

الصفات الإيجابية
وهي كونه سبحانه :
قادرا ، عالما ، حيا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ، باقيا ، حكيما.
واعلم : أن الكلام
في كونه تعالى ـ قادرا ، يجب أن يتقدمه الكلام في تفسير القادر، والكلام فيه متصل
بأحكام الدواعي والصوارف فلهذا السبب كان تقديم الكلام فيه.
الباب الأوّل
في
أحكام الدواعي والصوارف
الفصل الأول
في
حد القادر
أجود ما قيل فيه :
أنه الذي يصح منه أن يفعل تارة ، وأن لا يفعل أخرى ، بحسب الدواعي المختلفة.
وتفسير الدواعي : هو أن الإنسان إذا علم أو ظن ، أو اعتقد ، أن له في الفعل
الفلاني مصلحة راجحة. فعند حصول أحد هذه الثلاثة ، يحصل في قلبه ميل جازم إلى
الفعل (فإن كانت أعضاؤه سليمة فإن عند حصول ذلك الميل في قلبه يصدر عنه ذلك الفعل)
وأما إن علم ، أو ظن ، أو اعتقد أن له في الفعل الفلاني مفسدة راجحة ، فعند
حصول هذا العلم ، او الاعتقاد ، أو الظن ، يحصل في قلبه نفرة جازمة عن ذلك الفعل ،
فإن كانت أعضاؤه سليمة ، ترتب على حصول تلك النفرة ، مع سلامة الأعضاء : الترك.
وهذا هو المراد بالداعي.
ويتفرع
على ما ذكرناه مباحث :
الأول : في بيان السبب الذي لأجله سميت هذه الأشياء الثلاثة بالداعي. فنقول :
الدعاء : اسم للقول المخصوص. إلا أن الإنسان إذا علم ، أو ظن ؛ أو اعتقد أن له في
فعل مخصوص خيرا راجحا ، فإنه يصير ذلك العلم ، أو الاعتقاد ، أو الظن ، حاملا له
على الفعل (فأشبه ذلك كون ذلك
__________________
العلم ، أو
الاعتقاد ، أو الظن ، داعيا له إلى ذلك الفعل) فيسمى هذا العلم ، أو الاعتقاد ، أو الظن بالداعي ، لأجل
هذه المناسبة. وقد يسمى الداعي : بالغرض. والفرق : هو أن الغرض : اسم لتلك المنفعة
المعلومة ، أو المظنونة. وأما الداعي : فهو ذلك العلم أو الظن. والحكماء يسمونه : بالعلّة
الغائية. وقد يسمونه أيضا : بالعلة التامة.
البحث الثاني : إنه إذا دعاه الداعي إلى الفعل حصل الفعل لا محالة. ثم هاهنا احتمالات. أحدها :
أن المؤثر في حصول الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي. وثانيها : أن المؤثر فيه هو
القدرة بشرط الداعي. وثالثها : أن الداعي علّة تامة ، تصير قدرة القادر علّة تامة
لحصول الفعل. ولهذا يقال : العلة الغائية علة تامة لعلة العلة الفاعلية. ورابعها :
إن حصول القدرة ، والداعي سبب لحصول الاستعداد التام ، لخروم ذلك الفعل من العدم
إلى الوجود. فأما نفس ذلك الحصول والحدوث ، فمن الأسباب العلوية. فهذه الاحتمالات
الأربعة لا بد من بيانها :
ونقول : الأقرب أن
يقال : المؤثر في الفعل هو مجموع القدرة مع الداعي. والدليل عليه : أن القدرة
وحدها غير صالحة للتأثير ـ على ما سيجيء بيانه ، عند تقرير أنه عند عدم الداعي
يمتنع الفعل ـ ومعلوم أيضا : أن الداعي وحده غير صالح للتأثير. وأما عند اجتماعهما
، فإنه يحصل الأثر. فعلمنا أن المؤثر هو المجموع. فإن قالوا : قولكم القدرة وحدها
غير صالحة للتأثير ، قول (باطل لأن القدرة عبارة عما يكون له صلاحية التأثير ،
فقولكم : القدرة وحدها غير صالحة للتأثير قول) بأن القدرة ليست مؤثرة. وهذا متناقض والجواب : إنا نعني
بالقدرة كون الأعضاء بحالة متى انضم الداعي إليها حصل الفعل. وإذا كان المراد
بالقدرة ذلك. فقد زال السؤال. فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المؤثر هو القدرة (إلا
أن انضمام الداعي إليها شرط لصدور ذلك الأثر
__________________
عن القدرة؟) والفرق بين أجزاء العلة وبين ما يكون شرطا لتأثير العلة في
المعلول : معلوم. والجواب : إنا لا نعني بالمصدر والمؤثر إلا مجموع الأمور التي لا
بد من حصولها حتى تصير مصدرا لذلك الأثر. وعلى هذا التقدير فلا فرق عندنا في
القيود الوجودية بين أن يقا : إنها أجزاء العلة وبين أن يقال إنها شرائط لصدور
الأثر عن العلة. واعلم أن بهذا القدر الذي ذكرناه لا يظهر أن الحق من تلك
الاحتمالات الأربعة : ما ذا؟
البحث الثالث : لقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يقال : أن عند حصول مجموع القدرة والداعي يصدر
الأثر عن سبب منفصل ، كما يقول الفلاسفة : من أن مجموع القدرة والداعي يوجب
الاستعداد التام لحدوث ذلك الأثر ، وعند حصول هذا الاستعداد التام يفيض الأثر عن
العقل الفعال؟ ويجب أن يتأمل في هذا الاحتمال ليعلم أنه حق أو باطل.
البحث الرابع : إن قول القائل : القادر هو الذي يصح منه أن يفعل ، وأن لا يفعل بحسب
الدواعي المختلفة كلام مشكل. وذلك لأن قولنا : إنه لم يفعل : إشارة إلى أنه نفي
للعدم الأصلي ، كما كان. والعدم يمتنع وقوعه بالفاعل. لأن القدرة صفة مؤثرة ،
والعدم نفي محض ، وسلب صرف. فالقول بأن العدم وقع بالفاعل والقادر محال. (وأيضا :
الشيء حال بقائه يمتنع إسناده إلى الفاعل. لما ثبت أن تكون الكائن محال) وإذا كان الأمر كذلك فالعدم الباقي يمتنع إسناده إلى القادر.
لوجهين : الأول : إن كونه عدميا يمنع من إسناده إلى الفاعل. والثاني : إن كونه
باقيا يمنع أيضا من إسناده
إلى الفاعل. فيثبت أن العدم الباقي يمتنع استناده إلى القادر من هذين الوجهين. ولما
ثبت أن الترك لا معنى له. إلا البقاء على العدم الأصلي ، وثبت أن البقاء على العدم
الأصلي يمتنع إسناده إلى الفاعل يثبت حينئذ : أن القادر لا قدرة له على الترك
البتة. وإذا كان كذلك كان قوله : القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك قولا مشكلا.
ولهذا الكلام مزيد غور.
__________________
وحاول بعضهم أن
يجيب عما يقرب من هذا الكلام. فقال : إن العاجز لا يجد من نفسه أنه إن لم يشأ
الفعل فإنه لا يمكنه أن لا يفعل (وأما القادر على الفعل فإنه يجد من نفسه أنه إن
شاء أن لا يفعل فإنه يمكنه أن لا يفعل) وهذا الفرق معلوم بالضرورة. ولما كان العلم بهذا الفرق
ضروريا. فحينئذ لا حاجة بنا إلى بيان أنه كيف حصل هذا الفرق؟ ولقائل أن يقول : هذا
الجواب ضعيف. وذلك لأن ترك الفعل إما أن يكون أمرا زائدا على البقاء على العدم
الأصلي المستمر ، وإما أن لا يكون كذلك. بل هو عبارة عن نفس ذلك العدم المستمر.
والأول باطل لوجوه : الأول : إن على هذا التقدير يكون القادر قادرا على فعل الشيء وعلى فعل
ضده. ولا يكون البتة قادرا على الفعل وعلى ترك الفعل لأن فعل الضدّ فعل خاص.
والفعل الخاص لا يكون تركا لمسمى الفعل ، وإلا لزم أن يكون أحد النقيضين عين
الثاني ، وهو محال. فثبت أن على هذا التقدير لا يكون القادر قادرا البتة على
الترك. والثاني : إن الله تعالى كان قادرا على خلق العالم وعلى تركه ، فإذا صار
تركه مفسرا بفعل ضده ، فحين كان الله تاركا للعالم ، وجب أن يكون فاعلا لضده. فلما
كان في الأزل تاركا لفعل العالم ، وجب أن يقال : إنه كان في الأزل فاعلا لضد
العالم ، لكن الفعل الأزلي عند القوم محال. وأيضا : فعلى هذا التقدير كان ضد
العالم أزليا ، والأزل لا يزول فوجب أن لا يزول ضد العالم. وإذا امتنع زوال ضده
وجب أن يمتنع دخول العالم في الوجود. وذلك باطل.
والثالث : إن التارك للفعل يجد من نفسه أنه ما فعل شيئا ، وأنه لا معنى لكونه تاركا للفعل إلا أنه
لم يأت بذلك الفعل البتة. فالقول بأن ترك الفعل عبارة عن الإتيان بضده قول فاسد ،
فيثبت بما ذكرنا : أن ترك الفعل ليس عبارة عن الإتيان بفعل آخر ، بل هو عبارة عن
البقاء على العدم الأصلي المستمر. وقد بينا أن إسناد العدم المستمر إلى القادر
والفاعل محال فيثبت أن القادر لا قدرة له البتة على الترك وإذا كان الأمر كذلك كان
القول بأن القادر هو الذي يصح منه الفعل والترك بحسب الدواعي المختلفة : قولا
باطلا. والله أعلم.
__________________
الفصل الثاني
في
إثبات تحقيق القول في الدواعي والصوارف
وفيه
مباحث :
المبحث الأول : اعلم أنه قد سبق في أول المنطق أن العلم إما تصور وإما تصديق فنقول : الدواعي ليست
من باب التصورات ، بل من باب التصديقات ، فإنه ما لم يحكم الذهن باشتمال الفعل
الفلاني على نفع زائد ، لم يحصل الداعي إلى الفعل ، وما لم يحكم الذهن باشتمال
الفعل على ضرر زائد ، لم يحصل الداعي إلى الترك ، فيثبت إن الدواعي والصوارف من
باب التصديقات ، لا من باب التصورات.
المبحث الثاني : إن عند حصول اعتقاد كون الفعل ضرارا راجحا ، فالقادر يتركه. وهذا
الاعتبار يسمى صارفا. أو في الحقيقة فهو أيضا : داعيا ، إلا أنهم سموا الداعي إلى
الفعل : داعيا ، والداعي إلى الترك : صارفا.
المبحث الثالث : في بيان أن كون الإنسان ظانا ، أو معتقدا ، يقوم مقام العلم في كونه
داعيا.
اعلم أنا إذا
رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أن الأمر كذلك (فإنا إذا علمنا أن في الطريق سبعا ،
احترزنا منه ، وإذا اعتقدنا ، أو ظننا أن الأمر كذلك) فإنا
__________________
أيضا نحترز عنه.
واليهودي لما اعتقد أن إقدامه على العبادات التي (يأتي) بها توصله إلى الثواب العظيم ، صار ذلك الاعتقاد حاملا له
على العمل. والمسلم لما اعتقد في تلك الأفعال بأعيانها أن الإقدام عليها يوصله إلى
الضرر العظيم ، صار ذلك الاعتقاد صارفا له عنها. فيثبت أن الاستقرار يدل على أن
الظن أو الاعتقاد يقومان مقام العلم في الدعاء إلى الفعل تارة ، وفي الصرف عنه
أخرى.
المبحث الرابع : في أن أي هذه الثلاثة أقوى. وأيها أضعف؟ ونعين أولا حال العلم
مع الاعتقاد (فنقول : المعتقد في الشيء قد يكون جازما بكونه محقا في ذلك الاعتقاد)
وقد لا يكون كذلك. أما القسم الأول وهو ما إذا اعتقدنا اعتقادا جازما بأن
الأمر كما اعتقده ، فهذا الاعتقاد يساوي العلم في كونه داعيا وصارفا. والدليل عليه
: أن هذا الرجل إذا كان لا يجد في قلبه تفاوتا بين هذا الاعتقاد الجازم ، وبين
العلم في قوة الجزم والثبات ، وجب أن يكون تأثيره في الدعاء إلى الفعل تأثيرا
واحدا. فإن قالوا : أليس أن هذا المعتقد إذا شكك نفسه أمكنه ذلك. وأما العالم فإنه
ليس كذلك. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يصح القول بكونهما متساويين في قوة الدعاء
إلى الفعل؟
والجواب : إن
الأمر وإن كان كما ذكرتم إلا أنه ما دامت نفسه باقية على ذلك الجزم المساوي لما في
العلم من الجزم ، وجب أن تكون الحال واحدة في قوة الدعاء إلى الفعل.
ولمن زعم أن العلم
أقوى في الدعاء إلى الفعل من الاعتقاد ، أن يقول : هذا الاعتقاد إما أن يكون بحيث
لو شكك صاحبه نفسه فيه أمكنه التشكيك فيه ، أو لا يكون كذلك. فإن كان الأول فحينئذ
حصل التفاوت بين العلم وبين هذا الاعتقاد في القوة ، فوجب أن يحصل التفاوت في
الدعاء إلى الفعل ، لأن من المعلوم بالضرورة : أن المؤثر كلما كان أقوى ، كان
التأثير أقوى ، وإن
__________________
كان الثاني فحينئذ
لا يبقى بين هذا الاعتقاد وبين العلم تفاوت في القوة ، وذلك معلوم البطلان
بالضرورة ، لأن من المعلوم بالضرورة. أن سكون النفس إلى العلم الحق ، أيمن من
سكونها إلى الاعتقاد الخالي عن الموجب
وأما القسم الثاني : وهو المعتقد الذي
لا يكون جازما ، بل يكون كالمضطرب في ذلك الاعتقاد ، فنقول : إن مثل هذا الاعتقاد
لا يكون مساويا للعلم في الدعاء إلى الفعل ، بل يكون أضعف منه. وتقريره : أن الأثر
فرع على المؤثر. ولما كان أحد المؤثرين أضعف من الآخر ، كان أثر الضعيف أضعف لا
محالة من أثر القوي ، فكان دعاء الاعتقاد الضعيف إلى الفعل أضعف من دعاء العلم
القوي إليه. وأيضا : فالعالم الجازم بكون الفعل مشتملا على النفع الزائد لا يخاف
فيما يعلمه أن يتغير ، وأما المعتقد المضطرب فإنه لا بد وأن يجوز أن ينكشف أن
الأمر بخلاف ما اعتقده. فحينئذ لا بد وأن يضعف ذلك الاقتضاء.
وأعلم : (أنا ربما
وجدنا المبطل أو المقلد مقدم على الفعل إقداما أقوى من إقدام العالم وذلك لا يقدح
في قولنا) : إن اقتضاء العلم أقوى اقتضاء من الاعتقاد ، وذلك لأن تلك
القوة إنما حصلت لأمور أخرى تقارن ذلك الاعتقاد ، ولو لم يحصل إلا ذلك الاعتقاد
لما حصلت تلك المزية.
وتلك الأمور
المقارنة بذلك الإقدام أشياء : (أحدها : مدح الناس له في نصرة ذلك القول أو في
الإقدام على ذلك العمل. وثانيها : أنه ربما توصل بذلك الإقدام) إلى جر أنواع من المنافع العاجلة أو يتخلص بسبب ذلك الفعل
من أنواع كثيرة من الذم.
وثالثها : أن طول
الإلف والعادة قد يحمله على ذلك العمل. فهذا هو الكلام في المقايسة الحاصلة بين
العلم وبين الاعتقاد.
__________________
وأما المقايسة
الحاصلة بين العلم والظن. فنقول : إن الظن إذا صحب إمارته فإنه يقوم مقام العلم في
كونه داعيا إلى الفعل ، إلا أن دعاء العلم يكون أقوى. والدليل عليه : أن الظان
يجوز أن يكون الأمر بخلاف ما ظنه ومع قيام هذا التجويز يمتنع كون الظن مساويا
للعلم في الدعاء إلى الفعل. وأيضا : فإنا نجد العالم باشتمال الفعل على الضرر مصرا
على الاحتراز. وأما الظان فقد تختلف أحواله في كيفية ذلك الاحتراز.
إذا عرفت هذا
الأصل فنقول : إن مراتب الظن مختلفة في القوة والضعف ، وإذا كان الأمر كذلك وجب أن
تكون مراتب تأثيراتها في الدعاء إلى الفعل مختلفة في القوة والضعف. بيان المقدمة
الأولى : أن الظن الحاصل بخبر أقوام كثيرين ، أقوى من الظن الحاصل بخبر إنسان
واحد. وأيضا رؤية الأمارات أقوى في إفادة الظن ، مما إذا اعتقد وجود تلك الإمارات
بأخبار مخبر (واحد. ومثاله : إذا شاهد نارا بالقرب من داره ، فهذا أيضا يقتضي ظن
الحرق. وإذا أخبره مخبر بوقوع نار بالقرب من داره ، فهذا أيضا يقتضي ظن حصول الحرق
إلا أن الظن الأول أقوى ، فيثبت أن مراتب الظنون مختلفة. وإذا ثبت هذا) وجب أن تكون مراتب كونها داعية إلى الفعل مختلفة ، لأنه
لما كان المقتضي للدعاء إلى الفعل هو قوة الجزم ، وجب أن تختلف مراتب قوة الدعاء
بحسب اختلاف مراتب الظنون في القوة والضعف. وهذا هو الكلام في مقايسة العلم مع
الظن.
أما مقايسة الظن
مع الاعتقاد. فاعلم أن الظن المؤيد بالآثار قد يكون أقوى من الاعتقاد ، وقد يكون
بالضد منه ، والواجب اعتبار مراتب القوة والضعف.
__________________
الفصل الثالث
في
بيان أنه لا تأثير لغير الاعتقاد
والظن في الدعاء الى الفعل
اعلم أن هاهنا
أشياء سوى هذه الثلاثة يجب البحث عنها. أنها هل تدعو إلى الفعل أم لا؟
فالنوع الأول : إن الناس يقولون بحسب الظاهر : إن الداعي له إلى الفعل كونه في نفسه
منفعة ومصلحة. والصارف له عن هذا الفعل كونه مضرة ومفسدة. واعلم أن هذا الكلام
مجازي. وتحقيقه : إن اعتقاد كونه نفعا يدعوه إلى الفعل ، واعتقاد كونه ضررا يدعوه
إلى الترك. فأما أن يقال : إن كونه في نفسه نفعا ، يدعوه إلى الفعل ، وكونه من
نفسه ضررا يدعوه إلى الترك ، فهذا باطل.
ويدل
عليه وجوه :
الأول : إنا بينا : لو حصل اعتقاد كونه منفعة راجحة مع أنه في نفسه لا يكون كذلك في
نفسه راجحا (فإنه يصير ذلك الاعتقاد داعيا إلى الفعل ولو لم يحصل هذا الاعتقاد مع
أنه يحصل كونه في نفسه نفعا راجحا) لم يصر ذلك داعيا إلى الفعل فعلمنا : أن المؤثر هو اعتقاد
كونه نفعا راجحا. وليس المؤثر هو كونه في نفسه نفعا راجحا.
__________________
والثاني : إن الفاعل إذا فعل لأجل غرض. فذلك الغرض إنما يحصل في آخر ذلك الفعل. مثاله : أن
من يبني بيتا لدفع الحرّ والبرد ، فهذا المقصود إنما يحصل بعد دخول البيت، بكماله
في الوجود. ولهذا قيل : إن أول الفكر آخر العمل. إذا ثبت هذا فنقول : كون الفاعل
فاعلا لذلك الفعل متقدم على دخول ذلك الغرض في الوجود. والمتقدم على الشيء يمتنع
كونه معللا بالمتأخر.
الثالث : إن حصول ذلك الغرض معلل بكون الفاعل فاعلا لذلك الشيء الذي هو السبب لحصول
ذلك النفع ، فلو كان ذلك الغرض علة لتلك الفاعلية لزم الدور ، وهو محال.
فيثبت بهذه الوجوه
: أن كون الفعل منفعة وحسنا ، ليس علّة لكون الفاعل فاعلا له البتة. وإنما المؤثر
في الفاعلية هو علم الفاعل باشتمال ذلك الفعل على ذلك الوجه من الحسن والمنفعة.
النوع الثاني من الأشياء التي يظن أنها داعية إلى الفعل وصارفة عنه : إنه يقال : إن وعد الله يحمل
على الفعل ويدعو إليه ، ووعيده يزجر عن الفعل ويصرف عنه.
وهذا أيضا مجاز.
بل الحق : أن الداعي إلى الفعل هو علم بما في ذلك الوعد من المنافع والصارف له عن
الفعل هو علم بما في ذلك الوعيد من المضار.
النوع الثالث : الشك. فإنه يظن أنه إذا بقي الإنسان شاكا في الشيء فإن كونه شاكا
يدعوه إلى البحث والطلب ، فصار كونه شاكا داعيا له إلى الفعل.
والجواب : إن
الشاك في الشيء متردد فيه على التسوية والإقدام على الفعل ترجيح لجانب الفعل
والاستواء يناقض الترجيح. وأحد الضدين لا يكون سببا للضد الثاني. أما قوله: إن
كونه شاكا قد يحمله على الطلب. قلنا : الداعي هناك إلى الطلب هو العلم والاعتقاد ،
وذلك لأنه إذا لم يعلم حال
الشيء جوز فيه
كونه سببا للضرر ، والعلم حاصل بأنه لا يمكنه دفع هذا الضرر المحتمل ، إلا بأن يعرف
حال ذلك الشيء. فهذا الإنسان عالم بأن تحصيل العلم بحال تلك الواقعة يفيده
الاحتراز عن ذلك الضرر المحتمل. وهذا نفع عظيم. فالعلم باشتمال ذلك الطلب على هذا
النفع هو الذي صار حاملا له على هذا الطلب.
النوع الرابع : الرؤية والسماع. وذلك لأنا إذا رأينا شيئا ، أو سمعنا صوتا ، فقد تصير رؤية
ذلك الشيء حاملة لنا على فعل ، أو على ترك. وكذا القول في السماع ، وهذا يوهم أن
للرؤية والسماع أثر في الدعاء إلى الفعل أو في الصرف عن الفعل.
والجواب : إنا إذا
رأينا الشيء فإنه يحصل العلم بحاله ، فإذا علمنا من حال كونه نفعا زائدا ، دعانا
ذلك العلم إلى الفعل ، وإن علمنا من حاله كونه ضررا زائدا ، صرفنا ذلك العلم عن
الفعل. فالرؤية والسماع. إنما صارتا داعيتين إلى الفعل تارة (وصارفتين عنه بواسطة
إفادة العلم والاعتقاد).
النوع الخامس : أن الإرادة داعية إلى الفعل والكراهية صارفة عنه ، وكذلك الشهوة داعية إلى الفعل ،
والنفرة صارفة عنه.
والجواب : من
الناس من زعم أنه لا معنى للإرادة إلا العلم باشتمال الفعل على (النفع الزائد ،
ولا معنى للكراهية إلا العلم باشتمال الفعل على ) الضرر الزائد. ومنهم من سلم كون الإرادة والكراهية
مغايرتين لهذين العملين ، إلا أنه زعم أن عند حصول العلم بكون الفعل مشتملا على
النفع الزائد يحصل الميل إلى الفعل ، وإرادة تحصيل ذلك الشيء. وعند العلم باشتمال
ذلك الفعل على مضرة راجحة تحصل النفرة والكراهية. فالعلم بكونه نافعا يوجب حصول
الميل ، والعلم بكونه ضارا يوجب حصول النفرة عنه. وعلى هذا التقدير فالداعي
والصارف في الحقيقة هو هذا العلم. وأما الكراهية
__________________
والإرادة فهما
تابعان لذلك العلم. والذي يدل على ذلك : أن الإنسان إذا خرج من بيته لزيارة صديق
له ، ثم في أثناء الطريق وقع في قلبه : أن له مهما في البيت ، يوجب عليه الرجوع من
ذلك الطريق إلى البيت (فهاهنا إن حصل اعتقاد أن المنفعة في الذهاب إلى الصديق
تعادل المنفعة الحاصلة من الرجوع إلى البيت ) بقي ذلك الشخص في مكانه بحيث لا يتحرك البتة ، ثم إذا وقع
في خاطره إن إحدى المنفعتين راجحة على الأخرى تحرك إلى ذلك الجانب. وهذا يدل على
أن الميل والإرادة تابعين لهذه الاعتقادات والله أعلم.
__________________
الفصل الرابع
في
تحقيق الكلام في المنفعة والمضرّة
والخير والشر والمصلحة والمفسدة
اعلم. أنا لما
ذكرنا : أن الداعي عبارة عن العلم أو الاعتقاد أو الظن بكون الفعل مشتملا على نفع
زائد ، والصارف هو هذه الأشياء ، إذا كانت متعلقة باشتمال الفعل على ضرر زائد. وجب
علينا أن نبحث في هذا المقام عن حقيقة المنفعة والمضرة.
فنقول : لا شك أن
هاهنا شيئا يميل الطبع إليه وتحكم أصل الفطرة بالرغبة في تحصيله ، وإن هاهنا شيئا
آخر يحكم صريح الفطرة بالنفرة عنه والهرب منه. إذا عرفت هذا فنقول: لا يجوز أن
يقال : إن كل شيء يراد تحصيله (فإنما يراد تحصيله) لأجل شيء آخر ، (وكل شيء أريد دفعه فإنما أريد دفعه لأجل
أن يتوسل بدفعه إلى دفع شيء آخر وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل بل لا بد من الاعتراف بوجود أشياء تكون مطلوبة لذواتها وأعيانها ، ولا بد من
الاعتراف بوجود أشياء مهروبة عنها لذواتها وأعيانها ثم إذا تأملنا ورجعنا إلى
أنفسنا علمنا أن الشيء الذي يكون مطلوب الحصول لذاته
__________________
أحد أمرين : إما
اللذة ، وإما السرور. وأن الشيء الذي يكون مكروه الحصول لذاته : إما الألم وإما
الغمّ.
وأما كل ما يفضي
حصوله إلى حصول اللذة والسرور ، فإنه يكون مطلوب الحصول لغيره ، وكل ما يفضي حصوله إلى حصول الألم والغمّ ، فهو مطلوب
لغيره .
وأما لفظ الخير
والمصلحة ، فإنه يتناول كل ما كان مرادا بالحصول ، سواء كان مراد الحصول لذاته أو لغيره. (وأما لفظ الشر والمفسدة فإنه
يتناول كل ما كان مكروه الحصول ، سواء كان مكروه الحصول لذاته أو لغيره فهذا أصل معتبر يجب الوقوف عليه.
إذا عرفت هذا
فنقول : لما كان حصول اللذة والسرور أمرا مطلوبا بالذات فإذا تصورنا في أمر من
الأمور ، كونه مستلزما لحصول اللذة والسرور ، صار مطلوب الحصول. وذلك هو الداعي
إلى الفعل. وإذا تصورنا في أمر من الأمور كونه مستلزما للألم والغمّ ، صار مطلوب
العدم ، وذلك هو الصارف عن الفعل.
فإن قيل : أليس أن
العقلاء يرغبون في المدح والتعظيم ، وتنفر طباعهم عن الإهانة والإذلال ، مع أنه
خارج عن الأقسام التي ذكرتموها؟.
قلنا : المدح
عبارة عن القول الدال على كونه مستجمعا لصفات الكمال. والذم عبارة عن القول الدال
على كونه موصوفا بصفات النقص. والأول يوجب الفرح والسرور. والثاني يوجب الغم
والحزن فيكون ذلك داخلا فيما ذكرناه ، إذا عرفت هذا الأصل فنقول : تمام مباحث
هذا الباب إنما تتم بتقسيمات :
__________________
القسم الأول
: أن نقول المكروه بالذات (أحد أمور ثلاثة :
الضرر ، وزوال النفع، ودفع دافع الضرر. والمطلوب بالذات ) أحد أمور ثلاثة : النفع ، ودفع الضرر ، ودفع دافع المنفعة.
ويجب
البحث هاهنا من وجوه :
البحث الأول : لا شك أن الضرر أقوى من زوال النفع. لأن من المعلوم بالضرورة أن حصول
الضرر أقوى في كونه مكروها من أن يبقى الإنسان خاليا عن النفع والضرر. وقال بعضهم
: إن كانت المنافع حاضرة ، فتفويتها بمنزلة الضرر. والدليل عليه : أنه يجري حال
تفويت المنافع في المعاملات مجرى الضرر. وذلك لأن الرجل يحترز بتحمل (المضرة
اليسيرة من فوت المنفعة الكثيرة كما يحترز بتحمل المضرة القليلة من تحمل المضرة الكثيرة ، كما يتحمل تفويت النفع القليل لئلا يلزم
تفويت النفع الكثير. وهذا الكلام ضعيف لأنا إذا أردنا أن نعرف أن أي النوعين أقوى
من الثاني وجب أن يعتبر حالهما عند الاستواء في الكمية. ففي هذه الحالة أيهما كان
أكمل كميتة كان ذلك أقوى. ومن المعلوم بالضرورة أنه إذا كان مقدار
الضرر ومقدار المنفعة الفائتة متساويين في الكمية والقوة ، فإن بقاء ذلك المقدار من الضرر أشد كراهية عند
العقل من تفويت ذلك القدر من المنفعة. بقي الكلام في أن تفويت المنفعة أشد كراهية
أم دفع دافع الضرر؟ الأقرب أن الثاني أقوى. لأن دفع دافع الضرر (يقتضي اتقاء الضرر
، وقد ثبت أن الضرر أشد نفرة من تفويت المنفعة فلزم القطع بأن دفع دافع الضرر أشد نفرة من تفويت المنفعة.
__________________
وأما المراتب
الثلاثة المطلوبة. فنقول : لما ثبت أن وجود الضرر أشد نفرة من فوات المنفعة وجب أن
يكون دفع الضرر أشد مطلوبية من حصول النفع. ولذلك فإن العقلاء قالوا : دفع الضرر
عن النفس واجب. أما تحصيل النفع للنفس فغير واجب. وأيضا : دفع الضرر أهم من دفع دافع
المنفعة ، لأن دفع دافع المنفعة وسيلة إلى حصول المنفعة. ولما كان دفع الضرر أهم
من جلب النفع ، فلأن يكون أهم مما يكون وسيلة إلى جلب النفع ، كان أولى.
البحث الثاني : إنا قد ذكرنا : أن المنفعة المطلوبة بالذات. إما اللذة أو السرور وأن المضرة المكروهة بالذات. إما الألم أو الغم
فيجب البحث عن أن اللذة أقوى أو السرور؟ وعن أن الألم أقوى أو الغم؟ فنقول : هذا
يختلف باختلاف النفوس. فمن الناس من تكون اللذة الجسمانية عنده أثر ، ومنهم من يكون السرور عنده أثر. والحكم الجزم
التام في هذا الباب كالمعتذر.
البحث الثالث : إذا وقع التعارض بين ما يكون مطلوبا بالذات أو مكروها بالذات. وبين ما يكون
مطلوبا بالتبع ، أو مكروها بالتبع ، فلا شك أن ما بالذات أقوى مما بالتبع إلا إذا
قلنا : إن ما بالذات يكون قليلا ضعيفا ، وإن ما بالتبع يكون كثيرا قويا. فههنا
ربما صار ما بالتبع راجحا على ما بالذات ، بسبب الكثرة والقوة. والله أعلم .
القسم الثاني : إنا قد بينا أن الداعي إلى الفعل ليس هو كون الفعل مصلحة في نفسه، والصارف عن
الفعل ليس هو كون الفعل مفسدة في نفسه ، وإنما الداعي إلى الفعل علمه أو اعتقاده
أو ظنه في كون ذلك الفعل في نفسه مصلحة ، والصارف عن الفعل أحد هذه الأمور الثلاثة في كون
ذلك الفعل مفسدة.
__________________
إذا عرفت هذا
فنقول : الشيء إما أن يكون خالص المصلحة في اعتقاده ، أو خالص المفسدة في اعتقاده ، أو يكون مشتملا
على المصلحة والمفسدة في اعتقاده ، أو يكون
خاليا عنهما في اعتقاده. فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها. أما القسم الأول : فإن
عند حصول هذا
الاعتقاد يجب الفعل ، ويكون الإنسان كالملجإ إليه.
وأما القسم الثاني : فعند حصول هذا الاعتقاد يجب الترك ويكون الإنسان كالملجإ إلى
الترك. مثال الأول الصائم في الصيف القائظ ، إذا اشتد عطشه ، وعظمت حاجته إلى شرب
الماء البارد ، وكان ذلك الماء البارد حاضرا ، والشارع يقول له : اشرب. والطبيب
يقول له : اشرب. وعلم أن ذلك الشرب خالص النفع خالي عن جميع جهات الضرر ، فههنا
يجب الشرب ، ويكون الإنسان كالملجإ إلى ذلك الشرب. ومثال الثاني : الإنسان إذا علم
أن له في دخول النار ضررا عظيما ، والشارع يقول له : لا تدخل النار. والعقلاء
أطبقوا على منعه من الدخول في النار ، وعلم ذلك الإنسان أنه ليس له في دخول النار
منفعة في الدنيا ولا في الآخرة ، وأن له في دخولها أعظم المضار. فههنا يمتنع منه
أن يدخل في النار ، ويكون كالملجإ إلى أن لا يدخل في النار. نعم الإنسان قد يلتزم
قتل نفسه ، وقد يرمي نفسه من شاهق جبل إلا أنه إنما يفعل ذلك إذا صار مضطرا إلى
التزام ألم أو غمّ. وأعتقد أن ذلك الألم وذلك الغم أعظم من الألم الحاصل بسبب
القتل. وأعتقد أنه لا يمكنه الخلاص من ذلك الألم الأعظم إلا بالتزام ألم القتل ،
فههنا قد يقدم على قتل نفسه. وإنما فعل ذلك لاعتقاده أن التزام هذا الألم يوجب
الخلاص من ألم آخر أعظم منه ، فهو إنما التزم تحمل هذا الألم العظيم، لكونه دافعا
للقدر الزائد عليه من الضرر ، ودفع الضرر بقدر الإمكان مطلوب في العقل.
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون الفعل مشتملا على المصلحة والمفسدة
__________________
في اعتقاده فهذا
ينقسم إلى ثلاثة أقسام ، لأنه إما أن يكون جانب المصلحة راجحا فى اعتقاده ، وإما
أن يكون جانب المفسدة راجحا في اعتقاده ، وإما أن يكون متعادل الجانبين.
فإن كان جانب المصلحة راجحا في اعتقاده وجب الفعل ويدل عليه وجهان : الأول : إنه
مقابل المثل بالمثل فيبقى العدد الزائد داعية خالصة إلى الفعل. والثاني : وهو أنه لما كان جانب
الفعل راجحا على جانب الترك في اعتقاده ، فلو رجح جانب الترك كان ذلك ترجيحا
للمرجوح على الراجح وذلك محال في العقول. وإذا امتنع هذا وجب ترجيح الجانب الراجح وذلك هو المطلوب. وإما إن كان جانب المفسدة راجحا وجب
الترك لمعنى الدليلين المذكورين. وأما إن حصل التعادل بحسب اعتقاده ، وجب التوقف
وحينئذ يبقى ما كان على ما كان.
وأما القسم الرابع : وهو أن لا يحصل اعتقاد كون الفعل مشتملا على المصلحة وعلى المفسدة.
فعند هذا لم يحصل
الداعي إلى الفعل ولا الصارف عنه ، بل يبقى ما كان على ما كان من غير تغيير أصلا.
إذا
عرفت هذا الأصل فنقول : هاهنا فروع :
الفرع الأول : قالت المعتزلة : التكليف لا يصح عند كون الداعية خالصة إلى الفعل أو إلى
الترك (فإن عند حصول هذه الحالة يكون الإنسان كالملجإ إلى الفعل أو إلى الترك ) وعند حصول الإلجاء (لا يصح التكليف. وإنما يصح التكليف
حال ما يكون الإنسان متردد الدواعي ) إلى الفعل والترك. واعلم. أن هذا الكلام ضعيف جدا. وذلك
لأنا بينا أن الحال لا يخلو عن الأقسام الستة ، وعلى كل واحد من هذه التقديرات ،
فالواجب إما
__________________
الفعل وإما الترك.
فكان قوله : «التكليف إنما يصح حال ما يكون الإنسان متردد الدواعي»
كلاما باطلا.
والذي نريد تقريره
: أنه لا معنى لكونه متردد الدواعي إلى الفعل وإلى الترك (إلا أن يكون الحاصل في
اللحظة الأولى هو الدواعي إلى الفعل ، ويكون الحاصل في اللحظة الثانية هو الداعي
إلى الترك إلا أنه في اللحظة التي حصل فيها الداعي إلى الفعل يكون
الإنسان كالملجإ إلى الفعل. وفي اللحظة التي حصل فيها الداعي إلى
الترك يكون الإنسان كالملجإ إلى الترك. وعلى هذا التقدير فلا يبقى لقولهم : إن
التكليف إنما يصح حال كون الإنسان متردد الدواعي إلى الفعل وإلى الترك. معنى.
الفرع الثاني : إنا قد بينا أنه حصل اعتقاد أن الفعل راجح المصلحة وجب الفعل. وإذا حصل
اعتقاد أن الفعل راجح المفسدة وجب الترك ثم نقول : هذه الاعتقادات قد تكون باقية ،
وقد تكون متغيرة ، فإن كان اعتقاد رجحان جانب الصلاح باقيا ، بقي (الفعل ، وإن كان
اعتقاد رجحان جانب الفساد باقيا بقي الترك ، وإن كان اعتقاد التعادل باقيا ) بقي التعارض ، وبقي ما كان على ما كان. أما إذا كانت هذه
الاعتقادات شريعة الزوال والتبدل فتارة يقع في القلب : أن الراجح هو جانب الصلاح. وفي
اللحظة الثانية ينقلب فيحصل في القلب : أن الراجح هو جانب الفساد ، فعند ذلك يتغير
الإنسان من الفعل إلى الترك تارة . ومن الترك إلى الفعل أخرى ، ففي اللحظة التي حصل في القلب
اعتقاد أن جانب الصلاح أرجح يصدر عنه الفعل. وفي اللحظة الثانية التي حصل في القلب
اعتقاد جانب الفساد أرجح يحصل الترك ثم لما توالت هذه الاعتقادات
المختلفة والتصورات المتباينة. لا جرم يقع الاضطراب في الفعل والترك ، فتارة يقدم
على الفعل ، وأخرى يقدم
__________________
على الترك. والناس
يقولون لصاحب هذه الخواطر المختلفة إنه إنسان ذو بدوات ، وأنه ليس له في شيء من
الأفعال ثبات ومعنى كونه ذو بداوات : إنه تارة يبدو له كون الفعل راجح
الصلاح ، وتارة أخرى يبدو له (كون الفعل) راجح الفساد. وإنما كان مثل هذا الإنسان قليل الثبات ،
لأنه لما كان الفعل معللا بالقدر مع الدواعي ، فعند تغير الدواعي يجب تغير الفعل.
فالإنسان الذي يكون ذا بدوات ، لا بد وأن يكون له في شيء من الأفعال ثبات.
واعلم : أن الجهات
المعتبرة بحسب المصالح والمفاسد كثيرة خارجة عن الضبط ، وكلما كان وقوف العقل
عليها أكثر كانت الحيرة والاضطراب أكثر ، وكلما كان وقوف العقل عليها أقل كان
البقاء والثبات على الطريق الواحد أقل.
الفرع الثالث : وهو أنا قد ذكرنا أنه إذا كان الفعل راجح المفسدة في اعتقاد الفاعل لزم
الترك ، وإذا لم يحصل أيضا فيه اعتقاد حصول الصلاح يجب الترك. إذا عرفت هذا فنقول:
إنه لا معنى للترك إلا بقاء الشيء على العدم الأصلي ، فإن كان على تقدير أن يحصل
اعتقاد رجحان المفسدة لم يحصل إلا الترك (وعلى تقدير عدم اعتقاد الرجحان ، لا في
الفعل ولا في الترك ، لم يحصل إلا الترك فعند هذا يظهر أنه ليس لاعتقاد كونه راجح المفسدة أثر
البتة.
بل إن حصل اعتقاد أنه راجح الفعل حصل الفعل ، وإن لم يحصل هذا الاعتقاد بقي
الفعل على عدمه الأصلي ، بناء على أن علة العدم هي عدم العلة ، فحينئذ لا يكون
لاعتقاد أن هذا الفعل راجح المفسدة أثر في الترك البتة. فهذا يدل على أن اعتقاد
كونه راجح المفسدة ، لا أثر له البتة (في الترك) وكنا قد دللنا في أول هذا الباب على أن القدرة لا أثر لها
البتة في الترك ، فقد ظهر بالبحث الذي ذكرناه : أن القدرة لا أثر لها البتة في
الترك. وأن الداعية لا أثر لها البتة في الترك. وذلك يقرر ما ذكرناه من أن المستند
إلى
__________________
القادر الفاعل ليس
إلا وجود الفعل. فأما عدمه فلا تأثير للقدرة فيه ، ولا تأثير للداعي فيه. والله
أعلم .
القسم الثالث : إنا بينا أن المنفعة عبارة عن اللذة أو السرور ، أو ما يكون مؤديا
إليهما ، أو إلى أحدهما. والمفسدة عبارة عن الألم والغم ، أو ما يكون مؤديا إليهما
أو إلى أحدهما. إذا عرفت هذا ، فنقول : يجب أن تكون المنافع والمضار مختلفة المراتب
والدرجات بحسب كونه منافع ومضار وبيان من وجوه :
الوجه الأول : إن اللذة والسرور قابلان للأشد ، والأضعف. فقد تكون لذة أقوى من لذة وسرور
أقوى من سرور ، وكذلك فقد يكون ألم أقوى من ألم ، وغم أقوى من غم. والعلم بكون هذه
الأنواع قابلة للأشد والأضر علم ضروري ، لا شبهة للعاقل فيه. وأيضا : فدرجات هذا
التفاوت غير مضبوطة ولا محصورة ، فإنه مرتبة من مراتب الألم إلا ويجوز العقل وجود
ألم آخر ، أقوى منه. وكذا القول في الغم واللذة والسرور. ثم من المعلوم أن الرغبة
في اللذة القوية أقوى من الرغبة في اللذة الضعيفة ، والرغبة في السرور (القوي أقوى
من الرغبة في السرور) الضعيف وكذا القول في الألم والغم. فلما كانت درجات هذه
الأغراض في القوة والضعف غير مضبوطة كانت درجات المنافع والمضار كثيرة غير مضبوطة.
والوجه الثاني في تقرير هذا التفاوت : إن التجربة دلت على أن الشيء الواحد قد يكون
لذيذا عند شخص ، ويكون هو بعينه مكروها عند شخص آخر. وأيضا : فقد يكون في غاية اللذة عند شخص
ومتوسط الحال عند شخص ثاني. وفي غاية النفرة عند ثالث. وأيضا : قد يكون موقع الألم
القليل عند شخص أكثر من موقع الألم العظيم عند شخص آخر. ولما كان اختلاف
__________________
النفوس في جواهرها
وفي أمزجتها ، وفي أحوالها خارجا عن الضبط ، كانت أيضا مراتب المنفعة والمضرة غير
مضبوطة ، (بحسب هذا الاعتبار ).
الوجه الثالث في بيان التفاوت : إنا بينا أن المطلوب بالذات هو اللذة والسرور ، وإن
المكروه بالذات هو الألم والغم ، وأن ما سوى هذه الأشياء ، فهو مطلوب بالتبع أو
مكروه بالتبع ، ومن المعلوم : أن الرغبة فيما يكون مطلوبا بالذات أقوى من الرغبة
فيما يكون مطلوبا بالتبعية ، فقد حصل التفاوت في مراتب المصالح والمفاسد بحسب هذا
الاعتبار.
والوجه الرابع في بيان هذا التفاوت : أن المطلوب بالذات ، وإن كان راجحا على المطلوب
بالغير ، إلا أنه قد لا يبعد أن يصير المطلوب بالذات مرجوحا بالنسبة إلى المطلوب
بالغير ، لأجل أن المطلوب بالغير أقوى وأشد فائدة (من المطلوب بالذات) مثل : أن وجدان غيره دنانير ، أسر من أكل اللقمة الواحدة.
والوجه الخامس : إن المؤدي إلى المطلوب بالذات قد يكون مؤديا إليه بواسطة واحدة ، وقد يكون مؤديا إليه بواسطتين. وكذا القول
في الوسائط الثلاثة والأربعة والخمسة ، وهلم جرّا ، إلى مراتب لا يضبطها الحس
والعقل. ومعلوم أن الرغبة فيما يفضي إلى المطلوب بالذات بوسائط قليلة فوق الرغبة
فيما يفضي إليه بوسائط كثيرة ، لكن هاهنا اعتبار آخر ، وهو أن الذي تكثر فيه
الوسائط قد يكون أقوى وأعظم فيصير معادلا لما تقل الوسائط فيه بسبب أن الكيفية من
أحد الجانبين تقابل الكيفية من الجانب الآخر.
الوجه السادس : إن التجربة تدل على أن الشيء الواحد قد يكون منشئا للخير والمصلحة من وجه
وللشر والمفسدة من وجه آخر. ومن المعلوم أن الشيء
__________________
كلما كان اشتماله
على وجوه المصالح أكثر ، كان ألذ وآثر. وإذا كانت تلك الجهات غير مضبوطة كانت
مراتب المصالح والمفاسد غير مضبوطة.
الوجه السابع : أن حوادث هذا العالم ليست بسيطة بل بعضها يمتزج بالبعض ، فيتولد عند ذلك الامتزاج أحوال
أخرى. ثم من المعلوم أن مراتب الامتزاجات غير متناهية ، فوجب أن تكون مراتب
المصالح والمفاسد غير متناهية.
الوجه الثامن : إن البعد خير من النسبة ، لكن يعارضه أن النسبة العظيمة العالية
تكون خيرا من البعد القليل.
الوجه التاسع : أن المداومة على العمل قد تفيد في حق بعضهم الحب الشديد والميل العظيم ، وقد تفيد
في حق غيرهم الملالة والسآمة. وأحوال الخلق في هاتين الحالتين مضطربة متفاوتة.
والوجه العاشر : أن الشيء قد يكون لذيذا عند إنسان ، ومكروها عند غيره. وقد يكون لذيذا إذا أمكنه
تحصيله بطريق معين ، ويكون مكروها إذا كان لا يمكنه تحصيله إلا بطريق آخر. وقد
يكون عند إنسان آخر بالعكس منه.
فيثبت بهذه الوجوه
العشرة ، أن مراتب المصالح والمفاسد مضطربة وغير متناهية.
ثم هاهنا كلام
آخر. وهو : أنا قد ذكرنا أن الدواعي والصوارف ليست هي تلك المصالح والمفاسد في
أنفسها ، بل الدواعي والصوارف هي اعتقاد حصول المصالح الراجحة أو المفاسد الراجحة.
ومعلوم أن انتقالات الأفكار والخيالات غير مضبوطة. وأيضا : ثبت أن النفوس الناطقة
مختلفة بالماهية ، ولها أحوال مختلفة بحسب مقتضيات تلك الماهيات. فإذا اعتبرنا مجموع
هذه الوجوه بسيطة وفلكية ، صارت غير متناهية. ولما عرفت أن أحوال الجوارح تابعة
__________________
لتصورات الأفكار
والنفوس ، لا جرم اختلفت الأفعال جدا ، حتى قلنا : إنه يبعد أن يتوافق إنسانان على
طريقة واحدة (من الأفعال والأقوال. بل يبعد أن يستمر إنسان واحد على طريقة واحدة) في أفعال الجوارح ، وفي أفعال القلوب. بل لا يزال أن ينتقل
من تصور إلى تصور آخر. فيلزم أن ينتقل من ميل إلى ميل آخر ، فيلزم أن ينتقل من فعل
إلى فعل آخر. وهذا هو السبب في صدور الأفعال المختلفة عن الحيوانات. وبالله
التوفيق.
__________________
الفصل الخامس
في
بقية الكلام في هذا الباب
الفرع الأول : إنه هل يعقل وجود فعل
يكون نفعا من كل الوجوه؟
قال بعضهم : إن
هذا كالمتعذر. لأن الإنسان إذا واظب على الإتيان بنوع واحد من العمل ، ظهر فيه التعب والإعياء. ولو لا أنه حصل بالفعل
الأول نوعا من أنواع التعب. لما ظهر التعب الشديد عند المداومة على العمل. إلا أنه لما كانت
المنافع المتولدة من ذلك العمل أكثر من المضار المتولدة منه ، صار ذلك التعب
القليل مخففا غير مشعور به. وأقول : هذا الكلام حق في أفعال الجوارح ، لأنها لا
تنفك عن حركة لتلك الأعضاء. والحركة والسخونة توجب الموجب للضعف. وأما الأفعال
النفسانية الروحانية المحضة فهي منافع خالية عن جهات الضرر بالكلية. وهذا هو أحد
الأسباب الموجبة لفضل اللذات الروحانية على اللذات الجسدانية.
واختلفوا أيضا :
في أنه هل يعقل وجود فعل يكون ضررا من كل الوجوه؟ والحق : أنه باطل. لأن كل فعل.
صدر عن فاعل ، وكان فاعله
__________________
مريدا له ، ويكون
حصوله لذيذا عنده ، لا يكون ذلك الفعل شرا من كل الوجوه.
الفرع الثاني : إن الفعل الواحد قد يكون مشتملا على جهات كثيرة من المنافع ، ويكون مشتملا
على جهات كثيرة من الدواعي. مثاله : إنا بينا أن الجهات الداعية إلى الفعل ثلاثة :
أحدها : كونه نفعا. والثاني : كونه دافعا للضرر. والثالث : كونه دافعا لدافع النفع.
فإذا حصل في الفعل الواحد أحد هذه الجهات الثلاثة ، فقد حصل فيه أمور ثلاثة كل واحد منها
مستقل بالدعاء إلى الفعل. وأيضا : فالفعل الواحد يمكن أن يكون نفعا من جهات كثيرة
، بحيث يكون العلم بكل واحد منها جهة مستقلة بالدعاء إلى الفعل. وكذلك يمكن أن
يكون دافعا لأنواع كثيرة من المضار بحيث يكون كل واحد منها مستقلا (بالدعاء إلى
الفعل. وأيضا : فالفعل الواحد يمكن أن يكون دافعا لأشياء كثيرة يكون كل واحد منها
سببا مستقلا) بتفويت المنفعة. فإذا قدرنا حصول فعل واحد ، وكان نفعا من
جهات كثيرة ، وكان دافعا لأنواع كثيرة من الضرر ، وكان أيضا دافعا لأقسام كثيرة من
الأحوال الموجبة لفوات النفع ، كان كل واحد من هذه (الوجوه : وجها ، لو انفرد لكان
مستقلا بالدعاء إلى الفعل. فهذا بيان كيفية اجتماع) الوجوه الكثيرة من الدواعي في الفعل الواحد.
الفرع الثالث : إنه إذا حصل في الفعل
جهات كثيرة في الدواعي ،
فتلك الجهات إما أن تكون متعاضدة متوافقة ، وإما أن تكون متنافية متعاندة.
أما القسم الأول : فمثاله ما ذكرناه. وفيه أشكال ، وهو أنه إذا كان كل واحد من تلك
الجهات بحيث يكون اعتقاد حصوله سببا مستقلا بالدعاء إلى الفعل ، وبترجح جانب
الفعل. فعند اجتماعهما إما أن يقع ذلك الترجيح بكل
__________________
واحد منها ، أو
يقع ببعضها دون البعض ، أو لا يقع بشيء منها. والأول باطل. لأن الفعل إنما احتاج
إلى المرجح لكونه في نفسه ممكن الوجود والعدم ، لكن المعلول مع العلة التامة ومع
السبب المستقل يكون واجب الحصول. وإذا كان واجبا فوجوبه يمنعه من الانتساب إلى الغير فيكون ذلك الأثر مع
هذا السبب المستقل يمنعه من الاستناد إلى الثاني ، وكونه مع الثاني يمنعه من
الاستناد إلى الأول ، فلو وجد مع العلتين المستقلتين ، يلزم أن يكون مستندا إلى كل
واحد منهما حال كونه منقطعا عن كل واحد منهما. وذلك محال. وأما القول بوقوع ذلك المعلول بأحد تلك العلل المستقلة ، فهذا أيضا
محال ، لأنه يقتضي ترجيح أحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح وهو محال.
وأما القول بامتناع وقوعه بشيء منها ، فهو أيضا محال ، لأنه يلزم منه
، أن القادر حال ما حصلت دواعيه إلى الفعل وتأكدت ولم يحصل لها مانع ، فإنه يمتنع
الفعل عليه وذلك محال. فهذا سؤال قوي في هذا الموضع.
وأما القسم الثاني : وهو ما إذا كانت
الدواعي متنافية ومتنازعة. فنقول
: قد ذكرنا فيما تقدم أن أيها أقوى ، وأيها أضعف؟ وعند اجتماعها يكون التأثير
للأقوى.
وإن تساوت في
القوة تعارضت وتساقطت ويبقى ما كان على ما كان.
الفرع الرابع : هذه العلوم والاعتقادات والظنون التي سميناها بالدواعي ، يجب حصولها قبل حصول
الفعل ، أو حال حدوثه وحصوله؟ وهذا البحث مفرع على أن مجموع القدرة مع الداعي علة
مؤثرة في وجود الفعل ، إن قلنا : ذلك المجموع علة معدة لحصول الفعل.
وأما العلة
المؤثرة فهي موجود آخر. فإن قلنا : إنه علة مؤثرة وجب
__________________
حصول الداعي حال
حدوث الفعل ، لما ثبت أن المؤثر يجب أن يكون موجودا حال حصول الأثر. وإن قلنا : إنه
علة معدة لا مؤثرة فحينئذ نقول : إنه يجب تقدم الداعي على الفعل ، لأن العلة
المعدة يجب تقدمها على المعلول. وإلا لزم وقوع التسلسل في الأسباب والمسببات دفعة
واحدة وذلك محال والله ولي التوفيق.
__________________
الفصل السادس
في
أن صدور الفعل هل يتوقف على الداعي أم لا؟
أما الفلاسفة فقد أطبق المحققون منهم
عليه. وبه قال أبو
الحسين البصري من المعتزلة. وأكثر المتكلمين اتفقوا على أنه لا يتوقف
عليه .
احتج القائلون بأن
صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على الدواعي بوجوه :
الحجة الأولى : إن القادر يمكن وجوده خاليا عن كل الاعتقادات ، وهو في هذه الحالة يمكن
صدور الفعل عنه ، وذلك يدل على أن صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على حصول
الداعي ، فيفتقر في تقرير هذا الدليل إلى إثبات أمرين :
الأول : إن القادر يمكن وجوده خاليا عن كل الاعتقادات. ويدل عليه وجهان :
الأول : إن الواحد منا قادر على تحريك إصبعه. ومعلوم أن إصبعه جسم مركب من أجزاء
كثيرة. وتلك المسافة مركبة من أجزاء كثيرة. وهذا القادر غير
__________________
عالم بعدد أجزاء
تلك الإصبع ، وبعدد أجزاء تلك المسافة ، فيثبت أن القادر قد يكون قادرا على ما لا
يعلمه ولا يعتقده ، ولا يظنه.
الثاني : إن الناس اختلفوا في أن الأجناس المقدورة للعباد. كم هي؟
فلو لزم من كونه
قادرا على الشيء ، كونه عالما به ، لزم أن يكون العلم بالأجناس المقدورة للعباد
علما ضروريا ، ولما لم يكن كذلك ، ثبت أنا قد نقدر على أشياء مع أنا لا نعلمها.
الأمر الثاني
: في بيان أنا عند الخلو عن هذه
الاعتقادات ، يصح الفعل منا. والدليل عليه : أنه لو لم يصح ذلك لزم أن يكون القادر
على الشيء غير قادر عليه ، لأن المعنى من كونه قادرا ، كونه بحيث يصح أن يصدر منه
الفعل فإذا فرضناه قادرا عند الخلو من هذه الاعتقادات ، ثم قلنا : إنه لا يصح منه الفعل ، لزم أن نقول : إنه حال كونه قادرا على
الفعل ما كان قادرا على الفعل. وذلك متناقض.
الحجة الثانية : إن الساهي والنائم ، قد يصدر الفعل عنهما مع عدم الدواعي.
أما في حق الساهي فتقريره من وجهين :
الأول : إن الواحد منه قد
يحرك إصبعه حال ما يكون مشغول القلب بعمل آخر ، وفي تلك الحالة كان غافلا عن تحريك
ذلك الإصبع ، مع أنه فعله. فههنا قد حصل الفعل
من غير الداعي. الثاني : إن الرامي (قد يرمي) إلى شيء فيصيب شيئا آخر ، فتلك الإصابة الواقعة على سبيل
الخطأ : فعله. مع أنه ما دعاه الداعي إلى ذلك الفعل ، فيثبت أن الفعل قد يحصل بدون
الداعي.
وأما في حق النائم : فتقريره من وجهين :
(الأول : إن النائم يتنفس
__________________
وهذا التنفس فعل
اختياري ، وهو قد حصل من غير الداعي ، لأن النوم مانع من الاعتقاد أو
الظن. الثاني : )
إن النائم قد ينتقل من أحد الجانبين
إلى الثاني ، وربما يتلفظ بالكلمات الكثيرة ، مع أنه في تلك الساعة لم يحصل في
قلبه شيء من العلوم والاعتقادات ، لأن النوم مانع منهما. فهاهنا قد حصل الفعل من
غير الداعي.
الحجة الثالثة : قالوا : الإنسان إذا
صار ماهرا (في حرفة
معينة ، مثل ما إذا صار) ماهرا في صنعة الكتابة ، أو في ضرب الطنبور ، أو في غيرهما
، فإنه قد يصير بحيث يكتب شيئا كثيرا ، أو يضرب الطنبور مدة معينة مع أنه يكون
بقلبه غافلا عن آحاد تلك الحروف ، وعن آحاد تلك النقرات. وإذا كان غافلا عنها
يمتنع كونه عالما بها ، أو معتقدا لها ، أو ظانا بها. ففي هذه الصورة قد وجدت هذه
الأفعال ، مع أن الدواعي غير حاصلة فيها.
الحجة الرابعة : قالوا : المخيّر بين شرب قدحين ، وأكل رغيفين ، والهارب إذا وصل إلى طريقين
متساويين ، فإنه يرجح أحدهما على الآخر ، (لا لمرجح. فههنا الفعل قد حصل من غير
الداعي. وتمام التقرير : أنه عند حصول الاستواء بين القدحين والرغيفين ، إما أن
يرجح (أحدهما على الآخر
، أو لا يرجح) والثاني باطل ، لأنه يلزم أن يقال : إن العطشان مع شدة
العطش ، لا يأخذ القدحين ، بل يبقى ممتنعا عنهما إلى أن يموت من العطش ، مع كون
القدحين حاضرين عنده من غير مانع ، ومعلوم أن ذلك باطل فيثبت أنه لا بد وأن يأخذ
أحدهما من غير مرجح ، (وإذا ثبت هذا) فقد حصل الفعل ، لا للدواعي. وهو المطلوب.
__________________
الحجة الخامسة : إن بطء الحركة إما أن يكون عبارة عن تحلل السكنات بناء على إثبات القول
بالجوهر الفرد ؛ أو عبارة عن كيفية قائمة بالحركة بناء على نفي الجوهر الفرد. فإن كان الحق هو الأول. فالقوس
الذي يأتي بالحركة يكون آتيا بتلك السكنات في أثناء تلك الحركات مع كونه غافلا
عنها. فقد حصل الفعل لا للدواعي. وإن كان الحق هو الثاني ، كان الآتي بالحركة
البطيئة آتيا بفعلين : أحدهما : نفس الحركة. والثاني : البطء القائم بتلك الحركة ،
مع كونه غافلا عن كونه آتيا بنوعين مختلفين من الفعل. فيكون آتيا بالفعل حال كونه
غافلا عنه. وذلك يقتضي حصول الفعل من غير الداعي.
الحجة السادسة : إن توقف الفعل على
الداعي يوجب أن لا يبقى
فرق بين الموجب بالذات وبين الفاعل المختار. وهذا باطل. فذا باطل. بيان الأول :
إنا سنبين أن عند حصول الداعية (يجب الفعل وجوبا ضروريا ، لا يمكن نقضه ، وعند عدم
الداعية) يمتنع وقوع الفعل ، ومعلوم أنه لا حال غير هاتين الحالتين
، فإذا كان الفعل في إحدى الحالتين واجبا ، وفي الحالة الثانية ممتنعا. فحينئذ
يلزم أن لا يحصل التمكن والاختيار في شيء من الأحوال البتة. فيثبت أن توقف الفعل
على حصول الداعي ، يقتضي أن لا يبقى فرق البتة بين الموجب بالذات وبين الفاعل
المختار.
وبيان أن هذا باطل
: (إنه من جملة العلوم الضرورية : الفرق بين كون الإنسان متحركا بقدرته واختياره وبين كون
الحجر نارا ، لا بطبعه ، وكون النار محرقة بطبعها ، فيثبت: أن القول بتوقف الفعل
على الداعي : يفضي إلى الباطل المذكور ، فوجب أن يكون باطلا.
وأما القائلون بأن
الفعل يتوقف على الداعي. فقد أجابوا عن هذه الدلائل بأجوبة واضحة قوية. وقالوا :
__________________
أما الجواب عن الحجة
الأولى : هو أن يقال : ما المراد من
قولكم : إن القادر يجب أن يصح صدور الفعل منه؟
إن أردتم به : أن
القادر هو الذي يصح صدور الفعل عنه بمجرد كونه قادرا ، فهذا عين ما وقع النزاع
فيه. فإن عندنا مجرد كونه قادرا لا يكفي في صحة صدور الفعل عنه ، بل ما لم ينضم
إليه الداعي ، فإنه يمتنع صدور الفعل عنه ، فقولكم : بأن مجرد كونه قادرا ، يكفي
في صحة صدور الفعل عنه عين محل النزاع. وإن أردتم به : أن القادر هو الذي لا يصح صدور الفعل منه عند انضمام الداعي إليه ، فهذا مسلم ، إلا
أن هذا القدر لا يدل على أن مجرد كونه قادرا يكفي في صحة صدور الفعل عنه ، فيثبت
أن هذا الكلام مغالطة محضة.
ومما يقوي هذا
الكلام : أنا نقول : لا شك أن الجائز هو الذي يصح وجوده بدلا عن العدم ويصح عدمه
بدلا عن الوجود ، ولما استوى وجب الافتقار إلى المخصص فيقال : لما سلمتم أن الجائز
يصح عليه الطرفان. فإنه نظرا إلى ذاته ، وعند فرض تلك الماهية خالية عن المؤثر ،
وجب أن يصح رجحان وجوده على عدمه ، إذ لو لم يصح هذا الرجحان لقدح ذلك في قولنا : إنه
من حيث هو هو يصح عليه كل واحد من الطرفين ، ولما ثبت صحة حصول هذا الرجحان ، حال عدم المؤثر المنفصل ، علمنا : أن
حصول هذا الرجحان ، لا يتوقف على وجود المؤثر المنفصل ، وكما أن هذا الكلام باطل ،
فكذلك الكلام الذي ذكرتموه يجب أن يكون باطلا.
وأما الجواب
عن الحجة الثانية : وهي قولهم : إن من يكون مستغرق الفكر في مهم من المهمات.
__________________
فقد يحصل تحرك
إصبعه في تلك الحالة ، مع أنه يكون غافلا عن تلك الحركة. فقد حصل الفعل من غير
الداعي. فالجواب عنه : إنه ما لم يقصد ذلك الفاعل إلى تحريك الإصبع ، فإنه لا
يتحرك. فإن قالوا : فهب أن الأمر كذلك ، إلا أنه ليس له في ذلك الفعل منفعة أصلا ،
فقد حصل الفعل من غير اعتقاده كون ذلك الفعل راجح المصلحة. قلنا : لا نسلم بل فيه
ضرب من اللذة والمنفعة. فلم قلتم : إنه لم يوجد ذلك؟.
وبيانه من وجوه : الأول : إن البقاء على الحالة الواحدة مملول ، فهو يتحرك لتبديل الحالة
المملولة. والثاني : إنه ربما اعتاد ذلك الفعل والإتيان بالأمر المعتاد لذيذ ، وتركه متعب مؤلم.
والثالث : لعلة تخيل له أن له في تلك الحركة لذة ومنفعة. ثم في الحال تبدل ذلك التخيل بتخيل آخر ، وهو أن
الأولى ترك تلك الحركة ، فلا جرم لم يشتغل بتحريك ذلك الإصبع ، إلا في زمان قليل.
وكل هذه الاحتمالات ظاهرة جائزة.
وأما النائم فالسبب في حركاته وجوه :
الأول : إن النائم حال نومه ، قد يرى أشياء (من الخيالات. وربما) يحسب تلك الخيالات إرادات وكراهات ، فتكون حركاته المختلفة
بحسب تلك الخيالات. والثاني : إن طول
اضطجاعه على جنبه قد يورث
الألم في ذلك الجنب. وقد بينا : أن النوم لا يمنع من حصول الخيالات : فلا جرم
ينقلب من أحد الجنبين إلى الثاني لدفع ذلك
الألم. الثالث : إن ذلك العمل قد يكون
ضروريا ، أو شبيها به. مثل التنفس.
وقال الشيخ أبو
علي بن سينا ، في الجواب عن هذه الشبهة : إن التخيل شيء ، والشعور بحصول ذلك
التخيل في الحال شيء آخر. وبقاء ذلك التخيل في الذكر بعد زواله شيء ثالث ، وليس معنا إلا أنا لا نتذكر
: أنا كنا
__________________
شاعرين بتلك
الأحوال حالة النوم ، ولا يلزم من عدم حصول هذا الثالث ، عدم القسمين الأوليين.
وأما الجواب عن الحجة الثالثة : وهي أن
الماهر في صنعه الكتابة
قد يكتب مع أنه لا يكون متأملا في آحاد تلك الحروف ، فنقول : إنه بسبب المواظبة
على الكتابة تحصل في أصابعه ملكة تقتضي سهولة إتيانه بكتابة تلك الحروف ، وكما
حصلت هذه الملكة في أصابعه بسبب مواظبته على (الإتيان بتلك الأعمال ، فكذلك حصلت
هذه الملكة في خيالاته ، بسبب مواظبته) على استحضار تلك الخيالات ، فلهذا السبب لا يحتاج إلى
استحضار صورة كل واحد من تلك الحروف ، بل تلك الحروف تتعاقب على الخيال ، كما تعاقبت تلك الأفعال على اليد ،
فتلك الصور والإرادات حاضرة ، وتلك الخيالات حاصلة إلا أنها لتواليها ولسرعة
تعاقبها يظن أنها غير موجودة. وذلك ممنوع.
وأما الجواب عن الحجة الرابعة : فهو أنا
نقول : إنا لا نسلم حصول الاستواء ،
بل لا بد فيه من حصول الرجحان من بعض الوجوه. مثل أن يكون أخذ ذلك القدح بإحدى
اليدين أسهل ، فيأخذ القدح الذي على ذلك الجانب. فإن فرضوا الاستواء من جميع
الوجوه، فنقول : لم لا يجوز أن يقال : إنه تحصل في قلبه داعية ضرورية جازمة من قبل
الله تقتضي أخذ أحدهما دون الثاني؟.
وأما الجواب عن الحجة الخامسة : أن نقول : الآتي بالحركة البطيئة يعلم أنه أتى بالحركة بوصف كونها
بطيئة ، فهو غير غافل عن الأمرين ، بل قاصد إلى تحصيلهما.
وأما الجواب عن الحجة السادسة : فهو أنا سنذكر الفرق إن شاء الله بين القادر ، وبين الموجب بوجوه ،
سوى ما ذكرتم. فهذا تمام الأجوبة عن تلك الوجوه. وبالله التوفيق.
__________________
الفصل السابع
في
تقرير دلائل القائلين بأن الفعل لا يصدر
عن القادر الا عند حصول الداعي
اعلم.
أن هؤلاء احتجوا بوجوه :
الحجة الأولى : إن القادر لما كانت نسبته إلى الفعل وإلى الترك على السوية ، فلو رجح أحد
الجانبين على الآخر ، من غير مرجح (لكان قد ترجح أحد طرفي الممكن المتساوي على
الآخر ، من غير مرجح والعلم الضروري حاصل بفساد ذلك. فإن قالوا : النزاع وقع في
أن القادر : هل يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر ، لا لمرجح؟ ولما ادعيتم أن
ذلك معلوم الامتناع بالضرورة فقد ادعيتم العلم الضروري في محل النزاع. فنقول : إن
قولكم : القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر ، لا لمرجح. كلام مشتمل على مغالطة
لطيفة. وتقريره : أن نقول : هل لقولك (مرجح) في قولك :
القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر (لا لمرجح) : مفهوم زائد على أصل كونه قادر أم لا؟ فإن كان له مفهوم
زائد ، فذلك المقدور إنما ترجح على المقدور الآخر ، لأجل أن هذا المفهوم الزائد
انضم إلى أصل كونه قادرا ، فصار مجموعهما مؤثرا في وقوعه ، فعلى هذا التقدير نقول
: إنما ترجح هذا الجانب (على الجانب)
__________________
الآخر ، لأجل أنه
اختص هذا الجانب بذلك المفهوم الزائد ، فقولكم بعد هذا : إن القادر رجح أحد
مقدوريه على الآخر ، لا لترجح ، يقتضي الجمع بين النقيضين. وذلك لأن قوله : رجح.
أفاد أمرا زائدا على أصل كونه قادرا ، لأجله ترجح هذا الجانب على الجانب الآخر.
وقوله : لا لمرجح ، يقتضي نفي هذا الزائد. فيثبت : أن هذا الكلام يوجب الجمع بين
المرجح الزائد وبين نفيه. هذا إذا قلنا : إن قوله ترجح ، يفيد مفهوما زائدا على
المفهوم من كونه قادرا. وأما إذا قلنا : إنه لا يفيد مفهوما زائدا البتة. فحينئذ
لا يكون في ذكر هذا اللفظ فائدة فوجب حذفه ، والاقتصار على كونه قادرا ، وحينئذ يرجع حاصل
الكلام إلى أنه قادر على الفعل والترك ، ونسبة قدرته إلى الطرفين على التسوية ،
وأنه لم يخص الجانبين (بالإيقاع والترجيح ، ولا بنوع من أنواع التمييز ، ثم إنه إن
وقع (ف) أحد الجانبين ينفيه. وإذا صرحنا بهذا الكلام على هذا الوجه ، فإنه تقضي
بديهة عقل كل أحد : أنه كلام باطل فاسد
الحجة الثانية : في بيان أن صدور الفعل
عن القادر ، يتوقف على الداعي : أن نقول: لنفرض أن هذا القادر كان قادرا على هذا الفعل مدة ، ولم يصدر عنه ذلك
الفعل. ثم بعد ذلك صدر عنه ذلك الفعل. فنقول : إما أن يقال إنه إنما حدث ذلك الفعل
في ذلك الوقت دون ما قبله ، لأن هذا القادر أوقعه في ذلك الوقت وما أوقعه فيما
قبله. أو يقال : إنه وقع في ذلك الوقت دون ما قبله ، لا لأجل أن ذلك القادر أوقعه
فيه ، (بل وقع هو فيه) لا بسبب أصلا.
أما القسم الأول.
فهو يفيد مطلوبنا. وذلك لأنا عللنا وقوعه في ذلك الوقت (بأن ذلك القادر أوقعه في
ذلك الوقت) .
فهل لقولنا :
أوقعه في ذلك الوقت مفهوم زائد على كونه قادرا أم لا؟ فإن
__________________
كان له مفهوم زائد
، فهو إنما حدث في ذلك الوقت ، لأجل ذلك الوقت . الزائد ، فهو لم يحدث في ذلك الوقت لمجرد القادرية ، بل
لأجل انضمام ذلك الزائد إلى أصل القادرية. وإما أن لم يكن لقولنا : أوقعه في ذلك
الوقت مفهوم زائد على أصل القادرية ، كان قادرا عليه في أوقات كثيرة ، ولم يتفق
وقوع هذا المقدور في تلك الأوقات ، وبقيت تلك القادرية إلى هذا الوقت ، ووقع هذا
الفعل في هذا الوقت من غير أن خصه ذلك القادر بالإيقاع في هذا الوقت ، ومن غير أن
خصّه بالقصد إلى إيجاده وإلى تكوينه في هذا الوقت ، إلا أن على هذا التقدير لا
يكون (وقوع ذلك الفعل في هذا الوقت منسوبا إلى ذلك القادر ، بل يكون ذلك عبارة عن حدوث ذلك الشيء بنفسه ، فيكون قولا بقطع
الفعل (عن الفاعل) ، فيثبت أن القول بأن الفعل يصدر عن القادر من غير الداعي ،
يمنع من القول بكون الفعل فعلا للفاعل ، وبكون القادر قادرا عليه. فإن قالوا : لم
لا يجوز أن يقال : إن هذا الفعل لم يقع لهذه القادرية في الأزمنة الماضية ووقع بها
في هذا الوقت ، من غير أن اختص أحد الوقتين بأمر زائد؟ فنقول : لا شك أن المفهوم
من كون هذا الفعل حركة ، غير المفهوم من وقوع هذه الحركة بذلك المؤثر ، لأنه يصح
منا أن نفهم حقيقة تلك الحركة مع الشك في وقوعها ، بهذا المؤثر المعين. ونقول :
ذلك المفهوم أمر مغاير لنفس هذه الحركة ، ومغاير أيضا لنفس المفهوم من القادرية ، لأن
كونه قادرا ، قد كان حاصلا في الزمان المتقدم ، مع أن المفهوم من وقوع هذه الحركة
به ، ما كان حاصلا. فثبت أن هذا المفهوم مفهوم زائد على ذات الأثر وعلى ذات المؤثر
من حيث إنه قادر.
ولا شك أنه لو لاه
لما حصل هذا المقدور ، فيثبت أن مجرد كون القادر قادرا لا يكفي في حصول هذا
المقدور منه بعينه ، بل لا بد من أمر زائد ،
__________________
وذلك هو الداعي.
والله أعلم.
الحجة الثالثة : إن قضية الإمكان
والجواز قضية واحدة. فإن
كان المفهوم من الجواز والإمكان محوجا إلى المرجح ، فليكن كذلك في كل المواضع ،
وإن لم يكن محوجا إلى المؤثر ، فليكن كذلك في كل المواضع. فأما القول بأنه محوج
إلى المؤثر في موضع دون موضع ، مع أنا لا نجد في العقل فرقا بين الموضعين ، فذلك
مما لا يقبله العقل.
إذا عرفت هذا.
فنقول : وافقتمونا على أن الجوهر ، لما جاز حصوله في هذا الحيز . بدلا عن ذلك ، وفي ذاك بدلا عن هذا ، فإنه يمتنع رجحان
أحدهما على الآخر ، إلا المرجح. وأيضا وافقتمونا على أن الممكن لما جاز وجوده ،
وجاز عدمه ، فإنه يمتنع رجحان أحد الجانبين على الآخر إلا المرجح. فكذا هاهنا ،
لما كانت القدرة صالحة للفعل والترك ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر إلا المرجح.
ضرورة أنه لا فرق (في الفصل) بين هذه الصفة بأسرها في باب الجواز والإمكان.
فإن قالوا : الفرق
بين البابين أن كون الذات متحيزة ، يقتضي صحة الحصول في كل الأحياز على
البدن. وتوقيف التعيين على أمر منفصل لا يفضي إلى المحال. فلا جرم قلنا به. وأما
في حق القادر. فإن القول بأن رجحان أحد الجانبين (على الآخر) يتوقف على أمر منفصل يفضي إلى المحال ، فوجب أن لا نقول
به.
وبيان هذا الكلام
: إن كون القادر قادرا يقتضي صحة كل واحد من الضدين ، على البدل. فلو حكمنا بتوقف
التعيين على أمر منفصل ، لكان عند حصول ذلك الأمر المنفصل يصير القادر موجبا. لأنا
سنبين أن الفعل عند حدوث الداعية الجازمة ، يصير واجب الوقوع، لكن القول بأن القادر
حال كونه
__________________
قادرا ينقلب
موجبا. هذا قول باطل. لأن الفرق بين القادر وبين الموجب معلوم بالضرورة ، من حيث
أن القادر يؤثر على سبيل الصحة. والموجب يؤثر على سبيل الوجوب.
وأيضا : فصدور
الفعل من القادر يستلزم حصول المدح والذم والثواب والعقاب ، وصدوره من
الموجب لا يوجب ذلك. فظهر الفرق. فثبت بما ذكرنا : أن توقيف صحة الفعل عن القادر ،
على الداعي يفضي إلى المحال. أما صحة حصول المتحيز في الأحياز المختلفة على سبيل
البدل لا يفضي إلى هذا الباطل. لأنا إذا أوقفنا ذلك التعيين على أمر منفصل ، يوجب حصوله في ذلك الحيز المعين ، فانه لا يلزم منه محال البتة ، فثبت أنه لا يلزم
من توقيف الجائز على المرجح في باب (حصول الجسم في الأحياز المختلفة على سبيل
البدل محال ، ومحذور البتة. أما توقيف الجائز على المرجح في باب) القادر ، فإنه يلزم منه أعظم المحذورات والمحالات وهو
انقلاب القادر موجبا.
وهذا غاية ما يمكن
أن يقال في الفرق. في هذا الباب.
والجواب : إن هذا
الفرق مدفوع. وذلك لأنا كلما علمنا في الشيء أنه يجوز حصوله ويجوز عدمه ، وليس
لأحد الطرفين مزية على الآخر بوجه من الوجوه ، قطع عقلنا بأنه رجحان أحد الطرفين
على الآخر ، إلا المرجح ، فثبت بهذا : أن العقل حاكم بأن منشأ الحاجة إلى المؤثر
المنفصل هو مسمى الإمكان. والجواز.
وإذا كان كذلك ،
فأينما حصل الجواز والإمكان وجب أن يحصل الافتقار إلى المؤثر ، وعلى هذا التقدير
فالفرق المذكور ساقط. وأيضا : نقول : الجواز من حيث هو جواز : إما أن يكون محوجا
إلى المرجح ، أو لا يكون إلا بشرط أن يعلم أنه لا يفضي إلى باطل ومحذور. فإن كان
الحق هو الأول لزم من حصول
__________________
الجواز أينما كان ، حصول الحاجة ، أينما كانت وهو المطلوب.
(وأما إن قلنا :
إن الجواز إنما يحوج إلى المقتضى بشرط أن لا يفضي إلى محذور ومفسدة) فنقول : هذا باطل لأن أقصى ما في الباب أن نعلم أنه لا
يلزم منه المفسدة الفلانية ، والفلانية. فأما أن نعلم أنه لا يلزم منه شيء من
المفاسد أصلا ، فذلك مما لا سبيل إليه ، إلا إذا قلنا : إن عدم علمنا بالشيء يوجب
علمنا بعدم ذلك الشيء ، إلا أن هذه المقدمة (في غاية الضعف ، وإن وقفنا كون الجواز
علة للحاجة إلى المرجح على هذه المقدمة) لزم بطلان هذا الأصل بالكلية ، فعلمنا أن كون الجواز علة
للحاجة لا يعتبر فيه هذا القيد أصلا ، بل وجب الحكم عليه : إما بأنه لا يحوج إلى
المؤثر البتة ، أو بأنه يحوج إلى المؤثر على الإطلاق. والله أعلم .
الحجة الرابعة : على أن الفعل بدون الداعي محال.
أن نقول : لو كان
مجرد كون القادر قادرا ، كافيا في حصول الفعل ، لامتنع أن يحصل للداعي أثر في
الترجيح في شيء من المواضع. وهذا باطل. فذاك باطل. بيان الملازمة : أن الوصف إذا
كان مستقلا باقتضاء الأثر ، فإذا انضم إليه شيء آخر ، فقد انضم هذا الزائد إلى شيء
كان في نفسه مستقلا باقتضاء الأثر ، وإذا كان كذلك ، فقد وقع الأثر بذلك المستقل
ولا يبقى لهذا الزائد فيه أثر البتة ، لأن الشيء الواحد ، لا يكون واجبا لذاته
ولغيره معا. ومثاله : أنه لما كان ثقل الحجر مستقلا باقتضاء الهوى. لا جرم لم يبق
لكون الحجر أسود ، أو أبيض ، أثر في اقتضاء ذلك النزول ، فكذا هاهنا ، لو كان مجرد
كونه قادرا مستقلا باقتضاء الفعل لامتنع أن يحصل للداعية المنضمة إلى القادرية أثر
في اقتضاء الفعل ، فيثبت بما ذكرنا أن القادرية لو كانت مستقلة
__________________
باقتضاء الفعل ،
لامتنع أن يكون للداعية أثر في اقتضاء الفعل. وبيان أن الداعية قد يكون لها أثر في
الترجيح : أن ذلك معلوم بالضرورة ، فإنا نعلم بالضرورة ، أنا قد ندفع الدرهم إلى
الفقير ، لعلمنا بفقره ، ونعلم بالضرورة أنه لو لا هذا الاعتقاد لما دفعنا ذلك
الدرهم إليه ، فيثبت أنه لو كانت القادرية مستقلة باقتضاء الترجيح لامتنع أن يكون
للداعية أثر في الترجيح ، وثبت أن هذا اللازم باطل ، فوجب أن يكون الملزوم باطلا.
الحجة الخامسة : إن الواحد منا إذا خرج
من بيته وذهب إلى زيارة صديق له ، فإذا خطر بباله في أثناء الطريق أنه حصل له مهم في بيته يقتضي رجوعه إلى البيت ، فإذا تقابلت هاتان
الداعيتان (وتساوتا ، ولم يحصل لأحد الجانبين رجحان على الآخر ، فإن ذلك الإنسان) يبقى في ذلك المكان ولا يمكنه أن يتحرك إلى أحد الجانبين ،
إلا إذا حصل في خياله رجحان لأحد الجانبين على الآخر فإنه عند ذلك الخيال فإنه عند
ذلك الخيال يتحرك إلى ذلك الجانب. وإذا كان هذا المعنى مما يجده كل أحد من نفسه ،
علمنا أنه ما لم يحصل المرجح في الخيال والعقل فإنه يمتنع حصول الرجحان.
وأيضا : إذا خيّر
الإنسان بين شرب أحد القدحين ، وأكل أحد الرغيفين ، فإنه ما لم يتأمل في أنه يأخذ
هذا ، أو ذاك ويأكل هذا أو ذاك ، فإنه لا يصدر عنه أحدهما ، ولو لا أنه لا بد من
الترجيح ، لما حصل ذلك القدر من التوقف.
وأيضا : فإن الله
تعالى لما خير المكلف في باب الكفارات بين الخصال الثلاثة فالمكلف ، لا يقدم على
واحد منها بعينه إلّا إذا تفكر وتأمل في أن أيها أسهل عليه ، وأيها أصعب عليه ، ولو لا أن الرجحان يتوقف على حصول المرجح من بعض
الوجوه ، لما كان الأمر كذلك (فيثبت أن العلم بتوقف هذا الرجحان على المرجح علم
ضروري) .
__________________
الحجة السادسة : إنه لم يتوقف الفعل على الداعي ، لزم أن لا يكون الله ـ تعالى ـ مستحقا
للحمد والثناء على شيء من أفعاله أصلا ، ويلزم أن لا تدل خلق المعجزات على صدق
الداعي أصلا ، ويلزم أيضا : أن لا يدل صدور الكلام من المتكلم على معنى من المعاني
أصلا. وكل هذه اللوازم باطلة فذلك الملزوم أيضا باطل.
أما الأول فلأنه
إذا جاز أن يصدر الفعل عن القادر ، لا لداعي ، لامتنع أن يقال : إنه تعالى ، وإن
خلق الأشياء النافعة إلا أنه خلقها ، لا لداعية أصلا ، وإذا كان كذلك فحينئذ ما خلقها
لداعية الإحسان ، لأن داعية الإحسان داعية بكيفية وعند انتفاء أصل الداعي ، لا تكون الداعية المكيفة حاصلة. وإذا
ثبت احتمال أنه تعالى ما خلق هذه الأشياء لداعية الإحسان وجب أن لا يستحق على شيء
من أفعاله الحمد والثناء. ومعلوم أن ذلك باطل.
ومما يقوي هذا
الكلام : (أن الأصل) في كل أمر بقاؤه على ما كان. والأصل عدم خلق الأشياء
لداعية الإحسان. فإذا حصل الخلق ، وكان التقدير أن حصول الخلق لا يتوقف على حصول
الداعي ، فيلزم أن تبقى حصول تلك الداعية على العدم الأصلي. وعلى هذا التقدير فإنه
يلزم المطلوب. وأما الثاني فلأنه إذا جاز صدور الفعل عن القادر ، لا لداعي ، جاز
من الله تعالى أن يخلق المعجزات ، لا لشيء من الدواعي أصلا ، وعلى هذا التقدير
فإنه يخرج المعجز عن أن يدل على أنه تعالى إنما خلقه لغرض التصديق ، فحينئذ يخرج
المعجز عن كونه دليلا عن الصدق. وأما الثالث فلأنه إذا جاز صدور الفعل عن القادر ،
لا لداعي ، فلعل المتكلم بهذه الألفاظ وهذه الكلمات فعلها ، وأدخلها في الوجود ،
لا لغرض الإفهام والتعريف. ومع (بقاء) هذا الاحتمال فإنه يخرج هذا الكلام عن كونه مفيدا ، فيثبت
أن القول بجواز صدور الفعل عن
__________________
القادر ، لا
للداعي ، يلزم منه هذه الأباطيل ، فوجب أن يكون القول به باطلا.
واعلم أن الكلام
المعتمد للخصم في هذا الباب أن يقول : صدور الفعل عن القادر من غير
الداعي ، إنما يصح في حق الجاهل إما في حق العالم ، فإنه لا يصدر الفعل عنه إلا
للداعي. هذا هو الجواب الذي عليه تعويل القوم.
ونحن
نقول : هذا باطل من وجهين :
الأول : إن العلم إذا انضم إلى القدرة ، فإن العلم لا يقلب حقيقة القدرة ولا يبطل ماهيتها ، فإذا
كان مجرد القادرية صالحا لأن يكون مصدرا للفعل ، وجب أن تبقى هذه الصلاحية أيضا مع
العلم (وإذا كان كذلك) فهذا يقتضي صحة صدور الفعل عن القادر ، العالم ، لا للداعي
، فيثبت أن الفرق الذي ذكروه باطل.
والثاني : إنهم جوزوا الترجيح من غير مرجح في حق العالم ، ألا ترى أنهم جوزوا ترجيح أحد
القدحين على الآخر. وترجيح أحد الرغيفين على الآخر ، لا لمرجح مع أن الفاعل في هذه
الصور عالم. وأيضا : جوزوا من الله تعالى إحداث العالم في وقت معين دون ما قبله
وما بعده ، لا لمرجح. وأيضا : جوزوا من الله تعالى تخصيص كل جوهر فرد بحيز معين،
دون سائر الأحياز ، لا لمرجح ، فبطل قولهم : إن صدور الفعل عن العالم من غير المرجح باطل. وهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله
أعلم.
__________________
الفصل الثامن
في
بيان أن عند حصول الداعي يجب صدور
الفعل ولا يبقى الجواز البتة
اعلم. أن من الناس
من قال : إن عند حصول الداعي يصير الفعل أولى بالوقوع. لكنه لا ينهي تلك الأولوية
إلى حد الوجوب. واعلم أن هذا القول باطل. ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : إن الفعل والترك قبل حصول الداعي كانا في حد التساوي. وقد بينا أنه
ما دام هذا الاستواء يكون باقيا ، فإنه يمتنع حصول الفعل فإذا حصلت الداعية
الموجبة لرجحان أحد الطرفين ، فعند هذه الحالة صار الطرف الثاني مرجوحا. والمرجوح
أضعف حالا من المتساوي ، ولما كان عند حصول الاستواء : ممتنع الحصول ، مستحيل
الوقوع ، فعند حصول المرجوحية كان أولى بالامتناع. وإذا صار أحد الطرفين ممتنع
الوقوع ، صار الطرف الآخر واجب الوقوع. ضرورة أن الخروج من طرف النقيضين محال ،
فيثبت بهذا البرهان. أن الفعل يصير واجب الوقوع عند حصول الداعي.
فإن قيل : إنه إذا
حصلت الداعية المرجحة لجانب وجود الفعل ، صار جانب وجوده راجحا. وهذا لا يقتضي ضرورة
جانب العدم مرجوحا ، لأن ذلك العدم عدم باقي مستمر (والعدم الباقي المستمر لا يكون
التأثير فيه حال بقائه على ذلك العدم المستمر ، فيثبت أن العدم الأصلي نفي) كما كان حال
__________________
قيام هذه الداعية
المرجحة لجانب الوجود. وإذا كان الأمر كذلك امتنع ضرورة ذلك العدم مرجوحا ، بل بقي
ذلك العدم راجحا ، كما كان ، نظرا إلى أن الأصل في كل ثابت : بقاؤه على ما كان ،
وصار جانب الوجود أيضا راجحا ، بسبب أن المقتضى لحصول هذا الرجحان قد حصل.
والجواب : أن نقول
: إن عند حصول الداعية المقتضية للوجود. إما أن يكون قد ترجح جانب الوجود أو لم
يترجح البتة ، (فإن لم يترجح البتة) امتنع كون تلك الداعية داعية إلى الفعل ، لكنا قد فرضناها داعية إلى الفعل. هذا خلف.
وإن ترجح جانب الوجود ، وجب أن يصير جانب العدم مرجوحا لا محالة بالنسبة إلى جانب
الوجود ، لأن النقيضين لما تقابلا وتعاندا ، كان رجحان أحد الجانبين يقتضي مرجوحية
الجانب الآخر بعينه ، فيثبت أن الجانب الأول ، لما صار راجحا ، صار الجانب الثاني
مرجوحا. لا محالة. وعند هذا يحصل المطلوب.
الحجة الثانية : في بيان أن عند حصول الداعية المرجحة ، يصير الفعل واجب الوقوع:
أن نقول : إن عند
حصول الرجحان في جانب الوجود ، إما أن يكون العدم ممتنعا أو لا يكون. فإن كان
ممتنعا ، فهذا هو المطلوب ، لأن كل ما يمتنع عدمه ، فقد ثبت وجوب وجوده ، وإن لم
يمتنع فنقول : كل ما يكون ممتنعا لم يلزم من فرض وقوعه محال ، فلنفرض عند حصول ذلك
الرجحان ذلك الأثر تارة واقعا ، وتارة غير واقع ، فتميز وقت الوقوع ، عن وقت
اللاوقوع. إما أن يتوقف على انضمام قيد زائد إليه (لأجله صار أولى بالوقوع ، أو لا يتوقف.
__________________
فإن توقف الوقوع
على انضمام قيد زائد إليه) فقد كان هذا الشيء قبل انضمام هذا القيد الزائد إليه ممتنع الوقوع ، فحين حكمنا عليه بأنه كان أولى
بالوقوع ، فقد كان ممتنع الوقوع. هذا خلف. وإن لم يتوقف على انضمام قيد إليه.
فنقول : نسبة حصول تلك الأولوية إلى الوقتين أعني وقت حصول الأثر ، ووقت عدم الأثر
على السوية. حاصلة في الوقتين على صورة واحدة ، وكيفية واحدة ، فاختصاص أحد ذينك
الوقتين بالوقوع دون الوقت الثاني ، يكون رجحانا لأحد طرفي الممكن المتساوي على
الآخر لا لمرجح.
وذلك محال. لأن
هذه المسألة مفرعة على بيان أن القادر لا يصدر عنه الفعل إلا عند حصول الداعية
المرجحة. وهذا أيضا برهان قاطع في هذه المسألة.
الحجة الثالثة : إنا بينا أن عند استواء نسبة القدرة إلى الفعل وإلى الترك ، فإنه يمتنع رجحان أحد
الجانبين على الآخر.
إذا عرفت هذا.
فنقول : إن عند استواء أحد الطرفين لم يوجد ، لا المقتضي للرجحان، ولا المانع منه.
وأما عند حصول الداعية المرجحة لأحد الجانبين ، فقد حصل المانع من رجحان الطرف
الثاني. لأن رجحان أحد طرفي النقيض كالمانع من رجحان الطرف الثاني. وإذا عرفت هذا
فنقول : إن عند حصول الاستواء ، لم يوجد المقتضي ولا المانع. ثم كان حصول الرجحان
في هذا الوقت ممتنعا ، فعند حصول رجحان أحد الطرفين لم يوجد المقتضي برجحان الطرف
الثاني. وحصل المانع منه. لأنا بينا أن رجحان الطرف الأول مانع من رجحان الطرف
الثاني. وإذا كان الشيء عند عدم المقتضي ممتنع الوقوع فبأن يصير عند عدم المقتضي
وحصول المانع ممتنع الوقوع كان أولى. وإذا صار هذا الجانب ممتنع الوقوع ، صار
الجانب الثاني واجب الوقوع ضرورة أنه لا واسطة بين الوقوع (وبين اللاوقوع) . وهذا أيضا برهان قاطع.
__________________
الحجة الرابعة : إن (عند) قيام الداعي إلى الفعل يمتنع حصول الترك. وذلك لأنه لو حصل
الترك ، لحصل إما للداعي ، أو لا للداعي. والأول باطل ، لأنه عند حصول الداعي إلى
الفعل يمتنع حصول الداعي إلى الترك ، وبتقدير أن يحصلا ، يتعارضان فيتساقطان ، ولم
يبق الداعي إلى الفعل راجح الوقوع.
وكلا منا فيما إذا
بقيت تلك الداعية على صفة الرجحان ، والثاني أيضا باطل ، لأن عند قيام الداعي إلى
الفعل ، لو حصل الترك ، لا للداعي أصلا ، لكان قد حصل الرجحان من غير حصول الداعي.
والكلام في هذه
المسألة فرع على أن حصول الترجيح يتوقف على حصول الداعي ، ولما ثبت فساد القسمين
ثبت أن عند حصول الداعي إلى الفعل (كان الترك محال الوقوع.
واحتج من قال : إن عند حصول الداعي إلى
الفعل)
لا يصير الفعل واجبا بوجوه : الحجة الأولى : إن الذي دعا الداعي إلى الفعل ، قد يمكنه أن يغير تلك الداعية ، ولو
كان ذلك واقعا على سبيل الوجوب ، لما قدر عليه. وأيضا : فقد تتقابل الدواعي. ومع
ذلك فإنه يرجح أحدها. مثل المخير في الكفارات الثلاثة.
والحجة الثانية : إنا قد دللنا على أن الفعل بدون الداعي محال ، فلو فلنا مع هذا : إن الفعل يصير واجب الوقوع عند حصول
الداعي ، فحينئذ لا يبقى فرق بين الموجب وبين المختار. وذلك معلوم البطلان. ولأنه
لو لم يبق الفرق بين الموجب وبين المختار ، وجب أن لا يستحق المختار على
فعله المدح
__________________
والذم والترغيب
والترهيب. وأن لا يحسن أمره ولا نهيه ، كما لا يحسن كل ذلك في حق الموجب. ومعلوم
أن كل ذلك باطل.
والحجة الثالثة : إنا نعلم بالضرورة
حصول التفرقة بين ما
إذا كان الإنسان ملجأ إلى الفعل ، وبين ما يكون مختارا فيه. ولو كان الداعي موجبا
للفعل لما بقي هذا الفرق. والله أعلم .
والجواب عن الحجة الأولى : أن نقول : إن
قولكم : إنه لا يمكنه أن يغير تلك الداعية : كلام ضعيف ، لأن الذي ادعيناه أن
عند بقاء تلك الداعية خالية عن القيود وعن المعارض ، فإنه يجب صدور الفعل.
وأنتم ذكرتم أن
تلك الداعية قابلة للتغير. وهذا لا يقدح فيما ذكرناه البتة ، لأن قولنا : إن تلك
الداعية يمكن تغيرها ، لا يقدح في قولنا : إنها عند حصولها يجب ترتب الأثر عليها ،
وأما قوله : إن عند تساوي الدواعي ، فقد يفعل الفاعل الفعل ، فهذا عود إلى المسألة
المتقدمة وهي أن صدور الفعل عن القادر بدون الداعي جائز ، وقد سبق
إبطاله.
وأيضا : فهذه
المسألة. متفرعة على تلك المسألة. والكلام في الفرع بحيث يوجب فساد الأصل : كلام
باطل.
والجواب عن الحجة الثانية
: أن نقول : الفرق بين القادر وبين
الموجب حاصل من وجهين : الأول : إن القادر حال (حصول الداعية الجازمة في حقه يجب
صدور ذلك الأثر عنه ، مع كونه عالما) بكونه مصدرا لذلك الأثر ، والموجب ليس كذلك. والفرق الثاني
: إن الموجب بالطبع موصوف بصفة واحدة موجبة (لا أثرا واحدا) ولا تتغير تلك الصفة وتلك الطبيعة
__________________
البتة ، ولا يختلف
حالها في الإيجاب. وأما القادر حال حصول الداعية الجازمة في قلبه ، فإنه يجب صدور
ذلك الأثر عنه ، إلا أن تلك الداعية سريعة الزوال ، سريعة الانقراض والانقضاء،
وعند زوال تلك الداعية المعينة يزول ذلك الأثر المعين ، وعند حصول الداعي إلى ضد
ذلك الفعل ، يصير مصدر الضد ذلك الأثر. والإنسان إذا جرب نفسه ، واعتبر أحوال فعله
وتركه ، علم بالضرورة : أن الأمر كما ذكرناه ، فإنه إذا حصلت الداعية الخالية
الجازمة عن القيود ، والمعارض في قلبه ، صار كالملجإ إلى ذلك الفعل. وإذا فرت تلك
الداعية ، صار تاركا لذلك الفعل.
وقد ذكر بعض
العلماء في هذا المقام كاملا لطيفا ، فقال : إن قال قائل : إني أجد من نفسي أني إن
شئت أن أفعل فعلت ، وإن شئت أن أترك تركت. فيكون الفعل مني ، والترك منيّ. ثم أجاب
عنه. فقال : يقال لهذا القائل : هب أنك إن شئت الفعل فعلت ، وإن شئت الترك تركت.
فهل تجد من نفسك أنك إن شئت مشيئة الفعل ، حصلت مشيئة الفعل ، وإن شئت مشيئة الترك
، حصلت مشيئة الترك ؛ أم لا؟ فإن هذا يوجب التسلسل، بل العقل يجزم بأن هذه الدواعي
تنتهي في سلسلة الحاجة إلى داعية تقع في قلبك ، لا لأجل داعية أخرى. وإذا وقعت تلك
الداعية في قلبك صرت فاعلا لذلك الفعل لا محالة ، فلا حصول الداعية في قلبك بك.
ولا ترتب ذلك الفعل على حصول تلك الداعية بك. فالإنسان مضطر في صورة مختار. فقد
ثبت حصول الفرق بين الموجب بالطبع وبين القادر المختار من هذين الوجهين. فإن ادعيت
حصول الفرق بينهما من وجه آخر ، فذلك ممنوع.
وأما حصول الأمر
والنهي والعقاب والثواب والمدح والذم. فقد ذكرنا الأجوبة عنه في مسألة خلق
الأفعال. وبالله التوفيق .
__________________
الفصل التاسع
في
تقسيم الدواعي
وهو من وجوه :
التقسيم الأول : إن الدواعي التي تقع في القلوب على قسمين : منها ما يحصل في القلب
بإيقاع العبد ، ومنها : ما يحصل فيه ابتداء بتخليق الله تعالى. والدليل على صحة
القول بالقسم الأول : إنا قد نقدر على تغيير الدواعي والبواعث ، فقد يكون الواحد
منا راغبا في شيء من الأشياء ، وفي عمل من الأعمال ، ثم إنه يسعى ويجتهد ويزيل عن
قلبه تلك الرغبة ، وذلك الميل. وهذا أمر وجداني يجده كل أحد من نفسه. وأما الدليل على صحة القول بالقسم الثاني.
فهو إن قدرتنا على تغيير الداعية الحاصلة في القلب ، لا يمكن أن تسبق داعية أخرى ،
فلو كانت تلك الداعية أيضا منا ، افتقرنا في تغيير تلك الداعية إلى داعية أخرى.
ولزم التسلسل وهو محال. فيثبت : أن الأحوال الحادثة في القلوب ترتقي إلى داعية (ضرورية
حاصلة بتخليق الله تعالى ويتفرع عليها داعية ثانية ، ويتفرع على تلك الداعية
الثانية) (دواعي) بالغة ما بلغت ، ويكون تعلق كل داعية بما قبلها تعلقا
واقعا على سبيل الوجوب واللزوم وهذه كلمات من وفقه الله تعالى للتأمل فيها ، وأزال عن قلبه غشاوة
الشبه ،
__________________
واعتبر حال نفسه
اعتبارا صحيحا ، وأن الأمر كما ذكرناه.
التقسيم الثاني للدواعي : اعلم أن الداعي إلى الفعل قد يكون كليا ، وقد يكون جزئيا.
مثال الداعي الكلي
: أن يريد الرجل أن يذهب إلى زيارة صديق له ، وكان من داره إلى دار صديقه طرق
مختلفة. فإرادة الذهاب إلى دار الصديق إرادة كلية تندرج فيها جزئيات كثيرة ، أعني
الذهاب إليه من هذا الطريق ، ومنذ ذلك الطريق ، ومن الطريق الثالث.
ومثال الداعية
الجزئية : ما إذا أراد الإنسان أن يحرك إصبعه في هذه اللحظة اللطيفة من هذا الحد
المعين ، إلى ذلك الحد المعين. إذا عرفت هذا. فنقول : أما الداعية الكلية فإنها لا
تصير مصدرا للفعل الجزئي إلا عند انضمام الداعية الجزئية إليها.
وتقريره : أن عند
حصول الداعية الكلية ، فالمحل إما أن يكون قابلا لأنواع كثيرة داخلة تحت ذلك الكلي. وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان
الأول كانت نسبة تلك الداعية الكلية إلى كل واحد من تلك الجزئيات على السوية. ومتى
كان الأمر كذلك امتنع رجحان بعضهما على بعض ، إلا لمخصص زائد ، وإلا لزم ترجح أحد طرفي الممكن على الآخر، لا لمرجح ، وهو محال.
وأما القسم الثاني : وهو أن تحصل الداعية الكلية. إلّا أن المحل لا يقبل إلا نوعا واحدا من
الأنواع الداخلة تحت ذلك الجنس. فمثاله : ما إذا أراد الذهاب إلى لقاء صديقه ولا
يمكنه الذهاب إليه إلا في طريق معين. فنقول هاهنا : الداعية الكلية وهي إرادة
الذهاب إلى لقاء ذلك الصديق مع العلم بأنه لا يمكن الذهاب إليه ، إلّا مارا بذلك
الطريق يوجبان إرادة جزئية. وهي إرادة
__________________
الذهاب إليه في
ذلك الطريق (المعين. والدليل عليه : أنه لما أراد الذهاب إليه ، وعلم أنه لا يمكن
الذهاب إليه إلا بذلك الطريق) فحينئذ نعلم أنه لا يمكنه تحصيل المطلوب إلا بهذا الطريق
المعين. وما كان من لوازم المطلوب كان مطلوبا ، فصارت تلك الإرادة الكلية موجبة
لهذه الإرادة الجزئية فيثبت بمجموع ما ذكرنا : أن الداعية الكلية لا تكون سببا
قريبا لحصول الأفعال الجزئية بل لا بد من دواعي جزئية تكون مبادي للأفعال الجزئية.
ثم هاهنا. بحث آخر
وهو : أن تلك الإرادة الكلية تصير سببا لحدوث إرادات متعاقبة متوالية. وذلك لأنه
لما أراد الذهاب إلى ذلك الصديق ، وعلم أنه لا يمكنه الوصول إلى هذا المراد ، إلا
برفع قدم ، ووضع أخرى. فحينئذ تصير تلك الإرادة علّة لحصول إرادة جزئية ، لرفع
القدم من ذلك الموضع الذي هو فيه ، ووضعه في مكان آخر أقرب إلى دار ذلك الصديق ،
ثم يحدث من تلك الإرادة الكلية إرادة ثانية متعلقة برفع ذلك القدم من ذلك المكان ،
ووضعه في مكان آخر ، أقرب من الأول ، وعلى هذا الوجه فتلك الإرادة الكلية وتلك
الداعية الكلية تصير سببا لحدوث إرادة مقتضية لحدوث الخطوة الأولى. وبعد انقضاء تلك
الخطوة (تصير تلك الإرادة الكلية بعينها علة لحدوث إرادة ثانية مقتضية لحدوث
الخطوة) الثانية. فالحاصل : إن تلك الإرادة الكلية باقية من أول
تلك الحركة إلى آخرها ثم إنها تصير في أول الأمر علة لحدوث الإرادة الجزئية الأولى
المتعلقة بالخطوة الأولى. وبعد انقضاء تلك الإرادة الجزئية الأولى تصير علة لحدوث الإرادة الجزئية الثانية المتعلقة بالخطوة
الثانية. فالعلة المؤثرة في تلك الدواعي الجزئية هي تلك الداعية الكلية إلا أن انقضاء كل إرادة جزئية متقدمة ، شرط لصيرورة تلك
الداعية الكلية مؤثرة في حدوث الداعية الجزئية (الثانية. والله ولي التوفيق) .
__________________
الفصل العاشر
في
تحقيق الكلام في تقسيم الدواعي إلى ما يكون
داعية الحاجة. وإلى ما يكون داعية الإحسان
(الداعية : إما
تكون داعية الحاجة. وإما أن تكون داعية الإحسان) .
واعلم. أن هذا
التقسيم هو اللائق بأصول المعتزلة. وعليه فرعوا كثيرا من مباحثهم في علوم
الإلهيات. ونقول : قد بينا أنه لا معنى للحكمة والمصلحة والخير إلا اللذة والسرور
، أو ما يكون مؤديا إليهما ، أو إلى أحدهما. ونقول : العلم بكون الفعل منفعة
إما أن يدعوه إلى إيصال تلك المنفعة إلى نفسه
أو إلى غيره ، والأول : هو داعية الحاجة. والثاني هو داعية الإحسان ، فههنا الداعي للفاعل إلى فعله مجرد كونه
في نفسه حسنا ، ويكون الداعي له إلى تركه مجرد كونه قبيحا. فداعي الحاجة : اعتبار
صفة الفاعل ، وهي كونه محتاجا إلى ذلك الشيء. وأما داعية الحكمة : فهي اعتبار صفة
الفعل لا اعتبار صفة الفاعل. وأعني باعتبار صفة الفعل ، كونه في نفسه حسنا ، أو
كونه قبيحا.
ثم قالوا : وحكم
هذين القسمين مختلف لأن قبحه يدعوه إلى الترك على سبيل الجزم. ولا يجوز خلافه.
وأما حسنه فيدعو إلى الفعل من غير وجوب. ثم إن انصاف إلى حسنه وجه يقتضي أن يكون
فعله أولى من تركه صار هذا الداعي أقوى لكنه لا يبلغ مبلغ الوجوب. فإن انضاف إليه
ما يقتضي الوجوب
__________________
صار في غاية القوة
، (لأنه صار بحيث لا يجوز في العقل تركه ، فهذا تفصيل هذا التقسيم على أصول
المعتزلة) .
وأما الفلاسفة والمتكلمون الذين ينكرون (القول بتحسين العقل وتقبيحه ، فقد أطبقوا على
إنكار داعية الإحسان ، وقالوا : لنا في) إنكار هذا الكلام مقامان. المقام الأول
: البحث عن كون الشيء حسنا في نفسه ، وقبيحا
في نفسه ، والمقام الثاني : أنه بعد تلخيص معنى الحسن والقبح. هل يمكن أن يقال :
إن العلم به يصلح أن يكون داعيا إلى الفعل؟ أما المقام الأول. فتقريره : إنا بينا
أن المنفعة مطلوبة بالذات ، وإن المضرة مكروهة بالذات ، فكل ما أفضى إلى حصول
المنفعة الراجحة كان حسنا ، ولا معنى لحسنه إلا كونه كذلك ، وكل ما أفضى إلى حصول
المضرة الراجحة كان قبيحا ولا معنى لقبحه إلا ذلك. وإذا ثبت أنه لا معنى للحسن
والقبح إلا كونه منشئا للمصالح والمفاسد ، فحينئذ لم يكن اعتبار الحسن والقبح أمرا
مغايرا لرعاية المصالح والفاسد ، بل كان هذا عين هذا القسم. وإذا ثبت هذا فنقول : اعتبار
أحوال المصالح والمفاسد إنما يصح في حق من يجوز عليه المنفعة والمضرة ، ولما ثبت أن إله العالم واجب الوجود لذاته ، في ذاته وفي
صفاته ، كان النفع والضرر محالا في حقه ، فوجب أن يكون اعتبار معنى الحسن والقبح في
أفعاله محالا.
قالت المعتزلة : الدليل على أن اعتبار الحسن والقبح مغاير لاعتبار كونه مصلحة ومفسدة : أن
الشيء قد يكون قبيحا (مع كونه نافعا) وقد يكون حسنا مع كونه ضارا وذلك يوجب المغايرة. وبيانه من
وجوه.
__________________
الأول
: أن الظلم نافع للظالم ، مع أن الظالم يشهد صريح عقله بكون الظلم قبيحا.
والثاني : إنا إذا فرضنا إنسانا أنشأ قصيدة غراء بألفاظ فصيحة ، وكتبها
بخط حسن. وقرأها بأصوات طيبة ، وكانت تلك القصيدة مشتملة على شتم الملائكة
والأنبياء والصالحين. كان سماع تلك الألفاظ الفصيحة والتركيبات الكاملة بتلك
الأصوات الطيبة لذيذ ، مع أن صريح العقل يحكم فيها بالقبح.
والثالث : إن الكذب النافع منتفع به ، مع أن صريح العقل ينادي عليه بالقبح.
والرابع : إن من رأى إنسانا مريضا ، أعمى مشرفا على الموت في صحراء ليس فيها أحد ، فإن عقله
يدعوه إلى الإحسان إلى ذلك المريض الأعمى (فههنا صريح العقل ، حكم بحسن ذلك
الإحسان ، وذلك الإحسان يوجب تنقيص المال وتحمل المشقة في النفس) فههنا صريح عقله يدعوه إلى فعل ذلك الإحسان إلى ذلك المريض
فههنا عقله يدعوه إلى فعل ذلك الإحسان ، وليس له فيه البتة شيء من وجوه النفع.
وذلك لأن دفع المال إليه تنقيص للمال ، هو ضرر ، وذلك المريض الأعمى لا يعرفه فلا
يطمع هذا المعطي في أن يذكره بالثناء والحمد.
ولم يحضر في تلك
الصحراء أحد ، حتى يقال : إنه إنما أحسن إليه لأجل أن الحاضرين يمدحونه. وأيضا :
فربما كان هذا المعطى دهريا ينكر الإله والمعاد ، فلا يمكن أن يقال : إنه إنما
أقدم على ذلك الإحسان لأجل الرغبة في الثواب.
فههنا العقل حكم
بحسن ذلك الإحسان ، مع أنه خالي عن جميع جهات النفع ، فظهر بهذه الوجوه أن حكم
العقل بالتحسين والتقبيح مغاير لحكمة طلب المنافع والمضار.
__________________
وأجاب المنكرون
للتحسين وللتقبيح. فقالوا : جميع ما ذكرتم ، يرجع حاصله إلى طلب المنفعة ودفع
المضرة.
أما الحجة الأولى : وهي قوله : إن الظالم ينتفع بظلمه مع أن عقله يحكم بقبح ذلك الظلم.
فنقول : لو حكم الظالم بحسن الظلم فحينئذ لا يمكنه دفع ذلك الظلم عن نفسه، وحينئذ
تصير روحه عرضة للقتل ، وماله عرضة للنهب فيجب عليه في رعاية مصالح نفسه وماله أن يحكم بقبح الظلم ، حتى تبقى روحه وماله
محفوظين عن الهلاك والتلف.
وأما الحجة الثانية : وهي القصيدة الغراء المشتملة على شتم الملائكة والأنبياء.
فجوابها : إن الحكم بحسن
ذلك على خلاف مصالح العالم. وبيانه من وجهين : الأول : إنا إذا جوزنا ذلك الشتم
والإساءة فحينئذ لا يبقى لأمر
الله ـ تعالى ـ ونهيه وقع في القلوب. وذلك يوجب الهرج والمرج ويوثب الأراذل من
الخلق على أفاضلهم. والثاني : إن أشرف الموجودات هو الله سبحانه ، وأكثرهم إنعاما
على المحتاجين هو الله تعالى ، فإذا لم تكن إساءة القول فيه ممنوعا منه.
فحينئذ لا يمكن التوسل بالفضائل إلى دفع المضار ، وذلك ضد مصلحة العالم.
وأما الحجة الثالثة : وهي قولهم : الكذب النافع منتفع به ، مع أن العقل يقضي بقبحه.
فالجواب : إن تجويز الكذب على خلاف مصلحة العالم ، لأنا إذا جوزنا الكذب فالذي
نسمعه قد تنبني عليه أغراض كثيرة في الفعل والترك. فإذا ظهر أنه كان كذبا في تلك
الأحوال ، فحينئذ تضيع تلك الأعمال المبنية عليه ، ويضيق قلب ذلك الفاعل ، ويضيع
عمره. وكل ذلك على ضد مصلحة العالم.
__________________
وأما الحجة الرابعة : وهي الإحسان إلى المريض الأعمى ، الذي يكون في صحراء ليس فيها أحد.
فالجواب : أن فيه رعاية المصالح من وجوه :
الأول : إن الإنسان جبل بحيث كل ما يراه في غيره من أبناء جنسه ، فإنه يفرضه
في حق نفسه. فلمّا رأى هذا الشخص ذلك المريض على تلك الحالة ، سبق وهمه وخياله إلى
فرض تلك الحالة في حق نفسه ، وحينئذ يميل طبعه إلى السعي في تخليصه من ذلك البلاء
، ولو لم يفعل ذلك فإنه يتألم قلبه. فكان إقدامه على ذلك العمل موجبا لدافع الرقة
الجنسية عن القلب. وهو مصلحة عظيمة.
والثاني : إن من الأوضاع المعتبرة في حفظ مصالح العالم ترغيب الخلق في الإحسان ، على رجاء
أنه لو اتفق له مثل تلك الحالة سعوا في إفاضة الرحمة عليه ، وإذا كان هذا المعنى
معتبرا في مصالح العالم ، لا جرم اصطلح الناس على تحسينه وتقبيح تركه.
ولما ألف الناس
هذا الاصطلاح وتوافقوا عليه ، واستمروا عليه ، من أول العمر ، إلى آخره ، لا جرم
تقررت تلك الأحوال في قلوبهم وعقولهم. فيثبت أن مجموع هذه الوجوه التي ذكروها ، لا
تخرج عن رعاية المصالح والمفاسد. إما بواسطة واحدة ، أو بوسائط كثيرة. فيثبت بما
ذكرنا : أن الحسن والقبح ، لا معنى لهما إلا السعي في جلب المنفعة ودفع المفسدة.
ولما حصل الاتفاق على أن ثبوت هذا الداعي في حق الله تعالى محال. كان القول بإثبات
الدواعي المبنية على الحسن والقبح محالا في حق الله تعالى. فهذا تقرير الكلام في
هذا المقام.
أما المقام الثاني : إنا إذا سلمنا حصول المغايرة بين جلب المنفعة ودفع المضرة ، وبين كون الشيء حسنا أو قبيحا. نقول
: قد ذكرنا أن حاصل الكلام في تفسير داعي الحاجة : السعي إلى إيصال الخير والنفع
إلى النفس. وتفسير
__________________
داعي الحكمة :
السعي في إيصال الخير إلى الغير. إذا عرفت هذا فنقول : إن التجربة تدل على أن
السعي في إيصال النفع إلى النفس. وفي دفع الضرر عن النفس يمكن حصوله مع عدم السعي
في اتصال النفع إلى الغير ، وفي دفع الضرر عن الغير من غير أن يكون المقصود منه
السعي في إيصال النفع إلى النفس ودفع الضرر عن النفس. فهذا مما يثبت عندنا جوازه بالدليل. وتقريره : أن الواحد منا إذا أحسن
إلى المريض الأعمى في الصحراء الخالية مع كون ذلك المحسن دهريا ، منكرا للثواب
والعقاب ، فله فيه أغراض ومنافع.
أحدها : أنه إذا أتى بذلك العمل ، صار هو عند نفسه ، موصوفا بصفة حميدة. وهي كونه محسنا
إلى المحتاجين. وإذا لم يأت بذلك الإحسان ، فإنه يكون عند نفسه موصوفا بالقسوة
والغلظة وعدم الرحمة. فالحامل له على ذلك الفعل : تحصيل صفة الكمال لنفسه ، ودفع
صفة النقص عن نفسه.
وثانيها : ما ذكرناه في الفصل المتقدم أنه يدفع بذلك الفعل عن قلبه ألم الرقة الجنسية.
وثالثها : إنه لما رأى ذلك الفعل خاليا للمدح والثناء في أكثر الصور. والنادر
يلحق بالغالب في الخيال والوهم صارت هذه الصورة ملحقة بذلك الغالب. فأما لو قدرنا
انتفاء هذا الأحوال الثلاثة ، فإنا لا نعرف أن ذلك الرجل يحسن إلى ذلك الفقير
الأعمى ، بل ربما فعل ، وربما لم يفعل. فيثبت بما ذكرنا : أنه لم يثبت عندنا في
الشاهد نوع آخر من الدواعي ، سوى القسم الذي سميتموه بداعية الحاجة. فاما القسم
الذي سميتموه بداعية الإحسان ، فلم يثبت بالدليل وجوده في الشاهد البتة.
قالت المعتزلة : هاهنا دليل يدل على صحة هذا القسم. وهو : أنه قد ثبت أن العالم محدث ،
وكل محدث فله محدث. فالعالم محدث. ومحدث العالم ليس بجسم ، فوجب أن لا تصح عليه
الحاجة. إذا ثبت هذا فنقول : فاعل
__________________
العالم إما أن
يقال : إنه أحدثه لا لداعية أصلا ، أو أحداثه لداعية ، والأول عيب ، وهو نقص ، وهو
على الله محال ، فثبت أنه فعله لداعية ، وتلك الداعية : إما داعية إيصال النفع إلى
نفسه ، أو داعية إيصال النفع إلى غيره (والأول باطل ، لما ثبت أن الحاجة إليه محال
، فيثبت أنه إنما خلق العالم لداعية [إيصال النفع إلى غيره] ولا معنى لداعية) الإحسان إلا هذا ، فيثبت بهذا الدليل القاطع : حصول هذا
القسم من الدواعي.
هذا منتهى الكلام
في هذا الباب.
قالت
الحكماء : هذا الكلام منقوض
من وجوه :
الأول : إنا قد دللنا على أن صدور الفعل عن القادر بدون الداعي محال ، وإذا ثبت هذا
لزم القطع بأن العبد لا يصدر عنه الفعل إلا مع الداعي ، وتلك الداعية إن كانت من
فعل العبد لزم التسلسل. وإن انتهت إلى داعية يخلقها الله تعالى في العبد. فقد بينا
: أن عند حصول تلك الداعية يجب الفعل وعند عدم حصولها يمتنع الفعل. فيلزم القطع
بأن أفعال العبد معلولات أفعال الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فخالق العلة ،
يكون خالقا للمعلول ، ومريدا له. ومتى كان الأمر كذلك (امتنع أن يقال : إن الشرور
غير واقعة بمشيئة الله وبقضائه. وإذا كان الأمر كذلك) فحينئذ يبطل قول من يقول : إن صدور الفعل عن الله موقوف
على حصول داعية الإحسان.
والحجة الثانية : إن كل من فعل فعلا لغرض ، وجب أن يكون بحيث لو لم يوجد ذلك الفعل ، لاختل ذلك
الكمال. وإذا وجد ذلك الفعل فقد حصل ذلك الكمال ، وكل من كان كذلك كان ناقصا بذاته
، مستكملا بغيره. وذلك في حق الله ـ تعالى ـ محال. فإن قالوا : إنه تعالى إنما فعل
ذلك الفعل ليعود نفع
__________________
ذلك الفعل إلى
الغير. فنقول : عود النفع إلى الغير ، وعدم عوده إلى الغير ، إن كان بالنسبة إليه
على التساوي (امتنع أن يكون ذلك الإحسان مطلوبا له ، لأن الاستواء يناقض الرجحان ،
وإن لم يكن على التساوي) فحينئذ يكون أحد الجانبين به أولى ، فحينئذ يعود الإلزام
المذكور من كونه ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره.
الحجة الثالثة : إن تخصيص إحداث العالم بوقت معين من الأوقات المقدرة التي لا أول لها ، وبحيز
معين من الأحياز المفروضة في الخلاء الذي لا نهاية له ، إما أن لا يكون لأجل حكمة
يختص بها ذلك الوقت المعين ، وذلك الحيز المعين ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول فنقول : الأوقات
متشابهة ، والأحياز متشابهة ، فاختصاص ذلك الوقت معين ، وذلك الحيز المعين بتلك
الحكمة المعينة واجب أن يكون لأمر آخر ، ويلزم منه التسلسل ، وهو محال. وإن كان
ذلك التخصيص بذلك الوقت المعين (وبذلك الحيز المعين) لا لأمر. فحينئذ يكون هذا اعترافا بأن أفعاله تعالى ، قد
وقعت من غير داعية مرجحة ، وإذا انتفى أصل الداعي ، كان انتفاء الداعية المكيفة ـ أعني
داعية الأحياز ـ ألزم.
فهذه وجوه مختصرة
في إبطال هذا القول. وسيأتي الاستقصاء في ذكر الدلائل على أن تعليل أفعال الله ـ تعالى
ـ وأحكامه برعاية المصالح والأغراض قول باطل. والله أعلم .
__________________
الفصل الحادي عشر
في
شرح أن العبد كيف يكون فاعلا؟
الذي نذهب إليه
ونقول به : إن مجموع القدرة مع الداعية المعينة مستلزم لحصول الفعل.
وقولنا : مستلزم :
قدر مشترك بين أن يكون ذلك المجموع سببا معدا لحصول ذلك الفعل وبين أن يكون سببا مؤثرا فيه. ولما كان موجه القدرة
والداعي هو الله تعالى ، وثبت أن مجموعهما مستلزم لحصول الفعل ، فحينئذ يكون العبد
فاعلا في الحقيقة ، لأن المؤثر في ذلك الفعل هو قدرته وداعيته ، وتكون أفعال
العباد واقعة بأسرها بقضاء الله ، ولا يعزب عن سلسلة فضاء الله وقدره مثقال ذرة في
السموات والأرض وبرهانه : أنه ثبت أن رجحان أحد الطرفين يتوقف على المرجح.
وثبت أن ذلك
المرجح فعل الله تعالى قطعا. للتسلسل.
وثبت أن حصول
الرجحان عند حصول المرجح واجب. وحينئذ يحصل المطلوب.
ولنكتف بهذا القدر
هاهنا. فإن الكلام في أفعال العباد ، سنفرد له بابا ، على الاستقصاء. إن شاء الله
تعالى.
__________________
الباب الثاني
في
البحث عن الفرق بين القادر ، وبين
الموجب. واستقصاء الكلام فيه
القادر والموجب
بين الفلاسفة والمتكلمين وأهل الأديان
قال أهل الملل
والنحل : المؤثر إما أن يقع مع جواز أن لا يؤثر وهو القادر ، أو يؤثر لا مع جواز
أن لا يؤثر ، وهو الموجب فهذا التقسيم يدل على أن كل مؤثر ، فهو إما قادر ، وإما
موجب. ثم عند هذا قالوا : القادر هو الذي يصح منه أن يؤثر تارة ، وأن لا يؤثر أخرى
، بحسب الدواعي المختلفة. هذا ملخص الكلام في الفرق بين القادر وبين الموجب.
قالت الفلاسفة : القول بإثبات مؤثر يكون تأثيره على سبيل الصحة ، لا على
سبيل الوجوب : قول مشكل. وبيانه من وجوه :
الحجة الأولى : وهو أن كل شيء نفرضه مؤثرا في أثر. فإما أن يكون كل ما لا بد منه في كونه مؤثرا
في ذلك الأثر حاضرا ، وإما أن لا يكون مجموع تلك الأمور حاضرة. فإن كان كل ما لا
بد منه حاضرا وجب ترتب الأثر عليه ، لأنه لو لم يجب ذلك لصح تخلف الأثر عنه ، وكل
ما كان ممكنا لم يلزم من فرض وقوعه محال. فلنفرض ذلك المجموع تارة مع حصول الأثر ،
وأخرى لا مع حصوله.
__________________
فاختصاص أحد
الوقتين بحصول الأثر دون الوقت الثاني إما أن يتوقف على انضمام مخصص إليه ، أو لا
يتوقف. فإن توقف فحينئذ هذا القيد الزائد أحد الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في
ذلك الأثر ، لكنا كنا قد فرضنا أن المجموع الحاصل قبل هذا القيد ، كان كل الأمور
المعتبرة في كونه مؤثرا. وهذا خلف متناقض وإما أن لم يتوقف ذلك الامتياز على
انضمام قيد إليه ، فحينئذ يلزم ترجيح الممكن المتساوي من غير مرجح وهو محال.
واعلم أن قولنا :
كل ما لا بد منه في المؤثرية : دخل فيه كل ما يحتاج إليه في تلك المؤثرية. مثل
الوقت الموافق ومثل المصلحة المعينة ، ومثل انتفاء العوائق ، ومثل حصول الآلة.
وبالجملة : فقد دخل فيه كل ما لا بد منه سواء كان وجوديا أو عدميا ، وسواء كان صفة
من صفاته ، أو كان موجودا.
أما بيان أنه إذا
حصل كل ما لا بد منه في المؤثرية ، فإنه يجب حصول الفعل ، وأما بيان أنه إذا فقد
قيد من القيود المعتبرة في المؤثرية ، فإنه يمتنع حصول الفعل : فالدليل عليه : أن
عند فقدان قيد من القيود المعتبرة في تلك المؤثرية ، إن أمكن حصول ذلك الأثر ،
فحينئذ يكون حصول ذلك الأثر غنيا عن ذلك القيد فلا يكون ذلك القيد معتبرا في
المؤثرية. لكنا قد فرضنا أن ذلك القيد معتبر في المؤثرية.
هذا خلف. وإن لم
يكن ممكن الحصول ، فذلك هو المطلوب. إذا عرفت هذا فنقول: كل مؤثر في أثر. فإما أن
يكون مجموع الأمور المعتبرة في كونه مؤثرا في ذلك الأثر حاصلا ، وإما أن لا
يكون ذلك المجموع حاصلا. فإن كان ذلك المجموع حاصلا فقد دللنا على أنه يجب صدور
ذلك الأثر عنه ، وإن كان ذلك المجموع غير حاصل ، فقد دللنا على أنه يمتنع صدور الفعل والأثر عنه ، وإذا كان لا
حال إلا إحدى هاتين الحالتين ، وثبت أن الحاصل في
__________________
إحدى الحالتين هو
الوجوب والحاصل في الحالة الثانية هو الامتناع ، ظهر حينئذ أن التأثير على سبيل الصحة والجواز قول لا يقبله
العقل البتة. هذا تمام الكلام في تقرير هذا السؤال.
واعلم أن المتكلمين
قولهم في هذا المقام قولان : منهم من سلّم أن الرجحان بدون المرجح محال.
إلا أنهم زعموا :
أن عند حصول المرجح يصير الفعل أولى بالوقوع ، إلا أن تلك الأولوية ، لا تنتهي إلى
حد الوجوب. ومنهم من قال : إن الرجحان بدون المرجح في حق القادر غير ممتنع ،
وضربوا لذلك أمثلة : منها المخيّر بين شرب القدحين ، ومنها المخير بين أكل
الرغيفين ، ومنها الهارب من السبع إذا وصل إلى مشعب الطريقين ، فإنه يختار أحدهما
دون الآخر ، لا لمرجح (قالوا : ولا بد هاهنا من الاعتراف بإمكان أن يصدر عن القادر
أحد مقدورية ، دون الآخر لا لمرجح) إذ لو وقفنا به على انضمام المرجح إليه وقد ثبت أن عند
انضمام المرجح إليه يصير واجب الوقوع فحينئذ يلزم أن لا يبقى فرق بين الموجب وبين
القادر ، لكن العلم بهذا الفرق ضروري ، فوجب الاعتراف بأن القادر يمكنه ترجيح أحد
مقدوريه على الآخر من غير مرجح.
واعلم أن هذين
القولين لا مزيد عليهما في الجواب عن ذلك السؤال. لأنه إن ثبت أن القادر لا يصدر
عنه الأثر المعين إلا عند انضمام المخصص إليه. وثبت أن عند انضمام المخصص إليه ،
يجب الفعل ، فحينئذ يتم السؤال ، ولا يبقى عنه جواب البتة ، فيثبت أنه لا يمكن
دفعه إلا بواسطة النزاع في إحدى المقدمتين ، إما أن يقال إن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف (على انضمام المخصص إليه
، وهو قول من يقول : صدور الفعل عن القادر لا يتوقف) على انضمام الداعي إليه. وإما أن يقال : إنه وإن توقف
__________________
على انضمام الداعي
إليه ، إلا أنه لا يصير واجب الوقوع عند حصول ذلك الداعي ، فيثبت أنه لا مزيد على
هذين الجوابين ، (إلا أن البحث عن كل واحد منهما قد سبق على الاستقصاء والاستيفاء)
فلا حاجة إلى الإعادة.
وقوله : لو لم
نجوز ذلك ، لزم أن لا يبقى فرق بين القادر وبين الموجب ، مع أن هذا الفرق معلوم
بالضرورة. فهذا الكلام أيضا قد سبق البحث فيه فلا حاجة إلى الإعادة.
الحجة الثانية : أن نقول : أطبق أهل الملل والنحل على أنه تعالى عالم بجميع
المعلومات فلا بد ، وأن يعلم أن أي الأشياء يقع ، وأن أيها لا يقع؟
وكل ما علم الله
وقوعه. فإنه واجب الوقوع. وكل ما علم عدمه ، فإنه ممتنع الوقوع. والدليل عليه : أن
العلم إنما يكون علما ، إذا كان مطابقا للمعلوم. وإذا كان كذلك [فالعلم المتعلق
بوجوده ، إنما يكون علما ، متعلقا بوجوه ، إذا كان هو موجدا ، وإذا كان كذلك ،
فيكون ذلك العلم علما ] متعلقا بوجوده ، مع كون ذلك الشيء معدوما ، يقتضي الجمع
بين النقيضين. وذلك محال. ولما كان كون [علمه علما ] أمرا واجبا ، وكان من لوازم كونه علما ، وجود معلومه ،
وعدم عدم ذلك المعلوم. لزم من وجوب ذلك العلم ، وجوب وجود ذلك المعلوم ، وامتناع
عدمه. فيثبت : أن وجود ما علم الله تعالى وجوده ، يكون واجب الوجود ، وأن وجود ما
علم الله عدمه ، يكون ممتنع الوجود. وهذا يقتضي أن يكون تأثير قدرة الله ، في بعض الأشياء على سبيل الوجوب ، وفي غيرها على سبيل الامتناع. وذلك
يبطل قول من يقول : إن تأثير قدرة الله في الأشياء على سبيل الصحة ، لا على سبيل
الوجوب.
__________________
فإن قالوا : العلم
إنما يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه. فلما كان الشيء في نفسه جائز الوجود ،
وجب أن يتعلق ذلك العلم به ، على هذا الوجه ، فلو صار ذلك الشيء بسبب ذلك العلم
واجب الوجود يلزم أن يجتمع في الشيء الواحد كونه جائزا أو واجبا. وذلك محال.
قلنا : لا نسلم أن
ذلك محال ، وأي امتناع في أن يكون الشيء الواحد جائز الوجود لذاته ، وواجب الوجود
، لأجل حصول سببه ، وهو العلم والقدرة؟
الحجة الثالثة : العلم إما أن يكون قديما ، وإما أن يكون حادثا. فإن كان قديما
فإما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته. فإن كان واجبا لذاته لزم استغناؤه عن المؤثر.
وذلك يقتضي نفي
القادر والموجب معا ، وإن كان ممكنا لذاته ، فلا بد له من مؤثر، وذلك المؤثر يمتنع
أن يكون قادرا ، وإلا لزم إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل ، وهو محال. ولما بطل أن
يكون ذلك المؤثر قادرا ، يثبت أنه يجب أن يكون موجبا. وإما إن كان العالم حادثا ،
فالمؤثر إن كان موجبا فهو المطلوب.
وإن كان قادرا.
فنقول : تلك القدرة ، إن كانت حادثة افتقرت إلى قدرة أخرى. ولزم التسلسل. وإن كانت
قديمة كانت تلك القدرة من الأزل إلى ذلك الوقت الذي يحدث فيه ذلك الأثر متعلقة
باقتضاء وجود ذلك الأثر في ذلك الوقت وباقتضاء حدوثه فيه.
واتفق المتكلمون
على أن كل ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه. فعلى هذا ذلك التعلق المستمر من (الأزل
إلى الأبد ، أعني تعلق قدرة الله تعالى باقتضاء حدوث ذلك الحادث المعين في) ذلك الوقت. أمر أزلي. والأزل يمتنع
__________________
زواله ، فوجب أن
نحكم بأن ذلك المتعلق ممتنع الزوال ، فيكون هذا قولا بأن تأثير قدرة الله في حدوث
ذلك الحادث المعين تأثير واقع على سبيل (الوجوب ، لا على سبيل) الجواز. وعلى هذا التقدير فإنه لا يكون قادرا مختارا. على
التفسير الذي ذكرتموه.
واعلم. أن هذا
السؤال ، كم أنه وارد في القدرة فهو بعينه وارد في الإرادة.
الحجة الرابعة : أن نقول : لو حكمنا على القادر بأنه يصدر منه الأثر على سبيل الصحة ،
لكانت تلك الصحة إما أن تحصل قبل حصول الأثر ، أو حال حصوله (أو بعد حصوله) ، والأقسام الثلاثة باطلة. فالقول بالصحة باطل. أما الحصر
فظاهر. وأما بيان أنه يمتنع أن تحصل تلك الصحة قبل حصول الأثر. فذلك لأنه لو صح
منه التأثير في ذلك الأثر قبل حصول الأثر. فإما أن يكون معناه أنه في الوقت الأول
يصح منه أن يوجد ذلك الأثر في الوقت الثاني ، أو يكون معناه أنه جاء الوقت الثاني
فعند مجيء الوقت الثاني يصح منه إيجاد ذلك الأثر في ذلك الوقت.
أما القسم الأول فباطل ، لأن إيجاد الشيء في الوقت الثاني مشروط بحضور الوقت الثاني ، لكن
حضور الوقت الثاني في الوقت الأول محال. والموقوف على المحال محال ، فوجب أن يكون
حدوث الشيء في الوقت الثاني عند حضور الوقت الأول محال ، والمحال لا قدرة عليه ،
فيثبت أن من المحال إن يقدر في الوقت الأول على إيجاد الفعل في الوقت الثاني.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : معنى أنه يصح منه الفعل في الوقت الأول أنه محكوم عليه
في الوقت الأول ، فإنه إذا انقضى هذا الوقت ، وحضر الوقت الثاني فإنه عند حضور
الوقت الثاني ، يقدر على إيجاد الفعل فيه ، إلا أنا نقول : قدرته على إيجاد الفعل
في الوقت الثاني ، إنما تحصل عند حضور الوقت
__________________
الثاني (وهذا يرجع
حاصله إلى أن القدرة على الفعل إنما تحصل حال حصول الفعل) وهذا يقدح في قولنا : إن صحة الفعل إنما تحصل حال حضور
الفعل .
وأما القسم الثاني. وهو أن هذه الصحة إنما تحصل حال حصول الفعل فنقول : هذا أيضا محال.
وذلك لأن حال وجود الفعل يكون عدمه محالا ، لأن الجمع بين النقيضين محال ، وما كان
محالا لعينه ولذاته امتنع كون القادر قادرا عليه. فيثبت أن الجمع بين صحة أن يوجد
وأن لا يوجد ، وبين كونه موجودا جمع بين النقيضين. وذلك محال. فيثبت أن حصول هذه
الصحة حال حصول الفعل محال.
وأما القسم الثالث. وهو أن هذه الصحة إنما تحصل بعد وجود الفعل فهذا قول معلوم البطلان
بالضرورة والبديهة ، ولم يقل به أحد من العقلاء ، فثبت أن القادر بمعنى كونه محال
يصح منه أن يوجد وأن لا يوجد ، لو حصل لحصلت هذه الصحة. إما قبل وجود الفعل ،
وإما مع وجوده وإما بعده. وثبت أن الأقسام الثلاثة باطلة فكان القول بحصول هذه
الصحة باطلا.
الحجة الخامسة : إن تعلق قدرة الله تعالى بإيجاد العالم فيما لا يزال. إما أن يكون
تعلقا على سبيل الصحة أو على سبيل الوجوب.
فإن كان على سبيل
الصحة ، افتقر رجحان وجوده على عدمه إلى مرجح ، فليكن ذلك المرجح هو الإرادة ، وحينئذ
يعود التقسيم المذكور في الإرادة. وهو أن تعلق هذه الإرادة بحدوث المراد في ما لا
يزال.
إما أن يكون على
سبيل الصحة ، أو على سبيل الوجوب. فإن كان على سبيل الصحة افتقر إلى مرجح آخر ولزم
التسلسل وهو محال. أو ينتهي إلى
__________________
مرجح وقع على سبيل
الوجوب ، وحينئذ يصير المؤثر موجبا. وذلك يقدح في قولهم : إنه على سبيل الصحة لا
على سبيل الوجوب. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعلقت قدرته باقتضاء وجود
العالم تعلقا على سبيل الجواز ، لا على سبيل الوجوب. ومع ذلك فإنه لا يفتقر إلى
المرجح؟ فنقول : هذا قول بأن الجائز لا يتوقف رجحان حصوله على عدمه على حصول
المرجح. ولما جوزتم ذلك ، فحينئذ ينسد عليكم الاستدلال بجواز العالم وبحدوثه على
افتقاره إلى الصانع ، وكل فرع أفضى إلى بطلان الأصل كان باطلا.
والحاصل أن (الجواز
إما أن) يحوج إلى المقتضي أو لا يحوج إليه. فإن أحوج إلى المقتضي
فأينما حصل وجب حصول الاقتضاء إلى المقتضى. فبطل قولهم : إن تعلق قدرة الله بأحداث
العالم وقع على سبيل الصحة والجواز ، مع أنه لا يفتقر إلى المقتضى. وإن قلنا : إن
الجواز من حيث هو جواز لا يحوج إلى المقتضى ، فحينئذ لا يلزم من كون العالم جائز
الوجود افتقاره إلى المقتضى. وذلك يسد باب الاستدلال بحدوث العالم ، أو بإمكانه
على افتقاره إلى المؤثر. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا البحث.
الحجة السادسة : إن كون القادر قادرا
على الترك محال. لأن
المراد هاهنا بالترك بقاؤه على عدمه الأصلي. والعدم الأصلي محال أن يكون مقدورا
لوجهين :
الأول : أن القدرة صفة مؤثرة ، والعدم نفي محض. فإسناد النفي المحض إلى القدرة التي
هي صفة مؤثرة محال. والثاني : إن العدم حال بقائه ، لا يمكن إسناده إلى المؤثر ، لأنا لو أسندنا
الباقي إلى المؤثر ، لزم تكوين الكائن وتحصيل الحاصل ، وهو محال. فيثبت بهذين
الوجهين أن إسناد العدم المستمر إلى القادر : محال. وإذا ثبت هذا امتنع كون القادر
قادرا على الترك. وإذا ثبت أن القادر لا تعلق له إلا بجانب الوجود ، وأما جانب
العدم فلا تعلق له به ، وإذا كان القادر لا صلاحية له إلا في التأثير في جانب
الوجود بعينه ، فحينئذ لا
__________________
يبقى بينه وبين
الموجب فرق. وتمام تقرير هذا الكلام قد سبق في أول الباب الأول.
وحاول بعضهم أن يجيب عن هذا الكلام فقال
: نحن نعلم بالضرورة أن العاجز لا يجد
من نفسه أنه إن شاء لا يفعل أمكنه أن لا يفعل. أما القادر على الفعل فإنه يجد من
نفسه أنه إذا شاء أن لا يفعل فإنه يمكنه أن لا يفعل.
وهذا الفرق معلوم
بالضرورة. ولما كان هذا الفرق معلوما بالضرورة ، لم يكن بنا حاجة إلى بيان كيفية
هذا الفرق. ولقائل أن يقول : هذا الجواب ضعيف. وبيانه : أنا نجد من أنفسنا أنه إذا
حصل الداعي إلى الفعل ، فإنه يترتب على مجموع القدرة (مع تلك الداعية الخاصة
المعينة) حصول ذلك الفعل المعين (وإذا لم يوجد ذلك
المجموع. إما لأنه فقد الداعية ، أو لم يقدر بالقدرة فحينئذ يبقى ذلك العدم المستمر ، كما كان. والفرق الذي
نجده من أنفسنا بين القادر وبين العاجز : عائد إلى جانب الوجود ، وأن القادر موصوف
بصفة إذا حصلت له الداعية المعينة إلى الإيجاد ، فإنه يحصل الفعل. والعاجز ليس
كذلك. فهذه التفرقة حاصلة بين القادر وبين العاجز. إلا أن هذه التفرقة عائدة إلى
جانب الوجود ، لا إلى جانب العدم. فيثبت : أن الفرق الذي يجده كل عاقل من نفسه ،
لا يقتضي كون القادر ، قادرا على الترك.
الحجة السابعة : أن نقول : الموجود. إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، وأما أن يكون ممكن
الوجود لذاته. وكل ما كان ممكن الوجود لذاته ، فإنه محتاج إلى المؤثر ، وتأثير ذلك
المؤثر في كل الممكنات لا يعقل أن يكون من الممكنات. لأن المؤثر في كل الممكنات
يكون مغايرا لكل الممكنات. والمغاير لكل الممكنات (يمتنع أن يكون من الممكنات) فالجهة التي باعتبارها يؤثر
__________________
المؤثر في كل
الممكنات يمتنع كونها (من الممكنات ، فهي من الواجبات ، فيثبت أن المؤثر في كل
الممكنات) قد أثر فيها ، مع وجوب أن يؤثر ، لا مع جواز أن يؤثر. وذلك
هو المطلوب.
فهذا تمام كلام
الفلاسفة.
وأما أرباب الملل والأديان : فقد احتجوا
على كونه تعالى قادرا مختارا
بوجوه : الحجة الأولى : أنه تعالى لو كان موجبا بالذات لكان إيجابه لمعلولاته ، إما أن يكون غير موقوف على شرط ، وإما أن يكون
موقوفا على شرط. والقسمان باطلان.
فالقول بكونه
موجبا بالذات باطل ، إذا قلنا : إنه يمتنع أن يكون ذلك الإيجاب غير موقوف على شرط.
وذلك لأنه لو كان كذلك لزم أن يكون موجبه معه ، إذ لو حصل ذلك المعلول في بعض
الأوقات دون البعض ، مع أنه لم يتميز ذلك الوقت عن سائر الأوقات بشرط ، وخاصية.
فحينئذ يلزم رجحان أحد طرفي الممكن من غير مرجح وهو محال. ولو كان معلوله معه لزم
من قدمه قدم العالم ، أو من حدوث العالم حدوثه ، لكنا قد دللنا على أن الله تعالى
قديم ، وأن العالم حادث ، فيثبت أنه يمتنع أن يقال : أن الله تعالى يوجب العالم من
غير شرط. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون ذلك الإيجاب مشروطا بشرط. ذلك لأن الشرط
إما أن يكون قديما وإما أن يكون حادثا. فإن كان قديما لزم من قدم المؤثر ، وقدم
الشرط ، قدم العالم ، على ما قررناه ، وأنه باطل.
وإن كان حادثا كان
الكلام في كيفية (حدوثه كالكلام في كيفية) حدوث الحادث الأول ، ويفضي هذا إلى التسلسل. وذلك التسلسل.
إما أن
__________________
يقع دفعة ، أو يقع
بحيث يكون كل واحد منهما مسبوقا بغيره ، لا إلى أول. والقسم الأول. وهو التسلسل
الذي يقع دفعة قد أبطلناه في إثبات واجب الوجود. والقسم الثاني. وهو القول بوجود
حوادث يكون كل واحد منها مسبوقا بغيره ، لا إلى أول ، فهو قول بحوادث لا أول لها. وقد أبطلناه ، فيثبت أنه تعالى لو كان
موجبا بالذات ، لكان إما أن يكون تأثيره في وجود المعلومات غير موقوف على شرط ،
وإما أن يكون موقوفا على شرط. وثبت فساد القسمين ، فوجب القطع بامتناع كونه تعالى
موجبا بالذات.
فإن قيل : العالم
إما أن يكون ممكن الوجود في الأزل ، وإما أن لا يكون ممكن الوجود في الأزل. فإن
كان ممكن الوجود في الأزل فحينئذ يلزم قدم العالم ، وليس لكم أن تقولوا : إنه محال
أن يكون العالم قديما ، لأن هذا التقدير هو تقدير أن كون العالم أزليا ، ليس
بممتنع.
وإن كان محال
الوجود في الأزل. فنقول : على هذا التقدير ، لم لا يجوز أن يقال : العلة القديمة
لوجود العالم ، وإن كانت موجودة في الأزل ، لا يلزم منها كون العالم أزليا ، لأنه
كما أن حال المؤثر معتبر في حصول الأثر ، فكذلك حال القائل معتبر ، وأولى الأحوال
بالاعتبار كونه ممكنا في نفسه ، فإذا كان الإمكان ثابتا في الأزل ، لم يلزم من
حصول العلة الموجبة في الأزل حصول الأثر في الأزل؟
أجاب
المتكلمون عنه من وجهين :
الأول : أن نقول : تخلف المعلول عن العلة محال ، وكون العالم قديما أيضا محال.
وهذان المعنيان لما اجتمعا علمنا أن العلة الموجبة للعالم (ما كان) موجودا في الأزل. وقد كان المؤثر الأزلي موجودا في الأزل ،
فعلمنا أن ذلك المؤثر ما كان موجبا بالذات. بل كان فاعلا بالاختيار.
__________________
الوجه الثاني : في الجواب عن السؤال المذكور أن نقول : هب أن كونه أزليا يمنع من كون
الموجب موجبا له في الأزل ، إلا أن هذا المانع زائل فيما لا يزال ، فوجب أن يصدر
العالم عنه فيما لا يزال. وإذا كان كذلك كان لحدوثه أول معين. ولا شك أنه لو حدث
قبل ذلك الوقت بمائة سنة كان حادثا أيضا ، فلا يصير بسبب هذا التقدير من الزيادة
أزليا. وعلى هذا فلا وقت إلا وكانت العلة الموجبة لوجود العالم موجودة قبله ، (وإن
كان هذا فلا وقت إلا وكانت العلة الموجبة لوجود العالم موجبة قبله وكان الأزل الذي هو العائق عن صدوره عنه زائلا قبله ، فيلزم أن يقال : أنه لا وقت إلا ويجب أن يكون حادثا
قبله. وهذا المحال إنما لزم من فرض كونه تعالى موجبا بالذات.
الحجة الثانية للمتكلمين في إثبات كونه
تعالى فاعلا بالاختيار ، لا موجبا بالذات.
هي أن نقول : قد
دللنا على أن الأجسام بأسرها متماثلة في تمام الماهية ، فاختصاص كل واحد منها
بصفته المعينة وحيزه المعين ، لا بد وأن يكون من الجائزات. لما ثبت أن حكم الشيء
يساوي حكم مثله ، وكل جائز فلا بد له من مرجح. وذلك المرجح إما أن يكون ذات الجسم
أو غيره. وذلك الغير إما أن يكون محلا للجسم ، أو ما يكون حالا فيه ، أو ما لا
يكون محلا له ، أو لا حالا فيه ، والأقسام الأربعة باطلة. أما القسم الأول. وهو أن
يكون المقتضي لتلك الأحوال والصفات ذات الجسم. فهذا باطل. لأن ذوات الأجسام
متماثلة ، وصفاتها مختلفة. وما به الاشتراك لا يكون علة لما به الامتياز. والقسم
الثاني باطل. لأنا دللنا على أن الجسم ذات قائمة بنفسها ، فيمتنع أن يكون لها محل.
والقسم الثالث أيضا باطل. لأن الأجسام كما أنها مختلفة في هذه الصفات المحسوسة (فهي
أيضا مختلفة في الصفات المقتضية لهذه الصفات المحسوسة) فهي لا بد ، وأن تكون لصفات أخرى. ويلزم التسلسل. ثم
__________________
ذلك التسلسل إن
وقع دفعة واحدة فهو باطل. كما بيناه ، وإن وقع بحيث يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر
، لا إلى أول. فقد أبطلناه أيضا. والقسم الرابع أيضا باطل. لأن ذلك المقتضى إن كان
جسما أو جسمانيا عاد التقسيم فيه ، وهو أنه كيف اختص ذلك الجسم بالصفة التي لأجلها
صار مقتضيا لهذه الأحكام ، وإن لم يكن جسما ولا جسمانيا (فهو إما أن يكون موجبا أو
مختارا ، ولا جائز أن يكون موجبا ، لأنه لما لم يكن جسما ولا جسمانيا) لم يكن مختصا بشيء من الأجسام بالقرب منه أو بالبعد منه ،
وإذا كانت نسبته إلى الكل واحدة ، وكانت الأجسام بأسرها متساوية في قبول هذه
الصفات ، فحينئذ لا يكون حصول الصفة المعينة في بعض الأجسام أولى من حصولها في
سائر الأجسام ، لأن القوابل بأسرها متساوية في القبول والمؤثر ، والنسبة
إلى الكل على السوية. فوجب التشابه المذكور ، وحيث لم يحصل علمنا أن القول بالموجب باطل. وإذا بطل هذا يثبت أن فاعل العالم فاعل
مختار ، لا علة موجبة بالذات ، واعلم أن مدار هذه الحجة (ومدار الحجة) التي قبلها على القول ببطلان حوادث لا أول لها.
الحجة الثالثة : لو كان المؤثر في العالم موجبا بالذات ، لكان إما أن يكون معلوله واحدا ، وإما أن يكون
أكثر من واحد. والقسمان باطلان ، فالقول بالموجب باطل. أما الحصر فظاهر. وإنما
قلنا : إنه يمتنع أن يكون معلوله شيئا واحدا. ذلك لأنه لما وجب أن يكون معلول
الواحد واحدا فقط. فمعلول ذلك الواحد أيضا يجب أن يكون واحدا. وهلم جرّا إلى آخر
المراتب ، فيلزم أن لا يوجد في هذا العالم شيئا من قطرات الماء ، وذرات الهباءات ،
إلا ويكون أحدهما علة للآخر ، والآخر معلولا له ، ومعلوم أن ذلك باطل
،
__________________
لأنا نعلم
بالضرورة : أن هذه الذرة ليست علة لتلك الذرة الأخرى ولا بالعكس.
وإنما قلنا : إنه
يمتنع أن يكون معلوله أكثر من واحد ، لأن هذا متفق عليه بين الفلاسفة.
وأيضا : لو فرضنا
ذلك لكان مفهوم أنه صدر عنه هذا المعلول ، مغاير لمفهوم أنه صدر عنه المعلول
الثاني ، وهذان المفهومان إن كانا مقومين لتلك العلة ، لزم كونها مركبة. وقد
فرضناها بسيطة. هذا خلف.
وإن كانا خارجين
عنها ، فكل صفة خارجة عن الماهية لاحقة بها فهي ممكنة لذاتها ، واجبة بتلك
الماهية. وحينئذ يعود التقسيم الأولى في كيفية كون تلك الماهية علة لذينك
المفهومين الخارجين.
ويقضي ذلك إلى التسلسل
، وهو محال. وإن كان أحدهما داخلا في الماهية ، والآخر خارجا عنها فحينئذ يلزم كون
تلك الماهية مركبة ، لأن الداخل في الماهية جزء لتلك الماهية ، وكل ماهية لها جزء
فهي مركبة. وأيضا : معلول الماهية ليس إلا ذلك الواحد ، فثبت أن البسيط الحق يمتنع أن يكون علة لمعلولين معا ، فيثبت
أنه تعالى لو كان موجبا بالذات لكان إما أن يكون معلوله واحدا أو أكثر من واحد ،
وثبت فساد القسمين. فيمتنع كونه موجبا بالذات ، ويبقى أن يكون فاعلا بالاختيار.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : معلوله شيء واحد فقط؟ قلنا قوله : لو كان كذلك
لكان معلول ذلك الواحد أيضا واحدا ، وحينئذ يلزم المحال. قلنا : لا نسلم أنه لو
كان معلول ذات الله واحدا ، لزم أن يكون معلول ذلك المعلول أيضا واحدا. وبيانه :
هو أن ذلك المعلول لا بد وأن يكون ممكن الوجود لذاته. أو لا بد أن يكون وجوده
صادرا عن تلك العلة. فحصل هناك أمور ثلاثة : إمكانه ، ووجوده ، ووجوبه
__________________
بالغير ، فنجعل
هذه الأمور الثلاثة علة لمعلولات ثلاثة فنجعل الإمكان علة لمادة الفلك الأقصى ،
والوجود علة لصورته ، ووجوبه بالغير علة للعقل المدبر لذلك الفلك. وإذا كان هذا
المعنى محتملا ، لم يلزم من القول بأن معلول ذات الله واحد. القول بأن معلول
معلوله يجب أن يكون واحدا.
السؤال الثاني : سلمنا أن هذا التقسيم فاسد. فلم لا يجوز أن يقال : أن معلوله واحد. ومع
ذلك فإنه يكون علة لوجود كل الممكنات؟ وبيانه : هو أن تأثير الفاعل ليس في الماهية
، فإنه لو كان كون السواد سوادا واقعا بالفاعل ، وكل ما بالغير يلزم ارتفاعه عند
ارتفاع ذلك الغير. فعند فرض عدم ذلك المؤثر ، يجب أن يخرج السواد عن كونه سوادا.
وذلك محال. فيثبت أن تأثير الفاعل ليس في الماهية ، بل في الوجود. لكن الوجود من
حيث إنه وجود أمر واحد ، فالصادر عن العلة الأولى هو الوجود فقط. والماهيات (من حيث هي) قابلة للوجود ، فيصل ذلك الوجود إلى كل ممكن بمقدار
استعداده واستحقاقه. فالصادر عن العلة الأولى واحد ، والتعدد إنما حصل بحسب تعدد
القوابل. وهذا كما نقول : إن الشمس علة للإضاءة ، والإضاءة أثر واحد وحقيقة واحدة.
ثم إن الضوء إذا وقع على العالم فبعضه وقع على الحجر ، وبعضه وقع على الشجر. وذلك
التعدد لم يحصل في التأثير ، وإنما حصل بحسب تعدد القوابل. فكذا هاهنا.
السؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إنه يجوز أن يصدر عن الواحد أكثر من الواحد؟ والدليل
الذي ذكرتموه قد سبق الاعتراض عليه في باب أحكام العلل والمعلولات. والذي يقوي هذا
الكلام هو أن الدليل الذي ذكرتموه في أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، إنما قام
على المؤثر ، فإنا قلنا : إن مفهوم أنه صدر عنه هذا الأثر مغاير لمفهوم أنه صدر
عنه ذلك الأثر. فهذا الدليل إن صح وجب أن يدل على أن المؤثر الواحد لا يصدر عنه
أثران مختلفان ، وحينئذ يلزم
__________________
أن يقال : أن
بتقدير كونه قادرا فاعلا مختارا ، يجب أن لا يصدر عنه إلا أثر واحد ، ومعلوم أن
ذلك باطل بالاتفاق. فيثبت أن هذا الكلام مغالطة.
والجواب :
أما السؤال الأول : وهو قوله : إمكان المعلول الأول علة لمادة الفلك الأقصى ،
ووجوده علة لصورته ، ووجوبه بالمبدإ الأول علة للعقل المدبر لذلك الفلك. فنقول:
هذا باطل لوجوه :
الحجة الأولى : الإمكان ، ليس من الأمور الموجودة ، وما لا يكون موجودا امتنع كونه علة
لشيء موجود. وإنما قلنا : إن الإمكان ليس من الأمور الموجودة ، لأنه لو كان موجودا
، لكان إما أن يكون واجبا لذاته (أو ممكنا لذاته) . لا جائزا أن يكون واجبا لذاته ، لأنه يثبت بالدليل أن
واجب الوجود لذاته ليس إلا واحدا ، ولأن الإمكان صفة للممكن ، وصفة الشيء مفتقرة
إليه ، والمفتقر (إلى الممكن) أولى بالإمكان. ولا جائز أن يكون ممكنا لذاته ، وإلا لكان
إمكانه زائدا عليه ، ولزم التسلسل ، فثبت أن الإمكان ليس من الموجودات. فنقول :
وما كان معدوما يمتنع أن يكون علة لشيء موجود ، لأن العدم نفي محض ، والنفي المحض
يمتنع كونه علة للموجود ، فيثبت بهذا البرهان : إن الإمكان يمتنع أن يكون علة لشيء
من الموجودات.
الحجة الثانية : أن نقول : الإمكان إما أن يكون معدوما ، وإما أن يكون موجودا. فإن كان معدوما
امتنع كونه علة للموجود ، وإن كان موجودا فهو من الممكنات ، فله علة (وليست تلك
العلة إلا العلة الأولى. فالعلة الأولى علة للإمكان والوجود ، فهي علة) بمعلولين. وقد فرضنا أنه ليس كذلك. هذا خلف.
الحجة الثالثة : الإمكان مفهوم واحد ، فهو نوع تحته أشخاص ، وحكم
__________________
الشيء حكم مثله ،
فلو كان الإمكان علة لمادة الفلك الأقصى ، لوجب أن يكون إمكان كل ممكن علة لمثل
هذا المعلول. وهو محال.
الحجة الرابعة : لو كان إمكان المعلول الأول علة لوجود المادة ، لكان إمكان تلك المادة
علة لوجودها لما بينا أن حكم الشيء حكم مثله ، ولو كان إمكان المادة علة لوجودها ،
وإمكان المادة من لوازم تلك الماهية ، فعلى هذا تلك الماهية مستلزمة لذلك الإمكان ، وهو مستلزم
لذلك الوجود ، ومستلزم المستلزم ، مستلزم. فيجب أن تكون تلك الماهية مستلزمة لوجود
نفسها. وما كان كذلك كان واجبا لذاته ، فيلزم أن يكون الممكن لذاته واجبا لذاته.
وهو محال.
الحجة الخامسة : إن مذهبهم : أن الشيء
الواحد لا يكون قابلا
وفاعلا معا وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يكون نفس الفلك علة لنفس العقل الأول . لكن الإمكان ، ليس إلا القبول. وهو أن تكون الماهية قابلة
للوجود والعدم ، فوجب أن لا يكون إمكان العقل الأول ، علة لمادة الفلك.
الحجة السادسة : وهي أن جسم الفلك قابل للقسمة الوهمية. وسيأتي في مسئلة إثبات الجوهر الفرد
: أن ما يكون قابلا للقسمة الوهمية ، فإنه لا بد وأن يكون مؤلفا من الأجزاء. وذلك
ينتج أن جسم الفلك مؤلف من الأجزاء الكثيرة ، والإمكان القائم بالعقل الأول شيء
واحد ، فلو جعلناه علة لمادة الفلك وتلك المادة عبارة عن مجموع تلك الأجزاء فحينئذ
يلزم كون الشيء الواحد ، علة لمجموع تلك الأجزاء ، فيعود إلى أنه صدر عن الواحد
أكثر من الواحد.
الحجة السابعة : إنكم جعلتم موجود العقل الأول علة لصورة الفلك
__________________
الأقصى ، وذلك
باطل. لأن الوجودات من حيث إنها وجودات أشخاص ، داخلة تحت نوع واحد. وحكم الشيء
حكم مثله ، فيلزم أن يكون وجود كل شيء علة لصورة الفلك الأقصى ، أو لمثل تلك الصورة. وهو محال.
الحجة الثامنة : مذهبهم أن ما كان غنيا في فعله عن الغير ، كان غنيا في ذاته عن ذلك الغير.
فنقول : كون ذلك الوجود علة لصورة الفلك الأقصى. إما أن يكون بمشاركة من تلك
الماهية الممكنة أو لا يكون. فإن كان الأول فقد صار القابل جزءا من الفاعل ، وهو
عندكم محال. وإن كان الثاني فحينئذ ذلك الوجود غني في ذلك التأثير عن تلك الماهية
، فوجب كونه غنيا في نفسه عن تلك الماهية ، فذلك الوجود أمر قائم بنفسه ، غني عن
تلك الماهية. وقد فرضناه صفة لتلك الماهية. هذا خلف.
الحجة التاسعة : أنتم جعلتم وجوب ذلك الوجود بالغير ، علة للعقل الثاني. فنقول : المعلول الأول
له إمكان وله وجود ، وله كونه واجبا بالغير. وهذا المفهوم الثالث إن لم يكن موجودا
ثالثا ، امتنع جعله علة للعقل الأول. وإن كان موجودا ثالثا فهو ممكن. وله علة ولا
علة له إلا المبدأ الأول. فقد صدر عن المبدأ الأول موجودات ثلاثة : الإمكان ،
والوجود، وكونه واجبا بالغير.
الحجة العاشرة : الوجوب بالغير لو كان موجودا مغاير للأثر وللمؤثر. فهذا أيضا ممكن لذاته
، واجب بغيره ، فوجوبه بغيره أيضا موجود آخر ولزم التسلسل. وإذا لم يكن الوجوب
بالغير موجودا مغايرا ، امتنع جعله علة (للعقل الثاني) .
الحجة الحادية عشر : الفلك ليس عبارة عن المادة والصورة الجسمية فقط. بل هو عبارة عن
المادة وعن الصورة الجسمية ، وعن الصورة النوعية
__________________
الفلكية ، وعن
المقدار المعين ، وعن الشكل العين ، وعن الوضع المعين ، وبالجملة فله من كل مقولة
من المقولات العشر نوعا واحدا وأنواعا كثيرة. فإذا وزعنا هذه الأشياء على الجهات الثلاثة الحاصلة في العقل الأول.
وهي الإمكان والوجود ، والوجوب بالغير ، لزم أن يصدر عن الشيء الواحد أكثر من
الواحد. فإن جوزوا ذلك فلم لا يجوز ما مثله في المبدأ الأول؟ وإن لم يجوزوا ذلك
فكيف جوزوه هاهنا؟
الحجة الثانية عشر : إن العقل الأول جوهر مجرد عن المادة ، وكل ما كان كذلك فإنه يعقل ذاته ،
ويعقل جميع معلوماته ، لما ثبت أن العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول وهذه العلوم
صور كثيرة ، لأن عند الفلاسفة لما كان العقل عبارة عن صورة مساوية للمعقول في
العاقل ، فإن كانت المعقولات مختلفة بالماهية كانت تعقلاتها صورا
متساوية ، لها (في الماهية) فتكون هذه التعقلات صورا مختلفة ، فلا بد لها من علة. فإذا
أسندناها إلى ماهية العقل الأول ، فتلك الماهية اقتضت الامكان. فلو اقتضت هذه
التعقلات فقد صدر عن تلك الماهية معلولات. وإن أسندناها إلى المبدأ الأول فقد صدر
عنه وجود العقل الأول ، فلو صدر عنه مع ذلك عقله لذاته ، لكان قد صدر عنه معلولين.
فثبت : أن على كل التقديرات ، الإشكال لازم على القوم. وإن العذر الذي ذكروه
وعولوا عليه باطل.
وأما السؤال الثاني : وهو قوله : الصادر عنه هو الوجود ، وهو شيء واحد. والتعدد والتكثر
إنما يحصل بسبب تعدد القوابل. فالجواب عنه : أنا لا نسلم أن الصادر عن العلة
الأولى ليس إلا الوجود. قوله : لو كانت العلة علة للماهية ، لكان
عند فرض عدم تلك العلة وجب أن تنقلب الماهية. قلنا : وهذا لازم عليكم في الوجود ،
فإنه لو كانت العلة علة للوجود ، لكان عند عدم
__________________
تلك العلة ، لزم
أن ينقلب الوجود ، فكل ما يذكرونه في العذر عن الوجود ، فهو أيضا عذر عن الماهية ،
سلمنا أن العلة الفاعلية ليست علة ، أن لا وجود ، إلا أن وجود هذا الممكن غير وجود ذلك الممكن. وإلا لزم قيام العرض الواحد بالمحال الكثيرة.
فثبت أن وجود كل موجود مغاير لوجود الموجود الآخر. فلو حكمنا بإسناد الموجودات
بأسرها إلى المبدأ الأول ، لزم أن يصدر عن العلة الأولى معلولات كثيرة ، وهو محال.
وأما السؤال الثالث : وهو قوله : لم لا يجوز أن يصدر عن العلة الواحدة جميع الممكنات؟ قلنا : أنتم
وافقتمونا على أن هذا القسم باطل. ونحن إنما ذكرنا الدليل ، لأجل أنه هو الدليل
الذي عليه عولتم في إثبات هذا المطلوب. فليس لكم أن تنازعونا فيه. والله أعلم .
الحجة الرابعة : لو كان تعالى موجبا
بالذات ، لزم من ارتفاع هذه
الحوادث وعدمها ، ارتفاع ذات الله تعالى وعدمه . وهذا محال. فذاك محال. بيان الملازمة : أن هذه الحوادث
مفتقرة إلى سبب لا محالة ، فارتفاعها يكون لارتفاع سببها ، وارتفاع ذلك السبب يكون
لا محالة لارتفاع أسباب تلك الأسباب ، ولا تزال تلزم هذه الاعتبارات عند التصاعد ، حتى تنتهي إلى العلة الأولى.
فإذا كان الأثر من لوازم المؤثر ، ومن المعلوم بالضرورة أن ارتفاع اللازم يدل على ارتفاع
الملزوم ولزم من ارتفاع هذه الحوادث ارتفاع أسبابها ومن ارتفاع أسبابها
ارتفاع أسباب أسبابها ، وهكذا حتى ينتهي إلى العلة الأولى ، فيلزم الجزم بأن
ارتفاع هذه الحوادث يكشف عن ارتفاع ذات العلة
__________________
الأولى. ومعلوم أن
ذلك محال باطل ، فوجب القول بأن تأثير العلة الأولى ، في هذه الآثار ليس
على سبيل الوجوب واللزوم ، بل على سبيل الصحة والاختيار ، وذلك يدل على أن إله العالم فاعل
بالاختيار لا موجب بالذات. فإن قالوا : نحن لا نقول إن عدم المعلول يوجب عدم العلة
، بل نقول إنه يكشف عنه ، بمعنى أنا نقول : لو لا أن العلة عدمت أولا ، حتى لزم من
عدمها عدم هذا المعلول ، وإلا لم يعدم هذا المؤثر . قلنا : الحق ما ذكرتم إلا أنه لا يقدح في غرضنا. فإنا
نقول : إذا كان عدم المعلول يدل على أن العلة قد ارتفعت أولا ، وعدمت أولا ، حتى
لزم من عدمها عدم هذه المعلولات. فعدم هذه المعلولات يدل على أن تلك العلة الأولى
قد ارتفعت أولا ، وحينئذ يلزم المحال المذكور. أما إذا قلنا : إنه تعالى يؤثر في وجود العالم
على سبيل الصحة والاختيار ، فحينئذ لا يكون وجود هذه الآثار من لوازم ذاته ، فلم
يلزم من عدم هذه الآثار وارتفاعها عدم تلك الذات المخصوصة.
الحجة الخامسة : لو كان المؤثر في وجود العالم موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار فحينئذ يلزم من
قدم ذلك المؤثر ، قدم الأثر ، فيلزم أن يكون القديم مفتقرا إلى المؤثر. وذلك محال.
لأن ذلك القديم لا حال له إلا حال البقاء ، ففي أي وقت فرضناه مفتقرا إلى المؤثر ،
يلزم افتقار الباقي إلى المؤثر. وذلك محال ، لأنه يلزم تكوين الكائن وتحصيل الحاصل. وهو محال.
الحجة السادسة : لو كان المؤثر في وجود العالم موجبا بالذات ، لزم قدم العالم ، وذلك
محال. لأن القول بوجود القدماء الكثيرة محال ، لأن القدم عبارة عن سلب المسبوقية
بالعدم ، وليست صفة وجودية ، وإلا لكانت تلك الصفة أيضا مسبوقة بعدم آخر ، ويفضي
إلى التسلسل ، ولما ثبت أن القدم عبارة عن
__________________
سلب المسبوقية
بالعدم ، وثبت أن المسبوقية بالعدم صفة سلبية يثبت أن القدم سلب للسلب ، فوجب كونه
صفة ثبوتية.
إذا ثبت هذا فنقول
: لو فرضنا وجود قدماء لكانت متشاركة في هذا المفهوم ، وبعد ذلك إما أن تكون
مخالفة في شيء من المقومات أو لا تكون. فإن لم يختلفا في شيء من المقومات ، فحينئذ
تكون القدماء متماثلة في تمام الماهية. والمتساويات في تمام الماهية متساوية في
لوازم الماهية ، فيلزم كون كلها علة للبواقي ، وكون كلها معلولة للبواقي ، وكل ذلك
محال. وإما إن كانت متخالفة في سائر المقومات. فنقول : إنها متساوية في القدم ،
ومختلفة في ذلك الاعتبار الآخر ، وما به المشاركة مغاير ، لما به المخالفة ، فيلزم
كون كل واحد من تلك القدماء مركبا من قيدين.
ثم نقول : كل واحد
من ذينك القيدين لا بد وأن يكونا متشاركين في القدم ، لأن ما ليس بقديم يمتنع كونه
جزءا من ماهية القديم ، وإذا كان الجزءان متشاركين في القدم ، ولا بد وأن يكونا
مختلفين باعتبار آخر. فحينئذ يكون كل واحد من ذينك الجزءين مركبا من جزءين آخرين والكلام في كل واحد منهما كما في الأولين ، فيلزم كون كل
واحد من أولئك القدماء مركبا من أجزاء غير متناهية. وذلك محال لوجوه.
أقربها : أن كل
كثرة متناهية كانت أو غير متناهية فإن الواحد فيها موجود ، لكن ذلك الواحد قد
يشارك غيره في القدم ، ويخالفه في خصوصيته فذلك الواحد مركب من جزءين ، فذلك
الواحد ليس بواحد. فإن تلك الكثرة لم يحصل فيها واحد. وإذا لم يحصل الواحد لم تحصل الكثرة. فيثبت أن هذا
يفضي إلى التناقض. وإنما لزم ذلك من فرض وجود القدماء ، فكان القول به محالا ، ولما كان الإله قديما ، امتنع كون العالم قديما.
__________________
فهذه الدلائل
الستة دالة على أن القول بأن مؤثر العالم موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار قول
باطل.
وقالت الفلاسفة : أما الحجة الأولى :
فضعيفة. لأنا على تقدير أن نسلم أن
العالم محدث ، وأن القول بحوادث لا أول لها باطل. إلا أنا نقول لهم لم لا يجوز أن
يقال : إن العلة الأولى علة ، موجبة لذاتها وجود شيء ، هو فاعل مختار. ثم إن ذلك
الفاعل المختار ، أحدث هذا العالم باختياره؟ فإن بهذا التقدير تكون العلة الأولى موجبة بالذات ، ويكون فاعل هذا
العالم فاعلا مختارا ، فيثبت أن هذا الدليل لا يفيد أن واجب الوجود لذاته فاعل
مختار. ثم نقول : لم لا يجوز أن تكون العلة الأولى موجبة بالذات ، ثم يصدر عنها
المعلول في بعض الأوقات دون البعض؟ (وهو محال) فنقول : وهذا أيضا لازم في القادر ، فإن عندكم العالم صدر
عن القادر المختار في بعض الأوقات دون البعض من غير مخصص البتة. فإن عقل ذلك فلم لا يعقل مثله في العلة
الأولى ؟
والسؤال الثالث : إن صحة وجود العالم إما أن يكون لها أول ، وإما أن لا يكون لها أول ،
والأول باطل وإلّا لزم أن يقال : إن قبل ذلك الأول ما كانت الصحة الذاتية حاصلة ،
فيلزم أن يقال : العالم كان ممتنعا لعينه ، ثم انقلب ممكنا لعينه. وذلك محال. ولما
بطل إثبات الأول لتلك الصحة ثبت أنه لا أول لها ، فيلزم أن يقال العالم صحيح
الوجود في الأزل، وإذا كان الأمر كذلك فمع هذا القول يمتنع أن يقال : إن كون
العالم أزليا محال. وهذا يوجب سقوط هذه الحجة بالكلية.
وأما الحجة الثانية : فالكلام عليها :
إن عين ما التزمتموه
في الموجب ، فهو بعينه لازم في القادر. فإنا بينا أن القادر لا يمكن أن يرجح أحد
المثلين على
__________________
الآخر ، إلا
المرجح. وإذا أثبتم أن نسبة حدوث العالم إلى جميع الأوقات على التسوية ، ونسبة
حصول العالم إلى جميع الأحياز على التسوية ، فكما يمتنع وقوع بعض تلك الجائزات دون
بعض بالموجب ، فكذلك يمتنع وقوعه بالقادر. فيثبت أن هذا الإشكال مشترك. والله أعلم
...
وأما الحجة الثالثة : فالجواب عنها : أن الأقرب أنه لا يمتنع كون الشيء الواحد علة لأشياء كثيرة
، والدلائل التي يذكرها الفلاسفة في تقرير هذا الأصل ضعيفة جدا. وهذا هو الوجه
المتحقق المعتمد.
وأما الفلاسفة.
فإنهم لما سلّموا هذا الأصل ، لا جرم ذكروا طريقة في كيفية ترتيب الوجود. وقد سلف
إبطالها.
وأما الحجة الرابعة : فالجواب عنها :
أنا بينا : أن القادر لا يمكنه
ترجيح أحد المثلين على الآخر ، إلا لداعية مرجحة ، وبينا : أن القدرة مع الداعي
يكون مجموعها موجبا تاما لوجود الفعل. وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ كل ما
أوردتموه على القائلين بالموجب ، فهو لازم على القائلين بالمختار.
وأما الحجة الخامسة : وهي أنه يلزم
افتقار الشيء حال بقائه إلى
المؤثر. فاعلم أن المباحث المتعلقة بهذا الباب مذكورة في مقالة مفردة ، فذكروه في
أبواب الحدوث والعدم.
وأما الحجة السادسة : إن القول بإثبات
القدماء محال.
فنقول : إن أرباب
الملل والأديان اتفقوا على أنه تعالى ، كان عالما قادرا في الأزل ، وكونه عالما
قادرا ليس عين ذاته المخصوصة ، على ما سيأتي تفصيل ذلك. وإذا كان الأمر كذلك ، كان
القول بإثبات القدماء لازما عليهم.
فهذا تمام الكلام
في هذا الباب. والله أعلم.
الباب الثالث
في
كونه تعالى عالما
الفصل الأول
في
تحقيق الكلام في حقيقة العلم والإدراك
اعلم. أنا قد
استقصينا الكلام في هذا الباب ، في أول علم المنطق من هذا الكتاب ، ولا بأس بأن نعيد بعض تلك الوجوه مع فوائد أخرى لزيادة
البيان. فنقول : لا شك أنا نعلم بالضرورة : (أنا نعلم شيئا من الأشياء ، ونعلم
أيضا بالضرورة) : أن العلم إما تصور وإما تصديق ، وهذا القدر معلوم لا
نزاع فيه بين العقلاء.
ثم اختلفوا بعد
ذلك. وطريق ضبط الأقوال في هذا الباب أن نقول : العلم إما أن يكون مفهوما إيجابيا
، أو سلبيا ، فإن كان مفهوما إيجابيا ، فإما أن يكون مجرد نسبة وإضافة (وإما أن
يكون صفة حقيقية) ، وإما أن يكون مجموع صفة حقيقية مع نسبة مخصوصة [أو صفة
حقيقية مخصوصة من باب السلوب ] فهذه أقسام أربعة لا مزيد عليها.
أما القسم الأول : وهو أن يكون العلم والإدراك عبارة عن مجرد نسبة
__________________
مخصوصة ، وإضافة
مخصوصة فهذا (قول) قد ذهب إليه جمع عظيم من الحكماء والمتكلمين ، وهو المختار
عندنا. وهو الحق. وذلك لأنا إذا علمنا شيئا فإنا نجد بين عقولنا وبين ذلك المعلوم
نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة. ولهذا السبب فإنه ما لم يحصل في مقابلة الشيء الذي هو
العالم شيء آخر هو المعلوم ، امتنع حصول الأمر المسمى بالعلم. وبالجملة: فحصول هذه
النسبة عند حصول الأمر المسمى بالعلم وبالإدراك وبالشعور ، كالأمر المعلوم بالبديهة.
وأما القسم الثاني. وهو أن يقال : العلم
صفة حقيقية. فهذا قول
جمهور الفلاسفة ، فإنهم يقولون : العلم عبارة عن حصول صورة المعلوم في العالم. وقد
ذكرنا هذه المسألة في أول المنطق من هذا الكتاب ، وبالغنا في إبطاله ، وأوردنا في
تزييفه دلائل كثيرة قاهرة . وأما القسم الثالث. وهو أن يقال : العلم صفة حقيقة مع إضافة مخصوصة. فهذا قول
أكثر المتكلمين ، فإنهم قالوا : العلم صفة مخصوصة قائمة بذات العالم ولتلك الصفة
تعلق بالمعلوم ، وعنوا بهذا التعلق ما سميناه بالنسبة والإضافة ، وهؤلاء المتكلمون
أنكروا كون تلك الصفة الحقيقية صورة مساوية لماهية المعلوم ، بل قالوا : إنه ماهية
مخصوصة ، وهي من حيث إنها هي مخالفة لماهية المعلوم ، إلا أن بينها وبين المعلوم
نسبة معينة مخصوصة ، وتلك النسبة مسماة بالتعلق.
وأما القسم الرابع : وهو أن يقال : العلم صفة حقيقية مخصوصة من باب السلوب ، والقائلون
بهذا القول فريقان. فالفريق الأول : طائفة من قدماء المتكلمين. قالوا : لا معنى للعلم إلا عدم الجهل ، إلا أنه بقي هذا المذهب مخبطا غير ملخص.
وذلك لأن الجهل قد
يراد به عدم العلم ، فإذا جعلنا العلم عبارة عن عدم الجهل فحينئذ يكون العلم عبارة
عن عدم عدم العلم ، فيكون أمرا ثابتا.
__________________
وقد يراد به
الاعتقاد الذي يخالف المعتقد. وعدم هذا للعنى حاصل في الجمادات مع أنها ليست
عالمة. والفريق الثاني ما وقع في السنة الفلاسفة أن معنى كون الشيء عقلا ، هو كونه مجردا عن المادة.
واعلم أن هذا
الكلام غير ملخص المعنى . وذلك لأن معنى كون الشيء مجردا عن المادة ، هو أنه موجود
قائم بنفسه غير حال في شيء من المحال. والفرق بين قولنا : إنه غير حال في شيء من
المحال ، وبين قولنا : إنه عالم بالأشياء معلوم بالضرورة ، فإنه قد يمكننا أن
نعتقد في كثير من الأشياء كونها ذوات قائمة بأنفسها غير حالة في شيء من المحال ،
مع أنه لا يخطر ببال أحد من العقلاء أنه يلزم من كونها (كذلك ، كونها) عالمة بالأشياء. فيثبت أن هذا الكلام بعيد عن العقل.
ومما يقوي هذا
الإشكال أن المادة ليست لها مادة أخرى. فالمادة ذات قائمة بنفسها مجردة عن المادة
مع أنها لا تعلم شيئا. فعلمنا أن هذا الكلام خالي عن الفائدة.
والذي يمكنني
تحصيله من هذا الكلام : أن يقال : مذهبهم : أن العلم عبارة عن حصول صورة المعلوم
للعالم. فإذا كان الشيء قائما بغيره ، حالا في محل ، فإنه لا يكون حقيقة حاصلة
لنفسها ، بل تكون حاصلة لغيرها ، فلا جرم لا يكون مثل هذا الشيء مدركا لنفسه ، ولا
عالما بنفسه. أما إذا كان الشيء غنيا عن محل يحل فيه ، وكانت حقيقة حقيقته قائمة
بالنفس. فإن ماهيتها لا تكون حاصلة لغيرها ، بل تكون حاصلة لنفسها ، ولما حصّلت
نفسها لنفسها ، وثبت أنه لا معنى للإدراك إلّا حصول ماهية المعلوم للعالم ، ولما
لزم في الشيء المجرد عن المادة أن تكون نفسها حاصلة لنفسها ، وثبت أنه متى كان
الأمر كذلك ، لزم كونه مدركا لنفسه ، وعالما بنفسه ، وبهذا التأويل. قالوا :
__________________
إن التجرد عن
المادة يوجب التعقل والإدراك. وهذا هو المعنى الذي يمكنني استنباطه من هذا الكلام.
والله أعلم بمرادهم منه. فهذه جملة الأقسام التي يمكن ذكرها في تفسير حقيقة العلم
والإدراك والشعور. وقد سبق في أول هذا الكتاب الاستقصاء في كل واحد من هذه
الأقوال. فلا فائدة في الإعادة. وبالله التوفيق.
الفصل الثاني
في
حكاية دلائل المتكلمين في كونه تعالى عالما
اعلم. أن القائلين
بأن العالم محدث ، وأن إله العالم قادر مختار. احتجوا بدليل الإحكام والإتقان على
كونه تعالى عالما بالمعلومات. وتقريره : أن قالوا : إن أفعال الله محكمة متقنة ،
وكل من كان فعله محكما متقنا وجب كونه عالما فيلزم كونه تعالى عالما بالأشياء.
فنفتقر
هاهنا إلى تقرير مقدمتين :
إحداهما : قولنا : أفعال الله محكمة متقنة. والمراد من كونها محكمة متقنة : كونها موافقة لوجوه
المصلحة والمنفعة. وهذا إنما يظهر ببيان حكمة الله تعالى في تخليق السموات
والكواكب ، وفي تخليق العناصر الأربعة ، وفي تخليق الآثار العلوية والمعادن
والنبات والحيوان والإنسان ، وأعجبها شرح أبدان الناس ، ولما كان هذا الكتاب الكبير الشريف مملوءا
من هذا النوع من العلوم ، لا جرم لم يكن في إيراد هذا النوع هاهنا مزيد فائدة.
وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : وكل
من كان فعله محكما متقنا ،
فإنه يجب أن يكون عالما. فتقريره بالأمثلة الكثيرة : فإن الجاهل بنسج الديباج لا
يمكنه أن يأتي هذا العمل على وجه الإتقان ، والجاهل بالخط لا يمكنه أن يأتي
__________________
بالخط على وجه
الإتقان. ولا سبب لذلك إلا عدم العلم ، فيثبت أن عدم العلم بالشيء ينافي الإتيان به على
وجه الإحكام والإتقان.
ومن المتكلمين من
يدعي العلم الضروري بأن فاعل المحكم المتقن يجب كونه عالما بذلك الفعل ، ويذكر تلك
الأمثلة لأجل التنبيه على أن العلم بهذه المقدمة علم ضروري. فهذا تمام الكلام في
تقرير هذا الدليل.
ولقائل
أن يقول السؤال عليه من وجوه :
السؤال الأول : هو أن دلائل المتكلمين في إثبات القادرية والعالمية ، بتقدير صحتها لا تدل على
المقصود ، لأنه لا يمتنع في بديهة العقل أن يقال : إن واجب الوجود لذاته علة
لموجود ، وذلك الموجود عالم لذاته (وقادر لذاته) ، وخالق للعالم ، فإنه لما ثبت أن العالم محدث وجب افتقاره
إلى محدث وفاعل ، ولزم أن يكون ذلك الفاعل قادرا عالما. ولا يبعد أن يكون ذلك العالم القادر معلولا لذاته أو واجب الوجود ،
لذاته. إما من غير واسطة ، أو بواسطة واحدة أو بوسائط كثيرة.
وإذا كان ما
ذكرناه محتملا ، سقط الاستدلال بهذه الوجوه المذكورة على كون واجب الوجود لذاته :
عالما قادرا. فهذا سؤال مبين ، وما رأيت أحدا من المتكلمين دار حوله. والغفلة عنه
في مثل هذه المطالب العالية من العجائب.
واعلم
أن الذي يمكننا ذكره في دفع هذا السؤال وجهان :
الأول : إنا قد ذكرنا في مقدمة هذا
الكتاب أن المطالب
الإلهية ، عالية ، والعقول البشرية ضعيفة ، فيجب أن يكتفى فيها بالأخذ بالأخلق
والأولى. وعند هذا نقول : لما ثبت حدوث العالم وثبت افتقاره إلى فاعل ومحدث ، وجب
الاعتراف بهذا الفاعل والمحدث. فأما إثبات الوسائط فلم يدل على وجودها
__________________
دليل فوجب الأخذ
بالمتيقن ، وطرح المشكوك المشتبه. فهذا أحد الطريقين.
الثاني : لما دللنا على أنه تعالى قادر على الإيجاد والتكوين ، فحينئذ نقيم
الدلالة على أنه يستحيل في الوجود أن يكون أكثر من مؤثر واحد. وعند هذا يسقط القول
بإثبات الوسائط. فهذا ما يمكن ذكره في هذا المقام.
السؤال الثاني : أن نقول ما المراد بالإحكام والإتقان؟ فإن أريد به وقوع هذه الأشياء
على وفق المصلحة والمنفعة ، فهذا معقول ، وإن عنيتم به معنى آخر ، فلا بد من بيانه
ثم نقول : إما أن يريدوا به كونه واقعا على وفق المصلحة (بوجه ما) وإما أن يريدوا به كونه واقعا على وفق المصلحة من كل
الوجوه. فإن أردتم الأول ، فهذا القدر ، لا يدل على كون الفاعل
عالما فإن الفعل الذي يأتى به الجاهل ، قد يكون مطابقا للمصلحة من بعض الوجوه. وإن عنيتم به كونه مطابقا للمصلحة من كل الوجوه.
فلم قلتم : إن الأمر كذلك؟ فإنا لا نعرف أن الشمس لو كانت أكبر مما هي الآن أو
أصغر كانت المنافع أكمل أو أقل ، ولا نعرف أحوال الأفلاك في هذا الباب ، ولا نعرف
أيضا : أن أبدان الناس لو كانت واقعة على غير هذا الوجه والشكل ، كيف كانت تكون
أحوالها؟ وبالجملة : فمن الذي يمكنه إقامة الدلالة على أنه يمتنع وجود وضع أكمل
مما هو الآن ، مع أن الأوضاع المغايرة لهذا الوضع أمور غير متناهية؟ ومن الذي أحاط
عقله بكل تلك الأقسام ، ووقف عقله على كل ما في كل واحد منها من المنافع والمضار؟
السؤال الثالث : نزلنا عن البحث عن تفسير الإحكام والإتقان. فلم قلتم : إن كل من كان
فعله محكما متقنا. فإنه يجب أن يكون عالما؟ والذي يدل على أن الأمر ليس كذلك وجوه
:
الأول : أنه لا نزاع أن الجاهل بالصفة ، قد صدر عنه الفعل المحكم
__________________
المتقن على سبيل
الإتقان مرة واحدة. فالعاجز عن نظم الشعر قد ينطق على سبيل الإتقان بمصراع من
الشعر والجاهل بالخط ، قد يكتب حرفا واحدا على الإحكام والإتقان ؛ بالاتفاق
والندرة (وإذا ثبت هذا فنقول : قد ثبت في العلوم العقلية : أن حكم الشيء حكم مثله فلما ثبت أن العمل القليل قد يوجد من الجاهل ، وجب أن يكون
حكم أمثاله وأشباهه كذلك. وهذا يدل على أن صدور الفعل المحكم المتقن من الجاهل :
جائز.
والثاني : وهو أنا نشاهد أن النحل يبني البيوت المسدسة من غير مسطرة ولا فرجار، على
أحسن الوجوه ، بل العقلاء الحصفاء الكاملون ، لو أرادوا بناء البيوت المسدسة من
الشمع مثل ما يبنيه النحل ، يعجزون عنه والعنكبوت أيضا. إذا أرادت إصلاح بيتها ،
فإنها تأتي بأعمال عجيبة في ذلك البناء. والنملة إذا خبأت في جحرها حبات الحنطة
فإنها تفلق كل حبة إلى نصفين ، لأجل أنه إذا أصابتها الرطوبة ، فإنها لا تنبت.
وعجائب أفعال الحيوانات مذكورة في الكتب. فهذه أفعال محكمة متقنة. فإن دل الفعل
المحكم المتقن على علم الفاعل ، وجب القول بأنها أكثر علما من الإنسان (لأن ما) في هذه الأنواع من الأفعال من وجوه الإحكام والإتقان ،
أكثر مما في أفعال الناس. وذلك بعيد جدا.
الوجه الثالث : وهو أنا نرى أن الإنسان إذا أراد أن يتعلم صنعة الكتابة أو ضرب الطنبور أو صنعة
أخرى ، فإنه في أول الأمر يحتاج إلى أن يستحضر في ذهنه صورة حرف حرف ، وصورة نقرة
نقرة ، ومتى كان الإنسان باقيا في هذه الدرجة ، فإنه يكون مقصرا في تلك الصناعة ،
ثم إذا واظب على تلك الحرفة على تلك الحرفة مدة مديدة ، وتمرن فيها حصلت له حالة
عجيبة تسمى بالملكة في اصطلاح الحكماء ، بأن يصير بحيث يكتب على أحسن الوجوه من
غير أن يحتاج إلى استحضار حرف حرف في الخيال ، بل ربما كان مشغول القلب بمهم آخر ،
وهو يكتب على أحسن الوجوه. فههنا الفعل المحكم المتقن الواقع على
__________________
أكمل الوجوه ،
حاصل مع أن العلم بتلك التفاصيل والأحوال غير حاصل. فيثبت بهذا أن صنعة الفعل
المحكم المتقن ، لا تتوقف على كون فاعله عالما. بل قد ذكرنا : أن استحضار العلم
بكل واحد من تلك الحروف والأشكال ربما منع ذلك الفاعل من الإتيان بذلك العمل على
وجه الكمال والتمام.
والوجه الرابع : هو أن الفلاسفة القائلين بالموجب أضافوا تكوّن أبدان الحيوانات إلى تأثير
الطبيعة ، واقتضاء القوة المصورة ، مع أن الطبيعة ليس لها شعور وإدراك البتة ،
فإذا قيل لهم : كيف يعقل إسناد هذه الأفعال العجيبة ، والآثار المحكمة المتقنة إلى
قوة ليس لها شعور ولا إدراك؟ أجابوا بأن قالوا : إن هذا غير مستبعد في العقول ،
وذلك لأن الفاعل إذا صار ماهرا في صنعته كاملا في حرفته ، وأراد العقلاء مدحه بأنه
صار كاملا في تلك الحرفة قالوا : إن هذه الحرفة صارت كالأمر الطبيعي له. فهذا (إقرار
من العقلاء بأن كمال حد القادر الصانع أن نقيسه في كيفية أفعاله بالطبيعة. وهذا يدل على إقرار العقلاء بأن أفعال الطبيعة أكمل وأفضل من أفعال الصناعة.
الوجه الخامس : وهو أن الأحياز متساوية والأوقات متساوية. ثم إن المتكلمين قالوا
: إنه اختص حدوث العالم بوقت معين دون سائر الأوقات ، واختص حصول ذات العالم بحيز
معين دون سائر الأحياز ، فلما قيل لهم : ولم اختص حدوث العالم بذلك الوقت دون سائر
الأوقات؟ ولم حصل العالم في ذلك الحيز دون سائر الأحياز؟ مع أن الأوقات بأسرها
متماثلة ، ومع أن الأحياز بأسرها متماثلة. أجابوا عنه بوجهين :
الأول : إنه لو حصل حدوث العالم في وقت آخر (غير) هذا الوقت ، لكان هذا السؤال (المذكور باقيا ، ولو حصل
العالم في حيز آخر سوى هذا الحيز
__________________
المعين ، لكان السؤال)
المذكور باقيا ، وكل سؤال يبقى على كل التقديرات ، فإنه ساقط.
والثاني : إنهم قالوا : القادر المختار
يمكنه ترجيح أحد المثلين على
الآخر من غير مرجح. إذا عرفت هذا ، فنقول : أجسام العالم يمكن تركيبها وتأليفها
على وجوه كثيرة مختلفة، غير متناهية. وأحد تلك الوجوه هو هذا الوجه الواقع ،
والفاعل القادر كان قادرا على هذا الوجه ، وعلى سائر الوجوه ، إلا أن القادر يمكنه
ترجيح أحد المثلين على الآخر ، لا لمرجح أصلا ، فصدر عن القادر ، هذا الوجه المعين
دون سائر الوجوه ، بمجرد كونه قادرا. فإن مذهبكم : أن القادر (المختار يمكنه ترجيح
أحد المثلين على الآخر ، لا لمرجح ، أو نقول : إن القادر) لما كان قادرا على هذا الوجه ، وعلى سائر الوجوه ، لم يجز
أن يقال : ولم وقع هذا الوجه على هذا الوجه دون سائر الوجوه؟ لأن هذا السؤال عائد
على كل التقديرات ، فكان ساقطا ، وإذا ثبت هذا ظهر حينئذ أن مجرد كون الفاعل قادرا
كان في وقوع هذه الأشياء على هذه الأحوال المخصوصة.
وحاصل الكلام : إن كل شخص من أشخاص الناس مخصوص بمقدار معين ، مع أنه كان يمكن
وقوعه أعظم مما وقع عليه الآن ، أو أصغر مما وقع عليه الآن. ولذلك اختص بكون معين
، وخلقة معينة ، وطبيعية معينة ، مع أن سائر الصور والأحوال كانت جائزة عليه. فإذا
قلنا : ولم وقع هذا الوجه المعين دون سائر الوجوه الجائزة؟ لم يكن لنا عنه جواب،
إلا أن نقول : القادر بمجرد كونه قادرا يمكنه (إيقاع الشيء على صفة خاصة ، مع جواز
سائر الصفات ؛ لأن خاصية القادر المختار) ترجيح المثلين على الآخر ، لا لمرجح فإذا جوزنا هذا. فلم
لا يجوز أيضا أن يقال أن القادر المختار يمكنه إيقاع هذه
__________________
الأجسام على هذه
الصفات المطابقة للمصالح ، بمجرد كونه قادرا من غير أن يعتبر في ذلك الفاعل القادر
كونه عالما؟ والله أعلم .
السؤال الرابع : هب أنا سلمنا أن فاعل الأفعال المحكمة المتقنة يجب أن يكون له شعور
وإدراك. فلم لا يكفي في صدور الأفعال المحكمة عنه كونه ظانا ، ولا يشترط فيه كونه
عالما؟ والدليل على الاحتمال المذكور لازم : ذلك ، لأن أصحاب الحرف والصناعات إنما
يأتون بتلك الأفاعيل بناء على الظنون والحسبانات وإلا فالآتي صنعة الكتابة ، كيف
يمكنه تحصيل العلم اليقيني بأحوال رأس القلم. وبأحوال سطح الكاغذ. وبأحوال كمية
المداد. وكيفيته. وبأحوال حركات الأصابع بحسب ما لها من الكمية والكيفية؟ وكل هذه
الأحوال مجهولة عند ذلك الكاتب ، إلا أنه يظن ظنا غالبا أن هذه الآلات والأدوات
موافقة لتحصيل الصنعة المطلوبة ، فيستعمل تلك الآلات في تلك الصنائع بناء على
الظنون والحسبانات ، فتحصل تلك الصنائع ، فيثبت أن كل ما نشاهده في العالم من
الصنائع المحكمة المتقنة. فإنه إنما يحصل بناء على الظنون والحسبانات ، ولا حاجة
في تحصيل شيء منها إلى العلم الجازم الموصوف بالقطع واليقين. وإذا ثبت هذا فقد ظهر
أن الاستدلال بالفعل المحكم المتقن على كون فاعله عالما في غاية الصعوبة.
فإن قالوا : إن
صاحب الظن قد يخطئ وقد يغلط ، وقد يعجز عن تحصيل مطلوبه فنقول : لا نزاع في أن
الأمر كما ذكرتم ، إلا أنا نرى الوجوه الكثيرة من النقائص والآفات والتشويهات
الكثيرة في الخلقة حاصلة في تركيبات هذا العالم ، فلعل هذه الأحوال إنما حصلت لأن
فاعلها إنما يركبها بناء على الظن والتخمين ، فتارة تقع على الوجه الصواب الموافق
للحكمة والمصلحة ، وتارة تقع على الوجه المضطرب الفاسد وإذا كان الاحتمال قائما
فعليكم أن تدلوا على أنه غير محتمل ، وعلى أنه باطل ، حتى يتم دليلكم في الاستدلال
بالفعل المحكم المتقن على كون الفاعل عالما.
__________________
السؤال الخامس : إنا كما رأينا في هذا العالم أفعالا محكمة متقنة منسقة منظمة وأنها توهم
كون مدبر هذا العالم عالما حكيما ، فقد نرى هذا العالم أيضا مملوءا من الآفات
والمخافات والتشويهات في الخلقة والأحوال المنفرة مثل العمى والزمانة والفقر
الشديد.
(ونرى الإنسان
الكامل في العلم والعمل محروما عن الخيرات الدنيوية ، ذليلا مهينا ، تحت تصرف
الجهال والأراذل) ونرى أخسّ الخلق مثل أرذل الصبيان والنسوان (يحصل لهم
الاستيلاء على أهل الدنيا والاستعلاء على الخلق وهذه الأحوال غير لائقة بالرحيم العليم الحكيم ،
وتقريره) إنه تعالى إما أن يقال : إنه خلق هذا العالم لرعاية حكمة
ومصلحة ، أو خلقه لمحض القدرة من غير رعاية الحكمة والمصلحة. فإن كان الحق هو
الثاني فحينئذ هذه الوجوه الحاصلة من المصالح ما قصد الفاعل خلق العالم لأجلها ،
بل اتفق أنه خصص هذا القسم بالإيجاد والتكوين دون سائر الوجوه من غير أن كان كونها
مصلحة ، علة لرجحان هذا القسم على سائر الأقسام ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلم لا
يجوز أن يقال : مجرد القدرة كافي في إخراج هذه الأشياء من العدم إلى الوجود؟ وأما
إذا قلنا : إنه تعالى خلق هذا العالم لأجل الرحمة والحكمة وإفاضة المنفعة. فنقول :
لو كان الأمر كذلك لما خلق فيها أنواع الآفات والمخافات. وحيث حصلت هذه الأشياء ،
علمنا أنها إنما حصلت إما لعدم العلم ، وإما لعدم القدرة.
وأجيب عن هذا
السؤال. فقيل : الإحكام والإتقان يدل على علم الفاعل ، لأن الجاهل يمتنع أن يصدر عنه الفعل المحكم
المتقن. أما الأفعال الفاسدة الخسيسة فإنها لا تدل على جهل الفاعل لأن العالم
يمكنه أن يأتي بالأفعال الفاسدة الخسيسة. فعلم أنه ليس المقصود من السؤال المذكور
ما توهمه هذا
__________________
المجيب ، بل
المقصود أنه كما قضى ظاهر العقل بأن الفعل المحكم المتقن لا يصدر إلا من العالم ،
قضى ظاهر العقل بأن من كان موصوفا بالقدرة وبالعلم وبالرحمة. فإنه لا يسلط على
الضعفاء أنواع الآلام والأوجاع ، ولا يسلط القوي الظالم على الضعيف المظلوم. وحيث
شاهدنا هذه الأحوال في العالم لزم القدح في أحد هذه الصفات الثلاثة. فإن جاز لكم
أن تثبتوا كمال القدرة والرحمة مع أن العقل يفضي بأن حصول (هذه الصفات الثلاثة
يمنع من إيصال المضار والآلام إلى الضعفاء فلا يجوز لغيركم أن يقول بأن يحصل) هذا القدر من الإحكام والإتقان في أجزاء العالم ، من غير
أن يكون الفاعل عالما ، بل يكفي فيه كونه ظانا.
السؤال الخامس : إن القول بالإحكام والإتقان على مذهب أبي الحسن الأشعري غير معقول. وبيانه ،
أن عنده البنية ليست شرطا لحصول الحياة ولسائر الصفات المشروطة بالحياة كالعلم والقدرة والسمع
والبصر. فإن مذهبه : أن الجوهر الفرد لا يمتنع اتصافه بالحياة وبالعلم وبالقدرة
حتى يكون ذلك الجوهر الفرد أفضل خلق الله في العلم وأقواهم في القدرة وفي سائر
الكمالات من السمع والبصر. واحتج على صحة مذهبه : بأن هذه البنية مؤلفة من الأجزاء. فإما أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء
قابلا للحياة وللعلم وللقدرة مشروطا بكون الآخر كذلك. وإما أن تحصل هذه الحاجة من
أحد الجانبين دون الثاني. وإما أن يكون كل واحد منها غنيا عن الآخر في هذه
القابلية. والأول يوجب الدور ، والثاني يوجب امتياز أحد المثلين عن الآخر بحكم
لازم ، ولما بطل هذان القسمان ، ثبت الثالث وإذا ثبت هذا ثبت أنه يصح في كل واحد
من هذه الأجزاء التي لا تتجزأ أن يكون موصوفا بالحياة والعلم والقدرة (والسمع
والبصر فإذا قيل له : إنا نرى أنه متى اختلت (هذه البنية
__________________
واختلت) هذه الأعضاء فإنه تبطل الحياة والعلم والقدرة) قال : ذاك بحسب عادة أجراها الله تعالى. فإما أن يقال : إن
حصول الحياة مفتقر إلى حصول هذه البنية. وحصول الإبصار والسماع مفتقر إلى خلقة
العين والأذن. فليس الأمر كذلك. إذا عرفت هذا فنقول : إن على مذهبه ليس لشيء من
التركيبات والتصورات أثر في حصول شيء من المنافع والمصالح. وعلى هذا التقدير فإنه
لا يمكننا أن نقول : إنه تعالى إنما خلق العين على هذه الخلقة لأجل أن يكمل بها ،
الإبصار. وإنما خلق المعدة على هذا الوجه ، لأجل أن يكمل بها فعل الهضم. وعلى هذا
التقدير فإنه يبطل ما يذكره أصحاب التشريح من منافع الأعضاء ونحن لا نفهم من لفظ
الإحكام والإتقان إلا هذا الوجوه. فإذا بينا أن شيئا منها لا يصح على مذهب الأشعري.
فقد بطل الإحكام والإتقان على مذهبه ، فكيف يمكنه يستدل بالإحكام والإتقان على علم الفاعل القادر؟
__________________
الفصل الثالث
في
تقرير طريقة اخرى سوى طريقة الاتقان
والاحكام تدل على كونه تعالى عالما بناء على كونه
تعالى فاعلا بالاختيار لا موجبا بالذّات
اعلم. أن هاهنا
طريقا آخر ، أقوى من دليل الإحكام والإتقان وتقريره : أن نقول : قد عرفت أن العلم
إما تصور وإما تصديق. فنقول : أما تصور الحقائق والماهيات فحاصل لله تعالى.
والدليل عليه : هو أنه قد ثبت أنه قادر مختار ، والقادر المختار إنما يفعل بواسطة
القصد إلى التكوين والتخليق ، والقصد إلى التكوين والتخليق مشروط بتصور تلك
الحقائق ، فإن لم يكن متصورا لماهية من الماهيات امتنع منه القصد إلى تكوينها.
وتخليقها. والعلم بذلك ضروري فيثبت أنه تعالى متصور لهذه الماهيات.
جئنا إلى
التصديقات فنقول : إنها أيضا حاصلة (له تعالى) والدليل عليه ، هو أن هذه الحقائق منها ما هي متلازمة ،
ومنها ما هي متعاندة (ومنها ما هي لا متلازمة ولا متعاندة ، أما المتلازمات فهي
على قسمين منها ما يكون لازما بغير واسطة) ومنها ما يكون
لازما بوسائط. واللوازم التي تكون بوسائط ، هي أشياء متلاصقة ويكون لزوم كل واحد
منها لملاصقه ، لزوما بغير واسطة ، واستلزم كل واحد منها بملاصقة المتصل به ، القريب منه إنما يكون لذاته ،
__________________
فإذا حصل تصور تلك
الماهية ثم إن تلك الماهية لذاتها توجب استلزام ذلك اللازم المتصل به، فحينئذ يلزم
من حصول ذلك المتصور ، حصول العلم بكون ذلك التصور مستلزما لذلك اللازم ، ثم يلزم
من العمل بحصول ذلك اللازم الثاني العلم بحصول اللازم الثالث. وهلم جرّا إلى آخر
المراتب.
فلما كانت
التصورات حاضرة كانت لوازمها معلومة ، فيكون لزوم بعضها لبعض معلوما (ويكون منافاة
بعضها لبعض معلوما) والأشياء التي لا تكون متلازمة ولا متعاندة تكون هذه
الأحوال منها أيضا معلومة. والحاصل : أنه لما (ثبت حصول التصورات، وثبت أن
التصورات إما) علل للملازمات أو للمعاندات أو لانتفاء اللزوم والعناد ،
وثبت أن تصور ذات العلة يوجب العلم بلوازمها يثبت أن الكل يصير معلوما. وهذا
الطريق أضبط، وعن الإشكالات أبعد.
وهاهنا طريق آخر في تقرير هذا الكلام :
وهو أن نقول : لما ثبت
أنه فاعل مختار وهو إنما يفعل بواسطة القصد إلى الإيجاد ، فلا بد وأن يحضر عنده
تصور معنى الموجود ، لأنه لو لم يعرف أن الموجود ما هو؟ امتنع منه أن يقصد إلى
الإيجاد ، وإذا عرف أن الموجود ما هو؟ والموجود من حيث أنه موجود يقبل الانقسام
إلى الواجب والممكن ، وجب أن تعرف هذا الانقسام ، وإذا عرفت هذا الانقسام ، فقد
عرفت أن الواجب ما هو؟ وأن الممكن ما هو؟ وبهذا الطريق (عرفت كليا ، و) متى عرفت كليا ، فقد عرفت انقسامه إلى جزئياته ، لما ثبت
أن تصور كل ماهية من حيث هي هي ، موجب لانتقال الذهن منها إلى لوازمها ، ثم من تلك
اللوازم إلى لوازم تلك اللوازم بالغة ما بلغت. فهذا طريق حسن. يمكن تقويته
بالمباحث المنطقية ، المفرعة على أن العلم بالماهية يوجب العلم بلازمه القريب.
والله أعلم.
__________________
الفصل الرابع
في
تقرير الوجوه التي استدل بها الشيخ الرئيس
أبو علي بن سينا في سائر كتبه على كونه تعالى عالما بالمعلومات
اعلم.
أنه ذكر في هذا الباب وجوها ثلاثة :
فالطريق الأول : بين فيه كونه تعالى
عالما بذاته : ثم بين فيه : أن
علمه بذاته يوجب كونه عالما بما سواه.
والطريق الثاني : بين فيه كونه تعالى عالما بغيره. ثم بيّن أنه متى كان عالما
بما سواه ، فإنه يجب أن يكون عالما بذاته.
والطريق الثالث : يذكر فيه أن الجوهر المجرد إذا اتحد بالصورة المجردة وحصل
التعقل. فالذي يكون مجردا لذاته أولى أن يكون عقلا ومعقولا وعاقلا. فهذا مجموع الوجوه
التي عول عليها.
أما الطريق الأول : فتقريره : أن نقول إنه عالم بذاته ، وكل من كان عالما بذاته ، وجب أن يكون
عالما بلازمه القريب ، ويلزم من علمه باللازم الأول (علمه باللازم) الثاني. وعلى هذا الترتيب حتى تصير جميع اللوازم معلومة.
وهذا الكلام مبني على أصلين :
الأصل الأول : إنه تعالى عالم بذاته. والدليل عليه : أنه تعالى موجود
__________________
قائم بنفسه مجرد
عن الجسمية ، وكل من كان كذلك فإنه يجب أن يكون عالما بذاته. أما المقدمة الأولى
فقد سبق إثباتها. وأما المقدمة الثانية. وهي أن كل من كان قائما بنفسه غنيا عن
المادة فإنه لا بد وأن يعلم نفسه. فالدليل على صحتها. وجهان :
الوجه الأول : إنه قد ثبت أنه لا معنى
للعلم إلا حضور ماهية المعلوم عند العالم ، فإذا حضرت ماهية مجردة عند
ماهية مجردة صارت الماهية القائمة بنفسها عالمة بذلك الشيء. إذا ثبت هذا فنقول :
الشيء إذا كان قائما بنفسه لم تكن حقيقة وجوده حاصلة لغيره ، بل كانت حقيقته حاصلة
لنفسه. فإذا كان حصول ماهية مجردة لماهية أخرى مجردة يقتضي كون ذلك الموجود القائم
بنفسه عالما ، فههنا لما حصلت حقيقة ذلك الشيء بنفسها ، وجب كون ذلك الشيء عالما
بنفسه. وذلك هو المطلوب.
الوجه الثاني : إنه لا شك في أن الواحد منا يعلم نفسه ، وقد بينا أن العلم عبارة عن حضور ماهية المعلوم في العالم. فإذا
علمنا أنفسنا ، فإما أن يكون ذلك لأجل أن صورة متساوية أنفسنا ، حضرت عند نفسنا.
أو لأجل أن نفس نفسنا حضرت عند نفسنا ، والأول باطل ، لأنه يلزم اجتماع المثلين ،
ولأنه ليست إحداهما بالمختلفة ، والثانية بالحالة أولى من العكس. ولما بطل هذا
القسم ، ثبت أن علمنا بنفسنا ليس إلا حضور نفسنا عند نفسنا ، وإذا كان كذلك وجب في
كل شيء حضرت نفسه عند نفسه أن يكون عالما بنفسه.
وواجب الوجود كذلك
، فيجب أن يكون عالما بنفسه.
ولقائل أن يقول : الكلام على هذه الحجة
من وجوه : الأول : إن هذا بناء على أن العلم بالشيء عبارة عن حضور ماهيته في ذات العالم ، وقد دللنا
بالبراهين القاطعة على فساد هذا الأصل.
__________________
الثاني : لو سلمنا هذا الأصل. لكنكم
تدعون أن العلم
بالماهية مشروط بحضور هذه الصورة ، أو تدعون أن العلم بالماهية نفس حضور هذه
الصورة؟ فإن ادعيتم الأول فهو مسلم. إلا أنه لا يلزم من حضور شرط الثاني ، حصول ذلك الشيء ، فلم يلزم من حضور شيء لشيء
صيرورة ذلك الشيء عالما به. وإن ادعيتم الثاني فهذا باطل. للوجوه الكثيرة التي
لخصناها في إبطال هذا الكلام.
الثالث هب أن حضور الماهية المجردة عند حضور ماهية أخرى مجردة : في نفس العلم. فلم قلتم : إن ذات الشيء
حاضرة عند نفسه؟ وبيانه : وهو أن حضور شيء عند شيء ، نسبة مخصوصة بينهما ،
وحصول النسبة مشروط بكون أحد المعنيين مغايرا (للآخر) وعند عدم التغاير يستحيل الحكم عليه بكونه حاضرا عند نفسه.
لا يقال : الكلام عليه من ثلاثة أوجه :
الأول : إن حضور الشيء عند الشيء أعم من حضوره عند شيء يغايره ، لكن لا يلزم من نفي الخاص نفي العام ولا يلزم لذلك من كذب قولنا : إن الشيء لم يحضر عند غيره ، كذب قولنا : إن الشيء
لم يحضر عند الشيء.
الثاني : وهو أن كل ذات مشخصة ، فإنها ماهية تشخصت. وتشخص تلك الماهية زائد
على تلك الماهية ، فقد حصل هناك أمور ثلاثة. أحدها : تلك
__________________
الماهية. والثاني
: تلك الشخصية. والثالث المجموع الحاصل من الماهية والشخصية. وإذا ثبت هذا. فقد
حصل التغاير بين المجموع وبين أحد أجزائه ، فلم يبعد أن يقال : إنه حضرت تلك الماهية عند ذلك
الشخص؟.
الثالث : إن كل أحد يعلم بالضرورة صحة قوله : ذاتي كذا وكذا (وذاتك كذا وكذا) . فيضيف ذاته إلى نفسه. وذلك يدل على صحة إضافة الشيء إلى
نفسه ، وإذا صح هذا لم يمتنع أن يقال : إن هذه الذات حضرت عند نفسها. وهذه الوجوه
أقصى ما يمكن أن يقال في تقرير هذا الكلام.
واعلم أن الوجه الأول في غاية الضعف. لأن قولنا حضور الشيء عند الشيء ، أعم من (قولنا) : حضوره عند شيء يغايره. وكذلك كون الشيء محركا للشيء
ومؤثرا في الشيء أعم من كونه محركا لشيء غيره ، ومن كونه مؤثرا في غيره. فإن صح ما
ذكرتم لزم جواز كون الشيء محركا لنفسه ومؤثرا في نفسه ، وعلة لنفسه وإن لم يلزم
صحة هذا ، فكذلك لا يلزم صحة ما ذكرتم.
وأما الوجه الثاني فهو أحسن من الوجه الأول ، لأنه قد حصل التغاير فيه من بعض الوجوه ،
وحصول التغاير بوجه ما ، يكفي في حسن الإضافة ، وفي إمكانها ، ثم تأكد هذا المعقول
بالوجه الثالث ، وهو إطباق الناس على صحة إضافة الذات إلى نفسها ، حيث قالوا :
ذاتي. وذاتك. فهذا تمام الكلام في هذا السؤال.
الوجه الرابع من الوجوه
: هب أنه يصح في العقل كون
الشيء حاضرا عند نفسه ، وثبت أيضا أن حضور الشيء عند نفسه يقتضي حصول
__________________
معنى العالمية ، إلا أنا نقول الشيء الذي حضرت عند شيء آخر حقيقة مخصوصة.
وهذا الذي يقولون إنه حضر عنه نفسه حقيقة أخرى ، ولا يلزم من ثبوت حكم في حقيقة
ثبوت مثل ذلك الحكم في حقيقة مخالفة للحقيقة الأولى ، فهذا هو الكلام على الوجه الأول.
وأما الوجه الثاني. فهو أيضا بناء على أن إدراك الشيء عبارة عن حضور صورة المعلوم
عند العالم. وقد أبطلناه. ثم نقول : لو سلمنا ذلك إلا أنا نقول : هب أن حضور نفسنا
عند نفسنا يوجب كوننا عالمين بنفسنا. فلم قلتم : إن حضور ذات الله تعالى عند ذاته
يوجب كونه عالما بنفسه؟ وذلك محال ذلك لأن نفوسنا مخالفة بالماهية لذاته ، ولا يلزم من حصول
حكم في شيء ، حصول مثل ذلك الحكم فيما يخالفه. والله أعلم.
الأصل الثاني
: سلمنا أنه تعالى عالم بذاته المخصوصة.
فلم قلتم : إنه يلزم أن يكون عالما بسائر الأشياء؟ وقد احتجوا عليه بأنه تعالى علة
لما سواه لذاته. فإذا علم ذات نفسه ، وجب أن يعلم كونها علة لما عداه. وإذا علم
ذلك فقد علم ما عداه. لأن من المحال أن يعلم كونه علة لما عداه. مع أنه لا يعلم ما
عداه. فيثبت أنه يلزم من علمه بذاته المخصوصة علمه بمعلوله القريب ، ثم يلزم من علمه بمعلوله الأول علمه بمعلوله
الثاني. لأن المعلول الثاني معلول أول ، للمعلول الأول. وهكذا يلزم من علمه
بالمعلول الثاني علمه بالمعلول الأول على الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا.
واعلم أن هذا
الاستدلال إنما يتم على مذهب من يقول : إنه تعالى موجب بالذات لوجود هذه الممكنات.
أما من يقول : إنه تعالى فاعل مختار. فإن هذه الحجة لا تتمشى على قوله. ثم نقول :
إنا إذا قلنا إن الألف علة للباء. فإما أن يكون نفس كونه ألفا ، هو نفس كونه علة
للباء. وإما أن يكون
__________________
كونه ألفا مغايرا
لكونه علة للباء ، إلا أنه من لوازمه. والأول باطل. لأنا بالضرورة نعلم التفرقة
بين أن يقال : الألف ألف. وبين أن يقال الألف علة للباء. ولو لا
التغاير لما حصلت هذه التفرقة. وأيضا : فالألف إشارة إلى تلك الذات المخصوصة وكونه
علة لكذا حالة نسبية إضافية والحقيقة المخصوصة التي ليست هي في نفسها نسبة وإضافة
، لا بد وأن تكون مغايرة للنسبة وللإضافة. وأيضا : فإنه يصح العلم بتلك الحقيقة
المخصوصة مع الذهول عن كونها علة للباء ، ويصح أيضا تعقل المفهوم من علة الباء ،
مع الذهول عن تلك الحقيقة المخصوصة. وذلك يوجب التغاير. إذا ثبت هذا فنقول : ثبت
أن كون الألف ألفا مغاير لكونه علة للباء. وإذا كانت هذه (المغايرة حقه) لم يكن علمه بنفسه المخصوصة وذاته المعينة عين العلم بكونه علة للباء. اللهم إلا أن
يقال : إن علمه بذاته يوجب العلم بلوازمه ، إلا أن هذا نفس المطلوب. فإذا جعلناه
مقدمة في إثبات هذا المطلوب ، لزم إثبات الشيء بنفسه ، وأنه باطل. وتمام الكشف أنا
قلنا : الدليل على أنه يلزم من علمه لذاته المخصوصة علمه بمعلوله الأول ؛ هو أنه
لذاته علة لذلك المعلول القريب. فإذا علم ذاته فقد علم كونه علة لذلك المعلول
القريب. ونقول : موضع المغالطة هو هذا الكلام. فإنكم إن أردتم أن ذاته نفس كونه
علة للمعلول القريب. فهذا باطل. وإن سلمتم التغاير. فلم قلتم : إنه يلزم من علمه
بتلك الذات المخصوصة علمه بكونه علة للمعلول القريب؟ وهل النزاع وقع إلا في قولكم
: إن العلم بالشيء يوجب العلم بلوازمه؟ فهذا تمام البحث عن هذه المقدمة.
ثم نقول : الذي يدل على أن هذه المقدمة
ليست حقة وجوه : الأول :
إنا نعلم ماهيات
كثيرة ، وحقائق كثيرة. وكل حقيقة يشير
__________________
العقل إليها ، فإن
لها بالنسبة إلى سائر الحقائق أحوال ثلاثة : إما أن تكون مستلزمة لها ، أو منافية
لها ، أو لا مستلزمة لها ولا منافية. وكونها مستلزمة للأمر الفلاني لازم من لوازم
تلك الماهية ، وكونها منافية لنوع آخر من الماهيات ، لازم آخر من لوازمها ، وكونها
بحيث لا تكون مستلزمة لنوع ثالث ولا منافية له ، نوع ثالث من اللوازم. فلو لزم من
العلم بماهية من الماهيات ، العلم بلوازمها ـ ونحن قد علمنا بعض الماهيات ـ وجب أن
يعلم كونها مستلزمة للنوع الفلاني ، وكونها منافية للنوع الثاني ، وكونها غير
مستلزمة للنوع الثالث ولا منافية له. ومتى علمنا ذلك وجب أن نعلم جميع الماهيات ،
فلو لزم من المعلم بالماهية العلم بلوازمها ، لزم من المعلم بماهية واحدة العلم
بجميع الماهيات التي لا نهاية لها. ولما كان ذلك باطلا فكذلك ما ذكروه يجب أن يكون
باطلا.
والثاني : إنا نعقل ماهية الجسم بالبديهة. ومن لوازم هذه الماهية إما حدوثها أو قدمها ـ على
اختلاف القولين ـ فلو كان العلم بالماهية يوجب العلم بلوازمها لزم من العلم
البديهي بماهية الجسم حصول العلم البديهي بكونه قديما أو محدثا ، ولما كان ذلك
باطلا لزم بطلان ما ذكروه.
الثالث : وهو أن جوهر نفسنا جوهر قائم بنفسه مجرد عن الجسمية وعلائقها.
فعل ما تعين قولكم نفسنا لنفسنا ، فنفسنا عالمة بماهية نفسنا ، وجب أن
يلزم من علمها بنفسها المخصوصة علمها بجميع آثارها ولوازمها ، فكان يجب أن يكون
علم النفس بكونها مجردة عن الجسمية وبكونها واجبة الحدوث وبكونها واجبة البقاء ،
علما بديهيا. وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنه لا يلزم من العلم بالماهية العلم
بجميع لوازمها.
__________________
الرابع : كما أن المعلول من لوازم العلة ، فكذلك العلة أيضا من لوازم المعلول ، فلو
لزم من العلم بالعلة ، العلم بالمعلول وجب أيضا أن يلزم من العلم بالمعلول العلم
بالعلة ، لكنا نعلم ذواتنا المخصوصة وأحوال ذواتنا. ولا نزاع أن ذواتنا وأحوال
ذواتنا ، معلولات للعلل العالية ، فلو لزم من العلم بالشيء العلم بلوازمه ، لزم أن
يلزم من علمنا بذواتنا وأحوال ذواتنا ، علمنا بالعلل العالية على التفصيل التام.
وحيث لم يلزم ذلك ، علمنا : أن العلم بالشيء لا يوجب العلم بلوازمه.
واعلم أنه يمكن
الجواب عن هذا السؤال. فيقال : العلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول. أما العلم
بالمعلول ، فإنه لا يوجب العلم بالعلة. والفرق بين الصورتين : أن العلة المعينة
توجب لعينها وذواتها ذلك المعلول المعين ، فلا جرم صح أن يقال : إنه يلزم من العلم
بتلك العلة المعينة العلم بذلك المعلول المعين. (أما المعلول المعين) فإنه إنما يفتقر لإمكانه إلى العلة. والإمكان لا يحوجه إلى
تلك العلة ، وإلا لزم أن يكون كل ممكن محتاجا إلى تلك العلة المعينة بعينها.
ومعلوم أن الأمر ليس كذلك ، بل الإمكان يحوجه إلى علة ما ، فأما وقوعه بتلك العلة
المعينة ، فإنما كان لأجل أنه لما وجدت تلك العلة ، وأوجبته ، لا
جرم استند ذلك المعلول إليه ، فيثبت أن (ذلك المعلول لا يقتضي الاحتياج إلى هذه
العلة بعينها. وإنما يقتضي الاحتياج إلى مطلق العلة ، فلا جرم لم يلزم من العلم
بالمعلول المعين ، العلم بعلته المعينة. وهذا فرق واضح (معقول) بين الصورتين. وبالله التوفيق
__________________
الطريق الثاني من
الطرق التي ذكرها الشيخ الرئيس (أبو علي سينا)
: قال : دل الدليل على أنه تعالى عالم بغيره ، وإذا كان عالما بغيره ، وجب كونه
عالما بذاته.
أما الأصل الأول : وهو قولنا : إنه عالم بغيره. فالدليل عليه. هو أنه لا يمتنع أن نعلم ذات
الله تعالى مع أي معلوم كان. وقد ثبت بالدليل أن العلم بالشيء لا يحصل إلا عند
انطباع صورة المعلوم في العالم ، فإذا حصل العلم بذات (الله تعالى) مع العلم بغيره ، فقد حضرت هاتان الماهيتان في الذهن معا ،
فحصول المقارنة بين هاتين ، الماهيتين غير ممتنع ، فإما أن تكون صحة هذه المقارنة
مشروطة بكون هذه الصورة (حاضرة) في الذهن (وإما أن لا تكون. والأول باطل ، لأن حضور هذه
الصورة في الذهن) مقارنة لهذه الماهية ، مع الذهن. فلو كانت صحة هذه
المقارنة مشروطة (بكون هذه الصورة) حاضرة في الذهن وقد دللنا على أن حضورها في الذهن مقارنة
بينها وبين الذهن لزم أن تكون صحة هذه المقارنة مشروطة بحصول هذه المقارنة ، لكن بشرط سابق على المشروط فيلزم أن يكون وقوع الشيء
سابقا بالرتبة على إمكان وقوعه ، لكن الإمكان سابق على الوقوع ، فيلزم الدور وهو
محال ، فيثبت بهذا الدليل : أن صحة هذه المقارنة غير مشروطة بكون هذه الصورة (حاضرة)
في الذهن ، وإذا كان الأمر كذلك فسواء حضرت تلك الماهية في الذهن أو في
الخارج ، وجب أن يصح عليها هذه المقارنة ، فكما أن الصورة المعقولة من ذات الله
تعالى كان يجوز أن تقارنها صور
__________________
سائر المعقولات ،
وجب أن يصح على ذات الله حال كونها موجودا في الأعيان أن يقارنها صور سائر
المعقولات ، لكنا قد بينا أنه لا معنى للتعقل والإدراك ، إلا هذه المقارنة ، فلما
دل الدليل على أن هذه المقارنة جائزة على ذات الله تعالى. وجب القطع بأنه يصح على
ذات الله تعالى أن يكون عالما بالأشياء.
إذا ثبت هذا فنقول
: كل ما صح على ذات الله تعالى وجب حصوله له ، لأنه لو صح عليه أمر من الأمور ، مع
أنه لا يجب حصوله . فحينئذ يكون التغير جائزا عليه. وذلك محال ، لأن كل صفة
تفرض فإما أن تكون ذات الله مستقلة باقتضائها ، وإما أن تكون مستقلة بدفعها. وإما
أن لا تكون مستقلة لا بالاقتضاء ولا بالدفع. والأولان يوجبان إما دوام الإيجاب ،
أو دوام السلب. وذلك يمنع من جواز التغير. والثالث يوجب المحال ، لأن تلك الذات لا
تنفك عن ثبوت تلك الصفة وسلبها ، لكن ثبوتها وسلبها لا بد فيها من سبب منفصل عن
الذات. فعلى هذا : الذات موقوفة التحقق (على ثبوت تلك الصفة أو سلبها. وذلك الثبوت
وذلك السلب موقوف (التحقق) على ثبوت شيء منفصل أو سلبه ، والموقوف على الموقوف على
الشيء موقوف على الشيء. فذات واجب الوجود موقوفة في تحققها على الغير ،
والموقوف على الغير ممكن لذاته. فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ممكن الوجود. وهو
محال. فيثبت أن التغير على ذات الله تعالى وصفاته محال ، وإذا كان كذلك فكل ما صح
في حق الله تعالى ، وجب أن يكون حاصلا. وقد ثبت أنه يصح كونه تعالى عالما بالمعلومات
، فوجب أن يكون عالما بها.
فهذا تمام الكلام
في بيان أن الله تعالى يجب أن يكون عالما بما سواه.
والأصل الثاني : أنه إذا ثبت أن الأمر كذلك. فنقول : يجب أيضا أن يكون عالما بذاته ،
لأن كل من علم شيئا فإنه يمكنه أن يعلم كونه عالما به ،
__________________
والعلم بكونه
عالما ، بكذا (حكم على ذاته بكونه عالما بكذا) وكل تصديق فإنه مسبوق بتصور طرفيه ، فالعالم بغيره يمكنه
أن يعلم ذاته ، ومتى ثبت الإمكان فقد نفي الوجوب بالدليل المتقدم ، فيثبت أنه تعالى عالم بكل ما
سواه ، وأنه عالم بذاته المخصوصة. هذا تلخيص هذا الكلام على أحسن الوجوه ، وهو
المراد من قول الشيخ الرئيس في كتاب الإشارات في النمط الثالث في النفس الأرضية : «كل من يعقل شيئا ، فإنه يمكنه أن يعقل بالقوة القريبة
من الفعل إلى آخر هذا الفصل.
ولقائل
أن يقول : الاعتراض على هذا الكلام من وجوه :
السؤال الأول : لا نسلم أنه يمكننا أن نعقل ذات الله فضلا عن أن يقال إنه يمكننا أن
نعقل ذاته مع تعقل سائر الذوات. وتقرير هذا الكلام : هو أن مذهب الحكماء : أن كنه
ذات الله غير معقول للبشر. وإنما المعلوم عند الخلق من الله تعالى الصفات السلبية
والصفات الإضافية. فأما الذات المخصوصة من حيث هي هي فغير معلومة للخلق. وإذا ثبت
أن تلك الذات المخصوصة غير معلومة البتة ، كان القول بأنه يصح العلم بها حال حصول
العلم بغيرها : خطأ .
__________________
السؤال الثاني : سلمنا أنه يصح أن تصير ذات الله تعالى معلومة. فلم قلتم : إنه يصح العلم بها
، مع العلم بغيرها؟ وتقريره : أنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا ، أنا متى وجهنا
الذهن نحو استحضار معلوم فإنه لا يمكننا في ذات الوقت توجيه الذهن نحو استحضار
معلوم آخر. والعلم بذلك (ضروري. ولذلك فإن من كان مشتغل الفكر في مسألة منطقية
فإنه في تلك) اللحظة لا يمكنه توجيه الذهن نحو مسألة هندسية. والعلم
بذلك ضروري. وهذا يدل على أن الجمع بين علمين في الذهن دفعة واحدة محال ، أو نقول
إنه وإن كان ذلك ممكنا في الجملة ، إلا أنه هاهنا غير ممكن ، لأنه ثبت بالاستقرار
: أن القوى الحاسة حال شعورها بالمحسوسات القوية ، لا يمكنها الشعور بالمحسوسات
الضعيفة. فالسراج إذا وضع في مقابلة قرص الشمس لا نحس بذلك السراج ، والبعوضة إذا
طنت عند ظهور الرعد لا نحس بطنين البعوضة ، فكذلك هاهنا ذات الله تعالى أعظم
الموجودات. وعليه فإنه أعلم المعارف ، وعند حضور عرفانه في العقل ، يمتنع حضور
عرفان غيره. فلم قلتم : إن الأمر ليس كذلك؟ فإن قالوا : إنا إذا عرفنا أن هذا
العالم مفتقر في وجوده إلى إيجاد واجب الوجود. فهذا علم بإضافة مخصوصة بين العالم
وبين واجب الوجود ، والعلم بإضافة أمر إلى أمر مشروط بالعلم بالمضامين ، فحال حصول
العلم بهذه الإضافة وجب أن يكون العلم بالعلم ، والعلم بواجب الوجود حاضرا. وذلك
يقتضي جواز حصول العلم بواجب الوجود مع العلم بغيره. فنقول : هذا مغالطة محضة ،
وذلك لأن العلم بكونه واجب الوجود علم بصفة من صفاته ، وليس هذا علما بذاته
المخصوصة ، وإذا كان الأمر كذلك لم يلزم من علمنا بمعنى كونه واجب الوجود ، علمنا
بذاته المخصوصة. فزال هذا السؤال.
السؤال الثالث : هب أنه يصح منا أن نجمع بين العلم بذات الله تعالى
__________________
وبين العلم بكذا
وكذا ، إلا أن هذا الاستقرار إنما يطرد في الأشياء التي جربناها ووجدنا أنه لا يمتنع الجمع بين العلم بالله تعالى وبين العلم بتلك
الأشياء ولا يلزم من صحة هذا الجمع في بعض الصور صحته في جميع الصور (فلعل هاهنا معلومات لا
يمكن الجمع بين العلم بها وبين العلم بالله) اللهم إلا إذا حصلت التجربة في جميع المعلومات التي لا
نهاية لها ، إلا أن دخول ما لا نهاية له في الوجود محال ، فكانت هذه التجربة ممتنعة
، فكان الحكم بصحة المقارنة بين العلم بذات الله تعالى وبين العلم بكل واحد من
المعلومات حكما مبنيا على الاستقرار والتجربة في الصور القليلة.
السؤال الرابع : هب أنا سلمنا صحة هذه المقارنة بين العلم بذات الله تعالى وبين العلم
بكل واحد من المعلومات. لكن لم قلتم : إنه تصح حصول المقارنة بين العلم بالله وبين
مجموع العلوم المتعلقة بالمعلومات فإن الحكم الثابت في حق كل واحد واحد من الأشياء
قد لا يكون ثابتا في حق المجموع؟ ومقصودكم من هذا الدليل حصول المقارنة بين ذات
الله تعالى وبين مجموع صور المعلومات.
السؤال الخامس : هب أن حصول المقارنة بين هذه المعلومات (ممكن. فلم قلتم :
إن حصول المقارنة بين ماهيات هذه العلوم) ممكن؟ وهذا بناء
على أن تعقل الأشياء لا يتم إلا عند ارتسام صور المعلومات في ذات العالم. وقد سبق
الاستقصاء في هذا الباب.
السؤال السادس : سلمنا أن هذه المقارنة ممكنة. فلم لا يجوز أن يقال : إمكان هذا
النوع من المقارنة مشروط بكون هذه الماهيات ذهنية؟ قوله : «إن
__________________
حصول تلك الصورة
في جوهر النفس مقارنة بين تلك الماهية وبين جوهر النفس ، فلو كان إمكان المقارنة
مشروطا بكونها في النفس ، يلزم أن يكون إمكان الشيء مشروطا بحصوله. وذلك محال»
قلنا : هذا محض المغالطة ، وبيان هذه المغالطة مشروط بتقديم مقدمة ، وهي أنا نقول
: إن المقارنة بين الشيئين جنس تحته أنواع ثلاثة. أحدها : مقارنة الحال للمحل.
وثانيها : مقارنة المحل للحال. وهذه المقارنة مخالفة بالماهية للنوع الأول ، بدليل
أن هذا النوع (يحصل للمحل ويمتنع حصوله للحال. والنوع الأول على الضد من ذلك.
وثالثها : مقارنة الحالين في محل واحد. وهذا النوع) مخالف بالماهية للنوعين الأولين. وإذا ثبت كون هذه الأقسام
الثلاثة أنواعا مختلفة بالماهية لم يلزم من ثبوت حكم لنوع واحد منها ثبوته لسائر
الأنواع.
إذا ثبت هذا فنقول
: إذا حصلت المقارنة بين العلم بالله تعالى وبين العلم بشيء آخر. فهذه المقارنة
عبارة عن مقارنة الحالين في محل واحد. وأما حصول المقارنة بين الصور النفسانية
وبين جوهر النفس فهذه المقارنة عبارة عن مقارنة الحال للمحل. وهذا النوع مغاير
بالماهية للنوع الأول ، وأما كون الذات الموجودة خارج الأعيان بحيث تقارنها الصور
العقلية. فهذه المقارنة عبارة عن مقارنة المحل للحال. وإذا ثبت هذا فنقول : لما
حصلت المقارنة بين العلم بالله وبين العلم بسائر الأشياء ، فقد حصلت المقارنة بين
هذه الصور الذهنية بحيث تكون هذه المقارنة عبارة عن مقارنة الحالين في محل واحد (وإن
هذا النوع من المقارنة مشروط بكون تلك الأشياء حالة في محل واحد ويصير) حاصل الكلام : أن إمكان النوع الأول من المقارنة مشروط
بحصول النوع الثاني من المقارنة (وعلى هذا التقدير فلا يلزم أن يكون إمكان الشيء) موقوفا على حصوله (يلزم أن يكون إمكان نوع معين من
المقارنة موقوفا على حصول)
__________________
نوع آخر من
المقارنة وذلك مما لا امتناع فيه البتة.
ثم نقول : حاصل
هذا الكلام يرجع إلى أن الصورة الذهنية مساوية للموجود الخارجي في تمام الماهية ،
فلما صحت المقارنة عليها حال كونها ذهنية ، وجب أن تصح هذه المقارنة عليها حال
كونها خارجية ، وهذا غلط. لأن مقارنة بعضها مع البعض : مقارنة الحالين في المحل
الواحد ، ومقارنتها مع جوهر النفس مقارنة للحال في المحل. وبتقدير أن يوجد شيء
منها في الأعيان ومقارنتها بسائر الصور ، فذلك مقارنة المحل للحال. وهذه الأنواع
الثلاثة من المقارنة مختلفة في الماهية ، ولا يلزم من جواز أحد هذه الأنواع على ماهية
جواز سائر الأنواع عليها ، لما ثبت أن الماهيات المختلفة لا يجب تساويها في الأحكام ، فيثبت أن هذا الكلام مغالطة محضة .
السؤال السابع : نقول : إن دل ما ذكرتم على أن كل ما صح على الماهية حال كونها ذهنية ، وجب
أن يصح عليها ، حال كونها خارجية ، إلا أن هاهنا دلائل تمنع من ذلك. وهي من وجوه :
الأول : إن الماهية حال كونها ذهنية عرض محتاج إلى المحل ، وحال كونها موجودة في الخارج
جوهر قائم بالنفس. والعرض يستحيل أن ينقلب جوهرا. وبالضد. وذلك يدل على أنه ليس كل
ما صح على أحدهما ، فإن يصح على الثاني.
والوجه الثاني : إن هذا الكلام إنما يتم ، إذا قلنا : إذا عرفنا الله تعالى ، فإن
الصورة العقلية في ذهننا ، مساوية في تمام الماهية ، لذات واجب
الوجود لذاته. وهذا يقتضي أن تكون ماهية واجب الوجود لذاته ، نوعا تحته أشخاص.
وذلك باطل بالاتفاق.
والوجه الثالث : إنا إذا أدركنا ماهية السماء فلو ، كان هذا الإدراك
__________________
والشعور صورة
مساوية لماهية السماء على سبيل التمام والكمال ، لزم كون هذه الصورة الذهنية :
سماء ، ومعلوم بالضرورة : أن هذا باطل. لأن هذه الصورة الذهنية عرض لا يحس ولا
يلمس.
والسماء جسم عظيم
موصوف بالصفات المعلومة ، وكون هذه الصورة الذهنية مخالفة لجوهر السماء في الماهية
أمر معلوم بالضرورة.
الوجه الرابع : إن حاصل كلامكم هو أنه إذا كانت الصورة العقلية من ذات الله تعالى لا يمتنع
عليها مقارنة سائر الصور (وجب أن لا يمتنع على ذات الله مقارنة سائر الصور) لأن حكم الشيء يجب أن يكون مساويا لحكم مثله. فنقول : فعلى
هذا لما صح في تلك الصورة العقلية ، أن يكون محتاجا إلى ذلك المحل ، (وجب أن يصح
على ذات الله تعالى ، مقارنة سائر الصور ، لأن حكم الشيء يجب أن يكون مساويا لحكم
مثله. فنقول : فعلى هذا لما صح في تلك الصورة العقلية أن تكون محتاجة إلى ذلك
المحل ، وجب أن يصح على ذات الله تعالى أن تكون محتاجة إلى ذلك المحل) وأن يكون حالا فيه. وإذا لم يلزم من التماثل المذكور هذا ،
فكذلك لا يلزم ما ذكرتم.
الوجه الخامس : إنه لما كانت الصور
الذهنية مساوية في تمام
الماهية للذوات الخارجية ، وثبت أن كل ما صح على الشيء ، صح على مثله ، فلما كانت
هذه الذوات الخارجية يصح عليها أن تكون عالمة بالأشياء وجب أن يصح على هذه الصورة
الذهنية حال كونها ذهنية أن تكون عالمة بالأشياء ، ولما لم يلزم ذلك من التماثل
المذكور ، فكذلك لا يلزم ما ذكروه. والله أعلم.
السؤال الثامن : سلمنا أن الذات عند كونها موجودة في خارج الذهن ، يصح عليها أن تقارنها
سائر الصور. لكن لم قلتم : إنه يلزم من هذا القدر صحة كون تلك الذات عالمة؟ وبيانه
: أنه لو كان العلم نفس هذه
__________________
المقارنة ، لكان
ما ذكرتم لازما ، إلا أنا بينا أن بتقدير صحة القول بالصور الذهنية ، فإن الحق أنه
ليس العلم عبارة عن نفس تلك الصور الذهنية ، بل عن نسبة مخصوصة مشروطة بحصول تلك
الصور الذهنية. وإذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من حصول هذه الصور ، حصول العلم.
لاحتمال أنه حصول النسبة المسماة بالعلم ، وكما أنه مشروط بحضور الصورة الذهنية ،
فكذلك مشروط بشرائط أخرى ، وتلك الشرائط الأخرى مفقودة هاهنا. ففات الحكم بفوات
تلك الشرائط.
السؤال التاسع : هب أنه ثبت أنه يصح على ذات الله تعالى كونه عالما بالأشياء. إلا أن الحكم
لا يكفي في حصول كون القائل قائلا ، بل لا بد معه من حصول المقتضى. فهذه الحالة ،
وإن كانت ممكنة بالنظر إلى القائل إلا أنه لم يوجد المقتضي لذلك ، فيبقى على
الامتناع لفوات المقتضى ، لا لعدم القائلية. وبيان فوات المقتضى : (أن المقتضى) لحصول تلك القائلية ، إما تلك الذات المخصوصة أو غيرها ، فإذا لم تكن تلك الذات المخصوصة
مقتضية لهذا الأثر ولم يكن غيرها صالحا لهذا الاقتضاء ، فحينئذ قد فات المقتضى ،
ففات الأثر لفقدان المقتضى ، وإن كانت القائلية حاصلة.
السؤال العاشر : سلمنا أنه تعالى عالم بغيره. فلم قلتم : إنه يجب أن يكون عالما بذاته؟ قوله : «لأن
كل من علم شيئا أمكنه أن يعلم كونه عالما بذلك الشيء. وذلك الشيء. يوجب كونه عالما
بذاته لأن كل تصديق فإنه مسبوق بتصور الطرفين».
قلنا
: السؤال عليه من وجهين :
الأول : إن هذا مشكل بم أنه يمكننا أن نحكم على هذا الشخص بأنه إنسان ، وليس
بفرس؟
__________________
فقولنا : هذا الشخص
إنسان قضية. موضوعها : قولنا
هذا الشخص ومحمولها : قولنا إنسان. والأول شخصي ، والثاني كلّي ، فلو كان الحاكم
على شيء بشيء يجب كونه متصورا لهما ، لزم وجود قوة واحدة تكون مدركة للشخص وللمعنى
الكلي. وهذا عند الشيخ محال ، لأن مدرك الأشخاص يجب أن يكون جسمانيا ، ومدرك
الكليات يجب أن يكون مجردا عند الشيخ.
الثاني : إن من علم شيئا لو وجب أن يعلم كونه عالما بكونه عالما. لزم في المرتبة الثالثة
أن يعلم كونه عالما (بكونه عالما به) وإذا كان كل ما يصح في حق واجب الوجود لذاته يجب أن يكون
حاصلا بالفعل ، لزم أن تكون هذه المراتب التي لا نهاية لها ، حاصلة بالفعل في حق
واجب الوجود ، بحسب علمه بكل واحد من الأشياء ، فيلزم منه حصول علوم لا نهاية لها
، لا مرة واحدة ، بل مرارا لا نهاية لها (ويلزم منه أيضا حصول علل ومعلولات لا
نهاية لها) في تلك العلوم دفعة واحدة. وأنه محال. فهذا تمام السؤال
على هذه الطريقة. وبالله التوفيق.
الطريق
الثالث من الوجوه التي تمسك الشيخ بها في إثبات كونه تعالى عالما بالمعلومات:
أنه قال في كتاب «المبدأ
والمعاد» : «إن جوهر النفس قبل حصول الصورة المجردة فيه يكون عاقلا بالقوة ، فإذا
حصلت الصورة المجردة فيه ، صارت النفس بسببها عاقلة بالفعل. (فلما صار جوهر النفس
بسبب حلول هذه الصورة فيه) عاقلا بالقوة ، فلو قدرنا هذه الصورة جوهرا قائما بالنفس
كان أولى أن تكون عاقلة بالفعل ، كما أن الحرارة لما حلت في جوهر النار ، صار جوهر
النار بسبب حلول تلك السخونة فيها مسخنا. فلو فرضنا نفس تلك الحرارة قائمة بنفسها
، وجب أن تكون أولى بكونها مسخنة».
__________________
فهذا حاصل هذه
الطريقة إلا أنه طول في تقسيمات هذا الدليل في كتاب المبدأ والمعاد. وهذا الدليل
كما نراه مأخوذ من باب الأولى والأخلق ، وأنه لا يفيد إلا الظن الضعيف. فهذا تمام
كلمات الناس في إثبات كونه تعالى عالما. وبالله التوفيق
ومن الناس من ذكر
في إثبات كونه تعالى عالما وجوها أخرى [نذكر منها] :
الأول : إن الباري تعالى أكمل الموجودات ، وصفة العلم صفة كمال وعدمه نقص
فوجب الجزم بكونه تعالى موصوفا بهذه الصفة. وبهذا الطريق تبين كونه تعالى عالما
بجميع المعلومات ، تنزيها له عن الجهل.
والوجه الثاني : وهو أن الواحد منّا عالم. فهذا العلم إنما حدث من الله تعالى ،
إما بواسطة أو بغير واسطة. وكل كمال حصل للمعلول فإن ثبوته للعلة أولى ، فوجب
الحكم بكونه تعالى عالما بجميع المعلومات. والله أعلم.
__________________
الفصل الخامس
فى
المسائل المقرعة على إثبات كونه تعالى عالما
فالمسألة الأولى : من الناس من قال : إن كونه تعالى عالما بنفسه. واحتج عليه بأن قال :
علم الشيء بالشيء نسبة مخصوصة بين العالم وبين المعلوم ، وحصول النسبة مشروط بحصول
التغاير ، فالشيء الواحد ، بالاعتبار الواحد ، يمتنع حصول النسبة فيه ، فيمتنع
كونه عالما بنفسه. قالوا : وليس لأحد أن يجيب عن هذا من وجوه :
الأول : إن هذا يبطل بعلم كل واحد منا بنفسه. والثاني : إن اعتبار كونه عالما
مغايرا لاعتبار كونه معلوما ، وهذا القدر من التغاير يكفي في صحته حصول هذه
النسبة.
لأنا نجيب عن الأول فنقول : إن نفس الواحد منا ، ليست فردة منزهة عن جميع جهات التركيب ،
بل لا بد وأن يحصل فيها جهة من جهات التركيب ، بل لا بد وأن يحصل فيها جهة من جهات
التركب والتألف ، فلا جرم أمكن حصر الإضافة والنسبة فيها من بعض الوجوه ، فلا جرم
صح كونه عالما بنفسه أما ذات الحق ـ سبحانه ـ ف إنها منزهة عن جميع جهات التركيب
فردة من كل الوجوه ، فيمتنع حصول النسب والإضافات فيها ، فوجب أن يمتنع فيه كونه
عالما بذاته.
وأما الإجابة عن
السؤال الثاني : فنقول : العلم نسبة مخصوصة ، وحصول النسب مشروط بحصول المغايرة ، فلو كانت تلك المغايرة (هي
المغايرة) الحاصلة بين المفهوم من كونه عالما ، وبين المفهوم من كونه
معلومات ، فحينئذ تكون المغايرة الحاصلة بهذا الاعتبار متقدمة بالرتبة على حصول
العلم ، لكن حصول العلم لتلك الذات متقدم بالرتبة على صيرورتها ، عالمة ومعلومة ،
فيلزم وقوع الدور ، وهو محال. فهذا تمام الكلام في تقرير هذه الشبهة ونقول :
الدليل على كونه تعالى عالما بذاته المخصوصة وجهان :
الأول : ما ذكرناه في الطريق الأول أنه جوهر مجرد غني عن المادة ، وكل ما كان كذلك فإن ذاته حاضرة لذاته ، وكل
ما كان كذلك فإنه يكون عالما بذاته. وتمام الكلام في تقرير هذا المعنى قد سبق.
الوجه الثاني : أن كل من علم علم شيئا فإنه يمكنه أن يعلم كونه عالما به وذلك مشروط بكونه عالما بنفسه على ما بيناه.
وأما الشبهة التي
ذكروها. فالجواب عنها : أنا بينا أن ذات الله تعالى ذات معينة ، وكل ما كان كذلك
فهناك ماهية ، وهناك تعيين. وهناك مجموع تلك الماهية مع ذلك التعيين، فقد حصلت
المغايرة من هذا الوجه ، وهي كافية في إمكان حصول النسب والإضافات لتلك الذات.
المسألة الثانية : اعلم أن كل ذات عقلت
نفسها ، فتلك الذات عاقلة وهي بعينها أيضا معقولة ، فعقلها بنفسها لنفسها. هل هو
عين نفسها أم لا؟ قال الشيخ الرئيس
: إنه تعالى عقل وعاقل ومعقول ، والكل شيء واحد. وذلك لأنه ذات مجردة ، فبما أنه
ماهية مجردة ، فهو عقل ، وبما أنه حصل لماهية فهو معقول ، وبما أنه حصلت له ماهية
فهو عاقل. فالعقل والعاقل والمعقول
__________________
واحد
ولقائل يقول : السؤال عليه من وجوه :
الأول : إن لفظ العقل والعاقل والمعقول إما أن تكون ألفاظا مترادفة أو متباينة.
فإن كان الأول لم يكن في ذكرها فائدة معنوية ، وإن كان الثاني فهي إما أن تكون
مفهومات سلبية أو ثبوتية. والأول باطل لأنا دللنا على أن معنى الشعور والإدراك ليس
مفهوما سلبيا ، فبقي الثاني ، ولا شك أنها ليست مفهومات متباينة بل هي صفات لهذه الذات ، وحينئذ يبطل قوله : إن هذه الألفاظ الثلاثة لا تفيد كثرة
في المعنى.
الوجه الثاني : وهو أنا قد دللنا على أن معنى الشعور والإدراك معنى نسبي إضافي ،
فيمتنع كونه عين تلك الذات المخصوصة.
الوجه الثالث : إن العقل يتفرع على حصول التعقل ، وكونه معقولا لنفسه ، يتفرع على كونه
عاقلا لنفسه ، فهذه المفهومات الثلاثة يتفرع بعضها على البعض ، فيمتنع كونها
مفهوما واحدا. والله أعلم.
المسألة الثالثة : في تقرير دلالة المتكلمين في كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.
قالوا : إنه تعالى
يصح أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات التي لا نهاية لها ، والموجب لكونه تعالى
عالما هو ذاته المخصوصة ، ومتى كانت الصحة حاصلة في الكل ، وكان الموجب هو ذاته
المخصوصة وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات.
وهذه مقدمات ثلاثة لا بد من تقريرها.
__________________
المقدمة الأولى : قوله إنه تعالى يصح أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات. فالدليل
عليه : أنه ثبت أنه تعالى عالم قادر ، وكل من كان عالما قادرا ، فإنه يجب أن يكون
حيا ، وكل من كان حيا ، فإنه لا يمتنع عليه أن يكون عالما بكل واحد من المعلومات ،
والعلم به بديهي ، ينتج أنه تعالى لا يمتنع كونه عالما بكل واحد من المعلومات.
وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا :
المقتضى لتلك العالمية
ليس إلا ذاته المخصوصة ، والدليل عليه : هو أنا قد بينا : أن كون الشيء عالما
بالشيء نسبة مخصوصة بين العالم وبين المعلوم (والنسب لا يمكن أن تكون أمورا قائمة
بأنفسها ، والعلم به ضروري. فلا بد وأن تكون صفات لغيرها) فالعالمية صفة مفتقرة إلى الغير [والمفتقر إلى الغير ] ، ممكن لذاته والممكن لذاته ، لا بد له من سبب. فعالمية
الله تعالى لا بد لها من سبب. وذلك السبب إما أن تكون تلك الذات المخصوصة سواء كان
بواسطة أو بغير واسطة ، وإما أن تكون غير تلك الذات ، والقسم الثاني باطل. وإلا
لزم أن يفتقر في حصول صفة العالمية له تعالى إلى سبب منفصل ، وهو محال ، فبقي
الأول فيثبت أن المقتضى لكونه تعالى عالما ، ليس إلا ذاته المخصوصة.
وأما المقدمة الثالثة : إنه لما ثبت أنه تعالى يصح أن يكون عالما بكل واحد من
المعلومات ، وثبت أن المقتضى لحصول تلك العالمية هو ذاته المخصوصة وجب الحكم بكونه
تعالى عالما بجميع المعلومات. والدليل عليه : أن جميع العالميات صحيحة ، على تلك
الذات. والذات موجبة ببعضها ، ونسبة تلك الذات إليها بأسرها على السوية ، فلم يكن
كونها مقتضية لبعض تلك العالميات ، أولى من كونها مقتضية للبواقي. وقد ثبت أن تلك
الذات مقتضية لحصول بعض تلك العالميات ، فوجب أن تكون مقتضية لحصول كلها ، لأن
الرجحان حال حصول الاستواء غير معقول ، فيثبت أنه يجب كونه تعالى عالما
__________________
بجميع المعلومات
التي لا نهاية لها. وهذا تمام تقرير هذا الدليل.
ولقائل
أن يقول : السؤال عليه من وجوه :
الأول : لا نسلّم أنه يصح كونه تعالى عالما ، بكل واحد من المعلومات
قوله : «إنه قادر عالم ، وكل قادر عالم فإنه حي ، وكل حي ، فإنه يصح أن يعلم كل
واحد واحد من المعلومات» قلنا : هذا مغالطة. لأن معنى الحي : أنه الذي يصح أن يعلم
ويقدر. فقوله : كل قادر عالم فإنه حيّ ـ معناه : أن كل قادر عالم ، فإنه لا يمتنع
أن يكون موصوفا بتلك القدرة ، وبذلك العلم. فلم قلتم : إن كل من لا يمتنع أن يكون
موصوفا بالقدرة المخصوصة وبالعلم المخصوص ، فإنه لا يمتنع أن يكون موصوفا بسائر
العلوم؟ فإن كان قولنا : إن كل من علم شيئا أمكنه أن يعلم سائر المعلومات. مقدمة
بديهية ، فاتركوا هذا الدليل ، واكتفوا بدعوى البديهة. وإن كانت مقدمة نظرية ، فلا
بد في تقريرها من الدليل. وما ذكرتموه وإن كان يوهم أنه دليل إلا أن البحث الذي
ذكرناه ظهر أنه إعادة تلك المقدمة بعبارة أخرى.
والسؤال الثاني : هب سلمنا أن تلك الذات المخصوصة لا يمتنع عليها كونها عالمة
بسائر المعلومات. فلم قلتم : إن يجب كونها عالمة بسائر المعلومات؟ قوله : تلك الذات
المخصوصة هي الموجبة لتلك العالمية (ونسبة تلك الذات الموجبة لتلك العالمية) إلى سائر العلوم (على التسوية) قلنا : هذا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال : تلك الذات
المخصوصة توجب لذاتها بعض العالميات دون بعض؟ وقوله : «ليس كونها موجبة لبعض تلك
العالميات أولى من كونها موجبة لسائرها » كلام ضعيف. لأنا نقول : ندعي أنه ليس بعضها أولى من البعض في نفس الأمر ، أو تدعي عدم
هذه الأولوية في عقولنا وأذهاننا؟
__________________
والأول ممنوع.
وذلك لأن العلم بهذا المعلوم يخالف العلم بذلك المعلوم الثاني ، ولا يلزم من كون
الذات موجبة لشيء كونها (موجبة) لما يخالف ذلك الشيء. لأن الحقائق المختلفة لا يحب
استواؤها في الأحكام والآثار.
والثاني : وهو عدم الأولوية في أذهاننا وأفكارنا ، مسلم. إلا أن هذا لا يفيد. إلا أن العقل يتوقف في هذا الحكم ، ولا يجزم فيه (بشيء
البتة : فأما أن يجزم فيه) لعدم التفاوت فهو باطل. ألا ترى أن المتكلمين يقولون : إن
العلم صفة متعلقة بالمعلوم؟ ثم زعموا : أن العلم بكل معلوم ماهية مخالفة لماهية
العلم المتعلق بالمعلوم الآخر. فذلك العلم الخصوص ماهية مخصوصة تقتضي لماهيتها
المخصوصة التعلق بذلك المعلوم المعين دون سائر ما سواه. وإذا عقل هذا في العلم فلم لا يجوز أيضا أن يقال
: تلك الذات المخصوصة يوجب لذاتها التعلق ببعض المعلومات دون البعض؟ فهذا جملة
الكلام في هذا الباب. والله أعلم.
والأولى في هذا
الباب. أن نقول : لا شك أنه تعالى أكمل الموجودات والجهل بأي معلوم كان ، صفة نقص
: وصريح العقل يقضي بوجوب تنزيه الله عن النقص. فوجب الحكم بكونه تعالى عالما
بجميع المعلومات. وأيضا : فهذا القول أقرب إلى الاحتياط ، فوجب المصير إليه.
واعلم : أن هذا المخالف له مقامان : إحداهما : أنه تنازع في أصل العالمية. والثاني
: الذين ينازعون في كونه تعالى عالما بجميع المعلومات.
أما المقام الأول
فقد ذكروا فيه وجوها من الشبهات.
الشبهة الأولى : قالوا : لو كان عالما بشيء لكان كونه عالما ، إما أن
__________________
يكون عين ذاته ، وإما
أن يكون غير ذاته ، والقسمان باطلان فبطل الملزوم ، أما الحصر فظاهر.
وأما أنه يمتنع أن يكون علمه بالمعلومات
عين ذاته فلوجوه :
الأول : إنا نعلم بالضرورة أن قولنا :
واجب الوجود فإنه لا يفيد شيئا. وقولنا : واجب الوجود عالم يفيد معنى منظوما ، ولو لا التغاير لما حصل الفرق.
الثاني : إن نقيض قولنا : إنه واجب الوجود لذاته هو أنه ليس واجب الوجود. ونقيض قولنا : إنه عالم هو أنه
ليس بعالم. ومعلوم بالضرورة ، أن قولنا : إنه عالم لا يناقضه قولنا إنه ليس واجب
الوجود. وقولنا : إنه واجب الوجود لا يناقضه قولنا : إنه ليس بعالم ، ولو لا أن
المفهوم من قولنا : إنه عالم ليس نفس المفهوم من قولنا : إنه واجب الوجود لذاته.
لما صحت هذه الأحكام.
والثالث : إنا إذا قلنا : واجب الوجود عالم. فهذه قضية مفهومة ، قابلة للتصديق
والتكذيب في الشك والشبهة. وكل قضية يكون محمولها غير موضوعها ، فإنها لا تكون
كذلك.
والرابع : وهو أنه يمكننا تعقل كونه واجب الوجود لذاته مع الشك في كونه (عالما
، ويمكننا تعقل كونه عالما مع الشك في كونه) واجب الوجود لذاته. وذلك يوجب التغاير فإن المعلوم مغاير
لما ليس بمعلوم.
والخامس : أنا بينا أن العلم عبارة عن التعلق المخصوص وعن النسبة المخصوصة ، وذاته تعالى ذات
قائمة بنفسها ، ومن المعلوم بالضرورة أن الذات
__________________
القائمة بنفسها
مغايرة للنسبة المخصوصة ، فيثبت بهذه الوجوه أنه يمتنع أن يكون علمه عين ذاته .
وأما بيان أنه
يمتنع أن يكون علمه غير ذاته. فالدليل عليه : أن ذلك العلم إما أن يكون موجودا
قائما بنفسه ، وإما أن يكون صفة قائمة بذاته ، والأول باطل ، لأن كونه عالما (بالمعلوم
صفة له ، وصفة الشيء يمتنع كونه قائما بذاته ، فيثبت أن كونه عالما) بالأشياء صفة مفتقرة إلى ذاته ، والصفة المفتقرة إلى الذات
تكون ممكنة بنفسها ، وكل ممكن فلا بد له من مؤثر ، وذلك المؤثر ليس إلا تلك الذات.
إلا أن هذا باطل من وجوه :
الأول : إن ذاته مؤثرة في وجود العالم ، فلو كانت مؤثرة في حصول ذلك
العلم ، لكان قد صدر عن الواحد أكثر من الواحد ، وهو محال.
والثاني : إن الموصوف بذلك العلم ، هو
تلك الذات ، فلو كان المؤثر فيه أيضا نفس تلك الذات لزم كون الشيء الواحد بالنسبة
إلى الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا (٣) ، وهو محال.
والثالث : إن افتقار الأثر إلى المؤثر ، يمتنع أن يحصل حال (بقاء الأثر ، وإلا لزم
تكوين الكائن ، وتحصيل الحاصل ، وهو محال. فوجب أن يكون افتقاره إليه حال) العدم أو حال الحدوث. وعلى التقديرين ، فكل ما يكون مفتقرا
إلى المؤثر ، فإنه محدث. فوجب فيما لا يكون محدثا أن لا يكون مفتقرا إلى المؤثر ،
وعالمية الله قديمة ، فامتنع افتقارها إلى المؤثر.
الشبهة الثانية : أن يقال : العلم إما أن يكون صفة كمال ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول فيلزم
أن يقال : إن ذاته ناقصة بذاتها ، مستكملة بتلك
__________________
الصفة المغايرة ،
والناقص يمتنع كونه إلها ، وإن كان الثاني وجب تنزيه الله تعالى عنه ، لأن ما لا
يكون صفة كمال ، امتنع الحكم بكونه تعالى موصوفا به.
الشبهة الثالثة : إنا قد ذكرنا أن العلم نسبة مخصوصة (وإضافة مخصوصة) وحصول النسبة والإضافة مشروط بحصول المضافين ، مثلا : أبو
زيد لعمرو ، لا يمكن حصولها إلا بعد حصول ذات زيد وعمرو ، ولما كانت المعرفة
والعلم نسبة مخصوصة وجب أن يكون حصولها موقوفا على حصول المضامين. إذا ثبت هذا
فنقول : ذات الباري تعالى لا تكون كافية في حصول الصفة المسماة بالعلم ، لأنا بينا
: أن العلم نسبة ، وحصول النسبة لا يستقل به شيء واحد البتة ، فإذا ذات الباري
يمتنع خلوه عن العلم ـ والعلم موقوف على المضاف الثاني ـ لزم (أن تكون ذات الله
تعالى موقوف التحقق على اعتبار غيره ، والموقوف على الغير ممكن لذاته فيلزم) أن يكون واجب الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وهو محال.
الشبهة الرابعة : قالوا : العلم عند الفلاسفة عبارة عن صورة مطابقة للمعلوم وعند المتكلمين
عبارة عن نسبة مخصوصة تحصل بين العلم وبين المعلوم. وعلى كل التقديرات ، فإنه يجب
أن يكون العلم (بكل) معلوم مغاير للعلم بالمعلوم ، الآخر.
أما على قول الفلاسفة فلأن كل شيء فإنه مخالف للشيء الآخر ، إما بحسب (أصل) ماهيته وإما بحسب تعينه ، فالصورة المطابقة لأحدهما لا بد
، وأن تكون مخالفة للصورة المطابقة للأخرى.
وأما على قول المتكلمين : فلأن الانتساب إلى هذا يصح تعقله حال الذهول عن الانتساب إلى غيره ،
والمعلوم مغاير لغير المعلوم ، فيثبت أن (على
__________________
القول المنقول عن
الفلاسفة) وعلى القول المنقول عن المتكلمين يجب أن يكون العلم بكل
معلوم مغايرا للعلم بالمعلوم الآخر.
إذا ثبت هذا فنقول
: لو كان الباري تعالى عالما بمعلومات لا نهاية لها ، لزم أن يحصل في ذاته صفات لا
نهاية لها ، (وأحوال لا نهاية لها) وذلك محال لوجهين :
الأول : إن كل كثرة حاصلة (بها. فإنها تقبل الزيادة والنقصان. وكل ما يقبل الزيادة والنقصان ،
فإنه متناهي ينتج : أن كل كثرة حاصلة فإنها تكون متناهية. ويلزم : أن ما لا يكون متناهيا ، فإنه
ممتنع الحصول.
والثاني : إن إله العالم إذا كان مركبا من الكثرة ، لزم كونه ممكن الوجود لذاته ، وذلك لأن
كل مركب من الأجزاء (فإنه يفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وجزء الشيء غيره ، فكل
مركب فهو) مفتقر إلى غيره فهو ممكن لذاته (فيلزم أن يكون إله العالم
ممكن الوجود لذاته ، وما كان ممكن الوجود لذاته) وجب افتقاره إلى مؤثر آخر فيلزم افتقار الإله إلى إله آخر
، وهو محال.
ولا يقال : هذه
الكثرة واقعة في العلوم ، والعلوم صفات ، فالكثرة واقعة في الصفات (فلم لا يجوز أن
يقال : إن ذاته منزهة عن الكثرة وهي موجبة لهذه الصفات) ؟ لأننا نقول : الإله إما أن يكون عبارة عن مجموع الذات مع
الصفات ، أو هو عبارة عن الذات فقط ، والصفات خارجة عن مسمى الإله. فإن كان الأول
فحينئذ يلزم أن يكون مسمى الإله ممكنا محتاجا.
__________________
وإن كان الثاني
فحينئذ إله العالم ليس إلا تلك الذات المجردة عن الصفات ، فهذه الصفات تكون زائدة
على الإله مغايرة لها فوجب نفيها.
والجواب عن الشبهة الأولى : إنها بناء
على أن الواحد لا
يصدر عنه إلا الواحد ، وعلى أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا معا. وعلى أن
علة الحاجة إلى المؤثر ، إما الحدوث وإما الإمكان ، بشرط الحدوث. وهذه الأصول
الثلاثة قد سبق القدح فيها على الاستقصاء ، فلا فائدة في الإعادة.
والجواب عن الشبهة الثانية : أن نقول :
ذاته المخصوصة من حيث
هي هي كاملة لعينها ولذاتها ، ومن لوازم ذلك الكمال إيجابها لصفة العلم وعلى هذا التقدير فالشبهة زائلة.
والجواب عن الشبهة الثالثة : إنه إن لزم نفي العلم لكون العلم نسبة موقوفة على حصول المضاف
الثاني ، لزم كونه مؤثرا في وجود العالم ، لأن المؤثر أيضا من باب النسب
والإضافات.
والجواب عن الشبهة الرابعة : إن أبعد
الأشياء عن طبائع الكثرة
: الوحدة ، ثم إنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة ، وهلم جرا ، إلى
ما لا نهاية له من النسب. فيثبت : أن كثرة الإضافات والنسب لا يقدح في حصول الوحدة
الذاتية. فهذا تمام الكلام في هذا الباب والله أعلم.
__________________
الفصل السادس
في
البحث عن كونه تعالى عالما بالجزئيات
من الناس من يحكي
عن الفلاسفة أنهم يقولون : إنه تعالى غير عالم بالجزئيات. وهذه الحكاية فيها نظر.
وذلك لأن ذاته المخصوصة ذات معينة ، وهو عالم بتلك الذات المعينة. ولا معنى للجزئي
إلا ذلك ، فيكون عالما بالجزئي وأيضا : إنه لذاته علة العقل الأول ، والظاهر من
مذهبهم أنهم يعترفون بكونه تعالى عالما به من حيث أنه هو ، بل الصحيح أن يقال :
إنهم ينكرون كونه تعالى عالما بالمتغيرات من حيث إنها متغيرة وينكرون كونه تعالى
عالما بالجسمانيات بحسب مقاديرها المعينة المخصوصة.
واحتجوا على إثبات مذهبهم بوجوه :
الحجة
الأولى : قالوا : لو فرضنا كونه عالما بأن زيدا جالس في هذا المكان ، فإذا قام زيد من ذلك المكان فعلمه بكونه جالسا ، إن بقي كان ذلك جهلا ، والجهل على
الله تعالى محال. وإن لم يبق كان ذلك تغيرا ، والتغير على الله محال. فهذا هو
الحرف الذي عليه تعويل القوم.
واعلم أن
المتكلمين صاروا فريقين عند هذه الشبهة. فمنهم من يقول :
__________________
العلم الأول باقي.
ومنهم من التزم التغير. وقال : العلم الأول غير باقي أما الفريق الأول. فقالوا :
إن العلم بأن الشيء سيحدث هو نفس العلم بحدوثه إذا حدث ؛ فالعلم باقي والتغير واقع
في المعلوم.
واحتجوا على صحة قولهم بوجوه :
الأول : إنه تعالى يعلم بالعلم الواحد جميع المعلومات. فلما لم يلزم من تكثر تلك المعلومات تكثر
العلم. وجب أن لا يلزم أيضا من تغير المعلومات تغير العلم.
والثاني : إن العلم صفة ينكشف بها المعلومات كما هي. ونذكر لهذا المعنى مثالا. فنقول :
إنا إذا فرضنا مرآة منصوبة على الجدار ، فكل من مرّ بتلك المرآة انكشفت صورته
فيها. فعند مرور الناس على تلك المرآة لا يزال ينكشف فيها صورة بعد صورة إلا أن المرآة لم تتغير عن حالها. بل التغير إنما وقع في
الناس الذين يمرون عليها إذا عرفت هذا فنقول : العلم صفة متهيئة لإدراك ما يعرض
عليها ، فتلك الصفة باقية بحالها ، والتغير واقع في المعلومات .
الوجه الثالث : قالوا : إذا فرضنا أن إنسانا اعتقد أن زيدا يدخل الدار غدا ، وفرضنا ذلك
الاعتقاد إلى أن دخل زيد البلد ، فإن تعين ذلك الاعتقاد ، يصير معتقدا لكون زيد داخلا في البلد في هذه الساعة.
فيثبت بما ذكرنا أن العلم بأن الشيء سيوجد نفس العلم بوجوده إذا وجد.
والرابع : هو أن العلم صفة حقيقة قائمة بذات العالم وتعلقه بالمعلوم
__________________
نسبة بين العلم
وبين المعلوم. فإذا تغير المعلوم فقد تغيرت نسبة ذلك العلم إلى المعلوم ، ولم
يتغير ذات العلم. ألا ترى أن الرجل إذا كان جالسا في مكان نفسه فجاء إنسان وجلس
على أحد جانبيه ، كان هذا الجالس يمينا له ، فإذا قام ذلك الإنسان ، وانتقل من ذلك
الجانب إلى الجانب الآخر صار الإنسان الأول يسارا له ، بعد أن كان يمينا له ،
فههنا وقع التغير والتبدل في هذه الإضافة ، مع أن صريح الحس والعقل يدل على أنه لم
يقع فيه التغير البتة ، بل هو باقي كما كان.
فهذا جملة الوجوه
التي يتمسك بها من يقول العلم الأول باقي كما كان.
وأما القائلون
بأنه يجب أن يتغير العلم عند تغير المعلوم. فقد احتجوا على صحة قولهم بوجوه :
الحجة الأولى : إنا إذا فرضنا أن إنسانا اعتقد أن زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم قدرنا أن
ذلك الإنسان جلس في بيت مظلم لا يميز فيه بين الليل والنهار ، وبقى على ذلك
الاعتقاد إلى أن دخل النهار ، ودخل زيد البلد ، إلا أن ذلك الجالس لم يعلم أنه جاء
النهار. فإن ذلك الإنسان بمجرد اعتقاده في أن زيدا يدخل البلد غدا ، لا يصير عالما
بأنه دخل الآن في البلد ، ولو كان العلم بأن الشيء سيوجد نفس العلم بوجوده إذا وجد. لوجب أن يحصل هذا العلم في هذه
الصورة ، وحيث لم يحصل ، علمنا أن العلم بأن الشيء سيوجد ليس نفس العلم بوجوده إذا
وجد. نعم إذا حصل عنده علم بأن زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم حصل عنده علم ثان بأنه جاء الغد فإنه يتولد من ذينك العلمين علم ثالث ، بأنه دخل
زيد البلد في هذه الساعة. فهذا علم جديد تولد عن العلمين الأولين ، لا أنه ينقض
العلم الأول.
__________________
الحجة الثانية : في بيان العلم بأن الشيء سيوجد ليس نفس العلم بوجوده إذا وجد : هو أنا نقول :
من البين في بديهة العقل أن حقائق الأشياء لا تنقلب ، فالسواد لا ينقلب بياضا ،
والعلم لا ينقلب ضده . إذا عرفت هذا. فنقول : العلم بأن الشيء سيوجد ماهية
مخالفة لماهية بأن الشيء موجود في الحال. والدليل عليه هو أنه ، يمتنع قيام كل
واحد منهما مقام الآخر. وذلك لأن قبل وجود الشيء لو اعتقد فيه كونه موجود ،
وأنه سيوجد ، لكان ذلك جهلا (عند وجوده. ولو اعتقد فيه أنه غير موجود ، وأنه سيوجد
، لكان ذلك جهلا) فيثبت أن ماهية كل واحد من هذين العلمين مخالفة لماهية
العلم الآخر. وإذا ثبت هذا فنقول : قد بينا أن الماهيات والحقائق يمتنع عليها
الانقلاب والتغير ، فوجب أن يمتنع أن يصير أحد العلمين نفس العلم الثاني ، فيثبت
أن العلم بأن الشيء سيوجد ، يمتنع أن يكون نفس العلم بوجوده إذا وجد.
الحجة الثالثة : أن نقول : من البين في بديهة العقل : (أن الشيء الذي يكون مشروطا بشرط ،
فإنه يكون مغايرا للشيء الذي لا يكون مشروطا بذلك الشرط. بل نقول) : إن الشيء الذي هو موجود في الحال ، مغاير للشيء الذي هو
غير موجود في الحال ، بل سيوجد بعد ذلك. وإذا عرفت هذا فنقول : العلم بأن الشيء
سيوجد غير مشروط بكون ذلك الشيء موجودا في الحال ، بل يكون ذلك منافيا له ، وأما
العلم بأنه موجود في الحال ، فإنه مشروط بكون ذلك الشيء موجودا في الحال ، فوجب
الجزم بكون أحد العلمين مغاير للآخر. بل نقول : إن العلم بأن الشيء سيوجد حاصل في
الحال ، ولا يبقى عند وجوده. والعلم بأنه غير موجود غير حاصل في الحال ، وسيوجد عند وجوده ، فهذان العلمان كالمتنافيين
المتضادين ، فالقول بأن أحدهما عين
__________________
الآخر ، يجري مجرى
أن يقال : إن أحد الضدين نفس الآخر ، وذلك محال لا يقبله العقل.
الحجة الرابعة : إن العلم صورة مطابقة للمعلوم ، تم من المعلوم بالضرورة : أن ماهية
قولنا : سيحدث مخالفة لماهية قولنا : إنه الآن حادث وحاصل ، ولما كانت الماهيتان
مختلفين كانت الصورتان المطابقتان لهما ، وجب أن يكونا مختلفين ، لأن المطابق
للمختلف يجب أن يكون مختلفا ، وإذا كانت إحدى الصورتين مخالفة للأخرى ، امتنع
القول بأن إحداهما عين الأخرى. فهذه وجوه جلية قريبة من أن تكون بديهية في بيان
أنه يمتنع أن يكون العلم بأن الشيء سيوجد ، نفس العلم بوجوده ، إذا وجد.
جئنا إلى الجواب عن الوجوه التي تمسكوا بها في تقرير قولهم.
فأما الجواب عن الوجه الأول : وهو أنه
لما لم يتكثر العلم بتكثر
المعلومات (وجب أن لا يتغير بتغيرها ، فهو من وجهين الأول : إنا لا نسلم أن العلم
لا يتكثر بتكثر المعلومات) والدليل عليه : أن العلم إما أن يكون صورة مطابقة للمعلوم ، وإما أن تكون نسبة مخصوصة بين العالم
وبين المعلوم. فإن كان الأول وجب تكثر المعلوم عند تكثر المعلومات ، لأن الأشياء
المطابقة للماهيات المختلفة ، يجب كونها مختلفة. وإن كان الثاني فكذلك أيضا.
لما بينا أن
النسبة إلى الشيء مغايرة للنسبة إلى غيره. بدليل : أنه يصح تعقل إحدى النسبتين حال
الذهول عن الأخرى. والثاني : هب أنا سلمنا أن العلم لا يجب أن يتكثر عند تكثر
المعلومات. فلم قلتم : إنه يلزم أن لا يتغير عند تغير المعلومات؟ فإن ذلك قياس من
غير جامع. والدليل القاهر الذي ذكرناه يدل على أنه يجب أن يتغير عند تغير
المعلومات.
وأما (الجواب عن)
الشبهة الثانية : وهي قولهم : إن العلم صفة
__________________
مخصوصة تنكشف بها
حقائق المعلومات فنقول : قد ذكرنا في كتاب «العلم» : (أن العلم) : لا معنى له إلا هذا الانكشاف ، وإلا هذا التبيين المخصوص
، فأما إثبات صفة وراء هذه النسبة المخصوصة ، وسوى هذه الإضافة المخصوصة ، فقد
ذكرنا في كتاب «العلم» : أن الدليل لم يدل على ثبوته البتة. (وإذا ثبت هذا) فنقول : إنه لما دل الدليل على أن هذه النسبة المخصوصة قد
تغيرت. كان ذلك حكما بأن العلم قد تغير. ثم نقول : سلمنا : أن العلم أمر مغاير لهذه النسبة المخصوصة ، إلا أنا نقول : إن ذلك الشيء
المخصوص. هل يوجب النسبة المخصوصة إلى المعلوم المخصوص أو لا يوجبه؟ (فإن كان
يوجبه) فهو ليس بعلم. لأن العلم عبارة عن هذا الانكشاف ، وهذا
التجلي. ولا شك أن الانكشاف والتجلي حالة نسبية بين العلم وبين المعلوم. فإذا
فرضنا صفة ليست هي نفس هذا التجلي ولا موجبة لهذا التجلي ، امتنع كونه علما. وأما
إن قلنا : إن تلك الصفة المخصوصة موجبة لهذه النسبة المخصوصة ، ولهذه الإضافة
المخصوصة ، فعند زوال هذه النسبة المخصوصة قد زالت لازمة ذلك العلم. وزوال اللازم
يدل على زوال الملزوم. فههنا يجب القطع أيضا بزوال ذلك العلم.
(وأما الجواب عن الشبهة الثالثة)
: وهي قولهم : إنا إذا فرضنا بقاء
اعتقاد : أن زيدا سيدخل البلد غدا إلى وقت حصول الدخول فإنه بتعين ذلك العلم يصير
عالما بأنه حصل ذلك الدخول. فنقول : الجواب عنه أن نقول : أكثر المتكلمين يقولون :
البقاء على المعلوم ممتنع ، بل إنه عرض يحدث حالا فحالا. وإذا كان هذا البقاء ممتنعا ، فكيف عرفوا
: أنه لو حصل هذا الممتنع فإن الأمر يكون كذا وكذا؟ ومن الذي أخبرهم بأن الأمر كما
يقولون؟ ثم
__________________
نقول : إنا قد
بينا أنه لو بقي هذا الاعتقاد إلا أنه لم يعلم أن النهار قد حضر ، فإنه لا يصير بسبب ذلك الاعتقاد عالما بأنه قد دخل البلد في هذه الساعة
، فيثبت أن الصورة التي ذكروها من أدل الدلائل على صحة قولنا.
(وأما الجواب عن الشبهة الرابعة)
: وهي قولهم : العلم صفة لها نسبة مخصوصة
والمتغير هو النسبة ، لا تلك الصفة : فالكلام الذي تقدم ذكره يكشف عما فيه من
المباحث. والله أعلم.
الفريق الثاني من المتكلمين الذين
التزموا وقوع التغير في العلم : وقالوا : إنه إذا زال المعلوم يزول العلم به ، ويحدث علم آخر. قالوا :
وتقرير هذا الكلام هو : أن تلك الذات المخصوصة موجبة للعلم بالمعلوم بشرط حصول ذلك
المعلوم ، فإذا حصل ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فقد حصل شرط الاقتضاء ، فوجب لتلك
الذات المخصوصة حصول العلم بذلك الشيء ، فإذا زال ذلك المعلوم فقد زال شرط ذلك
الاقتضاء وحصل شرط علم آخر ، فلا جرم يزول العلم الأول ويحدث علم آخر. وهذا هو قول
أبي الحسين البصري من علماء المعتزلة ، وهو قول جهم بن صفوان وهشام بن الحكم ، من
القدماء.
وأما المتكلمون المتأخرون : فقد استدلوا
على فساد هذا القول بوجوه :
الحجة الأولى : قالوا : هذا العلم لما حدث بعد أن لم يكن فلا بد (له من محدث وفاعل ومحدث ذلك
العلم وفاعله لا بد) وأن يكون عالما به. لما بينا أن صدور الفعل المحكم عن
الفاعل مشروط بكون ذلك الفاعل عالما. فيكون إحداث هذا العلم مشروطا بحصول علم آخر
قبله. والكلام في ذلك العلم السابق ، كالكلام في هذا العلم وذلك يوجب التسلسل وهو
محال. ولقائل أن يقول : هذه الحجة ضعيفة لأنكم رتبتم هذا الكلام على أن هذا
__________________
العلم إنما يحدث
لأن الفاعل المختار يوجد هذا العلم بالقدرة والاختيار. ونحن لا نقول به ، بل نقول
: ذاته المخصوصة موجبة للعلم بالشيء ، بشرط كون ذلك المعلوم واقعا على ذلك الوجه.
فإذا وقع الشيء على الوجه الخاص كان شرط الاقتضاء حاصلا ، فتوجب الذات المخصوصة
ذلك العلم المخصوص ، فإذا زال ذلك المعلوم فقد زال شرط الاقتضاء ، فيزول ذلك
العلم. وعلى هذا التقدير فتلك الحجة باطلة ساقطة.
الحجة الثانية : قالوا : لو حدث ذلك
العلم. فإما أن يحدث في ذات
الله تعالى ، وإما أن يحدث في ذات أخرى. وإما أن يحدث لا في محل. والأقسام الثلاثة
باطلة ، فكان القول بحدوث العلم باطلا. وإنما قلنا إنه يمتنع أن يحدث في ذات الله
تعالى لأنه يلزم أن تكون ذات الله تعالى محلا للحوادث وأنه باطل. وإنما قلنا : إن
القسمين الباقيين باطلان ، لأن كون الذات عالمة بكذا وكذا صفة لتلك الذات ، وحصول
صفة الذات لا في تلك الذات : قول محال.
ولقائل أن يقول :
لم لا يجوز أن نقول : إن تلك العلوم حدثت في ذات الله تعالى؟ قوله : «يلزم أن تكون
ذاته محلا للحوادث». قلنا : إن أردتم بكونه محلا للحوادث حدوث هذه العلوم في ذاته
، فهذا إلزام للشيء على نفسه وأنه باطل.
الحجة الثالثة : أن يقال : كل صفة يشير
العقل إليها ، فإما أن
تكون ذات الله كافية في استلزامها ، أو تكون كافية في دفعها ، أو لا تكون كافية لا
في استلزامها ولا في دفعها. فإن كان الأول وجب دوام تلك الصفة بدوام تلك الذات.
وذلك يمنع من التغير ، وإن كان الثاني وجب دوام سلب تلك الصفة بدوام تلك الذات.
وذلك أيضا يمنع من التغير. وإن كان الثالث وهو أن لا تكون تلك الذات كافية في ثبوت تلك الصفة ولا في
سلبها ، فحينئذ يلزم أن يكون ثبوت تلك الصفة وسلبها موقوف على شيء مغاير لتلك
الذات. ومن
__________________
المعلوم أن تلك
الذات لا تنفك عن ثبوت تلك الصفة وسلبها ، وإذا ثبت أن ثبوتها وسلبها موقوف على
الغير ، (والموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على الغير يلزم أن تكون تلك
الصفة المخصوصة موقوفة على الغير) وكل ما كان موقوفا على الغير ، كان ممكنا لذاته ، فيلزم أن
يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته. وذلك خلف باطل. فهذا تمام الكلام في تقرير هذا
الوجه. وهو جيد.
الحجة الرابعة : أن نقول إذا علم الله في الأزل أن العالم معدوم في الحال. فإذا أوجده وعلم أنه
موجود في الحال. فهل زال العلم (الأول) . أو ما زال؟ والثاني باطل. وإلا لكان قد حصل العلم بأنه
معدوم في الحال ، وبأنه موجود في الحال ، وذلك يوجب الجهل ، ويوجب الجمع بين
الاعتقادين المتنافيين. وأنه محال. وأما القسم الأول ، وهو أنه زال العلم الأول.
فنقول : ذلك العلم إما أن يقال : إنه كان قديما أو محدثا. والأول باطل. لأن
المتكلمين اتفقوا على أن ما ثبت قدمه ، فإنه يمتنع عدمه ، والدلائل الكثيرة أيضا
ناطقة بذلك. والثاني : وهو أن ذلك العلم حادث. فنقول : هل كان ذلك العلم مسبوقا
بعلم آخر أو ما كان مسبوقا به؟ فإن كان مسبوقا بعلم آخر كان الكلام في ذلك العلم
السابق كالكلام في هذا العلم فيفضي إلى أن يكون كل علم حادث : مسبوقا بعلم آخر
حادث. وذلك يوجب القول بحوادث لا أول لها ، وهو عند المتكلمين باطل. وإن قلنا : إن
تلك العلوم تنتهي إلى علم حادث لا يكون مسبوقا بعلم آخر ، كان هذا قولا بتجهيل
الله تعالى ، وذلك محال.
أجاب جهم بن صفوان
، وهشام بن الحكم عن هذا الكلام. فقالا : العلم الذي كان حاصلا في الأزل هو العلم
بالماهيات والحقائق والتصورات ، ثم لما أحدث الأشياء في ما لا يزال ، فقد حدثت
التصديقات ، وهي الحكم بأن كذا قد وجد ، وبأن كذا قد عدم ، وعلى هذا التقدير
فالإشكال زائل.
واعلم أنا قد
ذكرنا في أول هذه الحجة أنهم قالوا : لو كان تعالى عالما بأن
__________________
زيدا جالس في هذا
المكان ، فعند قيام زيد من ذلك المكان ؛ إن بقي ذلك العلم كان جهلا ، وإن لم يبق
كان تغيرا. ثم ذكرنا مذاهب الناس في كل واحد من هذين القسمين.
وهاهنا آخر الكلام
في هذا الوجه. والله أعلم .
الحجة الثانية للفلاسفة في هذا الباب :
قالوا : لو قدرنا مربعا مجنحا بمربعين متساويين على هذه الصورة :

وفرضنا كونه تعالى
عالما به ، فلا شك أن كل واحد من هذين المربعين الواقعين على هذين الطرفين (يتميز
عن الآخر ، وذلك معلوم. إذا ثبت هذا. فنقول :) امتياز كل واحد منهما عن الآخر
مشروط بكونهما موجودين فإن حصول الامتياز والتغاير في الشكل والمقدار والصورة مع
كونهما معدومين محضين وسلبين صرفين محال ، فوجب القطع بأن هذا الامتياز لا يحصل
إلا إذا كانا موجودين فنقول : هذا الوجود ، إما أن يكون هو الوجود الخارجي أو
الوجود الذهني ، والأول باطل. لأنه يمكننا أن نتخيل مثل هذه الصورة تخيلا صحيحا ،
حال كونها معدومة في الأعيان. وأيضا : فالعلم محدث ، فهذه الصورة بأسرها محدثة. ومحدثها هو
الله تعالى ، وما لم يكن عالما بها فإنه يمتنع منه إحداثها ، فيثبت أن العلم
بأمثال هذه الصور والأشكال ، سابق على وجودها ، فيثبت أن هذا الامتياز حاصل في
الوجود الذهني.
__________________
فنقول : إما أن
يكون محل هذين المربعين الواقعين على الطرفين شيئا واحدا ، أو شيئين متباينين بحسب
الوضع والحيز ، والأول باطل. لأن هذين المربعين متساويان في تمام الماهية وفي جميع
لوازمها فيكونان متساويين في قابلية جميع الصفات والأحوال. فإذا فرضنا حصولهما في
محل واحد فحينئذ يمتنع أن يمتاز أحدهما عن الآخر بالماهية أو بشيء من لوازم
الماهية. ويمتنع أيضا حصول الامتياز بشيء من عوارض الماهية ، لأن كل أمر يفرض كونه
عارضا لأحدهما ، كان الثاني قابلا له ، وتكون نسبة ذلك العارض إلى أحدهما ، كنسبته
إلى الثاني. لأنا قد فرضناهما حالين في محل واحد. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ
يستحيل كون أحدهما موصوفا بذلك العارض دون الآخر ، بل يكون كل واحد منهما موصوفا
به ، فيصير ذلك العارض مشتركا فيه بينهما ، والمشترك فيه لا يفيد الامتياز ، فيثبت
أن هذين المربعين ، لو حصلا في محل واحد ، لما بقي الامتياز البتة ، لكن الامتياز
حاصل لا محالة ، فهما حصلا في محلين ، يمتاز كل واحد منهما عن الآخر بالوضع والحيز
، فيثبت أن مدرك هذه الصورة وأمثالها لا بد وأن يكون جسما أو جسمانيا وواجب الوجود
قد ثبت أنه ليس بجسم ولا بجسماني ، فيمتنع كونه مدركا لها.
فهذا تمام الكلام
في تقرير هذه الشبهة.
ولقائل أن يقول :
هذا الكلام بناء على أن إدراك الشيء مشروط بكون المعلوم حاضرا في ذهن العالم. وقد
سبق إبطاله بوجوه ، لا يبقى للعاقل فيها شك البتة.
الحجة الثالثة : للقوم على امتناع كونه تعالى عالما بالجزئيات : أن قالوا : إن العلم بأن الشيء
الفلاني موجود ، وبأن الشيء الفلاني معدوم تابع للمعلوم. فإن كان ذلك الشيء موجودا
تعلق العلم بكونه موجودا ، وإن كان معدوما تعلق العلم بكونه معدوما. ولا يصح أن
يقال : إن ذلك الشيء إنما وجد ، لأن العلم تعلق بوجوده ، وإنما عدم لأن العلم تعلق
بعدمه. وذلك لأن
العلم بالشيء ،
صورة مطابقة لذلك المعلوم في نفسه ، وكون هذه الصورة مطابقة له ، موقوف على تحققه
في نفسه ، ولا يمكن أن يقال : إن كونه متحققا في نفسه ، موقوف على كون هذه الصورة
مطابقة له.
إذا ثبت لنا هذا
الأصل. فنقول : لو وجب اتصاف ذات الله تعالى بهذه العلوم. وقد دللنا على أن حصول
هذه العلوم موقوف على وقوع تلك المعلومات في أنفسها على تلك الوجوه المخصوصة.
فحينئذ تكون ذاته المخصوصة مفتقرة إلى حصول تلك العلوم. وقد عرفت (أن حصول تلك
العلوم يكون موقوفا على وقوع تلك المعلومات ، على تلك الوجوه المخصوصة. وقد عرفت ) أن الموقوف (على الموقوف) على الشيء يجب كونه موقوفا على الشيء فيلزم أن تكون ذاته تعالى متوقفة التحقق على تحقق هذه
الممكنات ، والمفتقر إلى وجود الممكنات أولى بالإمكان ، فيلزم أن يكون واجب الوجود
لذاته ، ممكن الوجود لذاته. وذلك محال.
وهذا بخلاف علمه ـ
سبحانه ـ بالماهيات والحقائق. فإن ذلك العلم حاصل سواء كانت تلك الحقائق حاصلة ،
أو لم تكن ، وحينئذ تكون ذاته المخصوصة كافية في ثبوت تلك العلوم ، ولا يلزم توقف
ذاته تعالى على حصول غيره. فإما العلم بأن زيدا جالس في هذا المكان (فإنه ممتنع
الحصول إلا عند كون زيد جالسا في هذا المكان) فحينئذ لا تكون ذات الله ـ تعالى ـ المخصوصة كافية في حصول
هذه العلوم ، بل لا بد معها من اعتبار حصول تلك المعلومات ووقوعها على تلك الوجوه المخصوصة ، وإذا لم
تكن ذات الله كافية في حصول هذه العلوم فحينئذ يلزم المحذور المذكور.
__________________
ولقائل أن يقول :
فهذا الكلام يمنع من كونه مؤثرا في الغير ، لأن التأثير في الغير نسبة مخصوصة بينه
وبين الغير (وذلك مما لا يتم إلا بالغير ، فلو كان مؤثرا في الغير) لزم افتقاره إلى الغير ، ويمكن ذكر الفرق بينهما من بعض
الوجوه. والله أعلم .
وهاهنا آخر الكلام
في حكاية قول من أنكر العلم بالجزئيات.
أما القائلون بكونه تعالى عالما
بالجزئيات ، فقد احتجوا عليه بوجوه :
الحجة الأولى : قالوا : قد دللنا على
أنه تعالى فعل أفعالا محكمة متقنة. وبينا أن من كان فعله محكما متقنا يجب أن يكون عالما بفعله ، فوجب أن يكون
تعالى عالما بأفعال نفسه ومن المعلوم أن الإحكام والإتقان إنما يظهر في الأشخاص
الجزئية التي خرجت إلى الوجود ، فيثبت أن الذي دلنا على كونه تعالى عالما ، هو
بعينه يدلنا على كونه عالما بالجزئيات.
الحجة الثانية : أن نقول : الشيء الشخصي الجزئي له ماهية ، وله أيضا تشخص وتعين. وذلك
التشخص والتعين ، إما أن يكون عين تلك الماهية ، وإما أن يكون زائدا عليها ، فإن
كان عينها فالعلم بالعلم بالماهية يكون علما بعينها. فذلك التشخص ، من حيث إنه ذلك
المعين يكون معلوما ، وإن كان تشخص ذلك الشخص مغايرا لتلك الماهية ،
فذلك التشخص أيضا ماهية من الماهيات الممكنة .
والفلاسفة سلموا أن العلم بالعلم بالعلة يوجب العلم بالمعلول ،
__________________
فعلم الله تعالى
بذاته المخصوصة ، يوجب كونه عالما بالأمور التي بها حصل ذلك التشخص ، وذلك التعين.
فوجب أن يكون عالما بذلك التشخص من حيث إنه هو ، فيثبت أن قولهم : العلم بالعلة
يوجب العلم بالمعلول ، يوجب عليهم الاعتراف بكونه تعالى عالما بالأشخاص من حيث
إنها تلك الأشخاص المعينة .
الحجة الثالثة في إثبات كونه تعالى عالما بالجزئيات المعينة : هو أن العلم بالأشياء صفة مدح
وكمال والجهل بها صفة نقصان ، والله تعالى أكمل الموجودات وأجلها ، فوجب أن يكون
وصفة بصفات الكمال والجلال أولى من وصفه بصفات النقصان.
الحجة الرابعة : إنا نرى أهل الدنيا ، الصديق والزنديق ، والموحد والملحد ، إذا
وقعوا في بلية أو محنة ، فإنهم يتضرعون إلى الله تعالى ، ويطلبون منه أن يخلصهم من
تلك البلية ، ولو أنه كان من أشد الناس إنكار لكونه تعالى عالما بالجزئيات ، فإنه
إذا وقعت له هذه الحالة المذكورة ، فلا بد وأن يقدم على الدعاء والتضرع والخضوع. وهذا
يدل على أن الفطرة الأصلية شاهدة بأن إله العالم قادر على المقدورات ، عالم
بالأسرار والخفيات. ومعلوم أن شهادة أصل الفطرة أقرب إلى القبول من هذه التقسيمات
الخفية ، والمطالب الغامضة ، فوجب القطع بأن إله العالم عالم بالجزئيات ، قادر على
دفع الحاجات ، وأظن أن قول إبراهيم ـ صلوات الله عليه ـ لأبيه : «يا أبت لم تعبد
ما لا يسمع ولا يبصر ، ولا يغنى عنك شيئا» ؟ إنما كان لأجل أن أباه كان على دين الفلاسفة ، وكان ينكر
كونه تعالى قادرا ، وينكر كونه تعالى عالما بالجزئيات ، فلا جرم خاطبه بذلك
الخطاب. وهذا ما عندي في هذه المسألة. والله أعلم.
__________________
الفصل السابع
في
بيان كونه تعالى عالما بالمعدومات
اعلم أن القائلين بكونه تعالى عالما بالجزئيات ، اختلفوا. فمنهم
من قال : إنه تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند دخولها في الوجود. أما قبل وجودها
فهو غير عالم بها ، وإنما يكون عالما بالماهيات فقط. وهذا قول جهم وهشام. والأكثرون
اتفقوا على أنه تعالى عالم بهذه الجزئيات ، قبل دخولها في الوجود. واعلم أن هذا
البحث مبني على أن المعدوم يصح أن يكون معلوما. فنقول : الدليل عليه من وجوه :
الأول : إنا نعلم أن الشمس غدا تطلع من مشرقها. وطلوعها غدا من مشرقها معدوم في
الحال.
فهذا يدل على أنه يمكننا أن نعلم المعدومات.
الثاني : إنا قد دللنا على أن صدور الفعل المحكم المتقن عن الفاعل مشروط بكونه عالما
بذلك الفعل. والشرط متقدم على المشروط فيكون الفاعل عالما بأفعاله. وعلمه متقدم
على كونه موجدا لها ، أي هو متقدم على وجودها ، والسابق على الشيء يجب كونه سابقا
على الشيء. فهذا
__________________
يقتضي أن يكون
علمه تعالى بأفعاله سابقا عليها في الوجود ، وذلك يدل على أن العلم بالمعدوم جائز.
الثالث : لا شك أن العلم بالماهيات لا يتوقف على كونها موجودة في أنفسها. فإنا قد
نعرف حقائق المعلومات حال كوننا جاهلين بوجودها ، وأيضا : إذا قلنا : الشيء إما
أن يكون موجودا أو معدوما ، فقد تصورنا في هذا التقسيم معنى العدم ، وإذا أمكن تصور
الماهية قبل وجودها وأمكن تصور العدم أيضا ، وجب أن يكون تصور الماهيات المعدومة
أيضا : ممكنا.
الرابع : وهو أن الواحد منّا ، إذا أراد أن يفعل فعلا. مثل بناء دار ، أو خياطة
قميص، فإنه يتصور ذلك العمل أولا ، ثم يدخله في الوجود ثانيا. وذلك يدل على أن
المعدوم يصح أن يكون معلوما ، وإذا ثبت أن المعدومات يصح أن تكون معلومة فنقول :
المقتضى لحصول العالمية هو ذاته المخصوصة. فلم تكن تلك الذات باقتضاء العالمية (ببعض ما يصح ، أولى
منها باقتضاء العالمية) بالبواقي. فإما أن لا يوجب شيئا منها ، وهو باطل. وإما أن
يوجب العلم بكل ما يصح أن يكون معلوما وذلك هو المطلوب.
واحتج
المخالف بأشياء :
الحجة الأولى :
قالوا : لو كان الله تعالى عالما بهذه الجزئيات قبل وقوعها لبطلت الربوبية ولبطلت
العبودية. أما بطلان الربوبية ، فلأن الذي علم وقوعه يكون واجب الوقوع. وما كان
واجب الوقوع امتنع كون القادر قادرا عليه ، فوجب أن لا يقدر الله على شيء. وذلك
يقدح في الربوبية وأما بطلان العبودية فلأن غير ما ذكرناه يقتضي أن لا يقدر العبد
على شيء البتة ، وذلك يمنع من كونه قادرا على العبودية. وأيضا : فإنا نجد بالضرورة
من أنفسنا أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه ، وإن شئنا الترك قدرنا عليه ، فالقول
بأنه لا قدرة لنا على الفعل والترك مكابرة في المحسوسات والقول بأنه تعالى عالم
بالجزئيات قبل دخولها
__________________
في الوجود يمنع من
تلك القدرة ، فكان القول به باطلا.
الحجة الثانية : قالوا الشيء قبل دخوله في الوجود عدم محض ونفي صرف ، والعدم المحض
يمتنع أن يحصل فيه الامتياز والاختصاص (بالصفة والخاصية ، وكل معلوم فإنه لا بد
وأن يكون متميزا عن غيره ، وأن يكون موصوفا بصفات) وخواص لأجلها يحصل ذلك الامتياز. وهذا القياس ينتج أن
المعدوم يمتنع كونه معلوما ، ولا يقال : إنا إذا قلنا : الماهيات متقررة حال العدم
، فقد زال هذا السؤال. لأنا نقول : هذا لا يفيد المطلوب. وذلك لأن القائلين بأن
المعدوم شيء ، لا يقولون : إن تلك الذوات المعدومة تكون مؤلفة مركبة موصوفة بالشكل
واللون والحصول في الحيز ، فيلزمكم أن تقولوا : إنه تعالى لا يعلم كون الذوات
موصوفة بهذه الصفات ، إلا عند دخولها في الوجود ، وأنتم لا تقولون به ، وإذا جاز
أن تقولوا : إنه تعالى يعلم كون هذه الذوات موصوفة بهذه الصفات. مع أن هذا غير
حاصل في العدم ، فلم لا يجوز أن يقال أيضا : إنه تعالى يعلم بالماهيات قبل حصولها.
مع أنها لا تكون حاصلة في العدم؟
الحجة الثالثة : أن نقول : قد بينا أنه لا معنى للعلم إلا أنه نسبة مخصوصة وإضافة مخصوصة تحصل
بين العالم وبين المعلوم ، وحصول الإضافة بين الأمرين مسبوقة بتقرير كل واحد منهما
، فوجب أن يكون العلم بالمعلوم مسبوقا بتقرير ذلك المعلوم في نفسه ، لكن المعلوم
إذا كان معدوما فهو إنما ينتقل إلى الوجود بتأثير القدرة فيه ، فيكون حصوله متأخرا
عن تأثير القدرة فيه ، الذي هو مشروط بكونه عالما به. فيلزم وقوع الدور وهو محال.
واحتج من طعن في كونه تعالى عالما بكل
ما يصح أن يكون معلوما بوجوه : الحجة الأولى : قالوا : لو كان الأمر كذلك لوجوب
كونه تعالى عالما بما لا
__________________
نهاية له من
المعلومات ، فإذا اعتبرنا علمه بمعلوم واحد ، نقول : إنه يصح أن يعلم كونه عالما بذلك
المعلوم ويصح أيضا أن يعلم كونه عالما بكونه عالما به ، وهكذا في سائر المراتب
التي لا نهاية لها ، فلو وجب أن يعلم كل ما يصح أن يكون معلوما في نفسه لحصل في
علمه بذلك المعلوم الواحد مراتب لا نهاية لها في العلوم وتكون كل مرتبة أخيرة منها مفرعة على المرتبة المتقدمة ،
فيلزم حصول علل ومعلومات لا نهاية لها دفعة واحدة. وذلك باطل.
لا يقال هذا بناء
على أن العلم بالعلم بالشيء ، مغاير للعلم بالشيء ، فما الدليل على أن الأمر كذلك؟
ثم نقول : المعلوم لا يكون علة لحصول العلم به ، فلم يلزم من حصول هذا المعلوم
حصول علل ومعلولات غير متناهية؟ ونجيب عن الأول فنقول : الذي يدل على أن العلم بالعلم
بالشيء مغاير للشيء وجوه : الأول : إن المعلوم مغاير للعلم (فوجب أن يكون العلم
بأحدهما مغاير للعلم) بالآخر. والثاني : إنه يمكننا أن نعلم الشيء حال ما نكون
غافلين عن العلم بالعلم به ، والموجود مغاير للمعدوم. فوجب أن يكون العلم بالشيء
مغاير للعلم بالعلم به .
الثالث : وهو أنه لو كان العلم بالشيء نفس العلم بالعلم به ، فيلزم أن تكون هذه
المرتبة الثالثة نفس المرتبة الثالثة ، وكذا القول في سائر المراتب. فعند
العلم بالشيء ، يلزم أن تكون كل المراتب حاضرة بالفعل ، ولما علمنا بالضرورة أنه
ليس الأمر كذلك علمنا أن العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بذلك الشيء.
وأما السؤال الثاني : وهو قوله : المعلوم لا يكون علة للعلم به ، فلم
__________________
يلزم من حصول (مراتب
لا نهاية لها في هذه العلوم حصول) علل ومعلولات لا نهاية لها دفعة؟ فنقول : الجواب
عنه من وجهين : الأول : إن الذات الموصوفة موجبة للعلم وكل مرتبة من تلك المراتب فإنها شرط لتأثير الذات
المخصوصة في المرتبة الثانية ، وشرط العلة يجري مجرى نفس العلة وحينئذ يعود السؤال
المذكور. والثاني : وهو أن كل مرتبة متقدمة من هذه العلوم فإنها مستلزمة للمرتبة
المتأخرة. فالدليل الدال على بطلان علل ومعلولات لا نهاية لها يكون بعينه قائما في
هذه الصورة. والله أعلم .
الحجة الثانية : إن ما لا نهاية له يمتنع كونه ممتازا عن الغير ، وكل معلوم فإنه يجب كونه
ممتازا عن الغير ، ينتج أن ما لا نهاية له يمتنع كونه معلوما ، أما الصغرى فظاهرة
لأن الامتياز عن الغير إنما يعقل فيما إذا كان كل واحد من المتميزين منفصلا عن الآخر
وخارجا عنه ، والذي خرج عنه غيره وانفصل عنه غيره ، يكون محدودا متناهيا ، فالقول
بأنه غير متناهي محال ، وأما الكبرى فظاهرة ، وذلك لأن المعلوم إنما يكون معلوما
إذا كان بحيث يميزه العقل عما ليس هو ، إذ لو لم يكن كذلك لامتنع كونه معلوما ،
فيثبت بما ذكرنا : أن ما لا نهاية له يمتنع كونه متميزا عن غيره ، وثبت أن كل ما
كان معلوما ، فإنه يجب كونه متميزا عن غيره ، ينتج أن لا ما لا نهاية له ، يمتنع
كونه معلوما.
الحجة الثالثة : لو كان عالما بما لا
نهاية له ، لحصل في
ذاته صفات لا نهاية لها. وهذا محال. فذاك محال. بيان الملازمة من وجهين :
الأول : إنا قد بينا أن العلم عبارة عن النسبة الحاصلة ، وعن الإضافة الخاصة ، فلو كانت
المعلومات غير متناهية لحصلت في ذاته نسب موجودة غير متناهية. وليس لقائل أن يقول
: هذه النسب والإضافات لا وجود لها في الأعيان ، لأن العلم لما كان عبارة عن هذه
النسب وهذه الإضافات لزم من نفيها في الأعيان ، نفي كونه تعالى عالما. وذلك باطل.
فيثبت أنه تعالى لو كان
__________________
عالما بما لا
نهاية له لحصلت في ذاته موجودات لا نهاية لها.
وأيضا : العلم عند
الفلاسفة عبارة عن صور مطابقة للمعلومات ، فلو كان تعالى عالما بما لا نهاية له ،
لزم أن لا يحصل في ذاته (صور لا نهاية لها ، فيثبت أن على التقديرين
لو كان تعالى عالما بما لا نهاية له لزم أن يحصل في ذاته) صفات لا نهاية لها وهي إما النسب عند من يقول : العلم
عبارة عن النسبة المخصوصة ، وأما الصور المطابقة للمعلومات عند من يقول العلم
عبارة عن صور مطابقة.
الوجه الثاني : في تقرير هذه المقدمة : إن قولنا : إنه عالم بهذا ، يناقضه قولنا : إنه
ليس عالما بهذا ، ولا يناقضه إنه ليس عالما. وذلك يدل على التغاير. وأيضا : يمكننا
أن نعتقد كونه عالما بهذا المعلوم ، مع الذهول عن كونه عالما بذلك المعلوم الآخر ،
وذلك أيضا يوجب التغاير ، فيثبت بهذين الوجهين أنه تعالى لو كان عالما بمعلومات لا
نهاية لها ، لكان قد حصل في ذاته صفات لا نهاية لها.
وأما بيان أن حصول
صفات لا نهاية لها في ذاته محال ، من وجهين :
الأول : إن كل عدد موجود فإنه قبل الزيادة والنقصان ، وكل ما كان كذلك فهو متناهي.
الثاني : إن كل واحد من تلك المعلومات التي لا نهاية لها ، له بعينه أحكام غير
متناهية ، فإن تلك الماهية مغايرة لكل ما سواها من الماهيات التي لا نهاية لها.
والجوهر الفرد يمكن حصوله في أحياز غير متناهية على البدل وفي أوقات متناهية على
البدل ، وموصوفا بصفات غير متناهية على البدل ، فيثبت أنه حصل في كل واحد من آحاد
المعلومات أحكام غير متناهية ، فحينئذ يلزم أن يكون عالما بما لا نهاية له ، لا
مرة واحدة ، بل مرارا ، لا نهاية لها ، وذلك
__________________
يوجب أن يصير غير
المتناهي مضاعفا مرات غير متناهية ، وذلك محال ، لأن التضعيف عبارة عن ضم شيء إلى
شيء آخر ، وضم أحد الشيئين إلى الآخر ، إنما يكون لو كان كل واحد منهما خارجا عن
الآخر ، والشيء الذي يخرج عنه غيره يكون متناهيا فيثبت أن قبول التضعيف والتثنية
من خواص المتناهي (فغير المتناهى) لا يكون قابلا له. وهذا تمام الكلام في حكاية شبهات
المخالفين.
واعلم. أن الشبهة
الأولى ، وهي قوله : إنه تعالى (لو كان) عالما بالجزئيات قبل وقوعها ، لوجب بطلان الربوبية
والعبودية ، فهذا إشارة إلى أن القول بالحيز يوجب هذا المحال. وسيأتي الكلام فيه
في مسئلة الحيز. وأما الشبهة الثانية : وهي قولهم : المعدوم يمتنع أن يكون معدوما.
فقد أبطلناه بالدلائل القاهرة في أول هذا الفصل. وأما الشبهة الثالثة : وهي أن
العلم بالعلم بالشيء مغاير للعلم بالشيء ، فهذا يقتضي وجود أسباب ومسببات لا آخر
لها ، ولا يقتضي نفي الأولية عنها وأما الشبهة الرابعة. وهي قولهم : ما لا نهاية
له لا يحصل فيه الامتياز. فجوابه : إن كل واحد منها ممتاز عن غيره ، وذلك يكفي في
كون كل واحد منها معلوما. وأما الشبهة الخامسة : وهي قولهم : إنه يلزم حصول صفات
لا نهاية لها (في ذاته تعالى) فجوابه : إن هذه التعلقات نسب وإضافات غير متناهية (وحصول
نسب وإضافات غير متناهية) لا يكون ممتنعا بدليل أن واحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة
وربع الأربعة. فهذه النسب غير متناهية ، وهي بأسرها حاصلة ، فيثبت أن القول بهذا
غير ممتنع. والله أعلم.
__________________
الباب الرّابع
في
كونه تعالى مريدا
اعلم أن الكلام يقع في هذا الباب من ثلاثة أوجه :
الأول : في البحث عن معنى الإرادة.
والثاني : في ذكر ما استدلوا به على كونه ـ تعالى ـ موصوفا بهذه الصفة .
والثالث : في دلائل المنكرين.
__________________
الفصل الأول
في
البحث عن حقيقة الإرادة
(وفي هذا البحث مسائل :
المسألة الأولى)
: قالت الفلاسفة : إنا نجد من أنفسنا : أنا إذا تصورنا : أن لنا في الفعل الفلاني منفعة خالصة أو راجحة
، حصل في نفوسنا ميل إلى تحصيل تلك المنافع ، إذا تصورنا : أن لنا في الفعل الآخر
مضرة خالصة ، أو راجحة حصل في نفوسنا ميل إلى الدفع والمنع. ونحن سمينا الميل إلى
الجذب والتحصيل بالإرادة ، وسمينا الميل إلى الدفع والمنع بالكراهية. وهذا القدر
معلوم ، فإن كان المراد من الإرادة والكراهية هذا ، فهذا ممتنع الثبوت في حق الله
تعالى ، لأن هذا إنما يعقل ثبوته في حق من يصح عليه اللذة والألم والمنفعة والمضرة
، وذلك في حق الله تعالى محال ، فكان إثبات الرغبة في جلب المنافع والنفرة عن وصول
المضار في حق الله تعالى محالا. وهذا إذا أريد بالإرادة والكراهية هذا المعنى وأما
، إذا أريد بهما معنى آخر فلا بد فيه من إفادة تصوره ، لننظر فيه أنه هل يصح ذلك في
حق الله تعالى أم لا؟ قال المتكلمون : الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن
على الآخر من غير وجوب ، ومن غير تكوين. هذا هو المراد من صفة الإرادة. والذي يدل
على أن هذه الصفة موجودة أمران :
__________________
الأول : إن المخير بين شرب القدحين ، وأكل الرغيفين ، فإنه يختار أحدهما على
الآخر ، لا لمرجح ، وكذلك الهارب من السبع الضاري إذا وصل إلى موضع يتشعب منه
طريقان متساويان من جميع الوجوه ، فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، من غير أن يحصل
بسبب ذلك الترجيح منفعة زائدة ، أو يندفع بسببه مضرة زائدة ، وهاهنا حصلت الإرادة
من غير أن يحصل معها جلب النفع ، أو دفع الضرر.
والثاني : إن المريض قد يشتهي تناول الفاكهة جدا ، مع أنه لا يأكلها ويحترز عنها ، فههنا ميل
الطبع قائم والإرادة غير حاصلة ، والرجل الزاهد العابد قد يريد إقامة الصلوات
والعبادات مع أنه لا يشتهي الإقدام عليها ، لما فيها من المتاعب والمشاق بها.
فههنا الإرادة حاصلة مع أن ميل الطبع غير حاصل. فظهر بهذا : الفرق بين ميل الطبيعة
وبين الإرادة.
قالت الفلاسفة : أما قولكم : الإرادة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر من غير وجوب ،
ومن غير تأثير كلام مشكل من وجهين :
الأول : أن هذا الكلام يقتضي إثبات مؤثر يؤثر لا على سبيل الوجوب ، وحينئذ تعود
المباحث المذكور في باب تأثير القادر. وذلك لأن المؤثر إما أن يكون مستجمعا لجميع
الأمور المعتبرة في المؤثرية. وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب ترتب الأثر عليه
، فيكون ذلك المؤثر مؤثرا على سبيل الوجوب ، لا على سبيل الصحة ، وإن كان الثاني
كان ترتب الأثر عليه ممتنعا فيكون ذلك ممتنع التأثير ، لا ممكن التأثير (فعلمنا أن الشيء
إما أن يكون واجب التأثير أو ممتنع التأثير ، فأما أن يكون ممكن التأثير) فهذا غير معقول ، وتمام تقرير هذا البحث قد سبق ذكره في
باب القادر.
والثاني : هب أنا إذا عقلنا وجود مؤثر يؤثر على سبيل الصحة ـ إلا أن
__________________
هذا ـ هو القدرة
فما الفرق بين القدرة وبين الإرادة؟ أما قوله : إنها تؤثر في الترجيح لا في
التكوين فنقول : هذا الكلام إنما يتم ببيان الفرق بين الترجيح وبين التكوين ، فإنا
لا نعقل من الترجيح إلا وقوع أحد جانبي الممكن : بسببه ، وهذا هو التكوين. وإثبات
مفهوم آخر يسمى بالترجيح والتخصيص مغاير للمفهوم الحاصل من التكوين أمر غير معقول.
وأما قوله : المخير بين (أكل الرغيفين) وشرب القدحين ، يختار أحدهما من غير جلب منفعة ، أو دفع
مضرة يختص بها ذلك الواحد. فنقول : الكلام عليه من وجهين :
الأول : لا نسلم أنهما يتساويان في جلب المنافع ، والمصالح المتعلقة بالأبدان ، بل لا بد وأن يتخيل أن أحدهما أقرب إليه ، وأحدهما أسهل
عليه ، وهو أنفع في نفسه ، وربما كان عظيم الحرص على الأكل والشرب ، فلما وقع بصره
على أحدهما عظمت رغبته فيه. فصارت قوة رغبته فيه مانعة له عن تحويل النظر عنه إلى
غيره ، فبقيت رغبته مقصورة عليه وغير متعدية منه إلى غيره. وبالجملة : فحصول
المرجح الذهني غير ، وبقاء ذلك المرجح غير. وتذكر ذلك المرجح بعد نسيانه غير. ولا
يلزم من فقدان هذا الثالث فقدان الثاني والأول.
والوجه الثاني في الجواب : هب أنه يأخذ أحدهما دون الآخر لا لمرجح. إلا أن الذي لأجله صدر عنه هذا
الفعل شدة رغبته في أصل الأكل والشرب ، وتلك الرغبة عبارة عن طلب المنفعة ودفع
المضرة ، فلو لا طلب النفع لما أقدم على أخذ أحد الرغيفين ، وشرب أحد القدحين ،
ولو لا الفرار عن دفع ضرر السبع ، لما اختار سلوك أحد الطريقين ، فيثبت أن الحامل
له على هذا الفعل ، ليس إلا طلب المنفعة ودفع المضرة. وحينئذ يعود ما ذكرناه.
__________________
وأما قوله ثانيا
: إن المريض قد يشتهي
أكل الفاكهة ثم لا يريد أكلها ، والزاهد العابد قد يريد الطاعات والعبادات ، مع
أنه لا يشتهيها فنقول : هذا أيضا مغالطة. وذلك لأن المريض يميل طبعه إلى تحصيل
اللذات الحاصلة في الحال بسبب أكل الفاكهة ، وينفر طبعه عن الآلام التي تحصل بسبب
ذلك الأكل في الزمان المستقبل ، فراعى مراتب المنفعة والمضرة ، فإن كان جانب اللذة
والمنفعة راجحا في خياله على جانب الألم والمضرة ، أقدم على الأكل ، وإلا تركه ،
فيثبت أن الحامل والداعي هاهنا ليس إلا طلب المنفعة (ودفع) المضرة إلا أن اللذة الحاصلة بسبب الأكل (حاضرة) في الحال ، والألم الحاصل بسبب ذلك الأكل مستقبل.
وقد ذكرنا في باب «الدواعي
والصوارف» : أن النقد خير من النسيئة بسبب كونه نقدا لا نسيئة ، إلا
أن النسيئة قد تكون أعظم حالا من النقد ، بسبب القوة والكثرة ، فتصير راجحة على
النقد ، فإن قضى الفكر والخيال بترجح أحد الجانبين حصل الرجحان (لا محالة) ، وإن لم يقص فيه بالترجيح ، بل بقي مضطربا فيه ، لا جرم
يصير مضطربا في الفعل والترك. وهذا هو الجواب بعينه عن قولهم الزاهد العابد قد
يريد الطاعات الشاقة ، مع أنه لا يميل طبعه إليها ، فإنا نقول تلك الطاعات مؤلمة
في الحال ، ولكنها نافعة في المستقبل فالألم نقد ، والمنفعة نسيئة إلا أن تلك
المنافع بحسب الجبلة عظيمة ، وتلك المضار قليلة ، فيقع الخاطر هاهنا في باب
المعارضة والترجيح (فثبت بما ذكرنا) : أنا لا نعرف البتة من معنى الإرادة والكراهية إلا ميل
الطبع إلى جلب المنافع وميله إلى دفع المضار ، ولما كان ذلك في حق الله تعالى
ممتنعا كان إثبات الإرادة في حقه غير معقول. وهذا تمام الكلام في البحث عن معنى
الإرادة والكراهية.
__________________
المسألة الثانية : اختلف الناس في إثبات
كونه مريدا.
فقال الكعبي والجاحظ وأبو الحسين البصري
معنى تعالى مريدا للفعل : علمه بكون ذلك الفعل راجح المنفعة في حقه. وهذا هو داعية الحاجة. وأما إن
اعتقد كونه راجح المنفعة في حق الغير فهو داعية الإحسان. والأول في حق الله تعالى
محال ، فبقي الداعي في حق الله تعالى (هو القسم الثاني. وقال الباقون من المتكلمين
: معنى الإرادة في حق الله تعالى صفة زائدة على ذلك العلم. ثم اختلفوا فيها على وجوه
مختلفة. وضبط الأقوال أن يقال : الإرادة إما أن تكون صفة سلبية ، أو إيجابية.
فالذين قالوا : إنها صفة سلبية ، قالوا : معنى كونه مريدا : إنه فعل ذلك الفعل لا على
سبيل القهر والإكراه. وأما الذين قالوا : إنها صفة إيجابية مغايرة لذلك العلم.
منهم من قال : إن ذاته تعالى توجب تلك المريدية. ومنهم من قال : إن حصل معنى ذلك
المعنى توجب المريدية. ثم اختلفوا. فقال بعضهم : ذلك المعنى الموجب : صفة قديمة
أزلية ممتنعة التبدل والزوال. وقال آخرون : ذلك المعنى حادث. ثم ذلك المعنى. منهم
من قال : إنه يحدث في ذات الله تعالى ، وهم الكرّامية ، ومنهم من قال : إنه يحدث
لا في محل وهم قوم عظيم من المعتزلة. وأما القسم الثالث ، وهو أنه يحدث في غير ذات
الله تعالى فيوجب لله تعالى صفة المريدية ، فهذا قول لم يقل به أحد. وهذا تفصيل
أقوال الناس في هذا الباب.
واحتج القائلون بإثبات هذه الصفة :
فقالوا : قد ثبت أن العالم
محدث ، فقد حصل وجوده في وقت معين ، مع أنه كان يجوز في العقل حدوثه قبل ذلك أو
بعده. فاختصاص حدوثه بذلك الوقت المعين دون ما قبله وما بعده لا بد له من مخصص ولا
يجوز أن يكون ذلك المخصص هو القدرة. لأن القدرة حاصلة للإحداث في جميع الأوقات ،
ونسبتها إلى الإحداث في كل واحد من تلك الأوقات على السوية ، فهذا المخصص والمرجح
لا بد وأن يكون مغايرا لتلك القدرة ، ولا يجوز أن يكون ذلك المخصص هو العلم ، لأنه
إما أن يكون المراد
__________________
أن علمه بما في
الفعل من المصلحة يدعوه إليه ، أو المراد أن علمه بأن الشيء الفلاني نفع يدعوه إلى
(الفعل ، وأن الشيء الفلاني لا نفع فيه يدعوه إلى) الترك. والأول باطل ، لأن كل دليل دلّ على أنه لا يجوز
تعليل أفعال الله تعالى بالعلل والأغراض ، فإنه يدل على بطلان هذا القسم.
وأما القسم الثاني فهو أيضا باطل. لأن العلم بالوقوع تبع للوقوع ، الذي هو تبع لهذا التخصيص
، فلو عللنا هذا التخصيص بالعلم بالوقوع. لزم الدور وأنه محال ، فيثبت أن هذا
التخصيص غير واقع بسبب القدرة ، ولا بسبب العلم ، فلا بد من صفة أخرى مقتضية لهذا
التخصيص والترجيح ، وظاهر أن الحياة والسمع والبصر والكلام لا يصلح لذلك. فلا بد
من صفة أخرى سوى هذه الصفات.
ثم تأثيرها في
التخصيص إن كان على سبيل الوجوب كان المؤثر موجبا بالذات ، وإن كان على سبيل الصفة
فهو المطلوب ، لأن هذه الصفة صفة تقتضي ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، لا على
سبيل الإيجاب ، ولا على سبيل التكوين. وذلك هو المطلوب. وهذا تقرير هذا الدليل على
أحسن الوجوه.
ولقائل أن يقول : قد بينا أن المؤثر
الذي يؤثر لا على سبيل
الإيجاب ولا على سبيل التكوين محال في العقول ، فلا فائدة في الإعادة. فما ذكرناه
برهان قاطع في مقابلة ما ذكرتم. ثم نقول : لم لا يجوز أن يكون المؤثر في ذلك
التخصيص هو القدرة؟ قوله : لأن القدرة نسبتها إلى الإيجاد في جميع الأوقات على السوية. قلنا : إما أن نقول : الإرادة
صالحة (لترجيح هذا الفعل بوقت آخر ، كما أنها صالحة لترجيحه بهذا الوقت. وإما أن
يقولوا : إنها صالحة) لتخصيص العالم بذلك الوقت ، مع أنه يمتنع تعلقها بتخصيص
__________________
العالم بوقت آخر.
فإن كان الأول فنقول : صلاحية الصفة للوجوه الكثيرة إما أن تحوج إلى المرجح أو لا
تحوج ، (فإن أحوجته إليه) لزم افتقار الإرادة إلى مرجح آخر ، وإن لم يتحوجه إليه وجب
أن لا تحتاج القدرة إلى الإرادة.
وأما القسم الثاني : فنقول : لما كانت الإرادة أزلية ممتنعة العدم ، وكانت متعلقة بأحداث
العالم في وقت معين ، وما كانت صالحة للتعلق بإحداث العالم في وقت آخر ، فحينئذ
يصير الإله موجبا بالذات غير فاعل على سبيل الصحة. ومعلوم أن هذه المسألة فرع على
إثبات القادر المختار ، وكل فرع يوجب فساد الأصل كان باطلا. وأيضا : فإذا جاز أن
يقال : تلك الإرادة المخصوصة متعينة التعلق بذلك الوجه الواحد (فلم لا يجوز أن
يقال تلك الإرادة المخصوصة متعينة التعلق بوجه واحد) وحينئذ تكون القدرة غنية عن الإرادة المرجحة؟ وهذا تمام
البحث في هذا الدليل.
(المسألة الثالثة)
: واحتج المنكرون لهذه الصفة بوجوه :
الحجة الأولى : إنها إن كانت تامة في جميع جهات المؤثرية وجب الفعل ، وإن كانت غير
تامة امتنع الفعل ، فالقول بإثبات هذه الإرادة محال.
الحجة الثانية : إنا لا نعقل من الإرادة إلا الميل إلى جلب النفع أو إلى دفع
الضرر.
وذلك في حق الله
محال. وأما الإرادة بمعنى آخر فلا نعقله البتة. فكان القول بإثباته لله محالا.
الحجة الثالثة : لو حصلت الإرادة لكانت إما أن تكون قديمة أو حادثة ، والقسمان
باطلان ، فالقول بإثبات الإرادة باطل. وهو معلوم.
__________________
الحجة الرابعة : إن اقتضاء هذا الترجيح إما أن يكون على سبيل الوجوب ، أو على سبيل
الإمكان ، والأول باطل ، وإلا لزم أن يصير موجبا بالذات ، والثاني باطل ، لأن مع
الجواز والتساوي يمتنع حصول الترجيح. وهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله أعلم.
الفصل الثاني
في
اللذة والألم
اعلم . إنك قد عرفت أن اللذة ، إما أن تكون جسمانية وإما أن تكون
روحانية. أما اللذة الجسمانية فعلى الله محال ، لأنه لما ثبت أنه تعالى ليس بجسم
كانت اللذة الجسمانية عليه ممتنعة. وأما اللذة الروحانية فقد أطبقت الفلاسفة على
إثباتها لواجب الوجود. واحتجوا عليه بأن قالوا : ندعي
حصول أمرين : أحدهما : كونه تعالى محبا لذاته.
والثاني : كونه تعالى مبتهجا بكمالاته ملتذا بها. أما الأول فتقريره : أن علم
الشيء بكون الشيء كاملا يوجب محبة ذلك الشيء. ودليله : الاستقرار. فإنا إذا سمعنا
بشجاعة رستم ، واسفنديار ، حصل في قلبنا حب شديد وميل عظيم ، وليس هناك إلا أن
اعتقادنا لثبوت الكمالات لهم ، أفاد ذلك الحب.
إذا ثبت هذا فنقول
: علمه تعالى أفضل العلوم ، وكماله أفضل الكمالات. فإذا علم بذلك العلم الكامل ذلك
الكمال التام لذاته ، وجب أن يترتب على ذلك العلم التام : حصول الحب التام. وأما
الثاني وهو كونه مبتهجا بذاته ، ملتذا بكمالاته. فتقريره : أن علم الشيء بكمال
نفسه ، كما يوجب الحب الشديد له ، فكذلك يوجب الابتهاج والالتذاذ. ولما حصل ذلك
العلم
__________________
في حق الله تعالى
وجب أن يحصل ذلك الابتهاج وذلك الالتذاذ.
إذا
عرفت هذا فنقول : يتفرع على هذا الأصل فرعان :
الفرع الأول : إن نسبة ابتهاجه والتذاذه بكمالات ذاته إلى ابتهاج الواحد منا بكمالات ذاته ، كنسبة
علمه إلى علمنا ، وكنسبة كمالات ذاته إلى كمالات ذواتنا ، ولما كان لا نسبة لعلمه
وكماله إلى علم غيره وكمالات غيره ، فكذلك لا نسبة لابتهاجه بكمالات ذاته إلى
ابتهاج غيره بكمالات ذاته.
الفرع الثاني : إن الموجودات المفارقة المسماة في لسان الشريعة : بالملائكة.
وفي لسان الفلاسفة : بالعقول والنفوس كلها مبتهجة بأنفسها ملتذة بكمالاتها. إلا أن
درجات ابتهاجات بأنفسها ، على حسب درجاتها في كمالاتها ، وكما أن أكمل الموجودات
هو الله ـ سبحانه ـ فكذلك أجل مبتهج بذاته هو الأول.
الباب الخامس
في
كونه تعالى سميعا بصيرا
هذا البحث أيضا
ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أولها : البحث عن ماهية السمع والبصر.
وثانيها : البحث عن الدلائل الدالة على إثبات تلك الصفة لله ـ سبحانه ـ
وثالثها : البحث عن دلائل من ينكر ثبوتها لله ـ سبحانه ـ
البحث عن ماهية السمع والبصر
أما
البحث الأول : فاعلم أنا إذا نظرنا إلى صورة زيد ، وحصل علمنا بتلك الصورة على أكمل الوجوه ، ثم غمضنا
العين وجدنا تفرقة بديهية بين الحالتين ، مع أن العلم بتلك الصورة حاصل في الوقتين
فعلمنا بهذا الطريق أن الإبصار حالة زائدة على العلم. واختلف الناس فيه. فقال
بعضهم : إن ذلك التفاوت يرجع إلى أن صورة المرئي وشكله يحصل في الحدقة وينطبع فيها
، فالتفاوت عائد إلى تأثر الحدقة بتلك الصورة. واحتجوا على إثبات هذا الانطباع
بوجوه :
الأول : إن من نظر إلى قرص الشمس نظر طويلا تاما ، ثم غمض عينيه فإنه يجد قرص
الشمس منطبعا في خياله انطباعا تاما ، حتى أنه بعد تغميض العين كأنه ينظر إلى ذلك
القرص ويشاهده ولو أراد الإنسان دفع ذلك الخيال لم يقدر عليه ، فعلمنا أن صورة
المرئي ترتسم في الحدقة.
الثاني : إن من نظر إلى روضة خضراء نظرا طويلا بالاستقصاء التام ، ثم حول حدقته
إلى شيء أبيض اللون ، فإنه يرى ذلك الأبيض كأنه لون ممزوج
__________________
بالبياض مع الخضرة
، ولو لا أن العين قد تأثرت بتلك الخضرة ، لما حصل هذا الامتزاج ، أما لما تكيفت
الحدقة بلون الخضرة ، ثم نظر إلى الجسم الأبيض امتزجت الخضرة الحاصلة في الحدقة
بالبياض القائم بذلك الثوب ، فصار المرئي كأنه ملون بلون ممتزج من هذين اللونين.
الثالث : إنا إذا نظرنا إلى الحدقة المقابلة لوجه الانسان رأينا صورة الوجه في تلك الحدقة
وذلك يدل على أن صورة المريء انتقشت في الحدقة وارتسمت فيها.
الرابع : إنا إذا نظرنا إلى قرص الشمس وهورها الكامل ، تأثرت الحدقة وضعفت. وإذا داومنا
على ذلك النظر حصل في الحدقة كلال وضعف ، وتفرق في أجزائه وذلك يدل على أن الحدقة
تتأثر من صورة المرئي.
إذا عرفت هذا
فنقول : من الناس من قال : التفرقة الحاصلة بين الحالتين عائدة إلى أن الحدقة
تتأثر من المريء حال النظر إليه ، ولم يحصل هذا التأثر في الحالة الثانية.
ومن الناس من قال
: إن هذا التأثر حاصل ، ولا نزاع فيه ، ولكن مع ذلك فالإدراك البصري في نفسه حالة
مغايرة للإدراك العلمي. والذي يدل عليه وجوه :
الأول : إنا نبصر نصف كرة العالم بالعين ، ومن المعلوم أن صورة نصف كرة العالم
يمتنع انطباعها في العين ، لأن العظيم لا ينطبع في الصغير ، فيثبت أن صورة نصف كرة
العالم غير منطبعة في العين ، مع أن رؤية نصف كرة العالم حاصلة ، فوجب أن تكون
الرؤية مغايرة للانطباع. ثم إن الحالة المسماة بالرؤية ممتازة عن الحالة المسماة
بالعلم ، امتيازا معلوما بالضرورة ، فعلمنا أن هذا التفاوت عائد إلى الإدراكين في
أنفسهما.
والثاني : إن تأثر العين وانفصاله عن الشيء لا معنى له ، إلا أنه حصلت صورة مساوية لصورة ذلك
المريء فيها ، وقبولها لتلك الصورة بعد عدمها ، وحصولها فيها بعد لا حصولها هو
المسمى بالتأثر والقبول والتصور. وهذه الحالة
ليست من باب
الانكشاف والتجلي. وأما الرؤية فإنها من باب الانكشاف والتجلي فوجب أن تكون الرؤية
حالة مغايرة لهذا الانطباع والتأثر.
والثالث : إنه لو كانت الحالة المسماة بالإبصار والرؤية عبارة عن هذا التأثر ، لوجب أن يقال :
كلما كان التأثر أكمل ، وجب أن يكون حصول الإبصار أكمل وليس الأمر كذلك. لأنا إذا
نظرنا إلى قرص الشمس فإنه يقوي ذلك التأثر ويكمل ، لا لأن الحالة المسماة بالإبصار
والرؤية تضعف فعلمنا أن هذا التأثر والانطباع حالة مغايرة للإبصار والإدراك. فهذا
هو الكلام في تحقيق معنى الإبصار.
وأما السماع فنقول : إنا قبل سماع للصوت قد نعلم حقيقة الصوت وماهيته. فإذا سمعنا
بالأذن ، علمنا حصول تفرقة بديهية بين الحالتين ، أعني حالة العلم وحالة السماع.
وهذه التفرقة (معلومة بالبديهية.
ثم من الناس من
قال ، تلك التفرقة) عائدة إلى أن الصوت إنما يحدث عند تموج الهواء. فإذا تأدى
ذلك التموج إلى سطح الصماخ قرع ذلك السطح فذلك القرع ـ وهو الحركة العنيفة ـ هو
الذي لأجله حصل التفاوت بين الحالتين. والدليل على حصول هذا التأثر : إنه إذا قوي
الصوت ظهر الأثر الشديد في الأذن ، حتى أنه ربما تمزق سطح الصماخ عند قوته. وعند
سماع أصوات البوقان ، يحس الإنسان كأن دماغه يظهر فيه شيء من التمزق والتفرق ،
فيثبت أن عند حصول السماع يحصل هذا الانطباع والانفعال. وعند هذا قال بعضهم :
التفاوت الحاصل (بين الحالتين) عائد إليه.
ومن الناس من قال
: هذا التفاوت مسلم لا نزاع فيه ، إلا أنا ندعي حصول التفاوت بين هذين النوعين من
الإدراك ، أعني النوع المسمى بالعلم ، والنوع المسمى بالسماع. والدليل عليه : أن
السماع أمر مغاير لهذا النوع ، ويدل عليه وجوه :
__________________
الأول : أن الإنسان إذا تكلم من وراء الجدار ، فإنا قد نسمع كلامه بالتمام
والكمال، ومن المحال أن يتأدى ذلك التموج إلينا بكماله وتمامه. لأن الجدار الحائل
بين القائل وبين السامع عائق عن ذلك وليس لهم أن يقولوا : إنه حصل في الجدار مسام
ومنافذ وثقب. فلا يمتنع (تأدي) ذلك الهواء المتموج في تلك الثقب والمنافذ إلى سطح الصماخ.
قالوا : والدليل عليه : أن الإنسان إذا جلس في بيت (مظلم) ولذلك البيت باب ، وتكلم إنسان خارج ذلك البيت ، فإن كان
باب البيت مفتوحا كان السمع أكمل ، وإن كان باب البيت مردودا صار السمع أضعف
وأخفى. وذلك يدل على ما قلناه.
فإنا نقول : هذا
القدر باطل. وذلك لأن الجدار جسم كثيف فالتموج الحاصل بسبب نطق ذلك المتكلم وكلامه
(إذا وصل إلى ذلك الجدار فإنه لا يبقى على صورته وعلى شكله ، فإن الشكل الحاصل في
الهواء اللطيف) ممتنع البقاء عند وصوله إلى الجدار الكثيف ، والذي ينفذ من
ذلك الهواء في ثقب الجدار ، وفي مسامه الضيقة ، لا يبقى على ذلك الشكل الذي حدث
خارج البيت ، فوجب أن يمتنع سماع ذلك الكلام على شكله ونظمه ، وحيث حصل ، علمنا أن
الذي قالوه باطل.
الحجة الثانية : وهو أنا إذا سمعنا
الصوت ، فإنا نعلم أنا
سمعناه من الجانب الأيمن أو الجانب الأيسر. وهذا يدل على أنا سمعنا الصوت في مكانه
الذي حدث فيه. إذ لو قلنا : بأن المسموع ليس إلا القرع الذي حدث في داخل الصماخ
فقط ، فإنه يجب أن لا يعرف بحسب القوة السامعة مكان ذلك الصوت وجهته ، كما أن
القوة اللامسة لما لم تحس إلا بالكيفية الملموسة حال وصولها إلى العضو فإنها لا
تميز بين الجهة التي منها جاءت تلك الكيفية المحسوسة وبين غيرها. فيثبت بهذا أن
الإدراك المسمى بالسماع حالة مغايرة لتأثر الصماخ وانفصاله من التموج الواصل إليه.
__________________
الحجة الثالثة : ما ذكرناه في الإبصار وهو أنه لو كانت الحالة المسماة بالسماع عبارة عن هذا
التأثر ، وجب أن يقال : كلما كان التأثر أقوى وأمكن (وجب أن يكون السماع أكمل
وأقوى) ولما كان الثاني باطلا. كان المقدم باطلا. فيثبت بهذه
الوجوه التي أوضحناها ، أن الإبصار حالة زائدة على العلم ، وعلى تأثر العين ، أو
أن السماع حالة زائدة على العلم وعلى تأثر الأذن. ولا شك أنها حالة تفيد نوعا من
الانكشاف والتجلي ، أكمل وأقوى من الحالة المسماة بالعلم.
البحث الثاني : في أنه هل دل الدليل على إثبات هذا النوع من التجلي والانكشاف لله تعالى؟
اعلم. أنا وإن
دللنا على أن هذه الحالة مغايرة لتأثر العين والأذن ، إلا أنا متوفقون في مقام آخر
، فإنه من المحتمل أن يكون حصول هذه الحالة مشروطا بحصول هذا التأثر في العين
والأذن. والدليل عليه : أنه كلما اختلت هذه الآلات اختلت هذه الإدراكات ، وكلما
كانت الآلات سليمة كانت) الإدراكات سليمة ، فهذا يوهم كونها مشروطة بسلامة هذه
الآلات ، ويحتمل أيضا : أن يقال : إن حصول هذا النوع من الإدراكات للنفس البشرية ،
وإن كانت مشروطة بسلامة هذه الآلات ، إلا أنه لا يمتنع حصولها في حق المفارقات من غير هذه الآلات ، كما أن حصول الوجود لهذه الممكنات
مشروط بتأثير المؤثر فيه ، ثم إن الوجود حاصل لواجب الوجود لذاته ، من غير حصول
إلى حصول هذا المؤثر.
فهذان الاحتمالان
قائمان. وعلى التقدير الأول يكون إثبات هذه الصفة لله محالا.
وعلى التقدير
الثاني لا يكون محالا ، فلا جرم وجب التوقف. إلا أن المقدمة المبنية على الأولى
والأخلق يقتضي إثباتها لله تعالى. وذلك لأنه سبحانه
__________________
أكمل الموجودات ،
فوجب أن يكون موصوفا بكل صفات ، الكمالات ، ومعلوم أن الحالة المسماة بالإبصار
والسماع صفة من صفات الكمال. فإنا بينا أن من علم شيئا ثم رآه ، فإنه يجد في نفسه
كأنه انتقل من نقصان إلى كمال ، ومن خفاء إلى جلاء ، فإذا كانت هذه الحالة من صفات
الكمال ، وكان عدمها من صفات النقصان ، وكان الحق سبحانه وتعالى منزها عن جميع
صفات النقص ، واجب الاتصاف بجميع صفات الكمال ، لزم بمقتضى العقل الأول أن نعتقد
كونه تعالى موصوفا به ، منزها عن النقص الحاصل بسبب فقدانه.
البحث الثالث : في الدليل الذي يمنع من كونه تعالى موصوفا به ، وتقريره : أن إبصار الشيء
قبل حصوله محال ، وسماع الكلام قبل حصوله محال ، إذا ثبت هذا (نقول : إنهم) قالوا : إن هذا يمنع من كونه تعالى موصوفا به لوجهين :
الأول : إنه تعالى لو كان موصوفا بهذا الإدراك لكانت هذه الصفة متغيرة ، لأنه يكون رائيا
للشيء حال وجوده ، وما كان رائيا له قبل وجوده. وكذلك يكون سامعا للصوت حال حصوله ، ولا يكون سامعا له قبل حصوله ، فيلزم وقوع التغير في صفة
الله ، وهو محال ، للدلائل التي ذكرناها في أن وقوع التغير في كل صفات الله محال.
الحجة الثانية : وهي إن إدراك الشيء (مشروط بحصول المدرك في نفسه ، فلو اقتضت ذاته حصول
هذا الإدراك ، وثبت أن حصول هذا الإدراك) موقوف على حصول المدرك في نفسه ، فحينئذ لا تكون ذات الله
كافية في اقتضاء هذه الصفة ، بل كان هذا الاقتضاء موقوفا على حال الغير ، فنقول :
ذاته موقوفة على تلك الصفة ، وتلك الصفة موقوفة على الغير. والموقوف على الموقوف
على الغير موقوف على الغير ، وكل ما كان موقوفا على
__________________
الغير كان ممكنا
لذاته ، فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف. وهذا مجموع ما لخصناه من المباحث
العقلية في هذا الباب.
وللمتكلمين وجهين
ضعيفين في هذا الباب نذكرهما وننبه على ضعفهما :
فالطريق الأول : وهو الذي عول عليه
الأشعرية. قالوا : إنه تعالى
حيّ ، وكلّ من كان حيا فإنه يصح عليه السمع والبصر. وكل من صح عليه وصف ، فإنه يجب
أن يكون موصوفا بتلك الصفة ، وإن لم يكن موصوفا بها ، فإنه يجب أن يكون موصوفا
بضدها ، وضد السمع (الصمم ، وضد) البصر العمى وذلك نقص. والنقص على الله محال ، فوجب كونه
موصوفا بالسمع والبصر. هذا تقدير كلام القوم.
ولقائل
أن يقول : السؤال عليه من وجوه :
السؤال الأول : ما الذي تريدون بقولكم : إنه تعالى حيّ؟ إن عنيتم به : أنه تعالى لا يمتنع أن
يعلم ويقدر. فهذا مسلّم. لكن لم قلتم : إن كل من لا يمتنع أن يعلم ويقدر ، فإنه لا
يمتنع أن يسمع ويبصر؟ وهل النزاع وقع إلا فيه؟ وإن عنيتم بكونه حيا معنى سوى ما
قلنا إنه لا يمتنع أن يعلم ويقدر. فلا بد من تفسيره ، فإنه محمول التصور ، فضلا عن
كونه معلوم التصديق.
السؤال الثاني : إن سلمنا أن كونه حيّا صفة زائدة على سبب ذلك الامتناع فلم قلتم : إنه لما حصلت الحياة ، وجب أن
يحصل هناك صحة أن يسمع ويبصر؟ وبيانه من وجوه :
الأول : أن حياته تعالى مخالفة لحياة الواحد منا ، ولا يلزم من كون حياة الواحد منا مؤثرة
في صحة السمع والبصر أن تكون حياته كذلك لما ثبت أن المختلفات في الماهية ، لا يجب
استواؤها في اللوازم والأحكام. ألا ترى أن حياة الواحد منا تقتضي صحة الشهوة
والنفرة والألم واللذة والجهل والظن ، مع
__________________
أن حياة الله
تعالى ، تصحح هذه الصفات ، وما ذاك إلا لأن حياة الله تعالى مخالفة
لحياتنا ، فلم يلزم من كون حياتنا مقيدة بصحة هذه الصفات كون حياته كذلك ، وإذا
ثبت هذا التفاوت في تلك الصورة ، فلم يجوز مثله هاهنا؟
الوجه الثاني : إن بتقدير حصول المماثلة بين الحياتين ، إلا أنا نقول : كما يعتبر في حصول الصحة
قيام المصحح ، فكذلك يعتبر فيها كون الذات قابلة. فهب أن الحياة المصححة حاصلة
هناك ، إلا أنه لا يمتنع أن يقال : تلك الذات المخصوصة (المخالفة) بخصوصها لسائر الذوات ، غير قابلة لهذه الصفة ، ولأجل كون تلك الذات المخصوصة غير
قابلة لهذه الصحة انتفت هذه الصحة. والدليل عليه : أن الوجود يصحح جميع الصفات ،
ثم إن الوجود حاصل في حق الله تعالى. مع أن أكثر الصفات ممتنعة في حق الله تعالى (وما
ذاك إلا لأجل أن تلك الذات المخصوصة غير قابلة لهذه الصفات) فكذا هاهنا.
والوجه الثالث : هب أن الحياة المصححة لهاتين الصفتين ، والذات المخصوصة قابلة لها من
حيث هي هي ، إلا أنه لا يمتنع أن يكون حصول هذه الصحة مشروطا بشرط مخصوص ، ويكون ذلك الشرط ، ممتنع الحصول في حق الله
تعالى ، ففات ذلك الإمكان لفوات الشرط ، لا لفوات المصحح. ولقائل : أن يقول : وإذا
كانت هذه الاحتمالات قائمة فقد سقط هذا الدليل.
السؤال الثالث : سلمنا أن صحة هذه الصفة حاصلة في ذات الله تعالى. ولكن ما المراد
بالصمم والعمى اللذين جعلتموهما ضدين للسمع والبصر؟ إن عنيتم بالصمم عدم السمع ،
وبالعمى عدم البصر ، فحينئذ يرجع حاصل قولكم إلى أن السمع والبصر لو لم يحصلا لكان
عدمهما حاصلا ، وعدمهما
__________________
نقص. وذلك محال
على الله. فيقال لكم : وهل النزاع وقع إلا فيه؟ وهو أن حصول هاتين الصفتين. هل هو
واجب أم لا؟ وعدمهما هل هو ممتنع أم لا؟ وإذا كان حاصل دليلكم يرجع إلى عدم هاتين
الصفتين محال في حق الله تعالى ، كان هذا إعادة لنفس الدعوى. ومعلوم أنه باطل. وإن
ادعيتم أن الصمم معنى وجودي يضاد السماع ، وأن العمى معنى وجودي يضاد الإبصار ،
فكل ذلك ممنوع. وما الدليل على صحته؟
السؤال الرابع : سلمنا كون الصمم والعمى معنيين وجوديين مضادين للسمع والبصر. فلم
قلتم : إن الذات القابلة للضدين يجب اتصافها بأحدهما؟ وما الدليل على صحة هذه
المقدمة؟ ثم نقول
: الذي يدل على فساده : أن الأجسام بأسرها متساوية (فتكون متساوية) في قبول الصفات. فجسم الهواء قابل للطعوم المختلفة
والألوان المختلفة ، مع أنه غير موصوف بشيء منها ، وكذلك الواحد منا ، يصح أن يكون
موصوفا بالإرادة والكراهية. ثم إنا نعلم أفعال أهل السوقة ، مع أنا لا نريدها ولا
نكرهها.
السؤال الخامس : قولكم الصمم والعمى نقص. فما المراد من النقص؟ فإن عنيتم بالنقص
حصول أمر يمنع من كونه تعالى فاعلا للعالم وخالقا له. فلم قلتم : إن حصول هاتين
الصفتين يمنع من كونه تعالى خالقا للعالم (وفاعلا للعالم؟) وإن عنيتم به معنى آخر. فلا بد من بيانه.
السؤال السادس : ما الدليل على أن النقص على الله محال؟ ثم هاهنا منهم من ادعى
البديهة فيه ، ومنهم من عول على الدلائل السمعية. أما الأول فنقول : إن صح ادعاء
البديهة فيه. فههنا طريق آخر أقرب منه : وهو أن يقال : الحيّ الذي يكون سميعا
بصيرا كامل والذي لا يكون كذلك ناقص والبديهة حاكمة بأنه يجب وصف الله بصفة الكمال
، لا بصفة النقصان ،
__________________
فوجب وصفه بكونه
سميعا بصيرا. وإذا ثبت هذا ظهر أن ذكر هذا الطريق أولى من ذكر الطريق (الطويل)
الذي ذكرتموه. وأما الذين عولوا في تقرير هذه المقدمة على الإجماع. فكلامهم ضعيف ،
لأن الآيات الدالة على كون الإجماع حجة أضعف دلالة بكثير من الآيات الدالة على
كونه سميعا بصيرا.
وأقول : فإن كان
الاكتفاء بالمقدمة السمعية (جائزا) فالاكتفاء بتلك الآيات أولى ، لأنها أدل على المقصود ،
وأولى من المقدمات. فهذا هو الكلام في هذا الدليل.
(والطريق الثاني. طريق المعتزلة)
وأما المعتزلة
فقالوا : الله تعالى حيّ لا آفة به ، وكل من كان حيا ، لا آفة به ، فإنه يجب أن
يكون مدركا للمدركات عند حضورها ينتج أنه تعالى يدركها عند حضورها. أما المقدمة
الأولى ، وهي أنه تعالى حيّ لا آفة به ، فقد ثبتت. وأما المقدمة الثانية وهي أن كل
من كان حيا لا آفة به ، فإنه يدرك المدركات عند حضورها. فقد احتجوا عليه بأن
الواحد منا إذا كان حيا ، وكان سليما عن الآفات فإنه لا بد وأن يدرك. ألا ترى أن
الحي إذا كان سليم العين ، وحضر المرئي مع الشرائط فإنه يبصره ، وإذا كان سليم
الأذن وحضر المسموع فإنه يسمعه ، وإذا كان سليم الأعضاء ، ووضع الجمر على جسده ،
فإنه يحس بتلك الحرارة ، فيثبت بما ذكرنا : أن الحي إذا كان سليما عن الآفة ، فإنه
يجب أن يدرك المدركات عند حضورها.
ولقائل
أن يقول :
(السؤال الأول)
كون الواحد منا حيّا ، يخالف
كون الله تعالى حيا. وأيضا : فذات الواحد مخالفة لذات الله تعالى بالماهية ، ولا
يلزم من ثبوت حكم
__________________
في ماهية ، ثبوت
مثله فيما يخالف تلك الماهية.
السؤال الثاني : هب أن الحياة صفة مشتركة ، بين الشاهد والغائب ، إلا أنه لا يمتنع أن
يكون إيجاب الحياة لصفة المدركية ، موقوف على شرائط تمنع ثبوتها في حق الله تعالى
، وحينئذ يمتنع حصول ذلك الحكم في الغائب لفوات تلك الشرائط.
وقال بعض
المتأخرين من المعتزلة : إن تلك الأشياء لما كانت ممتنعة الثبوت في حق الله تعالى
خرجت عن كونها شرائط بصحة الإدراك ، لأن المعدوم يمتنع كونه شرط لتأثر المقتض ،
وإذا خرجت عن كونها شرائط ، وكان المقتضى حاصلا وجب ترتب الأثر عليه .
ونقول : هذا باطل.
لأن بتقدير أن يكون الشيء مشروطا لشيء ، فعند فوات الشرط ، يجب فوات المشروط ـ إلا
أنه يحصل المشروط بدونه ـ ولو صححنا ما ذكرتم لبطل قياس الخلف ، فإنا إذا قلنا :
لم يوجد اللازم (فوجب أن لا يوجد الملزوم. فيقال : لم لم يوجد اللازم) فقد خرج عن كونه لازما ، فوجب أن يحصل الملزوم بدونه ،
فثبت : أن الكلام الذي ذكرتم ، لو صح لبطل قياس الخلف.
السؤال الثالث : هب أن كون الحيّ حيا يوجب المدركية ، إلا أن هذا إنما يجري في
الإدراك الحسي ، فإن كون الحي حيا يوجب هذا النوع من الإدراك. فأما الإبصار
والسماع ، فلا يحصلان لمجرد كون الحي حيا. فبطل قولكم : إن الموجب لهذا الإدراك ،
مجرد كونه حيا. وهذا تمام الكلام في هذا الباب. والله أعلم.
__________________
الباب السّادس
في
كونه تعالى متكلما
البحث عن حقيقة
الكلام
المسألة الأولى
: في البحث عن حقيقة الكلام :
اعلم. أنا نعلم
بالضرورة : أن لنا أمرا ونهيا وخبرا واستخبارا. فنقول : هذه الماهيات. إما أن تكون
مجرد هذه الألفاظ (أو معاني تدل عليها هذه الألفاظ) .
والأول
باطل لوجوه :
أحدهما : وهو أن الصيغ الدالة على ماهية الأمر والنهي صيغ مختلفة ، بحسب اللغات المختلفة ،
وماهية الأمر والنهي (واحدة ، فوجب التغاير).
والثاني : إن ماهية الأمر والنهي) حقائق ذاتية لا يمكن تبدلها وتغيرها بحسب الاصطلاحات
والأوضاع. وأما هذه الألفاظ والعبارات فإنها قابلة للتبدل والتغير ، فوجب التغاير.
الثالث : إن الصيغة الموضوعة لإفادة معنى الخبر ، كان يعقل أن تكون موضوعة لإفادة معنى
الطلب وبالعكس ، وأما انقلاب ماهية الخبر طلبا.
__________________
وبالعكس. فإنه غير
معقول ، فوجب التغاير.
فهذه الوجوه
الثلاثة وأشباهها ، دالة على أن ماهية الأمر والنهي والخبر والاستخبار ، ليست نفس
هذه الألفاظ. وإذا عرفت هذا فنقول : اختلفوا في ماهية الطلب. فمنهم من قال إنه :
عبارة عن كونه مريدا صدور الفعل من الغير (والنهي : عبارة عن إرادة الترك. ومنهم
من قال : الطلب ماهية مغايرة لتلك الإرادة بدليل أنه قد يريد الفعل من الغير) مع أنه لا يأمر به ، وقد يأمر به مع أنه لا يريده. وذلك
إذا كان المقصود من الأمر غرض آخر سوى إرادة الفعل ، والأولون أجابوا. فقالوا :
إنه إذا أراد فعلا من الغير ، فقد يكون بحيث يريد إعلام الغير (بكونه مريدا لذلك
الفعل منه ، وقد يكون بحيث لا يريد ذلك الإعلام وهو إنما يسمى) أمرا بذلك الفعل إذا أتى بفعل يدل على أنه أراد منه ذلك
الفعل. وأما الثاني وهو أنه قد يأمر بما لا يريد ، فقد أجيب عنه : بأن ذلك لا يكون
أمرا في الحقيقة. وإنما هو ذكر لفظ يوهم كونه مريدا لذلك الفعل. فهذا منتهى البحث
فيه.
ثم تفرع عليه بحث
آخر ، وهو أنا سواء قلنا بأن ذلك الطلب النفساني هو الإرادة أو معنى مغايرا لها.
إلا أنا إذا أردنا أن نعلم غيرنا حصول ذلك المعنى في قلبنا. (فلا بد وأن نعمل عملا
يدل على حصول ذلك المعنى في قلبنا) فالناس رأوا أن الأصلح الأصواب أن يتواضعوا (على أن يعينوا)
لكل معنى من المعاني ألفاظ مخصوصة ، وإن أتوا بتلك الأصوات المقطعة ،
والألفاظ المركبة. دل إتيانهم بها على أنهم أرادوا كذا وكذا. ولقد كانوا قادرين
على أن يعرفوا تلك المعاني بأفعال وأعمال سوى هذه الألفاظ إلا أنهم رأوا أن هذا
الطريق أسهل وأصوب من وجوه :
الأول : إن الإنسان مضطر إلى استدخال النسيم البارد لأجل ترويح
__________________
القلب. فإذا سخن
ذلك النسيم احتاج إلى إخراجه من الصدر ، وذلك الإخراج سبب لحدوث الصوت ، وذلك
الصوت يمكن تقطيعه في المخارج المختلفة والمجالس المتباينة ، ويحدث لتلك الأصوات
بسبب قطعها في تلك المخارج والمجالس هيئات مختلفة ـ هي الحروف ـ فإذا ركبت تلك
الحروف الكثيرة حدثت أصناف كثيرة من الألفاظ ، يمكن تطبق كل واحد منها على نوع من
أنواع الماهيات ، وبهذا الطريق يمكن تعريف المعاني التي لا نهاية لها بخلاف سائر
الأفعال ، فإنه يقف تركيبها على هذه الوجوه الكثيرة.
والثاني : إن هذه الأصوات كما توجد ، تنقص ، وتعدم فهي موجودة حال الاحتياج إليها ،
ومعدومة حال الاستغناء عنها ، وأما سائر الأشياء فقد لا تكون كذلك.
والثالث : إن الاتيان بهذه الأصوات جاري مجرى الإتيان بالأمر الطبيعي ، بخلاف سائر
الأعمال ، بهذا الطريق صار التعبير عن المعاني الحاضرة في القلوب والضمائر ، بهذه
العبارات والألفاظ ، أولى من التعبير عنها بسائر الطرق. فظهر أن المتكلم عبارة عن
فاعل الكلام. لأن المقصود من الكلام : أن يأتي الإنسان بعمل اصطلحوا على أنه متى
أتى به ، فإنه يدل على أنه قام بقلبه (ميل إلى شيء ، أو نفرة عن شيء. ثم اصطلحوا
على جعل ذلك الدليل هو هذه الألفاظ. وهذا كلام معقول ، لا مجال للنزاع فيه.
المسألة
الثانية : في إثبات كونه تعالى متكلما :
اعلم أن هذا يتفرع
على كونه تعالى فاعلا مختارا ، وعلى كونه تعالى عالما بالجزئيات.
ثبت أنه تعالى
مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها ، فإذا خلق أصواتا في جسم مخصوص تدل تلك
__________________
الأصوات بالوضع
والاصطلاح على كونه تعالى مريدا ، لما أراد ، وكارها لما كره. وذلك هو الكلام.
وأما الذين فسروا
ذلك الطلب بمعنى مغاير للإرادة فهم يحتاجون إلى إثبات مقدمات. أولها : الفرق
المعقول بين ذلك الطلب وبين الإرادة.
وثانيها : إقامة الدلالة على كونه تعالى موصوفا بذلك المعنى ، وليس للقوم
فيه دليل جيد على ما سيأتي شرحه.
وثالثها : إن القائلين بهذا المعنى زعموا أن هذا الشيء قديم ، وهو بعيد.
ويدل عليه وجوه :
الأول : إنه لا معنى للأمر والنهي إلّا التزام الفعل ، والتزام الترك ،
والعلم الضروري حاصل بأنه قبل وجود زيد فإنه يمتنع أن يحصل إلزامه فعلا ، وإلزامه
تركا. فإن معنى الإلزام أن نقول : يا زيد ألزمتك هذا الفعل. ويا عمرو ألزمتك هذا
الترك. والعلم الضروري حاصل أن عند عدم زيد ، وعدم عمرو ، فإنه يمتنع أن نقول : يا
زيد ألزمتك هذا الفعل ، ويا عمرو ألزمتك هذا الترك ، وإن لم يكن هذا العلم ضرورية
، فليس عند العقل شيء من العلوم الضرورية.
والثاني : إنه تعالى أخبر عن أشياء كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً) و : (عَصى آدَمُ) ومعلوم أن المخبر عنه سابق في الوجود على حصول الخبر ، فلو
كان هذا الخبر أزليا ، لزم أن يكون الأزلي مسبوقا بغيره ، وهو محال. فإن عارضوا
ذلك بالعلم نقول : قد ذكرنا : أن المذهب الصحيح في هذا الباب. هو قول أبي الحسين
البصري : وهو أنه يتغير العلم عند تغير المعلوم.
__________________
الثالث : وهو أنه تعالى لما ألزم زيدا إقامة صلاة الصبح ، فإذا أتى زيد بذلك
الفعل. فهل بقي ذلك الإلزام الأول ، أو لم يبق ، فإن بقي وجب أن لا يكون له سبيل
إلى الخروج عن العهدة ، لأنه وإن أتى بذلك الفعل ألف ألف مرة ، فالإلزام الأول
باقي (وإن لم يبق ذلك الالزام فقد عدم ، والمتكلمون مصرون على أن القديم يمتنع
عليه العدم ، فلما عدم هذا الإلزام) وهذا الأمر ، وجب على مقتضى قولهم : أن لا يكون قديما.
الرابع : إن النسخ عندهم جائز ، والنسخ عبارة عن رفع الحكم بعد ثبوته. أو عن انتهاء
(زمن) ذلك الحكم . وعلى التقديرين فقد عدم بعد وجوده ، وما يثبت عدمه امتنع
قدمه.
الخامس : إن الصفة القديمة الأزلية تكون تعلقاتها (بمتعلقاتها) أمرا ذاتيا لازما واجبا. فلو كان أمر الله قديما لوجب
تعلقه بكل ما يصح (تعلقه) به ، لكن الحسن والقبح العقليين باطل عند القائلين بهذا
القول ، فلا شيء إلا ويصح الأمر به ، ولا شيء إلا ويصح النهي عنه ، فيلزم تعلق
الأمر بكل الأشياء ، وتعلق النهي بكل الأشياء ، فيلزم كون الأشياء بأسرها مأمورا
بها ، منهيا عنها ، وذلك يوجب اجتماع الضدين ، وهو محال.
السادس : إنا كما بينا : أن العلم بالشيء ، يجب أن يتغير عند تغير المعلومات (فكذلك
الخبر عن الشيء يتغير عند تغير المخبر عنه ، وكل ما يتطرق التغير إليه وجب أن لا
يكون قديما ، لأنه) ثبت أن ما كان قديما كان العدم عليه محالا .
__________________
فهذه وجوه عقلية
ظاهرة في أنه يمتنع كون هذا الطلب والخبر قديما ، سواء قلنا : إن هذا الطلب هو
الإرادة أو غيرها.
واحتج
القائلون بقدم الكلام بأشياء :
الأول : إنه تعالى حيّ ، وكل حيّ فإنه يصح أن يكون متكلما ، وكل من صح عليه الاتصاف
بصفة ، فإنه يجب أن يكون موصوفا بتلك الصفة أو بضدها. وضد الكلام هو الخرس
والسكوت. وذلك نقص ، والنقص على الله تعالى محال ، فوجب أن يكون في الأزل موصوفا
بالكلام.
والثاني : وهو أنا أجمعنا على أنه تعالى متكلم ، فأما أن يكون متكلما لذاته ـ وهو باطل
بالاتفاق ـ أو يكون متكلما بالكلام ، وذلك الكلام إن كان حادثا ، فأما أن يحدث في
ذاته ، أو في غيره ، أولا في محل. والأقسام الثلاثة باطلة ، فبطل كون الكلام حادثا
، فوجب أن يكون قديما. وإنما قلنا : إن حدوث الكلام في (ذات الله محال ، لأنه يوجب
قيام الحوادث بذات الله وهو محال. وإنما قلنا : إن حدوث الكلام في) غيره محال ، لأنه لو جاز أن يكون متكلما بكلام حاصل في
غيره ، لجاز أن يكون جاهلا بجهل يقوم بغيره ، وعاجزا بعجز يقوم بغيره. وذلك باطل.
وإنما قلنا : إن حدوث الكلام لا في محل : محال. فبالاتفاق. وأيضا : فكلام الله
تعالى صفة ، وصفة الشيء تكون حاصلة فيه لا محالة.
والثالث : إن الكلام إما أن يكون صفة كمال ، أو صفة نقص. فإن كان صفة كمال وجب أن
يكون موصوفا به أبدا. إذ لو لم يكن موصوفا به في الأزل لزم كونه خاليا عن صفة
الكمال ، والخلو عن صفة الكمال ، والخلو عن صفة الكمال نقصان ، والنقصان على الله
محال. وإذا كان صفة نقص وجب أن لا يتصف به البتة ، لأن النقص على الله ـ عزوجل ـ محال. وحيث
توافقنا على أنه تعالى قد اتصف به ، علمنا أنه ليس من صفات النقص.
__________________
الرابع : إن العلم الضروري حاصل بأن المتكلم أكمل وأفضل ممن لم يكن متكلم ، ولا شك أن
الواحد منا متكلم. فلو لم يكن الله في الأزل متكلما ، لزم أن يكون حال الواحد منا
عند وجوده أفضل وأكمل من الله تعالى ، حين كان في الأزل ، وذلك محال. فيثبت أنه
تعالى موصوف بالكلام في الأزل.
ولقائل أن يقول : أما الوجه الأول : فقد
تكلمنا عليه في مسألة
السمع والبصر ، والذي نريده هاهنا هو أن نقول : لا نسلم أن السكوت نقص ، بل النقص
أن يقول القائل : يا زيد صلّ ، ويا عمرو صم. مع أن زيدا وعمروا يكونان معدومين ،
ألا ترى أن الرجل إذا جلس في دار نفسه وحده ، خاليا (عن الناس) ثم يقول : يا مستقر اركب ، ويا قائما أقبل . فإن كل أحد يقضي عليه بالجنون والنقص ، فكذا هاهنا.
وأما الوجه الثاني : وهو أن قولكم : أجمعنا على أنه تعالى متكلم. فنقول : إن عنيتم بكونه
متكلما أنه فعل أفعالا مخصوصة ، دلت تلك الأفعال على كونه تعالى مريدا لبعض
الأفعال ، وكارها لبعضها ، فهذا مسلم إلا أن هذا القدر لا يدل على كونه تعالى
موصوفا بشيء من الصفات المسماة بالكلام ، وإن عنيتم بكونه متكلما : أمرا وراء ذلك
فهذا ممنوع. والاتفاق ليس إلا في اللفظ.
وأما الوجه الثالث : وهو أن الكلام صفة كمال ، والخلو عنه نقص ، والنقص على الله محال. فجوابه
: أن الاشتغال بالأمر والنهي حال عدم المأمور والمنهي ، هو النقص والسفه.
وهذا
بعينه هو الجواب عن الرابع :
فهذا خلاصة الكلام
المعقول في هذا الباب.
وأما اللفظيات
والسمعيات ، ففيها أقوال كثيرة لا تليق بهذا الكتاب. والله أعلم بالصواب. ومنه التوفيق.
__________________
الباب السّابع
في
كونه تعالى قديما باقيا
في
القدم والبقاء
من الناس من يقول : إن كونه قديما باقيا عين ذاته المخصوصة. ومنهم
من يقول : هما صفتان قائمتان بذات الله تعالى.
واحتج
الأولون بوجوه :
الأول : إن المفهوم من كون الشيء قديما
معقول لنا ، والذات
المخصوصة التي هي ذات الله تعالى من حيث إنها هي غير (معلومة لنا) فوجب التغاير. بيان الأول
: أن القديم هو الذي
لا أول لوجوده ، والباقي هو الذي يكون مستقر الوجود ، وهذا المفهوم معقول. وأما أن
الذات المخصوصة ، التي هي ذات الله تعالى غير معقولة ، فلما ثبت تقريره فيما تقدم.
وإذا لاحت المقدمتان ، فالنتيجة لازمة.
الثاني : إنا نقول القديم الباقي إما أن يكون جسما أو جوهرا أو عرضا ، أو شيئا ما (مغايرا) لهذه الأقسام الثلاثة ، فنجعل المفهوم من القديم الباقي
مورد التقسيم إلى هذه الأقسام الأربعة ، ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام
__________________
فالمفهوم من
القديم الباقي ، أمر مشترك بين هذه الأقسام ، فوجب كونه مغايرا لكل هذه الأقسام.
الثالث : إنا نقول : إن ذات الله تعالى قديمة باقية ، فتكون القضية مفهومة. وإذا قلنا :
إن ذات الله (تعالى ذات) لم يفد هذا الكلام شيئا ، ولو لا التغاير بين الذات وبين
كونها باقية ، وإلا لقام كل واحد من هاتين القضيتين مقام الأخرى.
فهذه الوجوه
الثلاثة ، دالة على أن كونه تعالى قديما باقيا ، صفة.
واحتج
المنكرون لكون البقاء صفة زائدة على الذات بوجهين :
الأول : إنه لو كان البقاء صفة قائمة بذات الله تعالى ، لافتقرت الذات إلى تلك الصفة
فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره ، وذلك محال. ولقائل أن يقول
: لم لا يجوز أن يقال : الذات المخصوصة لكونها تلك الذات المخصوصة توجب (الدوام
والاستمرار. والمحال إنما يلزم لو أثبتنا شيئا وراء الذات يوجب) دوام تلك الذات. أما إن قلنا : الذات المخصوصة توجب ذلك
الدوام ، لم يلزم منه محال. مع أن على هذا التقدير يكون ذلك الدوام صفة من صفات
الذات.
الثاني : إنه لو كان الدوام والاستمرار صفة ، لكانت تلك الصفة أيضا دائمة مستمرة،
فيلزم أن يكون دوامها زائدا عليها ، ولزم التسلسل ، وأيضا : فنقول : دوام تلك
الصفة إما أن يكون لنفسها ، أو لشيء آخر ، فإن كان دوامها لنفسها ، ودوام تلك
الذات لأجل تلك الصفة ، (فحينئذ تكون تلك الصفة واجبة لنفسها ، وتكون الذات واجبة
لأجل تلك الصفة) وما يكون دائما لنفسه يكون أولى بكونه ذاتا مستقلة بنفسها
، مما يكون دوامه بسبب غيره ،
__________________
وإما إن كان دوام
تلك الصفة بدوام شيء آخر ، فذلك الآخر إن كان هو الذات لزم الدور، وإن كان شيئا
آخر لزم التسلسل ، والكل محال.
(فهذا حاصل الكلام
المعقول الملخص في هذا الباب. والله أعلم) .
__________________
الباب الثامن
في
كونه تعالى حيا
(اعلم أن المراد من كونه تعالى حيا) : إنه يصح أن يعلم ويقدر ،
ولما ثبت بالدليل كونه قادرا عالما. وكل ما كان موجودا امتنع أن يكون ممتنع الوجود
، يثبت أنه تعالى يصح أن يعلم ويقدر ، ولا معنى لكونه حيا إلا ذلك. ولقائل أن يقول
: الامتناع مفهوم عدمي ، فنقي الامتناع يكون عدما للعدم ، فيكون موجودا وكونه حيا
مفهوم وجودي ، وأنه صفة للذات ، ونعت لها ، فيمتنع أن يكون عين الذات ، (فيكون) هو صفة وجودية قائمة بالذات.
ومن الناس من قال : الحياة صفة موجودة
لأجلها يصح على الذات أن يعلم ويقدر. واحتج عليه : بأنه لو لا اختصاص تلك الذات
بالصفة التي لأجلها يصح عليها العلم والقدرة ، لم يكن
ثبوت هذه الصحة
لتلك الذات أولى ثبوتها لسائر الذوات.
ويقال له : هذا إنما يلزم لو قلنا : الذوات متساوية في الماهية ، حتى يقال : لو لا اختصاص
بعضها بهذه الصفة ، وإلا لما حصل هذا الامتياز. أما لما كانت ذاته المخصوصة مخالفة
بالماهية لسائر الذوات لم يلزم ما ذكرتموه.
__________________
وأيضا : كما أن
الذوات مختلفة في صحة أن يعلم ويقدر ، فكذلك مختلفة في صحة أن يكون حيا فإن وجب (أن
يعلل ذلك الاختلاف بصفة ، لوجب أن يعلل اختلافها في صحة الحياة) بصفة أخرى ، ولزم
التسلسل.
وإن قلتم : بأن
ذلك الاختلاف معلل بالذات المخصوصة. فلم لا يجوز مثله في صحة العالمية والقادرية؟
والله أعلم.
الباب التاسع
كلمات في الصفات
الفصل الأول
في
حصر صفات الله تعالى
اعلم أن المتكلمين حصروا الصفات في هذه الثمانية. وهي كونه حيا
، عالما ، قادرا ، مريدا ، سميعا ، بصيرا ، متكلما ، باقيا. فإذا قيل لهم : فهل
تثبتون لله صفة أخرى؟ قالوا : لا. لأن الدليل لم يدل إلا على هذه الصفات ، وما لا
دليل عليه يجب نفيه. وربما قالوا : لو جوزنا إثبات ما لا دليل عليه لم يكن عدد
أولى من عدد آخر ، فيلزم إثبات أعداد لا نهاية لها من الصفات المجهولة. وذلك محال.
وقد علمت في علم
المنطق : أن عدم العلم بالشيء لا يفيد العلم بعدم الشيء.
وعلمت أيضا : أن
قول القائل : ليس عدد أولى من عدد. أن أريد به عدم هذه الأولوية في الذهن والعقل ،
فذاك لا يفيد إلا التوقف وعدم الجزم ، وإن أريد به عدم الأولوية في نفس الأمر ،
فهذا مما لم يمكن إثباته ، بل الواجب أن يقال : إن ما دل العقل على ثبوته قضينا
بثبوته وما لم يدل العقل على ثبوته ولا على عدمه وجب التوقف فيه. والله أعلم.
__________________
الفصل الثاني
في
أنه تعالى عالم لذاته أو لمعنى؟
اعلم . أن أهم المهمات في هذه المسائل البحث عن محل الخلاف. فنقول
: لا شك أن القادر هو الذي يصح منه الفعل. وهذه الصحة ليست نفس تلك الذات المخصوصة
، لأن المفهوم من هذه الصحة قد يعلمه من لا يعلم حقيقة تلك الذات المخصوصة. وأيضا
: العالم هو الذي يكون له شعور بذلك الشيء ، وتبين به. وقد عرفت أن معنى الشعور
والإدراك والتبيين لا يحصل البتة إلا عند حصول نسبة مخصوصة بين ذلك العالم وبين
المعلوم. وهذه النسب والإضافات المسماة بالتعلق لا بد من إثباتها ، وإلا فيمتنع
الاعتراف بكونه تعالى قادرا عالما ، فإن كان المراد بقولنا : إنه تعالى عالم وله
علم. وقادر وله قدرة هذا المعنى فذلك مما لا سبيل البتة إلى إنكاره ، وإن كان معنى
العالم هو الذات الموصوفة بهذه النسبة الخاصة ، ومعنى القادر هو الذات الموصوفة
بتلك الصحة المخصوصة ، كان نفي هذه النسب ، وهذه الإضافات نفيا لكونه عالما قادرا.
وإن كان المراد منه معنى آخر وراء ما ذكرناه فذلك يستدعي بحثا آخر ، سوى ما
ذكرناه. وتقريره :
إن من المتكلمين من زعم : أن العلم صفة
قائمة بذات العالم ، ولها
تعلق بالمعلوم وهذا القائل أثبت أمورا ثلاثة : أحدها الذات. وثانيها :
__________________
الصفة. وثالثها :
التعلق الحاصل بين تلك الصفة وبين ذلك المعلوم.
ومنهم من زعم أن
العلم صفة توجب العالية ثم إنهم أثبتوا تعلقا بين العالم وبين المعلوم، ولا أعرف
كيفية مذاهبهم فيه. فإنه يحتمل أن يقولوا : العالمية هي المتعلقة بالمعلوم لا
العلم ، ويحتمل أن يقولوا : العلم هو المتعلق بالمعلوم ، لا العالمية. وعلى هذه
التقديرات فقد أثبتوا أمورا أربعة : الذات ، والعلم ، والعالمية ، والتعلق. ولا
يبعد أن يثبتوا التعلق للعلم وللعالمية أيضا. (وعلى هذا التقدير فقد أثبتوا أمورا
خمسة.
وأما نحن فلا نثبت
إلا أمرين الذات) والنسبة ، المسماة بالعالمية ، وندعي أن هذه النسبة ليست
نفس الذات ، بل هي أمر زائد على الذات ، موجود في الذات. وهذا هو البحث عن المعقول
الصرف.
فأما المباحث اللفظية فهي أمور :
أحدها : أن تلك الصفات ، هل يقال : إنها مغايرة للذات أم لا ، بل هي لا نفس
الذات ولا غيرها؟
وثانيها : أن هذه الصفات هل توصف بكونها قدماء أم لا؟
وثالثها : أن تلك الصفات هل توصف بأنها أعراض أم لا؟
ورابعها : أنها هل توصف بأنها قائمة بالذات أو حالة في الذات ، أو موجودة
في الذات ، أو يجب الامتناع من كل هذه الألفاظ ، إلا أنه يقال : إنها موجودة
بالذات؟ فجميع هذه المباحث لفظية لا معنوية.
إذا عرفت هذا
فنقول : المشهور أن الفلاسفة والمعتزلة ينكرون الصفات وأما الصفاتية فإنهم يثبتونها.
__________________
والتحقيق في شرح محل الخلاف ما ذكرنا.
قلنا : هاهنا مقامان : الأول : إثبات العلم والقدرة ، بمعنى تلك النسب المخصوصة أمور
زائدة على الذات. والمقام الثاني : بيان أن تلك الصفات المسماة بالعلم والقدرة. هل هي واجبة الوجود
بأنفسها ، أو الموجب لها هو ذات الله تعالى ، أو يقال : ذات الله يوجب معنى ، وذلك
المعنى يوجب هذه النسب والإضافات؟ فهذا تمام الكلام في هذا البحث.
أما المقام الأول : فهو في بيان أن القدرة والعلم بالتفسير الذي ذكرناه يمتنع أن يكون عين
الذات ، بل هما صفتان قائمتان بالذات ، والذي يدل على صحة ما ذكرناه وجوه :
الحجة الأولى : إن قولنا : عالم يناقضه قولنا : ليس بعالم ، (ولا يناقضه قولنا ليس بموجود
، وقولنا : موجود يناقضه قولنا : ليس بموجود ، ولا يناقضه قولنا : ليس بعالم) ولو كان كونه موجودا هو عين كونه عالما ، لامتنع حصول هذا
التغاير ، لأن الشيء الواحد يمتنع أن يصدق عليه كونه نقيضا له ، وكونه ليس نقيضا
له.
الحجة الثانية : إذا دل الدليل على أن العالم لا بد له من مؤثر قديم أزلي واجب الوجود
لذاته ، فعند هذا يبقى العقل متوقفا في أن ذلك المؤثر عالم ، أو ليس بعالم. وقادر
، أو ليس بقادر ، ويفتقر في إثبات كونه تعالى عالما قادرا إلى دليل منفصل ، ولو
كان كونه عالما قادرا نفس كونه موجودا قديما واجبا. لما كان الأمر كذلك ، لأن
الشيء الواحد يمتنع أن يصدق عليه كونه معلوما ، وكونه لا معلوما. لأن الجمع بين
النقيضين محال.
الحجة الثالثة : إذا قلنا : إن ذات الله الموجودة موجودة. خرجت القضية
__________________
عن الإفادة. وإذا
قلنا : ذات الله الموجودة : عالم قادر ، كانت القضية مفيدة ، وافتقرنا في التصديق
بها إلى الحجة. ولو لا أن المفهوم من كونه عالما قادرا مغاير للمفهوم من كونه
موجودا ، لم يكن الأمر كذلك.
الحجة الرابعة : إنا بينا أنه عالم تحصل النسبة المسماة بالعلم ، لم يحصل كون العالم عالما والنسبة بين ذات العالم وبين ذات المعلوم صفة لتلك
الذات ، ومفتقرة إليها ، وكيف لا نقول ذلك ، والنسب والإضافات مقولة بالقياس إلى
غيرها ، والذوات القائمة بأنفسها ليست كذلك ، وكل ذلك يوجب التغاير؟
الحجة الخامسة : إن المفهوم من كون الذات قادرة ، غير المفهوم من كونها عالمة. وذلك لأن
القادر قد يكون عالما ، وقد لا يكون ، كما أن العالم قد يكون قادرا وقد لا يكون.
فلما كان ماهية العالمية غير ماهية القادرية ، وحدّ العالمية غير حدّ القادرية ،
فلو قلنا : إنها عين الذات لزم أن يكون الشيء الواحد : لا يكون شيئا واحدا. بل
يكون شيئين متغايرين. وذلك محال.
الحجة السادسة : لو كان كونه عالما ، عين كونه قادرا ، لكان كل ما صح كونه عالما به وجب
أن يصح كونه قادرا عليه ، فكان يلزم في الواجب لذاته ، وفي الممتنع لذاته أن يكون
مقدورا ، كما أنه معلوم له وحيث أطبق أهل العقل أن الواجب لذاته والممتنع لذاته
معلوم ، (وليس بمقدور علمنا أن المفهوم من كون الشيء معلوما ، مغاير للمفهوم من
كونه مقدورا) وذلك يقتضي حصول المغايرة بين العلم وبين القدرة.
الحجة السابعة : إن القادر إذا خرج مقدوره إلى الوجود. لم يبق قادرا على إيجاده بعينه.
لأن إيجاد الموجود وتحصيل الحاصل محال. والمحال لا قدرة عليه ، فالمقدور بعد دخوله
في الوجود لم يبق مقدورا ، لكنه بقي معلوما بعد خروجه إلى الوجود. وصدق هذا النفي
، والإثبات ، يوجب التغاير بين العلم. وبين القدرة .
__________________
الحجة الثامنة : إن العلم ماهية مخصوصة ، والقدرة أيضا ماهية مخصوصة ، فإما أن تكون إحدى
الماهيتين عين الأخرى أو غيرها؟ فإن كان الأول كان لفظ العلم ولفظ القدرة لفظان
مترادفان ، يفيد كل واحد منهما ما يفيده الآخر. ومعلوم أن ذلك باطل ، لأن حد العلم
غير حد القدرة ، وأحكام العلم غير أحكام القدرة ، وخواص كل واحد منهما مغايرة
لخواص الآخر. وإذا كان الأمر كذلك وجب أن يكون المعقول من كونه عالما ، مغايرا
للمعقول من كونه قادرا ، وأن يكون المعقول من كل واحد منهما ، مغايرا للمعقول من
كونه موجودا. وذلك يفيد المطلوب.
ولنعبر عن هذا
الكلام بعبارة أخرى. فنقول : المعقول من كونه عالما ، ومن كونه قادرا ، ومن كونه
ذاتا موجودة ، إما أن يكون معقولا واحدا ، أو لا يكون كذلك. والأول باطل بالبديهة
، لأنا ببديهة العقل نعلم أن هذه الألفاظ ليست مترادفة بل هي ألفاظ متباينة ،
يفيد كل واحد منهما غير ما يفيد الآخر. فهذه المعاني الثلاثة إما أن تكون ذرات
ثلاثة قائمة بأنفسها. وذلك باطل بالاتفاق ، وبصريح العقل ، أو يكون بعضها موصوفا ،
والبواقي صفات. وهو المطلوب.
واحتج
نفاة الصفات بوجوه :
الحجة الأولى للفلاسفة : قالوا : هذه
الصفات إما أن تكون
واجبة الوجود لذواتها ، أو جائزة الوجود لذواتها ، والقسمان باطلان ، فالقول
بثبوتها : باطل.
أما بيان أنه
يمتنع كونها واجبة الوجود لذواتها فلوجهين : الأول : ما
ثبت أن واجب الوجود لذاته يمتنع أن يكون أكثر من واحد. والثاني : أن الصفات غير (قائمة
بأنفسها بل هي) قائمة بالذات ، والقائم بغيره مفتقر
__________________
إلى الغير ، فيكون
ممكنا لذاته ، لا واجبا لذاته.
وأما بيان أنه يمتنع
كونها ممكنة لذواتها ، فهو أن كل ممكن لذاته ، لا بد له من سبب. وذلك السبب ليس
إلا تلك الذات ، وذلك محال من وجهين : الأول : إنه إذا كان المؤثر هو تلك الذات والقابل أيضا تلك الذات فيلزم كون
الشيء الواحد قابلا وفاعلا ، وهو محال. والثاني : هو أن الاحتياج لا يحصل إلا عند
زمان الحدوث ، وإلا لزم تكوين الكائن ، وهو محال ، فلو كانت هذه الصفات معللة
بالغير ، لكانت حادثة ، لكن كونها حادثة محال، فيمتنع كونها معللة بالذات.
الحجة الثانية للفلاسفة : قالوا : إله العالم إما أن يكون فردا أو مركبا ، ويمتنع كونه
مركبا ، لأن كل مركب فهو مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وجزء الشيء غيره ، فكل
مركب فهو مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فلو كان إله العالم
مركبا لكان ممكنا لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فلا بد له من سبب يوجده. فيثبت أن إله
العالم لو كان مركبا لكان ممكنا ، ولو كان ممكنا افتقر إلى الفاعل ، وذلك محال في
حق إله كل الممكنات ينتج أن إله كل الممكنات لا يكون مركبا ، وكل ما لا يكون مركبا
، كان فردا مطلقا. والمجموع الحاصل من الصفة والموصوف يكون مركبا ، فيثبت أن إله
العالم فرد مطلق ، وليس فيه تركيب من الصفة والموصوف. وهو المطلوب.
وأما دلائل المعتزلة : ـ فلهم وجوه عامة في كل الصفات ، ووجوه خاصة في كل واحد من الصفات ـ أما
الوجوه العامة :
فالحجة الأولى : قالوا : عالمية الله
تعالى واجبة ، والواجب
لا يعلل. أما أن عالمية الله تعالى واجبة ، فلأنها لو كانت جائزة لافتقر ذلك العالم
إلى فاعل يجعله عالما ، وحينئذ يصير إله العالم عبدا ، وهو محال. وأما أن الواجب لا يعلل. فلأن الافتقار
إلى العلة ، لأجل أن يترجح بسببها جانب الوجود على جانب
__________________
العدم. وإذا كان
ذلك الرجحان حاصلا على سبيل الوجوب ، امتنع افتقاره إلى العلة.
الحجة الثانية : القول بالقدماء يفضي إلى المحال فيكون محالا. والدليل عليه : أنا قد دللنا على
أن القدم مفهوم ثبوتي ، فالقدماء تكون متشاركة في هذا المفهوم ، (وإذا كانت
متشاركة) فإما أن يخالف بعضها بعضا بشيء من الأجزاء المقومة ، أو لا
يكون كذلك. فإن كان الأول فما به المشاركة غير ما به المخالفة ، لأن كل واحد من
أولئك القدماء مركب من هذين القيدين ، وهما قديمان ، ضرورة أن جزء ماهية القديم
قديم ، فذلك الجزءان يتشاركان في القدم ، ويتخالفان في موجبه الآخر ، فيكون كل
واحد من ذينك الجزءين أيضا مركبا ، فيلزم كون كل واحد منهما مركبا من أجزاء غير
متناهية (وهو محال.
وإن كان الثاني
وهو أن أولئك القدماء لا يخالف بعضها بعضا في جزء مقوم للماهية) فهي أشياء متماثلة في تمام الماهية ، فيلزم كون الذات صفة
، والصفة ذاتا ، ويلزم القول بتعدد الآلهة وهو محال) .
الحجة الثالثة : إنه لو قامت الصفة بالذات لحصل في الوجود قدماء متغايرة ، وذلك
باطل بالاتفاق.
الحجة الرابعة : إن المعقول من حلول الصفة في الذات حصول تلك الصفة في الحيز المعين ،
تبعا لحصول ذلك المحل فيه ، وإنا لو رفعنا هذا المعنى من العقل ، فحينئذ لا يكون
قيام أحدهما بالآخر أولى من قيام الآخر بالأول ، فيثبت أن قيام الصفة بالموصوف ،
يقتضي كون الموصوف حاصلا في الحيز ، مختصا بالجهة ، وذلك في حق الله تعالى محال.
الحجة الخامسة : إن ذات الله تعالى ، إما أن يتم إلهيتها بدون هذه الصفات ، وإما
أن لا تتم. والثاني يوجب كونه محتاجا إلى الغير ، والأول
__________________
يقتضي أن تكون تلك
الذات المخصوصة كافية في الإلهية. ومتى كان الأمر كذلك ، كان الإله غنيا في إلهيته
عن هذه الصفات. ومثل هذه الصفات يجب نفيها بالاتفاق.
الحجة السادسة : الذات وحدها ، إما أن تكون كافية في الإلهية أو لا تكون. فإن كانت
الذات وحدها كافية في حصول الإلهية ، كانت هذه الصفات لغوا في حصول الإلهية ، وإن
لم تكن كافية. فنقول : الصفات إما أن تكون كافية في حصول الإلهية أو لا تكون. فإن
كانت كافية في الإلهية كانت (الذات) لغوا فيها ، وإن لم تكن كافية فنقول : فعلى هذا التقدير
الذات من حيث إنها هي غير كافية ، والصفات أيضا غير كافية ، فعند اجتماعهما إما أن
يحصل أمر زائد على ما حصل حال الانفراد ، أو لم يكن كذلك. فإن حصل فالموجب لذلك
الزائد ، إما الذات وجدها ، أو الصفة وحدها ، وحينئذ يعود التقسيم الأول. أو
مجموعهما فحينئذ يعود الكلام من أنه إما أن يكون قد حصل حال الاجتماع (ما لم يحصل)
حال الانفراد ، أو لم يحصل. فإن كان الأول كان حصول ذلك الزائد لأجل سبب زائد
آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال ، وإن لم يحصل زائد أصلا كان الحاصل عند الاجتماع ،
كما هو عند الانفراد (ولما كان عند الانفراد) ولم تكن الإلهية حاصلة ، وجب القطع بعدم حصولها عند
الاجتماع ، فيثبت أن الإلهية من لوازم تلك الذات المخصوصة من حيث هي هي ، ولا حاجة
معها إلى إثبات صفة أخرى.
وأما
الوجوه التي تمسكوا بها في نفي العلم خاصة. فهي ثلاثة :
الحجة الأولى : لو كان تعالى عالما بالعلم ، لتعلق علمه بما تعلق به علم الواحد منا ، من
الوجه الواحد. وكل علمين كذلك فهما مثلان ، ويلزم من تماثلهما ، إما قدمهما معا ،
أو حدوثهما معا ، وذلك محال.
__________________
الحجة الثانية : لو كان تعالى عالما
بالعلم ، لكان إما أن
يكون عالما بعلم واحد ، أو بعلوم متناهية ، أو بعلوم غير متناهية ، والثلاثة باطلة
، فالقول بكونه عالما بالعلم باطل. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون عالما بعلم
واحد ، لأنه لا يصح أن يعلم كونه تعالى عالما (بهذا المعلوم) مع الذهول عن كونه عالما بالمعلوم الآخر ، والمعلوم مغاير
لغير المعلوم. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون عالما بعلوم متناهية ، لأن
معلوماته غير متناهية. وإذا توزعت المعلومات المتناهية على المعلومات التي لا
نهاية لها ، لزم تعلق العلم الواحد بمعلومات كثيرة. وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن
يكون عالما بعلوم غير متناهية ، لأن كل عدد موجود ، فإنه يقبل الزيادة والنقصان ،
وكل ما كان كذلك فهو متناهي. ينتج : أن كل عدد موجود فهو متناهى. وما لا يكون متناهيا
، يمتنع وجوده.
الحجة الثالثة : لو كان عالما بالعلم ، لكان إما أن يعلم ذلك العلم بعين ذلك العلم ، وهو
محال. لأن العلم لا بد فيه من نسبة مخصوصة ، وحصول النسبة بين الشيء وبين نفسه
محال ، أو بعلم آخر ، والكلام فيه كما في الأول. فيلزم إما الدور وإما التسلسل ،
وهما محالان.
والجواب عن الأول : إنه بناء على أن الشيء الواحد لا يكون قابلا وفاعلا. وقد بينا أنه
باطل.
وعن الثاني : لم لا يجوز أن يقال الذات المخصوصة واجبة الوجود لعينها ، وهي موجبة لتلك
العالمية المخصوصة ولتلك القادرية؟.
وأما الحجة الأولى للمعتزلة فنقول : إن عنيت بكون عالمية الله واجبة لعين تلك الذات المخصوصة ، فهذا
عين محل النزاع ، وإن أردت أنها واجبة على الإطلاق فنقول : هذا لا يقدح في غرضنا ،
فإن ذات الله إذا كانت موجبة لمعنى ، وكان ذلك المعنى موجبا للعالمية ، فحينئذ
تكون ذاته موجبة لما يوجب العالمية وذلك لا يقدح في كون العالمية واجبة.
__________________
وأما الحجة الثانية لهم : فنقول : إنهم معترفون بحصول العالمية والقادرية ، فكل ما تذكرونه في
المعنى ، فنحن نورده عليكم في العالمية والقادرية.
وأما الحجة الثالثة : وهو التزام قدماء متغايرة ، فإن عنيتم بالغيرين الحقيقتان المختلفتان. فهذا
مسلم. وهو أول المسألة ، وإن عنيتم به الشيئين اللذين يجوز أن يفارق أحدهما الآخر
، إما بمكان أو بزمان فلم قلتم : إن كل موجودين يجب أن يكونا كذلك؟
وأما الحجة الرابعة : وهي أن المعقول من
الحلول حصول الصفة في
الحيز ، تبعا لحصول محلها فيه. فقد أبطلنا هذا التفسير في باب تفسير الجوهر
والعرض. وقوله : لو دفعنا بهذا المعنى لم يكن حلول أحدهما في الآخر أولى من العكس.
فجوابه : إنا بينا : أن قول القائل ليس هذا أولى من ذلك مقدمة ركيكة ضعيفة.
وأما الحجة الخامسة : وهي أن ذاته إن كانت كاملة في الإلهية فلا حاجة إلى الصفة. فنقول
: لم لا يجوز أن يقال تلك الذات المخصوصة أوجبت المعنى؟ وذلك المعنى أوجب
العالمية. وهذا هو بعينه الجواب عن الحجة السادسة.
وأما الحجة الأولى من الوجوه التي
تمسكوا بها في نفي علم الله : فنقول : العلمان إذا تعلقا بذلك المعلوم الواحد ، فقد اشتركا في ذلك
الحكم ، والاشتراك في الأثر لا يقتضي الاشتراك في ماهية المؤثر ، لأن المختلفان في
الماهية لا يمنع اشتراكهما في بعض اللوازم.
وأما الحجة الثانية : فنقول : كل ما أوردتموه علينا في العلم فهو لازم عليكم في التعلقات.
وهذا هو الجواب بعينه عن الحجة الثالثة.
فقد ظهر بهذه
التنبيهات أن هذه الدلائل بأسرها ضعيفة. ثم نقول : إنها بأسرها إنما تتوجه على من
يقول هذه التعلقات معللة بصفات أو بمعاني قائمة بالذات. ونحن لا نقول بذلك ، بل قد
دللنا على أن هذه التعلقات معلومات
زائدة على الذات.
وعندنا : إنها معللة بنفس الذات ، وعند هذا يظهر أن شيئا من هذه الدلائل لا يتوجه
علينا البتة. وبالله التوفيق.
المقام الثاني : اعلم أنا قد ذكرنا أن المراد من القادرية كونه بحيث يصح منه الإيجاد والترك.
والمراد من العالمية هذه النسبة المخصوصة والإضافة المخصوصة فنقول من المعلوم
بالضرورة : أن هذه الصحة المخصوصة ، وهذه النسبة المخصوصة لا تكون ذوات قائمة
بأنفسها مستقلة بحقائقها ، فهي لا بد وأن تكون ممكنة لذواتها ، وكل ممكن فلا بد له
من سبب. وذلك السبب إما تلك الذات أو غيرها. والأول باطل وإلا لكانت تلك الذات
مفتقرة في لوازمها إلى غيرها ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فواجب الوجود
لذاته ممكن لذاته فيثبت أن الموجب لهذه الأحكام والنسب هو ذاته المخصوصة ، إلا أنه
بقي هاهنا بحث آخر ، وهو : أن اللوازم على قسمين لوازم بغير وسط ولوازم بوسط. فهذه
العالمية والقادرية لا يبعد أن يكون موجبها هو عين ذات الله ، ولا يبعد أيضا أن
يقال : إن ذات الله تعالى توجب أمرا ، وذلك الأمر يوجب هذه العالمية والقادرية ،
وسواء قلنا : تلك الواسطة واحدة ، أو وسائط كثيرة ، فكل واحد من الوجهين محتمل.
إلا أنا نقول : لما كان لا بد من الاعتراف بكون تلك الذات المخصوصة موجبة لهذه
النسب والإضافات. إما بواسطة وإما بغير واسطة ، وكانت الواسطة مجهولة وجب على سبيل
الأولى والأخلق حذف هذه الواسطة من البين. والاعتراف بكون الذات المخصوصة موجبة
لها. والذي يقرر ذلك : أنا إذا استدللنا بحدوث العالم على الفاعل المختار. فإذا
قيل : لم لا يجوز أن يقال : بأن الفاعل المختار معلول علة موجبة بالذات؟ قلنا :
لما وجب الاعتراف بوجود موجود واجب الوجود لذاته ، وبوجود الفاعل المختار ، كان
الأولى أن نقول : ذلك الفاعل المختار هو ذلك الموجود الواجب لذاته ، وحذفنا
الوسائط من البين. فلما قلنا هذا في المعلولات المباينة عن ذات الله تعالى ، وجب
أيضا أن نقوله ونعقله في الصفات القائمة بذات الله.
واحتج القائلون بإثبات هذه المعاني
بوجوه :
الأول : وهو أن العلم في الشاهد صفة متعلقة بالمعنى ، فيجب أن يكون
في الغائب كذلك ،
لأن الحقيقة والماهية لا تختلف بسبب اختلاف الشاهد والغائب.
والثاني : إن العالمية حصلت بعد أن لم تكن في الشاهد ، فوجب كون العلم صفة موجودة ،
ولا يمكن أن يقال : إن الذي حدث هو مجرد النسب والإضافات لأن ذات الجسم لا يمكن أن
تكون متعلقة بالمعلوم ، فوجب أن يكون الحادث صفة يحصل لها هذا التعلق.
والثالث : إن العلم ما له تعلق بالمعلوم
، فلو كانت الذات متعلقة
بالمعلوم لزم أن تكون ذات الله علما ، وذلك باطل.
ولمجيب أن يجيب عن الأول : فيقول : العلم في الشاهد ليس إلا هذا التعلق المخصوص ، وإلا هذه
النسبة المخصوصة. ونحن نعقل من معنى العلم إلا هذا الشعور وهذا الإدراك وهو ليس
إلا هذه النسبة المخصوصة.
وعن الثاني : لم لا يجوز أن يقال : هذه النسبة المخصوصة إذا حدثت في الجسم فقد حصل
العلم والشعور والإدراك ، وإذا لم تحصل فقد زال العلم فإما أن يعتقد أنه حصل صفة
وحصل لتلك الصفة هذا التعلق ، فهذا ممنوع؟
وعن الثالث : إنا لا نسلم أن العلم عبارة عن شيء متعلق بالمعدوم ، بل العلم عبارة عن
نفس التعلق ، وعن نفس تلك النسبة المخصوصة. وعلى هذا فإنه لا يلزم من كون الذات
موصوفة (بذلك التعلق) أن تكون الذات عالما ، فهذا تمام كلامنا في هذا الباب (والله
أعلم بالصواب)
__________________
الفصل الثالث
في
احصاء صفات الله تعالى
أطبقت
الفلاسفة : على أن صفات الله تعالى. إما
سلوب وإما إضافات. أما السلوب فكقولنا : إنه ليس بجسم ولا بجوهر ولا بمتحيز. وأما
الإضافات فكقولنا : إنه جواد موجد مفضل ، وأما ما يتركب من هذين القسمين فأقول :
إنهم ذكروا ما يبطل هذه المقدمة. وذلك لأنهم قالوا : العلم عبارة عن صورة مطابقة
للمعلوم (في العالم) ، وإذا كان الأمر كذلك فعلمه تعالى بالمعلومات عبارة عن
صور مطابقة للمعلومات وتلك الصور ليست باب السلوب ولا من باب الإضافات فهذا اعتراف
منهم بأن الله تعالى صفة حقيقية قائمة بذاته. وذلك يبطل قولهم : إن صفات الله
محصورة في السلوب والإضافات.
واعلم. أنا بينا
أنه لا سبيل إلى إثبات ذلك الحصر إلا على سبيل الأولى والأخلق. وأما العلم فلو كان
من باب النسب والإضافات ، لم يكن إثبات العلم قادحا في ذلك الحصر. فهذا ما نقوله
في هذا الباب (وبالله التوفيق) .
__________________
الفصل الرابع
في
أن تكوين الشيء هل هو نفسه ، نفس المكون ، أو غيره؟
اعلم . أنه تعالى إذا أخرج الشيء (إلى الوجود) ، فههنا أمران : أحدهما : ذلك المكون. والثاني ، أنه تعالى
كون ذلك الشيء وأخرجه من العدم إلى الوجود ، فتكوين الله تعالى إياه. هل هو نفس
ذلك الأثر أم هو مغاير له؟ ونظير هذا البحث في الشاهد أن التحريك هل هو عين الحركة؟
والتسويد. هل هو عين السواد؟ فمن قال : التكوين نفس المكون. قال (التحريك نفس
الحركة ، والتسويد نفس السواد. ومن قال : التكوين نفس المكون. قال (التحريك نفس
الحركة ، والتسويد نفس السواد. ومن قال : التكوين غير المكون. قال) في هذه الصورة بالتغاير. وهذا البحث غامض ، وله غور عظيم.
ونقول : لمن قال : إن التكوين غير المكون أن يحتج بأنه إذا قيل : لم حدث هذا
الشيء؟ ولم وجد بعد أن كان معدوما؟ فيقول : لأجل أن القادر أحدثه وأوجده ، فيعلل
وجوده بأحداث المحدث إياه ، وبإيجاد الموجد إياه. فلو كان إحداث المحدث إياه نفس
وجود ذلك الأثر ، لصار قولنا : إنه إنما وجد لأجل أن القادر أوجده ، جاريا مجرى أن
يقال : إنه إنما وجد لنفسه ، لكنه لو
__________________
وجد لنفسه وبنفسه ،
لزم أن لا يكون للقادر فيه أثر ، وذلك يقتضي نفي التأثير ، ونفي المؤثر ، وذلك
باطل. فيثبت بهذا : أن إيجاد الموجد له ، مغاير لوجوده في نفسه.
وذلك الإيجاد
والتكوين ليس هو نفس القدرة ، وذلك لأن القادر قد يكون قادرا على أشياء مع أنه لا
يوجدها ، ألا ترى أنه تعالى قادرا على خلق شموس كثيرة ، وأقمار كثيرة ، مع أنه
تعالى ما خلقها. فهو قادر عليها وغير خالق لها ، فيثبت بهذا : أن التكوين صفة
مغايرة للقدرة ، ومغايرة للمكون وذلك هو المطلوب.
وأما الذين قالوا
: التكوين لا يجوز أن يكون غير المكون ، فقد احتجوا عليه : بأن التكوين لو كان غير
المكون ، لكان ذلك التكوين إما أن يكون قديما أو محدثا ، فإن كان قديما لزم من
قدمه قدم المكون ، لأن التكوين إنما يصدق مع حصول الكون. ألا ترى أنه ما
دام الفعل يكون باقيا على العدم الأصلي ، فإنه يصدق على ذلك القادر أنه ما أثر فيه
، وما كونه ، وما تصرف فيه. فيثبت أن التكوين لا حصول له إلا عند حصول المكوّن ،
فلو كان التكوين قديما لزم أن يكون المكون قديما ، وذلك يوجب قدم العالم. وإما إن
كان التكوين حادثا ، افتقر تكوينه إلى تكوين آخر ، وذلك يوجب التسلسل ، وهو محال.
فهذا خلاصة ما في
الموضع (من المباحث العقلية ، وستكون لنا عودة إلى هذا البحث في الكتاب المشتمل
على الحدوث والقدم. وبالله التوفيق) .
__________________
الفصل الخامس
في
تقسيم أسماء الله تعالى
اعلم أن أسماء الله تعالى يمكن تقسيمها من وجوه :
التقسيم الأول : وهو أن الاسم الواقع على الشيء إما أن يكون مسماه هو الذات ، أو جزء من أجزاء
الذات ، أو أمرا خارجا عن الذات.
أما (القسم الأول : وهو) الاسم الدال على الذات : فهذا معقول في الجملة. وهل يعقل
إثباته في حق واجب الوجود أم لا؟ ولقائل أن يقول : ذات الله تعالى ذات مخصوصة ،
متميزة بنفسها ، وبخصوصيتها عن سائر الذوات ، على ما ثبت ذلك بالبراهين القاطعة ،
وتلك الذات المخصوصة من حيث هي هي غير معلومة للخلق. وإذا لم تكن معلومة امتنع وضع
الاسم لها ، لأن المقصود من الاسم أن يصطلح شخصان على وضع لفظة معينة لتعريف (معنى)
معين ، حتى أن كل واحد منهما إذا تلفظ بتلك اللفظة عرف السامع أن مراد القائل
من تلك اللفظة ذلك المعنى. فعلى هذا وضع الاسم إنما يعقل حيث كان المعنى معلوما
للقائل والسامع ، ولما كانت الحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود غير معلومة لأحد
من الخلق ، كان وضع الاسم لتلك الحقيقة المخصوصة ، ممتنعا.
__________________
وعبّر قدماء
الفلاسفة عن هذا المعنى فقالوا : إنها حقيقة لا تدركها عقول الخلق ، فلا اسم لها ،
إلا أن نشرح الحقيقة بأنها واجبة الوجود لذاتها.
ولمجيب أن يجيب
فيقول : الذي ثبت عندنا : أنا لا نعرف تلك الحقيقة المخصوصة. وأما أنه يمتنع عقلا
عرفانها ، فذلك لم يثبت بالدليل البتة. وبتقدير أن يكون ذلك ممتنعا لم يبعد أن
يشرف الحق ـ سبحانه ـ بعض عباده بتلك المعرفة. وحينئذ يكون وضع الاسم منتفعا به ،
وأيضا : فهب أن العقول البشرية تمتنع عليها (هذه المعرفة إلا أنه لم يثبت أن
الأرواح القدسية الملكية يمتنع عليها) ذلك. وأيضا : فهب أن العقول البشرية والأرواح الملكية
يمتنع عليها تحصيل هذا العرفان ، إلا أنه لا يبعد أن يكون لتلك الحقيقة المخصوصة
اسم معين. ثم إنه تعالى يشرف بعض عبيده بتعريف ذلك الاسم ، ولا يبعد أن يكون ذكر
ذلك الاسم ، سببا ، لأن تنقاد لذكره الأرواح المطهرة المقدسة ، ولا يبعد أيضا : أن
يحصل لذاكره ، قوة في الروح ، لا تحصل إلا بذلك الطريق. فكل هذه الوجوه محتملة.
وأما القسم الثاني : وهو الاسم الذي يفيد جزء الماهية. فنقول : هذا في حق واجب الوجود محال.
لأنه فرد منزه عن جهات الكثرة والتركب.
وأما القسم الثالث : وهو الاسم الذي يفيد صفة خارجة عن الماهية. فنقول : هذا الاسم إما أن يدل
على صفة حقيقية عارية عن الإضافة ، أو يدل على إضافة فقط (أو على سلب فقط) أو على صفة حقيقية مع إضافة أو على صفة حقيقية مع سلب. أو
على صفة إضافية مع سلب أو على مجموع صفة حقيقية إضافية أو سلبية فهذه أقسام سبعة.
أما القسم الأول : وهو الذي يدل على صفة حقيقية خارجة عن الماهية ،
__________________
فنقول : تلك الصفة
إما الوجود ، وإما شيء من كيفيات الوجود ، وإما قسم ثالث مغاير للقسمين ، أما
اللفظ الدال على كونه موجودا. فهو لفظ الموجود. واعلم أن الموجود قد يراد به ما
قبل الوجدان. وعلى هذا التقدير ، فالموجود يجرى مجرى المعلوم. ومنه قوله تعالى : (لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وقد يراد به كونه ثابتا في نفسه متحققا في ذاته. وإذا ثبت
هذا الاحتمال فحينئذ لا يكون لفظ الموجود نصا في هذا المعنى. ولهذا السبب كان بعض
الموحدين يعبر عن وجوده تعالى في نفسه بلفظ : الهسقية ، لأن هذا اللفظ ، وإن كان فارسيا ، إلا أنه نص في المقصود
، وأما لفظ الموجود فإنه ليس نصا في هذا المعنى.
إذا عرفت هذا
فنقول : الألفاظ الدالة على الذات كثيرة. ونحن نذكر بعضها :
فالأول : لفظة الحق فنقول الحق هو الموجود ، والباطل هو المعدوم. وأحق الأشياء باسم الحق هو الله ـ سبحانه
ـ قال ـ سبحانه ـ : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى
اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) وهو أيضا : يحق الحق. قال تعالى : (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) وأيضا : وعده حق. قال تعالى : (إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) .
واعلم. أن الحق هو
الموجود ، والباطل هو المعدوم ، فإذا كان الشيء واجب الوجود كان اعتقاد وجوده ،
والإقرار بوجوده : مستحق التقرير والإثبات ، فلا جرم يسمى هذا الاعتقاد ، وهذا
الإقرار حقا. وأما إذا كان واجب العدم ، كان اعتقاد وجوده والإقرار بوجوده مستحق
العدم ، فلا جرم يسمى هذا الاعتقاد ، وهذا الإقرار : باطلا.
إذا عرفت هذا
فنقول : الشيء إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممتنعا
__________________
لذاته ، أو ممكنا
لذاته. (أما الواجب لذاته فإنه حق محض لذاته. وأما الممتنع لذاته فهو باطل محض
لذاته) وأما الممكن لذاته فإنه لا يترجح وجوده على عدمه ، إلا
بإيجاد موجد ، ولا يترجح عدمه على وجوده. إلا بإعدامه معدم. فعلى هذا : الممكن إذا
أخذ من حيث هو هو ، فإنه (يكون) معدوما ، بمعنى أنه ليس له استحقاق الوجود والعدم من ذاته.
وإذا كان كذلك ، فكل ممكن فهو من حيث إنه هو (هو) باطل. وهالك. ولهذا قال ـ سبحانه ـ (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ) ولما كان كل ممكن فإنه يكون ممكنا أبدا ، وكل ممكن فإنه من
حيث هو هو يكون باطلا وهالكا ، لزم أن ما سوى الحق ـ سبحانه ـ فهو هالك أبدا.
ولهذا السبب قالوا : لا موجود في الحقيقة إلا الله. وأيضا : فكل ممكن فهو إنما
يكون موجودا بالنظر إلى تكوين واجب الوجود ، فواجب الوجود هو الذي يؤثر في جعل ما
سواه حقا. ولهذا قال : (وَيُحِقُّ اللهُ
الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) فهو ـ سبحانه ـ حق لذاته ، و (يُحِقَّ الْحَقَّ
بِكَلِماتِهِ) ولما ثبت أنه ـ سبحانه ـ حق لذاته ، كان اعتقاد وجوده
واعتقاد كونه موصوفا بصفات العلو والعظمة أحق الاعتقادات ، لأن المعتقد لما كان
ممتنع التغير كان ذلك الاعتقاد أيضا ممتنع التغير ، وكذا القول في الإقرار به ،
فهو ـ سبحانه ـ أحق الحقائق بأن يكون حقا ، ومعرفته أحق الحقائق بأن تكون حقا ،
والإقرار به أحق الأقوال ، بأن يكون حقا.
الاسم الثاني : إنه تعالى «شيء» وقال
جهم بن صفوان : لا يجوز تسمية
الله بهذا الاسم. واعلم. أن جهما لا ينازع في كونه تعالى موجودا وثابتا. وإنما
ينازع في أنه تعالى هل يسمى بهذا الاسم؟.
__________________
أما الذين أطلقوا هذا الاسم على الله
فقد احتجوا بالقرآن واللغة. أما
القرآن فقوله تعالى : (قُلْ : أَيُّ شَيْءٍ
أَكْبَرُ شَهادَةً؟ قُلِ : اللهُ) قالوا : هذه الآية دالة على أنه تعالى مسمى باسم الشيء.
وأيضا : قوله : (كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ
إِلَّا وَجْهَهُ) والمراد بالوجه: اللذات فههنا : استثنى ذاته عن الشيء
والمستثنى داخل تحت المستثنى منه. وأما اللغة : فهو أن من أنكر كون المعدوم شيئا.
قال : الشيء والموجود مترادفان. ومن أثبت كون المعدوم شيئا ، قال : الشيء ما يصح
أن يعلم ويخبر عنه ، فكأن لفظ الشيء أعم من لفظ الموجود. وإذا ثبت هذا فنقول :
توافقنا على أنه تعالى موجود ، فإن كان الشيء مرادفا للموجود وجب كونه تعالى مسمى
باسم الشيء ، وإن كان الموجود أخص من الشيء ، وقد صدق عليه الوجود الذي هو أخص ،
وجب أن يصدق عليه الشيء ، الذي هو أعم.
ولمن أنكر إطلاق
اسم الشيء على الله أن يحتج بالقرآن والمعقول. أما القرآن فآيات : أحدها : قوله
تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) فلو كان هو تعالى مسمى بالشيء لزم أن يكون خالقا لنفسه ،
وهو محال. ولا يجوز أن يحمل ذلك على كون هذا العام مخصوصا ، لأن الخارج إذا كان هو
القسم القليل يجوز حسن إطلاق لفظ الكل (عليه ، فإنه يجوز) على القسم الأعظم الأكبر ، إجزاء للأعظم مجرى الكل. والحق ـ
سبحانه ـ بتقدير أن يقع عليه اسم الشيء هو أعظم الأشياء وأجلها. (لا يجوز ذلك) فتخصيص العموم في مثل هذه الصورة قبيح وغير جائز. والآية
الثانية : قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (حكم على مثل مثل
نفسه بأنه ليس بشيء ، ولا شك أنه مثل لمثل نفسه
__________________
فوجب أن لا يسمى
بالشيء) وقول من يقول : الكاف زائدة : بعيد. لأن حمل ألفاظ هذا
الكتاب العالي على الإفادة ، وصونها عن اللغو أولى. والآية الثالثة. قوله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها) أمر بأن يدعو الله بالأسماء الحسنى ، وحسن الاسم عبارة عن
الألفاظ الدالة على صفات الجلال والكمال (ولفظ الشيء يدل على القدر المشترك بين
جميع الموجودات خسيسها ونفيسها. ومتى كان الأمر كذلك ، كان هذا اللفظ خاليا عن
الدلالة على صفات الجلال والكمال) فوجب أن لا يجوز ذكره في حق الله ـ سبحانه ـ فهذا تمام
البحث. وهو بحث لفظي محض.
الاسم الثالث : الماهية واعلم أن هذا
اللفظ لفظ مركب في
الأصل (لأنه في الأصل) مأخوذ من قولهم عند الإشارة إلى الحقيقة المعينة : ما هي؟
وهذا اللفظ وارد في القرآن. قال تعالى حكاية عن فرعون أنه قال لموسى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ؟ ثم إن موسى ـ عليهالسلام ـ ما منعه من هذا
السؤال. بل اشتغل بجوابه ، فقال : (رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) .
واعلم أن هاهنا
مباحثة عالية شريفة ، وهي أنه جاء في الكتاب الإلهي مناظرة فرعون مع موسى ـ عليهالسلام ـ مرتين . فمرة قال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا
مُوسى) ؟ وطلب منه تعريف الإله بلفظة «من» وهذه اللفظة طالبة للصفة لا للذات.
__________________
فقال موسى ـ عليهالسلام ـ في جوابه : (رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ
خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) فالخلق إشارة إلى تدبير الأجساد ، والهداية إلى تدبير
الأرواح. وهذا هو كمال البيان. لأن كل ذات قائمة بنفسها ، سوى الله تعالى فهي إما
متحيزة ، وهي الأجساد ، أو غير متحيزة وهي الأرواح ، فانقطع فرعون هاهنا في هذا
المجلس. ثم أعاد هذه المناظرة في مجلس آخر، وطلب تعريف حقيقة الإله بلفظة «ما» فقال : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ) ؟ فذكر موسى في جوابه : الصفة. وقال : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ) فقال فرعون (لِمَنْ حَوْلَهُ : أَلا
تَسْتَمِعُونَ) ؟ يعنى أني ذكرت لفظة «ما» وهي تفيد طلب ماهية الذات ، وأنه
يجيب عنه بذكر الصفة. وهذا الجواب لا يليق بهذا السؤال. فأعاد موسى الجواب بذكر
الصفة (مرة أخرى) ، وقال : (رَبُّكُمْ وَرَبُّ
آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) فعند هذا صرح فرعون بالسفاهة. وقال : (إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ
إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) يعني أني نبهته على أن الجواب بذكر الصفة لا يليق بالسؤال
الذي يذكر بلفظة «ما» وإنما يليق بالسؤال الذي يذكر بلفظة «من» ثم إنه مع هذا
التنبيه لم ينتبه. فقال موسى : (رَبُّ الْمَشْرِقِ
وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) يعني : إن كنت يا فرعون عاقلا علمت أنه لا جواب عن هذا
السؤال إلا بما ذكرته.
وتقريره : أن
تعريف الشيء إما أن يكون بنفسه أو بأجزاء ماهيته ، أو بالأمور الخارجة عن ماهيته.
أما تعريفه بنفسه : فمحال لأن المعرف متقدم في المعلومية على المعرف، فلو عرفنا
الشيء بنفسه لزم أن يكون العلم به متقدما على العلم به ، وهو محال. وأما تعريفه
بأجزاء ماهيته (فهذا إنما يعقل في حق الماهية) التي تكون مركبة من الأجزاء ، والحق ـ سبحانه ـ منزه عن
ذلك
__________________
فيمتنع تعريف ذاته
بهذا الطريق. ولما بطل هذان القسمان ثبت أنه لا يمكن تعريفه إلا بلوازمه وآثاره.
ويجب أن تكون تلك الآثار أحوالا ظاهرة جلية. وأظهر الآثار الصادرة عن الله ـ سبحانه
ـ تكوين هذا العالم وإيجاده ، فظهر بهذا أن الإنسان إن كان عاقلا ، فإنه يعلم أنه
لا سبيل إلى تعريف ذات الله تعالى ـ إلا بذكر مخلوقاته (ومكنوناته) فهذا شرح هذه المناظرة.
الاسم الرابع : الحقيقة. وهي فعيلة ، والفعيل قد يكون بمعنى الفاعل (كالنصير بمعنى الناصر) والبصير بمعنى الباصر ، والعليم بمعنى العالم. وقد يكون
بمعنى المفعول كالقتيل بمعنى المقتول. فالحقيقة في حق الله تعالى ، بمعنى الفاعل :
هو الذي يحقق الحقائق ، ويكون الماهيات. وفي حق الممكنات بمعنى المفعول ، يعني
أنها محققة بتحقيق الحق لها.
الاسم الخامس : الذات اعلم أن هذه
اللفظة وضعت للدلالة على
اختصاص شيء بشيء آخر. يقال : امرأة ذات مال ، وذات جمال ، وماهية ذات كذا ، وحقيقة
ذات كذا وتمام البيان فيه : أن ذوات الأشياء من حيث أنها تلك الذوات والحقائق
مجهولة. لا يمكن تعريفها إلا بصفاتها ، فلهذا السبب يقال : حقيقة ذات كذا وكذا ،
حتى تصير تلك الصفة معرفة لتلك الحقيقة. ثم جعل لفظ الذات مفيد لتلك الماهية التي
هي موصوفة بالصفات ، فلا جرم دل لفظ الذات على الأمر الذي له صلاحية أن تكون هي
موصوفة بالصفات. وهذا هو تفسير الذات ، وأحق الذوات بهذا الاسم ذات الله ـ تعالى ـ
لأنه أكمل الذوات في القيام بالنفس عن المحل ، وفي الاستغناء عن المحل والقابل.
الاسم السادس : النفس قال تعالى : (تَعْلَمُ ما فِي
نَفْسِي. وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ) والنفس قد يراد به الجسد ، وذلك في حق الله تعالى محال. وقد
يراد به الذات والحقيقة. وهو المراد بهذا اللفظ في حق الله تعالى.
__________________
القسم
الثاني : الأسماء الدالة على كيفية الوجود :
واعلم أن هذه الكيفية نوعان :
أحدهما : الوجوب والآخر : الدوام.
أما الاعتبار الأول ففيه ثلاثة أسماء :
الأول : قولنا واجب الوجود لذاته وذلك يفيد أنه يستحق الوجود من ذاته المخصوصة ، ولذاته المخصوصة ، وقريب
من هذا اللفظ قولنا بالفارسية : «خداى» وأصل هذه اللفظة قولهم : خودآى ، ومعناه :
بنفسه جاء ، والمراد من هذا المجيء ، الوجود. فصار قولنا : «خداى» أي بنفسه وجد.
وذلك هو اللفظ المطابق لقولنا : واجب الوجود لذاته.
الاسم الثاني : القوي قال تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) وذلك لأن الشيء الذي لا يقبل التغيير يقال : إنه قوي.
فكونه تعالى بحيث لا يقبل العدم في ذاته البتة ، هو المراد من القوة. ويمكن أن
يقال : المراد من القوة : هو كونه مؤثرا في غيره ، والمراد بكونه متينا بحيث لا
يقبل الأثر من غيره ، وهذا أحسن.
الثالث : القيوم وهو اسم لما يكون قائما بذاته مقوما لغيره ، فكونه قائما بذاته. معناه: أنه يكون
موجودا لذاته وبذاته ، فلا جرم يستغني عن كل ما سواه (وكونه مقوما لغيره: معناه.
أنه هو المكون لكل ما سواه) وهو الموجد لكل ما عداه ، والذات الموصوفة بكونها قائمة
بذاتها ، ومقومة لغيرها هو الكامل في القيام ، فلهذا سمي قيوما.
وأما النوع الثاني من كيفيات الوجود فهو
الدوام. وفيه أنواع من الأسماء :
الاسم الأول : القديم واعلم أن القديم
هو الذي لا أول لوجوده. وقد يراد به :
الذي طالت مدة وجوده. قال تعالى : (إِنَّكَ لَفِي
ضَلالِكَ
__________________
الْقَدِيمِ) وقال : (حَتَّى عادَ
كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) وقد دللنا على أنه ـ سبحانه ـ قديم أزلي.
وقال بعضهم :
القدم صفة سلبية. وهو خطأ. لأنه عبارة عن نفي العدم السابق ، ونفي النفي ثبوت.
ومنهم من قال :
إنه قديم بقدم هو صفة قائمة به. وهو أيضا باطل. وإلا لكان ذلك القدم قديما بقدم
آخر ، ولزم التسلسل ، وهو محال.
الاسم الثاني : الأزلي وهو غير ما ذكرناه في تفسير القدم.
الاسم الثالث : الأبدي ومعناه أنه لا آخر له ، ولا يصير معدوما بعد وجوده البتة.
الاسم الرابع : الباقي
قال تعالى في «طه» : (وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) ومنهم من قال : هو الذي وجد أكثر من زمان واحد. ومنهم من
قال : الباقي هو الذي يكون مبرأ من العدم من جميع الوجوه. وعلى هذا التقدير ،
فالباقي ليس إلا الله.
واعلم أنه تعالى
واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان كذلك كان دائم الوجود ، فإن اعتبرنا دوامه (في
الماضي) ، فهو القدم والأزل ، وإن اعتبرنا دوامه في المستقبل فهو
الأبد والسرمد ، ولفظ السرمد اشتقاقه من السرد ، وهو الاستمرار والتعاقب ، وأدخل
فيه الميم ليفيد هذا المعنى على سبيل المبالغة.
وقال بعضهم :
الباقي هو الذي لا ابتداء لوجوده ، ولا انتهاء لوجوده.
وقيل : الباقي الذي
يكون في أمده على الوصف الذي في أمده.
وقيل : هو الأول
بلا ابتداء ، والآخر بلا انتهاء.
__________________
وقيل : الحق باقي
ببقائه ، والخلق باقي بإبقائه.
الاسم الخامس : الوارث قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ
الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها) وقال : (وَلِلَّهِ مِيراثُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) واعلم أن مالك جميع الممكنات هو الله ـ سبحانه ـ ولكنه
بفضله جعل بعض الأشياء ملكا لبعض عباده ، فالعبد إذا مات ، وبقي الحق ـ سبحانه ـ عادت
تلك الأملاك إلى المالك الحقيقي ، فكان هذا هو المراد من كونه وارثا. فالحاصل : أن
المراد من كونه وارثا : كونه باقيا بعد فناء الخلق ، كما قال : (لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) .
الاسم السادس : الأول والآخر والظاهر
والباطن واعلم أن المؤثر متقدم
بالذات ، وبالعلية على الأثر ، فإذا ابتدأت بالمؤثر ونزلت منه إلى الأثر ، كان
المؤثر هو الأول ، وإذا صعدت من الأثر إلى المؤثر كان المؤثر هو الآخر. وبهذا
الطريق يظهر أنه لما كان مبدأ أولا لجميع الممكنات ، لزم كونه أولا عند النزول إلى الممكنات ، وكونه آخرا عند الصعود من الممكنات ، ويكون
ظاهرا لأن الأثر يدل على وجود المؤثر ، ويكون باطنا لأن العلم بالمعلول لا يفيد
العلم بماهية العلة البتة ، وإنما الغاية القوى فيه : أن يدل على وجود العلة (فهو
ظاهر لدلالة مخلوقاته على وجوده) وباطنا لقصور مخلوقاته عن الدلالة على ماهيته المعينة ،
وحقيقته المخصوصة. ويجب البحث هاهنا عن أسرار هذه الألفاظ الأربعة . أما الأول: فهو الفرد السابق ، والذي يدل على أنه كذلك :
أنه لا شك في وجود الموجودات الكثيرة. فنقول : إنها إما أن تكون بأسرها ممكنة
الوجود ، أو واجبة الوجود ، أو يكون بعضها ممكنا وبعضها
__________________
واجبا. أما القسم
الأول : وهو أن تكون
الموجودات بأسرها ممكنة فهذا محال ، لأن مجموعها مفتقر إلى (كل واحد منها ، وكل
واحد منها ممكن ، فمجموعها مفتقر إلى الممكن ، والمفتقر إلى) الممكن ممكن ، فالمجموع ممكن. وكل واحد من ذلك المجموع
ممكن ، وكل ممكن فلا بد له من علة مغايرة له ، فمجموع الممكنات ، وكل واحد من آحاد
الممكنات : (مفتقر إلى علة مغايرة ، وما يغاير مجموع الممكنات ، ويغاير كل واحد من
آحاد الممكنات) فإنه يمتنع أن يكون من الممكنات ، فيثبت أنه لا يمكن أن
يقال : إن جميع الموجودات ممكن.
وأما القسم الثاني : وهو ، أن يكون جميعها واجب الوجود فقد سبق بيان أنه يمتنع أن يكون في الوجود شيئان ، يكون كل
واحد منهما واجبا لذاته ، فلم يبق إلا أن يقال: الموجود الواحد واجب لذاته ، وأما
كل ما سواه فإنه ممكن لذاته ، وذلك الواحد هو المبدأ لوجود كل الممكنات ، والمبدأ
متقدم بالذات والعلية على لأثر ، فيثبت أنه تعالى أول بالنسبة إلى كل ما سواه من
الموجودات.
وأما المتكلمون القائلون بالحدوث ،
فقالوا : ثبت بما ذكرنا
افتقار كل ما سواه إليه وذل الافتقار يمتنع أن يكون حال البقاء ، وإلا لزم تكوين
الكائن ، وهو محال ، فوجب أن يكون إما حال الحدوث أو حال العدم. وعلى التقديرين
فيلزم أن يكون كل ما سواه محدثا. والمحدث ما سبقه عدم ، والفاعل كان موجودا حال
عدمه ، فيثبت أنه ـ سبحانه ـ كما أنه أول بمعنى التأثير والعلية فهو أيضا أول ،
بمعنى أنه كان موجودا ، عند ما كان كل ما سواه معدوما.
القسم
الثالث من الأسماء : الألفاظ الدالة على التنزيه والتقديس :
وهي كثيرة :
__________________
الاسم الأول : القدوس قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ) وقال : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ) واعلم. أن القدوس مشتق من القدس وهو الطهارة. ولهذا يقال :
بيت المقدس ، أي المكان الذي يتطهر فيه من الذنوب. وقيل للجنة : حظيرة القدس.
لطهارتها من آفات الدنيا. ويقال لجبريل ـ عليهالسلام ـ روح القدس. لأنه
طاهر عن الخيانة في التبليغ والوحي. قال تعالى حكاية عن الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ) .
الاسم الثاني : السلام والمراد منه : ذو
السلام. والفرق بين
القدوس والسلام : أن القدوس هو المنزه عن النقائص في ذاته وفي صفاته. والسلام هو
المنزّه عن النقائص في أفعاله.
والاسم الثالث : العزيز وهو الذي يقل
وجوده ، وتشتد الحاجة
إليه ، ويصعب الوصول إليه ، فما لم تجتمع هذه المعاني الثلاثة في شيء لا يطلق اسم
العزيز عليه. فكم من شيء يقل وجوده ، ولكن لا يحتاج إليه ، فلا يسمى عزيزا. وقد
يكون بحيث لا مثل له ، ويحتاج إليه جدا ، ولكن يسهل الوصول إليه فلا يسمى عزيزا
كالشمس فإنه لا مثل لها (ويعظم الانتفاع بها) ، ولكنها لا توصف بالعزة ، بسبب أنه لا يصعب الوصول إليها
، أما إذا اجتمعت المعاني الثلاثة فهناك يوصف بكونه عزيزا ، ثم في كل واحد من هذه (المعاني)
الثلاثة كمال ونقصان. فالكمال في قلة الوجود أن يرجع إلى واحد ، إذ لا أقل من
الواحد ويكون بحيث يستحيل وجود مثله ، وليس هذا إلا الله (سبحانه وتعالى) . فإن الشمس ، وإن كانت واحدة في الوجود ،
__________________
فليست واحدة في
الإمكان ، لأنه يمكن وجود مثلها. والكمال في كونه منتفعا به ، أن تكون جميع
المنافع حاصلة منه وما ذاك إلا الله ـ سبحانه ـ فإنه هو المبدأ لجميع الممكنات ،
والكمال في صعوبة الوصول إليه هو أنه يمتنع الإحاطة بكنهه ، ولا سبيل إلى معرفته
إلا بهدايته ، ولا سبيل لأحد من الخلق إلى القيام بشكر نعمه ، وكمال كل هذه
المعاني لله ـ سبحانه ـ فيثبت بما ذكرنا : أنه هو العزيز المطلق.
الاسم
الرابع : الجبار وفيه وجوه :
الأول : الجبار : العالي الذي لا ينال. ومنه يقال : نخلة جبارة إذا طالت ، وقصرت الأيدي
من أن تنال أعلاها. ورجل جبار إذا كان متكبرا لا يتواضع ولا ينقاد لأحد. وهذا
الاسم في حق الله يفيد أنه ـ سبحانه ـ بحيث لا تناله الأفكار ، ولا تحيط به
الأبصار ، ولا تصل إلى كنه عزّته عقول العقلاء ، ولا يرتقي إلى (مبادي إشراق جلاله
علوم الحكماء) وهو بهذا المعنى من صفات التنزيه.
والثاني : الجبار بمعنى المصلح للأمور : يقال : جبرت الكسر ، إذ أصلحته. فالجبار يفيد الكثرة
والمبالغة. فعلى هذا : الجبار في الحقيقة : هو الله ـ سبحانه ـ لأنه هو المصلح
لمهمات الخلق بحسب أجسادهم وأرواحهم.
والثالث : أن يكون الجبار من أجبره على كذا إذا أكرهه على ما أراد. يقال : جبر
السلطان فلانا على كذا ، وأجبره ـ بالألف ـ إذا أكرهه على ما أراد ، فعلى هذا
الجبار في وصف الله هو الذي جبر الخلق على ما أراد منهم ، وحملهم عليه ، أرادوا أم
كرهوا ، فلا يجري في سلطانه إلا ما يريد ، ولا يحصل في ملكه إلا ما حكم به.
الاسم الخامس : المتكبر وهو الذي يرى الكل حقيرا بالإضافة إلى ذاته ، ولا يرى العظمة
والكبرياء إلا لنفسه ، وينظر إلى غيره نظر الملوك إلى
__________________
العبيد ، فإن كانت
هذه الرؤية صادقة كان التكبر حقا ، وكان صاحبها متكبرا حقا. ولا يتصور ذلك على
سبيل الكمال إلا الله ـ سبحانه ـ وإن كانت تلك الرأية باطلة ، ولم يكن ما تراه من
التفرد بالعظمة كما يراه ، كان التكبر باطلا مذموما. ولهذا قال ـ عليهالسلام ـ حاكيا عن الله ـ
سبحانه ـ : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري. من نازعني واحدا منهما قذفته في
النار» ولما كان الأمر كذلك ظهر أن التكبر في حق الله ـ سبحانه ـ صفة
مدح وكمال ، في حق الخلق صفة نقصان واختلال.
الاسم السادس والسابع : العلي. الكبير
قال ـ سبحانه ـ : (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ
الْكَبِيرِ) وقال : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) فقدم في الآية الأولى لفظ «العلي على لفظ الكبير» وفي
الثانية عكس الترتيب وقال : (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما ، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) وقال : (وَكَبِّرْهُ
تَكْبِيراً) وقال : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فنقول : أما العلي فهو مشتق من العلو ، وهو يقابل السفل (ثم
إن العلو والسفل) قد يحصلان في الأمور المحسوسة تارة ، وفي الأمور المعقولة
أخرى. أما في المحسوسة فكما يقال : العرش فوق الكرسي ، والسماء فوق الأرض. وهذا
العلو لا يحصل إلا في الأجسام. ولما تقدس القدس الحق عن الجسمية ، تقدس علوه عن أن
يكون بهذا المعنى. وأما في الأمور المعقولة فكقوله تعالى : (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
مِنْكُمْ ، وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ومعلوم أن هذه
الرفعة ليست إلا في صفات الجلال ، وفي البعد عن صفات النقصان.
__________________
إذا عرفت هذا
فنقول : لا تفرض مرتبة من مراتب الكمال في الموجودات إلا والله ـ سبحانه ـ في أعلى
الدرجات. فيقال : الموجود إما مؤثر ، وإما أثر ، والمؤثر أعلى درجة من الأثر.
والله ـ سبحانه ـ هو المؤثر في الكل ، فكان أعلى من الكل. وأيضا : الموجود إما
واجب وإما ممكن ، والواجب أعلى درجة من الممكن ، والله ـ سبحانه ـ هو الواجب فكان
أعلى من الكل. وأيضا : الموجود إما كامل مطلقا ؛ وإما أن لا يكون كذلك ، والكامل المطلق أعلى حالا ممن لا يكون كذلك. والله ـ سبحانه ـ هو
الكامل المطلق. فكان أعلى من كل الموجودات ، وكذا القول في كمال العلم وكمال
القدرة وكمال الحياة وكمال الدوام وكمال الوجود وكمال الرحمة. وقس عليها نظائرها.
فيثبت أنه ـ سبحانه ـ أعلى من جميع الموجودات في المراتب العقلية ، وجلّ وتعالى عن
أن يكون علوه بحسب المكان والجهة. وإذا عرفت العلو بهذا المعنى فقد عرفت الفوقية
في قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) وفي قوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) .
ثم نقول : يرجع
حاصل هذا العلو إلى أحد وجهين ، إما أن يكون معناه : هو أنه لا يساويه شيء في
الشرف والمجد والعزة ، وحينئذ يكون هذا الاسم من أسماء التنزيه ، ومن أسماء السلوب
، وإما أن يكون معنى ذلك هو أنه قادر على الكل ، ومتصرف في الكل ، فيكون ذلك من
باب الصفات الإضافية ، وأما الكبير. فقد ورد في صفات الله ألفاظ من هذا الجنس :
هذا الفظّ (وهو الكبير) وثانيها : المتكبر ـ كما تقدم وثالثها : الأكبر (وهذا
اللفظ وارد في القرآن في صفات الله. قال : (وَرِضْوانٌ مِنَ
اللهِ أَكْبَرُ) وقال : (وَلَذِكْرُ اللهِ
أَكْبَرُ) فأما في ذات الله ـ تعالى ـ فهو قولنا : الله أكبر.
__________________
وأما الكبرياء فهو
قوله ـ سبحانه ـ : (وَلَهُ الْكِبْرِياءُ
فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ونقول : أما الكبير ففيه وجهان : أحدهما : أنه الذي يقع في
مقابلة الصغير ، وقد يعتبر الكبير والصغير في المقادير. والحق مقدس عن المقدار
والحجمية فلا يكون كبره بحسب الجثة والحجمية. وقد يعتبر الكبر والصغر في درجات
الكمالات العقلية فيقال : فلان كبير القوم ، وإن كان أصغرهم في الجثة ، ويقال فلان
كبير في الدين. أي أن درجته عالية.
إذا عرفت هذا
فنقول : في تفسير الكبير بهذا المعنى في حق الله وجهان :
الأول : أنه ثبت أن الحق ـ سبحانه ـ أكمل
الموجودات وأشرفها وأجلها وأعلاها ، فيكون ـ سبحانه ـ كبيرا بالقياس إلى كل ما
سواه ، وكل ما يغايره فهو صغير بالقياس إليه. والثاني : أنه كبير بمعنى أنه كبر عن
مشابهة المخلوقات. وعلى هذين الوجهين فيكون الكبير من أسماء التنزيه. وأما الأكبر
ففيه وجهان : الأول : أنه أكبر من كل ما سواه من الموجودات ، ويحتمل أن يكون قول
المصلي : الله أكبر هذا. كأنه يقول : الله أكبر من كل ما سواه ، وإنما قدم هذا
القول أمام أفعال الصلاة ، لأن المصلي إذا عرف هذا المعنى قبل الشروع
في الصلاة لم يتعلق خاطرة بشيء سوى الله ، ولم يتعلق قلبه بغير الله.
وأما الكبرياء
فقال ـ عليهالسلام ـ حاكيا عن الله :
«الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري» وفي تخصيص لفظ الكبرياء بالرداء ، والعظمة
بالإزار ما يدل على أن الكبرياء أعلى شأنا من العظمة ، وأبعد من أوهام الخلق
وأفهامهم.
الاسم التاسع والعاشر
: الواحد : والاحد قال تعالى : (وَإِلهُكُمْ
__________________
إِلهٌ
واحِدٌ) وقال : (قُلْ : هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) واعلم. أن الواحد قد يراد به (نفي الكثرة في ذاته ، وقد
يراد به) نفي الضد والند. أما الواحد بالتفسير الأول فقد ذكروا في
تعريفه وجوها :
الأول : إنه شيء لا ينقسم. وإنما قلنا : شيء. احترازا عن المعدوم. وإنما قلنا
: لا ينقسم. احترازا عن قولنا : رجل واحد ، إنسان وثوب واحد فإنه يقبل القسمة. أما
الواحد الحقيقي فإنه لا يقبل القسمة بوجه من الوجوه.
الثاني : قال بعضهم : الواحد الحقيقي هو الذي لا يصح فيه الوضع والرفع بخلاف قولك : (إنسان
واحد : لأنك تقول : إنسان بلا يد. فإنه يصح رفع شيء منه والحق ـ سبحانه
ـ احدى الذات.
الثالث : قال بعضهم : الواحد ما لا يكون عددا (والعدد ما كان نصف مجموع حاشيته) وأقل العدد اثنان ، وله حاشيتان ، الواحد والثلاثة
ومجموعهما أربعة ونصفهما اثنان ، فعلمنا أن الاثنين عدد ، وأما الواحد فليس له إلا
حاشية واحدة ، فلم يكن عددا. واعلم أن الجوهر الفرد عند من يقول به : واحد حقيقي بهذا التفسير. فإذا قيل :
الواحد بهذا التفسير مشعر بأنه أقل القليل كما في حق الجوهر (الفرد) ، وذلك
نقص ، وهو على الله محال. قلنا : كون الجوهر الفرد موصوفا بالصغر والقلة إنما كان
من حيث أنه يصح عليه أن يماسه غيره ويتصل به غيره ، فيعظم ويكبر. فإذا انفرد قيل :
إنه صغير وحقير ، وإذا ماسه واتصل به غيره. قيل : أنه كبير وكثير ، فلما كان وصف
__________________
الجوهر الفرد
بالصغر والحقارة ، إنما كان لهذا المعنى (ثم هذا المعنى) ، ممتنع الثبوت في حق الله تعالى ، لا جرم امتنع وصفه
بالصغر والقلة.
واعلم : أن نفاة
الصفات زعموا أن من أثبت الصفات لله ـ تعالى ـ فإنه لا يمكنه أن يقول بوحدانية
الله تعالى ، وذلك لأنا إذا حكمنا بقيام الصفات الكثيرة بذات الله ـ تعالى ـ كان
مجموع (الذات) والصفات أشياء كثيرة لا شيئا واحدا ، ويصح أيضا فيه معنى
الوضع والرفع مثل أن يقال : قادر وليس بعالم إلى أن يثبت بالدليل بطلان ذلك.
وزعم بعضهم : أن من أثبت لله تعالى صفات
ثمانية. فقد قال بتاسع
تسعة ثم إن الله تعالى قال : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) ولما كان القائل بالثلاثة كافرا ، كان القائل بالتسعة ـ وهو
قائل بالثلاثة ثلاث مرات ـ أدخل في الكفر ، وأما الواحد بالتفسير الثاني ، فهو أنه
ليس في الوجود موجود يساويه ، في وجوب الوجود بالذات ، ولا موجود يساويه في العلم
بجميع المعلومات ، التي لا نهاية لها ، ولا موجود يساويه في القدرة على جميع
الممكنات.
وزعم نقاة الصفات : أنه تعالى واحد
بمعنى أنه ليس في الوجود
موجود يساويه في القدم والأزلية ، بخلاف مثبتي الصفات فإنهم أثبتوا موجودات قديمة
أزلية ويتفرع على ما ذكرنا فروع :
الفرع الأول : اعلم أنه تعالى واحد في ذاته ، وواحد في صفاته ، وواحد في أفعاله ، أما أنه
واحد في ذاته فلأن ذاته منزهة عن جهات التركيبات ، لا من التركيبات المقدارية
الحسية كما في الجسم ، ولا من التركيبات العقلية كما في النوع المركب من الجنس
والفصل ، وأما أنه واحد في صفاته فهو أنه ليس في
__________________
الوجود (موجود) آخر يساويه في الوجود بالذات ، وفي العلم بكل المعلومات ،
وفي القدرة على كل الممكنات ، وفي الغني عن كل ما سواه. وأما إنه واحد في أفعاله
فهو أنه ليس في الوجود موجود يكون مبدئا لجميع الممكنات إما بغير واسطة ، وإما
بواسطة إلا هو.
الفرع الثاني : الألفاظ المشتقة من الواحد ، هي هذه : الأحد ، والوحيد ، والتوحيد. فقولنا :
وحده : لا شريك له. أما الأحد ، فقد جاء في القرآن ، وهو قوله : (قُلْ : هُوَ اللهُ أَحَدٌ) والفرق بين الواحد والأحد من وجوه :
الأول : إن الواحد اسم لأول العدد يقال : واحد ، اثنان ، ثلاثة. ولا يقال : أحد ،
اثنان ، ثلاثة.
والثاني : إن أحدا في النفي أعم من الواحد ، يقال : ما في الدار واحد بل اثنان. أما لو
قالوا : ما في الدار أحد ، فإنه يقتضي عموم النفي.
الثالث : إن لفظ الواحد يصح جعله وصفا لأي شيء أريد ، فيصح أن يقال : رجل واحد ،
وثوب واحد ، ولا يصح وصف شيء في جانب الإثبات بالأحد : إلا الله الأحد. فلا يجوز
أن يقال رجل أحد ، ولا ثوب أحد ، فكأنه ـ سبحانه ـ قد استأثر بهذا النعت في جانب
الثبوت. أما في جانب النفي فقد يذكر هذا في حق غير الله ، فيقال : ما رأيت أحدا ،
فالأحد والواحد ، كالرحمن والرحيم. فالرحمن قد اختص به الله ـ سبحانه ـ ولا يشاركه
فيه غيره ، وأما الرحيم فقد تحصل فيه المشاركة ، وكذلك الأحد ، قد اختص به الله ـ سبحانه
ـ ولهذا السبب لم يذكر لام التعريف في أحد. فقال : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) لأنه صار نعتا لله على الخصوص ، فصار معرفة ، فاستغنى عن
التعريف.
__________________
الفرع الثالث : إن قوله تعالى : (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) فيه ألفاظ ثلاثة من أسماء الله. وكل واحد منها إشارة إلى
مقام من مقامات السيارين إلى الله. فالمقام الأول مقام المقربين وهو أعلى المقامات. وهؤلاء هم الذين نظروا إلى ماهيات
الأشياء وحقائقها من حيث هي هي ، فلا جرم ما رأوا موجودا سوى الله ، لأن الحق واجب
(الوجود) لذاته ، وما سواه ممكن والممكن إذا أخذ مع عدم السبب كان عدما محضا. فهؤلاء ما رأوا موجودا سوى الله ـ سبحانه ـ
وقوله «هو» إشارة مطلقة ، والإشارة المطلقة تتعين بشرط أن يكون المشار إليه واحدا فقط. فلا جرم كان قولنا «هو»
إشارة إلى الحق ـ سبحانه ـ ولم يفتقروا مع هذه اللفظة إلى ذكر صفة لذلك المشار
إليه ، لأن الافتقار إلى المميز إنما يحصل حيث حصل هناك موجودات وقد بينا أن هؤلاء
لم يشاهدوا بعيون عقولهم إلا موجودا واحدا ، فأدّى افتقارهم إلى ذكر المميز ،
فلهذا السبب كانت لفظة «هو» كافية في حصول العرفان التام لهؤلاء المقربين.
وأما المقام الثاني ـ فهو دون المقام
الأول ـ وهو مقام أصحاب اليمين ، وذلك لأنهم شاهدوا مع الحق
موجودا فحصلت في عقولهم كثرة في الموجودات ، فكلمة «هو» غير كافية في حق هؤلاء ،
بل احتاجوا إلى صفة لكلمة «هو» باعتبارها يمتاز الحق عن غيره ، فقرن بلفظة «هو»
لفظة «الله» فقيل مع هؤلاء : «هو الله».
والمقام الثالث : وهو مقام أصحاب الشمال ، وهو أضعف المقامات ، وهم الذين يجوزون أن يكون
الإله أكثر من واحد فقيل لأجلهم : (هُوَ اللهُ أَحَدٌ) إبطالا للشرك وتصريحا بالتوحيد.
وهاهنا بحث آخر على ما تقدم أن صفات الله تعالى إما أن تكون
__________________
إضافية ، أو سلبية
أما الإضافية فكقولنا عالم ، قادر ، خالق ، وأما السلبية فكقولنا : ليس بجسم ولا بجوهر. والمخلوقات
تدل على النوع الأول من الصفات أولا ، وعلى النوع الثاني ثانيا. فقولنا : «الله»
يدل على جميع الصفات الإضافية المعتبرة في الإلهية. وقولنا «أحد». يدل على جميع
الصفات السلبية. وذلك لأن قولنا : «الله» معناه : أنه الذي يستحق العبادة ،
واستحقاق العبادة لا يكون إلا لمن يكون مستقلا بالإيجاد والإبداع وذلك لا يحصل ،
إلا لمن كان موصوفا بالقدرة التامة والحكمة التامة . وأما الأحدية فهي دالة على كونه منزها عن التركيبات
الحسية والعقلية. وهذا يدل على أنه ليس (بجسم ولا متحيز) لأن كل متحيز فهو منقسم ، وإذا لم يكن متحيزا في شيء من
الأحياز والجهات ، وجب أن لا يكون حالا في شيء ، ولا محلا لشيء. وأيضا : إذا كان
أحدا ، لم يكن له مثل ولا ضد ولا ند ، لأنه لو حصل في الوجود موجودان ، كل واحد
منهما واجب لذاته لكانا متشاركين في الوجود ومختلفين في التعين ، وما به المشاركة غير ما به
المخالفة ، فيكون كل واحد منهما مركبا في ذاته من هذين القيدين ، فيثبت أن كونه
تعالى أحدا ، يدل على جميع الصفات السلبية.
فإن قيل : كيف
يعقل كون الشيء أحدا. فإن كل حقيقة موصوفة بالأحدية ، فهناك تلك الحقيقة وتلك
الأحدية ، مجموعهما ، فهذا ثالث ثلاثة ، لا أحد. والجواب : أن الأحدية لازمة لتلك
الحقيقة التي لا يمكن إلا أن نعبر عنها بقولنا : «هو» فلهذا السبب كان أجل الأسماء
عند المحققين قولنا : «هو الله».
واعلم. أن قولنا :
هو الله يدل على افتقار كل ما سواه إليه ، وقولنا : أحد. يدل على استغنائه على كل
ما سواه ، وكل من حصل له هذان الوصفان
__________________
كان هو السيّد في
الحقيقة ، فلهذا قال بعده : (اللهُ الصَّمَدُ) وأيضا : قيل الصمد هو الجسم المصمت الذي لا جوف له ، وذلك
في حق الله محال. فوجب أن يحمل ذلك في حقه تعالى على براءته عن جميع جهات
التركيبات.
فكأنه لما قال :
إنه أحد قيل له : وما الدليل عليه؟ قال : لأنه صمد ، بمعنى كونه بريئا عن جميع
جهات التركيبات.
واعلم أنه سبحانه
لما بين ذلك فرع على هذا الأصل ثلاثة أنواع من الفروع :
فالأول : أنه ليس له ولد ، لأن الولد عبارة عما ينفصل من الشيء ، جزءا من أجزائه ثم
يتولد عن ذلك الجزء ما يماثل ذلك الكل. وهذا إنما يعقل في الشيء الذي يقبل الجزء
والبعض وذلك في حق الله محال. وفيه تفسير آخر ـ على ما سبق ـ وهو : أن المؤثر إذا
كان موجبا بالذات كان الأثر كالشيء المتولد منه. فقوله : (لَمْ يَلِدْ) إشارة إلى نفي هذا المعنى ، أعني نفي أن يكون تأثيره في
مخلوقاته على سبيل الإيجاب والتوليد.
والفرع الثاني : أنه لم يتولد عن غيره ، وهو قوله : (وَلَمْ يُولَدْ) لأن كونه سيّدا يقتضي استغناؤه عن كل ما سواه.
والفرع الثالث : أنه ليس في الوجود أحد يساويه في صفاته. فإنا بينا : أنه لو حصل في الوجود
موجود آخر ، واجب الوجود لذاته ، لاشتركا في ذلك الوجوب ، ولاختلفا في ذلك التعيين
، فيلزم منه كون كل واحد منها مركبا. وذلك يقدح في كونه سيّدا على الإطلاق.
الفرع الرابع : الكلام في الوحيد ، قال تعالى : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) فقوله «وحيدا» نصب على الحال على بعض الأقوال. وعلى هذا
التقدير فيحتمل أن يكون حالا من الخلائق ، وأن يكون حالا من المخلوق. فإذا
__________________
قلنا : إن وحيدا
نصب على الحال من الخالق كان القرآن واردا بجعل الوحيد اسما من أسماء الله. وفي تفسيره
وجوه : الأول : أنه
سبحانه كان موجودا في الأزل.
والثاني : أنه سبحانه مستقل بتدبير الملك والملكوت ، ولا يحتاج في التكوين
والتخليق إلى مادة ، ومدة ، وآلة ، وعدة.
والثالث : أنه متوجد بصفات الجلال ونعوت الكمال.
الفرع الخامس : الكلام في التوحيد : وهو عبارة عن الحكم بأن الشيء واحد ، وعن العلم بأن الشيء واحد
يقال : وحدته إذا وصفته بالوحدانية ، كما يقال : شجعت فلانا إذا نسبته إلى
الشجاعة. واعلم أن مقام التوحيد مقام يضيق عنه النطق ، لأنك إذا أخبرت عن الحق
بشيء ، فهناك مخبر عنه ، ومخبر به ، ومجموعهما فهو ثلاثة ، والعقل يعرفه ، والنطق
لا يصل إليه.
الاسم الحادي عشر : الصمد قيل : إنه مأخوذ من صمده ، إذا قصده في الحوائج ، يقال صمدت صمد هذا
الأمر ، أي قصدت قصده والثاني : أنه
الذي لا جوف له ، ويجب حمله في حق الله تعالى منزها عن التركيب والتألف.
الاسم الثاني عشر : البديع قال سبحانه : (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) وفيه وجهان : الأول : أنه الذي لا مثل له ، ولا شبيه ،
يقال هذا شيء بديع ، إذا كان عديم المثل ، والثاني : أن البديع هو المبدع ، فعيل
بمعنى مفعل. ومعنى المبدع أن تكون أفعاله واقعة دفعة واحدة من غير سبق مادة ، ومدة
، وآلة وعدة.
الاسم الثالث عشر : الغني قال تعالى (سُبْحانَهُ هُوَ
الْغَنِيُ)
__________________
وقال : (وَاللهُ الْغَنِيُّ ، وَأَنْتُمُ
الْفُقَراءُ) ولما ثبت أنه واجب الوجود لذاته ، قالوا : الواجب لذاته
يمتنع أن يصير واجبا لغيره ، لأن عند فرض عدم ذلك الغير ـ إن بقي ـ لم يكن واجبا
بغيره ، وإن لم يبق لم يكن واجبا لذاته ، وكل ذلك محال. فإذن الواجب بذاته لا تعلق
له بغيره البتة ، وكل ما سواه فهو يحتاج إليه في ماهيته ، وفي وجوده ، وفي صفاته.
فظهر بهذا البيان : أنه سبحانه هو الغني ، وكل ما سواه فهو فقير وغني بإغناء الله.
الاسم الرابع عشر : القيوم قال تعالى : (اللهُ لا إِلهَ
إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) وقال : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ
لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ) وقرأ عمر بن الخطاب : «الحي القيام» واعلم أن القيوم
مبالغة في القيام ، وكمال هذا المعنى إنما يحصل عند اجتماع أمرين : أحدهما : قيامه
بذاته ، كما قال : (قائِماً بِالْقِسْطِ) بمعنى استغنائه عن كل ما سواه. والثاني : كونه قيما بغيره
، بمعنى كونه مقوما لغيره ، ومجموع هذين المعنيين هو القيوم. ولما دللنا على أن
واجب الوجود واحد ، وثبت أن ما سواه فهو ممكن لذاته ، فلا بد له من مؤثر ، فكل ما
سوى ذلك الواحد فهو مفتقر إليه فيثبت أنه تعالى قائم بذاته. مقوم لكل ما سواه ،
فهو القيوم الحيّ بذاته ولذاته.
واعلم أن كونه
قائما بذاته ، يقتضي أن يكون منزها عن جهات التركيب ولهذا الأصل لوازم :
الأول : إن واجب الوجود واحد ، إذ لو كان اثنين لاشتركا في الوجوب ، واختلفا في التعين
، فتحصل الكثرة في كل واحد منهما ، فلا يكون واجب الوجود فردا على الإطلاق. الثاني : إنه لما كان فردا امتنع أن يكون متحيزا ،
__________________
لأن كل متحيز فهو
منقسم بالقسمة المقدارية (ومنقسم أيضا بالقسمة العقلية ، لأنه يشارك سائر
المتحيزات في عموم كونه متحيزا) ويخالفها بخصوصيته ، فيحصل التركيب في ذاته ، وإذا لم يكن
متحيزا ، فليس في الجهة.
النوع الثالث من لوازم القيومية : أن لا
يكون في محل ، لا عرضا
في موضع ، ولا صورة في مادة ، لأن الحال مفتقر إلى المحل ، والمفتقر لا يكون
قيوما.
النوع الرابع من لوازم القيومية : قال
بعضهم : لا معنى للعلم إلا حضور
حقيقة المعلوم عند العالم ، فإذا كان قائما بنفسه كانت حقيقته حاصلة له ، لا للغير
، فكان عالما بذاته ثم ذاته علة لغيره ، فيلزم من علمه بذاته علمه بغيره إلى آخر
المراتب. فعلى هذا يلزم من قيوميته كونه عالما بجميع المعلومات.
النوع الخامس من لوازم قيوميته : أن
القائلين بالحدوث ، قالوا : لما
كان مقوما لوجود كل ما سواه ، كان كل ما سواه محدثا ، لأن تأثيره في تكوين ذلك
الغير يمتنع أن يكون حال بقائه ، لأن تحصيل الحاصل محال ، فهو إما حال وجوده ، أو
حال عدمه. وعلى التقديرين فيلزم أن يكون كل ما سواه محدثا.
النوع السادس من لوازم القيومية : أنه
لما كان قيوما لكل الممكنات ،
استندت كل الممكنات إليه ، إما بواسطة أو بغير واسطة ، وعلى التقديرين كان القول
بالقضاء والقدر لازما. فظهر بما ذكرنا : أن قولنا : (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) محيط بجميع المباحث العالية المعتبرة في الإلهيات.
إذا عرفت هذا.
فالقيوم من حيث إنه يدل على استغنائه عن الغير وقيامه بذاته كان من باب السلوب ،
ومن حيث إنه يدل على كونه مقوما لغيره ، كان من باب الإضافات ، وعن ابن عباس أنه
كان يقول : «أعظم أسماء الله تعالى الحي القيوم» واعلم أن من عرف أنه سبحانه هو
القائم والقيم والقيوم ، انقطع قلبه عن الخلق بالكلية. وقال أبو يزيد البسطامي
رضوان الله عليه : «حسبك
__________________
من التوكل أن لا
ترى لنفسك ناصرا غيره ، ولا لرزقك حارثا غيره ، ولا لعملك شاهدا غيره».
الاسم الخامس عشر والسادس عشر : الجليل
وذو الجلال. (اعلم أن الجليل غير وارد في القرآن ، لأن الجليل هو بعينه
ذو الجلال) وهذا اللفظ وارد في القرآن في سورة الرحمن مرتين : قال
تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقال في آخر السورة : (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) واعلم أن الكبير اسم لكمال الذات والجليل اسم لكمال الصفات
، والعظيم اسم لكمال الذات والصفات والأفعال ، فالجليل يفيد كمال الصفات السلبية
والثبوتية ، أما كمال الصفات (السلبية فهو أنه تعالى منزه عن الضد والند والشريك
والمكان والزمان وأما كمال الصفات) الثبوتية فهو كونه تعالى موصوفا بالعلم التام والقدرة
التامة. إذا عرفت هذا فنقول : الجليل فعيل ، فيحتمل أن يكون بمعنى الفعل ، أو
بمعنى المفعول ، أو بمعنى الفاعل. أما بمعنى الفعل فهو أنه بمعنى أنه يجل المؤمنين
ويكرمهم ويعظمهم (فعلى هذا التفسير) فقوله ذو (الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) معناه : ذو الجلال والإكرام وأما بمعنى المفعول فمعناه أنه
سبحانه يستحق أن يجل ويكرم ، ولا يجحد وجوده ، ولا يكفر بإلهيته. وأما بمعنى
الفاعل فمعناه كونه موصوفا بصفات الجلال. قال بعضهم «الجليل الذي جلّ من قصده ،
وذل من طرده» وقيل : «الجليل الذي جل قدره في قلوب العارفين ، وعظم خطره في نفوس
المحبين».
الاسم السابع عشر : العظيم. قال تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) واعلم أنه سبحانه ليس عظيما بسبب عظم الجثة ، لأن هذا محال
في حقه ، بل (معنى كونه) عظيما (أنه عظيم في) كمال ذاته وصفاته وأفعاله. فقد
__________________
يقال للرجل السيد
: إنه عظيم قومه. أما أنه عظيم في ذاته ، فلأنه الجسم الذي لا يحيط البصر بأطرافه
يقال إنه عظيم. والحق سبحانه لا يحيط العقل والفهم بكنه ذاته ، فكان أعظم من كل
عظيم. وأما أنه عظيم في صفاته ، فلأنه يقال : فلان عظيم قومه إذا كان أكثرهم علما
وقدرة واستغناء ، والحق سبحانه لا مناسبة لعلمه وقدرته إلى أحد فكان أعظم
الموجودات ، وأما أنه عظيم في أفعاله فلأن من فعل أفعالا لا يعجز عنها غيره ، يقال : إنه أعظم من غيره. ولهذا
المعنى يقال : فلان أعظم ملوك الأرض ، إذا حصل له من الملك والبسطة ما ليس لغيره.
والله ـ سبحانه ـ مالك الملك في الحقيقة فكان أعظم الموجودات لهذا الاعتبار. إذا
عرفت هذا فالعظيم بالاعتبار الأول من باب السلوب ، وبالاعتبار الثاني من باب
الإضافات ، وبالاعتبار الثالث من باب الأفعال.
الاسم الثامن عشر والتاسع عشر : الماجد.
والمجيد. قال تعالى (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو
الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) واعلم أن المجيد فعيل من الماجد كالعليم من العالم ،
والقدير من القادر.
وفي المجيد قولان
: أحدهما المجد : هو الشرف التام الكامل. قال تعالى : (ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي الشريف. والله تعالى له الشرف والمجد والعلو والعظمة.
والثاني : أن المجد في الأصل عبارة عن السعة ، يقال رجل ماجد إذا كان سخيا مفضالا
كثير الخير. فعلى هذا (الْمَجِيدِ) في صفة الله تعالى يدل على كثرة إحسانه وجوده.
الاسم العشرون : السبوح وهذا الاسم غير
وارد في القرآن لكن
أجمعت الأمة على ذكره في حق الله تعالى ، وهو مأخوذ من قولك : سبحان الله. وكل اسم
على فعّول ـ بتشديد العين ـ فالفاء فيه منصوب كقولك : سفود
__________________
وتنور ، إلا ثلاثة
أحرف : سبوح ، وقدوس ، وذو روح ـ لواحد الذراريح ـ واعلم أن التسبيح مصدر ، سبحان.
اسم كأنك قلت أسبحك تسبيحا ، فوضعت لفظة سبحان لهذا المجموع وفي تفسير التسبيح
وجهان : الأول : سئل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم عن معناه ، فقال : «إبعاد الله عن كل سوء» أي تنزيهه من كل
سوء. والوجه الثاني : أن اشتقاق التسبيح من سبح في الأرض إذا ذهب فيها. قال تعالى
: (إِنَّ لَكَ فِي
النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) فإذا حملنا التسبيح على التنزيه فأفضل الأذكار : تنزيه
الله تعالى أن لا ترى أنه تعالى حكى الملائكة أنهم (يُسَبِّحُونَ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) وحكى عنهم أنهم قالوا في قصة آدم : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ،
وَنُقَدِّسُ لَكَ) وفي موضع آخر : (وَإِنَّا لَنَحْنُ
الصَّافُّونَ ، وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) وفي بعض الأخبار : «أن أهل السماء الدنيا قيام إلى يوم
القيامة يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت. وأهل السماء الثانية ركوع إلى يوم
القيامة يقولون : سبحان ذي العزة والجبروت. وأهل السماء الثالثة سجود إلى يوم
القيامة ، يقولون : «سبحان الحي الذي لا يموت» واعلم. أن هذه الألفاظ المراد منها شرح تفاوت درجات
الملائكة في مقامات المعرفة والمحبة والعبودية.
واعلم أن
التسبيحات الواردة في القرآن كثيرة. ومن جملتها : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ومن الناس من قال : المراد منه التسبيح (بالقول) واحتجوا عليه بأنه قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) ولو كان المراد من التسبيح هو دلالة آثار الصنع على الصانع
لكانوا يفقهونها لقوله : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ : مَنْ
__________________
خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) وأجاب المحققون عنه بأن قالوا : دلالة المخلوقات على كونه
تعالى منزها عن صفات المحدثات ونعوت الأجسام من أدق أبواب المعارف ، فكيف يمكن أن
يقال : إن ذلك معلوم لكل أحد؟ ثم هؤلاء حملوا ذلك التسبيح على كونه دالا على جلالة
الخالق وعلوه وكماله.
وقالوا : دلالة
النطق أضعف من دلالة الذات لوجوه : الأول : إن دلالة النطق (تحتمل الكذب ودلالة الماهية
لا تحتمل إلا الصدق. والثاني : إن دلالة النطق) وضعية يجوز تغيرها بتغير الأوضاع والاصطلاحات. وأما دلالة
المحدثات على كون خالقها منزها مقدسا ، فهي دلالة ذاتية ، والدلالة الوضعية
العرضية أضعف حالا من الدلالة الذاتية. والثالث :
إن الدلالة النطقية اللفظية لا يسمعها إلا السمع الظاهر ، والدلالة الذاتية
العقلية لا ينتفع بها إلا العقل.
ولما كان العقل الباطن أشرف من السمع
كانت الدلالة الذاتية أشرف من اللفظية. والرابع : إن الدلالة النطقية غير باقية ،
بل كما توجد تزول وتبطل. وأما الدلالة العقلية فإنها باقية .
الاسم الحادي والعشرون : الطاهر ومعناه
: المنزه عن
النقائص ، والمبرأ عن العيوب ، فإن لفظ الطهارة كما ورد (في البراءة) عن القاذورات الحسية ، فكذلك ورد في البراءة عن الصفات
الذميمة ، قال تعالى في صفة أهل بيت النبي : (وَيُطَهِّرَكُمْ
تَطْهِيراً) وسمى الصفات المذمومة نجاسة ، فقال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ)
__________________
الاسم الثاني
والعشرون : الطيّب قال عليهالسلام : «إن الله طيب لا يقبل إلا الطيب» والفرق بينه وبين
الطاهر : أن الطاهر هو المبرأ عن العيب ، أما الطيب فهو الذي تحصل معنى الطهارة
فيه ، مع أنه يكون منتفعا به ، لأن الطيب هو الذي تحصل منه رائحة طيبة ، وذلك نوع
نفع ، فالطيب في حق الله سبحانه : أنه المنزه عن جميع العيوب وتكون جميع المنافع
صادرة عنه.
الاسم الثالث والعشرون : الفرد وهو في
مقابلة الزوج.
الاسم الرابع والعشرون : الوتر وهو في مقابلة الشفع. قال عليهالسلام : «إن الله وتر يحب الوتر» واعلم أن الوتر والفرد متقاربان. ومعناه عند أهل الحساب
أنه : الذي لا ينقسم نصفين متساويين. واعلم
أن الوتر أشرف من الشفع ويدل عليه وجوه : الأول : إن الفردانية صفة الله سبحانه ، والزوجية صفة الممكنات ، وصفة
الحق ـ سبحانه ـ أشرف من صفة الخلق. والثاني :
إن كل زوج فهو محتاج إلى الواحد
(وهو فرد) والواحد غني عن كل الأعداد
، فالفرد أشرف من الزوج ، والثالث : إن الفرد مشتمل على الزوج والفرد معا ، لأن العدد الفرد يكون أحد
قسميه زوجا والآخر فردا. أما الزوج ، فإما أن يكون كلا قسميه زوجا
، أو يكون كلاهما فردا. والمشتمل على النوعين أشرف من المشتمل على أحدهما. الرابع:
إن الفرد لا يقبل التنصيف ، والزوج يقبله ، وعدم قبول القسمة قوة ، وقبولها ضعف. الخامس
: إن جميع الأعداد إنما تتكون عن
الواحد ، لأن الواحد إذا ضم إليه واحد آخر حصل اثنان ، وإذا ضم إليهما واحد آخر
حصلت الثلاثة ، وقس الباقي عليه ، فيثبت أن الواحد علة لجميع الأعداد. لكن الواحد فرد.
فالفرد أشرف. السادس : إن الوتر غالب. وذلك لأن الشفع والوتر إذا اجتمعا حصل الوتر ، لا الشفع. فدل على أن الوتر
غالب على الشفع ، فكان الوتر
__________________
أشرف. السابع : إن
الوحدة لازمة لجميع مراتب
الأعداد ، فإن كل مرتبة من مراتب الأعداد إذا أخذت من حيث إنها تلك المرتبة كانت
واحدة ، كقولك عشرة واحدة ، ومائة واحدة ، والوحدة وتر. فالوتر لازم لجميع مراتب
الأعداد ، والزوج ليس كذلك. فكان الوتر أفضل من الشفع. والله أعلم .
القسم
الرابع من أسماء الله : الأسماء الدالة على القدرة :
وهي
كثيرة :
فالأول : القادر. قال تعالى : (قُلْ : هُوَ
الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) وقال تعالى : (فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ)
الثاني : القدير وهو غير وارد في
الأسماء التسعة والتسعين
إلا أنه كثير الورود في القرآن. قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي
بِيَدِهِ الْمُلْكُ ، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) واعلم أنه قد يوجد في اللغة العربية أمثلة مختلفة مأخوذة
من الأفعال جعلت نعوتا ، وكان المقصود من بعض تلك الأمثلة تأكيد الفعل والمبالغة
في الوصف ، ومن بعضها كون ذلك الفعل كالصفة اللازمة له ، فمن ذلك : بناء فعّال.
إذا أراد تكثير الفعل ، ولهذا السبب أخذوا أسماء الصناع من هذا المثال كقولهم :
حداد وبناء ونجار وفلاح وخياط ليدل ذلك على أن تكون هذه من هؤلاء الفاعلين. ومن ذلك
صرفهم لفظ فاعل إلى فعيل مرة ، وفعول أخرى ، إذا أرادوا أن يجعلوا الصفة المضافة
إلى الموصوف كالسجية اللازمة والخلقة اللازمة ، وذلك مثل صرفهم لفظ قادر إلى قدير
، وخابر إلى خبير ، وناصر إلى نصير ، وصرفهم : صابر إلى صبور ، وشاكر إلى شكور ،
وغافر إلى غفور. والسبب في ذلك : أن كل من فعل فعلا ، قل ذلك الفعل أو كثر ،
__________________
ضعف فيه أو قوي.
فإنه يجوز أن يشتق منه اسم الفاعل ، كمن يقول : دخل فهو داخل ، وخرج فهو خارج فإذا
احتيج إلى تميز بين الفعل الذي يظهر من الفاعل مرة واحدة ، وبين الذي يظهر منه
غالبا ، وكذلك إذا احتيج إلى أن يميز بين الفعل الذي يظهر منه على سبيل التكلف
وبين الذي يظهر منه على سبيل الخلق والعادة ، وجب العدول إلى هذه الأمثلة ، ليتميز
بواسطتها بعض هذه الأقسام عن بعض.
ومما يدل على أن
الفعل أوكد من الفاعل ، أنه يقال سمع فهو سامع ، ورحم فهو راحم. وأما بناء الفعيل
فإنه لا يستعمل إلا عند قصد تأكيد الفعل ، لأنا إذا قلنا سميع رحيم دل ذلك على
تأكيد معنى الرحمة ، وتمكن هذا الفعل من طباع الموصوف به ، كالخلق الثابت، وكالطبع
اللازم. ولهذا السبب كان لفظ القدير في القرآن أكثر من لفظ القادر ، ولفظ العليم
أكثر من لفظ العالم.
الاسم الثالث : المقتدر قال تعالى : (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ
عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) ووزنه مفتعل من القدرة. قال بعضهم : قدر ، واقتدر ، بمعنى
واحد. وأما المحققون فقد فرقوا بينهما ، لأن بناء افتعل دلالة على كمال حال القدرة
، فقولنا : اقتدر معناه : أن الفاعل متصرف في فعله كيف شاء وأراد ، لا يعوقه عن
ذلك عائق ، ونظيره قوله كسب واكتسب. فإن كسب يستعمل فيما يكسبه الإنسان لنفسه ولغيره. وأما اكتسب فهو مختص بما يفعله
الإنسان لنفسه قال تعالى : (لَها ما كَسَبَتْ
وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) وإنما خص الخير بالكسب ، والشر بالاكتساب ، لأن الخير قد
يعمله الإنسان لنفسه ولغيره ، فلا جرم لا يكون فيه الجد والرغبة كاملا ، وأما الشر
فلا يعلمه إلا لنفسه ، ليلتذ به ، فلا جرم كان الجد فيه أكمل ، فلا جرم خص بلفظ
الاكتساب. وأيضا : أفعال الشر يمتنع
__________________
عنها بالزواجر
الشرعية. فلا بد من الجد في إدخالها في الوجود ، وإلا لم تحصل (أفعال الخير) لأن الموانع عنها دائمة.
الاسم الرابع والخامس : القوي المتين
واعلم أن القادر على
الشيء المؤثر فيه يسمى قويا عليه. وأيضا : الشيء الذي لا يتأثر عن غيره يسمى (قويا)
كما يقال : هذا الحجر قوي. فالحاصل : أن القوة الفاعلة تسمى قوة ، والاستعداد
الشديد لعدم الانفعال يسمى أيضا قوة ، وقد يسمى أيضا : متانة. ومعنى المتانة :
الصلابة ، وهي مأخوذة من المتن ، الذي هو الظهر ، لأن استمساك أكثر الحيوان يكون
بالظهر. فالقوة في حق الله تعالى. عبارة عن كونه قادرا على التأثير. والمتين في
حقه عبارة عن امتناع تأثره عن غيره ، وذلك لأنه واجب الوجود لذاته ؛ في ذاته ، وفي
جميع صفاته ، فيمتنع تأثره عن الغير (والله أعلم) .
القسم
الخامس من أسماء الله تعالى : الأسماء الدالة على العلم :
وهذه
الألفاظ كثيرة :
أحدها : إثبات العلم لله تعالى قال
تعالى : (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) وقال: (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) وقال : (أَنْزَلَهُ
بِعِلْمِهِ) وقال : (وَلا تَضَعُ إِلَّا
بِعِلْمِهِ) وقال : (فَاعْلَمُوا أَنَّما
أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) .
وثانيها : العالم قال تعالى : (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ).
وثالثها : العلّام قال تعالى : (إِنَّكَ أَنْتَ
عَلَّامُ الْغُيُوبِ) .
__________________
ورابعها : الأعلم قال تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ) .
وخامسها : العلم قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ) و (عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) إلا أن هذا اللفظ لا يذكر في حق الله تعالى ، لأنه لفظ
يوهم نوعا من الدناءة.
وسادسها : العليم قال تعالى : (وَأَسِرُّوا
قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) .
وسابعها : العلّامة يقال : رجل علّامة إذا وصف بكثرة العلم ، ولا يجوز استعماله في حق الله
تعالى. لأن هذه اللفظة وضعت لمن خرج عن القلة والنقصان إلى الكثرة والكمال ، بسبب
التكليف والارتباض. وذلك في حق الله تعالى محال.
الاسم الثاني : اللطيف قال تعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ؟ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) واعلم أن «اللطيف» له
معاني. فالأول : أن الشيء الصغير جدا ، الذي لا يحس به لغاية صغره يسمى لطيفا. وهذا في حق الله تعالى محال. فوجب
حمله على لازمة ، وهو أن الحواس لا تقف عليه لكونه
لطيفا ، وبهذا التفسير يكون من صفات التنزيه. الثاني : اللطيف هو العالم بدقائق الأمور
وغوامضها ، يقال فلان لطيف اليد. إذا كان حاذقا في صنعته ، مهتديا إلى ما يشكل على
غيره ، وعلى هذا التقدير فكونه لطيفا عبارة عن علمه. والثالث : اللطيف هو البر بعباده الذي يلطف بهم من حيث لا يعلمون ،
ويهيئ مصالحهم من حيث إنهم لا يحتسبون ، ومنه قوله تعالى : (اللهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) والرابع : قال
الغزالي ـ رحمهالله
ـ : «هذا الاسم
__________________
إنما يستحقه من
يعلم حقائق المصالح وغوامضها ، ثم يسلك في اتصالها إلى المستحقين سبيل الرفق دون
العنف. فإذا اجتمع هذا العلم وهذا الفعل فقد تم معنى اللطيف».
ثم إنه لا يتصور
كمال هذا العلم ، وكمال هذا الفعل إلا لله ـ سبحانه ـ فإما علمه ـ سبحانه ـ بالدقائق
فلا إشكال فيه لأن الخفي والجلي بالنسبة إلى علمه سيان. وأما رفقه في الأفعال ،
ولطفه فيها ، فلا يدخل تحت الحصر.
وهاهنا (لا) يجب شرح أنواع حكم الله في خلق السموات ، والكواكب
والعناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة ، بل يجب أن نكتفي هاهنا بشرح لطفه في تيسير
لقمة يتناولها العبد من غير كلفة ، فقد تعاون على إصلاحها خلق لا يحصى عددهم ، من
مصلح الأرض وزارعها وساقيها وحاصد حبّها ومنقيها وطاحنها وخابزها ، إلى غير ذلك ،
فإن شرحها لا يتم في مجلدات ، فهو سبحانه من حيث دبر الأمور حكيم ، ومن حيث أوجدها
: جواد ، ومن حيث رتبها : مصور ، ومن حيث وضع كل شيء في موضعه عدل ، ومن حيث لم
يترك فيها دقائق وجوه الرفق لطيف ، ولن يعرف حقيقة لهذه الأسماء من لم يعرف حقيقة
هذه الأفعال.
الاسم الثالث : الخبير وله تفسيران :
الأول : أن الخبير هو العالم بكنه
الشيء المطلع على حقيقته ، يقال فلان بهذا الأمر خبير ، وله به خبرة ، إلا أن
الخبرة في صفة المخلوقين إنما تستعمل في العلم
الذي يتوصل إليه بالاختبار والامتحان. والله منزه عنه ، والتفسير الثاني: الخبير
بمعنى المخبر كالسميع بمعنى
المسم ع ، والبديع بمعنى المبدع.
الاسم الرابع : الشهيد قال تعالى : (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى
كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)؟ وقال تعالى : (شَهِدَ اللهُ) واعلم أن الشهيد مبالغة من
__________________
الشاهد ، كالعليم
من العالم ، والقدير من القادر ، وفي تفسيره وجوه :
الأول : إنه العالم. قال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) و «الغيب» عبارة
عما يظن و «الشهادة» عما ظهر. فإذا اعتبر العلم مطلقا فهو العليم ، وإذا أضيف إلى
الغيب والأمور الباطنية فهو الخبير. وإذا
اضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. الثاني : إن الشاهد والشهيد هو الحاضر المشاهد. قال تعالى : (فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) أي فمن حضر. وهذا الحضور
إن كان بالعلم فهو الوجه الأول. وإن كان بالرؤية والإبصار كان وجها ثانيا. الثالث:
الشهيد والشاهد ، هو الذي يثبت به الأمر المتنازع فيه بين الخصمين ، فكونه شهيدا
معناه : أنه تعالى بيّن
حقائق الأشياء ، وأظهرها ، ومن جملتها أنه بين توحيده وعدله وصفات جلاله بنصب
الدلائل ، ووضع البينات ، ومنه قوله : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) والرابع : إنه تعالى
شهيد بمعنى المشهود له. وذلك لأن العباد
يشهدون له بالوحدانية ، ويقرون له بالعبودية.
الاسم الخامس : الحفيظ قال تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ
حِفْظُهُما) وقال تعالى : (فَاللهُ خَيْرٌ
حافِظاً) وقال : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) واعلم أن الحفيظ مبالغة من الحافظ كالعليم من العالم.
وللحفيظ معنيان :
أحدهما : ضد النسيان والسهو ، ويرجع معناه إلى العلم فهو تعالى حفيظ للأشياء بمعنى
كونه تعالى عالما بجملها وتفاصيلها ، علما لا يتبدل بالسهو والنسيان. والثاني :
الحفيظ. هو الذي ضده التضييع ، فهو سبحانه حافظ السموات والأرضين. قال تعالى : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما)
__________________
وحافظ للكتب
الإلهية عن التحريف قال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ، وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) .
الاسم السادس : الرقيب قال تعالى حكاية عن عيسى عليهالسلام :(فَلَمَّا
تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) والرقيب الحافظ الذي لا يغيب عنه شيء. ومنه قوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا
لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) قال الخطابي : وهو في نعوت الآدميين : الموكل بحفظ الشيء
المترصد له ، المحترز عن الغفلة فيه. وأما مراقبة العبد ربه فهي علم العبد باطلاع
الحق عليه ، فاستدامته لهذا العلم هي (المسماة) بمراقبة الله تعالى. وهذه المراقبة مفتاح كل الخيرات ، فإن
العبد إذا تيقن أن الله مراقب لأحواله ، مطلع على ضمائره ، سامع لأقواله ، لا يغيب
عن علمه النقير والقطمير والصغير والكبير ، خاف سطوات عقابه في كل حال ، وهابه في
كل مقال ، عالما بأنه الحكيم الرقيب ، والشاهد الذي لا يغيب.
الاسم السابع : المهيمن قال تعالى : (السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) وهو اسم لمن كان موصوفا بمجموع صفات ثلاثة : أحدها : العلم
بأحوال الشيء. والثاني : القدرة التامة على
تحصيل مصالح ذلك الشيء. والثالث : المواظبة على تحصيل تلك المصالح ، فالجامع لهذه المعاني : اسم
المهيمن. ولن تجتمع هذه الصفات على الكمال إلا لله ـ سبحانه ـ
واعلم أنا لما انتهينا
إلى هذا الموضع عرض ما أوجب قطع هذا النوع من الكلام.
ونختم هذا الباب بنوعين من البحث :
__________________
أما النوع الأول : فهو أن تأثير قدرة الله تعالى في خلق الأجناس والأنواع والأصناف
والأشخاص بحسب الذوات وبحسب الصفات ، وبحسب آثار الحكمة في تخليق تلك الذوات
الموصوفة بتلك الصفات المخصوصة تكاد تكون غير متناهية ، ولهذا السبب جعل الله
تعالى بحسب كل نوع منها اسم خاص. وكل من كان أكمل عرفانا بأقسام مخلوقات الله
تعالى ، وأكثر وقوفا على آثار حكمته في تخليقها كان علمه بأسماء الله أكبر. فهذا
هو السر ، والعمدة في هذا الباب.
والنوع الثاني من البحث : أن هذه الرقى العزائم المذكورة بالألفاظ المجهولة ، إما أن تكون
من أسماء الله أو من أسماء الملائكة أو من أسماء الشياطين.
ولا شك أن أشرفها
وأقوالها في التأثير هو أسماء الله. ولما بينا أنها محصورة في هذه الأقسام التي
لخصناها ، علمنا أن منتهى الأمر في تلك الألفاظ المجهولة أن تكون دالة على هذه
الصفات ، فلعل السبب في تأثيرات تلك الألفاظ : أن قارئها إذا لم يكن عالما بها
فإنه يستولي على قلبه نوع خوف وفزع ، فيحصل في ذلك الوقت اتصال بجوهر النفس
الناطقة بعالم المفارقات والمقدسات ، فتقوى التأثيرات. لهذا السبب (والله أعلم
بالصواب) .
__________________
الفصل السادس
في
إثبات كونه تعالى حكيما
اعلم . أن الحكمة مفسرة بأمرين : أحدهما : الحكمة النظرية ، وهي
معرفة حقائق الأشياء. وعلم الله تعالى أكمل العلوم وأفضلها ، فوجب أن تكون حكمته
أفضل أنواع الحكمة ، وأكملها. والثاني : الحكمة العملية ، وهي عبارة عن الفعل
المفضي إلى حصول المنفعة ودفع المضرة.
ثم نقول : إن كان
المقصود من ذلك الفعل إيصال النفع إلى النفس ، ودفع الضرر عن النفس ، فهذا هو
المسمى بداعي الشهوة ، وإن كان المقصود من ذلك الفعل إيصال النفع إلى الغير ودفع
الضرر عن الغير ، فهذا هو المسمى بداعي الحكمة. ولما ثبت بالدلائل أن الله تعالى
منزه عن الشهوة والنفرة ، والألم واللذة. كانت داعية الشهوة ممتنعة الثبوت في حقه.
بقي الكلام في
إثبات داعية الحكمة لله تعالى. فنقول : للفلاسفة في تقرير هذا المطلوب طريق.
وللمعتزلة طريق آخر. ونحن نذكر كل واحد منهما على الوجه الأحسن .
أما طريق الفلاسفة : فهو أنهم قالوا : إن العقل يحكم بأن الموجود. إما
__________________
أن يكون خيرا محضا
، وإما أن يكون مشتملا على الخير والشر ، إلا أن الخير غالب ، وإما أن يكونا
متساويين ، وإما أن يكون الخير مغلوبا ، وإما أن يكون شرا محضا. قالوا : أما الخير
المحض ، فالحكمة تقتضي إيجاده وتكوينه. وأما الذي يكون مشتملا على الخير والشر ،
إلا أن الخير غالب على الشر فالحكمة تقتضي أيضا تكوينه لأن ترك الخير الكثير ،
لأجل الشر القليل شر كثير ، ولا يمكن أن يقال : فلم لم يخلق الخالق هذا القسم بحيث
يكون خاليا عن ذلك الشر القليل؟ لأنا نقول (عن) الكلام في الخير الذي يمتنع عقلا أن ينفك عن ذلك الشر
القليل : هذا القسم مما تقتضي الحكمة تكوينه لأن تحصيل ذلك الخير الكثير ، منفكا
عن ذلك الشر القليل ، لما كان محالا عقلا. لم يبق إلا أحد أمرين : أحدهما : أن
نترك ذلك الخير الكثير : لأجل الحذر عن ذلك الشر القليل. وقد بينا أن ترك الخير
الكثير (لأجل الشر القليل) شر كثير (والثاني : أن
نرضى بذلك الشر القليل لأجل الرغبة في تحصيل ذلك الخير الكثير) فيثبت أنه حصل التعارض في هذا القسم بين (تحمل الشر الكثير
وبين تحمل الشر القليل ، وصريح العقل ناطق بأن) تحمل الشر القليل أولى من تحمل الكثير ، فيثبت بهذا أن
القسم الذي يكون خيره راجحا على شره ، فإنه واجب التحصيل في الحكمة. وأما القسم
الثالث وهو الذي يتعادل فيه الخير والشر ، فالحكمة لا تقتضي إيجاده. وأما الرابع
والخامس فظاهر أنه على ضد الحكمة.
إذا ثبت هذا فنقول
: مخلوقات الله تعالى إما خيرات محضة ، وإن كانت مشتملة على الشر ، إلا إن الخير
فيها أغلب ، فإن الجائع وإن كان كثيرا ، إلا أن الشبعان أكثر ، والمريض وإن كان كثيرا ، إلا أن
الصحيح أكثر ، والمعيوب
__________________
وإن كان كثيرا إلا
أن السليم أكثر ، فيثبت بما ذكرنا أن جميع مخلوقات الله تعالى واقعة على وجه
الحكمة والصواب. وعند هذا قالوا : الخير مراد مرضي به ، والشر مراد مكروه (أما إن
الخير مراد مرضي به ، فلأن المقصود من الخلق إنما هو تحصيل الخير ، وأما أن الشر
مراد مكروه) فإنه نظرا إلى ذاته من حيث إنه مكروه ، إلا أنه لكونه من
لوازم ذلك الخير المطلوب بالذات ، صار مرادا فهو مكروه بالذات ، مراد بالغرض والتبع
، ونظم حكيم الشعراء هذا المعنى فقال :
الشيب كره. وكره
أن نفارق
|
|
أعجب بشيء على
البغضاء محبوب
|
والمعنى أن الشيب
يوجب نقصان القوة والحياة ، فهو مكروه بالذات. إلا أنه لما امتنعت حصول الحياة إلا
مع حصوله ، وكانت الحياة محبوبة ، لزم كون الشيب محبوبا. وهذا يقتضي أن يكون الشيب
محبوبا ومبغوضا ، إلا أنه محبوب بالغرض ، مبغوض بالذات . فهذا تمام الكلام في تقرير هذا الباب.
واعلم.
أن الكلام في هذا المقام من وجهين
:
الوجه الأول : إن قول القائل : إن هذا
المؤثر لم يفعل الخير؟ ولم
يفعل الشر؟ إنما يتوجه إذا كان ذلك المؤثر فاعلا مختارا ، وحينئذ يقال له : لم
فعلت هذا؟ ولم تركت ذلك؟ أما إذا كان موجبا بالذات ، فهذا السؤال ساقط ، وأقصى ما
في الباب أن يقال : إنه وإن كان موجبا بالذات إلا أنه عالم بما يصدر عنه إلا أنا
نقول علمه بما يصدر عنه ، لا يكفي في حسن هذا السؤال. إذا لم يكن مختارا في ذلك
التأثير ، ألا ترى أن العاقل العالم إذا سقط من السطح ووقع على إنسان آخر ، ومات
ذلك الإنسان ، فإنه لا يحسن أن يقال له : لم قتلت ذلك الإنسان؟ لأنه لما كان غير مختار في ذلك الفعل لا جرم لا يتوجه عليه ذلك السؤال.
__________________
إذا ثبت هذا فنقول
(المبدأ الأول عند
الفلاسفة (بأن إله العالم) موجب بالذات ، فكان هذا البحث غير لائق بمذهبهم. وإنما
يليق هذا البحث بمذهب القائلين بأن إله العالم فاعل بالاختيار.
وللفلاسفة أن يقولوا : مقصودنا من هذا البحث : أن نبين أن مخلوقات المبدأ الأول ، إما أن تكون خيرات محضة ، وإما أن
تكون الخيرية فيها غالبة على الشرية ، استدلالا بكمال آثاره ، وما يجد على كمال
ذاته وصفاته. ولا شك أن هذا البحث مفيد.
الوجه الثاني : إن كلامكم مبني على أصول : أحدها : إن هذه الخيرات الكثيرة لا يمكن
تحصيلها إلا مع تلك الشرور. والثاني : إن تلك الشرور مرجوحة بالنسبة إلى تلك الخيرات.
والثالث : إنه متى كان الأمر كذلك ، فإنه يجب تحمل تلك المرجوحية القليلة ، فيجب علينا أن نبحث عن كل واحد من
هذه الأصول.
أما الأصل الأول وهو أنه لا يمكن تحصيل
هذه الخيرات إلا مع هذه الشرور : فنقول:)
هذا ممنوع. والدليل عليه : وهو أن
الأجسام متساوية في الجسمية ، فاختصاص كل واحد منها بخاصيته المعينة وطبعه المعين
، لا بد وأن يكون لأجل الفاعل المختار. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يكون القادر
المختار قادرا على إيجاد تلك الخواص والطبائع حال كونها سببا لحصول المنافع ،
ويكون قادرا على سلب تلك الخواص والطبائع حال كونها سببا لحصول المضار والمفاسد.
فيثبت بهذا : أنه يمكن تحصيل تلك الخيرات مبرأة عن تلك الشرور. فمثلا : النار متى
كانت سببا لحصول المصالح والخيرات من طبخ الأطعمة ونضج الأغذية ، فإنه تبقى فيها
الطبيعة النارية. ومتى صارت سببا
__________________
لإحراق إنسان فإنه
يسلب عنها تلك الطبيعة. وإذا كان هذا ممكنا في قدرة الله كان إبقاؤها على طبيعتها
في الإحراق عند ملاقاة بدن الإنسان : شرا يمكن إزالته. وأيضا : الشر سام ويحدث
ورما في غشاء الدماغ والطبيب يقدر على إزالة ذلك الورم بالمسهل الخفيف. فإن كان
الإله يعجز عنه فهذا الطبيب الحقير أكمل قدرة من الإله؟ وأيضا : الملك الكبير إذا
استولى على أقوام ، فإن وقع في قلبه داعي يدعوه إلى الإحسان إليهم تخلصوا بسبب
حصول تلك الداعية في قلبه من القتل والنهب. فإن كان إله العالم عاجزا عن خلق تلك
الداعية في قلبه ، فما أعظم هذا العجز وإن كان قادرا عليه ، ولم يفعل ، فما أعظم
هذا الشر.
فإن قالوا : هذا
إنما يلزم إذا كان إله العالم مختارا ، فهو باختياره تارة يخلق الطبيعة النارية في
جسم النار ، وتارة يزيلها عنها. أما إذا قلنا : إنه موجب بالذات فقد سقط هذا
الكلام. وهكذا القول في سائر الأمثلة. فنقول : إنا قد بينا : أنه متى كان المبدأ
الأول موجبا بالذات ، كان هذا البحث ساقطا عديم الفائدة. والحاصل : أن إله العالم
، إن كان موجبا بالذات ، كان هذا البحث غير محتاج إليه البتة ، وإن كان قادرا
مختارا كان هذا البحث باطلا. فظهر أنه على جميع التقديرات باطل.
وأما الأصل الثاني وهو قوله : المفاسد
مرجوحة بالنسبة إلى المصالح : فنقول : هذا محض المغالطة. وتقريره : يجب أن يكون
مسبوقا بمقدمة.
وهي أن نقول :
بقاء الإنسان سليما عن الآفات غير ، وبقاؤه مع اللذة والسرور غير ، فنقول :
المقصود من تخليق الإنسان والحيوان. إما البقاء على السلامة عن الآفات ، وإما
الفوز باللذة والبهجة. والأول : باطل. لأن حال البقاء على العدم الأصلي كان هذا المقصود
حاصلا ، فيثبت أن المقصود من التخليق يجب أن يكون هو هذه اللذة والبهجة والسرور.
وإذا عرفت هذا فنقول : إن كان المراد من قولكم : الخير غالب ، والشر مغلوب : هو أن
__________________
السلامة عن الآفات
غالبة والوقوع (في الآفات مغلوب) فنقول : هب أن الأمر كذلك، إلا أنا بينا : أنه لا يجوز أن
يكون المقصود من الخلق والإيجاد : هو السلامة عن الآفات ، فلا يجوز أن يكون الشر
القليل محتملا لتحصيل الخير الكثير بهذا المعنى. وإن كان المراد أن حصول اللذة
والسرور راجح على حصول الغم والألم فهذا ممنوع. وظاهر أن الأمر ليس كذلك ، فإن
أوقات السرور واللذة قليلة ، والغالب حصول الغم والهم والحزن بسبب الحرص والحسد
والرغبة في طلب الدنيا.
نقول : إن حب
الإنسان للمال والجاه شديد ، فإذا طلب فالغالب أنه لا يفوز بمطلوب ، فيبقى قلبه
أبدا في الألم والوحشة ، بل نقول : إن لم يفز بمطلوبه فهناك البلاء الشديد ، وإن
فاز بمطلوبه فحينئذ يلتذ به ، والتذاذه به يحمله على طلب الزائد. وذلك الطلب يوجب
العناء الشديد والبلاء العظيم ، فالحاصل أنه عند الطلب إن بقي في الحرمان فهناك
البلاء والخسران ، وإن فاز بالوجدان عظم التذاذه به. وتلك اللذة تصير سببا لحصول
طلب أكمل مما كان ، وأقوى مما كان ، وهو يوجب الحرص الشديد أعظم مما كان ، فيثبت
أن الإنسان لا ينفك البتة عن هذا النوع الواحد من البلاء والعناء. وأما سائر أنواع
البلاء مثل قصد الأعداد وحصول أنواع الأمراض والآلام سواء كانت قليلة أو كثيرة
والخوف من الفقر والهرم ، وطريان العلل المنفرة ، فهذا بحر لا ساحل له. فنقول : من
يقول : إن هذه المكروهات أقل من تلك اللذات : مكابرة ، لا يليق بها عاقل. فيثبت
بما ذكرنا : أن قولهم الخير راجح ، والشر مرجوح مغالطة محضة.
وأما الأصل الثالث وهو قولهم : ترك
الخير الكثير ، لأجل الشر القليل شر كثير ، فنقول : الشر قد يعني به ترك الخير ، وقد يعني به حصول
الألم والضرر ، فقوله : ترك الخير الكثير لأجل الشر القليل : شر كثير. إن عنى
بالشر الكثير ترك الخير الكثير ، صار تقدير هذا الكلام : إن ترك الخير الكثير لأجل
__________________
الشر القليل ترك
للخير الكثير. وحينئذ لا يبقى بين موضوع هذه القضية وبين محمولها فرق البتة. ومثل
هذه القضية عيب فاسد ، فإن عني بالشر الكثير : الألم الكثير والضرر الكثير. فهذا
باطل ، لأنه إذا ترك الخير الكثير لأجل ذلك الشر القليل فإنه يبقى الشيء على العدم
الأصلي. وعلى هذا التقدير فكما لا تحصل اللذة والبهجة ، فكذلك لا يحصل الألم
والضرر.
فهذا تمام البحث
في هذا الطريق.
وأما
طريق المعتزلة :
قالوا : ثبت
بالدليل : أن الحسن (إنما يحسن) لوجوه عائدة إليه ، وأن القبح يقبح لوجوه عائدة إليه. وثبت
أيضا بالدليل أنه تعالى غني عن كل الحاجات ، وثبت أيضا بالدليل أنه تعالى عالم بكل
المعلومات ، وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة فإنه يتولد من مجموعها مقدمة واحدة ،
وهي أنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا عنه. ثم نقول : وكل من كان كذلك
فإنه لا يفعل القبيح ينتج أنه تعالى لا يفعل القبيح. أما الأصول الثلاثة فقد تقدم الكلام فيها. وأما
المقدمة الثانية فقد احتجوا على صحتها من وجهين :
الأول : إن الإنسان إذا قيل له : إن صدقت أعطيناك دينارا ، وإن كذبت أعطيناك دينارا ،
واستوى الصدق والكذب بالنسبة إليه في جميع المصالح العاجلة والآجلة ، إلا في كونه
صدقا وكذبا. فإنه لا بد وأن يترك الكذب ويفعل الصدق.
إذا ثبت هذا فنقول
: الوجه المقتضي للصرف عن الكذب مجرد علمه بكونه كذبا ، لأن عند العلم بكونه كذبا
يحصل هذا الصرف ، وعند عدم هذا العلم لا يحصل هذا الصرف ، فثبت أن الموجب لهذا
الصرف هو العلم بكونه
__________________
كذبا فثبت أن
العلم بالقبح يوجب الصرف عن فعل القبيح ، ولما حصل هذا العلم في حق الله تعالى ،
وجب أن يؤثر في صرفه عن القبيح.
والوجه الثاني : هو أن نترك هذا القياس ، وندعي العلم الضروري بأن العلم بكون الفعل
قبيحا يوجب الانصراف عنه ، اللهم إلا إذا صار هذا الصارف معارضا بداعية الشهوة
والحاجة. لكنا بينا أن هذه الداعية في حق الله تعالى ممتنعة ، فكان علمه تعالى
بقبح الفعل صارفا له عن هذا الفعل ، ولم يوجد في حقه ما يعارضه ، وهو داعية الشهوة
، فوجب أن يمتنع الله من فعل القبيح ، فهذا تقرير دليل المعتزلة.
وللاعتراض عليه. نقول
: أتدعون أن عند حصول
العلم بكون الفعل قبيحا ، يمتنع صدور الفعل عنه أو لا تدعون الامتناع؟ فإذا ادعيتم
الامتناع لزمكم كونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار ، لأن ذاته موجبة
لذلك العلم. وذلك العلم موجب ، فوجب الامتناع من ذلك الفعل ، وموجب الموجب موجب ،
فكانت ذاته موجبة للامتناع من ذلك الفعل ، فيكون موجبا بالذات ، لا فاعلا
بالاختيار. وأما إن قلتم : إن عند حصول هذا الصارف (لا يجب هذا الامتناع ، كان
معناه أن مع حصول هذا الصارف) يجوز الفعل، ومع هذا التجويز كيف يمكنكم الجزم بأنه لا يقع؟
وبأنه بتقدير الوقوع يفضي إلى المحال. وأيضا : عند العلم بأن ترك الثواب وترك
العوض قبيح ، وجب ترك ذلك ، فيلزم أن يكون فعله واجبا عقلا ، فيعود ما ذكرنا إلى
أنه يكون موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. وقد ذكرنا مع الفلاسفة أن مع القول
بكون الإله تعالى موجبا بالذات ، فإن هذا البحث ساقط بالكلية.
ثم نقول : إن دل
هذا الدليل على أنه تعالى لا يفعل القبيح ولا يريده ولا
__________________
يأمر به. فههنا
دلائل تدل على أنه تعالى يفعله ويريده ، وهي الدلائل الدالة على أن أفعال العباد
كلها واقعة بقضاء الله وقدره.
وسيأتي شرح تلك
الدلائل على الاستقصاء. والله أعلم .
__________________
الفصل السابع
في
أن تحسين العقل وتقبيحه هل هو معتبر أم لا ؟
أطبقت المعتزلة
والكرّامية على (إثبات تحسين العقل وتقبيحه. وأطبقت الفلاسفة والجبرية على) إنكاره ، والمختار عندنا : أن تحسين العقل وتقبيحه بالنسبة
إلى العباد معتبر ، وأما بالنسبة إلى الله تعالى فهو باطل.
أما إثباته في حق العباد فيدل عليه وجوه :
الأول : إنا نرى أن العقلاء قبل علمهم بالشرائع والنبوات مطبقين على حسن مدح المحسن ،
وحسن ذم المسيء. فإن من أحسن إلى محتاج ، فإن ذلك المحتاج يجد من صريح عقله ، حسن
مدحه وذكره بالخير ، ولو أساء رجل إليه فإنه يجد من صريح عقله حسن ذمه. وهذا الحكم
حاصل ، سواء كان ذلك الإنسان مؤمنا يصدق بالأنبياء أو لم يكن كذلك. فعلمنا أن هذا
الحسن مقرر في عقولهم.
والثاني : إنه لا معنى للقبيح الشرعي إلا أن الشرع يقول له : إنك إن فعلت الفعل الفلاني صرت معاقبا عليه ، فيقول عقله : هل نقضي بوجوب
__________________
الاحتراز عن
العقاب أو لا نقضي بذلك؟ فإن قضي بذلك ، فالحسن والقبح العقليان قد ثبتا ، وإن لم
يقض عقله بذلك فحينئذ يحتاج إلى أن يوجب الشرع عليه الاحتراز عن العقاب. والكلام
فيه كما في الأول ، فيلزم التسلسل ، وهو محال.
والثالث : إنه لا شك أن عندنا مطلوبا أو مكروها. ولا يجوز أن نقول : إن كل
مطلوب أو مكروه إنما كان مطلوبا أو مكروها لأجل شيء آخر ، وإلا لزم
التسلسل أو الدور ، فلا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته ، وبوجود شيء
يكون مكروها لذاته. ثم لما تأملنا علمنا : أن اللذة والسرور مطلوبتان بالذات. وأن
الألم والغم مكروهان بالذات. فهذا الحكم ثابت في محض العقول ، سواء حصلت الشريعة
أو لم تحصل فيثبت بما ذكرنا : أن العقل يقضي بحسن بعض الأشياء وبقبح بعضها. فهذه
الوجوه دالة على أن الحسن والقبح بمقتضى العقل في حق العباد (معتبر) .
وأما
إثباتهما في حق الله تعالى ، فنقول : هذا محال ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : أن الذي عقلناه من معنى الحسن ما يكون نفعا ، أو مؤديا إليه ،
والذي عقلناه من معنى القبح ، ما يكون ضررا أو مؤديا إليه ، والرغبة في المنفعة ،
والرهبة عن المضرة إنما يعقل (حصولهما) في حق من يصح عليه النفع والضرر. ولما كان ذلك في حق الله
تعالى محالا ، كان القول بثبوت الحسن والقبح في حق الله محالا.
قالت المعتزلة : كون الشيء حسنا أو قبيحا. أمر مغاير لكونه منشئا للمنفعة والمضرة. والدليل
عليه : أن النافع قد يكون قبيحا ، والضار قد يكون حسنا ، أما أن النافع قد يكون
قبيحا ، فلأن الظلم نافع في حق الظالم مع أنه
__________________
قبيح ، والزنا نفع
في الحال مع أنه قبيح. وأما أن الضار قد يكون حسنا فلأن إتعاب النفس في العبادات
والطاعات ضار في الحال مع أنها حسنة. وتمام كلامهم قد ذكرناه في باب القادر ،
وأجبنا عنه : بأن الظلم وإن كان نافعا بالنسبة إلى ذلك الظالم ، إلا أنه عظيم
الضرر في وضع العالم. لأنا إن حكمنا بحسن الظلم حصل الهرج والمرج ، ولم يبق لأحد
وثوق بتزوجه ومنكوحه ، وذلك من أعظم المضار ، وأما العبادات فإنما كانت حسنة لأن
الإتيان بها يفيد النفع العظيم في الآخرة. وبذل المنفعة القليلة لأجل وجدان النفع
العظيم من أصول مصالح العالم. ألا ترى أن الزارع يبذر البذر ويفسده لأجل وجدان
الريع الكثير. فيثبت أنا لا نعقل من الحسن والقبح إلا المنفعة والمضرة.
واعلم أن هذا
المقام هو المقام الصعب ، فإنهم إن فسروا الحسن والقبح بالمنفعة والمضرة ، فحينئذ
لا يمكنهم إثبات الحسن والقبح في حق الله تعالى ، وإن حاولوا إثبات شيء آخر ، لم يجدوا منه أثرا ، فهذا هو الموضع الشريف
الكامل الذي يجب على العاقل أن يثبت فيه.
الحجة الثانية : في بيان أن الحسن
والقبح بحسب العقل في أفعال الله : محال.
إنه لو صح القول
بالقبح العقلي ، لم يكن الله منعما على أحد من عبيده. وهذا باطل (فذاك باطل) . بيان الملازمة : أن النعمة إنما تكون نعمة في حق من يكون
محتاجا إليها متهيئا لها. لأن من لا يكون كذلك لم يكن إيصال ذلك الشيء إليه. نعمة
في حقه. إلا أن الحاجة إليه والشهوة به مضرة ، فيثبت أن إيصال النعمة إليه لا يمكن
إلا إذا كان مسبوقا بإيصال ضرر يساويه إليه ، ومتى كان الأمر كذلك صارت هذه النعمة
الحاصلة دافعة لذلك الضرر السالف ، فتصير هذه الواقعة كمن يجرح إنسانا ثم يعالج
جراحته ، وكمن
__________________
يغصب من إنسان
دينارا (ثم يعطيه دينارا) آخر. وإنه على هذا التقدير لا يكون ذلك إنعاما ، بل يكون
محض العبث ، فيثبت أن القبح العقلي لو كان معتبرا في حق الله تعالى ، لوجب القطع
بأنه تعالى غير منعم على أحد من عبيده ، بل كان يلزم أن يكون عابثا في كل ما فعل
وخلق ، ولما أجمع أهل الملل على أنه تعالى حكيم في فعله ، منعم على عبيده ، علمنا
أن حكم العقل على الله تعالى بالحسن والقبح باطل والله أعلم .
فإن قيل : الشرطية
ممنوعة وهي قوله : أن لا تكون النعمة نعمة ، إلا إذا كان المنعم عليه
محتاجا إليها مشتهيا لها ، والحاجة والشهوة ضررهما من فعل الله ـ سبحانه ـ فنقول :
لا نزاع في أنه ما لم يكن الحيوان محتاجا إلى الشيء ومشتهيا له ، لم يكن إيصال ذلك
الشيء إليه نعمة في حقه. لكن لم قلت : إن الحاجة إلى الشيء والشهوة ضرر؟ وما
الدليل على أن الأمر كذلك؟ سلمنا أنه ضرر ، ولكن لم قلتم : إن ذلك الضرر حاصل
بتخليق الله تعالى؟ وما الدليل عليه؟ وتقريره : أن كون الإنسان محتاجا إلى الشيء
وصف لازم لذاته ولماهيته ، ولما كان الأمر كذلك لم يكن حصوله بسبب جعل الجاعل وفعل
الفاعل ، كما أن كون الأربعة زوجا ، وكون الثلاثة فردا ، ليس بسبب الجعل والخلق
والتكوين. سلمنا أن الحاجة إلى الشيء والشهوة له ، إنما حصل بتخليق الله تعالى
وإيجاده. فلم قلتم : إن على هذا التقدير يكون إيصال النعمة إليه عبثا؟ وتقريره :
أن هذا العبث إنما يلزم إذا قلنا : إنه تعالى لا يوصل إليه النعمة إلا بقدر حاجته
وشهوته. أما إذا قلنا : إنه تعالى خلق الحاجة والشهوة فيه. ثم إنه بعد ذلك أعطاه
من المنافع ما يزيد على قدر حاجته أضعافا مضاعفة. فهذا يمنع من كونه عبثا. ومثاله
: أن من أوصل دينارا من الغير إلى
__________________
الإنسان ، ثم
أعطاه ألف دينار ، فإنه لا يقال : إنه عابث في فعله ، بل يقال : إنه منعم عليه ،
فكذا هاهنا (والله أعلم) .
والجواب : قوله :
ما الدليل على أن الحاجة والشهوة ضرر؟ قلنا : هذه المقدمة معلومة الصحة بالضرورة.
فإن كل أحد يكره كونه محتاجا إلى الشيء ، ويجب كونه غنيا عنه. ومن أنكر هذه
المقدمة ، فقد نازع في البديهيات. ولذلك قال بعضهم :
غنيت بلا مال عن
الناس كلهم
|
|
وإن الغنى
الأعلى : عن الشيء ، لا به
|
ومن الأمثال
المشهورة : «إن استغناءك عن الشيء ، أعظم من استغنائك بالشيء».
وأيضا : قد اتفق
العقلاء على أنه يجب تنزيه الله عن الشهوة وعن الحاجة. وحكموا بأنه إنما يجب تنزيه
الله عنهما لكونهما من باب النقائص والآفات. وأيضا : إن المحتاج إلى الشيء إن لم يجد المحتاج إليه ، كان الألم حاصلا ، وإن وجده إلا
أنه يتوقف كمال حاله على وجدان ذلك الشيء. فالتوقف على الغير يوجب الإمكان
والحدوث. وكل ذلك من باب النقائص والمضار .
وأيضا : أما قوله
: لم قلتم إن الحاجة إلى الشيء حصلت بتخليق الله؟ قلنا : الجواب عنه من وجوه :
الأول : إنا نجد إنسانين أحدهما شديد الرغبة في الملاهي والمشاهي عظيم الميل إليهما ، لا
يمكنه المصابرة عنهما إلا بتكليف شديد ، وجهد عظيم. ويكون الثاني شديد النفرة
عنهما ، عظيم الانقباض عنهما بحسب الطبع (حتى أنه لا تخطر هذه الأمور بباله في
أكثر العمر ، فلو خطر شيء منها بباله ، فإن
__________________
نفسه) تكرهها وتستنكرها. وهذا التفاوت أمر معلوم بالضرورة ،
فاختصاص أحد ذينك الشخصين بتلك الرغبة العظيمة دون الثاني ، إما أن يكون بالطبع أو
بالخالق المختار (والأول بيناه. لأنا بينا في أول هذا الباب : أن الكلام في الحسن
والقبح والحكمة) والسفه فرع على القول بإثبات الفاعل المختار. وإما بتقدير
أن يكون المؤثر في وجود العالم موجبا بالذات ، يسقط هذا البحث بالكلية فيثبت : أن
ذلك التفاوت لم يحصل إلا لأجل أن الله ـ سبحانه ـ خص أحدهما بتلك الرغبة والشهوة ،
وخص الثاني بتلك النفرة والكراهية. وكذا القول في الرغبة في أكل الأطعمة الشهية.
فرب إنسان كانت رغبته في طعام معين ، وكانت نفرته عن غير ذلك الطعام متأكدة ، ورب
إنسان بالضد من ذلك ، فيثبت : أن هذه الشهوات المختلفة والرغبات المتضادة ، إنما
حصلت بإيجاد الله تعالى. إذا ثبت هذا فنقول : كلما كان الميل إلى الشيء والرغبة
فيه والحرص عليه أشد ، كان الالتذاذ بوجدانه أتم وأكمل ، وكلما كان هذا المعنى أقل
، كان الالتذاذ بوجدانه أضعف ... وإذا ثبت هذا فنقول: إن مقدار الإنعام مساوي
لمقدار اللذة ، ومقدار اللذة مساوي لمقدار الحاجة السابقة ولمقدار الشهوة السابقة.
وقد دللنا على أن
الحاجة لشهوة ضرر (والمساوي للمساوي للشيء مساوي لذلك الشيء) فيلزم أن يكون مقدار الإنعام الحاضر ، مساويا لمقدار الضرر
السابق. وحينئذ يتم الكلام.
الوجه الثاني : في دفع هذا السؤال أن نقول : هب أن الحاجات والشهوات من لوازم ذوات الحيوانات
إلا أن ذلك الحيوان كان قبل دخوله في الوجود عدما محضا ، ونفيا صرفا ، وما كان
البتة موصوفا بشيء من الحاجات والشهوات فلما أوجده الخالق سبحانه صار بعد دخوله في
الوجود موصوفا بهذه
__________________
الحاجات وبهذه
الشهوات (فلو كان إيجاد الله تعالى لذوات هذه الحيوانات مستلزما لحصول هذه
الحاجات والشهوات) لكان الإيجاد والتكوين إضرارا من هذا الوجه ، لكنا بينا :
أن النعمة مقدرة بمقدار هذه المضرة ، وحينئذ يعود الإلزام المذكور.
(الوجه الثالث : أن نقول : حصول هذه الحاجات وهذه الشهوات إما أن يكون من لوازم وجود الحيوان
أو لا يكون. فإن كان الأول كان إيجاد الحيوان ، إيجاد لشيء يلزمه (منه) حصول هذا الضرر ، فكان الإيجاد : أضرارا. وحينئذ يتم
الكلام المذكور ، وإن كان الثاني فحينئذ يكون حصول الحاجة والشهوة في الذات ليس
إلا لأجل أن خالق العالم أوجدها فيه ، وحينئذ يعود الكلام المذكور. أما قوله) لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى ، وإن كان هو الذي أحوج ،
إلا أنه أعطى فوق قدر الحاجة؟
فالجواب : أن هذا
باطل. لأن ذلك القدر الزائد. هل إليه شهوة؟ وهل له في حصوله رغبة؟ أو ليس كذلك.
فإن كان الأول فحينئذ قد كان المنعم عليه محتاجا (إلى حصول تلك الزيادة كما كان
محتاجا إلى حصول ذلك الأصل. ولما كان محتاجا) إلى الأصل وإلى الزيادة معا ، فحينئذ يعود الأمر إلى أن
النعمة إنما حصلت بقدر المضرة السالفة. وإن كان الثاني وهو أن لا يكون للمنعم عليه حاجة إلى وجدان تلك الزيادة ، ولا
يكون له شهوة إلى حصول تلك الزيادة فنقول : الشيء الذي لا يكون محتاجا إليه ، ولا
يكون بتعلق الشهوة والرغبة ، امتنع أن يكون وجدانه سببا لحصول اللذة والمنفعة ،
وإذا كان
__________________
كذلك لم يكن إيصال
مثل هذا الشيء إلى الحيوان إنعاما في حقه ، ومثال هذا : أنك إذا رميت قلادة من
الدار إلى كلب ، ورميت عظما إلى إنسان لم يكن ذلك إنعاما في حق كل واحد منهما ،
لأن الكلب لا حاجة له إلى وجدان القلادة من الدر ، ولا شهوة له إلى وجدانها ،
وكذلك الإنسان لا تتعلق حاجته بوجدان ذلك العظم ولا تتعلق شهوته بتحصيله، أما إذا
قلبت الأمر ورميت القلادة من الدر إلى الإنسان ورميت العظم إلى الكلب ، كان ذلك إنعاما
في حق الإنسان وفي حق الكلب ، لأن الإنسان يشتهي وجدان القلادة من الدر، والكلب
يشتهي تناول العظم. فيثبت أن الحيوان ما لم يكن مشتهيا للشيء ومحتاجا إليه، لم يكن
إيصاله إليه إنعاما في حقه ، وإذا ثبت هذا ظهر أن تلك الزيادة ، يمتنع كونها نعمة
، إلا إذا كان المنعم عليه مشتهيا لها ، وراغبا في تحصيلها ، ومحتاجا إلى الفوز
بها ، ومتى كان الأمر كذلك ، فحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه يصير قدر النعمة الحاصلة
في الحال ، مساويا لقدر المضرة التي كانت حاصلة في الزمان الماضي ، بسبب خلق
الشهوة والحاجة فيه، وحينئذ تتقابل المنفعة بالمضرة ، والألم باللذة ، والخير
بالشر. ومثل هذا الفاعل يسمى عابثا بمقتضى تحسين العقل وتقبيحه ، وغير منعم البتة
، ولما كان ذلك باطلا بإجماع العقلاء علمنا أن حكم العقل على أفعال الله بالتحسين
والتقبيح باطل (غير ملتفت إليه. والله أعلم) .
الحجة الثالثة : أن نقول : إن الخلق والتكليف يدلان على أن أفعال العباد لا يجب انطباقها على رعاية مصالح العباد ، ودفع المفاسد عنهم ،
ونحن نذكر الآن أن الخلق يدل على ذلك. فنقول :
العالم إذا كان
محدثا كان تخصيص الله إحداث العالم بالوقت المعين دون ما قبله وما بعده ، إما أن
يكون لأجل اختصاص ذلك الوقت بمصلحة أو بدفع مفسدة ـ ولا يحصل ذلك المعنى على تقدير
حدوث العالم في سائر الأوقات ـ وإما
__________________
أن لا يكون الأمر
كذلك ، والأول باطل. وذلك لأن اختصاص ذلك الوقت بتلك المصلحة المخصوصة ، إما أن
يكون لذاته ، أو لأجل لوازم ذاته ، أولا لهذين القسمين ، والأقسام الثلاثة باطلة.
أما الأول : وهو أن يكون اختصاص ذلك
الوقت المعين بتلك
المصلحة المعينة لذات الوقت ولعينه. فنقول : هذا باطل لوجوه :
أحدها : إن هذه الأوقات عند القائلين بحدوث العالم ، كانت قبل حدوث العالم نفي محض
وعدم صرف ، والعدم المحض يمتنع أن يخالف بعضه بعضا بالخواص الذاتية ، والآثار
اللازمة.
وثانيها : أن نقول : هذه الأوقات المختلفة ، والآثار المختلفة إما أن تكون واجبة الوجود
لذواتها أو لا تكون كذلك ، والأول يقتضي امتناع العدم عليها ، فيكون الوقت السابق
هو بعينه الوقت اللاحق ، وذلك باطل بالضرورة ، والثاني يقتضي أن تكون هذه الأوقات
والآثار محدثة متعاقبة متلاحقة ، وحينئذ يعود البحث في أنه لم يوجد ذلك الوقت
المشتمل على تلك المصلحة في ذلك الوقت ، ولم يحدث قبله ولا بعده؟
وثالثها : أنه لو كان الوقت المعين له صلاحية أن يقتضي لذاته ، كونه منشئا لتلك المصلحة
المعينة ، فلم لا يجوز أن يقال : إن الوقت المعين يقتضي لذاته حدوث العالم؟ فإن
ذلك الوقت المعين لما صح أن يكون مؤثرا في بعض الآثار ، لم يمتنع أيضا كونه مؤثرا
في سائر الحوادث ، وحينئذ لا يمكننا أن نقطع بأن المؤثر في حدوث العالم ، ليس هو
ذلك الوقت المعين ، وأي دليل يذكر في إبطال هذا فإن يصير منتقضا بقولهم : إن ذلك
الوقت اقتضى حصول تلك الخاصية لذاته ، فيثبت بهذه الوجوه الثلاثة : فساد قول من يقول : إن ذلك
الوقت المعين ، اقتضى لذاته حصول تلك المصلحة.
__________________
والقسم الثاني : وهو أن المقتضي لحصول تلك المصلحة لازم من لوازم ذلك الوقت ، فهذا أيضا
باطل ، لعين تلك الدلائل الثلاثة.
وأما القسم الثالث : وهو أن ذلك الوقت اختص بتلك الخاصية لا لذاته ، ولا لشيء من لوازم
ذاته ، فحينئذ وجب القطع بأن الفاعل المختار اختص ذلك الوقت بتلك الخاصية المعينة
، وإن كان ذلك لخاصية أخرى عاد التقسيم الأول فيه ، ولزم التسلسل ، وهو محال ،
فيثبت أن بتقدير أن يكون العالم محدثا فإنه يجب الاعتراف بأن الفاعل المختار خصص
إحداثه بذلك الوقت المعين من غير رعاية حكمة ولا مصلحة ، فيكون ذلك محض العبث ،
وهو قبيح في العقول ، فيثبت بهذا أن حكم العقل في التحسين والتقبيح لو كان معتبرا
، لزم القول بقدم العالم ، ويكون الإله موجبا بالذات ، لا فاعلا مختارا ، لكنا
بينا : أن القول بالتحسين والتقبيح ، فرع على القول بإثبات الفاعل المختار ، وكل
فرع أوجب فساد الأصل كان باطلا ، فوجب أن يكون القول بالتحسين والتقبيح باطلا في
أحكام الله.
واعلم. أن هذا
الدليل الذي ذكرناه عائد في حدوث كل واحد من الحوادث في وقته المعين ، وفي اختصاص
كل واحدة من الذوات بصفته المعينة ، وبمقداره المعين ، وبحيزه المعين. فإنا نقول :
اختصاصه بتلك الخاصية إما أن يكون لخاصية في ذلك الوقت ، أو لشيء من لوازم ذلك
الوقت ، أو لشيء من عوارض ذلك الوقت ، وحينئذ يعود التقسيم بتمامه. وهذا الدليل في
الحقيقة ليس دليلا واحدا ، بل هو دلائل لا نهاية لها بحسب حدوث كل حادث يحدث إلى
الأبد الذي لا آخر له.
الحجة الرابعة : نقول : لو كان حكم العقل في التحسين والتقبيح معتبرا ، لصح من
الله تكليف عباده بمعرفته ، وبالثناء عليه ، وبالشكر لنعمه. وهذا باطل ، فذاك
باطل.
__________________
بيان
الشرطية من وجهين :
الأول : إن تحصيل معرفة الله عمل شاق على العبد ، ولا يحصل منه نفع ، لا للشاكر ولا
للمشكور ، وما كان كذلك كان الأمر به قبيحا ، بمقتضى تحسين العقل وتقبيحه. ينتج:
أنه لو كان حكم عقولنا معتبرا في حق الله تعالى لوجب أن يقبح من الله أن يأمر
عباده بمعرفته وطاعته.
وهذا
الكلام مبني على مقدمات :
المقدمة الأولى : في بيان أن تحصيل
معرفة الله شاق : وبيانه من وجهين : الأول : لا شك أن تحصيل معرفة الله لا يتم إلا بالاستدلال ، ولا شك أن
الاستدلال طريق صعب ، ولذلك فإن أكثر أهل العالم زاغوا وضلوا إلا القليل. ومن خاص
في العلوم الإلهية علم ما فيها من الصعوبة والشدة. والثاني : إن بتقدير أن يضل الطالب بهذا العلم يستوجب العذاب العظيم الدائم ، ثم
رأينا أن الأكثرين يضلون ويكفرون. وذلك يدل على أن الخطر شديد في هذا العلم.
المقدمة الثانية : في بيان أن المشكور
لا ينتفع بهذا الشكر والطاعة : والأمر فيه ظاهر، لأن المعبود متعالى عن النفع والضر ، والغم والسرور.
وبهذا الحرف يظهر الفرق بين شكر المنعم في الشاهد ، وبين شكره في حق الله تعالى. لأن
الواحد منا إذا أنعم على غيره ، فإن أقدم المنعم عليه على شكر ذلك المنعم ، فرح
المنعم بذلك الشكر ، وحصل في قلبه لذة عظيمة وسرور ، وإن أعرض عن شكره حصل في قلبه
الحزن والغم والضرر ، ولما كانت هذه الأمور ممتنعة في حق الله تعالى ، فقد ظهر
الفرق.
المقدمة الثالثة : في بيان أن الشاكر لا ينتفع بهذا الشكر والعبادة : والدليل عليه : إنا قد
بينا أنه لا معنى للمنفعة إلا اللذة والسرور ، أو دفع الألم
__________________
والغم وما يكون
وسيلة إلى أحد هذه الأشياء. ومن المعلوم بالضرورة أن القادر المختار قادر على
تحصيل هذه الأمور من غير واسطة هذه التكاليف ولا يمكن أن يقال : إن تحصيل هذه
الأشياء بواسطة التكاليف أيسر وأسهل ، لأنا نقول : إن حصول هذا التفاوت بالنسبة
إلى قدرة الله محال ، فيثبت بهذه المقدمات الثلاثة : أن التكليف بالمعرفة والطاعة
تكليف بأعمال شاقة ، مع كونها خالية عن جميع جهات الفائدة ومثل هذا قبيح في العقل
، فلو كان حكم العقل معتبرا في أفعال الله وفي أحكامه ، لوجب أن يقبح من الله كل
ذلك ، ولما لم يقبح منه شيء ، علمنا : أن حكم العقل غير معتبر في حقه.
الوجه الثاني في بيان الشرطية : إن في
الشاهد : من أنعم على
بعض الضعفاء بنعمة ، فإن لم يكلفه في مقابلة تلك النعمة بالخدمة الشاقة كان موقع
ذلك الإنعام شريفا عاليا ، أما إن كلفه بأن يقابل تلك النعمة بالخدمة فالناس
يقولون إنه لئيم دنيء الهمة ، يطلب في مقابلة تلك النعمة : الخدمة الشاقة المتعبة.
بل نقول : إنه لا يرغب في هذا الطلب إلا من كان دنيء الهمة ، خسيس النفس ، يستعظم
قدر تلك النعمة ، فيطالب المنعم عليه بأن يعطيه عوضا على ذلك الإنعام ، فإن قصّر
المنعم عليه ، في أداء ذلك العوض ، وقع في قلبه غيظ وغضب وحقد ورغبة في الانتقام ،
ثم يقع في العذاب الشديد بسبب استيلاء هذه الصفات عليه ، ثم إنه يسعى في إيصال
الضرر والألم إلى ذلك الشخص ليتوصل بذلك إلى الخلاص عن تلك الآلام الواقعة في قلبه
، بسبب استيلاء الغضب والغيظ عليه. ومثل هذا المنعم يكون قليل الخير ، كثير الضرر
، دنيء النفس ، ساقط الهمة. وأما إذا أنعم ، ولم يطلب من المنعم عليه شكرا وثناء ،
ولا يؤذيه بسبب إقدامه على كفران تلك النعمة. فهذا يعد شريف النفس ، قوي الهمة ، عالي الدرجة ، هذا في حق
العبد الذي يسره الشكر ، ويسوؤه الكفران. أما الإله المتعالي عن السرور والغم
والنفطع والضرر ، فكيف يليق بجلاله وكبريائه ، أن ينعم على عبده بنعمة ، ثم يطالبه
__________________
بأن يشتغل بالشكر
والثناء والخدمة والطاعة ، مع أنه في حق العبد محض الضرر ، والإله لا ينتفع به
البتة.
فيثبت بما ذكرنا :
أن حكم العقل في التحسين والتقبيح لو كان معتبرا في أفعال الله وأحكامه ، لقبحت هذه
التكاليف ، وحيث لم يقبح شيء منها علمنا أن ذلك (باطل قطعا. فإن قيل : لم لا يجوز
أن يقال : إنما حسن تلك التكاليف لمنفعة) عائدة إلى الشاكر والمطيع؟ وبيانه من وجوه :
الأول : إن تعظيم من لا يستحق التعظيم قبيح في العقول. فهو سبحانه إنما
كلفهم حتى يصيروا بسبب إتيانهم بتلك الطاعات مستحقين للتعظيم ، فحينئذ يحسن منه
تعالى أن يخصهم بأنواع التعظيم.
الثاني : إنه تعالى لو أعطاهم تلك المنافع بعد أن كانوا مستحقين لها ، كان ذلك ألذ وأكمل
مما إذا حصلت تلك المنافع بمحض التفضل.
الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن إمكان حصول هذه السعادات الأخروية للبشر ، مشروط
بإتيانهم بهذه العبادات ، على ما هو مذهب الحكماء. وذلك لأنهم قالوا : الإنسان إذا
واظب على تحصيل هذه الشهوات البدنية واللذات الجسمانية فإنه تقوى رغبته فيها ،
ويعظم ميله إلى تحصيلها ، فعند الموت يبقى ذلك الميل والرغبة مع العجز عن الوجدان
، فتعظم الآلام الروحانية. أما إذا امتنع عن تحصيل هذه اللذات ، وأقبل على ذكر
الله ، وذكر الملائكة وذكر الدار الآخرة فإنه تفتر رغبته في الجسمانيات ، ويقوى
ميله إلى الروحانيات ، فعند الموت يصير كأنه يتخلص من المكروه إلى المحبوب. ومن الحبس
إلى البستان ، وهذا هو السبب في التكاليف بالطاعات والعبادات.
__________________
فالجواب :
أما جواب الوجه الأول : وهو الذي عليه تعويل المعتزلة. وهو ضعيف. فبيانه من وجوه
:
الأول : إنه ليس من شرط كون الفعل موجبا لاستحقاق التعظيم (كونه شاقا) بدليل : إن ثواب الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ أعظم من ثواب
آحاد الأمة. وإن كانوا قد تحملوا من العناء فوق ما تحمله الرسول المعصوم. إذا ثبت
هذا فنقول : إن كان المقصود هو ما ذكرتم من استحقاق التعظيم فكان من حقه تعالى أن
يكلفهم بالتكاليف السهلة الهينة. وأن يزيد في تقوية أبدانهم ، حتى أنهم إذا أتوا
بها سهل ذلك عليهم ، وحصلت لهم المنفعة التي ذكرتموها وهي استحقاق التعظيم.
الوجه الثاني في الجواب : إن المقصود من التعظيم حصول السرور في القلب ولا نوع من أنواع السرور
إلا ويحسن من الله أن يخلقه في قلب العبد بدون واسطة هذه التكاليف.
الوجه الثالث في إبطال هذا الكلام : إن
عند حصول التكليف
يحصل احتمالان فإنه إن أطاع حصل له استحقاق التعظيم ، وإن لم يطع وقع في العذاب
العظيم والعناء الشديد ، فهذا التكليف دائر بين هذين الاحتمالين. ومن المعلوم أن
حصول التعظيم ليس من الأمور الضرورية فإن الرجل إذا حصلت له المنافع الخالية عن
التعظيم ، بقي سليما عن الآفات ، منتفعا بالخيرات. فحصول التعظيم من المطالب
الزائدة. أما اذا لم يأت به وقع في العذاب العظيم. ومعلوم أن السعي في دفع العذاب
العظيم أولى من السعي في تحصيل منفعة زائدة ، ولا حاجة إلى حصولهما في شيء من
الأوقات. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كان حكم العقل في التحسين والتقبيح في أفعال الله وأحكامه
__________________
معتبرا ، لكان
الواجب اللازم ترك التكليف.
الوجه الرابع في إبطال هذا الكلام : إن
ما ذكرتموه إنما يستقيم إذا
كان العبد مستقلا بالفعل والترك أما لما لم يثبت أن عند حصول القدرة والداعي يجب
الفعل ، فإنه لا يبقى لهذا الكلام فائدة.
وأما الوجه الثاني وهو قوله : المنفعة
المستحقة أفضل.
فجوابه من وجوه : الأول : إن كون العبد مستكفيا من إنعام مولاه ، مفيد جدا. ولذلك فإن العبد
إذا اكتسب بسعي نفسه مائة دينار ، وخلع عليه السلطان الأعظم خلعة تساوي مائة دينار
، فإن كل أحد يرجح هذه الخلعة على ذلك المال.
الوجه الثاني : إن ابتداء الخلق لا بد وأن يقع على سبيل التفضيل. فإن كان إيصال التفضيل
إليه يوجب نوعا من أنواع الضرر ، لزم أن يقبح ابتداء الخلق والتكوين.
الوجه الثالث : إذا كلفه فإن أطاع استفاد هذه الفائدة التي لا يلزم من فواتها فوات أمر مهم ،
وإن لم يطع وقع في العذاب العظيم. وقد بينا أن مقتضى العقل في هذه الصورة : الترك.
وأما الوجه الثالث : وهو إيصال اللذة والسرور (إليه من الدار الآخرة ، مشروط بهذا التكليف
فجوابه : إن وجود اللذة والسرور) ممكن في ذاته. والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فكان
قادرا على إيجادهما من غير واسطة هذه التكاليف.
وأما مذهب الحكماء : فغير وارد على هذا
الكلام لأن عندهم الثواب
والعقاب لا يحصلان بقصد الفاعل المختار وبتكوينه ، بل هما نوعان من لوازم الأفعال
البشرية. وذلك قول صحيح معلوم لكن تفريعا على القول بأن إله العالم موجب بالذات :
أما على التفريع بأن إله العالم فاعل مختار وأنه باختياره يخص
__________________
البعض بالثواب ،
والبعض بالعقاب ، فذلك الكلام لا يليق بهذا الباب. ومن حق العاقل أن يقرر كل شيء
بما يليق به ويناسبه. وقد ذكرنا أن الكلام في التعديل والتجدير من فروع القول
بإثبات الفاعل المختار فتقرير هذا الأصل بشيء ، لا يتم إلا مع القول بالموجب
بالذات : جمع بين النقيضين (وأنه باطل والله أعلم) .
__________________
الفصل الثامن
في
إثبات ان التكليف بما لا يطاق واقع
وأنه متى كان الأمر كذلك امتنع أن يقال
إنه تعالى يراعي مصالح العباد
الذي يدل على أن
التكليف بما لا يطاق واقع وجوه :
الحجة الأولى : إنه تعالى أخبر عن أقوام معينين أنهم لا يؤمنون البتة. فقال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ
عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ. أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقال أيضا : (لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وقال : (تَبَّتْ يَدا أَبِي
لَهَبٍ وَتَبَ) وقال : (ذَرْنِي وَمَنْ
خَلَقْتُ وَحِيداً) إلى قوله : (سَأُرْهِقُهُ
صَعُوداً) .
إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قط ، فلو صدر منه الإيمان لزم
انقلاب خبر الله (الذي هو) الصدق كذبا ، والكذب على الله محال ، والمفضي إلى المحال
محال ، فصدور الإيمان منه محال ، فالتكليف به : تكليف بالمحال.
وقد يذكر هذا في صورة العلم وهو أنه
تعالى : لما علم منه أن لا
__________________
يؤمن ، كان صدور
الإيمان منه : يستلزم انقلاب علم الله جهلا ، ومستلزم المحال محال ، فالتكليف
تكليف بالمحال وقد نذكر هذا على وجه ثالث وهو أن جود الإيمان يستحيل أن يحصل مع العلم
بعدم الإيمان ، لأنه إنما يكون علما لو كان مطابقا للمعلوم ، والعلم بعدم الإيمان
إنما يكون مطابقا ، لو حصل عدم الإيمان. فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان
لزم الجمع بين النقيضين وهو محال. فالأمر بتحصيل الإيمان مع حصول العلم بعدم
الإيمان : أمر بالجمع بين الضدين ، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود ، وكل ذلك
محال ، ونذكر هذا على وجه رابع وهو : أنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم
لا يؤمنون البتة بالإيمان ، والإيمان معتبر فيه تصديق الله تعالى في كل ما أخبر
عنه (ومما أخبر به أنهم) لا يؤمنون قط. فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا ، وبأنهم لا
يؤمنون قط ، وهذا تكليف بالجمع بين النفي والإثبات. ونذكر هذا على وجه خامس (وهو
أنه تعالى) عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله
عنه (فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ
يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ. قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ
قَبْلُ) فيثبت : أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن) عدم تكوينه : قصد لتبديل كلام الله ، وذلك مما قد نهى الله
عنه في هذه الآية. ثم إن في سائر الآيات أخبر الله تعالى عنهم بأنهم لا يؤمنون
البتة ، فالقصد إلى تحصيل الإيمان ، يكون قصدا إلى تبديل كلام الله ، وذلك منهي
عنه. ثم إنه أمر الكل بتحصيل الإيمان فكان هذا جمعا بين الأمر والنهي بالنسبة إلى
الشيء الواحد ، وذلك تكليف ما لا يطاق.
واعلم. أن هذا
الكلام هو الكلام الهادم لأصول الاعتزال.
ولقد تكلفت لهم
كلمات كثيرة ، وأنا أذكرها هاهنا على سبيل الاستقصاء.
__________________
والكلام في هذا الباب على مقامين :
المقام الأول : قالوا : الدلائل السمعية والعقلية مطابقة على أن العلم بعدم الإيمان
والإخبار عن عدم الإيمان لا يوجب كون الإيمان ممتنع الوجود.
أما
الدلائل السمعية فمن وجوه :
الحجة الأولى : إن القرآن مملوء من الآيات الدالة على أنه لا مانع (لأحد) من الإيمان. قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا : إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) ؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام. ومعلوم أن رجلا لو حبس رجلا
آخر في بيت بحيث لا يمكنه الخروج عنه ، ثم يقول له : ما يمنعك من التصرف في حوائجي؟
كان ذلك قبيحا ، وكذا قوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ
لَوْ آمَنُوا) بِاللهِ؟ وقوله (لإبليس) : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ)؟ وقوله (عن قول) موسى عليهالسلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ
رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا)؟ وقوله (فَما لَهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ)؟ (فَما لَهُمْ عَنِ
التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) ؟ (عَفَا اللهُ عَنْكَ.
لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ؟ (لِمَ تُحَرِّمُ ما
أَحَلَّ اللهُ لَكَ)؟ قال «الصاحب بن عبّاد» في فصل له في هذا الباب : كيف يأمر
بالإيمان وقد منعه عنه ، وينهاه عن الكفر وقد جبله عليه؟ وكيف يصرفه عن الإيمان ثم
يقول : (أَنَّى يُصْرَفُونَ)؟ ويخلق فيهم الإفك ، ثم يقول : (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ)؟ وأنشأ فيهم الكفر ، ثم يقول (لِمَ تَكْفُرُونَ)؟ وخلق
__________________
فيهم لبس الحق
بالباطل ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ)؟ وصدهم عن السبيل ثم يقول : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ
سَبِيلِ اللهِ)؟ وحال بينهم وبين الإيمان. فقال : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا)؟ وذهب بهم عن الرشد ، ثم قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) وأضلهم عن الدين حتى أعرضوا ، ثم قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ) .
وحاصل الكلام
هاهنا : أن هذه الآيات تصريحها يدل على عدم المنع ، ولو كان العلم بالعدم والإخبار
عن العدم مانعا ، لزم كذب هذه الآيات بأسرها.
الحجة الثانية : إن الله تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ،
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) وقال : (وَلَوْ أَنَّا
أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ ، لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ
إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) فلما بين الله تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا إلا وقد أزاله
عنهم ، فلو كان علمه بكفرهم ، وخبره عن كفرهم مانعا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من
أعظم الأعذار ، وأقوى الوجوه الدافعة عنهم العقاب. ولما لم يكن كذلك علمنا أنه غير
مانع.
الحجة الثالثة : إنه تعالى حكى عن الكفار في «حم» السجدة. أنهم قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا
تَدْعُونا إِلَيْهِ ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) وإنما ذكر الله تعالى هذه الحكاية عنهم ذمّا لهم بسبب أنهم
قالوا هذا القول ، ولو كان العلم بعدم الإيمان ، والخبر عن عدم الإيمان ، مانعا
لهم عن الإيمان ، لكانوا صادقين في
__________________
ذلك ، ولو كانوا
صادقين (في ذلك) لكان ذمهم عليه باطلا فاسدا.
الحجة الرابعة : إنه تعالى إنما أنزل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا) إلى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) وإنما أنزل قوله : (لَقَدْ حَقَّ
الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ذمّا لهم ، وزجرا لهم عن الكفر ، وتقبيحا لفعلهم ، فلو
كانوا ممنوعين عن الإيمان لما استحقوا الذم ، بل كانوا معذورين ، كما يكون الأعمى
معذورا في أن لا يرى ، والزمن في أن لا يمشي.
الحجة الخامسة : إن القرآن إنما ليكون حجة لله ولرسوله على الكفار ، لا ليكون حجة للكفار في
إبطال النبوة والتكليف ، فلو كان العلم والخبر مانعا ، لكان لهم أن يقولوا : فلم
أقررت بأن الله علم الكفر وأخبر عن كوننا كافرين ، وهذا العلم والخبر من أقوى
الموانع؟ فلم يطلب المحال منا؟ ولم يأمرنا (بالمحال) ومعلوم أنه لو كان العلم والخبر مانعا ، لكان هذا الكلام
لا جواب لله ولا للرسول عنه.
الحجة السادسة : إنه تعالى قال : (نِعْمَ الْمَوْلى
وَنِعْمَ النَّصِيرُ) ولو كان مع كون الإيمان محال الوجود ، وكلفهم به ، ويعذبهم
على تركه ، لم يكن نعم المولى ونعم النصير. بل كان بئس المولى وبئس النصير.
الحجة السابعة : قالوا : إنه تعالى قال : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ؟ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) فلو كان العلم والخبر مانعا ، لكان لهم أن يجيبوا عن هذا
السؤال من ستة عشر وجها.
وذلك لأن مذهب
الجبرية أنه تعالى خلق الكفر فيهم وأراده منهم ،
__________________
وعلم الكفر منهم وأخبر عن وجود الكفر فيهم. وكل واحدة من هذه
الأربعة موجب تام لحصول الكفر. وأيضا : خلق فيهم مجموع القدرة والداعي الذي هو
موجب الكفر. وأراد ذلك المجموع وعلمه وأخبر عنه ، وكل واحد من هذه الأربعة أيضا
سبب تام لحصول الكفر، وأيضا : لم يخلق الإيمان فيهم وما أراده منهم. وما علمه منهم
، وما أخبر عنهم. وهذه الأربعة أيضا أسباب تامة ، وأيضا لم يخلق فيهم داعية
الإيمان ولم يرده ، ولم يعلمه ولم يخبر عنه ، وكل واحد من هذه الأربعة أيضا سبب
تام. فيثبت أن على قول الجبرية : حصل الجواب التام المسكت لقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) ؟ من ستة عشر وجها. فيثبت أنه لو كان الخبر حقا ، لكان هذا
السؤال باطلا.
الحجة الثامنة : إن هذه المدائح والزواجر غير مختصة بالقرآن ، بل هو موجود في جميع
الكتب الإلهية ، ومذكور في سنة جميع الأنبياء والرسل ، ولو كان العلم والخبر مانعا
، لبطل الكل.
الحجة التاسعة : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم توجد. قال تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا
وُسْعَها) وقال : (وَما جَعَلَ
عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) وقال : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ
إِصْرَهُمْ ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) وأي حرج ومشقة فوق التكليف بالمحال؟.
فهذا ما يتعلق
بالدلائل السمعية.
وأما
الدلائل العقلية فمن وجوه :
الحجة الأولى : إنه لو كان العلم بعدم الشيء مانعا من تكوينه ، لزم أن لا يكون الله قادرا
على شيء أصلا ، لأن الذي علم الله وقوعه يكون واجب
__________________
الوقوع ، وما لم
يعلم يكون ممتنع الوقوع. والواجب لا قدرة على إيجاده ، لأنه لما كان واجب الوقوع ،
فهو يقع ، سواء فعله القادر أو لم يفعله. وأما الممتنع فظاهر أنه لا قدرة عليه ،
فيلزم أن يقال : إن الله تعالى لا قدرة له على شيء أصلا. ومعلوم أن الكلام في
الحكمة والسفه ، فرع على إثبات كونه قادرا ، فإن كان هذا الكلام يقدح في كونه
تعالى قادرا ، وجب أن يكون باطلا.
الحجة الثانية : إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه ، فإن كان ممكنا في نفسه ،
علمه ممكنا ، وإن كان واجبا ، علمه واجبا ، ولا شك أن الإيمان والكفر بحسب ماهيته
وذاته ممكن الوجود ، فلو صار واجب الوجود بسبب العلم والخبر ، لزم كون العلم
والخبر مؤثرين في تغير حال المعلوم ، والمخبر ، وفي تبديل صفته ، وذلك محال. فيثبت
أن العلم والخبر لا يوجبان امتناع المعلوم والمخبر.
الحجة الثالثة : إنه لو كان العلم والخبر مانعا من الفعل ، لما كان العبد قادرا على
شيء أصلا ، لأن الذي علم الله وقوعه ، كان واجب الوقوع ، والواجب لا قدرة عليه. والذي
علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة عليه ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا
على شيء أصلا ، فيلزم أن تكون حركاته وسكناته جارية مجرى الحركات الاضطرارية
للحيوانات. لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك ، فإن من رمى في وجه إنسان بآجرة حتى شجّه
، فإنه يذم الرامي ولا يذم الوجه ، ويدرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرّة
عليه من السقف ، وما بين ما إذا رمى بالقصد إنسان وجهه بالآجرة ، ولذلك فإن
العقلاء ببداءة عقولهم يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون
ويعاتبون ويقولون : لم فعلت؟ ولم تركت؟ فيثبت أن العلم والخبر لو كان مانعا من
الفعل ، لما صح المدح والذم البتة ، وثبت أن حسن المدح والذم معلوم بالضرورة ،
فوجب أن لا يكون ذلك العلم والخبر مانعا من الفعل.
الحجة الرابعة : لو كان العلم بالعدم مانعا من الوجود ، لكان أمر
__________________
الكافر بالإيمان
أمرا بإعدام علمه ، وكما أنه لا يليق به أن يأمر عباده بإعدام ذاته ، فكذلك لا
يليق به أن يأمرهم بإعدام علمه ، لأنه كما أن إعدام ذاته محال (فكذلك إعدام علم
الله محال) فلا جرم لم يرد الأمر به ، فكذلك إعدام علمه محال ، فوجب
أن لا يرد الأمر به، وحيث ورد الأمر ، بهذه الأفعال ، علمنا أن العلم والخبر لا
يمنعان من الفعل.
الحجة الخامسة : الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات والجائزات (نظرا إلى ذاته ، فوجب
أن يعلمه الله تعالى من الممكنات الجائزات) إذ لو لم يعلمه كذلك لصار ذلك العلم جهلا ، وهو محال. وإذا
علمه الله من الممكنات الجائزات التي لا يمتنع وجودها وعدمها البتة ، فلو صار بسبب
ذلك العلم واجبا ، وجب أن يكون ذلك العلم موجبا ، لكونه من الممكنات ، ولكونه من
الواجبات فيجتمع النقيضان ، وهو محال.
الحجة السادسة : إن الأمر بالمحال سفه وعبث ، فلو جاز ورود الشرع به ، لجاز
أيضا وروده بكل أنواع السفه ، وحينئذ يلزم أن لا يمتنع وروده بإظهار المعجز على
الكاذبين ، وأن لا يمتنع أيضا أن لا يفي بوعده ووعيده وحينئذ تبطل النبوة
والتكليف.
الحجة السابعة : لو جاز ورود الأمر
بالمحال
في هذه الصورة لجاز أمر الأعمى بنقط المصاحف ، وأمر الزمن أن يطير في الهواء ، وأن
يقال لمن قيد يداه ورجلاه ، وألقى من شاهق جبل : لم لم تطر إلى السموات؟ ولمّا لم
يجز شيء من ذلك في العقول. علمنا أنه لا يجوز الأمر بالمحال ، وذلك يدل على أن
العلم والخبر غير مانع من الفعل.
الحجة الثامنة : إنه لو جاز ذلك لجاز بعثة الأنبياء إلى الجمادات ، وإنزال الكتب عليها ،
وإنزال الملائكة لتبليغ التكاليف إليها حالا بعد حال ، ومعلوم أن ذلك سخرية
واستهزاء بالدين.
__________________
الحجة التاسعة : إن العلم بوجود الشيء ، لو اقتضى وجوب وجوده لأغنى العلم عن القدرة ،
والإرادة ، فوجب أن لا يكون الله قادرا مريدا مختارا. وقد ذكرنا : أن الكلام في
الحكمة والسفه فرع على الكلام في إثبات القادر المختار.
فهذه جملة الوجوه
العقلية التي يمكن ذكرها في بيان أن العلم والخبر لا يمنعان من الفعل.
المقام
الثاني : الجواب التفصيلي عن ذلك الكلام :
ومجموع ما ذكره
الناس ثلاثة أوجه :
الأول : وهو طريقة أبي علي وأبي هاشم واختيار القاضي عبد الجبار بن أحمد ، وهو أنه إذا قيل لهم
: لو وقع خلاف معلوم الله ، لزم أن ينقلب علم الله جهلا. فقالوا : خطأ قول من يقول
: إنه ينقلب علمه جهلا ، وخطأ قول من يقول : إنه لا ينقلب ، ولكن يجب الإمساك عن
القولين.
الوجه الثاني في الجواب : طريقة الكعبي ، واختيار أبي الحسين البصري وهو أن العلم يتبع
المعلوم. فإذا فرضنا أن الواقع من العبد هو الإيمان ، لزم أن يكون الحاصل في الأزل
هو العلم بوجود الإيمان. وإذا فرضنا أن الواقع من العبد هو الكفر بدلا عن الإيمان
، لزم أن يكون الحاصل في الأزل هو العلم بوجود الكفر بدلا عن العلم بوجود الإيمان.
فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا أنه يتغير علم الله.
وهذان الجوابان
هما اللذان عليهما اعتماد جمهور المعتزلة.
والوجه الثالث من الجواب : وهو طريقة هشام بن الحكم ، وهو أنه تعالى كان في الأزل عالما
بحقائق الأشياء وبماهيتها ، وكان عالما بأنه تعالى يحدثها مرارا كثيرة ، وأما
العلم بتلك التفاصيل وبتلك الأحوال ، فما كان حاصلا في الأزل
__________________
البتة. وإنما يحدث
العلم بها عند حدوثها وذلك لأن ذاته تعالى توجب حصول العلم بالمعلوم، لكن بشرط
حصول ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فإذا حصل ذلك المعلوم على ذلك الوجه ، فقد حصل
الموجب مع شرط الإيجاب. فلا جرم يحدث ذلك العلم. وإذا منعنا كونه تعالى عالما بهذه
الجزئيات في الأزل. فقد زال هذا الإشكال.
وهذا منتهى البحث
في هذا الباب.
واعلم ان الجواب الأول من هذه الأجوبة الثلاثة في غاية الضعف. وذلك لأنهم
إذا أرادوا : أن النفي والإثبات باطلان في نفس الأمر ، كان هذا قولا بإثبات واسطة
بينهما. وبديهة العقل دافعة لذلك. وإن أرادوا به : أنهم لا يذكرونه باللفظ واللسان
، فالإلزام ما ورد على لفظهم وكلامهم. وإنما ورد على هذا البحث في نفسه.
أما الجواب الثاني : فهو أيضا في غاية الضعف. وذلك لأنه لا نزاع أنه متى كان الواقع هو صدور
الإيمان عن العبد كان الواقع هو علم الله بوجود الإيمان. ومتى كان الواقع هو صدور
الكفر عن العبد كان الواقع هو علم الله بوجود الكفر. إلا أن هذه القضية شرطية.
فإن قولنا : إن
كان الصادر عن العبد كذا ، كان الحاصل في حق الله هو العلم بكذا. لا شك أنه قضية
شرطية ، إلا أنه نقول : هل حصل لله تعالى علم بوقوع أحد الطرفين أو لم يحصل؟
فإن لم يحصل فهذا
هو قول هشام بن الحكم ، وإن حصل فنقول : لما كان العلم في نفسه واقعا على وجه خاص
وكونه علما مشروط بكونه ذلك العلم ، فلو تغير المعلوم لزم لا محالة تغير العلم وهو
محال من وجهين : الأول : إن انقلاب علم الله جهلا : محال. والثاني: إن علم الله ، كان علما قبل
تغير هذا المعلوم (فعند تغير هذا لمعلوم ، يلزم أن ينقلب ذلك العلم عن كونه علما
في
__________________
الزمان الماضي) فيلزم حدوث تغير الشيء عن صفته التي كانت حاصلة ، وأن يقع
ذلك التغير في الزمان ، وهذا مما لا يقبله العقل البتة. وأيضا : فالعلم بالوقوع
مشروط بالوقوع ، فإذا حصل العلم بوقوع الكفر فقد حصل وقوع الكفر (فلو فرضنا مع ذلك
العلم عدم حصول الكفر ، فحينئذ يلزم أن يحصل عدم الكفر مع حصول الكفر) وذلك جمع بين النقيضين ، وهو محال.
وأما الجواب الثالث : وهو قول هشام بن الحكم : إنه تعالى لا يعلم الجزئيات قبل وقوعها.
فهذا قول قد أطبق أكثر المسلمين على عدم الالتفات إليه. واتفقوا على أنه يجب
تنزيهه تعالى عنه ، وإن كان لا خلاص عن تلك العقيدة البتة إلا بالتزامه.
فهذا حاصل الكلام
في هذا الباب (والله أعلم بالصواب) .
__________________
الفصل التاسع
في
ذكر أنواع أخر من الدلائل على فساد القول
بتحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله وفي أحكامه
فالحجة الأولى
: أن نقول : لو جرى حكم تحسين العقل
وتقبيحه في أفعال الله ، وفي أحكامه لقبح منه تكليف من علم أنه يكفر. وهذا باطل
فذاك باطل.
بين الملازمة :
إنا لا ندعي هاهنا أن صدور الإيمان منه ممتنع ، إلا أنا نقول : إن هذا التكليف
قبيح في الشاهد. وبيان ذلك بأمثلة :
المثال الأول : أن من بنى رباطا في مفازة مهلكة ، وعلم علما يقينا لا ريب فيه أنه
متى بنى ذلك الرباط ، فإن اللصوص وقطاع الطريق يتخذون قلعة حصينة لأنفسهم ويعظم
ضررهم على الناس ، ويتعذر بسبب ذلك الرباط قهرهم ومنعهم. ثم إنه مع هذا اليقين
يبني ذلك الرباط ويقول : ما أردت منه إلا أن يجتمع أولئك اللصوص فيه ، ويتركون
اللصوصية ويؤمنون الطرقات ، ويعينون القوافل على ما لهم من المهمات والخيرات ، فكل
من اعتقد فيه أنه مع ذلك اليقين بنى ذلك الرباط قضى عليه بكونه ساعيا في فتح باب
الآفات ، والمخافات ويكذبونه في قوله : إني ما قصدت إلا الخير والنفع فكذا هاهنا.
المثال الثاني : كل من جمع بين عبيده وإمائه ، وزين البعض في عين
__________________
البعض ، ورغب
البعض في البعض على أقصى الوجوه ، ثم وضع عندهم كل ما يحتاجون إليه من الأطعمة
والأشربة وحصل في قلوبهم شهوة أن يفجر بعضهم بالبعض ، وقوى تلك الشهوة ، وأزال
الموانع. ثم يقول : إني إنما فعلت ذلك حتى يجتهد كل واحد منهم في منع نفسه عن تلك
الشهوات ، حتى يستوجب مزيد الثواب والكرامة. ثم إنه يعلم علما يقينا أنه لا تحصل
هذه العصمة والطهارة البتة ، وأن الحاصل ليس إلا الفجور والفسق ، فإن كل أحد يكذبه
في دعواه ، ويقول له : إنك ما أردت إلّا فتح باب الفجور والشرور.
المثال الثالث : من دفع سكينا إلى عبده ، وعلم يقينا أنه متى دفع ذلك السكين إليه فإنه
يقتل به ولده ، ثم إنه مع هذا اليقين ، يقول : إني إنما دفعت هذا السكين إليه
ليقتل به عدوا لي . فإن كل أحد يكذبه ، ويقول : إنك لما علمت علما يقينا أنه
لا يقتل بذلك السكين إلا ولدك ، ثم إنك دفعته إليه ، وأزلت عنه جميع الموانع من
قتل ولدك. دل هذا على أنك كنت ساعيا في قتل ولدك.
المثال الرابع : من وقع في بئر ، فألقى إنسان إليه حبلا. ويعلم هذا الملقى يقينا أنه
متى ألقى الحبل إليه ، فإنه يخنق بذلك الحبل نفسه. ثم إنه مع هذا اليقين ألقى ذلك
الحبل إليه ، حكم كل أحد بأنه إنما ألقاه إليه ليقتل به نفسه.
المثال الخامس : قال محمد بن زكريا الرازيّ. في المناظرة الطويلة التي دارت بينه
وبين الكعبي : إن رجلا لو علم ابنه السباحة حتى تمهر فيها ، ثم كلفه
عبور نهر ، ليصل إلى موضع فيه دواء يشفيه من مرض به ، إلا أنه عالم بأن ابنه هذا
سيمسك عن السباحة باختياره حتى يصير ذلك سببا لغرقه ، ثم إنه مع هذا العلم يأمر
ولده بالسباحة ، ولم يمنعه منه أشد المنع ، فإنه يعد ذلك الأب عاق ، غير ناظر لذلك
الولد. ولا مريدا للأمر الأصلح له.
__________________
ثم قال : فإن قيل
: هذا ليس بمثال لفعل الله تعالى. وإنما المثال فيه : رجل له بنون وعلمهم السباحة
، ثم أمرهم أن يعبروا نهرا إلى بلدة فيها حاجتهم ليصيبوها ، وكان عالما بأن فيهم
من يختار تغريق نفسه. فههنا لا يجب على ذلك الأب الناظر الرحيم أن يحرم الواصلين
من أجل الهالكين.
ثم أجاب محمد بن
زكريا ، فقال : إن هذا المثال لا يصح إلا بشرائط :
الأول : أن يكون هذا الأب ليس هو الذي أحوج أولئك الأولاد إلى طلب الشيء الذي لا
يوجد إلا ما وراء النهر. أما لو كان هو الذي أحوجهم إلى ذلك الشيء ، ثم إنه يكلفهم
العبور لوجدان ذلك الشيء كان هو الذي عرض ذلك الولد للتفريق. ومعلوم أن الله تعالى
هو الذي خلق الحاجة والشهوة في قلوب الناس فلما أدخلهم دار الدنيا ، وكلفهم بالتكاليف
الشاقة ، وبالامتناع عن المشتهيات اللذيذة ، مع علمه تعالى بأنهم لا يتركونها ، بل
يقدمون عليها ويصيرون مستحقين للعقاب الشديد ، بسبب إقدامهم عليها ، كان في
الحقيقة هو الذي ألقاهم في تلك المحنة.
والشرط الثاني : أن يكون الأب غير عالم علما يقينا بأن ولده يسعى في تغريق نفسه،
فإنه لو علم ذلك يقينا فإنه يصح منه أمر ذلك الولد بالعبور. والله سبحانه كان عالما علما
يقينا مبرأ عن الشك بأن الكافر يسعى في تغريق نفسه بسبب كفره.
الشرط الثالث : أن يكون ذلك الأب عاجزا عن أن يخص بذلك التكليف أولئك الذين يعلم من حالهم
أنهم يصلون إلى المصلحة والخير ، فلأجل هذه الضرورة يأمر الكل بالعبور ، أما الله
سبحانه فهو قادر على أن يخلق الذين يعلم من حالهم أنهم يطيعون ولا يخلق أحدا من
الذين يعلم من حالهم أنه لو خلقهم لكفروا به ، واستوجبوا العقاب العظيم.
__________________
والشرط الرابع : أن يعلم ذلك الأب أن النفع الواصل إلى المصلحين أكثر من الضرر الواصل
إلى المفسدين ، فإن ترجيح الجانب الأغلب هو الواجب في العقول. وهاهنا الفائدة في
الخلق وفي التكليف وجدان اللذة ، ومعلوم أنه ليس في فواتها ضرر ، بدليل أنه في حاله العدم كانت هذه اللذة فائتة مع أنه لا ضرر.
وأما المضار الناشئة من الخلق والتكليف فهي العذاب الدائم. ومعلوم أن هذه المضرة أعظم من تلك المنفعة ، فكان
الواجب في حكم تحسين العقل وتقبيحه ترك الخلق والتكليف لئلا تلزم هذه المضار
العظيمة.
الشرط الخامس : أن يكون المصلحون أكثر عددا من المفسدين ، فإنه لو كان الأمر بالضد
لما جاز ، ومعلوم أن الكفار أكثر عددا من المسلمين ، والفساق من المسلمين أكثر
عددا من الصالحين منهم ، فيثبت بما ذكرنا : أن المثال الذي يذكره المعتزلة إنما
يحس لهذه الشرائط الخمسة.
والكل ثابت في
مسألتنا ، فيثبت أنه لو كان تحسين العقل وتقبيحه جاريا في أفعال الله ، وفي أحكامه
لوجب القطع بقبح تكليف من علم الله أنه يكفر.
واعلم أن حاصل
الجواب عنه يرجع إلى طريقين :
الطريق الأول : وعليه اعتماد جمهور المعتزلة في هذه المضايق أن قالوا : الخلق والتكليف (كما حصلا في حق
من كفر ، فكذلك حصلا في حق من أطاع. وذلك يدل على أن الخلق والتكليف) ليسا سببين لحصول الكفر والمعصية. إذا ثبت هذا فنقول : كل
ما صدر عن الله تعالى من الخلق والتكليف فإنه محض الإحسان ، لأنه تعالى أقدر
الكافر على الإيمان ، وأزاح أعذاره وعلله ، وكان هذا التكليف تعريضا منه تعالى
للكافر لأعظم المنافع. أما وقوعه في الكفر فليس ذلك من الله تعالى ، بل كان من قبل
نفسه. فلهذا
__________________
السبب قلنا :
التكليف من علم الله منه أنه يكفر ليس بقبيح. وهذا هو الطريق الذي عليه يعولون.
والطريق الثاني : طريقة هشام بن الحكم. وهي : أن هذه الإشكالات إنما تلزم لو قلنا : إنه كان
عالما في الأزل بأن فلانا يكفر ، فإذا لم نقل بذلك ، بل قلنا : إنه تعالى لا يعلم
هذه الجزئيات إلا عند وقوعها اندفع الإشكال.
والجواب
: عن الأول من وجهين :
الأول : لا نسلم أنه تعالى سوّى بين المؤمن وبين الكافر. والدليل عليه : أنه لو كان
الكافر مساويا للمؤمن في الذكاء والبلادة. وفي الإنصاف وعدم الإنصاف ، وفي الأعوان
الخارجية وعدمهم ، لكان الدليل الذي سمعه المؤمن واستفاد منه العلم بالمدلول ، إذا
سمعه الكافر وجب أن يستفيد منه ذلك المطلوب ، فلما لم يكن كذلك علمنا أن ذلك
التفاوت إنما وقع للتفاوت في قوة الخاطر وبلادته. وإن استويا في ذلك لكنهما تفاوتا
(في الرغبة في طلب العلم ، وإن استويا فيه لكنهما) تفاوتا في المصابرة على مشاق طلب العلم ، أو إن استويا ،
لكنهما تفاوتا في كيفية المزاج في كون أحدهما صفراويا حاد المزاج ، محبا للخصومة
والشغب ، وكون الآخر بلغميا ، بليد المزاج ، سريع الانقياد للغير ، وإن استويا في
كل ذلك ، لكنهما تفاوتا في وجدان العلم والكتاب والزمان وفراغ البال. فإن بتقدير
حصول الاستواء في كل هذه الأمور ، يمتنع وقوع التفاوت في العلم والجهل والإقرار
والإنكار والإنصاف والعناد.
فيثبت بما ذكرنا :
أن الذي يدعيه هؤلاء المعتزلة من التسوية بين المؤمن والكافر في جميع الأمور : باطل
، بعيد عن الدلائل والاعتبارات
والوجه الثاني في الجواب : إن المبادي والوسائل إنما تراد لغاياتها
__________________
ومقاصدها ،
والأمور إنما تعتبر بخواتيمها ، فهب أنه سبحانه سوى بين الكل في جميع هذه الأمور
لكن لما كان المقصود من جميع هذه الأمور وصول العبد إلى الخيرات والسعادات ، وعلم
الله سبحانه أن هذا المقصود لا يحصل ، بل الحاصل ضده ، وهو الضرر الدائم ، والعقاب
الشديد في الدنيا وفي الآخرة. مثل أن يكون الكافر فقيرا أعمى ، مبتلي بأنواع
المحن، والآلام في الدنيا ، ثم لما مات نقل إلى الدرك الأسفل من النار ، فهذا
الإنسان لم يستفد من هذه الحياة ، ومن هذا التكليف إلا العناء والبلاء ، والشدائد
والمكاره في الدنيا والآخرة. وإذا كان كذلك فالإله الخالق العالم بعواقب هذه
الأمور ، علم أن تعريضه إياه للمنافع العالية لا يفضي إلى حصول شيء منها ، فكان
ذلك التعريض توسلا إلى تحصيل المطلوب بوسيلة حصل الجزم بأنه لا يفضي إليها ، بل
يفضي إلى أضدادها ، والإقدام على مثل هذه الوسيلة قبيح في العقول. فلو كان حكم
العقل بالتحسين والتقبيح معتبرا في أفعال الله ، وفي أحكامه لوجب قبح التخليق وقبح
التكليف. وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن العقل معزول عن الحكم بالتحسين
والتقبيح في أفعال الله وفي أحكامه. وهو المطلوب.
الحجة الثانية : لو كان تقبيح العقل وتحسينه معتبرا في أفعال الله وفي أحكامه لزم أن
يقبح منه الخلق. وذلك باطل. فهذا باطل. بيان الشرطية : أن الأحداث إما أن يكون
لنفع ومصلحة ، أولا لمصلحة .. والأول باطل. لأن ذلك النفع إما أن يكون عائدا إلى
الخالق أو إلى المخلوق.
والأول : باطل لوجهين : الأول : إن ذلك
يوجب كونه تعالى محتاجا وهو محال. والثاني : إن تلك الحجة إما أن تكون قديمة أو حادثة ، فإن كانت قديمة وجب أن يحصل تخليق
العالم قبل ما وقع ، لأن المقتضى للتخليق
، لما كان هو تلك الحاجة وكانت تلك الحاجة حاصلة قبل ذلك الوقت ، فحينئذ يكون
المقتضى لحدوث ذلك الحادث حاصلا قبل حدوث ذلك الحادث ، سليما عن المعارض. فوجب أن
يحدث ذلك الحادث قبل أن يحدث وذلك محال. وإما إن كانت الحاجة حادثة عاد الكلام في
المقتضى لحدوث الحاجة ، ولزم التسلسل.
وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إنه
تعالى إنما أحدث العالم لنفع عائد إلى المخلوق فهذا أيضا : باطل. ويدل عليه وجوه :
الأول : إنه ما كان في العدم شيء يحتاج إلى شيء حتى يكون الإيجاد إحسانا إليه
، بل نقول : إن ذلك يوجب الدور ، لأنه لا يصير المخلوق موجودا إلا بإيجاد الخالق ،
ولا يحصل إيجاد الخالق إلا إذا كان إحسانا ، ولا يكون إحسانا إلا إذا كان ذلك
المخلوق موجودا ، حتى يكون ذلك الإيجاد إحسانا إليه ، فيثبت أن هذا يوجب الدور.
وأنه محال.
والثاني : إن الإحسان لا يكون إحسانا إلا إذا كان مسبوقا بحصول الحاجة والشهوة
فيتقابل هذا النفع بذلك الضرر السابق ، وذلك يقدح في كونه إحسانا. وقد سبق تقرير
هذا الكلام بالاستقصاء.
والثالث : وهو أن ذلك الإحسان إما أن يحصل في الدنيا ، أو في الآخرة.
أما في الدنيا فباطل. لأنها دار البلاء والشقاء والغموم والهموم ، وحصول الأخلاف المؤذية كالحرص والحاجة. وأما في الآخرة فالأكثرون هم
الكفار وهم أهل العذاب الدائم.
وأما القسم الثالث : وهو أن يقال : إنه
تعالى خلق الخلق لا لنفع أصلا :
فهذا عبث ، وهو قبيح في العقول.
فيثبت بما ذكرنا :
أن حكم العقل في التحسين والتقبيح لو كان معتبرا في أفعال الله وفي أحكامه لقبح من
الله الخلق ، وحيث لم يكن كذلك ، علمنا أنه باطل. والله أعلم.
الحجة الثالثة : لو كان حكم العقل بالتحسين معتبرا في أفعال الله تعالى ، وفي
أفعاله لقبح من الله أن يقول للعبد : إن فعلت الفعل الفلاني أو تركت الفعل الفلاني
عاقبتك. وبالاتفاق هذا لا يقبح ، فوجب أن يكون العقل
__________________
معزولا في هذا الحكم.
بيان الملازمة : أنه تعالى إذا قال لعبده إن فعلت الفعل الفلاني أو تركت الفعل
الفلاني عاقبتك ، فللعبد أن يقول : يا إله العالمين. أتعذبني لأجل منفعة تعود إليك؟
أو إلى ، أو إلى ثالث. فإن عذبتني على الفعل الفلاني أو على الترك الفلاني ، لنفع
يعود إليك فأنت محتاج وطالب لجرّ المنفعة ولدفع المضرة. وهذا محال. وأيضا : هب أنك
محتاج ولكن من البعيد أن تكون في الحاجة والفقر إلى حيث تنتفع بالأعمال الحقيرة
التي آتى بها في الصلاة أو في غيرها. (هذا هو القسم الأول) .
وأما القسم الثاني : وهو أنك تعذبني على فعل كذا ، أو على ترك كذا. لأجل أن ذلك الفعل
أو ذلك الترك اقتضى فوت بعض المنافع عني. فهذا متناقض. لأن حاصل الكلام يصير إلى
أنه يقال للعبد : ما كان لي غرض في أمرك بالفعل الفلاني ، وفي نهيك عن الفعل
الفلاني. إلا أن يحصل لك منه نفع ، أو يندفع عنك بسببه ضرر ، فلما لم تسع في تحصيل
ذلك النفع لنفسك ، فأنا أعذبك أبد الآباد ، لأجل أنك قصرت في تحصيل ذلك النفع
لنفسك. وهذا متناقض لأن المقصود من السعي في حمله على تحصيل ذلك النفع لنفسه أن
ينتفع به. وأهم المهمات له : اندفاع الضرر ، فاتصال الضرر العظيم إليه حملا له على
أن يسعى في تحصيل النفع لنفسه. كلام متناقض. ومثاله : أن يقول الرجل لعبده : اجتهد
في تحصيل دينار لنفسك ، لأجل أن يعود نفع ذلك الدينار إليك. فإن لم تفعل ذلك فإني
أقطع أعضاءك بمقاريض من النار ، لأجل أنك قصرت في تحصيل ذلك الدينار لنفسك. ومعلوم
أن هذا الكلام في غاية الفساد ، وأيضا : فلا نزاع في أنه يحسن من الله تعالى أن
يتفضل بأنواع المنافع إنما الذي يتوقف حصوله على التكليف استحقاق التعظيم ، ولا شك
أن حصول هذا الاستحقاق من الأمور التي ليست من المهمات الأصلية ، ولا من الحاجات
الضرورية ، فإذا قصر العبد في التكاليف فحينئذ يفوته هذا الاستحقاق ،
__________________
فتعذيبه عليه
يقتضي إلحاق أعظم المضار به ، لأجل أنه قصر في تحصيل منفعة غير ضرورية لنفسه.
ومعلوم أنه متناقض.
وأما القسم الثالث : وهو أن يعذبه الله تعالى لأجل أن يحصل بواسطته نفع لغيره. فهذا محض الظلم ،
لأن الظالم لا يفعل شيئا إلا أن يلحق الضرر بغيره ، لأجل أن يلحق النفع بنفسه.
والله متعالي عن الظلم.
وأما القسم الرابع : وهو أنه تعالى يلحق العقاب بهذا العبد ، لا لشيء من هذه الأقسام الثلاثة.
فهذا أيضا محض الظلم ولا يبقى معه اعتبار البتة بتحسين العقل وتقبيحه.
واعلم. أن السيد
إذا أمر عبده في الشاهد بفعل. فما أطاعه ، فإنه يحسن من السيد إيذاء ذلك العبد
وإيلامه. وذلك لأن السيد يقول : إنما أمرتك بالفعل الفلاني لأجل أن أستفيد من ذلك
الفعل ، نفعا بنفسي فلما لم تأت بذلك الفعل ، فقد بقيت محروما من ذلك النفع ،
فأعاقبك لأجل أنك سعيت في تفويت النفع علي. وهذا في حق الله تعالى محال ، لأنه
يمتنع أن ينتفع بأفعال العباد. فلم يبق إلا أن يقال : إنه تعالى إنما أمرهم ،
وإنما نهاهم لمنافع عائدة إليهم. وقد بينا أنه متى كان الأمر كذلك فإنه (لا) يقبح من الله تعالى أن يعاقبهم على ترك الواجب ، أو على
فعل الحرام ، فظهر الفرق بين البابين .
الحجة الرابعة : لو كان حكم العقل معتبرا لقبح من الله تعالى تعذيب الكفار والعصاة وهذا
باطل فذاك باطل. بيان الشرطية : إن المنفعة الحاصلة من ذلك التعذيب إما أن ترجع
إلى الله أو إلى ذلك العبد المعذب. أو إلى غيره ، والأقسام الثلاثة باطلة. أما
الأول : فلأن إله العالم
متعالي عن النفع والضرر ، والثاني أيضا باطل ، لأن العذاب الخالص الدائم لا يكون
نفعا ، والثالث
__________________
أيضا : باطل لأن
تعذيب الإنسان لأجل أن يصل بسببه نفع إلى الغير ظلم ، ولأنه ليس تعذيب هذا ، لأجل
اتصال النفع إلى الآخرين ، أولى من الضد ، فيثبت أن هذا التعذيب قبيح في العقول ،
بخلاف الشاهد ، فإن السيد إنما يحسن منه تأديب عبده وتعذيبه في بعض الوجوه ، لأن
السيد يتأذى بإساءة العبد إليه ، ويبقى حب الانتقام في قلبه ، فإذا انتقم من ذلك
العبد ، فإنه يتخلص بسبب ذلك الانتقام من الغم الذي كان حاصلا في قلبه. وأيضا :
فإذا أدب العبد وهذبه ، عاد العبد إلى المواظبة على الأفعال النافعة لذلك السيد.
أما الإله تعالى فإنه منزه عن الضرر الحاصل بسبب حب الانتقام ، ومتعالي عن أن
ينتفع بحسن آداب العبد ، أو يتضرر بسوء أفعاله. فظهر الفرق. والله أعلم.
الحجة الخامسة : قال أهل العلم : نفرض امرأة كان لها ثلاثة أولاد ، أحدهم مات في
كبره وكان مؤمنا زاهدا ، والثاني مات في كبره ، وكان كافرا فاسقا. والثالث : مات
في صغره. فسألوا أبا علي الجبائي رئيس المعتزلة عن حالهم. فقال : أما الزاهد ففي
أعالي الجنة. وأما الكافر ففي دركات النار. وأما الصغير فمن أهل السلامة. فقال
السائل : إن أراد ذلك الصبي أن يذهب إلى درجات الجنة ، في الموضع الذي هو موضع
أخيه المؤمن الزاهد. هل يمكنه منه؟ فقال الجبائي : لا. لأنه يقال : إن أخاك إنما
وصل إلى تلك الدرجات بسبب زهده وعلمه ، ولم يحصل لك ذلك ، فكيف تصل إليه؟ فقال
السائل : فلو قال ذلك الصبي : إلهي ليس الذنب مني ، لأنك أمتني قبل البلوغ ، بل
كان من الواجب عليك أن تمهلني حتى إذا بلغت أتيت بالطاعات والعبادات الكثيرة مثل
ما أتى به الأخ الزاهد. فقال الجبائي : إن الله تعالى يقول : كنت أعلم أنك لو بلغت
لكفرت ، ولصرت مستحقا للنار ، فراعيت مصلحتك وأمتك قبل البلوغ حتى لا تكون من أهل
النار. فقال السائل : فلو أن الأخ الكافر يقول : يا إلهي كما علمت من حال ذلك الأخر
الصغير أنه لو بلغ لكفر ، ولاستحق العقاب فكذلك علمت من حالي أن الأمر كذلك ، فلم
راعيت مصلحته؟ وما راعيت مصلحتي؟ فلما ذكر السائل هذا السؤال انقطع
الجبائي. وعجز عن
الجواب.
ثم إن أبا الحسين
البصري بعد خمسة أدوار. أورد هذه المناظرة في كتاب (القدر) وقال : نحن لا نرضى في هذه المسألة بهذه الأجوبة.
ولأصحابنا في الجواب عن ذلك طريقان:
أما من لم يوجب الأصلح في الدنيا ، فإنه
يقول : إن الله تعالى
يقول للمؤمن والكافر: إني كلفتكما ، والمقصود من ذلك التكليف تعريضكما للمنافع
العظيمة ، فهذا الزاهد أحسن الاختيار ففاز بالنجاة وهذا الكافر أساء الاختيار ،
فوقع في العذاب. فإذا قال الطفل : فهلا كلفتني؟ فيقول الله تعالى : هذا التكليف
بفضلي ، وليس يجب إذا تفضلت على أحد ، أن أتفضل على كل أحد لأن للمتفضل أن يتفضل ،
وله أن لا يتفضل. فإلزامك أيها الصبي أن أتفضل عليك لا محالة غير لازم ، وليس
للكافر أن يقول : هلا اخترمتني؟ لأنا لم نقل : إنه يجب عليه اخترام الطفل ، لأجل
أنه علم أنه يكفر فيلزم منه اخترام كل من يكفر لأنه ليس يلزمه التفضيل ولا يجب إذا
لم يتفضل على الطفل بالتكليف أن لا يتفضل على غيره ، لما ذكرنا أن ترك التفضل في حق
واحد ، لا يوجب تركه في حق غيره. فظهر (الفرق ، وظهر) أن مع هذا الجواب لا تلزم تلك الحجة.
وأما من قال : بوجوب الأصلح فإنه يقول : إنما كلف الله تعالى المؤمن لأنه علم أنه يؤمن ، ويصل
إلى الثواب. وليس في بلوغه وتكليفه مفسدة لأحد من المكلفين. وأما الطفل فإنه لو
كلفه وبلغ ، لكان ذلك مفسدة في حق بعض المكلفين ، فظهر الفرق.
هذا تمام ما أورده
أبو الحسين البصري في كتاب «القدر».
__________________
وقال مولانا
الداعي إلى الله ـ رحمهالله عليه ـ هذان الجوابان ضعيفان جدا.
أما الأول : فلأن الداعي لفعل التفضل لما كان بالنسبة إلى الشخصين على التساوي، ولو
ترجح أحدهما على الآخر لحصل الرجحان من غير المرجح. وهو محال. على ما بيناه في باب
الدواعي والصوارف ، فإن حصول الفعل بدون الداعي محال. وهذا بخلاف الحال في الشاهد
لأنه إذا تفضل على فقير فإنه لا يلزم أن يتفضل على الفقير الآخر ، لأجل أن الفعل
في المرة الثانية يكون أشق ، أو لأن خوف الفقر يمنعه عنه ، أو لأجل أنه إنما أعطى
الفقير الأول ، لا لفقره فقط ، بل لفقره ، مع قرابته أو مع صداقته. وهذا المجموع
غير حاصل في الفقير الثاني. أما في حق الله تعالى فالداعي ليس إلا التفضل. وقد
استوى الشخصان فيه ، ولا تفاوت أصلا ، فحينئذ يمتنع تخصيص أحدهما بذلك التفضل دون
الثاني. وهذا هو صريح قول أبي الحسين من أن الفعل بدون الداعية المرجحة محال.
وأيضا : فإذا جاز
حصول الترجيح لا لمرجح البتة ، فحينئذ لا يمكن الاستدلال بحدوث شيء ، ولا بقدمه
على اشتماله على مصلحة أوجبت ذلك التخصيص ، وحينئذ يبطل القول بتعليل أفعال الله
وأحكامه بالمصالح. ونحن لا نطلب في هذا المقام إلا هذا المعنى.
وأما الجواب الثاني فهو أيضا في غاية الضعف لأن البلوغ
والتكليف لا يوجبان المفسدة لذاتيهما ، بل الغاية القصوى فيهما : أن الله تعالى
علم أنهما لو حصلا لاختار (إنسان عند حصولهما فعلا حسنا ، واختار) إنسان آخر عند حصولهما فعلا قبيحا ، وإن كان هذا القدر
يصلح مانعا لله تعالى عن الفعل ، فعلمه بأن هذا الشخص لو بلغ وكلف ، لاختار الكفر
، وجب أن يصير مانعا لله ـ تعالى ـ عن خلقه ، وإن لم يصر هذا مانعا ، فكذلك ما
ذكرتموه أيضا يجب
__________________
أن لا يصير مانعا
، وحينئذ يبقى من غير جواب. (والله أعلم) .
الحجة السادسة : لو كانت أفعال الله واقعة على وفق المصالح ، لكان من الواجب إبقاء
الأنبياء والأولياء والصالحين. وإماتة الأبالسة والشياطين ، لكن الأمر بالعكس منه
، فعلمنا أن أفعال الله غير واقعة على وفق المصالح. أما بيان الشرطية ، فهو أن من
أراد شيئا أراد لا محالة تحصيل ما يتممه ويكمله. وإبطال ما ينقصه ويهدمه. ومعلوم
أن الأنبياء ـ عليهمالسلام ـ والأولياء
الصالحين إذا كانوا في الحياة ، فإنهم يرغبون الناس في الطاعات ويخوفونهم عن
الوقوع في المحرمات. فحينئذ يكون حصول الطاعات أكمل ، والبعد عن المحرمات أتم. وإنما
قلنا : إنه ليس الأمر كذلك ، لأنه تعالى ما أبقى أحدا من الأولياء والأنبياء بل
أماتهم وأفناهم. ثم إنه تعالى أبقى إبليس إلى آخر وقت التكليف ، وسلطه على الخلق
بالإغواء والضلال والوسوسة. وذلك يدل على أنه تعالى لا يراعي مصالح العباد في
تدبير هذا العالم.
قالت المعتزلة : لنا هاهنا جوابان.
الأول : جواب أبي علي الجبائي. وهو أنه قال : إنه تعالى إنما أبقى إبليس لأنه
تعالى علم أن هؤلاء الذين يكفرون ويفسقون كانوا يفعلون ذلك ، سواء بقي إبليس أو لم
يبق. وعلى هذا التقدير فإنه لم يحصل من إبقاء إبليس مفسدة زائدة ، فلهذا السبب حسن
من الله تعالى إبقاءه.
والثاني : جواب أبي هاشم : فإنه سلم أنه يحصل بسبب وسوسة إبليس مزيد رغبة للكفار
والفساق في الإقدام على الكفر والفسق. إلا أن تلك الوسوسة ؛ وإن أثرت في الترغيب ،
إلا أنها لا تلجئ الفاعل إلى الفعل ، فلأجل هذه الوسوسة يحصل أن الإتيان بالطاعة
أكثر ثوابا ولهذا السبب حسن من الله تعالى تسليط الشياطين على بني آدم (والله أعلم)
.
__________________
واعلم أن هذين
الجوابين في غاية الضعف.
أما الأول : فلأنا نعلم بالضرورة أن من جلس مغنيا وواظب على وصف بعض الأشياء بالحسن واللذة والراحة فلقول
تأثير شديد في حصول الرغبة في ذلك الشيء.
وأما الثاني : فضعيف أيضا. لأن الفائدة في حصول هؤلاء الشياطين : صعوبة الأمر.
وتأثير تلك الصعوبة في مزيد الثواب. على قدر الطاعة ، وفي حصول العقاب الشديد ،
على قدر المعصية. وتلك الزيادات من الثواب والعقاب ليست في محل الحاجة والاحتراز
عن العقاب الشديد في محل الحاجة العظيمة ، وإذا كان كذلك كان تركه أولى.
هذا هو الحكم الذي
يحكم به صريح العقل ، مع أنه غير معتبر في حق الله تعالى. وذلك يدل على أن العقل
معزول في حق أفعال الله ، وفي حق أحكامه.
الحجة السابعة : أن نقول : الأحوال الحاملة على المعصية أكثر من الأحوال الحاملة على الطاعة ،
وذلك قبيح في العقول. بيان الأول : أن الحواس الخمسة الظاهرة (كل واحد منها يدعو إلى طلب اللذات الجسمانية) والحواس الخمسة الباطنة أيضا. كذلك لأن الإنسان كلما تخيل
صورة حسنة مال طبعه إليها ، وكلما تنكر (في حالة طيبة لذيذة من الأحوال الشهوانية
مال طبعه إليها ، وكلما) تذكر حالة سيئة صار أيضا كذلك ، فيثبت أن هذه الحواس
الظاهرة والباطنة تدعو الإنسان إلى طلب اللذات الجسمانية. وأيضا : الشهوة والغضب
يحملان الإنسان على ذلك. وأيضا : القوى الطبيعية السبعة تحمل الإنسان على ذلك ،
فهذه تسعة عشر نوعا من أنواع القوى الجسمانية مركوزة في هذا البدن ، وكل واحد منها
يدعو النفس إلى طلب اللذات الجسمانية ، كما قال تعالى : (عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ) .
__________________
ثم إن كل واحد
منها ليس يعمل عملا واحدا بل يأتي بأنواع لا نهاية لها من الوسوسة والدعاء ، فإن
القوة الباصرة ، كلما أبصرت شيئا من الجسمانيات دعت النفس إلى طلبه ، وكذا القول
في سائر القوى. وأيضا : النفس في أول الخلقة إلى كمال البلوغ إنما تفعل وتتحرك
بمقتضى هذه القوة الجسمانية ، ولا شك أن كثرة الأفعال توجب الملكات الراسخة.
وأما القوة
العاقلة الناهية عن طلب الجسمانيات الآمرة بطلب الباقيات الصالحات ، فهي إنما تحدث
بعد سنّ البلوغ. فهي في الحقيقة إنما تقوى بعد استيلاء أولئك التسعة عشر على مملكة
البدن.
وأيضا : فأكثر أهل
العالم راغبون في طلب الجسمانيات ، معرضون عن طلب الروحانيات ، والطبع يقوى ميله
بسبب كثرة الأعوان ، ويضعف ميله بسبب قلة الأعوان ، فقد ظهر بما ذكرنا : أن
الأسباب الداعية إلى المعصية واللذة والفسق والفجور كثيرة قوية ، والأسباب الداعية
إلى الطاعات ، والإعراض عن الدنيا والإقبال على الروحانيات قليلة ، ثم من هذه
الحالة نهى تعالى عن الميل إلى الدنيا ، وأمر بطلب الآخرة ، والأسباب الموضوعية
أسباب توجب أضداد هذه الأحوال ، فلو كان حكم العقل في أفعال الله وفي أحكامه
معتبرا ، لكان هذا التكليف قبيحا ، وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أن حكم العقل في أفعال الله ، وفي أحكامه معزول. والله أعلم.
وهذا الدليل قريب
من الدليل الذي قبله ، إلا أن ذاك في شياطين الجن ، وهذا في شياطين الأخلاق
المذمومة.
الحجة الثامنة : أن نقول الفعل الذي يفعله الله تعالى لغرض من الأغراض. إما أن يكون حصول
ذلك الغرض أولى له من لا حصوله. أو لا تحصل هذه الأولوية ، فإن كان الأول لزم أن
يكون إله العالم باقتضاء لذاته ، مستكملا بغيره ، وهو محال. وإن كان الثاني.
فالاستواء يناقض الرجحان.
__________________
فالقول بأن الفعل
والترك بالنسبة إليه على السواء يمنع من كونه فاعلا له ، فإن قالوا : إن ذلك الفعل
، وإن كان وجوده وعدمه يتساويان بالنسبة إليه ، إلا أنه أنفع للعباد ، فلأجل أنه
أنفع بالنسبة إلى العباد ، يدخله الله في الوجود. فنقول : كونه أنفع للعباد مع
كونه ليس أنفع لهم ، إما أن يكون بالنسبة إلى الله على التساوي ، أو يكون أحد
الجانبين أرجح. فإن كان على التساوي امتنع الفعل ، وإن كان أحد الطرفين أرجح ، عاد
حديث كونه ناقصا لذاته ، مستكملا بغيره.
الحجة التاسعة : إنه تعالى لو فعل فعلا لغرض ، لكان ذلك الغرض ، إن كان قديما لزم من
قدمه قدم الفعل ، وإن كان حادثا كان إحداثه لغرض آخر ، ولزم التسلسل وأنه محال.
الحجة العاشرة : أفعال العباد إما
اضطرارية ، وإما اتفاقية.
وعلى التقديرين فالقول بالحسن والقبح العقليين
باطل. بيان المقام الأول : أن القدرة الصالحة للحركة إن كانت صالحة للسكون فعند حصول القدرة على الحركة
، كانت الحركة اضطرارية ، وإن كانت صالحة للضدين ، فرجحان أحد الطرفين على الآخر
إما أن يتوقف على مرجح أو لا يتوقف على مرجح (فإن توقف على مرجح) فعند حصول ذلك المرجح يجب حصول ذلك الطرف الأول ، لأن عند
حصول ما يرجح ذلك الطرف لم يكن مرجح الطرف الثاني موجودا ، وإذا لم يوجد مرجحه
امتنع حصول الطرف الثاني. وإلا يحصل من غير مرجح. ونحن في هذا القسم نعتقد أن حصول
الرجحان بدون المرجح محال.
وإذا امتنع حصول
الطرف الثاني ، وجب حصول الطرف الأول ، ضرورة أن الخروج عن طرفي النقيض محال ،
فيثبت أن على هذا التقدير يكون الفعل أيضا اضطراريا.
ثم إنا نعتقد
التقسيم في كيفية حصول ذلك المرجح ، وهو أن مؤثره إما
__________________
أن يكون هو الله
تعالى ، أو العبد ، أو حدث ، لا عن مؤثر ، فإن كان المؤثر فيه هو الله تعالى فعند
حصوله يجب الفعل ، وعند لا حصوله يمتنع الفعل فيكون الفعل اضطراريا. وأما إن كان
فاعله هو العبد عاد التقسيم الأول ، فيفتقر العبد في فعله إلى مرجح آخر ، ويلزم
التسلسل وهو محال. وأما إن قلنا : بأنه حدث هذا المرجح لا لمؤثر ، ولا لمحدث ، أو
قلنا : بأن القدرة صالحة للضدين. ثم صدر عن القادر أحد الطرفين دون الثاني ، كان
صدور الفعل على كل واحد (من هذين التقديرين) اتفاقيا ، لأنه لما كانت نسبة القدرة إلى الطرفين على
السوية ثم وقع أحد الطرفين لا لمخصص ولا لمرجح ، كان هذا اتفاقيا. فيثبت بهذا
البرهان القاهر : أن صدور الفعل عن العبد إما أن يكون اضطراريا ، وإما أن يكون
اتفاقيا. وإذا ثبت هذا فنقول : وجب أن لا يبقى تحسين العقل وتقبيحه ، لأن الخصم
يساعدنا على أن كل واحد من هذين التقديرين ، ينافي القول بثبوت التحسين والتقبيح
بحسب العقل.
الحجة الحادية عشر : إنا سنقيم الدلائل القاهرة في باب الجبر والقدر ، على أن الخالق لجميع المحدثات هو الله تعالى. وعلى هذا
التقدير فإنه يجب القطع بأنه لا يقبح من الله تعالى شيء. وهذا برهان قاهر : والله
أعلم.
الحجة الثانية عشر : المعقول من الوجوب ، كون الفعل بحال يستحق تاركه الذم على بعض
الوجوه ، وحصول هذه اللازمة في حق الله تعالى محال. لأن المعقول من الذم (أنه عن)
قول ، أو فعل ، أو ترك قول ، أو ترك فعل ، يلزم منه تألم قلب الإنسان ، ونفرة طبعه
، واختلال مصالحه. وكل ذلك في حق الله : محال فكان كونه مستحقا للذم : محالا.
فيلزم (أن يكون تحقق معنى الوجود في حقه : محالا).
__________________
فإن قالوا : لم لا
يجوز أن يقال : إنه تعالى يستحق) الذم بمعنى آخر؟ فنقول : الجواب عنه من وجهين :
الأول : إن الشروع في بيان (أن الله تعالى) هل يعقل أن يستحق الذم (أم لا؟) فرع على المفهوم من الذم والمدح والمعقول عندنا من الذم : أمر
يوجب حصول الغم في القلب ، ومن المدح : أمر يوجب حصول السرور في القلب. فأما معنى
ما وراء ذلك فهو غير متصوّر عندنا. وإذا كان التصور مفقودا ، كان التصديق به
ممتنعا ، فعلى القوم أن يثبتوا للمدح والذم أثرا وراء ما ذكرناه ، حتى ننظر : أنه
هل يمكن إثباته في حق الله تعالى؟
واعلم أن إثبات
أمر آخر وراء ما ذكرناه كالميئوس منه ، فإنا لا نرغب في المدح إلا لأنه يورث الفرح
والسرور واللذة. والذم لا ينفر طباعنا عنه إلا لأنه يورث الغم والحزن والألم (في
القلب) ولو رفعنا هذه الآثار من الخاطر لم نجد للمدح والذم أثرا
أصلا. والفكر والتأمل التام يكشف عن حقيقة ما ذكرناه كشفا لا يرتاب
العاقل فيه ، وإذا كان حاصل المدح والذم يرجع إلى هذه المعاني ، وثبت أن هذه المعاني
يمتنع حصولها في حق الله تعالى ، ظهر حينئذ : أن ماهية الحسن والقبح يمتنع تحققها
في حق الله تعالى.
الوجه الثاني في الجواب عن هذا السؤال :
إنا نقيم الدلالة على
امتناع حصول ماهية الذم في حق الله تعالى فنقول : الإلهية منافية لكل ما يوجب
النقص والذم ، فلما كان كونه إلها : أمر واجب لذاته ، ثم يثبت أن الإلهية منافية
لذاتها ولعينها ، لكل ما يوجب النقصان، ثبت أن تحقق معنى الذم في حق الله تعالى :
محال ، لعينه ولذاته ، وكل حكم يثبت أنه واجب الثبوت لذات الشيء ولعينه ، امتنع
كونه معللا بسبب منفصل ، فوجب القطع بأن كونه تعالى
__________________
غير مستحق للذم
ليس لأجل أنه فعل الفعل الفلاني ، أو ترك الفعل الفلاني ، وإذا كان الأمر كذلك
فسواء فعل أي فعل قدرا ، أو ترك أي شيء قدرا ، فإنه يمتنع كونه مستحقا للذم. وإذا
كان الأمر كذلك امتنع أن يقبح من الله تعالى شيء. وامتنع أن يجب على الله تعالى
شيء. وهذا كلام قاطع في هذا الباب. لا غبار عليه البتة (والله أعلم) .
الحجة الثالثة عشر : في إبطال القول بتحسين العقل وتقبيحه : أن نقول : استحقاق الذم حكم ثابت ،
وكون الفعل ظلما يعتبر فيه قيدان عدميان ، وهما : كونه غير مسبوق بحياته ، وكونه
غير ملحوق بعوض جائر ، فلو كان كونه ظلما يوجب استحقاق الذم ، لكان القيد العدمي
جزءا من علة الحكم الوجودي وهو برهان.
الحجة الرابعة عشر : الصدق عبارة عن الخبر المطابق للمخبر عنه. والكذب هو الخبر الذي لا يطابق
المخبر عنه ، ومن المعلوم أن الصدق والكذب نوعان داخلان تحت جنس الخبر. فإن الخبر
نوع داخل تحت جنس الكلام ، والكلام عبارة عن اللفظة المؤلفة من الحروف ، المتعاقبة
المتوالية. والموجود منها أبدا ، ليس إلا الحرف (الواحد ، وعند انقضائه يحصل الحرف)
الثاني. وعلى هذا الترتيب. حتى يحصل الحرف الأخير من الكلمة ، وحينئذ تتم
الكلمة ، فعلى هذا : الكلمة لا وجود لها البتة (في شيء من الأحوال والأزمنة وإنما
الموجود منها هو الحرف الواحد ، والحرف الواحد ليس) ، كلاما واحدا. إذا ثبت هذا فنقول : الحرف الواحد ليس بخبر
ولا بصدق ولا بكذب ، فيمتنع أن يوجب كونه حسنا أو قبيحا ، وأما بمجموع الكلمة فلا
وجود له البتة ، وما لا وجود له البتة يمتنع أن يكون علة لكونه حسنا ، أو لكونه
قبيحا. فيثبت بهذا البرهان : أن الكلام يمتنع أن يكون حسنا أو قبيحا لكونه
__________________
صدقا أو لكونه
كذبا. فإن قالوا : فهذا وارد عليكم أيضا لأنكم سلمتم كونه حسنا وقبيحا ، بمعنى
كونه سببا لحصول المصلحة أو لحصول المفسدة. فما ذكرتموه وارد عليكم في هذا المقام.
فنقول : الفرق
أنكم تقولون : إن كونه صدقا يوجب صفة الحسن ، وكونه كذبا يوجب صفة القبح. فنقول :
الصدق هو المجموع (وهذا المجموع) لا وجود له البتة ، (وما لا وجود له البتة) امتنع كونه موجبا لصفة ثابتة حقيقية ، بخلاف قولنا : فإنا
نقول : إنا لمّا سمعنا تلك الحروف المتوالية التي اصطلحوا على جعلها معرفات لبعض
المعاني ، لا جرم بهذا الطريق فهمنا منها بعض المعاني. فحينئذ ينبني على ذلك
الاعتقاد أمرا من الأمور. فإن كان ذلك الكلام كذبا فحينئذ ينكشف لنا : أن سعينا
كان باطلا ، وعلمنا كان مانعا. ولا معنى لكونه قبيحا إلا هذا فظهر الفرق.
الحجة الخامسة عشر : لو قال إنسان لغيره : سأقتلك غدا ، وأنهب أموالك وأسبي أولادك.
على سبيل الظلم والعدوان ، فنقول : إما أن يكون الحسن ترك هذه الأشياء (أو فعلها.
فإن كان الحسن تركها فنقول : ترك هذه الأشياء) يوجب ضرورة كون ذلك الخبر كذبا ، وإذا كان ذلك القول حسنا
وثبت أن ذلك الترك يستلزم هذا الكذب ، وثبت أن ما يستلزمه الحسن يجب أن يكون حسنا
، فحينئذ وجب أن يكون ذلك الكذب حسنا ، وذلك يقدح في قلوبهم : إن الكذب إنما يقبح
لكونه كذبا. وأما إن كان الحسن فعل ما أخبر عنه ، ووعد به ، لزم أن يكون القتل
والنهب والسبي ، على سبيل العدوان حسنا. وذلك لا يقوله عاقل.
الحجة السادسة عشر : إذا قصد ظالم قتل نبي من الأنبياء ، فهرب ذلك النبي واختفى في دار رجل ،
فجاء ذلك الظالم (وسأل ذلك الرجل مكان ذلك
__________________
النبي ، وعلم ذلك
الرجل أنه لو صدق أقدم ذلك الظالم على قتل ذلك النبي) فههنا يجب عليه الكذب وترك الصدق. وذلك يدل على أن كونه
كذبا لا يوجب القبح.
فإن
قيل : على هذا الكلام سؤالان :
الأول : إنه لا يجوز له أن يكذب ؛ بل الواجب عليه أن يقدم على التعريضات ،
كما قيل : «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب».
الثاني : هب أنه
يجب عليه الكذب (في هذه الصورة) إلا أنا نقول : إن العلة قد يتخلف عنها معلولها لقيام
المانع. وهاهنا حصل هذا المانع ، فلا جرم تخلف الأثر عن العلة ، وذلك لا يقدح في قولنا : إن كونه كذبا يوجب القبح. والله أعلم.
والجواب عن السؤال الأول : إنا نفرض الكلام فيما إذا كان ذلك الظالم عالما بجميع وجوه المعاريض
، وكان المسئول عنه عالما بأنه لو أقدم على شيء من التعريضات ، لعلم ذلك الظالم
كون النبي عنده (وحينئذ يبالغ في الطلب ، ويقدم على القتل ، فههنا لا فائدة في
التعريض البتة) فلم يبق إلا أحد أمرين : إما السعي في إهدار دم ذلك النبي
المعصوم ، أو التزام الكذب ، ولما كان الأول باطلا ، تعين الثاني.
والجواب عن الثاني : أن نقول : لو جوزنا تخلف القبح (عن الكذب) لبعض الموانع فحينئذ لا كذب إلا ويحتمل أنه حصل فيه مانع
من كونه قبيحا. وعلى هذا التقدير وجب أن لا يبقى الوثوق بشيء من كلام الله ، ولا
من كلام رسوله ، فإنه تصير كل هذه النصوص مظنونة لا معلومة.
__________________
فهذه جملة الدلائل
في بيان أن حكم العقل بالتحسين والتقبيح في أحكام الله وفي أفعاله : حكم باطل ،
غير ملتفت إليه.
واعلم أن جماعة
عظيمة من أصحاب أبي الحسن الأشعري ـ رحمهالله ـ احتجوا على
إبطال القول بتحسين العقل وتقبيحه. بأن قالوا : لو قبح القتل لذاته ، لوجب أن يقبح (كل
قتل وكان يجب أن يقبح) القتل على سبيل القصاص ، ولو حسنت المنفعة لذاتها ، لحسنت
كل منفعة ولذة ، فكان يجب حسن الزنا واللواطة ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن
القول بأن الحسن حسن لذاته ، وأن القبيح قبيح لذاته قول باطل.
وقالت المعتزلة :
هذا الكلام غير وارد علينا ، لأنا لا نقول : إن الحسن إنما كان حسنا لذاته ، وأن
القبيح إنما كان قبيحا لذاته. وإنما نقول : إن الحسن يحسن لوجوه عائدة إليه ، وإن
القبيح إنما يقبح لوجوه عائدة إليه. وعند هذا قالت الأشعرية : إن التعليل بالوجوه
تعليل بأمر غير مفهوم ولا معقول.
ونحن نذكر تفسير
هذه الوجوه بحيث يصير المراد منه مفهوما فنقول :
لا شك أن الإنسان
قد يلتذ بتناول الخلّ ، إلا أن المقتضى لحصول تلك اللذة ليس هو تناول الخل فقط ،
بل الموجب له مجموع أمور ، مثل أن يكون قد تقدم أكل الطعام الطيب الدسم ، وأن تكون
المعدة قوية ، فعند تقدم ذلك الأكل يكون تناول الخل لذيذا لمثل هذه المعدة. فعلى
هذا لا نقول : إن الموجب لتلك اللذة ذات الخل ، بل الموجب مجموع هذه الأحوال
والشرائط.
وأيضا : الإنسان
يرغب في تناول الدواء المخصوص ، وليس المقتضى لحصول تلك الرغبة هو ذات ذلك الدواء
، وإنما المقتضى له مجموع أمور منها : حصول أخلاط مخصوصة في البدن. ومنها : أن لا
توجد سائر الأدوية ومنها : ظهور آثار المرض في البدن فتصير مجموع هذه الأحوال
موجبا لحصول الرغبة في
__________________
شرب ذلك الدواء.
وإذا عرفت هذا المعنى عرفت أنه ليس تحت فلك القمر شيء يوجب شيئا لذاته ، ولعينه.
وإنما يحصل الإيجاب والاقتضاء عند مجموع أحوال ووجوه وشرائط.
إذا عرفت هذا
فالمعتزلة قالوا : نحن لا نقول : إن المقتضى للقبح في القتل كونه قتلا فقط. وإنما
المقتضى مجموع أمور : وهو كونه ألما واقعا ، لا لأجل جناية سابقة ، ولا لأجل عوض
لاحق. وكذا القول في سائر الأشياء الحسنة والقبيحة. فظهر بهذا أن الذين عولوا على
هذه الحجة في إبطال كلام المعتزلة لم يعرفوا مذهبهم ، ولم يحيطوا بمقالتهم والله أعلم .
__________________
الفصل العاشر
في
حكاية كلمات المعتزلة في القول بتحسين العقل وتقبيحه
اعلم . أن القوم لهم في هذا الموقف نوعان من الكلام :
الأول : ادعاء الضرورة في ثبوت الحسن والقبح في الشاهد. ثم بعد تقرير هذا المقام
يزعمون : أنه لما ثبت ذلك في الشاهد وجب ثبوته في الغائب.
والثاني : إثبات أن الحسن يحسن لوجوه عائدة إليه ، وأن القبح يقبح لوجوه عائدة إليه
بالحجة والدليل.
أما المقام الأول : وهو الذي (عول) عليه الأكثرون ، فتقريره : أنهم قالوا : إن كل من كان سليم
العقل ، إذا أحسن إليه رجل حكم عقله الصريح بأنه يجب عليه شكره ومدحه ، وإن من
أساء إليه وضربه فإنه يحسن منه ذمه ولومه ، ألا ترى أن من كان تحت يد ظالم وذلك
الظالم يشمر لقتله فذهب إنسان إلى ذلك الظالم وسعى في تخليصه من يده ، فإذا حصل
ذلك الخلاص ، فإن صريح عقل ذلك المظلوم يحكم عليه بشكر ذلك الرجل الذي سعى في
تخليصه. ولو أن إنسانا رمى وجه إنسان بآجرة ، فإن صريح عقله يحكم بالفرق بين ذلك
الرامي وبين تلك الآجرة ، فإنه يجد من عقله حسن ذم ذلك الرامي ،
__________________
ولا يجد من عقله
البتة حسن ذم تلك الآجرّة ، فيثبت أن حسن المدح والذم مقرر في العقول، مركوز في
القلوب.
وليس لقائل أن
يقول : إن هذه الأحكام تثبت بالشرع ، وذلك لأن حسن هذه الأحوال وقبحها مقرر في عقل
من لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر. ولو كان هذا الحكم مستفادا من الشرائع ، لكان
الدهري والبرهمي ، وجب أن لا يحصل في عقولهما هذه الأحكام وحيث علمنا بالضرورة
حصول هذه الأحكام في عقول جميع الخلق ، علمنا أن هذا الحكم غير مأخوذ من الشريعة.
وأيضا : إذا رأينا
العقلاء يذمون على بعض الأحوال ويمدحون على بعضها. فإذا سألناهم وقلنا لهم : لم
مدحتم هذا وذممتم ذاك؟ قالوا : إن هذا احسن إلينا ، وذاك أساء إلينا. وهذا يدل على
أنهم كما علموا ببديهة العقل حسن المدح والذم فكذلك علموا ببديهة العقل ، أن
المقتضى لحسن ذلك المدح هو الإحسان ، وإن المقتضى لحسن ذلك الذم هو الإساءة ،
فيثبت بهذه التنبيهات : أن هذه الأحكام مقررة في بداءة العقول. (وهذا هو الوجه
الأول)
الوجه الثاني : في بيان أن العلم بثبوت الحسن والقبح علم بديهي : أنا إذا فرضنا
إنسانا دهريا ينكر الإله والنبوة ، وفرضنا أنه كان مارّا في صحراء خالية عن الناس
، فاتفق أنه عبر على إنسان أعمى ، ورآه في نوع من أنواع البلاء ، مشرفا على الهلاك
، فإنه قد يرق قلبه عليه ، ويحمله عقله على
الإحسان إليه. فههنا رغبته في الإحسان إليه ليست لطلب الجزاء ، فإن ذلك الرجل فقير ، وليس لأجل الطمع في الثناء.
لأن ذلك الرجل أعمى لا يعرفه ، ولم يحضر هناك إنسان آخر ، حتى يقال : إنه يروي تلك
الواقعة ليمدحه سائر الناس ، وليس أيضا لأجل الطمع (في تحصيل الثواب) لأن ذلك الإنسان دهريّ ، منكر للإله والنبوة والمعاد. فلما
حصلت الرغبة العظيمة في الإحسان
__________________
إلى ذلك الضعيف.
وانتفت سائر الوجوه ، علمنا أن الداعي له إلى ذلك الإحسان مجرد ما تقرر في عقله من
أن الإحسان حسن ، وذلك يدل على أن شهادات العقول متطابقة على حسن الإحسان ، وقبح
الإساءة.
الوجه الثالث : في تقرير هذا المعنى : أنه إذا قيل لإنسان : إن صدقت أعطيناك دينارا ، وإن كذبت
أعطيناك دينارا ، وعلم بالضرورة أن المنافع الحاصلة من هذا الصدق ومن هذا الكذب
متساوية في الدنيا والآخرة ، وأنه ليس لأحدهما زيادة أثر في المطالب والمنافع ،
فإن الإنسان في هذه الحالة لا بد وأن يختار الصدق ، وأن يحترز عن الكذب ، ولو لا
أن العلم بكون الصدق حسنا من حيث أنه صدق ، وأن العلم بكون الكذب قبيحا من حيث إنه
كذب علم ضروري لازم للعقول والأفهام ، لم يكن الأمر كذلك ، فيثبت بهذه الوجوه
الثلاثة : أن العلم بحسن هذه الأشياء ، وبقبحهما : علم ضروري.
المقام الثاني : أن نقول : لما ثبت هذا المعنى ، وجب أن يبقى هذا الحسن والقبح في حق الله
تعالى (والذي يدل عليه) وجهان :
الأول : إن الصدق إنما حسن لكونه صدقا ، وأن الكذب إنما قبح لكونه كذبا ، وأن الظلم إنما
قبح لكونه ظلما. والدليل عليه : أن من عرف كون الصدق صدقا (عرف كونه حسنا ، وإن
جهل سائر الاعتبارات ، وإن لم يعرف كونه صدقا) لم يعرف كونه حسنا ، وإن عرف سائر الاعتبارات. وكذا القول
في قبح الكذب ، وقبح الظلم. ولما كان العلم بالحسن والقبح دائرا مع العلم بهذه
الوجوه والاعتبارات ، وجب أن يكون المقتضى للحسن والقبح هو هذه الوجوه
والاعتبارات. وإذا ثبت هذا فنقول : وجب أن يكون الصدق حسنا من الله ، وإن يكون
قبيحا منه لما ثبت أنه أينما حصل المؤثر والموجب. وجب أن يحصل الأثر.
الثاني : إن صريح العقل كما يحكم بقبح الظلم والكذب من الواحد منا ،
__________________
فكذلك يحكم
بقبيحهما من الله تعالى ، بل نقول : إن قبحهما من الله تعالى آكد في العقول لأن
الواحد منا قد يظلم ويكذب ، إما لجهله أو لحاجته. والجهل والحاجة عذر في ذلك الفعل
من بعض الوجوه. أما الله تعالى فإنه منزه عن الجهل والعجز والحاجة ، فكان حكم
العقل بقبح الكذب والظلم منه آكد وأقوى من حكمه بقبحه لهما من العبد. فيثبت أن هذا
الحكم كما هو ثابت في الشاهد ثابت في الغائب. فهذا جملة الكلام في تقرير كلام
القائلين بأن (هذه الأحكام معلومة بالضرورة.
وأما تقرير كلام القائلين
بأنا نثبت هذه الأحكام بالدليل. فهو من وجوه :
الحجة الأولى : قالوا : رأينا الأفعال منقسمة إلى حسنة وقبيحة ، فلولا أن من الأمور ما
لأجله صار البعض حسنا والبعض قبيحا. وإلا لكان حصول هذا التفاوت ترجيحا لأحد طرفي
الممكن على الآخر من غير مرجح ، وأنه يلزم منه نفي الصانع ، وليس لقائل أن يقول :
هذا التفاوت إنما حصل لأن الشرع خص البعض بالحسن ، والباقي بالقبح ، لأنا نقول :
الذي خصه الشرع بالحسن ، والذي خصه بالقبح. إما أن يقال : إنهما استويا في جميع
الجهات والاعتبارات العائدة إليهما أو إلى أحدهما ، أو ليس الأمر كذلك؟ والأول
باطل ، وإلا لكان تخصيص الشرع بعضها بالحسن وبعضها بالقبح ترجيح لأحد طرفي الجائز
على الآخر لا لمرجح وأنه محال. والثاني : يفيد القول بأن كل واحد منهما قد اختص
بوجه لأجله استحق أن يخصه الشرع بالحسن أو بالقبح ، ولا معنى لقولنا : إن الحسن
إنما يحسن لوجوه عائدة إليه ، وأن القبح إنما يقبح لوجوه عائدة إليه ، إلا هذا
المعنى.
الحجة الثانية : قالوا : لو لم يثبت الحسن والقبح إلا بالشرع لوجب أن لا يقبح من الله
تعالى شيء. ولو كان الأمر كذلك فحينئذ لا يبقى الاعتماد على وعد الله ، ولا على
وعيده ، فإنه لعلّه يعد بعض العباد بالثواب ولا يفعل ،
__________________
ولعله يتوعد بعضهم
بالعقاب ولا يفعل ، ولعله يدخل الأنبياء والملائكة في أطباق النيران أبد الآبدين ،
ولعله يدخل الفراعنة والأبالسة في أعالي درجات الجنة أبد الآبدين ، ولعله يظهر
المعجزات على يد الكذابين ، ولعله يبعث الأنبياء والرسل ويؤيدهم بالمعجزات القاهرة
، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى شتم الله ، وشتم الملائكة ، ويأمرهم بدعوة الخلق إلى
الفواحش والزنا والسرقة ، ويأمرهم بزجر الخلق عن تعظيم الله وطاعته ، ولعله يبعث
الأنبياء والرسل إلى الجمادات ، ويأمرهم بأن يأمروا الجمادات ببعض الأعمال ،
وينهوها عن بعضها ، ولعله يأمر الأنبياء بأن يأخذوا الناس ويقيدوا أيديهم وأرجلهم
، ثم يأمر برميهم من شواهق الجبال. ويقول لهم : في تلك الساعة : إن من لم يطفر
منكم في هذه الساعة إلى ما فوق العرش فإن الله يعذبه عليه أبد الآباد. فإن التزمتم جواز كل ذلك فقد خرجتم عن
العقل ، وإن اعترفتم بقبحها فقد اعترفتم بتحسين العقل وتقبيحه.
والحجة الثالثة : قالوا : لو لم يكن معنى الحسن والقبح مقررا في العقول ، لكان عند ورود
الشرع بالتحسين والتقبيح قد خاطبنا بما لا نفهمه ولا نعقله وذلك باطل ، فوجب أن
يكون معنى الحسن والقبح مقررا قبل الشرع.
الحجة الرابعة : إنه لا نزاع في ثبوت الحسن في بعض الأفعال ، وثبوت القبح في
بعضها. فثبوته إما أن يكون موقوفا على الشرع ، أو لا يكون. والأول باطل. لأن ثبوت
الشرع موقوف على دلالة المعجزة على الصدق. وهذه الدلالة موقوفة على أنه لا يجوز من
الله تعالى إظهار المعجز على يد الكذاب ، فلو كان قولنا : إن ذلك غير جائز من الله
بل يتوقف على الشرع لزم الدور وأنه باطل. ولما بطل هذا ثبت أن الحسن والقبح لا
يتوقف ثبوتهما على الشرع ، فهما ثابتان قبل الشرع. وذلك يدل على أن الحسن والقبح
ثابتان قبل الشرع.
فهذا تمام الكلام
في حكاية أقوال المعتزلة (والله أعلم) .
__________________
الفصل الحادي عشر
في
الجواب عن هذه الوجوه التي عوّلوا عليها
أما الوجه
الأول : وهو ادعاؤهم الضرورة في العلم بحسن الإحسان وقبح الظلم. فنقول : الجواب عنه من وجهين :
الأول : لا شك أن كل تصديق ، فإنه يجب
أن يكون مسبوقا بتصور ما فيه من الموضوع والمحمول ، فقولكم : الإحسان حسن. إن كان المراد منه أنه محبوب الطبع ،
ومرغوب النفس لكونه سببا لحصول المنافع. فهذا حق صحيح . ولا ننازعكم في أن العلم بحسنه على هذا التفسير. علم
ضروري. وأيضا : إن كان المراد من قولكم : الظلم قبيح أنه مكروه الطبع ومبغوض القلب
، لكونه سببا لحصول الآلام والغموم والأحزان ، فلا نزاع في أن العلم بكونه قبيحا
بهذا التفسير علم ضروري ، إلا أنه على هذا التفسير (لا يمكن) إثبات الحسن والقبح في حق الله تعالى ، لأنه لما صار الحسن
والقبح مفسرين بالمنفعة والمضرة ، والمصلحة والمفسدة ، وكان ذلك في حق الله ممتنعا
، كان إثبات الحسن والقبح بهذا التفسير ممتنع الثبوت في حق الله تعالى. وإن أردتم
__________________
بكون الإحسان حسنا
، وبكون الظلم قبيحا أمرا آخر ، سوى رعاية المنفعة والمضرة ، فهذا غير متصور ،
فضلا عن أن يكون (مصدقا به ، وعن أن يكون) التصديق به بديهيا.
فهذا هو المقام
الحق الذي يجب على العاقل المحقق أن يتأمل فيه ، لتنكشف له حقيقة هذه المسألة.
وتمام الكشف والبيان فيه أن نقول : إنا نعلم بالضرورة أن لنا شيئا نطلبه (ونميل
إليه) ، ونرغب في تحصيله ، وأن لنا شيئا آخر تنفر عنه طباعنا ، وتكرهه عقولنا ،
ونرغب في دفعه وعدمه. ثم نقول : لا يجوز أن يكون كل شيء إنما كان مطلوبا لأجل شيء
آخر (ولا أن يكون كل شيء إنما يكون مكروها لأجل الكراهية عن شيء آخر) وإلا لزم إما الدور وإما التسلسل. وهما باطلان ، فيثبت أنه
لا بد من الاعتراف بوجود شيء يكون مطلوبا لذاته ولعينه ، لا لشيء آخر. ومن
الاعتراف بوجود شيء يكون مكروها لذاته ولعينه لا لشيء آخر. ثم نقول : لما تأملنا
وبحثنا وجدنا أن المطلوب بالذات ليس (إلا اللذة والسرور ، أو دفع الألم والغم.
ووجدنا أن المكروه بالذات ليس) إلا الألم والغم أو دفع اللذة والسرور. فهذه المقدمات
معلومة بالضرورة.
ثم كل ما علم أو
ظن كونه وسيلة إلى حصول الأمور المطلوبة بالذات يكون أيضا مطلوبا لا بذاته ، لكن
لكونه مفضيا إلى ذلك الذي هو مطلوب بالذات ، وكذا القول في جانب الأمور المكروهة
بالذات ويتفرع على هذه المقدمة مقدمة أخرى وهي أن الشيء المكروه بالذات قد يكون
سببا لحصول شيء مطلوب بالذات. ثم العقل هاهنا يعتبر درجات الخير والمقابلة ، فإن
وجد ذلك المكروه حقيرا بالنسبة إلى ذلك المطلوب ، فههنا يتحمل ذلك المكروه القليل
، في وجدان ذلك المطلوب العظيم. وكذا القول في الجانب الآخر ، ولا شك أن
__________________
إفضاء الظلم إلى
حصول الألم والغم قريب قوي كامل ، فلا جرم نجد النفرة عن الظلم أعظم من النفرة عن
الكذب وعن البعث. وأما النفرة عن الكذب ، فالسبب فيه : أن من سمع خبرا كاذبا ، فقد
يعتقد من ذلك الخبر أمرا من الأمور ، وربما بنى على ذلك الاعتقاد أشياء كثيرة،
فإذا ظهر له أن ذلك الخبر كان كاذبا ، فحينئذ تضيع كل الأعمال التي بناها عليه ،
وتبقى المشاق التي تحملها في تلك الأعمال خالية عن المنافع الجائزة ، ويحصل الغم
في القلب بهذا السبب ، فلأجل كون الكذب مفضيا إلى حصول الألم والغم الخاليين عن
الجائز ، كان الطبع ينفر عنه ، ولما كان إفضاء الظلم إلى الألم والغم أقوى وأقرب
من إفضاء الكذب إليهما ، لا جرم كان قبح الظلم في الطبائع والعقول أقوى من قبح
الكذب.
وأما قبح العبث
فالسبب فيه : أن الإنسان خلق محتاجا ، فوجب عليه صرف العلم إلى تحصيل ما يدفع
أنواع الحاجات عنه ، فإذا اشتغل بالعبث فقد فوت على نفسه صرف العمر إلى تحصيل
الأشياء النافعة ، وكان العبث مفضيا إلى الضرر ، من هذا الوجه ، فلا جرم حكم العقل
عليه بالقبح ، ولما كان إفضاء العبث إلى حصول الألم والغم أبعد وأضعف ، من إفضاء
الظلم إليها ؛ لا جرم كان قبح العبث أقل في العقول من قبح الظلم والكذب.
فإن قالوا : أليس
أن الظالم ينتفع بظلمه ، والكاذب قد ينتفع بكذبه ، مع أن عقله يحكم بقبح الظلم
وقبح الكذب؟ قلنا : إن الظالم يعلم أنه لو أفتى بحسن الظلم لكان قد حكم بأن لغيره
أن يظلمه ، وحينئذ لا يبقى آمنا على روحه وما له وأولاده ، فلما علم أن الحكم بحسن
الظلم يوجب فتح باب الآلام والغموم عليه ، فلا جرم حكم بقبح الظلم وكذا القول في
جانب الكذب.
وأما الحكم بحسن
الإحسان ، وإنقاذ الضعيف من البلاء ، فهذا إنما كان حسنا ، لأنه سبب لفتح باب
المنافع والخيرات ، ولما كانت اللذة والسرور مطلوبين بالذات ، وكان الإحسان مفضيا
إليهما ، والمفضي إلى المحبوب
(محبوب) ، لا جرم كان الإحسان مما يميل الطبع (والعقل إليه) . وما يقوي هذا : أن قتل الملك الكبير : قبيح في حق أوليائه ، حسن في حق أعدائه ،
وذلك لأن قتله سبب لزوال النعم عن أوليائه ، فلا جرم هو قبيح عندهم ، وهو سبب
لزوال الآفات والمخافات عن أعدائه ، فلا جرم حكموا عليه بالحسن. وأما الصورة التي فرضوها وهي
: إذا عبر رجل ينكر الله ، وينكر النبوة ، وينكر المعاد في مفازة خالية على أعمى
مشرف على الهلاك فإن طبعه يحمله على الإحسان إليه ، فالسبب فيه أمران :
الأول : إن الحكم بالإحسان سبب لفتح باب الخيرات ولحصول اللذات فصار الإحسان مطلوبا نظرا إلى
هذا الاعتبار والثاني : إن طبيعة الإنسان مجبولة على المحاكاة بمعنى أن كل ما يراه
في الغير فإنه يفرض مثله في حق نفسه ، فإذا رأى مريضا واقعا في أنواع عظيمة من
البلاء ، فإنه يقول في خياله : لو وقعت هذه الواقعة لي ، كيف يكون الحال؟ فحينئذ
يتألم قلبه ، وهذا هو المراد من الرقة الجنسية.
ثم بتقدير وقوعه
في ذلك البلاء ، فإنه يستحسن إقدام الغير على تخليصه منه ، وبهذا الطريق يحكم
خياله بأنه لما وقع ذلك الإنسان في البلاء ، وجب عليّ أن أسعى في تخليصه منه.
هذا إذا كان
الإنسان خلق رقيق الطبع ، لطيف المزاج. وقد يكون الإنسان غليظ القلب ، قاسي النفس
، لا تميل طبعه البتة إلى الرحمة.
ولقد رأيت واحدا
من أكابر الملوك ، كان في غاية القسوة ، وما كانت لذته
__________________
إلا في مشاهدة
القتل والنهب ، وكلما كانت مشاهدته لأنواع التعذيبات أكثر ، كان فرحه ، وانبساط
وجهه أكمل.
فيثبت بهذه
البيانات الظاهرة : أن الذي يتخيله هؤلاء المعتزلة من الحسن والقبح ، قد صدقوا فيه
، إلا أن حاصله يرجع إلى الرغبة في جلب المنافع ، ودفع المضار.
ولما كان هذا
ممتنع الثبوت في حق الله تعالى ، كان إثبات الحسن والقبح في أفعال الله وفي أحكامه
محالا باطلا. فهذا هو الكلام الكاشف عن حقيقة هذه المسألة.
والوجه الثاني في الجواب : أنا نقيم الدلائل القاطعة على أن ادعاء البديهة في هذا الموضع كذب
وباطل. ويدل على صحة قولنا وجوه :
الحجة الأولى : وهي إن العلوم البديهية لا يجوز اختلاف العقلاء فيها (وجميع
الفلاسفة) وجميع الأشعرية ينكرون الحسن والقبح في هذه الأفعال. وذلك
يدل على أن العلم بحسن هذه الأشياء وبقبحها ليس من العلوم البديهية.
أجاب أبو الحسين
البصري عنه فقال : إنكار الضروريات غير جائز على الجمع العظيم. أما الجمع القليل
فإنه يمتنع إطباقهم على الكذب ، وعلى إنكار الضروريات ، لبعض الأغراض. إذا عرفت
هذا فنقول : أما عوام الأشعرية وأهل السنة ، فإنهم يحكمون بقبح هذه الأشياء
وبحسنها ، ولا ينكرون ذلك البتة. ولو سألتهم عن هذه الأفعال قبل أن تنبههم على
مذاهب الناس فيها ، يصرحون بأن الإحسان حسن ، وبأن الظلم قبيح. أما الرؤساء من
الأشعرية ، والذين يدعون نصرة المذهب ، فهم جمع قليل ، ولا يبعد منهم الإطباق
والاتفاق على الكذب.
واعلم أن هذا
الكلام بلونه عجيب ، وذلك لأنا لا نسلم أن جمهور الخلق
__________________
يحكمون بحسن هذه
الأشياء وبقبحها ، بمعنى كونها مفيدة للخيرات والمنافع ، ومفيدة للشرور والمضار.
ونحن لا ننازع في الحسن والقبح بهذا التفسير. وإنما ننازع في الحسن والقبح بتفسير
آخر. ومعلوم : أن عوام الخلق لا يفهمون من الحسن والقبح إلا جلب المنافع ودفع
المضار. بل نقول : إن عوام المعتزلة لا يفهمون أيضا من الحسن والقبح إلا المنفعة
والمضرة (فأما الحسن والقبح بمعنى آخر ، سوى المنفعة والمضرة) فذلك قد أطبق أهل السنة على إنكاره.
وأما العوام من
أهل السنة فإنه لا خبر عندهم من ذلك المعنى البتة. وأما العوام من المعتزلة فهم
أيضا لا يتصورون شيئا آخر سوى المنفعة والمضرة (ففي الكلام في أن ادعاء الحسن
والقبح بمعنى آخر سوى المنفعة والمضرة) مما لا يفهمه إلا رؤساء المعتزلة. والذين يدعون نصرة
المذهب منهم.
وقد سلم أبو
الحسين : أن إطباق مثل هذا العدد على الدعوى الكاذبة غير ممتنع فيثبت أن السؤال
الذي أورده أبو الحسين في غاية الضعف.
الحجة الثانية : في بيان أن ادعاء الضرورة في هذا الموضع باطل : .
إنه لا شك أن
التحسين والتقبيح بمعنى الرغبة في جلب المنافع ودفع المضار حاصل. ولا شك أن امتياز
الحسن والقبح بالمعنى الآخر ، عن المعنى الأول ليس معلوما بالبديهة ، بل لا يظهر
ذلك إلا للخواص من الناس بالوجوه الدقيقة الغامضة ولو تيسر ، وإذا كان الأمر كذلك
، فقد ظهر أن دعوى البديهة فيه محض الكذب والتزوير.
الحجة الثالثة : إنا إذا قلنا : الظلم
قبيح ، فلا بد وأن
يحضر في عقلك تفسير الظلم ، وتفسير القبح ، لأن التصديق بدون التصور محال. فنقول :
أما
__________________
الظلم فقال أبو
الحسين في كتاب «القدر» في باب القول في الأعواض : قال شيوخنا : إن الآلام تحسن
إذا اختصت بشروط. منها : أن تكون مستحقة ، ومنها : أن يكون فيها نفع يوفى على
الألم. ومنها : أن يكون فيه دفع ضرر أعظم منه. ومنها : أن يظن بها النفع ، ودفع
الضرر. ومنها : أن يكون مفعولا على وجه الدفع. ومنها : أن يكون مفعولا على مجرى
العادة ، أو يجري فعل الغير. فإذا اختص الألم بشرط من هذه الشروط حسن ، ولم يكن
ظلما. وإذا تجرد عنها كان ظلما. فلهذا جردنا الظلم بأنه ضرر غير مستحق ، ولا فيه
نفع يوفى عليه ، ولا دفع مضرة هي أعظم منه ولا يظن به ذلك ، ولا يكون مفعولا على
وجه الدفع ، ولا يجري مجرى الغير. وأقول هذا الحد الذي ذكره للظلم مشتمل على قيود
ستة :
الأول : أن لا يكون مستحقا. فإن كان مستحقا لم يقبح كالقتل قصاصا وغيره.
القيد الثاني : أن لا يحصل فيه نفع يوفى عليه ، فإن حصل ذلك لم يكن ذلك ظلما ، كما إذا أذن الله في ذبح
البهائم ، لما فيه من الأعواض.
القيد الثالث : قوله : ولا دفع مضرة أعظم منه ، فإن المضرة إذا كانت بحيث تكون
دافعة لضرر آخر أعظم منه صار تحملها حسنا.
والقيد الرابع : أن لا يظن به ذلك : فإنه متى حصل هذا الظن حسن الذبح.
القيد الخامس : (أن لا يكون مفعولا على وجه الدفع ، فإن كان مفعولا على وجه الدفع حسن)
كما إذا قصد زيد قتل عمرو فدفعه عمرو عن نفسه ، وصار زيد مقتولا ، عند ذلك
الدفع. فقال أبو هاشم : إن العقلاء يستحسنون ذلك عند علمهم ، بأنه مفعول على وجه
الدفع.
__________________
القيد السادس : قولنا : ولا يجري مجرى الغير. فهذا احتراز عما إذا طرح إنسان طفلا
في الثلج ، فإن الألم الحاصل فيه من فعل الله ، إما مبتدأ ، وإما متولدا عن برودة
الثلج ، وهو حسن ، لأنه يجري مجرى فعل الطارح لأنه يقبح من الله تعالى أن يفعل ذلك
عند شيوخنا في غير زمان وجود الشيء ، لأنه بعض عادة. وإنما قلنا : إنه يحسن ذلك لا لأجل العوض
(لأن العوض) الواجب في ذلك ، لازم على الطارح وهو عوض غير موف ، لأنه لو كان موفيا لكان طرح الطارح غير ظلم ،
لأنه قد أوى إلى نفع (موف) فهذا تفسير الظلم على ما ذكره أبو الحسين البصري.
إذا عرفت هذا
فنقول : أطبق المتكلمون على أن العلم بالأصل متى كان نظريا ، امتنع أن يكون العلم
بالفرع ضروريا ، ولا شك أن العلم بماهية الظلم أصل للعلم بكونه قبيحا ، والعلم
بماهية الظلم لا يحصل إلا بهذا المعنى ، الذي لا يتصوره إلا أهل التحقيق ، بالنظر الدقيق ، ولما
كان العلم بهذا الأصل نظريا ، فالعلم بكون الظلم قبيحا ، امتنع أن يكون بديهيا ،
لما بينا أن العلم بالأصل ، إذا كان نظريا امتنع أن يكون العلم بالفرع بديهيا ،
فيثبت بهذه البيانات : أن ادعاء العلم البديهي في هذا المقام : باطل (محال والله
أعلم) .
فإن قال : أنا
أعني بقولي : الظلم قبيح بالضرورة هو أن كل من علم ماهية الظلم على هذا الوجه ،
علم بالضرورة كونه قبيحا. ولا أعني به : أن هذا العلم حاصل لجمهور العقلاء. فنقول
: لما سلمت أن هذا العلم غير حاصل لجمهور العقلاء ، ولا يمكن ادعاء هذا عليهم. لم
يبق معك إلا أنك
__________________
تدعي أن كل من
تصور. ماهية الظلم على هذا الوجه ، فإنه يحكم عليه بالقبح. ونحن نقول: إن هذا
ممنوع. وهل النزاع وقع بيننا وبينك إلا فيه؟ وأنت قد سلمت أن دعوى الرجل الواحد لا
تفيد شيئا (وهذا هو الوجه الأول في الجواب) .
والوجه الثاني في الجواب : سلمنا حصول
الحسن والقبح في أفعال
العباد . فلم قلت : إنه يمكن حصوله في أفعال الله تعالى؟ قوله :
إنا متى علمناه ظلما علمناه قبيحا ، وإن جهلنا سائر الاعتبارات فوجب أن تكون العلة
لهذا القبح هو الظلم. قلنا : لم قلتم : إنه لما حصل العلم بالقبح عند العلم بكونه
ظلما ، وجب أن تكون علة ذلك القبح هو كونه ظلما؟ وما الدليل عليه؟ ثم الذي يدل على
فساده : إنا متى علمنا كون هذا أبا لذاك ، علمنا كون ذاك ابنا لهذا ، مع أنه يمتنع
كون إحدى الإضافتين علة للأخرى. لأن الإضافتين معا ، والعلة متقدمة على المعلول ،
والمنع ، ليس نفس القتل.
فهذا تمام الكلام
على قول من ادعى فيه الضرورة.
وأما
الذين عولوا على الاستدلال. فنقول :
أما الحجة الأولى : فساقطة. لأنا نقول :
القادر على الضدين. إما
أن يقال : إنه يمكن أن يصدر عنه أحد الطرفين دون الثاني لا لمرجح ، أو لا يمكن
ذلك. فإن أمكن ذلك فلم لا يمكن أيضا أن يخص إحدى الصورتين بالحسن ، والأخرى بالقبح
لا لمرجح ، وإن توقف على المرجح ، فحينئذ يتوقف صدور الفعل من العبد على قيام
الداعي ، وتلك الداعية تكون فعلا لله تعالى قطعا للتسلل. وعلى هذا التقدير ففعل
العبد موجب لمجموع القدرة والداعي. وهما فعلان لله تعالى ، وموجب فعل الله تعالى
يكون فعلا لله تعالى ، فأفعال العباد بأسرها أفعال لله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك
فيكون الخير والشر فعلا لله تعالى.
__________________
وذلك يبطل القول
بأن فعل بعض الأشياء من الله تعالى قبيح.
وأيضا : فقد ذكرنا
: أن الله تعالى خصص إحداث العالم بوقت معين من غير مرجح، اختص به ذلك الوقت وكذا القول في تخصيص كل واحد من الحوادث بوقت معين ، وفي
تخصيص كل واحد من الذوات ، بصفة معينة ، وإذا عقل ذلك فلم لا يعقل مثله في تخصيص
بعض الأحكام بالحسن وبعضها بالقبح من غير مخصص؟
وأما الحجة الثانية
: فالجواب عنها : أن نقول : القول
بصحة النبوات وصحة الوعد والوعيد ، إما أن يكون مبنيا (على القول بصحة الحسن
والقبح في العقل ، وإما أن لا يكون مبنيا عليه ، فإن كان الأول فحينئذ يكون القول
بصحة الحسن والقبح (في العقل) أصلا للعلم بصحة الوعد والوعيد والنبوات. فلو أثبتنا العلم بصحة الحسن
والقبح بالبناء على إثبات الوعد والوعيد (والنبوات لزم إثبات الأصل بالفرع ، وذلك
يوجب الدور ، وهو محال. وإما إن) لم يكن القول بصحة الوعد والوعيد وبصحة النبوات محتاجا إلى
العلم بصحة الحسن والقبح فحينئذ لا يلزم (من القدح في الحسن والقبح العقليين) القدح في الوعد والوعيد ، وفي النبوات. فيثبت بهذا البرهان
: أن الذي ذكروه لا يصح الاستدلال به على إثبات هذا المطلوب.
فإن قالوا : هب أن
هذا لا يصح جعله دليلا لإثبات هذا المطلوب ، إلا أنه يصح ذكره على سبيل الإلزام ،
من حيث إنه لما كان القول بصحة النبوات فرع على القول بالحسن والقبح (كان القدح) في هذا الأصل يوجب
__________________
القدح في ذلك
الفرع. فنقول : إذا اقتنعتم بالإلزام ، واعترفتم بأنه ليس ببرهان. فنقول : هذا
الإلزام وارد عليكم أيضا من وجهين :
الأول : وهو أن الفعل إما أن يتوقف على الداعي ، أو لا يتوقف عليه ، فإن توقف عليه ، لزم أن
يتوقف صدور الفعل عن العبد على حصول الداعي ، ويلزم منه القول بالجبر ، وأن يكون
فعل العبد فعلا لله (وعلى هذا التقدير فيكون الخير والشر من الله) وعلى هذا التقدير فيلزمكم ما ألزمتموه علينا ، وإما أن
يتوقف الفعل على الدواعي ، فحينئذ يصح أن يخلق الله المعجزة (لا لشيء من الدواعي
أصلا. وحينئذ لا تدل المعجزة) على الصدق ، وحينئذ يلزم القدح في نبوة جميع الأنبياء
والرسل. وهذا الإلزام قوي.
والوجه الثاني : أن نقول : خالق أفعال العباد إما أن يكون هو الله تعالى ، أو العبد. فإن كان هو
الله تعالى فحينئذ يكون الخير والشر كله من الله تعالى ، وحينئذ يلزمهم ما التزموه
علينا. وإن كان هو العبد فحينئذ تكون قدرة العبد صالحة للإيجاد ، وإذا ثبت هذا
فحينئذ يحتمل في جميع المعجزات أن يكون خالقها غير الله ، وعلى هذا التقدير فلا
تكون المعجزة دليلا على أن الله خصه بالتصديق.
وتمام هذا الكلام
، إنما يتم ببيان أن دلائل المعتزلة في أن غير الله لا يقدر على خلق الجسم والحياة
ضعيفة ، وسيأتي بيان ذلك في باب الجبر والقدر ، فيثبت أن الإلزام الذي وردوه علينا
، هو بعينه لازم عليهم.
وأما الحجة الثالثة : فضعيفة ، لأن
تصديقنا بإثبات الحسن
والقبح عند ورود الشرائع ، متوقف على تصور معنى الحسن والقبح ، وهذا التصور معلوم
بالعقل ، قبل مجيء الشرع ، فيثبت أن هذا الكلام ضعيف.
وأما الحجة الرابعة : فهي عين الحجة الثالثة. إلا أنا أوردناها على
__________________
صورة أخرى.
والجواب عنها عين الجواب عن الحجة الثالثة.
فهذا تمام (الكلام)
في تحسين العقل وتقبيحه.
(قال المصنف ـ رضي
الله عنه ـ : وقد تم هذا الباب ، من هذا الكتاب) .
تم الجزء الثالث
من كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي» للإمام فخر الدين الرازي. ويليه الجزء
الرابع. وموضوعه : في مباحث : «الحدوث والقدم. وأسرار الدهر والأزل».
__________________
فهرست الجزء الثالث
من كتاب المطالب
العاليه من العلم الالهي
عدد
الصفات الإيجابية لله عزوجل.................................................. ٥
الباب الأوّل :
في أحكام الدواعي والصوارف...................................................... ٧
الفصل الأول :
في حد القادر.................................................................... ٩
الفصل الثاني :
في إثبات تحقيق القول في الدواعي
والصوارف....................................... ١٣
الفصل الثالث :
في بيان أنه لا تأثير لغير الاعتقاد
والظن في الدعاء إلى الفعل.......................... ١٧
الفصل الرابع :
في تحقيق الكلام في المنفعة والمضرّة
والخير والشر والمصلحة والمفسدة..................... ٢١
الفصل الخامس :
في بقية الكلام في هذا الباب [باب
المنفعة والمضرة].................................. ٣٣
الفصل السادس :
في أن صدور الفعل هل يتوقف على الداعي
أم لا؟.................................. ٣٧
الفصل السابع :
في تقرير دلائل القائلين بأن الفعل لا
يصدر عن القادر الا عند حصول الداعي......... ٤٥
الفصل الثامن :
في بيان أن عند حصول الداعي يجب صدور
الفعل ولا يبقى الجواز البتة................ ٥٥
الفصل التاسع :
في تقسيم الدواعي.............................................................. ٦١
الفصل العاشر :
في تحقيق الكلام في تقسيم الدواعي إلى
ما يكون داعية الحاجة. وإلى ما يكون داعية الإحسان ٦٥
الفصل الحادي عشر :
في شرح أن العبد كيف يكون فاعلا؟.............................................. ٧٣
الباب الثاني :
في البحث عن الفرق بين القادر ، وبين
الموجب. واستقصاء الكلام فيه................ ٧٥
القادر والموجب بين الفلاسفة والمتكلمين
وأهل الأديان............................... ٧٧
الباب الثالث :
في كونه تعالى عالما............................................................ ١٠١
الفصل الأول :
في تحقيق الكلام في حقيقة العلم
والإدراك........................................ ١٠٣
الفصل الثاني :
في حكاية دلائل المتكلمين في كونه تعالى
عالما..................................... ١٠٧
الفصل الثالث :
في تقرير طريقة أخرى سوى طريقة الاتقان
والاحكام تدل على كونه تعالى عالما بناء على كونه تعالى فاعلا بالاختيار لا موجبا
بالذّات............................................................................ ١١٧
الفصل الرابع :
في تقرير الوجوه التي استدل بها الشيخ
الرئيس أبو علي بن سينا في سائر كتبه على كونه تعالى عالما بالمعلومات ١١٩
الفصل الخامس :
في المسائل المقرعة على إثبات كونه
تعالى عالما..................................... ١٣٩
الفصل السادس :
في البحث عن كونه تعالى عالما بالجزئيات......................................... ١٥١
الفصل السابع :
في بيان كونه تعالى عالما بالمعدومات.............................................. ١٦٥
الباب الرّابع :
في كونه تعالى مريدا............................................................ ١٧٣
الفصل الأول :
في البحث عن حقيقة الإرادة................................................... ١٧٥
الفصل الثاني :
في اللذة والألم................................................................ ١٨٣
الباب الخامس :
في كونه تعالى سميعا بصيرا...................................................... ١٨٥
البحث عن ماهية السمع والبصر............................................... ١٨٧
الباب السّادس :
في كونه تعالى متكلما.......................................................... ١٩٩
المسألة الأولى في البحث عن حقيقة
الكلام....................................... ٢٠١
المسألة الثانية : في إثبات كونه تعالى
متكلما...................................... ٢٠٣
الباب السّابع :
في كونه تعالى قديما باقيا....................................................... ٢٠٩
الباب الثامن :
في كونه تعالى حيا............................................................. ٢١٥
الباب التاسع :
كلمات في الصفات........................................................... ٢١٩
الفصل الأول :
في حصر صفات الله تعالى..................................................... ٢٢١
١ ـ الحياة ٢ ـ العلم ٣ ـ القدرة ٤ ـ الارادة
٥ ـ السمع ٦ ـ البصر ٧ ـ الكلام ٨ البقاء... ٢٢١
الفصل الثاني :
في أنه تعالى عالم لذاته أو لمعنى؟................................................ ٢٢٣
الفصل الثالث :
في احصاء صفات اللّه تعالى.................................................... ٢٣٥
الفصل الرابع :
في أن تكوين الشيء هل هو نفسه ، نفس
المكون ، أو غيره؟....................... ٢٣٧
لفصل الخامس :
في تقسيم أسماء اللّه تعالى...................................................... ٢٣٩
الفصل السادس :
في إثبات كونه تعالى حكيما.................................................... ٢٧٩
الفصل السابع :
أما إثباته في حق العباد فيدل عليه وجوه.......................................... ٢٨٩
في أن تحسين العقل وتقبيحه هل هو معتبر
أم لا؟................................. ٢٨٩
الفصل الثامن :
في إثبات ان التكليف بما لا يطاق واقع
وأنه متى كان الأمر كذلك امتنع أن يقال إنه تعالى يراعي مصالح العباد ٣٠٥
الفصل التاسع
في ذكر أنواع أخر من الدلائل على فساد
القول بتحسين العقل وتقبيحه في أفعال الله وفي أحكامه ٣١٧
الفصل العاشر :
في حكاية كلمات المعتزلة في القول
بتحسين العقل وتقبيحه......................... ٣٤١
الفصل الحادي عشر :
في الجواب عن هذه الوجوه التي عوّلوا
عليها في تحسين العقل وتقبيحه................. ٣٤٧
تم فهرس الجزء الثالث من كتاب المطالب
العالية من العلم الالهي.
|