

القسم الأول
من كتاب النبوات
في
تقرير القول بالنبوة
عن طريق المعجزات
الفصل الاول
في
شرح مذاهب الناس في هذا الباب
اعلم
أن منكري النبوات فرق :
الفرقة الأولى : الذين قالوا : إله العالم موجب بالذات لا فاعل بالاختيار. فإن كل من
أنكر كونه تعالى فاعلا مختارا ، وأنكر كونه عالما بالجزئيات. فقد انسد عليه باب
إثبات النبوات و [هذه الطريقة ] هي طريقة الفلاسفة.
والفرقة الثانية : الذين سلّموا أن إله العالم فاعل مختار ولكنهم أنكروا الأمر والنهي
والتكليف. قالوا : وإذ ثبت هذا ، فقد بطل القول بالنبوة. لأن الأنبياء عليهمالسلام إنما جاءوا بتقرير التكاليف. ولما كان القول بالتكليف
عندهم باطلا ، فقد بطل الأصل [وعند بطلان الأصل ] يكون الفرع أولى بالبطلان.
والفرقة الثالثة : الذين سلموا أن إله العالم أمر عباده بأشياء ، ونهاهم عن
__________________
أشياء إلا انهم
قالوا : العقول وحدها كافية في معرفة تلك التكاليف. فلم يكن في بعثة الأنبياء عليهمالسلام فائدة.
الفرقة الرابعة : الذين قالوا : لا طريق لنا إلى معرفة نبوة الأنبياء ، إلا بواسطة المعجزات ،
والمعجزات لا دلالة فيها البتة على صدق الأنبياء ، وإذا لم يوجد شيء يدل على
النبوة إلا المعجز ، وثبت أن المعجز لا يدل البتة على صدق النبي ، فحينئذ يلزم
فساد القول بالنبوة.
ثم إن القائلين بهذا القول ذكروا في الطعن في المعجزات وجوها كثيرة.
فالفرقة الأولى
: الذين أنكروا وجود المعجزات ، قالوا
: خرق العادات ممتنع في العقول [والفرقة
الثانية الذين سلموا إمكان انخراق
العادات ؛ إلا أنهم قالوا : لم يوجد دليل يدل على أن الفاعل لتلك الأفعال الخارقة
للعادات ، هو الله سبحانه. والفرقة ]
الثالثة الذين قالوا : هب
أن الدليل دل على أن فاعل تلك الخوارق هو الله تعالى ، إلا أنها ـ مع تسليم هذا
الأصل ـ لا تدل على صدق المدعي للرسالة. والفرقة
الرابعة الذين قالوا : هب أن
المعجز يدل على أن الله تعالى صدق ذلك المدعي في دعواه ، لكن تصديق الله إياه في
دعواه. لا يدل على كونه صادقا ، بدليل : أن القول بالجبر حق ، ومتى كان كذلك [وجب
القطع بأن فاعل القبائح بأسرها هو الله ، ومتى كان كذلك ] امتنع أن يقال : إن الفعل الفلاني : قبيح ، فيمتنع من
الله تعالى فعله ، وإذا كان كذلك ، لم يقبح من الله تعالى : تصديق الكاذب.
والفرقة الخامسة من الطاعنين في
المعجزات : الذين قالوا : هب أن
المعجزات تدل على صدق المدعي ، إلا أنا ما شاهدنا ظهور تلك المعجزات ، وإنما
الغاية القصوى : أن الناس أخبروا : أنها وقعت في الأزمنة الماضية ، إلا
__________________
أن الخبر لا يفيد
العلم اليقيني. وإنما القدر الممكن فيه : حصول الظن. لأن هذه المسألة مسألة
يقينية. فبناء إثباتها على الطريق الذي لا يفيد إلا الظن : يكون باطلا فاسدا. فهذه
الفرق الخمس هم الذين يطعنون في النبوات ، بواسطة الطعن في المعجزات.
وأما الفرقة الخامسة من الطاعنين في
النبوات : الذين قالوا : إنه نقل عنهم
أحوال لا يليق بالمحققين الاشتغال بها ، وذلك يوجب الطعن في كونهم رسلا من عند
الله تعالى.
والفرقة السادسة : الذين قالوا : لو
أراد الله تعالى إرسال
الرسل ، لكان يجب أن يكون رسولا من الملائكة ، وأن يظهر عليه معجزات قاهرة
متوالية. وهذا القول حكاه الله تعالى في القرآن مرارا متوالية كثيرة.
فهذا هو الإشارة
إلى ضبط فرق المنكرين للنبوات. أما الكلام في أن إله العالم فاعل مختار ، لا موجب
بالذات. فقد سبق على الاستقصاء. فلا فائدة في الإعادة.
وأما سائر المذاهب
فإنا نعقد في كل واحد منها فصلا [مفردا. والله أعلم ]
__________________
الفصل الثاني
في
حكاية شبهات من أنكر
النبوات بناء على نفي التكليف
اعلم أن المنكرين
للتكليف فريقان :
منهم من يبني هذا
الإنكار على القول بالجبر ، ومنهم من ينكر التكليف لا بالبناء على الجبر بل على
طرق أخرى.
الفريق الأول : الذين بنوا إنكار التكليف على الجبر ، فهؤلاء قالوا : القول بالجبر حق
، فالقول بإنكار التكليف حق ، فالقول بإنكار النبوة حق. فهذه مقدمات ثلاث :
المقدمة الأولى : في بيان أن القول بالجبر حق :
اعلم أن الكلام في
تقريره سيأتي بالاستقصاء في كتاب مفرد إلا أنا نذكر الآن وجوها على سبيل الإيجاز :
فالوجه الأول : إن المتمكن من الفعل ، إما أن يكون متمكنا من تركه أولا يكون. فإن كان
المتمكن من الفعل ، متمكنا من تركه. فرجحان جانب الفعل على جانب الترك ، إما أن
يتوقف على مرجح ، أولا يتوقف. فإن توقف
__________________
على مرجح ، فذلك
المرجح إن كان من العبد عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان من غيره ، فحينئذ يلزم
الجبر ، وأما إن حصل ذلك الترجيح لا لمرجح ، أو يقال : إنه ترجح جانب الفعل على
جانب الترك ، لا لمرجح أصلا. فهذا باطل لوجهين :
الأول : إنه يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك يمنع من الاستدلال
بحدوث المحدثات ، وبإمكان الممكنات على وجود الصانع. وإذا بطل القول بالصانع ، كان
بطلان القول بالتكليف وبالنبوات ألزم.
الثاني : إن على هذا التقدير يكون رجحان جانب الفعل على جانب الترك : محض الاتفاق. وما
يكون كذلك ، لم يكن الوقوع به ، أولى من الترك به. بل إن اتفق وقوعه ، فقد وقع.
شاء ذلك الفاعل : ذلك الفعل ، أو أبى وإن لم يتفق وقوعه لم يقع ، شاء ذلك الفاعل :
ذلك الفعل أو أبى. وهذا هو محض الجبر. فيثبت : أن رجحان أحد الطرفين على الآخر ،
إن توقف على المرجح ، فالقول بالجبر لازم. وإن لم يتوقف ، فالقول بالجبر ألزم.
فيثبت : أن القول بالجبر لازم على كل التقديرات. هذا إذا قلنا : إن المتمكن من
الفعل [متمكن أيضا من الترك. وأما القسم الثاني وهو أن يقال : المتمكن من الفعل
غير متمكن من الترك ] فههنا الجبر أظهر وألزم. فيثبت : أن القول بالجبر لازم
على كل الأقسام.
الحجة الثانية : إن القادر على الفعل ، لا قدرة له على الترك البتة. وإذا كان الأمر كذلك
، كانت القدرة موجبة للفعل ، فكان الجبر لازما. وإنما قلنا : إن القادر على الفعل
، لا قدرة له على الترك : لأن الترك عبارة عن البقاء على العدم الأصلي. والعدم لا
يصلح أن يكون مقدورا للقادر ، لأن القدرة
__________________
صفة مؤثرة والعدم
نفي محض [وعدم صرف ] فيمتنع جعله أثرا للقدرة ، ولأن الشيء حال بقائه ، يمتنع
كونه واقعا بالغير ، وإلا لزم تحصيل الحاصل ، وهو محال [فقد حصل في العدم
الباقي وجهان كل واحد منهما يمنع من كونه مقدورا. وذلك محال] وإذا كان كذلك يثبت :
أن الترك يمتنع أن يكون مقدورا. فيثبت أن القادر على الفعل ، لا قدرة له على
الترك. وإذا كان كذلك كانت القدرة موجبة [للترك ] وذلك يوجب القول بالجبر.
الحجة الثالثة : إنه لو حصلت القدرة على الفعل ، لحصلت إما حال استواء الدواعي إلى
الفعل والترك ، أو حال رجحان أحد الجانبين على الآخر. والقسمان باطلان. فالقول
بحصول هذه القدرة : محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول المكنة حال استواء الداعي.
وذلك لأن الرجحان يناقض الاستواء ، فحصول الرجحان حال حصول الاستواء محال ،
والمحال لا قدرة عليه. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول هذه المكنة حال حصول رجحان أحد
الطرفين ، لأن الراجح واجب ، والمرجوح ممتنع. على ما يأتي برهانه مرارا ، والواجب
والممتنع لا قدرة له عليه البتة. فإن قالوا : إنه حال الاستواء ، يمكنه إيقاع
الترجيح في الزمان الثاني منه. فنقول : هذا باطل من وجهين :
الأول : إنه إما أن يكون المراد أن عند مجيء الزمان الثاني ، يمكنه إيقاع الترجيح
في ذلك الزمان [أو يكون المراد : أن في الزمان الأول يمكنه إيقاع الترجيح في
الزمان الثاني. والأول باطل ، لأن عند مجيء الزمان ] الثاني ، إما أن يكون الحاصل استواء الدواعي ، أو رجحان
أحد الجانبين. وحينئذ يعود التقسيم الأول. والثاني أيضا : باطل. لأن عند حصول
الزمان الأول [يمتنع حصول الزمان الثاني ، لكن إيقاع الفعل في الزمان الثاني ،
مشروط بحضور
__________________
الزمان الثاني ،
الذي هو ممتنع الحضور في الزمان الأول ] والموقوف على الممتنع : ممتنع. فوجب أن يكون إيقاع الفعل
في الزمان الثاني عند حضور الزمان الأول : ممتنعا. والممتنع لا قدرة عليه.
والثاني : إن على هذا التقدير ، يكون إيقاع الفعل حاصلا في الزمان الأول. ويكون وقوع
الفعل حاصلا في الزمان الثاني. فهذا يوجب أن يكون إيقاع الفعل مغايرا لوقوعه.
فنقول : ذلك المغاير المسمى بالإيقاع إن لم يكن واقعا بقدرة هذا الفاعل ، ووجب أن
يكون الفعل الواقع بسبب هذا الإيقاع : غير واقع بهذا القادر. وإن كان واقعا بقدرة
هذا الفاعل [وجب أن تكون قدرته متقدمة عليه. ثم الكلام فيه كما في الأول ].
وهذا يوجب أن يكون
كل إيقاع ، مسبوقا بإيقاع آخر ، إلى غير النهاية بحسب الزمان. وذلك يوجب أن تكون
قدرة القادر ، متقدمة على حصول الأثر ، بأزمنة لا نهاية لها. وكل ذلك محال.
الحجة الرابعة : المكنة من الفعل والترك ، لو حصلت لحصلت إما حال حصول الفعل ، أو قبل
حصوله ، أو بعد حصوله. والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بحصول هذه المكنة باطل.
إنما قلنا : إنه يمتنع حصول القدرة على الفعل حال حصوله لأن حصول الترك حال حصول الفعل محال ، لأنه يوجب الجمع بين
النقيضين وذلك محال ، والمحال لا قدرة عليه. فيثبت : أن حال حصول الفعل ، يمتنع
كونه قادرا على الفعل والترك. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول القدرة على الفعل ، قبل
حصوله. لأنه إما أن يكون المراد : إنه قبل حصول الفعل يكون موصوفا بأنه عند مجيء
الزمان الثاني ، فإنه يصير موصوفا بأنه يقدر على الفعل. أو يكون المراد : أنه عند
حصول الوقت الأول ، يمكنه إيقاع الفعل في الزمان الثاني منه. والأول محال. لأن عند
حضور ذلك الوقت. إن كان الفعل حاضرا فلا قدرة فيه على الترك. وإن كان الترك
__________________
حاضرا ، فلا قدرة
فيه على الفعل. لأن ذلك يوجب الجمع بين النقيضين. والثاني أيضا باطل. لأن عند حضور
الزمان الأول ، يمتنع حضور الزمان الثاني [وإيقاع الفعل في الزمان الثاني موقوف
على حضور الزمان الثاني ] والموقوف على المحال محال والمحال لا قدرة عليه وإنما
قلنا : إنه يمتنع حصول القدرة على الفعل بعد حصول الفعل. لأن ذلك معلوم بالبديهة ،
فيثبت : أن القدرة على الفعل ـ بمعنى حصول المكنة من الفعل والترك ـ : ممتنعة
الوجود قبل الفعل ومعه وبعده فكان القول بثبوت هذه القدرة : محالا.
الحجة الخامسة : إن المكنة التامة المتساوية ، بالنسبة إلى طرفي الفعل والترك. إذا
حصلت ، فإن لم تحصل معها الداعية المرجحة ، امتنع صدور الفعل عنها ، وإن حصلت الداعية
المرجحة ، فتلك القدرة مع تلك الداعية المرجحة الخالية عن المعارض ، تكون موجبة
للفعل. فعلى هذا : الحاصل على أحد التقديرين : هو الامتناع وعلى التقدير الثاني حصل الوجوب. ولا قدرة البتة لا على
الممتنع ، ولا على الواجب. فوجب أن لا تحصل المكنة من الفعل البتة. وهذه الوجوه الخمسة مستفادة من البحث
الأول عن حال القدرة ، وعن كيفية تأثيرها في المقدور.
الحجة السادسة : إن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه لأنه إذا حرك إصبعه فهو لا يعرف أنه كم
عدد من الجواهر الفردة حركها؟ وفي كم عدد من الأحياز ، حرك ذلك الإصبع؟ واختصاص
العدد المعين بالوقوع دون الزائد والناقص ، لا بد وأن يكون [بالقصد ، لكن ] القصد مشروط بالعلم. فإذا لم يحصل العلم ، لم يحصل القصد
أيضا ، فامتنع كونه واقعا بإيقاعه ، موجودا بإيجاده.
الحجة السابعة : لو كانت قدرة العبد صالحة لإيجاد بعض الممكنات
__________________
[لكانت صالحة
لإيجاد كل الممكنات ] لأن المصحح للمقدورية هو الإمكان. والإمكان مفهوم واحد
مشترك فيه بين كل الممكنات ، لكن كون العبد قادرا على إيجاد كل الممكنات : باطل.
وإلا لقدر على إيجاد نفسه ، وعلى إيجاد قدرته ، فوجب أن لا يقدر على إيجاد شيء من
الممكنات.
الحجة الثامنة : إن مقدور العبد : مقدور لله تعالى [فوجب أن يقدر ] لأن مقدور العبد مثل مقدور الله [والمثلان يتساويان في
جواز الجائزات ، فكان مقدور العبد ، يصح أن يكون مقدورا لله ] تعالى ، وإذا ثبت القول بهذه الصحة ـ والموجب لقادرية
الله تعالى هو ذاته المخصوصة ، ونسبة ذلك الإيجاب إلى الشيء ، كنسبته إلى مثله ،
فلما أوجبت ذاته القادرية على أحد المثلين ـ وجب أن توجب القادرية على المثل الثاني. فيثبت : أن مقدور العبد ،
مقدور لله تعالى. وإذا ثبت هذا ، كان وقوعه بهما : محالا. لأن أحد السببين لما كان
مستقلا بالاقتضاء ، فلو أثر الثاني فيه ، كان ذلك إيجاد للموجود ، وهو محال. فوجب
أن يكون واقعا بأحدهما لكن هذا محال. لأنه لما كان واحد منهما سببا مستقلا
بالاقتضاء ، فوقوعه بأحدهما دون الثاني ، يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن [على الآخر من غير مرجح. وهو محال. ولما بطل هذا ، كان وقوعه بقدرة
الله تعالى أولى. وذلك يمنع من كون العبد موجدا .
الحجة التاسعة : لو صح الإيجاد من العبد. فإذا قصد العبد تحريك جسم ، وقصد الله تعالى تسكينه ،
فإما أن يحصل المرادان معا وهو محال أو يمتنعا. وهو أيضا : محال. لأن المانع لكل
واحد منهما عن تحصيل مراده : هو وقوع مراد الثاني. والمعلول لا يحصل إلا عند حصول
العلة ، فلو حصل
__________________
الامتناعان معا ،
لحصل التأثيران معا ، وذلك يوجب الجمع بين النقيضين ، أو يقع مراد أحدهما دون
الثاني ، وذلك : محال. وذلك لأن الحركة الواحدة ، والسكون الواحد : لا يقبل
التجزئة في العقل. وإذا كان ذلك كذلك ، كانت القدرة عليه قابلة للقوة والضعف. وإذا كان كذلك ، كانت قوة كل واحد
منهما في هذا الأثر الواحد ، معادلة لقوة الآخر. فإذا امتنع الفعل على أحدهما ،
وتيسر للثاني ، مع أننا بينا حصول الاستواء في القوة : لزم الرجحان لا لمرجح [وهو
محال ].
الحجة العاشرة : لو أراد الله تعالى الإيمان من العبد ، ثم إن العبد أراد الكفر ، فإن وقع
مراده ، ولم يقع مراد الله تعالى لزم كون العبد أكمل في القدرة من الله تعالى وذلك
محال.
الحجة الحادية عشر : لو أراد الله
الإيمان من العبد ، مع أنه
علم منه أنه لا يؤمن ، لكان قد أراد منه الجمع بين الضدين ، وهذه الإرادة ممتنعة
الحصول ، فوجب أن يكون القول بأن الله تعالى أراد الإيمان ، ممن علم أنه يكفر :
محالا.
الحجة الثانية عشر : لو كان فعل العبد واقعا بإيجاده ، لوقع عين ما أراده العبد. وكل واحد لا
يريد إلا الحق والصدق والصواب. فوجب أن يحصل الصدق والحق والصواب لكل أحد ، وحيث
لم يكن الأمر كذلك ، بل الأكثرون في الجهل والضلال. علمنا : أن الكل بقضاء الله
تعالى وقدره. وذلك يوجب القول بالجبر.
واعلم أن هذه
الوجوه التسعة [هي دلائل
المتكلمين من أهل الجبر ].
__________________
الحجة الثالثة عشر : إنه تعالى عالم بجميع الجزئيات ، وما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب
الوقوع ، وما علم عدمه فهو ممتنع الوقوع [لأن العلم بالوقوع يناقضه عدم الوقوع ] والجمع بين النقيضين : محال [ولما كان العلم بالوقوع
حاصلا ، كان اللاوقوع الذي هو نقيضه ممتنعا ، محالا ] والممتنع المحال لا قدرة عليه.
ويمكن إيراد هذه
الحجة على طريق آخر.
ويقال : الله
تعالى. إما أن يكون [عالما بالجزئيات ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول كان الجبر
لازما. وإذا ثبت ] الجبر. بطل القول بالتكليف والنبوة ـ على ما سيأتي تقريره
ـ وإن لم يكن عالما بالجزئيات كان القول ببطلان التكليف والنبوة ألزم.
الحجة الرابعة عشر : إنه تعالى أخبر عن كفر الكفرة ، فلو لم يوجد ذلك الكفر لانقلب خبر الله
تعالى كذبا [وهو محال ] والمفضي إلى المحال : محال ، فكان [عدم صدور الكفر عنهم
محالا فكان] صدور الكفر عنهم واجبا. فكان الجبر لازما.
الحجة الخامسة عشر : القضايا إما واجبة أو ممتنعة أو ممكنة. أما الواجب والممتنع فلا قدرة
عليه البتة ، وأما الممكن فإما أن يعتبر في الماضي أو في الحال أو في المستقبل.
أما في الماضي وفي الحال : فأحد الجانبين واقع. والواقع لا قدرة عليه. وأما في
المستقبل فنقول : إنا إذا قلنا : إن المطر سينزل غدا ، ولا ينزل غدا. فأحد
النقيضين لا محالة [واقع واجب ] وإلا لخلت القضية عن النفي والإثبات معا ، وهو محال. وإذا
ثبت هذا فنقول : إما أن يكون الحق
__________________
أحدهما بعينه أو
لا بعينه. والثاني محال. لأن ما لا يكون متعينا في نفسه ، امتنع كونه موجودا [وما
يمتنع كونه موجودا ] يمتنع اتصاف غيره به ، فكان يجب أن يكون قولنا : إن هذه
القضية واجبة الاتصاف بأحدهما لا بعينه : قولا محالا. ولما بطل هذا ، ثبت : أن
القول بأن الواجب أحدهما [لا بعينه قول باطل ، فوجب أن يكون الواجب هو أحدهما ] بعينه. وإذا كان كذلك ، كان نقيضه محالا ، فكان القول
بالجبر لازما.
فيثبت بهذه الوجوه
الخمسة عشر : أن القول بالجبر حق. وتمام الكلام في هذا الباب سيأتي في الكتاب
التاسع [إن شاء الله
تعالى ].
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أنه متى كان القول بالجبر حقا ، كان القول ببطلان التكليف
حقا. فالدليل عليه : أن العبد ما لم يكن قادرا على الفعل والترك ، كان أمره عبثا ،
لأن ما يوجب الفعل ـ إن حصل ـ فذلك الفعل حاصل وجوبا ، سواء أراده العبد ، أو لم
يرده [وإن حصل ما يوجب الترك ، فذلك الترك حاصل ، سواء أراده العبد ، أو لم يرده ] وإذا كان كذلك ، فنقول :
القائل له : افعل
: أو لا تفعل : يكون جاريا مجرى ، ما إذا قيل له : افعل يا من لا يفعل. وأيضا. فلو
جاز ذلك ، لجاز أن يؤمر بطوله وقصره ولونه ، لجاز أن يؤمر بإيجاد السموات والعرش
والكرسي ، مع أنه لا قدرة له على شيء منها. وأيضا : لو جاز ذلك ، لجاز إرسال الرسل
إلى العميان بنقط المصاحف ، وإلى المفلوجين بأن يطيروا إلى السموات. وكل ذلك ظاهر
الفساد.
__________________
فثبت : أن القول
بالجبر حق. وثبت : أنه متى [كان القول بالجبر حقا ، كان القول ببطلان التكليف حقا.
وأما المقدمة الثالثة : في بيان أنه لما ] كان القول ببطلان التكليف حقا ، كان القول ببطلان النبوة
حقا ، فتقريره : أن الأنبياء بصريح لسانهم ، وفصيح بيانهم ، يذكرون أنه لا فائدة
في بعثتهم ولا مقصود من إرسالهم إلا تبليغ التكاليف ، وأنه لو لا هذا المقصود ، لم
يكن في إرسالهم فائدة البتة.
وإذا ثبت هذا ،
وثبت أن القول بالتكليف باطل ، كان القول بإرسالهم باطلا.
وهذه الشبهة في
نفي النبوات ، قد حكاها الله تعالى في القرآن مرارا ، وهو قوله تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا : لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا ، وَلا آباؤُنا ، وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ
كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) [والله أعلم ].
__________________
الفصل الثالث
في
تقرير شبهات من ينكر
التكليف لا بالبناء على مسألة الجبر
أعلم أن هذه الطائفة ذكروا الشبهات من
وجوه :
الشبهة الأولى :
: قالوا : إما أن يكون حكم
العقل في التحسين والتقبيح معتبرا ، وإما أن لا يكون [وعلى التقديرين ، فالقول
بالتكليف والنبوة باطل ] [أما بيان أن على تقدير إثبات تحسين العقل وتقبيحه ، كان
القول بالتكليف باطلا ] [فمن وجوه :
الحجة الأولى : قالوا : هذه التكاليف ، إما أن تكون مشتملة على فائدة ومصلحة ، وإما أن
لا تكون ] والقسمان باطلان ، فبطل القول بالتكليف. وإنما قلنا : إنه
لا يجوز القول بكونها مشتملة على الفائدة والمصلحة ، فهو أن تلك الفائدة. إما أن
تكون عائدة إلى المعبود. أو إلى العابد ، أو إلى ثالث يغايرهما. ولا يجوز أن تكون
عائدة إلى المعبود ، لوجوه :
الأول : إنه ثبت بالدليل : كونه متعاليا عن النفع والضر.
__________________
والثاني : إن المحتاج لا يكون كامل القدرة ، ومن كان كذلك لم يحصل الوثوق بوعده ووعيده.
والثالث : إن البشر في غاية الضعف. وهذه العبادات أفعال قليلة وحركات ضعيفة ، فلو
كان الإله قد بلغ في الضعف إلى حيث ينتفع بهذه الحركات الخسيسة ، فهو في الضعف
والعجز في الغاية. وذلك محال.
وإنما قلنا : إنه
لا يجوز أن يقال : إن تلك الفوائد عائدة إلى العابد لوجهين :
الأول : إن جميع الفوائد محصورة في جلب المنافع ، ودفع المضار ، والله تعالى قادر
على تحصيلها بأسرها من غير واسطة هذه التكاليف. ولا تتفاوت حال القدرة على تحصيل
هذه المطالب ، بسبب أن يأتي الإنسان بحركات معدودة. فإن كانت قدرته وحكمته تتفاوت
بسبب هذه الأفعال الخسيسة الصادرة عن الإنسان ، فهو في غاية الضعف. وإذا كان كذلك
، كان توقيف إيصال تلك المنافع [ودفع تلك المضار ـ على هذه التكاليف ـ عبثا محضا.
والثاني : إن تلك المنافع ] [الحاصلة من هذه الأفعال ] إما أن تحصل في الدنيا أو في الآخرة. والأول باطل. لأنها
في الدنيا محض التعب والكلفة والمشقة. وأما في الآخرة فبعيد أيضا. لأنه قادر على أن يدخلهم الجنة ويخلصهم من النيران من غير هذه
الوسائط.
قالت المعتزلة : «الوجه في حسن التكليف : أن التفضل بالتعظيم قبيح. فلما أراد الله تعالى
تعريض العبد [لاستحقاق التعظيم ، لا جرم كلفه ليحصل له ] استحقاق التعظيم ، عند إتيانه بما كلف به».
واعلم أن هذا ضعيف من وجوه :
__________________
الأول : إن التعظيم عبارة عن فعل ، أو قول ، أو ترك فعل ، أو ترك قول ، يقتضي
حصول سرور في القلب ، أو لذة في البدن. وقد بينا : أنه لا سرور ، ولا لذة ، إلا
والله تعالى قادر على إيصاله الى العبد من غير هذه الوسائط.
الثاني : إن استحقاق التعظيم قد يحصل بالأفعال السهلة [فإن التكلم بكلمة
الشهادة ] بعد سبق المعرفة : عمل سهل. وهو يوجب الثواب العظيم. فلو
كان المقصود من التكليف حصول هذا الاستحقاق ، لكان من الواجب [في الحكمة ] أن نبالغ في تقوية أبداننا حتى يسهل العمل علينا ، فنصير
مستحقين للثواب بسببه ، من غير حصول الكلفة والمشقة.
الثالث : إن الحاصل بسبب هذا التكليف عند الطاعة [حصول هذه الزيادة ، وهو هذا الاستحقاق
العظيم. وعند المعصية ] حصول العقاب الشديد الدائم. والعقول السليمة قاضية بأن
الفعل الذي تكون المنفعة الحاصلة منه نفعا زائدا [فإنه تجب الحاجة ] إليه [والفعل الذي ] تكون المضرة الحاصلة منه أعظم أنواع الضرر ، فإنه يجب
تركه والاحتراز منه بأعظم الوجوه. والله أعلم.
وإنما قلنا : إنه
لا يجوز أن تكون تلك الفوائد عائدة إلى ثالث غير العابد وغير المعبود وذلك لوجهين
:
الأول : إنه لا منفعة تحصل لذلك الثالث ، إلا والله تعالى قادر على تحصيلها بغير
واسطة هذه التكاليف ، فيكون توسط هذه التكاليف : عبثا.
الثاني : إن حاصل
هذا الكلام يرجع إلى أنه تعالى الحق الضرر والبلاء بأحد العبدين ، لأجل إيصال
النفع إلى العبد الثاني. وهذا محض الظلم.
__________________
وأيضا : فليس
إيصال الضرر إلى أحدهما ، لأجل حصول النفع للثاني ، أولى من العكس. فثبت بهذا
البيان : أنه لا يجوز أن يقال : التكليف إنما هو حسن لوجه حكمة ومصلحة.
وأما القسم الثاني : وهو أنه حسن ذلك من الله تعالى من غير فائدة ولا حكمة. فهذا أيضا
باطل لأنا في هذا القسم إنما نتكلم على تقدير أن يكون القول بتحسين العقل وتقبيحه
معتبرا. ومعلوم أن على هذا التقدير فإلحاق المضار والآلام والمتاعب بالغير من غير
حكمة وفائدة قبيح في العقل. فكان هذا القسم باطلا. فيثبت أن على تقدير أن يكون
تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. لو حصل التكليف. لحصل ، إما لفائدة أو لا لفائدة ،
وثبت فساد القسمين ، فوجب أن يكون القول بالتكليف باطلا ، على تقدير أن يكون تحسين
العقل وتقبيحه معتبرا.
الحجة الثانية في
بيان أنه مع القول بتحسين العقل وتقبيحه ، وجب أن يكون التكليف قبيحا : هو أن نقول
: إما أن يقال : إن لله تعالى في هذه التكاليف فائدة ومنفعة [وإما أن يقال : إنه
منزه عن جميع المنافع والفوائد العائدة إليه. وإنما كلفه بهذه ] الأفعال لأجل الفوائد العائدة إلى ذلك العبد ، أو لأجل
الفوائد العائدة إلى ذلك الثالث. أو لا لشيء من الفوائد. والأقسام الأربعة باطلة.
أما القسم الأول : وهو أن يكون المقصود من هذه التكاليف : عود الفوائد إلى الله تعالى ، فهو باطل
على ما بيناه في الوجه الأول.
وأما القسم الثاني : وهو أن يكون المقتضى لحسن هذه التكاليف عود المنافع والمصالح
إلى العباد ، فهذا باطل ، لأن معنى إيجابها : ترتب العقاب على تركها ، فيصير
المعنى كأن الله تعالى يقول للعبد : أيها العبد حصل لنفسك المصلحة الفلانية ، وإن
لم تحصلها لنفسك ، فأنا أعذيك أبد الآباد. فيقول العبد : يا إله العالمين : هذا
الحكم متناقض. لأنه إذا كان [لا مقصود لك من
__________________
هذا التكليف إلا
حصول منافع مخصوصة إليّ ، كان ] كل المقصود رعاية أحوالي [فتعذيبي على تركها يناقض رعاية
أحوالي ] فكان الجمع بينهما متناقضا. ومثاله : أن يقول السيد لعبده
: اجتهد في هذا اليوم في كسب درهم لنفسك ، فقصّر العبد في ذلك ، فأخذه السيد ،
وقرض أعضاءه بمقاريض من النار. فيقول العبد : أيها السيد : هل كنت في ذلك الدرهم
لنفسك؟ أو كنت فارغا عن جميع المطامع العائدة إليك ، وإنما أمرتني بكسب ذلك الدرهم
لمصالح نفسي فقط؟ فإن كان الأول ، كان هذا التعذيب حسنا ، لأني سعيت في تفويت
مطلوبك. وأما إن كان الحق هو الثاني ، كان هذا الفعل باطلا. لأن العبد يقول : إنما
أمرتني بكسب ذلك الدرهم لنفسي ، ولتكون منافعه عائدة إليّ ، لا إليك. فلما [قصرت في
تحصيله ، فأنا ما قصرت إلا في تحصيل المنفعة لنفسي. وتعذيب الإنسان لأجل أنه ] قصر في تحصيل مصالح نفسه ، قبيح في العقول. لأن رعاية
مصالحه ، إن لم تكن واجبة الرعاية ، كان تكليفه لتحصيل ذلك الدرهم لنفسه : غير
واجب. وإن كانت واجبة الرعاية ، فأهم المهمات له : إزالة العقاب. فكان إيصال
العقاب إليه ، لأجل أنه قصر في حق نفسه : فعلا متناقضا.
وبهذا يظهر الفرق
بين الشاهد والغائب [فإن السيد إذا أمر عبده بعمل ، فقصر فيه ، فإنه يستحق الملامة
والتعذيب. وذلك لأن السيد إذا أمره بذلك العمل ، ليستفيد منه نوعا من أنواع المنافع
، فلما قصر العبد فيه. فقد فات على السيد تلك المنافع ، فحسن منه تعذيب ذلك العبد.
أما هذا في حق الله محال. فكان تعذيب العبد على ترك التكاليف والأعمال : قبيحا.
فظهر الفرق بين الشاهد وبين الغائب ].
وأما القسم الثالث والرابع : فهما
باطلان بالوجوه المذكورة
في الحجة الأولى.
__________________
الحجة الثالثة : لو حسن التكليف ، لحسن إما لأجل النعم السالفة أو لأجل النعم
اللاحقة ، وهو الثواب الذي يحصل بعد ذلك ، أو لا لواحد من هذين القسمين. والكل
باطل.
أما بطلان القسم الأول : فالدليل عليه
من وجوه :
الأول : وهو أن كل من أوصل نعمة قليلة إلى إنسان ضعيف ، ثم إنه يكلف ذلك
الضعيف بالأفعال الشاقة ، فإن كل أحد يذمه ، ويقول : إنه أعطاه شيئا قليلا ثم إنه
يعذبه عليه ، ويكلفه بتلك التكاليف الشاقة.
ونحن في هذا القسم
إنما نتكلم على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه : معتبرا ، بل نقول : هاهنا حصل
في هذه الصورة شيء يوجب الزيادة في القبح ، وذلك لأن إله العالم غني عن جميع
العالمين ، فتكليف العبد بهذه الأفعال الشاقة ، مع أنه لا فائدة له في شيء منها [والعبد
مضار ] يكون في غاية القبح.
الثاني : إن كل نعمة أوصلها إلى العبد [فقد خلق في العبد ] قبل تلك النعمة الاحتياج إليها ، والشهوة لها. وذلك ضرر.
فإذا أعطى ذلك الشيء فحينئذ يتقابل الضرر السالف ، بالنعمة الحاصلة. وذلك لا يوجب
النعمة. هذا إذا أعطى كل ما أحوج إليها ، وقد حصل عنده من الحاجة بحر ، وقطرة من
المحتاج إليه. ومثل هذه المعاملة لا توجب الشكر.
الثالث : إن من أنعم على ضعيف بنعمة ، ثم يتركه مع نفسه ، ولا يكلفه عملا شاقا [في
مقابلة تلك النعمة السالفة ] كان ذلك أدخل في المدح والثناء ، والجود والكرم ، مما إذا
أتبع ذلك الإنعام بالتكاليف الشاقة. وأكرم الأكرمين هو الله رب العالمين. فكيف
يليق بجوده وكرمه ، أن يعامل العبد
__________________
بالطريق الأدون
الأنقص؟
وأما القسم الثاني : هو أن يقال : إنه إنما كلفه لأجل المنافع المستقبلة. فنقول : هذا أيضا
ممتنع. وبيانه من وجهين :
الأول : وهو : أنه لما علم من أحوال الكفار والفساق أنهم لا يتوصلون بهذا التكليف إلا
لاستحقاق العذاب الشديد ، والآلام العظيمة. كان القول بأنه إنما كلفهم للفوز
بالمنافع : كلام متناقض.
الثاني : وهو أنه لو أراد بهم ذلك ، لوجب أن يفرغهم من متاعب الدنيا وآلامها ، وأن يظهر
لهم الدلائل الواضحة ، في أن الحق هو ذلك. ولما لم يفعل بهم ذلك ، بل أحوجهم إلى
الأشياء الكثيرة ، وعلم أن تلك الحاجات تحملهم على المعاصي ، ثم سلط عليهم الشهوات
والشبهات ، وسلط عليهم شياطين الإنس والجن. ومن فعل بالعبد الضعيف الذي يقل عقله ،
وتضعف قدرته هذه المعاملة ، ثم يزعم : أنه أراد به الخير ، والفوز بالرحمة ، كانت
العقول تنادي عليه : بأنه ما قصد إلا الإساءة إليه والإيذاء. والكلام في هذه المباحث
مفرع على تحسين العقل وتقبيحه ، فثبت : أن هذين الوجهين ينافيان القول بجواز التكليف.
الحجة الرابعة : إنه تعالى كان قادرا على أن يخلق الكل في الجنة ، وأن يوصلهم إلى الخيرات
والدرجات ، وأن يحميهم عن منازل الآفات والمخافات. فلو أراد بهم خيرا لخلقهم على
هذه الصفة ولما لم يفعل ذلك ، بل سلط عليهم الشهوات والشبهات ، وملأ العالم من
الشياطين. علمنا أنه ما أراد بهم خيرا. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : إنه
كلفهم لأجل التعريض للمصالح.
أما القول الأول : وهو أنه كلفهم لا لغرض ومصحلة ، فهذا عبث ، والعبث قبيح في العقل ، ونحن
إنما نتكلم الآن على تسليم أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. فيثبت بهذه
البيانات : أن على تقدير أن يكون تحسين
__________________
العقل وتقبيحه
معتبرا في أفعال الله تعالى وفي أحكامه ، وجب الجزم بفساد التكليف ، وبفساد بعثة
الأنبياء والرسل.
وأما القول
الثاني : وهو أن يكون الحق هو أن تحسين العقل وتقبيحه باطل ، وغير معتبر في أفعال الله تعالى وفي
أحكامه. فنقول : فعلى هذا التقدير ، كان القول بفساد التكليف والبعثة : أظهر. لأن
على هذا التقدير ، لا يمتنع إظهار المعجز ، على يد الكاذب ، ولا يمتنع إرسال الرسل
[بالفحش والكذب وشتم الله وشتم الملائكة ، ولا يمتنع إرسال الرسل ] إلى الجمادات ، ولا يحصل الوثوق بوعد الله تعالى ، ولا
بوعيده. وكل ذلك يوجب القول بفساد التكليف [والبعثة. فثبت : أنه لو صح القول
بالتكليف ] وبعثة الأنبياء والرسل ، لصح أما على تقدير أن يكون [تحسين
العقل وتقبيحه معتبرا ، وإما على تقدير أن لا يكون ] ذلك معتبرا ، وثبت أنه باطل على التقديرين [فكان ذلك أيضا
باطل ].
__________________
الفصل الرابع
في
تقرير شبهات المنكرين للنبوات بالبناء
على أن العقل كاف في معرفة التكليف
وذلك يوجب سقوط القول بالبعثة والرسالة
تقرير
كلام هذه الطائفة : أن يقال : القول بصحة البعثة. إما أن يحصل مع القول بتحسين العقل وتقبيحه ، أو مع إبطال هذا
الأصل.
والقسمان باطلان.
فكان القول بالبعثة : باطلا أما بيان فساد القسم الأول. فيدل عليه وجوه :
الأول : إن الأفعال على ثلاثة أقسام : قسم قضى العقل فيه بالحسن فكان فعله صوابا ،
وحكم العقل بكونه واجب القبول. وقسم ثان قضى العقل فيه بالقبح والمنع. فكان حكمه
أيضا واجب القبول وقسم ثالث توقف العقل فيه. فلم يحكم فيه لا بحسن ولا بقبح.
فنقول : هذا القسم على قسمين ، لأنه إما أن يكون تركه ممكنا أو ممتنعا. فإن كان
تركه ممكنا على سبيل السهولة واليسر ، كان تركه واجبا. لأن الانفكاك عنه ممكن ،
ولم يعلم أنه حسن أو قبيح ، فكان الإقدام عليه إقداما على فعل ، لا حاجة إليه. مع
أن احتمال الضرر قائم فيه ، والعقل يقضي في مثل هذه الصورة بوجوب الترك والاحتراز
، لأن الخوف لازم له ، فالإقدام عليه التزام لضرر الخوف من غير حاجة [ولا
__________________
ضرورة ، والتزام
الضرر من غير الحاجة ] قبيح عند العقل ، فكان حكم العقل حاصلا في هذا القسم
بوجوب الترك.
وأما القسم الثاني وهو أن لا يكون تركه ممكنا ، فههنا حكم العقل حاصل فيه بالجواز. لأن العقل علم
أن إله العالم حكيم رحيم وأنه لا يكلف عباده فوق قدرتهم وطاقتهم ، فإذا كان ذلك
الفعل مما لا يقدر العبد على الانفكاك عنه ، فلو أمره الله تعالى بالانفكاك عنه ،
لكان قد كلفه ما لا طاقة له به وذلك قبيح عند العقل. ونحن إنما نتكلم الآن على
تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه معتبرا. فيثبت : أن حكم العقل حاصل في هذا
القسم أيضا. فقد ظهر بهذا البحث : أن حكم العقل حاصل في جميع أقسام الأفعال. وإذا
كان العقل كافيا في معرفة الله تعالى وما يجب وما يجوز ، ويحرم. لم يكن في البعثة
فائدة. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال تحسن بعثة الأنبياء والرسل؟ لوجوه :
الأول : تأكيد ما في العقول.
الثاني : إنه قد يحصل في بعض الأشياء منافع ومصالح ، لا يمكن الوقوف عليها ،
بمجرد العقول ، فتحسن بعثة الأنبياء والرسل ، ليدلوا عليها ، ويعرفوا الخلق ما
فيها من المنافع والمصالح.
الثالث : إن عقول الخلق ناقصة قاصرة عن معرفة الله تعالى ومعرفة كيفية طاعاته. فكانت
الحكمة في بعثة الأنبياء والرسل عليهمالسلام : إرشادا للخلق ، إلى معرفة ذات الله تعالى وصفاته ،
ومعرفة كيفية طاعاته.
الرابع : إنما أمر الله تعالى بهذه العبادات الشرعية ، لتكون [ألطافا ] في الواجبات العقلية. وهذا قول المعتزلة.
قلنا :
أما الأول : فضعيف. لأنه لما كان العقل مستقلا بمعرفة وجوه الحسن
__________________
والقبح ، والمصلحة
والمفسدة ، كان أصل المقصود حاصلا ، وأما مراتب التأكيد فغير مضبوطة. فإنه لو حصل
مع ذلك النبي جمع من الملائكة ، كان التأكيد أكثر ، ولو حصل معه جمع من العساكر
المعصومين ، لكان التأكيد أبلغ. ولكن لما حصل المقصود الأصلي ، لم يكن إلى هذه
الزوائد حاجة. فكذا هاهنا. ولأن المقصود من التأكيد : السعي في دفع المفسدة ، بأقصى
الوجوه ، والأنبياء ـ عليهمالسلام ـ يقولون : إن من أعرض عن متابعتنا فإنه يستحق أعظم
العقاب. وعلى هذا التقدير تصير البعثة سببا لأعظم أنواع المفاسد. وهو استحقاق
العذاب الدائم ، على تقدير مخالفتهم ، وترك متابعتهم. وهذا متناقض.
وأما الوجه الثاني : وهو قوله : «المقصود من البعثة : التنبيه على ما في الأشياء من المنافع» فنقول
: تمك المنافع إن كانت ضرورية التحصيل ، كانت معلومة للكل. لأن على هذا التقدير لا
تحصل الحياة إلا بها. وإن كانت غير ضرورية التحصيل. فحينئذ لا يلزم من فواتها حصول
ضرر أصلا ، فوجب الاحتراز عنها. على ما بيناه في تقرير الدليل. وأما قوله : «هذه
العبادات ألطاف في فعل الواجبات العقلية» فنقول : هذا باطل لوجهين :
الأول : إن معنى كون فعل الأول لطفا في فعل الثاني : هو أن فعل الأول يدعو الفاعل
إلى فعل الثاني. وهذا المعنى بتقدير حصوله ، يكون حالة وجدانية من النفس بالضرورة.
ونحن البتة لا نجد من أنفسنا : الإتيان بالصلاة والصوم يدعونا إلى رد الوديعة
ويحملنا على ترك الظلم.
فثبت : أن هذه الحالة لو كانت موجودة ، لكان العلم بحصولها : علما ضروريا. وثبت: أن هذا
العلم الضروري مفقود ، فوجب أن لا يكون هذا المعنى حاصلا.
والثاني : إنه لو كان وجوب هذه العبادات الشرعية ، لأجل أن تصير ألطافا في الواجبات
العقلية ، لكان المكلف إذا رد الوديعة ، وترك الظلم ؛ وجب أن لا يجب عليه شيء من
هذه العبادات. لأن بعد حصول المطلوب
فيه ، كان إيجاب
اللطف عبثا. وذلك عند كم باطل.
الحجة الثانية في بيان أن العقل كاف في
معرفة المهمات : هو أن نقول : المطلوب إما معرفة الأشياء الغائبة عن الحواس ، أو معرفة الأشياء الحاضرة عند الحواس. أما الأول فنقول : العقول كافية في
معرفة ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله وأحكامه. والدليل عليه : أن معرفة نبوة الأنبياء
ـ عليهمالسلام ـ متفرعة على معرفة الإلهيات ، فلو فرعنا معرفة الإلهيات
على النبوات ، وقع الدور. وأنه باطل.
وأما معرفة مهمات
المعاش ومصالح الدنيا فإنها غير موقوفة على بعثة الأنبياء والرسل. لأنا نرى من لا
يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ، يسعى في تحصيل هذه المصالح على أحسن الوجه.
فعلمنا : أن التصرف فيها لا يتوقف على بعثة الأنبياء ، ولأن العقول الوقادة ، والخواطر الغواصة ،
وافية بتحصيل هذه المطالب. وأما كيفية العبادات ، فهي أيضا معلومة بالعقول. لأن كل
عمل يكون الإخلاص لله تعالى فيه أكمل وأتم ، كان إلى القبول أقرب ، وكل عمل يشوبه
غرض [من الأغراض العاجلة ] فإنه لا يكون في محل القبول. وأيضا : لما شهد العقل : بأن
الدنيا فانية ، وبأن الآخرة باقية ، حكم صريح العقل : بأنه يجب السعي في تقليل حب
الدنيا ، وتقوية حب الآخرة.
فهذه الأصول هي
المطالب الأصلية للخلق ، والعقول وافية فيها بأسرها. فعلمنا : أن العقول وافية
بمعرفة جميع مهمات الدنيا والآخرة والدين.
الحجة الثالثة : إن العلم بنبوة
الأنبياء ، ووصول التكاليف
من الله تعالى إلى الخلق ، لا يتم إلا بعد أن يعرف بالعقل ، معرفة الله تعالى
بذاته ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه. وإذا كان العقل وافيا بهذه المطالب العالية
الشريفة ، كان أيضا وافيا بمعرفة مصالح الدنيا والآخرة. على ما بيناه في
__________________
الطريقة الثانية.
وكان أيضا : وافيا بكيفية العبادات. وإذا كان العقل وافيا بهذه المطالب ، كان أيضا
وافيا بمعرفة [مصالح الدنيا ، لأن الوافي بمعرفة ] المهمات العالية الشريفة ، أولى أن يكون وافيا بمعرفة
المهمات النازلة الخسيسة. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ظهر أن معرفة نبوة الأنبياء ،
مفرعة على قبول حكم العقل في جميع هذه المطالب العالية.
وعند هذا نقول :
حكم الأنبياء والرسل ، إن كان على وفق حكم العقل ، ففي حكم العقل غنية. وإذا كان
على خلافه كان الفرع معارضا للأصل ، وعند وقوع التعارض بين الأصل والفرع ، كان
ترجيح الأصل على الفرع أولى من ضده. فثبت : أن حكم العقل يجب أن يكون راجحا على كل
التقديرات. وهذا الكلام على تقدير أن يكون تحسين العقل وتقبيحه [معتبرا في معرفة
ذات الله تعالى وصفاته وأفعاله ، وإذا قلنا : إن تحسين العقل وتقبيحه غير معتبر ،
فالقول ] بفساد البعثة والنبوة ألزم وأظهر ، على ما بيناه في
الطريقة المتقدمة [والله أعلم ].
__________________
الفصل الخامس
في
حكاية شبهات من يقول :
القول بخرق العادات محال
اعلم أنه قبل
الخوض في تقرير هذا النوع من الشبهات ، لا بد من التنبيه على مذاهب الخلق فيه.
فنقول : أما أبو الحسن الأشعري رحمة الله عليه فإنه جوز انخراق العادات من كل الوجوه ، وبيانه يذكر في مسائل :
الأولى : إن عنده قبول الحياة والعلم والقدرة والشهوة والنفرة ، لا يتوقف على
حصول البنية والتركيب ، فالجوهر الفرد قابل لهذه الصفات. فعلى هذا التقدير لا
يمتنع كون الجوهر [موصوفا بجملة أنواع العلوم ، موصوفا بجميع أنواع ] القدر ، حتى يكون ذلك الجوهر الفرد ] أكمل العلماء وأقوى القادرين ، ولا يمتنع أن يكون الإنسان
الموصوف بالمزاج المعقول يكون ميتا جمادا.
المسألة الثانية : إن الجمهور يقولون : إن عند حصول الشرائط الثمانية
__________________
يكون الإبصار واجبا.
وتلك الشرائط الثمانية هي هذه :
أحدها : أن تكون الحدقة سليمة عن الآفات والعيوب.
وثانيها : أن يكون الشيء بحيث يصح إبصاره.
وثالثها : أن لا يكون المرئي في غاية القرب من الحدقة.
ورابعها : أن لا يكون في غاية البعد.
وخامسها : أن لا يكون في غاية اللطافة.
وسادسها : عدم الساتر والحاجب.
وسابعها : أن لا يكون في غاية الصغر.
وثامنها : أن يكون مقابلا للرائي ، أو
في حكم المقابل له.
فعند حصول هذه
الشرائط ، أطبقت الفلاسفة والمعتزلة على أن الابصار يكون واجبا. وأما عند اختلالها
[أو اختلال ] بعضها [فإن الابصار ] يكون ممتنعا. وأما أبو الحسن الأشعري فمذهبه : أن عند
حصول هذه الأشياء يجوز أن لا يحصل الإبصار ، وعند عدمها يجوز أن يحصل. فعلى هذا لا
يمتنع أن يحضر عندنا جبال شاهقة ، وأصوات عالية ، ونحن لا نبصرها ، ولا نسمعها ،
ولا يمتنع أيضا أن يبصر الأعمى الذي يكون بالمشرق : بقّة بالمغرب. فهذا مذهبه :
المسألة الثالثة : إن مذهبه أنه يجوز انقلاب الجبال ذهبا إبريزا. ويجوز انقلاب مياه
الأودية دما ، وغيره ، ويجوز حدوث الإنسان من غير الأبوين. وبالجملة فينكر جميع
التأثيرات والطبائع والقوى. وأما الفلاسفة فإنهم أطبقوا على إنكار خوارق العادات ،
إلا أنه يلزمهم القول بالاعتراف بها في المسائل :
المسألة الأولى : إنهم جوزوا حدوث إنسان بالتولد لا بالتوالد. وقرروا ذلك بأن قالوا : البدن
الإنساني إنما تولد من مقادير مخصوصة من العناصر
__________________
الأربعة. فتلك
المقادير اختلطت وامتزجت ، في مدة معلومة ، فحصل بسبب ذلك الامتزاج ، كيفية مزاجية
معتدلة. وإذا تم حدوث البدن بهذا الطريق ، وجب حدوث النفس المتعلقة بتدبيره وحينئذ
يتم تكون الإنسان. قالوا : إذا ثبت هذا فنقول : إنه لا يمتنع حصول أجزاء مخصوصة من
العناصر الأربعة على تلك المقادير المعلومة ، ولا يمتنع اختلاطها. وعند اختلاطها
لا بد وأن يتكون ذلك المزاج ، وعند تكونه لا بد وأن تحدث تلك النفس. والموقوف على
الممكن : ممكن فكان حدوث الانسان المعين على سبيل التولد : ممكنا ، وإذا كان ممكنا
، كان انخراق العادات على قولهم لازما.
المسألة الثانية
: إن هيولى عالم الكون والفساد :
هيولى مشتركة بين الكل. وإنما اختص هيولى الجسم المعين بالصورة [المعينة لأن شكلا
فلكيا ، اقتضى كون تلك المادة مستعدة لقبول تلك الصورة ] الخاصة [للتشكلات النامية ] والأشكال الفلكية غير مضبوطة ، وغير معلومة. وبهذا
التقدير فإنه لا نوع من أنواع الخوارق إلا وهو ممكن محتمل. فهذا شرح مذاهب
الفلاسفة في هذا الباب.
وأما المعتزلة فكلامهم في هذا الباب : مضطرب. فتارة يجوزون خوارق العادات ، وأخرى يمنعون منه.
وليس لهم بين البابين : قانون معلوم ، وطريق مضبوط. فهذا هو التنبيه على مذاهب
الناس في هذا الباب.
واحتج المانعون من انخراق العادات
بوجهين :
الأول : أن قالوا : العلوم قسمان : بديهية وكسبية ، والكسبيات مفرعة على البديهيات ، وإذا
كان كذلك كان كل كسبي يوجب القدح في
__________________
البديهي ؛ كان
كالفرع القادح في الأصل ، وكل ما كان كذلك كان فاسدا.
فعلمنا : أن
العلوم الكسبية يمتنع كونها قادحة في العلوم البديهية ، ثم لما أردنا أن نبحث عن
حقيقة العلوم البديهية ، لم نجد لها معنى إلا العلم الحاصل في النفس ابتداء ، على
سبيل الجزم ، من غير أن يقدر الإنسان على تشكيك نفسه فيه ، وكل ما كان كذلك كان
علما بديهيا. إذا عرفت هذه المقدمة. فنقول : إنا إذا رأينا إنسانا شابا قطعنا بأنه
كان جنينا في رحم أمه ، ثم بعد الانفصال من رحم أمه ، كان طفلا ، ثم صار شابا. ولو
أن قائلا قال: إنه ما كان كذلك ، بل إنه حدث الآن شابا ، من غير هذه المقدمات
والسوابق. قطعنا : بأنه كاذب في هذا القول ، وجزمنا بأن الذي يقوله : باطل وبهتان.
فلما كان هذا الجزم حاصلا ابتداء ، من غير أن يستفاد ذلك الجزم من دليل متقدم ،
ومن قياس سابق ، علمنا : أنه جزم بديهي ، وعلم أولي ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو
قلنا : إن حدوث إنسان شاب ، ابتداء من غير تلك المقدمات والسوابق ممكن لزم أن يحصل
مع هذا التجويز ذلك القطع والجزم. لكنا بينا أن ذلك القطع والجزم بديهي فثبت أن
الحكم بهذا التجويز حكم نظري ، يوجب القدح في البديهي. وقد بينا : أن كل ما كان
كذلك ، فإنه باطل ، فوجب أن يكون الحكم بهذا التجويز باطلا. فيثبت بهذا الطريق :
أن القول بانخراق العادات عن مجاريها : قول باطل. إذا عرفت هذا الأصل فلنذكر له
أمثلة.
المثال الأول : لو أن إنسانا جوز أن تنقلب مياه البحر والأودية دما عبيطا وأن تنقلب الجبال
ذهبا إبريزا ، لقضى كل عاقل بالجنون عليه.
المثال الثاني : لو أن إنسانا جوز أن ينقلب الحمار الذي في بيته إنسانا حكيما محيطا
بدقائق المنطق والهندسة ، مدرسا فيها ، وأن تنقلب ما في الدار من الخنافس
والديدان: أناسا ، حكماء فضلاء ، وجوز إنه إذا رجع إلى بيته ، وجد حماره قائما
مقام بطليموس في تدريس كتاب المجسطي ووجد الخنافس
__________________
والديدان : علماء
فضلاء ، يبحثون مع ذلك الحمار في دقائق الهندسة والمنطق والإلهيات ، لقضى كل عاقل
عليه بأعظم أنواع الجنون.
المثال الثالث : لو أن إنسانا شاهد مغارة خالية عن جميع أنواع العمارات ، ثم جوز أن يحصل
فيها قصور عالية ، وأبنية رفيعة ، وأنهار جارية ، من غير أن يتكفل بتلك العمارات
أحد من البشر ، ومن غير إحضار الخشب واللبن والمسامير ، لقضى كل عاقل عليه
بالجنون. فيثبت : أن بدائه العقول قاضية بوجوب استمرار هذه الأحوال على مناهجها
الأصلية ، ومجاريها المألوفة المعتادة ، وثبت أن تجويز انقلابها عن مجاريها يقدح
في العلوم البديهية ، فوجب أن يكون القول به باطلا.
الوجه الثاني في بيان أن ذلك محال : أن
نقول : اختصاص كل جسم
بصفته المعينة ، إما أن يكون لأجل أن اختصاصه بتلك الصفة واجب ، أو إن لم يكن
واجبا ، لكنه أولى من غيره ، أو لم يحصل هذا الوجوب ، ولا هذه الأولوية. فإن حصل
مع الوجوب ، كان محالا ، وإن حصل مع الأولوية فتلك الأولوية إن كانت لنفس الذات ،
امتنع زوالها ، وإن كان حصولها لصفة أخرى ، كان الكلام في الثاني كما في الأول ،
فيلزم أن يكون حصول أولوية كل صفة ، لأجل تقدم صفة أخرى لا إلى أول. وذلك يوجب
القول [بقدم العالم ، وهذا يبطل القول ]
بالنبوة. وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : اختصاص كل جسم بصفته المعينة ، لأجل أن الفاعل المختار ،
خصصه بتلك الصفة من غير مرجح أصلا. فنقول : إذا جوزتم هذا ، فجوزوا أيضا أن يخلق
تلك المعجزة لا لمرجح أصلا ، وذلك يقدح في قولنا إنه إنما خلق المعجز لأجل
التصديق.
وإذا ثبت هذا
فحينئذ يخرج المعجز من أن يكون دليلا على الصدق. فالحاصل : أن اختصاص كل جسم بصفته
المعينة. إن كان على سبيل الوجوب
__________________
أو على سبيل
الأولوية ، امتنع حصول انخراق العادات ، فتبطل المعجزات. وإن كان لا على سبيل [الوجوب
ولا على سبيل ] الأولوية ، فذلك يقدح في كون المعجز دليلا على الصدق.
والله أعلم.
__________________
الفصل السادس
في
شبهات القائلين بأن المعجزات لا يمكن
أن يعلم أنها حدثت بفعل الله وبتخليقه. وبيان
أنه متى تعذر العلم بذلك امتنع الاستدلال
بها على صدق المدعي
أعلم
: أن المنكرين بينوا هذا الاحتمال [من وجوه :
الاحتمال الأول
: قالوا : الإنسان إما أن
يكون عبارة عن هذه البنية المتولدة من هذا المزاج المخصوص ، وإما أن يكون عبارة عن
جوهر مجرد متعلق بهذا البدن. وليس المقصود من ذكر هذا الترديد : وقوع الشك في هذه
المسألة بل بيان : أن الاعتراض قائم على جميع التقديرات.
أما إذا قلنا :
الإنسان عبارة عن هذا البدن المتولد ، من هذا المزاج المخصوص. فنقول : لا شك أن
الأمزجة المختلفة [والأجسام لها بحسب أمزجتها المختلفة ، أحوال مختلفة ، وصفات
متباينة ، ونرى أن الأجسام النباتية والمعدنية. لها ] بحسب أمزجتها المختلفة ، آثار مختلفة ، وخواص متباينة. فلم
لا يجوز أن يكون الحال في الأمزجة الإنسانية أيضا كذلك؟
وعلى هذا التقدير
، فإنه لا يمتنع أن يقال : إنه اختص بدن هذا النبي بمزاج مخصوص ، ولأجل ذلك المزاج
، قدر على الإتيان بمثل هذه المعجزات.
__________________
وإذا كان هذا
الاحتمال قائما ، امتنع القطع على أن خالق هذه المعجزات هو الله تعالى. وإما إذا
قلنا : الإنسان عبارة عن جوهر النفس الناطقة المجردة. فنقول : إنه لا يمتنع أن
تكون النفوس الناطقة يخالف بعضها بعضا في الماهية. وعلى هذا التقدير كانت نفس ذلك
الرسول مخالفة لحقائق سائر النفوس ، فتلك النفس لحقيقتها المخصوصة قدرت على
الإتيان بهذه الخوارق ، وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، امتنع القطع على أن خالق
هذه المعجزات هو الله تعالى. واعلم أنه لا حاجة بالسائل إلى إقامة الدلالة على أن
الأمزجة مختلفة ، وأنها متى اختلفت أوجبت هذه الآثار. وكذلك فلا حاجة به إلى إقامة
الدلالة على إثبات النفوس الناطقة ، وعلى إثبات أنها مختلفة ، وعلى إثبات أنها لما
كانت مختلفة ، وجب اختلاف آثارها. بل يكفي في مقام السؤال [بيان أن هذا الاحتمال ] قائم في أول العقل ، وأنه مع قيام هذا الاحتمال ، لا يمكن
القطع بأن خالق هذه المعجزات هو الله تعالى.
ثم نقول : الذي
يزيده تقريرا : هو أن الناس مختلفون في الصفات والأحوال اختلافا عظيما.
فمنهم من يكون
عظيم الرغبة في أحوال القوة [النطقية ، عظيم النفرة عن أحوال القوة ] الشهوانية والغضبية. ومنهم من يكون بالضد منه. والراغبون
في أحوال القوة النطقية ، منهم من يكون شديد الاستعداد لعلم مخصوص ، وشديد البعد
عن علم آخر.
وقد أشرنا إلى
اختلاف هذه الأحوال في باب مراتب النفوس البشرية بحسب التعقلات.
وأما الراغبون في
أحوال القوة الشهوانية. فمنهم من تكون شهوته في المتناولات. ومنهم من تكون شهوته
في جمع المال. ومنهم من تكون شهوته في الجود والكرم. ومنهم من تكون شهوته في
الزهد.
__________________
وأما الراغبون في
المتناولات فشهواتهم مختلفة ، فكل واحد منهم يشتهي نوعا آخر من الطعام ، ويبغض
النوع الآخر.
وأما الراغبون في
جمع المال فهم أيضا مختلفون ، فمنهم من يحب العقارات ، ومنهم من يحب المراكب
الجميلة ، والثياب الحسنة. ومنهم من يحب أثاث البيت ومنهم من يحب جمع المال ودفنه
في الأرض.
وأما الراغبون في
الجود والكرم ، فمنهم من يحب الإطعام ، ولا يحب بذل النقود ، ومنهم من يسهل عليه
بذل النقود ، ولا يحب الإطعام.
وأما الراغبون في
الزهد ، فمنهم من يكون زاهدا في أموال الناس ، فاجرا في الفروج ، ومنهم من يكون
مقداما على القتل والإيذاء ، ممتنعا عن الفواحش ، ومنهم من يكون عظيم الفحش
باللسان ، إلا أنه يكون بعيدا عن القتل وإفساد المال.
واعلم أن تمام
الكلام في تفاصيل أحوال الناس في الصفات : محال. إلا أن التنبيه على هذه الأقسام
يكفي في تنبه العقل لتمام هذه الأقسام.
وإذا ثبت هذا ،
فنقول : اختلاف الناس في هذه الصفات لا بد وأن يكون ، إما لاختلاف جواهر النفوس أو
إن كانت [النفوس متساوية في تمام الماهية إلا أن اختلاف هذه الآثار إنما كان
لاختلاف ] الأمزجة والآلات البدنية. وعلى كلا التقديرين فإنه لا يمتنع حدوث إنسان مخالف لسائر الناس ، إما في جوهر
النفس ، وإما في الآلات البدنية ، والتركيبات المزاجية. ولأجل تلك الخصوصية ، قدر
على الإتيان بما يعجز عنه غيره.
الاحتمال الثاني : إنا نشاهد الأدوية المختلفة مختلفة في التأثيرات على ما سيأتي في شرح هذا
الباب ـ
__________________
على سبيل
الاستقصاء ـ في باب «السحر المرتب على قوى الأدوية» ومن جملة هذه الخواص. حجر
المغناطيس. والفلاسفة أطنبوا في هذا الباب ، وحكوا تأثيرات عجيبة غريبة. وهب أنا
لا نعرف صدقهم فيما قالوه ، لكنا لا نعرف أيضا كذبهم فيما قالوا ، بل يجب علينا أن
نتوقف في التصديق والتكذيب [وأن نجوز الاحتمال] ] في الكل. وإذا ثبت قيام هذا الاحتمال ، فلم لا يجوز أن
يقال : إن مدعي الرسالة وجد دواء استعمله في نفسه أو غيره أفاده الفائدة المخصوصة؟
ومع قيام هذا الاحتمال ، فسدت دلالة المعجز على صدق لرسول.
فإن قالوا : هذا مدفوع من وجوه :
الأول : إنا لو جوزنا حصول دواء يصير مستعمله ، قادرا على قلب العصا ثعبانا ،
وعلى فلق البحر ، وعلى إظلال السحاب فجوزوا وجود دواء من استعمله قدر به على تخليق السموات
والأرضين. ومعلوم أن من جوز ذلك فقد خرج عن العقل.
والثاني : إن أكثر
هذه الخواص المذكورة في
الكتب ، لما جرّبت وجدت باطلة. وهذا يدل على أنها أكاذيب ، وليس لشيء منها حقيقة.
الثالث : إنه لو حصل هذا الدواء ، لعرفه غيره [ولو عرفه غيره ] لقدر على أن يأتي بمثل ما أتى به الرسول عليهالسلام ، ولحصلت المعارضة ، فلما لم تحصل ، علمنا أنه من عند
الله.
[الرابع : إن الاطلاع على هذا الدواء ، إن كان حاصلا لغيره ، وجب أن يقدر الغير ] على معارضته ، وإن لم يكن حاصلا لغيره ، كان اختصاصه
__________________
بمعرفة خاصية ذلك
الدواء ، شيئا على خلاف العادة ، فيكون معجزة ، ويكون صاحبها صادق اللهجة.
قلنا : أما الجواب عن الأول : أن نقول : المقرون بمعجزات الأنبياء. قاطعون بأن أحدا من الأنبياء
لم يقدر على الإتيان بخلق السموات والأرضين على سبيل المعجزة. فثبت : أن الاتفاق
حاصل على جميع التقديرات بأن القدرة على الإتيان بالمعجزات ، لا توجب القدرة على
خلق السموات والأرضين ، وإذا كان هذا الفرق واجبا ، فلم لا يجوز مثله في الدواء؟
وهو أن يقال : لا يمتنع وجود دواء يفيد القدرة [على المعجزات ، ويمتنع وجود دواء
يفيد القدرة ] على خلق السموات والأرضين.
وتمام الكلام أنه
يحصل في كل مقام طرفان متباينان ، وأوساط متشابهة. فحصول دواء يوجب قلع الأفلاك ،
وانتشار الكواكب مفقود وحصول دواء يوجب زيادة في قوة النفس والبدن موجود.
وأما معجزات
الأنبياء ، فلم يظهر أنها من القسم الأول ، أو من الثاني ، فحينئذ يبقى الشك
قائما.
وأما الجواب عن الثاني : وهو قوله : «أكثر
هذه الخواص أكاذيب»
فنقول : كما لا يمكننا الجزم بصحة كل ما ذكرتموه. كذلك لا يمكننا الجزم بفساده ،
بل الواجب الإقرار بقيام الاحتمال. وقد صنّف أبو بكر. أحمد بن وحشية. كتابا في
التعفينات ، وذكر فيه أشياء متولدة التعفينات. ويدعي حدوث آثار عجيبة. منها. ولم
يدل دليل ولا شبهة على كونها باطلة. فوجب التوقف فيها.
والجواب عن الثالث : إنه لعله اختص هو بمعرفة ذلك الدواء ، وهذا غير ممتنع في العقول ، أو لعله
وإن عرفه غيره ، إلا أن ذلك الغير ، حصل له ما يمنعه من استعمال ذلك الدواء ، أو
من إظهاره.
__________________
والجواب عن الرابع : وهو قوله : «اختصاصه
بمعرفة ذلك الدواء ،
يوجب أن يكون معجزا» فنقول : هذا باطل. لأن حصول إنسان في كل عصر يختص بمعرفة
أشياء لا يعرفها غيره : أمر معتاد ، وإذا كان هذا معتادا ، فقد خرج ذلك عن أن يكون
معجزا.
فهذا تمام القول
في هذا السؤال.
الاحتمال الثالث : أن يقال : إن أرباب الملل والنحل أطبقوا على إثبات الجن والشياطين ،
واتفقوا على أنهم يقدرون على الإتيان بما يعجز عنه البشر. وأيضا : فهب أن أرباب
الملل لم يتفقوا على هذا المعنى ، إلا أن تجويزه قائم في أول العقل. وإذا كان كذلك
، فبتقدير أن يصح ذلك ، لم يمتنع [أن يصح ] أن يكون الفاعل لهذه المعجزات واحدا من الجن ، أو
الشياطين. ومع قيام هذا الاحتمال ، كيف يمكن الجزم بأن فاعل هذه المعجزات هو الله
تعالى؟ والعجب : أن الناس يجوزون دخول الجني في بدن المصروع ، ويجوزون أن يتكلم [الجني
على لسان المصروع ] وأنه يخبر عن الغيوب على لسان المصروع. فلما جوزوا ذلك ،
فلم لا يجوزون أن الذئب لما تكلم مع الرسول عليهالسلام ، أو الجمل [لما تكلم معه ] أو الذراع المسموم لما تكلم معه ، فذلك الكلام إنما حصل
لأجل [أن الجني نفذ في بطن ذلك ] الذئب والجمل والذراع وتكلم؟ ومع قيام هذا الاحتمال ،
فكيف قطعوا بأنه معجز حصل بخلق الله تعالى؟
ولم لا يجوزون أن
يقال : إن انقلاب العصا حية ، كان من هذا الباب؟ وأيضا : فلم لا يجوزون أن [يقال :
إن ] فصاحة الجن ومردة الشياطين كانت وافية بمثل فصاحة القرآن ، فأتوا بهذا
القرآن من عند أنفسهم ، وألقوه
__________________
على الرسول؟ [ومع
هذا الاحتمال ، فكيف يمكن القطع بأنها من فعل الله؟ ].
واعلم : أن هذا
السؤال : قد ذكره الله تعالى في القرآن ، فقال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ
الْمُنْذِرِينَ) .
ثم قال بعده : «وما
تنزلت به الشياطين [وما ينبغي لهم وما يستطيعون. إنهم عن السمع لمعزولون» والتقدير
: [إنه لما ادعى ] أنه تنزيل رب العالمين ، نزل به الروح الأمين على قلبه.
فكأن قائلا قال : ولم لا يجوز أن يقال : إنه من تنزيل الشياطين؟ فلهذا السبب قال :
«وما تنزلت به الشياطين » ثم إنه أجاب عنه بقوله : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ :
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ.
يُلْقُونَ السَّمْعَ ، وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ) .
وستعرف حقيقة هذا
الجواب بعد ذلك.
واعلم أن كفار
قريش كانوا يؤكدون هذا السؤال بوجه آخر ، فيقولون : إنه من المشهور عند جمهور
العرب : أن لكل شاعر صاحبا من الجن يعينه على الشعر ـ ويهديه إلى دقائقه ، ويرشده
إلى مضايقه. فقالوا لمحمد عليهالسلام : لما كان هذا مشهورا في حق الشعراء ، فلم يجوز مثله في
حقك؟ فأجاب عنه في آخر هذه الآيات بقوله : (وَالشُّعَرَاءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ) وستعرف حقيقة هذا
الجواب في الفصول الآتية. والمقصود هاهنا : بيان أن هذا السؤال مشهور ، مذكور من
أول الأمر.
__________________
فإن قالوا : هذا مدفوع من وجوه :
الأول : إن الأنبياء عليهمالسلام ، إنما جاءوا بلعن الشياطين والجن والأبالسة ، فكيف يعقل
كون الأبالسة أعوانا لهم في تقرير المعجزات؟
والثاني : إنه لو فعل الجني ذلك ، لوجب على الله تعالى أن ينصر إنسانا يأتي بمعاصيه ،
لئلا يحصل التلبيس. وحيث لم يفعل ، علمنا أنه ليس من فعل الجن ، بل من فعل الله
تعالى.
الثالث : إن الجن لم يبلغوا في القدرة إلى هذا الحد العظيم. إذ لو قدروا عليه ، لوجب
أن يصل منهم الشر العظيم إلى الأنبياء والعلماء الذين يشتغلون بلعنهم ، وسوء القول
فيهم.
قلنا : أما الجواب الأول فضعيف : لأنه
لا يبعد أن يقال : إنهم
لشدة رغبتهم في إبقاء الشبهات والأباطيل ، يتحملون ذلك الطعن واللعن ، ومع ذلك
فيعينون هؤلاء الدعاة على سبيل الكذب ، ليحصل غرضهم من ترويج هذه الشبهات. وأيضا :
فلعل المراد بهذا اللعن : طائفة منهم ، والآتون بهذه المعجزات : أقوم آخرون.
وأما الجواب الثاني : فضعيف أيضا لأنه
مع قيام هذا
الاحتمال أعني كون هذه المعجزات أفعالا للجن. لو جزم المكلف بكونها صادرة من الله
تعالى ، لكان التقصير من المكلف ، حيث جزم لا في موضع الجزم. وهذا كما قلنا : في
إنزال الآيات المتشابهة ، فإنها وإن كانت عظيمة الإبهام لهذه الأباطيل ، إلا أنه
لم يقبح صدورها من الله تعالى ، لقيام الاحتمال فيها ، فكذا هاهنا.
وأما الجواب الثالث فضعيف : لأن
الأنبياء عليهمالسلام أطبقوا على إثبات القوة العظيمة لهم. فإنكار هذه القوة
يوجب تكذيب الأنبياء. وذلك من أعظم المطاعن في نبوتهم.
الاحتمال الرابع : قالوا : أكثر أهل الدنيا أطبقوا على إثبات الملائكة.
والقرآن دل على أن
بعد الإيمان بالله تعالى ، لا يجب الإيمان بشيء آخر ، إلا بالملائكة. فقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ
وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) والقرآن دل أيضا : على أنهم أصحاب القدر الظاهرة ، والقوى
الغالبة ، فإن جبريل عليهالسلام قلع مدائن قوم لوط من قعور الأرض ، ورفعها إلى قريب من
السماء ، ثم رماها على الأرض. وأيضا : القرآن يدل على أن القرآن إنما وصل إلى محمد عليهالسلام من قبل جبريل ، فإنه قال : (قُلْ مَنْ كانَ
عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ ، فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ) وقال في سورة الشعراء : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ) وقال : (وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ، وَالصُّبْحِ
إِذَا تَنَفَّسَ ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) [فبين أن هذا
القرآن إنما وصل إلى محمد عليهالسلام بواسطة رسول كريم ] وقال أيضا : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ
الْقُوى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى)» .
إذا عرفت هذا
فنقول : إنا قبل العلم بعصمة الملائكة عن القبائح والأكاذيب والأضاليل ، نجوز أن
تكون هذه المعجزات ، وإنما ظهرت على الأنبياء من قبلهم وبإعانتهم ، وعلى هذا
التقدير فلا يبقى في هذه المعجزات فائدة البتة ، ما لم نعلم كون الملائكة معصومين
من الأباطيل والأكاذيب. والعلم بعصمتهم لا يحصل من الدلائل العقلية ، بل من
الدلائل النقلية. فعلى هذا يتوقف حصول العلم [بعصمتهم على العلم ] بصحة الدلائل النقلية [والعلم بصحة الدلائل النقلية يتوقف
على ] العلم بصدق الرسل ، في ادعاء
__________________
الرسالة. والعلم
بصدقهم يتوقف على عصمة الملائكة ، وذلك دور ، والدور باطل.
والذي يقرر هذا السؤال وجهان :
الأول : إن الناس اتفقوا على وجود شيء قادر قاهر مستول على هذا العالم ، وهو
المسمى : «إبليس» وأنه لا يدعو إلا إلى الأباطيل والكفر ، واتفقوا أيضا على وجود
شيء قادر قاهر يدعو إلى الخير والصلاح والدين. فإذا ظهر على يد الرسول هذا المعجز
، فكيف يعرف أنه من إعانة الأرواح الطاهرة المطيعة ، وليس من إعانة ذلك الروح
المفسد المؤذي؟
والوجه الثاني : إنا نورد هذا السؤال على عبارات الصائبة والفلاسفة. وذلك لأن الكل
اتفقوا على [إثبات الأرواح الفلكية ، واتفقوا عليها ] أن لكل واحد منها نوعا آخر من التأثيرات في هذا العالم والشرائع أيضا ناطقة بذلك. فإنهم أثبتوا ملكا هو ملك
الجبال ، وملكا آخر ، هو ملك البحار ، وملكا ثالثا ، هو ملك الأمطار ، ورابعا هو
ملك الأرزاق ، وخامسا هو ملك الموت ، وسادسا هو ملك الحرب والقتل. والهند اتفقوا
على ذلك ، على ما شرحنا مذاهبهم في هذا الباب. وإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا يجوز
أن تكون هذه المعجزات من أفعال هذه الأرواح؟ بل نقول : إن هذا القول هو القول
المتفق عليه بين الصائبة والفلاسفة ، وأهل الهند وأصحاب الطلسمات. وإذا كان هذا
قولا متفقا عليه بين هذه الفرق فما لم تذكروا في إبطاله دليلا ، لم يحصل المقصود
البتة.
الاحتمال الخامس : أن نقول : اتفقت الفلاسفة على أن للأجرام الفلكية ، والاتصالات الكوكبية
تأثيرات مخصوصة في أحوال هذا العالم ، وقد اشتهر في ألسنة المنجمين : أن للكواكب الثابتة : عطايا عظيمة في السعادة
__________________
والنحوسة ،
والذكاء والبلادة ، واتفقوا أيضا على أن للقرانات آثارا عظيمة في هذا الباب.
واتفقوا على أنه لا تختلف أحوال تلك القرانات [إلا بسبب وقوع الثوابت في البيوت المناسبة لها. واتفقوا على أن
لسهم السعادة تأثيرا قويا في إعطاء السعادات ، ولسهم الغيب تأثيرا قويا في إعطاء [المعارف
الحقة والوقوف على المغيبات ] وعلماء الأحكام من الزمان الأقدم إلى عهدنا هذا ، مصرون
على صحة هذه الدعاوى ، وجازمون بأن كل من جرب أحوال الطوالع ، علم يقينا أن لهذه
الأسباب آثارا قوية في هذا الباب.
إذا عرفت هذا
فنقول : نحن لا ندعي صحة هذه الأصول ، ولا ندعي أنها معلومة أو مظنونة ، بل نقول : لا أقل من أن يكون
احتمال أن يكون الأمر على ما قالوه قائما. وبتقدير أن تصح كل هذه الأشياء أو
بعضها. فإنه لا يمتنع أن يكون اختصاص مدعي النبوة والرسالة بهذه المعجزات ، إنما
كان لأجل اشتمال طالع مولده على حالة من هذه الأحوال. فلعله وقع سهم السعادة وقوعا
عجيبا يقتضي حصول هذه السعادات. ولعله وقع سهم الغيب في طالعه وقوعا يقتضي قدرته
على الإخبار عن الغيوب.
وأنا أقول : إني
قد رأيت إنسانا لم يتفق في طالع مولده شيء من الأشياء الكاملة ، إلا أنه كانت «الشعري
اليمانية» واقعة على درجة تاسعة. فلا جرم بلغ في العلوم النقلية والعقلية مبلغا
عاليا ، من غير حاجة إلى تحمل تعب في المطالعة والتحصيل.
وإذا ثبت أن هذا
الاحتمال قائم ، ظهر أنه لا سبيل البتة إلى القطع بأن هذه الخوارق التي ظهرت على
الأنبياء : من فعل الله تعالى.
وحكى «محمد بن
زكريا الرازي» في بعض كتبه : أنه رأى رجلا يهوديا ، كان يستخرج الخبيء والضمير على
أحسن الوجوه ، وبقي على تلك الحالة
__________________
[سنين. ثم زالت
عنه تلك الحالة ] قال : فأخبرني جماعة من المنجمين : أن الجان يخبر ذلك
الرجل. لأنه وقع في قسمه ، ما يوجب التكهن. فلما زالت تلك القسمة ، زالت تلك الصفة
عن ذلك الرجل.
الاحتمال السادس : اتفقت الفلاسفة والصائبة على أن الأفلاك والكواكب أحياء ناطقة ، مطلعة على
جميع أحوال هذا العالم. وفي الناس من يدعي : أن الرجل إذا واظب على قراءة رقى
مخصوصة [أياما مخصوصة ] على شرائط مخصوصة ، فإنه يتجلى له روح ذلك الكوكب ،
ويعينه على مقاصده وأغراضه. وكتب أصحاب الطلسمات في دعوة الكواكب مملوءة من هذه
الكلمات.
إذا عرفت هذا
الكلام فنقول : إنه وإن لم يثبت بالدليل صحة ما ذكروه ، إلا أنه لا أقل من
الاحتمال. ومع قيام هذا الاحتمال ، لا يمكن القطع بأن خالق المعجزات هو الله
تعالى. بل [لا يمتنع أن ] يكون فاعلها هو هذه الكواكب ، ومن نظر في كتب السحر
والطلسمات ، رأى حكايات عجيبة في هذا الباب. وكتاب «تنكلوشا» كتاب مشهور ، موجود
في أيدي الناس ، وفيه من هذا الباب شيء كثير ، وقول من يقول : إنه من باب الخرافات
كلام ما به بأس ، إلا أنه لا يدفع السؤال. لأن السائل لا حاجة به إلى إقامة
[الدليل على صحة ما ذكره في السؤال. وإنما المجيب هو المحتاج إلى إقامة ] الدلالة على أن ذلك الوجه محال باطل قطعا.
واعلم أن الفرق بين هذا السؤال ، وبين
ما قبله :
أما في السؤال الأول جعلنا الكواكب ، موجبة بالذات ، لهذه الآثار العجيبة ، بحسب الشرائط
المختلفة ، والأشكال الفلكية المتعاقبة.
__________________
وأما في هذا السؤال فقد جعلنا الأفلاك والكواكب ، أحياء ناطقة ، مختارة في الفعل والترك.
والاحتمال السابع : اتفقت الفلاسفة على إثبات العقول والنفوس. فقبل إقامة الدلالة على إبطال القول
بها ، كان احتمال وجودها قائما. وعلى هذا التقدير ، فلم لا يجوز أن يكون فاعل هذه
المعجزات هو هذه العقول والنفوس؟ والفرق بين هذا السؤال [وبين سؤال الملائكة : هو ] أن الملائكة عند المتكلمين شيء مغاير لهذه العقول والنفوس
، فأوردنا سؤال الملائكة على حسب ما يعتقدون [في وجود الملائكة ] وأوردنا هذا السؤال هاهنا على حسب مذاهب الفلاسفة في
العقول والنفوس.
الاحتمال الثامن : أن نقول : لا شك أن أجسام هذا العالم العنصري ، مشتركة في الهيولى. وتلك
الهيولى قابلة لجميع الصور والأعراض على البدن. وإذا ثبت هذا فنقول : اختصاص كل
واحد من هذه الأجسام بصفته المعينة [وصورته المعينة ، إما أن يكون لأجل أن ذلك
الجسم كان أولى بقبول تلك الصفة والصورة من سائر ] الأجسام أو لم يكن كذلك. والثاني باطل. وإلا لزم أن يكون
اختصاص ذلك الجسم بتلك الصفة مع كونه مساويا لسائر الأجسام في القبول ، وفي عدم
الأولوية ، يكون رجحانا ، لأحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح ، وهو محال. ولما
بطل هذا القسم ، ثبت أن القسم الأول حق. فنقول : واختصاص ذلك الجسم بذلك الاستعداد
الخاص ، لا بد وأن يكون لأجل استعداد آخر ؛ إلى غير النهاية ، فتلك الاستعدادات إن
حصلت دفعة واحدة ، لزم حصول أسباب ومسببات لا نهاية لها ، دفعة واحدة. وهو محال ،
وإن حصلت على سبيل التعاقب ، وهو أن يكون كل استعداد سابق ، علّة لحصول الاستعداد
اللاحق ، فحينئذ يكون حصول هذا
__________________
المعجز المعين الذي هو فعل خارق للعادة من لوازم الأحوال السالفة
، التي لا أول لها. وحينئذ تخرج عن كونها دالة على الصدق.
والحاصل : أنه إن
كان ذلك الجسم مساويا ، لسائر الأجسام ، وكان ذلك الوقت مساويا لسائر الأوقات ، في
قبول ذلك الحادث المعين ، فحينئذ قد ترجح الممكن لا لمرجح. وإذا جاز هذا ، فلم لا
يجوز حدوث المعجز ، لا لغرض أصلا؟ وذلك يبطل القول بدلالة المعجز على الصدق.
وأيضا : إما أن يتوقف حدوث ذلك الحادث على كون ذلك الجسم موصوفا
بذلك الاستعداد الخاص ، فحينئذ يكون حدوث هذا المعجز من لوازم الأحوال السالفة.
وعلى هذا التقدير ، فإنه يخرج عن كونه دليلا على صدق المدعي.
وطريق ضبط هذه
الاحتمالات أن نقول : فاعل هذه المعجزات ، إما أن يكون هو النبي أو غيره. فإن كان
هو النبي ، فيحتمل أن يكون اقتداره على خلقها لأجل مزاجه المخصوص ، وأن يكون لنفسه
المخصوصة. وأما إن كان غيره فذلك الغير ، إما أن يكون جوهرا جسمانيا [أو جوهرا
مجردا. فإن كان جسما فهو إما أن يكون ] جسما ، عنصريا وهو الدواء المخصوص ، أو جسما فلكيا وهو
القرانات ، والاتصالات الحاصلة بحسب السيارات والثوابت ، أو ممزوجا من القسمين ،
أو جسما مغايرا لهذين القسمين ، وهو الذي يقال : إن الملائكة أجسام نورانية علوية
قادرة على الأعمال الشاقة. وأما إن كان ذلك الغير روحانيا ، فإما [أن تكون ] هي الأرواح السفلية ، وهي الجن الشياطين. أو الأرواح
العلوية ، وهي : العقول والنفوس. والله أعلم.
__________________
الفصل السابع
في
حكاية شبهات القائلين بأن على تقدير أن يثبت
أن خالق المعجزات هو الله سبحانه وتعالى
إلا أن ذلك لا يدل على أنه تعالى
انما خلقها لأجل تصديق المدعي للرسالة
فالشبهة
الأولى : أن يقال : الفعل إما أن
يتوقف على الدواعي أو لا يتوقف. فإن توقف الفعل على الدواعي ، فصدور الفعل منا
يتوقف على حصول الدواعي لنا. وحدوث تلك الدواعي يكون من الأسباب العالية ، وحينئذ
تكون جميع القبائح الصادرة من العباد ، معلولة وموجبة عن فعل الله تعالى ، وفاعل
السبب فاعل للمسبب ، فحينئذ يكون فاعل جميع القبائح هو الله تعالى وتقدس. وإذا ثبت
هذا ، فحينئذ لا يمتنع من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكاذب. وعلى هذا
التقدير فإنه لا يبقى المعجز دليلا [على الصدق ] على القسم الأول.
وأما القسم الثاني
وهو أن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على انضمام الدواعي إليه. فنقول : فعلى هذا
التقدير لا يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق هذا المعجز. لا لشيء من الدواعي
والأغراض أصلا. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، امتنع القطع بأنه تعالى ما خلق هذا
المعجز ، لغرض تصديق المدعي ،
__________________
لأنه لما بطل أصل
التعليل [المكيف بالكيفية المخصوصة ] [فقد بطل التعليل].
الشبهة الثانية : إنا قد ذكرنا الدلائل الكثيرة على أنه يمتنع أن تكون أفعال الله تعالى
وأحكامه ، معللة بالأغراض والمقاصد ، وعلى هذا فيمتنع أن يقال : إنه تعالى إنما
خلق المعجز لأجل تصديق المدعي.
الشبهة الثالثة : هب أن أفعال الله
تعالى وأحكامه قد تكون
معللة بالدواعي والأغراض [إلا أنه قد تكون أيضا غير معللة بالدواعي والأغراض ] والدليل عليه : أن القول بإثبات النبوة ، فرع على إثبات
حدوث العالم [وهذه القاعدة لا يمكن تقريرها ، إلا إذا قلنا : إنه تعالى خصص إحداث
العالم ] بوقت معين ، لا لمخصص ولا لمرجح البتة. وهذا يقتضي القطع
بأن الله تعالى قد يفعل الفعل ، لا لغرض ولا لداع أصلا. وإذا ثبت هذا ، فلم لا
يجوز أن يكون خلق المعجزات من هذا الباب؟ وعلى هذا التقدير ، لا يدل المعجز على التصديق ، فنفتقر هاهنا إلى بيان أن تخصيص إحداث
العالم بالوقت المعين ، لا يمكن أن يكون معللا بشيء من الأغراض والدواعي. والدليل
عليه : أن اختصاص ذلك الوقت بذلك الغرض المعين. إما أن يكون لذاته أو لغيره. ولا
جائز أن يكون لذاته. لأنه لو جاز أن يختص ذلك الوقت بذلك الغرض المعين لذاته ،
فحينئذ لم يبعد أن يختص ذلك الوقت بسائر الآثار المخصوصة به وإذا جاز ذلك لم يمتنع
أن يقال : المقتضي لحدوث العالم في ذلك الوقت هو نفس ذلك الوقت. وعلى هذا التقدير
فإنه لا يمكن الاستدلال بحدوث العالم على وجود الصانع. وأما إن كان اختصاص ذلك
الوقت بتلك الخاصية ليس لذاته ، بل لأجل أن فاعل العالم ، خصص ذلك الوقت بذلك
الغرض ، وبتلك
__________________
المصلحة ، عاد
الكلام في تخصيص ذلك الوقت بذلك الغرض. ويلزم التسلسل ، وهو باطل. ولما بطل هذان
القسمان ، ثبت : أن القول بحدوث العالم ، لا يتم لنا إلا إذا قلنا : إن الفاعل
المختار يفعل الفعل لا لغرض [ولا لمرجح ] أصلا. وإذا ثبت هذا ، فحينئذ يمتنع القطع بأنه تعالى إنما
خلق هذا المعجز ، في هذا الوقت لغرض التصديق.
الشبهة الرابعة : هب أنه لا بد لله تعالى في كل فعل من غرض معين ، ومن حكمة معينة ، فما
الدليل على أنه لا غرض لله تعالى من فعل هذا المعجز إلا تصديق هذا المدعي؟ فإن في
الأغراض كثرة. وأقسام حكمة الله تعالى في تدبير هذا العالم لا محيط بها أحد البشر.
ثم إنا نذكر احتمالات أخرى غير ما ذكرتم
:
فالاحتمال الأول : إنه لا شك أن هذه الحوادث المعتادة منتهية إلى أول. وإلا لزم القول بحدوث
حوادث لا أول لها ، وذلك يوجب قدم العالم [وقدم العالم ] يقدح في إثبات الفاعل المختار ، والقدح في الفاعل المختار
يمنع من القول بصحة النبوة. فثبت : أنه لا بد من الاعتراف بوجوب انتهاء هذه
الحوادث المعتادة إلى أول ومبدأ. فهذا النوع من الحوادث ابتدأ في ذلك الوقت ، ثم
استمر بعده على نسق معلوم. إذا ثبت هذا فنقول : لعل هذا الذي حدث الآن ابتداء عادة
ستصير عادة مستمرة ، بعد ذلك. فإن قالوا : لما شاهدنا أن هذا الشيء لم يحدث بعد
ذلك ، علمنا أنه ليس حدوثه لأجل أنه ابتداء عادة.
قلنا : العادات قد
تكون متكررة في أزمنة متقاربة وقد تكون متكررة في أزمنة متباعدة. مثل : إن العادة
جارية بحدوث الصيف في كل سنة مرة واحدة ، وبحدوث قران العلويين في كل عشرين سنة
مرة واحدة. فلم يلزم من
__________________
عدم حدوث مثل هذا
الحادث بعد هذه المدة ، أن لا يكون حدوثه لأجل إنه ابتداء عادة؟
الاحتمال الثاني : لعله حدث لأجل أنه تكرير عادة متباعدة. مثل : ما ضربنا من الأمثلة ، ومثل
: أن الكواكب الثابتة تنتهي إلى أول برج الحمل في كل ستة وثلاثين ألف سنة مرة
واحدة. فلعل هذا الحادث الذي حدث ، إنما حدث لأنه تكرير عادة متطاولة متباعدة.
الاحتمال الثالث : لعله إنما حدث معجزة لنبي آخر ، أو كرامة لولي آخر ، في طرف آخر من أطراف العالم. فاتفق كلام هذا الكاذب
ودعواه في ذلك الوقت ، فحدث هذا المعجز على وفق دعواه ، لهذا السبب.
الاحتمال الرابع : قد ثبت أنه تعالى قد يقوي الشبهة في بعض المواضع ، حتى أن المكلف إذا احترز
عن تلك الشبهة القوية بالكد العظيم والعناء الشديد ، استوجب الثناء العظيم. فههنا
إذا خلق الله تعالى هذا المعجز عقيب دعوى ذلك الشخص ، أوهم حدوثه عقيب دعواه إنه
إنما حدث تصديقا له في دعواه. لكن العاقل لما علم أن ذلك وإن كان موهما. لكنه غير
موجب [للتصديق ] لاحتمال أنه تعالى إنما أحدث ذلك المعجز ، عقيب دعواه تشديدا على المكلف وتقوية للشبهة عليه. فإذا عرف هذا
الاحتمال ، ولم يحمله على التصديق استحق به مزيد الثواب ، حيث احترز عن هذه الشبهة
القوية. فيكون المقصود من إظهار المعجز ذلك. ألا ترى أن الله تعالى أنزل
المتشابهات الكثيرة في كتابه ، ولا مقصود منها سوى ما ذكرناه. فكذا هاهنا.
الاحتمال الخامس : لعل هذا النبي كان قد علم ، إما بواسطة علم
__________________
النجوم ، أو
بواسطة علم الرمل أو بواسطة تعبير الرؤيا أن الحادث الفلاني ، الخارق للعادة
، سيحدث في اليوم الفلاني ، والناس كانوا غافلين عنه ، ثم إنه في ذلك اليوم ادعى
النبوة ، وادعى حدوث ذلك الحادث المعجز. فلما حدث على وفق دعواه ، ظن الناس أنه
إنما عرفه بإلهام الله تعالى وإخباره.
الاحتمال السادس : لعلّه تعالى إنما خلق ذلك المعجز في ذلك الوقت [لأنه تعالى إن خلق ذلك المعجز ،
في ذلك الوقت ] كان ذلك لطفا في حق بعض المكلفين ، في الدعاء إلى فعل بعض
الواجبات العقلية ، وترك بعض المقبحات العقلية.
الاحتمال السابع : أن نقول : إن السائل لا يجب عليه تعديد الاحتمالات وتفصيلها ، بل يكفيه أن يقول
: لم قلتم : إنه لا حكمة لله تعالى في خلق هذا المعجز ، عقيب دعوى هذا المدعي إلا
تصديقه؟ وعلى المستدل إقامة الدلالة على نفي سائر الاحتمالات فإذا لم يقدر عليه بطل دليله. فههنا يجب على المستدل :
إقامة الدلالة على نفي سائر الاحتمالات.
فإن قالوا : هب
أنه لا يتعين هذا الفرض ، لأنه ظاهر الاحتمال ، فلو خلق الله تعالى ذلك المعجز.
لغرض آخر ، مع أنه يوهم التصديق إيهاما قويا ، لكان ذلك إلقاء للشبهة [في العقول.
وإنه قبيح.
قلنا : لا نسلم أن
إلقاء الشبهة ] المحتملة قبيح. والذي يدل عليه وجوه :
الأول : إنه تعالى أنزل المتشابهات الكثيرة ، ولا شك أنها توهم الأباطيل. إلا أنها
لما كانت محتملة ، لم تقبح. فكذا هاهنا.
الثاني : إنه تعالى أبقى «إبليس» وجنوده ،
وهم يسعون في الوساوس ،
__________________
وإلقاء الأباطيل
في الخواطر. وأمات الأنبياء والصلحاء ، وهم يسعون في تقرير الدلائل. ولا شك أن ذلك
يوهم السعي في الإضلال.
الثالث : إن الشبهات الكثيرة : موجودة في العالم. فإنا رأينا حدوث الحوادث ، عقيب أحوال الكواكب
، وعقيب امتزاجات الطبائع ، ودوران الشيء مع الشيء يوهم العلية. بدليل : أن
الأطباء إنما عرفوا طبائع الأدوية بهذا الطريق. فثبت : أن هذه الأحوال توهم أن
تدبير العالم متعلق بأحوال هذه الكواكب. ثم إنه تعالى خلق هذا الشيء مع كونه سببا
للشبهة.
الرابع : إنا نشاهد العالم مملوءا من الآلام والأسقام ، والآفات والمخافات. ثم إن المبتلي
بهذه الأحوال قد يبالغ في الدعاء والتضرع إلى الله تعالى ، فلا يجاب ولا يلتفت
إليه. وذلك يوهم الشبهات.
الخامس : إنه قد يتفق في بعض الأوقات أن يكون الرجل المواظب على الطاعات
والعبادات ، يقع في أنواع من البلاء والعناء [والرجل ] المواظب على الفسق والكفر قد يحصل له في الدنيا أنواعا من
الراحات والطيبات. وذلك يوجب الشبهة.
فيثبت بما ذكرنا :
أن مع القول بوجوب حكمة الله تعالى ، ومع القول بجريان تحسين العقل وتقبيحه في
أحكام الله تعالى ، لا يجب على الله تعالى الاحتراز عما يوهم الباطل [وبالله
التوفيق ].
__________________
الفصل الثامن
في
حكاية دلائل من
استدل بظهور المعجز على صدق المدعي
قالوا : إن الملك
العظيم ، إذا جلس في المحفل العظيم. ثم قام واحد من القوم ، وقال: يا أيها الناس :
إني رسول هذا الملك إليكم. ثم قال : يا أيها الملك إن كنت صادقا في هذا القول ،
فخالف عادتك ، وقم من سرير مملكتك. فإذا رأى الناس أن ذلك الملك ، أتى بذلك الفعل
الذي التمسه ذلك المدعي علموا قطعا : أنه إنما فعل ذلك تصديقا لذلك المدعي. وإذا
ثبت هذا في الشاهد ، وجب أن يكون الحال كذلك في الغائب. فيثبت : أن خلق المعجز يدل
على التصديق.
[والاعتراض عليه من
وجهين :
الأول : إن حصول ذلك الفعل لا يدل على التصديق ] وبيانه : أن القدر المعلوم هو أنه حصل ذلك الفعل ، مقارنا
لذلك الطلب ، إلا أن حصول الشيء مع الشيء ، لا يدل على العلية ، لا قطعا ولا
ظاهرا.
ونحن نبين هذا
القول تارة بطريق الإجمال ، وتارة بطريق التفصيل.
__________________
أما طريق الإجمال ، فمن
وجوه :
الأول : إن علم الله تعالى بالشيء المعين ، واجب الحصول مع حصول ذلك الشيء المعين ، لأنه لما
ثبت أنه تعالى يجب كونه عالما بجميع المعلومات ، فعلى أي وجه يقع ذلك المعلوم ،
يكون العلم متعلقا به ، كما هو عليه في نفسه. ثم إن العلم يمتنع أن يكون علة للمعلوم
وبالعكس. أما أن العلم يمتنع أن يكون علة للمعلوم ، فلأن العلم بالشيء ، تابع
لذلك المعلوم ، فلو كان المعلوم معللا به ، لزم كون المعلوم تابعا للعلم. وهو دور
، والدور محال .
وأما أن المعلوم
يمتنع أن يكون علة للعلم ، فهو ظاهر. فقد ثبت أن الدوران حاصل قطعا مع علم الله تعالى بجميع المعلومات ، مع أنه يمتنع أن
كون واحد منهما علة للآخر.
الثاني : إن المعلول قد يكون مساويا للعلة ، وقد يكون أعم منها. أما الأول فمثل قولنا :
طلوع الشمس علة لوجود النهار ، ووجود النهار أيضا لا يحصل إلا عند طلوع الشمس.
فههنا العلة والمعلول متساويان. وأما الثاني. فمثل الحمى. فإنه قد يكون لعفونة
الخلط ، وقد تكون لسبب آخر. وإذا ثبت هذا فنقول : العلة والمعلول إذا كانا
متساويين في العموم والخصوص ، فكل واحد منهما دائر مع الآخر وجودا ، وعدما.
والعلية والمعلولية غير مشتركة من الجانبين. فثبت أن الدوران لا يدل على العلية .
الثالث : إن الشيء الذي يدور مع غيره وجودا وعدما ، فإنه لا بد وأن يدور مع فصله المقوم
لماهيته ، ومع خاصيته المساوية لماهيته ، فالدوران قدر مشترك بين العلة وبين غيرها
، فيمتنع كونه دليلا على العلية بعينها. فهذه
__________________
وجوه إجمالية دالة
على أن الدوران لا يدل على العلة البتة.
أما التفصيل : فبيانه : أنه لا يبعد في العقل أن ذلك الملك إنما أتى بذلك الفعل في ذلك الوقت ،
لأغراض أخرى ، سوى تصديق ذلك الرجل. وبيانه من وجوه :
الأول : إن ذلك [الملك ] لعله وقع على ثوبه في تلك الساعة ، حية أو عقرب. فلأجل
احترازه عنه ، قام ذلك الملك ، لا لغرض تصديق المدعي.
والثاني : لعله لاح له من البعد شيء ، احتاج إلى معرفته ، فقام ليتمكن من رؤيته كما
ينبغي.
الثالث : لعله قام غضبا على ذلك القائل المدعي ، أو استهزاء به ، ويكون مقصوده:
أنه وإن فعل ما التمسه منه ذلك الطالب ، لكنه لا يلتفت إليه ، ولا يقيم له وزنا.
نعم لا ينكر أن صدور ذلك الفعل من ذلك الملك في ذلك الوقت على وفق دعوى المدعي ، يوهم إيهاما ضعيفا :
أن الغرض هو تصديق ذلك المدعي. فأما أن يقال : إنه يفيد القطع والجزم بأنه لا غرض
له فيه إلا هذا التصديق : فبعيد.
والاعتراض الثاني : أن نقول : سلمنا إنه في الشاهد كما ذكرتم. فلم قلتم : إنه يجب أن يكون في
حق الله تعالى كذلك؟
والفرق من وجوه :
الأول : إنا إنما قضينا على ذلك الملك بكونه مصدقا لذلك المدعي في دعواه. إذا
عرفنا أنه يراعي مصالح ملكه ، وأنه لا يفعل فعلا تتشوش بسببه مملكته. أما إذا
اعتقدنا في ذلك الملك : أنه لا يبالي بالمصالح والمفاسد البتة ، فإنه لا يحصل هذا الظن
، أو إن اعتقدنا فيه أنه يراعي المصالح والمفاسد.
__________________
لكنا نعتقد فيه
أنه ملك بعيد الغور ، عظيم الفكر ، كامل العقل قد يأتي بأفعال يظن بها أنها توجب
المفاسد العظيمة إلا أنه بعقله الكامل ، وفكره الغائص ، يعرف فيها من وجوه المصالح
الخفية ما لا يقف عليه الغير البتة. فإذا اعتقدنا في الملك هذه الصفة ، لم يصر
ظاهر أفعاله دليلا على التصديق والتكذيب. ومن المعلوم : أن أقسام حكمة الله تعالى
في تدبير السموات والأرض ، فما لا سبيل لأحد إلى الوقوف على معاقده وضوابطه ، فكيف
يمكن قياس أحد البابين على الآخر؟
الفرق الثاني : إن الملك في الشاهد لو أتى بذلك المطلوب ، مع أن ذلك المدعي يكون كاذبا. لكان
ذلك سعيا منه في [إفساد مملكته ، وذلك بعيد. لأن سعيه في إفساد مملكة نفسه ، سعى
منه في ] إلحاق الضرر بنفسه ، وأنه بعيد ، بخلاف الحال في هذه
المسألة ، فإنه تعالى لا ينفعه شيء ، ولا يضره شيء. فكيف يمكن قياس أحد البابين
على الآخر؟
الفرق الثالث : إنا قبل ذلك المجلس شاهدنا صورته ، وعرفنا كيفية تدبيره وضبطه للملكة ، فتتأكد
بعض تلك الإمارات بالبعض ، ويتولد من المجموع : الجزم واليقين ، أما في حق لله
تعالى فلم يشاهد منه إلا هذا الفعل الواحد ، الدال على صدق هذا المدعي ، وأما
البواقي فأحوال عظيمة لا تصل إلى كيفيتها وكميتها عقول الخلق ، فظهر الفرق.
ثم نقول : إن هذه
الفروق إنما نحتاج إلى ذكرها ، إذا عرفنا بأن قياس الغائب على الشاهد : طريقة
مقبولة في المسائل العقلية. فإنا قد بينا في علم المنطق بالدلائل الكثيرة أنها
طريقة ضعيفة لا تفيد الظن المقنع ، فكيف الجزم واليقين؟ [فإنه لا حاجة بنا إلى هذه
الفروق ، بل ذكرها يجري مجرى الزيادة ، التي لا حاجة إليها. والله أعلم ].
__________________
الفصل التاسع
في
تقرير نوع اخر من الشبهات في بيان انّ ظهور
الفعل الخارق للعادة الموافق للدعوى مع عدم المعارضة :
لا يدل على صدق المدعي
الشبهة الأولى : إن أقصى ما في الباب : أنكم تقولون : إن المعجز قائم مقام التصديق [بالقول
] فنقول : هب أنه كذلك إلا أن الرجل إذا قال : فلان رسولي إليكم فهذا كلام
يحتمل التأويل ، ويمكن صرفه عن ظاهره بالدليل. وإذا كان كذلك لم تكن دلالة هذا
القول على ثبوت هذا المعنى دلالة قاطعة ، بل كانت دلالة ظنية. فثبت أن دلالة هذا
اللفظ على حصول النبوة دلالة ظنية. وثبت : أن أقصى مراتب المعجزات أن تكون قائمة
مقام هذا اللفظ [على حصول النبوة. ] فبأن تكون دلالة المعجز على التصديق دلالة ظنية كان أولى.
الشبهة الثانية : إن كون الفعل خارقا للعادة ، لا يدل على الصدق البتة. والدليل عليه : أن جميع
الأحوال المعتادة منتهية إلى أول ، لأن الثابت من الأزل إلى ذلك الوقت الأول [هو
العدم المستمر. فيكون حدوثه في ذلك الوقت ] خارقا للعادة [مع أنه لم يدل على الصدق البتة. بقي أن
يقال :
__________________
إنا لا ندعي أن
كون الفعل خارقا للعادة ] يدل على الصدق ، بل إنما ندعي حصول هذه الدلالة عند حصول
شرط زائد ، وهو كون ذلك المعجز دائرا مع تلك الدعوى ، وجودا وعدما. إلا أنا نقول :
إن العقلاء أطبقوا على أن الدوران مع الشيء لا يفيد العلية إفادة قطعية؟
واختلفوا في أنه
هل يدل على حصول العلية دلالة ظنية أم لا؟ وقد بينا هذا المطلوب بالوجوه الكثيرة.
فيثبت : أن التمسك بهذا الطريق غير جائز.
الشبهة الثالثة : دلالة المعجز على الصدق لو حصلت ، لكانت إما أن تكون مشروطة بعدم المعارضة ،
أو لا تكون مشروطة به ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بدلالة المعجز على الصدق.
إنما قلنا : إنه
لا يمكن أن تكون هذه الدلالة مشروطة بعدم المعارضة لوجوه :
الأول : إنه إما أن يكفي في كون المعجز ، معجزا ، عدم المعارضة في الحال ، أو المعتبر
عدم المعارضة أبدا [أو المعتبر عدم المعارضة في مرتبة متوسطة بين المرتبتين
المذكورتين. والأقسام ] الثلاثة باطلة. أما عدم المعارضة في الحال ، فإنه لا يكفي
في كون الفعل معجزا. فكم من إنسان يأتي بعمل ، فلا يقدر الحاضرون في الحال على
معارضته ، مع أنه لا يكون ذلك العمل معجزا بالاتفاق. وأما
القسم الثاني : وهو أن يكون الشرط في كونه معجزا عدم المعارضة أبدا فهذا الشرط مجهول. فمن الذي يمكنه أن
يعلم أن أحدا من الواردين بعده إلى قيام القيامة ، لا يمكنه الإتيان بهذه المعارضة؟
وإذا صار هذا الشرط مجهولا [صار المشروط أيضا مجهولا ] فوجب أن تصير المعجزات بأسرها : مجهولة. وأما
القسم الثالث : وهو المرتبة المتوسطة بين المرتبتين المذكورتين. فنقول : إن تلك المراتب المتوسطة كثيرة
متفاوتة. وليس اعتبار بعضها أولى من اعتبار
__________________
البواقي [فكان اشتراط
واحدة منها ، وإلغاء البواقي ]
محض التحكم ، وهو باطل [فيثبت أن اشتراط عدم المعارضة ينقسم إلى هذه الأقسام
الثلاثة ، وثبت أنها بأسرها أقسام باطلة ، فكان القول باعتبار عدم المعارضة باطلا ].
الوجه الثاني في فساد هذا القسم : إن
المعتبر عدم المعارضة إما
من الحاضرين فقط ، أو من جميع أهل الدنيا ، أو المعتبر مرتبة متوسطة. وإبطال هذه
الثلاثة بمثل الكلام الذي ذكرناه في الوجه المتقدم : معلوم.
والوجه الثالث : إن العدم نفي محض ،
فيمتنع أن يكون امتيازا
عن غيره بوجه من الوجوه. وإذا لم يحصل فيه الامتياز ، امتنع كونه دليلا ، ولا جزء
دليل. لأن أقل مراتب الدليل المخصوص ، امتيازه عما سواه.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن دلالة المعجز على الصدق غير مشروطة بعدم المعارضة.
فهذا القسم ظاهر الفساد والبطلان. فثبت بما ذكرنا : فساد القسمين ، وثبت بفسادهما
: أن المعجز لا يمكن أن يكون دالا على الصدق.
الشبهة الرابعة : قالوا دلالة [المعجز على الصدق
دلالة ] غير مناسبة للمطلوب ، فكانت باطلة. ومثاله : أن الرجل إذا قال : إني عالم بالهندسة. فإذا طالبوه
ببيان المسائل الهندسية ، فإنه لا يأتي بها ، ولا يشتغل بالشروع في شرح تلك
المسائل ، بل يقول : الدليل على أني عالم بهذا العلم : أني امتنع عن الأكل والشرب [عشرين
يوما ] مع أني لا أموت. فإن كل أحد يقول : هذا الدليل لا يناسب هذا المطلوب ، بل
يجب أن يبين علمه بالهندسة ، بأن يشرع في تلك المسائل ويشرحها على الوجه. فكذا
هاهنا الرسول هو الذي يرشد الخلق إلى معرفة المبدأ والمعاد ، ويهديهم إلى طرق
اكتساب المصالح في الدنيا وفي الآخرة ،
__________________
فوجب أن يبين هذه
الدعوى بإظهار هذا المعنى. فأما أن يقول : الدليل على أني كذلك ، أني أقلب العصا
ثعبانا ، فهذا الدليل لا يناسب هذا المطلوب. فوجب أن لا يلتفت إليه.
الفصل العاشر
في
أن بتقدير أن يكون المعجز قائما مقام
ما اذا صدقه الله تعالى على سبيل التصريح.
فهل يلزم من هذا كون المدعي صادقا؟
قال المنكرون لدلالة المعجزات : إن هذا المعنى غير واجب. ويدل
عليه وجوه :
الشبهة الأولى : [إن الدلائل الدالة على ] صحة القول بالجبر ، دالة على أن فاعل جميع أفعال العباد
هو الله تعالى. وإذا ثبت هذا ، وجب القطع بأن خالق كل الأكاذيب ، وكل الجهالات هو
الله تعالى ، وإذا لم يمتنع من الله تعالى خلق الجهل والضلالة ابتداء ، فبأن لا
يمتنع منه ذكر كلام يوجب وقوع التلبيس والجهل والشبهة في قلب العباد ، كان أولى.
لأن فعل ما قد يفضي إلى الجهل ، ليس بأعظم من فعل الجهل ابتداء.
الشبهة الثانية : لا شك في حصول الجهالات في قلوب الخلق. ففاعل هذا الجهل. إما أن يكون هو
العبد ، أو الله تعالى. والأول باطل. لأنه إما أن يقال : العبد رغب في تحصيل الجهل
لنفسه ابتداء مع علمه بكونه جهلا. أو يقال : العبد إنما رغب في تحصيل ذلك [الجهل ،
لأنه اعتقد فيه كونه علما ، فلأجل حصول هذا الاشتباه ، رغب في تحصيل ذلك ] الاعتقاد لنفسه.
__________________
والأول باطل من وجهين :
أحدهما : إن من المعلوم بالضرورة : أن العاقل لا يسعى في تحصيل الجهل لنفسه.
والثاني : [إنه متى علم كونه جهلا ، فإنه مع هذا العلم ، يمتنع أن يصير جاهلا
بذلك الشيء. فيثبت : أن هذا القسم فاسد. وأن الحق هو القسم الثاني ، وهو أن العبد
إنما رغب في تحصيل ذلك الاعتقاد ] لنفسه ، لأنه اعتقد أن ذلك الاعتقاد : علم. فعلى هذا إنما
رغب في تحصيل هذا الاعتقاد لأجل الجهل السابق. فنعيد التقسيم في ذلك الجهل السابق.
فإن كان ذلك لأجل آخر يتقدمه ، لزم منه التسلسل ، وهو محال. فثبت : أن هذه
الجهالات تترقى عند التصاعد إلى جهل أول ، وقع في القلب [ومعلوم أن العبد لم يقصد
إيقاعه ، فوجب أن يكون وقوعه في القلب ] لأجل أن الله تعالى خلقه فيه. فثبت : أن خالق كل الجهالات
في القلوب هو الله تعالى. وإذا ثبت هذا ، فبأن يجوز كونه فاعلا لما يوهم الجهل ،
كان أولى.
الشبهة الثالثة : لا شك أن أنواعا كثيرة من الجهالات حاصلة للعبد. فهذه الجهالات. إما
أن يقال : إنها حصلت على وفق إرادة الله تعالى [أو على خلاف إرادته ] فإن كان الأول ، كان تعالى مريدا للجهل. وعلى هذا التقدير
، فإنه لا يمتنع منه تصديق الكاذب ، سعيا في إلقاء الجهل في القلوب. وإن كان
الثاني ، لزم منه كونه ضعيفا عاجزا مغلوبا. وكل من كان كذلك ، لم يمتنع منه الكذب.
فثبت : أن على كلا التقديرين ، لم يكن تصديق الكاذب : محالا من الله تعالى.
الشبهة الرابعة : مدار كلام القائلين بأن تصديق الكاذب محال على الله.
__________________
على أن الكذب قبيح
[وهو من الله محال ١] إلا أنا بينا : أن هذه القاعدة مبنية على القول بتحسين العقل
وتقبيحه. وقد عرفت أنه كلام إقناعي ضعيف جدا ، فكان المبني عليه أيضا ضعيفا.
الفصل الحادي عشر
في
الطعن في التواتر
قالوا : إنا ما رأينا شيئا من هذه المعجزات. ولكننا سمعنا من جماعة أنهم
قالوا : سمعنا من أقوام آخرين. وهكذا ، على هذا الترتيب إلى أن اتصل هذا الخبر
بأقوام ، زعموا : أنهم شاهدوا هذه المعجزات. ونحن لا نسلم أن مثل هذا الخبر يفيد
اليقين التام. والذي يدل عليه وجوه :
الشبهة الأولى : إن خبر التواتر حاصل في صور كثيرة ، مع أنكم تحكمون بكونها كذبا. وذلك
يقدح في كون التواتر مفيدا للعلم.
__________________
أما المقام الأول
في بيان أن التواتر قد حصل في صور ، اتفق المسلمون بها على كونه باطلا ، فتقريره
من وجوه :
الأول : إن اليهود على كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ، يخبرون عن موسى عليهالسلام أنه قال : إن شريعتي باقية وأنها لا تصير منسوخة البتة.
وأنه ـ عليهالسلام ـ قال : «عليكم بالسبت ما دامت السموات والأرض » فهذا الخبر إما أن يكون صدقا أو كذبا. فإن كان صدقا ، فقد
بطلت شريعتكم ، وإن كان كذبا ، فقد صار هذا التواتر باطلا.
والثاني : إن اليهود ، مع كثرتهم وتفرقهم في مشارق الأرض ومغاربها ، يخبرون : أن التوراة
التي معهم ، هي عين التوراة التي أنزلها الله على موسى. والمسلمون ينازعون فيه ،
ويقولون : إن هذا الكتاب محرف ومبدل ، وأن الذي أنزله الله على موسى ، لم يبق في
أيدي اليهود منه شيء البتة. وهذا أيضا طعن في التواتر .
والثالث : إن اليهود والنصارى على
كثرتهم وشدة عداوة بعضهم
لبعض ، أطبقوا على صلب عيسى ـ عليهالسلام ـ وقتله. والمسلمون أطبقوا على تكذيبهم فيه. وهذا أيضا طعن
في التواتر .
__________________
والرابع : إن النصارى على كثرتهم ، وتفرقهم في الشرق والغرب ينقلون عن عيسى ـ عليهالسلام ـ أنه كان يقول بثلاثة : الأب والكلمة ـ الابن ـ وروح
القدس ، ويدعو الناس إلى التثليث ، والمسلمون يكذبونهم فيه. فهذا أيضا طعن في
التواتر.
الخامس : إن المجوس على كثرتهم ، واستعلاء دينهم قبل ظهور دين الإسلام ، كانوا مطبقين
متفقين مدة ألف سنة على ظهور المعجزات العظيمة ، على يد «زردشت» ومن جملتها : أنهم
ذوبوا عظيما من النحاس ، وصبوا على رأس «زردشت» فما ضره ذلك البتة. ونقلوا أيضا :
أنه انكسرت قوائم فرس «كشتاسب» ثم إنها عادت صحيحة بدعاء «زردشت» والمسلمون
يكذبونهم فيه. وهذا أيضا في التواتر.
السادس : إن المانوية على كثرتهم. يخبرون أن «ماني» كان يطير إلى السماء ، ويغيب عن أعين
الخلق ، ثم يعود إليهم. وسائر الفرق يكذبونهم فيه.
السابع : إن الكرامية صنفوا كتبا كثيرة في فضائل أبي عبد الله «ابن كرام» ونقلوا عنه
أحوالا عجيبة ، مثل : الطيران إلى السماء ، والانتقال من بلد إلى بلد آخر ، في
زمان قليل ، وإظهار الطعام والشراب في المفاوز. وسائر الناس يكذبونهم في تلك
الروايات. مع أن الكرامية عدد عظيم يبلغون مبلغ التواتر.
والثامن : إن الروافض ادعوا حصول التواتر في ثبوت النص الجلي على إمامة «علي بن أبي طالب» رضي الله
عنه ، وسائر الفرق يكذبونهم فيه. فقد حصل النزاع في التواتر نفيا وإثباتا.
__________________
والتاسع : إن جماعة الصوفية من المسلمين ، ومن النصارى على كثرتهم ، وتفرقهم في مشارق
الأرض ومغاربها ، ينقلون ظهور الكرامات العظيمة على سلفهم وشيوخهم وأكثر
المتكلمين. ولا سيما المعتزلة مصرون على تكذيبهم فيه.
والعاشر : إنك لا ترى فرقة من فرق الدنيا ، ولا طائفة من طوائف أهل العالم إلا وهم
ينقلون عن شيوخهم وسلفهم ] أنواعا من الفضائل والمناقب ، والكرامات. مع أن مخالفيهم
ينكرونها بأسرها ، وينقلون عنهم أنواع المثالب والمعايب والفضائح والقبائح. وكل
واحد من الخصمين يدعي ظهور تلك الروايات وبلوغها مبلغ التواتر ، وذلك يوجب وقوع
التعارض والتدافع في الأخبار المتواترة.
واعلم أن المتكلمين أجابوا عن ادعاء
اليهود : حصول التواتر في أن
موسى عليهالسلام قال: «إن شريعتي لا تصير منسوخة» بأن قالوا : إن «بخت نصر»
قتلهم بالكلية ، ولم يبق منهم إلا عدد قليل ، يمكن إطباقهم على الكذب. وإذا كان
الأمر كذلك ، فقد خرجت روايتهم عن حد التواتر .
__________________
وأجابوا عن نقل
اليهود والنصارى عن قتل عيسى عليهالسلام وصلبه : بأن الله تعالى ألقى صورة عيسى عليهالسلام على إنسان آخر فلهذا السبب حصلت هذه الشبهة.
وأجابوا عن ادعاء
المجوس والمانوية ظهور المعجزات على «زردشت» و «ماني»] بأن قالوا : النبوة متفرعة
على معرفة الإله ، و «زردشت» و «ماني »] أثبتا للعالم إلهين. وهذا من أعظم أنواع الكفر. والكافر
يمتنع ظهور المعجزات على يده.
ثم أجاب القائل عن هذه الأجوبة : فقال : أما قولكم : إنه قل عدد اليهود في زمان «بخت نصر» فنقول
: لما جاز هذا ، فلم لا يجوز مثله في جميع أنواع التواتر؟ فإن قالوا : لو وقع ذلك
لاشتهر ، لأن الوقائع العظيمة يجب اشتهارها ، بدليل : أنه لما حصلت هذه الواقعة في
دين اليهود ، اشتهرت فيما بين الخلق. قلنا : لا نزاع في أن هذه الوقائع العظيمة قد
تشتهر. فأما دعوى أنه يجب اشتهارها فهذا غير واجب. والدليل عليه من وجوه :
الأول : إن معجزات محمد عليهالسلام. مثل : انفجار الماء من بين أصابعه ، وإشباع الخلق الكثير
من الطعام القليل ، وانقلاع الشجرة من أصلها ، وانشقاق القمر ، وكلام الذئب :
وقائع عظيمة [متعالية جدا ، ولم يحدث ] هناك مانع يمنع من نقلها ، مع أنه لم يرو هذه الوقائع إلا
الواحد والاثنان. فثبت : أن قولكم : إن الوقائع العظيمة يجب نقلها : ضعيف.
الثاني : إن شعائر الصلوات كانت ظاهرة بادية مدة ثلاثة وعشرين سنة ، ثم إنها ما نقلت كما
ينبغي ، فإنهم اختلفوا في كون الإقامة مثناة أو فرادى ، واختلفوا في قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) واختلفوا في سائر الشرائط.
__________________
الثالث : إن وقائع ملوك العجم على عظمتهم ، بقيت مندرسة غير مذكورة ، والوقائع
التي وقعت في زمان عاد وثمود اندرست ، وبعض وقائع نوح عليهالسلام وغيره قد بقي. فيثبت : أن الوقائع العظيمة قد تصير مندرسة
، وقد تصير باقية ، وأنه لا يجوز الجزم بأحد الحكمين [قطعا ].
وأما قوله : إن الله تعالى ألقى شبه عيسى عليهالسلام على شخص آخر ، فنقول : فهذا من أعظم القوادح في التواتر.
لأنكم لما جوزتم هذا المعنى. فلعل الشخص الذي يعتقد فيه أن محمد ما كان محمدا ، بل
كان شخصا آخر ، ألقى الله تعالى عليه صورته ومشابهته ، وكذلك القول في جميع أحوال
الخلق. وذلك يوجب السفسطة.
وأما قوله : «زردشت»
كان قائلا بإثبات الإلهين فيمتنع ظهور المعجزات عليه. فنقول : هذا الكلام
يقوي ما ذكرناه من السؤال ، وذلك لأن «إيران شهر» الذي هو واسطة ممالك العالم ،
وأشرف بقاع الدنيا. كلهم كانوا على دين «زردشت» قريبا من ألف ومائتي سنة. وكلهم
كانوا ينقلون عنه المعجزات الظاهرة القاهرة. ثم إنكم أقمتم دليلا قطعيا على أنهم
كانوا كاذبين في تلك الروايات. فإنكم قلتم : إنه كان كافرا. والكافر يمتنع ظهور
المعجزات على يده ، فصار هذا برهانا جليا في أن تلك الأخبار المتواترة كانت كاذبة
باطلة. ونحن ما سعينا إلا لبيان أن خبر التواتر [قد يكون باطلا فاسدا. وعلى هذا
التقدير ، فالاعتماد على مجرد خبر التواتر ] لا يفيد العلم واليقين.
فهذا تقرير هذه
الشبهة من هذا الوجه.
وهاهنا وجوه كثيرة
، سوى ما ذكرناه في ضعف التواتر ذكرناها في كتاب
__________________
«المحصول» وفي كتاب «الأربعين في أصول الدين » فمن أراد [الوقوف عليها ] فليرجع إلى هذه الكتب [والله أعلم بالصواب ].
__________________
الفصل الثاني عشر
في
تقرير شبهة من يقول : ان الله
تعالى لو أرسل رسولا الى الخلق
لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة
وهذه الشبهة قد
ذكرها الله تعالى في القرآن مرارا وأطوارا. قالوا : الدليل عليه : أن كون الرسول
من جملة الملائكة ، أفضى إلى الغرض [والأفضى إلى الغرض ] هو الذي يفعله الفاعل الحكيم. فيفتقر هاهنا إلى تقرير
هذين المقامين :
المقام الأول : وهو بيان أن كون الرسول من جملة الملائكة أفضى إلى الغرض فيدل عليه وجوه :
الأول : إنه لما كان الملك في غاية القوة والقدرة والشدة. فالناس يخافونه ،
ويهابونه ، فكان انقيادهم لطاعته أكمل ، فكان أفضى إلى المقصود .
والثاني : إنه إذا كان ملكا ، وكان لا يأكل ولا يشرب ولا يتزوج ولا يرغب في تحصيل المال
والجاه. كان وثوق الناس بصدقه أقوى ، وبعدهم عن الكذب والريبة أكمل ، فكان هذا
الطريق أفضى إلى الغرض.
والثالث : إن منصب رسالة الله تعالى أعظم المناصب وأعزها وأشرفها ،
__________________
والحكيم إذا فوض
أعظم المناصب وأجلها إلى بعض عبيده ، فإنه لا يليق به إلقاء ذلك العبد في الذل
والهوان. ونرى أن الرسول البشري واقعا في الذل والهوان ، بسبب الجوع والفقر
[والخوف من الأعداء ] والفرار من قرية إلى قرية أخرى ، وطلب الأموال القليلة من
أصحابه.
فيثبت بهذه الوجوه
: إن إرسال الرسول من الملائكة أفضى إلى المقصود [من إرساله من البشر ].
[فإن قالوا : إرسال
الرسول من الملائكة ، يوجب أنواعا من المفاسد.
أولها : أن الأمة إما أن يشاهدوا ذلك الملك على صورته الأصلية ، أو على صورة أخرى
مستعارة ، والأول يوجب الخوف الشديد ، وزوال العقل. ألا ترى أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رأى جبريل عليهالسلام على خلقته الأصلية غشى عليه. والثاني باطل. لأنه إذا رأى الملك على صورة
الإنسان ، فحينئذ لا يبقى بينه وبين الإنسان فرق.
وثانيها : إن الملائكة فيهم شدة عظيمة وقهر شديد ، فهم لا يسامحون البشر في زلاتهم ومعاصيهم ،
بخلاف الرسول البشري.
وثالثها : إن الجنس إلى الجنس أميل. فإلف الناس
برسول يأتيهم من جنسهم ، أكمل من إلفهم بالملك.
قلنا : أما السؤال الأول فمدفوع. فإنا نقول : خلق الخوف ، والفزع في قلوب العباد من الله
تعالى ، فكان يجب أن يجعل قلوب البشر ، بحيث إذا شاهدوا الملك ، لم يفزعوا منه ،
فيصير هذا المعنى معجزة على صدق ذلك الملك.
__________________
ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : إن الناس يشاهدون ذلك الملك في صورة البشر ؟ ويكون الفرق بينه وبين سائر البشر : أن لا يحتاج إلى
الأكل والشرب والملبوس والمنكوح ، وهذا القدر من التفاوت لا يوجب الخوف الشديد ،
ويحصل الامتياز بينه وبين سائر الناس. وأما قوله ثانيا الملائكة لهم قهر شديد فهم
لا يسامحون البشر. قلنا : الملائكة لا يعصون الله فيما يأمرهم ، فإذا أمرهم بالرفق
لم يفعلوا شيئا من التشديد.
وأما قوله ثالثا : الجنس إلى الجنس أميل. فنقول : حصول الميل في القلب ، ليس إلا من
الله تعالى ، كما قال تعالى : (وَلَٰكِنَّ
اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) فيثبت بما ذكرنا :
أن إرسال الرسول من زمرة الملائكة ، أفضى إلى المقصود. ونقول : لو كانت الرسالة
جائزة ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة [لأن الحكيم ] إذا أراد تحصيل مطلوب ، وكان له إليه طريقان ، وكان أحد
الطريقين أفضى إلى حصول ذلك المطلوب من الطريق الثاني ، فإنه يجب عليه بمقتضى
حكمته ، أن يرجح الطريق الأفضل الأكمل.
الوجه الثاني في تقرير هذه الشبهة : إن
كمال الإنسان في أن يعرف
الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به. ونرى البشر ناقصين في هذين الوصفين ، فاحتاجوا
إلى شخص يكون كاملا فيهما ، حتى يصير ذلك الكامل مكملا للناقصين ، وذلك المكمل يجب
أن يكون مبرأ عن النقصان في هذين الوصفين ، وإلّا لافتقر إلى مكمل آخر ، ولزم
التسلسل ، وكل من كان بشرا فإنه لا ينفك عن الشهوة والغضب ، وبسبب حصول هذين
الوصفين يكون النقصان حاصلا فيهم. أما الملائكة فهم مقدسون عن
الشهوة والغضب ، والخيال والوهم ، مستغرقون في المعارف الإلهية ، مواظبون على
الطاعات والعبادات. فكانت بعثتهم لأجل تكميل الناقصين أولى.
__________________
الوجه الثالث : إن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ مقرون بأنهم إنما يستفيدون [ما لهم ] من الكمالات من الملائكة. قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ على
قلبك) وقال [في صفة القرآن ]
انه لقول رسول كريم وقال : علمه شديد القوى
وقال : (وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) وقال : (يُمْدِدْكُمْ
رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) وقال : (فَتَمَثَّلَ لَهَا
بَشَرًا سَوِيًّا) فلما ثبت باتفاق
الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ أنهم إنما يستفيدون ما لهم من الكمالات ، من الملائكة
السماوية ، والأرواح الفلكية كان إرسال الملك إلى الخلق : أولى وأكمل. فهذا تقرير
كلام هذه الطائفة [والله أعلم ].
__________________
الفصل الثالث عشر
في
البحث عن الطريق الذي يعرّف
الرسول كونه رسولا من عند الله عزوجل
قال الطاعنون في
المعجزات : هب أن الأمة يعرفون بواسطة المعجزات كون الرسول إنسانا أمينا صادقا في
دعواه. أما الرسول فكيف يعرف كونه رسولا؟ وذلك لأن ثبوت رسالته ، إما أن يكون لأجل
أن الله تعالى يرفع الواسطة من البين. ويقول : أيها العبد أنت رسولي إلى الخلق ،
وإما أن يكون لأجل أن الله تعالى يرسل إليه ملكا ، ويقول له ذلك الملك : أنت رسول
الله تعالى إلى الخلق.
أما القسم الأول :
فبعيد. وأكثر الأنبياء مطبقون على أنهم إنما جاءتهم الرسالة من عند الله بواسطة
الملك. فيبقى القسم الثاني ، فنقول : كما أن الأمة مفتقرون في التمييز بين المدعي
المحق ، وبين المدعي المبطل إلى الحجة ، فكذلك الرسول لا يمكنه التمييز بين الملك
المعصوم ، وبين الشيطان المرجوم ، إلا بالمعجز. لكن لا سبيل إلى هذا المعجز. وذلك
لأن الرسول البشري لا يعرف ما يوافق العادة ، في عالم الملائكة ، وما يخالف العادة
هناك. فكل معجز يأتي به الملك في تقرير أنه محق ، فإن الرسول البشري يجوز أن يكون
ذلك أمرا موافقا للعادة في عالم الملائكة. وبهذا التقدير فإن ذلك الملك لا يقدر
على تقرير الحجة على كونه ملكا معصوما. فإن قالوا : إنه إذا أتى الملك بفعل خاص ،
ثبت بالدليل أنه لا يقدر على إحداثه أحد إلا الله سبحانه وتعالى ـ فحينئذ يعرف
النبي كونه ملكا
معصوما لا شيطانا مرجوما. فنقول : هذا أيضا [لا يفيد. وذلك لأن ذلك الفعل ، وإن
كان فعلا ] لا يقدر أحد على إيجاده إلا الله تعالى ، إلا أنه لا
يمتنع في العقل أنه ـ تعالى ـ أجرى العادة في عالم الملائكة بأن كل من دعا الله ،
وتضرع إليه في طلب ذلك الفعل ، فإنه تعالى يفعله إجابة لدعاء ذلك الداعي ، وإذا
كان هذا المعنى محتملا ، لم يكن ظهوره على يد هذا الملك : دليلا على كونه صادق
اللهجة في ادعاء الرسالة [فيثبت أن الملك لا يمكنه تعريف الرسول البشري كونه صادق
القول في ادعاء ] كونه رسولا من عند الله إلى ذلك الإنسان. بقي أن يقال :
إنه تعالى يخلق في ذلك الإنسان علما بديهيا ضروريا ، بأن ذلك الذي وصل إليه ملك
صادق ، لا شيطان كاذب ، فإنه إن لم يحصل هذا المعنى ، امتنع كون الرسول البشري ،
عالما بأن ذلك الواصل ، ملك من عند الله تعالى وإذا وقع الشك في الأصل ، فوقوعه في
الفرع أولى [والله أعلم بالصواب ].
__________________
الفصل الرابع عشر
في
الشبهات المبنية على أنه ظهر
على الأنبياء أعمال تقدح في صحة نبوتهم
فالشبهة الأولى : قالوا : ثبت بالدلائل العقلية : أن كمال حال الإنسان في الدنيا والآخرة
في أن يعرف الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به [وأشرف المعارف معرفة الله تعالى ] وأشرف الأعمال : الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على
الآخرة. فيثبت : أن سعادة الخلق مربوطة بتحصيل هذين الأمرين ، وكل ما سوى هذين
المطلوبين فهو عبث عديم الفائدة. وإذا ظهرت هذه المقدمة. فنقول : إنا نرى الأنبياء
والرسل ينسخ بعضهم ، شرائع بعض المتقدمين ، وهذا النسخ والتبديل إما أن يكون قد وقع في هذا الذي بينا أنه هو المقصود
الأصلي ، والغرض الأشرف. أو في أمور زائدة عليها ، مغايرة لها. والقسم الأول
: باطل قطعا. لأنا
لما بينا : أن كمال السعادة والخير ، موقوف على تحصيل هذين المطلوبين ، فكل من جاء
بتقريره وتأكيده كان محقا ، وكل من
__________________
جاء برفعه وإزالته
وإبطاله ونسخه كان مبطلا ، فلو كان النسخ والتغيير والتبديل واقعا في هذا القسم ،
كان الآتي بالنسخ مبطلا كاذبا ، وحينئذ يلزم تكذيب الأنبياء وذلك لا يجوز.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : التفاوت في الشرائع ما وقع في هذه القواعد الشريفة ، والمهمات
الأصلية. وإنما وقع في الفروع والزوائد. فنقول : الاختلاف في مثل هذه الزوائد
والتوابع إما أن لا يفيد [منفعة أصلا ، أو إن أفاد منفعة فإن تلك المنفعة ] تكون قليلة جدا. ومثل هذا الاختلاف لا يليق به حمل الناس
على أحد [القولين ، ومنعهم من القول الثاني ، بالقتل والنهب والإيلام والإيذاء ] ورأينا أن الأنبياء يفعلون ذلك. فكان هذا قادحا في
طريقتهم.
ومثاله : إن
المقصود الأصلي من الصلاة : أن يكون القلب مشتغلا بنية العبودية ، واللسان بالذكر
والثناء ، والأعضاء مزينة بأنواع الخدمة. وهذا المقصود حاصل بالصلاة التي يؤتى بها
على مذهب [اليهود ، وبالصلاة التي يؤتى بها على مذهب النصارى ، وبالصلاة التي يؤتى
بها على مذهب ] المسلمين. فثبت : أن ما هو المقصود [الأصلي حاصل على كل
التقديرات ] ثم إنا نرى الأنبياء يبالغون في حمل [الناس على طريقتهم
وفي منع الناس عن طريقة من تقدمهم ] ويزعمون : أن العمل بالطريقة المتقدمة : كفر. يوجب حل
الدم ، ويوجب العذاب الدائم ويوجب نهب الأموال وسبي الأولاد. وأيضا : المقصود من
الصوم : قهر النفس. وذلك لا يتفاوت بأن يقع ذلك الصوم في شهر رمضان ، أو في شهر
آخر. فالمبالغة في تعيين هذا الشهر ، والمنع من سائر الشهور يكون عديم الفائدة.
وكذلك المقصود من القبلة : أن يكون الإنسان عند اشتغاله بخدمة الله تعالى ، مستقرا
ثابتا. حتى يتفرغ قلبه للاشتغال بخدمة الله تعالى. وهذا المقصود لا يتفاوت بأن
تكون القبلة هي
__________________
الكعبة أو غيرها.
وكذلك المقصود من اجتماع الخلق الكثير في الموضع الواحد ، لأجل أداء الطاعات
والعبادات أن تصير كثرة الأرواح المتوجهة إلى استنزال رحمة الله تعالى ، سببا لقوة
ذلك التأثير ولتكميله ، وهذا لا يتفاوت بأن تكون تلك الجمعية حاصلة في يوم الجمعة
، أو في يوم السبت ، أو في يوم الأحد.
إذا عرفت هذا ،
فنقول : ظهر بهذا البحث : أن الأشياء التي اختلفت الشرائع فيها : أمور لا فائدة
البتة ، بحسب المطالب الأصلية. فلم يبق إلا أن يقال : الغرض من التشديد في إظهارها
: أن يصير ذكر ذلك المتقدم مندرسا ، وأن يصير ذكر هذا الثاني باقيا ، فيما بين
الناس. ولا فائدة في ذلك إلا طلب الرئاسة في الدنيا [والتفوق على الخلق. فلما
شرعوا القتل والنهب والإيذاء والإيلام ، لتقرير هذه المعاني ، علمنا : أنه ليس
بصواب. وظهر أن المقصود منه ليس ] إلا طلب الرئاسة في الدنيا ، فيكون باطلا.
الشبهة الثانية للقوم : قالوا : إن حكم
العقل في التحسين
والتقبيح. إما أن يكون معتبرا ، وإما أن لا
يكون ، وعلى التقديرين ، فالقول بالنبوة : مشكل. أما القسم الأول : وهو أن يكون التقدير : أن يكون حكم العقل في التحسين
والتقبيح مقبولا. فنقول : إنه متى كان الأمر كذلك ، كانت بدائه العقول قاضية بأن
الإنسان إذا كان قلبه خاليا عن [الالتفات إلى الدنيا وشهواتها ، وكان خاليا عن ] الاشتغال بغير الله تعالى ، وكان غريقا في نور معرفة الله
تعالى ، وفي ذكره ، فهذا الإنسان إذا مات ، وجب أن يكون من السعداء الأبرار ، لكنا
نرى أن الأنبياء يقولون : إن من كان حاله على ما ذكرناه ، ثم إنه غفل عن الإقرار
بالنبوة والرسالة ، أو كان متوقفا فيه ، كان كافرا من أهل العذاب الدائم ، والعقاب
المخلد ، ولما ثبت أن حكم العقل في الإنسان المذكور أن يكون من السعداء الأبرار ،
وثبت أن حكم الشرع فيه أن يكون من الأشقياء الكفار ، ثبت : أن حكم الشرع مخالف
لحكم العقل ، ولما
__________________
كان التقدير في
هذا القسم أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح معتبرا ، وجب أن يكون ضده مردودا
[باطلا.
وأما القسم
الثاني وهو أن يكون التقدير : هو أن يكون حكم العقل في التحسين والتقبيح مردودا [ باطلا. فنقول : يبطل القول بالنبوة والرسالة ، لأن على هذا
التقدير لا يصح من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكاذب ولا يقبح منه أيضا أن
يكذب في وعده ووعيده. وعلى هذا التقدير ، فإنه يبطل القوة بالنبوة والرسالة.
والشبهة الثالثة : قالوا إنا وجدنا هذه الشرائع مشتملة على أمور باطلة ، فكان القول بها
باطلا. بيان الأول من وجوه :
الأول : إن القول بالتشبيه غالب على الشرائع ، وذلك يوجب الجهل بالله تعالى ، والجاهل
بالله ـ تعالى ـ لا يمكن أن يكون رسولا حقا من عند الله ـ تعالى ـ وإنما قلنا : إن
القول بالتشبيه غالب على الشرائع ، وهو لأنا نبين حصول هذا المعنى في هذه الأديان
الأربعة الظاهرة.
أما دين الإسلام : فالقول بالتشبيه ظاهر في القرآن. وأما الأحاديث فإنها مملوءة من ذلك. ولذلك
فإن أكثر من شرع في رواية الأخبار : جزم بالتشبيه ، وليس لقائل أن يقول : إنه إنما
ذكر هذه الألفاظ على سبيل الاستعارة والمجاز. لأنا نقول : هذا باطل من وجهين :
الأول : إن للتعبير عن المعاني الصحيحة ، بالعبارات المشتملة على المجازات والاستعارات ؛
حدا معينا ، وضابطا معلوما. فأما هذه الآيات الكثيرة ، والأخبار الكثيرة ، فهي
ألفاظ صريحة في الدلالة على المعاني الموجبة للتشبيه ، حتى أنا لو أردنا أن نعبر
عن تلك المعاني بألفاظ أقوى منها [وآكد
__________________
دلالة على التشبيه
منها ] لم نجد البتة. وذلك يدل على أنه ما أريد بذكر تلك. الألفاظ إلا تقوية القول
بالتجسيم.
والثاني : هب أن الأمر كما ذكرتم ،
ولكنهم لو كانوا معتقدين
للتنزيه والتوحيد ، لكان من الواجب عليهم ، أن يذكروا الألفاظ الدالة على التنزيه
، صريحة فيه ، حتى يصير التصريح بهذا الحق ، سببا لتأويل تلك الألفاظ الموهمة
للباطل. لكنا لم نجد البتة في الكتاب ، ولا في الأخبار مثل هذه البيانات. فظهر أن
القوم كانوا مصرين على القول بالتجسيم.
وأما دين اليهود : فالتشبيه المذكور [في التوراة ، بالنسبة إلى المذكور ] في القرآن ، كالبحر بالنسبة إلى القطرة ، وكالجبل بالنسبة
إلى المدرة.
وأما دين النصارى : فمدار الأمر فيه على الحلول والاتحاد. والأب ، والابن ، والروح القدس.
وهذا أرك أقوال مذاهب القائلين بالتجسيم والتشبيه.
وأما المجوس : فقولهم بوجود الإلهين ،
وقولهم بوقوع المحاربة بينهما ، واستعانة الإله الخيّر ، بجند الملائكة ، واستعانة الإله الشرير بجند من
الشياطين : مما ينفر العقل عنه ، وتنبو الطبائع عن سماع مثله.
فثبت بهذا : أن
القول بالتشبيه غالب على هذه الشرائع.
الوجه الثاني : في بيان هذا المعنى : إن القرآن مملوء من الجبر ، ومن القدر والآيات الواردة فيه
أكثر من عدد الرمل والحصى. ولا شك أنها متناقضة ، وأن التوفيق بينها لا يحصل إلا
بتعسف شديد ، وهذا يدل على أن صاحب هذا الكتاب كان مضطرب الرأي في الجبر والقدر ،
غير جازم بأحد الطرفين.
الوجه الثالث : إنه ما ظهر من الأنبياء سعي تام في البحث عن ذات الله
__________________
تعالى وصفاته ،
وكيفية ما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، وكيفية أفعاله. ولم يتكلموا في إثبات النفس
وحدوثها وبقائها ، بل تركوا هذه الأصول بالكلية ، وأكثروا المبالغة في تقرير
موضوعاتهم الجديدة ، وفي نسخ موضوعات المتقدمين.
إذا ثبت هذا ،
فنقول : إطباقهم على التساهل في الأمور العالية العظيمة ، وعلى التشديد في الأمور
الهينة يدل على أن المطلوب من هذه الشرائع : تقرير مطالب الدنيا.
الوجه الرابع : إن الشرائع مشتملة على التكليف بالقتل ، وأخذ المال. وهذا على خلاف العقل. لأنا
نقول : خالق هذا الكافر ، كان في أول الأمر قادرا على أن لا يخلقه ، وبعد أن خلقه
فهو قادر على أن يميته. فإن كان الصلاح في [إفنائه وإعدامه. فلم خلقه؟ وإن كان
الصلاح في ] إبقائه وإحيائه. فلم أمر بقتله؟ فإن قالوا : لم لا يجوز
أن يحصل للقاتل بسببه [ذلك المقتول نوع مصلحة؟ فنقول : لكنه حصل للمقتول أعظم أنواع الضرر ،
وهو القتل في الدنيا ، والوصول إلى أشد العذاب في الدنيا والآخرة ، لأجل أن يصل
العبد الثاني إلى نوع من أنواع الخير والراحة. فإنه ليس السعي في تعذيب أحدهما
لأجل إيصال النفع إلى الثاني. أولى من العكس.
الوجه الخامس : وهو أن المعتبر إما معرفة الله تعالى بذاته وصفاته ومعرفة اليوم الآخر. وإما تحصيل
مصالح المعاش. وكلا الأمرين غير موقوف على متابعة الرسول المعين ، لأن الذين تركوا
هذه المتابعة ، فقد فازوا بهذين النوعين من المصالح. فثبت : أنه لا يتوقف شيء من
المصالح على متابعتهم.
فهذا منتهى القول
في حكاية شبهات الطاعنين في النبوات.
__________________
الفصل الخامس عشر
في
الاشارة الى أجوبة هذه الشبهات
أعلم : أنا وإن بالغنا في حكاية هذه الشبهات. إلا أن العاقل إذا
أحكم معرفة أصول ثلاثة ، ووقف على قوتها ، زالت عنه هذه الشبهات بأسرها ، وذلك من
كمال نعم الله تعالى على العباد ، حيث هداهم إلى هذه الأصول الثلاثة ، ليتوسلوا
بها إلى دفع هذه الشبهات.
فالأصل الأول : أن نقول : لا شك أن القول بإثبات النبوات ، فرع على القول بإثبات الفاعل
المختار. فمن نازع في ذلك الأصل ، فإنه لا يجوز له الخوض في إثبات النبوات البتة.
بل يجب عليه الشروع في تلك المسألة. وأما من سلم أن إله العالم فاعل مختار ، فنقول
: إنا ندعي أنه لا مؤثر البتة لإخراج شيء من العدم إلى الوجود ، إلا ذلك الواحد.
وإذا ثبت هذا ، فقد بطل القول بوجود مؤثر آخر سواه ، سواء قيل : إنه كوكب ، أو فلك
، أو عقل ، أو نفس ، أو روح علوي ، أو روح سفلى. والذي يدل على صحة هذا الأصل وجوه
:
الأول : أنه لما ثبت أنه تعالى قادر على بعض المقدورات ، وجب أن يكون ذلك الشيء ، إنما
صار بحيث يصح أن يكون مقدورا له لإمكانه. لأنا
__________________
لو رفعنا الإمكان
، لبقي : إما الوجوب وأما الامتناع. وهما يحيلان المقدورية. وما يوجب امتناع كونه
مقدورا [يمتنع أن يقتضي صحة كونه مقدورا ] فثبت : أن المعنى الذي لأجله صار بعض الأشياء ، بحيث يصح
أن يكون مقدورا لله تعالى هو [الإمكان. وبديهة العقل حاكمة بأن المفهوم من الإمكان
مفهوم واحد ] في جميع الممكنات ، فوجب القطع بأن [ما لأجله صار بعض
الممكنات بحيث يصح أن يكون مقدورا لله تعالى ، فهو قائم في] جميع الممكنات. وإذا حصل الاشتراك في المقتضى ، وجب
حصول الاشتراك في الأثر ، فوجب القطع بأن [جميع الممكنات بحيث يصح أن تكون مقدورة
لله تعالى. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون الله ] قادرا عليها بأسرها ، لأن كونه تعالى قادرا ، صفة من صفات
ذاته. وتلك الصفة : نسبة مخصوصة ، بين ذاته المخصوصة ، وبين المقدورات ، وهو كونه
بحيث يصح منه إيجادها. وهذه الصحة ليست ذاتا قائمة بنفسها ، بل هي من باب النسب والإضافات ،
فتكون ممكنة لذاتها ، فلا بد لها من مؤثر ، وذلك المؤثر هو ذات الله تعالى ، سواء
قلنا : إن تأثير تلك الذات في هذه الصحة ابتداء ، أو بواسطة وعلى التقديرين فنسبة
اقتضاء ذاته إلى حصول القدرة على بعض الممكنات ، كنسبة ذلك الاقتضاء إلى البواقي.
لأنا بينا أن كل الممكنات متساوية [في صحة المقدورية. وإذا كانت النسبة متساوية ،
فلو اقتضت تلك الذات المخصوصة ، حصول الاقتدار على بعضها دون البعض. مع أنا بينا
أن النسبة متساوية ] فحينئذ يلزم رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح ،
وهو محال. ولما بطل هذا القسم ، بقي قسمان : أحدهما : أن لا يقدر على شيء أصلا ،
إلا أن هذا باطل. لأنا بينا : أن القول بالنبوات ، فرع على إثبات كونه تعالى
قادرا. والثاني : أن يكون قادرا على الكل. وذلك هو الحق. لأنه لما بطل ما
__________________
عداه من الأقسام ،
وجب أن يكون هذا القسم هو الحق. فثبت : أنه تعالى قادر على جميع الممكنات.
فنقول : إنه لم يحصل في الوجود. موجود مؤثر ، ولا موجد إلا الله تعالى.
والدليل عليه : وهو أنا لو فرضنا شيئا آخر سواه. يكون له صلاحية التأثير والإيجاد
، فعلى هذا التقدير ، قد اجتمع على ذلك الأثر مؤثران مستقلان باقتضاء الوجود
والأثر. فإما أن يقع ذلك الأثر بهما معا ، أو لا بواحد منهما ، أو بأحدهما دون
الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة.
أما القسم الأول وهو وقوعه بهما : فنقول
: هذا محال. وذلك لأن الأثر
المعين مع المؤثر التام المستقل ، يكون واجب الوجود لذاته ، وما يكون واجب الوجود
لذاته ، يمتنع أن يكون واجب الوجود لغيره ، فعلى هذا ، ذلك الأثر لكونه مع هذا
المؤثر [يمتنع استناده إلى ذلك المؤثر ، ولكونه مع ذلك المؤثر. يمتنع استناده إلى
هذا المؤثر ] فإذا كان حاصلا معهما معا يلزم [أن يكون استناده إلى كل
واحد منهما بعينه ، استغناء عن كل واحد منهما فيلزم ] أن يكون ذلك الأثر ، مستندا إليهما معا وغنيا عنهما معا. وهو محال.
فثبت: أن هذا القسم باطل.
وأما القسم الثاني وهو امتناع وقوعه
بواحد منهما : [فنقول : هذا باطل من وجهين :
الأول : إنه لما امتنع وقوعه بواحد منهما ] لزم أن يقال : إنه لا يقع البتة ، أو إن وقع فقد وقع بغير
مؤثر. وذلك محال. لأنه يلزم أن لا يدخل شيء من الممكنات في الوجود ، أو إن دخل في
الوجود ، إلا أنه يحدث من غير مؤثر أصلا وكلاهما باطلان.
__________________
والثاني : أن من المعلوم أن كل واحد من هذين السببين المستقلين ، لو انفرد ، لكان
مستقلا بالتكوين والتأثير ، إلا أن حضور الآخر منعه من التأثير. فنقول : المانع لهذا
المؤثر ، ليس هو ذات المؤثر الثاني ، ولا شيء من صفاته ، بل كون هذا الأثر صادرا
من هذا يمنع صدوره من ذاك ، ولذاك بالضد. ومعلوم : أن المعلول لا يحصل إلا عند
حصول العلة. فإذا كان المانع من صدور [ذلك الأثر عن هذا ، ليس إلا صدوره عن ذاك ،
والمانع من صدوره ] من ذاك ليس إلا صدوره عن هذا ، وثبت أن المعلول لا يوجد
إلا عند وجود العلة ، فلو امتنع الطرفان ، لزم القول بحصول الطرفين ، حتى يكون كل
واحد منهما مانعا من الثاني ، فيلزم من امتناع استناده إليهما معا ، حصول استناده
إليهما معا [وكنا قد ذكرنا في القسم الأول
: أنه يلزم من حصول
استناده إليهما معا ، امتناع استناده إليهما معا ] وكل ذلك محال.
وأما القسم الثلث وهو أن يقع بأحدهما
دون الثاني : فنقول : هذا باطل لوجهين :
الأول : إن العقل يقتضي أن يندفع الأضعف
بالأقوى ، ولا شك أن ممكن الوجود ، أضعف من واجب الوجود. وعلى هذا التقدير فلا
موجد ولا مؤثر (٣) إلا الله.
الثاني : إن كل شيء يخرج من العدم إلى الوجود فهو في نفسه ، إما شيء واحد وإما مركب من
أشياء ، يكون كل واحد منها في نفسه شيئا واحدا ، والشيء الواحد في نفسه لا يقبل
التفاوت أصلا. وإذا كان هو في نفسه غير قابل للتفاوت [كانت القدرة على إيجاده غير
قابلة للتفاوت أصلا ، وإذا كان كذلك ] امتنع أن يقال : إن أحد المؤثرين أقوى وأكمل في التأثير
بالنسبة إلى ذلك الشيء الواحد.
__________________
بلى قد يعقل كون
أحدهما قادرا على أشياء سوى ذلك الواحد ، لكن المطلوب هاهنا بيان القدرة والقوة
بالنسبة إلى ذلك الشيء الواحد لا تقبل التفاوت. وإذا حصل الاستواء بين هذين المؤثرين ، كان [القول بأن ] أحدهما أولى بالتأثير ، موجبا [رجحان ] أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح ، وهو محال. فثبت
بما ذكرنا : أن جميع الممكنات مقدورة لله تعالى. وثبت : أنه متى كان الأمر كذلك ،
كان القول بإثبات مؤثر غير الله تعالى ؛ يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فكان
القول به محالا ، فثبت بهذا البرهان الكامل : أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله
أصلا.
الحجة الثانية : إن الإمكان علة للحاجة إلى المؤثر. فإما أن يكون علة للحاجة
إلى مؤثر بعينه أو لا بعينه ، والثاني باطل. لأن كل ما كان موجودا في نفس الأمر ،
فهو متعين في نفسه ، فما لا يكون متعينا في نفسه [امتنع كونه موجودا في نفسه ] وما كان ممتنع الوجود ، امتنع أن يكون علة لوجود غيره ،
ولما بطل هذا القسم ، بقي [القسم الأول وهو أن الإمكان علة الحاجة إلى شيء بعينه ،
فوجب أن يكون كل ] ممكن محتاجا في وجوده إليه ، وإذا كان كذلك ، فلا مؤثر
إلا الواحد.
فهذا هو أحد الأصول الثلاثة التي لا بد
من معرفته في هذا الباب.
الأصل الثاني من الأصول التي عليها مدار
إثبات النبوات : أنه لا يمتنع أن يكون
الشيء معلوم الجواز والإمكان ، ومع ذلك فإنه يكون الجزم والقطع حاصلا بأنه لم يوجد
، ولم يحصل.
وبيانه : أني إذا
رأيت زيدا ، ثم غمضت العين ، ثم إني نظرت إليه في المرة الثانية ، فإني أعلم
بالضرورة أن هذا الذي أراه ثانيا ، عين الذي رأيته
__________________
أولا ، مع أن
التجويز القطعي قائم بكونه مغايرا لذلك الأول. وبيانه : أن الحادث إما أن لا يفتقر
إلى المؤثر أو يفتقر إليه ، والقسم الثاني فمؤثر العالم إما أن يكون موجبا أو مختارا. وظاهر أنه ليس
وراء هذه الأقسام الثلاثة قسم البتة.
أما القسم الأول : وهو أن يقال : لا
مؤثر لهذه الحوادث. فعلى
هذا التقدير يكون الوجود بعد العدم ، والعدم بعد الوجود : حاصلا بمحض الاتفاق من
غير سبب أصلا. وإذا جاز ذلك ، جاز أيضا أن يقال : [اتفق أن ذلك الشخص ] الأول قد عدم في تلك اللحظة اللطيفة ، وحصل الشخص الثاني
على سبيل الاتفاق. لأن القول بالاتفاق ، لما كان واقعا في بعض الصور ، كان احتماله
قائما في كل الصور.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : مؤثر العالم موجب بالذات ، فذلك الاحتمال أيضا ، قائم ، لأن
فيضان الآثار الحادثة عن ذلك المبدأ القديم ، لا بدّ وأن يكون موقوفا على حصول شكل
فلكي خاص. وإذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إنه حصل شكل فلكي عجيب غريب
، اقتضى فناء ذلك الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ، وحصل شيء آخر يماثله دفعة؟
وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : مؤثر العالم فاعل مختار. فعلى هذا التقدير : القول بأنه أفنى
الشخص الأول في تلك اللحظة اللطيفة ، وأوجد شخصا آخر يماثله من كل الوجوه : محتمل.
فثبت بهذا البرهان القاطع : أن تجويز هذا المعنى قائم على جميع التقديرات. ثم إنا
مع علمنا بهذا التجويز ، نعلم بالضرورة أن هذا الشخص الذي [أراه في هذه اللحظة هو
عين الشخص الذي ] رأيته قبل ذلك بلحظة أو بيوم أو بشهر.
واعلم أنك إذا
عرفت حقيقة الحال في هذا المثال ، أمكنك معرفة أمثلة
__________________
خارجة عن الحد
والإحصاء ، موافقة لهذا المطلوب.
وأما الأصل الثالث : فهو أن تعلم أن
تحسين العقل وتقبيحه
باطل ، لا عبرة به ، ولا التفات إليه ، في أفعال الله تعالى ، وفي أحكامه.
وإذا عرفت هذه
الأصول الثلاثة ، فحينئذ يظهر القول بصحة النبوات ، ظهورا ، لا يبقى فيها شك ولا
شبهة. وتقريره : أن نقول : فاعل جميع هذه المعجزات هو الله تعالى [لأنا بينا في
الأصل الأول أنه لا مؤثر ولا موجد ولا مكون إلا الله تعالى ] ثم نقول : وإنه تعالى إنما خلقها لأجل تصديق هذا المدعي.
فأما قولهم : إنه يجوز أن يكون قد خلقها لأغراض أخرى. فنقول : ذلك التجويز قائم في
الجملة. لأنا نقول : قد بينا أن قيام تجويز الوجوه الكثيرة قد لا يمنع من حصول
القطع والجزم بواحد منها ، كما ذكرناه في المثال في القسم الثالث فندعي : أن الأمر في هذه المسألة كذلك.
والدليل عليه : أن
موسى ـ عليهالسلام ـ لما أمر القوم ببعض التكاليف ، فأبوا ، وأصروا طلب من
الله ـ تعالى ـ أن يوقف الجبل فوق رءوسهم. ثم إنهم كانوا يشاهدون أنهم كلما قصدوا
الطاعة والامتثال ، فذلك الجبل ، يتباعد عن رءوسهم ، وكلما قصدوا العود إلى العتو
والإصرار والكفر. فذلك الجبل يقرب منهم بحيث خافوا من وقوعه عليهم. ومن المعلوم أن
حصول هذه الحالة على هذا الوجه ، يفيد العلم الضروري بأنه تعالى إنما أوقف الجبل
فوق رءوسهم ، لأجل أن يتبادروا إلى الطاعة والامتثال. وتجويز أن يكون الغرض من
إظلال ذلك الجبل. شيئا آخر سوى هذا المقصود ، لا يقدح في حصول العلم الضروري ،
بأنه لا مقصود منه سوى ذلك. فإنا قد بينا أنه قد يحصل القطع والجزم مع قيام مثل
هذا التجويز. فثبت بالأصل الأول : أن خالق كل المعجزات هو الله تعالى ، وثبت بالأصل الثاني
: أنه لا حكمة لله ـ تعالى ـ في خلق تلك المعجزات ، إلا التصديق. وهذا يفيد العلم
اليقيني بأن الله تعالى إنما
__________________
خلق هذه المعجزات
لأجل تصديق الأنبياء والرسل. والعلم الضروري ، حاصل بأن الكذب على الله ـ تعالى ـ محال.
لأنه صفة نقص. وشهادة الفطرة دالة على أن صفة النقص محال على الله ـ تعالى ـ وعند
هذا يحصل الجزم واليقين بأن ظهور المعجزات يدل على صدق الأنبياء [عليهمالسلام ].
وأما قولهم بعد ذلك : ما الفائدة في
النسخ؟ وما الفائدة في
التوجه إلى الكعبة ، دون بيت المقدس؟ فجوابه : أن نقول : أحكام الله ـ تعالى ـ غير
موقوفة على تحسين العقل وتقبيحه ، فيفعل الله ما يشاء ، ويحكم ما يريد.
فقد ظهر بما
ذكرناه : أن الموقوف على معرفة هذه الأصول الثلاثة ، يحصل الخلاص عن بحار تلك
الشبهات [والحمد لله الذي هدانا إلى الدين القويم ، والصراط المستقيم. والله أعلم ].
__________________
القسم الثاني
في تقرير القول
بالنبوة عن طريق اخر وهو قدرة النبي
على تكميل الناقصين
الفصل الأول
في
تمييز هذا الطريق عن الطريق المتقدم
فنقول
: أعلم أن القائلين بالنبوات فريقان : أحدهما : الذين يقولون : إن ظهور المعجزات على يده ، يدل على صدقه. ثم إنا نستدل بقوله على
تحقيق الحق ، وإبطال الباطل. وهذا القول هو الطريق الأول ، وعليه عامة أرباب الملل
والنحل .
والقول الثاني : أن نقول : إنا نعرف أولا أن القول في الاعتقادات ما هو؟ وأن الصواب في
الأعمال ما هو؟ فإذا عرفنا ذلك ، ثم رأينا إنسانا يدعو الخلق إلى الدين الحق ،
ورأينا أن لقوله أثرا قويا في صرف الخلق من الباطل إلى الحق ، عرفنا أنه نبي صادق
، واجب الاتباع. وهذا الطريق أقرب إلى العقل ، والشبهات فيه أقل. وتقريره لا بد
وأن يكون مسبوقا بمقدمات :
المقدمة الأولى : أعلم أن كمال الإنسان في أن يعرف الحق لذاته ، والخير
__________________
لأجل العمل به ،
والمراد منه : أن كمال حاله محصور في أمرين :
أحدهما : أن تصير قوته النظرية كاملة بحيث تتجلى فيها صور الأشياء وحقائقها ، تجليا كاملا تاما
، مبرأ عن الخطأ والزلل.
والثاني : أن تصير قوته العملية كاملة بحيث يحصل لصاحبها ملكة ، يقدر بها على
الإتيان بالأعمال الصالحة. والمراد من الأعمال الصالحة : الأحوال التي توجب النفرة
عن السعادات البدنية ، وتوجب الرغبة في عالم الآخرة ، وفي الروحانيات. فقد ظهر
بهذا : أن لا سعادة لإنسان إلا بالوصول إلى هاتين الحالتين. وهذه المقدمة مقدمة
أطبق الأنبياء على صحتها ، واتفق الحكماء الإلهيون على صحتها أيضا. ولا يرى في
الدنيا عاقل كامل ، إلا ويساعد عليها.
المقدمة الثانية : إن
الناس ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
أحدهما : الذين يكونون ناقصين في هذه المعارف ، وفي هذه الأعمال ، وهم عامة الخلق ،
وجمهورهم.
وثانيهما : الذين يكونون كاملين في هذين المقامين ، إلا أنهم لا يقدرون على علاج الناقصين
[وهم الأولياء
وثالثهما : الذين يكونون كاملين في هذين المقامين ، ويقدرون أيضا على معالجة الناقصين ] ويمكنهم السعي في نقل الناقصين من حضيض النقصان ، إلى أوج
الكمال. وهؤلاء هم الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ فهذا تقسيم معلوم مضبوط.
المقدمة الثالثة : إن درجات النقصان والكمال في القوة النظرية ، وفي القوة
العملية كأنها غير متناهية بحسب الشدة والضعف والقلة والكثرة. وذلك أيضا معلوم
بالضرورة.
المقدمة الرابعة : إن النقصان وإن كان شاملا للخلق ، عاما فيهم. إلا
__________________
أنه لا بدّ وأن
يوجد فيهم شخص كامل بعيد عن النقصان. والدليل عليه وجوه :
الأول : إنا بينا أن الكمال والنقصان واقع في الخلق على مراتب مختلفة ، ودرجات
متفاوتة. ثم إنا كما نشاهد أشخاصا بلغوا في جانب النقصان وقلة الفهم والإدراك ،
إلى حيث قربوا من البهائم والسباع ، فكذلك في جانب الكمال ، لا بد وأن توجد أشخاص
كاملة فاضلة ، ولا بد وأن يوجد فيها بينهم شخص يكون أكملهم وأفضلهم ، وهو يكون في
آخر مراتب الإنسانية ، وأول مراتب الملكية.
الثاني : إن الاستقراء يدل على ما ذكرناه. وذلك الجسم العنصري جنس تحته ثلاثة أنواع :
المعدن. والنبات. والحيوان. وصريح العقل يشهد بأن أشرف هؤلاء الثلاثة : الحيوان ،
وأوسطها النبات ، وأدونها المعادن. ثم نقول : صريح العقل يشهد بأن الحيوان جنس
تحته أنواع كثيرة [وأشرفها هو الإنسان. وأيضا : فالإنسان تحته أصناف ] مثل الزنج والهند والعرب والروم والإفرنج والترك. ولا شك
أن أفضل أصناف الإنسان وأقربهم إلى الكمال : سكان وسط المعمورة ، وهم سكان الموضع
المسمى بإيرانشهر. ثم إن هذا الصنف من الناس مختلفون أيضا في الكمال والنقصان ،
ولا شك أنه يحصل فيهم شخص واحد ، هو أفضلهم وأكملهم [فعلى هذا قد ثبت أنه لا بد
وأن يحصل في كل دور شخص واحد هو أفضلهم وأكملهم ] في القوة النظرية والعملية. ثم إن الصوفية يسمونه بقطب
العالم. ولقد صدقوا فيه ، أنه لما كان الجزء الأشرف من سكان هذا العالم الأسفل هو
الإنسان ، الذي حصلت له القوة النظرية التي بها يستفيد الأنوار القدسية من عالم
الملائكة ، وحصلت له القوة العلمية التي يقدرها بها على تدبير هذا العالم الجسماني
على الطريق الأصلح ، والسبيل الأكمل. ثم إن ذلك الإنسان الواحد هو أكمل الأشخاص
__________________
الموجودين في ذلك
الدور كان المقصود الأصلي من هذا العالم العنصري ، هو وجود ذلك الشخص. ولا شك أن
المقصود بالذات هو الكامل. وأما الناقص فإنه يكون مقصودا بالعرض [فثبت : أن ذلك
الشخص هو الكامل وثبت : أن ذلك الشخص ] هو القطب لهذا العالم العنصري ، وما سواه فكالتبع له.
وجماعة [من ] الشيعة الإمامية ، يسمونه بالإمام المعصوم. وقد يسمونه
بصاحب الزمان. ويقولون. بأنه غائب. ولقد صدقوا في الوصفين أيضا. لأنه لما كان
خاليا عن النقائص ، التي هي حاصلة في غيره ، كان معصوما من تلك النقائص. وهو أيضا
صاحب الزمان ، لأنا بينا : أن ذلك الشخص هو المقصود بالذات في ذلك الزمان ، وما
سواه فالكل أتباعه. وهو أيضا : غائب عن الخلق لأن الخلق لا يعلمون أن ذلك الشخص هو
أفضل أهل هذا الدور [وأكملهم وأقول ولعله لا يعرف ذلك الشخص أيضا : أنه أفضل أهل
الدور ] لأنه وإن كان يعرف حال نفسه إلا أنه لا يمكنه أن يعرف حال غيره ، فذلك الشخص
لا يعرفه غيره ، وهو أيضا لا يعرف نفسه. فهو كما جاء في الأخبار الإلهية أنه قال
تعالى : «أوليائي تحت قبابي ، لا يعرفهم غيري».
فثبت بهذا : أن كل
دور لا بد وأن يحصل فيه شخص موصوف بصفات الكمال. ثم إنه لا بد وأن يحصل في هذه
الأدوار المتلاحقة : دور يحصل فيه شخص واحد يكون هو أفضل من كل أولئك الذين كل
واحد منهم صاحب دوره ، وفريد عصره ، وذلك الدور المشتمل على مثل ذلك الشخص ، إنما
لا يوجد في ألف سنة ، أو أكثر ، أو أقل ، إلا مرة واحدة ، فيكون ذلك الشخص هو
الرسول الأعظم ، والنبي المكرم ، وواضع الشرائع ، والهادي إلى الحقائق. وتكون
نسبته إلى [سائر أصحاب الأدوار كنسبة الشمس إلى سائر الكواكب. ثم لا بد وأن يحصل
في أصحاب الأدوار إنسان ، هو أقربهم ] إلى
__________________
صاحب الدور ، في
صفات الفضيلة. فيكون ذلك الشخص بالنسبة إليه ، كالقمر بالنسبة إلى الشمس ، وهو
الإمام القائم مقامه ، المقرر شريعته. وأما الباقون فنسبة كل واحد منهم إلى صاحب
الدور الأعظم ، كنسبة كوكب من الكواكب السيارة إلى الشمس. وأما عوام الخلق فهم
بالنسبة إلى أصحاب الأدوار مثل حوادث هذا العالم بالنسبة إلى الشمس والقمر وسائر
الكواكب. ولا شك أن [عقول الناقصين تكمل بأنوار عقول أصحاب الأدوار ، وتقوي بقوتها.
فهذا كلام معقول
مرتب على الاستقراء الذي يفيد القطع واليقين.
المقدمة الخامسة : إن ذلك الإنسان الذي هو أكمل الكاملين ، وأفضل الفضلاء والعلماء ،
يكون في آخر الأفق الأعلى من الإنسانية. وقد علمت أن آخر كل نوع : متصل بأول النوع
الذي هو أشرف منه. والأشرف من النوع البشري هم الملائكة فيكون آخر البشرية متصلا
بأول الملكية. ولما بينا أن ذلك الإنسان موجود في أعلى مراتب البشرية ، وجب أن
يكون متصلا بعالم الملائكة ومختلطا بهم ، ولما كان من خواص عالم الملائكة :
البراءة عن العلائق الجسمانية ، والاستيلاء على عالم الاجسام ، والاستغناء في
أفعالها عن الآلات الجسمانية ، كان هذا الإنسان موصوفا بما يناسب هذه الصفات [فيكون
قليل الالتفات إلى الجسمانيات ، قوي التصرف فيها ، شديد الانجذاب إلى عالم
الروحانيات ] فتكون قوته النظرية مستكملة بأنواع الجلايا القدسية ،
والمعارف الإلهية ، وتكون قوته العملية مؤثرة في أجسام هذا العالم بأنواع
التصرفات. وذلك هو المراد من المعجزات. ثم بعد الفراغ من هذين المقامين تكون قوته
الروحانية ، مؤثرة في تكميل أرواح الناقصين في قوتي النظر والعمل. ولما عرفت أن
النفوس الناطقة مختلفة بالماهيات ، فقد تكون بعض النفوس قوية كاملة في القوة
النظرية ، وضعيفة في القوة العملية ، وقد تكون بالضد منه ، فتكون قوية في التصرف
في أجسام العالم العنصري ، ضعيفة في
__________________
المعارف النظرية
الإلهية. وقد تكون كاملة قاهرة فيهما [جميعا ، وذلك في غاية الندرة ، وقد تكون
ناقصة فيهما ] جميعا. وذلك هو الغالب في أكثر الخلق.
إذا عرفت هذه
المقدمات. فنقول : مرض النفوس الناطقة شيئان : الإعراض عن الحق ، والإقبال على
الخلق [وصحتها شيئان : الإقبال على الحق ، والإعراض عن الخلق ] فكل من دعا الخلق إلى الإقبال على الحق [والإعراض عن
الخلق ] فهو النبي الصادق. وقد ذكرنا : أن مراتب هذا النوع من الناس : مختلفة بالقوة
والضعف والنقصان ، وكل من كانت قدرته على إفادة هذه الصحة ، أكمل ، كان أعلى في
درجة النبوة ، وكل من كانت درجته في هذا الباب أضعف ، كان انقص في درجة النبوة [فهذا
ما أردنا شرحه وبيانه من حال النبوة. والله أعلم ].
__________________
الفصل الثاني
في
أن القرآن العظيم يدل
على أن هذا الطريق هو الطريق
الأكمل الأفضل في اثبات النبوة
[أعلم أنا سنذكر سورا
من القرآن ونفسرها ، ليظهر من ذلك التفسير : صحة هذا الطريق الذي ذكرناه. فمنها :
سورة (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) فنقول قد علمت أن الأصل هو الإلهيات ، والفرع هو النبوات.
فلا جرم جرت العادة في القرآن أنه يقع الابتداء بتقرير الإلهيات ، ثم يقع الشروع في تقرير النبوات بعدها. ففي هذه السورة بدأ
بالإلهيات ، فقال : (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) ومعناه : أنه أعلى من مناسبة جميع الممكنات. ومشابهة كل
المحدثات لأنها مركبة من المادة والصورة باعتبار ، ومن الجنس والفصل
باعتبار ثاني ، ومن قبول التغير والفناء ، إما في الذات ، وإما في الصفات [وهو
سبحانه أعلى من كل هذه الأشياء في كل هذه الصفات ] وفيه لطيفة أخرى لا يمكن ذكرها.
واعلم أن أكثر
الدلائل المذكورة في القرآن على إثبات الإله تعالى ، محصورة في قاعدة واحدة ، وهي
حدوث الصفات ، وهي إما في الحيوانات ، وإما في النبات. والحيوان كذلك له بدن ونفس.
فقوله : (خَلَقَ فَسَوَّى) إشارة إلى ما في أبدانها من العجائب. وقوله : (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) إشارة
__________________
إلى ما في نفوسها
من الغرائب. فنبه بهذين الضابطين على ما لا نهاية له من العجائب والغرائب ، ثم
أتبعه بذكر الدلائل المأخوذة من النبات ، وهو قوله : (وَالَّذِي أَخْرَجَ
الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى).
ولما قرر أمر
الإلهيات ، أتبعه بتقرير أمر النبوات. وقد علمت أن كمال حال الأنبياء عليهمالسلام. في حصول أمور أربعة : أولها : كمال القوة النظرية وثانيها : كمال القوة العملية. وثالثها : قدرته على تكميل
القوة النظرية لغيره. [ورابعها : قدرته على تكميل القوة العملية التي لغيره ] ولا شك أن كمال حاله في القوتين [مقدم على قدرته على
تكميل غيره في هاتين القوتين ] ولا شك أن القوة النظرية أشرف من القوة العملية. فهذا
البيان يقتضي أن يقع الابتداء أولا بشرح قوته النظرية. وثانيا بشرح قوته العملية. وثالثا
: بكيفية حاله في القدرة على تكميل القوة النظرية التي للناقصين ورابعها : كيفية
حالة في القدرة على تكميل القوة العملية التي للناقصين ] فإذا ظهر كماله في هذه المقامات الأربعة ، فحينئذ يظهر
أنه بلغ في صفة النبوة والرسالة إلى الغاية القصوى.
إذا عرفت هذا
فنقول : إنه تعالى لما ذكر أصول الإلهيات ، وأراد الشروع في صفات النبوة ، بدأ
أولا بكمال حاله في القوة النظرية ، فقال : (سَنُقْرِئُكَ فَلا
تَنْسى) يعني : أن نفسك نفس قدسية آمنة من الغلط والنسيان (إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أن يحصل بمقتضى الجبلة الإنسانية ، والطينة البشرية. ثم
أتبعه ببيان كمال حاله في القوة العملية فقال : (وَنُيَسِّرُكَ
لِلْيُسْرى) ومعناه : أنا نقوي دواعيك في الأعمال التي تفيد اليسر
والسعادة في الدنيا والآخرة. ثم لما بين كمال حاله في هذين المقامين ، أتبعه بأن
أمره بأن يشتغل بتكميل الناقصين ، وإرشاد المحتاجين ، فقال : (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) فقوله : (فَذَكِّرْ) أمر له بإرشاد الناقصين ، وقوله : (إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) [تنبيه على
__________________
أنه ليس كل من سمع
ذلك التذكير : انتفع به ] فإن النفوس الناطقة : مختلفة ، فبعضها ينتفع بذلك التذكير
، وبعضها لا ينتفع به ، وبعضها يضره سماع ذلك التذكير ، لأن سماعه يثير في قلبه
دواعي الحسد والغيظ والغضب والإصرار على الجهل. ثم لما نبه تعالى على أن المستمع
لذلك التذكير قد ينتفع به ، وقد لا ينتفع به ، أتبعه ببيان خاصية كل واحد من هذين
القسمين ، فبين أن صفة من ينتفع بهذا التذكير ، هو أن يكون الخوف غالبا على قلبه ،
والخشية مستولية على روحه. ولأجل ذلك الخوف : يطلب زاد المعاد ، فلا جرم أنه ينتفع
بإرشاد هذا المحق. وأما الذي لا ينتفع بهذا التذكير ويتباعد عنه ، ويجتنب من القرب
منه ، فهو النفس الموصوفة بكونها أشقى النفوس ، فإنها تبقى في عناء هذا العالم ،
وبعد الموت تقع في نيران الحسرة والوحشة. ولما بين هذا ، أزاله في صفته ، فقال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها ، وَلا يَحْيى) وإنما قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها) لما ثبت أن النفس لا تموت بموت البدن ، وإنما قال : (وَلا يَحْيى) لأنها وإن بقيت حية ، لكنها بقيت في العذاب. والموت خير من
هذه الحياة ، فلهذا قال : (ثُمَّ لا يَمُوتُ
فِيها وَلا يَحْيى) ولما بين من لا ينتفع بذلك التذكير ، بين كمال حال من
ينتفع به ، فقال : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) وذلك لأن المقصود من تعليم الأنبياء ، وتذكيرهم وإرشادهم :
أمران : أحدهما : إزالة الأخلاق الذميمة الجسمانية عن النفس. والثاني :
تحصيل الصفات الحميدة الروحانية في النفس ، ولما كانت إزالة ما لا ينبغي مقدمة على تحصيل ما ينبغي ، لا جرم
ابتدأ بقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ
تَزَكَّى) والمراد منه : تزكية النفس وتطهيرها عن الصفات المذمومة ،
ولما ذكر ذلك ، أتبعه بتحصيل ما ينبغي ، وذلك إما في القوة النظرية ، أو في القوة
العملية. ورئيس المعارف النظرية : ذكر الله تعالى ومعرفته ، ورئيس الأعمال الفاضلة
: خدمة الله تعالى. فلهذا قال : (وَذَكَرَ اسْمَ
رَبِّهِ) وهو إشارة إلى استسعاد الإنسان في تكميل [قوته
__________________
النظرية بإرشاد
الأنبياء. وقوله : (فَصَلَّى) إشارة إلى استسعاده في تكميل ] قوته العملية بإرشادهم وهدايتهم. ثم عاد إلى بيان أحوال
المعرضين عن الانتفاع بإرشاد الأنبياء عليهمالسلام. وهدايتهم. وبين أن ذلك الإعراض إنما تولد عن حب الدنيا
وقوة الرغبة فيها [فقال: (بَلْ تُؤْثِرُونَ
الْحَياةَ الدُّنْيا) ثم بين أن الرغبة في الروحانيات التي تحصل في عالم الآخرة
راجحة على لذات هذه الدنيا من وجهين :
أحدهما : أنها خير من اللذات الجسمانية. وقد سبق تقريره في كتاب «النفس ».
والثانية : أنها أبقى من هذه الجسمانيات. وذلك معلوم بالضرورة.
واعلم : أنه ظهر
بهذه الآيات أمور أربعة : فأولها : أحوال الإلهيات. وثانيها : صفات النبي والرسول. وثالثها : انقسام المستمعين إلى من ينتفع بإرشاد
الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ وإلى من لا ينتفع به ، وبيان أحوال كل واحد من هذين
القسمين. ورابعها : التنبيه على أن خيرات الآخرة أفضل وأبقى من خيرات هذه الحياة
الدنيا. والأفضل الأبقى ، أولى بالتحصيل. وعند هذا قد تم كل ما يحتاج الإنسان إليه
في معرفة المبدأ ، ومعرفة صفات الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ ومعرفة أحوال النفس ، ومعرفة الآخرة.
ثم ختم السورة
بقوله : (إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) والمعنى : أن كل من جاء من الأنبياء وأنزل الله عليه كتابا
وصحيفة ، فلا مقصود منه إلا هذه المراتب الأربعة المذكورة ، ومن وقف على أسرار هذه
السورة على الوجه الذي لخصناه ، علم أن حقيقة القول في النبوة : ليس إلا ما
ذكرناه.
__________________
ومن جملة السور
اللائقة بهذا المعنى سورة العصر. فبدأ بقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) وذلك لأنا بينا أنه حصل في بدنه تسعة عشر نوعا من أنواع
القوى ، وكلها تجره إلى الدنيا وطيباتها ولذاتها. وهي الحواس الخمس الظاهرة ،
والخمس الباطنة ، والشهوة والغضب ، والسبعة النباتية. فمجموعها تسعة عشر ، وهي
الزبانية الواقفة على باب جهنم : الجسد.
وأما العقل ، فإنه
مصباح ضعيف. إنما حصل بعد استيلاء تلك التسعة عشر على مملكة البدن ، وإذا كان كذلك
، فالظاهر أن حب الدنيا يستولي على النفوس والأرواح. فإذا مات البدن ، بقيت النفس
في الخسران والحرمان. فلهذا قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) ثم إنه استثنى من هذا الخسران ، إنسانا يتناول ترياق
الأربعة ، وهو ترياق روحاني من أخلاط أربعة روحانية. أولها : كمال القوة النظرية ،
وهو قوله : (إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا) وثانيها : كمال القوة العملية [وهو قوله : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وثالثها : السعي في تكميل القوة النظرية للغير ، وهو قوله
: (وَتَواصَوْا
بِالْحَقِ) ورابعها : السعي في تكميل القوة العملية ] للغير ، وهو قوله : (وَتَواصَوْا
بِالصَّبْرِ) وإنما عين الصبر ، لأن البلاء الأكبر في دعاء الشهوة إلى
الفساد ، والغضب إلى الإيذاء ، وسفك الدماء ، كما أخبر عن الملائكة أنهم قالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ)؟ فإذا قدر الإنسان على الصبر ، عن إجابة الشهوة والغضب ،
فقد فاز بكل الخيرات في القوة العملية.
ومن جملة الآيات
الدالة على صحة ما ذكرناه : أنه تعالى حكى عن الكفار أنهم طلبوا منه المعجزات
القاهرة في قوله : (وَقالُوا : لَنْ
نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً) ثم إنه تعالى قاله له : (قُلْ : سُبْحانَ
رَبِّي. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً)؟ يعني : كون الشخص إنسانا موصوفا بالرسالة ، معناه : كونه
كاملا في قوته النظرية والعملية ، وقادرا على معالجة الناقصين في
__________________
هاتين القوتين. وليس
من شرط حصول هذه الصفة ، كونه قادرا على الأحوال التي طلبتموها مني.
ومن جملة الآيات
الدالة على صحة ما ذكرناه أيضا : أنه تعالى لما قال في سورة الشعراء : (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ
الْعالَمِينَ) أورد عليه سؤالا ، وهو أنه : لم لا يجوز أن يكون هذا من تنزيل
الشياطين؟ فقال جوابا عنه : (وَما تَنَزَّلَتْ
بِهِ الشَّياطِينُ) ثم بين الجواب ، فقال : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ
عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ؟ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) والمعنى : أنه إن كانت الدعوة إلى طلب الدنيا وطلب اللذات والشهوات ، كان ذلك الداعي أفاكا أثيما ،
والذين يعينونه عليه هم الشياطين. وأما أنا فأدعو إلى الله ، وإلى الإعراض عن
الدنيا ، والإقبال على الآخرة ، ولا يكون هذا [بإعانة الشياطين ] بل بإعانة الله تعالى. فاستدل بكون دعوته إلى الله تعالى
وإلى الحق ، على كونه نبيا صادقا ، لا ساحرا خبيثا. ولما أورد عليه سؤالا آخر ،
وهو : أن لكل واحد من الشعراء شيطانا يعينه على شعره ، فلم لا يجوز أن يكون حالك
كذلك؟ أجاب عنه بقوله : (وَالشُّعَراءُ
يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ
[أَلَمْ
تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ) والمعنى : أن الشاعر إنما يدعو إلى الطمع في الدنيا وإلى
الترغيب في اللذات البدنية ، وأما أنا فأدعو إلى الله تعالى وإلى الدار الآخرة ،
فامتنع أن يكون الناصر والمعين في هذه الطريقة : هو الشياطين.
فظهر الفرق وقد
ظهر بهذه الآيات : أن الطريق الذي ذكرناه في إثبات النبوة هو الطريق الأكمل الأفضل
[والله أعلم ].
__________________
الفصل الثالث
في
صفة هذه الدعوة الى الله تعالى
أعلم : أن حرفة
النبوة والرسالة عبارة عن دعوة الخلق من الاشتغال بالخلق ، إلى خدمة الحق. ومن
الإقبال على الدنيا ، إلى الإقبال على الآخرة. فهذا هو المقصود الأصلي.
إلا أن الناس لما
كانوا حاضرين في الدنيا ، ومحتاجين إلى مصالحها ، وجب أن يكون له خوض في هذا الباب
أيضا ، بقدر الحاجة.
فنقول : خوض
الرسول ـ عليهالسلام ـ إما أن يكون فيما يتعلق بالدين ، أو فيما يتعلق بالدنيا
، أما القسم الأول. وهو فيما يتعلق بالدين ، فيجب عليه البحث في أمور ثلاثة :
الماضي والحاضر والمستقبل. أما الماضي : فهو أن يرشدهم إلى أن هذا العالم محدث ،
وله إله ، كان موجودا في الأزل ، وسيبقى في الأبد ، وأنه منزه عن مماثلة الممكنات [وأنه
موصوف بالصفات المعتبرة في الإلهية والكمال ، وهي القدرة النافذة في جميع الممكنات
] والعلم الساري في جميع المعلومات [والوحدانية المطلقة بمعنى كونه منزها عن
الأجزاء والأبعاض ] والفردانية بمعنى كونه منزها عن الضد والند ، والصاحبة
والولد ، ثم يجب عليه
__________________
أن يبين لهم ] أن كل ما يدخل في الوجود ، فهو بقضاء الله تعالى وبقدره ،
وأنه منزه عن الظلم والعبث والباطل. كما قال بعضهم :
الحمد لله. ذي
الآلاء. والنعم
|
|
والطول والفضل
والإحسان والكرم
|
منزه الفعل عن
عيب ، وعن عبث
|
|
مقدس الملك عن
عزل ، وعن عدم
|
واعلم : أن هذا الذي ذكرناه يتفرع عليه
أنواع من البحث :
النوع الأول :
لا يليق بصاحب
الدعوة إيراد هذه المطالب ، كما يورده أهل الجدل والاستدلال. لأن ذلك الطريق يحمل
السامعين على الاعتراض عليه ، وعلى إيراد الأسئلة عليه. فإذا اشتغل بالجواب عنها ،
فربما أوردوا على تلك الأجوبة : أسئلة اخرى. ويحصل فتح باب المشاغبات والمجادلات.
ولا يحصل المقصود البتة. بل الواجب إيراد البيانات البرهانية مخلوطة بطريقة
الخطابة من الترغيب والترهيب ، فإن بسبب ما فيه من [قوة المقدمات البرهانية يبقى
مستعظما في العقول ، وبسبب ما فيه من ] طريقة الخطابة يكون تأثيره في القلوب أكمل ، ويكون بعد
السامعين عن سوء الأدب ـ الذي يحصل بسبب المشاغبات ـ أتم.
النوع الثاني :
أنه لا يجوز أن
يصرح بالتنزيه المحض ، لأن قلوب أكثر الخلق ، تنفر عن قبول مثل هذا الكلام. فإذا
وقع التصريح به ، صار ذلك سببا لنفرة أكثر الخلق عن متابعته. بل الواجب عليه أن
يبين أنه ـ سبحانه وتعالى ـ منزه عن مشابهة المحدثات ، ومناسبة الممكنات. كما قال
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ ،
__________________
وَهُوَ
السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) ثم بعد ذلك يقول : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ
الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) ـ (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) .
ويمنعهم عن البحث
في هذه المضائق [والخوض في هذه الدقائق ] إلا إذا كان من الأذكياء المحققين ، والعقلاء المفلقين
فإنه بعقله الوافر يقف على حقائق الأشياء. وأيضا
يبين لهم : كون
العبد صانعا فاعلا ، قادرا على الفعل والترك ، والخير والشر. ويبالغ فيه ، فإنه إن
ألقى إليهم الخير المحض تركوه ، ولم يلتفتوا إليه. ويبين لهم أيضا : أنه وإن كان
الأمر كذلك ، إلا أن الكل بقضاء الله ـ تعالى ـ وقدره ، فلا يعزب عن علمه وحكمه :
مثقال ذرة في السموات والأرض ، ثم يمنعهم بأقصى الوجوه عن الخوض في هذه الدقائق ،
فإن طباع أكثر الخلق بعيدة عن هذه الأشياء.
وبالجملة : فأحسن
الطرق في دعوة الخلق إلى عبودية الحق. هو الطريق الذي جاء به سيد الأنبياء محمد
عليه الصلاة والسلام. وذلك لأنه يبالغ في تعظيم الله تعالى في جميع الوجوه على
سبيل الإجمال ، ويمنعهم من الخوض في التفصيل. فيذكر في إثبات التنزيه قوله : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) وإذا كان غنيا على الإطلاق ، امتنع كونه مؤلفا من الأجزاء
، وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون متحيزا. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون حاصلا في
الأمكنة والأحياز. وذكر أيضا قوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) ولو كان جسما ، لكان ذاته مثلا لسائر الأجسام ، بناء على
قولنا : إن الأجسام بأسرها متماثلة. ثم إنه ذكر في جانب الإثبات : ألفاظ كثيرة ،
وبالغ فيها. وهذا هو الواجب. لأنه لو لم يذكر هذه الألفاظ ، لما قرر عند الأكثرين
كونه موجودا. وأيضا : بالغ في
__________________
تقرير كونه عالما
بجميع المعلومات ، فقال : (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ
الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ) وقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما
تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى ، وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ) ثم لم يقع في بيان أنه عالم لذاته ، أو بالعلم. وأيضا بين
كون العبد فاعلا وعاقلا وصانعا وخالقا ومحدثا ، في آيات كثيرة. ثم بين في سائر
الآيات : أن الخير والشر كله من الله تعالى ، ولم يبين أنه كيف يجمع بين هذين
القولين ، بل أوجب الإيمان بهما على سبيل الإجمال. وأيضا : بين أنه لا يعزب عن
مشيئة الله تعالى ، وإرادته وقضائه وتقديره [شيء البتة ] ثم بين أنه لا يريد الظلم والعبث والباطل ولا يفعله.
فالحاصل : أن طريقة نبينا في الدعوة هي تعظيم الله تعالى من جميع الجهات المعقولة
، والمنع من الخوض في بيان أن تلك الجهات هل تتناقض أم لا؟ فإنا إن قلنا : القبائح
من أفعال العباد ، وحصلت بتخليق الله تعالى ، فقد عظمناه بحسب القدرة ، لكن ما
عظمناه في الحكمة. وإن قلنا : إنها ليست من الله تعالى ، فقد عظمناه بحسب الحكمة ،
ولكن ما عظمناه بحسب القدرة.
[وأما القرآن فإنه
يدل على تعظيم الله تعالى بحسب القدرة ] وبحسب الحكمة معا ، فقال [في الأول ] : (قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ) وقال في الثاني : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ ، وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ثم منع الناس من أن يخوضوا في تقرير هذا التعارض وفي
إزالته. بل الواجب على العوام : الإيمان المطلق بتعظيم الله تعالى في القدرة وفي
الحكمة. وفي الحقيقة ، فالذي قاله هو الصواب. فإن الدعوة العامة لا تنتظم إلا بهذا
الطريق.
__________________
وأما القسم الثاني من المباحث المتعلقة
بالأديان : ما يتعلق باليوم الحاضر.
وذلك هو أن يكون العبد مشتغل الزمان بخدمة المعبود. وتلك الخدمة ، إما أن تعتبر في
القلب ، وهو بالمعارف والعلوم. وإما بالبدن ، وهو الإتيان بالطاعات البدنية. وإما
بالمال ، وهو الزكوات والصدقات. ولما كان جمهور الخلق محتاجين إلى مرشدين يرشدونهم
إلى هذه المعارف ، وهم الأنبياء ، لا جرم وجب على الأنبياء أن يوجبوا عليهم
الإيمان بالأنبياء والرسل.
والقسم الثالث من المباحث المتعلقة
بالأديان : ما يتعلق باليوم المستقبل
، وهو معرفة الآخرة ، وأحوال ما بعد الموت.
فهذه الأقسام
الثلاثة : أهم للأنبياء والرسل في أن يشتغلوا بتعريف أحوالها. وتفصيل آثارها.
واعلم : أن
المهمات على قسمين : أحدهما : إزالة ما لا ينبغي.
والثاني : تحصيل ما ينبغي. والأول
متقدم على الثاني. لأن اللوح إذا حصل فيه نقوش فاسدة ، فالواجب إزالتها أولا ، حتى
يمكن تحصيل النقوش الصحيحة فيه ثانيا. فثبت : أن إزالة ما لا ينبغي متقدمة على
تحصيل ما ينبغي.
فلهذا السبب أول
ما ذكره الله تعالى في القرآن هذه المراتب. وهي سبعة :
المرتبة الأولى : إزالة ما لا ينبغي ،
وهو المراد بالتقي.
فلهذا بدأ الله بذكره ، فقال : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) وأما سائر المراتب بعد ذلك فهي إشارة إلى تحصيل ما ينبغي.
وأشرف ما يتعلق بالإنسان هو النفس ، وأوسط المراتب : البدن ، وأدونها المال ،
ولهذا ذكر بعد قوله (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) : قوله تعالى : (يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ) فإن محل الإيمان هو القلب ، وبعده قوله : (وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) لأنها تتعلق بالبدن ، وآخره قوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) لأنه يتعلق بالمال ، ولما ذكر هذه الأحوال الأربعة
المتعلقة بالإلهيات ، أرفدها بذكر مرتبتين متعلقتين بالنبوات ، فقال : (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ
__________________
إِلَيْكَ) وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بالرسول الحاضر ، ثم قال بعده
: (وَما أُنْزِلَ مِنْ
قَبْلِكَ) وهو إشارة إلى وجوب الإيمان بسائر الأنبياء المتقدمين ،
وعند هذا تم ما يحتاج إليه في باب النبوات. ثم قال : في المرتبة السابعة : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) وهو الإشارة إلى الإيمان بالبعث والقيامة. ثم لما ذكر هذه
المراتب السبعة ، وهي الأحوال المتعلقة بالأمس واليوم والغد ، فقد تمت المطالب ،
وكملت المصالح. فلهذا قال بعده : (أُولئِكَ عَلى هُدىً
مِنْ رَبِّهِمْ ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).
وذلك لأن الإنسان
ما دام يكون في الدنيا ، فهو في الطريق. وأحسن أحوال المسافر إلى المقصد أن يكون
على هدى من معرفة الطريق ، وإذا مات فقد وصل المسافر إلى المقصد. وأحسن أحواله أن
يكون قد أفلح في ذلك السفر ، وفاز بالخيزات. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الطريق في
الدعوة : أحسن الطرق.
ولو اشتغلنا ببيان
ما في هذه الشريعة من أنواع الأسرار القدسية ، والأنوار العلوية ، لطال الكلام [فاكتفينا
بما سبق من الكلام. والله أعلم ].
__________________
الفصل الرابع
في
بيان أن محمدا عليه الصلاة
والسلام أفضل من جميع الأنبياء والرسل
أعلم أنا بينا : أن الرسول هو الذي يعالج الأرواح البشرية ،
وينقلها من الاشتغال بغير الله تعالى ، إلى الاشتغال بعبادة الله تعالى. ولما كان
المراد من الرسالة والنبوة : هو هذا المعنى ، فكل من كان صدور هذه الفوائد عنه
أكثر وأكمل ، وجب القطع بأن رسالته أعظم وأكمل. وإذا عرفت هذا ، فنقول : إن تأثير
دعوة موسى عليهالسلام كانت مقصورة على بني إسرائيل فقط وأما دعوة عيسى عليهالسلام فكأنه لم يظهر لها تأثير إلا في القليل القليل ، وذلك لأنا
نقطع بأنه عليهالسلام ما دعا إلى الدين الذي يقول به هؤلاء النصارى ، لأن القول
بالأب ، والابن [وروح القدس : قول بالتثليث ] والتثليث : أقبح أنواع الكفر ، وأفحش أقسام الجهل ، ومثل
هذا لا يليق بأجهل الناس ، فضلا
__________________
عن الرسول المعظم.
فعلمنا : أنه ما كانت دعوته البتة ، إلى هذا الدين الخبيث ، وإنما كانت دعوته إلى
التوحيد والتنزيه .
ثم إن تلك الدعوة
ما ظهرت البتة ، بل بقيت مطوية غير مروية. فثبت أنه لم يظهر لدعوته إلى الحق أثر
البتة.
وأما دعوة محمد عليهالسلام إلى التوحيد والتنزيه ، فقد وصلت إلى أكثر بلاد المعمورة ،
والناس قبل مجيئه كانوا على الأديان الباطلة. فعبدة الأصنام كانوا مشتغلين بعبادة
الحجر والخشب. واليهود كانوا في دين [التشبيه ، وصنعة التزوير ، وترويج الأكاذيب.
والمجوس كانوا في عبادة الإلهين ] ونكاح الأمهات والبنات. والنصارى كانوا في تثليث الأب ،
والابن وروح القدس. والصابئة كانوا في عبادة الكواكب. فكأن أهل العالم معرضين عن
الدين الحق ، والمذهب الصدق ، فلما أرسله الله تعالى إلى هذا العالم ، بطلت
الأديان الباطلة ، وزالت المقالات الفاسدة ، وطلعت شموس التوحيد ، وأقمار التنزيه
من قلب كل أحد ، وانتشرت تلك الأنوار في بلاد العالم. فثبت : أن تأثير دعوة محمد عليهالسلام في علاج القلوب المريضة والنفوس الظلمانية ، كان أتم وأكمل
من تأثير دعوة سائر الأنبياء. فوجب القطع بأنه أفضل من جميع الأنبياء والرسل ، في
كل ما يتعلق بالنبوة والرسالة. وهذا برهان ظاهر من باب برهان الله. فإنا بحثنا عن
حقيقة النبوة والرسالة. ثم بينا : أن كمال تلك الماهية ، ما حصلت لأحد من الأنبياء
، كما حصل لمحمد عليه الصلاة والسلام.
__________________
الفصل الخامس
في
بيان أن اثبات النبوة بهذا الطريق
أقوى وأكمل من اثباتها بالمعجزات
اعلم : أن التمسك بطريق المعجزات من باب برهان الإنّ. وهو
الاستدلال بالأثر على المؤثر على سبيل الاحتمال فإنا نعرف بظهور المعجز عليه ـ عليهالسلام ـ كونه مشرفا عند الله على سبيل الإجمال. من غير أن نعرف
كيفية ذلك الشرف. وأما هذا الطريق الثاني فهو من باب برهان العلم. وذلك لأنا بينا
: أن الأمراض الروحانية غالبة على أكثر النفوس [فلا بدلهم من طبيب. ونشاهد : أن
هذا الرجل معالج ويؤثر علاجه ويفيد الصحة بقدر] الإمكان. فهذا يدل على كونه طبيبا حاذقا في هذا الباب.
وحينئذ يظهر : أن هذا الإنسان لا حاجة به في معرفته ، إلى أن يكون عالما بدقائق [المنطق
والطب والهندسة والحساب. بل كونه عالما بها. مستغلا باستنباط دقائقها ] مما يضره في كونه مستغرقا في معرفة الله تعالى. وعند هذا
تزول جملة الشبهات المذكورة في باب نفي النبوات. فإنه دلت المشاهدة على أن محمدا ـ
عليهالسلام كان طبيبا حاذقا في علاج هذه الأمراض كما بيناه ، بل كان
روحه قدرت على قلب طبائع أهل الدنيا ، فنقلهم من الباطل إلى الحق ، ومن الكذب إلى
الصدق ، ومن
__________________
الأديان الفاسدة
إلى العقائد الصحيحة بقدر الإمكان.
وأما قولهم : «إن
النسخ كلام لا فائدة منه» فنقول : قد ذكرنا أن الشرائع على قسمين :
عقلية لا تقبل
النسخ. وحاصلها يرجع إلى ما ذكرناه في قوله عليهالسلام «التعظيم لأمر
الله ، والشفقة على خلق الله» ولما كان طريان النسخ عليهما محالا. لا جرم قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى
كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ : أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ ، وَلا
نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) .
وأما القسم الثاني وهو الشرائع الوضعية. وهي الأحوال القابلة للنسخ ـ فالفائدة في النسخ :
أن الإنسان إذا واظب على أمر من الأمور مدة مديدة ، صار ذلك كالمألوف المعتاد ،
فيأتي بتلك الأعمال للإلف والعادة ، لا للإخلاص والعبادة. فيحسن إبدالها بغيرها ،
إزالة لهذه الحالة التي ذكرناها .
وقوله : «شرع
النهب والقتل لتقرير هذا المقصود» فيقال له : إن طبه وعلاجه في الأصول المهمة :
إنما يؤثر فيهم ، لو كان مقبول القول فوجب عليه تقرير هذا الطريق في الجزئيات
الصغيرة ، ليبقى النفع في الكليات القوية.
وأما قولهم : «الألفاظ
الموجبة للتشبيه وردت في القرآن» فنقول : قد بينا أن مخاطبة الجمهور بالتنزيه
المحض : معتذر ، فوجب المصير إلى طريقة متوسطة
__________________
بين التصريح
بالتشبيه ، وبين التصريح بالتنزيه المحض ، ليكون قوله مقبولا عند الجمهور .
__________________
الفصل السادس
في
تقرير طريقة الفلاسفة في كيفية
ظهور المعجزات على الأنبياء عليهمالسلام
اعلم : أنا بينا : أن الإنسان له قوتان : قوة نظرية ترتسم فيها
صور المعقولات من عالم المفارقات. وقوة عملية ، يقدر بها على التصرف في عالم
الجسمانيات.
فالمعجزة الصادرة
عن القوة العاقلة الشاعرة : كونه آتيا بالإخبار عن المغيبات. والمعجزة الصادرة عن
القوة العملية : كونه آتيا بالأفعال الغريبة الخارقة للعادة.
أما النوع الأول : فطريق الفلاسفة في تقريره : [أن قالوا : قد عرفنا بأن الحس
المشترك على وجهين :
أحدهما : أن الحواس الظاهرة ] إذا أخذت صور المحسوسات الموجودة في الخارج. وأدتها إلى
الحس المشترك ، فحينئذ تنطبع تلك الصور في الحس المشترك ، وتصير مشاهدة له.
والثاني : إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور بعضها بالبعض. إذا ركبت صورة ،
فإن تلك الصورة قد تنطبع في الحس المشترك ،
__________________
ومتى حصل الانطباع
، وجب أن تصير مشاهدة ، وذلك لأن في القسم الأول ، إنما صارت تلك الصورة مشاهدة ،
لأجل أن تلك الصورة انطبعت في الحس المشترك لا لأجل أنها وردت عليها من الخارج ،
وإذا كان كذلك ، وجب أيضا في الصور المنحدرة عليه من جانب المتخيلة أن تصير
مشاهدة. ومثال الحس المشترك : المرآة. فإن كل صورة تنطبع فيها من أي جانب كان :
صارت مشاهدة ، فكذلك الصور المنطبعة في الحس المشترك ، إذا انطبعت فيه من أي جانب
كان ، وجب أن تصير محسوسة.
إذا عرفت هذا ،
فنقول : الصور التي يشاهدها الأبرار ، والكهنة ، والنائمون ، والممرورون ، ليست
موجودة في الخارج ، فإنها لو كانت موجودة في الخارج ، لوجب أن يراها كل من كان
سليم الحس ، بناء على أنه متى كانت الحاسة سليمة وكان الشيء الحاضر بحيث تصح رؤيته
، ولم يحصل القرب القريب ، والبعد البعيد ، واللطافة ، والصغر ، وحصلت المقابلة.
فعند حصول هذه الشرائط يكون الإدراك والإبصار واجبا. إذ لو جاز أن لا يحصل الإدراك
عند حصول هذه الشرائط ، لجاز أن يصير عندنا جبال عظيمة ، وأصوات هائلة ، ولا نراها
ولا نسمعها. ومعلوم أن تجويزه يوجب الجهالات العظيمة. فثبت بهذا : أن تلك الصور
غير موجودة في الخارج ، فيجب الجزم بأن ورودها على الحس المشترك ، إنما كان من
الداخل ، وهو أن القوة المتخيلة ركبت تلك الصور ، فانحدرت إلى الحس المشترك ،
فصارت مرئية ، وقد كان الواجب أن تحصل هذه الحالة أبدا ، إلا أن العائق عنه أمران
:
الأول : إن الحس المشترك إذا حصلت فيه الصور المأخوذة من الخارج ، ثم يتسع للصور التي
تركبها المتخيلة ، فحينئذ تصير الصور ، التي تركبها المتخيلة ، بحيث لا يمكن
انطباعها في الحس المشترك.
والثاني : إن القوة العاقلة تكون مسلطة على القوة المتخيلة ، فتمنعها عن تركيب تلك الصور.
إذا عرفت هذا ،
فنقول : إنه إذا انتفى الشاغلان معا ، أو أحدهما ، فإنه يحصل ذلك التلويح ، وذلك
التشبيح. أما في وقت النوم فقد زال أحد الشاغلين ، وهو الحس الظاهر ، فلا ينتقل من
الحواس الظاهرة إلى الحس المشترك شيء من الصور ، فيبقى لوح الحس المشترك خاليا عن
النقوش الخارجية ، فيستعد لقبول الصور التي تركبها المتخيلة [فتنحدر تلك الصور من
المتخيلة ] إلى لوح الحس المشترك. فتصير محسوسة. وأما في وقت المرض ،
فإن النفس تصير مشغولة بتدبير البدن ، فلا تتفرغ لمنع القوة المتخيلة من تركيب تلك
الصور ، فحينئذ تقوى المتخيلة على عملها. وإذا قويت على هذا العمل ، عصت الحس
المشترك عن قبول الصور [الخارجية ، فوردت عليه هذه الصور ] فتصير مشاهدة محسوسة [والصور الهائلة التي تصير مشاهدة ] في حالة الخوف. هي من هذا الباب. فإن الخوف المستولي على
النفس يصدها عن تأديب المتخيلة فلا جرم تقدر المتخيلة على رسم صورها في الحس المشترك كصورة الغول وغيرها. وكذلك قد تستولي على
النفس الضعيفة العقل : قوى أخرى كشهوة شيء فتشتد تلك الشهوة ، حتى تغلب العقل.
فالمتخيلة تركب صورة ذلك المشتهى ، فتنطبع تلك الصورة في لوح الحس المشترك ، فتصير
محسوسة. إذا عرفت هذا ، فنقول : إنه يتفرع عليه المباحث الكثيرة :
الفرع الأول : في سبب المنامات الصادقة والكاذبة :
اعلم أن الصور
التي تركبها المتخيلة قد تكون كاذبة ، وقد تكون صادقة. أما الكاذبة فوقوعها على
ثلاثة أوجه :
الأول : إن الإنسان إذا أحس بشيء ، وبقيت صورة ذلك المحسوس في
__________________
خزانة الخيال ،
فعند النوم ، ترتسم تلك الصورة في الحس المشترك ، فتصير مشاهدة محسوسة.
والثاني : إن القوة الفكرية إذا ألفت صورة ، ارتسمت تلك الصورة في الخيال ، ثم
في وقت النوم تنتقل تلك الصورة إلى الحس المشترك ، فتصير محسوسة ، كما أن الإنسان
إذا تفكر في الانتقال من بلد إلى بلد ، أو حصل في خاطره رجاء شيء ، أو خوف من شيء
، فإنه يرى تلك الأحوال في النوم.
والثالث : إن مزاج الروح الحامل للقوة المفكرة إذا تغير ، فإنه تتغير أفعال القوة المفكرة.
ولهذا السبب ، فإن الذي يميل مزاجه إلى الحرارة يرى في النوم : النيران والحريق
والدخان ، ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى [الثلوج ومن مال مزاجه إلى الرطوبة يرى ] الأمطار. ومن مال مزاجه إلى اليبوسة يرى التراب والألوان
المظلمة. فهذه الأنواع الثلاثة ، لا عبرة بها البتة ، بل هي من قبيل أضغاث
الأحلام. وأما الرؤيا الصادقة. فالكلام في ذكر سببها ، يتفرع على مقدمتين :
إحداهما : إن جميع الأمور الكائنة في هذا العالم الأسفل مما كان ، ومما سيكون ، ومما هو كائن
موجود في علم الباري تعالى. وعلم الملائكة العقلية ، والنفوس السماوية.
[والثانية : إن ]
النفس الناطقة من شأنها أن تتصل بتلك المبادي ، وتنتقش فيها الصورة المنتقشة في
تلك المبادي. وعدم حصول هذا المعنى ليس لأجل البخل من تلك المبادي ، أو لأجل أن النفس الناطقة غير
__________________
قابلة لتلك الصور
، بل لأجل أن استغراق النفس في تدبير البدن ، صار مانعا لها من ذلك الاتصال العام.
إذا عرفت هذا
فنقول : النفس إذا حصل لها أدنى فراغ من تدبير البدن ، اتصلت بطباعها بتلك المبادي
، فتنطبع فيها بعض تلك الصور الحاضرة عند تلك المبادي ، وهي الصورة التي هي أليق
بتلك النفس. ومعلوم أن أليق الأحوال بها ، ما يتعلق بأحوال ذلك الإنسان وبأصحابه
وأهل بلده وإقليمه. وأما إن كان ذلك الإنسان منجذب الهمة إلى تحصيل علوم المعقولات
، لاحت له منها أشياء. ومن كانت همته مصالح الناس رآها ، ثم إذا انطبعت تلك الصور
في جوهر النفس الناطقة أخذت المتخيلة التي من طباعها محاكاة الأمور ، في حكاية تلك
الصور المنطبعة في النفس ، بصور جزئية تناسبها ، ثم إن تلك الصور تنطبع في الحس
المشترك فتصير مشاهدة. فهذا هو سبب الرؤيا في المنام. ثم إن تلك الصور التي ركبتها
القوة المتخيلة ، لأجل تلك المعاني قد تكون شديدة المناسبة لتلك المعاني ، فتكون
هذه الرؤيا غنية عن التعبير [وقد لا تكون كذلك ، إلا أنها أيضا مناسبة لتلك المعاني من بعض
الوجوه ، وهاهنا تحتاج هذه المنامات إلى التعبير. وفائدة التعبير : التحليل بالعكس
، يعني : أن يرجع المعبر عن هذه الصور الحاضرة في الخيال إلى تلك المعاني [وأما
القسم الثالث أن لا تكون هذه الصور مناسبة لتلك المعاني ] البتة. وذلك يكون لأحد وجهين :
أحدهما : أن يكون حدوث هذا الخيال الغريب ، إنما كان لوجه من الوجوه. الثلاثة
المذكورة في أسباب أضغاث الأحلام.
والثاني : أن يكون ذلك الأجل أن القوة المتخيلة ركبت لأجل [ذلك
__________________
المعنى : صورة ثم
ركبت لأجل ] تلك الصورة صورة ثانية ، وللثانية ثالثة. وأمعنت في هذه
الانتقالات ، فانتهت بالآخرة إلى صورة لا تناسب المعنى الذي أدركته النفس أولا
البتة. وحينئذ يصير هذا القسم أيضا من باب أضغاث الأحلام ، ولهذا السبب قيل : إنه
لا اعتماد على رؤية الكاذب والشاعر ، لأن القوة المتخيلة منهما قد تعودت
الانتقالات الكاذبة الباطلة [والله أعلم ].
الفرع الثاني : في كيفية الإضمار عن الغيب. اعلم أن النفس الناطقة إذا كانت كاملة القوة ،
وافية بالوصول إلى الجوانب العالية والسافلة ، وتكون في القوة بحيث لا يصير
اشتغالها بتدبير البدن عائقا لها عن الاتصال بالمبادئ المفارقة ، ثم اتفق أيضا أن
كانت [قوتها الفكرية ] قوية الفكر قادرة على انتزاع لوح الحس المشترك عن الحواس
الظاهرة ، فحينئذ لا يبعد أن يقع لمثل هذه النفس في حال اليقظة مثل ما يقع
للنائمين من الاتصال بالمبادئ المفارقة. فحينئذ ترتسم من بعض تلك المفارقات صور
تدل على وقائع هذا العالم في جوهر النفس الناطقة. ثم إن القوة المتخيلة لأجل قوتها
تركب صورة مناسبة لها ، ثم تنحدر تلك الصورة إلى لوح الحس المشترك فتصير مشاهدة ،
وعند هذه الحالة فقد يسمع ذلك الإنسان كلاما منظوما من هاتف ، وقد يشاهد منظرا في
أكمل أبهة وأجل صورة وتخاطبه تلك الصورة بما يهمه من أحواله ، وأحوال من يتصل به ،
ثم إن كانت هذه الصورة المحسوسة منطبقة على تلك المعاني التي أدركتها النفس
الناطقة ، كان ذلك وحيا صريحا ، وإن كانت الصورة الخيالية مخالفة لذلك المعنى
العقلي من بعض الوجوه ، كان ذلك وحيا محتاجا إلى التأويل.
والصارف للقوة المتخيلة عن هذا التغيير
والتبديل أمران :
الأول : إن الصورة المنطبعة في النفس الناطقة الفائضة من جانب المبادي العالية ، إذا
فاضت على نعت الجلاء والوضوح [صارت تلك القوة مانعة
__________________
للخيال عن التصرف
فيها ، كما أن الصور المحسوسة المأخوذة من الخارج. إذا كانت في غاية الجلاء
والظهور ] فحينئذ تعجز القوة المتخيلة عن التصرف فيها.
والثاني : إن جوهر النفس الناطقة ، إذا كان في غاية القوة ، فحينئذ يقوى على منع
القوة المتخيلة من التصرف في تلك الصور بالتغيير والتبديل.
الفرع الثالث : إن النفوس التي ليس لها من القوة ما تقوى على الاتصال بعالم الغيب في
حال اليقظة [فربما استعانت في حال اليقظة] بما يدهش الحس ، ويحير الخيال ، كما
يستعين بعضهم بشد حثيث ، وبعضهم بتأمل شيء شفاف ، أو براق لامع ، يورث البصر
ارتعاشا. فإن كل ذلك مما يدهش الخيال ، فتبتعد النفس بسبب حيرتها وانقطاعها في تلك
اللحظة عن تدبير البدن ، لانتهاز فرصة إدراك الغيب. والشرط في هذا : أن يكون
الإنسان ضعيف العقل ، مصدقا لكل ما يحكى له عن مسيس الجن. مثل الصبيان والنسوان
والبله. فهؤلاء إذا ضعفت حواسهم ، وكانت أوهامهم شديدة الانجذاب إلى مطلوب
معين ، فحينئذ يقع لنفوسهم التفات في تلك اللحظة إلى عالم الغيب ، وتتلقى ذلك
المطلوب. فتارة يسمع خطابا ، ويظن أنه من جني وتارة يتراءى له صورة مشاهدة ، فيظن
أنها من أعوان الجن ، فيلقى إليه من الغيب ما ينطق به في أثناء ذلك الغشى ، فيأخذه
السامعون ويبنون عليه تدابيرهم في مهماتهم.
هذا منتهى ما قرره
الشيخ الرئيس في هذا الباب.
واعلم أن الأصل في جملة هذه التفاريع
أصلان :
الأصل الأول : أن يقال : هذه الصور التي يشاهدها الأنبياء والأولياء وغيرهم ليست
موجودة في الخارج ، لأنها لو كانت موجودة في الخارج ، لوجب أن يدركها كل من كان
سليم الحس ، إذ لو جوزنا أن لا يحصل الإدراك مع حصول هذه الشرائط ، لجاز أن يكون
بحضرتنا جبال ورعود ونحن لا نراها ولا
__________________
نسمعها ، ذلك يوجب
الجهالات.
[فيقال لهم : هذه
الجهالات ] التي ألزمتموها على هذا القول ، فهي على قولكم ألزم. وذلك
لأنا لو جوزنا أن يرى الإنسان صورا ، ويشاهدها ، ويتكلم معها ، ويسمع أصواتها ،
ويرى أشكالها. ثم إنها لا تكون موجودة في الخارج ، جاز أيضا في كل هذه الأشياء التي
نراها ونسمعها من صور الناس والجبال والبحار وأصوات الرعود ، أن لا يكون لشيء منها
وجود في الخارج بل يكون محض الخيال ومحض الصور المرتسمة في الحس المشترك. ومعلوم
أن القول به محض السفسطة.
بل نقول : هذا في
البعد عن الحق ، والخوض في الجهالة أشد من الأول. لأن على القول الذي نقول نحن به
، جازمون بأن كل ما رأيناه فهو موجود حق ، إلا أنه يلزمنا تجويز أن يكون قد حضر
عندنا أشياء ، ونحن ما رأيناها ، وتجويز هذا لا يوجب الشك في وجود كل ما رأيناه
وسمعناه ، أما على القول الذي يقولونه فإنه يلزم وقوع الشك في وجود كل صورة رأيناها
، وكل صوت سمعناه ، وذلك هو الجهالة التامة ، والسفسطة الكاملة. فثبت أن القول
الذي اخترتموه في غاية الفساد. فإن قالوا : إن حصول هذه الحالة مشروطة بحصول
أحوال.
منها : أن يكون
الإنسان نائما. ومنها : أن يكون ضعيف العقل ، كما في حق المجانين.
ومنها : أن يكون
كامل النفس ، قوي العقل. كما في حق الأنبياء والأولياء ، فإذا لم [يحصل شيء من هذه
الأحوال. وكان الإنسان باقيا على مقتضى المزاج المعتدل ، لم يحصل شيء من هذه
الأحوال ، فحينئذ ] يحصل القطع بوجود هذه الأشياء في الخارج.
فنقول في الجواب :
إن بالطريق الذي ذكرتم ، ظهر أنه لا يحس الإنسان
__________________
بوجود صور ، مع
أنها لا تكون موجودة أصلا. وإذا ظهر جواز هذا المعنى فنحن إنما يمكننا انتفاء هذه
الحالة ، إذا دللنا على أن الأسباب الموجبة لحصول هذه الحالة : محصورة في كذا
وكذا. ونقيم على هذا الحصر برهانا يقينيا. ثم نبين في هذا المقام الثاني أنها
بأسرها منقضية زائلة بالبرهان اليقيني. ثم نبين في هذا المقام الثالث أن الحكم حال
بقائه لا يستغني عن السبب. فإن بتقدير [أن يكون الأمر كذلك لم يلزم من زوال تلك
الأسباب زوال هذه الحالة. ثم على تقدير إقامة البراهين الجازمة على صحة هذه المقدمات ، يصير جزمنا
بحصول هذه الأشياء المحسوسات في الخارج موقوفا على إثبات هذه المقدمات النظرية
الغامضة ، والموقوف على النظري الغامض ، أولى أن يكون نظريا غامضا. وحينئذ تبطل
هذه العلوم المستفادة من الحس بطلانا كليا. فثبت : أن القول الذي ذكروه : قول باطل
يوجب التزام السفسطة.
[واعلم : أن الذي
حمل هؤلاء الفلاسفة ] على ذكر هذه العلل والأسباب : إطباقهم على إنكار الملائكة
، وعلى إنكار الجن [وقد بينا في كتاب «الأرواح» : أنه ليس لهم فيه شبهة ، ولا خيال
يدل على نفي هذه الأشياء. وإذا كان أصل هذه الأقوال نفي الملائكة والجن وقد عرفت أنه ليس لهم فيه دليل. وفيه ما يوجب القول
بالسفسطة ، كان هذا القول في غاية الفساد والبطلان.
فهذا تمام الكلام
في هذا الأصل.
وأما الأصل الثاني : فهو أن هذه الكلمات مفرعة على إثبات الحواس الباطنة. ونحن قد بينا بالبرهان
القاطع القاهر : أن المدرج لجميع المدركات بجميع الإدراكات [هو النفس الناطقة. وأن
القول بتوزيع هذه الإدراكات ] على قوى متفرقة ، قول باطل وكلام فاسد. فثبت بهذه
البيانات : أن كلامهم
__________________
في غاية الضعف
والفساد.
والحق : أن هذا الباب يحتمل وجوها كثيرة
:
فأحدها : إنا قد بينا : أن النفوس الناطقة أنواع كثيرة ، وطوائف مختلفة ، ولكل
طائفة منها روح فلكي ، هو العلة لوجودها [وهو المتكفل بإصلاح أحوالها وذلك الروح
الفلكي كالأصل والمعدن ] والينبوع بالنسبة إليها ، وسميناه بالطباع التام ، فلا
يمتنع أن يكون الذي يريها في المنامات تارة ، وفي اليقظة أخرى ، وعلى سبيل
الإلهامات ثالثا ، هو ذلك الطباع التام. ولا يمتنع كون ذلك الطباع التام قادرا على
أن يتشكل بأشكال مختلفة ، بحسب جسم مخصوص ، هو آلته في جميع أعماله.
وثانيها : أن نثبت طوائف الملائكة ، وطوائف الجن ، ونحكم بكونها قادرة على أن تأتي
بأعمال مخصوصة. عندها يظهرون للبشر ، وعلى أعمال أخرى. عندها يحتجبون عن البشر.
والقول بهذا أولى
من القول بالتزام السفسطة. فهذا ما نقوله في هذا الباب.
__________________
الفصل السابع
في
حكاية قول الفلاسفة في السبب الذي
لأجله يقدر الأنبياء والأولياء على الاتيان
بالمعجزات والكرامات
حاصل كلامهم فيه :
أنا بينا في كتاب «النفس» : أن القوة الوهمية التي للإنسان ، قد تكون قادرة على
التأثير في الأجسام. وذكرنا الوجوه الكثيرة في تقرير هذا الباب. وعند هذا قالوا :
لا يمتنع وجود إنسان تكون نفسه كاملة في هذه القوة ، فلا جرم يقدر على التصرف في
هيولى هذا العالم كيف شاء وأراد. ومما يقوي ذلك ؛ أن النفوس الضعيفة إذا اجتمعت
فقد يحصل لها نوع من القوة المؤثرة. مثل : الجمع العظيم إذا اجتمعوا على توجيه
الفكر إلى شيء معين ، ومثل ما يشاهد في صلاة الاستسقاء وغيرها. وإذا كان هذا
محسوسا لم يمتنع كون النفس القوية قادرة على الإتيان بهذه الغرائب والبدائع. واعلم
أن حاصل هذا الكلام : أن تلك النفس موصوفة بخاصية ، لأجلها قدرت على الإتيان بهذه
المعجزات والكرامات. وكما أن هذا محتمل ، فكذلك سائر الوجوه محتملة. مثل هذه
الأحوال إلى الملائكة أو الجن ، أو الاتصالات الفلكية ، أو أفعال الكواكب ، التي
هي أحياء ناطقة أو العقول والنفوس. وإذا كان الكل محتملا ، كان جزمهم بإسناد هذه
المعجزات إلى القوة النفسانية فقط. ترجيحا من غير مرجح.
وهذا آخر الكلام
في هذا الباب. ويتلوه الكلام في السحر. ليحصل الفرق بين المعجز ، والسحر ، والنبي
، والساحر [والله اعلم] .
__________________
القسم الثالث من هذا الكتاب
في
الكلام في السحر وأقسامه
تمهيد
أعلم : أنا ما
رأينا إنسانا عنده من هذا العلم شيء معتبر ، وما رأينا كتابا مشتملا على أصول
معتبرة في هذا الباب. إلا أنا لما تأملنا كثيرا ، حصلنا فيه أصولا وجملا. فمن جاء
بعدنا ، وفاز بالفوائد والزوائد في هذا الباب ، فليكن شاكرا لنا ، حيث رتبنا له
هذه الأصول المضبوطة ، والقواعد المعلومة.
والكلام فيه مرتب
على مقدمة ، ومقالة .
__________________
مقدمة
في بيان أنواع السحر
النوع الأول : وهو أعظمها قوة ، وأشدها
تأثيرا ـ على ما يقال ـ السحر
المبني على مقتضيات أحكام النجوم.
وتقرير الكلام فيه : أنه ثبت بالدلائل الفلسفية : أن مبادي حدوث الحوادث في هذا العالم
، هو الأشكال الفلكية ، والاتصالات الكوكبية. ثم إن التجارب المعتبرة في علم
الأحكام ، انضافت إلى تلك الدلائل ، فقويت تلك المقدمة جدا. ثم إن التجارب النجومية
دلت على اختصاص كل واحد من هذه الكواكب السيارة بأشياء معينة من هذا العالم الأسفل
، فلكل واحد منها طعوم مخصوصة ، وروائح مخصوصة [وأشكال مخصوصة ] ومن المعادن كذا ، ومن النبات كذا ، ومن الحيوان كذا.
فإذا طلب من
الكوكب حالة مخصوصة ، مناسبة لعمل مخصوص ثم جمع بين الأشياء الفعلية المناسبة لذلك الكوكب ، ولذلك الأثر ، فحينئذ قد حصل
الفاعل القوي على ذلك الفعل ، وحصلت المواد القابلة لذلك الأثر ، المناسبة له.
وعند الجمع بين الفاعل وبين القابل ، لا بد وأن يظهر الأثر. فهذا شرح هذا النوع من
السحر.
__________________
النوع الثاني من أنواع السحر :
السحر المبني على قوة الوهم وتصفية النفس
وتقريره : أنه ثبت في علم النفس : أن النفوس الناطقة من جنس الأرواح الفلكية ،
ومولدة منها. وكأنها قطرات من تلك البحار ، وشموع من تلك الشموس ، فلا محالة يكون
لها أثر ما ، وقوة ما ، فإذا أعرضت النفس الناطقة عن التوجه إلى سائر الجوانب ،
وبقيت متوجهة إلى غرض واحد ، ومطلوب معين ، قويت حينئذ قوتها ، واشتد تأثيرها ،
فقدرت على إحداث أحوال غريبة في هذا العالم. وفيه سبب آخر : وهو أنها في حال
الصفاء والرياضة تنجذب إلى الروح الفلكي ، الذي هو طباعها التام ، وأبوها الأصلي ،
فسيرى من تلك الطباع التام ، قوة إلى جوهر النفس فيعظم لهذا السبب شأنها ، ويقوى
تأثيرها.
النوع الثالث : السحر المبني على خواص
الأدوية المعدنية والنباتية ، والحيوانية : ويدخل في هذا الباب خواص الأحجار المختلفة ، ويدخل فيه خواص
الحيوانات التي نسعى في توليدها بطريق التعفينات ، وقد يكون لكل جزء من أجزاء تلك
الحيوانات آثار خاصة. ورأيت كتابا في هذا الباب من مصنفات أبي بكر بن وحشية [ويدخل
في هذا الباب : السحر المبني على خواص اعداد الوفق] .
النوع الرابع
: السحر [المبني على العزائم والرقى ]
ويدخل في هذا
الباب السحر ] المرتب على الاستعانة بالأرواح السفلية ، المسماة بالجن
والشياطين ؛ والكلام في إثبات هذا الجنس من الأرواح ونفيه قد سبق على الاستقصاء.
وجمهور من يخوض في علم التعزيمات إنما يتمسكون بما في هذا الباب.
__________________
النوع الخامس من السحر : السحر المبني
على الاستعانة بالأرواح الفلكية.
فإنا قد بينا أن
أكثر فرق أهل العالم مطبقون على إثبات هذه الأرواح ، وعلى أن لها آثارا عظيمة في
هذا العالم. وعند هذا قال بعضهم : إنه يمكن الاستعانة بها بطرق مخصوصة ، وإذا حصل
ذلك الاتصال ، فقد حصلت القدرة على خوارق العادات.
النوع السادس من السحر : ما يكون مرتبا على أعمال خفة اليد ، وطرق الشعبذة والسعي في
إراءة ما لا وجود له في الخارج ، ومنه نوع يقال له الأخذ بالعيون. وسيأتي إن شاء
الله تعالى تفسيره.
النوع السابع : السحر المرتب على علم
الهندسة : ويدخل فيه علم جر
الأثقال العظيمة بالآلات القليلة ، ومن جملتها : الأعمال العجيبة الغريبة ،
المبنية على ضرورة الخلاء.
النوع الثامن : السحر المبني على الفأل
والزجر وهذا النوع أيضا أقسام :
فأحدها : وهو أجودها. علم الفراسة. وهو قسمان :
فراسة روحانية ،
وفراسة جسمانية.
وثانيها : علم الرمل.
وثالثها : علم اختلاج الأعضاء.
ورابعها : علم النظر في الأكتاف.
وخامسها : علم ضرب الأحجار ، على ما هو عادة بعض النسوان.
سادسها : علم النظر في الغضون ، والأسرة الموجودة في كف اليدين ، واخمص القدمين ،
وكذا علم النظر في الخيلان الموجودة على ظاهر البدن.
وسابعها : العلم المأخوذ من كيفية طيران الطيور عن أو كارها ، واعتبار
السانج والبارح
منها ، وكيفية أصواتها عند [التوجه إلى الإنسان ، وعند ] الانصراف عنه.
وثامنها : علم التفاؤل بجميع أنواع الحوادث في معرفة العسر واليسر ].
النوع التاسع من السحر : المبني على إطعام
الطعام الذي يوجب قلة
العقل ، وضعف الرأي وبلادة الطبع. ثم إذا صار الإنسان كذلك فحينئذ يسهل تصريفه
وتحريكه كيف أريد.
النوع العاشر : السحر المبني على ترويج
الأكاذيب وأنواع المكر والخداع ومنه : الطرق التي توجب تسليط الخوف على القلب. وعند استيلاء الخوف ، يسهل
ترويج أي شيء أريد.
فهذه الأقسام
العشرة معلومة في الجملة. فأما الذي يقال : إن الساحر يأتي بأعمال يمكنه أن يطير ،
وأن يتشكل بأشكال مختلفة في شكله وصورته ، وأن يقفز من بلد إلى بلد في أقل زمان
فهو في غاية البعد [إلا إذا حمل ذلك على الاستعانة بالجن ، أو بسائر الأرواح ، وهو
في غاية البعد ].
واعلم : أن شيئا
من هذه الأقسام لا يتم ولا يكمل إلا عند الاستعانة بالسحر المبني على النجوم. ولو
قدر الساحر على أن يجمع أنواعا كثيرة منها ، كان أقوى وأكمل فيما يروم [والله أعلم
].
__________________
مقالة في
تقرير الأصول الكلية المعتبرة
في السحر المبني على طريقة النجوم
الفصل الأول
في الطلاسم
قالت الفلاسفة والصابئة : الطلسم عبارة عن تمزيج القوى الفعالة السماوية ، بالقوى المنفعلة
الأرضية ، لإحداث ما يخالف العادة ، أو للمنع مما يوافق العادة.
قالوا : وهذا بناء على إثبات القوى السماوية الفعالة ... قالوا : ويدل عليه وجهان :
أحدهما : حجة عقلية صرفة. وثانيهما : حجة إقناعية قوية. أما الحجة
العقلية الصرفة. فتقريرها : أن نقول : لا شك في وجود حوادث تحدث في هذا العالم ،
وكل حادث فله سبب [فهذه الحوادث لها سبب ] وذلك السبب إما أن يكون حادثا ، وإما أن يكون قديما.
أما القسم الأول : وهو أن القول بأن أسباب هذه الحوادث شيء حادث : فنقول : الكلام في ذلك
الحادث ، كما في الأول. وذلك يوجب التسلسل. إلا أن التسلسل على قسمين :
__________________
أحدهما : أن تحصل جميع الأسباب ، والمسببات دفعة واحدة ، وقد بينا في برهان
إثبات واجب الوجود لذاته : امتناعه.
والثاني : أن يكون كل واحد منها مسبوقا بغيره ، لا إلى أول ، وهذا هو الحق الذي
لا محيد عنه.
ثم نقول : هذه
الحوادث تحتمل قسمين :
أحدهما : أن يحصل في الوجود ، موجود روحاني ، ويكون دائما منتقلا من معقول
إلى معقول آخر ، ومن إدراك إلى إدراك ، وبحسب تلك الإدراكات المتعاقبة ، والتصورات
المتلاصقة ، تحدث في هذا العالم. ويجب أن يكون الموجود الروحاني أزليا أبديا
سرمديا ، ويجب أن يكون شيئا غير الله تعالى. لما ثبت واجب الوجود لذاته : واجب
الوجود من جميع جهاته. فيكون التغير عليه محالا ، فصاحب هذه الإدراكات المتغيرة :
شيء غير الله تعالى.
فقد ثبت : أن
القول بوجود أرواح عالية ، هي المدبرة لأحوال هذا العالم لا بد منه وبهذا الطريق
فلا يتم السعي في إحداث شيء غريب في هذا العالم ، إلا بالاستعانة بتلك الأرواح.
وأما القسم الثاني : وهو أن تحصل حركة جسمانية سرمدية دائمة ، مبرأة عن المبدأ والمقطع.
فنقول : تلك الحركة إما أن [تكون مستقيمة أو مستديرة ، والأول باطل لأن تلك
الحركة. إما أن ] تمتد إلى غير النهاية ، فيلزم وجود أبعاد لا نهاية لها ،
وهو محال ، وإما أن ترجع ، وحينئذ يحصل بين نهاية الذهاب ، وبداية الرجوع : سكون لما ثبت أنه لا بد وأن يكون
بين كل حركتين من سكون ، وحينئذ لا تكون هذه الحركة دائمة ، مبرأة عن الانقطاع. فثبت
أن كل حركة على الاستقامة ، فإنها تنقطع. فوجب : أن تكون كل
__________________
حركة مستديرة.
وذلك يدل على أن المبدأ الأول القريب لحدوث الحوادث. في هذا العالم : هو الحركة
المستديرة الحاصلة للأجرام الفلكية. ثم قالت الفلاسفة : الأولى أن يجمع بين القسم
الأول والثاني. حتى يكون جوهر الفلك ، كالبدن وجوهر ذلك الروح كالنفس. والتعقلات المنتقلة الدائمة لذلك
الجوهر الروحاني ، توجب الحركات لهذه الكرات الجسمانية ، ويكون مجموعها أسبابا لحدوث الحوادث في هذا
العالم.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال :
السبب المقتضي لحدوث
هذه الحوادث [موجود قديم أزلي. فنقول : تأثير ذلك الأزلي في حدوث الحوادث ] إن كان غير موقوف على شرط حادث [فهو محال ، وإلا لزم كون
هذا الحادث قديما وإن كان موقوفا على شرط حادث ] عاد الكلام في كيفية حدوث ذلك الشرط الحادث ، ويلزم
التسلسل ، ويعود جملة ما ذكرناه في القسم الأول.
فيثبت بهذا البيان
: أن حدوث الحوادث في هذا العالم ، منوطة ومربوطة بالحركة المستديرة الفلكية ،
المبرأة عن الانقطاع والتغير.
ثم نقول : الأجرام
الفلكية بسائط ، والأجزاء المفترضة في الكرة البسيطة ؛ متشابهة بالطبع ، والماهية [والأسباب
المتماثلة في الطبع والماهية ] لا تفيد إلا معلومات متماثلة. فكان يجب أن تكون حوادث هذا
العالم متساوية ، وذلك باطل. ولما بطل هذا ، وجب أن يحصل في الأجرام الفلكية ،
أجسام مختلفة في الطبيعة والماهية. ولا بد وأن تكون تلك الأشياء متحركة. ويحصل لها
بسبب حركاتها المختلفة : نسب مختلفة ، وتكون تلك النسب المختلفة ، مبادي لحدوث [الحوادث
المختلفة في عالم الكون والفساد ، ومعلوم
__________________
أن تلك الأجسام المختلفة
المركوزة ] في جواهر الأفلاك ليست [إلا ] الكواكب. فثبت بما ذكرنا : أن مبادي الحوادث الحادثة في
هذا العالم ليست إلا الاتصالات الكوكبية المختلفة. فهذا هو البرهان الذي عليه
تعويل الفلاسفة في إثبات هذا المطلوب.
وأما الحجة الثانية ـ وهي الحجة الإقناعية
ـ فهي أنهم قالوا : إنا قد ذكرنا وجوها كثيرة دالة على أن أحوال هذا العالم ، مرتبطة بأحوال الشمس في كيفية
حركتها ، تحت منطقة البروج ، فإن بهذا السبب تصير الشمس تارة شمالية ، وتارة
جنوبية ، ولأجل هذا الاختلاف تحصل الفصول الأربعة ، وبسببها تختلف أحوال هذا
العالم ، [وأيضا : بسبب طلوع الشمس وغروبها في اليوم ، تختلف أحوال هذا العالم ] وهذا استقراء قوي ، وبيان تام في استناد أحوال هذا العالم
بحركات الكواكب.
ثم تأكد هذا
البيان بنوع آخر من البيان ، وهو : أن الناس منذ كانوا من قديم الدهر ، كانوا
متمسكين بعلم النجوم ومعولين عليها. فإنك ترى لكل علم أولا ، وإنسانا هو أول الناس
خوضا فيه. إلا العلم الإلهي ، وعلم النجوم ، فإنك لا تصل إلى تاريخ ، إلا وترى أن
هذين العلمين كانا موجودين قبله ، ولو كان هذا العلم باطلا ، لامتنع إطباق أهل
الدنيا من الدهر الداهر ، إلى هذا اليوم ، على التمسك به والرجوع إليه. فهذه
الوجوه ، بيانات ظاهرة في صحة هذا العلم [والله أعلم] .
__________________
الفصل الثاني
في
بيان أن الوقوف
على أصول هذا العلم عسر جدا
اعلم
: أن صعوبة هذا العلم تظهر من وجوه ثلاثة :
الأصل الأول : إنه يعسر علينا معرفة
جميع النيرات الفلكية. وبيانه من وجوه :
الأول: إن الاستقراء يدل على أن رؤية الصغير من المسافة البعيدة : ممتنعة. وإذا ثبت هذا فنقول :
إن أصغر كوكب من الكواكب الثابتة وهو الذي تمتحن برؤيته القوة الباصرة ، مثل الأرض
بضع عشرة مرة. فلو قدرنا أن هذه الكواكب حصلت في الفلك الأعظم ، لصارت المسافة أعظم ، فحينئذ كان يمتنع إبصاره لا محالة. وإذا ثبت هذا ،
فنقول : إنه يقال : إن عطارد جزء من ثلاثين ألف جزء من كرة الأرض. فهو في غاية
الصغر ، فلو قدرنا حصول كواكب مساوية لعطارد في الجرم على الفلك الأعظم [أعني
الجرم الأول ] لكانت رؤيتها ممتنعة قطعا. فثبت : أن عدم إبصارنا لأمثال
هذه الكواكب ، لا يدل البتة على عدمها. فإن قالوا : لو حصلت هذه الكواكب الصغيرة ،
لم تكن
__________________
لها قوة وتأثير
أصلا. لأجل أن صغرها يوجب ضعفها. فنقول : هذا باطل لأن عطارد مع غاية صغره ،
تقاربه سائر السيارات مع عظم أجرامها. بل نقول : الرأس والذنب نقطتان ، وأصحاب
الأحكام أثبتوا لهما آثارا عظيمة بل نقول : سهم السعادة ، وسهم الغيب نقطتان
وهميتان ، والأحكاميون أثبتوا لهما آثارا قوية. وأيضا النقط التي تنتهي إليها
تسييرات درجة الطالع فقط : وهمية ، والقوم أثبتوا لها آثارا قوية.
الوجه الثاني : في بيان أن عدد النيرات الفلكية غير معلومة ، وهو أنه ثبت بالدليل أن المجرة ،
ليست إلا أجراما كوكبية صغيرة الحجم ، مرتكزة في فلك الثوابت ، إلا أنها لصغرها لا
يتميز بعضها عن البعض ، فنشاهد جملتها على صورة لطخة سحابية ، وهذا يدل على أن
الوقوف التام على معرفة أعداد الكواكب : ممتنع الحصول.
الثالث : إن المحققين ذهبوا إلى أن المحو ، المحسوس في وجه القمر ، إنما حصل بسبب أن كواكب
صغيرة ارتكزت في وجه القمر. وقال آخرون : إنه حصل في وجه الشمس فوق النقطة التي هي
كالمركز لقرص الشمس : نقطة سوداء ، كالخال في وجه الشمس. إلا أنها لا تظهر لأجل
قوة نور الشمس. وقد تعرض عوارض مخصوصة. تصير تلك النقطة السوداء كالمشاهدة ، وكل
هذه الاعتبارات تدل على أن العقول البشرية ، قاصرة عن الإحاطة بعدد نيرات الأفلاك.
الرابع : إن أصحاب الأحكام أثبتوا شيئا ، يسمونه بالكبد ، وأثبتوا حظّا من التأثير له ، وإذا جاز ثبوته ، فلم لا يجوز ثبوت غيره؟
الوجه الخامس : في بيان أن الأمر كما ذكرناه : إن الفلاسفة أطبقوا على أن الفلك جوهر بسيط ،
وإذا ثبت هذا ، فنقول : يجب أن تكون طبائع البروج متساوية في تمام الماهية ، وإلا
لزم التركيب ، وإذا ثبت هذا ، فتأثير الكوكب
__________________
حال كونه في برج ،
يجب أن يكون مساويا لتأثيره حال كونه في سائر البروج ، لما ثبت في العقول أن حكم
الشيء حكم مثله. ومعلوم أن ذلك على خلاف علم النجوم ، فأما أن يقال : إن طبائع
البروج مختلفة بحسب الماهيات ، فذلك قول مردود عند الفلاسفة. أو يقال : إنه حصل في
كل برج كواكب صغيرة لا نراها ولا نشاهدها ، ولأجل حصول تلك الكواكب في تلك البروج
، صارت طبائع البروج مختلفة في التأثرات. وذلك هو المطلوب.
الوجه السادس : إن الدلائل النجومية قد تختل وتفسد في كثير من الأوقات ، وما ذاك إلا بسبب ما
ذكرنا. أنه حصلت هناك كواكب لا نعرفها. ولأجلها تختلف أحوال هذه الآثار [والله
أعلم ].
الأصل الثاني من
الأصول الموجبة لصعوبة هذا العلم :
أن نقول : إنه يعتبر الوقوف على معرفة مواضعها من الفلك بعد العمل بها. وذلك من وجوه :
الأول : إن الشيخ أبا علي بن الهيثم. صنف رسالة في أنواع الخلل الواقع في آلات
الرصد ، وعد منها قريبا من ثلاثين وجها من الوجوه التي لا يمكن الاحتراز عنها.
الثاني : إن الإرصادات إذا تطاولت مدتها ، اختلت الأعمال المبنية عليها ، لأن
صاحب الرصد ، وقع في حساباته المسامحات بالروابع والخوامس ، وما بعدها من الأجزاء
، فإذا طالت المدة ، اجتمعت تلك الكسور وكثرت ، وحصل التفاوت العظيم بسببها كما في
هذا الزمان الذي نحن فيه. وهو أوائل الستمائة من الهجرة.
الثالث : إن الدقيقة الواحدة من الفلك ، تكون مثل كلية الأرض ، مرارا ، خارجة عن الضبط والتعديد
، ويقال : إن الفرس الجواد ، عند العدو الشديد ، إذا رفع يده ثم وضعها ، فإن في
مثل ذلك الزمان القليل واللحظة
__________________
اللطيفة يتحرك
الفلك الأعظم ثلاثة آلاف ميل ، ولا شك أن تلك الحركة تكون في غاية السرعة. إذا
عرفت هذا فنقول : إنه إذا حدث حادث ، فالمنجم لا بد وأن يأخذ الاصطرلاب ، ويعرف
موضع الكوكب ، وهذه الأعمال إنما تتم في زمان له قدر معين ، والفلك قد تحرك في ذلك
الوقت مسافة لا حصر لها ولا حد ، وعلى هذا التقدير تصير معرفة طوالع الحوادث
الحادثة في هذا ، كالأمور الميئوس منها.
الأصل الثالث من الأصول الموجبة لصعوبة
هذا العلم : إن الوقوف على طبيعة كل كوكب بحسب تأثيره صعب عسير.
وتقريره. أن نقول
: لا شك أن الكواكب إما ثابتة وإما سيارة.
أما الكواكب
الثابتة فإن تأثيراتها أقوى من تأثيرات السيارة. ويدل عليه وجهان .
الأول : إنا بينا أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأجسام مرتبة على ثلاث مراتب.
المرتبة الأولى : الذي لا يتأثر. وهما الكرتان العاليتان. أعني الفلك الأعظم ، وفلك
الثوابت. وهذه المرتبة أشرف المراتب وأعلاها. والمرتبة الأخيرة : هي مرتبة الجسم ،
الذي يتأثر ولا يؤثر وهما الكرتان السافلتان. إحداهما : كرة اللطيف ، أعني الهواء
والنار. والثانية : كرة الكثيف أعني الماء والأرض. فهاتان الكرتان : يقبلان الأثر
من الكرات العالية ، وليس لها تأثير في شيء آخر. وأما المرتبة المتوسطة. فهي التي
تقبل الآثار من السيارات عن الكرتين العاليتين ، وتؤديانه إلى الكرتين السافلتين ،
وهو الكرات السبعة التي حصل فيها السيارات السبعة. وهذا الرأي متفق عليه بين
الفلاسفة.
والاستقصاء فيه
مذكور في باب صفات الكواكب. وهذا الاعتبار يدل
__________________
على سبيل الإجمال
: أن الثوابت أقوى وأكمل من السيارات.
والوجه الثالث في بيان أن الثوابت أقوى
من السيارات : هو أنها أكمل من السيارات في أمور ثلاثة :
أولها : أنها أقرب في درجة المعلولية ،
والعبودية إلى المبدأ الأول من هذه السيارات ، وذلك القرب هو المنبع لكل الكمالات.
وثانيها : أنها كثيرة في العدد جدا ، والكثرة مظنة القوة ، وأيضا : فالثوابت التي في
العظم الأول [أكبر ] قدرا من كل السيارات إلا الشمس. والعظم في الجرمية ، يفيد
العظم في القوة.
وثالثها : أنها أبطأ حركة. فيكون بقاؤها في الدرجة الواحدة أدوم. وقد علمت في الطبيعيات :
أن دوام المسامتة ، يوجب كمال القوة. فثبت بهذه البيانات : أن الكواكب الثابتة
أقوى قوة ، وأكمل تأثيرا من السيارات. وأيضا : الأحكاميون اتفقوا على أنه إذا وقع
منها على موضع معين من الطوالع ، أعطت عطايا قوية إما في السعادة ، أو في النحوسة.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن الأحكاميين اتفقوا على أنهم لم يعرفوا من طبائعها إلا
القليل. وإذا كان الأمر كذلك ، فقد ظهر الخبط والصعوبة في هذا العلم ، بسبب الجهل.
وأما السيارات : فنقول : هب أن طبائعها صارت معلومة ، إلا أنه بقيت الصعوبة من وجوه :
الأول : إن امتزاجات الكواكب ، ومناسباتها بحسب كل : حد ، ووجه ، ومثله ومنزل من منازل
القمر ، ودرجة معينة من الدرجات الثلاثمائة وستين. تصير غير متناهية ، وما لا
ينتهي لا يمكن معرفته؟
والثاني : هب أن مواضع الكواكب وامتزاجاتها صارت معلومة ، إلا أن أحكام طوالع الوقت قد
تندفع بحسب الطوالع الأصلية ، وبحسب الأحوال
__________________
الماضية في الفلك.
ومن الذي يمكنه الوقوف على جميع الأحوال الماضية في الفلك؟
والثالث : إنه كما يعتبر في حصول الأثر ، حصول العلة الفاعلية فكذلك يعتبر في حصوله
العلة القابلية ، ولهذا السبب اتفق المنجمون على أنه إذا ولد على الطالع الواحد :
ابن مالك ، وابن قصاب. أو خباز [فإنه لا يتساوى أثر ذلك الطالع فيهم. فعلمنا : أن
آثار الطوالع ] تختلف بحسب اختلاف أحوال المادة السفلية ، لكن المواد
السفلية سريعة التغير ، شديدة التبدل. فكيف يمكن الوقوف على أحوالها؟ فهذا ضبط
الوجوه المذكورة في بيان أن الوقوف على أحوال هذا العالم بالتمام. والكمال صعب ،
إلا أن العقلاء اتفقوا على أن ما لا يدرك كله ، لا يترك كله ، فهذا العلم وإن كان
صعب المرام من هذه الوجوه ، إلا أن الاستقراء يدل على حصول النفع العظيم منه. وإذا
كان كذلك ، وجب الاشتغال بتحصيله ، والاعتناء بشأنه ، فإن القليل منه كثير ،
بالنسبة إلى أحوال مصالح البشر [والله أعلم ].
__________________
الفصل الثالث
في
الطريق الذي حصل به
الوقوف على طبائع الأجرام الفلكية
[اعلم : إن الطريق
إليه أحد أمور ثلاثة : القياس والتجربة والوحي.
أما القياس ]
فهو أنهم لما شاهدوا الكمودة في لون
زحل ، وهذه الكمودة تناسب السوداء حكموا عليه بكونه باردا يابسا ، ولما شاهدوا
الحمرة في لون المريخ ـ وهذا اللون يشبه لون النار ـ حكموا عليه بكونه حارا يابسا.
والمختار عندنا :
أن هذا الطريق ضعيف جدا. لا يجوز التعويل عليه. لأنه ثبت في علم الطب : أن
الاستدلال بالألوان المخصوصة على حصول الطبائع المخصوصة ، أضعف أقسام الدلائل. بل
الحق : أن هذه الألوان دالة دلالة ضعيفة على هذه الطبائع ، فلما أضافوا إليها
التجارب ، خرجت التجربة مطابقة لهذا القياس ، فحصلت معرفة طبائعها بناء على مجموع
الأمرين ، فذلك القياس هو المبدأ المحرك للعقول. والخواطر ، وهذه التجارب هي التمام
والكمال.
واعلم : أن طريق التجربة : هو أنه متى
حدث نوع من أنواع
الحوادث في هذا العالم ، فإن صاحب التجربة يتعرف أن الأوضاع الفلكية كيف كانت ،
تعرفا على [سبيل الاستقصاء والكمال ، فإذا وقع مثل ذلك الحادث مرة ثانية
__________________
وثالثة ورابعة
وخامسة ] وتعرف الأحوال الفلكية ، وحدها مثل الحالة الأولى فحينئذ
يحصل في القلب : ظن قوي بأن ذلك الوضع الفلكي المعين ، يوجب حدوث النوع الفلاني من
الحوادث في هذا العالم.
والحاصل : أن
التجربة عبارة عن الاستدلال بحدوث الحوادث المخصوصة في هذا العالم ، على معرفة
طبائع الأوضاع الفلكية ، فإذا تأكدت تلك التجربة ، فبعدها يستدل بحصول ذلك الوضع
الفلكي المعين ، على حدوث ذلك النوع من الحوادث في هذا العالم.
واعلم : أن هذا
الاستدلال قد اعتبره أهل الأرض من الزمان الأقدم إلى الآن. فمن أراد أن يصير ماهرا
في هذا العلم ، وجب عليه أنه كلما رأى نوعا من الحوادث في هذا العالم ، أن يستقصي
في تعرف الوضع الفلكي المقارن لحدوث ذلك الحادث ، ويقابل تجربته بأقوال المتقدمين
، فإذا واظب على هذا الطريق مدة مديدة ، واتفق أن كانت نفسه مناسبة لهذا العلم
بحسب الفطرة الأصلية : يبلغ فيه مبلغا عظيما. فهذا بيان طريق القياس والتجربة.
وأما الطريق الثالث وهو طريق الوحي
والإلهام : فهذا أيضا متفق عليه عند
أصحاب هذا العلم.
حكى : تنكلوشا :
أن ذواناي سيد البشر. لما بلغ في تصفية النفس ، ورياضة الذهن ، لاحت
له من الصور الفلكية ، ما لا يمكن وصفه.
واعلم : أنك لا
ترى دينا من الأديان ، ولا مذهبا من المذاهب ، إلا وأكثر أصوله يكون مبنيا على
النقل عن السلف. فلا يبعد مثله أيضا في هذا العلم [والله أعلم ].
__________________
الفصل الرابع
في
الشرائط الكلية
المعتبرة في رعاية هذا النوع
اتفق المحققون على أنه لا بد من رعاية أمور :
الشرط الأول : [أن من أتى بشيء من هذه الأعمال ، ثم يكون شاكا فيه ، لم ينتفع
به. والسبب فيه وجوه :
الأول : ]
إن تأثيرات أرواح
الكواكب أقوى من تأثيرات أجسادها ، فإذا قوى الاعتقاد في صحة الأعمال صارت الأرواح
البشرية معاضدة للأرواح العلوية ، كما صارت المواد السفلية معاضدة للأجرام العلوية
، فلا جرم تقوى التأثيرات. أما إذا لم يحصل الاعتقاد القوي ، زالت المؤثرات
الروحانية ، وبقيت الجسمانية خالية عن الروحانيات فلا جرم ضعف الأثر ، ولهذا السبب
قال بطليموس : «علم النجوم منك ومنها».
والسبب الثاني : إن الروحانيات العلوية مطلعة على ما في قلوبنا ، وكما أن في هذا العالم
من راجع ملكا ، والتمس منه شيئا ، ثم أنه ظهر لذلك الملك أن ذلك الرجل لا يثق
بقوله ، ولا يلتفت إلى فعله ، فإنه ذلك الملك لا يسعى في تحصيل حاجته. فكذا هاهنا.
__________________
والسبب الثالث : إنه إذا لم يعتقد في
صحة تلك الأعمال.
فالظاهر : أنه لا يبالغ في جميع تلك الشرائط ، فلا جرم يفوت المقصود.
الشرط الثاني : إنه إذا قرب للأرواح ، أنواعا من القرابين ، ولم يجد منها أثرا. فالواجب أن لا
ينقطع عن ذلك العمل ، وأن لا يتركها ، فإن من عرف أنه كيف يمكنه التقرب إلى الملك
العظيم [من ملوك الأرض ] علم أن تحمل العناء الكثير في هذا العلم : هين. قال «أرسطوطاليس»
: «كنت مشتغلا بهذا العلم صباحا ومساء فإن وجدت أثرا حمدته ، وإن لم أجد
الأثر لم أسيء الظن به وإن طالت المدة وتراخت الأيام ورب شيء كان يعسر ، ثم إني
كنت ما انقطع عن المطلوب حتى أبلغه» ويجب أن يكون سبيل الطالب لهذا العلم ، سبيل العاشق ، إذا
لم يسامحه معشوقه. وسبيل من أراد الوصول إلى خدمة ملك ولا يقبله ، فإنه يبذل غاية
الجهد ، رجاء الفوز بالمطلوب. فههنا أولى.
الشرط الثالث : إن من الناس من يظن أن الإنسان لا ينال إلا ما دل عليه طالعه.
واعلم أن الناس في هذا الباب على ثلاث
مراتب :
فالمرتبة الأولى : الذين تدل طوالعهم الأصلية على كونهم مستعدين لهذا العلم. وهؤلاء إذا اشتغلوا
بهذا العلم ، وصلوا إلى المطلوب. إلا أنه لما كانت مراتب القوة والضعف غير متناهية
في الصلاحية ، كانت مراتب الحصول غير متناهية.
المرتبة الثانية : الذين لم يحصل في
طوالعهم [لا ما يعين ، ولا ] ما يمنع [وهؤلاء إن واظبوا على العمل. وصلوا إلى نصيب
كامل.
__________________
والمرتبة الثالثة : الذين حصلت في طوالعهم ما يمنع ومراتب الدلائل المانعة غير متناهية ، فكذلك مراتب
الامتناع غير متناهية.
واعلم أن الوصول
إلى هذا العلم ، يوجب خروج الإنسان من حد الإنسانية ، ودخوله في عالم الملائكية.
والكمال في كل شيء عزيز ، ولا سيما في أكمل الكمالات ، وأعلى الدرجات. ولا ينبغي
أن يعتقد الرجل : أن كل أحد هو أهل لهذا العلم ، فإذا اشتغل واحد بهذا العلم ، ولم
يفز منه بطائل ، فلا ينبغي أن يجعل ذلك دليلا على بطلان هذا العلم. فإنا نرى الحرف
الخسيسة ، والصنائع النازلة قد يتعب الإنسان نفسه في تعلمها سنين ، ثم إنه لا
يتعلمها كما ينبغي [فإذا كان هذا شاهدا في أخس الحرف ، فكيف الحال في أعلى الصنائع
].
الشرط الرابع : اتفقوا على أن من شرائط
هذا العلم : المبالغة
في الكمال ، والسبب فيه وجوه :
الأول : إن النفوس الناطقة ، قد ثبت أنها من جنس الأرواح الفلكية ، فتكون مؤثرة. وهذه الصناعة
لو تمت ، أفادت السلطنة التامة على الأرواح والأجساد ، فإذا وقف الغير على أن
إنسانا اشتغل بهذه الأعمال ، حصلت النفرة الشديدة في قلوبهم ، والرغبة التامة في
إبطال تلة الأعمال وإفسادها ، فتبطل تلك الأعمال بالكلية.
والثاني : إن إشاعة هذا العلم : على خلاف مصالح العالم. لأن استيلاء الرجل الواحد على
كلية العالم : أمر على خلاف نظام العالم.
الثالث : إن الشيء إذا كان عزيزا بولغ في حفظه وكتمانه ، فعدم المبالغة في الحفظ والكتمان ،
يدل على أنه لا وقع له عنده ، وقد بينا : أن ضعف الاعتقاد فيه ، يوهن هذه الأعمال.
__________________
الشرط الخامس : اتفقوا على أن ممارسة
هذه الأعمال في الليل
، أولى منها في النهار. قال «أرسطو» : «إن الشمس سلطان قاهر ، فهو بكمال سلطنته ،
يقهر جميع الأرواح ، ولا يقوى شيء منها على الفعل. وأيضا : الحواس في النهار ،
تكون مشغولة بالمحسوسات ، فلا تحصل جمعية القلب ، وفي الليل تكون الحواس معطلة ،
فكانت جمعية القلب في الليل أكمل ».
وقال «هرمس» : «إن
خير ما يعمل به العامل ، هو ما يخفى عن أعين البشر وشروق الشمس. لأن عيون البشر
جاذبة بروحانيتها قوة النيرنج [وشروق الشمس قوة تبطل قوة النيرنجات ] ثم قال : اعمل نيرنجات القطعية وعقد الشهوة ، ودخنها كلها
بالليل ، واحترز فيها عن العيون واللامعة».
الشرط السادس : أجمعوا على أن صاحب هذا العمل ، كلما كان إقباله على أبواب البر والخير أكثر
أعماله أكمل ، لأن الغالب على طبيعة العالم هو الخير ، وأما الشر فمغلوب ، فإذا
اعتضد عمله بالجانب القاهر الغالب ، كان ذلك العمل : أكمل وأفضل.
الشرط السابع : أن لا يأكل من الحيوانات شيئا ، ويقتصر على الخبز والملح ونبات الأرض. والسبب فيه :
أن النفوس البشرية مشغوفة باللذات الجسدانية ، فإذا وصل إليها ، أقبل عليها ، وغاص
فيها ، وانصرف عن الجانب الأعلى [وإذا لم يجدها وبقي محروما عنها ، عاد بطبعه إلى
الجانب ] الأصلي [والمركز ] الفطري.
الشرط الثامن : أن لا يستعمل الروحانيات في الأشياء الحقيرة ، بل في الأشياء العظيمة الغالية. بحسب
ما يليق به ، وبكل روحاني وأن يحترز عن
__________________
الرجوع إليها في
كل مراد ، لأن ذلك يشبه سوء الأدب [وقد يؤدي إلى
هلاك الطالب ].
الشرط التاسع : أن يكون المباشر لهذه الأعمال جامعا لأمور أربعة :
أولها : أن يكون عالما بالعلوم الإلهية ، متفقها فيها. لأنه يحصل للنفس من هذا العلم ،
نوع من القوة ، لا يحصل البتة من سائر العلوم.
وثانية : أن يكون عالما بجميع الأقسام الثلاثة من علم النجوم.
فالأول : أن يكون عالما بهيئة السموات والأرض. فإن علمه بذلك ، مما يفيد انجذاب
روحانيته إلى الجانب الأعلى.
والثاني : أن يكون متيقنا من معرفة الزيجات. حتى يمكنه أن يعرف مواضع الكواكب
على الحقيقة.
الثالث : أن يكون متبحرا في علم الأحكام ، حتى يمكنه أن يعرف آثار الكواكب ،
في حالتي البساطة والتركيب.
والنوع الثالث من العلوم المهمة لصاحب
هذه الصناعة
: علم الأخلاق [حتى
يكون عالما بأن الأخلاق الفاصلة وأن الأخلاق المذمومة ، ما هي؟ فيمكنه تطهير النفس
عن الأخلاق المذمومة ، وتزيينها بالأخلاق ] الفاضلة.
والنوع الرابع من الأمور المهمة في هذا
الباب : أن تكون نفسه نفسا حية لا
ميتة والمراد من النفس الحية : النفس التي إذا لاح لها شيء من عالم الروحانيات
انبعثت واشتاقت واضطرب قلبه وخشعت نفسه.
ولما كان اجتماع
هذه الأمور الأربعة في الإنسان الواحد ، كالنادر ، [لا
__________________
جرم كان حصول
الكمال في هذا العالم كالنادر ].
الشرط العاشر : أن يكون صبورا وقورا ، القلب ، قادرا على الجلوس في الأمكنة الخالية ، والمفاوز
البعيدة عن الناس ، ويجب أن يكون عطر البدن ، بعيدا عن الأوساخ [والله أعلم ].
__________________
الفصل الخامس
في
تلخيص الأحول المعتبرة في هذا الباب
قد ذكرنا : أن الطلسم عبارة عن تمزيج الأسباب السماوية الفعالة ،
بالأسباب المنفعلة الأرضية ، لإحداث أمر مخالف للعادة ، أو لمنع حدوث أمر يوافق
العادة. وإذا كان كذلك ، فهذا العلم إنما يتم بمعرفة الأسباب الفعالة السماوية ،
ومعرفة الأسباب القابلة الأرضية. فمن عرف هذين النوعين ، وقدر على الجمع بينهما :
وصل إلى غرضه. لأن السبب الفاعل إذا اتصل بالقابل. وجب ظهور الأثر.
وإذا عرفت هذا ،
فنقول : الكلام فيه مرتب على قسمين :
أحدهما : في بيان
المؤثرات العلوية.
والثاني : في بيان
المنفعلة السفلية.
__________________
القسم الأول من الفصل الخامس
في
تفصيل أحوال المؤثرات العلوية
أعلم : أن الأسباب السماوية : إما الكواكب. وإما النقط وإما البروج .
النوع الأول
البحث عن أنواع
الكواكب
واعلم : أنها إما
سيارة ، وإما ثابتة.
أما السيارات : فقد أطبقوا على أنها مؤثرات في أحوال هذا العالم. وأما الثوابت ، فلقائل أن
يقول : إنها أقوى في التأثير من السيارات. ويدل عليه وجوه :
الأول : إنها أقرب في درجة المعلولية من المبدأ الأول. وذلك يوجب كمال القوة.
والثاني : [إن التي في العظم الأول منها : أعظم جرما من السيارة. إلا الشمس ].
والثالث : إنها أبطأ حركة فتكون مساماتها أدوم ، فتكون أقوى في التأثير. ولقائل أن يقول [إنه يجب أن تكون ] السيارات أقوى [في
__________________
التأثير ] ويدل عليه وجوه :
الأول : إنها أقرب إلى هذا العالم من تلك الثوابت.
والثاني : إن الثوابت كاسمها ثوابت. فلا يليق بها أن تكون عللا لهذه الحوادث ، التي هي
سريعة التغير في هذا العالم.
والثالث : إن الثوابت لا يتغير نسب بعضها إلى بعض ، لا في الطول ولا في العرض. لأنها
مركوزة في كرة واحدة ، بخلاف السيارات ، فإن كل واحدة منها مركوزة في كرة اخرى [ولكل
كرة حركة على حدة ] فلا جرم تختلف حركات كراتها في الأطوال وفي العروض. فتحصل
النسب المختلفة التي يمكن أن تكون مبادي لحدوث الحوادث في هذا العالم.
والرابع : إن هذه السيارات تمر بتلك الثوابت ، فتمتزج بهذا الطريق أنوار بعض تلك الثوابت
بالبعض.
فثبت بهذا الطريق
: أن الأهم في عالم النجوم : معرفة طبائع السيارات [ثم بعدها معرفة طبائع الثوابت.
واعلم أنه كما أن البحث عن طبائع السيارات ] أهم من البحث عن طبائع الثوابت.
فكذا البحث عن
معرفة [أحوال القمر ] أهم المهمات. لأن الأسباب الأربعة المذكورة موجودة فيه :
فالأول : إن أقرب الكواكب إلى هذا العالم : القمر. وآثاره تصل إلى هذا العالم من غير
واسطة. وإما آثار سائر الكواكب فإنها لا تصل إلى هذا العالم إلا بواسطة القمر.
فوجب أن يكون البحث عن حال القمر ، أهم من غيره.
والثاني : إن أحوال هذا العالم سريعة التغير والدوران. وأحوال القمر أيضا كذلك.
__________________
والثالث : إن بسبب سرعة حركة القمر ، تمتزج أنوار الكواكب بعضها بالبعض وبحسب تلك
الامتزاجات تختلف حال الآثار الحاصلة في هذا العالم.
والرابع : إن أقوى الفاعلتين هو الحرارة ، وأشد المنفعلتين استعدادا لقبول الأثر هو الرطوبة. ومتى
لقي الفاعل القوي في التأثير المنفعل القوي في القبول : قوي الأثر ، وكمل الفعل.
فلهذا السبب كان الموجب لحدوث الكائنات تأثير الحرارة في الرطوبة. وينبوع الحرارة
هو الشمس. وينبوع الرطوبة هو القمر. فكان الشمس كالأب. والقمر كالأم. وعند
اجتماعهما تحدث المواليد. وأما سائر الكواكب فهي كالأعوان. فلهذا السبب وجب
الاعتناء بمعرفة أحوال النيرين.
ثم نؤكد ما ذكرناه
بوجوه أخرى :
الأول : إن سلطان النهار : الشمس. وسلطان الليل : القمر. والزمان ينقسم إلى هذين القسمين :
الليل والنهار.
والثاني : إنهم أجمعوا على أن لطالع
الاستقبال والاجتماع أثرا
عظيما في أحوال هذا العالم ، ولم يعتبروا أحوال الاجتماع والاستقبال في سائر
الكواكب ، مثل ما اعتبروا في النيرين.
والثالث : إن الأطباء أطبقوا على توزيع أمر البخرانات ، على أحوال حركة القمر. وعلى توزيع
أحوال المد والجزر في البحار ، على أحوال حركة القمر.
والرابع
: إن القمر شديد الاتصال بالشمس. بدليل :
أن بيته متصل ببيت الشمس ، وبيت شرفه متصل ببيت شرف الشمس ، بل قالوا : إن شرف
الشمس في التاسع عشر من الحمل ، والقمر إذا قارن الشمس ، فإنه لا يصير ممكن الرؤية
، إلا إذا تباعد عنها بمقدار اثنتي عشرة درجة. ولما كانت الدرجات قد تختلف
مقاديرها ، بسبب اختلاف المطالع ، جعلوا درجة شرف القمر في
__________________
الثالثة من الثور.
وذلك يدل على مناسبة شديدة بينهما.
والخامس : إنهما متشابهان في عظم الجرم ، بحسب الحس.
وإذا عرفت هذا
الأصل ، ظهر أن الشارع في هذا العلم ، يجب أن يكون عالما بطبائع ا لكواكب السيارة
، وبطبائع الكواكب الثابتة ، وبكيفية مزج بعضها بالبعض. وأهم المهمات عنده : أن
يكون عالما بجميع الأقسام الممكنة في سعودة القمر ، وفي نحوسيته ، وأن يكون عالما
بجميع سعادات الكواكب ونحوساتها ، حتى إذا أراد الشروع في عمل ؛ أمكنه أن يراعي
حال قوة الكوكب المناسب لذلك العمل ، ويراعي حال القمر ، حتى يكون موصوفا بالصفات
اللائقة بذلك العمل.
إذا عرفت هذا
فنقول : يجب عليه الاستقصاء في صفات كل واحد من الكواكب في سعودته ونحوسته ،
وذكورته وأنوثته ، وحرارته وبرودته. ويجب عليه الاستقصاء في معرفة ما لكل واحد من
الكواكب من أقسام المعادن والنبات والحيوان [ومن أقسام أعضاء الإنسان والحيوان ] وكلما كان أكثر إحاطة في هذه الأقسام ، كان انتفاعه به
أكمل ، وقدرته على هذه الأعمال أصدق.
وأما السيارات : فنقول : الشمس والمريخ حاران يابسان ، لكن الشمس بحرها ويبسها مصلحة والمريخ
مفسد. وأمّا المشتري والرأس ، فهما حاران رطبان ، لكن المشتري في غاية الصلاح ،
والرأس ليس كذلك. وأما الزهرة والقمر فهما باردان رطبان ، لكن إصلاح الزهرة أكثر.
وأما زحل وعطارد والذنب ، فهي باردة يابسة ، إلا أن عطارد مصلح ، وزحل والذنب
مفسدان.
وأما الثوابت : فلا شك أن معرفة طبائعها صعبة وذكروا في طريق تحصيل هذه المعرفة
وجوها :
الطريق الأول : الاستدلال بألوانها على طبائعها.
فكل كوكب يكون
لونه مساويا للون بعض السيارات ، أضافوا طبعه
__________________
ومزاجه إليه [وما
وجدوا لونه مركبا من لوني كوكبين من السيارة ، أضافوا طبيعته إليهما ] قال «زردشت» : «البيابانية الحمر والصفر والهامات والكمدة والملطخات : كلها نحوس
قاطعة».
والطريق الثاني :
الاستدلال بأقدارها :
قال «عمر بن الفرخان الطبري» : «إنما يدل على الشرف والرفعة : الكواكب التي في القدر
الأول والثاني والثالث. فأما الكواكب التي في القدر الأول ، فإنها تدل على الملك
والخلافة. والتي في القدر الثاني فإنها تدل على ما دون ذلك. وكذا القول في التي
تكون في القدر الثالث».
وقال «زردشت» : «أجل
كوكب في الفلك من البيابانية : الشعري اليمانية ـ وهي العبور ـ فإنه اتفق كونها على
درجة الطالع ، أعطت الملك والمال. وإن اتفق كونها على درجة [وسط السماء أعطت
الغلبة والسلطان. وإن اتفق كونها في درجة ] التاسع ، أعطت النبوة. وهي كوكب سعد صرف ، معبود العرب في
القديم. وإن البهائم لتسر به إذا رأته ، وطبعه طبع المشتري والزهرة ، لأنه يشبه كل
واحد منهما في اللون وفي الحجم».
وقال في كتاب
طبقاتنا : «إن النظر إلى الشعري اليمانية يسكن الحمى الممتزجة من
الصفراء والسوداء».
واعلم : أن الذي
يمكن اعتباره في صفات الثوابت : مجموع أشياء : أحدها : اللون والثاني
: المدار. والثالث : القرب من سمت الرأس ، والبعد منه. فالذي يكون قريبا من سمت الرأس يكون أثره
أقوى. ولذلك قيل : «إن كوكب سهيل ، قوته في بلاد اليمن ، أكثر من قوته
في هذه البلاد»
__________________
والرابع : قال «هرمس» : «الكواكب البيابانية تعمل في سائر البيوت ، إذا وقعت
على درجاتها» [وقال آخرون : إنها لا تؤثر إلا إذا وقفت على أول الطالع والعاشر
الأول ] ولكني جربتها فلم أجد تأثيرها يقوى إلا إذا كانت على درجة الطالع ووسط
السماء. والخامس : قال محمد بن جابر البتاني : «قد تتصل المتحيرة بالثابتة إذا كان بينهما بعد تسديس أو
تربيع أو تثليث أو مقابلة. ولكن لأجل بطء حركات هذه الثوابت ، لا يعتد باتصال
المتحيرة بها ، ولا بنظرها إلى بعض الدرجات».
وقال بعض العلماء
: «أجمع أهل الصنعة : على أن فعل أحد الثابتة إنما يقوى إذا كان في درجة الوتد ،
أو مع بعض السهام ، أو الكواكب السيارة في الدرجة الواحدة ، أما البواقي فضعيفة
جدا».
ولنكتف بهذا القدر
من أحكام الثابتات.
النوع الثاني
البحث عن أحوال النقط الفلكية المؤثرة
وهي من ثلاثة أنواع :
النوع الأول
: معرفة الرأس والذنب فإنهم أطبقوا على أن لهما آثارا قوية.
[والنوع الثاني : معرفة السهام وأطبقوا
أيضا : على إثبات آثار
قوية لها ] لا سيما سهم السعادة وسهم الغيب. إلا أن في التحقيق : قوة
السهم مستفادة من قوة الكوكبين اللذين منهما يستخرج ذلك السهم.
__________________
والنوع الثالث : النقط التي تنتهي التسييرات إليها ، وقد اتفقوا على أن لها أيضا : آثار قوية :
النوع
الثالث
معرفة طبيعة الفلك
أعلم
أنهم قسموا الفلك إلى أنواع كثيرة :
فالنوع الأول : قسمته نصفين. وقد اعتبروا هذا النوع في القسمة على وجوه كثيرة منها :
الأول : إن أحد نصفي الفلك شرقي [والثاني غربي.
والثاني : إن أحد نصفيه شمالي والثاني جنوبي ].
والثالث : [شمالي ]
الصاعد والهابط.
والرابع : ما فوق الأرض وما تحتها.
والنوع الثاني : قسمة الفلك إلى أربعة
أقسام :
الربيعي والصيفي والخريفي والشتوي. وذلك لأنهم وجدوا [السنة تنقسم
إلى الفصول الأربعة ، بسبب حصول الشمس في الأرباع الأربعة ] من الفلك ، فلا جرم قسموا أدوار الفلك بأربعة أقسام. ثم
لما رأوا لكل فصل : أولا ووسطا ونهاية : قسموا كل ربع إلى ثلاثة أقسام ، فالقسم
الأول دور الفلك باثني عشر قسما. والقسم الثاني : أن الشيء الذي يحدث بعد العدم ، أو
__________________
يظهر بعد الخفاء ،
كالولد الذي ينفصل عن بطن الأم ، لا بد وأن يطلع في تلك اللحظة درجة معينة من
الفلك. فتلك الدرجة لما ظهرت بعد الخفاء ، كانت مشابهة لأحوال ذلك الولد الذي ظهر
بعد الخفاء ، فجعلوا تلك الدرجة دليلا على أحوال ذلك الحادث ، ثم قسموا أدوار
الفلك من تلك النقطة باثني عشر قسما. وهي البيوت الموجودة في صورة الطالع. والقسم
الثالث : أنهم قسموا الفلك إلى المثلثات الأربعة وهي المثلثة :
النارية والأرضية والهوائية والمائية.
والنوع الثالث : قسمة كل برج إلى أقسام
كثيرة.
وهذا يقع على وجوه :
الأول : قسمة البروج على منازل القمر. ويجب البحث عن خاصية كل واحد من تلك
المنازل. لأن لها قوة شديدة في تركيب الأعمال السحرية.
والثاني : معرفة بيوت الكواكب.
والثالث : معرفة أشراف الكواكب.
والرابع : الحدود وهي قسمة كل برج
بأقسام معينة ، وتخصيص كل واحد منها بكوكب معين.
والخامس : الوجوه.
والسادس : الذربحانات.
والسابع : الاثنا عشريات.
والثامن : النهبهرات.
والتاسع : المفرح.
العاشر : الحيز.
والحادي عشر : الدستورية.
والثاني عشر : الأقسام المذكرة والمؤنثة
.
__________________
والنوع الرابع : قسمة البروج إلى ثلاثين درجة. ومعرفة طبائع تلك الدرجات وآثارها وكيفياتها.
وللقدماء فيها روايات
:
إحداها : ما يروى عن «طمطم الهندي» فإنه يذكر لكل درجة خاصيتها
وأسماءها وبخورها وأثرها. فإذا نزلت الشمس في تلك الدرجة ، وجب التبخير ، بذلك
البخور ، ودعا صاحب تلك الدرجة بذلك الاسم ، وطلب ذلك الأثر منه.
والرواية الثانية : خواص تلك الدرجات [بحسب ما هو منقول
عن «زردشت».
والرواية الثالثة : خواصها ] بحسب ما هو منقول عن البابليين.
__________________
__________________
__________________
واعلم أنه لا سبيل
إلى تمييز حقها عن باطلها ، إلا بالتجربة.
فهذه جملة الأحوال
التي يجب على الساحر معرفتها ، حتى يمكنه الخوض في عمل من الأعمال السحرية.
وليكن هاهنا آخر
كلامنا في تعريف الأمور التي يجب تحصيل العلم بها من الأسباب الفاعلية الفلكية.
القسم الثاني من الفصل الخامس
في
الأمور التي يجب معرفتها عن الأجسام القابلة السفلية
نقول : إن أصحاب
الأحكام أثبتوا لكل كوكب معنى من الطعوم والروائح ، والأزمنة والأمكنة ، والأشكال
والصور. فإذا أراد الإنسان تحصيل أمر من الأمور ، علم أن ذلك العمل لا يصدر إلا من
الكوكب الفلاني ، فحينئذ يسعى في تقوية ذلك الكوكب من جميع الوجوه التي قد بيناها
، ثم يجمع بين جميع الأمور المناسبة لذلك الكوكب من القوابل السفلية ، فإذا اجتمعت
هذه القوابل حال كون ذلك الكوكب قوي الحال ، ظهر التأثير. لا محالة.
فهذا هو الكلام
الكلي : ونذكر بعد ذكر [أمور تتعلق بالتفاصيل : فنقول : جميع الأمور التي اعتبروها
في هذا الباب ، بعد ما ذكرناه ] أشياء :
فالنوع الأول : [اتخاذ التماثيل المناسبة للجنس ].
[ومعناه :] أنه إذا حل الكوكب في برج مناسب للعمل ، وفي درجة
__________________
مناسبة [له فعند
طلوع تلك الدرجة ، يجب أن يتخذ فيه تمثال من الجنس الذي يناسب ذلك الكوكب من
الأجساد السبعة ، ويبالغ في تجويد صنعته. وطريق ذلك : أن يكون قد هيأ بين يديه آلة
التفريغ ، وإذابة الجسد. فإذا حضر الوقت المعين ، أفرغه في القالب الذي أعده له ،
وليكن ذلك الإنسان عند ذلك العمل منفردا لا يكون معه غيره ، وليبخر بالبخورات
المختصة بذلك الكوكب. وإن أردت عمل خاتم فليكن فصه من جوهر ذلك الكوكب ، ومما له
خاصية في تحصيل ذلك المطلوب. ومثاله : إذا أردت عمل طلسم لإيقاع العداوة ، فقصدت
عطارد في برج مناسب ، ودرجة مناسبة ] ونظير من كوكب مناسب لهذا العمل ، ولما علمت : أن عطارد
يدل على [حجر اللازورد فاتخذ من الفصوص ما كان أزرق في اللون ، وعلمت : أن حجر
الخماهن له خاصية في إيقاع العداوة ] فاتخذ الفص منه ، وانقش عليه الصورة المناسبة لذلك
المطلوب. وهي : صورة إنسانين يقتتلان ، ثم استعمل بخورات عطارد فيه.
وإن أردت عمل طلسم
لإيقاع بلاء بإنسان وتمريضه ، فاطلب حلول زحل في الدرجات المناسبة لهذا العمل ،
واتخذ تمثالا على هيئة ذلك الإنسان ، واعتمد في ذلك الوقت أن تفسد عضوا من أعضائه
، وموضعا من جسده فإنك إذا فعلت ذلك ، فسد ذلك العضو من ذلك الإنسان.
فذلك هو الكلام في
اتخاذ التماثيل والخواتيم.
ومن الناس من طعن
في هذا النوع من العمل. وقال : إنه عبث لا فائدة فيه. بل الاقتصار على المناسبات
النجومية ، والأوهام النفسانية : كافية. قال جابر بن عبد الله بن حيان : «هذا الطعن غلط ، لأن حدوث تلك
الصورة عند طلوع ذلك الكوكب يجري مجرى ولادة الولد ، عند طلوع الكوكب ، فكما أن
هناك تسري قوة الكوكب الطالع ، والدرجة الطالعة في ذلك المولود ، فكذا
__________________
هاهنا تسري قوتهما
في تلك الصورة المنقوشة والتمثال المفروغ».
واعلم أن عند فراغ
ذلك الصنم في القالب ، وعند النقش في ذلك الحجر ، يجب أن يكون العامل له لابسا
ثوبا يناسب ذلك الكوكب ، ويكون مستجمعا لجميع الأحوال المناسبة لذلك الكوكب ،
ويكون قائلا باللسان : الثناء اللائق بذلك الكوكب ، ويكون قلبه مستحضرا للأحوال اللائقة بذلك الكوكب. فإن [هذه الأحوال ] إذا اجتمعت ، كان التأثير أقوى.
النوع الثاني من الأمور المعتبرة في هذا
الباب : تلطيخ تلك التماثيل
بالأدوية المناسبة لتلك الأغراض والمقاصد.
قال «جابر بن حيان»
: «المقصود من الطلسم : إما الجلب ، وإما الدفع. أما الجلب فلا يتم إلا بجميع
الأشياء [المشاكلة. والدفع لا يتم إلا بجميع الأشياء ] المضادة. والدليل عليه : إجماع الأطباء على أن الصحة تحفظ
بالمماثل. والمرض يزال بالضد ، ثم يقول : «وهذان الوجهان إما أن يعتبرا في الأسباب
الفلكية ، وهي طبائع النجوم والبروج ، أو في الأسباب السفلية ، وهي طباع الأودية
والعقاقير».
واعلم : أن الأشياء
المشاكلة [على ثلاث مراتب : فالمرتبة الأولى : حصول المشاكلة ] في الكيفيتين ، أعني الفاعلة والمنفعلة ، كالحار واليابس [مع
الحار واليابس ] وهذا النوع أقوى أنواع المشابهة. والمرتبة الثانية : أن
تكون المشاكلة حاصلة في إحدى الكيفيتين فقط. لكنها هي الفاعلة ، فإنها أقوى من
المنفعلة ، مثل الحار الرطب مع الحار اليابس. والمرتبة الثالثة : أن تكون المشاكلة
حاصلة في إحدى الكيفيتين فقط ، وهي المنفعلة [مثل : اليابس
__________________
الحار ، واليابس
البارد. وهذه المرتبة دون ما قبلها. لأن الكيفية المنفعلة ] أضعف من الفاعلة.
وأما الأشياء
المضادة. فهي أيضا على ثلاث مراتب. فالمرتبة الأولى : أن يكون التنافي حاصلا [في
الكيفيتين ] معا. مثل : الحار اليابس مع البارد الرطب. والمرتبة
الثانية ـ وهي المتوسطة ـ أن يكون التنافي حاصلا في الكيفيتين المنفعلتين فقط.
والمرتبة الثالثة ـ وهي الأخيرة ـ أن يكون التنافي حاصلا في الكيفيتين المنفعلتين
فقط.
وإذا عرفت هذا ،
فيجب أن تعتبر هذه الأحوال في الكواكب وفي الأدوية.
وأما اعتبار
المشاكلة في الفلكيات. فنقول : المشاكلة التامة حاصلة بالتثليث ، وهو الأول
والخامس والتاسع. لأن البروج المتناظرة بحسب التثليث تكون متشاكلة في الكيفيتين
معا. مثل الحمل والأسد والقوس ، إلا أن أقواها هو الأوسط ، وهو الأسد ، ثم الأخير
وهو القوس ، ثم الأول وهو الحمل. وإذا عرفت الحال في هذا المثال ، فقس البواقي
عليه.
النوع الثالث من الأمور المعتبرة في هذا
الباب : وهو قريب مما تقدم : أنك إذا فرغت التمثال ، فإذا أردت تسليط المرض على دماغه ، طليت داخل رأسه
بالأفيون واليبروج. وإن أردت تسليط الحرارة عليه ، طليت موضع قلبه بالأطلية الحارة المحرقة ، أو كتبت العزيمة على حديدة ، وألقيتها في
النار ، أو كتبت العزيمة على كاغد ، وألقيته في القارورة وإذا فعلت هذه الأمور تكلفت تفريغ القلب عن كل عمل سوى هذا
العمل ، وقويت ذلك الخيال في نفسك وتصورت حصول تلك الحالة في ذلك العضو من ذلك
الإنسان. والفائدة في عمل تلك الصورة : جمع الأفكار ، وتقوية الخيال. فإنه متى
انضمت المؤثرات
__________________
الفلكية القوية
إلى جملة الأجسام القابلة السفلية ، وانضم إليها القوة النفسانية القوية التامة :
حصل ذلك الأمر لا محال ، فإن انضم إلى تلك الثلاثة كون تلك النفس العاملة مخصوصة
بمزيد قوة في هذا الباب ، ومزيد مناسبة لتلك الأعمال ، بلغت الغاية فيه.
النوع الرابع من الأمور المعتبرة في هذا
الباب : الدخن ولما ثبت في علم الأحكام : أن لكل واحد من الكواكب السيارة أنواعا من العقاقير
مختصة به ، فمن أراد إحداث الدخنة لأجله ، وجب التدخين بتلك الأشياء المناسبة له.
النوع الخامس من الأمور المعتبرة في هذا
الباب : قراءة الرقى. واعلم أنها على
قسمين : منها : كلمات معلومة. ومنها : كلمات غير معلومة. أما الكلمات المعلومة.
فالحق عندي : أن الإنسان كلما كان وقوفه على صفات الكوكب المعين أكثر ، وعلمه
بأفعاله المخصوصة أتم ، كانت قدرته على إحصاء صفات كماله أتم ، وانفعال نفسه عند
ذكر تلك الصفات أتم وكلّما كان ذلك الانفعال أكمل ، كان انجذاب نفسه إلى روح ذلك
الكوكب أكمل ، فكانت قدرته على التأثير أقوى.
وأما الرقى التي
لا يفهم منها شيء ، ولا يحصل الوقوف على معانيها ففيها بحثان :
الأول : إن الذي نظم تلك الكلمات ،
ورتبها في أول الأمر. من كان؟
والثاني : إنه أي فائدة لنا في قراءتها
وذكرها؟
فنقول : أما المقام
الأول. فللناس فيه قولان :
الأول : وهم الذين يبالغون في تعظيم تلك الكلمات المجهولة ، الذين يقولون : إن
المتقدمين لما بالغوا في الرياضات انكشفت لهم الأرواح الطاهرة القوية ، القاهرة.
فألقت عليهم العزائم والرقى.
والقول الثاني : إن حسن الظن يقتضي أن تلك الكلمات المجهولة ،
تدل على صفات ذلك
الكوكب ، أو على صفات ذلك الروح بلغة غريبة أجنبية. والمقصود من قراءتها غير معلوم
، لأن من قرأ شيئا ، ولا يعرف معناه ، وكان عظيم الاعتقاد فيه ، فإنه يحصل في قلبه
خوف وفزع ، فيكون انفعال نفسه أتم وأقوى ، وذلك هو المقصود.
فهذا ما عندنا في
هذا الباب.
النوع السادس من الأعمال المعتبرة في
هذا الباب : اتخاذ القرابين ، وإراقة الدماء.
واعلم : أن مذهب
أصحاب الطلسمات : أن تلك الحيوانات إذا ذبحت ، فإنه يجب إحراقها بالنار ، حتى يحصل
كمال النفع بها. وهذه هي الشريعة الباقية إلى زمان مجيء رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وهو أمر عجيب. فإنه لا يعرف وجه المنفعة في الذبح ، ولا يدري أيضا وجه المنفعة في ذلك الإحراق.
وبالجملة : فهذه
الأشياء يصعب وجه النفع بها ، إلا أنه لما دلت التجارب عليها وجب المصير إليها.
النوع السابع
من الأعمال المعتبرة في هذا الباب : ذكر أسماء الأرواح :
واعلم : أن المنجمين
ذكروا : أن الساعة الأولى من يوم الأحد للشمس. والثانية للزهرة. والثالثة لعطارد.
والرابعة للقمر. والخامسة لزحل. والسادسة للمشتري. والسابعة للمريخ. ثم تعود
الثامنة إلى الشمس [والتاسعة للزهرة. والعاشرة لعطارد. والحادية عشر للقمر.
والثانية عشر لزحل. والثالثة عشر
__________________
للمشتري. والرابعة
عشر للمريخ ] ثم تعود الساعة الخامسة عشر إلى الشمس [ثم تعود الساعة
السادسة عشر للزهرة. والسابعة عشر لعطارد. والثامنة عشر للقمر. والتاسعة عشر لزحل.
والعشرون للمشتري. والحادي والعشرون للمريخ ] والثانية والعشرون للشمس. والثالثة والعشرون للزهرة.
والرابعة والعشرون لعطارد.
وقد تمت الساعات الأربعة
والعشرون.
فلا جرم وقعت
الساعة الأولى من يوم الاثنين للقمر. وعلى هذا الترتيب تحصل معرفة أصحاب الساعات.
في تمام الأسبوع.
وإذا عرفت هذا ،
ظهر أن لكل ساعة صاحبا معينا. فلا يبعد أن يتولد من الروح الكلية للكوكب المعين :
أرواح فلكية هي شعبة ونتائجه. ولكل واحد منها مزيد اختصاص بساعة معينة من تلك
الساعات.
ثم إن أصحاب السحر
والطلسمات ، ربما ادعوا معرفة أصحاب الساعات [ومعرفة أسمائها ، فيعتبرون في السحر
رعاية أصحاب الساعات ] التي يراد إحداث تلك الأعمال فيها.
والنوع الثامن : أن المنجمين ينسبون كل
بلدة إلى برج معين ، وإلى كوكب معين :
ولا بد في الأعمال السحرية من رعاية تلك الأحوال.
فهذه أمور يجب على
من يتولى هذه الصناعة أن لا يكون غافلا عنها ، حتى تكون أعماله أقرب إلى الصواب [وأبعد
عن الزلل. والله الموفق ].
__________________
الفصل السادس
في
التنبيه على أصول أخرى
يجب مراعاتها في هذه الأعمال
اعلم : أن تلك
الأصول . إما أن تكون معتبرة في الكواكب ، أو في البروج.
(أ) أما في
الكواكب :
فقيه شرائط :
الأول : اعلم : أن كل واحد من هذه الأعمال المطلوبة في السحر النجومي ، لا بد وأن
يكون مضافا إلى كوكب معين .
فجميع أحوال الفرقة والبغض مضافة إلى زحل. فإذا أردت [هذا العمل ] فاعمل وزحل في أحد بيتيه : الجدي [أو الدلو ] والدلو أقوى ، أو في تثليثهما ، أو تسديسهما. ويكون القمر
متصلا به من أحد هذه المواضع ، أيها كان. أو مقارنا له ، وهو الجيد الذي لا شيء
بعده. وليكن الطالع أحد
__________________
بيتي زحل ، وهو
فيه. فإن لم يكن بالطالع : البرج الذي فيه زحل ، فأي برج كان. واعلم أن الشرف مثل
البيت فيما ذكرناه.
وأما إذا أردت عمل
شيء من المعاش ، والتزين في أعين الناس ، فليكن عملك والمشتري على الأحوال التي
ذكرناها لزحل ، وهو أن يكون في أحد بيتيه أو شرفه أو متصلا بها بالاتصالات
المقبولة ، وليكن القمر متصلا أو مقارنا له ، وليكن الطالع أحد بيتيه أو شرفه ، أو
البرج الذي هو فيه.
وأما إن أردت
التسليط فليكن المريخ على ما قلناه ، وإن أردت العطف ، والتهييج ، فلتكن الزهرة
على ما ذكرناه.
واعلم أن أبواب
التهييجات مشتركة بين المريخ والزهرة ، فإن كانا مقترنين ، والقمر يقارنهما ، أو
ينظر إليهما نظرا قويا ، كان ذلك الباب أقوى في كل عمل. وإن أردت عملا لاستخراج
دفين ، أو عطف رجل عالم عليك أو إيقاع مرض نفساني لا جسماني ، فليكن عطارد كما
ذكرناه.
وإن أردت عطف قلب [ملك
، أو وزير ، أو استخراج دفين من دفائن الملوك خاصة ، أو استعطاف قلب ] امرأة نبيلة موسرة ، أو إصلاح ضيعة أو مزرعة ، فليكن
القمر على الحالة التي ذكرناها.
واعلم أن المعتمد
للأعمال السحرية : هو المريخ ، فإذا كان المريخ وصاحب الطالع متقاربين قوي العمل.
واعلم أنه يجب في
كل واحد من هذه الكواكب ، إذا أردنا إدخاله في عمل ، أن يكون سليما من مقارنة
المذنب.
الشرط الثاني : قد ذكرنا أنه إذا اتصل كوكب من الكواكب الثابتة [بكوكب العمل ، وكان موافقا
لطبيعته جاء العمل في غاية القوة ، فإن اتصل القمر ] بذلك الثابت : كان أقوى.
__________________
واعلم أن اتصال
السيارات بالثوابت على قسمين : تارة في الحقيقة ، وأخرى في المسامتة.
أما الحقيقة : [فهي في الكواكب التي تكون على ممر هذه السيارات. وأما الذي تكون بحسب
المسامتات ] فهو ما إذا كان الكوكب الثابت : بعيدا عن ممر هذه
السيارات. وأنت تعلم أن الأول أقوى.
الشرط الثالث : اتفقوا على أنه لا يتم الطلسم بكوكب ثابت وحده ، بل قالوا : الطلسم إنما
يكمل بثابت واحد ، وثلاثة من السيارات ، حتى تحصل فيه الطبائع الأربع ، ويجب أن
يكون أحدها : عطارد ، لأن طبيعته ممتزجة. فتفيد امتزاج تلك الطبائع وتفيد قوة ذلك
الامتزاج. قالوا : والأولى أن يكون الثابت وسط السماء ، وعطارد في الرابع.
الشرط الرابع : إذا أردت عمل طلسم ، فاجعل كوكب الحاجة في وتد الطالع ، ساعة الابتداء ،
واجعل سائر الكواكب المعاونة له على ذلك العمل في الأوتاد الثلاثة الباقية. فإن
اتفق أن حصل كوكب الحاجة في حده ووجهه ومثلثه ، وسائر حظوظه ، كان الأمر أكمل.
الشرط الخامس : اعلم أن الكوكب يختلف حال تأثيره من وجوه :
فالأول : كل كوكب كان أعلى فإنه أقوى ، وقد علمت السبب فيه.
والثاني : كل كوكب كان أعظم جثة ، كان أقوى عملا.
الثالث : كل كوكب كان أبطأ حركة ، كان أقوى من وجه ، وأضعف من وجه آخر.
الشرط السادس : إن الكواكب بعضها متحابة ، وبعضها متباغضة ، والحبّ والبغض على أقسام
ثلاثة : فأعلاها : أن يكون بحسب الطبيعة الذاتية. مثل : البغض الذي بين الشمس وزحل
، ومثل : المحبة التي بين الشمس وبين المشتري ، وأوسطها : الواقعة بحسب [مناظرات
البيوت.
__________________
وأدناها : الحاصلة
] بسبب الممازجات فإذا استعنت بكوكب ، وبالغت في تقويته ، فأسقط عنه أعداءه.
لأن نظر الضد : يوجب الضعف والفتور.
الشرط السابع : قالوا : إذا أردت
التهييج ، فعليك البدء
بالزهرة وعطارد ، والمشتري والشمس ، واحذر المريخ وزحل والقمر ، وقالوا أيضا : الساعات
الصالحة [للحب : هي ساعات تلك الأربعة. وأما ساعات المريخ والقمر ، فلعقد النوم ] وساعات زحل فللعداوة والبغض وقالوا أيضا : إن كانت المحبة
على وفق العفة ، والصلاح ، فابتدئ بها في ساعة المشتري ، وإن كانت على وفق الفساد
فابتدئ بها في ساعة الزهرة ، وأما عقد اللسان وعقد النوم ففي ساعة عطارد.
الشرط الثامن : ليكن الطالع في وقت العمل : بيتا للكواكب اللائق بذلك العمل ، أو برجا
، له فيه حظ وقوة. وكلما كان الحظ أقوى ، كان العمل أكمل.
ومثاله : إذا
أردنا عمل الحب ، وجب أن يكون الطالع : للزهرة ، وليكن ذلك أيضا في يوم الزهرة ،
وهو يوم الجمعة ، وفي ساعة الزهرة ، وهي الساعة الأولى من يوم الجمعة أو الساعة
الثامنة منه.
الشرط التاسع :
منها : ما يتصل برجوعات الكواكب
: إذا كان زحل راجعا ، عمل فيه طلسم الفرقة. وإن كان مستقيما ، فللبغض. والمشتري إذا كان راجعا عمل فيه لخراب الضياع ،
وإذا كان مستقيما فلصلاح العسكر. وإذا كانت الشمس بريئة من النحوس ، عمل فيه للقاء
السلاطين وإذا كانت منحوسة ، عمل فيه لسائر الأعمال الرديئة. وإذا كانت الزهرة
راجعة ، عمل
__________________
فيه لأحوال النساء
من إسقاط الأجنة. وإذا كانت مستقيمة عمل فيه للصلح بين المتباغضين [وإذا كان عطارد
راجعا ، عمل فيه للعطوف ، وإذا كان عطارد مستقيما ] فلسائر الأعمال الجيدة. وإذا كان القمر بريئا من النحوس
عمل فيه لسائر الأعمال الجيدة. وإذا كان منحوسا لم يصلح لشيء من الأعمال .
الشرط العاشر : قال تنكلوشا :
إنك بعد أن عرفت
كواكب هذه الأعمال وطوالعها ، فإنه يجب اعتبار حال القمر من وجوه.
النوع الأول [من اعتبار حال القمر : أن
يكون سليما عن المناحس. وهي
أمور :
فالأول :
أن لا يكون منخسفا ، ولا قبله ولا
بعده باثنتي عشرة درجة فإن القدماء كانوا يسمون خسوف القمر : موت القمر. وأما
قبله : فلأنه كالذاهب إلى الموت. وأما بعده فلأنه كالمتخلص من الموت.
والثاني : أن لا يكون في استقبال الشمس. فإن القمر حينئذ يكون في نهاية البعد عن الشمس. وبعد
العبد عن مولاه. مكروه.
والثالث : أن لا يكون في المحاق. وهو ظاهر.
والرابع : أن لا يكون على تربيع الشمس ، ولا على أنصاف التربيعات ، لأن التربيع.
نصف المقابلة ، وإن شئت فاعتبر هذه الأحوال بأيام البحرانات.
والخامس : أن لا يكون عرضه جنوبيا ، لأن القمر إذا كان هناك كان بعيدا عن الربع
المسكون.
__________________
والسادس : أن لا يكون صاعدا ولا هابطا.
والسابع : أن لا يكون في أوائل البروج ، ولا في أواخرها. أما الأوائل فلأنه [يشبه
الرجل الذي وضع رجله في الدار ، ولم يستقر فيها بعد ، وأما الأواخر ] فلأنه يشبه من قام ، ووصل إلى باب الدار ، ليخرج منها. وأيضا
: أواخر البروج : حدود النحوس.
والثامن : أن لا يكون في مقابلة زحل ومقارنته وتربيعه [وأنصاف تربيعه ] لأنه كوكب نحس ، فيهون العمل.
والتاسع : أن لا يكون مع الرأس والذنب ، لأنهما عقدتان. فكرهوا القمر في العقدة. ثم إن
الذنب أردأ.
والعاشر : أن لا يكون بطيء السير. لأن هذه الحالة تبطئ المقصود.
والحادي عشر : أن لا يكون في مقابلة عطارد ، ولا في مقارنته ، وذلك لأن القمر إذا اتصل بعطارد
، اتصالا محمودا ، صارت حالة كل واحد منهما محمودة ، وأما إذا تقابلا ، أو تقارنا
: تضادا ، فتضادت أحوالهما. والأحوال الإنسانية أكثرها متعلقة بعطارد ، ولا سيما
هذه الأعمال السحرية ، فلا جرم وجب الاعتناء فيها بصلاح حال عطارد ، وأن لا يكون
بينه وبين القمر اتصال رديء.
والثاني عشر : يكره كون القمر في
الميزان ، أو في العقرب.
لأنهما [برجا هبوط النيرين ] وهذا شرط واجب الرعاية.
والثالث عشر : أن لا يكون القمر في سادس برج الأسد ، ولا في سادس برج الجوزاء ، وذلك لأن
أحدهما بهبوط القمر ، والآخر ببيت زحل.
__________________
النوع الثاني
من اعتبار حال القمر :
الأحوال المتعلقة
بقران الكوكب مع القمر :
فنقول : إذا كان
القمر على قران زحل : يعمل فيه لهلاك الأعداء. وعلى قران [المشتري يعمل فيه
للسلاطين والجاه والتجارة. وعلى قران ] المريخ لفتح الحصون والقلاع ، ولقاء الجند والأمراء والكتب لهم. وعلى قران الشمس للجاه والسلطان.
وأقول : هذا فيه
نظر. لأنه في هذه الحالة يكون في المحاق ، وهو لا يصلح لعمل.
قال : وعلى قران
الزهرة لعمل النيرنجات [والعطوف والخواتيم والطلسمات. وعلى قران عطارد للعطف ،
ولقاء الكتاب ] وعلى قران الرأس لهلاك الأعداء ، والفرقة والبغض ، وما
أشبه ذلك.
النوع الثالث
من اعتبار حال القمر :
الأحوال المتعلقة
بكونه في البروج :
إذا كان القمر في
الحمل ، متصلا بالمريخ ؛ صلح لنيرنجات الحب والبغض ، بحسب اختلاف أحوال الكواكب
المنضمة إليه. وإن كان في الثور ، متصلا بالزهرة : صلح للقاء السلاطين والجند. وإن
كان في الجوزاء متصلا بعطارد : صلح لعقد اللسان ، وللمنع من الإباق.
وإن كان في
السرطان : صلح [للعطف. وإن كان في الأسد متصلا بالشمس : صلح للتهيج والعطف. وإن كان في السنبلة متصلا بعطارد :
__________________
صلح لعمل الربح في
المكاسب ، والزيادة في المال ، وإن كان في الميزان [متصلا بالزهرة ] صلح للعطف المبني على عمل النار والهواء. وإن كان في العقرب متصلا بالمريخ : صلح للعطوف
النارية والمائية. وإن كان في القوس متصلا بالمشتري : صلح لإزالة الوحشة ، وتحصيل
الصلح. وإن كان في الجدي متصلا بزحل : صلح لأن تكتب فيه الكتب المدفونة في مقابر
اليهود ، للفرقة والبغض. وإن كان في الدلو ، متصلا بزحل : صلح لما ذكرناه في
الجدي. وإن كان في الحوت متصلا بالمشتري : صلح للعطف.
النوع الرابع من أحوال القمر : يقوى العمل يوم الأحد ، إذا كان القمر متصلا [بالشمس. وفي
الاثنين إذا كان متصلا بالزهرة ، وفي الثلاثاء إذا كان متصلا ] بالمريخ. وفي الأربعاء إذا كان متصلا بعطارد. وفي الخميس
إذا كان متصلا بالمشتري. وفي الجمعة إذا كان متصلا [بالزهرة. وفي السبت إذا كان
متصلا بزحل] .
(ب) وأما في الأحوال
المعتبرة في البروج والبيوت :
ففيه وجوه من
الشرائط :
الأول : أن تجعل الطالع برجا موافقا للعمل ، وبيتا مناسبا له. ومثاله : أنه إذا كان
المطلوب أمر النكاح كان برجه هو السابع. فإن كان السابع هو الجدي فهو غير صالح له.
لأن الجدي برج أرضي بارد يابس ، فإنه وقع عليه شعاع زحل ، بطل هذا المقصود بالكلية
، وإن وقع عليه شعاع الزهرة ، حصل المقصود على نوع من الضعف وإن اجتمع فيه شعاعهما
قوي الضعف بسبب البرج ، وشعاع زحل فحصل المقصود مع الضعف بسبب شعاع الزهرة ، وأما
إن كان السابع هو الدلو ، فإن وقع عليه شعاع الزهرة ، حصلت قوة قوية ،
__________________
لكن لا في غاية
الكمال. أما في القوة القوية فلأن الزهرة مناسبة لهذا المقصود. والدلو برج هوائي
رطب ، فهو مناسب له. وأما عدم الكمال ، فلأن صاحب الدلو زحل ، وهو معوق عن هذا
الغرض وإن وقع عليه شعاع زحل ، أفاد تعويقا لكن لا في الكمال فإن اجتمع الشعاعان ،
كان التعويق أقل ، وأما إن كان السابع هو الميزان ، كان الأمر في تلك الأحكام
بالعكس.
الشرط الثاني : قالوا : إذا أردت رقية للحب ، أو عملا يتعلق باثنين ، فاعمله والطالع برج ذو
جسدين ، ورب الساعة الزهرة ، وهي ناظرة إلى الطالع وإلى القمر ، ولا تكون راجعة
ولا منحوسة بشيء من وجوه المناحس ، ولينظر القمر إلى الشمس من التثليث أو التسديس.
وإذا أردت الإفساد بين اثنين ، فليكن الطالع برجا منقلبا ، والقمر كذلك في برج
منقلب ، والمريخ وزحل ناظران إلى القمر ، وخاصته زحل ، ولتكن الساعة لزحل ، وهو في
وسط السماء ، ويكون قويا ، وينظر إليه النيران. وأسقط النيرين بعضهما عن البعض.
الشرط الثالث : إن كان عملك للإناث ، فليكن الطالع برج أنثى ، وإن كان للذكور ، فبرج ذكر.
وأما المسلط عليه
، فبالضد. فإن كان ذكرا ، اجعل طالع العمل الموجب للتسليط عليه : أنثى وإن أنثى ،
اجعل الطالع : ذكرا. وأيضا : إن كان صاحب الطالع المسلط عليه: ذكرا ، اجعل طالع
عمل التسليط عليه : أنثى. وبالضد. وذلك لأن الشيء يقوى بالموافق ، ويضعف بالضد.
الشرط الرابع : اجعل أعمال الحب في أول الشهر ، وأعمال البغض في آخر الشهر. وأعمال عقد اللسان في
وسط الشهر. لأن أول الشهر زائد. فيناسب حصول زيادة الحب. وآخر الشهر في النقصان ،
وذلك يورث النقصان في الحب.
وأما «أبو ذاطيس» البابلي ، فإنه قلب الأمر ، واتخذ صورتين على
__________________
شكل المحب
والمحبوب ، ووضعهما في زاويتي البيت على القطر ، وجعل ابتداء هذا العمل من منتصف
الشهر ، ثم في كل يوم يقرب كل واحد منهما من الآخر ، لأجل أن النيرين ، يقرب كل
واحد منهما من الآخر في هذه المدة ، حتى إذا تم الشهر ، اتصلت إحدى الصورتين بالأخرى
، على قياس وصول أحد النيرين إلى الآخر.
الشرط الخامس : يعرف طالع الشخص الذي يراد تهييجه. فإن كان ناريا ، فاعمل له عملا يتعلق
بالنار. وإن كان هوائيا [فاعمل له ] عملا يتعلق بالهواء وعلى هذا القياس.
واعلم : أن هذه
الأعمال السحرية. منها : نارية. مثل أن تكتب العزيمة على الحديد ، ثم توضع في
النار. ومثل : أن تصب الخمر العتيق ، والنفط الأبيض ، والأدوية الحارة في كوز
الفقاع. ويوضع في النار. وتقرأ عليه العزيمة. ومنها : هوائية. مثل : تطيير
العصفور. ومثل : النفث في العقد. ومنها : مائية. مثل : غسل الرجلين [بمياه مخصوصة ] وصبها على باب من تريد تهييجه. والله أعلم [بحقيقة هذه
الأمور ].
[هذا آخر ما وجه
بخط المصنف ـ رحمهالله تعالى ـ وقد نقل هذا الكتاب من نسخة منسوخة من خط المصنف ،
رحمهالله تعالى. آمين ].
__________________
فهرس الجزء الثامن
القسم
الأول من كتاب النبوات.................................................. ٥
في تقرير القول بالنبوة عن طريق
المعجزات......................................... ٥
الفصل الأول
في شرح مذاهب الناس في هذا الباب............................................. ٧
الفصل
الثاني
في حكاية شبهات من أنكر النبوات بناء
على نفي التكليف....................... ١١
الفصل
الثالث
في تقرير شبهات من ينكر التكليف ، لا
بالبناء على مسألة الجبر................... ٢١
الفصل
الرابع
في تقرير شبهات المنكرين للنبوات ،
بالبناء على أن العقل كاف في معرفة التكليف. وذلك يوجب سقوط القول بالبعثة
والرسالة........................................................................... ٢٩
الفصل
الخامس
في حكاية شبهات من يقول : القول بخرق
العادات محال.......................... ٣٥
الفصل
السادس
في شبهات القائلين بأن المعجزات لا يمكن
أن يعلم أنها حدثت بفعل الله ويتخلفيه. وبيان أنه متى تعذر العلم بذلك ، امتنع
الاستدلال بها على صدق المدعي.............................................. ٤١
الفصل
السابع
في حكاية شبهات القائلين بأن على تقدير
أن يثبت أن خالف المعجزات هو الله ـ سبحانه وتعالى ـ إلا أن ذلك لا يدل على أنه ـ تعالى
ـ إنما خلقها لأجل تصديق المدعي للرسالة.................................. ٥٥
الفصل
الثامن
في حكاية دلائل من استدل بظهور المعجز
على صدق المدعي...................... ٦١
الفصل
التاسع
في تقرير نوع آخر من الشبهات في بيان
أن ظهور الفعل الخارق اللعادة ، الموافي للدعوى ، مع عدم المعارضة : لا يدل على
صدق المدعي..................................................................... ٦٥
الفصل
العاشر
في أن بتقدير أن يكون المعجز قائماً
مقام ما إذا صدقة الله تعالى ، على سبيل التصريح ، فهل يلزم من هذا : كون المدعي
صادقاً........................................................................... ٦٩
الفصل
الحادي عشر
في الطعن في التواتر........................................................... ٧٣
الفصل
الثاني عشر
في تقرير شبهة من يقول : إن الله تعالى
لو أرسل رسولاً إلى الخلق ، لوجب أن يكون ذلك الرسول من الملائكة ٨١
الفصل
الثالث عشر
في البحث عن الطريق الذي يعرف الرسول ،
كونه رسولاً من عند الله ـ عزوجل........ ٨٥
الفصل
الرابع عشر
في الشبهات المبينة على أنه ظهر على
الأنبياء أعمال تقدح في صحة نبوتهم.......... ٨٧
الفصل
الخامس عشر
في الإشارة إلى أجوبة هذه الشبهات............................................ ٩٣
القسم الثاني من كتاب النبوات
في تقرير القول بالنبوة عن طريق آخر وهو قدرة النبي على
تكميل الناقصين......... ١٠١
الفصل
الأول
في تمييز هذا الطريق عن الطريق المتقدم......................................... ١٠٣
الفصل
الثاني
في أن القرآن العظيم يدل على أن هذه الطريق هو الطريق الأكمل الأفضل
في إثبات النبوة ١٠٩
الفصل
الثالث
في صفة هذه الدعوة
إلى الله تعالى............................................. ١١٥
الفصل
الرابع
في بيان أن محمداً
ـ عليه الصلاة والسلام ـ أفضل من جميع الأنبياء والرسل.......... ١٢١
الفصل
الخامس
في بيان أن إثبات
النبوة بهذا الطريق ، أقوى وأكمل م إثباتها بالمعجزات............. ١٢٣
الفصل
السادس
في تقرير طريقة
الفلاسفة في كيفية ظهور المعجزات على الأنبياء ـ عليهم السلام...... ١٢٧
الفصل
السابع
في حكاية قول
الفلاسفة في السبب الذي لأجله يقدر الأنبياء والأولياء على الإتيان بالمعجزات
والكرامات ١٣٧
القسم الثالث من
كتاب النبوات
في الكلام في
السحر وأقسامه................................................ ١٣٩
مقدمة في بيان
أنواع السحر................................................. ١٤٣
مقالة في تقرير
الأصول الكلية المعتبرة في السحر ، المبني على طريقة النجوم......... ١٤٧
الفصل
الأول
في الطلاسم............................................................... ١٤٩
الفصل
الثاني
في بيان أن الوقوف
على أصول هذا العلم عسر جداً............................ ١٥٣
الفصل
الثالث
في الطريق الذي
حصل به الوقوف على طبائع الأجرام الفكلية.................... ١٥٩
الفصل
الرابع
في الشرائط الكلية
المعتبرة في رعاية هذا النوع................................... ١٦١
الفصل
الخامس
في تلخيص الأصول
المعتبرة في هذا الباب...................................... ١٦٧
القسم الأول من
الفصل الخامس
في تفصيل أحوال
المؤثرات العلوية............................................. ١٦٨
النوع
الأول
البحث عن أنواع الكواكب.................................................. ١٦٨
النوع
الثاني
البحث عن أحوال
النقط الفلكية المؤثرة........................................ ١٧٣
النوع
الثالث
معرفة طبيعة الفلك......................................................... ١٧٤
في معرفة طبيعة الفلك....................................................... ١٧٦
القسم
الثاني من الفصل الخامس
في
الأمور التي يجب معرفتها عن الأجسام القابلة السفلية...................... ١٧٩
القسم
الثالث من الفصل الخامس حاشية (١٧٦ ـ ١٧٨)
الفصل
السادس
في التنبيه على أصول أخرى يجب مراعاتها
في هذه الأعمال....................... ١٨٧
فهرس
مواضيع الجزء الثامن.................................................. ١٩٧
|