
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه الطيبين الطاهرين :
وبعد فيقول
المفتقر إلى الله تعالى علي نجل المرحوم الشيخ محمد رضا نجل المرحوم الشيخ هادي من
آل كاشف الغطاء قد وضعت هذا الكتاب للبحث عن الأدلة والاصول التي تستمد منها
الفقهاء القوانين الشرعية وتستنبط منها المسائل الفرعية وترجع إليها في معرفة
الأحكام الفقهية سواء أفادت القطع بالحكم الشرعي أو الظن المعتبر به أو كانت مما
يرجع إليها في مقام الشك في الحكم الشرعي كالأصول العملية بل يمكن لأرباب القوانين
المدنية ان يستفيدوا منها وينهلوا من معين معدنها متوخيا في ذلك سبيل الاختصار
المثمر الذي لعله يغنيهم عن التطويل وباحثا عن كل دليل أو أصل اتخذه الفقهاء
مستندا للحكم الشرعي الفرعي أو اتخذه أرباب القوانين المدنية مصدر وسميته ب «مصادر
الحكم الشرعي والقانون المدني».
والله الموفق
للانتفاع به.
المصدر الاول
القرآن الكريم
القرآن المجيد
كتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ودستورا من دساترة رب العالمين أنزل على الرسول
الكريم (ص) في ٢٣ سنة وقد اشتمل على أغلب القواعد الفقهية وروعي فيه بيان الأحكام
الشرعية ممزوجة بالوعظ والارشاد والوعد والوعيد وقصص الانبياء والصالحين وما ناله
الكفار والمخالفين من العذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة لتقوية الضمير في الطاعة
والبعد عن المعصية وإيجاد الوازع الديني نحو المثل العليا والأخلاق الفاضلة.
والحجة فيه هو النص أو الظاهر.
أما النص فهو
الدال على المراد من غير احتمال لغيره. ويقابله المجمل بالمعنى الأعم أعني ما دل
على المراد مع احتمال غيره وبالمعنى الأخص هو خصوص الذي لا يعرف معناه.
وأما الظاهر فهو
ما دل على المراد مع احتمال غيره احتمالا مرجوحا وفي مقابله المتشابه.
وأما المؤول فهو
الذي أراد به المتكلم خلاف ظاهره. وقد يطلقون المتشابه ويريدون به المجمل بالمعنى
الأخص والمؤول. والقرآن قطعي الصدور لتواتر نقله عند المسلمين من حين نزوله حتى
الوقت الحاضر.
وأما من حيث
الدلالة فقد يكون قطعيا إذا كان اللفظ لا يحتمل فيه إلا معنى واحدا كنصوصه. وقد
تكون دلالته ظنيه إذا كان اللفظ
يحتمل أكثر من
معنى واحد كظواهره.
أما حجية نصوصه
وظواهره فقد منع بعض الاخباريين منها وقالوا أن الكتاب ليس بحجة مطلقا إلا ما روي
تفسيره عن المعصوم. ويقال أن أول من فتح هذا الباب صاحب الفوائد المدنية وقبل أنه
يظهر من كلام الشيخ الطوسي في التبيان وأن العلامة الحلي في نهاية الأصول نسبه إلى
الحشوية. ويدل على حجيته السيرة المستمرة بين المسلمين على التمسك به من زمن
الرسول (ص) إلى زمن الصحابة والتابعين والسلف الصالحين وثقات رواة المعصومين بلا
رادع من أحد منهم ـ مع ما في الاخبار المتسالم على صحتها دلالة واضحة على حجيته
مثل حديث الثقلين المشهور بين الفريقين شهرة كادت أن تبلغ حد التواتر وهو قوله (ص)
«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي» وقوله (ص) «إذا التبست عليكم
الفتن كالليل المظلم فعليكم بالقرآن» وقوله (ص) «القرآن هدى من الضلالة» ونحو ذلك
ما ورد من الأمر بعرض الأخبار على الكتاب ورد الشروط المخالفة للكتاب والأمر
بالرجوع إليه ويؤيد ذلك الآيات الآمرة بالأخذ به والعمل به كقوله تعالى في سورة
البقرة (ذلِكَ الْكِتابُ لا
رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وكقوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا
الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) وغيرهما من عشرات الآيات. نعم لا يجوز التمسك بالمتشابه
منه وهو الذي ليس بنص ولا له ظاهر بدون دليل ولا شاهد على المراد منه بل بمجرد رأي
واستحسان ما أنزل الله به من سلطان. ولقد كانت الآيات المكية منه تبعث نحو تكوين
العقيدة والأخلاق الكريمة ولهذا تجد فيها القصر والايجاز ليسهل على القارئ
والمستمع وعيها وتفهمها بخلاف الآيات المدنية فانها كانت تبعث نحو تفهم الأحكام
الشرعية ولهذا تجد
فيها الطول
لاحتياج شرح الحكم وبيان حدوده إلى البسط والتوضيح : وقد ذكروا أن مجموع آيات
الأحكام (٥٠٠) آية وأن الباقي منها تتعلق بالعقائد الدينية والأخلاق الحميدة
والقصص التي فيها الموعظة الحسنة والامثال المتنوعة التي ترشدنا لما فيه الخير
والصلاح والسعادة والفلاح.
ثم أن أقوى ما
يتمسك به المانعون من العمل بالقرآن المجيد وجوه :
أحدها : الاخبار
المتواترة المدعى ظهورها في المنع عن ذلك مثل النبوي : «من فسر القرآن برأيه
فليتبوأ مقعده من النار» والنبوي «من فسر القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ» وعن الرضا (ع)
عن أبيه عن آبائه عن أمير المؤمنين (ع) قال : «قال رسول الله (ص): إن الله عزوجل ، قال في الحديث القدسي ، ما آمن بي من فسر كلامي برأيه ،
وما عرفني من شبهني بخلقي ، وما على ديني من استعمل القياس في ديني» وعن مجمع
البيان ، أنه قد صح عن النبي (صلىاللهعليهوآله) وعن الأئمة القائمين مقامه (ع)
أن تفسير القرآن لا يجوز إلا بالأثر الصحيح والنص الصريح وقوله ، ليس شيء أبعد من
عقول الرجال من تفسير القرآن إلى غير ذلك مما ادعى في الوسائل في باب القضاء
تجاوزها عن حد التواتر ومرجع هذا الوجه إلى أن المتكلم به لم يقصد إفادة مراده
بنفس هذا الكلام فهو خارج عن قواعد الخطابة.
والجواب عن ذلك
منع دلالتها على المنع عن العمل بالظواهر الواضحة المعنى بعد الفحص عن نسخها
وتخصيصها وإرادة خلاف ظاهرها في الاخبار إذ ليس ذلك تفسيرا إذ التفسير كشف القناع
لا مطلق حمل
اللفظ على معناه
ولو سلم ذلك فالمراد بالرأي هو الاعتبار العقلي الظني الراجع إلى الاستحسان فلا
يشمل حمل اللفظ على ظاهره اللغوي والعرفي فالتفسير بالرأي إما حمل اللفظ على خلاف
ظاهره أو أحد احتماليه لرجحان في نظره القاصر وعقله الفاتر.
الوجه الثاني :
طروّ التقيد والتخصيص والتجوز في أكثر القرآن وظواهره فأوجب فيه الاجمال وفيه :
أولا : النقض
بظواهر السنة للقطع بطرو مخالفة الظاهر في أكثرها.
وثانيا : إن غاية ذلك
وجوب الفحص دون السقوط لأن المعلوم اجمالا هو وجود مخالفات كثيرة في الواقع فيما
بأيدينا بحيث يظهر تفصيلا بعد الفحص وأما وجود مخالفات في الواقع زائدا على ذلك
فغير معلوم ينفى بالأصل وحينئذ فالمانع من العمل قبل الفحص هو احتمال وجود مخصص
يظهر بالفحص وهذا المانع يزول بعد الفحص قطعا والذي يبقى بعد الفحص هو احتمال وجود
مخصص في الواقع لم نظفر به بعد الفحص ومقتضى الاصل عدمه.
الوجه الثالث : ما
ذكره بعضهم أنه ما من آية متعلقة بالفروع والأصول إلا ورد في بيانها أو في الحكم
الموافق لها خبرا وأخبار كثيرة بل انعقد الاجماع على أكثرها مع أن جل آيات الاصول
والفروع بل كلها مما تعلق الحكم فيها بأمور مجملة لا يمكن العمل بها إلا بعد أخذ
تفصيلها من الأخبار ، وفيه أن هذا وإن تم في الآيات الواردة في باب العبادات جلا
أو كلا إلا أنه غير جار فيما ورد في باب المعاملات ضرورة إن الإطلاقات الواردة
فيها مما يتمسك بها في الفروع الغير المنصوصة أو المنصوصة بالنصوص المتعارضة كثيرا
جدا مثل قوله
تعالى (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) (تِجارَةً عَنْ تَراضٍ) (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) ، (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) ، (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ
فَتَبَيَّنُوا) ، (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ) ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ، (عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى
شَيْءٍ) ، (ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ) إلى غير ذلك بل وفي العبادات أيضا كذلك مثل قوله (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا
يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ، وغير ذلك مثل آيات التيمم والوضوء والغسل والصلاة وغيرها
وهذه وإن ورد فيها أخبار في الجملة إلا أنه ليس كل فرع مما يتمسك فيه بالآية ورد
فيه خبر سليم عن المعارض فلاحظ.
الوجه الرابع : إن
وجوب العمل بظواهر الكتاب بالاجماع مستلزم لعدم جواز العمل بظواهره لأن من تلك
الظواهر ظواهر الآيات الناهية عن العمل بالظن مطلقا حتى ظواهر الكتاب.
وفيه أن فرض وجود
الدليل على حجية الظواهر يوجب عدم ظهور الآيات الناهية في حرمة العمل بالظواهر
لأنه أخص منها مع أن ظواهر الآيات الناهية لو نهضت للمنع عن ظواهر الكتاب لمنعت عن
حجية أنفسها لأنها منها إلا أن يمنع شمولها لأنفسها فتأمل (وينبغي التنبيه) على
أمرين :
الأول : إذا
اختلفت القراءة وكان اختلافها موجبا لاختلاف الحكم الشرعي كما في قوله تعالى (حَتَّى يَطْهُرْنَ) حيث قرأ بالتشديد من التطهر الظاهر في الاغتسال وقرأ
بالتخفيف من الطهارة الظاهرة في النقاء عن الحيض فمع التكافؤ في القراءة يتوقف
ويرجع إلى غيرهما فيستصحب الحرمة فيما نحن فيه قبل الاغتسال أو بالجواز بناء أعلى
عموم قوله تعالى :
(فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) للازمان خرج منه زمن الحيض على الوجهين بكون المقام من
استصحاب حكم المخصص أو العمل بالعموم الزماني ومع عدم التكافؤ في القراءة يؤخذ
بأقوى القراءتين.
الثاني : إنه لا
يؤخذ بالقراءة الشاذة في العمل بالآية لكون ما عداها أرجح منها خلافا لما ينقل عن
بعض العامة وعليه فلا يعمل بقراءة ابن مسعود في كفارة اليمين : فصيام ثلاثة أيام
متتابعات في وجوب التتابع في كفارة اليمين لأن القراءة المشهورة على خلافها.
المصدر الثاني
الإجماع
والاجماع لغة بحسب
التحقيق هو ضم المتفرق واجتماعه واتفاقه وهو يقابل الاختلاف والتفريق.
وفي الاصطلاح هو
الاتفاق من أمة محمد (ص) على أمر من الأمور الدينية كما هو المحكي عن متقدمي أهل
السنة كالقاضي والجويني والغزالي ولكن متأخريهم لما رأوا أن لا مقالة للعوام في
أمور الدين لأنهم همج رعاع أتباع كل ناعق عدلوا عن ذلك واقتصروا على اعتبار قول
العلماء وعرفوه بأنه «اتفاق أهل الحل والعقد من أمة محمد على أمر من الأمور
الدينية» وقيدوه بالدينية لاخراج الاتفاق في الأمور الغير الشرعية كالعقليات
والعرفيات فان الاتفاق عليها ليس من الاجماع عند الفقهاء. وكان مالك يذهب إلى أن
الاجماع يتحقق باتفاق فقهاء المدينة وداود الظاهري يذهب إلى أن الاجماع لا يعتبر
إلا من الصحابة دون من بعدهم. وأنكر حجيته النظام المتوفى سنة ٣٣١ ه معللا ذلك
بأن الاجماع إن استند إلى دليل قطعي فيكون ذلك الدليل هو الحجة وإن استند إلى دليل
ظني فلا يمكن تحقق الاجماع لاختلاف العلماء في الاستنباط منه. ونسب إنكار حجيته
لفقهاء الاخباريين من الشيعة وأما الأصوليون من الشيعة فيذهبون إلى أنه أعظم حجة
إذا كشف كشفا قطعيا عن رأي المعصوم بمؤداه سواء كان العلم من جهة اشتمال المجمعين
عليه من دون تشخيصه كاتفاق علماء بلد كان المعصوم فيها كاتفاق أهل المدينة أو من
جهة الحدس لأن
العادة قاضية بأن أصحاب الشخص إذا اتفقوا على شيء فهو لا بد وأن يكون قائلا به ،
أو من جهة قاعدة اللطف فانها تقتضي ردع الله الأمة لو اتفقت على الباطل. فان من
أعظم الألطاف من الله الواجبة إظهار كلمة الحق على لسان داع يدعو لها لأنه إذ ذاك
ينكشف به الواقع.
وأما إذا لم يكشف
الاتفاق عن رأي المعصوم فلا دليل على حجيته فلا يصح الاعتماد عليه في معرفة الحكم
الشرعي ومن هنا يظهر لك إنه لو وجد مع الاجماع آية أو رواية أو مستند آخر احتمل أن
فتوى المجمعين كانت مستندة له سقط الاجماع عن الحجية عند الشيعة لأنه حينئذ لم
يكشف عن رأي المعصوم على سبيل القطع لأحتمال أن المجمعين استندوا في فتواهم لذلك
المستند ولا بد حينئذ للمجتهد من ملاحظة ذلك المستند ومدى صحته واعتباره وحدود
دلالته ولا وجه لانكار حجية الاجماع إذا حصل به الكشف عن رأي المعصوم لأنه يفضي
إلى انكار حجية قول المعصوم وكلما دل على حجية قول المعصوم يدل على حجيته من العقل
والنقل وإن أراد المنكر أنه لا يتحقق الاجماع المذكور ، أو لا يمكن العلم به ، أو
لا يمكن كشفه عن رأي المعصوم فيكون إنكاره إنكارا لتحققه لا لحجيته :
الادلة على حجية
الاجماع وإن لم يكشف عن قول المعصوم :
وقد استدل علماء
أهل السنة على حجية الاجماع وإن لم يكشف عن قول المعصوم ذاهبين إلى وجود العصمة عن
الخطأ في اجتماع العلماء على رأي واحد وإن جاز في كل واحد منهم الخطأ فيكون
الاجماع عندهم حجة من باب التعبد الصرف كالاسباب الشرعية من اليد والفراش وغيرها
لا من باب الكشف عن
قول المعصوم ،
واستدلوا على ذلك من العقل بما ذكره إمام الحرمين من أن الاجماع يدل على وجود دليل
قاطع في الحكم المجمع عليه لأن العادة تقضي بامتناع اجتماع مثلهم على مظنون كاجتماعهم
على أكل طعام واحد ولبس واحد وفعل واحد.
وفيه أن غاية ما
يثبت بذلك إن إجماعهم عن مأخذ معتبر عندهم لا ما أفاد القطع لغيرهم بل لا يفيد ذلك
أيضا إذا لم يعتبر فيهم العدالة واستدلوا على ذلك من الكتاب بقوله تعالى («وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ
بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ».) حيث توعد الله تعالى على أتباع غير سبيل المؤمنين ، وفيه
أولا : أنه بقرينة العطف وكون فاعل (يتبع) ضمير يعود لمن يشاقق يكون المراد من
سبيل المؤمنين هو سبيلهم في متابعة الرسول من الاقتداء به.
وثانيا : يحتمل أن
المراد بالسبيل هو الصراط والطريق للمؤمنين في العقائد الدينية والمعارف الالهية
لا في فتاويهم الشرعية.
وثالثا : أن فاعل (يتبع)
ضمير يعود لمن يشاقق المتبين له الهدى. ولا ريب أن المتبين له الهدى إذا أتبع غير
سبيل المؤمنين يعذب لا بمخالفته للمؤمنين بل لتبين الهدى له ، وعليه فتكون الآية
ناظرة إلى أن من تبين له الهدى وعمل على الهدى ولم يتبع سبيل المؤمنين لا مؤاخذة
عليه.
رابعا : إن
المعصوم كالنبي (ص) أو الأئمة عند الشيعة من المؤمنين فلا بد أن يكون سبيله سبيل
المؤمنين ومع عدم إحراز كون المعصوم متفقا رأيه مع أهل الإجماع لم يعلم أن السبيل
غير سبيل المؤمنين بأجمعهم ومع عدم الاحراز لا حجية للإجماع لعدم احراز تحقق
موضوعها
وهو كون السبيل
سبيل المؤمنين.
واستدلوا بقوله
تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ
الْمُنْكَرِ). فأنهم لو أجمعوا على الخطأ لكانوا آمرين بالمنكر. وفيه أنه
يدل على عدم تعمد الخطأ لا عدم وقوعه لأن المراد ما هو معروف ومنكر بنظرهم لا في
الواقع.
واستدلوا بقوله
تعالى : (وَكَذلِكَ
جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) باعتبار أن المخالفة لهم توجب أن تكون الامة شهداء عليه
بالمخالفة ولو وافقهم تكون الامة شهداء عليه بالموافقة وتقريب الاستدلال بهذه
الآية بهذا النحو أحسن مما ذكره القوم من الاستدلال بها باعتبار أنهم وسط بتفسيره
بالعدل.
وفيه أن الشهادة
عليه بالمخالفة لا توجب بطلان قوله في نظره إذا لم يكن مخالفا واقعا فان مجرد
الشهادة بالفسق لا توجب الفسق واقعا ولذا ارتكاب العمل الموجب لشهادة الغير بالفسق
لا توجب حرمة ذلك العمل عليه إذا لم يكن في الواقع معصية في نظره على أنه مع عدم
إحراز موافقة المعصوم لهم لم يحصل إحراز شهادة الامة بأجمعها عليه.
واستدلوا على ذلك
من الاخبار بما رواه العامة والخاصة عن النبي (ص) إنه قال : «لا تجتمع أمتي على
ضلالة». كما في رواية أبي الليث السمرقندي وفيه :
أولا : فانه مع
اجتماع الأمة بأجمعها لا بد وأن يكون المعصوم معها وإلا لم تكن الامة لأن المعصوم
منها فمع الشك في دخول المعصوم مع المجتمعين لم يحرز اجتماع الامة.
وثانيا : أن
الظاهر هو الاجتماع على الضلالة والمعصية بهذا العنوان
بأن تعلم الامة أن
العمل الفلاني معصية وضلالة ويرتكبونه بأجمعهم وهذا أمر أجنبي عن الاجماع وإنما
يرجع إلى اتفاقهم على العصيان غير واقع منهم.
طرق حصول الاجماع
ومعرفتها وحجيتها :
إن للإجماع طرقا
ثلاثة :
الطريق الاول :
وهو المنسوب للمتقدمين من علماء المسلمين وقد سلكه أهل السنة وقدماء الشيعة من أن
الاجماع اتفاق الكل. والكلام في هذا المسلك تارة في الصغرى وبيان اتفاق الكل بما
يتحقق وكيف يعلم. وأخرى في الكبرى وبيان مدرك الحجية.
أما الكلام في
الكبرى لإحراز دخول المعصوم فيهم لأنه من الكل المتفقون ودخوله يكون قولا أو فعلا
أو تقريرا أو تركا كأن ترك جماعة الأذان في الصلاة وفيهم المعصوم يكون حجة. ومع
عدمه فليس بحجة وعليه فلو افتى جماعة ولو أقل من عشرة وعلم أن أحدهم المعصوم
كالنبي والأئمة (ع) كان قولهم حجة وإن خالفهم الجميع.
وأما عند أهل
السنة فمجرد الاتفاق من الكل وإن لم يكن المعصوم داخلا معهم هو حجة. وتقدم في ذلك
أدلتهم.
أما الكلام في
الصغرى فهو أن إمكان الاجماع بل وقوعه مما لا ريب فيه ومجرد انتشار العلماء في
الأقطار واختلاف القرائح والأنظار لو أثر فهو في العلم به لا في إمكانه أو وقوعه.
والقول بأن الاجماع إن كان عن تخمين فلا يجوز اتباعه أو عن دليل قطعي فالعادة تقضي
بنقله فيغني عن الاجماع أو ظني فتباين الأنظار واختلاف القرائح يمنع من الاجتماع
عليه مدفوع بان ذلك يمنع من الاطلاع على الاجماع لا عن إمكانه ووقوعه بأن عدم وجوب
الإتباع لو كان الاجماع عن
تخمين يمنع الحجية
دون الامكان والوقوع وكذلك إغناء القطعي عنه فتأمل ، واختلاف القرائح غير مانع عن
الاتفاق بعد وجود الداعي هو الدليل المعتبر والحاصل أن إنكار الإمكان أو الوقوع
مما يحكم بفساده الضرورة والوجدان وانما الاشكال في العلم به على هذه الطريقة لأن
العلم بفتاوى كل واحد من العلماء الموجودين في عصر واحد مما كاد أن يلحق بالمحالات
لتوقفه على مشافهة كل واحد منهم ومما لا يمكن عادة بعد انتشارهم في مشارق الارض
ومغاربها وفي الاصقاع والأقطار والبراري والقفار وزوايا الخمول حتى لو رام المجتهد
تحصيل الاجماع ولو في مسألة لا يحصل لو أفنى عمره مع أن احتمال السهو من المفتي
والنسيان والتقية والتورية والرجوع عن فتواه مع الغض عن احتمال الكذب لا يكاد يخلو
منه إنسان ونفيها أو نفي بعضها بالأصل لا يجدي في حصول العلم ولذا نذهب إلى أن
طريقة القدماء على ما يساعده الاستقراء لا بد أن تكون حدسية بمعنى معرفة موافقة
باقي العلماء من اتفاق هؤلاء الجماعة بالحدس لأنا قاطعون بأن المرتضى أو القاضي أو
الاسكافي أو ابن زهرة أو سلار أو نحوهم من قدمائنا الكبار لم يشافه كل واحد منهم
كل فرد من علماء عصره مع أن كتبهم مشحونة من دعوى الاجماع. والتحقيق أن يقال أن
العلم بالإجماع لا يحصل إلا بأمور ثلاثة :
أحدها : الحدس بان
يطلع على جملة من فتاوي العلماء المتبحرين فيحدس من ذلك موافقة الباقين لهم
لانعقاده بعدم معقولية المخالفة لهم كما يقال ان علماء النحو مجمعون على ان الفاعل
مرفوع مع عدم الاطلاع إلا على بعض فحول علمائهم ولعل دعاوي الإجماع من علماء أهل
السنة بل ومن علماء الشيعة مع عدم الاطلاع على رأي باقي العلماء
لكثرت العلماء
وصعوبة الاطلاع على أقوالهم كانت من هذا القبيل ثانيها : الحس بالاستقراء لجميع
الفقهاء ضرورة عدم حصول العلم بالكل مع الشك في ثبوت الفتوى بالحكم لبعض الأفراد
لم يحصل به بالحس باتفاق سائر الفقهاء.
ثالثها : الفعل
بان يقوم على الفتوى دليل واضح الدلالة سهل الاطلاع عليه بحيث الوضوح والسهولة
يوجبان حكم العقل باتفاق الفقهاء على الفتوى بمضمونه ومن هذا ما قامت عليه ضرورة
الدين والاجماع في مثل هذه الايام غير مستند إلى الثاني وهو الحس لما ذكرنا من عدم
امكان مشاهدة كل واحد من العلماء فضلا عن معرفة فتواهم في المسألة إلا إذا فرض كون
علماء العصر معدودين حاضرين في مجلس واحد وهو مجرد فرض غير واقع مع أن باب احتمال
الخلاف مع ذلك غير منسد لاحتمال أن بعضهم لم يحضر أو لاحتمال السهو في الفتوى
والنسيان والخطأ ونحو ذلك بل حكى الرازي عن جماعة إنا لو فرضنا أن سلطانا جمع
علماء العالم فرفعوا أصواتهم إنا أفتينا بكذا لما حصل العلم بالاجماع لجواز أن
يكون مخالف خاف الجمع أو الملك أخفى صوته بالخلاف من ضجيج الخلائق. ولا إلى الثالث
لعدم صحة الاعتماد على هذا الاجماع إنما المتبع هو ذلك الدليل فيؤخذ بمقدار دلالته
وحدودهما بالاجماع لكونه تابع لها مع انه لم يكن معرفة الاجماع بطريق الحس بالفتوى
منهم كما هو المفروض وأما الأول وهو الحدس فيمكن الأخذ به لمن حصل عنده الحدس
القطعي بذلك. ولعل الاجماع المدعى من المتأخرين من الفريقين يكون من هذا القبيل
وأما لو كان حصل عنده الحدس الظني بالاجماع فالظن ليس بحجه لأنه لم يقم دليل على
اعتباره هذا مع انه لم تكن معرفة الفتوى منهم من طريق الحس كما
هو المفروض وإنما
كانت من طريق الحدس هذا وان بعضهم قد تخيل ان هناك طريق رابع لمعرفة اتفاق
المجتهدين على الفتوى بطريق المكاشفة كما يتفق لأهلها كثيرا بل قد يحكى عن بعض أهل
الباطل دعوى الانكشاف القلبي في كل جزئي من الاحكام الشرعية بحيث لو لم يبعث
الرسول أو لم يبلغها إلى الأمة وصل هو بنفسه إليها.
وفيه أن المكاشفة
إن صحت ففي استكشاف نفس قول المعصوم منها حينئذ كفاية عنه والعلم بالاجماع بذلك
خارج عن كونه حسيا بل كان بالمكاشفة.
وفي مرآة العقول
للمجلسي إن الاطلاع على الخبر المجمع عليه بطريق الإفتاء متعسر بل متعذر. وفي
المعالم الحق امتناع الاطلاع على الاجماع. وعن الرازي إن الإنصاف أنه لا يمكن
معرفة الإجماع إلا في عهد الصحابة حيث كان المسلمون قليلين أما بعد ذلك فلا. وعن الامام
والقاضي كذلك. بل حكى عن العضدي عن أحمد أن من ادعى الإجماع فهو كاذب وكيف كان
فلعل عدم إمكان الاطلاع عادة على هذه الطريقة من الاجماع غير قابل للخلاف والنزاع
وربما يقال بأن العلماء من الفريقين يكثرون الاحتجاج بالاجماع بل ذكر بعضهم أن فهم
جل الأحكام أو كلها لا يمكن إلا بضميمة الإجماع ، وفي كلمات الاقدمين فضلا عن
غيرهم تصريحات بامكانه ووقوعه. ففي الذريعة وإما قول من نفي الإجماع لتعذر الطريق
إليه فجهالة لأنا قد نعلم اجتماع الخلق الكثير على المذهب الواحد وترتفع عنها
الشبهة في ذلك أما بالمشاهدة أو النقل ونعلم من اجتماعهم واتفاقهم على الشيء
الواحد ما يجري في الجلاء والظهور مجرى العلم بالبلدان والامصار والوقائع الكبار
ونحن نعلم أن المسلمين كلهم متفقون على تحريم الخمر
ووطء الامهات وإن
لم نلق كل مسلم في الشرق والغرب والسهل والجبل ونعلم أيضا أن اليهود والنصارى متفقون
على القول بقتل المسيح وصلبه وإن كنا لم نلق كل يهودي ونصراني في الشرق والغرب.
ومن أنكر العلم بما ذكرناه كان مكابرا مباهتا.
هذا مع انا نعلم
بوجود الاحكام الضرورية في الشريعة وتحقق الضرورة بها يستلزم وجود الاجماعات فيها
والعلم بها أيضا كذلك مع إنا إذا راجعنا أنفسنا أيضا نرى في الفقه أحكاما كثيرة
معلومة لا مأخذ للعلم بها غير الاجماع.
هذا ولكن الحق أن
ذلك لا ينافي ما ذكرناه من عدم إمكان الاطلاع على الاجماع بالطريق المذكور أعني
طريق الحس لأن إجماعاتهم التي تمسكوا بها صريحة أو ظاهرة في كون العلم به من طريق
الحدس لا الحس واستلزام الضرورة للاجماع فرع انحصار طريق حصول الضرورة بالاجماع
لإمكان العلم بالضروريات من وضوح الدليل عليها وسهولة الاطلاع عليه كما هو كذلك في
الغالب ودعوى انحصار مدرك المسألة في الاجماع بحيث لم يرد فيها آية أو رواية لا
عموما ولا خصوصا ولا أصل ولا قاعدة لعله مجرد فرض لا واقع له فلا يصح جعله مستندا
لصحة العلم بالاجماع في الموارد الكثيرة والحاصل أن الاجماعات المدعاة في كلمات
القدماء أقوى شاهد على أن مسلكهم في الاجماع موافق لمسلك المتأخرين في كونه حدسيا
لا حسيا.
الطريق الثاني :
من طرق الاجماع هو اتفاق جميع العلماء غير المعصوم منهم على حكم مع فقد الكتاب
والسنة المتواترة عليه فيفارق المسلك الأول بخروج المعصوم بأن قول المعصوم على
المسلك الأول مدلول تضمني دون هذا المسلك فانه حجية الاجماع من جهة كشفه عن رأي
المعصوم اللطف كما
أنه يندرج نقل الاجماع على الاول في نقل السنة بخلافه على هذا المسلك لعدم ثبوتها
إلا عند الحاكي وبذلك لا يصدق الاخبار عن المعصوم كما لو أخبر عن دخول الوقت
اعتمادا على صوت الديك ، ثم أن هذا المسلك وإن اشتهر اختصاصه بالشيخ (ره) إلا أنه
هو الظاهر من كلام الحمصي في التعليق العراقي وكلام كمال الدين ميثم البحريني في
قواعد الكلام والمحقق الحلي في المعتبر والشهيد في الذكرى والمحكي عن العماد
الداماد ولعله في كتابه البيع الشداد وعن كتاب الغيبة لشيخنا الطوسي بل عن المرتضى
في الانتصار ، والشافي أيضا وعن الغنية لابن زهرة وعن كنز الفوائد للشيخ أبي الفتح
الكراجكي وعن الكافي لأبي الصلاح الحلبي وعن أعلام الورى للطبرسى وكذلك عن مجمع
للبيان له إلى غير ذلك من العلماء المستفاد منهم إن العلماء إذا اتفقوا على حكم لم
يدل على خلافه آية محكمة أو سنة قاطعة ولم نعلم بمخالفة المعصوم منهم وجب القطع
بكونهم على الحق وإلا لوجب عليه (ع) ـ (على المعصوم) ـ ردعهم إذ لو لا الردع لزم
بقاؤهم على الضلالة بل تكليفهم بما لا يعلمون وأمرهم بما لا يطيقون وهما منافيان
لقاعدة اللطف فانتفاء اللازم وهو الردع دليل انتفاء الملزوم أي بطلان ما أجمعوا
عليه.
والحاصل ان مناط
حجية هذا المسلك هو ان يقال أن ما أجمعوا عليه إن كان باطلا وجب على المعصوم ردعهم
لأنه لطف واللطف واجب.
أما الصغرى فلصدق
حده وهو ما يقرب إلى الطاعة ويبعد عن المعصية عليه.
وأما الكبرى فلان
الاخلال باللطف نقض للغرض وهو قبيح بل
قد يقال إن نقل
الأدلة الدالة على وجوب إيصال الاحكام إلى العباد قاضية بوجوبه في خصوص مورد
الاجماع ، بل في المستفيض عنهم أن الأرض لا تخلو إلا وفيها عالم إذا زاد المؤمنون
شيئا ردهم إلى الحق وإن نقصوا شيئا تممه لهم ولو لا ذلك لالتبس عليهم أمرهم ولم
يفرقوا بين الحق والباطل ، وعن علي (ع) بطرق : ـ «اللهم إنك لا تخلي الأرض عن قائم
بحجة أما ظاهر مشهور أو خائف مغمور لئلا يبطل حجتك وبيناتك «وفي عدة أخبار في
تفسير قوله «إنما أنت منذر ولكل قوم هاد» إن المنذر رسول الله (ص) وفي كل زمان
إمام منا يهديهم إلى ما جاء به النبي (ص) ، وعن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «ولم
تخل الارض منذ خلقها الله من حجة له فيها ظاهر مشهور أو غائب مستور ولم تخل إلى أن
تقوم الساعة ولو لا ذلك لم يعبد الله قيل كيف ينتفع الناس بالغائب المستور قال كما
ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب» إلى غير ذلك من أخبار الباب بل أن الحكمة
الداعية إلى تشريع الحكم وبعث النبي ونصب الوصى داعية إلى ذلك أيضا ومثل إن الغرض
من نصب المعصوم في كل وقت تبليغ الحكم إلا اذا قدّر عدم إمكان التبليغ في حقه بطل
هذا الغرض. وهذا المسلك لا يتم إلا عند الشيعة الذين يقولون بأنه في كل عصر إلى
يوم القيامة يوجد إمام له إما ظاهر أو مستور وإما عند أهل السنة فهو لا يتم إلا في
زمن الرسول وخلاصة هذا المسلك يرجع لوجوه :
الأول : قاعدة
اللطف.
الثاني : إن سكوت
الامام مع وجوده يكون تقريرا لهم وتوضيح ذلك إنهم لما أجمعوا على الحكم للمسألة
فلا بد اطلع المعصوم على إجماعهم لأنه المتولى لشئونهم ومع ذلك سكت ولم يمنعهم
فيكون سكوته
تقريرا لهم على ما
أجمعوا عليه والتقرير نعم الدليل.
الثالث : ما في
الرواية من قوله (ع) : «إن المجمع عليه لا ريب فيه».
الرابع : ما دل من
إن الأرض لا تخلو من حجة ينتفع به «إن زاد المؤمنون شيئا ردهم» ، ويمكن ان يناقش
في صحة هذه الطريقة بما عرفته من عدم تمامية الصغرى لعدم إحراز الاتفاق من جميع
العلماء.
وأما الكبرى وهو
حجية هذا الاتفاق فباطلة لأن الحجية إن كان من جهة قاعدة اللطف فاللطف الواجب على
الله هو وجود المعصوم ، ووجوب إرشاده وردعه هو من شئون إمامته وتوابعها وهو إنما
يجب عليه لا على الله تعالى نعم لو خالف (وحاشاه) استحق العقاب ولا ريب إنما يجب
عليه إذا اقتضته المصلحة ولم يكن مانع عنه ولعل المصلحة تقتضي الاجماع من العلماء
على الحكم الظاهري لا الواقعي في عصر المجمعين ومع هذا الاحتمال لا يحصل القطع
بموافقة الاجماع.
هذا مع أن اللطف
إنما يجب على الله إذا لم يمنع منه المتلطف عليهم إما مع منعهم وصدهم عنه مع كمال
عقولهم فلا يجب على المتلطف فعله بل لعله لا يحسن فعله ، فإن الاكرام للانسان حسن
لكن إذا منع منه المتكرم عليه أو لا يمكن المحسن ان يصل اليه وصد عنه لا يحسن وهنا
أن النبي (ص) أو الامام قد منعا من الوصول اليهما والاستفادة منهما العباد أما
النبى (ص) فقد منع من وصوله لهم الموت وأما الأئمة بعده عند الشيعة فقد كان الامام
منهم مستتر بإمامته لا يمكنه الوصول اليهم خوفا على نفسه حتى ألجئوه إلى الاستتار
بإمامته فلا يجب عليه إظهار نفسه خوفا عليها ولا إبداء رأيه مع الجهل بشخصه إذ لا
أثر
له ولم يعرف عند
ذا فقاهته.
على أن اللطف إنما
يقتضي نصب النبي (ص) أو الامام وأدائهم الرسالة على الوجه المتعارف وهم أدوا ذلك
على النحو المطلوب منهم ولا يقتضي اللطف أزيد من ذلك بحيث يكون على النبي (ص) أو
الامام إرشاد كل جاهل وردع كل مشتبه ولو بطريق السر وإلا لما وقع الاختلاف بين
الفقهاء ولأصبح كل مجتهد مصيبا لأن المعصوم بحسب ما هو عليه من القوى الخارقة
للعادة يتمكن من الوصول لكل أحد ويقنعه بالنحو الخارق للعادة فلو كان الواجب عليه
هو الردع والاقناع ولو بالطرق الخارقة للعادة لما أفتى مجتهد بخلاف الواقع.
وإما حجية الكبرى
ان كانت من جهة تقرير المعصوم فتقرير المعصوم إنما يكون مع حضوره ومعرفته بشخصه
ولم يكن مانع عن ردعه ردعا بحسب المتعارف فيكون ذلك كاشفا عن رضاه ورأيه إما مع
تستره وعدم تمكنه من إبراز شخصه والردع عن ذلك بنحو المتعارف كما في زمن الغيبة
عند الشيعة فلا يكون عدم ردعه كاشفا عن رضاه.
وأما إن كان حجية
الكبرى من جهة قوله (ع) في المقبولة : «إن المجمع عليه لا ريب فيه». فالظاهر إن
المراد به الرواية المجمع عليها كما هو محط نظر الرواية سؤالا وجوبا.
وأما إن كان حجية
الكبرى من جهة الروايات المذكورة ففيه : أولا : أن المراد هو ردع الامام لهم
بالوجه المعتاد بأن يكون بالاسباب العادية كما هو المتبادر من إطلاقه وهذا لا يوجد
في زمن الغيبة وأما في زمن الحضور فقد عرفت إمكان تحققه لإمكان العلم برأي المعصوم
وإما المراد بالانتفاع بالإمام عند استتاره هو الانتفاع
بفيوضاته القدسية
وإفاضاته الروحية كما يدل عليه ما في تلك الأخبار من أن الانتفاع به وهو غائب
كالانتفاع بالشمس إذا سترها السحاب هذا مع احتمال أن المراد بهذه الأخبار هو الردع
والمساعدة فيما إذا أوجب تركهما انهدام الشرع وكسر بيضة الإسلام كما لوقعت شبهة في
نفوس المسلمين أو في الطائفة المحقة منهم يخاف عليهم منها رجوعهم عن الحق فيجب إذ
ذاك على الامام المستور هو ردعهم عنها ومساعدتهم على دفعها ولو بالوجه الغير
المتعارف.
الطريق الثالث :
من طرق تحصيل الاجماع الذي هو حجة ما سلكه كثير من المتأخرين وهو أن الاجماع اتفاق
جماعة يكشف حدسا عن رضاء المعصوم ولا فرق فيه بين كون المجمعين جميعا من عدا
الامام أو بعضهم ولا بين كونهم خصوص العلماء أو غيرهم أو الملفق منهم ولا بين
كونهم أحياء أو أمواتا أو الملفق منهم ولا بين زمن الحضور والغيبة ولا بين العلم
بخروج شخص الإمام عن المجمعين أو الشك في ذلك نعم يعتبر عدم العلم بدخول شخص
المعصوم فيهم أو قوله في أقوالهم : إذ يخرج بذلك عن هذا المسلك ويدخل في الطريق
الأول والمسلك الأول. ولا بين كونهم في عصر واحد وعدمه ولا بين وجود مجهول النسب
فيهم وعدمه ولا بين كون المجمع عليه حكما شرعيا أو غيره إذ يمكن استظهار رأي رئيس
كل فن من اتفاق آراء جماعة من أهله وصحبه وهذا المسلك هو العمدة في الاجماع لإثبات
الاحكام عند المتأخرين لما عرفت من عدم تحقق الاطلاع عادة على الاجماع على الاول
وعدم ثبوت الطريق الثاني وقد عزي القول به إلى معظم المحققين بل قد يدعى إن مدار
دعوى الإجماع في لسان المتأخرين على ذلك وكيف كان فالكلام في ذلك كسابقيه يقع تارة
في الصغرى
وان به الكشف عن
رأي المعصوم والشرع وأخرى في الكبرى وفي أن هذا الكشف هل هو حجة أم لا. فنقول
والله المستعان.
أما الصغرى
فالكلام فيها في إثبات إمكان الاستكشاف عن رضى المعصوم والمشرع ووقوعه ، والإنصاف
إن إمكان الاستكشاف مما لا ينبغي التأمل فيه لأن أساطين العلماء الاذكياء الأتقياء
مع تباين أفكارهم وتفاوت أنظارهم واختلاف قريحتهم وكونهم منقطعين في معرفتهم إلى
المشرع متحرزين عن الكذب عليه باذلين جهودهم في تحصيل الحكم الشرعي منه إذا اتفقوا
في حكم من الاحكام على أنه حكم الشرع للواصل إليهم من الشارع يحصل لنا العلم بأنه
كذلك كما نشاهد ذلك بالوجدان في نفوسنا في المسائل اللغوية والعلوم الادبية فإن
اتفاق أربابها على حكم مسألة مع ما هم عليه من النزاع في غير ذلك يوجب العلم
والقطع بحكمها اللغوي والأدبي هذا بحسب الإمكان وأما بحسب الوقوع فنقول أن حصول
العلم برأي المشرع من اتفاق جماعة حدسا انه قد يقع لأحد دون آخر أو في حال دون حال
أو وقت دون وقت ونحو ذلك حسب اختلاف الناس في الحدسيات من حيث قوة الذهن وعدمها
فان الحدس الذهني يختلف ضعفا وقوة بحسب الاشخاص والظروف والاحوال ألا ترى أن
الانسان لو دخل مكانا وفيه علماء تابعين لأبي حنيفة أو الشافعي أو غيرهما ورأى أن
هؤلاء العلماء في صلاتهم يقولون آمين أو ذكروا له إن قول إمامنا وجوب التأمين بعد
الحمد فهل يشك في أن رأي إمامهم بخلاف ذلك؟
وبالجملة اتفاق
اهل الرجل وأصحابه واتباعه ومقلديه على أمر يمكن أن يكشف كشفا قطعيا عن رأي ذلك
الرجل وتحقق أمثال هذا في أمثال زماننا غير عزيز فلو اطلعنا على معتقد زرارة ومحمد
بن مسلم وليث
المرادي ويونس
ونحوهم من الاجلاء لقطعنا بأن هذا رأي رئيسهم :
وأما الكبرى فمما لا ينبغي الإشكال فيها
إذ لا شبهة عندنا في حجية رأي الإمام خصوصا في مقام تبليغ الاحكام وأما احتمال كون
رأيه من باب التقية فهو يرجع إلى القدح في الصغرى لأن محل كلامنا هو إحراز رأي
الامام الواقعي من الاتفاق والاجماع مع أن أصالة عدم التقية من الاصول المعتبرة
وإن لم يكن الاجماع من جميع الفقهاء قطعيا ولا يخفي ما في هذا المسلك فان غاية ما
يمكن أن يكون المستفاد منه على سبيل القطع هو أن المتفقين والمجمعين إنما استندوا
إلى دليل معتبر عندهم ولعله غير معتبر عندنا أو إلى أصل من الأصول العملية.
والمقام عند التحقيق ليس بمجرى ذلك الأصل ، وكيف كان فلا يستفاد من الاتفاق بين
الفقهاء بعد انقضاء عصر المعصوم أكثر من العلم بوجود دليل معتبر عندهم أو أصل صحيح
لديهم وهذا لا يوجب اعتبار ذلك الدليل عندنا ولا ذلك الأصل لدينا ولا يستفاد منه
القطع برأي الامام إلا للأوحدي من الفقهاء أو البسيط منهم أو كانت سيرة العلماء
الصالحين في زمانه وعند حضوره ولذا لم تكن الشهرة في الفتوى حجة عند أكثر القدماء
والمتأخرين وسيجيء إنشاء الله الكلام في حجية السيرة والشهرة.
ما هو مورد
الاجماع :
لما كان اعتبار
الاجماع من باب كشفه عن قول المعصوم (ع) على ما عليه الاصحاب يقتصر في مورده على
الحكم الشرعي لأن قوله ورضاه إنما يلاحظ فيما بيانه من شأن الشارع ووظيفته. وعليه
فالانفاق المنعقد على غير الحكم الشرعي ليس إجماعا عندهم وإن شاع عليه إطلاق
الإجماع. نعم هو حجة من كل أهل فن في مسائل ذلك الفن كإجماع
الصرفيين في
المسائل الصرفية والنحويين في النحوية واللغويين في اللغوية وهكذا لا في مسائل
غيره كإجماع الفقهاء أو الاصوليين في المسألة اللغوية كما قد وقع التمسك به من
بعضهم فيها وذلك لأن أهل الفن لهم الخبرة بفنهم والرجوع اليهم من باب الرجوع لأهل
الخبرة :
أقسام الاجماع :
ثم أن الاجماع
باعتبار القول وعدمه ينقسم إلى أقسام ثلاثة :
أحدها الاجماع
القولي : ـ وهو صدور الفتوى من جميع الفقهاء بالمسألة.
ثانيها الاجماع
العملي : ـ وهو اتفاق الفقهاء على القيام بالعمل بهذا النحو كحجهم وصومهم بهذه
الكيفية ويسمى بالسيرة.
ثالثها الاجماع
السكوتي : ـ كأن يفتي بعض الفقهاء بشيء أو يعمل به ويسكت الباقون بعد علمهم
بالفتوى أو العمل من ذلك المجتهد ومضي مدة بعد العلم تصلح للفتوى منهم بخلافه وعدم
التقية من مخالفته وقد ذهب لحجية هذا القسم أكثر الحنفية وأحمد بن حنبل وذهب
المالكية وبعض الحنفية وأكثر المتكلمين والشافعية أخيرا إلى عدم كونه إجماعا وليس
بحجة.
الاجماع المحصل
والاجماع المنقول :
وينقسم الإجماع
باعتبار تحصيله ونقله إلى قسمين :
محصل : ـ وهو ما
حصله المدعي له بنفسه وذلك بأن يطلع على فتاوي المجتهدين واحدا واحدا ويجدها
متفقة.
ومنقول : ـ وهو ما
نقله الغير مستدلا به على مدعاه :
حجية الاجماع
المنقول :
اختلفوا في حجية
الاجماع المنقول بعد البناء على حجية الاجماع المحصل وحجية النقل بنحو التواتر أو
الآحاد ومرجع البحث عن ذلك إلى أن الاجماع المحقق عند المنقول عنه الذي هو أحد
الأدلة الاربعة هل يثبت بالنقل على وجه التواتر أو الآحاد للمنقول له بحيث يعتمد
عليه كما يعتمد على الاجماع المتحقق عنده نظير السنة في ثبوتها بالتواتر والآحاد
للمنقول له بحيث يعتمد على نقلها كما يعتمد عليها إذا تحققت عنده ، وحيث أن
الاجماع إنما كانت حجيته عندنا من جهة ثبوت السنة به بالتضمن كما هو طريقة
المتقدمين أو بالالتزام العقلي كما هو طريقة الشيخ والتزام الحدسي كما هو طريقة
المتأخرين كان مرجع البحث هنا إلى أن خبر الواحد بعد ثبوت السنة الصريحة به هل
يثبت به السنة المدلول عليها بالتضمن أو الالتزام أو الحدس أو لا.
فالقائل بحجية
الاجماع المنقول إنما يقول به من جهة حجية الخبر الواحد عنده لشمول أدلة الخبر
الواحد في نظره لنقل الواحد للاجماع ولذا تجيء أقسام نقل الخبر الواحد في نقل
الواحد للاجماع وتلحقها ما يلحقها من الاحكام من الصحة والضعف وغيرها وإن شئت قلت
إنه لا دليل عندهم لحجية نقل الإجماع بالخصوص إلا أدلة حجية الخبر الواحد فلا بد
من اثبات شمولها لنقل الاجماع وإلا فهو ليس بحجة إلا أن التحقيق إنه ليس بحجة لأن
مستند الناقل له إن كان علمه بقول الامام عن حس بأن سمع قول الامام في جملة أقوال
جماعة لا يعرف أعيانهم كما عليه طريقة القدماء في الاجماع فقد تقدم أنه عزيز
الوجود بل هو مفقود في حق هؤلاء الناقلين له كالشيخين والسيدين وغيرهما من قدماء
العلماء فإن الظاهر إن نقلة الاجماع من القدماء لن يكونوا في
عصر ظهور
المعصومين وان كان الناقل مستند علمه بقول الامام هو قاعدة اللطف كما عن الشيخ قدسسره فقد عرفت عدم نهوضها عن الكشف عن قول الإمام (ع) ، وإن نقل
اجماعات الشيخ كانت مستندة الى ذلك.
وإن كان مستند علم
الناقل للاجماع بقول الامام هو الحدس كما عليه المتأخرون فقد عرفت إن اتفاق جماعة
ليس من المبادئ التي توجب العلم بقول المعصوم والشارع لكل أحسن فلعلها مما لا توجب
العلم المذكور للمنقول اليه بل قد عرفت فيها بحيث لو حصل لنا لحصل منه العلم لنا
عادة وإنما هي موجبة للحدس بوجود دليل معتبر عند المنقول عنه الاجماع ولا يلزم من
اعتباره عنده اعتباره عند المنقول اليه ولو سلم حصول العلم بذلك من اتفاق جميع
العلماء فقد تقدم منع إمكان تحصيل الاتفاق عادة فيما بعد زمان وجود النبي (ص) عند
أهل السنة وبعد زمان الغيبة عند الشيعة. فلا بد من حمل الاجماعات المنقولة الواقعة
في كلماتهم في هذه الأزمنة على إرادة القسمين الأخيرين صونا لكلامهم عن الكذب لا
تصحيحا للاعتماد على منقولاتهم ومن هذا ظهر لك حال الاجماع المنقول بنحو التواتر
لأن المنقول بالتواتر إن كان هو الاجماع على مسلك القدماء فهو.
وإن كان أمرا حسيا
يمكن وقوع التواتر فيه إلا أن الكلام في أصل تحقق الاجماع على طريقة القدماء لما
عرفت من امتناع الاطلاع عليه عادة فضلا عن نقله بتواتر أو آحاد.
وإن كان على مسلك
الشيخ فقد تقدم عدم صحته عندنا.
وإن كان على مسلك
المتأخرين فكذلك أيضا لأن معرفة قول الشارع منه حدسيا لا علميا ومن هنا تعرف إن
نقل تواتر الخبر ليس بحجة
ولو قلنا بحجية
خبر الواحد لأن التواتر صفة قائمة في الخبر تحصل من أخبار جماعة تفيد العلم بصحة
الخبر للمخبر به وحصول العلم بالتواتر للناقل من اللوازم التي تختلف باختلاف
الحالات والنفسيات والظروف والأحوال فحصول التواتر لشخص لا يوجب حصوله لآخر حتى لو
علمنا علم اليقين بأنه قد تواتر عنده فكيف بالخبر الواحد.
الاجماع للقولي
والاجماع السكوتي :
وباعتبار انقسام
الاجماع إلى اتفاق أقوال العلماء وإلى قول بعضهم وسكوت الآخر ينقسم الاجماع إلى
اجماع قولي واجماع سكوتي وقد يسمى بعدم الخلاف.
فالإجماع القولي :
هو عبارة عن تصريح العلماء بحكم واحد متفقين عليه.
والإجماع السكوتي
: ـ عبارة عن حكم بعض المجتهدين بشيء اطلع عليه الباقون فسكتوا وهو ليس بحجة عندنا
لما عرفت أن الاجماع المعتبر هو الاتفاق الكاشف ومن الظاهر أن السكوت أعم من
الاتفاق لاحتمال ان السكوت كان لأجل التوقف أو لمهلة النظر أو لتجديده أو لأجل
التقية في الإنكار.
وأما عند أهل
السنة فلما عرفت من أن الإجماع عندهم هو الاتفاق.
والسكوت أعم منه.
انقسام الاجماع
إلى لفظي ولبي :
وباعتبار اتفاق
المجتهدين في الفتوى لفظا ومعنى كما لو قالوا بمقالة واحدة إن الكلب نجس أو عدم
اتفاقهم في اللفظ بل كل عبر بتعبير
خاص مع الاتفاق في
المعنى ينقسم الاجماع الى لفظي ولبي ،
فما كان من القسم
الأول يسمى باللفظي وتجري في معقده القواعد اللفظية من العموم والاطلاق والتقييد
والانصراف وعدمه ـ وعليه قد يكون الاجماع ظنيا إذا كان اللفظ ظني الدلالة وإن كان
قطعي السند كما في ظواهر الكتاب والخبر المتواتر.
وما كان من القسم
الثاني يسمى باللبي لأن المعلوم ثبوته هو المضمون الجامع بين الألفاظ فليس يجري
فيه القواعد اللفظية ويكون كالخبر المتواتر المعنوي فيؤخذ بالقدر المتيقن ،
انقسام الاجماع
إلى بسيط ومركب :
وينقسم الاجماع
باعتبار تحققه إلى بسيط ومركب :
فالبسيط : ـ هو
اتفاق الفقهاء على حكم واحد في المسألة ،
والمركب : ـ هو
الاتفاق الكاشف عن نفي القول الثالث في مسألة أو مسألتين يوجد بينهما قدر جامع كلي
أو مسألتين لا يوجد بينهما قدر مشترك ، فالإجماع المركب على أقسام ثلاثة :
فمن أمثلة قسمه
الأول انحصار القول بين الأصحاب في وجوب السجدة لقراءة العزيمة في اثناء الصلاة
وحرمتها فبعضهم من قال بوجوبها وبعضهم من قال بحرمتها فالقول بالاستحباب أو
الكراهة موجب للحكم بخلافهما وخرق للاجماع المركب. ومنها قول بعض باستحباب الجهر
بالقراءة في ظهر الجمعة وقول آخر بحرمته فالقول بوجوبه إحداث لقول خارج عنهما خارق
للاجماع المركب. ومنها إن المشتري الواطئ للأمة للواجد فيها عيب ممنوع من الرد على
قول ويجوز الرد مع الارش على قول آخر فالقول بالرد مجانا إحداث لقول ثالث
خارج عنهما خارق
للاجماع المركب.
ومن أمثلة القسم
الثاني أن بعض الأصحاب قال بوجوب الغسل لوطء الدبر مطلقا وقال آخرون بعدم وجوبه له
كذلك فالقول بوجوبه في دبر الرجل دون المرأة خرق للاجماع المركب من غير إحداث لحكم
زائد. خارج عن الأولين كما كان كذلك في الامثلة السابقة.
ومنها أن للأصحاب
قولا بفسخ النكاح لكل واحد من العيوب وقولا آخر بعدمه في كل العيوب فاختيار الفسخ
في بعض العيوب دون بعض خرق للاجماع المركب كسابقه من المثال ويسمى هذا القسم
الثاني قولا بالفصل أيضا حيث وجود القدر الجامع بين المسألتين وهو الدبر والعيب في
المثالين.
ومن أمثلة القسم
الثالث : قول بعضهم بأن المسلم لا يقتل بالذمي ولا يصح بيع الغائب وقول بعضهم
بقتله به وبصحة بيع الغائب فالقول بالقتل وعدم صحة بيع الغائب أو العكس خرق
للاجماع المركب وقول بالفصل ومنها قول بعض بوجوب غسل الجمعة ووجوب صلاة الجمعة
عينا وقول باستحباب الغسل ووجوب صلاة الجمعة تخييرا بينهما وبين صلاة الظهر فالقول
باستحباب الغسل والوجوب العيني لصلاة الجمعة قولا بالفصل وخرقا للاجماع المركب.
وبهذا ظهر لك ان اعتبار البساطة والتركيب في الاجماع باعتبار منشأ الاجماع لا في
معقده لأن معقده في كلا القسمين واحد فانه البسيط هو الحكم الشرعي الواحد وفي
المركب هو نفي القول الثالث وايما كان التركيب في منشأ الإجماع فانه في البسيط كان
هو الاتفاق على قول واحد وفي المركب هو الاتفاق بعض الفقهاء على أحد القولين
والبعض الآخر على القول الآخر. كما ظهر لك الفرق بين خرق الإجماع والقول بالفصل ،
وان
المناط في خرق
الاجماع هو مخالفة الاتفاق والمناط في القول بالفصل هو التفصيل بين موارد الحكم الذي
لم يفصّلوا بينهما الفقهاء فيكون بينهما بحسب التحقق عموم من وجه لأنه قد يجتمع
خرق الاجماع المركب مع القول بالفصل كمسألة وطء الدبر والفسخ بالعيوب وقد يوجد
الاول فقط كمسألة الجهر في ظهر الجمعة وقد يكون بالعكس كالقول المقابل للاجماعين
البسيطين كما لو أجمعوا على وجوب غسل الثوب من البول وأجمعوا على وجوب غسله من
الروث فالقول بوجوب غسله من أحدهما دون الآخر قول بالتفصيل وهو ظاهر وليس إجماعا
مركبا لأن المناط في الاجماع المركب اختلاف الحكمين وهو مفقود ،
والحاصل أن المناط
في خرق الاجماع المركب هو القول المقابل للقولين أعم من أن يكون بالنسبة الى مسألة
أو مسألتين ومناط القول بالفصل التفصيل بين موارد الحكم أعم من كون تلك الموارد
متحدة الحكم أو مختلفة الحكم فيصير كل أعم من الآخر من جهة اذا عرفت ذلك فنقول ان
خرق الاجماع المركب أو القول بالفصل لا يجوز عند الأصحاب لأنه اذا أحرز أن المعصوم
مع أحد القولين كان القول بالفصل وخرق الاجماع مخالفة قطعية للمعصوم فاذا أثبتنا
نجاسة القليل بالملاقاة للعذرة بدليل معتبر فيتمسك في القول بنجاسته بسائر
النجاسات بالاجماع المركب اذ القائلون بالنجاسة والطهارة لا يفرقون بين الموارد.
نعم يستثنى من ذلك ما اذا كان القول الثالث موافقا للاحتياط أو كان وجه صدور قول
المعصوم موافقا لأحدهما على وجه التقية أو كان على وجه ضرب القاعدة العامة فانها
قابلة للتخصيص ، لكن هذين الأمرين الآخرين تصورهما في الاجماع المركب في غاية
التعسف وغاية
الندرة في التحقق ثم أن استكشاف قول المعصوم أو رضائه من الإجماع المركب على طريقة
القدماء وعلى طريقة الشيخ في غاية الوضوح لكون قول الامام مع أحد الطائفتين ضمنا
لكونه أحد علماء الأمة أو لكون قاعدة اللطف تقتضي عدم إخفائه للحق فلا بد أن يكون
مع أحدهما.
وأما على طريق
المتأخرين من استكشاف قول الامام من اتفاق جماعة لم يكن الامام معهم كما في زمان
الغيبة فقد يقال أنه مشكل لأن مدار هذه الطريقة كما مر على الحدس والقدر المسلم من
حصول الحدس هو صورة اتفاق أصحاب الشخص على قول واحد في حدس رأي ذلك الشخص لا ما
إذا اختلف أصحابه فإنه لا يحصل الحدس لرأيه لقوة احتمال خفائه عليهما كما قد خفي
قطعا على أحدهما.
والحاصل إن محل
كلامنا هو الاجماع المركب الذي يعلم إن رأي المعصوم مع أحد شطريه بانضمامه إلى أحد
الطائفتين أو بقاعدة اللطف أو بالحدس لو فرض حصوله فان لا يجوز خرقه والقول بالفصل
للزوم المخالفة القطعية للإمام.
إن قلت إن خرق
الاجماع المركب والقول بالفصل كما فيه مخالفة قطعية للمعصوم فيه موافقة قطعية
للمعصوم أيضا لأن الامام قائل بأحد القولين واختيار التفصيل يستلزم القطع
بالموافقة والمخالفة للمعصوم معا ولا دليل على لزوم اجتناب المخالفة حتى في صورة
القطع بالموافقة اللازمة له فالأصل يقتضي جواز الخرق لعدم الدليل على حرمته.
قلنا أن بناء
العقلاء على لزوم اجتناب الموافقة اللازمة للمخالفة ويختارون ما يحتمل الموافقة
دون المخالفة بالأخذ بأحد القولين لأن الضرر المحتمل مقدم على مقطوع الضرر عنده ،
هذا عند الشيعة. أما
عند أهل السنة
فالمحققون منهم وافقونا على عدم جواز الخرق للاجماع المركب وينسب لبعضهم الجواز
مطلقا ولعل الحق معه لأن الأدلة التي عندهم إنما عبدتهم باتفاق الأمة على المسألة
وهي لا تشمل صورة اختلاف الأمة.
لكن يمكن أن يرد
ذلك بأن الاجماع المركب كالاجماع البسيط في أن الاتفاق في الإجماع المركب على شيء
واحد وهو عدم القول الثالث لأن كل من الفريقين ينفي القول الثالث.
وظيفة المجتهد لو
قام عنده الاجماع المركب :
لا يخفى ان
الاجماع المركب إذا كنا نعلم بعدم خروج قول المعصوم والمشرع من أحد القولين وإن
رأيه مع إحدى الطائفتين فلا يجوز معه طرح القولين وأحداث قول ثالث للزوم طرح قول
المعصوم والمشرع وعليه فالمجتهد أما أن يجد على أحد القولين دليلا اجتهاديا معتبرا
كان هو المتبع. لأن الاجماع المركب ان كان في مسألة واحدة غير قابلة للفصل كمسألة
صلاة الجمعة كان المستند هو الدليل المفروض اذ ليس فيه خرق للاجماع من دون حاجة
الى انضمام الاجماع اليه. وإن كان في مسألة كلية قابلة للفصل فإن كان ذلك الدليل
دل على تمام أحد القولين كان هو المستند أيضا من دون حاجة في تتميم الاستدلال إلى
انضمام الاجماع المركب اليه كما لو قام الدليل في مسألة وطء الدبر على وجوب الغسل
لوطء الدبر مطلقا سواء كان دبر المرأة أو الرجل وإن كان بحيث ساعد على بعض أحد
القولين في إحدى المسألتين ويقال له أحد شطري الإجماع المركب فلا اشكال في جواز
الاستناد إلى الاجماع المركب في ترجيح ذلك القول لثبوت الملازمة بين الشطرين
به ومرجع الاستدلال
بهما حينئذ إثبات الملزوم بالدليل المفروض وإحراز الملازمة بالاجماع المركب
فالدليل المفروض له مدلول مطابقي في موضوعه ومدلول التزامي شرعي وهو مثل هذا الحكم
في البعض الآخر ولما كانت الملازمة لا بد لها من دليل فالدليل عليها الاجماع
المركب وعدم القول بالفصل فلو اختلفت الأمة في مسألة كون مسير أربعة فراسخ موجبا
لتقصير الصلاة وإفطار الصوم مثلا على قولين مع الاتفاق على أن لا فصل بين
المسألتين ووردت رواية في إحدى المسألتين خاصة كما لو فرض ورود قوله : قصر صلاتك
بأربعة فراسخ مثلا كان ذلك موردا للاستدلال بالاجماع المركب وعدم القول بالفصل
فيقال يجب التقصير في الصلاة للرواية وكذلك الافطار في الصوم للملازمة الثابتة
بالاجماع المركب وعدم القول بالفصل إذ كل من قال بوجوب التقصير قال بوجوب الافطار
أيضا وكل من قال بعدم وجوب الافطار قال بعدم وجوب التقصير أيضا.
وبالجملة الرواية
المفروضة تدل بالمطابقة على وجوب التقصير بالملازمة الشرعية على وجوب الافطار
ودليل الملازمة الاجماع المركب ولو وردت رواية تدل على حرمة الافطار ينعكس الأمر
ولو وردتا معا يقع التعارض بينهما بواسطة الاجماع المركب لوضوح ثبوت الملازمة
بسببه بين الطرفين في كل من الاثبات والنفي فلا بد حينئذ من العلاج بترجيح أحدهما
على الآخر ومع عدم المرجح فالتخيير بينهما ابتداء لا استمرارا حذرا من المخالفة
القطعية لحكم المشرع الذي أحرز وجوده مع أحدهما وتحقيق الحال يطلب مما حررناه في
كتابنا النور الساطع في وظيفة المجتهد عند تعارض الروايتين أو العلم بأحد الحكمين.
أما لو كان مع أحد
القولين أصل حاكم أو وارد على الأصل الموجود في الآخر فالأصل الجاري في السبب يقدم
على الاصل في المسبب كما لو فرض كل من قال بانفعال الماء القليل يقول فى النجاسة
للملاقي له وكل من قال بعدمه قال بالطهارة للملاقي له فالقول بطهارة الماء القليل
وبقاء نجاسة الملاقي له خرق للاجماع لكن استصحاب طهارة الماء بعد الملاقاة حاكمة
على استصحاب نجاسة الملاقي له ولو كان الاصلان في الجانبين في درجة واحدة فإن أمكن
العمل بهما من دون مخالفة قطعية كاصالة البراءة النافي لوجوب الصوم ووجوب التقصير
عمل بهما إذ لا محذور وان لم يمكن بأن كان أعمال الاصلين كل في مورده موجب للقول
بالفصل وهو مخالفة لحكم المعصوم والمشرع قطعية.
إن قلت ان الاجماع
المركب إنما يقتضي الملازمة بين الحكمين في الواقع لا في الحكم الظاهري فإن كل من
شطري الاجماع ناظر للواقع والقول بالفصل كان من جهة الأصل فيكون تفصيلا في الظاهر
وتجوز المخالفة القطعية في الحكم الظاهري للواقعي لأن الأحكام الظاهرية مجعولة
للاشياء في مرتبة الجهل بها وهي غير مرتبة الواقع ، ألا ترى انهم يحكمون بتنصيف
العين بين الاثنين اللذين ادعياها ولا يد لهما أو لهما يد عليها ويرتب أحكام
للزوجية على المقر من الزوجين دون الآخر وتخيير المقلد استمرارا بين الأخذ من
المجتهدين المختلفين فيقلد في جمعة أحدهما في وجوب الجمعة والآخر في الجمعة الأخرى
في حرمتها :
قلنا ما ذكرته من
الأمثلة إنما هو في الموضوعات ونحن كلامنا في الاحكام ولعل من جوّز ذلك في
الموضوعات لتنزيل حكمهم فيها على الخروج الموضوعي ولو بمقتضى الأصل الموضوعي فلا
يسري
التجويز في
الاحكام. مضافا الى إنا لا نسلم ذلك مطلقا لا في الموضوعات ولا الاحكام لأن العقل
حاكم بحرمة المخالفة القطعية للواقع حتى مع موافقة الحكم الظاهري من دون فرق بين
الموضوعات والأحكام لعموم الأدلة الدالة على حرمة المخالفة القطعية للحكم الواقعي
المعلوم ولو بالإجمال هذا كله على مسلك من يقول بحرمة المخالفة للقطعية وأما من لم
يقل بها فيجوز ذلك عنده وسيجىء إن شاء الله منا تحقيق ذلك في أصالة الاشتغال.
المصدر الثالث
السنة والحديث والخبر
وهي في اللغة
الطريقة. وعند علماء الحديث وأهل السير والتأريخ هو كل ما يتعلق بالرسول (ص) من
سيرة وخلق وأخبار وأقوال وأفعال سواء أثبتت حكما شرعيا أم لا. والسنة عند الفقهاء
هو العمل للواقع من المعصوم (ص) ولم يكن فرضا واجبا ، وأوضحنا ذلك في كتابنا
الأحكام.
وعند علماء أصول
الفقه هي قول المعصوم لفظا أو كتابة أو إشارة أو فعله إذا لم يعلم أنه من خصائصه
كالزواج بأكثر من أربعة. أو تركه كما لو ترك (ص) القنوت في صلاة الصبح فإن تركه (ص)
دليل على عدم وجوبه ، أو تقريره لما يصدر عن غيره بسكوت أو موافقة أو استحسان مع
تمكنه من الردع.
فالأول : يسمى
بالسنة القولية كالأحاديث التي تلفظ بها للرسول (ص) مثل قوله (ص) : «الاعمال
بالنيات» «ولا ضرر ولا ضرار في الاسلام».
والثاني : يسمى
بالسنة الفعلية وهي الأفعال التي صدرت من المعصوم يقصد بها بيان التشريع كصلاته
ووضوئه.
والثالث : يسمى
بالنسبة التركية ويمكن أن تلحق بالسنة الفعلية باعتبار أن الترك يأول إلى الكف وهو
فعل.
والرابع : يسمى
بالسنة التقريرية وهي أن يستحسن أو يوافق أو يسكت المعصوم عن إنكار فعل أو تركه أو
قول صدر في حضوره أو في غيبته وعلم به ولم يردع عنه.
ولا إشكال في حجية
السنة لأنها صادرة عن المعصوم عن الخطأ وقد قام الاجماع وضرورة الدين على حجيتها
وإنما وقع النزاع في مصاديقها ففقهاء السنة يرون المعصوم هو خصوص النبي (ص)
والشيعة الإمامية يرون أن النبي (ص) والأئمة الاثنى عشر من بعده وسيدة النساء فاطمة
الزهراء بنت رسول الله (ص) كلهم معصومون من الخطأ والغلط في بيان الأحكام الشرعية
هذا هو المعروف في معنى السنة ، وقد تطلق السنة على ذلك وعلى الحاكي عن تلك الأمور
فيكون معناها أعم من المعنى الأول.
والحديث لغة الخبر
، واصطلاحا ما يحكى السنة من قول المعصوم أو فعله أو تركه أو تقريره. والنسبة بين
السنة والحديث عموم من وجه يجتمعان فيما لو نقل النبي (ص) قول نفسه بأن قال لقد
قلت لا ضرر ولا ضرار وكما لو نقل أحد الأئمة (ع) عن النبي (ص) أو عن امام آخر قوله
أو فعله أو تقريره فانه من حيث أنه قولة (ص) يكون سنة ومن حيث أنه حاكي عن النبي (ص)
أو عن إمام آخر معصوم يكون حديثا. وأما مادة الافتراق كقول الصحابي إن المعصوم فعل
كذا فانه حديث ناقل للسنة كما أن نفس قول المعصوم وفعله سنة وليس بحديث.
وكيف كان فاذا قيل
جاء في الحديث كذا وجاء في السنة خلافة فالمراد بالحديث هو الحاكي عن السنة
وبالسنة هو المعنى الاول وهذا الكلام يقال عند ما يثبت عند القائل بان قول المعصوم
أو فعله أو تقريره
خلاف ما دل عليه
الحديث وعند ذا ان أمكن الجمع والتوفيق بينهما جمع بينهما ، وإلا أخذ بالراجح وإلا
تساقطا كما هو مذكور في باب التعارض ، واذا أطلقوا متن الحديث فمرادهم خصوص اللفظ
الحاكي للسنة وإذا أطلقوا سند الحديث فمرادهم طريق متن الحديث أعني جملة رواته
وإذا أطلقوا الاسناد فمرادهم رفع الحديث لقائله.
والخبر مرادف
للحديث لغة واصطلاحا فإن كليهما في اللغة بمعنى الاعلام وكل منهما في الاصطلاح ما
يحكى عن السنة.
المقام الاول في
نفس السنة :
ثم ان الكلام في
السنة يقع في مقامين الأول في نفس السنة والثاني في نقلها والحكاية لها.
أما المقام الأول
: فقد عرفت أن نفس السنة عبارة عن القول والفعل والترك والتقرير.
أما القول الصادر
من المعصوم لا أشكال في حجيته ووجوب العمل بمؤداه لمكان عصمة قائله عن الخطأ في كل
ما أخبر به عن الواقع فيكون ما أخبر به حجة على الواقع ويجب العمل بمؤداه والأخذ
بظاهره ، كما هو الحال عند أهل المحاورات حيث يعملون بالقول بظاهره حسب ما تقتضيه
الأصول اللفظية في مقام المخاطبة وإنما لا يلتفتون ولا يدركون الأصول اللفظية لما
هو مركوز في أذهانهم ومودوع في خزانة أفكارهم من الأصول اللفظية لكن وجوب العمل
بقول المعصوم (عليهالسلام) مشروط بشرطين : ـ
الأول : أن يكون
جهة صدوره هو بيان الحكم الواقعي لا لجهة أخرى من تقية أو غيرها من مصالح إظهار
غير الواقع بصورة الواقع
ومع الشك فالأصل
أنه لبيان الواقع وهذا الأصل عليه بناء العقلاء في محاوراتهم.
والثاني : أن يكون
بعد الفحص عن عدم المعارض وعدم المخصص والمقيد له وعدم القرنية الحالية والمقالية.
وأما الفعل أو
الترك الصادر من المعصوم فهو حجة يجب العمل به لمكان عصمة الفاعل عن الخطأ في فعله
الذي طلبه الشارع في الواقع وعصمة التارك في تركه الذي أراده الشارع في الواقع ،
وأما كون هذا الفعل أو الترك حجة على المكلف بدليل اشتراك المكلف مع المعصوم في
التكليف ولا ريب أن الفعل من المعصوم يكون دليلا على الحكم إذا كان الفعل الصادر
من المعصوم بيانا لمجمل ما أمر به ، وهكذا الترك الصادر منه إذا كان بيانا لما نهى
عنه فإذا أمر المعصوم بشيء ثم اشتغل بفعل ذلك الشيء بحيث يعلم كونه بيانا منه له
عباديا كالصلاة أم معامليا كالغسل (بالفتح) فالواجب على المكلف هو متابعة المعصوم
فى فعله لذلك الشيء في جميع ما علم مدخليته في البيان وعدم وجوبه فيما علم بعدم
مدخليته في البيان. واما المشكوك مدخليته في بيان الفعل فإن كان عملا كما لو قنت
المعصوم في الصلاة ولم يعلم أن القنوت داخلا فيما فمقتضى وقوعه في العمل الذي هو
البيان هو وجوبه لأن وقوعه في مقام البيان يقتضي أنه من البيان لما هو مطلوب في
العمل من الاجزاء.
وأما إن كان هيئة
للعمل وخصوصية له كالتوالي بين أجزاء الوضوء والغسل أو الابتداء من الاعلى في غسل
الوجه فالظاهر عدم اعتباره لكون الهيئة والخصوصية من لوازم العمل فهو لا بد أن يقع
على نحو من أنحائها فلا يراه العرف بيانا للعمل ولذا تراهم لا يعتنون بخصوصيات
الافعال بتمامها
بل لا يمكن الاحاطة بها واحصائها للمكلفين فلو أرادها الشارع كان عليه البيان لها.
كما أنه لا ريب في عدم حجية فعل المعصوم ما إذا علم اختصاصه به كما في خصائص النبي
(ص) كزواجه زواجا دائميا بأكثر من أربعة وكذا إذا كان الفعل من العاديات ومن
مقتضيات الطبيعة كالأكل والشرب والنوم ونحوها مما كان صدوره من الإنسان بحسب طبعه
وعادته فإنه لم يكن دليلا على الحكم الشرعي نعم إنما يدل على إباحته كما يستدل على
جواز القبلة من الصائم بما روي عن فعل النبي (ص) ذلك ، وهكذا التروك كتركه للنوم
صباحا وقد يدل على استحباب نوع خاص منها أو كراهته فيما لو دل على محبوبية العمل
الخاص بهذه الكيفية أو كراهته بكيفية خاصة.
إن قلت قد اشتهر
ان المعصومين لا يصدر منهم المباح وإن أفعالهم كلها مستحبة ومندوبة.
قلنا ان مرادهم
بما أشتهر هو أن المعصومين لا يأتون بالمباحات الذاتية إلا بعد قصد عنوان فيها
يوجب رجحانها كإجابة المؤمن أو تعظيمه أو القوة على العبادة فالحكم برجحان الاتيان
لا ينافي الاباحة الذاتية ومع احتمال الاباحة الذاتية لا دليل في الفعل على
الرجحان. وهكذا لا يكون الفعل حجة إذا لم يكن بداعي بيان الحكم الواقعي كأن كان لأجل
التقية ونحوها من مصالح إظهار غير الواقع بصورة الواقع ، نعم الذي هو حجة يستكشف
به الحكم الشرعي لنظائر الواقعة هو الفعل الذي قصد به بيان العمل المطلوب مع العلم
بجهة صدوره وإنه لبيان الحكم الواقعي لا أنه عمل صدر من جهة التقية ونحوها مما
يوجب إبراز غير الواقع بصورة الواقع والعلم بوجهه من الوجوب أو الاستحباب أو
الاباحة وعنوانه فإنه يكون حجة على ما دل عليه من متعلق الحكم
الشرعي فإن الفعل
إذا لم يعرف جهة صدوره ولا وجهه عن وجوب ونحوه لا يستفاد منه معرفة متعلق حكما
شرعيا ، وهكذا إذا لم يعرف العنوان الذي قصد منه لا يستفاد منه ذلك لما هو على
طبقه ونظائره ولا نأخذه دليلا على معرفة حكم ما شابهه ولو علمنا بأنه صدر منه على
جهة التشريع ، فاذا صدر من المعصوم فعل شيئا كالتمشي في المسجد بعد الصلاة ولم
نعلم أنه على جهة التشريع بأن احتمالنا أنه من جهة الالتذاذ أو لرؤية بعض الناس أو
لتنشيط الاعضاء فلا نستفيد منه حكما شرعيا ، وهكذا لو علم بأنه على نحو التشريع
ولكن علمنا بأنه لأجل التقية فلا يدل على الحكم الواقعي ، وهكذا لو علمنا بأنه صدر
بنحو بيان التشريع ولبيان الواقع ولكن لا نعلم وجهه من كونه عبادة أو غيرها واجبا
أو غيره فلا يدل على الحكم الواقعي فلا يحكم بعباديته ولا باستحبابه ولا بوجوبه
ومع العلم بأنه صدر على نحو الوجوب ولكن لم نعرف عنوانه من أعمال هذا اليوم أو
لهذه الصلاة أو بعنوان انه طواف أو انه منذور له فلا نحكم على نظائره وهذا هو
المراد للفقهاء من قولهم في بعض الوقائع الصادرة من المعصومين «بأنها قضية في
واقعة أو حكم في واقعة» فانه مرادهم أن هذا العمل الصادر من المعصوم لا يكون دليلا
على الحكم في نظائره لعدم في العلم بارادة بيان التشريع منه أو لعدم العلم بحكمه
أو لعدم معرفة عنوانه ، نعم لو كان للفعل ظهور في عنوانه وصدوره لبيان للتشريع
ظهورا يعتني به عرفا فيمكن القول بحجية هذا الظهور كما هو حجة في باب الألفاظ
باعتبار أن ظهور الالفاظ حجة من جهة اعتماد العرف عليه فهذا أيضا يكون حجة لاعتماد
العرف فما هو الملاك في حجية الظهور في الالفاظ بنفسه موجود في ظواهر الأفعال وقد
عرفت أن ما أشتهر من عدم صدور
المباح من
المعصومين المراد منه أنهم لا يأتون بالمباح الذاتي إلا بعنوان يوجب استحبابه
فإتيانهم بها لا يدل على عدم إباحتها الذاتية. وعليه فلا وجه للاستدلال على وجوب
الغسل عند التقاء الختانين وإن لم ينزل بما روته عائشة من غسل النبي (ص) لاحتمال
أنه على جهة الاستحباب ، وهكذا أحكام المعصوم إذا لم يعلم جهة صدورها كقوله (ص) «من
أحيا أرضا ميتة فهي له». إن كانت من باب الأذن والولاية فلا يجوز الاحياء بدون
إحراز إذنه (ص) وإن كانت من باب الفتوى جاز ذلك. نعم لو شك في جهة التشريع في أنها
لبيان الواقع أو للتقية فالأصل إنها لبيان الواقع لا للتقية ونحوها لبناء العقلاء
على ذلك في محاوراتهم ، هذا كله في السنة قولا أو فعلا أو تركا.
وأما التقرير : ـ فهو
عبارة عن سكوت المعصوم (ع) عن قول أو فعل أو ترك وقع باطلاعه ولم يردع عنه ، فان
ترك المعصوم الردع والزجر عنه كاشف عن رضائه به وذلك يقتضي الجواز والصحة لوجوب
إنكار الباطل والارشاد إلى الحق عليهم (ع) لكون وظيفتهم (عليهمالسلام) بيان الأحكام ورفع الجهل بها عن الأنام ولكن حجيته سكوت
المعصوم (ع) على الحكم الشرعي يشترط فيها شروط ثلاثة : ـ
أحدها : أن يكون
المعصوم عالما بوقوع العمل علما عاديا وإلا فلا يجب عليه الردع فان المعصومين
مأمورين بمعاملة الرعية بالعلوم الحاصلة من الاسباب العادية في باب الموضوعات ولذا
كانوا يحكمون بينهم بالايمان والبينات بل المعصومين غير النبي (ص) يعاملون الرعية
في الاحكام ايضا بالعلوم الحاصلة من الاسباب العادية أيضا ولذا
كانوا يستندون في
أحكامهم إلى الكتاب والسنة لا إلى إلهام فعلم المعصوم بالواقع والكائنات من طريق
الالهام والغيب لا ينفع فيما نحن فيه ، وإنما الذي هو شرط هو العلم من الاسباب
العادية ولو شك في علمه بالحادث من الاسباب العادية فبناء العقلاء والعرف على عدم
العلم.
الثاني : أن لا
يكون المعصوم (ع) خائفا من الردع والانكار وبيان الواقع والارشاد اليه ، إذ لو
نعلم بذلك لم يكن سكوته كاشفا لنا عن رضائه بذلك من دون فرق بين الخوف على نفسه أو
على غيره ولا بين الخوف على المال أو العرض أو النفس. ومع الشك في حصول الخوف
للمعصوم (ع) فالأصل عدم الخوف وعدم حصول المانع من الردع والبيان للواقع.
الثالث : أن لا
يكون الفاعل جاهلا بالموضوع كما إذا صلى بالثوب النجس جاهلا بنجاسته بمحضر المعصوم
فقد ذكروا أن ليس على المعصوم إرشاده إذ لا إرشاد في الموضوعات كما يظهر ذلك من
بعض الاخبار ولا نهي في حق الجاهل. وهكذا ان لا يكون مضطر اليه أو مجبورا عليه أو
غير ذلك من مصححات المخالفة للواقع فانه لو كان واحدا من ذلك فلا يدل السكوت من
المعصوم على الصحة والجواز ومع الشك في جهل الفاعل أو كونه مضطرا اليه أو عسرا
عليه تركه فالأصل هو العدم لأن ظاهر كل فاعل عند العقلاء أنه عالم بالفعل غير ناسي
ولا ساهي ولا مضطر اليه ولا عسر في تركه عليه فيكون سكوت المعصوم (ع) عنه دليلا
على الصحة والجواز :
المقام الثاني : ـ
ثبوت السنة بالحاكي لها
اثبات الحكم
الشرعي بالحاكي للسنة وحجيته عليه يتكلم فيه من
جهات أربعة :
احداها : إن
الحاكي للسنة تثبت به السنة إذ مع عدم ثبوتها به لا يصح الاعتماد عليه وهذه الجهة
هي محل البحث بين العلماء في حجية ما يحكى بها وعدمه ويسمى مبحث حجية الخبر ويبحث
فيه وعن أي قسم منه يكون هو الحجة.
ثانيها : أن يكون
صدور السنة المحكية به لبيان الحكم الواقعي لا لغرض آخر من تقية ونحوها مما يصحح
إظهار خلاف الواقع بصورة الواقع ، وهذا يسمى بجهة الصدور فمع العلم به لا كلام لنا
ومع الشك فالأصل فيه هو صدور السنة بجهة بيان الواقع لا لجهة أخرى من تقية أو
استهزاء أو نحوها للقاعدة المجمع عليها بين العلماء والعقلاء على حمل ما يصدر من
العاقل البالغ قولا أو فعلا أو تقريرا على ما هو المقصود منه ظاهرا بحسب المتعارف
لبيان الواقع لا لغرض التقية ولا لغرض الاستهزاء أو الافتراء ونحوها ولذا لا يسمع
دعواه ذلك إذا لم يأتي عليها بشواهد وحيث أن هذه الجهة معلومة الحال لم يتكلم فيها
على سبيل الاستقلال.
ثالثها : إثبات
دلالة الحاكي للسنة على الحكم الشرعي قولا كانت أو فعلا أو تقديرا وقد تكلف للبحث
عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانت قولا مباحث الالفاظ وأثبتوا فيها أن الظهور اللفظي
هو الحجة كما أن البحث عن دلالة الحاكي للسنة إذا كانت فعلا أو تقريرا قد تقدم في
المقام الأول.
رابعها : إثبات
عدم المعارض للسنة وعلاج المعارض لها وقد تكفل لهذه الجهة مبحث التعارض. وعليه
فالبحث عند الاصوليين في هذا المقام إنما هو في الجهة الأولى فقط مع الفراغ عن
تمامية الجهات
الأخرى. وعليه
يتلخص البحث في المقام عن الخبر الحاكي للسنة المفروض انها لبيان الحكم الواقعي
والمفروض تمامية دلالته عليها والمفروض عدم المعارض له في أنها هل تثبت بالخبر
الحاكي لها أم لا تثبت إلا بما يفيد القطع بصدورها من تواتر أو قرائن أو نحوها.
ثم أن الخبر الحاكي
للسنة إن كان رواته متصلين واحدا عن واحد بأسمائهم سماه الفقهاء ب (الحديث المسند)
أو المتصل المسند وإن كانوا منقطعين بمعنى أن في السلسلة من لم يذكر أو عبر عنه
بلفظ مبهم كأن يقول عن رجل أو عن بعض أصحابنا سماه الفقهاء ب (الحديث المرسل أو
المنقطع) والمسند ثلاثة أنواع : ـ
الأول المتواتر :
ـ وهو ما رواه جماعة كثيرة كثرة يمتنع بحسب العادة تواطؤهم على الكذب من زمن
المعصوم (ع) حتى وصل الينا ويعتبر ذلك في جميع الطبقات لو تعددت وهو على قسمين :
متواتر لفظي وهو
ما يفيد القطع بصدور هذا اللفظ من المعصوم (ص).
ومتواتر معنوي : ـ
وهو ما يفيد القطع بصدور مضمونة كشجاعة علي (عليهالسلام). والمتواتر حجة بقسميه لإفادته القطع واليقين بالسنة.
الثاني المشهور
ويسمى بالمستفيض : ـ وهو ما رواه جماعة عن المعصوم ما يفوقون على الثلاثة مع عدم
بلوغهم حد التواتر فلو وقعت الشهرة في الطبقة الاولى من الرواة له سماه الفقهاء
مشهورا قديما وإن وقعت بين المتأخرين سمي مشهورا متأخرا ، وإن كانت الشهرة بين
المتقدمين والمتأخرين سمي مشهورا على الاطلاق والاغلب على حجيته حتى أنهم يخصصون
عموم القرآن به ويقيدون عموم القرآن به
وذلك لحصول الوثوق
بصدور السنة به والاطمئنان بذلك. ويكفي في معرفة كون الخبر مشهورا بمراجعة
المصنفات الفقهية وكتب الروايات.
الثالث خبر الواحد
أو الآحاد : ـ وهو من لم تبلغ رواته حد التواتر ولا الشهرة وبعبارة أخرى هو ما لم
يتجاوز رواته الثلاثة ولو في طبقة من طبقاته والكثير من الفقهاء على جعل القسمين
الأخيرين قسما واحدا ويجعل الخبر المشهور من الخبر للواحد فيكون عنده الخبر المسند
على قسمين خبر متواتر وخبر واحد وقسموا الخبر الواحد غير المشهور إلى أربعة أقسام
: ـ
الاول صحيح : ـ وهو
ما كان مسندا تتصل رواته بالمعصوم وكلهم عدول.
الثاني الحسن : ـ وهو
ما كان رواته ممدوحين بمدح لم يبلغ التصريح بالعدالة كلهم أو كانوا عدول ولكن فيهم
واحد ممدوح لم يصرح بعدالته.
الثالث الموثوق :
ـ وهو ما كان رواته مأمونين من الكذب بأجمعهم أو واحد منهم وكان الباقون عدولا.
الرابع الضعيف : ـ
وهو ما لم يحرز كون رواته كذلك ويدخل فيه المرسل. والعلامة الحلي (ره) في كتابه
المختلف كان يذكر الخبر بوصفه بالصحة وغيرها ويترك الخبر الضعيف بلا وصف وقد ذكره (ره)
في خلاصته وصف أخبار كتاب الاستبصار والتهذيب ومن لا يحضره الفقيه وميز الصحيح
والحسن والموثوق والضعيف.
وكيف كان فمحل
الكلام هو الخبر الغير المفيد للعلم بالصدور لا الخبر المتواتر ولا الخبر المفيد
للقطع ولو بمعونة القرائن الخارجية
حيث أن حجيتهما لا
ريب فيها لحصول القطع بصدور السنة بهما وينحصر بحثنا هنا في الخبر الذي لا يفيد
القطع سواء كان خبرا واحدا أو مشهورا ، والكلام تارة عن إمكان التعبد به وقد خالف
فيه ابن قبة وبعض العامة وبطلانه واضح بعد ما سيظهر لك وقوع التعبد به فإن الوقوع
أدل دليل على إمكان الوقوع وإلا لما وقع.
وتارة في وقوع
التعبد به شرعا وإنه حجة شرعية وهو محط البحث هنا ، ثم أن البحث في حجيته ووقوع
التعبد به شرعا تارة يكون من حيث وقوع التعبد به من باب حجية مطلق الظن في باب
الاحكام الشرعية لدليل الانسداد أو غيره فلا يكون خبر الواحد على هذا حجة بنفسه بل
من باب إفادته الظن ويكون حاله حال سائر ما يفيد الظن والبحث في ذلك سيجيء إنشاء
الله في مبحث حجية مطلق الظن في باب الاحكام الشرعية.
وتارة يكون من حيث
وقوع التعبد به بخصوصه مع الغض عن حجية مطلق الظن بحيث يتكلم في حجيته حتى لو كان
مطلق الظن ليس بحجة وهذا هو محط النظر في هذا المقام وهو المخصوص بالكلام والفقهاء
في ذلك على طوائف.
فمنهم من أنكر
حجيته مطلقا وقال أن الخبر الغير الموجب لقطعية صدور السنة من المعصوم ليس بحجة
وإنما الحجة ما أفاد القطع كالمتواتر والخبر المحفوف بالقرائن المفيدة للقطع ،
ونسب هذا القول لبعض الفقهاء الشيعة كالمرتضى وابن زهرة وابن البراج وابن إدريس
والطبرسي وربما ينسب للشيخ المفيد وابن بابويه والمحقق ، وعن الوافية أنه لم يجد
القول بالحجية صريحا ممن تقدم على العلامة وعن ابن الحاجب نسبة المنع عن العمل
بخبر الواحد للرافضة وهو عجيب.
ومنهم الاخباريون
حيث عولوا على ما في الكتب المعتبرة وهي التي ألفها العلماء المعروفون بالعدالة
وأخذ مؤلفوها على عاتقهم أن ينقلوا فيها ما ثبت عندهم صحته كالكافي ومن لا يحضره
الفقيه والاستبصار وغيرها زعما منهم بأن ما فيها من الأخبار تفيد القطع واليقين
بالصدور لوجود قرائن ادعوا إفادتها القطع بذلك وفي المحكي عن الوسائل أنهاها إلى
خمس وعشرين قرينة وقد تفطن بعضهم لفساد هذه الدعوى فتنزل عن قطعية السند إلى قطعية
الاعتبار وعليه فهو يقول بحجية الخبر الواحد وإن لم يفيد القطع بالصدور ولكن يقول
بحجية خصوص ما كان في الكتب المعتبرة مطلقا حتى ما كان منه ضعيف السند أو مرسل
سنده.
ومنهم من قال بهذه
المقالة إلا أنه استثنى ما كان منها مخالف للمشهور فهو غير معتبر عنده كما هو
المحكي عن النراقي (ره) : ومنهم من قال بأن الحجة من الاخبار التي لا تفيد القطع
هو خصوص ما عمل به الأصحاب وينسب هذا القول للمحقق (ره).
ومنهم من قال بأن
الحجة هو خصوص من كان رواته عدولا أو ثقات.
وأما أهل السنة
فبعضهم أنكر حجيته ولكن جمهور فقهائهم على حجيته إلا أن الحنفي اشترط في غير ما هو
مشهور الرواية ألا يخالف راوية العمل به وأن يكون موافقا للقياس والقواعد الشرعية
وأن لا يكون في الوقائع التي تعم بها البلوى ولا فيما يتكرر وقوعه لأنه لو كان
فيها لاشتهر أو تواتر.
والمالكي اشترط في
حجيته أن يكون موافقا لما عليه أهل المدينة. واشترط الشافعي أن يكون رواته ثقات
معروفين بالصدق عاقلين لما
يحدثون به والخبر
متصل السند.
إن قلت : ـ قد قام
الاجماع من فقهاء الشيعة على العمل بالأخبار المدونة في كتبهم المعروفة المعتبرة
كالكتب الاربعة في هذه الأعصار بل لا يبعد كونه ذلك من ضروري المذهب كما نص عليه
الشيخ الأنصاري.
قلنا : ـ إن
الإجماع إنما قام على العمل بما فيها بنحو الإجمال لا على العمل بكل واحد منها فلا
يدري أي نوع منها كيف والعاملون بها اختلفوا فبعضهم عمل بها باعتبار إنها قطعية
الصدور كما عن طائفة من الاخباريين وعليه فالذي لا يقطع بالصدور ليست حجة عنده.
أو من جهة القول
بحجية الظن المطلق. وعليه فالذي لا يقول بحجية الظن المطلق ليست بحجة عنده من هذه
الجهة.
أو من جهة كون
الراوي لها في كل طبقه عدلا ضابطا زكاه عدلان ويسمى بالصحيح الأعلائي كما عن صاحب
المدارك وغيره : وعليه فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس له هذه الصفة حجة
عنده أو من جهة كون الراوي عدلا زكاه ولو عدل واحد ويسمى بالصحيح المشهور. وعليه
فلا يكون الخبر الموجود فيها الذي ليس فيه هذه الصفة حجة عنده أو من جهة كون
الراوي ثقة في مذهبه فيعتبر عنده من الأخبار الموجودة فيها خصوص ما كان رواته ثقات
أو من جهة شهرة الخبر فلا يعمل بغير المشهور منها أو من جهة عمل الأصحاب به كما عن
المحقق فلا يعمل بغيره أو من جهة حصول الوثوق بالصدور فلا يعمل بغير ما فيه هذه
الصفة. وهذا نظير ما إذا اتفق جماعة من الفقهاء على رؤية امرأة لكونها أخت لاحدهم
وزوجة لآخر وأم لآخر وربيبة لآخر ورضيعة لآخر فانه لا يحل
لغيرهم رؤيتها ولو
علم إن أحدهم المعصوم إذا لم تكن هناك جهة محللة لرؤيتها له فعملهم هذا لا يعد
إجماعا على صحة الرؤية لتلك المرأة لغيرهم ممن لا تكون له جهة مصححة ، فكذا ما نحن
فيه فان عمل العلماء بالأخبار المدونة في الكتب الأربعة أو السبعة لا يكون إجماعا
منهم على صحة عمل غيرهم بها إذا لم تكن أحد الجهات المحللة للعمل موجودة لديه إذا
عرفت ذلك فالتحقيق إن الخبر الغير مقطوع الصدور سواء كان خبرا مشهورا أو خبرا
واحدا هو حجة شرعية إذا حصل الوثوق بصدوره والدليل على ذلك هو عمل المسلمين به بل
عمل جميع العقلاء به مع عدم الردع من المعصومين عنه ولو منعنا عن العمل بالخبر الواحد
الموثوق الصدور لأصبح لنا فقه جديد مضافا إلى الآيات والأخبار والروايات المتظافرة
التي تؤكد إمضاء الشارع لذلك وأما لو عارضت السنة القرآن الكريم فان أمكن الجمع
العرفي بينهما فهو ، وإلّا فتطرح السنة والقرائن التي توجب الوثوق بصدوره : أحدها
: موافقته لأدلة العقل.
ثانيها : موافقته
للكتاب ولو كان خاصا والكتاب عاما.
ثالثها : موافقته
للسنة المقطوع بها من جهة التواتر.
رابعها : موافقته
للمشهور. وبعضهم ذكر أن هذه الأربعة لا توجب الوثوق بصدوره وإنما توجب الوثوق
بمضمونه لجواز كونه موضوعا على طبقها والحق إنها إن أوجبت الوثوق بصدوره كان حجة
وإلا فلا.
خامسها : أن يستند
المشهور في الفتوى إليه بأن عملوا به فإن ذلك يوجب الوثوق بصدوره ولذا عمل الأصحاب
بمراسيل ابن أبي عمير وغيرها :
وأما رواية
المشهور له مع عدم عملهم به فيدل على ضعفه إذا لم يكن هناك احتمال لشيء أوجب
أعراضهم عن غير ضعف لصدوره لديهم ككونه مثلا خلاف الاحتياط.
سادسها : أن تكون
الرواة في سلسلة سند الخبر جامعين لصفات خمس :
الأول ؛ العقل.
الثاني : البلوغ.
الثالث : الإسلام
،
الرابع : الضبط
بأن لا يكون النسيان والسهو والغفلة تغلب عليه بحيث تكون أكثر من ذكره أو مساوية
له.
الخامس : العدالة
بمعنى الوثاقة بمعنى أن يكون الراوي متحرزا عن الكذب وإن كان فاسقا بجوارحه ، ونقل
عن الشيخ إن الطائفة عملت بأخبار جماعة هذه صفاتهم. ونسب للمشهور اعتبار العدالة
ونفي الخلاف عنه في العدة للشيخ ولعل مراده العدالة بمعنى الوثاقة بدليل ما تقدم
منه (ره) وحيث أنه لا دليل عندنا صحيح على اعتبار العدالة بمعنى الملكة في الراوي
وإنما نعتبرها في الراوي لحصول الوثوق بالصدور فلذا اعتبرنا فيه العدالة بمعنى
التحرز عن الكذب. وهذان الاخيران أعني استناد المشهور إليه وجمع سلسلة السند
للصفات الخمسة إنما يوجبان الوثوق بالصدور في حد ذاتهما بمعنى إذا لم تكن قرائن
تقتضي عدم الصدور.
أما دلالة الكتاب
على حجية الخبر الموثوق الصدور فآيات.
منها آية النبأ في
سورة الحجرات (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) فإنها ظاهرة في عدم وجوب التثبت في النبأ عند مجيء غير
الفاسق به
بحسب مفهوم الشرط.
وقد أورد على الاستدلال بها بما يبلغ أكثر من اثنين وعشرين ردا إلا أن الانصاف كما
ذكره بعضهم أن الآية لها دلالة على حجية الخبر الموثوق بصدوره لا من جهة مفهوم
الوصف ولا الشرط بل لأن ظاهر مساق الآية هو ورودها في مقام إمضاء ما جرى عليه ديدن
الناس من العمل بأخبار الآحاد فيما يتعلق بأمورهم دنيا أو دينا والانكار عليهم في
إغماضهم عن معرفة حال المخبر من كونه فاسقا لا يبالي بالكذب أو ممن يتورع من الكذب
فالآية دلت على إنكار الله عليهم ذلك في خصوص الفاسق وذلك يقتضي أن الباقي من
الأخبار باقي على حاله من صحة العمل به. وهذا هو الذي يناسبه التعليل وإلا فلا
خصوصية للإصابة بجهالة بالعمل بخبر الفاسق اذ العمل بخبر العادل توجد فيه الجهالة
أيضا لعدم العلم بالواقع معه فلا بد أن يكون يكون المراد بالجهالة هو السفاهة وهي
فعل ما لا ينبغي صدوره عن عاقل أو الجهالة التي يصح اللوم معها بل هذا هو الذي
يقتضيه التعليل بالندم لأن الندم هو توبيخ العقل والعقلاء على العمل وهو بحكم
العقل مختص بالعمل بخبر الفاسق الذي لا يبالي بالكذب والافتراء دون العمل بالخبر
الموثوق فإن العقل والعقلاء لم يندموا على العمل به كالعمل بخبر أهل الخبرة
والشهادة. والحاصل أن الآية لا تدل على النهي عن الاقدام على خلاف الواقع وإنما
تدل على أن العمل بخبر الفاسق طريقة السفهاء فيجب التبين فيه لذلك.
وأما طريقة عملهم
بالخبر الموثوق بصدوره فهي باقية على حالها فتكون ممضية من قبل الشارع وإلا لمنع
منها شأن سائر طرائق العقلاء الغير الممنوع عنها وإن شئت قلت إن العمل بخبر العادل
لم يصدق عند العقلاء أنه فيه إصابة بجهالة ولم يكن فيه ندم عندهم بالعمل به
فيما لو خالف
الواقع فهو كالعمل بقول أهل الخبرة وكالأخذ بالفتوى والشهادة فينتفي وجوب التبين
فيه ويكون حجة بحسب المنطوق لانتفاء علة وجوب التبين عنه.
والخلاصة أن
المراد بالجهالة السفاهة إذ لو كان المراد بها عدم العلم لزم تخصيص التعليل بالعمل
بالشهادة بل بالفتوى والتعاليل غير قابلة للتخصيص وإلا لم تكن علة لعدم انفكاك
المعلول بحسب المرتكز الذهني عن علته فلا بد أن يكون المراد بها السفاهة. وبدليل
أن المراد بالندم هو التنديم من العقل والعقلاء. ولا ريب أن العمل بخبر الموثوق
الصدور ليس به تسفيه من العقلاء للعامل به ولا تنديم من العقل له كالعمل بالشهادة
وقول أهل الخبرة والفتوى وحينئذ فمنطوق الآية يدل على عدم وجوب التبين في الخبر
الموثوق الصدور لانتفاء علة وجوب التبين فيه كما أن ظاهر التعليل يقتضي الحصر
فيكون للحكم المعلل مفهوم مثل مفهوم القضية المحصورة ودعوى أن وجوب التبين ثابت
لكل من خبر الفاسق والعادل لوجوب الفحص عن الدليل المعارض حتى لو أخبر العادل
فاسدة فإن وجوب الفحص والتبين عن المعارض إنما يكون بعد ثبوت دليلية الدليل ومع
عدم دليليته لا يجب العمل به حتى يفحص عن معارضة ويتبين عدمه. نعم لو أريد العمل
بخبر الفاسق وجب التبين والفحص عن صحته فإن ظفر بما هو الدليل على صحته عمل على
طبقه ومع عدم الظفر لا يعمل به بخلاف ما هو دليل فانه يجب العمل به ويجب الفحص عن
معارضه ومع عدم الظفر بالمعارضة له يعمل به وإن لم يوجد دليل على صحته ومن الآيات
آية النفر من سورة البقرة قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ
مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ
وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) حيث
دلت على وجوب
القبول بإنذار المنذرين ولو كانوا آحادا نظير ما استدل به صاحب المسالك على قبول أخبار
النساء عما في أرحامهن بقوله تعالى : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ
أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ) ودعوى أن المستفاد منها ليس إلا مطلوبية الحذر عقيب
الانذار ومن الممكن أن يتوقف وجوبه على حصول العلم بالواقع ولذا أتى (بلعل) فهي
نظير ما دل على وجوب إرشاد الناس وبيان المعارف الدينية لهم فإنه لا يقتضي وجوب
القبول مطلقا حتى لو لم يحصل العلم بالواقع.
ولا نسلم ما ذكره
صاحب المسالك من الدلالة فاسدة فإنها مضافا إلى ظهورها في كونها تقريرا لما عليه
بناء العقلاء من العمل بانذار المنذر الموثوق به أنها ظاهرة في مطلوبية الحذر عقيب
الأنذار مطلقا.
ومجرد إمكان توقف
وجوب الحذر على حصول العلم لا يقدح في الظهور اللفظي فلو كان وجوب الحذر مقيدا
بالعلم بالواقع لنصب قرينة على التقييد وأصالة الاطلاق تقتضي نفي التقييد وقد
يستدل بالآية بتوجيه آخر أنه لا ينكر أن الآية ظاهرة في وجوب الحذر بمجرد الانذار
من غير توقف على شيء آخر وقد كان الانذار مطلقا غير مقيد فكذا الحذر كذلك وإلّا لم
يكن مرتبا على الانذار المطلق ومن الآيات آية الكتمان وهي قوله تعالى : (الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا
مِنَ الْبَيِّناتِ) بتقريب أن حرمة الكتمان تستلزم وجوب القبول عند الاظهار
وإلا فلا فائدة لإظهاره نظير ما ذكرناه في آية النفر.
ويرد عليه أنه لا
ملازمة بينهما إذ وجوب الإظهار قد يكون للتنبيه على الحكم حتى يبحث عنه فيحصله من
الدليل أو يحصل منه العلم فيقبل فهي نظير الأمر بإظهار الحق. ونظير الأمر بأداء
الشهادة للحاكم من الواحد ولا يجب على الحاكم القبول إلا إذا أنظم إلى الآخر ولم
يكن
معارض بشهادة
أخرى.
ومن الآيات آية
السؤال وهي قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ
الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) حيث أن وجوب السؤال يستلزم وجوب القبول للجواب وإلا لكان
وجوب السؤال لغوا فهي لبيان طريقة الاطلاع على المجهولات عند فقد العلم بها لا
لبيان طريقة العلم والقطع بها فهي تقرير لما عليه طريقة العقلاء في معرفة ما
يجهلونه بالرجوع للمطلعين بالشيء الذي يكون أخبارهم يوجب الوثوق بالشيء لبصيرتهم
به.
ودعوى أنها مختصة
بالأئمة (ع) كما هو مقتضى الأخبار المستفيضة المعقود لها باب في الكافي على حده من
أن أهل الذكر هم الأئمة (عليهمالسلام). فجوابها بأن ذلك التفسير يحتمل لبيان
التنبيه على بعض أفراد العام حذرا من عدم التفات عامة الناس لذلك ، وأما دلالة
السنة على حجية الخبر الواحد الموثوق بصدوره فطوائف كثيرة كما يظهر من مراجعة كتاب
الوسائل وغيرها. ودعوى أن الاستدلال بها على حجية الخبر الواحد يكون من الاستدلال
بخبر الواحد على حجيته وهو من الدور الواضح. فجوابها أنها : ـ
أولا : أخبار آحاد
مقترنة بقرائن حالية ومقالية توجب القطع بصدورها.
وثانيا : بتواترها
فإن التواتر على أقسام أربعة : ـ
الأول : التواتر
لفظا وهو ما اتفقت الأخبار على لفظ واحد ومعنى واحد.
الثاني : التواتر
معنى وهو ما اتفقت الأخبار على معنى واحد كان هو القدر المشترك بينها.
الثالث : التواتر
إجمالا وهو ما كثرت الأخبار واختلفت لفظا
ومعنى إلا أنه
يقطع بصدور بعضها إجمالا وهذه الأقسام الثلاثة يكون الاستدلال بها استدلالا
بالسنة.
الرابع : هو ما لو
كثرت الأخبار المختلفة لفظا ومعنى إلا أنها بأجمعها تعطي إن هناك أمرا مفروغا عنه
كما في سؤال السائلين عن بعض خصوصيات شيء ويكون جواب المعصوم عن تلك الخصوصيات
تقريرا لهم على ما كان مغروسا في أذهانهم ومفروغا عنهم فيما بينهم على وجه يفيد
القطع بذلك. وهذا القسم من التواتر يكون الاستدلال به استدلالا بالسنة التي هي
تقرير المعصوم والقسمان الأولان لو سلم عدم وجودهما في المقام إلا أن القسم الثالث
لا شك في وجوده لأنا نقطع بأن بعض هذه الأخبار في هذه الطوائف الكثيرة صادر عن
المعصوم (عليهالسلام) وإن لم نشخصه إلا أنا نقطع بأنه يدل على حجية الخبر الثقة
إذ لو كان الصادر هو ما يدل على الأعم منه فإنه يدل أيضا على خصوصه. وأما القسم
الرابع فلا إشكال في وجوده أيضا فإن من تتبع هذه الطوائف من الاخبار يرى ان حجية
خبر الثقة كان مفروغا عنه فيما بين السائلين والمعصومين (ع).
وأما دلالة السيرة
على حجية الخبر الموثوق بصدوره فهو ما نراه بالوجدان من استقرار سيرة العقلاء من
ذوي الأديان وغيرهم على العمل بالخبر الموثوق به من قبل الاسلام الى زماننا هذا
ولم يردع عن هذا العمل لا في الكتاب ولا في السنة وإلا نوصل إلينا الردع واشتهر
وظهر لتوفر الدواعي إلى نقله لكثرة مورد الابتلاء وهذا يكشف كشفا قطعيا عن رضاء
الشارع بالعمل بأخبار الآحاد الموثوقة.
إن قلت يكفي في
الردع الآيات والروايات الناهية عن اتباع غير العلم.
قلنا هذه الآيات
والروايات عامة ومطلقة والسيرة المذكورة دليل خاص قطعي فيخصص بها تلك العمومات
وتلك الاطلاقات ، ولذا نرى العلماء في كل أمر استدلوا به بالسيرة لا يعتنون بهذه
العمومات والاطلاقات كيف والعمومات والمطلقات تكون حجية ظهورها في العموم أو
الاطلاق من باب السيرة فلا يعقل ان يستند إليها في نفي حجية أي سيرة من السير.
أدلة المانعين من
حجية الخبر الغير المفيد للعلم :
استدل المانعون
لحجية الخبر الواحد من الكتاب بالآيات الناهية عن العمل بغير العلم وجوابه أنه بعد
تسليم دلالتها على المنع وانها ظاهرة في خصوص العقائد تكون من باب العمومات
والمطلقات فهي تخصص بالأدلة التي أقيمت على حجية الخبر.
واستدلوا من السنة
بروايات منها ما في المحكي عن بصائر الدرجات ومستطرفات السرائر عن محمد بن عيسى : «ما
علمتم أنه قولنا فألزموه وما لم تعلموه فردوه إلينا».
وجوابه مضافا الى
إنها خبر واحد فالاستدلال به على المنع من العمل بخبر الواحد يوجب المحال. وإلى
أنها معارضة بالروايات والأدلة الدالة على حجية الخبر مضافا الى ذلك إن العمل
بالخبر الذي قامت الحجة على حجيته يكون من العمل بما علمنا أنه قول المعصوم لأن
الظاهر من العلم هو المعرفة ولو عن دليل معتبر لا خصوص اليقين وإلا لزم طرح أكثر
أقوال المعصوم ولا أقل إن هذا هو مقتضى الجمع بين ما دل على حجية الخبر وهذه
الرواية.
ومنها أخبار العرض
على الكتاب والسنة فما وافقتهما يؤخذ به وما
خالفهما لا يعمل
به حيث إنها تدل على المنع عن العمل بالخبر الذي لم توجد قرينة من الكتاب والسنة
عليه ، وإن ما خالفهما لا يؤخذ به والظاهر أن المراد بالمخالفة هي المخالفة بنحو
المباينة بمعنى ان المراد منها طرح الخبر المباين للكتاب والسنة وإلا فالمخالفة
بالعموم والخصوص والاطلاق والتقييد والاجمال والبيان ليست بمخالفة ولو أريد منها
ذلك لزم طرح أكثر الأخبار المقطوعة الصدور حيث أنها مخالفة للكتاب والسنة بهذا
النحو من المخالفة وهو لا يلتزم به أحد. ودعوى تخصيص أخبار العرض بغير الأخبار
القطعية الصدور وإبقاء الأخبار المشكوكة. تحتها فاسدة لاباء أخبار العرض عن قبول
التخصيص فإن مثل المروي عن النبي (ص) «ما خالف الكتاب فليس من حديثي» أو لم أقله
والمروي عنهم (ع) أنه زخرف أو باطل يأبى عن قبول التخصيص. وإلا لزم أن يكون قد
قالوا الزخرف والباطل المخالف للكتاب والسنة وهو ما كان مقطوع الصدور منهم.
والحاصل أن الظاهر
بالقرائن العقلية والنقلية إن المراد بالمخالفة بنحو التباين ، ودعوى أن حملها على
المخالفة بنحو التباين حمل لها على النادر إذ يكاد يكون في غاية الندرة بل معدوما
ما يكون مخالفا بنحو التباين فلا يصح حملها عليها فاسدة فان في زمان صدور هذه
الأخبار قد كثر الافتراء والوضع والجعل على المعصومين للحط من كرامتهم ولا ريب أن
الذي يحط من كرامتهم هو الوضع والجعل لما يخالف الكتاب والسنة النبوية بنحو
المباينة وإلا فالمخالفة بنحو العموم والخصوص والاطلاق والتقييد ونحوهما ليست
مخالفة تحط من كرامتهم ولا تنقص من مقامهم فلا ينفع الكاذبين عليهم في عصرهم إلا
الجعل عليهم (ع) بنحو المباينة.
واستدلوا على
المنع بالاجماع المحكي عن المرتضى (ره) على المنع من العمل بالخبر الغير المفيد
للقطع والمحكي عن ظاهر كلام الطبرسي وجوابه أنه منقول وهو غير حجة على أنه معارض
بما هو المحكي عن الشيخ (ره) وجماعة على حجية خبر الواحد وموهون بما هو المشهور
عند المتأخرين من حجية خبر الواحد وبالشهرة المحكية عن القدماء في العمل بخبر
الواحد.
وأما الخبر المرسل
والمنقطع فالمحكى عن أصحابنا أنه يعمل به إذا عرف أنه لا يرسل إلا عن ثقة كابن أبي
عمير لدخوله إذ ذاك في الخبر الموثوق به وهو حجة وأما إذا لم يعرف ذلك فليس بحجة
لأن العدل كما يروي عن الثقة كذلك يروي عن غيره. والتحقيق أن مجرد ذلك لا يوجب كون
الخبر موثوقا به إذ غاية الأمر أنه لا يروي إلا عن ثقة عنده ولعله كان مجروحا عند
القوم فلا يكون ثقة عندهم نعم لو عرف أنه لا يرسل إلا عمن كان ثقة عند الجميع كان
المرسل موثوقا به لكنه مجرد فرض فالحق أن المرسل إذا عمل به المشهور كان حجة لحصول
الوثوق به كمراسيل ابن أبي عمير والمحكي عن فقهاء أهل السنة إنهم متفقون على العمل
بمرسل الصحابي سواء منهم الاحناف أو المالكية أو الحنابلة أو الظاهرية أو الشافعية
أما عدا مراسيل الصحابة فالشافعي لا يعمل بها إلا إذا انضم الى المرسل ما يعضده
كروايته عن طريق آخر أو روي مسندا من طريق آخر أو عمل به بعض الصحابة وكان يأخذ
بمراسيل سعيد بن المسيب لأنه عنده شديد التثبت من الاحاديث المرسلة والتأكد من
صحتها واتصالها.
وأما الخبر الضعيف
فالمعروف أنه ليس بحجة لعدم قيام الدليل على حجيته فيدخل في أصالة عدم الحجية ولكن
اذا انجبر ضعفه باشتهار
روايته بشرط عدم
إعراض الاصحاب عنه ولو كان عدم إعراضهم بتوجيههم دلالته أو تأويلهم لها أو بيان
المعارض له من دون القدح في سنده فهو حجة لحصول الوثوق بصدوره وهكذا لو عمل
المشهور به واستندوا في فتواهم اليه وربما ادعي الاجماع على اعتبار الخبر الضعيف
الموثوق بصدوره ويؤيد ذلك آية النبأ فان الظاهر من الجهالة فيها هو السفاهة ومن
الندم هو التنديم لو عمل به أحد من العقلاء. وخبر الضعيف الموثوق بصدوره لا سفاهة
ولا تنديم من العقل والعقلاء على العمل به فيكون حجة بحكم المنطوق لانتفاء علة
وجوب التبين بالنسبة اليه.
وأما ما اشتهر
روايته وقد أعرضوا عنه فهو ليس بحجة لعدم حصول الوثوق به ، نعم محل الكلام هو ما
اذا كانت الشهرة في الفتوى على طبقه فهل تكون جابرة له فقد يقال بعدم جبرها له
لأنها لا توجب الوثوق به وإن أوجبت الظن بصدور حكم من الشارع مطابق للخبر ولذا لا
توجب الأولوية والاستقراء وسائر الأمارات المفيدة للظن بالحكم الشرعي على طبق
الخبر جبر ذلك الخبر الضعيف وقد يدعى دلالة ما دل على الأخذ بالمشتهر بين الأصحاب من
المتعارضين في مقبولة ابن حنظلة ومرفوعة زرارة فان الترجيح للمشتهر عند التعارض
يوجب حجيته في مقام عدم المعارض بالاجماع والاولوية.
وفيه ما تقدم إن
ذلك هو شهرة الرواية لا في شهرة الفتوى. وقد يدعى دلالة منطوق آية النبأ على حجيته
لحصول التبين فيه بذهاب المشهور لمضمونه وفتواهم على طبقه إلا أن يقال أن المراد
هو التبين الاطمئناني فمع حصوله لا ريب من الحجية من أي إمارة حصل وإلا فهو لا
يوجب الحجية.
«التسامح في أدلة
السنن» :
نعم ظاهر أكثر
الفقهاء ان لم يكن كلهم على اعتبار الاخبار الضعاف في اثبات المندوبات والمكروهات فقد
حكى غير واحد بأنها تثبت بالروايات الضعيفة الغير المنجبرة لا بالقرائن ولا
بالشهرة بل حمل الاخبار الدالة على الوجوب والحرمة على الاستحباب والكراهة عند ضعف
سندها وعدم الجابر لها وقد استظهر المنع من التمسك بأدلة التسامح من الصدوق (ره)
وشيخه في باب صلاة يوم غدير خم والثواب المذكور لصومه وعن المنتهى المنع أيضا في
موضعين وعن المدارك في باب الوضوء إن ما يقال من إن ادلته يتسامح فيها منظور فيه
لأن الاستحباب حكم شرعي يتوقف على دليل شرعي وان حكي عن صاحب المدارك انه رجع عن
ذلك في باب الصلاة بل عن ظاهر العلامة أيضا الرجوع عن ذلك ، واستدل القائلون
باعتبار الخبر الضعيف في السنن بأمور ثلاثة : ـ
الأول : الإجماعات
المنقولة فقد حكي عن الوسائل نسبة ذلك إلى الاصحاب مصرحا بشمول الادلة للمكروهات
أيضا وعن الذكرى نسبته لأهل العلم وعن الشيخ الانصاري نسبته للمشهور عند أصحابنا
والعامة بل قد اشتهر عنهم القول بالتسامح في أدلة السنن.
والثاني : العقل
لحكمه بحسن اتيان ما يحتمل مطلوبيته للمولى ورجحان ترك ما يحتمل مكروهيته للمولى.
الثالث : الاخبار
المستفيضة أو المتواترة معنى مع تلقيها بالقبول من الاصحاب وعملهم بها مع صحة
بعضها كالصحيح المروي في المحاسن عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع) أنه قال : «من
بلغه عن النبى (ص)
شيء فعمله كان أجر ذلك له وان كان رسول الله (ص) لم يقله» وروي ذلك أيضا عن ثواب
الأعمال سندين أحدهما صحيح والآخر معتبر ، وعن البحار أن هذه الرواية مشهورة بين
العامة والخاصة والظاهر من شىء بقرينة فعمله وإضافة الأجر اليه هو الفعل المشتمل
على الثواب وكالحسن أو كالصحيح المروي في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (ع)
أنه قال : «من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وان لم يكن على ما
بلغه» ويحكى أن صاحب الحدائق أنه ذكر في آخر الدرر النجفية اثني عشر حديثا في هذا
الباب وعن مرآة العقول للمجلسي أنه قد روته العامة بأسانيد عن النبي (ص) وقد نقل
شهرة الفتوى بذلك عن المتقدمين والمتأخرين وعن عدة الداعي بعد ذكره طائفة من
الاخبار المذكورة قال فصار هذا المعنى مجمعا عليه بين الفريقين وعن الشيخ البهائي
أن هذا صار سبب تساهل فقهائنا في البحث عن دلائل السنن وأما المانعون من التمسك
فاستدلوا على ذلك بأصالة عدم ثبوت الاستحباب والكراهة الى أن يقوم الدليل المعتبر
على ثبوتها أو بأصالة عدم الحجية للخبر الضعيف الى أن يثبت حجيته.
والتحقيق في
المقام أن يقال أن القائلين بالتسامح ان أرادوا حجية الأخبار الضعاف في المسنونات
والمكروهات نظير حجية الأخبار الموثوقة بأن تكون حجة في مداليلها في عرض الأدلة
لمعتبرة من التمسك بعمومها وإطلاقها ويخصص ويقيد بها حتى الأخبار الصحيحة التي هي
أعم منها ويؤخذ بجميع مداليلها إلى غير ذلك من أحكام الحجية كما هو الظاهر من كلام
الفقهاء حيث يقولون : ـ «هذا العمل مستحب للرواية الكذائية ، فإن ظاهره أن الرواية
حجة شرعية يثبت بها الاستحباب ،
بل هو ظاهر جميع
من حرر هذه المسألة حيث يظهر من كلامهم أن الخبر الضعيف حجة في السنن. بأن يثبت به
جميع مدلوله فإن تعبيرهم (بالتسامح في أدلة السنن) معناه أن أدلة السنن يتسامح
فيها فلا يعتبر فيها ما يعتبر من الشرائط في أدلة الواجبات والمحرمات فالحق مع
المانعين لأن الأدلة المتقدمة لم تكن لسانها وسياقها لسان جعل الحجية للخبر الذي
تحقق به البلوغ وإنما سياقها ولسانها هو جعل الاستحباب المولوي للعمل الذي دل عليه
الخبر الضعيف فهي غير دالة على أن الخبر الضعيف يكون حجة ودليلا كسائر الأدلة على
الأحكام الشرعية يثبت به مدلوله من الاستحباب الواقعي أو الكراهة الواقعية مع ما
أشتمل عليه مدلوله من جزئية الشيء أو شرطيته أو مانعيته وإنما يقتضي قيامه استحباب
العمل أو كراهيته ، فمثلا إذا قام الخبر الضعيف على استحباب الوضوء للنوم وانه مما
يثاب عليه وانه يكفي في الطهارة لما يعتبر فيه الطهارة فالأدلة المذكورة إنما
تقتضي استحبابه للنوم وحصول الثواب على فعله للنوم فقط ولا تدل على أن الخبر
الضعيف الدال على ذلك يكون حجة شرعية بأن يكون حجة يثبت به مدلوله من استحباب
الوضوء وكفايته في الطهارة لما يعتبر فيه الطهارة بحيث يكون ذلك الخبر بنفسه دليلا
على ذلك ولا يحتاج إلى دليل معتبر معه يدل على الكفاية كما لو كان الخبر المعتبر
قد قام على ذلك فإنه بالخبر المعتبر لو قام على الاستحباب وثبوت الآثار الشرعية
يكون حجة يتمسك بها على استحباب الوضوء وثبوت تلك الآثار الشرعية التي دل عليها
كجواز الدخول به للصلاة أو لمس كتابة القرآن أو الطواف به أو نحو ذلك ، والحاصل أن
الأدلة المذكورة لا تدل على أزيد من كون قيام الخبر الضعيف على الثواب على العمل
توجب استحباب ذلك العمل ممن بلغه ثوابه وترتب الثواب
المذكور عليه نظير
الأخبار الدالة على جواز الشيء عند الشك في حليته فإنها لا تقتضي حجية الشك
ودليليته على الحلية الواقعية بل نظير الأخبار الدالة على الأحكام للأعمال بعناوين
طارئة عليها الموجبة لحسنها أو قبحها كعنوان إجابة المؤمن أو الحرج أو الضرر أو
ليست تلك الأخبار تدل إلا على مطلوبية العمل إذا طرأ عليه بلوغ ثوابه ممن بلغه ذلك
الثواب وليست دالة على أكثر من ذلك بأن تدل على أن الخبر الضعيف يكون حجة فيما دل
عليه كالخبر المعتبر.
إن قلت إنها نظير
الأخبار الدالة على ملكية ما في يد المسلم فانها تدل على دليلية اليد على الملكية
الواقعية إذا طرأت على الملك ولذا يرتب عليها آثار الملكية الواقعية.
قلنا أن أدلة اليد
ظاهرة في ذلك بما اقترنت بها من القرائن وليست الأدلة فيما نحن فيه ظاهرة في ذلك
بل ظاهرة في عدم الجعل لأن جعل الحجية يقتضي الكشف عن الواقع والغاء احتمال الخلاف
لا فرض عدم الثبوت كما هو الشأن في هذه الأخبار.
والحاصل أن
الاخبار المذكورة تدل على استحباب العمل البالغ ثوابه على ممن بلغه ثوابه لوجوه.
منها إنها وارادة
في مقام الترغيب على العمل المذكورة والترغيب من المولى على شيء يوجب ظهور اللفظ
في محبوبيته للمولى إلا أن تقوم قرينة تمنع من انعقاد ذلك الظهور للفظ.
ومنها الوعد بترتب
الثواب عليه وحكم الشارع بترتب الثواب على شيء يدل بظاهره على استحبابه استحبابا
شرعيا مولويا إذ لا ثواب على غير الواجب والمستحب ولذا تجد الفقهاء يحكمون
باستحباب كثير من الافعال لمجرد ورود الثواب عليها كالحكم باستحباب تسريح
اللحية مثلا
لقوله. من سرح لحيته فله كذا وكذا ، إلا أن يكون هناك قرينة تمنع من ذلك الظهور
وإلا فمقتضى الظاهر هو الحكم باستحبابه ولا ريب عدم وجود قرينة فيما نحن فيه تمنع
منه ، ومنها اهتمام الشارع بفعل ذلك العمل بالأخبار المتكثرة في ذلك فإنه دليل على
مطلوبيته وسيتضح لك أكثر من هذا.
إن قلت أنه لا
دلالة ولا إشعار للاخبار المذكورة على أن طرو عنوان البلوغ عليها موجب لحدوث مصلحة
في العمل بها يصير مستحبا.
قلنا هي ظاهرة في
ذلك لدلالتها على أن العمل بذلك يوجب ترتب الثواب عليه إذا صدر ممن بلغه لا من
غيره فإن البلوغ لو لم يحدث مصلحة وحسنا لم يستحق خصوص من بلغه ذلك الثواب كما هو
الشأن في سائر الادلة التي ترتب الثواب على الأعمال بواسطة طرو عنوان عليها كإجابة
المؤمن أو تعظيمه أو نحو ذلك بل يمكن أن تكون نظير ما ذكره القوم في حجية خبر
العادل بناء على السببية والموضوعية في أن قيام خبر العادل موجب لحدوث مصلحة فيما
قام عليه توجب انشاء الحكم على طبقه غاية الأمر أن أخبار خصوص العادل في وجوب شيء
أو حرمته تكون وجها من وجوه ذلك الشيء يقتضي وجوبه وحرمته فعلا. وأما في المستحبات
فيكفي مطلق الخبر من كل مخبر ويكون الأخبار بها وجها من الوجوه يقتضي الاستحباب.
إن قلت إن ظاهر
الأمر بها للإرشاد الى حكم العقل بحسن الانقياد في مورد بلوغ الثواب واحتمال
المطلوبية على العمل الذي بلغه عليه الثواب وان كان الأمر ليس كذلك في الواقع
وتكون نظير الأخبار الأمر بالاحتياط. فان الأوامر فيها ظاهرة في الارشاد إلى حسن
الانقياد باتيان
ما هو محتمل الوجوب وترك ما هو محتمل الاستحباب فان الظاهر من الأوامر المتعلقة
بعنوان يكون حسن عقلا كونها إرشاد الى ما يحكم به العقل بل لا يمكن أن تكون مولوية
لأن الأوامر المتعلقة بالطاعات ارشادية وإلا لزم التسلسل.
قلنا لا نسلم ان
الأوامر المتعلقة بالطاعات لا تكون مولوية فان من الممكن أن تكون مصلحة في اطاعة
أمر غير الأمر الذي تعلق به فيكون الأمر باطاعته مولويا أو تكون مصلحة في الاحتياط
والانقياد لأمر محتمل أو نهي محتمل فيكون الأمر بذلك الانقياد والاحتياط مولويا
والتسلسل غير لازم لأنه تنتهي الأوامر المولوية بعدم الجعل الشرعي لها ، وانما
الاطاعة التي لا يمكن أن يكون الأمر بها مولويا هو الأمر بالطاعة المنتزع انتزاعا محضا
من امتثال الأمر بمتعلقه من غير أن يجعل عنوانا برأسه.
إن قلت نعم ولكن
لا ريب إن ظاهر الأوامر المتعلقة بما هو حسن عقلا كونها ارشادية لحكم العقل وعليه
فيكون الظاهر من أوامر (من بلغ) هي كونها ارشادية لا مولوية نظرا الى أن موضوعها
هو الإتيان برجاء ادراك ما بلغه من الثواب وفي بعضها قيد بطلب قول النبي (ص) وفي
بعضها بالتماس ذلك الثواب وبعد ضم الأخبار المقيد منها للمطلق منها يستفاد منها أن
موضوعها هو الإتيان بالعمل برجاء ادراك ما بلغه من الثواب مضافا الى ما يستفاد من
تفريع العمل على البلوغ بقرينة الفاء الدالة على السببية فانه ظاهر في كون العمل
مستند لبلوغ الثواب المحتمل فيكون موضوعها ينطبق عليه الانقياد الذي يستقل العقل
بحسنه فيكون الأمر به ارشاديا لا مولويا.
قلنا نعم لا ريب
في ظهور الأوامر في الارشادية إذا تعلقت بموضوع
حسن عقلا ولكن
فيما نحن فيه لا نسلم انها تعلقت بالعمل البالغ ثوابه بقيد أنه يكون برجاء إدراك
الثواب لما فيها من الأوامر المطلقة المتعلقة بنفس العمل البالغ ثوابه غير مقيد
باتيانه برجاء المطلوبية كصحيحة هشام المتقدمة والفاء لا تدل على السببية بل تدل
على الترتب فقط مثل قولنا من سمع الآذان فدخل المسجد فله كذا من الثواب وكقولنا
جاء زيد فعمر فخالد. وعليه فلم يكن الأمر فيها ظاهرا في الارشاد حيث لم يتعلق
بالعمل بعنوان الانقياد بل ظاهر في المولوية كما هو الأصل في سائر الأوامر
المتعلقة بنفس العمل. ومجرد وجود ما في بعض الروايات من تعلق الطلب فيها بالعمل
برجاء درك الثواب أو طلب لقول النبي (ص) لا يوجب تقييد المطلقات لما تقرر في
الاصول من ان الأمر المطلق لا يقيد بالأمر المقيد خصوصا في المستحبات فيكون في
المقام أمران أحدهما بالمطلق والآخر بالمقيد مضافا الى انها لا توجب التقييد وانما
هي لبيان عبادية ذلك الأمر الاستحبابي والترغيب اليه فانه نظير أن يقال «صلي طلبا
للثواب أو خوفا من العقاب» فان هذا لا يقيد العمل بكونه بهذا العنوان بحيث يقيد به
الأوامر الوجوبية بالصلاة لما عرفت أن قصد القربة بانحائه لا يؤخذ في متعلق الأمر
العبادي وانما يكون لبيان أن العبادية متحققة بهذا العمل لا تكون إلا بقصد القربة
بنحو قصد الثواب أو خوف العقاب فلا رافع لظهور الأمر في المولوية في مطلقاتها
وبعبارة أخرى إن المستفاد من الاخبار استحباب نفس العمل شرعا لا استحبابه عقلا
بعنوان الاحتياط والانقياد والاتيان به لحصول الثواب ولا ريب أن العقل لا يرشد لمحبوبية
نفس العمل. وتوهم أن كون العمل يثبت له الأمر بعد عروض صفة البلوغ يقتضي قصد
البلوغ في اثباته مستحبا
فاسد فان ذلك لا
يوجب ثبوت الحكم له بقصد البلوغ ألا ترى إن الاحكام الثابتة للاعمال بعد عروض
التقية أو الاضطرار لا توجد قصدها عند فعلها إلا اذا قام الدليل على لزوم قصدها
وهو أول الكلام. على أن في المقام قرائن على كون الأوامر في أخبار (من بلغ) مولوية
منها ظهورها في التأسيس لا التأكيد لحكم العقل ومع الشك يحمل اللفظ على التأسيس
وقد أشتهر عنهم أن التأسيس أولى من التأكيد وذلك لكون مقام المولى يقتضي اعمال
مولويته بالإنشاء للحكم الشرعي لا تأكيد حكم العقل.
ومنها إنها لو
كانت إرشادا وتأكيد لحكم العقل على حسن الانقياد لم تكن حاجة لهذه الأهمية في
المستحبات بحيث بحث عليها هذا الحث الشديد وتكثر الاخبار فيه هذه الكثرة ولهذا كان
اللازم حمل أخبار الاحتياط على الطلب المولوي لو لا اقترانها بالقرائن الموجبة
لحملها على الارشاد ومنها إنها لو كانت ارشادية لم يتوقف الثواب على البلوغ اذ
يكفي مجرد احتمال المطلوبية فان الظاهر من هذه الروايات إن للبلوغ عن النبي (ص)
دخل في ترتب الثواب ولا ريب أن ثواب الانقياد غير متوقف على ذلك بل يكفي فيه مجرد
احتمال المطلوبية من أين ما حصل.
ومنها أن العقل لا
يحكم باستحقاق مقدار للثواب المسموع كما هو مدلول هذه الأخبار وإنما يحكم العقل
باستحقاق أصل الثواب فلا تكون هذه الاخبار مؤكدة لحكم العقل ولا مرشدة له.
ومنها أن فهم
الاصحاب للاستحباب المولوي منها وفهم الاصحاب جابر للدلالة عند أكثر الفقهاء مضافا
للإجماعات المنقولة على استحباب نفس العمل وفهم العلماء من الاخبار أن العمل مستحب
شرعا استحبابا
مولويا في نفسه من
حيث هو فإن ذلك يقوي به الظهور المذكور هذا كله على القول بثبوت الثواب والعقاب
على العمل الانقيادي والمتجري به ، وأما على القول بعدم ثبوتها عليه كما هو الظاهر
من كلمات الشيخ الانصاري أو إن الثواب والعقاب على صرف العزم على الطاعة والمعصية
كما يظهر من صاحب الكفاية فلا بد من جعل الأوامر مولوية ولا تصلح للارشاد لعدم حكم
العقل بثبوت الثواب على الانقياد :
إن قلت إنا لو
حملناها على الاستحباب المولوي يلزم أن يحمل فيها الثواب على الثواب الاقتضائي لا
الفعلي لأنه لو كان الخبر الضعيف مطابقا للواقع لكان الثواب ثابتا للعمل في الواقع
وثواب ثابت له بمقتضى أخبار (من بلغ) فيلزم اجتماع المثلين فلا بد من حملها على
الثواب الاقتضائي بمعنى أن الثواب يثبت له اقتضاء لا بالفعل بمعنى أنه يثبت له مع
عدم المانع كاجتماع المثلين.
قلنا لا مانع من
اجتماع الثوابين باعتبارين سلمنا لكن الاخبار المذكورة إنما تدل على ثبوت الثواب
لو كان الخبر غير مطابق للواقع لا أن الثواب يثبت حتى مع المطابقة للواقع فهي دالة
على ثبوت الثواب الفعلي في هذه الصورة.
إن قلت هذه
الأخبار مفادها مجرد الأخبار عن تفضل الله تعالى على عباده بترتب الثواب على العمل
الصادر ممن بلغه ثوابه بمقدار ما بلغه من الثواب فتكون هذه الأخبار شارحة ومخبرة
عن تفضل الله بإعطائه الثواب البالغ على العمل الصادر ممن بلغه ذلك الثواب نظير (من
سن سنة حسنة فله أجر من عمل بها) وليست في مقام بيان الحكم الشرعي للعمل المذكور
حتى يكون مستحبا ولا أقل من احتمال ذلك
والدليل متى تطرقه
الاحتمال بطل به الاستدلال.
قلنا قد عرفت أن
الاخبار المذكورة في مقام الترغيب والحث على العمل المذكور فهي ظاهرة في بيان
الحكم للعمل المذكور. على أنه قد عرفت أن مجرد ترتيب الثواب على العمل يوجب ظهور
اللفظ في استحبابه للملازمة العرفية بينهما ، ولذا الفقهاء يستفيدون استحباب العمل
من ترتب الثواب عليه كقوله (ص) «من سن سنة حسنة فله أجر من عمل بها». مضافا الى أن
بعضها أشتمل على لفظ «كان أجر ذلك له» وهو يقتضي الاستحقاق لا التفضل بالثواب.
مضافا إلى أن
التفضل بالثواب لا ينافي المطلوبية الشرعية للعمل فإن الله في كل ثواب يعطيه للعبد
من باب التفضل بل ظاهر التفضل بالثواب هو المطلوبية المولوية والمحبوبية الشرعية
حيث لا يعقل تفضله بالاحسان على عمل وهو غير مطلوب له.
إن قلت أن بلوغ
الثواب عن النبي (ص) لا يصدق إلا اذا قام الدليل المعتبر عليه ، وأما قيام الخبر
الضعيف على الثواب فليس ببلوغ واطلاق البلوغ عليه مجازا.
سلمنا ولكن الظاهر
من هذه الأخبار بيان أن حصول الثواب بالعمل البالغ عليه الثواب غير مشروط بمصادفة
بلوغه للواقع فهي بصدد بيان عدم اشتراط الثواب بالمصادفة للواقع لا بيان أن البلوغ
بأي نحو كان يوجب حصول الثواب من العمل فلا يصح التمسك باطلاق البلوغ لأن الأخبار
ليست بصدد بيانه وإنما هي بصدد بيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب نظير قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) فإنه لا يصح التمسك بإطلاق الأمر بالأكل في جواز أكل ما
امسكنه بدون تطهيره حيث لم يقيده بتطهير موضع إمساك الكلب لها ووجه عدم صحة
التمسك بالاطلاق
هو أن الآية الشريفة بصدد بيان حكم آخر وهو حلية ما يصطاده كلب الصيد وانه ليس
بميتة ، وعليه فلا يستفاد من هذه الأخبار حصول الثواب في صورة قيام الخبر الضعيف
على الثواب حيث ليس في الاخبار المذكورة ظهور في خصوصها كما هو واضح ولا فيها ما
يشملها بإطلاقه لما عرفت من عدم اطلاق للبلوغ المذكور فيها.
قلنا أن البلوغ لا
يختص بصورة قيام الدليل المعتبر بل يشمل مطلق البلوغ ولو كان بنحو غير معتبر
كالخبر الضعيف.
وأما دعوى عدم صحة
التمسك بإطلاق البلوغ لأن الاخبار ليست بصدد بيانه وانما هي بصدد بيان ترتب الثواب
ففاسدة لأن الأخبار ظاهرة في بيان البلوغ وتعميمه بقرينة تزيلها بمثل قوله (ع) «وان
لم يكن الحديث كما بلغه» وقوله (ع) «وإن لم يكن الأمر كما نقل اليه» ، وقوله (ع) «وإن
كان رسول الله لم يقله» ونحو ذلك فان هذا التذيل بذلك وأمثاله يعقد ظهورا للكلام
في أنه بصدد بيان أن مطلق البلوغ وصرف وجوده بأي نحو كان موجبا لترتب الأثر.
إن قلت انه على
هذا تكون أخبار (من بلغ) مخصصة لما دل على اعتبار الشرائط في العمل بخبر الواحد مع
أن بينهما عموم وخصوص من وجه حيث أن أخبار (من بلغ) تعم الخبر الواجد لشرائط
الحجية والفاقد لها وأدلة اعتبار الشرائط في حجية الخبر تعم الخبر الدال على الاستحباب
وغيره فيقع التعارض بينها في صورة قيام الخبر الضعيف الدال على الاستحباب فلا وجه
لتقديم أخبار (من بلغ) على أخبار اعتبار الشرائط في هذه الصورة.
قلنا أن أخبار (من
بلغ) حاكمة على الادلة المذكورة لأنها ناظرة
إلى أن الشرائط
المعتبرة في البلاغ للاحكام غير معتبرة في البلاغ عن المستحبات وان مجرد البلوغ
كافي فيها والحاكم يقدم على المحكوم ولا يلاحظ النسبة بينهما سلمنا لكن لو قدمنا
أدلة اعتبار الشرائط في البلوغ على أخبار (من بلغ) أما أن لا يبقى لاخبار (من بلغ)
مورد أو نلتزم بأنها ليست لتأسيس حكم الاستحباب للاعمال التي قام عليها الاخبار
الضعاف وقد تقدم أنها ظاهرة في التأسيس لحكم الاستحباب بخلاف ما لو قدمنا أخبار
«من بلغ» فإنه يكون لكل منها مورد يختص به ، هذا مضافا إلى أن العمل بها في مورد
الاجتماع معتضد بالشهرة والاجماع المنقول فيكون الترجيح معها مضافا إلى أن ذلك ليس
عملا بالخبر الضعيف بل هو عمل بأخبار من بلغ غاية الأمر أن الخبر الضعيف محقق لوصف
البلوغ الذي هو الواسطة في ثبوت الحكم الاستحبابي الشرعي.
حاصل المطلب :
والحاصل أن أخبار
من بلغ تدل على ثبوت استحباب نفس العمل البالغ عليه الثواب على من بلغه نعم لما
كان استحقاق الثواب من المولى لا يثبت إلا إذا وقع العمل بقصد التقرب اليه بأي نحو
كان بقصد امتثال أمره أو رجاء امتثاله أو رجاء الثواب أو خوف العقاب أو قرب
المنزلة فمن أنى بالعمل المذكور بنحو يوجب التقرب إلى الله استحق بمقتضى هذه
الأخبار الثواب الموعود عليه فيكون وزان استحباب هذا العمل وزان وجوب الصلاة مثلا
في أنه متعلق بنفس العمل ولكن لا يسقط إلا اذا أتى به بقصد القربة لكونه أمرا
عباديا أما في عمل الصلاة فواضح
وأما في العمل
الذي قام عليه الخبر الضعيف فلأن الثواب لا يعقل أن يستحقه العبد إلا إذا قصد
القربة بأي نحو من أنحائها بفعله وبعض أخبار (من بلغ) صرحت بذلك ومن هنا ظهر لك
وجه حمل الفقهاء الرواية الضعيفة الصريحة في الوجوب فضلا عن الظاهرة فيه على
الاستحباب وان وجه الحمل هو أخبار (من بلغ) باعتبار أن الرواية لما كانت غير مثبتة
للوجوب ولكنها يتحقق بها بلوغ الثواب كانت مقتضية لاستحباب العمل وليس الوجه في
ذلك كون ضعفها قرينة على الاستحباب حتّى يقال أن ضعف الرواية لا يكون قرينة على
التجوز في دلالتها وهكذا حملهم للرواية الضعيفة الدالة على الحرمة على استحباب
للترك إنما يكون من جهة ما ذكرناه.
كما ظهر أن مجرد
فتوى الفقيه باستحباب الفعل لا يحرز بها البلوغ فلا يصح من الفقيه الاعتماد عليها
لأحتمال أنه استند في فتواه الى رواية غير دالة على الثواب على العمل أو استند
لحكم العقل بالتحسين أو التقبيح أو إلى أصل عقلي فانه في هذه الصور لا يتحقق عنوان
البلوغ عن النبي (ص).
فتوى المجتهد بمقتضى
أدلة التسامح :
من هنا ظهر لك صحة
ما حكي عن المشهور من الفتوى باستحباب العمل المذكور من دون تقييد الفتوى بمن بلغه
ثوابه كما عن بعض.
وكذا لا حاجة إلى
أن يذكر في فتواه بالاستحباب بأن الخبر الضعيف قام على وجوبه واستحبابه ليتحقق
بذلك عنوان البلوغ للمقلد كما عن بعض آخر لما عرفت من أن الاستحباب يثبت لنفس
العمل عند المجتهد بواسطة قيام الخبر الضعيف بنحو الواسطة في الثبوت.
إن قلت ان هذا يتم
لو كان بأخبار (من بلغ) يثبت حجية الخبر
الضعيف إذ بقيامه
حينئذ يكون الدليل الصحيح قد قام على استحباب العمل في الواقع على الجميع كما هو
الحال في كل واقعة قامت الامارة المعتبرة على حكمها الشرعي وأما بناء على أن أخبار
(من بلغ) الأمر فيها للارشاد لحكم العقل بحسن الانقياد أو أنها لبيان التفضل على
العباد فلا يجوز الفتوى من المجتهد باستحباب العمل حيث لا يجوز للفقيه البناء على
استحباب العمل المذكور وإنما على الفقيه حينئذ أن يأتي به برجاء المطلوبية لأنه لم
يثبت عنده إلا استحسان الانقياد به الذي هو عبارة عن إتيانه برجاء المطلوبية فلو
أراد أن يفتي فلا يصح له أن يفتى إلا بإتيانه برجاء المطلوبية لأن هذا المقدار هو
الثابت عنده ، وأما بناء على ان أخبار (من بلغ) مفادها ثبوت الاستحباب للعمل من
جهة البلوغ فكذا لا يجوز للفقيه الفتوى باستحباب العمل إلا بتقيد العمل المذكور
بالبالغ ثوابه نظرا إلى موضوعية البلوغ في ترتب الاستحباب أو إذا أفتى باستحبابه
فلا بد أن يخبر بان في العمل خبر ضعيف على مطلوبيته ليتحقق بذلك البلوغ لمقلده ولا
يجوز للفقيه أن يفتي باستحباب العمل مطلقا من دون ذلك لعدم ثبوت هذا الحكم لمن لم
يبلغه الثواب والفرض أن مقلده العامي لم يبلغه الثواب. قال المرحوم الشيخ محمد تقي
في تقريراته لاستاذنا آغا ضياء (ره) ولا يجدي في صحة ذلك أدلة نيابة المجتهد عن
المقلد في استنباط حكمه لأنها إنما تكون في فرض شمول أدلة الحكم الشرعي ثبوتا لغير
البالغ اليه الثواب لا في فرض اختصاصه بخصوص البالغ اليه الثواب فلا بد من تقييد
الفتوى بما ذكرنا.
قلت : أما بناء
على أن أخبار (من بلغ) لبيان التفضل أو انها للارشاد فالحق مع المشكل وأن الفتوى
لا تكون إلا مقيدة كما هو
الحال في أخبار
الاحتياط.
وأما بناء على أن
أخبار (من بلغ) تثبت استحباب العمل من جهة عروض البلوغ له فالحق جواز الافتاء من
المجتهد باستحباب العمل غير مقيد لأن بلوغ الثواب عنوان يكون واسطة في الثبوت وليس
له دخل في موضوعية الحكم نظير الشك في الطهارة في ثبوت الطهارة في الشبهات الحكمية
وليس داخلا في موضوع الحكم كالضرر والحرج وقد ذكرنا في الجزء الاول من كتابنا
النور الساطع ص ١٥٧ في مقام الرد على صاحب الكفاية حيث منع من تقليد من عمل
بالأصول ما فيه الشفاء للصدور بصحة ذلك.
وإن شئت قلت إن
الاجماع قد قام والادلة على جواز التقليد أيضا قد دلت على أن كل حكم شرعي وكل
وظيفة شرعية لا يستطيع العامي معرفته بنفسه لحكمها ولا لوظيفته فيها ولا حظّ له في
ذلك أن يرجع للعالم بها. ولا ريب أن معرفة أن هذا العمل مما بلغ عليه الثواب تحتاج
إلى فهم مدلول الخبر والبحث عن معارضه وعلاج التعارض ونحو ذلك مما هو وظيفة
المجتهد لا وظيفة العامي ، فإن معرفة مدلول الخبر تحتاج إلى معرفة علوم اللغة التي
يشخص بها مدلول اللفظ. والبحث عن المعارض يحتاج إلى البحث عن الادلة والحاكم منها
والوارد والبحث عن الاصول وعن مجاريها فلعل في المورد أصل يقتضي التحريم أو
الكراهة. وعليه فلا يصح بقيام الخبر الضعيف العمل على طبقه.
وهذا لا يتحقق إلا
ممن عنده ملكة الاجتهاد وقوة الاستنباط. وعليه فلا يصح من العامي أن يقلد المجتهد
في نفس قاعدة التسامح
إذ ليس يتمكن من
تعيين مجراها ، نعم يجوز من المجتهد أن يرخص للمقلد فيما يؤمن فيه من الخطأ
كترخيصه للعامي العمل ببعض الأدعية وللزيارات التي لم يكن فيها من الفقرات ما
تنافي العقيدة ولكن ذلك في الحقيقة إفتاء منه باستحباب تلك الزيارات أو الأدعية لا
إفتاء منه بقاعدة التسامح.
«المصدر الرابع»
(العقل)
المصدر الرابع :
العقل والمراد بالعقل هي القوة المدبرة والمديرة للبدن والمسيرة له في تصرفاته
الاختيارية في صالحه وليس مرادهم منها هو القوة الكاملة الموجودة في الانبياء
والأوصياء ولا الناقصة الموجودة في الهمج الرعاع وإنما مرادهم بها الموجودة في
أواسط الناس الخالية من الشوائب ، والأوهام. فإن للعقل المذكور دلالة على الحكم
الشرعي كالكتاب والسنة والاجماع بواسطة المقدمات التي أسسها واستنتج منها الحكم
الشرعي فتلك المقدمات تسمى بدليل العقل. وليس المراد بدليل العقل ، ما دل العقل
على حجيته وإلا لكان الكتاب والسنة والإجماع من دليل العقل فتلخص إن العقل باعتبار
دلالته على الحكم الشرعي عد من الادلة كالكتاب فانه إنما عد من الادلة باعتبار
دلالته على الحكم الشرعي.
ثم أن كانت
المقدمات التي استنتج منها العقل الحكم الشرعي عقلية محضة لا يتوقف استنتاجه للحكم
الشرعي منها على خطاب شرعي كاستنتاجه لوجوب رد الوديعة شرعا من حكم العقل بحسن
ردها بحيث لا يرض بعدم ردها مع مقدمة كلما حكم به العقل حكم به الشرع فإن العقل
يستنتج من هاتين المقدمتين العقليتين وجوب رد الوديعة واقعا وكحكمه بعدم حرمة شرب
التتن الذي استنتجه العقل من مقدمة وجدانية وهي أن شرب التتن لم يقم دليل على
حرمته شرعا مع المقدمة التي حكم العقل بها وهي قبح العقاب بلا بيان فيسمى هذا
الدليل بالدليل
العقلي المستقل ومن هذا الباب سائر المحسنات والمقبحات العقلية. وربما يخص الدليل
العقلي المستقل بالقسم الأول وهو ما دل على الحكم الواقعي باعتبار أن مقدماته كلها
عقلية.
وأما القسم الثاني
: وهو ما دل علي الحكم بواسطة مقدمة وجدانية فيجعل من الدليل العقلي الغير المستقل
لكون أحد مقدماته وجدانية غير عقلية ، فالمقدمات التي استنبط العقل منها الحكم
الشرعي إن كان بعضها عقلية وبعضها شرعية فيسمى بالدليل العقلي الغير المستقل كحكمه
بوجوب هذه المقدمة شرعا فإن الدليل العقلى عليه متوقف على خطاب شرعي بذي المقدمة
وعلى مقدمة عقلية وهي استلزام وجوب المقدمة شرعا لوجوب ذبها شرعا وكحكم العقل
بحرمة هذا الضد شرعا فانه يتوقف على مقدمة شرعية وهو حكم الشارع بوجوب ضده وحكم
العقل باستلزام وجوب الضد شرعا لحرمة ضده شرعا.
وهكذا حكم العقل
بانتفاء هذا الحكم الشرعي عند انتفاء شرطه بواسطة قيام الخطاب الشرعي على الحكم
الشرعي بذلك الشرط بصيغة مثل الجملة الشرطية أو الوصفية أو اللقب.
نعم لو قلنا بأن
استلزام وجوب المقدمة لوجوب ذيها واستلزام وجوب الشيء لحرمة ضده واستلزام الانتفاء
للحكم لانتفاء ما علق عليه بدلالة اللفظ لا بدلالة العقل لم يكن الحكم المذكور
بوجوب هذه المقدمة أو حرمة هذا الضد أو الانتفاء عند الانتفاء من الاحكام العقلية.
أصلا لا المستقلة
ولا غير المستقلة وإنما تكون من الاحكام النقلية المحضة والذي بعد في صراط الادلة
الأربعة لموضوع الأصول على الاحكام الشرعية هو القسم الأول أعني الدليل العقلي
المستقل الذي يدل على الحكم الواقعي كمثال وجوب رد الوديعة وأما الدليل العقلي
المستقل الذي يدل
على الحكم الظاهري أعني ما أخذ الشك في موضوعه كمثال إباحة التتن فقد بحثوا عنه في
مباحث الاصول العملية.
أما القسم الثاني
: أعني دليل العقل الغير المستقل فقد بحث عنه الاصوليون في صدر كتبهم في أبواب
متعددة كباب مقدمة الواجب والنهي عن العبادة والنهي عن الضد والمفاهيم وذلك لأن
الدليل العقلي الذي جعله الاصوليون في صراط الأدلة الفقهية هو ما كان على وزانها
ونظرها من دلالته على نفس الحكم الواقعي مثل الكتاب والسنة لا الدليل العقلي
المستقل على الحكم الظاهري ولذا الادلة الدالة على الحكم الواقعي تسمى بالأدلة
الفقاهتية والدالة على الحكم الظاهري تسمى بالادلة الاجتهادية. وقد ذهب المعتزلة
الى أن العقل إذا دل على شيء فهو حجة وباعتبار حصول القطع منه يقدم عند مخالفته
للكتاب أو الاجماع أو غير ذلك أو يأول ما خالفه سواء في أصول الدين أو فروعه وسواء
استقل بالحكم أو استلزمه. وخالفهم الاشاعرة فذهبوا إلى أن العقل لا دخل له في أصول
الدين ولا في فروعه وانما عليه الانقياد والاذعان للنصوص الدينية والعمل على
طبقها.
والحاصل أن محل
كلام القوم في هذا المقام هو البحث عن حجية العقل باعتبار دلالته على الاحكام
الشرعية الفرعية الواقعية وإنها متبعة وحجة عليها أم لا. كما أن محل كلامهم في الكتاب
والسنة والاجماع في أبوابها باعتبار دلالتها على الاحكام الشرعية الفرعية الواقعية
وانها متبعة وحجة عليها أم لا. وليس كلامهم في حجية الدليل العقلي باعتبار دلالته
على الطريق للحكم الشرعي كأن يدل على حجية الكتاب أو الاجماع أو السنة فإنه بذلك
لم يعد في مقابلها ويكون البحث عنه في أبوابها في علم الأصول فإن الدليل العقلي
على حجية
الكتاب يبحث في
علم الأصول في باب حجية الكتاب عنه وهكذا الكلام في الباقي كالدليل العقلي على
حجية الظن بالحكم أو استصحاب الحكم أو الشهرة أو القياس أو الاستحسان أو غيرها من
الطرق لمعرفة الحكم الشرعي فانه يبحث عن الحكم العقلي على حجيتها في أبوابها كما
أنه ليس محل كلامهم في هذا المقام في حجية العقل باعتبار دلالته على وجوب الطاعة
للتكاليف فإن ذلك من مباحث علم الكلام إذ فيه يبحث إن العقل يلزم بالطاعة بإتيان
الواجبات وترك المحرمات سواء علم بها تفصيلا أو إجمالا أو احتملت احتمالا. نعم في
علم الأصول تعرضوا لذلك في باب الاحتياط وللشبهة التحريمية والوجوبية عند العلم
الاجمالي بالتكليف والشبه قبل الفحص باعتبار أن العقل يدل على وجوب الاحتياط ظاهرا
في هذه الامور فيكون العلم الاجمالي أو الشبه المذكورة طريقا عند العقل للوجوب
الشرعي بالاحتياط فيها.
والحاصل أن البحث
في هذا المقام للاصوليين عن العقل من حيث حجية دلالته على الحكم الشرعي الفرعي
الواقعي كالبحث عن حجية الكتاب من حيث دلالته على الحكم الشرعي الفرعي الواقعي فإن
الكتاب تارة يبحث عن حجية دلالته على نفس الحكم الشرعي كآية (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) على وجوب الصلاة وبهذا الاعتبار يعد من أدلة الأحكام
الأربعة وهو الذي يعد في صراطها وعدادها.
وتارة يبحث عن
دلالة الكتاب على حجية الخبر الواحد كآية (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) وبهذا الاعتبار يبحث عنه في باب حجية الخبر في علم الأصول
وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على حجية الاصل كأصل البراءة وبهذا الاعتبار يبحث عنه
في باب حجية ذلك الأصل ، وتارة يبحث عن دلالة الكتاب على الاطاعة والامتثال
للتكاليف
كقوله تعالى (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) وبهذا الاعتبار يبحث عنه في علم الكلام.
ثم أن مقتضى
القاعدة أن يبحثوا في هذا المقام عن الدليل العقلي على الحكم للشرعي سواء كان
دليلا عقليا مستقلا أم غير مستقل ، لكن المتأخرين من الأصوليين في هذا المقام خصوا
البحث عن الدليل العقلي بالمستقل وبحثوا عن غير المستقل في أوائل كتبهم لكون بعضهم
ادعى دلالة اللفظ على الاستلزامات المذكورة دون العقل لذهابه إلى أن اللزوم بين
وجوب المقدمة ووجوب ذيها ووجوب الشيء وحرمة ضده وغيرها من الاستلزامات من اللزوم
البين ينتقل له الذهن بمجرد سماعه للخطاب كدلالة الأربعة على الزوجية.
وعليه ، فيكون
الدليل على وجوب المقدمة شرعا ونحوه دليلا نقليا محضا لا عقليا غير مستقل فباعتبار
هذا القول افرد الاصوليون البحث عن ذلك في صدر كتبهم في مبحث الالفاظ فبحثوا عن
وجوب المقدمة شرعا والنهي عن الضد والمفاهيم وغيرها مما كان حكم العقل فيها موقوفا
على خطاب شرعي آخر وإن كان أغلبهم لم يذهب إليه فاختص البحث في هذا المقام أعني
مقام التعرض للأدلة الشرعية على الحكم الواقعي بالدليل العقلي المستقل ولكن الشيخ
الأنصاري (ره) لم يذكر الدليل العقلي في عداد الادلة على الأحكام الشرعية ، وإنما
ذكر القطع بالحكم الشرعي فجعل الميزان هو القطع من الدليل العقلي ، فالدليل العقلي
إن أفاد القطع بالحكم الشرعي كرد الوديعة يعمل به وإلا فلا. كما أن الظن بالحكم
الشرعي الحاصل من الدليل إن ثبت حجيته من الشرع يعمل به وإلا فلا ، فاستراح هو ومن
تبعه من مبحث الدليل العقلي ولم يتعب نفسه فيه وإن كانوا قد تعرضوا في أثناء
بحثهم عن المقطع
لأدلة المانعين من حجية العقل.
إلا أن التحقيق أن
القطع لا ريب في وجوب متابعته ولزوم العمل به والجري على طبقه لانكشاف الواقع به
لدى القاطع انكشافا تاما لا يتطرق له أدنى وهم أو احتمال وإلا لما كان قاطعا فثبوت
الكشف له نظير ثبوت الزوجية للاربعة ولا يعقل أن يقع النزاع في حجيته وإنما كلام
الأصوليين في تشخيص الأدلة العقلية التي توجب القطع بالأحكام الشرعية والعمدة
عندهم الذي هو محل النزاع في حصول القطع به هو دليل الحسن والقبح العقليين وهو
مبني على دعامتين : الأولى إن الأفعال عند العقل مختلفة في نفسها مع قطع النظر عن
الشرع فبعضها ما يمدح فاعلها وبعضها ما يذم فاعلها لخصوصية في ذاتها أو صفة حقيقية
متصفة بها أو جهة اعتبارية تقضي ذلك وإن الافعال كسائر الأشياء المختلفة في الآثار
في حد ذاتها كالاحجار والأشجار والجمادات فالضرب المورث للحزن والغم والألم يذم
فاعله ورد الوديعة الموجب للفرح والسرور يمدح فاعله.
وكما أن الأشياء
بالنسبة إلى كل واحد من الحواس الظاهرة والباطنة والطبائع والغرائز قد تكون ملائمة
وقد تكون منافرة وقد لا تكون كذلك وقد تكون على حد سواء لا ملائمة ولا منافرة كذلك
القوة العاقلة تكون لها ما يلائمها وما ينافرها وما هو على حد سواء بالنسبة لها مع
قطع النظر عن الشرع بحسب ما لها من الخصوصية. فالفعل الملائم للعقل يعجبه ويستحسنه
من فاعله إذا صدر عنه بالاختيار والفعل المنافر للعقل يشمئز منه ويقبح فاعله إذا صدر
منه بالاختيار والفعل الذي ليس بمنافر للعقل ولا بملائم له لا يقبح فاعله ولا
يستحسنه منه ولا فرق في ذلك بين الافعال الصادرة من المولى أو من العبد
وينسب القول بذلك
للإمامية والمعتزلة والخوارج والبراهمة والثنوية والحنابلة والكرامية بل ولبعض
الاشاعرة ، وقد خالف في ذلك جمهور الاشاعرة فقالوا بأن أفعال الله لا تتصف بالحسن
أو القبح المذكورين فلو أثاب العاصي وعاقب المطيع لم يأت بقبيح لأنه تصرف منه
تعالى في ملكه فما يفعله فهو في محله وأما أفعال العباد فلبنائهم على عدم صدورها
منهم بالاختيار وإنما كان صدورها منهم بالجبر والاضطرار وإن العمل إنما يكون حسنا
لو أمر به الشارع وقبيحا لو نهى عنه الشارع وانه قبل الشرع أفعال العباد ليست
بحسنه ولا قبيحة وإن الشارع هو المثبت لها.
والبحث في هذا
المقام يسمى بمبحث الحسن والقبح العقليين وتتفرع عليه مطالب كثيرة وثمرات عظيمة
والحاصل أن الدعامة الأولى للدليل العقلي المستقل على الحكم الشرعي ترجع لقضية
جزئية وهي أن العقل قد يحكم في بعض الافعال بمدح فاعلها ومنعه من تركها فتكون
واجبة عقلا أو بمرجوحية تركها فتكون مستحبة عقلا وبعضها يحكم بذم فاعله ومنعه من
الفعل فتكون محرمة عقلا أو بمرجوحية الفعل فتكون مكروهة عقلا ، وبعضها يحكم بعدم
الذم وعدم المدح فتكون مباحة عقلا.
وبعضها يجهل الحال
فيها وهي الافعال التي لم يطلع العقل على المصلحة أو المفسدة الموجودة فيها فلا
يحكم فيها بشيء.
واستدل القائلون
بالتحسين والتقبيح العقلين :
أولا بالضرورة فإن
العقلاء لا يرتابون في حسن الاحسان بمعنى أن فاعله يستحق المدح أو الثواب من حيث
كونه فاعلا له وقبح الظلم والعدوان بمعنى أن فاعله يستحق الذم والعقاب من حيث كونه
فاعلا له وليس ذلك
بالشرع فانه يقول به حتى ملاحدة.
وثانيا : أنه لو
كان بالشرع يلزم إفحام الانبياء إذ ليس هناك ما يوجب على العقل النظر لمعجزاته الا
حكم العقل بحسنه لخوف الضرر واستحقاق العقاب على الترك.
فلو قلنا بعدم حكم
العقل بالحسن والقبح لم يكن هناك موجب وملزم للنظر عليهم وللزم تجويز العقل ظهور
المعجزة على يد الكاذب لعدم ثبوت القبح عند العقل في ذلك.
وثالثا : لو لم
يكونا بالعقل للزم ارتفاع الوثوق بالمعاد وبوعد الله ووعيده إذ لا مانع عند العقل
سوء قبح ذلك على الله تعالى وإذا لم يكن قبيحا عند العقل جوّز العقل صدوره من الله
تعالى.
ورابعا : جملة من
الآيات القرآنية والاخبار النبوية كالآيات الدالة على إرجاعهم لعقولهم وأفكارهم
وكالأخبار الآمرة بالرجوع إلى العقل وليس إثبات هذه الدعامة يحتاج إلى مزيد بيان
وإقامة برهان.
ما فرعوا على هذه
الدعامة الأولى :
ولقد رتبوا على
القول بالتحسين والتقبيح العقليين أمور :
أحدها : مسألة
التكليف بالمحال فمن قال بأنهما عقليان منع منها ومن لم يقل جوز ذلك وأما التكليف
المحال فهو ممتنع عند الجميع لكون المحال ممتنع بالذات.
ثانيها : وجوب
الأصلح على الله (تعالى) فان من قال بأن التحسين والتقبيح عقليان قال بوجوب الاصلح
على الله تعالى وفرعوا عليه وجوب اللطف على الله تعالى وفرعوا على وجوب اللطف عليه
(تعالى) حسن التكليف ووجوب صدوره من الله تعالى ووجوب بعث الرسل وإنزال الكتب
ولصب الامام وغير
ذلك من الالطاف الالهية مما يوجب القرب للطاعة والبعد عن المعصية.
ثالثها : وجوب شكر
المنعم فاثبته العدلية لحسنه العقلي وأنكره الأشاعرة
رابعها : إن الأصل
في الافعال الاختيارية التي لا ضرر فيها هو الحظر أو الاباحة. هذا كلام وقع في
البين جرنا له ناموس تتابع الأفكار فإن المقصود لنا في المقام بيان الدعامة الأولى
للدليل العقلي المستقل على الحكم الشرعي ، وقد عرفت أنه ترجع لقضية جزئية وهي أن
العقل يحكم في بعض الأفعال بالتحسين والتقبيح العقليين.
الدعامة الثانية :
التي يتركز عليها الدليل العقلي على الحكم الشرعي هو الملازمة بين حكم العقل وحكم
الشرع ترجع لقضية كلية وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع سواء قلنا بأنها بمعنى
التطابق بين الشرع والعقل بأن يكون حكمان حكم الشرع وحكم العقل وحاكمان الشرع
والعقل أو بمعنى الشرع يصدق العقل في حكمه لا أنه يحكم بحكم آخر بأن يكون حكما
واحدا هو للعقل ولكن الحاكم اثنان الشرع والعقل فبأي التفسيرين فسرناها تكون هي
الدعامة الثانية التي يتركز عليها الدليل العقلي المستقل ، حيث أن العقل بواسطة
هذين الدعامتين يستنتج الحكم الشرعي للحادثة التي يتحققان فيها فمثلا رد الوديعة
يحكم العقل بمدح فاعله والمنع من تركه ولذا قرر الالزام به الحكومات والدول حتى
الملحدة منها فيجب بحكم العقل وجوبا عقليا فيتحقق فيه الدعامة الأولى ثم بواسطة
الدعامة الثانية وهي كلما حكم به العقل حكم به الشرع يثبت وجوبه شرعا فقد استفاد
العقل الحكم الشرعي بوجوب رد الوديعة من المقدمات التي هي ثابتة عنده من دون حاجة
لخطاب شرعي بخلاف
وجوب المقدمة شرعا
فإنه يحتاج إلى نص شرعي خارج عن الدليل العقلي عليه يدل ذلك النص على وجوب ذيها
وهكذا في مثل أكل مال اليتيم بلا عوض يحكم العقل بذم فاعله ومنعه عن فعله فيحرم
بحكم العقل حرمة عقلية فيتحقق فيه الدعامة الأولى ثم بواسطة الدعامة الثانية وهي
كلما حكم به العقل حكم به الشرع يثبت حرمته شرعا فاستفيد الحكم الشرعي من الدليل
العقلي المستقل بدون الاحتياج إلى نص شرعي في أي مقدمة من مقدمات هذا الدليل
العقلي أو في الخارج منها بخلاف حرمة الضد على القول بها فإنه يحتاج إلى نص شرعي
خارج عن الدليل عليها يدل على وجوب الشيء لكنك قد عرفت إن هذا إنما يتم فيما لو
اطلع العقل على المصلحة والمفسدة في الفعل وإما مع الجهل فلا مجال له ولذا لم يكن
للعقل المستقل مسرح في أغلب العبادات. ولا في سائر كيفياتها والاكثرون ذهبوا إلى
ثبوت هذه الدعامة الثانية.
وناقش في صحة هذه
الدعامة الثانية بعض الاخباريين وجملة من فطاحل المتأخرين والدليل عليها إن
الميزان في صيرورة الفعل محرما أو واجبا هو بغض المولى له ، وإراداته له ولو لم
يكن في البين خطاب وليس الميزان الخطابات الصادرة من المولى بالحرمة أو الوجوب
بدليل استقلال العقل بصحة معاقبة العبد على المخالفة لو علم بارادة المولى للعمل
منه أو بغض المولى العمل منه ولو لم يكن خطاب للمولى بذلك العمل بل العقل يستقل بأن
العبد لا يستحق العقاب على مخالفة الخطاب بوجوب العمل إذا علم بعدم إرادة المولى
لذلك العمل وهكذا عدم استحقاق العقاب على فعل العمل إذا خالف الخطاب الحرمة إذا
علم العبد بأن المولى لا يبغض العمل كما هو الشأن في إنقاذ ابن المولى وإنقاذ
عدو المولى فليس
الحكم الشرعي هو الخطاب الشرعي الفعلي بأن يصل اليهم قول النبي (ص) صلّ أو صم
وإنما هو إرادة المولى وكراهته المكشوف عنهما بالخطاب الشرعي كما يشهد بذلك
الوجدان فإن من علم إرادة المولى بشيء أو كراهته له وخالفه عدّ عاصيا من غير حاجة
إلى كاشف لفظي عنهما كيف ولو قلنا بأن العقاب والثواب مقصوران على الخطاب اللفظي
لزم أن لا عقاب ولا ثواب لو قام على إرادة المولى الالزامية الاجماع أو الضرورة أو
التقرير أو السيرة على القول بحجيتها. وإذا حسن العقل شيئا نراه حسنا عند المولى
فالمولى يريده وإذا قبح العقل شيئا يراه قبيحا عند المولى فالمولى يبغضه.
ودعوى احتمال إن
علم العبد بالحسن جهلا مدفوعة بأن العالم لا يحتمل ذلك وإن احتمل غيره ، وقد أورد
على هذا الدليل بعض الفطاحل بما حاصلة : ـ
ان مجرد حسن الفعل
أو قبحه لا يوجب إرادة المولى له من العبد وزجره عنه بل لا بد في حصول الارادة
الباعثة من المولى له أو الكراهة الزاجرة من المولى عنه وهما لا يحصلان إلا لدواعي
أخرى ولا غراض أخر بشهادة الوجدان فإن العقلاء كثيرا ما يريدون عدم صدور هذا العمل
الحسن من العبد حرصا على راحة العبد أو يريدون صدور هذا العمل القبيح من العبد
لبغضهم وكراهتهم لذلك العمل كإنقاذ العبد لمن تكرهه نفوس مواليهم فالخطاب الطلبي
متقوم بالبعث نحو العمل والخطاب الكراهي متقوم بالزجر وهما مرتبتان متأخرتان بعد
الارادة والكراهة وليس علم المولى بالحسن علة تامة للبعث نحو العمل اذ قد يكون له
دواعي واغراض توجب عدم بعثه نحو ما علم حسنه وهكذا علم المولى بقبح العمل لا يوجب
زجره عنه اذ قد يكون له
دواعي توجب عدم
زجره.
والحاصل ان البعث
والزجر يختلفان باختلاف الاحوال والاشخاص وغلبة الشهوات والتفاوت في الملكات
وملاحظة نظام الكائنات. وذلك حتى بالنسبة لله تعالى كما في صورة مزاحمة ما فيه
المصلحة الملزمة لما كان فيه مصلحة ملزمة أهم منه فإنه يقبح من الله تعالى ان يريد
المهم دون الأهم مع ما في المهم من المصلحة الملزمة وكما في صورة عدم استعداد
العبد وقابليته لتلبية بعث المولى وزجره فانه لا يصدران من المولى للعبد مع علمه
بحسن العمل أو مفسدته ألا ترى.
كما هو الحال
بالنسبة للمسلمين في مبدأ الاسلام فانهم لم يخاطبوا بتكاليف الاسلام بأجمعها مع ما
فيها المصالح والمفاسد الملزمة حيث لم يكن لهم استعداد وقابلية لارادتها منهم
لنفرتهم منها ولذا جاءت لهم الاحكام الشرعية الالزامية تدريجية وهكذا الصبي
المراهق للبلوغ ، فانه لم يحكم عليه باحكام الاسلام مع أن الواجبات والمحرمات
بالنسبة اليه فيها مصالح ومفاسد ملزمة لكن لم يكن له استعداد وقابلية لإرادتها منه
أو من جهة المشقة والحرج كما في السواك فقد ورد عن النبي (ص) «لو لا أن أشقّ على
أمتي لامرتهم بالسواك عقيب كل صلاة».
وكما في صورة عدم
قابلية المحل للارادة والزجر نظير نفس الطاعة والمعصية فانه يحكم العقل بحسن
الطاعة وقبح المعصية مع عدم تعلق طلب الله تعالى بالطاعة له ولا نهيه بالمعصية له
لعدم الفائدة فلو تعلقا كانا لغوا فظهر أنه لا ملازمة بين حسن العمل أو قبحه عقلا
وبين إرادة الشارع وبعثه نحوه أو كراهته له وزجره عنه اللتين هما القوام والروح
للخطاب بالايجاب أو التحريم.
هذا ملخص المناقشة
في الدعامة الثانية ولكن الحق عدم صحتها فإن
المراد بالحسن هو
الحسن الفاعلي أعني الذي يقطع العبد بأن يستحق الثواب بفعله ممن هو ولي الأمر
والعقاب على تركه منه ومن قطع بذلك لا يتطرقه الاحتمال بمزاحمة الاهم ولا غير ذلك
وإذا قطع بذلك لا محالة يقطع بأن المولى يريده منه ولا يرضى بتركه وهكذا المراد
بالقبح هو القبح الفاعلي أعني الذي يقطع العبد بأن يستحق العقاب بفعله ممن بيده
الامر ومع قطعه بذلك لا يتطرقه كل احتمال ينافيه فلا محالة عند ذا يدرك عقله ان
الشارع الذي هو بيده الامر ببغض صدور ذلك منه وقد حققنا ذلك وأوضحناه في كتابنا
الاحكام وشئونها.
وأما الايراد على
هذه الدعامة بالاوامر الامتحانية بأن يأمر المولى العبد بشيء لا يريده المولى ولكن
اختبارا للعبد. فهو لا يرد على هذه الدعامة لأنه لم يحكم العقل بشيء لم يحكم به
الشرع وإنما يرد على عكسها وهو كلما حكم به الشرع حكم به العقل وليس هو محل كلامنا
فمن أراد تحقيق ذلك فليراجع كتابنا الأحكام وشئونها.
وأما الايراد
عليها بالطاعة والمعصية وعدم تعلق الامر والنهي بهما. فجوابه ما أجبنا به عن
الايراد بالحرج من طرو عنوان عليهما يبدل الحكم العقلي وهو حكم العقل باللغوية
يدركه نفس العاقل للحسن والقبح.
وينبغي التنبيه
على أمور :
أحدها أن خلاصة ما
تقدم هو أن الكلام في الدليل العقلي يكون في تشخيص الدليل العقلي الذي يستفاد منه
القطع بالحكم الشرعي ولذا تجدهم في هذا المقام يبحثون في إعادة قاعدة التحسين
والتقبيح للقطع بالحكم الشرعي وهكذا يبحثون عن الاستحسان والمصالح المرسلة
والاستقراء والقياس بناء على أنها أدلة عقلية غير مستقلة وغيرها من الادلة
العقلية المستقلة.
وأما البحث عن
حجية القطع فليس محل كلامهم كما هو الحال في الظن فانهم يبحثون في حجية ما أفاده
الظن كخبر الواحد وظهور الكتاب والشهرة ونحوها وأما مسألة حجية الظن المطلق فهي
إنما كانت في الازمنة المتأخرة ولهذا لا نجد أحدا من المنكرين لحجية القياس ونحوه
ويقولون بحجية الدليل العقلي يمنعون من حجية القياس أو الاستقراء أو نحو ذلك إذا
افادت القطع بالحكم الشرعي.
ثانيها : إنا إذا
قلنا إن العقل إنما تكون دلالته حجة إذا أفاد القطع كأنه مقدما على سائر الأدلة
النقلية لأنه مع القطع بالواقع ينكشف الواقع فتسقط دلالة كل دليل بالنسبة للقاطع
فمن المستغرب جدا ممن يعد العقل الذي يدل دلالة قطعية على الحكم الشرعي في عداد
الادلة الدالة على الحكم الشرعي ويجعله دليلا رابعا عند فقد الادلة الثلاثة الكتاب
والسنة والاجماع مع أنه من الواضح أن القطع يتجلى به الواقع فلا يؤثر أي دليل معه
فان من قطع بأن هذه هي الشمس الواقعية لا يؤثر أي دليل عنده على أنها ليست بالشمس
الواقعية ويعد القاطع البرهان على خلاف ما قطع به من السوفسطائيات ، ولعل منشأ
الاشتباه هو اختلاط الامر عليه بين العقل بحسب دلالته على الحكم الشرعي الواقعي
وبين العقل بحسب دلالته على الحكم الظاهري فان الثاني لا يدل إلّا بعد عدم الظفر
بالكتاب والسنة والاجماع فإذا ظفر بواحد منها أخذ به لا بحكم العقل لزوال موضوع
حكم العقل ومع عدم الظفر بدلالة واحد منها على الحكم الشرعي يحكم العقل حينئذ أما
بالبراءة أو الاستصحاب أو التخير أو الاحتياط كما هو رأي بعض الأصوليين وبعضهم
الآخر يرجع للنقل مع عدم الظفر حيث أن من النقل ما يدل
على البراءة
والاستصحاب والتخيير والاحتياط. وما درى بأن محل الكلام هو العقل باعتبار دلالته
على الحكم الواقعي الشرعي الفرعي كاللام في القرآن والسنة.
كما يحتمل أن منشأ
الاشتباه هو أن مثل الاستقراء والقياس ونحوها من الادلة العقلية يرجع إليها بعد
فقد الكتاب والسنة والاجماع في المسألة وهي تدل على الحكم الواقعي وما درى أن مثل
القياس ونحوه من أدلة العقل الظنية فهي لا تفيد القطع ، وأما لو أفادت القطع
بالحكم تقدم على سائر الأدلة النقلية.
ثالثها : أن من
قال بحكم العقل في الحكم الشرعي هو حكم العقل بواسطة المقدمات الموجودة عنده
المؤدية إلى حكمه بأن الشرع قد حكم بهذا الحكم في هذه الواقعة وهذا لا ينافي ما هو
ضروري الدين من أن الحاكم هو الله تعالى فالعقل وإن كان له أحكام انشائية وإلزامية
واستحبابية وكراهية وإباحية كما هو الشأن حتى في عقول الملحدين فان عقولهم تنشأ
أحكاما كذلك يعملون على طبقها ومنها القوانين والانظمة الدولية إلا أنه ليس المراد
هي هذه الاحكام وانما المراد بها هو حكم العقل بأن الشرع هذا هو حكمه في المسألة
نظير ما يحكم العقل بأن الملك قد حكم بأخذ الضريبة من ذوي الاملاك وأما ما ذكر من
الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع فالمراد بحكم العقل باستحقاق العقاب على فعل
الواقعة أو تركها ممن بيده الامر فإن هذا الحكم من العقل يلزمه عقلا أن يكون
الشارع قد حكم على طبقه كما حققناه في عدة من مباحثنا.
رابعها : أن العقل
باعتبار دلالته الاستقلالية القطعية على الحكم الشرعي لا توجد إلا في الموارد التي
هي من ضروريات الدين وهي
لا بد وأن يوجد
على طبقها دليل نقلي من الكتاب أو السنة ولعله من الشاذ النادر وحتى الآن لم أجد
موردا للعقل يدل على حكمه الشرعي دلالة قطعية ولم يكن في مورده دليل نقلي وربما
يتوهم بأن الاستقراء والقياس وأمثالها هي أدلة عقلية وتوجد في موارد كثيرة لم يقم
النص عليها فإنه فاسد لانها : ـ
أولا ليس من أدلة
العقل القطعية وإنما هي من أدلة العقل الظنية. ولو سلمنا أنها دلت دلالة قطعية فهي
لدى الحقيقة من الادلة العقلية الغير الاستقلالية التابعة للنص الشرعي المسماة
بالادلة العقلية التبعية الاستلزامية لأن القياس هو الحاق الواقعة بواقعة أخرى في
حكمها الشرعي لمشابهتها له في علة الحكم فيكون الحكم في المقيس تابعا للدليل
النقلي الموجود في الواقعة المقيس عليها وهكذا الاستقراء فإن استقراء العقل للأحكام
الشرعية للجزئيات ليحكم على كليها المجهول الحكم بحكم تلك الجزئيات فيكون حكم
العقل على هذا المجهول بواسطة الأدلة النقلية على جزئياته ونحن كلامنا في دليل
العقل المستقل. نعم لو قلنا أن دليل العقل المستقل أن يدل على الحكم الشرعي
المستقل ولو كانت دلالته من جهة انضمام النقل اليه كان القياس ونحوه دليلا عقليا
مستقلّا لأنه يدل على حكم الفرع مستقلا لا تبعا لحكم الأصل فهو ليس نظير وجوب
المقدمة فانه دائر مدارها.
والحاصل أن المناط
في الاستقلال وعدمه هو استقلال الحكم المدلول عليه في الوجود لا استقلال الدليل
إلا أن الظاهر من كلمات الفقهاء بل الذي يقتضيه الاعتبار أن المناط في استقلال
الدليل العقلي هو عدم توقفه في دلالته على النقل ، فالاستقلال باعتبار الدلالة لا
باعتبار المدلول وهو الحكم الشرعي.
وقد يتوهم فيقال :
كيف تدعى استغناء الشريعة الاسلامية عن الأحكام العقلية مع أن المدنية الاسلامية
في أمس الحاجة الى البحث الذي يزيل الغبار الذي تراكم عليها من أمد بعيد عن
أهليتها لقيادة الانسانية نحو المثل العليا وتوجيهها نحو المرتبة الاسمى من الصلاح
والاصلاح وهذا لا يتم لنا إلّا إذا ظفرنا بالمناهل التي نستمد منها الاحكام الشرعية
على الوجه الصحيح ونستند في فهمها الى العقل السليم كيف لا والمدنية الاسلامية
ليست كغيرها من المدنيات التي حددت لنفسها الحياة ضمن إطار خاص أو. نظرة للانسانية
من زاوية خاصة وإنما اتجهت للشئون الحيوية من جميع نواحيها وتطلعت إلى رفع مستوى
للحياة في سائر ميادينها ونظرت للانسانية بوجودها الفردي والنوعي وأرعت صالحها في
سائر ظروفها وتقاديرها في أسلوب منقطع النظير وتشريع يساير تطور الحياة وتقدمها
ويشايع شعاب آرائها وتفكيرها في سائر اتجاهاتها. وعليه فليس من المعقول والمنطق أن
نجعل العقل بمعزل عن هذه المدنية بل لا بد أن نراعي مصادر هذه للشريعة على ضوء
العقل السليم المجرد عن مخالطة الهوى والشهوات ولهذا كانت مهمة الفقيه شاقة جدا
تتطلب الإحاطة الدقيقة بمصادر الحكم الشرعي وبالتبصر في مؤداها وبالظروف التي وردت
فيها ومدى المصلحة التي اقتضتها وبطبيعة الحياة الحاضرة ومساعدة ظروفها للأخذ بها
بأي نحو وعلى أي كيفية ودرس سنن الطبيعة العامة المسيرة للحياة على وجه الارض وما
قد تفاجئ به من التقلبات والاحداث التي تجعل من الضرورة التوسع في الحكم والتضييق
فيه مراعاة لرفع الحرج والضرر في هذه الشريعة ومسايرة للسماحة والسهولة فيها.
ومما يحكى في هذا
الباب أن بعض الفقهاء كان جالسا في مكان جميل
هيئت فيه وسائل
الراحة فسئل عن الطواف في الحج فأجاب السائل أنه ينبغي الاحتياط بإعادة الطواف
مرتين مرة بين المقام والكعبة ومرة خارج المقام فأجابه السائل قائلا سيدي أنت هنا
في هذا الجو الجميل وما تدري ما يقاسي الطائف بالبيت من الصعوبة وهذا ما يجعل
الانسان يترك الحج ويصبح من الأعمال التي لا تطيقها النفوس ولا ترضاها العقول
فعليك بإتعاب النفس في الاجتهاد لمعرفة الحكم والفتوى دون الاحتياط.
نعم قد يتخيل
المتخيلون ذلك ولكن لا يصح أن يعطى للعقل السلطة التامة في معرفة الاحكام والحرية
الكاملة في تفهمها وتعقلها ونبذ الكتاب والسنة والاجماع وراء الظهر لأن ذلك ينتهي
بنا إلى إيجاد شرع جديد كيف والاحكام الشرعية أمور توقيفية لا مسرح للعقل فيها
لقصوره عن الاحاطة بجهاتها وخواصها وأسرارها مع ما نرى من بناء الشرع على جمع المختلفات
وتفريق المجتمعات كما يشهد بذلك دية أصابع المرأة فأي عقل يدرك ذلك وكيف يطمئن
العاقل فضلا عن الفقيه الخبير بالحكم بالتأمل فيما بدا له من الجهات ولهذا لا نرى
فقيها من أول الطهارة إلى آخر الديات اعتمد على عقله في حكم من الاحكام بدون
الاستناد إلى النصوص والقواعد الشرعية. نعم لو حصل له القطع بالحكم الشرعي كان
القطع حجة له وعليه ، لكن الكلام في حصوله من الادلة العقلية التي ذكروها كالاقيسة
والاستحسانات وغيرها بل وحتى قاعدة التحسين والتقبيح فانها ليست توجد إلا في موارد
نادرة ثبت حكمها بالضرورة كرد الوديعة وقتل النفس المحترمة لأن موضوعها هو ما حكم
العقل باستحقاق العقاب على تركه والثواب على فعله مما بيده الأمور وله السلطة
والسطوة كيف ولا ريب في أنه ليس للعقل الاطلاع
على أسرار الاشياء
والاحاطة بجميع جهاتها من حاضرها ومستقبلها حتى يستطيع الجزم باستحقاق العقاب أو
الثواب ويستكشف من ذاك حكم الشرع ولذا نجد أخبارنا مشحونة بما يدل على أن الدين لا
يصاب بالعقول وأن الاحكام الشرعية لا تدرك بالأفكار وأن الاستقلال في استنباطها
محق للشريعة.
نعم على العقل
البحث في الأدلة الشرعية ومعرفة مقاصدها وكشف أسرارها وإظهار دفائنها وما تهدف
إليه من حقائق ودقائق على أن تكون الادلة النقلية زيت سراج ولولب جهاز لا أن يكون
العقل له الاستقلال والاستبداد بالحكم بالاستحسانات والظنون التي ما أنزل الله بها
من سلطان وقد أشبعنا هذا الموضوع بحثا وتدقيقا في عدة من مقالاتنا المنشورة
والمسطورة.
المصدر الخامس
القياس
القياس : وهو
إلحاق واقعة لا دليل معتبر على حكمها بواقعة أخرى قام الدليل المعتبر على حكمها
بتسرية حكمها لها لاشتراكهما في العلة التي شرع لها الحكم قياسا للوقائع باشباهها
والحاقا لها بنظائرها ومما مثلوا له به ما ذكروه في النبيذ من أنه محرم شربه قياسا
على الخمر لاشتراكهما في علة تحريم الخمر وهو الاسكار.
وتسمى الواقعة
المقيس عليها بالأصل والواقعة المقيسة بالفرع وهذا يرجع للدليل العقلي الغير
المستقل المسمى بالاستلزام. ومنع داود الظاهرى من الأخذ به وقال انه لا يفيد إلا
الظن بالحكم.
والحنفية يأخذون
به ويقدمونه على خبر الواحد الغير المشهور. وأحمد بن حنبل لا يعمل به إلا عند
الضرورة والحق انه ليس بحجة إلا إذا أحرز العلة التامة للحكم عند المشرع لاستحالة
انفكاك المعلول عنها واحرازها قد يكون بالاجماع كقوله أغسل ثوبك من بول ما لا يؤكل
لحمه فانه يقاس على الثوب كلما يشترط فيه الطهارة كالبدن وموضع السجود للاجماع على
ان علة الغسل هو النجاسة به وقد يكون احراز العلة من الكتاب والسنة بان يقال لعلة
كذا أو لأجل كذا أو باللام أو بالباء أو نحو ذلك ودعوى ان القياس مطلقا يفيد الظن
لو سلمت فالظن ليس بحجة ما لم يقم دليل على اعتباره.
وتوضيح الحال أن
القياس على أقسام ثلاثة : ـ
الأول : ـ هو
القياس المستنبط العلة بالحدس وهو الذي لم يصرح الشارع بعلة الحكم في الأصل اعني
المقيس عليه بل الفقيه استنبط علة الحكم في الأصل حدسا ، وللعاملين بهذا القسم من
القياس طرق في معرفة العلة واستنباطها.
منها : الدوران
وهو استلزام الشيء ـ للحكم في الأصل وجودا وعدما بمعنى انه عند وجوده يوجد الحكم
في الأصل وعند عدمه ينعدم الحكم في الأصل فيحدس من ذلك ان هذا الشيء هو العلة
للحكم فاذا وجد في موضع آخر يثبت الحكم له وقد مثلوا له بما لو قال الشارع الخمر
حرام فيستنبط الفقيه ان علة حرمة الخمر هو الاسكار لدوران الحرمة مداره لأن ماء
العنب قبل بلوغه حد الاسكار ليس بحرام وبعد تجاوزه الاسكار وخلوه عنه وصيرورته خلا
أيضا ليس بحرام فيفهم الفقيه أن علة الحكم هو الاسكار لأنه قبله ليس بحرام وبعده
أيضا ليس بحرام فيحكم بحرمة النبيذ لوجود تلك العلة المستنبطة فيه.
ومنها. الترديد
ويسمى بالسبر والتقسيم وهو عدّ أوصاف الأصل وسلب صلاحية علية كل واحد منها فما لا
يصلح سلب عليّة للحكم يحدس بانه هو العلة والإلزام ثبوت الحكم بدون ثبوت العلة له
فاذا ثبت هذا الوصف في الفرع ثبت الحكم للفرع.
ومنها : تنقيح
المناط وهو الغاء الفارق بين الأصل والفرع فيقال لا فرق بين الأصل والفرع إلا كذا
وكذا وهي لا تصلح للتفرق بينهما في الحكم فيحدس ان القدر المشترك بينهما هو العلة
للحكم.
ومنها : ـ تخريج
المناط وهو تعيين العلة في الفرع بمجرد المناسبة بينها وبين الحكم من غير نص
كالعدوان في القتل عمدا فإن العقل ينسب انه هو سبب أخذ القصاص فلو اعتدى على عضو
اقتص منه.
وهذا القسم من
القياس أعني المستنبط العلة هو العمل بالرأي والتفسير بالرأي الذين نهي عنهما في
أخبار متواترة عن الأئمة الشيعة وقام الاجماع المحقق والمنقول من الامامية على عدم
حجيته وحرمة العمل به خلافا لشاذ منهم فقد حكي القول به عن ابن جنيد الاسكافي من
قدماء الامامية في أوائل أمره.
والمحكي رجوعه بعد
ذلك عنه وجعلوا تمسك بعض علمائهم به كالفاضل والشهيدين في بعض المسائل إنما كان
لإلزام المخالف وما يتراءى من عمل أئمتنا (عليهمالسلام) به فهو من باب التقية بل
أدعي ان حرمته من الضروريات في مذهب الامامية ولذلك صارت كتب ابن جنيد الفقهية
الاستدلالية مهجوره عند الشيعة مع أن له كتب كثيرة جيدة كما ذكره بعض الأصحاب وقد
روي البيضاوي وغيره على ما حكي عنهم انه (ص) قال «تعمل هذه الأمة برهة بالكتاب
وبرهة بالسنة وبرهة بالقياس فاذا فعلوا ذلك فقد ضاو» وحكي عن الرازي في محصوله انه
(ص) قال «ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمهم فتنة قوم يقيسون الأمور برأيهم
فيحرمون الحلال ويحللون الحرام».
الثاني : ـ هو
القياس المنصوص العلة : ـ وهو ما نص الشارع بعلة الحكم في الاصل كما لو قال الشارع
الخمر حرام لأنه مسكر وهذا وقع الخلاف في حجيته بين الخاصة على أقوال ثلاثة : ـ
قول عن السيد (ره)
بعدم كونه حجة يعنى لا يمكن التعدي عن مورد النص إلى غيره لأن العلل الشرعية ليست
بعلل تامة حقيقية حتى لا يمكن تخلف المعلول عنها حيث وجدت العلة.
وقول عن العلامة
بحجيته مطلقا.
وقول بالتفصيل بين
كون العلة بطريق الاضافة كما لو قال الشارع
الخمر حرام لأنه
مسكرا ولإسكاره وبين كون العلة المنصوصة لا بطريق الاضافة كما لو قال الشارع الخمر
حرام للاسكار فعلى الأول ليس بحجه وعلى الثاني يكون حجه.
لكن المختار عندي
هو حجية القياس المنصوص العلة مطلقا من غير تفصيل لفهم العرف من قوله الخمر حرام
لكونه مسكرا أو للاسكار هو حرمة كل مسكر من دون فرق بين المثالين فالعرف يفهمون من
التعليل المذكور ترتيب الشكل الأول وان التعليل بمنزلة كلية الكبرى فالمعنى بمقتضى
فهم العرف أن الخمر مسكر وكل مسكر حرام فالخمر حرام وكذا الفرع مثلا النبيذ مسكر
بالوجدان وكل مسكر حرام لقوله (ع) لأنه مسكر أو للاسكار فينتج النبيذ حرام فيكون
القياس المنصوص العلة مطلقا حجة لحجية الظهور بدليل فهم العرف منه ان ذلك تمام
العلة مطلقا.
ان قلت ان اضافة
الإسكار إلى ضمير الخمر تفيد التقييد بالخمر فيكون العلة هو الإسكار المقيد
بالخمرية لا مطلق الإسكار فلا يتعدى إلى اسكار غير الخمر لأن التعليل بالمقيد لا
يوجب عليّة المطلق.
قلنا ان مرجع
التعليل بشيء هو الاستدلال به بنفسه عليه فاذا قيل لا تأكل الرمان الحامض لأنه
حامض أريد الاستدلال بالحموضة على حرمة أكله ولذا يقتنع به في مقام الخصومة
والجدال ولو أريد به المقيد أعني حموضة الرمان خرج التعليل عن كونه استدلاليا
ويكون من قبيل المصادرة وتعليل الشيء بنفسه اذ يرجع إلى قولنا لا تأكل الرمان
الحامض لأنه رمان حامض وهو من السخافة بمكان.
إن قلت : سلمنا
ذلك وان العلة هي المطلق لا المقيد ولا خصوصية للمورد في التعليل لكن لا نسلم انها
هي العلة التامة فلعلها علة ناقصة
من قبيل المقتضي.
قلنا ان ظاهر
التعليل بشيء لآخر انه هو العلة التامة لذلك الآخر لأنه لو تخلف عنه في مورد لكان
أما لاشتراطه بأمر غير موجود أو بعدم شيء كان موجودا وهو خلاف ظاهر التعليل لأن
ظاهره ان المذكور وحده علة وخلاف ما يقتضيه الاقتصار عليه في مقام التعليل بل في
الحقيقة يكون المذكور ليس بعلة وهو خلاف ما تقتضيه الحكمة من المتكلم وإما يلزم
تخلف المعلول عن علته التامة.
ان قلت ان السيد
المرتضى (ره) ذكر إن العلل الشرعية إنما تلبي عن الدواعي الى الفعل أو عن وجه
المصلحة فيه. ولا ريب ان الشيئين قد يشتركان في صفة واحدة وتكون في احدهما داعية
إلى فعله دون الأخرى وقد تدعوا الصفة للشيء في حال دون حال وعلى وجه دون وجه وقدر
منه دون قدر وقد تكون مثل المصلحة مفسده تمنع من تأثير المصلحة في الفعل ولهذا جاز
ان يعطي لوجه الإحسان فقير دون فقير ودرهم دون درهم وحال دون حال وإن كان فيما لم
يفعله الوجه الذي لأجله فعل الآخر ثم ذكر (ره) انه إذا صحت هذه الجملة لم يكن في
النص على العلة ما يوجب القياس وجرى النص على العلة مجرى النص على الحكم في قصره
على مورده وليس لأحد أن يقول إن ذكر العلة يكون عبثا لانا نقول انه يفيد ما لم نكن
نعلمه لولاه وهو ما كان لهذا الفعل المعين من المصلحة.
قلنا : ـ الظاهر
من كلامه (ره) ان العلل الشرعية ليست بعلل تامة اذ لعله تكون من المقتضيات فيجب
الاقتصار على موردها لكنك قد عرفت ان التعليل بالشيء ظاهر في كونه علة تامة
والظهور هو الحجة. نعم لو قام على التعليل ما لا ظهور له في ذلك كالادلة
اللبية مثل
الاجماع أو اللفظية المجملة وجب الاقتصار على موردها.
ان قلت : ان
المعروف بين الفقهاء ان علل الشرع معرفات لا علل حقيقية فهي يجوز انفكاكها عن
معلولها لأن الشيء قد يكون معرفا لعدة أشياء كالظلمة فانها معرفة لوجوب صلاة
المغرب ولجواز الإفطار.
قلنا : العلل
الشرعية على قسمين : ـ
احدهما : ما يكون
الشارع قد بيّنها بلسان انها اسباب لأحكام خاصة كالزوال لوجوب الصلاة والعقود
والايقاعات للنقل والانتقال والزوجية والطلاق والحدث للطهارة ونحو ذلك فانها تكون
معرفات وعلامات للاحكام المرتبة عليها شرعا وليست بعلل حقيقية للأحكام المرتبة
عليها.
ثانيهما : ما يكون
الشارع قد بيّنها بلسان انها هي الموجبة للتشريع للحكم وانها هي المنشأ لجعل الحكم
وان مطلوبية الفعل أو مبغوضيته مستندة اليها كالإسكار في الخمر فمراد الفقهاء بكون
العلل معرفات هو القسم الأول لا الثاني فان ما يكون من قبيل القسم الثاني ظاهر في
كونه علة تامة لمحبوبية الشارع للعمل أو مبغوضيته له. ولا ريب في سريان المحبوبية
بسريان علتها التامة. نعم لو شك في كون العلة من أي القسمين كان اللفظ مجمل فلا
يسري الحكم بسريان تلك العلة.
الثالث : هو
القياس بطريق أولى وتعريفه ان يقال هو اجراء الحكم الثابت في الاصل للفرع لكون علة
الحكم في الفرع آكد وأشد وأقوى كقوله تعالى (فَلا تَقُلْ لَهُما
أُفٍّ) حيث يدل على حرمة ضربهما وشتمها بطريق أولى فإن علة حرمة
التأفيف كف الأذى عن الوالدين ولا شك أن ذلك آكد وأقوي في الفرع وهو الضرب والشتم
وهذا
القسم من القياس
على نوعين : ـ
الاول : أن يكون
الأولوية مستفاد من اللفظ بأن يكون كلام المتكلم منساقا للترقي من الأدنى الى
الاعلى كالآية الشريفة المذكورة فانها منساقة للترقي من الأدنى وهو حرمة التأفيف
إلى الأقوى وهو حرمة الضرب ، وكآية القنطار ، وهذا القسم من القياس بطريق أولى حجة
لأن الأولوية فيه مستفادة من اللفظ عرفا فيكون للفظ ظهور في ذلك والظهور حجة وإن
كانت الدلالة ظنية وهذا القسم هو المسمى بفحوى الخطاب ولحن الخطاب ومفهوم
الموافقة.
الثاني : هو أن
يستفاد الأولوية من العقل لا من اللفظ كما اذ سئل منه الامام (ع) عن رجل تزوج
امرأة في العدة الرجعية فهل تحرم عليه فقال (ع) «إنها محرمة عليه أبدا».
فيستفاد منه عقلا
أن العقد على ذات البعل أيضا سبب لتحريم الأبدي بطريق أولى لأن المطلقة الرجعية في
حكم الزوجة فاذا ثبت أن العقد عليها في العدة يوجب التحريم الأبدي مع وجود الطلاق
فبالطريق الأولى يكون العقد موجبا للتحريم الأبدي مع عدم الطلاق. وهذا القسم من
القياس بطريق الأولوية على قسمين : ـ
أولوية قطعية : ـ وهو
مما لا ريب في حجيتها لكون القطع حجة بنفسه.
وأولوية عقلية
ظنية : ـ وقد وقع الخلاف في حجيتها على قولين : ـ
فقيل : بعدم
حجيتها كما عن المحقق الثالث (ره).
وقول : بحجيتها
كما هو مختار بعض المحققين ، وللقول الاول أدلة أربعة : ـ
الأول : الأصل فإن
الأصل الأصيل حرمة العمل بالظن.
الثانى : الشهرة
العظيمة إذ المشهور على عدم حجية الأولوية الظنية.
الثالث : إطلاق
الأخبار الدالة على حرمة العمل بالقياس مطلقا وخصوص الأخبار الخاصة الواردة في
الأولوية الظنية الدالة على عدم اعتبارها منها ما روي من قوله (ع) لأبي حنيفة ، «لو
كان هذا الدين يؤخذ بالقياس لوجب على الحائض أن تقضي الصلاة لأنها أفضل من الصوم».
وكذا قوله (ع) له «القتل أعظم أم الزنا فقال : القتل فقال (ع) : ما مضمونه أن الله
تعالى رضا في القتل بشاهدين ولم يرض في الزنا إلا بأربع وعلى قياسك أن يكون الأمر
بالعكس».
وكذا قوله (ع) له «البول
أقذر أم المني فقال : البول فقال (عليهالسلام) ما يقرب ذلك أن يلزم على قياسك أن يجب الغسل من البول دون
المني مع أنه تعالى أوجب الغسل من المني دون البول».
ان قلت : أنه يدل
على عدم حجية الأولوية مطلقا القطعية والظنية ما رواه الصدوق وثقة الاسلام في باب
ديات الأطراف عن أبان بن تغلب قال : «قلت لأبي عبد الله (ع) ما تقول في رجل قطع
إصبعا من أصابع المرأة كم فيها قال عشرة من الإبل قلت ، قطع اثنين قال : عشرون قلت
: قطع ثلاثا قال ، ثلاثون قلت : قطع أربعا قال : عشرون. قلت : سبحان الله بقطع
ثلاثا فيكون عليه ثلاثون ويقطع اربعة فيكون عليه عشرون إن هذا كان يبلغنا ونحن
بالعراق فنتبرأ ممن قاله ونقول إن الذي قاله شيطان فقال (ع) مهلا يا أبان هذا حكم
رسول الله (ص) إن المرأة تعاقل الرجل ثلث الدية فإذا بلغت الثلث رجعت المرأة إلى
النصف يا أبان إنك
أخذتني بالقياس ، والسنة إذا قيست محق الدين» فإن في هذه الرواية قياسين : ـ
أحدهما : القياس
المساوي وهو أن دية قطع أربعة من أصابع المرأة أربعون من الإبل وذلك لأن الواحد
كان ديته عشرة والاثنين عشرون والثلاث ثلاثون فيكون دية الأربعة أربعين أو ديته
مطلق ما يزيد على ثلاثين كما هو قضية القياس المساوي.
وثانيهما هو
القياس بطريق أولى : ـ وهو إنه إذا كان دية الثلاث ثلاثين لا يكون دية الأربع أقل
من ثلاثين بطريق أولى ثم أن وجه. الاستدلال بالرواية أن أبان عمل بالأولوية
القطعية في القياس بطريق أولى كما يشهد عليه إصرار أبان ومبالغته في الانكار حيث
قال سبحان الله بتعجب ثم قال إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنتبرأ ممن قاله
ونقول إن قائله شيطان ولا شك أن تبرأه ممن قال ذلك والحكم بأنه شيطان يدل على أنه
كان قاطعا بأن دية الاربع ليس أقل من دية الثلاث ويشهد عليه الوجدان فإنك لو خليت
وطبعك ورجعت إلى وجدانك إذا لم يكن مسبوقا بالشبهة ولم تر هذه الرواية أو نظائرها
قطعت بأن دية قطع الاربع ليس أقل من دية قطع الثلاث وعلمت أن أبان كان قاطعا بذلك
والإمام (ع) نهاه عن العمل بالاولوية القطعية فإذا لم تكن الاولوية القطعية حجة لا
تكون الاولوية الظنية حجة بطريق أولى كما لا يخفى.
لا يقال إن تعجب
أبان إنما هو للتأسف وإظهار الندامة على ما فعله في العراق من التبرؤ من قائل ذلك
والحكم بأنه شيطان لأنا نقول صرح أبان بوجه التعجب حيث قال سبحان الله يقطع ثلاثا
فيكون عليه ثلاثون ويقطع أربعا وعليه عشرون فلا معنى للتأويل المذكور في
وجه التعجب.
لا يقال : إن عتاب
الامام (ع) بالنسبة إلى أبان ليس لأنه عمل بالقياس بطريق أولى وهو نهاه عن العمل
به بل لأحد الأمرين :
الأول : أن قوله (ع)
أخذتني بالقياس معناه إنك يا بان مع دنو رتبتك مني وانحطاط شأنك عني لست أقابلها
بالمجادلة بالقياس لا أن القياس غير قابل لأن يجادل به.
الثاني : معنى
قوله (ع) أخذتني أنه وإن كنت رجلا جليلا القدر ، إلا أنه لا ينبغي منك أن تجادل
معي مع اني معصوم عالم بعلوم الأولين والآخرين.
لانا نقول قوله (ع)
والسنة إذا قيست محق الدين يدفع كلّا من الاحتمالين ويعين الاحتمال الاول الذي
تعنيه وهو أنه (ع) نهاه عن العمل بالقياس من حيث أنه قياس كائنا ما كان لأن قوله (ع)
والسنة إذا قيست محق الدين الذي هو بمنزلة كلية الكبرى ظاهر في نفي حجية القياس من
حيث هو قياس.
والجواب إن هذه
الرواية مشتركة الورود لأنه تنفي حجية مطلق المستقلات العقلية والقطعيات العقلية
وذلك لأنها تنفي حجية الاولوية القطعية ونفي حجية الاولوية القطعية تنفي حجية
المستقلات العقلية لكون المدرك هو حكم العقل القطعي.
ودعوى الفرق بينها
تحكم بحث لأن العقل إذا حصل له القطع يحكم على طبق قطعه سواء كان قطعه تفصيلا أم
إجمالا فالتحقيق أن يقال أنها بصريحها وإلا فبظاهرها تدل على عدم حجية الأولوية
العقلية بل وسائر المستقلات العقلية مع وجود النص الصريح القطعي الدلالة والسند
والحق كذلك لأن النص من المعصوم اقوى دلالة على الحكم
الشرعي من العقل
فإن العقل في الأمور الشرعية التعبدية قطعه يكون موجودا ما لم يظفر بنص أو دليل
أقوى منه كما هو الشأن في سائر الادلة العقلية في تشخيص أحكام الموالي ولا ريب إن
النص المقطوع السند والمتن من نفس الشارع أقوى دلالة على الحكم الشرعي من دليل
العقل حيث لم يحصل به القطع مع وجود النص الشرعي المقطوع الدلالة والسند لا أنه مع
حصول القطع به لا يعمل به. وبعبارة أخرى ان الدليل القطعي يجوز ان يكون الواقع على
خلافه فاذا ظهر الواقع تزول الاستفادة منه وتذهب القطعية بالواقع منه.
والمقام من هذا
القبيل حيث ان الامام (ع) أظهر له الواقع لإزالة القطعية من هذا الدليل كما هو
الحال في سائر الأدلة القطعية كالتى تقام على وجود الله وصفاته ونبوة انبيائه
وخلافة أوصيائه في مقابل المنكرين لها.
المصدر السادس
الاستحسان
الاستحسان : قد
يفسر بالدليل في مقابل القياس الجلي أعني القياس الذي تسبق اليه الافهام ، فإن
الدليل الذي يعارض هذا القياس الجلي ويكون أقوى منه يسمى بالاستحسان سواء كان نصا
من الكتاب أو السنة أو إجماعا أو قياسا خفيا أقوى من ذلك القياس الجلي وهكذا
الرجوع للدليل المخصص أو المقيد لقاعدة كلية يعد من الاستحسان كالرجوع لقاعدة الحرج
والضرر وبهذا تعرف أن الاستحسان يرجع للأدلة الاربعة المتقدمة. وقد تمسك به
الاحناف والمالكية والحنابلة وهو بهذا المعنى لا ريب في صحته إذا كان يرجع فيه
للدليل الصحيح الموجود في الواقعة الذي هو أقوى من غيره وقد يفسر الاستحسان بترك
القياس والاخذ بما هو أوفق للناس أو بطلب السهولة في الاحكام فيما يبتلي به الأنام
أو الاخذ بالسماحة وابتغاء ما فيه الرحمة ، ولا ريب في بطلان الاستحسان بهذه
المعاني فإنه لا دليل على صحته ويلزم منه التلاعب بالاحكام الشرعية والقوانين
الالهية واعطاء الناس رغباتهم في الاطاعة والامتثال وفي ذلك فساد عظيم وشر جسيم.
وإلى هذا الاستحسان بهذا المعنى تشير الاخبار الدالة على أن دين الله لا يصاب
بالعقول.
وعن الشافعي انه
قال : «من استحسن فقد شرع» والاصح والذي هو محط نظر الفقهاء إن مرادهم بالاستحسان
انه ما يستحسنه المجتهد بطبيعته وعادته وسليقته وذوقه من دون دليل شرعي معتبر
ولعله هو المعتر
عنه بشم الفقاهة وهو ليس بحجة عندنا لاجماع الامامية على بطلانه وإنه يرجع للعمل
بالرأي الذي دلت الاخبار على بطلانه والنهي عنه وقد يستدل على صحة الاستحسان بما
روي عن رسول الله (ص) «ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن» ويرده بأنا لو
سلمنا صحتها فهي دليل على حجية الاجماع نظير قوله (ص) «لا تجتمع أمتي علي الخطأ»
لأن الظاهر بقرينة إن (المسلمون) في الرواية جمع محلى باللام هو إرادة جميعهم بنحو
الاستغراق. المجموعي. ودعوى أن المراد به الاستغراق الافرادي نظير «إن جاءك
العلماء فأكرمهم» حيث يدل على وجوب الاكرام ولو بمجيء واحد منهم فكذا ما نحن فيه
فيكون دليلا على حجية ما يستحسنه الفقيه الواحد فاسدة إذ يلزم عليها التخصيص
بالأكثر لأن المسلمين فيهم العوام والفساق فلا يعقل إن استحسان كل واحد منهم يوجب
استحسان الله تعالى ولو سلمنا ذلك فالرواية محتملة لمعنيين الاستغراق المجموعي
والاستغراق الافرادي والدليل متى تطرقه الاحتمال بطل به الاستدلال.
المصدر السابع
المصالح المرسلة
المصالح المرسلة :
في السنة تسمى عند المالكية ويسميه الغزالي بالاستصلاح والاصوليون بالمناسب المرسل
الملائم وهو وجود المصالح التي يريدها الشارع ، وقد حصرها علماء الاصول في خمسة
حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال في واقعة لم يقم على حكمها دليل فإنه
يستفاد من ذلك حكم الشارع بمقتضى تلك المصلحة ومرادهم بالمصلحة هو ما به الصلاح
والنفع وليس مرادهم بها اللذة وإلّا فقد يكون باللذة المفسدة والضرر كشرب الخمر
وبعضهم عمم المصلحة للمنفعة ودفع المفسدة فجعل دفع المفسدة من المصلحة ، وأرادوا
بالمفسدة المضرة لا الألم وإلا فقد يكون بالألم النفع كقلع السن وشرب الدواء.
وسميت بالمرسلة
لأنها مطلقة غير مقيدة في لسان الشارع بنوع خاص من الوقائع ولا بوجه عام وعنوان
عام من الوقائع وإنما عرفت واستنتجها العقل من أهداف الشريعة ومقاصدها ومصب
عموماتها وما ترمي إليه من قواعدها كالأمور الخمسة المتقدمة ولهذا لو كانت المصلحة
مما نص عليها الشارع. بخصوصها في نوع خاص من الوقائع كالمنع من سب الأصنام أمام
عبدتها لأجل أن لا يسبوا الله تعالى فتسرية الحكم بواسطتها ليس من الاستصلاح
والمصالح المرسلة بل هو من القياس وهكذا لورود النص بوجه عام من المصالح كالأمر
باجتناب الخبائث فتسرية
الحكم لما كان
فردا من الخبائث كالدخان ليس من باب المصالح المرسلة وإنما هو من باب التمسك بالعام
في أحد مصاديقه وبهذا يظهر لك أن التمسك بنفي الحرج والضرر في مورد الضرر والحرج
ليس من باب المصالح المرسلة وإنما هو من باب التمسك بالعام في أحد مصاديقه وهكذا
التمسك بالأمر بالاحسان والعدل لقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) في مورد الإحسان والعدل ليس من الاستصلاح والمصالح المرسلة
وإنما هو من التمسك بالعام في أحد مصاديقه.
وبعضهم قسّم
المصالح إلى مصالح ثلاث : ـ
الأولى : ـ المصلحة
المعتبرة سواء كانت منفعة أو دفع مفسدة ومضرة وهي التي شرع الشارع أحكاما لتحققها
ودل الدليل على أنه قصدها عند تشريعه وهذه لا إشكال في وجود الحكم عند وجودها
وتبعيته لها وتسمى بملاك الحكم ومناطه وقد قسموا هذا النوع من المصلحة إلى ثلاثة
أقسام :
الأول : ـ ما كانت
ضرورية لا بد منها. بحيث إذا لم تنفذ فسد الاجتماع واختل نظام الحياة وحدث الهرج
والمرج وهو خمسة حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل فإن الشارع قد شرع أحكاما
لحفظها ودفع ما يفسدها كالجهاد وحرمه الالقاء في التهلكة وحرمة الغصب وحلية النكاح
وحرمة الزنا وحرمة شرب الخمر ، ومن ذلك قتل الكافر المضل فإن المصلحة في قتله هي
دفع مفسدته بالإضلال للغير.
الثاني : ـ ما كانت
حاجية وهي التي يحتاج الناس اليها من حيث التوسعة ودفع الضرر والعسر والحرج
كالإباحة لبعض المحضورات في بعض المناسبات وكالرخصة لترك بعض العبادات في بعض
الاحوال كالصلاة من جلوس للعاجز وكالافطار للصوم للضرر وإباحة الطيبات
من المأكولات
والمشروبات واباحة المعاملات كالبيع والاجارة والمصالحة ورفع الحرج والضرر.
الثالث : ـ تحسينية
وهي التي ترجع لمكارم الأخلاق وتهذيب النفوس كالأمر بالتستر والضيافة والشجاعة
والكرم وآداب الطعام والشراب وحسن الجوار ونحوها ، وهذه المصلحة المعتبرة بأنواعها
الثلاثة هي المصلحة التي لو أدركها العقل لحكم على طبق الشرع ، ومن هذا الباب ذكر
الفقهاء المستقلات العقلية فان المراد بها هي الأحكام الشرعية التي بحكم العقل بها
لو لم يطلع العقل على نص من الشارع عليها إذا أدرك هذه المصلحة بأحد أنواعها
الثلاثة في الواقعة ، وقد عرفت أن مرادهم بالمصلحة أعم من جلب المنفعة الموجودة
فيها التي تقتضي إرادتها أو دفع المفسدة الموجودة فيها التي تقتضي عدم إرادتها وهي
محط البحث في التحسين والتقبيح العقليين. الثانية المصلحة الملغاة وهي المصالح
التي ألغاها الشارع كمساواة المرأة للرجل في الإرث وهذه لا خلاف بين العلماء في
عدم وجود الحكم بوجودها.
الثالثة : المصلحة
المرسلة وهي التي لم يعلم من الشارع أنه ألغاها أو اعتبرها ولكن العقل أدركها من
عمومات الشريعة واستنتجها من قواعدها وأهدافها كإيذاء المتهم بالسرقة للاعتراف بها
فإنه لم يقم دليل عليه إلا من باب المصالح المرسلة وهي محل الكلام. وكيف كان فهذا
الدليل يرجع لحكم العقل بالاستلزام لإدراكه لهذه المصلحة من القواعد والعمومات
الشرعية ، وقد اعتمد على هذا الدليل المالكية والحنبلية والمحكى عن الآمدي منع
الشافعية والحنفية من التمسك به وعن الخوارج التمسك به ما دام لم يصادم نصا ولا إجماعا
ومنع من العمل به الشيعة والظاهريون معللين ذلك بأن فتح هذا الباب معرض لاستغلاق
أهل الأهواء وذوي
النفوذ والسلطان ويمكن أن يقال في ردهم أن الاحكام لما كانت تابعة للمصالح
والمفاسد ودائرة مدارها لكون الشرع إنما جاء لسعادة البشرية لا لشقائها ومعالجة
مشكلات الحياة ومسالكها كان للعقل مجال لمعرفة الحكم الشرعي إذا أدرك المصلحة
والمفسدة من دون توقف على النص الشرعي وبهذا الاعتبار نقول : إن الحكم الشرعي تابع
لعلته وجودا وعدما من جهة اشتمال علته على المصلحة والمفسدة والقائلون بالتحسين
والتقبيح العقليين لا بد لهم من الالتزام بذلك إذا أدرك العقل المصلحة القائمة في
العمل الموجبة لحسنه العقلي للملازمة بين الحسن العقلي والحسن الشرعي الموجب للحكم
عليه.
اختلاف الاحكام
باختلاف المصالح والمفاسد :
ولما ذكرناه وقع
النزاع في تغيير الاحكام وتبدلها تبعا لتبدل المصالح والمنافع وتغيرها وإن خالفت
النص والاجماع لأن عدم التبدل يوجب الضرر والحرج والشريعة الإسلامية تأباه لأنها
قد جاءت لكل زمان ومكان ما دام الدهر فلا بد أن تساير شئون للناس ومصالحهم وذلك لا
يكون إلا إذا التزمنا بتبعية الاحكام للمصلحة ويؤيد ذلك وقوع النسخ في الشريعة
والتدرج في بلاغ أحكامها فإنه لا يكون ذلك إلا لمراعاة مصلحة المكلفين وإن ذلك ليس
تقديما للمصلحة على النص وإنما هو تفسير وتقييد للنص بحكم العقل فإنه نظير ما لو
قال : اقتل الاعداء فإن العقل يقيده بغير الذي فيه مصلحة في بقائه لعدم قيامه
بالضرر والفساد ، فمثلا الاضاحي كانت لا تخرج من منى لقلة الحجيج أما اليوم بعد
كثرتهم وزيادتهم زيادة أوجب الفساد والضرر في بقائها فالحكم يتغير ويوجب إخراج ما
فضل منها أو ذبحه في خارجها ،
وهكذا الطواف حول
البيت فقد كان بين البيت والمقام أما اليوم لما كثر الزحام بحيث يفقد الإنسان
الاطمئنان والتوجه في هذه العبادة فالمصلحة تقتضي تبدل هذا الحكم إلى الطواف في
البيت خارج المقام وقد يجاب عن ذلك إن هذا منافي لما روى من حلال محمد حلال إلى
يوم القيامة وحرامه حرام ليوم القيامة وفي ذلك فتح للتلاعب بالاحكام الشرعية
وتأثرها بالاهواء والشهوات ومراعاة ذوي النفوذ والسلطان ويكون الافتاء بحسب الهوى
لا بحسب الحجة العليا.
ويمكن الجواب عن
الرواية المتقدمة بأنه مع تغير المصلحة يكون حلال محمد (ص) وحرامه هو خصوص ما فيه
المصلحة وما عداه ليس بحرام لمحمد (ص) ولا يشمله دليل الحرمة والمقيد له هو حكم
العقل بارادة الشارع لحرمته المستكشفة هذه الارادة بحكم العقل بوجوب متابعة
المصلحة والفرض إن مصلحة الحرمة موجودة ويؤيد ذلك ويؤكده ما ورد في القرآن الشريف
وسنة النبي الكريم من تعليل بعض الاحكام الشرعية بالمصالح والمفاسد ، وقد ألف
الصدوق كتابه علل الشرائع تضمن هذا الأمر والحق في المقام إن ذلك أوجب القطع بكون
العلة التامة هي المصلحة الكذائية أو المفسدة الكذائية سرى الحكم بسريانها وإلا
فلا ، لعدم الدليل على اعتبار الظن المذكور.
المصدر الثامن
سد الذرائع وفتحها
الثامن سد الذرائع
وفتحها : ـ والمراد بهذا الدليل هو ما يتوصل به ويكون ذريعة ووسيلة لشيء معلوم
الحكم فانه يكون تابعا لما يتوصل به إليه في الحكم فإذا حرم الشارع شيئا وله طرق
ووسائل تفضي اليه وتوصل له ولو بنحو الاغلب تكون تلك الوسائل والذرائع محرمة عند
الشارع ومنسدة عنده تحقيقا لحرمة ذلك الشيء وتثبيتا لحرمته إذ أن إباحتها من الشارع
نقضا لتحريمه لذلك الشيء وإغراء للنفوس بفعله وهو خلاف عدله تعالى وحكمته وهكذا
ذرائع الواجبات وهي الوسائل والمقدمات التي تفضي إليها في الاغلب تكون واجبة عند
الشارع ومفتوح فعلها وهكذا ذرائع المستحبات والمكروهات فانها تابعة لما هي ذريعة
له في الحكم الشرعي فمقدمات الحرام ووسائله الموصلة له ولو في الغالب قد ذهب قسم
من الفقهاء إلى سدها وقالوا بحرمتها وعبروا عنه بسد الذرائع ، ومقدمات الواجبات
ووسائلها الموصلة لها في الغالب قد ذهب قسم من الفقهاء إلى فتحها وقالوا بوجوبها
وسموه بفتح الذرائع ولكن القوم ركزوا البحث عن خصوص ذرائع المحرمات لاكتفائهم عن
البحث في ذرائع غيرها بمبحث مقدمة الواجب وأنت خبير بأن هذا البحث يرجع للدليل
العقلي الاستلزامي.
والحاصل إن موارد
الاحكام نوعان :
الأول : ما كانت
محطا للحكم بالذات ومطلوبة فعلها أو تركها
بالذات وهي ما
كانت المصلحة أو المفسدة قائمة في ذاتها.
الثاني : ما كانت
ذريعه ووسيلة مفضية ومؤدية لما فيه المصلحة أو المفسدة فالذريعة والوسيلة تأخذ حكم
ما يترتب عليها والفقهاء الأربعة يأخذون بأصل الذرائع بمعنى أنهم يعطون الوسيلة
حكم الغاية إذا انحصر الطريق بها وبعضهم لا يشترط الانحصار فالنظر إلى عورة
الاجنبية حرام لأنه يؤدى إلى المفسدة وهي الزنا وقالوا إن من هذا القبيل ضرب
المرأة رجلها للاعلام بزينتها لأنه وسيلة للافتتان بها ولذا قال تعالى : (وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ
لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) ومن هذا القبيل قوله (ص) (وَلا تَسُبُّوا
الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ) فإن السب للأصنام ونحوها كان ذريعة ووسيلة قد تقضي لسب
الله تعالى وينسب القول بسد الذرائع وفتحها لمالك وأحمد وغيرهم وينسب المنع
للظاهرية وغيرهم وقد حققنا الكلام في ذلك في مبحث المقدمة للواجب.
المصدر التاسع
العرف والعادة
وهو ما تعارف
واعتاد بين الناس فعله أو تركه أو قوله وهو المسمى بالعادة العامة ويسمى بالسيرة
مع عدم ردع الشارع عنه.
وذكروا إن العرف
والعادة قد تكون لفظية وهي ما كانت في اللفظ كاستعمالهم لفظ الولد في الذكر مع إنه
ليشمل الذكر والانثى ، وهكذا لفظ الدابة فإن العرف إنما استعملها في خصوص ذات
القوائم مع إنها موضوعة لكل ما يدب على الارض.
وقد تكون عملية
وهي ما اعتاد عمل الناس عليه في حياتهم وكان متعارفا في تصرفاتهم ومعاملاتهم
وأفعالهم كما تعارفوا على بيع المعاطاة وكما تعارفوا على السبح في الحمامات
والجلوس في المقاهي بأجور معينة من دون تحديد لزمن البقاء وقد يكون العرف والعادة
عند بلد خاص كما تعارف في العراق إن البرتقال يباع بالعدد فيكون من المعدود دون
الليمون الحلو فإنه من الموزون ومن المعلوم إن هذا الدليل إن كان لمعرفة الحكم
الشرعي كصحة بيع المعاطاة فهو يرجع للسنة لأن منها تقرير المعصوم فبيع المعاطاة
كان في زمن المعصوم وهو لم يردع عنه وإن كان لمعرفة الموضوع كاستعمال لفظ الولد في
الوصية فهو يرجع لتشخيص المعنى المراد منه ولا ريب إن العرف يوجب انعقاد الظهور
للفظ في ما يستعمله فيه ، وهكذا في كون الشيء مكيلا أو موزونا فإنه يرجع للعرف في
تشخيص موضوعات الاحكام وتحققها.
والحاصل إن العرف
والعادة تارة يستدل بها على الحكم الشرعي وهذا يقتضي ثبوتها في زمن المعصوم مع عدم
ردعه عنها وتمكنه من الردع وتارة يستدل بها على تشخيص الموضوع للحكم الشرعي وهذا
أيضا صحيح لأن الاحكام الشرعية يرجع في موضوعاتها للعرف وفهمه لأنهم هم المخاطبون
بها.
نعم يقع الاشكال
فيما لو كان التعارف والعادة في مثل ما لو كان قيمة السبح في الحمام أو الجلوس في
المقهى خمسين فلسا فلما سبح أو جلس في المقهى طلب منه صاحبهما اكثر من ذلك فهل
يرجع للعرف باعتبار أنهما الطرفان للمعاملة حيث لم يظهر منهما خلاف المتعارف يكون
البناء منهما على المتعارف أو يعطي ما طلب منه باعتبار أن الناس مسلطون على
أموالهم وهكذا لو خاط عنده ثوب وكان المتعارف والعادة قيمة الخياطة دينارا فطلب
منه الخياط بعد الخياطة أكثر من ذلك وهكذا لو كان المتعارف ضريبة الملك على المالك
فبعد الاجارة أو البيع امتنع المالك عن ادائها ولذلك أمثلة كثيرة في المعاملات
والتصرفات.
المصدر العاشر
التلازم القطعي
العاشر التلازم
القطعي الثابت من الشرع بين أمرين مثل قوله (ص) «كلما قصرت أفطرت». فإذا ثبت التقصير
في مورد ثبت الإفطار فيه وهذا يرجع للسنة لثبوت التلازم بواسطتها وإن أرجعه بعضهم
لدليل العقل باعتبار انضمام حكم العقل اليه من امتناع انفكاك المتلازمين وكيف كان
فهو لا يخرج عن دليلي العقل والسنة.
المصدر الحادي عشر
عدم الدليل
الحادي عشر عدم
الدليل : ـ فانه عندهم دليل على العدم وقد يعبر عنه بعدم الوجدان ويجعل دليلا على
عدم الوجود فيقال عدم الوجدان دليل على عدم الوجود وهو أعم من أصل البراءة مطلقا
لاختصاص أصل البراءة بالأحكام الشرعية التكليفية.
وأما عدم الدليل
وعدم الوجدان فهو يجري فيها وفي غيرها من المسائل الأصولية كعدم الدليل على حجية
الخبر دليل على عدم حجيته بل ويجري في مباحث الالفاظ كعدم الدليل على وضع الشارع
للالفاظ دليل على عدم وضعه لها.
فيكون عدم الدليل
أعم من أصل البراءة مطلقا لأن أصل البراءة مختص بنفي الوجوب والحرمة التكليفيين
على ما هو المشهور وعدم الدليل يعم جميع الموضوعات والاحكام الالزامية والأحكام
الوضعية والتكليفية نعم لو قلنا مفاد أدلة البراءة نفي العقاب والمؤاخذة تكون
النسبة بينهما بحسب مدلوله المطابقي التباين الكلي وكيف كان فاصل البراءة أصل
فقاهي وعدم الدليل دليل اجتهادي فهو عند العامل به امارة على عدم الحكم الشرعي
وينسب القول به للشيخ وابن زهرة والفاضلين والشهيد وغيرهم. ويستند في حجيته إلى
قضاء العادة واستمرار السيرة من العقلاء والفقهاء على ذلك وإن السيرة ثابتة في
الموارد عموم
البلوى بها وتتوفر الدواعي فيها.
إلا ان التحقيق ان
يقال إن عدم الدليل على الشيء إن أفاد القطع بعدم ذلك الشيء فلا إشكال في حجيته
كما في الموارد التي لو وجد الدليل على الحكم لظهر لأغلب الناس وكما يقال في
الامور الشرعية العامة البلوى فإن عدم الدليل على التكليف بها دليل على عدم
التكليف بها. وأما إذا كان لا يفيد القطع فإن استقر بناء العقلاء وسيرتهم على
الأخذ به في المورد كما في وضع الألفاظ أخذ به وإلا فلا دليل على حجيته واعتباره
فان عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود.
نعم في الاحكام
الشرعية عدم الدليل عليها يوجب قبح العقاب على مخالفتها لقاعدة قبح العقاب بلا
بيان لا أنه يوجب انكشاف عدم وجودها فيكون أصلا فقاهيا ولا دليل عليه إلا أدلة أصل
البراءة بخلافه على الاول فانه يكون دليلا اجتهاديا مستنده قضاء العادة والسيرة.
هذا وعدم الدليل
غير أصل العدم فان أصل العدم إنما هو من الاصول اللفظية كاصالة عدم القرينة واصالة
عدم التجوز ونحوها.
المصدر الثاني عشر
التسامح فى ادلة السنن
الثاني عشر
التسامح في أدلة السنن : ـ وهو يرجع للسنة لأنه لا دليل عليه إلا الاخبار الدالة
على إن من بلغه ثواب عمل فأتى به فله ذلك الثواب وأما إذا قلنا بأنه مستفاد من
العقل باعتبار حكم العقل بحسن جلب المنفعة المحتملة وبقيام الخبر الضعيف على
المطلوبية يحتمل النفع فهو من الدليل العقلي الاستلزامي باعتبار إن بلوغ الثواب
يستلزم ذلك لحسن كمال اهتمام العبد في استرضاء مولاه عقلا وقد تقدم البحث في ذلك
مفصلا في مبحث حجية السنة والخبر فراجعه.
المصدر الثالث عشر
الاستقراء
الثالث عشر
الاستقراء : فإنه يرجع لحكم العقل الاستلزامي الظني باعتبار إن ثبوت الحكم لأغلب
أفراد الكلي يستلزم عقلا بنحو الظن ثبوته لكليها ولباقي أفراده لأن ثبوته لأغلب
أفراد الكلي يدرك العقل منه أن طبيعة الكلي تقتضي ثبوته لها أينما وجدت وحلت.
وتوضيح الحال أن
الاستقراء لغة هو عبارة عن التتبع وقصد القرى قرية فقرية.
واصطلاحا عبارة عن
الحكم على الكلي بما وجد في جزئياته كما في المصابيح ، أو بما وجد في الجزئيات كما
في القوانين ، قال في النهاية المراد به إثبات الحكم في كلي لثبوته في جزئياته ،
وفي الشمسية هو الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته. قال الشارح لأن الحكم لو
كان موجودا في جميع جزئياته لم يكن استقراء بل قياسا ثم قال ويسمي استقراء لأن
مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات كقولنا «كل حيوان يحرك فكه الاسفل عند المضغ
لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك ، ثم قال وهو لا يفيد اليقين لجواز وجود جزئي
آخر لم يستقرأ ويكون حكمه مخالفا لما استقرئ كالتمساح حيث نسمع إنه يحرك فكه
الأعلى عند المضغ ثم لا يخفى عليك إن التعاريف المذكورة للاستقراء المصطلح في هذا
الفن بأسرها مخدوشة ومنقوضة عكسا لعدم شمولها لما إذا قطعنا بانتفاء الحكم في بعض
الجزئيات مع وجوده في
غالبها ولا ريب إن
العاملين بالاستقراء يأخذون به في الصورة المذكورة ويلحقون الجزئي المشكوك بالغالب
في هذا الحكم وإن حصل لهم القطع بانتفائه عن بعض الجزئيات ولا ريب أنه لا يصدق على
الاستقراء في الصورة المفروضة أنه الحكم على الكلي إذ لو كان الاستقراء موجبا
للحكم على الكلي امتنع انتفاؤه عن بعض الافراد كما لا يخفى ، ومن هذا الباب ما
أشتهر من إن الشيء يلحق بالاعم الأغلب إلا اللهم أن يقال أن مرادهم بها بيان مصطلح
أهل الميزان وهو كما ترى مناف لما نقلناه عن علماء الأصول في الكتب الأصولية أو
يقال إن الاستقراء في الصورة المفروضة غير معتبر عندهم وهو أيضا مناف لتصريح جمع
منهم كالأسترآبادي في المصابيح حيث قال : «والاقوى هو التفصيل بأن نقول بالحجية في
الاحكام الشرعية عند تحقق المظنة المطمئنة بها النفس سواء تحقق الاستقراء في
الأجناس أو الأنواع أو الاصناف أو الاشخاص وسواء ظهر في مخالفة بعض الأفراد أم لا».
أقول إذا عرفت ذلك
فنقول الأصح في تعريف الاستقراء في مصطلح هذا الفن أن يقال هو تصفح الجزئيات لتعدي
الحكم الثابت في غالبها إلى الجزئي المشكوك الواقع في عرضها ومرتبتها أو هو تصفح
الجزئيات لالتحاق الجزئي المشكوك الواقع في عرضها بحكم غالبها أو هو الحكم على
الجزئي المشكوك بما وجد في غالب الجزئيات الواقعة في عرضه سواء كانت الجزئيات
المستقرأ فيها مع الجزئي المشكوك أفراد الصنف واحد أو أصنافا لنوع واحد أو أنواعا
لجنس واحد فيشمل جميع أفراده ثم أنه قد اشتهر بينهم أن الاستقراء على قسمين : ـ
الأول الاستقراء
التام : ـ وهو ما وجد الحكم في جميع الجزئيات مثل أن يقال أن الجسم إما حيوان أو
نبات أو جماد وكل منها متحيز
فكل جسم متحيز وهو
المسمى بالقياس المقسم ، قال في النهاية أنه دليل صحيح وفي القوانين هو مفيد
اليقين ولا ريب في حجيته. لكن لا يخفى أنه لا يكاد يوجد في الاحكام الشرعية كما
أنه ليس ذلك من الاستقراء المصطلح عندنا معاشر الاصوليين ولا بمثمر لنا في شيء إذ
المفروض ثبوت الحكم في كل واحد من الجزئيات بدليل منفصل بحيث لا يوجد في البين فرد
مشكوك وقد صرح في النهاية بأن إطلاق الاستقراء في كلماتهم لا يشمل هذا القسم إن
قلت : أن المشكوك حينئذ هو نفس الكلي وبعد وجود الحكم في جميع الجزئيات نقطع بأن
نفس الكلي حكمه ما وجدناه في جميع جزئياته فيثمر في مثل ما لو فرضنا وجود فرد من
هذا الكلي في الأزمنة الآتية ونشك في مشاركته مع الجزئيات الموجودة المستقرأ فيها
وعدمها فنحكم بالمشاركة لوجود الكلي في ضمنه قطعا وثبوت الحكم لنفس الكلي
للاستقراء في جميع جزئياته.
قلنا لا يخفى ما
فيه إذ لعل هذا الفرد ليس حكمه حكم كليه فالأولى أن يقال أن حصل القطع أو
الاطمئنان بذلك فهو وإلا فلا دليل على أن حكم هذا الفرد هو عين حكم كليه لا يقال
إن الحكم إذا ثبت للكلي بنص فإن الافراد لهذا الكلي الحادثة في الازمنة المتأخرة
يثبت لها حكم ذلك الكلي فكذا ما نحن فيه فإنا نقول نعم ولكن يثبت بواسطة ظهور
اللفظ وإطلاقه وفي المقام ليس لنا ذلك ولذا لو قام الاجماع على حكم كلي ولم يكن له
معقد يستشكل في ثبوت حكم ذلك الكلي لافراده الحادثة.
والثاني الاستقراء
الناقص : ـ وهو ما وجد الحكم في أكثر جزئياته كما نقلنا عن شارح الشمسية من
التمثيل به ، وهذا القسم هو الذي ينصرف إطلاق لفظ الاستقراء اليه كما صرح به في
النهاية ويصدق عليه
التعريفات المذكورة
ثم أنه لا ريب في كونه مفيدا للظن بل قد يفيد القطع ولو بانضمام العادة كما لا
يخفى خلافا للعلامة في النهاية حيث قال : «والاقرب أنه لا يفيد الظن» أيضا إلا
بدليل منفصل تبعا للمحقق في المعارج حيث منع إفادته للظن أيضا على ما حكي عنه في
المفاتيح وهو مخالف للحس والوجدان والظن المستفاد من الاستقراء يتفاوت درجته
بتفاوت كثرة الافراد المستقرأ فيها بل ربما يحصل منه كثرتها الظن المتاخم للعلم
كما صرح به غير واحد.
بقي الكلام في
حجية هذا القسم من الاستقراء وعدم حجيته فنقول اختلفوا فيه على قولين :
فقول بالحجية في
الاحكام الشرعية وهو مختار المحقق الثالث والمقدس الاسترابادي وشريف العلماء وهو
المحكي عن جمهور القائلين بحجية الظن المطلق كما استفادة السيد السند في المفاتيح
ونفي الوفاق على عدم حجية الاستقراء وترقى عن ذلك ونفى الشهرة على عدم حجيته
واستفاد حجيته من القائلين بحجية مطلق الظن وعلل ذلك بقوله «لأنه من الظنون التي
لم يقم دليل على عدم حجيته» بل يظهر من الكرباسي حجّيّة الاستقراء في اللغات وحكي
عن ابن الحاجب وصاحب المعالم أنه طريق قطعي لا ينكر أي في اللغات وبه انقطع النزاع
بين كافة العلماء في الحقيقة الشرعية ثم استكشف الكرباسي المذكور من كلامهما كون
حجيته في اللغات متفق عليها بينهم ثم قال «وهو في الجملة مما لا ريب فيه» لكن
الاسترابادي صرح بعدم حجيته في اللغات.
والقول الثاني عدم
حجيه هذا القسم وهو المحكي عن المحقق في المعارج والعلامة في النهاية والمنسوب إلى
القائلين بحجية الظن المخصوص. وهو الحق لعدم الدليل المعتبر على حجيته حيث إنا لا
نقول بحجية الظن المطلق كما سيجيء إنشاء الله.
المصدر الرابع عشر
ثبوت الحكم فى الشرائع الالهية السابقة
الرابع عشر ثبوت
الحكم في الشرائع الالهية السابقة : كالنصرانية واليهودية ولم ينسخ في شرعنا وكان مسكوتا
عنه.
فجمهور الفقهاء
على الالتزام به في شرعنا ويحكى الخلاف عن الاشاعرة والمعتزلة وبعض الشافعية بدعوى
أن الشرائع السابقة مختصة بأمهما بخلاف شريعتنا فإنها جاءت عامة ناسخة للشرائع
السابقة ولأن الرسول (ص) لما أرسل معاذ بن جبل لليمن ليحكم فيها قال له : «بم تقضي
قال : بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله فإن لم أجد أجتهد». فلو كان شرع من
قبلنا مصدرا عند انعدام النص لأمره رسول الله بالرجوع اليه لا أن يقره على
الاجتهاد وهو يرجع للسنة إن كان من باب تقرير النبي (ص) له باعتبار أنه حكم كان
ثابتا في الشرع السابق وحيث لم ينسخه الرسول (ص) فقد أقره ، أو للاستصحاب باعتبار
أن الحكم في الشريعة السابقة كان ثابتا يقينا ونشك في ارتفاعه بشريعة الرسول ولا
ينقض اليقين بالشك فنستصحبه إلى شرعنا الحاضر ولا نسلم أن الشرائع السابقة قد نسخت
بأحكامها جميعا بل في القرآن ما يؤكد امضاءه للشرائع السابقة كقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) وكقوله تعالى (مُصَدِّقاً ...) وكقوله تعالى (مِلَّةِ إِبْراهِيمَ) وإما قصة معاذ فانه بأخذه بأحكام الشريعة السابقة يكون
أخذا بالكتاب والسنة ، لما قد عرفت أنهما يدلان على ثبوت أحكام الشريعة السابقة
وتحقيق الحال يطلب مما كتبناه في استصحاب أحكام الشرائع السابقة ،
المصدر الخامس عشر
مذهب الصحابي
الخامس عشر مذهب
الصحابي وهو القول والعمل الذي يصدر من الصحابي المشتهر بالفقه والفتوى ولديه الملكة
الفقهية من دون أن يعرف له مستند في الواقعة فانه يدل على حكمها.
واستدلوا على
حجيته بأن الصحابة كانوا أقرب الناس للنبي (ص) فهم أعلم الناس بسنته وبقول النبي (ص)
«أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وينسب لمالك وابن حنبل الاعتماد على قول
الصحابي وهو مؤخر عندهم عن الاجماع ومقدم على القياس واختار الآمدي أنه ليس بحجة
وقد عده الغزالي من الاصول الموهومة والحق أنه لا دليل لنا على حجيته إذ لعل
الصحابي استند قوله لحدسه ورأيه وقد أخطأ فهو نظير فتوى المجتهد ليس بحجة على
الغير والحديث لا يدل على لزوم العمل والاقتداء برأي الصحابي ولعله يراد به الأخذ
بروايته لا برأيه مضافا إلى ضعف الحديث كما في كتاب الاحكام واعلام الموقعين و
التقرير والتحبير.
نعم قول الصحابي
كنا نفعل كذا ونصنع كذا ونقول كذا عند رسول الله (ص) هو داخل في نقل السنة فهو من
الخبر الواحد لتقرير الرسول (ص).
المصدر السادس عشر
تنقيح المناط
السادس عشر تنقيح
المناط : وهو معرفة تمام علة الحكم للواقعة فإنه لو وجد فى غيرها ثبت الحكم فيه
وهو يرجع للقياس وقد عرفت أنه من الدليل العقلي الاستلزامي.
المصدر السابع عشر
السيرة
السابع عشر السيرة
من المسلمين أو من الفقهاء الصالحين على العمل فإنها تدل على صحته وتسمى بالاجماع
العملي فقد ذكر العلماء في وجه حجيتها إنا إذا رأينا سيرة المسلمين أو العلماء
الصالحين قد استدامت سيرتهم واستمرت طريقتهم على عمل خاص يتعاطونه مواظبين عليه
ويتداولونه راغبين إليه من غير دليل يوافقهم أو يخالفهم ولم ينكر إمامهم عليهم ذلك
كشف عن إنه راض به نظير استكشاف رأي المجتهد عن استمرار عمل مقلديه على شيء فإن
إطباقهم كاشف عن رأيه وكذلك استكشاف رأي كل رئيس في كل فن من طريقة أتباعه.
نعم للاستكشاف
المذكور شرائط مثل أن لا يكون العمل المذكور ناشئا عن المسامحة وقلة المبالاة إذ
لو لم يعلم ذلك لما حصل العلم برأي الامام ولذا لا يكشف سيرتهم على المعاملة مع
الاطفال بالبيع والشراء عن رأي إمامهم مع أنه متداول في الاعصار والامصار ولا
استقرارها على المعاطاة عن كونها بيعا عند المشهور ولا استقرارها على التكلم مع
الأجنبية أزيد من مقدار الحاجة عن الجواز ولا على عدم تحفظ النساء من ستر ما يقرب
من الزند وحواشي الوجه في الصلاة عن الصحة وهكذا ومثل أن لا يكون هنالك إجماع قولي
أو نص أو حكم عقلي على خلاف مقتضى السيرة إذ لا يجامع ذلك الاستكشاف المذكور ،
ومثل أن لا يكون عملهم منتهيا الى تقليد مجتهد إذ لو علم ذلك كشف عن رأي المجتهد
ومع الشك لم يكشف عن رأي الامام ، ومثل أن
يحرز وجه العمل
وهو العمدة إذ بدونه لا يمكن استكشاف وجه خاص فإن العمل الواحد قابل لوجوه عديدة
والافعال مسلوبة الدلالة على جهة خاصة ولذا قالوا في باب التأسي كما يأتي إنشاء
الله :
(إن فعل المعصوم
إنما يكون حجة إذا علمنا بوجهه الذي أوقعه عليه) فنظره (ع) إلى امرأة أو أكله شيئا
لا يثبت جواز ذلك في حقنا لاحتمال وقوعه في حقه عن ضرورة أو محرمية فلو نظر جماعة
منا إلى امرأة لا يكشف عن جواز النظر إليها في حق غيرهم لجواز أن تكون زوجة لأحدهم
وأمّا لآخر واختا لثالث وهكذا .. ومن هذا لا يجوز استناد حجية أخبار الكتب الاربعة
الى عمل الأصحاب بها قديما وحديثا بعد احتمال اختلافهم في الوجه فيعمل واحد
لقطعيتها صدورا أو دلالة أو صدورا ودلالة أو عملا أو صدورا وعملا أو لكونها آحادا
محفوفة بقرائن قطعية أو لإفادتها الظن الشخصي أو النوعي أو من جهة الانسداد وهكذا
فلا يحرز عنوان العمل ، ومجرد استكشاف الحجية لا يجدي بعد بنائه في مذهبه على جهة
خاصة.
هذه هي الشروط
التي ذكروها لحجية السيرة ، والواجب إضافة أمر آخر وهو عدم كون عملهم عن إكراه
فاجتماع الشيعة على مثل صلاة الجمعة في بلاد العامة لا يكشف عن وجوبها إلا أن يدرج
في الشرط الثالث.
والحاصل إن اعتبار
سيرة العلماء والمسلمين إنما هو لأجل كشفها عن تقرير المعصوم (ع) ويشترط فيه كما
قرر في محله علمه (ع) بما جرت عليه سيرتهم وكون علمه على سبيل العادة المتعارفة
دون طريق الاعجاز وكشف المغيبات وتمكنه من الردع واحتماله (ع) لارتداع الفاعل عند
ردعه (ع) عن ذلك الفعل.
المصدر الثامن عشر
الشهرة
الثامن عشر الشهرة
، والشهرة لغة الواضح المعروف ومنه : فلان شهر سيفه.
وفي الاصطلاح
اتفاق جل العلماء على فتوى أو رواية ونظيرها الشهرة في الموضوعات إلا أن اسم
الشهرة عند الفقهاء قد خص بالشهرة في الأحكام كما أن الشهرة في الموضوعات قد خصت
باسم الشياع واسم الاستفاضة.
وعن الروضة أن
الشياع هو أخبار جماعة بأمر تأمن النفس من تواطئهم على الكذب ويحصل بخبرهم الظن
المتاخم للعلم.
والشهرة في
الاحكام على ثلاثة أقسام :
الأول الشهرة في
الرواية : ـ وهي عبارة عن اشتهار الرواية بين الرواة وأرباب الحديث بكثرة نقلها
وسيجيء إنشاء لله بيان إنها من المرجحات في باب التعارض.
الثانى الشهرة
العملية وتسمى بالشهرة الاستنادية : ـ وهي عبارة عن اشتهار العمل بالرواية عند قدماء
أصحابنا واستنادهم في فتواهم اليها وسيجيء إنشاء الله بيان ان هذه الشهرة في
الاستناد إلى الرواية عند القدماء جابرة لضعف الرواية وموجبة لاعتبارها وحجيتها
وقد ضرب لها بعض الفقهاء المثل بالحديث النبوي المشهور «على اليد ما أخذت حتى تؤدي»
فإن فقهاؤنا قد تمسكوا به لعمل الاصحاب القدماء به مع أن هذا الحديث لم يذكره أحد
من رواتنا في كتبهم وإنما روته العامة في كتبهم وكان في سنده الحسن البصري عن سمرة
بن جندب عن النبي (ص) وسمرة بن جندب صاحب القضية التي قال فيها النبي (ص) : «لا
ضرر ولا ضرار» ، وحكي عن أرباب الحديث أن الحسن البصري لم يرو حديثا منه قط فمع
هذه الامور كلها كان
الحديث المذكور
حجه عند فقهائنا باعتبار عمل القدماء من أصحابنا به وذلك لأن عمل المشهور من
القدماء به يوجب الوثوق بصدوره.
الثالث الشهرة في
الفتوى : ـ وهي عبارة عن اشتهار الفتوى بالحكم الشرعي ، وهي محل كلام القوم في
مبحث الأدلة فقد وقع النزاع بينهم في أن الشهرة في الفتوى حتى عند القدماء يثبت
بها الحكم الشرعي الذي تدل عليه الفتوى أم لا ، وفي المسألة أقوال : ـ
الأول : ـ القول
بحجيتها مطلقا وقد حكي اختياره عن الشهيد في الذكرى والخونساري وولده جمال
العلماء.
الثاني : ـ القول
بعدم حجيتها وهو المشهور ، ويرشد إلى ذلك ما ذكره القوم في الدليل على عدم حجيتها
من أن الشهرة لو ثبتت حجيتها لزم عدم حجيتها لأن المشهور عدم حجيتها فيلزم من
وجودها عدمها وما يستلزم وجوده عدمه فهو باطل.
القول الثالث : ـ التفصيل
بين الشهرة المدعاة قبل زمان الشيخ الطوسي فهي حجة وبين الشهرة بعد زمانه فهي ليست
بحجة واختاره صاحب المعالم.
القول الرابع : ـ التفصيل
بين الشهرة المقترنة بوجود خبر ولو كان ضعيفا لم يروه إلا أهل السنة وبين غيرها
فالأولى حجة دون الثانية وحكي هذا القول عن صاحب الرياض وعن الوحيد البهبهاني.
وهذه الشهرة التي
يوجد على طبقها الخبر على قسمين : ـ
استنادية : وهي
التي يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر.
وتطابقية : وهي
التي لا يستند المفتون في فتواهم إلى ذلك الخبر ولعل السر في اعتبار ضم الخبر هو
التحرز عن مخالفة المشهور القائلين بعدم حجيتها حيث نزلوا كلام المشهور على الشهرة
المجردة فالقول بالحجية
للشهرة المطابقة
للخبر ليس فيه مخالفة للمشهور ، وقد يستدل على حجيتها بأدلة منها : ـ
أن العقل حاكم بان
اتفاق جماعة من العلماء الأخيار المتبحرين يوجب العلم والاطمئنان الذي هو بمنزلة
العلم بحصول مستند معتبر لديهم.
وجوابه : ـ إنا لو
سلمنا ذلك فهو إنما يوجب الوثوق بحصول دليل صحيح أو أصل معتبر لديهم ولا يلزم أن
يكون صحيحا أو معتبرا عندنا ، ومنها أن رأي المتبوع يستكشف من رأي تابعيه ، فإنا
نستكشف رأي أبي حنيفة من آراء فقهاء الحنفية.
وجوابه : أن الاستكشاف
لم يكن على سبيل القطع بل هو على سبيل الظن فنحتاج إلى الدليل عليه.
ومنها : أن أدلة
حجية الخبر الواحد تدل على اعتبار الخبر من باب الظن فتدل بالفحوى ومفهوم الأولوية
على حجية الشهرة لكون الظن الذي تفيده الشهرة أقوى مما يفيده الخبر مضافا إلى أن
عموم التعليل في آية النبأ شامل للشهرة ضرورة أن المستفاد منه : أن كلما لا يوجب
العمل به الوقوع في التنديم عند العقلاء يجوز العمل به.
ومن المعلوم أن
العمل بالشهرة لا يوجب ذلك ودعوى اختصاصه بالخبر يدفعها أن العبرة بعموم التعليل
لا بخصوصية المعلل بل لعل التعليل في الشهرة أقوى وأولى من الخبر.
ويرد عليه : أن
أدلة حجية الخبر تدل عليه بخصوصه أفاد الظن أم لم يفد ولذا نقول بحجيته حتى لو قام
الظن الشخصي على خلافه.
ولو سلمنا لم ينفع
ذلك لوضوح الفرق بين الظن بالحكم الحاصل من أخبار العادل به عن الامام وبين الظن
الحاصل من شهرة الفتوى به فإن الظن من جهة الشهرة ينتهي إلى الحدس والظن من الخبر
الواحد ينتهي إلى
الحس ، وأما عموم التعليل في آية النبأ فهو إنما يقتضي الاعتماد على المفتين في أن
فتواهم كانت مستندة لشيء معتبر عندهم من دليل أو أصل لا لقول الامام إذ لم يعلم بل
يقطع بعدم مشافهتهم له ولا ريب أن ما كان معتبرا عندهم ليس بمعلوم اعتباره عندنا
إلا إذا اطلعنا عليه بنفسه.
ومنها : ما في
الرواية المشهورة عند الشيعة من قوله (ع) «خذ بما اشتهر بين أصحابك».
وفيه أن المراد به
هو الأخذ بالرواية المشتهرة به ، ولا يعم الفتوى المشتهرة كما هو أوضح من أن يخفى
لأن محط النظر في الرواية المذكورة هي الروايات المتعارضة وهي لا ربط لها بالفتوى
وتوضيح ذلك أن الرواية ليس فيها ما يدل على العموم عدا كلمة الموصول والموصول
عمومه تابع للعهد بصلته ولم يكن هنا عهد بالصلة بنحو العموم للشهرة في الفتوى حتى
يقال بعموم الموصول لها ويدل على ذلك قول الراوي في هذه الرواية بعد الفقرة
المذكورة «فقلت يا سيدي هما معا مشهوران مأثوران عنكم» لوضوح عدم إمكان تحقق
الشهرة في الفتوى في حكمين متضادين.
ثم أن الشهرة في
الفتوى وإن لم تكن حجة فهل توجب حجية الرواية المطابقة لها بان يفتي الكثرة بما
يطابق مضمون الرواية الضعيفة من غير أن يستندوا في فتواهم إليها كما أفتى المشهور
بنجاسة العصير العنبي إذا غلى واشتد من دون تمسكهم بالرواية الضعيفة المطابقة لهذه
الفتوى وقد ذهب جماعة إلى حجية هذه الرواية بواسطة هذه الشهرة المطابقية والظاهر
أنه كذلك لحصول الوثوق بصدورها.
وأما الشهرة في
الفتوى الاستنادية بأن يفتي الكثرة بما يطابق مضمون
الرواية الضعيفة
مع الاستناد في فتواهم الى تلك الرواية الضعيفة كما حكموا بالطواف بين البيت
والمقام استنادا لرواية ضعيفة تدل على ذلك فقد ذهب الكثير إلى أن هذه الشهرة توجب
حجية الرواية الضعيفة وهو الحق لحصول الثقة بصدورها. نعم الشهرة في الرواية التي
هي عبارة عن كثرة نقلها ويقابلها الندرة والشذوذ في الرواية وهي عبارة عن عدم
اشتهار روايتها ، وفي كتب الاخبار قد جعلوا بابا للنوادر يريدون به الاخبار التي
لا مثيل لها في الدلالة على مطلبها أو كان ولكن قليل جدا ولا معارض لها ولا كلام
في صحتها.
والشهرة من
المرجحات للرواية في باب التعارض بمعنى أن الرواية إذا اشتهر نقلها بين الأصحاب
ترجح على الرواية المعارضة لها إذا لم تكن بمثابتها في الشهرة وذلك لما في مقبولة
عمر بن حنظلة ومرفوعة زرارة الواردتين في مورد تعارض الروايات من أمره (ع) بالأخذ
بما اشتهر بين الاصحاب كما أنها موجبة لحجية الرواية وإن كانت ضعيفة السند لكونها
موجبة للوثوق بصدورها ولقوله (ع) فيما تقدم بالأخذ بما اشتهر بين الاصحاب لكن بشرط
عدم إعراض الاصحاب عنها من جهة صدورها وإلا فذكرها والمناقشة في دلالتها وإعراضهم
عنها من جهة دلالتها لا يوجب وهنها إذ لو لم تكن معتبرة الصدور لناقشوا في الصدور
لا في الدلالة ، فان اعراضهم عنها مع كونها بمرأى منهم ومسمع يوجب وهنها وعدم
الوثوق بصدورها أو ضعف دلالتها. وبهذا تعرف وجه ما ذكره القوم من أن الشهرة في
الفتوى عند القدماء موجبة لضعف الرواية المخالفة لها وان كانت صحيحة بحيث توجب
الشهرة خروج الرواية الصحيحة عن الحجية لعدم الوثوق إذ ذاك بصدورها.
المصدر التاسع عشر
اصل البراءة
التاسع عشر أصل
البراءة من التكليف المشكوك وجوده وهو يثبت به نفي التكليف في مورد الشك فيه شكا
غير مسبوق بالعلم بالحكم للواقعة ، وبعد الفحص عن حكمها بمقدار لا يوجب العسر
والحرج وعدم الظفر به ، وهذا الدليل يسمى بأصالة البراءة وأصالة النفي والبراءة
الأصلية كما لو شككنا في وجوب نصح المستشير فإن هذا الشك يثبت به عدم وجوب النصح
المذكورة وكما لو شككنا في حرمة شرب التتن فإن هذا الشك يثبت به عدم حرمته خلافا
لبعضهم كما هو المحكي عن معظم الاخباريين من القول بالاحتياط والدليل على أن الشك
المذكور يثبت به عدم التكليف من الكتاب آيات منها : ـ (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا ما
آتاها) بناء على إرادة التكليف من الموصول فواضح وهكذا بناء على
أن المراد ما آتاها من القدرة عليه من العلم والمال حيث لا يصدق الاتيان عند عدم
الدليل المعتبر علي التكليف الشرعي ولا ينافي عموم الموصول خصوصية المورد على أن
الآيات القرآنية أحكامها مستقلة لأنها نزلت نجوما فلا يكون ما قبلها مقيدا لما
بعدها أو بالعكس. ومنها قوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ
نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) لأن النفس لا وسع لها قبل معرفتها للتكليف.
ودعوى أن لها
الوسع بالاحتياط ينافي كون الآية في مقام الامتنان ولا ريب أن الاحتياط فيه ضيق لا
وسعة.
وأما من السنة فأخبار
كثيرة منها : النبوي المروي في الخصال بسند صحيح كما في التوحيد عن حريز عن أبي
عبد الله (ع) قال : «قال رسول الله (ص) رفع عن أمتي تسعة أشياء : الخطأ والنسيان
وما استكرهوا عليه وما لا يعلمون وما لا يطبقون وما اضطروا إليه والطيرة والحسد
والتفكر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطقوا بشفة».
والحديث ، عن
التهذيب (وضع) مكان (رفع) والظاهر منه هو رفع التكليف الفعلي المنجز عن الشيء الذي
لا يعلم حكمه بقرينة السياق فإن رفع الخطأ والنسيان في الحديث المذكور ليس المراد
به عدم وقوع نفسهما في هذه الأمة قطعا لوجودهما فيها وجدانا فلا بد أن يكون المراد
رفع التكليف المنجز عما وقع فيه الخطأ والنسيان كما هو مقتضى وروده في مقام المنة
ممن هو مشرع.
والحاصل أن المراد
به في جميع الفقرات هو رفع الشيء الذي اضطر إليه والشيء الذي وقع الخطأ فيه والشيء
المضطر إليه والشيء المكره عليه ، وباعتبار أن الرفع إنما كان من الشارع بما هو
شارع فيكون المراد رفع الحكم الالزامي المنجز بمعنى عدم العقاب على مخالفته ومقتضى
هذا السياق يكون معنى رفع ما لا يعلمون باعتبار صدوره من الشارع هو رفع حكمه
المنجز الالزامي بمعنى عدم العقاب على فعل شيء لا يعلم حكمه سواء كان عملا أو
تركا.
ومنها الموثق الذي
رواه الكليني (رض) في باب حجج الله على خلقه عن الصادق (ع) «ما حجب الله علمه عن
العباد فهو موضوع عنهم».
ومنها الخبر
المشهور من قوله (ع) ، «الناس في سعة ما لا يعلمون». فإن (ما) إما ظرفية أي في سعة
ما داموا لم يعلموا
أو موصولة مضاف
إليها أي في سعة من الذي لا يعلمونه ، وكيف كان فهي تقتضي عدم الضيق الحاصل
بالتكليف عند الجهل به.
ومنها ما في صحيحة
عبد الرحمن بن الحجاج في من تزوج امرأة في عدتها قال (ع) : «أما إذا كان بجهالة
فليتزوجها بعد ما تنقضي عدتها» فقد يعذر الناس في الجهالة بما هو أعظم من ذلك
الخبر فإنه يدل على أن الجهالة بالحرمة عذر في المخالفة.
وأما العقل فلحكمه
بقبح العقاب بلا بيان ويشهد له حكم العقلاء بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل لم
يبين له حكمه. ودعوى حكم العقل بوجوب دفع الضرر المحتمل فاسدة فإنه إن أريد به
الضرر الدنيوي فالعقل غير حاكم بوجوبه ولذى ترى العقلاء يرتكبون أغلب الأشياء
المحتمل ضررها الدنيوي بل يرتكبون المقطوعة الضرر الدنيوي ولو سلمنا وجوب دفعه
عقلا كما عن الشيخ (رض) فالشرع قد جوز ارتكاب القطعي منه إذا لم يبلغ حد التهلكة.
نعم يمكن أن يقال بأنه لو احتمل الضرر الدنيوي البالغ حد التهلكة كما لو احتمل
السم فالعقل يمنع منه ولعل ارتكابه يكون من باب إلقاء النفس في التهلكة لأنه يكون
بارتكابه للمشكوك السمية إقدام منه على التهلكة ، وإن أريد به الضرر الاخروي فحكم
العقل يقبح العقاب يرفع احتمال الضرر الاخروي فيكون واردا عليه لأنه مزيل لموضوعه
وهو احتمال الضرر الاخروي.
وبهذا ظهر لك أن
القاعدة هي البراءة عن التكليف المشكوك في الواقعة سواء كان وجوبا أو تحريما وسواء
كان من جهة فقد النص فيها كما في شرب التتن أو من جهة اجمال للنص فيها من جهة
إجمال ما دل على الحكم الشرعي كالامر المردد بين الوجوب والاستحباب والنهي
المشترك بين
التحريم والكراهة أو من جهة اجمال متعلق الحكم كالغناء فإن مفهومه مجمل والفرد
المشكوك منه يجري فيه أصل البراءة أو من جهة اجمال المراد منه كما لو شك في إرادة
الخمر الغير المسكر من لفظ الخمر الذي حكم الشارع بحرمة شربه فإنه يجري أصل
البراءة إذا لم تجري أصالة إطلاق أو العموم أو كان الشك من جهة الاشتباه في الشيء
لأمر خارجي كما لو شك في حرمة شرب مائع من جهة تردده بين كونه خمرا أو خلا ونحو
ذلك مما يكون الشك فيه شكا في واقعة جزئية المعبر عنه في لسانهم بالشبهة
الموضوعية.
إن قلت : ـ أنه في
الشبهة المذكورة اعني الشبهة الموضوعية يحكم العقل بالاجتناب نظرا إلى أن الشارع
قد بين حكم الخمر مثلا فيجب الاجتناب عن ما شك في خمريته وخليته مقدمة للعلم
باجتناب الخمر فيكون من قبيل المقدمة العلمية للامتثال فكما أنه يجب ترك المائعين
المعلوم كونه أحدهما خمرا والآخر خلا من جهة كون تركهما مقدمة علمية لامتثال
التكليف بحرمة الخمر فكذا ما نحن فيه ولا يلزم العقاب بغير بيان للعلم بالحرمة كما
ذكره بعضهم في دوران الصلاة الفائتة بين الأكثر والاقل من وجوب الاحتياط من باب
المقدمة العلمية ، وبعبارة أوضح أن المقام يكون من باب الاشتغال لأنه قد اشتغلت
ذمته يقينا بالتكليف كحرمة الخمر ويشك في فراغ ذمته من هذا التكليف لو ارتكب مشكوك
الخمر فتجيء قاعدة الاشتغال الناطقة بأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
قلنا في الشبهة
الموضوعية ليس علم باشتغال الذمة بالتكليف فإن هذا الفرد المشكوك خمريته لم يعلم
بوجود التكليف بالاجتناب عنه لا علما تفصيليا ولا علما إجماليا ، فلم يكن اشتغالا
يقينيا بالتكليف حتى يجب
امتثاله في هذا
الفرد ، والمقدمة العلمية إنما تجب إذا كان التكليف معلوم وجوده فيها تفصيلا أو
اجمالا ، وبعبارة أوضح إن الافراد المعلومة الخمرية يوجد فيها اشتغال الذمة يقينا
فتجيء ، القاعدة العقلية من أن اشتغال الذمة اليقيني ليستدعي الفراغ اليقيني ،
وأما الافراد المشكوكة الخمرية فهي غير متيقن اشتغال الذمة بها فلا اشتغال يقينيا
بها حتى يستدعي هذا الاشتغال فراغ الذمة منها ، ومن هنا يظهر لك الجواب عن شبهة
وجوب الاحتياط بدعوى إنا نعلم اجمالا بمجىء الشريعة بتكاليف كثيرة قد اشتغلت ذمتنا
بها ، والاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني وهو لا يحصل إلا بالاحتياط بإتيان
كل ما احتمل فيه التكليف في موارد الشبه.
فإنا نقول إن
الاشتغال اليقيني بالتكاليف الشرعية إنما هو في مورد قيام الأمارات المعتبرة
والاصول الصحيحة ، وأما في ما عدا ذلك فعندنا شك في اشتغال الذمة فلا يقين
باشتغالها لا تفصيلا ولا إجمالا فلا يجيء أصل الاشتغال ، وبعبارة أوضح إن الذي
يسلمه العقل ويحكم به هو وجوب تحصيل البراءة اليقينية بقدر ما ثبت به الاشتغال
اليقيني وليس هو إلا الأقل الذي قامت عليه الامارات والادلة والأصول المعتبرة
والزائد عليه مشكوك من أول الامر فلا تقتضي قاعدة الشغل وجوبه هذا مضافا إلى أن
المشرع بوضعه للطرق والاصول يعلم منه اكتفائه بما قامت عليه ولم يلزم بما عداه في
تكاليفه الشرعية وإلا لنصب عليه الطرق.
شرائط الرجوع لأصل
للبراءة :
ثم أن الرجوع لأصل
البراءة في المورد المشكوك التكليف يشترط فيه : ـ
أولا : أن يكون
بعد الفحص عن الدليل في الشبهة الحكمية فإذا فحص ولم يظفر بالدليل صح له الرجوع
لأصل البراءة ، وذلك للأدلة الدالة على وجوب تحصيل العلم كآية النفر والسؤال
والاخبار المتظافرة الدالة على وجوب تحصيل العلم والتفقه مؤيدا ذلك بالاجماع
المنقول ولأنه لو أهمل الفحص عند اجراء البراءة يلزم يلزم إهمال التكاليف بل حصول
شرع جديد ، ومقدار الفحص هو الى حد عدم لزوم الحرج والعسر للأدلة الدالة على نفي
العسر والحرج في تكاليف الشريعة الاسلامية.
وأما الشبهة
الموضوعية فلا يعتبر في اجراء الاصل الفحص ، فمتى شك في نجاسة بدنه ولم يكن له
حالة سابقة أجرى أصل البراءة من وجوب تطهيره وليس عليه الفحص ، ويدل على ذلك اطلاق
الاخبار مثل قوله (ع) «كل شيء لك حلال حتى تعلم أو حتى تستبين لك غير هذا أو تقوم
به البينة أو حتى يجيئك شاهدان يشهدان ان فيه الميتة» ونحو ذلك.
وثانيا : أن لا
يكون أصل مقدم عليه فإذا شك في حرمة أكل لحم الحيوان من جهة الشك في تذكيته فلا
يرجع لأصل البراءة في نفي الحرمة لأن أصالة عدم التذكية مقدمة عليه ان قلنا
بجريانه.
وثالثا : أن لا
يعارضه أصل مثله كما في الإناءين المعلومة خمرية أحدهما فإن اصالة البراءة من
الحرمة في كل منها معارض بأصالة البراءة عن الحرمة في الآخر إذا قلنا ان بينهما
معارضة وسيجىء إن شاء الله في اصالة الاشتغال تحقيق الحال.
ورابعا : أن لا
يكون في جريانه خلاف الامتنان على الامة لأن أدلته واردة في مقام المنة على العباد
كما يرشد الى ذلك قوله (ص) «رفع عن أمتي» ، فلو لزم من جريان أصل البراءة الفساد
والضرر فلا يجري.
المصدر العشرون
اصالة التخيير
العشرون أصل
التخيير فيما لو دار الامر بين محذورين فإنه يرجع لحكم العقل بقبح التكليف
بالمتنافيين ولكنه بعد الفحص وعدم الظفر بالدليل على الحكم لأحدهما. وهو إنما يجري
في مورد يعلم بالتكليف اجمالا بين أمرين أو أكثر ، ولكن لا يمكن الجمع بينهما كما
لو علم بالوجوب بين أمرين متضادين لا يمكن وجودهما معا ، أو بالحرمة بين أمرين لا
يمكن تركهما معا فإنه يتخير بينهما لعدم التمكن من الاتيان بهما معا فلا يعقل أن
يريدهما الشارع من المكلف معا ولكن عليه أن يأتي بأحدهما وإلّا للزم المخالفة
القطعية ، فالموافقة القطعية وان لم يمكن تحققها من العبد لكن ترك المخالفة
القطعية ممكن أن يتحقق منه فالعقل يمنع منه.
وهكذا يجري أصل
التخيير فيما لو شك في التكليف من جهة تردده بين الوجوب والحرمة مع عدم احتمال حكم
آخر في الواقعة وعدم حالة سابقه لواحد منها المعين بحيث يكون مجرى للاستصحاب سواء
كان من جهة فقد النص كما لو اختلفت الأمة على قولين بالوجوب أو بالحرمة أو علم
بوجود حكم في الواقعة أما الوجوب أو الحرمة وقام النص أو الاجماع البسيط على نفي
الأحكام الثلاثة الغير الالزامية ، وان كان هذا الغرض نادرا بل لا يوجد كما لو شك
في وجوب ايقاظ النائم للصلاة وحرمته ، والعقل حاكم بالتخيير بينهما
لعدم تنجز العلم
الاجمالي لاضطراره لمخالفة أحدهما اذ المكلف لا يخلو عن الفعل أو الترك فهو مضطر
لمخالفة الوجوب أو الحرمة فيجري أصل البراءة عن كل منهما ولذا لا يترتب الآثار
الخاصة للوجوب ولا الآثار الخاصة للحرمة. ومحل الكلام فيما كان الوجوب والحرمة توصليين
أو أحدهما لا بعينه تعبدي مع وحدة الواقعة إذ لو كانا تعبديين أو أحدهما بعينه
تعبدي فيلزم من إجراء الأصلين البراءة عن الوجوب والبراءة عن الحرمة المخالفة
القطعية لو أتى بالفعل بدون قصد القربة لأنه لو كان واجبا فهو لم يأني به لأنه
فعله بدون قصد القربة ولو كان محرما فهو لم يتركه بقصد القربة فالعقل غير حاكم
بالتخير بين الفعل والترك ، وإنما يحكم بفعله بقصد القربة أو تركه بقصد القربة
فيما لو كان تعبديين أو بفعله تعبديا وبتركه فيما لو كان الوجوب تعبدي أو بتركه
تعبدا وفعله فيما لو كان الترك تعبدي. نعم لو كان أحدهما تعبدي لا بعينه لم يحرز
المخالفة القطعية بارتكاب أحد الطرفين قرارا عن المخالفة القطعية.
والحاصل أنه فيما
ذكرنا أعني فيما كانا توصليين أو أحدهما لا بعينه تعبدي لم يتنجز التكليف المعلوم
بالاجمال لعدم قابليته لذلك لأن اطاعته وامتثاله العلمي ومخالفته وعصيانه العلمى
غير مقدورين ، والاحتمالي منهما مضطر اليه فالتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال لا
يكون باعثا ولا زاجرا وخصوص أحدهما المعين لا بيان عليه فهو مرفوع ومعذور عنه عقلا
نظير التكليف المعلوم بالاجمال في الشبهة المحصورة المضطر لارتكاب أحد أطرافها.
وأما مع تعدد
الواقعة كأن يعلم الولي بوجوب واحد لا بعينه من دفع المال للوارث القاصر أو القصاص
من القاتل أو حرمة أحدهما لا بعينه ففي هذه الصورة يدور الأمر بين الموافقة
الاحتمالية مع المخالفة الاحتمالية بأن يفعل أحدهما ويترك الآخر فانه يحتمل
الموافقة للواقع كأن
يكون ما فعله هو
الواجب وما تركه هو الحرام وبين الموافقة القطعية مع المخالفة القطعية بأن يفعلهما
معا أو يتركهما معا فإنه إذ ذاك يعلم بأن ما هو الواجب قد فعله وما هو الحرام قد
ارتكبه فيعلم بالموافقة القطعية والمخالفة القطعية والعقل يرجح الأول على الثاني
لأن عند دوران الأمر بين محتمل الهلكة وبين مقطوعها يقدم الأول على الثاني ومن هنا
يظهر لك أن التخيير إنما يكون بدويا لا استمراريا للزوم المخالفة القطعية من
استمرار التخيير وإن حصلت بها الموافقة القطعية من دون فرق بين ما لو كانت الواقعة
متعددة أو واحدة فإنه يحكم العقل بالاستمرار على ما أختاره أولا ، فتلخص أنه عند
الدوران بين الوجوب والحرمة العقل يحكم بالتخير بين الفعل والترك ما لم يلزم
المخالفة القطعية ويحكم بالتخيير الشرعي بناء على الملازمة بين حكم العقل والشرع.
وأما وجوب
الالتزام والتدين والانقياد لو قلنا به فهو في المقام حاصل لأنه مع العلم الاجمالي
المطلوب منه هو الالتزام والانقياد لحكم الواقعة الواقعي على إجماله وهو في المقام
يمكنه الالتزام به على إجماله ودعوى لزوم خلو الواقعة على الحكم الظاهري لا تضر
لأنه لا دليل على لزوم الحكم الظاهري للواقعة ، وإنما الدليل دل على لزوم الحكم
الواقعي للواقعة وهو موجود فيها غاية الأمر أنه مردد بين الوجوب والحرمة.
ودعوى أنه قد ثبت
شرعا عند تعارض الخبريين بتخير بينهما ولا ريب أن المناط في التخيير هو الأخذ بأحد
الحكمين موجود هاهنا فنأخذ بأحد الحكمين ونعمل به كما في تعارض الخبرين ،
فاسدة فإن دليل
التخيير في الخبريين يرجع إلى التخيير بين الحجتين ولم يعلم أن مناطه هو العلم
الاجمالي بأحد الحكمين بل لعل مناطه هو العلم الاجمالي بأحد الحجتين. وفيما نحن
فيه فرض الكلام عدم الحجة في المقام. ودعوى أنه لا وجه للحكم بالتخيير مطلقا بل
يؤخذ بذي
المزية منها أو
محتمل المزية منهما ويكون المقام من باب اجتماع الأمر والنهي أو من باب
المتزاحمين.
مدفوعة بأن في
المقام يعلم بوجود أحد الحكمين وعدم الآخر وفي باب اجتماع الأمر والنهي وباب
التزاحم يعلم بوجودهما معا ولكن لا يمكن امتثالهما ، هذا كله في دوران الأمر بين
الوجوب والحرمة مع عدم النص.
وأما عند دورانه
من جهة إجمال النص كما لو أمره بشيء ولكن تردد الأمر بين الوجوب والتهديد أو أمره
بشيء مشترك لفظي بين الفعل والترك كلفظ القرء فحكمه حكم سابقه من صورة فقد النص.
وأما لو دار الأمر
بين الوجوب والحرمة من جهة تعارض النصين فبيان حكمه في باب التعارض.
وأما لو دار الأمر
بينهما من جهة اشتباه الأمور الخارجية فإن كان إطلاق دليل الوجوب ودليل الحرمة
يشمل الواقعة أو علم وجود ملاكيهما في الواقعة ، فالمقام من باب اجتماع الأمر
والنهي أو يعامل معاملة المتزاحمين فمع التساوي يتخير ومع وجود المزية أو احتمالها
في أحدهما يؤخذ به ، وأما لو علم بعدم وجود ذلك واحتمل وجود أحدهما وعدم الآخر كما
لو نذرت المرأة قراءة سورة العزائم في يوم معين واتفق ذلك اليوم في أيام استظهارها
فالحكم هو التخيير الابتدائي هذا كله بناء على منجزية العلم الاجمالي وتمشيا مع
المشهور في منجزيته وإلّا فسيجيء منا إنشاء الله عدم منجزيته في أصالة الاشتغال
وشرط الرجوع للتخيير يعتبر في الرجوع لهذا المصدر اعني أصالة التخيير في موارد هو
الفحص عن المرجح لأية النفر والسؤال والاخبار الدالة وجوب التعلم والنفر مؤيدا ذلك
بالإجمال المنقول. ومقدار الفحص ان لا يبلغ حد الحرج لأدلة الحرج.
المصدر الواحد والعشرون
الظن المطلق
المصدر الواحد
والعشرون الظن المطلق واستدلوا على ذلك بأربعة أدلة :
الأول : إن في
مخالفة المجتهد لظنه المتعلق بالوجوب أو التحريم مظنة للضرر ودفع الضرر المظنون
واجب. أما الصغرى فلأن الظن بالحكم الالزامي يلازم الظن بالعقوبة الأخروية على
المخالفة لظنه.
وأما الكبرى فلا
استقلال العقل بوجوب دفع الضرر الاخروي المظنون بل هو من جبلات النفوس لأن النفوس
الرشيدة العاقلة قد طبعت على عدم الاقدام على ضررها ولو لأحتمال معتد به :
وجوابه منع الصغرى
فإن الظن بالحكم الالزامي إذا لم يقم دليل على حجيته لا تكون مخالفته موجبة للضرر
الاخروي لقبح العقاب بلا بيان.
إن قلت إن الظن
بالحكم الالزامي احتمال للضرر الدنيوي وهي المفسدة بناء على تبعية الاحكام للمصالح
والمفاسد ودفع الضرر المظنون لازم ، ألا ترى أن من احتمل أن في الاناء سما لا يقدم
على شربه قلنا حيث أن العقل والشرع قد رفع التكليف مع الظن الذي لا دليل على حجيته
بأصل البراءة لم يبق مع هذا الظن بالتكليف احتمال الضرر وإلا يكون الشارع قد أوقعه
في التهلكة فلا بد أن يكون الشارع أما تداركه أو لم يكن موجودا.
الدليل الثاني :
إنه لو لم يؤخذ بالظن لزم ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح وفيه : ـ
إن هذه القضية هي
آخر مقدمات دليل الانسداد الذي هو الدليل الرابع على حجية مطلق الظن ويلزم الترجيح
المذكور لو كان الظن قد قام الدليل على حجيته. أما مع عدم قيام الدليل المعتبر على
حجيته بل قيام الدليل أو الأصل المعتبر على خلافه فلا يلزم الترجيح المذكور وفي
موارد الظن مع عدم الدليل نرجع للأصول العملية التي هي المعتبرة والحجة فيكون
العمل بها ترجيحا للراجح شرعا.
الدليل الثالث :
إنه لا ريب في وجود واجبات ومحرمات كثيرة بين المشتبهات ومقتضى ذلك وجوب الاحتياط
بإتيان كل ما يحتمل وجوبه وترك كل ما يحتمل حرمته ، ولكن مقتضى قاعدة نفي الحرج
عدم وجوب ذلك كله لأن فيه عسر شديد ومقتضى الجمع بين قاعدة الاحتياط وقاعدة نفي
الحرج هو العمل بالمظنونات دون المشكوكات والموهومات لأن الجمع بغير ذلك باطل إجماعا
وفيه إن هذا بعض مقدمات دليل الانسداد.
الدليل الرابع :
على حجية مطلق الظن وهي باطلة لانا بعد ما أثبتنا وجود أدلة خاصة على التكاليف
كالكتاب والسنة كثيرة جدا بمقدار ما علم إجمالا بثبوته من التكاليف فيكون المرجع
ما دلت عليه والباقي يرجع فيه للأصول المعتبرة ولا أثر لقاعدة الاحتياط لانحلال
العلم الاجمالي بها.
الدليل الخامس ما
يسمى بدليل الانسداد وهي مركب من مقدمات خمسة :
أولها : إنا نعلم
إجمالا بثبوت تكاليف شرعية كثيرة فعلية منجزة علينا.
ثانيها : أنه انسد
باب العلم والعلمي علينا في كثير منها بمعنى أنه لا يوجد القطع بها ولا توجد حجة
معتبرة شرعية في أكثرها وهذه المقدمة هي العمدة في هذا الدليل فلذا نسب هذا الدليل
اليها.
ثالثها : إنه لا
يجوز لنا إهمال تلك التكاليف وعدم امتثالها وهذه المقدمة ترجع للأولى لأن العلم
بأنها فعلية منجزة معناه أنه لا يجوز إهمالها وعدم امتثالها.
رابعها. أنه لا
يجب الاحتياط في أطراف علمنا للزوم العسر والحرج ولا الرجوع إلى الاصول العملية
للزوم اهمال التكاليف والخروج عن الشريعة الاسلامية.
خامسها : أنه يلزم
ترجيح المرجوح على الراجح وهو قبيح لو تركنا العمل بالظن بالاحكام الشرعية أما لو
عملنا بالظن فلا يلزم إهمال التكاليف ولا يلزم العسر والحرج ولا ترجيح المرجوح وهو
العمل بالوهم أو الاحتمال على الراجح وهو العمل بالظن.
وفيه : ـ إنك قد
عرفت فيما تقدم أن باب العلم والعلمي غير منسد لقيام الدليل على حجية كثير من
الامارات الخاصة كالكتاب والسنة وهي تدل على التكاليف بمقدار المعلومة بالاجمال بل
أزيد منها وحينئذ فيرجع فيما عداها لما قامت عليه الأصول المعتبرة ولا يلزم الخروج
عن الشريعة بذلك.
المصدر الثاني والعشرون
اصل الاشتغال
المصدر الثاني
والعشرون أصل الاشتغال وقاعدة الاشتغال ويسمى بذلك لأنه يوجب اشتغال ذمة المكلف
ومقدار اشتغالها ، ومورد هذا المصدر هو الشك في المكلف به مع العلم بأصل التكليف
سواء علم بنوع التكليف كما لو علم بحرمة الخمر وتردد بين إناءين أو علم بخبر
التكليف كما لو علم بوجوب هذا الشيء أو بحرمة ذلك الشيء وسواء تردد المكلف به بين
متباينين كما لو علم بوجوب الظهر أو الجمعة أو تردد بين الأقل والاكثر كما لو علم
بوجوب دين عليه لزيد ولكنه لا يدري إنها سبعة دراهم أو اكثر منها ثم أن أصل
الاشتغال قد يكون في بعض موارده أصل الاحتياط فإن الاحتياط هو الأخذ بما هو الاقرب
للواقع والعمل بما لا يحتمل الضرر أصلا كالإتيان بجميع الأفراد المحتمل فيها
التكليف الإلزامي عند دوران الفعل المكلف به بين أمرين متباينين ، أو بما يحتمل
الضرر احتمالا مرجوحا كالإتيان بالمظنون للتكليف عند الدوران بين محذورين أحدهما
مظنون التكليف والآخر موهوم التكليف أو ربما يحتمل أن يكون أقل ضررا كالاتيان بذي
المزية للراجحة عند الدوران بينه وبين فاقدها.
وأما أصل الاشتغال
فإنه تارة يكون موافقا للاحتياط وأخرى يكون مخالفا له حيث أنه لما كان في بعض
موارده يوجب الإتيان بما هو الأقرب للواقع كما في دوران الأمر بين المتباينين فإن
أصل الاشتغال
يوجب الاتيان بهما
معا كان موافقا لأصل الاحتياط لأنه يوجب الإتيان بما هو الاقرب للواقع وقد يتخلف
عنه كما في دوران الأمر بين الأقل والأكثر فإن أصل الاشتغال يقتضي الاتيان بالأقل
لأنه القدر المتيقن ولكن الاحتياط يقتضي الإتيان بالاكثر لأنه الأقرب للواقع ،
وعليه فلا وجه لتسمية بعضهم أصل الاشتغال بأصل الاحتياط وكيف كان فمورد أصل
الاشتغال هو ما لو علم المكلف بالتكليف وتردد العمل المكلف به بين متباينين أو بين
الأقل والأكثر فالكلام فيه يقع في فصلين : ـ
أحدهما : فيما لو
تردد المكلف به بين أمور متباينة.
والثاني : فيما لو
تردد المكلف به بين الأقل والأكثر.
(دوران الأمر بين
المتباينين)
وهو تردد العمل
المكلف به ودورانه بين أمور متباينة سواء كان التردد والدوران من جهة اختلاط
الأمور الخارجية كما لو تردد الخمر بين إناءين لعدم معرفته أيهما خمرا.
وكما لو علم بوجوب
القصر عليه أو الاتمام لعدم معرفته ما هو الفائت منه ، أو من جهة إجمال النص كما
في مفهوم الغناء الثابت حرمته إذا تردد بين مفهومين بينهما عموم من وجه فإن مادتي
الافتراق تكونان من هذا الباب ، وكقوله (ص) «من جدد قبرا فقد خرج عن الاسلام» حيث
قرأ (جدد) بالجيم والخاء والحاء ، وكما في التردد بين وجوب الجمعة والظهر لاجمال
النص على وجوبها في زمن الغيبة وكما لو تردد بين وجوب شيء عليه أو حرمة شيء آخر
عليه كما لو علم بانه صدر منه يمين ولكنه لم يعلم بانه على وطء زوجته هند أو ترك
وطي زوجته فاطمة.
فان المشهور هو وجوب الاحتياط بمعنى حرمة المخالفة القطعية للتكليف المعلوم
بالاجمال ووجوب الموافقة القطعية له بإتيان المتردد بينهما فيما لو كان التكليف
المعلوم بالاجمال هو الوجوب كما في مثال التردد بين القصر والإتمام والجمعة والظهر
، فإنه يجب الإتيان بالقصر والتمام والجمعة والظهر ويجب الاحتياط بتركهما فيما كان
المعلوم بالاجمال هو الحرمة كما في مثال الخمر المتردد بين الإناءين والغناء
المتردد مفهومه بين موردين فإنه يجب عليه ترك الإناءين وعدم استماع الموردين ويجب
الاحتياط بفعل أحدهما وترك الآخر فيما كان المعلوم بالاجمال هو التكليف ولكنه تردد
بين وجوب هذا العمل أو حرمة ذلك العمل الآخر كما في مثال اليمين المتقدم فانه عليه
أن يطأ هند ويترك فاطمة.
والكلام في هذا
يقع في مقامين : ـ
الأول : ـ في حرمة
المخالفة القطيعة للعلم الاجمالي.
والثاني : ـ في
وجوب الموافقة القطعية له.
أما المقام الأول
: ـ وهو حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالي.
فقد اختلفوا فيها
على أقوال :
أحدها : وجوب
الاجتناب عن الجميع كما نسب إلى المشهور وعليه الشيخ الانصاري.
وثانيهما : جواز
ارتكاب الجميع كما قواه المجلسي في محكي أربعينه بل مال اليه المحقق الثالث بعض
الميل.
وثالثهما : جواز
الارتكاب إلى ان يبقى ما يساوى الحرام فلا يجوز كما أختاره المحقق الثالث والمحقق
النراقي.
لكن مع اختلافهما
في المسلك حيث ان وجوب بقاء ما يساوي
الحرام عند الأول
على خلاف القواعد قد ثبت بدليل خارجي زاعما بان الخطابات الشرعية مسوقة لبيان
الكبريات خاصة من غير نظر فيها إلى احراز الصغريات فلا بد حينئذ في ترتيب كبرياتها
على صغرياتها من إحراز الصغريات من الخارج بطريق العلم أو الظن المعتبر فمع الشك
فيها كما هو الفرض في المقام تسقط تلك الخطابات فيحكم بجواز ارتكاب المحتملات عملا
بالبراءة السليمة عن المعارض لكنه لما ثبت بدليل من خارج وجوب الاجتناب عن الحرام
أو النجس فيجب ابقاء ما يساوي الحرام حذرا عن المخالفة القطعية لهذا الدليل وإلا
فلولاه لكان المتجه جواز ارتكاب الجميع وعند الثاني إنه على طبق القاعدة زاعما
بانه عموم أدلة البراءة يقضي بجواز ارتكاب الجميع وقوله اجتنب عن النجس مثلا يقضي
بوجوب الاجتناب عن النجس فيعمل بعموم الأول إلى ان يلزم مخالفة الثاني فيحكم بعدم
الجواز فرارا عن المخالفة وبتقرير آخر أن في ذلك جمعا بين الدليلين وذلك بعينه
نظير مسلكه في العام المخصص بالمجمل مثل قوله «اقتلوا المشركين إلا بعضهم» حيث قال
بحجية وعدم سراية اجمال المخصص اليه خلافا للمشهور نظرا إلى ان العموم المذكور
ينطق بوجوب قتل كل مشرك فيعمل بمقتضاه إلى أن يلزم طرح قوله إلا بعضهم فيجب حينئذ
ابقاء واحد منهم لأنه أقل ما يصدق عليه البعض لئلا يلزم مخالفة ذلك الخطاب بل
ويقتل الباقي عملا بالعموم الناطق ولعل هذا هو الوجه فيما ذهب اليه من عدم وجوب
الفحص عن المعارض والمخصص وكيف كان فهما وإن كان قد تخالفا في المدرك إلا أنهما
متفقان في الحكم والنتيجة وهو وجوب ابقاء ما يساوي الحرام وجواز الارتكاب ما عداه
بل قد نسب ذلك إلى المحقق الأردبيلي وجماعة ممن تبعه كالسبزواري والبحراني وصاحب
المدارك
ورابعها : القول
بالقرعة لأنه لكل أمر مشكل ولخصوص ما ورد في قطيع الغنم وإن أرجعه في الهداية إلى
القول الأول باعتبار إنه لا يجوز ارتكابهما قبل القرعة وبعد القرعة يخرج عن الشبهة
فيخرج عن محل الكلام لكنه محل نظر.
وخامسها : التفصيل
بين ما لو كان المشتبهين مندرجين تحت حقيقة واحدة وبين غيره فيجب الاحتياط في
الثاني دون الأول كما ينقل عن المحدث البحراني.
وسادسها : التفصيل
بين ما لو تقصد ارتكاب الحرام وبين غيره كما يستفاد من الأنصاري وإن لم يكن مختاره
عند الرد على صاحب الفصول حيث اعترض على المحقق الثالث بان قضية ما ذكر إمكان
التوصل إلى فعل جميع المحرمات على وجه مباح بان يجمع بين الحلال والحرام المعلومين
على وجه يوجب الاشتباه فيرتكبهما.
وسابعها : التفصيل
بين ارتكابهما دفعة فلا يجوز ، وبين ارتكابهما تدريجيا فيجوز.
قيل انه ليس قولا
بالتفصيل في المسألة اذ الاجماع على عدم جواز الارتكاب دفعه فانه مخالفة معلومه
تفصيلا فما أظن أحدا يتوهم جوازه فضلا عن القول به.
والحاصل ان بعضهم
جوز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي من جهة عدم وجود المقتضي لحرمتها كما هو
المحكي من مسلك صاحب القوانين (رحمهالله) فإنه منع من وجود المقتضي لها لاختصاص
الخطابات بالمشافهين واشتراك غيرهم معهم فيها إنما هو لأدلة الاشتراك الموقوفة على
الاتحاد في الصنف الغير الثابت في المقام حيث يحتمل كون المشافهين عالمين بالخطاب
حكما وموضوعا تفصيلا فلم يتوجه الخطاب بالاجتناب
عن الخمر مثلا
إلينا إذا لم نعلمه تفصيلا وبعضهم من جهة كون الخطابات لبيان الكبريات كما سيجيء
إنشاء الله بيان ذلك تفصيلا.
وبعضهم من جهة
وجود المانع وهو ما دل على البراءة في أطراف العلم الاجمالي على تقدير وجود
المقتضي. وذهب أستاذنا المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (قدسسره) تبعا للمشهور إلى أن
العلم الاجمالي علة تامة لحرمة مخالفته كالعلم التفصيلي ، بمعنى أنه لا يجوّز
العقل للشرع الترخيص فيها فلو ورد دليل كان ظاهره ذلك وجب تأويله أو طرحه مستدلا (ره)
على ذلك بأن العلم الاجمالي بالتكليف يقتضي الارادة الجدية من المولى للتكليف
فيحكم العقل بتنجزه بمعنى عدم جواز مخالفته القطعية واستحقاق العقاب عليها لأنها
عصيان للتكليف. ولا يخفى ما فيه فأنا وان سلمنا ان الشارع له ارادة جدية للتكليف
لكن لا نسلم تنجزه على العبد المتردد في مصاديق موضوعه نظير التكليف المعلوم مع
الشبهة البدوية في مصداق موضوعه فان التكليف مراد بارادة جدية لكنه غير منجز على
العبد حتى لو كان ذلك المشتبه من مصاديق موضوعه في الواقع لأن التكليف إنما يتنجز
على العبد فيما إذا علم بأنه مراد منه لا أنه مراد في نفسه ولا يحصل للعبد العلم
بذلك إلا إذا صار لديه شكل أول مركب من صغرى تثبت إن هذا الشيء الذي يصدر من العبد
من مصاديق موضوع التكليف ومن كبرى هي نفس التكليف وهذه الصغرى أما أن تكون معلومة
بالوجدان أو محرزة بالدليل والبرهان فإن الخطابات المولوية بل سائر القوانين
الدولية شرعية كانت أم غير شرعية إنما هي مسوقة لبيان الكبريات وتنجزها الذي هو
عبارة عن العقاب على مخالفتها إنما يكون بعد إحراز الصغريات علما أو ظنا معتبرا ،
وفيما نحن فيه الصغريات لم تحرز بشيء من الأمرين
لأنه ليس عندنا
الّا نفس الخطابات وهي لا تحرز بها الصغريات وإنما تحرز بها الكبريات.
والعلم الموجود
عندنا لا يفيد شيئا لأن غاية ما يقتضيه هو وجوب الاجتناب عن الخمر الواقعي في
الواقع وهذا لا ينكره الخصم والذي يدعيه الخصم سقوط هذا الخطاب عن التنجز عند الشك
في تحقق موضوعه وهو الخمر في كل من الافراد ، وعلى المستدل إثبات تنجز هذا الخطاب
ولذا نرى أن للموالي أن يرخصوا في أطراف العلم الاجمالي فإن المولى إذا قال : «أكرم
زيدا» له أن يقول لعبده عند تردد زيد معذور في ترك إكرامه بل للعبد أن يترك إكرام
زيد عند تردده فيه بين أفراد معدودين وليس له أن يعتذر فيما لو علم بزيد تفصيلا.
إن قلت نرى
بالوجدان ترك الأكل عند العلم بأن أحد الإناءين فيه سم.
قلنا هذا حتى عند
الشبهة البدوية فإنا نترك محتمل السم» والسر في ذلك عدم المؤمن منه بخلاف ما نحن
فيه فإن الخصم يدعي المؤمن من العقاب عند الشك ليحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان.
وبعبارة أخرى : إن
احتمال الضرر الدنيوي لا يزول معه الضرر حتى في الشبهة البدوية بخلاف الضرر
الاخروي فانه يزول عند الشك وإن شئت قلت إن محل كلامنا العقاب فإن احتماله هو
الموجب للاطاعة وبالشك يرتفع كما في الشبهة البدوية ـ والخصم يدعي ارتفاعه عند
الشبهة الاجمالية أيضا.
إن قلت إن الحكم
المعلوم بالتفصيل لا يجعل في مورده حكما ظاهريا لأن الحكم الظاهري سمته سمة الطريق
للواقع ومع انكشافه لا يعقل جعله مماثلا للواقع ولا مغايرا له وهكذا العلم
الاجمالي يكون كاشفا
للواقع فلا يصح
جعل الحكم الظاهري في مورده لأنه يصطدم بمقدار الكشف الحاصل بالعلم الاجمالي فإن
هذا الكشف الجزئي ينافيه الترخيص في سائر الاطراف بمقداره نعم ترخيص بعضها لا
ينافيه.
وتوضيح الحال إن
عدم فعلية التكليف أما تكون لعدم المقتضي لبلوغه إلى هذه المرتبة كسائر الاحكام في
صدر الاسلام ثم صارت فعلية في زمن الأئمة (ع)
وفي هذه الصورة لا
وجه لجعل الحكم الظاهري لمثل هذه الاحكام الغير الفعلية ، وأما أن تكون عدم
الفعلية لمانع من أمور خارجية كالعسر والحرج ونحوها ، ومنه قوله (ص) «لو لا أن
أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك» فإن وجوب السواك حكم غير فعلي لوجود المانع وهو
المشقة ومن هذا الباب المستحبات التي يزيد ثوابها على ثواب الواجبات ، وأما أن
تكون عدم الفعلية لعدم الانكشاف فإن كان لعدمه أصلا بحيث لم ينكشف الواقع بأدنى
منفذ كالشبهة البدوية فلا مانع من جعل الحكم الظاهري في مورد الحكم الواقعي وإن
كان لعدم الانكشاف في الجملة بحيث يكون للواقع انكشاف في الجملة كما في صورة العلم
الاجمالي مع جعل الحكم الظاهري في أحد الأطراف ولا يجوز جعله في كلها ضرورة إن
الاجمال يكون مانعا بقدره لكونه فيه مقدار من الكاشفية فيقدر المنع بقدرها.
قلنا : إنما يؤثر
هذا الانكشاف الجزئي وأوجب فعلية التكليف وتنجزها وهو أول الكلام فللخصم أن يقول
إن هذا التردد كان مانعا من التنجز أو الفعلية.
والحاصل أن العلم
الاجمالي حلقة متوسطة بين العلم التفصيلي والشك البدوي فهو يتبع أخس المقدمات
الحاصلة به لمعرفة الحكم الشرعي.
إن قلت إن شمول
الخطاب لأحدهما يقتضي ثبوت الاجتناب عنه فإن النزاع في منجزية العلم الاجمالي بحيث
لو انقلب الى علم تفصيلي لتنجز التكليف ، وهذا إنما يكون بعد الفراغ عن تمامية
التكليف وهي إنما تكون بعد شمول الخطابات لأحد الاطراف ولا ريب في ظهور الخطابات
الواقعية في فعلية التكاليف الواقعية على وجه تتصف بالباعثية والزاجرية الفعلية.
قلنا لا يكفي شمول
الخطاب بل لا بد للمستدل من إثبات تنجزه في الطرف المشمول لها وإن الشك ليس بعذر
للمكلف ، فإن أدلة الخطابات الواقعية إنما يقتضي ظهورها في الباعثية والزاجرية
الفعلية في ظرف وصولها للمكلف وإلا نفس الخطاب لا يصلح لاثبات التنجز وفعلية
استحقاق العقاب ولذا لا تقتضي ذلك عند الجهل بها كما في الشبهة البدوية. وفيما نحن
فيه لم تصل إلى المكلف لأن وصولها له يحتاج الى ترتيب قياس مركب من صغرى تثبت تحقق
الموضوع في الخارج وكبرى الخطاب وغاية ما يمكن أن يتصور القياس في المقام بوجهين :
ـ
أحدهما : أن يقال
هذا خمرا ، وكل خمر يجب الاجتناب عنه ، ولا ريب في بطلان الصغرى لأنه لأي الفردين
أشار اليه لم يحرز أنه خمر.
ثانيهما : ـ أن
يقال أن أحد هذين الإناءين خمر وكل خمر يجب الاجتناب عنه أو كل شيئين يكون أحدهما
خمرا يجب الاجتناب عنهما ولا ريب في عدم تسليم الكبرى.
أما الكبرى الاولى
فلأنه لا يسلم الخصم أن كل خمر حتى الذي يكون أحد هذين الإناءين لا على التعيين
يجب الاجتناب عنه لعدم
تسليمه تنجز حكم
الخمر مع اشتباه والتردد وعدم وصوله اليه تفصيلا بل هو عين المتنازع فيه.
وهكذا الكلام في
الكبرى الثانية فإنها عين المتنازع فيه.
وكيف يدعى أن
العلم الإجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية بحيث يؤول أو يطرح الدليل الدال
على جوازها مع أنا لو رجعنا لوجداننا وعقولنا ، نجد أن للمولى أن يقول يجب رد
السلام على زيد أو إكرامه ثم يقول لو تردد زيد بين الجالسين فلا يجب عليك الرد
عليه ولا اكرامه ولو لأجل المنة من المولى والتفضل على عبده.
فمن يا ترى العقل
والوجدان يستنكر هذا الخطاب الثاني من المولى ويعتبره إذنا في المعصية التي استقل
العقل بقبحها ومناقضا ومنافيا لتكليفه الاول أو لحكم العقل بوجوب الطاعة فيؤوله أو
يطرحه كلا وحاشا بل يراه نظير الحرج الذي يرفع العقاب عن التكليف مع بقاء التكليف
فإن الشارع بطرو الحرج رفع فعلية التكليف وتنجزه منة منه وتفضلا.
وفيما نحن فيه
للشارع أن يرفع الفعلية والتنجز للتكليف وبأذن ويبيح الاطراف منّة منه وتكرما.
إن قلت : نعم
العلم الاجمالي ليس بعلة تامة لحرمة المخالفة القطعية ولكنه مقتضي لها لوجود
المقتضي للاجتناب وعدم المانع منه أما ثبوت المقتضي فلعموم دليل تحريم ذلك العنوان
للمشتبه فإن قول الشارع اجتنب عن الخمر يشمل الخمر المعلوم المردد بين الإناءين
ولا وجه لتخصيصه بالخمر المعلوم تفصيلا مع أنه لو اختص به خرج الفرد المعلوم
بالاجمال عن كونه حراما واقعيا وهو التصويب الباطل ، وأما عدم المانع فلأنه لا
دليل عقلا ولا شرعا بمنع من وجوب الاجتناب
عن المشتبه.
قلنا شمول الخطاب
وعموم الدليل للخمر المشتبه لا يفيد شيئا ولا ينكره الخصم بل الذي يدعيه الخصم
سقوط هذه الخطابات في الظاهر عند الشك في موضوعها عن التنجز والفعلية لأن تنجزها
إنما يكون بعد إحراز صغرياتها ، والمفروض عدم قابلية الخطابات بأنفسها لاحراز
صغرياتها وإلا لما نشك فيها وليس عندنا في الظاهر ما يحرز الصغريات فتسقط الخطابات
في مرحلة الظاهر لعدم وصولها لنا ونرجع للاصول المعتبرة التي تحرز صغرياتها في
مرحلة الظاهر كالبراءة في أطراف العلم الاجمالي فالمقتضي الذي ادعاه المستدل غير
موجود في مرحلة الظاهر سلمنا وجوده لكن المانع منه موجود وهو الأخبار الدالة على
جواز ارتكاب الاطراف للعلم الاجمالي كحديث الرفع والحجب والسعة والحلية والطهارة.
ودعوى أنها مغياة
بالعلم وهو يشمل العلم الاجمالي فاسدة لانصراف الغاية فيها للعلم التفصيلي لأنها
غاية له فمقتضى المساق أن تكون مثله بل ربما يقال إن ذلك لا يعقل لأن كل واحد من
الاطراف تشمله الأدلة في حد ذاته من دون نظر للآخر وهو لم يعلم عند ارتكابه حرمته
لا تفصيلا ولا إجمالا وإنما يعلم عند ضمه لطرفه الآخر عند الارتكاب به.
إن قلت نعم ولكن
العلم الاجمالي يقتضي نفي الآخر.
قلنا هذا لازم
عقلي له والاصول ليست حجة في اللوازم العقلية ، سلمنا عدم الظهور لكن بعض الأخبار
صريح أو كالصريح في أن الغاية هو العلم التفصيلي ، والاخبار بعضها يفسر بعضا كقوله
(ع) : «كل شيء حلال حتى تعرف أنه حرام بعينه»
، وكما في موثقة سماعة
في رجل أصاب مالا
من عمال بني أمية وهو يتصدق منه ويقول إن الحسنات يذهبن السيئات ، فقال (ع) «إن
الخطيئة لا تكفر الحسنة ـ إلى أن قال ـ (ع) : «إن كان خلط الحرام حلالا فاختلطا
جميعا فلم يعرف الحرام من الحلال فلا بأس» ، وكما في الصحيح ، «كل شيء فيه حلال
وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه» وكصحيح علي بن جعفر عن أخيه (ع) «عن
رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصح الوضوء منه قال (ع) إن لم يكن
شيء يستبين في الماء فلا بأس» فإنه إن لم يكن ظاهر فى الشبهة المحصورة التي
أطرافها محل الابتلاء فلا أقل من شموله لها. ونحو ذلك مما يساعد على ذلك إطلاق
الأمثلة المذكورة في بعضها مثل الثوب المحتمل للسرقة. والمملوك المحتمل للرقية ،
والمرأة المحتملة للرضيعة إذ الغالب فيها ثبوت العلم الاجمالي فإن قوله (ع) (بعينه)
قرينة واضحة على إرادة العلم التفصيلي من الغاية المذكورة فيها لأن المعلوم
بالاجمال لم يعلم حرمته بعينه.
ودعوى أن قوله (ع)
(بعينه) في الحديث الاول تأكيد للضمير المنصوب لافادته الاهتمام في اعتبار العلم
نظير قولك : (رأيت زيدا نفسه) فإنه تأكيد لوقوع الرؤية عليه لا على غلامه أو من
يمثله وفيما نحن فيه يكون تأكيد لوقوع العلم على الحرام لا على ما يجاوره أو
يشارفه فهو لا يدل على اعتبار العلم التفصيلي بالحرام لأن كل شيء علم حرمته فقد
علم حرمته بنفسه فحرمة إناء زيد قد علم بنفسه بأنه هو الحرام ، غاية الأمر أنه لم
يميز عن إناء عمر.
نعم قوله (ع) (بعينه)
في الحديث الثاني ظاهر في ذلك لأنه وقع قيد للمعرفة فيقتضي المعرفة بشخصه متميزا
عن الحرام فإناء زيد
لم يعرف بشخصه في
المثال المذكور لأن المعرفة الشخصية فرع إمكان الإشارة الحسية ونحن نأخذ بالأخبار
العامة في معرفة الحكم نظير قولنا : (أكرم
النحويين وأكرم سيبويه) ، فاسدة بأن الفرق بين الخبر الثاني والخبر الاول بجعل (بعينه)
تأكيدا في الاول وقيدا في الثاني خلاف الظاهر ، بل الظاهر كونه فيها قيدا للمعرفة
، سلمنا لكن بقرينة الخبر الثاني الذي هو كالصريح في ذلك يوجب انعقاد ظهور الاول
في ذلك لاتحادهما لفظا وسياقا بل في جميع الجهات.
كيف والغاية للحكم
الواحد يؤخذ بالخاصة منها كما لو قال «أأكل السمكة إلى رأسها» وقال «أكل السمكة
إلى أعلاها» حمل أعلاها عن رأسها.
وأخبارهم (ع) يكشف
بعضها عن بعض. ومجرد زيادة «فيه حلال وحرام» في الثاني لا يوجب اختلاف الظهور في
التأكيد والقيدية إذ لا ربط له بذيل الخبر بل يمكن دعوى أن المعرفة لا يستعمل إلا
فيما إذا كان عرف الشيء على وجه يميزه عما عداه بحيث يكون قابلا للإشارة الحسية ،
وهي لا تكون كذلك إلا إذا كانت تفصيلية لا إجمالية.
ودعوى إن هذه
الاخبار كما دلت على حلية كل من المشتبهين دلت على حرمة ذلك المعلوم بالاجمال حيث
أنه مما علم حرمته.
والحلية فيها
مغياة بعدم العلم بالحرمة فلا تشمل المقام فاسدة ، فقد عرفت أن الغاية ظاهرة في
العلم التفصيلي على أنه لدى التحقيق يمكن أن يقال أن العلم الاجمالي لا يعلم به
حكم الفرد المشتبه وإنما يعلم به الحكم المنتزع من الأطراف فإن الوجوب المشترك بين
الظهر والجمعة منتزع من وجوب كل واحد منهما فهو ليس بشرعي وإنما الشرعي هو
وجوب كل واحد
بخصوصه وهو غير معلوم ، وأصل البراءة إنما يجري في الشرعي لا الانتزاعي العقلي.
ودعوى أن دليل
حرمة ذلك العنوان المشتبه مثل قوله (عليهالسلام) «اجتنب عن الخمر» ينافي ظهور
الحديثين المذكورين لوضوح إن الأذن في كل المشتبهين حكم بعدم حرمة الخمر في الواقع
مدفوعة بأنه إنما يوجب المنافاة لو قلنا بأن مفاده إباحة المشكوك في الواقع بأن
يكون مفاد الحديثين لبيان الحكم الواقعي للمشتبه. وهذا لا نقول به لأنه يوجب
التصويب الباطل بالنص والاجماع.
أما لو قلنا بأنها
مسوقة لبيان الحكم الظاهري عند عدم علم المكلف بالحرام تفصيلا ولبيان معذوريته في
ارتكاب الحرام الواقعي وعدم العقاب عليه مع عدم العلم التفصيلي به ويكون طرو الجهل
على الحرام الواقعي نظير طرو الحرج على القول يكون الحرج عذرا مع بقاء الحكم
الواقعي فلا يلزم المنافاة بينهما أصلا ضرورة أن قوله (اجتنب عن الخمر) إنما يدل
على حرمة الخمر في الواقع والحرمة الواقعية غير ملازمة للعقاب على مخالفتها إلا
على تقدير وصولها ولذا صح ارتكاب الشبه البدوية.
والحاصل أن القدر المسلم
من التنافي هو ما إذا تنجز التكليف بالحرمة بحيث يعاقب على مخالفته وهو عين
المتنازع فيه فإن أذن الشارع بالارتكاب الكاشف عن عدم تنجزه ومخالفة الحكم الظاهري
للواقعي لا إشكال في جواز وقوعها من المشرع مع الجهل لرجوعه إلى إلى معذورية
الجاهل أو إلى بدلية الحكم الظاهري عن الواقعي أو كونه طريقا مجعولا اليه على
اختلاف المباني.
ودعوى أنه بناء
على ذلك يلزم اجتماع المتضادين الموجب للتناقض
في نفس الأمر لأن
المشتبه يكون قد ثبت له الحكم بالحل والحكم بالحرمة وهو اجتماع للمتضادين في موضوع
واحد مدفوعة.
أولا : بأن الشارع
إنما حكم برفع المؤاخذة والعقاب عند الجهل والاشتباه معبرا عنه بالحل وهذا ليس
حكما شرعيا ليلزم التناقض نظير موارد الحرج.
وثانيا : بأنا لو
سلمنا بأنه حكم بالحل فإنما يلزم التناقض مع اتحاد المرتبة أما مع تعددها كما في
المقام حيث أن مرتبة الحرمة هو الواقع ومرتبة الحل هو الظاهر ومقام الامتثال فلا
يلزم التناقض. نظير الماهية في مرتبة نفسها ليست موجودة في مرتبة وجود علتها
موجودة.
والحاصل أن مرتبة
الفعلية للحكم الواقعي التي يقتضيها ظهور الخطاب فيه لا تنافي الحلية في المرتبة
المتأخرة عن الواقع التي هي مرتبة الاطاعة له بداهة اجتماع القطع بالحكم تفصيلا مع
إباحة عدم امتثاله عند الشك في طاعته كما في قاعدة للفراغ والتجاوز وخروج الوقت
والمخالفة التدريجية عند المشهور وفي الشبهة الغير المحصورة.
ودعوى أن مجرد
تغاير المرتبة واختلاف الجهة من حيث الواقع والظاهر إنما هو باعتبار اختلاف حال
المكلف واتصافه بالعلم التفصيلي والجهل ، وذلك لا يوجب تعدد الموضوع فإن الموضوع
هو شرب الخمر على أي حال فإن الموضوع الخارجي لا يتبدل ولا يتغير مدفوعة بأن مقتضى
هذا إبطال أدلة الطرق الشرعية من الأدلة والامارات والاصول حيث أن مؤداها قد يخالف
الواقع في الشبهات البدوية الحكمية أو الموضوعية حيث أنه يمكن أن يكون الإناء
المشكوك كونه خمرا شكا بدويا الذي حكم الشارع بحليته أن يكون خمرا واقعيا فإنه
يجيء فيه نفس الكلام من انه أن صار حلالا واقعيا لزم التصويب وإذا
لم يصر حلالا
واقعيا لزم التناقض بل الكلام يجري حتى بالنسبة للشبهة الغير المحصورة فإنها
كالشبهة المحصورة في اشتراكهما في جميع الجهات حتى في وجود العلم الاجمالي وإنما
يختلفان بالحصر وعدمه.
ودعوى أن في
الشبهة البدوية لا تلزم المخالفة من ارتكاب المشتبه بخلاف الشبهة المقرونة بالعلم
الاجمالي فإنه يلزم ذلك مدفوعة بأن نقضنا بالشبهة البدوية ليس مبنيا على لزوم
المخالفة حتى يمنع حصول المخالفة فيها بل على إمكان جعل الشارع الحلية في الظاهر
في موضوع المحرم الواقعي مع أن عدم لزوم المخالفة فيها إن أريد به عدم لزوم مخالفة
الحكم الواقعي فهو باطل لأنه لا ريب في مخالفة الحكم بالحلية للحكم بالحرمة
الواقعية في الشبهة البدوية التي واقعها محرم سواء كانت بدوية أو مقرونة بالعلم
الاجمالي وإن أريد به لزوم المخالفة المستتبعة للعقاب فلزومها في المقام أول
الكلام وهو عين محل النزاع لأنا ننكر تنجز التكليف المعلوم بالإجمال. ومنه يعلم ان
لزوم العلم بالمخالفة في العلم الاجمالي لا يقر لأنه لم يكن مستتبعا للعقاب كما
اعترفوا بذلك في الشبه الغير المحصورة وبعضهم في المخالفة التدريجية.
ودعوى أن في الشبه
الغير المحصورة لا يجوز ارتكاب جميع أطرافها بل يترك من أطرافها ما يساوي الحرام
بدلا عن الواقع مدفوعة بأن القائلين بجواز ارتكاب الشبهة المحصورة أطلقوا القول
بالجواز.
قال بعض المحققين
أنه لم يقع تقييد الجواز لارتكاب أطراف الشبهة الغير المحصورة من أحدهم بذلك مع أن
في جعل غير الحرام بدلا عن الحرام لا وجه له ، ضرورة أنه إن كان فيه المصلحة
الملزمة للترك لكان أيضا محرما وإلا فكيف يكون الفعل الخالي عن المصلحة
الملزمة بدلا عن
الحرام المتضمن لتلك المصلحة بل كيف يصير المحرم الواقعي حلالا مع أنه إن أراد من
جعل البدل تدارك المفسدة اللازمة من فعل الحرام الواقعي بشيء لا نعلمه والشارع
يعلمه فهو أمر ممكن بلا جعل يدل كما في الشبهة البدوية ونظائرها وإن أراد به جعل
شيء في الظاهر نحن نعلمه كجعل أحد الإناءين بدلا عن الحرام الواقعي فلازم ذلك عدم
جواز الاذن في الشبهة البدوية إذ لا بدل فيها للحرام الواقعي في الظاهر نحن نعلمه.
وإن شئت قلت إن الحكم بحرمة الخمر مثلا إن كان ثابتا منجزا لا يتغير ولا يتخلف
فجعل البدل الظاهري لا يفيد في تحليله كما أن جعل البدل الواقعي موجبا للتصويب
وأما إن كان حكما غير منجز وغير ثابت فكما يمكن رفع اليد عنه بجعل البدل كذلك يمكن
رفعها عنه مع عدم جعل البدل متداركا للشارع له بما يراه من المصالح العامة مثل
السهولة على المكلفين كما في الشبهة البدوية والأمور الحرجية وأمثال ذلك.
كيف وليس في
النصوص والفتاوى ما يشعر بجعل الشارع أحد الأطراف المشكوكة بدلا عن الواقع ولا
فيها ما يدل على أن الآتي به آتيا به قاصدا البدلية بل الذي تقتضيه القواعد رفع
الشارع اليد عن الواقع على تقدير المخالفة بمعنى جعل المكلف معذورا كما هو مفاد
أدلة البراءة.
إن قلت هذا
بالنسبة إلى الأصول الغير التنزيلية كالبراءة يتم وأما في الاصول التنزيلية
كالاستصحاب ونحوه مما كان ناظرا للواقع فيمنع من جريانها في أطراف العلم الاجمالي
باعتبار أنه بالعلم الاجمالي يعلم بانتقاض الحالة السابقة في أحد الاطراف
فالإناءان الطاهران سابقا إذا علم نجاسة أحدهما بالاجمال فقد انتقضت الحالة
السابقة لأحدهما فكيف
يعيدنا الشارع
فيهما معا ببقائهما لامتناع التعبد بخلاف الواقع المحرز بالوجدان بل لا يحرز في كل
من الاستصحابين تمامية أركان الاستصحاب لأنه في كل منهما يحتمل الانتقاض باليقين
بالنجاسة لاحتماله أن مورده هو المتيقن النجاسة إجمالا.
قلنا قد عرفت أن
الموضوع للاستصحاب هو كل واحد من أطراف المعلوم بالاجمال في حد ذاته من دون نظر
لغيره وكل واحد منها لم ينقلب فيه الحالة السابقة بخصوصه فانا بالوجدان نشك
بالطهارة فيه بخصوصه مع سبق اليقين بها واحتمال انطباق المتيقن الاجمالي عليه لا
يخرجه عن الشك في بقاء الحالة السابقة بل هو يرجع أيضا للشك لأن النتيجة تتبع أخس
المقدمات. وعليه فلا منافاة في كل واحد من الاطراف في حد ذاته بين التعبد ببقاء
حالته السابقة وبين العلم بانتقاضها أو انتقاض حالة الآخر منها بل ظاهر أدلة
الاستصحاب أن يكون الناقض لليقين السابق هو اليقين بالخلاف المتعلق بما تعلق به
اليقين السابق وهنا لم يتعلق بكل طرف يقين بخلاف حالته السابقة مثل اليقين بحالته
السابقة من كونه يقينا تفصيليا ، ولذا تراهم يجرون الاستصحاب لبقائه الحدث
والاستصحاب لطهارة البدن فيمن توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء مع العلم
الاجمالي بانتقاض أحدهما لأنه لو كان المائع بولا فبدنه غير طاهر وإن كان المائع
ماء فالحدث غير باقي إن قلت ان أدلة الاستصحاب غير شاملة لأطراف العلم الاجمالي
لأنه يلزم من شمولها لها مناقضة ذيلها لصدرها لأن صدرها يتضمن عدم النقض للحالة
السابقة وذيلها يتضمن نقض الحالة السابقة باليقين بارتفاعها وهنا كان العلم
الاجمالي قد تعلق بارتفاعها وما يلزم من شموله المناقضة يكون غير شامل لعدم صدور المناقضة
من الحكيم فلا يصح شمول أدلة
الاستصحاب للاطراف
ودخول الاطراف تحتها.
قلنا الظاهر من
أدلة الاستصحاب ونحوها هو أن الغاية العلم التفصيلي فإن الظاهر من اليقين الموجود
في الذيل أنه متعلق بما تعلق به اليقين في الصدر فهو غير شامل للإجمالي على أن في
بعض الأخبار ما هو خالي عن هذا الذيل فيرجع لإطلاقها من عدم النقض بالعلم
الاجمالي.
إن قلت إن المجعول
في الاصول التنزيلية كالاستصحاب ونحوه هو البناء على الأخذ بمجراه على أنه هو
الواقع فيمتنع جعله في جميع أطراف العلم الاجمالي إذ لا يعقل التنزيل على خلاف
الواقع المعلوم بالوجدان إجمالا كما عن المرحوم النائيني (ره).
قلنا الأصول سواء
كانت تنزيلية أو غيرها إنما هي وظائف للجاهل وليست لها حكاية عن الواقع.
نعم الأصول
التنزيلية فيها نظر لجعل مؤداها منزلة الواقع فإن أدلة الاستصحاب أو قاعدة الفراغ
إنما تقتضي أن يجعل أحد طرفي الشك المطابق لليقين السابق كما في الاستصحاب أو
المطابق للصحة كما في قاعدة الفراغ منزل منزلة الواقع لا أنه له كاشفية للواقع
بخلاف غير التنزيلية فانها تجعل أحد طرفي الشك حكما ظاهريا لا أنه منزل منزلة
الواقع ولذا تلك سميت بالتنزيلية وهذه خصصت بغير التنزيلية ، سلمنا إنها جعلت
باعتبار كاشفيتها عن الواقع لكنها إنما اعتبر الشارع كاشفيتها عن خصوص مؤداها لما
تقرر في محله من ان الأصول مطلقا إنما تثبت مؤداها ولا تدل على نفي ما عداه لأنه
من اللوازم العقلية والأصول لا تثبت بها اللوازم العقلية كما قرر في محله ، ولذا
من توضأ غفلة بماء مردد بين البول والماء وصلى يجري قاعدة الفراغ ويستصحب
الحدث الأصغر مع
العلم الاجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع وذلك لأن قاعدة الفراغ إنما تثبت صحة
الصلاة ولا تثبت لازم ذلك من كون الماء طاهرا وكون الوضوء صحيحا فاثبات كل من
الأطراف بالأصل لا يوجب بطلانها بالمخالفة للواقع لعدم إثبات خلاف مؤدى الآخر حتى
يكون حجة عليه ويعارض الأصل الآخر بخلاف البينات والأمارات فإنها تثبت لوازمها فلا
تجري في أطراف العلم الاجمالي لأن كل منها حجة على نفي خلاف مؤداها فيعارض الحجة.
وبعبارة أخرى إنه
لا مانع من إجراء الأصول في أطراف الشبهة المحصورة لأن كل واحد منها بخصوصه جامع
لشرائط الجريان فإن كان له حاله سابقة استصحبت وإن لم يكن له حالة سابقة جرى أصل
البراءة وذلك لأنه كل واحد منها بذاته غير معلوم الحكم الشرعي لأن العلم بالحكم
الشرعي لا يتحقق إلا بعد العلم بصدور الخطاب والعلم بالموضوع والمحمول فمع فقد
أحدهما لا علم بالحكم الشرعي.
والعلم بالحكم
المردد بين الأفراد يكون علما بأمر انتزاعي عقلي ليس بحكم شرعي واقعي لما عرفت من
أن الحكم الشرعي هو حكم كل واحد من الأطراف في حد ذاته دون ما هو منتزع من مجموعها
فالتكليف الشرعي غير معلوم والمعلوم لم يكن حكما شرعيا.
ودعوى أن العلم
الاجمالي يوجب العلم بكذب أحد الأصلين فيكون كل من الأصلين دال على نفي الآخر عقلا
فاسدة ، فإن هذا العلم لا يمنع من جريانهما ولا يوجب عدم التعبد بهما لأن الأصول
إنما توجب نفي الآخر عقلا في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي وقد تقرر في محله أن
الأصول ليست بحجة في نفي لوازمها العقلية ، ونفي الآخر لازم عقلي له نعم لو كان
العلم الاجمالي منجزا للتكليف يقع التعارض
بين الأصلين للعلم
بفساد أحدهما وعدم جعله لأن الشارع لا يعقل أن يجعل الأصل في الطرف الذي كان منجز
التكليف فيه ولأن جعلهما حينئذ يكون ترخيصا منه في العصيان لكن الخصم يمنع من تنجز
التكليف بالعلم الاجمالي.
وعليه فلا مانع
لديه من إجراء الأصول في الأطراف وإن خالفت العلم الاجمالي وقد استدل المرحوم
الهمداني على ذلك وان العلم الاجمالي كالتفصيل منجز للواقع تحرم مخالفته القطعية
بما يرجع الى مقدمات : لأولى إن محل كلامنا في التكاليف الثابتة لنفس الشيء وذاته
من غير تقييد بالعلم بذلك الشيء كما هو الشأن في جل التكاليف الشرعية.
الثانية : يجب على
المكلف بحكم العقل بعد علمه بالتكليف المذكور الخروج عن عهدته إلا إذا كان له عذر
مقبول عقلا في المخالفة. فالتكليف الواقعي غير كاف في لزوم الخروج عن عهدته بل هو
مقتضي لذلك والاعذار مانعة عن تأثيره فيكون عدمها شرطا في تنجز التكليف الواقعي.
الثالثة : بأن
الجهل عذر عقلي في المخالفة للتكليف لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ولكنه مع
العلم الاجمالي لا يكون عذرا لأن العقل لا يحكم بقبح عقابه عند المخالفة حيث يرى
إن هذا الجهل غير صالح لأن يعتذر به في المخالفة لكون العلم الاجمالي كالعلم
التفصيلي في البيان.
سلمنا وقلنا إن
العقل متوقف في عذرية هذا الجهل فهو أيضا يكون مستقلا بلزوم الاحتياط دفعا للعقوبة
المحتملة ، هذا مع التنزل وإلا فلا تردد في ذلك أصلا بل من ضروريات العقل أن
المولى إذا كلفه
بشيء ولم يعتبر
العلم في موضوعه وجب عليه امتثاله ولو علم به إجمالا ولا يعقل أن يرخصه الشارع في
ذلك بعد التكليف به.
نعم يمكن ان ينصب
الشارع طريقا ظنيا أو قاعدة تعبديه من قرعة ونحوها لتشخيص ما به يتحقق التكليف من
أطراف الشبهة المحصورة. كما أنه يمكن أن يقنع بالموافقة الاحتمالية إذا كان في
الموافقة القطعية مفسدة منافية لما تعلق به غرض الشارع من التوسعة والتسهيل وغير
ذلك مما يقتضيه اللطف والامتنان إذ ليس في هذين الأمرين منافاة لمطلوبية التكليف
في الواقع بل يؤكدها وإلا لم يوجب الموافقة للتكليف بنصب الطريق أو بالاكتفاء
بالموافقة الاحتمالية إذ يكون ما وافق به للتكليف احتمالا. أما هو المكلف به فيخرج
عن عهدة التكليف. أو ما هو يدل عنه في مقام الامتثال في كونه مبرءا للذمة.
وغاية ما يلزم في المقام أنه يجب أن يكون رضا الشارع بالموافقة الاحتمالية أو بما
قام عليه الطريق أو القاعدة مصلحة يتدارك بها المفسدة لو فات الواقع أو أخطأت
القاعدة أو لم يصب الطريق.
ودعوى أن ذلك
يستلزم أما نسخ الحكم الواقعي أو المنافاة لحكم العقل بوجوب إطاعته حيث رخص الشارع
في تركها فاسدة. فإن اعتبار العلم في موضوع حكم العقل بوجوب الاطاعة من باب
الطريقية المحضة فمتى أدرك العقل أن الشارع أراد منه فعل شيء أو تركه إرادة حتمية
استقل بلزوم تحصيل ذلك الشيء مع القدرة عليه ولكن حكمه لهذا ليس لأجل إن حصول ذلك
الشيء من حيث هو يكون له موضوعية بالذات في نظر العقل بل لأجل أنه مراد للشارع
ورضاه به فاذا علم العقل أن الشارع قد رضي بالخروج عن عهدة تكليفه بالموافقة
الاحتمالية صح له الخروج بها عن عهدة ذلك التكليف.
وعليه يكون الدليل
الدال على رضا الشارع بها حاكما على ما يستقل به العقل من لزوم تحصيل الموافقة
القطعية لا منافيا له.
نعم لو رخص في
ارتكاب جميع أطراف الشبهة فلا محالة يتحقق التنافي بينه وبين دليل ذلك التكليف لأن
الأذن في ارتكاب جميع الأطراف يكون إذنا في ترك ذلك التكليف.
إن قلت ان قد قرر
في إمكان جعل الأصول الظاهرية ونصب الطرق الظنية بأن العقل يجوّز أن يكون في
موردها مصلحة يتدارك بها مفسدة مخالفة الواقع على وجه لا يلزم التصويب.
وعليه فمن الجائز
أن يكون في أطراف الشبهة المحصورة أيضا كذلك.
قلنا هذا إنما
يعقل فيما اذا لم يكن التكليف الواقعي منجزا في حق المكلف بأن كان مشكوكا شكا
بدويا أما مع علمه بالتكليف فلا يعقل لاستلزامه توارد حكمين متضادين على موضوع
واحد في مرتبة واحدة لرجوعه الى التناقض والأذن في المعصية وهما مما يمتنع صدورهما
من الشارع فإن الأذن في ارتكاب أطراف الشبهة إذن في ارتكاب مخالفة التكليف المعلوم
بالاجمال وهو غير جائز عقلا.
وأما مع شك المكلف
بالتكليف شكا بدويا فلا يرد هذا المحذور إذ لا أثر للتكليف الواقعي الذي لم يطلع
المكلف عليه في باب الاطاعة والمعصية حيث أنه غير مؤثر في اتصاف ما صدر منه بالقبح
وكونه معصية للشارع فلا استحالة حينئذ في ان يلحقه حكم آخر في مقام تكليفه الظاهري
كالصلاة في الدار المغصوبة لدى الجهل بغصبيتها بخلاف ما لو علم بالتكليف فيمتنع أن
يلحقه حكم إلا على تقدير ارتفاع ذلك الحكم الواقعي ألا ترى أن الشارع اذا قال
الخمر حرام وعلم المكلف
بالخمر في أحد
الإنائين فإن كان عروض الاشتباه مؤثرا في حدوث مصلحة في شربه يتدارك بها مفسدة
الخمر امتنع بقاء الخمر على صفة الحرمة وهو خلاف الفرض وان لم يؤثر ذلك فلا يعقل
الرخصة في ارتكاب ذلك الخمر المشتبه كما في صورة العلم بالتفصيل لرجوعه للتناقض
والإذن في المعصية.
هذا خلاصة استدلال
المرحوم الهمداني قدسسره.
وفيه أن تنجز
الخطاب على المكلف يتوقف على وصوله له ووصوله له يتوقف على إحراز صغراه علما أو
ظنا معتبرا ، وأما مع الشك فيها فلا يكون واصلا له. ومع الشبهة المحصورة الصغرى
مشكوكة كما عرفت سابقا.
ودعوى أن العقلاء
يعدون المخالفة القطعية معصية من دون فرق بين الخطاب المعلوم تفصيلا أو اجمالا
فاسدة. فإن الوجدان شاهد أن الشاك في صغرى التكليف اذا خالف التكليف لم يعد عاصيا
وان ظهر بعد ذلك أنه بعمله هذا قد خالف المولى.
ودعوى أن المقتضي
للامتثال موجود وهو عموم الخطاب الجاهل والعالم اذ ليس محل كلامنا الخطابات
المختصة بالعالم بها ، والمانع مفقود لأن المانع المتصور في المقام هو الجهل
بالصغرى في الشبهة المحصورة وهو غير مانع عقلا ولا نقلا.
أما العقل فهو
انما يكون من جهة حكمه بأن الجهل عذرا أما لعجز الجاهل عن الاتيان بالواقع حتى
يرجع الجهل الى فقد شرط وهو القدرة والتمكن من اتيان المطلوب وهو باطل لفرض التمكن
مع الجهل المذكور من اتيان المطلوب أو من جهة كون المكلف الجاهل غير قابل لتوجه
الخطاب اليه وهو باطل أيضا لصحة عقاب الجاهل
المقصر.
وأما النقل فليس
ما يدل على العذر منه الا أدلة البراءة وهي غير جارية في المقام لاستلزام جريانها
التعارض ، فاسدة لأنه ان أراد بالخطاب العام للعالم والجاهل الخطاب الواقعي الثابت
في اللوح المحفوظ ففيه أنه مسلم ولكنه غير مجدي في المقام فإن الخطاب من حيث هو ما
لم يتنجز لا يستدعي الإطاعة ولا يحكم العقل بوجوب امتثاله لما تقرر في محله من أن
العلم من الشرائط العامة نظير شرطية العقل والبلوغ والقدرة ، غاية الأمر أنها شرط
لنفس التكليف والعلم شرط لتنجزه وإن أراد به الخطاب الظاهري الفعلي المنجز فهو
مختص بالعالم دون الجاهل.
وفي الشبهة
المحصورة الاطراف تكون مجهولة الحكم.
والحاصل أن المانع
من تنجز الخطاب العقل والنقل.
أما العقل فبحكمه
بقبح العقاب بلا بيان ولا يصدق البيان مع العلم الاجمالي فالجاهل غير قابل لتوجه
الخطاب اليه لوجود المانع من توجه الخطاب اليه وهو حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان
كحكمه بقبح الكذب والظلم فحيث يوجد هذا المانع يمتنع التكليف. أما الجاهل المقصر
أو المطلوب منه الاحتياط بدليل خاص في خصوص المسألة كما في اشتباه القبلة أو الشك
في القصر والاتمام أو الجمعة والظهر فلا يوجد المانع وهو قبح العقاب بلا بيان لأن
حكم العقل بوجوب الفحص والدليل الخاص في الامثلة المذكورة أحسن بيان.
وأما النقل فبعضه
صريح في اشتراط التكليف بالعلم التفصيلي مثل ما دل على حلية المشتبه حتى تعرف
الحرام بعينه ومنه ما هو ظاهر في ذلك كقوله (ع) «الناس في سعة ما لم يعلموا»
وأمثاله ولعلك
بملاحظة ما ذكرناه
سابقا يتضح لك مواضع النظر في كلامه رفع الله مقامه أكثر وأكثر.
ودعوى أن الاشتغال
اليقيني يستدعي ويقتضي الفراغ اليقيني وقد اشتغلت الذمة بالحرمة لشرب الخمر
وفراغها بترك الإناءين مدفوعة بأن هذا صحيح اذا كان المقتضى وهو اشتغال الذمة
موجودا ومتيقنا مع عدم صدور اذن من الشارع ولكننا ننكر وجود المقتضي واليقين
باشتغال الذمة بالتكليف المعلوم باجمال لما عرفت من عدم إحراز الصغرى المبينة لوجود
موضوع التكليف في كل من المشتبهين ، ولو سلمنا فالإذن صادر من الشارع بارتكابهما
بأدلة البراءة ونحوها.
ودعوى أن تجويز
ارتكاب المشتبهين يفضي الى امكان التوصل إلى ارتكاب جميع المحرمات على وجه مباح
بأن يجمع بين الحلال والحرام المعلومين تفصيلا كالخمر والخل على وجه يوجب الاشتباه
فيرتكب شرب الخمر محللا مدفوعة بأن حرمة الارتكاب في هذه الصورة لا مجال لانكارها
لتحقق قصد العصيان منه مع ارتكابه للحرام الواقعي عند امتزاجهما فيكون مرتكبا
للمحرم المعلوم تفصيلا لأنه بعد الامتزاج صار هذا المائع معلوما بالتفصيل.
وأما عند عدم
الامتزاج فإنه كذلك لا يجوز له ارتكاب أي واحد منها فضلا عن مجموعهما لإمكان تحقق
قصد ارتكاب الحرام مع فعل الحرام فيما لو ارتكبهما وفيما إذا ارتكب أحدهما وكان هو
الحرام الواقعي كان وقوع الحرام منه بقصده نظير من القى نفسه من شاهق للموت فان
موته كان بقصده واختياره والعقل يحكم باستحقاق العقاب أيضا لسوء تجريه بناء على
حرمة التجري.
ودعوى أن الأحكام
الظاهرية إنما جعلت نظرا للواقع وللتوصل
اليه وجواز ارتكاب
الأطراف للعلم الاجمالي يوجب انكشاف خلاف الواقع فلا يتوصل بها للواقع فاسدة فان
الاصول انما هي وظائف للجاهل فللشارع في مقام الجهل أن يجعل منها ما يشاء ويمنع من
فعلية الواقع لمصلحة هناك وليست بمجعولة للطريق للواقع والتوصل اليه.
نعم جعل الطرق في
مورد العلم الاجمالي على خلافه لا يجوز ولذا كان قيام الامارات على خلاف العلم
الاجمالي يوجب تعارضها كما لو قامت على طهارة أحد الإناءين بينة وعلى طهارة الآخر
بينة أخرى مع العلم الاجمالي بنجاسة أحدهما فإن البينتين يتساقطان للعلم بكذب
أحدهما.
ودعوى أن أمر
المولى مع موضوعه قد أحرز في للعلم الاجمالي كما في العلم التفصيلي فإن التكليف في
العلم الإجمالي قد علم وهو الحرمة مثلا وموضوعه قد احرز وهو الخمر مثلا ولكن لم
يعلم كيفية امتثاله بترك هذا الإناء أو ذاك الإناء.
فالجهل في العلم
الاجمالي في مرتبة الامتثال لا في مرتبة التكليف اذ التكليف بكامله قد وصل وجدانا
وعلمنا به عيانا ولم ينثلم منه شيء وعليه فالعقل يحكم بلزوم إيجاده لأن مرتبة
المطلوبية والتكليفية بكاملها حاصلة وواصلة لنا بدليل أن العلم الاجمالي لو انقلب
الى تفصيلي بحيث تعلق بعين ما تعلق به العلم الاجمالي لتنجز وإنما المتردد فيه هو
مرتبة الامتثال ولا ريب أن حكم الشارع بإباحة الأطراف يكون مناقضا لها وإباحة
لعصيانه وترك طاعته نظير ما لو أباح في مرتبة الامتثال للتكليف بالحرام المعلوم
بالتفصيل فإن الإباحة تكون إباحة لعصيانه وترك لطاعته وهو قبيح عقلا لأن التميز
غير مأخوذ في موضوعات التكاليف.
ونحن لا نمنع أن
الشارع يبيح ترك إطاعة التكليف حتى المعلوم بالإجمال لشئون خاصة كالحرج ونحوه فإنه
عند ذا يكون ذلك أما من قبيل التخصيص أو التقييد أو من قبيل النسخ أو من قبيل
التكاليف الغير الواصلة كالتكاليف في أول البعثة لكن محل كلامنا فيما لو خلي
التكليف وطبعه من دون تصريح من الشارع بإلغائه فإن محل الكلام هل أنه يرفع اليد
عنه وإن التصريح الذي يكون عمومه وإطلاقه بخلافه يوجب رفع اليد عنه كما في أدلة
البراءة بالنسبة لأطراف العلم الاجمالي أو أنه يكون من قبيل المناقض له والمضاد له
نظير المتعارضين فيتساقطان أو يجمع بينهما بظاهرية أو أظهرية أو حكومة أو ورود أو
يرجح أحدهما على الآخر إلى غير ذلك مما يذكر في باب علاج المتعارضين وبهذا ظهر لك
أن العلم الاجمالي علة تامة لحرمة المخالفة القطعية. وتوهم أنه لو كان كذلك لما
جازت المخالفة القطعية في الشبهة الغير المحصورة باطل فإنا أيضا لم نجوزها ونلتزم
بأنه لا بد من ترك بعض أطرافها بمقدار المعلوم بالاجمال فاسدة : فإن التكليف إنما
يجب امتثاله إذا توجه إلينا ولا يتوجه إلينا إلا إذا وصل الينا ولا يصل إلينا إلا
إذا علم به وعلم بتحقق موضوعه أما لو علم به ولم يعلم بثبوت موضوعه فلم يصل إلينا
وفي صورة العلم الاجمالي وإن كان التكليف قد علم به ولكنه في كل واحد من أطراف
العلم الاجمالي لم يعلم بتحقق موضوعه فلم يصل إلينا في كل واحد منها وليس الأدلة
التكاليف عموم أو إطلاق بالنسبة لحالتي العلم والجهل لأنها من الطوارئ على التكليف
الحادثة بعده.
ولا نسلم أن جعل
الحكم في أطراف العلم الاجمالي يكون ترخيص في المعصية بل هو عين المتنازع فيه حيث
أنه إنما يكون كذلك لو
كان العلم
الاجمالي منجز للتكليف ويوجب استحقاق العقاب على مخالفة التكليف.
أما مع عدم تنجيزه
كما هو مدعى الخصم فلا يكون جعل الحكم على خلافه إذن في المعصية ولا يقبحه العقل ،
والاستدلال على ذلك بعدم أخذ التمييز في موضوعات التكاليف من أغرب الأشياء فإن
التكاليف لا تنجز إلا بقيام ما يدل عليها مع أن قيام ما يدل عليها ليس بمأخوذ فيها
فإن العلم والدليل وعدم الفحص كلها طوارئ على التكاليف وفي مرتبة متأخرة عنها فلا
يعقل أخذها فيها مع أنها معتبرة في تنجزها فكذا التمييز لموضوع التكليف ومعرفته
وكيف لا يعتبر فإن موضوع التكليف إذا لم يعرف لم يتنجز التكليف كما اذا لم يعرف
نفس التكليف.
ودعوى أن الأصل في
كل من الاطراف يجري منضما الى جريانه في باقي الأطراف لأنها بالنسبة الى الأصل في
مرتبة واحدة لا أنه يجري في كل واحد متفردا عن الآخر نظير الخبرين المتعارضين
بالنسبة لدليل الحجية فإنه يشملها دفعة واحدة في مرتبة واحدة : فلذا نقول بتساقط
الخبرين لا أنه يشمل كل واحد منهما على حده واذا كان الأمر كذلك لزم من اجراء
الأصل في أطراف العلم الاجمالي مخالفة التكليف قطعا لا تنفع مدعيها فإن الخصم لا
ينكر ذلك وإنما يقول لا تضر مخالفة التكليف كما في الشبهة البدوية لعدم تنجزه وانه
على المكلف أن يرجع في أطراف الشبه للأصول كما لو كانت مشكوكة بالشك البدوي.
نعم لو قام الدليل
في مورد خاص على حرمة المخالفة القطعية أخذ به كما فيما لو تردد الواجب بين القصر
والإتمام أو الظهر
والجمعة فإن
الاجماع بل الضرورة قام على حرمة المخالفة القطعية فيهما.
وحاصل الكلام انا
نقول انه للمشرع رفع المؤاخذة والعقاب عن الحرام الواقعي الذي لم يعلمه المكلف
تفصيلا ولا مانع عنه عقلا بل لا مانع من جعل الإباحة في الظاهر له ، والمناقشة في
ذلك ترجع الى ما ذكره ابن قبة من الوجه في استحالة التعبد بخبر الواحد من أنه يوجب
تحليل الحرام وتحريم الحلال فمع الشبهة المحصورة يرجع للأصول الجارية في الأطراف
إلا اذا قام الإجماع أو الضرورة أو دليل خاص على حرمة المخالفة القطعية كما لو
تردد المكلف بين وجوب صلاة القصر عليه أو التمام أو وجوب صلاة الجمعة أو الظهر
عليه في يوم الجمعة فإن الاجماع أو الضرورة قامتا على حرمة المخالفة القطعية في
هذين المثالين ، وقد ورد التصريح بجواز المخالفة القطعية للعلم الاجمالي في
الأخبار المتقدمة التي فيها الصحيح والموثوق ولا داعي لفتح باب التأويل فيها
بتخصيصها بالشبهات البدوية أو بالشبهة الغير المحصورة بل هو كالاجتهاد في مقابل
النص بل مؤيدا ذلك بما ورد في الشرع من جعل الطرف والأصول والامارات المؤدية كثيرا
بخلاف الواقع بل وقعت في الشرع المخالفة للعلم الإجمالي في الشبهة المحصورة فوق حد
الإحصاء كالأخبار الدالة على حل جميع المال المختلط بالربا التي سيجيء إن شاء الله
نقل بعضها.
فلو كان يستحيل
ترخيص الشارع في ارتكاب المشتبهين لما صح من الشارع الترخيص المذكور وقد أفتى
الفقهاء لا سيما في أبواب المعاملات والسياسيات بما دل على جواز المخالفة القطعية
منها ان المقر إذا قال هذا المال لزيد بل لبكر بان الحاكم يحكم بأخذ المال لزيد
وقيمته لبكر
مع أنه نعلم
إجمالا بأن أحدهما أخذ المال بالباطل.
وهكذا ذكروا أيضا
في باب الصلح أنه لو كان لأحد الودعيين درهم والآخر درهمان فتلف درهم من الثلاثة
لا يعلم لأيهما من أنه يقسم واحدا من الدرهمين الباقيين نصفين بينهما فإن في ذلك
مخالفة للعلم الاجمالي من أن هذا الدرهم لأحدهما إلى غير ذلك مما يجده المتتبع في
كلمات القوم وفتواهم.
ودعوى أن الحاكم
وظيفته أخذ ما يستحقه المحكوم له بالأسباب الظاهرية كالاقرار والحلف والبينة
وغيرها فهو قائم مقام المستحق في أخذ حقه ولا عبرة بعلمه الإجمالي.
قال جدي الهادي (ره)
«وذلك لأن الملحوظ حال المستحق دون علم الحاكم» قال الشيخ (ره) «ونظير ذلك ما إذا
أفتى المفتي لكل من واجدي المني في الثوب المشترك بدخول المسجد» فإنه إنما يفتى
لكل منهما بملاحظة تكليف نفسه.
وإن مسألة الصلح
حكم تعبدي وكأنه صلح قهري بين المالكين أو يحمل على حصول الشركة بالاختلاط.
وبالجملة فلا بد من التوجيه لكل ما يتوهم منه جواز المخالفة القطعية لمنع العقل
منها والنقل.
مدفوعة بأن الكلام
في إمكان جعل هذه الوظيفة للحاكم فيما يلزم العمل بها المخالفة القطعية ولا ريب
أنه لو يحكم العقل بحرمة المخالفة القطعية يستحيل أن يجعل تلك الوظيفة للحاكم من
أخذ المال ودفعه لكل من زيد وبكر وهكذا يستحيل أن يجوز له الشارع أن يحكم بما لا
يجوزه العقل من المخالفة القطعية ولو جوز الشارع للحاكم أخذ المال المذكور ودفعه
للمقر لهما مع علمه بالمخالفة العملية القطعية وجوزنا له الحكم بذلك لكان يجوز
للشارع أن يجوز ارتكاب المشتبهين وفتوى المفتى
بذلك لأنه يعلم من
ذلك أن العلم الاجمالي ليس بعلة تامة فإن تخلف المعلول عن العلة في مورد يعلم منه
أن العلة ليست بتامة وإن تماميتهما بشيء آخر وتنظيره ذلك بفتواه لواجد المني لعله
يؤكد عدم تأثير العلم الاجمالي لأنه قد علم إجمالا بحرمة إحدى الفتويين لعدم
مطابقتها للواقع فلا بد من الالتزام بجواز المخالفة القطعية لهذا العلم الاجمالي.
وأما مسألة الصلح
فكون الحكم فيها تعبدي ولو بصلح قهري لا يرفع الاشكال إذ الكلام في إمكان مثل هذا
التعبد ولو بالصلح القهري مع مخالفته للعلم الاجمالي.
وتخيل توقف رفع
الخصومة به ممنوع لعدم انحصار الطريق فيه ضرورة إمكان رفع الخصومة بالقرعة بل هو
المتعين بناء على حرمة مخالفة العلم الاجمالي القطعية ولا بد من طرح الدليل
المخالف لذلك أو تأويله.
وأضعف من التوجيه
بحصول الشركة القهرية بالاختلاط لوضوح أن موردها الاختلاط على وجه الامتزاج
كامتزاج الحنطة بالحنطة والدهن بالدهن بل في الأخبار ما يدل على جواز ارتكاب
المشتبهين ، ففي صحيح الحلبي : أتى رجل إلى الصادق (ع) فقال له : «إني ورثت مالا وقد عرفت أن صاحبه الذي
ورثته منه كان يربي وقد اعترف به واستيقن ذلك وقد سألت الفقهاء من أهل العراق
والحجاز فقالوا لا يحل أكله من أجل ما فيه فقال (ع)» إن كنت تعلم بأن فيه مالا
معروفا ربا وتعرف أهله فخذ رأس مالك ورد ما سوى ذلك وإن كان مختلطا فكله هنيئا فإن
المال مالك واجتنب ما كان يصنع صاحبه». وقد نقلناه من نسخة مغلوطة ومن أراد
الاعتماد عليه فليراجعه في نسخة صحيحة.
ودعوى إمكان أن
يكون المال الربوي من مجهول المالك فصار ملكا للامام (ع) فأذن له بالتصرف أو ملكه
إياه أو أنه ملك للفقراء والوارث منهم.
مدفوعة بأن الظاهر
هو بيان الفتوى بحكم الشارع في الواقعة لا أنه من باب الاذن والترخيص.
ومثل ما في موثقة
سماعة عن أبى عبد الله (ع) عن رجل أصاب مالا من عمال بني أمية وهو يتصدق به ويقول
أن الحسنات يذهبن السيئات فقال (ع) «إن الخطيئة لا تكفر الخطيئة وإن الحسنة تحبط
الخطيئة ثم قال (ع) : إن كان خلط الحرام حلالا فاختلط جميعا فلم يعرف الحرام من
الحلال فلا بأس».
فإنه ظاهر في جواز
التصرف بالجميع لأن التصدق وامساك الباقي هو تصرف في جميع المال بصرفه وإمساكه.
نعم لو كان الامام
(ع) أمره برد الباقي إلى مالكه مع العلم بالمالك أو الى الامام (ع) نفسه أو الى حاكم
الشرع أو نائبه أو بالتصدق به عن مالكه لم يكن له ظهور في تناول الجميع. وفرض كون
الرجل من الفقراء قد احتسب الامام الباقي عليه من باب رد المظالم كما ترى.
ومثل ما في صحيح
علي بن جعفر عن أخيه (ع) عن رجل امتخط فصار الدم قطعا صغارا فأصاب إناءه هل يصح
الوضوء منه؟ قال (ع) «إن لم يكن شيء يتبين في الماء فلا بأس». فإنه ظاهر في
الشبهة المحصورة التي أطرافها محل الابتلاء لا سيما والسائل مثل (علي) ولا أقل من
شمول إطلاقه لها بترك الاستفصال وعدم التقييد.
إن قلت إن الاخبار
الدالة على جواز ارتكاب الشبهة المحصورة يعارضها ما عن النبي (ص) «ما اجتمع الحلال
والحرام إلا غلب الحرام الحلال».
والمرسل «اتركوا
ما لا بأس به حذرا عما به البأس» وضعفها ينجبر بالشهرة المحققة والاجماع المنقول
على حرمة ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة وبمثل رواية ضرير عن السمن والجبن في أرض
المشركين قال : «أما ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا تأكل وما لا تعلم فكل».
فإن الخلط يصدق
عند الاشتباه كما في الشبهة المحصورة ، وبرواية ابن سنان كما في رسائل الشيخ أو
عبد الله بن سليمان كما في الدرة النجفية «كل شيء حلال حتى يجيئك شاهدان إن فيه
الميتة». ولا ريب إن الشبهة المحصورة التي يعلم إجمالا أن أحد أطرافها ميتة يكون فيها
الميتة وبرواية اسحاق بن عمار يشتري منه ما لا يعلم أنه ظلم فيه أحدا. وبحديث
التثليث وهو قوله (ص) «حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجا من
المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم». وبمثل صحيح عبد
الرحمن في جزاء الصيد : «إذا أصبتم مثل هذا ولم تدروا فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا».
قلنا أما النبوي
الأول ففي بعض الروايات له «الأغلب الحلال الحرام» فيكون على مطلوب الخصم أدل
وقراءة الحلال بالنصب ليكون مفعولا مقدما ، والحرام بالرفع ليكون فاعلا مؤخرا حتى
ينطبق على الرواية الأولى ليس بأولى من العكس بأن يقرأ في الرواية الأولى الحرام
بالنصب مفعولا مقدما والحلال فاعلا مؤخرا.
وكون الرواية
الأولى أشهر والاشهرية موجبة للترجيح ممنوع فإن الأشهرية لا توجب الترجيح في
القراءة ، ولو سلمنا ذلك فالأخبار المعارضة الدالة على جواز ارتكاب المشتبه
بالشبهة المحصورة مقدمة لأنها أصح سندا منه. على أنه ظاهر في الاجتماع بنحو المزج
لا بنحو الاشتباه بل ربما يقال بعدم إمكان ارادة غير المزج إذ الاجتماع بغير المزج
أما أن يكون في الذهن بأن يراد اجتماع احتمال الحرام واحتمال الحلال وهو لا يصح
إلا بارتكاب نوع من الأضمار بأن يقدر «ما اجتمع احتمال الحلال واحتمال الحرام إلا
غلب احتمال الحرام».
وهو خلاف الأصل لا
يصار اليه إلا بقرينة وهي مفقودة في المقام مع أن مقتضى ذلك وجوب الاحتياط في
الشبهة البدوية مطلقا وهو خلاف الإجماع. وأما أن يكون المراد الاجتماع في المكان
ولا ريب أن الاجتماع في المكان لا بنحو المزج إنما يتصور بأن يلاصق الحرام الحلال
وهو غير معقول الارادة فإنه مستلزم للكذب إذ الحرام إذا اجتمع مع الحلال والتصق به
لا بنحو المزج لم يغلب أحدهما الآخر فإن لك أن تستعمل الحلال وأن تترك الحرام
فاناء الخمر وإناء الماء لو جعل أحدهما بجنب الآخر لم يغلب أحدهما على الأخر في
حكمه فإن لك أن تستعمل إناء الماء.
نعم لو اجتمعا
بنحو الامتزاج غلب الحرام ولا يصح لك شرب الماء لأنه بشربه تشرب الخمر فيكون فعله
عبارة عن فعل المعصية ، فإذن تعين حمل النبوى المذكور على الاجتماع بنحو المزج
يكون أجنبيا عن المقام.
وأما المرسل
المذكور فالظاهر أن الأمر فيه للإرشاد إلّا ان ترك المشتبه يوجب الحذر من فعل
المحرم فان النفس بذلك تتعود على
ترك المحرمات
ويهون عليها التجنب عنها فيكون مفاده مفاد قوله (ع) «من ترك ما اشتبه عليه من
الإثم فهو لما استبان له أترك».
وأما دعوى انجبار
النبوي والمرسل بالشهرة والاجماع فهي فاسدة لأنه للخصم أن يمنع انجبارها بذلك بعدم
استناد المشهور في الحكم بالاحتياط اليهما كما هو المشهور بل إلى القاعدة سلمنا
كفاية الشهرة في الانجبار لكن مع وضوح مدرك الشهرة وضعفه لا يعول عليها في الجبر ،
والاجماع المدعى واضح الخلاف لما عرفت من خلاف جملة من العلماء مضافا إلى معلومية
ضعيف مدركه وهو القاعدة العقلية.
وأما رواية ضرير
ففيها إن لفظ الخلط ظاهر في المزج بقرينة السمن والجبن حيث أن الاختلاط فيهما لا
محالة يكون بنحو المزج غالبا.
وأما رواية ابن
سنان فظاهرها قيام المبينة على أن المشتبه ميتة فيكون مفادها مفاد الاخبار الدالة
على حيلة المشتبه حتى تعلم الحرام بعينه لا سيما موضوعها كل شيء ، وللضمير في (فيه)
عائد اليه فإن الشيئية ظاهرة في الموجود الواحد لا الموجودات المتعددة فلا تصدق
الرواية على الشبهة المحصورة التي فيها الميتة ولا أقل من الشك في الصدق فيسقط
الاستدلال.
وأما رواية إسحاق
بن عمار فان الظاهر منها هو العلم التفصيلي بأن هذا الذي يشتريه فيه ظلم بعينه
لأحد. وعليه فالرواية دالة على جواز ارتكاب أطراف الشبهة المحصورة لأن كل واحد
منها لا يعلم بأن ظلم فيه أحدا.
وأما حديث التثليث
ففيه أنه محمول على الاستحباب كما عن بعضهم أو على الإرشاد كما عن جماعة ، والغريب
أن الشيخ الانصاري (ره)
في الشبهة البدوية
في مقام الرد على الأخباريين حمله على الارشاد وفي هذا المقام استشهد به على وجوب
الاحتياط ولو سلم دلالته على وجوب الاحتياط.
فالأخبار الدالة
على جواز ارتكاب الشبهة المحصورة المتقدمة مقدمة على هذا الحديث حاكمة عليه فان
الحديث المذكور انما يدل على الاحتياط مع عدم الأمن من الهلكة والاخبار المذكورة
تعم المؤمن من الهلكة فيرتفع موضوع الحديث حكما وإن لم يرتفع حقيقة فلا وجه لجعله
معارضا لأدلة البراءة.
وأما صحيح عبد
الرحمن ففيه إنه مختص بصورة التمكن من السؤال والفحص فهو ظاهر في الجاهل المقصر
فلا دخل له في المقام.
إن قلت أنه يستفاد
من أخبار كثيرة كون الاجتناب عن أطراف الشبهة المحصورة أمرا مسلما مفروغا عنه بين
الأئمة والشيعة بل العامة أيضا.
منها ما ورد في
المائعين المشتبهين كخبر سماعة عن الصادق (ع) «في رجل معه إناءان وقع في أحدهما
قذر ولا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيرهما قال (ع) «يهريقهما ويتمم».
وموثقة عمار عنه (ع)
«قال سئل عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر ولا يدري أيهما هو وليس
يقدر على ماء غيره قال (ع) يهريقهما جميعا ويتيمم». خصوصا مع فتوى الاصحاب بلا
خلاف بينهم على وجوب الاجتناب عن استعمالهما مطلقا وعن المعتبر نسبة عمل الاصحاب
إلى الخبرين. وعن المنتهى أن الاصحاب تلقتهما بالقبول. وعن المدارك أن رواية عمار
ضعيفة المستند بجماعة من الفطحية.
ومنها ما ورد في
الصلاة في الثوبين المشتبهين مثل مكاتبة صفوان
ابن يحيى ، أبا
الحسن (ع) «يسأله عن رجل معه ثوبان فأصاب أحدهما البول ولم يدر أيهما هو وحضرت
الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع قال (ع) يصلي فيهما جميعا».
ومنهما ما ورد في
وجوب غسل الثوب من الناحية التي يعلم باصابة بعضها للنجاسة معللا بقوله (ع) «حتى
يكون على يقين من طهارته». مثل الصحيح تغسل ثوبك من الناحية التي ترى أنه قد
أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك ، فان وجوب تحصيل اليقين بالطهارة على ما
يستفاد من التعليل يدل على عدم جريان اصالة الطهارة بعد العلم الاجمالي بالنجاسة
وهو الذي بني عليه وجوب الاحتياط في الشبهة المحصورة وعدم جواز الرجوع فيها إلى
اصالة الحل فانه لو جرى أصالة الطهارة وأصالة حل الصلاة في أحد المشتبهين لم يكن
للاحكام المذكورة وجه ولا للتعليل في الحكم الأخير بوجوب تحصيل اليقين بالطهارة.
ومنها ما دل على
بيع الذبائح المختلط ميتتها بمذكّاها من أهل الكتاب ففي صحيح الحلبي «إذا اختلط
المذكى بالميتة بيع ممن يستحل الميتة». فلو لم يحب الاحتياط في الشبهة المحصور لكان يجوز البيع ممن
يستحل وممن لا يستحل لا تخصيص الجواز بمن يستحل.
وقد يستأنس للقول
بوجوب الاحتياط في المقام بما ورد من وجوب القرعة في قطيع الغنم المعلوم إجمالا
وجود الموطوء فيه وهو الخبر المحكي عن جواب الإمام الجواد (ع) لسؤال يحيى بن أكثم
عن حكم القطيع المذكور. فإنه لو لم يجب الاحتياط لا تجب القرعة لتعين الموطوء
منها.
قلنا هذه موارد
خاصة قام الدليل على وجوب الاحتياط فيها ويكون
الدليل عليها نظير
الاجماع الذي قام على وجوب إتيان القصر والتمام والجمعة والظهر عند العلم الاجمالي
بوجوب أحدهما. هذا مضافا إلى أن ما ورد في الماءين المشتبهين يدل على عدم اقتضاء
العلم الاجمالي لحرمة المخالفة القطعية على عكس المدعى لانه يعلم اجمالا بحرمة ترك
الوضوء باحدهما باراقة الماء.
والحاصل أن
الإهراق للماءين ليس تقتضيه القاعدة لو تمت هنا بل يدل على عدمها لأنه يمكن أن
يتوضأ بأحد الإنائين ويتطهر بالآخر ثم يتوضأ بالآخر ويتطهر بالأول فإنه يقطع بزوال
الحدث لأنه إن كان الأول ماء طاهرا كان وضوئه صحيحا وإن كان الأول نجسا فالماء
الآخر قد تطهر به ووضوؤه يكون صحيحا ويتعارض استصحاب طهارة بدنه عند تطهيره بالماء
الطاهر منهما باستصحاب نجاسة بدنه عند إصابة بدنه بالنجس منهما فيتساقطان ونرجع
الى أصالة طهارة بدنه فتصح منه الصلاة ، وظاهر جواب الامام (ع) الأمر بالتيمم
وبالاهراق سواء كان الاناءان يكفيان للوضوء والتطهير أو للوضوء فقط. أو يصلي
بصلاتين بالوضوء بكل واحد منهما غاية الأمر بعد الصلاة بهما يتطهر عند ما يجد
الماء للعلم التفصيلي بنجاسة بدنه ليس ازالة النجاسة فورية فالذي اشتمل عليه النص
حكم تعبدي للتسهيل على المكلفين فلا يكون دليلا للمدعي بل المورد من قبيل
المتزاحمين بين وجوب الاجتناب عن النجس والصلاة وبين حرمة ترك الوضوء للصلاة فيكون
المورد من دوران الأمريين المحذورين أما الصلاة بلا طهارة حدثيّة بالماء أو بلا
طهارة خبثية والامام قدم الطهارة الخبثية عن الحدثية بالماء لوجود البدل للطهارة
الحدثية بالماء وهو التيمم للتسهيل على المكلفين فلا بد من عمل بهذه الرواية يلتزم
بأنها حكم تعبدي محظ وليس من جهة كون الشبهة
المحصورة تقتضي
حرمة المخالفة القطعية اذ في العمل المذكور أيضا مخالفة قطعية حيث تيمم مع تمكنه
من أن يتطهر بالماء الطاهر منهما بالوجهين المذكورين.
نعم هذا الخبر يدل
على عدم جريان أصالة الطهارة أو استصحابها مع العلم الاجمالي بالنجاسة في هذا
المورد ولعله من جهة أن المورد مورد قاعدة الطهارة لأنه ليس ما يدل على سبق اليقين
بالطهارة فيها دون الاستصحاب لعدم اتصال زمان الشك بزمان اليقين وقاعدة الطهارة لا
تجري لأنها مغياة بالعلم بالنجاسة الذي هو أعم من الإجمالي والتفصيلي بخلاف
الاستصحاب فان ولو سلم فهو حكم في مورد خاص ملغيا بالعلم التفصيلي كما قرر في
محله.
وأما ما ورد في
الثوبين المشتبهين فكذلك غير دال على القاعدة بل يدل على عدم جريانها لأن الصلاة
بالثوب المعلوم النجاسة تحرم فصلاته فيهما يحصل بها العلم التفصيلي بالصلاة بالثوب
المحرم فلو كان العلم الاجمالي يقتضي الاشتغال لكان الامام (ع) يأمره باجتنابهما
والصلاة عاريا إذا لم يجد غيرهما تجنب الثوبين لا ارتكابهما.
وإن شئت قلت إن
الكلام في ما يثبت به القاعدة ويمنع من إجراء أصل البراءة في الاطراف والخبر
المذكور لا يمنع من ذلك وإنما يلزم بإتيان الصلاة بهما وهو لا يمنع من جواز
استعمالهما الذي هو مقتضى أصل البراءة وبعبارة أخرى محل كلامنا ثبوت ما يعارض كل
شيء حلال ونحوه في أطراف الشبهة المحصورة.
نعم هذا الخبر يدل
على عدم جريان أصالة الطهارة أو استصحابها مع العلم الاجمالي بالنجاسة في هذا
المورد بخصوصه والكلام فيه هو الكلام فيما تقدمه.
وأما ما ورد في
وجوب غسل الثوب ففيه أن وجوب غسله ليس نفسيا بل غيريا للصلاة معه وهو ساتر ليس معه
ساتر ويشترط فيه الطهارة فمع عدم غسل مما يرى فيه النجاسة يعلم تفصيلا أنه صلى
بثوب نجس ولو غسل بعض يعلم بواسطة الاستصحاب أنه صلى بساتر نجس فلا مناص له من غسل
تمام الناحية على ان الخبر يدل على غسل خصوص ما رأى النجاسة فيه لا ما علم اجمالا
نجاسته.
وأما ما دل على
بيع الذبائح المختلطة فيه انه بظاهره مخالف للاجماع والعمومات الدالة على حرمة بيع
الميتة ولو سلم فهو يدل على جواز بيع الحلال المشتبه بالحرام وهو مساوق لجواز
استعمال أحدهما فلا يدل على وجوب الاجتناب فتأمل.
ولو سلم فهو حكم
تعبدي ثبت في مورد خاص لا يتعدى عنه إلى غيره.
وأما مسألة القرعة
فيمكن أن يقال بدلالته على عدم وجوب الاشتغال اذ لو كان واجبا لوجب تجنب الجميع
مضافا إلّا امكان القول بدلالته على استحباب القرعة وعليه فيدل على البراءة على
أنه لو دل على وجوب القرعة فهو إنما يدل على تميز الحرام عما عداه بطريق القرعة
بخصوصية في المورد كالبينة أو يد المسلم على بعضها كما أنه يمكن أن يكون من باب
مجاراة الخصم الذي يريد أن يمتحن الامام (ع) في معرفة المحرم وكان بناءه على
الاحتياط في الشبهة وكثير من الأجوبة من الأئمة (عليهمالسلام) التي كانت في مقام امتحانهم يراعون فيها معرفة السائل
بكون السؤال امتحانيا.
وأما المقام
الثاني : وهو وجوب الموافقة القطعية بأن يأتي بجميع أطراف العلم الاجمالي في
الشبهة الوجوبية ويترك جميعها في التحريمية
وهل أن العلم
الاجمالي علة تامة لها بحيث يمتنع ورود ترخيص من الشارع في عدمها. أو أن العلم
الاجمالي مقتضي لها بمعنى أن العقل يحكم بوجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي لو
خلي ونفسه إلا أنه لا يمنع من صدور ترخيص من الشارع في عدمها بأن يأذن الشارع بارتكاب
ما عدا مقدار المعلوم بالإجمال من أطراف العلم الاجمالي ، هذا بناء على ما أختاره
المشهور في المقام الأول من حرمة المخالفة القطعية نظرا لوجود المقتضي وهو عموم
الدليل الدال على الحكم الواقعي لصورة العلم الاجمالي الدال على تعلق غرض المولى
بترك أحدهما في الشبهة التحريمية وفعل أحدهما في الوجوبية والعلم بمتعلق غرض
المولى من العبد موجب لوجوب تحصيله وأما عدم المانع فلعدم الدليل على جواز
الارتكاب لأطراف الشبهة المحصورة لعدم شمول ما دل على الاباحة والحلية والرفع
والحجب لاطرافها فهو في كمال الوضوح.
وأما بناء على ما
قويناه وقواه الاستاذ الجليل المحقق المدقق احمد بن الحسين من فقد المقتضي باعتبار
أن مجرد العموم لا يوجب التنجز واستحقاق العقاب في الظاهر من جهة الشك في الموضوع
ووجود المانع على تقدير وجود المقتضي لشمول أدلة حلية المشكوك وحديث الرفع (لما لا
يعلمون) لاطراف الشبهة فيسقط هذا المقام.
حيث بناء عليه لا
تجب الموافقة القطعية. ثم إن المتجه الغاء تعدد العنوانين في هذا المبحث أعني مبحث
العلم الاجمالي فلا ينبغي أن يجعل البحث فيه تارة في حرمة المخالفة القطعية وتارة
في وجوب الموافقة القطعية له بل ينبغي أن يجعل البحث فيه واحدا لأنه بناء على
منجزه العلم الاجمالي تحرم المخالفة وتجب الموافقة القطعية لعدم الفرق بين الاطراف
، وبناء على عدم المنجزية لا تحرم المخالفة القطعية ولا تجب
الموافقة. فالأولى
ان يجعل البحث في الشبهة المحصورة في عنوان واحد وهو منجزية العلم الاجمالي وذكر الاقوال
وبيان الحجج والمناقشات فيه كما صنعه من تقدم على الشيخ الانصاري (ره).
وكيف كان فقد نقل
عن جماعة عدم وجوب الموافقة القطعية منهم المحدث المجلسي والمحقق الاردبيلي
والفاضل السبزواري وصاحب المدارك والمحقق القمي (ره) والفاضل النراقي ونسبه إلى
ظاهر النافع والارشاد وابن طاوس ، وحكي عن الشيخ في النهاية ، وعن القاضي في مسألة
اشتباه السمك الذي مات في الماء بغيره.
إن قلت لا فرق في
وجوب الاحتياط بين خطاب المولى بأن يقول : «اجتنب عن الخمر المردد بين الإناءين»
وبين أدلة حرمة الخمر إلا العموم والخصوص كما استدل بذلك الشيخ الانصاري (ره) قلنا أن الاول نص
في وجوب الاحتياط وإن غرض المولى عدم تحقق ارتكاب الخمر في الخارج رأسا علم به
المكلف أم لم يعلم بخلاف الثاني ، وبعبارة أخرى أنه في الخطاب الاول بالنسبة لكل
طرف يكون شكلا ، أولا فيقال هذا إناء مردد الخمر بينه وبين الاناء الآخر وكل إناء
مردد الخمر بينه وبين غيره من إناء آخر يجب الاجتناب عنه فهذا يجب الاجتناب عنه
بخلاف الخطاب الثاني ، فإن الصغرى فيه غير محرزة بالنسبة لكل طرف من أطراف الشبهة.
إن قلت إن
الاشتغال اليقيني بما علم به إجمالا قد تحقق بواسطة العلم وهو يقتضي الفراغ اليقيني
ولا يتحقق الفراغ اليقيني إلا بالموافقة القطعية.
قلنا هذا متجه بعد
تسليم المقتضي وهو اشتغال الذمة بالمعلوم بالاجمال في الشبهة المحصورة بنحو
التنجيز واستحقاق العقاب على مخالفته
مع عدم صدور أمن
من الشارع في ارتكاب الاطراف أما مع إنكار المقتضي المذكور أو دعوى صدور الأمن من
الشارع بواسطة شمول أدلة البراءة للاطراف ونحوها فلا يتجه ذلك.
إن قلت إن أصل
البراءة في أطراف الشبهة المحصورة متعارضة وقد تقرر في محله إن الحكم في تعارض
الاصول إذا لم يكن أحدها حاكما هو التساقط ، وعليه فلا مبرر لارتكاب أحدها ويتعين
الاحتياط قلنا إن مقتضى القاعدة في تنافي الأدلة الاجتهادية أو الفقاهتية هو
التخيير إذا كان دليل حجيتها يشمل لحال تخالفها وتنافيها على وجه يعلم بأن الشارع
يريد العمل بمؤداها كما في إنقاذ الغريقين حيث لا قصور فيه من جهة المقتضي وإنما
القصور من جانب العبد حيث لا يتمكن من العمل بهما جميعا ولا يمكنه ترك العمل بهما
جميعا لمكان العلم بأن إنقاذهما مطلوب للشارع فيحكم العقل حينئذ بالتخيير من باب
الاضطرار ومن هذا الباب تعارض الخبرين بناء على الموضوعية والسببية بل على
الطريقية أيضا وأما لو كان القصور من جانب المقتضي بأن لم يشمل دليلها لحال
التنافي فمقتضى القاعدة التساقط لعدم الدليل عليها في هذه الحال أعني حال التعارض.
ومن هذا الباب كل
أصل أو أمارة كان اعتبارهما من باب الظن الفعلي كالشهرتين والاستقراءين ونحوهما
لانتفاء مناط الحجية فيهما.
إذا عرفت هذا ظهر
لك الحال من أن أصل البراءة في أطراف العلم الاجمالي يتساقط إذا قلنا بأن العلم
الذي جعل غاية في دليل أصل البراءة يشمل التفصيلي والاجمالي حيث لا يشمل دليلها
لحال التعارض لحصول الغاية وهو العلم الاجمالي ويرتفع موضوع أصل البراءة في
الاطراف فلا يكون أصل البراءة في شيء منها حجة فيتساقط ، وأما
إذا قلنا بأن
الغاية في دليل أصل البراءة هو العلم التفصيلي فلا يتساقط أصل البراءة في أطراف
العلم الاجمالي ويعمل بالأصل المذكور فيها لشمول دليله لها ولا تعارض فيها ، وقد
تقدم بيان وجه عدم التعارض عن قريب من أن حاصله أن دليل الأصل إنما يثبت وجوب العمل
بمؤداه ولا يدل على ثبوت لوازمه العقلية كنفي الآخر فلا يدل على بطلان العمل بمؤدى
الآخر إلا بناء على حجية الاصل المثبت بخلاف دليل الأمارة فإنه يدل على حجيتها في
مؤداها ونفي لوازمه لأن الامارة يثبت بها لوازمها فتدل على بطلان مؤدي الأخرى
وتكون حجة فيه.
(شروط أصالة
الاشتغال):
ثم ان العقل انما
يحكم بالموافقة القطعية للعلم الاجمالي عند من يقول بوجوبها بشروط : ـ
أحدها : أن يكون
كل واحد من أطراف العلم الاجمالي بحيث لو فرض القطع بثبوت موضوع التكليف فيه كان
التكليف منجزا بسببه فلو لم يكن كذلك كما لو علم بالاضطرار إلى غير المعين منهما
وجب عليه اجتناب أحدهما لأنه لم يضطر للحرام فيكون الحرام منجزا عليه لكن لما كان
اجتناب هذا الحرام المنجز عليه لا يمكن إلا بترك أحدهما مع ارتكاب الآخر للاضطرار
إلى أحدهما الغير المعين تعين عليه الموافقة الاحتمالية.
ثانيها : أن لا
يكون مؤمن من مخالفته للعلم الاجمالي في أحد أطرافه فلو فرض وجود المؤمن كأن قامت
إمارة أو أصل معتبر في أحد الاطراف بلا معارض على جواز المخالفة مثل ما لو علم
إجمالا بوجوب صلاة الظهر أو الجمعة وقامت الأمارة أو الأصل على عدم
وجوب الجمعة مثلا
فإنه يجوز ترك الجمعة وكما لو علم بغصبية أحد الإناءين وقامت الامارة على عدم
غصبية أحدهما بعينه ولا تجوز في هذه الصورة المخالفة القطعية للعلم بحدوث التكليف
غاية الأمر الشارع قد رخص في ارتكاب أحد محتملاته لوجود العذر عن المخالفة.
قد يقال إن هذا
يقتضي عدم كون العلم الاجمالي علة تامة للموافقة القطعية وإلّا لما انفكت عنه كما
لا تنفك عن العلم التفصيلي وإذا لم يكن علة تامة للموافقة القطعية جاز تخلفها عن
العلم الإجمالي وعليه لا بد من إثباتها للعلم الاجمالي بدليل خاص وحيث لا دليل
عندنا فالأصل براءة الذمة من الموافقة القطعية في كل علم إجمالي.
نعم هو علة تامة
لحرمة المخالفة القطعية لتحقق العصيان بها.
وجوابه أن من يقول
بمنجزية العلم الاجمالي للتكليف يذهب إلى أن العلم الاجمالي علة تامة بالنسبة
لحرمة المخالفة القطعية لكونها يحصل بها العصيان للمولى فلو ورد دليل على جوازها
لزم طرحه أو تأويله لتنجز التكليف به لأن التكليف قد علم بشروطه وإنما الشك كان في
المكلف به لا بالتكليف كما لو علم بالتفصيل التكليف ولكنه بالنسبة إلى الموافقة
القطعية يكون مقتضى تام لها بمعنى أنه لو خلي وطبعه تلزم موافقته القطعية إذا لم
يرد دليل على جواز ارتكاب بعض الاطراف فلو ورد دليل أخذ به لأن إطاعة أمر المولى
وامتثاله وكيفياتها بيد المولى فله أن يرضى بالبدل كما في التيمم أو الاكتفاء ببعض
المحتملات كما في اشتباه القبلة وعليه فمقتضى الأصل هو الاطاعة القطعية لا براءة
الذمة من التكلف ولا يعدل لبدلها أو الاقتصار على بعض المحتملات إلا بالدليل ، هذا
على مسلك من يقول بمنجزية العلم الاجمالي.
ثالثها : أن تكون
أطراف العلم الاجمالي محصورة فلو كانت أطراف
العلم الاجمالي
غير محصورة بأن تبلغ الاطراف من الكثرة بحيث لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي
الحاصل فيها بأن يكون احتمال المعلوم بالاجمال في الاطراف ضعيف جدا كما لو احتمل
أن قطرة بول وقعت في أحد أجزاء أرض داره الواسعة فلا تجب الموافقة القطعية للضرورة
الدينية على ذلك كما عن بعض المتأخرين ولدعوى الاجماع عن الروض وجامع المقاصد
وللزوم الحرج في الموافقة بل للاطمئنان بعدم المعلوم بالاجمال في الاطراف لغرض ضعف
احتماله في كل منها فيجوز الارتكاب لها الى أن يبقى منها مقدار الحرام لحرمة
المخالفة القطعية كما ذهب اليه بعض المتأخرين أو ارتكاب جميع أطرافها كما هو ظاهر
الكثير من المتقدمين.
وأما لو كانت
الاطراف تبلغ من المقدار بحيث يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها لقلة
الاطراف أو لكثرة المعلوم بالاجمال فيها بحيث يكون من شبهة الكثير في الكثير كأن
علم بغصبية الف ثوب في أربعة آلاف من الثياب وجب عليه الاجتناب لاعتناء العقلاء
بالعلم الاجمالي الحاصل فيها وتحقيق الحال يطلب مما حررناه في كتبنا الأصولية.
رابعها : ان تكون
أطراف العلم الاجمالي دفعية لا تدريجية لأن التدريج يمنع من توجه الخطاب بالامر
المستقبل لعدم صحة الخطاب بالواقعة المستقبلة فلا يكون الخطاب منجزا بالنسبة اليه
، وعليه فتكون الواقعة الفعلية مشكوكة التكليف بالشك البدوي كما لو كانت زوجته
مضطربة الوقت بان كانت تعلم بأنها تحيض في الشهر ثلاثة أيام فهل يجب عليها اجتناب
زوجها في الشهر كله؟ وهل عليها ترك دخول المساجد وقراءة العزائم؟ وكما لو علم تاجر
بابتلائه بمعاملة ربوية في
شهره أو يومه فهل
عليه اجتناب سائر المعاملات التي لا يعرف حكمها في ذلك الشهر؟ او اليوم ، كما لو
نذر ترك وطء زوجته في ليلة واشتبه في تلك الليلة بأيام الأسبوع أو الشهر. فهل عليه
اجتناب وطئها في ذلك الاسبوع أو ذلك الشهر ، فالقائل بعدم وجوب الاجتناب يجوز
المخالفة القطعية. ففي المثال الاول يستصحب الطهر إلى أن تبقى ثلاثة أيام من الشهر
فيجري أصالة الحل لعدم جريان الاستصحاب ويجري في كل معاملة في المثال الثاني أصالة
إباحة المعاملة مع أصالة الفساد فيها فكل معاملة يشكل فيها يجري أصالة إباحتها
لكنه لا يترتب الأثر عليها وقد أشكل بعضهم على ذلك بأن من يقول بمنجزية العلم
الاجمالي لا يسلم عدم جواز الخطاب بالأمر الاستقبالي ولو سلم فهو يدعي استقلال
العقل بالاحتياط وان لم يتنجز في وقت واحد لئلا يقع في المخالفة القطعية.
وفيه أنه مع عدم
تجويز الخطاب بالأمر المستقبل لا علم اجمالي بالتكليف المنجز ولا مخالفة قطعية له.
نعم إذا جوزنا ذلك وكان التكليف من هذا القبيل وكان التدرج غير موجب للخروج عن
الابتلاء وعليه فلا ينبغي أن يفرق بين الاطراف التدريجية والدفعية ، نعم عليه أن
يفرق في التدريجية بين ما كان الخطاب بالفرد اللاحق مطلقا فعلا وبين ما كان مشروطا
كما فرق بعضهم بين ما إذا علم بحيضية زوجته ثلاثة أيام فإن الاجتناب مشروط بالحيض
أو نذر ترك وطئها ثلاثة أيام فإن الاجتناب غير مشروط بشيء واشتبهت تلك الثلاثة بين
أيام الشهر أو علم أن إحدى المعاملات التي يبتلى بها هذا اليوم ربويه فإن الاجتناب
عنها غير مشروط بشيء فمنع من الاحتياط في الاول وحكم به في الأخيرين. وقد يورد
عليه بعدم الفرق بينهما ويمكن الفرق بينهما بأن الحيض عنوان للمكلف به وموضوع له
ومن المعلوم أن الخطاب لا يتوجه مع عدم تحقق موضوعه بخلاف مسألة المعاملة والنذر
ففي مسألة الحيض يستصحب الطهر إلى أن يعلم نقض الحالة
السابقة وفي مسألة
النذر يرجع الى اصالة إباحة الوطء وفي مسألة المعاملة يرجع إلى اصالة الفساد.
دوران الامر بين
الاقل والاكثر :
أما الكلام فيما
دار الأمر بين الأقل والأكثر بأن تردد العمل المكلف به بينهما على نحو يكون الشك
في كلفة زائدة على الأقل بحيث لو كان الأقل هو الواجب واقعا لم يضر إتيان هذه
الزيادة معه كما لو شك في جزئية الاستعاذة للصلاة وأما لو تردد العمل بينهما لا
على هذا النحو بأن كان اتيان الزيادة مضرا ومبطلا للواجب لو كان الواجب هو الأقل
كما لو تردد الواجب بين القصر والتمام والجمعة والظهر فهو خارج عن محل البحث ولا
يسمى بدوران الأمر بين الأقل والأكثر ويكون داخلا في دوران الامر بين المتباينين.
والحاصل أن
الزيادة إذا أحتمل ابطالها للواجب وافسادها له أو قطع بذلك كان المقام من قبيل
دوران الأمر بين المتباينين ومتى لم يحتمل فيها ذلك وإنما يحتمل فيها الوجوب فقط
كان من دوران الامر بين الأقل والأكثر ثم الكلام في هذا الفصل يتصور على قسمين : ـ
أحدهما : ما تكون
صحة الأقل منوطة بضم الأكثر لو كان الواجب في الواقع هو نفس الأكثر كما لو تردد
العمل المكلف به بين الصلاة مع الاستعاذة أو بدونها فإنه على تقدير وجوب الصلاة مع
الاستعاذة في الواقع تكون الصلاة بدون الاستعاذة باطلة ويسمى هذا القسم بالأقل
والأكثر الارتباطيين لأن أكثرية الاكثر من الأقل كانت بمدخلية الأقل فيه.
ثانيهما : بعكس
ذلك بمعنى أن لا تكون صحة الأقل منوطة
بصحة الأكثر ولو
فرض أن الأكثر هو الواجب في الواقع كما لو تردد الدين بين عشرة دنانير أو ثمانية
ويسمى هذا القسم بالأقل والأكثر الاستقلاليين ولا ريب في جريان أصالة البراءة في
هذا القسم الثاني في الزائد على الاقل لأنه شك في التكليف به ومن هذا الباب ما لا
شك في عدد أيام الصيام الفائتة منه أو عدد الصلاة الفائتة منه.
أما القسم الاول
فالحق أن العلم الاجمالي فيه ينحل إلى علم تفصيلي بالمكلف به وشك بدوي في التكليف
بالأكثر وهو يتصور على صورتين :
أحدهما : أن يكون
الشك في أجزاء المركب أو شروطه أو قيوده مثل أن يعلم بأن المطلوب منه هو الصلاة
ولكنه يشك في جزئية الاستعاذة لها أو شرطية الطهارة لها أو بقيد كونها في المسجد.
ثانيهما : أن يكون
الشك في تعيين الواجب أو التخيير بينه وبين غيره مثل ما لو علم اجمالا أما بوجوب
تقليد الاعلم عليه أو أنه مخير بين تقليده وبين تقليد غير الاعلم ومثل ما لو علم
بوجوب الظهر عليه أو أنه مخير بينها وبين الجمعة ونحو ذلك فإنه في الصورة الاولى
ينحل العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في الزائد عليه فيجب
اتيان بالأقل للعلم التفصيلي به ويجري أصل البراءة في الكلفة الزائدة عليه حتى لو
كان الشك شكا في تقييد المطلق كما لو شك في أنه مكلف بالرقبة مطلقا أو خصوص
المؤمنة فينفي الكلفة الزائدة بالإيمان في الرقبة بالبراءة فينحل الخطاب المعلوم
بالاجمال إلى خطاب معلوم بالتفصيل بالأقل وخطاب مشكوك بالأكثر ولو سلمنا عدم
الانحلال الخطابي فيكفينا الانحلال العقابي لاستقلال العقل بقبح مؤاخذة المولى
عبده بأكثر لم يبين له إلا الأقل منه لأنها
مؤاخذة بلا برهان
وعقاب على شيء بلا برهان والوجدان شاهد على أن سيرة العقلاء على ذلك.
وفي الصورة
الثانية قد ذهب الكثير إلى أن العلم الاجمالي ينحل إلى علم تفصيلي بوجوب المعين
وهو تقليد الاعلم وصلاة الظهر في المثالين المذكورين وشك بدوي في صحة الآخر والاصل
عدم براءة الذمة به فتكون قاعدة الاشتغال تقتضي إتيان محتمل التعيين وعدم الاجتزاء
بالآخر.
ولا يخفى ما فيه
لأنا نشك في الكلفة الزائدة في محتمل التعيين منهما نظير الصورة الاولى ، فإن أصل
البراءة في الشك في الوجوب للشيء المعين وإن سلمنا إنه يعارضه أصل البراءة في
الوجوب المخير فيتساقطان ويبقى العلم الاجمالي بالتكليف المردد بينهما على حاله
إلا أن الكلفة الزائدة بتعيين محتمل التعيين لما كانت مشكوكة جرى فيها أصالة قبح
العقاب بلا بيان بلا معارض.
وكيف كان فقد أورد
على انحلال العلم الاجمالي إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في وجوب الأكثر
بوجوب البراءة منه بإيرادات عديدة : ـ
الايراد الأول :
منع العلم التفصيلي بالأقل ومنع الانحلال في رفع تنجز الخطاب بالاكثر لأن العلم
التفصيلي بفعلية التكليف بالأقل إنما يتحقق لو كان التكليف بالأقل ثابت على سائر
التقادير سواء كان متعلقا بالاقل أو الاكثر وإلا لم يكن التكليف بالأقل معلوما
بالتفصيل لأنه لو كان التكليف على تقدير تعلقه بالأكثر مشكوكا يرفع بأصل البراءة
ارتفع العلم التفصيلي بوجوب الأقل ضرورة ارتفاع الشيء بارتفاع علته لأن علة وجوب
الاقل على أحد التقادير هو وجوب
الاكثر فيلزم من
العلم التفصيلي بوجوب الأقل ارتفاع نفس هذا العلم التفصيلي بوجوب الأقل وهو باطل ،
لأنه يكون من قبيل ما يلزم من وجوده عدمه وبتعبير آخر يلزم أن يكون الانحلال الذي
يوجب كون التكليف بالاكثر مشكوكا بدويا يرفع نفسه أيضا إذ به يرتفع العلم التفصيلي
بالأقل فيرتفع الانحلال وما يلزم من وجوده عدمه باطل.
وإن شئت قلت إن
الاتيان بالأقل على تقدير وجوب الأكثر في الواقع ليس بواجب لا أصالة ولا تبعا إذ
الأقل المطلوب تبعا هو الذي انضم إليه باقي أجزاء الأكثر اذ المفروض إناطة صحة
الأقل بانضمام الأكثر وارتباطه به عليه فكيف يحصل العلم ببراءة الذمة من التكليف
اليقيني المفروض بمجرد الإتيان بالأقل الذي لم يعلم إنه الواجب المعلوم بالاجمال.
وأجاب عنه أستاذي
الشيخ كاظم الشيرازي أعلى الله مقامه بأن ذلك إنما يلزم لو كان اثر الانحلال رفع
التكليف بالأكثر مطلقا أما لو كان أثر الانحلال رفع التكليف في الأكثر بالنسبة
للجهة المشكوكة فلا يلزم ذلك فإن العقل إنما يستقل برفع العقاب عن الأكثر لو استند
تركه إلى ترك الجزء المشكوك لأنه هو الذي يوجب أن يكون عقابه بلا بيان وأما العقاب
على ترك الأكثر المستند إلى ترك الجزء المعلوم أو إلى ترك جميع الاجزاء للأقل
والأكثر فهو عقاب مع البيان.
ثم أورد على نفسه
بتوضيح منا وتنقيح بأنه لو ارتفعت فعلية الخطاب بالأكثر من بعض الجهات يرتفع
التكليف به إذ لا يحتمل التجزؤ في مطلوبية الأكثر فلو ارتفع الخطاب عن الاكثر
بمعنى إنه لم يتنجز الخطاب بالنسبة لجزئه المشكوك فيه لم يعقل أن يبقى الخطاب
بباقي أجزائه
لوحدة المطلوب وارتباط اجزائه لما عرفت من أن فرض الكلام في الأقل والأكثر
الارتباطيين وإلا لكان من الأقل والاكثر الاستقلاليين وأجاب (ره) بتوضيح وتنقيح منا وله المنة والفضل علينا عن
الايراد المذكور بأن البراءة ورفع الفعلية ليس فيها تصرفا في الواقع ولا في مدلول
الدليل الواقعي حتى يدعي الخصم أنه لا يحتمل التفكيك في الاجزاء. للاكثر وإنما
البراءة تصرف في استحقاق العقاب وهو قابل للتفكيك وفي المقام لما كان الترك للاكثر
بترك جميع الاجزاء يعلم باستحقاق العقاب عليه لم يجوزه العقل لأنه عقاب مع العلم
والبيان وهكذا ترك الأكثر بترك خصوص الأجزاء المعلومة يعلم باستحقاق العقاب عليه
لم يجوزه العقل لأنه عقاب مع العلم والبيان.
نعم ترك الأكثر
بترك الاجزاء المشكوكة لم يعلم باستحقاق العقاب عليه للشك في وجوبها فلذا حكم
العقل بجوازه لأن العقاب عليه عقاب بلا بيان.
والحاصل أن الكلام
هنا في مقامين.
أحدهما : في وجوب
الأقل.
والثاني : في عدم
وجوب الزائد عليه بوجوب الأكثر منه.
أما الأول : فلا
إشكال فيه لأنه بتركه يستحق العقاب لا محالة إذ لو كان الواجب هو الأقل فقد تركه
ولو كان الواجب هو الاكثر فقد تركه بتركه للأقل.
وأما الثاني :
فلأن أصل البراءة جاري فيه إذ لا يعلم ان بتركه يترك الواجب إذ لعل الواجب هو
الأقل وقد أنى به ، فأصل البراءة بالنسبة للعقاب جاري في المقام.
الايراد الثاني :
ـ المنع من تأثير هذا الانحلال لأن العلم التفصيلي
بالتكليف في بعض
أطراف العلم الاجمالي إنما يوجب تنجز التكليف به والشك البدوي في الآخر لو كان قبل
العلم الاجمالي أو مقارنا له ولذا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين إجمالا ثم
علمنا بعد ذلك بوقوع قطرة بول في أحدهما المعين تفصيلا فان هذا العلم التفصيلي لا
ينجز التكليف المعلوم بالاجمال في هذا الفرد المعين وإلا لم يكن محل لأمر الامام (ع)
بإراقة الإناءين والتيمم وكان عليه أن يأمر بتنجيس أحدهما بعينه والوضوء من الآخر
، وما نحن فيه من قبيل الثاني لأن العلم التفصيلي معلول للعلم الاجمالي فيتأخر عنه
طبعا وعليه فلا يكون. موجبا لانحلاله.
والجواب بأن العلم
التفصيلي الذي لا يوجب الانحلال هو العلم التفصيلي الذي لا يمنع من شمول أدلة
الأصول للأطراف حيث إذ ذلك تبقى الاصول متعارضة فيها.
وأما العلم
التفصيلي المانع من دخول أحد الاطراف تحت أدلة الاصول فيوجب الانحلال حيث يعلم
بالعلم التفصيلي وجود التكليف به ويجري الأصل في الآخر بلا معارض.
وفيما نحن فيه كان
الأمر كذلك لأن العلم التفصيلي بالأقل كان ملازما للعلم الإجمالي وإنما هو متأخر
عنه طبعا لا خارجا فأوجب هذا العلم التفصيلي عدم كون الأقل مشكوكا في زمان حتى
يكون داخلا تحت دليل الأصل فلا يجري فيه الأصل حتى يعارض الأصل في الآخر.
وعليه فيجري الأصل
في الآخر بلا معارض نعم لو كان متأخرا عنه زمانا كان الأصل يجري في الأطراف
ويتعارض فيتساقط ويرجع للاحتياط.
الايراد الثالث :
وهو يرجع إلى أن المتعلق في المقام بسيط غير مركب من أقل وأكثر. وهو الفعل الذي
يكون لطفا في الواجب العقلي لما عليه المشهور بين العدلية من أن الواجبات الشرعية
الطاف في الواجبات العقلية فيكون الواجب هو الفعل المتصل بعنوان اللطفية. وإن شئت قلت إن
الواجب الشرعي في الواقع هو الفعل المتصف بالمصلحة الملزمة عقلا لما عليه العدلية
من تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد فيكون الشك في المقام شكا فيما يتحقق به الواجب
ويحصله كما لو علمنا بأن المطلوب إزالة النجاسة وشككنا في أن الازالة تحصل وتتحقق
بغسلة واحدة أو أكثر ونحو ذلك مما كان الشك فيما يتحصل به المفهوم المبين ويتحقق
به فانه يجب الاحتياط للعلم باشتغال الذمة بالمفهوم المبين المعلوم بالتفصيل والشك
في ما يحصله ويحققه والاشتغال اليقيني يقتضي البراءة اليقينية وإن شئت قلت أن
الواجب يكون هو اللطف لأنه يكون هو المطلوب حقيقة لا الاقل ولا الأكثر فيجب تحصيل
اليقين بالفراغ منه وهو لا يحصل إلا بالاتيان بالأكثر.
وجوابه المنع من
اقتضاء قواعد العدلية كون المصلحة عنوانا وموضوعا للواجب وإنما هي جهة باعثة
للوجوب نظير الفائدة والغرض والغاية من العمل فإنما تبعث نحو العمل وليست تعنونه ،
وفي مقام الإطاعة ليس العقل يلزم إلا بما جعله الآمر متعلقا لحكمه لأن العقل يحكم
بأن الغرض للمولى والمصلحة قائمة بما جعله المولى متعلقا للتكليف إذ لو كان غيره لبينه
وإلا لزم تفويته على العبد وحيث ثبت إن متعلق التكليف هو الأقل لا غيره كان الأقل
هو المحصل للمصلحة والغرض وإن شئت قلت إن التكليف يتعلق بمصداق ما فيه المصلحة لا
بعنوان ما فيه المصلحة فإن هذا العنوان انتزعه العقل بعد كمال التكليف نظير
عنوان المراد
والمطلوب للامر والصحيح ونحوها من العناوين فإنها لو سلم إنها عناوين لمتعلق
التكليف إلا أنه تنتزع له بعد كمال التكليف نظير عنوان الواجب. وعليه فيكون
الترديد في متعلق التكليف نفسه وليس الترديد في مصاديقه ومحققاته ومحصلاته ، سلمنا
لكن الشك في المحصل للعنوان إذا كان مما يخفى على الناس معرفته باجزائه تماما وجب
على المولى بيانه فإذا أقام الدليل على مجموع أمور تحصله جري أصل البراءة عما
عداها كما ذكروه في قصد الوجه!
على أن البناء على
كون متعلق التكليف عنوان المصلحة أو ما فيه المصلحة خروج عن محل النزاع وهو دوران
متعلق التكليف بين الأقل والأكثر ، وإذا فرض كون المتعلق هو العنوان المذكور لازمه
أن لا يكون المتعلق دائر بين الأقل والأكثر وانما هو العنوان الواحد ولذا ترى
الأشعري داخلا في النزاع مع كونه منكرا للمصلحة.
سلمنا لكن الجواب
عنه يكون هو الجواب عن الايراد الرابع الذي سيجيء إنشاء الله فيما يخص وضع
العبادات للصحيح أو الاعم هذا كله بناء على المشهور من مذهب العدلية من تبعية
الاحكام للمصالح والمفاسد القائمة في متعلقاتها وأما بناء على تبعية الأحكام
للمصالح والمفاسد القائمة بذات الأحكام كما هو الحال في الاحكام الوضعية كالملكية
والزوجية والرقية ونحوها فالأشكال غير وارد لأن الحكم موجود مع الأقل.
الايراد الرابع ،
ومرجعه أيضا إلى أن متعلق التكليف أمر بسيط والشك يكون في محصله وذلك لما تقرر في
مسألة الصحيح والأعم من أن الجامع بين العبادات الصحيحة لا يكون إلا أمرا بسيطا
حيث أن كل ما يفرض جامعا مركبا خارجيا يمكن أن تصح العبادة بدونه بل
يكون فاسدا
بالنسبة إلى طائفة وصحيحا بالنسبة إلى أخرى.
وعليه فالمأمور به
هو ذلك الجامع البسيط المنطبق على المصاديق الصحيحة الذي يكشف عن وجوده تحقق الأمر
الشرعي.
وعليه فيكون الشك
في قلة أجزاء الواجب وأكثريتها شك في محصل ذلك الأمر البسيط والقاعدة تقتضي
الإتيان بالاكثر لإحراز امتثال الواجب به دون الأقل لعدم إحراز الامتثال به ،
فالاشتغال اليقيني بنفس الواجب وذاته قد تحقق وهو يستدعي الفراغ اليقيني منه وهو
لا يكون إلا بإتيان الأكثر.
نعم لو قلنا بأن
العبادات موضوعة للمركب الصحيح وشك في جزئية شيء لها جرى أصل البراءة لأن التكليف
حينئذ يكون متعلقا بأمر مجمل مردد بين الأقل والأكثر لا بشيء معين مبين ولذا ذهبوا
إلى أن المولى إذا أمره بغسل ظاهر البدن وتردد في باطن الأذن بين كونه من ظاهر
البدن أو من باطنه رجع إلى أصل البراءة عن باطن الأذن وكما لو باعه الدار وتردد
الماء والكهرباء من الدار أم لا ، رجع إلى أصالة عدم الانتقال.
وجوابه أنا لو
سلمنا أن الواجب أمر بسيط في العبادات فلا نسلم أن مقتضى القاعدة هو الاحتياط فإن
المحصل للمأمور به البسيط إذا لم تكن بينة واضحة أجزائه وكان مما يخفى على عامة
الناس كان على المولى بيانه لحكم العقل لقبح إهمال البيان مع الحاجة إليه لا سيما
إذا كان الامر البسيط غير معلوم أو منتزع من الأمر بأشياء كما في أوامر العبادات
فإنه على القول بوضعها لأمر بسيط فإن ذلك البسيط لما لم يعرف بنفسه وإنما يستكشف
وجوده من تعلق الأمر فيكون تابعا لتحقق الأمر فإذا دل الدليل على عدم تعلق الأمر
بالأكثر كان البسيط المستكشف
هو المنتزع من
الأقل بطريق الآن ، وإن شئت قلت ان العقلاء في مثل هذا المنتزع البسيط إذا شكوا في
اعتبار تحقق محصلة بأكثر مما قام الدليل عليه لا يعتنون به مضافا لجريان أصل
البراءة العقابي لأن العقاب قطعا يتحقق بترك الأقل ويشك في تحققه بالنسبة إلى
الزائد عليه فالأصل عدم العقاب عليه لعدم البيان فيه.
وإن شئت قلت إنا
نشك في حرمة المخالفة للواجب بترك الجزء المشكوك فترفع بالأصل بخلاف حرمة المخالفة
له بترك الأقل وما عن بعض أعاظم الفن من ان الأمر البسيط اذا كان متدرج الحصول
كالنور الحاصل من ضم عدة شموع وكالطهارة حيث دلت الأخبار على أن كل جزء يطهر بوصول
الماء اليه كما في الصحيح «ما جرى عليه الماء فقد طهر». فإن أصل البراءة يجري عند
الشك في المحقق والمحصل له حيث أن مرجع الشك في الجزء إلى الشك في سعة ذلك الأمر
البسيط وضيفه وإلى الأقل منه أو الأكثر ، وعليه فلعل العبادات كلها من هذا القبيل
فليس عندنا علم باشتغال الذمة بأمر بسيط يحصل دفعة واحدة عند تحقق الجزء الأخير من
علته فهو فاسد. فإن البسيط من هذا القبيل يكون مركبا من عدة أجزاء منه كالماء فهو
ليس بسيط وإنما البسيط ما كان من النوع الثاني وهو ما كان يجعل عند الجزء الأخير
على أنه يرجع الأمر إلى الشك بين المتباينين للعلم الاجمالي بالواجب المردد
بينهما.
الايراد الخامس :
ـ ومرجعه الى أن الاشتغال بالاقل لا يرتفع إلّا بالاتيان بالاكثر وذلك لأن الامر
إنما يكون فعليا إذا كان مورده محصلا للغرض وإما إذا لم يكن محصلا مورده للغرض فلا
يكون إلا شأنيا فإذا شك في حصول الغرض من الأمر بإتيان الاقل فلا يعلم كون
الأمر فعليا
بالنسبة اليه ومعه لا يعلم بحصول الامتثال بالنسبة إلى الأمر الفعلي المنجز المعلوم
بالإجمال كما قبل في قصد للوجه للعبادة.
والجواب عنه هو
الجواب عن الرابع فان فعلية الأمر بالنسبة إلى العمل المحصل للغرض يكفي في العلم
بمطلوبية الأقل لأنه أما محصل له أو دخيل فيه وما زاد عليه يقبح من المولى عقابه
على تركه لعدم العلم بتعلق غرضه به.
الايراد السادس :
ـ ومرجعه أيضا إلى أن الاشتغال بالأقل لا يرتفع إلا بالإتيان بالأكثر وذلك إن
الأقل لا يعلم تعلق الأمر النفسي به والأمر الغيري غير قابل للتقرب به مع أن تعلقه
بالاقل غير معلوم لان الامر الغيري يتبع تنجز الأمر بذيه فيكون الأقل غير معلوم
كونه متعلقا لامر قابل للتقرب به فيجب الاتيان بالاكثر ولو مقدمة لتحصيل الامتثال
بالاقل.
وجوابه ان الإتيان
بالفعل فرارا عن عقاب المولى المعلوم ترتبه على ترك ذلك الفعل يكون وجها من وجوه
التقرب والعبادة. على أن الإتيان لاحتمال الامر النفسي يكفي في التقرب.
الايراد السابع :
ـ ومرجعه أيضا الى أن الاشتغال بالأقل لا يرتفع إلا بالاتيان بالاكثر وذلك لان
التكليف بالاقل المعلوم تنجزه مما يجب تحصيل البراءة عنه ولا تحصل البراءة عنه إلا
بعد إتيانه على وجه يحصل الامتثال بذلك الإتيان على كل تقدير ولما دار طلب الأقل
بين أن يكون نفسيا أو غيريا وجب الإتيان به على وجه يحصل الامتثال به بالنسبة إلى
الأمر الغيري أيضا لو كان موجودا ولا يكون ذلك إلا باتيانه في ضمن الأكثر.
وجوابه بأن
المقدار المعلوم من الطلب المتعلق بالاقل هو الطلب
الجامع بين النفسي
والغيري وهو يمتثل بمجرد فعل الأقل خوفا من العقاب المترتب على ترك الأقل. فوجوب
الاكثر وإن كان محتمل وجدانا إلا أنه نقطع بعدم العقاب على تركه بترك الجزء
المشكوك لقبح العقاب بلا بيان.
الايراد الثامن :
ـ إن الانحلال موقوف على وجوب المقدمات الداخلية بالوجوب المقدمي الغيري وهو
ممنوع.
وجوابه لو سلمنا
عدم وجوبها فيكفي في الانحلال سببية تركها للعقاب فيقال ترك الاقل سبب يقيني
للعقاب ولا يعلم سببية ترك الأكثر له.
الايراد التاسع :
ـ ان الشك في الجزء للعبادة شك في صدق لفظ العبادة على المأتي به فلا ينفع إجراء
أصل البراءة فيه لعدم إحراز تحقق العبادة بدونه.
وجوابه أن محل
الكلام في الجزء الغير المقوم للمسمى بحيث تصدق العبادة بدونه ، قال المرحوم الشيخ
عبد الحسين الكاظمى في حاشيته «أن الظاهر أن من تتبع كلمات الأصحاب في هذا الباب
يشرف على القطع بما ذكرناه» ويخطر بالبال أن ممن صرح بذلك المحقق القمي (ره).
الايراد العاشر :
ـ هو عدم تأثير الانحلال لانه به يحدث علم إجمالي بين امرين متباينين فيجب
الاحتياط ويقرر ذلك بوجوه : ـ
أحدها أنه لو ترك
السورة المشكوكة مثلا ودخل في الركوع يحدث عنده علم إجمالي أما بوجوب الاتمام لو
كان في الواقع الواجب هو الأقل لحرمة إبطال العمل وأما بوجوب الاعادة باتيان
الأكثر لو كان هو الواجب في الواقع.
وثانيها : انه قيل
ترك السورة يعلم ببطلان صلاته اجمالا أما بترك السورة في محلها أو بفعل المنافي
بعد ذلك لأنه لو كان الواجب هو الاكثر كان بطلانها بترك السورة ولا يكون المنافي
كالحدث ونحوه
مبطلا لانها قد
بطلت على ذلك التقدير بالترك للسورة وإن كان الواجب هو الاقل فيكون فعل المنافي هو
المبطل لا ترك السورة ومقتضى هذا العلم الاجمالي ترك الامرين بأن يترك ترك السورة
وبأن لا يأتي بالمنافي كالحدث ونحوه.
وثالثها : أنه
يعلم بعد الدخول في الصلاة قبل ترك الجزء المشكوك بحرمة إبطال الصلاة ولا يعلم
بسقوط هذا الامر وحصول امتثاله إلا باتيان كل ما يحتمل مدخليته في صحتها.
وجوابه انه بعد
الانحلال يكون الاقل هو الواجب وترك الاكثر مرخص فيه فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأثير
العلم الاجمالي الحادث الذي كان حدوثه ينشأ من عدم مراعاة الانحلال المذكور مضافا
إلى أن العلم الاجمالي المذكور قد قام بما تنجز أحد طرفيه سابقا بالعلم التفصيلي
بوجوب إتمام الصلاة وبوجوب ترك المنافي وبسقوط الوجوب على أن العلم الاجمالي
المذكور ينحل الى شك بدوي وعلم تفصيلي.
أما في الوجه
الأول فلأنه يعلم تفصيلا بوجوب الاتيان بالاقل لانه على كل تقدير واجب اتيانه
لثبوت العقاب بتركه قطعا وشك بدوي بوجوب الاعادة باتيان الاكثر.
وفي الوجه الثاني
يعلم بأن اتيان المنافي به يحصل بطلان الصلاة أما بترك السورة أو بفعل ذلك المنافي
وشك بدوي في بطلانها بترك السورة فقط.
وأما في الوجه
الثالث فحيث أن حرمة الابطال مرددة بين الاقل والاكثر فهو يعلم تفصيلا بثبوت حرمة
الابطال يترك الاقل لانه يعلم بأنه واجب أما بنفسه أو بغيره ويشك في حرمة الابطال
بترك الاكثر لعدم احراز وجوب الجزء المشكوك فالاصل عدمها.
الايراد الحادي
عشر : ـ أنه بعد جريان البراءة عن وجوب الجزء المشكوك ورفع العقاب بتركه لا يثبت
وجوب الاقل إلا على القول بالاصل
المثبت لان وجوب
الاقل لازم عقلي لعدم وجوب الجزء المشكوك.
وجوابه إن الاقل
وجوبه ثابت بالعلم التفصيلي الوجداني لا بواسطة البراءة عن وجوب الجزء المشكوك
لأنه اما واجب بالغير أو واجب بنفسه وإن شئت قلت ان المكلف عالم بحصول العقاب
بتركه وذاك يقتضي العلم بارادة المولى له.
الايراد الثاني
عشر : ـ إن المقام من قبيل القسم الثاني من الاستصحاب الكلي لأن الواجب مردد بين
الفرد القصير وهو الأقل وبين الفرد الطويل وهو الأكثر فاذا أتي بالأقل يشك في بقاء
الواجب الذي هو الأكثر لأحتمال أن الاكثر هو الواجب فيستصحب بقاء الواجب ووجوبه
وعند ذا يحكم العقل بوجوب إتيان الأكثر تحصيلا للفراغ منه وليس هذا الاستصحاب من
الأصول المثبتة بالنسبة لهذا الأكثر لأنه من آثار ثبوت الحكم في الظاهر فان وجوب
الإطاعة والامتثال من آثار الحكم الثابت حتى في مرحلة الظاهر ولذا استصحابات
الأحكام الشرعية يرتب عليها وجوب الإتيان بها كاستصحاب وجوب صلاة الجمعة أو حرمة
شرب الخمر عند ما لم يسكر به الشارب.
وجوابه أنه لو
سلمنا صحة هذا القسم من الاستصحاب فلا مجال له هنا لأن أحد الفردين محرز حكمه
بالوجدان وهو الأقل فلا يجري فيه الأصل ويبقى الثاني مجرى للأصل وهو استصحاب عدمه
بلا معارض وقد قرر في محله إن الاستصحاب الكلي إنما يجري فيما إذا كانت الأصول
متعارضة في أفراده كما إذا تردد الحدث بين الأصغر والأكبر بعد أن توضأ فان استصحاب
عدم الأكبر معارض باستصحاب عدم الأصغر أما إذا لم تتعارض الأصول كما إذا كان
المكلف محدثا بالأصغر ثم خرج منه بلل احتمل انه اكبر فان استصحاب عدم الاكبر جار
لأنه لا
يعارضه استصحاب
عدم الاصغر لليقين بالأصغر سلمنا لكن استصحاب الواجب أو الوجوب الكلي معارض
باستصحاب عدم وجوب الأكثر بل ربما يقال بأنه حاكم عليه لأن الشك في بقاء الوجوب
مسبب عن الشك في وجوب الأكثر.
الايراد الثالث
عشر : ـ وينسب للمرحوم النائيني. أن العلم التفصيلي بوجوب الأقل غير موجب للانحلال
لأنه علم بوجوب الأقل المردد بين التقييد بالجزء المشكوك وبين الإطلاق وعدم
التقييد به فلم يكن علما تفصيليا بوجوب الأقل بنحو الإطلاق ولم يكن علما بواحد
معين من المحتملات ولو كان موجبا الانحلال لكان العلم الإجمالي في المتباينين
موجبا للانحلال لأنه علم تفصيلي بالجامع بين الوجوبين والشك في الخصوصية لكل
منهما.
وجوابه قد علم مما
سبق من أن الانحلال ليس بحقيقي بل هو بواسطة حكم العقل والشرع حيث أن العقل حكم
بعدم صحة العقاب على ترك الجزء المشكوك وهكذا الشارع حكم بذلك وفي الأقل حكم العقل
بصحة العقاب على تركه وتنجز الوجوب الموجود فيه بسبب العلم به ولذا سميناه
بالانحلال الحكمي ، واما في صورة المتباينين فلأن الأصل في خصوصية أحدهما معارضة
بالاصل في خصوصية الآخر فيصح العقاب على مخالفتهما لعدم المؤمن من المخالفة عند من
قال بتنجز التكليف بالعلم الإجمالي بين المتباينين.
البراءة الشرعية
عند دوران الأمر بين الأقل والاكثر : ـ
ما تقدم كان في
إثبات البراءة بحكم العقل عن الكلفة الزائدة وأما بحكم الشرع فكذلك الاخبار
المتكاثرة الدالة على عدم العقاب على ترك الكلفة الزائدة كحديث «رفع عن أمتي ما لا
يعلمون» ونحوه ولا
يقال إن وجوب
الأقل مشكوك كوجوب الأكثر فيتعارض أخبار البراءة الشرعية فيهما. لأنا نقول أن وجوب
الأقل معلوم تفصيلا أما لأنه واجب نفسي أو غيري أو من جهة العلم بأن بتركه يثبت
العقاب فوجوبه الجامع بين النفسي والغيري يكون معلوما وغير محجوب عن العباد فلا
تشمله الأخبار بخلاف وجوب الأكثر وهكذا العقاب على ترك الأقل معلوم فلا تدل أحاديث
البراءة على رفعه وأما العقاب على ترك الأكثر بترك الجزء المشكوك فغير معلوم فتدل
الاحاديث على رفعه.
هذا مضافا الى
إمكان دعوى شمولها لنفس وجوب الجزء المشكوك بأن يقال أن وجوب هذا الجزء من الشرع
مشكوك ومحجوب عنا فهو مرفوع ودعوى ان الشك في وجوب الجزء مسبب عن الشك في وجوب
الأكثر فلا مجال للأصل إلّا بالنسبة الى الأكثر مضافا إلى أن الذي يرفعه الشارع هو
الذي يضعه ووجوب الجزء لم يضعه الشارع وانما وضع وجوب الأكثر مدفوعة بأن سببية
وجوب الأكثر لوجوب الجزء المشكوك وإن كانت مسلمة إلا انها لا تنافي كون وجوب الجزء
المشكوك مجعولا للشارع غاية الأمر بجعل الأكثر فللشارع أن يرفع فعليته وحده بل له
ان يرفع وجوب الأكثر بالنسبة الى هذا الجزء المشكوك فقط دون أن يرفعه بالنسبة
لباقي الأجزاء حيث لا يلزم من ذلك رفع وجوب الأكثر الفعلى في باقي الأجزاء إذ ليست
الأصول حجة في لوازمها العقلية.
دوران الامر بين
الأقل والاكثر في الشبهة الموضوعية : ـ
ما تقدم كان في
دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين في الشبهة الحكمية وأما إذا كان الأمر
دائرا بين الأقل والأكثر الارتباطيين
في الشبهة
الموضوعية كما لو أمر بازالة الحدث فشك في جزئية شيء لها أو أمر بصوم اليوم وشك في
جزئية ذهاب الحمرة لليوم ، فقد ذهب الشيخ الأنصاري إلى أن القاعدة هو الاحتياط لأن
الشك فيها يرجع الى الشك في المحصل للتكليف والمحقق له لأن التكليف معلوم مبين
تفصيلا وإنما الشك في تحققه وحصوله في الخارج بالأقل والأصل يقتضي عدم تحققه وعدم
حصوله ، والعقل يحكم بوجوب اليقين بحصوله إذ لا قبح لو عاقب المولى على تركه بترك
الأكثر لو كان الجزء المشكوك جزءا واقعا ولا يخفى ما فيه فانه ان كان من الامر
بالمجمل المردد بين الأقل والأكثر لإجمال الفعل المقصود منه فهو شبه حكمية ولتكليف
المنجز به هو الأقل وان كان من الأمر بالماهية البسيطة أو الشك في حصولها بالأقل
والأكثر فقد تقدم منا في الايراد الرابع المتعلق بالصحيح والأعم ما يظهر لك فيه أن
الأصل هو البراءة من وجوب الأكثر.
نعم يمكن تصور
الشبهة الموضوعية في دوران الأمر بين الأقل والأكثر فيما لو علم متعلق التكليف
بأجزائه تفصيلا ولكنه لم يدر بأنه بعمله هذا هل يحصل المتعلق أم لا ، كما في صوم
اليوم الغائم إذا شك في آخره بأن إمساكه فيه من اليوم أم بعده فيجب عليه الامساك
إلى أن يحصل اليقين بحصوله امساك اليوم.
شرائط العمل
بالاحتياط : ـ
يعتبر في الاحتياط
احراز موضوعه بأن يعرف إحراز الواقع المشكوك فيه به أو أنه أقرب الطرق لحصول
الواقع به وعدم اختلال النظام به وعدم صيرورته لعبا بأمر المولى فانه حسن في
العبادات والمعاملات ولو استلزم التكرار حتى مع التمكن من عدمه بأن كان مقدورا له
تحصيل العلم التفصيلي بالواقع بل حتى لو قامت عنده الحجة المعتبرة
على الواقع لعموم
أدلة رجحان الاحتياط عقلا لحسنه لأنه أقرب الطرق لحصول الواقع ونقلا للأخبار
المتظافرة على حسنه مطلقا وما وقع من الكلام في صحته في بعض الموارد إنما هو من
جهة عدم إحراز موضوعه فيها كما في العبادات اذا شك في حكمها أو حكم أجزائها فإنه
قد يقال بل قد قالوا بعدم تحقق الاحتياط فيها لأنه يعتبر في صحتها وسقوط التكليف
بها من نية وجه فعلها من وجوبها أو استحبابها وما دامت مشكوكة الحكم لا يقدر على
نية الوجه فلا بد من الفحص ومن معرفة حكمها من وجوب أو استحباب ليأتي بنيته
فالاحتياط فيها بالتكرار أو إتيان الجزء المشكوك لم يكن موجبا لاحراز الواقع فلم
يتحقق موضوعه فيها وكما في العبادات قبل الاجتهاد أو التقليد في معرفة حكمها فانه
قد قيل بل قد قالوا ببطلان عبادات تارك الطريقين حتى لو قلنا بعدم اعتبار نيّة
الوجه وعلم بمطابقتها للواقع إجمالا.
ولكن لا يخفى عدم
اعتبار نية الوجه في العبادات ولذا يرى العقل والعقلاء أن الآتي بالعمل امتثالا
لحكمه الواقعي مطيعا لمولاه وان لم يشخص الحكم الواقعي ولم يعرف انه الوجوب أو
الاستحباب بل يكفي قصد التقرب لله تعالى ولا دليل على اعتبار نية الوجه في الاطاعة
لا عقلا ولا شرعا سوى ما يحكى عن المتكلمين من اتفاقهم على اعتباره وما يحكي عن
السيد الرضي (ره) من دعوى إجماع أصحابنا على بطلان صلاة من صلى صلاة لا يعلم
أحكامها وعن أخيه المرتضى (قده) تقريره على ذلك في مسألة الجاهل بالقصر. فهو اجماع
منقول لا يعتمد عليه لعل مستنده توهم توقف صدق الإطاعة عليه أو قيام دليل خاص عليه
وهما ممنوعان : ـ
أما الأول فلما
عرفت من صدق الإطاعة عقلا وعرفا على من يأتي
بالعمل بقصد الأمر
الموجود في الواقع وإن جهل انه الوجوب أو الاستحباب :
وأما الثاني فلعدم
الظفر بما يدل على ذلك والإطلاق المقامي يقتضي عدمه فان مقتضى الاطلاق المقامي هو
عدم اعتبار ما يشك في دخله في الغرض من نحو هذه القيود التي يغفل عنها عامة الناس
وأما بطلان عبادة تارك الطريقتين الاجتهاد والتقليد فلا دليل عليه إذا كان يحتاط
لإحراز الواقع فيها بتكرار العبادة أو إتيان ما يحتمل اعتباره فيها مع عدم احتماله
فسادها باتيانه كالاستعاذة إذ مع احتماله فالاحتياط بتكرار العبادة مرة معه ومرة
بدونه ، بل العقل يرى أن ذلك من كمال الإطاعة ، نعم لو كان من باب اللعب بأمر
المولى والاستهزاء به كان باطلا.
المصدر الثالث والعشرون
الاستصحاب
وهو لغة طلب
الصحبة نظير الاستعلاج والاستخراج أو صيرورة الشيء صاحبا نظير الاستحجار فإن معناه
صيرورة الشيء حجرا أو الاستنسار أي صيرورة الشيء نسرا فإن الأغلب في وضع باب
الاستفعال هو طلب المصدر قال في منظومة الشافعية :
(وباب الاستفعال للسؤال
|
|
مطّرد في غالب
الأحوال)
|
نعم تارة يكون
الطلب صريحا نحو استكتاب زيد فإن معناه طلب الكتابة منه وأما تقديرا نحو استخراج
الوتد من الحائط فانه ليس هناك طلب صريح وانما كانت محاولة لاخراج الوتد من الحائط
منزّلة منزلة الطلب لاخراجه.
وقد يستعمل باب
الاستفعال للصيرورة والتحول أي تحول الفاعل إلى أصل الفعل وصيرورة الفاعل متصفا
بالفعل الذي اشتق هو منه كقولك استحجار الطين فان معناه صيرورة الطين حجرا وتحوله
إلى صفة الحجرية. ومنه «ان البغات بأرضنا تستنسر».
واطلاق الاصوليين
الاستصحاب على استصحاب الحالة السابقة أو استصحاب اليقين السابق إلى زمن الشك
اللاحق يمكن أن يكون بالمعنى الاول الذي هو الغالب في هذه الصيغة باعتبار أن
المستصحب (بالكسر) يطلب صحبة الحالة السابقة إلى زمان الشك أو يطلب صحبة اليقين
السابق إلى زمان الشك ويمكن أن يكون بالمعنى الثاني باعتبار أن المستصحب صاحبا
للحالة السابقة أو اليقين السابق الى زمن الشك ومنه قولهم استصحاب الشخص أجزاء ما
لا يؤكل لحمه في الصلاة حيث
انهم يريدون منه
صيرورة الشخص صاحبا للأجزاء المذكورة. وعليه لا وجه لما ذكره غير واحد من
الأصوليين كالشيخ الأنصاري في رسائله وغيره من جعله بحسب اللغة أخذ الشيء مصاحبا
فانه ليس الأخذ معنى للاستصحاب في ما اطلعنا عليه في كتب اللغة ولا يساعد على ذلك
قواعد الصرف فإن باب الاستفعال الغالب فيه هو المعنى الاول ويجيء للمعنى الثاني
وقد يجيء بمعنى الفعل المجرد كاستقر بمعنى قر.
وبالمعنى الثالث
يكون معنى الاستصحاب للحالة السابقة هو صحبتها ولم يذكر في معانيه الأخذ مع أنه لا
وجه أيضا لأخذ مادة الاستصحاب من المفاعلة أعني المصاحبة وإنما هو مأخوذ من صحب.
الاستصحاب في
الاصطلاح : ـ
والاستصحاب في
اصطلاح الاصوليين إبقاء العبد ما كان وجودا وعدما على ما كان لأجل أنه قد كان
سابقا لحكم الشرع بذلك أو العقل والمراد بالابقاء هو ترتيب العبد أثار البقاء في
مقام العمل ، وإنما أزدنا (وجودا أو عدما) لأن الاصوليين يجرون الاستصحاب في
العدميات فلو اقتصرنا على (ما كان) لتوهم اختصاصه بالوجوديات وشأن التعاريف أن
تكون موضحة ، وقيدناه (بسابقا) لئلا يتوهم دخول الاستصحاب القهقري في التعريف مع
أنه ليس من الاستصحاب فان الكون إذا لم يقيد بالسابق يكون شاملا للاحق وقيدناه ب (لأجل
انه قد كان) ليخرج ابقاء ما كان على ما كان لا لأجل ذلك بل لأجل قيام الدليل على
بقاء الحكم في الحالة الثانية كالدليل دال على بقاء وجوب الطهارة بعد قطع بعض
الأعضاء أو لأجل بقاء العلة أو الى التلازم القطعي بين الحالتين أو لأجل عدم القول
بالفصل بينهما فمثلا بقاء الحكم
بعد خروج الوقت
لأجل ادلة القضاء ليس من الاستصحاب في شيء كما أنا أزدنا على (ما كان) حذرا من ان
يشمل التعريف إبقاء ما كان على غير ما كان كابقاء الطلب على غير الوجوب ، ويخرج
بهذه الزيادة ما إذا أبقي ما كان مع تغير الموضوع فانه لم يكن من الاستصحاب.
استصحاب الحال
والاجماع ونحوها : ـ
لا يخفى انه وقع
التعبير باستصحاب الحال كما في محكي العدة أو باستصحاب حال الاجماع كما في محكي
المعارج وغيره وباستصحاب حال العقل والمراد بالحال هو الحالة السابقة والمراد
باستصحاب حال الاجماع والعقل هو استصحاب الحالة السابقة التي قام عليها الإجماع أو
العقل وقد يطلق الاستصحاب ويراد به استصحاب عموم النص واطلاقه وهو الأخذ بعموم
النص في مورد الشك في تخصيصه أو باطلاقه في مورد الشك في تقييده وربما جعل البعض
قسما برأسه وقال بحجيته وعدم حجية غيره حتى نسب اليه القول بالتفصيل في حجية
الاستصحاب كالغزالي. والتحقيق ان الأخذ بعموم النص واطلاقه قاعدة عقلائية استقر
بناء العقلاء في محاوراتهم عليها وإلّا فلا يقين بالعموم والاطلاق الا نادرا
لأحتمال سبق التخصيص أو التقييد صدورا على صدور العام أو المطلق في اغلب الموارد
كما ذكره المرحوم الشيخ عبد الحسين على الكفاية.
الأدلة على اعتبار
الاستصحاب شرعا : ـ
والدليل على
اعتبار الاستصحاب أمور : ـ
أحدها : بناء
العقلاء والسيرة عليه في أمورهم العادية مع إمضاء الشارع له أما بناء العقلاء عليه
فلأنه هو أمر غريزى فطري بدليل
أن الناس بل
الحيوانات ترجع لأماكنها استصحابا لوجودها بفطرتها ولو قدر عدم عملهم به فذلك من
باب الاحتياط أو من جهة خوف الضرر أو التفريط بالأموال ، وعن القوانين أنه لو لا
ذلك لاختل نظام العالم وأساس عيش بني آدم ، وعن الفصول أنه أمر مركوز في النفوس
حتى الحيوانات فانها تطلب المواضع التي عهدت فيها الماء والكلأ بل حتى في الطيور
فانها ترجع للأوكار بعد مفارقتها.
واما امضائه شرعا
فيكفي فيه عدم صدور رادع من الشرع.
إن قلت انا نمنع
من عدم صدور الردع عن العمل به كيف وما دل على عدم جواز العمل بغير العلم بل وما
دل على البراءه والاشتغال كافيان في الردع عن العمل على طبق الحالة السابقة.
قلنا أن هذه
الامور لا تكفي في الردع لأن العاملين بالاستصحاب لما كانوا يرون بناء العقلاء
والسيرة من الناس على العمل به يجدون أنفسهم قد عملوا بما هو الطريق الواقع فلا
مجال للبراءة والاشتغال ولا غيرهما من الاصول التي ليست لها كاشفية للواقع بل يرون
أنفسهم أنهم عملوا بالعلم لا بغيره من ظن أو وهم لان الدليل عندهم لدليليته يكون
علما بحسب نظرهم فلو كان الاستصحاب ليس بمعتبر لردع الشرع عنه بخصوصه كما صنع في
القياس بل يكفي ما ذكرناه في انصراف العمومات الى غير الأدلة العقلائية ومن هذا
يظهر لك عدم كفاية هذه العمومات ونحوها في الردع ولا بد في الدرع عن الادلة
المتعارفة من النص بالردع على الدليل بخصوصية كما في القياس.
ثانيها : الإجماع
على حجيته شرعا كما عن المبادي ، والنهاية وفي منع تحصيله وعدم حجية المنقول منه
مكابرة فانه يمكن تحصيله بملاحظة نقل الإجماع من هؤلاء الاجلة وملاحظة بعض القرائن
الخارجية كتتبع
أبواب الفقه وتمسك الاصحاب فيها بالاستصحاب.
ولا أقل من الشهرة
العظيمة على حجيته التي كادت أن تبلغ الإجماع ، وما حكى عن صاحب الحدائق (ره) من
اسناده القول بعدم حجيته إلى الأكثر لا يلتفت إليه بعد أن تضافر النقل للاجماع
عليه. وفي النهاية أسند عدم الحجية إلى اكثر الحنفية.
ثالثها : الأخبار
منها ما في صحيحة زرارة المضمرة «ولا ينقض اليقين بالشك أبدا ولكنه ينقضه بيقين
آخر». فانه ظاهر في ضرب قاعدة كلية لصغرى جزئية وهي اليقين السابق بالوضوء والشك
اللاحق فيه من جهة الخفقة والخفقتان وهذا يقتضي كون (ال) في اليقين للجنس مع ان
حمل اللام على العهد باليقين بخصوص الوضوء موجب للتكرار ان أريد من اليقين في
الكبرى اليقين بشخص الوضوء ويلزم أن تجعل جملة (وإلا فانه على يقين من وضوئه) بمعنى
الانشاء حيث يصير المعنى وان لم يستيقن أنه قد نام فيجب عليه الأخذ باليقين
بالوضوء وفيه من التكلف وخلاف الظاهر ما لا يخفى.
وإن أريد من
اليقين في الكبرى اليقين بنوع الوضوء لزم التكرار لانه هذا المقدار من التعميم
مستفاد من قوله فإنه على يقين من وضوئه ولزم الاستخدام لأنه في الصغرى يريد اليقين
بشخص الوضوء لاحتمال النوم وفي الكبرى يريد عدم نقض نوع اليقين بالوضوء وإن لم يكن
لاحتمال النوم فاختلف العهد والمعهود بخلاف ما إذا جعلت اللام للجنس فانه لا عهد.
هذا مع أن مجرد السبق لا يوجب الحمل على العهد ما لم يصل الى حد القرينة الصارفة
عرفا وإلا فغايته الاحتمال والصلوح للحمل على العهد وهو بمجرده لا يوجب صرف اللام
عن ظاهرها وحقيقتها وهو الجنس على أن الظاهر هو بيان قاعدة كلية
مرتكزة في أذهان
العقلاء يرجعون لها في اعمالهم لكون الامام (ع) في مقام الاستدلال على استصحاب
الوضوء اذ لو لم تكن كذلك لا معنى لاستدلال الامام (ع) بها على هذا الحكم الظاهري
، ومقتضى استدلال الامام بها هو امضاؤها بنحو ما صدرت منه (ع) فيتبع في عمومها
وخصوصها بيانه لها.
ولا يضر اضمار
الرواية لابتناء الرواة في كتبهم على تقطيع الرواية وإلا فهو في الأصل ليس بمضمر
وبعض أصحابنا لم يضمرها ورواها عن زرارة عن الباقر (ع) ، مضافا إلى ان زرارة
لجلالة شأنه وعظمة مكانه يقطع أو يطمئن بأنه لا يضمر لغير الامام (ع) ولا يروي عن
غير الامام.
كما ان الظاهر أن
السؤال فيها عن شبهة حكمية وهي كون الخفقة والخفقتان موجبتان لنقص الوضوء ابتداء
باعتبار أنهما كالنوم وإن لم يكونا منه نظير الشك في المذي لأنه كالجنابة وإلا
فبعيد من مثل زرارة يسأل عن أنهما من النوم أم لا بنحو الشبهة الموضوعية والامام (عليهالسلام)
بصدد بيان أنه لا توجد فيهما ملاك النوم والسكر وإنما هما مثل الغفلة في الحكم.
سلمنا ان السؤال
عن الشك في أنهما من النوم أم لا ، لكن الشبهة أيضا حكمية لأنه شك من زرارة في
مفهوم النوم انه شامل لهما أم لا ، نظير الشك في مفهوم الغناء فيكون السؤال عن
شبهة حكمية فلا وجه لما عن بعضهم انه سؤال عن شبهة موضوعية.
نعم لو كان السؤال
عن انه يتحقق النوم المعلوم المفهوم بتحققهما بنحو الملازمة يكون عن الشبهة
الموضوعية نظير السؤال عن تحقق الغروب بعدم رؤية القرص أو بذهاب الحمرة إلا انه
خلاف ظاهر
الرواية كما أنه
يستفاد منها أن الاستصحاب حجة حتى مع الظن بالخلاف فانه (مع عدم التفطن بما حرك في
جنبه) كما في الرواية بظن بالنوم ومع هذا أمر بالاستصحاب للطهارة.
ان قلت ان اللام
للاستغراق فتكون الرواية دالة على عدم نقض مجموع اليقينات بالشك كما هو مقتضى كل
استغراق داخل تحت النفي مثل لا تأخذ كل الدراهم ، قلنا ان اللام الداخلة على
المفرد حقيقة في الجنس بخلاف الداخلة على الجمع فانها حقيقة في الاستغراق سلمنا
لكن القرينة المقامية تقتضي حمله على عموم السلب لا سلب العموم لانه لو حمل على
سلب العموم لزم الإجمال المنافي لوظيفة الشارع لا سيما وانه (ع) في مقام الاستدلال
ولا ريب أن الاستدلال لا يحسن مع الإجمال وقد يورد على هذه الصحيحة من ان الظاهر منها اجراء استصحاب
الوضوء عند الشك في تحقق النوم مع ان الشك في بقاء الوضوء مسبب عن الشك في تحقق
النوم فكان اللازم اجراء استصحاب عدم النوم مع ان النوم سبب شرعي لعدم للوضوء وهو
من آثاره لقوله أبي عبد الله (ع) «لا ينقض الوضوء الا ما خرج من طرفيك أو النوم».
والحق في الجواب
انه مع حدوث الخفقة والخفقتان لم يحرز بقاء الحالة السابقة عند العرف فان العرف لا
يرى ان بحالة الخفقة بقاء لذلك العدم النوم وانما يراه عدم النوم بنحو آخر وبفرد
آخر فذلك العدم قطعا زال بالخفقة وإذا وجد عدم للنوم بالخفقة فهو عدم آخر فلذا
الامام لم يستصحب في الشك السببي وسيجيء إن شاء الله إذا لم يجري استصحاب في السبب
جرى في المسبب.
ومنها صحيحته
الثانية المضمرة في زيادات أبواب الطهارة من كتاب التهذيب وفيها فقرتان احداهما في
بيان علة عدم اعادة الصلاة
على من ظن أنه
أصاب ثوبه دم أو غيره وتفحص فلم ير في ثوبه شيئا ثم بعد أن صلى فيه رأى فيه نجاسة وهي قوله : ـ «قلت
فان ظننت أنه قد أصابه ولم أتيقن ذلك فنظرت فلم أر شيئا فصليت فرأيت فيه قال (ع) «تغسله
ولا تعيد الصلاة». قلت : ولم ذلك؟ قال : لأنك كنت على يقين من طهارتك ثم شككت وليس
ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا». فانها ظاهرة في ان عدم النقض المذكور قاعدة
كلية معتبرة عند أهل الشرع قد استدل بها الامام (ع) وهي أظهر في كون اللام للجنس
حيث ليس التعليل مسبوقا بالشرط وبعبارة اخرى ان هذه الفقرة ظاهرة في أن زرارة يسأل
الامام عمن ظن باصابة ثوبه النجاسة وتفحص فلم يجدها فكان دخوله في الصلاة بثوب
متيقن طهارته ثم بعد الصلاة فيه رأى فيه نجاسة لكنه لم يعلم أنها هي التي ظنها أو
قد حدثت جديدا بعد الصلاة فامره (ع) باستصحاب اليقين بالطهارة إلى ما بعد الصلاة
ومن آثاره صحة الصلاة في هذا الثوب ولازمه عدم الاعادة كما هو الحال في سائر
الشروط التي تجري فيها الأصول.
ان قلت ان هذه
الفقرة تدل على قاعدة اليقين لا على الاستصحاب لأن المراد بقوله «لانك كنت على
يقين من طهارتك». هو اليقين حال الفحص وهذا اليقين قد سرى إليه الشك لأن الشك
المذكور أوجب احتمال أن النجاسة كانت عند الفحص ولم يطلع عليها.
قلنا المراد
باليقين هو اليقين بعدم النجاسة وبالطهارة الأزلية وهذا لم يسر اليه الشك المذكور.
إن قلت كان على
الإمام أن يتمسك بقاعدة الطهارة ،
قلنا مع وجود
استصحابها يكون الاستصحاب مقدما عليها.
إن قلت قوله (ع) «وليس
ينبغي» يدل على الكراهة لا على الحرمة ولا أقل من الشك فتكون مجملة فلا دلالة لها
على الاستصحاب قلنا نمنع من ظهور «ليس ينبغي» في الكراهة وانما هي ظاهرة الحرمة
والظاهر في الكراهة «لا ينبغي» سلمنا لكن ظهور المعلل في حرمة الاعادة يوجب ظهور
التعليل في الحرمة سلمنا لكن الاجماع المركب يقتضي حرمة النقض. وتوهم ان الاعادة
امر جائز اجماعا يدفعه ان الجائز هو الاعادة على سبيل الاحتياط وأما الاعادة
بعنوان انه حكم واجب واقعي فهو حرام.
والفقرة الثانية
منها هو قوله (ع): ـ «لأنك لا تدري لعله شيء أوقع عليك فليس ينبغي أن تنقض اليقين
بالشك». وهي اظهر في كونه اللام للجنس حيث لم يسبق له عهد حتى تجعل اللام اشارة
اليه.
إن قلت أن الفاء
في قوله (ع) (فليس) تفريعية لتفريع حرمة نقض اليقين على احتمال تأخير الوقوع وهو
يأبى حمل اللام على الجنس.
قلنا لا بد في
التقريع من أن يكون المتفرع اعني مدخول الفاء التفريعية امرا جزئيا والمتفرع عليه
أمرا كليا حيث أن تفريع الأعم على الأخص امر مستهجن جدا لا يصدر عن عالم فضلا عن
إمام معصوم والامر في المقام بالعكس لظهور قوله (ع) «فليس ينبغي الخ» في بيان
قاعدة كلية بالنسبة للمورد بل لا يمكن حمل اللام إلا على الجنس لعدم سبق لفظ اليقين
في هذه الفقرة فتعين كون الفاء لبيان ضرب القاعدة والتنبيه عليها فالاصح حملها على
السببية أي أنك تبني على صحة صلاتك لهذه القاعدة إذ لو لم يبني عليها لنقض اليقين
بالشك أو تكون الفاء للتحلية والتأكيد.
ان قلت ان الاعادة
بعد انكشاف وقوع الصلاة في النجس ليس
نقضا لليقين
بالطهارة بالشك فيها بل باليقين بارتفاعها فكيف يعلل عدم الاعادة بأن الاعادة
تستلزم نقض اليقين بالشك وانما يصح أن يعلل جواز الدخول في الصلاة بذلك لوجوب
إحراز الطهارة قبلها.
قلنا لو كان
انكشاف أن الصلاة واقعة في النجاسة المظنونة سابقا أمكن أن يقال ذلك لكن ليس
للرواية ظهور في ذلك وانما تدل على أنه رأى نجاسة في ثوبه بعد الصلاة ولم يعلم
أنها كانت سابقا أو وجدت لاحقا بعد الصلاة فليس عنده انكشاف لوقوع الصلاة
بالنجاسة.
ومنها ما في
الصحيحة الثالثة لزرارة عن أحدهما (ع) فان فيها «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في
اربع وقد أحرز الثلاث قام فأضاف اليها اخرى ولا شيء عليه ولا ينقض اليقين بالشك
ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط احدهما بالآخر ولكنه ينقض الشك باليقين ويتم على
اليقين فيبني عليه ولا يعتد بالشك في حال من الحالات» وهي ظاهرة في ارادة
الاستصحاب بملاحظة وحدة التعبير والسياق والتوافق في ذكر اليقين والنقض والشك وما
شابه ذلك وقد تمسك بها في الوافية ووافقه على ذلك شارحها وتبعه جماعة ممن تأخر
عنه.
والمراد
بالاستصحاب هو استصحاب الاشتغال اليقيني بالصلاة وانه لا ينقض بالشك في الامتثال
بالاكتفاء بالركعة المشكوكة بل يجب أن يضيف إلى الصلاة ركعة أخرى غاية الامر ان
كيفية اضافة تلك الركعة لم يتعرض لها في الرواية فيمكن ان تكون الاضافة بعد
التسليم كما عليه الامامية أو قبل التسليم كما عليه غيرهم. وكيف كان فالاضافة تفهم
كيفيتها من غير هذه الرواية.
والحاصل أن قوله (ع)
«ولا ينقض : ـ الخ» بيانا للقاعدة التي تقتضي إضافة الركعة للصلاة فان في المقام
لا ينقض يقينه بعدم
الرابعة سابقا
بالشك فى فعلها لاحقا بأن لا يأتي بها أصلا ولا يقدح في كلية القاعدة رجوع الضمير
إلى (من لا يدري في ثلاث هو أو اربع) بدعوى ان هذا الاستصحاب مختص به ووجه عدم القدح
أن قوله (ع) «ولا ينقض اليقين بالشك» ظاهر في ضرب القاعدة الكلية والاعتماد عليها
ولأن الحكم قد أعتمد فيه على نفس اليقين والشك من دون إضافة لشيء وهذا يقتضي
الظهور في الكلية.
إن قلت إن المراد
باليقين فيها هو اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر والاحتياط بفعل صلاة مستقلة
قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه بقرينة ما في الموثقة من قوله (ع) «إذا شككت فابن على
اليقين» فان المراد منها البناء على ما هو المتيقن من العدد والتسليم عليه مع جبره
بصلاة الاحتياط مضافا إلى أن العلماء لم يفهموا منها إلا ذلك فالصحيحة دالة على
وجوب الاحتياط لا على الاستصحاب.
قلنا نمنع صلاحية
اليقين في الموثقة أن يكون قرينة على كون المراد باليقين في هذه الصحيحة هو اليقين
بالبراءة بالمعنى المذكور مع وضوح مغايرة التعبير فيهما بملاحظة ذكر لفظ النقض
وبعده الشك بل الأولى أن تجعل الصحيحتين الاوليتين قرينة على ارادة الاستصحاب من
هذه الصحيحة لوحدة السياق والتعبير.
وأما دعوى أن
العلماء لم يفهموا منها إلا البناء على الأكثر فهي ممنوعة وغير معلومة وإنما الذي
فهمه العلماء منها هو اضافة ركعة للصلاة ليس إلا.
وأما كيفية
الإضافة فهي تعلم من خارج الرواية.
إن قلت إن مقتضى
أصل الاستصحاب في المقام هو التعبد ببقاء المتيقن وهو عدم الاتيان بالرابعة. ولا
ريب أن عمل من لم يأت بها
في المقام هو ترك
التشهد والتسليم والاتيان بالرابعة متصلة بالصلاة وأما إتيانها بعد التشهد
والتسليم فليس عملا للمتيقن بعدم إتيانها فلا بد من حملها على قاعدة الاشتغال وقد
أجيب عن هذا الأشكال بجوابين : ـ
أحدهما حمل تطبيق
استصحاب على المورد على التقية لفتوى العامة باتيان الركعة الرابعة متصلة بالصلاة
وهو لا محذور فيه.
إن قلت ان صدر
الرواية صريح في الانفصال بقرينة الأمر فيه بالفاتحة في الصلاة المضافة لحكمه بتعين
الفاتحة فيها مع أن المضافة إذا كانت متصلة لا تتعين الفاتحة فيها فليست الرواية
واردة مورد التقية.
قلنا ليس الصدر
ظاهر في الانفصال والأمر بالفاتحة لعله من جهة أنه أفضل من التسبيح ومما يؤكد أنها
غير ظاهرة في انفصال الصلاة المضافة عدم تعرض الامام لوجوب التشهد والتسليم في
الصلاة المشكوكة المضاف اليها مع انه يلزم على مذهبنا فالحق أنها يمكن حملها على
التقية ولا يخفى ما في هذا الجواب لأن حمل التطبيق على التقية ان تم فهو يضعف ظهور
الكلية في كونها حكما واقعية مضافا إلى انه لا وجه لجعل الاستشهاد بالقاعدة من باب
التقية فان التقية لا يناسبها التمسك بالقاعدة الحقة ولا تتوقف التقية على بيانها
إذ تحصل بمجرد بيان الحكم على وفق مذهب المخالفين.
والجواب الثاني :
ـ ان الامام (ع) لما كان بصدد بيان لزوم الإتيان بالركعة من دون نظر لاتصالها أو
انفصالها والاستصحاب يقتضي لزوم الإتيان استشهد به ، وأما كيفية الإتيان بالركعة
فأوكله لبيان آخر.
ثم ان هذا الأشكال
وارد حتى لو حملت على قاعدة الاشتغال فان قاعدة الاشتغال تقتضي اعادة الصلاة حذرا
من زيادة الركعة لو أتي بالركعة متصلة وحذرا من الفصل بين الثالثة والرابعة
بالتشهد والتسليم
لو اتي بها منفصلة
فهي لا تصلح لبيان أصل الاشتغال إلا بالاستعانة بالاخبار الخاصة كما لو قلنا إنها
لبيان أصل الاستصحاب كما انه لا وجه لجعل الاستشهاد بالقاعدة من باب التقية فان
التقية لا يناسبها التمسك بالقاعدة الحقه ولا يتوقف على بيانها إذ تحصل بمجرد بيان
الحكم على وفق مذهبهم.
والتحقيق أن يقال
ان الرواية ظاهرة في استصحاب عدم الاتيان بالركعة الرابعة وإنه لا ينقض بالشك في
اتيانها وليست بظاهرة في قاعدة الاشتغال لأن التعبير بعدم النقض ظاهر في البقاء
على الأمر المبرم والاستمرار عليه وهو الاستصحاب ثم لما كان الاستصحاب يقتضي
الاتيان بالركعة الرابعة مع الاتصال بالصلاة اراد الإمام (ع) أن يبين ان الاتصال
لا يجوز فبينه بقوله (ع) «ولا يدخل الشك في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر» فان
الشك انما يتصور دخوله في اليقين مع اختلاطه به في المقام إذا أتى بالركعة الرابعة
المشكوكة متصلة بالثلاثة المتيقنة فان اليقين بالثلاثة إذ ذاك يختلط بالشك بها
ويدخل الشك معه بخلاف ما إذا أتى بها منفصلة فانه لا يختلط الشك باليقين الموجود
فيها ولا يدخل فيه ولا معنى للادخال مع الاختلاط إلا ذلك بحسب الظاهر ثم طلب
الامام منه (ع) أن ينقض شكه في الرابعة بالاتيان بالرابعة ويتم على اليقين
باتيانها لكن لا على نحو الادخال والاختلاط بالثلاثة فلم يكن الامام (ع) اعتمد على
الاخبار الخاصة بل قرن دليله على مدعاه وهو الاستصحاب بما يدل على مقدار ما يقتضيه
في المقام نظير من شك في وجوب قضاء الصلاة عليه لما صار عاجزا عن القيام فان
الاستصحاب للوجوب عليه يقتضي الاتيان بالصلاة بنحو صلاة العاجز لا المتمكن.
والمراد بعدم الاعتداد بالشك في حال من
الحالات هو عدم
ترتيب بطلان الصلاة على شكه المذكور سواء وقع حال القيام أو العقود أو السجود أو
غيرها من الحالات ، ثم أن تفسير ادخال الشك في اليقين واختلاطه معه يجعل شكه
بمنزلة اليقين بالاتيان بالرابعة فلا يأتي بها بعيد عن منطق الاستعارة والبلاغة
فان جعل الشك بمنزلة اليقين لا يعبر عنه بالادخال والخلط إلا على ضرب من المجاز لا
يستسيغه الذوق لا سيما في بيان التكاليف الشرعية.
ان قلت إن هذا
مخالف للمذهب من البناء على الأكثر في الصلاة والرواية على هذا تقتضي البناء على
الأقل لانه هو المتيقن.
قلنا ان الرواية
لم تشتمل على البناء على الأقل أو الاكثر وانما فيها (ويتم على اليقين فيبني عليه)
والمراد به كما هو الظاهر هو اتمام الصلاة بركعة رابعة ويبني على صحة ما صدر منه
من الصلاة والركعة المنفصلة وفراغ ذمته به هذا مضافا إلى أن المراد بالبناء على
الاكثر عندنا هو البناء عليه من جهة الحكم باتيان التشهد والتسليم بعد الركعة
المشكوكة وإلا فليس هناك بناء حقيقة وإلا لم تلزم الركعة المنفصلة.
ومنها موثقة عمار
عن أبي الحسن (ع) قال «إذا شككت فابن على اليقين ، قلت هذا أصل قال (ع) : نعم».
وهذه الموثقة ليست مختصة بمورد خاص لا سيما وقد جعلها الامام (ع) أصلا يعمل به
فانها ظاهرة في أن اليقين يعمل على طبقه فيشمل صورة الاستصحاب لأنه يكون فيه شك في
بقاء الشيء مع اليقين به لليقين بوجوده سابقا فهي نظير ما إذا قال لك إذا شككت
فاعمل بخبر الواحد العدل في اعتبار خبر العدل عند الشك في الشيء. فكذا هنا فانه
ظاهر في اعتبار اليقين عند الشك في الشيء.
إن قلت على هذا
تكون الرواية ظاهرة في قاعدة اليقين المسماة
بقاعدة الشك
الساري في ألسنة بعض المتأخرين لسريان الشك المتأخر إلى اليقين المتقدم فيزول
اليقين ويتبدل بالشك وحاصلها الشك في صحة الاعتقاد السابق والتردد في صحة مطابقته
للواقع كمن اعتقد بعدالة زيد يوم الجمعة فصلى خلفه وقبل شهادته ثم بعد هذا شك في
عدالته في نفس ذلك اليوم أعني يوم الجمعة وهي بخلاف الاستصحاب فانه يكون الشك فيه
طارئ على اليقين غير مزيل له لأنه شك في بقاء الشيء ولذا يسمى بالشك الطارئ.
والحاصل أن
الرواية ظاهرة في العمل باليقين فيما إذا تعلق الشك بنفس ما تعلق به اليقين فتكون
الرواية اجنبية عن المقام.
قلنا قاعدة اليقين
قام الإجماع على عدم العمل بها لا سيما عند تبين فساد المدرك لليقين السابق وهو
أغلب أفرادها فيلزم التخصيص بالأكثر ، وأما حكم العلماء بصحة الاعمال الواقعة على
طبق اليقين السابق في بعض الموارد كالصلاة سابقا خلف من يعتقد عدالته ثم شك فهو
لاجل قواعد اخرى كقاعدة الفراغ أو الشك بعد تجاوز المحل أو خروج الوقت لا للقاعدة
المذكورة وقد تقرر في غير المقام أنه إذا لم يجز العمل بظاهر الدليل للاجماع على
خلافه يجب التنزل إلى ما هو الظاهر منه وهكذا إلى أن يصل إلى حد الغلط فيطرح ،
ومعلوم أن الاستصحاب هو الظاهر بعد عدم ارادة قاعدة اليقين مضافا إلى أن قوله (ع) «فابن
على اليقين» ظاهر في وجود اليقين عند الشك لأن طلب البناء على الشيء ظاهر في وجود
ذلك الشيء حين البناء عليه فلو قيل اكرم العالم فانه ظاهر في كونه عالما حالا
الاكرام فالرواية ظاهرة في اعتبار وجود اليقين في ظرف ترتب الحكم عليه وهو البناء
عليه عند الشك في الشيء والجري على مقتضاه حال الشك فيه وفي القاعدة لا يكون الأمر
كذلك
لعدم وجود اليقين
فيها حال الشك بل ينقلب اليقين إلى الشك والجهل بالواقع مضافا إلى أن هذا التعبير
يناسب التعابير عن الاستصحاب في الموارد الخاصة فيستفاد منه الاستصحاب لأن كلامهم (ع)
بمنزلة كلام واحد يكشف بعضه عن بعض ويفسر بعضه بعضا ويكون قرينة عليه بحيث ينعقد
له ظهور في ذلك كما هو الحال عند العلماء في القرآن الكريم وعليه فيستفاد منها
الاستصحاب.
سلمنا انها ظاهرة
في القاعدة ولكن يفهم منها بطريق الاولوية حجيه الاستصحاب لأن اليقين إذا كان يبني
عليه مع زواله للقطع بفساد مدركه أو نسيانه أو الشك فيه فبالطريق الاولى أن يبني
عليه مع بقائه والعلم بصحة مدركه.
سلمنا عدم قيام
الاجماع وعدم الظهور المذكور فيمكن ارادتهما معا فان في الاستصحاب يكون الشك في
الشيء. عند العرف ولذا اعتبرنا فيه بقاء الموضوع عرفا فهو نظير ما لو قلنا إذا
شككت في الشيء فاعمل بخبر العدل فانه يشمل الشك في بقاء الحكم كما يشمل الشك في
حدوثه ، ودعوى عدم الجامع بين القاعدة والاستصحاب لأن الشك في الاستصحاب يكون في
بقاء الشيء وفي القاعدة بنفس وجود الشيء فالشك في كل منهما ملحوظا بالنسبة للشيء
بلحاظ غير اللحاظ الآخر فلا يمكن جمعها بارادة واحدة لاختلاف اللحاظين وارادة
معنيين من لفظ واحد بارادة واحدة وهو باطل.
قلنا لا يلزم ذلك
ويكفي لحاظ نفس اليقين بما هو عنوان من العناوين وكذلك الشك في متعلقه بما هو شك
وعنوان من العناوين فيكون المراد معنى واحد ليشمل القاعدة والاستصحاب بل يشمل
قاعدة الاشتغال لما فيها من يقين وشك وهذا نظير ما إذا قال لك المولى إذا
شككت فاعمل على
خبر العدل فانه يشمل صورة الشك في بقاء مؤداه أو في نفس حدوثه أو في فراغ الذمة
كما لو شك في فراغ ذمته من الصلاة وقام الخبر على عدم فراغها أو على فراغها فانه
يعمل بالخبر بمقتضى ذلك بل قد عرفت أن العرف يرى أن الشك في البقاء شك نفس الشيء
ولذا يرى أنه لو لم يعمل باليقين عند الشك في البقاء كان ناقضا لليقين ومخالفا له.
وقيام الاجماع على عدم حجية قاعدة اليقين لو تم كان مخصصا للرواية بغيرها.
إن قلت انها ظاهرة
في قاعدة الاشتغال في وجوب تحصيل اليقين بفراغ الذمة عند الشك في فراغها.
قلنا الرواية
ظاهرة في موجودية اليقين وحدوث الشك بقرينة قوله (ع): ـ «فابن على اليقين» فانه
يعقد لها ظهور في العمل باليقين الموجود لا بتحصيل اليقين كما هو مقتضى قاعدة الاشتغال
فان المطلوب فيها تحصيل اليقين.
إن قلت ان حمل
الموثقة على الاستصحاب يوجب طرحها لاقتضائها البناء على الأقل في عدد الركعات لأنه
هو المتيقن وهو ينافي الأخبار الواردة عن أئمتنا الاطهار مثل قوله (ع) «إلا أجمع
لك السهو كله في كلمتين متى شككت فابن على الأكثر» فالوجه في الموثقة.
أما حملها على
التقية ومجارات اهل الحل والعقد أو ارادة قاعدة الاحتياط باتيان الأقل والاحتياط
بفعل ركعة منفصلة.
قلنا لو سلم ذلك
فانما يتجه لو اختص مورد الموثقة بالشكوك المتعلقة بالصلاة وليس كذلك فضلا عن عدد
ركعاتها كما هو الظاهر من جعله (ع) إن ذلك أصل وقاعدة كلية فلا تنافي الأخبار
المذكورة وتكون الاخبار المذكورة مخصصة لها ولا اشعار فيها بقاعدة الاحتياط
لأنها كما عرفت
ظاهرة في العمل باليقين الموجود لا في تحصيل اليقين فيكون حالها حال الصحيحتين
الأوليتين في الدلالة على قاعدة الاستصحاب في جميع الموارد غاية الأمر أنها
كالصحيحتين قد خصت بغير الشك في عدد الركعات ولا ضمير فيه ومنها ما روي عن البحار
للعلامة المجلسي في باب من نسي أو شك في شيء من أفعال الوضوء عن الخصال بسنده عن
محمد بن مسلم عن أبي عبد الله قال : «قال أمير المؤمنين (ع) من كان على يقين
فأصابه شك فليمض على يقينه فان اليقين لا يدفع الشك». وفي رواية اخرى عن الخصال في
حديث الاربعمائة عن الباقر (ع) عن أمير المؤمنين (ع) «من كان على يقين فشك فليمض
على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين». وقد حكي عن البحار عدها في سلك الاخبار التي
يستفاد منها القواعد الكلية.
وقد يناقش في
الاستدلال بها على الاستصحاب تارة بضعف السند واخرى بقصور الدلالة.
أما في السند فإن
فيه محمد بن عيسى اليقطيني وهو ضعيف لاستثناء أبو جعفر بن بابويه له من رجال نوادر
الحكمة وقال لا أروي ما يختص بروايته وضعفه الشيخ أيضا في رجاله وأيضا فيه القاسم
بن يحيى فانه من المجاهيل ولم يمدح بتوثيق أو غيره بل حكي عن العلامة تضعيفه ولكن
لا يصغى إلى ذلك لما صرح به المجلسي من انها في غاية الوثاقة والاعتبار على طريقة
القدماء وان لم تكن صحيحة بزعم المتأخرين ولأن الكليني (ره) وغيره من المحدثين
الثقاة اعتمدوا عليها ولا ريب ان ذلك يوجب الوثوق بها فان نقل الثقاة يولد الوثوق
بالمنقول.
وعن المرحوم
الفاضل أحمد النراقي دعوى اشتهارها رواية وفتوى هذا وحكي أن العلامة لم يضعف
القاسم في الخلاصة وانما ضعفه ابن
الغضائري والمعروف
ان تضعيفه غير ضائر.
وأما المناقشة في
دلالتها بدعوى ظهورها في قاعدة اليقين بقرائن ثلاثة : ـ الأولى ان الرواية ظاهرة
في اختلاف زمان اليقين والشك بقرينة (الفاء) المفيدة للترتب الشك على اليقين
والاستصحاب لا يعتبر فيه اختلاف زمان الوصفين إذ يجوز اتحاد زمانهما أو تقدم وصف
الشك على اليقين بخلاف القاعدة فانه لا بد فيها من تقدم اليقين على الشك. الثانية
ان ظاهر الرواية ان متعلق الشك واليقين واحد وفي الاستصحاب لا يكون المتعلق لهما
واحد لان اليقين فيه يتعلق بوجود الشيء وشك يتعلق ببقائه.
ثالثها ان النقض
في القاعدة حقيقة لانه رفع اليد عن الآثار التي ترتبها على الشيء عند اليقين به
بخلاف النقض في الاستصحاب فان النقض فيه يكون برفع اليد عن آثار الشيء في غير زمان
اليقين وهذا لدى الحقيقة ليس نقضا لليقين.
وممكن دفع
المناقشة المذكورة بأن غاية ما تدل عليه (الفاء) هو أنه في مورد حدوث الشك بعد
اليقين يمضي على اليقين وهذا مما يجامع الاستصحاب بل هو الفرد الغالب منه لا انه
ينافيه فلا يوجب ذلك ظهور الرواية في القاعدة على أن الفاء انما تقتضي الترتيب أعم
من الزماني أو الرتبي ، وفي الاستصحاب يكون اليقين رتبة مقدما على الشك باعتبار
متعلقه فان المتيقن فيه سابق على المشكوك وهذا يوجب التقدم الرتبي لليقين على الشك
لقيام هذه الاوصاف بمتعلقاتها كما أن دعوى ظهورها في وحدة المتعلق لليقين والشك
فاسدة إذ لا يوجب لها ظهورا عرفيا في القاعدة لأن العرف يرى أيضا وحدة المتعلق في
الاستصحاب مع أن حذف المتعلق لا يقتضي وحدته بل هو أعم من
وحدته وجودا أو
وحدته شخصا وإن اختلف حدوثا وبقاء ، بل مع الحذف يكون الثاني هو الأظهر بل هو
المتيقن لكون المتعلق اعم عند الحذف كما إن استعمال النقض لا يوجب الظهور العرفي
في القاعدة لأن العرف بعد ما كان يرى وحدة المتعلق يرى تحقق النقض في مورد
الاستصحاب كما في القاعدة.
إن قلت غاية ذلك
أن تكون الرواية قابلة لإرادة القاعدة والاستصحاب ولا معين لأحدهما فيسقط
الاستدلال بها للاستصحاب.
قلنا لا بد من حمل
الرواية على الاستصحاب لأمور. أحدها أن قوله (ع) «فليمض على يقينه» ظاهر في وجود
اليقين الذي يمضي عليه عند الشك. وفي القاعدة يكون اليقين قد زال عند الشك بخلاف
الاستصحاب فانه لم يزل وباقي على حاله.
ثانيها : ـ ان هذا
التعبير في جملة من الروايات أريد به الاستصحاب وذلك يوجب انعقاد ظهور له في ذلك
لكونه المتكلم واحد حقيقة أو حكما فان الأئمة (ع) في حكم متكلم واحد ومن هنا اشتهر
أن أخبارهم (ع) يكشف بعضها عن البعض الآخر. هذا مع أن المذكور في الرواية الثانية
هو الدفع وهو أنسب في الاستصحاب من القاعدة. مع أنه يمكن أن يقال ان الرواية لو
كانت ظاهرة في القاعدة فهي تدل على اعتبار الاستصحاب بطريق أولى ضرورة ان اعتبار
اليقين السابق مع نسيان مدركه أو الشك أو القطع بفساده كما في القاعدة فان اليقين
إنما يتبدل بالشك أما من جهة نسيان مدركه أو من جهة الشك أو العلم بفساد مدركه
واحتمال ان هناك مدرك آخر له يقتضي اعتبار اليقين مع بقائه والعلم بصحة مدركه كما
في الاستصحاب بطريق أولى كما أنه لو فرض قيام الدليل على عدم اعتبار الاستصحاب
فانه يحكم بعدم
اعتبار هذه القاعدة بطريق أولى واحتمال إن اعتبار القاعدة من باب التعبد المحض
بعيد جدا.
مع أنه يظهر من
كلام الشيخ الانصاري (ره) وغيره دعوى الاجماع على عدم اعتبار القاعدة فيدور الأمر
بين طرح الخبر المذكور أو حمله على الاستصحاب ولا شك ان الثاني هو الاولى لما قد
قرر في محله من أن الاجماع إذا قام على خلاف ظاهر الدليل النقلي المعتبر يجب حمل
الدليل النقلي على ما هو الظاهر بعده وهكذا إلى أن يصل إلى حد الغلط فيطرح ، ومن
هنا اشتهر إذا تعذرت الحقيقة فاقرب المجازات متعين ، ومن المعلوم انه لو سلم ظهور
الخبر المذكور في القاعدة فبعد قيام الاجماع على خلافه يكون الظاهر منه هو
الاستصحاب.
ومنها خبر الصفار
عن مكاتبة علي بن محمد القاساني قال «كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشك
فيه من رمضان هل يصام ام لا. فكتب اليقين لا يدخل فيه الشك صم للرؤية وافطر للرؤية»
ووجه الاستدلال بها أن السائل سأل عن اليوم المشكوك أنه من رمضان سواء كان من أول
رمضان أو آخره ، فأجابه الامام (ع) بأن اليقين بالشهر سواء كان رمضانا أو غيره لا
ينقضه الشك فيه فان الدخل في الشيء عبارة عن فساد الشيء والعيب فيه فيكون المعنى
إن الشك لا يفسد اليقين ولا يعيه وهو عبارة عن المنع عن نقضه ففي المقام اليقين
بأن الزمان من شعبان لا ينقضه الشك في أنه من شعبان واليقين بأن الزمان من رمضان
لا ينقضه الشك في أنه من رمضان ، وفرع على ذلك الصوم للرؤية والإفطار للرؤية إذ
بالرؤية لهلال رمضان ينقض اليقين من شعبان باليقين برمضان لا بالشك فيه وبالرؤية
لهلال شوال ينقض اليقين من رمضان باليقين بشوال لا بالشك فيه فيكون
قوله (ع) «اليقين
لا يدخل الشك» كالصريح في بيان الكبرى الكلية لا سيما وعدم مسبوقية اللام بما يصلح
أن يكون عهدا له وعدم احتمال إرادة قاعدة اليقين لأن الشك المراد فيها هو الشك في
البقاء كما هو ظاهر السؤال وظاهر الجواب بل لا يصلح ارادتها منه لأن شعبان لم يزل
اليقين به وانما شك في بقائه وهكذا رمضان ثم أن التفريع بالصوم للرؤية والافطار
لها مما يؤكد ارادة الاستصحاب وان الشهر يستصحب بقاؤه إلى أن يقطع بزواله برؤية
الهلال للشهر الذي بعده.
والمناقشة فيها
تارة في سندها لإضمارها فلا يعلم استنادها للامام (ع) وكونها مكاتبة ولعلها مزورة
على الامام (ع) ، وبأن علي بن محمد قد ضعفه جماعة. فاسدة لأن ذلك لا يضر في حجيتها
لتمسك الاصحاب بها واشتهارها بينهم وذكرهم لها في كتبهم الفقهية وتارة في دلالتها
بوجهين :
احدهما أنه يحتمل
فيها أنها لبيان قاعدة الاشتغال بالصوم في آخر شهر رمضان لليقين به والشك في
ارتفاعه بدخول شوال.
وجوابها أولا : ـ أن
المقام لو لم يجر الاستصحاب لكان منه دوران الامر بين محذورين وهما وجوب الصوم
لاحتمال أنه من رمضان وحرمته لاحتمال أنه العبد ، هذا بالنسبة لآخر يوم من شهر
رمضان وأما بالنسبة لأوله فالأصل هو البراءة فليس المقام من الاحتياط في شيء. نعم
لو قلنا ان التكليف بالصوم في الشهر تكليف واحد كان من قبيل دوران الامر بين الأقل
والأكثر في محصل التكليف ويكون شبهة موضوعية نظير ما لو شك في حصول الطهارة بالغسل
فالقاعدة هو الاشتغال لكن الظاهر أنه تكاليف متعددة بتعدد الأيام.
سلمنا لكنه لا
يلتئم مع قوله صم للرؤية فانه يقتضي الصوم عند
القطع بدخول شهر
رمضان مع أن الاحتياط يقتضي الصوم مع الشك في دخول رمضان فالرواية أجنبية عن قاعدة
الاشتغال.
ثانيهما : ـ انا
سلمنا دلالتها على الاستصحاب فهي غير عامة بل هي مختصة في استصحاب شهر شعبان
ورمضان ولو تنزلنا وقلنا بأنها تدل على استصحاب عامة الشهور فهي مختصة بالشهور
والقول بعدم الفصل لو سلمنا حجيته فهو لا يكون في مسألة كثرت فيها الأقوال بالتفصل
فيها.
والجواب عن هذه
المناقشة ان اللام مع حذف المتعلق مع عدم سبق ما يصلح أن يكون عهدا له يقتضي
العموم لسائر الافراد مثل «أحل الله البيع» فان اللام مع عدم ذكر المبيع وعدم سبق
عهد ببيع خاص يدل على حلية البيع بأي مبيع تعلق. وهكذا فيما نحن فيه فان اللام
وحذف متعلق اليقين مع عدم سبق ما يصلح للعهد وهكذا اللام وحذف متعلق الشك مع عدم
ما يصلح للعهد يقتضي ان اليقين بأي شيء تعلق بحكم شرعي أو بموضوع خارجي ذي اثر
شرعي ثم عرض الشك في بقائه فان هذا الشك لا يدخل في اليقين ولا يفسده ولا يعيبه
ولا ينقضه فالرواية كالنص في عموم الاستصحاب.
ومنها خبر عبد
الله بن سنان فيمن يعير ثوبه للذمي وهو يعلم انه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير قال
: فهل عليّ أن اغسله. فقال : لا لأنك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن انه نجسه».
وهو واضح الدلالة على اعتبار الاستصحاب بظهوره في تعليل الحكم باليقين به سابقا
والشك فيه لاحقا.
هذه جملة من
الأخبار وهي كافية في إثبات حجية الاستصحاب شرعا مطلقا من دون فرق في المستصحب من
حيث كونه وجوديا
أو عدميا موضوعا
خارجيا أو حكما شرعيا جزئيا أو كليا تكليفيا أو وضعيا ومن دون فرق في الشك في
البقاء من جهة الشك في المقتضى أو من جهة الشك في وجود الرافع أو رافعية الموجود
ومن دون فرق في الدليل الدال على ثبوت المستصحب في الزمن السابق من كونه لبيا من
عقل أو اجماع أو لفظيا إلى غير ذلك من الامور التي لأجلها كثرت الأقوال في المسألة
وحيث كان المهم في نظر العلماء وفيه يكثر الابتلاء وبه محل النزاع هو عموم الأدلة
لموارد ثلاثة نتعرض لها.
حجية الاستصحاب في
الموضوعات والاحكام : ـ
المورد الاول عموم
الادلة للموضوعات والاحكام فنقول الحق إن ادلة الاستصحاب تدل على حجيته في
الموضوعات والاحكام لأنها تدل على التعبد بوجود المتيقن والبناء عليه عملا وهذا
المعنى يقتضي الحكم الشرعي المماثل للسابق أو الجري عليه إذا كان المتيقن السابق
حكما شرعيا ويقتضى جعل الاثر الشرعي إذا كان المتيقن السابق موضوعا ذا اثر شرعي
وليس في ذلك استعمال للفظ في اكثر من معنى واحد.
ان قلت لا يصح
استصحاب الأحكام الشرعية لأنه إنما يشك فيه إذا تبدل قيد موضوعه ومع تبدله يختلف
الموضوع ويكون الاستصحاب من قبيل اسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر وان اتحد معه في
الذات إلا أنه مختلف في الصفات وإلا لما شك في البقاء ومن المعلوم إن أدلة
الاستصحاب مختصة بصورة ما إذا كان الشك شكا في البقاء حتى يصدق النقض للحالة
السابقة أو عدم نقضها والشك في بقاء الأحكام لا يتصور إلا إذا كان الموضوع المشكوك
بقاء الحكم له عين الموضوع المتيقن ثبوت الحكم له بحيث تكون القضية المشكوكة عين
القضية المتيقنة
وإلا لما كان الشك
شكا في البقاء بل شكا في حكم آخر.
قلت نعم لا بد من
كونه عينه لكن لما كان المخاطب بالكلام هو العرف كان المطلوب منهم إبقاء الحكم
المتيقن فيما يرونه بقاء له ولا ريب انهم يرونه بقاء له فيما كان الموضوع عندهم
واحدا فالمعتبر هو وحدة الموضوع وعينيته عندهم لا بحسب الدليل ولا بحسب الدقة
العقلية وطالما يرون الموضوع واحدا وباقيا وإن اختلفت حالاته وصفاته بل كثيرا ما
يكون الشيء له دخل في ثبوت الحكم ولكنه ليس له دخل في موضوعه كالسبب وعدم المانع
والشرط فانه لا بد منها في ثبوت الحكم لموضوعه مع إنها خارجة عنه نظير الزوال فانه
سبب لثبوت وجوب الظهر للشخص وليس له دخل في موضوعه ولذا الظهر يكون واجبا حتى مع
ذهاب الزوال وسببا لوجوب القضاء عليه إذا انضم إليه الفوت لصلاة الظهر. ونظير ذلك
في الاحكام الشرعية ما لا يحصى حتى الوضعية منها ألا ترى ان الغليان موجب لنجاسة
العصير العنبي والملاقاة موجبة لنجاسة الملاقي للنجس وليس لهما دخل في موضوع
النجاسة لكونها تبقى مع زوالهما.
ان قلت إنه مع
اتحاد الموضوع لا يعقل الشك في البقاء لكون الموضوع علة تامة لثبوت الحكم له إلا
على البداء الممتنع على الله تعالى ففي الآن الثاني الذي يشك في ثبوت الحكم فيه ان
كان الموضوع السابق معلوم الوجود فيه فكيف يمكن الشك في ثبوت الحكم له وان كان
معلوما عدم وجوده فلا مجال للاستصحاب لأنه عبارة عن ابقاء الحكم ومع العلم يتعدد
الموضوع يمتنع الابقاء لأنه لا يتحقق إلا مع وحدة الموضوع وإن كان الموضوع مشكوك
البقاء فيشك في تحقق الابقاء فلا يمكن التمسك بدليل الاستصحاب على ابقاء الحكم في
ثاني الحال لأنه
يكون من قبيل
التمسك بالعام في الشبهة المصداقية لعدم احراز انه ابقاء للحكم.
قلنا انا نختار
عدم احراز بقاء الموضوع على الوجه الذي كان علة لثبوت الحكم ومع ذا لا مانع من
الاستصحاب لأن العلة لثبوت الحكم وجودا وعدما هو الموضوع بوجوده الحقيقي الدقي دون
الوجود المسامحي العرفي. والعرف يرى الموضوع هو العمل الذي تعلق التكليف به دون ما
ألحقه الشارع به من الزمان والشروط ونحوها فانه يراها من الحالات للموضوع وإن أبيت
عن ذلك فالميزان هو أن يرى العرف ان نفس التكليف باق لو نص الشارع على ثبوته مع
تغير ذلك الحال وهو انما يكون إذا كان ما يراه العرف موضوعا للتكليف باقيا.
وعليه فالذي يلزم
احرازه في مقام التمسك بالاستصحاب هو وجود الموضوع عرفا حتى يصدق البقاء والابقاء
عند العرف لأنهم هم المخاطبون فلا بد من أن يكون المولى يريد بخطاباته ما يفهمونه.
إذا عرفت ذلك
فنقول ان وجود الموضوع وان كان مشكوكا بل معلوم الارتفاع احيانا ولذا نشك في ثبوت
الحكم في الآن الثاني إلا أن الوجود العرفي للموضوع الذي هو المناط في صدق البقاء
والنقض محرز فلا مانع من الاستصحاب.
ان قلت أولا نمنع
من كفاية الوجود العرفي في جريان الاستصحاب وما قرع سمعك من اتباع العرف في فهمه
انما هو بالنسبة إلى نفس مداليل الألفاظ حيث ان تشخيصها موكول إلى فهم العرف حتى
انه يقدم على تنصيص اللغويين وأما مسامحته في التشخيصات فلا دليل على اتباعه.
وبعبارة اخرى بعد
كون البقاء والنقض عبارة عن ثبوت الحكم
ورفعه في الموضوع
الأول يجب احراز وحدة الموضوع حقيقة ولا يعتنى بالمسامحة العرفية.
وثانيا ما ذكر من
المسامحة انما يتم إذا استندنا في مدرك حجية الاستصحاب إلى الأخبار وأما إذا
اعتمدنا فيه إلى بناء العقلاء تعبدا أو ظنا فاللازم هو الأخذ بالقدر المتيقن وهو
ما إذا عد الموضوع في ثاني الحال هو الموضوع في أوله بل لا معنى لدعوى الظن بثبوت
الحكم.
ثانيا في موضوع
مغاير أو مشكوك التغاير للمتيقن فانه أشبه بالقياس من الاستصحاب.
قلنا اما الجواب
عن الاول فيمنع كون ذلك من الرجوع إلى العرف في المسامحة بل هو رجوع إليه في فهم
معنى البقاء والنقض ولا ريب ان البقاء والنقض عند العرف موضوع لاستمرار الحكم
ورفعه فيها يراه متحد الموضوع فما رآه متحدا في نظره كان باقيا حقيقة قال المرحوم
أحمد الحسيني يتنقح منا ان الموضوع الذي يعتبر بقاؤه في الاستصحاب هو الموضوع
الخارجي الذي هو معروض للحكم في الخارج دون المبتدأ عند النحاة والمسند إليه عند
أهل البيان حيث ان العرف هو المحكم في ذلك ومن المعلوم أن الموضوع الخارجي هو ذات
الشيء دون الذات مع القيود ولا الذات المقيدة بها فالموضوع في الخارج للقبح هو ذات
الصدق لا وصف الضررية ولا الصدق المقيد بها لاستحالة قيام العرض بالعرض. وانما كان
لوصف الضررية مدخل في عروض الحكم إلا ان انتفاءه لا يوجب تبدل الموضوع أصلا وإن
كان قد يوجب انتفاء الحكم كما لو كان ذلك القيد علة حقيقة أو جزء علة كالمثال
المذكور لكن انتفاء الحكم مع ذلك غير مستند إلى تبدل الموضوع بل إلى انتفاء علته
أما اذا كان القيد علة اعدادية أعني علة
محدثة كالباني
بالنسبة للبناء أو احتمل كونه كذلك وشك في بقاء الحكم بعد انتفائها يمكن إجراء
الاستصحاب فيه.
وأما الجواب عن
الثاني فبدعوى تحقق بناء العقلاء على الحكم باستمرار الحكم الثابت الى الآن الثاني
عند بقاء ما يراه العرف موضوعا للحكم في الآن الأول كما انه يمكن دعوى حصول الظن
بذلك أيضا ويؤيد ذلك ان منشأ الظن بالبقاء ليس إلّا الغلبة الخارجية والذي يمكن
دعواه ليس إلّا الغلبة في مثل الفرض وأما البقاء فيما كان مع الموجود الأولي واحدا
حقيقة فهو معلوم دائمي لا غالبي كذا أفاد ذلك استاذنا الشيخ كاظم الشيرازى (ره).
ان قلت انه لا
يجوز استصحاب الاحكام لأن الحكم انما يستصحب اذا شك في بقائه من جهة تبدل الموضوع
الذي اخذ في الدليل أو احتمل اخذه في الموضوع لمعارضته باستصحاب العدم الازلي لذلك
الحكم الثابت للعنوان الفاقد للقيد المأخوذ في الدليل أو المحتمل أخذه فيه ، فمثلا
إذا شك في بقاء وجوب صلاة الجمعة عند غيبة الامام (ع) فاستصحاب وجود للوجوب يعارضه
استصحاب عدم للوجوب الازلي عند الغيبة فإنه عند الغيبة يحتمل بقاء الوجوب فيستصحب
ويحتمل بقاء العدم الأزلي للوجوب فإن الصلاة عند الغيبة لم تكن واجبة أزلا فيستصحب
بقاؤه.
والحاصل ان هنا
شكا واحدا في وجوب صلاة الجمعة بعد الغيبة ويقينان فإنه بهذا القيد متيقن عدمه من
الأزل والأبد فيستصحب هذا العدم كما أنه قبل الغيبة متيقن وجوده فيستصحب هذا
الوجود للوجوب فيقع التعارض بينهما.
قلنا هذا الايراد
قد نسب للفاضل النراقي (ره) وتبعه جملة من
المحققين ومنعوا
من استصحاب الأحكام الشرعية.
والتحقيق في جوابه
أن يقال أنه لما كان المعتبر في النقض والبقاء في الاستصحاب هو نظر العرف وقد عرفت
أن العرف يرى القيود المأخوذة في موضوع التكليف ويرى الزمان المأخوذ فيه من حالات
التكليف وظروفه وغير منوعة له ومقسمة له وإن بقاء التكليف وموجوديته به لا بقيوده
وانعدام التكليف بعدمه لا بعدم قيوده وإن التكليف ينتقض لو رفع عنه فاذا كان العرف
يرى ذلك كانت أدلة الاستصحاب تشمل وجود التكليف عند ما يشك في وجوده بواسطة زوال
الحالة أو الزمان الذي قيده الشارع به أو قيد موضوعه به ويرى العرف عند زوال ذلك
يكون رفع اليد عن الحكم الشرعي نقضا له وحينئذ فلا مجال لاستصحاب العدم الازلي
للتكليف عند زوال القيد لأن العرف يرى أن التكليف باق عند زوال القيد لبقاء موضوعه
عنده حتى بعد زوال القيد فالعدم الازلي عند العرف قد زال عن التكليف حتى حال الشك
في نفس التكليف. ففي المثال العرف يرى أن وجوب الجمعة موجود عند الغيبة وان عدمه
قد زال وإن البناء على عدمه نقض للحالة السابقة والبناء على وجوده ابقاء للحالة
السابقة فعلى المكلف الشاك أن يبقي الحكم السابق ولا ينقضه ، واذا كان الامر كذلك
فلا يعقل أن يرى العرف عدم الوجوب الازلي موجودا حال الغيبة حتى يستصحبه الشاك فيه
لما عرفت من أن العرف لا يرى القيود منوّعة للموضوع ومقسمة له حتى يستصحب هذا
العدم للتكليف المقيد فانه العرف نظر واحد لا نظرين.
نعم العدم الازلي
انما يستصحب التكليف اذا كان العرف يرى أن وجود التكليف حال الشك وجودا مستقلا لا
إنه بقاء للوجوب
السابق فيستصحب
عدمه لبقاء العدم في نظره. لكن قد عرفت أن العرف يراه وجودا استمراريا للوجود
السابق فلا يعقل أن ينظر التكليف بالنظر الاستقلالي وعليه لو فرض أن العرف رأى
للواقعة موضوعين متعددين جرى استصحاب العدم الأزلي للوجوب للموضوع الآخر المشكوك
الوجوب كما لو قال الشارع صوم يوم الخميس واجب فإن العرف يراه موضوعا غير موضوع
صوم يوم الجمعة فيستصحب عدم وجوب صوم الجمعة لكن بخلاف ما إذا قال صم الى المغرب
ولم يعلم المغرب انه بسقوط القرص أو بذهاب الحمرة المشرقية فان العرف يرى أن وجوب
الصوم حتى سقوط القرص عين وجوب الصوم حتى الحمرة المشرقية فيستصحبه فعلى الفقيه أن
يدرك نظر العرف عند ما يشك في البقاء.
وكيف كان فلا وجه
لدعوى المعارضة بين الاصل الوجودي للحكم والاصل العدمي له لأن العرف ان كان يرى أن
بتغير القيد أو بتبدله أو اختلاف الزمان للحكم أو موضوعه من قبيل تبدل الحالات أو
تغير الظروف وإن الشك في الحكم بسبب ذلك شك في بقاء ذلك الحكم السابق لذلك الموضوع
الذي كان ثابتا له جرى الاستصحاب ولا معنى للاستصحاب الأزلي لعدم الحكم حيث ان
الفرض أن العرف يراه شكا في بقاء وجود الحكم السابق ولا يراه شكا في بقاء عدم أزلي
لحكم جديد نظير الشك في بقاء وجود الأشياء الخارجية كزيد وعمر بواسطة تبدل الحال
أو الزمان.
وأما ان كان العرف
يرى أن الشك في الحكم بسبب تغير القيد شكا في ثبوته لموضوع آخر لا لذلك الموضوع
الاول فيكون شكه شكا في حكم آخر لموضوع آخر فيستصحب عدمه الازلي ولا يجري
استصحاب الحكم
السابق لأنه ليس الشك شكا في بقائه وانما هو شك في موضوع جديد فالميزان نظر العرف
الى موضوع التكليف وإنه واحد بوحدة توجب عدم تعدده وتنوعه وان كان بحسب الشرع ودقة
العقل متعدد ومتنوع.
والمحكي عن
المرحوم الشيخ الجليل الشيخ عبد الكريم القمي (ره) بتوضيح منا حيث لم تحضرني درره
أنه لا معارضة بين الاستصحابين فان فرض الكلام أن العرف يرى أن موضوع التكليف باق
وان التغير الذي طرأ عليه لم يؤثر على بقائه فتدل أخبار الاستصحاب على بقائه في
ثاني الحال وحينئذ فيستفاد من دليل التكليف بضميمة أدلة الاستصحاب بقاء التكليف
المطلق الغير المقيد بالحال الأول ولا بالحال الثانية فيكون في المثال المتقدم
وجوب الجمعة مطلقا سواء قبل الغيبة أو بعدها والاستصحاب العدمي إنما هو بالنظر
للتكليف بعد تغير الحالة السابقة فإن التكليف المقيد بما بعد تلك الحال كان معدوما
في الأزل فنستصحب عدمه وهذا الاستصحاب إنما يقتضي رفع التكليف المقيد وهو لا ينافي
ثبوت التكليف المطلق فإن وجوب الجمعة بقيد أنه بعد الغيبة وبخصوصية أنه بما بعد
الغيبة ليس بموجود وانما الموجود هو وجوب الجمعة مطلقا قبل الغيبة وبعدها
فالاستصحابان جاريان ولا معارضة بينهما.
إن قلت لا وجه
لاستصحاب الأحكام الشرعية لأن الاستصحاب إنما يعمل به حيث لا نص على الحكم الشرعي
وقد ثبت بواسطة تواتر الأخبار بأن كلما تحتاج اليه الأمة ورد فيه خطاب شرعي حتى
أرش الخدش.
قلنا انه قد ثبت
انه كثير ما ورد مخزون عند أهل الذكر (ع).
إن قلت تواترت
الأخبار بحصر المسائل بالنسبة إلى الأحكام الشرعية في ثلاثة أقسام بين رشده ، وبين
غيه ، ومشتبه أمره يتوقف فيه.
قلنا أخبار
الاستصحاب حاكمة عليه لأنها توضح الحكم الشرعي وتبينه.
حجية الاستصحاب في
الشك من جهة المقتضي أو الرافع
المورد الثاني
الذي وقع الكلام فيه وهو محل الابتلاء هو عموم الادلة لصورة الشك في البقاء من جهة
الشك في المقتضي أو جهة من الشك في الرافع بمعنى أن أدلة الاستصحاب تعم الشك في
البقاء سواء كان الشك في البقاء للمتيقن السابق من جهة الشك في اقتضائه للاستمرار
واستعداده للبقاء كما لو شك في بقاء الزوجية المنقطعة للشك في مدتها أو من جهة
الشك في وجود الرافع والمزيل لبقاء المتيقن بحيث مع عدم هذا الرافع يكون وجوده
مستمرا كالموجودات التي حدوثها موجب لدوامها واستمرارها إلا إذا جاء الرافع لها
كالملكية فان حدوثها موجب لدوامها إلا اذا حدث الموت أو النقل من المالك فان الشك
في بقائها لا يكون إلا شكا من جهة الرافع لها لأن المقتضي لبقائها هو حدوثها ومثل
الزوجية الدائمة والطهارة والنجاسة أو كان المقتضي لها محرز كالحمى الناشئة من
الامساك فانه قد يشك في بقائها من جهة تأثير الدواء مع إحراز المقتضي لها.
وكيف كان فلا وجه
لما عن بعض اساتذة العصر من تقييد الشك في الرافع بما كان حدوثه علة لبقائه.
وقد ذهب الشيخ
الأنصاري (ره) الى حجية الاستصحاب في خصوص صورة الشك في الرافع وينسب هذا القول
للمحقق الحلي قدسسره وللخوانساري في شرح الدروس.
وقد يستدل عليه
بأنه القدر المسلم من الأدلة هو ذلك لأن الإجماع لو تم والسيرة لو ثبتت فهما إنما
يكونان حجة في القدر المتيقن منهما
والقدر المتيقن من
ثبوتهما هو صورة الشك في الرافع.
واما الأخبار فلأن
المراد من اليقين في قضية (لا تنقض اليقين بالشك) هو المتيقن لا نفس اليقين. لأنه
لا إشكال في أنه قد انتقض بالشك قطعا ولا آثار نفس اليقين لأن هذه القضية قد ذكرت
في الأخبار للنهي عن نقض آثار المتيقن كالطهارة ونحوها فاليقين مأخوذ فيها على
سبيل المجاز في المتيقن ولا يصح نسبة النقض إليه إلا اذا كان المتيقن مما كان له
البقاء والاستمرار لأن حقيقة النقض هو حل الشيء المستحكم ابرام اجزائه ولذا ينسب
للغزل فيقال (هذه نقضت غزلها) وينسب للبناء فيقال (نقض البناء اذا هدمه) وينسب الى
الحبل فيقال (نقض الحبل إذا حل اجزاءه) ويقال (أنقضت الارض إذا خرج نباتها منها).
فاذا كان المتيقن مما كان له الدوام والاستمرار يكون مبرما مستحكما ويكون رفع اليد
عن بقائه للشك في وجود رافع بقاؤه نقضا له.
أما إذا لم يكن
كذلك بأن كان الشك فيه من جهة الشك في دوامه لم يكن مستحكما مبرما فلا يكون رفع
اليد عنه نقضا له ، ومن المعلوم انما يحرز بأن المتيقن له الدوام والاستمرار لو لا
الرافع المشكوك اذا أحرز وجود المقتضي لدوامه واستمراره ولو على نحو الإجمال وإلا
فالشيء الممكن في نفسه ليس له الدوام والاستمرار فتلخص ان النهي عن نقض المتيقن
عبارة عن ترتيب آثاره عليه عند احراز استمرار وجوده لو لا رافعه.
وبتقريب آخر لأستاذنا
المحقق الشيخ كاظم الشيرازي (ره) بأن حقيقة النقض لم يمكن ارادتها في المقام فلا
بد من ارادة المعنى المجازي للنقض ولا مناص عن اختيار الاقرب للمعنى الحقيقي وليس
هو إلا
رفع اليد عن الأمر
الثابت المستحكم ولو بحسب المقتضي وإطلاق النقض على مطلق رفع الأمر وإن لم يكن فيه
مقتضى البقاء وإن كان صحيحا أيضا إلا أن الواجب عند تعدد المجازات هو المصير إلى
أقربها.
وبتقريب آخر
للمرحوم الشيخ عبد الحسين الكاظمي ان ظاهر الرواية لا يعم مطلق اليقين بالشيء بل
المراد منها ما يصح اسناد النقض إليه والذي يصح اسناد النقض إليه هو اليقين الذي
تعلق بالشيء الذي يكون حدوثه يقتضي استمراره فانه هو الذي يصح إسناد النقض إليه
عند عدم العمل به في الزمن اللاحق.
وقد اجاب صاحب
الكفاية بان النقض تعلق باليقين وهو فيه الاستحكام والإبرام في تحقق المتيقن وليس
هو مثل الظن والوهم والشك وهو كاف في صحة تعلق النقض به حتى لو كان الشك من جهة
المقتضي.
ورد على صاحب
الكفاية استاذنا الشيخ كاظم الشيرازي (ره) بتوضيح منا ان الاستحكام في اليقين
المدعى في المقام ان كان بالنسبة إلى زمان اصل وجود المتيقن فهو صحيح إلا أنه لا
ينفع في المقام لأن متعلق النقض هو بقاء المتيقن لا اصل وجوده مع ان اليقين
بالنسبة إلى أصل وجود المتيقن في الاستصحاب لم ينتقض لأنه مفروض البقاء. وان كان
الاستحكام في اليقين المدعى في المقام بالنسبة إلى بقاء المتيقن فنمنع استحكامه
لفرض الشك في بقاء المتيقن.
ان قلت ان المراد
هو الأول أعني الاستحكام في اليقين بالنسبة لأصل وجود المتيقن وحيث في الاستصحاب
يلغى عرفا التقييد بالزمان في المتيقن بين أصل وجوده وبين بقائه فكان وجوده في
الزمان الثاني عين وجوده في الزمان الأول عرفا صار عدم ترتيب الآثار على بقائه
في الزمان الثاني
نقضا لليقين بالنسبة لأصل وجود المتيقن فيكون المصحح لاستعمال النقض في المقام
اجتماع الامرين وهما كون اليقين فيه الاستحكام والابرام والثبوت في محله والثاني
عد المتيقن في زمان الشك عينه في زمان الحدوث عرفا فيكون رفع اليقين في الزمان
الثاني كرفعه في الزمن الأول في كونه نقضا.
قلنا أن الاستصحاب
لما كان مبنيا على اليقين بالحدوث والشك في البقاء كان ملحوظا فيه التعدد الزماني
ومتقوما به وإلا لم يكن يقينا بالحدوث وشكا في البقاء فلا يعقل الغاء التعدد
الزماني فيه.
نعم يعتبر ان يكون
الموجود في الزمان الثاني عينه في الزمان الأول عند العرف من غير جهة الزمان.
سلمنا ان التعدد
الزماني ملغى في الاستصحاب وأنه يكفي في صدق النقض المضاف إلى اليقين إلا انه مبنى
على أن يكون المتعلق للنقص هو اليقين نفسه ومن المعلوم عدمه لما عرفت أنه ليس
المراد عدم نقض نفس اليقين ولا احكامه وانما المراد به عدم نقض المتيقن واحكامه
فيكون المتيقن هو متعلق النقض حقيقة فيجب أن يراعى حاله من كونه فيه اقتضاء
الاستمرار والابرام لأنه اذ ذاك تكون اجزاؤه لها هيئة اتصالية استمرارية يتعاقب
بعضها ببعض ومبرم بعضها ببعض لاستمرارها فيصح إذ ذاك نسبة النقض إليه عند رفعه
وعدم ترتيب آثاره عليه لأن الرفع يكون حلا لهيئة الاستمرار بين الأجزاء وفكا
لإبرام بعضها عن بعض.
ان قلت انا سلمنا
أن المراد حقيقة هو المتيقن لكن ذلك يتصور على أنحاء ثلاثة : ـ
أحدها أن يكون ذلك
بالتجوز واستعارة اليقين للمتيقن نظير
استعارة الاسد
والتجوز به عن زيد في قولك جاء الأسد عارضا رمحه مريدا بذلك زيدا.
وثانيها بالاضمار
بارادة احكام المتيقن الثابتة بواسطة اليقين حتى يكون الملحوظ بالذات هو المتيقن.
ثالثها ان يكون
ذلك على نحو الكناية بأن يكون نسبة النقض إلى اليقين بنحو الحقيقة لكن بعنوان
مرآتية اليقين وطريقيته للمتيقن فانه لازمه وان كان هو ان يتعلق النقض باليقين
إلّا أنه من قبيل الكناية عن عدم نقض المتيقن نظير الكناية بكثرة الرماد عن الكرم
وعليه فيكون الملحوظ بالذات هو نفس اليقين لا المتيقن ويصح النسبة إليه لما فيه من
الاستحكام وإن لم يكن المتيقن فيه اقتضاء الاستمرار والاستحكام فتكون القضية المذكورة
إنشاء للنهي عن عدم النقض لليقين اولا وبالذات لينتقل منه إلى لازمه كما إذا أراد
المخبر بأن زيدا كثير الرماد هو كثرة رماده لينتقل إلى كرمه وجوده وعليه فلعل
المراد بالقضية هو المتيقن ، لكن بهذا النحو الثالث وهو يشمل المتيقن سواء كان فيه
استمرار الدوام أولا.
قلنا انا ما ذكر
من الكناية لا ينفع في إثبات الدعوى لامكان أن يكون الاستعمال وقع على النحو الأول
ولا معين لأحدهما على الآخر فيكون حمل الرواية عليه بلا سند ولا بد حينئذ بالأخذ
بالقدر المتيقن من الروايات وهو صورة الشك في الرافع مع إحراز المقتضي مضافا إلى
أن التجوز في المقام أرجح ارادته من الكناية لأن الكناية تحتاج إلى ملاحظة أمرين
ملاحظة الاستحكام في اليقين وملاحظة وحدة متعلق اليقين بالنسبة للزمان الأول
والزمان اللاحق يعني الغاء التعدد الزماني.
وأما على التجوز
فيحتاج الى أمر واحد وهو ملاحظة الوجودات
المتدرجة للمتيقن
المستمر كأنها مبرم بعضها ببعض فالتجوز يحتاج لملاحظة مسامحة واحدة وهي تنزيل
الاجزاء في اتصالها الاستمراري منزلة المبرم بعضها ببعض بخلاف الكناية فانها تحتاج
إلى مسامحتين : ـ
احداهما تنزيل
اليقين بالنسبة لمتعلقه منزلة الأمر المستحكم المبرم أحدهما بالآخر.
والثانية تنزيل
متعلق اليقين بالنسبة الى اليقين بحيث ينزل اليقين في الاستصحاب بالنسبة الى حدوث
الشيء وبقائه منزلة اليقين بنفس الشيء ولا إشكال إن الأول أقل عناية وأقرب الى
الحقيقة فيكون هو المتعين لأنه أقل كلفة وهو يقتضى أن يكون المتيقن مستمر ومتماسك
وجوداته المتعاقبة بحيث يكون انعدامه في أثنائها كأنه فل وفك للمفتول ونقض للمغزول
وهذا إنما يتصور إذا فرض وجود المقتضي له في زمان الشك.
هذا غاية ما يمكن
أن يقال في تقريب قول المفصلين بين الشك في المقتضي والرافع لكن لا يخفى ما فيه.
أولا ان ظاهر قضية
(لا تنقض اليقين بالشك) هو نسبة النقض لليقين لا المتيقن وهي انما كانت باعتبار
ارتباط اليقين بالمتيقن فان ارتباطه به ارتباط محكم لا يزول بالسهولة والسرعة
بخلاف ارتباط الظن والوهم والشك بمتعلقاتها فانها تزول عنها بالسرعة ولا ريب ان
عدم ترتيب وجود المتيقن على اليقين أو عدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين يكون
نقضا لليقين نفسه حقيقة كما في نقض البيع أو العهد أو اليمين أو البيعة فان النقض
ينسب الى نفسها حقيقة عند عدم ترتيب آثار المعاهد عليه أو المقسم عليه أو المبايع
عليه فالمتيقن إذا لم يرتب آثاره عليه صح نسبة النقض إلى نفس اليقين المتعلق به
حقيقة
وان لم يكن حقيقة
فمجازا بالتشبيه لاستحكام اتصال اليقين بالمتيقن وقوة ارتباطه به وشدة ابرامه به
بابرام أجزاء الحبل وحيث كان المتيقن في الاستصحاب عند العرف واحد وان المتعدد هو
زمانه كسائر الموجودات المستمرة كان عند العرف عدم ترتيب آثار المتيقن في الزمان
الثاني نقض لليقين حقيقة أو مجازا يقرب للحقيقة نظير نقض البيعة بعدم ترتيب آثار
المبايع عليه واليمين عند عدم ترتيب آثار المقسم عليه فمن تيقن بوجود زيد ثم شك في
وجوده ولو من جهة عدم استعداد وجوده للبقاء فإن العرف يرى ان عدم ترتيب آثار وجوده
نقضا لليقين لأنه يراه وجودا واحدا للمتيقن مستمرا وان تعدد الزمان فان الزمان ليس
من مقومات الوجود حتى يكون موجبا للتعدد فلا مجاز في المقام ولو وجد المجاز فهو
إنما يكون بالنسبة لتشبيه ارتباط اليقين بمتعلقه بارتباط أجزاء الحبل والبناء ولا
مجاز حينئذ في نسبة النقض نظير أنشبت المنية أظفارها فانه لما شبه المنية بالأسد
المفترس وجعلها من أفراده كان نسبة الأظفار لها على سبيل الحقيقة هذا مع التنزل
وإلا فانا نقول أن النقض هو حل وفك لكل ارتباط سواء كان للارتباط بين أجزاء الحبل
أو البيعة بالنسبة للمبايع عليه أو نحو ذلك فان العرف لا يرى أن أدنى تجوز ولا أي
تنزيل في نسبته لليقين أو البيعة أو اليمين أو نحو ذلك وعليه فالروايات تشمل صورة
الشك في البقاء من جهة الشك في المقتضي كما تشملها من جهة الشك في الرافع للحقيقة.
والحاصل أن النقض
المستعمل في المقام انما هو باعتبار أن شدة الارتباط بين اليقين والمتيقن تنحل
وتنفك عند عدم الأخذ بالمتيقن وعدم ترتيب آثار المتيقن على اليقين سابقا لا
باعتبار انحلال استحكام المتيقن وانفكاك إبرامه بذلك ولا باعتبار اليقين وحده بل
إنما هو
باعتبار اليقين
بالنسبة للمتيقن عند عدم الاخذ بالمتيقن وعدم ترتيب آثاره عليه.
وفيه ثانيا ان
المراد بالنقض هو مطلق الرفع والأبطال والافساد فانه كثر استعماله في ذلك كقولهم (نقيض
كل شيء رفعه) ومنه نقائض جرير ونقائض المتنبي والقرينة على إرادة هذا المعنى منه
في المقام ما ورد في جملة من الأخبار في سياق تلك (القضية) من قوله (عليهالسلام)
: «ولكن تنقض الشك باليقين» فان ظاهر السياق أن وجه اسناد النقض إلى اليقين هو
بعينه وجه اسناده الى الشك ومن المعلوم أن الوجه في اسناد النقض للشك هو كون
اليقين رافعا للشك فليكن الامر في اسناد النقض لليقين كذلك لوحدة السياق.
وفيه ثالثا بأن الأخبار
الدالة على حجية الاستصحاب غير منحصرة بما اشتمل عليه لفظ النقض بل هناك أخبار لم
تشتمل عليه كموثقة عمار عن أبي الحسن (ع) المتقدمة وخبر الصفار المتقدم في صوم يوم
الشك : وخبر عبد الله بن سنان المتقدم ورواية الخصال التي صرح المجلسي (ره) عنها
بأنها في غاية الوثوق المتقدمة ،
ودعوى ان هذه
الرواية أعني رواية الخصال مشتملة على الأمر بالامضاء وهو مساوق للنهي عن النقض
لأن الامضاء هو الجري فيما له ثبات ودوام. مدفوعة بأنها مشتملة على المضي على
اليقين السابق وهو عبارة عن تنفيذه والعمل على طبقه ولا يلزم من الجري على الشيء
ان يكون له الدوام والاستمرار فإنه بقال فلان مضى وجرى على سيرة القدماء مع أن
سيرتهم ذهبت بذهابهم.
ودعوى أنها أيضا
مشتملة على الدفع وهو انما يكون في الشيء له الاستمرار والثبوت مدفوعة بأن الدفع
غير الرفع والدفع هو المنع عن
الشيء والحيلولة
دونه ولا يقتضي وجود المدفوع وثبوته ولذا يقال هذا الحرز يدفع الاذى عنك ويدفع عنك
الحمى وان لم يوجد الأذى ولا الحمى. نعم الرفع يقتضي ثبوت المرفوع.
حجية الاستصحاب في
الشك في الحكم التكليفي أو الوضعي : ـ
المورد الثالث
الذي وقع فيه النزاع ويكثر الابتلاء فيه هو عموم أدلة الاستصحاب للشك في الحكم
سواء كان تكليفيا أو وضعيا.
أما الحكم
التكليفي كالوجوب والحرمة فواضح لأنه مجعول للشارع وجعله ورفعه بيده.
وأما الوضعي فما
كان مجعولا للشارع بالذات فهو كذلك في جريان الاستصحاب فيه لأنه كالحكم التكليفي
وضعه ورفعه بيد الشارع فيجري فيه ما يجري فيه وما كان من الحكم الوضعي غير مجعول
للشارع ولكنه له اثر شرعي فيجري أيضا فيه الاستصحاب كما يجري في الموضوعات
الخارجية ذات الآثار الشرعية.
وأما ما كان من
الحكم الوضعي ما هو مجعول بالتبع لجعل التكليف الشرعي فان أمر رفعه ووضعه وان كان
بيد الشارع لكون منشأ انتزاعه بيد الشارع رفعه ووضعه فهو مما تناله يد التصرف من
الشارع بالتبع إلّا أنه لا مجال لاستصحابه لأنه مسبب عن منشأ انتزاعه والاستصحاب
في المسبب لا يجري لأنه محكوم لاستصحاب سببه ومنشأ انتزاعه وتوضيح الحال وتنقيحه
يحتاج إلى ذكر أمور : ـ
الاول ان الحكم من
مقولة الانشاء الذي هو عبارة عن الجعل والإيجاد الذي هو من أوصاف المنشئ والوجود
له وجود وتحقق في عالم نفسه كما له تحقق في الخارج بواسطة اللفظ الدال عليه ونحوه
ومنه يظهر ان الوجوب والحرمة ونحوها والكراهة والاستحباب ليست بأحكام
بل هي محكومة بها
إذ الحكم من مقولة الانشاء وهو قائم بنفس الحاكم فلا ربط له بالمحمولات المنتسبة
الى متعلقاتها فان تلك المذكورات من المحمولات القائمة بالفعل حاصلة من الإيجاب
والتحريم ولا ربط لها بالحكم أصلا وتسمية الفقهاء لها بالحكم مسامحة باعتبار كونها
من لوازمه.
الثاني إن الجعل
في الشرعيات مساوق للخلق في التكوينات وليس الجعل إلا عبارة عن الانشاء الذي هو من
أوصاف المنشئ وهكذا الخلق عبارة عن الإيجاد الذي هو من أوصاف الموجب وهذا الانشاء
والجعل إن تعلق بالتكوينيات والموجودات الخارجية فالتغاير بينه وبين متعلقه حقيقي
والإضافة في مثله لامية ، وان تعلق بالأمور القائمة في النفس كالجعل المتعلق
بالطلب القائم بنفس الطالب وبالحكم القائم بنفس الحاكم والبيع القائم بنفس البائع
ونحو ذلك من الأمور التى يكون تحققها بصدورها وقيامها بنفس فاعلها فالاضافة بيانية
ولا مغايرة بينه وبين متعلقه إلا باعتبار فانشاء الحكم والطلب والبيع ونحو ذلك عين
هذه الاشياء ولا مغايرة بينهما بالاعتبار كمغايرة الضرب الصادر من الضارب للضرب
الواقع على المضروب.
وعلى هذا فإنشاء
الحكم الشرعي عين الحكم الشرعي وما يلازمه من الطلبية والمطلوبية ونحوها أمور
اعتبارية لا تأصل لها
الثالث انه وقع الخلاف
بين الحكماء في لوازم الماهيات كحلاوة الحلويات وحرارة النار وضوئها ومرارة السم
هل هي مجعولات بجعل مغاير لمحالها كما ذهبت اليه الأشاعرة واستدلوا عليه بقوله
تعالى (جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) ، أو أنها منجعلة بجعل محلها كما ذهب اليه المعتزلة وأشار
اليه ابن سينا بقوله وما جعل الله المشمش مشمشا بل أوجده على هذا فالسببية كسببية
البول للطهارة في الصلاة
وكالكسوف لوجوب
الصلاة أو الشرطية كشرطية الاستطاعة للحج والمانعية كما نصبه الدين من وجوب الحج
على المستطيع والقاطعية كقاطعية الضحك للصلاة وقاطعية قصد الاقامة للسفر وأمثال
ذلك من قيل لوازم الماهية في عدم تأصلها كالطالبية والمطلوبية وليست بهذا الاعتبار
من مقولة الإنشاء القائم بنفس المنشئ بل تكون من العوارض والتوابع الطارية التي
يحكم بها العقل على جعل الحكم الشرعي. فالمجعول الشرعي بالذات هو الحكم التكليفي
مقيدا بوجود شيء أو عدمه فينتزع منه العقل سببية ذلك الشيء أو مانعيته أو قاطعيته
ولا منشأ لانتزاعها سوى ذلك كما يذهب إليه المنكرون لجعلها أو انها لها وجود منشأ
انتزاع خاص لها مغاير للأحكام التكليفية لا بد في جعلها من جعل الشارع لها وتكون
من مقولة الانشاء القائم بنفس المنشأ كما ذهب إليه المثبتون من أن الوضعيات
المعروفة تحتاج إلى جعل غير جعل الأحكام التكليفية فاذا قال المولى (أقم الصلاة
لدلوك الشمس) يفهم منه جعلان للتكليف والوضع وهو سببية الدلوك لإقامة الصلاة وإلا
فلا سببية يحكم بها العقل والحاصل ان المنكرين يقولون ليس عندنا إلا أحكام تكليفية
غاية الأمر أن العقل ينتزع منها معنى يسمى بالحكم الوضعي. والمثبتون يمنعون عنه
ويدعون أن كلا منها أمر مستقل مجعول في عرض آخر.
اذا عرفت ذلك
فنقول وقع الخلاف في المسألة على أقوال منهم من ذهب الى جعلها بالاستقلال مطلقا وهو
المنسوب الى العلامة في النهاية وللعلامة الطباطبائي والسيد الصدر في شرح الوافية
والى الباغنوي والغزالي والسيد شريف وصاحب المحصول والفاضل احمد النراقي والمحقق
الكرباسي بل يمكن استظهاره من كل من نفى الجزئية أو الشرطية المشكوكتين بالاصل
فانها لو لم تكن مجعولة عنده لما صح ذلك منه.
ومنهم من ذهب الى
النفي مطلقا وينسب لصاحب الزبدة وتلميذه في شرحها وللخوانساري. ومنهم من فصل بين
الجزئية والشرطية والسببية والمانعية مما كان جزءا للعلة وبين غيرها فأنكره في
الأول وأثبته فى غيرها. ومنهم من فصل بين ما يكون مسبوقا بالتكليف ويتبع الحكم
التكليفي كالصحة والفساد والجزئية والشرطية ونحو ذلك وبين ما يترتب عليه الاحكام
الشرعية كالملكية والزوجية والطهارة والنجاسة وأمثالها فأنكر الجعل الاستقلالي في
الأول دون الثاني ويدل على قول المثبتين لجعلها وجوه : ـ
أحدها : أنه لا
شبهة في عدم المناسبة الذاتية بين الأسباب الشرعية ومسبباتها ولا بين الشرائط
الشرعية ومشروطاتها ولا بين الأجزاء الشرعية ومركباتها كما أنه لا شبهة في حدوث
العلقة والربط بجعل الشارع للأسباب والشروط والأجزاء أما لمصلحة يراها في ذلك كما
عليه العدلية أو أنه اقتراح منه على ما عليه الأشاعرة وعلى كل تقدير فهذه العلقة
لم تكن بينها قبل جعل الشارع وانما حدثت بعد حكم الشارع بالشرطية والسببية ونحو
ذلك. وليس جعل الحكم الوضعى الا عبارة عن إحداث هذه العلقة وإنشاء هذا الربط في
عالم التشريع ومرتبة من القانون وجعله. وعلى هذا فان كان الخصم ينكر إحداث وجود
ذلك الربط وتلك العلقة فمع أنه يكذبه الوجدان وترده البديهة والعيان ويلزمه
الالتزام بلغوية تقييد الطلب في مثل قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ) وقوله (ع) «لا صلاة إلّا بطهور» ونحو ذلك ضرورة ان وجود
القيد مع عدم الربط بينه وبين المقيد كعدم القيد فلم يكن فرق بين هذا الخطاب
والخطاب المطلق كأن يقول أقم الصلاة بلا تقييد وان كان الخصم يعترف بالربط والعلقة
والتقييد فيقال له أنه هل جاء بذلك
الشرع أم لا.
فإن قال بالثاني
كذبه الوجدان والعيان وإن قال بالأول فهو المطلوب.
الثاني : ان الاحكام
الوضعية تفهم من الأدلة كما تفهم الأحكام التكليفية الشرعية منها فهي احكام مفهومة
من الأدلة كغيرها فيلزم العمل بها وارجاعها إلى الأحكام التكليفية ارتكاب لخلاف
الظاهر فيكون تصرف بالحجة بلا حجة.
الثالث : ان الحكم
الوضعي لو لم يكن مجعولا وكان منتزعا عن الحكم الطلبي عقلا لاستحال انفكاكه عنه
لاستحالة تخلف التابع واللازم عن متبوعه وملزومه والتالي باطل بالوجدان لما نشاهده
من ثبوت الحكم الوضعي في موارد يعلم بعدم الحكم التكليفي فيها كثبوت الضمان
والجناية والنجاسة ونحوها في حق الصبي والنائم والمجنون وغيرهم بإيجاد اسبابها من
اتلاف مال الغير وادخال الحشفة في الفرج والانزال وملاقاة البول وغير ذلك مع
انتفاء الحكم التكليفي الذي هو منشأ الانتزاع ، ودعوى ان الحكم التكليفي الذي هو
منشأ الانتزاع أعم من التنجزي أو الشأني وفي المذكورات ثابت الحكم الشأني بل الحكم
التعليقي أعني المعلق على البلوغ والافاقة من الجنون وهو كاف في انتزاع الحكم
الوضعي.
فاسدة ضرورة ان
البلوغ والعقل والقدرة التي هي من الشروط العامة من شروط أصل تعلق التكليف لا من
شروط تنجزه فمع انتفاء أحدها لا تكليف شأنا ولا فعلا لحكم العقل بعدم الفرق بين
فاقدها وبين البهائم والجمادات ،
هذا مضافا إلى أن
ظاهر كلماتهم هو ثبوت الأحكام الوضعية المذكورة من الضمان ونحوه فعلا وتنجزها
بمجرد وجود أسبابها في مواردها مع أن الحكم التكليفي لو كان موجودا فإنما يكون
معلقا أو شأنيا
ولا يعقل فعليّة
التابع واللازم وتنجزهما مع انتفاء فعليّة المتبوع والملزوم وعدم تنجزهما حيث
يستحيل أن يكون المنتزع منجز والمنتزع عنه معلقا أو إنشائيا وحينئذ فلا بد أما أن
يقال ان الضمان والنجاسة مثلا أيضا تعليقي كالمنتزع منه وهو خلاف ظاهر كلماتهم
قاطبة أو بفعلية المنتزع منه كالمنتزع وهو خلاف الاجماع بل الضرورة أو بمنع
الانتزاع والاعتراف بأنه مجعول مستقل في عرض الحكم التكليفي وهو المطلوب.
مضافا الى أن توجه
الخطاب التعليقي الى الصبي والمجنون لا يعقل فإنه إن كان هو نفس الخطاب المتوجه
للمكلفين أيضا لزم استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ضرورة ان الخطاب التنجيزي
غير الخطاب التعليقي وإن كان بخطاب خاص فمع انه غير موجود لدينا يرد عليه أنه
حينئذ لا يمكن أن يكون إنشاء بل يكون اعلاما بأنهم سيصحبون مكلفين ولا دخل للأعلام
بالأحكام مع ان الاعلام بعد حصول الشرائط لا ينهض لاثبات التكليف بالنسبة الى ما
سبق سببه ضرورة استحالة انقلاب الاخبار الى الانشاء فلا بد من خطاب جديد ينتزع منه
الضمان والجنابة والنجاسة والطهارة قبل حدوث هذا الخطاب الجديد.
ودعوى انتزاع
الاحكام الوضعية المذكورة من الحكم التنجيزي المتوجه للولي فاسدة فإنها غير جارية
في الجنابة والنجاسة والطهارة مضافا إلى أنه لازم ذلك أن يضاف الحكم الوضعي للولي
لا الى الصبي والمجنون اذ الأمر الانتزاعي تابع لمورد منشأ انتزاعه ولا معنى
لاضافة المنتزع الى غير من تعلق به منشأ الانتزاع.
الرابع ما ورد في
الشرع الشريف من القضايا الظاهرة في جعل الحكم الوضعي كقوله (ع) «من أتلف مال غيره
فهو له ضامن»
وقوله (ع) «قد
جعلته حاكما» وقوله (ع) «الماء كله طاهر» وسائر الأدلة المثبتة للخيارات ونحوها
مما هو ظاهر في جعل الحكم الوضعي ولا وجه لصرفها عن ظاهرها لأن الظاهر حجة
فمخالفته تحتاج الى دليل وهو مفقود.
ان قلت ان المولى
إذا قال لعبده (اكرم زيدا إن جاءك) لا يجد من نفسه أنه أنشأ إنشاءين وجعل أمرين
أحدهما وجوب إكرام زيد والثاني كون مجيئه سببا لوجوب اكرامه بل يجد من نفسه ان
الثاني مفهوم منتزع من الأول لا يحتاج الى جعل مغاير لجعله للأول بل حتى لو قال
المولى (الدلوك سبب لوجوب الصلاة) فإنا لا نعقل منه جعل السببية لا بجعل مستقل ولا
بالتبع وإنما نعقل منه إنشاء الوجوب عند الدلوك وانتزاع العقل السببية للدلوك هذا
كله في السبب والمانع والشرط.
وأما الصحة
والفساد فهما في العبادات موافقة العمل المأتي به للمأمور به أو مخالفته ومن
المعلوم ان الموافقة والمخالفة ليستا مجعولتين بجعل جاعل وأما في المعاملات فهما
ترتب الاثر على المعاملة وعدم الترتب ومرجع ذلك الى سببية المعاملة للأثر وعدم
سببيتها وقد عرفت ان السببية غير مجعولة للشارع.
والحاصل أن هذه
الأشياء ليست بأحكام مجعولة للشارع لا بنفسها ولا بتبع غيرها بل هي أما أمور
واقعية كشف عنها الشارع كسببية الدم للنجاسة أو أمور انتزاعية من الاحكام
التكليفية كالملكية فانها منتزعة من جواز الانتفاع بالشيء وبعوضه بلا بدل.
قلنا ان ما ذكره
الخصم كله راجع الى دعوى الوجدان الممنوعة عليه والمصادرة العارية عن البينة
والبرهان ومع ذلك في كلامه مواقع للنظر.
منها قوله لا يجد
المولى من نفسه انه أنشأ انشاءين.
قلنا نعم أنه أنشأ
إنشاءين أحدهما إنشاء العلقة والربط بين المجيء وبين الوجوب والثاني طلب الاكرام
عند المجيء غاية الأمر أنه كان بخطاب واحد ولا ضير فيه بعد ما كان دلالة الخطاب
على أحدهما وهو التكليف بالمطابقة وعلى الآخر وهو الحكم الوضعي بالالتزام فيكون
الآخر مجعولا للشارع جعلا أصليا لا انتزاعيا ولكن استفادته من الخطاب بالتبع
وبالدلالة الالتزامية نظير ما ذكروه في قوله تعالى (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) من دلالته على الصحة التي هي الحكم الوضعي بالالتزام
فاستفادة الحكم الوضعي من الخطاب المذكور وان كانت تبعية إلا أن ذلك لا يقتضي أن
يكون المستفاد أيضا تبعيا بل المستفاد أيضا أصليا بل يمكن أن يكون كلاهما
بالمطابقة بأن يقال أن التكليف مستفاد من الامر والحكم الوضعي مستفاد من التقييد
بالدلوك وبالمجيء في المثالين المتقدمين فيكون الخطاب من قبيل الدالين على
مدلولين.
ومنها قوله (واما
الصحة والفساد) ففيه أن ما ذكره إنما يتوجه إلى تفسير المتكلمين لهما بذلك وأما
بناء على تفسير الفقهاء الصحة عن اسقاط القضاء والفساد عن عدمه فيمكن دعوى تعلق
الجعل بهما إذ هما بهذا المعنى ليسا من الأمور العقلية لا تتغير ولا تتبدل بجعل
الجاعل ولا بالأمور المنتزعة من أمر آخر بل هما مما للشارع التصرف فيهما بأن يحكم
بسقوط القضاء وإن لم يأت المكلف بالمأمور به كما في صلاة العيدين والجمعة كما
للشارع أن يجعل الفعل المأتي به المخالف للمأمور به الواقعي مسقطا له بناء على
أجزاء الأوامر الظاهرية عن الواقعية كما لو صلى باستصحاب الطهارة مع فقدها في
الواقع ونظير ذلك بذل المتبرع دين غيره أو صداق زوجة غيره فانه مسقط لوجوب الأداء
عليه.
ومنها قوله (امور
واقعية كشف الخ ..) ففيه انها صارت أحكاما شرعية بعد جعل الشارع لها ولو بنحو
الامضاء مع أنه لو كانت امورا واقعية لا تحتاج الى الجعل لم تكن حاجة لكشف الشارع
عنها لانها ان كانت يعرفها العقلاء والعرف فواضح وان لم يعرفها فنحن نمنع ذلك وليس
هو أولى من الالتزام بالجعل لمصلحة هناك تقتضي جعلها كما اقتضت المصلحة جعل
التكليف ثم كيف يدعي الخصم انها منتزعة من الأحكام الشرعية مع أنها امور واقعية اذ
على هذا التقدير تكون أسبق من الأحكام.
ان قلت ان الأحكام
الوضعية غير قابلة للجعل فان مواردها مشتملة على خصوصية تكوينية موجبة لتلبس ذيها
بالحكم الوضعي في عالم التكوين والايجاد فالسبب والشرط والمانع والرافع للتكليف لم
تتصف بهذا الوضع والحكم إلا لأجل تلك الخصوصية وإلا لزم أن يكون كل شيء متصفا بهذه
الصفات ومن المعلوم أن مجرد الانشاء لمفاهيمها مثل ان يقول (دلوك الشمس سبب لوجوب
الصلاة) إنشاء للسببية الدلوك لا يوجب سببية الدلوك لوجوبها ما لم يكن في الواقع
خصوصية في الدلوك توجب الوجوب للصلاة ، وعليه فيكون إنشاء الحكم الوضعي كاشف عن
وجود تلك الخصوصية لا أنه موجد لها بخلاف انشاء سائر الأحكام فإنه موجد لها فسببية
العقد أو الحيازة ونحوها لجواز التصرف وشرطية الاختيار في التصرف لتأثيرها وعدم
المانع منها من سبق عقد الغير أو حيازته أو نحو ذلك من اجزاء العلة كلها أمور
واقعية تكوينية كشف عنها الشارع ولم يجعلها الشارع.
قلنا أن الجواب عن
ذلك بالنقض بنفس التكاليف فانها لا بد وأن تكون لخصوصية في موردها. وعليه فيكون
انشاؤها كاشفا عن تلك
الخصوصية وليس
بكاشف عن الجعل للشارع لها.
وبالحل نسلم انه
لا بد من خصوصية لكن تلك الخصوصية تقتضي جعل من بيده الجعل السببية للتكليف أو
الشرطية له أو نحو ذلك حيث يرى المصلحة تقتضي ذلك كما أن رؤيته للمصلحة الواقعية
في العمل تقتضي إيجابه أو تحريمه.
والحاصل أن
السببية التشريعية التكليف أو سائر أجزاء علته مثلا فانها وان كانت تتوقف على كون
الشيء ذا خصوصية في الواقع ومصلحة في نفس الامر مقتضية لترتب التكليف عليه إلّا
انه نفس الجعل لها من الشارع في عالم الإنشاء يكون لأجل حصول تلك الخصوصية
والمصلحة في الخارج فالمجيء بذاته والدلوك في نفسه والجنابة في الواقع وان كانت
فيها خصوصية ومصلحة تقتضي التكليف بالاكرام والصلاة والغسل إلا أن حصول تلك
الخصوصية تحقق تلك المصلحة لا يحصلها العبد ولا يظفر بها المكلف الا بعد جعل
الشارع لها سببا أو شرطا أو نحو ذلك للتكليف نظير الخصوصيات والمصالح في الأعمال
الموجبة للتكليف بها.
وان شئت قلت ان
المصلحة المقتضية للتكليف لا تتحقق إلا بعد حصول تلك الامور فالمولى جعلها اسبابا
ليحصل العبد المصلحة المقتضية للتكليف.
ان قلت ان السبب
للحكم والشرط له وعدم المانع والرافع كلها في مرتبة العلة لصدور الحكم من الحاكم
فالإرادة للحكم والمصلحة الموجبة له لا يعقل أن تكون مجعولة من الحاكم للحكم.
قلنا محل كلامنا
ليست هذه الأمور التي هي في مرتبة العلة لصدور الحكم فانها بالنسبة الى الحكم يكون
اتصافها بحسب التكوين لا بحسب
التشريع لا بالذات
ولا بالتبع فان الارادة من الحاكم للحكم سبب تكويني لصدوره منه وانما محل كلامنا
هذه الامور التي هي في مرتبة الموضوع والمتعلق للحكم الشرعي بحيث يكون جعله وثبوته
منوطا بها كالدلوك والقدرة وعدم الجنون لوجوب الصلاة والاستطاعة للحج وبلوغ النصاب
للزكاة.
وذهب استاذنا
الشيخ كاظم الشيرازي قدسسره في هذا المقام بتوضيح منا ان مراد القوم بكون الوضع مجعولا
وعدمه بقرينة ما رتبوا عليه من جواز الاستصحاب نظير استصحاب الأحكام التكليفية
وعدم جوازه إلّا بتبع استصحاب منشأ الانتزاع نظير الامور الاعتبارية هو جعلها
بالجعل التشريعي على نحو يكون للتعبد ببقائها أثر عملي خارجي كما ان التعبد ببقاء التكليف
له عمل خارجي كالطاعة أو العصيان فمرجع النزاع إلى أن الاحكام الوضعية هل لها عمل
خارجي صح باعتباره جعل البقاء والاستصحاب التشريعي لها كالأحكام التكليفية أم لا.
فالقائل بعدم الجعل يقول نحن لا نعقل لغير التكليف أثر من طاعة أو عصيان يعبدنا
الشارع ببقائه باعتبار ذلك الأثر. والقائل بالجعل يدعي وجود ذلك وان الأثر هو
الاتيان بالتكليف عند حصول السبب واتيان الجزء في ضمن امتثال الأمر بالشكل وعليه
فالجزئية والسببية تستصحب مع سبق اليقين بوجودها وترفع عند الجهل بها مع عدم
اليقين السابق بها باعتبار ذلك الأثر.
ثم اختار (ره) على
هذا المبنى الوجه الأول وهو عدم الجعل لعدم عمل خارجي لنفس جعل بقائها وما ذكر من
الأثر في الامثلة المتقدمة إنما هو أثر عملي للتكليف بالكل أو لتعلق التكليف
بالجزء في ضمن الكل ولا أثر عملي لنفس الجعل للبقاء حتى في الملكية
والولاية والقضاء
ومجرد أنه يجعل بجعل من له الأمر لا يصح جعل بقائها إذا لم يكن لها عمل تعبدي
وحينئذ لا بد في استصحابها من أثر عملي في الخارج كاستصحاب الموضوعات الخارجية بل
كاستصحاب الأحكام الشرعية إذا رتب عليها أثر شرعي.
والحاصل ان
الأحكام الوضعية كالموضوعات الخارجية لا بد في استصحابها من ملاحظة التكاليف
المرتبة عليها التى تكون هي بمنزلة الموضوع لها ولا ريب أنها في هذه المرتبة يكون
استصحابها مثل استصحاب الموضوعات الخارجية لا يصح بدون ترتب أثر شرعي عليها ولا
نعقل امرا غير التكليف قابلا لوضع بقائه ورفعه بعنوان المولوية المؤثرة ، هذه خلاصة
مرامه رفع الله مقامه وأنت بعد ما اوضحنا لك الحال تعرف حقيقة هذا المقال.
دفع توهم :
هذا وقد يتخيل ان
الاستصحاب لا يجري في مثل الشرطية والسببية والمانعية لأن الشك فيها مسبب عن الشك
في منشأ انتزاعها فاذا شككنا في شرطية الاستقبال للصلاة مثلا نجري الاستصحاب في
منشأ انتزاعها وهو كون الأمر بالصلاة مقيدا بالاستقبال لأنها مسببة عنه.
وفيه أنه لا بد من
ملاحظة الدليل الشرعي فقد يكون الأمر كما ذكره المتخيل كما لو كان لسان دليل
الشرطية اذا صليت فاستقبل القبلة وقد يكود الأمر بالعكس كما لو كان لسان دليلها
الاستقبال شرط للصلاة.
ثمرات القول بجعل
الحكم الوضعي
الأولى : ـ انه
على القول بالجعل يجوز اجراء اصالة العدم في نفي الجزئية والشرطية فيما يشك فى انه
جزء أو شرط في عبادة أو في
معاملة وهو مقدم
على اصل الاشتغال لأنه أصل موضوعي حاكم على قاعدة الاشتغال بخلافه على الآخر لعدم
جريان الأصل في اللوازم والتوابع والامور الانتزاعية.
الثانية : أنه
بناء على حجية الاستصحاب مطلقا يجوز إجراء الاستصحاب في الوضعي على القول بالجعل
فيجري استصحاب سببية الغليان للنجاسة في العصير الزبيبي لو تمت أركانه ولو قلنا
بعدم حجية الاستصحاب التعليقي ولا يجوز على القول بعدم جعل الوضعي :
الثالثة : ـ انه
يصح الحكم بارتفاع الحكم الوضعي بنفسه عند الشك بمقتضى حديث الرفع ولا يصح على
القول بعدم جعله.
الرابعة : ـ ما
ربما يقال من ظهور الثمرة في انتقاض الفتوى بالفتوى في الأسباب الشرعية كما لو
تزوج مجتهد مثلا بمن حصل بينه وبينها عشر رضعات لفتواه بعدم نشر الحرمة ثم تبدل
رأيه إلى انتشار الحرمة بها فعلى القول بالجعل يستصحب الزوجية المسببة من العقد
السابق فيحكم بصحة النكاح لأن التبدل في الفتوى بالتكليف انما كان في التكليف وهو
الحرمة وهو لا يستلزم التبدل في الحكم الوضعي ويشك في بقائه فيستصحب بخلافه على
القول بالعدم اذ الوضعي تابع للتكليف فمع انتقاض المتبوع ينتقض التابع ولا يشك في
بقائه.
تنبيهات الاستصحاب
التنبيه الأول على
ان الاستصحاب من الاحكام الظاهرية : ـ
وينبغي التنبيه
على أمور مهمة : ـ
الأول : لما كان
العمدة في أدلة الاستصحاب هو الأخبار الصحيحة المتقدمة وهي انما تدل على أن
الاستصحاب وظيفة للشاك تثبت للشيء
بوصف أنه مشكوك
الحكم كان من الاحكام الظاهرية والأصول العملية نظير البراءة والاشتغال والتخيير
وهو ظاهر كل من تمسك بها واعتمد عليها وذكر غير واحد أن أول من تمسك بها هو الشيخ
حسين بن عبد الصمد الحارثي (ره) والد الشيخ البهائي في العقد الطهماسي وتبعه
السبزواري والخونساري ومن تأخر عنهم ويشعر بذلك تعبير الحلي في سرائره بنقض اليقين
باليقين في مقام الاستدلال على نجاسة الماء المتنجس بالنجس اذا زال تغيره من قبل
نفسه.
وعليه فيكفي في
الاستصحاب مجرد عدم العلم بزوال الحالة السابقة ولا يعتبر فيه الظن ببقائها بل
يجري حتى مع الظن بالخلاف كما تقتضيه صحيحة زرارة السابقة في أول الاخبار ، كما
أنه يكون من الاصول العملية لأنه يكون تعبدا بالحكم السابق في مورد الشك في بقائه.
وعلى تقدير قيام بناء العقلاء عليه أو الاجماع على اعتباره. فنقول أن ذلك هو القدر
المتيقن منها.
وأما المتقدمون من
الاصحاب فظاهر الأكثر كالشيخ والسيدين وغيرهم بل وعامة المخالفين على ان الاستصحاب
من الأدلة العقلية لأنه حكم عقلي يتوصل به لحكم شرعي بواسطة خطاب شرعي فيقال ان
الخطاب الشرعي قام على ان حكم الشيء الفلانى الشرعي سابقا هو كذا ونشك في بقاء
الحكم الشرعي في الحال وكلما كان كذلك فهو باق. فالصغرى شرعية والكبرى عقلية ظنية
فهو نظير القياس والاستحسان في كونه من المستلزمات العقلية الغير المستقلة ومن
الأدلة الاجتهادية الظنية والامارات الشرعية نظير الخبر وليس من الاصول العملية
ولذا لم يتمسك هؤلاء بالأخبار.
نعم ذكر الشيخ
الانصاري في رسائله ان الشيخ في العدة انتصارا
لحجية الاستصحاب
ذكر ما روي عن النبي (ص) «من ان الشيطان ينفخ بين أليتي المصلي فلا ينصرفن احدكم
إلا بعد أن يسمع صوتا أو يجد ريحا» ثم أورد عليه الأنصاري (ره) ان الرواية ضعيفة
ومختصة بموردها (ره) ولا يخفى ان الانتصار بذلك ليس من الشيخ نفسه بل نسب الانتصار
به الى غيره حيث قال (ره) «فاستدل من نصر استصحاب الحال بما روي عن النبي (ص)».
وعليه فيعتبر فيه الظن ببقاء الحالة السابقة إلا ان المعهود من طريقة الفقهاء عدم
اعتبار افادة الاستصحاب الظن بل يجري حتى مع الظن بالخلاف. نعم يظهر من المحكي عن
الحبل المتين للشيخ البهائي والشهيد في الذكرى ان المدار هو الظن ببقاء الحالة
السابقة.
لكن قد عرفت ان
العمدة في أدلته هو الأخبار وهي ظاهرة في جعل الحكم السابق عند الشك في بقائه
وبيان الوظيفة عند التردد فيه كأصل البراءة والاشتغال في جعل الإباحة أو الاحتياط
في مقام الشك ولو سلمنا دلالة بناء العقلاء والاجماع عليه فالقدر المتيقن منها هو
ذلك بمعنى أن بناء العقلاء على أنه الوظيفة في مقام الشك لا أنه امارة على الواقع
وهكذا الإجماع.
التنبيه الثاني
فيما يعتبر في تحقق الاستصحاب : ـ
انه لا بد في تحقق
ماهية الاستصحاب أمور ثلاثة : ـ
الأول والثاني : ـ
اليقين الفعلي بوجود الشيء والشك الفعلي في بقائه ولا يكفي اليقين التقديري بأن
يكون الشيء فيه سبب يوجب اليقين به بحيث لو التفت اليه لتيقن بوجوده كما يكفي الشك
التقديري في بقائه بأن يكون بحيث لو التفت الى بقائه لشك فيه لأن اليقين التقديري
ليس بيقين حقيقة ولا الشك التقديري شكا حقيقة فإنه مضافا الى أن حقيقته
متقومة بذلك. أن
الأدلة المعتبرة على اعتباره قد اخذ في موضوعها اليقين والشك وهي ظاهرة في
الفعليين كما هو الظاهر من الموضوعات المأخوذة في سائر الأدلة ألا ترى حجية الخبر
لما أخذ في موضوعها الثقة فإنه يراد به الثقة بالفعل لا بالتقدير ، هذا مضافا الى
أنه لو أريد من اليقين اليقين التقديري لزم مع الشك في وجود الشيء ان يستصحب وجوده
على تقدير وجوده سابقا لأنه مع وجوده في السابق يكون متيقنا به تقديرا لأنه لو
التفت اليه لتيقن بوجوده وعليه فلا يصح إجراء أصل البراءه في كل مورد لأنه في
موردها يحتمل الوجود السابق للحكم الشرعي ويكون متيقنا تقديرا فيستصحب على تقدير
وجوده وهو يقتضي تنجزه لو كان موجودا سابقا واشتغال الذمة به على تقدير وجوده نظير
صورة الشك في الحكم قبل الفحص فإن المانع من اجراء البراءة فيه هو احتمال تنجزه لو
كان موجودا ومن هنا يتوجه الاشكال على استصحاب الاحكام الشرعية التي قامت عليها
الامارات الظنية المعتبرة كخبر الواحد بناء على ان المجعول في مورد الامارات
الظنية ليس إلّا الحجية للامارة التي نتيجتها هو تنجز الواقع على تقدير المصادفة
والعذر على تقدير المخالفة لا جعل الحكم الظاهري في موردها على طبق مؤداها وذلك
لأن المستصحب على البناء الأول أعني جعل الحجية لو كان هو الحكم الواقعي فهو غير
متيقن وجوده وإن كان الحكم الظاهر فهو معلوم العدم لأن الفرض إنه لم يجعل في
موردها حكما ظاهريا نعم لو قلنا بجعل حكم ظاهري في موردها صح استصحابه لليقين
الفعلي به عند قيامها.
وقد اجاب عنه صاحب
الكفاية بتوضيح وتنقيح منا بأنا نلتزم بالاستصحاب للمتيقن وان لم يكن يقينا فعليا
به بأن يكون المستصحب
هو الحكم الواقعي
الذي هو مدلول الدليل على تقدير وجود ذلك الحكم لان مفاد أدلة الاستصحاب هو
الملازمة بين وجود الشيء وبقائه لأن اليقين والشك ليس لهما موضوعية وخصوصية وانما
ذكر اليقين باعتبار ثبوت المتيقن به فهو مأخوذ باعتبار الطريقية المحضة وهكذا الشك
أخذ لبيان عدم الاعتناء به مع اليقين لا لخصوصية له. عليه فالامارة اذا قامت على
وجود الحكم وكانت تقتضي تنجزه لو طابقت الواقع يثبت بها لوازم وجوده وهو البقاء
على تقدير مطابقتها ببركة أدلة الاستصحاب فيتنجز بها البقاء على تقدير المطابقة
للواقع كنفس تنجز مدلولها على تقدير مطابقتها للواقع فتكون الامارة ببركة أدلة
الاستصحاب منجزة لوجود الواقع ولبقائه على تقدير مصادفتها للواقع كما تنجز سائر
آثار الواقع الشرعية الثابتة له عند الشرع ، ونظير ذلك ما إذا قام الدليل على
الملازمة بين الافطار والقصر للصلاة وقامت الامارة على وجوب الافطار عند السفر
فيتنجز وجوب القصر فيه ببركة أدلة الملازمة بينهما وإن كانت الامارة التي قامت على
وجوب الافطار يتنجز بها الواقع لو طابقت الواقع وتكون عذرا عند المخالفة فإنه إذ
ذاك يكون وجوب القصر كوجوب الإفطار في تنجزه لو صادقت الامارة الواقع لأنه
بالأمارة يثبت الملزوم وإذا ثبت الملزوم ثبت اللازم. وبعبارة أخرى أن أدلة
الاستصحاب تدل على الملازمة الظاهرية بين وجود الحكم وبين بقائه عند الشك فيه فإذا
ثبت حدوثه بالامارة أو بغيرها يثبت اللازم له بالاستصحاب وهو بقاؤه عند الشك فيه.
وأما دعوى انه
يلزم ان لا يجري أصل البراءة لجريان الاستصحاب المذكور وان لا ينحل العلم الإجمالي
بالحرام اذا قامت الامارة على حلية بعض أطرافه فهي فاسدة. لأن الاستصحاب يكون
للحكم بالمرتبة الموجود فيها وفي البراءة وصورة انحلال العلم الاجمالي يكون الحكم
على تقدير وجوده في مرتبة عدم التنجز فاستصحابه على تقدير وجوده
بمرتبة عدم التنجز
لا يوجب تنجزه لو كان في الواقع موجودا بخلاف ما اذا قامت الامارة المعتبرة عليه
فإنه على تقدير وجوده يكون منجزا والاستصحاب على هذا التقدير يكون استصحابا له في
مرتبة تنجزه فهو أيضا يقتضي انه على تقدير وجوده يكون باقيا بنحو التنجز وعلى
تقدير عدم وجوده يكون العمل بالاستصحاب عذرا للمكلف. هذا غاية ما يمكن أن يقرب به
هذا الوجه.
وأما لو قلنا بجعل
الحكم الظاهري في مورد الامارة فلا إشكال لأن الحكم الظاهري متيقن الوجود عند
قيامها فيستصحب نفسه.
ويرد على هذا
الجواب بأن تنجيز بقاء الحكم أما بالامارة أو بالاستصحاب فإن كان بالامارة فهو
باطل لعدم دلالتها الا على مجرد ثبوت الحكم حسب الفرض وحجيتها مقصورة على مقدار
مدلولها سعة وضيقا فكيف تكون حجة على بقاء الحكم مع فرض خروجه عن مقدار مدلولها.
وان كان
بالاستصحاب يثبت البقاء على تقدير الوجود بأن يكون الاستصحاب عبارة عن تعبد الشارع
لنا بالبقاء على تقدير الوجود عند الشك في البقاء بأن يكون الاستصحاب عبارة عن
الملازمة بين الوجود والبقاء ، والبقاء من لوازمه وحينئذ يكون المنجز للوجود منجز
للبقاء فهو أيضا باطل لأن الاستصحاب متقوم بكون المستصحب حكما أو موضوعا ذا حكم
وفيما نحن فيه وإن كان المستصحب حكما قامت الامارة على وجوده إلا أنه لما كان غير
معلوم الوجود والجعل كان الاستصحاب لشيء غير معلوم التحقق وبقاء شيء غير معلوم
التحقق سابقا ليس له أثر ولا عمل فجعل البقاء للشيء إنما ينفع مع العلم واليقين به
أما عدم اليقين به فيكون جعلا على تقدير وجوده ووجوده حسب الفرض غير معلوم فيكون
الجعل للبقاء أيضا غير معلوم وإن فرضنا أنه يكفي في تنجزه قيام الامارة عليه إلا
أن الاستصحاب مؤداه
فقط الملازمة بين
الوجود والبقاء فلا بد من إحراز الوجود حتى نحرز تحقق لازمه وهو البقاء.
أما مع عدم إحرازه
فنحن نشك في تحقق اللازم له وهو البقاء.
إن قلت إنا نستصحب
التنجز للحكم الذي قامت الامارة عليه أو نستصحب الحكم المذكور على تقدير وجوده
بمرتبة تنجزه فنقول كان الوجوب على تقدير وجوده منجزا فهو الآن كذلك ونتيجة ذلك هو
وجوب الاحتياط والعمل على طبق الوجوب اذ بمجرد ذلك تنقطع البراءة ويرتفع قبح
العقاب بلا بيان ،
قلنا ان الحكم
المدلول للامارة انما كان منجزا على تقدير وجوده بقيام الامارة بمقدار دلالتها
عليه وأما فيما أزيد من ذلك المقدار فلا منجز له فنبقى نحن وأدلة الاستصحاب
والكلام في انها تدل على تنجزه في غير مقدار مدلول الامارة أم لا.
فنقول ان كان
المراد (باليقين) فيها هو اعتبار الصفة الوجدانية بأن يكون أخذ اليقين فيها بنحو
الموضوعية بأن الشارع أخذ اليقين بما هو طريق للواقع موضوعا للاستصحاب كما هو ظاهر
أدلة الاستصحاب فهي غير دالة على التنجيز لعدم وجود صفة اليقين فيما نحن فيه وإن
كان المراد منها نفس المتيقن بأن يكون أخذ اليقين فيها بنحو الطريقية المحضة لثبوت
الواقع ولا يكون لصفة اليقين أي أثر في الاستصحاب فكذلك تكون أدلة الاستصحاب غير
دالة على تنجز الحكم في غير مقدار مدلول الامارة. لأن أدلة الاستصحاب حينئذ إنما
تدل على لزوم البقاء في ظروف الشك لما هو الموجود الواقعي حيث يكون هو الموضوع
فيها فلا بد من احرازه في تحقق الاستصحاب ومع عدم احراز الموجود الواقعي لم يحرز
تحقق موضوع أدلة الاستصحاب فلا يحرز دلالتها على البقاء لعدم احراز موضوعها وهو
الوجود الواقعي ولا يخفى ما فيه فان الملزوم إذا ثبت يثبت لازمه وفيما نحن فيه
قد ثبت الملزوم
وهو مدلول الامارة فيثبت لازمه وهو بقاؤه عند الشك فيه.
إن قلت ان الملزوم
لو كان هو الثبوت لوجود الحكم صح ما ذكر لكن الملزوم هو نفس وجود الحكم لأن اليقين
كما ذهب إليه الخصم أريد به نفس المتيقن الذي هو الوجود الواقعي له وبهذا أيضا
نلتزم في وجوب الإفطار والقصر فإنه إن كانت الملازمة بين نفسهما وقلنا يجعل الحجية
لم يكن قيام الأمارة على الملزوم منهما مثبتا للازمه.
وإن قلنا إن
الملازمة بين الثبوت للملزوم وبين نفس اللازم يثبت بأمارة ذلك.
قلنا لما تحققت
الملازمة بين نفسيهما أعني بين وجود الحكم وبين بقائه عند الشك فما كان ينجز
الملزوم منهما على تقدير تحققه ينجز لازمه على ذلك التقدير للملازمة بينهما ومقتضى
ذلك اشتغال الذمة بهما وعدم المعذورية لو صادفت الأمارة الواقع والمعذورية عند
مخالفتها.
نعم على هذا يكون
العمل بالبقاء من باب الاحتياط لأن بقاء الحكم كان محتملا وانما وجب امتثاله لأن
احتماله يكون احتمالا منجزا نظير احتمال الحكم قبل الفحص.
والحق ان يقال أن
الظاهر من أدلة الاستصحاب أن المراد باليقين فيها هو الحجة سواء كانت يقينا أو
إمارة أو أصلا وليس المراد به هو الصفة الخاصة الوجدانية والمراد بالشك هو عدمها
والدليل على ذلك هو فهم المتشرعة منها ذلك فإنهم لم يتوقفوا في جريان الاستصحاب
عند قيام الامارة أو الأصل على وجود الحكم أو الموضوع عند الشك في البقاء مضافا
إلى أنه لو أريد باليقين الصفة الوجدانية لم يكن للاستصحاب مورد وان وجد فهو في
غاية القلة لأن اليقين بالأحكام المشكوك بقاؤها لا يكاد يوجد وإن وجد فهو في غاية
القلة وهكذا الموضوعات المذكورة فيها كالوضوء وطهارة الثوب المعار للذمي فإن
اليقين بها لا يكاد يوجد وانما تقوم الحجة عليها.
سلمنا لكن أدلة
الامارات لو قلنا بعدم جعل الحكم الظاهري على طبق مؤداها تنزلها منزلة اليقين
فيرتب عليه آثاره التي منها عدم نقضه بالشك.
والحاصل ان
الاستصحاب متقوم باليقين الفعلي أو ما نزله الشارع منزلته كالامارات المعتبرة
والاصول المجعولة فاذا قامت الامارة المعتبرة على الحكم الشرعي وشك في بقائه
استصحب مؤداها وهكذا لو قام أصل الطهارة على طهارة الثوب وشك في بقائها لأحتمال
عروض النجاسة له استصحب تلك الطهارة الظاهرية كمن أعار ثوبه للذمي الذي لا يتقيد
من الطهارة والنجاسة.
وحيث قد عرفت أن
الاستصحاب متقوم بالشك الفعلي كما هو متقوم باليقين الفعلي فلا استصحاب مع عدمه
ومن هنا يظهر لك أن المتيقن بالحدث اذا غفل عن حاله وصلى وبعد الصلاة احتمل انه قد
تطهر وصلى فلا يجري في حقه الاستصحاب للحدث المتيقن سابقا ويحكم بصحة صلاته لقاعدة
الفراغ بخلاف ما إذا شك قبل الصلاة ثم غفل ثم صلى كانت صلاته فاسدة لاستصحاب الحدث
المتيقن سابقا ولا تنفع قاعدة التجاوز ولا قاعدة الفراغ لتمام أركان الاستصحاب قبل
الصلاة فيكون محكوما بالحدث عند دخوله في الصلاة.
ان قلت سلمنا تحقق
الشك بعد اليقين بالحدث قبل الصلاة وثبوت الحدث عند الشك إلّا انه لما كان أمرا
ظاهريا استصحابيا كان دائرا مدار موضوعه وهو الشك فهو إنما يبقى ما دام الشك.
وبالغفلة يزول
الشك ويزول الامر الاستصحابي ببقاء الحدث فلا حدث ظاهر حين الدخول في الصلاة فتجري
قاعدة الفراغ والتجاوز بعد الصلاة.
نعم لو كان الشك
موجودا حين الدخول في الصلاة كانت الصلاة فاسدة للأمر الاستصحابي ببقاء الحدث.
قلنا أنه لما صار
محكوما بالحدث بواسطة الاستصحاب صار محدثا
وإذا دخل في
الصلاة دخل وهو محكوم بالحدث ومن المعلوم ان الغفلة لا تزيل الحدثية عنه.
الأمر الثالث : ـ الذي
يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع والمعروض للمستصحب في زمان الشك مما عرفت من ان
الاستصحاب متقوم باليقين والشك وهما لا يوجدان بدون النسبة فإن اليقين هو الاذعان
والتصديق بثبوت شيء لشيء. والشك هو الاحتمال والتردد في ثبوت شيء لشيء والنسبة لا
بد لها من طرفان منسوب ومنسوب اليه.
والمنسوب إليه في
باب الاستصحاب يسمى بالموضوع والمعروض لأنه هو المركز والمتقوم به المنسوب والعارض
عليه كما ان المنسوب يسمي بالمستصحب لأنه هو المراد اثباته وبقاء صحبته للموضوع. وبهذا
ظهر لك ان الاستصحاب يعتمد على قضيتين قضية متيقنة سابقة وقضية مشكوكة لاحقة
فاستصحاب عدالة زيد المتيقنة سابقا والمشكوكة فعلا يرجع لقضيتين احداهما زيد عادل
سابقا وهو القضية المتيقنة. وثانيهما زيد عادل فعلا وهي القضية المشكوكة.
والموضوع في هذا
الاستصحاب الذي عرض عليه المستصحب والمتقوم به المستصحب هو (زيد). والحكم المستصحب
الذي هو العارض والمحمول والمتركز في الموضوع والمتقوم بالموضوع هو العادل وحيث
كان الشك في الاستصحاب هو الشك في بقاء المتيقن السابق الذي هو المستصحب لا في
حدوثه بخلاف قاعدة (اليقين والشك) فان الشك فيها يكون في الحدوث. وكان اللازم في
الاستصحاب بقاء الموضوع للمستصحب في زمان الشك أما المقدم أعني كون الشك في
الاستصحاب شكا في البقاء فلأن الدليل على الاستصحاب أما الإجماع أو بناء العقلاء
أو الأخبار.
فأما الأولان أعني
الإجماع وسيرة العقلاء فهما كانا ثابتين في الشك في بقاء المتيقن السابق وهو يقتضي
بقاء الموضوع لأنه مع عدم وحدة
الموضوع واختلافه
لم يكن الشك شكا في بقاء المستصحب المتيقن سابقا بل يكون شكا في أمر حادث لأن
الموضوع هو المقوم للمستصحب والمستصحب متركز به وعارض عليه ومع اختلاف المقوم
يختلف المتقوم ومع اختلاف الموضوع يختلف المحمول ومع اختلاف المعروض عليه يختلف
العارض.
وأما لو كان الدليل
على الاستصحاب هو الاخبار فان لسانها النهي عن نقض اليقين بالشك أو ما يؤدي معناه
وهو يرجع إلى إبقاء المتيقن السابق ولا يتحقق الإبقاء إلا مع بقاء الموضوع في ظرف
اليقين الى ظرف الشك ووحدته وإلا لم يكن البقاء للمستصحب بقاء له لما عرفت من أن
اختلاف الموضوع للشيء يوجب اختلاف ذلك الشيء فلا يكون عدم ترتيب آثار المتيقن
سابقا عند الشك نقضا للمتيقن السابق وانما هو رفع لآثاره عن امر مغاير له وأجنبي
عنه وهو ليس بنقض له.
ومن هنا ظهر لك ان
معنى بقاء موضوع المتيقن السابق عند زمان الشك هو وحدته بمعنى أن موضوع المستصحب
عند اليقين به عينه عند الشك في بقاء ذلك المستصحب بأن يكون موضوع القضية المتيقنة
في السابق التي محمولها المستصحب عين موضوع القضية المشكوكة في اللاحق التي يكون
محمولها المستصحب ففي مثل استصحاب وجود زيد المتيقن سابقا عند الشك في وجوده كان
الموضوع المستصحب وجوده هو زيد وهو عينه عند الشك في المستصحب فمعنى بقاء الموضوع
هو عدم تبدل الموضوع بغيره وليس معنى البقاء هو الوجود المستمر حتى يشكل باستصحاب
الوجود للموضوعات التى شك في وجودها بعد اليقين به أعني الهليات البسيطة وهكذا لا
يصح الاشكال باستصحاب العدم لذات الشيء عند الشك فيه مع سبق اليقين به اعني
الليسيات البسيطة كما لو استصحب عدم زيد أو عدم ابنه وذلك لما عرفت من أن مصدر
اعتبار البقاء في موضوع المستصحب هو ان يصدق عدم
النقض عند ترتيب
آثار المتيقن السابق عند للشك اللاحق وان لا يكون الشك في أمر حادث جديد وهذا إنما
يقتضي وحدة الموضوع وعدم تبدله وعدم تغيره وعدم اختلافه بين حالة اليقين وحال الشك
هذا في استصحاب الوجودات الخارجية والعدميات ومثل ذلك يقال في الشك في بقاء الحكم
أو عدمه فاذا شك في وجوب صلاة الجمعة بعد اليقين بها سابقا كانت القضية المتيقنة
سابقا هي صلاة الجمعة واجبة والقضية المشكوكة فعلا هي نفسها أعنى صلاة الجمعة
واجبة وهكذا مثل ذلك يقال في استصحاب العدم للحكم كعدم الوجوب لصلاة النافلة.
ومن هنا ظهر لك
أنه لا بد من إحراز بقاء الموضوع للمستصحب في ثبوت الاستصحاب ولا يكفي احتمال
بقائه اذ مع احتمال عدم بقائه لا يحرز صدق عدم النقض عند عدم ترتيب آثار المتيقن
ولا صدق النقض عند عدم ترتيب الآثار ويكون التمسك بأدلة اعتبار الاستصحاب في
اعتبار هذا الاستصحاب من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية نظير التمسك
بوجوب اكرام العلماء في وجوب اكرام مشكوك العالمية.
ان قلت ان المحمول
أيضا يعتبر في الاستصحاب وحدته كما هو ظاهر فلما ذا ذكروا اشتراط وحدة الموضوع
وبقائه دون المحمول الذي هو المستصحب.
قلنا أن المقام في
ذكرها هو معتبر إحرازه في الاستصحاب ووحدة المحمول وبقائه عبارة عن نفس الاستصحاب
لبا وحقيقة فاذا أحرز بقائه لم يصح الاستصحاب بخلاف وحدة الموضوع وبقائه نعم
المستصحب لا بد من وحدته وانما لم تذكر لانه لو لم يكن واحدا لم يكن مستصحبا ،
ثم انما يعتبر في
الاستصحاب هو بقاء الموضوع ووحدته بحسب نظر العرف ولا يعتبر بقاؤه بحسب الدقة
العقلية أو بحسب الشرع بمعنى ان ما يراه العرف موضوعا لحكم الشرع هو الذي يعتبر
بقاؤه في الاستصحاب لا ما كان موضوعا للحكم بحسب نظر العقل ودليله
ولا ما كان موضوعا
بحسب لسان الدليل الشرعي للحكم فمثلا إذا ورد من الشرع العنب اذا غلى يحرم
استعماله وشك في ثبوت حرمته له عند ما يكون زبيبا فلو كان المناط في وحدة الموضوع
في الاستصحاب هو وحدته بحسب العقل لم يصح استصحاب الحرمة لحال الزبيبية ولا مجال
له لأن العقل يحتمل ان الموضوع للحكم هو عنوان العنب بما فيه من خصوصيات يقتضي حكم
الشارع بحرمته عند الغليان ويحتمل أن هذه الخصوصيات غير موجودة فيه عند ما يكون
زبيبا فلا يحرز بقاء الموضوع الحكم الشرعي عند العقل بل على هذا لا يجري الاستصحاب
في الاحكام الشرعية في أغلبها ان لم نقل بأجمعها لأن الشك في بقائها لا يكون إلّا
لزوال بعض الخصوصيات ومع زوالها يحتمل العقل أن الموضوع له قد زال لأحتمال ان لها
دخل في الموضوع بحسب الواقع ، وأما ان كان المناط هو وحدة الموضوع بحسب ما أخذ في
لسان الدليل على الحكم الشرعي كان الموضوع للحرمة في المثال المذكور هو نفس العنب
بوصف انه عنب فأيضا لا يصح استصحاب الحرمة عند ما يكون زبيبا لعدم اتحاد الموضوع
لأن القضية المتيقنة بحسب ما اخذ في لسانه الدليل هو هذه الثمرة بوصف أنها عنب
فالموضوع هو الثمرة بوصف انها عنب والقضية المشكوكة هي ان هذه الثمرة بوصف انها
زبيب مشكوك حرمتها. فالموضوع هو هذه الثمرة بوصف أنها زبيب فالموضوعان مختلفان
وليسا بمتحدين.
وأما ان كان
المناط هو وحدة الموضوع بحسب نظر العرف وما يرتكز في أذهانهم ويرونه في انظارهم
بحسب الجهات والمناسبات بين الحكم وموضوعه ففي المثال المذكور يكون الموضوع للحرمة
في المثال المذكور هو هذه الثمرة بذاتها لا بوصف انها عنب ولا بوصف انها زبيب
لأنهم يرون ان وصف العنبية والزبيبية من الحالات والعوارض الطارئة على الموضوع
والمتعاقبة عليه وان مركزها والمحل المتقومة به
هو ذات العنب لا
بوصف انه عنب بحيث لو كان الزبيب محكوما شرعا بغير حكم العنب كان نقضا لحكم العنب
ورفعا للحكم عن موضوعه في أحد حالاته ، ولو كان الزبيب محكوما بحكم العنب كان من
بقاء الحكم في الموضوع. فالعرف وان كان بحسب فهمهم من الدليل يكون الموضوع هو خصوص
العنب ولكن بحسب نظرهم يرون ان الموضوع ومعروض الحكم ومركزه هو نفس الذات لا بوصف
العنبية وان وصف العنبية اخذه الشارع في موضوع دليل هذا الحكم لغاية من الغايات
كالاهتمام به أو لكثرة الابتلاء به أو لكون حدوثه واسطة في الثبوت فالعرف مع جزمه
بأخذ الوصف في موضوع الدليل الشرعي إلّا أنه لم ير أنه هو المركز للحكم المذكور
ويرى ان المركز والمحل له هو الاعم بحيث لو حكم الشارع بعدم الحرمة لكان نقضا
لحكمه بحرمة العنب ولو حكم بالحرمة لكان ابقاء لها وحينئذ يصح للفقيه الاستصحاب
لاتحاد موضوع القضية المتيقنة مع المشكوكة في نظر العرف وان لم يتحقق الاتحاد بحسب
لسان الدليل الشرعي ولم يحرز الاتحاد بحسب النظر العقلي.
وعليه يظهر لك
فساد ما ربما يصدر من بعضهم من ان الموضوع الشرعي غير الموضوع العرفي. ووجه الفساد
ان الموضوع الشرعي هو المتبع ولا وجه لأن يكون موضوع حكم الحاكم يتبع فيه غيره
فالموضوع للحكم الشرعي هو الموضوع الذي جعله الشارع له غاية الأمر يختلف لسان
الدليل الشرعي وظاهر الدليل عن العرف في تشخيصه وتعيينه فلسان الدليل يقتضي ان
الموضوع الذي جعله الشارع هو هذه الثمرة بوصف أنها عنب وأما بوصف آخر كالزبيبية
فهو مسكوت عنه وقاصر الدليل عن اثبات الحكم له.
وأما العرف فيرى
ان الموضوع الذي جعله الشارع هو نفس الثمرة كما انه قد يختلف مع الموضوع العقلي
فمثلا نجاسة الدم موضوعها عند
العرف هو هذه
المادة ولا تصدق على اللون مع ان العقل يرى ان لون الدم يستند إلى اجزائه الثابتة
في محل إصابته فالعرف لا يرى الموضوع باقيا فلا يستصحب بخلاف العقل فانه يراه عند
بقاء لونه الموضوع باقيا لأن موضوع النجاسة هي نفس ذات الأجزاء. فالصحيح ـ أن يقال
ان الموضوع الشرعي في لسان الدليل غير الموضوع الشرعي عند العرف وقد يتحدان نظر
العرف ولسان الدليل الشرعي في الموضوع إذا كان ما يراه العرف موضوعا شرعيا للحكم
هو بنفسه يقتضيه لسان الدليل كما لو قال صم يوم الخميس فان العرف ولسان الدليل
يتفقان في أن الموضوع للوجوب عند الشرع هو الصوم المقيد بيوم الخميس فلا يصح
استصحاب الوجوب لصوم يوم الجمعة لعدم بقاء الموضوع وهو صوم يوم الخميس بذهاب القيد
وهو يوم الخميس كما ان الدليل لو كان له ظهور في نفي الحكم عن غير العنوان الذي
أخذ فيه بحيث كان مثبتا لعدم الحكم في غير ذلك العنوان كان العرف يرى ان الحكم
مختص بهذا العنوان ولا يجري الاستصحاب ويكون ذلك في نظر العرف من باب اختصاص الحكم
ببعض حالات موضوعه وان الشارع لم يبقيه وقد نقضه في هذه الحالة وانما اعتبرنا
الاتحاد في الموضوع بحسب نظر العرف لأن أصح أدلة الاستصحاب هي الأخبار بل قد عرفت
ان ما عداها من الادلة لو ثبتت وعمدتها السيرة فالأخبار ممضية لها فتكون تابعة الأخبار
إذ الامضاء من الشارع انما يكون بمقدار إفادة الأخبار سعة وضيقا وحيث ان الاخبار
إنما تساق بنظر العرف كما هو طريقة العقلاء في تفهيم مطالبهم والشارع سلك مسلكهم
وإلا لأظهر المخالفة لهم في تفهيم مطالبه ، وحيث ان الأخبار قد أخذ فيها الشارع (النهي
عن النقض) وصار كأنه الأصل فيها ولا ريب ان النقض وتركه انما يكون بالابقاء وعدم
الابقاء كان المطلوب للشارع من عدم النقض هو الابقاء والنهي عن عدمه. وقد عرفت أن
الشارع
يسلك مسلك العرف
في نظرهم في تشخيص المفاهيم وبيانها فلا بد أن يكون مراده هو الابقاء عندهم في ما
يرونه ابقاء لا ما هو ابقاء في نظر العقل أو بحسب الدليل.
وإن شئت قلت ان
أدلة الاستصحاب عدا الاخبار عمدتها السيرة التي كان عليها بناء العقلاء وحكم العقل
وهما من باب افادة الاستصحاب الظني بالبقاء ومع بقاء الموضوع عند العرف يحصل الظن
بالبقاء.
وأما الإجماع فان
المتمسكين به يعملون بالاستصحاب عند بقاء الموضوع عرفا وأما الأخبار فقد عرفت
دلالتها على ذلك.
ومن هنا يظهر لك
لسان الدليل الشرعي لو كان يحدد الموضوع. بأن كان ينفيه عما عداه كما لو قال
الشارع في المثال المذكور يحرم العنب اذا غلى بخصوصه أو قال دون ما اذا صار زبيبا
أو ما يؤدي هذا المعنى فانه لا يجرى الاستصحاب لأن الدليل دل على اختصاص الحكم
بهذه الثمرة بهذا العنوان ونفيه عما عداه نظير ما إذا قام دليل آخر على حلية
الزبيب فانه يقدم على الاستصحاب.
والحاصل ان
الاستصحاب انما يجري اذا لم يكن الدليل دالا على ان الحكم يدور مدار الموضوع
المأخوذ فيه وجودا وعدما بأن كان قاصرا وساكتا عن ثبوت الحكم عن غير ذلك العنوان
ولم يكن دليلا آخرا يدل على انتفاء الحكم عند ارتفاع عنوانه وكان العرف يرى ان
مركز الحكم ومقومه يكون موجودا عند ارتفاع عنوانه وتبدله بالعنوان الذي شك الفقيه
في ثبوت ذلك الحكم له كما انه يظهر لك ان ذلك ليس من باب المسامحات العرفية بل
العرف هو يرى بنظره ذلك وإن اطلع بأن الشارع قد جعل في دليله الموضوع هو هذا
العنوان لكنه يرى انه من باب التعبير بالخاص لارادة العام لأنه اكثر ابتلاء أو أهم
في نظره أو أنه واسطة في حدوثه كما لو قال الطبيب لا تأكل الرمان فإن العرف يرى ان
مركز الحكم هو ذات جسمه بحيث لو صار الرمان
مربى يكون الحكم
ثابتا له أو كان من جهة الانصراف للأخص كما لو قال الخمر نجس فإنه بحسب ظاهر لسان
الدليل هو الخمر المسكر لأن اللفظ ينصرف اليه ولكن العرف يرى إن مركز النجاسة وموضوعها
هو نفس المائع أعم من كونه مسكرا أم لا فيستصحب النجاسة له.
وهذا الاختلاف بين
لسان الدليل الشرعي وبين النظر العرفي هو الذي يوجب شك الفقيه في بقاء الحكم بعد
ذهاب العنوان المأخوذ في الموضوع وهذا الاختلاف بين ظاهر اللفظ والمرتكز الذهني
العرفي طالما يكون في خطابات العقلاء فيما بينهم أو بينهم وبين مواليهم.
والحاصل إن هذا
الشرط أعني شرط بقاء الموضوع يرجع الى اشتراط أنه لا بد في الاستصحاب من ان يرى
العرف ان عدم إبقاء المستصحب وترتيب آثاره في حالة الشك نقضا لليقين السابق بالشيء
فهو الميزان لا غيره لأن أدلة الاستصحاب لا يستفاد منها إلا اعتبار ذلك فلو فرض أن
الموضوع قد تغير ولكن العرف يرى ذلك جاء الاستصحاب ولزم إبقاء الحالة السابقة ثم
ان الموضوع للمستصحب تارة يكون نفس الماهية كما في استصحاب الوجود المطلق أو العدم
المطلق للماهية أو لجزأيها كما في استصحاب وجود زيد أو عدمه واحرازه واضح بأن يكون
الموضوع واحد ،
وتارة يكون مركبا
كما في مطهرية الماء الراكد للشيء الملقى فيه فإن موضوعها مركب من بلوغ الماء كرا
ومن إطلاق الماء وفي هذه الصورة يكون الشك في الحكم كالمطهرية في المثال المذكور
تارة من جهة الشك في بقاء أحد أجزاء الموضوع المركب مع احراز الآخر كما لو شك في
المثال المذكور في بقاء إطلاق الماء مع إحراز كريته وتارة يشك في بقاء كليهما كما
لو شك في المثال المذكور في بقاء الاطلاق للماء وفي بقاء كريته وعلى كلا التقديرين
لا تستصحب المطهرية للشك في بقاء موضوعها.
نعم يستصحب الجزء
المشكوك أو يستصحب كلاهما معا ويرتب الحكم المذكور واستصحاب وجود المركب من أجزاء
خارجية اكثر من أن يحصى كما يستصحب وجود السكنجبين أو البيت أو المسجد أو الحمام
فإنه يصح استصحاب الوجود للمجموع.
وتارة يكون
الموضوع موقوفا على موضوع آخر كالأعلمية التي هي موضوع لتعيين المقلد فانها موقوفة
على حياته واجتهاده وفي هذه الصورة لا اشكال في عدم جريان الاستصحاب في نفس الحكم
كالتعيين في المثال المتقدم عند الشك في موضوعه وهو الاعلمية وانما يجري الاستصحاب
في الاعلمية اذا كان الشك فيها مع احراز بقاء الحياة والاجتهاد لإحراز الموضوع
للأعلمية وأما لو شك في بقائها من جهة الشك في بقاء ما تتوقف عليه كالحياة أو
الاجتهاد أو كلاهما فلا يصح استصحابها لعدم إحراز موضوعها اعني الحياة أو الاجتهاد
أو كلاهما ولا يصح استصحاب ما تتوقف عليه لاثباتها لانها ليست بأثر شرعي له فيكون
من الأصل المثبت.
ومن هنا وقع جملة
من العلماء في الاشكال في صحة استصحاب الاعلمية إذا شك فيها من جهة الشك في بقاء
الاجتهاد أو الحياة ويتعدى الاشكال إلى ما ذكره الفقهاء من صحة استصحاب بقاء
المجتهد عند الشك في حياته اذ استصحاب حياته لا يثبت اجتهاده الذي هو موضوع جواز
تقليده إلا على القول بالأصل المثبت.
والتحقيق في
الجواب كما ذكرناه عند المناقشة مع بعض الفضلاء أنه تستصحب وجود المجموع المركب من
الموصوف والصفة اعني وجود زيد المتصف بالاجتهاد والأعلمية كما في استصحاب وجود
المركب من الاجزاء الخارجية.
التنبيه الثالث :
في استصحاب الكلي وأقسامه : ـ
لا ريب في جريان
الاستصحاب في الكليات كما يجري في الجزئيات
لشمول ادلة
الاستصحاب له وعدم المانع عنه ولما كان اليقين بالكلي والشك فيه يتسبب عن اليقين
بفرده والشك في بقائه انقسم استصحاب الكلي الى أقسام ثلاثة : ـ
الاول أن يكون
الشك في بقاء الكلي مسببا عن الشك في بقاء فرد خاص منه كما إذا شك في وجود الانسان
في الدار من جهة الشك في بقاء زيد فيه وكما إذا شك في مطلوبية كلي الصلاة في يوم
الجمعة غير الصلاة اليومية في زمن الغيبة من جهة الشك في بقاء وجوب صلاة الجمعة
إلى زمن الغيبة فلا ريب في استصحاب الكلي في هذا القسم عند من يقول بحجية
الاستصحاب فيصح استصحاب وجود الإنسان واستصحاب المطلوبية للصلاة وترتيب آثارهما
عليهما كما يصح استصحاب الجزئي وهو وجود زيد ووجود الوجوب للجمعة.
القسم الثاني من
استصحاب الكلي ان يكون الشك في بقاء الكلي من جهة الشك في فرده لتردد فرده الذي
كان موجودا سابقا بين ما هو مقطوع الزوال لو كان هو الموجود أولا وبين ما هو ممكن
البقاء لو كان هو الموجود أولا كما لو علم بوجود الحيوان في الدار وشك في وجوده من
جهة تردد الحيوان الذي كان معلوما وجوده على سبيل الاجمال بين الفيل وبين البقة
فلو كان هو الفيل لكان محتمل البقاء ولو كان البقة لكان معدوما قطعا.
وكما لو علم بوجوب
الطهارة عليه لتردده بين كونه محدث بالحدث الاصغر أو الحدث الاكبر ثم تطهر بالوضوء
فانه بعد الوضوء يشك في وجوب الطهارة لتردده بين وجوبين وجوب يكون هو الفرد القصير
الذي قطعا قد زال لو كان هو الموجود أولا وهو وجوب الطهارة من الحدث الاصغر وبين
الفرد الطويل الذي هو باقي لو كان هو الموجود أولا وهو وجوب الطهارة من الحدث
الأكبر وهذا يجري في كل شبهة محصورة بعد الامتثال لأحد اطرافها كما لو علم بوجوب
صلاة
الظهر عليه أو
الجمعة فانه لو أتى بالجمعة فبعدها يشك في بقاء الوجوب المشترك بين الوجوبين
لتردده بين فرد مقطوع الزوال وهو وجوب الجمعة وبين ما هو مشكوك البقاء وهو وجوب
الظهر وهكذا لو أتى أولا بالظهر فانه أيضا يشك كذلك ومثله ما لو تردد بين حرمة شرب
هذا المائع أو ذاك وكيف كان فالشك في بقاء الكلي واستمراره مستند إلى الشك فيما
تحقق الكلي في ضمنه من الافراد والأشهر على حجيته لوجود المقتضي وهو عموم الادلة
وعدم المانع فان الكلي موجود قطعا في الخارج بوجود أفراده فهو يكون معلوما خارجيا
لنا غاية الأمر أنه غير معلوم الحدود والخصوصيات ونشك في ارتفاع نفس ذلك المعلوم
فيستصحب فكانت القضية المشكوكة والمتيقنة واحدة ، ولا يحتاج الاستصحاب الى أزيد من
الشك واليقين وكون المشكوك هو المتيقن وفيما نحن كذلك لأن المشكوك هو الكلي وقد
كان متيقنا كما أن كل من الفردين يجري الاستصحاب لعدمها ويحكم بعدمها لو لا المانع
من جريان الأصول في أطراف الشبهة المحصورة.
ان قلت أن نستصحب
عدم الطويل ولازمه عدم الكلي وهو حاكم على استصحاب الكلي لتقدم الأصل السببي على
المسببي.
قلنا ان سببيته
عقلية لأن ارتفاع الكلي بارتفاع فرده العقلي.
ان قلت إن عدم
الكلي يثبت باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضميمة العلم بانعدام القصير فيثبت عدم
الكلي بعدم الفرد القصير بالوجدان وبالتعبد بعدم الطويل من جهة استصحاب عدمه ويرتب
آثار عدم الكلي.
قلنا ان ترتب عدم
الكلي على عدم شيء من افراده في الخارج عقلي. وعينية الكلي لافراده بحسب الوجود لا
يرفع الاثنينية بينهما نظير الماهية والوجود.
نعم ذكر استاذنا
الشيخ كاظم الشيرازي انه قد يستشكل على
خصوص استصحاب
الجامع بين الاحكام كالطلب الجامع بين الوجوب والاستحباب وكالمبغوضية الجامعة بين
الحرمة والكراهة بأن الجامع لا يمكن تحقيقه في الخارج الا في ضمن أحد أنواعه من
غير فرق بين الموجودات الاعراض والجواهر وبين الاحكام الشرعية فكلي الطلب بما هو
من غير ان يتقوم بأحد حديه من الوجوب والاستحباب غير ممكن الوجود في الخارج لا
واقعا ولا ظاهرا فلا يعقل ان ينشئه الشارع ويجعله وإلا لزم قيام الجنس بدون نوعه.
نعم في الموضوعات
الخارجية يمكن ان يستصحب الجامع لأن باستصحابه إنما يجعل الشارع آثاره وليس يجعله
بنفسه حتى يلزم محذور وجود الجنس بدون نوعه.
وقد أجاب عن هذا
الاشكال بوجهين : ـ
الأول منهما المنع
من لزوم جعل الشارع للمستصحب حتى في استصحاب الاحكام وانما جعل الشارع حرمة النقض
ووجوب البناء على المتيقن السابق فان كان الوجوب هو المتيقن يكون العمل على طبق
حرمة النقض وعلى طبق وجوب البقاء مطابقا لعمل بقاء الوجوب وقس على ذلك باقي
الاحكام الشرعية تكليفية أو وضعية فالمجعول حقيقة هو وجوب البقاء على طبق الحالة
السابقة المتيقنة ويختلف مقتضى العمل بهذا التكليف فقد ينطبق مع العمل على طبق
الوجوب أو على طبق الحرمة أو على طبق الاباحة فيقال وجوب استصحابي أو إباحة
استصحابية ونحو ذلك وإلا فلا مجعول للشارع من الاحكام شيئا غير المجعول بقوله (ع) (لا
تنقض) كما في صدق العادل بالنسبة إلى مداليل الأخبار فان المجعول من الشرع ليس إلا
وجوب تصديق العادل وهذا يفيد فائدة جعل الوجوب فيما اذا اخبر العادل بالوجوب
وفائدة الاستحباب فيما اذا أخبر العادل بالاستحباب.
وعليه ففي استصحاب
الكلي كالطلب يقتضي وجوب العمل على طبقه
نظير من تيقن به
مجردا عن خصوصية الوجوب وعن خصوصية الاستحباب فانه إن كان للطلب عمل فعله.
نعم هذا الجواب لا
يتم على من التزم في الاستصحاب بجعل الشارع للحكم الشرعي في تأتي الحال على طبق
الحكم الشرعي المتيقن سابقا.
الجواب الثاني هو
التزام جعل الشارع مع الكلي المستصحب أحد فصوله جمعا بين ما ذكر من عدم امكان جعل
الجامع بلا فصل له وبين عموم ادلة الاستصحاب للمورد فان الجمع بينهما يقتضي
الالتزام بجعل الفصل للجامع المستصحب في مثل المورد المذكور وليس الفصل المجعول في
المورد المذكور إلا ما به قوام الاستحباب لعدم الدليل على زيادة الطلب على اكثر من
الاستحباب وعدم الدليل دليل العدم.
ان قلت عدم الدليل
لا يثبت خصوصية الاستحباب لاستصحاب عدمها المقتضي لعدم جعل الجامع فيتعارض استصحاب
الجامع مع استصحاب عدم الخصوصية لأن استصحاب الجامع يقتضي ثبوت الخصوصية واستصحاب
عدمها يقتضي عدم الجامع فيتساقطان.
قلنا استصحاب عدم
الخصوصية لا يثبت عدم الجامع إلا على القول بالأصل المثبت لأن عدم الخصوصية يلزمها
عدم الجامع ويمكن ان يمنع من استصحاب هذا القسم من الكلي اعني القسم الثاني منه
فان المعتبر هو تعلق الشك ببقاء المتيقن سابقا ومن المعلوم ان المتيقن سابقا هو
الكلي المتحقق في ضمن فرد خاص تيقن ارتفاعه والكلي المشكوك لم يكن متيقن وجوده
بنفسه سابقا وبعبارة اخرى الكلي بوصف أنه كلي بمعنى تجريده عن خصوصياته المفردة له
لا وجود له في الخارج حقيقة بل لا بد أن يوجد بوجود أفراده الجزئية المشخصة له
لأنه لا وجود للكلي الطبيعي إلا بوجود افراده كما عليه المحققون معللين ذلك بأن
الكلي لو كان موجود لزم اتصاف الموجود الواحد بالمتضادين والمتناقضين فيما إذا
كانت افراده متصفة بها مضافا إلى أن الاحكام والآثار التي
تتعلق بالكليات
إنما تتعلق بها باعتبار مصاديق وجودها الخارجي ، وعلى هذا فوجوده المحتمل في الحال
لم يكن متيقن الحدوث سابقا وانما كان المتيقن وجود آخر له قد زال قطعا ، وأما
وجوده في ضمن احد الفردين لا بعينه ليس له وجود وحداني بسيط خارجي مستمر وانما هو
اعتباري محض. وان شئت قلت انا لو سلمنا ان وجود الكلي واحد غير متعدد بتعدد افراده
إلا أن العرف يرى ان وجوده في الخارج متعدد ولذا يحكم العرف بتعدد افراد وتباينها
فوجود الإنسان بوجود عمر مباين لوجوده بوجود زيد ومغاير له عند العرف فلا يصدق
النقض عندهم وعليه فلا تشمله الأخبار ولا السيرة ولا بناء العقلاء.
والحاصل ان العرف
لا يرى تحقق النقض لوجود الحيوان في هذه الصور لو عمل على خلافه فالمعلوم في
السابق هو وجود الكلي المقطوع الزوال والمشكوك بقاؤه هو وجود الكلي المشكوك حدوثه
والقدر الجامع بينهما امر اعتباري محض يعتبره العقل لا يرى العرف له وجود استقلالي
امتدادي علم بحدوثه وشك في بقائه سلمنا لكن المنصرف من الأخبار بل هو الظاهر منها
الاختصاص بالوجود الخارجي الخاص الذي يحتمل الوجود والعدم كالطهارة والثوب وزيد
الغائب ونحوها وهكذا لم يثبت بناء العقلاء على الحكم بالبقاء في مثل المقام ولا
ريب أن الذي يؤخذ به في بنائهم هو القدر المتيقن منه لأنه دليل لبي.
ودعوى إن قاعدة
الامكان التي اشار اليها الشيخ الرئيس بقوله (كلما شككت في امكانه وامتناعه فذره
في بقعة الامكان ما لم يزده قائم البرهان) تقتضي امكان البقاء ففاسدة لأن المراد
بها الامكان الاحتمالي لا الامكان الوقوعي ، سلمنا ذلك لكن الامكان الوقوعي للبقاء
غير استصحاب البقاء فان مجرد البناء على امكان البقاء لا يقتضي البناء على تحقق
البقاء.
والحاصل أنه بعد
القطع بارتفاع أحد الفردين يصير الشك في بقاء
القدر المشترك في
ضمن الفرد الآخر شكا في حدوث القدر المشترك في ضمن ذلك الفرد الآخر فيرجع الشك
الموجود الى ان الكلي هل حدث في ضمن الفرد القابل للبقاء ام لا من اول الامر
ومقتضى الأصل عدمه.
ان قلت ان اللازم
من نفي حدوث الفرد الطويل هو ارتفاع ما في ضمنه من حصة الكلي لا نفي الكلي المشترك
بينه وبين الفرد القصير.
قلنا انه غفلة عن
حقيقة الحال اذ ليس عندنا الا كلي مردد بين الفرد القصير والفرد الكبير والكلي في
الفرد القصير قطعا قد زال وانما المشكوك فعلا هو الكلي في الفرد الطويل فقط فالكلي
المحتمل وجوده فعلا هو الكلي المشكوك حدوثه لا غيره والاستصحاب يقتضي عدمه ان قلت
مما يدل على جريان الاستصحاب في هذا القسم أعني القسم الثاني ما بنى عليه الأصحاب
من عدم الاكتفاء بطهارة واحدة للصلاة فيما لو علم اجمالا بحدوث أحد الحدثين الذي
يقتضي أحدهما الوضوء والآخر الغسل وحكمهم بوجوب الجمع فإنه لا مدرك له إلا استصحاب
كلي الحدث بعد فعل أحد الطهارتين.
قلنا ان المنشأ
لحكمهم هو قاعدة الشغل اليقيني المقتضية للبراءة اليقينية التي لم تتحقق الا
بالجمع وليس المنشأ لحكمهم هو استصحاب الكلي ويدلك على ان المصدر لهم هو ذلك أنه
لم يجب الجمع بين الطهارتين فيما لو علم بصدور الحدث الاصغر منه ثم شك في صدور
الحدث الأكبر منه سواء كان ذلك قبل القطع بصدور الاصغر أو بعده أو مقارنا له ثم
أتى برافع الحدث الأصغر فقط فان مقتضى جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي
جواز الرجوع الى استصحاب بقاء كلي الحدث بعد الإتيان برافع أحد الحدثين والحكم
بوجوب الجمع بين الطهارتين مع أنه لم يلتزم به أحد.
ان قلت أنه إذا
أتى بالغسل كفى عن الوضوء.
قلنا انه من
المحتمل أن يكون الخارج منه هو الأصغر فقط فالغسل
غير رافع له فلا
بد له من الوضوء لأحتمال كون الحادث هو الاصغر والغسل لاحتمال كونه هو الأكبر.
والاكتفاء بالغسل انما هو فيما كان صدور الاكبر يقينا سواء شك في حدوث الاصغر أو
علم به لا في مثل المقام الذي يكون الأمر بالعكس وهكذا يرد عليهم النقض بما لو علم
باشتغال ذمته بمقدار معين من الدين لزيد ثم شك باشتغال ذمته بمقدار آخر ثم أدى
المقدار المعلوم اشتغال ذمته به فمقتضى استصحاب كلي الدين الحكم بوجوب أداء
المقدار الآخر الذي شك في اشتغال ذمته به وترتيب ساير احكامه عليه. وكذا لو علم
بفوات فائتة معينه منه وشك في فوات فائته أو فوائت أخرى منه ثم قضى الفائتة
المعينة فمقتضى ما ذكر استصحاب كلي الفائتة والحكم بوجوب قضاء الفوائت المحتملة
وترتيب آثارها. وهكذا الحال في باب الزكاة والأخماس وغير ذلك مما دار الأمر فيه
بين الأقل والاكثر الاستقلاليين مع انه لم يلتزم احد بجريان الاستصحاب في تلك
الموارد وهذا موهن آخر لعدم جريان استصحاب الكلي في القسم الثاني وهكذا الحال فيما
لو علم اجمالا بنجاسة أحد الإناءين أو احد طرفي الثوب ثم طهر احدهما بعينه فانه لو
لاقت يده كلاهما بعد ذلك لم يحكم الفقهاء بنجاسة يده مع ان الاستصحاب لكلي النجاسة
جاري في هذين الإناءين وهذا الثوب فتكون اليد قد لاقت النجاسة نظير ما إذا علم
نجاسة الإناء ثم شك في طهارته فانه لو لاقته اليد يحكم بنجاستها.
وقد فصل بعضهم بأن
الملاقاة لازم عقلي في الأول دون الثاني فانه أمر حسي فانه في المثال الأول
استصحاب الكلي لا يثبت بأن هذا الطرف نجس أو ذاك الطرف نجس وانما يثبت كلي النجاسة
ولا ريب ان ملاقاة الاطراف لازمها العقلي الملاقاة للكلي ونظير ذلك كثير في الشرع
كما لو علم بأن زيد استعار من عمر ثوبا ثم مات زيد ولم يكن في تركته إلا ثوب واحد
فشك الورثة في انه له فان استصحاب بقاء
العارية عنده لا
يثبت ان هذا الثوب لعمر ومثله في الوديعة وفي موارد كثيرة.
ان قلت ان استصحاب
عدم الفرد لا يثبت عدم الكلي فان عدم الكلي ليس من اللوازم الشرعية لعدم الفرد بل
من لوازمه العقلية.
قلنا ان وجود
الكلي عين وجود الفرد فيكون عدم الفرد عين عدم الكلي فلا حاجة إلى الواسطة بل لا
واسطة في المقام حتى يبتني ذلك على القول بالأصل المثبت مضافا إلى انه يكفي في
المقام عدم ثبوت بقاء الكلي ولا حاجة إلى اثبات عدمه ليلزم الالتجاء إلى القول
بالاصل المثبت.
القسم الثالث من
استصحاب الكلي أن يكون الشك في بقاء الكلي من جهة قيام فرد أخر مقام الفرد الذي
كان مقطوع الوجود سابقا ويجزم بارتفاعه فعلا ، كما إذا علمنا بوجود زيد في الدار
ثم قطعنا بخروجه منها لكن شككنا في ان عمر جاء للدار عند خروجه فيكون عندنا اليقين
بوجود الكلي وهو الانسان في الدار سابقا والشك في وجوده لاحقا لأحتمال ان عمر دخل
عند خروجه. ومثاله في الشرعيات الماء المتغير أحد اوصافه بالنجاسة إذا ذهب أحد
أوصافه كاللون وشك في انه هل قام مقامه الطعم أو الريح والظاهر عدم صحة استصحاب
الكلي لأن بقاء الكلي في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجي المعلوم سابقا وهو
مقطوع فعلا بعدم بقائه وهذا هو الفارق بين هذا القسم والاقسام السابقة فان في
القسمين السابقين الوجود الخارجي المعلوم لم يقطع بارتفاعه وان شئت قلت ان العرف
يرى الوجود الاول للكلي قد ارتفع ويشك في أصل الوجود للكلي في الآن الثاني.
نعم يستثنى من هذا
القسم الثالث ما يعد فيه الفرد الثاني عند العرف استمرارا لوجود الفرد الأول كما
لو علم بالسواد الشديد وقطع بارتفاعه ولكنه احتمل انه تبدل الى مرتبة أخف منه
فيستصحب كلي السواد
وكما في كثرة الشك
لو كانت بمرتبة علم بزوالها ولكنه احتمل انها تبدلت بمرتبة أدنى منها أو زالت
بالكلية فيصح استصحاب كثرة الشك وهكذا الماء المضاف لو علم باضافته بمرتبة قطعا
زالت عنه ولكنه شك في تبدلها بمرتبة ادنى منها أو زالت الاضافة بالكلية فيصح
استصحاب الاضافة.
والسر في ذلك هو
أن العرف يرى ان تبدل المراتب لوجود العرض بمنزلة تبدل الحالات للجواهر كما يكون
الوجود للجوهر في الزمان الثاني بقاء لذاته كذلك يرى العرف ان الاعراض باقية بتبدل
مراتبها ومن هذا الباب اعني استصحاب الكلي من القسم الثالث في الاحكام الشرعية هو
استصحاب كلي الطلب فيما لو شك في بقائه بتبدله بمرتبة اخرى كما لو علم بثبوت الطلب
للشيء بالعلم بوجوب ذلك الشيء ثم علم بارتفاع الوجوب واحتمل انه تبدل بمرتبة اخرى
للكلي اعني الاستحباب وقد يستشكل فيه بأن اختلاف الوجوب والاستحباب والحرمة
والكراهة وان كان بشدة الطلب وضعفه وكان تبدل احدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير
موجب لتعدد الكلي الموجود بينهما إلا أن العرف يرى الايجاب والاستحباب المتبدل به
وكذا الحرمة والكراهة المتبدلة بها فردين للكلي متباينين والعبرة في الاستصحاب هو
نظر العرف دون الحقيقة.
وقد اجاب عنه
بعضهم انا لو سلمنا ذلك فانما هو بالنسبة إلى نفس الحكمين دون مناطيهما وأما هما
فلا إشكال في كون الاختلاف بينهما من قبيل اختلاف المراتب عرفا ، ولا يخفى ما فيه
فان استصحاب كلي مناط الحكمين وكلي المصلحة المقتضية له غير معدود من استصحاب
الاحكام الشرعية بل يحتاج استصحابه الى اثر شرعي فهو خارج عن استصحاب الحكم الذي
هو محل الكلام مضافا إلى ان ترتب الحكم الشرعي على مناطه ومصلحته ليس من الآثار
الشرعية.
التنبيه الرابع في
استصحاب عدم التذكية : ـ
لا بد قبل البحث
فيها من الرجوع إلى الأدلة الشرعية في أن الذي ثبت له الحلية والطهارة هو المذكى
أو ان عنوان الميتة هو الذي ثبت له الحرمة والنجاسة فنقول ان الادلة الشرعية
مختلفة جدا ففي بعضها يكون العنوان هو المذكى كقوله تعالى (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) ، وقوله تعالى (وَلا تَأْكُلُوا
مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى (فَكُلُوا مِمَّا
ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) ، وقوله (ع) في ذيل موثقة ابن بكير «إذا علنت أنه ذكي قد
ذكاه الذبح» ، وبعض الاخبار المعللة لحرمة الصيد الذي ارسل اليه كلاب الصيد ولم
يعلم انه مات بأخذ الكلب المعلم بالشك في استناد موته إلى المعلم ، وما ورد من
جواز ترتيب احكام المذكى على المأخوذ من يد المسلم أو من سوق المسلمين أو غير ذلك
مما هو امارة على التذكية فانه يعطي أن الطهارة والحل في اللحوم والجلود على خلاف
الأصل وإلا لما احتاج في حليتها وطهارتها إلى قيام الامارة لأن الأمارة لا يصح ان
تنصب على ما هو موافق للأصل وانما تنصب على مخالفته ومن هنا ذهب بعضهم إلى أن حصر
الشارع للمحرمات يدل على حلية ما عداها. وفي بعضها الآخر يكون العنوان هو الميتة
كما في قوله تعالى (قُلْ لا أَجِدُ فِي
ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً) على ظاهر الآية ، وقوله تعالى (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ
وَالدَّمُ) ما ورد من عدم جواز الصلاة في شيء من الميتة أو في جلده
وإن دبغ سبعين مرة ، وقول الصادق (ع) في صحيحة الحلبي «وصل فيه حتى تعلم انه ميتة
بعينه» وفي رواية اخرى «ما علمت انه ميته لا تصل فيه». وما ورد في تعليل الحكم
بحرمة الطعام الذي مات فيه فارة بأن الله حرم الميتة من كل شيء إلى غير ذلك ، وعلى
هذا فمقتضى ذلك كون كل منهما عنوانا على حده مستتبعا لحكم مغاير لما يستتبعه الآخر
بل ومقتضى ذلك كون كل منهما أمرا وجوديا إذ لو لا ذلك لعبر الشارع عن العدمي منهما
بعنوان عدمي بل لا
يكون حاجة لذكره ولا فائدة لأن يستفاد حكمه حينئذ من حكم العنوان الوجودي ، وعليه
فلا يثبت بجريان الاصل في عدم أحدهما الحكم المرتب على الآخر إلا على القول بالأصل
المثبت بناء على كونها ضدين لا ثالث لهما كالحركة والسكون وإلا فلا يثبت به حتى
على القول بالأصل المثبت.
ودعوى ان المذكى
امر وجودي والميتة عدم المذكى ليست بأولى من العكس وترجيح الأول بأن للتذكية شروطا
وجودية فلا بد أن تكون الميتة عبارة عما عدمت فيه تلك الشروط كلا أو بعضا فلا
محالة تكون الميتة أمرا عدميا مدفوع بأنه موقوف على ثبوت الحقيقة الشرعية للتذكية
وهو ممنوع بل هي باقية على معناها اللغوي اعني خصوص الذبح وفري الاوداج واعتبار
الشارع تلك الشروط في التذكية لا يقتضي ذلك لإمكان أن يقال ان الميتة عبارة عن
خصوص ما مات حتف انفه غاية الامر ان المذبوح الفاقد لتلك الشروط كلا أو بعضا ملحق
بها حكما لدليل خارجي مضافا الى ان كلا من التسمية والاستقبال شرط ذكري فأصالة
عدمهما لا تثبت الحرمة إلا بعد إثبات كون تركهما عن عمد والأصل لا يثبت ذلك الا
على القول بالأصل المثبت وقد انتصر للمشهور القائلين بأصالة عدم التذكية بوجوه : ـ
احداها بأن وقوع
التعبير عن موضوع الحرمة بغير المذكى في جملة من الأدلة يعطي بأن المدار على
التذكية وفيه ما عرفته من التعبير عن موضوع الحرمة بالميتة في كثير من الأدلة وعن
موضوع الحلية بالمذكى هذا مع انه لم يقع فيما اطلعنا علية من الادلة لفظ عدم
التذكية ليدعى كونه موضوعا للحرمة بل الواقع فيها التذكية والميتة.
وما ربما يتخيل
منه ذلك من النهي عما لم يذكر اسم الله عليه لا يخفى فساده إذ هو مسوق لبيان أن
التسمية شرط وليس بمسوق لجعل عدم التذكية عنوانا ومعروضا للحرة مضافا لما عرفت من
أن
التسمية شرط ذكري.
الثاني بأن الميتة
عند الشارع عبارة عما زهق روحه بغير التذكية إذ لا واسطة بينهما وإلا لزادت
النجاسات على ما عدوها. وفيها انه مصادرة محضة لإمكان دعوى العكس كامكان دعوى كون
كل منهما أمرا وجوديا فيكونان من الضدين الذين لا ثالث لهما كل مختص بحكم مغاير
للآخر. ولزوم زيادة النجاسات على ما عدوها لا ضير فيه مع انه يمكن منعه لأن
الواسطة وهو المذبوح الفاقد لشروط التذكية لما الحقوها بالميتة حكما بدليل خارجي
فهو ميتة حكما وإن لم تكن ميتة موضوعا.
الثالث ان الحكم
لم يرتب في الشرع على الميتة بل على غير المذكى وفيه وضوح فساده لما تقدم من
الآيات والأخبار التي جعلت الميتة موضوعا للحرمة.
الرابع امكان دعوى
ان الميتة عبارة عما زهق روحه مطلقا فتشمل حتى المذكى إلا أن المذكى خرج بالدليل
عن تحته وحكم بحليته فيكون خارج عن الميتة حكما وان كان منها واقعا فاذا شك في
تحقق عنوان المخصص يرجع الى العام ويحكم بترتب احكام الميتة.
وفيه ان الشبهة
مصداقية ولا يرجع فيها للعام إلّا ان يقال ان الشبهة المصداقية انما لا يرجع فيها
للعام اذا لم يكن أصل موضوع يحرز به عدم المخصص كما لو شككنا في عروض الفسق لزيد
العالم فإنه يستصحب عدم فسقه ويتمسك بالعام وهو اكرم العلماء على وجوب اكرامه
وفيما نحن فيه نستصحب عدم التذكية الذي هو المخصص ونتمسك بعمومات الميتة ونرتب
آثار الميتة لكن التحقيق ان الميتة ليس لها عموم لأنها هي الموت حتف الانف والأصل
لا يقتضيها فبعد الحياة يتعارض الاصلان استصحاب عدم التذكية واستصحاب عدم الميتة
ويتساقطان فيرجع لأصالة الحل وأصالة الطهارة ويرشد الى
ما ذكرناه جملة من
الأخبار كالمروي عن سماعة قال : «سألته عن اكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت
والفراء. فقال (ع). لا بأس ما لم يعلم انه ميتة». وعن جعفر بن محمد بن يونس أن
أباه كتب إلى أبي الحسن (ع) «يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم انه
ذكي فكتب لا بأس به». وعن أبي عبد الله عن أمير المؤمنين (ع) سئل عن سفرة وجدت في
الطريق مطروحة كثير لحمها وخبزها وبيضها وفيها سكين فقال أمير المؤمنين (ع) «يقوّم
ما فيها ثم يؤكل لانه يفسد وليس لها بقاء فإن جاء طالبها عوض عن ما له الثمن. قيل
يا أمير المؤمنين لا يدري سفرة مسلم أو مجوسي قال : هم في سعة حتى يعلموا ذلك».
التنبيه الخامس في
استصحاب الأمور الغير القارة.
الموجودات على
قسمين : ـ
قارة ودفعية وهي التي
يكون بقاؤها بوجود واحد مستمر كالطهارة والنجاسة وكزيد وعمر.
وغير قارة
وتدريجية وهي التي يكون بقاؤها بوجود تدريجي متصرم يتجدد شيئا فشيئا فلا يتحقق جزء
منه إلا بعد انعدام ما قبله وهو :
اما ان يكون تدرجه
بالذات وهو على قسمين :
الزمان كالليل
والنهار واليوم وغيرها من أقسام الزمان.
وزماني كالحركة
والقراءة وجريان الماء والدم والمشي والأكل وغيرها من الأفعال الزمانية التي يكون
وجودها متصرم لا يتحقق جزء منه إلا بعد انعدام ما قبله.
وأما ان يكون
تدرجه وعدم قراره بالعرض بواسطة تقيده بأمر غير قار بالذات وإلا في نفسه يكون قارا
كما لو امره المولى بالإمساك طول النهار أو بالسكوت عند تكلم أبيه.
والظاهر هو صحة
الاستصحاب في جميع ذلك فيصح استصحاب الليل والنهار والسنة واستصحاب سيلان دم الحيض
وجريان الماء من المادة واستصحاب كون الامساك امساكا في النهار وكون الصمت صمتا
عند قراءة القرآن بل واستصحاب سعة الزمن والوقت المعمل بمستحباته فاذا شك في كون
الوقت بقي منه ما يسع الصلاة بوضوئها أو الغسل لها أو انه ضيق فيكون حكمه التيمم
لها استصحب السعة وإن أبيت فيصح منه ان يستصحب بقاء الوقت الى حين تمام العمل
بشرائطه فيستصحب بقاء الوقت لصلاة الفجر بمقدماتها من وضوء أو غسل ويكون من
الاستصحاب للامور المستقبلة الذي سيجيء إن شاء الله منا الكلام في صحته.
وقد اشتهر الايراد
على صحة الاستصحاب في الامور الغير القارة بعدم تحقق اركان الاستصحاب فيها لان
المتيقن من وجودها السابق مقطوع الزوال والمشكوك من وجودها مقطوع عدمه في السابق
فكلما يشك في وجود جزء منه يئول الشك إلى الشك في حدوثه ووجوده ابتداء وإن شئت قلت
إنه في هذه الأشياء لم يتحقق معنى البقاء.
اما في غير القار
بالذات فلوضوح إن البقاء عبارة عن وجود الشيء الموجود في الزمان الأول بعينه في
الزمان الثاني ولا ريب إن هذا المعنى لا يتصور بالنسبة لغير القار بالذات لأن وجود
كل جزء منه مرتب على انعدام الجزء السابق منه حيث إن أجزائه تتحقق على سبيل
التدريج ولازمه عدم صدق البقاء لأن المتيقن وجوده منه مقطوع عدمه في زمان الشك.
وأما في غير القار
بالعرض كالامساك في نهار الخميس فلأن التمييز بين أجزائه يكون بأجزاء ما قيد به من
الأمر التدريجي فيكون كل جزء منه مقرون ومتقوم بجزء من الأمر التدريجي وعليه فيكون
تحقق كل جزء منه مرتب على انعدام جزئه المتحقق قبله لأن المقيد لا بقاء
له بعد انتفاء
قيده.
وجوابه أن يقال إن
المعتبر في الاستصحاب هو إمكان بقاء المستصحب على نحو وجوده الثابت له فلو كان
وجوده الثابت له بنحو القرار فالمعتبر في الاستصحاب هو امكان بقائه لو بنحو القرار
وان كان وجوده الثابت له بنحو التجدد وعدم القرار فالمعتبر في الاستصحاب هو إمكان
بقائه له بنحو التجدد وعدم القرار حتى إنه لو قدر عدم إمكان بقائه بذلك النحو لم
يكن بذلك البقاء بقاء له فالوجود وبقاء الوجود لماهية المستصحب وشخصيته لا بد في
الاستصحاب من كونها من سنخ واحد وإلا لم يكن البقاء بقاء لوجود طبيعة المستصحب أو
شخصيته وليس يعتبر في الاستصحاب كون بقاء المستصحب بوجود آخر فلا يتفاوت الحال في
جريان الاستصحاب بين أنحاء الوجود وبهذا التقريب لا تسامح في المستصحب الغير القار
ولا في معنى بقائه إلا إنه يمكن أن يقال عليه إن هذا يصح لو استصحب بقاء نفس الليل
أو نفس النهار لصدق أن الشخص كان على يقين من وجود الليل والآن يشك في بقائه ...
فيستصحبه إلا أن ذلك لا ينفع في إثبات كون الجزء المشكوك فيه من الليل حتى .. يصدق
على الفعل إنه وقع في الليل إلا على القول بالأصل المثبت فهو نظير من كان يعلم
ورثته إنه عنده ثوب أمانة من زيد ، وشكوا في دفعه له فإن استصحاب بقاء الأمانة لا
يثبت أن هذا الثوب الموجود عنده وحده هو ثوب الأمانة لأنه لازم عقلي فكذا ما نحن
فيه فالأولى أن يستصحب وجوده في الليل أو وجود الليل له أو عنوان الليل للزمان
الذي نحن فيه فالزمان كنا نقطع بأنه كان متصفا بالليل والآن نشك في اتصافه به
فنستصحبه وهكذا وصف السعة العمل وضيقه فمثلا كان الليل يسع لهذا العمل فإذا شككنا
في سعته له أو ضيقه فنستصحب السعة ومن هذا الباب استصحاب سعة الوقت للصلاة مع
الوضوء وإذا أبيت عن ذلك فلك أن تقول أن المناط في
الاستصحاب هو صدق
النقض عرفا على معاملة العدم مع المتيقن السابق بأن يعامل المتيقن السابق معاملة
عدمه وصدق عدم النقض عرفا على معاملة البقاء والإبقاء مع المتيقن السابق بأن يعامل
المتيقن السابق معاملة وجوده فعلا وهو في الامور الغير القارة حاصل وذلك لأن
الأجزاء المتدرجة في الخارج تعد عرفا وجودا واحدا فترى العرف يعد الليل أمرا واحدا
وتراه يعد النهار أمرا واحدا وهكذا في التكلم فانه يعده أمرا واحدا فيعدون القصة
أو القضية أو مجموع الصادر منه في خطبة أو قصيدة أو مجلس واحد أمرا واحدا ويرشد
الى ان وجود هذا الامر الواحد التدريجي عندهم وجودا واحدا مستمرا هو عدهم وجوده
بوجود أول جزء منه فيقال وجد الليل أو الفرد الكذائي من الكلام أو الإمساك وعدهم
تدرج أجزائه في الوجود بقاء له وانعدامها ارتفاع له وبهذا تعرف ان الميزان في عد
الأمر التدريجي واحدا موكول الى العرف فكون هذا الكلام واحدا فيستصحب أو الكلام
متعددا فلا يستصحب تابع لنظر العرف.
والحاصل إنه لما
كان عند العرف تدرج الأجزاء امور الغير القارة بقاء لها فيما كان منها يعد عندهم
أمرا واحدا كالليل والخطبة كانت أدلة الاستصحاب شاملة لها.
وقد أجاب عنه
بعضهم اي عن الايراد على استصحاب الامور التدريجية بان نستصحب الأمور الملازمة
للزمان والمعرفات له كأن يستصحب عدم الطلوع أو عدم الغروب أو عدم وصول القمر إلى
درجة يرى فيها أو عدم سكوت المتكلم ولا يخفى ما فيه فانه يقتضي ترتب آثار هذه
الملازمات وأما الأحكام المرتبة على نفس الليل والنهار فلا يثبت به إلا على القول
بالأصل المثبت.
وأجاب بعضهم عنه
باستصحاب عدم ضد الزمان المشكوك فاذا شك في بقاء الليل أو النهار يستصحب عدم
النهار وعدم الليل والعدم
ليس أمرا تدريجيا.
وفيه ما تقدم من إنه يرتب عليه احكام الأعدام. وأن أبيت عن استصحاب الزمان ..
فنستصحب نفس الحكم الشرعي المرتب على الأمر التدريجي كأن يستصحب وجوب الصوم أو
وجوب الافطار بدليل قوله (ع) «صم للرؤية وافطر للرؤية» ومثله ما لو شك في مفهوم
الزمان كما لو شك في ان النهار اسم للزمان حتى سقوط القرص أو حتى ذهاب الحمرة فانه
لا يصح الاستصحاب للنهار لأنه ان كان بالمعنى الأول فقد زالت حقيقته. وان كان
بالمعنى الثاني فحقيقته قطعا باقية فلا بد من استصحاب نفس الحكم الشرعي والمناقشة
في صحة هذا الاستصحاب بعدم احراز الموضوع فاسدة لكون الزمان ليس بموضوع بل الموضوع
هو نفس الصوم أو الإفطار في المثال وهكذا ما كان من هذا القبيل.
نعم الشك في الحكم
مسبب عن الشك في الزمان إلا إنه قد تقرر في محله أن الأصل اذا لم يجري في السبب
كما هو المفروض جرى في المسبب بلا معارض مع إن المنع من جريان الاستصحاب في نفس
الحكم الشرعي لأمثال ما ذكرناه اجتهادا في مقابل النص وهو الرواية المتقدمة هذا
كله واضح في استصحاب الزمان والزمنيات.
واما استصحاب
الأمور القارة المتقيدة بالزمان محل الكلام فيها ما إذا شك في بقاء الحكم مع القطع
بارتفاع الزمان الذي أخذ قيدا له كما ورد (صم يوم الخميس) وشك في بقاء وجوب الصوم
ليوم الجمعة لأنه لو كان الشك من جهة الشك في انقضاء الزمان أو الزماني فيرجع الى
الشك السببي والمسببي لأن الشك حينئذ في الحكم مسبب عن الشك في وجود الزمان أو
الزماني.
والحاصل إن الشك
في الحكم تارة يكون من جهة الشك في انقضاء الزمان أو الزماني فيكون الشك في الحكم
حينئذ مسببا عن الشك في وجود المقيد فالمرجع استصحاب المقيد فيقال كان الإمساك
إمساكا
في النهار فهو
الآن امساك فيه إن كان الحكم الشرعي ثابتا للإمساك وكالمؤتم بإمام الجماعة إذا شك
في أن إمام الجماعة رفع يده عن صلاته لمعركة صارت امامه فانه يستصحب بقاء الإمام
على صلاته ويبقى على الإتمام به وهو من استصحاب الموضوعات الثابت لها الحكم
المتقدم ويمكن أن يستصحب القيد أعني الزمان فيقال في المثال المتقدم كان الزمان
نهارا فهو الآن نهار فيجب الامساك فيه لكن هذا لا يتم إلا أن يكون النهار من قبيل
الظرف بأن يكون وجوب الإمساك ثابت في ظرف النهار لا من قبيل القيد بأن يكون
الامساك النهاري قد ثبت له الوجوب لانه يكون من الأصل المثبت وكيف كان فهذا ليس
محل كلام القوم في هذا المقام وانما محل كلامهم هو ما اذا شك في بقاء الحكم مع
القطع بارتفاع القيد وهو الزمان أو الزماني بأن احتمل ثبوت الحكم للمقيد وإن لم
يكن القيد الذي هو الزمان أو الزماني موجودا كأن احتمل أن يكون ذكر القيد لبيان
أفضل الفردين كما لو قال لك المولى (صم الخميس) وشككت في بقاء وجوب الصوم الى يوم
الجمعة فان الزمان جزء الصوم الى صوم يوم الخميس وصوم يوم الجمعة ومثله ما لو قال
لك حج أول سنة استطاعتك وشككت في بقاء الوجوب الى السنة الثانية أو قال لك (صلي
أول الوقت) وشككت في بقاء الوجوب بعده ومثله لو قال لك (صم من الفجر حتى سقوط
القرص) وشككت في وجوب بقاء الصوم الى ذهاب الحمرة فان فرض كون القيد يراه العرف
وبحسب متفاهمهم منوعا للموضوع ومقوما له فالمرجع هو استصحاب عدم الحكم كما في مثال
صم يوم الخميس لا غيره فيقال إن الصوم الواقع في يوم الخميس واجب والواقع منه يوم
الجمعة مشكوك الوجوب فيستصحب عدمه ولا مجال لاستصحاب الوجوب لتعدد الموضوع.
وأما لو فرض ان
القيد يراه العرف وبحسب متفاهمهم من حالات
التكليف وظروفه أو
من حالات موضوع التكليف وظروفه لا من مقوماته ومنوعاته وان كان له دخل في المصلحة
بحسب الواقع وقيدا بحسب الدليل كأن يرى العرف من إن الواجب هو الإمساك نفسه وكون
الدليل قيده بالنهار الى سقوط القرص وغيبوبته من باب الظرفية له لمصلحة هناك وان
وجوب الامساك بعد الغيبوبة الى ذهاب الحمرة بقاء لذلك الوجوب السابق لا إنه وجوب
جديد فالمرجع هو استصحاب الوجوب الى ذهاب الحمرة المشرقية لأنه يكون شكا في بقاء
وجود الوجوب.
تم بعون الله
الجزء الأول من كتاب مصادر الحكم الشرعي والقانون
المدني ويليه إن
شاء الله الجزء الثاني وما توفيقنا الا بالله.
فهرس الموضوعات والابحاث
المصدر الاول : ـ القرآن الكريم................................................. ٤
المصدر
الثاني : ـ الاجماع..................................................... ١٠
الادلة
على حجية الاجماع وإن لم يكشف عن قول المعصوم........................ ١١
طرق حصول الاجماع ومعرفتها وحجيتها......................................... ١٤
ما هو مورد الاجماع........................................................... ٢٥
اقسام الاجماع............................................................... ٢٦
الاجماع المحصل والاجماع المنقول................................................ ٢٦
حجية الاجماع المنقول......................................................... ٢٧
الاجماع القولي والاجماع السكوني............................................... ٢٩
انقسام الاجماع الى لفظي ولبي................................................. ٢٩
انقسام الاجماع الى بسيط ومركب.............................................. ٣٠
وظيفة المجتهد لو قام عنده الاجماع
المركب....................................... ٣٤
المصدر
الثالث : السنة والحديث والخبر....................................... ٣٨
المقام الأول : في نفس السنة................................................... ٤٠
المقام الثاني : ثبوت السنة بالحاكي لها........................................... ٤٥
أدلة المانعين من حجية الخبر الغير
المقيد للعلم.................................... ٥٩
التسامح في ادلة السنن....................................................... ٦٣
حاصل المطلب.............................................................. ٧٤
فتوى المجتهد بمقتضى ادلة التسامح............................................. ٧٥
المصدر
الرابع : العقل........................................................ ٧٩
ما فرعوا على هذه الدعامة الاولى.............................................. ٨٦
المصدر
الخامس : القياس..................................................... ٩٨
المصدر
السادس : الاستحسان.............................................. ١٠٩
المصدر
السابع : المصالح المرسلة.......................................... ١١١
اختلاف الاحكام باختلاف المصالح
والمفاسد................................... ١١٤
المصدر
الثامن : سد الذرائع وفتحها.......................................... ١١٦
المصدر
التاسع : العرف والعادة.............................................. ١١٨
المصدر
العاشر : التلازم القطعي.............................................. ١٢٠
المصدر
الحادي عشر : عدم الدليل.......................................... ١٢١
المصدر
الثاني عشر : التسامح في ادلة السنن................................ ١٢٣
المصدر
الثالث عشر : الاستقراء............................................. ١٢٤
المصدر
الرابع عشر : ثبوت الحكم في الشرائع الالهية السابقة................ ١٢٨
المصدر
الخامس عشر : مذهب الصحابي.................................... ١٢٩
المصدر
السادس عشر : تنقيح المناط........................................ ١٣٠
المصدر
السابع عشر : السيرة............................................... ١٣١
المصدر
الثامن عشر : الشهرة................................................ ١٣٣
المصدر
التاسع عشر : أصل البراءة.......................................... ١٣٨
شرائط الرجوع لأصل البراءة.................................................. ١٤٢
المصدر
العشرون : اصالة التخيير............................................ ١٤٤
المصدر
الواحد والعشرون : الظن المطلق..................................... ١٤٨
المصدر
الثاني والعشرون : اصل الاشتغال..................................... ١٥١
دوران الأمر بين المتباينين.................................................... ١٥٢
شروط اصالة الاشتغال...................................................... ١٩٥
دوران الامر بين الأقل والأكثر............................................... ١٩٩
البراءة الشرعية عند دوران الأمر بين
الأقل والأكثر.............................. ٢١٣
دوران الامر بين الاقل والأكثر في الشبهة
الموضوعية............................. ٢١٤
شرائط العمل بالاحتياط..................................................... ٢١٥
المصدر
الثالث والعشرون : الاستصحاب..................................... ٢١٨
الاستصحاب في الاصطلاح................................................. ٢١٩
استصحاب الحال والاجماع ونحوها............................................ ٢٢٠
الأدلة على اعتبار الاستصحاب شرعا......................................... ٢٢٠
حجية الاستصحاب في الموضوعات والاحكام.................................. ٢٤١
حجية الاستصحاب في الشك من جهة المقتضي
أو الرافع....................... ٢٤٩
حجية الاستصحاب في الشك في الحكم
التكليفي أو الوضعي.................... ٢٥٧
دفع توهم................................................................. ٢٦٨
ثمرات القول بجعل الحك م الوضعي........................................... ٢٦٨
تنبيهات الاستصحاب...................................................... ٢٦٩
التنبيه الأول على ان الاستصحاب من
الاحكام الظاهرية........................ ٢٦٩
التنبيه الثاني فيما يعتبر في تحقق
الاستصحاب.................................. ٢٧١
التنبيه الثالث في استصحاب الكلي
وأقسامه................................... ٢٨٦
التنبيه الرابع في استصحاب عدم التذكية....................................... ٢٩٦
التنبيه الخامس في استصحاب الأمور الغير
القارة................................ ٢٩٩
|