القسم الاول

من الجزء الرابع

في

مباحث القائلين بالقدم المقالة الأولى

في

المقدمات التي

لا بد من تقديمها

المقدمة الأولى

في

تفسير العالم

أعلم (١) أن الموجود إما أن يكون متحيزا ، وإما أن يكون حالا في المتحيز ، وإما أن لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز [أما المتحيز (٢)] فإما أن يكون قابلا للقسمة ، وهو الجسم. وإما أن لا يكون وهو الجزء الذي لا يتجزأ ، عند من يقول بإثباته. وأما الحال في المتحيز فهو الأعراض القائمة بالأجسام والجواهر ، وقد عرفت أن الأعراض عند الحكماء [أجناس (٣)] تسعة :

أحدها : الكيف : ونقول : انه نوعان :

أحدهما : الأعراض التي يصح (٤) حلولها في غير الأحياء.

والثاني : الأعراض التي لا يصح حلولها إلا في الأحياء.

__________________

(١) نص (س) : «بسم الله الرحمن الرحيم ، رب يسر وتمم. الكتاب الرابع من إلهيات «المطالب العالية» في مباحث الحدوث والقدم ، وأسرار الدهر والأزل ، وفيه مقالات : المقالة الأولى في المقدمات التي لا بد من تقديمها ، وهي ستة. المقدمة الأولى في تفسير العالم. اعلم : أن ... الخ) وفي ط : في مباحث القدم واسرار الدهر .. الخ.

(٢) من (ط ، س)

(٣) سقط (س)

(٤) لا يصح (ت)

أما القسم الأول : فنوعان :

أحدهما : الأعراض المحسوسة بإحدى الحواس الخمس إحساسا أوليا.

والثاني : الأكوان.

أما القسم الأول : فعلى خمسة أقسام :

فالأول : المدركة بالقوة الباصرة ، وهي الألوان والأضواء.

والثاني : المدركة بالقوة السامعة ، وهي الحروف والأصوات.

والثالث : المدركة بالقوة الذائقة ، وهي الطعوم التسعة.

والرابع : المدركة بالقوة الشامة وهي الروائح.

والخامس : المدركة بالقوة اللامسة ، وهي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، وما يتولد من اجتماعهما.

وأما القسم الثاني : وهو الأكوان :

فالكون عبارة عن حصول الجوهر في الحيز. وتفسير الحيز سيأتي في باب الفضاء (١) والجهة ثم إن الكون جنس تحته أربعة أنواع :

فالأول : [هو (٢)] الحركة. [وهي (٣)] الحصول الأول [في (٤)] الحيز الثاني.

والثاني : السكون : وهو عبارة عن الحصول الثاني في الحيز الأول.

والثالث : الاجتماع وهو عبارة عن حصول متحيزين في حيزين [بحيث (٥)] لا يتخللهما فضاء وخلاء.

__________________

(١) الفرض (ت)

(٢) سقط (ط)

(٣) وهو (ت)

(٤) سقط (ت)

(٥) من (ط ، س)

والرابع : الافتراق. وهو عبارة عن حصول متحيزين في حيزين [بحيث (١)] يتخللهما فضاء وخلاء.

وأما القسم الثاني من قسمي العرض ، فهو العرض الذي يمتنع قيامه إلا بالحي. وهو أقسام :

فأحدهما : الحياة ، وثانيهما : الصفات التي تكون مشروطة بالحياة وهي قسمان : أحدهما : الصفات المعتبرة [في الإدراك. والثاني الصفات المعتبرة (٢)] في الفعل. أما الصفات التي تفيد الإدراك فقسمان : الأول : الاعتقادات. وهي إما تصورات أو تصديقات. والتصديقات : إما أن تكون جازمة أو غير جازمة. أما الجازمة فإما مطابقة أو غير مطابقة ، والمطابقة إما أن تكون علوما ضرورية أو نظرية أو تقليدية.

أما الضروريات. فإما أن تكون مستفادة من إحدى الحواس الخمس ، وإما أن تكون أولية بمعنى أن مجرد تصور موضوعها ومحمولها ، يوجب التصديق بإسناد محمولها إلى موضوعها ، أو بسلبه (٣) عنه.

وأما النظريات فمعلومة ، وأما التقليديات فهو أن يعتقد الإنسان اعتقادا جازما في الشيء من غير دليل ولا شبهة. وأما الاعتقاد الجازم [وهو (٤)] الذي لا يكون مطابقا ، فهو الجهل المركب ، وأما الاعتقاد الذي لا يكون جازما. فإن كان التردد في الطرفين على السوية ، فهو الشك ، وإن كان أحدهما أقوى من الآخر ، فالراجح هو الظن ، والمرجوح هو الوهم.

والقسم الثاني من هذا الباب : الإدراكات [الحاصلة (٥)] بالحواس الخمسة ، وهي معلومة.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) سلبية (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

والقسم الثالث من هذا الباب : النظر والتفكر. وفيه خلاف في أنه هل هو من جنس الاعتقادات ، أو هو قسم مغاير لها؟

والقسم الرابع : الألم واللذة. وفيه خلاف. وهو أن الألم هل هو نفس إدراك المنافي ، أو حالة زائدة؟

وأما الصفات التي تفيد المكنة من الفعل ، فهي أنواع :

الأول : القدرة ، والثاني : الإرادة والكراهية : والثالث : الشهوة والنفرة. وفيه خلاف في أن الشهوة والنفرة (١) هل هما نفس الإرادة والكراهة ، أو جنسان مغايران للإرادة والكراهة ، فهذا هو الإشارة المختصرة إلى نوع الأعراض.

وأما القسم الثالث من أقسام الموجودات ، وهو الموجود الذي لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز. فقد ثبت بالدلائل اليقينية : أن الله سبحانه كذلك. وهل حصل في الممكنات موجود هذا شأنه ، أم لا؟ فالحكماء [أثبتوه (٢)] والمتكلمون أنكروه. وليس مع المتكلمين دليل يدل على فساد هذا القسم ، ودليلهم على حدوث العالم إنما يتناول المتحيزات والأعراض القائمة بها ، ولا يتناول هذا القسم الثالث ، فعلى هذا دعواهم أن كل ما سوى الله محدث ، إنما يتم [إما (٣)] بإبطال هذا القسم الثالث ، أو بذكر دليل [يدل (٤)] على حدوث هذا القسم الثالث بتقدير ثبوته. ولما لم يذكروا شيئا في هذين المقامين ، بقي كلامهم غير تام في المقصود.

__________________

(١) والقدرة (ت)

(٢) سقط (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط).

المقدمة الثانية

في

تفسير الحدوث

نقول : لا شك أنه لا يمكن تفسير المحدث ، إلا بأنه الذي سبقه غيره. ثم إما أن يكون [ذلك (١)] السابق عدما أو وجودا ، فإن كان عدما فحينئذ يقال : إن المحدث هو الذي [يكون وجوده مسبوقا بالعدم ، وإن كان ذلك السابق وجودا فحينئذ يقال : إن المحدث هو الذي (٢)] سبقه وجود شيء آخر ، والتفسير الأول أولى ، لأن المحدث من حيث إنه محدث [يجب (٣)] أن يكون وجوده مسبوقا بعدمه ، ولا يجب من حيث هو محدث أن يكون وجوده مسبوقا بوجود غيره ، لأنه ما لم يثبت بالدليل أن المحدث يمتنع أن يحدث إلا لمحدث وموجود ، فإنه لا يثبت أن المحدث لا بد وأن يكون مسبوقا بوجود غيره. أما سواء قلنا : إن المحدث يحدث لنفسه أو لغيره ، أولا لنفسه ولا لغيره ، فإنه يجب أن يكون مسبوقا بالعدم. فيثبت : أن التفسير المحدث بأنه الذي يجب أن يكون مسبوقا بالعدم أولى من تفسيره بأنه الذي يجب أن يكون مسبوقا بغيره ، وإذا عرفت هذا فنقول : قد عرفت في كتاب : أحكام الموجودات : أن السبق والتقدم على أقسام خمسة : أحدها : التقدم بالعلية. وثانيها : بالذات. وثالثها : بالشرف. ورابعها : بالمكان. وخامسها : بالزمان.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

وإذا ثبت هذا فنقول : إن كان المراد بكون العدم سابقا على وجود (١) التقدم بالعلية فهذا محال : لأن العدم لا يكون علة للوجود.

وإن كان المراد به التقدم بالذات ، فهذا مسلّم. لأن العالم عندنا ممكن ، والممكن ليس له من ذاته إلا عدم الاستحقاق ، وله من غيره ثبوت الاستحقاق. وما له من ذاته ، سابق على ما له من غيره ، سبقا بالذات ، وأما التقدم : بالشرف والمكان ، فظاهر الامتناع. بقي التقدم بالزمان [فنقول : التقدم بالزمان (٢)] لا يحصل إلا مع حصول الزمان ، فإذا كان تقدم عدم العالم على وجوده ، تقدما لا أول له ، وثبت أن هذا التقدم ليس إلا بالزمان ، وثبت أن التقدم بالزمان لا يحصل إلا مع حصول الزمان ، فهذا يقتضي قدم الزمان. ثم ثبت في الطبيعيات : أن الزمان من لواحق الحركة ، التي هي من لواحق الحسم ، فيلزم من قدم الزمان قدم الجسم. فيثبت : أن تفسير حدوث الأجسام بما ذكرتموه يوجب القول بقدم الأجسام ، فكان ما ذكرتموه من التفسير باطلا. هذا إذا فسرتم أن المحدث بأنه الذي يكون مسبوقا بالعدم. أما إذا فسرتموه بأنه الذي يكون مسبوقا بوجود غيره ، فنقول : إن أردتم به السبق بالعلية أو بالذات أو بالشرف ، فالكل مسلم. لأن عندنا العالم ممكن لذاته ، واجب لوجوب (٣) علته ، فتكون تلك العلة سابقة على العالم بالعلية وبالذات وبالشرف. وأما بالمكان فباطل بالاتفاق ، وبتقدير ثبوته ، فإنه لا ينافي القول بقدم العالم ، لأنه لا يمتنع في أول العقل (٤) وجود موجود فوق هذا العالم بالمكان ، ويكون دائم الوجود مع دوام هذا العالم. بقي السبق بالزمان فيعود ما ذكرناه من أنه [لما (٥)] كان سابقا على العالم بالزمان ، وكان سبقه على العالم سبقا لا أول له ، فحينئذ يلزم الاعتراف بأن الزمان لا أول لوجوده ، وحينئذ يلزم المحال المذكور.

__________________

(١) الوجود (ت ، ط).

(٢) سقط (ت).

(٣) يوجب (ت).

(٤) الفعل (ت).

(٥) من (ط ، س).

وأجيب عن هذا السؤال فقيل : إنا نقيم الدلالة على أن عدم الشيء قد يتقدم على وجوده بنوع سادس ، مغاير لهذه الأقسام الخمسة. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل.

والذي يدل على حصول هذا القسم السادس وجوه :

الحجة الأولى : إن الزمان أمر لا يوجد إلّا بتعاقب أجزائه ، وتلاحق أقسامه ، فإذا فني منه جزء ، فالجزء الذي يحدث بعده إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وإما أن لا يكون. والأول باطل ، لأن واجب الوجود لذاته ، هو الذي لا تكون ماهيته قابلة للعدم ، وهذا الجزء الذي حدث الآن بعد أن كان معدوما كان قابلا للعدم ، فيمتنع كونه واجب الوجود لذاته. وإذا بطل هذا وجب أن يكون ممكن الوجود لذاته ، وكل ما كان كذلك فإنه لا يلزم من فرض عدمه من حيث هو هو [محال (١)] فلنفرض : أن الجزء الأول (٢) من الزمان فني (٣) ولم يحدث عقبه جزء آخر من الزمان ، فهناك حصل العدم بعد الوجود ، وليست تلك البعدية [بالزمان ، لأنا فرضنا عدم الزمان مطلقا ، فههنا قد حصلت القبلية والبعدية (٤)] من غير اعتبار الزمان ، فإذا عقل ذلك ، فليعقل أيضا حصول القبلية والبعدية بين وجود الحادث وبين عدمه لا بالزمان أيضا. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثانية : لا شك أن الزمان عبارة عن أقسام متلاحقة ، وأجزاء متعاقبة. فنقول: كل واحد من تلك الأجزاء قد حدث بعد عدمه ، وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته [وكل واحد من أجزاء الزمان ممكن لذاته (٥)] وكل ما كان كل واحد من أجزائه ممكنا لذاته، فإن مجموعه أيضا ممكن لذاته.

__________________

(١) من (ط).

(٢) الذي (ت).

(٣) وإن لم (ت).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط).

ينتج : أن مجموع الزمان ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فله مؤثر ، فلمجموع الزمان : مؤثر ، وذلك المؤثر إما موجب أو مختار ، والأول باطل. وإلا لدام (١) المعلول بدوام ذات العلة ، فكان يلزم أن يكون الزمان موجودا ، مستقر الذات ، مبرأ عن التبدل والتلاحق ، وكل ما كان كذلك ، فهو ليس بزمان ، ينتج : أنه لو كان المؤثر في وجود الزمان موجبا بالذات ، لزم أن لا يكون الزمان زمانا. وذلك محال.

فيثبت : أن المؤثر في الزمان فاعل مختار ، والفاعل المختار لا بد وأن يتقدم على فعله. ينتج : أن فاعل الزمان متقدم على وجود الزمان. وذلك التقدم ليس بالزمان وإلا لزم أن يكون الزمان موجودا ، حال عدمه. وذلك محال. فهذا نوع من التقدم ، مغاير للتقدم بالزمان ، ومغاير لسائر الأقسام المذكورة. وهو المطلوب.

الحجة الثالثة : الزمان إما أن يكون حادثا أو قديما ، فإن كان حادثا كان عدمه سابقا على وجوده ، وذلك السبق ليس (٢) إلا بالزمان ، فقد حصل سبق العدم على الوجود من غير حصول الزمان ، وإن كان قديما كان استمراره ليس بالزمان ، وإلا لزم افتقار الزمان إلى زمان آخر ، وإذا عقل استمرار الشيء لا بسبب الزمان ، فلم لا يعقل أيضا حدوثه لا بسبب الزمان؟

الحجة الرابعة : وهو أنه لا شك في أن الأمس متقدم على اليوم ، فتقدم الأمس على اليوم ليس بالعلية. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن أجزاء الزمان متشابهة ، فلو كان جزء منها علة للثاني ، لزم كون الثاني علة للأول ، ولزم كون كل واحد منها علة لنفسه. لما ثبت أن الأشياء المتساوية في الماهية ، يجب أن يكون حكمها في اللوازم متساويا.

والثاني : إن العلة واجبة الحصول عند حصول المعلول ، فلو كان الجزء

__________________

(١) لزم (ت).

(٢) ليس بالزمان (ط).

الأول من الزمان ، علة للجزء الثاني منه ، لزم حصولهما معا. فحينئذ لا يكون الزمان زمانا. هذا خلف.

وبهذا الدليل أيضا ثبت أنه لا يجوز أن يكون تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض بالذات أو بالشرف أو بالمكان. بقي أن يكون بالزمان. فنقول [هذا (١)] أيضا محال. لأن التقدم بالزمان عبارة عن كون المتقدم حاصلا في زمان ما كان المتأخر حاصلا فيه ، ثم حصل زمان آخر يحصل فيه ذلك المتأخر ، فلو كان بعض أجزاء الزمان متقدما على البعض بالزمان ، لزم أن يكون كل جزء من أجزاء الزمان حاصلا في زمان آخر ، بحيث يكون أحدهما ظرفا للآخر ووعاء له. ثم الكلام في أجزاء ذلك الوعاء كالكلام في الأول ، فيلزم أن يكون كل زمان حاصلا في زمان آخر إلى غير النهاية ، وتكون كلها موجودة معا دفعة واحدة وذلك أيضا باطل لوجهتين :

الأول : إنه يلزم أن لا تكون هذه الساعة الحاضرة ساعة واحدة ، بل ساعات غير متناهية ، وذلك مدفوع في بديهة العقل.

والثاني : إن مجموع الأمسيات (٢) الغير المتناهية ، متقدم على مجموع الأيام الحاضرة ، وتقدم ذلك المجموع على هذا المجموع بالزمان والظرف مغاير للمظروف ، فذلك الذي هو ظرف المجموع ووعاؤه ، لا بد وأن يكون خارجا عن ذلك المجموع ، لوجب كون الظرف والوعاء مغاير للمظروف ، ويجب أن لا يكون خارجا عنه ، لوجوب أن يكون الفرد من أفراد الشيء داخلا في مجموعه ، فهذا يقتضي أن يكون الشيء الواحد بالنسبة إلى المجموع الواحد ، داخلا فيه وخارجا عنه ، وذلك محال. فيثبت بهذا البرهان : أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض قسم سادس مغاير للأقسام الخمسة ، وإذا عقل ذلك فليعقل مثله في تقدم عدم الحادث على وجوده.

الحجة الخامسة في تقرير هذا المطلوب : أن نقول : صريح العقل

__________________

(١) من (ط)

(٢) الامتياز (ت)

حاكم (١) بأن كل أمرين يشير العقل إليهما ، فإما أن يكون أحدهما سابقا على الآخر ، أو معه أو بعده. فأما أن يكون خارجا عن الأقسام الثلاثة ، فهذا غير معقول ، بل هو مدفوع في بديهة العقل. إذا ثبت هذا فنقول : البارئ والعالم لا بد وأن يكونا على أحد هذه الأقسام الثلاثة. إذا ثبت هذا فنقول : إن كانت القبلية والمعية والبعدية مما لا يحصل إلا بسبب الزمان ، وقد دللنا على أن ذات الله يمتنع خلوها عن هذه الأحوال الثلاثة ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى مفتقرا في بعض لوازمه إلى وجود غيره [وكل ما كان مفتقرا في وجوده إلى وجود غيره (٢)] كان ممكنا لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وهو محال. فيثبت : أن حصول القبلية والمعية والبعدية [لا (٣)] يفتقر البتة إلى الزمان. وذلك هو المطلوب.

الحجة السادسة : إن التقدم والمعية [والبعدية (٤)] وإن كان لا يعقل حصولها إلا بسبب الزمان ، فلا شك أن ذلك الشيء الذي حصل في ذلك الزمان يكون حاصلا مع ذلك الزمان ، وكونه [حاصلا (٥)] مع الزمان ، ليس لأجل زمان آخر. فقد عقلنا حصول المعية لا بسبب الزمان (٦) وإذا عقل ذلك ، فلم لا يعقل حصول القبلية والبعدية ، لا لأجل الزمان؟ فهذه جملة المباحث في هذا الباب [والله أعلم (٧)]

__________________

(١) عالم (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(٦) الزمان. ولا شك إذا ... الخ (ت).

(٧) من (ط ، س)

المقدمة الثالثة

في

شرح مذاهب الناس في هذه المسألة

اعلم أن هذا العالم الجسماني المحسوس ، لا شك أنه جسم موصوف بصفات مخصوصة ، وذلك الجسم هو المادة ، وتلك الصفات هي الصورة. فنقول : العالم إما أن يكون محدثا بمادته [وصورته ، وإما أن يكون قديما بمادته وصورته ، وإما أن يكون قديما بمادته ومحدثا بصورته ، وإما أن يكون محدثا بمادته (١)] وقديما بصورته ، وإما أن يتوقف في هذه الأقسام. فهذه هي الأقسام الممكنة في هذا الباب.

أما القسم الأول وهو أن يقال : العالم محدث بمادته وصورته. فهذا قول أكثر أرباب الملل والنحل من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : العالم قديم بمادته وصورته ، فهذا هو قول أرسطاطاليس وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين ، ومنهم أبو نصر الفارابي ، وأبو علي بن سينا. وتفاصيل هذا المذهب : أن الأجسام إما فلكية ، وإما (٢) عنصرية.

أما الأجسام الفلكية فهي أزلية أبدية في ذواتها ، وفي جميع صفاتها ، وهي

__________________

(١) من (ط)

(٢) أو (ط)

متحركة حركة واحدة دائمة متصلة من الأزل إلى الأبد من غير سكون أصلا. وأما الأجرام العنصرية فموادها باقية أزلا وأبدا ، وأما صورها فهي قابلة للسكون والفساد ، فكل صورة مسبوقة بصورة أخرى ، لا إلى أول. ثم قالوا : إن هذه الأجسام سواء كانت فلكية أو عنصرية ، فهي ممكنة الوجود لذواتها ، واجبة لأجل وجوب علتها ، فيلزم من دوام علتها دوامها.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : هذا العالم قديم المادة ، محدث الصورة. فهذا البحث مبني على أن المادة الأولى ما هي؟ فقال الجمهور الأعظم من أهل العلم : إن المادة الأولى هي الجسم [فالجسم (١)] ، ذات قابلة للصفات المختلفة. ثم اختلف هؤلاء فمنهم من قال : الأجسام متماثلة في تمام الماهية والحقيقة ، وإنما يخالف بعضها بعضا بسبب الصفات القائمة بها. ومنهم من قال : جسم النار مخالف بالماهية لجسم الأرض ، فحرارة النار عين ذاتها المخصوصة ، وبرودة الأرض عين ذاتها المخصوصة.

أما الأولون وهم القائلون بأن الأجسام متساوية في تمام ماهياتها. فقد اختلفوا في هذه الصفات التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. فمنهم من قال : إن هذه الصفات عبارة عن وقوع تلك الأجسام على أشكال مخصوصة. فالشكل الأرضي هو الذي يحيط به ست مربعات. وهو المكعب ، فإنه إذا كان واقعا على هذا الشكل ، امتنع كونه غائصا [في غيره (٢)] وذلك هو الكثافة والأرضية. والشكل الناري هو الذي يحيط به أربع مثلثات متساويات، ومتى كان كذلك ، نفذ في غيره برأسه ، وإذا نفذ في غيره ، لزم أن يفرق اتصال ذلك الغير ، وهذا هو الإحراق والتفريق. فكل جسم كان شكله هو المكعب ، لزم كونه كثيفا وهو الأرض. وكل جسم كان شكله هو [هذا (٣)] الشكل المذكور ، لزم كونه نفاذا في غيره (٤) ومفرقا لأجزاء ذلك الغير ، فيكون محرقا

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) نفاذا غواصا في الغير ، مفرقا ... الخ (ت)

مفرقا وهو النار ، وكل جسم أحاط به ثمان مثلثات ، كان سريع الانقلاب من ضلع إلى ضلع وهو الهواء ، وكل جسم أحاط به عشرون مثلثا فهو الماء. وعلى هذا المذهب فهذه الصفات أعني النارية والمائية والهوائية والأرضية عبارة عن حصول هذه الأشكال المخصوصة. ومن الناس من أنكر ذلك. وزعم : أن هذه الكيفيات الأربعة ، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، أعراض زائدة على هذه الأشكال مغايرة لها. وهذا هو القول الأظهر.

إذا عرفت هذه التفاصيل فنقول : الذين قالوا : المادة الأولى هي الجسم ، وزعموا : أن الأجسام متماثلة في تمام الماهية (١). فهؤلاء لهم قولان :

الأول : أن الأجسام كانت موجودة في الأزل ، وكانت خالية عن جميع الصفات ، ثم إنه حدثت الصفات فيها ، وعلى هذا التقدير فهنا أيضا احتمالان :

أحدهما (٢) : أن يقال : إن الكل كان [جسما (٣)] واحدا متصلا ، ثم إنه انفصل البعض عن البعض فيما لا يزال ، وهذا هو الذي يشعر به قوله تعالى : (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا : أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ : كانَتا رَتْقاً. فَفَتَقْناهُما) (٤).

وثانيهما (٥) : أن يقال : إن تلك الأجزاء (٦) كانت متباينة متفاصلة ، وعلى هذا التقدير ففيه أيضا احتمالان :

أحدهما : أن يقال : إن تلك الأجزاء كانت متباينة ، وكانت واقفة ساكنة من الأزل إلى الأبد ، ثم إنها تحركت وامتزجت ، وحدث من امتزاجها هذا العالم. وأول التوراة مشعر بهذا ، لأنه قال : «إنما حدث العالم ، لأن ريح الله

__________________

(١) الماهية (ط) الملازمات (ت)

(٢) الأول (ت)

(٣) من (ت)

(٤) الأنبياء ٣٠.

(٥) والثاني (ت)

(٦) الأجرام (ت)

هبت في الظلمات» فتلك الأجزاء الواقفة لا شك أنها كانت في الظلمات ، لأن الظلمة عدم النور ، فلما حركها الله [تعالى (١)] كان ذلك عبارة عن قوله : «وريح الله هبت عليها».

وثانيهما (٢) : أن يقال : إن تلك الأجزاء كانت متحركة من الأزل إلى الأبد ، وهذا مذهب ديمقراطيس ، فإنه زعم : أن هذه الأجسام المحسوسة مركبة (٣) من أجزاء لا تتجزأ ، وكل واحد منها قابل للتجزئة الوهمية ، وغير قابل للتجزئة الوجودية ، وكل واحد منها على شكل الكرة ، لأن الطبيعة البسيطة لا تفيد إلا شكلا متشابه الجوانب ، وهو الكرة. والخلاء أيضا متشابه الأجزاء ، فلم يكن بأن يبقى كل واحد من تلك الأجزاء في حيز معين ، أولى من أن يحصل في حيز آخر ، فلهذا السبب وجب في كل واحد من تلك الأجزاء ، أن ينتقل من حيز إلى حيز ، فلهذا السبب وجب فيها ، أن تكون متحركة لذواتها من الأزل إلى الأبد ، ثم اتفق في أثناء تلك الحركات أن تضامت تلك الأجزاء على وجه خاص وتدافعت ، واعتمد البعض على البعض ، فاستدارت على نفسها ، فذلك المستدير هو الفلك. وأما الأجسام التي كانت موجودة في جوف الفلك ، فكل ما كان متصلا بقعر (٤) الفلك حصلت السخونة القوية فيه ، وهو النار. والذي كان في غاية البعد من الفلك ، وهو الذي حصل في المركز ، حصلت البرودة العظيمة فيه ، والكثافة العظيمة ، وذلك هو الأرض. ثم الذي حصل في جوف كرة النار هو الهواء ، لأن بين النار وبين الهواء مشابهة ومناسبة. والذي حصل فوق الأرض هو الماء. فحصل بهذا الطريق : هذه

__________________

(١) تعالى من (ت) ونص التوراة هو حسب ترجمة الآباء اليسوعيين في بيروت «في البدء خلق الله السموات والأرض. وكانت الأرض خربة وخالية ، وعلى وجه الغمر ظلمة. وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله : ليكن نور ، فكان نور ... إلخ» [تكون ١ : ١ ـ ٣] والمؤلف ـ يرحمه‌الله ـ نقل النص عن توراة اليهود. لأن في توراة اليهود : «وريح الله» بدل «وروح الله» في تراجم النصارى.

(٢) والثاني (ت)

(٣) مشتركة (ت)

(٤) بعنصر (ت)

الأمهات الأربعة. ثم إنها اختلطت وامتزجت بسبب الحركات الفلكية ، فتولدت المواليد الثلاثة. فهذا هو سبب تكون هذا العالم الجسماني على مذهبه.

القول الثاني للقائلين بأن الأجسام متماثلة في تمام ماهيتها :

أن قالوا : إن الأجسام كانت موصوفة في الأزل ببعض هذه الكيفيات ، ولا شك أنها تكون قابلة للكون والفساد ، على هذا المذهب. لأن الذوات لما كانت متساوية ، فكل ما يصح على واحد منها وجب أن يصح على الآخر ، فالنار يمكن أن تنقلب أرضا وبالعكس ، وكذا القول في سائر العناصر. ثم اختلف القائلون بهذا القول. فقال بعضهم : الأصل [في العناصر (١)] هو التراب. فإذا تلطف يحصل الماء ، فإذا زادت اللطافة حصل الهواء ، فإذا وصلت اللطافة إلى الغاية حصلت النار.

وقالت طائفة ثانية : بل الأصل هو النار ، فإذا تكاثف قليلا ، حصل [الهواء (٢)] فإذا تزايدت الكثافة حصل الماء ، فإذا بلغت الكثافة إلى الغاية ، حدثت الأرض.

وقالت طائفة ثالثة : الأصل هو البخار ، فإذا تلطف البخار حصل الهواء ، فإذا تكاملت اللطافة حصلت النار ، وأما إذا تكاثف [البخار (٣)] حصل الماء ، وإذا تكاملت الكثافة حصلت الأرض.

وقالت طائفة رابعة : الأصل هو الماء فلما تحرك الماء ، حصل على (٤) وجهه زبد ، وارتفع منه دخان ، فتكونت الأرض من ذلك الزبد ، [وتكونت (٥)] السموات من ذلك الدخان.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

وذهب إلى هذا القول جمع [عظيم (١)] من أصحاب الآثار والأخبار.

وقالت طائفة خامسة : الأصل هو الهواء ، فإذا تحرك وتسخن حدثت (٢) النار ، وإذا تكاثف حدث الماء ، وإذا تكاملت الكثافة حصلت الأرض.

واعلم أن هذه الأقوال متدافعة ، وكل واحد منها فهو في نفسه [محتمل (٣)] فهذا تمام الكلام في التفريع على قولنا : الأجسام بأسرها متماثلة.

أما على القول بأن الأجسام مختلفة في ماهياتها. فإنه يقال : جسمية [النار جسمية(٤)] مخصوصة توجب الحرارة لذاتها ، وجسمية الماء جسمية مخصوصة توجب البرودة. لذاتها ، وعلى هذا التقرير فالكون والفساد على هذه العناصر : ممتنع. وهؤلاء يلزمهم أن يقولوا : إن هذه العناصر الأربعة ، كانت موجودة في الأزل ، ثم إنها لما اختلطت حصل هذا العالم بسبب اختلاطها وامتزاجها. ثم القائلين بهذا القول لهم أيضا قولان : منهم من قال : إن الكيفيات الأصلية في هذه الأربع ، أعني الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة ، أما سائر الكيفيات فهي كيفيات تحدث بسبب الامتزاج ، فالجزية واللحمية والعسلية والحلية ، كيفيات إنما تحدث بسبب الامتزاج ، فهذه الأجسام لما كانت غير ممتزجة في الأزل ، كانت خالية من هذه الكيفيات. ومن الناس من قال : هذه الكيفيات أيضا أصلية ذاتية ، فالخبزية [صفة ذاتية للخبز (٥)] وكذلك اللحمية. إلا أن تلك الأجزاء صغيرة جدا ، ومختلطة بعضها بالبعض ، فلا تظهر هذه الصفات منها ، لأجل أن اختلاطها بغيرها ، يوجب تكون هذه الصفات والطبائع ، فإذا اتفق سبب أوجب انضمام تلك الأجزاء المتجانسة بعضها إلى بعض ، ظهر جسم كبير محسوس على تلك الطبيعة ، فيظن أن تلك الصفة حدثت ، وليس الأمر كذلك بل هو على الوجه الذي ذكرناه. وهؤلاء هم القائلون بالخليط الذي لا نهاية

__________________

(١) من (ت)

(٢) حصلت (ت)

(٣) سقط (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

له ، وهم أصحاب أنكساغورس.

فهذا كله مذاهب القائلين بأن المادة الأولى هي الجسم [والله أعلم (١)]

القول الثاني : قول القائلين بأن المادة الأولى ليست هي الجسم ، بل المادة الأولى شيء آخر تحدث الجسمية فيه. وذلك الشيء هو المادة الأولى. والقائلون بهذا القول اختلفوا على وجوه :

[فالوجه (٢)] الأول : إن ذات الجسم مركبة (٣) من الهيولي والصورة. ومعنى هذا الكلام : أن الجسمية والحجمية ليست ذاتا قائمة بنفسها ، وإنما هي حالة في محل ، وذلك المحل إذا اعتبرناه من حيث [هو (٤)] كان موجودا ، ليس له حجمية ولا تحيز ، وكان مجردا عن الحيز والجهة ، فإذا حلت الجسمية فيه ، حصل الجسم المتحيز. والقائلون بهذا القول فريقان : منهم من قال : إن ذلك المحل موجود قائم بنفسه ، ليس له تحيز ولا حجمية ولا حصول في الحيز ، وهذا هو قول أبي نصر الفارابي ، وأبي علي ابن سينا ، وهو مذهب أفلاطون وأرسطاطاليس ، ثم إن هذه الهيولى عند أفلاطون كانت خالية عن الجسمية والحجمية ، وهي قديمة أزلية. وأما الجسمية والتحيز فصفة حادثة ، ولها أول. ومنهم من قال: إن تلك الهيولى ذوات معدومة ، وهذا هو قول القائلين بأن المعدوم شيء. [وبالله التوفيق (٥)]

القول الثاني للقائلين بالهيولى : قول من قول : إن الأجسام ، إنما تتولد من الكيفيات، التي هي الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وفي الأمة قوم يقولون بهذا (٦) القول ، وكذلك في القدماء أقوام يقولون بهذا القول. فهؤلاء قالوا : هذه الكيفيات موجودة في الأزل ، ثم إنه حدثت الجسمية فيها ، فيما لا يزال ، فحدثت الأجسام البسيطة من مفرداتها ، والمركبة من امتزاجاتها.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) مركب (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

(٦) هذا (ت)

القول الثالث للقائلين بالهيولى : إن هيولى العالم هو النور والظلمة ، وهما قديمان ، ثم امتزجا ، فحدث هذا العالم من امتزاجهما. ثم إن كان مذهب هؤلاء : أن النور والظلمة من قبيل الأجسام كان هذا شعبة من شعب القول الأول ، وهو قول من يقول : الهيولى هو الجسم وإن كان مذهبهم : أن النور والظلمة ليسا من الأجسام ، كان هذا قولا خارجا عن ذلك القول.

القول الرابع للقائلين بالهيولى : إن هيولى هذا العالم ، هو الوحدات. وهذا القول منسوب إلى فيثاغورس ، وطائفته. وتقريره : أن شيئا من الماهيات الموجودة في هذا العالم لا ينفك عن الوحدة ، فإن كان كل ما كان موجودا فله تعين ، ولسبب ذلك التعين وحدة. وأيضا : المعدودات لها وحدة ما أيضا ، لأن العشرة عشرة واحدة ، والعشرون عشرون واحدة ، وكذلك القول في سائر الأشياء الواحدة والمعدودة. فثبت : أن كل موجود فإنه يمتنع دخوله في الوجود ، إلا إذا حصلت له الواحدة. وأما الواحدة فإنها غنية عن جميع الماهيات ، فإنه لا ماهية يشير العقل إليها ، إلا والوحدة حاصلة متقررة مع عدمها. فثبت بهذا : أن ما سوى الوحدة ، فإنه مفتقر إلى الوحدة ، وثبت أن الوحدة غنية عما سواها ، والغني متقدم بالرتبة والوجود على المحتاج. فثبت : أن المادة الأولى لجميع الموجودات هي الوحدات.

إذا عرفت هذا فنقول : الوحدة إن كانت مجردة عن الإشارة ، فهي الوحدة ، وإن صارت مشارا إليها فهي النقطة ، فإذا تركبت نقطتان حصل الخط ، وإذا تركب خطان حصل السطح [وإذا تركب السطحان (١)] حصل الجسم ، ثم إن الجسم إذا أحاط به أربع قواعد مثلثات فهو النار ، وإن أحاط به ثمان قواعد مثلثات فهو الهواء ، وإن أحاط به عشرون قاعدة مثلثات فهو الماء ، وإن أحاط به ست قواعد مربعات فهو المكعب ، وهو الأرض ، وإن أحاط به اثنا عشر قواعد مخمسات فهو الفلك. ثم إن العناصر إذا اختلط بعضها بالبعض حصلت المواليد [الثلاثة (٢)] فيثبت بما ذكرنا : أن المادة الأولى

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

لحدوث العالم الجسماني : هي الوحدات.

فهذا تمام الكلام في تفاصيل مذهب من يقول : العالم الجسماني قديم المادة ، محدث بحسب الصورة (١)].

وأما القسم الرابع من التقسيم المذكور في أول هذا الكلام : وهو أن يكون العالم قديم الصفات ، محدث الذوات : فهذا القول معلوم الفساد بالضرورة.

واما القسم الخامس : وهو التوقف وعدم القطع : فهذا منقول عن جالينوس فإنه يروى عنه أنه قال في مرضه الذي توفي فيه لبعض تلامذته : «اكتب عني ، إني ما عرفت أن العالم محدث أو قديم ، [وأني ما عرفت (٢)] أن النفس هو المزاج ، أو شيء آخر غير المزاج» ومن الناس من جعل هذا طعنا فيه ، وقال : «إنه خرج من الدنيا كما دخل حيث لم يعرف هذه الأشياء»

وإنا نقول (٣) : هذا من أدل الدلائل على أن الرجل كان منصفا ، طالبا للحق. فإن الكلام في هذه المسألة قد بلغ في العسر والصعوبة إلى حيث تضمحل أكثر العقول فيه. والله أعلم.

__________________

(١) من (ط) وفي (ت) الجسماني قديم بحسب المادة.

(٢) من (س)

(٣) قال مولانا رضي الله عنه : أنا أقول ... (ت)

المقدمة الرابعة

في

أن الكتب الالهية تثبت حدوث العالم

إن الكتب الإلهية ليس فيها تصريح بإثبات أن العالم محدث ، بمادته وصورته معا. وتقريره : أن الألفاظ الموجودة في القرآن المشعرة بهذا المعنى : ألفاظ معدودة.

فأولها : كونه تعالى ربا للعالمين ، فإن أول القرآن هو قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (١) ولا يلزم من كونه تعالى ربا لها ، أن يكون محدثا لذواتها وأعيانها ، لأن رب الشيء ، هو الذي يربي ذلك الشيء ويكون له عناية بإصلاح مهماته. فمن قال : إنه تعالى هو الذي أحدث (٢) هذا العالم من تلك الأجزاء ورتبها على أحسن الوجوه وألطف الأشكال ، فقد اعترف بكون تعالى [قادرا (٣)] ربا للعالمين.

وثانيها : لفظ الخلق. فقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٤) واعلم : أن الخلق في اللغة هو التقدير. والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ، كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ :

__________________

(١) الفاتحة ٢.

(٢) نظم (ط).

(٣) من (ط)

(٤) أول الأنعام.

كُنْ. فَيَكُونُ) (١) ولا شك أن المراد بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) : التكوين والإيجاد والإحداث. فظاهر الآية يقتضي أنه يخلقه ، ثم بعد الخلق يكونه ، والخلق الذي يتقدم على التكوين ، ليس إلا علمه تعالى ، بأنه يحب تكوينه على الصفة الفلانية ، وعلى الصورة الفلانية ، حتى يكون أقرب إلى الصواب والصلاح. فثبت : أن الخلق عبارة عن التقدير. وإذا ثبت هذا فنقول : إن بتقدير أن تكون الأجزاء موجودة في الأزل ، ثم إنه تعالى ركبها على التأليف الأصوب ، ونظمها على التركيب الأصح ، فحينئذ يكون هذا العالم واقعا بتقديره وتركيبه ، فيكون خالقا لها. فيثبت : أن لفظ الخلق لا يفيد كونه تعالى محدثا لذواتها وموجدا لأعيانها.

واللفظ الثالث : لفظ الفاطر. قال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) فالفطر في أصل اللغة : هو الشق ، قال تعالى : (فَارْجِعِ الْبَصَرَ ، هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ) (٣)؟ أي : هل ترى فيه انشقاقا؟ ويقال : فطر ناب البعير ، أي انشق الموضع ، عن ذلك الناب.

إذا عرفت هذا فنقول : بتقدير أن تكون الأجزاء ، كانت أزلية ، وكانت عارية عن الصفات ، كانت لا محالة ظلمانية ، لأنه لا معنى للظلمة إلّا عدم النور ، عما من شأنه أن يقبل الضوء. فإذا خلق الله الضوء ، وأخرج طائفة من تلك الأجزاء ، وركب منها هذا العالم ، كان هذا المعنى في اطلاق لفظ الفاطر [عليه (٤)] قال ابن عباس : «ما كنت أعرف أن الفاطر ، ما هو؟ حتى اختصم أعرابيان في بئر ، فقال أحدهما : أنا فطرتها ، أي : أنا أحدثتها».

إذا عرفت هذا فنقول : إنه [إن (٥)] كان فاطرا لتلك البئر ، لا لأجل (٦)

__________________

(١) آل عمران (٥٩)

(٢) أول فاطر

(٣) الملك ٣

(٤) من (ت)

(٥) لأنه (ط)

(٦) لأنه (ط)

أنه أحدث [تلك الأجزاء ، بل لأنه أحدث (١)] ذلك الشكل والهيئة في تلك الأجزاء. فهذا يدل على أن لفظ الفاطر ، لا يدل على كونه تعالى محدثا للذوات.

واللفظ الرابع : قوله تعالى : (وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٢) وهذا أيضا لا يدل على هذا المطلوب ، لأن العالم يحتاج إلى البارئ ، في حصول الصفات المخصوصة ، والنعوت المخصوصة. وهذا القدر يكفي في حصول الحاجة. وأيضا : فالذوات عند القوم ممكنة لذواتها ، واجبة بسبب [وجوب (٣)] علتها ، وهذا يكفي في حصول معنى الحاجة.

اللفظ الخامس : قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ) قالوا : والأول هو الفرد السابق. وهذا يدل على أنه لم يوجد في الأزل مع الله غيره. وهذا أيضا لا يفيد هذا المقصود ، لأنه ليس من شرط كونه أولا ، أن يكون أولا لكل شيء ، لأن اللفظ المهمل في جانب الثبوت ، يكفي [في حصوله (٤)] حصول مسماه في فرد واحد. وأيضا : فبتقدير أنه [يجب أن (٥)] يكون أولا لكل ما سواه ، لكن القوم يقولون : العالم ممكن لذاته ، واجب بوجوب (٦) علته ، والعلة سابقة على المعلول بالعلية وبالذات ، فيكون أولا لكل ما سواه بهذا التفسير.

اللفظ السادس : قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ : أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) والمراد بقوله : (كُنْ) : نفاذ القدرة والإرادة ، فدل على أنه [تعالى (٧)] كون الأشياء بقدرته ، وهذا أيضا لا يدل على هذا المطلوب ، لأن هذه الآية تدل على أن كل ما أراد الله تكوينه ، فإنه يكون بهذا الطريق ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) محمد (٣٨)

(٣) سقط (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، س) بوجود (ط)

(٦) من (ط ، س)

(٧) السموات (ت)

وعلى هذا الوجه ، فلم قلتم : إنه تعالى أراد تكوين الذوات ، وتكوين الأجسام؟ وهل النزاع إلا فيه؟

فيثبت بهذه البيانات : أنه ليس في القرآن ما يدل على حدوث الذوات.

وأما التوراة فقال في أوله : «أول ما خلق الله السماء (١) والأرض ، وكانت الأرض خربة خاوية ، وكانت الظلمة على الغمر ، وريح الله تهب وترف على وجه الماء. فقال الله : ليكن نور ، فكان نور (٢)» هذا لفظ التوراة فقوله : «خلق الله السماء والأرض» لا يدل على إيجاد تلك الذوات والأجزاء ، على ما بيناه. وقوله : «وكانت الظلمة على الغمر» [يدل على أنه (٣)] كان في الظلمة ، وهذا عين قول من يقول : إن تلك الأجزاء كانت مظلمة ، لأن الظلمة عدم النور ، عما من شأنه أن يستنير ، فتكون الظلمة سابقة [لا محالة (٤)] على النور ، وقوله : «وريح الله تهب وترف على وجه الماء» عين قول من يقول : إنه تعالى حرك تلك الأجزاء ، بعد أن كانت ساكنة ، وأظهر فيها النور ، بعد أن كانت في الأزل مظلمة.

فيثبت بهذه البيانات : أنه ليس في القرآن ولا في التوراة : لفظ يدل بصريحه على أن هذه الذوات حادثة بعد عدمها ، كائنة بعد أن كانت نفيا محضا ، وسلبا صرفا. ولا شك أن هذين الكتابين أعظم الكتب الإلهية ، فلما [خلا (٥)] هذان الكتابان عن التصريح بهذا المطلوب ، أوهم ذلك أن هذه المسألة بلغت في الصعوبة إلى حيث صارت في محل الصعوبة.

فإن قال قائل : النبوة فرع على الإلهية. فمن قال بقدم العالم ، لزمه القدح في الإلهية ، فكيف يستقيم معه إثبات النبوة؟ فنقول (٦) : لمن قال إن :

__________________

(١) أول سفر التكوين

(٢) زيادة

(٣) من (ت)

(٥) من (ت)

(٤) زيادة

(٦) فنقول : إن لمن قال الذوات قديمة أن نقول إنا لا نستدل ... إلخ [الأصل]

الذوات قديمة. إنا لا نستدل بوجود تلك الذوات ، على وجود الإله القادر الحكيم. بل نقول إن تلك الذوات اختلفت في الصفات ، فبعضها لطيفة علوية ، وبعضها كثيفة سفلية ، فاختلافها في هذه الصفات ، لا بد وأن يكون لأجل القادر المختار ، وإذا ثبت وجود الإله بهذا الطريق ، فحينئذ يمكن تفريع القول بالنبوة عليه. فيثبت بما ذكرنا : أن أكابر الأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ سكتوا عن الخوض في هذه المسألة ، وذلك يدل على أنها بلغت في الصعوبة إلى حيث تعجز العقول البشرية عن الوصول إليها. والله أعلم.

المقدمة الخامسة

في

أن هذا العالم. هل له أول أم لا؟

القائلون بأنه يمتنع كون العالم قديما ، ويجب كونه محدثا : اضطربوا في إمكان وجود العالم. هل له أول ، أم لا؟ فمنهم من قال : إنه لا أول لهذا الإمكان. ومنهم من قال : له أول.

أما الذاهبون إلى القول الأول فقالوا : لو كذب قولنا : لا أول ، لإمكان العالم ، لصدق نقيضه ، وهو أنه لا بد لذلك الإمكان من أول. وإذا كان الأمر كذلك ، لزم أن يقال : إن قبل ذلك الأول ، كان الإمكان مفقودا ، كان الحاصل ، أما الوجوب بالذات أو الامتناع بالذات ، فإن كان الأول ، كان القول بالقدم لازم ، وإن كان الثاني لزم أن يقال : العالم كان ممتنع الوجود لذاته [ثم انقلب ممكن الوجود لذاته (١)] وهذا باطل. والذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : وهو أن كل ما كان ممتنع الوجود لعينه ولذاته (٢) امتنع أن يقبل الوجود البتة ، لأن مقتضى الماهية لا يتبدل ولا يتغير ، فإن كانت الماهية مقتضية لعدم قبول الوجود ، وجب أن تكون أبدا كذلك ، وإن كانت مقتضية لقبول الوجود ، وجب أن تكون [أبدا (٣)] كذلك. فيثبت : أن العالم لو صدق

__________________

(١) من (ت)

(٢) لذاته ولعينه (ط ، س)

(٣) من (ت)

عليه في بعض الأوقات [أنه ممتنع الوجود لذاته ، لصدق عليه الحكم في كل الأوقات (١) ولما كان التالي كاذبا ، كان المقدم أيضا كاذبا (٢). فإن قيل : هذا الكلام إنما يتم إذا قلنا : الماهيات مفتقرة حالتي الوجود والعدم ، حتى يقال : إن تلك الماهية لما اقتضت أمرا ، وجب بقاء [ذلك (٣) الاقتضاء أبدا. وهذا بناء على أن المعدوم شيء ، ونحن لا نقول به ، فلا يلزمنا هذا الكلام. فنقول : الجواب عنه من وجوه :

الأول : إن جميع العقلاء يقولون : الجمع بين الضدين ممتنع لعينه ولذاته ، فلا جرم وجب بقاء هذا الامتناع أبدا ، وأن كون الواحد ضعف الاثنين ممتنع لذاته ، فوجب بقاء هذا الامتناع أبدا. ثم إن أحدا من العقلاء لم يقل : إن الممتنعات أشياء في العدم ، بل هي عدمات محضة وسلوب صرفة ، وليس لها ماهيات ولا أعيان. فإذا عقل هذا ، فلم لا يعقل أيضا هاهنا أن نقول : لو صدق على العالم في وقت من الأوقات ، أنه ممتنع لعينه ولذاته ، لوجب أن يبقى هذا الامتناع أبدا ، وإن كنا لا نقول : بأن المعدوم شيء؟.

والوجه الثاني : إن وصف العدم بالامتناع والإمكان ، إنما يوجب [القول بأن (٤) المعدوم شيء ، لو ثبت أن الامتناع أو الإمكان وصفان وجوديان ، أما إذا كانا وصفين عدميين ، لم يلزم من إسنادهما إلى الماهية قبل وجودها ، كون تلك الماهية ذاتا وعينا بدليل : أن إسناد المحمولات العدمية إلى الموضوعات العدمية : غير ممتنع البتة أصلا.

الوجه الثالث : هب أن هذا السؤال يتوجه هاهنا ، إلا أنا نذكر ذلك الكلام في صورة لا يتوجه عليها ذلك السؤال. فنقول : لا شك أن قدرة الله [تعالى (٥)] لها صلاحية التأثير في إيجاد العالم. فهذه الصلاحية إما أن يكون لها

__________________

(١) سقط (ط ، س)

(٢) كذلك (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

أول ، وإما أن لا يكون لها أول ، وليس لكم إيراد ذلك السؤال هاهنا ، لأن قدرة الله صفة موجودة ، ولا معنى لقدرته إلا تلك الصلاحية [وإلا تلك الصحة (١)] فثبت : أن هذا السؤال مدفوع [من كل الوجوه (٢)]

الحجة الثانية (٣) : [إنه (٤)] لو كان العالم ممتنعا لذاته في الوقت الأول ، ثم انقلب ممكنا لذاته في الوقت الثاني ، فذلك الإمكان إما أن يحدث مع جواز أن لا يحدث ، أو يحدث مع وجوب أن يحدث. فإن كان الأول كان إمكان حدوث هذا المكان سابقا على حدوث هذا الإمكان يقتضي حصول الإمكان ، فقد كان الشيء ممكنا [قبل كونه ممكنا (٥)] وذلك محال ، وإن كان الثاني وهو أنه حدث مع وجوب أن يحدث ، فنقول : إن هذا غير معقول ، وبتقدير كونه معقولا ، فإنه يقتضي نفي الصانع. أما أنه غير معقول ، فلأن الأوقات متشابهة متساوية ، فإن بتقدير أن يحدث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد ، لا يصير أزليا. وإذا كانت الأوقات متشابهة متساوية ، كان القول بأنه ممتنع الحدوث قبل ذلك الوقت بتقدير يوم واحد ، وواجب الحدوث في ذلك الوقت بعينه : قول خارج عن العقل. وأما أن بتقدير صحته ، فإنه يلزم نفي الصانع وذلك [محال (٦)] لأنه لو جاز أن يقال : إنه حدث ذلك الإمكان في ذلك الوقت بعينه ، حدوثا لا على سبيل الوجوب الذاتي ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن وجود العالم حدث في ذلك الوقت بعينه حدوثا على سبيل الوجوب الذاتي؟ وحينئذ لا يمكن الاستدلال بحدوث المحدثات على افتقارها إلى الصانع ، وذلك يوجب نفي الصانع. فثبت بهذا أن هذا القول باطل.

الحجة الثالثة (٧) : إنا توافقنا على أنه تعالى كان قادرا على إيجاد

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) الثانية (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) الثالثة (ط) في المتن (الثالث)

[هذا (١)] العالم قبل الوقت الذي أوجده فيه بمقدار ألف سنة ، لأن بتقدير أن يتقدم حدوثه [على هذا الوقت الذي حدث (٢)] فيه بمقدار ألف سنة لا يصير أزليا ، وإذا ثبت هذا فلا وقت يفرض كونه أولا لوقت حصول الإمكان ، إلّا وكان الإمكان حاصلا قبله بمقدار آخر متناه ، وإذا كان لا وقت يشار إليه إلا وقد كان الإمكان حاصلا قبله لزم القطع بأنه ليس هذا الإمكان مبدأ البتة ، فوجب القطع بأنه لا أول لهذا الإمكان. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة (٣)] : [إنه (٤)] لو صدق في وقت من الأوقات أنه يمتنع على قدرة الله التأثير في الإحداث والتكوين ، ثم صدق بعد ذلك على تلك القدرة أنه يصح منها التأثير والتكوين ، فإما أن يحصل هذا التبدل لأمر ، أو لا لأمر ، والقسمان باطلان. أما حصوله لا لأمر أصلا ، فهو غير (٥) معقول ، وأما حصوله لأمر [ما (٦)] سواء كان ذلك وجودا [بعد عدم ، أو كان عدما (٧)] بعد وجود ، فحصول ذلك التبدل في ذلك الوقت بعينه ، إما أن يكون واجبا أو ممكنا. فإن كان واجبا عاد التقسيم الأول فيه ، وهو أن اختصاص ذلك التبدل بذلك الوقت المعين من غير سبب : كلام لا يقبله العقل. وإن كان ممكنا فحينئذ يمكن حصول ذلك قبل ذلك الوقت ، وبتقدير حصول ذلك التبدل قبل [حصول (٨)] ذلك الوقت ، لزم حصول ذلك الإمكان قبل ذلك الوقت. وإذا كان كذلك فذلك الشيء كان ممكن الوجود قبل ذلك الوقت ، وكنا فرضناه ممتنعا. هذا خلف. فثبت : أن القول بإثبات أول لهذا الإمكان ، ولهذه الصحة : كلام لا يقبله العقل.

الحجة الخامسة (٩) : إن الذي يكون ممتنعا لذاته ، وجب أن يكون ممتنعا أبدا. والذي يكون ممكنا لذاته ، وجب أن يكون ممكنا أبدا. ولو جاز التغير

__________________

(١) من (ط)

(٦) ما (ت)

(٢) من (ط)

(٧) من (ط ، س)

(٣) الرابعة (ط)

(٨) من (ت)

(٤) من (ت)

(٩) الخامسة (ط)

(٥) فغير (ط)

على هذه المعاني ، فحينئذ لا يبقى للعقل أمان في الحكم بجواز الجائزات ، واستحالة المستحيلات. فلعل الجمع بين الضدين وإن كان ممتنعا ، فسيجيء وقت يصير فيه واجبا لعينه ، ولعل كون الأربعة زوجا ، وإن كان واجبا لذاته ، فسيجيء وقت يصير فيه ممتنعا لعينه. وبالجملة : فالعقل إنما يمكنه تركيب المقدمات بناء على أن ما يكون ممتنعا لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبدا ، وما كان واجبا لعينه ، وجب أن يكون كذلك أبدا. فإن أدخلنا الطعن والتكذيب في هذه المقدمة ، فحينئذ لا يبقى عند العقل مقدمة يمكنه الجزم بها ، وذلك [دخول في السفسطة (١)]

وأما القائلون بإثبات الأول لهذا الإمكان. فقد احتجوا عليه ، وقالوا : إنه [إذا كان (٢)] لا أول لإمكان وجود العالم في نفسه ، ولا أول أيضا لإمكان تأثير قدرة الله تعالى فيه ، فعلى هذا التقدير ، لا امتناع في تأثير قدرة الله تعالى في وجود العالم من الأزل إلى الأبد. وإذا كان الأمر كذلك ، لزم [القطع (٣)] بأنه لا امتناع في كون العالم موجودا في الأزل ، ولا امتناع في كونه تعالى موجدا للعالم في الأزل. وإذا كان الأمر كذلك ، كان القول بأن العالم يمتنع أن يكون قديما مع ذلك القول ، يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وأيضا : فالفعل ما له أول ، والأزل ما لا أول له ، والجمع بينهما محال.

واعلم أن هذا الكلام مشكل جدا ، وقد أجبنا عنه في كتاب «الأربعين» فقلنا : إنا إذا وجدنا (٤) الشيء المعين ، بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، فإنه مع هذا الشرط لا أول لصحة وجوده ، ثم لا يلزم من قولنا : لا أول لصحة وجوده مع هذا الشرط ، صدق قولنا : إنه يصح أن يكون أزليا ، لأنه مع شرط كونه مسبوقا بالعدم ، يمتنع أن يكون أزليا. فيثبت : أنه لا يلزم من قولنا : إنه لا أول لصحة وجوده ، قولنا : إنه يصح أن يكون أزليا.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) أخذنا (ط)

واعلم أن هذه المعارضة قوية واقعة جدا ، لأن المسألة في نفسها : مشكلة. فإنا لما سلمنا أنه لا أول لإمكان وجودها ، كان معناه : أن إمكان وجودها حاصل في الأزل ، فإذا قلنا : إنه يمتنع كونه أزليا ، كان معناه : أن إمكان وجوده غير حاصل في الأزل ، فهذا يقتضي الجمع بين الضدين. وهب أن هذه المسألة ، صعبت على الكل في الصورة المذكورة ، لكن كيف اجتمع فيها صدق القولين مع كونهما متناقضين؟ ولا شك أنه في غاية الصعوبة [والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (ط)

المقدمة السادسة

في

ذكر دلائل أصحاب القدم

ودلائل أصحاب الحدوث

اعلم أنا ذكرنا دلائل أصحاب القدم أولا [ثم (١) نتبعها بذكر دلائل أصحاب الحدوث. واعلم أن العالم الجسماني موجود مركب ، وكل مركب فلا بد له من علل أربع وهي: الفاعل ، والقابل ، والصورة ، والغاية. فالوجوه التي يتمسك القائلون بالقدم بها : أنواع. فبعضها مستخرج من اعتبار حال العلة الفاعلية ، وبعضها من اعتبار حال العلة القابلية ، وبعضها من اعتبار حال العلة [الصورية وبعضها من اعتبار حال العلة (٢)] الغائية.

واعلم أن أكثر الوجوه مستخرج من اعتبار حال العلة الفاعلية ، ثم هذا النوع من الوجوه بعضها مستخرج من اعتبار حال كونه فاعلا ، وبعضها فاعلا ، وبعضها من اعتبار حال كونه قادرا ، وبعضها من اعتبار حال كونه مريدا ، وبعضها من اعتبار حال كونه حكيما وبعضها من اعتبار حال كونه عالما ، فهذا هو الإشارة إلى ضبط معاقد هذه الوجوه. ونحن نذكر كل قسم منها في مقالة إن شاء الله تعالى (٣)

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت)

(٣) بعد إن شاء الله من ت : «المقدمة الأولى في الوجوه ... الخ. وفي (ط) في تقرير الوجوه ... الخ

المقالة الثانية

في

تقرير الوجوه المستخرجة من اعتبار

حال الفاعلية ، والمؤثرية

الفصل الأول

في

حكاية الحجة القوية

التي لهم في هذا الباب

قالوا : كل ما لا بد منه في كونه تعالى موجدا للأشياء ، ومكونا لها : حاصل في الأزل [ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون موجدا للأشياء ، ومكونا لها في الأزل (١)]

أما المقام الأول : فالذي يدل على صحته : أنه لو لم يكن كل ما لا بد منه في الموجودية والمؤثرية حاصلا في الأزل ، لصدق أن ذلك المجموع ما كان حاصلا في الأزل ، ثم صار حاصلا. فحصول ذلك المجموع بعد أنه ما كان حاصلا ، إما أن يفتقر إلى مؤثر أو لا يفتقر. والثاني قول باستغناء الحادث عن المؤثر ، وذلك باطل بالاتفاق ، فبقي أنه لا بد لحدوث ذلك المجموع من مؤثر ، والكلام في كيفية تأثير المؤثر في حدوث ذلك المجموع ، عائد بتمامه. فيلزم إما التسلسل في الأسباب والمسببات ، وهو محال ، وإما الانتهاء إلى الاعتراف بأن كل ما لا بد منه في الموجودية والمؤثرية : حاصل في الأزل.

وأما المقام الثاني : وهو أنه لما ثبت أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ، كان حاصلا في الأزل. فإنه يجب صدور الأثر عنه. فنقول : الدليل عليه : وهو أنه عند حصول كل تلك الأمور ، إما أن يكون الأثر واجب الصدور عنه مطلقا ،

__________________

(١) من (ط ، س)

أو لا يكون كذلك. والأول هو المطلوب ، والثاني باطل. لأنه إن لم يكن الأثر واجب الصدور ، فمع تقدير حصول [كل (١)] تلك الأمور كان ممكن الحصول ، وكل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض حصوله محال ، فلنفرض مع حصول كل تلك الأمور ، حصول ذلك الأثر تارة ، ولا حصوله أخرى. فاختصاص أحد الوقتين بحصول ذلك الأثر دون الوقت الثاني ، مع أن حصول ذلك المجموع بالنسبة إلى الوقتين على السوية ، إما أن يتوقف على انضمام قيد زائد إليه ، أو لا يتوقف. [فإن توقف (٢)] فحينئذ يكون هذا القيد الزائد ، أحد الأمور التي لا بد منها في كونه تعالى مصدرا للأفعال ، لكنا كنا قد فرضنا أن جملة الأمور الحاصلة قبل هذا القيد ، كانت كافية في المصدرية. هذا خلف. وأيضا : فعند انضمام هذا القيد إليه ، إما أن يكون الأثر ممكنا أو واجبا. ويعود التقسيم الأول فيه. وأما إن قلنا : إن امتياز أحد هذين الوقتين بحصول الأثر فيه دون الوقت الثاني ، لا يتوقف على انضمام قيد زائد إليه ، فحينئذ يلزم رجحان أحد طرفي الممكن المتساويين (٣) على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أن كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا موجود في الأزل. [وثبت : أنه متى كان الأمر كذلك ، وجب حصول الأثر في الأزل (٤)] وذلك ينتج المطلوب.

فهذا هو العمدة الكبرى للقوم في هذه المسألة [والله أعلم (٥)]

فإن قيل : الكلام على هذه الحجة من وجهين : تارة يذكر بحسب (٦) الجواب ، وتارة بحسب إيراد المعارضات.

أما المقام الأول وهو ذكر الجواب : فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إن

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت)

(٣) المتساوي (ت).

(٤) من (س ، ط)

(٥) من (ط)

(٦) بحسب ذكر (ط).

كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا وموجدا ، ما كان حاصلا في الأزل [كان (١)] من جملة تلك الأمور : كونه تعالى مريدا لإحداث العالم ، وأنه تعالى [كان (٢) يريد إحداث العالم في وقت معين ، فيما لا يزال.

فلهذا السبب اختص حدوث العالم بذلك الوقت. فإن قلتم فلم اقتضت إرادة الله تعالى إحداث العالم في ذلك الوقت [المعين (٣)] دون ما قبله أو ما بعده؟ فنقول الجواب عنه من وجوه :

[الوجه (٤)] الأول [في الجواب (٥)] : أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : [إن (٦)] إرادة الله تعالى أوجبت. بحقيقتها المخصوصة تخصيص إحداث العالم بذلك الوقت المعين ، وتلك الإرادة ليس لها صلاحية اقتضاء إحداث العالم في وقت آخر ، وعلى هذا التقدير يسقط قول القائل : [لم (٧)] تعلقت تلك الإرادة بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، ولم تتعلق بإحداثه في سائر الأوقات؟ لأن تلك الإرادة لما كانت بحقيقتها المخصوصة ، يجب تعلقها بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، وامتنع تعلقها بإحداث العالم في غير ذلك الوقت ، وكان ذلك الوجود (٨) المخصوص ، والامتناع المخصوص ، من لوازم ماهية تلك الإرادة ، وامتنع قول القائل : لم وقعت تلك الإرادة على ذلك الوجه المعين ، دون سائر الوجوه؟

الوجه الثاني في الجواب : أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إنما تعلقت إرادة الله تعالى بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، لأن إحداث العالم في ذلك

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (ت).

(٥) من (ت).

(٦) يقال : أراد الله (ت).

(٧) من (ط).

(٨) الوجوب (ط ، س).

الوقت أصلح للمكلفين من إحداثه في سائر الأوقات فلأجل هذا المعنى اختص إحداث العالم بذلك الوقت المعين؟

أقصى ما في الباب أن يقال : إنا لا نعرف لذلك الوقت المعين خاصية معينة ، إلا أنا نقول : عدم علمنا بذلك لا يقدح في حصوله [في ذلك الوقت (١)]

الوجه الثالث في الجواب : أنه تعالى عالم بجميع الجزئيات ، وهذا يقتضي أنه تعالى كان عالما في الأزل ، بأن العالم يحدث في الوقت الفلاني بعينه. ومعلوم الله تعالى واجب الوقوع ، ممتنع التغير. والإرادة لا تعلق لها بالمحالات ، فلا جرم تعلقت إرادة الله [تعالى (٢)] بإيقاع العالم في ذلك الوقت المعين ، ولم تتعلق بإيقاعه في سائر الأوقات.

الوجه الرابع في الجواب : لم لا يجوز أن يقال : إنما لم تتعلق الإرادة بإحداث العالم في الأزل ، لأن الحدوث عبارة عن الوجود الذي سبقه العدم ، والأزل عبارة عن نفي الأولية ، والجميع بينهما محال ، والمحال غير مقدور ولا مراد. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن حصول الأزل مانع من الحدوث ، فكان الحدوث في الأزل محالا ، فلهذا السبب لم تتعلق إرادة العالم في الأزل.

الوجه الخامس في الجواب : لم لا يجوز أن يقال : العالم قبل أن حدث ، كان ممتنع الوجود لعينه ولذاته ، ثم انقلب ممكن الوجود لعينه ولذاته ، فلهذا السبب لم تتعلق إرادة الله تعالى بإحداثه قبل الوقت الذي أحدثه فيه.

الوجه السادس في الجواب : لم لا يجوز أن يقال : إن قول القائل لم تعلقت إرادة الله تعالى بإحداث العالم في هذا الوقت : سؤال باطل ، لأن تلك الإرادة لو تعلقت بإحداث العالم في هذا الوقت : سؤال باطل ، لأن تلك الإرادة لو تعلقت بإحداث العالم في وقت آخر ، لا في هذا الوقت ، لكان ذلك السؤال المذكور عائدا ، ولما كان ذلك السؤال عائدا على كل التقديرات كان باطلا؟

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

الوجه السابع في الجواب : لم لا يجوز أن يقال : إن قول القائل : لم تعلقت إرادة الله تعالى بإحداث العالم في ذلك الوقت ، ولم تتعلق [بإحداثه (١)] في الوقت المتقدم على ذلك الوقت ، إنما يصح لو حصل قبل ذلك الوقت ، وقت آخر. وهكذا قبل كل وقت ، وقت آخر ، لا إلى أول. وهذا الكلام إنما يصح لو ثبت القول بقدوم الزمان ، وهذا [هو (٢)] عين محل النزاع. فإن من اعتقد أن الزمان محدث ، اعتقد أنه لم يحصل قبل ذلك الأول وقت آخر البتة ، وعلى هذا التقدير امتنع أن يقال : لم لم يحدث العالم قبل أن حدث؟ لأن هذا الكلام إنما يصح لو حصل قبل ذلك الوقت وقت آخر ، فإذا لم يكن الأمر كذلك [امتنع قول القائل : لم (٣)] لم تتعلق إرادة الله بإحداث العالم قبل ذلك [الوقت (٤)

الوجه الثامن في الجواب : إن الإرادة لها صلاحية التعلق بإحداث العالم في هذا الوقت المعين ، صلاحية التعلق بإحداث العالم في سائر الأوقات ، بدلا عن تعلقها بذلك الوقت المعين. ثم [إن (٥)] رجحان أحد الجانبين على الآخر ، يمتنع أن يتوقف على انضمام مرجح إليه. إذ [لو (٦)] كان الأمر كذلك ، لكانت تلك الإرادة عند حصول ذلك المرجح ، واجبة التعلق بذلك المتعلق الخاص ، وعند فقدانه ، تكون ممتنعة التعلق بذلك المتعلق الخاص ، وحينئذ لا يبقى بين الموجب بالذات ، وبين الفاعل المختار فرق. ولما كان هذا الفرق معلوما بالضرورة ، ثبت أن القادر المختار يمكنه ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح أصلا. والذي يقوى ما ذكرناه صور كثيرة :

فإحداها : أن الهارب من السبع إذا وصل إلى طريقين متساويين من كل الوجوه ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني لا لمرجح.

وثانيتها : أن العطشان إذا خير بين شرب قدحين ، والجائع إذا خير بين

__________________

(١) من (ط)

(٤) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) سقط (ط).

(٥) سقط (ط).

(٦) من (ت).

أكل رغيفين ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني لا لمرجح.

وثالثتها : أن الإنسان يبدأ بكسر جانب معين من جوانب الرغيف الواحد ، دون سائر الجوانب ، لا لمرجح.

وإذا عرفت هذه الصور الثلاثة ، أمكنك معرفة الحال في صور أخرى نشابهها.

الوجه التاسع في الجواب : أن يقال : إنه تعالى خلق العالم إظهارا لقدرته ، وليستدل به على إلهيته. قالوا : وهذا [هو (١)] الجواب المذكور في القرآن وهو قول [الله (٢)] تعالى (اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ ، وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ ، يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ ، لِتَعْلَمُوا : أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (٣) فبين : أنه تعالى إنما خلق هذه الأشياء ليستدل بها على كمال إلهيته ، وكمال قدرته.

وأما تعيين الوقت ، فغير لازم. لأنه لما كان الداعي له إلى خلق هذه الأشياء : هو الإحسان والتفضل. فالمحسن والمتفضل مختار في تعيين الوقت. فلم يكن هذا التعيين محتاجا إلى سبب زائد. فهذه الوجوه التسعة هي الأجوبة المذكورة عن الحجة المذكورة.

وأما المقام الثاني وهو ما يتعلق بالمعارضات : فنقول : قصارى الحجة المذكورة أن يقال : إن تخصيص إحداث العالم بوقت معين ، مع كون ذلك [الوقت (٤)] مساويا لسائر الأوقات ، يوجب رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، فنقول : هذا أيضا لازم على الفلاسفة.

وبيانه من وجوه :

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) قوله تعالى (ط).

(٣) الطلاق (١٢).

(٤) من (ط ، س).

الأول : إن جرم الفلك [جرم (١)] بسيط عند القوم ، فتكون جميع النقط فيه متشابهة ، فاختصاص نقطتين معينتين من تلك النقط الغير المتناهية بالقطبية دون سائر النقط ، يوجب رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح.

الثاني : إن جميع المدارات المفترضة في الفلك متساوية ، لأن الفلك جسم بسيط ، فكما يكون قابلا للحركة من المشرق إلى المغرب ، فكذلك يكون قابلا للحركة من الشمال إلى الجنوب ، وكذلك القول في سائر المدارات التي لا نهاية لها ، فوقوع الحركة على مدار واحد بعينه مع كونه مساويا لسائر المدارات التي لا نهاية لها ، يوجب رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح.

الثالث : إنّ الكوكب مركوز في موضع معين من أجزاء الفلك ، وجميع الأجزاء المفترضة في الفلك متشابهة. لما بينا : أنه بسيط. فحصول النقرة التي هي المكان لذلك الكوكب في ذلك الجانب المعين من ذلك الفلك ، دون سائر الجوانب ، يكون ترجيحا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح.

الرابع : إن الفلك الممثل إذا انفصل عن ثخنه فلك خارج المركز ، فإنه يبقى منه متممان : أحدهما : من داخل. والآخر : من خارج. والمتمم يكون مختلف الثخن لا محالة ، وذلك المتمم في نفسه جسم بسيط ، والبسيط [له (٢)] طبيعة واحدة ، ثم إن تلك الطبيعة اقتضت في أحد جانب ذلك المتمم ثخنا عظيما ، وفي الجانب الآخر منه رقة عظيمة وذلك يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن [على الآخر (٣)] لا لمرجح.

الخامس : إن الفلك جسم متشابه الأجزاء في الطبيعة ، ثم إن تلك الطبيعة اقتضت حصول سطح [محدب في الخارج ، وحصول سطح (٤)] مقعر في الداخل ، والسطح المحدب ، يخالف السطح المقعر في أمور :

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط).

أحدها : في كون أحدهما محدبا ، وكون الثاني مقعرا.

وثانيها : في كون المحدب خارجا ، والمقعر داخلا.

وثالثها : في كون المحدب أعظم ، كون المقعر أصغر. فههنا الطبيعة واحدة ، مع أنه حصل هذا النوع من الاختلاف.

السادس : الفلك جسم ثخين ، فيفترض في عمقه أجزاء ، وفي كل واحد [من (١)] سطحيه أجزاء أخرى. وجملة تلك الأجزاء متشابهة في تمام الماهية ، بناء على أن الفلك جسم بسيط ، وإذا كان الأمر كذلك ، كان اختصاص بعض تلك الأجزاء بالوقوع في العمق ، والبعض في الوقوع في السطح ورجحانا للممكن ، لا لمرجح.

لا يقال : الفلك جسم واحد متصل وليس فيه أجزاء بالفعل ، فسقط ما ذكرتموه. لأنا نقول : قد بينا بالدلائل القاطعة في مسألة الجوهر الفرد ، أن كل ما يقبل القسمة ، فإنه لا بد وأن يكون مركبا من أجزاء ، كل واحد منها يكون ممتازا عن صاحبه امتيازا بالفعل ، وإذا كان كذلك فقد سقط هذا العذر.

السابع : إن بديهة العقل حاكمة بأنه حصل خارج العالم أحياز لا نهاية لها ، فإنا نعلم بالضرورة أن الجانب الذي يحاذي القطب الشمالي ، مغاير للجانب الذي يحاذي القطب الجنوبي ، وهذا الامتياز في تلك الجوانب أمر يشهد به صريح العقل. لا يقال : الحكم بهذا المعنى هو فطرة القوة [الوهمية لا فطرة القوة (٢)] العقلية. لأنا نقول : [إن (٣)] هذا الكلام يوجب (٤) القول بالسفسطة. لأنا إذا وجدنا من صريح [الفطرة (٥)] حكما جازما ، لا شبهة فيه البتة ، وجب علينا أن نحكم بصحته. إذ لو قلنا : إنه حصل عندنا قوة وهمية

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) لا يوجب (ط ، س).

(٥) من (ط ، س).

لا يجوز قبول حكمها ، وقوة عقلية يجب قبول حكمها ، فعلمنا بأن هذا الحكم الجزم. حكم الوهم لا حكم العقل ، لا يكون معلوما بالبديهة ، بل بالنظر. فحينئذ لا يصير حكم العقل مقبولا ، إلا بعد هذا التمييز الذي لا يعرف إلا بالنظر ، وعلى هذا التقدير فإنه تتوقف صحة البديهات على صحة النظريات ، لكن من المعلوم بالبديهة أن صحة النظريات موقوفة على صحة البديهيات ، وحينئذ يتوقف كل واحد منهما على الآخر ، وذلك دور ، وهو باطل. فعلمنا : أن قول القائل : إن هذا الجزم مقتضى الوهم الكاذب ، لا مقتضى العقل الصادق : يوجب السفسطة. وذلك باطل. فثبت : أن كل ما جزمت به الفطرة الأصلية ، كان حقا وصدقا. لكن الفطرة الأصلية جزمت بأنّ الجانب الذي يلي القطب الشمالي ، متميز عن الجانب الذي يلي القطب الجنوبي ، وهذا يوجب القطع بصحة أحياز لا نهاية لها خارج العالم. وإذا ثبت هذا فنقول : وقوع كرة العالم في بعض جوانب ذلك الخلاء دون البعض ، يكون رجحانا لا لمرجح.

الثامن : النطفة. إما أن تكون جسما بسيطا أو لا تكون ، فإن كان الأول فنقول : القوة المصورة عند القوم قوة عديمة الشعور والإدراك ، فتأثيرها في حصول الصورة القلبية وبعض (١) أجزاء تلك النطفة ، وحصول الصورة الدماغية في الجزء الآخر منها ، يكون رجحانا لأحد طرفي الممكن لا لمرجح ، وإن كان الثاني [وهو (٢)] إن لا تكون النطفة جسما بسيطا ، فنقول : إذا لم يكن بسيطا كان مركبا ، والمركب مركب عن البسائط ، فكل واحد من تلك البسائط إذا تكوّن عنه عضو ، وجب أن يكون ذلك العضو كرة ، لأن تأثير القوة الخالية عن الشعور والإدراك في المادة البسيطة ، لا يكون إلا تأثيرا واحدا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك ، بل حصلت أشكال مختلفة ، ومخالفة لشكل الكرة ، فحينئذ يلزم منه رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح.

التاسع : لو لزم من حصول المؤثر التام ، حصول الأثر معه ، بحيث

__________________

(١) في بعض (س ، ط).

(٢) من (ط ، س).

يمتنع انفكاك ذلك المؤثر عن ذلك الأثر ، لزم كون ذلك المؤثر ممكن الوجود لذاته ، وهذا محال ، فذلك محال. بيان الشرطية : إنا نشاهد أن هذه الصور والأعراض ، قد تبطل بعد وجودها. وإن كان كذلك ، فحينئذ يلزم من عدمها ، عدم لوازم تلك المؤثرات ، ويلزم من عدم اللازم عدم الملزوم. ينتج : أنه يلزم من عدم هذه الصور والأعراض ، عدم مؤثراتها. ثم ذلك المؤثر إما أن يكون واجبا لذاته ، أو كان ممكنا لذاته ، فإن كان واجبا لذاته ، فحينئذ يلزم من عدم هذه الصور والأعراض ، عدم الموجود الذي هو واجب الوجود لذاته ، لكن كل ما كان قابلا للعدم لم يكن واجب الوجود لذاته. ينتج : أن الواجب لذاته ليس واجبا لذاته. هذا خلف. وأما إن كان المؤثر في هذه الصور والأعراض الزائلة [أشياء (١)] ليست واجبة الوجود لذواتها ، بل كانت ممكنة لذواتها. فنقول : يلزم من عدم هذه الآثار والصفات ، عدم ما كان مؤثرا منها ، ثم عدمه لا بد وأن يكون أيضا لعدم مؤثره ، ولا يزال يكون عدم (٢)] كل معلول ، أسفل لعدم علته التي هي فوقه ، حتى ينتهي إلى العلة الأولى ، وحينئذ يلزم من عدم هذه الآثار عدم ذاته ، وذلك باطل. فيثبت : أنه لا يلزم من حصول المؤثر التام ، وجوب حصول الأثر معه.

وأجاب الشيخ الرئيس عن كلام يشبه هذا السؤال : وذلك لأنه قال في كتاب الإشارات : «إنه يلزم من فرض ارتفاع المعلول ، [ارتفاع (٣)] العلة ، لا على معنى [أن (٤)] ارتفاع المعلول علة لارتفاع العلة ، ... بل على معنى أن ارتفاع [المعلول (٥)] يدل على أن العلة ارتفعت أولا ، حتى لزم من ارتفاعها ارتفاع المعلول ، وعلى هذا التقدير فقد اندفع السؤال».

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (س).

(٥) من (ت).

واعلم أن أبا الحسين البصري ، ذكر أيضا هذا الجواب في كتابه (١) «التصفح» وارتضاه.

[قال مولانا رضي الله عنه (٢)] : إنه مربى زمان طويل ، وكنت أظن أن هذا الجواب حق ، ثم لاح لي : أنه ضعيف ، وأن السؤال باقي ، وتقريره : أن نقول : هب أن ارتفاع المعلول لا يوجب ارتفاع العلة ، بل يكشف عن أن العلة ارتفعت أولا ، حتى لزم من ارتفاعها ارتفاع المعلول ، إلا أنا نقول : إنا نشاهد أن هذه الصور والأعراض قد تعدم بعد وجودها ، فوجب أن يدل ارتفاعها وزوالها على أن علتها قد ارتفعت وزالت ، حتى لزم من ارتفاع علتها ارتفاعها ، وإذا كان الأمر كذلك ، فارتفاع هذه الصور والأعراض ، يدل على ارتفاع [عللها ، وارتفاع عللها يدل على ارتفاع (٣)] علل عللها ، ولا يزال يدل على عدم كل علة نازلة ، على عدم العلة الفوقانية ، فوجب أن يتأدى أجزاء الأمر إلى أن يدل ارتفاع هذه الصور والأعراض ، إما على ارتفاع ذات العلة الأولى ، أو على ارتفاع قيد من القيود المعتبرة في كونه علة لما بعده ، وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون واجب الوجود لذاته [ممكن الوجود لذاته (٤)] قابلا للفناء والعدم ، وذلك محال. وإذا بطل هذا ، ثبت أنه لا يلزم من وجود العلة التامة المستجمعة لجميع الجهات المعتبرة في العلية ، كون المعول موجودا معه ، وذلك [يبطل (٥)] أصل الحجة المذكورة.

العاشر : أن نقول : إن لزم من دوام العلة دوام المعلول ، لزم [من دوام ذلك (٦)] المعلول : دوام معلول ذلك المعلول. ثم الكلام في المعلول الثالث كما في المعلول الثاني والأول ، وعلى هذا التقدير ، لزم من دوام وجود العلة الأولى ، دوام وجود جملة الموجودات ، حتى لا يحصل في العالم شيء من

__________________

(١) من كتاب (ت).

(٢) وأقول : إنه (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ت).

(٥) من (ت).

التغيرات [البتة (١)] ومعلوم : أن ذلك باطل.

قالت الفلاسفة : الجواب عن هذا السؤال : أن المبدأ [الفياض (٢)] موجود أزلا وأبدا ، إلا أن شرط فيضان كل حادث عنه انقضاء الحادث الذي كان موجودا قبله ، فلهذا السبب قلنا : إنه يجب أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر ، لا إلى [أول (٣)] والعلة الموجودة للكل ، المؤثرة في حصول الكل هو ذلك القديم. قالوا والذي يقرر أن الأمر كذلك: أن الحركات إما طبيعية أو قسرية ، وإما إرادية. والمعنى الذي ذكرناه حاصل في الكل من هذه الأقسام الثلاثة.

ما الحركات الطبيعية ، فهي مثل نزول الحجر من فوق إلى أسفل. وتقريره. أن الموجب لذلك النزول هو الثقل الحال في جوهر الحجر ، وذلك الثقل باقي في جميع الأوقات غير متبدل إلا أن تأثيره في إيجاب كل جزء من أجزاء تلك الحركة ، مشروط بانقضاء الجزء المتقدم ، وذلك لأنه لو لا أن ذلك الجسم انتهى بحركته المتقدمة ، إلى ذلك احد المعين من المسافة ، وإلا لامتنع كون الثقل القائم به ، موجبا انتقاله من ذلك الحد المعين إلى حد آخر ، فالموجب لكل جزء من أجزاء تلك الحركة هو ذلك الثقل. أما شرط كون ذلك الثقل مؤثرا في ذلك الجزء المعين من الحركة ، هو وصوله بالجزء المتقدم من الحركة إلى ذلك الجزء المعين من المسافة. وأما الحركات القسرية ، فالأمر أيضا كذلك ، وذلك لأن الإنسان إذا رمى الحجر إلى فوق ، فقد أودع فيه قوة توجب صعود ذلك الحجر إلى فوق قسرا ، فالموجب لجميع أجزاء تلك الحركة ، إلا أن تأثير القوة في الجزء المعين من تلك الحركة ، مشروط بانتهائه بالجزء المتقدم من الحركة ، إلى ذلك الحد المعين ، وأما في الحركات الاختيارية ، فالأمر أيضا كذلك. لأن الإنسان إذا أراد أن يذهب إلى البلد الفلاني ليجد غريمه فيطالبه بالدين.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت)

فهذه الداعية هي الموجبة لانتقاله من هذا البلد إلى ذلك ، وهذه الداعية باقية مع جميع الأجزاء الحاصلة في تلك الحركة ، إلا أن الخطوة المتقدمة ، شرط لكون تلك الداعية مؤثرة في حصول الخطوة الثانية ، فإنه لو لا أن ذلك الحصول (١) إن انتهى بسبب الخطوة الأولى إلى ذلك الحد المعين من المسافة ، وإلا امتنع كون تلك الداعية موجبة لانتقاله من ذلك الحد المعين إلى حدا آخر. فيثبت بهذا : أن المؤثر في جميع هذه الحوادث موجود باقي مبرأ عن جميع جهات التغيرات ، إلا أن تأثيره في حدوث كل حادث متأخر ، مشروط بتقدم الحادث المتقدم ، وهذا يقتضي أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر ولا إلى أول. وعند هذا قالوا : ظهر أنه لو انقطع حدوث الحوادث لحظة واحدة ، لامتنع حدوث الحوادث بعد ذلك أبدا ، وظهر أنه لا يمكن إسناد الحوادث المتعاقبة إلى المؤثر القديم ، إلا (٢) بهذا الطريق. قالوا : وهذا طريق معقول يتيسر على مذهبنا ، ولم يتيسر لأحد من أرباب المذاهب سوانا ، فكان ذلك دليلا على شرف قولنا ، وقوة كلامنا.

قال المتكلمون والمحققون : لا شك أنكم بالغتم في التدقيق والتحقيق ، إلا أن البحث الغامض باقي كما كان ، وذلك لأنا نقول : لا شك أن العلة المؤثرية القديمة ، ما كانت موجودة لهذا الحادث المعين ، حال ما كان الحادث المتقدم عليه موجودا ، ثم صارت في الوقت الثاني موجدة لهذا الحادث ، فصيرورة تلك العلة موجدة لهذا الحادث بعد أنها ما كانت كذلك : حكم حادث. فهذا الحكم الحادث ، إما أن يفتقر إلى مؤثر ، وإما أن لا يفتقر إليه. فإن كان الثاني فقد حدث أمر من الأمور لا لمؤثر ، وإذا عقل هذا في البعض ، فليعقل مثله في الكل. وهذا يوجب استغناء الممكن المحدث عن المؤثر. وهو محال.

وأما القسم (٣) الأول : وهو أن يقال : حدوث تلك المؤثرية والموجدية ،

__________________

(١) الحيوان انتهى

(٢) لا (ت).

(٣) والقسم (ت)

لا بد له من علة. فذلك المؤثر إما أن يكون عدما ، أو وجودا. فإن كان الأول ، وهو أن يقال : المؤثر في حدوث هذه المؤثرية ، عدم ذلك الحادث السابق ، فهذا باطل. لأنه لو جاز اسناد المعلول الموجد إلى العدم المحض في بعض الصور ، فلم لا يجوز مثله في سائر الصور؟ وإذا كان كذلك ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود شيء من الممكنات على مؤثر موجود.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : تلك المؤثرية الحادثة ، لا بد لها من مؤثر موجود. فنقول : ذلك الموجود إما أن يقال : إنه هو الذي كان متقدما عليه ، أو يجب أن يكون مقارنا له [فإن كان الأول (١)] فلنجوز مثله في سائر الحوادث ، وحينئذ يلزم من تجويزه (٢) أن يقال : المقتضي لوجود كل حادث [حادث (٣)] آخر سابق [عليه (٤)]

أقصى ما في الباب أن يقال : هذا يوجب حدوث حوادث ، لا أول لها. إلا أنا نقول : هذا غير ممتنع عند جميع الفلاسفة ، بل هذا عين مذهبهم ، وصريح معتقدهم. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بوجود هذه الممكنات على وجود واجب الوجود ، وأما إن قلنا : إن تلك المؤثرية المتجددة ، لا بد لها من مؤثر موجود يكون حاصلا معها ، فذلك (٥) المؤثر إن كان هو الذي فرضناه أثرا له ، لزم الدور ، وإن كان موجودا آخر ، لزم وقوع التسلسل (٦) في أسباب ومسببات لا نهاية لها ، تحصل دفعة واحدة ، وذلك محال. فظهر بهذا التقسيم اليقيني : أن حدوث الحوادث اليومية لا بد فيها من التزام [أحد (٧)] أمور خمسة :

__________________

(١) سقط (ط ، س).

(٢) يلزم تجويز أن (ط).

(٣) من (ط ، س).

(٤) كم (س).

(٥) وذلك (ت).

(٦) من (ط).

(٧) من (ت).

أولها : وقوع الحادث لا عن [سبب (١)] مؤثر.

وثانيها : إسناد الأثر الموجود إلى مؤثر معدوم.

وثالثها : استناد الأثر الموجود في الحال ، إلى مؤثر كان موجودا قبل ذلك.

ورابعها : التزام الدور.

وخامسها : التزام التسلسل.

ومتى التزم الفيلسوف واحد من هذه المقدمات الخمس ، فسد عليه دليل إثبات الصانع. فهذا سؤال قاهر في هذا المقام.

وهاهنا آخر الكلام في إيراد السؤالات على الدلالة التي لخصناها للفلاسفة [والله أعلم (٢)]

قالت الفلاسفة : أما الجوابات التسعة التي ذكرتموها ، فالكلام عليها من وجهين :

الأول : أن نقول : حاصل هذه الوجوه (٣) التسعة ، يرجع إلى حرف واحد ، وهو أن كل ما لا بد منه في إيجاد العالم ما كان حاصلا في الأزل ، أو (٤) أن الممكن لا يحتاج إلى المرجح.

أما الجواب الأول : فلأنكم قلتم : إن إرادة الله تعلقت بإيجاد العالم في ذلك الوقت المعين ، ثم إن ذلك الوقت ما كان حاضرا في الأزل ، فالحاصل : أن العالم إنما لم يوجد في الأزل ، لأن حضور ذلك الوقت ، شرط لحدوث

__________________

(١) من (ت).

(٢) من (ت).

(٣) الأجوبة (ط ، س).

(٤) وآن (ت).

العالم ، وذلك الوقت ما كان حاضرا في الأزل ، ففات التخليق [والإيجاد (١)] لفوات شرطه.

وأما الجواب الثاني : فهو أن شرط دخول العالم في حضور ذلك الوقت ، المشتمل على تلك المصلحة ، وذلك الوقت ما كان حاضرا في الأزل ، فلم يحصل العالم لفوات شرطه.

وأما الجواب الثالث : فهو أن الوقت الذي علم الله ، أن العالم يوجد فيه ، شرط لحدوث العالم فيه ، وذلك الوقت ما كان حاضرا في الأزل ، فالعالم لم (٢) يوجد ، لأن شرطه ما كان حاضرا.

وأما الجواب الرابع : فهو أن انقضاء الأزل ، شرط لحدوث العالم ، وذلك الشرط ما كان حاصلا في الأزل ، ففات الإيجاد لفوات الشرط.

وأما الجواب الخامس : فهو أن كون العالم ممكن الوجود ، شرط لصدوره عن المؤثر ، وهذا الإمكان ما كان حاصلا في الأزل ، ففات حدوث العالم لفوات شرطه.

وأما الجواب السادس : فحاصله يرجع إلى أنه وقع في ذلك الوقت المعين ، مع جواز وقوعه في سائر الأوقات ، لا لمخصص ولا لمرجح. فههنا التزام أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، وقع لا لمرجح.

وأما الجواب السابع : فحاصله راجع إلى أن جواز التقديم مشروط بحصول الوقت قبل ذلك [الوقت (٣)] ولم يحصل الوقت ، فامتنع حصول التقديم ، ففات الإحداث قبل ذلك لفوات شرطه.

وأما الجواب الثامن : فحاصله راجع إلى أنه يمكن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهكذا القول في الجواب التاسع.

__________________

(١) من (ت).

(٢) إنما يوجد.

(٣) من (ت).

فثبت : أن هذه الجوابات التسعة راجعة ، إما إلى (١) القول بأن الممكن المتساوي [الطرفين (٢) غني عن المرجح والمؤثر [وإما (٣)] [إلى (٤)] القول بأن كل ما لا بد منه في المؤثرية ، ما كان حاصلا في الأزل. إلا أنا نقول : القول بأن الممكن غني عن المؤثر : قول باطل ، من وجهين :

الأول : أنه مقدمة (٥) بديهية أولية فالقدح فيه قدح في البديهيات

والثاني : إنا إذا حكمنا بأن الممكن قد يترجح أحد طرفيه على الآخر لا لمرجح أصلا ، فحينئذ لا يمكننا أن نستدل بحدوث المحدثات ، وبإمكان الممكنات على افتقارها إلى مرجح ومؤثر ، وحينئذ ينسد علينا باب إثبات الصانع ، وأما القول بأن [كل (٦)] ما لا بد منه في المؤثرية ما كان حاصلا في الأزل ، فقد أبطلناه. حيث ذكرنا : أن مجموع ما لا بد منه في المؤثرية ، إن لم يكن حاصلا في الأزل ، ثم صار حاصلا فيما لا يزال ، فحينئذ إن قلنا : إنه حدث لا عن مؤثر ، عاد المحال المذكور.

وإن قلنا : إنه حدث لمؤثر ، عاد التقسيم في كيفية تأثير المؤثر في تحصيل ذلك المجموع. فثبت : أن هذه الأجوبة [التسعة (٧)] ليست أجوبة عن تلك الحجة البتة أصلا.

واعلم أن قولنا : كل ما لا بد منه في المؤثرية ، يدخل فيه ذات المؤثر ، والشرائط المعتبرة في مؤثرية المؤثر ، وزوال جميع الموانع ، وحضور الوقت المناسب (٨) وحضور المصالح المعتبرة. والأجوبة التسعة مشتركة في أن أحد هذه

__________________

(١) على (ط ، س).

(٢) من (ت).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ت).

(٥) في (ط) تكرير.

(٦) من (ت).

(٧) من (ت).

(٨) الموافق (ط ، س).

الأمور المعتبرة فاتت ، وحينئذ لا يكون المؤثر التام ، حاصلا في الأزل.

فهذا بحث شريف عالي.

المقام الثاني : في بيان ضعف كل واحد من تلك الجوابات.

أما الجواب الأول ، وهو قوله : «إن تعلق إرادة الله تعالى بإحداث [العالم (١)] في ذلك الوقت واجب ، والواجب غني عن العلة» فنقول : هذا الكلام باطل.

ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن إرادة الله [تعالى (٢)] إذا اقتضت إحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، كان حضور ذلك الوقت المعين ، أحد الأمور التي عند حضوره ، تتم المؤثرية والموجدية. فنقول : ذلك الوقت ، إن كان حاضرا في الأزل ، وجب حصول الأثر ، وإن لم يكن حاضرا ، كان أحد الأمور المعتبرة في كونه تعالى موجدا للعالم ، فإننا [كنا (٣)] بينا بالبرهان القاطع : أن كل الأمور المعتبرة في مؤثرية الله [تعالى (٤)] في وجود العالم ، قد كان حاضرا في الأزل.

الحجة الثانية في بيان فساد هذا الجواب : أن نقول : إرادة الله [تعالى (٥)] إما أن يقال : إنها صالحة لاقتضاء إحداث العالم في سائر الأوقات ، أو غير صالحة ، إلا لاقتضاء إحداث العالم في ذلك الوقت المعين. فإن كان الأول ، فحينئذ يكون نسبة تلك الإرادة إلى اقتضاء إحداث العالم في ذلك الوقت ، كنسبتها إلى اقتضاء إحداث العالم في سائر الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ اقتضاء تلك الإرادة ، إحداث العالم في ذلك الوقت دون سائر الأوقات ، يكون أمرا جائزا. فإن كان قد حصل الرجحان ، لا عن مرجح ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ت).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ط).

(٥) من (ت).

فقد جوزتم حصول رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وذلك باطل. وإن أحوجتموه إلى مرجح ، عاد البحث في أن ذلك المرجح ، هل هو صالح للطرفين ، أو غير صالح إلا للطرف الواحد؟ وأما إن كان الحق هو القسم الثاني ، وهو أن تلك الإرادة متعينة لاقتضاء إحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، وليس لها صلاحية اقتضاء إحداث العالم في سائر الأوقات ، فحينئذ لا يكون الله تعالى مختارا بل كان موجبا بالذات لهذا الأمر المعين [فإن ذاته مستلزمة لتلك الإرادة ، وتلك الإرادة مستلزمة لإحداث العالم في ذلك الوقت المعين (١)] ومستلزم المستلزم : مستلزم. فتكون ذات الله [تعالى (٢)] مستلزمة لإحداث العالم في ذلك الوقت المعين ، وليس له إمكان إحداثه في وقت آخر ، فلا معنى للموجب إلا ذلك. وهذا يقدح في قولكم : إن إله العالم فاعل مختار.

الحجة الثالثة في بيان ضعف هذا الكلام : أن نقول : [إن (٣)] تلك الإرادة [لما (٤)] اقتضت إحداث العالم في ذلك الوقت المعين. فذلك الوقت المعين هل هو حاضر في الأزل أو غير حاضر في الأزل؟ فإن كان حاضرا في الأزل ، لزم حصول الأثر لا محالة في الأزل ، وإن كان غير حاضر في الأزل ، فذلك الوقت المعين أمر حادث ، فلا بد وأن يكون حدوثه بإحداث الله [تعالى (٥)] فإما أن يقال : إنه تعالى أراد إحداث ذلك الوقت ، من غير أن يختص إحداثه بوقت معين ، أو يقال : إنه أراد إحداثه بشرط أن يختص إحداثه بوقت معين ، فإن كان الأول ، لزم أن يكون ذلك الوقت حاصلا [في الأزل (٦)] وحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يلزم قدم الأثر ، وإن كان الثاني وهو أنه تعالى أراد إحداث ذلك الوقت في وقت آخر معين ، لزم افتقار ذلك الوقت إلى

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) (ط ، س).

(٥) من (ت).

(٦) من (ط).

وقت آخر ، ولزم التسلسل. ثم [إن (١)] ذلك التسلسل إن وقع دفعة واحدة فهو محال ، لما ثبت أن القول بإثبات أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة : محال. وإن كان بحيث يكون كل واحد منها مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، كان هذا قولا بأنه تعالى موجد لهذه الحوادث من الأزل إلى الأبد. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة : هي : أن تلك الإرادة ، لما لم تقتض إحداث العالم فيما قبل ذلك ، وإنما (٢) اقتضت إحداث العالم في ذلك الوقت [المعين (٣)] فهذا يوجب أن يكون وقت الفعل متميزا عن وقت الترك ، بخاصية لأجلها اقتضت الإرادة إيقاع الفعل فيه لا في غيره ، وذلك يقتضي قدم الأوقات. والخصم لا يقول به.

الحجة الخامسة : أن نقول : إن ذلك الوقت ، إما أن يكون مساويا لسائر الأوقات في تمام الماهية ، أو لا يكون. فإن كان الأول كانت نسبة تلك الإرادة إلى ذلك الوقت ، كنسبتها إلى سائر الأوقات ، ضرورة [أن (٤)] المتماثلات يجب استواؤها في جميع الأحكام، وذلك يبطل القول بأن تعلق الإرادة بإحداث العالم في ذلك الوقت واجب ، وأن تعلقها بإحداث العالم في غير ذلك الوقت ممتنع : كلام باطل. وإن كان الثاني ، وهو أن كل جزء من أجزاء الزمان ، فإنه مخالف بالماهية للجزء الآخر ، فحينئذ يلزم أن يكون مرور الوقت عبارة عن تعاقب تلك الحوادث المختلفة ، وتوالي تلك الحقائق المتلاصقة ، وهذا عين القول بأن كل حادث مسبوق بحادث آخر ، لا إلى أول.

الحجة السادسة : إنا سنبين بالوجوه الكثيرة : أن قولنا : إنه تعالى أراد في الأزل أن يحدث العالم فيما لا يزال في الوقت المعين ، يفيد أنه تعالى كان في الأزل ، قد عزم على الإيجاد فيما لا يزال.

__________________

(١) من (ت).

(٢) وإن (ت).

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، س)

وسنين أيضا : أن الإيجاد والتكوين لا يمكن إلا بالقصد (١) إلى الإيجاد ، ونبين أن ماهية العزم مخالفة (٢) لماهية القصد ، ونبين أن العزم على الفعل ، يمتنع أن ينقلب بعينه قصدا إلى الفعل ، وأنه لا بد من الاعتراف بأنه يبطل ذلك العزم ، وأنه يحدث القصد (٣) وعند هذا يظهر فساد قول من يقول : إن ذلك العزم يكفي في إحداث العالم في الوقت المعين.

فهذه جملة الدلائل المذكورة على إبطال الجواب الأول.

وأما الجواب الثاني : وهو قولهم : إنما اختص حدوث العالم بذلك (٤) الوقت المعين ، لأجل أن إحداث العالم في ذلك الوقت أصلح وأنفع للمكلفين.

فنقول : هذا الجواب أيضا في غاية الضعف. والذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : إن الوقت المشتمل على المصلحة الراجحة. هل كان حاصلا (٥) في الأزل ، أو ما كان حاصلا. فإن كان حاصلا ، لزم حصول الفعل في الأزل. وإن قلنا : إنه لو كان حاصلا في الأزل ، مع أن ذلك الوقت أحد الأمور المعتبرة في المؤثرية ، فحينئذ يكون هذا قولا بأن كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في الفعل ، وموجدا له : ما كان حاصلا في الأزل. لكنا بينا بالدليل أن ذلك باطل.

الحجة الثانية : أن نقول : هب أن ذلك الوقت ، اختص بهذه الزيادة من المصلحة. إلا أنا نقول : اختصاص ذلك الوقت بتلك الزيادة من المصلحة ، هل يقتضي وجوب تخصيص إحداث العالم بذلك الوقت ، أو لا يقتضي وجوب هذا التخصيص؟ فإن كان الأول فحينئذ يكون إله العالم موجبا بالذات لا فاعلا

__________________

(١) إلا بقصد الإيجاب (ت).

(٢) مخالفة الفعل ونبين العزم (ت).

(٣) بالقصد (ت).

(٤) العالم بالوقت (ت).

(٥) حاضرا (ت).

بالاختيار ، وإن كان الثاني فنقول : [فعلى (١)] هذا التقدير لا يمتنع مع اختصاص ذلك الوقت المعين ، بهذا النوع من المرجح أن لا يحدث العالم في ذلك الوقت ، لأن كل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فليفرض مع حصول هذا المرجح تارة ، حصول هذا الاختصاص ، وتارة لا حصول. فامتياز الحصول عن اللاحصول ، إن توقف على انضمام مرجح إليه ، فحينئذ لا يكون مجرد اختصاص ذلك الوقت بذلك القدر من المصلحة ، كافيا في حصول الرجحان. وإن لم يتوقف على انضمام مرجح زائد إليه ، فحينئذ يلزم رجحان أحد طرفي الممكن المتساوي (٢) على الآخر لا لمرجح. وهو محال.

الحجة الثالثة في إبطال هذا الكلام : أن نقول : اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة الراجحة ، إما أن يكون لذات ذلك الوقت ، أو لشيء من لوازمه ، ولا لشيء من لوازمه. والأول باطل من وجهين :

الأول : إنه لما كان ذلك الوقت المعين موجبا لذلك الأثر الخاص ، سائر الأوقات لم تكن كذلك ، لزم أن تكون هذه الأوقات ماهيات مختلفة وحقائق متباينة. لأن الاختلاف في اللوازم ، يدل على الاختلاف في الملزومات ، وحينئذ يلزم أن تكون الأوقات عبارة عن حوادث متعاقبة ، وأمور متلاصقة متلاحقة ، فيكون هذا قولا بأن كل حادث مسبوقا بحادث آخر (٣) لا إلى أول.

الثاني : إنه لما كان للوقت المعين ، صلاحية اقتضاء الأثر المعين لذاته ، [وهذا (٤)] هو المصلحة المعينة ، كان هذا حكما بأن الوقت المعين صالح لأن يكون علة للأثر المعين ، وإذا كان هذا جائز ، فلم لا يجوز أن يكون [مقتضى (٥)] الوقت المعين ، علة لحدوث الحوادث المعينة؟ وإذا كان محتملا ،

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) المساويين (ط).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط)

فلم لا يجوز أن يكون المقتضى لحدوث العالم في القوت المعين ، [هو ذلك الوقت المعين (١)] وحينئذ يلزم نفي الصانع وهو باطل؟

أما القسم الثاني : وهو أن يقال : المقتضى لحدوث تلك الخاصية المعينة لازم من لوازم ذلك الوقت ، فكل ما ذكرناه في إبطال القسم الأول فهو عائد هاهنا ، لأن هاهنا قد جعلنا ذلك الوقت علة لتلك الخاصية ، وجعلنا تلك الخاصية علة لتلك المصلحة.

وأما القسم الثالث : [وهو (٢)] أن اختصاص ذلك الوقت بتلك الخاصية لما لم يكن لذاته ، ولا لشيء من لوازم ذاته ، فحينئذ يكون اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة من الجائزات ، فكل ما ذكرناه في اختصاص ذلك الوقت بحدوث العالم فيه ، فإنه عائد في اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة. فيثبت بما ذكرنا : أن هذا الجواب فاسد.

الحجة الرابعة في إبطال هذا الجواب : أن نقول : هذا الكلام بناء على أنه تعالى لا يفعل الأفعال [إلا (٣)] على وفق مصالح العباد ، وقد سبق الكلام المستقصى في إبطال هذا الأصل.

الحجة الخامسة في إبطاله : أن نقول : هب أنه تعالى يراعي المصالح ، إلا أن من المعلوم بالضرورة أنه تعالى لو قدم خلق العالم على الوقت الذي خلقه فيه بجزء من ألف جزء من لمحة واحدة ، أو أخر خلقه عن ذلك الوقت بهذا القدر من الوقت ، فإنه لا يتفاوت شيء من مصالح المكلفين البتة ، لا سيما إذا قلنا : إن الله تعالى لا يطلعهم على [هذا (٤)] القدر من التفاوت ، ولا يوقفهم عليه. ولو أنه زاد في مقدار الفلك [الأعظم (٥)] جوهرا فردا ، أو نقص هذا

__________________

(١) من (ت).

(٢) من (ط ، س).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ت).

المقدار عنه. فإنه لا يتفاوت شيء من مصالح المكلفين البتة. فيثبت : أن هذا الذي قالوه فاسد.

الحجة السادسة : إن كل مصلحة يمكن عودها إلى واحد من المكلفين ، فتلك المصلحة لا معنى لها إلّا إيصال نفع في الدنيا أو في الآخرة إليه ، ولا معنى للنفع إلا اللذة والسرور ، أو دفع الألم والغم ، وكل ذلك فإنه تعالى قادر على إيصاله إلى المكلف ، سواء خلق [العالم] (١) في ذلك الوقت ، أو خلقه في وقت آخر. فيثبت : أنه لا تختلف أحوال الخلق في المصالح والمفاسد ، بسبب حدوث العالم في الوقت المعين ، أو عدم حدوثه في ذلك الوقت. فقد ظهر بهذه البيانات : ضعف هذا الجواب. [والله أعلم (٢)]

وأما الجواب الثالث : وهو قولهم : إنه تعالى إنما خص إحداث العالم بذلك الوقت ، لأنه تعالى علم (٣) في الأزل أن العالم يحدث في ذلك الوقت ، وخلاف معلوم الله ممتنع الوقوع. فنقول : هذا الجواب أيضا ضعيف. ويدل عليه وجوه :

[الوجه] الأول (٤) : أن نقول : إن على سياق كلامكم ، يكون حصول ذلك الوقت الذي علم الله تعالى ، أن العالم يحدث فيه أحد الأمور التي لا بد منها في حدوث العالم. فنقول : ذلك الوقت هل (٥) كان حاضرا في الأزل أو ما كان حاضرا في الأزل؟ فإن كان الأول لزم حصول العالم في الأزل ، وإن كان الثاني فنقول : إن حضور (٦) ذلك الوقت أحد الأمور المعتبرة في حدوث العالم ، وأنه ما كان حاضرا. فهذا يقتضي أن جملة الأمور المعتبرة في كونه تعالى موجدا للعالم ، ما كانت حاضرة. فيثبت : أن حاصل هذا الجواب يرجع إلى هذا

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) عالم (ط).

(٤) من (ط).

(٥) هل (ط).

(٦) حصول (ت).

الحرف. لكنّا بالدليل (١) القاهر بينا صحته.

الوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : أن نقول : تعليل الإرادة بالعلم باطل. وذلك لأن العلم يتبع المعلوم ولا يستتبعه (٢) فالعلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه ، فإن كان حدوث العالم مختصا بذلك الوقت ، فحينئذ يتعلق علم الله باختصاص حدوث العالم بذلك الوقت ، وإذا ظهر أن العالم يتبع المعلوم فنقول : علم الله إنما يتعلق باختصاص حدوث العالم بذلك الوقت ، لو كان [ذلك (٣)] الحدوث مختصا بذلك الوقت ، لكنكم زعمتم : أن الحدوث إنما اختص بذلك الوقت ، لأن إرادة الله تعالى اقتضت تخصيص إحداث العالم بذلك الوقت ، فلو عللنا هذه الإرادة بذلك العلم ، لزم الدور. وأنه باطل.

والوجه الثالث في إبطال هذا الجواب : أن نقول : إن مع حصول هذا العلم المخصوص ، إما أن تكون الإرادة صالحة لتخصيص إحداث العالم بسائر الأوقات ، أو لا تصلح. فإن صلحت لم يكن هذا العلم (٤) سببا لذلك الاختصاص ، وإن لم تصلح فحينئذ يكون إله العالم موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. وهذا عندكم باطل. وبتقدير ثبوته فيلزم قدم العالم.

وأما الجواب الرابع : وهو قولهم : إنما امتنع حصول الإيجاد في الأزل ، لأن الأزل مانع من الإيجاد. فنقول : هذا الجواب أيضا ضعيف. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن على هذا التقدير يكون أحد الأمور المعتبرة في صحة الإيجاد هو زوال الأزل. فيرجع حاصل هذا الكلام إلى أن كل ما لا بد منه في المؤثرية ، ما كان حاصلا في الأزل. لكنا أبطلنا هذا الكلام بالبرهان اليقيني.

الثاني : إنا سنقيم الدلائل القاهرة على أن استناد (٥) الممكن إلى المؤثر أزلا

__________________

(١) بالدلائل القاهرة (ط).

(٤) العالم (ت).

(٢) يسبقه (ت).

(٥) إن إسناد.

(٣) من (ت).

وأبدا غير ممتنع. ونبين أن الحدوث ليس علة للحاجة ، ولا جزء من هذه العلة ، ولا شرطا لهذه العلة. وحينئذ يسقط هذا الكلام.

الثالث : إنا نقول : هذا الأزل الذي جعلتموه مانعا من الإيجاد والتكوين ، إما أن يكون واجب الثبوت لذاته ، أو ممكن الثبوت لذاته. فإن كان الأول ، فإنه يمتنع (١) الزوال. فحينئذ يلزم أن لا يوجد الفعل أبدا. وإن كان الثاني فحينئذ يكون ممكنا ، فيفتقر إلى المرجح. وكل مفتقر إلى المرجح ، فإنه ليس أزليا عند القائلين بهذا الجواب.

ينتج : أن مسمى الأزل واجب أن لا يكون أزليا. وعلى هذا التقدير فإن الذي جعلوه [مانعا (٢)] من الفعل غير حاصل في الأزل. وذلك هو المطلوب.

الرابع : إن هذا الذي سميتموه بالأزل ، هل هو وقت متعين في نفسه ، موجود في ذاته ، أم لا؟ فإن كان وقتا متعينا في نفسه موجودا بذاته ، فهو وقت مشار إليه ، فهو ليس بالأزل. بل كل ما يقع فيه فإنه يكون واقعا في وقت محدود له أول. فلا يكون المانع من الفعل والتكوين حاصلا. وأما إن كان ذلك الوقت ليس وقتا موجودا في نفسه ، متعينا في ذاته ، فهذا مما لا وجود له في الخارج البتة ، وإنما وجوده في الأوهام والأذهان. ومثل هذه الخيالات والأوهام لا تكون مانعة من الشيء في نفس الأمر.

وأما الجواب الخامس : وهو قولهم : [لم (٣)] لا يجوز أن يقال : العالم كان ممتنع الوجود بعينه ، ثم انقلب ممكن الوجود لعينه؟ فنقول : هذا أيضا ضعيف. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن إمكان العالم أحد الأمور المعتبرة في كونه تعالى موجدا للعالم ، فإن (٤) كان هذا الإمكان غير حاصل في الأزل ، لم تكن كل الأمور المعتبرة في

__________________

(١) كان ممتنع.

(٢) من (ط).

(٣) من (ط).

(٤) فإذا (ط).

كونه تعالى موجدا للعالم ، حاصلا في الأزل. لكنا بينا أن هذا الكلام باطل.

الثاني : إن [ما (١)] كان ممتنعا لذاته ، يستحيل أن ينقلب ممكنا [لذاته (٢)] ويدل عليه وجوه :

الأول : إن كون الممكن ممكنا ، إما أن يكون من لوازم تلك الماهية ، أو من عوارضها. فإن كان الأول [لزم (٣)] أن يقال : الممكن ممكن أبدا. وعلى هذا التقدير [فإنه يمتنع أن يقال : الممتنع لذاته ينقلب ممكنا لذاته. وإن كان الثاني فحينئذ (٤)] يكون الإمكان من عوارض تلك الماهية. فتكون تلك الماهية قابلة لذلك الإمكان ، إن كان من اللوازم. فقد حصل المطلوب. وإن كان من العوارض كان الكلام فيه كما (٥) في الأول. فيلزم التسلسل.

الثاني : وهو أن هذه الماهية من حيث هي هي مع قطع النظر عن كل ما سواه ، إما أن يحصل [فيها (٦)] تنزه (٧) عن قبول الموجودات (٨) أو لا يحصل فيها هذا التنزه (٩) فإن كان الأول وجب أن يكون ممتنع الوجود أبدا ، وإن كان الثاني وجب أن يكون ممكن الوجود أبدا. فأما القول بأنه يكون ممكنا لذاته في بعض الأوقات ، وممتنعا لذاته في غير تلك الأوقات ، فهو على خلاف صريح العقل.

الثالث : إنا لو جوزنا انقلاب الممتنع لذاته ممكنا لذاته ، فلم لا نعقل أن ينقلب الممكن لذاته واجبا لذاته ، وينقلب الممتنع لذاته واجبا لذاته؟ وحينئذ لا يبعد أن يقال : إن المحدث قبل وجوده كان ممتنعا لذاته ، وعند دخوله في الوجود انقلب واجبا لذاته ، وحينئذ لا يمكنكم الاستدلال بحدوث المحدثات ، وإمكاناتها على واجب الوجود لذاته.

__________________

(١) من (ت).

(٦) من (ط).

(٢) من (ط ، س).

(٧) نبوة (ط).

(٣) من (ت).

(٨) الوجود (ط).

(٤) من (ت).

(٩) هذه النبوة (ط).

(٥) كالكلام (ط).

وأما الجواب السادس (١) : وهو قولهم : إن إرادة الله تعالى لو تعلقت بإحداث العالم في وقت آخر ، لكان السؤال المذكور عائدا ، وهو أن يقال : ولم تعلقت إرادته سبحانه بإحداث العالم في ذلك الوقت دون هذا الوقت؟ ولما كان هذا السؤال عائدا على كل التقديرات ، كان [السؤال (٢)] ساقطا. فنقول : هذا الجواب أيضا ضعيف. ويدل عليه وجوه :

الأول : أن نقول : بأن تأثير قدرة الله تعالى في وجود العالم إما أن يكون مختصا بوقت معين ، أو لا يكون مختصا بوقت معين. والأول باطل ، لأن تخصيص ذلك الوقت [المعين (٣)] بذلك الإيجاد من غير مخصص يوجب رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. وهو محال. ولما بطل هذا القسم تعين القسم الثاني ، وهو أن يقال : تأثير قدرة الله [تعالى (٤)] في وجود العالم غير مختص بوقت معين ، بل هو دائم الحصول في كل الأوقات. وذلك يقتضي كون (٥) العالم موجودا أبدا سرمدا. وعند هذا يظهر أن المحال غير لازم على كل الأقسام ، بل هو لازم على أحد القسمين ، ولما كان هذا القسم مستلزما للمحال ، ثبت أن مستلزم المحال : محال ، ثبت أن هذا القسم [محال (٦)] ولزم منه : أن يكون الحق هو القسم الثاني ، وهو أن يكون تأثير قدرة الله تعالى في وجود (٧) العالم غير مختص بشيء من الأوقات البتة ، بل هو ثابت أزلا وأبدا.

فيثبت : أن هذا الجواب في غاية الضعف. فإن قالوا : وكذلك القول بالتأثير الدائم أيضا : باطل. لأن إيجاد الفعل في الأزل : محال. فنقول : فهذا

__________________

(١) الثالث (ت).

(٢) السؤال (ط).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ت).

(٥) وجود (ط).

(٦) من (ط).

(٧) حق (ت)

عود إلى الجواب المتقدم ، من كون الأزل مانعا عن التأثير. وقد سبق الكلام عليه.

الوجه الثاني في بيان ضعف هذا الجواب : أن نقول : إن كان الكلام الذي ذكرتم صحيحا ، لزمكم أن تحكموا بأن الحادث يحدث لا لمؤثر ، وأن يترجح الممكن لا لمرجح ، وذلك لأنا إذا قلنا : ليس حدوث هذا الحادث في هذا الوقت ، أولى من حدوثه في سائر الأوقات ، [فوجب أن يكون اختصاص هذا الحادث بهذا الوقت لمرجح. فيقال (١) :] ولو أنا قدرنا : أن هذا الحادث حدث في وقت آخر ، لا في هذا الوقت ، لكان [هذا (٢)] السؤال عائدا. فيثبت : أن هذا السؤال عائد على جميع التقديرات ، وما كان كذلك [كان (٣)] سؤالا باطلا ، فوجب أن يكون طلب هذا المرجح باطلا ، وأن يحكم بأنه يجوز (٤) أن يختص حدوث هذا الحادث المعين بهذا الوقت لا لمرجح ، وكما أن هذا الكلام باطل ، فكذلك الكلام الذي ذكرتموه يجب أن يكون باطلا.

الوجه الثالث في دفع [هذا (٥)] الجواب : أن نقول : لما سلمتم أن هذا الطلب عائد على كل التقديرات ، كان [هذا (٦)] من أدل الدلائل على صحة هذا الطلب ، وذلك لأنا [إذا (٧)] ادعينا أن اختصاص الحادث بالوقت المعين ، مع جواز حصوله قبل ذلك الوقت وبعده ، لا بد وأن يكون لمرجح. فلو قدرنا أنّه حصل اختصاص حادث بوقت معين لا لمرجح ، كان ذلك نقضا على تلك القضية ، ومبطلا لها. أما لما كانت هذه القضية مطردة سليمة عن النقض ، كان ذلك من أدل الدلائل على صحتها. فيثبت : أن عود هذا الطلب على كل

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) يحكم بجواز (ط).

(٥) من (س).

(٦) ذلك (ط).

(٧) من (ط ، س)

التقديرات مما يوجب صحة هذه القضية ، ولا يوجب فسادها. [والله أعلم (١)]

وأما الجواب السابع : وهو قولهم : إن قول القائل : لم حدث العالم في هذا الوقت ، ولم (٢) يحدث قبله؟ إنما يصح لو حصل قبل هذا الوقت وقت آخر ، وعندنا : أن هذا الوقت هو أول الأوقات ، فلم يحصل قبله وقت آخر. فسقط هذا السؤال. فنقول : هذا الجواب أيضا ضعيف. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا نعلم بالضرورة أن عدم كل حادث سابق على وجوده ، فلو لا حصول القبلية قبل ما فرضتموه أول الحوادث (٣) وإلا لما شهدت الفطرة بأن عدم كل شيء قبل وجوده.

والثاني : إن إله العالم إما أن يكون مقارنا (٤) لوجود العالم ، أو يكون سابقا عليه. والأول يوجب [إما (٥)] قدم العالم أو حدوث الإله ، وكلاهما محالان. والثاني على قسمين. لأنه تعالى إما أن يكون سابقا على العالم بما لو فرضنا الحوادث موجودة ، لكانت إما متناهية أو غير متناهية ، والأول يوجب حدوث الإله ، فبقي الثاني وهو أن الإله متقدم على العالم ، بما لو فرضنا الحوادث موجودة ، لكانت تلك الحوادث غير متناهية ، وحينئذ نقول : إنا مرادنا من القبلية هذا المعنى.

والوجه الثالث في إبطال هذا الجواب : إنا نفرض أن فلك الثوابت دار من [أول] (٦) حدوث العالم إلى يومنا هذا ، ألف ألف دورة. فنقول : هل كان يمكن

__________________

(١) من (ت).

(٢) ولم لا (ط).

(٣) الجواب (ت)

(٤) أن يقارن بوجود (ت)

(٥) إما (ت).

(٦) من (ط ، س)

أن يحدث فلك الثوابت بحيث [كان (١)] يحصل من أول حدوثه إلى الآن ألف ألف دورة ، أم لا؟ فإن كان ذلك ممتنعا ، فقد عاد الحديث (٢) المذكور من أن العالم كان ممتنع الوجود لعينه ، ثم انقلب ممكن لعينه ، وهو محال ، وإن كان ذلك ممكنا ، فهذا هو المراد من القبلية والبعدية ، سواء عبر عنه بهذا اللفظ أم لا.

وأما الجواب الثامن : وهو قولهم : القادر يمكنه ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح. فنقول : هذا الجواب : ضعيف وذلك لأن القادر هو الذي يكون متمكنا من الفعل ، ومن تركه ، بدلا عنه. فنسبة هذه القادرية إلى الطرفين على السوية ، فإما أن يكون هذا القدر كافيا في أن يكون مصدرا للفعل بعينه ، وإما أن لا يكون كافيا فيه. فإن كان كافيا فيه كان ذلك ترجيحا (٣) لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح وهو محال. وأيضا : فنحن نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا أن هذا القدر لا يكفي في وقوع أحد الطرفين ، بل ما لم يرجح أحد الطرفين على الآخر بسبب قصد وميل وترجيح ، لم يحصل (٤) الرجحان. وأيضا : فعلى هذا التقدير يكون وقوع هذا الفعل : محض الاتفاق العاري عن كل الأسباب. وأما [إن (٥)] لم يكن مجرد القادرية كافيا في حصول هذا الرجحان ، فحينئذ يجب انضمام أمر آخر إليه ، وحينئذ يسقط هذا الجواب بالكلية.

واعلم أن قول القائل : القدار يرجح أحد مقدوريه على الآخر فهل لقولنا : يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا ، أو ليس له مفهوم زائد؟ فإن كان الأول ، فحينئذ ظهر أن رجحان الفعل على الترك : ما حصل لمجرد كونه قادرا ، وإنما حصل عند انضمام هذا المفهوم الزائد إلى أصل القادرية. وإذا

__________________

(١) كان (ط).

(٢) البحث (ط).

(٣) رجحانا (ط)

(٤) ثم حصل (ت)

(٥) من (ط)

كان [الأمر (١)] كذلك ، فقولنا بعد هذا الكلام : إنه حصل ذلك الرجحان لا لمرجح زائد : كلام متناقض لما سبق. لأنا على هذا التقدير ، سلمنا أن المفهوم من قولنا : يرجح ، زائد على المفهوم من كونه قادرا. فقولنا : إنه لا لمرجح زائد : يكون جمعا بين النفي والإثبات ، وأنه محال. فقولنا : القادر يرجح : يفيد إثباتا زائد على كونه قادرا. وقولنا : لا لمرجح : يفيد نفيه. فكان هذا جمعا بين النقيضين. وأنه فاسد.

وأما الاحتمال الثاني : وهو أن يقال : [إنه (٢)] ليس لقولنا : يرجح : مفهوم زائد على كونه (٣) قادرا. فحينئذ يرجع حاصل هذا الكلام : إلى أن القادر الذي نسبته إلى الفعل وإلى الترك على السوية ، والمريد الذي كانت نسبة إرادته إلى الفعل وإلى الترك على السوية : فإنه حال [بقائه (٤)] على هذا الاستواء يدخل ذلك الفعل في الوجود ، من غير أن يخصصه ذلك القادر بالإيقاع والترجيح. ومعلوم أن ذلك مدفوع في بدائه العقول ، بل هذا تصريح بأن هذا الفعل وقع [لا (٥)] بإيقاع الفاعل ، بل على سبيل الاتفاق من غير تأثير مؤثر ، وإيجاد موجد. ومعلوم أنه باطل. وأما الأمثلة التي ذكروها ، فهي محض التلبيس. [وذلك (٦)] لأن المخير بين شرب قدحين من الماء فإنه [ما (٧)] لم يمد يده إلى أخذهما [وما لم يحص أحدهما (٨)] بالقصد إلى أخذه ، فإنه لا يترجح أخذ [ذلك (٩)] القدح على أخذ القدح الثاني. فرجحان ذلك القدح على غيره ، إنما كان لأن ذلك الفاعل خصه بتوجيه القصد إليه ، وبمد اليد إليه. فكيف يقال : إنه ترجيح أحد المقدورين على الآخر لا لمرجح؟ بل المثال المطابق لقولهم : أن يقال : إن ذلك الإنسان بقي مترددا بين أخذ [أحد (١٠)] هذين القدحين ، ولم يخص واحدا منهما بتوجيه القصد إليه ، ولا بمد اليد إليه. ثم إن أحد ذلك القدحين ، ارتفع بنفسه وانصب في حلقه.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٢) من (ط).

(٧) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٨) من (ت)

(٤) من (ط)

(٩) هذا (ط)

(٥) من (ط)

(١٠) من (ط ، س)

ومعلوم أن امتناع ذلك : معلوم في بديهة العقل. فيثبت : أن المثال الذي ذكروه محض التلبيس.

بقي هاهنا لهم (١) سؤالان :

السؤال الأول : أن يقال : هب أنه مد اليد إلى أحد القدحين ، ووجه القصد إليه. فلم حصل هذا القصد دون القصد الثاني؟

وجوابه : أن يقال : الإرادات والقصود ، لا يجب استناد كل واحد منها إلى آخر ، على سبيل التسلسل ، بل تنتهي تلك الإرادات والقصود إلى إرادة ضرورية ، قصد ضروري ، يحصل فيه من العالم الأعلى ، بحسب أسباب معينة ، واستعدادات مخصوصة. لا اطلاع للخلق على كيفياتها.

السؤال الثاني : أن يقال : إن كان الأمر على ما ذكرتم (٢) من أن القادر ما لم ينضم إليه المرجح ، فإنه يمتنع أن يصدر عنه الأثر. فحينئذ [لا يبقى (٣)] بين القادر وبين الموجب: فرق لكن الفرق معلوم بالبديهة ، فكان ما ذكرتموه باطلا.

والجواب : أنا ذكرنا في باب الدواعي والصوارف : أن الفرق بين الموجب ، وبين المختار من وجهين :

الأول : أن الموجب لا شعور له بما يصدر عنه البتة ، والقادر المختار هو الذي يحصل له الشعور بالآثار الصادرة عنه.

والثاني : أن الواحد منا حال كونه متساوي القدرة والإرادة بالنسبة إلى وجود الفعل وعدمه ، فإنه يمتنع أن يصدر عنه الفعل ، والعلم [بذلك (٤)] ضروري ، أما إذا حصلت الداعية القوية ، والإرادة الجازمة ، وانضمت إلى

__________________

(١) تحكم (ت).

(٢) كما ذكرتم (ط)

(٣) من (س)

(٤) من (س)

أصل القدرة ، صار مجموع القدرة مع الداعية الجازمة موجبا للفعل [لا تلك الداعية الجازمة موجبا للفعل (١)] لا أن تلك الداعية الجازمة ليست واجبة الدوام والبقاء ، بل سريعة التبدل والزوال ، وأما الطبيعة الموجبة فإنها باقية غير متبدلة.

فهذان الوجهان من الفرق معقول بين القادر وبين الموجب. فأما إن أريد بالقادر [أنه (٢)] حال كونه متساوي النسبة إلى الفعل والترك يكون مصدرا [للفعل (٣)] فهذا معلوم الفساد في بديهة العقل.

إذا ثبت هذا فنقول : المبدأ الأول [أنه (٤)] تعالى عالم بكل ما يصدر عنه ، فلا جرم كان قادرا لا موجبا. وأما القول بأن إرادته تبدلت من حالة إلى حالة أخرى ، فهذا في حقه محال. لأنها لو تبدلت لا فتقرت إلى إرادة أخرى تسبقها ، والكلام فيها كما في الأول ، وأنه محال. [فلا جرم (٥)] قلنا : إن إرادته [للفعل (٦)] دائمة ، وتلك الإرادة مطلقة غير موقوفة على شرط حادث ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم كونه تعالى مؤثرا في الإيجاد والإبداع على سبيل الدوام.

وأما الجواب التاسع : وهو قولهم : إنه تعالى إنما خلق الخلق إظهارا لقدرته. فنقول : هذا أيضا ضعيف. لأن هذه الداعية إما أن يقال : إنها ما كانت حاصلة في الأزل ، أو كانت حاصلة في الأزل.

أما الثاني وهو أن تلك الداعية كانت حاصلة في الأزل ، فإما أن يقال : إن تلك الداعية كانت مشروطة بحدوث شيء بعد ذلك ، أو ما كانت كذلك. والأول باطل. لأن السؤال عائد في كيفية حدوث ذلك الشرط ، فبقي أن تلك

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) من (س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) زيادة

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

الداعية أزلية ، وما كانت موقوفة على حدوث شرط بعد. فنقول : إما أن يقال : كان المانع حاصلا في الأزل أو ما كان. والأول باطل. وإلا لما زال [المانع (١)] الأزلي ، فوجب امتناع الفعل مطلقا. وأما الثاني فهو يقتضي أن يقال : الداعي إلى التكوين موجود في الأزل ، وما كانت تلك الداعية مشروطة بشرط حادث ، وما كان المانع موجودا في الأزل. وهذا يقتضي أن يكون موجودا في الأزل. فيثبت : أن هذا الجواب ضعيف ساقط.

وهاهنا آخر الكلام على الأجوبة المذكورة [والله أعلم (٢)]

ولنشرع الآن في الجواب عن المعارضات المذكورة.

واعلم أنا قبل الخوض في الجوابات [المفصلة (٣)] نذكر كلاما كليا عقليا في دفعها : فنقول : إن النقوض المذكورة ، إنما أوردتموها على قولنا : الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا لمرجح. فهل أنتم (٤) تعترفون بصحة هذه المقدمة أو تنكرونها؟ فإن سلمتم صحتها فقد زالت [تلك (٥)] النقوض. وتلك المعارضات ، لأنها بأسرها واردة على هذه المقدمة [فلما كانت هذه المقدمة (٦) صحيحة. كانت [تلك (٧)] النقوض والمعارضات كلها فاسدة مدفوعة باطلة. وأما إن منعتم صحة هذه المقدمة ، فحينئذ لا يمكنكم أن تستدلوا بإمكان الممكنات ، وحدوث المحدثات ، على وجود موجود (٨) واجب الوجود. وذلك في نهاية الفساد والبطلان. فهذا كلام كلي في دفع هذه النقوض والمعارضات على سبيل الإجمال.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

(٤) فأنتم هل (ط).

(٥) من (س)

(٦) من (ط)

(٧) من (ط)

(٨) كوجودات (ت)

ولنرجع إلى التفصلايل ، فنقول :

أما النقض الأول : وهو قولكم : «النقط المعترضة في سطح الفلك ، متساوية في تمام الماهية ، فتعين نقطتين في جملة [تلك (١)] النقط القطبية ، دون سائر النقط ، يكون رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح» فنقول : الجواب عنه : إن الحركة ومتى وقعت على الوجه المخصوص المعين ، وجب تعين هاتين النقطتين للقطبية ، لأنه محال عقلا : أن تقع الحركة على هذا الوجه الخاص ، إلا وتتعين هاتان النقطتان للقطبية ، فإن قالوا : هب أن الأمر كذلك ، إلا أنا نقول : فلم وقعت حركة الفلك على هذا الوجه الخاص المعين ، دون سائر الوجوه المحتملة (٢)؟ فنقول : هذا هو النقض الثاني ، ولنا في الجواب عنه مقامات:

المقام الأول : إنا قد دللنا على (٣) حدوث العالم في الوقت الذي حدث فيه [وحدوثه (٤)] أيضا قبل ذلك ممكنا. إذ لو كان حدوثه قبل ذلك ممتنعا لذاته ، ثم انقلب ممكنا لذاته لكان الشيء الواحد قد انقلب (٥) من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وهو محال. وأيضا : فحدوثه بعد أن حدث بدلا عنه أيضا ممكن بعين هذا الدليل. فيثبت : أن ابتداء حدوث العالم في ذلك الوقت وقبله وبعده : ممكن. وأن ذلك الإمكان ثابت في كل الأوقات على السوية. وإذا كان الأمر كذلك ، فإن اختصاص حدوث العالم بذلك الوقت المعين ، مع كونه مساويا لسائر الأوقات ، رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وأنه محال. فهذا [تمام (٦)] تقرير الدليل المذكور. وإذا عرفت هذا فنقول : النقض المذكور إنما يتوجه على هذا الدليل ، إذا أقمتم البرهان على أن جرم هذا الفلك المعين ، قابل للحركة على هذا الوجه المعين ، وقابل لسائر الحركات المضادة لها ، وعلى

__________________

(١) من (ط).

(٢) المحصلة (ت).

(٣) أن (ط).

(٤) انتقل (ط).

(٥) تمام (ط)

هذا التقرير فإنه يلزم أن يكون اختصاص جرم الفلك المعين ، وبهذه الحركة المعينة ، رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. فعليكم أن تقيموا الدلالة على أن ذات الفلك المعين قابلة لجميع أنواع الحركات المختلفة ، حتى يتوجه النقض. ومعلوم أن هذه المقدمة ليست بينة لذاتها ، لأن الحركة من المشرق إلى المغرب مضادة للحركة من المغرب إلى المشرق ومخالفة لها. ولا يلزم من كون الشيء قابلا لصفة ، كونه قابلا لما يخالف تلك الصفة وتضادها. لأنه لم يثبت في العقل : أن الماهيات المختلفة يجب استواؤها في اللوازم والأحكام، فمن المحتمل أن يقال : جرم هذا الفلك لا يقبل إلا هذا النوع من الحركة ، وبهذا التقدير لم يكن اختصاص هذا الفلك المعين (١)] بهذه الحركة المعينة رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، بخلاف الدليل الذي ذكرناه. لأنا قلنا : العالم لما حدث في ذلك الوقت ، فلو كان حدوثه قبل ذلك ممتنعا لزم أن يقال : إنه انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وهو محال. أما هاهنا فجرم الفلك لم ينتقل من نوع من الحركة إلى نوع آخر ، بل الحاصل فيه [ليس (٢)] إلا هذا ، فلم [يبعد (٣)] أن يقال : الممكن ليس إلا هذا النوع ، أما سائر الأنواع فهي ممتنعة أبدا. فظهر الفرق بين البابين. فإن قالوا : هذا الفرق الذي ذكرتم إنما يتلخص لو ثبت أن الحركة الواقعة على هذا الوجه الخاص مخالفة بالماهية ، للحركة الواقعة على سائر الوجوه ، فما الدليل على أن الأمر كذلك؟

بل نقول : الدليل على تساوي هذه الحركات في تمام الماهية وجهان :

الأول : إنه لا معنى للحركة إلا الانتقال من جهة إلى جهة ، والحركات بأسرها متساوية في هذا المعنى ، فوجب كونها متساوية في تمام الماهية.

الثاني : إن الأجسام متساوية في تمام الماهية (٤) وكل ما صح على شيء ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (س)

(٤) من (س)

فإنه يصح على مثله. ثم إن الفلك الأعظم متحرك من المشرق إلى المغرب ، وفلك الثوابت متحرك من المغرب إلى المشرق ، وإذا ثبت تماثل الأجسام بأسرها ، وجب أن يصح على كل واحد من هذين الفلكين ، ما حصل للآخر من الحركة. وحينئذ يعود الإلزام. هذا تمام [تقرير (١)] هذا السؤال.

واعلم أن هذا الكلام ضعيف. أما قولهم : ما الدليل على أن هذه الحركات مختلفة بالماهية؟ قلنا : الدليل لا يلزمنا في المقام. وذلك لأنا قلنا : اختصاص حدوث العالم بوقت معين : يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. وأنتم ادعيتم أن مثل هذا الإلزام لازم في صورة الحركة. فما لم تقيموا الدليل على أن قبول الفلك المعين لجميع أنواع الحركة (٢) على السوية ، فإنه لا يتم إلزامكم. فيثبت : أنكم أنتم المطالبون بذكر هذا الدليل. بل نقول : لو كانت الحركتان متساويتين بالنسبة إلى ذلك الفلك المعين ، لكان اختصاصه بتلك الحركة المعينة دون سائر الحركات رجحانا لأحد طرفي الممكن لا لمرجح ، وهو محال.

وأما الذي احتجوا به أولا على تماثل هذه الحركات في تمام الماهية : فضعيف. لأنا نقول : لم لا يجوز أن يقال : [المفهوم (٣)] الذي ذكرتموه من الحركة : مفهوم جنسي. ويدخل تحته أنواع كثيرة ، ويكون كل نوع من أنواع الحركة : ممتازا عن الآخر بفصل (٤) مقوم لماهيته المخصوصة. ألا ترى أن العقلاء اتفقوا على أن الحركة من المركز إلى المحيط ، مخالفة بالماهية للحركة من المحيط إلى المركز ، مع كون كل واحدة منهما مشاركة للأخرى في كونها انتقالا من حيز إلى حيز. فكذا هاهنا.

وأما الذي احتجوا به ثانيا من أن الأجسام متساوية في تمام الماهية ، فوجب ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) الحركات (ط)

(٣) من (ت)

(٤) ممتازا عن الحركة (ت).

أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر. فنقول : هذا بناء على أن الأجسام متساوية في تمام الماهية. وهذه المقدمة ضعيفة. وأيضا : فلو سلمنا ذلك ، إلا أن مذهب الفلاسفة : أن الجسمية صورة حالة في مادة. ومذهبهم : أن مادة كل فلك مخالفة لمادة الفلك الآخر ، وإذا كان كذلك ، لم يلزم من كون أحد الفلكين قابلا لنوع مخصوص من أنواع الحركة ، كونه قابلا لسائر أنواع الحركة (١) ولأجل هذا الحرف. زعموا : أن الخرق والالتئام ممتنعان على الأفلاك. وأيضا : فبتقدير أن يثبت تماثل الأجسام ، لزم القول بأن كل ما يصح على هذه الأجسام السفلية فإنه يصح أيضا على الأجرام الفلكية ، وحينئذ لا يختص الإلزام المذكور بتعين النقطتين للقطبية ، وتعين تلك الحركة المخصوصة بأن تكون أولى بالوقوع. بل يعود الإلزام في اختصاص جرمية ذلك الفلك ، بذلك الشكل المخصوص [وبذلك الحيز المخصوص (٢)] وبتلك الصفات المخصوصة [والله أعلم (٣)].

وأما النقض الثالث : وهو اختصاص موضع معين من أجزاء الفلك بحصول الكواكب فيه. فهذا الإلزام صعب مشكل. والذي يمكن أن يقال فيه : وجوه :

الأول : إن الذي ذكره الحكماء على كون الفلك بسيطا : مختص بالفلك الأعظم ، الذي هو فلك المحدد للجهات ، أما سائر الأفلاك فلم يحصل لهم دليل على كونها بسيطة. وهذه الكواكب مركوزة في سائر الأفلاك ، وأما الفلك الأعظم فلم يثبت حصول شيء من الكواكب فيه ، فالفلك الذي اختلفت طبائع جوانبه ، بسبب حصول الكواكب (٤) في بعض جوانبه دون البعض ، لم يثبت بالدليل كونه بسيطا ، والفلك [الذي (٥)] ثبت بالدليل كونه بسيطا ، لم

__________________

(١) الأنواع من الحركة (ط)

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) الكوكب (ط)

(٥) من (ط ، س)

يحصل فيه شيء من الكواكب ، فزال السؤال.

الوجه الثاني في الفرق : أن يقال : إن القوم لا يقولون : إن الفلك حصل فيه ذلك التجويف ، ثم حصلت الكواكب (١) فيه ، لأن هذا يقتضي حصول الخرق والالتئام على الفلك ، بل يقولون (٢) : حصول الكوكب مقارن لحصول الفلك ، فما كان الفلك حاصلا قبل حصول ذلك الكوكب حتى يقال ليس حصول الكوكب هاهنا أولى من حصوله في موضع آخر ، ولما ثبت أن حصول الكوكب ، وحصول الفلك معا ، فبعد ذلك يمتنع انتقال الكوكب من ذلك الموضع ، لأن تجويزه يوجب تجويز الخرق والالتئام على الفلك ، وأنه محال. فلهذا السبب بقي ذلك [الكوكب في ذلك (٣)] الوضع المعين من الفلك.

الوجه الثالث : لا يبعد أن يقال (٤) : إن تركيب جرمية الفلك ، إنما صدر عن نفس أو عقل ، ويكون ذلك الشيء قابلا للإرادات المختلفة بحسب الشرائط المختلفة ، أما المبدأ الأول فإنه لا يقبل الصفات المتغيرة (٥) فظهر الفرق.

وأما النقض الرابع : وهو اختلاف جانبي المتمم الواحد في الغلظ والرقة.

فالأجوبة المذكورة في اختصاص الكوكب بالجانب المعين من الفلك عائدة فيه. ثم هاهنا جواب آخر وهو : أن هذا السؤال إنما يتم لو كان كل واحد من جانبي المتمم ، مساويا للجانب الآخر في الشرائط المعتبرة ، في حصول الغلظ والرقة. وهذا ممنوع. وذلك لأن الجانب الرقيق لو فرضناه غليظا لزم تداخل

__________________

(١) حصل الكوكب (ط)

(٢) يقول (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) أن يقال : أن ركب تركيب (ت)

(٥) المعتبرة (ت)

الأجسام ، والجانب الغليظ لو فرضناه رقيقا لزم حصول الخلاء ، وكل ذلك محال. فثبت : أن الشرائط المعتبرة في حصول الغلظ والرقة مختلفة بحسب اختلاف الجانبين.

وأما النقض الخامس : وهو قولهم : السطح المحدب مخالف للسطح المقعر في الصفات الكثيرة. فنقول : الطبيعة وإن كانت واحدة إلا أن إيجابها لمعلولها ، يختلف بحسب اختلاف الشرائط. فظاهر الكرة ، لا يقبل إلا السطح [المحدب (١)] الواسع ، وباطنها لا يقبل [إلا (٢)] السطح المقعر ، الصغير. ولما اختلفت الشرائط لم يبعد اختلاف الأثر.

وأما النقض السادس (٣) : وهو قولهم : «الجزء الحاصل في ثخن الفلك ، مشارك للجزء الحاصل في سطحه ، في تمام ماهيته (٤)» فنقول : الجواب [عنه (٥)] أن يقال : هذا السؤال غير لازم ، على مذهب الحكماء. وذلك لأن عندهم جسم الفلك متصل واحد ، وهو غير مركب من الأجزاء أصلا ، بل هو في نفسه شيء واحد ، كما أنه عند الحس شيء واحد ، إلا أنه قد يعرض للجسم المتصل أسباب خارجية فيحصل بسبب تلك الأسباب الخارجية أجزاء بالفعل ، كالوهم واختلاف المجاذبات ، إلا أن على هذا [التقدير (٦)] فالجزء يفترض بعد (٧) حصول الكل ، لكن حصول صورة الكل لذلك الجسم الذي هو الكل ، يمنع من انفصال [بعض (٨)] تلك الأجزاء عن بعض ، لما ثبت أن الخرق على الأفلاك : محال. فلهذا السبب امتنع أن يحصل الجزء المفترض في عمق الفلك في سطحه ، وبالعكس.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) الثالث (ت)

(٤) الماهية (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (ط)

(٧) قبل (ت)

(٨) بعض (ط)

واعلم أن هذا الجواب حسن بناء على أصولهم. أما على مذهب من يثبت الأجزاء التي لا تتجزأ ، ويقول : كل ما يقبل الانقسام فهو نفسه مركب من الأجزاء. فهذا الجواب لا يستقيم على قوله. إلا أن لصاحب هذا القول أن يجيب عنه بجواب آخر ؛ فيقول : السماء مكونة من اجتماع هذه الأجزاء ، وكل واحد من تلك الأجزاء إنما اختص بموضعه المعين ، ووضعه المعين [بسبب (١)] أن واضعه (٢) السابق أعده لحصول الوضع اللاحق. وهذا عين ما يقول الفلاسفة المتأخرون ، في اختصاص كل واحد من أجزاء العناصر ، بوصفه الخاص ، وموضعه الخاص.

وأما النقض السابع : وهو القول بإثبات أحياز خالية ، خارج العالم. فالكلام فيه مشهور والبحث فيه طويل. فإن أصحاب أرسطاطاليس ينكرون ذلك. ويقولون : إنه ليس خارج العالم لا خلاء ، ولا ملاء. والكلام فيه سيأتي في كتاب مفرد ، إن شاء الله [تعالى(٣)]

وأما النقض الثامن : وهو تولد الأعضاء المختلفة من النطفة المتشابهة الأجزاء. فنقول: لم لا يجوز أن يقال : إن الله تعالى ملكا يصور من تلك النطفة تلك الأعضاء المختلفة ، بحسب المصلحة [والحكمة (٤)] وذلك الملك فاعل مختار ، وعلى هذا التقدير يسقط السؤال. وأما أصحاب أرسطاطاليس. فقد اتفقوا على إسناد تصوير الأعضاء إلى القوة المصورة الحالة في جرم النطفة ، ولا شك أن القول به في غاية البعد ، على ما قررناه في كتاب «القوى الطبيعية» من علم النفس.

وأما النقض التاسع : وهو قولهم : لو كان المعلول من لوازم العلة ، لكان ارتفاع المعلول يدل على ارتفاع العلة. فجوابه : إنه يدل إما على ارتفاع العلة ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) وضعه (ط)

(٣) من (س)

(٤) من (س)

أو على ارتفاع ما كان شرطا لتأثير العلة ، في جانب المعلول. وذلك الشرط حادث آخر قبله.

وأما النقض العاشر : وهو النقض بالحوادث اليومية. فجوابه : ما تقدم من أن العلة المؤثرة أزلية ، عامة الفيض. إلا أن صدور كل حادث معين عن تلك العلة الأزلية ، مشروط بذلك الحادث الذي كان سابقا عليه. أما قوله : «إن ذلك القديم ما كان علة لهذا المعلول الحادث ، ثم صار علة له ، فهذه العلة صفة حادثة ، فلا بد لها من مؤثر» فنقول : الذي يمكن أن يذكر في دفع هذا السؤال : إن علية الشيء لغيره ، لا يمكن أن يكون وصفا زائدا على ذات العلة. وذات المعلول ، وإلّا فذلك الزائد ، وصف محتاج إلى الغير ، فيكون ممكنا لذاته ، فيفتقر إلى علة ، فتكون علية العلة لتلك العلية زائدة عليها ، ولزم التسلسل. فهذا أقصى ما يمكن أن يقال في دفع هذا السؤال. وقد مضى في باب إثبات واجب الوجوب : ابحاث عميقة في أن كون الشيء علة [لغيره (١)] هل هو وصف زائد على ذات العلة [أم لا (٢)

واعلم : أن هذا العذر (٣) الذي ذكره الفلاسفة في الفرق بين تكوين كل العالم الجسماني ، وبين تكوين الحوادث اليومية. لو صح واستقام ، فإنه لا يمكنهم مع ذلك أن يحتجوا بالحجة التي ذكروها على قدم الأجسام ، وقدم السموات والأرضين. فإن لقائل أن يقول : لما جوزتم أن تلك العلة القديمة يصدع عنها المعلولات المحدثة ، لأجل أن كل حادث مسبوق بحادث [آخر (٤)] وكان حصول الحادث المتقدم ، شرطا لفيضان الحادث المتأخر عن تلك العلة القديمة ، فلم لا يجوز أيضا أن يقال : جملة الأجسام حادثة ، ولها أول ومبدأ ، إلا أنه كان قد وجد في الأزل عقل أو نفس ، وكان ذلك الجوهر المجرد محلا للحوادث

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) سقط (ط)

(٣) القدر (ت)

(٤) من (ط ، س)

النفسانية (١) والتغيرات الادراكية ، وكان كل واحد منها مسبوقا بآخر ، لا إلى أول ، ثم لما انتهت تلك التصورات المتعاقبة ، والادراكات المتلاحقة (٢) في جانب لا يزال إلى تصور خاص ، وتعقل خاص ، وكان حدوث ذلك التصور شرطا لفيضان وجود العالم الجسماني عن العلة القديمة [فلا جرم حدث العالم الجسماني عن العلة القديمة (٣)] في ذلك الوقت. وإذا كان هذا الاحتمال قائما ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بالحجة المذكورة على كون العالم الجسماني : قديما؟ فهذا سؤال واقع ولا يكاد يمكن دفعه. وهذا آخر الكلام في تقرير هذه الحجة. ومن الله التوفيق [والإرشاد (٤)]

__________________

(١) الجسمانية (ط).

(٢) المتعاقبة (ط)

(٣) سقط (ط)

(٤) من (ت)

الفصل الثاني

في تقرير وجوه أخرى من الدلائل

متفرعة على فاعلية المبدأ الأول

اعلم أن للقوم أن يقولوا : الصانع والفاعل من مقولة المضاف. فالصانع مقول بالقياس إلى المصنوع ، كما أن المصنوع مقول بالقياس إلى الصانع ، والمضافان موجودان معا. فإن كان المصنوع موجودا بالقوة ، كان الصانع صانعا بالقوة ، وإن كان المصنوع موجودا بالفعل ، كان الصانع صانعا بالفعل.

وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو لم يكن العالم أزليا ، لما كان المصنوع موجودا بالفعل في الأزل [بل (١)] بالقوة. ولو كان الأمر كذلك ، لما كان الصانع صانعا بالفعل [في الأزل ، بل بالقوة. ثم إذا وجد فيما (٢) لا يزال المصنوع (٣)] فقد صار الصانع فيما لا يزال صانعا بالفعل. فيثبت : أن العالم لو كان محدثا ، لزم أن يقال : الصانع كان صانعا بالقوة ، ثم صار صانعا بالفعل. وكل ما كان بالقوة ثم صار بالفعل ، فانتقاله من القوة إلى الفعل ، ومن العدم إلى الوجود لا يكون لذاته ، وإلا لكان بالفعل أبدا. بل لا بد وأن يكون ذلك الانتقال لأجل أن غيره نقله من القوة إلى الفعل ، فلو كان العالم محدثا ، لاحتاج الصانع إلى شيء ينقله من كونه صانعا بالقوة إلى كونه صانعا بالفعل ، وكل من كان

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) في لا يزال (ط ، س)

(٣) سقط (ت)

كذلك ، كان محتاجا في لوازم ذاته إلى الغير ، وكل من كان كذلك ، كان ممكنا لذاته. وهذا على واجب الوجود : محال. وأيضا : فإن هذا الشيء لا يكون مبدأ أولا ، بل هو يفتقر إلى مبدأ آخر. فيثبت : أن واجب الوجود لذاته ، يجب أن يكون صانعا بالفعل أبدا. ومتى (١) كان الأمر كذلك ، كان الصانع موجودا أبدا ، ضرورة أن المضافين لا بد وأن يوجدا معا [والله أعلم (٢)]

الحجة الثانية للقوم : قالوا : المفهوم من كون واجب الوجود لذاته مبدأ لغيره ، أمر مغاير لذات [واجب الوجود ، ولذات (٣)] العالم ، ومتى كان الأمر كذلك ، لزم دوام الأثر بدوام المؤثر. بيان المقام الأول من وجوه :

الأول : إنه يمكننا أن نعقل ذات واجب الوجود ، وأن نعقل ذات العالم ، مع الشك في أن ذات واجب الوجود مؤثر في العالم ، ومع الشك في أن ذات العالم أثر لواجب الوجود ، والمعلوم (٤) مغاير لما هو غير معلوم ، فمؤثرية واجب الوجود في العالم يجب أن يكون زائدا على ذات واجب الوجود ، وعلى ذات العالم.

الثاني : إن كون إحدى الذاتين مؤثرة في الأخرى نسبة بين الذاتين. والنسبة بين الشيئين موقوفة عليهما ، والموقوف على الشيء ، مغاير له. فهذه المؤثرية والأثرية وصفان مغايران للذات.

الثالث : إنا نصف ذات واجب الوجود ، بأنها مؤثرة في وجود العالم ، والمحكوم به لا بد وأن يكون مغايرا للمحكوم عليه. فالمؤثرية صفة زائدة على ذات واجب الوجود.

__________________

(١) وإذا (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) المعلول (ت)

والرابع : إنا نقول : إن ذات واجب الوجود ، أو (١) نقول : إن قدرة واجب الوجود أثر في وجود العالم ، بعد أنه ما كان مؤثرا فيه ، فتجدد صفة المؤثرية مع بقاء الذات في الحالتين ، يدل على أن المؤثرية أمر زائد على ذات المؤثر. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المراد من كون الذات مؤثرة في ذلك الأثر [هو (٢)] نفس حصول ذلك الأثر؟ لأنا نقول : هذا باطل. فإنا نقول : إنما وجد هذا الأثر ، لأجل أن هذا المؤثر أثر في وجوده ، فعللنا وجود الأثر بكون المؤثر مؤثرا فيه فلو كان [كون (٣)] المؤثر [مؤثرا فيه (٤)] نفس ذلك الأثر ، لكان هذا تعليلا لوجود ذلك الأثر بنفسه وبعينه ، ولكن وجود الأثر بنفسه ، يمنع من تعليله بغيره. فيثبت : أن القول بأن المؤثرية نفس [الأثر (٥)] يمنع من كون ذلك الأثر ، أثرا لذلك المؤثر ، وما أفضى ثبوته إلى نفيه ، كان باطلا. وأيضا : كون الله موجدا للعالم ، وخالقا له : صفة لذات الله تعالى ، وذات العالم ليست صفة لذات الله تعالى. فيثبت : أن مؤثرية المؤثر في الأثر : مفهوم زائد على [ذات (٦)] المؤثر ، وعلى ذات الأثر.

أما المقام الثاني : وهو أنه لما ثبت هذا ، لزم من قدم المؤثر قدم الأثر. والذي يدل عليه : هو أن هذه المؤثرية إما أن تكون حادثة أو قديمة ، لا جائز أن تكون حادثة ، وإلا لافتقرت إلى محدث ، فيكون إحداث تلك المؤثرية [من (٧)] مؤثرية أخرى. ولزم التسلسل وهو محال. فيثبت : أن تلك المؤثرية قديمة. لكن كون الشيء مؤثرا في غيره : صفة إضافية ، لا يعقل ثبوتها إلا مع ثبوت المضافين ، لأن المؤثر في الأثر ، كما أن الأثر [أثر (٨)] للمؤثر. فلما ثبت

__________________

(١) أن (ت)

(٢) هو (ت)

(٣) كون (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

أن المؤثرية قديمة ، لزم من قدمها. قدم الأثر. وهو المطلوب.

فإن قيل : السؤال عليه من وجهين :

الأول : إن هذا يشكل بكون [الله (١)] مبدأ للحوادث اليومية.

الثاني : إنه [إن (٢)] كان كون الصانع صانعا بالفعل ، يتوقف على كون المصنوع مصنوعا بالفعل ، فحينئذ يكون الصانع محتاجا إلى الوجود المصنوع.

والجواب عن الأول : ما تقدم ذكره في الحجة الأولى ، حيث ذكرنا : أن حدوث كل حادث ، مشروط بحدوث حادث قبله ، لا إلى أول ، فيكون المبدأ الموجب المؤثر ، وهو المبدأ الأول الأزلي القديم [إلا (٣)] أن التخصيص والحدوث ، إنما حصل بسبب هذه الشرائط المتعاقبة.

والجواب عن السؤال الثاني : إن ذات العلة ، موجدة لذاته المعلول ، ثم إذا حصل هاتان الذاتان [حصلت (٤)] بينهما إضافة العلية والمعلولية ، فذات العلة مؤثرة في ذات المعلول بالاتفاق (٥) ثم إذا وجدت ذات المعلول ، فحينئذ تكون هاتان الذاتان موجبتين للإضافتين المخصوصتين ، أعني العلية والمعلولية. هذا تمام تقرير هذا الوجه.

واعلم أن مدار هذه الحجة على أن مؤثرية المؤثر في الأثر : صفة زائدة على ذات المؤثر ، وذات الأثر. وهذا مشكل لأنه لو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك المؤثرية صفة مفتقرة إلى ذات المؤثر. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته محتاج إلى المؤثر ، فكانت مؤثرية المؤثر في حصول تلك المؤثرية زائدة. ولزم التسلسل ، وهو محال [والله علم(٦)]

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط)

(٥) بالاستدلال

(٦) من (ت)

وقد يعبر عن هذه الحجة بعبارة أخرى : فيقال : لو كان العالم حادثا ، لامتنع أن يدخل في الوجود إلا بإيجاد الفاعل. فنقول : إيجاد الفاعل. إما أن يكون عبارة عن ذات الفاعل ، أو عن ذات المفعول ، أو عن أمر ثالث. فإن كان الأول ، لزم من دوام ذات الفاعل [دوام (١)] ذات المفعول. وإن كان الثاني كان معناه : أن العالم [إنما (٢)] وجد بنفسه. لأنا لما قلنا : إن العالم وجد بإيجاد الفاعل. ثم قلنا : إن إيجاد الفاعل للعالم هو نفس العالم ، كان معنى هذا الكلام : أن العالم وجد بنفسه ، لكن كونه كذلك ، يمنع من إسناده إلى الفاعل ، وذلك محال. فبقي الثالث. فنقول : لا شك أن الموجدية صفة لذات الفاعل ، فهي إن كانت حادثة افتقرت إلى إيجاد آخر. وهو محال. وإن كانت قديمة ، لزم من قدمها قدم المفعول ، لأن كون الموجد موجدا ، حال بقاء المفعول على عدمه الأصلي : محال. [وبالله التوفيق (٣)]

الحجة الثالثة : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه في الوقت المعين ، إما أن يكون لمجرد كونه قادرا ، أو ليس كذلك. بل لأجل أن الله تعالى أوجده في ذلك الوقت. والأول باطل. لأنه تعالى كان قادرا قبل حصول هذا الوقت ، فكان يجب أن يحدث هذا الحادث قبل حدوث هذا الوقت. بل كان يجب أن يدوم الأثر بدوام كونه [قادرا (٤)] وكما أن (٥) قادريته أزلية ، لزم أن يكون هذا الأثر أزليا. وهو المطلوب.

وأما القسم الثاني : [وهو (٦)] أن يقال : العالم إنما (٧) حدث في هذا الوقت ، لا لأجل أن الله [تعالى قادر ، بل لأجل أنه تعالى (٨)] خلقه في هذا

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

(٧) لما (ط)

(٨) من (ت)

الوقت المعين. فنقول : صدق هذا النفي والإثبات ، يوجب التغاير لا محالة ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه تعالى خالقا للعالم في هذا الوقت [المعين (١)] مغاير للفهوم من كونه تعالى قادرا. وإلّا لصار مورد النفي والإثبات ، أمرا واحدا. وذلك محال. وأيضا : يجب أن يكون المفهوم من كونه تعالى خالقا للعالم ، مغايرا لنفس العالم. وذلك لأن سبب وجود العالم هو خالقية الله تعالى له ، والمؤثر مغاير للأثر. فيثبت : أن المفهوم من الخالقية أمر مغاير للقادرية ، وأمر مغاير لذات المخلوق. وإذا ثبت هذا فنقول : لما كان العالم إنما حدث في هذا الوقت لا قبله ولا بعده ، وجب أن يقال : إن كونه تعالى خالقا له ، إنما حصل في هذا الوقت لا قبله ولا بعده ، لأن قبل حدوث العالم كان العالم باقيا على عدمه الأصلي [ومتى كان الأثر باقيا على عدمه الأصلي (٢)] امتنع أن يصدق على المؤثر كونه مؤثرا فيه. فيثبت: أنه لو كان العالم حادثا ، لكان كونه تعالى خالقا للعالم صفة حادثة في ذات الله تعالى. فنقول : وهذا محال لوجهين :

الأول : إن الحادث إما أن يكون مفتقرا إلى المقتضى ، أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول لزم افتقار تلك الخالقية الحادثة إلى خالقية أخرى (٣) ولزم التسلسل. وإن كان الثاني وهو أن لا يفتقر الحادث إلى الخالق ، فحينئذ يلزم أن يستغني حدوث العالم في ذلك الوقت عن الخالق ، وذلك يقتضي نفي الخالق. فيثبت : أن القول بحدوث العالم ، يوجب نفي المؤثر ونفي الخالق ، وذلك محال. فما أدى إليه كان محالا.

الثاني : إن حدوث الصفة في ذات الله تعالى ، يقتضي كون ذاته محلا للحوادث ، وأنه محال. على ما بيناه بالبراهين القاطعة ، فكان هذا القول باطلا [والله أعلم (٤)]

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، س)

(٣) إلى حادثية أقوى (ت)

(٤) من (ت)

الحجة الرابعة : قالوا : لو كان العالم حادثا ، لكان الفاعل الأول لم يزل (١) غير فاعل، وكل ما لم يكن [فاعلا (٢)] فإنه يصير فاعلا على وجه الحكمة ، إلا عند تغير شيء ، لا يكون ذلك التغير (٣) من قبله. وذلك في حق الله تعالى محال. فكان يجب أن يمتنع أن يصير فاعلا [بعد أن لم يكن فاعلا (٤) ولما كان [هذا (٥)] باطلا ، علمنا أنه كان فاعلا لم يزل. فيفتقر هاهنا إلى تقرير مقامين :

المقام الأول : إن الفاعل الحكيم يمتنع أن يكون فاعلا بعد أن كان غير فاعل ، إلا عند تغير شيء لا يكون ذلك التغير من قبله. والدليل عليه : إنا إذا فرضنا رجلا [كان (٦)] جالسا عندنا مدة طويلة باختياره [ثم إنه قام عنا باختياره (٧)] فهذا التبدل إنما حصل ، لأنه حصل تبدل في حالة من الأحوال ، إلا (٨) باختياره ، مثل إنه قرب وصول الليل ، فقام الرجل عن ذلك المكان ، لذلك السبب. أو تذكر مهما كان [قد (٩)] نسيه ، أو وصل إليه خبر كان غافلا عنه. فإذا لم يحدث البتة حادث ، ينقل هذا الرجل عن الرأي الأول إلى ضده، امتنع أن يتبدل حاله في الفعل والترك. ونقول : هذا إما أن يكون ممتنعا ، أو أن لم يمتنع. لكنه يكون سفها ، فإن الرجل إذا كان جالسا في داره مدة سبعين سنة ، ولم يتحرك ولم يشتغل بمصلحة (١٠) ولا بإصلاح حال ، ثم نفر بعد ذلك دفعة واحدة بجد عظيم ، واجتهاد شديد ، وشرع في الأعمال ، وفي نظم المهمات. فإذا قيل له. وما السبب الذي اقتضى الانتقال من الفراغ المتقدم ، إلى هذا الاشتغال التام؟ فإذا لم يذكر فيه سببا البتة ، كان ذلك إما ممتنعا في نفسه ، أو كان محض العبث والسفه. فيثبت بهذا أن القائل المختار الحكيم لا ينتقل من الترك إلى الفعل إلا بسبب متغير ، ويجب أن يكون ذلك التغير لا من

__________________

(١) يكن (ت)

(٦) من (س)

(٢) من (ط ، س)

(٧) من (ط)

(٣) المتغير (ت)

(٨) لا (ط)

(٤) من (ط)

(٩) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(١٠) بمهم (ط)

قبله ، إذ لو كان من قبله ، لعاد السؤال [الأول (١)] فيه. وهو أنه لم غيره في هذا الوقت دون ما قبله وما بعده؟ وأما إذا كان [ذلك (٢)] التغير ليس من قبله ، صح ذلك. مثل : [أنه (٣)] لما انتهى النهار إلى آخره ، قام الرجل من مكانه ، وذهب إلى الدار ، ولما قرب هجوم الشتاء أقدم الرجل على تحصيل مهمات الشتاء ، فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان غير فاعل لم يزل ، فإنه يصير فاعلا إلا لتغير حصل ، لا من قبله. وهذا في حق الفاعل الأول محال. لأن جميع التغيرات إنما حصل بتكوينه وإيجاده ، فامتنع أن يكون تغيره من ترك الفعل إلى تحصيل الفعل ، لأجل تغير وقع لا من جهته ، فلو كان غير فاعل في الأزل ، وجب أن لا يصير فاعلا في لا يزال [وحيث صار فاعلا في لا يزال (٤)] علمنا : أنه كان أيضا فاعلا في الأزل ، ولا يقال : الغرض من الإيجاد : إيصال النفع إلى الخلق ، لأن هذا الغرض كان مطلوبا قبل ذلك. فلم لم يشرع في الفعل ، قبل ذلك؟ ولا يقال : ذلك الوقت إنما اختص بالإحداث ، لأنه أصلح للمكلفين ، أو لأنه تعين بسبب الإرادة (٥) لأنا نقول : ذلك الوقت الذي هو أصلح لإحداث العالم من سائر الأوقات ، إما أن يحدث بإحداث الله [تعالى (٦)] أو لا بإحداثه. فإن حدث بإحداث الله تعالى ، عاد السؤال في أنه : لم فعله ، ولم يفعل غيره؟ وإن كان لا بإحداث الله تعالى ، فهذا قول بأنه قبل إحداث الله [تعالى (٧)] العالم ، كانت الأوقات موجودة ، والتغيرات حاصلة ، فيصير إحداث الله العالم في ذلك الوقت ، جاريا مجرى ما إذا قصد الواحد منا ، إلى السفر حال اعتدال الحر والبرد ، فإنه كان الداعي [له (٨)] إلى تحصيل الربح موجودا قبل ذلك ، إلا أنه كان ينتظر حضور الوقت

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) سقط (ط)

(٥) لأنه تغير بالإرادة (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

الموافق لهذا العمل. فلما حضر الوقت الموافق ، أقدم ذلك الفاعل على ذلك العمل. فهذا يقتضي أن تكون الأوقات والتغيرات حاصلة ، لا بإحداث الفاعل الأول. وذلك محال. وتمام الكلام في إبطال هذه السؤالات : قد تقدم ، ولا فائدة في الإعادة.

وهاهنا آخر الوجوه المستنبطة من كونه تعالى فاعلا وموجدا ، وبالله التوفيق.

المقالة الثالثة

في

الدلائل المستنبطة من صفة القدرة

في الدلائل

المستنبطة من صفة القدرة

قالت الفلاسفة : القادر هو [المؤثر (١)] الذي يكون عالما بصدور أثره [عنه (٢)] ومن الناس من قال : المؤثر إما أن يؤثر ، مع أنه يمتنع أن لا يؤثر. أو يؤثر [مع (٣)] أنه لا يمتنع أن لا يؤثر. والأول هو الموجب ، والثاني [هو (٤)] القادر. فعلى هذا : القادر هو الذي يكون متمكنا من الفعل بدلا عن الترك ، ومن الترك بدلا عن الفعل ، بحسب الدواعي المختلفة. إذا ثبت هذا ، فنقول : اتفق الكل على أنه لو كان تأثير الله [تعالى (٥)] في وجود الآثار على سبيل القسم الأول ، لزم دوام الآثار بدوامه. فنقول : إنه يمتنع أن يؤثر شيء في شيء على سبيل القسم الثاني ، وهو التأثير على سبيل الصحة ، فتعين أن يكون على سبيل القسم الأول ، وهو التأثير على سبيل الوجوب. وحينئذ يحصل المقصود (٦) فنقول : الذي يدل على أنه يمتنع كونه مؤثرا على سبيل الصحة : وجوه :

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (س)

(٥) من (ت)

(٦) المطلوب (ط)

الحجة الأولى : لو كان قادرا على الفعل بمعنى كونه ممكنا من الفعل والترك على سبيل الصحة ، لكان إما أن يكون قادرا على الفعل حال بقاء الفعل ، أو حال حدوثه ، أو حال عدمه. والأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بثبوت القادرية على هذا التفسير باطلا. أما صحة الحصر في الأقسام الثلاثة فبديهية. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه قادرا ، حال بقاء الفعل. وذلك لأنه يقتضي إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل. وهو محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونه قادرا على الفعل حال حصوله (١) وذلك لأن المراد من هذه القادرية الممكنة من الفعل بدلا عن الترك ، ومن الترك بدلا عن الفعل. وحصول هذه الممكنة (٢) حال حدوث الفعل : محال. لأن حال حدوث الفعل يمتنع كونه معدوما ، وإلا لزم حصول الوجود والعدم دفعة واحدة ، وهو محال. وإذا (٣) كان عدم الفعل حال حدوث ذلك الفعل محالا ، امتنع [حصول المكنة (٤)] من ترك الفعل ، حال حدوث الفعل. لأن الممكنة من الترك مشروط بكون ذلك الترك ممكنا في نفسه ، لما قلنا (٥) : إن حصول الترك : محال ، حال [حصول الفعل (٦)] كانت (٧) المكنة من الترك محالا حال حصول الفعل ، وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون قادرا على الفعل قبل حدوث الفعل. وذلك [لأن (٨)] حال عدم الفعل يكون وجوده محالا. وإن كان وجوده محالا ، كانت القدرة على إيجاده في ذلك الوقت أيضا محالا. فثبت : أن القدرة على الفعل والترك ، يمتنع حصولها في هذه الأحوال الثلاثة ، فوجب أن يكون القول بحصول هذه القدرة محالا. فإن قيل : فهذا الذي ذكرتم في إبطال القادرية (٩) : وارد بعينه في الموجب.

__________________

(١) حصول الفعل (ط)

(٢) المكنة (ط)

(٣) وإن (ط)

(٤) من (س)

(٥) ولما بينا (س)

(٦) حصوله (ط)

(٧) كان (ط)

(٨) من (س ، ط)

(٩) القادر (ط ، س)

فيلزمكم نفي الموجب ، كما ألزمتم نفي القادر ، وذلك يقتضي نفي المؤثر على الإطلاق ، [وإنه باطل (١)] ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : القادر إنما يقدر على الفعل قبل وجوده ، بمعنى : أنه حال عدم الفعل يقدر على أن يوجد الفعل في الزمان الثاني منه؟

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : العلة الموجبة لوجود المعلول ، تكون موجودة حال وجود المعلول ، وذلك لا امتناع فيه. أما القادر بمعنى كونه متمكنا من الفعل والترك ، فإنه يمتنع أن يكون قادرا على الفعل حال وجود الفعل. لأنّا بينا : أن التمكن من الترك مشروط ، بما إذا كان الترك في نفسه ممكنا ، لكن عدم الفعل حال حدوثه : محال. لأن الفعل حال حدوثه : موجود. ووجوده في تلك الحالة (٢) ينافي عدمه في تلك الحالة. وإلا لزم كونه موجودا ومعدوما معا ، وهو محال. فيثبت : أن كون القادر متمكنا من الفعل ومن الترك ، حال وجود ذلك الفعل محال ، أما كون المؤثر الموجب مؤثرا في وجود ذلك الأثر [حال وجود ذلك الأثر (٣)] ليس بمحال. فظهر الفرق.

[وأما (٤)] الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن نقول : إذا قلنا : القادر حال عدم الفعل ، يقدر على أن يوجده في الزمان الثاني ، فهذا الكلام يحتمل وجهين :

الأول : أن [يقال (٥)] القادر حال عدم الفعل ، يقدر على إيجاد ذلك [الفعل في ذلك (٦)] الوقت ، الذي هو وقت عدمه.

والثاني : أن يقال : إن القادر في حال عدم الفعل ، يقدر على إيجاد ذلك الفعل في الزمان الثاني منه ، والأول باطل ، لأن وجود الفعل حال عدمه ممتنع

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) أما (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ط ، س)

لعينه ، لامتناع الاجتماع بين العدم وبين الوجود معا ، وإذا كان ممتنع الوجود ، كانت القدرة عليه أولى بالامتناع والثاني أيضا : باطل. لأن القدرة على إيقاع الفعل في الزمان الثاني ، مشروط بحضور (١) الزمان لكن حضور الزمان الثاني في الزمان الأول ممتنع عقلا ، والموقوف على الممتنع : ممتنع. فيلزم [أن يكون (٢)] كون القادر قادرا على إيقاع الفعل [في الزمان الثاني محالا. ممتنعا عقلا ، وما كان كذلك ، امتنع كونه مقدورا ، فثبت أن كون القادر (٣) قادرا على الفعل] بمعنى كونه متمكنا من الفعل والترك ، إما أن يثبت حال بقاء الفعل ، أو حال حدوثه ، أو حال عدمه. وثبت : أن الكل باطل فكان القول بإثبات القادر بهذا التفسير. محالا [والله أعلم (٤).]

الحجة الثانية : لو كان [القادر (٥)] قادرا بهذا التفسير ، لكانت هذه القادرية [إما (٦)] أن تكون ثابتة في الأزل ، أو لا تكون. والقسمان باطلان. فبطل (٧) القول بثبوت القادرية. إنما قلنا : إنه يمتنع ثبوتها في الأزل ، لأن القادر هو الذي يمكنه الإحداث والإخراج من العدم إلى الوجود ، والقدرة على الشيء مشروطة بإمكان وجود ذلك المقدور في نفسه ، لكن حقيقة الخروج من العدم إلى الوجود محال في الأزل ، لأن هذه الحقيقة تقتضي المسبوقية بالغير ، وحقيقة الأزل تنافي المسبوقية بالغير ، والجمع [بينهما (٨)] محال. فيثبت : أن حصول الحدوث في الأزل : محال لعينه. وما كان محال لعينه ، امتنع أن يكون مقدورا ، وإذا امتنع كونه مقدورا ، امتنع كون القادر قادرا عليه. فيثبت : أنه يمتنع ثبوت القادرية في الأزل. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن تكون تلك القادرية صفة حادثة ، لأنها لو كانت حادثة لافتقر إحداثها إلى تقدم قادرية أخرى ، ولزم

__________________

(١) بحصول (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

(٦) فثبت (ت)

(٧) من (ط ، س)

التسلسل. فيثبت : أنه لو حصلت القدرة بمعنى المكنة من الفعل والترك ، لكانت إما أن تكون أزلية ، وإما أن تكون حادثة.

وثبت فساد كل واحد من هذين القسمين ، فكان ثبوت الملزوم : محالا. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى في الأزل كان موصوفا بالقدرة على الإيجاد ، إلا أن قيام الأزل يجري مجرى المانع من الإيجاد ، ولا يمتنع في العقل أن يكون القادر قادرا على الفعل إلا أنه يتعذر عليه الفعل لمانع. ثم نقول : هذا أيضا لازم على القائلين بالتأثير الذاتي ، لأنه يلزم كونه مؤثرا في وجود العالم في الأزل ، مع أن العالم كان موجودا في الأزل ، وذلك يقتضي تحصيل (١) الحاصل ، وهو محال.

والجواب عن الأول : أن نقول : المكنة من الفعل والترك يمتنع حصولها ، إلا حيث كان حصول الفعل ممكنا في نفسه ، فلما كان حصول الفعل في الأزل ممتنعا ، امتنع كون القادر قادرا عليه. بقي أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : القادرية كانت حاصلة في الأزل ، إلا أنه تعذر الفعل لمانع (٢)؟ فنقول : هذا باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنه لما كانت المكنة حاصلة في الأزل ، فتعذر الفعل يمتنع أن يكون لعدم المقتضى ، بل لا بد وأن (٣) يكون لوجود المانع وعلى هذا التقدير يكون المانع من الإيجاد : أزليا. وعندكم : أن الأزلي يمتنع زواله ، فيلزم امتناع زوال ذلك المانع. ولو كان الأمر كذلك ، لما زال الامتناع [فقط (٤)]

الثاني : إنه لو حصل مانع يمنع من حصول ذلك الأثر. فإما أن يكون ذلك المانع. بحيث يزول أو لا يزول. فإن زال ، كان زواله مختصا بوقت معين. لأن كل ما كان موجودا ، ثم صار معدوما. فإن؟؟؟ لا بد

__________________

(١) حصول (ط)

(٢) لتمام المانع (ت)

(٣) أن (ط)

(٤) من (ط ، س)

وأن يكون مختصا بوقت معين. وعلى هذا التقدير ، فالمكنة التامة من الإيجاد والإحداث ، ما كانت حاصلة قبل ذلك الوقت. إذ لو حصلت مكنة الإيجاد قبل ذلك الوقت ، لوقع ذلك (١)] الإيجاد في الأزل. إلا [أن (٢)] هذا الكلام باطل. لأن الوقت المتقدم على ذلك الوقت بمدة متناهية ، يكون خارجا عن الأزل ، وواقعا في الأبد. فيلزم أن يقال : إن بعد انقضاء الأزل بقي الله عاجزا عن (٣) الإيجاد والإحداث. وذلك يبطل قولكم : إن الفعل امتنع لقيام المانع ، وهو حصول الأزل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن ذلك المانع لا يزول البتة. فنقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقال : إن (٤) الله تعالى لا يقدر على الإيجاد والإحداث البتة. وذلك يبطل كونه تعالى خالقا للعالم وهو محال.

والوجه الثالث في إبطال هذا السؤال : أن نقول : مسمى الأزل ، وهو الذي حكمتم بكونه مانعا للقادر من الفعل والتأثير. إما أن يكون واجب الوجود [لذاته (٥)] أو ممكن الوجود لذاته. فإن كان الأول ، امتنع زواله فوجب أن لا تحصل المكنة من الإيجاد البتة وإن كان الثاني كان ممكن الارتفاع نظرا إليه ، من حيث إنه [هو ، إذ (٦)] لو كان ممتنع الارتفاع من حيث هو هو ، لصار واجبا. وقد فرضنا ممكنا لذاته ، وإذا كان ممكن الارتفاع من حيث هو هو ، فبتقدير ارتفاعه ، كان القادر متمكنا من الإيجاد والإحداث دائما وقد فرضنا : أن ذلك محال : فثبت : أن القول بالأزل مانع من حصول هذه المكنة [قول (٧)] يفضي إلى أقسام باطلة. فوجب كونه باطلا. وأيضا : فحصول

__________________

(١) لو وقع الإيجاد (ت)

(٢) أن من (ت)

(٣) بقي الله ممنوعا على الإيجاد (ت)

(٤) أن يقال : إنه تعالى (ت)

(٥) من (ط)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (س)

ذلك المانع لما كان ممكنا لذاته ، وجب أن يكون لوجود مؤثر. وذلك المؤثر إما موجب بالذات ، أو فاعل بالاختيار. فإن كان الأول لزم من دوام ذلك الموجب دوام هذا المانع ، ويلزم من دوام هذا المانع ، دوام الامتناع. وإن كان الثاني فنقول (١) كل ما كان فعلا لفاعل مختار ، لم يكن أزليا. فيلزم أن يقال : إن مسمى الأزل لا يكون أزليا ، وذلك محال.

الوجه الرابع : وهو أن حاصل ما ذكرتم ، يرجع إلى أن المكنة والقدرة على الإيجاد ، ما كانت حاصلة في الأزل. إلا أنكم تقولون : إن عدم المكنة ليس لعدم المقتضى ، لكن لقيام المانع. إلا أن على كلا التقديرين ، ففيه تسليم أن هذه المكنة غير حاصل (٢) وذلك مساعدة على المطلوب. وأما السؤال الثاني وهو المعارضة بالموجب ، فساقط. وذلك لأن المعلول بدوام العلة الموجبة : أمر معقول [غير منكر. أما كون المختار موجدا بالقصد والاختيار ، لما كان موجودا في الأزل ، فهو غير معقول (٣)] فظهر الفرق بين البابين [والله أعلم (٤)]

الحجة الثالثة : وهو أنه لما صح من القادر الفعل ، بدلا عن الترك ، وبالضد منه. فإما أن لا يتوقف رجحان أحد الطرفين على الآخر على مرجح ، أو يتوقف (٥)؟ وهذه الحجة [هي الحجة (٦)] القوية للقوم ، وعليها تعويلهم. وقد شرحناها بالاستقصاء التام في باب القادر ، ولا بأس بأن نعيدها بعبارة أخرى. فنقول :

أما القسم الأول : وهو أنه لا يتوقف على انضمام المرجح إليه : فهذا باطل. ويدل عليه وجهان :

__________________

(١) فنقول ما كان فعلا (ط ، س)

(٢) حاصلة (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط)

(٥) فإما أن يتوقف ... لا لمرجح ، أو لا يتوقف (ت)

(٦) من (س)

الأول : إنه لو حصل الرجحان لا لمرجح ، لكان قد ترجح الممكن لا لمرجح ، وهو محال.

والثاني : إنا لما جربنا أنفسنا ، وجدنا أنه لم يحصل في القلب ، ميل إلى أحد الجانبين [لم يرجح ذلك الطرف على الجانب الآخر ، ومتى كان الميل إلى الحركة إلى الجانبين] (١) على التساوي ، لم يصدر الفعل البتة عن الإنسان ، بل يبقى متوقفا في موضعه الذي هو فيه ساكنا متحيرا ، إلى أن يظهر المرجح. فحينئذ يحصل الرجحان. فظهر بما ذكرنا : أن القول بحصول رجحان أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح قول باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أنه لا بد في حصول هذا الرجحان من مرجح. فنقول : إذا حصلت المرجحات بأسرها. وهي القدرة التامة ، والإرادة الجازمة الخالية عن الفتور (٢) وحصل الوقت والآلة والمصلحة ، وزالت الموانع بأسرها ، فمع حصول هذه المرجحات ، إما أن يكون الترك ممكنا ، أو غير ممكن. فإن كان ممكنا فمع حصول هذه المرجحات ، لا يمتنع أن يحصل الفعل تارة ، والترك أخرى ، فاختصاص أحد الوقتين بالفعل ، والوقت الآخر بالترك ، إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف. فإن كان الأول لم يكن الحاصل قبل انضمام هذا المرجح إليه [مرجحا تاما. لكنا فرضناه كذلك. هذا خلف. وأيضا : فعند انضمام هذا المرجح إليه (٣) [إما أن يكون حصول الفعل واجبا ، أو لا يكون. فإن لم يكن واجبا عاد التقسيم الأول فيه ، وافتقر إلى مرجح (٤) آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال. وإن لم يتوقف على مرجح فقد حصل الممكن المتساوي لا لمرجح ، وهو محال. ولما بطلت هذه الأقسام ، ثبت : أن الفعل واجب الحصول عند حصول كل المرجحات ، وممتنع الحصول عند اختلال قيد من القيود المعتبرة في حصول ذلك الرجحان. وإذا ثبت هذا ، فنقول : القادر

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) القيود (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) المرجح (ت)

له حالتان : أحدهما : أن يكون كل ما لا بد منه في المؤثرية حاصلا [في الأزل (١)] والأخرى : أن لا يكون هذا المجموع حاصلا.

أما الحالة الأولى : فإنه يجب صدور الفعل عنه ، ويمتنع أن لا يصدر.

وأما الحالة الثانية : فإنه يمتنع صدور الفعل عنه ، ويجب عدمه. وعلى هذا التقدير فإنه لا يبقى فرق بين القادر وبين الموجب. بل الفرق : أن شرائط التأثير في حق القادر سريعة التغير ، فإذا حصلت بعد أن كانت معدومة ، صار القادر واجب التأثير. وإذا زالت بعد أن كانت موجودة ، صار ممتنع التأثير ، إلا أن هذا التغير إنما يعقل في حق من تكون مؤثريته موقوفة على شرائط منفصلة عن ذاته ، أما الحق سبحانه فإن تأثيره فيما سواه غير موقوف على شرائط منفصلة عن ذاته ، لأنه تعالى مبدأ لكل ما سواه ، فيمتنع أن يكون تأثيره فيما سواه موقوفا على شرط منفصل ، بل يجب أن يكون تأثيره في غيره لمحض ذاته ، ولوازم ذاته. ولما كانت ذاته (٢) ولوازم ذاته : ممتنعة التغير. كان تأثيره في غيره أيضا : ممتنع التغير. فهذا هو الكلام القوي في هذا الباب.

فإن قيل : للمتكلمين في هذا المقام : كلامان :

الأول : قول من يقول : إن صدور الفعل عن القادر موقوف على المرجح ، إلا أنه مع ذلك المرجح ، لا يصل إلى حد الوجوب ، بل يصير أولى بالوقوع ، فلأجل أنه صار أولى بالوقوع ، استغنى عن مرجح زائد. ولأجل أنه لا ينتهي إلى حد الوجوب ، بقي الفرق بين الموجب والقادر.

والقول الثاني : إن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على انضمام المرجح إليه وتقريره : ما حكيناه عنهم : من أن المخير بين شرب قدحين ، وأكل رغيفين ، يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح. قالوا : والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أن الفرق بين القادر المختار ، وبين العلة الموجبة : معلوم

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) كان لذاته (ت)

بالضرورة. فإن كل أحد يفرق بين كون الإنسان مختارا ، في قيامه وقعوده ، وبين كون الحجر هابطا بالطبع. [وبين كون النار صاعدة بالطبع (١)] وتوقيف صدور الفعل عن القادر على انضمام المرجح إليه : يقدح في صحة هذا الفرق ، الذي عرفت صحته بالبديهية. وما أفضى ثبوته إلى فساد العلوم الضرورية : كان باطلا. فيثبت : أن القادر يرجح أحد طرفيه على الآخر لا لمرجح.

هذا حاصل كلام المتكلمين في هذا الباب.

[والجواب] (٢) أما المذهب الأول فهو باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن أحد الطرفين حال ما كان مساويا للآخر ، كان ممتنع [الوقوع] (٣) فحال ما صار مرجوحا أولى بالامتناع. وإذا صار أحد الطرفين مرجوحا ، صار الآخر واجبا. لأنه لا خروج عن النقيضين.

الثاني : إن عند حصول ذلك القدر من الرجحان ، إن امتنع العدم فهو المطلوب. وإن لم يمتنع ، فليفرض معدوما تارة ، وموجودا أخرى ، مع حصول تمام ذلك القدر من الرجحان ، فحينئذ يكون اختصاص أحد الوقتين بالوقوع ، إن توقف على انضمام قيد آخر إليه ، [قدح (٤)] يقدح ذلك في قولنا : إن كل ما كان حاصلا قبله ، كان تمام المرجح ، وإن [لم (٥)] يتوقف ، فقد ترجح الممكن المتساوي ، لا لمرجح.

[الوجه (٦)] الثالث : إن عند حصول مرجح الوجود ، يمتنع أن يحصل معه مرجح العدم فلو حصل العدم في هذا الوقت ، لكان قد حصل الرجحان لا لمرجح. وهو محال. وإن امتنع حصول العدم ، صار الوجود واجبا. وهو المطلوب.

__________________

(١) من (ت)

(٢) سقط (ط ، س)

(٣) من (س)

(٤) يقدح (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

الوجه الرابع : إن حصول مرجح الوجود ، قد حصل رجحان الوجود. فلو حصل في هذا الوقت : العدم لكان ذلك العدم راجحا ، فيلزم أن يكون حال حصول رجحان [الوجود] (١) يحصل معه رجحان العدم ، وذلك (٢) محال. وإذا كان [ذلك] (٣) محالا ، علمنا : أن عند [حصول] (٤) رجحان الوجود ، يمتنع حصول العدم. وإذا امتنع عدمه ، وجب وجوده ، فكان ذلك الداعي المرجح : موجبا.

الوجود ، لا بد وأن يحصل رجحان الوجود ، وإلا لزم أن يقال : إن مرجح الوجود ، لم يكن مرجحا للوجود (٥) وإذا ثبت هذا ، فلو فرضنا : أن في هذه الحالة حصل العدم ، فذلك العدم ما حصل من جهة الفاعل ولا بترجيحه ، بل بمحض الاتفاق. وهذا [يقدح (٦)] في قولنا : إنه فعله ، بل كان هذا قولا بأنه حصل [لا] (٧) لمؤثر أصلا.

الوجه السادس : إن كل عاقل (٨) يجد من نفسه أنه إن شاء الفعل [فعل] (٩) وإن شاء الترك ترك. وهذا يفيد العلم الضروري بأن القادر إذا شاء الفعل ، ولم يكن هناك مانع البتة ، فإنه لا بد وأن يفعل ، وإذا شاء الترك ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بد وأن يترك. ونحن ما رأينا في الدنيا عاقلا يقول : إني إذا شئت أن أفعل لم أفعل. وإذا شئت أن لا أفعل فعلت. فكان هذا دليلا قاطعا ، على أن العقلاء ببدائه عقولهم يعلمون أن مجموع القدرة مع الداعية الخالصة يوجب الفعل ، وعند اختلال أحد هذين القيدين يمتنع

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) وهو (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط).

(٥) بالوجود (ت)

(٦) القدح (ط)

(٧) من (س)

(٨) فاعل (ت)

(٩) من (س)

الفعل. فيثبت : أن قول من يقول : الفعل عند الداعية الخالصة يصير أولى بالحصول ، ولا ينتهي إلى حد الوجوب : كلام باطل.

وأما المذهب الثاني : وهو قول من يقول : القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح. فجوابه : قد سبق على الاستقصاء في الكلمات المتقدمة.

أما قوله : [لو] (١) لم يكن الأمر كذلك ، لم يبق فرق بين القادر المختار ، وبين الموجب بالذات. فنقول : أما الفرق الذي ذكرتموه ، فحاصله : يرجع إلى أن الممكن المتساوي [الطرفين] (٢) ويترجح أحد طرفيه على الآخر ، لا لمرجح.

وهذا باطل من وجهين :

الأول : أنه باطل في بديهة العقل. وأيضا : فتجويزه يفضي إلى سد باب الاستدلال بوجود الممكن المحدث ، على وجود المؤثر.

الثاني : إن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فحينئذ يكون ذلك الرجحان حاصلا [لا (٣)] بذلك القادر ، بل يكون ذلك محض الاتفاق ، وذلك يقتضي استغناء الفعل عن الفاعل ، ووقوعه من غير سبب. وكل فرع (٤) يفضي ثبوته إلى بطلان الأصل : كان باطلا. فيثبت : أن تمييز القادر عن الموجب بهذا الوجه يقدح في كون الأثر مفتقرا إلى المؤثر ، وأنه باطل. فإن قالوا : فإن فسد هذا الفرق ، فما الفرق عندكم بين البابين (٥)؟ [قلنا (٦)] هذا الفرق حاصل في الشاهد من وجهين :

الأول : [إن] (٧) المؤثرات الطبيعية : دائمة مستمرة ، وغير متغيرة.

__________________

(١) من (س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) نوع (ت)

(٥) بين البابين عندكم (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط)

فالمؤثر في التسخين ، يبقى موصوفا أبدا ، بالوجه الذي لأجله كان موجبا للتسخين ، ولا يتغير عنه ، وكذلك القول فيما يؤثر في التبريد ، بخلاف الأحوال الاختيارية ، فإن الموجب للحركة يمنة ، هو مجموع القدرة مع الداعي إلى تلك الحركة المخصوصة والموجب للحركة يسرة، هو مجموع القدرة مع حصول الداعي إلى الحركة يسرة ، وهذه الدواعي سريعة التبدل والتغير ، فالقادر إذا حصل في قلبه داعية الحركة يمنة ، صارت القدرة مع تلك الداعية ، موجبا للحركة يمنة. ثم إن تلك الداعية تتغير (١) سريعا ، وتحصل الداعية إلى الحركة يسرة. فيصير الآن هذا المجموع موجبا للحركة يسرة. فالحاصل : أن في الأمور الطبيعية ، ما لأجله صار موجبا للتسخين ، يبقى ولا يتغير. وأما في الأمور الاختيارية ، فتلك الاختيارات سريعة التبدل والتغير. فهذا هو أحد الفرقين بين المؤثر المختار ، وبين المؤثر الموجب ، في الشاهد.

وأما الفرق الثاني فهو أن المؤثرات الطبيعية ، لا شعور لها بما يصدر عنها ، وأما المؤثرات التي تؤثر بالاختيار ، فهي إنما تؤثر بواسطة العلم والشعور ، فإنه ما لم يحصل تصور أن ذلك الفعل يفيد نفعا وخيرا ، لم يحصل الرغبة فيه. ولهذا السبب ، سمي هذا الفعل فعلا اختياريا ، وسمي هذا الفاعل فاعلا مختارا.

فهذان الوجهان يوجبان الفرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل المختار.

وأما في حق الله تعالى ، فالتغير [عليه] (٢) في ذاته وفي صفاته : محال. فلم يبق الفرق المعتبر ، إلا الوجه الأخير [والله أعلم] (٣)

الحجة الرابعة : في بيان [أن] (٤) القدرة. بمعنى حصول المكنة من الفعل والترك بالسوية : محال.

__________________

(١) تزول (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

أن نقول : أليس من مذهب المتكلمين : أن التغير يمتنع في صفات الله تعالى ، وأن العدم على القديم : محال. فإذا كانت إرادة الله تعالى ، متعلقة من الأزل إلى الأبد ، بترجيح وجود الحادث المعين على عدمه ، وكانت قدرته من الأزل إلى الأبد متعلقة بإيجاد ذلك الحادث المعين في ذلك الوقت المعين ، وكان علمه متعلقا بوقوع ذلك الحادث المعين ، في الوقت المعين. إذا ثبت هذا ، فنقول : إن مع حصول هذه الصفات الثلاثة واجتماعها على اقتضاء وقوع ذلك الحادث ، إما أن يمكن أن لا يقع ذلك الفعل ، وإما لا يمكن والأول باطل ، لأن ذلك يقدح في كون هذه الصفات مؤثرة في وقوع ذلك الفعل ، ولأنه يلزم وقوع التغير في صفات الله [تعالى] (١) فإنه تعالى إذا أراد شيئا آخر ، غير ما أراده في الأزل ، لزم زوال تلك الإرادة [الأزلية] (٢) وحدثت إرادة أخرى. وأيضا : لزم أن ينقلب ذلك العلم جهلا ، وكل ذلك : محال. فيثبت : أن تغير تلك الصفات ممتنع عقلا (٣) وإن عدم وقوع ذلك الحادث في الوقت المعين ، الذي تطابقت الصفات الثلاثة على اقتضاء وقوعه فيه ، ممتنع عقلا. وهذا يقدح في قولهم : إن شرط القادر : أن يكون متمكنا من الفعل والترك ، بل على هذا التقدير ، يلزم أن يقال : إنه تعالى يؤثر (٤) في الأفعال على سبيل الوجوب ، لا على سبيل الإمكان ، المتردد بين الوجود والعدم.

الحجة الخامسة في هذا الباب : أن نقول : لا شك أنه تعالى عالم بجميع المعلومات. فوجب أن يعلم أن الشيء الفلاني ، يقع في الوقت الفلاني [وأن الشيء الفلاني لا يقع في الوقت الفلاني] (٥) وخلاف المعلوم : محال الوقوع. لأن عدم وقوع الشيء ، مع العلم بوقوعه ضدان ، والجمع بين الضدين : محال عقلا. وإذا كان كذلك ، فما علم الله وقوعه ، كان واجب الوقوع ، وما علم

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) أصلا (ط)

(٤) مؤثر (ط)

(٥) من (ط)

عدمه ، كان ممتنع الوقوع ، وهذا يقتضي أن يقال : إنه تعالى يؤثر (١) في بعض الماهيات على سبيل الوجوب ، ويمتنع كونه مؤثرا في بعض الماهيات على سبيل الوجوب. فأما المكنة من الفعل والترك على سبيل السوية (٢) فهي ممتنعة الحصول.

الحجة السادسة : أن نقول (٣) : القول بكون المؤثر قادرا بالتفسير الذي يذكرونه ، يفضي إلى التناقض ، فكان القول به باطلا. وإنما قلنا : إنه يفضي إلى التناقض. وذلك لأن كون القادر قادرا على المقدور ، موقوف على التمييز وذلك المقدور عن غيره ، لأنه لو لا سبق [هذا] (٤) الامتياز وإلا لامتناع القصد على إيجاد بعض المقدورات دون بعض. فهذا يقتضي أن يكون تعين ماهية المقدور ، وامتيازها عن غيرها : سابقا على تعلق تلك القدرة بها. وأيضا : المقدور وإنما يكون مقدورا ، لو كان وقوعه وحصوله بالقدرة. وهذا يقتضي أن يكون تعينه وتميزه عن غيره ، متأخرا عن تعلق تلك القدرة [به (٥)] وإذا كان كذلك ، فهذا يقتضي أن يكون تعين المقدور وتميزه عن غيره ، سابقا على تعلق تلك القدرة به ، ومتأخرا عن تعلق تلك القدرة : محالا. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : ماهية المقدور. متقدمة على تعلق (٦) القدرة به ، ووجوده متأخر عن تعلق القدرة [به (٧)] كما هو مذهب القائلين بأن المعدوم شيء. وأيضا : فهذا الذي أوردتموه في القادر ، قائم بعينه في الموجب.

والجواب عن الأول : إنه إذا كانت الماهية (٨) [مفتقرة إلى الوجود والعدم] وحال الوجود كانت ممتنعة الفناء والزوال في نفسها ، لم تكن الماهية

__________________

(١) مؤثر (ط)

(٢) التسوية (ت)

(٣) قالوا (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (س)

(٦) تلك (ط)

(٧) من (ط ، س)

(٨) الماهية متقرر حال العدم ، وحال الوجود ، وكانت ممتنعة الفناء .. الخ (ت)

مقدورة البتة ، بل كان المقدور ، إما الوجود وإما جعل (١) الماهية موصوفة بالوجود ، وحينئذ يعود ما ذكرناه ، من أن هذا المعنى ، لكونه متعلق القدرة [يجب تقدمه على تعلق القدرة به. ومن حيث إنه أثر لتلك القدرة ، واقع بها يجب تأخره عن القدرة (٢)] وحينئذ يلزم المحال [المذكور] (٣)

والجواب عن [السؤال] (٤) الثاني : إن الفرق (٥) بين الموجب والقادر : أن القادر هو الذي يصح منه إيجاد هذا ، بدلا عن ذاك ، وبالضد. فلولا امتياز بعض هذه الماهيات عن بعض ، قبل دخولها في الوجود ، وإلا لما صح أن يقال : إنه يقدر على إيجاد هذا بدلا عن ذاك فهذا يقتضي أن يكون تعين تلك الماهيات ، متقدما على تعلق القدرة [بها] (٦) ولما كان المقدور أثرا لتلك القدرة ، لزم كونها متأخرة عن تلك القدرة. أما الموجب. فإنه لا تأثير له ، إلا وقع الأثر به ، ولا يقتضي أن يكون تعيين تلك الماهيات ، سابقا على كونه (٧) مقتضيا لها. فظهر الفرق.

الحجة السابعة : إذا قلنا القادر لا بد وأن يقدر على الفعل والترك ، لزم كون الترك مقدورا. وهذا [محال] (٨) لأن الترك عبارة عن البقاء على العدم الأصلي ، وكونه عدما ، ينافي كونه مقدورا. وكونه باقيا ، ينافي أيضا كونه مقدورا. فالعدم الأصلي الباقي ، يمتنع كونه مقدورا. وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر لا قدرة له البتة على الترك ، وليس له صلاحية الإيجاد والتأثير. وعلى هذا التقدير ، فإنه ينقلب القادر موجبا. فإن (٩) قال قائل : نحن لا نقول : الترك

__________________

(١) حمل (ت)

(٢) من (ط)

(٣) سقط (ت)

(٤) من (ت)

(٥) الفوات (ت)

(٦) الإرادة بها (ط)

(٧) كونها (ت)

(٨) من (ط ، س)

(٩) فإن قيل (ط)

عبارة عن البقاء على العدم الأصلي. بل [هو (١)] عبارة عن فعل ضده. وعلى هذا التقدير، فالترك يصح أن يكون مقدورا.

والجواب : إن هذا باطل. لأنا قلنا : الله [تعالى] (٢) قادر على إيجاد الجسم وعلى تركه (٣) ثم فسرنا الترك بفعل الضد ، فهذا يقتضي أن يكون للجسم ضد. فنقول : إنه تعالى، إما أن يكون قادرا على تركهما معا ، أو لا يمكنه ذلك. فإن أمكنه تركهما معا ، لم يكن ترك جميع الأضداد أمرا وجوديا مضادا لها ، وإلا لزم أن يكون عدم جميع الأضداد الوجودية ضدا ، فيكون نفي الشيء عين ثبوته. وهو محال. وأما القسم الثاني ، وهو أن القادر لا يمكنه ترك الضدين [معا] (٤) فنقول : لما كان الباري تعالى قادرا على فعل الأجسام في الأزل ، لزم أن يقال : إنه يجب أن يكون إما فاعلا للأجسام في الأزل ، وإما فاعلا لضد الأجسام ، وعلى هذا التقدير ، لزم إما قدم الأجسام ، وإما قدم ضد الأجسام. وكل ذلك عندكم باطل محال.

الحجة الثامنة : إن تلك القادرية ، إما أن تكون حادثة ، أزلية. والأول باطل ، لأنها لو كانت حادثة لافتقر حدوثها إلى سبق قادرية أخرى ، ولزم التسلسل. والثاني أيضا باطل. لأنها [لما] (٥) كانت متعلقة من الأزل إلى الأبد بإيجاد [ذلك] (٦) الحادث المعين. فإذا وجد ذلك الحادث ، فإن بقي ذلك التعلق ، فهو محال. لأنه يقتضي القدرة على إيجاد ما هو موجود ، وهو محال. وإن لم يبق ، فحينئذ يلزم زوال القديم ، وهو أيضا محال.

فإن قيل : إنه تعالى بعد إيجاد ذلك الحادث ، بقي قادرا كما كان. وبيانه من وجهين:

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) الترك (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (س)

(٦) سقط (ط)

الأول : إنه يمكنه إيجاد عوالم (١) أخرى ، بعد إيجاد ذلك العالم فيثبت : أن القدرة باقية كما كانت. والثاني : أنه تعالى بقي أيضا قادرا على إيجاد هذا العالم ، من بعض الوجوه. وذلك لأنه قادر على أن يعدم هذا العالم. وإذا أعدمه ، كان قادرا على أن يوجده مرة أخرى على سبيل الإعادة. فيثبت : أنه تعالى بعد إيجاد هذا العالم ، بقي قادرا على ما كان.

والجواب [أن نقول (٢)] : إن محل الإلزام شيء ، مغاير لما ظننتموه (٣) وهو أنه تعالى كان من الأزل إلى الأبد : قادرا على إيجاد هذا العالم [ثم] (٤) بعد أن أوجد هذا العالم لم يبق قادرا على إيجاد هذا العالم بعينه ، وإلّا لزم أن يكون قادرا على إيجاد [الموجود وهو محال. وإذا لم يبقى قادرا على إيجاد] (٥) هذا العالم ، مع أنه كان من الأزل إلى وقت إيجاد هذا العالم ، كان قادرا على إيجاد هذا العالم. فحينئذ يلزم عدم القديم ، وزوال الأزلي (٦) فأما أنه تعالى بقي قادرا على إيجاد عوالم أخرى (٧) غير هذا العالم ، فلا تعلق له. بمحل الإلزام.

أما قوله : [ثانيا] (٨) بأنه تعالى بقي قادرا على إيجاد هذا العالم ، بشرط أن يعدمه أولا ، ثم يعيده ثانيا. فنقول : هذا أيضا بعيد من وجهين :

الأول : إن ما فني وعدم ولم يبق له ذات ولا خصوصية ، فإن عوده بعينه مما لا يقبله العقل.

الثاني : هب أنه يصح ذلك ، إلا أنه تعالى كان في الأزل قادرا على إيجاد هذا العالم من دون هذه الواسطة ، ثم إنه بعد أن أوجد هذا العالم ، ما بقيت

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت)

(٣) طلبتموه (ت)

(٤) من (ط)

(٥) سقط (ط)

(٦) الأزل (ت)

(٧) عالم آخر (ت)

(٨) سقط (ط)

تلك القادرية على الوجه المذكور ، وإنما حدثت القادرية على الإعادة ثانيا ، بتوسط الإعدام أولا ، ثم بعد ذلك تحصل (١) القدرة على الإعادة ثانيا. فالقدرة الثابتة في الأزل ، مغايرة لهذه القادرية الحادثة بهذه الواسطة.

وحاصل الكلام فيه : يرجع إلى الاعتراف بزوال القادرية ، ثم ادعاء نوع آخر من القادرية مغايرة للقادرية التي كانت موجودة قبل ذلك ، وهذا لا يدفع الإلزام المذكور.

الحجة التاسعة : لا شك أنه ما لم يوجد المؤثر التام ، المستجمع لجميع جهات المؤثرية ، فإنه لا يقع الفعل. فذلك المؤثر [التام] (٢) : إما أن يكون [هو] (٣) ذات واجب الوجود فقط ، أو ذاته مع أمور أخرى قديمة ، أو ذاته مع أمور أخرى حادثة. فإن كان الحق هو الأول أو الثاني ، لزم من قدم ذلك المؤثر ، قدم [ذلك] (٤) الأثر ، وذلك يقدح في كونه متمكنا من الفعل والترك معا ، والثالث باطل. لأن حدوث الحادث ، موقوف على (٥) حصول المؤثر التام في المؤثرية ، فلو كان حصول المؤثر التام في المؤثرية ، موقوفا على حدوث الحادث ، لزم الدور. وهو محال.

واعلم أن هذا التقسيم منحصر مضبوط ، سواء قيل : إنه يعتبر في تلك المؤثرية حضور وقت ، أو حصول مصلحة ، أو زوال مانع. فإن الكل داخل فيما ذكرناه. والأجوبة التسعة المذكورة في الحجة الأولى يرجع حاصلها إلى توقيف مؤثرية الله تعالى في وجود العالم ، على حصول (٦) شرط حادث. وقد دللنا

__________________

(١) تتحصل (ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) (ط ، س)

(٥) على الحصول التام (ت)

(٦) حصول (ط)

على أن ذلك يوجب الدور ، فكانت تلك الأجوبة ساقطة بالكلية [والله أعلم] (١)

الحجة العاشرة : إن القدرة يمتنع [أن يكون (٢)] لها أثر في حصول المقدور. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع القول بثبوت القدرة.

أما بيان المقام الأول فمن وجهين :

الأول : [إن] (٣) القادر. لما كان متمكنا من الفعل والترك ، امتنع أن يكون مجرد القادرية مؤثر في وقوع الفعل ، لأن كونها قدرة ، يقتضي أن تكون نسبتها إلى الطرفين على السوية. وكونها مؤثرة في وقوع الفعل بعينه ، يقتضي أن يكون نسبتها [إلى طرف] (٤) الوجود راجحة على نسبتها إلى طرف العدم. والجمع بين هذين القولين : جمع بين النقيضين، وهو محال. فيثبت أن مجرد القادرية لا تأثير له في وقوع المقدور البتة.

الثاني : إنا إذا قلنا : لم وجد هذا الشيء ، بعد أن كان معدوما؟ فإن العقل لا يجوز أن نقول : إنما وجد هذا ، لأن القادر كان قادرا عليه. فإنه يقال : (٥) وهو قادر على سائر المقدورات ، مع أنها لم توجد. فعلمنا : أن هذا الذي وجد. فهو إنما وجد ، لا لكون القادر قادرا عليه ، بل لأجل أن القادر أوجده وصنعه وخلقه ، وأخرجه من العدم إلى الوجود. وصدق هذا النص والإثبات يدل على أن المؤثر في وجود الأثر ، إنما هو كون المؤثر مؤثرا فيه ، وموجدا (٦) [له] وأن هذا المفهوم مغاير للمفهوم من كونه قادرا على الفعل. فيثبت بما ذكرنا : أن القدرة يمتنع أن يكون لها أثر في وجود المقدورة. وإذا ثبت هذا ، امتنع أن يكون للقدرة أثر في الشيء. وذلك لأنه ثبت بما ذكرنا : أن

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط)

(٣) سقط (ت)

(٤) تعالى (ت)

(٥) وجد جدا له ، أو أن (ت).

الفاعلية والموجدية [أمر] (١) مغاير للقدرة ، وثبت : أن المؤثر في وجود الأثر هو الفاعلية والموجدية. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون للقادرية أثر فيه ، وإلا لزم أن يجتمع على الأثر الواحد سببان (٢) مستقلان ، وهو محال. وأيضا : فقد بينا أن القادرية ليس لها صلاحية التأثير البتة. فيثبت بما ذكرنا : أن القادرية لا أثر لها البتة في وجود الأثر (٣) وحينئذ لا تكون [القدرة] (٤) صالحة للتأثير البتة. وأما الصفة المسماة بالفعل والتكوين ، فإنها إن كانت صالحة لطرفي (٥) الفعل والترك ، كانت المباحث المذكورة في القدرة عائدة فيه ، وإن كانت متعينة لطرف الوجود وغير صالحة البتة لطرف العدم ، كان ذلك موجبا بالذات ، لا قادرا متمكنا من الفعل والترك.

الحجة الحادية عشرة : إن المقتضي لحصول الفعل ، إما القدرة ، أو أثر يصدر عن القدرة (٦) أو لا [القدرة ، ولا الأثر الصادر] عنها. والأول : باطل. وإلا لزم حصول المقدور في جميع زمان القدرة ، فيلزم كون المقدور أزليا ، لأجل كون القدرة أزلية. والثاني أيضا : لأن التقسيم المذكور عائد في تأثير القدرة في ذلك الأثر ، فإن كان كذلك بواسطة أثر آخر ، لزم التسلسل ، وهو محال. وأما الثالث. فإنه يقتضي أن تكون القدرة ، وجميع آثارها : غير مؤثرة في حدوث هذا (٧) الأثر ، وذلك يقدح في كون القدرة : قدرة. فإن قالوا : هذا المقدور إنما وجد ، لأن القادر خلقه وأوجده ، لا لمجرد كونه قادرا. قلنا : هذا باطل. لأن المفهوم من قولنا : خلقه : إما أن يكون هو نفس القدرة ، أو أثر صادر عنها ، أو شيء مغاير لهما. فيثبت : أن هذا السؤال غير وارد ، والله أعلم.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) شيئان متنقلان (ت)

(٣) البتة في دخول الأمر في الوجود ، وحينئذ (ت)

(٤) من (ط)

(٥) لطرفي (ت)

(٦) عن القدرة ولا أثر عنها (ت)

(٧) ذلك (ط)

فهذا أحد عشر وجها ، في تقرير أن القول بالقادر على التفسير الذي ذكروه (١) : محال. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن تأثيره تعالى في تكوين العالم ، وفي تكوين سائر آثاره إنما كان لعين (٢) ذاته ، أو للأمور اللازمة لذاته. وقد اتفق الكل على أنه متى كان الأمر كذلك ، فإنه يلزم من قدمه الآثار والأفعال والنتائج. ولهذا السبب ، فإن المتكلمين بعد أن أقاموا الدلالة على حدوث العالم ، قالوا : لو كان المؤثر في [حدوث] (٣) العالم موجبا بالذات. لزم من قدمه ، قدم العالم. وذلك يدل على أنهم كانوا معترفين بأن [كل ما] (٤) كان تأثيره لذاته ، لزم من دوامه ، دوام الأثر. وأيضا : فإذا كان [المؤثر] (٥) الموجب بالذات حاصلا. مع أنه كان منفكا عن الأثر ، مدة [غير] (٦) متناهية. ثم حصل الأثر بعد ذلك ، من غير أن اختص ذلك الوقت ، بإرادة معينة ، أو بنوع آخر من الأمور المقتضية للرجحان. فحينئذ يكون ذلك الحدوث في ذلك الوقت : حدوثا ، لا لمؤثر أصلا ، بل محض الاتفاق ، وذلك : باطل : فيثبت : أنه يلزم من دوام الموجب بالذات ، دوام الأثر والنتيجة. والله أعلم.

ونختتم هذه المقالة [بخاتمة] (٧) وهي أن الفلاسفة قالوا : سلمنا : أن القادر هو الذي (٨) إن شاء أن يفعل فعل ، وإن شاء أن يترك ترك. إلا أن هذا لا يقتضي صدق قولنا : إنه تعالى إن شاء (٩) الفعل تارة ، والترك أخرى. ويدل عليه وجهان :

__________________

(١) ذكره (ط)

(٢) لغير (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (س)

(٧) من (س)

(٨) إن شاء يفعل (ت)

(٩) إن شاء (ت)

[الوجه (١)] الأول : إن قولنا : إن شاء الفعل ، فعل : قضية شرطية [وليس] (٢) من شرط كون القضية الشرطية صادقة : صدق جزأيها (٣) ، فإن الشرطية الصادقة قد تكون مركبة من جزءين صادقين. كقولنا : إن كان الإنسان حيوانا ، كان جسما. وقد تكون الصادقة مركبة من كاذبتين كقولنا : إن كانت الخمسة زوجا ، كانت منقسمة بمتساويين. وقد تكون مركبة من مقدم كاذب ، وتالى صادق. كقولنا : إن كان الإنسان حمارا (٤) كان حيوانا. وأما القسم الرابع : وهو أن يكون المقدم صادقا والتالي كاذبا. فهذا محال. لأن الحق لا يستلزم الباطل. إذا ثبت هذا فنقول : صدق قولنا : إنه إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك ، لا يتوقف على صدق قولنا : إنه إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك (٥) لما بينا أن صدق الشرطية قد يحصل مع كون المقدم والتالي كاذبين معا ، ومع كون المقدم وحده كاذبا. فيثبت : أن بتقدير أن يصح أن القادر ما ذكروه ، فإنه لا يلزم من كون الشيء قادرا ، صدق أنه شاء الفعل تارة ، وشاء الترك أخرى.

والوجه الثاني : وهو أن حال كونه تاركا للفعل ، يستحيل أن يصدق عليه كونه فاعلا له ، وحال كونه فاعلا [له] (٦) يستحيل أن يصدق عليه : كونه تاركا له. وفي الحالتين يصدق عليه : أنه قادر على الفعل. فيثبت : أن صدق كونه قادرا على الفعل ، لا يتوقف على صدق أنه شاء الفعل ، ففعله. أو شاء الترك ، فتركه. إذا ثبت هذا ، فنقول : إنه حق أنه سبحانه ، إن شاء الفعل فعل ، وإن شاء الترك ترك. لكن لا يلزم منه أن يقال : إنه (٧) شاء

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) جزئه (ت)

(٤) جمادا (ط)

(٥) ترك (ت ، ط)

(٦) من (ت)

(٧) إنه ان شاء (ت)

الترك فتركه. بل نقول : إنه يصدق عليه : أنه إن شاء الترك ، [لتركه] (١) مع أنه لا يصدق عليه البتة : أنه شاء الترك. وإلا لكانت تلك المشيئة : محدثة. ولا افتقرت تلك المشيئة إلى مشيئة أخرى حادثة ، ولكان الكلام في تلك المشيئة كما في الأولى (٢) فيلزم أن يكون كل مشيئة حادثة مسبوقة بمشيئة أخرى حادثة ، لا إلى أول. ويلزم كون ذاته محلا للحوادث. وكل ذلك محال [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الأول (ط)

(٣) من (ت)

المقالة الرابعة

في

الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة

في

الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة

قالت الفلاسفة : الذي نعقل من الإرادة هو أنا اعتقدنا في شيء أنه نافع ولذيذ ، صار هذا (١) الاعتقاد موجبا حصول الميل إلى تحصيل ذلك الشيء ، ثم إن ذلك الميل مع ذلك الاعتقاد ، منضمان إلى القدرة الموجودة في العضلات ، وهي المسماة بالقوة المحركة ، فيصير مجموع هذه الأشياء موجبا لحصول الفعل. إذا ثبت هذا فنقول : هذه الأحوال في حق واجب الوجود لذاته : محال. أما تصور كون الفعل المعين نافعا له ، أو ضارا له ، فهذا إنما يتصور في حق من يعقل في حقه الانتفاع بشيء [أو التضرر بشيء (٢)] آخر وذلك في حق واجب الوجود : محال. وأما حصول ذلك الميل فهو أيضا : محال لأن الميل إلى جلب (٣) المنافع ، إنما يعقل في حق من يصح عليه النفع. وإذا ثبت هذا ، فقد ظهر أن حصول الإرادة في حق الله تعالى : محال. وأما الذي يقوله المتكلمون من أن الإرادة تقتضي رجحان أحد الميلين (٤) على الآخر لا لمرجح [أصلا ، فهذا أيضا غير معقول البتة ، لأن الرجحان بدون المرجح (٥)] محال غير

__________________

(١) لهذا (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) طلب النافع (ط ، س)

(٤) الميلين (ط)

(٥) سقط (ط)

معقول. فيثبت بهذا : أنه لم يبق عند العقل من لفظ الإرادة ، معنى يمكن إثباته في حق الله تعالى. فكان القول به باطلا. [ثم] (١) قالوا : لو كان العالم حادثا ، لوجب أن يقال : إنما حدث بقصد الفاعل وبإرادته (٢) ، والتالي محال. فالمقدم مثله. بيان الشرطية : هو أن العالم لما كان مستمر العدم من الأزل إلى ذلك الوقت [المعين] (٣) وذات الفاعل كانت موجودة من الأزل إلى ذلك الوقت المعين ، مع أنه في الأزل ما كان لتلك الذات أثر في خروج العالم من العدم إلى الوجود ، فلو حصل العالم في ذلك الوقت من غير أن يكون لذلك الفاعل قصد واختيار ، في إيقاعه. لكان وقوع العالم في ذلك الوقت دون ما قبله وما بعده : رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح. وإنه محال.

وبيان أنه يمتنع أن يكون حدوث العالم في ذلك الوقت المعين ، بسبب القصد والاختيار : وجوه :

الحجة الأولى : إن ذلك القصد لو حصل ، لكان إما أن يكون قديما أو حادثا. والقسمان باطلان ، فالقول بوجود القصد : باطل. إنما قلنا أنه يمتنع كونه قديما ، لأن الإرادة القديمة ، لا معنى لها إلا أنه تعالى يريد في الأزل إحداث العالم في وقت معين لا يزال. وهذه الإرادة ليست [هي (٤)] نفس القصد إلى إيقاع الفعل في ذلك الوقت المعين ، عند حضور ذلك الوقت المعين والدليل عليه وجوه :

الأول : إن من عزم على أن يفعل بكرة الغد : فعلا معينا ، ثم جلس في بيت مظلم (٥) لا يميز فيه بين النهار وبين الليل ، واستمر على ذلك الجلوس إلى أن دخل بكرة الغد ، مع أنه لا يعلم أن ذلك الوقت المعين قد حضر ، فإنه

__________________

(١) من (ط)

(٢) وإرادته (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) معين (ط)

بمجرد تلك الإرادة الأولى لا يصير قاصدا لإيقاع ذلك الفعل ، في ذلك الوقت. ولو كان العزم على أن يفعل الفعل الفلاني في الوقت المستقبل ، هو نفس القصد إلى إيقاع ذلك الفعل عند حضور ذلك الوقت ، لوجب (١) في هذه الصورة التي ذكرناها : أن يصير قاصدا إلى إيقاع ذلك الفعل ، عند حضور ذلك الوقت ، سواء علم أن ذلك الوقت حضر ، أو لم يعلم ذلك. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن العزم على الفعل [الفلاني (٢)] في الوقت المعين ، من الأوقات المستقبلية : ليس هو [نفس (٣)] القصد إلى إيقاع ذلك الفعل في ذلك الوقت. بل الحق أنه إذا عزم [على (٤)] أن يفعل الفعل الفلاني ، في وقت معين من الأوقات المستقبلة ، ثم استمر ذلك العزم [الأول (٥)] إلى أن حضر ذلك الوقت ، وعلم ذلك العازم ، حضور ذلك الوقت. فإن بقاء العزم [الأول (٦) مع العلم بحضور ذلك الوقت: يوجبان حدوث قصد متعلق ، بإيقاع ذلك الفعل.

فيثبت : أن العزم المتقدم ، لا يكفي في إيقاع الفعل في الوقت الذي سيحضر ، بل لا بد من حدوث قصد متعلق بإيقاع ذلك الفعل. الثاني : إن العزم على الإيجاد في الزمان المستقبل : له ماهية. والقصد إلى إيجاد الفعل في الحال (٧) : له ماهية أخرى. إحدى الماهيتين لا تساوي الأخرى (٨) بدليل أن كل واحدة من هاتين الماهيتين ، لا تقوم مقام الأخرى. فإن العزم على الإيجاد في المستقبل ، يوجب تركه في الحال. وفعله في المستقبل ، والقصد إلى الفعل في الحال ، يوجب الفعل في الحال ، والترك في المستقبل. فهذان النوعان من الإرادة ولوازمها متنافية. واختلاف اللوازم ، يدل على اختلاف [ماهيات] (٩) الملزومات. وإذا ثبت هذا ، كان القول بأن العزم على الإيجاد في المستقبل ، يصير غير (١٠) القصد إلى الإيجاد في الحال : معناه : أن

__________________

(١) يوجب (ت)

(٦) من (ت)

(٢) من (ط)

(٧) الحادثة (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٨) لا يساوي الآخر (ت)

(٤) من (ت)

(٩) من (ت)

(٥) من (ط)

(١٠) عين (ط)

حقيقة مخصوصة ، تصير [هي] (١) بعينها عين حقيقة أخرى ، تخالفها في الماهية والنوعية. وذلك محال. فهذا لبيان أن القول بقدوم تلك الإرادة : قول باطل. وإنما قلنا : إنه يمتنع كونها حادثة ، وذلك لأنها لما كانت حادثة ، كان حدوثها مختصا بوقت [معين] (٢) مع جواز حصول الحدوث قبله أو بعده. فوجب أن لا يحصل ذلك الاختصاص إلا لإرادة أخرى. والكلام فيها كما في الأول ؛ فيلزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت : أنه لو حصلت تلك الإرادة [لكانت] (٣) إما قديمة أو حادثة ، وثبت فساد القسمين ، فلزم الحكم بامتناع حصول الإرادة. لا يقال هذا معارض بالحوادث اليومية. لأنا نقول : المعارضة بالحوادث اليومية واردة على كل هذه الوجوه.

والجواب الممكن : ما ذكرناه في الطريقة الأولى [والله أعلم] (٤)

الحجة الثانية : أن نقول : تعلق الإرادة القديمة بإيقاع العالم في ذلك الوقت المخصوص المعين ، إما أن يكون من لوازم ماهية (٥) تلك الإرادة وإما أن لا يكون. والثاني باطل ، وإلا لافتقرت تلك الإرادة في حصول ذلك التعلق المخصوص ، إلى سبب آخر ، ولزم التسلسل. ولما بطل هذا القسم ، بقي الحق هو الأول فنقول : إذا دخل العالم في الوجود في ذلك الوقت المعين ، فبعد انقضاء ذلك الوقت [المعين] (٦) وبعد دخول العالم في الوجود يمتنع (٧) أن تبقى الإرادة متعلقة بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنه بعد دخوله في الوجود ، يمتنع إدخاله في الوجود. لأن تكوين الكائن وإيجاد [الموجد] (٨) محال

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) في (ت) : لكان

(٤) من (ت)

(٥) ماهيته (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) الوجود ، امتنع أن تبقى متقدمة بإحداث (ت)

(٨) وإيجاده (ت)

والثاني : إن ذلك الوقت لما انقضى ومضى ، فبعد انقضائه لو بقيت الإرادة متعلقة بإحداث العالم ، في ذلك الوقت : كان ذلك قصدا ، إلى إيقاع الفعل في الزمان الماضي ، وإنه محال. فيثبت : أن العالم بعد دخوله في الوجود ، يمتنع بقاء الإرادة [الأزلية] (١) متعلقة بإدخال عين ذلك العالم في عين ذلك الوقت ، في الوجود ، فوجب القول بزوال ذلك التعلق وبطلانه. لكنا بينا : أن ذلك [التعلق] (٢) المخصوص من لوازم ماهية تلك الإرادة. وزوال اللازم يدل على زوال الملزوم. فيثبت : أن تلك الإرادة واجبة العدم ، بعد دخول (٣) ذلك المراد في الوجود ، وكل ما صح عدمه ، امتنع قدمه. فهذا دليل قوي على أن القول بأن إرادة الله تعالى قديمة قول باطل.

وأما أنه يمتنع كونها حادثة ، فلأنها لو كانت حادثة ، لكانت إما أن تحدث في ذات الله تعالى ، أو في ذات أخرى ، أو لا في محل. والكل باطل بالوجوه المشهورة ، فكان القول به : باطلا.

الحجة الثالثة : إن كل من قصد إلى إحداث شيء ، فإما أن يكون ذلك الإحداث به أولى في ظنه واعتقاده من تركه ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول لزم كونه ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره ، وذلك في حق واجب الوجود [لذاته] (٤) محال ، وإن كان الثاني ، فحينئذ لا يترجح قصد الإحداث على قصد الترك ، وذلك لأن قصد الإحداث ترجيح ، وحصول الرجحان حال حصول عدم الرجحان : محال. فإن قالوا : كونه ناقصا لذاته ، مستكملا بغيره : إنما يلزم لو رجح الإحداث على تركه ، لنفع يعود إليه. أما إذا رجحه لنفع يعود إلى الغير ، لم يلزم المحال المذكور.

قلنا : إيصال الخير والنفع إلى الغير ، وعدم إيصاله إليه إن استويا بالنسبة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) حصول (ط)

(٤) من (ت)

إليه ، عاد المحال المذكور. وإن كان أحدهما أولى به ، فقد عاد ما ذكرنا من كونه ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره. وهو محال.

الحجة الرابعة : لو قصد إلى إحداث العالم ، لكان إما أن يكون ذلك القصد مختصا بوقت معين ، أو غير مختص بوقت معين. أما الأول : فكما إذا قصد إلى إحداث العالم في الوقت الفلاني وأما الثاني : فكما إذا قصد إلى إحداث العالم ، ولم يقصد إلى تخصيص إحداثه بوقت معين.

وأما القسم الأول : فهو (١) باطل. لأن ذلك الوقت المعين إما أن يقال : إنه كان حاضرا في الأزل ، أو ما كان حاضرا في الأزل ، فإن كان ذلك الوقت حاضرا في الأزل مع أن إله العالم قصد إحداث العالم في هذا الوقت ، فحينئذ يلزم حدوث العالم في الأزل. وعلى هذا التقدير ، [يلزم] (٢) كون العالم [سرمديا] (٣) وأما إن كان ذلك الوقت غير حاضر في الأزل ، كان ذلك الوقت حادثا ، ولا بد له من محدث. وهو الله سبحانه (٤) وحينئذ يعود التقسيم (٥) الأول وهو أنه إما أن يقال : إنه تعالى قصد إحداث ذلك الوقت في وقت خاص ، أو قصد إحداثه مطلقا. فإن كان الأول ، افتقر ذلك الوقت إلى وقت آخر ، والكلام فيه كما في الأول ، ويلزم التسلسل. فإما أن تحصل تلك الأوقات الغير المتناهية معا ، وهو محال بالبديهية. أو على التعاقب ، وهو يوجب القول بحدوث حوادث لا أول لها. وهو المطلوب. وهذا كله إذا قلنا : إنه تعالى قصد إحداث العالم في وقت معين.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه تعالى قصد إحداث العالم من غير أن يخصص إحداثه بوقت معين ، بل قصد على وجه يكون موجودا دائما [أبدا] (٦) فهذا

__________________

(١) فباطل (ط)

(٢) من (ت)

(٣) سقط (ط)

(٤) تعالى (ط)

(٥) القسم (ط)

(٦) من (ت)

يوجب القول بالقدم ، وذلك يناقض ثبوت (١) الحدوث.

الحجة الخامسة : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه بسبب أن الخالق [تعالى] (٢) خصص إحداثه بذلك الوقت [المعين] (٣) على ما تقدم تقرير هذه الشرطية ، إلا أن ذلك محال. لأن ذلك الوقت إما أن يكون مساويا لسائر الأوقات في تمام الماهية ، أو لا يكون. فإن كان [الأول] (٤) وجب كونها أيضا متساوية في جميع اللوازم ، لأن الأشياء المتساوية في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع لوازم الماهية. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت نسبة تلك الإرادة إلى جميع أجزاء ذلك الوقت على السوية. وإذا وجب حصول هذا الاستواء ، كان ذلك منافيا للقول بأن الإرادة يجب تعلقها بإحداث العالم في بعض تلك الأوقات دون البعض.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الأجزاء المفترضة في ذلك الوقت : مختلفة بالماهية ، متباينة بالحقيقة. فنقول : حصول تلك الأشياء ، إما [أن تكون] (٥) بأنفسها (٦) وذواتها وإما أن تكون بإحداث [ذات] (٧) الله تعالى. والأول باطل ، لأنه يقتضي حدوث الشيء لنفسه ولذاته ، من غير محدث ، وهو محال. وأيضا : إذا فرضناها [حادثة] (٨) بأنفسها وذواتها من غير محدث البتة ، ثم كانت ماهية كل واحد منها ، مخالفة لماهية الأخرى ، لم (٩) يمتنع جعل واحد منها ، موجبا لأثر خاص. وعلى هذا التقدير فإنه [لا يمتنع أن يكون المؤثر في حدوث حوادث هذا العالم ، تلك الآنات المتلاصقة ، وتلك الأجزاء المتعاقبة ، وعلى هذا التقدير فإنه] (١٠) يلزم نفي الصانع ، وذلك باطل.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن حدوث تلك الآنات المتلاصقة ،

__________________

(١) قيود (ت)

(٦) بأنفسها أو ذواتها (ت)

(٢) من (ت)

(٧) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٨) من (س)

(٤) من (ط)

(٩) ثم (ت)

(٥) من (ط ، س)

(١٠) سقط (ت)

إنما كان بإحداث الله [تعالى] (١) وبإيجاده ، فحينئذ يعود السؤال إلى أنه : لم خصص إحداث كل واحد منها بكونه متقدما على الآخر ، أو متأخرا عنه؟ فإن كان كذلك ، لأجل وقت آخر ، عاد الطلب فيه ، لزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت : أن القول بأن الإرادة اقتضت تخصيص إحداث العالم بالوقت المعين ، يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون القول به باطلا. وبهذا الدليل يظهر أن الذي يقال : إنه تعالى [وتقدس] (٢) خصص إحداث العالم بذلك الوقت لكون ذلك الوقت مشتملا على مصلحة خفية : قول باطل. لأنا بينا : أن الأوقات كلها متساوية في تمام الماهية [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) ومتأخرا (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

المقالة الخامسة

في

الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح

والحكمة والعبث

في

الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح

والحكمة والعبث

وهي من وجوه (١) :

الحجة الأولى : إن الإيجاد [للعالم] (٢) إحسان ، والإحسان أفضل من ترك [الإحسان] (٣) فلو كان الباري سبحانه (٤) غير موجد للعالم ، مدة غير متناهية [لكان تاركا للأفضل مدة غير متناهية ، ومرجحا للأمر الآخر مدة غير متناهية] (٥) وذلك محال. فوجب كونه (٦) فاعلا من الأزل إلى الأبد.

الحجة الثانية : إن من كان له التصرف النافذ ، والملك العظيم ، والرفع والخفض ، والإبرام والنقض ، أفضل ممن لا يكون له شيء من ذلك. فلو قلنا : إنه تعالى ما كان له في الأزل : ملك ولا ملكوت ولا تصرف ، ثم صار في لا يزال كذلك ، لزم أن يقال : إنه انتقل من النقص إلى الكمال ، وذلك : محال. فإن قالوا : [يلزم] (٧) على الحجة الأولى : ترك الإحسان. وإنما لا

__________________

(١) الحسن والقبح والعبث. وهي وجوه (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (س)

(٤) تعالى (ط)

(٥) سقط (ط)

(٦) كونها (ت)

(٧) من (ت)

يجوز ، لو كان الإحسان ممكنا في نفسه. أما إذا كان ممتنعا في نفسه محالا في ذاته ، لم يلزم منه النقص والإيجاد في الأزل : محال. لأنه عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود ، وذلك لا يتقرر إلا فيما يكون مسبوقا بالعدم. والأزل ينافي المسبوقية ، فكان الجمع بينهما محالا. وهذا الكلام بعينه ، هو الجواب عن الحجة الثانية.

وأيضا : فالنقص إنما يلزم [أن] (١) لو لم يكن قادرا على تحصيل الملك والملكوت ، وهو تعالى في الأزل [كان] (٢) قادرا على تحصيله ، فلم يلزم من عدم الملك والملكوت نقصان. وأيضا : فكل واحدة من هاتين الحجتين منقوض بحدوث الأشخاص المعينة ، وحدوث الحوادث اليومية.

وأجابوا عن السؤال الأول : بأن هذا [الكلام] (٣) إنما يتم إذا قلنا مسمّى الأزل مانع من الإيجاد والتكوين. وقد بينا بالدلائل القاطعة : أن ذلك باطل. على أنا نقول : إن هذا المانع كان زائلا قبل أن خلق الله العالم بتقدير مائة سنة ، فكان الإلزام عائدا إليه (٤)

وأما السؤال الثاني : فباطل أيضا. لأن الأزل عندهم مانع من صحة الفعل ، وعلى هذا التقدير لم يكن الله متمكنا من تحصيل الملك والملكوت [في الأزل] (٥) ولا معنى للفقير الضعيف إلا ذلك. وهذا أيضا يوجب العيب والضعف من وجه آخر ، وهو أن الامتناع من الإحسان في حق من كان قادرا على الإحسان ، ولا يضره ذلك الإحسان بوجه من الوجوه ، أقوى في العيب والنقصان منه في حق من لم يقدر عليه. فإذا قلتم (٦) : إله العالم كان قادرا على

__________________

(١) من (ط)

(٢) (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) فيه (ت)

(٥) من (ت)

(٦) فإذا قلتم : إن كان قدرا (ت)

الإحسان ، وما كان ذلك الإحسان سببا للضرر (١) في حقه البتة ، فحينئذ يكون الامتناع منه مذموما في [غاية] (٢) النهاية. ويمكن تقرير هذا الكلام بوجه آخر ، فيقال : إنه تعالى إما أن يقال : إنه [ما] (٣) كان قادرا على الإيجاد في الأزل ، أو يقال : إنه كان قادرا عليه ، إلا أنه لو فعله ، لصار ذلك سببا لعود نوع من أنواع الضرر إليه ، أو يقال : كان قادرا على الإيجاد في الأزل ، وكان منزها عن عود الضرر إليه.

أما القسم الأول : فإنه يقتضي انتقال الخالق من العجز إلى القدرة.

وأما القسم الثاني : فإنه يقتضي [انتقال الخالق من الضرر إلى الراحة.

وأما القسم الثالث : فإنه يقتضي] (٤) البخل والنقص. لأنه لما كان قادرا على هذا الإحسان ، وما كان له فيه ضرر البتة ، فيكون الامتناع عنه محض البخل [والنقص] (٥) وكل ذلك على الإله الحكيم محال. وأما السؤال الثالث : فجوابه : أن عند القوم : حدوث كل حادث متأخر ، مشروط بدخول الحادث المتقدم في الوجود ، بناء على القاعدة التي ذكرناها في سبب حدوث الحوادث اليومية. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من عدم إيجاد هذا الشخص المعين قبل أن وجد : عيب ولا نقص.

الحجة الثالثة : علة وجود العالم : وجود (٦) البارئ تعالى ، ووجوده أزلي. فعلة وجود العالم أزلية فيلزم كون العالم أزليا. فإن قالوا : الجود (٧) هو الإفادة والتحصيل. فقولكم : جود البارئ تعالى : أزلي. معناه : أن كونه موجدا للعالم أزلي ، وذلك عين المطلوب ، قلنا : تحقيق هذا الكلام : إن جملة ما يصدر عن البارئ تعالى لا بد [له] (٨) من مؤثر فمجموع الأمور المعتبرة في المصدرية : قائم وإلا لزم افتقاره إلى مؤثر آخر ولزم التسلسل ، وإذا كان

__________________

(١) شيئا للضرورة (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٦) وجود (ت)

(٣) من (ت)

(٧) الوجود (ت)

(٤) من (ت)

(٨) من (س)

مجموع تلك الأمور أزليا ، يلزم أن تكون الآثار الصادرة عن البارئ أزلية ، وعلى هذا التقدير، فهذا الكلام هو عين الحجة الأولى.

ويمكن تقريره من وجه آخر : فيقال : إنه تعالى أراد إيجاد العالم ، لداعية (١) الانتفاع ، أو لداعية الإضرار ، أو لا لواحدة من هاتين الداعيتين؟ والثاني محال ، لأن الإيجاد (٢) لداعية الإضرار ، لا يليق بالمحسن الرحيم. والثالث : وهو [أن] (٣) الإيجاد لا لداعية الانتفاع (٤) ولا لداعية الإضرار عبث ، ولما بطل هذان القسمان ، ثبت أنه تعالى خلق الخلق لداعية الانتفاع. ثم نقول : هذه الداعية ، إما أن تكون حادثة ، أو قديمة. فإن كانت حادثة عاد التقسيم المذكور في حدوثها ، وإن كانت قديمة. فإما أن يقال : حصل في الأزل مانع يمنع من صدور هذا الأثر ، أو لم يحصل. والأول باطل ، لأنه لو حصل لما زال [المانع] (٥) لما (٦) ثبت أن الأزلي لا يزول. فيثبت : أن الداعي إلى الإحسان ، كان حاصلا في الأزل ، وأن المانع منه ، كان مفقودا. فهذا هو المراد من قول القدماء : إن علة وجود العالم هي وجود البارئ ، ووجوده [أزلي] (٧) ، فيكون وجود العالم : أزليا.

الحجة الرابعة : أن نقول : لو قلنا : إنه تعالى أحدث العالم في وقت معين ، لكان تخصيص الإحداث بذلك الوقت ، إما أن يكون لحكمة ومصلحة ، أو لا لحكمة ومصلحة، والأول باطل. لأن تلك المصلحة ، إما أن تكون عائدة إلى الخالق ، أو إلى المخلوق والأول : محال. لوجوه :

الأول : أنه يلزم أن يقال : إنه تعالى في محل النفع والضرر.

__________________

(١) الداعية الانفاع (ت)

(٢) لأن إيجاده لداعية (ت)

(٣) من (س)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (س)

والثاني : أن بتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فتلك الحاجة ، إما أن تكون قديمة أو حادثة ، فإن كانت قديمة ، لزم من قدمها ، قدم الفعل. وإن كانت حادثة ، عاد الطلب في أنه : لم حدثت تلك الحاجة في ذلك الوقت ، دون ما قبله ، وما بعده؟.

والثالث : أن على هذا التقدير يكون إله العالم ناقصا محتاجا إلى الاستكمال بالغير.

الرابع : أن إله العالم قديم أزلي واجب لذاته. فكان أكمل حالا من المحدثات ، وكون الأكمل مستكملا بالأخس الأدون : محال. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه تعالى إنما أحدث العالم لنفع عائد إلى الغير ، فهذا أيضا باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن الإيجاد لو كان إحسانا إلى المخلوق ، لكان إما أن يكون إحسانا إليه حال عدمه ، أو حال وجوده. والأول باطل. لأنه ما دام يكون معدوما ، فالوجود غير واصل إليه ، فامتنع كون الإيجاد [إحسانا إلى المعدوم.

والثاني : أيضا باطل ، لأن إيصال الوجود إليه بعد وجوده (١)] يقتضي إيجاد الموجود وأنه (٢) محال. لا يقال : الإيجاد إنما يكون إحسانا من حيث إنه بعد دخوله في الوجود ، يستعد لأن يصل إليه أنواع اللذة والسرور. لأنا نقول : الكلام إنما وقع في أن الإيجاد ليس بإحسان ، وما ذكرتموه لا يدفع ذلك. فإنكم سلمتم أن نفس الإيجاد [ليس] (٣) إحسانا. وإنما الإحسان ما يحصل بعد ذلك ، ونحن [ما] (٤) ادعينا [حالا] (٥) أن ابتداء الخلق ليس بإحسان.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

الوجه الثاني في إبطال هذا القسم (١) : أن الذات (٢) ما لم تكن مشتهية للشيء ومحتاجا إليه ، لم يكن إيصال ذلك الشيء إليه انفاعا له ، ولا إحسانا [إليه] (٣) فكل ما يفرض إحسانا إليه ، فإنه قد تقدمه (٤) خلق الحاجة فيه ، وذلك ضرر. وحينئذ يتقابل قدر المنفعة الحاضرة ، بقدر المضرة السابقة وذلك يخرجه عن كونه إحسانا. وقد تقدم في الكتاب (٥) الثالث تقرير هذا الكلام على سبيل الاستقصاء.

الوجه الثالث : في بيان أنه لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خلق الخلق للإحسان إلى المخلوقات (٦). وذلك [لأن] (٧) هذا الداعي إما أن يقال : إنه كان حاصلا في الأزل ، أو ما كان حاصلا. فإن كان الأول ، لزم حصول الإيجاد قبل حصوله ، وهو محال. والثاني يوجب كون تلك الداعية متجددة. والكلام في اختصاص حدوث تلك الداعية بذلك الوقت ، كاختصاص حدوث العالم بذلك الوقت ، ولزم الدور (٨) إلى ما لا نهاية له.

وأما الأجوبة المذكورة عن هذا الكلام ، وهو أنه تعالى إنما خصص إحداث العالم بذلك الوقت ، لاشتمال ذلك الوقت على مصلحة معينة ، فالكلام في إفساده قد سبق على الاستقصاء.

الوجه الرابع : وهو [أن] (٩) إيصال النفع إلى الغير ، وعدم إيصاله إليه ، إما أن يكون بالنسبة إلى الفاعل على السوية ، أو لا يكون الأمر كذلك. فإن كان الأول ، امتنع أن يكون غرض الاحسان داعيا للفاعل إلى الإيجاد ،

__________________

(١) القسم الثالث (ت)

(٢) اللذات (ت)

(٣) من (ط)

(٤) يتقدمه (ت)

(٥) الباب (ط ،)

(٦) المخلوق (ت)

(٧) من ط ، س)

(٨) المرور (ط ، س)

(٩) وهو اتصال (ت)

وإن كان الثاني ، لزم أن يكون الفاعل مستكملا بذلك الإيجاد (١). وقد أبطلناه.

الوجه الخامس : هو أن الإيجاد يستلزم حصول الحاجة إلى المأكول والمشروب وغيرهما. فإذا أعطى الخالق تعالى المحتاج إليه ، فقد حصل الاستغناء بالشيء. أما إذا لم يوجد ، فقد حصل الاستغناء عن الشيء. لكن الاستغناء عن الشيء أفضل من الاستغناء (٢) بالشيء. وبدليل : أن الاستغناء عن الشيء من صفات الله [تعالى] (٣) والاستغناء بالشيء من صفات العباد ، وما كان صفة لله تعالى فهو أكمل ، مما كان صفة للعباد.

وإذا ثبت هذا ، فالحاصل عند العدم هو الاستغناء عن الشيء. والحاصل عند الوجود [هو] (٤) الاستغناء بالشيء. وقد ثبت : أن الأول أفضل من الثاني. فيلزم : أن يقال : الإيجاد يوجب تفويت الأكمل ، ويوجب حصول الأخس والأرذل ، وإذا كان كذلك ، امتنع كون الإيجاد إحسانا إلى المخلوق.

الوجه السادس : أن نقول : إن الوجوه الخمسة السالفة ، إنما نذكرها ، لو قدرنا : أن كل ما اشتهاه الإنسان وأراده ، ومال طبعه إليه ، يكون حاضرا. وليس الأمر كذلك ، لأنا [نرى] (٥) أن أحوال أهل الدنيا بالعكس من ذلك. فإنا نرى (٦) أن أكثرهم يكونون في الغموم والهموم ، والأحزان والمخاوف ، والمتالف والحرق والغرق ، [والهرم] (٧) والعمى والزمانة. وأما في الآخرة.

__________________

(١) الحال (ت)

(٢) استغناء (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

(٦) نرى أكثر الخلق يكونون (ط)

(٧) من (ط ، س)

فالأكثرون وهم الكفار والفساق من أهل الملة يقعون في العذاب العظيم (١) وإله العالم كان عالما في الأزل بكل هذه الأحوال ، فكيف يعقل أن يقال : إنه تعالى خلقهم للإحسان ، مع أنه كان يعلم أن الأكثرين منهم ، يكونون في الدنيا في الألم والفقر ، والعمى. وفي الآخرة في الدرك الأسفل من النار؟

فإن قالوا : إنه تعالى مكن (٢) الكل من وجدان تلك السعادات العظيمة ، وأما حصول الحرمان ، فإنما كان لأجل [أنهم] (٣) قصروا في حق أنفسهم. قلنا (٤) لما كان إله العالم عالما يقينا : أنهم لا يستفيدون من [الوجود] (٥) والتكلف ، إلا البلاء العظيم ، والشقاء التام. امتنع أن يقال : إنه تعالى أراد بهم الخير والنفع ، والصلاح. ويدل [عليه وجوه] (٦)

الأول : إنهم لا يقدرون على خلاف معلوم الله ، وإلا لزم أن يقال : إنهم قادرون على أن يجعلوا علم الله [تعالى] (٧) جهلا.

الثاني : إنا نعلم من بنى رباطا في مفازة عظيمة ، وعلم يقينا أنه بنى ذلك الرباط ، صار ذلك الرباط مأوى اللصوص والقتالين وقطاع الطريق. ثم إن الذي بنى ذلك الرباط مع جزمه بأن الأمر كذلك ، يقول : كان غرضي منه : دفع الشر ، وأن يصير ذلك الموضع مجمعا للأولياء والأتقياء ، ولأقوام يسعون في أمن الطرقات ، وإزالة الآفات ، فإن جميع العقلاء يقولون ، لما كنت عالما بأن بناءه يوجب مزيد الآفات ، فإنك (٨) في دعواك : أنك ما أردت به : إلا الخير : كذاب مزور. وهذا الباب فيه إطناب ، وقد سبق ذكره في الكلام على الحسن والقبح مع المعتزلة.

__________________

(١) الألبيم (ط)

(٢) يمكن (ت)

(٣) من (ط)

(٤) قلت (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) سقط (ت)

(٧) من (ت)

(٨) فأنت (ط)

والوجه الثالث : في دفع [هذا] (١) السؤال : أن القدرة الصالحة للكفران ، كانت متعينة للكفر ، فحينئذ يكون خلق تلك القدرة في الكافر ، إلجاء له إلى الكفر ، وإن كانت صالحة للإيمان والكفر معا ، فرجحان أحد الجانبين على الآخر ، إن لم يتوقف على المرجح ، لزم حصول الرجحان لا لمرجح ، وهو محال.

وإن توقف على المرجح ، فذلك المرجح إن كان من العبد ، عاد التقسيم فيه. ولزم التسلسل. وإن كان من الله ، فحينئذ يكون مجموع القدرة مع (٢) ذلك المرجح موجبا للكفر ، فيعود ما ذكرنا من (٣) أن الله تعالى ألجأ الكافر ، إلى الكفر. وذلك يبطل قولهم : أنه تعالى ما أراد به إلا الخير والصلاح. فيثبت بهذه الوجوه : أنه يمتنع أن يقال : إنه تعالى خلق الخلق لغرض نفسه ، أو يقال : إنه خلقهم لغرض يعود إليهم.

وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : إنه تعالى خلقهم لا لغرض وحكمة أصلا. فنقول : هذا أيضا : باطل لوجوه :

الأول : إن الفعل الخالي عن الحكمة : سفاهة ، وهي غير لائقة بالحكيم الرحيم.

والثاني : إنه لم يمتنع ذلك ، فحينئذ لا يقبح من الله تعالى شيء أصلا ، فوجب أن يحسن منه أن يعاقب الأنبياء والرسل [بأعظم] (٤) أنواع العقاب ، وأن يحسن منه إدخال الدهرية في أعلى درجات الجنة ، وأن لا يحصل الوثوق بوعده ووعيده ، وأن لا تتميز طاعته عن معصيته. وكل ذلك يبطل [الحكمة] (٥) الإلهية. فيثبت : أنه تعالى لو كان محدثا للعالم ، بعد أن لم يكن

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) من (ت)

(٣) ما ذكرناه أنه تعالى (ت)

(٤) (س)

(٥) من (ت)

[محدثا] (١) لكان إما أن يكون ذلك الإحداث لحكمة ومصلحة ، وإما أن لا يكون كذلك. وثبت فساد القسمين ، فوجب فساد القول بكونه محدثا للعالم ، بعد أن لم يكن وقد يحتجون بهذه الحجة على أنه لا يجوز أن يكون مريدا لإحداث العالم : أنه (٢) لو كان مريدا لكانت تلك الإرادة ، إما أن تكون تابعة لحكمة ومصلحة ، وإما أن لا تكون كذلك. والقسمان باطلان ، فالقول بثبوت الإرادة : باطل [والله أعلم] (٣).

الحجة الخامسة : لو كان العالم [حادثا] (٤) وجب أن يكون للخالق : داع إلى إيجاده وتكوينه. فنقول : تلك الداعية ، إما أن تكون قديمة ، أو حادثة. فإن كانت حادثة ، عاد البحث في كيفية [حدوثها] (٥) وإن كانت قديمة ، فإما أن تكون مشروطة بشرط ، أو لا تكون. فإن كانت مشروطة بشرط ، فذلك الشرط ، إما أن يكون حادثا أو لا يكون. فإن كان ذلك الشرط حادثا ، لزم الدور. [لأنه] (٦) لا يتم الداعية التامة المؤثرة في الإحداث ، إلا عند حدوث ذلك الشرط ، وأن لا يحدث (٧) ذلك الشرط إلا إذا تمت تلك الداعية المؤثرة ، وذلك يوجب الدور ، وأما إن كان ذلك الشرط قديما ، أو قلنا : إن تلك الداعية القديمة غير مشروطة بشرط : فالكلام في هذين القسمين واحد ، وذلك لأنه إما أن يقال : حصل في الأزل مانع ، أو لم يحصل. والأول باطل. لأن ذلك المانع إن كان واجبا لذاته ، امتنع زواله ، فوجب أن لا يزول ذلك الامتناع. وإن كان ممكنا لذاته ، افتقر إلى مؤثر. ويعود التقسيم فيه ، ولا ينقطع إلا عند الانتهاء إلى موجب واجب لذاته : ويلزم من امتناع زوال

__________________

(١) من (ت)

(٢) لأنه (ط)

(٣) من (ت)

(٤) وأن يحدث (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط ، س)

[ذلك] (١) الموجب ، امتناع زوال ذلك المانع. وقد بان بطلانه. فيثبت : أن الداعية القديمة إلى الإيجاد : حاصلة في الأزل ، وأن الموانع بأسرها كانت زائلة. ومتى كان الأمر كذلك ، كان الفعل واجب الحصول.

الحجة السادسة : كونه تعالى محدثا للعالم ، وكونه غير محدث (٢) له. إما أن يتساويا من [كل] (٣) الوجوه ، أو يكون الإحداث أفضل مطلقا ، أو يكون الترك أفضل مطلقا ، أو يقال : الفعل أفضل في بعض الأوقات ، والترك أفضل في البعض.

أما القسم الأول : وهو أن يقال : استوى الطرفان واعتدل الجانبان من غير رجحان : فهذا باطل لوجوه :

الأول : إنه يقتضي رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح وإن جاز ذلك ، فلم لا يجوز رجحان وجود العالم على عدمه لا لمرجح؟

والثاني : وهو أن الإيجاد ترجيح لجانب الوجود ، وحصول الترجيح حال [حصول] (٤) الاستواء : محال.

والثالث : إن الذي يكون فعله وتركه ، متساويين في كل الجهات ، كان فعله عبثا ، وكان فاعله [سفيها] (٥) ولا يكون [حكيما ، ولا يكون] (٦) فعله إحسانا. وأجمع العقلاء على أنه يجب تنزيه إله العالم عن مثل هذه الصفة.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الفعل أفضل من الترك. فنقول : فعلى هذا التقدير ، يلزم أن يقال : إنه تعالى كان تاركا للجانب الأفضل مدة غير متناهية ، ثم انتقل من الأفضل إلى الأخس ، وذلك باطل.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) غير محدث لذاته (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(٦) من (ط)

وأما القسم الثالث (١) : وهو أن يقال : الترك أفضل من الفعل مطلقا. فنقول : يلزم أن يقال : إن خالق العالم قد انتقل من الأشرف إلى الأخس. وذلك أيضا باطل.

وأما القسم الرابع : [وهو] (٢) أن يقال : كان الترك أفضل في بعض الأوقات ، ثم صار الفعل أفضل من الترك في سائر الأوقات ، فنقول : هذا أيضا باطل. لأن هذا التبديل ، إن وقع لذاته ، فليجز تبدل العدم بالوجود لذاته ، وهو باطل. وإن وقع بجعل جاعل ، فحينئذ يعود التقسيم الأول : وهو أن الخالق إنما خصص أولوية الترك بالأوقات السالفة ، وأولوية الفعل بالأوقات الحاضرة. لأن الأولى بالأوقات السالفة ، عدم تلك الأولوية. والأولى بهذه الأوقات الحاضرة ، أولوية الفعل ، وحينئذ يعود التقسيم الأول فيه. وذلك يوجب الذهاب إلى ما لا نهاية له. والله أعلم.

الحجة السابعة : الإيجاد فتح لباب الآفات. وذلك لا يليق بالفاعل الحكيم.

بيان الأول : أن عند حصول الوجود ، يحصل الخوف من زوال [مصالح] (٣) الوجود ، ويحصل الخوف من [زوال مصالح الوجود ، ويحصل الخوف من (٤)] حصول الألم. والخوف : [ألم] (٥) وضرر وأما في حال العدم ، فما كان فيه مؤلم أصلا ، لأن حصول الألم مشروط. بحصول الوجود والحياة ، فعند عدم الوجود ، امتنع حصول الضرر والخوف. فيثبت أن عند حصول الوجود [يحصل] (٦) الضرر ، وعند العدم ، لا ضرر. فكان هذا الوجود شرا

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

من العدم [والعدم] (١) خيرا منه ، والحكيم لا يفعل الشر.

فإن قالوا : السؤال عليه من وجوه :

الأول : أن (٢) الشر : عبارة عن العدم. ألا ترى أن من قتل إنسانا. فذلك القتل شر. وليس هو شر ، لأن الآلة كانت قطاعة ، ولا لأجل أن القاتل كان قادرا على استعمال تلك [الآلة] (٣) القطاعة بالقوة القوية ، ولا لأجل أن عنق المقتول ، كان قابلا للقطع ، فإن كل [ذلك] (٤) خيرات. بل إنما كان شرا ، لأنه زالت الحياة (٥) عن المحل القابل للحياة ، وهذا الزوال : عدم فثبت : أن الشر ليس إلا العدم. فكيف يقال : الوجود شر؟

الثاني : سلمنا أن الوجود قد يكون موصوفا بكونه شرا ، إلا أنه وإن حصل عند الوجود أنواع الخوف والألم ، فقد حصل أيضا أنواع السرور واللذة. فنقول :

أما الجواب عن السؤال الأول : فهو أنا نقول : مراد جميع العقلاء من الشر والمفسدة والبلاء : حصول الألم والغم. ولا شك أن الألم معنى وجودي. فيثبت : أن هذا الكلام الذي ذكرتموه في السؤال : لفظي محض. وأقول : لما كان هذا الكلام منقولا عن أكابر الحكماء ، وجب حمله على محمل صحيح ، فنقول : الشر إما أن يقع في الذات أو في الصفات أو في الأفعال. أما الشر في الذات : فليس إلا العدم ، وكذا القول في الصفات. فإن العمى والصم والبكم : شرور. وهي مفهومات عدمية ، لأن العمى عبارة عن عدم البصر ، عما من شأنه أن يكون بصيرا. وكذا القول في البواقي. وأما الشر في الأفعال : فمعناه : الإيلام. ولا شك أنه معنى موجود ، فعلى هذا يجب أن يقال : الشر

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) أنه عبارة (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (س)

(٥) الخيرة على (ت)

في الذات والصفات. أمر عدمي. وأما في الأفعال : فلا شبهة أن الشر فيها معنى موجود.

وأما السؤال الثاني : فالجواب عنه من وجوه :

الأول : أن لذات هذا العالم ، أضعف [بكثير] (١) من آلام هذا العالم. والتجربة تدل عليه. فإن ألذ الأشياء : قضاء شهوة البطن ، وشهوة الفرج. ونحن نعلم بالضرورة : أن ألم القولنج ، وسائر الأمراض الكثيرة (٢) أصعب بكثير من لذة الأكل والوقاع.

والثاني : إن عند البقاء على العدم ، لا يحصل ، لا اللذة ولا الألم. وعند الوجود يحصل أنواع الآلام ، ولا شك أن السلامة من الألم ، أفضل من الوقوع في الألم.

والثالث : أن ما يتوهم لذة في هذا العالم ، فهو في الحقيقة عبارة عن دفع الألم. فإن لذة الأكل عبارة عن دفع ألم الجوع ، لذلك فكلما كان الجوع أقوى ، كان الأكل ألذ.

وقال بعض من يتمسك (٣) بأمثال هذه الكلمات إنه [تعالى] (٤) خلق القاتل والمقتول ، والظالم والمظلوم ، وعلم أن هذا يقتل ذلك الآخر ، ثم توعد القاتل بأن قال : متى قتلت ذلك الآخر : عذبتك بالنار. فلو [لم] (٥) يخلقهما ، لكان قد سلم المقتول من عذاب الدنيا ، والقاتل من عذاب الآخرة».

فيثبت : أن الخلق فتح لباب [الشر] (٦) والآفات. وذلك لا يليق بالصانع الحكيم. وأما إثبات أن إله العالم مؤذي ، وليس بحكيم ولا رحيم ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) الشديدة (ط)

(٣) يتمسك بهذه الكلمات (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (س)

(٦) من (ط)

ولا ناظر لعباده ، محسن إليهم. فذلك باطل ، بإجماع العقلاء المعتبرين. فلم يبق إلا أن يقال: مبدأ وجود العالم : آنية موجبة بالذات ، والماهية لوجود العالم. وذلك يوجب دوام العالم ، بدوام وجوده [والله أعلم] (١).

الحجة الثامنة : الإيجاد. إما أن يكون من باب الإحسان ، أو من باب الإضرار ، أو لا هذا ولا ذاك. والثاني لا يليق بأرحم الراحمين ، والثالث عبث فلا يليق بالحكيم. فبقي الأول. فنقول : ترك الإحسان ، إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل. والكل على الله محال ، فوجب أن يكون الإحسان صادرا من الله أبدا.

وهذا الكلام في الحقيقة ، إنما يتم ببيان أن الداعي إلى الإحسان : أزلي. والشرائط كانت حاصلة [في الأزل] (٢) والموانع كانت زائلة. فوجب الفعل. وهذه المقدمات إنما تتم بالرجوع إلى بعض ما ذكرناه.

فهذه جملة الوجوه المستنبطة من الحسن والقبح ، والحكمة والعبث [والله أعلم] (٣)

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

المقالة السادسة

في

الدلائل المستنبطة من صفة العلم

في

الدلائل المستنبطة من صفة العلم

وهي من وجوه :

الحجة الأولى : لو كان العالم حادثا ، لما حدث إلا إذا قصد الفاعل إلى تكوينه. وهذا القصد يمتنع حصوله ، إلا إذا كان عالما بأنه كان معدوما ، ثم إنه يحاول (١) أن يجعله موجودا. وإذا كان كذلك ، فقد كان عند عدمه عالما ، بأنه معدوم ، وعند وجوده يصير عالما بأنه موجود. فثبت أنه لو كان العالم حادثا ، لوجب كونه عالما بالجزئيات. وإنما قلنا : إن ذلك : محال. لوجوه :

الأول : إنه تعالى لما علم أن العالم معدوم. فعند ما يصير موجودا ، إن بقي علمه بأنه معدوم ، فهو جهل. وهو على الله محال. [وإن لم يبق ، فهو تغير. وهو على الله محال (٢)].

والثاني : [إن] (٣) العالم بالجزئيات ، لا بد وأن يكون جسما أو جسمانيا. وهذا في حق الله [تعالى] (٤) محال. فيمتنع كونه عالما بالجزئيات.

__________________

(١) حاول (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

الثالث : إن العلم بأن الشيء الفلاني موجود ، وبأن الشيء الفلاني معدوم : تبع للمعلوم. فلو كان واجب الاتصاف بالعلم بالجزئيات [وقد ثبت : أن العلم بالجزئيات (١)] متوقف على وقوع تلك الجزئيات ، على تلك الوجوه المخصوصة. فحينئذ ذاته مما يمتنع وجودها (٢) إلا عند حصول تلك العلوم. ثم إن تلك العلوم متوقفة التحقق على حصول تلك المعلومات الخارجية ، والموقوف على الموقوف على الشيء [موقوف على الشيء (٣)] فيلزم أن تكون ذاته موقوفة على الغير ، والموقوف على الغير : ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود [لذاته (٤)]. وهو محال.

واعلم أن هذه الوجوه الثلاثة في نفي علمه تعالى بالجزئيات قد سبق ذكرها بالاستقصاء مع الأجوبة الوافية.

الحجة الثانية من الوجوه المبنية على العلم : أن نقول : إما أن يكون الحق هو أنه [سبحانه غير عالم بالجزئيات. وإما أن يكون هو أنه (٥)] سبحانه عالم بالجزئيات. وعلى التقديرين فإنه يجب كونه موجبا بالذات. ثم يلزم من دوامه : دوام المعلومات (٦) أما إذا كان الحق هو القسم الأول ، وهو أنه غير عالم بالجزئيات. فعلى هذا التقدير ، يمتنع كونه قاصدا إيجاد العالم. لأن هذا القصد إنما يمكن حصوله ، لو كان عالما بأنه معدوم ، ثم إنه يريد أن يجعله موجودا. فعلى تقدير أن لا يكون عالما بالجزئيات ، امتنع حصول هذا العلم ، فامتنع حصول القصد المذكور ، فامتنع منه أن يقصد إلى إيجاده وإحداثه وتكوينه. وأما إذا كان الحق (٧) هو القسم الثاني ، وهو أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : فهذا يقتضي

__________________

(١) من (س)

(٢) وجود (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط) وفيها تعالى بدل سبحانه

(٦) المعلومات (ط)

(٧) المؤثر (ط)

كونه تعالى موجبا بالذات. وذلك يوجب دوام العالم بدوامه. وإنما قلنا : إن كونه تعالى عالما بالجزئيات [يقتضي كونه موجبا بالذات ، لأنه لما كان عالما بالجزئيات (١)] كان عالما بأن الشيء الفلاني يقع في الوقت الفلاني على الصفة الفلانية ، وأن الشيء الفلاني لا يقع البتة، وما علم الله وقوعه ، كان واجب الوقوع ، لأن عدم وقوعه ، يستلزم أن ينقلب علم الله جهلا. وهو محال. ومستلزم المحال : محال. فعدم وقوعه : محال. فوقوعه : واجب.

وبهذا الدليل أيضا : ما علم الله عدم وقوعه : كان ممتنع الوقوع أيضا. والشيء الذي يكون واجب الوقوع (٢) أو يكون ممتنع الوقوع ، لم يكن القادر متمكنا من فعله وتركه. وذلك يقدح في كونه تعالى قادرا ، ويقتضي كونه موجبا بالذات. وإذا ثبت (٣) [أن كونه عالما بالجزئيات ، يقتضي كونه تعالى موجبا بالذات ، وثبت (٤)] أنه متى كان موجبا بالذات : لزم من دوام الموجب ، دوام الأثر. وذلك هو المطلوب.

ولهذا الكلام تقرير آخر ، وهو أن يقال : العالم ممكن الوجود لذاته. وقد بينا : أنه من حيث إنه معلوم الوقوع ، وجب أن يكون واجب الوقوع. والعلم لا يقلب (٥) ماهية المعلوم ولا يغيره. فهذا الوجوب ما جاء البتة من العلم ، بل جاء من سبب آخر. فهذا الوجوب يدل على أن سببا آخر ، اقتضى صيرورة العالم ، واجب الوقوع. لأنه لما دل كونه معلوم الوقوع ، على كونه واجب الوقوع ، وثبت : أن المؤثر في هذا الوجود ، ليس هو صفة العلم: وجب أن يكون المؤثر فيه : صفة أخرى. فيثبت : أنه تعالى موجب لوجود العالم ، إما لعين ذاته المخصوصة ، أو لصفة أخرى من صفاته. وعلى [هذين] (٦) التقديرين ، فالتقريب معلوم فيثبت : أنه تعالى إما أن يكون عالما بالجزئيات ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الوجود (ت)

(٣) وثبت (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) لا ينقلب ماهية المعلوم ولا لغيره (ت)

(٦) من (ط ، س)

وإما أن لا يكون. وعلى التقديرين فإنه يلزم أن يكون موجبا بالذات. ومتى كان الأمر كذلك، لزم من دوام الموجب ، دوام المعلول.

الحجة الثالثة من الوجوه المبنية على العلم : أن نقول : هذه الماهيات كانت معلومة لله في الأزل بالاتفاق ، وكل ما كان معلوما ، فإنه لا بد وأن يكون ذلك المعلوم : متميزا عما عداه ، بخاصيته المخصوصة ، وماهيته النوعية. ومتى حصل هذا الامتياز بين الماهيّات ، وجب كونها ثابتة. لأن النفي المحض ، والعدم الصرف ، لا يحصل فيه الامتياز والاختلاف. فيثبت : أن هذه الماهيات ، كانت موجودة في الأزل. فنقول : إنها إما أن تكون موجودة في ذات العالم ، أو كانت موجودة وجودا مباينا عن ذات [من كان] (١) عالما بها والأول باطل. لأن العلم بالسواد والبياض والاستقامة والاستدارة ، لو كان موقوفا على حصول هذه الماهيات ، في ذات العالم بها : لزم أن يكون ذلك العالم أسود ، أبيض ، مستقيما ، ومستديرا. لأنه [لا] (٢) معنى للأسود والأبيض ، إلّا الذي حصل فيه السواد والبياض ، إلا أن ذلك : محال. لوجهين :

الأول : إنه يوجب اجتماع الضدين في المحل (٣) الواحد. وهو محال.

الثاني (٤) : إن من كان أسود ، أبيض ، مستقيما ، مستديرا : كان جسما ، وذلك في حق واجب الوجود لذاته [محال] (٥) فيثبت : أن هذه الماهيات موجودة (٦) خارجة عن ذات الله تعالى. ولما ثبت [أن العلم] (٧) بهذه الماهيات يتوقف على وجود هذه المعلومات ، وثبت أن العلم بها حاصل في الأزل : وجب القطع بحصول هذه المعلومات في الأزل. وهو مطلوب.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) محل واحد (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

(٦) موجود خارج ذات الله (ت)

(٧) من (ط ، س)

فإن قيل : لا نسلم أن العلم بالشيء ، يتوقف على كون ذلك المعلوم موجودا. والدليل عليه : أنا إذا علمنا أن شريك الإله : ممتنع. فهذا الحكم لا يمكن حصوله إلا بعد تصور ، أن شريك الإله ما هو؟ فلو كان حصول هذا التصور ، موقوفا على حصول (١) المتصور ، لزم أن يكون شريك الإله موجودا. وعلى هذا التقدير ، يلزم من الحكم على شريك الإله بكونه ممتنعا : الحكم عليه بكونه واجب الحصول. وذلك متناقض.

ثم نقول : لا نزاع (٢) أن الله تعالى كان عالما بحقائق الأشياء في الأزل. لكن لم قلتم : إن العلم بالشيء ، يستدعي كون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم ذلك العالم؟ ألا [ترى] (٣) أنا إذا علمنا : أن لنا في هذا البلد أختا من الرضاع ، مع أنا لا نعلمها (٤) بعينها. فههنا العلم بهذا المعلوم : حاصل. مع أن هذا المعلوم ليس متميزا [عن غيره] (٥) في علم ذلك العالم [فيثبت : أن العلم بالشيء ، لا يقتضي كون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم ذلك العالم. ونقول : سلمنا أنه لا بد وأن يكون المعلوم متميزا عن غيره ، في علم العالم (٦)] فلم قلتم : إن ذلك الامتياز يجب حصوله ، حال حصول العلم؟ ولم لا يجوز أن يقال : إنه يكفي في حصول العلم في الحال ، حصول (٧) ذلك التميز ، إما في الحال ، وإما في المستقبل؟ وبيانه : أنه تعالى عالم بحقائق الجواهر والأعراض في الأزل [ثم] (٨) إن الجواهر والأعراض ، وإن لم [تكن] (٩) حاصلة في الأزل ، ولا متميزا بعضها عن بعض في الأزل ، إلا أنه مما ستوجد في لا يزال. ثم إنها إذا صارت موجودة وحاصلة ، كان بعضها متميزا عن البعض. فلم قلتم : إن هذا القدر من الامتياز ، لا يكفي في حصول العلم (١٠) الأزلي ، بكون هذه

__________________

(١) وجود (ت)

(٦) من (ت)

(٢) أنه تعالى (ت)

(٧) حال حصول (ت)

(٣) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

(٤) نعلم (ت)

(٩) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(١٠) العلم. ألا ترى كون ... الخ (ت)

الماهيات متباينة متميزة؟ ثم نقول : سلمنا أنه لا بد من كون تلك المعلومات متمايزة في الحال ، فلم قلتم : إن حصول الامتياز في الحال ، يستدعي كونها موجودة؟ وما الدليل عليه؟

بل نقول : الدليل على أن الامتياز والاختلاف ، قد يحصل في العدم المحض ، والسلب الصرف : وجوه :

الأول : إن عدم الملزوم لا يوجب [عدم] (١) اللازم. لكن عدم اللازم يقتضي عدم الملزوم ، فكل واحد من هذين العدمين ممتاز عن الآخر بخاصية حقيقية ، ونوعية ذاتية.

الثاني : إن عدم الضد عن المحل ، يصحح حلول الضد الآخر في ذلك المحل ، وعدم ما لا يكون ضدا ، لا يفيد هذا الحكم.

الثالث : إنا إذا قلنا : النقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان ، فقد حكمنا بكون (٢) السلب منافيا للإيجاب فلو لم يكن للسلب من حيث إنه سلب : خصوصية وامتياز عن الإيجاب ، وإلا لما صح الحكم بكونه منافيا للإيجاب. ثم نقول : سلمنا أن العلم بالمعلوم ، يستدعي كون المعلوم ثابتا. لكن لم قلتم : إن كل ثابت ، فإنه لا بد وأن يكون موجودا؟ أما علمتم أن جماعة من العقلاء ، قالوا : «المعدوم مع كونه معدوما قد يكون شيئا ثابتا»؟ وعنوا بذلك : أن الماهيات حال عرائها عن الوجود ، قد تكون متقررة في كونها ماهيات (٣) فما الدليل على فساد هذه المقالة؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن تكون هذه المعلومات : حاصلة في ذات العالم ، ومرتسمة فيها؟ وهذا هو قول من يقول : «لا معنى للعلم إلا حصول صورة المعلوم في ذات العالم» أما قوله : «يلزم أن يكون العالم بالاستدارة والاستقامة ، والحرارة والبرودة : مستقيما مستديرا ، حارا باردا» فنقول : هذا غلط. وذلك لأنا لا نقول : العالم بالحرارة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) يكون السلبية منافية للإيجابية (ت)

(٣) فما الدليل عليه على هذه المقدمة؟ (ت)

تحصل في ذاته عين الحرارة [بل نقول] (١) تحصل في ذاته مثال الحرارة [وشبحها (٢)] وصورتها ورسمها. كما [أنا] (٣) إذا نظرنا في المرآة ، فإنه يحصل فيها : مثال المرئي وشبحه وصورته ، لا عين ذاته. ثم نقول : سلمنا أنه لا بد وأن يكون ذلك المعلوم موجودا في الخارج. فلم لا يجوز أنه حصل في الخارج من كل ماهية : صورة كلية ، مجردة قائمة بنفسها؟ وهذا هو الذي نقل عن [الحكيم (٤)] الإلهي «أفلاطون» أنه كان يثبت لكل ماهية مثالا كليا ، قائما بالنفس ، مجردا عن التغيرات. وعلى هذا التقدير فإنه يكفي في حصول العلم بالماهيات ، وحصول هذه المثل في الخارج. ولا حاجة إلى القول : بإثبات هذه الأعيان في الخارج. ثم نقول : هب أن قائلا يقول : كان العلم موجودا مع الله في الأزل. إلا أنه لا نزاع في أن هذه الحوادث اليومية ، ما كانت موجودة في الأزل. مع أنه سبحانه كان في الأزل عالما بها. فما ذكرتموه في الجواب عن هذه الحوادث اليومية ، فهو جوابنا عن العلم بكلية العالم [والله أعلم (٥)].

والجواب :

أما النقض بالمحالات. فالجواب عنه (٧) من وجهين :

الأول : إنا لا ندعي أن كل ما كان معلوما ، وجب أن يكون موجودا. بل ندعي أن المعلوم لا يكون معلوما ، إلا إذا كان في نفسه واقعا على الوجه الذي باعتباره كان معلوما. فإن كان المعلوم عدما ، وجب أن يكون ذلك المعلوم في نفسه عدما. وإن كان وجودا ، وجب أن يكون في نفسه وجودا. إذ لو لم يكن الأمر كذلك ، لما كان العلم مطابقا للمعلوم. فحينئذ يكون جهلا لا علما. إذا ثبت هذا فنقول : إذا علمنا أن شريك الإله ممتنع ، فههنا المعلوم هو كون شريك الإله ممتنعا ، فوجب أن يكون شريك الإله ممتنعا في نفسه ، حتى

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) عنها (ط)

يكون العلم المتعلق به [علما] (١) مطابقا [للمعلوم] (٢) فكذلك إذا علمنا أن السواد ما هو؟ وأن البياض ما هو؟ وأن الفلك ما هو؟ وأن العالم ما هو؟ فهذا العلم لا يكون علما إلا إذا كان السواد في نفسه سوادا ، وإذا كان البياض في نفسه بياضا ، وكان الفلك في نفسه فلكا ، وكان العالم في نفسه عالما. إذا لو لم يكن كذلك ، ما كانت الصورة الذهنية مطابقة للأمر الخارجي. وذلك في كون [تلك] (٣) الصورة علما ، وتوجب كونها جهلا.

إذا ثبت هذا ، فنقول : حصول هذا الامتياز في النفي المحض ، والعدم الصرف : محال. فهذه المعلومات المتميزة أمور موجودة ، ولما [لم] (٤) تكن موجودة في الأذهان ، وجب كونها موجودة في الأعيان. وذلك يدل على أن قدم العلم بالأشياء ، يدل على قدم تلك المعلومات.

الوجه الثاني في الجواب : الحكم على الشيء بالوجوب تارة ، والإمكان ثانيا ، وبالامتناع ثالثا : اعتبارات ذهنية لا حصول لها في الأعيان [بل في الأذهان] (٥) بخلاف ما إذا عقلنا : أن الفلك ما هو؟ وأن العالم ما هو؟ فإن هذه المعلومات موجودات في الأعيان ، وليست اعتبارات ذهنية. فظهر الفرق بين البابين [والله أعلم] (٦)

قوله : «لم قلتم (٧) : إن المعلوم يجب كونه متميزا عن غيره»؟

قلنا : هذه المقدمة بديهية. لأن العلم بالشيء [إن (٨)] لم يميز بين ذلك المعلوم وبين غيره ، كان غافلا عنه ، من حيث إنه هو. ومن كان كذلك ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) من (س)

(٥) سقط (ط)

(٦) من (ت)

(٧) علمتم (ت)

(٨) من (س)

امتنع كونه عالما بذلك الشيء. أما إذا علمنا أن لنا أختا من الرضاع في هذه البلدة ، وإن كنا لا نعرفها بعينها ، فهذا لا يصلح أن يكون نقضا على ما ذكرناه [وذلك (١)] لأن هاهنا المعلوم : وجود شخص من الأشخاص الإنسانية ، موصوف بكونه أختا من الرضاع. فهذا القدر ، هو المعلوم. وهذا المعلوم متميز عن سائر المعلومات. فأما أن ذلك الشخص من هو؟ فغير معلوم. فظهر : أن القدر الذي هو معلوم ، فهو متميز. والذي هو غير متميز ، فهو غير معلوم.

قوله : «لم لا يكفي في حصول العلم الأزلي ، حصول الامتياز في المعلومات في لا يزال»؟ قلنا : هذا ظاهر الفساد. لأن العلم يجب أن يكون مطابقا للمعلوم ، وإلا لكان جهلا. وعلى هذا التقدير ، فيمتنع كون العالم (٢) عالما بامتياز ذلك المعلوم عن غيره ، إلا إذا كان ذلك المعلوم ممتازا عن غيره. فلما كان كون المعلوم ، ممتازا عن غيره ، شرطا لتعلق العلم بامتيازه عن غيره ، وثبت أن الشرط متقدم على المشروط في الرتبة ، امتنع أن يكون حصول الامتياز في المعلومات ، متأخرا عن تعلق العلم بهذا الامتياز.

فإن قالوا : إنه تعالى لا يعلم في الأزل : أن السواد متميز عن البياض في الحال [بل يعلم (٣)] أن السواد إذا وجد في لا يزال ، فإنه عند وجوده [يكون (٤)] متميزا عن البياض عند وجوده ، وعلى هذا التقدير فيسقط الإشكال».

فنقول : هذا لا يدفع الإشكال ، لأن العلم بأن السواد (٥) سيوجد في لا يزال : حكم على السواد. والحكم على الماهية المخصوصة ، مشروط بكون

__________________

(١) من (س)

(٢) العلم علما (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (س)

(٥) بالسواد (ط)

المحكوم عليه : متصورا. لأن التصديق مسبوق بالتصور لا محالة. ينتج : أن الحكم على السواد بأنه سيوجد : مسبوق بتصور هذه الماهية لا يتم إلا بعد العلم بامتياز هذه الماهية عما سواها. فلو كان حصول هذا الامتياز موقوفا على دخولها في الوجود ، لزم الدور. وهو محال.

أما قوله في السؤال الرابع : «لم قلتم : إن حصول الامتياز في النفي المحض : محال».

قلنا : هذا السؤال مدفوع من وجهين :

الأول : إنه لا معنى لكون هذه الحقيقة ، ممتازة عن تلك الحقيقة الأخرى ، إلا أن هذه الحقيقة في نفسها ، ليست مثل الحقيقة الأخرى. فما لم يكن ذلك الشيء في نفسه حقيقة من الحقائق ، ومخالفة لسائر الحقائق ، لم يكن الامتياز [حاصلا (١)] وأما السلب المحض والنفي الصرف ، فهو الذي لا يكون في نفسه حقيقة ولا ماهية أصلا. فيثبت : أن كونه نفيا محضا ، ينافي حصول الامتياز.

الثاني : هب أنه يعقل الامتياز والاختلاف في النفي المحض والسلب الصرف ، إلا [أنا] (٢) نعلم بالبديهة أو حقيقة العالم والفلك والإنسان ، والفرس : ليست سلوبا محضة ، وإعداما صرفة. بل هذه الحقائق [حقائق (٣)] متعينة ، وماهيات متمايزة. وكل واحد منها يخالف الحقيقة الأخرى بتعينها وتميزها ، العلم بأن الأمر كذلك علم ضروري. فزال هذا السؤال.

وأما السؤال الخامس : وهو قولهم : «لم لا يجوز أن يقال : إن هذه الحقائق معدومة، ومع أنها معدومة فهي أشياء وحقائق؟.

فنقول : هذا أيضا مدفوع من وجهين :

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (س)

الأول : إن القائلين بأن المعدوم شيء ، لا يقولون : الفلك من حيث إنه فلك ثابت في العدم ، والجبل من حيث إنه جبل في العدم. إنما يقولون : ذلك في الماهيات البسيطة ، كالسواد والبياض والجوهر.

والثاني : إنكم سلمتم : أن هذه الماهيات ثابتة في أنفسها ، خارج الأذهان. فلا معنى للوجود إلا ذلك. والذي يدل على ما قلناه : أن هذه الماهيات بتقدير أن تكون ثابتة في أنفسها ، متقررة في حقائقها ، فإنها متشاركة في كونها متقررة [محصلة (١)] خارج الذهن ، ومختلفة بخصوصياتها. وما به المشاركة غير ما به المخالفة. فيلزم : أن يكون كونها ثابتة في أنفسها متقررة (٢) في حقائقها : أمرا زائدا على كل ما لكل واحد منها من الحقيقة المخصوصة. فيثبت : أن هذه الماهيات بتقدير أن يقال : إنها متقررة في أنفسها ، فإنها لا بدّ وأن تكون موصوفة بصفة الوجود.

وأما السؤال السادس : وهو قوله : «لم لا يجوز أن تكون هذه المعلومات صورا ذهنية»؟ فالجواب : [ما ذكرنا] (٣) [وهو] (٤) أنه لو كان كذلك ، لكان العالم بالاستقامة والاستدارة : مستقيما مستديرا. وهو محال.

أما قوله : «المرتسم في الذهن صورة المعلوم ومثاله» قلنا : هذا باطل ، وذلك لأن المعلوم هو [تمام] (٥) تلك الماهية. فإذا دللنا على أن ذلك المعلوم لا بد وأن يكون موجودا [ثم قلنا : إنه إما أن يكون موجودا (٦)] في الذهن [أو في الخارج ، فبتقدير أنه يبطل كونه في الخارج ، وجب أن يكون موجودا في الذهن (٧)] فحينئذ يجب أن تكون تلك الماهية بتمامها حاصلة في الذهن ، وحينئذ يعود الإلزام.

__________________

(١) من (ت)

(٢) متصورة (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) زيادة

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (س)

وأما السؤال (١) السابع : [وهو إثبات] (٢) المثل الأفلاطونية. فالجواب عنه : أن العالم إذا علم كون الجسم ممتدا في الجهات ، حاصلا فيها ، قابلا للحركة والسكون ، موصوفا بالشكل واللون ، فالمعلوم هو الذي يكون موصوفا بهذه الصفات. فهذا الذي سميتموه بالمثل الأفلاطونية ، هل هو موصوف بهذه الصفات أم لا؟ فإن كان موصوفا بهذه الصفات ، كان جسما موصوفا بالحركة والسكون. وذلك هو المطلوب. وإن لم يكن كذلك [بل] (٣) كان موجودا مجردا عن هذه الصفات ، لم يكن هذا الموجود هو ذلك المعلوم. وكلامنا ليس إلا في أن ذلك المعلوم يجب أن يكون موجودا.

وأما السؤال الثامن : وهو نقض هذا الدليل بالحوادث اليومية. فنقول : إن جمهور الفلاسفة ينكرون وجود هذا العلم المتغير الزماني ، فلا يكون هذا النقض واردا عليهم. وأيضا : فإذا سلمنا حصول هذا العلم إلا أنا نقول : الفرق ظاهر. وذلك لأن الذي ادعيناه ، هو أن تصور الماهيات مشروط بحصول تلك الماهيات ، فوجب من قدم العلم بهذه الماهيات ، قدم هذه الماهيات. فأما الحكم (٤) بأن الماهية الفلانية ستحصل غدا ، فإنه لا يتوقف على حصول تلك الماهية في الحال. وإلا لزم التناقض [فظهر الفرق (٥) والله أعلم.

__________________

(١) القول (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) فالحكم (ط)

(٥) من (ت)

المقالة السابعة

في

الوجوه المستنبطة من العلة المادية

وهي كون العالم ممكن الوجود لذاته

في

الوجوه المستنبطة من العلة المادية

وهي كون العالم ممكن الوجود لذاته

وهي أمور :

الحجة الأولى : لو كان العالم حادثا ، لكان قبل حدوثه ، إما أن يكون واجبا لذاته [أو ممتنعا لذاته] (١) أو ممكنا لذاته. والأول يقدح في كونه محدثا. والثاني يقتضي أنه انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي. وإنه محال. والثالث يقتضي أنه كان قبل حدوثه ممكن الوجود لذاته.

فنقول : هذا الإمكان إما أن يكون صفة راجعة إلى ذاته المخصوصة ، وإما أن يقال: إنه لا معنى لهذا الإمكان إلا مجرد أن القادر [قادر (٢)] على إيجاده وتكوينه. والثاني باطل. لأن القادر يمكنه إيجاد الممكنات ، ولا يمكنه إيجاد الممتنعات ، فلولا امتياز الممكن عن الممتنع بأمر عائد إليه ، وإلا لما كان [كون (٣)] القادر قادرا على إيجاد الممكن ، أولى من كونه قادرا على إيجاد الممتنع. فيثبت [أن] (٤) كون الممكن ممكنا : عبارة عن صفة عائدة (٥) إليه.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

فنقول : هذه الصفة إما أن تكون سلبية أو ثبوتية. والأول باطل ، لأن الشيء إما أن يكون ممتنع الثبوت ، أو ممكن الثبوت بالإمكان العام. والامتناع عدم محض. إذ لو كان صفة ثبوتية ، لكان الموصوف بتلك الصفة أولى بأن يكون ثابتا ، فيلزم أن يكون ممتنع الثبوت لذاته ، واجب [الثبوت] (١) لذاته ، وهو محال ، وإذا ثبت أنه لا واسطة بين الامتناع ، وبين الإمكان العام ، وثبت أن الامتناع [ليس (٢)] صفة ثبوتية ، وجب أن يكون الإمكان العام صفة ثابتة. ضرورة أنه لا بد وأن يكون أحد النقيضين : أمرا ثابتا. فيثبت : أن الإمكان أمر عائد إلى الممكن ، مغاير لكون القادر متمكنا من إيجاده ، وثبت : أنه صفة ثبوتية ، وثبت: أنه سابق على وجود المحدث. فتلك الصفة لا بد لها من محل موجود ، وذلك المحل الموجود هو هيولى ذلك المحدث ومادته. فإنه لا معنى للهيولى إلا الذي حصل فيه إمكان حدوث تلك الصورة. فيثبت : أن كل محدث فإنه مسبوق بهيولى ، ومادة. فنقول : تلك الهيولى والمادة إما أن يكون متحيزا وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان متحيزا فهو الجسم ، فهيولى الجسم جسم ، والهيولى قديمة. فالجسم قديم.

وإن لم يكن متحيزا ، فنقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنه يلزم أن يكون البعد والامتداد حالا في محل ، لا حصول له في الحيز والجهة أصلا. وذلك محال.

والثاني : إن هذه الهيولي لو صح القول به ، فإن الفلاسفة أقاموا الدليل على أنه يمتنع خلوها عن الجسمية. وحينئذ لزم من قدم الهيولى ، قدم الجسم. فهذا تمام القول في تقرير هذه الشبهة.

واعلم أن الكلام على هذه الحجة : أن يقال : لا نسلم أن الإمكان صفة موجودة. ويدل عليه وجوه :

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

الأول : لو كان الإمكان موجودا ، لكان صفة للممكن ، وصفة الشيء مفتقرة إليه ، والمفتقر إلى الممكن. فيلزم : أن يكون للإمكان ، إمكان آخر ، لا إلى نهاية. وهو محال.

الثاني : وهو أن المحدث مسبوق بإمكان الوجود. فذلك الإمكان لو كان صفة موجودة ، لكان إما أن يكون قائما به أو بغيره ، والأول محال. لأنه يلزم قيام الموجود بالمعدوم. والثاني [محال (١)] لأن إمكان الشيء صفة قائمة به ، وصفة الشيء يجب أن تكون حاصلة فيه ، ويمتنع حصوله في غيره.

والثالث : إن كون الممكن ممكنا ، سابق على كونه موجودا ، لأنه ممكن لذاته ، وموجود بغيره. وما بالذات قبل ما بالغير. فاتصاف الماهية بالإمكان ، سابق على اتصافها بالوجود. فلو كان الإمكان صفة موجودة ، لزم أن يكون (٢) اتصافه بوجود غيره ، سابقا على كونه في نفسه موجودا.

الرابع : إنه لا معنى للإمكان ، إلا قابليته للوجود. ولو كانت قابلية الوجود ، صفة موجودة ، لكانت قابلية تلك القابلية زائدة عليها. ولزم التسلسل.

الخامس : إن تلك الهيولى ممكنة لذاتها ، فيلزم افتقار ذاتها (٣) إلى هيولى أخرى. لا إلى نهاية. وهو محال.

أجابوا عنه : بأن الافتقار إلى الهيولى إنما يحصل للمحدث ، وذلك لأنه لما كان محدثا ، امتنع قيام إمكانه به. فلا بد من شيء آخر ، ليكون محلا لإمكانه. أما القديم فإن وجوده يكفي في أن يكون محلا لإمكانه ، فلا حاجة [به] (٤) إلى الهيولى.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) أن يكون اتصاف الشيء بوجود غيره سابقا (ت)

(٣) إمكانها (ط)

(٤) من (ت)

وأجيب عن هذا الجواب : بأن ثبوت الإمكان للممكن. واجب لذاته. ووجوده شرط لكونه موصوفا بهذا الإمكان الموجود. وما كان شرطا لما كان واجبا لذاته ، [فهو أولى أن يكون واجبا لذاته] (١) فيلزم كون الهيولى واجبة لذاتها.

واعلم أن من المتقدمين من التزم ذلك. وقال : ثبت أن الجسمية يمتنع حلولها في محل.

فالجسم ذات قائمة بنفسها ، فلو كان ممكنا ، لكان محل إمكانه إما يكون نفس ذاته، أو شيئا آخر يكون له كالهيولى ، والأول محال. لأن الممكن ممكن لذاته لا لغيره. وكون ذاته موجودة ، شرط لكونها قابلة لذلك الإمكان ، وما كان شرطا لما يكون واجب الثبوت لذاته ، فهو أولى أن يكون واجبا لذاته ، فيلزم أن يقال : الممكن لذاته ، واجب لذاته. وهو محال. والثاني أيضا : محال ، لأنه على هذا التقدير تكون الجسمية مفتقرة إلى الهيولى. وقد دللنا على أن ذلك محال. وأيضا : فبتقدير أن تكون مفتقرة إلى الهيولى ، فتلك الهيولى إن كانت ممكنة ، افتقرت إلى هيولى أخرى. ويمر ذلك إلى ما لا نهاية له ، وهو محال. وإن انتهت بالآخرة إلى هيولى غنية عن هيولى أخرى ، فحينئذ يسقط هذا الاحتمال.

واعلم : أن هذه الشبهة قوية ، لو ثبت أن الإمكان صفة موجودة ، إلا أن الكلام فيه ما تقدم [والله أعلم] (٢)

الحجة الثانية : العالم ممكن الوجود في الأزل ، فوجب أن يكون واجب الحصول في الأزل. أما بيان المقام الأول ، فهو أنه لو كذب قولنا : إنه ما كان ممتنع الوجود لذاته في [الأزل (٣)] صدق نقيضه ، وهو أنه كان ممتنع الوجود في الأزل ، فيلزم أن يقال : إنه انتقل من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي. وقد بينا بالدلائل الكثيرة : أن ذلك محال. فيثبت بما ذكرنا : أن العالم ما كان ممتنع

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

الوجود في الأزل ، بل كان صحيح الوجود في الأزل. وأما بيان أنه متى كان كذلك ، لزم أن يكون موجودا في الأزل : فلأن كل ما لا يكون موجودا في الأزل ، استحال (١) عقلا أن يكون عدمه أزليا. فإن غير الأزلي يمتنع عقلا أن ينقلب (٢) أزليا.

وهذا الكلام يستدعي مزيد تقرير فنقول : الذي لا يكون حاصلا قسمان : أحدهما :

الذي لا يكون حاصلا مع أنه يمكن أن يصير حاصلا. وذلك مثل الجسم الذي لا يكون متحركا (٣) ، فيصير بعد ذلك متحركا.

والقسم الثاني : الذي لا يكون حاصلا ، مع أنه يمتنع أن يصير حاصلا وهذا مثل الشيء الذي يصدق عليه : أنه ما كان أزليا. فإن ذلك الشيء يمتنع أن يصير أزليا ، لأن الذي لا يكون أزليا معناه أنه ما كان موجودا فيما مضى [والأزلي هو الذي كان موجودا فيما مضى (٤)] فلو قلنا : إن [الشيء (٥)] الذي ما كان موجودا في الأزل ، ينقلب فيصير موجودا في الأزل : كان معنى هذا الكلام : أن الذي كان معدوما في الزمان الماضي ، صار الآن موجودا في الزمان [الماضي] (٦) وذلك يقتضي إيقاع التصرف في الزمان الماضي. وهو محال. فيثبت بهذا التقرير : أن الذي ما كان موجودا في الأزل ، يمتنع أن يصير بعد ذلك موجودا في الأزل. وهذا ينعكس انعكاس النقيض ، وهو أن الذي لا يمتنع أن يكون (٧) موجودا في الأزل [فإنه يجب أن يقال : إنه كان موجودا في

__________________

(١) استحال أن يصير بعد عدمه أزليا (ت)

(٢) يكون (ت)

(٣) فإنه قد يصير (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (س)

(٧) كونه (ط)

الأزل ، فلما (١)] دللنا على أن [العالم لا يمتنع أن يكون موجودا في الأزل (٢)] ودللنا على أن كل ما لا يمتنع أن يكون موجودا في الأزل : وجب أن يكون موجودا [في الأزل (٣) وجب القول بأنه كان موجودا في الأزل. وهذا معنى قول المحققين : «إن الأزلي كل ما صح في حقه : وجب» فإن قالوا : فهذا التقرير الذي ذكرتم قائم بعينه في كل واحد من الصور والأعراض الحادثة ، فيلزم كونها بأسرها أزلية. فنقول : الفرق ظاهر بين البابين. وذلك لأن إمكان كل واحد من هذه الحوادث ، مشروط بوجود الحادث [الذي (٤)] كان متقدما عليه ، فلما كانت هذه الإمكانات مشروطة بهذه الشرائط المخصوصة ، لا جرم امتنع حصول هذه الإمكانات بدون هذه الشرائط. فيثبت : أن إمكان وجود كل حادث ، إنما حصل في ذلك [الوقت (٥)] المقدر المعين. وذلك يقتضي أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر ، لا إلى أول. وذلك يوجب عين ما ذهبنا إليه. فهذا تقرير هذه الحجة.

وقد يقررونها من وجه آخر. وهو أنهم قالوا : المخالف يزعم أن كون العالم موجودا في الأزل [محال (٦)] ممتنع. فلما أقمنا الدليل على فساد ذلك القول ، فقد بطل قولهم في ادعاء هذا الامتناع ، وفسد كل ما يحتجون به ، ويعولون عليه في إثبات هذا الامتناع.

الحجة الثالثة : أن قالوا : إنا نبين أن العلوم على قسمين : ضرورية بديهية لا يرتاب العقل فيها ، ولا يفتقر في إثباتها إلى دليل وحجة. ونظرية ، وهي التي تكون محتاجة إلى الدليل [والنظر (٧)] والذي يدل على أن الأمر كذلك : أنا لا نشك في أنا نعلم أمرا من الأمور ، وشيئا من الأشياء. فنقول :

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ط)

(٧) من (ط)

ذلك العلم إما أن يكون نظريا أو بديهيا ، فإن كان الأول ، افتقر ذلك العلم النظري إلى تقدم علوم أخرى عليه. والكلام فيها كما في الأول. ويلزم إما الدور وإما التسلسل ، وهما محالان. فوجب الاعتراف بوجود علوم بديهية ضرورية ، يجب الاعتراف بها [لا لأجل حجة وبينة ودليل ، بل يجب الاعتراف بها (١)] لأعيانها ولذواتها. إذا ثبت هذا فنقول : إذا أردنا أن نعرف أن تلك العلوم البديهية ، ما هي؟ وكيف هي؟ قلنا : إنا إذا عرضنا قضية من القضايا على العقول السليمة ، والطباع المستقيمة ، فإذا رأينا أصحابها مطبقين (٢) على الاعتراف بها من غير شك ولا شبهة ، ومن غير حاجة فيها إلى [ذكر (٣)] دليل وحجة ، فذلك هو العلم [البديهي (٤)] الضروري الأزلي. ويكون جزم العاقل بأمثال هذه القضايا ، غنيا عن ذكر الحجة والبينة والدليل.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : صريح العقل يشهد بأن الشيء لا يحدث إلا عن مادة سابقة. وذلك يوجب قدم المادة. ولا مادة إلا الجسم. ومجموع هذه المقدمات الثلاثة ، يوجب قدم الجسم.

أما بيان المقدمة الأولى ، وهو أن الشيء لا يحدث إلا عن مادة سابقة ، فتقريره من وجوه :

الأول : إنا إذا شاهدنا إنسانا شيخا ، فإن صريح العقل يحكم بأنه ما حدث الآن مع صفة الشيخوخة دفعة واحدة ، بل إنه تولد عن الأبوين ، وكان جنينا ، ثم طفلا ، ثم شابا ، ثم صار الآن شيخا. ولو أن الإنسان تشكك في هذه الحالة ، وخطر بباله أنه لعله حدث الآن دفعة واحدة مع صفة الشيخوخة ، فإن كل أحد يقضي عليه بالجنون والعته. وأيضا : إذا شاهدنا قصرا مشيدا ، وبناء رفيعا ، ثم جوز مجوز [حدوثه (٥)] دفعة واحدة ، من غير سابقة وجود التراب

__________________

(١) من (ت)

(٢) مطبقين متفقين (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط ، س)

والخشب والحجر واللبن. حكوما عليه [بالجنون (١)] وفي أمثلة هذا الباب : كثرة. وكلها [تدل (٢)] على أن صريح العقل شاهد (٣) بأن الشيء لا يحدث إلا من مادة سابقة.

الثاني : إنا إذا رأينا صحراء خالية عن جميع وجوه العمارات ، ثم رأينا أنه [حدث (٤)] فيها قصرا مشيدا ، وبناء رفيعا ، وأنهارا جارية ، وبساتين عامرة. فههنا يقضي العقل بأشياء :

أحدهما : أن يقال : من الذي بناه؟ ومن الذي تولى هذه العمارات؟ وهذا يدل على أن صريح العقل ، حاكم بأنه لا بد للبناء من الباني.

وثانيها : [ويقال (٥)] من أي موضع أجريت هذه الأنهار؟ ومن أي مكان نقلت هذه الأحجار والخشب والآلات التي منها بنيت هذه العمارات؟ ولو أن قائلا قال : إنها إنما تكونت [بنفسها (٦)] ابتداء من غير تقدم حصول هذه الأجسام ، لقضوا عليه بالجنون. وذلك يدل على أن صريح العقل ، حاكم بافتقاره الحادث إلى مادة سابقة عليه.

وثالثها : أن يقال : متى حدث هذا البناء؟ وفي أي وقت حصل؟ ولو أن قائلا قال : إنه حدث لا في وقت ، ولا في زمان ، لقضوا عليه بالجنون. وذلك يدل على أن صريح العقل ، حاكم بأنه لا يتقرر الحدوث إلا في وقت وزمان. إذا عرفت هذا فنقول : حكم صريح العقل إما أن يكون مقبولا أو لا يكون. فإن كان مقبولا ، وجب كونه مقبولا في الكل. فكما وجب الحكم بافتقار الحادث إلى الفاعل ، وجب الحكم بافتقاره إلى المادة والمدة. وإن لم يكن

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) حاكم (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

مقبولا ، وجب أن لا يكون مقبولا أصلا. فأما أن يقبل في البعض دون البعض ، فهو متناقض.

الوجه الثالث في بيان افتقار الحادث إلى المادة : هو أنه لو كان التخليق من العدم المحض والنفي الصرف : ممكنا. لكان هذا النوع من التخليق أكمل وأفضل من التخليق بواسطة تغير المادة في الأحوال والصفات. وترك الأفضل دائما لا يليق بالحكيم العليم. فلو قلنا : إنه تعالى خلق جميع الأجسام ، لا عن مادة ، لوجب أن يحصل تكوين هذه الأشياء التي نشاهدها على هذا الوجه. وحيث لم توجد البتة ، علمنا أن التكوين عن العدم المحض : محال. [والذي (١)] يقرره : أن من أراد بناء قصر أو دار ، فإنه لا (٢) يشتغل بإعداد اللبن والجذوع والمسامير ، لو كان يمكنه إيجاد القصر والدار دفعة واحدة. ولما لم نشاهد البتة تكوين شيء مما شاهدناه عن العدم المحض ، علمنا : أن ذلك في نفسه : محال ممتنع. فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن كل محدث ، فلا بد له من مادة سابقة.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : إنه يجب أن تكون تلك المادة قديمة. والدليل عليه: أنها لو كانت حادثة ، لافتقرت إلى مادة أخرى ، ولزم التسلسل.

وأما المقدمة الثالثة : وهي أن تلك المادة ليست إلا الجسم. فالدليل (٣) أن نقول : لا شك أن الحامل [للصورة (٤)] والأعراض [المحسوسة (٥)] هو الجسم. فالجسم إما أن يكون قائما بنفسه ، أو يكون له محل. والأول هو المقصود (٦) والثاني [باطل (٧)] لأن محل الجسم ، إن كان مختصا بالحيز ، كان

__________________

(١) من (س)

(٢) لا يستعمل إلا بإعداد (ت)

(٣) الدليل بديهي

(٤) من (س)

(٥) من (ط ، س)

(٦) المعقول (ط)

(٧) من (ط ، ت)

محل الجسم : جسما. وهو محال. وإن لم يكن مختصا بالحيز [فالجسم المختص بالحيز (١)] يمتنع حلوله في موجود غير مختص بالحيز ، والعلم به بديهي. وهذا تمام تقرير هذه المقدمات.

فإن قيل : لا نسلم أن الحادث لا يحدث إلا عن مادة سابقة. والذي يدل على بطلان هذه المقدمة وجوه :

الأول : إن حدوث الشيء عن شيء آخر محال. لأن الشيء الأول إن كان باقيا ، فلم يحدث عنه شيء آخر. وإن لم يبق ، وحدث شيء آخر ، فهذا الشيء حدث عن العدم. وذلك الأول قد عدم ، فلم يحدث عن شيء. فظهر أن حدوث شيء عن شيء آخر: محال باطل.

الثاني : لا شك أن الجسم إذا تحرك بعد سكون ، فلا يمكن أن يقال : حدثت هذه الحركة عن حركة [أخرى (٢)] سابقة عليها. وذلك ظاهر. ولا عن السكون السابق ، لأن الحركة منافية للسكون ، والشيء لا يتكون مما ينافيه. فيثبت أن هذه الحركة حدثت ، لا عن شيء ، بل عن محض العدم.

الثالث : إنه كما يستبعد [حدوث الشيء عن العدم المحض ، فكذلك يستبعد (٣)] حدوث الجسم عن شيء غير متحيز ، وعندكم الهيولى جوهر غير متحيز.

الرابع : إن هذه المادة محل التغيرات ، وكل ما كان كذلك ، فهو حادث على ما سيأتي تقريره فهذه المادة حادثة ، فلو افتقر الحادث إلى المادة ، لزم التسلسل. فيثبت بهذه الوجوه الأربعة : فساد قول من يقول : «الحادث [لا يحدث (٤)] إلا عن مادة سابقة»

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) من (ت)

السؤال الثاني : هب أن حدوث الشيء عن المادة السابقة : معقول. فلم قلتم : إن الأمر كذلك؟ وتقريره : إنكم إما أن تقولوا : إن هذه المقدمة ضرورية أو نظرية. لا جائز كونها ضرورية. لأن جميع المسلمين القائلين بحدوث الأجسام : اتفقوا على أنها حادثة عن محض العدم ، ولو كان افتقار الحادث إلى المادة السابقة : معلوما بالضرورة ، لامتنع اختلاف العقلاء فيه. وأيضا : فلو جاز لكم ادعاء البديهة في قولكم ، لجاز لخصومكم ادعاء البديهة في قولهم. فقد ظهر بهذا الكلام : فساد ادعاء الضرورة فيه. وأما الدليل. فأنتم ما ذكرتم دليلا في أن كل محدث ، فلا بد له من مادة. فقد سقط هذا الكلام.

ولنتكلم الآن على الوجوه التي ذكرتموها. فنقول :

أما الوجه الأول من الوجوه الثلاثة التي ذكرتموها : فجوابه : إنه لا نزاع في أن من تشكك في أن هذا الشخص الذي نشاهده الآن ، لعله حدث الآن على هذا الوجه. فإنه يقضي عليه بالجنون. إلا أن هذا ، إنما يدل على كوننا قاطعين بأن هذا المعنى لم يقع الآن. فلم قلتم : إنه يدل على كوننا قاطعين بأنه يمتنع وقوعه؟ وتقريره : إن الوقوع غير ، وجواز الوقوع غير ، فنحن قاطعون بعدم الوقوع. فأما ادعاء كوننا قاطعين. بامتناع الوقوع على هذا الوجه ، فهذا ممنوع. فما الدليل عليه؟

وأما الوجه الثاني : فلا نسلم أن حكم العقلاء بافتقار البناء [إلى الباني ، مثل حكمهم بافتقار البناء (١)] إلى المادة والمدة ، والدليل عليه : أن جمهور المتكلمين [قاطعون (٢)] بافتقار البناء إلى الباني ، وقاطعون (٣) بافتقاره إلى المادة والمدة.

وأما الوجه الثالث : فنقول : إنه تعالى فاعل مختار ، فله أن يفعل ما شاء ، كما شاء. فلعله خلق الأجسام ابتداء ، لا عن مادة أصلا ، ثم إنه تعالى

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) وقاطعوا بعدم افتقاره (ت)

يخلق الحيوان والنبات عن مواد سابقة عليها. وأيضا : فلعل تخليق الحيوان والنبات على هذا الوجه أصلح للمكلفين ، فلهذا السبب اختار الله [تعالى (١)] تخليق هذه الأشياء في هذا العالم على هذا الوجه [والله أعلم (٢)]

والجواب :

أما قوله : «إن حدوث الشيء (٣) لا من الشيء غير معقول» قلنا : المراد من هذه المقدمة هو أنه لا بد من ذات سابقة على حدوث الشيء ، يحصل فيها استعداد حدوثه ، سواء كانت تلك الذوات (٤) قبل حدوث هذه الصفة : موصوفة بصفة أخرى ، أو لم تكن كذلك. وظاهر : أن هذا المعنى معقول ، وغير باطل في بديهة العقل ، بل كأن بديهة العقل شاهدة بصحة هذا المعنى ، فإنه لا بد من سبق وجود الحديد ، حتى يصير فيه استعداد قبول الصورة السيفية [ولا بد من سبق وجود الذهب ، حتى يحصل فيه استعداد قبول الصورة الخاتمية (٥)] ولا بد من سبق الطين حتى يحصل فيه استعداد قبول (٦) الصورة الكوزية.

وأما قوله ثانيا : «إن هذا المعنى منقوض بحدوث الأعراض» فنقول : هذا ضعيف. لأن الاعتماد في تقرير هذه الحجة : على حكم بديهة العقل. فيجب أن نتعرف عن كيفية ذلك [الحكم (٧)] فنقول : إنا إذا عرضنا على العقل : أنه هل حدثت هذه الدار ابتداء ، من غير وجود التراب والخشب والحجر؟ فإنا نجد جميع العقلاء جازمين بامتناعه ، مستبعدين لوقوعه. أما إذا عرضنا على العقل : أنه هل يجوز أن تجتمع هذه الأجسام ، وتحدث فيها الهيئة المخصوصة التي للدار؟ فإنا وجدناهم قاطعين بجواز ذلك. وإذا كان التعويل

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت)

(٣) الشيء من الشيء (ط ، س)

(٤) الذات (ط)

(٥) من (س)

(٦) حصول (ط)

(٧) من (ت)

في تقرير هذه الحجة ، على حكم البديهة (١) العقلية ، ثم وجدنا البديهة العقلية : حكمت بالفرق بين الصورتين ، فقد زال السؤال.

وأما قوله ثالثا : «الهيولى ليس لها حجم ، [ولا مقدار. وما كان كذلك ، امتنع حدوث الجسم عنه» فنقول : إن هذا يلزم على من يقول : إن هيولى الأجسام جوهر مجرد ، ليس له حجم (٢)] ولا تحيز ، أما من يقول : هيولى الأجسام هي الأجزاء التي لا تتجزأ ، وهي التي يسميها القدماء بالهباءات. فالسؤال زائل ، لأنه تقرر في عقل كل أحد : أن هذا القصر إنما تركب عن أجسام كل واحد منها في نفسه شيء صغير ، إلا أنه لما انضم البعض إلى البعض حصل (٣) الجسم الكبير.

وأما قوله رابعا : هذه الهيولى لا تخلو عن الحركة والسكون والاجتماع والافتراق. وهذه الأعراض حادثة ، وما لا ينفك عن الحادث فهو حادث. فسيأتي الجواب عنه في باب دلائل القائلين بحدوث الأجسام.

أما قوله خامسا : «دعوى البديهة في محل الخلاف : باطل» فنقول : قد دللنا على أنه لا بد من الاعتراف بوجود العلوم البديهية ، ودللنا على أنه لا يمكن كون العلم بديهيا إلا الأمور التي تحكم بصحتها [جميع (٤)] العقول السليمة ، وقد بينا : أن القول بأن هذا القصر العالي إنما حدث الآن من غير سابقة وجود الأحجار والخشب واللبن : قول يدفعه العقل ، ويقضي على قائله بالجنون. فيثبت : أن هذه المقدمة من المقدمات البديهية الضرورية.

أما قوله سادسا : «لم لا يجوز أن يقال : إنا وإن قطعنا بعدم الوقوع ، أنا مع ذلك نحكم بجواز الوقوع» فنقول : هذا باطل. لأن الشيء إذا كان جائز الوجود ، وجائز العدم ، فلا يلزم من فرض وجوده ، ولا من فرض عدمه :

__________________

(١) بديهة العقل (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) صار (ت)

(٤) من (ط)

محال. فالعقل وحده لا يمكنه في هذا الموضع أن يجزم بأن أحد الطرفين ، لا محال : واقع. لأن حكم العقل (١) هاهنا : استواء الطرفين. والحكم بوقوع أحد الطرفين لا محال : جزم بحصول (٢) الرجحان. والجمع بين الاستواء وبين الرجحان : مال. فيثبت : أن العقل لما تقرر عنده هذا الاستواء : امتنع أن يحكم بالرجحان (٣) إلا بدليل منفصل ، وهو الدليل السمعي. وعلى هذا التقدير يكون [هذا (٤)] العلم بحصول ذلك الرجحان مستندا إلى الدليل السمعي. فوجب أن يكون الجاهل بذلك الدليل السمعي : جاهلا بذلك الرجحان. ومعلوم أنه ليس كذلك ، لأن الملحد والموحد كلهم قاطعون ، بامتناع حصول القصر ، إلا عن المادة السابقة.

وأما قوله سابعا : «إن المتكلمين حكموا بافتقار البناء إلى الباني ، وحكموا باستغناء البناء عن المادة والمدة» فنقول : إنه لا عبرة في تمييز البديهيات عن النظريات بقول المتكلمين. وذلك لأنهم عند الإلزامات القوية ، قد اعتادوا التزام المحالات ، وارتكاب المنكرات. ألا ترى أن الجبرية لما ألزموا على المعتزلة : أن القادر لما كان قادرا على الضدين ، امتنع رجحان أحد الطرفين على الآخر إلا لمرجح ، وحينئذ يلزم الجبر.

فالمعتزلة : خوفا من هذا الإلزام : جوزوا رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. مع أن العقلاء المحققين اتفقوا على أن هذه المقدمة بديهية. ولهذا الباب نظائر كثيرة.

بل نقول : العبرة في تمييز البديهيات عن النظريات : بالعقلاء الذين بقوا على الفطرة الأصلية ، والسلامة الخلقية ، وما مارسوا المحالات ، ولم يألفوا التزام المنكرات والمحالات ، في مواقف المناظرات. ومعلوم أن جميع عقلاء

__________________

(١) العقلاء (ت)

(٢) بوجود (ط ، س)

(٣) بين الرجحان (ت)

(٤) من (ت)

الدنيا إذا كانوا بالصفة المذكورة ، ثم عرضت عليهم : أنه هل يجوز حدوث إنسان شيخ دفعة واحدة ، من غير أن كان مسبوقا بالأبوين ، ومن غير أن كان مسبوقا بالطفولية والشباب؟ فإنهم يقطعون بامتناعه. وإذا عرضت عليهم قول من يقول : إن هذه الأنهار جرت في هذه المفازة من غير أن يقال : إنها سالت إليها من مواضع أخر وإنما جرت في هذه المفازة على سبيل أن هذه المياه حدثت في هذه المواضع ابتداء. فإن العقلاء بأسرهم يقطعون بكون هذا القول كذبا باطلا ، أو بأن قائل (١) هذا القول : صار مجنونا. وهذا يدل على أن هذه المقدمة من أقوى البديهيات.

وأما أن المتكلمين يجوزونه ، فليس الأمر كذلك ، لأن المتكلم لو سألته عن هذه الوقائع ، لا في وقت المناظرة ، بل في وقت سلامة عقله ، لأقر بذلك ، ولقضى على من ينكروه بالجنون والعته. فثبت : أن الأمر كما ذكرناه.

وأما قوله على الوجه الثالث : «إنه تعالى فاعل مختار ، فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد».

فنقول : أما القول بأنه [لا (٢)] مرجح لأحد الطرفين على الآخر. فهذا يقتضي أن يكون وقوع أحد الجانبين : اتفاقيا محضا. والأمور الاتفاقية ، إما أن تكون ممتنعة الوقوع ، أو إن كانت ممكنة الوقوع ، إلا أنها لا تكون دائمة ولا أكثرية.

وقوله : «إنما كانت لأنه أصلح للعباد» ففي غاية الضعف. لأن حدوث الحيوان والنبات والمعادن ، لما كان موقوفا في مجاري العادات ، على أحوال المواد ، والفصول الأربعة ، وتغير أحوال الكواكب : صار ذلك سببا لوقوع الشك العظيم ، في أن المؤثر في حدوث هذه الأشياء هو الطبائع ، لا [الفاعل (٣)]

__________________

(١) أو بأن هذا القائل صار (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (س)

القادر المختار. أما لو فرضنا أنها كانت تحدث من غير هذه الوسائط ، كانت العقول حاكمة. بأنه لا تعلق للطبائع بها البتة ، بل المؤثر فيها هو الفاعل المختار. فيثبت : أن هذا الطريق أصلح للمكلفين. وأيضا : فتعليل أفعال الله [تعالى] (١) بمصالح العباد ، قد أبطلناه في الفصول السالفة. والله أعلم.

__________________

(١) من (ت)

المقالة الثامنة

في

الوجوه المستنبطة

من الحركة والتغير والحدوث

في

الوجوه المستنبطة

من الحركة والتغير والحدوث

وفيها وجوه :

الحجة الأولى : قالوا : لو كان العالم حادثا ، لكانت الحوادث منتهية إلى الحادث الأول ، وذلك الحادث ، [الأول] (١) إما أن يكون له سبب حادث ، وإما ان يكون ، والقسمان باطلان. فالقول بانتهاء الحوادث إلى الحادث الأول : محال.

إنما قلنا : إنه ممتنع أن لا يكون للحادث الأول : سبب حادث. لوجهين :

الأول : إن بديهة العقل وفطرة النفس شاهدة (٢) ، بأن كل حادث فلا بد له من سبب حادث. بدليل : أن كل من أحس بحدوث حادث ، فإنه يطلب له سببا ، ويقول : ما الذي حدث ، حتى حدث هذا الأثر (٣)؟ ولو قال قائل إنه حدث هذا الأثر لا سبب أصلا ، أو لسبب كان موجودا ، قبل ذلك بمدة طويلة. فإن كل العقلاء يكذبونه. ويقولون : إنه إما أن يكون كاذبا أو مجنونا. ولا بد لهذا الحكم من سبب حادث. فيثبت : أن افتقار لم الحادث

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) حاكمة شاهدة (ت)

(٣) الأمر (ت)

إلى السبب الحادث ، حكم ضروري في العقول ، بديهي في النفوس.

فكان القول : بأن الحكم الحادث غني عن السبب الحادث : قولا باطلا. فإن قالوا : أليس أن العقلاء يجوزون إسناد الحكم [الحادث] (١) إلى سبب كان موجودا قبل ذلك الوقت؟ فإنهم قد يقولون : إن هذا الذي حدث الآن ، إنما حدث عن ذلك الحقد القديم ، والعداوة القديمة. فهذا يدل على أنهم يجوزون إسناد الحكم الحادث ، إلى سبب كان موجودا قبله بزمان. فنقول في الجواب عنه : إن من يقول هذا الكلام [لا بد وأن] (٢) يعترف بأن تلك العداوة القديمة ، كانت موجبة (٣) لهذه المضار الحادثة ، إلا أن ظهور هذه الآثار عن تلك العداوة القديمة ، كانت موقوفة على شرائط ، ما حدثت إلا الآن. مثل القدرة على الإظهار ، ومثل زوال الموانع. فأما أن يقال : إن تلك العداوة القديمة ، كانت توجب هذه الأحوال ، ثم كانت الشرائط بأسرها حاصلة ، والموانع بأسرها ، كانت زائلة. ثم إن ذلك الأثر ، لم يحصل مدة طويلة ، ثم حدث الآن ، لا لتغير شرط ، ولا لزوال مانع. فذلك ممتنع في بدائه العقول. فيثبت : أنه قد تقرر في العقول الصحيحة : أن كل حكم (٤) حادث فلا بد له من سبب حادث.

الثاني : أن بتقدير أن لا يكون للحادث الأول سبب حادث ، لكان ذلك ، إما لأجل أن ذلك الحادث الأول له أصلا ، أو إن كان له سبب ، لكنه غير حادث. أما الأول فباطل بالاتفاق.

وأما الثاني : فباطل أيضا. لأن ذلك الشيء لما كان حاصلا قبل ذلك [حال (٥)] ما كان هذا الأثر معدوما ، وحصل الآن أيضا مقارنا لوجوده ، حكم صريح العقل بأنه لا يصلح لأن يكون سببا له ، وأنه لا بد لهذا الحادث من

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط)

(٣) موجود لا (ت)

(٤) نقول ذلك (ت)

(٥) من (س)

سبب آخر. ومثاله : أن زيدا صار محموما [في هذا اليوم (١)] فإن قلنا : إن سبب حدوث حمّاه : هو كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا : فهذا معلوم الفساد بالبديهة. لأنه لما كان كون السماء فوقنا ، والأرض تحتنا : حاصل قبل حدوث هذه الحمى بسنين كثيرة ، ولم يكن له أثر في حدوث هذه الحمى ، إلى ذلك [الوقت يكون (٢)] مدفوعا في بديهة العقل. فيثبت : أن إسناد الأثر الحادث إلى المؤثر الدائم : معلوم الامتناع بالبديهة.

وأما القسم الثاني : وهو أن الحادث الأول يفتقر إلى سبب حادث. فهذا أيضا باطل من وجوه :

[الأول (٣)] إن على هذا التقدير يكون سببه متقدما عليه ، فلا يكون الحادث الأول حادثا أولا. وهذا (٤) خلف.

الثاني : إن على هذا التقدير يجب إسناد كل حادث [إلى حادث (٥)] آخر [قبله (٦)] فهذه الأسباب التي لا نهاية لها ، إما أن توجد دفعة واحدة ، أو يكون كل متأخر مستندا إلى ما كان متقدما عليه ، لا إلى نهاية (٧)

و [القسم] (٨) الأول باطل لوجوه :

الأول: إن القول بوجود أسباب ومسببات لا نهاية لها دفعة واحدة : قول باطل على ما سبق في هذا الكتاب تقريره.

والثاني : إن على التقدير بكون مجموع تلك الأشياء ، إنما حدث في ذلك الوقت ، فيعود السؤال في أن حدوث ذلك المجموع في ذلك الوقت المعين ، لا

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) وأنه (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) أول (ت)

(٨) من (ت)

بد له من سبب حادث ، وذلك باطل ، لأن ذلك السبب ، لكونه سببا لمجموع الحوادث ، يجب أن يكون مغايرا لذلك المجموع. ولكونه حادثا يكون داخلا في مجموع. ولكونه حادثا يكون داخلا في مجموع الحوادث ، فيكون الشيء الواحد ، داخلا في ذلك المجموع ، وخارجا عنه. وهو محال.

والثالث : إن الحس يدل على أن أجزاء الحركة ما حصلت على الاجتماع دفعة واحدة ، والأشخاص التي [دخلت في الوجود (١)] بأسرها لم توجد مجتمعة في هذا الزمان المعين. ولما ثبت : أن كل حادث ، فلا بد من استناده إلى حادث آخر ، لا إلى نهاية. وثبت : أن تلك الأسباب والمسببات التي لا نهاية لها ، لم توجد دفعة : وجب أن يقال : إن كل واحد منها استند إلى ما قبله لا إلى أول. وذلك هو المطلوب.

فإن قالوا : فعلى هذا لتقدير ، يلزم أن [يكون (٢)] المعدوم علة للموجود. فنقول : ليس الأمر كذلك ، بل العلة المؤثرة في وجود المعلول : هو الموجود القديم الدائم ، وكل واحد من هذه الحوادث [فإنه (٣)] شرط لكون ذلك القديم مؤثرا في وجود الحادث المتأخر ، على ما سبق تقريره.

الحجة الثانية : أن نقول : لو كان الجسم حادثا ، لكان حدوثه إما أن يكون عين ذاته ، أو زائد عليه. والقسمان باطلان فالقول بحدوث : باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون حدوثه نفس ذاته لوجهين :

الأول : أن المراد من الحدوث خروجه من العدم إلى الوجود ، فالجسم حال بقائه ليس حادثا بهذا التفسير ، فلو كان حدوثه عين ذاته. ثم إن الحدوث غير حاصل في الزمان الثاني، وجب أن لا تبقى ذاته في الزمان الثاني. فهذا يقتضي أن يكون الجسم ممتنع البقاء. وذلك باطل.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

والثاني : أنه لو كان حدوثه عين ذاته ، لكان العالم بذاته عالما بحدوثه. وذلك يوجب أن يكون العلم بحدوثه ضروريا ، كما أن العلم بوجوده ضروري. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون حدوثه زائد عليه ، لأنه يلزم أن يكون حدوث ذلك الحادث زائدا عليه ، ويلزم التسلسل. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : حدوث الجسم عين ذاته؟ ويلزم كون الجسم حادثا ، حالا محالا. وأيضا : فهذا وارد في الصفات والأعراض. وأيضا : فهذا وارد عليكم في قدم الأجسام على ما سيأتي تقريره في باب دلائل القائلين بالحدوث.

والجواب عن الأول : إنه قد اتفق العقلاء المعتبرون (١) على أن الأجسام باقية دائمة.

وأما الثاني : فكثير من الخلق ، التزموا أن بقاء : الأعراض محال.

وأما الثالث : فهو أن قدم الجسم ، لما كان عين ذاته ، لم يمتنع أن يقال : إنه قديم في كل الأوقات. أما لو قلنا : إن حدوثه عين ذاته ، لزم أن يكون حادثا في كل الأوقات. وذلك ينافي كونه باقيا ، مستمر الوجود (٢). فظهر الفرق.

الحجة الثالثة : اعلم أن المتقدمين كانوا يقولون : ما شاهدنا ليلا ، إلا وقبله نهارا ، ولا نهارا إلا وقبله ليل. فوجب أن يكون الأمر كذلك.

والمتكلمون شنّعوا عليهم ، وقالوا : هذا جمع بين الشاهد والغائب. بمحض التحكم ، وأنه باطل.

واعلم أن القوم لهم هاهنا مقامان :

المقام الأول : إنا لا نتمسك بهذا الدليل ، في إثبات القطع والجزم بهذا القول [بل (٣)] في إثبات أن هذا القول هو الأولى والأقرب والأخلق بالقبول.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) الأول (ت)

المقام الثاني : أن نتمسك بهذا الطريق في إثبات القطع والجزم.

أما المقام الأول : [فتقريره (١)] : أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان فإن قام دليل منفصل على وقوع التغير ، قضينا به. وإلا فالواجب هو الحكم ببقائه على ما كان فيفتقر هاهنا إلى بيان أمرين :

[إلى (٢)] بيان أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان. ثم إلى بيان أنه لما كان الأمر كذلك ، لزم القول بثبوت هذا المطلوب.

أما المقام الأول : وهو بيان أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان. فيدل عليه وجوه :

الأول : أن الباقي حال بقائه غني عن المؤثر ، وإلا لزم تكون الكائن. والحادث حال حدوثه مفتقر إلى المؤثر. وهو متفق [عليه (٣)] والغني عن المؤثر راجح الوجود ، بالنسبة إلى المحتاج إلى المؤثر. لأن الغنى إن لم يكن راجح الوجود لزم أن يكون [إما (٤)] مساويا ، أو مرجوحا. وعلى التقديرين فكان يلزم افتقاره إلى المرجح. مع أنا فرضناه غنيا عن المؤثر. هذا خلف. وأما المحتاج إلى المؤثر. فيلزم أن يكون المحتاج إلى المؤثر غنيا عنه. هذا خلف. وإذا ثبت كون الباقي راجحا على الحادث في نفس الأمر ، وجب أن يكون كذلك في الظن الصادق ، حتى يكون الظن مطابقا للمظنون.

الثاني : [أن (٥)] الحادث يفتقر حدوثه إلى أمور ثلاثة : إلى حدوث ذلك الشيء ، وإلى ذلك الزمان ، وإلى حدوث حصوله في ذلك الزمان.

وأمّا الباقي : فإنه لا يفتقر إلى حدوث ذاته ، وإنما يفتقر إلى حدوث [أمرين : إلى حدوث (٦)] ذلك الزمان ، وإلى حدوث حصوله في ذلك

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (س)

(٦) من (ت)

الزمان. والمفتقر إلى أمور ثلاثة : مرجوح بالنسبة إلى ما يكون مكتفيا بأحد ذينك الأمرين.

ولقائل أن يقول : لو كان الحدوث مفتقرا إلى هذه الأمور الثلاثة ، لافتقر كل واحد منها إلى ثلاثة أخرى.

الثالث : لو كان ظن التغير معلولا لظن البقاء ، لما فهم أحد شيئا من كلام أحد. لأنه لما كان احتمال بقاء تلك الألفاظ ، دالة على الموضوعات السابقة ، معادلة لزوال تلك الدلالة ، لم يسارع الفهم إلى جانب البقاء ، بل بقي مترددا وحينئذ يلزم أن لا يحصل الفهم. وحيث حصل ، علمنا أن ذلك ، إنما كان لأجل أن اعتقاد البقاء على ما كان : راجح على اعتقاد الزوال عما كان.

الرابع : أن من خرج عن بلد ، وكان قد شاهد بعض جوانب تلك البلدة معمورا ، والجانب الآخر [منه (١)] خرابا. فإنه بعد خروجه عن ذلك البلد ، وغيبته عنه بمدة مديدة، فإنه يبقى ظنه في الجانب الذي كان معمورا [أنه بقي معمورا (٢)] وفي الجانب [الذي رآه خرابا (٣)] أنه بقي خرابا ولا يرجع عن هذا الحكم إلا لدليل منفصل. [وذلك (٤)] يدل على أن البديهة حاكمة : بأن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان.

الخامس : أنه إذا خرج من بلد ، فإنه يكتب إلى أقاربه ، [وأصدقائه (٥)] وما ذاك إلا لأن ظن البقاء ، راجح على ظن الزوال. فيثبت بهذه الوجوه : أن الأصل في كل أمر ، بقاؤه على ما كان. ويثبت : أن التغير لا يجوز إثباته إلا بدليل منفصل.

إذا ثبت هذا ، فنقول : الأصل في هذه الأجسام ، الموصوفة بهذه

__________________

(١) من (س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

التركيبات المخصوصة ، والصفات المخصوصة ، أنها كانت [معدومة ثم صارت (١)] موجودة هكذا ، فإن قام دليل قاهر من الخارج على أنها كانت معدومة ثم صارت موجودة ، قضينا بذلك. وإلا وجب القضاء بأنها كانت على هذه الحالة والصفة ، أبدا من غير تغير.

فالحاصل أن القول [بالدوام (٢)] متأيد ومتأكد بحكم الأصل. ولا حاجة فيه إلى دليل منفصل. وإنما المحتاج إلى دليل المنفصل هو القول بالتغير والحدوث.

المقام الثاني في تقرير هذه الحجة : أن نقول : قد بينا أن بديهة العقل تستبعد حدوث الإنسان ، لا عن الوالدين ، وتستبعد حدوث نهار لا يسبقه ليل ، ولا نهار.

وبينا : أن إطباق كل العقلاء على هذا الاستبعاد ، يدل على أن وقوع هذه الأحوال على هذه الوجوه المخصوصة ، لا بد وأن يكون من الواجبات. لأن لو لم تكن في أنفسها من الواجبات ، لامتنع أن يحصل الجزم بتعيين أحد الطرفين للوقوع ، وتعيين الطرف الثاني لعدم الوقوع. وذلك مما سبق تقريره [فلا فائدة في الإعادة. والله أعلم (٣)]

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

المقالة التاسعة

في

الوجوه المستنبطة

في هذا الباب من الزمان

في

الوجوه المستنبطة

في هذا الباب من الزمان

فالحجة الأولى : أن يقال : البارئ والعالم. إما أن يقال : إنهما وجدا معا ، أو يقال: العالم متأخر عن البارئ بمدة غير متناهية ، أو متأخر عنه بمدة متناهية. والقسم الأول والثاني باطلان (١) فتعين الثالث.

وإنما قلنا : إن القسم الأول باطل. إذ لو كان البارئ والعالم معا ، لزم أن يكونا معا قديمين (٢) أو يكونا معا محدثين. وإنما قلنا : إن القسم الثاني باطل. لأن المتقدم على المحدث بمدة متناهية ، يكون محدثا. فيلزم حدوث البارئ. فبقي الثالث وهو أن يقال : البارئ متقدم على العالم بمدة غير متناهية ، فهذا يوجب القول بأن تلك المدة التي بسببها تقدم البارئ على العالم ، تقدما لا نهاية له تكون قديمة. فهذا يوجب قدم المدة.

ويمكن ذكر هذا الكلام في تقرير قدم المدة ، بحيث لا يحتاج فيه إلى ذكر قدم العالم. فيقال : لا شك أن البارئ متقدم على الحوادث الحادثة في هذا اليوم ، فإما أن يكون تقدمه عليها بمدة متناهية ، أو بمدة غير متناهية. والأول يوجب حدوث البارئ ، والثاني يوجب قدم المدة. فإن قيل : هذا بناء على أن تقدم البارئ على العالم ، أو على هذا الحادث المعين بمدة، حتى يقال بعد

__________________

(١) باطل (ت)

(٢) قديمين ، وأن يكونا محدثين (ت)

ذلك : إن تلك المدة ، إما أن تكون متناهية أو غير متناهية. وذلك باطل.

فإنه لا يجوز أن يقال : البارئ تعالى متقدم على العالم (٣) بالمدة. والدليل على بطلان هذا القول وجوه :

الأول : إن تقدم الأمس على اليوم ليس بالزمان والمدة. وإلا لزم وقوع المدة في مدة أخرى ، إلى ما لا نهاية له.

وإذا عقل أن يكون تقدم الأمس على اليوم لا بالمدة [فلم لا يعقل أن يكون تقدم وجود البارئ على وجوه العالم ، لا بالمدة؟ (٢)]

الثاني : إن المدة عبارة عن آنات منقضية سيّالة ، فكل واحد من تلك الآنات ، قد كان معدوما ، ثم صار موجودا. وكل ما كان كذلك ، فهو ممكن [وكل ممكن (١)] فله محدث. فلمجموع الزمان (٤) محدث ، هو فاعل مختار. والفاعل المختار لا بد وأن يكون متقدما على مفعوله ، فيكون البارئ متقدما في الوجود على وجود المدة والزمان. وتقدمه على المدة يمتنع أن يكون بالمدة ، وإلا لزم كون المدة : موجودة ، حال كونها معدومة. وذلك محال.

الثالث : إن ماهية المدة متعلقة بالتغير من حال إلى حال. والتغير ماهيته تقتضي المسبوقية بالحال المتنقل عنه فماهية المدة تقتضي المسبوقية بالغير ، وماهية الأزل تنافي المسبوقية بالغير. والجمع بينهما محال.

الرابع : [إن (٥)] الآن الحاضر ما كان موجودا قبل حضوره ، وسيعدم بعد دخوله في الوجود. وكل ما كان كذلك ، فإنه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فإنه لا يمتنع أن يفنى ويوجد (٦) مثله عقيبه.

__________________

(١) العالم بمده. والذي يدل على بطلان (ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (س)

(٤) الزماني (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) ولا يوجد (ط ، س)

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن بتقدير أن يفنى هذا الآن الحاضر ، ولا يوجد بعده آن آخر ، فإنه تكون المدة منقطعة وفانية. ومع هذا التقدير ، فإنه يكون عدم الزمان متأخرا عن وجوده، لا بالزمان. وإلا لزم عدمه عند وجوده. وذلك محال.

فقد عقلنا حصول التقدم والتأخر ، لا بسبب الزمان والمدة.

والخامس : إن المدة والزمان. إما أن تكون في نفسه وذاته من الأمور الدائمة الباقية ، أو تكون من الأمور الحادثة المتبدلة. فإن كان الأول ، فنقول : هذه المدة أمر دائم. ودوامها ليس بسبب مدة أخرى. وإلا لزم التسلسل. فقد عقلناه دواما ، لا بسبب المدة ، وإذا عقل ذلك ، فلم لا يعقل الدوام والاستمرار في سائر الأشياء من غير حاجة إلى فرض زمان ومدة؟ وإن كان الثاني ، فحينئذ يكون كل واحد من أجزاء الزمان ، سابقا على غيره ، أو متأخرا عنه. وذلك التقدم والتأخر ، ليس بسبب المدة وإلا لزم التسلسل.

وإذا عقل ذلك ، فلم لا يعقل حصول التقدم والتأخر في سائر الأشياء ، لأجل المدة والزمان؟

السادس : إن المدة لا يعقل حصولها ، إلا حيث حصل فيه الماضي والحاضر والمستقبل. فالذي يكون مستقبلا ، يصير بعده حالا ، ثم يصير الحال ماضيا. وهذا لا يحصل إلا حيث حصل فيه التغير والتبدل. والبارئ تعالى منزه (١) عن التبدل والتغير ، فامتنع [أن يدخل تحت الزمان ، فامتنع (٢)] أن يكون تقدمه على العالم بالمدة والزمان.

فثبت بهذه الوجوه الستة : أنه لا يجب أن [يكون (٣)] تقدم البارئ على العالم [بالمدة (٤)] والزمان. والله أعلم.

__________________

(١) مبرأ (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

والجواب : إن هذه الإشكالات بأسرها ، إنما تتوجه على من يقول : الزمان عبارة عن مقدار الحركة ، وأنه حالة منقضية سيّالة ، وتحصل فيها آنات متعاقبة. ونحن لا نقول : بشيء [من ذلك (١)] بل الحق : أن المدة في ذاتها : جوهر باق ، [فإن (٢)] لم يقارنه شيء من الحوادث ، فهناك حصل الدوام الواحد ، والاستمرار الواحد ، من غير [فرض (٣)] تبدل أحوال ، ومن غير حصول تغير صفة. وذلك هو [المسمى بالدهر (٤)] والأزل والسرمد. وأما إن قارنه حدوث الحوادث المتعاقبة المتلاصقة ، فحينئذ يحصل هناك بسبب حصول تلك الحوادث المتعاقبة ، مع وجود تغيرات في نسب ذلك الشيء ، وفي إضافاته الخارجة عن ماهيته. فلهذا السبب يظن في ذات المدة : أنه أمر سيّال منقض. وليس الأمر كذلك ، وإنما السيلان والتقضي يحصلان في نسب ذلك الشيء ، وإضافاته العارضة لجوهره. وعلى هذا المذهب ، فالأسئلة بأسرها ساقطة.

واعلم أن أصحاب «أرسطاطاليس» يحتجون على قدم الزمان. ثم لما كان مذهبهم : أن الزمان مقدار الحركة ، لا جرم أمكنهم أن يستدلوا بقدم الزمان على قدم الحركة ، وبقدم الحركة على قدم الجسم.

فإذا (٥) قلنا المدة والزمان : جوهر قائم بنفسه ، وأنه ليس من لواحق الحركة ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بقدم المدة على قدم الحركة [والجسم (٦)] فلتكن هذه الدقيقة معلومة.

ثم نرجع إلى بيان الجواب عن السؤالات المذكورة : أما قوله : «لا نسلم أن تقدم البارئ [تعالى (٧)] على العالم يكون بالمدة» قلنا : الدليل

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت)

(٥) أما إذا (ط ، ت)

(٦) من (ط ، ت)

(٧) من (ط ، ت)

عليه : هو أن البارئ تعالى ، لما كان موجودا في الأزل ، وما كان العالم موجودا في الأزل ، لزم القطع بكون البارئ تعالى متقدما على العالم. ثم نقول : لا شك أن البارئ تعالى ، كان موجودا قبل حدوث العالم بتقدير ألف سنة. وكان أيضا موجودا قبل حدوث العالم بتقدير ألفي سنة. ولا شك أن التقدم الحاصل على أول العالم بتقدير ألفي سنة ، أزيد مقدارا من التقدم الحاصل على أول العالم بألف سنة. وهذه الزيادة ليست بمجرد فرضنا واعتبارنا ، لأن كل ما لا حصول له إلا بحسب الفرض والاعتبار ، كان واجب التغير ، بحسب تغير الفرض والاعتبار. ونحن بالبديهة نعلم : أن القدر الذي به يحصل التقدم على أول العالم ، بمقدار ألفي سنة : ضعف الذي به يحصل التقدم على أول العالم بألف سنة. ولا معنى للمدة والزمان إلا هذا المقدار ، القابل للمساواة والمقارنة. فيثبت : أنه لو كان العالم محدثا ، لكان البارئ متقدما عليه بمدة غير متناهية.

أما قوله : «لما جاز أن يتقدم بعض أجزاء الزمان على البعض الآخر ، لا بالمدة. فلم لا يجوز مثله في تقدم ذات البارئ [تعالى (١)] على أول العالم؟» قلنا : إنما صح [قولنا (٢)] إن هذا الجزء من الزمان ، متأخر عن الجزء الأول. لأنا نقول : [هذا (٣)] الجزء ما كان موجودا مع الجزء (٤) الأول. إلا أن هذا المعنى إنما يصح ، إذا كان الجزء الأول موجودا.

أما لو قلنا (٥) إنه ما حصل في الأزل شيء من أجزاء المدة والزمان ، امتنع القول بكون العالم متأخرا عن البارئ. فظهر الفرق. أما قوله ثانيا : «مجموع الزمان له فاعل مختار ، والفاعل المختار متقدم على فعله ، والمتقدم على الزمان ، لا يكون (٦) تقدمه بالزمان» قلنا : المؤثر متقدم على الأثر ، تقدما بالتأثير

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) أجزاء (ت)

(٥) قولنا (ت)

(٦) أن لا يكون متقدما (ت)

والعلية. فأما ثبوت تقدمه بوجه آخر ، سوى هذا الوجه : فممنوع.

وأما قوله ثالثا : «ماهية الزمان والحركة ، تقتضي المسبوقية بالغير ، والأزلية تنافي المسبوقية بالغير ، والجمع بينهما : محال» قلنا : سنجيب عن هذا الكلام في باب دلائلكم على أن للحركات أزلا (١) وبداية.

أما قوله رابعا : «بتقدير أن يفنى الآن الحاضر ، ولا يوجد عقيبه آن آخر ، فإنه ينقطع الزمان» قلنا : ليس كل ما كان عدمه من حيث هو هو جائز ، كان عدمه مطلقا جائزا. فربما امتنع عدمه ، لامتناع علته أما قوله خامسا : «الزمان إما أن يكون دائما ، أو منقضيا» قلنا : أما مذهب «أفلاطون» فهو أنه دائم في ذاته وجوهره ، ويتبدل بحسب نسبه. وأما مذهب «أرسطاطاليس» فهو أنه منقض في ذاته. وعلى التقديرين ، فالجواب قد سلف.

أما قوله سادسا : «إن البارئ تعالى ، يمتنع أن يكون زمانيا» قلنا : قد دللنا على أنه لما كان البارئ تعالى أزليا ، وكان العالم حادثا ، وجب القطع بكونه تعالى متقدما على العالم بالمدة [والله أعلم (٢)] الحجة الثانية : المدة والزمان. إما أن يقال : لا أول له ، ولا آخر له.

أو يقال : له أول وآخر. أو يقال : حصل [له (٣)] أحدهما دون الثاني. والأول هو المطلوب.

وأما الثاني : فنقول : على هذا التقدير تكون المدة مسبوقة بعدم ، لا أول له ، وستصير ملحوقة بعدم لا آخر له. [بعدم (٤)] فهذان العدمان قد اشتركا في كون كل واحد منهما عدما ، وامتاز أحدهما عن الآخر بكون أحدهما متقدما

__________________

(١) أولا (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، س)

على هذا الوجود (١) وبكون الآخر متأخرا على هذا الوجود ، وما به المشاركة غير ما به الممايزة. فهذا التقدم والتأخر اللذان بهما [امتاز (٢)] أحد العدمين على الثاني ، لا بد وأن يكونا مغايران للعدم ، الذي هو القدر المشترك بين العدمين. ولا معنى للمدة والزمان ، إلا الأمر الذي به يمتاز أحد المثلين عن الآخر في معنى التقدم والتأخر ، ومفهوم القبلية والبعدية. ثم من المعلوم : أن أحد العدمين ، موصوف بالقبلية. والتقدم وصفا لا أول له. والعدم الثاني موصوف بالبعدية والتأخر ، وصفا لا آخر [له (٣)] فهذا يقتضي القطع بكون المدة والزمان حاصلين حصولا لا أول له ، ولا آخر له. فيثبت [أن (٤)] إثبات الأولية والآخرية للمدة ، يوجب نفي الأولية والآخرية عنها. وذلك محال. فيثبت : أن إثبات الأول والآخر للمدة : محال.

الحجة الثالثة : لو كان العالم حادثا ، لكان إما أن يكون وقت العدم متميزا عن وقت الوجود ، أو لا يحصل هذا الامتياز. فإن كان الأول ، فقد حصل قبل حدوث العالم أوقات مختلفة ، حتى تميز وقت العدم عن وقت الوجود. وهذا يقتضي قدم المدة والزمان.

وأما القسم الثاني فباطل (٥) لأنا ما لم نخصص العدم (٦) بوقت ، والوجود بوقت آخر ، فإنه لا يمكننا أن نعقل الحكم بأنه معدوم تارة ، وموجود أخرى. وكيف لا نقول ذلك وصريح العقل يشهد بأن الحادث إنما حصل وجوده بعد عدمه؟ وهذا الترتيب لا يحصل إلا إذا كان وقت العدم ، متميزا عن وقت الوجود.

الحجة الرابعة : إن المدة لو كانت حادثة ، لما حصل حدوثها إلا بإحداث

__________________

(١) الوجه (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (س)

(٥) فهو باطل (ط)

(٦) العالم (ط)

الفاعل. وعلى هذا التقدير ، فنقول : إنه تعالى إما أن يقصد إحداث تلك المدة ، بشرط أن يخصص ذلك الإحداث بوقت معين ، أولا بهذا الشرط. والأول محال. لأن الكلام في هذا الوقت ، كالكلام [في الأول (١)] ويلزم التسلسل [ثم ذلك التسلسل (٢)] إن وقع دفعة واحدة ، فهو محال. وإن وقع على أن يكون كل جزء منه مسبوقا بغيره ، لا إلى أول. فهو المطلوب. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه تعالى قصد إحداث الوقت والزمان [لا بشرط أن يوقع ذلك في زمان معين ، بل قصد إحداث الوقت والزمان (٣)] من غير هذا الشرط [فعلى هذا التقدير (٤)] وجب أن لا يتأخر وقوع الأثر عن ذلك القصد. فلما كان القصد إلى تكوين المدة والزمان : أزليا. وجب كون المدة والزمان : أزليا. وهو المطلوب.

الحجة الخامسة : إن صريح العقل يشهد بأنه لا حادث ، إلا ويحصل قبله ، إما عدم وإما وجود. فعلى هذا ، فكل حادث ، فقد حصل قبله قبل آخر ، لا إلى أول. ولا معنى للمدة والزمان [إلا ذلك (٥)] فالمدة لا أول لها.

الحجة السادسة : كل محدث ، فإنه (٦) مسبوق بعدمه ، وكل ما كان مسبوقا بعدمه ، كان عدمه سابقا عليه. وكون [ذلك (٧)] العدم سابقا عليه ، ليس نفس العدم [لأن العدم (٨)] السابق ، والعدم اللاحق يتشاركان ، في كون كل واحد منها عدما ، ويتخالفان في التقدم والتأخر [فمفهوم التقدم (٩)] والتأخر أمر زائد على العدم المحض. فهما وصفان ثبوتيان

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) فهو (ط)

(٧) من (ت)

(٨) من (ط ، س)

(٩) من (ت)

[متنافيان (١)] ولا بد من فرض شيء ، تلحقه هذه القبلية والبعدية لذاته ، قطعا للتسلسل. وذلك الشيء هو الزمان. فقبل كل حادث (٢) : زمان لا أول [له (٣)] وهو المطلوب.

فإن قيل : لا نسلم أن تقدم الشيء على غيره : صفة ثبوتية. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنكم وصفتم عدم الشيء بكونه متقدما على غيره. وصفة العدم يمتنع أن تكون موجودة. وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم ، وهو محال.

الثاني : إن التقدم والتأخر لو كانا صفتين موجودتين ، لكانت تلك الصفة متأخرة أيضا على عدمها ، فيلزم : أن تكون لتلك الصفة : صفة أخرى إلى غير النهاية ، دفعة واحدة. وهو محال.

الثالث : لو كان التقدم والتأخر صفتين موجودتين ، لكانا من مقولة المضاف. والمضافان يوجدان معا. فالتقدم والتأخر يوجدان معا ، فيلزم : كون المتقدم والمتأخر معا ، وهو محال. وإذا ثبت أن التقدم والتأخر ، ليسا صفتين موجودتين ، لم يلزم افتقارهما إلى محل موجود.

أجابوا عنه : بأنه لا حاجة بنا في هذا الدليل إلى بيان كون التقدم والتأخر صفتين موجودتين. بل يمكننا إثبات مطلوبنا مع قطع النظر عن هذه المقدمة. وتقريره : إن التقدم والتأخر لا يعقل حصولهما ، إلا عند تبديل حالة بحالة ، وإلا عند تغيره من صفة إلى صفة. فإنه لو لم يحدث أمر من الأمور ، ولم تتغير حالة من الأحوال ، لم يحصل هناك شيء يحكم عليه بأنه صار ماضيا ، ولا على شيء بكونه مستقبلا. وذلك لأن الماضي هو الذي كان موجودا ، ثم زال الآن. والمستقبل هو الذي يتوقع حضوره ، وهو الآن لم يحضر. فالماضي

__________________

(١) من (ت)

(٢) محدث (ت)

(٣) من (ط)

والمستقبل والحال لا يتقرر مفهوماتهم (١) إلا عند وجود بعد عدم ، أو عدم بعد وجود. فلما ثبت حصول معنى القبلية والبعدية قبل أول الزمان ، علمنا : أن حدوث الحوادث كان حاصلا قبل ذلك الأول. وهذا يناقض كون ذلك الأول : أولا. [والله أعلم (٢)]

الحجة السابعة : لا شك أنه يصدق على ذات الله تعالى : أنه كان موجودا في الأزل، وأنه سيكون [موجودا (٣)] في الأبد. فهل يتميز في حقه : مفهوم أنه كان موجودا في الأزل ، عن مفهوم أنه [موجود أو (٤)] سيكون في لا يزال ، أو لا يتميز؟

وهذا القسم الثاني : باطل في بديهة العقل ، لأنه إن لم يتميز أحد المفهومين عن الثاني ، لكان المفهوم من هذين الكلامين مفهوما واحدا ، ولكان التعبير عنه بهذين اللفظين : مخض في العبارة. وبديهة العقل : حاكمة بأنه ليس كذلك. فإن المفهوم من قولنا : كان في الأزل : إشارة إلى الماضي. والمفهوم من قولنا : سيكون في لا يزال : إشارة إلى المستقبل. ولو غيرنا العبارة ، وقلنا : إنه كان في المستقبل ، وسيكون في الماضي ، فإن صريح العقل يشهد بفساده. فعلمنا : أن التغاير بين هذين المفهومين : حاصل في بديهة العقل. إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى : محكوم عليه بالوجود. والحصول مع كل واحد من هذين. المفهومين [لكن واحدا من هذين المفهومين (٥)] : غير محكوم عليه بالحصول ، مع المفهوم الآخر. وذلك يوجب كون كل واحد من هذين المفهومين مغايرا لذات الله تعالى. وأيضا : فهما مغايران للمفهوم من كون العالم معدوما. فإن المفهوم من العدم ، يمكن تعقله مع الأزل تارة ، ومع الأبد أخرى. فيثبت : أن المفهوم من الأزل ، وأن المفهوم من الأبد : [أمر (٦)]

__________________

(١) مفهوماتها (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ط ، س)

مغاير لذات الله تعالى ، ولعدم العالم. بل المفهوم من الأزل : دوام لا أول له ، في طرفي الماضي. والمفهوم من الأبد : دوام لا آخر له في المستقبل. وهذان الأمران مغايران لذات الله تعالى ، ولعدم العالم. ولا معنى للمدة والدهر والسرمد إلا ذلك. فيثبت : أنه لا أول للدهر والمدة.

الحجة الثامنة : لو كان العالم حادثا ، لصدق قولنا : إنه تعالى كان موجودا مع عدم العالم. والمفهوم من قولنا : «كان» : إما أن يكون هو وجود البارئ [تعالى (١)] وعدم العالم فقط. أو المفهوم (٢) منه هذان الأمران ، بشرط خاص وكيفية خاصة. والأول باطل لأن قولنا : سيكون البارئ موجودا مع عدم العالم ؛ قد حصل فيه وجود البارئ وعدم العالم ، مع أنه [لم (٣)] يحصل منه ما هو المفهوم من قولنا : كان البارئ مع عدم العالم. فيثبت : أن قولنا : كان البارئ مع عدم العالم : إشارة إلى وجود البارئ وعدم العالم ، بشرط خاص وكيفية خاصة. ولا شك أن ذلك الشرط ، وتلك الكيفية : أمر دائم من الأزل إلى الآن. ولا معنى للمدة والزمان (٤) إلا ذلك [المفهوم (٥)]

الحجة التاسعة : إن صريح العقل يشهد بأنه لا مفهوم من كون الشيء محدثا ، إلا أن نقول : إن ذلك الشيء ما كان موجودا في الوقت المتقدم ، ثم صار موجودا [فلو حكمنا على الزمان : بكونه محدثا. لكان معنى كونه محدثا : أنه ما كان موجودا في الوقت المتقدم ، ثم صار موجودا (٦)] وهذا يقتضي : أن الوقت والزمان كان موجودا ، قبل أن كان موجودا. وهو محال. لأن كل ما أفضى فرض عدمه إلى فرض وجوده ، كان فرض عدمه محالا. وهذا الدليل كما تقرر في جانب الأول ، فهو بعينه قائم في جانب الآخر. فالمدة تمتنع أن يحصل لها أول وآخر.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) والمفهوم (ت ، ط)

(٣) من (ط)

(٤) الأزل (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (س)

فإن قالوا : لا نسلم أن المعقول من الحدوث : هو أنه ما كان موجودا في الوقت المتقدم ، ثم صار موجودا. بل نقول : المعقول من الحدوث : أنه ما كان موجودا ، ثم صار موجودا من غير حاجة إلى تقرير مدة ، وفرض زمان. والدليل على صحة ما ذكرنا : أنه لو كان الأمر كما ذكرتم ، لزم أن يفتقر حدوث [كل (١)] واحد من أجزاء الزمان ، إلى زمان آخر ، إلى غير النهاية. وهو محال.

والجواب : إن قول القائل : إنه ما كان موجودا : ثم صار موجودا صريح في إثبات الزمان. لأن قولنا : «كان» : لفظ يدل على الماضي ولا يتصور العقل من الماضي ، إلا أمر من الأمور ، كان حاضرا ثم انقضى. وأيضا لفظ «ثم» : يدل على حصول شيء ، بعد حصول شيء آخر. وكل هذه الألفاظ : تدل على أن العقل لا يمكنه أن يتصور معنى الحدوث البتة ، إلا بعد فرض مدة مستمرة ، وزمان دائم. فإن قالوا : فهذا تمسك بمجرد الألفاظ. فنقول : ليس الأمر هذا تنبيه على أن العقل لا يمكنه أن يتلفظ بلفظ ، ولا أن يشير إلى معنى معقول ، إلا ويقرن حدوثه بزمان ، ويقرن عدمه السابق بزمان. وذلك يدل على أن الإقرار بدوام المدة ووجودها من الأزل إلى الأبد : مركوز في بدائه العقول.

وأما قوله : «كان يلزم افتقار حدوث كل واحد من أجزاء الزمان ، إلى زمان آخر ، إلى غير النهاية» فنقول : وهكذا نقول ، لأنه لو لا أن الجزء السابق كان موجودا ، وإلا لامتنع أن يحكم على الجزء المتأخر : بكونه حادثا متأخرا [والله أعلم (٢)

الحجة العاشرة : لو كان العالم محدثا ، فوجد عالم آخر قبل هذا العالم ، بحيث ينتهي آخره إلى أول هذا العالم بعشرة أدوار ، [إما (٣)] أن يكون ممكنا ،

__________________

(١) من (س)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

أو لا يكون [ممكنا (١)] والثاني يقتضي إما (٢) انتقال العالم من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، أو انتقال (٣) الخالق من العجز إلى القدرة. وكلاهما محالان. والأول يقتضي حصول الإمكان. ثم نقول : وكان أيضا : يمكن خلق عالم آخر ، وينتهي إلى أول هذا العالم بعشرين دورة. والدليل عليه أيضا : عين ما تقدم. ثم نقول : هذان الأمران المفروضان بتقدير وقوعهما [إما أن يبتدئا معا ، وينتهيا معا إلى أول هذا العالم ، وإما أن يقال : إنهما بتقدير وقوعهما (٤) يجب أن يكون ابتداء وجود أحدهما سابقا على وجود الآخر. والأول باطل ، وإلا لزم كون الزائد مساويا للناقص. وهو محال. والثاني يوجب القول بوجود المدة والزمان. لأنه كان قد حصل قبل وجود العالم إمكان يتسع لعشرة دورات ، ولا يتسع لعشرين دورة. وإمكان آخر يتسع لعشرين دورة ، ولا يمتلئ بعشرة دورات. وكان هذا الإمكان الثاني متقرر الوجود قبل الإمكان الأول. ولا معنى للمدة والزمان إلا ذلك. وهذا يقتضي أن لا يكون للمدة والزمان : أول وهو المطلوب [والله أعلم (٥)]

الحجة الحادية عشر : وهو أن من الأزل إلى أول خلق العالم : أقل من الأزل إلى وقت الطوفان. وأيضا : من الأزل إلى وقت الطوفان أقل من الأزل إلى هذا اليوم ، الذي نحن فيه ، وكلما ازداد يوم ، وحدث زمان ، صار من الأزل إلى ذلك الوقت : أزيد من الأزل ، إلى الوقت الذي كان قبله.

إذا ثبت هذا فنقول : ان من الأزل إلى الآن أمر يقبل الزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك فهو (٦) موجود. لأن العدم المحض ، والسلب الصرف ، لا يمكن وصفه بكونه زائدا وناقصا (٧) إذا ثبت هذا ، فنقول : القابل لهذه الزيادة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) إما امتناع العالم الذاتي إلى الإمكان ... الخ (ت)

(٣) وانتقال (ت ، ط)

(٤) من (ط)

(٥) من (ت)

(٦) فهو أمر أنه موجود (ط)

(٧) أو ناقصا (ت)

والنقصان ، إما أن يكون ذات الله [تعالى (١)] أو لعدم ، أو شيء ثالث. والأول باطل. لأن ذات الله منزه عن قبول الزيادة والنقصان. وأما العدم المحض ، فقد ذكرنا : أنه لا يقبل الوصف بالزيادة والنقصان. فلا بد من الاعتراف بوجود [أمر (٢)] آخر مغاير لذات الله تعالى وللعدم المحض. وذلك [الأمر (٣)] الذي يقبل [هذه (٤)] الزيادة والنقصان. وذلك هو المدة ، أو شيء يقع في المدة. وعلى التقديرين ، فالمطلوب حاصل [والله أعلم (٥)]

الحجة الثانية عشر : إنا لا نعقل حدوث شيء ، ولا دوام شيء ، إلا مع فرض الوقت والزمان. فإنا البتة لا نعقل من الحادث ، إلا أنه الذي حدث في وقت بعد أن كان معدوما (٦) في الوقت السابق عليه. ولا نعقل البتة من الدائم القديم ، إلا أنه الذي يفرض وجوده حاصلا في وقت ، إلا وقد كان موجودا قبل ذلك. فإذا كنا لا نعقل معنى الحدوث ، ومعنى البقاء إلا مع فرض الأوقات ، إما بهذه العبارة [المذكورة (٧)] أو بعبارات أخرى ، تفيد أيضا : معاني الأوقات. فحينئذ ظهر أنه لا يمكننا أن نعقل معنى الحدوث ومعنى الدوام، إلا مع تقدير [وجود (٨)] الأوقات. وإذا ثبت هذا ، ظهر أن القول بحدوث المدة والوقت : محال. إلا أنا إذا (٩) حكمنا بحدوثهما ، وثبت أن الحدوث لا يمكن تعقله إلا مع فرض الوقت ، لزم أنا متى فرضنا عدم الوقت ، فإنه يلزم من فرض عدمه ، فرض وجوده. وذلك يقتضي أن يكون فرض عدمه محالا.

فهذه الوجوه الاثني عشر في هذا الباب مذكورة لإثبات هذا المطلوب. ومن أراد الزيادة عليها ، فلينظر فيما كتبناه في تحقيق الكلام في المدة والزمان [والله أعلم بالصواب (١٠)].

__________________

(١) من (ط)

(٦) موجودا (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٧) من (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٨) من (ط ، س)

(٤) من (ط)

(٩) لأنا إذا (ط)

(٥) من (ت)

(١٠) سقط (ط)

المقالة العاشرة

في

الوجوه المستنبطة

في هذا الباب مما يتعلق بالمكان

في

الوجوه المستنبطة

في هذه الباب مما يتعلق بالمكان

قالوا : قد دللنا على أنه لا بد من الاعتراف بوجود علوم بديهية أولية ، لا يحتاج في إثباتها أو في تقريرها إلى حجة وبينة. وذلك لأنه لا معنى للحجة والبينة : إلا تركيب علوم مسلّمة ليتوسل بها إلى الحكم بأمر مجهول الثبوت. فعلى هذا : الحجج والبينات : موقوفة الصحة على البديهيات. فلو وقفنا البديهيات على الأمور التي يحاول إثباتها بالدلائل والبينات ، لزم الدور. وإنه محال.

فيثبت : أن العلوم البديهية : مسلمة بأنفسها ، متقررة بذواتها ، من غير أن يحتاج إثباتها إلى الدليل والبينة. إذا ثبت هذا ، فنقول : والعلم الضروري [حاصل (١)] بأنه لا معنى للعلم الضروري ، إلا ما تشهد بصحته فطرة العقل ، وبديهة النفس. إذا ثبت هذا ، فنقول : وجود الأبعاد الممتدة طولا وعرضا وعمقا : أمر واجب [الوجود (٢)] لذاته. ومتى ثبت هذا ، كان الجسم موجودا : واجب الوجود لذاته. أما المقام الأول : فهو أن كل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه : محال. فلو كان ارتفاع الأبعاد الممتدة طولا وعرضا وعمقا : ممكنا لذاته ، لكنا إذا فرضنا ارتفاع هذه الأبعاد ، فعند

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

هذا الفرض وجب أن لا يلزم المحال. إلا أن المحال لازم لا محالة ، لأن عند ذلك الفرض ، إذا فرضنا حيوانا واقفا [على طرف العالم (١)] فإما أن يتميز الجانب الذي يلي وجهه عن الجانب الذي يلي قفاه ، وإما أن لا يتميز. والقسم الثاني مدفوع في بديهة العقل. لأن فطرة النفس شاهدة بأن على جميع التقديرات ، فإنه لا بد وأن يتميز الجانب الأيمن عن الجانب الأيسر ، والجانب الذي يحاذي (٢) الوجه ، عن الجانب الذي يحاذي القفا. والقول بأنه تحصل حالة لا يحصل معها هذا الامتياز ، مما لا يقبله العقل ، وإذا ثبت حصول هذا الامتياز ، فقد حصلت الأبعاد الممتدة طولا وعرضا وعمقا. فيثبت : أن هذه الأبعاد موجودة ، وأنها غير قابلة للعدم البتة ، فكانت واجبة الوجود لذواتها.

فإن قيل : الكلام على هذا التقدير من وجهين :

الوجه (٣) الأول : وهو قول الحكماء : وهو أن الأبعاد متناهية ، وخارج العالم لا خلاء ولا ملاء. وقولكم : بأن الواقف على طرف العالم ، لا بد وأن يتميز فوقه عن تحته ، ويمينه عن شماله. فنقول : هذا الحكم وإن كان ضروري الثبوت في فطرة النفس ، إلا أنه حكم الوهم والخيال [وحكم الوهم والخيال (٤)] قد يكون كاذبا غير ملتفت إليه فيثبت : أن هذا الحكم ، وإن كان واجب الثبوت في فطرة النفس ، إلا أنه غير مقبول.

والوجه الثاني : وهو قول المتكلمين : وهو أن الامتياز في هذه الأحياز ، وفي هذه الجهات أمر حاصل لا يمكن إنكاره. إلا أن هذه الأحياز أشياء يفرضها العقل ، ويقدرها الوهم ، وليس لها في نفسها وجود ولا ثبوت.

والدليل عليه : وهو أنه لا معنى لهذا الشيء ، إلا أنه خلاء خالي ، وفضاء لم يحصل فيه شيء من الأجسام. فهذا عدم محض ، ونفي صرف ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) يلي (ت)

(٣) زيادة

(٤) من (ت)

وليس له من الوجود البتة [حظ (١)]

والجواب عن السؤال الأول : أن نقول : إنكم سلمتم (٢) أن الفطرة الأصلية شاهدة بصحة هذه القضية. فنقول : قولهم : إن في الفطرة حاكمان :

أحدهما : العقل [وحكمه صحيح (٣)]

والثاني : الوهم ، وحكمه باطل.

فنقول : علمنا بأن أحد الحاكمين صادق والآخر كاذب. إن كان علما بديهيا فيلزم(٤) أن لا يحصل الجزم القاطع في حكم الحاكم [الكاذب (٥)] وإن كان فطريا (٦) فحينئذ تتوقف صحة البديهيات على هذه المقدمة النظرية. ولا شك أنها موقوفة على القضايا البديهية. فيلزم وقوع الدور ، وإنه باطل. فيثبت : أن قول القائل : إن الأحكام الفطرية ، إن كانت [من (٧)] نتائج العقل فهي صحيحة. وإن كانت من نتائج الوهم ، فهي باطلة توجب السفسطة ، وتوجب القدح في جميع (٨) العلوم البديهية (٩) وإنه باطل. فيثبت : أن كل ما اعترف به أول الفطرة السليمة ، وجب الحكم بصحته قطعا. وتمام الكلام في هذا الباب : مذكور في المنطق ، عند الفرق بين المقدمات البديهية ، وبين المقدمات الأولية.

والجواب عن السؤال الثاني : إن الجسم إذا كان حاصلا في الحيز ، قبل فرض الفارضين ، واعتبار المعتبرين ، وبعد ذلك. وجب الحكم بأن الحيز أمر

__________________

(١) من (ت)

(٢) لما سلمتم (ت)

(٣) من (ت)

(٤) فيجب (ط)

(٥) من (س)

(٦) نظريا (ت)

(٧) من (ت)

(٨) جملة (ت)

(٩) والنظرية (ت)

موجود في نفسه ، وأنه سواء وجد الفرض أو لم يوجد ، فهو حاصل في نفس الأمر.

وتمام الكلام في هذا المعنى سيأتي في مسألة الخلاء. فيثبت بما ذكرنا : أن هذه الأبعاد الممتدة طولا وعرضا ، وعمقا : [أمور (١)] لا تقبل العدم ، ولا يصح تبدل وجودها بالعدم. وإذا ثبت هذا ، فنقول : لزوم القول بكون الأجسام واجبة [الوجود (٢)] لذواتها. لأن تلك الأبعاد لما كانت أمورا موجودة في أنفسها ، متحققة في ذواتها ، فهي إما أن تكون قابلة للحركة [أو لا تكون قابلة للحركة (٣)] والثاني باطل. فتعين الأول. وإنما قلنا : إن الثاني باطل ، لأن طبيعة البعد ، قابلة للحركة [إذ لو لم تكن قابلة للحركة (٤)] لما كان الجسم قابلا للحركة. وإذا ثبت هذا فنقول : إما أن تبقى (٥) ذاته في قول الحركة ، أو لا بد من شيء آخر. فإن كان الأول فهو قابل للحركة على الإطلاق. فكل بعد فهو قابل للحركة. وإن كان الثاني ، فذلك الشيء إما أن يكون حالا في البعد أو محلا له. أو لا حالا فيه ولا محلا له. فإن كان الأول ، فنقول : اتصاف البعد بذلك الحال ممكن ، وبتقدير حصول هذا المعنى يكون قابلا للحركة ، والموقوف على الممكن ممكن ، فهذا البعد قابل للحركة. وإن كان الثاني ، فهذا يقتضي كون البعد حالا في محل ، وذلك محال. لأن ذلك المحل ، إما أن يكون مختصا بالحيّز والجهة ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول ، فهو أيضا بعد ، فيكون محل البعد : بعدا. وهو محال ، وإن كان الثاني فهو باطل من وجهين :

الأول : إن حلول ما يكون مختصا بالحيز والجهة ، فيما لا اختصاص له بالحيز والجهة : محال.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) يكفي (ت)

والثاني : إن ما لا يكون مختصا بالحيز والجهة ، كانت الحركة عليه ، ممتنعة. وما كان مانعا من قبول الحركة ، يمتنع أن يكون شرطا لقبول الحركة. وإن كان الثالث ، وهو أن يكون شرط كون البعد قابلا للحركة ، شيء لا يكون [حالا (١)] فيه ولا محلا له. فهذا أيضا باطل ، لأن ذلك الشيء يجب أن لا يكون جسما ولا جسمانيا ، وحينئذ يعود البحث الأول فيه. فيثبت بما ذكرنا : أن البعد واجب الوجود لذاته ، ومتى كان الأمر كذلك ، كان ذلك البعد قابلا للحركة [وكل بعد قابل للحركة (٢)] فهو جسم. ينتج : أن الجسم واجب الوجود لذاته. وهذا يفيد أمرين :

أحدهما : أنه لا نهاية للأجسام (٣) لأنه لو حصلت لها نهاية ، لوجب أن يحصل في الخارج [امتياز أحد الجانبين عن الآخر (٤)] فيكون الجسم (٥) موجودا في الخارج عنه. فذلك الذي فرضناه نهاية للأجسام. لم يكن نهاية لها. هذا خلف.

والثاني : أنه لا أول لوجود الأجسام ، وإلا فقبل ذلك الأول ، لا بد وأن تتميز الجوانب بعضها عن البعض. وإذا حصل هذا الامتياز ، كانت الأبعاد موجودة [وإذا (٦)] كانت الأبعاد (٧) موجودة ، فقد وجد الجسم قبل وجود الجسم. هذا خلف. فثبت : أن هذا الكلام يدل على أن الأجسام الموجودة في هذا الوقت : غير متناهية. وثبت أيضا : أنه لا أول لوجودها ، ولا آخر لوجودها. فهذا هو الشبهة المذكورة في قدم الأجسام المستنبطة من البحث عن ماهية المكان [والله أعلم (٨)].

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س ، ط)

(٣) للإجابة (ط)

(٤) سقط (ط)

(٥) البعد (ت)

(٦) من (ت)

(٧) الأجسام (ط ، س)

(٨) من (ت)

المقالة الحادية عشر

في

بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا ، ثم

بيان أنه لما وجب

كونه أبديا ، وجب كونه أزليا ،

في

بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا ، ثم بيان

أنه لما وجب كونه أبديا ، وجب كونه أزليا

أما بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا. فقد احتجوا عليه من وجوه :

الحجة الأولى : وهي دليل مستنبط من الأصول الكلامية. قالوا : إن هذا العالم ، لو عدم بعد أن كان موجودا ، لكان عدمه بعد وجوده. إما أن يكون لسبب وموجب ، أو لا [لسبب ، (١)] لموجب. والثاني باطل. لأن تبدل الوجود بالعدم من غير سبب ولا موجب بوجه من الوجوه على خلاف العقل.

وأما الأول وهو أن العالم يصير معدوما لسبب. فنقول : ذلك (٢) السبب ، إما أن يكون قادرا ، أو موجبا. وذلك الموجب إما أن يكون أمرا موجودا ، أو أمرا معدوما. فهذه أقسام :

أحدها : أن يعدم العالم. لأن القادر المختار أعدمه.

وثانيها : أن يعدم العالم. لطريان ضده.

وثالثها : أن يعدم العالم لزوال شرطه.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) كان (ط)

وهذه الأقسام الثلاثة بأسرها باطلة ، فالقول : بعدم العالم : باطل.

أما القسم الأول : وهو أن يعدم العالم ، لأجل أن الفاعل المختار يعدمه. فنقول : هذا باطل ويدل عليه وجوه :

الأول : إن القدرة صفة مؤثرة ، فلا بد لها من أثر. والعدم نفي محض ، وسلب صرف ، فيمتنع جعله أثرا للقدرة. فيثبت : أنه يمتنع وقوع ذلك العدم [بقدرة (١)] القادر المختار.

والثاني : إن المقتضى لعدم العالم. إما مجرد كونه قادرا ، وإما أمر يصدر عن كونه قادرا. والأول باطل. لأن القادرية كانت حاصلة في الأزل ، فلو كان مجرد القادرية مانعا من وجود [العالم. لكان من الواجب أن لا يوجد (٢)] العالم البتة. وإن كان الموجب لعدم العالم أثرا يصدر عن القدرة ، فحينئذ المؤثر القريب لعدم العالم : هو ذلك الأثر الصادر عن تلك القدرة. فهذا رجوع إلى القسم الثاني ، وهو أن العالم إنما يفنى لحدوث ضد له يوجب عدمه. فإن قالوا : فهذا الكلام بعينه قائم في كيفية تأثير القدرة في الوجود. فنقول : هذا إنما يلزم عن من أثبت القدرة. بمعنى كونها صالحة للطرفين. أما عند من يقول : مجموع القدرة مع الداعي علة موجبة. فهذا غير لازم.

الوجه الثالث : وهو أنه تعالى لو أعدم العالم ، فإما أن يعدمه حال كونه موجودا ، أو في الزمان الثاني من وجوده. والأول يقتضي كونه معدوما حال كونه موجودا. وهو محال. والثاني باطل. لأن إعدام الزمان الثاني ، مشروط بحصول الزمان الثاني ، الذي هو ممتنع الحصول في الزمان الأول ، والموقوف على المحال : محال. فوجب أن يكون كونه [معدوما (٣)] في الحال ، للشيء في الزمان المستقبل : أمرا محالا ممتنعا. وهذا الوجه قد مر ذكره في باب القادر في جانب الإيجاد.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) من (ط)

وأما القسم الثاني : وهو أنه تعالى يعدم بواسطة خلق الضد المنافي. [فنقول] (١) هذا أيضا باطل من وجوه.

الأول : وهو أن المضادة أمر مشترك فيه بين الطرفين ، فلم يكن زوال المتقدم ، لأجل طريان المتأخر ، أولى من اندفاع المتأخر لأجل قيام المتقدم.

الثاني : إن طريان الضد الطارئ ، مشروط بزوال السابق ، فلو كان زوال السابق معللا بطريان الطارئ ، وقع الدور. وهو محال.

الثالث : وهو أن هذا الضد ، إما أن يحصل حال وجود العالم ، أو بعده. والأول باطل ، لأنه يقتضي : الجمع بين الضدين. وهو محال. والثاني يقتضي : أن هذا الضد ، إنما حصل بعد عدم الضد السابق. وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون ذلك العدم معللا بهذا الضد ، لأن المتأخر لا يكون علة للمتقدم.

وأما القسم الثالث : وهو أنه تعالى يعدم العالم بواسطة إعدام الشرط. فنقول : هذا باطل لوجهين :

الأول : إن ذلك الشرط ، إما أن يكون باقيا ، أو غير باق. فإن كان باقيا عاد التقسيم الأول في كيفية عدمه ، وإن كان غير باق ، فهذا محال. لأن كل ما دخل في الوجود [كان (٢)] قابلا للبقاء ، وإلا فيلزم أن ينتقل من الإمكان الذاتي [إلى الامتناع الذاتي (٣)] وهو محال. وهذا الكلام إنما يتقرر على قول من يقول : الأعراض كلها باقية.

والوجه الثاني : وهو أن ذلك الشرط ، إما أن يكون عرضا قائما به ، أو موجودا مباينا عنه. والأول باطل ، لأن العرض محتاج في وجوده إلى الجوهر ، فلو فرضنا كون الجوهر محتاجا إلى شيء من الأعراض ، لزم الدور. وهو

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) من (ط ، س)

محال. وأما إن كان شيئا مباينا عن الجوهر ، فذلك الشيء إن كان باقيا ، عاد التقسيم في كيفية عدمه ، وإن كان غير باق ، كان ذلك باطلا. لما بينا أن كل ما كان قابلا للوجود ، كان قابلا للبقاء ، فيثبت بهذه البيانات : أن أجسام العالم لو عدمت ، لكان عدمها ، إما أن يكون بإعدام القادر ، أو بطريان الضد ، أو بزوال الشرط. [وثبت أن (١)] الأقسام الثلاثة باطلة ، فكان القول بفناء العالم بعد وجوده باطلا [والله أعلم (٢)]

الحجة الثانية على أن عدم الأجسام بعد وجودها : محال. هي أن نقول : لو صح العدم على ذوات الأجسام ، لكانت صحة عدمها ، حاصلة قبل حصول عدمها. وتلك الصحة صفة موجودة ، ولا بد لها من محل. فنقول : محلها إما أن يكون هو ذات الجسم ، أو شيء آخر ، والأول محال. لأن محل صحة الشيء ، هو الذي يمكن اتصافه بذلك الشيء ، فلو كان محل إمكان عدم الجسم ، هو وجود ذلك الجسم ، لزم أن يبقى [وجوده حاصلا (٣)] حال طريان عدمه ، وذلك محال. لأن وجود الشيء [يمتنع أن (٤)] يبقى حال عدمه. والثاني أيضا [باطل (٥)] لأن الشيء الذي يقوم به صحة وجود الشيء ، وصحة عدم ذلك الشيء : هو هيولاه ، فلو حصل للجسم شيء يقوم به صحة وجوده ، وصحة عدمه. لزم إثبات هيولى للجسم. وذلك باطل من وجهين :

الأول : إن هيولى الجسم ، إن كان متحيزا لزم التسلسل ، وإن لم يكن متحيزا ، لزم حلول المتحيز في محل ، لا حصول له في ذلك المكان ، وفي تلك الجهة. وذلك محال.

الثاني : إن بتقدير [أن يكون (٦)] للجسم هيولى ، فقد ثبت بالدلائل

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) ببقاء (ط ، ت)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط)

(٦) من (س)

الظاهرة : أن هيولى الجسم ، يمتنع خلوها عن الجسمية.

إذا ثبت هذا ، فنقول : إن تلك الهيولى ، إن كانت قابلة للعدم ، افتقرت إلى هيولى أخرى ، ولزم التسلسل. وإن لم تكن قابلة للعدم ، وثبت أنه يمتنع خلوها عن الصورة الجسمية ، فحينئذ يلزم أن الجسم لا يقبل العدم.

الحجة الثالثة : إنا إذا (١) فرضنا عدم الأبعاد الثلاثة ، فبعد ذلك ، هل يتميز جانب الفوق ، عن جانب التحت ، والقدام عن الوراء ، واليمين عن الشمال (٢)؟ فإن لم يحصل هذا الامتياز ، فذلك باطل في بديهة العقل ، كما قررناه. وإن حصل هذا الامتياز ، فالأبعاد موجودة. وإذا كانت الأبعاد موجودة ، كانت الأجسام موجودة. على ما قررناه في المقالة المتقدمة.

الحجة الرابعة في بيان أن العالم يجب أن يكون أبديا : يقال : العالم حسن النظام ، جيد الصنعة. وما كان لا يبطله ولا ينقضه إلا شرير ، وإله العالم ليس بشرير ، فلا ينقضه. وظاهر أن غيره لا يقدر على نقضه ، فوجب أن لا يبطل هذا العالم ، ولا ينتقض أبدا. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى : صنعه لحكمة مخصوصة ، ثم إنه ينقضه ويبطله لحكمة أخرى. وأيضا : فهذا ينتقض بأشخاص العالم.

وأجاب عن الأول : بأن ما كان مصلحة ، قد ينقلب مفسدة في حق من كانت أفعاله موقوفة على حدوث شرائط ، لا يكون حدوثها من جهته. أما البارئ تعالى لما كان حدوث كل الحوادث منه ، وبإيجاده. فهذا التفاوت في حقه : محال. وأجاب عن السؤال الثاني : بأن حدوث الأشخاص في هذا العالم ، إنما (٣) كان بسبب أن حدوث هذه الحوادث السفلية ، مشروط بحدوث التغيرات الحاصلة ، بسبب اختلاف الحركات الفلكية. فلو قلنا مثل هذا المعنى في حدوث الحركات الفلكية ، لزم افتقار حدوث تلك الحوادث

__________________

(١) لو (ط)

(٢) اليسار (ط)

(٣) لما (ط)

الفلكية إلى أفلاك أخرى ، ولزم الذهاب إلى ما لا نهاية له. وهو محال. فظهر الفرق.

الحجة الخامسة : قالوا : خلق هذا العالم. هل كان صوابا وحكمة ، وخيرا ، أم لا؟ والقسم الثاني باطل ، وإلا لكان يجب على الخير الرحيم الحكيم أن لا يفعل ، لكنه قد فعله فيبقى الأول ، فنقول : والوجه الذي باعتباره كان صوابا وحكمة وخيرا ، هل بقي أو لم يبق؟ فإن بقي كان نقض هذا العالم وإبطاله شرا. وكان فاعله شريرا. وإن لم يبق ، فذلك التغير حصل لذاته أو بذلك الفاعل؟ فإن حصل لذاته ، فقد جوزتم أن ينقلب الخير شرا لذاته من غير فاعل. وإذا جوزتم ذلك في بعض الحوادث ، فجوزوا مثله في البقية. وذلك يفتح عليكم باب تجويز حدوث الحوادث ، لا لمؤثر أصلا. وإن كان ذلك لأجل أن ذلك الفاعل قلبه من كونه خيّرا ، إلى كونه شريرا ، عاد التقسيم الأول فيه.

الحجة السادسة : إن خلق هذا العالم : إحسانا إلى المحتاجين. وقطع الإحسان لا يكون إلا للعجز أو الجهل أو البخل. والكل على الله : محال.

الحجة السابعة (١) : إن الزمان لو انقطع ، لكان عدمه بعد وجوده. وتلك البعدية بالزمان. فيلزمكم (٢) : كون الزمان موجودا ، حال كونه معدوما. وذلك محال.

الحجة الثامنة : ما ذكره «جالينوس» فقال : «لو كانت الأفلاك والكواكب تبطل وتنهدم ، لوجب أن يظهر فيها آثار الخراب والانهدام قليلا قليلا ، لكنا لم نحس بذلك البتة ، ولم يصل إلينا خبر من التواريخ الماضية ، بأن أحوال الأفلاك والكواكب ، قد تغيرت من الكمال إلى النقصان» فيبطل القول بذلك.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) فيلزم (ط ، س)

واعترض «محمد بن زكريا الرازي» على هذه الحجة من وجهين :

الأول : وهو أن هذا إنما يلزم ، إذا كان عدم الأفلاك والكواكب عدما ذبوليا ، على الاستمرار. أما بتقدير أن يكون عدمها واقعا دفعة ، فإن هذا غير لازم.

والثاني : إن بتقدير أن يكون عدمها عدما ذبوليا ، إلا أنه يحتمل أن تكون تلك الأجرام صلبة. فالذبول الذي يحصل فيه ، في المقدار الذي يصل إلينا تواريخها ، يكون قليلا لا يمكن الإحساس به. ألا ترى أن الياقوت جرم صلب ، ولا بد وأن يتحلل منه شيء ، إلا أنه لما كان قوي الصلابة ، لم يكن مقدار ما يتحلل منه محسوسا في أعمارنا. فالأفلاك والكواكب أصلب من الياقوت ، والبعد بيننا وبينها كثير جدا. فلا يمتنع أن يكون عدم الإحساس بما يحصل فيها من الذبول ، كان لهذا السبب.

وهذان الاعتراضان على [كلام (١)] «جالينوس» واقع حسن.

الحجة التاسعة : إن الأفلاك مستديرة بطباعها ، والمستدير بالطبع لا يقبل الميل المستقيم ، وإذا لم يكن قابلا (٢) للميل المستقيم ، امتنع كونه قابلا للخرق والالتئام ، والتفرق والتمزق.

أما بيان أنها مستديرة بطباعها : وذلك لأن الحركة المستديرة ، لو لم تكن لها طباعية ، لما كانت دائمة ولا أكثرية. وحيث كان الأمر كذلك ، علمنا أنها طباعية. وأما بيان أنها لما كانت مستديرة بطباعها ، لم يكن فيها ميل مستقيم : لأن الميل المستقيم يوجب الصعود والنزول. والميل المستدير يوجب الانحراف عن الصعود والنزول. فلو حصل في الشيء الواحد: ميل طبيعي إلى الحركة المستقيمة والمستديرة ، لزم اجتماع المتنافيين في الشيء الواحد وهو محال. فيثبت : أنه ليس في الأجرام الفلكية : ميل مستقيم. وإن كان كذلك ، لم تكن تلك الأجسام قابلة للتفرق والتمزق والبطلان.

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) قابلا له ، امتنع (ط ، ت)

الحجة العاشرة : ما ثبت في صفات السموات : أنها غير قابلة للحركة المستقيمة. وكل ما يكون كذلك ، فإنه لا يقبل التفرق والتمزق ، ولا الكون (١) والفساد.

قالت الفلاسفة : فيثبت بهذه الوجوه العشرة : أن العالم أبدي الوجود. وإذا ثبت هذا ، وجب أن يكون أزليا. لأنه لو لم يكن أزليا ، لكان معدوما في الأزل. ولو كان كذلك ، كانت حقيقته قابلة للعدم. ولو كان كذلك ، لكانت تلك القابلية باقية أبدا ، وكان يجب صحة العدم عليه بعد وجوده ، ولما كان ذلك محالا ، ثبت أن حقيقة العالم لا تقبل العدم. وإذا كان كذلك ، وجب كونه أزليا.

فهذا تمام هذا البحث والله أعلم [بالصواب (٢)]

__________________

(١) والكون (ط)

(٢) من (ط ، س)

المقالة الثانية عشر

في

بيان أن كون العالم أزليا ،

لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر

في

بيان أن كون العالم أزليا ،

لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر

اعلم (١) أن القائلين بالحدوث. قالوا : لو كان العالم قديما ، لكان غنيا عن المؤثر ، وذلك يوجب نفي الصانع بالكلية. واحتجوا على صحة قولهم : بأنه لو كان قديما ، لكان غنيا عن المؤثر [ووضحوا قولهم (٢)] بحجة ومثال.

أما الحجة : فهي أنهم قالوا : القديم هو الذي يكون موجودا أبدا. فلو قلنا : إن وجوده حصل لسبب ، لزم منه إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل ، وهو محال.

وأما المثال : فهو أنهم قالوا : البناء يحتاج إلى الباني حال حدوثه ، وأما حال بقائه فلا يحتاج إليه. وأيضا : إن من خضب يده بالحناء ، فإنه يحتاج في أول الأمر ، إلى الصاق الحناء باليد ، ثم إن اللون يبقى بعد زوال ذلك السبب. وأيضا : إن من رمى حجرا إلى فوق. فإن المذهب الصحيح أن ذلك القاسر يحدث في ذلك الجسم : قوة قسرية ، تحرك ذلك الجسم إلى فوق. فتلك القوة حال حدوثها ، تحتاج إلى المؤثر ، وأما حال بقائها ، فإنها غنية عن المؤثر. فهذا جملة كلام القوم.

واعلم أن الحكماء قالوا : لا يمتنع في العقل كون الأثر القديم ، معللا

__________________

(١) من (ت) الحجة الأولى : اعلم ... الخ

(٢) زيادة

بمؤثر قديم ، وهما وإن كانا مشتركين في الدوام ، إلا أن أحدهما ممكن لذاته ، والآخر واجب لذاته. فكان الممكن لذاته محتاجا إلى المرجح ، وكان الواجب لذاته غنيا عن المؤثر. فكان تعليل أحدهما بالآخر ، أولى من تعليل الآخر بالأول. وإذا ثبت أن هذا المعنى غير ممتنع في الجملة ، فقد بطل قول من ادعى أن ذلك محال.

واعلم أن المؤثر على قسمين :

أحدهما : الفاعل المختار.

والثاني : العلة الموجبة.

إذا ثبت هذا فنقول : إن الفلاسفة والمتكلمين. اتفقوا على أن إسناد الأثر القديم [إلى الفاعل المختار : محال. واتفقوا على أن إسناد الأثر القديم (١)] إلى العلة القديمة : غير ممتنع. إلا أن الفلاسفة لما اعتقدوا : أن إله العالم موجب بالذات ، لا جرم قالوا : لا يمتنع إسناد العالم القديم إليه.

وأما المتكلمون : لما اعتقدوا أن إله العالم فاعل مختار ، لا جرم اتفقوا على أنه يمتنع إسناد الأثر القديم إليه.

هذا هو الكلام المعقول في هذا الباب.

ثم نقول : الذي يدل على أنه لا يمتنع إسناد الأثر القديم إلى المؤثر القديم. وجوه :

الحجة الأولى : أن نقول : الممكن حال بقائه بقي ممكنا. وكل ممكن فلا بد له من سبب. فالممكن حال بقائه مفتقر إلى السبب. وذلك يدل على أن كونه باقيا ، لا يمنع من افتقاره إلى السبب.

أما بيان أن الممكن حال بقائه ، بقي ممكنا : فلأن الإمكان. إما أن

__________________

(١) من (ط ، ت)

يكون من لوازم الماهية [وإما أن لا يكون (١)] فإن كان الأول ، وجب حصول الإمكان في جميع الأوقات ، وإن كان الثاني كان الإمكان عرضا مفارقا للماهية. وكل ما كان كذلك ، كان إمكان حصوله سابقا على حصوله ، وحينئذ ينقل [الكلام (٢)] إلى إمكان الإمكان ، ويلزم الذهاب إلى ما لا نهاية له ، وهو محال. أو الانتهاء إلى إمكان لازم للماهية ، وهو المطلوب.

وأما بيان أن كل ممكن فهو محتاج إلى السبب. فالعلم به بديهي. فثبت : أن كل ممكن ، [فإنه حال بقائه ممكن ، وثبت أن كل ممكن (٣)] فهو محتاج إلى المؤثر [ينتج (٤)] أن كل ممكن ، فإنه حال بقائه محتاج إلى المؤثر ، وذلك يدل على أن كونه باقيا ، لا يمنع من كونه محتاجا إلى المؤثر. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إن الشيء حال بقائه ، يكون الوجود به أولى ، فلأجل حصول هذه الأولوية يستغنى عن السبب. فنقول : حصول هذه الأولوية ، إما أن يكون من لوازم هذه الماهية ، أو لا يكون. فإن كان الأول ، وجب أن يقال : إنه كان حاصلا حال حدوثه ، فوجب أن يستغنى عن المؤثر ، حال حدوثه ، بل مطلقا. وهو محال. وإن كان الثاني ، فهذه الأولوية ما كانت حاصلة حال (٥) الحدوث ، ثم حصلت حال البقاء. فالشيء حال بقائه ، إنما بقي لحصول هذه الأولوية. وهذا الاعتراف بأن الشيء حال بقائه : محتاج إلى السبب. إلا أنكم سميتم ذلك السبب بالأولوية. وهذا تسليم في المعنى ، ونزاع في العبارة.

الحجة الثانية : إنه يمتنع أن تكون علة الحاجة إلى المؤثر : هي الحدوث. وذلك لأن الحدوث عبارة عن كون وجوده مسبوقا بالعدم. وهذه المسبوقية صفة لذلك الوجود ، وصفة الشيء متأخرة عنه بالرتبة ، فحدوثه متأخر عن وجوده ، المتأخر عن تأثير الفاعل فيه ، المتأخر عن احتياجه إلى الفاعل ، المتأخر عن علة

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) قبل (ط)

احتياجه إلى الفاعل ، وعن جزء تلك العلة ، وعن شرط تلك العلة. فهذا يدل على أن الحدوث ليس علة للحاجة ، ولا جزءا من تلك العلة ، ولا شرطا لتلك العلة. وإلا لزم تأخر الشيء (١) عن نفسه بمراتب ، وذلك محال.

وإذا ثبت أن الحدوث غير معتبر في حصول الحاجة أصلا ، ثبت أنه سواء حصل الحدوث أو لم يحصل ، فإنه لا عبرة به في تحقّق الحاجة إلى المؤثر.

الحجة الثالثة : الحادث له أمور ثلاثة :

أحدها : العدم السابق.

والثاني : الوجود اللاحق.

والثالث : كون [هذا (٢)] الوجود مسبوقا بذلك العدم.

والمحتاج إلى المؤثر ، ليس هو العدم السابق ، لأن العدم نفي محض فلا يمكن إسناده إلى المؤثر ، وليس هو أيضا كون ذلك الوجود مسبوقا بالعدم ، لأن مسبوقية هذا الوجود بالعدم لازم من لوازم هذا الوجود [فإن هذا الوجود (٣)] يمتنع حصوله وتقرره ، إلا إذا كان مسبوقا بالعدم. وأما إذا كان واجب الثبوت لذاته ، امتنع افتقاره إلى المؤثر. ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن المحتاج إلى المؤثر ، والمفتقر إليه ، هو الوجود. ثم لا يخلو إما أن يكون ذلك الوجود محتاجا إلى المؤثر ومفتقرا إليه ، لكونه وجودا فقط ، أو لكونه وجودا ممكنا. والأول باطل. وإلا لافتقر كل موجود إلى المؤثر ، وهو محال. فبقي الثاني وهو أنه إنما افتقر إلى المؤثر ، لكونه موجودا ممكنا. وإذا ثبت أن علة الحاجة ليست إلا هذا المعنى ، فمتى كان هذا المعنى حاصلا ، كانت الحاجة إلى المؤثر حاصلة. سواء حصل الحدوث ، أو لم يحصل.

الحجة الرابعة : العدم السابق على وجود الأثر ، ينافي [وجود الأثر ،

__________________

(١) الفعل (ط ، ت)

(٢) من (س)

(٣) من (ط)

وينافي (١)] كون الأثر (٢) مؤثرا في وجوده ، وما كان منافيا للشيء ، امتنع كونه شرطا له. أما بيان أن عدمه السابق عليه ينافي [وجوده ، مظاهر ، لأن عدم الشيء ينافي وجوده. وأما بيان أن عدمه السابق ينافي (٣)] كون المؤثر مؤثرا في وجوده. فذلك لأن كون المؤثر مؤثرا في وجوده ، لا يحصل إلا عند حصول الأثر ، وحصول الأثر ينافي عدمه ، والمنافي عدمه والمنافي للازم الشيء ، مناف له. فيثبت : أن العدم السابق على الشيء ، مناف لوجوده ، ومناف لكون الأثر (٤) مؤثرا في وجوده. وأما المنافي للشيء يمتنع كونه شرطا لحصوله : فالعلم ضروري. لأن المنافي هو الذي لا يتقرر الشيء إلا مع عدمه ، وشرط الشيء هو الذي لا يتقرر [الشيء (٥) إلا مع وجوده ، والجمع بينهما متناقض. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه مناف ، بمعنى أنه [لا يكون (٦)] مقارنا له. وشرط بمعنى أنه يجب تقدمه عليه. وإذا صرفنا كل واحد من هذين الاعتبارين إلى زمانين مختلفين ، زال التناقض.

والجواب : أن المحتاج إليه ويجب حصوله حال حصول المحتاج. فإذا امتنع حصول المفارقة (٧) امتنع حصول هذه الحاجة.

الحجة الخامسة : أن نقول : وجود العالم ، ووجود تأثير الله في وجود العالم. إما أن يقال : إنه لا أول لإمكان كل واحد منهما ولصحته ، أو يقال : لإمكانهما وصحتهما : أول : فإن كان الأول ، فحينئذ لم يكن كون البارئ تعالى مؤثرا في وجود العالم في الأزل : ممتنعا. ولم يكن وقوع العالم بتأثير قدرة الله تعالى في الأزل : ممتنعا. وعلى هذا التقدير لا يكون إسناد الأثر القديم ، إلى المؤثر القديم : ممتنعا. وإن كان الثاني ، فحينئذ يلزم أن يحصل لإمكان وجود

__________________

(١) من (ط)

(٢) المؤثر (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط)

(٦) من (ط)

(٧) المقارنة (ط ، ت)

العالم : أول يحصل (١) لإمكان تأثير قدرة الله تعالى في وجود العالم : أول فيلزم أن يقال : إن قبل ذلك الأول ، ما كان الإمكان الذاتي حاصلا. فيلزم أن يقال : كان الحاصل قبل ذلك المبدأ هو الامتناع الذاتي ، ثم انقلب من الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي. وأنه محال. فثبت: أن إسناد الأثر القديم ، إلى المؤثر القديم : غير ممتنع [في العقول (٢)]

الحجة السادسة : إن عفونة الخلط ، توجب حصول الحمّى ، وكما يفتقر حدوث هذه الحمى إلى حدوث هذا السبب ، فكذلك بقاء هذه الحمى ، مفتقر إلى بقاء هذا السبب. فإن عند زوال هذه العفونة ، يمتنع بقاء الحمى العفونية. فيثبت : أن إسناد الممكن إلى المؤثر حال بقائه : غير ممتنع. وأيضا : فالمتكلمون يقولون : العالمية الأزلية ، معللة بالعلم الأزلي. والقادرية الأزلية معللة بالقدرة الأزلية. والعلم الأزلي ، مشروط بالحياة الأزلية. فقد صرحوا بأن الأزلي ممكن أن يكون معللا بالعلة المؤثرة. فكيف استبعدوا تعليل الأثر القديم ، بالمؤثر القديم؟

الحجة السابعة : مجموع ما لأجله كان البارئ ، مؤثرا في وجود العالم ، كان حاصلا في الأزل. ومتى كان ذلك المجموع حاصلا ، امتنع تخلف الأثر عنه. ومتى كان الأمر كذلك ، فقد لزم (٣) القطع بكون الأزلي [معللا بالأزلي (٤)] أما بيان الأول : فلأنه لو لم يكن ذلك المجموع حاصلا ، لكان حصوله حادثا. فافتقر إلى مؤثر آخر ، ويعود الكلام الأول فيه. وهو محال. وأما بيان الثاني : فهو أن عند حصول مجموع ما لا بد منه في المؤثرية. لو لم يحصل الأثر ، لزم رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا لمرجح. وهو محال.

__________________

(١) فإن يحصل لإمكان تأثير قدرة الله تعالى في وجود ... الخ (ط ، ت)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) كذلك امتنع القطع بكون الأزل. أما بيان ... الخ (ط ، ت)

(٤) من (ط ، س)

وأما بيان الثالث : فهو أنه لما كان الأثر حاصلا مع المؤثر في الأزل ، فقد سقط القول : بأن التأثير الأزلي : محال. وقد تقدم تقرير هذا الدليل.

الحجة الثامنة : إنا لو فرضنا حادثا وتصورنا أنه حدث ، مع وجوب أن يحدث. فإنا نحكم بامتناع استناده إلى السبب المنفصل ، لأنا لما اعتقدنا [فيه (١)] أنه حدث مع وجوب أن يحدث ، كان راجح الوجود لنفسه. فلو أسندناه إلى غيره ، فحينئذ يلزم أن يكون واجب الوجود [لذاته ، واجب الوجود (٢)] وهو محال. لأن كونه واجب الوجود بذاته ، يقتضي أن لا يلزم من فرض عدم غيره : عدمه وكونه واجب الوجود بذاته ، يقتضي أن لا يلزم من فرض عدم غيره : عدمه. فلو كان شيء [واحد (٣)] واجب الوجود لذاته ، ولغيره معا ، لزم الجمع بين النقيضين. وهو محال. فيثبت : أنا لو فرضنا حادثا ، وتصورنا أنه حدث ، مع وجوب أن يحدث. فإنا نحكم عليه بالاستغناء عن المؤثر. وأما إذا تصورنا ماهيته ، وتصورنا أن نسبة الوجود والعدم إليها على الاستواء (٤) فههنا يحكم العقل بأنه لو لا المرجح ، لامتنع حصول الرجحان. ولا يفتقر في هذا الحكم إلى اعتقاد أنه حادث أم لا؟ فيثبت بما ذكرنا : أن مجرد كونه ممكنا ، يحوجه إلى المؤثر ، وأن كونه حادثا لا يحوجه إلى المؤثر. فيثبت : أن علة الحاجة هي الإمكان ، لا الحدوث.

الحجة التاسعة : إن منشأ الحاجة. إما الماهية حال كونها موجودة ، أو الماهية حال كونها معدومة ، أو الماهية مع [حذف (٥)] هذين القيدين. والأول باطل. لأن الماهية حال كونها موجودة ، واجبة الوجود ، ووجوب الوجود يغني عن المؤثر ولا يحوج إليه. والثاني باطل. لأن الماهية حال كونها معدومة (٦)

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) السوية (ط)

(٥) من (ط)

(٦) موجودة (ط ، ت)

ممتنعة الوجود. وامتناع الوجود يغني عن المؤثر. [فلم يبق (١)] إلا أن يقال : المحوج إلى المؤثر هو الماهية مع حذف هذين القيدين. فنقول : ما لم تكن الماهية قابلة للوجود والعدم ، امتنع أن يفتقر إلى المؤثر في رجحان أحد الطرفين على الآخر. وهذه القابلية نفس الإمكان. فيثبت : أن المحوج إلى المؤثر هو الإمكان فقط.

الحجة العاشرة : لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا ، لما وجب في المحدث أن يكون محتاجا. والتالي باطل. فالمقدم مثله.

بيان الأول : هو أنه لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا ، لوجب انتهاء الحوادث إلى حدوث (٢) هو أول الحوادث ، ولا يكون مسبوقا بحادث آخر. ولو كان الأمر كذلك ، لكان حدوث (٣) ذلك الحادث ، الذي هو أول الحوادث في ذلك الوقت ، دون ما قبله وما بعده : واقعا لا لسبب أصلا. فحينئذ يكون ذلك الاختصاص حادثا واقعا ، لا عن سبب. فحينئذ لا يكون ذلك المحدث محتاجا. وذلك يقتضي أن لا يكون الحدوث علة للحاجة. فيثبت : أنه لو وجب في المحتاج أن يكون محدثا [لما (٤)] وجب في المحدث أن يكون محتاجا. والثاني باطل ، فالمقدم مثله.

الحجة الحادية عشر : إن عدم المعلول لعدم العلة ، ولا أول لعدم المعلول. فالمعلولية غير مشروطة [بالحدوث (٥)]

الحجة الثانية عشر : إنه لو وجب في كون المؤثر مؤثرا في الأثر (٦) أن يكون مسبوقا بالعدم ، لوجب في كون المؤثر مؤثرا في الأثر ، أن يكون [مسبوقا بالعدم (٧)] لأن المؤثرية لا تحصل إلا عند حصول الأثر ، لكن لا يجب في كل

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) حادث (ط ، ت)

(٣) حصول (ط)

(٤) لما (ت ، ط)

(٥) من (ط ، ت)

(٦) الأزل (ط ، ت)

(٧) من (ط ، ت)

مؤثرية ، أن تكون حادثة ، وإلا لافتقرت إلى مؤثرية أخرى ، ويلزم التسلسل. فالمؤثريات لا بد وأن تنتهي بالآخرة ، إلى مؤثرية دائمة. فيكون ذلك الأثر دائما. وذلك يبطل القول بأن تأثير الشيء في الشيء : مشروط بالحدوث.

الحجة الثالثة عشر : إن علة الحاجة لو كانت هي الحدوث ، لاستغنت المتحركية عن الحركة حال دوامها ، ولاستغنت العالمية عن العلم حال دوامها. والمتكلمون : لا يقولون به. ولا يستغني العلم عن الحياة حال دوامه.

الحجة الرابعة عشر : إن اللوازم الخارجية معلولات الماهيات (١). مثلا : كون الثلاثة فردا ، والأربعة زوجا : أوصاف خارجة عن الماهية ، لازمة لها. والدليل عليه : أنه إذا حصل ثلاثة وحدات ، فقد حصلت الثلاثة. فالمقوم لماهية الثلاثة : اجتماع الوحدات الثلاثة. ثم إذا تمت هذه الماهية ، ترتب عليها كونها فردا. فالفردية صفة من صفاتها ، ولاحق من لواحقها. وهذا اللاحق لا يكون موجودا قائما بنفسه ، بل لا بد له من ماهية يكون هو ، لاحقا لها ، وصفة من صفاتها. وكل ما افتقر إلى غيره ، فهو ممكن لذاته. وكل ممكن لذاته ، فلا بد له من مؤثر. ولا مؤثر في حصول هذا اللاحق ، إلا هذه الماهية. فيثبت : أن كون الثلاثة : ثلاثة ، يوجب الفردية. وكون الأربعة : أربعة يوجب الزوجية. ثم إنه لا يعقل خلو الثلاثة عن الفردية البتة ، ولا خلو الأربعة عن الزوجية البتة.

وهذا برهان قاطع على أن افتقار المعلول إلى العلة ، غير مشروط بكون المعلول محدثا.

وهاهنا آخر الكلام في مباحث القائلين بالقدم. والله أعلم.

__________________

(١) الماهية (ط ، ت)

القسم الثاني من الجزء الرابع

في

مباحث القائلين بالحدوث

المقالة الأولى

في

تقرير الدلالة المبنية

على الحركة والسكون

الفصل الأول

في

تقرير هذه الحجة

نقول : لو كان الجسم أزليا ، لكان في الأزل. إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا. والقسمان باطلان ، فيمتنع كونه أزليا.

واعلم : أنا نفتقر في تقرير هذا الدليل ، إلى إثبات مقدمات ثلاثة :

أولها : إن الجسم متى كان موجودا ، وجب أن يكون إما متحركا ، وإما (١) ساكنا.

وثانيها : [بيان (٢)] أن الجسم يمتنع أن يكون [في الأزل (٣)] متحركا.

وثالثها : بيان أنه يمتنع كونه ساكنا.

وحينئذ يتم الدليل. أما بيان المقدمة الأولى (٤) : فهو أنا نقول : لا شك أن كل ما كان متحيزا ، وجب أن يكون حاصلا في حيز معين. وإذا ثبت هذا ، فنقول : إما أن يكون مستقرا في ذلك الحيز ، وإما أن لا يكون كذلك ، بل يكون متنقلا من حيز إلى حيز آخر. والأول هو الساكن ، والثاني هو

__________________

(١) أو (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، ت)

(٤) المقام الأول (ت)

المتحرك. فيثبت : أن الجسم متى كان موجودا ، وجب أن يكون ، إما متحركا ، وإما ساكنا.

فإن قيل : لا نسلم أن الجسم كلما (١) كان موجودا ، وجب أن يكون متحيزا. وذلك لأن من الناس [من قال (٢)] :

الحجمية والتحيز صفة قائمة بمحل ، وذلك المحل في نفسه ، ليس بحجم ولا بمتحيز. ويسمون ذلك المحل : بالهيولى. وهذه الحجمية : بالصورة. فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ وبتقدير أن تكون تلك الذات خالية عن الحجمية ، لم يجب كونها حاصلة في حيز أصلا؟ وحينئذ يبطل كلامهم.

سلمنا (٣) أن الجسم كلما كان موجودا ، كان متحيزا. لكن قولكم : «وكل ما كان كذلك ، وجب أن يكون حاصلا في حيز معين» كلام مبني على تصور أصل الحيز ، فما المراد من هذا الحيز ، الذي جعلتموه ظرفا لهذا الجسم؟ وتقريره أن نقول : هذا الشيء المسمى بالحيز ، إما أن يقال : إنه عدم محض ، ونفي صرف. وإما أن يكون موجودا.

فإن كان الحق هو الأول ، امتنع كون الجسم واجب الحصول فيه. لأن جعل المعدوم ظرفا للموجود محال. وأما إن كان موجودا ، فإما أن يكون مشارا إليه بحسب الحس ، أو غير مشار إليه. والأول باطل. لأن المشار إليه ، بحسب الحس إما أن يكون [كذلك (٤)] بحسب الاستقلال ، أو بحسب التبعية. فإن كان الأول فهو الجسم (٥) فالقول بأن الجسم حاصل في الحيز يكون معناه : أن الجسم حاصل في الجسم. فإن كان المراد من هذه الظرفية : الزمان فحينئذ يلزم تداخل الأجسام ، وإن كان المراد منها المماسة ، لزم أن يكون كل جسم متصلا بجسم آخر ، إلى غير النهاية. وهو محال.

__________________

(١) متى كان (ط)

(٢) من (ط ، ت)

(٣) سلمت (ط ، ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) المتحيز (ط ، س)

وإن كان الثاني : وهو أن يكون [الحيز (١)] مشار إليه بحسب التبعية ، فهذا هو العرض والعرض حاصل في الجسم ، فلو كان الجسم حاصلا في العرض ، لزم كون كل واحد منهما ظرفا للآخر ومظروفا له ، وهو محال. وأما إن كان المسمى بالحيز موجودا ، غير مشار إليه بحسب الحس ، امتنع حصول الجسم فيه ، بمعنى كونه مظروفا لذلك الشيء ، وكون ذلك الشيء ظرفا للجسم ، لأن الجسم موجود مشار إليه بحسب الحس ، وإذا كان المسمى [بالحيز (٢)] موجودا ، غير مشار إليه ، كان كل واحد منهما مباينا عن الآخر. وحينئذ يمتنع كونه ظرفا له. فهذا هو الكلام في الحيز.

سلمنا : أن الحيز معقول الماهية. فلم قلتم : إن الجسم لا ينفك عن الحركة والسكون؟ قوله : «لأن الجسم إما أن يبقى مستقرا في حيزه المعين ، أو ينتقل منه إلى غيره» قلنا : هذا الدليل معارض بدليل آخر ، وهو أن يقال : لو كان الجسم مستلزما للحركة والسكون ، لكان إما أن يستلزمها معا ، أو يستلزم أحدهما بعينه ، أو يستلزم أحدهما لا بعينه. والكل باطل. فبطل القول بهذا الاستلزام. أما إنه لا يمكن أن يستلزمهما معا ، فلأنه يقتضي كون الجسم الواحد متحركا ساكنا معا. وهو محال. وأما إنه لا يمكن أن يستلزم أحدهما بعينه ، فلأنه يلزم أن لا يصير المتحرك ساكنا. وبالعكس. وذلك محال. وإما إنه لا يمكن أن يستلزم أحدهما لا بعينه ، فلأن كل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو في نفسه معين ، فإنه من المحال أن يحصل في الوجود : موجود ، لا يكون هو في نفسه معينا ، بل يكون هو في نفسه ، إما هذا ، وإما ذاك.

وإذا امتنع وجود موجود غير معين في نفسه ، امتنع كون غير المعين لازم للجسم ، لأن كون الشيء لازما [لغيره (٣)] في الأعيان [فرع على كونه موجودا في الأعيان ، فما لا وجود له في الأعيان ، امتنع كونه لازما (٤)] للجسم الذي هو

__________________

(١) من (ط)

(٢) سقط (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، س)

موجود في الأعيان. فيثبت : أنه من المحال : أن يقال : الجسم يستلزم إما الحركة أو السكون لا بعينه. فهذا هو البحث عن الحيز في هذا المقام.

والجواب عن السؤال الأول : [من وجهين :

الأول (١)] : إنا بينا في مسألة الهيولى والصورة : أن ذات الجسم لا يمكن أن تكون مركبة من الهيولى والصورة ، وأن القول : بإثبات هذه الهيولى : قول باطل.

والثاني : إن بتقدير أن يثبت ذلك ، إلا أن الهيولى الخالية عن الجسمية (٢) لا تكون جسما. [ونحن (٣)] إنما حاولنا بهذا الدليل : إثبات حدوث الأجسام ، فلم يكن هذا السؤال (٤) واردا علينا.

والجواب عن السؤال الثاني : إن المكان عندنا عبارة عن البعد. والكلام فيه سيأتي بالاستقصاء إن شاء الله تعالى.

والجواب عن السؤال الثالث : إنا نعلم بالضرورة : أن الممكن ماهية لا تنفك عن مجموع الوجود والعدم ، وإن كان قد يعقل انفكاكها عن كل واحد منهما [بدلا (٥)] عن الآخر. فكل ما يقال هناك : فهو قولنا هاهنا. وكذلك [طبيعة (٦)] العدد لا تنفك عن الفردية والزوجية ، مع أن طبيعته لا تقتضي أحد هذين الوصفين [بعينه (٧)] فكذا القول : في هذا الموضع [والله أعلم (٨)].

__________________

(١) من (ط)

(٢) الجسم (ت)

(٣) من (ط)

(٤) الدليل (ط)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ط ، س)

(٧) من (ط ، س)

(٨) من (ط ، س)

الفصل الثاني

في

إقامة الدلالة على أن الجسم يمتنع

أن يكون متحركا في الأزل

مجموع ما حصلناه من الدلائل المذكورة في هذا الباب عشرة :

الحجة الأولى : إن الحركات الماضية قابلة للزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك فهو متناه. فالحركات الماضية متناهية.

أما بيان المقدمة الأولى : وهي قولنا : الحركات الماضية قابلة للزيادة والنقصان. فتقريره من عشرة أوجه :

الأول : إنه كلما يدور «زحل» دورة واحدة ، فقد دارت الشمس ثلاثين دورة. فوجب القطع بأن عدد دوران (١) الشمس أكثر من [عدد (٢)] دوران زحل بثلاثين مرة (٣)

الثاني : لا شك أن السنة الواحدة تكون اثني عشر شهرا ، والشهر الواحد يكون ثلاثين يوما. فعدد الأيام أكثر من عدد الشهور ، وهو أكثر من عدد السنين. فيثبت : أن الأحوال الماضية قد دخل فيها الزيادة والنقصان.

الثالث : إنا إذا أخذنا اليوم مع ليلته شيئا واحدا. فلا شك أنه ينقسم

__________________

(١) أدوار (ط)

(٢) من (ط)

(٣) دوره (ط)

إلى ليل ونهار ، فيكون عدد المجموع : نصف عدد مجموع الشهر والليالي. وذلك هو المطلوب.

الرابع : إنه كلما حدث (١) يوم ، فإنه تزاد الجملة الماضية بيوم واحد ، فكان المجموع الحاصل [قبل هذا اليوم ، أنقص من المجموع الحاصل (٢)] بعد حصول هذا اليوم. وهذه الزيادات والنقصانات حاصلة أبدا.

الخامس : إنا إذا أخذنا الحوادث الماضية من هذا اليوم الحاضر إلى الأزل ، جملة واحدة. وأخذناها من أول وقت الطوفان إلى الأزل جملة أخرى. فلا شك أن الجملة الأولى أزيد من الجملة الثانية ، بالمقدار الذي حصل من زمان الطوفان إلى هذا اليوم. فإذا أطبقنا هاتين الجملتين من الجانب الذي يلينا ، فإما أن يمتد (٣) من الجانب الأول أبدا من غير حصول التفاوت ، أو لا بد وأن يظهر التفاوت. والأول يقتضي أن يكون الزائد مساويا للناقص. وهو محال. والثاني يقتضي [أن تكون (٤)] إحدى الجملتين ناقصة عن الأخرى.

السادس : إنّا لو قدرنا أنه حدث في كل دورة من الدورات (٥) الماضية شيء ، وبقي بحيث لا يفنى البتة. فعلى هذا التقدير لو كانت الدورات الماضية غير متناهية ، لكان مجموع تلك الأشياء المجتمعة في زماننا عددا غير متناهي. ومثاله : أن عند الفلاسفة حدث في كل دورة من الأدوار الماضية أعداد من النفوس الناطقة. ثم قالوا : «النفوس الناطقة لا تقبل العدم» فعلى هذا التقدير ، يلزم أن يقال : إن مجموع النفوس الناطقة الموجودة في هذا اليوم: عدد غير متناه. ثم لا شك أن هذا المجموع قابل للزيادة والنقصان. لأن من المعلوم بالضرورة : أن العدد الذي كان حاصلا في زمان الطوفان ، أقل من العدد الذي حصل الآن.

__________________

(١) جد (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) مبتدئ (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) الأدوار (ط ، ت)

السابع : لو قدرنا أنه حصل في كل دورة من الدورات الماضية ، الغير المتناهية : نفس واحدة. وبقيت. لكان قد حصل الآن أعداد لا نهاية لها من النفوس. فإذا علمنا : أن الحاصل في كل واحد من الأدوار الماضية أعداد كثيرة من النفوس ، فحينئذ يلزم أن يكون العدد الموجود الآن من النفوس أضعافا غير متناهية مرارا كثيرة. يدل على أن عدد الأدوار الماضية قابل للزيادة والنقصان. فإنا بينا أن عدد الأدوار الماضية ، أقل من عدد النفوس الناطقة.

والثامن : وهو أن عدد الأدوار الماضية. إما أن يكون شفعا أو وترا. فإن كان شفعا فهو أنقص من الوتر ، الذي فوقه بواحد. وإن كان وترا ، فهو أنقص من الشفع الذي فوقه بواحد. وعلى جميع الأحوال ، فالأمور الماضية قابلة للزيادة والنقصان.

التاسع : إن الأدوار الماضية لها عدد. فنصف ذلك العدد : أقل من كله. فنصفه متناه. فضعفه : ضعف للمتناهي. وضعف المتناهي : متناهي.

العاشر : لا شك أنه حصل لكل واحد من الأفلاك : أدوار مخصوصة على حدة. فلو كانت أدوار الفلك الأعظم غير متناهية ، وكذلك أدوار فلك «الثوابت» غير متناهية ، وكذلك أدوار فلك «زحل» غير متناهية. وكذا القول في البواقي. فنقول : لا شك أن عدد مجموع هذه الأدوار : أكثر من عدد أدوار الفلك «الأعظم» وحده. ومن عدد أدوار فلك «الثوابت» وحده. وهذا يدل على أن عدد الأحوال الماضية يقبل الزيادة والنقصان.

[وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : أن كل ما يقبل الزيادة والنقصان (١)] فله عدد متناه. فتقريره : أن الشيء إنما يكون أنقص من غيره ، لو انتهى ذلك الشيء إلى حيث لا يبقى منه شيء. مع أنه بقي من ذلك الزائد شيء ، وكل ما انتهى عدده إلى حيث لا يبقى منه شيء ، كان متناهيا. وينتج : أن كل عدد ناقص فهو متناه. ثم إن الزائد إنما زاد على ذلك الناقص المتناهي : بعدد

__________________

(١) من (ط ، س)

متناه. والزائد على العدد المتناهي ، بعدد متناهي يجب أن يكون متناهيا. فهذا الزائد أيضا يجب أن يكون متناهيا. فالأحوال الماضية ، والأدوار الماضية : يجب أن تكون متناهية.

هذا تمام تقرير هذه الحجة [والله أعلم (١)]

فإن قيل : مدار هذا الدليل على أن الحركة الفلكية لها أعداد وأجزاء. وذلك ممنوع. وهذا السؤال لا يتم إلا بتقرير مقدمة :

وهي أنا نقول : الجسم إذا تحرك من أول المسافة إلى آخرها ، فتلك الحركة : حركة واحدة في نفسها ، ولا يمكن أن يقال : إنها مركبة من آنات متلاصقة ، وأجزاء متعاقبة. إذ لو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك المسافة مركبة من أجزاء لا تتجزأ ، وذلك باطل بالدلائل الدالة على نفي الجوهر الفرد. فيثبت : أن الحركة من أول المسافة إلى آخرها : حركة واحدة في الحقيقة ، وليست مركبة من أقسام وأجزاء. إذا عرفت هذا ، فنقول : إنما حصل الأول والآخر لهذه الحركات التي نشاهدها في عالمنا هذا : لأن ذلك المتحرك ابتدأ بالحركة بعد أن كان ساكنا ، وانتهى (٢) في آخر الأمر إلى السكون. ولو فرضنا عدم هذا السكون في أول هذه الحركة وآخرها ، لم يحصل لهذه الحركة أول ولا آخر [بل كانت حركة واحدة في ذاتها ، مبرأة عن الكثرة والعدد. وإذا عرفت هذا ، فنقول : الحركة الفلكية ليس لها أول وآخر (٣)] على مذهب القائلين بأنه لا أول لها ، فكانت في نفسها حركة واحدة متصلة أزلا وأبدا. ولا يكون لها شيء من الأجزاء والأعداد. وجميع ما ذكرتم في كون تلك الدورات قابلة للزيادة والنقصان بحسب الأعداد ، ومبني على ثبوت العدد ، فلما بطل ذلك سقط جميع ما ذكرتم.

سلمنا : حصول الأعداد والدورات ، لكنا نقول : المحكوم عليه بقبول

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) لم ينته (ط ، ت)

(٣) من (ط ، ت)

الزيادة والنقصان : إما كل واحد من تلك الدورات ، أو مجموعها.

والأول لا نزاع فيه لأن غاية الكلام فيه : أنه يلزم كون كل واحد من تلك الأدوار متناهيا. وذلك لا نزاع فيه.

وأما الثاني : فهو باطل من وجهين :

الأول : إن الشيء لا يوصف بكونه مجموعا وجملة ، إلا إذا كان متناهيا. فنقول : مجموع الأدوار (١) الماضية كذا وكذا. أو قولنا : جملة الأمور الماضية كذا وكذا : إنما يصح لو كانت تلك الأمور الماضية متناهية ، وحينئذ يتوقف صحة المقدمة على صحة المطلوب. وذلك يوجب الدور.

والثاني : مجموع الأدوار الماضية لا وجود له البتة [وما لا وجود له البتة (٢)] امتنع الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. إنما قلنا : إن مجموع الأمور الماضية ، لا وجود له البتة ، لأنه لو حصل لهذا المجموع : وجود. لكان إما أن يكون موجودا في الأعيان ، أو في الأذهان. والأول باطل. لأن مجموع الأدوار الماضية لم يحصل البتة في شيء من الأوقات الماضية والحاضرة والمستقبلة. بل الموجود فيه أبدا دورة واحدة فقط. والثاني أيضا باطل. لأن الذهن لا يقوى على استحضار (٣) أمور لا نهاية لها على التفصيل. وإن كان كذلك ، امتنع أن يحضر [في الذهن (٤)] صور الأدوار التي لا نهاية لها على التفصيل. فيثبت : أن مجموع الأمور الماضية لا وجود له البتة ، لا في الأعيان ولا في الأذهان. وإنما قلنا : إن كل ما كان كذلك ، امتنع الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. وذلك لأن كون الشيء قابلا لشيء آخر : فرع على كون ذلك القابل موجودا في نفسه [لأن حصول شيء لشيء آخر له ، فرع على حصوله في نفسه (٥)] فإذا لم يكن لهذا المجموع حصول البتة ، استحال على أن

__________________

(١) الأمور (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) لاستحضار (ط)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، ت)

يحصل له غيره ، فامتنع كونه قابلا للزيادة والنقصان.

وهذا هو السؤال الذي عليه اعتماد الشيخ الرئيس [أبي (١)] علي ابن سينا.

سلمنا : أن ذلك المجموع يصح الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان. فلم قلتم : إن كل ما كان كذلك ، فهو متناه؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن كل واحد منهما (٢) يذهب إلى غير النهاية ، ولا ينتهي واحد منهما إلى الانقطاع ، مع أنه يكون أحدهما مشتملا على ما لم يحصل في الآخر؟ وما الدليل على أنه لا يجوز أن يكون الأمر كذلك؟ سلمنا (٣) : أن ما ذكرتموه ، يدل على أنه يمتنع وجود ما لا نهاية له ، إلا أنا نقول : ما ذكرتم ينتقض بأمور :

الأول : إنكم تقولون : إنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات. ولا شك أن الإضافة إلى أحد تلك المعلومات ، مغايرة إلى المعلوم الآخر ، لأن كون العالم عالم بذلك المعلوم المعين ، إضافة مخصوصة بين العالم وبين ذلك المعلوم. وكون ذلك العالم [عالما (٤)] بمعلوم آخر إضافة أخرى بين ذلك العالم وبين المعلوم الآخر. والدليل على تغاير هذه الإضافات : أنه يصح أن يعلم كون العالم عالما بهذا المعلوم ، مع الشك في كون ذلك العالم عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم مغاير لغير المعلوم. فيثبت : أن كون العالم عالما بهذا المعلوم : مغاير لكونه عالما بذلك المعلوم الآخر. وإذا ثبت هذا فكونه تعالى عالما بمعلومات لا نهاية لها : يقتضي حصول إضافات لا نهاية لها في ذاته وذلك [نقض (٥)] صريح على قولكم : إن وجود أعداد لا نهاية لها : محال. لا يقال : هذه الإضافات أمور لا حصول لها في الأعيان ، فزال الإشكال. لأنا نقول : نحن لا نريد بهذه الإضافة إلا كونه

__________________

(١) من (ط)

(٢) يشير إلى العبارة «لأنه كون الشيء قابلا لشيء آخر»

(٣) سلمنا على أن ما ذكرتم (ط ، ت)

(٤) من (ط)

(٥) من (ط ، ت)

عالما بهذا المعلوم ، وبذلك المعلوم. فإن زعمتم : أن انضاف علمه إلى هذا المعلوم ، [وإلى (١)] ذلك المعلوم غير حاصل في نفس الأمر. فهذا نفي لكونه تعالى عالما بهذه المعلومات. وإن سلمتم : أن تلك الإضافات حاصلة في نفس الأمر ، فقد لزم السؤال لا محالة.

النقض الثاني : أن نقول : إنه تعالى لما كان عالما. بجميع المعلومات. فإذا علم شيئا ، وجب [أن يعلم (٢)] كونه عالما بذلك الشيء ، وأن يعلم كونه عالما بكونه عالما بذلك الشيء ، وهكذا إلى ما لا نهاية له. فقد حصل في هذا المعلوم الواحد مراتب لا نهاية لها من المعلومات (٣) ولما كانت معلومات الله [تعالى (٤)] غير متناهية ، وثبت : أن لله تعالى بحسب كل واحد من المعلومات علوم لا نهاية لها. فحينئذ يلزم أن يقال : إنه حصل لله تعالى علوم لا نهاية لها ، لا مرة واحدة ، بل مرارا غير متناهية (٥) وذلك يبطل قولكم : إن الأعداد التي لا نهاية لها ، يمتنع دخولها في الوجود. لا يقال : العلم بالعلم بالشيء ، نفس العلم بذلك الشيء. وأيضا : فبتقدير التغاير ، إلا أن هذه المراتب التي لا نهاية لها ، لا تحصل بالفعل بل بالقوة. لأنا نقول : أما الكلام الأول فضعيف. لأن المعلوم والعلم شيئان متغايران. فكان العلم بأحدهما مغايرا للآخر ، فكان العلم بالمعلوم مغايرا للعلم بذلك العلم. وأما الكلام الثاني فضعيف. لأنه تعالى لو كان عالما بتلك المراتب لا بالفعل بل بالقوة ، فحينئذ يلزم تجهيل (٦) الله تعالى منه. وأيضا : يلزم كون (٧) الله تعالى محلا للحوادث ، لأن كل ما كان بالقوة ، فإنه لا يمتنع خروجه إلى الفعل.

النقض الثالث : إنه تعالى متمكن من إيجاد جميع الممكنات. ولا شك أن أنواع

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) المعلوم (ط ، ت)

(٤) من (ط ، ت)

(٥) لا نهاية لها (ط)

(٦) تحصيل الله تعالى عنه (ط)

(٧) كونه محلا (ط ، ت)

الممكنات غير متناهية. ولا شك أن إمكان إيجاد أحد تلك الأنواع : مغاير لإمكان إيجاد النوع الآخر. بدليل : أنه يصح العلم بأحد الإمكانين مع الجهل بالإمكان الآخر ، وحينئذ يعود السؤال المذكور في العلم.

النقض الرابع : كل أمر فهو إما واجب الوجود لذاته ، أو ممتنع الوجود لذاته ، أو ممكن الوجود لذاته. والأقسام الثلاثة داخلة في المعلومية ، وأما المقدور فليس إلا الممكن. فمراتب المقدورات ، أقل من مراتب المعلومات ، مع أنه لا نهاية لمعلومات الله ولمقدوراته.

النقض الخامس : إن كل وحدة (١) تفرض فإنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة وربع الأربعة. وهكذا إلى ما لا نهاية له. فهذه النسب التي لا نهاية لها : حاصلة لا يقال : النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان ، بل هي اعتبارات ذهنية لا ثبوت لها في نفس الأمر. لأنا نقول : كل ما لا حصول له إلا بحسب فرض الذهن واعتبار العقل ، فإنه لا يكون واجب الحصول في نفس الأمر. وكون الوحدة نصفا للاثنين وثلثا للثلاثة ، وربعا للأربعة : أمور واجبة الثبوت ، لازمة التحقيق ، ممتنعة التبدل والتغير. فكيف يقال : إنه لا حصول لها إلا بحسب فرض الذهن ، واعتبار الخيال؟

النقض السادس : إن تضعيف الألف مرارا لا نهاية لها ، [أقل من تضعيف نصفالألفين مرارا ، لا نهاية لها (٢)] فههنا قد حصلت الزيادة والنقصان مع عدم النهاية. لا يقال : إن مراتب الأعداد لا وجود لها البتة ، بل هي من الاعتبارات الذهنية. لأنا نقول : إن هذه المراتب مترتبة في أنفسها ترتبا واجب التقرر ، ممتنع التغير. فالاثنان يقومان الثلاثة ، والثلاثة [مقومة (٣)] بالاثنين. وهذا التقويم والتقوم ممتنع التغير والتبدل ، فكيف يقال : هذه المراتب أمور فرضية اعتبارية؟

__________________

(١) واحد (ط ، ت)

(٢) من (ط)

(٣) (ط)

النقض السابع : نحن نعلم بالضرورة : أن امتداد دوام ذات الله تعالى من الأزل إلى هذا اليوم، أطول (١) من امتداد دوامه من الأزل إلى يوم الطوفان. وحينئذ يعود كل ما ذكرتموه من الوجوه فيه. فإن كانت تلك الوجوه توجب إثبات أول للأحوال الماضية ، لزم كونها موجبة إثبات أول لوجود الله تعالى ، وإنه فاسد.

النقض الثامن : إن صحة حدوث الحوادث من الأزل إلى وقت الطوفان ، أقل من امتداده من الأزل إلى هذا اليوم. فيلزم : إثبات أول لهذه الصحة. وذلك محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم أن يقال : إنه كان قبل ذلك المبدأ ممتنعا لعينه ، ثم انقلب بعده ممكنا [لعينه (٢)] وإنه محال.

والثاني : وهو أن كل وقت يفرض كونه أولا ، لإمكان حدوث الحوادث. فإن ذلك الإمكان كان حاصلا قبل ذلك الأول ، فإنه لو حصل ذلك الحادث قبل ذلك لأول بيوم أو يومين ، فإنه بسبب هذا القدر لا يصير أزليا فيثبت بهذا : أن فرض أول وبداية لصحة حدوث الحوادث : محال.

النقض التاسع : إنه يعارض جانب الأزل بجانب الأبد. فنقول : لا شك أن إمكان حدوث الحوادث من يوم الطوفان ، إلى آخر الأبد [أكثر من صحتها من هذا اليوم إلى آخر الأبد (٣)] فإن أطبقنا طرف هذين الامتدادين من هذا الجانب ، فإن امتدا ، أبدا من الجانب الآخر ، من غير أن يظهر التفاوت ، يلزم : أن يكون الزائد مساويا للناقص. وهو محال. وإن ظهر التفاوت من ذلك الجانب ، لزم انتهاء صحة حدوث الحوادث من جانب الأبد ، إلى آخر ونهاية. وذلك باطل بالاتفاق.

النقض العاشر : أن نقول : اعتبار أحوال الموجودات ، يوجب التزام

__________________

(١) أطول من الدوام ، أزيد من دوامه من الأزل ... الخ (ت ، ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

التسلسلات والتزام القول بوجود موجودات لا نهاية لأعدادها ، ولا نهاية لآحادها.

ونحن نشير إلى بعض تلك الصور :

فالأول : إن الإمكان صفة ثابتة للممكن ، وتلك الصفة الثابتة ليست واجبة الوجود لذاتها ، فهي ممكنة فيكون إمكان الإمكان زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الثاني : إن كون الواجب واجبا : صفة لذات الواجب. ثم ذلك الوجوب لا يعقل أن يكون ممكنا. وإلا لما بقي الواجب واجبا ، بل وجب كونه واجبا. فيكون وجوبه زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الثالث : إن المفهوم من الإنسان ، مغاير للمفهوم من كونه : هذا الإنسان. فيلزم : أن يكون تعين كل شخص زائدا على ماهيته ، ثم إن التعين أيضا ماهية مشترك فيها بين آحاد التعينات ، فوجب أن يكون تعين [التعين (١)] زائدا عليه ، ولزم التسلسل.

الرابع : إن المفهوم من كون الشيء مؤثرا في الأثر ، مغايرا لذات المؤثر ، ولذات الأثر. بدليل : أنه يصح تعقل ذاتيهما مع الذهول عن كون هذا مؤثرا في [ذلك ، وكون ذاك (٢)] أثرا لهذا. والمعلوم : مغاير لغير المعلوم ، فكون هذا مؤثرا في ذاك ، مغاير لذات هذا ، ولذات ذاك. ثم ذلك التغاير (٣) صفة لذات ذلك المؤثر ، وصفة الشيء مفتقر إلى ذلك الموصوف ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، والممكن لذاته لا بد له من مؤثر ، فمؤثرية المؤثرية في حصول تلك المؤثرية : زائدة عليها ، فيلزم التسلسل.

الخامس : كون الجسم موصوفا بالسواد ، مفهوم مغاير لذات الجسم

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) المغايرات (ت ، ط)

ولذات السواد. بدليل : أنه يصح تعقل ذات كل واحد منهما مع ذهول عن كون أحدهما موصوفا بالآخر ، فموصوفية الجسم بالسواد ، صفة مغايرة لذات الجسم ، ولذات ذلك السواد. وعلى هذا التقدير فموصوفية الجسم بتلك الموصوفية أيضا زائدة عليه. ولزم التسلسل.

السادس : إذا قلنا : الزوجية لازم للأربعة. فالمفهوم من اللزوم (١) مغاير للمفهوم من كونه أربعة. ومن كونه زوجا. بدليل : أن مفهوم اللزوم قد يحصل في سائر المواضع. فإن الفردية لازمة للثلاثة ، وأيضا : فاللزوم نسبة مخصوصة بين الأربعة وبين الزوجية. والنسبة بين الأمرين مغايرة لهما. فهذا اللزوم أمر مغاير لذات اللازم ، ولذات الملزوم ثم إن ذلك المغاير لازم لهما. وإلا بطل اللزوم. فيكون لزوم ذلك اللزوم : زائد عليه. ولزم التسلسل.

السابع : المفهوم من كون السواد مخالفا للحركة ، غير المفهوم من كونه سوادا وحركة ، لأن المفهوم من المخالفة حاصل في غير هاتين الصورتين ، مثل : السواد والحموضة. ثم إن المفهوم من هذه المخالفة لا بد وأن تكون مخالفة لسائر الماهيات. فيلزم [منه (٢)] التسلسل.

الثامن : إن المعلوم من كون الماهية إنسانا وفرسا ، وسوادا وبياضا. مغاير للمفهوم من كونها واحدة. بدليل : أن الإنسان قد يكون واحدا ، وقد يكون كثيرا ، كما أن الواحد قد يكون إنسانا ، وقد لا يكون. وإذا كانت الوحدة مغايرة لتلك الماهية المخصوصة ، فعند دخول ماهية الوحدة في الوجود ، لا بد وأن تكون واحدة فيلزم التسلسل.

التاسع : الإضافات المخصوصة ، نحو الفوقية والتحتية [والأبوة (٣)] والبنوة ، والمالكية ، والمملوكية : أعراض حالة في محالها ، ثم أن كونها (٤) حالة

__________________

(١) الزوج (ت ، ط)

(٢) من (ت ، ط)

(٣) من (ت ، ط)

(٤) لونها (ط)

في تلك المحال : إضافة من تلك الإضافات ، بين (١) تلك المحال. فيلزم أن يكون للإضافة : إضافة أخرى. ولزم التسلسل.

العاشر : إن عندكم : أن الجسم حادث. فحدوثه ليس نفي (٢) ذاته. وإلا لزم كونه حادثا في الزمان الثاني [وذلك محال. لأن حدوثه في الزمان الثاني (٣) يقتضي أن يقال : إن الموجود قد وجد مرة أخرى. وهو محال ، وإذا ثبت هذا ، فذلك الحدوث لا بد وأن يكون حادثا. فحدوث الحدوث زائدا عليه. ولزم التسلسل.

واعلم : أن في هذه الأمثلة كثرة وفيما ذكرناه كفاية في المقصود. لأنه إذا كان لا سبيل إلى إثبات هذه المعاني ، إلا بالتزام هذه التسلسلات ، وبالاعتراف بدخول ما لا نهاية له في الوجود ، علمنا : أن إنكار (٤) هذا الأصل ، يوجب نفي الحقائق والمعاني ، ويوجب الدخول في السفسطة. وذلك محال. فعلمنا : أنه لا بد من الاعتراف بدخول ما لا نهاية له في الوجود ، وذلك يبطل ما ذكرتموه.

لا يقال : جملة هذه الصور التي ذكرتموها ، أمور إضافية نسبية. والإضافات والنسب لا وجود لها في الأعيان. وإنما هي أمور يعتبرها العقل ، ويفرضها الذهن فقط. وعلى هذا التقدير فالسؤال زائل. لأنا نقول : هذا الكلام في غاية الضعف ، وذلك لأنا نقول : ذات المؤثر ، هل هي مؤثرة في الأثر في نفس الأمر ، أو ليس كذلك ، [بل (٥)] هذه المؤثرية غير حاصلة في نفس الأمر ، وإنما يفرضها العقل ، ويعتبرها الذهن فقط؟ فإن كان الأول فهذه المؤثرية حاصلة في نفس الأمر ، وحينئذ يلزم التسلسل على ما قررناه.

__________________

(١) وبين (ت ، ط)

(٢) هو (ت ، ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) إمكان (ت ، ط)

(٥) من (ط)

وإن كان الثاني ، كان حاصل هذا الكلام : أن في نفس الأمر ، ليس المؤثر مؤثرا في الأثر ، وليس الذات موصوفة بالصفة ، وليس مثلا للسواد ، ولا ضدا للبياض ، ولا مخالفا للحركة ، وذلك دخول في السفسطة وفي الجهالة. فعلمنا : أن الحق إما التزام محض السفسطة ، وإما التزام التسلسلات ، والاعتراف بدخول ما لا نهاية له في الوجود ، وذلك هو المطلوب.

فهذا هو تقرير وجه السؤال على الدليل المذكور.

ثم نختم الكلام في هذه السؤالات بكلام آخر : وهو أنا نقول : دليل الشفع والوتر في غاية الخساسة. وذلك لأن العدد الذي يوصف بكونه شفعا أو وترا ، هو العدد المتناهي. فأما بتقدير كون العدد غير متناه ، فإنه يمتنع وصفه بكونه شفعا أو وترا. وعلى هذا لا يمكن وصف العدد بكونه شفعا أو وترا ، إلا إذا كان متناهيا. وأنتم بينتم كونه متناهيا ، على كونه شفعا أو وترا. وذلك يوجب الدور. وهذا [أيضا (١)] هو الاعتراض على قوله : «إن كل عدد ، فإن نصفه أقل من كله» وذلك لأن العدد الذي له نصف ، هو العدد المتناهي ، فما لم يثبت كون العدد متناهيا ، امتنع أن يفرض له نصف. وأنتم تثبتون كونه متناهيا ، بالبناء على إثبات النصف [له (٢)] وذلك يوجب الدور. فهذا تمام الكلام في تقرير السؤال. [والله أعلم (٣)]

والجواب : أما السؤال الأول : وهو قوله (٤) : «الحركة الفلكية شيء واحد متصل ، وليس لها أعداد وأبعاض»

فنقول : لنا في الجواب عنه وجوه :

الأول : إن أجزاء الحركة. بعضها ماضية ، وبعضها مستقبلة ، وهما معدومان في الحال ، والجزء الماضي هو الذي وجد وفني ، بعد وجوده. والجزء

__________________

(١) من (ط)

(٣) من (ط)

(٢) من (ت ، ط)

(٤) قولهم (ط ، س)

المستقبل هو الذي لم يوجد ، وسيصير موجودا ، وإذا اختلفت خواص الأجزاء المفترضة في تلك الحركة اختلافا على سبيل الوجوب ، وجب الاعتراف بحصول الأجزاء والأبعاض.

الثاني : إن الحركة ماهيتها التغير من حال إلى حال ، ولا شك أن الحالة المتنقل عنها ، مغايرة للحالة المتنقل إليها. وذلك يوجب التغير والتعدد.

الثالث : إن في كل دورة ، حصول للكوكب طلوع من المشرق ، ووصول إلى نصف النهار ، وغروب في المغرب. ولا شك أن هذه الأحوال متغايرة متعددة. وحينئذ يحصل الغرض [والله أعلم (١)]

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «مجموع الحوادث لا وجود له البتة ، وما لا وجود له ، يمتنع الحكم عليه بقبول الزيادة والنقصان».

فنقول : لنا في الجواب عنه وجوه :

الأول : إن قولنا : مجموع الحوادث قد وجد. أعم من قولنا : مجموع الحوادث قد وجد بصفة الاجتماع. والدليل عليه : أن القائل إذا قال : رأيت جملة أهل البلد. فإنه يصح أن يقال [له (٢)] : أرأيت جملتهم بصفة الاجتماع أو لا بصفة الاجتماع؟ وذلك يدل على أن المفهوم من رؤيتهم بجملتهم ، أعم من المفهوم من رؤية جملتهم صفة الاجتماع. فكذلك قولنا : جملة الحوادث الماضية قد وجدت ، أعم من قولنا : إن جملة الحوادث الماضية قد وجدت بصفة الاجتماع. وأنتم إنما أبطلتم هذا المفهوم الخاص. وظاهر : أنه لا يلزم من كذب الخاص ، كذب العام. فثبت : أنه لا يلزم من كذب قولنا : جملة الحوادث الماضية وجدت بصفة الاجتماع : كذب قولنا : جملة الحوادث قد وجدت. بل نقول : الدليل على أن جملة الحوادث قد وجدت : أنه يصدق قولنا : إن جملة الحوادث قد وجدت بصفة الافتراق والتعاقب. وقولنا : جملة

__________________

(١) من (ت ، ط)

(٢) من (ط)

الحوادث قد وجدت ، جزء من قولنا : جملة الحوادث قد وجدت بصفة الافتراق. ومتى صدق المركب ، فقد صدقت أجزاؤه لا محالة. فوجب أن يصدق قولنا : إن جملة الحوادث قد وجدت.

فالحاصل : أنهم أقاموا الدليل على بطلان الخاص ، ثم استدلوا به على بطلان العام. وذلك باطل. وأما نحن فقد أقمنا الدلالة على صدق الخاص ، ثم استدللنا به على صدق العام. وذلك (١) حق.

والوجه الثاني : إن قولهم : «إن جملة الحوادث الماضية ، لا يصح الحكم عليها البتة» : كلام متناقض من وجوه :

الأول : إنهم حكموا بامتناع الحكم عليها. فهذا حكم على تلك الجملة بهذا الامتناع. فيلزم من هذا الاعتبار.

والثاني : إنا إذا قلنا : الأحوال الماضية لا نهاية لها. فهذه قضية. [ولكل قضية (٢)] موضوع ومحمول. فالموضوع في هذه القضية ، إما كل واحد من تلك الأحوال الماضية ، وهو ظاهر الفساد. لأن كل واحد منها لا يصدق عليه أنه أمور متناهية. وإما كل تلك الأمور وجملتها. وحينئذ يكون هذا اعتراف بأنه يمكن الحكم على ذلك [الحكم (٣)] وعلى تلك الجملة ، بأحكام معلومة. وذلك يبطل قولهم : إنه لا يمكن الحكم عليه البتة.

والثالث : إنهم يقولون : الأحوال الماضية دائمة مستمرة من الأزل إلى الأبد. فالمحكوم عليه بالاستمرار من الأزل إلى الأبد : ليس هو كل [واحد (٤)] من تلك الحوادث بل مجموعها. وذلك يناقض قولهم : إن ذلك المجموع لا يمكن الحكم عليه.

__________________

(١) وهو (ت ، ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط)

وأما السؤال الثالث : وهو النقض بالصور المذكورة.

فالجواب عنه : إن هذه الصورة بأسرها أمور ، إضافية نسبية. والإضافات والنسب يمتنع أن تكون موجودة في الأعيان ، وإلا لزمت التسلسلات ، والتزام التسلسل : محال في العقول. والدليل عليه : أن المعقول من التسلسل : التزام القول بوجود أمور متتالية متلاصقة مادة إلى غير النهاية. ومعلوم : أن هذا المعنى لا يحصل إلا عند الاعتراف بوجود أشياء متلاصقة متواصلة ، لا يتخللها شيء آخر. إلا أنا نقول : القول بكون الإضافات موجودات في الأعيان ، يبطل ذلك. ولنذكر تقرير هذا الكلام في مثال واحد فنقول : لو كانت المؤثرية صفة زائدة على ذات المؤثر وعلى ذات الأثر ، فهل هاهنا شيء يؤثر في شيء آخر ، أم لا؟ فإن كان الأول : لا يكون بين المؤثر وبين أثره ، المتصل به : واسطة. إلا أن هذا مع القول بكون الإضافات أمورا موجودة [في الأعيان (١)] محال. لأن كون ذلك المؤثر مؤثرا في أثره : متوسط بينهما. فحيث صدق أنه ليس بينهما متوسط [صدق أنه حصل بينهما متوسط (٢)] وهذا محال. وإن كان الثاني : وهو أنه ليس هاهنا شيء يؤثر في شيء : كان هذا نفيا للتأثير [والمؤثر (٣)] وذلك باطل. وكذا القول في موصوفية الذات بالصفة. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كانت الإضافات موجودة في الأعيان لزم القول بالتسلسل ، وثبت : أن ذلك محال ، فوجب القطع بأن الإضافات لا وجود لها في الأعيان البتة. ولما كان جميع النقوض التي أوردتموها من باب الإضافات ، ثبت أن شيئا منها غير موجود في الأعيان ، لا بمجموعها ولا بآحادها ، بخلاف الحوادث الماضية ، فإنه وإن لم توجد جملتها على سبيل الاجتماع ، إلا أنه وجدت جملتها على سبيل التعاقب [والتوالي (٤)] فظهر الفرق. فهذا غاية ما يحضرنا في تقرير هذه الحجة ، بعد الأفكار المتوالية فيها ، في مدة أربعين سنة. والله ولي التوفيق.

__________________

(١) من (ت ، ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط)

الحجة الثانية في بيان أنه يمتنع وجود حوادث لا أول لها : أن نقول : الحركة عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة. ومن المعلوم بالضرورة : أن الانتقال من حالة إلى حالة ، يجب كونه مسبوقا بالحالة المنتقل عنها. فماهية الحركة وحقيقتها ، تقتضي المسبوقية بالغير ، وحقيقة الأزل تنافي المسبوقية بالغير ، فكان الجمع بين حقيقة الحركة وبين حقيقة الأزل : جمعا بين النقيضين ، وهو محال. فوجب القطع بامتناع حصول الحركة في الأزل.

الحجة الثالثة : أن يقال : إنه حصل شيء من الحوادث في الأزل ، أو يقال : لم يحصل شيء من الحوادث في الأزل. والثاني : يوجب الاعتراف بثبوت أول وبداية [للحوادث (١)] وأما الأول فنقول : إنه لما حصل شيء من الحوادث في الأزل ، فذلك الحادث إن كان مسبوقا بالغير (٢) لزم كون الأزل مسبوقا بغيره. وهو محال. وإن لم يكن مسبوقا بالغير كان ذلك الحادث : أول الحوادث. فيكون قد حصل للحوادث أول. وهو المطلوب.

الحجة الرابعة : وهي أن نقول : لو فرضنا حدوث حوادث يكون كل واحد منها مسبوقا بغيره ، لا إلى كل واحد من تلك الحوادث مسبوقا بعدم لا أول له. ولو كان الأمر كذلك ، لكانت تلك العدمات (٣) بأسرها حاصلة في الأزل على سبيل الجمع.

إذا ثبت هذا فنقول : إما أن يحصل [شيء (٤)] في الأزل من الموجودات أو لم يحصل. والأول محال ، لأنه يقتضي أن يكون السابق مقارنا للمسبوق. لأنه لما كان عدمه حاصلا في الأزل ، وكان أيضا وجوده حاصلا [في الأزل (٥)] فقد حصل وجوده مع عدمه ، وعدمه سابق [على وجوده (٦)] فيلزم كون السابق

__________________

(١) من (ت ، ط)

(٢) بغيره (ت ، ط)

(٣) المعدومات (ط ، ت)

(٤) يحصل في الأزل شيء من الموجودات (ت ، ط)

(٥) من (ت ، ط)

(٦) من (ت ، ط)

مقارنا للمسبوق. وذلك محال. والثاني : يفيد المطلوب. لأنه لما لم يحصل [شيء (١)] من الموجودات في الأزل ، كان قد حصل لكل الموجودات أول وبداية. وهو المطلوب.

فإن قيل : هذه الدلائل الثلاثة ، حاصلها يرجع إلى حرف واحد ، وهو أنكم تعتقدون كون الأزل : طرفا لقدم الحوادث.

ثم نقول : لما حصل فيه عدم الحوادث ، امتنع أن يحصل فيه وجودها ، وإلا لزم اجتماع النقيضين في وقت واحد وهو محال. وهذا الكلام صحيح كامل ، لو كان الأزل عبارة عن وقت معين وزمان معين. لكن من المعلوم بالضرورة : أن ذلك محال. لأن كل وقت يشار إليه ، وكل زمان يفرضه العقل ، فإنه يكون وقتا معينا مشخصا ، ويكون خارجا عن الأزل ، ومباينا له ، فكانت الدلائل التي ذكرتموها محض المغالطة.

السؤال الثاني : إن دلائلكم إن صحت ، لزم منها القول بامتناع حدوث الحادث في الأزل. فنقول : هذا باطل. لأنه لا شك أن حدوث الحوادث ممكن في لا يزال. فلو فرضنا : أنها كانت ممتنعة الحصول في الأزل ، ثم صارت ممكنة الحصول في لا يزال ، وجب أن يكون لتلك الإمكانات أول وبداية. إلا أن ذلك محال لوجهين : الأول : يلزم أن يقال : إن هذه الماهيات انقلبت من الامتناع الذاتي ، إلى الإمكان الذاتي. وهو محال.

والثاني : وهو أن كل وقت يفرض كونه أولا لصحة حدوث الحوادث ، فقد كانت الصحة حاصلة قبله. لأن بتقدير أن تحدث الحوادث قبل ذلك الوقت بيومين فقط ، لا يصير قديما أزليا. فيثبت : أن دلائلكم توجب إثبات أول لصحة حدوث الحوادث. وثبت : أن إثبات هذه الأولية باطل ، فكانت هذه الدلائل باطلة.

السؤال الثالث : أن نقول : هذه الدلائل الثلاثة ، التي ذكرتموها في

__________________

(١) من (ط)

امتناع حدوث الحوادث في جانب الأزل ، ووجوب انتهائها إلى أول ، يوجب عليكم امتناع حدوث الحوادث في الأبد ، ووجوب انتهائها إلى آخر.

ولنقرر ذلك في كل واحد منها :

فأمّا الوجه الأول : [من هذه الوجوه (١)] فهو أنكم قلتم : حقيقة الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، وحقيقة الأزل تنافي المسبوقية بالغير ، والجمع بينهما محال. فوجب انتهاء الحوادث إلى أول. فنقول : كما أن كل جزء من أجزاء الحركة ، يجب أن يكون مسبوقا بجزء آخر ، فكذلك يجب أن يكون ملحوقا بجزء آخر ، إذ لو بقي ذلك الجزء لانقلب سكونا. وكلامنا فيما إذا كانت الحركة باقية.

إذا عرفت هذا فنقول : كما أن حقيقة الحركة تقتضي المسبوقية بالغير ، فكذلك تقتضي الملحوقية بالغير ، وحقيقة الأبد تنافي الملحوقية بالغير ، والجمع بين الحركة وبين الأبد: محال. فوجب انتهاء الحركات في جانب الأبد ، إلى آخر. وكما أن هذا الكلام فاسد ، فكذا ما ذكرتموه.

وأما الوجه الثاني : وهو قولكم : «هل حصل في الأزل شيء من الحوادث أم لا؟» [فقلنا في جانب الأبد (٢)] فإن لم يحصل فيه شيء من الحوادث ، فللحوادث آخر على سبيل الوجوب. وإن حصل في الأبد شيء من الحوادث ، فهل حصل عقيبه شيء آخر ، أم لا؟ فإن كان الأول فقد حصل بعد الأبد شيء آخر ، وذلك محال. لأن الأبد ينافي الملحوقية بالغير ، وما حصل بعده شيء آخر فهو ملحوق بالغير ، والجمع بينهما محال. وإن كان الثاني : وهو أنه لم يحصل بعد ذلك الحادث شيء آخر ، فحينئذ يكون ذلك الشيء آخرا لكل الحوادث ، فيكون لكل الحوادث آخر على سبيل الوجوب. وذلك محال.

وأما الوجه الثالث من هذه الوجوه الثلاثة : فهو أن نقول : لما وجب في كل واحد من الحوادث ، أن يحصل بعده : (٣) عدم لا آخر له ، كان مجموع

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط)

(٣) لعلها : عدم آخر ، لا آخر ، له

هذه العدمات حاصل في الأبد ، فإما أن يحصل في الأبد شيء من الموجودات أو لم يحصل. فإن كان الأول لزم أن يحصل السابق والمسبوق معا ، وهو محال. وإن كان الثاني فحينئذ لم يحصل في الأبد شيء من الحوادث ، فوجب أن يحصل للحوادث آخر ونهاية.

فيثبت : أن هذه الدلائل الثلاثة التي ذكرتموها إن أوجبت أن يحصل للحوادث أول ، فكذلك أوجبت أن يحصل للحوادث آخر. ولما بطل ذلك ، علمنا أن هذه الدلائل مغالطات ، نشأت من اعتقاد : أن الأزل وقت معين في الماضي ، وأن الأبد وقت معين في المستقبل. ولما كان ذلك باطلا ، كانت هذه الدلائل التي ذكرتموها فاسدة.

السؤال الرابع : إن دل ما ذكرتم على امتناع حوادث لا أول لها. فههنا ما يدل على وقوعه لا محالة. وهو من وجهين.

الأول : (١)] : إن بديهة العقل حاكمة بأن كل أمر حادث ، فلا بد له من سبب حادث ، أو إن كان ذلك السبب قديما ، إلا أن تأثيره في ذلك الأثر الحادث ، كان موقوفا على شرط حادث. ألا ترى أن القائلين بالحدوث يقولون : العالم إنما حدث في الوقت المعين ، لأن إرادة الله تعالى تعلقت بإحداث العالم في ذلك الوقت المعين. وهذا في الحقيقة اعتراف بأن تأثير قدرة الله في وجود العالم ، كان موقوفا على حدوث ذلك الوقت. فثبت : أن كل حادث ، فإنه لا بد وأن يكون معللا بسبب حادث. وإن كان معللا بسبب قديم ، إلا أن تأثير ذلك السبب [القديم (٢)] في ذلك الحادث ، كان موقوفا على شرط حادث ، وعلى كلا التقديرين ، فهذا يقتضي أن يكون كل حادث ، مسبوقا بحادث [آخر (٣)] لا إلى أول.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (س)

والثاني : إن كل حادث ، فإن عدمه يكون سابقا على وجوده ، وذلك السبق أمر ما من الأمور ، كان حاصلا قبل حدوث ذلك الحادث. وهذا يقتضي أن يكون كل حادث ، مسبوقا بحادث آخر ، لا إلى أول.

فهذه جملة السؤالات على هذه الوجوه [والله أعلم (١)]

والجواب :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «هذا الخيال إنما وقع لتوهم كون الأول وقتا معينا» قلنا : إنه لا حاجة في تقرير هذه الدلائل إلى ما ذكرتموه. وبيانه في الدليل الثالث أن نقول : إن كل واحد من الحوادث ، مسبوق بعدم لا أول له. فلو قدرنا كل واحد من تلك العدمات شيئا موجودا ، لكان كل واحد من تلك الأشياء قديما. وتلك القدماء لا بد وأن تكون متقارنة الوجود في حيزها ، وإلا لكان حصول بعضها بعد الغير. وذلك يقدح في كونها قدماء. وإذا كانت تلك الأشياء متقارنة في الوجود ، امتنع أن يحصل معها (٢) شيء من الحوادث. لأن أحد الأمور الحاصلة عند تلك المقارنة ، وهو عدم هذا الحادث. فلو حصل وجود هذا الحادث معه ، لكان وجود الشيء مقارنا لعدمه. وإنه محال. فيثبت : أنا متى فرضنا أن لكل واحد منها عدما سابقا عليه ، لا أول له وجب الحكم بكون كلها مسبوقا بالعدم.

وأما السؤال الثاني : وهو المعارضة بالصحة. فنقول : نحن نسلم أنه لا بداية لصحة حدوث الحوادث. ومع هذا فإنه لا يلزم صحة حدوثها في الأزل. والدليل عليه : أنا إذا أخذنا موجودا ممكن الوجود ، بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، سبقا زمانيا. فهذا الشيء بهذا الشرط ، لا أول لإمكان وجوده. لأنه لا وقت يجعل أولا لصحة وجوده ، إلا وتلك الصحة كانت حاصلة قبل ذلك الوقت. ثم مع هذا لا يلزم صحة كونه أزليا ، لأن الأزلي هو الذي لا يكون

__________________

(١) من (ط ، ت)

(٢) بعضها (ت ، ط)

مسبوقا بالعدم. وهذا الشيء قد أخذناه بشرط كونه مسبوقا بالعدم ، فكان كونه أزليا : محال. فكذا هاهنا.

وأما السؤال الثالث : فجوابه : أن الشرط في كون الحادث حادثا : أن يكون مسبوقا بالعدم. وليس الشرط في كونه حادثا : كونه ملحوقا بالعدم. فيثبت : أن حصول العدم قبل وجود (١) الحادث : واجب. أما حصول العدم بعده : فليس بواجب. فظهر الفرق.

وأما السؤال الرابع : فقد سبق الكلام فيه [والله أعلم (٢)]

الحجة الخامسة في بيان أنه لا بد للحوادث من أول : أن نقول : الحوادث بأسرها فعل فاعل مختار ، وكل ما كان كذلك ، فله أول. فالحوادث بأسرها يجب أن يكون لها أول.

بيان المقدمة الأولى :

إنّ هذه الحركات أمور حادثة ، وكل حادث فله مؤثر ، وذلك المؤثر إما أن يكون موجبا ، وإما أن يكون مختارا. لا جائز أن يكون ذلك المؤثر موجبا ، لأن الموجب يلزم من دوامه ، دوام الموجب. فلو كان المؤثر في وجود كل جزء من الأجزاء المفترضة في الحركة الفلكية موجبا بالذات ، لوجب أن يدوم ذلك الجزء من الحركة بدوام ذلك الموجب ، لكن دوام جزء من أجزاء الحركة محال. لأن ذلك الجزء المعين من الحركة ، عبارة عن حصول الجسم في ذلك الحيز المعين ، بعد أن كان حاصلا في حيز آخر. ولو بقيت هذه الحالة لصار سكونا لا حركة. فيثبت : أن القول ببقاء الجزء المعين من الحركة يوجب عدم الحركة ، والتقدير تقدير بقاء الحركة. فثبت : أن المؤثر في وجود الحركة ، يمتنع أن يكون موجبا بالذات. فلا بد وأن يكون فاعلا بالاختيار [والفاعل بالاختيار (٣)] يجب كونه سابقا على فعله ، فوجب أن يكون فاعل حركات الأفلاك ، سابقا في

__________________

(١) حدوث (ط)

(٢) من (ت ، ط)

(٣) من (ط)

وجوده عليها. وكل ما كان مسبوقا بوجود غيره ، فلوجوده أول. فيلزم أن يحصل لجميع الحوادث (١) أول وبداية. وهو المطلوب. فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في وجود هذه الحركات موجبا بالذات؟ قوله : «لا يلزم (٢) أن يدوم كل جزء من الأجزاء المفترضة في تلك الحركة ، لأجل دوام ذلك الموجب» قلنا : لا نسلم أن ذلك لازم. وبيانه : أن الموجب لنزول الثقيل هو ثقله الطبيعي ، وذلك الثقل باقي في الأحوال كلها. ولم يلزم عن بقاء ذلك الثقل ، بقاء كل واحد من الأجزاء المفترضة [في حركة (٣)] ذلك الثقيل ، فكذا هاهنا. بل التحقيق : أن نقول : إيجاب ذلك الثقل للجزء المتأخر من الحركة ، مشروط بحصول الجزء المتقدم : فالموجب والمؤثر هو الثقل. إلا أن إيجابه لكل جزء من الأجزاء المفترضة في تلك الحركة مشروط بانقضاء الجزء المتقدم. وعلى هذا التقدير لا يلزم من دوام العلة الموجبة لتلك الحركة ، دوام كل جزء من أجزاء تلك الحركة. وهذا الكلام قد أطنبنا في تقريره ، حيث نقلنا [مذهب الحكماء في كيفية كون المبدأ (٤)] القديم علة لوجود الحوادث المتعاقبة.

السؤال الثاني : هب أن المؤثر فيها فاعل مختار. إلا أنكم تدعون [كون (٥)] ذلك الفاعل المختار ، فاعلا لكل واحد من أجزاء تلك الحركة ، أو تدعون كونه فاعلا لجميعها؟ فإن [كان (٦)] الأول ، كان اللازم منه كونه متقدما على كل واحد من تلك الأجزاء. لكن لم قلتم : إنه لما كان متقدما على كل واحد من تلك الحركات ، وجب كونه متقدما على مجموعها؟ فإن هذه المقدمة إن صحت ، لم يكن بنا حاجة إلى هذا الدليل الطويل. بل نقول : لما كان العدم سابقا على [كل واحد من الحوادث ، وجب كونه سابقا على (٧)] كلها. فإن لم يجب هذا لم يجب [أيضا (٨)] ما ذكرتموه. وأما إذا ادعيتم كونه تعالى فاعلا لكل واحد منها ولمجموعها أيضا. فنقول : نسلّم : أنه تعالى فاعل

__________________

(١) الحركات (، ط)

(٥) من (ط)

(٢) يلزم (ت ، ط)

(٦) من (ط)

(٣) اله (ت ، ط)

(٧) من (ط)

(٤) من (س)

(٨) من (ط)

لكل واحد منها ، لكن لا نسلم : كونه تعالى فاعلا لمجموع تلك الحركات ، من حيث إنه مجموع والدليل عليه : أن المجموع واجب الحصول عند حصول كل واحد من الأفراد ، وما كان واجب الحصول بسبب ، امتنع افتقاره إلى سبب آخر.

السؤال الثالث : سلمنا : أن مجموع الحركات : فعل فاعل مختار ، فلم قلتم : إن كل ما كان فعلا لفاعل مختار ، وجب أن يكون محدثا؟ وقد سبق خمسة عشر وجها ، فيما سبق: [كل وجه يدل على (١)] أن المفتقر إلى الفاعل لا يجب أن يكون مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا. والذي نقرره : أن هذا الفاعل المختار ، إما أن يكون قد حصل عنه كل ما لا بد منه في حصول تلك المؤثرية ، أو لم يحصل ذلك. فإن كان الأول امتنع تخلف الأثر عنه ، على ما سلف تقريره. وإن كان الثاني افتقر حدوث تلك الاعتبارات إلى مؤثر آخر.

السؤال الرابع : إن الدليل الذي ذكرتم إن [ثبت (٢)] وصح ، وجب أن يحصل للمدة ابتداء. وذلك محال. لأن كل وقت يفرض كونه أولا لكل الأوقات ، فإن صريح عقلنا يثبت له قبلا ، ويحكم بأن عدمه كان متقررا قبله وإذا كان دليلكم يوجب الانتهاء إلى قبل أول ، لا قبل قبله. وكان ذلك مدفوعا في بديهة العقل ، وكان الإقرار بمقتضى البديهيات أولى من الإقرار بمقتضى الدليل الغامض ، المشتبه الذي ذكرتم. علمنا حينئذ : أن كلامكم ساقط. [والله أعلم (٣)]

والجواب :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «إن صدور كل جزء من أجزاء الحركة عن ذلك الموجب القديم ، مشروط بانقضاء الجزء الذي كان متقدما عليه» فجوابه : ما تقدم تقريره. وهو أن صيرورة ذلك الموجب مؤثرا في حصول ذلك

__________________

(١) زيادة

(٢) من (ت ، ط)

(٣) من (ط)

الجزء المتأخر ، بعد أن كانت غير مؤثرة فيه : لا بد له من سبب ، وذلك السبب إن كان هو ذلك الحادث ، لزم الدور أو غيره. ويلزم التسلسل ، وكلاهما محالان. فثبت : أن هذا الكلام باطل.

ولقائل أن يقول : مدار هذا الكلام على أن الشيء الذي يصدق عليه : أنه ما كان مؤثرا ، ثم صدق عليه أنه صار مؤثرا. فإن تلك المؤثرية لا بد لها من سبب وعلة وموجب. فنقول : إن صدق هذا الكلام ، فقد بطل القول بحدوث العالم. لأنه لو كان العالم محدثا لصدق على البارئ تعالى ، أنه ما كان مؤثرا فيه. وحينئذ يلزم افتقار تلك المؤثرية الحادثة إلى سبب وعلة وموجب. فإن كان ذلك السبب هو العالم ، لزم الدور. وإن كان شيئا آخر ، لزم التسلسل. فثبت : أن حدوث المؤثرية إن أوجب ما ذكرتم ، ألزمكم القطع بفساد القول ، بحدوث العالم. وأما إن لم يوجب حدوث المؤثرية : افتقارها إلى سبب آخر ، فقد سقط هذا الكلام بالكلية.

وأما السؤال الثاني : وهو قولكم (١) : «إنه تعالى فاعل لكل واحد من تلك الحوادث ، أو فاعل لمجموعها» فنقول : لما سلمتم كونه تعالى فاعلا لكل واحد من تلك الحوادث ، وجب كونه فاعلا لمجموعها. قوله : «المجموع واجب الحصول عند حصول آحاده» قلنا : تعنون به : أنه واجب الحصول عند كل واحد من آحاده ، أو تعنون به : أنه واجب الحصول عند مجموع آحاده؟ والأول : ظاهر الفساد. لأن العشرة لا تكون واجبة الحصول عند حصول كل واحد من آحادها. والثاني أيضا : ظاهر الفساد لأن العشرة ليست إلا جملة آحادها. فحينئذ يرجع حاصل الكلام : إلى أن المجموع واجب الحصول ، عند حصول المجموع. وذلك يقتضي تعليل الشيء بنفسه. وإنه محال.

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «تقدم الفاعل على الفعل : غير واجب» فنقول: هذا باطل. لأن الفاعل المختار ، هو الذي يفعل بواسطة

__________________

(١) قولهم (ط)

القصد (١) والقصد إلى إيجاد الشيء حال بقائه : محال معلوم الامتناع بالبديهة. وأما الوجوه التي ذكرتموها فنحملها على الموجب بالذات. وذلك غير ممتنع. إنما الممتنع حصول الفعل بالفاعل المختار ، مع كون ذلك الفعل قديما.

وأما السؤال الرابع : وهو قولكم : (٢) «إن دليلكم يوجب انتهاء المدة إلى المبدأ ، لا يحصل قبله قبل البتة ، وذلك مدفوع في بديهة العقل ، فكان دليلكم دفعا للعلم البديهي ، فيكون باطلا» قلنا : لا نسلم : أن إثبات مبدأ المدة والزمان مدفوع في بديهية العقل. والدليل عليه : أن العقلاء اختلفوا فيه ، ولو كان بديهيا لما وقع الاختلاف فيه.

الحجة السادسة : لو لم يكن للأدوار الماضية أول ، لكانت الأدوار الماضية غير متناهية ، وما لا نهاية له ، لا ينتهي. فلو كانت الأدوار الماضية غير متناهية ، لامتنع ابتداؤها (٣) ولما دل الحس على انتهاء الأدوار الماضية [إلى هذا اليوم (٤)] علمنا : أن الأدوار الماضية لها أول.

اعترض الخصم عليه. فقال : إن هذه الحوادث لا نهاية لها من جانب الأزل ، وهي متناهية من الجانب الذي يلينا ويتصل بنا. وكونه غير متناه من أحد الجانبين ، لا يناقض كونه متناهيا من الجانب الآخر. فإن قال المستدل : المراد من هذا الدليل : أن الدورات الماضية لو كانت غير متناهية في العدد ، لامتنع انتهاؤها إلى طرف معين ، ومقطع معين ، وحينئذ يظهر وجه الاستدلال.

قال المعترض : الأعداد التي لا نهاية لها ، إذا ابتدأت من وقت معين ، امتنع انتهاؤها إلى وقت آخر ، يحكم فيه بأن كل ما لا نهاية له ، قد خرج إلى الفعل ، فيما بين هذين الطرفين. لأن على هذا التقدير تكون [مدة (٥)] حدوثها

__________________

(١) الفعل (ط ، ت)

(٢) قولهم (ط)

(٣) انتهاؤها (ت ، ط)

(٤) من (ت ، ط)

(٥) من (ط)

محصورة بين حاصرين ، وذلك يمنع من القول بكونها غير متناهية في العدد. إلا أن هذا المحال، إنما يلزم ، لو قلنا : إن تلك الحوادث ابتدأت بالحدوث من وقت معين. وهذا هو عين المطلوب. فتصير صحة الدليل. موقوفة على صحة المطلوب. وذلك باطل. وأما إن رفعنا هذا الشرط ، وقلنا : إن الحوادث التي لا أول لها ، يمتنع انتهاؤها إلى طرف معين من الجانب الذي يلينا. فهذا عين (١) محل النزاع ، فلا يمكن جعله دليلا على صحة محل النزاع.

الحجة السابعة : لا شك أن حصول هذا اليوم الذي نحن فيه ، موقوف على انقضاء ما قبله ، فلو كانت الأدوار الحاصلة قبل هذا اليوم ، أعداد غير متناهية ، لكان حصول هذا اليوم موقوفا على انقضاء ما لا نهاية له ، لكن انقضاء ما لا نهاية له : محال. والموقوف على المحال : محال. فكان يلزم أن يمتنع حصول هذا اليوم. ولما حصل هذا اليوم ، علمنا : أن الأدوار الماضية لها أول.

اعترض الخصم فقال : قولكم : إن كل ما توقف حدوثه ، على انقضاء ما لا نهاية له، كان ممتنع الحصول : كلام يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون المشروط والشرط معدومين، ثم كان ذلك المشروط مشروطا بأن تتبدل (٢) الحوادث بعد عدمها ، وتنقضي منها أعداد لا نهاية لها. ثم يحدث بعد انقضائها ذلك المشروط. [والثاني : أن لا يعتبر كون المشروط (٣)] والشرط معدومين. بل قلنا : إنه قد انقضى قبل هذا اليوم حوادث لا أول لها ، ثم [حدث (٤)] عقيبها هذا اليوم. فإن أردتم بقولكم : لو كانت الحوادث الماضية غير متناهية ، لتوقف حدوث هذا اليوم على انقضاء أمور غير متناهية ، [فإن كان المراد هو (٥)] الوجه الأول فهو باطل من وجهين :

__________________

(١) غير (ط)

(٢) يبتدأ (ط)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت ، ط)

(٥) من (ط)

أحدهما : أن على هذا التقدير إنما يصح ، لو حصل لجميع الحوادث أول. وذلك عين المطلوب. فحينئذ تكون صحة المقدمة ، موقوفة على صحة المطلوب. وذلك يوجب الدور.

والثاني : إنا قلنا لو لم يكن للحوادث أول ، لزم هذا التوقف. ثم إنا بينا : أن هذا التوقف لا يحصل ، إلا إذا حصل للحوادث أول ، [فحينئذ يصير مقدم هذه الشرطية ، مناقضا لتاليها. فإنه يلزم التوقف بالتفسير الثاني ، فحينئذ يرجع حاصل هذا الكلام إلى أنه لو لم يحصل للحوادث الماضية أول ، لكان (١)] إنما حصل هذا اليوم بعد انقضاء ما لا نهاية له. فإذا ادعيتم : أن التوقف بهذا التفسير محال ، كان هذا إعادة لعين الدعوى ، ويرجع حاصله إلى كون الدليل : عين المدلول. وهو باطل.

الحجة الثامنة : لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية. لكان ما لا نهاية له ، قد حصل. وذلك محال. لأن قولنا : «حصل» : [ووجد (٢)] يدل : على أنّه تمّ وانقطع. وذلك يدل على التناهي. فيلزم أن يقال : إن غير المتناهي صار متناهيا. وذلك محال.

اعترض الخصم فقال : قولكم : «لو كانت الأدوار الماضية غير متناهية ، لكان ما لا نهاية له قد حصل» : مقدمة شرطية. ومقدم هذه الشرطية هو قولنا : «الأدوار الماضية غير متناهية» [وتاليها : قولنا : «ما لا نهاية له قد حصل» أما المقدمة. وهي قولنا : «الأدوار الماضية غير متناهية (٣)] فمرادنا منه : أنه كان واحد (٤) منها [قد حصل بحيث يكون كل واحد منها [مسبوقا [بالآخر لا إلى] أول.

وأما التالي وهو قولنا : «إن ما لا نهاية له قد حصل» : فلا معنى إلا أن

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

(٤) أن كل واحد منها مسبوقا بأول ، وأما الثاني ... الخ (ط ، ت)

كل واحد منها مسبوق بالآخر ، لا إلى أول.

وإذا ثبت هذا فنقول : إن أردتم بمقدمة هذه الشرطية وبتاليها ما ذكرتم. فحينئذ يكون المقدم عين التالي. وهو فاسد. وإن أردتم به مفهوما آخر ، فلا بد من بيانه ليزول الاشتباه.

الحجة التاسعة : قالوا : كل واحد من الحوادث الماضية له أول ، فوجب أن يكون للكل أول. كما أنه لما كان كل واحد من الزنج : أسود ، وجب أن يكون الكل أسود.

اعترض الخصم. وقال : «حاصل هذا الكلام يرجع إلى أن [حكم (١)] الكل يجب أن يكون مساويا لحكم كل واحد من أجزائه» وهذه القضية ليست حقه بحسب كليتها ، بل قد يحصل التساوي وقد لا يحصل.

والدليل على أنه قد لا يحصل التساوي : وجوه.

الأول : إن كل شيء وجزؤه ، لا يتساويان في كونه كلا وجزءا. وذلك لأن الكل يصدق عليه : أنه كل ، ويكذب عليه أنه جزء. وأما الجزء فيصدق عليه : أنه جزء ، ويكذب عليه أنه كل. فثبت أن الكل والجزء لا يتساويان في كل الأحكام ، وكذلك كل واحد من أجزاء العشرة ليس بعشرة ، مع أن مجموع العشرة موصوف بأنه عشرة.

والثاني : إن لكل من الناس رأس [واحد (٢)] وليس للكل رأس واحد.

والثالث : إن الجسم يجوز خلوه عن الحركة بعينها ، وعن السكون بعينه ، مع أنه لا يجوز خلوه عنهما معا.

والرابع : إن كل واحدة من المقدمتين لا توجب النتيجة ، ومجموعهما يوجبها.

الخامس : إن كل واحد من أهل التواتر ، يجوز الكذب عليه. وأما

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

مجموعهم فإنه لا يجوز الكذب عليهم. وأيضا : الخطأ على كل واحد من الأمة جائز ، وعلى مجموعهم غير جائز ، عند من يقول : «اجتماع الأمة حجة»

السادس : إن دخول كل واحد من المقدورات التي لا نهاية لها في الوجود : ممكن. وإما دخولها بأسرها في الوجود ، فإنه غير ممكن. لأن دخول ما لا نهاية له : محال.

واعلم أن نظائر هذا الباب كثيرة. فقد ظهر أنه لا يجب أن يكون حكم المجموع مساويا لحكم كل واحد من آحاد المجموع.

وأما المثال الذي ذكروه فضعيف. وذلك لأنهم إما أن يقولوا : حكم الكل يجب أن يكون مساويا لحكم الجزء في جميع المواضع ، أو يقولوا : إن هذه المساواة قد تحصل في بعض الصور. فإن قالوا : بالوجه الأول كان المثال الذي ذكروه لا يفيد. لأن ثبوت الحكم في بعض الصور ، لا يدل على حقية القضية. وإن قالوا : بالوجه الثاني ، فذاك حق. لكن (١) لم قالوا : إن الحال في هذه المسألة ، يجب أن يكون على هذا الوجه؟

واعلم أن ذكر (٢) الصور الجزئية لا يدل على حقية المقدمة الكلية [أما ورود الحكم على بعض الصور على نقيض المدعي ، يدل على أن تلك المقدمة الكلية (٣)] باطلة. ثم نقول : الفرق بين قولنا : لما كان كل واحد من الزنج أسود ، وجب أن يكون الكل أسود. وبين قولنا : لما كان كل واحد من الحوادث له أول ، وجب أن يكون للكل أول : وهو أن علمنا بأن كل واحد من الزنج أسود ، يوجب العلم الضروري ؛ بأن الكل أسود. أما علمنا بأن كل واحد من الحوادث له أول ، فإنه لا يفيد العلم الضروري : بأنه يجب أن يكون للكل أول. ولو لا حصول الفرق بين البابين (٤) وإلا لم يكن الأمر كذلك.

__________________

(١) يمكن (ط ، ت)

(٢) ذكره (ت ، ط)

(٣) من (ط ، س)

(٤) الناس (ت ، س)

الحجة العاشرة : قالوا : حقيقة الحدوث تقتضي المسبوقية بالغير ، فكانت حقيقة الحدوث منافية لحقيقة الأزل. فالقول بحدوث الحوادث في الأزل محال.

واعترض الخصم فقال : المحكوم عليه بالحدوث عندي : هو كل واحد منها ، لا مجموعها. وكل واحد منها محكوم عليه بأنه ليس بأزلي. فإن قلتم : لما كان كل واحد منها : محكوم عليه بأنه ليس بأزلي. فإن قلتم : لما كان كل واحد منها : محكوم عليه بأنه ليس بأزلي امتنع أن يكون مجموعها أزليا : كان هذا عودا إلى الحجة التاسعة ، وقد سبق الكلام عليها. فهذا جملة الكلام في هذا الباب.

وللفلاسفة هاهنا مقام آخر : قالوا : لا شك أن الدلائل التي ذكرتموها في وجوب أن تكون للمدة أول دلائل غامضة دقيقة مشتبهة لا يمكن الوقوف عليها إلا بفكر دقيق ونظر غامض.

وأما مطلوبنا في هذا الباب : فهو أمر كل من وقف عليه على الوجه الملخص ، حكم صريح عقله بالصحة. وذلك لأن المفهوم من القبلية والبعدية [والتقدمية (١)] والتقدم والتأخر أمر لا يحصل إلا عند تقرير المدة والزمان. فإنه لا معنى للمدة والزمان إلا الموجود الذي بسببه تحصل هذه المفهومات. فإذ حكمنا بمقتضى ما ذكرتموه من الدلائل ، وجب أن نعتقد : أن للمدة والزمان أولا وبداية. وحينئذ لا يحصل قبل ذلك الأول ، لا قبل ولا بعد ، ولا تأخر ولا تقدم البتة. إلا أن صريح العقل [حاكم (٢)] بدفع ذلك. لأن بديهة العقل حاكمة بأن عدم ذلك الأول سابق عليه ومتقدم عليه. وبديهة العقل حاكمة أيضا : بأنه يمكن فرض حوادث قبل ذلك الأول [بحيث تنتهي إلى ذلك الأول (٣)] بعشرة دورات. ويمكن أيضا : فرض حوادث أخزى ، تنتهي إلى ذلك الأول بعشرين (٤) دورة. ويحكم صريح العقل بأن مبدأ هذا المفروض الثاني ، يجب أن يكون سابقا على مبدأ المفروض الأول. فيثبت : أن دلائلكم

__________________

(١) من (ت ، ط)

(٢) من (ت ، ط)

(٣) من (ط)

(٤) بعشر دورات (ط)

توجب نفي القبلية والبعدية والتقدم والتأخر ، قبل حدوث ذلك المبدأ. وصريح العقل شاهد بأن هذه الأمور كانت حاصلة.

وتمام الكلام في هذا المقام : مذكور في باب الزمان ، في الفصل الذي نبين فيه : أن العلم بوجود المدة والزمان : علم بديهي لا يمكن إزالته عن العقل البتة. ويرجع حاصل الكلام: إلى أن دلائلكم توجب فساد ما علمت صحته بالبديهة ، فوجب القطع بفساد هذه الدلائل.

قال المتكلمون : لو كان العلم بوجوب حصول القبلية والبعدية والتقدم والتأخر ، علما بديهيا لما وقع الخلاف فيه بين العقلاء. ولما وقع الخلاف فيه : علمنا أن ذلك ليس من البديهيات.

قالت الفلاسفة : المعتبر في تمييز البديهيات عن النظريات : الفطر السليمة الباقية على السلامة الأصلية. وأهل الجدل من المتكلمين قد فسدت فطرة نفوسهم الأصلية ، بسبب المواظبة على المجادلات والمنازعات. وأما من لم يمارس الجدل [والنظر (١)] فإنه تشهد فطرته بأن كل أمر حدث بعد أن لم يكن ، فعدمه سابق على وجوده ، فيكون [معنى (٢)] القبلية والسبق حاصلا قبل ذلك الحادث.

أجاب المتكلمون عنه : بأن هذا مجرد وهم وخيال ، ولا عبرة بهما البتة. فهذا منتهى الكلام في هذا الباب. والله أعلم [بالصواب (٣)]

__________________

(١) من (ت ، ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ت ، ط)

الفصل الثالث

في

بيان أن الجسم يمتنع أن يكون

ساكنا في الأزل

اعلم أن القائلين بقدم الأجسام فريقان :

الفريق الأول : الذين يقولون : إن الأجسام كانت في الأزل متحركة. وهؤلاء فريقان :

أحدهما : الذين يقولون : العالم قديم بمادته وصورته وشكله ، وأن الأفلاك والكواكب متحركة (١) أزلا وأبدا. وهذا قول «أرسطاطاليس» وأتباعه.

والثاني : الذين يقولون : الموجود في الأزل أجزاء غير متجزئة (٢) وكانت متحركة (٣) حركات مضطربة من الأزل إلى الأبد ، ثم اتفق لها في حركاتها أن تصارمت فتكون منها السموات. وهذا قول : «ديمقراطيس (٤)» وأصحابه. فإذا دللنا على امتناع وجود الحركة الأزلية ، فقد بطل هذان القولان.

وأما الفريق (٥) الثاني : فهم الذين يقولون : العالم (٦) قديم المادة ومحدث الصورة ، وزعموا : أن مادة العالم أجزاء صغيرة ، وكانت ساكنة في الأزل. ثم

__________________

(١) كانت متحركة (ت)

(٤) بقراطيس (ت)

(٢) غير متحيزة (ت)

(٥) الطريق (ت)

(٣) وكانت متفرقة متحركة (ط ، س)

(٦) العالم قديما بالذات (ت)

إنه تعالى حركها وركب العالم منها. وهذا هو قول : أكثر الفلاسفة الذين كانوا قبل «أرسطاطاليس».

ونحن في هذا المقام مشتغلون بإبطال هذا المذهب ، وإذا بطل ذلك ، حينئذ يتم لنا القول بحدوث الأجسام.

واعلم أنا نحتاج في هذا المقام إلى إقامة الدلالة على أنه يمتنع كون السكون أزليا ودليلنا على إثبات هذا المطلوب : أن نقول : لو كان السكون أزليا ، لما جاز زواله. وقد جاز زواله، فيمتنع كون السكون أزليا. واعلم أن بتقدير أن يكون السكون عبارة عن عدم الحركة فإنه لم يصح هذا الدليل. لأن زوال العدم الأزلي جائز بالاتفاق ، إذا لو لم يجز ذلك ، لبطل القول بحدوث الأجسام. وبيانه من وجهين :

الأول : إن الخصم يقول : لو كان العالم حدثا ، لكان عدمه أزليا. ولو كان عدمه أزليا ، لامتنع زواله. فكان يجب أن لا يوجد العالم. وحيث وجد ، علمنا أن عدمه كان أزليا. ولما لم يكن عدمه أزليا ، وجب أن يكون وجوده أزليا.

والثاني : إنه لو كان العالم محدثا ، لما كان البارئ تعالى موجودا له في الأزل ، ولا مؤثرا فيه. ولو كان [عدم (١)] الموجدية والمؤثرية أزليا لما زال هذا العدم. وحيث زال ، علمنا أن علم الموجدية ليس أزليا ، فوجب أن يكون حصول الموجدية أزليا وذلك يقتضي قدم العالم. فيثبت بهذا : أنه لا يمكن أن يقال : إن كل ما كان أزليا ، فإنه يمتنع زواله.

بل يجب تخصيص هذه الدعوى بالأمور الوجودية. فيقال : إن كل ما كان موجودا في الأزل ، فإنه يمتنع زواله ، وإذا ثبت هذا ، فيفتقر في تقرير هذا المطلوب إلى ثلاثة أمور :

فالأول : بيان أن السكون صفة موجودة.

__________________

(١) من (ت)

والثاني : بيان أن كل سكون ، فإنه جائز الزوال.

والثالث : أن كل ما كان جائز الزوال ، فإنه يمتنع كونه أزليا.

وعند إثبات هذه المطالب [الثلاثة (١)] يظهر : أنه يمتنع كون الجسم ساكنا في الأزل.

فترتب هذا المطلوب على ثلاث مسائل :

المسألة الأولى في إثبات أن السكون يجب أن يكون صفة موجودة : اتفق المتكلمون على أن الأمر كذلك. واتفقت الفلاسفة على أن [معنى (٢)] السكون : لا معنى له إلا عدم الحركة عما من شأنه أن يتحرك.

واحتج المتكلمون على أن السكون صفة موجودة بدلائل ضعيفة :

الحجة الأولى : قالوا : لو كان السكون عبارة عن عدم الحركة ، فالبارئ تعالى غير موصوف بالحركة. فيلزم كونه ساكنا ، وأيضا : الحركة غير موصوفة بالسكون ، فوجب كون الحركة ساكنة. وكذا القول في سائر الأعراض.

ولقائل أن يقول : إنا لا نقول : السكون : عبارة عن عدم الحركة على الاطلاق ، بل السكون عبارة عن عدم الحركة ، عن الشيء الذي يكون قابلا للحركة. وعلى هذا التقرير ، فالكلام المذكور ساقط [والله أعلم (٣)]

الحجة الثانية : قالوا : ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من جعل الحركة عبارة عن عدم السكون ، فوجب القول ، إما بكون كل واحد منهما عبارة عن عدم [الآخر (٤)] وإما بكون كل واحد منهما صفة وجودية. والأول باطل لأنه إذا كان كل واحد منهما عبارة عن عدم [الآخر ، وكان كل واحد منهما عدما محضا ، كان كل واحد منهما عبارة عن عدم (٥)] العدم ،

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ط ، س)

فيكون كل واحد منهما صفة موجودة. مع أنا فرضنا كون كل واحد منهما عدما محضا ، وذلك متناقض. وإذا بطل هذا ، ثبت أن الحق هو كون كل واحد منهما صفة موجودة.

ولقائل أن يقول : إن قول القائل : ليس جعل السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من العكس : إما أن يكون المراد منه : نفي الأولوية في نفس الأمر ، أو نفيها في أفكارنا وعقولنا. والأول ممنوع. فلم لا يجوز أن يكون أحدهم عدما للآخر ، ويكون الآخر صفة موجودة. والثاني مسلّم ، إلّا أنه [يجب علينا أن (١)] نتوقف في الحكم ، وأن لا نجزم بأحد الطرفين ، إلا لدليل منفصل. وإذا عرفت هذا ، فنقول إذا قلنا : إنا عملنا : أن الذات قد تحركت بعد أن كانت ساكنة ، فقد حصل هذا النوع من التبدل والتغير ، فههنا يحصل بحسب التقسيم العقلي : أقسام أربعة :

أحدهما : أن يكون كلتا (٢) الحالتين أمرا عدميا. أعنى الطارئ والزائل.

والثاني : أن يكون الطارئ عدما ، والزائل وجودا.

والثالث : أن يكون الأمر بالعكس منه.

والرابع : أن يكون كل واحد منهما أمرا موجودا ، مضادا للآخر.

أما الاحتمال الأول فهو باطل على الاطلاق. لأن العدم لا حقيقة له ، ولا تشخص فيه ، ولا ثبوت له بوجه من الوجوه. [امتنع (٣)] تبدل أحد العدمين بالثاني. ومن الناس من قال : هذا الاحتمال غير باطل. ويدل عليه وجوه :

الأول : وهو أن حدوث الحوادث في الأزل ، كان ممتنعا لعينه. [ثم

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) إحدى (ط)

(٣) من (ت)

انقلب في لا يزال ممكنا لعينه (١)] ثم ثبت بالدليل : أن الامتناع لا يعقل أن يكون صفة موجودة ، وكذلك الإمكان لا يعقل كونه صفة موجودة. أما الامتناع فالدليل عليه : أنه لو كان صفة موجودة ، لكان الموصوف [بتلك الصفة (٢)] أولى أن يكون [شيئا (٣)] موجودا ، لشهادة صريح العقل بأن الصفة الموجودة يمتنع قيامها بالنفي المحض والعدم الصرف. فيلزم أن يكون ممتنع الوجود لذاته ، واجب [الوجود لذاته (٤)] وذلك محال ، وأما الإمكان. فلأنه لو كان موجودا ، لكان إما واجبا لذاته ، وإما ممتنعا لذاته ، وإما ممكنا لذاته. والأول باطل. لأن الإمكان صفة ، [للممكن (٥)] وصفة الشيء مفتقرة إلى الموصوف. والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته. والثاني باطل ، لأن كل ما كان موجودا ، لم يكن ممتنع الوجود. والثالث باطل ، وإلا لكان إمكان الإمكان مغايرا له ، ولزم التسلسل. وهو محال. فيثبت : أن الامتناع قد تبدل بالإمكان ، مع أن كل واحد منهما صفة عدمية.

الثاني : إن العالم حين كان معدوما ، فإنه يصدق على البارئ تعالى أنه ما كان عالما بوجوده. وحين صار موجودا ، فإنه يصدق عليه أنه صار عالما بوجوده. فعلى هذا التقدير : صدق أن البارئ تعالى ما كان عالما بوجود العالم ، ثم صار عالما بوجوده. فيلزم أن تحدث صفة العلم في ذات الله تعالى. وذلك باطل. فعلمنا : أن صدق هذا النفي والإثبات ، لا يدل على حدوث أمر ، ولا على زواله.

الثالث : إن العالم حين كان معدوما ، فإنه صدق على البارئ تعالى : بأنه ما أوجده. ولما دخل في الوجود ، قد صدق عليه : أنه أوجده. فعلى هذا التقدير : صدق على البارئ تعالى : أنه ما كان موجودا للعالم ، ثم صار

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

موجودا له. فلو كان صدق [هذا (١)] النفي والإثبات يوجب حدوث صفة في الذات ، أو زوالها عنه. لزم حدوث الصفة في ذات الله تعالى ، ثم إن حدوثها يكون بإحداث الله تعالى ، وذلك يوجب التسلسل.

فإن قالوا : لا معنى لكونه موجودا للعالم ، إلا نفس (٢) وجود العالم. فنقول : هذا يوجب نفي الصانع. لأنا لما قلنا : العالم إنما وجد ، بإيجاد الله تعالى ، ثم فسرنا إيجاد الله تعالى للعالم : بنفس وجود العالم : فحينئذ يلزم أن يقال : العالم إنما وجد لنفسه (٣) وصدق هذا الكلام يمنع من صدق قولنا : إنه إنما وجد بإيجاد الله تعالى ، وذلك باطل.

الرابع : وهو أن السكون إذا حصل في المحل ، بعد أنه ما كان حاصلا فيه. فنقول : صارت هذه الذات محلا لهذه السكون ، بعد أنه ما كان محلا له. فصدق هذا النفي والإثبات يوجب أن يقال : كون الذات محلا لهذا السكون : عرض زائد على ذات السكون. ثم إن الذات تصير أيضا محلا لتلك المحلية. وذلك يوجب التسلسل. لا يقال : إنه لا معنى لكون [الذات (٤)] محلا لذلك السكون ، إلا عين ذلك السكون. لأنا نقول : إنه يصح تعقل ذلك السكون ، مع الشك في حصوله في ذلك المحل. والمعلوم : غير ما هو غير معلوم. وذلك يوجب التغاير. وأيضا : فحصول ذلك السكون في ذلك المحل : نسبة مخصوصة بين ذلك السكون وبين ذلك المحل ، فهي مغايرة لهما ، وحينئذ يعود الإلزام.

الخامس : إن مدار كلامهم في أنه لا يجوز أحد العدمين بالآخر على حرف واحد ، وهو أن العدم ليس في نفسه تعين ولا تشخص ولا تميز. وذلك ممنوع. والذي يدل عليه وجوه :

__________________

(١) من (ط).

(٢) إلا أن نفس (ط)

(٣) يوجد بنفسه (ت)

(٤) من (ط)

الأول : إن عدم اللازم يدل على عدم الملزوم ، وعدم [غير (١)] اللازم ليس كذلك.

[الثاني : إن عدم الضد عن المحل ، يصحح حصول الضد الآخر ، وسائر العدمات ليس كذلك (٢)]

الثالث : إن عدم الواجب لذاته ممتنع لذاته. وعدم الجائز لذاته ليس ممتنعا لذاته. فقد امتاز أحد العدمين عن الآخر.

الرابع : إن عدم العالم واجب في الأزل ، وعدمه غير واجب في لا يزال. فقد امتاز أحد العدمين عن الآخر. وإذا ثبت حصول هذا الامتياز ، وهذا الاختلاف لم يبعد في العقل تبدل أحد العدمين بالآخر.

واعلم : أن هذه السؤالات ، وإن حصل فيها بعض الغموض ، إلا أنا نعلم بالضرورة: أن [عند (٣)] حصول التبدل ، وجب كون أحد ذينك المتبدلين أمرا وجوديا. وهذه السؤالات كأنها قدح في البديهيات.

أما الاحتمالات الثلاثة الباقية : فهي صحيحة :

أن يقال : إنه حصل التبدل ، لأنه حدث في المحل صفة موجودة فقط. مع أنه ما زال [عن المحل (٤)] صفة كانت موجودة قبل ذلك.

الثاني : أن يقال : حصل التبدل ، بمجرد أنه زال عن المحل صفة كانت موجودة ، مع أنه ما حدث في المحل صفة موجودة بعد ذلك.

والثالث : أن يقال : حصل التبدل ، لأنه زال عن المحل صفة كانت موجودة فيه ، وحدثت في المحل صفة ما كانت موجودة فيه. فهذه الأقسام الثلاثة [محتملة (٥)] ظاهرة الاحتمال. والقطع على تعيين واحد منها بغير

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

(٥) من (ت)

الدليل ، يكون جهلا محضا. فيثبت بما ذكرنا : أن قول من يقول : ليس القول بأن السكون عبارة عن عدم الحركة ، أولى من العكس : كلام فاسد.

ولما ثبت ضعف هذين الطريقين ، فلنذكر ما هو المعتمد في هذا الباب.

فنقول : لنا : في تقرير أن السكون صفة موجودة [وجوه (١)] من الدلائل :

الحجة الأولى : أن نقول : نرى الجسم صار ساكنا بعد أن كان متحركا. فتبدل هاتين الحالتين مع بقاء الذات في الحالتين يقتضي كون إحدى هاتين الحالتين أمرا وجوديا. وإذا ثبت هذا ، وجب كون كل واحد منهما أمرا وجوديا. وذلك لأن الحركة : عبارة عن الحصول الأول ، في الحيز الثاني. والسكون : عبارة عن الحصول الثاني ، في الحيز الأول. فالحركة والسكون متساويان في تمام الماهية ، لأن كل واحد منهما عبارة عن الحصول في الحيز ، وإنما الاختلاف بينهما في كون الحركة حصولا في الحيز ، بشرط أنه كان مسبوقا بالحصول في حيز آخر. والسكون عبارة عن الحصول في الحيز ، بشرط أنه كان قبل ذلك حاصلا في ذلك الحيز ، وكون الشيء مسبوقا بغيره : وصف عرضي خارج عن الماهية [والأوصاف الخارجة عن الماهية (٢)] لا تقدح في تلك الماهية. فثبت : أن الحركة والسكون متساويان في تمام الماهية. فلما كان أحدهما صفة موجودة ، وجب كون الآخر كذلك. فيثبت بما ذكرنا : أن الحركة والسكون ، كل واحد منهما صفة موجودة.

فإن قيل : هذا الكلام بناء على أن الحركة : عبارة عن الحصول الأول في الحيز الثاني ، وهذا عندنا باطل لأن حاصل الكلام راجع إلى أن الحركة عبارة : عن حصولات متعاقبة [في أحياز متلاصقة ، أو عبارة : عن ممارسات متعاقبة (٣)] لأجزاء متتالية. وكل ذلك باطل. لأن هذا إنما يتقرر ، إذا قلنا :

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

المسافة التي تحصل فيها الحركة ، عبارة عن أجزاء متلاصقة متتالية ، وكل واحد منها لا يقبل القسمة. وهذا هو القول بوجود الجزء الذي لا يتجزأ. وهو عندنا باطل للدلائل الكثيرة المذكورة في تلك المسألة.

ومن الدلائل اللائقة بهذا الموضع : أن نقول : إذا تلاصق جوهران ، وكان جوهر ثالث مماسا لأحدهما. فإذا أراد أن ينتقل منه إلى الجوهر الثاني ، فإما أن يصدق عليه كونه متحركا ، حال ما كان مماسا لتمام الجوهر ، [الأول (١)] أو حال ما صار مماسا لتمام الجوهر الثاني ، أو لا يصدق عليه كونه متحركا ، إلا فيما بين الحالتين المذكورتين. والأول باطل. لأنه ما دام بقي مماسا للجوهر الأول. فهو بعد لم يتحرك. والثاني باطل. لأنه إذا صار مماسا لتمام الجوهر الثاني ، فقد تمت الحركة وانتهت وانقطعت. فلم يبق إلا أن يقال : إنه إنما يصدق عليه كونه متحركا في حال متوسطة بين الحالتين المذكورتين. وعلى هذا التقدير ، فإنه يمتنع أن يقال : الحركة عبارة عن الحصول الأول في الحيز الثاني ، بل يجب أن تكون الحركة عبارة عن الانتقال من الحيز الأول إلى الحيز الثاني. وبتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فحينئذ يكون السكون عبارة عن عدم الانتقال من حيز إلى حيز ، وعلى هذا الفرض لا يتم دليلكم على كون السكون صفة موجودة.

والجواب : إن الدليل على أن الحركة عبارة عن الحصولات المتعاقبة في أحياز متلاصقة : وجوه :

الأول : إن الحصول في الحيز الأول لما عدم ، ففي الآن (٢) الذي هو أول زمان ذلك العدم ، لا بد وأن يكون الجسم قد حصل في حيز آخر ، لأن بقاء الجسم من غير أن يكون حاصلا في شيء من الأحياز : محال. وعلى هذا التقدير فإنه يكون حصول الجسم في هذا الحيز الثاني [حاصلا (٣)] عقيب حصوله في الحيز الأول. وحينئذ تكون الحركة : عبارة عن حصولات متعاقبة في أحياز متلاصقة.

__________________

(١) من (س)

(٢) الحال (ط)

(٣) من (ت)

الثاني : إنكم قلتم : الحركة عبارة عن كون الجسم متنقلا من الحيز [الأول (١)] إلى الحيز الثاني. فنقول : حال ما صدق عليه : أنه خرج من الحيز الأول ، ولم يصل إلى الحيز الثاني. هل هو حاصل في حيز أم لا

والثاني : باطل. لأن ذلك يقتضي أن يكون الجسم حال وجوده غير حاصل في حيز أصلا ، وهو محال. والأول يقتضي أنه كان حاصلا في حيز ، فحال ما صدق عليه ، أنه خرج عن الحيز الأول ، فقد صدق عليه أنه حصل في حيز آخر. وكنا قد فرضنا : أنه في هذه الحالة غير حاصل (٢) في حيز آخر. هذا خلف.

الثالث : إن كلامكم يوجب حصول واسطة بين العدم والوجود. فإنه يقال : إنه حال ما يخرج من العدم إلى الوجود ، وجب أن لا يكون معدوما. إذ لو كان معدوما ، فهو بعد باق على عدمه الأصلي ، فلم يكن منتقلا من ذلك العدم. ولو كان موجودا ، لكان قد تم ذلك الخروج [وانتهى (٣)] وانقطع. فوجب أن يقال : إنه حال خروجه من العدم إلى الوجود ، لا يكون موجودا ولا معدوما. ولما كان هذا خيالا كاذبا ، ووهما فاسدا ، لأجل أن العقل قاطع بأنه لا توسط بين العدم وبين الوجود ، فكذا هاهنا : المتحيز ، إما أن يكون حاصلا في الحيز الأول ، أو في الثاني. وأما كونه منتقلا من الحيز الأول إلى الحيز الثاني ، فهو أمر خيالي وهمي. وهو كاذب فاسد ، لا التفات إليه [والله أعلم (٤)].

الحجة الثانية على أن السكون صفة موجودة : هي : أن السكون عبارة عن كون الجسم حاصلا في حيز معين ، أكثر من زمان واحد. والمعقول من كونه جسما ، غير المعقول من كونه حاصلا في ذلك الحيز المعين ، وذلك المغاير

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) لم يحصل (ت)

(٣) من (س)

(٤) من (ت)

أمر ثابت. فيفتقر هاهنا إلى بيان مقامين :

المقام الأول : إثبات المغايرة. والدليل عليه وجوه :

الأول : إنه يمكننا تعقل ذات ذلك الجسم ، مع الذهول عن كونه حاصلا في ذلك الحيز. والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم.

والثاني : إن ذات الجسم قائمة بنفسها ، والمعقول من كونه حاصلا في ذلك الحيز المعين : نسبة مخصوصة ، وإضافة [مخصوصة (١)] فتكون إحداهما مغايرة للأخرى.

والثالث : إنا إذا قلنا : الجسم جسم. كان كلامنا مكررا غير مفيد. وإذا قلنا : الجسم حاصل في هذا الحيز. كان كلامنا مفيدا وذلك يوجب المغايرة.

والرابع : إن الجسم إذا خرج عن ذلك الحيز الذي كان ساكنا فيه ، فإنه يصح أن يقال : إن تلك الذات باقية ، إلا أن حصولها في ذلك الحيز غير باق. والباقي مغاير لما هو غير باق.

والخامس : إن الحركة منافية للسكون ، وغير منافية لذات الجسم. وذلك يوجب التغاير ، وفي هذه الدلائل مباحثات عميقة. ذكرناها في كتاب «أحكام الوجود» في باب «أن الوجود ، هل هو زائد على الماهية أم لا؟»

وأما المقام الثاني : فهو بيان أن هذا المفهوم المغاير أمر ثابت. والدليل عليه : أن صريح العقل ، حكم بأن كونه حاصلا في الحيز ، مناقض لكونه غير حاصل في الحيز ، والمعقول من كونه غير حاصل في الحيز : عدم محض ، فوجب أن يكون المفهوم من كونه حاصلا في الحيز أمرا موجودا.

__________________

(١) من (ط)

فثبت بهذه الوجوه : أن السكون صفة موجودة. وهذا تمام الكلام في إثبات هذا المطلوب [والله أعلم (١)]

المسألة الثانية : في بيان أن كل جسم ، فإنه يصح خروجه عن حيزه المعين.

ولنا في تقريره دلائل كثيرة :

الحجة الأولى : إن كل جسم اختص بحيز معين ، فذلك الجسم : مساو لسائر الأجسام في تمام الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، لزم إمكان خروج كل جسم عن حيزه المعين.

إنما قلنا : الأجسام كلها متساوية في تمام الماهية. وذلك لأن الأجسام متساوية في كونها حجما ومتحيز (٢) فلو فرضنا اختلافها في أمر آخر وراء هذا المعنى ، فذلك إما أن يكون من صفات الحجمية ، أو من موصوفاتها ، أو لا صفة لها ولا موصوفا بها. والأول باطل. لأن على هذا التقدير : ذوات الأجسام متساوية في تمام الماهية ، ومتى كان الأمر كذلك ، فكل صفة أمكن حصولها لبعض تلك الأشياء ، وجب إمكان حصولها لسائرها. ضرورة أن المتماثلات يجب استواؤها في كل اللوازم.

والثاني : [باطل (٣)] وإلا لكان الجسم المتحيز : صفة [حالة (٤)] في محل. وسنبين (٥) في مسألة «نفي الهيولى» : أن هذا القول باطل محال.

والثالث : أيضا باطل لأن ما [لا (٦)] يكون صفة للجسم ، ولا موصوفا به ، كان مباينا عن ذات الجسم. وما كان كذلك ، لم يكن سببا لاختلاف

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) أحجام متحيزة (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

(٥) وقد بينا (ط ، ت)

(٦) من (ط)

ماهيات الذوات. فيثبت : أن الأجسام كلها متساوية في تمام الماهية. وإذا ثبت هذا وجب أن يصح على كل واحد ، ما صح على الآخر. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يصح على كل واحد منها : أن يخرج عن حيزه ، ويحصل في حيز الجسم الآخر. وكذا القول في الجسم الآخر ، وذلك يدل : على أن كل جسم ، فإنه يصح خروجه عن حيزه المعين.

الحجة الثانية : الأحياز بأسرها متساوية في تمام الماهية ومتى كان الأمر كذلك ، كانت الأجسام بأسرها قابلة للحركة. بيان الأول : أن الفضاء والجهة والحيز : لا معنى له إلا وهذا الخلاء الممتد. وهذا المفهوم قدر مشترك بين جميع الأحياز. فلو فرضنا اختلافها ، لكان الأمر الذي به حصل ذلك الاختلاف ، مغايرا لهذا المفهوم ، الذي به حصل الاشتراك. وإذا ثبت هذا ، فنقول : ذلك الأمر الذي به حصلت هذه المخالفة ، إما أن يكون حالا في هذا الفضاء ، أو محلا له ، أو لا حال فيه ، ولا محلا له. والأول باطل. لأن أجزاء الفضاء لما كانت في أنفسها متساوية ، فكل ما صح حلوله في أحد تلك الجوانب ، صح حلوله في الجانب الآخر منه. والثاني أيضا باطل. وإلا لكان هذا الفضاء حاصلا في مادة ، وكل بعد حال في مادة ، فهو جسم عند من يثبت للجسم مادة. فأما عند من ينكر هذه المادة ، فالقول بحلول هذا البعد في المادة : محال. والثالث [أيضا (١)] باطل لأن ما لا يكون حالا في شيء ، ولا محلا له ، امتنع أن يصير سببا لاختلاف أحوال ذلك الشيء. فيثبت : أن الأجزاء المفترضة في هذا الخلاء ، وفي هذا الفضاء متساوية. فوجب أن يصح على كل واحد منها ، ما صح على الآخر. فكما صح على هذا الحيز ، أن يحصل فيه هذا الجوهر ، فكذلك وجب أن يصح عليه : أن يحصل فيه الجوهر الآخر. ومتى ثبت هذا ، لزم صحة الحركة على كل الأجسام.

فإن قالوا : أليس أن الأحياز مختلفة ، لأجل أن بعضها فوقنا ، وبعضها تحتنا. فإذا حصل هذا النوع من الاختلاف ، فلم لا يجوز أن يقال : بعض

__________________

(١) من (ط)

[الأجسام (١)] يجب حصولها في الأحياز الفوقانية ، والبعض الآخر يجب حصولها في الأحياز التحتانية؟ فنقول : هذا في غاية البعد. وذلك لأنا قد دللنا على أن (٢) الفضاء خارج العالم ، لا نهاية له. فلما حصل هذا العالم (٣) صار بعض الأحياز بالنسبة إلى الواقفين على وجه الأرض فوقا وبعضها تحتا. فأما خارج العالم فليس هناك فوق وتحت بل ليس هناك إلا الفضاء المتشابه الآخر في تمام الطبيعة والماهية. وذلك هو المطلوب.

الحجة الثالثة على صحة الحركة على جميع الأجسام : أن نقول : [الجسم (٤)] إما أن يكون بسيطا أو مركبا. فإن كان مركبا فكل مركب لا بد وأن ينتهي تحليل تركيبه إلى البسائط ، فوجب أن يكون ذلك المركب مركبا من الأشياء ، كل واحد منها [في نفسه (٥)] يكون بسيطا. وإذا ثبت هذا ، فنقول : كل واحد من تلك البسائط ، فإنه يجب أن يحصل له جانبان : أحدهما : يمينه. والآخر يساره. وطبيعة يمينه : لا بد وأن تكون مساوية لطبيعة يساره في تمام الماهية. وإلا لكان أحد هذين الجانبين مخالفا للجانب الآخر في تمام الماهية. وحينئذ يكون ذلك الجسم مركبا ، مع أنا فرضناه بسيطا. هذا خلف. وإذا ثبت استواء جانبي ذلك الجزء في تمام الماهية ، فكل ما يصح على أحد ذينك الجانبين ، وجب أن يصح على الجانب الآخر. ضرورة أن المتساويات في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع [اللوازم (٦)] وإذا ثبت هذا فنقول : الجسم الذي هو ممسوس يمينه ، وجب أن يصح كونه ممسوسا يساره، وبالعكس. ولا يمكن حصول هذا المعنى ، إلا بحركة تلك الأجزاء. فلما كان التبدل في المماسة ممكنا ، ولا يحصل ذلك التبدل إلا عند حصول حركة الأجزاء ، وجب القول بأن تلك الحركة (٧) أيضا : ممكنة وهو المطلوب.

__________________

(١) من (س)

(٢) أن هذا الفضاء (ت)

(٣) العالم ، فليست حصول هذا العالم صار بعض ... الخ (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط)

(٦) من (ت)

(٧) الحركة ليست ممكنة (ت)

الحجة الرابعة : وهي إلزامية. وهي أن الأجسام ، إما فلكية ، وإما عنصرية. أما الفلكيات فإنه يجب كونها متحركة ، على مذهب الفلاسفة. وأما العنصريات فإن كل واحد من أجزاء العنصر الواحد ، يمكن كونه متحركا. وذلك يدل على أن جميع الأجسام قابلة للحركة.

الحجة الخامسة : أن نقول : لا شك أن هذه الأجسام المحسوسة ، تخرج عن أحيازها ، وإذا خرجت عن أحيازها ، وزالت من إخراجها عن تلك الأحياز ، فإنها لا تعتد بطابعها إلى الأحياز المتقدمة ، وذلك يدل على أن هذه الأجزاء لا يجب حصولها في أحياز معينة ، وأنه يمكن خروجها عن تلك الأحياز المعينة ، وذلك كاف في إقامة الدليل على حدوث هذه الأجسام.

ثم إذا ثبت هذا المطلوب في هذه الأجسام ، ثبت أيضا في سائر الأجسام بالبناء على وجوب تماثل الأجسام.

واعلم أن المجسمة والكرّامية ، وكل من زعم أن الله مختص بحيز معين ، وحاصل في جهة معينة ، فإنه لا يمكنه تقرير هذه الدلائل البتة. لأنها بأسرها تصير منقوضة على قوله بذات الله تعالى.

المسألة الثالثة في بيان أن السكون محدث : فنقول : الدليل عليه : أن السكون جائز الزوال ، وكل ما كان كذلك ، فإنه يمتنع أن يكون أزليا. إنما قلنا : إن كل سكون جائز الزوال ، لأن كل جسم فإنه يصح خروجه عن حيزه ، وإذا خرج [عن حيزه (١)] فإنه لا بد وأن يعدم حال كونه حاصلا في ذلك الحيز ، وذلك يقتضي أن كل سكون فإنه جائز الزوال. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن الجسم إذا خرج عن ذلك الحيز ، فإن ذلك السكون لا يصير معدوما ، بل نقول : إنه يصير كامنا بعد أن كان ذلك ظاهرا ، أو يقال : إن ذلك السكون ينتقل من ذلك الجسم إلى جسم آخر ، أو يقال : إنه ينتقل إلى لا في محل؟

__________________

(١) مرادنا (ت)

الجواب من وجهين :

الأول : إن المراد من السكون : هو مجرد حصول الجسم في ذلك الحيز ، وهذا الحصول لا معنى له إلّا هذه النسبة المخصوصة ، وهذه الإضافة المخصوصة. فإذا خرج الجسم عن ذلك الحيز ، فقد بطل كونه حاصلا فيه. لأن الإضافات إذا لم تبق ، فقد عدمت وفنيت ، وزالت. والعلم به ضروري. بل لو ادعينا : إثبات معنى يستقل بنفسه ، يوجب كون الجسم حاصلا في الحيز ، فهذا السؤال متوجه عليه.

والوجه [الثاني (١)] في الجواب : إنا لو سلمنا صحة الكمون والظهور ، وصحة الانتقال على الأعراض. إلا أنا نقول : لو كان الجسم أزليا ، لكان في الأزل. إما أن يكون حالة واحدة من هذه الأحوال من غير تغير وتبدل. وإما أن تكون موصوفة بالتبدل والتغير ، ويسمى بقاء الجسم على (٢) حالة واحدة بالسكون ، ويسمى انتقاله من حالة إلى حالة أخرى بالحركة. وحينئذ يتمشى الدليل المذكور.

فيثبت : أن هذا السؤال ساقط بسبب هذين الوجهين :

والعجب : أن المتكلمين طولوا في هذا الباب ، وتكلموا في أربع مسائل :

إحداها : في إبطال الكمون والظهور.

وثانيها : في إبطال انتقال الأعراض من محل إلى محل [آخر (٣)] وثالثها : في انتقال الأعراض من محلها ، إلى لا في محل.

رابعها : بيان أن العرض لا يقوم بالعرض.

وإنما خاضوا في تقرير هذه المسائل الأربع ، لدفع السؤال المذكور. وقد ظهر بالتقرير الذي ذكرناه : أنه لا حاجة البتة في دفع ذلك السؤال إلى شيء

__________________

(١) من (ت)

(٢) الحالة الواحدة (ت)

(٣) من (ط)

من هذه المسائل : فظهر : أن الخوض فيها فضول من غير فائدة.

وإنما قلنا : إن كل ما كان جائز الزوال ، فإنه يمتنع كونه أزليا. لوجوه من الدلائل :

الحجة الأولى : وهي التي عوّل عليها الأشعرية. أن قالوا : القديم لو عدم ، لكان عدمه إما أن يكون بإعدام معدم ، أو بطريان ضد ، أو بانتفاء شرط. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بعدم القديم باطل.

واعلم أنا بالغنا في تقرير هذه الحجة ، في تقرير قول من يقول : الأجسام يمتنع أن تصير معدومة ، بعد أن كانت موجودة. ولما ذكرنا هذه الحجة هناك مع الزوائد الكثيرة ، والتقريرات اللطيفة ، فلا فائدة في الإعادة.

الحجة الثانية : وهي التي عولنا عليها في الكتب الكلامية : أن يقال : القديم إما [أن يكون (١)] واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان واجبا لذاته ، امتنع عليه العدم. لأن المراد من الواجب لذاته ما تكون حقيقته غير قابلة للعدم. وما كان كذلك ، امتنع العدم عليه. وأما إن كان ممكنا لذاته ، فنقول : كل (٢) ما كان ممكنا لذاته ، فله مؤثر. وذلك المؤثر ، إما أن يكون فاعلا مختارا ، وإما أن يكون موجبا بالذات. والأول باطل. لأن الفاعل المختار هو الذي يفعل بواسطة القصد. والقصد إلى تكوين الشيء حال بقائه محال. بل القصد إلى التكوين : إنما يمكن (٣) إما حال عدمه ، وإما حال حدوثه. وعلى التقديرين ، فكل ما يقع بالفاعل المختار ، فهو حادث. والقديم ليس بحادث. فامتنع إسناد القديم إلى الفاعل المختار. والقسم الثاني : وهو أن يقال : ذلك القديم معلل بعلة قديمة. فنقول : تلك العلة القديمة ، إن كانت ممكنة عاد التقسيم فيه ، وإن كانت واجبة لذاتها ، فإما أن يكون تأثيرها في وجود ذلك القديم غير موقوف على شرط ، أو كان موقوفا على شرط. فإن

__________________

(١) من (ط)

(٢) كل ممكن لذاته (ت)

(٣) يكون (ت)

كان الأول ، لزم من امتناع العدم على تلك العلة القديمة ، امتناع العدم على ذلك المعلول القديم ، وذلك يفيد صحة قولنا : إن الأزلي لا يزول.

وأما الثاني : وهو أن يقال : إن تأثير تلك العلة القديمة ، في ذلك المعلول القديم ، يتوقف على شرط. فنقول : ذلك الشرط ، إن كان ممكنا عاد التقسيم الأول فيه ، وإن كان واجبا ، فحينئذ تكون العلة المؤثرة في وجود ذلك القديم ، واجبة لذاتها ، ويكون شرط ذلك التأثير أيضا : واجبا لذاته. وعلى هذا التقدير فإن ذات العلة : واجبة لذاتها. وشرط تأثيرها في ذلك القديم : واجب لذاته. ويلزم من وجوب وجود هذين الأمرين : وجوب دوام ذلك المعلول ، وامتناع عدمه. فيثبت بما ذكرنا : أن كل ما كان قديما ، فإنه يمتنع عدمه. فلما دللنا على أن كل سكون فهو جائز الزوال [ثبت (١)] أن السكون يمتنع أن يكون أزليا [والله أعلم (٢)]

فإن قيل : الكلام على هذه الحجة. من وجوه :

الأول : أن نقول : البارئ تعالى ، إما أن يكون عالما بالجزئيات ، أو ليس كذلك. فإن كان الحق هو القسم الثاني ، وهو أن العلم بالجزئيات والتغيرات على الله تعالى محال. فعلى هذا التقدير يمتنع كون العالم محدثا ، لأنه لو كان محدثا ، لما حدث إلا لأجل أنه تعالى قصد إلى إيجاده وتكوينه ، لكن على تقدير بأن لا يكون عالما بالجزئيات ، فإنه يمتنع كونه قاصدا إلى إيجاد العالم ، لأن القصد إلى إيجاد الشيء ، مشروط بكونه عالما ، بأن العالم معدوم ، وأنه سيوجد. فإذا كان العلم بالجزئيات محالا ، لكان هذا القصد محالا. وإما إن كان الحق هو القسم الأول ، وهو أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : فعلى هذا التقدير صدق على الله تعالى : أنه ما كان عالما في الأزل بوجود العالم ، ثم صدق عليه : أنه صار عالما بوجود العالم عند دخوله في الوجود ، فصدق هذا

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

النفي. والإثبات هل يقتضي زوال أمر كان ، وحصول أمر (١) حدث ، أو لا يقتضي؟

فإن كان الأول. فنقول : ذلك الذي زال. إن كان قديما فقد اعترفتم بأن القديم قد زال. وإن كان حادثا فالكلام في ذلك الحادث ، كالكلام في الأول ، ولزم أن يكون كل علم مسبوقا بعلم آخر إلى أول. وإذا جاز هذا ، فقد بطل دليلكم في إفساد القول بحوادث لا أول لها.

وأما إن قلنا : إن صدق قولنا [ما كان عالما بوجوده لا يقتضي حدوث شيء ولا زوال شيء. فلم لا يجوز أن يقال : إن صدق قولنا (٢)] بتحرك الجسم بعد أن كان ساكنا ، لا يقتضي أيضا زوال شيء ، ولا حدوث شيء. وحينئذ يبطل الدليل المذكور؟ فهذا سؤال قاهر ، قوي على هذا الدليل.

السؤال الثاني : أن نقول : البارئ تعالى إما أن يقال : إنه كان في الأزل قادرا على إحداث هذا العلم ، أو ما كان قادرا عليه. والثاني باطل. وإلا فتلك القادرية لا تحدث [إلا (٣)] لأجل قادر آخر. ولزم التسلسل وهو محال. فيثبت : أن الحق هو الأول. وهو أنه تعالى كان في الأزل قادرا على إحداث هذا العالم. وإذا أحدث هذا العالم ، فبعد حدوثه. هل بقي قادرا على إحداثه ، أو ما بقي كذلك؟ [والأول باطل (٤)] لأن القدرة على إحداث الشيء بعد وجوده محال. فيثبت : أنه تعالى كان قادرا على إحداث [هذا (٥)] العالم في الأزل. فيثبت أن بعد دخول هذا العالم في الوجود ، ما بقي كونه قادرا على إحداث هذا العالم. فكونه قادرا على إحداث هذا العالم : صفة أزلية ، وقد زالت وفنيت. وذلك قول بأن الأزلي قد زال. فإن قالوا : كونه تعالى قادرا على الإحداث والإيجاد : صفة أزلية. وأنها لا تزول ولا تبطل. فأما كونه قادرا على إيجاد هذا

__________________

(١) حادث (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط)

(٥) من (س)

العالم فلا معنى له إلا إضافة قدرته إلى هذا الايجاد المعين المخصوص ، فالزائل ليس إلا هذه الإضافة ، وذلك غير ممتنع. فنقول : هذا العذر مدفوع من وجهين :

الأول : إن الدليل الذي ذكرتموه ، يتناول كل ما كان أزليا ، سواء كان صفة حقيقية، أو أمرا إضافيا. ولما كان الدليل عالما ، وقد توجه النقض عليه ، فقد لزم الإشكال.

الثاني : وهو أن غاية كلامكم : أن هذا الذي زال ، ليس إلا مجرد إضافة ونسبة ، وكذلك السكون الذي زال ، لا حقيقة له إلا مجرد إضافة ونسبة. لأنكم فسرتم السكون بمجرد (١) كونه حاصلا في الحيز المعين على سبيل الدوام. والحصول في الحيز المعين لا معنى له إلا إضافة مخصوصة ، ونسبة مخصوصة. عرضت فذات الجسم بالنسبة إلى ذلك الحيز. فيثبت : أن هذا السكون لا حقيقة له إلّا محض الإضافة والنسبة. وتعلق قدرة الله [تعالى (٢)] بإيجاد هذا العالم أيضا : نسبة مخصوصة ، وإضافة مخصوصة. فإن امتنع العدم على النسبة الأزلية ، والإضافة الأزلية ، وجب أن يكون الكل كذلك. وإن لم يمتنع ذلك في بعض الصور ، وجب أن يكون في الكل كذلك. فأما تجويزه في بعض الصور دون البعض ففاسد.

السؤال الثالث : وهو أنه تعالى مؤثر في وجود هذا العالم ، فتأثيره فيه ، إما أن يكون على سبيل الإيجاد الذاتي ، وإما أن يكون على سبيل الصحة. فإن كان الأول ، لزم من دوام ذات الله تعالى ، دوام العالم. وإن كان الثاني فنقول : المؤثر على سبيل الصحة هو الذي يكون قادرا على الفعل والترك. لأنه لو صح منه الفعل ، ولم يصح منه الترك ، فحينئذ يخرج عن كونه قادرا ، ويصير موجبا بالذات. وكل من كان قادرا على الفعل والترك ، وجب أن يكون الترك

__________________

(١) المجرد (ت)

(٢) من (ت)

مقدورا له. فنقول : هذا [الترك] (١) لا يجوز أن يكون عبارة عن العدم الأصلي المستمر ، لوجهين :

الأول : إن العدم نفي محض ، والقدرة صفة مؤثرة ، فامتنع كون القدرة مؤثرة في العدم.

الثاني : إن العدم الأصلي باق. والقدرة لا تأثير لها في الباقي. لما ثبت أن تحصيل الحاصل محال. فيثبت : أن الترك يمتنع أن يكون عبارة عن عدم الفعل ، فوجب أن يكون عبارة عن فعل [ضد (٢)] الشيء. وإذا ثبت أنه تعالى قادرا في الأزل. فهو في الأزل ، إما أن يكون فاعلا للعالم ، وإما أن يكون تاركا له. فإن كان الأول ، لزم قدم العالم ، وإن كان الثاني لزم قدم ضد العالم. وبتقدير أن يكون الأمر كذلك ، فإنه يمتنع دخول العالم في الوجود إلا عند زوال ذلك الضد الأزلي ، فيكون هذا قولا بجواز العدم على القديم. وهو يبطل كلامكم.

السؤال الرابع : وهو أنه لو كان العالم حادثا ، لكانت صحة حدوثه مستمرة من الأزل إلى وقت حدوثه. لما دللنا على أن تلك الصحة يمتنع [أن يكون (٣)] لها أول. ثم إذا حدث العالم ، لم تبق صحة حدوثه. لأنه الشيء بعد حدوثه لم يبق صحيح الحدوث ، وإلا لزم أن يصدق على الموجود ، أنه يمكن أن يصير موجودا ، وذلك باطل. فيثبت : أن تلك الصحة حكم أزلي ، مع أنها قد زالت.

السؤال الخامس : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه ، لأجل أنه تعالى أراد إحداثه في ذلك الوقت. فإما أن يقال : إنه تعالى كان في الأزل [مريدا (٤)] لأن يحدثه في ذلك الوقت المعين ، أو ما كان موصوفا بهذه الإرادة

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ت)

في الأزل. والثاني باطل ، وإلا لافتقر حدوث تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ، وذلك باطل. فيثبت : أنه تعالى كان في الأزل مريدا لإحداث العالم في ذلك الوقت ، وإذا جاء ذلك الوقت ، وأحدثه فيه. فهل بقي مريدا لإحداث العالم في ذلك الوقت ، أو ما بقيت تلك الإرادة؟ والأول باطل. وإلا لزم أن يقال : إنه بقي مريدا ، لإحداث الموجود في الوقت المتقدم. وذلك باطل. فيثبت : أن تلك الإرادة [ما (١)] بقيت ، مع أنها كانت أزلية. فإن قالوا : ذات الإرادة باقية ، إلا أن ذلك التعلق المخصوص ، وتلك الإرادة (٢) المخصوصة ، قد بطل وزال. فنقول : الجواب ما ذكرناه في تقرير السؤال [الثاني (٣)] والله [أعلم (٤)]

السؤال السادس : زعمت الأشعرية : أن حكم الله قديم. ثم زعموا : أن أمر الله وحكمه قابل للنسخ. ولا معنى للنسخ : إلا انتهاء الحكم ، أو زواله. وعلى التقديرين : فذلك يقتضي عدم الأزلي.

السؤال السابع : عدم العالم وعدم مؤثرية قدرة الله تعالى [في العالم (٥)] إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان الأول امتنع زواله البتة ، فكان يجب أن لا يوجد العالم البتة. هذا خلف. وإما إن كان ممكنا. فإما أن يكون له مرجح ، أو لا يكون. فإن كان الأول ، فقد جوزتم الرجحان في طرف العدم لا لمرجح. فلم لا يجوز مثله في طرف الوجود؟ وإن كان الثاني ، فذلك] المرجح إما أن يكن مختارا أو موجبا. وجميع ما ذكرتموه من التقسيمات في علة الوجود ، عائد في علة العدم الأزلي ، سواء بسواء [من غير تفاوت (٦)] فيثبت : أن الدليل الذي ذكرتموه ، إن دل على أن الوجود (٧) الأزلي ، ممتنع

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) من (ت)

(٥) من (ط ، س)

(٦) من (ت)

(٧) الموجود (ط)

الزوال. فهو بعينه أيضا يدل على أن العدم الأزلي ، ممتنع الزوال. ولو صح هذا ، لوجب كون العالم قديما أزليا ، على ما سبق تقريره. وحيث فسد هذا ، علمنا : أن الأزلي جائز الزوال.

فهذه الأسئلة السبعة جارية مجرى النقوض على الذي ذكرتموه في تقرير : أن الأزلي لا يزول.

ثم إنا بعد هذه النقوض ، نعترض على الدليل الذي ذكرتم : فنقول ما (١) الدليل على أن القديم لا يصح عليه العدم؟

قوله : «هذا الأزلي ، إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان واجبا لذاته ، لزم القول بوجوب دوامه ، وإن كان ممكنا ، افتقر إلى مؤثر [وذلك المؤثر (٢)] إما موجب أو مختار» فنقول : صحة وجود العالم ، إما أن تكون واجبة لذاتها ، وإما أن تكون ممكنة لذاتها. فإن كانت واجبة لذاتها ، وجب كونها دائمة الثبوت ، فيكون صحة وجود العالم ، حاصلة في الأزل. ودليلكم يوجب امتناع وجود العالم في الأزل. والصحة والامتناع متناقضان (٣) فلما ثبت [القول (٤)] بدوام الصحة ، فسد القول بثبوت الامتناع في الأزل ، ولئن جاز أن يقال : الصحة واجبة الثبوت لذاتها ، مع أنها غير دائمة. فلم لا يجوز أيضا : أن يقال : إن ذلك القديم واجب الثبوت لذاته ، مع أنه غير دائم الثبوت؟ وأما إن كانت هذه الصحة ، ممكنة الثبوت لذاتها. فنقول : حدوث هذه الصحة ، إما أن يكون لمؤثر أو لا لمؤثر. والأول باطل. لأن كل ما حصل بمؤثر ، فعند فرض عدم ذلك المؤثر ، يرتفع ذلك الأثر ، فعند فرض عدم ذلك المؤثر ، يلزم أن لا يبق الممكن ممكنا في نفسه ، بل ينقلب ممتنعا لذاته. وذلك باطل. والثاني يوجب القول بأن تلك الصحة حصلت بعد عدمها ، لا لمؤثر. وإذا جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الأزلي يصير معدوما ، بعد أن

__________________

(١) أما (ت)

(٢) من (ط)

(٣) متنافيان (ط)

(٤) من (ت)

كان موجودا ـ لا لمؤثر. وهذا سؤال غامض.

السؤال الثاني : أن نقول : إن كان الموجود الممكن ، لا بد له من علة ، فالعدم الممكن أيضا لا بد له من علة. فعدم وجود العالم في الأزل ، وعدم موجودية الله [تعالى (١)] في الأزل ، لا بد له من علة. ويعود التقسيم المذكور فيه ، إلى آخره.

السؤال الثالث : لو كان العالم حادثا ، لكان حدوثه مختصا بوقت معين. فالفاعل الذي خصص إحداثه بذلك الوقت [المعين (٢)] إن امتنع منه أن يحدثه في غير ذلك الوقت، فحينئذ يكون موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. ثم يلزم من كونه موجبا بالذات ، قدم العالم. وأما إن جاز من ذلك الفاعل ، أن يحدث العالم في ذلك الوقت ، وأن يحدثه في غيره ، بدلا عن الأول. فحينئذ إما أن يكون ذلك الترجيح (٣) موقوفا على المرجح ، أو لا يكون كذلك. والأول باطل ، لأن الكلام في اختصاص ذلك الوقت بذلك المرجح ، كالكلام في اختصاصه بذلك الحادث ، ويعود الطلب فيه بعينه ، ويمر إلى ما لا نهاية له. فيبقى القسم الثاني ، وهو أن يقال : اختصاص ذلك الوقت بهذا الأثر : رجحان لا لمرجح. فنقول : إذا جاز هذا ، فلم لا يجوز أيضا : أن يعدم القديم بعد وجوده لا لمرجح ، ولا لمخصص؟ فإنه ليس أحد البابين أظهر امتناعا وفسادا عند العقل من الثاني (٤)

السؤال الرابع : سلمنا أن ذلك القديم ، لو عدم بعد وجوده ، فلا بد له من مرجح. فلم لا يجوز أن يكون ذلك المرجح [قادرا (٥)؟] قوله : «كل ما كان فعلا ، لفاعل مختار فهو محدث» قلنا : هذا معارض بالوجوه الكثيرة المذكورة في بيان أن استناد الأثر إلى المؤثر غير مشروط بالحدوث.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) ترجيحا (ت)

(٤) الآخر (ط)

(٥) من (ت)

السؤال الخامس : سلمنا أن ذلك المؤثر موجب ، فلم يلزم من دوامه : دوام المعلول؟ بيانه : أن [المؤثر (١) أالموجود لا يبعد أن يتوقف تأثيره في معلوله على شرط عدمي. ألا ترى أن الثقل يوجب نزول الثقيل ، بشرط عدم السلسلة العائقة عن النزول ، وأنتم جوزتم في العدم الأزلي : أن يزول. وإذا ثبت هذا ، فنقول : لم لا يجوز أن يقال : الموجود الواجب لذاته ، كان علة لوجود ذلك القديم ، إلا أن ذلك التأثير ، كان مشروطا بشرط عدمي أزلي. ثم إن ذلك الشرط العدمي الأزلي ، قد زال. فلا جرم زال ذلك المعلول.

فهذه جملة المباحث المتوجهة على هذا الدليل [والله أعلم (٢)]

والجواب : إن بديهة العقل حاكمة : بأن الموجود. إما واجب لذاته ، أو ممكن لذاته. والبديهة حاكمة : بأن الواجب لذاته ، لا يقبل العدم [والبديهة شاهدة : بأن ذلك الواجب لذاته. إما أن يكون مختارا ، أو موجبا (٣)] والبديهة [حاكمة : بأن الممكن لذاته ، لا بد وأن ينتهي إلى الواجب لذاته ، إما بغير واسطة ، أو بواسطة واحدة ، أو بوسائط كثيرة. ثم إن (٤)] البديهة شاهدة : بأن معلول الواجب لذاته ، لا بد وأن يدوم بدوام تلك العلة ، وحيث لم يكن ذلك المؤثر [موجبا (٥)] وإذا بطل هذا ثبت أن المؤثر فاعل مختار. والبديهة شاهدة : بأن كل ما كان فعلا لفاعل [مختار (٦)] فهو محدث. فيثبت بهذا : أن كل ما صح العدم عليه. فالقديم وجب أن لا يصح [عليه (٧)] العدم. وما ذكرتموه من السؤالات جارى مجرى القدح في الضروريات. فلا يلتفت إليه [والله أعلم (٨)]

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (ط ، س)

(٥) من (ت)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط ، س)

(٨) من (ت)

المقالة الثانية

في

تقرير دلائل أخرى

في اثبات حدوث العالم

في

تقرير دلائل أخرى في اثبات حدوث العالم

الحجة الأولى : ـ وهي الحجة القديمة للمتكلمين ـ أن قالوا : الجسم لا يخلو عن الحوادث. وما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث ، فالجسم حادث.

أما بيان المقدمة الأولى : فهو أن نقول : الجسم لا يخلو عن الأكوان ، والأكوان حادثة ، ينتج : أن الجسم لا يخلو عن الحوادث.

أما قولنا : «الجسم لا يخلو عن الأكوان» فهو [بناء (١)] على مقامين :

الأول : إثبات الأكوان. والمراد (٢) من الكون : حصول الجسم في الحيز [وقد دللنا : على أن حصول الجسم في الحيز (٣)] أمر زائد على ذاته.

والثاني : بيان أن الجسم لا ينفك عن الأكوان. وتقريره ظاهر. لأن الجسم ما دام يكون جسما ، فإنه يجب أن يكون حاصلا في حيز معين. فإذا دللنا على أن حصوله في الحيز المعين زائد عليه. كان ذلك دليلا على أن ذات الجسم لا تنفك عن الأكوان. وأما قولنا : «إن كل كون محدث» فتقريره : أن كل جسم ، فإنه يصح خروجه عن حيزه. وبتقدير خروجه عن حيزه ، فإنه

__________________

(١) (ط)

(٢) ومراده من الأكوان (ت)

(٣) من (س)

يبطل حصوله في ذلك الحيز ، وكل ما يصح عليه العدم ، امتنع أن يكون قديما. فيثبت : أن الجسم يمتنع خلوه عن الأكوان ، ويثبت : أن [كل كون محدث ، فثبت أن (١)] كل جسم ، فإنه يمتنع خلوه عن الحوادث. وإنما قلنا : إن كل ما يمتنع خلوه عن الحوادث فهو حادث. لأن تلك الحوادث. إما أن يكون لها أول ، وإما أن لا يكون لها أول. والثاني باطل ، للدلائل المذكورة في إبطال حوادث لا أول لها ، فبقي الأول. فيثبت : أن الجسم لا يخلو عن الحوادث ، وثبت : أن كل ما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث. فوجب : أن يكون الجسم حادثا. وهو المطلوب.

واعلم أن هذا الدليل ، هو عين الدليل الأول. إلا أن التركيب والنظم مختلف.

وأقول (٢) : يتوجه على هذا النظم : سؤال. لا يتوجه على النظم الأول. وذلك لأنا نقول : هذا النظم يحتمل وجهين :

الأول : أن يقال : الجسم لا يخلو عن حوادث لها أول ، وكل ما كان كذلك ، فهو حادث.

والثاني : أن يقال : الجسم لا يخلو عن الحوادث. وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. أما الأول ففاسد. لأن على هذا التقدير تصير صغرى هذا القياس : عين النتيجة. لأنا قولنا : الجسم لا يخلو عن حوادث لها أول : معناه : أن الجسم ما كان موجودا قبل ذلك الأول. وهذا هو عين ادعاء حدوث الجسم. فثبت : أن على هذا التقدير تصير صغرى هذا القياس : عين النتيجة المطلوبة ، ولا شك أنه فاسد.

وأما الثاني ففاسد أيضا ، لأن على هذا التقدير تصير الكبرى كاذبة. لأن قولنا : وكل ما لا يخلو عن الحوادث ، فهو حادث : قضية كلية. وهذه الكلية

__________________

(١) من (س)

(٢) قال العلامة ، رضي الله عنه : (ت)

[كاذبة (١)] لأن على تقدير أن لا يكون للحوادث أول ، لم يلزم من امتناع خلو الجسم عنها كون الجسم حادثا. فثبت : أن قولنا : وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث : إنما يكون صادقا بتقدير أن يكون للحوادث أول وبداية. وإذا قيدنا الكبرى بهذا القيد ، عاد الكلام المذكور من أنه تصير [صغرى (٢)] القياس عين النتيجة. فهذا البحث متوجه على هذا النظم [والله أعلم (٣)]

الحجة الثانية : أن نقول : الأجسام قابلة للحوادث ، وكل ما كان قابلا (٤) للحوادث، فإنه لا يخلو عن الحوادث [وكل ما لا يخلو عن الحوادث (٥)] فهو حادث ينتج : أن الأجسام حادثة.

واعلم أن الفرق بين هذه الطريقة وبين وما قبلها : أن الطريقة المتقدمة مختصة بالأكوان ـ أعني الحركة والسكون ـ وأما هذه الطريقة فإنها عامة في جميع الأعراض. وتقريره أن نقول : لا شك أن الأجسام قابلة للضوء والظلمة ، والحرارة والبرودة ، وللأشكال المختلفة ، وللحركة والسكون. فنقول : قابلية الجسم لهذه الصفات ، إما أن يكون عين ذات الجسم ، وإما أن يكون زائدا عليها. فإن كان عين ذات الجسم ، فإذا دللنا على أن هذه القابلية حادثة ، لزم الجزم بكون الجسم حادثا. وأما إن قلنا : أن هذه القابلية زائدة على [ذات (٦)] الجسم ، فإذا دللنا على أنها حادثة ، ودللنا على أن ذات الجسم لا يخلو عن هذه القابلية ، فحينئذ يحصل لنا : أن ذات الجسم لا ينفك عن الحوادث.

أما بيان أن هذه القابلية حادثة : فهو أن [إمكان (٧)] اتصاف الذات بالصفة ، فرع على كون تلك الصفة في نفسها ممكنة الوجود. لأن إمكان

__________________

(١) سقط (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) ما كان كذلك (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (ت)

(٧) من (س)

اتصاف غيره به [صفة عارضة (١)] له ، من حيث إنه هو. وإمكان وجوده في نفسه ، اعتبار حال ذاته من حيث إنها هي. ومن المعلوم : أنّ اعتبار حال الشيء في نفسه ، سابق على اعتبار حاله مع غيره. فيثبت : أن إمكان اتصاف غيره به ، فرع على إمكان وجوده في نفسه.

وإذا ثبت هذا فنقول : الحادث ممتنع الوجود في الأزل ، وإذا كان إمكان وجوده في نفسه فائتا في الأزل ، كان إمكان اتصاف غيره به أيضا فائتا في الأزل. فيثبت بما ذكرنا : أن إمكان اتصاف الذات بالصفات الحادثة : أمر حادث ، ممتنع الحصول في الأزل. وأما بيان أن هذه القابلية من لوازم الذات : فلأنا نقول : هذه القابلية ، إما أن تكون من الأمور اللازمة لماهية الجسم ، وإما أن تكون من العوارض المفارقة. فإن كان الأول فهو المطلوب ، وإن كان الثاني فنقول : لما كانت هذه القابلية ممكنة الحصول لتلك الذات ، كانت الذات قابلة لتلك القابلية. فقابلية تلك القابلية ، إن كانت من اللوازم فهو المطلوب ، وإن كانت من العوارض المفارقة ، كان الكلام فيها كالكلام (٢) في الأول. فيلزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت بما ذكرنا : أن قابلية الجسم للصفات الحادثة : أمر حادث.

وعند هذا نقول : إن كانت القابلية عين ذات الجسم ، لزم من حدوثها ، حدوث ذات الجسم ، وإن كانت مغايرة لذات الجسم ، وجب كونها من لوازم الذات ، وحينئذ يحصل لنا [الجزم (٣)] بأن الجسم لا ينفك عن الحوادث ، وقد سبق بيان أن ما لا ينفك عن الحادث فهو حادث. وحينئذ يلزم كون الجسم حادثا. وهو المطلوب.

وحينئذ يحصل لنا من هذا الدليل مطلوبان شريفان :

__________________

(١) من (ت)

(٢) كما في الأول (ت)

(٣) من (ت)

الأول : إن الأجسام لما كانت قابلة للصفات الحادثة ، امتنع كونها قديمة.

والثاني : إن الإله (١) تعالى وتقدس ، لما كان قديما ، امتنع كونه قابلا للصفات الحادثة.

الحجة الثالثة : أجسام العالم ، لو كانت أزلية ، لكانت في الأزل ، إما أن تكون مجتمعة فقط ، أو متفرقة فقط ، أو تارة مجتمعة ، وتارة متفرقة. أو بعضها مجتمعة ، وبعضها متفرقة. والأولان باطلان ، وإلا لزم أن لا يصير المجتمع متفرقا ، ولا بالعكس. لما ثبت : أن الأزلي لا يزول ، والثالث باطل. لأنه يلزم منه وجود حوادث لا أول لها. وقد أبطلناه. والرابع باطل أيضا. لأن ذلك الذي كان مجتمعا ، وجب أن لا يفترق ، وذلك الذي كان مفترقا ، وجب أن لا يجتمع. لما ثبت أن الأزلي لا يزول.

واعلم أن هذا الدليل بعينه عائد إلى ما تقدم ذكره.

الحجة الرابعة : لو كان الجسم أزليا ، لكان في الأزل حاصلا في حيز معين. ولو كان كذلك ، لامتنع خروجه عن ذلك الحيز ، ولامتنع كونه متحركا. وحيث لم يمتنع ذلك ، علمنا : أن الجسم لا يمكن أن يكون أزليا. وإنما قلنا : إنه لو كان أزليا ، لكان في الأزل حاصلا في حيز معين : لأن الجسم هو الذي يصدق عليه أنه مقدار وحجم. وكل ما كان كذلك ، وجب أن يكون حاصلا في حيز مبهم. لأن كل ما كان موجودا في نفسه ، فهو معين في نفسه ، فحصول الجسم المعين في حيز مبهم (٢) في نفس الأمر : محال في العقل. فيثبت : أنه لو كان الجسم موجودا في الأزل ، لكان حاصلا في حيز معين. ولو كان كذلك ، لكان حصوله في ذلك الحيز : أزليا. ولو كان كذلك ، لا يمتنع العدم على تلك الصفة. لما ثبت : أن الأزلي يمتنع عليه العدم. ولما دل الحس على جواز الحركة على الأجسام ، علمنا : امتناع كون الجسم أزليا. وهذا

__________________

(١) الإله تقدست ذاته (ط)

(٢) معين (ت)

الدليل لا يتم أيضا في الحقيقة ، إلا عند الرجوع إلى دليل الحركة والسكون ، إلا أنه [أقل(١)] مقدمات من ذلك الدليل.

الحجة الخامسة : الأجسام متناهية في المقدار ، وكل ما كان كذلك فهو محدث. أما بيان الصغرى فهو مذكور في مسألة تناهي الأبعاد.

وأما بيان الكبرى فهو أن نقول : كل ما كان متناهيا في المقدار ، فإنه يصح في العقل وجود ما هو أزيد مقدارا منه ، ووجود ما هو أنقص مقدارا منه. وإذا كان كذلك ، كان اختصاصه بذلك القدر المعين ، دون الزائد ، ودون الناقص ممكنا. وكل ممكن فلا بد له من مرجح ، وذلك المرجح يمتنع أن يكون موجبا. لأن نسبة الموجب إلى جميع المقادير على السوية. فلم يكن كونه موجبا لمقدار معين ، أولى من كونه موجبا (٢) لغير ذلك المقدار ، فوجب أن يكون المؤثر فيه ، فاعلا مختارا. وكل ما كان فعلا لفاعل مختار ، فهو محدث. فيثبت : أن كل جسم ، فإنه متناهي [المقدار ، وكل متناهي المقدار (٣)] فإن اختصاصه بذلك القدر يكون من الجائزات. وكل ما كان كذلك ، فإنه يمتنع رجحانه على غيره ، إلا بفعل الفاعل المختار. وكل ما كان فعلا للفاعل المختار ، فهو محدث. وعند ظهور هذه المقدمات يحصل الجزم بأن كل جسم فهو محدث. [والله أعلم (٤)].

الحجة السادسة : نقول : أجسام العالم متماثلة في تمام الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب كونها محدثة.

بيان الأول : ما ذكرنا من أن الأجسام متساوية في الحجمية والتحيز ، فلو خالف بعضها في أمر من الأمور المقوية للماهية ، لكان ما به المخالفة ، مغاير لما به المساواة التي هي عموم الجسمية. وذلك المغاير إما أن يكون صفة الجسم ،

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) موجبا لذلك المقدار (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) من (ط ، س)

أو موصوفا به ، أو لا صفة ولا موصوفا. والكل باطل على [ما سبق (١)] تقريره. فبطل القول باختلاف الأجسام. وإنما قلنا : إن الأجسام لما كانت متماثلة ، كانت حادثة. لأن كل واحد من تلك المتحيزات ، يجب أن يكون حاصلا في حيز معين ، ويمتنع أن يكون حصوله فيه لذاته ، وإلا لحصل الكل في ذلك الحيز. لما بينا : أنها بأسرها متساوية في تمام الماهية. والتساوي في العلة ، يوجب التساوي في المعلول. ولما بطل هذا القسم ، ثبت أن اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين : إنما كان لسبب منفصل. وذلك السبب لا يجوز أن يكون موجبا. لأنه لو كان موجبا ، لكان إما أن يكون جسما أو لا يكون. والأول : باطل. وإلا لعاد الطلب في كيفية اختصاصه بحيزه المعين. والثاني أيضا : باطل. لأن ذلك الموجب على هذا التقدير ، امتنع أن يختلف حاله في القرب والبعد ، بالنسبة إلى تلك الأجسام [بل يجب أن يقال : إن نسبته إلى كل تلك الأجسام] على السوية ، فلم يكن بأن يجب لسببه حصول بعض [الأجسام (٢)] في بعض تلك الأحياز ، أولى من العكس. فيثبت : أن السبب في اختصاص كل واحد منها بحيزه المعين ، لا يجوز أن يكون هو موجبا بالذات. فوجب أن يكون فاعلا مختارا. وكل ما كان فعلا لفاعل مختار ، فهو محدث. فيثبت: أن حصول الجسم في الحيز المعين : محدث. وثبت : أن الجسم لا ينفك عنه ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث.

وهذا الدليل أيضا لا يتم عند البحث التام ، إلا بالرجوع إلى بعض مقدمات دليل الحركة والسكون.

الحجة السابعة : أن نقول : الأجسام متماثلة في الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، كانت محدثة. أما بيان الأول : فقد تقدم [تقريره (٣)]

وأما بيان الثاني : فهو أن نقول : إنها متى كانت متماثلة في تمام الماهية ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (س)

(٣) من (ط ، س)

كان تعيين كل واحد منها زائدا على الماهية. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب كونها محدثة.

أما تقرير المقام الأول : وهو قولنا : «إن الأشياء متى كانت متساوية في تمام الماهية ، فإنه يجب أن يكون تعين كل منها زائدا على ماهيته» : فيدل عليه وجوه :

الأول : إن تلك الأشياء لما كانت [متساوية (١)] في تمام الماهية. لا شك أنها مختلفة في تعيناتها ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة. فوجب كون تلك التعينات أمورا زائدة على تلك الماهيات.

والثاني : إن المفهوم من قولنا : هذا الإنسان ، مشتمل على المفهوم من قولنا : إنسان. وذلك معلوم بالضرورة. فنقول : إن لم يشتمل قولنا : هذا الإنسان على أمر زائد ، على المفهوم من قولنا : إنسان وجب أن يكون المفهوم من قولنا : هذا الإنسان ، هو عين المفهوم من قولنا : إنسان ، إلا أن هذا باطل. لأن قولنا : إنسان. فإن نفس (٢) مفهومه لا يمنع من وقوع الشركة فيه. وقولنا : هذا الإنسان. فإن نفس مفهومه يمنع وقوع الشركة فيه. فعلمنا : أن المفهوم من قولنا : هذا الإنسان ، اشتمل على أمر زائد ، على المفهوم من قولنا : إنسان ، وما ذاك إلا التعين. فيثبت : أن تعين كل شخص زائد على ماهيته.

الثالث : إن بديهة العقل حاكمة بأن قولنا : هذا الإنسان. مفهوم مركب من قولنا : هذا إنسان. ومن قولنا. فوجب أن يكون المفهوم من قولنا هذا ، مغايرا للمفهوم من قولنا : إنسان. فيثبت : أن تعين كل شخص زائد على ماهيته.

الرابع : إن المفهوم من الإنسان حاصل في الإنسان الآخر ، فلو كان المفهوم من هذا الإنسان [عين المفهوم من الإنسان (٣)] لوجب أن يكون المفهوم

__________________

(١) من (ط)

(٢) تعين (ت)

(٣) من (ط)

من هذا الإنسان حاصلا لذلك الإنسان الآخر ، فيلزم أن يكون هذا الإنسان هو عين ذلك الإنسان الآخر ، وإنه محال. فثبت بهذه الوجوه : أن الأشياء المتماثلة في تمام الماهية ، يجب أن يكون تعين كل واحد منها ، زائدا على ماهيته.

وأما المقام الثاني : وهو أنه لما كان الأمر كذلك ، وجب كون الأجسام محدثة. فتقريره : أن على هذا التقدير ، يكون كل واحد من الأجسام ، مركبا من الجسمية ومن ذلك التعين. ثم لا يخلو إما أن يقال : الجسمية تقتضي ذلك التعين ، أو يقال : إن ذلك التعين يقتضي الجسمية المطلقة ، أو يقال : إن كل واحد منهما لا يقتضي الآخر. والأول باطل. وإلا وجب أن يكون كل جسم هو ذلك المعين ، وأن يكون ما ليس بذلك المعين فإنه لا يكون جسما. إلا أن ذلك باطل. لما بينا : أن ماهية الجسم [ماهية (١)] مشتركة فيما بين الأشخاص الكثيرة. والثاني [أيضا (٢)] باطل لوجوه :

أحدهما : إن ذلك التعين حالة نسبية إضافية ، وهي لا تدخل في الوجود إلا إذا كانت عارضة لماهية من الماهيات. فإن العقل يقضي بأنه يمتنع وجود موجود لا حقيقة له في نفسه ، إلا التعين بل لا بد من جسم أو سواد أو إنسان أو حجر ، أو غيرها. حتى يحكم عليه بكونه متعينا. فيثبت : أن حصول التعين محتاج في تحققه وتقرره : إلى تلك الماهية. فلو كانت تلك الماهية معلولة لذلك التعين ، لزم الدور.

والثاني : إن ذلك التعين ، يساوي سائر التعينات في كونه تعينا ، فلو اقتضى تعين حصول الجسمية ، لاقتضى حصول كل تعين : حصول الجسمية. فوجب أن يقال : إنه لا تعين ولا متعين إلا الجسم. وذلك باطل قطعا. فيثبت بما ذكرنا : أنه لا الجسمية تقتضي ذلك التعين ، ولا ذلك التعين يقتضي الجسمية. فوجب أن يقال : إن الاجتماع بين ماهية الجسم وبين ماهية

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (س)

التعين ، إنما حصل بسبب منفصل ، وذلك السبب المنفصل. إما موجب وإما مختار. والأول باطل. لأن نسبة الموجب إلى الكل على السوية. وعند الاستواء في النسبة ، يمتنع حصول الرجحان والاختصاص (١) فوجب أن يكون [فاعلا (٢)] مختارا. وكل ما كان فعلا لفاعل مختار ، فهو محدث ، فالأجسام محدثة.

الحجة الثامنة : قال بعضهم : «الأجسام متناهية في المقدار ، وكل ما كان كذلك ، كان متناهي القوة ، فوجب أن تكون قوة الأجسام على البقاء : متناهية. وكل ما كان كذلك ، فإنه يمتنع كونه أزليا» أما قولنا : إنها متناهية المقدار ، فلما ثبت في باب تناهي الأبعاد. وأما أن كل ما كان متناهي المقدار ، فإنه يكون متناهيا في القوة : فلما يذكره الحكماء من أن القوة الجسمانية يجب كونها متناهية. وأما النتيجة فظاهرة.

واعلم أن دليل الحكماء على القوة الجسمانية يجب كونها متناهية : دليل ضعيف. قد بينا ضعفه بوجوه كثيرة. وأيضا : فالحكماء يقولون : العالم أزلي أبدي ، لا لقوة ذاتية بل لقوة علّته ومبدئه. وهو منزه عن كونه جسما أو جسمانيا [والله أعلم (٣)]

الحجة التاسعة : ما سوى الواحد ممكن ، وكل ممكن محدث ، فما سوى الواحد محدث [بيان الأول من وجوه :

الأول : إنا نقول (٤)] لو فرضنا موجودين واجبي الوجود لكانا مشتركين في الوجوب بالذات ، ومختلفين في التعين ، فكان كل واحد منهما مركبا من الوجوب ومن ذلك التعين. فإما أن يكون الوجوب علة لذلك التعين ، فيلزم : أن يكون كل واجب الوجود لذاته ، فهو ذلك التعين ، فلا واجب وجود إلا ذلك التعين ، وإما أن يكون ذلك التعين ، علة لوجوب الوجود ، وهو محال :

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) من (س)

لأن وجوب (١) الوجود بالذات ، لا يكون معللا بالغير. وإما أن لا يكون واحد من هذين القيدين علة للثاني ، فحينئذ يجب أن يكون اجتماعهما معلول علة منفصلة. فيلزم : أن يكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره. وهو محال. فيثبت : أن واجب الوجود لذاته ، ليس إلا الواحد.

الثاني : إنا بينا في باب أحكام الوجود : أن الأجسام ، وجودها غير ماهياتها ، وكل ما كان وجوده غير ماهيته ، فهو ممكن لذاته. ينتج : أن كل جسم فإنه ممكن لذاته.

الثالث : إن الأجسام مركبة من الهيولى والصورة. وكل مركب ممكن ، فالأجسام ممكنة. وأيضا الهيولى والصورة يمتنع [خلو (٢)] كل واحد منهما عن الآخر ، مع أن واحدا منهما (٣) ليس علة للآخر. وكل ما كان كذلك ، فهو ممكن. فالأجسام ممكنة بحسب ذواتها ، وبحسب أجزاء ماهياتها.

الرابع : إن الجسم يمتنع انفكاكه عن الحصول في الحيز المعين [وليست ماهيته علّة للحصول في الحيز المعين] (٤) وإلّا لامتنع خروجه عن الحيز المعين ، وكل ما يمتنع خلوه عن شيء ، ولا يكون ذلك الشيء معلولا له ، فهو مفتقر في تحققه إلى ذلك الشيء ، وكل ما كان كذلك ، فهو ممكن لذاته [ينتج : أن الجسم ممكن لذاته (٥)] فيثبت : أن العالم ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته فله مؤثر ، وذلك [المؤثر (٦)] إما أن يكون موجبا أو مختارا. وبطل القول بالموجب للدلائل [الكثيرة (٧)] المذكورة في باب إثبات القادر ، ولسائر الوجوه التي نذكرها بعد ذلك في مقالة مفردة. فوجب أن يكون المؤثر في كل ما سوى الموجود الواحد : فاعلا مختارا.

__________________

(١) الوجوب الوجود (ط)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ط)

(٤) من (ط ، ت)

(٥) من (ت)

(٦) من (س)

(٧) من (ت)

وإذا ثبت هذا فنقول : احتياج هذه الأشياء إلى الفاعل المختار ، إما أن تكون في حال وجودها ، أو في حال عدمها. [فإن كان حال وجودها (١)] فإما أن يكون حال بقائها ، أو حال حدوثها. والأول باطل لأنه يقتضي تكوين الكائن ، وإنه محال. فبقي القسمان الآخران. وذلك يقتضي : أن كل ما كان محتاجا إلى المؤثر ، فهو محدث. فيثبت : أن ما سوى الواحد : ممكن. وثبت : أن كل ممكن محدث ، فيلزم : أن كل ما سوى الواحد: محدث. وهو المطلوب.

واعلم : أن الكلام في مقدمات هذا الدليل ، قد تقدم في هذا الكتاب بالاستقصاء. فلا حاجة إلى الإعادة.

الحجة العاشرة : لو كان الجسم أزليا ، لكان كونه أزليا. إما أن يكون نفس كونه جسميا أو مغايرا له. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه أزليا.

أما بيان بطلان الأول. فلأنه لو كان كذلك ، لكان العلم بكونه جسما ، هو عين العلم بكونه أزليا ، فكما أن العلم بكونه جسما ضروريا ، وجب أن يكون العلم بكونه أزليا ضروريا.

وبيان بطلان الثاني : إن حدوثه لو كان زائدا ، لكان ذلك الزائد [إن كان (٢)] قديما ، لزم أن تكون صفة المحدث قديمة ، وإن كان حادثا ، لزم التسلسل وهو محال.

واعلم : أنه سبق نظير هذا الكلام في الباب المتقدم.

الحجة الحادية عشر : لو كان الجسم قديما ، لكان مشاركا لذات الله [تعالى (٣)] في القدم. فنقول : القدم صفة ثابتة. لأنه عبارة عن نفي [العدم السابق ، ونفي النفي ثبوت ، فالقديم أمر ثابت. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال :

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (ت)

إنه عبارة عن نفي (١)] مسبوقية هذا الوجود (٢) بالعدم. فنقول : هذه المسبوقية ، إن كانت صفة وجودية ، كانت أيضا مسبوقة بالعدم ، فيلزم أن تكون مسبوقية هذه المسبوقية ، زائدة عليها. ولزم التسلسل. فيثبت : أن هذه المسبوقية ليست صفة موجودة بل هي أمر عدمي والقديم (٣) نقيضها ورافعها. وعدم العدم ثبوت. فيثبت : أن [المفهوم من (٤)] [القدم (٥)] ثابت. إذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان العالم قديما ، لكان مساويا لذات الله تعالى ، في صفة ثابتة ، وهي القدم ، فإما أن تحصل المخالفة بينهما باعتبار آخر ، أو لا تحصل. فإن كان الأول ، فحينئذ تكون ذات الله تعالى وذات العالم مركبة من الأمر (٦) الذي حصلت به المشاركة ، ومن الأمر الآخر الذي حصلت به المخالفة. وإذا كان كذلك ، فنقول : كل واحد من هذين الاعتبارين ، إما أن يكونا قديمين ، أو محدثين. أو أحدهما قديم ، والآخر محدث. فإن كانا قديمين ، فهما أيضا مشتركان في القدم ومختلفان باعتبار آخر ، وإلا لامتنع أن يحكم على أحدهما بكونه مشتركا فيه ، وعلى الآخر بكونه غير مشترك فيه. فيلزم تركب كل واحد منهما عن أمرين آخرين. ويمر الكلام فيه إلى ما لا نهاية له ، فيلزم كون كل واحد منهما مركبا من أمور لا نهاية لها ، لا مرة واحدة ، بل مرارا لا نهاية لها. وهو محال.

وأما إن قلنا : هذان الاعتباران محدثان ، أو إن قلنا : إن أحدهما قديم والآخر محدث. فهذا محال. لأن المحدث لا يكون جزءا من ماهية [القديم (٧)] فيثبت : أن القول بالقدماء، يفضي إلى أقسام باطلة ، فكان القول به باطلا [وأما إن لم يختلفا باعتبار آخر ، فالمساواة ظاهرة. وإنه محال (٨)] فوجب أن

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) الوجود (ت)

(٣) والعدم يقتضيها ومانعها (ت)

(٤) زيادة

(٥) من (ط ، س)

(٦) القدم (ط)

(٧) من (ط)

(٨) من (ط)

يقال : إنه لا قديم إلا الواحد. ولما كان البارئ تعالى قديما ، كان ما سواه محدثا ، وهذه الدلالة إنما يصح التمسك بها على القول بنفي الصفات.

فهذا آخر الكلام في هذه المسألة الهائلة.

وللفلاسفة هاهنا مقام آخر. وهو أنهم قالوا : دلائلنا المأخوذة من باب برهان اللم. وذلك لأنا نظرنا في المؤثر. فقلنا : إنه مستجمع لجميع الجهات المعتبرة في المؤثرية ، وأنه متى يكون الأمر كذلك ، امتنع تخلف الأثر عنه. وأما أصحاب الحدوث فإنهم إنما نظروا في أحوال الجسم ، فعرفوا أنها متغيرة ، فيمتنع صدورها عن المؤثر في الأزل ، فكان هذا الكلام من باب برهان الآن.

[ومعلوم : أن برهان اللم أشرف وأقوى من برهان الآن (١)] وهاهنا آخر الكلام في هذا البحث المهيب ، والمطلوب الهائل.

ونختم الكلام فيه بهذا التضرع. فأقول :

يا من ذكره شرف للذاكرين ، ويا من طاعته فخر للمطيعين.

إن أصبت فيما قلت ، فمنك الفضل والإحسان. وإن أخطأت فمن الجهل والخذلان، وطاعة الشيطان. فيا حنان ويا منان ، وسبحان ، ويا برهان : الغفران ، الغفران ، الغفران.

خلصنا من دركات النيران ، وأوصلنا إلى درجات الجنان [والحمد لله حق حمده ، وصلواته على النبي محمد ، وصحبه وآله (٢)]

__________________

(١) من (ط ، س)

(٢) من (ت)

المقالة الثالثة

في

تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم ،

فاعل بالاختيار ، لا موجب بالذات

مقدمة

اعلم (١) أنا قد ذكرنا وجوها كثيرة في باب إثبات كونه تعالى قادرا ، ونريد أن نذكر هاهنا وجوها أخرى. فنقول : الكلام في هذا الباب مرتب على قسمين :

أحدهما : في الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ، الدالة على أن مدبر العالم ، يجب أن يكون فاعلا مختارا. لا علة موجبة.

والثاني : الدلائل المذكورة في هذا الباب ، في القرآن المجيد. فإذا ضمت الدلائل الستة العقلية في باب القادر ، إلى هذه الوجوه ، بلغت مبلغا عظيما في الكثرة والقوة.

أما القسم الأول : وهو الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة : فاعلم أنه قبل الخوض في شرح تلك الاعتبارات ، يجب تقديم مقدمة. وهي

إن هذه الأجسام المحسوسة : متناهية. وكل متناه ، فهو مشكل ، ينتج : أن هذه الأجسام المحسوسة فهي مشكلة. وهذه الأشكال قسمان :

__________________

(١) عبارة (ت) : «بسم الله الرحمن الرحيم. المقالة الثالثة في تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم فاعلا بالاختيار ... الخ» وعبارة (ط) : «المقالة الثالثة في إعادة الكلام في تقرير ... الخ»

أحدهما : الأشكال التي حصلت على سبيل الاتفاق من غير أن يحتاج حصولها إلى فعل [فاعل (١)] حكيم.

والثاني : الأشكال التي يشهد صريح العقل ، بأنها لا تحصل إلا بقصد فاعل حكيم.

أما القسم الأول : فمثل الحجر المنكسر ، والكوز المنكسر. فإنه لا بد وأن يكون لتلك القطعة من الحجر والخزف شكل مخصوص معين ، إلا أن صريح العقل شاهد بأن ذلك الشكل ، وقع على سبيل الاتفاق ، ولا يتوقف حصولها على فعل فاعل مختار.

وأما القسم الثاني : فهو مثل الأشكال الواقعة على وفق المصالح والمنافع. ونذكر منها مثالا واحدا : وهو أنا لما نظرنا إلى الإبريق ، رأينا فيه ثلاثة أشياء :

أحدهما : الرأس الواسعة. وثانيها : البلبلة الضيقة. وثالثها : العروة. فلما تأملنا في هذه الأجزاء الثلاثة ، ووجدناها موافقة لمصلحة الخلق ، فإنه لا بد من توسيع رأس الإبريق ، حتى يدخل الماء فيه بالسهولة ، لا بد من ضيق بلبلة الإبريق ، حتى يخرج منها الماء ، بقدر الحاجة. ولا بد لها من العروة ، حتى يقدر الإنسان على أن يأخذها بيده. فلما وجدنا هذه الأجزاء الثلاثة في الإبريق مطابقة للمصلحة : شهد عقل كل أحد بأن فاعل هذا الإبريق ، لا بد وأن يكون قد فعله بناء على الحكمة ، ورعاية للمصلحة. ولو أن قائلا قال : إن هذا الإبريق تكوّن بنفسه من غير قصد قاصد حكيم ولا فعل فاعل عالم. بل اتفق تكونه بنفسه كما اتفق تشكل هذه القطعة من الخزف بهذا الشكل الخاص ، من غير قصد [قاصد (٢)] حكيم ، ولا جعل جاعل عليم ، لشهدت الفطرة السليمة ، بأن هذا القول : قول باطل محال.

إذا عرفت هذه المقدمة ، فنقول : إنا لما شاهدنا في الإبريق هذه الأجزاء الثلاثة مطابقة للمنفعة ، وموافقة للمصلحة ، شهدت الفطرة الأصلية ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

والغريزة الفطرية ، بأنه لا بد لها من فاعل حكيم ، ومقدر عليم.

فإذا تأملنا في السموات وفي الكواكب ، وفي أحوال العناصر الأربعة ، وفي أحوال الآثار العلوية ، والمعادن والنبات والحيوان. ولا سيما الإنسان ، وجدنا من الحكم القاهرة ، والدلائل الباهرة ، ما غرقت العقول فيها ، وحارت الألباب في وصفها. لا جرم كانت هذه الاعتبارات بالدلالة على وجود الفاعل المختار ، الحكيم الرحيم : أولى. ومتى ثبت القول بالفاعل المختار ، فقد ثبت القول بحدوث العالم ، لا محالة [والله أعلم (١)]

__________________

(١) من (ت)

القسم الأول من هذه المقالة

في

الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ،

الدالة على أن مدبر العالم

يجب أن يكون فاعلا مختارا ،

لا علة موجبة

الفصل الأول

في

شرح منافع الشمس

نقول (١) : إن آثار الحكمة في تخليق الشمس ظاهرة من وجوه :

الأول : إنه سبحانه وتعالى قدر تحركات الكواكب الثلاثة العلوية ، على محيطات تداويرها : أن يكون مجموعها مع حركات مراكزها ، على محيطات حواملها ، مساوية لحركة الشمس الوسطى. فلا جرم صارت هذه الكواكب في ذرى تداويرها : مقارنة للشمس. وفي حضيض تداويرها مقابلة لها. وأما السفليات فجعلت حركة مركز تدويرها : مساويا لحركة الشمس الوسطى. فلا جرم قد استوفت الحكمة البالغة : أقسام الحركة في مراكز التداوير التي عليها مدار الأدوار. فإن حركة مركز تدوير السفلين : مساوية لحركة جرم الشمس. وحركات مراكز التداوير الثلاثة العلوية : أنقص من حركة الشمس. وحركة مركز تداوير القمر : أسرع من حركة الشمس. وبهذا الطريق يظهر أن الشمس بالنسبة إليها ، كالسلطان بالنسبة إلى العبيد. وسائر الكواكب يتحركون حولها على نسب مخصوصة ، موافقة للحكمة والمصلحة. بل نقول : إنه تعالى خلق الشمس في الفلك ، كالملك في العالم. فالكواكب كالجنود للملك، والأفلاك كالاقاليم ، والبروج كالبلدان ، والدرجات كالمحلات ، والدقائق كالأزقة. ولما كان الأمر

__________________

(١) قال الله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ. وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

كذلك ، لا جرم صار موضعها في الفلك المتوسط. كما أن دار الملك ، يجب أن تكون في وسط المملكة.

وبيانه : أن جملة العالم إحدى عشرة كرة ، خمسة منها فلك الشمس. وهي : فلك المريخ ، والمشتري ، وزحل ، وفلك الثوابت ، والفلك الأعظم. وخمسة أخرى في داخل فلك الشمس. وهي : فلك الزهرة ، وعطارد ، والقمر ، ثم الكرة اللطيفة وهي النار والهواء ، والكرة الكثيفة وهي الماء والأرض. فلما كانت الشمس كالسلطان لعالم الأجسام ، لا جرم جعل مكانها في وسط كرات العالم.

والوجه الثاني : أن القمر يزداد نوره وينتقص ، بسبب قربه من الشمس ، وبعده عنها. وكثيرون من الناس يزعمون : أن أنوار سائر الكواكب مقتبسة من الشمس. ولو لا أن جرم القمر ليس نوره نورا ذاتيا ، بل عرضيا مستفادا من الشمس ، وإلا لما عرض له الخسوف. [ولو لا الخسوف (١)] لتعذر معرفة موضعه الحقيقي من الفلك ، بسبب ما يحصل فيه من اختلاف المنظر ، لأجل قربه من الأرض. ولو لم يعرف الموضع الحقيقي للقمر ، لتعذر معرفة المواضع الحقيقية لسائر الكواكب. فكان حصول الخسوف للقمر ، كالمفتاح لمعرفة مواضع الأجرام النيرة الفلكية.

والوجه الثالث : أن الشمس إذا ظهرت ، اختفت بكمال شعاعها سائر الكواكب ، إلا أنها وإن خفيت ، إلا أن قوتها باقية. ولذلك فإنه يكون يوم من الصيف ، أحرّ من يوم آخر. وما ذاك إلا بسبب أن الشمس إذا قارنت في سيرها (٢) كوكبا حارا ، فإنه يزداد حر الهواء ، وبالضد منه في جانب البرد.

والوجه الرابع : إنا نرى جميع الحيوانات في الليل ، كالميتة. فإذا طلع نور الصبح (٣) ظهرت في أجساد الحيوانات ، نور الحياة. فيجري هذا ، مجرى

__________________

(١) من (ط).

(٢) ممرها (ط).

(٣) الشمس (ط ، س)

ما إذا قيل : إن طلوع نور الشمس نفخ في أبدان الحيوانات قوة الحياة. وكلما كان طلوع ذلك النور أتم ، كان ظهور قوة الحياة في الأبدان أكمل. ثم كلما طلع قرص الشمس رأيت الناس وسائر الحيوانات يخرجون من مساكنهم (١) ، ويبتدئون الحركة. وما دامت الشمس صاعدة إلى وسط سمائهم ، كانت حركتهم في الزيادة [والقوة (٢)] فإذا انحدرت الشمس من وسط السماء ، فكأنها أخذت في الضعف ، لا جرم أخذت حركات أهل تلك المساكن وقواهم في الضعف. ولا يزال كذلك إلى زمان غيبوبة الشمس. فإذا غابت وظهر الظلام في العالم ، استولى الخوف والفزع ، والفتور والنقصان على الخلق. ورجعت الحيوانات إلى بيوتها وأحجارها. فإذا غاب الشفق ، هدأت الأبدان وسكنت. وصارت كالميتة المعدومة. فإذا طلع الصبح عليهم ، عادت الأحوال المذكورة مرة أخرى. وهذا يدل على أنه تعالى دبر أحوال النّير الأعظم ، بحيث صار كالسلطان لعالم الأجسام في السموات وفي العناصر.

والوجه الخامس من منافع الشمس : أنها متحركة. فإنها لو كانت واقفة في موضع واحد ، لاشتدت السخونة في ذلك الموضع ، ولاشتد البرد في سائر المواضع ، لكنها تطلع في أول النهار من المشرق ، فيقع [نورها (٣)] على ما يحاذيها من جهة المغرب ، ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة ، حتى تنتهي إلى المغرب. فتشرق حينئذ على الجوانب الشرقية ، وحينئذ لا يبقى موضع مكشوف في الشرق والغرب ، إلا ويأخذ حظا من شعاع الشمس. وأما بحسب الجنوب والشمال ، فجعلت حركتها مائلة عن منطقة الفلك الأعظم ، فإنه لو لم يكن للشمس حركة في الميل (٤) ، لكان تأثيرها مخصوصا بمدار واحد ، فكانت سائر المدارات تخلو عن المنافع الحاصلة منه ، وكان يبقى كل واحد من المدارات على كيفية واحدة أبدا. فإن كانت حارة

__________________

(١) أمكنهم (ت)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) الليل (ط)

أفنت الرطوبات وأحالتها كلها إلى النارية. ولم تتكون المتولدات. فيكون الموضع المحاذي لممر الشمس على كيفية الاحتراق ، والموضع البعيد عنه على كيفية البرد ، والمتوسط بينهما [على كيفية (١)] متوسطة. فيكون في موضع : شتاء دائم ، فيه النهوة والفجاجة. وفي موضع آخر صيف دائم ، يوجب الاحتراق. وفي موضع آخر ربيع ، وآخر خريف. لا يتم فيه النضج. وأيضا : لو لم تكن عودات متتالية للشمس ، بل كانت تتحرك بطيئة ، لكان هذا الميل (٢) قليل النفع ، وكان التأثير شديد الإفراط ، فكان يعرض قريبا ، مما لو لم يكن ميل. ولو كانت حركتها أسرع من هذه ، لما كملت المنافع وما تمت. فأما إذا كان هناك ميل ، يحفظ [الحركة في جهة : ثم تنتقل عنها إلى جهة أخرى ، بمقدار الحاجة ، وتبقى في كل (٣)] جهة برهة من الدهر : تم بذلك تأثيرها وكملت منفعتها.

الوجه السادس من منافع وجود الشمس : إنه تعالى حركها. بحيث يحصل لها في الحركة أوج وحضيض ، فعند حصولها في الأوج تبعد عن الأرض ، وعند حصولها في الحضيض تقرب من الأرض. وبسبب القرب من الأرض ، تعظم السخونة من المواضع التي يحاذيها مدار الحضيض ، والسخونة جاذبة للرطوبات ، فلا جرم تجذب البخار إلى الجانب الذي يسامته حضيض الشمس ، وإذا انجذب البخار إلى ذلك الجانب ، انكشف الجانب الذي يحاذيه الأوج ، ولم يبق البحر على وجهه ، فصار أحد جوانب الأرض ، صالحا لمساكن الحيوانات البرية. لا سيما الإنسان الذي هو أشرف الحيوانات الموجودة في عالم الكون والفساد.

الوجه السابع من منافع الشمس : إن كان موضع تكون الشمس بعيد جدا عن مسامتها ، اشتد البرد فيه. مثل الموضعين اللذين تحت القطبين ، فإنه لا يتكوّن هناك حيوان، ولا ينبت فيه نبات ويكون هناك ستة أشهر نهارا ،

__________________

(١) من (س)

(٢) الليل (ط)

(٣) من (ط ، س)

وستة أخرى ليلا. ويكون هناك رياح عاصفة ، وتشتد ظلمته. ويدل عليه البحر الأرمني ، فإنه أقرب إلى مدار الشمس من الموضع المذكور بكثير ، مع أنه تشتد فيه الرياح العواصف ، وتشتد ظلمته ، حتى لا يمكن ركوبه لشدة برده وظلمته. ويستدل عليه أيضا بالبحر الشامي، فإنه إذا صارت الشمس في أوائل «العقرب» إلى أن تصير إلى أوائل «الحوت» ففي هذه الأشهر لا يستطيع الناس ركوبه.

والوجه الثامن : أن الاستقراء يدل على أن السبب الظاهر لاختلاف الناس في أجسامهم وألوانهم وأخلاقهم وطبائعهم وسيرهم : [اختلاف (١)] أحوال الشمس في الحركة. وذلك لأن الناس على ثلاثة أقسام. أحدها : الذين يسكنون (٢) خط الإستواء إلى ما يقرب من المواضع التي يحاذيها ممر رأس «السرطان» وهم يسمّون بالاسم العام : «السودان» والسبب فيه أن الشمس تنزل على سمت رءوسهم في السنة. إما مرة أو مرتين ، فتحرقهم وتسود أبدانهم وشعورهم. والذين مساكنهم أقرب إلى خط الإستواء فهم «الزنج» و «الحبشة» فإن الشمس لقوة تأثيرها في مساكنهم تحرق شعورهم وتسودها ، وتجعلها جعدة وكثيفة فحلة ، وجثثهم عظيمة ، وأخلاقهم وحشية ، وأما الذين مساكنهم [أقرب (٣)] إلى محاذاة ممر رأس السرطان ، فالسواد فيهم أقل ، وطبائعهم أعدل ، وأخلاقهم ألين ، وأجسامهم أضعف. وهم أهل «الهند» و «اليمن» وبعض «المغاربة» [وكل العرب (٤)]

وأما القسم الثاني من أهل الأرض : فهم الذين مساكنهم على ممر رأس «السرطان» إلى [محاذاة (٥)] «بنات نعش الكبرى» وهم يسمّون بالاسم العام «البيضان» وهؤلاء لأجل أن الشمس لا تسامت رءوسهم ، ولا تبعد أيضا عنهم بعدا

__________________

(١) من (ت)

(٢) يكونون بخط (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (ت)

(٥) من (س)

كثيرا ، تعرض لهم شدة من الحر والبرد ، فلا جرم صارت ألوانهم متوسطة ، ومقادير أجسامهم معتدلة ، وأخلاقهم حسنة ، كأهل «الصين» و «الترك» و «خراسان» و «العراق» و «فارس» و «الشام» ثم هؤلاء من كان منهم أميل إلى ناحية الجنوب كان أتم في الذكاء والفهم (١) ، لقربه من منطقة «البروج» و «ممر الكواكب المتحيرة» وتكون حركاتهم أليق بحركات الكواكب في السرعة والخفة. ومن كان منهم أميل إلى ناحية المشرق ، فهو أقوى نفسا وأشد تذكيرا ، لأن المشرق يمين الفلك ، لأن الكواكب منه تطلع ، والأنوار من جانبه تظهر ، واليمين أقوى. ومن كان إلى ناحية المغرب فهو ألين نفسا وأشد تأنسا ، وأكثر كتمانا للأمور. لأن هذه الناحية منسوبة إلى «القمر» ومن شأن «القمر» [أن يكون (٢)] ظهوره بعد الكتمان.

وأما القسم الثالث من أهل الأرض : فهم الذين مساكنهم محاذية لبنات نعش. وهم «الصقالبة (٣)» و «الروس» فإنهم لكثرة بعدهم عن ممر «البروج» وحرارة «الشمس» صار البرد عليهم أبرد (٤) ، والرطوبة الفصلية أكثر. لأنه ليس هناك من الحر ما ينشفها وينضجها ، فلذلك صارت ألوانهم بيضاء ، وشعورهم سبطة شقرة ، وأبدانهم عظيمة رخصة ، وطبائعهم مائلة إلى البرد ، وأخلاقهم وحشية.

واعلم : أن كل واحد من هذين الطرفين. وهما الإقليم الأول والسابع ، فإنه يقل فيه العمران ، وتنقطع بعض العمارات عن بعض ، لغلبة الكيفيتين الفاعلتين ، ثم لا تزال العمارة في الإقليم الثاني والسادس والثالث والخامس تزداد ويقل الخراب فيه وأما الإقليم الرابع فإنه متواصل العمارات ، ويقل الخراب فيه.

__________________

(١) المؤلف يرحمه‌الله تعالى برحمته الواسعة من الريّ.

(٢) من (ت)

(٣) يقال : إن الروس من ولد يافث ، والعرب من ولد سام ، والأفارقة من ولد حام بن نوح عليه‌السلام. ونسي القائلون بهذا القول : أنه خرج مع نوح عليه‌السلام من السفينة : جماعة من المؤمنين ، صار لهم في الأرض نسل بعد الطوفان.

(٤) أغلب (ت)

وذلك لأجل فضل الوسط على الأطراف باعتدال المزاج.

وكل هذه الأحوال : دالة على أن أحوال هذا العالم مربوط بأحوال الشمس.

فإن قيل : زعمتم : أن الإقليم الرابع أفضل الأقاليم. وعليه سؤالان :

الأول : أن الأدوية النافعة لا يتولد شيء منها في الإقليم الرابع ، وإنما يتولد في سائر الأقاليم.

والثاني : إنه لم يخرج من هذا الإقليم أحد من الأنبياء [والرسل (١)]

والجواب عن الأول : إن الدواء إنما يكون دواء ، إذا كانت إحدى الكيفيات غالبة ، وكانت القوة الشمسية غالبة عليه. وهذا إنما يتولد في الأقاليم الخارجة عن الاعتدال.

أما الإقليم الرابع. فإنه لما كان معتدلا ، لا جرم لا يتولد فيه إلا الأجسام الغذائية المعتدلة. أما الأجسام الدوائية ، فإنها لا بد وأن تكون خارجة عن الاعتدال. فلهذا السبب لا تتولد الأدوية في هذا الإقليم.

والجواب عن السؤال الثاني : إن عقول أهل الإقليم الرابع كاملة ، غزيرتهم (٢) متوافرة، وبعضهم يقرب من البعض في الكمال ، فلا جرم لم يخرج منهم الأنبياء. أما سائر الأقاليم فالنقصان غالب عليهم ، فإذا اتفق خروج إنسان كامل عظيم الكمال ، لا جرم ظهر التفاوت ، منتهيا إلى حد الإعجاز [والله أعلم (٣)]

والوجه التاسع من أحوال الشمس : أن المواضع التي تسامتها الشمس على قسمين :

__________________

(١) من (ت)

(٢) غريزة (ط ، ت)

(٣) من (ت)

أحدهما : مواضع حضيضية. لغاية (١) قربها من الأرض. وهذا المواضع هي البراري الجنوبية ، وهي محترقة نارية ، لا يتكون فيها حيوان. وأما المواضع (٢) المقارنة لتلك المواضع ، فسكانها كلهم سود الألوان ، لأجل احتراق موادهم وجلودهم ، بسبب ذلك الهواء المحترق بالشمس. وأما المواضع المسامتة الأوجه (٣) في جانب الشمال ، فهي غير محترقة بل معتدلة. ثم قد ثبت في «المجسطي» أن التفاوت الحاصل بسبب قربها وبعدها من الأرض : قليل. وبسبب حصول ذلك القرب القليل ، صار الجانب الجنوبي محترقا. فعلمنا بهذا الطريق : أن الشمس لو حصلت في فلك الثوابت ، لفسدت الطبائع من شدة البرد. ولو أنها انحدرت إلى فلك القمر ، لاحترق هذا العالم بالكلية. فلهذا السبب قدّر الحكيم [الرحيم (٤)] الناظر لعباده : أن جعل الشمس وسط الكواكب السبعة ، لتكون بحركتها الطبيعية المعتدلة ، وقربها المعتدل تبقى الطبائع والمطبوعات في هذا العالم على حد الاعتدال.

فأما أهل الإقليم الأول ، فلأجل قربهم من الموضع لحضيض الشمس ، كانت سخونة هوائهم شديدة ، فلا جرم هم أكثر سوادا ، لأن تأثير الشمس فيهم عظيم. وأما أهل الإقليم الثاني ، فهم سمر الألوان. وأما الإقليم الثالث والرابع فأعدل الأقاليم مزاجا بسبب اعتدال الهواء. وأيضا : فغاية ارتفاع الشمس إنما يكون عند كونها في أبعد بعدها عن الأرض ، فلا جرم صار أهل هذا الإقليم ، موصوفين بالصفات الكريمة ، والصور الجميلة.

وأما الإقليم الخامس ، فإن سخونة الهواء هناك ، أقل من الاعتدال بمقدار يسير ، فلا جرم صار في حيز البرد والثلوج ، وصارت طبائع أهله أقل نضجا من طبائع أهل الإقليم الرابع. إلا أن بعدهم عن الاعتدال قليل. وأما

__________________

(١) وغاية قربه (ت ، ط)

(٢) البلاد (ت)

(٣) لا توجد (ت)

(٤) من (ط ، س)

[أهل (١)] الإقليم السادس والسابع فأهلهم فجيون ، ولغلبة البرد والرطوبة عليهم ، اشتد بياض ألوانهم ، وزرق (٢) عيونهم ، وعظمت وجوههم ، واستدارت. فقد تبين : أن اختلاف طبائع الناس في صورهم وأشكالهم وألوانهم ، بسبب اختلاف [أحوال (٣)] الشمس في القرب والبعد ، وأما اختلاف الناس في الأخلاق والطبائع ، فهو تابع لاختلاف أمزجتهم. فإن الوهم المؤثر الذي للهند ، لا يكاد يوجد في غيرهم ، وكذلك الشجاعة في الترك ، وسوء الخلق (٤) في المغاربة ، لا يوجد مثله للمشارقة.

الوجه العاشر من تأثيرات الشمس : اختلاف الفصول الأربعة ، بسبب انتقالها في ارباع الفلك. ولا شك : أن السبب في تولد النباتات ونضجها وكمال حالها ، ليس إلا هذه الفصول الأربعة. [فلما كان السبب لحدوث الفصول الأربعة هو الشمس (٥)] والسبب لتولد الحيوانات هو النبات ، صارت الشمس كالأصل لكل حوادث هذا العالم.

الوجه الحادي عشر في تأثير الشمس في النبات : وهو من وجوه :

أحدهما : إن الشمس إذا تباعدت عن سمت الرأس ، اشتد البرد في الهواء ، واستولى البرد على ظاهر الأرض. فيقوى الحر في باطن الأرض ، ويتولد فيه الأبخرة اللطيفة ، الموافقة لتكون المعادن ، وانفلاق الحب في بطن الأرض [فإذا مالت الشمس إلى سمت الرءوس ، وزوال البرد ، واعتدل الهواء ، خرجت تلك الشظايا من بطن الأرض (٦) إلى ظهرها. ثم إن الهواء المسخن بسبب قوة الشمس ، الشمس تؤثر فيه. فيحصل النضج والكمال في الزروع والثمار.

__________________

(١) من (ت)

(٢) ودقة (ت)

(٣) من (س)

(٤) الأخلاق (ط)

(٥) من (س)

(٦) من (س)

وثانيها : إن تأثير الشمس في النبات ، بسبب الحركة اليومية محسوس. والدليل عليه: أن الريحان الذي يقال له : النيلوفر ، والأذيرون ، وورق الخروع ، وغيرها فإنها تنمو ، وتزداد عند أخذ الشمس في الارتفاع والصعود. فإذا غابت الشمس ضعفت وذبلت.

وثالثها : إن الزروع والنباتات لا تنمو ولا تنشأ ، إلا في المواضع التي تطلع عليها الشمس ، أو يصل إليها قوة حرها.

ورابعها : إن وجود بعض أنواع النبات في بعض البلاد [في الحر والبرد (١)] دون البعض ، لا سبب له [إلا اختلاف البلدان في الحر والبرد ، الذي لا سبب له (٢)] إلا حركة النير الأعظم ، فإن النخيل ينبت في البلاد الحارة ، ولا ينبت في البلاد الباردة. وكذلك [شجر (٣)] الأترج ، والليمون والموز ، لا ينبت في البلاد الباردة. وفي الإقليم الأول تنبت الأفاوية الهندية التي لا تنبت في سائر الأقاليم. وفي البلاد الجنوبية التي وراء خط الإستواء تنبت أشجار وفواكه وحشائش ، لا يعرف شيء منها في بلاد الشمال. وأما الحيوانات فيختلف الحال في توالدها باختلاف حرارة البلاد برودتها ، فإن الفيل والعلقم والببر ، توجد في أرض الهند ، ولا توجد في سائر الأقاليم التي تكون دونها في الحرارة. وكذلك المسك والكركدن. وقد يوجد بعضها في البلاد التي هي أشد حرارة من بلاد الهند ، فإن الفيلة توجد في سائر البلدان. حتى في البلاد الجنوبية التي هي بلاد السودان ، أعظم جسوما وأطول أعمارا. وأما انعقاد الأجسام السبعة ، والأحجار والمعادن. فمعلوم : أن السبب فيها بخارات تتولد في باطن الأرض بسبب تأثير الشمس. فإذا اختفت تلك البخارات في قعور الجبال ، وأثرت الشمس في نضجها ، تولدت المعادن. وأما الأمطار وسائر الآثار العلوية ، فلا شك في أن تكونها من الأبخرة والأدخنة ، ولا شك أن تولدها بقوة الشمس.

فلنكتف بهذا القدر من منافع الشمس.

__________________

(١) من (س)

(٣) من (ت).

(٢) من (ت)

الفصل الثاني

في

منافع القمر

اعلم : أن القمر لا نسبة له إلى الشمس في كبر الجسم ، وقوة التأثير البتة. إلا أن له [أيضا (١)] قوة عظيمة في التأثير في هذا العالم.

قال أهل التحقيق : تأثير الشمس في الحر والبرد أظهر. وتأثير القمر في الرطوبة والجفاف أقوى. وقولنا : «الشمس تؤثر في الحرارة والبرودة» : نعني به : أنها عند القرب تفيد الحرارة ، وعند البعد تفيد البرودة. وكذا حال القمر مع الرطوبة والجفاف.

والذي يدل على ما ذكرناه أنواع (٢) :

[النوع الأول (٣)] : أن أصحاب التجارب : [قالوا (٤)] : إن من البحار ما يأخذ في الازدياد من حين يفارق القمر الشمس ، إلى وقت الامتلاء. ثم إنها تأخذ في الانتقاص بعد الامتلاء ، ولا يزال يستمر ذلك الانتقاص بحسب نقصان نور القمر ، حتى ينتهي إلى غاية نقصانه عند حصول المحاق ، ثم يأخذ في الازدياد مرة أخرى كما في الدور [الأول (٥)] ومن البحار ما يحصل

__________________

(١) من (ط)

(٢) من وجوه (ت ، ط)

(٣) زيادة

(٤) من (س)

(٥) من (ط ، س)

فيه المد والجزر في كل يوم وليلة ، مع طلوع القمر وغروبه. وذلك موجود في بحر فارس وبحر الهند. وكذلك أيضا في بحر الصين. وكيفيته : أنه إذا بلغ القمر مشرقا من مشارق البحر ، ابتدأ البحر بالمد ، ولا يزال كذلك إلى أن يصير القمر إلى وسط سماء ذلك الموضع ، فعند ذلك يبلغ المد منتهاه. فإذا انحط القمر من وسط ذلك الموضع ، جزر الماء ورجع إلى البحر. ولا يزال كذلك راجعا إلى أن يبلغ مغربه (١) ، فعند ذلك ينتهي الجزر منتهاه. فإذا زال القمر من مغرب ذلك الموضع ، ابتدأ المد هناك في المرة الثانية ، ولا يزال زائدا إلى أن يصل القمر إلى وتد الأرض ، فحينئذ ينتهي المد منتهاه في المرة الثانية. ثم يبتدئ الجزر ثانيا ويرجع الماء إلى البحر ، حتى يبلغ القمر أفق ذلك الموضع ، فتعود الحالة المذكورة مرة أخرى. ولأن الأرض مستديرة ، والبحر محيط بها على استدارتها ، والقمر يطلع [عليها (٢)] كلها في مقدار اليوم والليلة. فكلما تحرك القمر قوسا ، صار موضع القمر أفقا لموضع آخر ، من مواضع البحر. [وصار (٣)] ذلك الموضع وسط سماء لموضع آخر ومغربا لموضع آخر ، ووتد الأرض لموضع آخر. وفيما بين كل وتد من هذه الأوتاد ، تحصل أحوال اخرى. فلا جرم يحصل لأجل هذه الأسباب ، أحوال مختلفة مضطربة في البحر.

واعلم : أن سكان البحر كلما رأوا في البحر انتفاخا وهيجان رياح عاصفة ، وأمواج شديدة : علموا : أنه ابتدأ المد. وإذا ذهب الانتفاخ ، وقلت الأمواج والرياح : علموا : أنه وقت الجزر. وأما أصحاب الشطوط والسواحل ، فإنهم يجدون عندهم في وقت المد للماء : حركة من أسفله إلى أعلاه. فإذا رجع الماء ، ونزل فهناك وقت الجزر.

النوع الثاني من آثار القمر : إن [أبدان (٤)] الحيوانات في وقت زيادة ضوء القمر ، تكون أقوى وأسخن ، وبعد الامتلاء تكون أضعف [وأبرد (٥)]

__________________

(١) مبلغة (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ت)

(٤) من (س)

(٥) من (س)

وتكون الأخلاط التي في بدن الإنسان ما دام القمر زائدا في ضوئه ، فإنها تكون أزيد. ويكون ظاهر البدن أكثر رطوبة وحسنا ، فإذا أنقص [ضوء (١)] القمر ، صارت هذه الأخلاط في غور البدن والعروق ، وازداد ظاهر البدن يبسا.

والنوع الثالث : اختلاف أحوال البحرانات ، وتفاوت أيامها ، وكل ذلك مبني على زيادة نور القمر ونقصانه.

والنوع الرابع : شعر الحيوان. فإنه ما دام القمر زائدا في ضوئه ، يسرع نباته ويغلظ ويكثر. فإذا أخذ ضوء القمر في الانتقاص ، أبطأ نباته ولم يغلظ. وأيضا : ألبان الحيوانات في أول الشهر إلى نصفه ، ما دام القمر زائدا في الضوء ، فإذا نقص [ضوء (٢)] القمر نقصت غزارتها (٣)]. وكذلك أيضا : أدمغة الحيوانات ، تكون زائدة في أول الشهر ، عما في آخره. وكذا القول في بياض البيض. ثم قالوا : بل هذه الأحوال تختلف بسبب اختلاف حال القمر في اليوم الواحد. فإن القمر إذا كان فوق الأرض في الربع الشرقي ، فإنه تكثر ألبان الضروع ، وتزداد أدمغة الحيوانات. فإذا زال القمر وغاب عنهم ، نقص نقصانا ظاهرا.

وهذه الاعتبارات تظهر عند الاستقراء ، ظهورا بينا. ومما يقوي : ذلك : أن الإنسان، إذا قعد أو نام في ضوء القمر ، حدث (٤) في بدنه الاسترخاء والكسل ، وتهيج عليه الزكام والصداع ، وإذا وضعت لحوم الحيوانات مكشوفة تحت ضوء القمر ، تغيرت طعومها وروائحها.

والنوع الخامس : إنه يوجد السمك في البحار والآجام والمياه الجارية. وإذا كان من أول الشهر إلى الامتلاء. فإنها تخرج من قعور الآجام والبحار ،

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) زيادتها (ت)

(٤) ظهر (ت)

ويكون سمنها أزيد. وأما من بعد الامتلاء [إلى الاجتماع (١)] فإنها تدخل في القعور [وينقص سمنها (٢)] وأما في اليوم بليلته ، فما دام القمر مقبلا [من المشرق (٣)] إلى وسط السماء ، فإنها تخرج سمينة ، فإذا زال القمر عادت في أجحرتها ، ولا تكون في غاية السمن. وكذلك أيضا هوام (٤) الأرض [يكون (٥)] خروجها من أجحرتها في النصف الأول من الشهر ، أكثر من خروجها في النصف الثاني.

النوع السادس : إن الأشجار والغروس إذا غرست. والقمر زائد الضوء [ومقبل (٦)] إلى وسط السماء : قويت وكثرت [ونشأت (٧)] وحملت النبات. وإن كان ناقصا في الضوء زائلا عن وسط السماء ، كان بالضد ، وكذا القول في الرياحين والبقول والأعشاب ، فإنها تكون أزيد نشوءا ونموا إذا كان القمر من الاجتماع إلى الامتلاء. وأما في النصف الثاني (٨) من الشهر ، فالحال بالضد من ذلك. والقرع والقثاء والخيار والبطيخ ينمو نموا بالغا عند ازدياد الضوء ، فأما وسط الشهر عند فصول الامتلاء ، فهناك يعظم النمو ، حتى أنه يظهر التفاوت في الحس في الليلة الواحدة. وكذلك المعادن والينابيع. فإنها تزداد في النصف الأول من الشهر ، وتنقص في النصف الثاني منه. وذلك معروف عند أصحاب المعادن.

واعلم : أن القمر إنما كان قوي التأثير [في هذا العالم (٩)] لثلاثة أوجه :

__________________

(١) من (س)

(٢) من (س)

(٣) من (س)

(٤) حرشة (ط)

(٥) من (ط)

(٦) من (ت)

(٧) من (ط)

(٨) الأخير (ط)

(٩) من (س)

أحدها : إن حركات القمر سريعة ، وتغيرات [هذا العالم (١)] كثيرة ، [وأما سائر الكواكب فحركتها بطيئة ، وتغيرات هذا العالم كثيرة (٢)] فكان إسناد تغيرات هذا العالم ، مع كثرتها [إلى حركات (٣)] القمر أولى.

والثاني : إنه أقرب الكواكب من هذا العالم ، فكان بالتأثير فيه أولى.

الثالث : إن القمر بسرعة حركاته ، يمزج أنوار بعض الكواكب بأنوار الباقي. ولا شك أن امتزاجاتها ، مبادي لحدوث الحوادث في هذا العالم. فكان القمر هو المبدأ القريب.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

الفصل الثالث

في

أحوال سائر الكواكب

واعلم أن منافع الكواكب كثيرة. ومن العجائب : أن الكرات السبعة التي هي منازل السيارات السبعة : قدرها الحكيم الرحيم بحيث يحصل للكواكب فيها صعود إلى الأوج ، ونزول إلى الحضيض. فأحاط بهذه الكرات السبعة : كرتان عظيمتان. أدونهما كرة الكواكب الثابتة ، وأعلاهما الفلك الأعظم. وحصل في داخل الكرات السبعة : كرتان :

إحداهما : كرة الجسم اللطيف ، وهي كرة الهواء والنار. والأخرى : كرة الجسم الكثيف، وهي كرة الماء والأرض. فالكرتان العاليتان ـ أعني كرتي الثوابت والفلك الأعظم ـ هما : الفاعلتان والكرتان الداخلتان ـ أعني كرتي اللطيف والكثيف ـ هما : المنفعلتان ، والكواكب السبعة المركوزة في الكرات السبعة ، كالآلة والأداة فهذه الكواكب إذا تصاعدت إلى أوجاتها ، فكأنها تأخذ القوى من الكرتين العاليتين ، وإذا هبطت حضيضاتها ، وقربت من العالم الأسفل ، فكأنها تؤدي تلك الآثار إلى هذا العالم الأسفل ومن الأحوال العجيبة : أن هذه الكواكب السبعة ، لكل واحد منها حركات ست ، فهي تتحرك بطباعها من المغرب إلى المشرق ، بسبب تحريك الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب. وأيضا : فهي تميل تارة إلى الشمال ، وأخرى إلى الجنوب. وأيضا : فهي تتحرك تارة إلى فوق ، وذلك عند صعودها إلى أوجاتها ، وأخرى إلى أسفل ، وذلك عند هبوطها إلى حضيضاتها. فهذه حركات ست ، حاصلة لكل

واحد من تلك السبعة. فهي اثنان وأربعون حركة ، وينضم إليها حركة فلك الثوابت. بطبعه من المشرق إلى المغرب ، وبالقسر على الضد. فالمجموع : أربعة وأربعون ، وتنضم إليها الحركة البسيطة الحاصلة للفلك الأعظم ، فيكون المجموع : خمسة وأربعون نوعا من الحركة. ثم إذا اعتبرنا أنواع الحركات الحاصلة ، بسبب حركات الأفلاك الممثلة (١) والحاملة والتدويرات ، كثرت الحركات جدا ، فإذا امتزجت واختلطت بلغت تلك الكثرة إلى اللانهاية ، وكلها واقعة على وجه يحصل بسببها نظام هذا العالم ، على الوجه الأصوب الأكمل.

ومن عجائب أحوال هذه الحركات : أن في حركات الأفلاك قولان :

فالقول الأول : وهو المشهور : أن أسرع الكرات حركة ، هو الفلك الأعظم. فإنه يتحرك في اليوم والليلة على التقريب : دورة تامة من المشرق إلى المغرب ، وأما الفلك الذي حصل مماسا له في داخله ، وهو فلك الثوابت. فإنه يتحرك على مذهب المتقدمين ، في كل مائة سنة : درجة واحدة. وعلى مذهب المتأخرين في كل ست وستين سنة : درجة واحدة. ثم اختلفوا ، فمنهم من قال : هذا التفاوت إنما كان ، لأن المتقدمين غلطوا في الرصد ، وأما المتأخرون فقد تنبهوا لذلك الغلط.

ومن المحققين [من قال (٢)] نسبة هذا الغلط إلى المتقدمين ، كالبعيد جدا ، وذلك لأن [رصد (٣)] عطارد ، كالمتعذر عند العقل. وذلك لأنه ليس له بعد كثير من الشمس البتة. وإنما يظهر أياما قلائل. وفي تلك الأيام فهو كوكب صغير الجرم ، وليس (٤) له نور قاهر ، حتى يسهل ضبطه في آلات الرصد ، فمع هذه الصعوبة التامة ، صارت أرصاد المتقدمين وافية بضبط

__________________

(١) المهملة (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) من (ت)

(٤) وليس كونه ظاهرا (ت)

حركاته ، ومعرفة أفلاكه ، فلما لم يتفق لهم الغلط البتة في هذا المقام الصعب ، فكيف يتفق لهم الغلط في حركات الكواكب الثابتة ، مع عظم أجرامها ، وقوة أنوارها؟ بل السبب في حصول هذا التفاوت : أنه حصل فوق كرة الثوابت وتحت الفلك الأعظم : كرة أخرى ، وقطب فلك الثوابت منطبق على نقطة من تلك الكرة التي ذكرناها انطباقا ، ليلزم من حركة هذه الكرات : وصول قطب فلك الثوابت إلى حيث يصير منطبقا على (١) قطب الفلك الأعظم ، فلأجل هذه الحالة ، يصير مقدار الميل الأعظم متناقضا أبدا ، وتصير حركات الثوابت أسرع في النظر والحس.

والقول الثاني : إن الحركات الفلكية كلها آخذة من المشرق إلى المغرب. وأسرعها هو الفلك الأعظم ، ويليه في السرعة حركة فلك الثوابت. فإنا إذا فرضنا أن الفلك الأعظم ، وفلك الثوابت أخذا في الحركة من نقطة معينة ، فإذا وصل الفلك الأعظم في اليوم الثاني [إلى (٢)] عين تلك النقطة ، فإن فلك الثوابت لا يصل في ذلك المقدار إلى عين تلك النقطة بل يتخلف عنها بشيء قليل. فإذا اجتمعت تلك المقادير ، وقع في الحس ، كأن الكواكب الثابتة تتحرك من المغرب إلى المشرق ، وليس الأمر كذلك. وإنما وقع الأمر على هذا الوجه في الحس ، للسبب الذي ذكرناه. وأصحاب هذا القول ، قالوا : إن هذا القول ، قالوا : إن هذا القول أولى من القول [الأول (٣)] ويدل عليه وجهان :

الأول : إن هذا القول أقرب إلى العقل. فإن المحيط الأصلي هو الفلك الأعظم. فأسرع الحركات له. ثم الذي يليه أبطأ منه ، وأسرع داخله. وعلى هذا التقدير فأبطأ الحركات الفلكية : فلك القمر ، وبعده كرة النار ، ثم كرة الهواء. وأما حركات الماء والبحر (٤) ففي غاية البطء ، وأما الأرض ففي غاية

__________________

(١) على القطب الأعظم (ت)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط ، س)

(٤) والشجر (ت)

السكون. فالمحيط له الحركة ، والمركز له السكون. وكل ما كان أقرب إلى المحيط ، كان أسرع حركة. وكل ما كان أقرب إلى المركز ، كان أبطأ ، حتى انتهى الأمر إلى غاية السكون. فهذا أمر معقول مناسب.

والثاني : إن فلك الثوابت حال حركتها بطبعه إلى المشرق ، هل يتحرك بتحويل الفلك الأعظم إلى المغرب؟ أو يقال : إنه في أحد الزمانين يتحرك بطبعه إلى أحد الجانبين ، وفي الزمان الثاني يتحرك بالقسر إلى الجانب الثاني ، فلا تحصل الحركتان معا ، في ذلك الجسم؟ والأول باطل. لأنه إذا تحرك بطبعه إلى هذا الجانب ، فقد حصل في هذا الجانب. وإذا تحرك بسبب القسر إلى ذلك الجانب ، فقد حصل في ذلك الجانب. فلو اجتمع هاتان الحركتان ، لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في مكانين ، وذلك محال. والعلم بامتناعه بديهي. سواء قلنا : إنه حصلت الحركتان طبيعيتين أو قسريتين ، أو إحداهما طبيعية ، والأخرى قسرية.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه يحصل إحدى الحركتين في زمان ، والحركة الثانية في زمان آخر ، فحينئذ يلزم انقطاع الحركات الفلكية وعدم بقائها. وذلك محال. وهؤلاء الناس رجحوا هذا القول على القول الأول بهذين الوجهين. وأما أصحاب القول الأول ، فقالوا : لو كان الأمر على هذا التقدير ، فحينئذ قد دارت الشمس دورة واحدة بالتمام في اليوم الواحد ، وإنما حصول التخلف بمقدار وسط الشمس ، ولو كان الأمر كذلك ، لوجب أن تتخلف أحوال الأظلال ، كما تتخلف عند كون الشمس في أول السرطان ، وفي أول الجدى. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا هذا القول.

واعلم : أن العجائب حكمة الله [تعالى (١)] في تخليق السموات والكواكب ، لا تصير معلولة ، إلا عند معرفة الأفلاك والكواكب بالتمام. ولما كان ذلك [الأمر (٢)] كالمعتذر ، لا جرم كانت معرفة القليل من أحوال الأفلاك والكواكب : كثيرة بالنسبة إلى العقول البشرية [والله أعلم (٣)]

__________________

(١) من (ت)

(٣) من (ت)

(٢) من (ت)

الفصل الرابع

في

آثار حكمة الله في العالم الأسفل

اعلم : أن المعتبر في العالم الأسفل : إما الأمهات ، أو المواليد. فمراتبها ستة :

الأول : اعتبار أحوال الآثار العلوية.

والثاني : اعتبار أحوال المعادن.

والثالث : اعتبار أحوال النبات.

والرابع : اعتبار أحوال الحيوان.

والخامس : اعتبار تشريح أبدان الناس.

والسادس : اعتبار تشريح نفس الإنسان.

وتشتمل على هذه المراتب (١) الستة : كتب ستة على الاستيفاء والاستقصاء. وسنستوفي القول (٢) فيها في هذا الكتاب (٣) إن قدر الله ذلك :

فأما اعتبار أحوال الأمهات الأربعة : فنقول : أما الأرض. فقد ثبت في العلوم الرياضية (٤) : أن المعمور منها سدسها.

__________________

(١) الأبواب (ط)

(٣) الباب (ت)

(٢) القول في الكلام فيها (ت)

(٤) علم الرياضة (ت)

وأما الباقي فمغمور في الماء. ثم إن هذا السدس على أربعة أقسام :

أحدها : البحار السبعة. وثانيها : الجبال. وثالثها : المفاوز. ورابعها : العمرانات ، فإذا قسنا أحوال العمرانات ، وجدتها بالنسبة إلى الأقسام الثلاثة الباقية ، كالقطرة في البحر ، ومع ذلك فإن تلك الأقسام الثلاثة : كأنها مخلوقة لمصالح هذا القسم الرابع.

أما البحار فلأجل أن يقدر الإنسان بواسطة ركوب البحر من نقل الأمتعة من بعض جوانب الأرض إلى الجانب الآخر. وأما المفاوز (١). فلأجل أن الأهوية تتعفن بسبب نفس الحيوانات ، والأبخرة المنفصلة منهم. فلما كان أكثر أهوية العالم هو أهوية المفاوز الخالية ، لا جرم اندفعت العفونات عن الأهوية ، وصلحت لمعيشة الحيوانات. وأما الجبال فإنها تحتقن تحتها البخارات ، وتنفجر منها الأدوية والعيون ، وتنصب إلى المواضع القابلة للعمارات. فهذه الأقسام الثلاثة ، وإن كانت أوسع وأكبر إلا أنها مخلوقة لمصالح هذا القسم الرابع وهو العمرانات.

واعلم أنه كلما كان وقوف الإنسان على آثار حكمة الله تعالى في العالم الأعلى والعالم الأسفل : أكثر ، كان إقراره بأنه الإله الحكيم الرحيم : أتم [وبالله التوفيق (٢)]

__________________

(١) المعادن (ت)

(٢) من (ط)

القسم الثاني من هذه المقالة

في

الدلائل المستنبطة من القرآن المجيد

في اثبات أن إله العالم

قادر حكيم مختار رحيم

أنواع الدلائل على أن إله

العالم قادر حكيم ، مختار رحيم

اعلم (١) : أنا قد بالغنا في شرح هذا الباب في «التفسير الكبير (٢) ونحن نذكر هاهنا جملا وأصولا [فنقول :

النوع الأول (٣)] :

اعلم : أن الاستدلال بخلق السموات والأرض على وجود الإله القادر الحكيم : كثير الورود في القرآن. وقد علمت : أن الخلق عبارة عن التقدير. فوجب علينا أن نبين أقسام التقدير والتدبير في أجرام السموات ، وجميع هذه الوجوه مبنية على تماثل الأجسام [فنقول (٤)] :

أما الوجه الأول : فهو أن الأجسام الفلكية والعنصرية متشاركة (٥) في تمام

__________________

(١) اعلم أن سبب تحقيقي لكتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» : هو أن الاستاذ الدكتور عبد الغني عوض الراجحي ، كان يدرس لنا مادة التفسير في السنة الأولى والثانية في كلية اللغة العربية جامعة الأزهر ١٩٦٤ ـ ١٩٦٥ وكان يكثر من الثناء والمدح على الإمام فخر الدين. ويقول أحيانا : وهذا الكلام الذي أقوله لكم : من كتاب المطالب العالية. ومن ذلك الحين تعلّق خاطري بقراءة المطالب إذا شاء الله تعالى. ولما شاء الله لي قراءته ، وأخبرت الأستاذ الدكتور عبد الغني بأنني قرأته. طلب مني أن أحققه وأنشره ، فاستجبت له. وبدأت التحقيق في غرة رمضان سنة اثنتين وأربعمائة وألف من الهجرة في مدينة «الكويت»

(٢) سقط (ت ، ط)

(٣) من (ت)

(٤) متساوية (ط ، س)

الماهية. ولا شك أن الفلكيات مخالفة [للعنصريات (١)] بالصفات ، التي باعتبارها صارت الأفلاك : أفلاكا. والعناصر [عناصرا (٢)] فوجب أن يكون ذلك الاختصاص ليس لتلك الذوات ، ولا لشيء من لوازمها. فوجب أن يكون لأجل الفاعل المختار.

وأما الوجه الثاني : فهو أن كل واحد من الأفلاك مخالف للآخر في الصفات والمقادير. فوجب أن يكون ذلك لأجل الفاعل المختار.

وأما الوجه الثالث : فهو أن أجرام الأفلاك مخالفة لأجرام الكواكب في الصفات. ووجه الدلالة ما ذكرناه.

وأما الوجه الرابع : فهو أن أجرام الكواكب متساوية في الذوات ، ومختلفة في الصفات. فيعود الدليل المذكور.

أما الوجه الخامس : فهو أن العناصر متساوية في الجرمية ، ومختلفة في الصفات والأحياز.

وأما الوجه السادس : فهو أن المواليد الثلاثة متساوية في الجرمية ، ومختلفة في الصفات.

وأما الوجه السابع : فهو أن العناصر متساوية المواليد في الجرمية ، ومختلفة في الصفات.

وأما الوجه الثامن : فهو أن الأجرام الفلكية مختلفة في المقادير. لأن بعضها أعظم من بعض ، مع استوائها في الذوات.

وأما الوجه التاسع : فهو اختلاف مواقع أجزائها. فإن الفلك المعين وقع بعض أجزائه في عمقه ، وداخل ثخنه ، وبعضها في خارج سطحه.

وأما الوجه العاشر : فهو اختلافها في كيفية الحركات. فبعضها سريعة ،

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، س)

وبعضها بطيئة. بل نقول : هذا المعنى حاصل في الفلك الواحد ، فإنه إذا استدار الفلك ، فكل نقطة تفرض في سطحه فقد استدارت أيضا. إذا عرفت هذا ، فنقول : أما قطبا الكرة، فهما ساكنان. وأما منطقتهما فهي متحركة على أسرع الوجوه ، وكل نقطة هي أقرب إلى المنطقة ، فحركتها أسرع من حركة النقطة ، [التي هي أبعد من المنطقة (١)] وإذا كانت تلك النقط غير متناهية ، وجب أن يقال : إنه لا نهاية لمراتب الحركات الواقعة في الكرة الواحدة ، بسبب [السرعة (٢)] والبطء. فحركة فلك الثوابت ، وإن كانت بطيئة جدا ، إلا أن الدائرة الصغيرة جدا ، المستديرة حول قطبها ، إنما تتم حركتها في مدة ستة وثلاثين ألف سنة ، ومدار تلك الدائرة أصغر من مدار قشر الجاورسة الواحدة. والكرة الواحدة افترض فيها هذه الحركات المختلفة ، بسبب البطء والسرعة ، وتلك النقط والأجزاء بأسرها متشابهة. فاختصاص كل واحد منها بحركته الخاصة ، وبمقداره الخاص في البطء والسرعة ، لا بد وأن يكون بتقدير العزيز العليم.

النوع الثاني من الدلائل القرآنية : أن إبراهيم [عليه‌السلام (٣)] استدل بالحياة والموت في أجساد الحيوانات فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) (٤).

فقال السائل : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ).

وتفسير هذا السؤال (٥) : كأنه قال : كيف تدعي صدور الإحياء والإماتة من الإله (٦)؟ أتدعي بأنه يفعل الإحياء والإماتة بدون واسطة الأفلاك والكواكب ، والطبائع ، أو [بواسطة (٧)] هذه الأشياء؟ فإن ادعيت الأول لم تجد إلى إثباته سبيلا ، وإن ادعيت الثاني فكل واحد منا يقدر على الإحياء

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط)

(٣) من (ط)

(٤) البقرة ٢٥٨

(٥) الكلام (ت)

(٦) الله (ط)

(٧) من (ط)

والإماتة بواسطة حركات الأفلاك والكواكب والطبائع. ألا ترى أن الرجل يطأ زوجته فيتولد منه حيوان بعدد الطبائع ، وقد يقتل الإنسان حيوانا آخر بالآلات والأدوات. فالأحياء والإماتة بهذا الطريق لا يدل على وجود الإله.

فأجاب إبراهيم عليه‌السلام وقال : هب أن إله العالم يخلق الموت والحياة في هذا العالم ، بواسطة تحريك الأفلاك وتمزيج الطبائع ، إلا أن محرك الأفلاك والطبائع هو الله [تعالى (١)] لأنه لا يمكن أن يقال : إنها متحركة لذواتها. لأن الذات باقية مصونة عن التغير. والحركة نفس التغير. والباقي لا يكون علة للمتغير. ولا يجوز أن يقال : إن محرك هذه الأفلاك : أفلاك أخرى. وإلا لزم التسلسل. فيثبت : أن محرك هذه الأفلاك هو الله تعالى. فإذا كان يحيي ويميت بواسطة حركات الأفلاك ، كان الإحياء والإماتة من الله [تعالى (٢)] بخلاف الواحد منا ، فإنا إذا أحييا وأمتنا بواسطة الطبائع ، لم تكن الحياة والموت منا. لأنا لا نقدر على تحريك الأفلاك. فظهر (٣) الفرق.

وهذا الجواب هو الذي قاله إبراهيم حيث قال : «فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، فأت بها من المغرب» (٤) والمراد كأنه قال : هب أنه تعالى أتى بها بواسطة حركات الشمس إلا أن محرك الشمس هو الله [تعالى (٥)] وأنت لا تقدر على تحريك الشمس. وكل فعل يفعله الله بواسطة حركة الشمس [كان ذلك الأثر فعلا له. وأما كل فعل تفعله أنت بواسطة حركة الشمس (٦)] لم يكن ذلك الفعل فعلا لك البتة. فظهر الفرق.

واعلم : أنا فسرنا هذه المناهدة على هذا الوجه ، ليظهر منها وجه التحقيق في ذكر هذه الحجة.

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) فهذا (ت)

(٤) البقرة ٢٥٨

(٥) من (ت)

(٦) من (ط)

والنوع الثالث من الدلائل القرآنية : أنه تعالى شرع في تقرير الدلائل في سورة النحل فابتدأ فيها بذكر الأفلاك ، فقال : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ. تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ)(١).

ثم في المرتبة الثانية ذكر الإنسان فقال :«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ«٢»» فقوله :«خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ»إشارة إلى عجائب بدنه ، وقوله :«فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ»إشارة إلى [عجائب (٣)] نفسه. ثم في المرتبة الثالثة : ذكر عجائب الحيوان. فقال : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها. لَكُمْ فِيها : دِفْءٌ) (٤) فذكر عجائب (٥) أحوال الحيوانات. ثم إنه في المرتبة الرابعة : ذكر عجائب النبات ، فقال :(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً ، لَكُمْ مِنْهُ : شَرابٌ. وَمِنْهُ : شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ : يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ : الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[فجعل مقطع هذه الآية : قوله : (يَتَفَكَّرُونَ) (٦)] وذلك لأنه استدل بحدوث الأنواع المختلفة من النبات على وجود الإله القادر [المختار (٧)]

وللسائل (٨) أن يسأل فيقول : لم لا يجوز أن يكون المؤثر فيه : طبائع الفصول ، وحركات الشمس والقمر؟ ولما كان الدليل لا يتم إلا بالجواب عن هذا السؤال ، لا جرم كان مجال الفكر والنظر والتأمل باقيا. فلهذا جعل مقطع هذه الآية : قوله :يَتَفَكَّرُونَثم إنه تعالى : أجاب عن هذا السؤال من وجهين :

الأول : هب أن تغيرات العالم الأسفل ، مربوطة بأحوال حركات

__________________

(١) النحل ٣

(٢) النحل ٤

(٣) من (ط)

(٤) النحل ٥

(٥) عجائب الحيوان (ط)

(٦) من (ط) والآيتين في سورة النحل ٩ ـ ١١

(٧) من (ط)

(٨) ولقائل (ط)

الكواكب والأفلاك. فتلك الحركات كيف حصلت؟ فإن كان حصولها بسبب أفلاك أخرى لزم التسلسل ، وإن كان من الخالق الحكيم ، فذلك يوجب الإقرار بوجود الإله [تعالى (١)] وهذا هو المراد بقوله تعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ : مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (٢) فجعل مقطع هذه الآية قوله (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) والتقدير : كأنه قيل : إن كنت عاقلا فاعلم أن التسلسل باطل. فوجب انتهاء الحركات إلى حركة يكون موجدها غير متحرك. وذلك هو الإله القادر المختار. ولما تم الدليل في هذا المقام ، لا جرم جعل مقطعه قوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ).

والوجه الثاني من الجواب : هو أن نسبة الكواكب والطبائع إلى جميع أجزاء الورقة الواحدة ، والحبة الواحدة : واحدة. ثم إنا نرى الورقة الواحدة من الورد : أحد وجهيها في غاية الحمرة ، والوجه الثاني في غاية السواد. فلو كان المؤثر موجبا بالذات لامتنع حصول هذا التفاوت ، لأنه تقرر في العقول : أن تأثير الموجب بالذات لا يختلف. وحيث حصل التفاوت في الآثار ، أن المؤثر قادر مختار. وهذا هو المراد من قوله : (وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (٣) كأنه قيل له : تذكر ما ترسخ في عقلك من أن الموجب (٤) بالذات والطبع ، لا يختلف تأثيره. فلما رأيت بعينك حصول هذا الاختلاف ، فاعرف أن المؤثر فيه ليس هو الطبائع الموجبة بالذات ، بل المؤثر فيه هو الفاعل المختار. فلهذا السبب جعل مقطع هذه الآية : قوله : (لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) ولنكتف من هذا الجنس بهذا القدر ، فإنه بحر واسع. وقد ذكرناه على سبيل الاستقصاء في «التفسير الكبير» فمن أراد هذا النوع فعليه بذلك الكتاب. والله أعلم [بالصواب (٥)]

__________________

(١) من (ت)

(٢) النحل ١٢

(٣) النحل ١٣

(٤) كأنه قيل له : مذكور ينتج في عقلك من أن الواجب بالذات ... الخ (ت)

(٥) من (ت)

المقالة الرابعة

في

ضبط مذاهب أهل العلم

في

الفعل والفاعل

الفصل الأول

في

ضبط تلك المذاهب بحسب التقسيم

اعلم : أنا نشاهد بأبصارنا هذا العالم العنصري ، ونشاهد أيضا : أن أحوال هذا العالم تتغير عند تغير أحوال الشمس في القرب من سمت الرأس ، وفي البعد منه. فإن بسبب حركة الشمس تحدث الفصول الأربعة. وبسبب حدوثها تتغير أحوال هذا العالم. فهذا المقدار محسوس. ثم عند هذا ترقى العقل واعتبر أحوالا غائبة عن الحس ، وذلك الاعتبار هو أنه يقال : هذا العالم الجسماني. إما أن لا يكون له مؤثر. أو يقال : له مؤثر موجب بالذات. أو يقال له : مؤثر فاعل بالاختيار ، ولا يفعل إلا ما يوافق مصالح الناس ، أو يقال : له مؤثر فاعل مختار ، ولا يبالي بمصالح الناس. فهذه أقسام أربعة. لا مزيد عليها. لأن هذا العالم ، إما أن لا يكون له مؤثر وهو القسم الأول. أو يكون له مؤثر وذلك المؤثر إما موجب وهو القسم الثاني. أو مختار ، وذلك المختار إما أن يراعي مصالح الخلق وهو القسم الثالث. أو لا يلتفت إليها وهو القسم الرابع. فهذا مذهب أهل العلم (١) في معرفة الفعل والفاعل ولا مزيد على هذه الأربعة.

أما القسم الأول : وهو قول من ينفي المؤثر أصلا ، فلا أعرف في الدنيا

__________________

(١) من (ت)

طائفة قالوا بهذا القول إلا القليل. وهؤلاء على فساد قولهم وقلة عددهم فإنهم ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى : الذين قالوا هذه الأفلاك والكواكب واجبة الوجود بحسب ذواتها [وبحسب صفاتها (١)] وأن طبائعها المخصوصة توجب كونها مستديرة الحركة ، ثم إن حركتها المستديرة أوجبت تولد العناصر ، وأوجبت أيضا امتزاج بعض تلك العناصر بالبعض ، حتى حدثت المواليد الثلاثة. وهؤلاء هم الدهرية الخالصة.

الطائفة الثانية : الذين قالوا : إن هذه الأفلاك والعناصر مركبة من أجزاء كرية الشكل ، صلبة. لا تقبل الانفصال في الوجود ، فإنها متحركة لذواتها من الأزل إلى الأبد ، واتفق [كونها (٢)] في حركاتها المختلفة ، أن تصادمت على وجه خاص ، فتولد هذا الفلك من تلك المصادمات ، ثم تولد من حركات الفلك هذه العناصر المختلفة ، ثم بسبب حركات الفلك ، امتزجت هذه العناصر [المختلفة ، ثم بسبب حركات الفلك ، امتزجت هذه العناصر (٣)] الأربعة ، فحدثت المواليد الثلاثة. وهذا قول : «ديمقراطيس» من القدماء.

والطائفة الثالثة : الذين جوزوا حدوث الحادث ، لا عن سبب أصلا. قالوا : فعلى هذا التقدير ، لا يبعد أن يقال : الأجسام الفلكية حادثة ، إلا أنها حدثت لا لمؤثر أصلا ، ثم تحركت على وجه خاص ، لا لمؤثر أصلا. ثم إن حركاتها صارت أسبابا ، لحدوث الحوادث، في هذا العالم العنصري. ويحتمل أن يقال : إن هذه الحوادث الحادثة في هذا العالم العنصري ، حدثت لا لمؤثر أيضا. فهذه الأقوال الثلاثة متشبعة من قول من ينكر المؤثر أصلا.

وأما القسم الثاني : وهم الذين يثبتون [المؤثر (٤)] الموجب بالذات ،

__________________

(١) من (س ، ط).

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط ، س)

فهؤلاء هم الذين قالوا : هذا العالم جسم ، وكل جسم فإنه ممكن لذاته ، بحسب ذاته ، وبحسب جميع أجزاء ماهيته. وكل ممكن فلا بد له مؤثر. والمؤثر في جميع الأجسام ، يمتنع أن يكون جسما. ثم قالوا : المؤثر على سبيل الاختيار : غير معقول ، بناء على الشبهات التي ذكرناها. فثبت : أن ذلك المؤثر موجب بالذات ، فهذا العالم ممكن الوجود لذاته ، واجب الوجود بوجوب سببه وعلته. وهذا مذهب جمهور الفلاسفة ، الذين هم أتباع «أرسطاطاليس» فإن هذا القول هو الذي اختاره هذا الرجل ، ونصره [أصحابه (١)] وأتباعه من المتقدمين والمتأخرين ثم هاهنا موضعان للبحث :

الموضع الأول : أن يقال : المبدأ الأول. هل يعقل أن يكون مبدأ لجميع الممكنات ، أو يقال: إنه مبدأ لشيء واحد ، ثم ذلك الشيء الواحد يكون مبدأ للكثرة؟.

أما القول الأول : وهو أن المبدأ الأول لجميع الممكنات ابتداء. فما رأيت قوما من الفلاسفة قالوا به. بل اتفقوا على القول الثاني ، وهو أنه تعالى واحد. والواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فهو تعالى علة للعقل الأول. ثم إن العقل الأول علة لثلاثة أشياء : العقل الثاني ، والنفس ، والفلك. وسيأتي تفصيل قولهم في هذا الباب.

والموضع الثاني من البحث : هو أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن واجب الوجود يؤثر في وجود الأجسام ، تأثير على سبيل الإيجاب الذاتي ، ثم إنه يركبها على الصفات المختلفة بحسب اختيارها؟ فعلى هذا التقدير : إنه موجب بالنسبة إلى الذوات ، ومختار بالنسبة إلى الصفات.

وأما القسم الثالث : وهو أن يقرّ بإثبات [إله (٢)] فاعل بالاختيار لهذا العالم ، ويعترف بأنه لا يفعل إلا ما يوافق مصالح الخلق. وهؤلاء هم الذين أطبقوا على أنه إله العالم ، يجب أن يكون عادلا ناظرا لعباده ، رحيما بهم ،

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط) ويقال (ط) ويقر (ت)

محسنا إليهم. وأنه [تعالى (١)] لا يريد الإضرار والإيلام. ثم إن هؤلاء لما قرروا هذا المذهب ، ثم رأوا هذا العالم مملوءا من الآفات والأسقام والآلام ، والحرق والغرق ، والفقر والموت ، [والزمانة (٢)] والعمى والجنون. فعند هذا أرادوا أن يجمعوا بين ما اعتقدوا من كون الإله منزها عن الإيلام والإضرار والقسوة ، وبين ما شاهدوه من هذه الآفات والمحن. فلهذا السبب اضطربت العقول ، واختلفت الأقوال.

وضبط تلك المذاهب. أن يقال : من الناس من قال : إن هذه الآلام [والآفات (٣)] لم تحصل بخلق الله [تعالى (٤)] ومنهم من قال : إنما تحصل بخلق الله [تعالى (٥)]

أما الأولون : ففريقان : منهم من أثبت للعالم إلهين :

أحدهما : الإله المحسن الرحيم.

والثاني : الإله الشرير [المؤذي (٦)] الضار. وهم الثنوية.

ومنهم من لم يقل بذلك ، بل قال : النفس قديمة ، والهيولى قديمة. فاتفق للنفس التفات إلى الهيولى ، فعشقتها ، فحصل التركيب الذي يوجب الآلام. ثم إن الإله تعالى أوقع ذلك التركيب على الوجه الأصلح ، وكل ما حصل في العالم من الشرور والآفات ، فذاك بسبب أن الهيولى لا يقبل الصلاح ، وكل ما حصل من الرحمة والخير فذاك بسبب إحسان الله ورحمته.

وأما الذين قالوا : إن هذه الآلام حصلت بخلق الله تعالى. فهم فريقان : منهم من قال: إن هذه الآلام حسن خلقها من الله تعالى ، لأن هذه الأرواح كانت في أجساد أخرى فأذنبت وعصت ، فالله تعالى نقلها من تلك

__________________

(١) ٢.

(٤) من (ط).

(٢) من (ط).

(٥) من (ط).

(٣) من (ت).

(٦) من (ط).

الأبدان ، [إلى هذه الأبدان (١)] وأوصل إليها أنواع العذاب ، مجازاة لها على ذنوبها السابقة، وهم أهل التناسخ. ومنهم من قال : إنها [حسنت (٢)] لأجل أعواض يوصلها إليهم في المدار الآخرة ، وهم المعتزلة. ثم هؤلاء. منهم من اكتفى من حسن الآلام بالعوض. ومنهم من قال : لا بد فيها من العوض ، ومن الاعتبار. أما العوض فيوجب خروج هذه المضار عن أن تكون ظلما ، وأما الاعتبار فيوجب خروجها عن أن تكون عبثا. وهذا قول المحققين منهم.

وأما القسم الرابع : وهم الذين أثبتوا للعالم فاعلا مختارا. وزعموا : أنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأنه لا يلتفت إلى مصالح المكلفين ، ولا إلى مفاسدهم. فهؤلاء هم المجبرة. وهم فريقان :

منهم : من فرع هذه القاعدة على إنكار التكليف وبعثة الأنبياء والرسل ، وأنكر الوعد والوعيد ، والحشر والنشر والقيامة.

وأما أرباب الملل والأديان من المجبرة : فقد أقروا بالتكليف والنبوة. فقد حصل لنا من هذا التقسيم في الفعل والفاعل : أنواع من المقالات :

فالأول : قول الدهرية القائلين بوجوب السموات في ذواتها وفي صفاتها.

والقول الثاني : قول «ديمقراطيس متحركة بذواتها.» الذي قال : أصل العالم أجزاء كرية صلبة

والقول الثالث : قول من يقول : إنه لا يمتنع في العقل حدوث الحوادث لا لمؤثر أصلا.

والقول الرابع : قول من أثبت لهذا العالم مؤثرا موجبا بالذات ، وزعم : أن الصادر الأول منه يجب أن يكون واحدا فقط.

والقول الخامس : قول من يقول : مؤثر العالم موجب بالذات ، إلا أنه علة لجميع الممكنات دفعة واحدة على الترتيب الممكن منها.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

والقول السادس : قول من يقول : إله العالم فاعل مختار ، إلا أنه يثبت للعالم إلهين : أحدهما خير ، والثاني (١) شرير.

والقول السابع : قول من يقول : سبب حدوث العالم : تعلق النفس بالهيولى.

والقول الثامن : قول من يقول : إله العالم إنما يخلق هذه الآلام عقوبة للخلق على الذنوب السابقة.

والقول التاسع : قول من يقول : هذه الآلام إنما حسنت من الله [تعالى (٢)] للأعواض التي يوصلها الله إلى الخلق في الدار الآخرة.

والقول العاشر : قول من يثبت الإله القادر المختار ، وينكر التكليف والبعثة.

والقول الحادي العشر : قول المجبرة الذين يثبتون التكليف والثواب والعقاب.

والقول الثاني عشر : قول أهل الحيرة والدهشة ، وعدم القطع بشيء من المذاهب ، والتوقف في كلها.

فهذا ضبط مذاهب الخلق في هذا الباب ونحن نريد أن نشير في كل قسم من هذه الأقسام [المذكورة (٣)] إلى ما فيه من البينات ، وإلى ما فيه من السؤالات [والإشكالات] [ومن الله التوفيق والرحمة والمعونة (٤)]

__________________

(١) والآخرة (ط).

(٢) من (ت).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط ، س).

الفصل الثاني

في

الرد على الدهرية

أما القائلون منهم بأن الأفلاك واجبة الوجود لذواتها. فاعلم أن [الفلاسفة (١)] الإلهيين أبطلوا قولهم بطريق. والمتكلمون أبطلوا قولهم بطريق آخر.

أما الفلاسفة الإلهيون فقد أبطلوا هذا المذهب من وجوه :

الأول : قالوا : ثبت بالدليل أنه يمتنع وجود شيئين ، يكون كل واحد منهما واجب الوجود لذاته. والأجسام فيها كثرة ، فيمتنع كونها واجبة (٢) الوجود لذواتها.

الثاني : إن هذه الأجسام ، وجودها يغاير ماهياتها. وكل ما وجوده مغاير لماهيته ، فإنه يكون ممكنا لذاته ، لا واجبا لذاته. على ما قررنا هذا الدليل ، في بيان أن وجوده [تعالى (٣)] لا يجوز أن يكون غير ماهيته.

الثالث : إن كل متحيز منقسم ، وكل منقسم فإنه محتاج إلى جزئه (٤)

__________________

(١) من (ت)

(٢) واجب الوجود (ط ، س)

(٣) من (ط ، س)

(٤) الجزء (ط)

الذي هو غيره ، وكل متحيز يحتاج إلى غيره ، فيكون ممكنا.

الرابع : إن كل جسم فهو مركب من الهيولى والصورة ، وكل مركب ممكن. وقد دللنا أيضا : على أنه لا يجوز أن تكون الهيولى والصورة واجبة [لذاتها (١)]

الخامس : إن كل جسم فإنه لا ينفك عن وضع معين ، وعن شكل معين. والمقتضي لذلك الوضع والشكل ، ليس هو ذاته بل غيره. وكل ما كان كذلك فهو ممكن لذاته.

فهذه الوجوه الخمسة هي التي عليها تعويل الفلاسفة في بيان أن كل جسم فهو ممكن لذاته.

وأما المتكلمون : فقالوا : دللنا على أن كل جسم محدث [وكل محدث (٢)] فهو ممكن لذاته.

وأما المذهب الثاني : وهو قول (٣) «ديمقراطيس» بأن الأجزاء واجبة الوجود لذواتها ، وهي متحركة لذواتها ، فحصل من حركاتها المضطربة هذه الأفلاك.

فاعلم أن الفلاسفة أبطلوا هذا المذهب من وجوه :

الأول : ما سبق أن الجسم لا يكون واجب الوجود لذاته.

والثاني : إن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لذاته.

واحتجوا عليه بوجوه : الأول : إن الجسم غير متغير ، والحركة عبارة عن نفس التغير. والباقي لا يكون علة للمتغير.

__________________

(١) من (ت)

(٢) من (ط ، س)

(٣) قول من يقول (ت)

والثاني : إن الأجسام متساوية في الجسمية. فلو كانت الجسمية علة للحركة ، لوجب أن يكون كل جسم متحركا بالذات.

والثالث : إن الجسمية لما كانت علة للحركة ، وجب أن تكون جميع حركات الأجسام إلى حيز واحد [فيلزم اجتماع الأجسام الكثيرة في الحيز الواحد (١)]

والرابع : إن الجسم قابل للحركة ، فيمتنع أن يكون مؤثرا فيها ، لأن الواحد بالنسبة [إلى الواحد (٢)] لا يكون قابلا وفاعلا معا.

الخامس : إن حركة الجسم ، موقوفة على حركة كل واحد من أجزائه. وما كان موقوفا على الغير ، لا يكون واجبا [بالذات (٣)]

فهذه هي الوجوه التي عولوا عليها في بيان أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا لذاته (٤)

والوجه الثالث في إبطال هذا المذهب : إن هذه الأفلاك مع كونها موصوفة بأكمل الصفات ، وأحسن النعوت اللائقة بالأجسام ، يبعد في العقل حدوثها ووقوعها ، على سبيل الاتفاق. وأما المتكلمون فقد أبطلوا هذا القول أيضا بالبناء على حدوث الأجسام.

وأما المذهب الثالث وهو قول من يقول : الحوادث تحدث لا لمؤثر. فالكلام المستقصى فيه ، قد تقدم في مسألة إثبات [الصانع (٥)] واجب الوجود لذاته. وأيضا : فكل ما كان اتفاقيا ، فإنه لا يكون دائما ولا أكثريا. ونحن نشاهد أحوال العالم الأعلى والعالم الأسفل واقعة على ترتيب لازم ، ونظم غير

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ت)

(٣) من (ط)

(٤) بالذات (ط)

(٥) من (ت)

متغير ، فيمتنع وقوعها (١) على سبيل الاتفاق.

فهذا هو الإشارة إلى معاقد الدلائل في إبطال أقوال الطوائف الدهرية [وبالله التوفيق(٢)]

__________________

(١) وجودها (ط)

(٢) من (ت)

الفصل الثالث

في

الكلام على القائلين بالموجب

أما الوجوه المذكورة في أن الحق هو القادر المختار ، لا الموجب بالذات. فقد تقدم ذكرها مع شبهات القائلين بالموجب. فلا فائدة في الإعادة. ثم إن القائلين بالموجب الذين يقولون : إنه يمتنع أن يصدر عنه أكثر من معلول (١) واحد. فقد احتجوا بوجوه :

الأول : إن مفهوم كونه مصدرا للألف ، مغاير للمفهوم من كونه مصدرا للباء. فهذان المفهومان إن كانا داخلين في تقويم ماهية العلة ، لزم (٢) أن تكون العلة مركبة. وذلك محال. وإن كانا خارجين عن تقويم الماهية ، كانا لاحقين للماهية ، فكانا مفتقرين إليها ، فكانا ممكنين ومعللين بتلك الماهية. فيعود البحث المذكور من أن المفهوم من كون تلك الماهية علة لأحدهما ، غير المفهوم من كونها علة للثاني. ويلزم التسلسل. وإن كان أحدهما داخلا في الماهية ، والآخر خارجا عنها ، لزم تركب تلك الماهية ، ولزم كون المعلول واحدا. أما تركب تلك الماهية فهو أن كل ماله (٣) جزء فهو مركب. وأما كون المعلول واحدا ، فلأن الداخل في الماهية لا يكون معلولا لها. لأن الداخل في الماهيّة

__________________

(١) معلوم (ت).

(٢) لزم كونها مركبة (ط ، س)

(٣) ما به أخرى (ت)

متقدم عليها بالرتبة. والمعلول متأخر ، والمتقدم غير المتأخر.

الحجة الثانية : إنه لو صدر عنه الألف ، وصدر عنه الباء أيضا. والباء ليس نفس الألف ، فحينئذ يصدق أن من الاعتبار الذي صدر عنه الألف [لم يصدر عنه الألف (١)] لأن بذلك الاعتبار صدر عنه الباء ، مع أن الباء ليس بالألف. فيلزم أن يقال : إنه بالاعتبار الواحد ، صدر عنه [الألف (٢)] ولم يصدر عنه الألف. وذلك محال :

الحجة الثالثة : إنا لما علمنا : أن طبيعة الماء توجب البرودة ، وأن طبيعة النار توجب تسخين ، لا جرم استدللنا باختلاف هذين الأثرين ، على أن طبيعة الماء ، مخالفة لطبيعة النار. فلما دل اختلاف [الآثار على اختلاف (٣)] طبائع المؤثرات فبأن تدل على تغايرها [أولى (٤)].

الحجة الرابعة : إن العلة لا بد وأن تكون بينها وبين المعلول مشابهة ومناسبة. فإن العلم لا يكون علة للمتحركية ، والحركة لا تكون علة للعالمية. لأنه ليس بين العلم وبين المتحركية [مناسبة (٥)] وأما العلم فإنه يوجب العالمية ، لأنه حصل بينهما مناسبة ومشابهة. إذا ثبت هذا فنقول : لو اقتضت العلة الواحدة معلولين مختلفين ، لزم كون تلك العلة الواحدة متشابهة بالوجه الواحد ، لشيئين مختلفين ، والمشابه للمختلفين ، مختلف. فيلزم كون ذلك الواحد مخالفا لنفسه. وإنه محال.

الحجة الخامسة : إن الموجب الواحد ، إذا تعدى عن إيجاب المعلول الواحد ، لم يكن بأن يوجب عددا ، أولى من أن يوجب عددا آخر. فيلزم أن توجب تلك العلة الواحدة ، معلولات لا نهاية لها. وذلك محال.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ت).

(٣) فلما دل اختلاف الطبائع ، فبأن يدل ... الخ (ت).

(٤) من (ت).

(٥) من (ط ، س).

فهذه جملة دلائل القائلين بأن العلة الواحدة لا توجب إلا معلولا واحدا.

واعلم أن الحجة الأولى منقوضة بصور كثيرة :

فالنقض الأول : إن النقطة التي هي مركز الدائرة ، محاذية لجميع النقط المفترضة [في الدائرة. فنقول (١)] المفهوم من كون ذلك المركز محاذيا لهذه النقطة [المفترضة في الدائرة (٢)] غير المفهوم من كون ذلك المركز محاذيا للنقطة الأخرى. فهذان المفهومان ، إن كانا مقومين لماهية النقطة لزم كونها مركبة ، وإن كانا خارجين كانا لاحقين وممكنين ومعلولين ، فيعود البحث في أن المفهوم من كون تلك النقطة مصدرا لأحدهما ، غير المفهوم من كونها مصدرا للثاني. ويعود الكلام بتمامه.

والنقض الثاني : إن الوحدة إذا ضم إليها وحدة ، صارت مبدأ لهذين الاثنين. وإذا ضم إليهما وحدة أخرى صارت مبدأ للاثنين الثاني.

فنقول : مفهوم كونها مبدأ لهذين الاثنين [غير مفهوم كونها مبدأ للاثنين الثاني (٣)] ويعود التقسيم بتمامه فيه. فيلزم كون الوحدة منقسمة مركبة.

النقض الثالث : لا شك أن كل ماهية بسيطة ، فإنه يسلب كل ما عداها (٤) عنها ، فالمفهوم من كونها بحيث يسلب عنها الألف مثلا ، مغاير للمفهوم من كونها بحيث يسلب عنها الباء. ويعود التقسيم المذكور فيه ، فيلزم : أن لا يسلب عن الواحد إلا الواحد. وإنه باطل.

النقض الرابع : المفهوم من كون الهيولى قابلة لهذه الصورة ، مغاير للمفهوم من كونها قابلة للصورة الثانية ، ويعود التقسيم بتمامه فيه. فيلزم : أن يقال : الهيولى لا يقبل إلا صورة واحدة.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

(٤) ما سواها (ط)

النقض الخامس : إنا نشاهد أن الجسم الواحد ، قد يكون ساكنا. ثم يزول عنه السكون ، وتحدث فيه الحركة. وكذا القول في تبدل السواد بالبياض ، والظلمة بالنور ، والحموضة بالحلاوة. فنقول : المفهوم من كونه قابلا [للحركة ، غير المفهوم الذي به قابلا (١)] للسكون. فهذان المفهومان. إما أن يكونا داخلين في الماهية ، أو خارجين عنها ، أو أحدهما داخلا ، والآخر خارجا. ونسوق التقسيم إلى آخره. فيلزم أن يقال : الجسم الواحد لا يقبل إلا عرضا واحدا : وهو محال.

النقض السادس : إن العلة التي توجب معلولا واحدا فقط. نقول : المفهوم من [ذات (٢)] تلك العلة غير المفهوم من كونها موجبة لذلك المعلول. بدليل : أنه يصح تعقل كل واحد منهما مع الذهول عن الآخر ، فيلزم أن يكون كونها موجبة لذلك المعلول ، مغايرا لذات العلة. ثم إن كونها موجبة لذلك المعلول ، صفة من صفات تلك الذات ، ولاحق من لواحقها ، فيكون ممكنا. وموجبة : هو تلك الذات. فيلزم التسلسل. فثبت : أن الإلزام الذي ذكرتموه على تقدير كون العلة الواحدة موجبة لمعلولين ، فهو بعينه قائم إذا لم يوجب إلا معلولا واحدا. وإذا كان المحذور المذكور قائما على التقديرين ، امتنع الاستدلال به على إبطال أحد التقديرين.

النقض السابع : المفهوم من كون السواد سوادا ، غير المفهوم من كونه حالا في ذلك المحل فوجب أن يكون حلوله في المحل زائدا عليه. وذلك الزائد أيضا حال فيه. فيلزم التسلسل.

النقض الثامن : المفهوم من كون السواد سوادا ، مغاير (٣) للمفهوم من كونه حادثا في هذا الوقت [فلو كان المفهوم من كونه حادثا : نفس السواد (٤)]

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط)

(٣) غير مغاير (ت).

(٤) من (ت)

وجب أن يكون حدوثه في ذلك الوقت زائدا عليه. ثم ذلك الزائد أيضا حادث في ذلك الوقت. فيلزم التسلسل.

النقض التاسع : العلة إذا أوجبت معلولا ، وذلك المعلول أوجب معلولا آخر (١) وهكذا إلى آخر المراتب. فنقول : العلة الأولى يصدق عليها أنها علة للمعلول الأول ، وأنها علة المعلول الثاني. وهكذا إلى آخر المراتب. ولا شك أن هذه اللواحق الكثيرة ، لاحقة لذات العلة الأولى. فنقول : المفهوم من كونها علة للألف ، مغاير للمفهوم من كونها (٢) علة لعلة الباء ، ومن كونها علة [لعلة (٣)] علة الجيم. فهذه المفهومات المتغايرة. إما أن تكون مفهومة أو خارجة ، ويعود التقسيم إلى آخره.

النقض العاشر : المفهوم من قولنا : إنه تعالى موجود [مع العقل الأول ، مغاير للمفهوم من قولنا : إنه موجود مع العقل الثاني ، ومع الفلك الأول ، ومع الفلك الثاني. وهكذا الكلام في كونه تعالى موجودا (٤)] مع كل واحد من العقول والنفوس والأفلاك والأعراض والصور. ثم نذكر ذلك التقسيم [إلى آخره (٥)] أو نقول : إنه تعالى قبل كل واحد من هذه العقول والأفلاك ، إما بالعلة أو بالرتبة. ولا شك (٦) أن المفهوم من كونه قبل هذا مغاير للمفهوم من كونه قبل ذلك. فيثبت : أن الاعتبار الذي ذكروه لو صح لزم البسائط بأسرها مركبة ، ولزم كون البارئ [تعالى (٧)] مركبا ، ولزم نفي التأثير والمؤثر على الاطلاق. ولما كانت هذه الأشياء باطلة ، علمنا : أن ما ذكروه باطل [والله أعلم (٨)]

__________________

(١) ثانيا (ط).

(٢) من كونها علة التاء (ط).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) من (ط ، س).

(٦) والاتفاق (ت).

(٧) من (ط ، س).

(٨) من (ط ، س).

والجواب عن الحجة الثانية : أن نقول : العلة الواحدة إذا صدر عنها الألف ، وصدر عنها الباء ـ ولا شك أن الباء غير الألف ـ فههنا يصدق أن يقال : إنه صدر عنه الألف. وصدر عنه ما ليس بالألف. ولا يلزم أن يقال : صدر عنه الألف ، ولم يصدر عنه الألف. [لأنه لا فرق بين أن يقال : صدر عنه ما ليس بألف ، وبين أن يقال : لم يصدر عنه الألف (١)] ألا ترى أنهم قالوا : فرق بين قولنا بالإمكان ليس ، وبين قولنا : ليس بالإمكان. وفرق بين قولنا : بالضرورة ليس ، وبين قولنا : ليس بالضرورة. فكذا هاهنا : فرق بين قولنا : لم يصدر عنه الألف ، وبين قولنا : صدر عنه ما ليس بالألف. والدليل القاطع على هذا الفرق : أنه لولاه لوجب أن لا يقبل الجسم الواحد ، إلا صفة واحدة. لأنه لو قبل صفتين مختلفتين ، لزم أن يصدق عليه : أنه قبل تلك الصفة ، وأنه ما قبلها. وذلك محال (٢) وأيضا : لو صح ما قالوه ، لزم أن لا تحصل الذات الواحدة إلا وقتا واحدا ، إلا أنه لو حصل في هذا الوقت ، وحصل أيضا في الوقت الثاني ، لوجب أن يصدق عليه : أنه حصل في هذا الوقت ، وأنه لم يحصل في هذا الوقت. ولما كان ذلك باطلا ، فكذا ما قالوه.

والجواب عن الحجة الثالثة : إنه لما حصلت الطبيعة النارية ، ولم يوجد التبريد ، وحصلت الطبيعة المائية ، ولم يوجد التسخين ، استدللنا بتخلف هذا الأثر عن ذلك المؤثر ، على اختلاف ماهية المؤثرين [فأما لو لم يوجد هذا التخلف ، فلا نسلم أن مجرد اختلاف الأثرين يدل على تغاير المؤثرين (٣)] وهل النزاع إلا فيه؟

والجواب عن الحجة الرابعة : إن العلة يمتنع كونها متساوية للمعلول في الماهية ، لأنه ثبت في العقل : أن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب استواؤها في جميع اللوازم ، فلو كانت العلة مماثلة للمعلول في تمام الماهية ، لم يكن أحدهما

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) باطل (ط ، س).

(٣) من (ط ، س)

بالعلية ، والآخر بالمعلولية أولى من العكس. فيثبت : أن قول من يقول : العلة مماثلة للمعلول : (١) كلام باطل.

والجواب عن الحجة الخامسة : إنا بينا في علم المنطق : «إن قول القائل : إنه ليس عدد أولى من عدد» : إذا أريد به عدم الأولوية في نفس الأمر ، فهذا ممنوع. وإن أريد به عدم الأولوية في الذهن والخاطر ، فهذا لا يفيد إلا التوقف وعدم الجزم» [والله أعلم (٢)].

__________________

(١) قول (ط).

(٢) من (ت).

الفصل الرابع

في

أن الصادر الأول عن الله. ما هو؟

على قول من يقول : الواحد ، لا يصدر عنه الا الواحد

قالوا : ثبت : أنه تعالى فرد منزه عن جميع جهات الكثرة ، وثبت : أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد ، فوجب القطع بأن الصادر [الأول (١)] عن الله تعالى شيء واحد. فنقول : ثبت أن كل ممكن فهو إما جوهر وإما عرض ، فذلك الصادر الأول إما جوهر وإما عرض. لا جائز أن يكون عرضا ، لأن العرض محتاج إلى الجوهر ، ومتأخر بالرتبة عن الجوهر. فلو كان الصادر الأول عرضا ، لكان علة للجواهر ، فحينئذ يكون العرض سابقا على الجوهر ، مع أن الجوهر كان سابقا على العرض ، فيلزم الدور ، وهو محال. فيثبت : أن الصادر الأول جوهر. فنقول : ذلك الجوهر إما أن يكون جسما ، أو جزءا من أجزاء ماهية الجسم ، أو لا جسما ولا جزءا من أجزاء ماهية الجسم. والأول باطل. لأن الجسم مركب من الهيولى والصورة. فتكوين الجسم لا يمكن إلا بتقدم تكوين أجزائه. وإذا كان كذلك ، امتنع أن يكون الصادر الأول جسما. ولا جائز أن يكون الصادر الأول جزءا من أجزاء ماهية الجسم ، لأن ذلك الجزء إما الهيولي أو الصورة ، ولا جائز أن يكون الصادر الأول : هو الهيولى ، لأن الصادر الأول يكون علة لما بعده ، فلو كان الصادر الأول هيولى ، لزم كون الهيولى علة مؤثرة ، موجدة لسائر الأشياء. لكن الهيولى موجود قابل ، فيلزم أن

__________________

(١) من (ط ، س).

يكون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا. وهو محال. ولأن الهيوليات متساوية ، فلو فرضنا هيولى تكون علة لهذه المعلولات ، لكان كل هيولى كذلك. ومعلوم أنه باطل. ولا جائز أن يكون الصادر الأول : صورة ، وذلك لأنه لو كان [الأمر (١)] كذلك ، لكانت الصورة علة لوجود الهيولى ، فيكون تأثيرها في وجود الهيولى ليس بشركة من الهيولى. وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه ، وهو محال. فعلى هذا الصورة غنية في تأثيرها عن المادة ، وكل ما كان غنيا في تأثيراته عن المادة ، كان غنيا في وجوده عن المادة. فيلزم : أن لا تكون الصورة : صورة. هذا خلف : فيثبت أن الصادر الأول ليس بجسم ولا بجزء من أجزاء (٢) الجسم. فنقول : فيجب أن يكون جوهرا مجردا. ثم نقول : الجوهر المجرد ، إما أن يتوقف صدور الآثار عنه على آلة (٣) جسمانية ، أو لا يتوقف. والأول : هو النفس. والثاني : هو العقل. فنقول لا جائز أن يكون الصادر الأول نفسا. لأن الصادر الأول علة لجميع الأجسام ، وكونه علة لجميع الأجسام ، يمتنع أن يكون موقوفا على حصول آلة جسمانية. وإلا لزم تقدم الشيء على نفسه ، وهو محال. وإذا بطل هذا ، بطل كون الصادر الأول نفسا. وإذا بطل هذا ، ثبت أن الصادر الأول عقل مجرد. وهو المسمى في لسان الشرع (٤) : بالروح الأعظم. حيث قال سبحانه وتعالى : (يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا) (٥) وحيث قال : عليه الصلاة والسلام : «أول ما خلق الله العقل (٦)».

هذا تلخيص كلام القوم على أحسن الوجوه.

والاعتراض على هذا الكلام من وجوه :

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من أجزاء قوام الجنس (ط ، س).

(٣) صورة (ط).

(٤) بلسان الشريعة (ت).

(٥) النبأ ٣٨ والتفسير فيه تكلف شديد.

(٦) لا ينبغي الاستدلال بروايات الآحاد على أصول العقائد.

[السؤال (١)] الأول : إنكم إنما أبطلتم كون المعلول الأول جسما ، بالبناء على أن الجسم مركب من الهيولى والصورة. وسنبين أن كلام القوم في تقرير هذا الأصل في غاية الضعف ، وحينئذ يبطل هذا الكلام. ثم نقول : الأولى أن يقال : الدليل على أن المعلول الأول ليس هو الجسم : أن كل جسم فإنه يقبل القسمة الوهمية ، وكل ما كان قابلا للقسمة الوهمية ، فإنه لا بد وأن يكون في نفسه مؤلفا من الأجزاء والأبعاض ، فإن القسمة ليست عبارة عن إحداث الاثنينية والتعدد ، بل القسمة عبارة عن تفريق المتجاورين. إذا ثبت هذا فنقول : إن قلنا : إنه تعالى علة لجميع تلك الأجزاء ، فقد صدر عن الواحد أكثر من الواحد ، وهو محال. وإن قلنا : إنه تعالى علة لجزء واحد منها ، ثم ذلك الجزء علة للجزء الثاني ، إلى آخر الأجزاء. فههنا يلزم منه مجالان :

الأول : إنه يلزم في جميع ذوات (٢) العالم أن يكون كل واحد منها بالنسبة إلى الآخر. إما أن يكون علة له ، أو معلولا له. وهو باطل.

والثاني : وهو أن الأجزاء متماثلة في تمام الماهية ، فيمتنع كون بعضها علة للبعض. وبهذا الطريق يثبت : أن المعلول الأول [يمتنع أن يكون جسما. وهذا الدليل جيد ، إلا أنه لا يلائم أصول الفلاسفة.

السؤال الثاني : سلّمنا أن المعلول الأول (٣)] ليس جسما. فلم لا يجوز أن يكون هو الهيولى؟ أما قوله : «يلزم أن يكون الشيء الواحد ، قابلا وفاعلا معا. وهو محال» فنقول: لا نسلم أن هذا محال. فإن الدليل الذي تعوّلون عليه في إبطال هذه القاعدة هو قولكم : «لو كان الشيء قابلا وفاعلا معا ، لزم أن يصدر عن الشيء الواحد ، أثران : الفعل والقبول. وهو محال» إلا أن هذا الكلام مبني على أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. وقد سلف إبطاله.

سلمنا : أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد. فلم قلتم : إن القبول

__________________

(١) زيادة.

(٢) درجات (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

أثر؟ والدليل عليه : أنه لو كان القبول أثرا ، لكان القابل مؤثرا ، فحينئذ يصدق أن القابل فاعل. وهو عندكم محال. سلمنا ما ذكرتم من الدليل. إلا أنه منقوض على أصولكم بصور :

الأولى : إنه تعالى عالم بجميع المعلومات. والعلم عبارة عن حضور (١) صورة المعلوم في ذات العالم. فصور المعلومات مرتسمة في ذات الله تعالى ، فذاته قابلة لتلك الصور ، والمؤثر فيها هو ذاته. فالشيء الواحد قابل وفاعل معا ، وذلك ينقض هذا الكلام.

الثانية : إن كون المؤثر مؤثرا [في الأثر (٢)] صفة مغايرة لذات المؤثر. لأن ذات المؤثر جوهر قائم بالنفس ، والمفهوم من كونه مؤثرا في الغير حالة نسبة إضافية. فأحدهما يغاير الآخر ، فهذه المؤثرية صفة زائدة على الذات ، وهي قائمة بتلك الذات. والموجب لتلك المؤثرية هو تلك الذات ، فالشيء الواحد بالنسبة إلى تلك المؤثرية فاعلة لها ، وقابلة لها.

والثالثة : إن [ذات (٣)] واجب الوجود من حيث إنه هو واجب الوجود لذاته : متعينة متشخصة ، وماهية وجوب الوجود مغايرة لذلك التعين ، وإلا لكان كل من عرف الذات الواجبة (٤) لذاتها ، عرف أنها ليست إلا ذلك المتعين ، فوجب أن لا نحتاج في العلم بأن واجب (٥) الوجود واحد ، إلى دليل منفصل. ولمّا لم يكن الأمر كذلك ، علمنا : أن المفهوم من كونه واجب الوجود لذاته ، غير المفهوم من ذلك التعين ومن ذلك التشخص. إذا ثبت هذا فنقول : إنه لا يجوز أن يكون ذلك التعين مقتضيا لوجوب الوجود بالذات ، لما أن واجب الوجود لذاته ، يمتنع أن يكون واجب الوجود لغيره ، فلم يبق أن يقال : المفهوم من كونه واجب الوجود لذاته ، هو الذي يوجب ذلك

__________________

(١) عن ذلك حضور صورة (ط).

(٢) من (ط ، س).

(٣) زيادة.

(٤) الواحدة (ط).

(٥) بأن الواجب واحد (ط).

التعين. فعلى هذا المؤثر في حصول ذلك التعين والقابل له : شيء واحد.

والرابعة : إن الثلاثة توجب الفردية ، [والأربعة توجب (١)] الزوجية [والدليل عليه: أنه لو كان الموجب لهذه الفردية والزوجية (٢)] شيئا آخر ، لكان عند ارتفاع ذلك الشيء ، وجب أن لا تبقى الثلاثة (٣) فردا ، والأربعة زوجا. وإنه محال. فيثبت : أن الموجب للفردية ، هو كون الثلاثة : ثلاثة ، والموجب للزوجية هو كون الأربعة : أربعة. ثم إن الموصوف بهذه الفردية هو الثلاثة. وبهذه الزوجية هو الأربعة. فالشيء الواحد فاعل وقابل معا. وهو المطلوب.

الخامسة : إن الهيولى قابلة للصورة. فإما أن يكون كونها قابلة للصورة : عين تلك الذات ، أو أمر زائد عليه. والأول باطل. لأن ذات القابل جوهر قائم بالنفس ، والقابلية صفة نسبية ، فوجب التغاير. وإذا ثبت التغاير. فنقول : هذا القبول لا يجوز [أن يكون عدميا (٤)] لأنه نقيض اللاقبول ، وهو عدم ، ونقيض العدم : وجود. فيثبت : أن القبول صفة موجودة ، مغايرة لتلك الذات. فنقول : المقتضي لهذه الصفة ، إما تلك الذات أو غيرها ، والثاني (٥) باطل ، لأنه لو كان حصول تلك القابلية ، لأجل سبب منفصل ، لوجب كون تلك الذات ، قابلة لتلك القابلية ، فتكون كل قابلية مسبوقة ، بقابلية أخرى. إلى غير النهاية. وهو محال. فيثبت : أن المقتضي لتلك القابلية هو تلك الذات ، والموصوف بها أيضا تلك الذات. فالذات الواحدة قابلة وفاعلة معا. وهو المطلوب (٦).

السادسة : إن القوة الحافظة التي تحفظ مثل المحسوسات ، ورسومها وأشباحها. هل قبلت تلك الرسوم والأشباح ، أم لم تقبلها؟ فإن لم تقبلها ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (س).

(٣) الثلاثة هؤلاء أولا الأربعة (ت).

(٤) من (ت).

(٥) والأول (ت).

(٦) وهو محال (ت).

فكيف تحفظها؟ وإن قبلتها ، فتلك القوة قابلة لتلك الصورة ، وحافظة لها. والقبول غير الحفظ. فيكون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا.

السابعة : إن القوة المفكرة التي تتصرف في الصورة المدركة ، والمعاني المدركة بالتحليل والتركيب ، لا شك أنها فاعلة لذلك التركيب ، ولذلك التحليل. فهذه القوة المتصرفة الفاعلة ، هل أدركت تلك الماهيات ، أو ما أدركتها؟ فإن كان الأول وهو أنها أدركتها ، فالإدراك [عبارة (١)] عن قبول العلم بها ، فتلك القوة من حيث إنها قبلت تلك العلوم قابلة ، ومن حيث إنها تصرفت (٢) فيها بالتحليل والتركيب فاعلة.

وإن كان الثاني. وهو أنه ما أدركتها. فالذي لا يكون مدركا كيف يعقل إيقاع التصرف فيه بالتحليل والتركيب؟.

الثامنة : وهي أن القوة التي تحكم بإيجاب المحمول على الموضوع ، أو بسلبه عنه. لا شك أنها فاعلة (٣) فإن هذا الحكم : فعل. فهذه القوة الحاكمة ، هل أدركت ماهية الموضوع وماهية المحمول أم لا؟ فإن أدركت ، فهل قبلت هاتين الصورتين ، ثم أسندت إحداهما إلى الأخرى؟ فالقوة الواحدة قابلة لتلك التصورات ، وفاعلة لأجل ذلك الحكم. وإن قلنا : إن ذلك المصدق ، ما حضر عنده ماهية الموضوع ، وماهية المحمول ، كان هذا تصديقا بدون التصور ، وإنه محال.

التاسعة : أليس أن عندكم العقل الأول علة للعقل الثاني؟ فنقول : العقل الأول ممكن لذاته ، فيكون فاعلا قابلا للوجود من (٤) العلة الأولى. ثم إنه مؤثر في وجود المعلول الثاني ، فهو فاعل. فالشيء الواحد قابل وفاعل معا.

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) منصرفة (ت).

(٣) أنه فاعل (ت).

(٤) من (ط) : (في).

العاشرة : قد دللنا على أن الفاعلية صفة مغايرة للمفعول ، وهي قائمة بذات الفاعل ، فتلك الذات مؤثرة في حصول تلك الفاعلية وقابلة لها ، فالفاعل قابل. وقد دللنا على أن القابلية صفة قائمة بذات القابل. والمؤثر في حصولها تلك الذات ، والقابل (١) فاعل. فعلى كلا التقديرين : الشيء الواحد قابل وفاعل معا.

الحادية عشر : أليس أن بعض الماهيات لازمة للبعض؟ فذلك اللزوم مغاير لذات الملزوم [ولذات اللازم (٢)] ثم المؤثر في ذلك الاستلزام هو تلك الذات ، والموصوف به أيضا تلك الذات ، فقد عاد الحديث من أن الواحد قابل وفاعل معا.

الثانية عشر : لا نزاع في أنّ في الممكنات ما يكون علّة لغيره. مثل : إن العفونة توجب الحمّى. فالسبب ممكن ، فيكون قابلا للوجود من غيره (٣) وهو علّة تغيّره ، فيكون فاعلا لغيره. فالشيء الواحد قابل وفاعل معا.

فهذه اثنتي عشرة صورة (٤) تدل على فساد قولهم : «إن الشيء [الواحد (٥)] يمتنع أن يكون قابلا وفاعلا معا».

أما قوله ثانيا : «الهيوليات متساوية ، فوجب أن يتشابه الأثر».

فنقول : هذا من العجائب. فإنكم أنتم الذين قلتم : إن هيولى كل فلك ، مخالفة بالماهية لهيولى الفلك الآخر. فكيف تركتم هذا المذهب في هذا المقام؟ [والله أعلم (٦)].

السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يكون الصادر الأول هو الصورة؟

__________________

(١) فالقابل (ط).

(٢) من (ط ، س).

(٣) للغير (ت).

(٤) وجها صورة (ط).

(٥) من (ط).

(٦) من (ط ، س).

قوله : «إن على هذا التقدير تكون الصورة علة لوجود الهيولى ، وحينئذ لا يكون تأثيرها في وجود الهيولى ، بشركة من الهيولى ، فتكون الصورة في فعلها غنية عن الهيولى ، وكل ما كان غنيا في فعله عن الهيولى ، كان غنيا في ذاته عن الهيولى» فنقول : هذا الكلام : باطل. وذلك لأن هذه الصورة. هل لها تأثير في تقويم الهيولى أم لا (١)؟ فإن لم يكن لها تأثير في تقويم الهيولى ، فحينئذ لا يبقى فرق بين العرض وبين الصورة ، فلا تكون الصورة قسما مغايرا للعرض. وإن كان لها تأثير في تقويم الهيولى ، فتأثيرها في تقويم الهيولى ، إن كان بشركة من الهيولى ، لزم تقدم الهيولى على نفسها ، لأن شرط التأثير أن يتقدم (٢) بالرتبة على الأثر. فيثبت : أن تأثير الصورة في تقويم هيولاها ، ليس بشركة من تلك الهيولى. ثم إن هذا لا يقدح في كون تلك الصورة : صورة هيولانية. فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟ وأيضا : إن المتكلمين لما قالوا : الصورة لما كانت حالة في الهيولى ، كانت مفتقرة إلى (٣) الهيولى ، افتقار الحال إلى المحل ، فلو كانت علّة التقويم الهيولى ، لزم افتقار الهيولى إليها ، فيلزم الدور ، وهو محال ، فهذا يدل على أن القول بالصورة [محال (٤)].

ثم إنا تكلفنا جوابا عن هذا الكلام : فقلنا : لم لا يجوز أن يقال : إن الصورة توجب وجود الهيولى ، ثم إنها (٥) لا تؤثر في ذات الصورة ، بل تؤثر في جعل تلك الصورة حالة فيها ، وعلى هذا التقدير فالدور ساقط. أو يقال : لم لا يجوز أن يقال : الصورة توجب الهيولى ، ثم إنها توجب لنفسها كونها (٦) حالة في تلك الهيولى.

إذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يقال : الصادر الأول صورة

__________________

(١) أو لا يكون (ط).

(٢) متقدم (ت).

(٣) إليها (ط).

(٤) من (ط ، س).

(٥) ثم إن الهيولى (ط ، س).

(٦) في كونها (ت).

جسمانية ، ويكون الحال واقعا على هذا الوجه؟

السؤال الرابع (١) : لم لا يجوز أن يكون الصادر الأول نفسا؟ قوله : «لأن النفس هو الذي لا يؤثر في الأثر ، إلا بآلة جسمانية» قلنا : هذا الكلام خطأ. لأن تأثيرها في تلك الآلة الجسمانية. إن كان بآلة أخرى جسمانية ، لزم التسلسل ، أو يلزم تقدم الشيء على نفسه ، وهو محال. وإن كان تأثيرها في تلك الآلة ، لا بواسطة (٢) آلة أخرى ، مع أن هذا لا يقدح في كونها نفسا. فلم لا يجوز أن يكون الحال في سائر الصور (٣) كذلك؟.

السؤال الخامس : إن دل ما ذكرتم على أن الصادر الأول ليس إلا ذلك [العقل (٤)] الواحد ، إلا أن هاهنا ما يمنع منه. وذلك من وجهين :

الأول : إن مذهبكم أن الجوهر جنس واحد.

وأنواعه : العقل. فعلى هذا ، العقل الأول [واحد (٥)] داخل تحت الجنس ، وكل ما كان داخلا تحت الجنس ، كان (٦) ماهية مركبة من الجنس والفصل. فالعقل الأول ماهية مركبة. فإذا جعلناه معلولا لذات الله تعالى ، فقد صدر عن الله أكثر من الواحد.

والثاني : إنه يقتضي أن يقال : [إنه تعالى (٧)] لم يقدر إلا على تكوين الأثر الواحد ، فيكون رتبة واجب الوجود في التكوين والتأثير ، أقل من رتبة جميع المؤثرات الحقيرة (٨) ومعلوم أن ذلك باطل.

__________________

(١) السابع (ط).

(٢) بواسطة (ط).

(٣) الأمور (ط).

(٤) من (ت).

(٥) من (ت).

(٦) فماهيته (ط ، س).

(٧) من (ت).

(٨) الحق (ط ، س).

الفصل الخامس

في

شرح مذهب هؤلاء الفلاسفة في أن

ذلك الصادر الأول. كيف تصدر

عنه الكثرة الحاصلة في الممكنات؟

اعلم أنا نعبّر عن كلام القوم بالوجه الأحسن ، فنقول : الصادر الأول. إما أن يقال : إنه لا يصدر عنه أيضا ، إلا الواحد ، فيكون الكلام في الثاني ، كما في الأول. فيلزم أن لا يوجد (١) موجودان في الممكنات ، إلا ويكون أحدهما علة [للثاني (٢)] ومعلوم أن ذلك باطل. فإن هذه الحبة من الحنطة ، ليست علة لتلك الحبة الأخرى ، ولا معلولة لها ، فإن وجب الاعتراف بأنه لا بد وأن يصدر عن المعلول الأول أكثر من الواحد ، وكل ما صدر عنه أكثر من الواحد ، ففيه كثرة. ينتج : أنه حصل في ذات المعلول الأول : كثرة. فتلك الكثرة إن كانت واجبة لذاته ، كان واجب الوجود أكثر من واحد ـ وإن كانت ممكنة فهي صادرة عن واجب الوجود. فالواحد قد صدر عنه أكثر من الواحد ، وهو محال. فلم يبق إلّا أن يقال : الماهية الممكنة. لها من ذاتها : الإمكان ، ولها من علّتها : الوجود. فإذا ضمّ ماله من ذاته إلى ماله من غيره ، حصلت كثرة (٣) يمكن جعلها مبدأ للمعلولات الكثيرة. إذا عرفت هذا فنقول : [المعلول (٤)] الأول حصل له الإمكان بذاته ، والوجود من غيره. والشيء ما

__________________

(١) أن يوجد (ت).

(٢) من (ط ، س).

(٣) حصلت له يمكن (ت).

(٤) من (ت).

لم يجب لم يوجد ، فقد حصل هاهنا أمور ثلاثة : الإمكان والوجود والوجوب بالغير. فوجب جعل هذه الاعتبارات الثلاثة عللا لموجودات ثلاثة ، ويجب جعل الأشرف علة للأشرف ، والأخس علة للأخس ، فالإمكان علة لهيولى الفلك الأقصى [والوجود علة لصورته ، والوجوب بالغير ، علة للفعل الثاني الذي هو العقل المحرك للفلك الأقصى (١)] وبهذا الطريق ، فإنه صدر عن كل عقل : عقل وفلك. حتى ينتهي إلى الفلك الأخير الذي هو العقل الفعال. واعلم أن الشيخ الرئيس قد أدرج في أثناء هذا الكلام نوعا آخر من التقرير. فقال : إن العقل الأول يعقل ماهية نفسه ، ويعقل وجود نفسه ، ويعقل وجوبه (٢) بالأول. ويعقل الأول فجعل (٣) عقله لماهية نفسه : علة لهيولى الفلك الأقصى ، وجعل عقله لوجود نفسه : علة لصورة الفلك الأقصى. وجعل عقله لوجوبه بالأول علة لنفس الفلك الأقصى. وجعل عقله بالأول ، علة لعقل الفلك الأقصى. لما ثبت : أنه يجب جعل الأشرف [علة (٤)] للأشرف.

فهذا تفصيل أقوالهم في هذا الباب.

والاعتراض عليه من وجوه :

الأول : إنا نقلنا عن القائلين بالفاعل المختار ، أنهم قالوا : لو كان موجبا ، لكان : معلوله إما أن يكون واحدا ، وإما أن يكون أكثر من واحد. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه علة موجبة. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون معلوله شيئا واحدا (٥) لأنه إما أن يكون معلول ذلك المعلول : أيضا واحدا. فيلزم أن لا يوجد في جميع الممكنات شيئان ، إلا وأحدهما علة للآخر ، ومعلول له. وهو محال. ثم أوردنا (٦) عليه سؤالا للفلاسفة : وهو أنه : لم لا

__________________

(١) من (ت).

(٢) وجوب الأول (ت).

(٣) فيجب (ت).

(٤) من (ط ، س).

(٥) إما يحتمل معها سقوط إما الثانية. أو العبارة الأصلية هي : لأنه قد يلزم.

(٦) أوردنا على الفلاسفة.

يجوز أن يقال : المعلول الأول فيه : إمكان ، ووجود ، ووجوب بالغير. وهذه الثلاثة تكون عللا لمعلولات ثلاثة ، ثم إنا أجبنا عنه ، وبينا بالوجوه الكثيرة : أنه لا يجوز جعل الإمكان والوجود : عللا لهذه الموجودات. فمن انتهى إلى هذا الفصل ، وجب [عليه (١)] أن يتأمل في تلك الوجوه حتى يظهر له ضعف هذه المقالة.

ثم إنا نزيد في هذا المقام وجوها أخرى :

[فالسؤال] (٢) الأول : إن قولكم : «إن إمكانه حصول من ذاته ، ووجوده حصل من علته : مشعر بأن تلك الذات مغايرة للوجود» فنقول : تلك الذات من حيث هي هي [إما أن تكون غنية عن الفاعل ، أو تكون محتاجة إلى الفاعل. فإن كان الأول ، فالذات من حيث هي هي (٣)] واجبة التحقق لذاتها. وذلك محال. وإن كانت محتاجة إلى الفاعل ، وذلك الفاعل هو المبدأ [الأول (٤)] فحينئذ يكون المبدأ الأول علة لتلك الماهية ، وعلة لذلك الوجود ، فيكون قد صدر عنه أمران. وذلك يبطل أصلا (٥) كلامكم.

السؤال الثاني : وهو أنا إذا جعلنا تلك الذات علة لذلك الإمكان ، فإما أن يكون ذلك الإمكان عدما محضا ، أو صفة موجودة. فإن كان الأول امتنع جعله علة الفلك الأقصى ، لأن المعدوم لا يكون علة للموجود. وإن كان الثاني فنقول : اقتضاء الماهية لإمكان نفسها ، سابق على وجودها ، فيلزم أن يكون الشيء قبل وجود نفسه ، علة لقيام صفة موجودة [به (٦)] وذلك محال.

السؤال الثالث : وهو أنكم لو اكتفيتم بهذا القدر من الكثرة ، في كونه علة للمعلومات الكثيرة ، فاكتفوا بما هو أحسن منه. وذلك لأن البارئ تعالى

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) زيادة.

(٣) من (ت).

(٤) من (ط ، س).

(٥) مذهبكم (ط ، س).

(٦) من (ط ، س).

عالم بجميع الماهيات الجنسية والنوعية. فقولوا : إنه تعالى : لأجل كونه عالما [بتلك الماهية يكون علة لها. ولأجل كونه عالما (١)] بالماهية الثانية يكون علة لها أيضا. ولما كان تعالى عالما بجميع [المعلومات ، لا جرم كان علة لجميع (٢)] الممكنات ابتداء من غير اعتبار هذه الوسائط. فإن هذا الكلام أدخل في العقل ، وأقرب إلى الصلاح والسداد مما ذكرتموه.

السؤال الرابع : وهو أنكم ذكرتم جهات ثلاثة في العقل الأول. وهي : الإمكان والوجود والوجوب [بالغير ، ثم ذكرتم (٣)] إن الفلك الأقصى ، ليس عبارة عن مجموع ثلاثة أشياء ، بل هو عبارة عن الهيولى ، والصورة الجسمية ، والصورة النوعية الفلكية ، والنفس الحيوانية المدركة للجزئيات المباشرة للحركات الجزئية ، والنفس الناطقة [فإن المختار عنده في كتاب «الإشارات» أن لكل فلك نفسين. إحداهما : الحيوانية (٤)] المدركة للجزئيات (٥) والثانية (٦) النفس الناطقة المدركة للكليات ، وأيضا : العقل الثاني. فهذه ستة أشياء. وهي الهيولى ، والصورة الجسمية ، والصورة النوعية ، والنفس الحيوانية ، والنفس الناطقة ، والعقل المجرد. فإسناد هذه الستة إلى الجهات الثلاث ، يقتضي أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد بل نقول : جوهر الفلك لا يخلو عن المقولات العشر (٧) التي هي أعراض (٨) فله مقدار خاص ، وله شكل خاص ، وله وضع [خاص (٩)] وله (١٠) من كل مقولة نوع واحد، أو أنواع. فإذا وزعنا

__________________

(١) من (ط ، س).

(٢) من (ط ، س).

(٣) من (ط ، س).

(٤) من (ط ، س).

(٥) للجزئيات المباشرة للحركات الجزئية والنفس ... الخ (ت).

(٦) من (ط ، س).

(٧) التسعة (ت).

(٨) أعراض مقدار (ط ، س).

(٩) من (ط).

(١٠) وليس هو من مقولة [الأصل].

هذه الاعتبارات على الجهات الثلاث ، لزم أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد. بل نقول: لا شك أن جوهر الفلك قابل للقسمة الوهمية ، وسنبين في مسألة الجوهر الفرد ، بالدلائل القاهرة (١) أن كل ما يقبل القسمة المقدارية الوهمية ، فإن ذاته مؤلفة ومركبة من الأجزاء. وإذا كان الأمر كذلك كانت ذات الفلك الأعلى ، مركبة من أجزاء كثيرة ، لا يعلم عددها إلا الله. فكيف يمكن إسنادها إلى الجهة الواحدة؟ وأيضا : فإن أصحاب علم الأحكام اتفقوا على أن طبائع الروح مختلفة بحسب التأثيرات. واختلاف الآثار والألوان ، يدل على اختلاف الملزومات. فهذا يقتضي أن تكون طبائع البروج مختلفة في الماهيات. فإسنادها بأسرها إلى الجهة الواحدة ، يقتضي أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد (٢).

السؤال الخامس : هب أنكم اكتفيتم في الفلك الأقصى بتلك الاعتبارات الثلاث. فكيف قولكم في فلك الثوابت ، مع أنه حصلت الكواكب الكثيرة فيه ، وكل واحد منها مخالف للآخر في الطبيعة وفي اللون والمقدار؟ فعند هذا. قال : الشيخ الرئيس أبو علي : إنه لم يظهر لي أن فلك الثوابت كرة واحدة ، بل كرات متعددة (٣) ينظر بعضها إلى بعض ، فإنه بتقدير [أن تكون (٤)] تلك الكرة : كرات مختلفة. وتكون لكل واحدة من تلك الكرات : عقل ونفس على حدة. فحينئذ يندفع السؤال. إلا أنه يبقى الاعتراض من وجه آخر ، وهو أن يقال : هب أنه كرات كثيرة ، إلا أنه لا بد وأن يحصل في كل كرة : كوكب. ولا شك أن جرم الكوكب ، ممتاز عن جرم الفلك. وحينئذ يحصل الإلزام فيه.

السؤال السادس : ألستم قلتم : إن العقل الفعال هو المدبر لما تحت فلك القمر؟ فقد حكمتم بأنه هو العلة لوجود كل ما يحدث في هذا العالم من الصور

__________________

(١) القاهرة. فإن يقبل القسمة المقدار الوهمية (ت).

(٢) واحد (ط).

(٣) أو كرات ينظر بعضها (ت) بل كرات متعددة بعضها (ط).

(٤) من (ط ، س).

والأعراض ، مع أنه لم يحصل فيه إلا الجهات الثلاث. فإن قالوا : العقل الفعال مبدأ للوجود، والوجود من حيث هو إنه وجود : معنى واحد ، وإنه إنما يتكثر بحسب القوابل. فعلى هذا لا يلزم أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد. فنقول : إذا جوزتم (١) هذا فلم لا يجوز مثله في واجب الوجود ، حتى نقول (٢) : الصادر عن واجب الوجود لذاته ، هو الوجود فقط ، وهو شيء (٣) واحد. والتكثر إنما يحصل بسبب الماهيات القابلة؟ فإن هذا الكلام إن كان مقبولا في حق العقل الفعال ، فذكره في واجب الوجود أولى.

السؤال السابع : إنه إذا كانت الجهات الثلاث في العقل الأول موجبة ، لعقل ونفس وفلك. فهذه الجهات الثلاث حاصلة في [العقل (٤)] الفعال ، الذي هو العقل الأخير. فلم لا يصدر عن هذه الجهات الثلاث الموجودة في العقل الفعال : تلك المعلولات الثلاثة وهكذا إلى ما لا آخر له؟.

أجابوا عنه فقالوا : إن ماهيات العقول مختلفة ، فلا يلزم من كون الجهات [الثلاث (٥)] الحاصلة في بعضها عللا لهذه المعلولات الثلاثة. أن تكون هذه الجهات الثلاث الحاصلة في كلها عللا لهذه المعلولات الثلاثة. فنقول : هذا الكلام حسن. إلا أن على هذا التقدير لا يصير عدد العقول معلوما. فإنه لا يبعد ، إنه وإن حصلت الجهات الثلاث في العقل الأول ، إلا أنه لا يصدر عنه إلا عقل واحد. وكذلك يصدر عن العقل الثاني عقل واحد ، وهو العقل الثالث. وهكذا إلى ألف [ألف (٦)] مرتبة ، ثم إنه يحصل بعد ذلك عقل ، تكون الجهات الثلاث الحاصلة فيه عللا للفلك والنفس والعقل. ثم يحصل من ذلك العقل : عقول مترتبة إلى العدد الذي لا يعلمه إلا الله

__________________

(١) قررتم (ت).

(٢) أو قولوا (ط).

(٣) شيء شيء (ط).

(٤) من (ط).

(٥) من (ت).

(٦) من (ط ، س).

[تعالى (١)] ثم يحصل عقل تكون الجهات الثلاث التي فيه صالحة لعلية الفلك الثاني ولعقله ولنفسه. وعلى هذا التقدير فيفسد قولهم بالعقول العشرة ، أو الخمسين.

فهذه السؤالات كلها واردة على ما ذكروه في الإمكان والوجود والوجوب بالغير.

أما قوله ثانيا : «إن العلوم الأربعة هي المبادي للموجودات الأربعة» فنقول : علمه بالإمكان وبالوجود. إن كان نفس الإمكان والوجود. فكل ما أوردناه على الإمكان والوجود فهو وارد على هذا العلم ، وإن كان مغايرا لهما ، عاد البحث في علة [وجود (٢)] هذه التعقلات الكثيرة. فقد ظهر بما ذكرنا : أن الذي قالوه في ترتيب الوجود : كلام في غاية الضعف والخبط.

والتحقيق في هذا الباب : أن الأصل الذي فرعوا عليه هذه الكلمات. هو قولهم : «الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد» وقد (٣) بينا ضعف دلائلهم في تقرير هذا الأصل ، وأما الإشكالات اللازمة (٤) على هذا الأصل فهي هذه الأسئلة ، التي لا محيص عنها البتة. فكان اللائق بالقائلين بالموجب ، أن يقولوا : إنه تعالى هو المبدأ لوجود جميع الممكنات ، أجناسها وأنواعها وأشخاصها. كما جاء في الكتاب الإلهي : (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) (٥) وكما أنه سبحانه هو المؤثر في وجود الكل ، فهو المؤثر في ماهية الكل. على ما بينا بالدلائل القاهرة : إن المؤثر كما يؤثر في الوجود ، فهو المؤثر أيضا في الماهيات.

وهاهنا آخر الكلام في تفاصيل أقوال القائلين بالموجب [والله ولي التوفيق (٦)]

__________________

(١) من (ت)

(٤) الواردة (ت).

(٢) من (ط).

(٥) مريم ٩٣.

(٣) وقد ثبت أكثر (ت).

(٦) من (ت).

الفصل السادس

في

الرد على القائلين بأن للعالم إلهين

أحدهما خيّر ، والاخر شرير

من الناس من قال : الله [تعالى (١)] وإبليس أخوان. إلا أن الله هو الإله الرحيم الكريم المحسن ، وإبليس هو [الإله (٢)] الشرير [الخبيث (٣)] القاسي. ثم إن القائلين بهذا القول اختلفوا. فمنهم من قال : كل واحد منهما قديم أزلي ، واجب الوجود لذاته. وهما ليسا بجسمين ولا بجسمانيين. ومنهم من قال : إن الإله الخبيث الشرير إنما تولد من فكرة خطرت ببال الإله الكريم الرحيم. ومنهم من قال : إله العالم هو النور والظلمة. فالنور : هو الإله الرحيم ، وجنده : الملائكة. والظلمة : هو إبليس ، وجنده : الشياطين.

وفي هذه المذاهب كثرة لا حصر لها.

واعلم : أنا قد ذكرنا الدلائل [الدالة (٤)] على توحيد الإله (٥) تعالى. والذي نذكره الآن أن نقول : الإله الخيّر الرحيم ، إن لم يقدر على دفع الإله الشرير [الخبيث (٦)] فهو عاجز ، والعاجز لا يصلح للإلهية. وإن قدر على

__________________

(١) من (ت).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط).

(٥) الله (ط).

(٦) من (ط).

دفعة [ولم يدفعه (١)] كان راضيا بالشر ، والراضي بالشر شرير. فالإله الخير : شرير. هذا خلف. وإن دفعه فحينئذ يكون الإله الشرير ، المدفوع عن فعل الشر : عاجزا. والعاجز لا يصلح للإلهية. ولأنا إذا قلنا : الشر لا يصدر إلا عن ذلك الشرير ، ثم إن إله الخير دفعه [دفعة (٢)] واحدة عن ذلك الشر ، فوجب أن لا يبقى في العالم شيء من الشرور والآفات [ومعلوم أن ذلك باطل (٣)].

__________________

(١) من (ت).

(٢) زيادة.

(٣) من (ت).

الفصل السابع

في

حكاية قول من يقول : ان سبب حدوث هذا

العالم عشق النفس على الهيولى

هذا المذهب كان قد اندرس خبره [وانمحى (١)] أثره عن أهل العالم ، فأحياه «محمد بن زكرياء الرازي» والناس أطلقوا ألسنتهم فيه ، وطولوا بما لا فائدة فيه.

وأنا أشرح الحال فيه على سبيل الاستقصاء ، مع البعد عن اللجاج والتعصب.

والكلام فيه إنما يتم بذكر مقدمات :

المقدمة الأولى

قالوا (١) : الموجود إما أن يكون مؤثرا ، لا يتأثر ، وهو البارئ تعالى. أو متأثرا لا يؤثر ، وهو الهيولى. أو يكون متأثرا ومؤثرا وهو النفس. فإنها تقبل الأثر عن عالم الإله ، وتقوى على التأثير في الهيولى. وإما أن يكون مؤثرا ولا متأثرا ، وهو الفضاء والدهر.

قالوا : فهذه الأقسام الأربعة حاصلة بمقتضى تقسيم العقل. ثم الدليل دل على وجودها : أما البارئ تعالى. فنقول : حوادث العالم تدل على افتقارها إلى المحدث. والدلائل التي نقلناها عن القائلين بأن إله العالم يجب أن يكون فاعلا مختارا ، دالة على كونه فاعلا بالاختيار. فقد ثبت لهذا العالم : إله قادر حكيم.

وأما إثبات الهيولى : فقد ذكرنا دلائل القائلين بأن الحوادث لا بد لها من هيولى. ثم قال : «محمد بن زكرياء» : «وهذه الهيولى هي الأجزاء التي لا تتجزأ بحسب الوجود ، وإن كانت قابلة للتجزئة بحسب الوهم».

وسنذكر الحال فيها في مسألة الجوهر الفرد. قال : «وتلك الأجزاء كانت متفرقة وواقفة ساكنة [في الأزل (٢)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

وأما إثبات النفس ففيه مقامان :

الأول : إثبات أن النفس غير البدن ، ودلائل الفلاسفة في إثبات هذه النفس مشهورة.

والمقام الثاني : إثبات أنها قديمة. والدليل (١) على قدمها : أنه لما ثبت [بالدليل (٢)] أن إله العالم فاعل بالاختيار ، لا موجب (٣) بالذات ، امتنع أن يكون فعله أزليا. لأن الفاعل بالاختيار هو الذي يفعل بواسطة القصد [والاختيار (٤)] ومن كان فعله بواسطة القصد ، فإن فعله يكون محدثا مسبوقا بالعدم ، وكل ما كان كذلك ، فإنه لا بد وأن يصير فاعلا ، بعد أن كان غير فاعل من الأزل ، إلى ذلك الوقت. فإنه يستحيل (٥) أن يبتدئ بالفعل في ذلك الوقت ، إلا بعد أن يتقدمه فاعل جاهل ، شرع في الفعل بجهله ، وثبت أن ذلك [الفاعل (٦)] الجاهل هو النفس ، وهذا يقتضي أن النفس يجب أن تكون قديمة. وأما إثبات أن الخلاء والدهر موجودان في الأزل ، فسيأتي دلائل ذلك في كتاب «المكان والزمان».

وعند هذا ، قال «محمد بن زكرياء الرازي» : «فقد ثبت القول بهذه القدماء الخمسة» ثم زعم : أن كل واحد منها واجب الوجود لذاته ، وطعن في دلائل من قال : إن واجب الوجود يمتنع أن يكون أكثر من واحد» وزعم أن شيئا منها لا يبقى على البحث الصحيح.

فهذا هو إحدى المقدمات ، التي لا بد من الوقوف عليها في هذا الباب.

__________________

(١) والذي يدل (ط)

(٢) من (ط)

(٣) لا علة موجبة بالذات (ط).

(٤) من (ت).

(٥) يمتنع (ط).

(٦) من (ت).

المقدمة الثانية

هي : إن المؤثر. إما أن يكون مؤثرا على سبيل الطبع والإيجاب. مثل : تأثير النار في الإحراق ، وتأثير الماء في التبريد. وإما أن يكون مؤثرا على سبيل القدر والاختيار. وهذا على قسمين :

أحدهما : الفاعل الحكيم الذي يكون فعله (١) على وفق الحكمة والمصلحة.

[والثاني (٢) : الذي يكون فعله على وفق العبث والاتفاق. مثل : الصبيان والمجانين. وقد سبق [جواز (٣)] صدور مثل هذا الفعل عن الرجل الحكيم. ومثاله : ما إذا كان الإنسان مشتغل الفكرة بمهم عظيم. فإنه في أثناء تلك الفكرة قد يعبث بشعرة واحدة من شعرات لحيته ، وقد يأخذ نبتة من الطريق ويعبث بها ، وهو وإن كان يعبث بتلك الشعرة ، وبتلك النبتة ، إلا أنه يكون كالغافل عن تلك الأفعال ، ولا يكون فعله (٤) وتركه منطبقا على قانون الحكمة والمصلحة ، بل على محض (٥) الاتفاق والعبث.

__________________

(١) حكمة (ت).

(٤) قوله (ت).

(٢) من (ط).

(٥) بعض (ط) نحو (ت).

(٣) من (ط).

المقدمة الثالثة

قالوا : قد ثبت بالدليل : أن إله العالم ليس علة موجبة بالذات ، بل فاعل بالاختيار ، وثبت : أنه متى كان فاعلا مختارا ، واجب أن يكون فعله محدثا. وإذا (١) ثبت أن فعله محدث ، لزم أن يقال : إنه كان تاركا للفعل من الأزل إلى ذلك الوقت ، وإذا ثبت هذا فنقول : إنه لا يجوز أن يبتدئ الإله الحكيم بالفعل ، بعد أن كان تاركا له مدة غير متناهية. والذي يدل (٢) عليه وجوه [من الشبهات :

الشبهة] الأولى : إنه إما أن يقال : بأن هذا الوقت اختص بخاصية ، لأجلها استحق أن يخصه الفاعل الحكيم بالشروع في التكوين والتخليق (٣) فيه. وإما أن يقال : إنه لم توجد هذه الخاصية. والأول باطل. لأن اختصاص ذلك [الوقت (٤)] بتلك الخاصية ، إما أن يكون لذات ذلك الوقت ، أو لشيء من لوازمه ، أو لا لذاته ، ولا لشيء من لوازم [ذاته (٥)] والأول والثاني باطلان. إذا لو جاز أن يكون ذلك الوقت المعين ، موجبا لتلك الخاصية المعينة ، جاز

__________________

(١) وإذا كان فعله (ط).

(٢) والذي لا يدل عليه وجود الأول (ت) والذي يدل عليه وجوه الأول (ط).

(٣) والتخليق والثاني أن يقال (ت).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

أيضا أن يوجب سائر الحوادث. وإذا جوزنا ذلك ، فحينئذ لا يمكننا الاستدلال بحدوث الحوادث على وجود الإله الحكيم. والثالث أيضا باطل. لأن الكلام الذي ذكرناه في تخصيص ذلك الوقت ، بالشروع في إحداث العالم ، عائد بعينه في تخصيص ذلك الوقت بتلك الخاصية. وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : الإله الحكيم شرع في الإحداث والتكوين في ذلك الوقت ، بعد أن كان تاركا له مدة غير متناهية ، من غير سبب اختص به ذلك الوقت: كان ذلك محض العبث. ومثل هذا الفعل لا يليق البتة بالفاعل الحكيم. ألا ترى أنا إذا رأينا رجلا حكيما عاقلا ، أمسك عن نوع من أنواع الفعل سنين طويلة ، وجلس في زاوية داره (١) ساكتا ، تاركا [لذلك (٢)] الفعل بالكلية ، ثم إنه بعد الأدوار الطويلة قفز دفعة واحدة ، وشرع في العمل بالجد العظيم ، والاجتهاد التام. فإن كل عاقل يقول له : ما السبب الذي اقتضى انتقالك من الإعراض إلى الشروع ، ومن الترك إلى الفعل؟ فإن قال : لم يحدث البتة سبب اقتضى ذلك ، فكل أحد من العقلاء يقول : إن هذا لا يليق بالعقلاء والحكماء، فإنه إن كان الترك أصوب ، فلم انتقلت منه إلى الفعل لا لسبب؟ وإن كان الفعل أصوب ، فلم تركته قبل ذلك لا لسبب؟ فيثبت : أن الانتقال من الترك الأزلي ، إلى الفعل من غير [سبب (٣)] البتة لا يليق بالفاعل الحكيم البتة. أما الفاعل السفيه ، فإنه لا يليق به ذلك. ألا ترى أن الصبيان والمجانين قد ينتقلون من الفعل إلى الترك تارة ، ومن الترك إلى الفعل أخرى ، من غير سبب يقتضي [ذلك (٤)] ومن غير موجب يوجبه. والعقلاء لا يستبعدون حدوث (٥) مثل هذه الحالة عن الفاعل الجاهل العابث. فيثبت أن ابتداء القصد إلى التكوين لا يليق بالفاعل الحكيم. وإنما يليق بالفاعل الجاهل. فوجب إثبات

__________________

(١) بيته (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) من (ت).

(٥) من صدور (ط).

فاعل جاهل قديم ، هو الذي ابتدأ بالشروع في الفعل ، بعد أن كان تاركا له على سبيل العبث والجهل والاتفاق.

والشبهة الثانية : قال : «محمد بن زكرياء الرازي» : «ومما يدل [أيضا (١)] على أن القصد إلى تكوين العالم لا يليق بالفاعل الحكيم : وذلك لأن هذا العالم مملوء من الآلام والأسقام. والبقاء على العدم يفيد الخلاص من هذه الآلام ، وما كان يضره فوت هذه اللذات. وأما التكوين والتخليق فإنه يقتضي الوقوع في آلام الدنيا ، وعذاب الآخرة. ومتى كان الأمر كذلك ، فالحكمة تقتضي ترك الإيجاد والتكوين».

والشبهة الثالثة : قال : «إن بتقدير أن يقال : كل ما أراده الإنسان ، فإنه يجده ، فإن التكوين والتخليق غير لائق بحكمة الفاعل الحكيم. وذلك لأنه لو لا سابقة الاحتجاج إليه لم ينتفع به. فإذا خلق العبد فإن لم تخلق فيه الحاجة والشهوة ، لم يحصل الانتفاع ، فكان ذلك الخلق عبثا. وإن خلق فيه الحاجة والشهوة ، ثم أعطاه التشهي ، كان ذلك جاريا مجرى ما إذا أوصل إليه نوعا من الضرر ، ثم إنه يشتغل بإزالته. وذلك عبث. فيثبت : أن بتقدير أن يجد كل أحد كل ما يتمناه ويهواه ، فإن الخلق يكون عبثا. وذلك لا يليق بحكمة أحكم الحاكمين. فيثبت : أن الابتداء بالخلق لا يليق بالإله الحكيم الرحيم».

فهذه هي الكلمات التي عولوا عليها في إثبات أن الابتداء بالخلق لا يليق بحكمة الإله الحكيم.

__________________

(١) من (ط).

المقدمة الرابعة

قال «محمد بن زكرياء» : «لما ثبت بالدليل : أن العالم محدث ، وثبت : أن الابتداء بخلق العالم لا يليق بحكمة الله [تعالى (١)] وجب أن يكون المبتدئ بإحداث العالم فاعلا جاهلا ، وذلك هو النفس. وتقريره : أن النفس كانت غافلة عن الهيولى من الأزل إلى الأبد ، ثم اتفق لها التفات إلى الهيولى ، واعتقدت أنها إذا اختلطت بالهيولى قدرت على استيفاء اللذات ، فحصل للنفس عشق طبيعي غريزي على هذه الهيولى ، وهذا العشق لا شك في حصوله. ألا ترى أن عشق كل نفس على جسده عشق كامل تام ، لا يمكن حصول عشق أكمل منه ، فلما حصل للنفس ذلك الالتفات الاتفاقي ، والإدراك الغيبي ، وتفرع على حصول ذلك الالتفات حصول هذا [العشق (٢)] الغريزي ، لا جرم تعلقت النفس بالهيولى ، وحصل من تركيبهما : الحيواني (٣). وعلم الإله الحكيم أن ذلك التعلق سبب لفتح باب الآفات والشرور والمضار ، وبسبب أن الهيولى لا يقبل التركيب المحكم المتقن ، الخالي عن جميع جهات المضار. إلا أن البارئ [تعالى (٤)] كما علم ذلك ، علم أيضا : أنه لا يمكن منع النفس عن

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) أي الغضب والشهوة.

(٤) من (ط).

ذلك التعلق ، لأن العشق قد بلغ في القوة والكمال ، إلى حيث لا يمكن إزالته. وعلم الإله الحكيم أيضا أمرا ثالثا ، وهو : أن النفس لا (١) تقدر على التركيب الجيد ، بل لو وقع الاقتصار على ما تتولاه النفس بذاتها ، لكانت [تلك (٢)] التركيبات فاسدة ، سريعة البطلان. فكان تحصل الآلام الشديدة الكثيرة (٣) بسرعة تلك التركيبات ، فلما علم الإله الحكيم الرحيم هذه المعاني الثلاثة (٤) ، علم بأن الأصوب الأصلح : أن تركب [الأجسام (٥)] التي حاولت النفس التعلق بها على التركيب الأقرب إلى الصلاح ، والأبعد عن قبول الفساد ، حتى تكثر الخيرات ، وتقل الآفات ، بحسب الإمكان. ثم إنه تعالى يفيض نور العقل على جوهر النفس ، حتى يظهر له بسبب نور العقل : أن الآفات الحاصلة [في هذا التركيب (٦)] أكثر من الخيرات الحاصلة فيه. فحينئذ ينفر طبع النفس عن الاختلاط بالهيولى، وتعود إلى عالمها فارغة ، مطهرة عن الالتفات إلى عالم الهيولى» قال : «وعلى هذا الطريق فتلك الدلائل الثلاثة غير واردة».

أما الحجة الأولى : وهي [قولهم (٧)] «إنه كيف يليق بالفاعل أن ينتقل من الترك [إلى الفعل (٨)] لا لحكمة». فهذا غير وارد هاهنا. لأن هذا ، وإن كان غير لائق بالفاعل الحكيم ، إلا أنه لا يليق بالفاعل الجاهل العابث. ثم إذا أقدم الفاعل الجاهل العابث على فعل لا ينبغي ، وعلم الفاعل الحكيم أنه لا يمكن دفعه عنه ، كان الفاعل الحكيم معذورا في أن يصرف ذلك الفعل إلى الوجه الأصوب الأصلح فيه بحسب الإمكان.

__________________

(١) كما تقدر على التركيب الجبلي (ت).

(٢) من (ط).

(٣) الكثيرة شرعا وفساد تلك (ت).

(٤) الثابت (ت).

(٥) من (ط).

(٦) من (ت).

(٧) من (ط).

(٨) من (ط).

وأما الحجة الثانية : فزائلة [أيضا (١)] على هذا المذهب. لأنه كان الواجب الاحتراز عن التركيب بين النفس والجسد ، حتى لا تنفتح أبواب الآفات والشرور ، إلا أن النفس لجهلها لما شرعت فيه ، فالإله الحكيم دبره على الطريق الأصوب الأصلح. فكل ما حصل في هذا العالم من الخيرات والراحات ، فهو بسبب تدبير الإله الحكيم ، وكل ما حصل فيه من الآفات والآلام ، فهو بسبب أن الهيولى لا تقبل الصلاح الكلي. والنفس لشدة جهلها وعشقها ابتدأت بالشروع فيه.

وأما الحجة الثالثة : فزائلة أيضا. لأنا لو قلنا : إنه تعالى هو الذي خلق الحاجة ثم أعطاها المحتاج إليه ، كان ذلك عبثا ، بمنزلة من يمزق بطن إنسان ، ثم يداويه. أما لما جاء فتح باب الشرور بسبب تعلق النفس بالهيولى ، وأما الإله الحكيم الرحيم ، فإنه يسعى في دفع الآفات وفي تحصيل الخيرات : كان ذلك جاريا مجرى ما إذا استولى مجنون أو معتوه على رجل ، وأوصل إليه أنواعا من المضار والآفات ، ثم إنه يأخذه رجل حكيم ، ويسعى في إزالة تلك الآفات عنه ، وفي إيصال الخيرات إليه ، بقدر الإمكان ، فإن هذا الحكيم على هذا التقدير يستحق الحمد والثناء.

هذه جملة الكلام في تقرير [مذهب (٢)] «محمد بن زكرياء الرازي».

ولا بد (٣) بعد تقرير هذا الكلام من سؤالات وجوابات ليتضح مقصود الرجل من هذا الكلام :

فالسؤال الأول : أن يقال : ذلك الالتفات الذي حصل لجوهر النفس ، حدث لا عن مؤثر ، أو عن مؤثر؟ فإن كان الأول فقد حدث الحادث لا عن مؤثر ، وذلك يسد باب إثبات الصانع. وإن كان عن مؤثر فذلك المؤثر لم (٤) لم

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) ولا تقرير بعد هذا الكلام (ط).

(٤) لو لم يفعل ذلك الخاصية (ت).

يفعل ذلك الخاطر قبل ذلك الوقت؟ فإن كان ذلك لخاصية في ذلك الوقت ، فلم لا يجوز أن يقال : الفاعل [الحكيم (١)] خص ذلك الوقت بالإحداث لخاصية فيه؟ وإن كان لسبب آخر ، فلم لا يجوز مثله هاهنا؟

أجاب «محمد بن زكرياء» عنه فقال : «إن هذا السؤال لازم على الكل. لأنكم تقولون : إن الإله تعالى قصد إلى إيجاد العالم في ذلك الوقت المعين ، بعد أن كان تاركا للفعل (٢) مدة غير متناهية. فإذا عقلتم هناك ، فلم لا يجوز مثله هاهنا؟ بل نقول : قد بينا : أن مثل هذا العبث والخراف ، أليق بالجاهل السفيه منه بالحكيم العليم.

وأما الفلاسفة : فإنهم قالوا : إن الحركات الفلكية إنما حدثت جزءا فجزءا ، لأن كل حادث سابق ، يعدّ المحل لقبول الحادث اللاحق ، وهكذا لا إلى أول. وإذا عقل ذلك [هناك (٣)] فلم لا يعقل مثله هاهنا؟».

والسؤال الثاني : إن هذا الكلام يقتضي أن يكون الحكيم الكامل ، قصد إلى إيجاد هذا العالم الشريف ، والأفعال الكاملة التامة ، تبعا لفعل فاعل جاهل خسيس. وهو بعيد جدا.

أجاب عنه : «بأن هذه الأفعال الشريفة الكاملة ، لو كانت خالية عن [جميع (٤)] جهات المفسدة والضرر ، لما كان بنا حاجة إلى إسناد أول الفعل إلى الفاعل الجاهل. أو لما دلت الوجوه الثلاثة المذكورة على أنه لا يجوز إسناد ابتداء هذا الفعل إلى الفاعل الحكيم ، لا جرم قلنا : بأن المبتدئ بالفعل هو الفاعل الجاهل ، ثم أسندنا كل ما حصل في هذا العالم من الخير والرحمة والصلاح والمنفعة ، إلى الفاعل الحكيم الرحيم ، كان ذلك هو الواجب (٥) الذي لا محيص

__________________

(١) من (ط).

(٢) للوقت مدة متناهية (ت).

(٣) من (ط).

(٤) من (ت).

(٥) الواحد (ت).

عنه. وعلى [هذا (١)] التقدير يكون الإله رحيما محسنا ، ناظرا لعباده ، ساعيا في دفع الشرور عنهم ، وفي إيصال الخيرات إليهم ، فكان مستحقا للحمد والشكر بغير نهاية».

السؤال الثالث : إن هذا المذهب لا يتم إلا بقدم النفوس ، وقدم الهيولى. وذلك باطل.

أجاب (٢) عنه : بأن دلائل القائلين بوجوب حدوث النفس : ضعيفة. وسيأتي بيان ضعفها في باب الكلام في أحوال النفس (٣).

[السؤال الرابع (٤)] : قالوا : لما علم الإله (٥) أن تعلق النفس بالهيولى ، يوجب فتح باب الآفات والمخافات ، فلم لم يمنع النفس من ذلك التعلق؟

أجاب «محمد بن زكرياء» عنه : «بأن ذلك العشق ، لما صار ذاتيا غريزيا لجوهر النفس ، كانت إزالة ذلك العشق ممتنعة. والبارئ تعالى إنما يقدر على الممكن ، لا على الممتنع. فعلم (٦) الله تعالى أنه لو منع النفس عن التعلق بالهيولى ، لم تمتنع عن ذلك التعلق ، ولم تنقطع مادة ذلك الشر. فلهذا السبب لم يقصد الإله الحكيم [الرحيم (٧)] منع النفس عن التعلق بالهيولى ، بل تركها حتى تعلقت بها ، ثم أوقع تلك التركيبات على الوجه الذي يكون أقرب إلى الخير والصلاح ، وأبعد عن الشر والفساد. ثم أفاض البارئ على جوهر النفس : نور العقل ، حتى أن النفس بقوة نور العقل وبكثرة التجارب لأحوال هذا العالم ، تعرف أنه لا فائدة في [تعلقها (٨)] بهذه الهيولى البتة. بل هذا

__________________

(١) من (ط).

(٢) أجبنا (ت).

(٣) الناس (ت).

(٤) من (ط).

(٥) الله تعالى (ت).

(٦) فعلم أنه تعالى (ط).

(٧) من (ط).

(٨) من (ط).

التعلق يصير فتحا لباب الآفات والمخافات. فإذا وقفت النفس على هذه المعاني ، وظهر عندها أن السعادة الكبرى في رجوع النفس إلى عالمها ، والاستسعاد بمعرفة البارئ ، ومجالسة الأرواح المقدسة الطاهرة ، فحينئذ يزول عنها ذلك العشق والميل. فإذا فارقت الجسد ، بقيت في تلك السعادات الدائمة».

قال : «ومثاله : مثال رجل حكيم له ولد ، فاتفق أن حصل في قلبه عشق شديد ، إلى أن يسافر إلى البلد الفلاني. وعلم ذلك الحكيم أن لو منعه منه ، فإنه لا يمتنع. فإن الحكمة تقتضي أن يمكن ذلك الحكيم ، ذلك الولد من الذهاب إلى ذلك البلد ، ويرسل معه إنسانا [فاضلا (١)] ينبهه على ما في تلك البلدة من الفضائح والقبائح ، وعلى ما في بلد أبيه من الخيرات والسعادات ، فإذا سافر الولد إلى تلك البلدة ، وشاهد ما فيها من الآفات.

وينبّهه ذلك المقارن ، على أسرار تلك الآفات ، فإنه يظهر له أن ذلك السفر كان خطأ. وحينئذ تقوى رغبته في بلدة أبيه. فإذا رجع إليها رجع عظيم النفرة عن تلك القرية ، شديد الرغبة في السكون ببلدة أبيه».

السؤال الخامس : أخبر عن كيفية هذا العشق؟.

أجاب عنه : «محمد بن زكرياء» فقال : «هذا العشق معلوم الثبوت بالضرورة ، فإن جميع الحيوانات مجبولة بطباعها على حب الحياة ، وعلى حب هذه اللذات الجسدانية ، فإذا فاز بهذه الخيرات الجسمانية ، كان ذلك عنده نهاية السعادة ، وإذا بقي محروما منها ، كان ذلك نهاية الشقاوة. وقد بلغ حب النفس لهذا الجسد ، إلى حيث نسيت النفس نفسها ، فإن الغالب على اعتقادات أكثر الخلق : أن الإنسان ليس إلّا هذا الجسد ، وأنه لا سعادة في الدنيا والآخرة ، إلا هذه اللذات الجسدانية ، حتى أن الزهاد الذين يعرضون عن هذه اللذات العاجلة ، إنما يعرضون عنها ، لينالوا لذة الأكل والنكاح في الآخرة. فيثبت بما ذكرنا : أن هذا العشق شديد. فإذا نالت النفس شيئا من هذه

__________________

(١) من (ت).

الطيبات الجسمانية ، جرى مجرى ما إذا تناول قدحا عظيما من الشراب المسكر ، فيصير كالسكران الطافح ، المخبل الغافل. ثم بعد انقضاء ساعة طويلة ربما عاد إليه نور العقل ، فيظهر للنفس قبائح هذا الشراب ، وفضائحه في تلك اللحظة اللطيفة ، ثم ربما ظهر له اشتغال بنوع آخر من هذه اللذات الجسمانية ، فيكون [ذلك (١)] كما إذا فتح السكران عينه لحظة ، ورأى بعض الأشياء ، وسمع بعضها. ثم إنه في الحال تناول قدحا آخر ، فعاد إلى غيبته المتقدمة ، وغفلته الأولى.

فهذا شرح عشق النفس على البدن ، ولا شك أن من تأمل فيه ، علم أن الأمر كذلك».

السؤال السادس : إنه [إن ماتت (٢)] إلى متى يبقى هذا التركيب الفاسد الباطل؟

أجاب عنه : «هذه النفوس العاشقة على [هذه (٣)] الهيولى ، إذا ماتت مع [بقاء (٤)] هذا العشق ، عادت إلى التعلق ببدن آخر ، ولا يزال يتكرر من بدن إلى بدن. حتى يتعلق ببدن خاص ، واتفق له في ذلك البدن إن قوي نور العقل ، وظهر له : أن العلائق الجسدانية كلها آلام في صورة لذات ، وجراحات في حلية راحات ، فحينئذ ينفر طبعه عنها ، ولا يبقى له ميل إليها ، فحينئذ يفارق هذه النفس على نفرة من هذه الجسمانيات ، وعلى رغبة في تلك الروحانيات. وحينئذ لا تعود [تلك (٥)] النفس بعد ذلك إلى التعلق بالبدن. ثم لا يزال يبقى هذا التكرر ، دورا بعد دور ، حتى تنكشف هذه الحقيقة لجميع النفوس المتعلقة بالأجساد ، فتصير النفوس بأسرها ، مفارقة للأجساد بأسرها ، وينحل التركيب ، وتقوم القيامة الكبرى ، ويعود الأمر

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) من (ت).

(٤) من (ط).

(٥) من (ت).

إلى ما كان أولا ، من بقاء النفوس في عالمها خالية عن التعلق بالأجساد ، وبقاء الهيولى خالية عن مخالطة النفوس». فهذا جملة الكلام في حكاية حال هذا المذهب.

وزعم (١) «محمد بن زكرياء الرازي» : «أن كل الفلاسفة الإلهيين الذين كانوا قبل «أرسطاطاليس» كانوا على هذا المذهب» وزعم أيضا : «أن أديان جميع الأنبياء عليهم‌السلام ، إنما تستقيم على هذا المذهب. والدليل عليه : أن كل الأنبياء والرسل جاءوا بذم الدنيا ، وتقبيح أحوالها ، والتحذير عنها. ولو أن الله [تعالى (٢)] خلقها ابتداء ، وأحدثها فلم يذمها. وإذا خلق الخلق فيها ، وأحوجهم إليها ، ورغبهم فيها ، ووضع الأسباب الموجبة لميلهم إليها ، ولعشقهم عليها ، فكيف يعقل أن ينفرهم ، وأن يأمرهم بالمباعدة عنها؟ أما إذا قدرنا : أن النفس عشقت التعلق بهذه الجسمانيات ، ثم علم الإله الحكيم : أن ذلك التعلق سبب للعناء والبلاء ، فههنا يحسن منه أن يحذرهم عنها ، وأن يأمرهم بالاحتراز عنها. ومثاله : قوله تعالى : (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) (٣) فقال : بعضهم ذلك المزين هو إبليس. فقيل : فيلزم أن يفتقر إبليس [إلى إبليس آخر (٤)] ولزم التسلسل. وإن كان المزين هو الله ، فكيف يليق بالرحيم [الكريم (٥)] الحكيم أن يسعى في تزيينه ، ثم يأمره بالاحتراز عنه. أما إذا حملناه على أن عشق النفس على الهيولى أمر اتفق له ، وصار لازما له ، فههنا يحسن من الله [تعالى (٦)] أن ينبه الإنسان على الحذر ، والاحتراز».

فهذا تمام الكلام في تقريره هذا القول.

واعلم : أن الفلاسفة الذين يقولون بأن إله العالم موجب بالذات.

__________________

(١) وزعم زكريا الرازي (ت).

(٢) من (ت).

(٣) آل عمران ١٤.

(٤) من (ط).

(٥) من (ت).

(٦) من (ت).

ينكرون هذا المذهب. لأجل أنه من فروع القائلين بالفاعل المختار. والفلاسفة ينكرون القول بالفاعل المختار ، فوجب أن يكون إنكارهم لهذا القول أشد.

وأما القائلون بإثبات [الإله (١)] الفاعل المختار :

فالذين يقولون : إنه لا يجب أن تكون أفعال الإله واقعة على وفق مصالح الإنسان لا يلتفتون إلى هذا المذهب. لأن مدار الحجة في هذا المذهب على أنه رحيم كريم ، فوجب أن لا يفعل فعلا ، يفضي إلى الألم والضرر. فإذا قلنا : إن تحسين العقل وتقبيحه باطل ، وأنه يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد. فهذا الكلام ساقط بالكلية.

أما المعتزلة : الذين سلموا : أن تحسين العقل وتقبيحه تجريان في أفعال الله ، وفي أحكامه. فكلام «محمد بن زكرياء» متوجه عليهم. وإلزاماته لازمة عليهم. وله مناظرة طويلة مع «أبي القاسم الكعبي» ولم يقدر «الكعبي» على الخروج من يده ، ومن الانفصال عن سؤالاته في مسائل التعديل والتجويز.

ولنكتف هاهنا بهذا القدر من الكلام. فإن أصول هذه المباحث لما سلفت ، لم يكن بنا حاجة إلى الإعادة. والله أعلم.

__________________

(١) (ت).

الفصل الثامن

في

الكلام على التناسخ

اعلم : أن القوم زعموا : أن هذه الآلام الموجودة في هذا العالم ، إنما حصلت بتخليق [الله تعالى (١)] وثبت : أنه رحيم ناظر لعباده ، فوجب أن يقال : إن هذه الآلام عقوبات أوصلها الله إليهم ، جزاء على ذنوب صدرت منهم ، قبل ذلك. ولما [رأينا (٢)] أنه لم يصدر عنهم الذنوب ، حال كونهم في هذه الأبدان ، علمنا : أن هذه الأرواح كانت في أبدان أخرى. فأقدموا على الذنوب هناك ، فاستوجبوا العذاب عليها ، فنقلت تلك الأرواح إلى هذه الأبدان ، وأوصلت هذه الآلام إليها ، عقوبة على تلك الجنايات.

فإذا قيل لهم : يقتضي أنهم أقدموا على المعصية في تلك الأبدان السابقة. والإقدام على المعصية مشروط بسبق التكليف ، والتكليف أضرار. فهذا يقتضي أن الإله الحكيم أوصل الضرر إليهم ابتداء. فإن جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى يوصل المضار إليها في هذه الحياة ، من غير سبق هذه الأمور التي تذكرونها ، وإن لم يجز هذا فقد فسد قولكم؟

فعند هذا انقسم القائلون بالتناسخ إلى قسمين :

__________________

(١) من (ت).

(٢) من (ط).

منهم من يقول : كل ضرر يصل إلى العبد ، فإنه مسبوق بذنب صدر منه ، وكل ذنب صدر منه ، فإنه مسبوق بتكليف هو أضرار ، وهكذا كل واحد منها قبل الآخر. لا إلى أول.

فقال هؤلاء : بقدم العالم ، وبحوادث لا أول لها.

ومنهم من قال : إنه لا حاجة إلى التزام قدم العالم ، بل نقول : إنه إذا اتفق أن وقعت الأحوال على وجه لا بد فيه من التزام أحد الضررين. فههنا الواجب على العاقل : التزام أخفهما ، ودفع أكملهما. إذا ثبت هذا فنقول : أول ما خلق الله العبد. فإنه أباح له : كل ما أراد واشتهى ، فهذا يقتضي أن يكون مأذونا في قتل غيره ، ونهب ماله إذا اشتهى ذلك. ثم إن ذلك الآخر يفعل في حقه مثل ذلك [وذلك (١)] يفضي إلى حصول المضار العظيمة. فيثبت : أن الحكمة الإلهية تقتضي منع العباد في أول الأمر عن الظلم والبغي والعدوان. فهذا التكليف ، وإن كان اضرار ، إلا أنه لا بد من التزامه دفعا للضرر ، الذي هو أعظم منه.

وإذا ثبت جواز الابتداء بهذا التكليف ، فعند هذا نقول : كل من عصى الإله تعالى. فبه استوجب العقاب. وذلك يحصل بأن ينقله إلى بدن آخر ويعذبه فيه بمقدار ذلك الذنب.

فهذه حكاية [قول (٢)] أهل التناسخ : وهو (٣) أيضا مبني على [جريان (٤)] تحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله وفي أحكامه. ومبني أيضا على أن الإنسان شيء غير الجسد ، وأنه موجود قبل حدوث هذا الجسد [والله أعلم (٥)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) فهذا (ت).

(٤) من (ط).

(٥) من (ط).

الفصل التاسع

في

حكاية مذهب القائلين بالأعواض

اعلم : أن المعتزلة لما اعتقدوا جريان حكم تحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله وفي أحكامه. قالوا : إنا نشاهد حصول هذه الآلام في العباد. والعقل حكم بأن إيصالها إلى الحيوان من غير سبب : قبيح. وهذا يقتضي امتناع صدوره عن الإله الرحيم الحكيم. فحسنها إما أن يكون للجناية السابقة ، على ما هو قول أصحاب التناسخ. وقد ثبت بطلانه. فوجب أن يكون حسنها لأجل [أن الإله (١)] الحكيم الرحيم ، يعطي أعواضا وافية جابرة لجهات مضارها.

ثم المحققون منهم قالوا : لا بدّ من العوض ، لتخرج هذه المضار عن كونها [ظلما. ولا بد من الاعتبار لتخرج هذه المضار عن كونها (٢)] عبثا. فإنه لو استأجر رجل [رجلا (٣)] على نزح ماء البحر ، وصبه في الجانب الآخر ، بمقدار من الأجرة ، ولم يكن في ذلك العمل شيء من المنافع والمصالح ، فذلك العمل يخرج عن كونه ظلما. إلا أنه يكون عبثا ، ويكون فاعله سفيها. فلهذا قالوا : هذه الآلام إنما تحصل (٤) لمجموع الأمرين : العوض والاعتبار. فإذا قيل

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، ت).

(٣) من (م).

(٤) تحسين (م ، ت)

لهم : إن الحيوانات التي تكون في غاية الصغر ، قد تتولد في قعور (١) البحور ودواخل الأرض، بحيث لا يطلع عليها أحد ، فكيف يحصل الاعتبار بإيصال الآلام إليها؟

أجابوا : بأن الملائكة والجن والشياطين يشاهدونها ، فيحصل لهم أنواع من الاعتبارات(٢) في الدين. ثم إن القائلين بهذا القول ، أوجبوا على الله تعالى : حشر جميع البق والبراغيث والقمل والديدان ، وإيصال الأعواض إليها. وزعموا : أنه لو أخل بإعادة شيء منها لصار سفيها ومعزولا عن الإلهية.

واعلم : أن هذا من تفاريع تحسين العقل وتقبيحه. وقد علمت ضعفه وسقوطه. وقال بعض المحققين : إنه إذا وصل الضرر إلى حيوان ، ثم إنه يعاد ذلك الحيوان بعد عشرة آلاف سنة ، وتلك الحالة قد نسيها ذلك الحيوان ، ولم يبق له بها شعور ، كان ذلك الإنعام جاريا مجرى الإنعام المبتدأ ، ويصير منقطع التعلق عما مضى.

ولما طال كلام المعتزلة في تفاصيل هذا الباب طولا مقرونا بالضعف والرخاوة. لا جرم آثرنا الاختصار فيه [والله أعلم (٣)].

__________________

(١) قعر البحر وداخل الأرض (م).

(٢) أنواع من الاعتبار (م).

(٣) من (ط).

الفصل العاشر

في

حكاية قول من أثبت للعالم إلها فاعلا

مختارا مع أنه يفعل ما يشاء ويحكم

ما يريد. لا يلتفت إلى مصالح الخلق ومفاسدهم

اعلم : أن هؤلاء لما نفوا التحسين والتقبيح في أفعال الله وأحكامه امتنعوا أن يقولوا : إنه ـ تعالى ـ خصص إحداث العالم بوقت معين ، لأن تخصيص ذلك الوقت بالإحداث والتكوين ، أصلح للمكلفين ، وأنفع لهم.

والذي يدل على ذلك وجهين :

الحجة الأولى : إن الفعل موقوف على الداعي. ومتى كان الأمر كذلك [كانت المضار والفواحش والقبائح بأسرها ، بقضاء الله تعالى وقدره. ومتى كان الأمر كذلك (١)] امتنع توقيف صدور الفعل من الله تعالى على رعاية المصالح [والمنافع (٢)].

الحجة الثانية : إن اختصاص ذلك الوقت بتلك المنفعة الزائدة. إما أن يكون لذاته ، أو لشيء من لوازم ذاته ، أو لا لذاته ، أو لا للوازم ذاته. والأول باطل. وإلا لكان الوقت المعين صالحا لاقتضاء الآثار والخواص لذاته. ولو جاز ذلك ، لجاز إسناد كل حادث يحدث إلى الوقت المعين. وحينئذ لا يمكن الاستدلال بحدوث الحوادث على وجود الصانع. وكذا القول إذا قلنا : بأن

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

المقتضى لتلك الخاصية ، شيء من لوازم ذلك الوقت ومن مقتضياته. والثالث باطل. لأنا كما قلنا : ما المقتضى لاختصاص ذلك الوقت [بحدوث العالم فيه؟ وكذلك ما المقتضى لاختصاص ذلك الوقت (١)] بتلك الخاصية؟ ويلزم التسلسل. إما دفعة واحدة ، وإما واحدا قبل آخر ، لا إلى أول. وذلك يقتضي حدوث حوادث لا أول لها. فثبت : أن القائلين بنفي تحسين العقل وتقبيحه ، يلزمهم أن يقولوا : إنه تعالى خصص إحداث العالم بذلك الوقت المعين ، لا لمخصص أصلا البتة.

وهذا تمام المباحث في هذا الباب.

واعلم : أن هذه المذاهب لما تلخصت على هذا الوجه ، وظهر ما في كل واحد منها من المدائح والقبائح (٢). فعند هذا قال : أصحاب الحيرة والدهشة : إن هذه الدلائل ما بلغت في الوضوح والقوة ، إلى حيث تزيل الشك ، وتقطع العذر ، وتملأ (٣) بقوتها ونورها : العقل. بل كل واحد منها يتوجه فيه نوع غموض. واللائق بالرحيم الكريم أن يعذر المخطئ في أمثال هذه المضائق.

[قال مولانا الداعي إلى الله تعالى (٤)] : وعند هذا أتضرع وأقول :

إلهي حجتي : حاجتي. وعدتي : فاقتي. ووسيلتي إليك : نعمتك عليّ. وشفيعي عندك : إحسانك إليّ.

إلهي أعلم أنه لا سبيل إليك ، إلا بفضلك. ولا انقطاع عنك إلّا بعدلك.

إلهي لي علم كالسراب. وقلب من الخوف خراب. وأنواع من المشكلات بعدد الرمل والتراب. ومع هذا ، فأرجو أن أكون من الأحباب. فلا تخيب رجائي. يا كريم يا وهاب.

__________________

(١) من (ط).

(٢) القبائح والمدائح (ط).

(٣) بقوته ونوره (م ، ط ، ت).

(٤) سقط (ط).

إلهي إنك تعلم أن كل ما قلته وكتبته ، ما أردت به إلّا الفوز بالحق والصواب ، والبعد عن الجهل والارتياب.

فإن أصبت فاقبله مني بفضلك ، وإن أخطأت فتجاوز عني برحمتك وطولك. يا ذا الجود ، يا مفيض الوجود.

وهاهنا آخر الكلام [في هذا الباب.

قال مصنف هذا الكتاب : وقد تم ليلة الأربعاء من جمادى الأولى سنة خمس وستمائة (١)] والحمد لله وحده (٢) [وصلواته على النبي ، سيدنا محمد وآله.

تم الكتاب الرابع من «المطالب العالية» للفخر الرازي. ويليه الكتاب الخامس في البحث عن «الزمان والمكان».

وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي ، الطاهر الزكي ، وعلى آله وصحبه ، وسلم وشرف وكرم وعظم. آمين (٣)].

__________________

(١) من (ط).

(٢) على آلائه (ط).

(٣) من (م).

فهرست الجزء الرابع

القسم الاول من الجزء الرابع

في مباحث القائلين بالقدم....................................................... ٥

المقالة الأولى في المقدمات التي لا بد من تقديمها................................ ٧

المقدمة الأولى في تفسير العالم................................................... ٩

المقدمة الثانية في تفسير الحدوث............................................... ١٣

المقدمة الثالثة في شرح مذاهب الناس في هذه المسألة.............................. ١٩

المقدمة الرابعة في أن الكتب الإلهية تثبت حدوث العالم............................ ٢٩

المقدمة الخامسة في أن هذا العالم. هل له أول أم لا؟.............................. ٣٥

المقدمة السادسة في ذكر دلائل أصحاب القدم ودلائل أصحاب الحدوث............ ٤١

المقالة الثانية في تقرير الوجوه المستخرجة من اعتبار حال الفاعلية ، والمؤثرية..... ٤٣

الفصل الأول في حكاية الحجة القوية التي لهم في هذا الباب........................ ٤٥

الفصل الثاني في تقرير وجوه أخرى من الدلائل متفرعة على فاعلية المبدأ الأول........ ٨٩

المقالة الثالثة في الدلائل المستنبطة من صفة القدرة............................. ٩٩

المقالة الرابعة في الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة........................... ١٢٥

المقالة الخامسة في الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح والحكمة والعبث...... ١٣٥

المقالة السادسة في الدلائل المستنبطة من صفة العلم............................. ١٥٣

المقالة السابعة في الوجوه المستنبطة من العلة المادية وهي كون العالم ممكن الوجود لذاته ١٦٧

المقالة الثامنة في الوجوه المستنبطة من الحركة والتغير والحدوث...................... ١٨٥

المقالة التاسعة في الوجوه المستنبطة في هذا الباب من الزمان....................... ١٩٥

المقالة العاشرة في الوجوه المستنبطة في هذا الباب مما يتعلق بالمكان................. ٢١١

المقالة الحادية عشر في بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا ، ثم بيان أنه لما وجب كونه أبديا ، وجب كونه أزليا ،    ٢١٩

المقالة الثانية عشر في بيان أن كون العالم أزليا ، لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر...... ٢٢٩

القسم الثاني من الجزء الرابع

في مباحث القائلين بالحدوث................................................ ٢٤١

المقالة الأولى في تقرير الدلالة المبنية على الحركة والسكون.................... ٢٤٣

الفصل الأول في تقرير هذه الحجة........................................... ٢٤٥

الفصل الثاني في إقامة الدلالة على أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا في الأزل.. ٢٤٩

الفصل الثالث في بيان أن الجسم يمتنع أن يكون ساكنا في الأزل............... ٢٨١

المقالة الثانية في تقرير دلائل أخرى في اثبات حدوث العالم.................... ٣٠٧

المقالة الثالثة في تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم ، فاعل بالاختيار ، لا موجب بالذات   ٣٢٣

القسم الأول من هذه المقالة

في الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ، الدالة على أن مدبر العالم يجب أن يكون فاعلا مختارا ، لا علة موجبة   ٣٢٩

الفصل الأول في شرح منافع الشمس.......................................... ٣٣١

الفصل الثاني في منافع القمر................................................. ٣٤١

الفصل الثالث في أحوال سائر الكواكب...................................... ٣٤٧

الفصل الرابع في آثار حكمة الله في العالم الأسفل............................... ٣٥١

القسم الثاني من هذه المقالة

في الدلائل المستنبطة من القرآن المجيد في اثبات أن إله العالم قادر حكيم مختار رحيم. ٣٥٣

أنواع الدلائل على أن إله العالم قادر حكيم ، مختار رحيم...................... ٣٥٥

المقالة الرابعة في ضبط مذاهب أهل العلم في الفعل والفاعل................... ٣٦١

الفصل الأول في ضبط تلك المذاهب بحسب التقسيم........................... ٣٦٣

الفصل الثاني في الرد على الدهرية............................................ ٣٦٩

الفصل الثالث في الكلام على القائلين بالموجب................................ ٣٧٣

الفصل الرابع في أن الصادر الأول عن الله. ما هو؟ على قول من يقول : الواحد ، لا يصد عنه الا الواحد  ٣٨١

الفصل الخامس في شرح مذهب هؤلاء الفلاسفة في أن ذلك الصادر الأول. كيف تصدر عنه الكثرة الحاصلة في الممكنات؟   ٣٩١

الفصل السادس في الرد على القائلين بأن للعالم إلهين أحدهما خيّر ، والاخر شرير... ٣٩٩

الفصل السابع في حكاية قول من يقول : ان سبب حدوث هذا العالم : عشق النفس على الهيولى ٤٠١

المقدمة الأولى.............................................................. ٤٠٣

المقدمة الثانية.............................................................. ٤٠٥

المقدمة الثالثة.............................................................. ٤٠٧

المقدمة الرابعة.............................................................. ٤١١

الفصل الثامن في الكلام على التناسخ......................................... ٤٢١

الفصل التاسع في حكاية مذهب القائلين بالأعواض............................. ٤٢٣

الفصل العاشر في حكاية قول من أثبت للعالم إلها فاعلا مختارا مع أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. لا يلتفت إلى مصالح الخلق ومفاسدهم................................................................ ٤٢٥

فهرس المواضيع............................................................. ٤٢٩

المطالب العالية من العلم الإلهي - ٤

المؤلف: محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]
الصفحات: 431
  • القسم الاول من الجزء الرابع
  • في مباحث القائلين بالقدم 5
  • المقالة الأولى في المقدمات التي لا بد من تقديمها 7
  • المقدمة الأولى في تفسير العالم 9
  • المقدمة الثانية في تفسير الحدوث 13
  • المقدمة الثالثة في شرح مذاهب الناس في هذه المسألة 19
  • المقدمة الرابعة في أن الكتب الإلهية تثبت حدوث العالم 29
  • المقدمة الخامسة في أن هذا العالم. هل له أول أم لا؟ 35
  • المقدمة السادسة في ذكر دلائل أصحاب القدم ودلائل أصحاب الحدوث 41
  • المقالة الثانية في تقرير الوجوه المستخرجة من اعتبار حال الفاعلية ، والمؤثرية 43
  • الفصل الأول في حكاية الحجة القوية التي لهم في هذا الباب 45
  • الفصل الثاني في تقرير وجوه أخرى من الدلائل متفرعة على فاعلية المبدأ الأول 89
  • المقالة الثالثة في الدلائل المستنبطة من صفة القدرة 99
  • المقالة الرابعة في الدلائل المستنبطة من صفة الإرادة 125
  • المقالة الخامسة في الدلائل المستنبطة من الحسن والقبح والحكمة والعبث 135
  • المقالة السادسة في الدلائل المستنبطة من صفة العلم 153
  • المقالة السابعة في الوجوه المستنبطة من العلة المادية وهي كون العالم ممكن الوجود لذاته 167
  • المقالة الثامنة في الوجوه المستنبطة من الحركة والتغير والحدوث 185
  • المقالة التاسعة في الوجوه المستنبطة في هذا الباب من الزمان 195
  • المقالة العاشرة في الوجوه المستنبطة في هذا الباب مما يتعلق بالمكان 211
  • المقالة الحادية عشر في بيان أنه يجب أن يكون العالم أبديا ، ثم بيان أنه لما وجب كونه أبديا ، وجب كونه أزليا ،    219
  • المقالة الثانية عشر في بيان أن كون العالم أزليا ، لا يقتضي استغناؤه عن المؤثر 229
  • القسم الثاني من الجزء الرابع
  • في مباحث القائلين بالحدوث 241
  • المقالة الأولى في تقرير الدلالة المبنية على الحركة والسكون 243
  • الفصل الأول في تقرير هذه الحجة 245
  • الفصل الثاني في إقامة الدلالة على أن الجسم يمتنع أن يكون متحركا في الأزل.. 249
  • الفصل الثالث في بيان أن الجسم يمتنع أن يكون ساكنا في الأزل 281
  • المقالة الثانية في تقرير دلائل أخرى في اثبات حدوث العالم 307
  • المقالة الثالثة في تقرير الوجوه الدالة على أن إله العالم ، فاعل بالاختيار ، لا موجب بالذات   323
  • القسم الأول من هذه المقالة
  • في الاعتبارات المأخوذة من أصول الحكمة ، الدالة على أن مدبر العالم يجب أن يكون فاعلا مختارا ، لا علة موجبة   329
  • الفصل الأول في شرح منافع الشمس 331
  • الفصل الثاني في منافع القمر 341
  • الفصل الثالث في أحوال سائر الكواكب 347
  • الفصل الرابع في آثار حكمة الله في العالم الأسفل 351
  • القسم الثاني من هذه المقالة
  • في الدلائل المستنبطة من القرآن المجيد في اثبات أن إله العالم قادر حكيم مختار رحيم. 353
  • أنواع الدلائل على أن إله العالم قادر حكيم ، مختار رحيم 355
  • المقالة الرابعة في ضبط مذاهب أهل العلم في الفعل والفاعل 361
  • الفصل الأول في ضبط تلك المذاهب بحسب التقسيم 363
  • الفصل الثاني في الرد على الدهرية 369
  • الفصل الثالث في الكلام على القائلين بالموجب 373
  • الفصل الرابع في أن الصادر الأول عن الله. ما هو؟ على قول من يقول : الواحد ، لا يصد عنه الا الواحد  381
  • الفصل الخامس في شرح مذهب هؤلاء الفلاسفة في أن ذلك الصادر الأول. كيف تصدر عنه الكثرة الحاصلة في الممكنات؟   391
  • الفصل السادس في الرد على القائلين بأن للعالم إلهين أحدهما خيّر ، والاخر شرير... 399
  • الفصل السابع في حكاية قول من يقول : ان سبب حدوث هذا العالم : عشق النفس على الهيولى 401
  • المقدمة الأولى 403
  • المقدمة الثانية 405
  • المقدمة الثالثة 407
  • المقدمة الرابعة 411
  • الفصل الثامن في الكلام على التناسخ 421
  • الفصل التاسع في حكاية مذهب القائلين بالأعواض 423
  • الفصل العاشر في حكاية قول من أثبت للعالم إلها فاعلا مختارا مع أنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. لا يلتفت إلى مصالح الخلق ومفاسدهم 425
  • فهرس المواضيع 429