

بسم الله الرحمن الرحيم
دراسة مقارنة بين
شراح المحصل
و
موقف فخر الدين
الرازى من علم الكلام
ان فلسفة الدين
الاسلامى عند بعض المفكرين المسلمين هى علم الكلام والحقيقة أن علم الكلام ينبغى
أن يقال له «فلسفة الدين الإسلامى» لأنه يضع أسس الدين الاسلامى الفكرية «العقائدية
النظرية» ويناقشها ويدافع عنها على أسس عقلية ومنطقية وتجارب علمية داعما اياها
بالوحى المنزل ، ومفسرا النصوص الدينية على حسب ارتقاء العقل البشرى بتجاربه
العلمية النافذة لفهم قوانين وأسرار الكون والمجتمع الإنسانى.
وقد مرّ علم
الكلام بمراحل فى الفكر الاسلامى وان كان هناك فكرة تعمل ضده وتناقضه منذ ظهوره
وحتى يومنا هذا ولكن ظهر مفكرون اشتغلوا بعلم الكلام ، سمّوا متكلمين أو علماء
الكلام حقا وبتعبير آخر فلاسفة الدين الاسلامى.
ويعتبر القرن
الخامس والسادس والسابع الهجرى ، والحادى عشر والثانى والثالث عشر الميلادى عصور
نضوج علم الكلام. وفى تلك الفترة عاش فخر الدين الرازى وأصبح من أفذاذ المتكلمين ،
والذين جاءوا بعده مباشرة من المتكلمين الفلاسفة والقضاة المتكلمين اهتموا بمنهجه
وشرحوا ولخصوا كتبه المتعددة خاصة «المحصل» فى علم الكلام.
فان فخر الدين
الرازى كنيته واسمه أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين
ابن على ؛ ولد فى
مدينة الرى عام ٥٤٢ أو ٥٤٤ ه ١١٤٨ م ؛ وتوفى فى مدينة هراة عام ٦٠٦ ه ـ ١٢٠٩ م
وهو امام وفيلسوف
فى علم الكلام وفلسفة الدين ، الا أنه لا يوجد كتاب يتحدث عن شخصية الرازى فى لغة
غير اللغة العربية. وفى السنوات الأخيرة بدأ العلماء والباحثون يهتمون بالرازى
متكلما ومفسرا. ولا شك أن فخر الدين الرازى لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث فى نطاق
البحوث الاسلامية بعد ؛ اذ لم تقدم عنه ابحاث علمية تتناوله كفيلسوف مسلم.
ومن خلال اطلاعنا
على ما كتب عن هذا العالم الكبير ، وعلى ضوء ما وصلنا إليه من نتائج نستطيع أن
نقول : ان الرازى قد لعب دورا كبيرا فى علم الكلام والفلسفة الاسلامية ويمكن ايجاز
ذلك فى نقطتين.
الأولى
ـ انه استوعب فلسفة
ارسطو التقليدية ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة فى علم الكلام. ونتيجة لما قام به
الرازى أصبح علم الكلام فلسفة ويمكن أن نقول بعبارة أخرى انه جعل تلك الفلسفة
كلاما. وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة ، ولكن لا ينبغى أن يفهم من ذلك ان
المسائل الفلسفية التى عارضها علم الكلام أصبحت بذلك مشروعة ؛ بحيث اعتبرت كلاما.
لقد ادى ذلك المنهج الّذي اختلطت فيه الفلسفة بعلم الكلام ، الى عدم دراسة الفلسفة
كعلم مستقل وبالتالى الى خمود التفكير الحر فى العالم الاسلامى.
وبعد ذلك فقد اتبع
نهج الرازى حتى دخلت الفلسفة فى علم الكلام وامتزجت به ومن ثم فلم تدرس الفلسفة
كعلم مستقل أو لم تصبح دراسة مستقلة عن علم الكلام. ثم أصبحت هذه الفلسفة الممتزجة
بعلم الكلام سببا للتأخر ولإخماد شعلة التفكير الحر فى العالم الاسلامى. ومن جهة
أخرى فان محيى الدين بن عربى والسهروردى قد اهتما بالجانب الوجودى من الفلسفة فى
التصوف وجعلاها منه وبذلك انسحبت الفلسفة المحضة أو العامة عن ميدان الفلسفة ولم يكن
الرازى وحده رائدا فى هذا المجال ، بل نجد أيضا محيى الدين بن عربى والسهروردى
يدخلان الجانب الوجودى من الفلسفة فى التصوف حتى وصل بهما الحد الى اعتباره جزءا
منها. وهكذا امتزجت الفلسفة المحضة والتفكير الحر بالتصوف
فأصبحت الفلسفة
تدرس بين سطور علم الكلام والتصوف بقدر ما أعطيت من العناية.
وبعد عهد الرازى (٦٠٦
ه ، ١٢٠٩ م) وشهاب الدين السهروردى (٥٨٧ ه ، ١١٩١ م) لا نصادف فيلسوفا حقيقيا.
لأن محبى الفلسفة اكتفوا منها بالقدر الّذي دخل فى علم الكلام والتصوف وبسبب ذلك
لم ينم التفكير الفلسفى المحايد الحر ؛ لأن منشأ التفكير الفلسفى وسبب تقدمه فى
الحقيقة هو التفكير الحر المحايد التام.
والمعلوم أن
التفكير الفلسفى لا يخطو الى الإمام الا فى ظل جو يسوده التفكير الحر الّذي لا
يخضع لا غلال تقيده ، تلك الأغلال التى من شأنها أن تطفئ اللهب المتوقد فى سماء
فسيحة رحبة.
والّذي لا بد من
قوله هنا هو أن الفلسفة انما تنتج وتثمر اذا درست لذاتها لا من أجل غيرها. ولهذا
يجب أن تدرس الفلسفة من أجل التفلسف فقط. ولكن فخر الدين الرازى خالف ذلك عند ما
دمج الفلسفة بالكلام ، بحيث أصبحت الفلسفة تدرس من خلال علم الكلام. واذا كان علم
الكلام قد استفاد من الفلسفة فى بداية الأمر فانه توقف عند ما توقفت الدراسات
الفلسفية وأعتقد ان الأستاذ اسماعيل حقى الإزميري قد أخطأ عند ما جعل سيف الدين
الآمدي اوسع علما بالفلسفة من فخر الدين الرازى .
الثانية
ـ واذا كان الرازى
قد أدخل الفلسفة فى علم الكلام فانه ـ على ضوء فلسفة ارسطو التقليدية ـ قد أعطى
اتجاها جديدا لعلم الكلام ، فأثر بذلك على الفكر الاسلامى وقد ظهر تأثير الرازى
جليا فى غيره من خلال بقاء العديد من العلماء والمفكرين أسرى اتجاهه ومنهجه بعد
ذلك . لقد أدى هذا التيار
__________________
الجديد الى انتشار
مذهب الاشاعرة ، كما كان له تأثير فى اختفاء وانكماش مذهب الماتريدية ، بالرغم من
أن أسلوب ومنهج الماتريدية فى دراسة علم الكلام يختلف عن منهج وأسلوب الرازى.
ويتضح هذا التأثير أكثر بعد وفاة أكبر متكلمى الماتريدية وهو أبو المعين النسفى (٥٠٨
ه / ١١١٤ م) اذ لا نرى أحدا يتبع منهجه من بعده. ومن ثم أهمل كتابه «تبصرة الأدلة»
لقد كان منهج النسفى يختلف اختلافا كبيرا عن منهج أرسطو التقليدى حيث انه شبيه
بمنهج «السمنتكس » اليوم. بعد ذلك استولت المدرسة الأشعرية التى تقبلت
الفلسفة المشائية على الفلسفة الأخرى ، وأصبحت ممثلا لها فى العالم الاسلامى بعد
فخر الدين الرازى.
واذا كان قد أهمل
ذلك حتى الآن فانه ينبغى أن يهتم به مستقبلا ؛ ولهذا فاننا نفكر ان نقوم بعمل علمى
آخر حول كتاب تبصرة الأدلة لأبى المعين النسفى.
ان تلك المحاولة
الفلسفية الكلامية أدت الى نشأة مذهب كلامى ذى اتجاه واحد فى البحث والدراسة ، ولم
تتح فرصة لنمو الأفكار الفلسفية الحرة.
ولكى نبرز دور فخر
الدين الرازى فى علم الكلام بوجه عام ، نرى من المناسب أن نبين رأينا فى الغزالى
أولا ؛ لأن الامام الغزالى هو الآخر قد لعب دورا كبيرا فى التفكير الاسلامى قبل
ذلك ومهد الطريق للرازى ويمكن تلخيص ذلك فى النقاط التالية :
١ ـ لقد ألمّ
الغزالى بجميع العلوم الإسلامية. وفى كل علم من تلك العلوم كان له الدور الموجه
وخاصة فى أربعة علوم رئيسية. وبذلك تميز عمن سبقوه لقد
__________________
أصبحت شخصية
الغزالى العالم والمفكر مثلا حيا لمن أتى بعده ، لكن ذلك تطلب ممن نهج منهجه
واقتفى أثره عملا كبيرا وجهدا شاقا. أما العلوم الأربعة الرئيسية التى برز فيها
الغزالى هى : ١ ـ الفقه وأصوله. ٢ ـ علم الكلام. ٣ ـ الفلسفة. ٤ ـ التصوف. لقد ضلع
فى هذه الجوانب الأربعة وأصبح له فيها دور التوجيه لقد كان عالما وإماما فى تلك
العلوم جميعا ، ولا شك ان ذلك يرجع الى تميزه بذكاء حاد وشغف بالعلوم على اختلاف
أنواعها ولهذا من الصعب ان نجد قبله عالما يحمل نفس ثقافته الواسعة تلك.
٢ ـ ان ثقافة
الغزالى لم تقف عند حد معرفته للعلوم الاسلامية فحسب ، بل تعدتها الى حد الالمام
والاحاطة بالثقافة التى تعارض الاسلام عالما بما لدى خصومه فى نفس الوقت من أدلة
وحجج. واعتمادا على ذلك كان يسوق آراءه المستندة على أساس راسخ متين. فمثلا عند ما
يقوم التصوف من الناحية التشريعية يستند فى ذلك على ما لديه من ثقافة فى الفقه
وأصوله ولذلك عند ما يقال ان الغزالى يتحدث فى الفقه كذا أو فى التصوف كذا لا ينظر
الى رأيه كأى رأى من الآراء بل ينظر الى أنه أهل لرأيه وصاحب كلمة صحيحة فيما
يقول. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعلوم الأخرى التى ضلع فيها مثل علم الكلام
والفلسفة. وهكذا جذب الغزالى بثقافته الواسعة انظار غيره من العلماء ؛ فأثار فيهم
روح التوسع فى العلوم حيث نشأ من بعده نهج التوسع فى الأبحاث والعلوم ، لكن ذلك
أصبح حائلا أمام التعمق فيها ، لقد حاول العلماء من بعده التشبه به فى ثقافته
الواسعة تاركين التخصص فى المواضيع مما أدى الى ضياع العلم والفلسفة.
٣ ـ لم يكن
الغزالى ضد الفلسفة فحسب ؛ بل عارض علم الكلام أيضا ، ولذلك كان له تأثير ملحوظ فى
هذين الموضوعين الذين يعتبران مجال تفكير أكثر من العلوم الأخرى ولكون الغزالى
يتمتع بمكانة علمية ودينية لدى جمهور المسلمين فان عداوته لعلم الكلام والفلسفة
انتشرت لدى الأوساط المختلفة ، ومن ثم ازداد خصومهما من مختلف الطبقات. ولا تزال
هذه الفكرة منتشرة فى الأوساط الدينية حتى يومنا هذا. ان هذا الموقف السلبى من
الغزالى قد أعاق نمو التفكير ومشروعية الحرية التى تحتاج إليها بالضرورة التنمية
الفكرية.
٤ ـ عند ما قام
الغزالى بوضع معيار للعلوم المختلفة أخطأ فى اعطاء كل علم من العلوم حقه. فهو قد
أعطى للتصوف مثلا قيمة أكثر مما يستحق ؛ مما أدى الى اختلال التوازن بين العلوم
المختلفة. لقد استطاع الغزالى بما له من شخصية ومكانة علمية فذة لدى الجمهور كما
قلنا ؛ أن يلعب دورا كبيرا فى إقناع الناس بصحة رايه ومنهجه. وقد كان ذلك سببا من
الأسباب التى أدت الى ترجيح رأيه عند ما تعرض لكل من الفلسفة وعلم الكلام. ان
الغزالى لم يكتف بذكر آرائه تلك فى كتاب أو فى موضوع معين بل بثها بين ثنايا كتبه
المختلفة فى التفسير والحديث والشريعة والتصوف. وبين رأيه بوضوح فى ذلك كله وتصح
فيما يتعلق بعلم الكلام بعدم التعمق فيه لأنه لا حاجة تدعو الى الاستفاضة فى
موضوعاته وقال نفس الشيء بالنسبة للعلوم الشرعية الأخرى فهو يقول بهذا الصدد :
«فان العلم كثير
والعمر قصير وهذه العلوم آلات أو مقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها. وكل ما
يطلب لغيره فلا ينبغى أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه فاقتصر من شائع علم اللغة
على ما تفهم منه لغة العرب. وتنطق به ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع
التعمق فيه. واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة ... فما من علم الا وله
اقتصار واقتصاد واستقصاء .. ونحن نشير إليها فى الحديث والتفسير والفقه والكلام
لتقيس بها غيرها. فالاقتصار فى التفسير هو ما يبلغ ضعف القرآن فى المقدار كما صنفه
على الواحدى النيسابورى وهو الوجيز ، والاقتصاد هو ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن :
كما صنفه من الوسيط فيه. وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد الى انتهاء
العمر.
واما الحديث
فالاقتصار فيه تحصيل ما فى الصحيح بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث واما
حفظ اسامى الرجال فقد كفيت به بما تحمله عنك قبلك ولك أن تقول على كتبهم. وليس
يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما يحتاج إليه عند
الحاجة واما الاقتصاد فيه فان تضيف إليها ما خرج عنهما مما ورد فى المسندات
الصحيحة.
واما الفقه
فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزنى وهو الّذي رتبناه فى
خلاصة المختصر
والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة امثاله وهو القدر الّذي أوردناه فى الوسيط والاستقصاء
ما أوردناه فى البسيط.
وأما الكلام
فمقصوده حماية المعتقدات التى نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير. وما وراء
ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقها ، ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار
منه بمعتقد مختصر ، وهو القدر الّذي أوردناه فى كتاب قواعد العقائد من جملة هذا
الكتاب. والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الّذي أوردناه فى كتاب الاقتصاد
فى الاعتقاد» .
وبعد اطلاعنا على
موقف الغزالى من الفلسفة وعلم الكلام ذلك الموقف الّذي أوجزناه آنفا يأتى فخر
الدين الرازى ليوحد بين الفلسفة وعلم الكلام كما أسلفنا وهكذا تكتسب الفلسفة
مشروعيتها من مشروعية علم الكلام. ولكن بسبب عدم استقلالها لم تستطع أن تتقدم ، ثم
ان هذا الوضع قد أثر بدوره فى العلوم التجريبية.
واذا أردنا ان
نفهم التفكير الاسلامى بعد الرازى علينا أن نبدأ بالرازى قبل ذلك ونفهمه جيدا.
وبكل أسف نقول ان الرازى لم يفهم كما ينبغى لعدم اهتمام الناس بمؤلفاته الأخرى كاهتمامهم
بتفسيره الكبير لقد أخذ الرازى لقب الامام بناء على موفقه من علم الكلام علما أن
بعض أعماله العلمية الخاصة بهذا العلم لم تنشر بعد مثل «المطالب العلية» و «الملخص»
و «نهاية العقول» و «المحصول فى الأصول» وغيرها من الأعمال العلمية المهمة ، ومن جهتنا
ننوى القيام بنشر تلك الأعمال المهمة بقدر استطاعتنا وبقدر ما تسمح به امكاناتنا.
دراسة مقارنة بين
المحصل وشروحه :
اذا قلنا ان فخر
الدين الرازى هو نقطة بداية أو نهاية الملتقى بين المتقدم
__________________
والمتأخر نكون قد
أنصفناه بلا شك فهو نقطة بداية بمعنى ان الثقافة الفلسفية والكلامية الاسلامية
اتخذت اتجاها جديدا بعده وهو ملتقى الطرق بين المتقدم والمتأخر بمعنى أن الثقافة
الاسلامية الفلسفية والكلامية التقليدية قد انتهت إليه واذا جاز التعبير فان
منزلته تعادل منزلة ارسطو فى الثقافة اليونانية من حيث الأهمية. لقد استطاع
الالمام بكل ما توصل إليه الأقدمون ثم صاغه فى قالب جديد. ونعتقد أن هذا يكفى لأن
تفتخر به الثقافة الاسلامية.
لقد قسم الرازى
كتاب المحصل الى أربعة أقسام :
١ ـ القسم الأول
فى مبادي المعرفة ومصادرها وكيفية اكتسابها.
٢ ـ القسم الثانى
فى الموجود والأشياء الموجودة وترتيبها وخصائصها المميزة بعضها من بعض.
٣ ـ القسم الثالث
فى اثبات المبدأ الأول وواجب الوجود ومصدر كل الموجودات.
٤ ـ القسم الرابع
فى السمعيات وما يدخل فيها من نبوة ، وآراء الفرق المختلفة النشأة من فهم النصوص
والأخبار.
لم يكن الرازى
السبّاق لمثل هذا التقسيم. فان ابن سينا يذكر فى أول الاشارات بانه يبدأ بالمنطق
ثم بالأشياء الطبيعية وثلث بما بعد الطبيعة. ان هذا النهج مفيد ونافع للقارىء حيث
انه يتبين له لأول وهلة ما ذا يحتوى الكتاب وما هى الغاية منه وكأن المؤلف قد لخص
كتابه للقارىء ببضع كلمات ليشوقه ويجعله يستمر فى القراءة. وهكذا نرى أن من سبق
فخر الدين الرازى من المتكلمين قد اتبع هذا النهج لقد كان العلماء يبوبون كتبهم
مبتدئين أولا بنظرية المعرفة ثم بأنواع الأدلة والكائنات الطبيعية كما درجوا الى
البحث عن وجود الله تعالى ثم النبوات. وكأنهم رأوا قبل كل شيء أنه من الضرورى
الايمان بالله تعالى ورسوله محمد صلىاللهعليهوسلم لأن ذلك يجعل الانسان مدركا لمدى المعرفة ولأن الله تعالى
قال : «فاعلم انه لا إله الا الله» ، ومن ثم ليعرف بأن هناك كائنات حية
كثيرة فى هذا
الكون وأن رب العالمين قد اصطفى الانسان من بين هذه الموجودات بانزال الوحى إليه.
والى جانب هذا لا شك انه كانت هناك مواضيع أخرى أو خاصة افردت لها الكتب والتآليف.
اما اليوم فان كل مؤلف يتبع منهجا خاصا به بحيث يستطيع ابداء رأيه بشكل ينسجم مع
مستوى استيعاب الناس مسلطا الأضواء على بعض المشاكل التى تدور فى اذهان الآخرين.
ان المؤلف يشرح
غايته ومنهجه فى مقدمة كتابه ويبين موقف كتابه البيئات العلمية. والشارح كذلك يبين
غايته من خلال شرحه ووضع الكتاب الّذي يشرحه بين الأوساط العلمية.
ان المحصل لفخر
الدين الرازى كما يفهم من اسمه هو محصل أفكار وآراء الرازى أولا ثم محصل أفكار
المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين ثانيا. ولهذا فانه جدير بأن يوضع بين
الكتب التى عنى بها شارحوها وأعطوها عناية كبيرة ووجدوا فيها أشياء مبهمة فأوضحوها
وأفكارا جديدة فنقدوها.
الحقيقة أن القارئ
يجد فى المحصل آراء استطاع المتقدمون أن يسبقوا المؤلف فيها الا أن المؤلف قد أتى
بشيء جديد فى الايضاح والشرح والبيان وقد لخص ما كتبه فى كتبه المختلفة مثل
المباحث المشرقية ونهاية العقول والملخص وغيرها. فالقارئ يلاحظ الأفكار والعبارات
المركزة فى المحصل ، اذا قارن ما فيه بكتب المؤلفين الآخرين.
ان المحصل يحتوى
على فلسفة المشائين بدءا من ارسطو وحتى ابن سينا فى المنطق والفلسفة الطبيعية وما
وراء الطبيعة وناقش واجب الوجود وامكانية وجود العالم كما ورد عند الفارابى وابن
سينا فى الفلسفة الوجودية لقد كان الكلام والفلسفة قبل الرازى مفترقين فى المنهج
والمحتوى ؛ ولكن الرازى جمع بين آراء ومناهج الفلاسفة والمتكلمين فى كتابه «المحصل»
مثل أدلة اثبات وجود الله تعالى. لقد اتخذ المتكلمون من قبله من جملة ما اتخذوه من
الطرق فى اثبات وجود الله تعالى طريق الحدوث. وأما الفلاسفة فكانوا يتبعون طريق
الامكان. والرازى جمعهما فى مؤلفه هذا. لقد رجح الرازى طريق الامكان على طريق
الحدوث فى قوله : «علة
الحاجة الى المؤثر لما سبق الامكان لا الحدوث» فانه رجح دليل الامكان على دليل الحدوث فى خلق الله للكون.
وبهذا الصدد يقول :
(أ) لأن الحدوث
كيفية لوجود الحادث فيكون متأخرا عنه والوجود متأخر تأثير القادر فيه المتأخر عنه
احتياج الممكن إليه ، المتأخر عن علة احتياجه إليه ، فلو كانت العلة هى الحدوث لزم
تأخر الشيء عن نفسه بمراتب.
(ب) احتجوا (أى
المتكلمين) بأن علة الحاجة لو كانت هى الامكان ، لزم احتياج العدم الممكن الى
المؤثر ، وهو محال لأن التأثير يستدعى حصول الأثر والعدم نفى محض فلا يكون أثرا.
(ج) جوابه : فان
قيل : ان علة العدم عدم العلة .
ان فخر الدين
الرازى فى بند (ا) يبين سبب ترجيحه علة حاجة الكون الى وجود الله تعالى بأنه
الامكان ويعطى سبب ترجيحه بأن احتياج الممكن الى الواجب الوجود احتياج مباشر
وملازم وموجود منذ بداية الأمر وقبل احداث الممكن.
ولذلك لا يمكن ان
يخطر ببال الانسان المفكر درجات أو مراحل فى علية الحاجة لأن الانسان يضل فى
الطريق الحق عند ما يندرج فى وسائل الاحتياج المتعددة. والاحتياج متلاحم ومتلاصق
وبتعبير آخر اذا كانت علة الحاجة هى الامكان. وأما اذا كان علة الحاجة هى الحدوث
تتأخر علة الحاجة عن الحدوث. وهذا هو المعنى الدقيق فى المسألة. وعلى ذلك تظهر علة
الحاجة بعد أن يحدث الكون ، يعنى بعد أن يخلق الله الكون ونراه بأعيننا وحواسنا
حينئذ نفهم أو نستدل بما أن الكون قد حدث وصار بعد أن لم يكن موجودا. إن الله
احدثه وكونه وخلقه. هنا علة الحاجة تأخرت عن الحدوث أو على الأقل بالنسبة الى فهم
الانسان. فأما فى الامكان فان الانسان يفهم فى بداية الحاجة قبل كون الحدوث
__________________
أو قبل ايجاد وخلق
الكون ، فانه محتاج الى موجود وخالق قبل أن يكون أى شيء. وهنا يفهم من امكانيته
أنه محتاج الى واجب الوجود لأن يكون موجودا. هنا علة الحاجة سابقة الى الايجاد.
وهذا يستند على التفكير المحض والبحث ، ويعتبر آخر مسألة ميتافيزيقية.
وفى بند (ب) فان
الرازى أتى بدليل المتكلمين المتقدمين فى ترجيح علية الحدوث على الامكان ،
واستدلال المتقدمين من المتكلمين بأن الامكان لو كان هو علة الاحتياج وأن الامكان
هو استواء طرفى الوجود والعدم لكن العدم الممكن يعنى لا العدم المستحيل ، محتاج
الى مؤثر. فالمتفق عليه أن يفهم ان العدم نفى محض ، ولا يحتاج الى مؤثر ، حتى لا
يخطر ببال انسان ان ادعاء الحاجة الى المؤثر محال لأن العدم غير محتاج لأنه اذا
احتاج ، معناه أصبح موجودا وأثرا لمؤثر لأنه لما كان محتاجا الى المؤثر والمؤثر
يؤثر فيه ويصبح أثرا لأن علية الحاجة سابقة على الوجود فى الامكان ، وان كانت
الحاجة ثابتة يلزم أن يكون العدم ثابتا وموجودا وهو محال. ولذلك اعتبر المتكلمون القدماء
وبعض المحدثين منهم حاجة الكون الى واجب الوجود هى الحدوث لا الامكان.
وفى بند (ج) فان
الرازى أعطى لهم الجواب ، بأن الممكن فى حالة الامكان بما أنه مستوى طرفى العدم
والوجود. والممكن ليس هو موجودا ولا معدوما على حد تعبير الفلاسفة نظريا فانه غير
موجود فعلا فلا يحتاج الى المؤثر ولا يخطر ببال المفكر احتياجه إليه لأنه عدم ولا
حاجة الى تفكير وجوده ولا سبب له ولا علة. لأنه ما دام فى حيز العدم فانه عدم سبب
التفكير فى حاجته الى المؤثر ، هو عدمه يعنى عدم علته وهو قاعدة عند المتكلمين
والفلاسفة : علة العدم عدم العلة. فمعناه أن العلة فى ان الشيء غير موجود ومعدوم
هو عدم وجود علته يعنى لا يوجد دليل لعلة وجوده. وهذا دليل على عدم وجوده وكذلك
استدلال المتكلمين على أن العدم الممكن محتاج الى مؤثر غير وارد ولا مستند على
تفكير منطقى. وهذا الجواب يظهر ويعتمد على استعمال المصطلحات الفلسفية والكلامية ،
وتحقيق أو تبين معانيها كما هى مصطلح عليها بدقة ممكنة.
ومن جانبنا كان من
الممكن أن يقوم بجواب ثان لذلك. فى الحقيقة ، الممكن
الحقيقى هو مستوى
طرفى العدم والوجود محتاج الى مؤثر ؛ وطرفه العدمى أيضا محتاج الى المؤثر لأن يكون
موجودا ولا غبار فيه ، والا كيف يمكن أن يكون موجودا ، فان عدم الوجود سابق على
الوجود فى الممكن الموجود ، واذا لم نعتبر الحاجة هنا يعنى فى الممكن حالة عدم
وجوده كيف ، يمكن أن يكون موجودا فيما بعد ، ينبغى ألا يكون هناك أى مانع من أن
العدم الممكن محتاج الى المؤثر ، وبطبيعة الحال الممكن محتاج الى المؤثر حال عدمه
لأن يكون موجودا وحال وجوده لأن يكون وجوده دائما ومستمرا ولذلك يحتاج الممكن
الموجود الى المؤثر فى الوجود والدوام.
فى الجملة ، ان
الممكن فى كلتا الحالتين الوجود والعدم محتاج الى المؤثر نظريا فى حالة العدم ،
لأننا نفكر أنه سيكون موجودا بمؤثر ، وفى هذه الحالة هو معدوم ومحتاج. والممكن
محتاج الى المؤثر وجوديا فى حالة الوجود ليستمر وجوده.
ويقول فخر الدين
الرازى فى ترجيحه الامكان على الحدوث بناء على تعليله ماهية الامكان. ويظهر من
عبارات الرازى فى ترجيحه هذه المرة أنه بالامكان يستطيع الانسان أن يثبت استمرارية
ودوام الحاجة ؛ يقول بهذا الصدد :
(١) «والممكن حال
بقائه ، لا يستغنى عن المؤثر ، لأن علة الحاجة الامكان والامكان ضرورى اللزوم
للماهية الممكنة ، فهى ابدا محتاجة. لا يقال إنه صار الوجود أولى به حال البقاء.
لأنا نقول هذه الأولوية المغنية عن المرجح ، ان كانت حاصلة حال الحدوث ، وجب
الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث ، وان لم تكن حاصلة حال الحدوث فهو أمر حدث حال
البقاء ؛ ولو لاه لما حصل الاستمرار. فالشيء حال استمراره مفتقر الى المرجح» .
يشير الرازى فى
هذه العبارات الى ماهية الممكن ، وهى أن الماهية ليست غنية عن المؤثر. ان ماهية
الممكن كما بينا آنفا ، اذا اخرجت من العدم الى
__________________
الوجود ؛ فصفة
الامكان لا تنفصل عنه وتلازمه ؛ فصفة الامكان بما أنها لازمة وضرورية للماهية
والماهية اذا خرجت من العدم الى الوجود ، لا تنقلب من الامكان الى الوجوب وتبقى
الماهية على صفة الامكان كما كانت عليه قبل اتصافها بالوجود. وفى هذه الحالة تحتاج
الى الواجب الوجود. ونظرية الامكان عند ما وضعت من قبل الفارابى وشرحها بعده ابن
سينا وهما قصدا هذا المعنى وهو خلاف الحدوث. ان الحدوث اذا قبل بالمعنى الّذي حدده
المتكلمون بأنه خروج الشيء من العدم الى الوجود ، وقبل وجوده لم يكن متصفا بأية
صفة من صفات النفى ولم يسمّ ـ باسم من الأسماء سوى النفى المحض حيث ليس له اسم
يقابله. واذا وجد وحدث لم يكن له أى صلة بما كان قبل وجوده ، لأنه قبل وجوده لم
يكن شيئا مذكورا حتى يستطيع الانسان أن يفكر بأن له علاقة بما قبله وما بعده. واذا
وجد لم يكن محتاجا بدوره الى المؤثر ليوجده ويحدثه مرة ثانية لأنه يلزمه تحصيل
الحاصل.
وأما احتياج
الممكن الوجود الى المؤثر حال وجوده لا يستلزم تحصيل الحاصل فالفرق هو أن الممكن
لا يحتاج الى المؤثر فى وجوده أو لاتصاف الماهية بالوجود ، بل لاتصاف الماهية
بالامكان وهذا الامكان باق بعد وجوده ، ولكن فى الحدوث غير باق ما هو قبله ولذلك
يمكن التفكير بعدم احتياجه الى المؤثر ؛ لأن المؤثر قد اظهر اثره وأتم عمله وانتهى
، ولم يبق له علاقة مع عمله فى نظرية الحدوث وحاجة الوجود الى الاستمرار فى نظرية
الحدوث ينبغى أن تبنى على نظرية أخرى أو تستند على دليل آخر. ودليل الحدوث لا يعطى
ذلك بصراحة ووضوح واما نظرية الامكان فانها تتضمنه ؛ وهذا هو سبب الترجيح عند
الرازى.
(٢) «احتجوا (المتكلمون
الذين يرجحون نظرية الحدوث) بأن المؤثر حال البقاء اما ان يكون له فيه تأثير أو لا
يكون. فان كان له فيه تأثير ؛ فذلك الأثر اما ان يكون الوجود الّذي كان حاصلا وهو
محال. لأن تحصيل الحاصل محال. واما أن يكون أمرا جديدا ؛ كأن يكون المؤثر مؤثرا فى
الجديد لا فى الباقى. وان لم يكن له فيه تأثير أصلا ؛ استحال أن يكون مؤثرا».
ويقول هنا أصحاب
نظرية الحدوث ان الشيء المحدث متى ما أحدث وخلق فأنه يصبح بغنى عن المؤثر وغير
محتاج إليه مرة ثانية ، اذ لم يبق له حاجة به لأن الشيء المحدث عند ما حدث وتم
انقطعت علاقته مع مؤثره وان فرض علاقته به لا يعطى أى معنى لأنه ما ذا يعمل المؤثر
فى المرة الثانية هل يعطى وجودا لموجود وهذا لا يمكن بالطبع لأن الموجود غير محتاج
الى الوجود والا يكون ايجاد الموجود وهو محال وبتعبيرهم هو تحصيل الحاصل. واذا
اعطى المؤثر وأوجد شيئا جديدا. وهو شيء جديد ومحدث آخر ليس هو الشيء المحدث الأول
السابق. وبما أن المؤثر لا يعمل شيئا فى المحدث لا فى ايجاده بعد ان وجد ولا فى
ابقائه لأن الابقاء تزويد الشيء بالوجود مرة ثانية ولا حاجة إليه لأن الموجود بما
أنه موجود لا يحتاج الى الموجود ولا يبقى المؤثر مؤثرا.
(٣) «والجواب : لا
نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد بل بقاء الأثر لبقاء المؤثر» .
جواب الرازى هنا
ليس مقنعا. فهو وان لم يكن تحصيل أمر جديد ، فانه استمرار وتزويد الموجود بالوجود
لكى يبقى الموجود دائم الوجود. وصحة هذه الدعوى تقوم على اثبات وجود العلاقة
المستمرة بين المؤثر والأثر ودوام حاجة الموجود الى الموجود حال وجوده.
وهنا ارى انه من
الأحرى ان توضع هنا أقوال الشراح نصب الأعين حتى يمكن للقارىء الكريم المقارنة فى
إيضاح وشرح وفهم عبارات الرازى حيث نتمكن من خلال ذلك تقديم وتقريب المعنى الى
الأذهان.
يقول نصير الدين
الطوسى فى شرح النصوص فى ب ج : «أقول : الحدوث هو كون الوجود مسبوقا بالعدم فهو
للوجود الموصوف به. والصفة متأخرة بالطبع عن موصوفها. والوجود الموصوف به متأخر عن
تأثير موجوده بالذات تأخير المعلول عن العلة. وتأثير الموجود متأخرا عن احتياج
الأثر إليه فى الوجود تأخيرا بالطبع.
__________________
واحتياج الأثر
متأخر عن علته بالذات وجميعها أربع تأخرات. اثنان بالطبع واثنان بالذات وذلك يقتضي
امتناع كون الحدوث علة للاحتياج.
وقد قالوا فى
معارضة الامكان صفة للممكن فهو متأخر عنه. والممكن متأخر عن تأثير المؤثر فيه.
والتأثير متأخر عن الاحتياج المتأخر عن علته وهى فاسدة. لأن الممكن الموصوف
بالامكان ليس متأخرا عن تأثير المؤثر. انما يتأخر عنه وجوده أو عدمه المتأخران عن
ذاته اللذين بسببهما احتاج الى مؤثر ثم الى علة الاحتياج.
والقائلون بكون
الامكان علة الحاجة هم الفلاسفة والمتأخرون من المتكلمين ، والقائلون بكون الحدوث
علة لها هم الأقدمون منهم.
وقولهم : لو كان
الامكان علة الحاجة لزم احتياج العدم الى المؤثر وهو محال ليس بشيء لأن عدم
المعلول ليس نفيا صرفا ولا مانع من أن يكون معلولا لعدم العلة كما مر القول فيه.
وقد تبين أن ذلك غير مشتمل على فساد. وفى شرح النصوص : ١ ، ٢ ، ٣.
«أقول : القول بأن
الممكن حال بقائه محتاج الى المؤثر هو قول الحكماء والمتأخرين من المتكلمين. وبعض
منهم يفرقون بين الموجد وبين المبقى. والاعتراض بأن المؤثر حال البقاء اما أن يكون
له فى الأثر تأثير أم لا ، يشتمل على غلط. فان المؤثر فى البقاء لا يكون له أثر
البقاء حال العدم. وتحصيل الحاصل انما لزم منه. والحق أن المؤثر يفيد البقاء بعد
الاحداث.
وقوله وان كان
أمرا جديدا كان المؤثر مؤثرا فى الجديد لا فى الباقى. جوابه : نعم تأثيره بعد
الأحداث فى أمر جديد هو البقاء فانه غير الاحداث فهو مؤثر فى أمر جديد صار به
باقيا ، لا فى الّذي كان باقيا.
وقوله فى الجواب.
لا نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد بل بقاء الأثر لبقاء
__________________
المؤثر ، ليس بشيء
لأن البقاء المستفاد من المؤثر أمر جديد لو لاه لكان الأثر مما لا يبقى» .
لا أريد أن أعلق
على عبارات الطوسى لأنها واضحة الا الجملة الأخيرة مع استصغاره عبارة الرازى فى
الجواب ولم يزد عليها شيئا وانما اعاد نفس المعنى بعبارات أخرى.
وأما ابن أبى
الحديد فقد علق على قول الرازى قائلا : «فصل : ثم تكلم فى أن الممكن الباقى هل
يستغنى حال بقائه عن المؤثر أم لا وهى مسئلة خلاف بين الفلاسفة وكبير من
المتكلمين. فاحتج لمذهب الفلاسفة بأن الحاجة الى المؤثر الامكان. والامكان ضرورى
اللزوم لماهية الممكن فيكون محتاجا أبدا ثم سأل نفسه فقال انه حال البقاء صار أولى
بالوجود واجاب بأن هذه الأولوية المغنية عن المرجح ان كانت حاصلة حال الحدوث وجب
الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث وان لم تكن حاصلة حال الحدوث فهى أمر حصل (و) حدث
حال البقاء ولو لاه لما حصل الاستمرار. فالممكن حال استمراره مفتقر الى المرجح .
وفى شرح نص الرازى
(١ ، ٢ ، ٣) يقول ابن أبى الحديد :
«أقول : ان هذا
خروج عن محل النزاع لأن الفلاسفة ومن وافقهم من المتكلمين على هذه المسألة يزعمون
أن الممكن الباقى محتاج حال بقائه الى مؤثر خارج عن هذه الأولوية سواء صح القول
بها أو فسد. ولو جاز عند الفلاسفة أن يكون وجود العالم حال استمراره تسليم هذه
الأولوية من علة خارجة عنه بالكلية واجبة الوجود يقتضي دوامه واستمراره. وفى هذا
وقع النزاع وهو محل البحث والنظر وكلام صاحب الكتاب تصريح بالرجوع عن المذهب الّذي
يروم ان ينتصر له. حكى حجة لمن زعم انه لا يكون المؤثر مؤثرا الا فى أمر حادث.
ومحصولها ان المؤثر حال بقاء الأثر اما ان يكون له تأثير أو لا يكون. فان كان له
فيه تأثير فذلك التأثير اما الوجود الّذي كان حاصلا وهو محال لأن تحصيل الحاصل
محال ،
__________________
واما أمر جديد
فيكون المؤثر مؤثرا فى أمر متجدد لا فى الباقى ، وان لم يكن له فيه تأثير أصلا
استحال أن يكون له فيه أثر. واجاب فقال (الرازى) «انا لا نعنى بالتأثير تحصيل أمر
جديد بل بقاء الأثر لبقاء المؤثر».
«أقول : ان حجة
الخصم قد أتت على هذا الجواب. لأن بقاء الأثر الّذي زعم (٤٥٦ ـ ١) أنه معلول
المؤثر هل هو الحاصل أم غيره. ان كان الأول فتحصيل الحاصل محال.
وان كان غيره فهو
شيء متجدد حصل بالمؤثر وذلك قول بأن المؤثر لم يؤثر الا فى أمر متجدد وهو مطلوب
الخصم. وليس معك قسم ثالث. فان قلت المؤثر أثر فى استمرار (و) دوام الباقى قيل لك
هذا الاستمرار هو نفس الشيء الحاصل بعينه أم زائد على نفسه أما كيفية أو نسبة أو
مهما شئت فقل : الأول قول بتحصيل الحاصل ، والثانى رجوع الى مذهب صاحب الحجة وقد
استقصيت البحث فى هذا الموضع فى التعليق على كتاب الأربعين»
ان صاحب المفصل فى
شرح المحصل على بن عمر الكاتب القزوينى أوضح وشرح نصوص المحصل (ا ، ب ، ج)
بعباراته الآتية : «علة الحاجة الى المؤثر الامكان لا الحدوث الى آخره : أقول
اختلف الناس فى أن علة الحاجة الى المؤثر الامكان أو الحدوث فذهب الحكماء وبعض
المتكلمين الى أنها الامكان ؛ والحدوث غير معتبر أصلا. وذهب بعضهم الى أنها الحدوث
وذهب الباقون الى أن علة الحاجة الامكان والحدوث.
اذا عرفت هذا ؛
فنقول الدليل على أن الحدوث غير معتبر أصلا هو أن الحدوث عبارة عن كون الشيء
مسبوقا بالعدم ، فيكون صفة وكيفية لذلك الشيء الحادث فيكون متأخرا عنه لوجوب تأخر
الصفة عن الموصوف ؛ ووجود الشيء الحادث متأخر عن تأثير الفاعل فيه ، وهو أعنى
تأثير الفاعل فيه متأخر عن احتياجه الى الفاعل لأنه لو لا احتياجه لما وقع بالفاعل
لأنه حينئذ يكون اما واجبا أو ممتنعا.
__________________
واحتياجه الى
الفاعل متأخر عن علة احتياجه الى الفاعل فاذن الحدوث متأخر عن علة الحاجة فلو كان
هو علة أو جزءا منها ؛ لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب وأنه محال.
واذا ثبت أن
الحدوث غير معتبر أصلا والمحوج الى المؤثر اما الامكان أو الحدوث لأن عند
انتفائهما كان الشيء واجبا قديما. ومثله لا يحتاج الى سبب فتعين كون الامكان هو
العلة للحاجة الى العلة هكذا قرره فى الكتب.
وفيه نظر لأنا لا
نسلم تأخر كل صفة عن الموصوف. فان الامكان صفة وهى سابقة على موصوفه سلمناه لكن لم
قلتم بأنه يلزم من عدم كون الحدوث معتبرا ان يكون المحوج الى السبب هو الامكان
وانما يلزم ذلك ان لو انحصرت علة الحاجة الى المؤثر فى الامكان أو الحدوث أو فيهما
وهو ممنوع. وما ذكرتموه لبيان هذه المقدمة يقتضي ان كل محتاج الى المؤثر فهو ممكن
أو حادث لكن لا يلزم من ذلك أن تكون علة للحاجة هذه الأمور الثلاثة.
والصواب أن يقول
الحدوث لما كان عبارة عن كون الشيء مسبوقا بالعدم لزم بالضرورة تأخره عن ذلك الشيء
للعلم الضرورى بامتناع عروض العارض للشىء الا بعد وجوده واما أن الحدوث اذا كان
غير معتبر لزم أن يكون علة الحاجة الامكان لاتفاق الكل على أن علة الحاجة منحصرة
فى الامكان أو الحدوث أو فيهما.
(٥٧ ـ ١) قال
المتكلمون هذا الدليل فى حيز التعارض لأنا نقول المحوج الى المؤثر اما الامكان أو
الحدوث لما بينتم. والامكان ليس علة لأنه صفة للممكن فتكون متأخرة عنه وهو متأخر
عن تأثير الفاعل فيه المتأخر عن احتياجه الى المؤثر المتأخر عن علة الاحتياج. فلو
كان الامكان علة أو جزءا منها لزم تأخر الشيء عن نفسه مراتب وأنه محال.
أجاب عنه الحكماء
بأنا لا نسلم تأخر كل صفة عن موصوفها. فان الامكان صفة للممكن وهى عندنا متقدمة
والا لكان الممكن قبل وجوده اما واجبا أو
ممتنعا. ولو كان
كذلك لزم انقلاب الشيء من الوجوب أو الامتناع الى الامكان وأنه محال يأباه العقل
الصريح والطبع المستقيم. على أنا نقول الحدوث فهو مركب من الوجود والعدم السابق
والجزء متقدم على الكل أو يوجد معه فالوجود متقدم على مفهوم الحدوث أو يوجد معه
فلو كان الحدوث علة أو جزأ منها لزم تقدم الشيء على نفسه بمراتب وأنه محال ومثل
هذا لا يتمشى فى الامكان».
«قال : احتجوا بأن
علة الحاجة لو كانت هى الامكان لزم احتياج العدم الممكن الى المؤثر الى آخره».
أقول : لو كان
الامكان محوجا فى جانب الوجود الى السبب لكان محوجا فى جانب العدم إليه. والثانى
باطل فالمقدم مثله.
بيان الشرطية
وانتفاء التالى قد مر كل منهما على أقصى ما يمكن أن يذكر وقول الامام فى الجواب ان
علة العدم عدم العلة منع للمقدمة القائلة بأن العدم نفى محض فلا يكون أثرا.
فقال : العدم لا
يكون أثرا لأمر وجودى. اما لأمر عدمى فلا. فان عدم (عدم مكرر) المشروط معلل بعدم
الشرط وعدم المسبب بعدم السبب.
وقوله : وفيه ما
فيه : اشارة الى ما يقال من أن العلية والمعلولية من الصفات الوجودية فلا يوصف بها
العدم وأنت قد عرفت ما فيه فلا نعيده مرة أخرى.
«قال الممكن حال بقائه
لا يستغنى عن المؤثر الى آخره : «أقول : الدليل على أن الممكن حال البقاء مفتقر
الى المؤثر هو ان علة الحاجة الى المؤثر الامكان لما مر والامكان من لوازم ماهية
الممكن ، والا لجاز أن يصير الموصوف بالامكان فى الجملة واجبا لذاته أو ممتنعا
بذاته وأنه محال. واذا كان كذلك لزم بالضرورة تحقق علة الحاجة الى المؤثر حال
البقاء فتلزم الحاجة إليه فى تلك الحالة عملا بالعلة.
قال : لا يقال انه
حال البقاء صار أولا بالوجود الى آخره : «أقول : توجيه هذا الكلام أن يقال : لم
قلتم بأن الامكان اذا كان من لوازم ماهية الممكن لزم
احتياج الثانى الى
المؤثر وانما يلزم ذلك أن لو لم يكن الثانى حال البقاء أولى بالوجود وهو ممنوع.
فان عندنا الممكن حال (٥٧ ـ ب) البقاء أولى بالوجود ، وتلك الأولوية مانعة من
احتياجه الى المؤثر والحاصل أنهم يمنعون كون الامكان علة تامة للحاجة الى المؤثر.
«قال : لأنا نقول
هذه الأولوية المستغنية عن المرجح ان كانت حاصلة حال الحدوث وجب الاستغناء عن
المؤثر حال الحدوث الى آخره : «أقول : هذا الجواب فى الظاهر كالكلام على المستند
لكن نوجهه ونقول : تلك الأولوية اما أن تكون مانعة من الحاجة الى المؤثر أو لم تكن
، أو انما كان يلزم احتياج الباقى الى المؤثر حال البقاء أما اذا لم تكن مانعة
فلما ذكرنا من الدليل السالم عن مانعية تلك الأولوية أما اذا كانت مانعة فلأن تلك
الأولوية المانعة عن الحاجة الى المؤثر اما أن تكون حاصلة حال الحدوث أو لم تكن.
فالأول باطل ؛ والا لزم استغناء الممكن عن المؤثر حال الحدوث عملا بالمانع ، فتعين
الثانى واذا لم تكن حاصلة حال الحدوث فهى أمر حصل حال البقاء ولولاه لما حصل
الاستغناء الموجب لاستمرار الباقى. فالباقى حال بقائه فى استمراره محتاج الى
المؤثر والعلة فوجب استمراره وبقاؤه ولا معنى لاحتياج الباقى الى المؤثر الا ذلك.
«قال : احتجوا بأن
المؤثر حال بقاء الأثر اما أن يكون له فيه تأثير أم لا ؛ الى آخره».
«أقول : تقرير هذا
السؤال أن يقال لو افتقر الباقى حال بقائه الى المؤثر فالمؤثر اما ان يكون له فيه
تأثير أو لا يكون وكلاهما محالان. أما الأول فلأن التأثير يستدعى حصول أثر فالأثر
الحاصل منه اما أن يكون هو الوجود الّذي كان حاصلا قبل ذلك واما أن يكون أمرا
جديدا.
الأول محال
لامتناع تحصيل الحاصل. والثانى أيضا محال لأنه حينئذ يكون تأثير المؤثر فى أمر
جديد لا فى الباقى. وقد فرضنا انه أثر فى الباقى هذا خلف وأما الثانى وهو أن لا
يكون فيه تأثير فهو أيضا باطل لأنه حينئذ لا يكون هناك
أثر لامتناع حصول
الأثر بدون التأثير واذا لم يحصل فيه منه أثر كان مستغنيا عن المؤثر وقد فرضنا
افتقاره هذا خلف.
«قال : والجواب لا
نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد بل بقاء الأثر بقاء المؤثر.
«أقول : توجيه هذا
الجواب ان يقال لا نسلم انحصار الأثر فيما ذكرتم ، فانه لا يلزم من عدم كون الأثر
الوجود الّذي كان حاصلا أن يكون أمرا جديدا لجواز أن يكون بقاء الموجود الحاصل.
فان المعنى باحتياج الباقى الى المؤثر هو أن يبقى الأثر ببقاء المؤثر لا انه حصل
هناك أمر جديد.
ولقائل أن يعود
ويقول : بقاء الأثر اما أن يكون أمرا حاصلا أو لم يكن. والأول يوجب تحصيل الحاصل
والثانى يقتضي أن يكون التأثير فى أمر جديد لا فى الباقى والأولى فى الجواب ان (٥٨
ـ ١) يختار أن التأثير فى أمر جديد وهو بقاء الأثر واستمراره فى الزمان الثانى ولا
معنى لتأثير المؤثر فى الباقى سوى ذلك» .
نشير هنا كما
أشرنا سابقا الى مدى الدور الّذي لعبه المحصل فى تطوير علم الكلام لمن جاء بعده من
المفكرين المتكلمين. والمثالى الّذي أخذناه هنا من المحصل هو البحث عن علة الحاجة
الى المؤثر هل هى الامكان أو الحدوث أو هما معا كما أضافه الكاتب القزوينى فى شرحه
نقلا من كتب الرازى وكل من ابن أبى الحديد ونصير الدين الطوسى والقزوينى وجد
شيئا أو رأى حاجة الى الايضاح فى افادة الرازى ورأى أن يضيف ذلك مع الرغم باطلاع
كل من تأخر منهم لمن سبق.
وفى الحقيقة وان
كنا نرى ان شروحهم وبياناتهم تتفق أحيانا فى المعنى ولا
__________________
يتركون البحث الا
بمزيد من التوضيحات. وبالرغم من أن بحوثهم فى علم الكلام هى محل نقاش وجدال بين
الفلاسفة والمتكلمين القدماء. فاننى أحب ان اتطرق الى تاريخ البحث بكلمات موجزة.
فانا لم أصادف حتى الآن أى مفكر أو فيلسوف أو متكلم طرق باب هذا البحث بهذا
الاسهاب ووضع المسألة فى هذا الأسلوب : الامكان والحدوث جنبا الى جنب ومميزات كل
منهما الا فخر الدين الرازى وربما كان هو السبب لخوض الباحثين المفكرين من
الفلاسفة والمتكلمين فى اتخاذ الموضوع للدراسة واعطائه أهمية كبيرة لأننا اذا قارنا
هذه الشروح الثلاثة للمحصل نرى أن كل واحد منها يطيل الايضاح فى مكان ويقصر فى آخر
، وغيره يعمل بالعكس يقصر فيما لا يطول فيه غيره ويطول فيما يقصر فيه غيره أو
أحيانا يترك ما يطول فيه غيره دون قول أو إيضاح أو شرح. وبما أن مسألة الحاجة الى
المؤثر كانت لها أهمية كبيرة ، فقد أسهب فيها الشراح كلهم.
ان القارئ الكريم
يرى الفرق بين كل من هذه الشروح ويستطيع أن يقارن بينها ولا أريد أن أتعرض لها بأى
تعليق الا أنى أود أن ألخص البحث حسب فهمى وادراكى.
فالمتكلمون قبل
الرازى كانوا يتخذون حدوث الجواهر والاعراض كسبب أو دليل لاثبات وجود الله تعالى
وما كانوا يتطرقون الى دليل الامكان بالايجاب ولا بالسلب. وسنعطى أمثلة لذلك من
المفكرين والمتكلمين الذين سبقوا فخر الدين الرازى.
أصول الدين للامام
أبى منصور عبد القاهر البغدادى المتوفى ٤٢٩
الاعتقاد على مذهب
السلف أهل السنة والجماعة للامام الحافظ أبى بكر البيهقى المتوفى ٤٥٨.
الشامل فى أصول
الدين لامام الحرمين الجوينى المتوفى ٤٧٨ والارشاد الى قواطع الأدلة فى أصول
الاعتقاد له أيضا.
أصول الدين أبو
يسر محمد البزدوى المتوفى ٤٩٣ ، الاقتصاد فى الاعتقاد لأبى حامد محمد بن محمد
الغزالى المتوفى ٥٠٥
تبصرة الأدلة لأبى
المعين النسفى المتوفى ٥٠٨.
نهاية الأقدام فى
علم الكلام للامام عبد الكريم الشهرستانى المتوفى ٥٤٨ ، البداية فى أصول الدين
لنور الدين أبى بكر الصابونى المتوفى ٥٨٠
قلنا فيه كلام
سيأتى :
فان مسألة الامكان
والوجوب لم تكن معروفة فى الفلسفة قبل الفارابى وانه قد اخترع هذين الاصطلاحين
وشرحهما أبو على ابن سينا بعده ثم من جاء بعدهما من الفلاسفة أمثال أبى البركات
البغدادى استعملهما فى إيضاح الاتصال أو الرابطة بين الله تعالى والكون على معنى
بين الواجب الوجود والممكن الوجود. ان أول فيلسوف فى الاسلام أبو اسحاق يعقوب
الكندى لم يستعمل دليل الامكان فى اثبات وجود الله تعالى ؛ لأنه قد سبق الفارابى.
وكان هناك طريقان فى اثبات وجود الله تعالى طريق الحدوث وهو يستند على حدوث أو
وجود الجواهر أو الاعراض. وهو طريق المتكلمين الأقدمين من الرازى وطريق آخر هو
طريق الامكان ويبدأ هذا الطريق من الفارابى يبتنى على امكان ماهية الكون وهو ما
سوى الله تعالى. فان الله تعالى واجب الوجود وما سواه ممكن الوجود. وهاتان
الطريقان كانتا منفصلتين واحدة عن الأخرى وموزعتين بين المتكلمين والفلاسفة الى
ظهور فخر الدين الرازى الّذي جمع بينهما وفصلهما وبوبهما فى تآليفه. ولكن نرى صاحب
نهاية الأقدام عبد الكريم الشهرستانى أول من استعمل من المتكلمين امكان الوجوب فى
إيضاح وشرح الاتصال أو العلاقة بين الله تعالى والمكونات الا أنه وان كان قد ذكر
الفارابى وابن سينا وأرسطو أثناء كلامه فى ذلك فهو لم يفرق أو لم يميز بين الامكان
والحدوث ولا دليل الامكان والحدوث ؛ ولم يناقشهما بصورة واضحة حتى أنه لم يضعهما
فى صياغتهما الاصطلاحية.
وأود هنا ان أنتقل
الى ما قاله فى نهاية الاقدام بصدد اثبات وجود الله وخلقه الكون :
«مثل أبى نصر
الفارابى وأبى على الحسين بن عبد الله بن سينا وغيرهما من
فلاسفة الاسلام ،
ان للعالم صانعا مبدعا وهو واجب الوجود بذاته والعالم ممكن الوجود بذاته واجب
الوجود بالواجب بذاته غير محدث حدوثا يسبقه عدم بل معنى حدوثه وجوبه به وصدوره عنه
واحتياجه إليه» .
«فنقول للمتكلمين
طريقان فى المسألة أحدهما اثبات حدوث العالم والثانى ابطال القول بالقدم. فقد سلك
عامتهم طريق الاثبات باثبات الأعراض أولا واثبات حدوثها ثانيا وبيان استحالة خلق
الجواهر عنها ثالثا وبيان استحالة حوادث لا أول لها رابعا» .
كما نرى
الشهرستانى يستعمل طريق الامكان من دون أن يشير الى أنها طريق المتكلمين أو
الفلاسفة وانما خلط بين المصطلحات الفلسفية والمعانى الكلامية أو بتعبير آخر
استخدم المصطلحات الفلسفية فى بيان الأدلة الكلامية».
«فوجه تركيب
البرهان منه أن نقول كل متغير أو متكثر فهو ممكن الوجود باعتبار ذاته وكل ممكن
الوجود باعتبار ذاته فوجوده بايجاد غيره ، فكل متغير أو متكثر فوجوده بايجاد غيره»
.
ويقول فى مكان آخر
فى تعريف الممكن ويستعمل أحيانا الجائز مكان الممكن : «والممكن معناه انه جائز
الوجود وجائز العدم فيستوى طرفاه أعنى الوجود والعدم باعتبار ذاته فان أوجد فانما
يوجد باعتبار موجده ولو لا موجده لما استحق الا العدم فهو اذن مستحق الوجود والعدم
بالاعتبارين المذكورين» .
«ثم جواز الوجود
سابق على الوجود بالذات فنقول انما وجوبه لأنه كان جائز الوجود ولا نقول : انما
كان جائز الوجود لأنه وجد. فجواز وجوده ذاتى
__________________
له والوجود عرضى
والذاتى سابق على العرضى سبقا ذاتيا. ثم بينا ان الجائز مستحق العدم باعتبار ذاته
لو لا موجده فكان مسبوقا بوجوده ومسبوقا بعدم ذاته لو لا موجده لأن استحقاق وجوده
عرضى مأخوذ من الغير واستحقاق عدمه ذاتى مأخوذ من ذاته فهو اذن مسبوق بوجود واجب
ومسبوق بعدم جائز فتحقق له أول» .
«ان الممكن معناه
أنه جائز وجوده وجائز عدمه لا جائز وجوبه وجائز امتناعه. وانما استفاد من المرجح
وجوده لا وجوبه. نعم لما وجد ، عرض له الوجوب عند ملاحظة السبب لأن السبب أفاده
الوجوب حتى يقال وجد بايجاده ثم عرض له الوجوب بل افاده الوجود فصح ان يقال وجد
بايجاده وعرض له الوجوب فانتسب إليه وجوده اذ كان ممكن الوجود لا ممكن الوجوب» .
«ان الامكان من
حيث هو امكان ليس يستدعى مادة وسبقه على الموجود الحادث ليس الا سبقا فى الذهن
سميتموه سبقا ذاتيا.
«ونقول : ان كل
حادث حدوثا زمنيا أو حدوثا ذاتيا على أصلكم (الفلاسفة) فانه يسبقه امكان الوجود
فان الموجود المحدث قد تردد بين طرفى الوجود والعدم وهذا التردد والسبق والامكان
كله يرجع الى تقدير فى الذهن والا فالشيء فى ذاته على صفة واحدة من الوجود لكن
الوجود باعتبار ذاته انقسم الى ما يكون وجوده لوجوده هو له لذاته أى هو غير مستفاد
له من (٣٥) غيره. فيقال الوجود أولى به والى ما يكون وجوده لوجود هو له من غيره ؛
فيقال الوجود ليس أولى به ولا أول ؛ وهذا الوجود لم يتحقق الا أن يكون له أول
مسبوق بوجود لا أول له ؛ ويكون له فى ذاته امكان الوجود يعبر عنه بأنه مسبوق
بامكان الوجود لا أنه وجود يسبقه امكان الوجود بل الوجود فى ذاته وجود الممكن ؛
فقد وجد هاهنا سبقان : أحدهما سبق وجود الموجود والثانى سبق امكان الوجود» .
__________________
أعتقد أننا على
الحق عند ما نقول ان فخر الدين الرازى هو الّذي التقى عنده الفلاسفة والمتكلمون
وصاروا جنبا الى جنب فى اثبات وتثبيت المبادي الكلامية والفلسفة فى خدمة الاسلام
والحضارة الاسلامية.
ففى المحصل وضع
فخر الدين الرازى بحثين فى النقاش الأول هو ترجيحه الامكان على الحدوث. وظهر من
النقاش أو ابداء الآراء بين الشراح على ترجيح علية الامكان على الحدوث بأن الحدوث
تأخر عن العلة بمراتب اربع ولذا فان الامكان لا يتأخر الا بمرتبة واحدة ليس حينئذ
نظرية الحدوث أولى عند المتكلمين ؛ لأن الحدوث اذا كان متأخرا بأربع مراتب معناه
يجعل الشقة بين القديم والحادث أوسع بأربع مرات ولا يفكر الانسان بقدم الكون الا
اذا قطع تلك المسافة البعيدة واذا كان الامكان بمرتبة واحدة معناه أنه يلتبس على
الانسان هل الكون أزلى وقديم أو حادث ومخلوق منفصل بزمان أم لا؟.
ومع كل ذلك فان
الامكان يشعر أن الكون محتاج الى واجب الوجود لأن يكون موجودا حتى قبل وجوده
والاحتياج سابق فى الامكان على الوجود سبقا ذاتيا كما أفاده الشهرستانى فى عباراته
السابقة غاية وذهنا آنفا كما فى حياتنا اليومية نفكر بالاحتياج الى المنضدة ثم
نعملها. هنا العلة الغائية موجودة قبل العلة المادية ذهنا ومتأخرة عنها تحققا يعنى
تحقيق العلة الغائية متأخر عن عمل المنضدة فى الحدوث ولذلك يبدو أن علة الاحتياج
متأخرة عن الحدوث لأن الشيء بعد ما يحدث نفهم أنه سبقه عدم وكان قبل حدوثه محتاجا
الى المؤثر. واما فى الامكان قبل أن يخرج الى الوجود فنفهم أنه محتاج الى مؤثر
سابقا ولاحقا لأنه ممكن يستوى فيه طرفا الوجود والعدم.
فان الفارابى وابن
سينا لم يقبلا سبقية الامكان على الممكن الموجود فى المبدعات وقالا انه مع الممكن
الموجود وعلى هذا علة الحاجة غير سابقة فى الامكان فى الابداع .
__________________
ولهذا السبب فان
الرازى رجح نظرية الامكان على الحدوث والنقطة الثانية هى تأمين ومحافظة دوام
الكائنات من ناحية ، ومن ناحية أخرى اثبات عدم استقلالية الكائنات وانقطاعها عن
واجب الوجود ودوام احتياجها إليه ليس فى وجودها فقط بل فى استمرار وجودها كذلك ،
وهو من دون أن يحتاج الى أدلة منفصلة أخرى. فان نظرية الامكان متضمنة اياه لأن
ماهية الامكان متساوية الطرفين الوجود والعدم فاذا رجح طرف الوجود وأصبح الامكان
موجودا فان الوجود لا يطرد امكانيته ولا يخرج عن الامكان وامكانيته باقية بما أن
الامكان موجود فى الممكن الوجود وهو محتاج الى واجب الوجود دوما واستمرارا مثل
الكهرباء للقنديل. والقنديل (المصباح) محتاج الى الكهرباء لاضاءته فى أول وجوده
ودوامه. وأما هذا فانه غير موجود أو مشعور به فى الحدوث. فان الحدوث مثل النواة
اذا ألقيت فى الأرض وانفلقت وظهر النبت لا تبقى النواة موجودة لأنه ما كان بالقوة
أصبح بالفعل ولم يعد يسمى بالقوة. ولذلك هنا يكمن الفرق بين ما هو بالقوة وبين ما
هو بالامكان. والامكان أصبح ممكنا وامكانه معه ولا يفارقه وعلى هذا فان علة الحاجة
الى المؤثر اذا كان هو الامكان قد تحصل على الشيئين بشيء واحد.
واننا نرى من
المتكلمين المعاصرين من رجح نظرية الحدوث على نظرية الامكان وفى ذلك يقول الشيخ
العلامة شيخ الاسلام فى الدولة العثمانية (١٩١٩ ـ ١٩٢٠) مصطفى صبرى (١٨٦٠ ـ ١٩٥٤)
فى كتابه موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين وعباده المرسلين :
«ثم ان كانت
الشبهة تخالجك فى مسئلة المحوج هل هو امكان المحتاج أو حدوثه فلننظر لما ذا يحتاج
المحتاج الى العلة.
فالممكن يشمل
الموجود والمعدوم وهو ما دام معدوما لا يحتاج الى العلة وانما حاجته إليه ليكون
موجودا وليدوم له الوجود مدة دوامه فمنشأ الحاجة اذن اتصاف الممكن بالوجود ابتداء
وبقاء الا أن الموجود القديم لما لم يحتج الى علة كما حققناه تعين الوجود الحادث
للحاجة فاذا اختصرته قلت الحدوث أى الحدوث المقابل للقدم لا المقابل للبقاء لأن
وجود الحادث حال بقائه وجود حادث كابتدائه فلا
يصح تمثيل الحادث
المحتاج الى العلة بالبناء المستغنى بعد انشائه عن البانى فالمحوج هو حدوث الممكن
لا امكانه بالرغم من أن مذهب الفلاسفة هو الثانى وبالرغم من أن بعض المتكلمين المحققين
متفقون معهم فى ذلك . ولعل سبب خطأ الفلاسفة قولهم بقدم العالم مع امكانه
واستناده الى الله وسبب خطأ أولئك البعض من المتكلمين قولهم بامكان صفات الله مع
قدمها وصدورها عن الله ايجابا والكل بعيد عن الحقيقة كما عرفت .
ولا أريد ان أطيل
فى الموضوع أكثر من اللازم واكتفى بهذا مع الاشارة الى أن القارئ يمكن له أن يرجع
الى ما قيل فى الحاجة الى المؤثر هل الامكان أو الحدوث والّذي نقلناه آنفا من
المحصل وشروحه ويستطيع الانسان أن يقارن ويجد الجواب من خلال اختلافهم فى المسألة
:
ان منشأ أو منطلق
الفلسفة الوجودية المعاصرة هو التفريق والتمييز بين الماهية والوجود أو بين ماهية
الشيء ووجوده. الشيء الموجود له ماهية ووجود ؛ وماهيته غير وجوده. وهذا الفرق
والتمييز أو هذا المفهوم قد اكتشف من قبل الفارابى وليس له سابق فى وضع هذا
المفهوم والمعنى. وعند ما يقرأ طالب الفلسفة فلسفة الوجود الحديثة يرى انها تدور
على الماهية والوجود وأى واحد منهما سابق على الآخر ولكل فيلسوف له اتجاه خاص
لاتخاذه واحدا منهما مبدأ له مثل جان بول سارتر الّذي يقدم الوجود على الماهية.
وأما الفارابى
وابن سينا فلا يقدمان أى واحد من الماهية أو الوجود على الآخر. وهذا مخالف
لمذهبهما فى التفريق بينهما لأنه اذا كان
__________________
للماهية تقدم على
الوجود معناه أن الماهية لها ثبوت أو وجود بنوع ما من الوجود حتى يثبت لها السبقية
والتقدمية على الوجود وحينئذ لا تحتاج الماهية الى الوجود مرة ثانية لأن الموجود
لا يحتاج الى الوجود لأن يكون موجودا وهو تحصيل الحاصل على اصطلاح الفلاسفة
والمتكلمين. ولذلك فالماهية ليس لها سبقية على الوجود على خلاف ما يقوله
المستشرقون فى تسميتهم ابن سينا بالداعى الى نظرية تقدم الماهية أو صاحب نظرية
تقدم الماهية (باللغة التركية الماهيتجى) Essentialist
وبهذا يظهر انهم لم يعرفوا الفارابى ولا ابن سينا على ما هما عليه من النظرية
الفلسفية وهما لا يقدمان الوجود على الماهية كذلك ، لأنه على ذلك يكون الشيء
الموجود أو الوجود نفسه ؛ اذا وجد دون ماهية فارغا عن المعنى والمفهوم ؛ ويكون
الوجود نفسه قائما بالوجود نفسه وهذا ينجر الى وحدة الوجود فالفارابى وابن سينا لا
يقولان بهذا ولكن الفارابى وابن سينا عند ما يقولان بغيرية الماهية للوجود ولا
يطبقان هذه القاعدة على الموجودات كلها وانما يقولان الماهية غير الوجود فى
الأشياء أو الموجودات الممكنة وهذا هو الشرط الأول.
والثانى هو ان هذا
التفريق بين الماهية والوجود لا يوجد فى الأعيان وانما هو فى الذهن فقط. وبمعنى
آخر عند ما يتصور الانسان الأشياء أو الموجودات الممكنة يستطيع أن يتصور ان لها
ماهيات مفارقة لوجودها وان وجودها غير ماهيتها فى الذهن واما اذا وجدت الموجودات
الممكنة فى الخارج فلا يوجد وجودها مفارقا لماهيتها ولا منفصلا ولا منفردا عنها
وانما يوجدان معا متحدان دون أى تفريق وتمييز بينهما.
واما فى واجب
الوجود فانه لا يمكن تصور التفريق بين ماهيته ووجوده عند الفارابى وابن سينا.
ولذلك يقولان ليس لواجب الوجود ماهية وانما له الآنية وهى تأكيد الوجود أو له
الوجود الخاص أو بتعبير آخر وجوده وماهيته شيء واحد ؛ وجوده عين ماهيته وماهيته
عين وجوده الخاص به. ولا يقال عندهما ماهية الواجب الوجود. واما عند المتكلمين
فانهم يفرقون بين الماهية والوجود فى الواجب الوجود والممكن الوجود.
وعند الفلاسفة
الاسلاميين اذا لم يكن للماهية أو الوجود أى تقدم أو سبقية على الآخر معناه هو
ممكن والامكان ليس موجودا ولا معدوما ولذلك عرفوا الامكان بانه تساوى طرفى الوجود
والعدم. اذا قيل انه موجود رجح طرف الوجود على العدم واذا قيل انه معدوم رجح طرف
العدم على الوجود وفى كلتا الحالتين لا يبقى الامكان على تعريفه الحقيقى بتساوى
الطرفين. اذا انتقض التساوى أصبح أحد الطرفين مرجحا والآخر مرجوحا.
وعلى هذه الخلاصة
الوجيزة جدا ينظر الى قول الرازى فى المحصل استنادا على هذه النظرية كيف يفند
اعتراضات الحسيين ضد المبادي البديهية ؛ فهو يستخدم نظرية التفرقة بين الماهية
والوجود.
«فمن المعلوم
بالضرورة أن قولنا السواد اما ان يكون موجودا أو لا يكون. لا يمكن التصديق به الا
بعد تصور مفهوم قولنا : السواد موجود ؛ السواد معدوم لكن كل واحد منهما باطل. اما
الأول فلأنا اذا قلنا السواد موجود ؛ فاما أن يكون كونه سوادا هو نفس كونه موجودا
أو مغايرا له» (يستند الرازى فى قوله هذا على مغايرة الماهية للوجود).
شرح الطوسى : أقول
: الكائن سوادا هو غير الكائن موجودا والسواد مغاير للموجود وذلك لأن هاهنا شيئا
واحدا يقال له تارة انه سواد وتارة انه موجود فالمقول عليه منهما واحد والمقولان
متغايران فاذا القسمة ان كون أحدهما عين الآخر أو مغايرا له ليست بحاصرة ويعوزه
قسم آخر وهو ان يكونا متحدين من وجه على مغايرتين من جهة أخرى .
شرح الكاتب
القزوينى : «أقول لا حاجة له الى الشرح لكنا نجيب عنه فنقول : لم قلتم بأن التالى
فى قولكم الوجود اذا كان نفس السواد لم يكن بين قولنا السواد (٩ ـ ب) موجود وبين
قولنا : السواد سواد ؛ وبين قولنا : الموجود موجود ، فرق باطل فان عندنا الفرق بين
هذه الأقوال ثابت فى اللفظ
__________________
فقط واما فى
المعنى فلا. قوله : لأن القولين الأخيرين لا يفيدان والأول يفيد
ممنوع. فان عندنا لا فرق بينها فى الافادة وعدم الافادة أصلا. وان ادعى الضرورة فى
ذلك فقد ناقض ، سلمنا ؛ لكن لم قلتم بأن الوجود اذا كان مغايرا للماهية كان الوجود
قائما بما ليس بموجود» .
«فان كان الأول
كان قولنا : السواد موجود جاريا مجرى قولنا : السواد سواد وقولنا : الموجود موجود.
ومعلوم انه ليس كذلك لأن هذا الأخير هذر والأول مفيد (لأنه يستند على مغايرة
الماهية للوجود واذا كان كذلك كان قولنا «السواد موجود» يفيد معنى للسامع. وأما
اذا لم يكن التغاير بين الماهية والوجود فيكون قولنا السواد سواد لا يفيد معنى
جديدا للسامع) .
وان كان الثانى
فهو باطل من وجهين : الأول انه اذا كان الوجود قائما بالسواد فالسواد فى نفسه ليس
بموجود (لأن السواد ماهية قبل انصافه بالوجود لا يكون موجودا) والا لعاد البحث فيه
ولكان الشيء الواحد بالاعتبار الواحد موجودا مرتين. واذا كان كذلك كان الوجود
قائما بما ليس بموجود لكن الوجود صفة موجودة والا لثبت المتوسط بين الموجود
والمعدوم وأنتم أنكرتموه فحينئذ تكون الصفة الموجودة حالة فى محل معدوم ، وذلك غير
معقول. اذ لو جاز ذلك لجاز أن يكون محل هذه الألوان والحركات غير موجودة وذلك يوجد
الشك فى وجود الأجسام وهو عين السفسطة» .
شرح الطوسى «أقول
: لا يلزم من كون المغايرة قيام أحدهما بالآخر. فانها اذا قيل الحيوان جسم لا يلزم
منه قيام الجسم بالحيوان وأيضا لا يلزم من كون الوجود قائما بالسواد كون السواد فى
نفسه معدوما. واذا كان السواد فى نفسه لا موجودا ولا معدوما ؛ لم يعد البحث ولم
يكن الشيء الواحد موجودا مرتين
__________________
وليس الوجود صفة
موجودة. فان ذلك يقتضي ثبوت وجود الوجود ويتسلسل ولا يلزم من سلب صفة الوجود عن
الوجود ثبوت العدم له أو ثبوت الواسطة فان ذلك انما يلزم بملاحظة نفى الوجود أو
العدم أو سلبهما مع مفهوم الوجود وحين نلاحظ نفس الوجود لا مع ملاحظة الغير لم
يلزم ذلك ولا يلزم من ذلك كون الألوان والحركات فى محل غير موجود. فان كون الوجود
حالا فى محل غير موجود ليقتضى كون اللون والحركة حالين فى محل غير ملون ولا متحرك
وظاهر ان جميع ما قاله فى هذا الموضع خبط لا يليق ايراده بأمثاله .
وهذا اذا راجعنا
التعليقات المنسوبة الى ابن أبى الحديد حيث يقول فيها : «فالاشكال على ان وجود
السواد ان كان هو كونه سوادا كان قولنا السواد ليس بموجود جاريا مجرى قولنا : السواد
ليس بسواد وهذا متناقض وان كان وجوده زائدا (على الماهية) من وجوه : منها انه يلزم
قيام الوجود الّذي هو صفة موجودة بالماهية المعدومة وهو محال. ومنها ان سلب الوجود
عن ماهية السواد لا يمكن الا اذا تميز السواد عن غيره. وكل ما يتميز عن غيره فله
تعين فى نفسه وكل ما له تعين فى نفسه فله ثبوت فى نفسه. فالسواد لا يمكن سلب
الثبوت عنه اذا كان ثابتا فى نفسه ويكون حصول الوجود له شرطا فى سلب الوجود عنه
هذا خلف. ومنها انا سنقيم دلالة فى مسئلة ان المعدوم ليس على امتناع خلو الماهية
عن الوجود وعلى هذا يستحيل الحكم على الماهية بالعدم. فظهر انه ليس لقولنا السواد
موجود ، السواد معدوم ، مفهوم محصل. فامتنع صحة التصديق بأن السواد اما أن يكون
موجودا أو معدوما .
شرح الكاتب
القزوينى :
«قوله : لأن
السواد حينئذ يكون معدوما والا لعاد البحث فيه ولكان الواحد موجودا مرتين. قلنا :
لا نسلم وانما يلزم ذلك ان لو كان موجودا بوجود مغاير لهذا الوجود ، اما اذا كان
موجودا بهذا الوجود فلا يلزم شيء مما ذكرتموه وعندنا
__________________
السواد موجود بهذا
الوجود. لم قلتم بأنه ليس كذلك ؛ لا بد له من دليل» .
المحصل :
«الثانى انه اذا
كان الوجود مغايرا للماهية كان مسمى قولنا السواد غير مسمى قولنا موجود فاذا قلنا
السواد موجود بمعنى ان السواد هو موجود كان ذلك حكما بوحدة الاثنين وهو محال. فان
قلت ليس المراد من قولنا : السواد موجود هو ان مسمى السواد هو مسمى الوجود ، بل
المراد منه أن السواد موصوف بالموجودية. قلت : فحينئذ ينتقل الكلام الى مسمى
الموصوفية بالوجود فانه اما ان يكون مسمى السواد هو مسمى الموصوفية بالوجود فحينئذ
يكون قولنا السواد موصوف بالوجود جاريا مجرى قولنا : السواد سواد. واما ان يكون
مغايرا له ؛ فالحكم على السواد بأنه موصوف بالوجود حكم بوحدة الاثنين ؛ الا ان
يقال المراد من كون السواد موصوفا بالوجود انه موصوف بتلك الموصوفية. وحينئذ يعود
التقسيم فى تلك الموصوفية الثانية. فاما أن يتسلسل وهو محال أو يقتضي رفع
الموصوفية وحينئذ يبطل قولنا : السواد موجود على التقدير كون الماهية غير
الموجودية .
شرح الطوسى :
«أقول لو كان
السواد والوجود متغايرين مطلقا للزم الحكم بوحدة الاثنين لكن هما ليسا كذلك ؛ وليس
المراد أيضا ان مسمى السواد مسمى الوجود ولا أن السواد موصوف بالموجودية أو موصوف
بتلك الموصوفية حين يعود اما التكرار أو وحدة الاثنين بل المراد أن الشيء الّذي
يقال انه سواد هو تعينه الّذي يقال له انه موجود وذلك هو القسم الخارج من قسميه
اللذين أوردهما» .
شرح الكاتب
القزوينى لنفس النص :
«قوله فى الوجه الثانى
ان الوجود لو كان مغايرا للسواد لكان قولنا
__________________
السواد موجود حكم
بوحدة الاثنين ، ممنوع. لأن المراد من قولنا السواد موجود ليس هو أن حقيقة السواد
هى حقيقة الموجودية بل المراد ان الذات التى يصدق عليها أنها سواد يصدق عليها أيضا
أنها موجودة ولا امتناع فى صدق الأمور المتغيرة على ذات واحدة. وتحقيق ذلك يرجع
الى تحقيق معنى الجمل والوضع وقد بيناه فى كتبنا المنطقية. فليطالع فيها وبعد
احاطتك بهذا لا يخفى عليك فساد ما قاله بعد هذا من السؤال والجواب» .
لا أرى حاجة
للاطالة فى المقارنة بين المحصل وشروحه وانما أردت أن أجلب الانتباه الى بعض
المسائل الفلسفية الكلامية عند المسلمين فى العصور الوسطى حيث انها تحافظ على
حيويتها فى الفلسفة المعاصرة. وأحببت أن أذكر نقد الشراح للمحصل لتبين درجات فهمهم
وادراكهم المسائل التى نقدوها أولا ودرجات الأخطاء التى وقع فيها فخر الدين الرازى
ثانيا ، ودرجة قيمة المحصل العلمية ثالثا. والشيء الّذي يؤسف عليه اننا لم نحصل
على كل الشروح للمحصل ونرجو أن تظهر للوجود فى المستقبل وعندى أربعة شروح.
١ ـ الشرح الّذي
قام به تلميذ فخر الدين الرازى ، وهو قطب الدين أبو اسحاق ابراهيم بن على محمد
السلمى قتل فى نيسابور سنة ١٦٨ ه ، ١٢٢١ م من قبل التتر الذين احتلوا تلك المدينة
فى تلك الآونة لكن هذا الشرح ناقص اذا انه وصل الى القسم الثانى فى
الصفات عند شرح المسألة السادسة فى قوله :
«واما القسم
الثانى فهو أن يكون حاصلا فى مكان غير معين فى نفس الأمر فهو محال بالضرورة اما
القسم الثالث فهو ان يقال ان كان مساويا لغيره من الأمكنة أو لا يكون مساويا لغيره
من الأمكنة فكما جاز حلول الله تعالى فيه جاز حلوله فى غيره من الأمكنة لأن ما جاز
على أحد المثلين جاز على مساويه فيفتقر
__________________
حصوله فى ذلك
المكان المعين الى مخصص أو لا يفتقر إليه والثانى محال والا لزم رجحان الممكن لا
لمرجح ولأن مكانه تعالى ان ساوى سائر الأمكنة كان اختصاصه به دون سائر الأمكنة الى
آخر نبذة من شرحه.
«التفسير هذا هو
الوجه الثانى لبيان استحالة حصول الاله فى المكان والجهة. وتقريره ان نقول لو كان
الرب تعالى حاصلا فى مكان معين فاما ان يحصل فى جميع الأمكنة ، أو فى مكان غير
معين أو مكان معين والأقسام بأسرها ممتنعة.
فيمتنع القول
بكونه حاصلا فى المكان ، وانما قلنا يمتنع حصوله فى الأمكنة لذاته حقيقة. أما أولا
فلأنه يلزم مداخلا للأجسام وبطون الحيات والكلاب وتعالى الله عنه علوا كبيرا.
وأما ثانيا فلأنه
يلزم أن يكون ذا مقدار ما بالضرورة فيكون مركبا ؛ وكل مركب ممكن لذاته فواجب
الوجود لذاته ممكن لذاته هذا خلف ...
واما ان افتقر الى
مخصص ومرجح فذلك المخصص اما أن يكون موجبا أو مختارا والأول محال والا لزم رجحان
أحد المثلين على الآخر لا لمرجح فى الموجب ولا علة فهو محال بالضرورة وباتفاق
العقلاء. فانهم وان اختلفوا فى وجود ذلك بالنسبة الى القادر المختار ولكنهم اتفقوا
على امتناعه فى الموجب والعلة. والثانى أيضا محال وهو أن يكون المخصص أيضا مختارا
لأن كل ما كان واقعا بالاختيار فلا بد وان يكون حادثا فيلزم ان يكون حصول الا له
فى المكان حادثا وهو محال. والله أعلم بالصواب تم الكتاب بحمد الله وحسن توفيقه
والصلاة على محمد خير خلقه» .
وهذا هو آخر شرح
قطب الدين المصرى وفيه أيضا اسلوب وطراز إيضاحه
__________________
وشرحه وهو يبين
درجة بيانه ومستوى علمه. وللمقارنة مع الآخرين انقل هنا بعض الجمل من الطوسى وانه
مطبوع قديما ويمكن المراجعة على تمامه.
شرح الطوسى على
هذه العبارة فى المحصل : «أقول جميع المجسمة اتفقوا على انه تعالى فى جهة وأصحاب
أبى عبد الله بن الكرام اختلفوا فقال محمد ابن الهيصم انه تعالى فى جهة فوق العرش
لا نهاية لها والبعد بينه وبين العرش أيضا غير متناه .. وهاهنا قسم آخر وهو ان
يكون خلاء لو لا الجسم وقد مر فيه ما كان ينبغى أن يقال فيه والمعتمد منها ان
الكائنة فى الجهة قابل للقسمة والاشكال غير منفك من الأكوان وكل ذلك محال فى حق
واجب الوجود» .
يقول قطب الدين فى
مقدمة شرحه : «فان كتاب المحصل اشتمل على عموم مباحث القدماء من المتكلمين واحاط
بمجامع كلمات الحكماء المتقدمين والمتأخرين وسألنى ...
... الامام العالم
الأفضل الأمجد فخر الملة والدين ركن الاسلام والمسلمين ادام الله ... واسبغ عليه
انعامه بشرح مشكلاته وإيضاح معضلاته فأجبته الى ما التمس لوجوه : الأول أنى رأيت
أهلا لما سأل وأن لا أقف على بحث الحكماء وإلغائهم بنهاية أقدام العلماء. والثانى
لما تفرد له عندى من الأيادى السالفة والإنعامات الوافية. والثالث بما ورد من
التهديد والترجى والوعيد من منع أهل العلم. واستخرت الله تعالى وشرعت فى تفسيره
طلبا للثواب وزخرا ليوم الحساب وسألته ان يهدينى سواء السبيل .
لقد ذكر نصير الدين
الطوسى شرح قطب الدين المصرى بقوله : هكذا فسر قوله تلميذه قطب الدين المصرى يفيد انه قد قرأ شرح القطب واستفاد منه.
وفى نفس الوقت نرى
على بن عمر الكاتب القزوينى قد استنسخ شرح قطب الدين المصرى كما يظهر من مخطوطة
راغب باشا رقم ٧٩٢ ، ومع ذلك فانه ذكره
__________________
أيضا فى شرحه
للمفصل بقوله «أقول قال الامام قطب الدين المصرى رحمهالله فى هذا الجواب نظر» .
فان لعز الدين عبد
الحميد بن هبة الله بن أبى الحديد تعليقة على المحصل على ما ذكره صاحب كشف الظنون وفوات الوفيات لابن شاكر الكتبى .
يوجد بأيدينا
مخطوطة فى جامعة استانبول تحت الرقم ٣٢٩٧ من ورقة ٣٧٤ ـ ب الى ٤٦٤ ـ ب ، المنسوبة
الى عبد الحميد بن أبى الحديد الا انه بين هذه الأوراق نسختان الأولى تبدأ بقوله :
«أحمد الله على نعمه التى التوفيق بحمده عليها محسوب منها واشهد بتوحيده وعدله
شهادة أرجو أن أنطق بها يوم اسئل عنها واصلى على رسوله وأمينه وأصحابه القائمين
بنصره ودينه ثم أى (انى) متتبع فى هذا الكتاب الرازى الأشعرى المعروف بالمحصل وجار
فى ذلك على منهاجى فى تتبع كتبه الكلامية وتصفحها مع تجنب التكرير وبذل الجهد فى
الاتيان فى كل تعليق بما لم آت به فى التعليق الّذي قبله والاضراب على كثير من
الستة (كذا) التى قد اشتهرت واشتهر الكلام عليها تعويلا على بسط القول فيها ... مسئلة
فى اكتساب التصورات قوله عندى ... أقول» . وتنتهى بقوله : «وهذا آخر كلامنا فى هذا الكتاب ونحن نسأل
ان يجعل ما ذكرناه حجة لنا لا علينا ... وافق الفراغ من نسخه ثامن شهر شعبان
المبارك سنة ثمان وسبعين وستمائة. وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين
لله الحمد .
ومن ميزة هذا
الشرح أنه يذكر مسئلة ويعطى من نفسه عنه انارة للبحث ثم ينقل قول الامام ب «قال»
ثم يجيب بأقول. ولكن فى غير هذا يخلط أحيانا
__________________
كلام الامام
بكلامه نفسه. وهناك ميزة أخرى وهى قوله : «من كلام ابن أبى الحديد على المحصل» .
ان القسم الثانى
من نفس المخطوطة يبدأ مباشرة من نفس الصحيفة بقوله : قال فى المحصل فى باب نفى
اثبات التصورات تعريف الماهية .. أقول لمطالب ان يطالبه ...» .
فانى أرى أن القسم
الأول والثانى هما لنفس المؤلف وهو ينبغى أن يكون معتزليا لما فيهما من أمثال هذه
العبارات «على طريقة شيخنا أبى الهاشم» .
«فى اثبات النبوة
أعلم أن أصحابنا قد أجمعوا على ان من لا يقول بالعدل لا يمكنه اثبات النبوات» . ذهب شيخنا أبو الحسين الى استحالة ذلك وذهب جمهور
المتكلمين الى جوازه (اعادة المعدوم) . واعلم انه لو لا ان تكون هاتان المسألتان من الأصول الخمس
عند صاحبنا لم نذكرها وفى القسم الثالث أقول أنهم لا يحدونها بذلك لأن صفات
الأجناس عند أصحابنا كالجوهرية . هذا شيخنا أبو إسحاق بن عباس وهو جليل القدر بين
المتكلمين وقد حكى هذا القول عنه شيخنا أبو الحسين .
وفى القسم الثانى
من المخطوطة نفسها نجد قوله : «فقد تكلمنا فى الأعراض على المحصل فى هذا الموضع
بما فيه كفاية» «وقد ذكرنا فى
التعليق على المحصل» .
__________________
ونستنتج من هذا
كله بأن مؤلف هذه المخطوطة من أولها الى آخرها هو مؤلف واحد وانما استدرك بالقسم
الثالث ما تركه فى القسم الأول. وبما انه على أغلب الظن والأستاذ محمد بن تاويت
الطنجى رحمهالله أيضا كان يعتقد ان المخطوطة من تعليقات ابن أبى الحديد
وبما انى لم استطع الحصول على نسخة أخرى من هذا المخطوطة وهى كادت أن تكون غير
معروفة أحب أن أنقل هنا نبذة من كلامه فى نقد المحصل وصاحبه وإيضاحاته فى بعض
المسائل المهمة كذلك فان ابن أبى الحديد علق على قول الرازى فى مسئلة صفة العلم
والقدرة لله تعالى بقوله : «مسئلة فى كونه تعالى عالما هل هو لذاته أم بعلم قديم
قال صاحب الكتاب أهم المهمات فى هذه المسألة الكشف عن محل النزاع» . «أقول ان هذا الموضع عن (الّذي) ذكرته فى الرسالة
النظامية واعترضته واشعب القول فيه ولما لم يكن لائقا أن يتكلم على هذا الموضع فى
كتاب (كذا) عن المحصل ويضرب عن ذكره فى الكتاب الموضوع الاعتراض (كذا) على المحصل
خاصة ؛ تعين ان يتكلم فيه هاهنا. ولا بد من تقديم مقدمات «منها الفرق بين الذات
والصفات وأنا أذكر فى هذا الموضع تفصيلا نافعا فاقول : واطال ابن أبى الحديد هنا وكتب تسع صفحات ونصف صحيفة. فانى
انتخبت منها المقدمات السادسة والسابعة والثامنة والتاسعة وهى عشر مقدمات على حسب
ترقيمه. وفى المخطوطة يأخذ الصفحات التالية ٤١٢ ـ ب ـ ٤١٧ ـ ا.
«المقدمة السادسة
فى تحقيق مذهب مثبتى الأحوال عن أصحابنا فى هذه المسألة فهم الشيخ أبو هاشم رحمهالله وأصحابه ، مذهبهم ان البارى تعالى عالم وكونه عالما صفة له
ومرادهم بالصفة هاهنا الحال. وهذه الصفة تقتضيها ذاته تعالى لا مجرد كونها ذاتا
لأن الذوات عندهم متساوية ومماثلة فى الذاتية ؛ لكن لاختصاصها بالصفة الخاصة وهى
الصفة الخامسة وليست صفته تعالى بكونه عالما معللة معنى متفصل كما يذهب إليه
الأشعرى ويقولون ان هذه الصفة باعتبارها تتعلق ذات البارى بالمعلومات المختلفة.
المقدمة السابعة :
فى تحقيق مثبتى الأحوال من الأشعرية فى هذه المسألة :
__________________
هو ، لا يقولون
مثل قول شيخنا أبى هاشم وأصحابه الا أنهم لا يجعلون المقتضى لتلك الصفة ذاته تعالى
لا مجرد كونها ذاتا مخصوصة بنفسها ولا باعتبار الصفة الأخرى الخاصة التى يسميها
أصحابنا الخامسة بل يجعلون المقتضى لتلك الصفة معنى قديم غير معلل بعلة لا ذات
البارى ولا غيرها بل هو موجود لذاته كما ان ذات البارى تعالى موجود لذاتها. الا
أنها تقتضى حصول صفة العالمية لذات البارى سبحانه ولو لا هذا المعنى لم تكن ذات
البارى سبحانه عالمة. وكذا القول فى القدرة والحياة وغيرها من المعانى وهذا قول
ابن الباقلانى والجوينى وغيرهما فمن يستحق أن يخاطب من هذه الطائفة. وكل قول يقوله
من ينتمى الى الأشعرية غير هذا القول فى هذه المسألة. اما أن لا يصح واما (٤١١ ـ ا)
ان ترجع الى مذهب الشيخ أبى الحسين رحمهالله.
المقدمة الثامنة
فى تحقيق قوم نفاة الأحوال من أصحابنا فى هذه المسألة : مذهبهم فى هذا الموضع
مضطرب جدا لأنهم لا يثبتون للبارى تعالى بكونه عالما صفة ولا معنى هو ذات فيصعب
عليهم تفسير مفهوم قولنا انه عالم. فقال الشيخ أبو على وأبو بكر بن إخشيد
وأصحابهما مفهوم كونه عالما ، ان له معلوما ومفهوم كونه قادرا ان له مقدورا وليس
للذات من هذا المفهوم صفة ولا معنى. وقد تكلم الشيخ أبو الحسين رحمة الله عليهم (كذا)
فى التصفح بما ليس هذا موضع ذكره.
المقدمة التاسعة
فى تحقيق قول الشيخ أبى الحسين رحمهالله فى هذه المسألة مذهبه : ان البارى تعالى عالم ومعنى ذلك
كونه متبينا للأشياء وهذا ليس أمر (ا) زائد (ا) على ذاته مضافا (ا) إليها وذاته
يقتضيها بحقيقتها المخصوصة المخالفة لسائر الحقائق بنفسها فتارة يسميه تعلقا
والمقصود انه أمر ثبوتى ذاته تعالى موصوفة به يتجدد بتجدد المعلومات وهو متعدد ليس
بمتحد وهل هو أمر له اضافة أو هو نفس الاضافة. هذا مما يختلف قوله فيه.
وليس للبارى تعالى
من كونه قادرا صفة راجعة الى ذاته عنده كما له من كونه عالما لأنه لا معنى لكونه
قادرا الا صحة الفعل ووقوعه على دواعيه تعالى وصحة العقل أمر راجع الى الفعل.
فذاته تعالى يقتضي كون الفعل صحيحا منه وموقوفا
على دواعيه ، فليس
له بذلك صفة كماله بكونه عالما صفة وقد تكلمت على هذا الموضوع فى غير هذا الكتاب.
وثبت أن ما فرق به
الشيخ أبو الحسين رحمهالله من الموضعين ليس بجيد. وقلت أن ذاته تعالى لا تقتضى صحة
الفعل ، الصحة الراجعة الى ذات الفعل لأن تلك الصحة ذاتية للفعل ومن لوازمه. ولو
قدرنا انتفاء كل قادر فى الوجود لكان الممكن ممكنا والممتنع ممتنعا. فاذا ذاته
تعالى يقتضي صحة صدور الفعل الممكن عنه فهما صحتان أحدهما صحة الممكن فى نفسه
والآخر صحة وجوده بالفاعل. فالصحة الثانية لا بد من اثباتها لذاته تعالى ، فلا بد
من اثبات صفة له بكونه قادرا راجعة الى ذاته كما قال فى كونه عالما لا فرق بين
الموضعين» .
«مسئلة» فى «التحسين والتقبيح»
«ونقول لا نسلم
انه تعالى أخبر فى حياة أبى لهب أنه لا يؤمن. ولم لا يكون سورة تبت انزلت بعد موت
أبى لهب. المحال انما يلزم لو كان تعالى قد اخبر وأبو لهب حي بأنه لا يؤمن وهو مع هذا مكلف ان يؤمن واذا كانت قد أنزلت بعد موت أبى
لهب فقد اندفع الاشكال.
ان قيل فيجب على
هذا ان يقولوا أنه تعالى ما أخبر عن أقوام بأعيانهم انهم لا يؤمنون وهم أحياء.
قيل كذلك يقول.
انه لم يخبر عن أحد أنه لا يؤمن وهو فى حال الاخبار عنه مكلف بأنه يؤمن. ان قيل :
فما قولكم فى قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) قيل : ان هذه الآية وردت فى حق أقوام مخصوصين. وقوله تعالى
(لا يُؤْمِنُونَ) اعم من قوله : لا يؤمنون مدة حياتهم. ومن قوله : لا يؤمنون
الآن. لأنه يمكن تقسيمه الى كل واحد من القسمين ومورد التقسيم مشترك بين القسمين.
فلم لا يجوز أن يكون المراد :
__________________
لا يؤمنون الآن
فقط ، ولا يكون اخبارا عن انتفاء الايمان منهم طول حياتهم فلا يلزم المحال» .
من جملة نقد ابن
أبى الحديد لفخر الدين الرازى.
«ثم ان صاحب
الكتاب تكلم فى اثبات النبوة المحمدية واستدل عليها بوجوه ثم اعترضها باعتراضات
كثيرة ولم يجب عنها ... وقد وقفت على رسالة لبعض قدماء الاسماعيلية يذكر فيها
فوائد التعليم. واظن صاحب الكتاب وقف عليها وحسنت عنده فنقلها الى هذا الموضع لأنى
رأيت كثيرا من ألفاظ الرسالة بعينها منقولة فى المحصل : فمن جملتها قوله :
«ان كل جنس تحته
أنواع فانه يوجد فيما بين تلك الأنواع نوع واحد هو اكملها. وكذا الأنواع بالنسبة
الى الأصناف بالنسبة الى الأشخاص بالنسبة الى الأعضاء وأشرف الأعضاء ورئيسها هو
القلب وخليفته الدماغ ومنه يثبت القوى (٤٣٤ ـ ا) على
جميع جوانب البدن. فكذا أنواع الانسان لا بد فيه من رئيس والرئيس اما ان يكون حكمه
على الظاهر فقط وهو السلطان أو على الباطن فقط وهو العالم أو عليهما معا وهو النبي
أو الامام. فالنبى يكون كالقلب فى العالم والامام كالدماغ وكما أن القوى المذكورة
انما تفيض من الدماغ على الأعضاء وكذا قوة البيان والتعليم انما تفيض بواسطة
الامام المعلم الّذي هو خليفة النبي على جميع أهل العالم وهذا الكلام محض مذهب
التعليمية وهم الاسماعيلية من الشيعة. وكثيرا ما اعجب من هذا الرجل فى كتبه
ومصنفاته وخصوصا فى هذا الكتاب فانه وضعه على قاعدة الايجاز والاختصار ثم توخى
المواضع المهمة فى صناعة الكلام فاختصرها حتى أحل بفهمها بالكلية بل حذف الكثير منها وأهمله وأعرض فى مواضع
شريفة عظيمة الخطر. ولم يجب عن الاعتراض قصدا للايجاز بزعمه ثم اطال فى مواضع
كثيرة لا يناسب اطالته فيها الايجاز فى غيرها ولا يقتضي قاعدة الكتاب وأمثاله من
المختصرات الاسهاب فيها ...
__________________
«والكلام فى تعديد
الآيات الدالة على انا فاعلون على رأى المعتزلة وهو منقول من رسالة مفردة للصاحب
أبى القاسم ابن عباد أحد جوامعها فنقلها الى هذا الكتاب ... وعلى انه قد وهم فى
عدد الأئمة الاثنا عشرية وفى انسابهم فى موضعين فانه اسقط الامام العاشر عندهم وهو
على الهادى بن محمد على بن موسى ... وقال ان من الناس من جعل الامام بعد محمد بن
على بن موسى فى أبيه (ابنه) جعفر وليس جعفر هو ابن محمد كما توهمه بل هو ابن على
الهادى بن محمد ... (٤٣٤ ـ ب) فحسب أحد عشر باثنى عشر هكذا رأيته فى جميع النسخ
التى وصلت إلينا الى بغداد بهذا الكتاب ووقفنا عليها ولعله غلط الناسخ والا فالرجل
ان لا يكون يعرف ذلك ...» .
ولكن اذا رجعنا
الى نسخ المحصل الموجودة لدينا من مخطوطة ومطبوعة لا نرى العبارة التى ذكرها ابن
أبى الحديد آنفا وانما نرى فى المحصل عندنا هذه العبارة الآتية :
«فالذين استقر
عليه رأيهم ان الامام بعد الرسول عليهالسلام على بن أبى طالب ثم ولده الحسن ثم أخوه الحسين ثم ابنه على
ثم ابنه محمد الباقر ثم ابنه جعفر الصادق ثم ابنه موسى الكاظم ثم ابنه على الرضا
ثم ابنه محمد التقى ثم ابنه على النقى (الهادى) ثم ابنه الحسن الزكى ثم ابنه محمد وهو القائم المنتظر» .
وعدا ذلك نستطيع
أن نقول ان نقد ابن أبى الحديد مصيب وغير مصيب.
واحب أن اقرأ شيئا
من النقد لابن أبى الحديد لأنى وجدت افادته شيقة ومفيدة على الأقل من ناحية تسبق
العلوم ودرجة فهمهم العلم والدرجة العلمية وكيف كانوا يقيمون علوم العلماء
وتآليفهم العلمية.
«وما زال أهل
العلم يستهجنون ان يمزج علم بعلم آخر ويجمع بين الكتب بين العلمين ويعدون ذلك
قصورا فى صناعة التصنيف وقال الشيخ أبو الحسين
__________________
رحمهالله فى خطبة المعتمد انى انما صنعته بعد استقصاء فى شرح العمد
لأنى تكلمت فى شرح العمد فى كثير من المباحث الكلامية اتباعا لمصنف العمد وهو قاضى
القضاة فاستهجنت ذلك ورأيت الى (ان) العلوم المختلفة لا يجوز أن يجمع بينها فى
الكتاب الواحد ، فدعانى ذلك الى تصنيف المعتمد ... (٤٣٥ ـ ا) وانما حذا (يعنى
الرازى) فى ذلك حذو الغزالى فى المستصفى فانه صنف كتابا فى أصول الفقه مزجه بعلم
المنطق ... قوم غلب حب العلوم الحكمية عليهم ... ولا أقول هذا مبالغة فان هذا
المصنف قد فسر القرآن العزيز ، كتاب كبير نحو عشر مجلدات أكثرها على القواعد
الحكمية وهو من عجائب الدنيا وما رأينا قبله مثله. فانا عهدنا كتب التفسير يقال
فيها عند ذكر الآية قال على وابن عباس وهذا عند ذكر الآية يقول قال الفارابى وابن
سينا ولا قوة الا بالله .
انه من المفيد
والنافع ان يعرف المسائل التى خالف فيها فخر الدين الرازى مذهبه الأشعرى على قلم
لابن أبى الحديد بقوله : «وقبل ان نختم الكتاب نعقد فصلا نذكر فيه المسائل التى فارق
فيها مذهب الأشعرية وأخذ فيها بقول الشيخ أبى الحسين رحمهالله وهى «كو» مسئلة ف ـ ليس النظر معنى زائدا على ترتيب العلوم والظنون بل هو
مجرد ترتيب علوم أو ظنون فى الذهن ليتوصل بها الى علم أو ظن.
(ب) النظر الفاسد
يستلزم الجهل.
(ج) ليس الوجود
صفة زائدة على الذات وهذا وان قال به الأشعرى نفسه لكن جمهور أصحابه انكروه.
(د) ليس حدوث
الحادث علة الحاجة الى المحدث بل جواز الحدوث هو العلة.
(ه) ليس حصول
الجوهر فى الحيز معللا بمعنى هو الكون.
(و) ليس الحياة
معنى زائدة على اعتدال المزاج وقوة الحس والحركة.
(ز) ليس الموت
معنى وجوديا يضاد الحياة.
__________________
(ح) ليس العلم
معنى يوجب كون العالم عالما ولا العلم عبارة عن حالة يتعلق المعلوم بل العلم هو
التعلق نفسه.
(ط) ليس العقل
عبارة عن نفس العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات بل غريزة يلازمها العلوم
البديهية عند ارتفاع المانع.
(ى) ليست القدرة (٤٤١
ـ ا) عبارة عن معنى زائد على صحة البنية [الصحيح البنية] أو اعتدال مزاج الأعصاب.
يا ـ ليس العجز
معنى وجوديا يضاد القدرة.
يب ـ ليس الادراك
معنى زائدا على العلم.
يج ـ الاعراض ليست
نستحيله (مستحيلة) البقاء بل يجوز بقاؤها.
يد ـ الأجسام لا
يستحيل خلوها من الألوان والطعوم والأراييح.
يه ـ المعلول
بالنوع يجوز تعليله بأكثر من علة واحدة بالشخص.
يو ـ الموجب
العقلى يجوز أن يتوقف ايجابه الأثر على شرط منفصل عن ذاته.
ير ـ الموجب
العقلى يجوز أن يكون مركبا.
يح ـ لم يثبت بحجة
قاطعة أن كون الله تعالى سميعا بصيرا أمر زائد على كونه عالما.
يط ـ لم يثبت بحجة
قاطعة انه تعالى موصوف بما تزعم الأشعرية انه معنى مفرد يسمونه كلام النفس.
كا (ك) ـ ليس البارى
تعالى عالما بمعنى يقتضي له كونه عالما بل ليس الا ذاته والاضافة المسماة العلم لا
غير.
__________________
كب (كا) ـ لم يثبت
بحجة قاطعة ان للبارى تعالى صفات غير هذه الصفات المتفق عليها وما أثبته الأشعرى
وأصحابه من اليد والوجه والاستواء وغيرها لا يصح.
كج (كب) ـ لم يثبت
بحجة قاطعة ان البارى تعالى تصح رؤيته.
كد (كج) ـ لم يثبت
بالدليل ان قدرة العبد لا تؤثر فى مقدوره اصلا كما قال الأشعرى ولا أنها لا تؤثر
فى ذاته بل فى صفة زائدة على ذاته كما قاله ابن الطيب.
كه (كد) ـ لم يثبت
بالدليل ان أجزاء الأجسام البشرية تعدم ثم تعاد فى القيامة عن العدم.
كو (كه) ـ لا يكفر
أحد من أهل القبلة وان اختلفوا فى المسائل الكلامية.
كر (كو) ـ الامامة
واجبة لأنها تتضمن (أن) دفع الضرر عن النفس واجب بهذه.
فهذه المسائل هى
علم الكتاب كله. وقد بان انه رفض مذهب شيوخه فيها واعترف بفساد أقوالهم وهذا آخر
كلامنا فى هذا الكتاب» . فان ابن أبى الحديد قد شدد نقده وزاد فى التهجين بقوله فى
العبارات كما يأتى فمثلا فى نقده كلام الامام فى المحصل على التعليمية فى القسم
الثانى من المخطوط. فاذا كنت قد طعنت فى الاستدلال بالتسلسل فكيف عدت إليه وتمسكت
به وقد رام بعض المكلفين من اتباعه لما سمع من هذا الاعتراض ان ينتصر له فقال ان
لجوابه تفسيرا سلم به من مناقضة ما قاله أولا حيث زيف كلام المتكلمين فاستدلالهم
بالتسلسل» .
وقال بعض من يتعصب
له ويقلده فى الصحيح والفاسد لعل مراده بالعلة المتممة وهى احدى علتين لا بعينها
..» .
__________________
«والرجل (يقصد
الرازى) حاطب ليل وكان غرضه التصنيف لا التحقيق. ومن نظر فى مصنفاته بعين الانصاف
لا بعين الهوى والعصبية علم بعدها على التحقيق وانه كان يجمع اضغاثا من كل نوع
ويقولها ولا يبالى لعلمه بالسعادة الشاملة والصيت المنتشر عنه أصاب أم أخطأ» (وتكلمنا
نحن عليه فى نقض الأربعين) .
«أقول : ان هذا
الرجل له عادة أن يورد الأدلة غير موضعها وأنا أوضح ذلك فى هذا الموضع» .
«ثم حكى شبهة لمن
نفى كون البارى مريدا وهى انه اما أن يريد الشيء لغرض والأول يقضى الى كونه تعالى
مستكملا بذلك الغرض. والثانى عبث وأجاب ، فقال أراد (ة) الله تعالى منزهة عن
الأغراض بل هى واجبة التعلق بايجاد ذلك الشيء فى ذلك الوقت بذاتها» .
«أقول : هذا تصريح
بأنه تعالى موجب بالذات لا فاعل بالاختيار لأنه لا يتمكن من فعل ما يخالف مقتضى
الإرادة القديمة الواجبة التعلق بايجاد الأشياء فى أوقاتها فيكون تعالى كالملجإ
الى تلك الأفعال المسلوب التخير والتمكن منها وقد شرحت هذا الموضع فى الرسالة
الشرقية فى كشف الفلسفة الحقية شرحا لا مزيد عليه» .
فابن أبى الحديد
فى نقده اللاذع كأنه مملوء بالحقد وأنه ينتقم من الرازى ويظهر تحامله على الخصم.
وتعصبه للاعتزال بصورة ما كان له حاجة الى نقده ذلك النقد غير العلمى. وهناك نقد
علمى لا شك فيه وكذلك نقد موجه الى المنهج
__________________
وهو طريق فخر
الدين الرازى فى البحث عن المسألة ونقاشها دون أن يتميز ما هو صحيح منها وما هو
غير صحيح ويترك القارئ حائرا بين الآراء والأقوال. وأحيانا فى المسائل الكلامية
يميل فى آخر البحث صراحة أو اشارة الى رأى الخصم واما نقده فى ادخاله أو مزجه
المنطق والفلسفة بالكلام فى كتاب واحد فهو نقد غير لازم لأن الانسان يقسم كتابه
الى أقسام والقسم الأول فى علم والثانى فى علم آخر والثالث فى علم ثالث مثل الشفاء
والنجاة لابن سينا.
وان شرح وتعليل
المسائل الكلامية بمنهج فلسفى مستعينا بالفلسفة لا اعتقاد انه يضر الكلام وانما
يفيده جدا واذا استقصينا آيات القرآن الكريم وأعملنا عقولنا فى فهمها فانها لا
تخرج الا بنقاش فلسفى وعلمى خالص.
٣ ـ ان نصير الدين
الطوسى اتبع طريقا خاصا له فى كتابه «تلخيص المحصل» وإن كان بعضهم يسميه نقد
المحصل وهو غير صحيح لأنه نفسه سماه تلخيص المحصل فى مقدمته عليه. ان نصير الدين
الطوسى يبين فى مقدمته بعض الأشياء المهمة وأهمية علم أصول الدين بين العلوم
الاسلامية وانه يشرح لنا إيضاحات وجو تدريس العلوم واهتمام الناس بها أو عدمه
وانكباب الناس على المحصل وكيفية تداوله بينهم. ولهذا السبب تناوله الناس بالشرح
والتعليق ولكن هذا لم يرض الطوسى ورأى انه من الضرورى ان يكتب أيضا بدوره شرحا له
ويكشف بما أورده الرازى فيه من أفكاره ويوضح الخلل فى نقاشه واعتراضاته أو ايراد
الشبهات والاجابة على الاعتراضات. ولهذا كله نجد أنه من النافع أن يرى القارئ
الكريم مقدمة الطوسى كاملة ليصل الى نتائج من فهمه واستدلاله يقول :
«فان أساس العلوم
الدينية علم أصول الدين الّذي يحوم سائله حول اليقين ولا يتم بدونه الخوض فى
سائرها كأصول الفقه وفروعه فان الشروع فى جميعه يحتاج الى تقديم شروعه حتى لا يكون
الخائض فيها وان كان مقلدا لأصولهم كان على غير أساس» ...
«وفى هذا الزمان
لما انصرفت الهمم عن تحصيل الحق بالتحقيق وزلت
الأقدام عن سواء
الطريق بحيث لا يوجد راغب فى العلوم ولا خاطب للفضيلة وصارت الطباع كأنها مجبولة
على الجهل والرذيلة. اللهم الا بقية يرمون فيما يرمون رمية رام فى ليلة ظلماء
ويخبطون فيما ينحون نحوه خبط عشواء ولم تبق فى الكتب التى يتداولونها فى علم
الأصول عيان ولا خبر ولا فى تمهيد القواعد الحقيقية عين ولا أثر ، سوى كتاب المحصل
الّذي اسمه غير مطابق لمعناه وبيانه غير موصول الى دعواه وهم يحسبون انه فى ذلك
العلم كاف وعن أمراض الجهل والتقليد شاف.
الحق أن فيه من
الغث والسمين ما لا يحصر. والمعتمد عليه فى اصابة اليقين بطال لا يحظى بل يجعل
طالب الحق بنظره فيه كعطشان يصل الى السراب رأيت أن أكشف القناع عن وجوه أبكار
مخدرات وأبين الخلل فى مكان شبهاته وادل على غثه وسمينه وان كان ..
وقوم فى نقض
قواعده وجرحه ولم يجر أكثرهم على قاعدة الانصاف ولم تخل بياناتهم عن الميل
والاعتساف واسمى الكتاب «تلخيص المحصل» .
عند ما يقرأ
الانسان تلخيص المحصل يرى أن ما قاله صاحبه يوافق أقواله فى المتن أثناء الشرح وان
كان مخالفا فى مذهب المصنف فسيلاحظ القارئ تقديره للمصنف حتى فى نقده وفى هذا
يخالف ابن أبى الحديد فى تحامله على المصنف وهو ممن سبق الطوسى فى الكتابة على
المحصل وصدق الطوسى فى قوله فى المقدمة بالاعتساف والانصراف عن قاعدة الانصاف. لقد
أشار الى من خادعه سواء السبيل والمنهج العلمى ولنكتف بهذا عن تلخيص المحصل لأنه
لا يمكن أن يأتى الانسان على كل صغيرة وكبيرة فى الشرح من اصابة فى النقد واصابة
فى التأكيد.
ان نصير الدين
الطوسى فرغ من تحرير شرحه سنة ٦٦٩ وهى موجودة فى
__________________
طوبقابى سراى بخطه
تحت رقم ١٧٦٨ وله عدة نسخ مخطوطة فى مكتبات استانبول.
٤ ـ الشرح لعلى بن
عمر بن على الكاتب القزوينى الّذي سماه المفصل فى شرح المحصل. ان القزوينى معاصر
لنصير الدين الطوسى وان كان الطوسى أقدم منه بثلاث سنوات مولدا وبثلاث سنوات وفاة
ويذكر أن الطوسى أصبح مرة استاذا للقزوينى ولا شك أن الأستاذية لا تتوقف على قدم
السن وان كان هنا هذا التقدم موجودا ولو بثلاث سنوات. رغم ذلك كله نرى ان القزوينى
قد كتب شرحا للمحصل بالحاح أبى الفضائل بن عبد الحميد القزوينى وهذا يعطينا الفكرة
القائمة على عدم ارتضاء بعض الجهات المختصة العلمية أو السياسية بما كتب عن المحصل
من شروح وتعليقات ولهذا نرى كعادتنا انه من المفيد أن ننقل هنا بعض ما يمكن أن
يحتاج إليه القارئ من مقدمة القزوينى وهو صاحب المفصل والمنصص شرح الملخص للرازى
أيضا وصاحب النص فى المنطق المسمى بالشمسية وأخرى من التآليف.
«فان كتاب المحصل
الّذي صنفه ... أبو عبد الله محمد بن عمر الرازى تغمده الله بغفرانه كتاب يحتوى
على كل كلام المتكلمين وأدلتهم مع دقائق لطيفة ونكت شريفة من مباحث الحكماء
المتقدمين والمتأخرين. الا أن فيه مغالطات يصعب على الناظرين حلها ومواضع منغلقة
غير واردة على النظم الطبيعى براهينها فأشار الى من خصنى بالانعامات الوافرة
والأيادى المتواترة وهو المولى المعظم الصدر الأعظم ملك ... سلطان القضاة والحكام
مفتى الفرق علامة العالم منشئ الدقائق مخترع الحقائق أبو الحسن بن المولى المعظم
السعيد الشهيد عز الملة والدين حجة الاسلام أبى الفضائل بن عبد الحميد القزوينى
أدام الله معاليه بحل تلك المغالطات وشرح المواضع المنغلقة واخراج براهينها من
القوة الى الفعل فبادرت الى مقتضى اشاراته وشرعت فى نيته وكتابته على الوجه المشار
إليه مع التنبيه على تقريرات وتدقيقات سنحت حال التحرير وسميته بالمفصل فى شرح
المحصل واستعنت بالله واهب العقل ومفيض الله» وهذا الشرح ينتهى فى مسئلة وجوب الامامة
__________________
ولا يستمر الى آخر
الكتاب مثل شرح الطوسى كما أنه يظهر عند القارئ ان آخر المحصل هو فى تفصيل بعض
الفرق الاسلامية ولم يكن هناك حاجة الى اعطاء الايضاحات أكثر وانما علق الطوسى على
بعض نقاط وأمكنة منها. وكاتب جلبى يقول فى كشف الظنون فانه ألفه لمحيى الدين الصدر
الشهيد الحميد القزوينى فان نسخة المؤلف على ما أعتقد موجودة فى مكتبة داماد
ابراهيم باشا برقم ٨٦١ وهى ٢٧٤ ورقة فرغ من تحريره مؤلفه على بن عمر القزوينى فى
سلخ رمضان المبارك لسنة اثنتين وستين وستمائة وفى (١٣٩ ـ ب) عند ما يقول : «وهذه
صورته» يرسم الصورة ولكن النسخ الأخرى المتأخرة عنها التى رأيتها لا توجد فيها تلك
الصورة. ولهذا فان هذه النسخة أى نسخة داماد ابراهيم باشا (رقم ٨٢١) أصبحت مهمة
لأنها نسخة المؤلف لأن خط هذه النسخة هو نفس خط نسخة شرح قطب الدين الموجودة فى
راغب باشا برقم ٧٩٢ كما أشرنا إليها سابقا.
وانه من الأحرى أن
نذكر هنا مسألة مهمة تتعلق بعناية الله للكون وتخصيص كل شيء بهيئته الخاصة أو شكل
أو حركة خاصة أو زمان معين الى غير ذلك وهى نظرية قديمة لايضاح تكون الفصول
السنوية والأيام والشهور حسب أوضاع الأفلاك يستدل بها على إرادة الله وتخصيص
الأشياء بميزاتها الخاصة وفى ذلك يقول فخر الدين الرازى :
«لأنه منقوض
باختصاص الكوكب بالموضع المعين من الفلك مع كونه بسيطا واختصاص أحد جانبى المتمم
بالثخن والجانب الآخر بالدقة» .
«أقول : اعلم ان
الفلك الّذي مركزه مركز العالم اذا انفصل عنه فلك آخر مركزه خارج عن مركز العالم
بحيث يماس محيطه الفلك الأول على نقطة مركبة بينها ويقال له الأوج والنقطة
المقابلة له الحضيض حصل بسبب ذلك جسمان مختلفا الثخن والدقة أحدهما حاو للفلك
الخارج المركز والآخر محوى فيه دقة الحاوى
__________________
مما يلى الخارج ،
والغلظ مما يلى الحضيض ودقة المحوى وغلظه بالعكس ويقال لهذين الجسمين المتممان
وهذه صورته» .

والى جانب ذلك فان
هناك شروحا أخرى للمحصل كما افاد ذلك الطوسى فى مقدمة تلخيص المحصل وذكر الحاج
خليفة بعضها فى كتابه المشهور «كشف الظنون» (٢ / ١٦١٤).
ولابن تيمية (٨٢٧
ه / ١٣٢٦ م) كتاب ينقد المحصل كما ذكره هو فى أثره درء تعارض العقل ، والنقل يقول
: وقد كنا صنفنا فى فساد هذا الكلام مصنفا قديما من نحو ثلاثين سنة وذكرنا طرفا من
بيان فساده فى الكلام على «المحصل» وفى غير ذلك وتأليف ابن تيمية على المحصل مفقود على ما أظن وان ابن
تيمية قد درس هذا الكتاب وكتب عليه عند ما كان فى حوالى الثلاثين من عمره وانه قد
__________________
ذكر المحصل فى
كتابه المذكور أحيانا للنقد وأحيانا للاستفادة منه واما الدكتور محمد رشاد سالم
فقد ذكر فى التعليق على ما نقل ابن تيمية من نهاية العقول للرازى بأنه لم يجد النص الّذي نقده ابن
تيمية وقد أدمج هذا الكتاب من قبل أحد تلامذة ابن تيمية فى شرحه للبخارى. وانما
عمل ذلك لحفظ الكتاب من خصومه ، اخبرنى بذلك المرحوم الأستاذ محمد التنجى واخبرنى
أيضا ان الكتاب موجود فى الشام. من المحتمل ان يكون ذلك الكتاب «الكواكب الدرارى»
لابن زكنون الحنبلى شرح البخارى فى المكتبة الظاهرية. الا انى لم أستطع تحقيق ذلك.
وابن خلدون (٧٣٢ ه
/ ١٣٣١ م) قد درس المحصل على يد شيخه أبى عبد الله محمد بن ابراهيم ثم اختصره
وسماه لباب المحصل فى أصول الدين وهو فى التاسعة عشرة من عمره ، وقد نشره الراهب
الأسبانى Pluciano Rubio فى Tetuan
لقد كان كتاب
المحصل كتاب التدريس عند الشبان المسلمين حيث أن ابن تيمية قد قرأه وكتب عليه وهو
ابن ثلاثين سنة وابن خلدون درسه ولخصه وهو فى التاسعة عشرة.
وفى احدى
المخطوطات التى تسند الى نصير الدين الطوسى والتى توجد فى مكتبة طوبقابى فى استانبول
برقم ١٤٦١ (١٣٧ ـ ١ ـ ١٣٧ ـ ب) تحت عنوان المخطوطات العربية وفيه توجد قائمة
بمؤلفات فخر الدين الرازى فنذكر هنا هذه القائمة للفائدة فيما يلى كما ذكر فى
المخطوطة :
١ ـ نهاية العقول
فى دراية الأصول.
٢ ـ شرح الاشارات.
٣ ـ المباحث
المشرقية.
٤ ـ الملخص.
٥ ـ البراهين
البهائية.
__________________
٦ ـ الأربعين فى
أصول الدين.
٧ ـ المحصول فى
علم الأصول.
٨ ـ أحكام القياس
الشرعى.
٩ ـ الرسالة
الكمالية.
١٠ ـ تعجيز
الفلاسفة.
١١ ـ السر
المكتوم.
١٢ ـ الخلق
والبعث.
١٣ ـ المعالم.
١٤ ـ الفصول
الخمسين.
١٥ ـ تأسيس
التقديس.
١٦ ـ الجوهر
الفرد.
١٧ ـ الطب الكبير.
١٨ ـ شرح كليات
القانون.
١٩ ـ التفسير
الكبير المسمى بمفاتيح الغيب.
٢٠ ـ أسرار
التنزيل وأنوار التأويل.
٢١ ـ الخلافيات
الصغيرة.
٢٢ ـ الخلافيات
الكبيرة.
٢٣ ـ شرح الوجيز.
٢٤ ـ لباب
الاشارات.
٢٥ ـ المحصل فى
علم الأصول (علم الكلام).
٢٦ ـ الرياض
المؤنقة.
٢٧ ـ المحرر فى
حقائق النحو.
٢٨ ـ الاختيارات
العلائية.
٢٩ ـ اشارات
النظام.
٣٠ ـ مختصر
الأخلاق.
٣١ ـ اقليدس.
٣٢ ـ الهيئة.
٣٣ ـ عصمة
الأنبياء.
٣٤ ـ نهاية
الايجاز.
٣٥ ـ رسالة فى نفى
الجهة.
٣٦ ـ مناقب
الشافعى.
٣٧ ـ تعزيز
التقدير.
٣٨ ـ لوامع
البينات.
٣٩ ـ رسالة فى
الهيولى.
٤٠ ـ اللطائف
الغياثية فى المباحث الالهية.
٤١ ـ كتاب فى
الحيز والأزل.
٤٢ ـ شرح سقط
الزند.
٤٣ ـ الآيات
والبينات.
٤٤ ـ شرح المصدرات
لاقليدس ، (١٣٧ ـ ١).
٤٥ ـ المنطق
الكبير.
٤٦ ـ تتمة
الأربعين.
٤٧ ـ الجامع
الكبير.
٤٨ ـ الجامع
الصغير.
٤٩ ـ شرح النجاة.
٥٠ ـ شرح الارشاد.
٥١ ـ شرح عيون
الحكمة.
٥٢ ـ المطالب
الالهية.
٥٣ ـ كتاب فى
الرمل.
٥٤ ـ كتاب
الفراسة.
٥٥ ـ جامع العلوم.
٥٦ ـ البراهين
المحدثة.
٥٧ ـ رسالة فى
اثبات المعراج الجسمانى (١٣٧ ـ ب).
وهنا ارى من
المفيد ان اذكر مجموعة المراجع المخطوطة التى راجعتها أثناء تحقيق المحصل ؛ ولا
داعى هنا لذكر بعض الأوصاف التفصيلية الخاصة بوصف كتابة المخطوطات مثل ألوان الحبر
والورق والجلد ؛ وما الى ذلك ؛ وخاصة فى مثل هذا المخطوط الّذي له عديد من النسخ ؛
ولو كانت نسخة واحدة ربما كان ذلك لازما. ونورد هذه النسخ فيما يلى :
١ ـ نسخة مكتبة
أيا صوفيا فى استانبول المرقمة ب ٢٣٥١ والمستنسخة عام ٦١٦ / ١٢١٩ م ، وهى عبارة عن
١٠٤ ورقة أى ٢٠٨ صفحة والصفحة ١٨ سطرا وأشرنا الى هذه النسخة بحرف (ا).
٢ ـ نسخة دار
الكتب المصرية فى مصر فرع مكتبة التيمورية برقم ٢٦٨ كتبت فى ٦١٦ ه / ١٢١٩ م ؛
وأشرنا الى ذلك ب (ت) وهى عبارة عن ٣٢٨ صفحة.
٣ ـ نسخة مكتبة
جار الله فى استانبول المرقمة ب ١٢٦١ والمستنسخة فى ٦٢١ ه ـ ١٢٢٤ م ؛ ٧٥ ورقة ١٥٠
صفحة وفى كل صفحة ٢٣ سطرا. وأشرنا الى ذلك ب (ج) وفى الصفحات الأولى توجد نقط
هامشية.
٤ ـ نسخة مكتبة
طوبقابى باستانبول فرع أحمد الثالث برقم ٣١٩٩ وهى النسخة التى شرحها الطوسى والتى
توجد فى آخرها نسخة أخرى وهى عبارة عن ٤ ورقات ؛ أى ٨ صفحات. وكتبت فى ٦١٧ ه /
١٢٢٠ م. وهذه النسخة توجد فيها بداية مستقلة وهى تكمل النسخة الموجودة فى أيا
صوفيا وخطها شبيه بخط نسخة أيا صوفيا ومخالف لخط المجلد الّذي فيه. والتى تنطبق مع
النسخة التى طبعت فى مصر سنة ١٣٢٣ ه ومع النسخ التى قابلناها. وأشرنا إليها بحرف (د)
وشرح الطوسى موجود فى أولها.
٥ ـ نسخة مكتبة
الفاتح فى استانبول برقم ٢٩٠١ المستنسخة فى ٦٨٠ ه ١٢٨١ م ، وتوجد بين الصفحات (١٢٠
ب ـ ٧٢ ـ ١) وكل صفحة ٢٥ سطرا وأشرنا الى ذلك بحرف (ف) وكتبت فى المدرسة الجلالية
فى مدينة قونيا.
٦ ـ نسخة مكتبة
قره جلبى زاده فى استانبول. برقم ٢٣٣ والمستنسخة فى ٧١٨ ه / ١٣١٨ م وهى ١٦٧ ورقة (٢٣٤
صفحة) وكل صفحة ١٧ سطرا أكثرها متآكلة وأشرنا إليها بحرف (ق).
٧ ـ نسخة مكتبة
كوبرلى باستانبول برقم ٨٥١ ، كتبت فى مصر سنة ٦٦٤ ه / ١٢٦٥ م ، ١١٣ ورقة (٢٢٦
صفحة) وكل صفحة ١٩ سطرا. وأشرنا الى ذلك بحرف الكاف (ك).
٨ ـ نسخة مكتبة «لا
له لى» باستانبول برقم ٢١٥٢ كتبت سنة ٦٥١ ه ١٢٥٤ م ؛ ١٣٧ ورقة (٢٧٤ صفحة) وكل
صفحة ٢٣ سطرا. وأشرنا الى ذلك بحرف اللام «ل».
٩ ـ نسخة أخرى فى
مكتبة «لا له لى» برقم ٢٤٣٦ كتبت ٧١٦ ه ١٣١٦ م ، ٨٢ ورقة (١٦٤ صفحة ٢٩ ـ ٣٠ سطرا)
وأشرنا إليها بحرف اللام والباء (لب) وتوجد فى هامشها نقط واضافات وتوضيحات.
١٠ ـ نسخة مكتبة
عاطف افندى باستانبول برقم ١٣٦٥ كتبت سنة ٨٨١ / ١٤٧٦ م ١٤٥ ورقة (٢٩٠ صفحة) ٢١
سطرا ؛ وأشرنا إليها بحرف (ع)
١١ ـ نسخة مكتبة
يوسف آغا بمدينة قونتيا برقم ٥٠٨٢ / ٨٤١ ٨٤ ورقة ؛ (١٦٨ صفحة) وكل صفحة ٢٣ سطرا ؛
ولا يوجد فيها تاريخ الكتابة واظنها كتبت فى عهد السلاجقة وأشرنا إليها بحرف الياء
(ى).
١٢ ـ نسخة مكتبة
طوبقابى فرع أحمد الثالث برقم ١٧٦٨ وكتبت فى ٦٦٩ وقد استخدمنا ما فيها من متن فى
شرح الطوسى لتصحيح وتثبيت بعض الكلمات والمفاهيم والعبارات وهى ١٧٧ ورقة ٣٥٤ صفحة
وكل صفحة ٢٣ سطرا وأشرنا الى ذلك بحرف النون (ن) واظنها مكتوبة بخط المؤلف الطوسى
كما سبق.
١٣ ـ نسخة ولى
الدين فى مكتبة بايزيد برقم ٢١٤٦ نسخت فى ٦٩٤ ه ، وهى ٧٠ ورقة ١٤٠ صفحة والصفحة
١٩ سطرا راجعتها من حين لآخر ولذلك لم أشر إليها فى الفروق فى الهامش.
١٤ ـ نسخة أحمد
الثالث رقم ١٨٨٤ نسخت فى سنة ٧٢٤ ، ٢٢٨ ورقة ، ٤٥٦ صفحة ١٥ سطرا جديد الخط صغير
الحجم أشرت إليها بحرف (س).
١٥ ـ نسخة مكتبة
راغب باشا باستانبول برقم ٧٩١ مكتوبة سنة ٦٨٨ ه.
وهى نسخة على بن
عمر الكاتب القزوينى شرحها تحت عنوان المفصل فى شرح المحصل وهى ٢٥٠ ورقة (٥٠٠ صفحة)
وكل صفحة ٢٥ سطرا ، أشرنا إليها عند تصحيح المتن ـ بحرف الصاد (ص).
١٦ ـ نسخة مطبوعة
فى مصر سنة ١٣٢٣ ه ولها نسخ عديدة منتشرة فى مكتبات البلدان المختلفة واستخدمت
كمرجع منذ طبعها حتى الآن وبما أنها طبعت اعتمادا على نسخة واحدة اعتبرناها نسخة
واحدة ، وأشرنا إليها بحرف الميم (م) تسهيلا لتصحيحها لمن بيده. انه من المناسب ان
اذكر هنا ان المحصل قد طبع مرة ثانية فى مصر بعد المراجعة والتقديم لطه عبد الرءوف
سعد ونشرته مكتبة كلية الأزهر دون تاريخ الا أن المراجع (لا ندرى على ما راجع) قد
جنى على الكتاب دون الشعور بأى مسئولية علمية ولم يراجع حتى المخطوطات الموجودة فى
دار الكتب المصرية بل اكتفى بمثال انه فى صفحة ٩٩ من طبعه فى السطر الأول : بعد
قول المصنف بهذه الصفة يضيف فى نفسه (وهى الحياة) دون اشارة الى أى
مخطوطة وهى غير
موجودة فى الطبعة الأولى وكيف له الحق بالتلاعب فى متن المصنف أين هى الأمانة
العلمية وعلى الأقل كان يجب عليه أن يشير الى أنه من اضافته نفسه ليتجنب الافتراء
على المصنف. بعد تحقيق المحصل اعتمادا على تلك النسخ المخطوطة التى ذكرناها وبعد
بيان أهم الفروق فى المتن بين النسخ حسب ما وصلنا إليه من نتائج البحث يجب أن نشير
هنا أيضا الى ثلاث نقاط مهمة :
(ا) فالفرق المهم
بين النسخ هو ما كتب فى الصفحة الأولى والّذي يبين لأجل من كتب هذا الكتاب أو من
يخاطب هذا الكتاب ، وبناء على ذلك ينبغى ان نقسم المخطوطات الى مجموعتين :
١ ـ يتبين من
المجموعة الأولى ان الكتاب كتبه بناء على رغبة مجموعة من الأصدقاء كما هى العادة
فى ذلك الوقت ، وتلك المجموعة من المخطوطات موجودة فى مكتبة أيا صوفيا ، وجار الله
؛ نسخة شرح الطوسى ؛ ونسخة ولى الدين وأخيرا النسخة المطبوعة فى مصر سنة ١٣٢٣ ه.
(ب) يبدو أنه كتب
الى أحد كبار رجال الدولة وهو برتبة رئيس الوزراء أو وزير على أقل تقدير ؛ لأنه
يصفه بأنه قوام الدين عز الملك الصدر العادل قوام الدولة والدين نظام الاسلام عميد
الممالك ، وهذه المجموعة توجد فى مكتبة عاطف أفندى ، كوبرلو ؛ وقره جلبى ولا له لى
فى استانبول ؛ يوسف آغا فى قونيا والمكتبة التيمورية فى مصر ، مغنيسا تحت رقم ٩٩٦.
١ ـ واما بالنسبة
الى اسم الكتاب فانه كما يلى : بناء على النسخ الموجودة فى مكتبة الفاتح وقره جلبى
ولا له لى برقم ٢١٥٢ يبدو أن اسم الكتاب هو «أنوار القوامية فى أسرار الكلامية».
(ب) اما بناء على
النسخ الموجودة فى مكتبة كوبرولو ولا له لى برقم ٢٤٣٦ ويوسف آغا فيبدو انه هو كتاب
«المحصل». واما بناء على النسخ الأخرى الموجودة فى مكتبة أيا صوفيا وجار الله وولى
الدين والتى لها شرح للطوسى فانه كما سماه الطوسى تلخيص «المحصل» وبناء على النسخة
المطبوعة فاننا لا نجد الاسمين معا لكن عنوان النسخ المخطوطة كلها فى صفحتها
الأولى هو اسم المحصل الا نسخة الفاتح كما سبق واسم المحصل فيها بين قوسين.
٣ ـ فى النسخة
المطبوعة وفى صفحة ١٧٨ وبعد جملة : «لخلا الزمان من الامام المعصوم» تنتهى (تكتمل)
النسخ الموجودة فى مكتبة تيمور ويوسف آغا ، وأياصوفيا ؛ ولا له لى ٢١٥٢ ، وجار
الله ومغنيسا وفيما يتعلق بالنسخة الأخرى الموجودة فى مكتبة أحمد الثالث كما أشرنا
إليها آنفا برقم ٣١٩٩ تبدأ من هنا الى آخر الكتاب وكذلك نسخة الفاتح ولا له لى
٢٤٣٦ وقره جلبى وولى الدين ومتن شرح الطوسى يستمر الى آخر متن المطبوع يعنى الى
آخر صفحة ١٨٢ من المطبوع. ونحن من جهتنا أتممنا المتن العربى بناء على ما فى هذه
النسخ الأخيرة ثم ترجمنا الكتاب الى اللغة التركية اعتمادا على تحقيقنا.
بعد هذا كله بقى
شيء واحد مهم لا بد من بيانه وهو المنهج الّذي سلكناه فى تثبيت المتون ونحب
تلخيصها فى النقاط الآتية :
١ ـ اذا كانت نسخة
واحدة مخالفة للنسخ الأخرى كلها ذكرت تلك النسخة وذكرت معها النسخ الأخرى.
٢ ـ وكثيرا ما
ذكرت النسخ كلها فى الهامش للاشارة الى الفرق بينها.
٣ ـ اذا كان النقص
فى نسخة واحدة ذكرت تلك النسخة فقط.
٤ ـ أشرت أحيانا
الى فروق النسخ فى التنقيط لا عطاء فكرة على ان هناك اختلافا أيضا فى التنقيط فى
النسخ المعتبرة القديمة.
٥ ـ واذا تفردت
نسخة فى المخالفة ذكرتها فقط.
٦ ـ ان نسخة (ت)
تذكر المؤنثات الاعتبارية. عدا ذلك فان القارئ ينبغى أن يضع نصب عينه ان نسخة (ت)
تضع النقط حسب زمانه حيث يختلف التنقيط فى زمانه عما كان بعده. مثلا تضع نقطة على
الصاد يظن انه الضاد وتضع الباء فى مكان التاء الفوقانية : ايصالا : ايضالا (٢٨٦)
التقاتل : التقابل (٢٨٦) واما نحن فنضع الفروق النسخية كما هى موجودة فى المخطوطة
فلا ينخدع القارئ بذلك. كما هى واضحة فى (٣٠٤) فى كلمة حدثنا ينبغى ان يكون حدثنا
واتفقت نسخة (ا) مع (ت) هنا أيضا وبعض النساخ لم ينتبه على ما أعتقد الى منهج
التنقيط فى عصريهما (ا ، ت) اما نحن فاننا نصحح المتن حسب منهج التنقيط المتأخر
المستعمل فى زماننا. والله أسأل التوفيق.







بسم الله الرحمن الرّحيم
رب يسر بفضلك
الحمد لله
المتعالى بجلال أحديته عن مشابهة الأعراض والجواهر ، المتقدس بعلو صمديته عن
مناسبة الأوهام والخواطر ، المتنزه بسمو سرمديته عن مقابلة الاحداق والنواظر ؛
المستغنى بكمال قدرته عن معاضدة الأشباه والنظائر ، العليم الّذي لا يعزب عن علمه
شيء من مستودعات السرائر ومكنونات الضمائر ، العظيم الّذي غرقت فى مطالعة أنوار
كبريائه أنظار الأوائل وأفكار الأواخر.
والصلاة على محمد
المبعوث الى الأصاغر والأكابر ؛ والشفيع المشفع فى الصغائر والكبائر ، وعلى آله
وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.
__________________
أما بعد.
فقد التمس منى جمع
من أفاضل العلماء وأماثل الحكماء أن أصنف لهم مختصرا فى علم الكلام مشتملا على
أحكام الأصول والقواعد ، دون التفاريع والزوائد ؛ فصنفت لهم هذا المختصر الّذي لا
يحيط بمضمونه الا الأفراد من أولى الألباب وجمعت فيه محصل أفكار المتقدمين
والمتأخرين من الحكماء والمتكلمين وسميته بالمحصل.
وسألت الله تعالى
أن يعصمنى من الغواية فى الرواية ويسعدنى بالاعانة على الابانة انه خير موفق
ومعين.
علم الكلام مرتب
على أركان أربعة :
__________________
الركن الأول
فى المقدمات
وهى ثلاث :
المقدمة الأولى
فى العلوم الأولية
اذا أدركنا حقيقة
فاما أن نعتبرها من حيث هى هى من غير حكم عليها لا بالنفى ولا بالاثبات وهو التصور
أو نحكم عليها بنفى أو اثبات وهو التصديق.
القول فى التصورات [امكان
المعرفة]
وعندى ان شيئا
منها غير مكتسب لوجهين.
الأول : ان
المطلوب ان لم يكن مشعورا به ؛ استحال طلبه ، لأن ما لا شعور به البتة ؛ لا تصير
النفس طالبة له. وان كان مشعورا به استحال طلبه لأن تحصيل الحاصل محال.
فان قلت : هو
مشعور به من وجه دون وجه.
قلت : فالوجه
المشعور به غير ما هو غير مشعور به.
__________________
والأول لا يمكن
طلبه لحصوله. والثانى لا يمكن طلبه أيضا لكونه غير مشعور به مطلقا.
الثانى أن تعريف
الماهية اما أن يكون بنفسها ، أو بما يكون داخلا فيها ؛ أو بما يكون خارجا عنها أو
بما يتركب من القسمين الأخيرين. أما تعريفها بنفسها فمحال لأن المعرّف معلوم قبل
المعرّف فلو عرّفنا الشيء بنفسه لزم تقدم العلم به على العلم به وهو محال.
وأما تعريفها
بالأمور الداخلة فيها فمحال ، لأن تعريفها اما أن يكون بمجموع تلك الأمور الداخلة
وهو باطل ؛ لأنه نفس ذلك المجموع ، فتعريفها بذلك المجموع تعريف الشيء بنفسه وهو
محال.
أو ببعض أجزائها
وهو محال لأن تعريف الماهية المركبة لا يمكن الا بواسطة تعريف أجزائها.
فلو كان جزء من
الماهية معرّفا لها ، لكان ذلك الجزء معرّفا
__________________
لجميع أجزاء
الماهية فيكون ذلك الجزء معرفا لنفسه وهو محال ، ولسائر الأجزاء. وذلك يقتضي كون
الشيء معرفا لما كان خارجا عنه ؛ وذلك هو القسم الثالث وهو محال لأن الماهيات
المختلفة يجوز اشتراكها فى لازم واحد ، واذا كان كذلك فالوصف الخارجى لا يفيد
تعريف ماهية الموصوف ، الا اذا عرف ان ذلك الموصوف هو الموصوف به دون كل ما عداه ؛
لكن العلم بهذا يتوقف على تصور ذلك الموصوف ؛ وعلى تصور كل ما عداه ؛ وذلك محال.
أما الأول فلأنه
يلزم منه الدور.
وأما الثانى فلأنه
يقتضي تقدم تصور جميع الماهيات التى لا نهاية لها دفعة واحدة على سبيل التفصيل.
وأما تعريفها بما
يتركب من الداخل والخارج ؛ فبطلان ما تقدم من الأقسام يقتضي بطلانه.
ولا يقال : فنحن
نجد النفس طالبة لتصور ماهية الملك والروح ،
__________________
فما قولك فيه؟.
لأنا نقول : ذلك
اما طلب تفسير اللفظ ؛ أو طلب البرهان على وجود المتصور ، وكلاهما تصديق.
تنبيه :
[مصدر المعرفة]
ظهر أن الانسان لا
يمكنه أن يتصور الا ما أدركه بحسه أو وجده من فطرة النفس : كالألم واللذة أو من
بديهة العقل :
كتصور الوجود
والوحدة والكثرة ؛ أو ما يركبه العقل أو الخيال من هذه الأقسام. فاما ما عداه ،
فلا يتصور البتة ؛ والاستقراء يحققه.
تفريع :
القائلون بأن
التصور قد يكون مكتسبا ، اتفقوا على أن كله ليس كذلك ، والا لزم الدور أو التسلسل
؛ بل لا بد من تصورات غنية عن الاكتساب. ثم الضابط أن كل تصور يتوقف عليه تصديق
غير مكتسب
__________________
فهو غير مكتسب.
أما الّذي يتوقف عليه تصديق مكتسب ؛ فقد يكون مكتسبا وقد لا يكون. واتفقوا على أنه
لا يمكن أن يكون الكاسب نفس المكتسب ، بل ان كان مجموع أجزائه فهو الحد التام ، أو
بعض أجزائه المساوية فهو الحد الناقص ؛ أو الأمر الخارجى وحده وهو الرسم الناقص ؛
أو ما يتركب من الداخل والخارج وهو الرسم التام.
تذنيبات ثلاثة :
(أ) البسيط الّذي
لا يتركب عنه غيره لا يعرّف ولا يعرّف به ؛ والمركب الّذي يتركب عنه غيره يعرّف
ويعرّف به ، والمركب الّذي لا يتركب عنه غيره ؛ يعرّف ولا يعرّف به. والبسيط الّذي
يتركب عنه غيره ، لا يعرف ويعرف به والمراد من هذه الأقسام التعريفات الحدية.
__________________
(ب) يجب الاحتراز
عن تعريف الشيء بما هو مثله وبالاخفى وعن تعريف الشيء بنفسه وبما لا يعرف الا به
اما بمرتبة واحدة أو بمراتب.
(ج) يجب تقديم
الجزء الأعم على الأخص لأن الأعم أعرف وتقديم الأعرف أولى.
القول فى
التصديقات :
وهى ليست بأسرها
بديهية ؛ وهو بديهى ولا نظرية ، والا لزم الدور أو التسلسل وهما محالان ؛ بل لا بد
من الانتهاء الى ما يكون غنيا عن الاكتساب وما هو الا الحسيات : كالعلم بأن الشمس
مضيئة والنار حارة ، أو الوجدانيات : كعلم كل أحد بجوعه وشبعه وهى قليلة النفع ،
لأنها غير مشتركة ؛ أو البديهيات : كالعلم بأن النفى والاثبات لا يجتمعان ولا
يرتفعان. وفى هذا الموقف صار أهل العالم فرقا أربعا :
__________________
الفرقة الأولى :
المعترفون
بالحسيات والبديهيات وهم الأكثرون.
الفرقة الثانية :
القادحون فى
الحسيات فقط ، فزعم افلاطون وارسطاطاليس وبطلميوس وجالينوس ان اليقينيات هى
المعقولات لا المحسوسات.
واحتجوا عليه بأن
حكم الحس : اما أن يعتبر فى الجزئيات ، أو فى الكليات.
أما فى الجزئيات ؛
فغير مقبول ؛ لأن حكمه فى معرض الغلط. واذا كان كذلك لم يكن مجرد حكمه مقبولا.
بيان الأول من
خمسة أوجه :
أحدها
: أن البصر قد يدرك
الصغير كبيرا كما ترى النار البعيدة فى الظلمة عظيمة ، وكما ترى العنبة فى الماء
كالإجاصة ، وكما اذا قربنا حلقة الخاتم الى العين ؛ فانا نراها كالسوار. وقد يدرك
الكبير صغيرا كالأشياء البعيدة ؛ وقد يدرك الواحد اثنين ؛ كما اذا غمزنا احدى
العينين
__________________
ونظرنا الى القمر
فانا نراه قمرين. وكما فى حق الأحول وكما اذا نظرنا الى الماء عند طلوع القمر ؛
فانا نرى فى الماء قمرا ، وعلى السماء قمرا آخر.
وقد نرى الأشياء
الكثيرة واحدة ، كالرحى اذا أخرجنا من مركزها الى محيطها خطوطا كثيرة متقاربة
بألوان مختلفة ، فاذا استدارت سريعا ، رأينا لها لونا واحدا ؛ كأنه ممتزج من كل تلك
الألوان.
وقد نرى المعدوم
موجودا كالسراب وكالأشياء التى يريها صاحب خفة اليد والشعبذة وكما نرى القطرة
النازلة من السماء الى الأرض كالخط المستقيم ؛ والشعلة التى تدار بالسرعة
كالدائرة.
وقد نرى المتحرك
ساكنا كالظل ، والساكن متحركا كالراكب فى السفينة فانه يشاهد الشط الساكن متحركا
والسفينة المتحركة ساكنة.
وقد نرى المتحرك
الى جهة متحركا الى ضد تلك الجهة فان المتحرك الى جهة يرى الكوكب متحركا إليها اذا
شاهد غيما تحته
__________________
وان كان الكوكب
متحركا الى خلاف تلك الجهة وقد نرى القمر كالسائر الى الغيم. وان كان سائرا الى
خلاف تلك الجهة اذا كان الغيم سائرا إليه.
وقد نرى المستقيم
منكسا كالأشجار التى على أطراف الأنهار. واذا نظرنا الى المرآة رأينا الوجه طويلا
وعريضا ، ومعوجا ؛ بحسب اختلاف شكل المرآة وكل ذلك يدل على غلط الحس.
وثانيها
: ان الحس قد يجزم
بالاستمرار على الشيء مع أنه لا يكون كذلك ، لأن الحس لا يفرق بين الشيء ومثله.
ولذلك يحصل الالتباس بين الشيء ومثله. فبتقدير توالى الأمثال يظن الحس وجودا واحدا
مستمرا ؛ وليس كذلك فان الألوان غير باقية عند أهل السنة ؛ بل يحدثها الله تعالى
حالا فحالا مع أن البصر يحكم بوجود لون
__________________
واحد مستمر. واذا
احتمل ذلك احتمل أيضا أن يقال : الأجسام لا تبقى ، بل الله تعالى يحدثها حالا
فحالا ، لكنها لما كانت متماثلة متوالية يظنها الحس شيئا واحدا فثبت أن حكم الحس
بالبقاء غير مقبول.
وثالثها
: ان النائم قد يرى
فى النوم شيئا ويجزم بثبوته ، ثم يتبين له فى اليقظة أن ذلك الجزم كان باطلا. فاذا
جاز ذلك فلم لا يجوز أن يكون هاهنا حالة ثالثة ؛ يظهر لنا فيها كذب ما رأيناه فى
اليقظة.
ورابعها
: أن صاحب السرسام
قد يتصور صورا لا وجود لها فى الخارج ويشاهدها ويجزم بوجودها ويصيح خوفا منها.
وهذا يدل على أنه يجوز أن تعرض للانسان حالة لأجلها يرى ما ليس بموجود فى الخارج
موجودا. فاذا جاز ذلك ؛ فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فيما يشاهده الأصحاء.
__________________
فان قلت الموجب
لتلك الحالة هو المرض فعند الصحة لا يوجد.
قلت : انتفاء
السبب الواحد لا يوجب انتفاء الحكم ، بل هذا الاحتمال لا يندفع الا بحصر أسباب ذلك
التخيل الكاذب ، ثم ببيان انتفائها ؛ ثم ببيان ان المسبب لا يجوز حصوله ولا بقاؤه
عند انتفاء الأسباب ، لكن كل واحدة من هذه المقدمات مما لا يمكن اثباته الا بالنظر
الدقيق. لو أمكن فيلزم أن لا يحصل الجزم بوجود شيء من المحسوسات الا بعد العلم
بتلك الأدلة ، وذلك مما يدل على أن مجرد حكم الحس غير مقبول.
وخامسها
: انا نرى الثلج فى
غاية البياض ؛ ثم اذا بالغنا فى النظر إليه ، رأيناه مركبا من أجزاء جمدية صغار.
وكل واحد من تلك الأجزاء شفاف خال عن اللون فالثلج فى نفسه غير ملون ، مع انا نراه
ملونا بلون البياض.
وليس لأحد أن يقول
: ان ذلك انما كان لانعكاس الشعاع عن سطوح بعض تلك الأجزاء الجمدية الى بعض.
__________________
لأنا نقول : هذا
لا يقدح فى غرضنا ؛ لأن الّذي ذكرته ليس الا بيان العلة التى لأجلها نرى الثلج
أبيض مع أنه فى نفسه ليس بأبيض ونحن ما سعينا الا لهذا القدر.
وأيضا فالزجاج
المدقوق نراه أبيض مع أن كل واحد من أجزائه شفاف خال عن اللون ولم يحدث فيما بينها
كيفية مزاجية لأن تلك الأجزاء صلبة يابسة لم يحصل فيما بينها فعل وانفعال.
وأيضا فانا نرى
موضع الشق من الزجاج الثخين الشفاف أبيض مع أنه ليس هناك الا الهواء المحتقن فى
ذلك الشق والهواء غير ملون ؛ والزجاج غير ملون ، فعلمنا أنا قد نرى الشيء ملونا مع
أنه فى نفسه غير ملون.
فثبت بهذه الوجوه
أن حكم الحس قد يكون باطلا وقد يكون حقا. واذا كان كذلك لم يجز الاعتماد على مجرد
حكمه اذ لا شهادة لمتهم ؛ بل لا بد من حاكم آخر فوقه ، ليميز خطأه عن صوابه. وعلى
__________________
هذا التقدير لا
يكون الحس هو الحاكم الأول وهو المطلوب.
وأما الكليات
فالحس لا يعطيها البتة. فان الحس لا يشاهد الا هذا الكل وهذا الجزء. فأما وصف
الأعظمية فهو غير مدرك بالحس. وبتقدير أن يكون ذلك الوصف مدركا لكن المدرك هو أن
هذا الكل أعظم من هذا الجزء. فأما أن كل كل ؛ فهو أعظم من جزئه ؛ فغير مدرك بالحس.
ولو أدرك كل ما فى الوجود من الكلات والأجزاء ولكن لا يدرك كل ما يتصور امكانه لأن
قولنا كل كذا كذا ، أو ليس. كذا ؛ ليس المراد منه كل ما هو فى الوجود الخارجى من
تلك الماهية فقط ، بل كل ما لو وجد فى الخارج يصدق عليه أنه فرد من أفراد تلك
الماهية ، وذلك مما لا يمكن وقوع الاحساس به فثبت ان الحس لا معونة له على اعطاء
الكليات البتة.
الفرقة الثالثة :
الذين يعترفون
بالحسيات ويقدحون فى البديهيات.
قالوا : المعقولات
فرع المحسوسات ولذلك : فان من فقد حسا
__________________
فقد فقد علما ؛
كالأكمه والعنين والأصل أقوى من الفرع.
ثم الّذي يدل على
ضعف البديهيات وجوه خمسة :
أحدها
: أن أجلى البديهيات
العلم بأن الشيء اما أن يكون ، واما ان لا يكون. ثم ان هذه القضية ليست بقضية
يقينية. فاذا لم يكن أقوى الأوليات يقينيا ، فما ظنك بأضعفها؟.
بيان الأول : أنا
رأينا المعولين على البديهيات يذكرون لها أمثلة أربعة :
أحدها
: ان النفى والاثبات
لا يجتمعان ولا يرتفعان.
وثانيها
: ان الكل أعظم من
الجزء.
وثالثها
: أن الأشياء
المساوية لشيء واحد متساوية.
ورابعها
: أن الجسم الواحد
فى الآن الواحد لا يكون فى مكانين معا.
ووجدنا هذه
الثلاثة الأخيرة متفرعة على الأول.
__________________
اما قولنا : الكل
أعظم من الجزء ؛ فلأنه لو لم يكن الكل زائدا على الجزء لكان وجود الجزء الآخر
وعدمه بمثابة واحدة ؛ فحينئذ يجتمع فى ذلك الجزء الآخر كونه موجودا معدوما معا.
وأما قولنا :
الأشياء المساوية لشيء واحد متساوية ؛ لأنه لو لم يكن كذلك ، لكان الألف المحكوم
عليه بأنه يساوى السواد سوادا لا محالة. ومن حيث انه محكوم عليه بأنه يساوى ما ليس
بسواد يجب أن لا يكون سوادا. فلو كان الألف مساويا للأمرين للزم أن يكون الألف فى
نفسه سوادا. وأن لا يكون سوادا فيجتمع النفى والاثبات.
وأما قولنا : ان
الجسم الواحد فى الآن الواحد لا يكون فى
__________________
مكانين متباينين ،
فلأنه لو جاز ذلك لما تميز الجسم الواحد الحاصل فى مكانين متباينين عن الجسمين اللذين
حصلا كذلك ، وحينئذ لا يتميز وجود الجسم الآخر عن عدمه ، فيصدق عليه انه موجود
ومعدوم معا.
ولا يقال : كل
عاقل يعلم بالبديهة حقية هذه القضايا الثلاثة ، وان لم يخطر بباله تلك الحجة
الدقيقة التى ذكرتها.
لأنا نقول : لا
نسلم أن حكم العقلاء بهذه القضايا غير متوقف على الحجة التى ذكرتها ، ولذلك يقولون
: لو لم يكن الكل أعظم من الجزء لم يكن للجزء الآخر أثر البتة. ولو كان الشيء
الواحد مساويا لمختلفين ، لكان ذلك الواحد مخالفا لنفسه وهذه اشارة الى ما ذكرناه
من الحجة ،
__________________
بل قد لا يمكنهم
التعبير عن تلك الحجة على الوجه الّذي لخصناها ، ولكن معناها مقرر فى أنفسهم
وعقولهم ، ولا عبرة بالعبارة.
فقد لاح أن أجلى
البديهيات قولنا : إن النفى والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان ؛ وانما قلنا : انه
غير يقينى لوجوه :
أحدها
: ان هذا التصديق
موقوف على تصور أصل العدم والناس قد تحيروا فيه ، لأن المتصور لا بد وان يتميز عن
غيره. والمتميز عن غيره متعين فى نفسه ، وكل متعين فى نفسه فهو ثابت فى نفسه ، فكل
متصور ثابت. فما ليس بثابت فغير متصور فالمعدوم غير متصور ، واذا كان ذلك التصديق
موقوفا على هذا التصور ، وكان هذا التصور
__________________
ممتنعا كان ذلك
التصديق ممتنعا.
لا يقال المعدوم
المتصور له ثبوت فى الذهن ، ولأن قولنا : المعدوم غير متصور ، حكم على المعدوم
بأنه غير متصور. والحكم على الشيء يستدعى كون المحكوم عليه متصورا فلو لم يكن
المعدوم متصورا لامتنع الحكم عليه بأنه غير متصور.
لأنا نجيب عن
الأول : بأن الثابت فى الذهن أحد أقسام مطلق الثابت ، والكلام وقع فى تصور مقابل
مطلق الثابت ، وذلك المقابل يستحيل أن يكون ثابتا بوجه ما ، والا لكان داخلا تحت
مطلق الثابت وحينئذ لا يكون قسيما له بل قسما منه.
وعن الثانى : أن
ما ذكرته ليس جوابا عن دليلنا ، على أن المعدوم غير متصور ، بل هو اقامة دليل
ابتداء على أن المعدوم متصور ، وذلك يقتضي معارضة دليلين قاطعين فى مسئلة واحدة ،
وهو أحد الدلائل القادحة فى البديهيات.
وثانيها
: لو سلمنا امكان
تصور العدم ، لكن قولنا : النفى والاثبات لا يجتمعان ، يستدعى امتياز العدم عن
الوجود ، وامتياز
__________________
العدم عن الوجود
يستدعى أن يكون لمسمى العدم هوية متميزة عن الوجود ، لكن ذلك محال ؛ لأن كل هوية
يشير العقل إليها ، والعقل يمكنه رفعها ؛ وإلا لم يكن له مقابل ، فكان يلزم أن لا
يكون للعدم مقابل ؛ فكان يلزم نفى الوجود وهو باطل.
فثبت أن ارتفاع
الهوية المسماة بالعدم معقول ، لكن ارتفاع تلك الهوية ارتفاع خاص فيكون داخلا تحت
العدم المطلق ، فيكون قسيم العدم قسما منه هذا خلف.
وثالثها لو سلمنا الامتياز لكن الاثبات والنفى ؛ قد يكون المراد
منهما ثبوت الشيء فى نفسه وعدمه فى نفسه كقولنا : السواد اما ان يكون موجودا ،
وإما أن لا يكون موجودا ، وقد يكون المراد منهما ثبوت شيء لشيء آخر وعدمه عنه ؛
كقولنا : الجسم اما أن يكون أسود واما أن لا يكون. أما الأول : فمن المعلوم
بالضرورة أن
__________________
قولنا : السواد
اما أن يكون موجودا ، أو لا يكون ، لا يمكن التصديق به إلا بعد تصور مفهوم قولنا :
السواد موجود السواد معدوم لكن كل واحد منهما باطل.
أما الأول : فلأنا
اذا قلنا السواد موجود فاما أن يكون كونه سوادا هو نفس كونه موجودا أو مغايرا له.
فان كان الأول كان
قولنا : السواد موجود جاريا مجرى قولنا : السواد سواد ، وقولنا : الموجود موجود.
ومعلوم انه ليس كذلك ، لأن هذا الأخير هذر والأول مفيد.
وان كان الثانى
فهو باطل من وجهين :
أحدهما
: إنه إذا كان
الوجود قائما بالسواد فالسواد فى نفسه ليس بموجود ، والا لعاد البحث فيه ، ولكان
الشيء الواحد بالاعتبار الواحد موجودا مرتين.
واذا كان كذلك كان
الوجود قائما بما ليس بموجود ، لكن
__________________
الوجود صفة موجودة
، وإلا لثبت المتوسط بين الموجود والمعدوم ، وأنتم أنكرتموه فحينئذ تكون الصفة
الموجودة حالّة فى محل معدوم ، وذلك غير معقول. إذ لو جاز ذلك ، لجاز أن يكون محل
هذه الألوان والحركات غير موجودة ، وذلك يوجب الشك فى وجود الأجسام ، وهو عين
السفسطة.
الثانى
: انه إذا كان
الوجود مغايرا للماهية ، كان مسمى قولنا : السواد ، غير مسمى قولنا : موجود. فاذا
قلنا السواد موجود بمعنى أن السواد هو موجود كان ذلك حكما بوحدة الاثنين ، وهو
محال.
فان قلت : ليس
المراد من قولنا : السواد موجود هو أن مسمى السواد هو مسمى الوجود ، بل المراد منه
أن السواد موصوف بالموجودية.
__________________
قلت : فحينئذ ينقل
الكلام إلى مسمى الموصوفية بالوجود فإنه إما أن يكون مسمى السواد هو مسمى
الموصوفية بالوجود ، فحينئذ يكون قولنا : السواد موصوف بالوجود ، جاريا مجرى قولنا
: السواد سواد ، واما أن يكون مغايرا له ، فالحكم على السواد بأنه موصوف بالوجود
حكم بوحدة الاثنين ، الا أن يقال المراد : من كون السواد موصوفا بالوجود إنه موصوف
بتلك الموصوفية ، وحينئذ يعود التقسيم فى تلك الموصوفية الثانية ؛ فاما أن يتسلسل
، وهو محال أو يقتضي رفع الموصوفية ، وحينئذ يبطل قولنا : السواد موجود على تقدير
كون الماهية غير الموجودية.
وأما قولنا :
السواد معدوم ، فإن قلنا : وجود السواد عين كونه سوادا ، كان قولنا : السواد ليس
بموجود ، جاريا مجرى قولنا : السواد ليس بسواد ، أو الموجود ليس بموجود. ومعلوم
انه
__________________
متناقض.
وان قلنا : وجوده
زائد عليه ، توجه الاشكال من ثلاثة أوجه :
أحدها
: أنه يلزم قيام
الوجود الّذي هو صفة موجودة بالماهية المعدومة وهو محال.
وثانيها
: ان سلب الوجود عن
ماهية السواد مثلا ، لا يمكن ما لم يتميز السواد عن غيره ، وكل ما يتميز عن غيره
فله تعين فى نفسه ، وكل ما له تعين فى نفسه فله ثبوت فى نفسه فالسواد لا يمكن سلب
الثبوت عنه ، الا اذا كان ثابتا فى نفسه ، فيكون حصول الوجود له شرطا فى سلب
الوجود عنه ، هذا خلف.
فان قلت : الّذي
يسلب عنه الوجود موجود فى الذهن.
قلت : فاذا كان
موجودا فى الذهن استحال سلب مطلق الوجود عنه لأن الموجود فى الذهن بعض من مطلق
الموجود ؛ فالموجود فى الذهن يصدق عليه انه موجود فلا يصدق عليه حينئذ أنه ليس
__________________
بموجود ، وكلامنا
الآن فيما يقابل مطلق الموجود لا فيما يقابل موجودا خاصا.
وثالثها
: انا سنقيم الدلالة
فى مسئلة المعدوم : ان المعدوم ليس بشيء على امتناع خلو الماهية عن الوجود ، وعلى
هذا يستحيل الحكم على الماهية بالعدم. فظهر انه ليس لقولنا : السواد موجود ،
السواد معدوم ، مفهوم محصل. واذا كان كذلك لم يكن لقولنا : السواد إما أن يكون
موجودا ، واما أن يكون معدوما مفهوم محصل. واذا كان كذلك امتنع التصديق به فضلا عن
كون ذلك التصديق بديهيا.
أما الثانى : وهو
قولنا : الجسم اما أن يكون أسود ، واما أن لا يكون. فنقول من الظاهر انه لا يمكن
التصديق به الا بعد تصور معنى قولنا : الجسم أسود ، الجسم ليس بأسود.
فنقول : اذا قلنا
: الجسم أسود ، فهو محال من وجهين :
أحدهما
: انه حكم بوحدة
الاثنين على ما تقدم تقريره ، وهو باطل.
__________________
الثانى
: وهو ان موصوفية
الجسم بالسواد ، اما أن يكون وصفا عدميا أو ثبوتيا ، والأول محال ، لأنه نقيض
اللاموصوفية وهى وصف سلبى لأنه محمول على العدم ونقيض السلب ايجاب ، فالموصوفية لا
يمكن أن يكون أمرا عدميا. ومحال أيضا أن يكون أمرا ثبوتيا ، لأنه على هذا التقدير
إما أن يكون نفس وجود الجسم والسواد ، واما أن يكون مغايرا لهما.
والأول محال ،
لأنه ليس كل من عقل وجود الجسم ووجود السواد عقل كون الجسم موصوفا بالسواد.
والثانى أيضا محال
، لأن موصوفية الجسم بالسواد لو كانت صفة زائدة لكانت موصوفية الجسم بتلك الصفة
زائدة عليها وهو محال لأنه يؤدى الى التسلسل فثبت أن موصوفية الشيء بغيره غير
معقولة ، فان قلت : الموصوفية ثابتة فى الذهن دون الخارج.
قلت : الذهن ان
طابق الخارج ، عاد الاشكال ، والا فلا عبرة به ؛ ولأن موصوفية الشيء بالشيء نسبة
بينهما. والنسبة بين الشيئين
__________________
يستحيل ألا تكون
حاصلة فيهما بل فى غيرهما. واذا كان كذلك. كان الحق من هذه القضية المنفصلة هو
الجزء السلبى أبدا ، لا الثبوتى. وذلك عندكم باطل.
الاعتراض الرابع
على قولنا : الشيء اما أن يكون ، واما أن لا يكون. سلمنا تصور هذه القضية باجزائها
لكن لا نسلم عدم الواسطة ، وبيانه من وجهين :
أحدهما
: ان مسمى الامتناع
إما أن يكون موجودا ، أو معدوما ، أو لا موجودا ولا معدوما. لا جائز أن يكون
موجودا ، والا لكان الموصوف به موجودا لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم. ولو كان
الموصوف به موجودا ، لم يكن الممتنع ممتنعا ، بل اما واجبا أو ممكنا ولا جائز أن
يكون معدوما لأنه نقيض اللاامتناع الّذي يمكن حمله على المعدوم فيكون اللاامتناع
عدميا ، فلا يكون الامتناع عدميا. ولأن الامتناع ماهية متعينة فى نفسها متميزة عن
سائر الماهيات ولو لا
__________________
ذلك لاستحال اشارة
العقل إليها. واذا كان كذلك ، استحال أن يكون نفيا محضا.
فان قلت : له ثبوت
فى الذهن.
قلت : هذا باطل ،
لأن الممتنع ممتنع فى نفسه سواء كان هناك عقل أو لم يكن ، ولأن الفرض الذهنى ان
كان مطابقا للخارج فهو المطلوب ، والا لكان كاذبا. وليس كلامنا فيه ، بل فيما
يطابق الوجود ، ولأن الّذي فى الذهن ، ان كان موجودا استحال اتصافه بالامتناع ،
لأن الموجود لا يكون ممتنع الوجود ، وان لم يكن موجودا لم يكن الامتناع القائم به
موجودا ، لاستحالة قيام الموجود بما ليس بموجود.
فثبت أن مسمى
الامتناع ليس بموجود ولا بمعدوم. وذلك هو الواسطة.
وثانيهما
: ان مسمى الحدوث ،
وهو الخروج من العدم الى
__________________
الوجود ، غير مسمى
العدم ، ومسمى الوجود. والا لكان حيث صدق مسمى العدم ، أو مسمى الوجود ، صدق مسمى
الخروج من العدم الى الوجود ، وهو محال.
واذا ثبت ذلك ،
فنقول : الآن الّذي يصدق فيه على الماهية مسمى الخروج من العدم الى الوجود إما أن
تكون الماهية فى ذلك الآن موجودة ، أو معدومة أو لا موجودة ولا معدومة. فان كانت
موجودة فقد صدق على الموجود انه يخرج من العدم الى الوجود ، فيكون ذلك كأنه يقال :
الموجود يخرج الى الوجود ، فيكون الشيء موجودا مرتين ، وهو محال.
وان كانت معدومة
فهو محال من وجهين :
أحدهما
: ان الماهية متى
كانت معدومة كانت باقية على العدم
__________________
الأصلي. ومتى كان
العدم الأصلي باقيا لم يكن الانتقال من العدم حاصلا.
وثانيهما
: أن مسمى الحدوث
صفة موجودة والا ثبت الواسطة والصفة الموجودة يستحيل قيامها بالمعدوم فثبت أن
الماهية حالة الحدوث لا موجودة ولا معدومة.
وله تقرير آخر :
وهو أن الماهية اذا انتقلت من العدم الى الوجود.
فحالة الانتقال لا
بد وألا تكون معدومة ولا موجودة ، لأنها لو كانت معدومة ، فهى بعد لم تأخذ فى
الانتقال ، بل هى باقية كما كانت قبل ذلك ولو كانت موجودة فقد حصل المنتقل إليه
بتمامه ، وحين حصول المنتقل إليه بتمامه لا يبقى الانتقال ؛ بل ينقطع. فظاهر أنه
حال حصول الانتقال لا بد وأن تكون متوسطا بين المنتقل عنه والمنتقل إليه.
__________________
فوجب أن يكون
خارجا عن حد العدم الصرف وغير واصل الى حد الوجود الصرف.
فهذه الاشكالات
قطرة من بحار الاشكالات الواردة على قولنا : الشيء اما أن يكون واما أن لا يكون.
واذا كان حال أقوى البديهيات كذلك فما ظنك بالأضعف؟
الحجة
الثانية : لمنكرى البديهيات
انا نجد العقل جازما بأمور كثيرة كجزمه بالأوليات مع أن الجزم غير جائز فيها. وذلك
يوجب تطرق التهمة الى حكم العقل.
بيان الأول من
وجوه :
أحدها
: أنا اذا رأينا
زيدا ، ثم غمضنا العين لحظة ، ثم فتحناها فى الحال ، وشاهدنا زيدا مرة أخرى ،
جزمنا بأن زيدا الّذي شاهدناه ثانيا ، هو الّذي شاهدناه أولا. وهذا الجزم غير جائز
لاحتمال أن الله تعالى أعدم زيدا الأول فى تلك اللحظة التى غمضنا العين فيها ،
وخلق فى الحال مثله ، هذا على مذهب المسلمين.
__________________
وأما على مذهب
الفلاسفة ، فلعله حدث شكل غريب فلكى اقتضى هذا النوع من التصرف فى هيولى عالم
الكون والفساد. وهو وان كان بعيدا ، لكنه جائز عندهم. وعلى هذا التقدير يكون زيد
الّذي شاهدناه ثانيا غير زيد الّذي شاهدناه أولا.
وثانيها
: انا اذا شاهدنا
انسانا شابا أو شيخا علمنا بالضرورة أنه ما خلق الآن دفعة واحدة من غير أب وأم ،
بل كان قبل ذلك طفلا ، ومترعرعا وشابا حتى صار الآن شيخا.
وهذا الجزم غير
ثابت. أما على قول المسلمين فللفاعل المختار ، وأما على قول الفلاسفة فللشكل
الغريب.
وثالثها
: انى اذا خرجت من
دارى ؛ فانى أعلم أن ما فيها من
__________________
الأوانى لم ينقلب
أناسا فضلاء مدققين فى علوم المنطق والهندسة ، ولم ينقلب ما فيها من الأحجار ذهبا
وياقوتا. وانه ليس تحت رجلى ياقوتة بمقدار مائة ألف منّ. وان مياه البحار والأودية
، لم ينقلب دما ودهنا.
والاحتمال فى الكل
قائم. ولا يندفع ذلك بأنى لما نظرت إليها ثانيا وجدتها كما كانت ، لاحتمال أن يقال
إنها انقلبت الى هذه الصفات فى زمان غيبتى عنها ، ثم عند عودى إليها صارت كما
كانت. اما للفاعل المختار أو للشكل الغريب.
ورابعها
: أنى اذا خاطبت
انسانا فتكلم بكلام منظوم مرتب يوافق خطابى ، علمت بالضرورة أنه حي عاقل فاهم.
وهذا الجزم غير ثابت
__________________
لأن المقتضى لذلك
الجزم ، اما أقواله ، أو أفعاله.
أما الأقوال ، فلا
يوجب ، لأنها أصوات مقطعة ، وحصولها فى الذات لا يقتضي كون الذات حية عاقلة.
وأما الأفعال فلا
تدل أيضا لاحتمال أن الفاعل المختار أو الشكل الغريب اقتضى حصول تلك الألفاظ
المخصوصة الدالة على ما يوافق غرض المخاطب. فثبت أن القول والفعل لا يدلان على
كونه حيا فاهما مع انا نضطر الى العلم بذلك.
وخامسها
: انكم رويتم فى
الأخبار أن جبريل عليهالسلام كان يظهر على النبي صلىاللهعليهوآله فى صورة دحية الكلبى ، وإذا لم يمتنع ذلك فى بديهة العقل
لم يمتنع أن يظهر فى صورة سائر
__________________
الأشخاص. فاذا
رأيت ولدى فلعله ليس ولدى ، بل هو جبريل عليهالسلام ، بل الذبابة التى طارت لعلها ليست بذبابة ، بل هى ملك من
الملائكة.
فثبت أن هذا
التجويز قائم ، مع أن العلم الضرورى بعدمه حاصل فثبت بهذه الوجوه أن البديهة جازمة
بهذه الأحكام مع أن جزمها باطل. ولما تطرقت التهمة إليها لم يكن مجرد حكمها مقبولا
اذ لا شهادة لمتهم.
لا يقال : جزم
العقل بهذه القضايا استدلالى ، لا فطرى ، لأنا نقول : لو كان كذلك ، لوجب أن لا
يحصل هذا الجزم ، الا لمن عرف ذلك الدليل. ولما لم يكن كذلك ، بل هو حاصل للصبيان
، والمجانين ، ولمن لم يمارس شيئا من الدلائل ، علمنا أنه بديهى لا نظرى ، على أنا
اذا رجعنا الى أنفسنا ، وتأملنا أحوالنا علمنا أن علمى بأن زيدا الّذي
__________________
أشاهده الآن هو
الّذي شاهدته قبل ذلك بلحظة ، وانه لا يجوز أن يقال : عدم الأول ، وحدث مثله ، ليس
أضعف من علمى بأن الشيء اما أن يكون موجودا أو معدوما ، أو بأن الواحد نصف
الاثنين.
الحجة
الثالثة : مزاولة الصنائع
العقلية تدل على أن الانسان قد يتعارض عنده دليلان فى مسألة عقلية بحيث يعجز عن
القدح فى كل واحد منهما اما عجزا دائما أو فى بعض الأحوال. والعجز لا يتحقق الا
عند كونه مضطرا الى اعتقاد صحة جميع المقدمات التى فى الدليلين ، ولا شك أن واحدا
منهما خطأ ، والا لصدق النقيضان ، وهذا يدل على أن البديهة قد تجزم بما لا يجوز الجزم
به.
الحجة
الرابعة : قد يكون الانسان
جازما بصحة جميع مقدمات دليل معين ثم يتبين له خطأ فى بعض تلك المقدمات. ولأجل ذلك
ينتقل الرجل من مذهب الى مذهب. فجزمه بصحة تلك المقدمة الباطلة باطل فظهر أن
البديهة متهمة.
__________________
الحجة
الخامسة : انا نرى لاختلاف
الأمزجة ، والعادات تأثيرا فى الاعتقادات وذلك يقدح فى البديهيات.
أما الأمزجة ،
فلأن ضعيف المزاج يستقبح الايلام ، وغليظ المزاج قاسى القلب قد يستحسنه. فرب انسان
يستحسن شيئا ويستقبحه غيره.
وأما العادات ،
فهو أن الانسان الّذي مارس كلمات الفلاسفة وألفها من أول عمره الى آخره ، ربما صار
بحيث يقطع بصحة كل ما يقولونه ، وبفساد كل ما يقوله مخالفوهم.
ومن مارس كلام
المتكلمين كان الأمر بالعكس. وكذا القول فى أرباب الملل.
فان المسلم المقلد
يستقبح كلام اليهودى فى أول الوهلة ، واليهودى بالعكس. وما ذاك الا بسبب العادات
واذا ثبت أن
__________________
لاختلاف الأمزجة
والعادات أثرا فى الجزم بما لا يجب الجزم به ، فلعل الجزم بهذه البديهيات لمزاج
عام أو لألف عام. وعلى هذا التقدير ، لا يجب الوثوق به.
لا يقال : ان
الانسان يفرض نفسه خالية عن مقتضيات الأمزجة والعادات فما يجزم العقل به فى تلك
الحالة ، كان حقا لأن الجازم به فى هذه الحالة هو صريح العقل ، لا المزاج ولا
العادة.
لأنا نقول : هب
أنا فرضنا خلو النفس عن المزاج والعادة ولكن فرض الخلو لا يوجب حصول الخلو. فلعلنا
، وان فرضنا خلو النفس عنهما لكنها ما خلت عنهما وحينئذ يكون الجزم بسببهما لا
بسبب العقل.
سلمنا أن فرض
الخلو يوجب الخلو ، لكن لعل فى نفوسنا من الهيئات المزاجية والعادية ما لا نعرفه
على التفصيل. وحينئذ لا يمكننا
__________________
فرض خلو النفس
عنهما وذلك سبب التهمة.
فهذا مجموع أدلة
الطاعنين فى البديهيات. ثم قالوا لخصومهم : إما أن تشتغلوا بالجواب عما ذكرنا أو
لا تشتغلوا به ، فان اشتغلتم بالجواب حصل غرضنا لأنكم حينئذ تكونون معترفين بأن
الاقرار بالبديهيات لا يصفو عن الشوائب الا بالجواب عن هذه الاشكالات.
ولا شك أن الجواب
عنها لا يحصل الا بدقيق النظر والموقوف على النظرى أولى أن يكون نظريا ، فكانت
البديهيات مفتقرة الى النظريات المفتقرة الى البديهيات ، هذا خلف.
وان لم تشتغلوا
بالجواب ، بقيت الشبهة المذكورة خالية عن الجواب ومن المعلوم بالبديهة أن مع
بقائها لا يحصل الجزم بالبديهيات ، فقد توجه القدح فى البديهيات على كل التقديرات.
الفرقة الرابعة :
السوفسطائية الذين
قدحوا فى الحسيات والبديهيات ، قالوا :
__________________
ظهر بكلام
الفريقين ، تطرق التهمة الى الحاكم الحسى ، والخيالى ، والعقلى. فلا بد وأن يكون
فوقها من حاكم آخر. ولا يجوز أن يكون ذلك الحاكم هو الاستدلال ، لأنه فرعها ، فلو
صححناهما به ، لزم الدور ولا نجد حاكما آخر. فاذا لا طريق الا التوقف.
لا يقال هذا
الكلام الّذي ذكرته ، إن أفادك علما بفساد الحسيات والبديهيات ، فقد ناقضت ، والا
فقد اعترفت بسقوطه.
لأنا نقول : هذا
الكلام الّذي ذكرته أنت يفيد القطع بالثبوت. والّذي ذكرته أنا يفيد التهمة. والشك
انما يتولد من هذه المآخذ. فأنا شاك وشاك فى أنى شاك ، وهلم جرا.
واعلم أن الاشتغال
بالجواب عن هذه الشبهة يحصل غرضهم على
__________________
ما قرروه فى
كلماتهم. فالصواب أن لا نشتغل بالجواب عنها لأنا نعلم ان علمنا بأن الواحد نصف
الاثنين ، وان النار حارة والشمس مضيئة لا يزول بما ذكروه ، بل الطريق أن يعذبوا
حتى يعترفوا بالحسيات ، واذا اعترفوا بها ، فقد اعترفوا بالبديهيات ، أعنى الفرق
بين وجود الألم وعدمه. وأما الأجوبة المفصلة عن هذه الأسئلة فيجىء فى الأبواب
المستقبلة ان شاء الله تعالى وحده.
__________________
المقدمة الثانية
فى أحكام النظر
المعترفون
بالتصديقات البديهية والمحسوسة اختلفوا فى انه : هل يمكن تركيبها بحيث يتأدى ذلك
التركيب إلى صيرورة ما ليس بمعلوم معلوما. والجمهور من أهل العالم قالوا به.
والكلام فيه وفى تفاريعه يستدعى مسائل.
مسئلة ١ (١) :
النظر ترتيب
تصديقات يتوصل بها الى تصديقات أخر. فان من صدق بأن العالم متغير ، وكل متغير ممكن
، حتى لزمه التصديق بأن العالم ممكن فلا معنى لفكره الا ما حضر فى ذهنه من
التصديقين المستلزمين للتصديق الثالث.
__________________
ثم المستلزمان إن
كانا يقينيين كان اللازم كذلك ، وان كانا ظنيين أو أحدهما ، كان اللازم كذلك.
ومنهم من جعل الفكر أمرا وراء هذه التصديقات المترتبة إما عدميا وهو الّذي يقال :
الفكر تجريد العقل عن الغفلات ، أو وجوديا ، وهو الّذي يقال : الفكر هو تحديق
العقل نحو المعقول. وهذا كما أن الرؤية بالعين يتقدمها النظر الى المرئى : وهو
تقليب الحدقة نحو المرئى التماسا لرؤيته بالبصر. فكذا الرؤية بالعقل يتقدمها تحديق
العقل نحو المطلوب المعقول ، التماسا لرؤيته بالبصيرة.
مسئلة : ب (٢) :
الفكر المفيد للعلم موجود. والسمنية أنكروه مطلقا. وجمع من المهندسين اعترفوا به فى
العدديات والهندسيات ، وأنكروه فى الالهيات. وزعموا أن المقصد الأقصى فيها الأخذ
بالأخلق والأولى. وأما الجزم ، فلا سبيل إليه.
__________________
لنا أن كل واحدة
من مقدمتى المثال المذكور يقينى ، وقد يجتمعان فى الذهن اجتماعا مستلزما للنتيجة
المذكورة فالنظر المفيد للعلم موجود. واحتج المنكرون للنظر مطلقا بأمور أربعة :
أولها
: العلم بأن الاعتقاد
الحاصل عقيب النظر ، علم لا يجوز أن يكون ضروريا. لأن كثيرا ما ينكشف الأمر بخلافه
، ولا نظريا ، والا لزم التسلسل.
وثانيها
: أن المطلوب ان كان
معلوما فلا فائدة فى طلبه ، وان لم يكن معلوما فاذا وجده كيف يعرف أنه مطلوبه.
وثالثها
: أن الانسان قد
يكون مصرا على صحة دليل زمانا مديدا. ثم يظهر له بعد ذلك ضعفه بدليل ثان. وذلك
الاحتمال قائم فى ذلك الثانى. ومع قيام الاحتمال لا يحصل اليقين.
__________________
ورابعها
: أن العلم
بالمقدمتين لا يحصل دفعة فى الذهن بدليل أنا نجد من أنفسنا أنا متى وجهنا الذهن
نحو استحضار معلوم يتعذر علينا فى تلك الحالة توجيهه نحو استحضار معلوم آخر.
فالحاضر فى الذهن أبدا ، ليس الا العلم بمقدمة واحدة وذلك غير منتج بالاتفاق
فالفكر لا يفيد العلم.
واحتج المنكرون
للنظر فى الالهيات بوجهين :
أحدهما
: ان امكان طلب
التصديق موقوف على تصور الموضوع والمحمول.
والحقائق الالهية
غير متصورة لنا لما سبق : انا لا نتصور الا ما نجده بحواسنا أو نفوسنا أو عقولنا
فاذا فقد التصور الّذي هو شرط التصديق ، امتنع التصديق.
__________________
وثانيهما
: أن أظهر الأشياء
للانسان وأقربها منه هويته التى يشير إليها كل أحد بقوله : انا ثم ان العقلاء
اختلفوا فيها اختلافا لا يكاد يمكن الجزم بواحد منها.
فمنهم من قال : هو
هذا الهيكل المحسوس.
ومنهم من قال :
أجسام سارية فيه.
ومنهم من قال :
جزء لا يتجزأ فى القلب.
ومنهم من قال :
المزاج.
ومنهم من قال :
النفس الناطقة.
واذا كان علم
الإنسان بأظهر الأمور له وأقربها منه كذلك ، فكيف يكون حاله فى معرفة أخفى الأمور
وأبعدها مناسبة عنه؟.
والجواب عن الأول
: أنه نظرى والتسلسل غير لازم لأن لزوم النتيجة عن المقدمتين اذا كان ضروريا
وكانتا ضروريتين : اما ابتداء أو بواسطة شأنها كذلك وعنده علم ضرورى بأن اللازم عن
الضرورى
__________________
ضرورى ، علم
بالضرورة ان الحاصل علم.
وعن الثانى : أنه
معلوم التصور مجهول التصديق ، والمطلوب هو التصديق فاذا وجده ميزه عن غيره بالتصور
المعلوم.
وعن الثالث أنه
معارض بأغلاط الحس.
وعن الرابع : انا
قد نعقل القضية الشرطية وهى مركبة من جملتين ، والحكم بلزوم احدى الجملتين للأخرى
يستدعى حضور العلم بهما حال الحكم بذلك اللزوم ، وذلك يدل على امكان اجتماع
العلمين دفعة فى الذهن.
وعن الخامس : هب
ان تلك الماهيات غير متصورة بحسب حقائقها ، لكنها متصورة بحسب عوارضها المشتركة
بينها وبين المحدثات. وذلك كاف فى امكان التصديق.
وعن السادس : أن
ما ذكرتموه يدل على صعوبة تحصيل هذا العلم لا على تعذره.
مسئلة ج (٣) :
لا حاجة فى معرفة الله سبحانه وتعالى
وتقدس الى المعلم عندنا ،
__________________
خلافا للملاحدة.
لنا أنه متى حصل
العلم بأن العالم ممكن ، وكل ممكن فله مؤثر ، علمنا أن العالم له مؤثر ، سواء كان
هناك معلم أو لم يكن.
واعتمد الجمهور
منا ، ومن المعتزلة فى ابطال قولهم على وجهين :
أحدهما
: أن حصول العلم
بالشيء ، لو افتقر الى معلم لافتقر المعلم بكونه معلما الى معلم آخر ، ولزم
التسلسل.
والثانى
: أنا لا نعلم كون
المعلم صادقا الا بعد العلم بأن الله سبحانه وتعالى صدقه بواسطة اظهار المعجزة على
يده فلو توقف العلم بالله تعالى على قوله للزم الدور. وهذان الوجهان ضعيفان عندى.
أما الأول
فلاحتمال أن يكون عقل النبي والامام أكمل من عقول
__________________
سائر الخلائق ،
فلا جرم كان عقله مستقلا بادراك الحقائق ، وعقل غيره لا يكون مستقلا ، فكان محتاجا
إلى التعليم.
وأما الثانى فلأن
ذلك انما يلزم على من يقول : العقل معزول مطلقا ، وقول المعلم وحده مفيد للعلم.
أما من يقول : العقل لا بد منه لكنه غير كاف ، بل لا بدّ معه من معلم يرشدنا إلى
الأدلة ، ويوقفنا على الجواب عن الشبهات ، لا يلزمه ذلك ؛ لأنه يقول : عقولنا غير
مستقلة بمعرفة الدلائل فى الجواب عن الشبهات. فلا بد من امام يعلمنا تلك الأدلة
والأجوبة حتى إن بواسطة تعليمه وقوة عقولنا ، نعرف تلك الحقائق. ومن جملة تلك
الحقائق هو أن يعلمنا ما يدل على إمامته وعلى هذا التقدير لا يلزم الدور والتسلسل.
واحتجوا بأنا نرى
الاختلاف مستمرا بين أهل العلم ولو كفى العقل لما كان كذلك. ولأنا نرى أن الانسان
وحده لا يستقل بتحصيل
__________________
أضعف العلوم ، بل
لا بد له من أستاذ يهديه. وذلك يدل على أن العقل غير كاف.
والجواب عن الأول
: أن من أتى بالنظر على الوجه المذكور لا يعرض له ما ذكرت.
وعن الثانى أنه لا
نزاع فى العسر لكن الامتناع ممنوع ، والا لزم التسلسل ثم انا نطالبهم بتعيين ذلك
الامام ونبين أنه من أجهل الناس.
مسئلة د (٤) :
الناظر يجب أن لا يكون عالما بالمطلوب لأن النظر طلب وطلب الحاصل محال.
لا يقال : ربما
علمنا الشيء ثم ننظر فى الاستدلال عليه بدليل ثان.
لأنا نقول :
المطلوب هناك لا المدلول ، بل كون الثانى دليلا عليه ، وهو غير معلوم ، وأن لا
يكون جاهلا جهلا مركبا ؛ لأن صاحب هذا الجهل جازم بكونه عالما ، وذلك يمنعه من
الاقدام على الطلب. ثم
__________________
امتناع الاجتماع
ذاتى أو للصارف ، فيه خلاف.
مسئلة ه (٥) :
المشهور فى بيان وجوب النظر : أن معرفة
الله تعالى واجبة ، ولا يمكن تحصيلها الا بالنظر ، وما يتوقف عليه الواجب المطلق ، وكان مقدورا للمكلف فهو
واجب على ما سيأتى بيانه فى أصول الفقه ، ان شاء الله تعالى.
الاعتراض عليه من
وجوه :
الأول
: لا نسلم انه يمكن
ايجاب العلم ، لأن التصديق يتوقف على حصول تصور الطرفين ، والتصور غير مكتسب على
ما مر. ثم اذا حصلا ، فان كان التصديق من لوازمهما كما فى الأوليات ، لم يكن
التصديق مكتسبا أيضا وان لم يكن ضروريا افتقر فيه الى توسيط
__________________
مقدمة أخرى.
والحال فيها كما فى الأول ، ولا يتسلسل الى غير نهاية ، بل ينتهى الى الأوليات ،
وهى غير مكتسبة لا تصور طرفيها ، ولا استلزام ذينك التصورين للتصديق باثبات أحدهما
للآخر ، أو سلبه عنه. ثم ان لزوم ما يلزم منها أيضا ضرورى.
وكذا القول فى
اللازم الثالث والرابع.
فظهر أن العلوم
غير مقدورة البتة ، فكان الأمر بها أمرا بما لا يطاق ، وانه غير جائز. ولو صح ذلك
بطل أصل الدليل.
الثانى
: سلمنا امكان الأمر
بالعلم لكن لا نسلم امكان الأمر بمعرفة الله سبحانه وتعالى ؛ لأن معرفة الايجاب
موقوفة على معرفة الموجب ، فقبل معرفة الموجب لا يمكن معرفة الايجاب فيكون الأمر
بمعرفة الموجب تكليفا بالمحال.
الثالث
: سلمناه ، لكن لا
نسلم ورود الأمر به ، بل الأمر انما
__________________
جاء بالاعتقاد
المطابق تقليدا كان أو علما ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام ما كان يكلف أحدا بهذه
الأدلة.
الرابع
: سلمنا بأن التقليد
غير كاف ، لكن لم قلتم أن الظن الغالب غير كاف. والاعتماد على قوله تعالى : (فَاعْلَمْ) ضعيف ، لأن الظن
الغالب قد يسمى علما ؛ ولأن الخطاب خاص ، ولأن الأدلة اللفظية غير يقينية ، على ما
سيأتى ، ان شاء الله تعالى. فلا يمكن بناء المطالب اليقينية عليها.
الخامس
: سلمناه لكن ما
الدليل على أنه لا طريق الى المعرفة سوى النظر. ثم إنا على سبيل التبرع نذكر طريقا
آخر : وهو قول
__________________
الامام المعصوم ،
أو الالهام ، أو تصفية الباطن ، كما يقوله أهل التصوف ؛ ولأنا لو قلنا : لا طريق
إلى المعرفة سوى النظر والاستدلال ، لكان المسلم اذا ناظر الدهرى وانقطع فى الحال
، وجب أن لا يبقى على الدين. لأن الشك فى مقدمة واحدة من الدليل كاف فى حصول الشك
فى المدلول ، وذلك يقتضي أن يخرج المسلم عن الدين فى كل لحظة ، بسبب كل ما يهجس فى
خاطره من الأسئلة.
السادس
: سلمناه ، لكن لم
قلتم : إن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب؟.
فان قلت : لو لم
يجب لكان ذلك تكليفا بما لا يطاق.
قلت : ولم قلت :
إنه غير جائز ، بل التكاليف بأسرها كذلك؟. لأن ما علم الله تعالى وقوعه وجب ، وما
علم الله عدمه امتنع.
السابع
: سلمناه لكن تكليف
ما لا يطاق انما يلزم إن لو كان الأمر بالمعرفة ثابتا على الاطلاق ، وهو ممنوع.
فلم لا يجوز أن تكون
__________________
صيغة الأمر ، وان
كانت مطلقة فى اللفظ لكن فى المعنى تكون مقيدة ، كما فى قوله تعالى : (وَآتُوا الزَّكاةَ) .
والجواب عن هذه
الأسئلة وان كان ممكنا ، ولكن الأولى التعويل على ظواهر النصوص كقوله تعالى : (قُلِ انْظُرُوا) والله أعلم.
مسئلة : و(٦) :
وجوب النظر سمعى خلافا للمعتزلة ولبعض الفقهاء من الشافعية والحنفية لنا
قوله تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) . ولأن فائدة الوجوب الثواب والعقاب. ولا يقبح من الله
تعالى شيء فى أفعاله ، فلا يمكن القطع بالثواب والعقاب من جهة العقل فلا يمكن
القطع بالوجوب.
احتجوا بأنه لو لم
يثبت الوجوب الا بالسمع الّذي لا يعلم صحته
__________________
الا بالنظر ،
فللمخاطب أن يقول : لا أنظر حتى لا أعرف كون السمع صدقا وذلك يفضى الى افحام
الأنبياء.
والجواب : هذا
لازم عليكم أيضا ، لأن وجوب النظر ، وان كان عندكم عقليا ، لكنه غير معلوم بضرورة
العقل ، لما أن العلم بوجوب النظر يتوقف عند المعتزلة على العلم بوجوب معرفة الله
تعالى ، وعلى العلم بأن النظر طريق إليها ولا طريق إليها سواه ، وان ما لا يتم
الواجب الا به ، فهو واجب. وكل هذه المقدمات نظرى ، والموقوف على النظرى نظرى ،
فكان العلم بوجوب النظر عندكم نظريا.
فللمخاطب أن يقول
: لا أنظر حتى لا أعرف وجوب النظر. ثم الجواب ان الوجوب لا يتوقف على العلم
بالوجوب ، وإلا لزم الدور ،
__________________
بل يكفى فيه امكان
العلم بالوجوب والامكان هنا حاصل فى الجملة.
مسئلة ز (٧) :
اختلفوا فى أول الواجبات فمنهم من قال : هو المعرفة ، ومنهم من قال : هو النظر
المقيد للمعرفة ، ومنهم من قال : هو القصد الى ذلك النظر. وهو خلاف لفظى ، لأنه ان
كان المراد به أول الواجبات المقصودة بالقصد الأول ، فلا شك أنه هو المعرفة عند من
يجعلها مقدورة والنظر عند من لا يجعلها مقدورة وان كان المراد به أول الواجبات كيف
كان ، فلا شك انه القصد.
مسئلة ح (٨) :
حصول العلم عقيب النظر الصحيح بالعادة عند الأشعرى ، وبالتولد عند المعتزلة والأصح الوجوب
لا على سبيل التولد. أما الوجوب ، فلأن كل من علم أن العالم متغير ، وكل متغير
ممكن ، فمع حضور هذين العلمين فى الذهن يستحيل أن لا يعلم أن العالم ممكن. والعلم
بهذا
__________________
الامتناع ضرورى.
وأما إبطال التولد فلأن العلم فى نفسه ممكن فيكون مقدورا لله تعالى ، فيمتنع وقوعه
بغير قدرته. والقياس على التذكر لا يفيد اليقين ، ولا الالزام ، لأنهم انما لم
يقولوا به فى التذكر لعلة لا توجد فى النظر فان صحت تلك العلة ظهر الفرق ، والا
منعوا الحكم فى الأصل.
مسئلة : ط (٩) :
النظر الفاسد لا يولد الجهل ولا يستلزمه
عند الجمهور منا
ومن المعتزلة. وقيل : انه قد يستلزمه ، وهو الحق عندى ، لما ان كل من اعتقد أن
العالم قديم ، وكل قديم مستغن عن المؤثر ، فمع حضور هذين الجهلين استحال أن لا
يعتقد أن العالم غنى عن المؤثر وهو جهل.
احتجوا بأن النظر
فى الشبهة لو استلزم الجهل ، لكان نظر المحق فى شبهة المبطل يفيد الجهل.
__________________
جوابه أنه معارض
بأن النظر فى الدليل ، لو أفاد العلم لكان نظر المبطل فى دليل المحق يفيده العلم.
فان جعلت هناك شرط الافادة اعتقاد حقية تلك المقدمات ، فهو جوابنا عما قالوه.
مسئلة ى (١٠) :
قد عرفت أن الفكر : ترتيب تصديقات يتوصل
بها الى تصديقات أخر. ثم التصديقات
المستلزمة إن كانت مطابقة لمتعلقاتها ، فهو الفكر الصحيح ، والا فهو الفكر الفاسد.
مسئلة يا (١١) :
ذكر ابن سينا أن حضور المقدمتين فى
الذهن لا يكفى لحصول النتيجة. فان الانسان قد يعلم أن هذا الحيوان بغلة ، وأن كل بغلة عاقر. ومع هذين
العلمين ، ربما رأى بغلة منتفخة البطن ، فيظن أنها غير عاقر ، بل لا بد مع حضور
المقدمتين من التفطن لكيفية اندراج المقدمة الجزئية تحت الكلية ، وهذا ضعيف ؛ لأن
اندراج احدى المقدمتين تحت الأخرى :
__________________
اما أن يكون
معلوما مغايرا لتينك المقدمتين ، واما أن لا يكون. فأن كان مغايرا كان ذلك مقدمة
أخرى لا بد منها فى الانتاج ويكون الكلام فى كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام
فى كيفية التئام الأوليين ويفضى ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات ، وان
لم يكن ذلك معلوما مغايرا للمقدمتين ، استحال أن يكون شرطا فى الانتاج ، لأن الشرط
مغاير للمشروط. وهنا لا مغايرة فلا يكون شرطا.
وأما حديث البغلة
فذلك انما يمكن ، اذا كان الحاضر فى الذهن احدى المقدمتين فقط. اما الصغرى أو
الكبرى أما عند اجتماعهما فى الذهن فلا نسلم أنه يمكن الشك فى النتيجة.
مسئلة : يب (١٢) :
اختلفوا فى أن العلم بوجه دلالة الدليل
على المدلول هل هو عين العلم بالمدلول أم لا؟. والحق أن هاهنا أمورا ثلاثة :
__________________
العلم بذات الدليل
، كالعلم بامكان العالم ، والعلم بذات المدلول ، كالعلم بأنه لا بد له من مؤثر ،
والعلم يكون الدليل دليلا على المدلول.
اما العلم بذات
الدليل فهو مغاير للعلم بذات المدلول. ومستلزم له.
وأما العلم بكون
الدليل دليلا على المدلول ، فهو أيضا مغاير للعلم بذات الدليل والعلم بذات المدلول
؛ لأنه علم باضافة أمر إلى أمر. والاضافة بين الشيئين مغايرة لهما. فالعلم بها
مغاير للعلم بهما ولا يجوز أن يكون المستلزم للعلم بالمدلول هو العلم بكون الدليل
دليلا عليه لأن العلم بإضافة أمر إلى أمر يتوقف على العلم بالمضافين. فالعلم بكون
الدليل دليلا على المدلول متوقف على العلم بوجود الدليل والمدلول. فلو كان العلم
بوجود المدلول مستفادا من العلم بكون الدليل دليلا على المدلول لزم الدور ، وهو
محال.
__________________
المقدمة الثالثة
فى الدليل وأقسامه
وفيها أربع مسائل
:
مسئلة : ا (١) :
الدليل هو الّذي يلزم من العلم به العلم
بوجود المدلول. والامارة هى التى
يلزم من العلم بها ظن وجود المدلول. وكل واحد منهما إما أن يكون عقليا محضا أو
سمعيا محضا أو مركبا منهما.
اما العقلى ، فلا
بد وأن يكون بحيث يلزم من وجوده وجود المدلول. فاللزوم حاصل لا محالة من هذا الطرف
، فان لم يحصل من الطرف الآخر فهو الاستدلال بالمشروط على الشرط ، كالاستدلال
بالعلم على الحياة. وان حصل من الطرف الآخر ، فهو الاستدلال بالعلة المعينة على
المعلول المعين ، وبالمعلول المعين على العلة المطلقة أو المعينة ، ان ثبت التساوى
بدليل منفصل ، أو بأحد المعلولين على الآخر ،
__________________
وهو مركب من
الأولين أو بأحد المتلازمين على الآخر كالمضافين.
أما السمعى المحض
، فمحال ، لأن خبر الغير ما لم يعرف صدقه لم يفد. واما المركب فظاهر.
مسئلة ب (٢) :
الدليل اللفظى لا يفيد اليقين الا عند
تيقن أمور عشرة :
عصمة رواة مفردات
تلك الألفاظ وصحة اعرابها ، وتصريفها ، وعدم الاشتراك ، والمجاز ، والتخصيص
بالأشخاص ، والأزمنة ، وعدم الاضمار ، والتقديم ، والتأخير. وعدم المعارض العقلى
الّذي لو كان لرجح. اذ ترجيح النقل على العقل يقتضي القدح فى العقل المستلزم للقدح
فى النقل ، لافتقاره إليه واذا كان المنتج ظنيا فما ظنك بالنتيجة؟
مسئلة : ج (٣) :
__________________
النقليات بأسرها مستندة الى صدق الرسول فكل ما يتوقف العلم بصدق الرسول على العلم به لا يمكن اثباته
بالنقل ، والا لزم الدور. واما الّذي لا يكون كذلك ، فكل ما كان جزما بوقوع ما لا
يجب عقلا وقوعه كان الطريق إليه النقل ، وهو اما العام كالعاديات ، أو الخاص
كالكتاب والسنة والخارج عن القسمين يمكن اثباته فى الجملة بالعقل والنقل معا.
مسئلة د (٤) :
اذا استدللنا بشيء على شيء ، فاما أن يكون أحدهما أخص من الثانى أو لا يكون.
ولأول على قسمين
لأنه إما أن يستدل بالعام على الخاص ، وهو القياس فى عرف المنطقيين ، وإما بالعكس
وهو الاستقراء.
وأما الثانى فلا
يمكن الاستدلال بأحدهما على الآخر ، الا اذا اندرجا تحت وصف مشترك بينهما ، فيستدل
بثبوت الحكم فى احدى
__________________
الصورتين على ان
المناط ، هو المشترك ، ثم يستدل بذلك على ثبوته فى الصورة الأخرى ، وهو القياس فى
عرف الفقهاء وهو بالحقيقة مركب من القسمين الأولين ثم القياس بالمعنى
الأول على خمسة أقسام :
أحدها
: أن يحكم بلزوم شيء
لشيء فيلزم من وجود الملزوم وجود اللازم ، ومن عدم اللازم عدم الملزوم تحقيقا
للزوم. ولا يلزم من عدم الملزوم عدم اللازم ولا من وجود اللازم وجود الملزوم
تصحيحا للعموم.
وثانيها
: التقسيم المنحصر
الى قسمين فانه يلزم من رفع أيهما. كان ثبوت الآخر ، ومن اثبات أيهما كان ارتفاع
الاخر.
وثالثها
: اذا حكمنا بثبوت
الألف (ا) لكل ما ثبت له الباء (ب)
__________________
أو بانتفاء الألف (ا)
عن كل ما ثبت له الباء (ب) ثم رأينا الباء (ب) ثابتا لكل الجيم (ج) أو لبعضه ،
حكمنا بثبوت الألف (ا) أو بانتفائه لكل الجيم (ج) أو لبعضه.
ورابعها
: اذا حكمنا بأن
الألف (ا) ثابت للباء (ب) ، مسلوب عن الجيم (ج) فان كان وقت السلب والايجاب واحدا
، كفى ذلك فى مباينة الطرفين. فأما اذا لم يتعين الوقت ، لم ينتج الا عند اعتبار
الدوام فى أحد الطرفين لأن دوام أحد النقيضين يوجب كذب الآخر ، كيف كان.
وخامسها
: اذا حصل وصفان فى
محل واحد ، فقد التقيا فيه اما فى الخارج عنه فربما يحصل ذلك الالتقاء ، وربما لا
يحصل. فلا جرم ،
__________________
كان اللازم منه هو
الحكم الجزئى وتفاصيل هذه المناهج مذكورة فى كتبنا المنطقية. وبالله التوفيق.
__________________
الركن الثانى
فى تقسيم المعلومات
المعلوم إما ان
يكون موجودا أو معدوما فهنا ثلاث مسائل :
المسألة الأولى فى
أحكام الموجودات :
(ا) تصور الوجود
والعدم بديهى ، لأن ذلك التصديق موقوف على هذين التصورين وما يتوقف عليه البديهى
أولى أن يكون كذلك ولأن علمى بالوجود جزء من علمى بأنى موجود واذا كان العلم
المركب بديهيا كان العلم بمفرداته كذلك.
(ب) ذهب جمهور
الفلاسفة والمعتزلة وجمع منا الى أن الوجود وصف مشترك فيه بين الموجودات. والأقرب
أنه ليس كذلك.
لنا أنه لو كان
كذلك ، لكان مغايرا للماهية ، فيكون الوجود قائما
__________________
بما ليس بموجود.
وتجويزه يفضى الى الشك فى وجود الأجسام.
احتجوا بأن
المقابل للنفى واحد ، والا لبطل الحصر العقلى ، فيجب أن يكون الاثبات الّذي هو
المقابل للنفى واحدا ، ولأنه يمكن تقسيم الموجود الى الواجب والممكن. ومورد
التقسيم مشترك بين القسمين.
ولأنا اذا علمنا
وجود الشيء فلا يتغير ذلك الاعتقاد بتغير اعتقاد كونه جوهرا أو عرضا وذلك يقتضي أن
يكون الوجود أمرا مشتركا بينهما.
والجواب عن الأول
: ان مقابل ارتفاع كل ماهية تحقق تلك الماهية ولا واسطة بين هذين القسمين. وهذا لا
يدل على ثبوت أمر عام.
وعن الثانى أن
مورد التقسيم بالوجوب والامكان هو الماهية. والمعنى به أن بقاء تلك الماهية إما أن
يكون واجبا ، أو لا يكون.
__________________
وعن الثالث : أنه
يقتضي أن يكون للوجود وجود آخر ، ويلزم التسلسل.
المسألة الثانية :
المعدوم اما أن يكون ممتنع الثبوت أو
ممكن الثبوت المعدوم اما أن
يكون ممتنع الثبوت ، ولا نزاع فى انه نفى محض ، واما أن يكون ممكن الثبوت وهو
عندنا ، وعند أبى الهذيل ، وابى الحسين البصرى من المعتزلة ، نفى محض ، خلافا
للباقين من المعتزلة ومحل الخلاف أنهم زعموا أن وجود السواد زائد على كونه سوادا. ثم
زعموا أنه يجوز خلو تلك الماهية عن صفة الوجود.
لنا أن وجود
السواد عين كونه سوادا على ما مر ، فيمتنع أن يكون السواد سوادا عند عدم الوجود
ولأن الذوات المعدومة مشتركة فى الثبوت المقابل للانتفاء المحض ومتباينة
بخصوصياتها النوعية وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فثبوت تلك الذوات زائد على
ماهياتها المخصوصة ، فهى حال ما فرضناها خالية عن صفة الثبوت ،
__________________
موصوفة بها ، هذا
خلف.
ولأن عدد الذوات
المعدومة قابل للزيادة والنقصان فيكون متناهيا ، والخصم لا يقول به.
ولأن الذات أزلية
فلا تكون مقدورة والوجود حال عندهم ، فلا يكون مقدورا عندهم واذا لم يقع الذات ولا
الوجود بالفاعل كانت الذات الموجودة غنية عن الفاعل.
ولأن السواد
المعدوم اما أن يكون واحدا أو كثيرا فان كان واحدا فالوحدة إن كانت لازمة للماهية
امتنع زوالها ، فوجب أن لا يتعدد فى الوجود ، وان لم تكن لازمة ، فليفرض ارتفاعها
، لأن كل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض ارتفاعه محال ، واذا زالت الوحدة حصل التعدد
، والتعدد لا يتحقق الا اذا تباين الشيئان بالهوية.
ثم ما به التباين
ان كان من لوازم الماهية وكل شيئين مختلفان بالماهية ، هذا خلف وان لم يكن من
لوازمها كان الشيء حال عدمه
__________________
موردا للصفات
المتزايلة ، ولو جاز ذلك لجاز أن يكون محل هذه الحركات والسكنات المتعاقبة معدوما
محضا. وذلك عين السفسطة.
احتجوا بأمرين :
أحدهما
: أن المعدوم متميز
وكل متميز ثابت فالمعدوم ثابت ، اما أن المعدوم متميز فبيانه من ثلاثة أوجه :
أحدها
: أن المعدوم معلوم
، وكل معلوم متميز. اما أن المعدوم معلوم ، فلأن طلوع الشمس غدا معلوم الآن وهو
معدوم ، والحركة التى يمكننى أن أفعلها كالحركة الى اليمين والشمال ، والتى لا
يمكننى أن أفعلها كالطيران الى السماء معلومة ، مع أنها معدومة. واما أن المعلوم
متميز فلانى أميز بين الحركة التى أقدر عليها ،
__________________
والتى لا أقدر
عليها وأميز بين طلوع الشمس من مشرقها ومن مغربها. وكذلك أحكم على احدى الحركتين
بأنها توجد غدا ، وعلى الأخرى بأنها لا توجد ، ولا معنى للتميز الا ذلك.
وثانيها
: أعلم انى قادر على
الحركة يمنة ويسرة ، وغير قادر على خلق السماء والأرض وهذا الامتياز حاصل قبل دخول
هذه الأشياء فى الوجود. فلولا تميز بعض هذه المعدومات عن البعض ، والا لاستحال أن
يقال انه يصح منى فعل هذا ولا يصح منى فعل ذلك.
وثالثها
: أن الواحد منا قد
يريد شيئا ويكره شيئا آخر. وان كان المراد والمكروه بعد معدومين. ولو لا امتياز
المراد عن المكروه قبل الوجود ، والا لاستحال أن يكون أحدهما مرادا والآخر مكروها
، فثبت بهذه الوجوه الثلاثة ان المعدومات متمايزة واما أن كل متميز ثابت فلأنا لا
نعنى بالثابت الا كون هذه الماهيات فى أنفسها متحققة متعينة.
__________________
ومن المعلوم
بالضرورة أن امتياز هذه الماهية عن تلك ، لا يحصل إلا بعد تحقق هذه الماهية وتحقق
تلك الأخرى فعلمنا أن هذه الماهيات متحققة حال العدم.
وثانيها
: أن المعدوم الممكن
متميز عن الممتنع ، ولا يجوز أن يكون الامتناع وصفا ثبوتيا ، وإلا لكان الموصوف به
ثابتا ، فيكون الممتنع الثبوت واجبا ، هذا خلف وإذا لم يكن الامتناع وصفا ثبوتيا ،
كان الامكان ثبوتيا ضرورة لأنه لا بدّ فى المتناقضين من كون أحدهما ثبوتيا ،
والموصوف بالوصف الثبوتى ثابت. فالمعدوم الممكن ثابت.
والجواب عن الأول
انا لا نسلم أن كل معدوم ثابت ، والّذي احتجوا به ، فهو معارض بأمور أربعة :
__________________
أولها
: أنا نحكم على شريك
الله تعالى بالامتناع. فلو لا أن نتصوره ونميزه عما عداه وإلا لاستحال الحكم عليه
بالامتناع ، لأن ما لا يتصور لا يمكن الحكم عليه.
وثانيها
: أنا نتصور بحرا من
زئبق وجبلا من ياقوت ، ونحكم بامتياز بعض هذه المتخيلات عن بعض ، مع أنها غير
ثابتة فى العدم لأن الجبل من الياقوت عبارة عن أجسام قامت بها أعراض وعندكم ماهيات
الجواهر والأعراض ، وإن كانت ثابتة فى العدم ، لكن الجواهر غير موصوفة بالأعراض
حال العدم ، فلا يمكن تقرير ماهية الجبل ، من حيث إنه جبل حال العدم.
__________________
وثالثها
: أنا نتصور وجودات
هذه الماهيات قبل دخولها فى الوجود ونحكم بامتياز بعض تلك الوجودات عن بعض فأتى
كما أعقل امتياز ماهية الحركة يمنة عن ماهية الحركة يسرة قبل دخولهما فى الوجود.
كذلك اعقل امتياز وجود احدى الحركتين عن وجود الأخرى ، قبل دخولهما فى الوجود.
فلو اقتضى العلم
بامتياز الماهيات تحققها فى العدم ، لاقتضى العلم بامتياز هذه الوجودات تحققها فى
العدم. وذلك باطل بالاتفاق. ولأن الوجود مناقض للعدم ، والجمع بينهما محال.
ورابعها
: انا نعقل ماهية
التركيب والتأليف قبل دخولهما فى الوجود وهذه الماهية يمتنع تقررها فى العدم ، لأن
التأليف عبارة عن اجتماع الأجزاء ، وتماسها على وجه مخصوص. وذلك لا يتقرر حال
العدم بالاتفاق.
وإذا كان كذلك ،
استحال أن يتقرر ماهية التأليف والتركيب
__________________
حال العدم. ثم إنا
نتصورها قبل وجودها ونميز بينها وبين سائر الماهيات المعلومات وكذلك نعقل
المتحركية ، والساكنية قبل حصولهما مع أنهما من قبيل الأحوال ولا حصول لهما فى
العدم.
فثبت بهذه الوجوه
أن التميز الذهنى لا يستدعى تحقق الماهيات خارج الذهن ، ثم إنك ان أردت تضييق
الكلام على الخصم فقل : ما الّذي تعنى بقولك المعدوم معلوم؟ ان عنيت به ذلك القدر
من الامتياز الّذي تجده فى تصور الممتنعات ، والمركبات ، والاضافيات فذلك مسلم
لكنه لا يقتضي تقرر الماهيات فى العدم بالاتفاق.
وان عنيت به أمرا
آخر وراء ذلك فلا بد من افادة تصوره ، ثم من اقامة الحجة عليه. فانا من وراء المنع
فى المقامين.
وأما قوله المعدوم
مقدور والمقدور متميز فضعيف ، لأن المقدور إما أن يكون ثابتا فى العدم ، وإما أن
لا يكون فإن كان ثابتا ، لم
__________________
يكن للقدرة فيه
أثر ، لأن اثبات الثابت محال وإذا كان كذلك استحال أن يكون مقدورا. وإن لم يكن ثابتا
كان ذلك اعترافا بأن المقدور غير ثابت وحينئذ لا يمكنهم الاستدلال بكونه مقدورا
على كونه ثابتا.
وهذا هو الجواب عن
قولهم المعدوم مراد وكل مراد ثابت.
والجواب عن الحجة
الثانية أن المحكوم عليه بكونه ممكنا ، اما أن يكون ثابتا فى العدم أو لا يكون.
والأول باطل ، لأن
عندكم الذوات المعدومة ، يمتنع عليها التغير. والخروج عن الذاتية. فلا يمكن جعل
الإمكان صفة لها ، وان كان الثانى كان الامكان وصفا لما ليس بثابت فى العدم.
وحينئذ لا يمكنكم الاستدلال بالإمكان على كون الممكن ثابتا فى العدم وبالله
التوفيق.
تفصيل قول
الفلاسفة والمعتزلة فى المعدومات.
زعم أبو يعقوب
الشحام ، وأبو على الجبائى ، وابنه أبو هاشم. وأبو الحسين الخياط وأبو القاسم
يعقوب البلخى وأبو عبد الله البصرى ، وأبو إسحاق ابن عياش ، والقاضى عبد الجبار بن
أحمد
__________________
الهمدانى وتلامذته
، أن المعدومات الممكنة قبل دخولها فى الوجود ذوات ، وأعيان وحقائق. وان تأثير
الفاعل ليس فى جعلها ذوات بل فى جعل تلك الذوات موجودة. واتفقوا على أن تلك الذوات
متباينة بأشخاصها. واتفقوا على أن الثابت من كل نوع من تلك المعدومات عدد غير
متناه.
أما الفلاسفة ،
فقد اتفقوا على أن الممكنات ماهياتها غير وجوداتها. واتفقوا على أنه يجوز تعرى تلك
الماهيات عن الوجود الخارجى فإنا قد نعقل المثلث وإن لم يكن له وجود فى الخارج وهل
يجوز تعريها عن الوجودين معا الخارجى والذهنى.
نص ابن سينا فى
المقالة الأولى من إلهيات الشفاء على أنه لا يجوز ومنهم من يجوزه واتفقوا على أن
تلك الماهيات لا توصف بأنها واحدة ، أو كثيرة ، لأن المفهوم من الوحدة والكثرة
مغاير للمفهوم من السواد. فإذا اعتبرنا السواد فقط ، ففى هذه الحالة لا يمكن الحكم
عليه بالوحدة والكثرة ، وإلا فقد اعتبرنا مع السواد غيره وذلك يناقض قولنا إنا لم
نعتبر إلا السواد ، بل الماهية لا تنفك عن الوحدة والكثرة.
__________________
واتفقوا على أن
الماهيات غير مجعولة قالوا : لأن كل ما بالغير يجب ارتفاعه عند ارتفاع ذلك الغير.
فلو كان كون السواد سوادا بالغير ، لزم عند ارتفاع ذلك الغير أن لا يبقى السواد
سوادا لكن القول بأن السواد لا يبقى سوادا محال ، لأن المحكوم عليه هو السواد ،
والمحكوم به أنه ليس بسواد ، والمحكوم عليه لا بد من تقرره عند حصول المحكوم به ،
فيلزم أن يكون سوادا ، لا محالة ، حال ما لا يكون سوادا ، وهو محال.
وأما المعتزلة فقد
اتفق القائلون منهم بالذوات المعدومة على أنها بأسرها متساوية فى كونها ذوات وأن
الاختلاف بينها ليس إلا بالصفات ثم اختلفوا :
فذهب الجمهور منهم
إلى أنها موصوفة بصفات الأجناس. ومرادهم منها ان ذات الجوهر موصوفة بصفة الجوهرية
وذات السواد موصوفة بصفة السوادية وهلم جرا وزعم ابن عياش ان تلك الذوات عارية عن
جميع الصفات والصفات لا تحصل إلا زمان الوجود. ثم القائلون بالصفات زعموا ان صفات
الجواهر ، إما أن تكون عائدة إلى الجملة وهى الحيية. وكل ما يكون مشروطا بها
__________________
أو إلى الأفراد ،
وهى اما فى الجواهر أو فى الأعراض. أما الجواهر فقد أثبتوا لها صفات أربعة.
أحدها
: الصفة الحاصلة لها
حالتى العدم والوجود وهى الجوهرية.
والثانية
: الوجود وهو الصفة
الحاصلة بالفاعل.
والثالثة
: التحيز وهى الصفة
التابعة للحدوث الصادرة عن صفة الجوهرية بشرط الوجود.
والرابعة
: الحصول فى الحيز
وهو الصفة المعللة بالمعنى. قالوا وليس للجوهر الفرد صفة زائدة على هذه الأربعة ،
فليس له بكونه أسود وأبيض صفة. وكذا القول فى كل عرض غير مشروط بالحياة.
وأما الأعراض
فالصفات العائدة إلى الجملة غير معقولة فيها.
__________________
وأما العائدة إلى
الآحاد فثلاثة : الصفة الحاصلة لها حالتى العدم والوجود والصفة الصادرة عنها عند
الوجود. وصفة الوجود. فهذا هو المذهب الّذي استقر جمهورهم عليه وهو قول أبى على
وأبى هاشم والقاضى عبد الجبار وأبى رشيد وابن متويه. ومنهم من خالف هذا التفصيل فى
مواضع.
أحدها
: إن أبا يعقوب
الشحام وأبا عبد الله البصرى وأبا إسحاق ابن عياش زعموا أن الجوهرية هى التحيز. ثم
اختلفوا بعد ذلك ، فزعم الشحام ، وأبو عبد الله أن ذات الجوهر كما أنها موصوفة
بالجوهرية ، فهى موصوفة بالتحيز. ثم اختلفا.
فذهب الشحام إلى
أن الجوهر حال عدمه حاصل فى الحيز.
__________________
وذهب أبو عبد الله
إلى أن الشرط فى كون المتحيز حاصلا فى الحيز هو الوجود. فالجوهر قبل الوجود موصوف
بالتحيز ، لكنه غير حاصل فى الحيز.
وزعم ابن عياش ان
الجوهر حال العدم كما يمتنع اتصافه بالتحيز يمتنع اتصافه بالجوهرية فلهذا أثبت
الذوات خالية عن الصفات.
وثانيها
: اختلفوا فى أن
المعدوم هل له بكونه معدوما صفة أم لا؟ فالكل أنكروه إلا أبا عبد الله البصرى فإنه
قال به.
وثالثها
: اتفقوا على أن
الجواهر المعدومة لا توصف بأنها أجسام حال العدم إلا أبا الحسين الخياط فإنه قال
به.
ورابعها
: اتفقوا على أن بعد
العلم بأن للعالم صانعا عالما قادرا حيا حكيما مرسلا للرسل ، يمكننا الشك فى أنه
هل هو موجود أم لا
__________________
إلى أن يعرف ذلك
بالدليل لأنهم لما جوزوا اتصاف المعدوم بالصفة ، لم يلزم من اتصاف ذات الله تعالى
بصفة العالمية والقادرية كونه موجودا ، فلا بد من دلالة منفصلة. واتفق الباقون من
العقلاء على أن ذلك جهالة ، وإلا لزم أن لا يعرف وجود الأجسام المتحركة والساكنة
إلا بالدليل وبالله التوفيق.
المسألة الثالثة :
الّذي نقول به أنه
لا واسطة بين الموجود والمعدوم ، خلافا للقاضى وإمام الحرمين منا ، وأبى هاشم
وأتباعه من المعتزلة. فانهم أثبتوا واسطة سموها بالحال وحدوها بأنها صفة لموجود لا
يوصف بالوجود ولا بالعدم.
لنا أن البديهة
حاكمة بأن كل ما يشير العقل إليه ، فاما أن يكون له تحقق بوجه ما من الوجوه ، وإما
أن لا يكون.
__________________
والأول : هو
الموجود. والثانى : هو المعدوم. وعلى هذا لا واسطة بين القسمين إلا أن يفسروا
الموجود والمعدوم بغير ما ذكرناه فحينئذ ربما حصلت الواسطة على ذلك التأويل ويصير
البحث لفظيا.
احتجوا بأمرين :
الحجة
الأولى : قد دللنا على أن
الوجود وصف مشترك فيه بين الموجودات ولا شك أن الموجودات متخالفة بماهياتها. وما
به الاشتراك غير ما به الامتياز بوجود الأشياء غير ماهياتها. ثم ذلك الوجود ، إما
أن يكون معدوما أو موجودا أو لا معدوما ولا موجودا والأول محال ، لأن الموجودية
مناقضة للمعدومية. والشيء لا يكون عين نقيضه.
والثانى
: محال ، إذ لو كان
الوجود موجودا لكان مساويا فى الموجودية لسائر الموجودات.
__________________
ولا شك فى أنه
مخالف لها بوجه ما وما به الاشتراك غير ما به الامتياز فالموجودية المشتركة بين
الوجود وبين الماهيات الموجودة مغايرة لخصوص ماهية الوجود الّذي به الامتياز ،
فيكون للوجود وجود آخر ويلزم التسلسل ، وذلك محال ، فثبت أن الوجود لا موجود ولا
معدوم.
الحجة
الثانية : الماهيات النوعية
مشتركة فى الأجناس. وذلك يوجب القول بالحال.
بيان الأول من
وجوه ثلاثة :
أحدها
: إن السواد والبياض
اشتركا فى اللونية. وليس الاشتراك فى مجرد الاسم. لأنا لو سمينا السواد والحركة
باسم واحد ، ولم نضع للسواد والبياض اسما واحدا لكنا نعلم بالضرورة ، ان بين
السواد والبياض من المجانسة ما ليس بين السواد
__________________
والحركة. ولذلك
فإن الاشتراك اللفظى لا يكون مطردا فى اللغات بأسرها وهذا النوع من الاشتراك معلوم
لكل العقلاء.
وثانيها
: إن العلوم
المتعلقة بالمعلومات المتغايرة مختلفة ثم إنا نحد العلم بحد واحد ، يندرج فيه
العلم القديم ، والعلم المحدث ، والعلم بالجوهر ، والعلم بالعرض والمحدود ليس هو
اللفظ بل المعنى فعلمنا أن العالمية وصف مشترك فيه بين هذه الماهيات المختلفة.
وثالثها
: إنا نقول الممكن
إما جوهر وإما عرض فلولا أن العرضية وصف واحد ، وإلا لم يكن التقسيم منحصرا ، كما
أن قولنا الممكن إما جوهر وإما سواد وإما بياض ليس تقسيما منحصرا. بيان الثانى :
أنه إذا ثبت ان هذه الماهيات مشتركة من بعض الوجوه ، ومختلفة من وجوه أخر فالوجهان
اما أن يكونا موجودين ، أو معدومين ، أو لا موجودين ، ولا معدومين.
فالأول باطل ،
وإلا لزم قيام العرض بالعرض. والثانى باطل ،
__________________
لأنا نعلم
بالضرورة أن هذه الأمور ليست إعداما صرفة ، فبقى الثالث وهو المطلوب.
والجواب عن الأول
أن الكلام فى ان الوجود هل هو وصف مشترك أم لا؟ قد مر. والآن نساعد عليه ، ونقول :
لم لا يجوز أن
يكون الوجود موجودا؟ قوله :
لأنه لو كان
موجودا لكان مساويا للماهيات الموجودة فى الموجودية ومخالفا لها فى خصوصياتها ولو
كان كذلك يلزم التسلسل.
قلنا التسلسل إنما
يلزم إن لو اشتركا فى وصف ثبوتى ، واختلفا فى وجه آخر ثبوتى. أما إذا كان الاختلاف
فى أمر عدمى ، فلا يلزم التسلسل بيانه : هو أن الوجود يشارك الماهية الموجودة فى
الموجودية ويخالفها بقيد عدمى وهو أن الوجود وحده وإن كان موجودا لكن
__________________
ليس معه شيء آخر
والماهية الموجودة وإن كانت موجودة لكن لها مع مسمى الموجودية أمر آخر وهو
الماهية. وإذا كان الأمر كذلك ، لا يلزم أن يكون الوجود موجودا بوجود آخر ، بل
تكون موجوديته عين ماهيته. وعلى هذا التقدير ينقطع التسلسل.
ثم قالت النفاة
رأينا حاصل أدلة مثبتى الأحوال على اختلافها راجعا إلى حرف واحد ، وهو أن الحقائق
مختلفة بخصوصياتها ، ومشتركة فى عموماتها وما به الاشتراك غير ما به الامتياز.
ثم بينوا ان ذلك
ليس بموجود ولا معدوم ، فاثبتوا الواسطة. قالوا : وهذا يقتضي أن يكون للحال حال
آخر إلى غير النهاية ، لأن هذه الأحوال التى يثبتونها لا شك أنها متخالفة فى
خصوصياتها ، ومتساوية فى عموم كونها حالا. وما به المشاركة غير ما به الممايزة ،
فيلزم أن يكون للحال حال الى غير النهاية.
__________________
أجاب المثبتون من
وجهين.
أحدهما
: وهو الّذي عليه
تعويل الجمهور. ان الحال لا يوصف بالتماثل والاختلاف.
والثانى
: التزام التسلسل.
فقالت النفاة أما
الأول فضعيف جدا لأن كل أمرين يشير العقل إليهما. فإما أن يكون المتصور من أحدهما
هو المتصور من الآخر أو لا يكون. والأول : هو المثل. والثانى هو المخالف فعلمنا أن
القول بإثبات أمرين لا يوصفان بالتماثل والاختلاف جهالة.
وأما الثانى وهو
التزام التسلسل ، فباطل. لأنا متى جوزناه ، انسد علينا باب ابطال حوادث لا أول لها
، وانسد علينا باب اثبات الصانع القديم وكل ذلك جهالة. هذا محصل كلام الفريقين.
__________________
والّذي أقوله : إن
ذلك الإلزام غير وارد على القائلين بالحال لأنا لما بينا أن السواد والبياض مثلا
يشتركان فى الموجودية ، ويختلفان فى السوادية والبياضية ، وعلمنا أن ما به الاشتراك
وما به الامتياز ، لا يجوز أن يكونا شيئا واحدا ولا يجوز أن يكونا سلبيين. لا جرم
أثبتنا أمرين ثابتين : أحدهما كونه سوادا والآخر وجوده.
أما الوجودية
والسوادية ، فهما مختلفان بحقيقتهما ويشتركان فى الحالية ، لكن الحالية ليست صفة
ثبوتية لأنا لا نعنى بالحال ، إلا ما لا يكون موجودا ولا معدوما. وإذا كان
الاشتراك واقعا فى وصفى سلبى ، لم يلزم أن تكون الحالية صفة قائمة بالوجود ، فلم
يلزم أن يكون للحال حال آخر. فقد ظهر اندفاع هذا الإلزام عنهم ، مع أن
__________________
الأولين والآخرين
من مثبتى الأحوال ، كانوا عاجزين عن دفعه فالحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنا
لنهتدى لو لا أن هدانا الله.
وأما الجواب عن
الحجة الثانية أن نقول : لم لا يجوز أن يكون ما به الاشتراك وما به الامتياز
موجودين.
قوله : يلزم قيام
العرض بالعرض.
قلنا هذا أقرب إلى
العقل من إثبات الواسطة بين الموجود والمعدوم وتعويل النفاة فى دفع هذه الحجة على
إلزام أن يكون للحال حال آخر وقد عرفت ضعفه.
وللفلاسفة فى هذا
الباب طريق آخر ، وهو أنهم قالوا الأجناس والفصول التى بها تتقوم الأنواع البسيطة
فى الخارج ، موجودات فى الأذهان ، لا فى الأعيان.
__________________
فقيل لهم الحكم
الذهنى ، إن كان مطابقا للخارج عاد كلام مثبتى الحال ، وإلا فهو جهل ولا عبرة به
وبالله التوفيق.
التفريع على القول
بالحال :
قالوا ثبوت الحال
للشىء ، اما أن يكون معللا بموجود قائم بذلك الشيء كالعالمية المعللة بالعلم أو لا
يكون كذلك كسوادية السواد والأول هو الحال المعلل ، والثانى هو الحال الغير
المعلل. واتفقوا على أن الموجودات متساوية فى الذوات مختلفة بهذه الأحوال.
وأما الوجود ،
فزعم مثبتو الحال منا أنه نفس الذات. وزعمت المعتزلة أنه صفة والقول بإثبات كون
المعدوم شيئا بناء على هذا ، والّذي أختاره تفريعا على القول بالحال أن ذلك باطل ،
لأن الذوات لو كانت مشتركة ، سواء قلنا : ان الوجود هو الذات على ما يقوله أصحابنا
، أو غيره على ما يقوله المعتزلة ، لصح على كل واحد منهما ،
__________________
ما يصح على الآخر
ضرورة استواء المتماثلات فى كل اللوازم ، فكان يلزم صحة انقلاب القديم محدثا ،
والجوهر عرضا وبالعكس ، وهو محال.
ولأن اختصاص الذات
المعينة بالصفة المعينة أن كان لا لأمر ، فقد ترجح أحد طرفى الممكن على الآخر لا
لمرجح ، وهو محال. وان كان لأمر ، فذلك الأمر ان كان ذاتا ، عاد البحث فى اختصاصها
من بين سائر الذوات بصفة المرجحية ، وإن لم يكن ذاتا كان صفة لذات ، فيعود البحث
فى اختصاص تلك الذات بها.
أما إذا جعلنا
الخصوصية ذاتا ، وما به الاشتراك ، صفة اندفع الإشكال ، لأن الأشياء المختلفة يجوز
اشتراكها فى لازم واحد ، وأما الأشياء المتساوية فلا يجوز اختلافها فى اللوازم
وبالله التوفيق.
تقسيم الموجودات
على رأى الحكماء
الموجود إما أن
يكون واجب الثبوت لذاته وهو الله سبحانه
__________________
وتعالى ، وإما أن
يكون ممكن الثبوت لذاته وهو كل ما عداه.
فإن قيل الواجب
لذاته يساوى سائر الموجودات فى أصل الوجود ويخالفها فى الوجوب ، وما به الاشتراك
غير ما به الامتياز ، فالوجود غير الوجوب ولأنا ندرك التفرقة بين قولنا : موجود
واجب ، وبين قولنا : موجود موجود. ولو كان الوجود هو الوجوب لما بقى الفرق ، وإذا
ثبت ان الوجود غير الوجوب.
فنقول إما أن لا
يكون بينهما ملازمة أو يكون والأول محال ، وإلا لصح انفكاك كل واحد منهما عن الآخر
، فيمكن انفكاك ذلك الوجود عن الوجوب. وكل ما كان كذلك استحال أن يكون واجبا
لذاته.
وأيضا يمكن انفكاك
الوجوب عن الوجود ، وذلك محال ، لأن الوجوب نعت الوجود ، ويستحيل حصول النعت دون
المنعوت.
وأما الثانى وهو
أن يكون بينهما ملازمة فن المحال أن يكون كل واحد منهما مفتقرا إلى الآخر لاستحالة
الدور. ومحال أن يكون الوجود مستلزما للوجوب ، وإلا فكل موجود واجب هذا خلف.
__________________
ولأنه يلزم كون
الوجوب معلولا ، وكل معلول ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته واجب بعلته فقبل هذا الوجوب
وجوب آخر ، إلى غير النهاية ، وهو محال.
ومحال أن يكون
الوجوب مستلزما للوجود. لأن الوجوب نعت الوجود ، وكيفيته ، فيكون مفتقرا إليه. فلو
كان الوجود مفتقرا إليه يلزم الدور.
ومحال أن يكونا
معلولى علة. لأن تلك العلة ، اما أن تكون موصوفة بهما ، أو صفة لهما أو لا موصوفة
ولا صفة. والأول محال وإلا لكان ما ليس بموجود ولا واجب علة للوجوب والوجود ، لكن
ما ليس بموجود معدوم. فالمعدوم علة الموجود والوجوب ، هذا
__________________
خلف. ولأنه يلزم
كون الوجوب معللا وهو محال ، على ما تقدم.
والثانى محال ،
وإلا لعاد الإشكال فى كيفية ذلك اللزوم.
والثالث محال ،
وإلا يلزم أن يكون الموجود الواجب لذاته مفتقرا إلى علة منفصلة ، هذا خلف.
لا يقال الوجوب
سلبى ، لأنا نقول : إنه تأكد الوجود. والشيء لا يتأكد بنقيضه ، ولأنه نقيض
اللاوجوب الّذي هو عدمى لكونه محمولا على العدم ، فيكون الوجوب وجوديا.
سلمنا كونه سلبيا
لكن يستحيل أن يكون المقتضى للوجود هو الوجوب لامتناع كون العدم مقتضيا للوجود ،
ولا بالعكس ، وإلا لكان كل موجود واجبا.
والجواب أنه بناء
على كون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن
__________________
وهو باطل على ما
تقدم.
خواص الواجب لذاته
وهى عشرة :
مسئلة (أ):
الشيء الواحد لا
يكون واجبا لذاته ولغيره معا لأن ما بالغير يرتفع بارتفاع الغير ، وما بالذات لا
يرتفع بارتفاع الغير والجمع بينهما محال.
مسئلة (ب):
الواجب لذاته لا
يتركب عن غيره ، لأن كل مركب محتاج إلى جزئه ، وجزؤه غيره ، فكل مركب محتاج إلى
غيره وكل محتاج إلى الغير ممكن لذاته ، ولا شيء من الممكن لذاته واجب لذاته.
__________________
مسئلة (ج):
الواجب لذاته لا
يتركب عنه غيره ، وإلا لكان بينه وبين الجزء الآخر من المركب علاقة ، والواجب
لذاته لا علاقة له بالغير.
مسئلة (د):
الواجب لذاته لا
يكون وجوده زائدا على ماهيته ، لأن ذلك الوجود إن كان مستغنيا عن تلك الماهية لم
يكن صفة لها ، وإن لم يكن مستغنيا ، كان ممكنا لذاته مفتقرا إلى مؤثر. وذلك المؤثر
، إن كان غير تلك الماهية كان الواجب لذاته واجبا بغيره وإن كان تلك الماهية فهى
حال ايجابها ذلك الوجود ، إما أن تكون موجودة أو لا تكون.
والأول محال ،
لأنها إن كانت موجودة بهذا الوجود كان الوجود الواحد شرط نفسه ، وإن كانت موجودة
بغيره كانت الماهية موجودة مرتين. ثم الكلام فى ذلك الوجود كالكلام فى الأول فيلزم
التسلسل
__________________
وإن لم تكن موجودة
فهو محال أيضا لأنا لو جوزنا كون المعدوم مؤثرا فى الموجود لم يمكنا الاستدلال
بفاعلية الله تعالى على وجوده ، ولأن تأثير المعدوم فى الموجود باطل بالبديهة.
الاعتراض عليه لم
لا يجوز أن يكون المؤثر فيه هو الماهية لا بشرط الوجود ، ثم لا يلزم من حذف الوجود
عن درجة الاعتبار دخول العدم فيها ، لأن الماهية من حيث هى هى لا موجودة ولا
معدومة وهذا كما قالوا فى الممكن فإن ماهيته قابلة للوجود لا بشرط وجود آخر ، وإلا
وقع التسلسل ، ولم يلزم أيضا أن يكون القابل للوجود معدوما ، وإلا لزم كون الشيء
الواحد فى الوقت الواحد موجودا معدوما معا ثم الّذي يدل على أن واجب الوجود وجوده
زائد على ماهيته ، ان وجوده معلوم ، وماهيته غير معلومة ، والمعلوم غير ما ليس
بمعلوم.
__________________
مسئلة (ه):
الواجب لذاته لا
يجوز أن يكون وجوبه زائدا عليه ، إذ لو كان الوجوب مستتبعا للوجود ، لكان الفرع
أصلا للأصل ، وهو محال وإن كان تابعا يلزم أن يكون ممكنا لذاته ، واجبا بغيره ،
فيكون الواجب بالذات ممكنا بالذات ، فيكون الواجب بالذات أولى أن يكون ممكنا
بالذات.
وأيضا فوجب ذلك
الوجوب ، لوجوب مؤثره فقبل هذا الوجوب وجوب آخر لا إلى غاية ولزم التسلسل وهو
محال.
فعورض بأن الوجوب
والامتناع كيفيات لانتساب المحمولات إلى
__________________
الموضوعات فهى لا
محالة مغايرة للموضوعات والمحمولات وتابعة لهما.
مسئلة (و):
الوجوب بالذات لا
يكون مشتركا بين اثنين ، وإلا لكان هو مغايرا لما به يمتاز كل واحد منهما عن الآخر
، فيكون كل واحد منهما مركبا عن ما به الاشتراك وما به الامتياز. فإن لم يكن بين
الجزءين ملازمة كان اجتماعهما معلول علة منفصلة هذا خلف. وإن كان بينهما ملازمة
فإن استلزمت الهوية الوجوب كان الوجوب معلول الغير هذا خلف وإن كان الوجوب مستلزما
لتلك الهوية ، فكل واجب هو هو ، فما ليس هو ، لم يكن واجبا.
فقيل عليه هذا
بناء على كون الوجوب وصفا ثبوتيا ، وهو باطل وإلا لكان إما داخلا فى الماهية أو
خارجا عنها وكلاهما باطلان على ما تقدم.
__________________
ولأنه لو كان
ثبوتيا لكان مساويا فى الثبوت لسائر الماهيات ومخالفا لها فى الخصوصية ، فوجوده
غير ماهيته. فاتصاف ماهيته بوجوده إن كان واجبا كان للوجوب وجوب آخر إلى غير النهاية
، وإن لم يكن واجبا كان ممكنا. فالواجب لذاته أولى أن يكون ممكنا لذاته هذا خلف.
وأيضا فهو بناء
على كون التعين وصفا ثبوتيا زائدا ، وهو باطل على ما سيأتى إن شاء الله تعالى.
وأيضا فهو معارض
بما أن واجب الوجود مساو للممكن فى الموجودية ومخالف له فى الوجوب ، فوجوده ووجوبه
متغايران ، ويعود التقسيم المذكور فى أول الباب وقد عرفت ان هناك لا جواب إلا
قولنا : الموجود مقول على الواجب والممكن بالاشتراك اللفظى فقط. وإذا كان كذلك ،
فلم لا يجوز أن يكون الوجوب بالذات مقولا على
__________________
الواجبين
بالاشتراك اللفظى فقط.
مسئلة (ز):
وقوع لفظ الواجب
على الواجب بالذات والواجب بالغير بالاشتراك اللفظى ، وإلا فالوجوب بالذات مركب ،
فيكون ممكنا ، ولأن القدر المشترك ، إن كان غنيا عن الغير ، لم يكن تمام ماهية
الوجوب بالغير عارضا للغير ، هذا خلف وإن كان مفتقرا لم يكن تمام ماهية الوجوب
بالذات غنيا عن الغير.
فعورض بأن مسمى
الوجوب يمكن تقسيمه إلى الواجب بالذات والواجب بالغير. ومورد التقسيم مشترك بين
القسمين لا محالة. ولقائل أن يستدل على أن الوجوب ليس وصفا ثبوتيا بأنه لو كان
ثبوتيا لكان إما أن يكون مقولا على الواجب بالذات والواجب بالغير بالاشتراك
المعنوى ، أو بالاشتراك اللفظى. وهما باطلان على
__________________
ما تقدم فالوجوب
ليس وصفا ثبوتيا.
مسئلة (ح):
الواجب لذاته واجب
من جميع جهاته إذ لو فرضنا اتصافه بأمر ثبوتى ، أو سلبى ، لا يكفى فى تحققه ذاته ،
لتوقف حصول ذلك الأمر له ، أو انتفائه عنه ، على حضور أمر خارجى أو عدمه. وذاته
موقوفة على حضور ذلك الحصول ، أو الانتفاء. والموقوف على الموقوف على الغير موقوف
على الغير. فالواجب لذاته موقوف على الغير ، فيكون ممكنا لذاته ، هذا خلف وهذه
الحجة لا تتمشى إلا بنفى كون الإضافات أمورا وجودية فى الأعيان.
مسئلة (ط):
الواجب لذاته لا
يصح عليه العدم ، إذ لو صح لكان وجوده متوقفا على عدم سبب عدمه. والمتوقف على
الغير ممكن بالذات.
مسئلة (ى):
الواجب لذاته يجوز
أن تعرض له صفات تستلزمها ذاته فيكون
__________________
الوجوب الذاتى حصة
لتلك الهوية فقط ، وسائر النعوت واجبة لوجوب تلك الهوية وتكون الوحدة حصة لتلك
الهوية من حيث هى هى ، وإن كانت إذا أخذت مع الوحدة لم يبق واحدة.
خواص الممكن لذاته
وهى ست
مسئلة : (أ)
الممكن : هو الّذي
لا يلزم من فرض وجوده ، ولا من فرض عدمه من حيث هو هو محال. فان قيل القول
بالامكان ممتنع من وجوه.
أحدها
: إن وجود السواد
مثلا ، اما أن يكون عين كونه سوادا أو غيره. فإن كان الأول ، كان قولك : السواد
يصح أن يكون موجودا وأن يكون معدوما جاريا مجرى قولنا : الموجود يصح أن يكون
موجودا وأن يكون معدوما ، لكن قولنا : الموجود يصح أن
__________________
يكون موجودا باطل
، لأن الموجود الّذي جعلناه موضوعا ، والّذي جعلناه محمولا ، إن كان واحدا ، كان
ذلك إضافة الشيء إلى نفسه بالإمكان ، وهو محال وإن لم يكن واحدا يلزم كون الشيء
الواحد موجودا مرتين.
واما قولنا :
الموجود يصح أن يكون معدوما ، فباطل أيضا ، لأنه متى حكم على أمر بأنه يصح اتصافه
بأمر آخر ، فذلك يستدعى امكان تقرر الموصوف مع الوصف. والموجودية لا يعقل تقررها
مع المعدومية ، فيستحيل أن يكون المحكوم عليه بصحة العدم نفس الموجود.
واما إن كان الحق
هو الثانى ، كان قولنا : السواد يمكن أن يكون موجودا ، يرجع حاصله إلى أن المعدوم
يمكن أن يصير موصوفا
__________________
بالوجود وذلك محال
على ما تقرر. ولأنه ، إذا كان الوجود غير الماهية ، فالموصوف بالإمكان ، إما
الوجود واما الماهية.
واما موصوفية
الماهية بالوجود. وأى واحد من هذه الثلاثة ، فرض الإمكان وصفا له ، فذلك الموصوف
بالامكان اما أن يكون مفردا أو مركبا فإن كان مفردا كان الحكم عليه بالامكان يرجع
إلى أن تلك الماهية المفردة يمكن أن تكون تلك الماهية ، ويمكن أن لا يكون فيعود
إلى التقسيم الأول الّذي أبطلناه.
وان كان مركبا عاد
الكلام فى أن الإمكان صفة لكل واحد من أجزائه أو لبعض أجزائه على ما تقدم.
وثانيها
: أن المحكوم عليه
بالإمكان اما أن يكون موجودا ، أو معدوما. فان كان موجودا فهو حال الوجود لا يقبل
العدم ، لاستحالة الجمع بين الوجود والعدم وإذا امتنع حصول العدم ، امتنع حصول
__________________
إمكان العدم
والوجود. وإن كان معدوما ، فهو حال العدم لا يقبل الوجود ، فلا يحصل إمكان الوجود
والعدم. وإذا استحال الخلو عن العدم والوجود ، وكان كل واحد منهما منافيا للإمكان
كان القول بالإمكان محالا.
ويمكن تقرير هذا
السؤال من وجه آخر : وهو أن الممكن إما أن يكون قد حضر معه سبب وجوده ، أو لم
يحضر. وبالتقدير الأول يجب ، وبالتقدير الثانى يمتنع ، فيكون القول بالامكان
ممتنعا.
وثالثها
: وهو أن الشيء لو
كان ممكنا ، لكان إمكانه إما أن يكون وصفا عدميا أو وجوديا.
والأول باطل ،
لأنه نقيض اللاإمكان الّذي يصح حمله على المعدوم. والمحمول على المعدوم معدوم ،
فيكون اللاإمكان عدميا ، فيكون الإمكان ثبوتيا ضرورة كون أحد النقيضين وجوديا.
__________________
والثانى : باطل
لأنه لو كان ثبوتيا لزم المحال من وجهين :
أحدهما هو إنه إذا كان ثبوتيا كان مساويا لسائر الموجودات فى أصل
الثبوت ، ومخالفا لها فى خصوصية ماهيته المسماة بالإمكان ، فيكون ثبوته زائدا على
ماهيته ، فاتصاف ماهيته بوجوده إن كان واجبا لذاته ، كان الإمكان موجودا واجبا
لذاته وهو صفة للممكن. والموصوف بالوجود موجود ، فالممكن موجود ، ووجوده شرط لقيام
ذلك الإمكان به. وما كان شرطا لوجود ما ، كان واجبا لذاته ، كان أولى بأن يكون
واجبا لذاته. فالممكن لذاته واجب لذاته ، هذا خلف.
وأما إن كان اتصاف
ماهيته بوجوده على سبيل الإمكان ، كان للامكان إمكان آخر ولزم أن يكون إمكان
الامكان زائدا عليه ، ولزم التسلسل.
وثانيهما
: ان المحدث قبل
وجوده ممكن لذاته ، فلو كان الإمكان صفة موجودة ، لكان الشيء حال عدمه موصوفا بصفة
موجودة ،
__________________
وذلك محال.
لا يقال : الجواب
عن الإشكال الأول ان ذلك إنما يتوجه على من يقول الشيء حال وجوده ممكن الوجود ، أو
حال عدمه ممكن العدم. أما من يقول : الشيء حال وجوده يمكن أن يصير معدوما فى
الزمان الثانى ، لا يلزمه ذلك الإشكال.
وعن الثانى أنه لا
يلزم من صدق قولنا : الماهية بشرط كونها موجودة غير قابلة للعدم ، صدق قولنا :
الماهية التى هى أحد أجزاء ذلك المجموع غير قابلة للعدم.
وعن الثالث أن
الإمكان وصف ثابت فى الذهن لا تحقق له فى الخارج. وعلى هذا التقدير لا يلزم ما
ذكرتموه لأنا نجيب عن الأول من وجهين :
أحدهما أن القول
بالإمكان الاستقبالى محال ، لأنا إذا حكمنا على الموجود فى الحال ، بأنه يمكن أن
يعدم فى الاستقبال فإما أن يقال إمكان العدم الاستقبالى حاصل فى الحال ، أو يقال
إمكان العدم
__________________
الاستقبالى ، لا
يحصل إلا عند حضور الاستقبال. أما الأول فمحال ، لأن العدم فى الاستقبال من حيث
أنه فى الاستقبال موقوف على حصول الاستقبال ، وحصول الاستقبال محال فى الحال.
فحصول العدم الاستقبالى من حيث إنه عدم استقبالى موقوف على حضور شرط محال.
والموقوف على المحال محال ، فالعدم الاستقبالى ممتنع الحضور فى الحال وإذا استحال
حصول العدم الاستقبالى فى الحال ، بل لا يمكن حصوله إلا فى الاستقبال ، كان إمكان
حصوله حاصلا فى الاستقبال لا فى الحال.
فإن قلت : إنه ،
وإن كان بهذا الشرط ممتنع الحصول فى الحال ، لكنه غير ممتنع فى الاستقبال. ونحن
إنما أثبتنا هذا الإمكان بالنسبة إلى الاستقبال.
قلت : الإمكان
ماهيته نسبية إضافية. والأمور النسبية لا يتحقق إلا عند تحقق المنتسبين فإذا
استحال اجتماع هذين المنتسبين استحال تحقق هذه النسبة.
__________________
وأما الثانى : وهو
أن يقال : إمكان العدم الاستقبالى لا يحصل إلا عند حضور الاستقبال ، كان ذلك حكما
بالامكان على الشيء بالنسبة إلى زمانه الحاضر ، لأن الاستقبال عند حضوره يصير حالا
وحينئذ يعود أول الإشكال.
سلمنا الإمكان
الاستقبالى لكن الإشكال المذكور لا يندفع لأن قولنا إنه فى الحال يمكن أن يصير
معدوما فى الاستقبال يقتضي إمكان صيرورة هويته محكوما عليها بالعدم. فلو كانت
هويته ، عين الوجود ، لكان ذلك حكما باتصاف الوجود بالعدم فيعود الإشكال المذكور.
وعن السؤال الثانى
أن شرط كون الشيء قابلا للشىء كون القابل خاليا عما ينافى المقبول. فإذا كان وجود
الماهية وعدمها ينافيان الإمكان ، والماهية لا تخلو عنهما فقد امتنع خلوها عما
ينافى الامكان فيمتنع اتصافها بالإمكان.
وعن السؤال الثالث
أن حكم الذهن بالإمكان اما أن يكون
__________________
مطابقا للمحكوم
عليه ، أو لا يكون. فإن لم يكن مطابقا ، كان جهلا. وكان حاصله أن الذهن حكم
بالإمكان على ما ليس فى نفسه ممكنا ، وإن كان مطابقا كان الشيء فى نفسه ممكنا
فيعود الإشكال المذكور فى انه ثبوتى أو عدمى.
ولأن إمكان الشيء
وصف للشىء والذهنى شيء آخر مغاير للشىء المحكوم عليه بالإمكان ، ووصف الشيء يستحيل
قيامه بغير ذلك الشيء إلا أن يقال : المراد من قولنا : إمكان الشيء أمر حاصل فى
الذهن. ان العلم بالإمكان حاصل فى الذهن. وهذا حق ، ولكنه لا يندفع السؤال لأن
البحث واقع عن نفس الإمكان لا عن العلم بالإمكان.
والجواب إن كون
الماهيات المتغيرة ممكنا أمر ضرورى ، والتشكيك فى الضروريات لا يستحق الجواب كما
فى شبه السوفسطائية.
مسئلة (ب):
الممكن لا يوجد
ولا يعدم إلا بسبب منفصل ، لأنهما لما استويا
__________________
بالنسبة إليه ،
استحال الترجيح من غير مرجح.
فإن قيل قولك :
لما استويا امتنع الترجيح ، إلا لمرجح ان ادعيت أنه بديهى فهو ممنوع. فإنا لما
عرضنا هذه القضية على العقل ، مع قولنا : الواحد نصف الاثنين ، وجدنا الثانية
أظهر. والتفاوت يدل على تطرق الاحتمال بوجه ما ، إلى الأول وعند قيام احتمال
النقيض لا يبقى اليقين التام.
فإن ادعيت أنه
برهانى فأين البرهان؟.
سلمنا صحة ما
ذكرته لكنه معارض بأمور :
أولها
: لو افتقر الممكن
إلى المؤثر لكانت مؤثرية المؤثر فى ذلك الأثر ، إما أن تكون وصفا ثبوتيا أو لا
تكون. والقسمان باطلان. فالقول بالمؤثرية باطل.
وإنما قلنا إنه
يستحيل أن يكون وصفا ثبوتيا لأن ثبوته اما فى
__________________
الذهن فقط ، أو
فيه وفى الخارج. والأول باطل ، لأن الّذي وجد فى الذهن ، و. لا يكون مطابقا للخارج
فهو جهل ، كمن أعتقد أن العالم قديم مع أنه لا يكون فى نفسه كذلك. فلو كان حكم
الذهن بالمؤثرية غير مطابق للخارج ، كان ذلك الحكم جهلا. فلا يكون الشيء مؤثرا فى
نفسه. ولأن كون الشيء مؤثرا فى غيره صفة لذلك الشيء ، فكانت حاصلة قبل الأذهان ،
وصفة الشيء يستحيل قيامه بغيره ، إلا أن يقال : الموجود فى الذهن ، هو العلم
بالمؤثرية ، لكن ذلك لا يفيد ، كما تقدم.
أما الثانى وهو أن
يكون له ثبوت فى الخارج ، فهو اما أن يكون نفس المؤثر أو الاثر ، أو أمرا مغايرا
لهما. والأول باطل. لأنا قد نعلم ذات المؤثر ، وذات الأثر مع الشك فى كون ذلك
المؤثر مؤثرا فى ذلك الأثر.
كما إذا علمنا
العالم ، وعلمنا قدرة الله تعالى ، ولكن لا نعلم أن
__________________
المؤثر فيه قدرة
الله تعالى إلا ببرهان منفصل على نفى الواسطة والمعلوم مغاير للمجهول. فإذن مؤثرية
قدرة الله تعالى فى العالم ليست نفس قدرته ، ولأن مؤثرية القدرة فى الأثر نسبة
بينهما والنسبة بين الشيئين متوقفة على وجود المنتسبين. والمتوقف على الشيء مغاير
له.
وأما إن كانت المؤثرية
أمرا زائدا ، فهو إما أن يكون من العوارض العارضة لذات المؤثر ، وإما أن لا يكون
كذلك ، بل يكون موجودا قائما بنفسه.
وإن كان الأول ،
كان ممكنا لذاته مفتقرا إلى المؤثر فمؤثرية المؤثر فيه زائدة عليه ، ولزم التسلسل
، وهو محال.
وبتقدير تسليمه ،
فالمحال لازم من وجه آخر ، لأن التسلسل إنما يعقل إن لو فرضنا أمورا متتالية إلى
غير النهاية. وذلك يستدعى
__________________
كون كل واحد منها
متلوا بصاحبه وإنما يكون متلوا بصاحبه لو لم تكن بينه وبين متلوه غيره لكن ذلك
محال. لأن تأثير المتلو فى التالى متوسط بينهما ، وقد كان لا متوسط ، هذا خلف.
وإن كانت المؤثرية
جوهرا قائما بذاته ، فهو محال. لأن مؤثرية الشيء فى الأثر نسبه بين المؤثر والأثر
، والنسبة بين الشيئين لا يعقل أن يكون جوهرا قائما بنفسه ثم على تقدير التسليم ،
فالمؤثر فى وجود هذا الممكن اما هذا الجوهر ، أو ذلك ، أو هما.
وعلى التقديرات
يكون مؤثرية الذات المؤثرة فى وجود الممكن زائدة عليه ولزم التسلسل. وإنما قلنا
إنه لا يجوز أن يكون المؤثرية صفة عدمية ، لأنها نقيض اللامؤثرية التى يصح حملها
على العدم والمحمول على العدم عدم ، ونقيض العدم ثبوت فالمؤثرية أمر ثبوتى ، ولأن
الشيء
__________________
الّذي لم يكن
مؤثرا فصار مؤثرا فالمؤثرية حصلت بعد أن لم تكن فهى صفة وجودية ، وإلا فليجوز فيما
إذا صارت الذات عالمة بعد أن لم تكن ، أن لا يكون العلم أمرا وجوديا ، وذلك نهاية
الجهل. فظهر بما ذكرنا فساد كون المؤثرية صفة ثبوتية ، وكونها صفة عدمية ، فإذن
القول بالمؤثرية باطل.
وثانيها
: أن المؤثر إما أن
يؤثر فى الأثر حال وجود الأثر ، أو حال عدمه. والأول باطل لاستحالة إيجاد الموجود.
والثانى باطل ،
لأن حال العدم لا أثر ، ولا فلا تأثير. لأن التأثير ان كان عين حصول الأثر عن
المؤثر ، فحيث لا أثر فلا تأثير.
وان كان مغايرا ،
فالكلام فيه ، كالكلام فى الأول.
وثالثها
: أن المؤثر اما أن
يكون تأثيره فى الماهية أو فى الوجود أو فى اتصاف الماهية بالوجود.
والأول محال ، لأن
كل ما بالغير يلزم عدمه عند عدم ذلك الغير. فلو كان كون السواد سوادا بالغير لزم
أن لا يكون السواد سوادا
__________________
عند عدم ذلك الغير
، وهذا محال. لأن السواد يستحيل أن يصير غير سواد.
لا يقال نحن لا
نقول : السواد مع كونه سوادا يصير موصوفا بأنه ليس بسواد ، بل نقول : يفنى السواد
ولا يبقى. لأنا نقول : إذا قلنا : يفنى السواد. فهذه قضية ، ولكل قضية موضوع
ومحمول ، لا محالة. والموضوع لا بد من تقرره حال الحكم بحصول ذلك المحمول له أو
سلبه عنه.
فإذا قلنا السواد
فنى ، فالموضوع هو السواد ، والمحمول هو الفناء فلا بد وأن يكون السواد متقررا حال
ذلك الفناء ، وإن كان الفانى هو السواد لزم أن لا يكون السواد متقررا فى هذه
الحالة ، فيلزم عند صدق قولنا السواد معدوم ، كون السواد متقررا وغير متقرر
__________________
وذلك محال.
وأما إن قيل :
المؤثر أثر فى الوجود ، فذلك محال ، وإلا لزم أن لا يبقى الوجود وجودا عند فرض عدم
ذلك التأثير وهو محال على ما مر.
وأما الثالث : وهو
أن يقال : المؤثر أثر فى موصوفية الماهية بالوجود ، فنقول : أولا لا يجوز أن تكون
موصوفية الماهية بالوجود أمرا وجوديا ، لأنها بتقدير أن تكون أمرا وجوديا لم تكن
جوهرا قائما بذاته بل تكون صفة للماهية فتكون موصوفية الماهية بها زائدة عليها ،
ولزم التسلسل.
وإذا لم تكن
الموصوفية أمرا ثبوتيا ، استحال جعلها أثرا للمؤثر أصلا. ثم بتقدير أن تكون أمرا
ثبوتيا استحال اسنادها إلى المؤثر. لأن المؤثر إما أن يؤثر فى ماهيته أو فى وجوده
، ويعود التقسيم المقدم.
__________________
وإذا ثبت أنه لا
يجوز إسناد الماهية والوجود ، وانتساب أحدهما إلى الآخر ، إلى المؤثر كانت الماهية
الموصوفة بالوجود غنية عن المؤثر. فثبت أن القول بالتأثير باطل.
ورابعها
: أنه لو افتقر ترجح
أحد طرفى الممكن على الآخر إلى المرجح ، لافتقر رجحان العدم على الوجود إلى مرجح ،
لكن ذلك محال. لأن المرجح مؤثر فى الترجيح ، والمؤثر لا بد له من أثر. والعدم نفى
محض ، فيستحيل إسناده إلى المؤثر.
فإن قلت علة العدم
عدم العلة.
قلت هذا خطأ لأن
العلية مناقضة اللاعلية التى هى عدم والعلية ثبوتية فالموصوف بها ثابت. وإلا
فالنفى المحض موصوف بالصفة الموجودة ، وهو محال. ولأن العدم لا تميز فيه ولا تعدد
ولا هوية فيستحيل جعل بعضه علة والبعض معلولا.
__________________
والجواب أن تلك
القضية بديهية ، والتفاوت بينها ، وبين سائر البديهيات. فى العقل محال. وان حاولنا
البرهان قلنا : الممكن ما لم يجب لم يوجد. وذلك الوجوب لما حصل بعد أن لم يكن كان
وصفا وجوديا ، فيستدعى موصوفا موجودا وليس هو ذلك الممكن ، لأنه قبل وجوده معدوم.
فلا بد من شيء آخر يعرض له الوجوب بالنسبة إلى هذا الممكن وذلك هو المؤثر.
أما المعارضة
الأولى ، فمدفوعة لأن ذلك التقسيم قد يتوجه فيما يعلم وجوده بالضرورة ، كما إذا
قيل : لو كنت أنا موجودا فى هذه الساعة ، لكان كونى فيها اما أن يكون عدميا وهو
محال ، لأنه نقيض اللاكون فيها ، وهو عدمى ونقيض العدم ثبوت ، أو يكون ثبوتيا وهو
إما عين الذات ، فيلزم أن لا تبقى الذات عند ما لا يبقى حصوله فى تلك الساعة ، أو
زائدا عليه ، فيكون ذلك الزائد حاصلا فى تلك الساعة ، ولزم التسلسل.
__________________
ولما كان حصوله فى
هذه الساعة يفضى إلى هذه الأقسام الباطلة ، وجب أن لا يكون له حصول فى هذه الساعة
، فظهر أن هذا التقسيم مبطل للبديهيات.
أما المعارضة
الثانية ، فهى كذلك أيضا لأن الاحداث ، وإن كان فى محل البحث ، ولكن لا نزاع فى
الحدوث. والتقسيم الّذي ذكرتموه يدفعه ، لأنه يقال إن حدث هذا الصوت مثلا ، فاما
أن يكون حدوثه حال وجوده أو حال عدمه فإن حدث حال وجوده ، فقد وجد الموجود. وان
حدث حال عدمه ، فقد وجد عند عدمه ، فظهر أن هذا التقسيم مبطل للضروريات.
أما المعارضة
الثالثة ، فهى أيضا كذلك ، لأنه يقال : لو حدث هذا الصوت لكان الحادث ، إما
الماهية ، أو الوجود أو موصوفية الماهية بالوجود. فإن كان الأول فقد انقلب ما ليس
بصوت صوتا.
وإن كان الثانى
فقد انقلب ما ليس بوجود وجودا ، وكذا الثالث
__________________
فثبت بطلان هذه
الأقسام الثلاثة فظهر أن هذا التقسيم مبطل للبديهيات.
وهنا إشكال : وهو
أن للقادحين فى البديهيات أن يقولوا لما عجزتم عن القدح فى مقدمات هذا التقسيم ،
مع انكم علمتم أن نتيجته باطلة لزم منه تطرق القدح إلى البديهيات.
وأما المعارضة
الرابعة ، فمدفوعة لأن العدم نفى محض ، فيستحيل وصفه بالرجحان فلا جرم لا يفتقر
إلى المرجح.
مسئلة (ج):
الممكن لذاته لا
يجوز أن يكون أحد الطرفين أولى به. لأنه مع تلك الأولوية ، اما أن يمكن طريان
الطرف الآخر ، أو لا يمكن فإن أمكن فإما أن يكون طريانه لسبب ، أو لا لسبب فإن كان
لسبب ، لم تكن تلك الأولوية كافية فى بقاء الطرف الراجح ، بل لا بد معها
__________________
من عدم سبب الطرف
المرجوح.
وإن كان لا لسبب ،
فقد وقع الممكن المرجوح لا لعلة ، وهذا محال. لأن أحد المتساوى أقوى من المرجوح.
فلما امتنع الوقوع حال التساوى ، فلأن يمتنع حال المرجوحية كان أولى وإن لم يمكن
طريان المرجوح كان الراجح واجبا والمرجوح ممتنعا.
مسئلة (د):
رجحان الممكن
لذاته مسبوق بوجوب ، وملحوق بوجوب أما السابق ، فلأنه ما لم يترجح صدوره عن المؤثر
، على لا صدوره عنه ، لم يوجد. وقد دللنا على أن الرجحان لا يحصل إلا مع الوجوب.
وأما اللاحق ،
فلأن وجوده ينافى عدمه ، فكان منافيا لإمكان عدمه ، وكان مستلزما للوجوب. واعلم ان
شيئا من الممكنات لا ينفك عن هذين الوجوبين لكنهما خارجان لا داخلان.
مسئلة (ه):
__________________
علة الحاجة إلى
المؤثر الامكان لما سبق لا الحدوث ، لأن الحدوث كيفية لوجود الحادث فيكون متأخرا
عنه ، والوجود متأخر عن تأثير القادر فيه ، المتأخر عن احتياج الممكن إليه ،
المتأخر عن علة الحاجة.
فلو كانت العلة هى
الحدوث لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب احتجوا بأن علة الحاجة ، لو كانت هى الإمكان
، لزم احتياج العدم الممكن إلى المؤثر ، وهو محال ، لأن التأثير يستدعى حصول
الأثر. والعدم نفى محض فلا يكون أثرا. جوابه : ما قيل أن علة العدم عدم العلة وفيه
ما فيه.
مسئلة (و):
الممكن ، حال
بقائه لا يستغنى عن المؤثر ، لأن علة الحاجة الإمكان والإمكان ضرورى اللزوم لماهية
الممكن فهى أبدا محتاجة.
لا يقال انه صار
الوجود أولى به حال البقاء. لأنا نقول
__________________
هذه الأولوية
المغنية عن المرجح ، ان كانت حاصلة حالة الحدوث ، وجب الاستغناء عن المؤثر ، حال
الحدوث ، وان لم تكن حاصلة حالة الحدوث فهو أمر حدث حال البقاء ، ولو لاه لما حصل
الاستمرار. فالشيء حال استمراره ، مفتقر إلى المرجح.
احتجوا بأن المؤثر
حال بقاء الأثر ، اما أن يكون له فيه تأثير أو لا يكون فإن كان له فيه تأثير ،
فذلك الأثر أما الوجود الّذي كان حاصلا ، وهو محال. لأن تحصيل الحاصل محال. وان
كان أمرا جديدا كان المؤثر مؤثرا فى الجديد ، لا فى الباقى. وان لم يكن له فيه
تأثير أصلا استحال أن يكون مؤثرا.
والجواب : أنا لا
نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد ، بل بقاء الأثر لبقاء المؤثر. وبالله التوفيق.
__________________
تقسيم الموجودات على
رأى المتكلمين
الموجود إما أن
يكون قديما ، أو محدثا. أما القديم فهو الّذي لا أول لوجوده ، وهو الله سبحانه
وتعالى. والمحدث ما لوجوده أول ، وهو ما عداه تعالى.
قالت الفلاسفة
مفهوم قولنا : كان الله تعالى موجودا فى الأزل. اما أن يكون عدميا ، أو وجوديا.
والأول باطل ، وإلا لكان قولنا : ما كان موجودا فى الأزل ثبوتيا ، فيكون المعدوم
موصوفا بالوصف الوجودى ، وهو محال فثبت أن ذلك المفهوم وجودى. وهو إما أن يكون عين
ذات الله تعالى أو غيره. والأول محال ، لأن كونه فى الأزل غير حاصل الآن ، وإلا
لكان الآن هو الأزل. فكل ما وجد الآن وجد فى الأزل ، هذا خلف. وذاته حاصلة الآن
فكونه فى الأزل أمر زائد على ذاته وذلك الأمر كان موجودا فى الأزل فقد كان فى
الأزل مع الله تعالى غيره .. ثم ذلك الغير هو الّذي
__________________
يلحقه معنى : كان
ويكون لذاته وذلك هو الزمان ، فالزمان موجود فى الأزل.
قال المتكلمون :
معنى كون الله تعالى قديما أنا لو قدرنا أزمنة لا أول لها ، لكان الله تعالى
موجودا معها بأسرها.
ومما تقرر ذلك إنه
لو اعتبر الزمان فى ماهية الحدوث والقدم ، لكان ذلك الزمان ، إما أن يكون قديما أو
حادثا. فان كان قديما مع إنه ليس له زمان آخر ، فقد صار القدم معقولا من غير
اعتبار الزمان وإذا عقل ذلك فى موضع ، فليعقل ذلك فى كل موضع. وإن كان حادثا لم
يعتبر فى حدوثه زمان آخر لاستحالة أن يكون للزمان زمان آخر.
وإذا عقل الحدوث
فى نفس الزمان من غير اعتبار زمان فليعقل مثله فى سائر المواضع.
خواص القديم
والمحدث :
__________________
مسئلة (ا):
اتفق المتكلمون
على أن القديم يستحيل إسناده إلى الفاعل.
وانفقت الفلاسفة
على إنه غير ممتنع. فإن العالم قديم عندهم زمانا ، مع إنه فعل الله سبحانه وتعالى.
وعندى أن الخلاف فى هذا المقام لفظى. لأن المتكلمين لم يمتنعوا من إسناد القديم
إلى المؤثر الموجب بالذات.
ولذلك زعم مثبتو
الحال منا أن عالمية الله تعالى وقادريته قديمان ، مع أن العالمية والقادرية معللة
بالعلم والقدرة ، وزعم أبو هاشم ان العالمية والقادرية والحبية والموجودية معللة
بحالة خامسة ، مع أن الكل قديم. وزعم أبو الحسين ان العالمية حالة معللة بالذات.
وهؤلاء وإن كانوا يمتنعون عن اطلاق لفظ القديم على هذه الأحوال ولكنهم
__________________
يعطون المعنى فى
الحقيقة.
وأما الفلاسفة
فإنهم إنما جوزوا إسناد العالم القديم إلى البارى تعالى ، لكونه عندهم موجبا
بالذات ، حتى لو اعتقدوا فيه كونه فاعلا بالاختيار ، لما جوزوا ذلك ، فظهر من هذا
اتفاق الكل على جواز استناد القديم إلى الموجب القديم ، وامتناع استناده إلى
المختار.
مسئلة (ب):
أهل السنة أثبتوا
القدماء : وهى ذات الله تعالى ، وصفاته. والمعتزلة وان بالغوا فى إنكاره ، ولكنهم
قالوا به فى المعنى ، لأنهم قالوا : الأحوال الخمسة المذكورة ثابتة فى الأزل مع
الذات. فالثابت فى الأزل على هذا القول أمور كثيرة ، ولا معنى للقديم إلا
__________________
ذلك. وأما القول
بقديم سوى ذات الله تعالى وصفاته. فقد اتفق المسلمون على إنكاره ، لكنهم عولوا فيه
على السمع ، لأن دليل التمانع لا يدل إلا على نفى الإلهين. فأما على نفى قديم غير
قادر ، ولا حي ، فلا.
وأما الحرانيون
فقد أثبتوا خمسة من القدماء اثنان حيان فاعلان ، وهما البارى والنفس. وعنوا بالنفس
ما يكون مبدأ للحياة ، وهى الأرواح البشرية والسماوية. وواحد منفعل غير حي وهو
الهيولى. واثنان لا حيان ، ولا فاعلان ، ولا منفعلان ، وهما الدهر والفضاء.
أما قدم البارى
تعالى فالدليل عليه مشهور.
وأما قدم النفس
والهيولى فهو بناء على أن كل محدث مسبوق بمادة
__________________
فقالوا : لو كانت
النفس حادثة لكانت مادية ، ومادتها إن كانت حادثة افتقرت إلى مادة أخرى ، لا إلى
نهاية. وان كانت قديمة ، فهو المطلوب.
وأما الهيولى فإن
كانت حادثة لزم التسلسل ، وإن كانت قديمة فهو المطلوب.
وأما الدهر فهو
الزمان وهو غير قابل للعدم ، لأن كل ما صح عليه العدم ، كان عدمه بعد وجوده ،
بعدية زمانية ، فيكون الزمان موجودا حال ما فرض معدوما وهذا محال ، فإذا قد لزم من
فرض عدم الزمان محال لذاته ، فيكون واجبا لذاته.
وأما الفضاء فهو
أيضا واجب لذاته ، لأن الواجب لذاته هو الّذي يشهد صريح الفطرة بامتناع ارتفاعه.
والفضاء كذلك ،
لأنه لو ارتفع ، لما بقيت الجهات متميزة بحسب الإشارات وذلك غير معقول.
__________________
مسئلة (ج):
زعم عبد الله بن
سعيد منا أن القدم صفة ، وزعمت الكرامية أن الحدوث صفة ، وهما باطلان. لأن القدم
لو كان صفة ، لكانت قديمة. والحدوث لو كان صفة ، لكانت حادثة ، فيلزم التسلسل.
مسئلة (د):
زعمت الفلاسفة :
إن كل محدث فهو مسبوق بمادة ، ومدة. أما المادة ، فلأن المحدث مسبوق بالإمكان ،
وهو صفة وجودية مغايرة لصحة اقتدار القادر عليه ، لأن صحة اقتدار القادر عليه
موقوفة على كون الشيء ممكنا فى نفسه ولو كان إمكانه ، نفس صحة اقتدار القادر عليه
، لزم توقف الشيء على نفسه فثبت ان الإمكان صفة موجودة ، وهى سابقة على وجود
الممكن ، فيستدعى محلا وهو المادة والجواب عنها ما مر فى مسئلة المعدوم.
وأما المدة فقالوا
: كل محدث فعدمه قبل وجوده. فتلك القبلية
__________________
ليست نفس العدم
فإن العدم قبل ، كالعدم بعد. وليس القبل بعد ، فهى صفة وجودية فتستدعى موصوفا
موجودا. فقبل ذلك الحادث شيء موصوف بالقبلية لا إلى أول.
فههنا قبليات لا
أول لها. والّذي يلحقه القبلية لذاته هو الزمان. فهنا أزمنة لا أول لها.
والجواب : إن تقدم
عدم الحادث على وجوده ، لو وجب أن يكون بالزمان ، لكان تقدم عدم كل واحد من أجزاء
الزمان على وجوده بالزمان. ولكان تقدم البارى تعالى على هذا الجزء من الزمان
بالزمان فيلزم أن يكون الله تعالى زمانيا ، وأن يكون الزمان زمانيا وهما محالان.
مسئلة (ه):
العدم لا يصح على
القديم. ولما كانت هذه المسألة احدى مقدمات مسئلة الحدوث لا جرم رأينا أن نذكر
برهانها هناك.
__________________
تقسيم الممكنات على
رأى الحكماء
إن الحال قد يكون
سببا لقوام المحل ، إما بأن يقتضي حلول نفسه فى المحل بشرط وجود المحل بالحال ثم
أن يصير نفسه حالة فيه ، أو بأن يقتضي الأثر حلول مؤثره فيه. وعلى التقديرين لا
يلزم الدور.
فالمحل المتقوم
بنفسه المقوم لما يحل فيه يسمى بالهيولى. والمحل الّذي لا يتقوم بما يحل فيه يسمى
بالموضوع ، فهو أخص من المحل ، فيكون عدمه أعم من عدم المحل.
إذا عرفت ذلك
فنقول : الممكن ، إما أن يكون فى الموضوع وهو العرض ، أو لا يكون ، وهو الجوهر.
والجوهر إما أن يكون فى محل وهو الصورة ، أو يكون محلا وهو الهيولى أو مركبا من
__________________
الصورة والهيولى
وهو الجسم فقط ، بالاستقراء ، أو لا حالا ولا محلا ولا مركبا منهما ، وهو إما أن
يكون متعلقا بالجسم تعلق التدبير ، وهو النفس ، أو لا يكون وهو العقل.
وأما العرض ، فهو
إما أن يقتضي نسبة أو قسمة ، أو لا نسبة ، ولا قسمة.
أما النسبة فسبعة
أقسام : الأين وهو الحصول فى المكان. والمتى وهو الحصول فى الزمان ، أو فى طرفه
والمضاف وهو النسبة المتكررة والملك ، وهو كون الشيء محاطا بغيره الّذي ينتقل
بانتقاله. وان يفعل وهو التأثير ، وان ينفعل وهو التأثر. والوضع وهو الهيئة
الحاصلة للجسم بسبب ما بين أجزائه من النسب وما بين تلك الأجزاء وبين الأمور
الخارجية عنها من النسب.
أما العرض الّذي
يقتضي القسمة : فإما أن يكون بحيث ينقسم إلى
__________________
أجزاء مشتركة فى
حد واحد ، وهو الكم المتصل أو لا يشترك فى حد واحد ، وهو الكم المنفصل.
أما المتصل ، فإما
أن تكون الأجزاء المفترضة فيه ، بحيث توجد معا. وإما أن لا يكون كذلك.
فالأول هو الكم
المتصل القار الذات ، وهو إما أن يكون ذا بعد واحد ، وهو الخط أو ذا بعدين ، وهو
السطح أو ذا ثلاثة أبعاد وهو الجسم التعليمى.
وأما الّذي لا
يكون قار الذات فهو الزمان فقط.
وأما الكم المنفصل
فهو العدد.
وأما العرض الّذي
لا يقتضي قسمة ولا نسبة فهو الكيف وأقسامه أربعة :
__________________
أحدها ـ المحسوسات
بالحواس الخمسة.
وثانيها ـ الكيفيات
النفسانية.
وثالثها ـ التهيؤ
، إما للدفع وهو القوة أو التأثر وهو اللاقوة
ورابعها ـ الكيفيات
المختصة بالكميات.
أما المتصلة ،
كالاستقامة ، والانحناء.
وأما المنفصلة
كالأولية والتركيب.
أما المتكلمون فقد
أنكروا وجود الأعراض النسبية. أما الإضافة ، فلأنها لو كانت موجودة ، لكانت فى محل
، وحلولها فى محلها نسبة بين ذاتها وبين ذلك المحل ، فكانت غير ذاتها. وذلك الغير
أيضا يكون حالا فى المحل فيكون حلوله زائدا عليه ولزم التسلسل ولأن كل حادث يحدث
فإن الله تعالى يكون موجودا معه فى ذلك الزمان فلو كانت تلك المعية صفة وجودية لزم
حدوث الصفة فى ذات الله تعالى وهو محال. ولأن الإضافة لو كانت صفة موجودة ، لكان
وجودها غير ماهيتها
__________________
بناء على أن
الوجود وصف مشترك فيه بين كل الموجودات ، فحصول وجودها لماهيتها إضافة بين وجودها
وماهيتها وتلك الإضافة سابقة على تحقق الإضافة الموجودة ، فيكون الشيء موجودا قبل
نفسه ، هذا خلف.
وأما نسبة الشيء
إلى الزمان ، فلو كانت صفة وجودية ، لكان لها نسبة أخرى إلى ذلك الزمان ، ولزم
التسلسل.
وكذا التأثير ، لو
كان صفة زائدة ، لكانت تلك الصفة ممكنة بذاتها مفتقرة إلى مؤثر ، فكان تأثير
المؤثر فيها صفة أخرى ، ولزم التسلسل.
وكذا القبول لو
كان صفة زائدة لكانت موصوفية الذات بها صفة أخرى ولزم التسلسل.
أما الحكماء فقد
احتجوا على ثبوت هذه النسب بأن كون السماء فوق الأرض مثلا أمر حاصل سواء وجد الفرض
والاعتبار أو لم يوجد ، وهو ليس أمرا عدميا ، لأن الشيء قد لا يكون فوقا ، ثم يصير
__________________
فوقا. فالفوقية
التى حصلت بعد العدم ، لا تكون عدمية وإلا لكان نفى النفى نفيا ، وهو محال.
فالفوقية أمر ثبوتى ، وليست هى نفس الذات ، لأن الجسم من حيث إنه جسم غير مقول
بالقياس إلى الغير ومن حيث انه فوق مقول بالقياس إلى الغير ، ولأن الشيء قد لا
يكون فوقا ثم يصير فوقا والذات باقية فى الحالتين والفوقية غير حاصلة فى الحالتين.
ثم أن معمرا من قدماء المتكلمين ، أثبت لقوة هذه الحجة هذه الأعراض النسبية ، ولم
يجد دافعا للتسلسلات المذكورة فالتزمها وأثبت أعراضا لا نهاية لها ، يقوم كل واحد
منها بالآخر.
قال المتكلمون :
هذا باطل ، لأن كل عدد موجود ، فله نصف ، ونصفه أقل من كله وكل ما كان أقل من غيره
، فهو متناه فنصفه متناه فى العدد. وكل ما نصفه متناه فى العدد فكله متناه ، لأنه
ضعف المتناهى.
__________________
قال معمر لا نسلم
أن كل عدد ، فله نصف ، بل ذلك من خواص العدد المتناهى. سلمناه لكن لم قلتم : أن كل
ما كان أقل من غيره فهو متناه ، أليس أن مقدورات الله تعالى أقل من معلوماته ،
وتضعيف الألف مرارا لا نهاية لها أقل من تضعيف الألفين مرارا لا نهاية لها.
ونحن نقول حجة
الفلاسفة على إثبات النسب يقتضي كون التقدم والتأخر صفتين موجودتين ، وذلك محال.
لأن الاضافتين توجدان معا فالقبلية والبعدية لا يوجدان إلا معا فمحلاهما يوجدان
معا فالقبل موجود مع البعد ، هذا خلف. ولأنا نحكم على اليوم الماضى فى اليوم
الحاضر ، بكونه ماضيا. والمفهوم من كونه ماضيا ، ليس أمرا سلبيا لأنه صار ماضيا
بعد ما لم يكن ماضيا فهو إذن ثبوتى وليس ثبوته فى الذهن فقط.
__________________
فإنا لو فرضنا عدم
الفرض والاعتبار فذلك اليوم ماض فى نفسه ، وليس عبارة عن نفس ذلك اليوم ، لأنه حين
كان حاضرا ، لم يكن ماضيا ، فيلزم أن يكون وصف كونه ماضيا ، عرضا حقيقيا قائما به
، حال عدمه ، فيكون الموجود قائما بالمعدوم وهو محال.
وأما الوضع فهو
كهيئة الجلوس مثلا فإن أريد به ما لكل واحد من أجزاء الجسم من الأين ومماسة الغير
، فلا نزاع فى ثبوته وإن عنى به أمرا وراء ذلك قائما بمجموع الأجزاء ، فهو محال ،
لاستحالة حلول الواحد فى المحال الكثيرة.
لا يقال لم لا
يجوز أن يقال : إنه عرضت لمجموع تلك الأجزاء وحدة باعتبارها صارت واحدة. وحينئذ لا
يلزم من قيام هيئة الوضع بها قيام الواحد بالمحال الكثيرة.
لأنا نقول الإشكال
فى كيفية قيام تلك الوحدة بها كالإشكال فى قيام هيئة الوضع بها. فإن كان ذلك بسبب
وحدة أخرى سابقة ، لزم التسلسل.
__________________
وكذا القول فى
الملك.
وأما الكميات
المتصلة فقيل لا معنى للسطح إلا نهاية الجسم. ونهاية الشيء هى أن يفنى ذلك الشيء
وفناء الشيء لا يكون أمرا وجوديا.
وكذا القول فى
الخط والنقطة. وأيضا السطح لو كان عرضا حالا فى الجسم المنقسم فى الجهات الثلاث.
والحال فى الشيء الّذي يكون كذلك ، منقسم فى الجهات الثلاث فالسطح منقسم فى الجهات
الثلاث فكان جسما ، هذا خلف.
أما الزمان : وهو
مقدار الحركة عند أرسطاطاليس ، فقد احتجوا على أنه لا يجوز أن يكون موجودا بأمور.
أولها
: أنه لو كان موجودا
، لكان إما أن يكون موجودا قار
__________________
الذات ، فيكون
الحاضر عين الماضى فيكون الحادث اليوم حادثا زمان الطوفان ، هذا خلف ؛ أو لا يكون
قار الذات. وحينئذ يقضى العقل بأن جزأ منه كان موجودا ، ولم يبق الآن وإن جزأ منه
حصل الآن والماضى والآن هو الزمان ، فيلزم منه وقوع الزمان فى الزمان. فلو كان
الزمان أمرا وجوديا ، لزم التسلسل وهو محال.
وثانيها
: أن الزمان إما
الماضى أو المستقبل أو الحال ولا شك فى أن الماضى والمستقبل معدومان إما الحال فهو
الآن ، وهو اما أن يكون منقسما ، أو لا يكون. فان كان منقسما لم توجد أجزاؤه معا. فلا
يكون الّذي فرضناه موجودا موجودا ، هذا خلف وإن لم يكن منقسما كان عدمه دفعة ، لا
محالة. وعند فنائه يحدث أمر آخر دفعة ، فيلزم منه تتالى الآنات ، ويلزم منه تركب
الجسم من النقط المتتابعة ، هذا خلف.
وثالثها
: الزمان ، لو كان
موجودا لكان واجب الوجود لذاته.
__________________
وفساد التالى يدل
على فساد المقدم.
بيان الشرطية أنه
لو كان موجودا وفرضناه قابلا للعدم. فلنفرض أنه عدم فيكون عدمه بعد وجوده بعدية لا
توجد مع القبل. وهذه البعدية لا تتحقق إلا عند تحقق الزمان ، فإذا يلزم من فرض عدم
الزمان وجوده ، وذلك محال. فإذا مجرد فرض عدمه يستلزم المحال فإذا فرض عدمه محال ،
فهو واجب لذاته. وإنما قلنا إنه يستحيل أن يكون واجبا لذاته ، لأن كل جزء منه حادث
ممكن والمجموع متقوم بالأجزاء ، والمتقوم بالممكن المحدث يستحيل أن يكون واجبا
لذاته.
ورابعها
: لو كان الزمان
موجودا لكان مقدارا لمطلق الوجود. فإنا كما نعلم بالضرورة أن من الحركات ما كانت
موجودة أمس ومنها موجود الآن ، ومنها ما يوجد غدا ، كذلك نعلم بالضرورة أن الله
تعالى كان موجودا بالأمس ، وانه موجود الآن ، وسيبقى موجودا
__________________
غدا. فإذا جاز
إنكار أحدهما جاز إنكار الآخر ، لكن يستحيل أن يكون مقدارا لمطلق الوجود. لأنه فى
نفسه إن كان متغيرا استحال انطباقه على الثابت. وإن كان ثابتا استحال انطباقه على
المتغير.
فإن قلت : نسبة
المتغير إلى المتغير هو الزمان ، ونسبة المتغير إلى الثابت هو الدهر ونسبة الثابت
إلى الثابت هو السرمد.
قلت هذا التهويل
خال عن التحصيل. لأنى قد دللت على أن مفهوم كان ويكون لو كان أمرا موجودا فى
الأعيان ، لكان اما أن يكون قار الذات ، فيلزم أن لا يوجد فى المتغيرات. وان كان
متغيرا استحال وجوده فى الثابت. وهذا التقسيم لا يندفع بالعبارات.
وخامسها
: وهو فى ابطال قول
أرسطاطاليس خاصة : ان الزمان : مقدار امتداد الحركة وامتداد الحركة لا وجود له فى
الأعيان ، لأن
__________________
الامتداد لا يحصل
إلا عند حصول جزءين والجزء ان لا يحصلان دفعة ، بل عند حصول الأول ، فالثانى غير
حاصل. وعند حصول الثانى ، فالأول فائت. وإذا لم يكن لامتداد الحركة وجود فى
الأعيان ، لم يكن لمقدار هذا الامتداد وجود ، لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم. وهذا
الوجه لخصه الامام الكبير أفضل الدين الغيلانى أطال الله بقاءه.
وأما الكميات
المنفصلة فليست أمورا وجودية ، لأنه لا معنى للعدد إلا مجموع الوحدات. والوحدة لا
يجوز أن تكون صفة وجودية زائدة على الذات ، وإلا لكان كل واحد من أشخاص تلك
الماهية ، أعنى ماهية الوحدة واحدا ، فيلزم التسلسل ولأن الاثنينية لو كانت
__________________
صفة واحدة وهى
قائمة بالوحدتين. فإما أن تكون بتمامها قائمة بكل واحدة من الوحدتين ، فيلزم قيام
الواحد بالاثنين ، فيلزم أن يكون كل واحدة وحدها اثنين ، وهو محال.
وإن توزعت على
الوحدتين كان القائم بكل واحدة من الوحدتين ، غير القائم بالأخرى ، فلم تكن
الاثنينية صفة واحدة ، بل مجموع أمرين. وإن جاز ذلك فلتجعل الاثنينية نفس تينك
الوحدتين.
أما الفلاسفة ،
فقد احتجوا على كون الوحدة صفة ثبوتية. بأن الإنسان الواحد يخالف العشرة فى مسمى
الواحدية ويشاركها فى مسمى الإنسانية. فالواحدية زائدة على الماهية ، وليست أمرا
عدميا ، لأنها لو كانت عدمية لكانت عدم الكثرة. فالكثرة إن كانت عدمية كانت الوحدة
عدم العدم ، فتكون ثبوتية ، وإن كانت وجودية ، فلا معنى للكثرة إلا مجموع الوحدات.
فإذا كانت الوحدة عدمية ، لزم أن
__________________
يكون مجموع
العدمات أمرا وجوديا ، وهو محال. فثبت بهذه الدلالة كون الوحدة والكثرة وصفين وجوديين
قائمين بالذات.
وأما الكيفيات ،
فالمختصة منها بالكميات غير موجودة ، لأن ما دل على بطلان وجود الكم دل على بطلان
ما يقوم به.
وأما الصلابة ،
فهى عبارة عن التأليف بناء على القول بالجوهر الفرد واللين عبارة عن عدم الممانعة
فيكون عدميا. والله أعلم.
تقسيم المحدثات
على رأى المتكلمين
المحدث اما أن
يكون متحيزا أو قائما بالمتحيز أو لا متحيزا ولا قائما به.
أما القسم الثالث
، فقد أنكره الجمهور من المتكلمين. وأقوى ما لهم فيه أنا لو فرضنا موجودا غير
متحيز ولا حالا فيه ، لكان
__________________
مساويا لذات الله
تعالى فيه. ويلزم من الاستواء فيه الاستواء فى تمام الماهية. وهذا ضعيف ، لأن
الاشتراك فى السلوب لا يقتضي التماثل. وإلا لزم تماثل المختلفات ، لأن كل مختلفين
، فلا بد وأن يشتركا فى سلب كل ما عداهما عنهما.
وأما المتحيز ،
فقد قال المتكلمون : إنه إما أن يكون قابلا للانقسام أو لا يكون قابلا والأول هو
الجسم والثانى هو الجوهر الفرد. وعند المعتزلة اسم الجسم لا يقع إلا على الطويل
العريض العميق. وعلى التفسير الّذي قلنا : الجسم ما فيه التأليف. وأقله جوهران ،
وهذا بحث لغوى.
وأما الحال فى
المتحيز فهو العرض. وهو اما أن يجوز اتصاف غير الحى به ، أو لا يجوز.
[ا] اما الأول فهو المحسوس بأحد الحواس الخمسة
__________________
والأكوان.
أما المحسوسات.
فمنها المحسوسة
بالبصر احساسا أوليا ، وهى الألوان والأضواء.
فأما الألوان
فالقدماء قالوا الخالص هو السواد. وأما البياض فهو إنما يتخيل من اختلاط الهوى
بالأجسام الصغار الشفافة كما فى الثلج والزجاج المدقوق ، ومنهم من اعترف بالبياض
كما فى بياض البيض المسلوق.
والمعتزلة قالوا :
الخالص هو السواد والبياض والحمرة والصفرة والخضرة.
أما الضوء فقيل
إنه جسم وهو خطأ لأن الأجسام متساوية فى الجسمية ، ومختلفة فى كونها مضيئة ومظلمة
وعند أبى على سينا : الضوء شرط وجود اللون ، وعندنا شرط صحة كونه مرئيا. أما
الظلمة فمنا من قطع بكونها ثبوتية. والأقرب أنها عدم الضوء عما من شأنه
__________________
أن يصير مضيئا ،
لأن فى الليل إذا جلس إنسان عند النار وآخر بعيدا عنها. فالبعيد يرى من كان قريبا
من النار ، ويرى الهواء المتوسط بينهما مضيئا ، والقريب لا يرى البعيد ، ويرى ذلك
الهواء مظلما.
ولو كانت الظلمة
صفة ثبوتية قائمة بالهواء لما اختلف الحال.
ومنها المحسوسة
بالسمع وهى الأصوات والحروف وهى كيفيات إما عارضة للأصوات كالسين والشين أو حادثة
فى آخر زمان حبس النفس ، وأول زمان إطلاقه كالباء ، والطاء. ومنه يظهر أن الحروف
غير الأصوات.
ومنها المحسوسة
بالذوق وهى الحرافة والمرارة والملوحة والحلاوة والدسومة والحموضة والعفوصة والقبض
والتفاهة.
تنبيه :
__________________
لا شك أن الحرافة
تفعل تفريقا والعفوصة قبضا فالمدرك بحس الذوق كله طعم محض ، أو أمر مركب من الطعم
، ومن تفريق الحاسة هذا يتوقف فيه.
ومنها المحسوسة
باللمس وهى الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة والثقل والخفة والصلابة واللين.
مسئلة (أ):
منهم من جعل
البرودة عدم الحرارة وهو خطأ لأنا نحس من البارد بكيفية مخصوصة ، فذلك المحسوس ليس
بعدم الحرارة لأن العدم لا يحس به ، ولا الجسم ، وإلا لكان الإحساس بالجسم حال
حرارته إحساسا بالبرودة.
مسئلة (ب):
الرطوبة ، ان كانت
عبارة عن اللاممانعة ، على ما يقوله الفلاسفة كانت عدمية ، وان كانت عبارة عن
سهولة الالتصاق ، كانت وجودية ،
__________________
واليبوسة فى
مقابلتها.
مسئلة (ج):
الثقل أمر زائد
على الحركة. لأن الثقيل المسكن فى الجو قسرا نحس بثقله. والزق المنفوخ المسكن تحت
الماء قسرا نحس بخفته مع عدم حركتهما.
مسئلة (د):
اللين معناه عدم
ممانعة الغامز فلا يكون وجوديا.
مسئلة (ه):
الملاسة عبارة عن
استواء وضع الأجزاء ، والخشونة عبارة عن كون بعضها أرفع وبعضها اخفض.
مسئلة (و):
من القدماء ، من
زعم أن هذه المحسوسات ، قد تبقى بعد مفارقة محالها قائمة بأنفسها ، وابطالها
بابطال انتقال الأعراض.
وأما الأكوان فقد
اتفقوا على أن حصول الجوهر فى الحيز أمر
__________________
ثبوتى ، فقيل هذا
الحيز ان كان معدوما فكيف يعقل حصول الجوهر فى المعدوم ، وإن كان موجودا ، فلا شك
أنه أمر يشار إليه ، فهو اما جوهر ، أو عرض فان كان جوهرا ، كان الجوهر حاصلا فى
الجوهر ، وهو قول بالتداخل ، وهو محال. اللهم إلا أن يفسر ذلك بالمماسة. ولا نزاع
فيها. وإن كان عرضا فهو حاصل فى الجوهر ، فكيف يعقل حصول الجوهر فيه.
مسئلة (ز):
اختلفوا فى أن ذلك
الحصول هل هو معلل بمعنى آخر؟ والحق عدمه لأن المعنى الّذي يوجب حصوله فى ذلك
الحيز ، إما أن يصح وجوده قبل حصوله فى ذلك الحيز ، أو لا يصح. فإن صح : فاما أن
يقتضي اندفاع ذلك الجوهر إلى ذلك الحيز ، أو لا يقتضي. فإن كان الأول كان ذلك هو
الاعتماد ، ولا نزاع فيه. وان كان الثانى لم يكن بأن يحصل بسبب ذلك المعنى فى حيز
أولى من حصوله فى غيره اللهم إلا بسبب منفصل. ثم يعود الكلام الأول فيه.
__________________
وأما إن لم يصح
وجوده إلا بعد حصول الجوهر فى ذلك الحيز ، كان وجوده متوقفا على حصول الجوهر فيه.
فلو كان حصول الجوهر فيه محتاجا إلى ذلك المعنى لزم الدور.
مسئلة :
الحركة عبارة عن
حصول الجوهر فى حيز بعد أن كان فى حيز آخر والسكون عبارة عن حصوله فى الحيز الواحد
أكثر من زمان واحد. فعلى هذا حصوله فى الحيز حال حدوثه ، لا يكون حركة ولا سكونا. وقيل
هو سكون ، وهو إنما يصح ، إذا قلنا الحركة عين السكون ، والبحث لفظى.
والاجتماع هو حصول
الجوهرين فى حيزين بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث ، والافتراق كونهما بحيث يمكن أن
يتخللهما ثالث. والدليل على وجود هذه المعانى ان الجوهر تحرك بعد أن لم يكن
__________________
متحركا. والتغير
من أمر إلى أمر يستدعى وجود الصفة.
لا يقال هذا متقوض
بما أن البارى تعالى كان عالما. بأن العالم سيوجد ، ثم صار عالما بأنه موجود. وكذا
لم يكن رائيا للعالم لاستحالة رؤية المعدوم ، ثم صار رائيا والأقوى أنه لم يكن
فاعلا للعالم ، ثم صار فاعلا. والفاعلية يمتنع أن تكون وصفا حادثا ، وإلا لافتقر
إلى احداث آخر ، ويلزم التسلسل.
وأيضا فالتغير
يكفى فى تحققه كون احدى الحالتين ثبوتية ، وأنتم ادعيتم أن الحركة والسكون كلاهما
ثبوتيان. لأنا نجيب عن الأول بأن التغير فى الاضافات ، لا يوجب التغير فى الذات ،
والصفات. وعن الثانى ان الحركة والسكون نوع واحد ، لأن المرجع بهما إلى الحصول فى
الحيز ، إلا أن الحصول ان كان مسبوقا بالحصول فى حيز آخر ، كان حركة ، وإن كان
مسبوقا بالحصول فى ذلك الحيز كان سكونا وإذا كان كل واحد منهما من نوع واحد ، وثبت
كون أحدهما ثبوتيا ، لزم أن يكون الآخر كذلك. وبهذا الطريق ثبت أن
__________________
حصول الجوهر فى
الحيز حال حدوثه أمر ثبوتى.
مسئلة :
زعم قدماء الأصحاب
أن الاجتماع والافتراق أمران مغايران للكون المخصص للجوهر بالحيز ، وهو ضعيف لأنا
متى عقلنا الجوهرين حاصلين فى الحيزين ، بحيث لا يمكن أن يتخللهما ثالث ، فقد
عقلناهما مجتمعين ، فلا حاجة إلى الزائد.
مسئلة :
اختلفوا فى أن
المحوى حال استقراره فى الحاوى المتحرك هل يكون متحركا أم لا؟ والأقرب أنه متحرك
بالعرض لا بالذات.
مسئلة :
الأكوان بأسرها
متضادة لأنها إن اقتضت الحصول فى حيز واحد ، كانت متماثلة ، فكانت متضادة ، وإن
اقتضت الحصول لا فى حيز واحد فلا شك فى تضادها ، لكنها قد تكون بحيث لا يصح
تعاقبها ، كالكون الّذي يقتضي الحصول فى الحيز الأول ، مع ما يقتضي الحصول فى
الحيز الثانى والثالث فما فوقه.
__________________
[ب] وأما الاعراض
التى لا يتصف بها غير الحى فأجناس :
منها الحياة.
واعلم أن المراد منها ان كان اعتدال المزاج ، أو قوة الحسى والحركة ، فهو معقول ،
وإن كان شيئا ثالثا ، فلا بد من إفادة تصوره ، ثم إقامة الدليل على ثبوته.
والجمهور زعموا
أنها صفة لأجلها يصح على الذات ان يعلم وان يقدر. واحتجوا بأنه لو لا امتياز الحى
عن الجماد بصفة ، وإلا لم يكن اتصاف الحى ، ويقدر أولى من الجماد.
واحتج ابن سينا فى
القانون بأن العضو المفلوج حي فحياته اما أن تكون قوة الحس والحركة أو قوة التغذية
أو نوعا ثالثا. والأول باطل لأن العضو المفلوج ليس له الحس والحركة. والثانى أيضا
باطل لأن قوة التغذية قد تبطل مع بقاء العضو المفلوج حيا ، ولأن القوة الغاذية
حاصلة للنبات ، ولا حياة له ، فثبت أن الحياة أمر ثالث.
__________________
والجواب عن الأول
: إنه معارض بأنه لو لا امتياز الذات الحية بما لأجله صح أن يصير حيا ، وإلا لم
يكن بأن يصير حيا أولى من غيره. وهذا يقتضي اشتراط الحياة بحياة أخرى. وكل ما هو
جوابهم هناك فهو جوابنا هاهنا.
وعن الثانى أن
معنى كون العضو المفلوج بقاء قوة التغذية.
قوله تبطل هذه
القوة مع بقاء الحياة قلنا لا نسلم. فلم لا يجوز أن يقال : إن القوة باقية ولكنها
عاجزة عن الفعل.
قوله الغاذية
حاصلة فى النبات قلنا : أنت تساعدنا على أن غاذية النبات والحيوان مختلفان
بالنوعية والماهية. والمختلفان لا يجب اشتراكهما فى الأحكام.
مسئلة :
القائلون بهذه
الصفة منهم من أثبت ان الموت صفة وجودية محتجا بقوله تعالى الّذي خلق الموت
والحياة ومنهم من لم يقل به ، وزعم أنه عبارة عن عدم الحياة عما من شأنه أن يكون
حيا ، وأجاب عن التمسك بالآية بأن الخلق هو التقدير ، ولا يجب كون المقدور
__________________
وجوديا والله
أعلم.
مسئلة :
البنية ليست شرطا
لوجود الحياة خلافا للمعتزلة والفلاسفة. لنا أن القائم بمجموع الأجزاء إما أن يكون
حياة واحدة ، أو القائم بكل جزء حياة على حدة. والأول يقتضي حلول العرض الواحد فى
المحال الكثيرة ، وهو محال. أما الثانى فمحال ، لأن الأجزاء متماثلة ، فلو توقف
جواز قيام الحياة بجزء واحد على جواز قيام الحياة بجزء آخر ، لكان الأمر من الجانب
الآخر كذلك ويلزم منه الدور وهو محال.
ومنها الاعتقادات
وهى أمور يجدها الحى من نفسه ، ويدرك التفرقة بينها وبين غيرها بالضرورة وهى : اما
أن تكون جازمة ، أو مترددة. أما الجازمة ، فان لم تكن مطابقة فهى الجهل. وان كانت
مطابقة ، فاما أن لا يكون عن سبب ، وهو اعتقاد المقلد أو عن سبب ، وهو اما نفس
تصور طرفى الموضوع والمحمول ، وهو البديهيات أو الإحساس ، وهو الضروريات أو
الاستدلال : وهو النظريات.
__________________
وأما الّذي لا
يكون جازما ، فإن كان التردد على السوية : فهو الشك ، وإن كان أحدهما راجحا ،
فالراجح : هو الظن ، والمرجوح : هو الوهم.
تنبيه
:
لما كانت مراتب
القوة والضعف غير محدودة كانت مراتب الظن والوهم كذلك.
مسئلة :
اختلفوا فى حد
العلم. وعندى أن تصوره بديهى ، لأن ما عدا العلم لا ينكشف إلا به ، فيستحيل ان
يكون غيره كاشفا له. ولأنى أعلم بالضرورة كونى عالما بوجودى. وتصور العلم جزء منه
، وجزء البديهى بديهى ، فتصور العلم بديهى.
مسئلة :
قيل العلم سلبى ،
وهو باطل لأنه لو كان كذلك ، لكان سلب ما ينافيه. والمنافى ان كان عدما كان هو عدم
العدم فيكون ثبوتيا وان كان وجوديا فعدمه يصدق على العدم ، فيكون العدم موصوفا
__________________
بالعالمية ، هذا
خلف.
وقيل انه انطباع
صورة مساوية للمعلوم فى العالم ، وهو باطل ، وإلا لزم أن يكون العالم بالحرارة
والبرودة حارا باردا. لا يقال ، المنطبع صورته ، ومثاله. لأنا نقول : الصورة
والمثال ان كان مساويا فى تمام الماهية للمعلوم ، لزم المحذور ، وإلا بطل قولهم.
نكتة أخرى :
يلزم أن يكون
الجدار الموصوف بالحرارة والبرودة عالما بهما. لا يقال حصول الماهية للشىء إنما
يكون إدراكا إذا كان ذلك الشيء مما من شأنه أن يدرك.
لأنا نقول : إن
كان الإدراك هو نفس الحصول ، فالمدرك هو الّذي له الحصول فكان الجدار من شأنه أن
يدرك لا من شأنه أن يكون له الحصول.
احتجوا بأنا نميز
بعض المعلومات عن بعض فوجب أن يكون ثابتا لأن العدم المحض ، لا تميز فيه وإذ قد لا
يكون المعلوم ثابتا فى
__________________
الخارج فهو إذن فى
الذهن.
جوابه هذا يقتضي
أن يكون المعلوم بتمام ماهيته حاضرا فى الذهن فمن تخيل البحر فقد حضر فى خياله
تمام ماهية البحر وذلك باطل بالبديهة.
وقيل إنه أمر
إضافى وهو حق لما إنه لا يمكننا أن نعقل كون الشيء عالما ، إلا إذا وضعنا فى
مقابلته معلوما ، ثم القائلون به منهم من سمى هذه الإضافة بالتعلق وأثبت أمرا آخر
يقتضي هذا التعلق.
ومنهم من قال
العلم عرض يوجب العالمية ، والعالمية حالة لها تعلق بالمعلوم فهؤلاء أثبتوا أمورا
ثلاثة. وأما نحن فلا نقول إلا بهذا التعلق. فاما العالمية والعلم فهما لم يثبتا
بدليل.
__________________
مسئلة :
اختلفوا فى أن
العلم الواحد هل يكون علما بمعلومين.
وعندى أنا إن
فسرنا العلم بنفس التعلق لم يصح ذلك ، لأنه يصح أن يعقل كون الشيء عالما باحد
المعلومين مع الذهول عن كونه عالما بالآخر ، ولو لا التغاير لما صح ذلك.
وإن فسرناه بما
يوجب التعلق لم يمتنع ذلك لأن العلم المتعلق بكون السواد مضادا للبياض ، إن لم يكن
هو بعينه متعلقا بهما لم يكن متعلقا بالمضادة التى بينهما ، بل بمطلق المضادة.
وليس كلامنا فى ذلك العلم ، بل فى العلم المتعلق بالمضادة المخصوصة ، وإن كان
متعلقا بهما ، فهو المطلوب.
ثم المجوزون منهم
من فصل ، فقال كل معلومين يصح ان يعلم أحدهما مع الذهول عن الآخر امتنع تعلق العلم
الواحد بهما وكل معلومين لا يصح العلم بأحدهما مع الذهول عن الآخر ، يجب أن يعلما
__________________
بعلم واحد.
وهذا التفصيل عندى
باطل ، لأن العلم بمضادة السواد والبياض ، لما ثبت أنه متعلق بالسواد والبياض مع
أنه يصح ان يعلم السواد وحده مع الجهل بالبياض. فقد تعلق ذلك العلم بأمرين يصح
العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر.
مسئلة :
المعلوم على سبيل
الجملة معلوم من وجه ومجهول من وجه والوجهان متغايران فالوجه المعلوم لا إجمال فيه
، والوجه المجهول غير معلوم البتة ، لكن لما اجتمعا فى شيء واحد ، ظن ان العلم
الجملى نوع مغاير للعلم التفصيلى.
مسئلة :
العلوم المتعلقة
بالمعلومات المتغايرة مختلفة خلافا لشيخى ووالدى رحمهالله.
__________________
لنا أن النظر فى
الدليل ينافى العلم بالمدلول ، ومشروط بالعلم بالدليل. ولأن اعتقاد قدم الجسم يضاد
اعتقاد حدوثه ، ومشروط بالعلم بماهية الجسم ، وماهية القدم والحدوث.
مسئلة :
العلوم كلها
ضرورية لأنها إما ضرورية ابتداء أو لازمة عنها لزوما ضروريا فإنه إن بقى احتمال
عدم اللزوم ، ولو على أبعد الوجوه ، لم يكن علما ، وإذا كان كذلك ، كانت بأسرها
ضرورية.
تنبيه :
اتفقوا على أنه لا
يجوز أن يكون العلم بالأصل كسبيا وبالفرع ضروريا ، وإلا فعند وقوع الشك فى الأصل
يحصل الشك فى الفرع ، فيصير الضرورى غير ضرورى ، هذا خلف.
مسئلة :
اختلفوا فى أن
اعتقاد الضدين يمتنع اجتماعهما لنفسهما ، أو لأمر يرجع إلى الصارف والأقرب أن
المنافاة ذاتية ، لأن الجزم بالثبوت ،
__________________
شرطه أن لا يكون
لنقيضه احتمال ثبوت فيستحيل تحققه دون هذا الشرط.
مسئلة :
منهم من قال :
المعدوم غير معلوم ، لأن كل معلوم متميز ، وكل متميز ثابت ، فكل معلوم ثابت. فما
ليس بثابت لا يكون معلوما.
فعورض بأن تخصيصه
باللامعلومية يستدعى تصوره ، لأن ما لا يتصور ، لا يصح الحكم عليه.
ثم أجابوا عما
ذكروه بأن المعدوم فى الخارج ثابت فى الذهن.
فقيل عليه الثابت
فى الذهن أخص من الثابت فيكون العدم هاهنا ثابتا وليس كلامنا فيه. وإنما الكلام فى
العلم بغير الثابت ، ولأن الثبوت الذهنى مشكل لأنا إذا علمنا أن شريك الله تعالى
معدوم. فحضور الشريك فى الذهن محال ، لأن الشريك هو الّذي يمتنع
__________________
وجوده لذاته.
والحاضر فى الذهن لا يكون كذلك.
فإن قلت الحاضر فى
الذهن تصور الشريك لا نفس الشريك.
قلت فقد عاد
الإشكال. لأن البحث إنما وقع عن متعلق هذا التصور ، فإنه ان كان نفيا محضا فكيف
يحصل التمييز؟ وان كان ثابتا فثبوته ، إما فى الذهن أو فى الخارج. وفيه ما مر.
مسئلة :
المشهور أن العقل
الّذي هو مناط التكليف هو العلم بوجوب الواجبات ، واستحالة المستحيلات. لأن العقل
لو لم يكن من قبيل العلوم لصح انفكاك أحدهما عن الآخر ، لكنه يستحيل أن يوجد عاقل
لا يعلم شيئا البتة أو عالم بجميع الأشياء ، ولا يكون عاقلا ثم ليس هو علما
بالمحسوسات ، لحصوله فى البهائم ، والمجانين ، فهو إذا علم بالأمور الكلية ، وليس
ذلك من العلوم النظرية ، لأنها مشروطة بالعقل ، فلو كان العقل عبارة عنها لزم
اشتراط الشيء لنفسه ، وهو محال ،
__________________
فهو إذا عبارة عن
علوم كلية بديهية ، وهو المطلوب.
فقيل عليه لم قلت
أن التغاير يقتضي جواز الانفكاك. فإن الجوهر والعرض يتلازمان. وكذا العلة
والمعلول.
سلمناه لكن العقل
قد ينفك عن العلم كما فى حق النائم واليقظان الّذي لا يكون مستحضرا لشيء من وجوب
الواجبات ، واستحالة المستحيلات. وعند هذا ظهر أن العقل غريزة يلزمها هذه العلوم
البديهية عند سلامة الحواس.
ومنها القدر
والمرجع بها فى حقنا إن كان إلى سلامة الأعضاء فهو معقول وإن كان إلى أمر ورائها
ففيه النزاع.
احتج أصحابنا بأن
حركة المختار متميزة عن حركة المرتعش وليس الامتياز إلا بهذه الصفة.
فيقال لهم متى
يثبت هذا الامتياز قبل الاتصاف بالفعل أو حال
__________________
الاتصاف بالفعل
والأول باطل على قولك لأن القدرة لا تثبت عندك قبل الفعل. والثانى ممنوع ، لأن
المرتعش كما لا يتمكن من ترك الحركة حال وجودها فالمختار لا يتمكن أيضا من تركها
حال وجودها لاستحالة أن يكون الشيء معدوما موجودا فى زمان واحد.
ويقال أيضا متى
يثبت هذا الامتياز حال ما خلق الله تعالى الحركة أو قبلها؟ والأول باطل لأن حصول
الفعل حال ما خلق الله تعالى ضرورى والثانى باطل لأن حصولها قبل أن خلقها الله
تعالى محال. وعلى التقديرين لا يثبت الاختيار.
ويقال للمعتزلة
متى يثبت هذا الاختيار عند استواء الدواعى أو عند رجحان أحدهما على الآخر.
__________________
والأول محال لأن
عند الاستواء يمتنع الفعل ، وعند الامتناع لا تثبت المكنة.
والثانى محال لأن
عند حصول الترجيح يجب الراجح ويمتنع المرجوح. وعلى هذا التقدير لا تثبت المكنة.
مسئلة :
القدرة مع الفعل
خلافا للمعتزلة لنا ان القدرة عرض فلا تكون باقية ، فلو تقدمت على الفعل لاستحال
أن يكون قادرا على الفعل. لأن حال وجود القدرة ، ليس إلا عدم الفعل. والعدم
المستمر يستحيل أن يكون مقدورا ، وخال حصول الفعل لا قدرة.
واحتجوا بأن
الكافر حال كفره مكلف بالإيمان فلو لم يكن قادرا على الإيمان حال كونه كافرا ، كان
ذلك تكليف ما لا يطاق. ولأن الحاجة إلى القدرة لأجل أن يدخل الفعل من العدم إلى
الوجود وحال حدوث الفعل قد صار الفعل موجودا فلا حاجة به إلى القدرة.
ولأنه لو وجب أن
تكون القدرة مع المقدور ، لزم : إما قدم العالم أو حدوث قدرة الله تعالى.
والجواب عن الأول
: أنه وارد عليكم أيضا لأنه حال حصول القدرة لا يمكنه الفعل ، وحال حصول الفعل لا
قدرة عليه.
__________________
فإن قلت إنه فى
الحال ليس مأمورا بأن يأتى بالفعل فى الحال بل بأن يأتى به فى ثانى الحال.
قلت : هذا مغالطة
لأن كونه فاعلا للفعل : اما أن يكون هو نفس صدور الفعل عنه ، واما أن يكون أمرا
زائدا عليه. فان كان الأول استحال أن يصير فاعلا قبل دخول الفعل فى الوجود. وإذا
كان كذلك ، استحال أن يقال : إنه مأمور بأن يفعل فى الحال فعلا لا يوجد إلا فى
ثانى الحال وان كان الثانى كانت تلك الفاعلية أمرا حادثا ، فيفتقر إلى الفاعل.
والكلام فى كيفية فعلها كالكلام فى الأول ، فيلزم التسلسل.
وعن الثانى إنه
منقوض بالعلة والمعلول ، والشرط والمشروط.
وعن الثالث أن
المؤثر فى وجود أفعال الله تعالى هو تعلق قدرته بها ، زمان حدوثها وأما التعلقات
السابقة ، فلا أثر لها البتة وهذا لا يمكن تحقيقه فى قدرة العبد لأنها غير باقية.
مسئلة :
القدرة لا تصلح
للضدين عندنا خلافا للمعتزلة. لنا أن القدرة
__________________
عبارة عن التمكن.
ومفهوم التمكن من هذا غير مفهوم التمكن من ذلك ولأن نسبة القدرة إلى الطرفين ، ان
كانت على السوية ، استحال أن تصير مصدرا للأثر ، إلا عند مرجح ، فلا يكون مصدرا
لأثر إلا المجموع ، فقبل هذا المرجح لم يكن ذلك قدرة على الفعل وإن لم تكن القدرة
على السوية لم تكن القدرة قدرة إلا على الراجح والله أعلم.
مسئلة :
عند أصحابنا العجز
صفة وجودية ، وهو مشكل لعدم الدليل. والّذي يقال ليس جعل العجز عبارة عن عدم القدرة
أولى من العكس ضعيف ، لانا نساعد على أن كليهما محتمل. وإنه لو لا الدليل لبقى ذلك
الاحتمال.
ومنها الإرادة
والكراهة. ومن الناس من زعم أن الإرادة عبارة
__________________
عن علم الحى
واعتقاده ، أو ظنه بأن له فيه منفعة ، وهو باطل. لانا نجد من أنفسنا ميلا مرتبا
على هذا العلم فيتغايران. والفرق بين الإرادة والشهوة أن الإنسان ينفر طبعه عن شرب
الدواء ثم يريده.
مسئلة :
منهم من قال : ان
إرادة الشيء كراهة ضده ، وهو باطل. لأنه قد يراد الشيء حالة الغفلة عن ضده.
مسئلة :
العزم عبارة عن
إرادة جازمة حصلت بعد التردد فيه. والمحبة عبارة عن الإرادة لكنها من الله تعالى
فى حق العبد إرادة الثواب ، ومن العبد فى حق الله تعالى إرادة الطاعة ، وأما الرضا
فقد قيل إنه الإرادة ، وقيل : إنه ترك الاعتراض.
مسئلة :
المنافاة بين
إرادتى الضدين ذاتية ، والصارف فيه ما تقدم فى باب الاعتقادات.
__________________
مسئلة :
الإرادات تنتهى
إلى إرادة ضرورية دفعا للتسلسل. وذلك يوجب الاعتراف باستناد الكل إلى قضاء الله
تعالى وقدره.
ومنها كلام النفس
، ولم يقل به أحد إلا أصحابنا. قالوا : الأمر والنهى والخبر أمور معقولة يعبر عن
كل واحد منها فى كل لغة بلفظة أخرى فهى معان مغايرة لهذه اللغات ، وليست عبارة عن
تخيل الحروف. لأن تخيلها تابع لها ، ويختلف باختلافها. وهذه الماهيات لا تختلف
البتة. وليس الأمر عبارة عن الإرادة ، لأن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد ، ويريد
ما لا يأمر به. وظاهر أنه ليس عبارة عن العلم والقدرة والحياة ، فلا بد من نوع آخر.
ومنها الألم
واللذة. أما الألم فلا نزاع فى كونه وجوديا ، ثم قال محمد بن زكريا : اللذة عبارة
عن الخلاص عن الألم ، وهو باطل ، بما إذا وقع بصر الإنسان على صورة مليحة ، فإنه
يلتذ بإبصارها ، مع أنه لم يكن له شعور بتلك الصورة قبل ذلك ، حتى تجعل تلك اللذة
__________________
حاصلة خلاصا عن
ألم الشوق إليها.
وزعم ابن سينا أن
اللذة إدراك الموافق ، والألم إدراك المنافى.
ويقرب قول
المعتزلة منه قالوا : لأن المدرك ان كان متعلق الشهوة كالحكة فى حق الأجرب كان
إدراكه لذة وإن كان متعلق النفرة ، كما فى حق السليم كان إدراكه ألما. ومثل هذا
الكلام لا يفيد القطع بأن الألم ليس إلا الإدراك.
واتفقت الفلاسفة
على أن تفرق الاتصال موجب للألم فى الحى وخالفتهم. لأن التفرق عدمى ، فلا يكون علة
للأمر الوجودى.
وزاد ابن سينا
سببا ثانيا ، وهو سوء المزاج. قال : لأن حد الألم إدراك المنافى. والحد ينعكس ،
فكل إدراك المنافى ألم. وهذه الحجة لفظية.
__________________
ومنها الإدراكات
وهى غير العلم لأنا نبصر الشيء ثم نغيب عنه فندرك تفرقة بين الحالتين مع حصول
العلم فيهما فالابصار غير العلم ، لكن الفلاسفة والكعبى وأبا الحسين زعموا أنه
عائد إلى تأثر الحدقة بصورة المرئى والمتكلمون محتاجون إلى القدح فى هذا الاحتمال
ليمكنهم بيان أنه تعالى سميع بصير.
مسئلة :
اختلفوا فى
الإبصار منهم من قال : إنه خروج الشعاع عن العين ، وهو باطل ، وإلا لوجب تشوش
الأبصار عند هبوب الرياح ، ولامتنع أن نرى نصف السماء الامتناع أن يخرج من حدقتنا
ما يتصل بكل هذه الأشياء ، أو يؤثر فى جميع الأجسام المتصلة بين حدقتنا وبينها.
__________________
ومنهم من قال
بالانطباع ، وهو باطل. وإلا لما أدركنا العظيم لامتناع انطباع العظيم فى الصغير.
ولما رأينا القريب على قربه والبعيد على بعده وهذان الوجهان ، إنما يلزمان على من
قال المرئى هو الصورة المنطبعة فقط.
أما من جعل انطباع
الصورة الصغيرة فى الحدقة شرطا لإدراك المرئى الكبير فى الخارج فلا يرد عليه ذلك.
مسئلة :
الإدراك عند سلامة
الحاسة وحضور المبصر ، وسائر الشرائط المشهورة غير واجب عندنا ، خلافا للمعتزلة
والفلاسفة.
لنا إنا نرى
الكبير من البعيد صغيرا. وما ذاك إلا لأنا نرى بعض أجزائه دون البعض مع استوائها
بأسرها فى كل الشرائط. ولأنا لما رأينا الجسم الكبير ، فقد رأينا كل واحد من أجزائه
، ويستحيل أن تكون رؤية كل واحد من تلك الأجزاء مشروطة برؤية الجزء
__________________
الآخر ، وإلا وقع
الدور. فرؤية كل واحد منها ، غنية عن رؤية الآخر.
واحتجوا بأنه لو
لم يجب ذلك ، لجاز أن يكون بحضرتنا شموس وجبال ، ونحن لا نراها.
والجواب أنه معارض
بجميع العاديات.
مسئلة :
اختلفوا فى أنه هل
يعتبر فى السمع وصول الهواء الحامل للصوت إلى الصماخ فعندنا إنه غير واجب خلافا
للفلاسفة والنظام.
لنا. لو كان كما
قالوه ، لما سمعنا كلام من يحول بيننا وبينه جدار صلب ، لأن الهواء النافذ فى مسام
ذلك الجدار ، لا يبقى على الشكل الأول ، الّذي باعتباره كان حاملا للحروف ، ولأنه
كان يجب أن لا ندرك جهات الصوت ، كما انا لما لم نلمس الشيء إلا حال وصوله
__________________
إلينا ، لا جرم لا
ندرك بمجرد اللمس جهة وصوله إلينا.
مسئلة :
إدراك الشم قد
يكون لتكيف الهواء المتصل بالخيشوم من الجسم ذى الرائحة وقد يكون لانفصال أجزاء
لطيفة منه ووصولها إلى خيشومنا كما فى المتبخرات. وقد يكون لتعلق القوة المدركة
بالرائحة ، وهى هناك. وهذا أضعف الاحتمالات. وأما إدراك الذوق فقد تقدم الكلام فيه
فهذه إشارة مختصرة إلى أقسام الأعراض.
فصل فى احكام الأعراض
، وهى اقسام :
مسئلة :
اتفق المتكلمون
والفلاسفة على امتناع الانتقال عليها ، لأن الانتقال عبارة عن الحصول فى حيز بعد
الحصول فى حيز آخر. وذلك إنما يعقل فى المتحيز.
__________________
والعمدة المشهورة
انا لو قدرنا العرض خاليا عن جميع الأوصاف الغير اللازمة فاما أن لا يحتاج حينئذ
إلى المحل أو يحتاج. والأول باطل لأنه حينئذ يكون غنيا بذاته عن المحل.
والغنى بذاته عن
المحل يستحيل أن يعرض له ما يحوجه إلى المحل لأن ما بالذات لا يزول لأجل ما بالعرض
، وإن احتاج ، فاما أن يحتاج إلى محل مبهم ، وهو محال ، لأن مقتضى الموجود فى
الخارج موجود فى الخارج والمبهم من حيث هو كذلك غير موجود فى الخارج أو إلى محل
معين فيلزم استحالة مفارقته عنه وهو المطلوب.
ولقائل أن يقول :
لم لا يجوز أن لا يحتاج إليه.
قوله لأن الغنى
بذاته عن المحل لا يعرض له ما يحوجه إليه.
قلنا الغرض عندنا
لا يصدق عليه أنه يجب أن لا يكون فى المحل ، حتى يكون ذلك منافيا لحصوله فى المحل
، بل يصدق عليه انه نظرا إلى ذاته لا يجب أن يكون فى المحل. وهذا لا ينافيه الحصول
فى
__________________
المحل لسبب منفصل.
سلمنا أنه يحتاج
إلى المحل لكن لم يحتاج إلى محل معين وما ذكروه منقوض باحتياج الجسم المعين إلى
مكان غير معين ولأن الواحد بالنوع معين ، فاحتياج الواحد بالشخص إلى المحل الواحد
بالنوع لا يوجب تعين المحل الواحد بالشخص.
مسئلة :
اتفق المتكلمون
على امتناع قيام العرض بالعرض ، خلافا للفلاسفة ومعمر لنا أنه لا بد من الانتهاء
بالآخرة إلى الجوهر. وحينئذ يكون الكل فى حيز الجوهر تبعا له وهو الأصل. فالكل
قائم به.
احتجوا بأن السواد
يشارك البياض فى اللونية ، ويخالفه فى السوادية والبياضية وما به الاشتراك غير ما
به الامتياز. فاللونية صفة مغايرة للسوادية قائمة بها وهما موجودان ، لأنه لا
واسطة بين الوجود والعدم فاللونية عرض قائم بالسوادية وأيضا كون العرض حالا فى
المحل ليس نفس العرض وليس نفس المحل ، لصحة أن يعقلا مع الذهول عن ذلك الحلول وليس
الحلول أمرا عدميا ،
__________________
لأنه نقيض
اللاحلول فيه فهو صفة قائمة بذلك العرض. ثم الكلام فيه كما فى الأول فههنا اعراض
لا نهاية لها ، يقوم كل واحد منها بالآخر.
والجواب عنها
بمقدمات تقدم تقريرها. والله أعلم.
مسئلة :
اتفقت الأشاعرة
على امتناع بقاء العرض ، لأن البقاء صفة ، فلو بقى العرض لزم قيام العرض بالعرض ،
ولأنه لو صح بقاء العرض ، لامتنع عدمه ، لأن عدمه بعد البقاء لا يجوز أن يكون
واجبا ، وإلا فقد انقلب الشيء من الإمكان الذاتى إلى الامتناع الذاتى ، بل يكون
جائزا فله سبب : وهو إما وجودى وإما عدمى.
أما الوجودى فأما
الموجب كما يقال إنه يفنى لطريان الضد ، وهو محال لأن طريان الضد على المحل مشروط
بعدم الضد الأول عنه ، فلو علل ذلك العدم به لزم الدور.
وأما المختار كما
يقال : الله تعالى يعدمه ، وهو محال لأن المعدم
__________________
عند الاعدام ، اما
أن يكون قد صدر عنه أمر ، أو لم يصدر. فإن صدر عنه أمر فتأثيره فى تحصيل أمر
وجودى. فهذا يكون إيجادا ، لا اعداما. وان لم يصدر عنه أثر ، فهو محال ، لأن
القادر لا بد له من أثر.
وأما العدمى فإن
ينتفى لانتفاء شرطه لكن شرطه الجوهر وهو باق والكلام فى كيفية عدمه كالكلام فى
كيفية عدم العرض.
فثبت انه لو صح
بقاؤه لامتنع عدمه ، لكنه قد يعدم ، فيمتنع بقاؤه. فقيل على الأول : لا نسلم أن
البقاء عرض سلمناه ولكن لم لا يجوز قيام مثل هذا العرض بالعرض وعلى الثانى لم لا
يجوز أن يجب عدمه بعد بقائه فى زمان معين. وهذا لأن العرض عندكم كان جائز الوجود
فى الزمان الأول ، ثم انقلب ممتنعا فى الزمان الثانى.
فلم لا يجوز أن
يبقى أزمنة كثيرة ، ثم ينتهى إلى زمان يصير فيه ممتنع الوجود لعينه ، وحينئذ ينتفى
لا لسبب.
__________________
سلمنا أنه لا بد
له من سبب ، لكن لم لا يجوز أن ينتفى لانتفاء الشرط : وهو أن تكون الأعراض الباقية
مشروطة بأعراض لا تبقى. فعند انقطاعها يفنى الباقى ولا يبقى فى دفع هذا الاحتمال
إلا الاستقراء الّذي لا يفيد إلا الظن.
ثم احتجوا على
جواز بقائها بأنها لما كانت ممكنة الوجود فى الزمان الأول فتكون كذلك فى الزمان
الثانى ، إذ لو جاز أن ينقلب الشيء الممكن لذاته فى زمان ، ممتنعا فى زمان آخر ،
لجاز أن ينقلب الممتنع فى زمان ، واجبا فى زمان آخر.
وعلى هذا يجوز أن
يكون العالم قبل وجوده ممتنع الوجود لعينه ، ثم انقلب واجبا لعينه. وعلى هذا
التقدير يلزم نفى الصانع ، تعالى عنه علوا كبيرا.
مسئلة :
اتفقوا على أن
العرض الواحد لا يحل فى محلين ، إلا أبا هاشم : فإنه قال : التأليف عرض واحد حال
فى محلين ووافقنا على أنه يستحيل قيامه بأكثر من محلين وجمع من قدماء الفلاسفة
زعموا
__________________
أن الإضافة عرض
واحد قائم بمحلين ، كالجوار والقرب.
لنا لو جاز فى
العقل أن يكون الحال فى هذا المحل عين الحال فى ذلك المحل لجاز أن يكون الحاصل فى
هذا المكان هو الحاصل فى ذلك المكان فيكون الجسم الواحد حاصلا فى مكانين. ولأنه
وافق على امتناع الحلول فى الثلاثة فيطالبه بالفرق ، وإحالة صعوبة التفكيك على
الفاعل المختار أولى من التزام هذا المحال ..
وأما الأجسام
فالنظر فى مقوماتها وعوارضها.
أما المقومات ففيها
مسائل :
مسئلة :
لا شك فى تركب
الأجسام المركبة عن الأجزاء ، أما البسيط المحسوس فلا شك فى أنه قابل للانقسام.
فالانقسام الممكن وهو إما أن يكون حاصلا بالفعل أو لا يكون كذلك وعلى التقديرين ،
فاما
__________________
أن يكون متناهيا
أو غير متناه ، فخرج من هذا التقسيم أربعة أقسام :
أحدها
: أن الجسم مركب من
أجزاء متناهية. كل واحد منها لا يقبل القسمة أصلا ، وهو قول جمهور المتكلمين.
وثانيها
: أنه مركب من أجزاء
غير متناهية بالفعل ، وهو قول النظام.
وثالثها
: انه غير مركب ،
لكنه قابل لانقسامات متناهية ، وهو قول مردود.
ورابعها
: إنه غير مركب لكنه
لا ينتهى فى الصغر إلى حد الا وبعد ذلك يكون قابلا للتقسيم ، وهو قول جمهور
الفلاسفة.
لنا وجوه :
الأول
أن النقطة
بالاتفاق أمر وجودى ، ولأن الخط يماس بها خطا آخر. وما يقع به التماس لا بد وأن
يكون أمرا وجوديا ثم إنها
__________________
غير منقسمة
بالاتفاق ، ولأنها طرف الخط. فلو كانت منقسمة لكان طرف الخط أحد نصفيها ، فلا يكون
الطرف طرفا هذا خلف ولأن موضع الملاقات من الكرة الحقيقية المماسة للسطح المستوى
الحقيقى غير منقسم ، وإلا لكان المنطبق منها على المستوى مستويا فكانت الكرة مضلعة
هذا خلف.
ثم هذه النقطة إن
كانت متحيزة فقد ثبت الجوهر الفرد وان كانت عرضا ، فمحلها إن كان منقسما لزم
انقسامها بانقسام محلها وان لم يكن منقسما فهو المطلوب.
الثانى
: الحركة لها وجود
فى الحاضر ، وإلا لم تكن ماضية ولا مستقبلة ، لأن الماضى : هو الّذي كان موجودا فى
زمان حاضر. والمستقبل : هو الّذي يتوقع صيرورته كذلك وما يمتنع حضوره لا يصير
ماضيا ولا مستقبلا. ثم ذلك الحاضر غير منقسم ، وإلا لكان بعض أجزائه قبل البعض ،
فعند حضور أحد البعضين لا يكون البعض الآخر موجودا فلا يكون الموجود موجودا هذا
خلف. فإذا
__________________
الجزء الحاضر من
الحركة غير منقسم ، وعند فنائه يحصل جزء آخر ، غير منقسم. فالحركة مركبة من أمور ،
كل واحد منها غير قابل للقسمة.
ثم نقول القدر
المقطوع من المسافة بكل واحد من تلك الأجزاء التى لا تتجزى ان كانت منقسمة كانت
الحركة إلى نصف تلك الحركة فتلك الحركة منقسمة ، هذا خلف وان لم يكن منقسما فهو
الجوهر الفرد.
الثالث
: لو تركب الجسم من
أجزاء غير متناهية لامتنع الوصول من أوله إلى آخره بالحركة إلا بعد الوصول إلى
نصفه ، ولامتنع الوصول إلى نصفه إلا بعد الوصول إلى ربعه. فإذا كانت المفاصل غير
متناهية ، وجب أن لا يصل المتحرك إلى آخر المسافة ، إلا فى زمان غير متناه وفساد
اللازم يدل على فساد الملزوم لا يقال هذا إنما يلزم على قول من يقول الأجزاء التى
لا نهاية لها حاصلة بالفعل.
__________________
ونحن لا نقول به ،
بل الجسم عندنا شيء واحد قابل لانقسامات غير متناهية.
لأنا نقول القول
بوجود واحد يقبل القسمة باطل لوجوه :
أحدها أن وحدته ان كانت نفس الذات أو من لوازمها امتنعت ازالتها
، إلا عند عدم الذات ، وإن كان من العوارض الزائلة ، فهو محال. لأن القائم بما
يقبل الانقسام ، قابل للانقسام. فالوحدة فى نفسها قابلة للانقسام فإن قامت بها
وحدة أخرى لزم التسلسل.
وان لم تقم بها
وحدة أخرى ، كانت تلك الوحدة منقسمة بالفعل. فالموصوف بها كذلك فالجسم منقسم
بالفعل.
وثانيها
: إنا إذا جعلنا
الماء الواحد ماءين. فالماء آن الحاصلان ، ان قلنا إنهما كانا موجودين قبل ذلك.
فمن المعلوم بالضرورة أن أحدهما ما كان عين الثانى ، فكان مغايرا له فالجز آن كانا
موجودين بالفعل. وإن قلنا إنهما ما كانا موجودين قبل ذلك. كان ذلك إحداثا لهذين
الماءين ، واعداما للماء الأول ، وهو باطل بالبديهة.
__________________
وثالثها
: ان كل جزء يمكن
فرضه فى الجسم فهو موصوف بخاصية غير حاصلة فى الجزء الآخر لأن مقطع النصف موصوف
بالنصفية ، ولا يتصف بها إلا هو وكذا مقطع الثلث والربع ، إذا كان لكل واحد من
المقاطع الممكنة خاصية بالفعل. وعندهم أن الاختصاص بالخواص المختلفة ، يوجب حصول
الانقسام بالفعل ، فلزم حصول الانقسامات بأسرها بالفعل.
احتجوا بأمور :
أحدها
: ان كل متحيز يفرض
، فإن الوجه الّذي منه يلاقى ما على يمينه غير الّذي منه يلاقى ما على يساره ،
فيكون منقسما.
وثانيها
: إنا إذا ركبنا
سطحا من أجزاء لا يتجزأ ، ثم نظرنا إليه
__________________
أبصرنا أحد وجهيه
دون الثانى. فالوجه المرئى غير الوجه الّذي ليس بمرئى فيكون منقسما.
وثالثها
: إنا إذا ركبنا خطا
من ستة أجزاء ، ووضعنا فوق طرفه الأيمن جزأ ، وتحت طرفه الأيسر جزأ ، ثم تحركا إلى
أن يصل كل واحد منهما إلى آخر المسافة ، فلا بد وأن يمر كل واحد منهما بالآخر. ولا
يمكن ذلك إلا بعد أن يتحاذيا ، وموضع التحاذى متصل الثالث والرابع. وإذا وقع الجزء
على ذلك الموضع ، فقد ماس بكل واحد من نصفيه نصف كل واحد منهما ، فيلزم التجزئة.
الجواب عن الكل أن
ما ذكرتموه يدل على تغاير جهات الجزء ، وذلك لا يوجب القسمة فى الذات ، فإن مركز
الدائرة يحاذى جملة أجزاء الدائرة ، مع أن المركز نقطة غير منقسمة.
مسئلة :
زعم ابن سينا أن
الجسم مركب من الهيولى والصورة. ومعناه :
__________________
إن التحيز صفة
حالة فى الشيء فالتحيز هو الصورة ، ومحله هو الهيولى. واحتج عليه بناء على نفى
الجوهر الفرد بأن الجسم فى نفسه واحد ، وهو قابل للانفصال. والقابل للشىء موجود مع
المقبول لا محالة والاتصال لا يبقى مع الانفصال. فالقابل للانفصال شيء مغاير
للاتصال.
جوابه لم لا يجوز
أن يقال الانفصال هو التعدد والاتصال هو الوحدة. فالجسم إذا انفصل بعد اتصاله ،
كان معناه : إنه صار متعددا بعد أن كان واحدا فالطارى والزائل هو الوحدة والتعدد ،
وهما عرضان والمورد هو الجسم.
مسئلة :
زعم ضرار والنجار
: أن ماهية الجسم مركبة من لون ، وطعم ، ورائحة ، وحرارة ، وبرودة ، ورطوبة ،
ويبوسة ، وهو باطل. لأن المتحيزات متساوية فى ماهية التحيز ، ومتباينة بألوانها ،
وطعومها ، وروائحها ، وما به الاشتراك غير ما به الامتياز. فالتحيز ماهية مغايرة
لهذه الصفات.
__________________
النظر الثانى فى
العوارض :
مسئلة :
اختلف أهل العالم
فى حدوث الأجسام. والوجوه الممكنة فيه لا تزيد على أربعة : فإنه إما أن يكون محدث
الذات والصفات ، أو قديم الذات والصفات ، أو قديم الذات محدث الصفات ، أو بالعكس.
أما الأول فهو قول
الجمهور من المسلمين ، والنصارى ، واليهود ، والمجوس.
وأما الثانى فهو
قول ارسطو ، وثاوفرسطس ، وثامسطيوس وبرقلس. ومن المتأخرين أبى نصر الفارابى وأبى
على ابن سينا. وعندهم ان السموات قديمة بذواتها وصفاتها المعينة ، لا الحركات
والأوضاع فإن كل واحد منها حادث ومسبوق بآخر لا إلى أول.
وأما العناصر
فالهيولى منها قديمة بشخصها ، والجسمية قديمة
__________________
بنوعها ، وسائر
الصور قديمة بجنسها ، أى كان قبل كل صورة صورة أخرى إلى غير بداية.
وأما الثالث فهو
قول الفلاسفة الذين كانوا قبل ارسطو بالزمان كثاليس ، وانكساغورس ، وفيثاغورس
وسقراط ، وقول جميع الثنوية كالمانوية ، والديصانية ، والمرقيونية ، والماهانية ثم
هؤلاء فريقان :
الفرقة
الأولى : زعموا أن تلك
المادة جسم. ثم زعم ثاليس : انه الماء ، لأنه قابل لكل صورة ، وزعم إنه إذا انجمد
صار أرضا. وإذا لطف صار هواء ومن صفوة الهواء تكونت النار ، ومن الدخان تكونت
السموات.
ويقال إنه أخذه من
التوراة ، لأنه جاء فى السفر الأول منه أن الله تعالى خلق جوهرا ، فنظر إليه نظر
الهيبة ، فذابت أجزاؤه ،
__________________
فصارت ماء. ثم
ارتفع منه بخار كالدخان ، فخلق منه السموات ، وظهر على وجه الماء زبد ، فخلق منه
الأرض. ثم أرساها بالجبال.
وزعم انكسيمانس
أنه الهواء ، وكون النار من لطافته ، والماء والأرض من كثافته.
وزعم ابريليطس أنه
النار ، وكون الأشياء عنها بالتكاثف.
وآخرون قالوا :
إنه الأرض ، وكون الأشياء عنه بالتلطيف.
وقال آخرون إنه
البخار ، وكون الهواء والنار عنه بالتلطيف والماء والأرض بالتكثيف.
وعن انكساغورس أنه
الخليط الّذي لا نهاية له ، وهو أجسام غير متناهية. وفيه من كل نوع أجزاء صغيرة ،
مثلا منه أجزاء على طبيعة اللحم. وأجزاء على طبيعة الخبز.
__________________
فإذا اجتمع من تلك
الأجزاء شيء كثير وصار بحيث يحس ويرى ظن أنه حدث. وهذا القائل بنى هذا المذهب على
انكار المزاج ، والاستحالة. وقال بالكمون والظهور ، وزعم بعض هؤلاء : ان ذلك
الخليط كان ساكنا فى الأزل ، ثم ان الله تعالى حركه ، فتكون منه هذا العالم.
وزعم ديمقراطيس أن
أصل العالم أجزاء صغيرة كرية الشكل ، قابلة للقسمة الوهمية ، دون القسمة
الانفكاكية ، متحركة لذواتها حركات دائمة. ثم اتفق فى تلك الأجزاء إن تصادمت على
وجه خاص ، فحصل من تصادمها على ذلك الوجه هذا العالم على هذا الشكل ، فحدثت
السموات والعناصر ، ثم حدث من الحركات السماوية امتزاجات هذه العناصر. ومنها هذه
المركبات.
وزعمت الثنوية أن
أصل العالم هو النور والظلمة.
__________________
الفرقة
الثانية : الذين قالوا : أصل
العالم ليس بجسم. وهم فريقان :
الفرقة
الأولى : الحرنانية. وهم
الذين أثبتوا القدماء الخمسة : البارى ، والنفس ، والهيولى والدهر ، والخلاء.
فقالوا : البارى
تعالى تام العلم والحكمة لا يعرض له سهو ، ولا غفلة ، ويفيض عنه العقل كفيض النور
عن القرص ، وهو الله تعالى يعرف الأشياء معرفة تامة.
وأما النفس ، فإنه
يفيض عنها الحياة فيض النور عن القرص لكنها جاهلة لا تعلم الأشياء ما لم تمارسها.
وكان البارى تعالى عالما بأن النفس ستميل إلى التعلق بالهيولى ، وتعشقها ، وتطلب
اللذة الجسمية ، وتكره مفارقة الأجسام ، وتنسى نفسها.
__________________
ولما كان من شأن
البارى تعالى الحكمة التامة ، عمد إلى الهيولى بعد تعلق النفس بها فركبها ضروبا من
التركيب ، مثل السموات والعناصر. وركب أجسام الحيوانات على الوجه الأكمل. والّذي
بقى فيها من الفساد ، فذلك لأنه لا يمكن ازالته. ثم إنه سبحانه وتعالى أفاض على
النفس عقلا وإدراكا ، وصار ذلك سببا لتذكر عالمها وسببا لعلمها بأنها ما دامت فى
العالم الهيولانى لم تنفك عن الآلام وإذا عرفت النفس ذلك ، وعرفت أن لها فى عالمها
اللذات الخالية عن الآلام ، اشتاقت إلى ذلك العالم ، وعرجت بعد المفارقة ، وبقيت
هناك أبد الآباد فى نهاية البهجة والسعادة.
قالوا وبهذا
الطريق زالت الشبهات الدائرة بين القائلين بالقدم والحدوث. فإن أصحاب القدم قالوا
: لو كان العالم محدثا ، فلم أحدثه الله تعالى فى هذا الوقت المعين ، وما أحدثه
قبل ذلك ولا بعده.
__________________
وان كان خالق
العالم حكيما ، فلم ملأ الدنيا من الآفات.
وأصحاب الحدوث
قالوا : لو كان العالم قديما لكان غنيا عن الفاعل. وهذا باطل قطعا ، لما نرى أن
آثار الحكمة ظاهرة فى العالم. وتحير الفريقان فى ذلك.
وأما على هذا
الطريق ، فالإشكالات زائلة لانا لما اعترفنا بالصانع الحكيم ، لا جرم قلنا بحدوث
العالم. فإذا قيل : ولم أحدث العالم فى هذا الوقت؟.
قلنا : لأن النفس
إنما تعلقت بالهيولى فى ذلك الوقت ، وعلم البارى تعالى ان ذلك التعلق سبب الفساد ،
إلا أنه بعد وقوع المحذور ، صرفه إلى الوجه الأكمل بحسب الامكان وأما الشرور
الباقية ، فإنما بقيت ، لأنه لا يمكن تجريد هذا التركيب عنها ، بقى هاهنا سؤالان :
__________________
أحدهما
: ان يقال لم تعلقت
النفس بالهيولى ، بعد أن كانت غير متعلقة بها. فإن حدث ذلك التعلق لا عن سبب فجوز
حدوث العالم بكليته لا عن سبب.
والثانى
أن يقال : فهلا
منع البارى تعالى النفس من التعلق بالهيولى؟ أجابوا عن الأول بأن هذا السؤال غير
مقبول من المتكلمين. لأنهم يقولون القادر المختار ، قد يرجح أحد مقدوريه على الآخر
من غير مرجح. فهلا جوزوا ذلك فى النفس.
وغير مقبول أيضا
من الفلاسفة. لأنهم جوزوا فى السابق أن يكون علة معدة للاحق فهلا جوزوا أن يقال :
النفس قديمة ولها تصورات متجددة ، غير متناهية. ولم يزل كل سابق علة للاحق ، حتى
انتهت إلى ذلك التصور الموجب لذلك التعلق.
وأجابوا عن السؤال
الثانى بأن البارى تعالى علم بأن الأصلح
__________________
للنفس أن تصير
عالمة بمضار هذا التعلق حتى انها بنفسها تمتنع عن تلك المخالطة.
وأيضا فالنفس
بمخالطتها الهيولى تكسب من الفضائل العقلية ما لم تكن موجودة لها. فلهذين الغرضين
لم يمنع البارى تعالى النفس من التعلق بالهيولى.
الفرقة
الثانية : أصحاب فيثاغورس ،
وهم الذين قالوا : المبادي هى الأعداد المتولدة عن الوحدات. قالوا : لأن قوام
المركبات بالبسائط ، وهى أمور كل واحد منها فى نفسه واحد. ثم تلك الأمور إما أن
تكون لها ماهيات وراء كونها وحدات أو لا تكون. فإن كان الأول كانت مركبة لأن هناك
تلك الماهية مع تلك الوحدة. وكلامنا ليس فى المركبات ، بل فى مباديها.
__________________
وان كان الثانى
كانت مجرد وحدات ، وهى لا بد وأن تكون مستقلة بأنفسها ، وإلا لكانت مفتقرة إلى
الغير ، فيكون ذلك الغير أقدم منها وكلامنا فى المبادي المطلقة ، هذا خلف. فإذا
الوحدات أمور قائمة بأنفسها ، فإن عرض الوضع للوحدة صارت نقطة ، فإن اجتمعت نقطتان
حصل الخط ، فإن اجتمع خطان حصل السطح. وإن اجتمع سطحان حصل الجسم ، فظهر أن مبدأ
الأجسام الوحدات.
وأما
القسم الرابع : وهو أن يقال : العالم قديم الصفات محدث الذات ، فذلك مما لا يقول به عاقل.
وأما جالينوس فإنه كان متوقفا فى الكل. لنا إن كانت الأجسام أزلية لكانت فى الأزل
اما متحركة أو ساكنة. والقسمان باطلان. فالقول بأزليتها باطل.
__________________
بيان الحصر : أن
الجسم ان كان مستقرا فى مكان واحد أكثر من زمان واحد ، فهو الساكن. وإن لم يستقر
كذلك كان متحركا. وإنما قلنا : أنه لا يجوز أن يكون متحركا لوجهين:
الأول
: إن ماهية الحركة
حصول أمر بعد فناء غيره فماهيتها تقتضى المسبوقية بالغير. والأزلية ماهيتها تقتضى
اللامسبوقية بالغير. فالجمع بينهما متناقض.
الثانى
: وهو أن كل واحد من
الحركات محدث ، فهو مفتقر إلى موجد فكل واحد منها مفتقر إلى الموجد فإذن لكل
الحركات موجد مختار. وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فلا بد له من أول. فلكل الحركات
أول ، وهو المطلوب وإنما قلنا إنها ليست ساكنة لوجهين :
الأول
: أنها لو كانت
ساكنة لكان اما أن يصح عليها الحركة أو
__________________
لا يصح والأول
محال. لأن صحة الحركة عليها يتوقف على صحة وجود الحركة فى نفسها. وقد دللنا على أن
وجود الحركة الأزلية محال. فثبت أنه لا تصح الحركة عليها ، فذلك الامتناع ان كان
لازما للماهية ، وجب أن لا يزول البتة ، فوجب أن لا تصح الحركة على الأجسام فيما
لا يزال. هذا خلف.
وإن لم يكن من
لوازم الماهية أمكن زواله فيكون الحركة عليه جائزة وقد أبطلناه.
الثانى
: أن السكون أمر
ثبوتى على ما دللنا عليه فنقول : لو كان ذلك السكون قديما لامتنع زواله ، لكنه
يزول ، فليس بقديم.
بيان الملازمة أن
القديم إن كان واجبا لذاته امتنع عدمه وإن لم يكن واجبا لذاته ، افتقر إلى مؤثر
ولا بد من الانتهاء إلى الواجب لذاته قطعا للتسلسل على ما سيأتى.
__________________
وذلك الواجب اما
أن يكون مختارا أو موجبا لا جائز أن يكون مختارا لأن فعل المختار محدث لاستحالة
إيجاد الموجود. والقديم ليس بمحدث ، فتعين أن يكون موجبا. فإن لم يتوقف تأثيره فيه
على شرط لزم من وجوب ذلك المؤثر وجوب ذلك الأثر.
وإن توقف على شرط
، فذلك الشرط ان كان ممكنا ، عاد التقسيم فى الحاجة ، وإن كان واجبا لزم من وجوب
العلة والشرط امتناع زوال ذلك القديم. واما أنه يمكن عدم السكون فهو مشاهد فى
الفلكيات والعنصريات. ولا جسم الا هذين عند الخصم. ومن أراد تعميم الدلالة ، فلا
بد له من بيان تماثل الأجسام.
ولما ثبت فساد كون
الجسم متحركا أو ساكنا فى الأزل فقد ثبت أن الجسم يستحيل أن يكون أزليا فإن قيل
الدعوى متناقضة لوجهين :
__________________
الأول
: ان امكان وجود
العالم ليس له أول ، وإلا فقد كان قبل ذلك محالا لذاته ، ثم انقلب ممكنا لذاته لكن
ذلك باطل ، لأن الإمكان للممكن ضرورى فيكون العالم قبل ذلك الوقت ممتنع الاتصاف
بالامكان لذاته ثم صار واجب الاتصاف به لذاته.
وإذا جوزتم ذلك
فجوزوا أنه كان ممتنع الاتصاف بالوجود لذاته ، ثم صار واجب الاتصاف به لذاته ،
ويلزمكم نفى الصانع وهو محال. ولأنه لو جاز أن ينقلب الممتنع لذاته ممكنا لذاته
لجاز ذلك فى شريك الإله وفى الجمع بين الضدين ، وهو يرفع الأمان عن القضايا
العقلية.
وإذا ثبت أنه لا
أول لإمكان وجود العالم ، كان القول بأنه ممتنع
__________________
الوجود فى الأزل
منافيا له ، فكان باطلا.
وثانيهما انكم اما أن تفسروا المحدث بأنه الّذي يكون مسبوقا بعدم
نفسه ، أو بأنه الّذي يكون مسبوقا بوجود الله تعالى أو بتفسير ثالث.
فإن كان الأول ،
فاما أن تريدوا به ان العدم سابق عليه بالعلية ، أو بالشرف أو بالمكان. والكل باطل
بالاتفاق. أو تريدوا به أن العدم سابق عليه بالطبع وهو مسلم لأن الممكن يستحق
العدم من ذاته ، والوجود من غيره. وما بالذات أسبق مما بالغير أو تريدوا به السبق
بالزمان ، وهذا يوجب قدم الزمان ، لأنه إذا لم يكن لمفهوم ذلك السبق أول وكان ذلك
المفهوم يقتضي تحقق الزمان ، لزم أن لا يكون للزمان أول ، ثم يلزم من قدم الزمان
قدم الحركة ، والجسم على ما هو معلوم.
__________________
فالقول بالحدوث
على هذا الوجه يوجب القدم.
وأما إن فسرتم
الحدوث بكونه مسبوقا بوجود الله تعالى. فإن أردتم به السبق بالعلية أو بالطبع أو
بالشرف فالكل مسلم. والسبق بالمكان باطل بالاتفاق.
وأما بالزمان ،
فإنه يوجب قدم الزمان على ما تقدم. وان أردتم بالحدوث معنى ثالثا فاذكروه لنتكلم
عليه.
نزلنا عن هذا
المقام لكن لا نسلم أن الجسم لو كان قديما لكان اما أن يكون متحركا أو ساكنا.
بيانه إن الحركة عبارة عن الانتقال من مكان إلى مكان والسكون هو الاستقرار فى
المكان الواحد. وهذان القسمان فرع الحصول فى المكان.
وعندنا العالم ليس
فى مكان فيستحيل وصفه بكونه متحركا أو ساكنا. وتحقيقه أنه لو كان للعالم مكان ،
لكان مكانه اما أن
__________________
يكون معدوما أو
موجودا والأول محال لأن حصول الموجود فى المعدوم محال. وإن كان موجودا ، فإما أن
يكون مشارا إليه بالحس أو لا يكون مشارا إليه بالحس فإن كان مشارا إليه بالحس.
فاما أن يكون متحيزا أو حالا فى المتحيز ، فلو كان متحيزا وحصل العالم فيه ، لكان
مكان الجسم جسما. وكل جسم تصح عليه الحركة والسكون فإذا تصح الحركة على مكان
العالم ، فلذلك المكان مكان آخر فيفضى إلى وجود أجسام لا نهاية لها ، وهو محال.
وبتقدير تسليمه ،
فالمقصود حاصل. لأن كلها أجسام فهى قابلة للحركة. وكل ما يتحرك فإنما يتحرك من
مكان إلى مكان. فإذا
__________________
لكل الأجسام مكان.
وذلك المكان لا يكون جسما ، لأن الخارج عن كل الأجسام لا يكون جسما وإن لم يكن
مشارا إليه استحال أن يكون مكانا للجسم ، لأن مكان الجسم هو الّذي يصح أن يتحرك
منه وإليه. وذلك لا محالة مشار إليه.
سلمنا الحصر ، لكن
لم لا يجوز أن يقال انها كانت متحركة قوله : الحركة تقتضى المسبوقية بالغير ،
والأزلية تنافيها.
قلنا الأزلية
تنافى وجود حركة معينة ، لكن لم قلتم إنها تنافى وجود حركة قبل حركة لا إلى أول.
أما الوجه الثانى
وهو أن المجموع فعل فاعل مختار. فله أول.
قلنا لا نسلم إنه
فعل فاعل مختار بيانه أن الموجب قد يتخلف عنه
__________________
الأثر ، إما لفوات
شرط أو لحضور مانع. فلم لا يجوز أن يقال المؤثر فى وجود هذه الحوادث موجب بالذات
إلا أن كل حادث يتقدمه شرط ، لأن يصدر عن العلة الموجبة حادث آخر بعده.
سلمنا أنه فعل
المختار لكن لم قلت : أن فعل المختار محدث. وذلك لأن وجود الحادث وصحة تأثير
المؤثر فيه ، ممكن أزلا وأبدا ، وإلا فقد كان ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا ،
وذلك محال.
وإذا كان كل واحد
منهما ممكنا أزلا كان تأثير القادر فى وجود الأثر جائزا أزلا.
سلمنا أن الأجسام
ما كانت متحركة. فلم لا يجوز كونها ساكنة.
قوله : امتناع
الحركة اما أن يكون لازما للماهية أو لا يكون.
__________________
قلنا الامتناع عدم
، فلا يعلل. سلمنا كونه معللا ، لكنه وارد عليكم أيضا فإن العالم يمتنع أن يكون
أزليا فهذا الامتناع ، ان كان لازما للماهية ، وجب أن يبقى ممتنعا أبدا ، وإن لم
يكن لازما ، كان هذا اعترافا بجواز كون العالم أزليا. وذلك يبطل قولكم.
أما الوجه الثانى
، فنقول لا نسلم كون السكون وصفا ثبوتيا ، سلمناه لكن لا نسلم افتقاره إلى المؤثر.
لأن علة الحاجة عندكم الحدوث فلا يمكنكم بيان افتقار هذا السكون إلى المؤثر ، إلا
إذا بينتم حدوثه ، وأنتم فرعتم حدوثه على هذه المقدمة ، فيصير دورا ، سلمناه ، لكن
لا نسلم أن القديم لا يعدم. فإن الله تعالى. قادر من الأزل إلى الأبد على ايجاد
العالم. فبعد أن أوجده ، ما بقيت تلك القادرية. لأن ايجاد الموجود محال : فقد عدم
ذلك التعلق القديم.
لا يقال : الله
تعالى قادر على إيجاده بواسطة أن يعدمه ، ثم يعيده
__________________
مرة أخرى.
لأنا نقول كلامنا
فى ذلك التعلق المخصوص ، أعنى تعلق قدرته بإيجاد العالم ابتداء. وهذا الّذي
ذكرتموه تعلق آخر. وأيضا ينتقض بأن الله تعالى كان عالما فى الأزل بأن العالم
معدوم. فإذا أوجده فقد زال ذلك العلم القديم.
والجواب عن الأول
إنه لا بداية لامكان حدوث العالم ، لكن لا يلزم منه صحة كون العالم أزليا ، كما
إنا إذا أخذنا هذا الحادث ، بشرط كونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، فإنه لا أول
لصحة وجوده مع هذا الشرط. والا فينتهى فى فرض التقدم إلى حيث ، لو وجد قبله بلحظة
لصار أزليا ، وذلك محال. ثم مع إنه لا بداية لهذه الصحة ، لم يلزم صحة كونه أزليا
لما أن الأزلية وسبق العدم بالزمان لا يجتمعان فكذا هاهنا.
وعن الثانى ان تقدم
عدم العالم على وجوده ، وتقدم وجود الله تعالى على وجود العالم عندنا ، كتقدم بعض
أجزاء الزمان على
__________________
البعض عندكم. فكما
ان ذلك التقدم ليس بالزمان ، وإلا لزم التسلسل. فكذا هاهنا.
وعن الثالث إنا
إذا فرضنا متحيزين متماسين فنعنى بالسكون بقاءهما على ذلك الوجه وبالحركة ان لا
تبقى تلك المماسة ، بل يصير كل واحد منهما مماسا لشيء آخر. وعلى هذا التفسير لا
حاجة إلى بيان ماهية المكان.
لا يقال لم لا
يجوز أن يقال العالم كان فى الأزل جسما واحدا والحركة والسكون بالتفسير الّذي
ذكرتموه لا يوجد إلا عند حصول الجزءين. لأنا نقول بينا أن الواحد يستحيل أن ينقسم.
فلما صار العالم منقسما الآن ، علمنا أنه لم يكن واحدا.
قوله : الأزلى
ينافى الحركة المعينة اما لا ينافى نوع الحركة
__________________
لا شخصها قلنا هذا
باطل. لأن الحركة ماهيتها بحسب نوعها مركبة من أمر يقضى ، ومن أمر حصل. فاذا
ماهيتها المتعلقة بالمسبوقية بالغير. وماهية الأزلية منافية لهذا المعنى فالجمع بينهما
محال.
قوله : لم لا يجوز
أن يكون المؤثر فى الحادث موجبا لا مختارا ، ويكون كل سابق شرطا لحصول اللاحق عن
ذلك الموجب.
قلنا سنقيم
الدلالة على فساده فى باب اثبات القادرية إن شاء الله تعالى.
قوله لم لا يجوز
أن يكون القديم فعلا لفاعل مختار.
قلنا قد تقدم
ابطاله.
قوله : لم لا يجوز
أن يكون ساكنا.
قلنا لما تقدم.
قوله : على الوجه
الأول ، الامتناع عدم فلا يعلل.
قلنا مماسة الجسم
أو مباينته لجسم آخر وصف وجودى لأنه نقيض اللامماسة التى هى وصف عدمى.
__________________
قوله : يلزمكم هذا
فى صحة العالم.
قلنا امتناع صحة
العالم فى الأزل معدوم محض ، فلا يصح الحكم عليه بالصفة الثبوتية ، أما هاهنا
السكون وصف ثبوتى ، فيصح التقسيم الّذي ذكرناه.
قوله علة الحاجة
الحدوث.
قلنا : بل الإمكان
وقد تقدم بيانه.
قوله تعلق قادرية
الله تعالى بايجاد العالم ، وتعلق علمه بأن العالم سيوجد قديم وقد عدم بعد وجود
العالم.
قلنا الموجود هو
القدرة ، والعالم ، وهما باقيان أزلا وأبدا.
أما الفلاسفة فقد
قالوا : كل محدث فلا بد له من علل أربعة :
__________________
الفاعل ، والمادة
والصورة ، والغاية. قالوا ونحن نبين من هذه الجهات ، امتناع حدوث العالم بالنظر
إلى هذه الأربعة.
اما بالنظر إلى
الفاعل فلأن العالم ، لو كان محدثا لكان له مؤثر قديم ، فتخصيص احداثه بالوقت
الّذي أحدثه فيه اما أن يكون لمرجح أو لا لمرجح. والأول باطل لأن النفى المحض لا
يعقل فيه الامتياز.
والثانى باطل لما
سبق أن ترجيح أحد طرفى الممكن على الآخر من غير مرجح محال.
وأما بالنظر إلى
المادة ، فلأن كل محدث فقد كان قبل حدوثه ممكنا ، والإمكان وصف ثبوتى فى الممكن ،
فيستدعى موصوفا ثابتا. وذلك هو المادة. ثم هى أن كانت حادثة افتقرت إلى مادة أخرى
ولزم اما التسلسل أو قدم المادة.
واما بالنظر إلى
الصورة ، فلأن الزمان لا يقبل العدم الزمانى ،
__________________
لأن كل محدث فعدمه
سابق على وجوده. ومفهوم ذلك السبق أمر مغاير للعدم. لأن العدم قد يكون قبل وبعد.
والقبل لا يكون بعد. فتلك القبلية صفة ثبوتية. فقبل أول الحادث حادث آخر. والكلام
فيه كما فى الأول. فقبل كل حادث حادث آخر لا إلى أول.
وأما بالنظر إلى
الغاية : فهو أن موجد العالم ، إن كان مختارا فلا بد له من غاية فى الايجاد ، فكان
مستكملا بذلك الايجاد ، فكان ناقصا لذاته وإن لم يكن مختارا كان موجبا لذاته ،
فيلزم من قدمه قدم الأثر.
والجواب عن الأول
ان ما ذكرتم منقوض باختصاص الكوكب بالموضع المعين من الفلك ، مع كونه بسيطا
واختصاص أحد جانبى المتمم بالثخن المخصوص ، والجانب الآخر بالرقة.
__________________
ثم الجواب الحقيقى
أن المقتضى لذلك الاختصاص تعلق إرادة الله تعالى باحداثه فى ذلك الوقت. وذلك
التعلق عندنا واجب فيستغنى عن المرجح.
لا يقال تخصيص
الاحداث بالوقت المعين يستدعى امتياز ذلك الوقت عن سائر الأوقات. وهذا يقتضي كون
الأوقات موجودة قبل ذلك الحادث.
لأنا نقول كما أنه
يجوز امتياز وقت عن وقت ، وان لم يكن للوقت وقت آخر. فلم لا يجوز امتياز العدم عن
الوجود من غير وجود الوقت.
وعن الثانى أن
الإمكان ليس وصفا وجوديا على ما مر وأيضا فالمادة ممكنة ، فيلزم أن يقوم امكانها
بمادة أخرى ، وهو محال.
فإن قلت المادة
قديمة ، فامكانها قائم بها أما امكان الحادث فلا يمكن قيامه به ، لاستحالة قيام
الموجود بالمعدوم.
قلت لو قام امكان
المادة بها لكان وجود المادة شرطا فى امكانها ،
__________________
لأن وجود المحل
شرط فى وجود الحال فلو كان امكان المادة قائما بها ، لكان امكانها مشروطا بوجودها.
لكن وجودها عرضى مفارق والموقوف على العرض المفارق مفارق. فالامكان عرضى مفارق ،
هذا خلف.
وعن الثالث أنك
لما قلت : كل محدث فعدمه سابق على وجوده ، فقد اعترفت بكون العدم موصوفا بالسابقية
والعدم لا يجوز أن يكون موصوفا بوصف وجودى لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم فيلزم
أن لا تكون السابقية وصفا وجوديا فبطل كلامكم بالكلية.
وعن الرابع إنا
سنبين أنه تعالى فاعل مختار.
مسئلة :
الأجسام بأسرها
متماثلة خلافا للنظام. واحتج أصحابنا بثلاثة
__________________
أوجه :
أحدها أن الأجسام بتقدير استوائها فى الأعراض تلتبس بعضها
بالبعض. ولو لا تماثلها ، لما كان كذلك.
والاعتراض أن هذه
الدلالة إنما يتم وتصح فى حق من تصفح جميع الأجسام وشاهد التباس كل واحد منها بكل
ما عداها. فأما قبل ذلك فليس إلا الرجم بالظن.
وثانيها
: إنها بأسرها
متساوية فى قبول جميع الأعراض فتكون متساوية فى الماهية.
والاعتراض أنه لم
يصح عندنا أن جرم النار قابل للكثافة الأرضية ، وإن جرم الفلك قابل للصفات
المزاجية وقصة إبراهيم عليهالسلام جزئية ، فلا تدل على الحكم الكلى.
وأيضا فلم لا يجوز
أن يقال ان الله تعالى خلق فى بدن إبراهيم عليهالسلام كيفية عندها يستلذ مماسة النار كما فى النعامة وغيرها ثم
__________________
بتقدير تسليم
استواء الكل فى قبول الاعراض ، فلا يلزم منه استوائها فى تمام الماهية ، لأن
الاشتراك فى اللوازم لا يدل على الاشتراك فى الملزومات.
وثالثها
: أن الجسم لا معنى
له إلا الحاصل فى الحيز والأجسام بأسرها متساوية فيه ، فتكون متساوية فى الماهية.
والاعتراض أن
الحصول فى الحيز ليس ذات الجسم ، بل حكما من أحكامها وقد ذكرنا أن التساوى فى
اللوازم لا يدل على التساوى فى الملزومات.
مسئلة :
الأجسام باقية
خلافا للنظام. لنا أنه يصح وجودها فى الزمان الأول ، فيصح فى الزمان الثانى
لامتناع الانقلاب من الإمكان الذاتى إلى الامتناع الذاتى وهو منقوض على قول
أصحابنا بالاعراض ولا يمكن الاعتماد فيه على الاستمرار فى الحس ، لما عرفت أن عند
تعاقب الأمثال ، يظنها الحس واحدا مستمرا ، ولأنه منقوض بالأكوان وعلى
__________________
قول أصحابنا
بالاعراض وما يقال أنا أعلم بالضرورة انى أنا الّذي كنت بالبكرة فهو بناء على نفى
النفس الناطقة ، ولأن هوية الحيوان المعين ، ليست عبارة عن الجسم فقط ، بل لا بد
فيه من اعراض مخصوصة وهى غير باقية. وإذا كان أحد أجزاء الهوية غير باق كانت
الهوية غير باقية.
مسئلة :
التداخل محال فى
الأجسام خلافا للنظام. لأنها متماثلة فلو تداخلت لارتفع الامتياز بالذاتيات
واللوازم والعوارض ، فيفضى إلى اتحاد الاثنين.
مسئلة :
الأجسام يجوز
خلوها عن الألوان والطعوم والروائح خلافا لأصحابنا. لنا أن الهواء لا لون له ولا
طعم له احتجوا بقياس اللون على الكون وبقياس ما قبل الاتصاف على ما بعده.
والأول خال عن
الجامع.
__________________
وأما الثانى ،
فعندنا يجوز خلوها عما لا يبقى بعد الاتصاف بها.
وأما الباقى فهو
لا ينتفى عن المحل ، إلا بضد يزيله عنه فإن صح هذا ظهر الفرق وإلا منعنا الحكم فى
الأصل.
مسئلة :
الأجسام مرئية
خلافا للفلاسفة. لنا أنا نرى الطويل العريض والطول لا يجوز أن يكون عرضا ، لأنه
ثبت كون الجسم مركبا من الأجزاء التى لا تتجزأ فلو كان الطول عرضا لكان محله الجزء
الواحد ، لاستحالة قيام العرض الواحد بأكثر من محل واحد فالجزء الموصوف بالطول
يكون أكبر مقدارا مما ليس موصوفا به فيكون الطويل قابلا للقسمة ، وهو محال وإذا
كان الطويل نفس الجوهر ، والطويل مرئى فالجوهر مرئى والاعتراض أنا ساعدنا
__________________
على اثبات الجوهر
الفرد. ولكن لا نسلم أن الطول نفس الجوهر ، وإلا لكان الجوهر الفرد طويلا ، فيعود
الانقسام ، بل هو عبارة عن تأليف الجواهر فى سمت مخصوص والتأليف عرض. فلم لا يجوز
أن يكون المرئى هو التأليف.
وأجيب عنه بأنا
نرى الطويل حاصلا فى الحيز. وذلك لا يعقل فى العرض. فعلمنا أن المرئى هو الجوهر
ويشبه أن يكون ذلك كلاما غير الأول.
مسئلة :
الخلاء جائز عندنا
، وعند كثير من قدماء الفلاسفة خلافا لارسطاطاليس ، واتباعه. والمراد من الخلاء
كون الجسمين ، بحيث لا يتماسان ولا يكون بينهما ما يماسانه.
لنا إذا رفعنا
صفحة ملساء عن مثلها ارتفع جميع جوانبها دفعة
__________________
واحدة ، وإلا وقع
التفكك فيها. وفى أول زمان الارتفاع خلا وسطها لأن حصول الجسم هناك لا يكون إلا
بعد مروره بالطرف فحال كونه فى الطرف لم يكن فى الوسط فيكون الوسط خاليا. ولأن
الجسم إذا انتقل إلى مكان فالمكان المنتقل إليه ، إن كان خاليا قبل ذلك ، فقد حصل
الغرض ، وإن كان مملوءا ، فالذى كان فيه ان لم ينتقل عنه ، لزم التداخل ، وإن
انتقل عنه ، فإما ان ينتقل إلى مكان الجسم الأول. ويلزم منه الدور ، لأنه يتوقف
حركة كل واحد منهما عن مكانه على حركة الآخر عن مكانه ، أو إلى مكان آخر والكلام
فيه كما فى الأول ، فيلزم أن البقة إذا تحركت أن يتدافع جملة كرة العالم ، وهو
باطل قطعا.
احتجوا بأن الخلاء
يحتمل التقدير ، فيكون مقدارا.
__________________
وجوابه أنا لا
نسلم أنه يحتمل التقدير على التحقيق بل على سبيل التقدير كما أنا نقول : لو كان
نصف قطر العالم ضعف ما هو الآن ، لكان ذلك المحيط واقعا خارج العالم ، لكن لما كان
ذلك على سبيل التقدير لم يلزم ثبوت مقدار خارج العالم. كذا هاهنا.
تنبيه :
الحركة فى الملأ
الّذي نسبة رقته إلى رقة الماء ، كنسبة زمان الحركة فى الخلاء إلى زمانها فى الماء
إنما يقع لا فى زمان ، إذا لم يكن استحقاقها للزمان لذاتها بل للعائق ، لكن ذلك
معلوم الفساد.
مسئلة :
الأجسام متناهية
خلافا للهند.
لنا إنا إذا فرضنا
خطا غير متناه ، وخطا آخر متناهيا موازيا للأول. فإذا مال المتناهى من الموازاة
إلى المسامتة ، فلا بد من نقطة هى أول نقطة المسامتة لكن ذلك محال ، إذ لا نقطة
يفرض الا وفوقها
__________________
نقطة أخرى فتكون
المسامتة مع الفوقانية قبل المسامتة مع التحتانية. فإذن فرض خط غير متناه يفضى إلى
هذا المحال ، فيكون محالا.
واحتج الخصم بأن
الأجسام ، لو كانت متناهية لكان الخارج عنها بأسرها : إما أن يتميز فيه جانب عن
جانب ، وإما أن لا يتميز فان كان الأول ، لم يكن ذلك عدما محضا ، لأن النفى المحض
لا خصوصية فيه ولا تحقق ، فكيف يحصل الامتياز ، بل لا بد وأن يكون أمرا وجوديا ولا
شك فى أنه أن يكون مشارا إليه فيكون مقدارا فيكون جسما فالخارج عن كل الأجسام جسم
هذا خلف.
واما أن لا يتميز
فيه جانب عن جانب ، فهذا محال ببداهة العقل.
__________________
لأن العقل الصريح
يشهد بأن الطرف الّذي يلى القطب الشمالى مثلا غير الّذي يلى القطب الجنوبى. فإنكار
ذلك مكابرة فى البديهيات.
الجواب ، أما
المتكلمون فقد سلموا أحيازا متميزة خارج العالم غير متناهية وزعموا أنها أمور
تقديرية غير موجودة. وهذا ضعيف ، لأن المقدر هو الّذي لا وجود له ، إلا فى الذهن
والّذي لا وجود له إلا فى الذهن ، إن لم يكن مطابقا للخارج ، كان ذلك فرضا كاذبا ،
وإن كان مطابقا ، لزم منه وجود الاحياز فى نفس الأمر. وحينئذ يعود الالزام.
وأما الحكماء
فإنهم أصروا على أن خارج العالم لا يتميز فيه جانب عن جانب وإن الحاكم بهذا التميز
هو الوهم لا العقل ، وحكم الوهم غير مقبول.
مسئلة :
العالم لا يجب أن
يكون أبديا خلافا للفلاسفة والكرامية لنا إنه لما
__________________
لم يكن أزليا وجب
أن لا يكون أبديا ، لأن ما لا يكون أزليا كانت ماهيته قابلة للعدم أبدا. وذلك
القبول من لوازم تلك الماهية فتكون الماهية قابلة للعدم أبدا.
أما الفلاسفة فقد
احتجوا بأمور :
أحدها
: ان المؤثر فى
العالم موجب بالذات ، فيلزم من دوامه دوام العالم.
وثانيها أنه لو عدم الزمان ، لكان عدمه بعد وجوده بعدية بالزمان ،
فيكون الزمان موجودا حال ما فرض معدوما ، هذا خلف.
وثالثها
: ان كل ما يقبل
العدم ، فإن إمكان عدمه حاصل قبل عدمه. وذلك الإمكان لا بد له من محل ، أى لا بد
من شيء محكوم عليه بأنه ممكن الاتصاف بذلك العدم. وليس هو وجود ذلك الشيء ، لأن
الّذي يمكن اتصافه بالشيء ، لا بد وأن يكون باقيا مع ذلك الشيء. ووجود ذلك الشيء
لا يتقرر مع عدمه. فاذا لا بد من شيء آخر يقوم به امكان عدمه وذلك هو الهيولى.
فاذا كل ما صح
__________________
عليه العدم ، فله
هيولى فلو صح العدم على الهيولى ، لافتقر إلى هيولى أخرى ، لا إلى نهاية وهو محال
فإذا الهيولى لا تقبل العدم ، ثم قد ثبت أن الهيولى لا تخلو عن الصورة الجسمية ،
فإذا عدم الجسم محال.
واحتج المسلمون
على وجوب أبدية العالم بأن عدم العالم بعد وجوده : إما ان يكون باعدام معدم ، أو
بطريان ضد ، أو بانتفاء شرط والثلاثة باطلة. فالقول بعدم العالم بعد وجوده محال.
وإنما قلنا إنه لا
يجوز أن يعدم باعدام معدم. لأن الاعدام إن كان أمرا وجوديا ، لم يكن ذلك الوجود
عين عدم العالم. وإلا لكان الوجود عين العدم ، بل غايته أنه يقتضي عدم الجوهر ،
فيكون ذلك إعداما بالضد. وليس هذا هو القسم الأول ، بل هو القسم
__________________
الثانى. وإن لم
يكن وجوديا كان عدما محضا ، فيمتنع اسناده إلى المؤثر ، لأنه لا فرق فى العقل بين
أن يقال لم يفعل شيئا البتة وبين أن يقال فعل العدم ، وإلا فيكون أحد العدمين
مخالفا للثانى. فيكون لكل واحد من العدمين تعين وثبوت ، فيكون العدم ثبوتيا ، هذا
خلف.
وإنما قلنا إنه لا
يجوز أن يعدم بحدوث الضد لوجهين :
الأول
أن حدوث الضد
يتوقف على انتفاء الضد الآخر فلو كان انتفاء ذلك الضد معللا بحدوث هذا الضد لزم
الدور. وهو محال.
الثانى
وهو أن التضاد
حاصل من الجانبين ، فليس انتفاء أحدهما بالآخر أولى من العكس فاما أن ينتفى كل
واحد منهما بالآخر
__________________
وهو محال. لأن
المؤثر فى عدم كل واحد منهما وجود الآخر والمؤثر حاصل مع وجود الأثر. فلو حصل
العدمان معا ، لحصل الوجودان معا ، فيكونان موجودين معدومين دفعة واحدة ، وهو
محال. أو لا ينتفى واحد منهما بالآخر ، فيلزم اجتماع الضدين.
لا يقال الحادث
أقوى من الباقى ، لأن الحادث حال حدوثه متعلق السبب والباقى ليس كذلك ، ولأن
الحادث حال حدوثه ، لو عدم ، لزم اجتماع الوجود والعدم بخلاف الباقى. ولأنه يجوز
أن يكون عدد الحادث أكثر فيكون أقوى.
لأنا نجيب عن
الأول بانا بينا أن الباقى حال بقائه أيضا متعلق السبب.
وعن الثانى أنا لا
نقول الحادث يوجد ويعدم معا ، بل نقول الباقى يمنع الحادث من الدخول فى الوجود.
وعن الثالث أنه
بناء على جواز اجتماع المثلين ، وهو محال.
__________________
وإنما قلنا أنه لا
يجوز أن يكون لقطع الشرط ، لأن ذلك الشرط ، لا يكون إلا العرض فيكون الجوهر محتاجا
إلى العرض ، وكان العرض محتاجا إلى الجوهر ، فيلزم الدور ، وهو محال.
والجواب عن
الثلاثة الأولى ما تقدم فى مسئلة الحدوث.
وعن الرابع أن
نقول : لم لا يجوز أن يعدم باعدام الفاعل.
قوله : الاعدام
اما أن يكون أمرا وجوديا أو لا يكون.
قلنا هذا يقتضي أن
لا يعدم الشيء البتة ، لأنه يقال إذا عدم الشيء فهل يتجدد أمر أو لم يتجدد. فإن لم
يتجدد أمر ، فهو لم يعدم. وإن تجدد ، فالمتجدد وجود أو عدم. لا جائز أن يكون عدما
، لأنه لا فرق بين أن يقال : لم يتجدد ، وبين أن يقال تجدد العدم. وإلا فأحد
العدمين يخالف الآخر ، وهو محال.
__________________
وإن كان وجودا كان
ذلك حدوثا لوجود آخر ، لا عدما للوجود الأول.
سلمنا فساد هذا
القسم. فلم لا يجوز أن يفنى بحدوث الضد.
قوله : فى الوجه
الأول حدوث الضد يتوقف على عدم الباقى قلنا لا نسلم. فإن عندنا عدم الباقى معلول
الحادث ، والعلة ، وإن امتنع انفكاكها عن المعلول ولكن لا حاجة بها إلى المعلول.
قوله فى الوجه
الثانى المضادة مشتركة بين الجانبين.
قلنا لم لا يجوز
أن يكون الحادث أقوى لحدوثه ، وإن كنا لا نعرف لمية كون الحدوث سببا للقوة.
__________________
سلمنا فساد هذا
القسم ، لكن لم لا يجوز أن يعدم الجسم لانتفاء الشرط. وبيانه : أن العرض لا يبقى ،
والجوهر ممتنع الخلو عنه. فإذا لم يخلق الله تعالى العرض ، انتفى الجوهر.
قوله يلزم منه
الدور قلنا لا نسلم ولم لا يجوز أن يقال الجوهر والعرض متلازمان ، وإن لم يكن
لأحدهما حاجة إلى الآخر كما فى المضافين ، ومعلولى العلة الواحدة ، فإذا لم يوجد
أحد المتلازمين وجب عدم الآخر وبالله التوفيق.
تقسيم الأجسام :
الجسم اما بسيط
وهو الّذي يشابه كل واحد من أجزائه كله فى تمام الماهية. وإما مركب وهو الّذي لا
يكون كذلك.
وأما البسيط فاما
فلكى وإما عنصرى.
أما الأجسام
الفلكية فقد زعمت الفلاسفة انها لا ثقيلة ولا خفيفة
__________________
ولا حارة ولا
باردة ولا رطبة ولا يابسة ولا يقبل الخرق والالتئام والكون والفساد.
واحتجوا بأن الجهة
مقصد المتحرك ، ومتعلق الإشارة ، فتكون موجودة ، لأن النفى المحض لا تميز فيه ،
وهى غير منقسمة ، وإلا لكان المتحرك ، إذا وصل إلى أحد نصفيها ، وبقى متحركا. فاما
أن يقال إنه الآن متحرك عن الجهة فتكون الجهة ذلك الحد لا ما ورائه ، أو إليها
فحينئذ لا يكون ذلك الحد من الجهة بل الجهة ما وراءه فثبت أن الجهة حد غير منقسم.
ثم بينوا أنه لا
بد من محدد كرى يحدد الفوق والتحت بمحيطه وبمركزه ثم قالوا وهذا المحدد غير قابل
للحركة المستقيمة ، وإلا
__________________
لكانت الجهتان ،
أعنى ما عنه وما إليه ، حاصلتين له لا به وإذا لم يكن قابلا للحركة المستقيمة لزم
أن لا يكون ثقيلا ولا خفيفا ، لأن الثقيل هو الّذي ينزل إلى الوسط والخفيف هو
الّذي يصعد عنه وذلك حركة مستقيمة وأن لا يقبل الخرق والالتئام. لأن ذلك حركة
مستقيمة. وإذا لم يقبل الخرق والالتئام كان بسيطا ، لأن كل مركب قابل للانحلال
البسيط ، وكل جزء يفرض فيه يمكن أن يحصل على الوضع الّذي حصل عليه الجزء الآخر.
وكل ما كان كذلك كان قابلا للحركة. وكل ما كان كذلك ، ففيه ميل بحركة. وكل
__________________
ما كان كذلك ، فهو
متحرك بالاستدارة وكل متحرك بالاستدارة فحركته ليست طبيعية ، وإلا لتحرك بالطبع
إلى ما هرب عنه بالطبع فيكون الطبيعة الواحدة طالبة للشيء الواحد ، وهاربة عنه ،
وهو محال ولا قصرية ، لأن القصر ما يكون على خلاف الطبع. وهناك لا طبع ، فلا قصر ،
فتلك الحركة إرادية ، فالسماء حيوان متحرك بالإرادة.
والجواب عن هذه
الكلمات مستقصى فى كتبنا الكلامية والحكمية.
وأما العناصر
فزعموا أن الأرض محفوفة بالماء ، والماء بالهواء والهواء بالنار. وانها كرات منطو
بعضها على البعض إلا الماء ، وزعموا أن الحركة مسخنة فالجرم الملاصق للفلك يجب أن
يكون فى غاية السخونة واللطافة ، وهو النار. والّذي يكون فى غاية البعد يجب أن
يكون فى غاية البرودة ، والكثافة ، وهو الأرض والّذي يلاصق النار وهو الهواء يكون
تاليا لها فى اللطافة. والّذي يلاصق الأرض وهو الماء يتلوها فى الكثافة. فهذا هو
الوصف المحكم فى ترتيب العناصر ، إلا أن هذا الكلام يقتضي أن يكون الأرض أبرد من
الهواء ،
__________________
وهو على خلاف
قولهم. وأن يكون النار فى غاية الرطوبة ، لأن الرطوبة عندهم مفسرة بسهولة قبول
الأشكال ، لا بسهولة الالتصاق بالغير ، وإلا لم يكن الهواء رطبا.
ثم زعموا أن هذه
الأربعة قابلة للكون والفساد. ولأن النار عند انطفائها تنقلب هواء ، والهواء إذا
برد صار ماء. ولذلك تجتمع قطرات الماء على طرف الكوز المبرد بالجمد. والماء ينقلب
أرضا والأرض ماء ، كما يفعله أصحاب الاكسير.
وأما المركبات
فزعموا أن هذه العناصر إذا اختلطت انكسرت سورة كيفية كل واحد منها بسورة كيفية
الآخر ، فتحصل كيفية متوسطة وهى المزاج.
والمتكلمون قالوا
: العلة مقارنة للمعلول. فإذا كان الكاسر لسورة كل واحد منهما هو سورة الآخر فإن
حصل الانكساران
__________________
معا دفعة واحدة
لزم حصول الكاسرين فى ذلك الزمان فيكون كل واحدة من تينك الكيفيتين فى ذلك الآن
منكسرة وغير منكسرة ، هذا خلف. وإن لم يوجد معا فهو محال ، لأن المغلوب لا يعود
غالبا.
لا يقال الكاسر هو
الصورة المقومة ، وهى باقية من غير انكسار ، والمنكسر : هو الكيفية ، وهى قابلة
للأشد والأضعف.
لأنا نقول الصورة
إنما تكسر بواسطة الكيفية الفائضة عنها فيعود المحذور المذكور فهذا تمام القول فى
الجواهر الجسمانية.
الجواهر الروحانية
وهى التى لا تكون
متحيزة ولا حالة فى المتحيزة.
وقد عرفت أن
الفلاسفة هم القائلون بها. وعرفت أقسامها ، فنقول اما الهيولى فقد سبق الكلام
فيها. وأما الأرواح البشرية ، فسيأتى القول فيها ان شاء الله تعالى. وأما النفوس
السماوية
__________________
والعقول ، فهى
الملائكة ، وقد تكلمنا على أدلتهم فى اثباتها.
القول فى الملائكة
والجن والشياطين :
قال المتكلمون :
إنها أجسام لطيفة قادرة على التشكل بأشكال مختلفة. والفلاسفة وأوائل المعتزلة
أنكروها. قالوا : لأنها إن كانت لطيفة بمنزلة الهواء وجب أن لا تكون قوية على شيء
من الأفعال وأن يفسد تراكيبها بأدنى سبب. وإن كانت كثيفة ، وجب أن تشاهدها ، وإلا
لجاز أن يكون بحضرتنا جبال شاهقة ولا نراها.
والجواب لم لا
يجوز أن تكون لطيفة بمعنى عدم اللون ، لا بمعنى رقة القوام.
سلمنا أنها كثيفة
، لكن بينا أن أبصار الكثيف عند الحضور غير واجب.
أما الفلاسفة فقد
زعموا أنها لا متحيزة ولا قائمة بالمتحيز. ثم
__________________
اختلفوا فالأكثرون
قالوا : انها ماهيات مخالفة بالنوع للأرواح البشرية. ومنهم من يقول الأرواح التى
فارقت الأبدان إن كانت شريرة كانت شديدة الانجذاب إلى ما يشاكلها من النفوس
البشرية فتتعلق ضربا من التعلق بأبدانها وتعاونها على أفعال الشر ، فذلك هو
الشيطان. وإن كانت خيرة كان الأمر بالعكس. والله أعلم بحقائق الأمور.
خاتمة فى أحكام
الموجودات
والنظر فيها من
وجهين :
الأول فى بيان
الوحدة والكثرة :
مسئلة :
كل موجودين فلا بد
وأن يتباينا بتعينهما. ثم المتكلمون أنكروا كون التعين أمرا ثبوتيا واحتجوا بأمور
:
__________________
الأول
أنه لو كان التعين
أمرا ثبوتيا ، لكان مساويا لسائر التعينات فى الماهية المسماة بالتعين ، ويمتاز كل
واحد منهما عن صاحبه بخصوصية ، فيلزم أن يكون للتعين تعين آخر إلى غير النهاية.
الثانى
وهو أنه لو كان
التعين أمرا ثبوتيا لاستحال انضمامه إلى الماهية إلا بعد وجود الماهية ، لكن
الماهية لا توجد إلا بعد التعين. فإن كان هذا التعين ، هو الأول لزم الدور ، وإن
كان غيره ، لزم أن يكون الشيء الواحد متعينا مرتين وهو محال.
الثالث
وهو أن التعين لو
كان أمرا مغايرا للماهية لاستحال أن يكون الوجود القائم بأحدهما هو الوجود القائم
بالآخر لاستحالة قيام الصفة الواحدة بمحلين بل يكون وجود كل واحد منهما غير وجود الآخر
، فيكون الشيء الواحد ليس بواحد بل اثنين. ثم الكلام
__________________
فيهما كما فى
الأول فالشيء الواحد ليس بواحد بل موجودات غير متناهية.
واحتج القائلون
بكون التعين أمرا ثبوتيا بأن هذا الإنسان يشارك الإنسان الآخر فى كونه إنسانا ،
ويخالفه فى هويته ، فهويته مغايرة للإنسانية. وتلك الهوية صفة ثبوتية ، لأن هذا
الإنسان موجود ، والمفهوم من هذا جزء المفهوم من هذا الإنسان. وجزء الموجود موجود
فالمفهوم من هذا موجود.
مسئلة :
الغيران إما أن
يكونا مثلين ، أو مختلفين. والمختلفان اما أن يكونا ضدين ، وهما الوصفان الوجوديان
اللذان يمتنع اجتماعهما لذاتيهما كالسواد والبياض ، واما أن لا يكونا كذلك ، كالسواد
والحركة.
واختلف المتكلمون
فى الغيرين. فالمعتزلة قالوا : هما الشيئان وأصحابنا قالوا : هما اللذان يمكن أن
يفارق أحدهما الآخر ، إما بمكان ، أو بزمان أو وجود أو عدم. والخلاف لفظى محض.
__________________
أما المثلان
فحدوهما بأنهما اللذان يشتركان فى الصفات الذاتية أو أنهما اللذان يقوم كل واحد
منهما مقام الآخر ، أو يسد مسده ، وهذه العبارات مختلفة لأن الاشتراك مرادف
للتماثل. والقيام مقام الآخر لفظة مستعارة حقيقتها التماثل ، فيكون ذلك تعريفا
للشىء بنفسه. وهو محال. والحق أن هذه الماهيات متصورة تصورا أوليا ، لأن كل واحد
منا يعلم بالضرورة أن السواد يماثل السواد ، ويخالف البياض وتصور المماثلة
والمخالفة جزء ماهية هذا التصديق. وجزء البديهى أولى أن يكون بديهيا والله أعلم.
مسئلة :
يستحيل الجمع بين
المثلين عندنا ، وعند الفلاسفة خلافا للمعتزلة.
لنا أن بتقدير
الاجتماع لا يحصل الامتياز بالذاتيات واللوازم. وإلا لما كانا مثلين. ولا بالعوارض
، لأن نسبة جميع العوارض إلى كل واحد منهما على السواء ، فلا يكون كونه عارضا
لأحدهما أولى من كونه عارضا للآخر ، فيكون عارضا لكل واحد منهما. وحينئذ
__________________
لا يبقى الامتياز
بينهما البتة فيكون الاثنان واحدا ، وهو محال. احتج الخصم بأن حكم الشيء حكم مثله
فإذا كانت الذات قابلة لأحد المثلين كانت قابلة للآخر.
جوابه أن الاجتماع
يوجب انقلاب الاثنين واحدا وهو محال.
مسئلة :
زعم بعضهم أن
الغيرين يتغايران لمعنى ، وكذا المثلان والضدان والمختلفان.
واحتجوا عليه بأن
المفهوم من كون السواد والبياض سوادا ، وبياضا ، مغاير للمفهوم من كونهما غيرين ،
ومختلفين ؛ وضدين ولذلك كان التغاير ، والاختلاف ، والتضاد ، حاصلا فى غير السواد
،
__________________
والبياض. وظاهره
أنه ليس أمرا سلبيا فهو أمر ثبوتى ، فثبت أن المتغايرين يتغايران لمعنى. وكذا
المثلان يتماثلان لمعنى : وكذا المختلفان والضدان ، ثم قالوا : وذلك المعنى لا بد
وأن يغاير غيره. فمغايرته لغيره معنى قائم به ، وهو لا بد وأن يكون إما مثلا لغيره
أو مخالفا فمماثلته ومخالفته لغيره معنى قائم به ثم الكلام فيه كما فى الأول وهو
يوجب القول بمعان لا نهاية لها. فالتزموا ذلك وكلامنا فى هذا الباب فقد تقدم والله
أعلم.
النظر الثانى فى
العلة والمعلول :
مسئلة :
كون الشيء مؤثرا
فى غيره متصور تصورا بديهيا لانا ببداية
__________________
العقول نعلم معنى
قولنا قطعت اللحم ، وكسرت القلم ، والتقطيع ، والتكسير تأثير مخصوص. فلما كان تصور
التأثير المخصوص بديهيا ، كان تصور مسمى التأثير الّذي هو جزء ماهية التأثير
المخصوص أولى أن يكون بديهيا.
مسئلة :
العدم لا يعلل ،
ولا يعلل به. لانا إن جعلنا العلية والمعلولية وصفين ثبوتيين ، استحال كون العدم
علة ومعلولا لاستحالة قيام الموجود بالمعدوم. وان لم نقل به ، كان التأثير عبارة
عن حصول الأثر عن المؤثر. وذلك يستدعى أصل الحصول.
وقالت الفلاسفة :
علة العدم عدم العلة. لأن الممكن دائر بين الوجود والعدم. فكما يستدعى رجحان
الوجود علة وجودية فكذا يستدعى رجحان العدم علة عدمية.
والجواب أن العدم
نفى محض فيستحيل وصفه بالرجحان.
مسئلة :
__________________
المعلول الواحد
بالشخص يستحيل أن يجتمع عليه علتان مستقلتان ، وإلا لكان مع كل واحدة منهما واجب
الوقوع فيمتنع اسناده إلى الآخر فيستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما وهو
محال.
مسئلة :
المعلولان
المتماثلان يجوز تعليلهما بعلتين مختلفتين عندنا خلافا لأكثر أصحابنا. لنا أن
السواد والبياض مع اختلافهما يشتركان فى المخالفة والمضادة. احتجوا بأن افتقار
المعلول إلى العلة المعينة ان كان لماهيته ، أو لشيء من لوازمها فإن كان لشيء من
لوازمها وجب فى كل ما يساوى ذلك المعلول أن يفتقر إلى مثل تلك العلة. وإن لم يكن
لماهيته ولا لشيء من لوازمها ، كانت تلك الماهية غنية عن تلك العلة. والغنى عن
الشيء يستحيل تعليله به.
__________________
والجواب أن
المعلول لماهيته مفتقر إلى مطلق العلة. وتعين العلة إنما جاء من جانب العلة لا من
جانب المعلول.
مسئلة :
العلة الواحدة
يجوز أن يصدر عنها أكثر من معلول واحد عندنا ، خلافا للفلاسفة والمعتزلة. لنا أن
الجسمية تقتضى الحصول فى المكان وقبول الأعراض.
احتجوا بأن مفهوم
كونه مصدرا لأحد المعلولين غير مفهوم كونه مصدرا للآخر ، فالمفهومان المتغايران إن
كانا داخلين فى ماهية المصدر لم يكن المصدر مفردا ، بل كان مركبا ، وإن كانا
خارجين كانا معلولين ، فيكون الكلام فى كيفية صدورهما عنه كالكلام فى الأول ،
فيفضى إلى التسلسل وإن كان أحدهما داخلا ، والآخر خارجا ، كانت الماهية مركبة ،
لأن الداخل هو جزء الماهية وماله جزء فهو مركب وكان المعلول أيضا واحدا ، لأن
الداخل لا يكون معلولا.
والجواب ان مؤثرية
الشيء فى الشيء ليست صفة ثبوتية على
__________________
ما بيناه. وإذا
كان كذلك بطل أن يقال إنه جزء الماهية أو خارج عنها.
والّذي يدل عليه ،
وهو أن مفهوم كون النقطة محاذية لهذه النقطة من الدائرة غير مفهوم كونها محاذية
للنقطة الأخرى ، ولم يلزم من تغاير هذه المفهومات كون النقطة مركبة. وكذا مفهوم
كون الألف «آ» ليس «ب» مغايرا لمفهوم إنه ليس «ج». ولم يلزم من تغاير هذه السلوب
وقوع الكثرة فى الماهية فكذا هاهنا. والله أعلم.
مسئلة :
العلة العقلية
يجوز أن يتوقف إيجابها لأثرها على شرط منفصل خلافا لأصحابنا لنا أن الجوهرية توجب
قبول الاعراض بأسرها لكن صحة كل عرض مشروط بانتفاء ضده عن المحل.
مسئلة :
العلة العقلية
يجوز أن تكون مركبة عندنا ، خلافا لأصحابنا.
__________________
لنا أن العلم بكل
واحدة من المقدمتين لا يستلزم العلم بالنتيجة. والعلم بهما يوجب العلم بالنتيجة.
وكذا كل واحد من آحاد العشرة لا يوجب صفة العشرية. ومجموع تلك الآحاد يوجب هذه
الصفة. احتجوا بأن كل واحد لما لم يوجب ، فالمجموع أيضا لا يوجب لأن الماهية باقية
كما كانت.
والجواب النقض بما
مر وبالله التوفيق.
__________________
الركن الثالث
فى الالهيات
والنظر فى الذات
والصفات والأفعال والأسماء
القسم الأول
فى الذات
قد عرفت أن العالم
اما جواهر واما أعراض. وقد يستدل بكل واحد منهما على وجود الصانع اما بامكانه أو
حدوثه فهذه وجوه أربعة :
الأول
الاستدلال بحدوث
الأجسام : وهو طريقة الخليل عليهالسلام فى قوله تعالى : (لا أُحِبُّ
الْآفِلِينَ). وتحريره : إن العالم محدث ، وكل محدث فله محدث أما الأول
فقد مر.
وأما
الثانى فالدليل عليه أن المحدث
ممكن ، وكل ممكن فله
__________________
مؤثر. اما أن
المحدث ممكن فلأن المحدث هو الّذي كان معدوما ، ثم صار موجودا ، وما هذا شأنه كانت
ماهيته قابلة للعدم والوجود. ولا تعنى بالممكن إلا هذا. وأما أن الممكن لا بد له
من مؤثر ، فقد تقدم.
فإن قيل الكلام
على هذه المقدمات قد تقدم ، إلا على قولنا : كل محدث ممكن.
وقوله :
المحدث كان معدوما
، ثم صار موجودا ، فيكون قابلا للوجود والعدم لا محالة.
قلنا من مذهبكم ان
المعدوم ليس بشيء ، ولا عين ، ولا ذات ، بل كان نفيا محضا. وإذا كان كذلك استحال
الحكم عليه بالقبول ، واللاقبول.
سلمنا صحة الحكم
عليه ، لكن لم لا يجوز أن يقال أنها حين كانت معدومة كانت واجبة العدم لعينها. ثم
فى زمان وجودها ، صارت واجبة الوجود لعينها تقريره أن الشيء بشرط كونه مسبوقا
__________________
بالعدم ، لا يجوز
فى العقل فرض تقدمه ، لا إلى أول. وإلا لزم صحة كون الشيء مع كونه مسبوقا بالعدم
ازليا ، وذلك محال. فاذا لصحة وجوده بداية فقبل تلك الصحة ، كان ممتنعا لذاته ثم
انقلب ممكنا لذاته وإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : كان ممتنعا لذاته ، ثم
انقلب واجبا لذاته.
والجواب : قولنا
الممكن قابل للوجود والعدم ، لا نعنى به ان تلك الماهية متقررة حالتى الوجود
والعدم بل نعنى به أن الماهية لا يمتنع فى العقل بقاؤها ، كما كانت ، ولا يمتنع فى
العقل بطلانها.
قوله :
لم لا يجوز أن
تكون الماهية ممتنعة لذاتها فى وقت ، ثم تنقلب واجبة لذاتها فى وقت آخر.
قلنا : هب أن
الأمر كذلك ، لكن حصول الامتناع يتوقف على حضور وقته المخصوص ، وحصول الوجوب يتوقف
على حضور الوقت الآخر والماهية من حيث هى هى مع قطع النظر عن الوقتين لا يبقى لها
إلا القبول.
__________________
قوله :
الممكن المأخوذ
بشرط كونه مسبوقا بالعدم لصحة وجوده أول.
قلنا لا نسلم ،
وإلا لزم أن يكون فرض دخوله فى الوجود قبل ذلك الأول بمقدار لحظة يوجب صيرورته
أزليا وذلك محال بالبديهة.
الطريق
الثانى : الاستدلال
بالامكان وتقريره أن يقيم الدلالة على أن واجب الوجود يستحيل أن يكون أكثر من واحد
، ثم يشاهد فى الأجسام كثرة فهى ممكنة. وكل ممكن ، فله مؤثر على ما مر.
الطريق
الثالث : حدوث الاعراض مثل
ما نشاهده من انقلاب النطفة علقة ، ثم مضغة ثم لحما ، ودما. فلا بد من مؤثر فيه ،
وليس المؤثر هو الإنسان ، ولا أبواه. فلا بد من شيء آخر.
__________________
لا يقال لم لا
يجوز أن يكون المؤثر هو القوة المولدة المركوزة فى النطفة.
لأنا نقول : تلك
القوة اما أن يكون لها شعور واختيار فى التكوين ، وإما أن لا يكون والأول باطل ،
وإلا لكانت النطفة موصوفة بكمال القدرة ، والحكمة ، وهو معلوم الفساد بالبديهة.
والثانى أيضا
باطل. لأن النطفة إما أن تكون جسما متشابه الأجزاء فى الحقيقة ، وإما أن لا تكون
كذلك. فإن كان الأول ، لزم أن تخلق النطفة كرة لأن القوة البسيطة ، إذا أثرت فى
المادة البسيطة ، لا بد وأن تفعل فعلا متشابها ، وهو الكرة. وهذا هو الّذي عليه
تعويل الفلاسفة فى كرية البسائط. وإن كان الثانى كانت النطفة مركبة من البسائط.
وكل واحد من تلك البسائط ، يكون القائم بها قوة بسيطة وذلك يقتضي الكرية. فيلزم أن
تتخلق النطفة كرات مضمومة بعضها إلى البعض ولما بطل ذلك ، علمنا أن المؤثر فى خلق
أبدان الحيوانات ، والنبات مؤثر حكيم.
__________________
الطريق
الرابع : امكان الاعراض
وتقريره أن يقال الأجسام متساوية فى الجسمية ، فاختصاص كل واحد منها بما له من
الصفات ممكن لأن كل ما صح على الشيء صح على مثله والإمكان محوج إلى المؤثر على ما
تقدم والله أعلم.
مسئلة :
مدبر العالم إن
كان واجب الوجود ، فهو المطلوب وإن كان جائز الوجود افتقر إلى مؤثر آخر. فاما أن
يدور أو يتسلسل وهما باطلان ، أو ينتهى إلى واجب الوجود وهو المطلوب.
أما بطلان الدور
فلأن الشيء ، إذا احتاج إلى غيره ، كان المحتاج إليه متقدما فى الوجود على
المحتاج. فلو افتقر كل واحد منهما إلى الآخر ، لكان كل واحد منهما متقدما فى
الوجود على الآخر ، فيلزم
__________________
أن يكون كل واحد
منهما متقدما على المتقدم على نفسه. والمتقدم على المتقدم على الشيء متقدم على ذلك
الشيء فالشيء متقدم على نفسه هذا خلف.
وأما بطلان
التسلسل ، فلان مجموع تلك الأمور التى لا نهاية لها مفتقر إلى كل واحد منها ، وكل
واحد منها ممكن ، والمفتقر إلى الممكن ممكن فالمجموع ممكن وكل ممكن فله مؤثر.
فالمجموع له مؤثر. والمؤثر : اما نفس ذلك المجموع أو أمر داخل فيه أو أمر خارج
عنه.
والأول باطل لأن
المؤثر متقدم على الأثر. فلو كان المجموع مؤثرا فى نفسه ، يلزم كونه متقدما على
نفسه ، وهو محال.
والثانى باطل لأن
كل واحد من آحاد ذلك المجموع ، لا يكون علة لنفسه ، ولا لعلته وإلا لزم تقدم الشيء
على نفسه. وإذا لم يكن علة لنفسه ولا لعلته ، لم يكن علة لذلك المجموع.
فثبت أنه لا بد
لذلك المجموع من علة خارجة عنه والخارج عن
__________________
جميع الممكنات لا
يكون ممكنا ، بل يكون واجبا لذاته فثبت وجوب انتهاء الممكنات بأسرها إلى الواجب.
ومتى ثبت كونه واجبا لذاته ، ثبت أنه قديم أزلى باق أبدى.
فإن قيل لم لا
يجوز أن يقال إن مدبر العالم ممكن الوجود ولكن الوجود به أولى فلأجل هذه الأولوية
يستغنى عن المؤثر.
سلمنا أن الوجود
بالنسبة إليه كالعدم ولكن لم قلتم : إنه يفتقر إلى السبب بيانه : إن علة الحاجة
إلى المؤثر هو الحدوث لا الإمكان. فإذا كان ذلك المدبر قديما لم يحتج إلى المؤثر.
سلمنا أنه لا بد
من سبب فلم قلت إن الدور باطل؟.
قوله :
لأن العلة قبل
المعلول ، فيلزم أن يكون كل واحد منهما قبل
__________________
نفسه.
قلنا تدعى القبلية
بالزمان أو بالذات أو بمعنى آخر. فإن عنيت به الأول ، فهو باطل. لأنه لا معنى لكون
الشيء مؤثرا فى الغير إلا صدور الأثر عنه على ما تقدم. فقبل صدور الأثر عنه يستحيل
أن يكون مؤثرا وإذا كان كذلك استحال تقدم العلة على المعلول بالزمان.
وإن عنيت به
التقدم بالذات ، فنقول تعنى بالتقدم بالذات كونه مؤثرا فيه ، أو تعنى به أمرا آخر.
فإن عنيت به المؤثرية كان قولك : لو كان كل واحد منهما مؤثرا فى الآخر لكان كل
واحد منهما متقدما على الآخر لزاما للشىء على نفسه.
وإن عنيت به أمرا
آخر ، فلا بد من بيان ماهية ذلك التقدم ، ثم من إقامة الدلالة على أن العلة متقدمة
على المعلول بذلك المعنى ، ثم
__________________
من إقامة الدلالة
على أن الشيء يستحيل أن يكون متقدما على نفسه بذلك المعنى.
سلمنا فساد الدور
، فلم قلت أن التسلسل محال.
قوله :
ذلك المجموع مفتقر
إلى كل واحد من تلك الآحاد.
قلنا : لا نسلم
أنه يصح وصف تلك الأسباب والمسببات بأنه مجموع ، وكل لأن هذه الألفاظ مشعرة
بالتناهى ، فلا يصح اطلاقها إلا بعد ثبوت التناهى ، وهو أول المسألة.
سلمنا أنه يصح
وصفها بذلك ، لكنا نقول : إن دل ما ذكرته على فساد التسلسل ، فههنا ما يدل على
صحته.
وبيانه : وهو أن
هذه الحوادث المحسوسة لا بد لها من مؤثر. فالمؤثر فيها ، اما أن يكون محدثا أو
قديما ، فإن كان محدثا فالكلام
__________________
فيه ، كالكلام فى
الأول. فاما أن يتسلسل فيكون ذلك اعترافا بصحة التسلسل.
أو ينتهى إلى
قديم. وذلك هو القسم الثانى من القسمين المذكورين.
فنقول تأثير ذلك
القديم فى ذلك الحادث ، إما أن يتوقف على شرط حادث ، أو لا يتوقف. فإن لم يتوقف
وجب من قدم المؤثر قدم هذا الحادث. وإلا لكان نسبة صدور الأثر عن المؤثر ، كنسبة
لا صدوره عنه. فإن لم يفتقر صدوره عنه إلى مرجح منفصل ، فقد ترجح الممكن لا عن سبب
وذلك يسد باب اثبات الصانع. وإن افتقر ، لم يكن المؤثر التام قبل حصول ذلك المرجح
المنفصل مؤثرا تاما ، هذا خلف.
وإما أن يتوقف على
شرط ، فذلك الشرط ، ان كان قديما عاد الإشكال. وان كان محدثا. فإما أن يكون مقارنا
لذلك الحادث ، أو سابقا عليه. فإن كان مقارنا ، فالكلام فى حدوثه كالكلام فى
الأول.
__________________
فإن كان شرط حدوثه
هو الحادث الأول ، لزم الدور. وإن كان شرط حدوثه حادثا آخر ، لزم التسلسل. وأما إن
كان شرط حدوث ذلك الحادث حادثا سابقا عليه.
فنقول : حال حصول
ذلك السابق لم يكن القديم مؤثرا بالفعل فى الحادث اللاحق. وعند فنائه يصير مؤثرا
فيه بالفعل. فتلك المؤثرية حكم حادث ، فلا بد لها من مؤثر فإن كان هو الحادث الّذي
عدم الآن لزم تعليل الوجود بالعدم ، وهو محال. وإن كان هو الحادث الّذي حدث به ،
لزم الدور. وإن كان حادثا آخر ، لزم التسلسل. فظهر أنه لا بد من التزام القول
بالتسلسل.
سلمنا صحة دليلكم
على وجود واجب الوجود ، لكنه معارض بوجهين آخرين.
الأول
: إنا لو فرضنا
موجودا واجب الوجود لكان وجوده ، اما أن يكون مساويا لوجود الممكنات ، واما أن لا
يكون. والقسم الثانى باطل لما تقدم من الدلائل على كون الوجود مفهوما واحدا.
__________________
والأول أيضا باطل
، لأن ذلك الوجود اما أن يكون عارضا لماهيته أو لا يكون. فإن كان الأول كان ذلك
الوجود ممكنا ، وله علة والعلة ان كانت هى تلك الماهية : كان المعدوم علة للوجود ،
وهو محال. وان كان غيرها كان واجب الوجود مفتقرا فى وجوده إلى سبب منفصل ، هذا
خلف. وإن لم يكن ذلك الوجود عارضا لماهية ، فهو محال ، لأن على هذا التقدير يكون
تمام حقيقته مساويا للوجود الّذي هو وصف عارض لماهيتها وكل ما صح على الشيء صح على
مثله. فيلزم أن يصح على ماهيته كل ما يصح على وجودها ، فيكون وجوده ممكنا محدثا
وهو محال ، والثانى انه لو كان واجب الوجود لكان قديما والمعقول من القديم هو
الّذي لا زمان يفرض هو موجودا فيه ، إلا وقد كان موجودا قبل ذلك. وتلك القبلية
قبلية زمانية على ما تقدم بيانه فى باب القديم والمحدث.
__________________
فيلزم من قدم الله
تعالى قدم الزمان ، وذلك محال.
لا يقال تقدم
البارى تعالى على العالم تقدما بزمان مقدر لا بزمان محقق.
تقريره : ان الله
تعالى تقدم على وجود العالم بمعنى أنه لو كان هناك زمان ، لما كان لذلك الزمان
أول. لأنا نقول : تقدم البارى تعالى على العالم ، إذا كان حاصلا فى نفس الأمر
محققا ، وذلك التقدم لا يتحقق إلا بواسطة الزمان ، استحال كون الزمان مقدرا ، بل
لا بد وأن يكون محققا.
والجواب قوله :
لم لا يجوز أن
يكون العالم جائز الوجود لكن الوجود به أولى قلنا قد تقدم إبطاله.
قوله :
جائز الوجود
والعدم على التساوى ولكن إنما يحتاج إلى المؤثر ، لو كان محدثا.
__________________
قلنا : قد بينا أن
علة الحاجة إلى المؤثر هى الإمكان فقط.
قوله :
ما الّذي عنيت
بتقدم العلة على المعلول :
قلنا العقل ما لم
يفرض للمؤثر وجودا استحال أن يحكم عليه بكونه مؤثرا فى الغير ومرادنا من التقدم
هذا القدر.
قوله :
لا يمكن وصفه
بكونه كلا ومجموعا إلا إذا ثبت كونه متناهيا.
قلنا مرادنا من
الكل والمجموع ، تلك الأسباب والمسببات بحيث لا يبقى واحد منها خارجا عنها.
قوله :
المؤثر فى حدوث
الحوادث اليومية اما القديم ، أو المحدث.
قلنا قد بينا أن
المؤثر هو الصانع القديم المختار. وإن المختار
__________________
يصح منه ترجيح أحد
الجائزين على الآخر لا لمرجح.
قوله :
واجب الوجود إما
أن يكون وجوده عين ماهيته أو غيرها.
قلنا بل عين
ماهيته. وقد تقدم الجواب عن أدلتهم على أن الوجود وصف مشترك فيه.
قوله :
يلزم من قدم الله
تعالى قدم الزمان.
قلنا : إذا جاز أن
يكون تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض لا بالزمان. فلم لا يجوز أن يكون تقدم ذات
الله تعالى على العالم لا بالزمان وبالله التوفيق.
مسئلة :
صانع العالم موجود
خلافا للملاحدة ، لنا إنه لو لم يكن موجودا
__________________
لكان معدوما.
والمعدوم نفى محض ، لا خصوصية فيه ولا امتياز ، فلا يصلح للالهية.
فإن قيل لا نسلم
إنه لا واسطة بين الوجود والعدم وبيانه ما تقدم فى مسئلة الحال.
سلمنا الملازمة
لكن فلم قلتم إنه لا يجوز أن يكون معدوما.
قوله : لأن العدم
نفى محض لا امتياز فيه.
قلنا لا نسلم. فإن
عدم السواد عن المحل مصحح لحلول البياض فيه ، وعدم الحركة لا يصحح ذلك وكذلك عدم
اللازم يقتضي عدم الملزوم ، وعدم غيره لا يقتضي ذلك. وكذلك عدم المعارض معتبر فى
دلالة المعجزة على الصدق. وسائر العدمات ليس كذلك.
سلمنا صحة دليلكم
لكنه معارض بأنه لو كان موجودا لكان مساويا
__________________
لغيره فى الوجود.
فإن لم يخالف غيره فى وجه آخر ، كان مثلا للممكن مطلقا ، فيكون ممكنا مطلقا. وإن
خالفه ، كانت حقيقته مركبة. وكل مركب فهو مفتقر إلى أجزائه ، وجزؤه غيره. فكل مركب
فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى الغير فهو ممكن ، فالواجب ممكن ، هذا خلف.
والجواب : بينا أن
نفى الواسطة معلوم بالضرورة ، وبالبرهان على ما تقدم.
قوله :
العدمات قد تكون
متميزة متعينة.
قلنا : لو كفى ذلك
فى أن يكون خالقا ، فليجوز أن يكون الإنسان
__________________
المتحرك معدوما.
وان كانت الصفات القائمة به موجودة وذلك عين السفسطة.
أما المعارضة ،
فجوابها إنا لا نسلم كون الوجود وصفا مشتركا فيه بين الموجودات وبالله التوفيق.
__________________
القسم الثانى
فى الصفات
وهى اما سلبية أو
ثبوتية.
القول فى السلوب :
مسئلة :
ماهية الله تعالى
مخالفة لسائر الماهيات لعينها خلافا لأبى هاشم. فإنه قال ذاته مساوية لسائر الذوات
فى الذاتية. وإنما تخالفها بحالة توجب الأحوال الأربعة : وهى الحيية ، والعالمية ،
والقادرية والموجودية ، وخلافا لأبى على بن سينا. فإنه زعم أن ماهيته نفس الوجود.
والوجود مسمى مشترك فيه بين كل الموجودات. وزعم إنه إنما امتاز عن الممكنات بقيد
سلبى وهو أن وجوده غير عارض لشيء من الماهيات. وسائر الوجودات عارضة لها.
__________________
لنا أن مخالفته
لغيره لو كانت لصفة لحصلت المساواة فى الذات. ولو كان كذلك ، لكان اختصاص ذاته بما
به خالفت غيرها ، إن لم يكن لأمر كان الجائز غنيا عن السبب ، وهو محال أو كان لأمر
فيلزم التسلسل.
مسئلة :
ماهية الله تعالى
غير مركبة ، لأنها لو تركبت لافتقرت إلى كل واحد من أجزائها ، وكانت الماهية ممكنة
على ما تقدم.
مسئلة :
الله تعالى ليس
بمتحيز خلافا للمجسمة. لنا لو كان متحيزا ، لكان مساويا لسائر الأجسام ويلزم اما
حدوثه ، أو قدمها. وهذه الدلالة مبنية على تماثل الأجسام وقد تقدم القول فيه.
__________________
وربما احتجوا به
من وجه آخر وهو إنه تعالى لو كان متحيزا ، لكان مساويا لسائر المتحيزات فى أصل
التحيز. فإن لم يخالفها من وجه آخر لزم المماثلة ، مطلقا ، فيلزم إما حدوثه ، أو
قدمها. وان خالفها من وجه آخر ، لزم وقوع التركيب فى ذاته.
ويمكن أن يقال لم
لا يجوز أن تكون ماهيته مخالفة لماهية سائر الأجسام ، وإن كانت مساوية لها فى
الحصول فى الحيز فإن الأشياء المختلفة يجوز اشتراكها فى لازم واحد.
والأولى : أن يقال
لو كان متحيزا لكان اما أن يكون منقسما أو غير منقسم. والأول يقتضي التركيب ، وهو
محال. والثانى باطل بناء على القول بنفى الجوهر الفرد. وعلى القول باثباته ، يلزم
أن يكون الله تعالى أصغر الأشياء ، تعالى الله عنه علوا كبيرا.
__________________
وقد يستدل على نفى
الجسمية خاصة ، بأن كل جسم مركب فالعالمية الحاصلة لأحد الجزءين غير الحاصلة للجزء
الآخر. وكل واحد من تلك الأجزاء يكون حيا قادرا عالما على الاستقلال ، فيفضى إلى
تكثير الآلهة ، وهو محال. وهذا المستدل يلتزم أن الإنسان الواحد ليس حيا عالما
قادرا واحدا ، بل أحياء علماء قادرين.
مسئلة :
ماهية الله تعالى
لا يتحد بغيره لأنه حال الاتحاد ، إن بقيا موجودين فهما اثنان لا واحد. وان صارا
معدومين فلم يتحدا ، بل عدما ، وحدث ثالث. وان عدم أحدهما ، وبقى الآخر فلم يتحدا
، لأن المعدوم لا يتحد بالموجود.
مسئلة
: أنه تعالى لا يحل
فى شيء.
__________________
واحتج أصحابنا
بأنه تعالى لو حل فى شيء لحل اما مع وجوب أن يحل ، أو مع جواز أن يحل والأول باطل
لوجهين :
الأول
إنه يلزم احتياجه
إلى ذلك الغير. وكل محتاج ممكن ، فيكون الواجب لذاته ممكنا لذاته هذا خلف.
الثانى
إن غير الله تعالى
اما الجسم أو العرض ، فيلزم من وجوب حلوله تعالى فى الغير إما حدوثه أو قدم الجسم
والعرض وهما محالان.
والثانى أيضا باطل
، لأنه إذا لم يجب حلوله فى المحل ، كان غنيا عن المحل. والغنى عن المحل لا يحل فى
المحل. وهذا الدليل ضعيف ، لأنه يقال لم لا يجوز أن يجب حلوله فى المحل.
قوله : لو وجب ذلك
لكان مفتقرا إلى ذلك المحل.
قلنا لا نسلم. ولم
لا يجوز أن يقال إنه تعالى لذاته يوجب لنفسه
__________________
صفة وهى الحالية
فى ذلك المحل. ولا يلزم من كونه موجبا لتلك الصفة احتياجه إليها ، ألا يرى أنه يجب
اتصافه تعالى بكونه عالما قادرا وإن لم يلزم احتياجه إلى شيء منها فكذا هاهنا.
قوله ثانيا : بأن
غيره اما الجسم أو العرض.
قلنا لا نسلم.
فإنكم ما أقمتم دليلا قاطعا على ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال إنه تعالى اوجب لذاته
تعالى عقلا ، أو نفسا إنه لذاته اقتضى صيرورة ذاته حالة فى ذلك المحل.
سلمنا الحصر لكن
لم لا يجوز أن يقال : إنه لا يجب حلوله فى المحل مطلقا. لكن ذاته تقتضى الحلول فى
المحل عند حدوث المحل. وعلى هذا التقدير لا يلزم حدوث ذاته تعالى ولا قدم المحل.
وهذا
__________________
كما تقول أن كونه
تعالى عالما بوجود العالم واجب ، لكن بشرط وجود العالم. فلا جرم ، لم يحصل هذا
العلم قبل وجود العالم.
سلمنا ذلك فلم لا
يجوز أن يحل فى المحل مع جواز أن لا يحل.
قوله :
الغنى عن المحل لا
يحل فى المحل.
قلنا هذا مجرد
الدعوى. فأين الدليل والمعتمد فى ابطال الحلول ، ان المعقول من الحلول هو حصول
العرض فى الحيز تبعا لحصول محله فيه. وهذا إنما يعقل فى حق من يصح عليه الحلول فى
الحيز. ولما كان ذلك فى حق الله تعالى محالا ، كان الحلول عليه محالا.
مسئلة :
إنه تعالى ليس فى
شيء من الجهات خلافا للكرامية.
لنا إنه تعالى ليس
بمتحيز ولا حال فى المتحيز. وكل ما كان
__________________
كذلك ، لم يكن فى
شيء من الجهات وهذا معلوم بالضرورة. ولأن مكانه تعالى ، إن ساوى سائر الأمكنة ،
كان اختصاصه به دون سائر الأمكنة ، يستدعى مخصصا. وذلك المخصص لا بد وأن يكون
مختارا وكل ما كان فعلا لفاعل مختار فهو محدث ، فكونه فى المكان محدث ، هذا خلف.
وان خالف سائر الأمكنة ، كان ذلك المكان موجودا ، لأن الاختلاف فى النفى المحض
محال. وذلك الموجود إن لم يكن مشارا إليه ، لم يكن الموجود فيه مشارا إليه فلم يكن
الله تعالى فى المكان وان كان مشارا إليه ، فإن كان كونه كذلك بالذات ، كان جسما. فإذا
فرض الله تعالى موجودا فيه ، كان البارئ تعالى حالا فى
__________________
الجسم ، وهو محال
: وان كان بالعرض ، كان ذلك عرضا حالا فى الجسم والبارى تعالى لما كان حالا فيه
كان حالا فى الحال فى لجسم ، فكان حالا فى الجسم ، هذا خلف.
تنبيه :
الظواهر المقتضية
للجسمية والجهة لا تكون معارضة للأدلة العقلية القطعية التى لا تقبل التأويل.
وحينئذ اما أن يفوض علمها إلى الله تعالى على ما هو مذهب السلف.
وقول من أوجب
الوقف على قوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ
تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) واما أن يشتغل بتأويلها على ما هو قول أكثر المتكلمين وتلك
التأويلات مستقصاة فى المطولات.
مسئلة :
لا يجوز قيام
الحوادث بذات الله تعالى خلافا للكرامية.
لنا لو صح اتصافه
بها لكانت تلك الصحة من لوازم ماهيته ،
__________________
فيلزم حصول تلك
الصحة أزلا ، لكن ذلك محال ، لأن صحة اتصافه بها ازلا يتوقف على صحة وجودها أزلا ،
وذلك محال ، لأن الأزل عبارة عن نفى الأولية. والحدوث عبارة عن ثبوتها ، والجمع
بينهما محال.
فإن قيل هذا يشكل
بما أن العالم جائز الوجود لذاته ثم لم يلزم جواز وجوده أزلا. فكذا هاهنا.
ثم نقول صحة اتصاف
الذات بالصفة غير صحة وجود الصفة فى نفسها. ولا يلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر.
فانا نقول يصح
اتصاف الذات أزلا بهذه الصفة على معنى أن هذه الصفة لو كانت فى نفسها ممكنة كانت
الذات قابلة لها. وهذا
__________________
لا يستدعى كون
الصفة فى نفسها ممكنة. ثم نقول ما ذكرته ، ان دل على قولك ، فههنا ما يدل على
قولنا من وجوه.
الأول
: وهو أن العالم
محدث. فالله تعالى لم يكن فاعلا للعالم أزلا. لأن الفاعل ، ولا فعل محال. ثم صار
فاعلا له والفاعلية صفة ثبوتية. فهذا يقتضي حدوث هذه الصفة فى ذات الله تعالى.
الثانى
وهو أن الله تعالى
فى الأزل لم يكن عالما بأن العالم موجود فإن ذلك جهل وهو على الله تعالى محال. ثم
صار عند وجود العالم عالما بوجوده.
الثالث
وهو أنه تعالى فى الأزل
لم يكن رائيا لوجود العالم ،
__________________
ولا سامعا لوجود
الأصوات. لأن رؤيته موجودا مع إنه ليس بموجود ، خطأ. وهو على الله تعالى محال. ثم
عند وجود العالم والأصوات صار رائيا وسامعا لها.
الرابع
وهو إنه تعالى لا
يجوز أن يخبر فى الأزل بقوله : إنا أرسلنا نوحا إلى قومه. لأن ذلك إخبار عن أمر
مضى. وذلك فى الأزل كذب ، وهو على الله تعالى محال. ثم صار بعد إرسال نوح ، عليهالسلام ، مخبرا عن ذلك.
الخامس
وهو أن الله تعالى
لم يكن ملزما فى الأزل زيدا وعمرا بقوله : أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. لأن خطاب
المعدوم على سبيل الإلزام سفه. وهو على الحكيم غير جائز. ثم صار ملزما للمكلفين
عند حدوثهم ، وحدوث الشرائط.
__________________
والجواب أما صحة
العالم فغير واردة ، لأن العالم قبل حدوثه كان نفيا محضا ، فلا يمكن الحكم عليه لا
بالصحة ولا بالامتناع.
قوله صحة الاتصاف
بالصفة غير صحة وجود الصفة.
قلنا : لا نزاع
فيه ، لكن الصحة الأولى متوقفة على الصحة الثانية ، لأن صحة الاتصاف به متوقفة على
تحققه وتحققه متوقف على صحة وجوده.
أما المعارضات
فالضابط فيها شيء واحد ، وهو أن المتغير إضافة الصفات إلى الأشياء لا نفس الصفات.
وقد دللنا فيما
تقدم على أن الاضافات لا وجود لها فى الأعيان وبالله التوفيق.
__________________
مسئلة :
اتفق الكل على
استحالة الألم على الله تعالى.
أما اللذات
العقلية فقد اثبتها الفلاسفة ، والباقون ينكرونها. لنا أن اللذة ، والألم من توابع
اعتداد المزاج وتنافره وذلك لا يعقل إلا فى الجسم ، وهو ضعيف لأنه يقال : هب أن
اعتدال المزاج يوجب اللذة ، لكن لا يلزم من انتفاء السبب الواحد انتفاء المسبب.
والمعتمد أن تلك اللذة إن كانت قديمة ، وهى داعية إلى فعل الملتذ به ، وجب أن يكون
موجدا للملتذ به قبل أن أوجده لأن الداعى إلى إيجاده قبل ذلك موجود ، ولا مانع لكن
إيجاد الشيء قبل ايجاده محال ، وإن كانت حادثة كان محل الحوادث.
قالت الفلاسفة هذه
الدلالة لا تبطل الألم.
وأما اللذة فنحن
لا نقول إنه يلتذ بخلق شيء آخر ، لكنا ندعى
__________________
أن علمه بكماله
المطلق يوجب اللذة. والدلالة التى ذكرتموها لا تدفع ما قلناه. وتقريره وهو أن كل
من تصور فى نفسه كمالا فرح ، ومن تصور فى نفسه نقصانا تألم قلبه. فإذا كان كماله
سبحانه وتعالى أعظم الكمالات وعلمه بكماله أجل العلوم ، فلم لا يجوز أن يستلزم ذلك
أعظم اللذات.
والجواب إنه باطل
بإجماع الأمة وكذلك الألم.
مسئلة :
اتفق الكل على أنه
غير موصوف بالألوان والطعوم والروائح والمعتمد الإجماع.
والأصحاب قالوا :
اللون جنس ، تحته أنواع ، وليس بعضها بالنسبة إلى بعض صفة كمال. وبالنسبة إلى بعض
صفة نقصان. وأيضا الفاعلية لا تتوقف على تحقق شيء منها. وإذا كان كذلك ،
__________________
لم يكن الحكم
بثبوت البعض أولى من الباقى ، فوجب أن لا يثبت شيء منها.
ولقائل ان يقول
تدعى إنه ليس البعض أولى من البعض فى نفس الأمر ، أو فى عقلك وذهنك. والأول لا بد
فيه من الدلالة. فلم لا يجوز أن يكون ماهية ذاته تستلزم لونا معينا من غير أن تعرف
لمية ذلك الاستلزام.
والثانى مسلم لكن
لا يلزم منه إلا عدم علمنا بذلك المعنى ، فاما عدمه فى نفسه فلا والله أعلم.
القول فى الصفات
الثبوتية :
مسئلة :
إنه تعالى قادر
خلافا لجمهور الفلاسفة.
لنا إنه ثبت
افتقار العالم إلى مؤثر. فذلك المؤثر : اما أن يقال
__________________
صدر الأثر عنه مع
امتناع أن لا يصدر ، أو صدر مع جواز أن لا يصدر.
والأول باطل لأن
تأثيره فى وجود العالم ان لم يتوقف على شرط لزم من قدمه قدم العالم ، وقد أبطلناه.
وإن توقف على شرط ، فذلك الشرط إن كان قديما عاد الالزام وان كان محدثا كان الكلام
فى حدوثه كالكلام فى الأول ، فلزم التسلسل إما معا ، وهو محال ، أو لا إلى أول.
فيلزم منه حوادث لا أول لها ، وهو محال ولما بطل هذا القسم ، ثبت القسم الثانى ولا
معنى للقادر إلا ذلك.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يكون المؤثر موجبا.
قوله يلزم من قدمه
قدم العالم.
قلنا اما أن يكون
صحيح الوجود فى الأزل أو لا يكون. فإن كان الأول لم يكن قدم العالم محالا ، فنحن
نلتزمه وإن كان الثانى
__________________
كان لصحة وجوده
بداية. وإذا كان كذلك ، لم يلزم من قدم المؤثر قدم العالم لأن صدور الأثر عن
المؤثر ، كما يعتبر فيه وجود المؤثر يعتبر فيه إمكان الأثر. والّذي يزيده تقريرا
وهو أن القادر عندكم هو الّذي يصح منه الإيجاد والله تعالى كان قادرا فى الأزل ،
ولم يلزم من أزلية قدرته صحة الإيجاد أزلا فلما لم يلزم من القدرة الأزلية حصول
الصحة فى الأزل ، فلم لا يجوز أن لا يلزم من وجود المؤثر وجود العالم فى الأزل.
سلمنا أنه إن لم
يتوقف تأثيره فى العالم على شرط لزم من قدمه قدم العالم. فلم لا يجوز أن يقال
تأثيره فى وجود العالم كان موقوفا على شرط حادث ، وذلك الشرط على شرط آخر ، لا إلى
أول. والكلام فيه يرجع إلى مسئلة حوادث لا أول لها.
سلمنا أنه لا بد
من القادر ، ولكن لم قلت : إنه واجب الوجود؟ ولم لا يجوز أن يقال واجب الوجود
اقتضى لذاته موجودا قديما ، ليس بجسم ولا بجسمانى. وذلك المعلول كان قادرا ، وهو
الّذي خلق العالم.
__________________
سلمنا أن ما
ذكرتموه يدل على القادرية لكنه معارض بنوعين من الكلام.
الأول أن نبين أن
حقيقة القادر على الوجه الّذي قلتموه محال. وبيانه من وجوه.
الأول أن المصدر
إن استجمع جميع ما لا بد منه فى المصدرية سلبا كان أو إيجابا امتنع الترك وان اختل
قيد من القيود المعتبرة امتنع الفعل. إلا إذا قيل الشيء الواحد يكون مصدرا للفعل
تارة وللترك أخرى من غير تغير حال البتة فى الحالتين ، لكنه يكون ترجيحا لأحد طرفى
الممكن على الآخر من غير مرجح ، وهو محال. وأيضا فالمصدرية على هذا التقدير تصير
اتفاقية. لأن فيضان الأثر عن المصدر إن توقف على انضياف قيد جديد إليه ، لم يكن
الحاصل أولا مصدرا تاما. وإن لم يتوقف عليه كان صدور الأثر عن ذلك
__________________
المصدر فى زمان
بعينه دون آخر ، مجرد اتفاق وتجويزه يقتضي تجويز انقلاب الممكن لذاته فى وقت ،
واجبا لذاته فى وقت آخر فينسد باب اثبات المصدر فثبت ان المكنة من الفعل والترك
غير معتبر فى حقيقة القادر.
ومما يؤكد ذلك ان
مذهب المعتزلة ان الاخلال بالثواب ، والعوض يقتضي الجهل والحاجة المحالين على
القديم. ومستلزم الممتنع ممتنع. فالاخلال بهما ممتنع فصدورهما عنه واجب.
ومن مذهب أهل
السنة ان إرادة الله تعالى وقدرته متعلقتان بايجاد أشياء معينة. والتغير على صفاته
ممتنع فتكون المؤثرية لصفاته واجبة ، ونقيضها ممتنع ، وامكان التردد مردود.
ومن مذهب الكل :
ان الله تعالى عالم فى الأزل بأن أى الجزئيات
__________________
توجد ، وأيها لا
توجد. وامتناع تغير العلم يستلزم امتناع تغير المعلوم ، والقدرة على الممتنع
ممتنعة ، فالمكنة من الطرفين غير معتبرة على جميع المقالات.
الثانى أن المكنة
من الطرفين اما أن تثبت حال حصول أحدهما أو قبل ذلك. والأول باطل ، لأن حال حصول
أحدهما ، فذلك الحاصل واجب ونقيضه محال. وامكان التردد بين الواجب والمحال محال.
والثانى كذلك ،
لأن شرط الحصول فى الاستقبال حصول الاستقبال الممتنع الحصول فى الحال. والموقوف على
المحال محال. فحصوله بقيد كونه فى الاستقبال ممتنع فى الحال. والممتنع لا يمكن
منه.
الثالث قولنا :
القادر يجب أن يكون مترددا بين الفعل والترك ، إنما يصح أن لو كان الفعل والترك
مقدورين له لكن الترك محال
__________________
أن يكون مقدورا ،
لأن الترك عدم ، والعدم نفى محض. ولا فرق بين قولنا : لم يؤثر أثرا وبين قولنا أثر
فيه تأثيرا عدميا ولأن قولنا ما أوجده معناه انه بقى على العدم الأصلي. فإذا كان
العدم الحالى هو العدم الّذي كان استحال استناده إلى القادر ، لأن تحصيل الحاصل
محال ، فثبت أن الترك غير مقدور أصلا ، وإذا كان كذلك ، استحال أن يقال : القادر
هو الّذي يكون مترددا بين الفعل والترك.
فإن قلت الترك هو
فعل الضد ، فالقادر متردد بين فعل الشيء وفعل ضده.
قلت فيلزمك أن لا
يخلو القادر عن فعل أحد الضدين ، فيلزمك اما قدم العالم أو قدم ضده وأنت لا تقول
به.
النوع الثانى :
سلمنا ان القادر فى الجملة معقول لكن تعذر اثباته هاهنا لوجوه :
الأول
: وهو انه تعالى لو
كان قادرا لكانت قادريته اما أن تكون
__________________
أزلية أو لا تكون.
والأول محال ، لأن التمكن من التأثير يستدعى صحة الأثر لكن صحة العالم فى الأزل
محال. لأن الأزل عبارة عن نفى الأولية والحادث ما يكون مسبوقا بالأول والجمع
بينهما متناقض.
والثانى أيضا :
محال لأن قادريته تعالى إذا لم تكن أزلية كانت حادثة فافتقرت إلى مؤثر. فإن كان
المؤثر مختارا عاد البحث كما كان وان كان موجبا كان المبدأ الأول موجبا.
فان قلت انه فى
الأزل يمكنه الإيجاد فيما لا يزال. وحاصله ان امتناع الأثر عند قيام المقتضى قد
يكون لحصول المانع.
قلت المانع ان كان
ممكن الزوال لذاته ، فيفرض ارتفاعه ؛ وحينئذ يصح الفعل الأزلى هذا خلف. وان كان
ممتنع الزوال لذاته وجب أن يكون كذلك أبدا. إذ لو جاز أن ينقلب ممكنا لجاز أن يقال
:
__________________
العالم كان ممتنعا
لذاته ، ثم انقلب واجبا لذاته.
الثانى
أن مقدور القادر
لا بد وأن يتميز عن غيره لأن اقتدار القادر عليه نسبة بين القادر وبينه. وما لم
يتميز المنسوب إليه عن غيره ، استحال اختصاصه بتلك النسبة دون غيره. ولأن تمكن
القادر من الجمع بين الحركة والسواد ، بدلا عن الجمع بين السواد والبياض ، يستدعى
امتياز أحدهما عن الآخر. ولأن كونه قادرا على إيجاد الحركة بدلا عن السكون ،
وبالعكس. يستدعى امتياز كل واحد منهما عن الآخر. ولأن التردد بين الشيئين يتوقف
على مغايرتهما. فثبت انه لا بد من التميز. وكل متميز ثابت فإذن تعلق القدرة به
يتوقف على ثبوته فى نفسه. فلو كان ثبوته لأجل القدرة لزم الدور ، ولزم اثبات
الثابت ، وهو محال.
فإن قلت شرط
التعلق تحقق الماهية والحاصل من التعلق هو الوجود.
قلت فالذات لما
كانت متقررة قبل التعلق ، لم تكن مقدورة. لأن
__________________
اثبات الثابت محال
: فالمتعلق به هو الّذي ليس بثابت ، وهو اما الوجود أو موصوفية الذات بالوجود ،
لكن ذلك محال. لأنا بينا أن المتعلق به متميز ، والمتميز ثابت ؛ فإذن ما ليس بثابت
فهو ثابت ، هذا خلف.
الثالث
لو كان قادرا من
الأزل إلى الأبد ، ثم إذا أوجده لم يبق مقدورا ، لاستحالة ايجاد الموجود ، فذلك التعلق
القديم قد فنى وعدم والقديم محال.
الرابع
: إذا قلنا القادر
يمكنه أن يوجد. فالموجدية ليست عبارة عن نفس الأثر. أما أولا فلأن الموجدية صفة
للموجد. والأثر قد لا يكون صفة له. فإن العالم ليست صفة لله تعالى.
__________________
وأما ثانيا ،
فلأنا إذا قلنا الأثر انما وجد بالقادر ، لأن القادر أوجده. فلو كان المفهوم من
قولنا : أوجده نفس وجود الأثر لكنا قد قلنا : إنما وجد الأثر لأنه وجد الأثر.
فيكون الحاصل إنه وجد الأثر بنفسه ، وذلك محال. فظهر أن الموجدية صفة للموجد ، فهى
إن كانت ممكنة الوجود واقعة بالقادر المختار ، عاد التقسيم فيه ، وإن كانت واجبة ،
وجب وجود الأثر فى الأزل ، لأن الموجدية بدون وجود الأثر ، البتة محال عقلا. فثبت
أن المؤثر لا يعقل إلا على سبيل الإيجاب.
والجواب قوله :
إنما لم يوجد العالم فى الأزل لاستحالة وجوده أزلا. قلنا وقوع العالم بالقدرة
والاختيار فى الأزل محال. اما اسناده إلى العلة الموجبة غير محال. فلم يصلح هذا
مانعا عن صدوره عن العلة القديمة فى الأزل.
سلمنا كونه محالا
فى الأزل ولكن لو وجد قبل أن يوجد بمقدار
__________________
يوم لم يصر بسبب
ذلك أزليا ، وكان يجب أن يوجد قبل أن وجد ، ولأن العلة قائمة ، والمانع المذكور
مفقود.
أما حوادث لا أول
لها فقد تقدم ابطالها ، وأما الواسطة فقد أجمع المسلمون على إبطالها.
وأما المعارضة
الأولى فجوابها أنه لم لا يجوز أن يكون المؤثر المستجمع بجميع جهات المؤثرية تارة
يكون مصدرا للأثر وتارة لا يكون ونحن قد بينا أن المختار هو الّذي يمكنه الترجيح
لا لمرجح.
وأما الثانية
فجوابها أن التمكن ثابت بالنسبة إلى المقدور قبل دخوله فى الوجود.
قوله لا مكنة له
فى الحال على الشيء الّذي سيوجد فى الاستقبال. قلنا لا نسلم. ولم لا يجوز أن يقال
حصل فى الحال التمكن من إيجاده فى المستقبل.
وأما الثالثة
فجوابها أن القادر هو الّذي يصح أن يصدر عنه ما يكون فى نفسه ممكنا. والفعل إنما
يصح فيما بعده. فلا جرم
__________________
كان الله تعالى
قادرا فى الأزل على التكوين فيما لا يزال.
وأما الرابعة :
فجوابها أن النسبة التى قد ادعيتموها وبنيتم عليها الامتياز ممنوعة فليس فى الوجود
إلا القدرة والمقدور.
وأما الخامسة :
فجوابها أن التعلق اضافة ولا وجود لها فى الأعيان فلا يلزم من عدمها عدم القديم.
وأما السادسة :
فجوابها أن الموجدية إضافة الذات إلى الأثر وقد بينا أن الإضافات لا وجود لها فى
الأعيان.
مسئلة :
اتفق جمهور
العقلاء على أنه تعالى عالم إلا قدماء الفلاسفة.
لنا أن أفعال الله
تعالى محكمة متقنة. وكل من كان أفعاله
__________________
كذلك فهو عالم.
والمقدمة الأولى حسية. والثانية بديهية.
فإن قيل لا نسلم
أن هذا العالم فعله. ولم لا يجوز أن يكون فعل الواسطة سلمناه ، لكن المراد من
الفعل المحكم هو الّذي يكون مطابقا للمنفعة ، أو ما يكون مستحسنا فى العرف ، أو
أمرا ثالثا.
فإن أردتم به
الأول ، فاما أن تريدوا به كون الفعل مطابقا للمنفعة من كل الوجوه ، أو من بعض
الوجوه.
فإن أردتم به
الأول فهو ممنوع. فإن قلتم أن المخلوقات مطابقة للمنفعة من كل الوجوه ، فظاهر أنها
ليست كذلك ، لكثرة ما نشاهد فى العالم من الآفات.
وإن أردتم به
الثانى فمسلم ، لكن كون الفعل مشتملا على النفع
__________________
من بعض الوجوه لا
يدل على كونه فاعله عالما. لأن فعل الساعى والنائم ، بل الحركات الصادرة عن
الجمادات قد تكون نافعة من بعض الوجوه.
وإن أردتم بالمحكم
ما يكون مستحسنا فى العرف فاما أن تريدوا به ما يكون مستحسنا على وجه لا يمكن تصور
ما هو أحسن منه أو تريدوا به كونه مستحسنا فى الجملة.
فإن أردتم به
الأول ، فلا نسلم ان العالم كذلك. فإنا لا ندرى أن ترتيب الكواكب فى السموات ،
وترتيب أبدان الحيوانات على وجه أكمل مما هو الآن عليه ، ممكن أم لا؟.
وإن أردتم به
الثانى فمسلم أن العالم كذلك ، لكنه لا يدل على علم الفاعل فان فعل الساهى والنائم
قد يستحسن من بعض الوجوه.
__________________
وأما إن أردتم
بالاحكام والاتقان معنى ثالثا فاذكروه لنتكلم عليه.
ولئن نزلنا عن
الاستفسار ، فلم قلتم أن الفعل المحكم يدل على علم الفاعل وبيانه من وجوه :
أحدها
: أن الجاهل قد يتفق
منه الفعل المحكم نادرا. واتفق العقلاء على أن حكم الشيء حكم مثله : فلما جاز ذلك
مرة واحدة ، جاز أيضا مرتين وثلاثا وأربعا.
وثانيها أن فعل النحلة فى غاية الإحكام ، وهو بناء البيوت المسدسة
مع كثرة ما فيها من الحكم التى لا يعرفها إلا المهندسون. وكذا العنكبوت تبنى بيتها
فى غاية الاحكام. وكذا نرى كل واحد
__________________
من الحيوانات تأتى
بالأفعال الموافقة لها بحيث يعجز عن تحصيلها أكثر الأذكياء ، مع أنه ليس لشيء منها
علم ولا حكمة.
ولئن سلمنا أن ما
ذكرته يدل على كونه تعالى عالما ، لكنه معارض بأمرين.
الأول
: أن كونه عالما
بالشيء نسبة بينه وبين ذلك الشيء فتلك النسبة غير ذاته لا محالة ، والموصوف بها
والمقتضى لها هو ذاته تعالى ، فيكون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا وهو محال. أما
أولا فلأن البسيط لا يصدر عنه إلا أثر واحد. وأما ثانيا فلأن نسبة القبول بالإمكان
ونسبة التأثير بالوجوب ، والنسبة الواحدة لا تكون بالامكان والوجوب معا.
الثانى
أن العلم ان لم
يكن صفة كمال وجب تنزيه الله تعالى عنه. وان كان صفة كمال كان الله تعالى محتاجا
فى استفادة الكمال
__________________
إلى تلك الصفة.
والكامل بغيره ناقص بذاته ، والمحتاج إلى الغير ناقص أيضا لذاته. وذلك على الله
تعالى محال.
والجواب أما
الكلام فى الواسطة فقد تقدم ، وأما الاحكام ، فالمراد منه الترتيب العجيب ،
والتأليف اللطيف. ولا شك ان العالم كذلك.
قوله : إذا جاز
صدور الفعل المحكم عن الجاهل مرة واحدة فليجز مرارا كثيرة.
قلنا بديهة العقل
بعد الاستقراء شاهدة بالفرق.
وأما الحيوانات
فكل من فعل منها فعلا محكما فهو عالم بذلك الفعل فقط.
وأما المعارضة
الأولى فجوابها لم لا يجوز كون الشيء الواحد قابلا ومؤثرا؟.
وقوله : الواحد لا
يكون مصدرا لأثرين قلنا قد تقدم ابطاله.
__________________
قوله : النسبة
الواحدة لا تكون بالإمكان والوجوب معا. قلنا نسبة القبول بالامكان العام وهو لا
ينافى نسبة الوجوب.
وأما حديث الكمال
والنقصان فخطابى ، وهو معارض بما تقرر فى بداية العقول أن صفة العلم صفة كمال ،
والجهل صفة نقصان وتعالى الله عن النقصان وهو الموفق.
مسئلة :
اتفق العقلاء على
أنه تعالى حي لكنهم اختلفوا فى معنى كونه حيا فذهب الجمهور من الفلاسفة ، ومن
المعتزلة أبو الحسين البصرى إلى أن معناه هو أنه لا يستحيل أن يكون عالما قادرا ،
فليس هناك إلا الذات المستلزمة لانتفاء الامتناع.
وذهب الجمهور من
أصحابنا ومن المعتزلة إلى أنه صفة. احتج أصحابنا بأنه لو لا اختصاص ذاته بما لأجله
صح أن يعلم ويقدر ،
__________________
وإلا لم يكن حصول
هذه الصحة له أولى من لا حصولها.
ولقائل أن يقول لم
لا يجوز أن تكون حقيقته المخصوصة كافية فى هذه الصحة؟ والأقوى أن يقال الامتناع
أمر عدمى لما تقدم بيانه مرارا. فعدم الامتناع يكون عدما للعدم فيكون ثبوتيا.
مسئلة :
اتفق المسلمون على
أنه تعالى مريد لكنهم اختلفوا فى معناه ، فذهب أبو الحسين البصرى إلى أن معناه :
علمه بما فى الفعل من المصلحة الداعية إلى الإيجاد. وعن النجار ان معناه أنه تعالى
غير مغلوب ولا مستكره. وعن الكعبى أن معناه فى أفعال نفسه. كونه عالما بها ، وفى
أفعال غيره كونه آمرا بها.
وعندنا وعند أبى
على وأبى هاشم انه صفة زائدة على العلم. لنا أن حصول أفعاله تعالى فى أوقات معينة
مع جواز حصولها قبلها. وبعدها يستدعى مخصصا. وليس هو القدرة لأن شأنها الايجاد
الّذي نسبته إلى كل الأوقات على السواء ، ولا العلم لأنه تابع
__________________
للمعلوم. فلا يكون
مستتبعا له لامتناع الدور. وظاهر ان سائر الصفات لا يصلح لذلك سوى الإرادة. فلا بد
من اثباتها.
فإن قيل لا نسلم
جواز حصول أفعال الله تعالى قبل أن حصل وبعده. ولم لا يجوز أن يقال لا امكان لها
إلا فى ذلك الزمان المعين والدليل عليه وهو أن المفهوم من حصوله فى ذلك الزمان ليس
أمرا سلبيا لأنه نقيض اللاحصول فيه ولا نفس الذات وإلا لكان متى بطل حصوله فى ذلك
الزمان ، وجب أن يبطل الذات فهو إذن صفة زائدة على الذات لكن هذه الصفة يستحيل
حصولها إلا فى ذلك الزمان ، لأن الصفة المسماة بالحصول فى ذلك الزمان لو حصلت فى
زمان آخر ، لم يكن الحصول فى ذلك الزمان حصولا فى ذلك الزمان ، فاذن امكان حدوث
هذه الصفة مختص بهذا الوقت ، فاذا عقل هاهنا ، فلم لا يعقل فى غيره؟.
لا يقال الإمكان
من لوازم الماهية فيدوم بدوام الماهية لأنا نقول
__________________
هذا إنما يصح لو
كانت الماهية متقررة قبل وجودها ، لكن ذلك باطل ، لأنه بناء على أن الماهية متقررة
حال عدمها ، وهو قول بأن المعدوم شيء ، وهو باطل.
سلمنا ذلك لكن لم
لا يجوز أن يقال الماهية بشرط حصولها فى هذا الوقت ، يقتضي الإمكان ، وبشرط حصولها
فى وقت آخر ، يقتضي الامتناع ، كما أن الطبيعة الأرضية بشرط حصولها فى المركز
يقتضي السكون وبشرط حصولها فى الهواء يقتضي الحركة.
سلمنا الإمكان ،
لكن لم لا يجوز أن يقال الله تعالى خلق الأفلاك ، وخلق فيها طباعا محركة لها
لذواتها. ثم ان بسببها تتولد هذه الحوادث فى عالمنا هذا.
وإذا كانت الحوادث
العنصرية مرتبطة بالاتصالات الفلكية ثم للاتصالات الفلكية مناهج معينة يمتنع فيها
تقدم المتأخر وتأخر المتقدم ، كانت الحوادث العنصرية كذلك وحينئذ لا حاجة لها إلى
__________________
المخصص.
فإن قلت فلم خلق
العالم فى الوقت المعين وما خلقه قبل ذلك ولا بعده.
قلت هذا إنما يصح
لو كان قبل خلق الفلك وقت وزمان ، وذلك محال بالاتفاق. أما عند الفلاسفة فلأن
الزمان مقدار حركة معدل النهار ، فقبل وجودها لا يمكن وجود الزمان.
وأما عند المسلمين
، فلأن الزمان محدث وإذا كان كذلك ، فقبل الخلق لا زمان ، فيستحيل أن يقال لم لم
يخلقه فى زمان آخر.
سلمنا أنه لا بد
من مخصص فلم لا تكفى القدرة.
قوله : نسبتها إلى
الكل على السواء.
قلنا والإرادة
أيضا نسبتها إلى الكل على السواء فلتفتقر الإرادة إلى إرادة أخرى ، لا إلى نهاية.
فإن قلت الإرادة
القديمة كانت على صفة لأجلها يجب تعلقها بإحداث الحادث المعين فى الوقت المعين ،
ويستحيل تعلقها باحداث ذلك الحادث فى وقت آخر ، قلت لو كان الأمر كذلك لم يكن الله
__________________
تعالى بالحقيقة
مختارا بل كان موجبا بالذات وهو قول الفلاسفة وأيضا فإن جاز ذلك فلم لا يجوز أن
يقال قدرة الله تعالى كانت على صفة لأجلها يجب تعلقها بايجاد الحادث المعين فى
الوقت المعين ويستحيل تعلقها بايجاده فى وقت آخر. وعلى هذا التقدير تستغنى القدرة
عن الإرادة.
سلمنا أن القدرة
غير صالحة لذلك ، فلم لا يكفى العلم.
بيانه من وجهين :
الأول
: ان الله تعالى
عالم بجميع المعلومات فيكون عالما بما فيها من المصالح والمفاسد. والعلم باشتمال
الفعل على المصلحة ، أو المفسدة مستقل بالدعاء إلى الإيجاد والترك بدليل أنا متى
علمنا فى الفعل مصلحة خالية عن المضار ، دعانا ذلك العلم إلى العمل ، بل اسناد
الترجيح إلى هذا العلم أولى من اسناده إلى الإرادة. فإن الله تعالى لو أوقف المكلف
على شفير جهنم وخلق فيه علما بما فى دخول النار من
__________________
المضار ، وخلق فيه
إرادة دخول النار فانه لا يدخل النار ولأجل ذلك قد نريد الشيء إرادة قوية وتتركه
لعلمنا بما فيه من المفسدة.
الثانى
: وهو أن الله تعالى
عالم بجميع الأشياء ، فيعلم أيها يقع وأيها لا يقع. ووجود ما علم الله تعالى عدمه
محال ، وبالعكس. فلا جرم يوجد ما علم الله تعالى وجوده ، فكان ذلك كافيا فى التخصيص.
سلمنا أن ما ذكرتم
يدل على قولك ، فمعنا ما يبطله ، وهو أن المريد اما أن يريد لغرض أو لا لغرض. فان
كان لغرض كان مستكملا بذلك الغرض والمستكمل بالغير ناقص بالذات ، وهو على
__________________
الله تعالى محال.
وان كان لا لغرض كان ذلك عبثا ، والعبث على الله تعالى محال.
والجواب أن الجسم
الموصوف بالحركة ، كان يمكن أن يصير موصوفا بها قبل ذلك الوقت والمحكوم عليه بهذا
الإمكان ليس هو المعدوم ، بل الجسم الموجود.
قوله : يجوز أن
يكون ممكنا فى وقت وممتنعا فى وقت آخر.
قلنا : الوقت إن
لم يكن موجودا استحال أن يكون له أثر. وإن كان موجودا كان الكلام فيه كما فى
الأول.
قوله هذه الحوادث
مستندة إلى الاتصالات الفلكية.
قلنا سنقيم
الدلالة على أن جميع الممكنات واقع بقدرة الله تعالى.
أما المعارضة بنفس
الإرادة فقوية وجوابها أن مفهوم كون الشيء
__________________
مرجحا غير مفهوم
كونه مؤثرا ، وذلك يوجب الفرق بين القدرة والإرادة ويتوجه عليه أن المفهوم من كونه
عالما بهذا السواد غير المفهوم من كونه عالما بذلك السواد. فيلزم أن يكون له بحسب
كل معلوم علم. وقد التزمه الأستاذ أبو سهل الصعلوكى منا وهذا الوجه ليس ببعيد.
قوله : لم لا يكفى
علمه تعالى بما فى الأفعال من المصالح والمفاسد.
قلنا سنقيم
الدلالة على أن أفعال الله تعالى لا يجوز تعليلها بالمصالح.
قوله : إنما يوجد
ما علم الله تعالى أنه يوجد.
قلنا العلم بأن
الشيء سيوجد تابع لكونه بحيث سيوجد فكونه بحيث : سيوجد ، لو كان لأجل ذلك العلم ،
لزم الدور ، بل لا بد من
__________________
صفة أخرى.
قوله : المريد إما
أن يرجح لغرض أو لا لغرض.
قلنا إرادة الله
تعالى منزهة عن الأغراض ، بل هى واجبة التعلق بايجاد ذلك الشيء فى ذلك الوقت
لذاتها. وبالله التوفيق.
مسئلة :
اتفق المسلمون على
أنه تعالى سميع بصير لعلمهم اختلفوا فى معناه. فقالت الفلاسفة ، والكعبى ، وأبو
الحسين البصرى : ذلك عبارة عن علمه تعالى بالمسموعات والمبصرات. وقال الجمهور منا
، ومن المعتزلة ، والكرامية انهما صفتان زائدتان على العلم.
لنا أنه تعالى حي
والحى يصح اتصافه بالسمع والبصر. وكل من صح اتصافه بصفة ، فلو لم يتصف بها اتصف
بضدها ، فلو لم يكن الله تعالى سميعا بصيرا ، كان موصوفا بضدهما وضدهما نقص
__________________
والنقص على الله
تعالى محال.
فإن قيل : حياة
الله تعالى مخالفة لحياتنا. والمختلفان لا يجب اشتراكهما فى جميع الأحكام ، فلا
يلزم من كون حياتنا مصححة للسمع والبصر ، كون حياته كذلك.
سلمنا ذلك ، لكن
لم لا يجوز أن يقال حياته تعالى وان صححت السمع والبصر ، لكن ماهيته تعالى غير
قابلة لهما ، فامتنع ثبوتهما كما أن الحياة وان صححت الشهوة والنفرة ولكن ماهيته
تعالى غير قابلة لهما فامتنع ثبوتهما فكذلك هاهنا.
سلمنا ان ذاته
تعالى قابلة لهما ، لكن لم لا يجوز أن يكون حصولها موقوفا على شرط ممتنع التحقق فى
ذات الله تعالى. وهذا هو قول الفلاسفة. فإن عندهم إبصار الشيء مشروط بانطباع صورة
صغيرة مشابهة لذلك المرئى فى الرطوبة الجليدية. وإذا كان
__________________
ذلك فى حق الله
تعالى ممتنعا لا جرم لم تثبت الصحة.
سلمنا حصول الصحة.
لكن لم قلت أن القابل للصفة يستحيل خلوه عنها وعن ضدها معا. وقد تقدم تقريره.
سلمنا ذلك لكن ما
المعنى بالنقص. ثم لم قلت أن النقص على الله تعالى محال فإن رجعوا فيه إلى الإجماع
صارت الدلالة سمعية وإذا كان الدليل على حقيقة الإجماع هو الآية والآيات الدالة
على السمعية والبصرية ، أظهر دلالة من الآيات الدالة على صحة الاجماع ، كان الرجوع
فى هذه المسألة إلى التمسك بالآية أولى. فالمعتمد التمسك بالآيات.
ولا شك أن لفظ
السمع والبصر ليس حقيقة فى العلم بل مجاز
__________________
فيه. وصرف اللفظ
عن الحقيقة إلى المجاز لا يجوز إلا عند قيام المعارض. وحينئذ يصير الخصم محتاجا
إلى إقامة الدلالة على امتناع اتصافه تعالى بالسمع والبصر.
ومن الأصحاب من
قال السميع والبصير أكمل ممن ليس بسميع ولا بصير. والواحد منا سميع بصير ، فلو لم
يكن الله تعالى كذلك ، لكان الواحد منا أكمل من الله تعالى ، وهو محال.
وهذا ضعيف لأن
لقائل أن يقول الماشى أكمل ممن لا يمشى ، والحسن الوجه أكمل من قبيح الوجه.
والواحد منا موصوف به فلو لم يكن الله تعالى موصوفا به لزم أن يكون الواحد منا
أكمل من الله تعالى.
فإن قلت المشى صفة
كمال فى الأجسام ، والله تعالى ليس بجسم فلا يتصور ثبوته فى حقه.
قلت فلم قلت ان
السمع والبصر ليسا من صفات الأجسام وحينئذ
__________________
يعود البحث
المذكور.
مسئلة :
اتفق المسلمون على
اطلاق لفظ المتكلم على الله تعالى لكنهم اختلفوا فى معناه فزعمت المعتزلة ان معناه
كونه تعالى موجد الأصوات دالة على معان مخصوصة فى أجسام مخصوصة. واعلم أنا لا
ننازعهم فى المعنى لأنا نعتقد أن جميع الحوادث واقعة بقدرة الله تعالى. ونسلم أن
خلق الأصوات فى الأجسام الجمادية والحيوانية جائز. وإذا ثبت ذلك فقد ساعدناهم على
المعنى وبقى هاهنا النزاع فى أن اسم المتكلم هل وضع فى اللغة لهذا المعنى أم لا.
وهذا بحث لغوى لا حظ للعقل فيه البتة والمتكلمون من الفريقين قد طولوا فيه ولا
فائدة فيه.
أما أصحابنا فقد
اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتكلم بالكلام الّذي هو الحروف والأصوات بل زعموا أنه
متكلم بكلام النفس.
والمعتزلة ينكرون
هذه الماهية وبتقدير الاعتراف بها ينكرون
__________________
اتصاف ذات الله
تعالى بها وبتقدير ذلك ينكرون كونها قديمة وبتقدير ذلك ينكرون كونها واحدة.
فالحاصل أن الّذي ذهبوا إليه فنحن من القائلين به ، إلا أنا أثبتنا أمرا آخر ، وهم
ينازعوننا فى الماهية والوجود والقدم والوحدة ، فهذه مقدمة لا بد من معرفتها
للخائض فى هذه المسألة.
واحتج الأصحاب على
كونه تعالى متكلما بأمور :
أحدها
: إنه تعالى حي.
والحى يصح اتصافه بالكلام. فلو لم يكن الله تعالى موصوفا بالكلام لكان موصوفا بضده
، وهو نقص على الله تعالى وذلك محال.
قالت المعتزلة
التصديق مسبوق بالتصور : فما ماهية هذا الكلام؟ فإن الّذي نجده من أنفسنا ليس إلا
هذه الحروف والأصوات أو تخيل هذه الحروف والأصوات وأنتم لا تثبتونها لله تعالى.
__________________
فإن قلت أعنى
بالأمر طلب الفعل. قلت لم لا يجوز أن يكون ذلك الطلب هو الإرادة. وأنتم حيث حاولتم
الفرق بينه وبين الإرادة فقد قلتم الله تعالى قد يأمر بما لا يريد. لكن هذا الفرق
إنما يثبت بعد ثبوت كونه تعالى متكلما ، وذلك موقوف على تصور ماهية الكلام. فلو
بنينا تصور ماهية الكلام عليه لزم الدور. ولئن نزلنا عن هذا المقام. لكن لم قلت :
إنه يصح اتصاف ذات الله تعالى به.
وتقريره بالوجوه
الثلاثة المذكورة فى مسئلة السمع والبصر.
سلمنا أنه يصح
اتصافه به ، لكن لم قلت ان ضده نقص وآفة ، بل الّذي نعده نقصا وآفة فى العرف هو
العجز عن التلفظ بالحروف.
فأما ضد المعنى
الّذي ذكرتموه فلم قلتم أنه نقص ، بل لو قيل
__________________
أن ذلك المعنى هو
النقص لكان أقرب. فان ثبوت الأمر والنهى من غير حضور المخاطب سفه ، وهو نقص وبقية
الأسئلة هى التى تقدمت فى المسألة السابقة.
وثانيها قالوا : لما علمنا أن أفعال الله تعالى يجوز عليها التقديم
والتأخير. لا جرم أسندناها إلى مرجح وهو الإرادة.
فكذلك رأينا أفعال
العباد مترددة بين الحظر والاباحة والندب والوجوب. فاختصاصها بهذه الأحكام يستدعى
مخصصا ، وليس ذلك هو الإرادة ، لأن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد ، وبالعكس فلا
بد من صفة أخرى وهى الكلام. وهذا أيضا ضعيف لأنا نقول لم لا يجوز أن يكون معنى
الوجوب والحظر هو أن الله تعالى عرف المكلف إنه يريد عقاب من يترك الفعل الفلانى
فى الآخرة أو يريد ايصال الثواب إليه فى الآخرة. وهذا القدر مما لا حاجة فيه إلى
اثبات الكلام.
__________________
فإن ادعيت أمرا
وراء ذلك فهو ممنوع.
وثالثها
: أن الله تعالى ملك
مطاع ، والمطاع هو الّذي له الأمر والنهى ، وهو ضعيف جدا ، لأنهم ان عنوا بالمطاع
نفوذ قدرته ومشيئته فى المخلوقات فهو مسلم. وإن عنوا به أن له أمرا ونهيا فهو أول
المسألة.
ورابعها
: اجماع المسلمين
على كونه متكلما ، وهو ضعيف جدا لما بينا أن الاجماع ليس إلا على اللفظ. أما فى
المعنى الّذي يقول به أصحابنا فهو غير مجمع عليه ، بل لم يقل به أحد إلا أصحابنا
والمعتمد قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً).
فإن قيل اسم
الكلام موضوع فى اللغة لهذه الألفاظ. وأنتم لا تقولون بكونه تعالى موصوفا بالكلام
بهذا المعنى فقد صرفتم اللفظ عن ظاهره. وإذا كان كذلك ، لم يكن صرفه إلى المعنى
الّذي ذكرتموه أولى من صرفه إلى معنى آخر ، وهو الأمر الّذي به عرف الله تعالى ما
يفعل بالمكلفين فى الآخرة من الثواب والعقاب ثم ان نزلنا
__________________
عنه لكنه اثبات
الكلام بالكلام واثبات الشيء بنفسه باطل والجواب ان صرفه إلى هذا المعنى أولى لقول
الشاعر :
ان الكلام لفى
الفؤاد وإنما
|
|
جعل اللسان على
الفؤاد دليلا
|
والجواب عن الثانى
أنه إثبات كلام الله تعالى بإخبار الرسول عليهالسلام والعلم بصدق الرسول لا يتوقف على العلم بكونه تعالى متكلما
، لأنا مهما علمنا أنه لا يجوز ظهور المعجزة على يد الكاذب علمنا صدقه ، سواء
علمنا كلام الله تعالى أو لم نعلم. فهذا منتهى التقرير فى هذه المسألة والله أعلم.
مسئلة :
ذهب أبو الحسن
الأشعرى رضى الله عنه وأتباعه إلى أن الله سبحانه وتعالى باق ببقاء يقوم به. وذهب
القاضى ، وامام الحرمين إلى نفيه ، وهو الحق.
__________________
لنا المعقول من
البقاء صفة تقتضى ترجيح الوجود على العدم وهذا إنما يعقل فى حق ممكن الوجود. فواجب
الوجود لذاته يستحيل أن يكون رجحان وجوده على عدمه معللا بمعنى وأيضا فذلك البقاء
لا شك أنه باق. فإن كان باقيا ببقاء آخر ، لزم : اما التسلسل ، أو الدور وان كان
باقيا ببقاء الذات التى فرضناها باقية بذلك البقاء لزم الدور وان كان باقيا بنفسه
، وتكون الذات باقية به مفتقرة إليه ، وحينئذ انقلبت الذات صفة والصفة ذاتا وهو
محال. وأما فى الشاهد ، فليس بمعنى أيضا ، لأن شرط حصوله فى الجوهر حصول الجوهر فى
الزمان الثانى. فلو افتقر حصول الجوهر فى الزمان الثانى إليه ، لزم الدور.
ولقائل أن يقول
البقاء نفس حصول الجوهر فى الزمان الثانى ، لا أنه أمر موقوف عليه. وجوابه أن نفس
الحصول فى الزمان ليس صفة زائدة والا لزم التسلسل.
__________________
احتجوا بأن الذات
لم تكن باقية حال الحدوث ، ثم صارت باقية فوجب أن يكون البقاء زائدا عليه. والجواب
بأنه معارض أن الذات كانت حادثة زمان الحدوث ، ثم حال البقاء ما بقيت حادثة. فيلزم
أن يكون الحدوث صفة زائدة ، وهو محال على ما تقدم.
فإن قلت الحدوث
نفس حصوله فى الزمان الأول قلت البقاء نفس حصوله فى الزمان الثانى وبالله التوفيق.
مسئلة :
ذهب أكثر المسلمين
على أنه تعالى عالم بكل المعلومات خلافا للفلاسفة ولقوم من أهل الملة.
لنا أن الله تعالى
لكونه حيا يصح أن يكون عالما بكل المعلومات. فلو اختصت عالميته بالبعض دون البعض
لافتقر إلى المخصص ، وهو محال.
ومن الدهرية من
زعم أنه لا يعلم ذاته لأن العلم أمر إضافى ،
__________________
فلو علم ذاته
لكانت ذاته مضافة إلى نفسه. واضافة الشيء إلى نفسه محال.
فإن قلت ذاته
تعالى من حيث إنه عالم مغاير له من حيث إنه معلوم ، وهذا القدر من التغاير يكفى فى
تحقق هذه الاضافة.
قلت صيرورة الذات
عالمة ومعلومة يتوقف على قيام العلم به وهو موقوف على المغايرة والمغايرة موقوفة
على صيرورة الذات عالمة ومعلومة فيلزم الدور.
جوابه إنه منقوض
بعلمنا بأنفسنا.
ومنهم من سلم كونه
تعالى عالما بنفسه ومنع كونه عالما بغيره. لأن العلم صورة مساوية للمعلوم فى
العالم ، أو إضافة مخصوصة بين العالم والمعلوم فلو علم الله تعالى الحقائق لحصلت
تلك الصور أو تلك الإضافات فى ذاته تعالى فتحصل الكثرة فى ذاته.
والجواب أن الكثرة
فى الصور أو الإضافات وهى من لوازم
__________________
الذات لأنفسها.
ومنهم من زعم أنه
لا يعلم الجزئيات لأنه لو علم كون زيد فى الدار فعند خروجه منها ان بقى العلم
الأول كان جهلا وان لم يبق كان تغيرا.
والجواب أنك أن
عنيت بالتغير وقوع التغير فى الأحوال الإضافية. فلم قلت إنه محال. ولذلك فإن الله
تعالى كان قبلا لكل حادث ثم يصير معه ثم يصير بعده والتغير فى الاضافات لا يوجب
تغير الذات فكذلك هاهنا كونه عالما بالمعلوم إضافة بين علمه وبين ذلك المعلوم فعند
تغير المعلوم تتغير تلك الإضافة فقط.
ومنهم من زعم أنه
لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها وقبل ذلك فإنه لا يعلم إلا الماهية.
واحتج عليه بوجهين
:
__________________
الأول
: ان المعلوم متميز
والشخص قبل وجوده نفى محض ، فلا يكون فى نفسه متميزا ، فلا يصح أن يكون معلوما.
الثانى
: إنه تعالى لو علم
الأشياء قبل وقوعها ، وكل ما علم فهو واجب الوقوع. لأن عدم وقوعه يفضى الى انقلاب
العلم جهلا ، وهو محال. والمؤدى إلى المحال محال فعدم وقوعه محال. فوقوعه واجب
وحينئذ يلزم الجبر وإن لا يتمكن الحيوان من فعل أصلا ، بل يكون كالجماد ، لأن ما
علم وقوعه فهو واجب وما علم عدمه ، فهو ممتنع.
والجواب عن الأول
إنه منقوض بعلمنا بالمعدومات الشخصية قبل وقوعها ، كعلمنا بطلوع الشمس غدا.
وعن الثانى
بالتزام ان ما علم الله تعالى وقوعه فهو واجب.
ومنهم من أنكر
كونه عالما بما لا نهاية له واحتج عليه بثلاثة أوجه :
__________________
الأول
ان المعلومات
تتطرق إليها الزيادة والنقصان. فإن بعضها أقل من كلها. وما كان كذلك فهو متناه.
الثانى
ان كل ما كان
معلوما فهو متميز عن غيره وكل ما كان متميزا عن غيره فغيره خارج عنه وكل ما كان
غيره خارجا عنه فهو متناه. فالمعلوم متناه فما ليس بمتناه وجب أن لا يكون معلوما.
الثالث
أن العلم بكل
معلوم يغاير العلم بغيره بدليل أنه يصح أن يعلم كون الشيء عالما بشيء مع الغفلة عن
كونه عالما بشيء آخر والمعلوم غير المجهول ، فلو كانت المعلومات غير متناهية ،
لكانت العلوم غير متناهية فهناك موجودات غير متناهية ، وهو محال.
والجواب عن الأول
ما تقدم أن تطرق الزيادة والنقصان إلى الشيء لا يدل على التناهى.
__________________
وعن الثانى ان
المتميز كل واحد منها وهو متناه.
وعن الثالث ان
العلم واحد لكن نسبته غير متناهية ، وهذا ضعيف. لأن الشعور بالشيء إذا كان لا
يتحقق إلا مع هذه النسب ، فهذه النسب ان لم تكن موجودة ، لم يكن العلم موجودا. وان
كانت موجودة ، عاد الإلزام. وقد ذكرنا أن الأستاذ أبا سهل الصعلوكى التزمه.
ومنهم من أنكر
كونه تعالى عالما بجميع المعلومات واحتج عليه بأنه لو علم جميع المعلومات لكان إذا
علم شيئا ، علم كونه عالما به ، وعلم أيضا كونه عالما بكونه عالما به. ويترتب هناك
مراتب غير متناهية. وإذا كانت معلوماته غير متناهية وله بحسب كل معلوم مراتب غير
متناهية ، كانت الصفات غير متناهية. لا مرة واحدة ، بل مرارا غير متناهية.
فإن قلت : العلم
بالشيء نفس العلم بالعلم به ، قلت هذا باطل. لأن العلم بالشيء إضافة إلى الشيء
والعلم بالعلم بالشيء اضافة بين العلم وبين العلم بالشيء والإضافة إلى الشيء غير
الإضافة إلى غيره.
__________________
والجواب ان لا
نهاية فى النسب والتعلقات ، وهى أمور غير ثبوتية. إنما الثابت هو العلم ، وهو صفة
واحدة. وفيه الإشكال الّذي قدمناه وبالله التوفيق.
مسئلة :
ذهب أصحابنا إلى
أن الله تعالى قادر على كل المقدورات خلافا لجميع الفرق.
لنا أن ما لأجله
صح فى البعض أن يكون مقدورا لله تعالى هو الإمكان ، لأن ما عداه أما الوجوب واما
الامتناع ، وهما يحيلان المقدورية لكن الإمكان وصف مشترك فيه بين الممكنات فيكون
الكل مشتركا فى صحة مقدورية الله تعالى ، فلو اختصت قادريته بالبعض دون البعض افتقر
إلى المخصص وإذا ثبت إنه تعالى قادر على جميع الممكنات وجب أن لا يوجد شيء من
الممكنات إلا بقدرته إذ لو فرضنا شيئا آخر مؤثرا لكان إذا اجتمعا على ذلك الممكن ،
فاما
__________________
أن يقع ذلك الممكن
بهما معا. فيجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان بالتأثير وهو محال ، أو لا يقع
بواحد منهما وهو محال. لأن المانع من وقوعه بهذا وقوعه بذلك. فما لم يوجد وقوعه
بهذا لا يمتنع وقوعه بذلك وبالعكس. فلو امتنع وقوعه بهذا وذلك لزم وقوعه بهذا وذاك
حتى يكون وقوعه بكل واحد منهما مانعا من وقوعه بالآخر ، وذلك محال ، وإما أن يقع
بأحدهما دون الآخر ، وهو محال لأن كل واحد منهما لما كان مستقلا بالتأثير ، كان وقوعه
بأحدهما دون الآخر ترجيحا لأحد طرفى الممكن على الآخر من غير مرجح ، وهو محال فثبت
أن جميع الممكنات واقع بقدرة الله تعالى وتعلقاته.
اما الفلاسفة فقد
منعوا أن يصدر من الواحد أكثر من واحد. وقد تقدم الجواب عن حجتهم.
وأما الثنوية
والمجوس فقد زعموا انه غير قادر على الشرور لأن
__________________
فاعل الخيرات خير
وفاعل الشرور شرير. والفاعل الواحد يستحيل أن يكون خيرا شريرا.
والجواب إن عنيتم
بالخير والشرير موجد الخير والشر ، فلم قلتم أن الفاعل الواحد يستحيل أن يكون كذلك؟
وان عنيتم به غيره فبينوا.
اما النظام فانه زعم
انه لا يقدر على خلق القبيح.
واحتج بأن فعل
القبيح محال والمحال غير مقدور.
اما أنه محال
فلأنه يدل على الجهل أو الحاجة وهما محالان والمؤدى إلى المحال محال. وأما أن
المحال غير مقدور فلأن المقدور هو الّذي يصح إيجاده. وذلك يستدعى صحة الوجود ،
والممتنع ليس له صحة الوجود.
والجواب لا نسلم
أن فعل شيء قبيح يدل على الجهل أو الحاجة ،
__________________
بل هو مالك قله أن
يفعل ما يشاء سلمناه لكن هذا الامتناع إنما جاء من جهة الداعى.
فلم قلت إنه ممتنع
من جهة القدرة. فإن القادر عند انجزام إرادته بالترك يمتنع عليه الفعل نظرا إلى
هذا الداعى. ولكنه يكون قادرا على الفعل ، نظرا إلى إنه لو حصل له الداعى إلى
الفعل بدلا عن الداعى إلى الترك لكان قادرا عليه.
وأما عباد بن
سليمان فإنه زعم أن ما علم الله تعالى أنه يكون فهو واجب ، وما علم أنه لا يكون
فهو ممتنع. والواجب والممتنع غير مقدور.
والجواب أن هذا
يقتضي أن لا يكون لله تعالى مقدور أصلا. لأن
__________________
كل شيء فهو إما
معلوم الوجود أو معلوم العدم.
ثم نقول إنه وان
كان واجبا نظرا إلى العلم لكنه ممكن فى نفسه ، فكان مقدورا. ولأن العلم بالوقوع
تبع للوقوع الّذي هو تبع القدرة. والمتأخر لا يبطل المتقدم.
واما البلخى فقد
زعم أن الله تعالى لا يقدر على مثل مقدور العبد لأن مقدور العبد ، اما طاعة أو سفه
أو عبث وذلك على الله محال.
والجواب أن الفعل
فى نفسه اما حركة أو سكون مثلا وكونه طاعة وسفها وعبثا أحوال عارضة له ، من حيث
كونه صادرا عن العبد. والله تعالى قادر على مثل ذات ذلك الفعل وأما أبو على
الجبائى وأبو هاشم واتباعهما ، فقد زعموا أن الله تعالى قادر على مثل مقدور العبد
لكن غير قادر على نفس مقدوره. لأن المقدور من شأنه أن
__________________
يوجد عنه عند توفر
الدواعى للقادر وأن يبقى على العدم عند توفر صارفه. فلو كان مقدور العبد مقدورا
لله تعالى ، لكان إذا أراد الله تعالى وقوعه ، وكره العبد وقوعه ، يلزم أن يوجد
لتحقق الداعى ، وان لا يوجد لتحقق الصارف ، وهو محال.
والجواب أن البقاء
على العدم عند تحقق الصارف ممنوع مطلقا ، بل ذلك إنما يجب إذا لم يقم مقامه سبب
آخر مستقل ، وهو أول المسألة.
مسئلة :
اتفق أصحابنا على
أنه تعالى عالم بالعلم قادر بالقدرة حي بالحياة خلافا للفلاسفة والمعتزلة. وأهم
المهمات فى هذه المسألة الكشف عن محل النزاع.
فنقول اما نفاة
الأحوال منا فقد زعموا أن العلم نفس العالمية والقدرة نفس القادرية ، وهما صفتان
زائدتان على الذات. واعترف أبو على الجبائى وأبو هاشم بهذا الزائد إلا أنهم قالوا
لا نسمى هذه
__________________
الأمور علما وقدرة
، بل عالمية وقادرية. فيكون الخلاف فى الحقيقة لفظيا بل ذهب أبو هاشم إلى أنها
أحوال. والحال لا تعلم ولكن تعلم الذات عليها. وعندنا ان هذه الأمور معلومة فى
نفسها.
وقول أبى هاشم
باطل قطعا ، لأن ما لا يتصور فى نفسه ، استحال التصديق بثبوته لغيره.
وأما أبو على
الجبائى فإنه سلم فيها أنها معلومة فعلى هذا لا يبقى بينه وبين نفاة الأحوال منا
خلاف معنوى البتة.
وأما مثبتو الحال
منا فقد زعموا أن عالمية الله تعالى صفة معللة بمعنى قائم به وهو العلم ، وهو لا
يتحقق الخلاف بينهم وبين المعتزلة فى المعنى.
وأما نحن فلا نقول
بذلك لأن الدلالة ما دلت إلا على اثبات أمر زائد على الذات. فأما على الأمر الثالث
، فلا دليل عليه البتة لا فى الشاهد ولا فى الغائب.
أما الفلاسفة ؛
فمن مذهبهم أن العلم عبارة عن حصول صورة
__________________
مساوية للمعلوم فى
العالم. فإذا كانت المعلومات مختلفة فى الماهيات كانت الصور المساوية لها مختلفة
فى الماهية فيكون علم الله تعالى بالمعلومات أمورا زائدة على ذاته تعالى وهى من
لوازم ذاته.
وقد صرح ابن سينا
بذلك فى النمط السابع من كتاب الإشارات وعلى هذا فقد سلموا أن علم الله تعالى معنى
قائم به إلا أنهم يعبرون عن هذا المعنى بعبارة أخرى.
فيقولون علم الله
تعالى صفة خارجة عن ذات الله تعالى متقومة بتلك الذات فكأنهم عبروا عن المعنى
بالصفة الخارجة ، وعن القيام بالذات بالتقوم بالذات. فظهر أنهم يساعدون فى هذه
المسألة على المعنى بل يبقى الخلاف بينهم وبين مثبتى الحال منا. فانهم لا يقولون
إلا بالذات وتلك الصورة اللازمة للذات. ومثبتو الحال منا قالوا بأمور ثلاثة :
بالذات والعالمية والعلم فظهر أن الّذي يقوله
__________________
نفاة الحال منا
متفق عليه بين كل من أقر بكون الله تعالى عالما قادرا.
لنا أن بعد العلم
بكونه تعالى موجودا يفتقر إلى دليل آخر يدل على كونه تعالى عالما قادرا ، والمعلوم
ثانيا غير المعلوم أولا ، فعلمه تعالى زائد على ذاته.
احتج الخصم بأمور أحدها : أن علمه لو كان زائدا على ذاته ، لكان مفتقرا إلى ذاته ،
فيكون ممكنا لذاته ، واجبا بعلة وتلك العلة ليست إلا تلك الذات ، والموصوف به ليس
إلا الذات ، فتكون الذات فاعلة وقابلة معا ، وهو محال.
وثانيها
: أن عالمية الله
تعالى واجبة والواجب يستغنى بوجوبه عن العلة.
وثالثها
: لو كان له علم
قديم لكان مشاركا للذات فى القدم.
__________________
وذلك يقتضي
تماثلهما وان لا يكون أحدهما بكونه ذاتا والآخر بكونه صفة أولى من العكس. ورابعها أنها تكون مغايرة للذات فيلزم القول بقدماء متغايرة وهو
محال.
وخامسها
: أن علم الله تعالى
المتعلق بمعلومنا يجب أن يكون مثلا لعلمنا ، فيلزم من حدوث علمنا حدوث علمه.
وسادسها
: أن العلم بكل
معلوم غير العلم بغيره ، على ما تقدم. ومعلومات الله تعالى غير متناهية ، فيلزم أن
يكون له علوم غير متناهية.
والجواب عن الأول
فقد تقدم.
وعن الثانى أنه
إنما يتوجه على من يثبت عالمية ثم يعللها بمعنى ونحن لا نقول به وأيضا فبتقدير
القول به نقول الواجب متى
__________________
لا يعلل ، إذا كان
واجبا بذاته ، أو بغيره.
الأول : مسلم لكن
لم قلت أن عالمية الله تعالى واجبة لذاته بل هذا أول المسألة.
والثانى : باطل
لأن وجوب العالمية بالعلم لا يوجب استغناءه عنه ، كما فى الشاهد.
وعن الثالث : أن
الاشتراك فى القدم اشتراك فى وصف سلبى أو ثبوتى وذلك لا يوجب التماثل أصلا. كما أن
الضدين لا يلزم من اشتراكهما فى التضاد تماثلهما.
وعن الرابع أنكم
إن عنيتم بالتغاير أن كون كل واحد منهما مخالف للآخر فهو كذلك لكنا لا نطلق هذه
اللفظة لعدم الإذن وان عنيتم به جواز المفارقة فى الزمان والمكان ، أو الثبوت
والعدم فلم قلتم
__________________
إنه كذلك وإن
عنيتم به معنى ثالثا فبينوه.
وعن الخامس : أن
علمنا وعلمه المتعلق بمعلومنا يشتركان فى التعلق بذلك المعلوم. ولا يلزم من اشتراك
الشيئين فى بعض اللوازم تماثلهما.
ولئن سلمناه لكن
لا يلزم من حدوث علمنا حدوث علمه ، كما لا يلزم من كون وجوده تعالى مساويا لوجودنا
فى كونه وجودا حدوث وجوده.
وعن السادس أن ما
ألزمتم علينا فى العلم يلزمكم فى نفس العالمية وهو وارد على جميع الشبه فيه وبالله
التوفيق.
مسئلة :
البارى تعالى ليس
مريدا لذاته ، وهو قول أبى على وأبى هاشم
__________________
والخلاف فيه مع
النجار.
لنا ما تقدم.
واحتج أبو على وأبو هاشم على أنه تعالى ليس مريدا لذاته. لأنه لو كان مريدا لذاته
لكان مريدا لجميع المرادات ، كما أنه لما كان عالما لذاته كان عالما بكل المعلومات
، لكن ذلك محال لأن زيدا إذا أراد موت رجل ، وعمرو أراد حياته ، فلو كان الله
تعالى مريدا لكل المرادات ، يلزم أن يكون مريدا لموته وحياته معا ، وهو محال.
ولقائل أن يقول لم
قلت انه لو كان مريدا لذاته لكان مريدا لكل المرادات والقياس على العلم لا يسمن
ولا يغنى من جوع.
وقولهم : لو كانت
المريدية صفة ذاتية لم يكن تعلقها ببعض المرادات أولى من تعلقها بالباقى ، فقد
عرفت ضعفه.
مسئلة :
__________________
لا يجوز أن يكون
الله تعالى مريدا بإرادة حادثة خلافا للمعتزلة والكرامية ، اما عند المعتزلة ، فهو
تعالى مريد بإرادة محدثة لا فى محل وأما عند الكرامية فهو مريد بإرادة يخلقها فى
ذاته.
لنا أن احداث
الشيء لا يصح إلا بالإرادة على ما تقدم. فلو كانت الإرادة حادثة لافتقرت إلى إرادة
أخرى ولزم التسلسل.
مسئلة :
كلام الله تعالى
قديم ، خلافا للمعتزلة والكرامية.
واعلم أن الجمهور
منا يعتقدون أن المعتزلة يوافقوننا فى كونه تعالى متكلما ويخالفوننا فى قدم الكلام
وأما نحن فقد بينا أن الّذي يقول به المعتزلة فنحن نقول به من حيث المعنى ، والّذي
نقول به فهم لا يقولون به البته. فإذا حاولنا مكالمة المعتزلة وجب علينا أن نحقق
ماهية هذا الكلام ثم نقيم الدلالة على أن الله تعالى موصوف بها ثم نقيم الدلالة
على قدمها. فإنهم يخالفوننا فى المواضع الثلاثة :
__________________
فنقول أما
المقامان الأولان وهما المقامان الصعبان مع المعتزلة فقد تقدم القول فيهما وأما
الثالث فالدليل عليه من وجهين :
الأول
: ان القائل قائلان
: قائل أعترف بكون الله تعالى موصوفا بهذا الكلام وقائل أنكر ذلك. وكل من اعترف به
قال إنه قديم. لأن المعتزلة والكرامية لم يعترفوا بكون الله تعالى موصوفا بهذا
الكلام. وإنما قالوا بحدوث الكلام الّذي يكون حرفا وصوتا وإذا ثبت ذلك ، فلو قلنا
بحدوث هذا الكلام كان ذلك قولا ثالثا خارقا للاجماع وهو باطل.
الثانى
: وهو أن هذا الكلام
لو كان محدثا ، لكان اما أن يحدث فى ذات الله تعالى فيكون الله تعالى محلا للحوادث
، وهو محال أو لا يحدث فيه ، وهو محال. لأن كون الله تعالى متكلما قد دللنا على
أنه من صفاته وصفة الشيء يستحيل أن لا تكون حاصلة فيه ، وإلا لجاز أن يكون الجسم
متحركا بحركة قائمة بالغير ، وذلك محال.
احتجوا بأمور :
__________________
أحدها
: أن الأمر بلا
مأمور عبث ، وهو غير جائز على الله تعالى
وثانيها
: أنه تعالى فى
الأزل لو كان متكلما بقوله تعالى (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً). وهو إخبار عن الماضى لكان كاذبا.
وثالثها
: أن الأمة مجمعة
على أن كلام الله تعالى ناسخ ومنسوخ وسور وآيات. وذلك من صفات المحدثات.
والجواب عن الأول
ان عبد الله بن سعيد ذهب إلى أن كلام الله تعالى ، وان كان قديما لكنه ما كان فى
الأزل أمرا ونهيا وخبرا ثم صار فيما لا يزال كذلك وهذا فى غاية البعد.
لأنا لما وجدنا فى
النفس طلبا واقتضاء وبينا الفرق بينه وبين الإرادة أمكننا بعد ذلك أن نشير إلى
ماهية معقولة ، وندعى ثبوتها لله تعالى. فاما الكلام الّذي يغاير هذه الحروف
والأصوات ، ويغاير ماهية الأمر والنهى والخبر فغير معلوم التصور ، فكان القول
بثبوته لله تعالى فى الأزل محض الجهالة.
__________________
وأما جمهور
الأصحاب فقد زعموا أن كلام الله تعالى كان أمرا ونهيا فى الأزل.
ثم منهم من يقول
المعدوم مأمور على تقدير الوجود. وهذا أيضا فى غاية البعد لأن الجماد إذا لم يجز
أن يكون مأمورا فالمعدوم الّذي هو نفى محض كيف يعقل أن يكون مأمورا.
ومنهم من قال إنه
كان فى الأزل أمرا من غير مأمور ثم لما استمر وبقى صار المكلفون بعد دخولهم فى
الوجود مأمورين بذلك الأمر وضربوا له مثالا وهو أن الإنسان إذا أخبره النبي الصادق
بأن الله تعالى سيرزقه ولدا ولكن يموت قبل ولادته فإنه ربما قال لبعض الناس إذا
أدركت ولدى بالغا فقل له إن أباك يأمرك بتحصيل العلم. فهنا قد وجد الأمر ،
والمأمور معدوم ، حتى إنه لو بقى ذلك الأمر وذلك الآمر إلى أوان بلوغ ذلك الصبى
لصار مأمورا بذلك الأمر.
__________________
وعن الثانى أن
الخبر فى الأزل واحد ولكن تختلف اضافته بحسب اختلاف الأوقات وبحسب ذلك تختلف
الألفاظ الدالة عليه ، كما فى العلم.
وعن الثالث أن تلك
الصفات عائدة إلى هذه الحروف والأصوات ، ولا نزاع فيه إنما الكلام فى الصفة
القديمة التى دلت عليها هذه العبارات.
مسئلة :
هذه الصفة القديمة
المسماة بالكلام عندنا واحدة ، خلافا لبعض أصحابنا. فانهم أثبتوا لله تعالى خمس
كلمات : الأمر ، والنهى ، والخبر ، والاستخبار ، والنداء.
لنا أن حقيقة
الكلام هو الخبر. والأمر ، والنهى أيضا خبر لأنه إخبار عن ترتب الثواب والعقاب على
الفعل والترك.
__________________
مسئلة :
خبر الله تعالى
صدق ، لأن الكذب نقص ، وهو على الله تعالى محال. ولأنه لو كان كاذبا لكان كاذبا
بكذب قديم. ولو كان كذلك لاستحال منه الصدق لكن التالى محال لأن كل من علم شيئا صح
منه أن يخبر عنه فى نفسه خبرا صدقه ، وذلك معلوم بالضرورة.
لا يقال هب أن ما
ذكرتموه يدل على أن ذلك الخبر القديم صدق ولكنه لا يدل على كون هذه الألفاظ صدقا.
لأنا نقول للمعتزلة هذا أيضا لازم عليكم لأنكم جوزتم الحذف والاضمار لحكمة لا نطلع
عليها وتجويز ذلك يرفع الوثوق عن هذه الظواهر.
مسئلة :
نحن نعلم بالضرورة
أن ذلك الكلام القديم غير مسموع الآن
__________________
وهل يصح أن يكون
مسموعا؟ هذا مما لم يقم عندى عليه دليل لأنا إنما جوزنا رؤية ما ليس بجسم ولا
بعرض. لأنا لما رأينا الجسم والعرض وثبت أنه لا بد من علة مشتركة وانه لا مشترك
إلا الوجود ، لا جرم.
قلنا يجوز رؤية كل
موجود. أما فى هذه المسألة فالسمع لم يتعلق بالأجسام والأصوات حتى يفتقر إلى علة
مشتركة بل السمع لم يتعلق إلا بالأصوات فجاز أن تكون علة صحة المسموعية هى الصوتية
فقط ، وحينئذ لا يكون ذلك الكلام مسموعا.
مسئلة :
زعم بعض الفقهاء
الحنفية أن التكوين صفة أزلية لله تعالى. وان المكون محدث. فنقول لهم القول بأن
التكوين قديم أو محدث يستدعى تصور ماهية التكوين. فإن كان المراد منه نفس مؤثرية
القدرة فى المقدور ، فهى صفة نسبية والنسب لا توجد إلا مع
__________________
المنتسبين ، فيلزم
من حدوث المكون حدوث التكوين. وان عنيتم به أنه صفة مؤثرة فى صحة وجود الأثر فهى
عين القدرة. وإن عنيتم به أمرا ثالثا فبينوه.
قالوا : القدرة
مؤثرة فى صحة وجود المقدور. والتكوين مؤثر فى نفس وجود المقدور.
قلنا القدرة لا
تأثير لها فى كون المقدور فى نفسه جائز الوجود. لأن ذلك له لذاته. وما بالذات لا
يكون بالغير : فلم يبق إلا أن يكون تأثيرها فى وجود المقدور تأثيرا على سبيل الصحة
، لا على سبيل الوجوب. فلو أثبتنا صفة أخرى لله تعالى مؤثرة فى وجود المقدور ،
لكان تأثيرها فى المقدور. وأن كان على سبيل الصحة كان عين القدرة ، فيلزم اجتماع
المثلين ، ويلزم اجتماع صفتين مستقلتين بالتأثير على مقدور واحد ، وهو محال. وان
كان على سبيل الوجوب لزم استحالة أن لا يوجد ذلك المقدور من الله تعالى ، فيكون
الله تعالى
__________________
موجبا بالذات لا
فاعلا بالاختيار ، وهو باطل بالاتفاق. وأيضا فالقدرة تنافى هذه الصفة ، لأن الموجب
بالذات لا يكون قادرا مختارا.
مسئلة :
الظاهريون من
المتكلمين زعموا أنه لا صفة لله تعالى وراء هذه السبعة أو الثمانية. وأثبت أبو
الحسن الأشعرى رضى الله عنه اليد صفة وراء القدرة ، والوجه صفة وراء الوجود ،
وأثبت الاستواء صفة أخرى.
وأثبت أبو اسحاق
الأسفرائيني صفة توجب الاستغناء عن المكان.
وأثبت القاضى صفات
ثلاثة أخرى : وهى إدراك الشم والذوق واللمس.
وأثبت عبد الله بن
سعيد القدم صفة وراء البقاء.
وأثبت مثبتو الحال
العالمية أمرا وراء العلم. وكذا القول فى سائر الصفات.
وأثبت أبو سهل
الصعلوكى لله تعالى بحسب كل معلوم علما ، وبحسب كل مقدور قدرة.
وأثبت عبد الله بن
سعيد الرحمة ، والكرم ، والرضا صفات
__________________
وراء الإرادة.
والانصاف أنه لا
دلالة على ثبوت هذه الصفات ولا على نفيها ، فيجب التوقف.
واحتج من حصر
الصفات فى السبعة أو الثمانية بانا كلفنا بكمال المعرفة ، وكمال المعرفة انما يحصل
بمعرفة جميع الصفات. ومعرفة جميع الصفات لا يتأتى إلا بطريق ، ولا طريق إلا
الاستدلال بالأفعال والتنزيه عن النقائص. وهذان الطريقان لا يدلان إلا على هذه
الصفات.
والجواب لم قلت
انا أمرنا بكمال المعرفة ولم لا يجوز أن يقال : انا ما أمرنا بأن نعرف من صفات
الله تعالى إلا القدر الّذي يتوقف على العلم به تصديق محمد عليه الصلاة والسلام.
سلمنا ، لكن لا
نسلم أنه لا بد من الدليل سيما وعندنا التكاليف
__________________
بأسرها تكليف ما
لا يطاق. سلمناه لكن لم قلت أن الاستدلال بالأفعال وتنزيه الله تعالى عن النقائض
لا يدل إلا على هذه الصفات فقط.
مسئلة :
ذهب ضرار من
المتقدمين والغزالى من المتأخرين إلى أنا لا نعرف حقيقة ذات الله تعالى ، وهو قول
الحكماء. وذهب جمهور المتكلمين منا ومن المعتزلة إلى أنها معلومة لنا.
حجة المتكلمين أنا
نعرف وجوده ، ووجوده عين ذاته. فلا بد وأن نعلم ذاته ، وإلا لكان الشيء الواحد
بالاعتبار الواحد معلوما مجهولا.
حجة الفريق الثانى
من وجهين :
الأول
إن المعلوم عندنا
منه سبحانه وتعالى ، أما السلوب : كقولنا ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض. ولا شك فى ان
الماهية
__________________
مغايرة لسلب غيرها
عنها.
وأما الإضافات
كقولنا : قادر عالم ولا شك أن الماهية مغايرة لهذه الاضافات. لأن المعلوم عندنا من
قدرة الله تعالى أنها أمر مستلزم للتأثير فى الفعل على سبيل الصحة. فماهية القدرة
مجهولة والمعلوم منها ليس إلا هذا اللازم وهذا التأثير المخصوص.
وكذلك المعلوم
عندنا من علم الله تعالى ليس إلا أنه أمر يلزمه الإحكام والاتقان فى الفعل. فماهية
ذلك العلم غير هذا الأثر. والمعلوم ليس إلا هذا الأثر. فظهر أن ماهية صفات الله
تعالى غير معلومة لنا.
وبتقدير أن تكون
معلومة لكن العلم بالصفة لا يستلزم العلم بماهية الموصوف على التفصيل. ولما دل
الاستقراء على سبيل الانصاف ، انا لا نعلم من حقيقة الله تعالى إلا السلوب
والاضافات. وثبت أن العلم بهما لا يستلزم العلم بالماهية. ثبت أنا لا نعلم حقيقة
الله تعالى.
__________________
الثانى
: إنا قد بينا فى
أول هذا الكتاب أنه لا يمكننا أن تتصور شيئا إلا الّذي ندركه بحواسنا ، أو نجده من
نفوسنا أو نتصوره من عقولنا ، أو ما يتركب من هذه الثلاثة. والماهية الإلهية خارجة
عن هذه الأقسام الثلاثة فهى غير معلومة لنا.
مسئلة :
الله تعالى يصح أن
يكون مرئيا خلافا لجميع الفرق.
أما الفلاسفة
والمعتزلة فلا إشكال فى مخالفتهما.
وأما المشبهة
والكرامية ، فلأنهم إنما جوزوا رؤيته لاعتقادهم كونه تعالى فى المكان والجهة. وأما
بتقدير أن يكون هو تعالى منزها عن الجهة فهم يحيلون رؤيته. فثبت أن هذه الرؤية
المنزهة عن الكيفية مما لا يقول بها أحد إلا أصحابنا. وقبل الشروع فى الدلالة لا
بد من تلخيص محل النزاع.
__________________
فإن لقائل أن يقول
: ان أردت بالرؤية الكشف التام ، فذلك مما لا نزاع فى ثبوته لأن المعارف تصير يوم
القيامة ضرورية. وإن أردت به الحالة التى نجدها من أنفسنا عند إبصارنا الأجسام
فذلك مما لا نزاع فى انتفائه. لأنه عندنا عبارة عن ارتسام صورة المرئى فى العين ،
أو عن اتصال الشعاع الخارج من العين بالمرئى أو عن حالة مستلزمة لارتسام الصورة أو
لخروج الشعاع وكل ذلك فى حق الله تعالى محال. وإن أردت به أمرا ثالثا ، فلا بد من
افادة تصوره. فإن التصديق مسبوق بالتصور.
والجواب إنا إذا
علمنا الشيء حال ما لم نره ، ثم رأيناه. فانا ندرك تفرقة بين الحالتين وقد عرفت أن
تلك التفرقة لا يجوز عودها إلى ارتسام الشبح فى العين ، ولا إلى خروج الشعاع منها.
فهى عائدة إلى حالة أخرى مسماة بالرؤية. فندعى أن تعلق هذه الصفة بذات الله تعالى
جائز ، هذا هو البحث عن محل النزاع.
__________________
والمعتمد أن
الوجود فى الشاهد ، علة لصحة الرؤية. فيجب أن يكون فى الغائب كذلك. وهذه الدلالة
ضعيفة من وجوه :
أحدها : أن وجود
الله تعالى عين ذاته وذاته مخالفة لغيره ، فيكون وجوده مخالفا لوجود غيره فلا يلزم
من كون وجودنا علة لصحة الرؤية ، كون وجوده كذلك.
سلمنا أن وجودنا
يساوى وجود الله تعالى فى مجرد كونه وجودا ، ولكن لا نسلم أن صحة الرؤية فى الشاهد
مفتقرة إلى علة. فإنا بينا أن الصحة ليست أمرا ثبوتيا ، فتكون عدمية. وقد عرفت أن
العدم لا يعلل. سلمنا أن صحة رؤيتنا معللة فلم قلت أن العلة هى الوجود.
قالوا : لأنا نرى
الجوهر واللون وهما قد اشتركا فى صحة الرؤية والحكم المشترك لا بد له من علة
مشتركة ولا مشترك إلا الوجود أو الحدوث. والحدوث لا يصلح للعلية لأنه عبارة عن
وجود
__________________
مسبوق بالعدم.
والعدم السابق لا دخل له فى التأثير فبقى المستقل بالتأثير محض الوجود فيرى فنقول
إنا لا نسلم أن الجوهر مرئى على ما تقدم.
سلمنا ، لكن لا
نسلم أن صحة كون الجوهر مرئيا يساوى صحة كون اللون مرئيا. فلم لا يجوز أن يقال
الصحتان نوعان تحت جنس الصحة. تحقيقه أن صحة كون الجوهر مرئيا يمتنع حصولها فى
اللون لأن اللون يستحيل أن يرى جوهرا والجوهر يستحيل أن يرى لونا وهذا يدل على
اختلاف هاتين الصحتين فى الماهية.
سلمنا الاشتراك فى
الحكم ، فلم قلت إنه يلزم من الاشتراك فى الحكم ، الاشتراك فى العلة. بيانه ما
تقدم من جواز تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين.
سلمنا وجوب
الاشتراك. فلم قلت إنه لا مشترك سوى الحدوث والوجود. وعليكم الدلالة. ثم نحن نذكره
تبرعا وهو الإمكان.
__________________
ولا شك أن الإمكان
يغاير الحدوث.
فإن قلت الإمكان
عدمى قلت فإمكان الرؤية أيضا عدمى ، ولا استبعاد فى تعليل أمر عدمى بعدمى.
سلمنا إنه لا
مشترك سوى الحدوث والوجود. فلم قلت ان الحدوث لا يصلح للعلية.
قوله : لأنه عبارة
عن مجموع عدم ووجود. قلنا لا نسلم بل هو عبارة عن كون الوجود مسبوقا بالعدم.
ومسبوقية الوجود بالعدم غير نفس العدم.
والدليل عليه أن
الحدوث لا يحصل إلا فى أول زمان الوجود. وفى ذلك الزمان يستحيل حصول العدم. فعلمنا
أن الحدوث كيفية زائدة على العدم. سلمنا أن المصحح هو الوجود.
فلم قلت إنه يلزم
من حصوله فى حق الله تعالى حصول الصحة فى حقنا. فان الحكم كما يعتبر فى تحققه حصول
المقتضى يعتبر فيه أيضا انتفاء المانع. فلعل ماهية الله تعالى ، أو ماهية صفة من
صفاته ينافى هذا الحكم. ومما يحققه أن الحياة مصححة للجهل
__________________
والشهوة. ثم ان
حياة الله تعالى لا تصححها. إما لأن الاشتراك ليس إلا فى اللفظ أو إن اشتركا فى
المعنى لكن ماهية ذات الله تعالى أو ماهية صفة من صفاته تنافيها وعلى التقديرين ،
فإنه يجوز فى هذه المسألة ذلك أيضا.
سلمنا أنه لم يوجد
المنافى ، لكن لم لا يجوز أن يكون حصول هذه الرؤية فى عيننا موقوفا على شرط يمتنع
تحققه بالنسبة إلى ذات الله تعالى. فإنا لا نرى المرئى إلا إذا انطبعت صورة صغيرة
مساوية للمرئى فى الشكل فى عيننا ومن المحتمل أن يكون حصول الحالة المسماة بالرؤية
مشروطا بحصول هذه الصورة. أو كان مشروطا بحصول المقابلة ولما امتنع حصول هذه
الأمور بالنسبة إلى ذات الله تعالى لا جرم امتنع علينا ان نرى ذات الله تعالى.
والمعتمد فى
المسألة الدلائل السمعية :
أحدها أن رؤية الله تعالى معلقة باستقرار الجبل ، وهو ممكن ،
__________________
والمعلق على
الممكن ممكن فالرؤية ممكنة.
فإن قيل لا نسلم
أنه علق الرؤية على شرط ممكن ، بل على شرط محال لأنه علقها على استقرار الجبل حال
كونه متحركا ، لأن صيغة إن إذا دخلت على الماضى صارت بمعنى المستقبل.
فقوله : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ) ، أى لو صار مستقرا فى الزمان المستقبل فسوف ترانى. ثم إنه
فى الزمان المستقبل ، إما إن يقال إنه صار مستقرا ، أو ما صار مستقرا ، فإن صار
مستقرا وجب حصول الرؤية لوجوب حصول المشروط عند حصول الشرط. فلما لم تحصل الرؤية
بالاجماع علمنا أن الجبل ، لم يستقر. وإذا لم يستقر كان متحركا ضرورة أنه لا واسطة
بين الحركة والسكون. فاذن الجبل حال ما علق الله تعالى الرؤية باستقراره كان
متحركا. ومعلوم أن استقرار المتحرك حال كونه متحركا محال فثبت أن الشرط ممتنع.
فلا يلزم القطع
بجواز المشروط.
الجواب : سلمنا أن
الجبل فى تلك الحالة كان متحركا لكن الجبل
__________________
بما هو جبل يصح
السكون عليه. والمذكور فى الآية ليس إلا ذات الجبل وأما المقتضى لامتناع الحركة
فهو حصول السكون. فإذا القدر المذكور فى الآية منشأ لصحة الاستقرار وما هو المنشأ
لامتناع الاستقرار فغير مذكور فى الآية فوجب القطع بالصحة.
وثانيها
: أن موسى عليهالسلام سأل الرؤية ، ولو لم تكن الرؤية جائزة لكان سؤال موسى عليهالسلام جهلا وعبثا.
وثالثها
: قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى
رَبِّها ناظِرَةٌ) والنظر أما أن يكون عبارة عن الرؤية ، أو عن تقليب الحدقة
نحو المرئى التماسا لرؤيته. فإن كان الأول صح الغرض. وإن كان الثانى تعذر حمله على
ظاهره فلا بد من حمله على الرؤية. لأن النظر كالسبب للرؤية. والتعبير بالسبب عن
المسبب من أقوى وجوه المجاز.
لا يقال لم كان
ذلك التأويل أولى من تأويلنا وهو أن يكون إلى واحد الآلاء ، فيكون المراد. وجوه
يومئذ ناظرة : نعمة ربها أى
__________________
منتظرة ، أو نقول
المراد إلى ثواب ربها ناظرة.
لانا نقول أما
الأول فباطل. لأن الانتظار سبب الغم ، والآية مسبوقة لبيان النعم.
وأما الثانى
فالنظر إلى الثواب لا بد وان يحمل على رؤية الثواب وإلا فتقليب الحدقة نحو الثواب
من غير الرؤية لا يكون من النعم البتة. وإذا وجب اضمار الرؤية لا محالة كان اضمار
الثواب اضمارا للزيادة من غير دليل. فوجب أن لا يجوز.
احتج الخصم بأمور
أحدها :
قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) والاستدلال به من وجهين.
الأول
: أن ما قبل هذه
الآية وما بعدها مذكور فى معرض المدح ، فوجب أن تكون هذه الآية أيضا مدحا. فإن
إلقاء ما ليس بمدح فيما بين المدحين ركيك ، كما يقال فلان أجل الناس ، وآكل الخبز
،
__________________
وأستاذ الوقت.
وإذا كان نفى الإدراك مدحا كان ثبوته نقصا. والنقص على الله تعالى محال.
الثانى
: أن قوله تعالى (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) يقتضي أن لا تدركه الأبصار فى شيء من الأوقات ، لأن قولنا
تدركه الأبصار يناقض قولنا لا تدركه الأبصار ، بدليل إنه يستعمل كل واحد من
القولين فى تكذيب الآخر. وإذا صدق أحد النقيضين كذب الآخر ، فوجب كذب قولنا : «تدركه
الأبصار». وإذا ثبت ذلك ثبت كذب قولنا يدركه بصر واحد ، أو بصران ضرورة أن لا قائل
بالفرق.
وثانيها
: انه تعالى لو كان
مرئيا لرأيناه الآن.
وثالثها
: أنه لو كان مرئيا
لكان مقابلا أو فى حكم المقابل.
وقولنا فى حكم
المقابل احتراز عن رؤية الإنسان وجهه فى المرآة ، وعن رؤية الأعراض والله أعلم.
والجواب عن الأول
انا نقول بموجب الآية لأن الادراك ، هو
__________________
رؤية الشيء من
جميع جوانبه ، لأن أصله من اللحوق. وذلك انما يتحقق فى المرئى الّذي يكون له
جوانب. ولما كان ذلك فى حق الله تعالى محالا ، لا جرم يستحيل أن يكون مدركا فلم
قلت إنه ليس بمرئى.
وعن الثانى انا
بينا أن عند حضور المرئى وحصول الشرائط لا تجب الرؤية. سلمنا وجوبها فى المرئيات
التى فى الشاهد دفعا للتشنيعات التى يذكرونها. فلم قلت إنها واجبة فى رؤية الله تعالى.
فإن رؤية المخلوقات مخالفة لرؤية الله تعالى. ولا يلزم من وجوب حصول رؤية
المخلوقات عند حصول الشرائط وجوب رؤية الله تعالى عند حصول تلك الشرائط.
وعن الثالث أن
قولهم : المرئى يجب أن يكون مقابلا أو فى حكم
__________________
المقابل عين المتنازع
فيه أو نقول : هب أنه يجب أن يكون كذلك فى الشاهد فلم قلت إنه يجب أن يكون كذلك فى
الغائب وتقريره ما ذكرناه الآن وبالله التوفيق.
مسئلة :
الإله تعالى واحد
لأنا لو قدرنا إلهين ، لكان اما أن يصح من أحدهما أن يفعل فعلا ، على خلاف الآخر ،
أو لا يصح. فإن صح فليقدر ذلك لأن ما ليس بممتنع لا يلزم من فرض وقوعه محال. وإلا
لكان ممتنعا لا ممكنا. وعند وقوع ذلك الاختلاف ، فاما أن يحصل مرادهما فيكون الجسم
الواحد متحركا ساكنا أو لا يحصل مرادهما وهو أيضا محال. لأن المانع من حصول مراد
كل واحد منهما حصول مراد الآخر فامتناع مراد كل واحد منهما يتوقف على حصول مراد
الآخر. فلو امتنعا معا لوجدا معا ، وهو محال أو يحصل
__________________
مراد أحدهما دون
مراد الثانى ، وهو أيضا محال. لأن كل واحد منهما قادر على ما لا نهاية له ، فلا
يكون أحدهما أولى بالرجحان. ولأن الّذي لا يحصل مراده يكون عاجزا ، فعاجزيته إن
كانت أزلية فهو محال ، لأن العجز إنما يعقل عما يصح وجوده ، ووجود المخلوق الأزلى
محال. فالعجز عنه أزلا أيضا محال. وان كانت حادثة ، فهو محال لأن هذا إنما يعقل ،
لو كان قادرا فى الأزل ثم زالت قادريته وذلك يقتضي عدم القديم ، وهو محال.
وأما ان امتنعت
المخالفة ، فهو باطل ، لأنه إذا كان كل واحد منهما قادرا على جميع المقدورات ،
والقادر يصح منه فعل مقدوره. فحينئذ يصح من هذا فعل الحركة لو لا الآخر. ومن الآخر
فعل السكون لو لا هذا فما لم يقصد أحدهما إلى الفعل لا يتعذر على الآخر القصد إلى
ضده لكن ليس تقدم قصد أحدهما على الآخر أولى من العكس. فإذن يستحيل أن يصير قصد
أحدهما مانعا للآخر من القصد فصحت المخالفة.
فإن قيل لم لا
يجوز أن يقال أنهما لكونهما حكيمين لا يريدان
__________________
إلا الأصلح وذلك
الأصلح واحد ، فلا جرم ، يجب توافقهما.
قلنا الفعل إما أن
يتوقف على الداعى أو لا يتوقف. فإن توقف على الداعى ، استحال من العبد أن يختار
الفعل القبيح ، إلا إذا خلق الله تعالى فيه داعيا يدعوه إليه. وإذا كان الداعى إلى
القبيح موجبا للقبيح كان قبيحا. وإذا كان الفاعل لذلك الداعى هو الله تعالى لم يجب
أن يكون فعل الله تعالى حسنا بالتفسير الّذي تريدونه. فلم يلزم اتفاق الإلهين على
الفعل الواحد ، فصحت المخالفة بينهما.
وإن لم يتوقف
الفعل على الداعى جاز فى الضدين المتساويين فى الحسن والقبيح ان يختار أحد الإلهين
ايجاد أحدهما ، والإله الآخر إيجاد الآخر وحينئذ تحصل المخالفة بينهما. وبالله
التوفيق.
__________________
القسم الثالث
الكلام فى الأفعال
مسئلة :
زعم أبو الحسن
الأشعرى رضى الله عنه أنه لا تأثير لقدرة العبد فى مقدوره أصلا بل القدرة والمقدور
واقعان بقدرة الله تعالى وزعم القاضى أبو بكر الباقلانى ان ذات الفعل واقعة بقدرة
الله تعالى وكونه طاعة ومعصية صفات تقع بقدرة العبد. وزعم الأستاذ أبو إسحاق أن
ذات الفعل تقع بالقدرتين. وزعم أمام الحرمين ان الله تعالى يوجد للعبد القدرة
والإرادة ، ثم هما يوجبان وجود المقدور وهذا قول الفلاسفة ، ومن المعتزلة قول أبى
الحسين البصرى.
وزعم الجمهور من
المعتزلة ان العبد موجد لأفعاله لا على نعت الإيجاب بل على صفة الاختيار.
__________________
لنا وجوه : الأول ان العبد حال الفعل اما أن يمكنه الترك أو لا يمكنه. فان لم
يمكنه الترك فقد بطل قول المعتزلة. وان أمكنه ، فاما أن لا يفتقر ترجيح الفعل على
الترك إلى مرجح ، وهو باطل. لأنه تجويز أحد طرفى الممكن على الآخر لا لمرجح ، أو
يفتقر. وذلك المرجح إن كان من فعله عاد التقسيم ، ولا يتسلسل ، بل ينتهى الى مرجح
لا محالة ، لا يكون من فعله. ثم عند حصول ذلك المرجح ان أمكن أن لا يحصل ذلك الفعل
، فليفرض ذلك الفعل غير حاصل فحينئذ يحصل الفعل تارة ، ولا يحصل أخرى ، مع أن نسبة
ذلك المرجح إلى الوقتين سواء. فاختصاص أحد الوقتين بالحصول والآخر بعدم الحصول
يكون ترجيحا لأحد طرفى الممكن المتساويين على الآخر من غير مرجح ، وهو محال.
وان امتنع أن لا
يحصل فقد بطل قول المعتزلة بالكلية ، لأنه متى
__________________
حصل المرجح وجب
الفعل. ومتى لم يحصل ، امتنع. فلم يكن العبد مستقلا بالاختيار وهذا كلام قاطع.
الثانى
لو كان العبد
موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيلها إذ لو جوزنا الايجاد من غير علم لبطل
دليل اثبات عالمية الله تعالى ولأن القصد الكلى لا يكفى فى حصول الجزئى. لأن نسبة
الكلى إلى جميع الجزئيات على السواء ، فليس حصول بعضها أولى من حصول الباقى. فثبت
أنه لا بد من القصد الجزئى ، وهو مشروط بالعلم الجزئى. فثبت أنه لو كان موجدا
لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيلها ، لكنه غير عالم بتفاصيلها اما أولا ففى حق النائم
، وأما ثانيا فلأن الفاعل للحركة البطيئة قد فعل السكون فى بعض الاحياز ، والحركة
فى بعضها مع إنه لا شعور له بالسكون وأما ثالثا فلأن عند أبى على وأبى هاشم ،
مقدور العبد ليس نفس التحصيل فى الحيز ، بل علة ذلك التحصيل مع إنه لا شعور لأكثر
الخلق بتلك العلة لا جملة ولا تفصيلا.
الثالث
: اذا أراد العبد
تسكين جسم. وأراد الله تعالى تحريكه
__________________
فاما أن لا يقعا ،
وهو محال. لأن المانع من وقوع كل واحد منهما وجود مراد الآخر فلو امتنعا معا لوجدا
معا أو يقعا معا ، وهو محال. أو يقع أحدهما دون الآخر ، وهو باطل. لأن القدرتين
متساويتان فى الاستقلال بالتأثير فى ذلك المقدور الواحد. والشيء الواحد ، وحدة
حقيقية لا يقبل التفاوت. فاذن القدرتان بالنسبة إلى اقتضاء وجود هذا المقدور على
السوية إنما التفاوت فى أمور أخر خارجة عن هذا المعنى. وإذا كان كذلك امتنع
الترجيح.
احتج الخصم
بالمعقول والمنقول. أما المعقول فهو أن فعل العبد لو كان بخلق الله تعالى ، لما
كان متمكنا من الفعل البتة. لأنه ان خلقه الله تعالى فيه لكان واجب الحصول ، وإن
لم يخلقه الله تعالى فيه كان ممتنع الحصول. ولو لم يكن العبد متمكنا من الفعل
والترك ، لكانت أفعاله جارية مجرى حركات الجمادات. فكما أن البديهة
__________________
جازمة بأنه لا
يجوز أمر الجمادات ونهيها ومدحها وذمها ، وجب أن يكون الأمر كذلك فى أفعال العباد.
ولما كان ذلك باطلا ، علمنا كون العبد موجدا.
والجواب إنه لازم
عليكم. لأن الأمر إن توجه حال استواء الدواعى ، ففى تلك الحالة يمتنع الترجيح وان
توجه حال الرجحان ، فهناك الراجح واجب ، والمرجوح ممتنع. ولأن ذلك الفعل ، ان علم
الله تعالى وجوده فهو واجب ، وان علم الله تعالى عدمه فهو ممتنع فثبت أن الإشكال
وارد على الكل : وان الجواب هو انه تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) وبالله التوفيق.
وأما المنقول ،
فقد احتجوا بكتاب الله تعالى فى هذه المسألة من عشرة أوجه :
الأول
: ما فى القرآن من
اضافة الفعل إلى العباد كقوله تعالى :
__________________
(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ). (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ) ، (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ
لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما
بِأَنْفُسِهِمْ) ، (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً) ، (فَطَوَّعَتْ لَهُ
نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ) ، (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً
يُجْزَ بِهِ) ، (كُلُّ امْرِئٍ بِما
كَسَبَ رَهِينٌ) ، (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ).
الثانى
: ما فى القرآن من
مدح المؤمن على الإيمان ، وذم الكافر على الكفر ، ووعد الثواب على الطاعة ،
والعقاب على المعصية. كقوله تعالى : (الْيَوْمَ تُجْزى
كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) ، (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ
ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، «وَإِبْراهِيمَ
الَّذِي وَفَّى أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى» ، (لِتُجْزى كُلُّ
نَفْسٍ بِما تَسْعى) ، (هَلْ جَزاءُ
الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ) ، (هَلْ تُجْزَوْنَ
إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) ، (مَنْ جاءَ
بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها) ، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ
ذِكْرِي) ، «أُولئِكَ
الَّذِينَ
__________________
اشْتَرَوُا
الْحَياةَ الدُّنْيا» ، (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ).
الثالث
: الآيات الدالة على
أن أفعال الله تعالى منزهة عن أن تكون مثل أفعال المخلوقين من التفاوت والاختلاف ،
والظلم.
أما التفاوت ،
فكقوله تعالى : «ما
تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ»
«الَّذِي
أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ». والكفر والظلم ليس بحسن. وقوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ). والكفر ليس بحق وقوله : (إِنَّ اللهَ لا
يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) ، «وَما
رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ»
«وَما
ظَلَمْناهُمْ» ، (لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) ، (وَلا يُظْلَمُونَ
فَتِيلاً).
الرابع
: الآيات الدالة على
ذم العباد على الكفر ، والمعاصى كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ) والإنكار والتوبيخ مع العجز عنه محال. وعندكم أنه تعالى
خلق الكفر فى الكافر وأراد منه ، وهو
__________________
لا يقدر على غيره
فكيف يوبخه عليه.
واحتجوا فى هذا
الباب بقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) وهو إنكار بلفظ
الاستفهام. ومعلوم أن رجلا لو حبس آخر فى بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ثم يقول له
: منعك من التصرف فى حوائجى ، كان ذلك منه مستقبحا. وكذا قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ). وقوله لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ) وقول موسى عليهالسلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) وقوله تعالى : (فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ) ، (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ، (عَفَا اللهُ عَنْكَ
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، (لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكَ).
__________________
وكيف يجوز أن يقول
لم تفعل مع أنه ما فعله.
وقوله : «لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ» «لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ».
وقال الصاحب بن
عباد فى فصل له فى هذا المعنى كيف يأمر بالإيمان ولم يرده. وينهى عن الكفر وأراده
، ويعاقب على الباطل ، وقدره وكيف يصرفه عن الإيمان ، ثم يقول : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) ويخلق فيهم الإفك ثم يقول : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) وأنشأ فيهم الكفر ثم يقول (لِمَ تَكْفُرُونَ) وخلق فيهم لبس الحق بالباطل ثم يقول (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) وصدهم عن السبيل ثم يقول (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ) وحال بينهم وبين الإيمان ، ثم قال (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ) وذهب بهم عن الرشد ثم قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) وأضلهم فى الدين ، حتى أعرضوا. ثم قال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ).
الخامس
: الآيات التى ذكر
الله تعالى فيها تخيير العباد فى أفعالهم
__________________
وتعليقها
بمشيئتهم.
فمنها قوله تعالى
«فَمَنْ
شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ»
«اعْمَلُوا
ما شِئْتُمْ» «اعْمَلُوا فَسَيَرَى
اللهُ عَمَلَكُمْ» «لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ»
«فَمَنْ
شاءَ ذَكَرَهُ» «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً» «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ مَآباً».
وقد أنكر الله
تعالى على من نفى المشيئة عن نفسه ، وأضافها إلى الله تعالى فقال : «سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا»
«وَقالُوا
لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ».
السادس
: الآيات التى فيها
أمر العباد بالأفعال والمسارعة إليها قبل فواتها كقوله :
«وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ» «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ
رَبِّكُمْ» «أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ»
«اسْتَجِيبُوا
لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ» «يا أَيُّهَا
__________________
الَّذِينَ
آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ»
«فَآمِنُوا
خَيْراً لَكُمْ» «وَاتَّبِعُوا
أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ»
«وَأَنِيبُوا
إِلى رَبِّكُمْ»
قالوا وكيف يصح
الأمر بالطاعة والمسارعة إليها مع كون المأمور ممنوعا عاجزا عن الإتيان به وكما
يستحيل أن يقال للمقعد العاجز الزمن قم ، ولمن يرمى من شاهق جبل احفظ نفسك ، فكذا
هاهنا.
السابع
: الآيات التى حث
الله تعالى فيها على الاستعانة به كقوله تعالى «إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
نَسْتَعِينُ» «فَاسْتَعِذْ بِاللهِ
مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ»
،
«اسْتَعِينُوا بِاللهِ».
فإذا كان الله
تعالى خالق الكفر والمعاصى ، فكيف يستعان به. وأيضا يلزم بطلان الالطاف والدواعى
لأنه تعالى إذا كان هو الخالق
__________________
لأفعال العباد فأى
نفع يحصل للعبد من اللطف الّذي يفعله الله تعالى ، لكن الالطاف حاصلة لقوله تعالى
:
«أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ
فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ». «وَلَوْ لا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً» ، «وَلَوْ
بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ»
«فَبِما
رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ»
«إِنَّ
الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ». الثامن
: الآيات الدالة على
اعتراف الأنبياء بذنوبهم ، وإضافتها إلى أنفسهم. كقوله تعالى حكاية عن آدم عليهالسلام.
(رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا) وعن يونس عليهالسلام : (سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ). وعن موسى عليهالسلام (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي) وقال يعقوب عليهالسلام لأولاده (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ). وقال يوسف عليهالسلام «مِنْ
بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ
__________________
إِخْوَتِي» وقال نوح عليهالسلام (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ
بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ).
قالوا فهذه الآيات
دالة على اعتراف الأنبياء عليهمالسلام بكونهم فاعلين لأفعالهم.
التاسع
: الآيات الدالة على
اعتراف الكفار والعصاة بأن كفرهم ومعاصيهم كانت منهم كقوله تعالى :
(وَلَوْ تَرى إِذِ
الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ، إلى قوله : (أَنَحْنُ
صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) وقوله : (ما سَلَكَكُمْ فِي
سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) ، (كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ
سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها) إلى قوله (فَكَذَّبْنا وَقُلْنا) وقوله : (أُولئِكَ يَنالُهُمْ
نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ) إلى قوله : «فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ
__________________
تَكْسِبُونَ».
العاشر
: الآيات التى ذكر
الله تعالى فيها ما يوجد منهم فى الآخرة من التحسر على الكفر والمعصية ، وطلب
الرجعة كقوله تعالى :
(وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ
فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا) الآية وقوله تعالى : (قالَ رَبِّ
ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً) ، (وَلَوْ تَرى إِذِ
الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ) ، (أَوْ تَقُولَ حِينَ
تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) فهذه جملة استدلالاتهم بالكتاب العزيز الّذي (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).
ولا يقال الكلام
عليه من وجهين الأول
ان هذه الآيات
معارضة بالآيات الدالة على أن جميع الأفعال بقضاء الله وقدره كقوله تعالى :
__________________
«خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ»
«خَتَمَ
اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ» «وَمَنْ يُرِدْ أَنْ
يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً»
«وَاللهُ
خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ»
«فَعَّالٌ
لِما يُرِيدُ» وهو يريد الإيمان فيكون فاعلا له وإذا كان فاعلا للإيمان
كان فاعلا للكفر لأنه لا قائل بالفرق.
والثانى
: وهو أنا وإن نفينا
كون العبد موجدا لأفعال نفسه لكنا نعترف بكونه فاعلا لها ومكتسبا لها. ثم فى الكسب
قولان : أحدهما أن الله تعالى أجرى عادته بأن العبد إذا صمم العزم على
الطاعة فإنه تعالى يخلقها ، ومتى صمم العزم على المعصية فإنه يخلقها وعلى هذا
التقدير يكون العبد كالموجد ، وإن لم يكن موجدا. فلم لا يكفى هذا القدر فى الأمر
والنهى.
وثانيها
: أن ذات الفعل وان
حصلت بقدرة الله تعالى ولكن كونها طاعة ومعصية صفات تحصل لها وهى واقعة بقدرة
العبد ، فلم لا يكفى هذا فى صحة الأمر والنهى.
لأنا نجيب عن
الأول بجواب اجمالى ذكره أبو الهذيل : وهو أن
__________________
الله تعالى أنزل
القرآن ليكون حجة على الكافرين لا ليكون حجة لهم. ولو كان المراد من هذه الآيات ما
ذكرت من وقوع أفعال العباد بقضاء الله تعالى ، لقالت العرب للنبى عليهالسلام كيف تأمرنا بالإيمان وقد طبع الله على قلوبنا ، وكيف
تنهانا عن الكفر وقد خلقه الله تعالى فينا. وكان ذلك من أقوى القوادح فى نبوته عليهالسلام فلما لم يكن كذلك ، علمنا أن المراد منها غير ما ذكرت.
وأما الكلام التفصيلى على كل واحد من الآيات ففى المطولات.
وعن الثانى أن
العبد اما أن يكون مستبدا بادخال شيء فى الوجود واما أن لا يكون فهذا نفى وإثبات ،
ولا واسطة بينهما. فإن كان الأول ، فقد سلمتم قول المعتزلة. وان كان الثانى كان
العبد مضطرا لأن الله تعالى إذا خلقه فى العبد حصل لا محالة. وإذا لم يخلقه استحال
حصوله فيه فكان العبد مضطرا ، فتعود الاشكالات. وعند هذا التحقيق فيظهر أن الكسب
اسم بلا مسمى.
__________________
قوله : العبد إذا
اختار المعصية حصلت وإذا اختار الطاعة حصلت.
قلنا حصول ذلك
الاختيار به أو لا به. والأول قول الخصم والثانى لا يدفع الالزام.
قوله كونه طاعة
ومعصية صفات تحصل لذات الفعل بقدرة العبد.
قلنا هذا اعتراف
بكون القدرة الحادثة مؤثرة وهو تسليم لقول الخصم.
والجواب : ان هذه
الإشكالات واردة على المعتزلة لأن ما علم الله تعالى أنه يوجد كان واجب الوقوع.
وما علم الله تعالى أنه لا يوجد كان ممتنع الوقوع. ولأنه إن لم يوجد رجحان الداعى
امتنع الفعل وان وجد وجب. فكان الإشكال واردا عليهم فى هذين المقامين. ولقد كان
واحد من أذكياء المعتزلة يقول : هذان السؤالان هما العدوان للاعتزال. ولو لا هما
لتم الدست لنا والله أعلم.
__________________
مسئلة :
إنه تعالى مريد
لجميع الكائنات خلافا للمعتزلة.
لنا إنا بينا أنه
تعالى خالقها وقد تقدم ان خالق الشيء مريد لوجوده. ولأنه لما علم أن الإيمان لا
يوجد من الكافر ، كان وجوده من الكافر محالا ، كما ظهر ، فيكون الله تعالى عالما
بكونه محالا ، والعالم بكون الشيء محالا ، لا يريده ، فيستحيل أن يريد الإيمان من
الكافر.
احتجوا بأمور : أحدها : انه أمر الكافر بالإيمان والأمر يدل على الإرادة.
وثانيها
: ان الطاعة موافقة
الإرادة. فلو أراد الله تعالى كفر الكافر ، لكان الكافر مطيعا له بكفره.
وثالثها
: إن الرضا بقضاء
الله تعالى واجب. فلو كان الكفر
__________________
بقضائه لوجب الرضا
به. لكن الرضا بالكفر كفر.
والجواب عن الأول
لا نسلم أن الأمر يدل على الإرادة. وسيأتى بيانه إن شاء الله تعالى فى أصول الفقه.
وعن الثانى أن
الطاعة موافقة الأمر ، لا موافقة الإرادة.
وعن الثالث ان
الكفر ليس نفس القضاء بل متعلق القضاء. فنحن نرضى بالقضاء لا بالمقضى.
مسئلة :
إذا حركنا جسما ،
فعند المعتزلة حركة يدنا أوجبت حركة ذلك الجسم. وهو عندنا باطل وهذا هو المسألة
المشهورة بالتولد.
لنا أنه إذا التصق
جزء واحد بيد زيد وعمرو ، ثم جذبه أحدهما حال ما دفعه الآخر ، فليس وقوع حركته
بأحدهما أولى من وقوعها بالآخر ، فاما أن يقع بهما معا ، وهو محال لأنه يلزم أن
يجتمع على الأثر الواحد مؤثران مستقلان ، وهو محال على ما تقدم.
__________________
أو لا يوجد بهما
وهو المطلوب.
احتجوا بحسن الأمر
، والنهى بالفعل ، والترك.
والجواب قد تقدم
والزيادة هاهنا أن الله تعالى ، لما أجرى عادته بخلق هذه الآثار فى المتأثر عقيب
حصول هذه الأفعال فى المتأثر. فلم لا يكفى هذا القدر فى حسن الخطاب وبالله
التوفيق.
مسئلة :
فى تفصيل قول الفلاسفة فى ترتيب
الممكنات.
قالوا : ثبت أنه
سبحانه وتعالى واحد محض والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد على ما تقدم. فمعلوله شيء
واحد. وهو إما أن يكون عرضا أو جوهرا. والأول باطل لأن العرض محتاج إلى الجوهر
__________________
فلو كان المعلول
الأول عرضا ، لكان علة للجوهر ، فيكون الجوهر محتاجا إليه ، وقد كان محتاجا إلى
الجوهر ، ولزم الدور فهو إذا جوهر.
وهو إما متحيز أو
غير متحيز. والأول محال لأن المتحيز مركب من المادة والصورة. ولا يجوز صدورهما معا
عن واجب الوجود بل لا بد وأن يكون أحدهما أسبق. ولا يجوز أن يكون السابق هو المادة
، لأن المادة قابلة فلو كان المعلول الأول هو المادة لكانت فاعلة وقابلة معا ، وهو
محال. ولا يجوز أن يكون السابق هو الصورة ، لأن المعلول الأول لو كان هو الصورة
لكانت الصورة علة للمادة ، فتكون الصورة فى فاعليتها غنية عن المادة. وكل ما كان
فى فعله غنيا عن المادة كان فى ذاته غنيا عن المادة. فلا تكون الصورة صورة هذا
خلف.
فثبت أن المعلول
الأول ليس بمتحيز ، ولا هيولى ، ولا صورة. فهو إذن جوهر مجرد. ولا يجوز أن تكون
أفعاله بواسطة الأجسام لأن المعلول الأول يجب أن يكون علة لجميع الأجسام ، وعلة
جميع الأجسام لا تكون عليتها بواسطة الأجسام فالمعلول الأول ليس بنفس
__________________
فهو عقل محض. فثبت
أن أول ما خلق الله تعالى العقل.
ثم نقول ان كان
معلوله شيئا واحدا ، ومعلول ذلك المعلول شيئا واحدا أبدا لزم أن لا يوجد شيئان إلا
وأحدهما علة للآخر ، وهو باطل. فإذن لا بد وأن يوجد شيء يكون معلوله أكثر من واحد
والمعلولان لا بد وأن يستندا إلى كثرة فى العلة. ولا يجوز أن يكون الكثرة التى فيه
من ذاته البسيطة ، أو من واجب الوجود ، وإلا فقد صدر عن الواحد أكثر من الواحد ،
فبقى أن يكون له من ذاته شيء ، ومن واجب الوجود شيء. فاذا ضم ماله من ذاته الى ماله
من غيره حصلت فيه كثرة. لكن الّذي له من ذاته الإمكان والّذي له من الأول الوجود
وينبغى أن يجعل الأشرف علة للأشرف. فلا جرم جعلنا امكانه علة للفلك الأعلى ووجوده
علة للعقل الثانى. ثم لا يزال يصدر على هذا الترتيب من كل عقل عقل. وذلك إلى أن
ينتهى إلى العقل الفعال المدبر لعالمنا.
واعلم أن هذا باطل
، لأنه بناء على أن الواحد لا يصدر عنه إلا
__________________
الواحد ، وقد مر
الكلام فيه .. وعلى أن الإمكان مؤثر ، وهو محال. لأنه لو كان أمرا وجوديا لكان إما
واجبا ، وهو محال : أما أولا فلأنه صفة الممكن ومحتاجة إليه. وأما ثانيا فلأن واجب
الوجود واحد. وان كان ممكنا لزم التسلسل. ولأنه لا بد له من علة وجودية وعلته ان
كان هو واجب الوجود كان واجب الوجود علة للإمكان ، والوجود. فقد صدر عنه أثران.
وان كان غيره ، فهو محال ، لأن ما عدا الواجب إما هو أو معلولاته ، ولا هو ولا
معلولاته علة له.
فثبت أن الإمكان
أمر عدمى فيستحيل أن يكون علة للأمر الوجودى ، ولأن الإمكانات متساوية ، فلو كان
امكان العقل الأول علة لوجود ذلك ، فليكن امكان ذلك الفلك علة لوجود نفسه ، لكن
امكانه له لذاته ، فإذا كان وجوده لازما لإمكانه كان واجب الوجود لذاته ، فيكون
الممكن لذاته واجبا لذاته.
وأيضا الفلك
الواحد فيه موجودات كثيرة لأن فيه هيولى ،
__________________
وصورة جسمية ،
وصورة نوعية فلكية. وله من كل مقولة عرض. فاسناد هذه الأشياء إلى الجهة الواحدة ،
وهى الإمكان اسناد الكثرة إلى الواحد ، وهو محال.
مسئلة فى شرح قولهم
فى القضاء والقدر :
زعموا أن الموجود
إما خير محض ، كالعقول والأفلاك ، أو الخير غالب عليه كما فى هذا العالم ، فإن
المرض وإن كان كثيرا لكن الصحة أكثر. فلما امتنع عقلا ايجاد ما فى هذا العالم مبرأ
عن الشرور بالكلية ، وكان ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل شرا كثيرا ، وجب فى
الحكمة ايجاده. فلا جرم ، الخير والشر مرادان لكن الخير مراد مرضى به والشر مراد
بالضرورة ومكروه بالذات وهذه القاعدة قد تكلمنا عليها فى شرح الإشارات.
مسئلة :
الحسن والقبح قد يراد بهما ملائمة الطبع ، ومنافرته ، وكون
__________________
الشيء صفة كمال أو
نقصان. وهما بهذين المعنيين عقليان. وقد يراد بهما كون الفعل موجبا للثواب والعقاب
والمدح والذم وهو بهذا المعنى شرعى عندنا خلافا للمعتزلة.
لنا وجوه : الأول أن من صور النزاع قبح تكليف ما لا يطاق. فنقول : لو كان
قبيحا لما فعله الله تعالى ، وقد فعله بدليل أنه كلف الكافر بالإيمان مع علمه بأنه
لا يؤمن ، وعلمه بأنه متى كان كذلك كان الإيمان منه محالا. ولأنه كلف أبا لهب
بالإيمان ومن الإيمان تصديق الله تعالى فى كل ما أخبر عنه ، ومما أخبر عنه أنه لا
يؤمن ، فقد كلفه بأن يؤمن وبأن لا يؤمن ، وهذا تكليف الجمع بين الضدين.
الثانى
: لو قبح شيء لقبح
إما من الله تعالى أو من العبد ، والقسمان باطلان. فالقول بالقبح باطل. أما إنه لا
يقبح من الله
__________________
تعالى شيء فمتفق
عليه. وأما أنه لا يقبح من العبد ، فلأن ما يصدر عن العبد صادر عنه على سبيل
الاضطرار لما بينا أنه يستحيل صدور الفعل عنه ، إلا إذا أحدث الله تعالى الداعى
فيه إلى ذلك الفعل ومتى أحدث الله تعالى الداعى فيه ، كان الفعل واجبا. وبالاتفاق
لا يقبح من المضطر شيء.
الثالث
: ان الكذب إذا تضمن
تخليص نبى من ظالم لا يقال الحسن هناك التعريض ، لا الكذب.
أو يقول الكذبية
تقتضى القبح لكنه قد يتخلف الأثر عن المقتضى لمانع. لأنا نجيب عن الأول : بأنه على
هذا التقدير لا يبقى كذب فى العالم لأنه لا كذب إلا ومتى أضمر فيه شيء صار صدقا.
وعن الثانى أنه
حينئذ لا يمكننا القطع بقبح شيء من الكذب
__________________
لاحتمال أنه تخلف
الحكم هناك لقيام مانع لا يطلع عليه أحد.
احتجوا بأن العلم
الضرورى حاصل بقبح الظلم والكذب وحسن الانعام. ولا يجوز اسناده إلى الشرع لحصوله
لمن لا يقول بالشرع.
والجواب ان أردت
به العلم الضرورى بحصول الملائمة والمنافرة الطبيعية ، فذلك مما لا يأباه أحد وان
أردت به غيره فممنوع.
مسئلة :
لا يجب على الله
تعالى شيء عندنا البتة خلافا للمعتزلة. فانهم يوجبون اللطف والعوض والثواب والأصلح
فى الدين والبغداديون خاصة يوجبون العقاب ويوجبون الأصلح فى الدنيا.
لنا أن الحكم لا
يثبت إلا بالشرع ولا حاكم على الشرع ، فلا يجب عليه شيء. ولأن اللطف هو الّذي يفيد
ترجيح الداعية بحيث لا ينتهى
__________________
إلى حد الإلجاء.
فالداعية الواصلة إلى ذلك الحد شيء ممكن الوجود فى نفسه. والله تعالى قادر على جميع
الممكنات فوجب أن يكون الله تعالى قادرا على ايجاد تلك الداعية المنتهية إلى ذلك
الحد من غير تلك الواسطة.
وأما العوض فلو
كان واجبا لكان دفع الألم دفعا لتلك المنافع العظيمة ، فكان يجب أن يقبح دفع الألم
عن الغير ، كما قبح المنع من القصد.
وأما الثواب فلله
تعالى من النعم على العبد ما يحسن معه التكليف بهذا القدر من الطاعات ، فوجب أن لا
يوجب الطاعة الثواب كما فى الشاهد.
وأما الأصلح فى
الدنيا فغير واجب ، لأن الأصلح للكافر الفقير أن لا يخلق ، حتى لا يكون معذبا فى
الدارين. والأصلح أن يخلق العباد فى الجنة وأن يغنيهم بالمشتهيات الحسنة عن
القبيحة ، وأما
__________________
العقاب فلأن
العذاب حقه وليس له فى استيفائه نفع ولا فى إسقاطه ضرر ، فيحسن إسقاطه كما فى
الشاهد.
مسئلة :
لا يجوز أن يفعل
الله تعالى شيئا لغرض خلافا للمعتزلة ، ولأكثر الفقهاء.
لنا أن كل من كان
كذلك ، كان مستكملا بفعل ذلك الشيء والمستكمل بغيره ناقص لذاته. ولأن كل غرض يفرض
، فهو من الممكنات ، فيكون الله تعالى قادرا على ايجاده ابتداء ، فيكون توسط ذلك
الفعل عبثا.
لا يقال لا يمكن
تحصيله الا بتلك الواسطة. لأنا نقول الّذي يصلح أن يكون غرضا ليس إلا ايصال اللذة
إلى العبد وهو مقدور الله تعالى من غير شيء من الوسائط.
احتجوا بأن ما
يفعل إلا لغرض فهو عبث والعبث على الحكيم غير جائز.
__________________
قلنا ان أردت
بالعبث الفعل الخالى عن الغرض فهو استدلال بالشيء على نفسه وان أردت به غيره
فبينه.
مسئلة :
قالت المعتزلة علة
حسن التكليف التعريض لاستحقاق النعم فإن التفضيل بالنعم قبيح. وهذا عندنا باطل.
لأنه بناء على الحسن والقبح والوجوب على الله تعالى. وبعد تسليمه فلا نسلم أن
التفضيل بالنعم قبيح ممن يستحيل عليه النفع والضر. وبتقدير تسليمه ، فاستحقاق
النعم لا يتوقف على التكليف بالأفعال الشاقة بدليل أن التلفظ بكلمة الشهادة أسهل
من الجهاد والصوم ، مع أن النعيم المستحق به أعظم. فلو كان المقصود استحقاق النعيم
لكان من الواجب أن يزيد الله تعالى فى قوتنا ثم يكلفنا ما لا يشق علينا ليحصل
الاستحقاق من غير المشقة.
__________________
احتج نفاة التكليف
بأمور
أحدها : أنه إذا كان الكل
بخلقه وإرادته ففيم التكليف؟ والمعتزلة وان أنكروها فقد اعترفوا بالعلم. فما كان
معلوم الوجود فهو واجب الوقوع. وما كان معلوم العدم فهو ممتنع الوقوع ففيم
التكليف.
وثانيها
: أن التكليف إن كان
عند استواء الداعيتين فهو محال. لأن فى هذه الحالة الفعل ممتنع. وإن كان عند
الرجحان فالراجح واجب ، والمرجوح ممتنع ففيم التكليف؟.
وثالثها
: أن التكليف بالفعل
: اما أن يقع حال حضور الفعل أو قبله. والأول محال لأن إيجاد الموجود محال. ودفعه
حال وجوده محال والثانى أيضا باطل لأن كونه فاعلا للشىء لا معنى له ، إلا حصول
المقدور عن القدرة فعلى هذا يستحيل أن يكون هو فاعلا فى الحال لفعل لا يوجد فى
الحال. فلم يكن هو مأمورا فى الحال بشيء أصلا
__________________
بل يكون ذلك
اعلاما بأنه سيصير فى الزمان الثانى مأمورا به.
فإن قلت كونه فاعلا
للفعل أمر زائد على حصول الفعل عن القدرة.
قلت فذلك الزائد
اما أن يكون مقدورا للمكلف أو لا يكون مقدورا له فإن كان مقدورا له. فاما أن يؤمر
بايقاعه حال وجوده أو قبله ويعود المحذور المذكور. وان لم يكن مقدورا له استحال أن
يكون مأمورا به.
ورابعها
: أن الأمر بالفعل
الشاق ان لم يكن لغرض ، فهو عبث وهو غير جائز على الحكيم. وان كان لغرض يستحيل
عوده إلى من يستحيل عليه النفع والضر. ويستحيل عوده إلى العبد لأن ذلك
__________________
النفع اما فى
العاجل أو فى الآجل.
والأول باطل لأن
الإنسان يتأذى به فى الحال. والثانى محال لأن ذلك الغرض ليس إلا وصول اللذة إليه
والله تعالى قادر عليه ابتداء فيكون توسط التكليف عبثا. والجواب عن الكل انه مبنى
على طلب اللمية ، وهو باطل. لأنه ليس يجب فى كل شيء أن يكون معللا. وإلا لكانت
علية تلك العلة معللة بعلة أخرى ، ولزم التسلسل. بل لا بد من الانتهاء إلى ما لا
يكون معللا البتة. وأولى الأمور بذلك أفعال الله تعالى وأحكامه. فكل شيء صنعه لا
علة لصنعه. والله تعالى أعلم.
__________________
القسم الرابع
الكلام فى الأسماء
اسم كل شيء اما أن
يدل على ماهيته ، أو على جزء ماهيته ، أو على الأمر الخارج عن ماهيته ، أو على ما
يتركب عنهما. والخارج اما أن يكون صفة حقيقية أو اضافية أو سلبية أو ما يتركب عنها
وهل يجوز أن يكون لماهية الله تعالى اسم أم لا؟ فإن قلنا ماهية الله تعالى معلومة
للبشر جاز ، وإلا فلا. وأما الاسم الدال على جزء ماهية الله تعالى فذلك محال ،
لامتناع التركب فى حقيقة ذات الله تعالى. وأما سائر الأقسام فجائزة. ولما كانت
السلوب والاضافات بسيطة ، ومركبة غير متناهية ، لا جرم جاز وجود أسماء لا نهاية
لها متناسبة. والله أعلم.
__________________
الركن الرابع
من هذا الكتاب فى
السمعيات وهو مرتب على أقسام :
القسم الأول
فى النبوات
مسئلة :
المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدى ،
مع عدم المعارضة
وإنما قلنا : أمر لأن المعجز قد يكون إتيانا بغير المعتاد وقد يكون منعا من المعتاد
وإنما قلنا أنه خارق للعادة ليتميز به المدعى عن غيره. وإنما قلنا أنه مقرون
بالتحدى لئلا يتخذ الكاذب معجز من مضى حجة لنفسه وليتميز عن الإرهاص والكرامات.
وإنما قلنا أنه مع عدم المعارضة ليتميز عن السحر والشعبذة.
مسئلة :
محمد رسول الله صلىاللهعليهوسلم خلافا لليهود ، والنصارى ،
__________________
والمجوس وجماعة من
الدهرية.
لنا وجوه ثلاثة :
الأول وعليه التعويل إنه ادعى النبوة وظهر المعجز على يده وكل من كان كذلك فهو نبى
ورسول وإنما قلنا إنه ادعى النبوة للتواتر. وإنما قلنا إنه ظهر المعجز على يده
لثلاثة أوجه :
أحدها
: انه أتى بالقرآن
والقرآن معجز. اما إنه أتى بالقرآن ولم يأت به غيره فبالتواتر. وأما إنه معجز
فلأنه تحدى الفصحاء لمعارضته وهم عجزوا عنها وذلك يدل على كونه معجزا.
وثانيها
: إنه نقل عنه
معجزات كثيرة نحو اشباع الخلق الكثير من الطعام القليل ، ونبوع الماء من بين
أصابعه ومكالمة الحيوانات العجم
__________________
وكل واحد منها وأن
لم يبلغ مبلغ التواتر ، لكن التواتر يدل على صحة واحد منها. وأى واحد منها صح حصل
الغرض.
وثالثها
: أنه أخبر عن
الغيوب والإخبار عن الغيب معجز.
وإنما قلنا أن من
ادعى النبوة وظهر المعجز على يده كان رسولا لأن الرجل إذا قام فى المحفل العظيم
وقال إنى رسول هذا الملك إليكم. ثم قال يا أيها الملك ان كنت صادقا فى مقالتى ،
فخالف عادتك وقم عن مكانك فمتى قام الملك اضطر الحاضرون إلى صدقه. فكذا هاهنا.
الطريق الثانى فى
إثبات نبوته عليهالسلام ، الاستدلال باخلاقه وأفعاله وأحكامه وسيره. فإن كل واحد
منها. وان كان لا يدل على النبوة لكن مجموعها مما يعلم قطعا أنه لا يحصل إلا
للأنبياء. وهذه طريقة اختارها الجاحظ وارتضاها الغزالى فى كتاب المنقذ.
الطريق الثالث :
اخبار الأنبياء المتقدمين فى كتبهم السماوية عن
__________________
نبوته عليهالسلام فهذه مجامع أدلة نبوته عليهالسلام والاستقصاء فيها مذكور فى المطولات.
فإن قيل لا نسلم
أنه ظهر المعجز على يده قوله فى الوجه الأول أن القرآن ظهر على يده وهو معجز.
قلنا الاستقصاء فى
الأسئلة والأجوبة على هذا الوجه مذكور فى كتاب النهاية. قوله فى الوجه الثانى :
أشبع الخلق الكثير من الطعام القليل.
قلنا هذه الأشياء
لو وجدت لنقلت نقلا متواترا لأنها أمور عجيبة والدواعى متوفرة على نقل العجائب.
فلما لم تنقل نقلا متواترا ، علمنا أنها ليست صحيحة. سلمنا سلامتها عن هذا الطعن
ولكن لا نزاع فى أنها لم تنقل نقلا متواترا ، بل إنما نقلت على سبيل الآحاد ورواية
الآحاد لا تفيد العلم.
قوله : مجموع رواة
المعجزات بلغوا حد التواتر وذلك يدل على
__________________
صحة واحد منها.
وأيها صح حصل الغرض.
قلنا لا نسلم أن
رواة الغرائب التى يمكن الاستدلال بها على الرسالة بلغوا حد التواتر فإنه ليس كل
ما يذكر فى كتب دلائل النبوة مما يصح الاستدلال القطعى به على الرسالة. إنما الّذي
يصح الاستدلال به على ذلك أمور قليلة ، نحو نبوع الماء من بين أصابعه وأمثاله. ولا
نسلم أن رواة أمثال هذه الأشياء بلغوا إلى حد التواتر.
قوله فى الوجه
الثالث : أخبر عن الغيب.
قلنا أخبر عن
الغيب على وجه يخالف العادة أو يوافقها.
الأول ممنوع
والثانى مسلم.
بيانه ان العادة
جارية بأن الرؤساء إذا حاولوا ترغيب الرعية فى محاربة خصومهم وعدوهم بأن اليد لهم
والدولة راجعة إليهم.
__________________
فقوله تعالى : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ) من هذا الباب.
وأيضا الرجل
المعتقد فيه قد يخبر عن أمور كلية على سبيل الاجمال. فان وقع شيء من ذلك جعله حجة
على صدقه ، وان لم يقع قال أنا ما عينت الوقت ، بل سيقع بعد ذلك.
فقوله تعالى : (الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ) من هذا الباب سلمنا أنه أخبر عن الغيب على سبيل التفصيل
فلم قلت إنه معجز والدليل عليه أن المحدثين رووا فى كتب دلائل النبوة ان قسا
وسطحيا أخبرا عن أحوال محمد صلىاللهعليهوسلم مع أنهما ما كانا من الأنبياء. فعلمنا أن الكاهن قد يخبر
عن الغيب وكذا المعبرون قد يخبرون عن الغيوب المفصلة بناء على الرؤيا وكذا
المنجمون وأصحاب العزائم. وإذا كان كذلك لم يكن ذلك معجزا.
__________________
ثم نقول ان كان ما
ذكرتموه دالا على ظهور المعجز على يده. فمنعنا ما يدل على أنه ممتنع وبيانه وهو
أنه لو جاز انخراق العادات عن مجاريها لجاز أن ينقلب الجبل ذهبا ابريزا والبحر دما
عبيطا ، وأن ينقلب ما فى البيت من الأمتعة أناسا فاضلين. ومعلوم أن تجويزه يقدح فى
البديهيات.
سلمنا ظهور المعجز
على يده فلم قلت أن كل من كان كذلك كان رسولا.
وتقريره أن
الاستدلال بظهور المعجز على الرسالة يتوقف على مقامات ثلاثة أحدها : أنه فعل الله
تعالى. وثانيها أن الله تعالى فعله لأجل التصديق. وثالثها أن كل من صدقه الله
تعالى فهو صادق.
أما
المقام الأول ففيه النزاع من وجوه : أحدها أنا ان أثبتنا النفس الناطقة فلعل نفس النبي عليهالسلام مخالفة بالماهية لنفس غيره فلا جرم
__________________
قدر على ما لم
يقدر عليه غيره. وان لم نقل بالنفس الناطقة ، فلا بد وأن يكون الإنسان عبارة عن
البدن المخصوص. فلعله كان لمزاج بدنه خصوصية ، لم تحصل تلك الخصوصية لسائر الأبدان
، فلا جرم قدر على ما لم يقدر عليه غيره.
وثانيها
: أن النبي عليه
الصلاة والسلام لعله وجد جسما نباتيا أو حيوانيا له خاصية عجيبة مستعقبة لتلك
الآثار الغريبة التى أظهرها النبي عليهالسلام ولما لم يقع ذلك الجسم فى يد آخر لا جرم ، عجز الكل عن
معارضته.
وثالثها
: لعل الجن
والشياطين أعانوه عليه وما أعانوا عليه غيره أو الأرواح الفلكية أعانوه عليه أو
الملائكة أعانوه عليه. بل هذا ظاهر. لأن الأنبياء عليهمالسلام يحيلون أكثر الأشياء على الملائكة. ونحن إنما علمنا وجودهم
وعصمتهم بقول الأنبياء عليهمالسلام فقبل العلم بتصديقهم جوزنا وجودهم. وذلك كاف فى
__________________
تحقق الاحتمال.
وأما
المقام الثانى : ففيه النزاع من وجهين : أحدهما لا نسلم أنه خلق المعجز لأجل التصديق فإن المعجز لا شك أنه
ليس نفس التصديق فلو لم يكن الغرض منه التصديق ، لم يبق للمعجز دلالة على التصديق.
لا سيما وقد بينتم أن الله تعالى لا يجوز أن يكون فعله معللا بالغرض. ومما يحقق
هذا أن الفعل بدون الداعى أما أن يكون جائزا واما أن لا يكون ، فإن كان جائزا لم
يمكن القطع بأن الله تعالى فعل المعجز لأجل التصديق ، بل لعله فعله ، لا لأمر
أصلا. وان لم يجز توقف فعلنا للقبائح على داع يخلقه الله تعالى ، فيكون الله تعالى
فاعلا لما يوجب القبيح وإذا جاز ذلك من الله تعالى فلم لا يجوز أن يضل عباده. وإذا
جاز ذلك
__________________
منه بطل الاستدلال
بالمعجز على التصديق.
الثانى
سلمنا أنه تعالى
فعل المعجز لمقصود ، لكن لم قلت أن ذلك المقصود ليس إلا التصديق. فلعله تعالى فعله
لغرض آخر وعليكم بيان الحصر ثم إنا على سبيل التبرع نذكر أمورا أخر.
أحدها
: أن يفعله ليكون
ابتداء عادة.
والثانى
ان يكون تكرير
العادة متطاولة فإن الفلك الثامن لا يستكمل الدورة إلا فى ستة وثلاثين ألف سنة.
فيكون وصولها إلى أول الحمل فى مثل هذه المدة عادة لها. فلعل هذا الحادث يكون من
هذا الباب.
وثالثها
: أن يكون ذلك كرامة
ومعجزة لنبى آخر فى طرف آخر من أطراف العالم.
ورابعها
: أن يكون ذلك
ارهاصا لنبى يأتى بعد ذلك ، كالأحوال
__________________
التى ظهرت على
محمد عليهالسلام قبل بعثته. وكالنور الّذي يحكى أنه كان يظهر فى جبين
آبائه.
وخامسها
: أن يكون ذلك
امتحانا لعقول المكلفين ، كما أنزل المتشابهات امتحانا لعقولهم.
المقام
الثالث سلمنا أن الله
تعالى صدقه ، لكن لم قلت أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق فإن عندكم الله تعالى
خالق الكفر والفواحش. فإذا لم يقبح ذلك من الله تعالى ، فلم لا يحسن منه أيضا
تصديق الكاذب. وهذا السؤال الأخير مختص بنا دون المعتزلة.
ثم نقول : هب أنا
لم نذكر شيئا من هذه الاحتمالات. فلم قلت أن كل من ظهر عليه المعجز كان رسولا ،
والرجوع فيه إلى المثال ضعيف. لأنا لا نقطع فى ذلك المثال بصدق المدعى. لأنه ربما
قام
__________________
الملك فى ذلك
الوقت لأنه حدث فى بطنه ألم أو شاهد شيئا فخاف أو تذكر أمرا فقام طلبا له.
وبالجملة فليس هنا
إلا الدوران وهو أنه قام عند التماس المدعى. وما قام قبل ذلك. والدوران لا يفيد
إلا الظن الضعيف. فإنه يحكى أن واحدا كان يجلس فى المسجد فكلما دخل المؤذن واذن قام
ذلك الإنسان وخرج. فقال له المؤذن ما لي أراك كلما أذنت خرجت؟ فقال لا بل كلما
هممت بالخروج أذنت. وهذا يدل على أن دلالة الدوران على العلية ضعيفة. ثم ان سلمنا
دلالة ذلك الفعل على التصديق فلم قلت إنه فى حق الله تعالى كذلك. وستعرف أن القياس
المؤيد بالجامع لا يفيد إلا الظن فكيف هذا القياس الخالى عن الجامع. فهذا هو
الاعتراض على الدليل الأول على النبوة.
وأما الدليل
الثانى وهو الاستدلال بمحاسن أحواله على نبوته ،
__________________
فضعيف. لأن غاية
ما فى الباب أنها تدل على كون ذلك الإنسان متميزا عن سائر الناس بمزيد الفضيلة.
ولكن من أين تدل على النبوة. كيف ويحكى عن أفاضل الحكماء فى الأخلاق أمور عجيبة
جعلها الناس قدوة لأنفسهم فى الدنيا والآخرة ، مع ما بقى عنهم من العلوم الدقيقة.
وأما الدليل
الثالث وهو الاستدلال بما جاء فى التوراة والإنجيل على نبوة محمد عليهالسلام ، فالاعتراض عليه أنكم اما أن تقولوا إنه جاء فى هذه الكتب
صفة محمد عليهالسلام على سبيل التفصيل بمعنى أنه تعالى بين أنه سيجيء فى السنة
الفلانية فى البلدة الفلانية شخص وصفه كذا وكذا فاعلموا أنه رسولى ، وإما أن لا
يقولوا ذلك بل يقولوا أنه تعالى بين ذلك بيانا مجملا من غير تعيين الزمان ،
__________________
والمكان ، والوصف
فإن ادعيتم الأول ، فهو باطل. لأنا نجد التوراة والإنجيل خاليا عنه.
لا يقال اليهود
والنصارى حرفوا هذين الكتابين. لأنا نقول هذان الكتابان كانا مشهورين فى المشارق
والمغارب. ومثل هذا مما لا يصح تطرق التحريف إليه كما فى القرآن.
وإن ادعيتم الثانى
فبتقدير المساعدة عليه لا يدل ذلك على النبوة. بل إنما دل على ظهور إنسان فاضل
شريف. وان دل على النبوة لكن لا يدل على نبوة محمد عليهالسلام ، إذ ربما كان المبشر به إنسانا آخر.
سلمنا أن ما
ذكرتموه يدل على النبوة لكن هنا ما يدل على القدح فيها وهو من وجوه:
__________________
أحدها
: شبهة الدهرية وهى
القدح فى الفاعل المختار ، وانكار كون الصانع قادرا عالما بالجزئيات مريدا.
وثانيها
: شبهة منكرى
التكليف. فإنهم يقولون الأنبياء إنما جاءوا من عند الله تعالى بالتكليف ، لكن
القول بالتكليف محال على ما تقدم كلامهم فيه.
وثالثها
: شبهة البراهمة وهى
من وجهين : الأول ان ما جاء به الرسول ان علم حسنه بالعقل ، كان مقبولا سواء ورد
به الرسول ، أو لم يرد. وان علم قبحه بالعقل كان مردودا ، سواء ورد به الرسول أو
لم يرد وإن لم يعلم لا حسنه ولا قبحه ، فان كان فى محل الحاجة حسن الانتفاع به ،
سواء ورد به الرسول أو لم يرد ، لما تقرر فى العقل ان كل ما ينتفع به الإنسان وكان
خاليا عن أثارة الضرر ، كان
__________________
الانتفاع به حسنا.
وان لم يكن فى محل الحاجة يقبح الانتفاع به سواء ورد به الرسول أو لم يرد لأنه
إقدام على ما يحتمل الضرر من غير حاجة أصلا.
الثانى
: أن دلالة النبوة
ليس إلا المعجز بالاتفاق. لكنا بينا أن المعجز لا يدل البتة ، فامتنع الجزم
بالصدق.
ورابعها شبهة اليهود وهى من وجهين :
الأول
: ان الله تعالى لما
شرع شريعة موسى عليهالسلام فاما أن يكون قد بين فيها انها باقية إلى يوم القيامة ، أو
بين فيها أنها باقية إلى الوقت الفلانى فقط ، أو بين الشرع فقط ولم يتعرض لبيان
التأييد والتأقيت. فإن قلنا إنه تعالى بين التأبيد لم يجز نسخه.
أما
أولا فلأنه تعالى لما
أخبر أن هذا الشرع ثابت أبدا ، فلو لم
__________________
يبق ثابتا أبدا
كان ذلك كذبا وهو غير جائز على الله تعالى.
وأما
ثانيا : فلأنه لو جاز أن
يقضى الله تعالى على أن شرع موسى عليهالسلام ثابت ثم إنه لا يبقى ثابتا. فلم لا يجوز أن يقضى الله
تعالى على أن شرع محمد عليهالسلام ثابت أبدا ثم إنه لا يبقى ثابتا أبدا فيلزمكم تجويز نسخ
شرعكم.
وأما
ثالثا فلأنه لو جاز أن
يخبر الله تعالى بالتأبيد مع أن التأبيد لا يحصل ، ارتفع الأمان عن كلامه ، ووعده
، ووعيده. وذلك باطل بالاتفاق. وأما أن يقال أنه تعالى بين فى شرع موسى عليهالسلام إنه ثابت إلى الوقت الفلانى ، كان هذا من الأمور العظيمة
التى تتوفر الدواعى على نقله ، فوجب أن ينقل ذلك التوقيت نقلا متواترا.
والنقل المتواتر
لا يجوز الاطباق على اخفائه ، فكان يلزم أن يكون
__________________
العلم بانتهاء شرع
موسى عليهالسلام عند مبعث عيسى عليهالسلام وانتهاء شرع عيسى عليهالسلام عند مبعث محمد صلىاللهعليهوسلم معلوما بالضرورة للخلق ، وأن يكون المنكر له منكرا للتواتر
، وأن يكون ذلك من أقوى الدلائل لعيسى ومحمد عليهماالسلام على دعواهما فلما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا فساد هذا
القسم.
ولأنه لو جاز أن
لا ينقل هذا التوقيت نقلا متواترا ، لجاز أن يقال أن محمدا عليهالسلام حول الصوم من رمضان إلى شوال ، والقبلة من الكعبة إلى
غيرها. وأنه عليهالسلام قال إن شرعى يبقى مؤيدا إلى الوقت الفلانى ، مع أنه لم
ينقل شيء من ذلك وتجويزه قدح فى شرع محمد عليهالسلام.
__________________
وأما ان قلنا أنه
تعالى بين فى شرع موسى عليهالسلام أنه ثابت ، ولم يبين التأبيد والتوقيت. فهذا محال لما إنه
سنبين فى أصول الفقه : أن الأمر لا يفيد إلا وجوب الفعل مرة واحدة. ومعلوم أن شرع
موسى عليهالسلام لم يكن كذلك. فان التكاليف كانت متوجهة بذلك الشرع إلى
الخلق إلى زمان عيسى عليهالسلام بالاتفاق. ولما ظهر فساد هذين القسمين الأخيرين ثبت الأول.
ويلزم من صحته امتناع النسخ.
الثانى : ان
اليهود والنصارى على كثرتهم وتفرقهم فى المشارق والمغارب يخبرون عن موسى وعيسى عليهماالسلام أن كل واحد منهما أخبر أن شرعه باق إلى يوم القيامة. وخبر
التواتر يفيد العلم ، وإلا لما أمكنكم إثبات وجود محمد عليهالسلام فضلا عن نبوته. وإذا
__________________
صح ذلك عنهما ،
فلا شك أن قولهما حجة ، لا يقال شرط التواتر استواء الطرفين ، والواسطة. وهذا
مفقود فى ذلك النقل.
أما اليهود فلأن بختنصر
قتلهم حتى لم يبق منهم إلا عدد يسير دون عدد التواتر. وأما النصارى فلأنهم كانوا
قليلين فى ابتداء الأمر. لأنا نقول أما قتل اليهود فضعيف ، لأن اليهود كانوا أمة
عظيمة ، وكانوا متفرقين فى شرق الأرض وغربها ، وفى البلاد المتباعدة جدا ، فمن
المستحيل قتل هذه الأمة العظيمة إلى حيث لا يبقى منهم على وجه الأرض عدد التواتر.
وأما حديث النصارى
فضعيف أيضا لأن ذلك يوجب القدح فى رسالة عيسى عليهالسلام قبل مبعث محمد عليهالسلام. وذلك مما لم يقل به أحد.
والجواب أن
المعتمد فى رسالة محمد عليهالسلام ظهور القرآن عليه وسائر الوجوه إنما نذكر للتتمة والتكميل.
__________________
قوله لو جاز
انخراق العادات لارتفع الأمان عن البديهيات. قلنا هذا لازم على الفلاسفة لاحتمال
أن يحدث شكل فلكى غريب يوجب هذه الغرائب فى هذا العالم.
قوله : يجوز أن
يكون حدوث المعجز لا من الله تعالى. وإن كان منه ، لكن الغرض منه شيء آخر سوى
التصديق قلنا المعتزلة عولوا فى الجواب عنه على حرف واحد. وهو أنه لو كان المدعى
كاذبا ، لوجب على الله تعالى أن يمنع من ظهور ذلك المعجز منعا للعباد من الوقوع فى
الضلال ، وهذا الجواب ضعيف. لأنه يقال إنما يجب على الله تعالى كشف الحال فيها ،
لو لم يحتمل ظهور المعجز وجها آخر سوى دلالته على تصديق الله تعالى ذلك المدعى.
فاما لما احتمل ذلك واحتمل غيره فلو قطع المكلف بأحد الاحتمالين دون الآخر كان
التقصير من قبل العبد ، لا من الله تعالى.
وفى مثل ذلك لا
يجب على الله تعالى كشف الحال. ألا ترى أنه
__________________
لم يقبح انزال
المتشابهات من الله تعالى ، لما أنها محتملة غير قاطعة. فكذا هاهنا وأيضا فإنه
سبحانه وتعالى يعين الكفرة على المسلمين ، ويمكنهم من قتل أوليائه. والمسلمون
يجتهدون فى الدعاء وسؤال المعونة على الكفار ، وقد لا يجيب دعاءهم ولا يعطيهم
مناهم. والكفار يقولون فى دعواتهم : اللهم انصر أحب الفئتين إليك ، وان لم ترض ما
نحن فيه من تكذيب مدعى النبوة والمخالفة له ولأصحابه. فاسلب عنا ما أعطيتنا من
القوى والتمكن ، والرب تعالى قد لا يفعل ذلك. فيجب أن يكون هذا موهما لتصديق
الكفرة. فلما لم يلزم هذا فكذا ما قالوه.
والجواب الحق إنه
مبنى على مقدمة واحدة وهى أن تجويز الشيء
__________________
لا ينافى القطع
بعدمه. فانا نجوز أن يخلق الله تعالى إنسانا شيخا فى الحال من غير الوالدين وأن
يقلب الأنهار دما ، والجبال ذهبا. ثم أنا مع هذا التجويز نقطع بأنه لم يوجد ، ولأن
من واجه غيره بالشتم فعبس المشتوم وجهه ، ونظر إلى الشاتم شزرا علم بالضرورة غضبه.
وكذلك القول فى حجالة الخجل وصفرة الوجل مع أن حصوله ابتداء بدون الغضب ممكن وهذا
أيضا لازم على الفلاسفة على ما قررناه.
وإذا ثبت هذا
فنقول إنما علمنا أن المحدث لهذا المعجز هو الله تعالى لما قدمناه أن جميع
الممكنات واقعة بقدرة الله تعالى. وانما قلنا أنها دالة على التصديق لما أنا رأينا
النبي عليهالسلام يقول : يا إلهى إن كنت صادقا فى دعواى الرسالة ، فسود وجه
القمر مثلا. وكما قال النبي عليهالسلام ذلك أسود. صرنا مضطرين إلى العلم بأنه
__________________
تعالى صدقه فى تلك
الدعوى ولذلك فإن كل من أقر فى القرون الماضية بأن هذه المعجزات من فعل الله تعالى
آمن بصدق المدعى ، ولم يبق له فيه شك وتجويز سائر الأقسام بحسب العقل لا يقدح فى هذا
العلم الضرورى كما ضربناه من المثال.
وأما شبهة الدهرية
ونفاة التكليف فقد تقدم الجواب عنها.
وأما شبهة
البراهمة فهى مبنية على الحسن والقبح ، وقد تقدم القول فيه.
ولنذكر فوائد
البعثة على التفصيل : فنقول قد عرفت ان الأمور قسمان منها ما يستقل العقل بادراكه
، ومنها ما لا يستقل. والأول كعلمنا بافتقار العالم إلى الصانع الحكيم. وفائدة
بعثة الرسل فى هذا النوع تأكيد دليل العقل بدليل النقل وقطع عذر المكلف من كل
الوجوه على ما قال تعالى :
(لِئَلَّا يَكُونَ
لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال «وَلَوْ
أَنَّا
__________________
أَهْلَكْناهُمْ
بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً
فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى» فبين الله تعالى أن بعثة الرسل لقطع الحجة.
والعلماء ذكروا
وجوها ثلاثة فى تلك الحجة : أحدها أن يقولوا ان الله تعالى جل ثناؤه أن خلقنا لنعبده ، فقد
كان يجب أن يبين لنا العبادة التى يريدها منا أنها ما هى وكيف هى وكم هى فإنه وان
وجب أصل الطاعة فى العقل لكن كيفيتها غير معلومة لنا ، فبعث الله تعالى الرسل لقطع
هذا العذر فإنهم إذا بينوا الشرائع المفصلة زالت أعذارهم.
وثانيها
: أن يقولوا أنك
ركبتنا تركيب سهو وغفلة وسلطت علينا
__________________
الهوى والشهوات.
فهلا أمددتنا يا إلهنا بمن إذا سهونا نبهنا ، وإذا مال بنا الهوى منعنا ، ولكنك
لما تركتنا مع نفوسنا وأهوائنا ، كان ذلك إغراء لنا على تلك القبائح.
وثالثها
: أن يقولوا هب أنا
بعقولنا علمنا حسن الإيمان وقبح الكفر ولكن لم نعلم بعقولنا ان من فعل القبيح عذب
خالدا مخلدا. لا سيما وكنا نعلم أن لنا فى فعل القبيح لذة ، وليس لك فيه مضرة. ولم
نعلم أن من آمن وعمل صالحا استحق الثواب لا سيما وقد كنا علمنا أنه لا منفعة لك فى
شيء. فلا جرم لم يكن مجرد العلم بالحسن والقبح داعيا ولا وازعا. أما بعد البعثة
اندفعت هذه الاعذار فكانت البعثة قطعا لعذر المعاندين من هذه الوجوه.
وأما فائدة بعثتهم
فيما لا يستقل العقل بدركه فقد ذكروا أمورا :
__________________
أحدها ان العقل لا يدل إلا على الصفات التى يحتاج الفعل إليها. أما
السمع والبصر والكلام وسائر الصفات الخبرية فلا طريق إليها إلا السمع.
وثانيها
: أن المكلف يبقى
خائفا فيقول لو اشتغلت بالطاعات كنت متصرفا فى ملك الله تعالى بغير إذنه ، ولو لم
أشتغل بها فربما عذبت بترك الطاعة ، فيبقى فى الخوف على التقديرين وعند البعثة
يزول هذا الخوف.
وثالثها
: أنه ليس كل ما كان
قبيحا عندنا ، كان قبيحا فى نفسه. فإن النظر إلى وجه الحرة العجوزة الشوهاء قبيح ،
وإلى وجه الأمة الحسناء حسن فى العقل لا فى الشرع.
ورابعها
: أن الأشياء
المخلوقة فى الأرض منه غذاء ومنه دواء ومنه
__________________
سم. والتجربة لا
تفى بمعرفتها إلا بعد الأدوار العظيمة. ومع ذلك ففيها خطر على الأكثر. وفى البعثة
فائدة معرفة طبائعها ومنافعها من غير ضرر وخطر.
وخامسها
: أن المنجمين عرفوا
طبائع درجات الفلك ، ولا يمكن الوقوف عليها بالتجربة لأن التجربة يعتبر فيها
التكرار ، والأعمار البشرية كيف تفى بأدوار الكواكب الثابتة. ثم هب انهم وقفوا على
الكل بالرصد. فكيف وقفوا على أحوال عطارد مع أن الآلات الرصدية لا تفى بأحواله
لصغره ، وخفائه وقلة نوره ، وقلة بعده عن الشمس حالتى التشريق والتغريب.
وسادسها
: أن الإنسان مدنى
بالطبع والاجتماع مظنة التنازع المفضى إلى التقاتل. فلا بد من شريعة يفرضها شارع
لتكون مرغبة فى الطاعات وزاجرة عن السيئات.
وسابعها
: لو فوض كيفية
العبادة إلى الخلق فربما أتى كل طائفة
__________________
بوضع خاص ، ثم
أخذوا يتعصبون لها فيفضى ذلك إلى الفتن. أما وضع الشريعة مما ينافى ذلك.
وثامنها
: الّذي يفعله الإنسان بمقتضى عقله ،
يكون كالفعل المعتاد والعادة لا تكون عبادة. وأما الّذي يأمر به من كان معظما فى
قلبه ولا يكون هو واقفا على لميته ، كان اتيانه به لمحض العبادة. ولذلك ورد الأمر
بالأفعال الغريبة فى الحج.
وتاسعها
: أن العقول متفاوتة
والكامل نادر. والأسرار الإلهية عزيزة جدا ، فلا بد من بعثة الأنبياء ، وإنزال
الكتب عليهم ، إيصالا لكل مستعد إلى منتهى كماله الممكن له ، بحسب شخصه.
وعاشرها
: أن كل جنس تحته
أنواع فإنه يوجد فيما بين تلك
__________________
الأنواع نوع واحد
، هو أكملها. وكذا الأنواع بالنسبة إلى الأصناف ، والأصناف بالنسبة إلى الأشخاص ،
والأشخاص بالنسبة إلى الأعضاء. فأشرف الأعضاء ورئيسها هو القلب ، وخليفته الدماغ
ومنه تنبعث القوى على جميع جوانب البدن. فكذا الإنسان لا بد فيه من رئيس. والرئيس
اما أن يكون حكمه على الظاهر فقط ، وهو السلطان ، أو على الباطن وهو العالم ، أو
عليهما معا ، وهو النبي عليهالسلام أو من يقوم مقامه فالنبى يكون كالقلب فى العالم. وخليفته
كالدماغ. وكما أن القوى المدركة إنما تفيض من الدماغ على الأعضاء فكذلك قوة البيان
والعلم إنما تفيض منه بواسطة خليفته على جميع أهل العالم.
وحادى
عشرها : الهداية إلى
الصناعات النافعة. قال الله تعالى فى داود عليهالسلام : (وَعَلَّمْناهُ
صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ). وقال لنوح
__________________
عليهالسلام : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا) ولا شك أن الحاجة إلى الغزل والنسج والخياطة والبناء وما
يجرى مجراها أشد من الحاجة إلى الدرع. وتوقيفها على استخراجها بالتجربة خطر عظيم
للخلق فوجب بعثة الأنبياء لتعليمها.
وثانى
عشرها : أنه لا بد فى
المعيشة من علمى الأخلاق والسياسة. فلا بد من البعثة لتعليمها ولهذا قال الله
تعالى لنبيه عليهالسلام : (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ). وقال : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ). وقال تعالى : (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ
اللهِ لِنْتَ لَهُمْ) وقوله : (وَإِنَّكَ لَعَلى
خُلُقٍ عَظِيمٍ) فقد ظهرت فوائد البعثة من هذه الوجوه.
__________________
وأما شبهة اليهود
، فالجواب عن أولاهما أن الله تعالى بين أن شريعة موسى عليهالسلام مؤقتة بيانا اجماليا ، ولم يبين كمية الوقت.
قوله لو كان كذلك
لعرف ذلك بالتواتر ، كما عرف أصل ذلك الدين بالتواتر. قلنا لم لا يجوز أن يكون
توتر الدواعى إلى نقل الأصل أتم من توفرها على نقل الكيفية. فلا جرم كان أحد
التواترين أقوى من الآخر.
والجواب عن
أخراهما أن بلوغ رواة هذا الخبر إلى حد التواتر فى جميع الأعصار غير معلوم وإذا
كان كذلك ، لا جرم لا يحصل العلم بهذا الخبر. وبالله التوفيق.
مسئلة :
فى عصمة الأنبياء عليهمالسلام.
__________________
القائلون بالعصمة
منهم من زعم أن المعصوم هو الّذي لا يمكنه الإتيان بالمعاصي.
ومنهم من زعم أنه
يكون متمكنا منه. والأولون منهم من زعم أنه المختص فى بدنه أو نفسه بخاصية تقتضى
امتناع إقدامه على المعاصى.
ومنهم من ساعد على
كونه مساويا لغيره فى الخواص البدنية لكن فسر العصمة بالقدرة على الطاعة أو بعدم
القدرة على المعصية وهو قول أبى الحسن الأشعرى. والذين لم يسلبوا الاختيار فسروها
بأنه الأمر الّذي يفعله الله تعالى بالعبد وعلم أنه لا يقدم مع ذلك الأمر على
المعصية بشرط أن لا ينتهى فعل ذلك الأمر إلى حد الالجاء.
وهؤلاء احتجوا على
فساد قول الأولين من العقل بأن الأمر لو كان كما قالوه ، لما استحق المعصوم على
عصمته مدحا ، ولبطل الأمر ، والنهى ، والثواب والعقاب. ومن النقل بقوله تعالى : «قُلْ إِنَّما
__________________
أَنَا
بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ»
و «لا تَجْعَلْ مَعَ
اللهِ إِلهاً آخَرَ» «وَلَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً»
«وَما
أُبَرِّئُ نَفْسِي».
ثم ان هؤلاء زعموا
أن أسباب العصمة أمور أربعة :
أحدها
: أن يكون لنفسه أو
لبدنه خاصية تقتضى ملكة مانعة من الفجور. والفرق بين الفعل والملكة معلوم.
وثانيها
: أن يحصل له العلم
بمثالب المعاصى ، ومناقب الطاعات.
وثالثها
: تأكيد تلك العلوم
بتتابع الوحى والبيان من الله تعالى.
ورابعها
: أنه متى صدر عنه
أمر من باب ترك الأولى أو النسيان لم يترك مهملا بل يعاتب وينبه عليه ويضيق الأمر
فيه عليه.
فإذا اجتمعت هذه
الأمور الأربعة ، كان الشخص معصوما عن المعاصى لا محالة. لأن ملكة العفة إذا حصلت
فى جوهر النفس ، ثم
__________________
انضاف إليها العلم
التام بما فى الطاعة من السعادة وفى المعصية من الشقاوة ، صار ذلك العلم معينا له
على مقتضى الملكة النفسانية. ثم الوحى يصير متمما لذلك ثم خوف المؤاخذة على القدر
القليل يكون مؤكدا لذلك الاحتراز فيحصل من اجتماع هذه الأمور تأكد حقيقة العصمة.
ثم اتفقت الأمة
على كون الأنبياء معصومين عن الكفر إلا الفضيلية من الخوارج. فإنهم اعتقدوا أن كل
ما ينطلق عليه اسم العصيان فهو كفر. ثم انهم جوزوا على الرسل المعاصى. فلا جرم
جوزوا الكفر عليهم. ويدل على فساده أنه لو جاز الكفر عليه لكان الاقتداء به فيه
واجبا لقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي) وفساد ذلك يدل على فساد قولهم.
ومن الناس من لم
يجوز الكفر لكنه جوز اظهار الكفر على سبيل التقية.
واحتجوا عليه بأن
اظهار الإسلام إذا كان مفضيا إلى القتل كان
__________________
اظهاره إلقاء
للنفس فى التهلكة ، وهو غير جائز وهذا أيضا باطل لأنه يفضى إلى خفاء الدين
بالكلية. ولأنه لو جاز ذلك لكان أولى الأوقات به مبدأ ظهور الدعوة. لأن الخلق فى
ذلك الوقت يكونون بالكلية منكرين له فكان يلزم أن لا يجوز لأحد من الأنبياء اظهار
الدعوة. ولأن الخوف الشديد كان حاصلا لإبراهيم عليهالسلام فى زمان نمرود وموسى عليهالسلام فى زمان فرعون. مع أنهم لم يمتنعوا عن اظهار الحق.
ومن الناس من لم
يجوز الكفر ولا اظهاره ، لكنه جوز الكبائر عليهم.
والأكثرون لم
يقولوا به لوجوه :
الأول
: لو صدرت الكبيرة
عنهم لكانوا أقل درجة من عصاة الأمة. وذلك غير جائز. بيان الملازمة أن درجات
الأنبياء فى غاية
__________________
الشرف. وكل من كان
كذلك كان صدور الذنب عنه أفحش. ألا ترى إلى قوله تعالى : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ
مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) والمحصن يرجم وغيره يحد وحد العبد نصف حد الحر وأما إنه لا
يجوز أن يكون النبي أقل حالا من الأمة فبالاجماع.
الثانى
: أن بتقدير إقدامه
على الفسق وجب أن لا يكون مقبول الشهادة لقوله تعالى (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ
بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) لكنه مقبول الشهادة وإلا لكان أدنى حالا من عدول الأمة.
الثالث
: أن بتقدير إقدامه
على الكبيرة يجب زجره عنها. فلم يكن ايذاؤه محرما لكنه محرم لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ
وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).
__________________
الرابع
: لو أتى بالكبيرة
لوجب علينا الاقتداء به لقوله تعالى : (فَاتَّبِعُونِي) فيفضى إلى الجمع بين الحرمة والوجوب وهو محال. أما الذين
لم يجوزوا الكبائر ، فقد اختلفوا فى الصغائر. واتفق الأكثرون على أنه لا يجوز منهم
الإقدام على المعصية قصدا سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، بل يجوز صدورها منهم على أحد
وجوه ثلاثة :
أحدها
: السهو والنسيان.
والثانى
: ترك الأولى.
والثالث
: اشتباه المنهى
بالمباح.
واختلفوا فى الوقت
الّذي تعتبر فيه العصمة. أما الفضيلية من الخوارج فقد جوزوا بعثة من يعلم الله
تعالى منه أنه يكفر. ومنهم
__________________
من لم يجوز ذلك ،
ولكن جوز بعثة من كان كافرا قبل الرسالة وهو قول ابن فورك ، لكنه زعم أن هذا
الجائز لم يقع.
ومن الحشوية من
زعم أن الرسول عليهالسلام كان كافرا قبل البعثة لقوله تعالى (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى). ولقوله تعالى (ما كُنْتَ تَدْرِي
مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) واتفق المحصلون على فساد ذلك.
ومن الناس من طرد
هذا الحكم فى الأئمة وقال كما لا يجوز كون الرسول كافرا قبل البعثة ، لا يجوز أن
يكون الامام أيضا كافرا قبل الإمامة. ولذلك يقدحون فى إمامة الشيخين.
وأما أنه هل يجوز
فعل الكبيرة على الأنبياء قبل البعثة فالأكثرون من أهل السنة جوزوا ذلك مستدلين
بأحوال اخوة يوسف عليهمالسلام ومنهم من لم يقل به ، ولم يقل بنبوتهم. ثم الذين جوزوا ذلك
قالوا منهم من فعل الكبيرة قبل البعثة ، لكنهم إنما جوزوا ذلك
__________________
على سبيل الندرة
بحيث يتوبون عنه ويشتهر حالهم فيما بين الخلق بالصلاح. فاما لو أصروا على الكبائر
بحيث يصيرون مشهورين بالخلاعة ، فذلك غير جائز ، لأن المقصود من بعثتهم يفوت على
هذا التقدير.
واما أنه هل يجب
كونهم معصومين عن الصغائر قبل البعثة وبعدها ، فالروافض أوجبوا ذلك ، ومن عداهم
جوزوا ذلك لكن اختلفوا فى كيفيتها.
أما النظام والأصم
وجعفر بن مبشر فإنما جوزوا ذلك على طريق السهو والنسيان فيقال لهم اما أن يقولوا.
إنه حال السهو مكلف ، وهو غير جائز ، لأنه تكليف ما لا يطاق ، أو لا يبقى مكلفا ،
فحينئذ لا يكون ذلك معصية ، أو يقولوا إنما عوتبوا على ترك التحفظ من النسيان ، وهو
قول أهل السنة.
__________________
ومن الناس من حمل
تلك الزلات على ترك الأولى ، لا يقال لو كان ترك الأولى سببا لاستحقاق العقاب
لعوتبوا أبدا. اذ لا عبادة إلا وفوقها عبادة ولا يستحق العقاب على المباحات. لأنا
نقول استحقاق العقاب على ترك الأفضل إنما يتوجه إذا كان يلزم منه فوات مصلحة أو
حصول مفسدة لا يمكن احتمالها فى الاعتذار عن قصة آدم عليهالسلام.
منهم من زعم أن
قوله تعالى : (وَعَصى آدَمُ) أى عصى أولاد آدم كما فى قوله (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ).
ومنهم من سلم أن
المراد منه آدم ، ثم زعم ابن فورك ان ذلك كان قبل الرسالة.
ومنهم من قال كان
ذلك بعد الرسالة ثم زعم الاصم أنه كان على
__________________
سبيل النسيان ،
لقوله تعالى (فَنَسِيَ). والاعتراض عليه أن إبليس ذكر لآدم وقت الوسوسة أمر النهى
، فقال : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ). ومع هذا التذكير يمتنع حصول النسيان. وأيضا أن الله تعالى
عاتبه على ذلك فى قوله : (أَلَمْ أَنْهَكُما
عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ) وآدم وحواء اعترفا بالزلة : فقالا (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا). والله تعالى قبل توبتهما فقال : (فَتابَ عَلَيْهِ). وكل ذلك ينافى النسيان.
ومنهم من سلم أن
آدم كان متذكرا للنهى لكنه أقدم على التأويل وهو من وجوه.
أحدها
: زعم النظام أن آدم
فهم من قوله تعالى (وَلا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) الشخص وكان المراد النوع. وكلمة هذا كما تكون إشارة إلى
الشخص كذلك تكون إشارة إلى النوع كقوله عليهالسلام :
__________________
هذا وضوء لا يقبل
الله الصلاة إلا به.
وزعم آخرون ان
النهى وان كان ظاهرا فى التحريم لكنه ليس نصا فيه ، فصرفه عن الظاهر لدليل عنده.
مسئلة :
الكرامات جائزة
عندنا خلافا للمعتزلة والأستاذ أبى إسحاق منا لنا التمسك بقصة مريم وآصف ثم تتميز
الكرامة عن المعجزة بتحدى النبوة.
مسئلة :
الأنبياء أفضل من
الملائكة عندنا خلافا للمعتزلة والقاضى منا والفلاسفة.
لنا قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) وسواء أجريناه على العموم أو حملناه على عالمى ذلك الزمان
، كما فى قوله تعالى :
__________________
(وَأَنِّي
فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ). فالمقصود حاصل. ولأن البشر يعرفون الله تعالى ويعبدونه مع
كثرة الصوارف عنه من الشهوة والغضب ، والموانع الداخلة والخارجة. وليس للملائكة
شيء من ذلك فتكون طاعة البشر أشق ، فيكون أفضل لقوله عليهالسلام أفضل العبادات أحمزها أى أشقها.
أما الفلاسفة فقد
احتجوا على أن الملك أفضل بوجوه :
أحدها
: أن الروحانيات
بسائط والجسمانيات مركبات. والبسيط أشرف من المركب.
وثانيها
: أن الروحانيات
مطهرة عن الشهوة والغضب التى هى منشأ للأخلاق الذميمة ، والجسمانيات غير خالية
عنها.
وثالثها
: أن الروحانيات صور
مجردة كمالاتها حاصلة بالفعل
__________________
والنفوس البشرية
مادية إما بجوهرها عند من يجعل النفس مزاجا أو فى أفعالها عند من يجعلها مجردة.
وعلى التقديرين فهى بالقوة ، وما بالفعل التام أشرف مما بالقوة.
ورابعها
: الروحانيات صور
مجردة ليس فيها طبيعة الانفعال فتكون وجودات محضة وخيرات محضة. والجسمانيات مركبة
من مادة وصورة والمادة منبع العدم والشر والخير أفضل من الشر.
وخامسها الروحانيات نورانية علوية لطيفة. والجسمانيات ظلمانية
كثيفة.
وسادسها
: الروحانيات فضلت الجسمانيات
بقوى العلم والعمل. أما العلم فلاحاطتها بالأمور الغائبة عنا ، واطلاعهم على
مستقبل الأحوال الجارية علينا ، ولأن علومهم علوم كلية ، وعلوم الجسمانيات جزئية
وعلومهم فعلية. وعلوم الجسمانيات انفعالية ، وعلومهم
__________________
فطرية آمنة من
الغلط. وعلوم الجسمانيات كسبية متعرضة للغلط.
وأما العمل
فلكونهم عاكفين على العبادة (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ). والجسمانيات ليسوا كذلك.
وسابعها
: ان الروحانيات لها
قوة قوية على تصريف الأجسام والزلازل القوية من غير أن يعرض لها فتور ، وكلال
بخلاف الجسمانيات.
وثامنها
: ان الروحانيات
اختياراتها متوجهة إلى الخير ونظام العالم والجسمانيات اختياراتها غير جازمة ، بل
مترددة بين جهتى السفالة والعلو.
وتاسعها الروحانيات مختصة بالهياكل العلوية النورانية والجسمانيات
مختصة بهذه الهياكل الفاسدة ونسبة الأرواح نسبة
__________________
الهياكل. فلما
كانت الهياكل السماوية أشرف ، كانت الأرواح السماوية أشرف.
وعاشرها
: الأرواح الفلكية
متصرفة فى هذا العالم. فإنها هى المدبرات أمرا وهى المبدأ والمعاد : وهما أشرف من
ذى المبدأ وذى المعاد. فالروحانيات أشرف.
أما المسلمون فقد
احتجوا على التفضيل بقوله تعالى : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) وقوله : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وقوله (ما هذا بَشَراً إِنْ
هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ).
والجواب عن شبهة
الفلاسفة مبنى على فساد أصولهم وقد نقدم ذلك وعن التمسك بالآيات مذكور فى الكتب
البسيطة وبالله التوفيق.
__________________
القسم الثانى
فى المعاد
مسئلة :
اختلف أهل العالم
فيه ، فأطبق المسلمون على المعاد البدنى ، والفلاسفة على المعاد النفسانى وجمع من
المسلمين والنصارى عليهما وجمع من الدهرية على نفيهما ، وتوقف جالينوس فى الكل.
أما القائلون
بالمعاد البدنى فمنهم من زعم أن الله تعالى يعدم البدن ثم يعيده. ومنهم من زعم أنه
يفرق الأجزاء ثم يجمعها. والكلام فيه يتفرع على مسائل :
مسئلة :
الّذي يشير إليه
كل أحد بقوله : أنا اما أن يكون جسما أو جسمانيا ، أو لا جسما ولا جسمانيا ، أو
متركبا عن هذه الأقسام تركيبا ثنائيا أو ثلاثيا.
__________________
أما المتكلمون
فزعموا أنه جسم. ثم الجمهور منهم يقول إنه هذه البنية المحسوسة. وهو ضعيف.
أما قوله هذه
البنية فلأنها دائما فى التغير ، ومنتقلة من الصغر الى الكبر ، ومن الذبول إلى
السمن ، مع أن كل واحد يعلم أن هويته ثابتة فى الأحوال كلها.
أما قوله :
المحسوسة فضعيف أيضا لأن المحسوس هو اللون والشكل القائمان بسطحه الظاهر. والإنسان
ليس عبارة عن مجرد هذا الشكل واللون ، وإلا لكانت الأجزاء الداخلة بأسرها خارجة عن
هويته فثبت أن ما هو حقيقة الإنسان غير محسوسة بالاتفاق.
ومنهم من زعم أنها
أجزاء أصلية باقية من أول العمر إلى منتهاه. ثم اختلفوا فيه فزعم ابن الراوندي أنه
جزء لا يتجزأ فى القلب. وزعم النظام أنه أجسام لطيفة سارية فى الأعضاء والأطباء
زعموا أنه الروح
__________________
اللطيفة الموجود
فى الجانب الأيسر من القلب. ومنهم من جعله الروح الدماغى ومنهم من جعله الاخلاط
الأربعة والدم خاصة.
أما الذين قالوا
إنه جسمانى. ومنهم من جعله عبارة عن المزاج واعتدال الاخلاط.
ومنهم من جعله
عبارة عن شكل البدن ، وتخطيطه ، وتأليفات أجزائه. ومنهم من جعله عبارة عن الحياة.
أما الذين قالوا
أنه غير جسم ولا جسمانى فهم الفلاسفة ومن المعتزلة معمر ومنا الامام الغزالى رحمهالله والحجة القوية لمثبتيها من وجهين :
الأول
: أن العلم بالله
تعالى غير منقسم إذ لو انقسم لكان اما أن يكون كل واحد من أجزائه علما ، أو لا
يكون فإن كان علما فاما أن يكون علما بذلك المعلوم فيكون الجزء مساويا للكل ، هذا
خلف وان لم يكن علما بذلك المعلوم فعند اجتماع تلك الأجزاء ، إن لم
__________________
يحصل هيئة زائدة
لم يحصل العلم بالله تعالى ، هذا خلف. وان حصلت هيئة زائدة ، فإن انقسمت عاد
التقسيم ، وإلا حصل المقصود.
وإذا ثبت ذلك وجب
أن لا يكون محله منقسما ، لأن الحال فى المنقسم ، منقسم وكل متحيز منقسم بناء على
نفى الجوهر الفرد ، فمحل العلم بالله تعالى غير متحيز ولا حال فى المتحيز.
وجوابه إنا بينا
اثبات الجوهر الفرد. ثم قوله الحال فى المنقسم منقسم منقوض بالنقطة والواحدة
والإضافة والوجود.
الثانى
: محل العلم والقدرة
وسائر الأعراض النفسانية ان كان هو البدن ، فاما أن يكون محلها جزأ واحدا من البدن
أو أكثر من واحد. والأول محال. أما أولا فلاستحالة الجزء الّذي لا يتجزأ. وأما
ثانيا فلأنه يلزم أن يكون ما عدا ذلك الجزء ميتا جمادا ، وهو مكابرة. وأما الثانى
فاما أن يكون الأجزاء موصوفة بعلم واحد
__________________
وقدرة واحدة ،
فيكون العرض الواحد حالا فى المحال الكثيرة ، وهو محال ، أو يكون القائم بكل واحد
منها علما على حدة ، وقدرة على حدة ، فلا يكون الإنسان الواحد عالما واحدا ، بل
علماء لكنه باطل بالضرورة فإن كل واحد يدرك نفسه شيئا واحدا لا أشياء.
جوابه أنه منقوض
على مذهب أبى على بالحواس الخمسة الظاهرة والباطنة والشهوة والغضب. وبقية أدلتهم
مع الجواب مذكورة فى كتبنا الحكمية.
حجة النفاة ان
المدرك للجزئيات هو البدن فالمدرك للكليات هو البدن. بيان الأول أنا نعلم بالضرورة
انا نحس الحرارة بإصبعنا إذا لمسنا النار وإنكاره مكابرة.
وبيان الثانى من
وجهين :
الأول
: إنا إذا أحسسنا
بحرارة جزئية أمكننا حمل الحرارة الكلية عليها ، والحامل للكلى على الجزئى مدرك
لهما ضرورة أن التصديق مسبوق بالتصور. وإذا كان المدرك للجزئيات هو البدن ، كان
المدرك
__________________
للكليات هو البدن.
إلا أن يقال البدن مدرك للجزئيات فقط ، والنفس مدركة لهما لكنه باطل لأنه حينئذ
يكون الإنسان مدركا للجزئيات مرتين.
الثانى
ان الماهية التى
عرضت لها أنها كلية جزء من الجزئى لأن الإنسان جزء من هذا الإنسان. ومن أدرك
المركب ، فقد أدرك المفرد. فمن أدرك هذا الإنسان فقد أدرك الإنسان ، لا محالة
والإنسان كلى ولا يندفع هذا ، إلا بأن يقال المدرك من هذا الإنسان ليس المركب ، بل
أحد قيديه ، وهو كونه هذا ، لكنه باطل.
أما أولا فلانا
دللنا على أن التعين لا يجوز أن يكون وصفا وجوديا زائدا ، وإلا لزم التسلسل. وإذا
لم يكن التعين وجوديا ، استحال أن يكون متعلق الإبصار والإدراك.
وأما ثانيا فلأن
متعلق الحس إذا كان مجرد التعين ، ومجرد التعين
__________________
أمر واحد فى جميع
المتعينات ، فما هو متعلق الحس من المتعينات أمر واحد فى الكل ، فوجب أن لا يحس
بالاختلاف ، البتة من جهة الابصار. وكذب التالى يدل على كذب المقدم ولنذكر الآن
بعض أحوال النفس.
مسئلة :
مذهب ارسطاطاليس وأتباعه ان النفوس
البشرية متحدة بالنوع.
واحتجوا بانها لو
اختلفت بالماهية بعد اشتراكها فى كونها نفوسا بشرية ، كانت مركبة ، لأن ما به
الاشتراك غير ما به الامتياز. وكل مركب جسم ، فالنفس جسم.
الاعتراض لم لا
يجوز أن يقال كونها نفوسا بشرية معناه أنها مدبرة للأبدان البشرية ، وكونها مدبرة
من عوارضها فلم لا يجوز أن يقال أنها مختلفة بتمام الماهية ومشتركة فى العوارض.
وذلك غير ممتنع ، كما فى الضدين فانهما مع اختلافهما مشتركان فى الاختلاف والتضاد.
سلمناه لكن لم قلت ان كل مركب جسم ، بل مذهبكم ان
__________________
الجسم مركب من
الهيولى والصورة. لكن الموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها. وكيف وعندهم الجوهر جنس
النفوس والعقول. وكل ما كان تحت جنس فماهيته مركبة من الجنس والفصل.
ومنهم من زعم أنها
مختلفة بالماهية ، واحتجوا بأنها مختلفة بالعفة ، والفجور ، والذكاء والبلادة.
وليس ذلك من توابع المزاج لأن الإنسان قد يكون بارد المزاج ، وفى غاية الذكاء ،
وقد يكون بالعكس. وقد يتبدل المزاج والصفة النفسانية باقية ، ولا من الأسباب
الخارجية. لأنها قد تكون بحيث يقتضي خلقا والحاصل ضده. فعلمنا أنها من لوازم
النفس. واختلاف اللوازم يدل على اختلاف الملزومات ، وهذه الحجة اقناعية.
مسئلة :
زعم ارسطاطاليس
وأتباعه انها حادثة خلافا لافلاطون ، ومن قبله. حجة القائلين بالحدوث أنها لو كانت
أزلية ، لكانت اما أن تكون
__________________
واحدة ، أو كثيرة.
فان كانت واحدة ، فعند التعلق بالأبدان ان بقيت واحدة ، فكل ما علمه واحد علمه كل
أحد ، وبالعكس ، هذا خلف.
أولا تبقى واحدة ،
فقد انقسمت وذلك محال لأن الهويتين اللتين حصلتا بعد الانقسام ، ان كانتا حاصلتين
قبل ذلك فقد كانت الكثرة حاصلة قبل حصولها هذا خلف وان قلنا انهما ما كانتا
حاصلتين ، وقد حدثتا الآن فهاتان النفسان قد حدثتا الآن والنفس التى كانت موجودة
قبل قد فنيت. وأما ان كانت كثيرة فلا بد من الامتياز بأمور وهو أما الذاتيات أو
لوازمها وهما محالان ، لأن النفوس البشرية متحدة بالنوع ، وإن لم تتحد كلها بالنوع
فلا أقل من أن يحصل من كل نوع شخصان.
واما بالعوارض فهو
محال لأن الاختلاف بالعوارض إنما يتحقق
__________________
عند تغاير المواد
وقبل البدن لا مادة ، فلا يتحقق الاختلاف بالعوارض.
الاعتراض لا نسلم
أنه يوجد نفسان من نوع واحد. وبيانه ما مر. سلمناه لكن لم قلت ان الامتياز لا بد
وأن يكون بزائد. وبيانه ما مر. سلمناه لكن لم لا يجوز أن يكون الاختلاف بالعوارض.
قوله : قبل هذا البدن لا مادة. قلنا لا نسلم فلم لا يجوز أن تكون قبل تعلقها بهذا
البدن كانت متعلقة ببدن آخر فانتقلت منه إلى هذه على سبيل التناسخ.
مسئلة :
القائلون بحدوث النفس اتفقوا على فساد
التناسخ لوجوه ثلاثة :
أحدها
: انا قد دللنا على
حدوث النفس ، فيكون حدوثها عن
__________________
مبدأها القديم
موقوفا على حدوث شرط. وإلا لم يكن حدوثها الآن أولى من حدوثها قبل ذلك. وذلك الشرط
ليس إلا حدوث البدن. فإذن حدوث الاستعداد البدنى علة لفيضان النفس على الجسد من
المبدأ القديم. فالبدن الحادث الّذي يتعلق به نفس على سبيل التناسخ ولا بد وأن
يستعد لقبول نفس أخرى ابتداء فيجتمع النفسان على بدن واحد وهو محال. لأن كل واحد
يجد ذاته شيئا واحدا لا شيئين.
الاعتراض هذه
الحجة مبنية على حدوث النفس. ودليلكم فى حدوث النفس مبنى على فساد التناسخ على ما
لاح الحال فيه ، فيكون دورا. سلمنا أنه لا دور ، لكن لم لا يجوز أن يقال النفوس
مختلفة بالماهية. فالبدن المستعد لواحدة منها لا يكون مستعدا لغيره.
سلمنا التساوى لكن
لا بد من التباين فى الهوية ، وما به التباين غير مشترك فيه ، فلم يلزم من كون
البدن المخصوص مستعدا للنفس
__________________
الموصوفة بهذه
الخصوصية كونه مستعدا للأخرى. سلمنا حصول المساواة فلم لا يجوز تعلق النفسين
بالبدن.
قوله لأن كل واحد
يجد نفسه شيئا واحدا. قلنا الّذي يدرك منى نفسى هو نفسى وكل نفس تجد نفسها نفسا
واحدا لا غير فلم يلزم محذور.
وثانيها لو كانت هويتنا موجودة قبل بدننا فى بدن آخر لتذكرنا تلك
الحالة.
والاعتراض لم لا
يجوز أن يكون تذكر أحوال كل بدن موقوفا على التعلق بذلك البدن.
وثالثها أنه لو صح التناسخ ، لكان اما أن يكون واجبا ، فيلزم أن
يكون عدد الهالكين مثل عدد المحدثين ، أو جائزا ، وهو محال. لأنه يلزم بقاء النفس
معطلة فيما بين هذين التعلقين. وضعف هذه الحجة لا يخفى.
__________________
مسئلة :
اتفقت الفلاسفة على امتناع عدم الأرواح.
واحتجوا بأن العدم
لو صح عليها لكان امكان العدم متقدما لا محالة على العدم ، وذلك الامكان يستدعى
محلا ، ويجب أن يكون المحل باقيا عند ذلك العدم. لأن القابل واجب الحصول عند
المقبول والشيء لا يبقى عند عدمه. فإذن كل ما يصح عليه العدم فله مادة. فلو صح
العدم على النفس لكانت مركبة من المادة والصورة. لكن ذلك باطل لما بينا أنها ليست
بجسم ، ولأنا على هذا التقدير إذا نظرنا إلى الجزء المادى لم يكن قابلا للعدم والا
لافتقر إلى مادة أخرى. ولا محالة ينتهى إلى ما لا مادة له. فيكون ذلك الشيء غير
قابل للفساد.
الاعتراض لا نسلم
ان الامكان أمر ثبوتى وعلى هذا التقدير ، لا يستدعى محلا. وأيضا فالنفس حادثة.
فتكون مسبوقة بالإمكان فالامكان السابق لما لم يوجب كونها مادية. فكذلك امكان
فساده.
سلمنا أنها لو
قبلت العدم لكانت مادية. فلم لا يجوز؟.
__________________
قوله كل مادى جسم.
قلنا لا نسلم. بل مذهبكم أن كل جسم مادى. والموجبة الكلية لا تنعكس كنفسها. وكيف
وهو تحت الجوهر. فيكون مركبا.
قوله إذا نظرنا إلى
الجزء المادى وجب أن يكون باقيا ، قلنا هب أنه يجب بقاء مادة النفس ، لكن لا يلزم
من بقاء مادة النفس بقاء النفس ، لأن المركب لا يبقى ببقاء أحد أجزائه. وتحقيقه أن
المقصود من اثبات بقاء النفس إثبات سعادتها وشقاوتها. وذلك غير حاصل على هذا
التقدير ، لأنه على تقدير بقاء مادتها دون صورتها ، لا يمكن القطع ببقاء كمالاتها
لاحتمال توقف امكان تلك الكمالات على حصول الجزء الصورى الفائت.
مسئلة :
النفس الناطقة
تدرك الجزئيات عندنا خلافا لارسطاطاليس وأبى على.
لنا أن هاهنا شيئا
يحمل الكلى على الجزئى وذلك الشيء مدرك
__________________
لهما والمدرك
للكلى هو النفس فالمدرك للجزئى هو النفس.
احتجوا بأنا إذا
تخيلنا مربعا مجنحا بمربعين ميزنا بين الجناحين. فهذا الامتياز ليس فى الخارج. إذ
ربما لم يكن ذلك موجودا فى الخارج فهو إذا فى الذهن. فمحل أحد الجناحين ان كان
محلا للثانى ، استحال حصول الامتياز. لأن امتياز أحدهما عن الآخر ، ليس بالماهية ،
ولا بلوازمها المشتركة بين الأفراد لكن الامتياز حاصل فمحل أحدهما غير الثانى.
وذلك لا يعقل إلا فى الجسم أو الجسمانى.
والجواب الإدراك
ليس نفس الانطباع على ما حققناه. ولأن عندكم الصورة منطبعة فى الخيال. ولا إدراك
هناك ، بل غايته أنه مشروط. فلو لا يجوز أن يقال تلك الصورة منطبعة فى آلة جسمانية
، ثم النفس تدركها وتطالعها.
__________________
مسئلة :
اتفقت الفلاسفة على سعادة النفوس العالمة
النقية عن الهيئات البدنية بعد الموت.
واحتجوا عليه أن
اللذة إدراك الملائم. والملائم لها إدراك المجردات. والادراك حاصل بعد الموت
فاللذة حاصلة هناك فيقال لهم ان قلتم اللذة نفس الإدراك فهو باطل بحصول الإدراك
الآن دون اللذة
وان قلت الإدراك
سبب اللذة فما الدليل عليه؟ والاستقراء لا يفيد إلا الظن ، والقياس على سائر
اللذات كذلك أيضا.
سلمناه لكن لا
يلزم من حصول السبب حصول المسبب ، لا محالة لاحتمال توقف تأثير المؤثر فى ذلك
الأثر على حضور شرط لم يحضر ، أو على زوال مانع لم يزل.
مسئلة :
__________________
اتفقوا على شقاوة
النفوس الجاهلة ووصف حجتهم فيه مذكور فى كتبنا الحكمية واتفقوا على أن تلك الشقاوة
مخلدة. وأن الشقاوة الحاصلة بسبب الهيئات البدنية منقطعة. وقد بينا ضعف قولهم فى
الفرق وبالله التوفيق.
فهذا جملة الكلام فى
المعاد النفسانى ولنتكلم الآن فى المعاد البدنى.
مسئلة :
اعادة المعدوم عند
أصحابنا جائزة خلافا للفلاسفة والكرامية ، وأبى الحسين البصرى من المعتزلة.
لنا أن بعد العدم
ان كان ممتنعا للماهية أو لشيء من لوازمها ، وجب امتناع مثله. وان كان لأمر غير
لازم ، فعند زوال ذلك العارض ، يزول الامتناع. لا يقال الحكم عليه بأنه ممتنع
لذاته أو
__________________
لغيره لا يصح ،
لأن الحكم على الشيء يستدعى امتياز المحكوم عليه من غيره. والامتياز يستدعى الثبوت
وهو مناف للعدم لانا نقول الحكم عليه بأنه لا يصح الحكم عليه حكم فيكون متناقضا.
واحتج المخالف
بأمور أحدها أن الشيء بعد عدمه ، نفى محض لم تبق هويته أصلا ، فلا يصح الحكم عليه
بصحة العود. لأن المحكوم عليه متميز عن غيره. والمتميز ثابت.
وثانيها أنه
بتقدير الوقوع لا يتميز عن مثله وما يفضى إلى أن لا يتميز الشيء عن مثله كان باطلا
وثالثها أنه لو أعيد ، لاعيد وقته الأول معه فيلزم أن يكون مبدأه من حيث أنه معاد
وهو متناقض.
والجواب عن الأول
ان قولك أنه لا يصح الحكم عليه متناقض ، كما تقدم.
وعن الثانى : لا
يتميز عن مثله فى علمنا وذلك لا مضرة فيه وأما
__________________
فى نفسه فلم.
وعن الثالث : أنه
إنما يكون مبدأ ، لو وجد مع الوجود المبتدأ لذلك الوقت.
مسئلة :
أجمع المسلمون على المعاد بمعنى جمع
الأجزاء بعد تفرقها خلافا للفلاسفة.
لنا أنه فى نفسه
ممكن والصادق أخبر عنه فوجب القول به. وانما قلنا أنه فى نفسه ممكن لأن الإمكان
إنما يثبت بالنظر إلى القابل. والفاعل وهما حاصلان. أما بالنظر إلى القابل ، فلأن
قبول الجسم الأعراض القائمة به أمر ثبت له لذاته. وما بالذات كان حاصلا فذلك
القبول حاصل أبدا. واما بالنظر إلى الفاعل فلأنه تعالى عالم
__________________
بأعيان أجزاء كل
شخص ، لكونه عالما بالجزئيات ، وقادر على جمعها ، وخلق الحياة فيها لكونه قادرا
على كل الممكنات وإذ كان كذلك كانت الاعادة ممكنة.
وإنما قلنا إن
الصادق أخبر عنه لأن الأنبياء عليهمالسلام أجمعوا على القول به. وإذا ثبت المقدمتان ، ظهر المطلوب.
فإن قيل أما الكلام فى الامكان فمبنى على أصول تقدم القول فيها ، فلا نعيدها.
سلمناه لكن لا نسلم أن الصادق أخبر عنه.
قوله الأنبياء عليهمالسلام أجمعوا عليه.
قلنا لا نسلم فإن
سائر الأنبياء لم يقولوا إلا بالمعاد الروحانى فاما محمد عليهالسلام فإنه قد جاء فى شرعه ما يدل على المعاد الجسمانى ولكنك قد
علمت أن دلالة الألفاظ ليست قطعية ، بل ظنية. وأيضا فكما جاء القول بالمعاد البدنى
، فقد جاء القول بالتشبيه فى القرآن
__________________
والتوراة ، فإذا
جاز المصير إلى تأويل الجسمانى بالروحانى فى باب التشبيه. فلم لا يجوز مثله فى هذا
الباب. سلمنا أن دليلكم يدل على قولكم لكنه معارض بأمور :
أحدها
: أن العالم أبدى
على ما تقدم فالقول بالحشر باطل.
وثانيها
: أن الجنة والنار
اما أن تكونا فى هذا العالم أو فى عالم آخر. أما فى هذا العالم. فاما أن تكون فى
عالم الأفلاك أو فى عالم العناصر. والأول محال لأن الأجرام الفلكية لا تقبل الخرق
والالتئام ولا يخالطها شيء من الفاسدات.
والثانى
: هو محض التناسخ
وأما فى عالم آخر ، فمحال. لأن الفلك بسيط على ما لاح فيكون شكله كريا. فلو فرض
عالم آخر
__________________
لكان كريا فيفرض
بين العالمين خلاء وهو محال.
وثالثها
: وهو أن إنسانا إذا
أكله إنسان آخر حتى صار جزء بدن أحدهما جزء بدن الآخر. فليس بأن يعاد جزأ لبدن
أحدهما أولى من أن يعاد جزأ لبدن الآخر ، وجعله جزأ لبدنيهما معا محال ، فلم يبق
إلا أن لا يعاد واحد منهما.
ورابعها
: أن المقصود من
البعثة اما الإيلام أو دفع الألم ، أو الالذاذ والأول لا يصلح أن يكون مقصودا
للحكيم.
والثانى باطل أيضا
فإنه يكفى فيه البقاء على العدم فيبقى الثالث لكن ما يتخيله لذة فى هذا العالم فهو
فى الحقيقة ليس بلذة بل كل ذلك خلاص عن الألم ، وانتقال من ألم إلى ألم آخر. إنما
اللذة بالحقيقة
__________________
هى اللذة
الروحانية. وإذا كان كذلك كان رد النفس إلى البدن عبثا.
والجواب أنه ثبت
بالتواتر أنه عليهالسلام كان يثبت المعاد البدنى وذلك لا يقبل التأويل.
أما المعارضة
الأولى فالجواب عنها قد تقدم وعن الثانية أن الخلاء جائز. وعن الثالثة أن الجزء
الأصلي لأحدهما فاضل للآخر ، ورده إلى الأول أولى. وعن الرابعة ما نقدم فى باب
الاعراض من اثبات اللذة الحسية.
تنبيه :
المعاد بمعنى جمع
الأجزاء لا يتم إلا مع القول باعادة المعدوم لما مر أن هوية الشخص ليست مجرد الجسم
، بل لا بد فيها من الأعراض ، وهى قد عدمت عند التفرق ، فلو لم يمكن إعادة المعدوم
امتنعت إعادته من حيث أنه هو.
مسئلة :
__________________
لم يثبت بدليل
قطعى أن الله تعالى يعدم الأجزاء ثم يعيدها ، واحتج القاطعون عليه بآيات :
أحدها
: قوله تعالى (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ، والهلاك هو العناد. وثانيها قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ) وإنما كان أولا لأنه كان موجودا قبل وجودها. فكذا إنما
يكون آخرا إذا كان موجودا بعد وجودها.
وثالثها قوله تعالى : (كَما بَدَأْنا
أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) بين أن الإعادة كالابتداء. وكان الابتداء عن العدم فوجب أن
تكون الإعادة أيضا عن العدم.
والجواب عن الأول
: لا نسلم أن الهالك هو المعدوم بل هو الّذي خرج عن حد الانتفاع ، والأجسام بعد
تفرقها تصير كذلك سلمنا أنه المعدوم لكن الآية على هذا التقدير لا يمكن اجراؤها
على ظاهرها ، لأن وصفها بكونها هالكة يقتضي أن تكون معدومة فى
__________________
الحال ، وهو
بالاتفاق باطل. فوجب تأويلها. فإن حملتموه على أن مآلها إلى الهلاك ، ونحن حملناه
على أنها قابلة للهلاك ، فلم كان تأويلكم أولى من تأويلنا.
وعن الثانى لم لا
يجوز أن يقال : هو الأول والآخر ، بحسب الاستحقاق لا بحسب الزمان
وعن الثالث أن
تشبيه الشيء بغيره لا يقتضي مشاكلتهما فى كل الأمور.
مسئلة :
سائر السمعيات من
عذاب القبر والصراط والميزان وانطاق الجوارح ، وتطاير الكتب وأحوال أهل الجنة
والنار ، فهى فى أنفسها ممكنة والله تعالى عالم بالكل قادر على الكل فكان خبر
الصادق عنها مفيدا للعلم بوجودها.
مسئلة :
__________________
وعيد أصحاب
الكبائر منقطع عندنا خلافا للمعتزلة.
لنا قوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ
خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ). ولا بد من الجمع بين العمومين. فإما أن يقال صاحب الكبيرة
يدخل الجنة بإيمانه ، ثم يدخل النار ، وهو باطل بالاتفاق. أو يدخل النار بكبيرته
ثم ينقل إلى الجنة وهو الحق.
وأيضا قوله تعالى
: (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ).
دليل ثان يعترف
الخصم بأن المؤمن استحق الثواب بإيمانه. فإذا فعل الكبيرة فالاستحقاق الأول إما أن
يبقى أو لا يبقى فإن بقى وجب إيصال الثواب إليه ولا طريق إليه إلا بنقله من النار
إلى الجنة. وان لم يبق فهو محال لوجوه :
__________________
الأول
: وهو إنه ليس
انتفاء الباقى لطريان الحادث أولى من اندفاع الحادث لوجود الباقى.
الثانى
: وهو أنهما أو كانا
ضدين كان طريان الاستحقاق الطارئ مشروطا بزوال الاستحقاق السابق. فلو كان زواله
لأجل طريان الحادث لزم الدور.
الثالث
: وهو أنه إذا استحق
عشرة أجزاء من الثواب ثم فعل معصية استحق بها خمسة أجزاء من العقاب فليس انتفاء
استحقاق احدى الخمستين أولى من انتفاء استحقاق الخمسة الأخرى. لأن أجزاء الثواب
لما كانت متساوية كانت استحقاقها متساوية أيضا. فإما أن ينتفى مجموع العشرة وهو
ظلم ، أو لا ينتفى شيء منها وهو المطلوب.
الرابع
: إذا استحق عشرة
أجزاء من الثواب ثم فعل ما به يستحق عشرة أجزاء من العقاب فالطارئ اما أن يحبط
الأول ولا ينحبط
__________________
كما هو قول أبى
على الجبائى أو يحبط وينحبط كما هو قول أبى هاشم فى الموازنة.
والأول باطل لأنه
يصير فعل الطاعة السالفة لغوا محضا لا يظهر له أثر فى جلب نفع ، ولا فى دفع ضرر.
وهو باطل لقوله تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ).
والثانى : باطل
لأن سبب زوال الاستحقاق الأول حدوث الاستحقاق الثانى. فإذا ما لم يوجد الاستحقاق
الثانى لا يزول الاستحقاق الأول. وإذا وجد الاستحقاق الثانى ، وزال به الأول
استحال أن يزول هذا الاستحقاق الثانى. لأنه ليس له مزيل فيصير هذا هو القسم الأول
الّذي كان مذهبا لأبى على ، وقد أبطلناه ، يبقى أن يقال كل واحد من الاستحقاقين
يزول بالآخر دفعة ، لكن هذا محال لأن علة عدم كل واحد منهما وجود الآخر ، فلو عدما
دفعه لوجدا دفعة ، لكن العلة موجودة ، حال حدوث المعلول فهما
__________________
موجودان حال
كونهما معدومين ، هذا خلف. فهذه وجوه دالة على فساد قولهم فى المحابطة. ومتى ثبت
ذلك ثبت انقطاع العقاب.
دليل ثالث قوله
تعالى : (إِنَّ اللهَ لا
يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ). وكذا قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ
لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) وكلمة «على» للحال. يقال رأيت الأمير على أكله ، أى حال
أكله. فالآية تقتضى حصول المغفرة حال اشتغال العبد بالظلم ، وهو يدل على حصول
المغفرة قبل التوبة.
دليل رابع أجمع
المسلمون على كونه تعالى عفوا ، والعفو لا يتحقق الا عند إسقاط العذاب المستحق.
وعند الخصم ترك العقاب على الصغيرة قبل التوبة ، وعلى الكبيرة بعدها واجب ، فلا
يبقى للعفو معنى إلا إسقاط العقاب على الكبيرة قبل التوبة. احتج الخصم بقوله تعالى
: (وَمَنْ يَقْتُلْ
مُؤْمِناً). وبقوله : «وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي
__________________
جَحِيمٍ».
والجواب سنبين فى
أصول الفقه أن صيغ العموم ليست قاطعة فى الاستغراق ، بل ظاهرة فيها محتملة للخصوص
وإذا كان كذلك لم يكن التمسك بها فى القطع على الوعيد. وأيضا فهى معارضة بآيات
الوعد ولا طريق الى التوفيق إلا ما ذكرناه.
مسئلة :
أجمعوا على أن
وعيد الكافر المعاند دائم. أما الكافر الّذي بالغ فى الاجتهاد ولم يصل إلى المطلوب
، فقد زعم الجاحظ والعنبرى أنه معذور لقوله تعالى (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) والباقون أبوه وادعوا فيه الإجماع وبالله التوفيق.
__________________
القسم الثالث
فى الأسماء والأحكام
مسئلة :
لا نزاع فى أن
الإيمان فى أصل اللغة عبارة عن التصديق ، وفى الشرع عبارة عن تصديق الرسول بكل ما
علم بالضرورة مجيئه به ، خلافا للمعتزلة فإنهم جعلوه اسما للطاعات والسلف فإنهم
قالوا إنه اسم للتصديق بالقلب ، والاقرار باللسان ، والعمل بالأركان.
لنا أن هذه
الطاعات لو كانت جزأ من مسمى الإيمان شرعا لكان تقييد الإيمان بالطاعة تكريرا ،
وبالمعصية نقضا لكنه باطل لقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وبقوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ).
__________________
واحتج الخصم بأمور
:
أحدها
: أن فعل الواجبات
هو الدين لقوله تعالى : «وَما
أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) ـ إلى قوله ـ (ذلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَةِ». فقوله تعالى (وَذلِكَ) يرجع إلى كل ما تقدم. فكان كل ما تقدم هو الدين والدين هو
الإسلام لقوله تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ). والإسلام هو الإيمان. إذ لو كان غيره ، لما كان مقبولا
ممن ابتغاه. لقوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، ولما كان الإيمان مقبولا منه علمنا أنه الإسلام وإذا ثبت
ذلك لزم أن فعل الواجبات هو الإيمان.
وثانيها
: ان قاطع الطريق
يخزى يوم القيامة. والمؤمن لا يخزى يوم القيامة. فقاطع الطريق غير مؤمن أما أن
قاطع الطريق يخزى.
__________________
فلأن الله تعالى
يدخله النار يوم القيامة لقوله تعالى فى صفتهم : (وَلَهُمْ فِي
الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ) وكل من أدخل النار فقد أخزى. لقوله تعالى : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وانما قلنا أن المؤمن لا يخزى لقوله تعالى (يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ
وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ).
وثالثها
: أنه لو كان
الإيمان فى عرف الشرع عبارة عن التصديق ، لكان كل من صدق الله تعالى أو الجبت
والطاغوت مؤمنا.
ورابعها
: قوله تعالى (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) أى صلاتكم.
والجواب عن
الأولين أنا نحمل ذلك على كمال الإيمان ضرورة التوفيق بين الأدلة. وعن الثانى
المراد منه الكفار.
__________________
وعن الثالث بأنا
نخصصه ببعض التصديقات. والتخصيص أهون من التغيير.
وعن الرابع : انا
نحمل ذلك على الإيمان بتلك الصلاة لا على نفس الصلاة.
تنبيه :
صاحب الكبيرة
عندنا مؤمن مطيع بإيمانه عاص بفسقه. وعند المعتزلة لا يسمى مؤمنا ولا كافرا. وعند
جمهور الخوارج كافر لقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ
بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) وعند الأزارقة مشرك ، وعند الزيدية كافر النعمة وعند الحسن
البصرى منافق ، لقوله عليهالسلام : آية المنافق ثلاث.
مسئلة :
الإيمان عندنا لا يزيد ولا ينقص لأنه لما كان اسما لتصديق
__________________
الرسول فى كل ما
علم بالضرورة مجيئه به. وهذا لا يقبل التفاوت. فمسمى الإيمان لا يقبل الزيادة
والنقصان.
وعند المعتزلة لما
كان اسما لأداء العبادات ، كان قابلا لهما.
وعند السلف لما
كان اسما للاقرار والاعتقاد ، والعمل ، فكذلك. والبحث لغوى. ولكل واحد من الفرق
نصوص. والتوفيق أن يقال الأعمال من ثمرات التصديق. فكل ما دل على أن الإيمان لا
يقبل الزيادة والنقصان كان مصروفا إلى أصل الإيمان ، وما دل على كونه قابلا لهما
فهو مصروف إلى الإيمان الكامل.
مسئلة :
أكثر أصحابنا
قالوا أنا مؤمن إن شاء الله ، لا لقيام الشك ، بل اما للتبرك أو للصرف إلى
العاقبة.
مسئلة :
__________________
الكفر عبارة عن
انكار ما علم بالضرورة مجىء الرسول به فعلى هذا لا يكفر أحد من أهل القبلة لأن
كونهم منكرين لما جاء به الرسول غير معلوم ضرورة ، بل نظرا والله أعلم.
__________________
القسم الرابع
فى الامامة
مسئلة :
من الناس من قال
بوجوبها. ومنهم من لم يقل بذلك. أما القائلون بوجوبها فمنهم من أوجبها عقلا ،
ومنهم من أوجبها سمعا. وأما الموجبون عقلا فمنهم من أوجبها على الله تعالى ومنهم
من أوجبها على الخلق. فالذين أوجبوها على الله تعالى هم الإمامية. ثم ذكروا فى
وجوبها وجوها.
أحدها أن يكون لطفا فى الزجر عن المقبحات العقلية. وهو قول
الاثنى عشرية.
وثانيها
: أن يكون معلما
لمعرفة الله تعالى وهو قول السبعية.
__________________
وثالثها
: أن يعلمنا اللغات
ويرشدنا الى الأغذية ويميزها عن السموم. أما الذين أوجبوها على الخلق لا على الله
تعالى فهو قول الجاحظ والكعبى وأبى الحسين البصرى. وأما الذين أوجبوها سمعا فقط ،
فهم جمهور أصحابنا ، وأكثر المعتزلة. وأما الذين لا يقولون بوجوبها فهم الخوارج
والأصم.
لنا أن نصب الامام
يتضمن دفع الضرر عن الناس فيكون واجبا. أما الأول فلأنا نعلم أن الخلق إذا كان لهم
رئيس قاهر يخافون بطشه ويرجون ثوابه ، كان حالهم فى الاحتراز به عن المفاسد أتم
مما إذا لم يكن لهم هذا الرئيس.
وأما أن دفع الضرر
عن الناس واجب فبالاجماع عند من لا يقول بالوجوب العقلى وبضرورة العقل عند من يقول
به.
__________________
مسئلة :
الشيعة جنس ، تحته
أربعة أنواع : الإمامية ، والكيسانية ، والزيدية والغلاة ، أما الإمامية فالذين
استقر عليه رأيهم. أن الإمام بعد الرسول عليهالسلام على بن أبى طالب رضى الله عنه ثم ولده الحسن ، ثم أخوه
الحسين ، رضى الله عنهما ثم ابنه على ، ثم ابنه محمد الباقر ، ثم ابنه جعفر الصادق
، ثم ابنه موسى الكاظم ، ثم ابنه على الرضا ثم ابنه محمد التقى ثم ابنه على النقى
، ثم ابنه الحسن الزكى ، ثم ابنه محمد وهو القائم المنتظر.
ولقد كان لهم فى
كل واحد من هذه المراتب اختلافات :
فنقول : القائلون
بالنص الجلى على على بن أبى طالب رضى الله
__________________
عنه ، اتفقوا على
أنه كان متعينا للإمامة.
وعن فرقة من
الإمامية أنهم قالوا الأمر بعد الرسول عليهالسلام إلى على بن أبى طالب رضى الله عنه يفعل فى الإمامة ما أحب
ان شاء جعلها لنفسه وان شاء ولاها غيره.
وزعمت الكاملية
وهم أصحاب أبى كامل معاذ بن الحصين النبهانى ، أن الصحابة كفرت بمخالفتهم النص
الجلى. وأن عليا عليهالسلام كفر بترك القتال معهم.
أما الأكثرون
فاتفقوا على أنه كان متعينا للإمامة. وان كان محقا فى ترك القتال للتقية. ثم
اختلفوا بعد موته.
__________________
فزعمت السبائية
أصحاب عبد الله بن سبأ أنه لم يمت ، وإنه فى السحاب وان الرعد صوته والبرق سوطه.
وإنه ينزل إلى الأرض بعد حين ، فيقتل أعداءه. فاذا سمع هؤلاء صوت الرعد قالوا عليك
السلام يا أمير المؤمنين.
وأما الباقون
فقطعوا بموته. ثم اختلفوا فمنهم من قال الامام بعده محمد بن الحنفية وهو قول بعض
الكيسانية على ما سيأتى تفصيل قولهم فى فصل مفرد والأكثرون قالوا الإمام بعده
الحسن ثم اختلفوا بعد موت الحسن. فمنهم من ساق الإمامية إلى ولده الحسن وهو الملقب
بالرضا من آل محمد. ومنه إلى ولده عبد الله ومنه إلى ولده محمد ، وهو النفس الزكية
، ثم إلى أخيه إبراهيم.
والأكثرون ساقوها
من الحسن إلى الحسين. ثم اختلفوا بعد
__________________
قتله. فمنهم من
ساقها إلى أخيه محمد بن الحنفية ، وهو قول أكثر الكيسانية. والأكثرون ساقوها إلى
ولده على زين العابدين ثم اختلفوا بعد موته فالزيدية ساقوها إلى ولده زيد بن على
كما سيأتى شرح أحوال الزيدية فى فصل مفرد.
والإمامية ساقوها
إلى محمد الباقر. واختلفوا بعد موته. فمنهم من قال إنه لم يمت وينتظرونه. ومنهم من
قطع بموته ، وهم الأكثرون.
ثم اختلفوا. فمنهم
من ساقها إلى غير ولده وهم فريقان :
أحدهما
: الذين ساقوها إلى
محمد بن عبد الله بن الحسين ابن الحسن ، وهو قول أصحاب المغيرة بن سعيد البجلي.
وثانيهما
: الذين ساقوها إلى
أصحاب منصور العجلى على ما سيأتى شرح هاتين الفرقتين فى فصل الفلاة.
__________________
أما الذين ساقوها
إلى ولده جعفر الصادق ، فقد اختلفوا بعد موته على قولين :
أحدهما
: الذين قطعوا بأنه
لم يمت ، ولن يموت حتى يظهر أمره ، وهو القائم المنزل ، ورووا عنه أنه قال لو
رأيتم رأسى مدهدها عليكم من هذا الجبل فلا تصدقوا فإنى صاحبكم صاحب السيف.
ثم اختلفوا هؤلاء
فقالت الناووسية بغيبته. وقال آخرون انه لم يغب وأن أولياءه يرونه فى بعض الأوقات
وإنه يعدهم ويمنيهم. ولكنه ما عين لهم وقتا للخروج وثانيهما : الذين قطعوا بموته وهؤلاء اختلفوا على أربعة أوجه :
أحدها
: الذين زعموا أن
جعفرا مات ولا إمام بعده وسيرجع إلى الدنيا فيملأها عدلا كما ملئت جورا وهم
الناووسية.
وثانيها :
__________________
الذين ساقوا
الإمامة إلى ولده.
وثالثها : الذين ساقوها إلى
غير ولده.
ورابعها
: الذين جوزوا
الأمرين. أما الذين ساقوها الى ولده ، فاعلم أنه كان له من الأبناء المعتبرين
أربعة : عبد الله ، ومحمد ، وإسماعيل ، وموسى.
اما القائلون
بإمامة عبد الله فيقال لهم الافطحية ، لأن عبد الله كان أفطح ، ويقال لهم العمارية
لانتسابهم إلى واحد من أكابرهم يقال له عمار.
وأما القائلون
بإمامة إسماعيل فهم الاسماعيلية الشيعية.
وأما القائلون
بإمامة إسماعيل فهم الاسماعيلية الشيعية.
وأما القائلون
بإمامة موسى فيقال لهم الفضلية. وهاهنا قول آخر وهو أن الإمامة كانت لأولاده
الأربعة ، وهو قول الفضيلية أصحاب الفضل بن سويد الطحان.
__________________
أما الذين ساقوها من
جعفر إلى غير أولاده اختلفوا على خمسة أقوال :
أحدها
: الطفية أصحاب موسى
بن الحسن الطفي. زعموا أن الصادق أوصى بالإمامة إليه.
وثانيها
: البزيعية أصحاب
بزيع بن موسى الحائك. زعموا أن الصادق أوصى بها إليه.
وثالثها
: الأقمصية أصحاب
موسى بن عمران الأقمصى الكوفى. زعموا أن الصادق أوصى بها إليه.
ورابعها
: التميمية أصحاب
عبد الله بن سعيد التميمى.
وخامسها
: الجعدية أصحاب أبى
جعدة من الكوفة. وأما الذين اتفقوا فى سوق الإمامة من جعفر إلى ولده وغير ولده فهم
اليعفورية
__________________
أصحاب أبى يعفور.
فانهم جوزوا كلا الأمرين.
ثم اختلف القائلون
بإمامة موسى بن جعفر بعد موته. فمنهم من توقف فى موته. وقال لا أدرى مات أو لم
يمت. ويقال لهم الممطورة لأن يونس بن عبد الرحمن وهو من علماء الشيعة قال لهم ما
أنتم الا كلاب ممطورة.
ومنهم من قطع بأنه
لم يمت ، وإنه حي. ثم اختلفوا.
فزعمت البشرية
أصحاب محمد بن بشر ، أن موسى حي لم يمت ، ولا يموت إلى الوقت المعلوم ، وأنه أوصى
بالإمامة إليه.
وزعمت القرامطة أن
موسى أوصى بها إليه.
وأما القاطعون
بموته فمنهم من ساقها إلى ولده أحمد ابن موسى. والأكثرون ساقوها إلى ولده على
الرضا. ثم القائلون
__________________
بإمامة على
اختلفوا بعد موته.
فمنهم من لم يقل
بإمامة ولده محمد النقى لصغره وعدم علمه فى ذلك الوقت. فإن زمان موت الرضا كان سن
النقى أربعة.
ومنهم من قال
ثمانية. واما الأكثرون فقالوا بإمامة النقى. ثم اختلفوا.
فقال قوم لا يبعد
أن يخلق الله تعالى فيه العلوم بكل الدين أصوله وفروعه. وإن كان صغيرا ، كما فى حق
عيسى عليهالسلام.
وقال آخرون إنه
كان إماما على معنى أن الأمر له دون سائر الناس. ولكن لا يجوز أن يكون إماما فى
الصلاة ومفتيا فى الحوادث. وأنما المفتى كان بعض أصحابه إلى أن صار بالغا.
ثم القائلون
بإمامة النقى اختلفوا بعد موته فمنهم من ساقها إلى
__________________
ولده موسى.
والأكثرون ساقوها إلى على النقى ، ثم اختلفوا بعد موته.
فزعم بعضهم أنه حي
وهو المنتظر. ومنهم من ساقها إلى ولده جعفر. والأكثرون ساقوها إلى ولده الحسن بن
على ثم اختلفوا بعد موت الحسن على أثنى عشر قولا :
أحدها
: أنه لم يمت. لأنه
لو مات وليس له ولد ظاهر لخلا الزمان عن الإمام المعصوم وإنه غير جائز.
__________________
والثانى
: أنه مات لكن سيجيء
وهو المعنى بكونه قائما أى يقوم بعده.
والثالث
: أنه مات ولا يجيء
ولكنه أوصى بالإمامة إلى أخيه جعفر.
الرابع
: بل أوصى بها إلى
أخيه محمد.
__________________
الخامس
: أنه لما مات من
غير عقب ، علمنا أنه ما كان إماما. وأن الإمام كان جعفرا.
السادس
: بل ظهر أن الإمام
كان محمدا. لأن جعفرا كان مجاهرا بالفسق. والحسن كان فاسقا فى الحقيقة فتعين محمد
للامامة.
السابع
: أن الحسن خلف ابنا
ولد قبل موته بسنتين اسمه محمد لكنه استتر خوفا من عمه جعفر وغيره من الأعداء وهو
المنتظر.
الثامن
: له ابن ولد بعد
موته بثمانية أشهر.
التاسع
: لما مات الإمام
ولا ولد له فلا يجوز انتقال الإمامة منه إلى غيره ، فبقى الزمان خاليا عن الإمام ،
وارتفعت التكاليف.
العاشر
: يجوز أن يكون
الإمام لا من ذلك النسل بل من نسل آخر غيره من العلوية.
__________________
الحادى
عشر لما لم يجز
انتقال الإمامة من ذلك النسل إلى نسل آخر ، ولا يجوز خلو الزمان عن الإمام علمنا
أنه بقى من نسله ابن ، وان كنا لا نعرفه بعينه فنحن على ولائه إلى أن يظهر.
الثانى
عشر : أمر الإمامة معلوم
إلى على الرضا. وبعده متخبط فنتوقف فى الكل.
واعلم أن هذا
الاختلاف العظيم من أدل الدلائل على عدم النص الجلى المتواتر على هؤلاء الاثنى
عشر.
فصل :
فى شرح فرق الكيسانية هم أصحاب كيسان مولى أمير المؤمنين على ، رضى الله عنه ،
اعتقدوا فيه الاعتقاد العظيم ، وانه أخذ علم التأويل والباطن والآفاق والأنفس عن
ابن الحنفية رحمة الله عليه وانتهى الأمر بهم إلى رفض الشرائع ، وانكار القيامة ،
والقول
__________________
بالحلول والتناسخ.
وكان المختار بن أبى عبيد الثقفى الكوفى القائم يثأر الحسين رضى الله عنه ، خارجيا
أولا ، وزبيريا ثانيا ، وشيعيا ثالثا ، وسنيا رابعا.
ويقال أن عليا رضى
الله عنه كان يسمى المختار بكيسان. فهذه الفرقة يقال لها الكيسانية. وهم المتفقون
على إمامة محمد بن الحنفية. ثم اختلفوا فذهب الحيانية أصحاب حيان بن زيد السراج
إلى أنه كان إماما بعد على بن أبى طالب. واحتجوا عليه إن عليا رضى الله عنه دفع
إليه الراية يوم الجمل. وقال له :
اطعن بها طعن
أبيك تحمد
|
|
لا خير فى الحرب
إذا لم توقد
|
وهذا يدل على أن
عليا رضى الله عنه أقامه مقام نفسه ، وهو يوجب الإمامة. والأكثرون منهم أثبتوا
إمامته بعد قتل الحسين رضى الله عنه. واحتجوا عليها بوجهين :
الأول
: أن الحسين لما عزم
على الكوفة أوصى بالإمامة إليه.
__________________
الثانى
أن الّذي بقى من
ولد الحسين وهو زين العابدين كان صبيا ، ولم يكن أهلا للإمامة فتعين محمد لها. ثم
إن المختار دعى الناس إلى محمد بن الحنفية. وزعم أنه من دعاته. ثم تنبأ. فلما عرف
محمد ذلك تبرأ منه.
ثم إن مصعب بن
الزبير لما قتل المختار استوت خراسان والعراق والحجاز واليمن لعبد الله بن الزبير
، فدعا ابن الحنفية إلى طاعته فهرب منه إلى عبد الملك بن مروان فكره عبد الملك
كونه بالشام ، وأمره بالرجوع إلى اليمن فخرج إلى اليمن ، فمات فى طريقه.
ثم اختلفت
الكيسانية : فمنهم من قال إنه حي فى جبل رضوى ، وانه بين أسد ونمر يحفظانه ، وعنده
عينان نضاختان يجريان بماء وعسل ويعود بعد الغيبة فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا
، وهو المهدى المنتظر. وإنما عوقب بالحبس هناك لخروجه إلى عبد الملك
__________________
بن مروان وقبله
إلى يزيد بن معاوية وهذا قول الكربية أتباع أبى كرب الضرير وكان السيد الحميرى على
هذا المذهب وهو يقول :
ألا قل للوصى
فدتك نفسى
|
|
اطلت بذلك الجبل
المقاما
|
فى أبيات ومنهم من
أقر بموته. واختلفوا على قولين :
الأول
الذين ساقوا
الإمامة بعده إلى زين العابدين.
الثانى
: الذين ساقوها إلى
أبى هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وهم الأكثرون من الكيسانية ، وزعموا أن
محمدا أفضى إليه الأسرار من علم التأويل والباطن. واختلفوا بعد موت أبى هاشم على
سبعة أوجه :
الأول
: أن الإمام بعده
زين العابدين.
الثانى
: أن أبا هاشم مات
منصرفا من الشام بأرض السراة
__________________
وأوصى بالإمامة
إلى على بن عبد الله بن عباس ثم أوصى على إلى ابنه محمد وأوصى محمد إلى ابنه
إبراهيم المقتول بحران.
ثم إن القائلين
بهذه المقالة ظهروا بخراسان ، ودعوا الناس إليها ، فقبلها أبو مسلم صاحب الدولة ،
ودعا الناس إلى إبراهيم ولما عرف مروان بن محمد أن الدعوة إليه أخذه ، وحبسه
فتحيرت الشيعة فقال لهم يقطين بن موسى وهو أحد قدماء الدعوة انى رأيت إبراهيم
الامام فى حبس مروان ، فقلت له إلى من تكلنى فقال إلى ابن الحارثية ، وأراد أخاه
أبا العباس السفاح.
ويقال أن أبا مسلم
حين كان كيسانيا واقتبس من دعاتهم علومهم على أن تلك العلوم مستودعة فى أهل البيت
فكان يطلب المستقر فيه فبعث إلى الصادق انى قد دعوت الناس عن موالاة بنى أمية إلى
موالاة أهل البيت ، فان رغبت فيها فلا مزيد عليك فكتب إليه الصادق ما أنت من رجالى
، ولا الزمان زمانى ، فمال إلى بنى العباس.
__________________
الثالث
: أن أبا هاشم أوصى
بالإمامة إلى ابن أخيه الحسن ابن على بن محمد بن الحنفية. فلما هلك الحسن أوصى
بالامام إلى ابنه على بن الحسن فهلك ، ولم يخلف ، فرجعوا عنه إلى الوقوف على محمد
بن الحنفية وهم أصحاب عبد الكريم بن عمر البزاز.
الرابع
: لا بل أوصى بها
إلى بنان بن سمعان الفهدى الغالى.
الخامس
: لا بل أوصى بها
إلى عبد الله بن عمرو بن حرب الكندى.
السادس
: لا بل أوصى إلى
عبد الله بن معونة بن جعفر بن أبى طالب فهذه الاختلافات الكثيرة تحكمات محضة لا
طائل لها.
فصل :
فى شرح فرق الزيدية.
__________________
فالذى يجمعهم أن
الإمام بعد الرسول عليه الصلاة والسلام على ابن أبى طالب رضى الله عنه بالنص الخفى
ثم الحسن ثم الحسين ثم كل فاطمى مستجمع لشرائط الإمامة دعى الخلق إلى نفسه شاهرا
سيفه على الظلمة.
واختلفوا فقال
بعضهم أن الرسول عليه الصلاة والسلام نص على على ، والحسن والحسين وقال الآخرون
الرسول عليهالسلام نص على على وهو نص على الحسن والحسن نص على الحسين. وفرقهم
ثلاثة :
الجارودية أصحاب
أبى جارود بن زياد بن منقذ العبدى زعم أن الرسول عليه الصلاة والسلام نص على على
رضى الله عنه بالوصف دون التسمية والناس قد قصروا حيث لم يتعرفوا الوصف. وانما
__________________
نصبوا أبا بكر رضى
الله عنه باختيارهم ففسقوا.
والسليمانية أصحاب
سليمان بن جرير ، زعموا أن البيعة طريق الإمامة وأثبتوا إمامة الشيخين بالبيعة ،
أمرا اجتهاديا ثم تارة يصوبون ذلك الاجتهاد وتارة يخطئونه ، لكنهم يقولون الخطأ
فيه لا يبلغ الفسق ، وطعنوا فى عثمان وكفروه وكفروا عائشة وطلحة والزبير ومعاوية
لقتالهم عليا رضى الله عنه.
والصالحية أصحاب
الحسن بن صالح بن حي الفقيه كان يثبت إمامة أبى بكر وعمر رضى الله عنهما ويفضل على
بن أبى طالب على سائر الصحابة رضى الله عنهم إلا أنه توقف فى عثمان وقال إذا سمعنا
ما ورد فى حقه من الفضائل اعتقدنا إيمانه ، وإذا رأينا أحداثه التى نقمت عليه وجب
الحكم بفسقه ، فتحيرنا فى أمره ، وفوضناه إلى الله تعالى. وقول هؤلاء فى الأصول
قريب من مذهب المعتزلة.
فصل فى الإشارة
إلى عمدة مذهب الإمامية مدار مقالتهم فى
__________________
الاستدلال على
قاعدة وفى الجواب عن كلمات خصومهم على قاعدة أخرى.
أما الأول إن
الإمامة لطف لانا نعلم بالضرورة بعد استقراء العرف أن الخلق إذا كان لهم رئيس قاهر
يمنعهم عن القبائح. فإن امتناعهم عنها أكثر من القلب. واللطف يجرى مجرى التمكين
وإزالة المفسدة. ولما كانا واجبين على المكلف الحكيم كانت الإمامة أيضا واجبة
وبنوا على هذا عصمة الإمام قالوا إمكان صدور القبيح عن الخلق محوج لهم إلى الإمام
فلو تحقق هذا فى حق الإمام لافتقر هو إلى إمام آخر ، ولزم التسلسل وبنوا كون
الإجماع حجة على هذا لأنه لما ثبت امتناع خلو الزمان عن المعصوم والمعصوم لا يقول
إلا الحق كان الإجماع كاشفا عن قول المعصوم الّذي هو حق فكان الاجماع حجة فظهر
بهذا أن العلم بكون الاجماع دليلا لا يتوقف على العلم بصدق الرسول.
وبنوا إمامة على
بن أبى طالب كرم الله وجهه على وجوب عصمة
__________________
الإمام ، ووجوب
حقيقة الإجماع بيانه أن العقل لما دل على أن الامام واجب العصمة. وكل من قال بذلك
، قال إنه على بن أبى طالب رضى الله عنه وذلك معلوم بالضرورة بعد الاستقراء من دين
محمد عليه الصلاة والسلام.
فلو قلنا : بأن
الإمام غير على ، كان ذلك خرقا للإجماع.
وبهذا أثبتوا
إمامة سائر أئمتهم وأثبتوا وجود محمد بن الحسن وغيبته وإمامته قالوا لأن وجود هذا
الشخص وبقاؤه فى هذه المدة الطويلة ممكن والله تعالى قادر على الممكن وثبت امتناع
خلو الزمان عن الإمام المعصوم. وكل من قال بذلك قال إنه هذا ، فلو كان غيره لقدح
ذلك فى الاجماع.
لا يقال أليس قد
تقدم بيان الاختلاف العظيم بين الشيعة فى بعض الأئمة؟ فكيف ادعيتم اجماع الكل على
هذا الترتيب؟ ولأن
__________________
الاسماعيلية فرقة
عظيمة فى زماننا وهم ينازعون فى هذا الترتيب.
لأنا نجيب عن
الأول بأن القائلين بغير هذا الترتيب انقرضوا. فلو كان قولهم حقا كان أهل الزمان
مع اجماعهم على ترك ذلك القول مجمعين على الخطأ ، وإنه غير جائز. وأما خلاف
الاسماعيلية فغير قادح لما بينا أن الإمام يجب أن يكون معصوما ، وهم فساق ، بل
كفرة ، لقدحهم فى الشرع ، وقولهم بقدم العالم ، فهذا غاية تقرير مذهبهم.
ثم إن على هذا
المذهب اعتراضا وهو أن عليا وأولاده ، لو كانوا أئمة فلم لم يشتغلوا بالإمامة وما
حاربوا الظلمة لأجلها ، فعند هذا قررت الشيعة قاعدة أخرى ، وهى القول بجواز التقية
قياسا على جواز اختفاء النبي عليهالسلام فى الغار فظهر أن اعتمادهم فى مذهبهم أما فى الاستدلال ،
فعلى وجوب الإمامة عقلا ، وأما فى دفع الاعتراضات فعلى القول بالتقية ، فان صح
كلامهم فى هاتين المقدمتين فالدست لهم ، وإلا فلا.
وأما تمسكهم
بالنصوص من القرآن والأخبار فذلك مما يشاركهم
__________________
الزيدية فيه.
وأما رواية النص
الجلى فالأذكياء منهم يعترفون بأنه لا يجوز ادعاء التواتر فيها حتى أن الشريف
المرتضى وهو أجل الإمامية قدرا وأكثرهم علما ، وأغوصهم فكرا ونظرا روى فى كتاب
الشافى عن أبى جعفر بن قبة أن السامعين لهذا النص كانوا قليلين.
والاعتراض لا نسلم
وجوب الإمامة ، ولا نسلم كونها لطفا.
قوله الخلق إذا
كان لهم رئيس قاهر فالأمر كذا وكذا ، قلنا لو كانت القضاة والأمراء كلهم معصومين
لكان اللطف أتم ، فيلزمكم وجوب ذلك فلما لم يجب ذلك بالاتفاق ، علمنا أن ذلك إما
لأن فى نصب الأمراء والقضاة المعصومين فى كل محلة وان حصلت المنفعة المذكورة ، لا
أن هناك مفسدة خفية أستأثر الله تعالى بعلمها ، أو لأن ذلك ، وان كان لطفا محضا
خاليا عن شوائب المفاسد لكن اللطف
__________________
غير واجب وعلى
التقديرين فالقول فى الإمام الأعظم مثله وهذه النكتة هاهنا كافية ، والاستقصاء
مذكور فى كتبنا المطولة.
سلمنا وجوب
الإمامة فلا نسلم أن الإجماع حجة.
قوله : الإجماع
يكشف عن قول المعصوم. قلنا نعنى بالاجماع الإجماع الّذي لا نعرف له مخالفا أو
الّذي نعرف أنه لا يخالف فيه.
والأول : ممنوع
لأن عدم علمنا بالمخالف لا يدل على عدمه.
والثانى : مسلم
لكن لا نسلم أنه لا يمكننا العلم بالاجماع على هذا الوجه فمن الّذي يمكنه القطع
بأنه ليس فى أقصى الشرق والغرب أحد يخالف فى هذه المسألة.
لا يقال أنه
يمكننا أن نعلم أنه لا مخالف. لأن العبرة بالعلماء لا بالعوام والعلماء من أهل كل
عصر معروفون مشهورون. فيمكننا أن نتعرف أقوالهم ، ولأن ما ذكروه يفضى إلى سد باب
الاجماع وأنتم لا تقولون به.
لأنا نجيب عن
الأول بأنا لا نسلم أن العلماء من أهل كل عصر
__________________
معروفون فى
العالم. لأن أهل المغرب لا خبر عندهم من علماء المشرق وبالعكس. ولأن الإمام
المعصوم أجل الأئمة وأفضلهم مع أنه غير معروف فى العالم فإن العلماء الذين نعرفهم
فى العالم نعلم فى كل واحد منهم أنه ما عاش ثلاثمائة سنة وأكثر ، وإنه ليس ولد
الحسن العسكرى بل نعلم أباه وجده وحينئذ نقول : لو صح ما ذكرتموه لكان ذلك من أقوى
الدلائل على نفى إمامكم.
لأنا نقول لو كان
مشهورا فيما بين الناس وإذ ليس بمشهور فهو غير موجود.
لا يقال إنه معروف
ولكنه مجهول النسب والعمر لأنا نقول لو جاز خفاء ذلك لجاز أيضا خفاء قوله ومذهبه
إذ ليس تجويز أحدهما بأبعد من تجويز الآخر.
وعن الثانى : إنا
إنما نعترف بامكان الإجماع حيث يكون العلماء قليلين تحويهم بلدة وأما الآن فلا
ندرى ، فلعل فى أهل العالم من
__________________
يزعم أن أبا بكر
واجب العصمة أو يدعى ذلك فى إنسان آخر وإذا ظهر هذا الاحتمال انقطع القطع.
سلمنا أن الإجماع
حجة يكشف عن قول المعصوم ، لكن قول المعصوم متى يكون حجة مطلقا أم عند عدم التقية.
الأول ممنوع بالاتفاق بيننا وبينكم.
والثانى : مسلم
لكنه لا يدل على أن القرآن المجمع عليه حجة لا يقال إن الإمام وافق على ذلك تقية
وخوفا. وعلى هذا التقدير يسقط التمسك بالإجماع.
سلمنا صحة دليلكم
، لكنه معارض بأنه لو كان إماما لأظهر الطلب كما أظهره على رضى الله عنه مع معاوية
، وكما أظهره الحسين مع يزيد حتى آل الأمر إلى قلة المبالاة بالقتل. ولأن عبد
الرحمن بن عوف لما بايع يوم الشورى عليا على كتاب الله تعالى وسنة رسوله وسيرة
الشيخين لم يرض على بالتزام
__________________
سيرة الشيخين فترك
الإمامة لذلك مع أنه كان يمكنه ذكر ذلك اللفظ وإنه كان ينوى به غير ظاهره فإن فى
المعاريض لمندوحة عن الكذب فمن لا يرضى بهذا القدر كيف يقال إنه رضى بالكفر
للتقية. وتمام الكلام مذكور فى النهاية.
ولنختم هذا الكتاب
بما يحكى عن سليمان بن جرير الزيدى أنه قال : إن أئمة الرافضة وضعوا مقالتين
لشيعتهم لا يظفر معهما أحد عليهم.
الأول
: القول بالبداء
فإذا قالوا إنه سيكون لهم قوة وشوكة ثم لا يكون الأمر على ما أخبروه قالوا بدا لله
تعالى فيه قال زرارة ابن أعين من قدماء الشيعة وهو يخبر عن علامات ظهور الإمام.
فتلك أمارات
تجيء بوقتها
|
|
ومالك عما قدر
الله مذهب
|
ولو لا البداء
سميته غير فائت
|
|
ونعت البداء نعت
لمن يتقلب
|
ولو لا البداء
ما كان ثم تصرف
|
|
وكان كنار دهرها
تتلهب
|
__________________
وكان كضوء مشرق
بطبيعة
|
|
ولله عن ذكر الطبائع
مرغب
|
والثانى
: التقية فكلما
أرادوا شيئا تكلموا به فإذا قيل لهم هذا خطأ أو أظهر بطلانه قالوا إنما قلناه
تقية.
وهذا آخر هذا
الكتاب والله أعلم بالصواب ، وإليه المرجع والمآب
الفهرس
* المقدمة
دراسة مقارنة بين شراح المحصل
وموقف فخر الدين الرازى من علم الكلام........................................ ٥
* نسخ المخطوطات التى اعتمدنا عليها فى
التحقيق.................................. ٦٠
* صور بعض المخطوطات....................................................... ٦٥
* كتاب «محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين»....................................... ٧٧
الركن الأول
فى المقدمات
* المقدمة الأولى : فى العلوم الأولية............................................. ٨١
* القول فى التصورات [امكان المعرفة]....................................... ٨١
* القول فى التصديقات................................................... ٨٦
* المقدمة الثانية : فى أحكام النظر........................................... ١٢١
ـ
النظر ترتيب تصديقات يتوصل بها الى تصديقات اخر.................... ١٢١
ـ
الفكر المفيد للعلم موجود............................................ ١٢٢
ـ
لا حاجة فى معرفة الله الى المعلم....................................... ١٢٦
ـ
الناظر يجب أن لا يكون عالما بالمطلوب................................ ١٢٩
ـ
معرفة الله واجبة ولا يمكن تحصيلها الا بالنظر............................ ١٣٠
ـ
وجوب النظر سمعى.................................................. ١٣٤
ـ
اختلفوا فى أول الواجبات............................................. ١٣٦
ـ حصول العلم عقيب النظر الصحيح.................................. ١٣٦
ـ
النظر الفاسد لا يولد الجهل ولا يستلزمه................................ ١٣٧
ـ
حضور المقدمتين فى الذهن لا يكفى لحصول النتيجة..................... ١٣٨
ـ
العلم بوجه دلالة الدليل على المدلول هل هو عين العلم بالمدلول أم لا؟.... ١٣٩
* المقدمة الثالثة : فى الدليل وأقسامه......................................... ١٤١
ـ
الدليل هو الّذي يلزم من العلم به العلم بوجود المدلول.................... ١٤١
ـ
الدليل اللفظى لا يفيد اليقين الا عند تيقن أمور عشرة................... ١٤٢
ـ
النقليات بأسرها مستندة الى صدق الرسول............................. ١٤٢
ـ
الاستدلال بشيء على شيء.......................................... ١٤٣
الركن الثانى
فى تقسيم المعلومات
* المسألة الأولى : فى أحكام الموجودات.......................................... ١٤٧
* المسألة الثانية : المعدوم اما أن يكون
ممتنع الثبوت أو ممكن الثبوت.............. ١٤٩
ـ
تفصيل قول الفلاسفة والمعتزلة فى المعدومات............................ ١٥٧
* المسألة الثالثة : لا واسطة بين الموجود
والمعدوم............................... ١٦٣
ـ
التفريع على القول بالحال............................................. ١٧٣
ـ
تقسيم الموجودات على رأى الحكماء................................... ١٧٣
ـ
خواص الواجب لذاته عشرة.......................................... ١٧٧
ـ
خواص الممكن لذاته وهى ست....................................... ١٨٥
ـ
تقسيم الموجودات على رأى المتكلمين.................................. ٢٠٨
ـ
خواص القديم والمحدث............................................... ٢٠٩
ـ
تقسيم الممكنات على رأى الحكماء.................................... ٢١٦
ـ
تقسيم المحدثات على رأى المتكلمين................................... ٢٣٠
ـ
فصل فى أحكام الأعراض وأقسامها.................................... ٢٦٢
ـ
النظر فى مقومات الاجسام وعوارضها.................................. ٢٦٨
ـ الجواهر الروحانية................................................... ٣٢٤
ـ
القول فى الملائكة والجن والشياطين..................................... ٣٢٥
* خاتمة فى أحكام الموجودات :................................................. ٣٢٦
ـ
بيان الوحدة والكثرة................................................. ٣٢٦
ـ
العلة والمعلول....................................................... ٣٣١
الركن الثالث
فى الالهيات والنظر فى الذات
والصفات والأفعال والأسماء
* القسم الأول : فى الذات..................................................... ٣٣٧
* القسم الثانى : فى الصفات................................................... ٣٥٧
ـ
القول فى السلوب................................................... ٣٥٧
ـ
القول فى الصفات الثبوتية............................................ ٣٧٢
* القسم الثالث : الكلام فى الأفعال............................................ ٤٥٥
ـ
تأثير قدرة العبد فى مقدوره............................................ ٤٥٥
ـ
الله تعالى مريد لجميع الكائنات........................................ ٤٧٢
ـ
تفصيل قول الفلاسفة فى ترتيب الممكنات.............................. ٤٧٤
ـ
الحسن والقبح....................................................... ٤٧٨
ـ
لا يجب على الله سبحانه شيء....................................... ٤٨١
ـ
علة حسن التكليف التعريض لاستحقاق النعم.......................... ٤٨٤
* القسم الرابع : الكلام فى الأسماء.............................................. ٤٨٨
الركن الرابع
* القسم الأول : فى النبوات.................................................... ٤٨٩
ـ
المعجز أمر خارق للعادة مقرون بالتحدى............................... ٤٨٩
ـ
اثبات نبوة ورسالة محمد صلىاللهعليهوسلم.......................................... ٤٨٩
ـ الرد على شبه المنكرين.............................................. ٥٠٢
ـ
عصمة الأنبياء عليهمالسلام................................................ ٥٢٠
ـ
الأنبياء أفضل من الملائكة............................................ ٥٣١
* القسم الثانى : فى المعاد...................................................... ٥٣٧
ـ
الاختلاف فى المعاد بدنى أو نفسى.................................... ٥٣٧
ـ
مذهب ارسطاطاليس أن النفوس البشرية متحدة بالنوع................... ٥٤٣
ـ
القائلون بحدوث النفس اتفقوا على فساد التناسخ........................ ٥٤٦
ـ
اتفقت الفلاسفة على امتناع عدم الأرواح............................... ٥٤٩
ـ
النفس الناطقة تدرك الجزئيات......................................... ٥٥٠
ـ
اتفقت الفلاسفة على سعادة النفوس العالمة النقية عن الهيئات البدنية بعد الموت ٥٥٢
ـ
اتفقوا على شقاوة النفوس الجاهلة...................................... ٥٥٣
ـ
اعادة المعدوم جائزة.................................................. ٥٥٣
ـ
أجمع المسلمون على المعاد بمعنى جمع الأجزاء بعد تفرقها................... ٥٥٥
ـ
وعيد أصحاب الكبائر............................................... ٥٦٢
ـ
وعيد الكافر المعاند دائم............................................. ٥٦٦
* القسم الثالث : فى الأسماء والأحكام.......................................... ٥٦٧
ـ
تعريف الايمان فى اللغة والشرع........................................ ٥٦٧
ـ
الايمان عندنا لا يزيد ولا ينقص....................................... ٥٧٠
* القسم الرابع : فى الامامة.................................................... ٥٧٣
ـ
الكلام على وجوبها أو عدم وجوبها.................................... ٥٧٣
ـ
طوائف الشيعة واختلافهم............................................ ٥٧٥
ـ
شرح فرق الكيسانية................................................. ٥٨٧
ـ
شرح فرق الزيدية.................................................... ٥٩٢
|