلا ، نعم أنّه يجب ، لأنّه من أحكام الإيمان.
وإنّما قلنا
بامتناع كونه بدلا لوجوه :
الأوّل : العزم
إمّا أن يكون مساويا للفعل في جميع الأمور المقصودة منه ، أو لا.
والأوّل ، يقتضي
سقوط التكليف بالفعل عند الإتيان بالعزم ، لأنّ الأمر اقتضى فعلا واحدا في ذلك
الوقت ، وهذا العزم مساو له في جميع الجهات المطلوبة منه ، فيلزم سقوط الفعل ، إذ
لا فرق بين الإتيان بالفعل وبين الإتيان بمساويه من كلّ اعتبار.
والثاني ، يمنع من
كونه بدلا ، فإنّ بدل الشيء قائم مقامه في جميع الأمور المطلوبة منه.
الثاني : الأمر
إنّما ورد بالفعل ، فلا دلالة له على العزم ، ولم يوجد سوى الأمر ، فانتفى دليل
العزم ، فكان ساقطا ، لوجوب انتفاء ما لا دليل عليه.
الثالث : لو كان
العزم بدلا في أوّل الوقت ، فنقول : إمّا أن يجوز تأخير الفعل فيه أو لا ، والثاني
يقتضي خرق الإجماع الدالّ على جواز التأخير إلى آخر الوقت.
فإذا جاز التأخير
، فإمّا إلى بدل ، أو لا إلى بدل والثاني المطلوب ، والأوّل يستلزم تعدّد البدل
بتعدّد الأزمنة ، وهو باطل ، فإنّ بدل العبادة إنّما يجب على حدّ وجوبها ، ليكون
فعله جاريا مجرى فعلها ، والأمر اقتضى الوجوب في أحد أجزاء هذا الوقت مرّة واحدة ،
فيكون البدل كذلك.
اعترض على الأوّل
: بتجويز كون البدل قائما مقام الأصل في أوّل الوقت ، لا في جميع الأوقات ، فإذا
فعل البدل في هذا الوقت ، سقط الأمر بالأصل في هذا الوقت ، دون باقي الأوقات.
وأجيب : بأنّ
الأمر لا يقتضي التكرار ، فإذا قام البدل مقام الأصل في هذا الوقت ، قام مقامه في
المرّة الواحدة ، والأمر لا يقتضي الفعل إلّا مرّة واحدة ، وقد قام هذا البدل
مقامه فيها ، فيكون قد أدّى تمام المقصود بالأمر ، فيسقط التّكليف بالكليّة.
وفيه نظر ، فإنّ
الأمر اقتضى إيجاب الفعل في أحد أجزاء الوقت ، فهو في كلّ جزء من أجزائه ، مخاطب
بأن يوقع الفعل فيه ، أو بدله إلى الوقت
__________________
الثاني ، وهكذا
إلى آخر الوقت ، فتعيّن الفعل حينئذ.
والحاصل أنّ العزم
في الوقت الأوّل ، والفعل في ثانيه معا ، بدل عن الفعل في أوّله.
أو نقول : إنّه
ليس بدلا عن أصل الفعل ، بل عن تقديمه ، فلا يوجب سقوط الفعل مطلقا.
ومعنى كونه بدلا :
أنّه مخيّر بينه وبين تقديم الفعل.
و [اعترض] على
الثاني بالمنع من انتفاء دليل العزم ، فإنّ النصّ دلّ على التّوسعة ، ودلّ العقل
على عدم إمكانها إلّا بالبدل ، والإجماع دلّ على أنّ ذلك البدل هو العزم.
إذ كلّ من أثبت
بدلا قال : إنّه العزم ، فقد دلّ الدليل على وجوب العزم ، ولم يكن مخالفا للنصّ ،
إذ النصّ اقتضى إيجاب الفعل من غير إشعار بنفي البدل ، وإثبات ما لا يتعرّض له
النصّ بالنّفي ولا بالإثبات ، لا يكون مخالفة للظاهر.
واعترض بمنع دلالة العقل على افتقار الموسّع إلى بدل ، إذ معناه
عدم تجويز الإخلال بالفعل في جميع أجزاء الوقت ، وعدم إيجاب إيقاعه في جميع
الأجزاء ، والتخيير في إيقاعه في أيّها شاء بدلا عن الآخر ، وهذا أمر معقول لا
يحتاج معه إلى البدل.
__________________
وفيه نظر فإنّ
الخصم لا يدّعي عدم وجوبه في أوّل الوقت على تقدير تجويز تركه مطلقا من غير بدل ،
لأنّ الواجب لا يجوز تركه ، وهذا يجوز تركه في أوّل الوقت ، فهذا ليس واجبا في
أوّل الوقت ، فلو لا إيجاب البدل لم يكن واجبا.
و [اعترض] على
الثالث : بجواز وجوب العزم في الثاني ، لأنّ العزم بدل عن الفعل في الأوّل ،
فافتقر إلى عزم ، وكذا هو بدل عن الفعل في الثاني ، فافتقر إلى عزم ثان.
واعترض بأنّ الأمر اقتضى الفعل مرّة واحدة ، فيكون العزم الواحد
كافيا.
وفيه نظر ، فإنّ
الفعل وإن وجب مرّة واحدة ، لكنّ العزم بدل عن تقديمه ، وهو متعدّد بتعدّد الزمان.
الرابع : لو كان
العزم بدلا ، لم يجز فعله مع القدرة على المبدل ، كسائر الأبدال مع مبدلاتها.
اعترض بأنّ المصير إلى أحد المخيّرين غير مشروط بالعجز عن الآخر
، بخلاف الوضوء والتيمّم.
لا يقال : التخيير
ينافي البدليّة ، لعدم الأولويّة.
لأنّا نقول :
المقدّمتان ممنوعتان ، على أنّه لمّا كان الفعل لا بدّ منه ، بخلاف العزم ، تحقّقت
البدليّة.
__________________
الخامس : لو أخّر
الصلاة عن أوّل الوقت ، مع الغافلة عن العزم ، كان عاصيا بترك الأصل وبدله.
واعترض : بعدم العصيان ، لعدم تكليف الغافل.
وفيه نظر ، لمنع
الغافلة عن الواجب هنا.
والتحقيق : أنّ
الغافلة عن العزم صيّرت الفعل معيّنا ، فتركه سبب ذاتيّ في العصيان ، والعزم
عرضيّ.
السادس : العزم من
أفعال القلوب ، ولم يعهد في الشّرع جعل أفعال القلوب بدلا عن الأفعال.
اعترض : بأنّه استبعاد محض ، مع أنّ التوبة ندم ، وهي من أفعال
القلوب ، جعلت بدلا عمّا فرّط من الأفعال الواجبة حالة الكفر الأصليّ.
السابع : العزم
واجب لا على سبيل البدل عنها ، فإنّه يجب العزم على أدائها قبل دخول وقتها ، مع
انتفاء الوجوب حينئذ.
اعترض : بمنع وجوب العزم قبل الوقت ، نعم يقبح كراهة فعلها ، فأمّا
أن يعزم ويريد فعلها قبل وقت وجوبها ، فيمنع وجوبه.
أجيب : بأنّه إذا
وجبت العبادة وجاز تأخيرها ، فليس يجب عليه قبل دخول وقتها ، فإن كان في أحدهما
العزم ، فكذا في الآخر ، وإن كان عدم كراهة ، فكذا الآخر.
__________________
واعترض : بتسليم أنّ الواجب قبل الوقت. كالواجب بعده ، إمّا عزم أو
عدم كراهة ، لكن الوجوب قبل الوقت لا يمنع من كونه بدلا بعد الوقت ، لجواز كون
الفعل أو عدمه بدلا من شيء في وقت دون آخر ، فلا يمنع من كون العزم بعد دخول الوقت
بدلا من العبادة ، لأجل أنّه يجب فعله قبل الوقت ، ولا يكون بدلا.
وأمّا من أثبت
بدلا عن العزم ، فبطل بما تقدّم في العزم.
وتحقيقه : أنّه
كان يجب ألا يحسن تكليف الصّلاة من يعلم الله سبحانه أنّه يموت في الوقت ، لأنّه
يقوم فعل الله مقام فعله في المصلحة الحاصلة قبل خروج الوقت ، فلو كلّفه الله سبحانه
الصلاة ، لكان إنّما كلّفه لمجرّد الثواب فقط.
واحتجّ من أثبت
بدلا هو العزم بما تقدّم ، من أنّ الفاصل بينه وبين المندوب هو البدل ، وليس إلّا
العزم.
وأيضا ، الصّلاة
لطف في واجب بعد خروج الوقت ، ولطف في واجب قبل خروجه.
بيان الأوّل :
أنّه قد أبيح تأخيرها إلى آخر الوقت ، فلو لم يكن لطفا إلّا في طاعة مختصّة بالوقت
، لم يجز تأخيرها عن وقت الطاعة.
__________________
وبيان الثاني :
أنّها لو لم تكن لطفا إلّا في واجب بعد الوقت ، لما حسن تكليف من يعلم موته قبل
خروج الوقت : وإذا كانت لطفا في واجب قبل خروج الوقت ، لم يجز تأخيرها عن ذلك
الوقت إلّا إلى بدل ، ولا بدل إلّا العزم.
والجواب : يكفي في
حسن تكليف الصلاة من يعلم موته في الوقت : أن يكون لطفا في مندوب بفعل عقيب فعل
الصلاة ، أو أن يكون كلّ جزء من الصّلاة لطفا في مندوب يليه.
وإذا جاز ذلك لم
يجب أن يكون لها بدل من حيث هي لطف في ندب.
لا يقال : يلزم أن
يكون تقديم الصلاة في أوّل وقتها أولى ، لأنّها تكون مصلحة في مندوب إليه ، وفي
واجب ، وفي آخر الوقت تكون لطفا في واجب لا غير.
لأنّا نقول : يمكن
أن تكون الصّلاة المستحبّ تأخيرها ، إذا فعلت في الأوّل كانت لطفا في مندوب إليه ، يليها وفي طاعة واجبة بعد خروج
الوقت.
وإذا فعلت في آخر
الوقت ، كانت لطفا في طاعة واجبة ، وفي طاعات مندوب إليها بعد خروج الوقت ، أكثر
ممّا تكون الصّلاة في أوّل الوقت لطفا من الطّاعات المندوبة ، فلذلك كان تأخير
الصلاة أفضل.
__________________
تذنيب
الواجب إذا لم يكن
موقّتا كالمنذورات ، وقضاء العبادات الفائتة ، وقته العمر ، لكن لو جوّزنا التأخير
أبدا ، وحكمنا بعدم عصيانه على تقدير الترك ، لم يتحقّق الوجوب.
وإن قلنا بتضيّق
الوقت عليه عند زمان معيّن ، من غير دليل بعينه ، لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّه
إذا قيل له :
إن كان في علم
الله : أنّك تموت قبل الفعل عصيت بالتأخير.
وإن كان في علمه
تعالى : أنّك لا تموت ، جاز لك التأخير ، فيقول : لا علم لي بما في علمه تعالى ،
فلا بدّ من الجزم بالتحريم أو التحليل في حقّ الجاهل.
فنقول : يجوز له
التأخير إلى أن يغلب على ظنّه التلف ، ولا يتضيّق عليه إن غلب على ظنّه البقاء ،
سواء بقي أو لا.
فإنّ غلب على ظنّه
عدم البقاء عصى بالتأخير ، سواء مات أو لا ، على إشكال ، لأنّه مأخوذ بحسب ظنّه.
الفصل الخامس
في أحكام الوجوب
وفيه مباحث :
الأوّل : في وجوب
ما يتوقّف عليه الواجب المطلق
الواجب قسمان :
مشروط ومطلق.
أمّا الأوّل :
فكالزكاة المشروط وجوبها بحصول المال ، والحجّ المشروط وجوبه بالاستطاعة.
وأمّا الثاني :
فكالصلاة الواجبة حالة الطهارة والحدث ، إلّا أنّ وقوعها مشروط بالطّهارة.
فالأوّل اتّفق
الناس على عدم وجوب ما يتوقف عليه وجوب ذلك الواجب ، وإنّما الخلاف في الثاني.
فذهبت الواقفيّة إلى وجوبه إن كانت المقدّمة سببا في المأمور به ، وإن كانت
شرطا في الوقوع غير سبب ، لم يجب ، وهو مذهب السيّد المرتضى .
__________________
وقال الباقون من
المعتزلة والأشاعرة بوجوب ما يتوقّف عليه وجود المأمور به بشرطين : القدرة عليه ،
وأن يكون الأمر ورد مطلقا ، سواء كان سببا أو لا.
وهو الأقرب ، لنا
: أنّه لو لم يجب ، لزم أحد الأمرين وهو : إمّا تكليف ما لا يطاق ، أو خروج الواجب
المطلق عن كونه واجبا.
والتّالي بقسميه
باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّه لو أباح ترك الشّرط في الوقوع ، لكان للمكلّف ذلك من غير منع ، فعلى تقدير
الترك لا يخلو إمّا أن يبقى مكلّفا بالفعل أو لا.
فإن كان الأوّل ،
لزم تكليف ما لا يطاق ، فإنّ وقوع المشروط حال عدم الشرط محال.
وإن كان الثاني ،
خرج الواجب المطلق عن كونه واجبا.
وأمّا بطلان
القسمين فظاهر ، أمّا الأوّل فبالعقل ، وأمّا الثاني فبالفرض.
وأيضا الأمر اقتضى
إيجاب الفعل على كلّ حال ، إذ لا فرق بين [قوله :] أوجبت عليك الفعل في هذا الوقت
، وبين [قوله :] ينبغي ألّا يخرج الوقت إلّا وقد أتيت به ، فلو لم يقتض إيجاب
المقدّمة ، لكان مأمورا بالفعل حال عدمها ، وهو تكليف ما لا يطاق.
قيل عليه : لمّا كان حال عدم المقدّمة من جملة الأحوال ، كان تكليف
__________________
ما لا يطاق لازما
على المذهبين إلّا أن تفسّر تلك الأحوال بما عدا حالتي وجود ما يقتضي
الأمر إيجاده وعدمه ، وحينئذ يمنع لزوم تكليف ما لا يطاق ، إذ المحال هو الفعل مع
عدم المقدّمة ، لا هو [في] حال عدمها ، والمكلّف به هو الثاني.
وليس بجيّد ، لأنّ
حال عدم المقدّمة على تقدير وجوبها ، كحال عدم الفعل ، ولا فرق بين فرض عدم الفعل
وفرض عدم المقدّمة الواجبة في عدم قبح التكليف ، بخلاف المقدّمة غير الواجبة.
لا يقال : يجوز أن
يكون الأمر مشروطا بحضور المقدّمة ، غايته اشتماله على مخالفة الظاهر ، لاقتضاء
اللفظ إيجاب الفعل على كلّ حال ، فالتخصيص بزمان الشرط ترك الظاهر ، إلّا أنّ
إيجاب المقدّمة مع أنّ الظاهر لا يقتضيه ، خلاف الظاهر أيضا ، فلم كان إحدى
المقدّمتين أولى من الاخرى؟
لأنّا نقول :
التقدير أنّ الأمر مطلق ، لا مشروط بالمقدّمة.
ثمّ ينتقض بأمر السيّد
عبده بأن يسقيه الماء إذا كان الماء على مسافة منه ، لأنّه إن كان كلّفه بالسقي
بشرط قطع المسافة ، لم يتوجّه الأمر عليه إذا قعد في مكانه.
__________________
وإن كان مكلّفا [بالسقي]
مع عدم القطع ، كان تكليف ما لا يطاق.
وإيجاب المقدّمة
ليس مخالفة الظاهر ، لأنّ المخالفة هي إثبات ما ينفيه اللفظ ، أو نفي ما يقتضيه.
أمّا إثبات ما لا
يتعرّض له اللفظ بنفي أو إثبات ، فلم يكن إيجابها لدليل منفصل مخالفة للظاهر ،
بخلاف تخصيص وجوب العمل بحال إيجاب المقدّمة ، دون حال عدمها ، لأنّ ذلك يخالف ما
يقتضيه اللفظ من وجوب الفعل.
قال أبو الحسين :
لو كان ترك الشرط مباحا ، لكان الامر كأنّه قال للمأمور : أبحت لك عدم الإتيان
بالشرط ، وأوجبت عليك الفعل مع عدم الإتيان بما لا يتمّ إلّا به ، وذلك تكليف ما
لا يطاق .
اعترض بأنّ الوجوب المشروط إذا كان مطلقا ، لم يلزم من إباحة
الشّرط أن يكون التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط ، فإنّ عدمه غير لازم من إباحته ،
بل حالة عدم وجوب الشرط ، وفرق بين الأمرين ، فلا يكون التكليف بالمشروط تكليفا
بالمحال.
وأيضا لو كان
التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط محالا ، فالتكليف بالمشروط مشروط بوجود الشرط ،
وكلّ ما وجوبه مشروط بشرط ، فالشرط لا يكون واجب التحصيل لما سبق .
__________________
وفيه نظر ، لأنّ
التكليف بالمطلق يقتضي إيقاع الفعل على كلّ حال ، وليس مقيّدا ، إذ التقدير ذلك ،
فعلى تقدير إباحة الشرط يجوز تركه ، فحينئذ يكون مكلّفا بالفعل على تقدير الترك ،
ويلزم منه تكليف ما لا يطاق.
ولا يلزم من
استحالة التكليف بالمشروط حال عدم الشرط ، كون التكليف بالمشروط مشروطا بوجود
الشرط ، كالعلّة والمعلول.
وقوله : «لو كان
التكليف بالمشروط حالة عدم الشرط محالا» يشعر بعدم امتناعه ، وهو خطأ ، فإنّ
المشروط حال عدم الشرط محال ، فيمتنع التكليف به.
واعترض أبو الحسين
نفسه : بأنّ الأمر بالصّعود إن كان مشروطا بنصب السّلّم لم يكن الأمر متوجّها إلى
المكلّف إذا لم يكن السّلّم منصوبا ، فلا يلزمه نصبه ، وإن كان غير مشروط بوجود
السّلّم ، كان تكليف ما لا يطاق.
وأجاب : بأنّ
المعقول من قولهم : «الأمر بالصّعود مشروط بنصب السّلّم» ليس إلّا أنّه يتناول
المأمور عند نصب السّلّم ، ولا يتناوله عند عدمه ، وهو موضع النّزاع.
لأنّا نقول :
الأمر يتناول المأمور ، سواء كان السّلّم منصوبا أو لا ، وليس [في ذلك] تكليف ما لا يطاق ، لأنّ الأمر اقتضى وجوب نصب السّلّم ،
وهو ممكن [للمكلّف].
__________________
فروع
الأوّل : فرّق السيّد المرتضى بين السّبب وغيره ، باستحالة إيجاب
المسبّب بشرط اتّفاق وجود السبب ، فإنّه متى وجد السّبب ، وجب وجود مسبّبه ، إلّا
مع المانع ، ويستحيل أن يكلّف بالفعل بشرط وجود الفعل ، وليس كذلك مقدّمة الفعل ،
فإنّه يجوز أن يكلّف بالصّلاة بشرط أن يكون قد فعل الطهارة ، كما في الزّكاة
والحجّ.
وإذا كان إيجاب
المسبّب إيجابا لسببه ، فإباحة المسبّب إباحة للسّبب ، وكذا تحريمه ، وبالجملة
أحكام المسبّب ، متعدّية إلى السّبب ، وليست أحكام السّبب من إباحة أو حظر أو
إيجاب ، متعدّية إلى المسبّب ، لأنّه يمكن مع وجود السبب ، المنع من المسبّب .
[الفرع] الثاني : فرّق آخرون بين الشرط وغيره ، كترك الأضداد في الواجب ،
وفعل ضدّ في المحرّم ، وغسل جزء من الرأس ، فأوجب الشرط دون غيره ، لأنّه لو لم
يجب الشرط لم يكن شرطا ، وفي غيره لو استلزم الواجب وجوبه ، لزم تعلّق الموجب له ،
ولم يكن تعلّق الوجوب لنفسه ، ولامتنع التصريح بغيره ، ولعصى بتركه ، ولصحّ نفي
المباح ، كما ذهب إليه البلخي ، إذ لا يمكن ترك الحرام إلّا به ، ولوجبت نيّته.
__________________
قال الآخرون : لو
لم يجب ما يتوقّف عليه الفعل ، سواء كان شرطا أو غيره ، لصحّ دونه ، ولما وجب
التوصّل إلى الواجب ، والتوصّل واجب بالإجماع.
أجابوا : بأنّ
المراد بقولكم : «لا يصحّ لأنّه واجب» إن كان أنّه لا بدّ منه فمسلّم ، وإن أريد مأمور
به ، فلا دليل عليه ، والإجماع إن ثبت نفى الأسباب ، لما تقدّم في كلام السيّد ،
أمّا غيره فلا.
[الفرع] الثالث : قسّم أبو الحسين ما لا يتمّ الواجب إلّا به جيّدا فقال : «ما
لا يتمّ العبادة إلّا به ضربان : أحدهما كالوصلة والطّريق المتقدّم على العبادة ،
والآخر ليس كذلك.
والأوّل ضربان :
أحدهما يجب بحصوله حصول ما هو طريق إليه ، والآخر لا يجب ، فالأوّل كالأمر بإيلام
زيد ، فإنّه لا طريق له إلّا الضرب ، وهو يستلزم الألم في البدن الصحيح.
والثاني ضربان :
أحدهما يحتاج إليه العبادة شرعا ، كاحتياج الصّلاة إلى الطهارة ، والثاني يحتاج
إليه عقلا كالقدرة ، والألم ، وقطع المسافة ، إلى أقرب الأماكن [من عرفة] وهذا قسمان : منه ما يصحّ من المكلّف تحصيله ، كقطع
المسافة ، وإحضار بعض الآلات ، ومنه ما لا يصحّ كالقدرة.
والثاني ، وهو ما
لا يكون وصلة فقسمان : أحدهما إقدام على الفعل ، والآخر الإخلال بفعل.
والأوّل ضربان :
أحدهما أن يصير فعله لازما لأجل أنّ المأمور به اشتبه به كالصلاة المنسيّ بعينها ،
فإنّه يجب عليه الخمس ، لأنّه لا يتمكّن مع الالتباس أن
__________________
يحصل له يقين
الإتيان بما في ذمّته إلّا الجميع ، والثاني ألا يتمكّن من فعل العبادة إلّا بفعل
شيء آخر لما بينهما من المقاربة ، كستر جميع الفخذ ، فإنّه لا يتمكّن إلّا مع ستر
بعض الرّكبة ، وغسل جميع الوجه ، فإنّه لا يمكن إلّا مع غسل جزء من الرأس.
وأمّا الإخلال ،
فهو أن يتعذّر عليه ترك الشيء إلّا عند ترك غيره ، كالمشتبه بغيره وهو ضربان :
أحدهما أن يكون قد تغيّر في نفسه ، والآخر ألا يكون قد تغيّر في نفسه ، فالأوّل
نحو اختلاط النجاسة بالماء الطاهر ، وقد اختلف الفقهاء هنا.
فمنهم من حرّم
استعمال الماء على كلّ حال ، ولم يجعلها مستهلكة ، واختلفوا في الأمارة الدالّة
على استهلاكها.
ومنهم من جعلها
مستهلكة ، واختلفوا في الأمارة الدالّة على استهلاكها ، فبعضهم قال : هي تغيّر
الماء ، ومنهم من قال : [هي] كثرة الماء ، واختلفوا في قدر الكثرة : فمنهم من
قدّرها بكرّ ، ومنهم من قدّر بقلّتين ، إلى غير ذلك.
وأمّا ما لا
يتغيّر مع الالتباس ، فإنّه يشتمل على مسائل.
منها : أن يشتبه
الإناء النجس بالطّاهر ، والفقهاء اختلفوا في جواز التجرّي وعدمه.
ومنها : أن يوقع
الطّلاق على امرأة من نسائه ، ثمّ تذهب عليه عينها ، والوجه تحريم الكلّ ، تغليبا
للحرمة على الحلّ ، وهو اختيار قاضي القضاة.
__________________
[الفرع] الرابع : إذا اختلطت منكوحة بأجنبيّة ، قال قوم : وجب عليه الكفّ
عنهما ، لكنّ الحرام هي الأجنبيّة ، والمنكوحة حلال.
وهو ضعيف ، لأنّ
الحلّ هو رفع الحرج ، فلا يجامع الحرمة ، لتناقضهما ، بل هما حرامان ، لكنّ
الأجنبيّة حرام لكونها أجنبيّة ، والاخرى لعلّة الاشتباه بالأجنبيّة.
[الفرع] الخامس : لو قال لزوجاته : إحداكنّ طالق ، احتمل إباحة وطئهنّ أجمع ،
لأنّ الطّلاق أمر معيّن ، فيفتقر إلى محلّ معيّن ، فقبل التعيين لا يقع الطّلاق في
واحدة منهنّ ، لعدم الاختصاص ، ويكون الموجود قبل التعيين ليس الطّلاق ، بل أمرا
له صلاحيّة التأثير في الطلاق ، عند اتّصال البيان به.
وإذا ثبت أنّه قبل
التعيين لم يوجد الطّلاق ، وكان الحلّ ثابتا قبل الطلاق ، وجب القول ببقائه ،
فيحلّ وطء الجميع.
ويحتمل تحريم
الجميع إلى وقت البيان ، تغليبا لجانب الحرمة.
لا يقال : الله
تعالى يعلم ما سيعيّنه ، فتكون هي المحرّمة في علم الله تعالى ، وإنّما هو مشتبه
عندنا.
لأنّا نقول : الله
تعالى يعلم الشيء على ما هو عليه ، وقبل التعيين لا يعلم معيّنا ، لعدم المطابقة ،
بل يعلمه غير متعيّن في الحال ، ويعلم أنّه في المستقبل سيتعيّن.
هذا إن قلنا بصحّة
الطّلاق ، وإن قلنا ببطلانه ، فالنكاح مباح في الجميع.
[الفرع] السادس : واختلفوا في الواجب الّذي لا يتقدّر بقدر [معيّن]
كمسح الرّأس ،
والطمأنينة في الركوع إذا زاد على قدر الأقلّ ، هل توصف الزّيادة بالوجوب؟
قال قوم : نعم ،
لأنّ نسبة الأمر إلى الكلّ ، واحدة ، والأمر في نفسه أمر واحد هو أمر إيجاب ، ولا
يتميّز البعض عن البعض ، فالكلّ امتثال.
والحقّ عدمه ،
لأنّ الواجب ما لا يجوز تركه ، وهذه الزّيادة يجوز تركها ، فلا تكون واجبة.
المبحث الثّاني :
في أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أم لا؟
اعلم أنّ هنا
أمرين : أحدهما لفظ ، والآخر معنى.
أمّا اللفظ فلا
يستقيم الخلاف عند من لا يرى للأمر صيغة ، وأمّا من يرى أنّ للأمر صيغة ، فلا خلاف
في التغاير.
فإنّي أظنّ أنّ
أحدا لا يذهب إلى اتّحاد الصّيغتين ، إذ لا شكّ في المغايرة بين قولنا «قم» وبين
قولنا : «لا تقعد».
فيجب ردّ الخلاف
إلى المعنى ، وهو أنّ قوله : «قم» هل له مفهومان : أحدهما طلب القيام ، والثاني
ترك القعود؟
وعلى تقدير
الدّلالة على المفهومين ، فهل المفهومان متّحدان ، أو متغايران؟
وأمّا المعنى ،
فهو مذهب القائلين بالكلام النفسي ، وهو أنّ طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك
القعود أم لا؟ وهذا لا يمكن فرض الخلاف فيه في حقّ
الله تعالى ، فإنّ
كلامه عند الأشاعرة واحد ، هو أمر ، ونهي ، ووعد ، ووعيد ، فلا يتطرّق إليه
الغيريّة.
أمّا في حقّنا ،
فهل طلب الحركة ، غير كراهة السّكون وطلب تركه ، أم لا؟
وإذا عرفت هذا
فنقول : اختلف القائلون بالكلام النّفساني وهم الأشاعرة ، فمنهم من قال : الأمر
بالشيء نهي عن ضدّه بعينه ، وإنّ طلب الفعل هو بعينه طلب ترك أضداده ، لأنّ الأمر
هو عين النّهي ، واختاره القاضي أخيرا.
ومنهم من منع ذلك
مطلقا ، وهو اختيار الجويني والغزّالي .
وقال بعضهم : إن
جوّزنا تكليف ما لا يطاق ـ كما هو مذهب أبي الحسن الأشعري ـ فالأمر بالفعل لا يكون
عين النّهي عن أضداده ، ولا ملزوما لها ، بل جاز أن يأمر بالفعل وبضدّه في الحالة
الواحدة ، فضلا عن كونه غير منهيّ عنه ، وإلّا كان مستلزما.
ومنهم من قال :
الأمر بالشيء نهي عن ضدّه في الواجب دون الندب.
أمّا المعتزلة
فقالوا : الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضدّه ، ولا مستلزما له ، واختاره قاضي القضاة ،
والسيد المرتضى .
وقال أبو الحسين :
الخلاف هنا إمّا في الاسم أو المعنى ، أمّا الاسم ، بأن
__________________
يسمّوا الأمر نهيا
على الحقيقة ، وهو باطل ، لأنّ أهل اللّغة فرّقوا بين الأمر والنّهي في الاسم ،
فسمّوا هذا أمرا وذاك نهيا.
وأمّا المعنى ،
فمن وجهين : أحدهما أن يقال : إنّ صيغة «لا تفعل» وهي النهي ، موجودة في الأمر ،
وهذا لا يقوله أحد ، فإنّ الحسّ يدفعه.
والثاني أن يقال :
الأمر نهي عن ضدّه في المعنى ، من حيث إنّه يحرم ضدّه ، وهذا يكون من وجوه :
الأوّل : أن يقال
: إنّ صيغة الأمر تقتضي إيقاع فعل ، ويمنع من الإخلال به ومن كلّ فعل يمنع من فعل
المأمور به ، فمن هذه الجهة يكون محرّما لضدّ المأمور به ، وهو صحيح لما تقدّم من
أنّ الأمر للوجوب.
الثاني : أن يقال
: إنّ الأمر يقتضي الوجوب لدليل سوى هذا الدّليل ، فإذا تجرّد الأمر عن دلالة تدلّ
على أنّ أحد أضداد المأمور به ، يقوم مقامه في الوجوب ، اقتضى قبح أضداده ، إذ كلّ
واحد منها يمنع من فعل المأمور به ، وما منع من فعل الواجب ، فهو قبيح ، وهذا أيضا
صحيح إذا ثبت أنّ الأمر للوجوب.
الثالث : أن يقال
: إنّ الأمر يدلّ على كون المأمور به ندبا ، فيقتضي أنّ الأولى ألا يفعل ضدّه ،
كما أنّ النّهي على طريق التنزيه يقتضي أنّ الأولى أن لا يفعل المنهيّ عنه ، وهذا
لا يأباه القائلون بأنّ الأمر للندب على أنّه لو سمّي الأمر بالندب نهيا عن ضدّ المأمور به ،
لكنّا منهيّين عن البيع وغيره من المباحات ، لأنّا مأمورون بأضدادها من النّدب.
__________________
الرابع : أن يقال
: الأمر بالشيء يقتضي حسنه ، أو كونه ندبا ، وحسن الشيء يقتضي قبح ضدّه ، وأنّ
الأمر يدلّ على إرادة المأمور به ، وإرادة الشيء كراهة ضدّه ، أو يتبعها لا محالة
كراهة ضدّه ، إمّا من جهة الصحّة ، أو من جهة الحكمة ، والحكيم لا يكره إلّا
القبيح ، وهذا كلّه باطل بالنّوافل ، فإنّها حسنة ومرادة ، وليست أضدادها قبيحة
ولا مكروهة.
والأقرب أن نقول :
الأمر بالشيء يستلزم كراهة ضدّه العامّ ، أعني الإخلال به ، إمّا كراهة تحريم إن
قلنا : إنّ الأمر للوجوب ، أو كراهة تنزيه إن قلنا : إنّ الأمر للنّدب ، بشرط عدم
الغافلة عن الضدّ العامّ.
برهانه : أنّ
الوجوب ماهيّة مركّبة من قيدين : أحدهما طلب الفعل ، والثاني المنع من التّرك ،
ولا يتحقّق المركّب دون تحقّق أجزائه ، فيلزم من ثبوت الأمر بالشيء ، النّهي عن
تركه ، الّذي هو طلب تركه.
وأيضا ، إمّا أن
يمكن اجتماع الطّلب الجازم مع الإذن بالإخلال ، أو لا ، والأوّل محال ، لاستحالة
الجمع بين النّقيضين ، والثاني هو المطلوب ، فإنّا لا نعني بقولنا : «الأمر بالشيء
نهي عن ضدّه» سوى ذلك.
واعلم أنّ الخلاف
هنا مع نفرين : أحدهما القائلون بعدم الاستلزام ، كالغزّالي والمرتضى ،
والثّاني القائلون بالاتّحاد ، كالقاضي أبي بكر.
أمّا الأوّلون ،
فقد احتجّوا بأنّ الامر بالشيء ، قد يكون غافلا عن ضدّه ، والنّهي ، يستلزم الحضور
، فإن أمر ولم يكن ذاهلا عن أضداد المأمور به ، فلا
__________________
يقوم بذاته زجر ـ عن
أضداده ـ مقصود إلّا من حيث يعلم أنّه لا يمكن فعل المأمور به إلّا بترك
أضداده ، فيكون ترك أضداد المأمور به ، لزمه بحكم ضرورة الوجود ، لا بحكم ارتباط
الطلب به ، حتّى لو تصوّر على الاستحالة ، الجمع بين القيام والقعود إذا قيل له :
«قم» فجمع ، كان ممتثلا ، لأنّه لم يؤمر إلّا بإيجاد القيام ، وقد أوجده.
قال الغزّالي : من
ذهب إلى هذا المذهب لزمه فضائح الكعبي حيث أنكر المباح وقال : وما من مباح إلّا وهو ترك لحرام ،
فهو واجب ، فيلزمه وصف الصّلاة بأنّها حرام ، إذا ترك بها الزكاة الواجبة.
ثمّ اعترض على
نفسه : بأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، ولا يتوصّل إلى شيء إلّا بترك
ضدّه. فيكون واجبا.
وأجاب : بأنّه
واجب ، وإنّما الخلاف في إيجابه هل هو عين إيجاب المأمور به أو غيره؟ .
والجواب : المنع
من إيجاب الشيء حال الغافلة عن تركه ، لما بيّنا من أنّ الوجوب ماهيّة مركّبة من
أمرين : أحدهما المنع من الترك ، فلا يتحقّق من دونه ، أمّا الأضداد الوجوديّة ،
فإنّه يمكن الغافلة عنها ، وتلك لا تنافي الشيء لذاتها ، بل لكونها مستلزمة عدم
ذلك الشيء ، فالمنافاة بالذّات ، إنّما هي بين الشيء وبين ذلك اللّازم ، أمّا بينه
وبينها ، فإنّها بالعرض.
__________________
سلّمنا أنّ الامر
بالشيء قد يكون غافلا عن ضدّه ، كما أنّ الأمر بالصّلاة أمر بمقدّماتها وإن غفل
عنها ، فليجز هنا مثله ، على أنّ هذا إنّما يرد على من قال : الأمر بالشيء نهي عن
ضدّه مطلقا ، أمّا نحن حيث قيّدنا ذلك بشرط حضور الضدّ فلا.
والعجب أنّ
الغزالي حكم بأنّ الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضدّه ، ولا يتضمّنه ، ولا يستلزمه ،
ومع ذلك أجاب عن اعتراضه بما ذكره. والإلزام القطعيّ إنّما يتمّ لو قلنا : إنّ المباح
منهيّ عنه لذاته ، أمّا إذا قلنا : إنّه منهيّ عنه لما يستلزم من ترك الواجب فلا
امتناع عنه .
ولا استبعاد أيضا
في تحريم الصّلاة إذا استلزمت ترك واجب آخر وإن كانت واجبة لذاتها ، لإمكان اجتماع
الوجوب والتحريم بالنظر إلى جهتين ، على أنّا نمنع وجوب ما يمنع واجبا آخر.
وأمّا القاضي أبو
بكر فقد استدلّ بوجهين :
الأوّل : السكون
عين ترك الحركة ، كما أنّ شغل الجوهر بحيّز انتقل إليه عين مفارقته للحيّز المنتقل
عنه ، والقرب من المغرب عين البعد من المشرق ، فهو فعل واحد له إضافتان : إحداهما
القرب بالنسبة إلى المشرق ، والاخرى البعد بالنّسبة إلى المغرب ، وكون واحد
بالإضافة إلى حيّز شغل وإلى آخره تفريغ.
وإذا كان السّكون
عين ترك الحركة ، كان طلب السكون عين ترك الحركة ، فهو طلب واحد ، بالإضافة إلى السّكون أمر ، وإلى
الحركة نهي.
__________________
الثاني : لو لم
يكن إيّاه ، لكان ضدّا ، أو مثلا ، أو خلافا ، لأنّهما إمّا أن يتساويا في صفات
النّفس أو لا ، والأول المثلان ، والثاني إمّا أن يتنافيا بأنفسهما ، أو لا ،
والأوّل الضدّان ، والثاني المختلفان.
ولو كان كانا مثلين
، أو ضدّين ، لم يجتمعا ، ولو كانا خلافين ، جاز وجود أحدهما مع ضدّ الآخر وخلافه
، لأنّه حكم الخلافين ، ويستحيل الأمر مع ضدّ النهي عن ضدّه ، وهو الأمر بضدّه ،
لأنّهما نقيضان أو تكليف بغير الممكن.
والجواب عن الأوّل
: بالمنع من الاتّحاد ، وكيف لا والحركة والسكون أمران وجوديّان ، فعدم أحدهما ليس
هو وجود الآخر.
وعن الثاني : لا
يلزم من الخلاف جواز الانفكاك بأن يوجد أحدهما مع ضدّ الآخر ، وإن جاز ذلك في بعض
الصور ، أمّا في الجميع فلا.
تذنيب
من الناس من طرد
البحث في النّهي فقال : «النّهي عن الشيء أمر بضدّه» وهو اختيار القاضي أبي بكر لما تقدّم في وجهه ، وبأنّ النهي طلب ترك فعل ، والترك فعل
الضدّ ، فيكون أمرا بالضدّ.
وقد تقدّم الجواب
عن الوجهين.
وعن الثالث :
بالمنع من كون الترك فعلا ، ولو سلّم ، رجع النزاع لفظيّا.
__________________
والتحقيق : أنّ
النّهي طلب الإخلال بالشيء ، وهو يستلزم الأمر بما لا يصحّ الإخلال بالمنهيّ عنه
إلّا معه ، فإن كان للمنهيّ عنه ضدّ واحد ، ولا يمكن الانصراف عنه إلّا إليه ، كان
النّهي دليلا على وجوبه بعينه ، وإن كان له أضداد كثيرة لا يمكن الانصراف عنه إلّا
إلى واحد منها ، كان النّهي في حكم الأمر بها أجمع على البدل.
المبحث الثالث :
في أنّه ليس تحقّق العقاب على الترك شرطا في الوجوب
هذا مذهب القاضي
أبو بكر خلافا للغزّالي لوجهين :
الأوّل : العفو
عندنا جائز على ما بيّناه في علم الكلام ، فلو كان العقاب على الترك شرطا في
الواجب ، كان العفو عنه غير واجب ، وهو باطل بالإجماع.
الثاني : الواجب
يتحقّق عند المنع من الإخلال ، ويكفي فيه ترتّب الذمّ على تركه وإن لم يحصل عقاب.
ومن العجب أنّ
الغزّالي زيّف حدّ الواجب بأنّه الّذي يعاقب على تركه ، ورجّح أنّه الّذي يذمّ على
تركه ، ثمّ ذكر عقيبه بلا فصل : إنّ الوجوب ماهيّته لا تتحقّق إلّا بترجيح الفعل
على الترك ، والترجيح لا يحصل إلّا بالعقاب .
وهذا تناقض ظاهر.
__________________
المبحث الرابع :
في أنّ الوجوب إذا نسخ هل يبقى الجواز أم لا؟
اختلف الناس هنا ،
فقال الغزّالي : إذا نسخ الوجوب لا يلزم [بقاء] الجواز .
وقال فخر الدّين
الرّازي : يلزم بقاؤه .
والتحقيق أن نقول
: الجواز إمّا أن يعنى به الإذن في الفعل ، أو يعنى به ما يتساوى فعله وعدمه ،
وخيّر فيه بينهما.
فإن أريد به
الثاني ، فالحقّ مع الغزّالي ، لأنّ الوجوب والجواز حينئذ حقيقتان متضادّتان ، لا
يلزم من رفع إحداهما ثبوت الاخرى ولا عدمها ، فإذا نسخ الوجوب ، بقي الحكم كما كان
أوّلا قبل الوجوب ، من تحريم أو إباحة ، وصار الوجوب بالنسخ في تقدير العدم أوّلا.
وإن أريد به
الأوّل ، فالحقّ ذلك أيضا.
لنا : أنّ الوجوب
ماهيّة مركّبة من الإذن في الفعل والمنع من الترك ، ورفع المركّب قد يكون برفع أحد
جزئيه ، وقد يكون برفعهما معا ، فرفع الوجوب تارة يوجد مع الإذن في الفعل ، إذا
كان رفعه برفع المنع من الترك ، وقد لا يوجد إذا كان رفعه برفع الإذن في الفعل ،
أو برفع الجزءين معا ، فنسخ الوجوب لا يستلزم بقاء الجواز.
__________________
وأيضا ، الجواز
الّذي جعل جزءاً من الواجب ، جنس لا يدخل في الوجود إلّا مع فصل يقوّمه ، وهو
إيجاب الحرج بالترك ، كما في الوجوب ، أو برفعه ، كما في المندوب والمباح ،
فيستحيل بقاؤه بدون أحد هذين القيدين ، وإذا رفع الفصل ، ارتفعت حقيقة الجنس
المقيّدة به.
احتجّ فخر الدّين
: بأنّ المقتضي للجواز قائم ، والمعارض الموجود لا يصلح أن يكون مزيلا ، فوجب بقاء
الجواز.
أمّا أنّ المقتضي
للجواز قائم ، فلأنّ الجواز جزء من الوجوب ، والمقتضي للمركّب ، مقتض لمفرداته.
أمّا الأولى ،
فلأنّ الجواز رفع الحرج عن الفعل ، والوجوب رفع الحرج عن الفعل ، مع إثبات الحرج
في الترك ، ولا شكّ أنّ مفهوم الأوّل جزء من الثاني.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ المركّب هو تلك المفردات ، فالمقتضي له مقتض لها.
لا يقال : المقتضي
للمركّب ، مقتض لمفرداته حال اجتماعها ، فلم قلت : إنّه مقتض [لها] حالة الانفراد؟
لأنّا نقول : تلك
المفردات من حيث إنّها هي ، غير ، ومن حيث إنّها مفردة ، داخلة في المركّب ، ونحن
لا ندّعي أنّها من حيث هي مفردة داخلة [في المركّب] ، لتعاند قيدي الانفراد
والتركيب ، بل إنّها من حيث هي هي ، داخلة في المركّب ، فالمقتضي للمركّب ، مقتض
لها من حيث هي هي.
وأمّا أنّ المعارض
لا يصلح مزيلا ، فلأنّ المعارض يقتضي زوال الوجوب ، والوجوب ماهيّة مركّبة ، فيكفي
في زوالها ، زوال أحد قيودها ،
فيكفي في زوال
الوجوب إزالة الحرج عن الترك ، ولا حاجة [فيه] إلى إزالة جواز الفعل.
والجواب : أنّ ما
ذكره ليس بجيّد ، للمنع من بقاء الجواز الّذي هو الجنس الشّامل للواجب والمباح ،
لما بيّنا من أنّ رفع المركّب قد يكون برفع جزئيه معا ، ومن بقاء المقتضي ، لأنّ
التقدير أنّه منسوخ ، فلا يبقى مقتضاه قطعا.
قوله : «يكفي زوال
أحد الجزءين».
قلنا : مسلّم ،
لكن لا يلزم القطع ببقاء الآخر ، لجواز أن يكون رفع المركّب برفعه ، أو برفعه مع
الآخر.
المبحث الخامس :
في التضادّ بين واجب الفعل وجائز الترك
هذا الحكم ظاهر ،
فإنّ العقل قاض بالتضاد بينهما ، لأنّ الواجب ما لا يجوز تركه ، فكيف يجامع جائز
الترك؟
ولأنّ الواجب
مطلوب ، فيكون راجحا ، ولا ترجيح في المباح.
وقد خالف هنا
فريقان :
أحدهما الكعبي وأتباعه ، فإنّهم قالوا : المباح واجب ، لأنّ المباح ترك
الحرام ، وترك الحرام واجب ، فيكون المباح واجبا.
__________________
والجواب : المباح
ليس عين ترك الحرام ، بل هو شيء يحصل به وبغيره ترك الحرام ، ولا يلزم من كون
الترك واجبا ، أن يكون الشيء المعيّن الّذي يحصل به وبغيره الترك ، واجبا ، لتحقّق
الترك بغيره .
اعترض : بأنّ ترك الحرام لا يتمّ إلّا بأحد أضداده الّتي من جملتها
التلبّس بالمباح ، وذلك يستلزم وجوب أحد الأضداد غير معيّن قبل تعيين المكلّف له ،
لكن لا خلاف في وجوبه بعد التعيين ، فما فعله المكلّف فهو واجب قطعا ، كما في
الخصال ، ولا خلاص عنه إلّا بمنع وجوب ما لا يتمّ الواجب إلّا به.
وفيه نظر ، لإمكان
ترك الحرام بنفي الفعل ، فإنّ الفاعل لا يجب أن يكون متلبّسا بالفعل أو بضدّه ،
وقد ألزم بأمرين : أحدهما خرق الإجماع ، الدالّ على انقسام الأحكام إلى الخمسة ،
الثاني كون الصلاة حراما إذا ترك بها واجبا آخر.
وله الجواب عن الأوّل بحمله على القسمة بالنسبة إلى ذات الفعل ، لا
بالنسبة إلى ما يستلزمه. وعن الثاني بالتزامه ، ولا استبعاد فيه بالنظر إلى جهتين.
والتحقيق أن نقول
: الواجب وغيره من الأحكام إمّا أن يعتبر على مذهب
__________________
المعتزلة أو على
مذهب الأشاعرة ، وعلى كلا التقديرين لا يلزم منه وجوب المباح.
أمّا على مذهب
المعتزلة ، فلأنّ الواجب هو ما اشتمل على مصلحة خالية عن أمارات المفسدة ، بحيث لو
اخلّ به المكلّف استحقّ الذّمّ ، وترك الحرام وإن كان واجبا ، لكن لا يلزم منه
اشتمال كلّ واحد من جزئيّاته على وجه الوجوب ، لأنّ المباح وإن
حصل به ترك الحرام لا يلزم وجوبه ، لجواز اشتماله على وجه مانع عن الوجوب.
وأمّا على مذهب
الأشاعرة ، فلأنّ الواجب هو ما أمر الشارع بإيقاعه أمرا مانعا من النقيض ، وترك
الحرام وإن حصل بالمباح ، لكن لا يجب أن يكون مأمورا به من حيث حصول الأمر بالكليّ
، فجاز أن يكون حاصلا في جزئيّ آخر ، كواجب آخر.
الفريق الثاني
جماعة من الفقهاء ، حيث حكموا بأنّ الصّوم واجب على المريض والمسافر والحائض ، وما
يأتون به عند زوال العذر ، يكون قضاء لما وجب.
والحقّ ، منع ذلك
، فإنّ الوجوب ينافي جواز الترك ، بل وجوبه ثابت هنا ، فكيف يجب الفعل والترك؟
احتجّوا بقوله
تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ).
أوجب على كلّ من
شهد [الشهر] الصّوم.
__________________
ولأنّه ينوي قضاء
رمضان ، وتسميته قضاء ، يعطي سبق الوجوب.
ولأنّه لا يزيد
عليه ، ولا ينقص منه ، فيكون بدلا عنه ، كغرامات المتلفات.
والجواب : أنّ ما
ذكرتموه ظاهر ، وما ذكرناه قطعيّ ، فيكون راجحا ، لأنّ المتصوّر من الوجوب المنع
من الترك ، فلو استدللنا بالظواهر والأقيسة على إثبات المنع من الترك عند تسويغه ،
لكنّا قد تمسّكنا بالظنيّ على إثبات الجمع بين النقيضين.
على أنّا نمنع
العموم ، والتسمية لسبق سبب الوجوب لا نفسه ، والبدليّة لا تعطي وجوب المبدل عنه لو سلّمت.
فروع :
[الفرع] الأوّل : قال القاضي أبو بكر وجماعة من الأشاعرة : إنّ المندوب مأمور
به ، خلافا للكرخي وأبي بكر الرّازي من الحنفيّة.
والتحقيق أن نقول
: إن جعلنا الأمر حقيقة في الوجوب ، لم يكن المندوب مأمورا به حقيقة ، وإن جعلناه
حقيقة في مطلق الترجيح ، كان مأمورا ، فالنزاع لفظيّ.
__________________
[الفرع] الثاني : قال الأستاذ أبو إسحاق الأسفرائيني : المندوب تكليف ، لأنّه لا يخلو من كلفة ومشقّة ، فإنّه
سبب الثّواب ، لأنّه إن فعله حصل له المشقّة كالواجب ، وإن تركه شقّ عليه ما فاته
من الثواب بفعله ، وربما كان ذلك أشقّ عليه من الفعل.
وخالفه الباقون ،
لأنّ التكليف إنّما يكون لما فيه كلفة ومشقّة ، والمندوب مساو للمباح في التخيير
بين الفعل والترك ، فلا يكون تكليفا كالمباح.
والجواب عمّا قاله
: أنّه يلزم أن يكون حكم الشارع على الفعل بكونه سببا للثواب ، تكليفا ، لأنّه إن
أتى بالفعل رغبة في الثواب الّذي هو سببه ، كان مشقّة ، وإن تركه ، شقّ عليه ما
فاته من الثواب ، وهو خلاف الإجماع.
والتحقيق : أنّ
أبا اسحاق إن أراد بالتكليف ما هو سبب المشقّة ، ورد عليه ما قالوه ، وأن يكون
الأمر نفسه تكليفا ، وإن أراد ما تحصل المشقّة بفعله ، لم يرد ، لأنّ الحكم
بالسببيّة ليس من فعلنا.
[الفرع] الثالث : اختلفوا في المندوب هل يصير واجبا بالشروع فيه؟ فعند أبي
حنيفة : أنّه يصير واجبا بالشروع.
خلافا للشافعي
والإماميّة.
لنا : قوله عليهالسلام : «الصائم المتطوّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر».
ولأنّا نفرض البحث
فيما إذا نوى صوما مندوبا ، يجوز له تركه ، فعند
__________________
الشّروع يجب أن
يقع الصّوم على هذه الوجه ، لقوله عليهالسلام : «ولكلّ امرئ ما نوى» .
ولأنّه لم يكن
واجبا قبل الفعل ، فكذا حاله ، عملا بالاستصحاب.
[الفرع] الرابع : قال الأستاذ أبو اسحاق : المباح داخل تحت التكليف.
والحقّ خلافه ،
كما ذهب إليه الباقون ، لأنّ التكليف مطلوب فيه الفعل ، ولا بدّ فيه من الترجيح ،
ولا ترجيح في المباح.
ولأنّ التكليف
مأخوذ من الكلفة والمشقّة ، ولا مشقّة في المباح ، لكونه مخيّرا بين الفعل والترك.
احتجّ بأنّه قد
ورد التكليف باعتقاد إباحته ، فيكون تكليفا.
والجواب :
الاعتقاد مغاير للفعل ، فالتكليف بالاعتقاد ليس تكليفا بالمباح ، فإن جعله تكليفا
بهذا الاعتقاد ، كان مغايرا للمصطلح ، ومراعى في العبادة.
[الفرع] الخامس : اختلفوا في المباح هل هو حسن؟
والحقّ : أنّ
الحسن إن كان هو ما رفع الحرج في فعله وتركه ، أو أنّه الّذي لفاعله أن يفعله ، أو
بأنّه ما لا مدح فيه ولا ذمّ ، فهو حسن بهذا الاعتبار.
وإن أريد به ما
يستحقّ فاعله بفعله التعظيم ، أو الثواب ، فليس من هذا الباب.
__________________
[الفرع] السادس : اختلفوا في المباح هل هو من الشّرع أم لا؟
فنفاه قوم ، إذ
المباح ما لا حرج في فعله وتركه ، وذلك معلوم قبل الشّرع ، فلا يكون منه ، بل تكون
الإباحة تقريرا للنفي الأصليّ ، لا تغييرا.
والتحقيق : أنّ
النزاع لفظيّ ، فإنّ المباح إن عني به ما أذن الشارع في فعله وتركه ، فهو حكم
شرعيّ ، وإن عني به : ما لا يتعلّق بفعله ولا تركه ذمّ ولا عقاب ، فليس حكما
شرعيّا.
وأيضا إن عني بكون
الإباحة حكما شرعيّا : حصول حكمه غير الّذي كان مستمرّا قبل الشرع ، فليس كذلك ،
بل الإباحة تقرير لا تغيير.
وإن عني بكونه
شرعيّا : أنّ كلام الشارع دالّ على تحقّقه ، فهو كذلك ، لأنّ الإباحة الشرعية
تتحقّق بأحد أمور ثلاثة :
الأوّل : أن يقول
الشارع : إن شئتم فافعلوا ، وإن شئتم فلا تفعلوا.
الثاني : أن تدلّ
أخبار على انتفاء الحرج في الفعل ، والترك.
الثالث : ألا
يتكلّم الشارع فيه بأمر ، لكن ينعقد الإجماع مع ذلك بأنّ ما لم يرد فيه طلب فعل ،
ولا ترك ، فالمكلّف مخيّر فيه.
[الفرع] السابع : اختلفوا في المباح هل هو ، داخل في مسمّى الواجب أم لا؟
والحقّ : أنّ
النزاع لفظيّ ، فإنّ المباح إن عني به ما لا حرج في فعله ، فهو جنس للواجب والمباح
بالمعنى الأخصّ ، ويكون داخلا في الواجب.
وإن عني به ما لا
حرج في فعله ولا تركه ، فهو مضادّ ومباين للواجب.
احتجّوا باطّراد
العادة في إطلاق الجائز على الواجب كقولهم : «صلاة جائزة» و «صوم جائز» فلو لا
الدّخول لزم الاشتراك أو المجاز.
والجواب : يلزمكم
في ترك الحرام حيث يقال : الحرام جائز الترك ، ومسمّى الجائز غير متحقّق هنا ،
فيلزم المجاز أو الاشتراك.
وفيه نظر ، لعود
الجواز هنا إلى الواجب ، وأنّ ترك الحرام واجب.
والتحقيق : أنّ
الجواز هنا وفي الصلاة والصوم بالمعنى الأعمّ : فيقال في مقابلة الممنوع منه في
الصّلاة والصّوم.
__________________
الفصل السّادس :
في المأمور به
وفيه مباحث :
المبحث الأوّل :
في امتناع التّكليف بالمحال
اختلف في ذلك ،
فذهبت العدليّة كافّة إلى امتناعه.
وقالت الأشاعرة
كافّة بجوازه ، ثمّ اختلفوا في الوقوع :
فذهب أبو الحسن
الأشعري تارة إلى عدم وقوعه ، وتارة إلى وقوعه ، وكلاهما قول أصحابه ، مع أنّه يلزمه الوقوع.
وقال بعضهم :
المحال إن كان لذاته كالجمع بين الضدّين ، وقلب الأجناس ، وإيجاد القديم وإعدامه ،
استحال التكليف به ، وإن كان لغيره ، جاز التكليف به ، واختاره الغزّالي وقد هرب من مقالة شيخه أبي الحسن لما فيها
__________________
من الشناعات لفظا
، ويلزمه الوقوع فيها على ما يأتي تقريره.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّا نعلم قطعا نسبة من كلّف الأعمى نقط المصاحف ، والزّمن
الطيران في السماء ، والأسود بزوال سواده ، والعاجز نقل الكواكب عن مواطنها ، إلى
السّفه والجهل ، والله تعالى منزّه عن ذلك ، وأيّ عاقل يرتضي لنفسه تنزيه المخلوق
عن أمر يقبحه ، وينسبه الى الله تعالى ، مع نقص المخلوق وكمال الخالق.
الثاني : المحال غير متصوّر ، وكلّ ما لا يكون متصوّرا ، لا يكون
مأمورا به.
أمّا المقدّمة
الأولى : فلأنّه لو كان متصوّرا لكان متميّزا ، ولو كان متميّزا لكان ثابتا ، فما
لا ثبوت له لا تميّز له ، وما لا تميّز له ، لا يكون متصوّرا.
وأمّا الثانية ،
فلأنّ غير المتصوّر لا يكون في العقل إليه إشارة ، والمأمور به مشار إليه في العقل
، والجمع بينهما متناقض.
الثالث : لو جوّزنا الأمر بالمحال ، لجوّزنا أمر الجمادات ، وبعثة
الرّسل إليها ، وإنزال الكتب عليها ، وذلك معلوم البطلان بالضرورة.
الرابع : لو صحّ التكليف بالمحال ، لكان مستدعي الحصول ، لأنّه معنى
الطّلب ، ولا يصحّ ، لأنّه لا يتصوّر وقوعه ، واستدعاء حصوله فرعه ، لأنّه لو
تصوّر منفيّا لزم تصوّر الأمر على خلاف ماهيّته.
لا يقال : لو لم
يتصوّر لم يعلم إحالة الجمع بين الضدّين ، لأنّ العلم بصفة الشيء فرع تصوّره.
لأنّا نقول :
الجمع المتصوّر جمع المختلفات ، وهو المحكوم بنفيه ، ولا يلزم من تصوّره منفيّا عن
الضدّين ، تصوّره مثبتا.
لا يقال : يتصوّر
ذهنا ، للحكم عليه.
لأنّا نقول :
فيكون في الخارج مستحيلا ، ولا مستحيل في الخارج.
وأيضا يكون الحكم على
ما ليس بمستحيل.
وأيضا الحكم على
الخارج ، يستدعي تصوّر الخارج.
الخامس : قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها).
و (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ
مِنْ حَرَجٍ).
ولا حرج أعظم من
التكليف بالمحال.
السادس : التكليف بغير المقدور ظلم ، فإنّ تكليف الإنسان تسكين
الكواكب أو خرق الأفلاك أو إيجاد مثلها ، أو إيجاد مثل القديم إلى غير ذلك من
المستحيلات من أعظم الظلم وأكبره ، فيكون الله تعالى منزّها عنه ، كقوله تعالى : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ).
و (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ).
وقوله : (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً).
و (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً).
__________________
و (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً).
(لا ظُلْمَ الْيَوْمَ).
(إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ).
إلى غير ذلك من
الآيات الدالّة على تنزيه الله تعالى من الظّلم.
احتج المخالف
بوجوه :
الأوّل : الله تعالى كلّف الكافر بالإيمان ، وهو محال منه ، وإلّا
لزم انقلاب علمه تعالى جهلا على تقدير وقوعه ، وانقلاب العلم جهلا محال ،
والمستلزم للمحال لا شكّ في كونه محالا.
الثاني : أنّه تعالى أخبر عن قوم معيّنين أنّهم لا يؤمنون ، كقوله في
قصّة نوح :
(أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ).
وقوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ).
وقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
[وقوله :] (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى
أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).
فلو امن هؤلاء ،
لانقلب خبر الله تعالى [الصدق] كذبا ، والكذب عليه
__________________
محال ، فصدور
الإيمان عن أولئك يكون محالا.
الثالث : أنّه تعالى كلّف أبا لهب بالإيمان ، ومن جملته : تصديق الله
في جميع ما أخبر عنه ، ومن جملة ما أخبر عنه : أنّه لا يؤمن ، فقد صار مكلّفا
بأنّه يؤمن وبأنّه لا يؤمن ، وهو تكليف بالجمع بين الضدّين.
الرابع : صدور الإيمان عن العبد يتوقّف على الداعي ، وهو مخلوق لله
تعالى ، ومتى حصل الدّاعي ، وجب الفعل ، وحينئذ يلزم الجبر ، وهو تكليف ما لا
يطاق.
أمّا المقدمة
الأولى ، فلأنّ العبد إن لم يتمكّن من الترك ، لزم الجبر ، وإن يتمكّن : فإن لم
يتوقّف ترجيح الفاعليّة على التاركيّة على مرجّح ، لزم ترجيح أحد الطرفين
المتساويين لا لمرجّح ، وهو محال ، وإن توقّف وجب الفعل ، فذلك المرجّح إن كان من
فعله تعالى لزم الجبر ، وإن كان من غيره ، عاد البحث ، وإن لم يجب عاد البحث ،
ويتسلسل.
الخامس : التكليف إمّا أن يتوجّه على المكلّف حال استواء الداعي إلى
الفعل والترك ، أو حال رجحان أحدهما على الآخر.
فإن كان الأوّل ،
يلزم تكليف ما لا يطاق ، لأنّ حال الاستواء يمتنع الرّجحان ، فالتكليف به يكون
تكليفا بالمحال.
وإن كان الثاني ،
فإن توجّه بالرّاجح ، كان تكليفا بالواجب ، وهو تكليف ما لا يطاق ، فإنّ الواجب
يستحيل أن يستند وقوعه إلى شيء آخر ، فيمتنع إيقاعه بفاعل ، فالأمر به أمر بما لا
يطاق.
وإن توجّه
بالمرجوح ، كان تكليفا بالممتنع ، لاستحالة وقوع ذلك
الطرف حال التساوي
، فحال المرجوحيّة أولى بالامتناع ، وهو تكليف ما لا يطاق.
السادس : أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، فيلزم تكليف ما لا يطاق.
أمّا الصّغرى ،
فلأنّها لو كانت مخلوقة للعبد ، لكانت معلومة له ، والتالي باطل ، لأنّا نعلم
انتفاء العلم بأجزاء الحركة الصّادرة عنّا ، وأجزاء المسافة ، ومقادير السّكنات
المتخلّلة بينها ، فالمقدّم مثله.
وأمّا الكبرى ،
فلأنّ العبد قبل أن يخلق الله تعالى فيه الفعل ، استحال منه تحصيل الفعل ، وإذا
خلق [الله] فيه الفعل ، استحال منه الامتناع ، وعلى التقديرين لا قدرة.
لا يقال : إنّ
القدرة وإن انتفت ، لكنّ الله تعالى أجرى عادته بخلق الفعل عند اختياره ، وعدمه
عند عدم اختياره ، فيكون للعبد اختيار.
لأنّا نقول :
الكلام في فاعل الاختيار كالكلام في فاعل الفعل.
السابع : الأمر موجود قبل الفعل ، والقدرة لا توجد قبله ، فالأمر قد
وجد عند عدم القدرة ، وهو تكليف ما لا يطاق.
أمّا الصّغرى ،
فلأنّ الكافر مكلّف بالإيمان.
وأمّا الكبرى ،
فلأنّ القدرة عرض ، فلو بقيت لزم قيام العرض بمثله.
ولأنّ القدرة صفة
متعلّقة ، فلا بدّ لها من متعلّق ، والمتعلّق إمّا المعدوم ، أو الموجود ، والأوّل
محال ، لأنّه نفي محض مستمرّ ، والنفي لا يكون مقدورا ، وكذا المستمرّ ، فالنّفي
المستمرّ أولى بأن لا يكون مقدورا.
وإذا كان موجودا ،
ثبت أنّ القدرة لا توجد إلّا عند وجود الفعل.
الثامن : لو كان العبد قادرا على الفعل ، لكان إمّا قادرا حال وجود
الفعل ، أو قبله ، والأوّل محال ، لاستحالة تحصيل الحاصل ، وكذا الثاني ، لأنّ
القدرة المتقدّمة إن كان لها أثر في الفعل حال تقدّمها ، كان تقدير تأثير القدرة
في المقدور حاصلا في الزّمان الأوّل ، ووجود الفعل غير حاصل في الزّمان الأوّل ،
فتأثير القدرة في المقدور مغاير لوجود المقدور.
ثمّ ينقل الكلام
إلى ذلك المغاير فنقول : المؤثّر إمّا أن يؤثّر في ذلك المغاير حال وجوده ، أو
قبله.
فإن كان الأوّل ،
كان إيجادا للموجود ، وإن كان الثاني تسلسل.
وإن لم يكن لها
أثر في الزّمان المقدّم ، وثبت أنّه لا أثر لها في المقارن ، فلا أثر لها البتّة ،
فليس للعبد قدرة أصلا.
التاسع : الأمر بالمعرفة ثابت لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا
اللهُ) إمّا أن يتوجّه على العارف بالله تعالى ، أو على غيره.
والأوّل محال ،
وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، والجمع بين المثلين.
والثاني كذلك ،
لأنّ غير العارف بالله تعالى ما دام غير عارف ، استحال أن يعرف أنّ الله تعالى
أمره بشيء ، لأنّ العلم بأنّه أمره ، مشروط بالعلم به.
وإذا استحال أن
يعرف أنّ الله تعالى أمره [بشيء] كان توجيه الأمر عليه في هذه الحالة ، توجيها
للأمر على من يستحيل أن يعلم ذلك الأمر ، وهو تكليف ما لا يطاق.
__________________
العاشر : الأمر بالنظر ثابت لقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا)
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا)
وذلك تكليف ما لا يطاق.
بيانه : أنّ
التصوّر غير مقدور ، فالقضايا الضّروريّة كذلك ، فا [لقضايا ا] النظريّة كذلك ،
وحينئذ لا يكون النظر والفكر مقدورا.
أمّا عدم القدرة
على اكتساب التصوّر ، فلأنّ المتكسب لها إمّا أن تكون معلومة له حالة الطّلب أو لا
، والأوّل تحصيل الحاصل ، والثاني يكون غير خاطرة بباله ، والذهن غافل عنها ، فلا
تكون مطلوبة ، للعلم الضروري بأنّ القادر ، إذا كان غافلا عن شيء ، استحال أن
يحاول تحصيله.
لا يقال : إنّها
متصوّرة من وجه دون آخر.
لأنّا نقول :
الوجهان متغايران ، فالمعلوم معلوم بتمامه ، فلا يطلب ، لأنّه تحصيل الحاصل ،
والمجهول مجهول بتمامه ، فلا يطلب.
وإذا ثبت كون
التّصورات غير مكتسبة ، فكذا البديهيّات ، لأنّ تصوّراتها إن كفت في الحكم ، كان حصوله عقيب حصولها واجبا ليس باختيار
القادر ، وإن لم تكف ، افتقرت إلى وسط ، فلا تكون بديهيّة ، هذا خلف.
فالبديهيّات غير
مقدورة ، فتكون النظريّات كذلك ، لأنّ لزومها عن الضروريّات : إمّا أن يكون واجبا
، فلا تكون مقدورة ، أو لا يكون واجبا ، فلا تكون يقينيّة ، لأنّا إذا استدللنا
بدليل مركّب من مقدّمات ، ولم يجب المطلوب
__________________
عنها ، كان اعتقاد
وجود ذلك المطلوب في هذه الحالة ، اعتقادا تقليديّا ، لا يقينيّا.
والجواب عن الأوّل
بوجوه :
[الوجه] الأوّل :
نمنع استحالة الإيمان من الكافر ، وأنّ حصوله يفضي إلى انقلاب علم الله تعالى جهلا
، وذلك : لأنّ العلم تابع للمعلوم ، يتعلّق به على ما هو عليه ، فإن كان الشيء
واقعا ، تعلّق العلم بوقوعه ، وإن كان غير واقع ، تعلّق العلم بعدمه.
فالإيمان إن وقع ،
علمنا بأنّ الله تعالى كان في الأزل عالما بوقوعه.
وإن فرضناه غير
واقع ، لزم القطع بأنّ الله تعالى علم عدم وقوعه ، ففرض الإيمان بدلا عن الكفر ،
لا يقتضي تغيّر العلم ، بل يقتضي أن يكون الحاصل في الأزل ، هو العلم بالإيمان
بدلا عن العلم بالكفر.
[الوجه] الثاني :
الإيمان في نفسه ممكن قبل العلم بعدمه ، فلو انقلب واجبا بسبب العلم ، لكان العلم
مؤثّرا في المعلوم ، وهو محال ، فإنّ العلم تابع ، فلا يؤثّر في متبوعه.
[الوجه] الثالث :
سلّمنا الوجوب ، لكنّه وجوب لاحق حصل بعد فرض العلم ، فلا يؤثّر في الإمكان
الذاتيّ ولا القدرة ، كما أنّ فرض المعلوم يوجبه وجوبا لا حقا ، ولا يؤثّر في
إمكان الطرف الآخر.
والأصل في ذلك :
أنّ العلم والمعلوم متطابقان ، والأصل في هيئة التّطابق ، المعلوم ، ولا فرق بين
فرض الشيء وفرض مطابقه ، ولا ينافي ذلك تأخّر المعلوم عن العلم ، فإنّ العلم حكاية
، والحكاية قد تتقدّم زمانا وتتأخّر ، وهي متأخّرة على التقديرين بالذّات عن
المحكيّ ، وكذا العلم السّابق.
[الوجه] الرابع :
أنّ هذا الدليل يفني قدرته تعالى ، لأنّ ما فعله الله تعالى لا بدّ وأن يكون معلوم
الوقوع ، فيستحيل عدم وقوعه ، وحينئذ لا يكون الترك ممكنا ، ويكون الفعل واجبا ،
فلا يقع مقدورا ، فيلزم ألا يقدر الله تعالى على شيء ، وهو باطل قطعا.
[الوجه] الخامس :
لو وجب معلوم الوقوع ، وامتنع معلوم العدم ، لم يبق فرق بين حركاتنا الاختياريّة
والاضطراريّة ، ولمّا حكم كلّ عاقل بالفرق بين حركاتنا يمنة ويسرة بحسب اختيارنا ،
وبين حركتنا حال السّقوط من شاهق ، وبين حركتنا ، وحركة الأشجار بالرّياح ، وحركة
الحجر حال هبوطه ، من حيث إنّه لا يكون ذلك باختيارنا ، علمنا بطلان ما قلتموه ،
لأنّه استدلال في معارضة ما علم بطلانه بالضّرورة ، فكان كشبه السوفسطائيّة.
[الوجه] السادس :
لو كان معلوم الوقوع واجبا ، لكان العالم واجب الوجود في الوقت الّذي علم الله
تعالى أنّه يوقعه فيه ، والواجب يستغني عن المؤثّر ، فيكون حدوثه مستغنيا عن
المؤثّر ، فيلزم ألا يفتقر العالم إلى مؤثّر ، ولا غيره من الحوادث ، وذلك يوجب
نفي قادر المختار ، وهو كفر.
[الوجه] السّابع :
تعلّق العلم به : إمّا أن يكون سببا لوجوبه ، أو لا يكون.
والأوّل يقتضي أن
يكون العلم قدرة وإرادة ، إذ معناهما الأمر الّذي باعتباره يرجّح الوجود على العدم ، فيصير
العلم عين القدرة والإرادة ، فيلزم انقلاب الحقائق ، وهو محال.
__________________
وإن لم يكن سببا ،
سقط دليلكم ، لابتنائه على أنّ المعلوم صار واجب الوقوع عند تعلّق العلم به.
[الوجه] الثامن :
لو اقتضى ما ذكرتموه امتناع الإيمان من الكافر ، لكان بالنظر إلى العلم لا لذاته ،
فلم قلتم : إنّ المحال لذاته يجوز ورود الأمر به؟
[الوجه] التاسع :
هذا الدّليل يقتضي أن يكون كلّ تكليف فهو تكليف بما لا يطاق ، ولم يذهب إليه أحد ،
وإن كان لازما للمجبّرة ، إلّا أنّهم ينكرونه باللّسان ، فما ينتجه الدّليل لا
يقول به الخصم ظاهرا ، وما يقوله لا ينتجه ، فيكون ساقطا.
اعترض : بأنّا وإن لم نعلم أنّ علم الله تعالى تعلّق بإيمان زيد
، أو بكفره ، لكنّا نعلم أنّ علمه تعالى تعلّق بأحدهما على التعيين ، وذلك العلم
كان حاصلا في الأزل ، فلو لم يحصل متعلّقه ، لزم انقلاب العلم جهلا ، وهو محال ،
لامتناع الجهل على الله تعالى ، و تغيّر الشيء في الماضي .
ونحن ندّعي
استحالة خلاف المعلوم وإن يكن العلم مؤثّرا.
ولا يلزم نفي
قدرته تعالى ، لأنّ العلم بالوقوع ، تبع الوقوع الّذي هو تبع القدرة والإرادة ،
فلا يكون الفرع مانعا من الأصل ، بل تعلّق علمه به على الوجه المخصوص ، يكشف عن
أنّ قدرته وإرادته تعلّقتا به على ذلك الوجه.
والجبر الّذي
جعلتموه لازما ، إن عنيتم به عدم تمكّن العبد من خلاف فعل معلوم لله تعالى ، فلم
قلتم : إنّه محال؟
__________________
ولا يلزم إيجاب
العالم وقت حدوثه ، لأنّ الوقوع أصل العلم به ، وهو تبع القدرة والإرادة ، والفرع
لا يغني عن الأصل.
والعلم ليس سبب
الوجوب ، لكنّه كاشف عن الوجوب.
قوله : هذا لا
يدلّ على جواز الجمع بين الضدّين.
قلنا : بلى ، لأنّ
علم الله تعالى بعدم إيمان زيد ، ينافي وجود إيمانه ، فإذا أمره بإدخال الإيمان في
الوجود حال العلم بعدمه ، فقد كلّفه بالجمع بين المتناقضين.
قوله : يقتضي أن
يكون كلّ تكليف فهو بما لا يطاق.
قلنا : الدلائل
القطعية لا تندفع بأمثال هذه.
والجواب : لا فرق
بين العلم الأزلي والحادث في امتناع انقلابهما ، واستحالة الوقوع بخلافهما ، ولمّا
كان العلم الحادث غير مقتض للإيجاب السّابق ، ولا مغيّرا للشيء عن حكم إمكان
الذّاتي ، كان الأزليّ كذلك.
وانقلاب العلم
جهلا ، لازم للإيمان بعد فرض العلم بالكفر الّذي هو في الحقيقة فرض الكفر ،
فالمحال نشأ لا من الفرض الكفر بدلا عن الإيمان ، بل منه ومن فرض مطابق نقيضه ،
ولا يلزم من ، استلزام المجموع المحال استلزام جزء منه معيّن لذلك المحال.
ومن العجائب :
اعترافهم بأنّ العلم الأزلي بالوقوع الحادث ، تبع للوقوع في حقّ الله تعالى ، دون
حقّ العبد ، وأيّ فارق بينهما؟ وهل يرتضي العاقل
__________________
لنفسه الاعتذار في
مثل هذه المباحث الضيّقة بمثل هذا؟
وهلّا قالوا : إنّ
تعلّق العلم بإيمان زيد يكشف عن أنّ قدرة زيد وإرادته تعلّقتا به على ذلك الوجه ،
كما قالوا في فعله تعالى ، والجبر الّذي استنصره ، وادّعى إمكانه ، يقتضي أن يكون
هناك جبر ممتنع الوقوع.
وليت شعري ما ذلك
الجبر؟ هل هو غير عدم قدرة العبد ، وأنّ فعله يجري مجرى سقوط الحجر إلى أسفل؟
ثمّ اعتذارهم عن
دفع الإيجاب وقت حدوث العالم ، بكون العلم تابعا في حقّ العبد كما بيّنا ، وكون
العلم كاشفا عن الوجوب ، يلزمه سبق الوجوب من غير فرض العلم ، وهو محال ،
لاستلزامه نفي القدرة عن الله تعالى وعن العبد حال فرض الخلوّ عن العلم.
ولمّا اعترف بأنّ
العلم لا يقتضي الإيجاب ، من حيث إنّه تابع ، فلا يزيل حكم متبوعه ، وهو القدرة
الّتي هي أصل الفعل ، لم يلزم جواز الجمع بين الضدّين في الأمر بالإيمان مع العلم بعدمه ، وأيّ دليل قاطع اقتضى كون
التكاليف بأسرها تكليفا بما لا يطاق؟
والجواب عن الثاني
: بالمنع من الإخبار بعدم إيمان أبي لهب ، والوعد بأنّه (سَيَصْلى ناراً)
لا يدلّ على الإخبار بعدم تصديقه للنبي صلىاللهعليهوآله ، لإمكان تعذيب المسلم كالفاسق.
أو نقول : إنّه «يصلى
النار» على تقدير عدم إيمانه.
__________________
وكذا قوله في قصّة
نوح (أَنَّهُ لَنْ
يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)
أي بتقدير عدم هداية الله تعالى لهم إلى ذلك ، وذلك لا يدلّ على الإخبار بعدم
الإيمان مطلقا ، وكذا باقي الآيات.
سلّمنا ، لكن نمنع
أنّهم ظنّوا بتصديق النبيّ فيما أخبر به ، من عدم تصديقهم بتكذيبه، لجواز وروده
حال غفلتهم ، أو نومهم ، أو بعد التكليف.
وهو الجواب عن
الثالث ، مع أنّا لو سلّمنا أنّ تصديق الله تعالى في كلّ ما أخبر عنه ، من الإيمان
، لم يلزم منه أمره بتصديق هذا الخبر عينا ، إذ ما هو من الإيمان من التصديق ، يجب
أن يكون إجماليّا .
وعن الرابع :
بالمنع من الافتقار إلى الداعي ، فإنّ للقادر أن يرجّح أحد مقدوريه على الآخر لا
لمرجّح ، كما في الهارب من السّبع إذا عن له طريقان ، والعطشان إذا حضره قدحان ،
والجائع إذا قدم إليه رغيفان.
سلّمنا ، لكن
الدّاعي هو العلم بما في الفعل من المصلحة ، وهذا العلم إن كان ضروريّا ، فمن الله
تعالى ، وإن كان كسبيّا ، كان مستندا إلى العبد بواسطة اختياره المستند إلى علمه.
ولا يلزم الجبر
على تقدير عدم التمكّن من الترك ، إذا كان الوجوب مستندا إلى القدرة والدّاعي ،
ومع ذلك فهو وارد في حقّ الله تعالى.
وعن الخامس : أنّ
التكليف وارد حال الاستواء بأن يوقعه حال الرّجحان ، والتكليف بالمحال إنّما يلزم
لو قلنا : إنّه مكلّف حال الاستواء بأن
__________________
يوقعه في تلك
الحال ، ونحن لا نقول به ، وهو أيضا وارد في حقّ الله تعالى.
وعن السادس : أنّ
العلم الإجمالي كاف في التأثير ، وهو حاصل في حقّ العبد.
وعن السابع : بأنّ
القدرة متقدّمة ، والعرض يقوم بالعرض ، كالسرعة ، والحركة.
على أنّا نمنع كون
البقاء عرضا.
سلّمنا ، لكنّ
القدرة تعدم حالا ، وتوجد أخرى في الحال الثاني ، وهكذا ، ولو كان متعلّق القدرة
موجودا ، لزم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل ، وهو باطل قطعا ، مع أنّ ذلك وارد في
حقّه تعالى.
وعن الثامن : أنّ
القدرة توجد مقدّمة ، وتبقى مقارنة للفعل ، فالقادر في الوقت الأوّل قادر على أن
يوجد الفعل في الوقت الثاني ، والتأثير نسبة بين القدرة والفعل ، ومتقدّمة على الفعل ومغايرة له ، ومع ذلك فهي واردة في حقّ الله
تعالى ، فما هو جوابهم عنه ، هو جوابنا في كلّ تأثير صدر عن مؤثّره.
وعن التاسع : أنّه
لا يرد علينا ، لأنّا نوجب المعرفة بالعقل لا بالسّمع ، بل يرد على الأشاعرة ، وقد
أجابوا بأنّ استماع الأمر بالوجوب وإمكانه ، يوجبان البحث ، وإذا بحث المكلّف حصل
له العلم السمعيّ بالوجوب.
وإمكان معرفة
الإيجاب ، لا يتوقّف على معرفة الموجب ، ويكفي معه
__________________
الاستماع في تحقّق
الإيجاب ، ولا يلزم منه تكليف بالمحال.
على أنّ الآية
دلّت على الأمر بالعلم بالواحدانيّة.
سلّمنا ، لكنّ
الأمر يستلزم العلم بالأمر باعتبار ما.
وعن العاشر : أنّ
التصوّر معلوم من جهة ، ومجهول من أخرى ، والوجهان متغايران ، وليس المطلوب
الوجهين ، بل الموصوف بهما.
سلّمنا أنّ
التصورات غير مكتسبة وكذا الضروريّات ، لكنّها غير كافية في تحصيل الكسبيّات ، بل
لا بدّ من فكر وترتيب بين تلك العلوم ، وهو صادر بالاختيار عن المكلّف.
احتجّ القائلون
بجواز التكليف بالمحال لغيره لا لذاته بقوله تعالى : (رَبَّنا وَلا
تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ)
سألوا دفع التكليف بما لا يطاق ، ولو كان ممتنعا ، استحال السؤال.
ولأنّ الإجماع على
أنّ الله تعالى كلّف بالإيمان من علم أنّه لا يؤمن ، كمن مات على كفره.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الآية إنّما يصحّ حملها على سؤال دفع ما لا يطاق لو كان ذلك ممكنا ، وإلّا
لتعذّر السؤال بدفع ما لا إمكان لوقوعه ، كما قلتم ، وإمكانه متوقّف على كون الآية
ظاهرة فيه ، فيكون دورا.
سلّمنا ، لكن يمكن
حملها على سؤال دفع ما يشقّ ، وإن كان ممّا يطاق.
سلّمنا ، لكن سؤال
الدّاعي لا حجّة فيه.
__________________
سلّمنا ، لكن
التكاليف إن كانت بأسرها تكليف ما لا يطاق ، بطلت فائدة تخصيصهم بذكر ما لا يطاق ،
بل كان الواجب أن يقولوا : «ربّنا لا تكلّفنا» وإن كان البعض ، لزم خلاف مذهبكم.
سلّمنا ، لكنّه
معارض بقوله : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها)
، (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)
.
وعن الثاني : ما
تقدّم ، من أنّ العلم تابع.
ثمّ تعارض أدلّة المجبرة زيادة على ما تقدّم ، بالمعقول والمنقول.
أمّا المعقول
فوجوه :
الأوّل : قدرة
العبد ثابتة [على فعله] بالإجماع بيننا وبينهم ، فلو لم تكن هي المؤثّرة ، لا يبقى
الفرق بين المقدور وغيره.
الثاني : يكون
المؤثّر في الفعل [عندئذ] غير العبد ، فيلزم وجود مقدور بين قادرين.
الثالث : يجوز أن
تكون القدرة متعلّقة بالجواهر والألوان.
الرابع : يكون
العبد مضطرّا بما خلق الله فيه من الفعل ، لا قادرا.
الخامس : يجوز أن
يصدر عن العبد أفعال محكمة في غاية الإبداع والإتقان ، وهو لا يشعر بها.
__________________
السادس : لا يبقى
الفعل منقسما إلى طاعة ومعصية ، لأنّه ليس من فعله.
السابع : يكون
الربّ تعالى أضرّ على العبد من إبليس ، حيث إنّه خلق فيه الكفر وعاقبه عليه ، وإبليس
داع لا غير.
الثامن : لا يحسن
شكر العبد ولا ذمّه على أفعاله ، ولا أمره ولا نهيه ، ولا عقابه ولا ثوابه.
التاسع : يكون
الربّ تعالى امرا للعبد بفعل نفسه ، وهو قبيح عند العقلاء.
العاشر : يكون
الكفر والإيمان من قضاء الله تعالى وقدره ، وهو إمّا أن يكون حقّا أو باطلا ، فإن
كان حقّا ، فالكفر حقّ ، وإن كان باطلا ، فالإيمان باطل.
الحادي عشر : يكون
الربّ تعالى إمّا راضيا ، فيلزم منه الرضا بالكفر ، أو غير راض ، فلا يكون راضيا
بالإيمان.
وأمّا المنقول فمن
وجوه :
الأوّل : ما في
القرآن من إضافة الفعل إلى العبد ، كقوله :
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ)
.
(إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَ)
.
(حَتَّى يُغَيِّرُوا
ما بِأَنْفُسِهِمْ)
.
__________________
(بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ)
.
(فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ)
.
(مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ)
.
(كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ)
.
(كُلُّ نَفْسٍ بِما
كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)
.
(إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي)
.
الثاني : ما في
القرآن من المدح على الإيمان ، والذمّ على الكفر ، والوعد على الطاعة ، والتوعّد
على المعصية [كقوله :]
(الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ)
.
(الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
.
(وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى. أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى)
.
(كُلُّ نَفْسٍ بِما
تَسْعى)
.
(هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
.
(مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها)
.
(وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي)
.
__________________
(أُولئِكَ الَّذِينَ
اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا)
.
(إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ)
.
الثالث : الآيات
الدالّة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعال المخلوقين ، من التفاوت والاختلاف
والظلم [كقوله :]
(ما تَرى فِي خَلْقِ
الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ)
.
(الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ).
والكفر والظلم ليس
بحسن (وَما خَلَقْنَا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ).
والكفر ليس بحقّ (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ)
.
الرابع : الآيات
الدّالّة على ذمّ العباد على الكفر والمعاصي [كقوله :]
(كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ)
، والإنكار مع العجز محال.
(وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى)
.
(وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا)
.
(ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ)
.
(فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ)
.
__________________
(فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ)
.
(عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)
.
(لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ)
.
(لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ)
.
(لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ)
.
الخامس : الآيات
الدالّة على التهديد [كقوله :]
(فَمَنْ شاءَ
فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ)
.
(اعْمَلُوا ما
شِئْتُمْ)
.
(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ)
.
(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ)
.
(سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا)
.
(وَقالُوا لَوْ شاءَ
الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ)
.
السادس : الآيات
الدالّة على أمر العباد بالفعل والمسارعة إلى الطّاعة [كقوله :]
(وَسارِعُوا إِلى
مَغْفِرَةٍ)
.
__________________
و (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ)
.
(اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ
وَلِلرَّسُولِ)
.
(ارْكَعُوا
وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا)
.
(فَآمِنُوا خَيْراً
لَكُمْ)
.
(وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ)
.
(وَأَنِيبُوا إِلى
رَبِّكُمْ).
ولا يصحّ الأمر بالطاعة والمسارعة إليها ، والمأمور ممنوع عاجز عن
الإتيان.
السابع : الآيات
الدّالّة على الاستعانة به [كقوله :]
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ).
(فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).
(اسْتَعِينُوا بِاللهِ).
وإذا كان الله هو
الخالق للكفر والمعاصي ، كيف يستعان به؟
الثامن : الآيات
الدّالّة على اللّطف [كقوله :]
__________________
(أَوَلا يَرَوْنَ
أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا
يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ).
(وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً).
(وَلَوْ بَسَطَ اللهُ
الرِّزْقَ).
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ).
(إِنَّ الصَّلاةَ
تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ).
فإذا كان خالق
الفعل هو الله تعالى ، فأيّ نفع في اللّطف ، وما الّذي يحصل له به؟
التاسع : اعتراف
الأنبياء بإضافة الفعل إليهم [كقوله :]
(رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا).
(سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ
مِنَ الظَّالِمِينَ).
(رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي).
(بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ).
(مِنْ بَعْدِ أَنْ
نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
(رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ).
__________________
العاشر : الآيات
الدّالّة على اعتراف الكفّار والعصاة بإضافة ذلك إليهم [كقوله:] (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ) ـ إلى قوله : ـ (أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ).
(قالُوا لَمْ نَكُ
مِنَ الْمُصَلِّينَ).
(فَكَذَّبْنا وَقُلْنا
ما نَزَّلَ اللهُ).
(فَذُوقُوا الْعَذابَ
بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ).
الحادي عشر :
الآيات الدّالّة على التحسّر وطلب الرّجعة [كقوله :]
(رَبَّنا أَخْرِجْنا
مِنْها).
(رَبِّ ارْجِعُونِ).
(فَارْجِعْنا نَعْمَلْ
صالِحاً).
(لَوْ أَنَّ لِي
كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
وبالجملة فالآيات
الدّالّة على ذلك ، أكثر من أن تحصى.
__________________
تذنيب
لا فرق بين الأمر
والنهي في ذلك ، فإنّه كما استحال الأمر بالجمع بين الضدّين ، كذا يستحيل النّهي
بينهما إذا لم يكن بينهما متوسّط ، وكما لا يقال : «تحرّك واسكن» كذا لا يقال : «لا
تتحرّك ولا تسكن» والخلاف هنا مع الأشاعرة ظاهر.
وأبو هاشم جوّز
ذلك ، فإنّ من توسّط أرضا مغصوبة تحرم عليه الحركة والسّكون فيها ، فكما يحرم عليه
اللّبث فيها ، كذلك يحرم عليه الخروج عنها ، إذ كلّ منهما تصرّف في ملك الغير بغير
إذنه حراما.
والحقّ : أنّه
مكلّف بالخروج وإن تضمّن التصرّف والإضرار بالغير ، إذا كان الخروج يتضمّن إفساد
الزّرع ، وكذا اللّبث ، لما في الخروج من تقليل الضّرر وفي اللبث من تكثيره.
كما يكلّف المولج
في فرج الحرام بالنّزع ، وإن كان به مماسّا للفرج المحرّم ، لأنّ ارتكاب أقلّ
الضّررين قد يجب نظرا إلى دفع أكثرهما ، كما يجب شرب الخمر دفعا للغصّ وتناول الميتة للمضطرّ.
ووجوب الضّمان عليه
بما يفسده عند الخروج لا يعطي الحرمة ، كما يجب الضمان على المضطرّ في المخمصة بما
يتلفه بالأكل ، وإن كان الأكل واجبا.
__________________
ولو قدّر انتفاء
الترجيح بين الطرفين ، احتمل الحكم بالتخيير [أ] والخلوّ عن حكم شرعيّ ، كما لو
سقط إنسان من شاهق على صبيّ محفوف بصبيان ، وهو يعلم أنّه تقتل من تحته إن استمرّ
، وإن انتقل قتل من يليه.
ويحتمل أن يقال :
يستمرّ ، فإن الانتقال فعل مستأنف ، لا يصحّ إلّا من حيّ قادر ، أمّا ترك الحركة ،
فلا يحتاج إلى استعمال قدرة.
قيل : الحجّ
الفاسد ، إن كان إتمامه حراما من حيث يجب القضاء ، فلم يجب؟ وإن كان واجبا وطاعة ،
فلم وجب القضاء ، وعصى به؟
وأجيب : أنّه عصى بالوطء المفسد ، وهو مطيع بإتمام الفاسد ، والقضاء يجب
بأمر جديد ، وقد يجب بما هو طاعة إذا تطرّق إليه خلل .
ومن ألقى نفسه [من
سطح] فكسر رجله ، لا يعصي بالصلاة قاعدا ، بل بكسر الرّجل ، لا بترك الصلاة قائما.
المبحث الثاني :
في أنّه لا يشترط في التكليف حصول الشرط الشرعي
اختلف النّاس هنا
: فقالت المعتزلة والأشاعرة بذلك.
وخالف فيه أبو
حنيفة وأبو حامد الإسفرايني وزعما أنّ الكفّار غير مخاطبين بالفروع.
__________________
ومنهم من قال :
إنّهم مكلّفون بالنواهي دون الأوامر ، فإنّه يصحّ انتهاؤهم عن المنهيّات ، ولا
يصحّ إقدامهم على المأمورات.
ولا أثر للاختلاف
في أحكام الدنيا ، فإنّ الكافر ما دام كافرا ، يمتنع منه الإقدام على الصّلاة ،
وإذا أسلم ، سقط القضاء.
وإنّما أثره في
أحكام الآخرة ، بمعنى : أنّ الكافر كما يعذّب على كفره ، ويذمّ عليه ، كذا يعذّب
على عصيانه وترك الصّلاة ، ويذمّ عليه ، فهذا هو معنى قولنا : إنّهم مأمورون
بالفروع.
لنا وجوه :
الأوّل : المقتضي
للوجوب قائم ، وهو الأمر العامّ الشّامل لهم ، مثل :
(يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ).
(وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، وغيرهما.
والمانع ، لا يصلح
للمانعيّة ، إذ ليس إلّا الكفر ، وهو غير صالح ، لتمكّن الكافر من الإتيان
بالصّلاة ، بأن يقدّم إيمانه الّذي هو شرط ، كما يقدّم المحدث طهارته الّتي هي شرط
في الصّلاة ، وكذا الدّهري مكلّف بتصديق النبيّ صلىاللهعليهوآله.
وإذا ثبت المقتضي
وانتفى المانع ، وجب الحكم بالوجوب.
__________________
الثاني : قوله
تعالى : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ. قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ـ إلى قوله : ـ (وَكُنَّا نُكَذِّبُ
بِيَوْمِ الدِّينِ).
علّلوا التعذيب
بالكفر وترك الصّلاة وغيرها من الفروع.
لا يقال : قول
الكفّار ليس حجّة ، ولا يجب تكذيبهم ، كما في قوله تعالى :
(أَنْ قالُوا وَاللهِ
رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ).
(ما كُنَّا نَعْمَلُ
مِنْ سُوءٍ).
(يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ
اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ).
سلّمنا ، لكنّ
التكذيب سبب مستقلّ في التعذيب ، فلا يحال على غيره.
سلّمنا ، لكن
يحتمل «لم نك من المؤمنين».
كما روي «نهيت عن
قتل المصلّين» ويقال : أهل الصلاة ، والمراد : المسلمون.
ويؤيّده أنّ أهل
الكتاب داخلون في هذه الجملة ، مع أنّهم كانوا يصلّون ، ويتصدّقون ، ويؤمنون
بالغيب ، فلو أرادوا : لم نأت بالصّلاة والزّكاة ، كانوا كاذبين ، فعلم أنّ المراد
ما كانوا من أهل الصّلاة.
__________________
سلّمنا أنّ
التعذيب على ترك الصلاة ، لكن جاز أن يكون إخبارا عن قوم ارتدّوا بعد إيمانهم ، مع
أنّهم ما صلّوا حال إسلامهم ، لأنّه واقعة حال ، فيكفي في صدقه صورة واحدة.
سلّمنا العموم ،
لكنّ الوعيد على فعل الجميع ، لا على فعل كلّ واحد.
لأنّا نقول : لو
لا الصّدق لما كان في رواية قولهم فائدة ، مع وجوب حمل كلامه تعالى على ما هو أكثر
فائدة ، وتلك الآيات كذّبهم الله تعالى فيها أجمع.
والعجب أنّ فخر
الدين سلّم هذا الاعتراض ، واعتذر بأنّ عدم التكذيب للظّهور عند العقل ، بخلاف
صورة النزاع ، فإنّ العقل لما خفي عنه التكذيب ، وجب أن يكذّبهم فيها لو كانوا
كاذبين.
وليس بجيّد ،
فإنّه تعالى عقّب الأولى بقوله :
(انْظُرْ كَيْفَ
كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ).
والثانية بقوله : (بَلى).
والثالثة بقوله : (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ).
ولو لا دخول
القيود في التعليل ، لم يكن الإدخال جائزا.
__________________
مع أنّه تعالى
رتّب الحكم على الجميع ، والتكذيب وإن استقلّ في مطلق التعذيب ، لكنّ المحصول في
موضع معيّن من الجحيم ـ وهو سقر ـ معلّل بالجميع ، لا بمجرّد التكذيب الّذي هو سبب
لدخول مطلق الجحيم.
وتأويل (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) بأنّا لم نك من أهل الصّلاة ، لا يتأتّى في قوله (وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ).
وأهل الكتاب وإن
صلّوا ، لكنّ المراد [من الصلاة] في عرف شراعنا هو الأفعال المخصوصة عندنا ، لا الّتي في شرع غيرنا.
والحمل على
المرتدّين تخصيص ، لأنّ قوله : (لَمْ نَكُ مِنَ
الْمُصَلِّينَ) جواب المجرمين في قوله : (يَتَساءَلُونَ. عَنِ
الْمُجْرِمِينَ) وهو عامّ في حقّ الكلّ ، ولو لا أن يكون كلّ واحد له مدخل
في استحقاق العقاب ، وإلّا لم يحسن انضمامه وجعله جزءاً من المؤثّر.
الثالث : قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ لا
يَدْعُونَ مَعَ اللهِ) ـ إلى قوله : ـ (يُضاعَفْ لَهُ
الْعَذابُ) جعله جزءاً لما تقدّم ، ومن جملته : قتل النفس ، والزّنا ،
وقوله : (فَلا صَدَّقَ وَلا
صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) ذمّه على الجميع ، وقوله : (وَوَيْلٌ
لِلْمُشْرِكِينَ. الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ).
__________________
الرابع : الكافر
يتناوله النّهي ، فيتناوله الأمر.
أمّا الأوّل ، فلأنّه
يحدّ على الزّنا.
وأمّا الثاني ،
فلأنّ علّة تناول النّهي تمكّنه من استيفاء المصلحة الحاصلة بسبب الاحتراز من
المنهيّ عنه للمناسبة والاقتران ، فوجب أن يكون متمكّنا من استيفاء المصلحة
الحاصلة بسبب الإقدام على المأمور به.
لا يقال : نمنع
تناول النهي ، والحدّ وجب لالتزامه بأحكامنا.
سلّمنا ، لكنّ
الفرق : تمكّنه من الانتهاء مع كفره ، وعدم تمكّنه من الإتيان بالمأمور به.
لأنّا نقول : من
أحكام شراعنا عدم الحدّ على المباح.
وتمكّنه من
المنهيّات إن عني به الترك من غير اعتبار النيّة ، فكذا يتمكّن من فعل المأمور من
غير اعتبارها.
وإن عني به
التمكّن من الانتهاء لغرض امتثال قول الشّارع ، فلا يمكن حال عدم الإيمان كالأمر.
قال السيّد
المرتضى : الكافر يحدّ على الزّنا على وجه العقوبة ، فلو لا أنّه مخاطب بالفروع
لما حدّ.
لا يقال : إنّما
عوقب على أنّه لم يخلّص نفسه من الكفر ، فيعرف قبح الزّنا.
لأنّا نقول : إنّ
هذا تصريح بأنّه يعاقب على كفره لا على الزنا ، وهذا يوجب أن يعاقبه وإن لم يزن.
قال : وقد كان شيخ
من متقدّمي الشافعيّة ، وقد استدللت بهذه الطريقة ، فقال [لي] : إنّا نقول : إنّ
الكفّار مخاطبون بالتروك دون الأفعال ، لافتقارها إلى كونها قربة ، دون التروك.
فقلت : هذا خلاف
الإجماع ، إذ النّاس بين قائلين :
أحدهما قال :
بأنّهم مخاطبون بالجميع.
والثاني : إنّهم
غير مخاطبين بشيء أصلا.
سلّمنا ، لكن
القربة معتبرة في تروك هذه القبائح ، كما اعتبرت في الأفعال ، لأنّا أمرنا بترك
الزّنا قربة إلى الله تعالى ، فمن لم يتركه لذلك ، لا يستحقّ مدحا ، ولا ثوابا ،
ولا يكون مطيعا لله تعالى ، ولا ممتثلا لأمره.
وإذا لم تصحّ
القربة من الكافر [وهو كافر] لم يجز أن تقع منه على الوجه المشروع ، لا فعلا ولا
تركا.
الخامس : لو لم
يتعبّد الكافر بالشّرع ، لكان معذورا في تكذيب النّبي صلىاللهعليهوآلهوسلم والامتناع من تصديقه ، والتالي باطل بالإجماع ، فكذا
المقدّم.
بيان الشرطيّة :
أنّ الغرض في تصديقه صلىاللهعليهوآلهوسلم هو المعرفة بشرائعه ، كما أنّ الغرض في بعثته هو أداؤه
الشرائع ، فمن لم يكلّف ما هو الغرض في إيجاب التصديق ، لا يجوز أن يكون مكلّفا
بالتّصديق.
السادس : التكليف
جائز عقلا ، وقد وقع.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فلأنّه لو خاطب الشارع الكافر المتمكّن من فهم
__________________
الخطاب ، وقال له
: «أوجبت عليك العبادات الخمس المشروط صحّتها بالإيمان ، وأوجبت عليك الإتيان
بالإيمان مقدّما عليها» لم يلزم منه لذاته محال قطعا.
وأمّا الوقوع ،
فلما تقدّم من الآيات فكقوله تعالى : (لَمْ يَكُنِ
الَّذِينَ كَفَرُوا) ـ إلى قوله : ـ (وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ).
السابع : لو كان
حصول الشّرط في الفعل شرطا في التّكليف ، لم يجب صلاة على محدث ، ولا جنب ، ولا
قبل النيّة ، ولا «الله أكبر» قبل النيّة ، ولا اللّام قبل الهمزة ، وكلّ ذلك باطل
قطعا.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو وجبت
الصّلاة على الكافر ، فإمّا حال كفره وهو محال ، والمحال لا يكون مأمورا به ، أو
بعده ، وهو باطل ، للإجماع على سقوطها حينئذ.
الثاني : ولو وجبت
عليه لوجب القضاء ، كالمسلم ، والجامع تدارك المصلحة المتعلّقة بتلك العبادة.
الثالث : لو وجبت
لأمكن الامتثال ، وهو منفيّ حال الكفر.
والجواب عن الأوّل
: إنّما يلزم تكليف ما لا يطاق لو قلنا : إنّه حال كفره مكلّف بأن يأتي بالعبادة
حالة الكفر ، ونحن لا نقول بذلك ، بل هو حالة الكفر مكلّف بالعبادة في ثاني الحال
: بأن يقدّم الإيمان ، ثمّ يأتي بالعبادة.
__________________
وأيضا ، فالفائدة
إنّما تظهر في الآخرة ، كما قدّمناه في أوّل المسألة ، لا في أحكام الدّنيا.
وعن الثاني :
بالمنع من وجوب القضاء لكلّ أمر كالجمعة.
والفرق بينه وبين
المسلم ظاهر ، فإنّ إيجاب القضاء بعد إسلامه يوجب نفرته عن الإسلام ، لطول زمان
كفره ، بخلاف المسلم.
وعن الثالث : أنّ
الامتثال ممكن ، كما بيّناه : بأن يسلم ويفعل كالمحدث.
المبحث الثالث :
في أنّ الأمر يقتضي الإجزاء
قد عرفت أنّ
المراد من كون الفعل مجزئا هو : أنّ الإتيان به كاف في سقوط التعبّد.
وإنّما يتحقّق ذلك
، إذا كان الفعل مستجمعا لجميع الأمور المعتبرة فيه ، من حيث وقع الأمر به.
وقد فسّره قاضي
القضاة بأنّه ما أسقط القضاء وتقدّم إبطاله.
وقد دخل تحت ما
اخترناه ، العبادات الواجبة وغير الواجبة.
وليس معنى قولنا :
إنّ العبادة تجزئ ، أنّها حسنة ، لأنّ المباح حسن ، ولا يوصف بالإجزاء.
إذا عرفت هذا
فنقول : اختلف النّاس هنا : فالمحقّقون ذهبوا إلى أنّ
__________________
الإتيان بمقتضى
الأمر ، يقتضي الإجزاء بالمعنيين.
وقال أبو هاشم
وأتباعه والقاضي عبد الجبّار : إنّه لا يقتضي الإجزاء بمعنى سقوط القضاء .
وقال السيّد
المرتضى : إنّه يدلّ من حيث الشرع ، لا من جهة اللغة .
لنا وجوه :
الأوّل : أنّه فعل
المأمور به ، فيخرج عن عهدة التكليف.
أمّا المقدّمة
الأولى ، فبالفرض.
وأمّا الثانية ،
فلأنّه لو بقي مكلّفا ، فإمّا بالفعل الّذي فعله أوّلا ، فيلزم تحصيل الحاصل ، أو
بغيره ، فيلزم أن يكون الأمر قد كان متناولا لغير المأتيّ به ، فلا يكون المأتيّ
به تمام متعلّق الأمر ، وقد فرضناه كذلك ، هذا خلف.
الثاني : لو بقي
في عهدة التكليف بذلك الفعل ، فإمّا أن يكون في أعداد مخصوصة ، أو دائما ، وكلاهما
باطل.
__________________
أمّا الأوّل
فللتّرجيح من غير مرجّح.
وأمّا الثاني ،
فللحرج ، ولزوم القبيح لو كلّف بغيرها من العبادات.
الثالث : إمّا أن
يجب عليه فعله ثانيا وثالثا ، أو ينقضي عن عهدته بما ينطلق عليه الاسم ، والأوّل
يستلزم كون الأمر للتكرار ، وهو باطل ، والثاني هو المطلوب ، فإنّه بمعنى الإجزاء.
الرابع : لو لم
يقتض الإجزاء لجاز أن يقول السيّد لعبده : «افعل ، وإذا فعلت لا يجزئ عنك» ولو كان
كذلك ، لكان متناقضا.
الخامس : لو لم
يدلّ على الإجزاء لم يعلم الامتثال ، والتّالي باطل بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
السادس : القضاء
استدراك ما فات من الأجزاء ، فيكون تحصيلا للحاصل.
احتجوا بوجوه :
الأوّل : النّهي
لا يدلّ على الفساد بمجرّده ، فالأمر لا يدلّ على الإجزاء بمجرّده.
الثاني : لو وجب
الإجزاء لاكتفى بإتمام الحجّ الفاسد ، والصّوم الّذي جامع فيه ، عن القضاء.
الثالث : الأمر
بالشّيء لا يفيد إلّا كونه مأمورا به ، فأمّا دلالته على سقوط التكليف فلا.
__________________
الرابع : لو دلّ
على الإجزاء ، لكان المصلّي بظنّ الطّهارة آثما أو ساقطا عنه القضاء ، إذا تبيّن
الحدث ، لأنّه إمّا مأمور بالصّلاة بطهارة يقينيّة ، فيكون عاصيا ، حيث صلّى من
غير يقين ، أو بطهارة ظنّيّة ، وقد امتثل ، فيخرج عن العهدة ، فلا يجب القضاء.
والجواب عن الأوّل
: بعد تسليم أنّ النّهي لا يدلّ على الفساد : أنّه لا استبعاد في النّهي عن فعل ،
وتعلّق حكم به لو فعله المنهيّ عنه ، وجعله سببا فيه ، والأمر لا يدلّ إلّا على
اقتضاء المأمور به دفعة ، فإذا فعلها المكلّف فقد أتى بتمام مقتضاه ، فلا يبقى
للأمر مقتضى آخر.
وعن الثاني : أنّ
الحجّ والصّوم لم يجزئا بالنسبة إلى الأمر الأوّل ، حيث لم يقعا على الوجه المطلوب
شرعا ، ونحن لا ننازع في أنّ الفعل إذا أخلّ فيه ببعض شروطه ، أو صفاته المطلوبة
شرعا ، فإنّه غير مجزئ ، بل هو مجزئ بالنسبة إلى الأمر بإتمامها.
وعن الثالث : أنّ
الإتيان بتمام ما اقتضاه الأمر يقتضي أنّ لا يبقى الأمر مقتضيا لشيء آخر ، وهو
المراد بالإجزاء.
وعن الرابع :
بالمنع من الملازمة ، فإنّه مأمور بالصلاة بظنّ الطّهارة ، و [مع ذلك] يجب القضاء.
ووجوب القضاء ليس
عمّا أمر به من الصّلاة المظنون طهارتها ، لأنّه قد أتى بالمأمور به على وجهه ، بل
القضاء استدراك لمصلحة ما أمر به أوّلا من الصلاة مع الطّهارة ، كما قلناه في
الحجّ الفاسد.
المبحث الرّابع :
في أنّ الإخلال هل يوجب القضاء؟
في هذه المسألة
صورتان :
إحداهما : الأمر
المقيّد بالوقت هل يقتضي الإخلال به القضاء لنفس الأمر ، أم لا بدّ من أمر مجدّد؟
الحقّ الثاني ،
وهو مذهب محقّقي المعتزلة والأشاعرة.
وقال قوم من
الفقهاء وجماعة الحنابلة بالأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : الأمر
المقيّد بوقت لا يتناول غيره ، فلا يدلّ عليه بنفي ولا إثبات.
أمّا المقدمة
الأولى : فظاهرة ، فإنّ قوله : «افعل يوم الجمعة». لا يتناول غير يوم الجمعة ،
اللهم إلّا أن يقال : إنّ معنى قولنا : افعل يوم الجمعة : «افعل يوم الجمعة ،
وإلّا ففيما بعدها» ، فحينئذ يصحّ ما قلتموه.
لكنّه غير محلّ
النزاع ، إذ يبقى الدّال على [لزوم] الفعل فيما بعد يوم الجمعة ، ليس مجرّد طلب
الفعل يوم الجمعة ، بل كون الصّيغة موضوعة للطّلب يوم الجمعة وغيره من الأيّام.
وأمّا الثانية
فظاهرة.
الثاني : لا فرق
في نسبة ما قبل يوم الجمعة إلى يوم الجمعة وما
بعده ، فكما لم يدلّ على حكم ما قبله ، كذا لا يدلّ على حكم ما بعده ،
قضيّة للتسوية.
وفيه نظر ، للفرق
بينهما ، أمّا أوّلا ، فلصلاحيّة الوقت الثاني للفعل على وجه القضاء ، وعلى وجه
الظنّ بالبقاء.
وأمّا ثانيا ،
فلصدق أنّه مأمور بعد الوقت ، للاستصحاب.
ولأنّ بقاء وجه الاشتقاق ليس شرطا.
الثالث : الأوامر
الشّرعية تارة تستعقب القضاء ، وتارة لم تستعقبه ، فلا إشعار للأمر الدّال على
الأعم بالأخصّ.
الرابع : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «من نام عن صلاة أو نسيها ، فليقضها إذا ذكرها» .
وقال الله تعالى :
(فَعِدَّةٌ مِنْ
أَيَّامٍ أُخَرَ) فأوجب القضاء ، ولو كان القضاء يجب بالأمر الأوّل ، لكانت
الفائدة التأكيد ، لكن فائدة التأسيس أولى ، لأنّه أكثر فائدة.
وفيه نظر ، فإنّ
دلالة الأمر على القضاء أكثر فائدة.
الخامس : الأحكام
تابعة للمصالح ، وهي تختلف باختلاف الأوقات ،
__________________
ولهذا وجبت
الصّلاة في وقت دون آخر ، وكذا الصوم ، وباقي العبادات.
بل جاز أن يكون
للعبادة في غير وقتها مفسدة ، كصوم يوم العيد ، فلا يلزم من إيجاب الفعل في وقت ،
إيجابه في غيره ، فلا يلزم القضاء بمجرّد الأمر بالأداء.
السادس : تعليق
الحكم بوقت ، يستلزم حكمة ترجع إلى المكلّف ، إذ هو الأصل في شرع الأحكام.
سواء ظهرت الحكمة
، أو خفيت ، وتلك الحكمة غير حاصلة في غير ذلك الوقت ، إذ الأصل العدم.
ولأنّها لو حصلت
في غيره ، فإن كانت أزيد ، كان إيجاب الفعل فيه أولى ، فكان القضاء أولى من
الأداء.
وإن كانت مساوية ،
كان تخصيص أحد الوقتين بالذّكر ترجيحا من غير مرجّح.
ولأنّه صلىاللهعليهوآلهوسلم قال حكاية عن ربّه تعالى : «لن يتقرّب المتقرّبون إليّ
بمثل أداء ما افترضت عليهم» .
والأداء هو
الإتيان بالفعل في وقته ، وإذا لم تكن الحكمة حاصلة في غير ذلك الوقت ، لم يجب
القضاء.
__________________
السابع : لو وجب
القضاء بالأمر لاقتضاه ، وصوم يوم الخميس لا يقتضي يوم الجمعة.
الثامن : لو
اقتضاه لكان أداء ، أو لكانا سواء ، والتالي باطل ، فالمقدّم مثله.
احتجّ المخالف
بوجوه :
الأوّل : لو لم
يكن موجبا للقضاء ، لكان إيجاب القضاء خلاف الظاهر.
الثاني : الزمان
ظرف ، فلا يؤثّر إخلاله في السقوط ، كالدّين.
الثالث : الوقت
كأجل الدّين ، وكما لا يسقط الدّين بالتأخير ، كذا العبادة.
الرابع : الواجب
في المقيّد أمران : الفعل المطلق ، والواقع في ذلك الوقت ، وإذا فات الثاني ، لم
يفت الأوّل.
أمّا وجوب المطلق
، فلأنّ المقيّد واجب ، والمطلق جزء منه ، وإيجاب المركّب يستلزم إيجاب مفرداته.
الخامس : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم» ومن فاته الوقت الأوّل ، فهو مستطيع للفعل في الوقت
الثاني.
السادس : المطلوب
بالأمر هو الفعل لا غير ، وليس الزّمان مطلوبا ، لأنّه ليس من فعل المكلّف ،
وإنّما وقع ذلك ، ضرورة كونه ظرفا للفعل.
السابع : الغالب
من الأوامر الشّرعيّة : القضاء بتقدير فوات الفعل في وقته ، فيحمل النّادر عليه.
__________________
الثامن : الغالب
وجوب القضاء ، فلا بدّ له من مقتض ، والأصل عدم ما سوى الأمر السابق ، فكان هو
المقتضي.
التاسع : لو وجب
القضاء بأمر مجدّد ، لم يكن قضاء ، بل كان أداء ، كالأمر الأوّل.
العاشر : لو سقط
وجوب الفعل بخروج الوقت ، لسقط الإثم ، لأنّه من أحكام وجوب الفعل.
الحادي عشر :
الأصل بقاء ما كان على ما كان ، ولمّا كان الوجوب ثابتا أوّلا ، كان باقيا بعد
خروج الوقت ، عملا بالاستصحاب.
والجواب عن الأوّل
: خلاف الظاهر لازم من إيجاب عدم القضاء مع اقتضاء الأمر للقضاء ، لا من عدم إيجاب
القضاء ، وبينها فرق ، ونحن لا نقول بأنّ الأمر يقتضي إيجاب عدم القضاء ، بل لا
يقتضي القضاء.
وعن الثاني :
بالمنع من كون إخلال الوقت غير مؤثّر في السّقوط ، فإنّا فرضنا الكلام في مقيّد لو
قدّمه لم يصحّ ، ولو أخّره لعوقب ، وهو الجواب عن الثالث.
وعن الرّابع :
بالمنع بإيجاب المطلق في أيّ صورة اتّفق ، بل في الجزء الخاصّ.
وعن الخامس : أنّ
التكليف وقع بالإتيان بما استطاع المكلّف من المأمور به ، وهو الفعل في الوقت
الأوّل ، وإنّما يفيد أن لو كان الفعل في الوقت الثاني داخلا تحت الأمر الأوّل ،
وهو عين المتنازع.
وعن السادس : أنّ
المطلوب هو الفعل في الوقت المعيّن أو مطلقا ، والأوّل مسلّم ، والثاني ممنوع.
وعن السابع : بأنّ
الأصل براءة الذمّة ، والحمل على الغالب مناف له ، فلا يحمل عليه.
وعن الثامن : أنّ
القضاء إنّما يجب بأمر آخر وأدلّة أخرى ، وكما أنّ الأصل عدمها ، فكذا الأصل عدم
دلالة الأوّل عليه.
وعن التاسع : أنّه
نزاع لفظيّ ، ومع ذلك فإنّما يسمّى قضاء ، لكونه استدراكا لما فات من مصلحة الفعل
المأمور به أوّلا.
وعن العاشر : بأنّ
الوجوب كما سقط في الوقت الثاني ، فكذا إثمه ، أمّا الإثم المتعلّق بالوجوب في
الوقت الأوّل ، فلم يسقط.
وعن الحادي عشر :
بأنّ الوجوب موقّت ، فلا يبقى بعد زوال وقته ، وإلّا لم يكن للتّقييد بالوقت
فائدة.
الصورة الثانية : الأمر المطلق وهو أن يقول : «افعل» ، من غير تقييد بوقت
، إذا لم يفعله المكلّف في أوقات الإمكان ، هل يجب فعله فيما بعد؟
الحقّ عندنا ذلك ،
لأنّ الأمر لا يقتضي الفور ، بل طلب الفعل مطلقا ، فلا يخرج عن العهدة إلّا به.
أمّا القائلون
بالفور ، قد اختلفوا فقال أبو بكر الرازي : إنّه يقتضيه ، وهو
__________________
اختيار أبي الحسن
تفريعا على القول بالفور ، وكذا القاضي عبد الجبّار.
وقال آخرون بالمنع
، وهو اختيار أبي عبد الله البصري وحكاه عن الكرخي .
والأصل : أنّ قول
القائل : افعل ، هل معناه : افعل في الوقت الثاني فإن عصيت ففي الثالث ، وهكذا؟
أو معناه : افعل
في الزمن الثاني ، من غير بيان حال الزّمن الثالث وما بعده؟
فإن قلنا بالأوّل
، اقتضى الأمر الأوّل الفعل في جميع الأزمان.
وإن قلنا بالثّاني
، لم يقتضه ، فالمسألة لغويّة.
احتجّ الأوّلون
بأنّ لفظ افعل يقتضي كون المأمور فاعلا مطلقا ، وهو يوجب بقاء الأمر ما لم يصر
المأمور فاعلا.
ويقتضي أيضا وجوب
المأمور به ، ووجوبه يقتضي كونه على الفور ، وإذا أمكن الجمع بين موجبيهما ، لم
يكن لنا إبطال أحدهما ، وقد أمكن الجمع ، بأن نوجب الفعل في أوّل أوقات الإمكان ،
لئلّا ينتقض وجوبه ، فإن لم يفعله أوجبناه في الثاني ، لأنّ مقتضى الأمر كون
المأمور فاعلا ، ولم يحصل بعد.
واحتجّ أبو عبد
الله بأنّ مطلق الأمر يقتضي إيقاع الفعل في الثاني ، فلم يتناول إيقاعه في الثالث
، لأنّه يتناول فعلا واحدا ، والفعل المختصّ بالثاني ، غير
__________________
المختصّ بالثالث ،
لأنّ أفعال العباد لا يجوز عليها التقديم والتأخير.
وأجاب أبو الحسين
بأنّ أفعال العباد إن كان هذه سبيلها ، فإنّ الأمر لم يتناول تلك الأعيان ، وإنّما
يتناول ما له صورة يميّزها المكلّف ، فإذا أمر الله تعالى بالحجّ ، فقد أمر بأفعال
لها صفة مخصوصة ، سواء وقعت في هذا الوقت أو غيره.
وإذا كان كذلك ،
وكان الأمر لا يتخصّص بالأوقات ، علمنا أنّه يتناول ما اختصّ بتلك الصّورة من الأفعال المختصّة بتلك الأوقات ،
فإذا بان أنّ الوجوب يفيد الفور ، بان أنّه قد اختصّ بالأمر ما يقتضي الفور وما
يقتضي التأخير ، ولا يمكن الجمع بينهما إلّا على شرط المعصية .
وفيه نظر ، فإنّ
الإيجاب على الفور أمر معقول يميّزه المكلّف عن غيره ، وكما يصحّ التكليف به لو
نصّ عليه ، فكذا مع الإطلاق.
المبحث الخامس :
في أنّ الأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء
إذا أمر الله
تعالى زيدا بأن يأمر عمرا بشيء ، لم يكن الله تعالى امرا لعمرو بذلك الشيء ، لوجوه
:
الأوّل : لو قال
السيّد لأحد عبديه : «مر الآخر بكذا» ، ثمّ قال للآخر : «لا تطعه» لم يعدّ متناقضا
، ولو كان أمرا للآخر ، لكان بمنزلة ما لو قال للآخر :
__________________
«أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني» وهو تناقض.
الثاني : لو كان
كذلك ، لكان «مر عبدك بكذا» تعدّيا والتالي باطل بالإجماع ، فكذا المقدّم.
الثالث : قال صلىاللهعليهوآلهوسلم لأولياء الصبيان : «مروهم بالصلاة وهم أبناء سبع» وليس ذلك أمرا للصبيان ، لعدم تكليفهم ، بالإجماع.
وبقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاث ، عن الصّبي حتّى يبلغ» .
وبأنّ الوجوب
يستتبع لحوق الذّمّ بهم لو تركوا ، وهو منتف ، ولو ترك الوليّ الأمر ، استحقّ
الذّمّ.
ولأنّ الصّبيّ إن
كان أهلا لفهم خطاب الشارع ، فلا حاجة إلى أمر الوليّ له ، أو يكون تأكيدا ،
والأصل في الخطاب التأسيس.
وإن لم يكن أهلا ،
فأمره وخطابه خلاف الإجماع.
نعم إذا كلّف الله
تعالى زيدا بأن يأمر عمرا ، ثمّ قال لعمرو : كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك ،
كان الأمر بالأمر بالشيء هنا ، أمرا بذلك الشيء ، لا
__________________
من هذه الحيثيّة ،
بل من قوله : «كلّ ما أوجب عليك زيد فهو واجب عليك».
احتجّ المخالف
بأنّ ذلك مفهوم من أمر الله ورسوله ، ومن قول الملك لوزيره : «قل لفلان افعل».
والجواب : الفرق ،
فإنّا نعلم أنّ النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مبلّغ ، وكذا الوزير.
تذنيب
قوله تعالى : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً) لا يستلزم وجوب الإعطاء عليهم بمجرّد أمره صلىاللهعليهوآلهوسلم بالأخذ ، بل من حيثيّة الأمر لنا بطاعته صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومناسبة بعثته لوجوب القبول منه ، وإلّا انتفت فائدة
البعثة.
لا يقال : وجوب
الأخذ إنّما يتمّ بالإعطاء ، وما لا يتمّ الواجب إلّا به ، فهو واجب.
لأنّا نقول :
الأمر هنا إن كان بالطّلب ، لم يتوقّف على الإعطاء ، وإن كان بالأخذ ، لم يكن
الإعطاء واجبا ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به ، إنّما يكون واجبا لو كان مقدورا
لمن وجب عليه الأخذ ، وإعطاء الغير غير مقدور لمن وجب عليه الأخذ ، فلا يكون واجبا
(عليه) .
__________________
المبحث السادس :
في أنّ المطلوب بالكلّيّ ما ذا؟
اختلف الناس هنا :
فقال قوم : إنّ الأمر بالماهيّة الكلّية ، لا يقتضي الأمر بشيء من جزئيّاتها ،
فإنّ الأمر بالبيع المطلق ، لا يقتضي الأمر بالبيع بالغبن الفاحش ، ولا بالثّمن
المساوي ، لاشتراكهما في مسمّى البيع ، واختصاص كلّ واحد منهما بما يتميّز به عن
صاحبه ، وما به الاشتراك ، غير ما به الامتياز ، وغير مستلزم له.
فالأمر بالبيع
المطلق ، لا يقتضي الأمر بشيء من الخصوصيّات ، بشيء من الدّلالات ، وإنّما سوّغنا
البيع بالثمن المساوي ، لوجود القرينة الدّالة على الرّضا به ، لانحصار الكليّ في
هذه الجزئيّات ، ودلالة القرينة على عدم الرضا بالقليل ، فينحصر المطلوب في
الكثير.
وقال آخرون :
المطلوب أحد الجزئيّات ، لأنّ المشترك معنى كلّيّ ، لا تصوّر لوجوده عينا.
واشتراكه باعتبار
مطابقة حدّ الطبيعة الكليّة ، للطبيعة الجزئيّة ، فيستحيل تعلّق الأمر به ،
لاستدعاء الطلب إمكان الفعل ، فيبقى الأمر بالكلّيّ أمرا بالجزئيّات.
وهذا خطأ ، فإنّ
الكلّيّ الطّبيعيّ موجود في الأعيان ، وإلّا انتفت الحقائق.
__________________
وكونه لا يوجد
إلّا في شخص ، لا يقتضي عدمه على الإطلاق ، ومع ذلك فقولهم : المطلوب أحد
الجزئيّات ، إن أرادوا به واحدا معيّنا ، فهو باطل بالإجماع ، إذ اللفظ لا يقتضي
اختصاصه بذلك الجزئيّ ، وإن لم يكن معيّنا ، فهو كلّيّ أيضا ، فيعود المحذور الّذي
فرّوا منه.
الفصل السابع :
في المأمور
وفيه مباحث :
[المبحث] الأوّل :
في استحالة أمر المعدوم
خالفت الأشاعرة
العقلاء كافّة هنا ، فجوّزوا أمر المعدوم.
لنا : أنّ العقل
قاض بقبح ذلك ، فإنّ من جلس في بيته يأمر وينهى من غير حضور مأمور ولا منهيّ ،
يعدّ سفيها مجنونا ، والله تعالى منزّه عن ذلك.
ومن أغرب الأشياء
: إحالتهم أمر الغافل ، والنائم ، والصّبيّ ، والمجنون ، والسكران ، لعلّة عدم
الفهم ، وتجويزهم أمر المعدوم.
واعتذروا : بأنّ
الشّناعة تتمّ لو قلنا : إنّ المعدوم حال كونه معدوما يكون مأمورا وليس كذلك.
بل نقول : إنّه
يجوز أن يكون الأمر موجودا في الحال ، ثمّ إنّ الشّخص
__________________
الّذي سيوجد بعد
ذلك سيصير مأمورا بذلك الأمر.
واستدلّوا بأنّ
الواحد منّا مأمور بأمر الرّسول صلىاللهعليهوآله ، مع أنّ ذلك الأمر وجد حال عدم الواحد منّا.
وكذا يمكن أن يقوم
بذات الأب طلب تعلّم العلم من الولد الّذي سيوجد ، حتّى لو قدّر بقاء ذلك الطلب
إلى أن وجد ذلك الولد ، صار الولد مطالبا بذلك الطّلب.
وإذا جاز ذلك ،
جاز أن يقوم بذاته تعالى في الأزل طلب الفعل من العبد إذا وجد ، فإذا خلقه الله
تعالى ، وأكمل عقله ، صار مأمورا بذلك الطلب النفسانيّ القديم.
والجواب :
الشّناعة لازمة ، لأنّ وجود الأمر في الحال ، وكونه يتعلّق بالشّخص الّذي سيوجد في
ثاني الحال ، عين السّفه ، لامتناع وجود أمر من غير مأمور.
ولأنّ الصبيّ
والمجنون أقرب من المعدوم في الترتّب ، فإذا جوّزنا أمر المعدوم ، لأنّ وجوده في
محلّ الانتظار ، كان جواز أمر الصبيّ والمجنون أولى ، لأنّ العقل والبلوغ في محلّ
الانتظار.
__________________
والنبيّ صلىاللهعليهوآله ليس بامر لنا ، بل أخبر بأنّ الله تعالى يأمر المكلّفين
عند وجودهم ، بما جاء به النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فيصير إخبارا عن الله تعالى بأنّه سيأمرهم عند وجودهم ،
ولا نقول : الأمر حصل عند عدم المأمور.
سلّمنا ، لكنّ
الفرق ظاهر ، فإنّ أمر النبي صلىاللهعليهوآله حصل في الحال من سمعه وبلّغه إلينا ، بخلاف ما ذهبتم إليه ، حيث لم يكن في الأزل من
يسمع خطابه تعالى ، وينقله إلينا.
وقد اعتذر بعضهم
بمساواة أمر الله تعالى لأمر الرّسول ، في كونه خبرا في نزول العقاب على من ترك
الفعل .
وليس بصحيح ،
لامتناع تطرّق التصديق والتكذيب ، ولجواز العفو ، والخلف في خبر الله تعالى محال.
ولأنّه لو كان في
الأزل مخبرا : فإمّا لنفسه ، فهو عبث ، تعالى الله عنه ، وإمّا لغيره ، ولا غير
هناك ، فيكون عبثا أيضا.
واعتذار عبد الله
بن سعيد «بأنّ كلامه في
الأزل ليس بأمر ، ولا نهي ، ولا خبر ، ولا استخبار ، ثمّ يصير فيما لا يزال كذلك»
غير معقول ، إذ لا يعقل كلام إلّا على أحد الأساليب المعروفة عند
العقلاء.
__________________
ثمّ بأيّ اعتبار
ينقسم ذلك المعنى القديم إلى أنواع الأساليب؟ وأيّ مخصّص في صيرورة البعض أمرا ،
والبعض خبرا؟
وبالجملة فنحن لا
نعقل كلامه تعالى سوى الأمر والنهي والخبر ، وإذا اعترفتم بحدوثها ، ثبت حدوث
الكلام ، فإذا ادّعيتم قدم شيء آخر ، فبيّنوه ليتصوّر ، ثمّ أقيموا الدّلالة عليه
، وعلى اتّصافه تعالى به ، وعلى قدمه.
قيل : إنّ عبد الله بن سعيد عنى بالكلام القدر المشترك.
قلنا : المشترك لا
ينفكّ عن أحد القيود ، ويلزم من حدوثها حدوثه.
وقول ابن سعيد ،
ليس بجيّد ، لأنّه تسليم لانتفاء الأمر أزلا.
المبحث الثاني :
في شرائط المكلّف
وهي خمسة :
الأوّل : البلوغ ،
فلا يكلّف الصبيّ ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصّبي حتّى يبلغ» .
ولأنّه إن لم يكن
مميّزا ، فهو بالنّسبة إلى فهم تفاصيل الخطاب ، كالجماد والبهيمة بالنّسبة إلى فهم
أصل الخطاب ، وكما امتنع تكليف الدّابّة ، كذا امتنع تكليف غير المميّز ، إلّا عند
القائلين بجواز التكليف بالمحال ، لأنّ التكليف كما توقّف مقصوده على فهم أصل
الخطاب ، كذا يتوقّف على فهم تفاصيله.
__________________
وإن كان مميّزا ،
فهو وإن فهم ما لا يفهمه غير المميّز ، إلّا أنّه قاصر الفهم ، لا يعرف ما يعرفه
كامل العقل ، من وجود الله تعالى ، وبيان صفاته على التفصيل.
فنسبته إلى غير
المميّز ، كنسبة غير المميّز إلى البهيمة.
وإن قارن البلوغ ،
بحيث لم يبق بينه وبين البلوغ سوى لحظة واحدة ، فإنّه ، وإن كان فهمه كفهم البالغ
، غير أنّه لمّا كان العقل والفهم [فيه] خفيّا ، وظهوره يقع على التدريج ، ولم يكن
[له] ضابط يعرف به ، جعل الشّرع له ضابطا ، [و] هو البلوغ ، وأسقط التكليف عن قبله
، تخفيفا عليه.
لا يقال : الصبيّ
يجب عليه الزّكاة والضمان ، وهو نوع تكليف ، ويؤمر المميّز بالصّلاة.
لأنّا نقول :
الزّكاة والضّمان لم يتعلّقا بفعل الصّبيّ ، بل بماله أو بوليّه المكلّف بالإخراج
عنه ، أو بذمّته ، فإنّه أهل الذمّة من حيث الإنسانيّة المتهيّئ بها لفهم الخطاب
عند البلوغ ، بخلاف البهيمة ، وليس ذلك من باب التكليف.
وأمّا الأمر
بالصّلاة للمميّز ، فليس من جهة الشارع ، بل من جهة الوليّ ، ويفهم خطابه ، بخلاف
خطاب الشّرع.
الثاني : العقل :
فلا يحسن تكليف المجنون ، لأنّ التكليف خطاب ، وخطاب من لا عقل له قبيح ، كخطاب
الدّابّة.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع القلم عن ثلاثة : عن الصّبيّ حتّى يبلغ ، وعن
النائم حتّى يستيقظ ، وعن المجنون حتّى يفيق» .
__________________
ويلزم المجبرة
جواز أمره وتكليفه بجميع أنواع التكاليف ، حيث جوّزوا تكليف ما لا يطاق.
الثالث : عدم
الغافلة ، فلا يصحّ تكليف الغافل ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، والتالي باطل ،
فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ فعل الشيء مشروط بالعلم به ، ولهذا استدللنا بالإحكام على العلم ، والغافل غير عالم ، فلا يمكنه الفعل حينئذ.
لا يقال نمنع اشتراط العلم ، فإنّ الجاهل قد يفعل اتّفاقا ، وحكم
الشيء حكم مثله ، فكما جاز صدور الفعل أوّلا ، جاز صدوره ثانيا ، وثالثا وهكذا.
وحينئذ جاز أن
يعلم الله تعالى إيقاع الفعل من شخص اتّفاقا ، فلا يكون ، تكليفه حال عدم العلم
تكليفا بالمحال.
ولأنّ الأمر ورد
بالمعرفة ، ويستحيل توجيهه على العارف ، وإلّا لزم تحصيل الحاصل ، أو
الجمع بين المثلين ، أو على غيره ، والمأمور قبل أن يعرف الامر ، استحال منه أن
يعرف الأمر ، فقد كلّف من يستحيل منه العلم بالفعل.
ولأنّ العلم بوجوب
المعرفة ليس ضروريّا ، فالعلم بوجوب الطّلب ، إن حصل قبل إتيانه بالنظر ، وهو حينئذ لا يمكنه أن يعلم ذلك الوجوب ،
__________________
لاشتراطه بالإتيان
بذلك النظر ، فلو وجب قبل الإتيان بذلك النظر ، لوجب عليه في وقت لا يمكنه أن يعلم
كونه واجبا عليه ، وهو تكليف الغافل.
وإن حصل بعده وعند
الإتيان بالنّظر ، حصل العلم بالوجوب ، فلو وجب عليه حينئذ تحصيل العلم بالوجوب ،
لزم تحصيل الحاصل أو الجمع بين المثلين.
ولأنّ المجنون
والغافل والنائم توجب أفعالهم الضّمان.
ولقوله تعالى : (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ
سُكارى) ، خاطب السّكران ، وهو غافل.
لأنّا نقول :
الضرورة قاضية بأنّ القصد إلى الفعل ، مشروط بالعلم به ، والتكليف يستدعي طلب
إيقاع الفعل من العبد ، طاعة وامتثالا للأمر ، بخلاف وقوع الفعل عن العبد اتّفاقا
من غير قصد.
وأيضا ، الضرورة
فرّقت بين تجويز إيقاع الفعل مرّة واحدة اتّفاقا ، وبين تكرّره ، واشتراط العلم في
الثاني ، دون الأوّل.
ووجوب المعرفة
عندنا ، عقليّ لا سمعيّ.
ووجوب النّظر
ضروريّ ، أو قريب منه بأن يكون فطريّ القياس.
لا يقال : الأمر
بالمعرفة ثابت بقوله تعالى : (فَاعْلَمْ) إلى غيره من الآيات ، وكون وجوب المعرفة عقليّا لا يدفعه ، وحينئذ يعود الإشكال.
__________________
لأنّا نقول : نمنع
أوّلا كون هذه الأوامر بالمعرفة ، بل بالصفات ، كالوحدانيّة وغيرها.
وثانيا كون هذه
الصيغ أوامر وإن وردت بصيغة الأمر ، بل للإرشاد.
ووجوب الغرامات ،
متوجّه على الوليّ بأدائها في الحال ، أو على الصّبيّ بعد صيرورته بالغا.
والمراد من الآية
: إمّا لا تسكروا وقت الصلاة ، مثل لا تتهجّد وأنت شعبان ، على معنى : لا تشبع وقت
التهجّد.
أو أنّها خطاب لمن
ظهر منه مبادئ النشاط ، وهو الثّمل .
وقوله : (حَتَّى تَعْلَمُوا) أي حتّى يتكامل فيكم الفهم ، ليحصل تمام الخشوع.
وطلاق السّكران
ممنوع عندنا ، وإن قلنا به لم يكن من باب التكليف ، بل من خطاب الوضع ، وكذا وجوب
الحدّ عليه بالزّنا والقتل وغيره.
الرابع : الاختيار
: وقد اختلف في المكره على الفعل هل يصحّ تكليفه؟
والحقّ أن نقول :
إن بلغ الإكراه إلى حدّ الإلجاء ، وصار نسبة ما يصدر عنه كنسبة حركة الحجر في
هبوطه إليه ، لم يجز التكليف به ، وإلّا جاز.
لنا : أنّ الفعل
بالنسبة إليه حينئذ يكون واجبا ، كوجوب هبوط الحجر عند رميه ، والواجب غير مقدور ،
فيكون تكليفا بما لا يطاق ، وكذا عدمه يكون
__________________
ممتنعا ، فيكون
التكليف به تكليفا بما لا يطاق ، وهو قبيح عقلا على ما سلف.
ولقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» .
والمراد هنا رفع
المؤاخذة ، لامتناع إرادة الحقيقة ، فينصرف إلى أقرب مجازاتها ، وهو ما قلناه.
ورفع المؤاخذة
يستلزم رفع التكليف.
قيل عليه : الإكراه لا ينافي التكليف ، لأنّ الفعل إن توقّف على
الداعي ، لزم الجبر ، لوجوب انتهاء الدّواعي إلى داعية يخلقها الله تعالى ، وعندها
يجب ، وبدونها يمتنع.
وإلّا كان رجحان الفعل على الترك أو بالعكس اتّفاقيّا ، فلا
يتوقّف على اختيار المكلّف ، فجاز مثله في الإكراه.
لا يقال : إن عنيت
بالاتّفاق حصوله لا بقدرة القادر ، فهو ممنوع ، لأنّه حصل بالقدرة ، لكنّ للقادر
الترجيح من غير مرجّح.
وإن عنيت به شيئا
آخر ، فبيّنه.
لأنّا نقول : لمّا
حصلت القدرة مع عدم الفعل ، ثمّ وجد ، فإن لم يحدث أمر غير كونه قادرا ، كان حدوث
هذا الفعل في بعض أزمنة كونه قادرا دون ما قبله وما بعده ، ليس لأمر حصل من القادر
حتّى يؤمر به ، أو ينهى عنه ، بل كان [ذلك]
__________________
اتّفاقيّا ، فيكون
التّكليف به حينئذ تكليفا بغير المقدور.
وإن حدث أمر ، كان
حدوث الفعل عن القادر ، متوقّفا على أمر آخر وراءه ، وقد فرضنا أنّه ليس كذلك ، هذا خلف.
والجواب ما تقدّم
مرارا ، من أنّ الجبر غير لازم على تقدير استناد الفعل إلى الدّاعي ، وإن كان
الفعل واجبا ، لأنّ وجوبه لاحق لا يؤثّر في القدرة السابقة.
والاتّفاق إن عني
به ما يصدر لا عن مؤثّر ، فهو ممنوع ، وإن عني به ما يتساوى طرفاه ، مع صدوره عن
القدرة ، فاستحالته ممنوعة.
الخامس : جهة
القصد ، فالخاطئ غير مكلّف إجماعا فيما هو مخطئ فيه ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «رفع عن أمّتي الخطأ والنسيان».
والأشاعرة خالفونا
في جميع ذلك ، حيث جوّزوا تكليف ما لا يطاق ، لكن بعضهم ربما دفع الشّناعة عنه
باللّفظ ، فأنكره لفظا ، وإن لزمه معنى.
إذا ثبت هذا ،
فالمأمور يجب أن يقصد إيقاع الفعل المأمور به على سبيل الطّاعة ، لقوله صلىاللهعليهوآلهوسلم : «إنّما الأعمال بالنّيات ، وإنّما لكلّ امرئ ما نوى» ولقوله تعالى :
__________________
(وَما أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ).
والإخلاص إنّما
يكون إذا قصد المكلّف إيقاع الفعل لوجهه تعالى ، ويخرج عن هذا الواجب سببان :
الواجب الأوّل وهو النظر المعرّف للوجوب ، فإنّ إيقاعه على وجه الطاعة غير ممكن ،
لأنّ فاعله لا يعرف وجوبه عليه إلّا بعد إتيانه به.
الثاني : إرادة
الطاعة ، فإنّها لو افتقرت إلى إرادة أخرى ، تسلسل.
المبحث الثالث :
في وقت توجه الأمر
اختلف الناس هنا :
فقالت المعتزلة :
المأمور يصير مأمورا بالفعل قبل وقوعه ، لا حالة وقوعه ، وبه قال الجويني وقالت الأشاعرة عداه : أنّه مأمور حالة الفعل لا قبله ،
فإنّه يكون قبله إعلاما بأنّه سيصير مأمورا لا أمرا.
والحقّ ، الأوّل ،
لنا : أنّه لو لم يكن مأمورا بالفعل إلّا حال وجوده ، لزم تكليف ما لا يطاق ،
والتالي باطل فالمقدّم مثله.
بيان الشرطيّة :
أنّ الفعل حال وجوده يكون واجبا ، والواجب غير مقدور.
ولأنّ التكليف
بتحصيله حال حصوله ، يستلزم التكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال.
__________________
وأمّا بطلان
التالي ، فلما تقدّم.
وأيضا ، لو لم
يتقدّم التكليف الفعل ، لزم انتفاء فائدة التكليف ، فيكون عبثا ، فهو قبيح ، فلا
يصدر عنه تعالى.
بيان الملازمة :
أنّ فائدة التكليف هي : الابتلاء ، والاختبار ، وهو لا يتحقّق حال الفعل ، فإنّ
الفاعل حال كونه فاعلا ، يكون فاعلا بالضرورة.
وأيضا ، قد بيّنا
انّه يجب القصد إلى إيقاع الفعل على وجه الطّاعة ، وهو لا يتحقّق حال الفعل ، لأنّ
القصد إليه يكون قصدا لتحصيل الحاصل.
وأيضا ، قبل الفعل
، لو لم يوجد الأمر ، لم يتحقّق ترك الأمر ، فلا يتحقّق الذّم عليه ، فينتفي
الوجوب مطلقا.
احتجّت الأشاعرة :
بأنّه لو امتنع كونه مأمورا حال حدوث الفعل ، لامتنع كونه مأمورا مطلقا ، والتالي
باطل ، فالمقدّم مثله.
بيان (الملازمة) الشرطية : أنّه لو أمر في الوقت الأوّل ، فالفعل إن كان
ممكنا ، فقد صار مأمورا بالفعل حال إمكان وقوعه.
وإن لم يكن ممكنا
، كان تكليفا بما لا يطاق.
ولا ينفع الاعتذار
بأنّه في الزمن الأوّل مأمور بإيقاع الفعل في الثاني ، لا الأوّل ، لأنّه إن عنى
بكونه في الأوّل مأمورا بإيقاعه في الثاني : أنّ كونه موقعا للفعل لا يحصل إلّا في
[الزّمان] الثاني ، ففي [الزّمان] الأوّل لم يكن موقعا ، وليس هناك إلّا نفس
القدرة ، فيمتنع أن يكون في ذلك الزّمان مأمورا بشيء.
__________________
وإن عنى به : أنّ
كونه موقعا يحصل في الأوّل ، والفعل يحصل في الثاني ، فكونه موقعا ، إن كان نفس
القدرة ، لم يكن لكونه موقعا للفعل معنى إلّا كونه قادرا ، فيرجع إلى القسم
الأوّل.
وإن كان أمرا
زائدا ، فحينئذ تكون القدرة مؤثّرة في وقوع ذلك الزائد في [الزمان] الأوّل ،
والأمر إنّما يتوجه عليه في الأوّل بإيقاع ذلك الزائد ، وذلك الزائد وقع في الأوّل
، فالأمر بالشيء إنّما يكون حال وقوعه.
والجواب : الفعل
في الأوّل ممكن ، والأمر ثابت حال إمكان الفعل ، لا حال نفس الفعل والتحقيق : أنّه في الأوّل مأمور بأن يوقعه في الثاني ،
والتأثير غير القدرة ، فهو متقدّم على الفعل ، والأمر لم يتوجّه في الأوّل بإيقاع
ذلك الزائد ، بل بإيقاع الفعل.
المبحث الرّابع :
في وقت انقطاع التكليف
اختلف النّاس هنا
، والبحث فيه قريب من الأوّل ، فقال الأشعري : لا ينقطع التكليف بفعل حال حدوثه ،
ومنع المعتزلة من ذلك ، وأوجبوا انقطاعه حينئذ ، وهو اختيار الجويني .
لنا : ما تقدّم ،
من أنّه لو كان التكليف باقيا ، لزم تحصيل الحاصل ، وانتفت فائدة التكليف.
احتجّ بانّه حينئذ
مقدور ، لأنّ القدرة مع الفعل.
__________________
والجواب : المنع
من الصّغرى.
قيل : إن أراد أبو الحسن أنّ تعلّق التكليف لنفسه ، فلا ينقطع
بعده أيضا ، وهو محال إجماعا.
وإن أراد أنّ
تنجيز التّكليف باق ، لزم التكليف بتحصيل الحاصل ، وهو محال.
المبحث الخامس :
في الأمر المشروط
اعلم أنّ الفعل
إذا كان مشروطا بشيء ، فالامر بذلك الفعل : إمّا أن يكون جاهلا بعدم شرطه ، أو لا.
فالأوّل : كأمر
السيّد عبده غدا بفعل ، فإنّه مشروط ببقاء العبد إلى غد ، وهو مجهول للامر ، فهنا
الأمر متحقّق في الحال ، بشرط بقاء المأمور قادرا على الفعل.
والثاني : كأمر
الله تعالى زيدا بصوم غد ، مع علمه بموته فيه.
والأوّل جائز
بالإجماع ، واختلف في الثاني فمنعه جماهير المعتزلة ، وجزم به أبو بكر القاضي والغزّالي ، وأكثر الأصوليين ، لكن اشترطوا زوال المنع.
__________________
اعلم أنّه لا خلاف
في أنّه لا يجوز أن يفرد الله تعالى المكلّف الواحد بالأمر بالفعل ، وهو يعلم أنّه
ممتنع منه ، قاله قاضي القضاة قال : ولم يختلفوا في أنّه لا يجوز أن
يأمر من يعلم أنّه يموت ، أو يعجز ، أو لا يكون المأمور به مصلحة ، بشرط أن يبقى
ويقدر ، ويكون الفعل مصلحة.
والحقّ الأوّل.
لنا وجوه :
الأوّل : أنّ شرط
الأمر ، بقاء المأمور ، فالعالم بانتفائه ، عالم بانتفاء شرط الأمر ، فاستحال
حينئذ حصول الأمر ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق.
الثاني : لو صحّ ،
لصحّ مع علم المأمور بانتفاء الشرط.
أجابوا بالفرق
بانتفاء فائدة التكليف هنا ، بخلاف صورة النزاع ، فإنّ المأمور فيها يطيع ويعصي ،
بالعزم ، والبشر ، والكراهة.
الثالث : إن
أوجبنا الفعل مطلقا ، لزم تكليفه بالفعل مع وجود المانع.
وإن أوجبناه بشرط
زوال المانع ، وقد علم الله تعالى وجوده ، لم يكن له داع إلى تكليفه فيه.
الرابع : لو أراد
منه الفعل بشرط زوال المنع ، لزم الشكّ ، ولهذا فإنّ من علم طلوع الشمس ، لم يقل :
إن كانت الشمس طالعة دخلت الدّار ، وإنّما يحسن ذلك مع الشك.
قال المجوّزون :
يجوز أن يقال لمن يعلم موته : «صم غدا إن عشت» لما
__________________
فيه من المصالح
الكثيرة ، فإنّ المكلّف قد يوطّن نفسه على الامتثال ، ويحصل بذلك المتوطّنين لطف
في الآخرة ، وفي الدّنيا الانزجار عن القبيح.
كما أنّ السيّد
يستصلح بعض عبيده لأوامر ينجّزها عليه مع عزمه على نسخها امتحانا له ، وقد يقول
الرّجل لغيره : وكّلتك في كذا لتفعله في غد ، مع علمه بأنّه سيعزله.
والأصل في ذلك :
أنّ الأمر قد يحسن لمصالح تنشأ من نفس الأمر ، لا من نفس المأمور به ، وقد يحسن
لمصالح تنشأ من المأمور به ، فجوّزه من جوّزه لذلك.
والمانعون قالوا :
الأمر لا يحسن إلّا لمصلحة تنشأ من المأمور به.
والجواب : الطّلب
هنا ليس للفعل ، لعلم الطالب بامتناعه منه ، بل للعزم على الفعل ، والانقياد إليه
، والامتثال ، وليس البحث فيه بل في الفعل.
واحتجّ المجوّزون
بوجوه :
الأوّل : لو لم
يصحّ التكليف بما علم الامر انتفاء شرط وقوعه ، لم يعص أحد أبدا ، والتّالي باطل
بالإجماع ، فالمقدّم مثله.
بيان الشرطية :
أنّ العاصي تارك للفعل ، والتارك غير مريد للفعل ، والإرادة شرطه ، فلو لم يكن
مكلّفا به حال عدم الإرادة ، لم يكن عاصيا.
الثاني : لو لم
يصحّ ، لم يعلم تكليف البتّة ، لأنّه بعد الفعل ومعه قد انقطع التكليف ، وقبله لا
يعلم حصول الشّرائط ، فلا يعلم أنّه مكلّف.
الثالث : لو لم
يصحّ ، لم يعلم إبراهيم عليهالسلام وجوب الذّبح.
الرابع : الإجماع
واقع على أنّ كلّ بالغ عاقل مأمور بالطاعات ومنهيّ عن المعاصي قبل التمكن ممّا أمر
به ونهي عنه ، وأنّه يعدّ متقرّبا بالعزم على فعل الطّاعة وترك المعصية ، وأنّه
يجب عليه الشروع في العبادات الخمس في أوقاتها بنيّة الفرض ، وأنّ المانع له من
ذلك معاقب ، لصدّه عن امتثال الشارع وكلّ ذلك مع عدم الأمر والنّهي ، محال.
الخامس : لو لم
يكن الأمر معلوما له في الحال ، لتعذّر قصد الامتثال في الواجبات المضيّقة ،
لاستحالة العلم بتمام التمكّن ، إلّا بعد انقضاء الوقت.
السادس : لو لم
يصحّ ، لم يصحّ مع جهل الامر .
السابع : الله
تعالى قد كلّف الكافر بالصّلاة بشرط أن يؤمن ، ولهذا يعاقبه عليها ، كما يعاقبه
على الكفر ، مع أنّه عالم بأنّه لا يؤمن.
الثامن : لو رفع
المنع التكليف ، لكان من منع غيره من الصّلاة قد أحسن إليه ، لأنّه قد أسقط عنه
كلفة ، من غير توجّه ذمّ إليه.
التاسع : لو أسقط
المنع التكليف على كلّ حال ، لما علم الواحد منّا أنّه مكلّف بالصّلاة قبل تشاغله
بها ، وذلك يسقط عنه وجوب التأهّب لها.
والجواب عن الأوّل
: أنّ الشرط هنا هو إرادته وهي ممكنة ، وهو مكلّف بها أيضا.
وعن الثاني : أنّه
مع غلبة ظنّه ببقائه ، وتحصيل شرائطه ، يظنّ أنّه مكلّف ،
__________________
فإن استمرّ الظّنّ
: بأن يمضي زمان يمكن فيه الفعل ، علم التكليف ، وإلّا ظهر بطلان ظنّه بالتّكليف ،
كما ظهر بطلانه بحصول الشرط.
وعن الثالث :
بالمنع من تكليف إبراهيم بالذّبح ، وسيأتي.
وعن الرّابع :
الإجماع ممنوع مع العلم بانتفاء الشرط ، نعم الإجماع على أنّ من غلب على ظنّه
البقاء ، مكلّف بما ذكرتم ، فإن استمرّ البقاء ، حصل العلم ، وإلّا ظهر بطلان
الظنّ.
وعن الخامس : أنّه
مكلّف في ظنّه ، فلهذا وجب عليه قصد الامتثال.
وعن السادس : أنّه
قياس خال عن الجامع ، مع قيام الفرق ، فإنّ الواحد منّا غير عالم بأنّ للمكلّف
حالة منع ، لا غرض له في إيقاع الفعل فيها ، والباري تعالى عالم بذلك ، يبيّن ما
قلناه أنّه يجوز أن يكلّف الواحد منّا غيره بشرط أن يبقى ، وأن يكون الفعل مصلحة ،
ولا يجوز ذلك من الله تعالى.
وعن السّابع : أنّ
الله تعالى كلّفه بالإيمان والصّلاة جميعا ، ولم يكلّفه فعل الصّلاة مضافة إلى
الكفر ، فلم يدخل الشرط في التكليف ، وإنّما دخل الشّرط في فعله ، لأنّه قيل له: «افعلهما»
فإذا لم يفعلهما ، فقد أخلّ بمصلحتين ، واستحقّ العقاب عن الإخلال بهما.
وعن الثامن : أنّ
مذهبكم : أنّه لا يلزمه الفعل مضافا للمنع ، وأنّه يسقط الفعل عنه من غير ذمّ ، فالسؤال لازم لكم ، لا يلزمنا.
__________________
سلّمنا ، لكن لا
يكون محسنا ، لأنّه منعه عن فعل يستحقّ به الثواب الجزيل.
وعن التاسع : أنّه
لازم لكم ، لأنّ مذهبكم أنّ مع المنع ، لا تلزم الصلاة ، ولا أريدت من المكلّف في
تلك الحال ، وإنّما أريدت منه بشرط زوال المنع ، وهو لا يعلم أنّ المنع يزول ،
فإذن لم يعلم الوجوب.
ولو لزمنا سقوط
التأهّب ، لزمكم ، ونحن نقول : إنّما يجب التأهّب لثبوت أمارة بقائه سالما إلى
وقتها ، فوجب بهذه الأمارة ، التحرّز من ترك ما لا نأمن وجوبه.
تذنيب
ظهر ممّا قلناه :
أنّ الصائم لو تجدّد له عذر يبطل الصوم ، كالحيض ، والمرض ، بعد التلبّس بالصّوم ،
وتعمّد الإفطار ، لا تجب عليه الكفّارة ، لأنّه غير مكلّف بالصوم في علم الله
تعالى ، وقد ظهر لهما ذلك ، وتجدّد العذر ، وهو أحد قولي علمائنا الإماميّة ، وأحد
قولي الشافعيّة آخر.
لا خلاف في أنّه
لا يشترط في التكليف بالفعل ، أن يكون شرطه حاصلا حالة التكليف ، بل يجوز ورود
التكليف بالمشروط ، وتقديم شرطه عليه ، كما قلنا في مسألة تكليف الكافر بالفروع.
المبحث السّادس :
في جواز الاستنابة
اختلف النّاس في
أنّه هل يجوز دخول النّيابة فيما كلّف به من الأفعال البدنيّة؟ فذهبت الأشاعرة إلى
جوازه ، ومنع منه المعتزلة.
والوجه عندي
التفصيل : فإن كان ذلك الفعل ممّا تعلّق غرض الشارع بإيقاعه مباشرة ، لم يصحّ دخول
النّيابة فيه ، كالصلاة الواجبة ، وكحجّة الإسلام ، والصّوم الواجب ، مع تمكّن
المكلّف من ذلك كلّه ، وإلّا جاز ، كالحجّ المندوب.
لنا : أنّه لا
استبعاد في أن يكلّف الإنسان غيره بإيقاع فعل ويقول : «إن فعلته أنت أو استنبت فيه
، أثبتك ، وإن تركتهما معا عاقبتك» ، فجاز وروده من الشارع.
وما روي عن النبي صلىاللهعليهوآله أنّه رأى شخصا يحرم بالحجّ عن شبرمة فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم له : «أحججت عن نفسك؟» فقال : لا ، فقال له : «حجّ عن نفسك
ثمّ حجّ عن شبرمه» .
ولأنّه يصحّ قضاء
الحجّ عن الميّت بالإجماع ، وهو نوع استنابة.
احتجّت المعتزلة
بأنّ وجوب العبادة ، إنّما كان ابتلاء وامتحانا من الله تعالى للعبد ، وكسر النّفس
الأمّارة بالسّوء ، وذلك ممّا لا تدخله النيابة ، كسائر صفات النّفس ، من اللّذات
والآلام.
__________________
والجواب :
الابتلاء والامتحان ، قد يحصل بالاستنابة ، لما فيه من بذل العوض للنائب ، المساوي
للمباشرة ، أو لاشتماله على المنّة ، بتقدير عدم العوض ، وذلك لا ينفكّ عن مشقّة
وكلفة.
المبحث السابع :
في شروط حسن الأمر
اعلم أنّ الأمر
لمّا كان صادرا من امر إلى مأمور ، بمأمور به ، في زمان ، أمكن أن يرجع شروط حسنه
إليه ، وإلى هذه المتعلّقات.
أمّا ما يرجع إلى
المأمور به ، فأمران :
الأوّل : أن يكون
صحيحا غير مستحيل في نفسه ، خلافا للأشاعرة ، وقد تقدّم.
الثاني : أن يكون
للفعل صفة زائدة على حسنه ، إمّا بأن يكون على صفة النّدب أو الوجوب ، أو يتعلّق
به نفع أو دفع ضرر ، يرجعان إلى الدّنيا.
وأمّا ما يرجع إلى
المأمور ، فأمران :
أحدهما : ما يرجع
إلى تمكّنه ، بأن يكون متمكّنا من الفعل بحصول جميع ما يحتاج [الفعل] إليه ، في الوقت الّذي يحتاج الفعل أن يوجد فيه ، فإن كان الفعل
يحتاج إليه في وقت وجوده خاصّة ، وجب وجوده في ذلك الوقت ، وإن احتاج
إليه قبل وجوده ، وحين وجوده ، أو قبل وجوده معا ، وجب وجوده كذلك.
__________________
وهذه الأشياء منها
: ما يحتاج إليها جميع الأفعال كالقدر وزوال المانع.
ومنها ما يحتاج
إليه بعض الأفعال ، كالعلم الّذي يحتاج إليه الفعل المحكم ، وكالآلات الّتي يحتاج
إليها بعض الأفعال ، والإرادة الّتي يحتاج إليها الفعل الواقع على وجه دون آخر ،
وكالمسبّب المحتاج إلى السّبب ، وكاحتياج العلم إلى دلالة ، والظنّ إلى أمارة.
ويجب أن تتقدم
الدّلالة بحيث يمكن المكلّف من النظر فيها ، فيعلم وجوب الفعل ، أو كونه ندبا ،
وكذا الأمارة.
وهذه الأشياء قد
يتعذّر على العبد تحصيلها كالقدرة وكثير من الآلات ، فلا يجوز تفويض تحصيلها إليه
، وقد يمكّن كالعلم ، وبعض الآلات ، فيجوّز أن يكلّف تحصيله ، إذا كان [في ذلك] مصلحة.
الثاني : ما يرجع
إلى دواعيه ، بأن يكون متردّد الدّواعي بالألطاف وغيرها ، غير ملجأ ولا مستغنى.
وأمّا ما يرجع إلى
الأمر فأشياء :
الأوّل : ألا يكون
ابتداء وجوده مقارنا لحال الفعل ، وهو داخل في التمكّن.
الثاني : أن يكون
متقدّما قدرا من التقدّم يحتاج إليه في الفعل ، وهو يدخل في تمكّن المكلّف.
الثالث : ألا يكون
واردا على وجه مفسدة.
وأمّا ما يرجع إلى
الامر ، فإن كان هو الله تعالى ، وجب أن يعلم من حال المكلّف والمأمور به والأمر
ما ذكرناه ، وأن يكون غرضه تعريض المكلّف للثّواب ، وأن يكون عالما بأنّه سيثيبه
إن أطاع ، ولم يحبط طاعته.
وإن كان الامر
غيره ، وجب أن يعلم حسن ما أمر به ، وثبوت غرض فيه ، إمّا له أو لغيره ، وأن يظنّ
تمكّن المكلّف من الفعل.
ويدلّ على اشتراط
ما تقدّم ، أنّه تعالى حكيم ، وحكمته تقتضي ذلك.
* * *
قال المحقّق : نجز
الجزء الأوّل ـ بحمد الله تعالى ـ حسب تجزئتنا ، ويتلوه الجزء الثاني مبتدا ب «الفصل
الثامن في النّهي».
الحمد لله بنعمته
تتمّ الصالحات ، والصلاة والسلام
على نبيّه وآله
الاطهار.
__________________
فهرس الموضوعات
المقدّمة
: بقلم العلّامة جعفر السبحاني.............................................. ٥
مقدّمة
المؤلّف رحمهالله........................................................... ٦١
المقصد الأوّل
في المقدّمات
[الفصل] الأوّل : في ماهيّة علم الأصول........................................... ٦٣
الفصل الثاني : في غايته وبيان موضوعه............................................ ٦٧
الفصل الثالث : في مبادئه....................................................... ٦٩
الفصل الرابع : في مرتبته ونسبته إلى
غيره من العلوم................................. ٧١
الفصل الخامس : في وجوب معرفته................................................ ٧٤
الفصل السادس : في مصادر يذكر تعريفها
هنا للحاجة إليها......................... ٧٥
[المبحث] الأوّل : في أنّ العلم هل يحدّ
أم لا.................................... ٧٥
المبحث الثاني : في حدّه...................................................... ٧٧
المبحث الثالث : في أقسام العلم.............................................. ٨١
المبحث الرابع : في الظّنّ...................................................... ٨٢
المبحث الخامس : في الدليل والنّظر............................................ ٨٣
المبحث السادس : في الحكم.................................................. ٨٥
الفصل السابع : في تقسيم الحكم................................................. ٩١
[المبحث] الأوّل : انقسامه إلى الأحكام
الخمسة................................. ٩١
المبحث الثاني............................................................... ٩٧
المبحث الثالث............................................................ ١٠١
[المطلب] الأوّل :
[في] السّبب.............................................. ١٠١
المطلب الثاني :
في المانع.................................................... ١٠٦
المطلب الثالث :
في الشرط................................................. ١٠٦
المبحث الرابع : في الصحّة والبطلان
والإجزاء..................................... ١٠٧
المبحث الخامس : في القضاء والأداء
والإعادة..................................... ١٠٩
فروع..................................................................... ١١٠
المبحث السادس : في إطلاق اسم القضاء........................................ ١١٣
المبحث السابع : في الرخصة والعزيمة............................................. ١١٤
المبحث الثّامن : في أنّ الحسن والقبح
عقليّان..................................... ١١٨
المسألة الأولى :
في أنّ شكر المنعم واجب عقلا................................ ١٣٤
احتجّت الأشاعرة
بالعقل والنقل............................................. ١٣٥
المسألة الثانية :
في حكم الأشياء قبل الشرع................................... ١٣٩
المقصد
الثاني
في
اللغات
[المبحث] الأوّل : في الماهيّة................................................. ١٤٥
البحث الثاني : في الغاية.................................................... ١٤٨
الفصل الأوّل : في مباحث كلّية................................................. ١٥٠
البحث الأوّل :
الواضع..................................................... ١٥٠
البحث الثاني : في
أنّ اللّغة لا تثبت بالقياس.................................. ١٥٩
البحث الثالث : في
أنّه لا يجب أن يكون لكلّ معنى لفظ....................... ١٦٢
البحث الرّابع :
في تعيين الغرض بالوضع...................................... ١٦٤
البحث الخامس : في
تعريف الوضع.......................................... ١٦٦
الفصل الثاني : في تقاسيم دلالة الألفاظ......................................... ١٧٣
[المبحث] الأوّل :
اللفظ إمّا أن يدلّ على المعنى بتوسّط وضعه له................ ١٧٣
المبحث الثاني :
في المفرد والمركّب............................................. ١٧٤
المبحث الثالث :
في الذاتي والعرضي.......................................... ١٧٥
المبحث الرابع :
في بسائط الكلام............................................ ١٧٧
المبحث الخامس :
في نسبة اللفظ إلى المعنى.................................... ١٨٠
المبحث السادس :
في اللّفظ المركّب.......................................... ١٨٤
المبحث السّابع :
في تقسيم اللفظ بالنسبة إلى معناه............................ ١٨٦
الفصل الثالث : في الأسماء المشتقّة.............................................. ١٨٧
[المبحث] الأوّل :
في الاشتقاق.............................................. ١٨٧
المبحث الثاني :
في قواعد الاشتقاق.......................................... ١٩٢
المبحث الثالث :
في أنّ صدق المشتقّ قد ينفكّ عن صدق المشتقّ منه............. ١٩٣
المبحث الرابع :
في أنّ بقاء المعنى هل هو شرط في الصدق أم لا؟................ ١٩٤
المبحث الخامس :
في أنّه هل يجب الاشتقاق مع القيام بالمحلّ.................... ١٩٩
المبحث السادس :
في مفهوم المشتقّ.......................................... ٢٠١
الفصل الرابع : في الألفاظ المترادفة
والمؤكّدة....................................... ٢٠٣
المبحث الأوّل : [في]
الألفاظ المترادفة........................................ ٢٠٣
المبحث الثاني :
في إثباته.................................................... ٢٠٤
المبحث الثالث :
في غايته.................................................. ٢٠٥
المبحث الرابع :
في صحّة إقامة أحد المترادفين بدل صاحبه...................... ٢٠٦
المبحث الخامس :
في التأكيد................................................ ٢٠٧
الفصل الخامس : في مباحث الاشتراك........................................... ٢٠٩
المبحث الأوّل :
في اللفظ المشترك............................................ ٢٠٩
المبحث الثاني :
في إمكانه.................................................. ٢١٠
المبحث الثالث :
في وقوعه.................................................. ٢١٣
المبحث الرابع :
فيما ظنّ أنّه مشترك وهو متواطئ وبالعكس..................... ٢١٥
المبحث الخامس :
في أقسام المشترك.......................................... ٢١٦
تنبيه..................................................................... ٢١٧
فائدتان................................................................... ٢١٨
المبحث السادس :
في أنّه هل يجوز استعمال المشترك المفرد في معنييه؟............. ٢١٨
تذنيبات.................................................................. ٢٢٧
المبحث السابع : في مرجوحيّة الاشتراك....................................... ٢٢٩
المبحث الثامن : في سبب التعيين............................................ ٢٣٢
الفصل السادس : في الحقيقة والمجاز.............................................. ٢٣٥
المطلب الأوّل : في الماهية................................................... ٢٣٥
[المبحث] الأوّل :
في تفسير لفظي الحقيقة والمجاز............................... ٢٣٥
المبحث الثاني :
في تعريف الحقيقة والمجاز...................................... ٢٣٦
المبحث الثالث :
في انّ إطلاق الحقيقة والمجاز مجاز............................. ٢٤٢
المطلب الثاني : في أقسام الحقيقة............................................. ٢٤٣
البحث الأوّل : في
اللغويّة.................................................. ٢٤٣
البحث الثاني : في
الحقيقة العرفيّة............................................ ٢٤٤
البحث الثالث : في
الحقيقة الشرعية.......................................... ٢٤٥
البحث الرّابع :
في اشتمال القرآن على المعرّب................................. ٢٥٩
البحث الخامس : في
فروع النقل............................................. ٢٦١
المطلب الثالث :
في المجاز................................................... ٢٦٥
[المبحث] الأوّل :
في إثباته في اللغة.......................................... ٢٦٥
المبحث الثاني :
في إثباته في القرآن........................................... ٢٦٦
المبحث الثالث :
في غايته.................................................. ٢٦٩
المبحث الرابع :
في أقسامه.................................................. ٢٧٢
المبحث الخامس :
في أقسام [المجاز] المفرد..................................... ٢٧٣
المبحث السادس :
في محلّه.................................................. ٢٧٦
المبحث السابع :
في شرائط المجاز............................................ ٢٧٨
المبحث الثامن :
في أنّ المجاز ليس غالبا....................................... ٢٨١
المبحث التاسع :
في أنّ المجاز على خلاف الأصل.............................. ٢٨٢
تذنيب................................................................... ٢٨٤
المبحث العاشر :
في أنّ المجاز المركّب عقليّ.................................... ٢٨٥
المطلب الرابع :
في مباحث مشتركة بين الحقيقة والمجاز........................... ٢٨٧
[المبحث] الأوّل :
في عدم التلازم بينهما...................................... ٢٨٧
المبحث الثاني :
في إمكان الخلوّ عنهما........................................ ٢٩٠
المبحث الثالث :
في إمكان الجمع بينهما...................................... ٢٩١
تنبيه..................................................................... ٢٩١
تذنيب................................................................... ٢٩٢
المبحث الرابع :
في المميّز بين الحقيقة والمجاز.................................... ٢٩٢
الفصل السابع : في التعارض بين أحوال
الألفاظ.................................. ٢٩٩
[المبحث] الأوّل :
في اتّساع مستعملي الألفاظ................................ ٢٩٩
[المبحث] الثاني :
في أنّ المجاز أولى من الاشتراك............................... ٣٠٣
المبحث الثالث :
في التعارض بين الاشتراك والباقيين............................ ٣٠٦
المبحث الرابع :
في باقي المعارضات........................................... ٣٠٨
فروع..................................................................... ٣١١
الفصل الثامن : في تفسير حروف............................................... ٣١٣
[المبحث] الأوّل :
في الواو.................................................. ٣١٣
المبحث الثاني :
في الفاء.................................................... ٣٢١
المبحث الثالث :
في باقي الحروف............................................ ٣٢٤
المقصد
الثالث
في
كيفيّة الاستعمال
[الفصل] الأوّل : في الكتاب................................................... ٣٣١
[المبحث] الأوّل :
في تعريفه................................................. ٣٣١
المبحث الثاني :
في اشتراط التواتر في آحاده.................................... ٣٣٢
المبحث الثالث :
في البسملة................................................ ٣٣٦
المبحث الرابع :
في تواتر القراءات السبع...................................... ٣٣٩
الفصل الثاني : في أحكام خطابه تعالى........................................... ٣٤٠
[المبحث] الأوّل :
في استحالة خطاب الله بشيء لا يعني به..................... ٣٤٠
المبحث الثاني :
في استحالة خطاب الله بغير المقصود........................... ٣٤٢
المبحث الثالث :
في الاستدلال بالأدلّة اللفظيّة................................ ٣٤٤
المبحث الرابع :
في كيفيّة الاستدلال بالخطاب................................. ٣٤٧
المبحث الخامس :
في الخطاب الذي لا يمكن حمله على ظاهره.................... ٣٥٠
المبحث السّادس :
في أنّ ثبوت حكم الخطاب إذا تناوله مجازا ، لا يدلّ على أنّه مراد بالخطاب ٣٥٢
تذنيبات.................................................................. ٣٥٣
المقصد
الرابع
في
الأمر والنهي
[الفصل] الأوّل : في المقدّمات.................................................. ٣٥٧
المبحث الأوّل :
في ماهيّة الكلام............................................. ٣٥٧
المبحث الثاني :
في حقيقة الأمر.............................................. ٣٥٨
المبحث الثالث :
في حدّه................................................... ٣٦٧
الفصل الثّاني : في البحث عن الصيغة........................................... ٣٧٣
[المبحث] الأوّل :
في وجوه استعمالها......................................... ٣٧٣
المبحث الثاني :
في أنّ للأمر صيغة تخصّه..................................... ٣٧٦
المبحث الثالث :
في التغاير بين الصّيغة والطلب............................... ٣٧٨
المبحث الرّابع :
في أنّ الصّيغة هي الأمر الاصطلاحي.......................... ٣٨١
المبحث الخامس :
في أنّ الرّتبة معتبرة أم لا؟................................... ٣٨٥
المبحث السادس :
في أنّ دلالة الصيغة على الطلب بالوضع..................... ٣٨٩
المبحث السابع :
فيما به يصير الأمر أمرا..................................... ٣٩٠
المبحث الثّامن :
في جواز إقامة كلّ من الأمر والخبر مقام صاحبه................. ٣٩٩
الفصل الثالث : في مقتضيات الصّيغة........................................... ٤٠٠
[المبحث] الأوّل :
في أنّ الأمر هل يقتضي الوجوب أم لا؟...................... ٤٠٠
المبحث الثاني :
في الأمر الوارد عقيب الحظر والاستئذان........................ ٤٣٢
المبحث الثالث :
في أنّ الأمر لا يقتضي التكرار............................... ٤٣٥
المبحث الرّابع :
في الأمر المعلّق بشرط أو صفة................................. ٤٤٣
المبحث الخامس :
في أنّ الأمر لا يقتضي الفور................................ ٤٥١
المبحث السّادس :
في أنّ الأمر المعلّق بشرط ، عدم عند عدمه................... ٤٦١
المبحث السابع :
في الحكم المعلّق بعدد....................................... ٤٦٥
المبحث الثامن :
في الأمر المقيّد بالاسم....................................... ٤٦٧
المبحث التاسع :
في الأمر المقيّد بالصّفة...................................... ٤٧٠
تذنيبات.................................................................. ٤٨٠
المبحث العاشر :
في أنّ الامر هل يدخل تحت الأمر؟.......................... ٤٨٣
المبحث الحادي عشر
: في الأمرين المتعاقبين................................... ٤٨٤
الفصل الرّابع : في أقسام الأمر.................................................. ٤٨٨
المبحث الأوّل :
في الواجب المخيّر........................................... ٤٨٨
المبحث الثاني :
في الواجب على الكفاية...................................... ٥٠١
المبحث الثالث :
في الواجب الموسّع.......................................... ٥٠٣
تذنيب................................................................... ٥١٧
الفصل الخامس : في أحكام الوجوب............................................ ٥١٨
[المبحث] الأوّل :
في وجوب ما يتوقّف عليه الواجب المطلق..................... ٥١٨
فروع..................................................................... ٥٢٣
المبحث الثّاني :
في أنّ الأمر بالشيء نهي عن ضدّه أم لا؟....................... ٥٢٧
تذنيب................................................................... ٥٣٣
المبحث الثالث :
في أنّه ليس تحقّق العقاب على الترك شرطا في الوجوب.......... ٥٣٤
المبحث الرابع :
في أنّ الوجوب إذا نسخ هل يبقى الجواز أم لا؟.................. ٥٣٥
المبحث الخامس :
في التضادّ بين واجب الفعل وجائز الترك...................... ٥٣٧
فروع..................................................................... ٥٤٠
الفصل السّادس : في المأمور به................................................. ٥٤٥
المبحث الأوّل :
في امتناع التّكليف بالمحال..................................... ٥٤٥
في أدلّة القائلين
بامتناع التكليف بالمحال....................................... ٥٤٦
في ادلّة القائلين
بجواز التكليف بالمحال ، والجواب عنها........................... ٥٤٨
تذنيب................................................................... ٥٦٩
المبحث الثاني :
في أنّه لا يشترط في التكليف حصول الشرط الشرعي............. ٥٧٠
المبحث الثالث :
في أنّ الأمر يقتضي الإجزاء.................................. ٥٧٨
المبحث الرّابع :
في أنّ الإخلال هل يوجب القضاء؟............................ ٥٨٢
المبحث الخامس :
في أنّ الأمر بالأمر بالشيء ليس أمرا بذلك الشيء............. ٥٨٩
تذنيب................................................................... ٥٩١
المبحث السادس :
في أنّ المطلوب بالكلّيّ ما ذا؟............................... ٥٩٢
الفصل السابع : في المأمور..................................................... ٥٩٤
المبحث الأوّل :
في استحالة أمر المعدوم....................................... ٥٩٤
المبحث الثاني :
في شرائط المكلّف............................................ ٥٩٧
المبحث الثالث :
في وقت توجه الأمر........................................ ٦٠٤
المبحث الرّابع :
في وقت انقطاع التكليف..................................... ٦٠٦
المبحث الخامس :
في الأمر المشروط.......................................... ٦٠٧
تذنيب................................................................... ٦١٢
المبحث السّادس :
في جواز الاستنابة......................................... ٦١٣
المبحث السابع :
في شروط حسن الأمر...................................... ٦١٤
فهرس الموضوعات............................................................. ٦١٧
|