

بسم الله الرّحمن الرّحيم
تمهيد
اعلم أنا إذا قلنا : الله واحد ، فله تفسيران :
أحدهما : أن ذاته ليست مركبة من الأجزاء والأبعاض. وذلك لا يتم إلا ببيان أنه
تعالى ليس بمتحيز ، ولا في جهة.
والثاني : بيان أنه ـ سبحانه ـ منزه عن الضد والند. ولهذا السبب ترتب هذا الكتاب على
قسمين :
القسم الأول : في بيان كونه [سبحانه وتعالى ] منزها عن التحيز والجهة.
[والقسم الثاني : في بيانه أنه ـ سبحانه ـ منزه عن الضد والند ]
__________________
القسم الأوّل
في بيان كونه سبحانه وتعالى منزّها عن التّحيّز
والجهة
الفصل الأول
في
بيان أن اثبات موجود ليس بجسم ولا حال في الجسم :
ليس بممتنع الوجود في بديهة العقل
اعلم. أن كثيرا من
الناس ، يزعمون : أن كل موجودين. فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر ، أو
مباينا عنه في جهة من الجهات الست . وزعموا : أن إثبات موجود لا يكون حالا في هذا العالم
الجسماني ، ولا مباينا عنه بحسب شيء من الجهات : ممتنع الوجود. ثم زعموا : أن
العلم بهذا الامتناع : علم بديهي ضروري ، غني عن الحجة والدليل.
وأما الجمهور الأعظم
من العقلاء فإنهم اتفقوا على أن إثبات موجود ليس بمتحيز ، ولا حال في المتحيز ،
وليس في العالم ، ولا في خارج العالم : ليس معلوم الامتناع في بديهة العقل، بل
الأمر في إثباته ونفيه موقوف على الدليل. فإن دل الدليل على إثباته وجب القضاء به
، وإلا وجب التوقف في إثباته ونفيه.
وهذا القول هو
الذي نذهب إليه ونقول به.
والذي يدل على أن الأمر كذلك وجوه :
الحجة الأولى : أن نقول : لو كانت هذه القضية بديهة لامتنع وقوع الاختلاف فيها بين العقلاء ، لكن
الاختلاف واقع فيها ، فوجب أن لا يكون بديهيا. بيان الملازمة : أن الجمع العظيم من
العقلاء لا يجوز إطباقهم على إنكار
__________________
الضروريات. وبيان
أن هذا الاختلاف واقع : هو أن الفلاسفة اتفقوا على إثبات موجودات ليست بمتحيزة ،
ولا حالة في المتحيز مثل : العقول والنفوس والهيولى. واتفقوا على أن الشيء الذي يشير
إليه كل إنسان بقوله : أنا. فهو موجود ، وليس بجسم ولا بجسماني. ولم يقل أحد من
العقلاء : إنهم في هذا القول منكرون للبديهات ، بل نقول. إن جمعا من أكابر
المسلمين اختاروا هذا المذهب مثل معمر بن عباد السلمي من المعتزلة ،
ومثل أبي سهل [النوبختي ] ، ومحمد بن النعمان من الرافضة. ومثل أبي القاسم الراغب ،
وأبي حامد الغزالي من أهل السنة والجماعة وأيضا : فأكثر العقلاء من أرباب الملل
والنحل المختلفة أطبقوا على تنزيه الله تعالى عن كونه متحيزا ، وعن كونه حالا في
المتحيز ، وعن كونه داخلا في العالم ، وخارجا عنه. فيثبت بما ذكرنا : أن هذه
القضية لو كانت بديهة لامتنع وقوع الاختلاف فيها ، ولما ثبت أن الاختلاف واقع فيها
، بل الأكثرون ينكرون تلك القضية ، ويقطعون بفسادها ، لزم القطع بأنها ليست من
البديهيات.
الحجة الثانية : إن صريح العقل شاهد بأن التقسيم الصحيح أن يقال : الموجود إما أن يكون
متحيزا أو حالا في المتحيز ، أو لا يكون متحيزا ولا حالا في المتحيز. ولو أنا قلنا
: الموجود إما أن يكون متحيزا ، أو حالا في المتحيز. واقتصرنا على هذا القدر. فإن
بدائه العقول قاطعة بأن هذا التقسيم غير تام. بل لا بد وأن نضم إليه القسم الثالث ،
وهو الذي لا يكون متحيزا ، ولا حالا في المتحيز حتى يتم ذلك التقسيم. ولو أن قائلا
قال : هب أن هذا القسم معتبر بحسب التقسيم ، إلا أنه معلوم الامتناع بالبديهة.
فنقول : ليس الأمر كذلك ، لأنا إذا عرضنا على بديهة العقل قولنا : إن هذا القسم
ممتنع الوجود ، وعرضنا أيضا على البديهة : أن الواحد ضعف الاثنين. فإنا نجد
البديهة جازمة بكذب هذه الثانية ، وغير جازمة بالأولى. ومن أنكر التفاوت بين
الصورتين كان مكابرا في أجلى البديهيات وأقواها. فيثبت بما ذكرنا : إن إثبات موجود
ليس
__________________
بمتحيز ولا حال في
المتحيز ليس من البديهيات البتة.
الحجة الثالثة : إنا نعلم بالضرورة : أن أشخاص الناس مشتركة في المعنى المفهوم من قولنا :
إنسان. ومتباينة بتعيناتها وخصوصياتها وما به المشاركة غير ما به المخالفة. وهذا يدل على أن
الإنسان من حيث هو إنسان : مفهوم مجرد عن الشكل المعين ، والحيز المعين. فثبت أن
الإنسان معقول مفهوم مجرد. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يستبعد في العقل أن يكون
خالق المخلوقات منزها عن لواحق الحس وعلائق الخيال؟ فإن قيل : هذا الكلام
مغالطة ، وذلك لأن
__________________
القدر المشترك بين
أشخاص الناس ليس له وجود خارج الذهن ، بل الموجود في الخارج هو الذوات المتعينة ،
والأشخاص المتباينة ، فأما القدر المشترك فلا وجود له إلا في الذهن. والنزاع إنما
وقع في أنه : هل يوجد في الأعيان موجود مجرد عن الوضع والحيز؟ فأين أحد البابين من
الآخر؟ فيثبت : أن هذا الكلام مغالطة محضة. والجواب عنه من وجهين :
الأول : إنه ثبت بالدليل الذي ذكرناه : أن القدر المشترك بين الأشخاص الإنسانية هو
مجرد المفهوم من معنى لفظ الإنسان. نقول : هذا المفهوم إما أن يكون موجودا ، وإما
أن يكون معدوما محضا. والثاني باطل. لأن المفهوم من كون الإنسان إنسانا ، جزء من
ماهية هذا الإنسان ، والعدم المحض يمتنع أن يكون جزءا من ماهية الموجود. فيثبت :
أنه موجود. فإما أن يكون موجودا في الأعيان ، وإما أن لا يكون. والثاني باطل. لأن
الإنسان المعين موجودا في الأعيان. وما كان موجودا في الأعيان كان جزء ماهيته أيضا
موجودا في الأعيان ، لأن بديهة العقل شاهدة بأن المركب لا يوجد إلا عند وجود جميع
أجزائه. فلما كان المفهوم من الإنسان جزءا من ماهية هذا الإنسان ، وثبت أن هذا الإنسان
موجود في الأعيان ، لزم أن يكون الإنسان من حيث هو إنسان موجودا في الأعيان. لكن
الإنسان من حيث هو إنسان مغاير لمعنى الوضع والحيز. فيثبت : أن الإنسان من حيث هو
مع قطع النظر عن لواحقه ، وعن عوارضه : مجرد عن الوضع والحيز. وهذا غاية ما يمكن
ذكره في تقرير هذا الكلام ، مع أن البحث باق فيه. فإن لقائل أن يقول : هذا الكلام
يفيد أن الإنسان من حيث هو إنسان ، مغاير لمعنى الوضع والحيز ، ولا يفيد أن
المفهوم من الإنسان ينفك عن هذه المعاني. والمطلوب : إثبات موجود تنفك حقيقته في
الوجود الخارجي عن هذه المفهومات.
وما ذكرتموه لا يدل عليه.
الوجه الثاني في الجواب : أن نقول : هب أن هذا المفهوم المجرد لا وجود له إلا في الذهن ، إلا
أن هذا يدل على أن صريح العقل لا يستبعد تصور
موجود مجرد عن
الوضع والحيز ونحن لا نطلب في هذا المقام إلا هذا القدر. فأما الجزم. بأن هذا
الشيء موجود أو ليس بموجود فذاك موقوف على الدليل المنفصل. ولقائل أن يقول : إن
العقل إذا فهم معنى الإنسانية فإنه يحكم بأن هذا المعنى إذا وجد في الأعيان فإنه
لا ينفك عن الوضع والحيز. والمقصود من هذا البحث : أن العقل هل يجوز إثبات موجود
في الأعيان بشرط كونه مجردا عن الوضع والحيز؟ وهذا الكلام لا يفيد هذا المطلوب ،
فيثبت : أن هذا الدليل ليس بقوى في إفادة هذا المطلوب. والشيخ الرئيس أبو علي ذكره
في الإشارات وعوّل عليه في هذا الباب. إلا أن البحث فيه ما ذكرناه.
الحجة الرابعة : إن الواحد منا حال ما يكون مستغرق الفكر والرؤية في استخراج مسألة
معضلة. فقد يقول في نفسه : إني حكمت بكذا أو اعترفت بكذا فهو حال ما يقول في نفسه
إني عقلت كذا وحكمت بكذا. لا بد وأن يكون عارفا بنفسه إذ لو لم يعرف نفسه لامتنع
منه أن يحكم على نفسه بأنه حكم بكذا ، أو عرف كذا. ثم إنا نعلم بالضرورة : أنه في
تلك الحالة قد يكون غافلا عن معنى الشكل [والوضع والحيز ] والمقدار ، فضلا عن أن يعلم كون ذاته في حيز وموصوفه بشكل
ومقدار. فيثبت : أن العلم بالشيء الموجود في الأعيان قد يحصل عند عدم العلم بحيزه
أو بشكله أو مقداره. وذلك يفيد القطع بأن الشيء المجرد عن هذه الأشياء يصح أن يكون
معقولا.
الحجة الخامسة : أن نقول : إن خصومنا في هذا الباب إما الكرامية وإما الحنابلة. أما
الكرامية. فإنا إذا قلنا لهم : لو كان الله تعالى مشارا إليه بالحس لكان ذلك الشيء
إما أن يكون منقسما فيكون مركبا مؤلفا من الأبعاض والأجزاء [وأنتم لا تقولون ] به وإما أن يكون غير منقسم فيكون في الصغر والحقارة مثل
النقطة التي لا تنقسم ومثل الجزء الذي لا يتجزأ. وأنتم لا تقولون به. وعند هذا
الكلام قالت الكرامية : إنه واحد منزه عن التركيب والتبعيض. ومع
__________________
ذلك فإنه ليس
بصغير ولا بحقير. ومعلوم أن هذا الذي ذكروه مما لا يقبله الحس والخيال البتة، بل
لا يقبله العقل البتة. لأن المشار إليه بحسب الحس. إن حصل له امتداد في الجهات
والأحياز كان أحد جانبيه مغايرا للثاني ، وذلك يوجب الانقسام ، وإن لم يحصل له
امتداد في شيء من الجهات لا في اليمين ولا في اليسار ولا في الفوق ولا في التحت
ولا في القدام ولا في الخلف ، كان نقطة غير منقسمة ، وكان في غاية الصغر والحقارة.
وإذا لم يبعد عندهم التزام كونه تعالى غير قابل للقسمة مع القول بكونه عظيما غير
متناه فكيف حكموا بأن القول بكونه تعالى ليس بمتحيز [ولا حال في المتحيز ] مدفوع في بديهة العقل. فيثبت : أن الذاهب إلى هذا القول :
متعنت. يحكم على ما كان بديهي البطلان بالصحة ، ويحكم على غير البديهي بكونه
بديهيا.
وأما الحنابلة
الذين التزموا الأجزاء والأبعاض. فهم أيضا معترفون بأن ذات الله تعالى مخالفة
لذوات هذه المحسوسات. فإنه تعالى لا يساوي هذه الذوات في قبول الاجتماع والافتراق
، وفي الصحة والمرض وفي الحياة والموت والصلابة واللين والاستئناس بالغير ،
والتوحش بسبب الوحدة. فهم معترفون بأن هذه الأشياء ممتنعة الثبوت في حق الله
تعالى. فإنا إذا قلنا لهم : لو وصل شيء إلى ذاته. فهل يمكنه أن يغوص فيه أولا
يمكنه؟ فإن أمكنه كانت ذاته بمنزلة الماء والهواء. فتتمزق وتتفرق تلك الذات وإن
تعذر عليه ذلك كانت ذاته بمنزلة الحجر الصلد. وأيضا : الحي الذي لا يأكل ولا يشرب
ولا يطيب قلبه بسبب الاستئناس بالغير ، ولا تستوحش نفسه بسبب التفرد : غير معقول.
فإن قيل للحنابلة : هذه الكلمات. قالوا : إنه تعالى يخالف خلقه. فلا يجوز أن يقاس
حاله بحال غيره. وإذا ثبت هذا فنقول : إنهم قد اعترفوا في هذا المقام : بأن حكم
الوهم والخيال غير مقبول في حق الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يمكنهم أن
يحكموا بأن حكم الوهم والخيال في أن كل موجود إما أن يكون متحيزا ، وإما أن يكون
حالا في المتحيز : يجب أن يكون مقبولا؟
__________________
وحاصل الكلام : أن
حكم الوهم والخيال في حق الله تعالى. إن كان مقبولا وجب أن يقبل على الإطلاق. وذلك
باطل بالاتفاق. وإن لم يكن مقبولا وجب أن لا يلتفت إليه البتة. فأما قبوله في بعض
المواضع ورده في سائرها فهو حكم باطل.
الحجة السادسة : أن نقول : إن معرفة [أفعال ] الله تعالى وصفاته ، أقرب إلى العقل من معرفة ذات الله
تعالى. ثم إن المشبهة وافقونا على أن معرفة [أفعال الله ومعرفة ] صفاته ، على خلاف حكم الحس والخيال.
أما تقرير هذا
المعنى في أفعال الله تعالى فذلك من وجوه : الأول : إن الذي رأيناه وشاهدناه [ليس [إلا
] تغير الصفات مثل انقلاب الماء المذاب نباتا وانقلاب النبات حيونا ] فأما حدوث الذوات والأجسام فهذا شيء ما شاهدناه وما
عرفناه البتة. الثاني : إنا لا نعقل حدوث شيء يصاغ إلا عن مادة مخصوصة وإلا في
زمان مخصوص. فإن تكون الخاتم والسوار من غير شيء يصاغ ذلك الخاتم والسوار منه ،
غير مفهوم ولا محسوس. وأيضا : فيكون حدوث الخاتم والسوار من غير زمان ووقت غير
معقول. ثم إن أرباب الملل والأديان أقروا بذلك واعترفوا به مع أنه غير موهوم ولا
محسوس. والثالث : إنا لا نعقل [فاعلا يفعل ] بعد ما لم يكن فاعلا إلا لأجل تغير حاله وتبدل صفته. ثم
إن أرباب الملل اعترفوا بأنه خالق للعالم من غير تغير شيء في صفاته ولا تبدل في
أحواله. والرابع : إنا لا نعقل فاعلا يفعل فعلا إلا لجلب منفعة أو لدفع مضرة. ثم
إنا اعترفنا بأنه تعالى خلق هذا العالم من غير شيء من هذه الأحوال. فيثبت : أن
الوهم والخيال معزولان في معرفة أفعال الله تعالى.
وأما تقرير هذا العجز في الصفات : فذلك
من وجوه :
__________________
الأول : إنا لا نعقل ذاتا يكون عالما بمعلومات لا نهاية لها على التفصيل دفعة واحدة.
فإنا إذا جربنا أنفسنا وجدنا أنها متى اشتغلت باستحضار معلوم معين ، امتنع عليها
في تلك الحالة استحضار معلوم آخر ، ثم إنا مع ذلك نعتقد بأنه تعالى عالم بجميع
المعلومات على التفصيل من غير أن يحصل في ذلك العلم اشتباه والتباس ، فكان كونه
تعالى عالما بجميع المعلومات أمرا على خلاف مقتضى الوهم والخيال.
الثاني : إن كل من فعل فعلا فلا بد له من آلة أو أداة. وأن الأفعال الشاقة تكون سببا للكلال
واللغوب والتعب. ثم إنا نعتقد أنه تعالى يدبر من العرش إلى تحت الثري مع أنه منزه
المشقة والتعب.
والثالث : إنا نعتقد أنه تعالى يسمع أصوات الخلق من العرش إلى ما تحت الثري ، ويرى
الصغير والكبير فوق أطباق السماوات العلى وتحت الأرض السفلى. ومعلوم أن الوهم والخيال
لا يتصوران هذه الأحوال. فيثبت بما ذكرنا : أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة
أفعال الله تعالى وصفاته. ومع ذلك فإنا نثبت أن أفعال الله تعالى وصفاته على
مخالفة الوهم والخيال. ومن المعلوم بالبديهة : أن معرفة كنه الذات أعلى وأجل وأغمض
من معرفة الأفعال والصفات. فلما عزلنا الوهم والخيال في المقام الأقرب الأظهر ،
فلأن نعزلهما في المقام الأغمض الأصعب كان أولى.
الحجة السابعة : إن العقول والأفهام اضطربت في معرفة جوهر النفس الإنسانية ، مع أنا بينا في
أول هذا الكتاب : أنها أظهر المعلومات وأقربها إلى العقل والعلم والفهم. ولما عجزت
النفس عن معرفة نفسها فلأن تعجز عن معرفة خالق الكل ـ مع أنه لا نزاع في كونه
مخالفا لجميع المخلوقات بالحقيقة والماهية ـ كان أولى. بل نقول : الإنسان حال ما
يكون يقظان فإنه لا يمكنه الوقوف على شيء من أحوال عالم الغيب. فإذا نام وزال عقله
واستولت الغفلة على جسده قدر على الاتصال بعالم الغيب والاستفادة من تلك الأسرار.
وذلك
__________________
على خلاف حكم
الوهم والخيال لأن الإنسان حال اليقظة أكمل منه حال النوم. فلما عجز عن معرفة
الغيب حال كماله فلأن يعجز عنها حال كماله في الغفلة والنقصان كان ذلك أولى.
فعلمنا : أن حكم الوهم والخيال قد يكون باطلا مردودا.
الحجة الثامنة : إنا نبصر الأشياء. إلا أن القوة الباصرة نفسها وكذلك القوة الخيالية تتخيل
الأشياء إلا أن هذه القوة لا يمكنها أن تتخيل نفسها ، فوجود القوة الباصرة والقوة
الخيالية يدل على أنه لا يجب أن يكون كل شيء محسوسا متخيلا.
الحجة التاسعة : أن نقول : المكان والزمان [موجودان. ولم يحصلا البتة في المكان والزمان. فقد
يثبت وجود لا يحيط به المكان والزمان ] فنفتقر هاهنا إلى بيان أمرين : الأول : إن الزمان والمكان
[موجودان ] ونقول : أما المكان فالمراد منه الفضاء والخلاء الذي يحصل
الجسم فيه. والدليل عليه : أنا إذا فرضنا أن الجبل قد انقلع من موضعه وانتقل
بكليته إلى جانب آخر ، فإن المنتقل هو الجبل. وأما تلك الجهة التي كان الجبل حاصلا
فيها فإنها لم تنتقل البتة. والعلم بذلك ضروري. إذا ثبت هذا فنقول : تلك الجهة
موجود من الموجودات. والدليل عليه : أن تلك الجهة مغايرة لما سواها من الجهات
بالعدد وبالإشارة الحسية. ولذلك فإنا نقول : إن هذا الجبل انتقل من تلك الجهة إلى
جهة أخرى ولو لا أن الجهة الأولى مغايرة للجهة الثانية وإلا لكان انتقال الجبل من إحداهما
إلى الأخرى محالا.
والذي يقوله المتكلمون : إن الجهة
والحيز لا وجود لها في
أنفسها وإنما هي أمور يفرضها العقل ويقدرها الوهم. فهو كلام باطل. وذلك لأن هذا
الانتقال حاصل في نفس الأمر ، سواء وجد العقل والذهن أو لم يوجد. وإذا كان كذلك
وجب أن تكون الجهة موجودة في نفسها سواء وجد الذهن أو لم يوجد. فثبت
__________________
أن الفضاء والخلاء
أمر موجود. وظاهر أنه ليس مكانا آخر ، وإلا لزم التسلسل. فقد حصل في الوجود موجود
ليس حاصلا في المكان والحيز. وأما الزمان فهو أيضا موجود. والدليل عليه: هو أنا
نقسمه إلى السنين ، ونقسم السنين إلى الشهور ، ونقسم الشهور إلى الأيام. ونقسم
اليوم إلى الساعات. ونحكم بأن الساعة الواحدة أقل قدرا من اليوم ، الذي هو أقل من
الشهر ، الذي هو أقل من السنة. والعدم المحض والنفي الصرف ، يمتنع كونه قابلا
للتقسيم إلى الأجزاء ، ويمتنع وصفه بكونه أقل من الأجزاء أو أكثر منها. فيثبت أنه
شيء موجود.
وذلك الموجود إما
أن يكون متحيزا أو حالا في المتحيز ، أولا متحيزا ولا حالا في المتحيز ويمتنع كونه
متحيزا وإلا لكان شيء يكون أقرب إلى ذلك المتحيز ، كان أقرب إلى الزمان ، وكل ما
كان أبعد عن ذلك المتحيز ، كان أبعد من الزمان. ومعلوم بالضرورة : أن ذلك باطل
قطعا. لأن الأشياء الموجودة في هذا اليوم [وليس بعضها في المفهوم من الحضور في هذا
اليوم ] أكمل من بعض ، والعلم به ضروري. وبهذا الطريق ثبت أيضا : أنه يمتنع أن يكون
عرضا حالا في المتحيز ، وإذا بطل هذان القسمان ، ثبت أن الزمان والمدة موجود من
الموجودات مع أنه غير متحيز ولا حال في المتحيز. وذلك هو المطلوب.
واعلم : أنك إذا
تأملت ما لخصناه في مسألة الخلاء والمدة في هذا الكتاب ، ووقفت على مذاهب الناس
فيهما ، ووقفت على أن الحق هو القول بإثبات الخلاء ، وعلى أن الحق هو أن المدة ليس
بمتحيز ولا حركة ، ولكنه موجود مجرد. عرفت قطعا أن القول بإثبات موجود مجرد عن
الجسمية : أمر واجب الاعتراف به. وهذا الوجه أقوى الوجوه المذكورة في هذا الباب.
الحجة العاشرة : إن المجسم يقول : كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر
، سريان العرض في الجسم ، أو يكون مباينا عنه بجهة
__________________
من الجهات. فأما
إثبات موجودين لا يكون أحدهما ساريا في الآخر ، ولا يكون مباينا عنه بجهة [من
الجهات فهذا مما لا يقبله العقل ].
وأما الدهري فإنه يقول : كل موجودين ، فلا بد وأن يوجدا معا ، أو أن يوجد أحدهما
قبل الآخر. والذي يكون قبل الآخر ، إما أن [لا ] توجد بينهما فاصلة بمدة متناهية ، أو فاصلة بمدة غير
متناهية. إذا ثبت هذا التقسيم ، فنقول : الباري والعالم. إن وجدا معا ، لزم أن
يكونا قديمين معا ، أو محدثين معا. فأما القول بقدم الله تعالى وحدوث العالم على
هذا التقدير : فهو غير مقبول ، وأما القول بكون العالم محدثا ، مع أن الله تقدمه [من
غير فاصلة ] أو تقدمه [بمدة غير ] متناهية. فهذا أيضا يقتضي حدوث [ذات ] الله تعالى ، وأما القول بكون العالم محدثا ، مع أن الله
تقدمه بمدة غير متناهية. فهذا يقتضي قدم المدة والزمان. وأما فرض كونه تعالى
متقدما على العالم ، لا على أحد هذه الأقسام ، فذاك مما لا يقبله العقل.
فالحاصل : أن المجسم لا يمكنه أن يعقل كونه تعالى مباينا للعالم إلا بالحيز والجهة. والدهري لا
يعقل كونه تعالى متقدما على العالم إلا بالمدة والزمان. ثم إن المجسم مقر بأن الذي يقوله
الدهري من عمل الوهم والخيال. وأنه في نفسه ليس بحق . والدهري معترف بأن الذي يقوله المجسم من عمل الوهم
والخيال. وأنه في نفسه كاذب. فصار قول كل واحد منهما معارضا بقول الآخر ، ويظهر منه
بطلان كلا القولين وأن الحق : أنه تعالى مباين للعالم لا بسبب الحيز والجهة. وأنه
تعالى سابق على العالم لا بسبب المدة والزمان. بل نقول : إن الجهة المعينة مباينة
لسائر الجهات لا بسبب الحيز والجهة ، والزمان المعين مباين لسائر الأزمنة لا بسبب
المدة والزمان. فإن الزمان غير حاصل في زمان آخر. وإذا كان الأمر كذلك في الجهة
وفي المدة. فبأن
__________________
يكون خالق الجهة
والمدة منزها عن المباينة بالمكان والجهة ، ومنزها عن السبق على العالم بالزمان
والمدة كان أولى. ولهذا قال الإمام الأجل علي بن أبي طالب عليهالسلام : «الذي أيّن الأين. لا يقال له : أين؟ والذي كيف الكيف ،
لا يقال له : كيف؟» ونقل عن الفيلسوف أرسطاطاليس أنه كتب في أول كتابه في الإلهيات
: «من أراد أن يشرع في المعارف الإلهية ، فليستحدث لنفسه فطرة أخرى» ومراده : أن
الإنسان ألف أحكام الوهم والخيال ، والمباحث الإلهية لا يوافقها أحكام الأوهام
والخيالات. فلهذا السبب وجب على هذا الطالب استحداث فطرة أخرى.
فهذا جملة الكلام
في بيان أن ادعاء البديهة في نفي موجود ، لا يكون موجودا داخل العالم ولا خارجه :
قول باطل.
وأما القائلون بأن
هذه المقدمة بديهية. فقد يذكرون في تقريرها عبارات مختلفة.
فالعبارة الأولى : قالوا : إنه تعالى خلق العالم في ذاته أو خارج ذاته أولا في ذاته
ولا خارج ذاته؟ والأول باطل وإلا لزم أن تكون ذاته مخالطة لهذه الأجسام المستقذرة.
والثاني يوجب القول بأنه تعالى مباين للعالم بالحيز والجهة. وأما الثالث وهو أنه
تعالى خلق هذا العالم لا في ذاته ولا خارج ذاته فهذا. قول لا يقبله العقل البتة
فكان باطلا.
والعبارة الثانية : قالوا : الموجودان لا يعقلان إلا أن يكون أحدهما ساريا في الآخر.
مثل العرض والجوهر ، أو مباينا عنه في جهة من الجهات الست ، مثل الجوهرين
والجسمين. فأما القسم الثالث وهو أن لا يكون أحدهما ساريا [في الآخر ، ولا ] مباينا عنه بشيء من الجهات فهذا مما لا يقبله العقل.
والعبارة الثالثة : قالوا : إن صريح العقل حاكم بأن الشيء إذا لم يكن حاصلا في هذه الجهة
البتة ، ولم يكن حاصلا في شيء من الجهات الست
__________________
المحيطة بنا. كان
هذا نفيا لوجوده ، وحكما بكونه عدما محضا وسلبا صرفا. ولذلك فإنا إذا قلنا : إن
فلانا لم يوجد في الدار ولم يوجد خارج الدار : كان هذا نفيا لوجوده ، وإذا كان لا
طريق إلى تقرير النفي المحض والسلب الصرف إلا هذا ، ثبت أنا لو نفينا كونه تعالى
على أحد هذه الوجوه فإنه يلزم منه [نفي ] وجوده.
فهذه جملة كلمات
الخصوم في تقرير أن هذه المقدمة بديهية.
واعلم أنه إن كان
المقصود من هذه الكلمات : ادعاء أن إثبات موجود لا في داخل العالم ولا في خارج
العالم قول معلوم الفساد بالضرورة والبديهة. فنحن قد بينا بالوجوه العشرة الكاملة
أن ادعاء البديهة هاهنا فاسد باطل. وإن كان المقصود منها ذكر الدليل على وجوب كون الله تعالى في الجهة. فنقول : هذا باطل لأن بتقدير أن
يكون الحق هو أن الله تعالى غير مختص بالحيز والجهة أصلا. فهل يصح على هذا التقدير
أن يقال : إنه تعالى خلق العالم في ذاته أو خارج ذاته؟ لا أظن أن العاقل يحكم بصحة
هذا التقسيم على تقدير سبق الاعتقاد بأنه مختص بالحيز والجهة أصلا. لأن على هذا
التقدير يكون الحق هو أنه تعالى خلق العالم لا في ذاته ولا مباينا عن ذاته بالحيز
والجهة. فيثبت : أن قوله : إنه تعالى خلق العالم في ذاته أو خارج ذاته ، إنما يظهر
كونه حقا بتقدير أن يثبت أنه يجب كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة. فلو أثبتنا صحة
هذه المقدمة بالبناء على تلك المقدمة لزم توقيف الدليل على المدلول وتوقيف المدلول
على الدليل ، وأنه يوجب الدور. والدور الباطل. فيثبت أنه إن كان مقصودهم من تلك
الكلمات مجرد ادعاء البديهة فهو باطل قطعا. لأن الشيء المختلف فيه بين العقلاء
قديما وحديثا. كيف يمكن ادعاء البديهة فيه؟ لا سيما وجمهور العقلاء المحققين مصرون
على فساده ، وإما إن كان مقصودهم منه ذكر الدليل فهو يوجب الدور ، لأجل أن هذه
المقدمة لا يمكن الاعتراف بصحتها إلا بعد إثبات هذا المطلوب ، فلو حاولنا إثبات
هذا المطلوب بتلك المقدمة لزم الدور. وهذا كلام
__________________
واف بالكشف عن
حقيقة الحال في هذه المباحث.
أما الشيخ الرئيس
أبو علي ابن سينا فإنه سلم أن الجزم بهذه المقدمة حاصل. إلا أنه زعم أن الجازم بها
هو الوهم لا العقل. وزعم أن حكم الوهم في غير المحسوسات غير موثوق به.
ولقائل أن يقول :
إما أن تقولوا : إن الجزم الحاصل [في هذه المقدمة يساوي الجزم الحاصل ] في سائر البديهيات. كقولنا : الواحد نصف الاثنين ، وأن
النفي والإثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان. وإما أن تنكروا هذه المساواة. فإن ذهبتم
إلى القسم الأول ، وهو : إذا كانت قوة الجزم في الصورتين بالتساوي. فالعلم بكون
إحداهما حقة والأخرى باطلة ، إما أن يكون علما ضروريا أو نظريا. فإن كان العلم
الضروري بالفرق بينهما حاصلا ، كان ذلك مانعا من حصول الجزم القوي لكل واحد منهما
، وأن كان الفرق لا يعرف إلا بالنظر والدليل ، فحينئذ تصير صحة البديهيات موقوفة [على
الدليل ، إلا أن صحة الدليل موقوفة ] على البديهيات فيلزم الدور وهو باطل. وإما إن ذهبتم إلى
القسم الثاني وهو أن الجزم بهذه القضية ليس في القوة والشدة [مثل جزم العقل
بالبديهيات فحينئذ تخرج هذه القضية عن أن يكون مجزوما بها ابتداء.
وذلك يوجب سقوطها بالكلية [فهذا تمام الكلام في هذا الباب ]
__________________
الفصل الثاني
في
بيان أنه لا يجب أن
يكون لكل موجود نظير وشبيه.
وانه ليس يلزم من نفي
النظير والشبيه نفي ذلك الشيء
الذي يدل على صحة
قولنا وجوه :
الحجة الأولى : إن بديهة العقل لا تستبعد وجود موجود موصوف بصفات مخصوصة، بحيث يكون كل ما
سواه مخالفا له في تلك الخصوصية. وإذا لم يكن هذا ممتنعا في البديهة ، علمنا : أنه
لا يلزم من عدم نظير الشيء ، عدم ذلك الشيء.
الحجة الثانية : وهي أن وجود الشيء أما أن يتوقف على وجود مثله ، أو لا يتوقف. والأول
باطل. لأنهما لما كانا مثلين وجب استواؤهما في جميع اللوازم ، فلو توقف وجود هذا ،
على وجود مثله ، لزم أن يتوقف وجود الثاني ، على وجود الأول ، فيلزم أن يتوقف وجود
كل واحد منهما على وجود نفسه. وذلك محال في البديهة.
الحجة الثالثة : إن تعين كل شيء من حيث أنه هو هو ، مغاير لأصل الماهية المشترك فيها ، بين
تلك الأشخاص. ثم نقول : إن تعين هذا الشيء المعين ، ممتنع الحصول في غيره [وإلا
لكان ذلك الشيء نفس غيره ، وذلك باطل في بديهة العقل فيثبت : أن تعين كل شيء من
حيث إنه هو ممتنع الحصول في غيره ] فعلمنا : أن عدم النظير والمساوي لا يدل على عدم الشيء.
فظهر
__________________
بهذا فساد قول من
يقول : إنه [لا علينا أن ] نعقل وجود موجود لا يكون متصلا بالعالم ولا منفصلا عنه ،
إلا إذا وجدنا له نظيرا. فإن عندنا الموصوف بهذه الصفة ليس إلا الله تعالى. وبينا
: أنه لا يلزم من عدم النظير أو الشبيه ، عدم ذلك الشيء. فيثبت : أن هذا الكلام
ساقط بالكلية.
__________________
الفصل الثالث
في
إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع أن يكون جسما
لأهل العالم في
هذا الباب قولان : فالجمهور الأعظم منهم اتفقوا على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن
الجسمية ، والحصول في الحيز. وقال الباقون : إنه متحيز ، وحاصل في الحيز. وهؤلاء
هم المجسمة. ثم القائلون بأنه جسم اختلفوا في أشياء.
فالأول : إنهم في الصورة على قولين. منهم من قال : إنه على صورة الإنسان. ومنهم من لا
يقول به. أما الأول فالمنقول عن مشبهة المسلمين : أنه تعالى على صورة إنسان شاب.
والمنقول عن مشبهة اليهود : إنه على صورة إنسان شيخ.
__________________
وأما الذين يقولون
إنه ليس على صورة الإنسان فهم يقولون : إنه على صورة نور عظيم. وذكر أبو معشر
المنجم : أن سبب إقدام الناس على عبادة الأوثان : أن الناس في الدهر الأقدم كانوا
على مذهب المجسمة. وكانوا يعتقدون : أن إله العالم نور عظيم ، وأن الملائكة أنوار
إلا أنهم أصغر جثة من النور الأول. ولما اعتقدوا ذلك اتخذوا وثنا ـ وهو أكبر
الأوثان ـ على صورة الإله ، وأوثانا أخرى أصغر من ذلك الوثن ، على صور مختلفة ـ وهي
صور الملائكة ـ واشتغلوا بعبادتها على اعتقاد أنهم يعبدون الإله والملائكة.
فثبت : أن دين
عبدة الأصنام كالفرع على قول المشبهة.
والموضع الثاني من مواضع الاختلافات :
أن المجسمة اختلفوا
في أنه هل يصح عليه الذهاب والمجيء ، والحركة والسكون؟ فأباه بعض الكرامية ،
وأثبته قوم منهم. وجمهور الحنابلة يثبتونه.
والموضع الثالث : القائلون بأنه نور ينكرون الأعضاء والجوارح مثل : الرأس واليد
والرجل. وأكثر الحنابلة يثبتون هذه الأعضاء والجوارح.
الموضع الرابع : اتفق القائلون بالجسمية والحيز على أنه في جهة فوق. ثم إن هذا المذهب
يحتمل وجوها ثلاثة [لأنه تعالى ] إما أن يكون ملاقيا للعرش ، أو مباينا للعرش ببعد متناه ،
أو مباينا عنه ببعد غير متناه. وقد ذهب إلى كل واحد من هذه الأقسام ذاهب.
الموضع الخامس : إن القائلين بالجسمية والحيز ، اتفقوا على أنه متناه من جهة التحت. فأما في سائر
الجهات الخمس. فقد اختلفوا فمنهم من قال إنه متناه من كل الجهات. ومنهم من قال :
إنه متناه من جهة التحت ، وغير متناه
__________________
من سائر الجهات.
ومنهم من قال : إنه [غير] متناه من جهة الفوق [وغير] متناه من سائر الجهات.
الموضع السادس : إنه تعالى حاصل في ذلك الحيز المعين لذاته. أو لأجل معنى قائم به،
يقتضي حصوله في الجهة المعينة؟ وهو مثل اختلافهم في أنه تعالى عالم لذاته ، أو
عالم بالعلم؟ وهذا هو التنبيه على مواضع الخلاف والوفاق.
الموضع السابع : إن العلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام ، حالة في جميع أجزاء ذلك
الجسم بالسوية ، أو يكون لكل واحد من هذه الصفات جزء معين من ذلك الجسم يكون ذلك
الحيز محلا لتلك الصفة بعينها؟ ذهب إلى كل واحد من هذين القولين ذاهب.
والذي يدل على أنه تعالى منزه عن
الجسمية والحجمية وجوه :
الحجة الأولى : لا شيء من واجب الوجود لذاته بممكن الوجود لذاته ، وكل متحيز فإنه
ممكن الوجود لذاته ، ينتج فلا شيء من واجب الوجود لذاته بمتحيز [أما الصغرى
فبديهية ، وأما الكبرى فلأن كل متحيز مركب ، وكل مركب ممكن لذاته ، ينتج : أن كل
متحيز ممكن لذاته] .
وإنما قلنا : إن كل متحيز مركب لوجوه :
الأول : إن كل متحيز فإن يمينه مغاير ليساره ، وكل ما كان كذلك فهو مركب ، ينتج: أن
كل متحيز مركب. وتمام القول فيه مقرر بالدلائل المذكورة في نفي الجوهر الفرد.
والثاني : قالت الفلاسفة : كل جسم فهو مركب من الهيولى والصورة.
__________________
الثالث : [كل متحيز] فإنه يشارك سائر المتحيزات في كونه متحيزا ، ويخالفها
بتعينه ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة ، فوجب أن يكون كل فرد من أفراد
المتحيزات مركبا من عموم التحيز ، الذي به المشاركة ، ومن ذلك التعين الذي به
المخالفة.
فيثبت بهذه الوجوه
الثلاثة : أن كل متحيز مركب.
أما بيان أن كل
مركب فهو ممكن. فلأن كل مركب فإنه مفتقر إلى حيزه ، وحيزه غيره ، فكل مركب فإنه
مفتقر إلى غيره ، وكل مفتقر إلى غيره ، فهو ممكن لذاته ، ينتج أن كل مركب ممكن
لذاته. فقد بان : أن كل جسم [مركب ، وينج أن كل جسم ممكن لذاته ، فيثبت : أنه لا
شيء من واجب الوجود ] ممكن لذاته. فيثبت : أن كل جسم ممكن لذاته، ينتج أنه لا
شيء من واجب الوجود لذاته بجسم. وهو المطلوب.
الحجة الثانية : لو كان متحيزا لكان مثلا لسائر المتحيزات [في تمام الماهية وهذا محال
فذاك محال. بيان الأول : أنه لو كان متحيزا ، لكان مساويا لسائر المتحيزات ] في كونه متحيزا. ثم بعد هذا لا يخلو إما أن يقال : إنه
يخالف سائر الأجسام في شيء من مقومات ماهيته ، وإما أن لا يكون كذلك ، والأول باطل
، فيبقى الثاني. وإنما قلنا : إن الأول باطل، لأنه إذا كان مساويا لسائر المتحيزات
في كونه متحيزا ، ومخالفا لها في شيء من مقومات تلك الماهية. وما به المشاركة غير
ما به المخالفة ، فكان عموم كونه متحيزا مغايرا لتلك الخصوصية التي وقعت بها
المخالفة. إذا ثبت هذا فنقول : هذان الأمران إما أن يكون كل واحد منهما صفة للآخر
وإما أن لا يكون كل واحد منهما صفة للآخر. وإما أن يكون ما به المخالفة موصوفا ،
والمتحيز الذي به المشاركة صفة. وإما أن يكون بالعكس منه ، وهو أن يكون المتحيز
موصوفا ، وما به المخالفة يكون صفة.
__________________
والأقسام الثلاثة
الأولى باطلة ، فبقي الرابع. وذلك يفيد القول بأن الأجسام متماثلة في تمام
الماهية. وإنما قلنا : إن القسم الأول باطل ، لأن ذلك يقتضي : أن يكون كل واحد
منهما ذاتا مستقلة بنفسها ، ومع ذلك فيكون صفة مفتقرة إلى غيرها ، وذلك باطل. وإنما
قلنا : إن القسم الثاني باطل ، لأن على هذا التقدير يكون كل واحد منهما ذاتا
مستقلة بنفسها ، ولا يكون [لواحد منها ] تعلق بالآخر. وكلا منا ليس [٧ لا] في الذات الواحدة. وإنما قلنا : إن القسم الثالث باطل لأنا
إذا فرضنا أن ما به المخالفة هو الذات ، وما به المشاركة ـ وهو التحيز ـ هو الصفة.
فنقول : إن الذي به المخالفة إما أن يكون مختصا بالحيز والجهة ، وإما أن لا يكون
فإن كان الأول فهو جسم متحيز فيلزم أن يكون جزء ماهية الجسم جسما ، وهو محال. وإن
كان الثاني امتنع حصول المتحيز فيه. لأن ذلك الشيء لا حصول له في شيء من الأحياز ،
والمتحيز واجب الحصول في الحيز ، وحصول ما يكون واجب الحصول في الحيز ، في شيء ،
يكون ممتنع الحصول في الحيز. وذلك من محالات العقول فيثبت بما ذكرنا : فساد
الأقسام الثلاثة. فلم يبق إلا الرابع ، وهو أن يكون ما به المشاركة وهو المتحيز
ذاتا وما به المخالفة صفة. فإذا كان المفهوم من المتحيز مفهوما واحدا. فحينئذ تكون
المتحيزات متماثلة في تمام الماهية والذات. فيثبت بما ذكرنا : أنه لو كان متحيزا لكان
مثلا لسائر المتحيزات في تمام الماهية والذات. وإنما قلنا : إن ذلك محال.
لوجوه : الأول : إن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب استواؤها في اللوازم والتوابع. فإما
أن تكون جميع الأجسام غنية عن الفاعل ، وإما أن تكون جميعها محتاجة إلى الفاعل
[والأول باطل لأنا دللنا على أن العالم محدث محتاج إلى الفاعل ] فيتعين الثاني. فيثبت : أن كل متحيز فهو محتاج إلى الفاعل
،
__________________
فخالق الكل يمتنع
أن يكون متحيزا.
الثاني : إن اختصاص ذلك الجسم بالعلم والقدرة والإلهية إما أن يكون من الواجبات، أو من
الجائزات. والأول باطل ، وإلا لزم أن تكون كل الأجسام موصوفة بتلك الصفات على سبيل
الوجوب ، لما أنه ثبت : أن الأفراد الداخلة تحت النوع يجب كونها متساوية في جميع
اللوازم ، والثاني باطل. وإلا لزم أن لا يحصل في ذلك الجسم المعين : هذه الصفات.
إلا بجعل جاعل وتخصيص مخصص. فإن كان ذلك الجاعل جسما ، عاد الكلام فيه. ولزم إما
التسلسل وإما الدور. وإن لم يكن جسما فهو المطلوب.
والثالث : [إن الأجسام ] لما كانت متماثلة ، فلو فرضنا بعضها قديما ، وبعضها محدثا
لزم المحال. ذلك لأن كل ما صح على الشيء صح على مثله. فيلزم جواز أن ينقلب القديم
محدثا ، وأن ينقلب المحدث قديما. وذلك محال ، معلوم الامتناع بالبديهة.
والرابع : إنه كما صح التفرق والتمزق على سائر الأجسام ، وجب أن يصحا على ذلك الجسم ،
وكما صحت الزيادة والنقصان ، والعفونة والفساد على سائر الأجسام ، وجب أن يصح كل
ذلك عليه. ومعلوم أن ذلك باطل محال.
الخامس : إن الأجزاء المفترضة في ذلك المجموع تكون متساوية في تمام الماهية. ولا شك أن
بعض تلك الأجزاء وقع في العمق ، وبعضها في السطح وكل ما صح على الشيء صح على مثله
، فالذي وقع في العمق يمكن أن يقع في السطح وبالعكس. وإن كان الأمر كذلك ، كان
وقوع كل جزء على الوجه الذي وقع عليه ، لا بد وأن يكون بتخصيص مخصص ، وبجعل جاعل. وذلك
على إله العالم : محال.
__________________
واعلم : أن هذه
الحجة قوية. إلا أنها توجب صحة الخرق والالتئام على الفلك. والفلاسفة لا يقولون
به.
الحجة الثالثة : لو كان متحيزا لكان متناهيا ، وكل متناه ممكن. وواجب الوجود ليس بممكن ، فالمتحيز
لا يكون واجب الوجود لذاته. أما بيان أن كل متحيز فهو متناه ، فللدلائل الدالة على
تناهي الأبعاد ، وأما أن كل متناه ممكن ، فلأن كل مقدار فإنه يمكن فرض كونه أزيد
منه قدرا ، وأنقص منه قدرا.
والعلم بثبوت هذا
الإمكان ضروري. فيثبت : أن كل متحيز ممكن ، ويثبت أن واجب الوجود ليس بممكن ، ينتج
: فلا شيء من المتحيزات بواجب الوجود ، وينعكس فلا شيء من واجب الوجود بمتحيز.
الحجة الرابعة : لو كان متحيزا لكان مساويا لسائر المتحيزات ، في كونه متحيزا. وإما أن
يخالفها بعد ذلك في شيء من المقومات ، وإما ألا يكون كذلك وعلى التقدير الأول يكون
المتحيز جنسا تحته أنواع وعلى التقدير الثاني يكون نوعا تحته أشخاص.
ونقول : الأول
باطل. وإلا لكان واجب الوجود ، مركبا من الجنس ، وهو المتحيز ، ومن الفصل وهو
المقوم الذي به يمتاز عن غيره ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود
لذاته. هذا خلف. والثاني أيضا باطل ، وهو أن يكون المتحيز نوعا تحته أشخاص ، وذلك
لأن المفهوم من المتحيز قدر مشترك بين كل الأشخاص وتعين كل واحد منها غير مشترك
بينه وبين الأشخاص ، فتعين كل واحد منها زائد على طبيعته النوعية ، والمقتضى لذلك
التعين المعين إن كان هو تلك الماهية ، أو شيء من لوازمها ، وجب أن يكون ذلك النوع
مخصوصا بذلك الشخص ، لكنا فرضناه مشتركا فيه بين الأشخاص.
هذا خلف.
وإن كان أمرا
منفصلا ، فكل شخص من أشخاص الجسم المتحيز ، إنما يتعين بسبب منفصل. فلا يكون واجب
الوجود لذاته .
فثبت : أن كل جسم
فهو ممكن لذاته ، وما لا يكون ممكن الوجود لذاته ، امتنع أن يكون جسما.
الحجة الخامسة : لو كان جسما ، لجاز عليه التفرق والتمزق ، وهذا محال. [فذاك
محال ] بيان الملازمة : أنه إذا كان مركبا من الأجزاء ، وجب انتهاء تحليل تلك
الأجزاء إلى أجزاء يكون كل واحد منها في نفسه بسيطا ، مبرأ عن التركيب والتأليف ،
وإذا كان [كذلك كان ] طبع يمينه مساويا. لطبع يساره ، وإلا لصار مركبا.
وإذا ثبت مساواة
الجانبين في الطبيعة والماهية ، فكل ما كان ممسوسا بجانب يمينه ، وجب أن يصح كونه
ممسوسا بجانب يساره ، ضرورة أن كل ما صح على شيء ، فإنه يصح أيضا على مثله ، وإذا
كان كذلك ، فكما صح على ذلك الجزء ، أن يماس الجزء الثاني ، بأحد وجهيه ، وجب أن [يصح
عليه أن ] يماسه بالوجه الثاني. وإذا ثبت جواز ذلك ، ثبت جواز صحة
التفرق والتمزق عليه.
وإنما قلنا : إن
ذلك محال ، لأنه لما صح الاجتماع والافتراق على تلك الأجزاء ، لم يترجح الاجتماع
على الافتراق إلا بسبب منفصل ، فيلزم افتقاره في وجوده إلى السبب المنفصل. وواجب
الوجود [لذاته ، يمتنع أن يكون كذلك ، فيثبت أن واجب الوجود لذاته ليس جسما.
الحجة السادسة :] لو كان متحيزا
لكان جسما ، لأنه لم يقل أحد من
__________________
العقلاء بأنه في
حجم الجوهر الفرد ، وإذا كان جسما كان مركبا من الأجزاء ، فإما أن يكون الموصوف
بالعلم والقدرة والصفات المعتبرة في الإلهية : جزءا واحدا من تلك الأجزاء ، وإما
أن يكون الموصوف بتلك الصفات مجموع تلك الأجزاء. فإن كان الأول كان الإله هو ذلك
الجزء الواحد ، منفردا فيعود الأمر إلى ما ذكرناه من أن الإله يكون في حجم الجوهر
الفرد، وإن كان الثاني فنقول : إما أن تقوم الصفة الواحدة بجميع تلك الأجزاء ،
وإما أن تتوزع أجزاء تلك الصفة على تلك الأجزاء ، وإما أن يقوم بكل واحد من تلك
الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، والأول باطل. لأن قيام الصفة الواحدة بالمحال
الكثيرة غير معقول والثاني محال لأن كون العلم قابلا للقسمة محال على ما بيناه في
مسألة إثبات النفس. والثالث أيضا محال ، لأنه يلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء
موصوفا بجملة الصفات المعتبرة في الإلهية. وذلك يوجب تعدد الآلهة ، وذلك محال. فإن
قيل : ما ذكرتموه من الدليل قائم في الانسان ، فإن مجموع بدنه لا شك أنه مركب من
الأجزاء الكثيرة ، فيلزم أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة ، وقدرة على
حدة ، فيلزم أن يكون الإنسان الواحد علماء ، قادرين كثيرين. وذلك باطل. قلنا : أما
الفلاسفة فقد طردوا قولهم في الكل وزعموا : أن الموصوف بالعلم والقدرة هو النفس لا
الجسم ، وإلا لزم هذا المحال.
وأما الأشعري فإنه
التزم كون كل واحد من أجزاء الإنسان عالما قادرا حيا ، وذلك في غاية البعد ، إلا
أن التزامه وإن كان بعيدا ، لكن لا يلزم منه محال ، أما التزام ذلك في حق الله
تعالى ، فهو محال. لأنه يوجب القول بتعدد الآلهة. [وهو محال ].
الحجة السابعة : لو كان جسما لكان إما أن تكون الحركة جائزة عليه ، وإما أن لا تكون.
والقسمان باطلان فالقول بكونه متحيزا باطل. بيان أن الحركة ممتنعة عليه : أنه لو
جاز في الجسم الذي تصح الحركة عليه أن يكون إلها
__________________
فلم لا يجوز أن
يكون إله العالم هو الشمس والقمر؟ لأن الأفلاك والكواكب ليس فيها عيب، يمنع من
كونها آلهة ، إلا أمورا ثلاثة ، وهي كونها مركبة من الأجزاء ، وكونها محدودة
متناهية ، وكونها قابلة للحركة والسكون. وإذا لم تكن هذه الأشياء مانعة من الإلهية
، فكيف يمكن الطعن في إلهية الشمس والقمر؟ بل في إلهية العرش والكرسي. وذلك عين
الكفر والإلحاد ، وإنكار الصانع. وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إن إله العالم
جسم. ولكن الانتقال والحركة عليه محال. فنقول : هذا باطل من وجوه : الأول : إن هذا
يكون كالزمن المقعد ، الذي لا يقدر على الحركة وذلك
نقص وهو على الله محال. والثاني : إنه تعالى لما كان جسما ، كان مثلا
لسائر الأجسام ، فكانت الحركة جائزة عليه. والثالث : إن القائلين بكونه جسما مؤلفا من الأجزاء والأبعاض ، لا يمتنعون من
تجويز الحركة عليه. فإنهم يصفونه تعالى بالذهاب والمجيء ، فتارة يقولون : إنه جالس
على العرش ، وقدماه على الكرسي ، وهذا هو السكون. وتارة يقولون : إنه ينزل إلى
السماء الدنيا وهذا هو الحركة. فهذا جملة الدلائل الدالة على أنه تعالى ليس بجسم . والله أعلم.
__________________
الفصل الرابع
في
إقامة الدلائل على أنه يمتنع كونه جوهرا
اعلم : أن الجوهر قد يراد به أحد أمور
أربعة : الأول : إنه المتحيز الذي لا يقبل القسمة. وهو بناء على إثبات الجوهر الفرد ، ومن لم يقل به
، يسقط عنه هذا البحث ، ومن قال به قال : إن الجواهر كلها متماثلة ، فلو كان واحد
منها قديما ، واجب الوجود لذاته ، كانت كلها كذلك.
وهو محال. والتفسير الثاني للجوهر : إنه الذي يصح طريان الأعراض عليه. فإذا دللنا على أن واجب الوجود
لذاته ، يجب أن يكون واجب الوجود في جميع صفاته ، كان ذلك دليلا على امتناع التغير
عليه. والتفسير الثالث للجوهر : هو الذي يضاف إليه شيء آخر ، فيحصل من تركيبه مع غيره شيء ثالث. وذلك أيضا محال
لأن تركيبه مع غيره موقوف على كونه متحيزا
في نفسه ، وذلك محال. والتفسير الرابع : قال الشيخ الرئيس أبو علي : «الجوهر هو الماهية التي إذا وجدت
في الأعيان كانت لا في موضع». وقد بالغنا في شرح هذا التعريف في باب الجوهر والعرض
، إلّا أن هذا التعريف لا يصدق إلّا على الماهية التي يكون وجودها مغايرا
لماهيتها. قال الشيخ الرئيس : «وهذا في حق الله محال». لأنا قد دللنا : على أن
وجود الله تعالى عين ماهيته.
وأعلم أن هذه
المسألة قد تقدم القول فيها على الاستقصاء. وهو بحث
لفظي محض ، لأن من
يقول : وجوده عين ماهيته ، يقول : إن عنيت بكونه جوهرا ، هذا القدر فليس فيه إلا [إلزام
الشيء على ] نفسه وهو محال. والله أعلم.
__________________
الفصل الخامس
في
بيان أنه يمتنع أن يكون واجب الوجود
مختصا بمكان وحيّز
نقول : إن الذي يدل
على أن الأمر كذلك وجوه :
الحجة الأولى : لو كان مشارا إليه بالحس ، لكان إما أن يكون منقسما بحسب الإشارة الحسية ،
وأما أن لا يكون. والقسمان باطلان. فالقول بكونه في المكان والجهة : باطل. أما
الحصر فظاهر ، وأما أنه يمتنع أن يكون قابلا للقسمة : فلأنه يلزم أن يكون جسما
مؤلفا من الأجزاء ، وقد أبطلناه. وأما بيان أنه يمتنع كونه غير قابل للقسمة فلوجوه
:
الأول : إن كل متحيز فإن يمينه غير يساره. وكل ما كان كذلك فهو منقسم.
والثاني : إن أحدا من العقلاء لم يقل : إن إله العالم بلغ في الصغر والحقارة إلى حد
الجوهر الفرد.
والثالث : إنه لو جاز ذلك لم يمتنع أن يكون ذرة من الذرات الواقعة من الجوهر :
إله العالم. ومعلوم أنه [باطل بالبديهة ، فثبت أنه ] لو كان مشارا إليه بحسب الحس لكان إما أن يكون منقسما ،
أو غير منقسم ، وثبت فساد القسمين ، فيثبت أنه [لا يمكن أن يكون مشارا إليه بحسب
الحس. فإن قيل :
__________________
لم لا يجوز أن
يقال : إنه تعالى ] واحد منزه عن التأليف والتركيب. ومع ذلك فإنه يكون عظيما؟
قوله : «العظيم يجب أن يكون مركبا منقسما» قلنا : سلمنا أن العظيم يجب أن يكون
منقسما في الشاهد ، فلم قلتم : إنه يجب أن يكون كذلك في الغائب؟ فإن قياس الغائب
على الشاهد من غير جامع باطل. ثم نقول : لم يجوز أن يكون غير منقسم ، ويكون في
غاية الصغر؟ قوله : «إنه على هذا التقدير يكون حقيرا. وذلك على الله محال». قلنا :
الذي لا يمكن أن يشار إليه البتة ولا يمكن أن نحس به ، يكون كالعدم ، فيكون أشد
حقارة. وإذا جاز هذا فلم لا يجوز ما ذكرناه؟
والجواب عن الأول : أن نقول : إنه إذا كان عظيما في الإشارة الحسية كان منقسما فليس هذا
من باب قياس الغائب على الشاهد. بل هذا بناء على البرهان القطعي. وذلك لأنا. إذا
أشرنا إلى نقطة لا تنقسم ، فإما أن يحصل فوقها شيء آخر أو لا يحصل ، فإن حصل فوقها
شيء آخر ، كان ذلك الفوقاني ، مغايرا للتحتاني. إذ لو جاز أن يقال : ذلك الفوقاني
هو عين التحتاني ، فحينئذ يكون قد حصل الشيء الواحد دفعة واحدة في حيزين ، وذلك
باطل في البديهة. ولأنه لو جاز ما ذكرتم ، لجاز أن يقال : إن هذا الجبل ليس إلا
جوهرا فردا ، وجزءا لا يتجزأ. إلا أنه حصل في أحياز كثيرة ، فلهذا السبب نشاهده
شيئا عظيما ، مع أن ذلك لا يقوله عاقل. وأما أنه لم يحصل فوق تلك النقطة شيء آخر ،
لا على يمينها ولا على يسارها ولا من تحتها ، فحينئذ يكون ذلك المشار إليه نقطة
غير منقسمة ، وجزءا لا يتجزأ فيكون في غاية الحقارة ، وذلك باتفاق العقلاء باطل.
فيثبت : أن هذا الشيء ليس من باب قياس الغائب على الشاهد ، بل هو مبني على التقسيم
الدائر بين النفي والإثبات.
واعلم : أن
الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسوأ حالا من هؤلاء الكرامية. وذلك لأنهم
اعترفوا بكونه مركبا من الأجزاء والأبعاض. وأما هؤلاء
__________________
الكرامية فإنهم
زعموا : أنه مشار إليه بحسب الحس. وزعموا : أنه غير متناه. ومنهم من يقول: إنه
متناه ، إلا أنه في غاية العظمة. ثم زعموا مع ذلك : أنه واحد لا يقبل القسمة. فلا
جرم صار قولهم على خلاف صريح العقل.
أما قوله : «الذي
لا يحس به ولا يشار إليه أشد حقارة من الجزء الذي لا يتجزأ» قلنا : كونه موصوفا
بالحقارة ، إنما يلزم لو كان له حيز ومقدار ، حتى يقال : إنه أصغر من غيره فأما
إذا كان منزها عن المقدار والحيز ، ولم يحصل بينه وبين غيره مناسبة في الحيز
والمقدار. فلم يلزم وصفه بالحقارة والصغر؟ [والله أعلم ].
الحجة الثانية في بيان أنه يمتنع كونه
مختصا بالحيز والجهة : [إنه لو كان مختصا
بالحيز، والجهة ] لكان محتاجا في وجوده إلى ذلك الحيز والجهة. وهذا محال ،
فذاك محال. بيان الملازمة : إن الحيز والجهة موجود من الموجودات ، والدليل عليه
وجوه :
الأول : إن الأحياز الفوقانية مخالفة في الحقيقة والماهية ، للأحياز التحتانية. بدليل
أنهم قالوا : يجب أن يكون الله تعالى مختصا بجهة الفوق ، ويمتنع حصوله في سائر
الجهات والأحياز ، أعني التحت واليمين واليسار ، فلولا كون الأحياز مختلفة في
الحقائق والماهيات. وإلا لامتنع القول بأنه يجب حصوله تعالى في الفوق ، ويمتنع
حصوله في سائر الجهات. فيثبت بما ذكرنا : أن هذه الأحياز أمور مختلفة في الماهيات
، ويجب كونها أمورا موجودة لأن العدم المحض يمتنع كونه كذلك.
الثاني : إن الجهات مختلفة بحسب الإشارات الحسية ، والنفي المحض والعدم الصرف ، يمتنع
تميز بعضه عن البعض في الإشارة الحسية.
الثالث : إن الجوهر الفرد إذا انتقل من حيز إلى حيز ، فالحيز المتروك
__________________
مغاير للحيز
المطلوب ، والمنتقل منه مغاير للمنتقل إليه.
فيثبت بهذه الوجوه
الثلاثة : أن الحيز والجهة أمر موجود.
ثم إن المسمى
بالحيز والجهة موجود مستغن في وجوده عن ما يتمكن فيه ، ويستقر فيه، وأما الذي يكون
مختصا بالحيز والجهة فإنه يكون مفتقرا إلى الحيز والجهة ، فإن الشيء الذي يكون
مشارا إليه بحسب الحس يمتنع حصوله إلا مختصا بالحيز والجهة. فيثبت : أنه تعالى لو
كان مختصا بالحيز والجهة ، لكان مفتقرا في وجوده إلى الغير وإنما قلنا : إنه محال.
لوجوه :
الأول : إن المفتقر في وجوده إلى الغير ، يكون بحيث يلزم من عدم ذلك الغير عدمه ، وكل
ما كان كذلك كان ممكنا لذاته وذلك في حق واجب الوجود لذاته محال.
الثاني : إن المسمى بالحيز والجهة أمر مركب من الأجزاء والأبعاض ، لما بينا أنه يمكن تقديره بالذراع ، ويمكن وصفه بالزائد والناقص.
وكل مركب فإنه مفتقر إلى جزئه. وجزؤه غيره. فكل مركب فهو مفتقر إلى غيره ، فيكون
ممكنا لذاته ، ينتج : أن الشيء المسمى بالحيز والجهة ممكن لذاته. فلو كان الله
تعالى مفتقرا [إليه ، لكان مفتقرا ] إلى الممكن لذاته ، والمفتقر إلى الممكن أولى بأن يكون
ممكنا لذاته. فالواجب لذاته ممكن لذاته. هذا خلف.
الثالث : لو كان الباري تعالى أزلا وأبدا مختصا بالجهة والحيز ، لكان الجهة والحيز
موجودا في الأزل ، فيلزم إثبات قديم غير الله ، وذلك محال بالإجماع.
فيثبت بهذه
البيانات : أنه تعالى لو كان مختصا بالحيز والجهة ، فإنه تلزم هذه المحالات، فوجب
أن نقطع بكونه تعالى ، منزها عن الحيز والجهة ، دفعا لهذه المحالات. فإن قيل : إنه
لا معنى لكونه تعالى مختصا بالحيز والجهة إلّا كونه
__________________
تعالى مباينا
للعالم ، منفردا عنه ممتازا عنه وكونه تعالى كذلك ، لا يقتضي وجود أمر آخر سوى ذات
الله تعالى ، فبطل قولكم إنه تعالى لو كان حاصلا في الحيز والجهة ، لكان مفتقرا
إلى الغير. والذي يدل على صحة ما ذكرناه : أنه لا نزاع في أن العالم مختص بالحيز
والجهة ، وكونه كذلك لا معنى له إلا كون بعض الجواهر ممتازا عن البعض ، منفردا عنه
وإذا عقلنا هذا المعنى هاهنا ، فلم لا يجوز مثله في كونه تعالى مختصا بالحيز
والجهة؟ والجواب : أما قوله : «الحيز والجهة ليس أمرا موجودا في الأعيان» فجوابه :
إنا بينا بالبراهين القاطعة : أنها أشياء موجودة في الأعيان ، وبعد قيام البراهين
القاطعة على صحة هذه المقدمة ، فإنه لا يبقى في صحتها شك. وأما قوله : «المراد من
كونه تعالى مختصا بالحيز والجهة ، كونه تعالى منفردا عن العالم ، أو ممتازا عنه ،
أو مباينا عنه».
فنقول : هذه
الألفاظ كلها محتملة ، فإن الانفراد والامتياز والمباينة قد تذكر ويراد بها
المخالفة في الحقيقة والماهية. وذلك مما لا نزاع فيه ، ولكنه لا يقتضي الجهة.
والدليل عليه : أن حقيقة ذات الله تعالى مخالفة لحقيقة الحيز والجهة وهذه المخالفة
والمباينة ليست بالجهة. فإن امتياز ذات الله تعالى عن الجهة لا يكون بجهة أخرى. وإلّا
لزم التسلسل. وقد تذكر هذه الألفاظ ويراد بها الامتياز في الجهة والحيز ، وهو كون
الشيء بحيث يصح أن يشار إليه : أنه هاهنا أو هناك. وهذا مراد الخصم من قوله : إنه
تعالى مباين عن العالم ومنفرد عنه ، وممتاز عنه. إلا أنا بينا بالبراهين القاطعة :
أن هذا يقتضي كون ذلك الحيز أمرا موجودا [ويقتضي أن يكون الحاصل في ذلك الحيز
محتاجا إلى الحيز. وقوله : «الأجسام حاصلة في الأحياز» فنقول : هذا ] يقتضي أن تكون الأجسام محتاجة إلى الأحياز ، وهذا غير
ممتنع. أما كونه تعالى محتاجا إلى شيء آخر فهو ممتنع. فظهر الفرق.
الحجة الثالثة : لو كان تعالى مختصا بالحيز والجهة ، لكان إما أن يكون غير متناه من كل الجوانب
، أو يكون متناهيا من بعض الجوانب ، وغير متناه من
__________________
سائر الجوانب ، أو
يكون متناهيا من كل الجوانب ، والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه تعالى مختصا
بالحيز والجهة باطل. أما الحصر فظاهر.
وأما بيان فساد
القسم الأول ، وهو كونه تعالى غير متناه من كل الجوانب فهو باطل لوجوه :
الأول : الدلائل التي ذكرناها في امتناع وجود أبعاد غير متناهية.
والثاني : إنه لو كان غير متناهي الذات ، من كل الجوانب ، فحينئذ يلزم أن يكون
العالم حاصلا في داخل ذات الله تعالى وهو محال. ولأنه يلزم أن تكون ذاته تعالى
مخالطة للقاذورات والنجاسات ، وهو محال.
الثالث : إنه إذا كان حاصلا في جميع الجوانب ، فالحيز الذي منه حصل في جانب العلو ، إما
أن يكون هو الذي حصل بعينه في السفل ، أو غيره. فإن كان الأول فقد حصل الشيء
الواحد دفعة واحدة في أحياز غير متناهية. وذلك باطل. وإن كان الثاني لزم وقوع
التركيب والتأليف في ذات الله ، وهو محال.
الرابع : إنا إذا جوزنا وجود شيء له أبعاد غير متناهية ، فحينئذ لا يمكننا إقامة
الدلالة على أن أجسام العالم متناهية ، لأن كل دليل يذكر في وجوب تناهي الأجسام ،
فإنه بعينه ينتقض بوجود الله تعالى. فإنه على هذا التقدير ممتدا امتدادا لا نهاية
له.
وأما بيان فساد
القسم الثاني وهو كونه متناهيا [في بعض الجوانب ، وغير متناه ] من سائر الجوانب. فهذا أيضا باطل لوجوه :
الأول : إن الدلائل الدالة على وجود أبعاد غير متناهية يبطل القول بها سواء كان غير
متناه من جانب واحد أو من كل الجهات والجوانب.
والثاني : إن الجانب الذي هو غير متناه ، [والجانب الذي هو متناه ] إما أن يكونا متساويين في تمام الماهية ، وإما أن لا
يكونا كذلك. فإن كان الأول
__________________
فحينئذ يصح على كل
واحد من هذين الجانبين ، عين ما يصح [على الآخر ] وحينئذ يلزم أن يصير المتناهي غير متناه ، وأن يصير غير
المتناهي متناهيا. وحينئذ يلزم أن يصح عليه التفرق والتمزق ، والنمو والذبول ، والزيادة والنقصان. وكل ذلك يدل على كونه محدثا
متغيرا في نفس الذات. وأما إن كان الثاني فحينئذ يكون كل واحد من هذين الجزءين
مخالفا للآخر بماهيته وحقيقته ، فتكون ذات الله تعالى مركبة من الأجزاء المختلفة
والأبعاض المتباينة بالطبيعة والماهية ، وذلك محال. وأيضا : فالجزء الذي هو غير
متناه ، متصل بالجزء الذي هو متناه ، فغير المتناهي اتصل بالمتناهي بأحد جانبيه ،
وذلك الجانب متناه ، إذ لو لم يكن هو من ذلك الجانب متناهيا لامتنع أن يصير متصلا
من ذلك الجانب بغيره ، وقد فرضناه متصلا به. هذا خلف. فيثبت أن الجزء الذي هو غير
متناه ، وجب أن يكون متناهيا من أحد جانبيه ، مع أن ذلك الحيز طبيعة واحدة ،
وحينئذ يعود ما ذكرنا من أنه لا بد وأن تتشابه طبيعتا ذينك الجانبين. وحينئذ يلزم
صحة النمو والذبول ، والزيادة والنقصان. وذلك محال.
وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : إنه متناه من كل الجوانب ، فنقول : هذا أيضا محال لوجوه
:
الأول : إن كل ما كان متناهيا. فإن وقوعه أزيد مما وقع عليه بمقدار قليل ، أو أنقص منه
بمقدار قليل : يكون جائزا. والعلم بهذا الجواز ضروري. وإذا كان الأمر كذلك ، كان
وقوعه بذلك المقدار دون الأزيد والأنقص ، لا بدّ وأن يكون لترجيح مرجح ، وتخصيص
مخصص. وكل ما كان كذلك فإنه يكون مفتقرا في [وجوده إلى ] الفاعل المختار ، وهو على الله محال.
الثاني : إنه لما أحاطت الحدود والنهايات به من كل الجوانب. فنقول : إن أحد نصفيه
لا بد وأن يكون مغايرا للنصف الثاني منه ، ثم أحد ذينك
__________________
النصفين ، لا بد
وأن يماس النصف الثاني منه بأحد وجهيه دون الوجه الثاني ، وكما صح على النصف الأول
أن يماس النصف الثاني منه بأحد وجهيه ، وجب أن يصح عليه أن يماسه بوجهه الثاني ،
ضرورة أن كل واحد من وجهيه على طبيعة واحدة ، وكل ما صح على الشيء ، وجب أن يصح
على مثله. ومتى ثبت ذلك ، ثبت جواز التفرق والتمزق ، والاجتماع والافتراق عليه.
وذلك محال.
الثالث : إنه إذا كان متناهيا من كل والجوانب ، فحينئذ يكون متناهيا من جهة فوق ، وحينئذ
تكون الأحياز الفارغة حاصلة فوقه. فإذا خلق الله في تلك الأحياز الفارغة عالما آخر
، فحينئذ يلزم وقوع ذلك العالم فوق الباري ، ووقوع الباري تحت العالم. وذلك محال
بالاتفاق.
الرابع : إنه إذا كان متناهيا من كل الجوانب ، فحينئذ يصح من الله تعالى أن يخلق أجساما
متصلة بتلك الذات من كل الجوانب ، وحينئذ يصح عليه الاجتماع والافتراق. وذلك يدل
على الحدوث.
الخامس : إنا إذا جوزنا في الشيء الذي يكون محدودا متناهيا من كل الجوانب : أن
يكون إلها لهذا العالم ، فحينئذ لا يمكننا البتة أن نقطع بأن الشمس والقمر ليسا
إلهين لهذا العالم ، لأنه لا عيب فيهما إلا أحد أمور ثلاثة : أحدهما
: التناهي. والثاني : كونه مركبا من الأجزاء والأبعاض. والثالث : كونه قابلا للحركة والسكون. فإذا جوزنا هذه الثلاثة في حق الإله
تعالى فحينئذ لا يمكننا جعل هذه الأشياء عينا في الإلهية. وحينئذ لا يمكننا القدح
في إلهية الشمس والقمر وسائر الكواكب. بل على هذا التقدير ، فلعل إله العالم هو
العرش نفسه ، من غير حاجة إلى إثبات شيء آخر ، معلوم إن كل ما يلزم منه هذا القول
، فهو باطل بإجماع من العقلاء. فيثبت بما ذكرنا : أن إله العالم لو كان حاصلا في
الجهة والحيز ، لوجب وقوعه على أحد هذه الأقسام وثبت بالدليل فسادها بأسرها ، فوجب
القطع بأنه يمتنع كون الإله عزوجل حاصلا في الحيز والجهة. فإن قيل : ألستم تقولون : إنه
تعالى غير متناه في ذاته فيلزمكم
جميع ما ألزمتموه
علينا؟ قلنا : الشيء يقال له إنه غير متناهي على وجهين. أحدهما
: أنه منزه عن المقدار
والحجمية ، والحيز والجهة. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون لذاته حد
ومقطع ونهاية. والثاني : أن يكون في ذاته حجما ومقدارا ، إلا أنه ممتدا امتدادا بغير النهاية ، بمعنى أنه لا
ينتهي إلى حد ومقطع ، إلّا وتجد بعد ذلك منه شيئا آخر. فإذا قلنا : إن ذات الله
تعالى غير متناهية : عنينا به الأول. لا الثاني وعلى هذا التقسيم ، فالتفسير الذي
ذكرناه في إبطال قولكم غير وارد علينا.
الحجة الرابعة : إنه تعالى لو حصل في شيء من الأحياز والجهات ، لكان إما أنه يحصل في
ذلك الحيز المعين ، مع وجوب أن يحصل فيه [أو مع جواز أن يحصل فيه ] والقسمان باطلان ، فكان القول بحصوله في الحيز باطلا أما
الحصر فظاهر.
وأما القسم الأول وهو أنه يقال : حصل في ذلك الحيز ، مع وجوب أن يحصل فيه:
فهو قول باطل. ويدل عليه وجوه :
الأول : إن كل ما كان حجميا ، شاغلا للحيز ، وجب أن يكون مساويا لسائر الأجسام ،
ولسائر الأحجام في تمام الماهية ، على ما قررنا هذه المقدمة في الفصول السابقة. وإذا ثبت هذا ، فنقول : لو وجب حصول واحد منها في حيز
معين ، لوجب حصول كلها في [ذلك ] الحيز ، ضرورة أن الأشياء المتساوية في تمام الماهية ،
يجب اشتراكها في جميع اللوازم ، [وحينئذ يلزم اجتماع الذوات ] الكثيرة في الحيز الواحد ، وذلك محال.
والثاني : وهو أن الحدود والجوانب المفترضة في الخلاء الصرف ، متشابهة ومتساوية في تمام
الماهية. فإن الخلاء الصرف لا حقيقة له ولا ماهية له ، إلا
__________________
مجرد كونه خلاء
صرفا. وفضاء صرفا. وإذا كانت الأجزاء المفترضة فيها متشابهة ، فلو وجب حصول ذات في
واحد منها ، لوجب حصولها في جميع تلك الأحياز [وحينئذ يلزم حصول ذات الواحد في
جميع الأحياز ] دفعة واحدة. وذلك محال. فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال:
إن الأجزاء المفترضة ، يخالف بعضها بعضا ، بسبب أن بعضها فوق ، وبعضها تحت. والله
تعالى يجب حصوله في الفوق ، ويمتنع حصوله في التحت؟ فنقول : الفوق أو التحت إنما
يظهر بعد خلق العالم ، فأما قبل خلق العالم ، فليس هناك فوق ولا تحت ، ولا يتميز
جانب في الخلاء الذي لا نهاية له ، عن جانب آخر بشيء من الخواص والصفات البتة.
[وأيضا : أجزاء الفضاء متشابهة في كونها فضاء صرفا ، وخلاء محضا ] فنقول : لو اختلفت في شيء من الخواص والصفات ، لكان
المقتضي لتلك الخاصية المعينة أما أن يكون هو نفس طبيعة الفضاء والخلاء ، فيلزم أن
يكون ما به الاشتراك علة لما به الامتياز ، وذلك محال. وإما أن يكون المقتضي هو
الشيء الذي يكون محلا لذلك الخلاء والفضاء وذلك أيضا محال لأنا بينا : أن طبيعة
البعد والامتداد ، يمتنع أن تكون صفة قائمة بذات أخرى. وأيضا : فعلى هذا التقدير
يكون الخلاء جسما لا معنى ، لأنه لا معنى للجسم إلا البعد الحال في المادة ، وإما
أن يكون المقتضي هو الذي يكون حالا في ذلك البعد. وحينئذ يعود التقسيم المذكور في
المقتضي لذلك الأمر ، وإن كان لأمر آخر ، لزم التسلسل وهو محال. فيثبت بهذا
البرهان : أنه يمتنع أن يقع الاختلاف بين أجزاء الخلاء والفضاء. وحينئذ يحصل
المقصود.
والوجه الثالث في بيان أنه يمتنع كون
ذات الله حاصلة في حيز معين على سبيل الوجوب : أنه لو حصل في حيز معين مع أنه
يمتنع عليه أن ينتقل من ذلك الحيز إلى حيز آخر ، لزم أن يقال : إنه كالزمن المقعد
، العاجز
عن
__________________
الانتقال والحركة
والجسم الحي الذي يكون موصوفا بهذه الصفة يكون في غاية النقص والعجز ، وتعالى الله
عنه علوا كبيرا.
والوجه الرابع في بيان فساد هذا القسم :
إنه لو جاز في شيء مختص
بجهة معينة. أن يقال : إن اختصاصه بتلك الجهة واجب ، جاز أيضا ادعاء أن بعض
الأجسام حصل في حيز معين ، على سبيل الوجوب ، بحيث يمتنع خروجه عنه. وعلى هذا
التقدير فلا يتمشى دليل حدوث الأجسام في كل الأجسام. لأنه يقال : لم لا يجوز وجود
أجسام كثيرة مختصة بأحياز خارج العالم ، بحيث يمتنع عليها الانتقال ، وحينئذ لا
يجري دليلكم على حدوث الأجسام في كلها؟ وقائل هذا القول لا يمكنه القطع بحدوث كل
الأجسام.
الوجه الخامس في بيان فساد هذا القسم :
هو أنه لو كان واجب الحصول في حيز معين ، وكان ممتنع الحصول في سائر الأحياز ،
فحينئذ يكون ذلك الحيز مخالفا بالماهية لسائر الأحياز ، إذ لو كان مساويا لسائرها
، لوجب تساويها في جميع اللوازم والآثار ، ولو كانت الأحياز مختلفة بالماهية
والحقيقة ، لكانت أمورا موجودة. فإذا قلنا : إن الباري تعالى يجب حصوله في الحيز
المعين ، فحينئذ يلزم افتقاره في وجوده وتحققه إلى وجود غيره ، ولو كان الأمر كذلك
، لكان ممكنا لذاته ، وذلك محال.
فيثبت بهذه الوجوه
الخمسة : أنه يمتنع أن يقال : إنه حصل في حيز معين على سبيل الوجوب.
وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إنه
حصل في الحيز المعين على سبيل الجواز : فنقول : هذا محال لوجوه :
الأول : إنه لما صح عليه الحركة والسكون ، فحينئذ لا تكون ذاته المخصوصة ،
مقتضية لواحد منهما مع أنه يمتنع خلو ذاته عنهما ، فذاته مفتقرة إليهما ، وكل واحد
منهما مفتقر إلى سبب منفصل ، والموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على ذلك
الشيء فيلزم افتقار ذات الله تعالى إلى شيء غيره ،
وكل ما كان كذلك
فهو ممكن لذاته فالواجب لذاته ممكن لذاته وذلك محال.
الثاني : إنه إذا كان حصوله في الحيز المعين من الجائزات ، امتنع أن يحصل في حيز
من الأحياز إلّا بتخصيص مخصص ، وبجعل جاعل ، وكل ما حصل بفعل فاعل مختار ، فهو
محدث. فيلزم أن يكون حصوله في الحيز المعين محدثا. وإذا امتنع خلو ذاته عن الحصول
في الحيز المعين ، وثبت أن الحصول في الحيز المعين محدث ، لزم أن يقال : إن ذاته
لا تخلو عن المحدث ، وما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، فيلزم أن تكون ذاته محدثة ،
وهو محال. فيثبت بما ذكرنا : أنه تعالى لو حصل في حيز ، لحصل فيه أما مع الوجوب ،
أو مع الجواز. وثبت فساد كل واحد من هذين القسمين ، فوجب القطع بامتناع حصوله في
الحيز والجهة.
الحجة الخامسة في بيان أنه يمتنع حصول
ذات الله تعالى في شيء من الأحياز والجهات : هو أن الأرض كرة ، وإذا كان كذلك
امتنع كونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة.
أما بيان الأول
فقد قررناه بالدلائل الكثيرة ، إلا أنا نذكر هاهنا وجها واحدا ، وهو أنه إذا حصل
خسوف قمري ، فإذا سألنا سكان أقصى المشرق عن أوله قالوا : إنه حصل في أول الليل ،
وإذا سألنا سكان أقصى المغرب ، قالوا : إنه حصل في آخر الليل ، فعلمنا أن أول
الليل في أقصى المشرق هو آخر الليل في أقصى المغرب ، وذلك يوجب كون الأرض كرة.
وإنما قلنا : إن الأرض لما كانت كرة ، امتنع كون الله تعالى حاصلا في شيء من
الأحياز : هو أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق ، بالنسبة إلى سكان أهل
المشرق : هي تحت بالنسبة إلى سكان أهل المغرب ، وعلى العكس ، فلو حصل الباري تعالى
في شيء من هذه الجهات ، لكان تعالى في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس ، وعلى
العكس. وذلك باطل باتفاق العقلاء. فيثبت : أنه يمتنع كونه تعالى حيزا ، حاصلا في
الحيز والجهة.
الحجة السادسة في إثبات هذا المطلوب :
أن نقول : لو حصل الباري
تعالى في الحيز ،
لحصل إما في العالم ، أو خارج العالم. والقسمان باطلان ، فالقول بحصول الله تعالى
في الحيز والجهة محال. أما أنه يمتنع أن يحصل في العالم ، فبالاتفاق ، ولأنه يلزم
أيضا أن يكون جزءا من أجزاء العالم ، ومخالطا له ، وذلك محال. وأما أنه يمتنع أن
يحصل خارج العالم ، فلأن الخلاء إنا أن يكون متناهيا ، أو غير متناه. فإن كان
متناهيا فكل متناه : شكل وشكله ليس من لوازم ذاته ، لأن الخلاء كما بينا طبيعة
بسيطة فتكون طبيعة الجزء مساويا لطبيعة الكل ، فل كان المقتضى لذلك الشكل هو تلك
الماهية ، أو شيء من لوازمها ، لزم أن يكون شكل الكل مساويا لشكل الجزء ، وذلك
محال. فيثبت أن شكله يجب أن يكون حاصلا من الفاعل المختار فيكون محدثا ، والخلاء
لا ينفك عن الشكل ] وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فالخلاء محدث ، والله
تعالى قديم فوجب أن يقال : إنه في الأزل ما كان حاصلا في شيء من الأحياز والجهات [فلو
حصل في الأزل في شيء من الأحياز والجهات ] لزم وقوع التغير في تلك الذات من حيث إنها هي. وذلك محال.
وأما القسم الثاني وهو أن الخلاء لا
نهاية له : فهذا محال لوجهين :
الأول : إن الدليل دل على امتناع وجود
بعد لا نهاية له.
والثاني : إن الخلاء إذا كان متناه فلا يشير العقل إلى حيز معين ، إلا وفوقه حيز آخر ، فلو
حصلت ذات الله تعالى في ذلك الحيز ، لكان قد حصل في التحت لا في الفوق، وذلك محال.
وإذا كان الأمر كذلك ، امتنع حصوله في حيز معين ، وظاهر أيضا أنه يمتنع حصوله في
حيز مبهم ، وحينئذ يلزم القطع بامتناع حصوله في الحيز أصلا. فإن قالوا : فلم لا
يجوز أن يقال : إنه يحصل في جميع الأحياز التي لا نهاية لها؟ فنقول : هذا أيضا
محال. لأنه إما أن يقال : إن الذات الواحدة حصلت في كل تلك الأحياز ، أو يقال :
إنه حصل في كل واحد من تلك الأحياز : جزء من أجزاء تلك الذات. والأول محال لأنه
__________________
يقتضي حصول الذات
الواحدة بتمامها في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة ، وذلك محال. ولأنه لما حصل ذلك
الواحد في كل تلك الأحياز ، وكل واحد منها تحت حيز آخر ، فحينئذ يلزم أن تكون تلك
الذات حصلت في التحت لا في الفوق. وهو محال. والثاني أيضا محال ، لأنه يقتضي كون
تلك الذات مركبة مؤلفة. وأيضا : فكل واحد من تلك الأجزاء لما حصل في واحد من تلك
الأحياز ، وقد ثبت أن كل واحد من تلك الأحياز المعينة ، فإنه تحت حيز آخر ، فحينئذ
يعود ما ذكرنا إلى أنه تعالى حاصل في التحت ، لا في الفوق ، وذلك محال. فيثبت : أن
القول بكونه تعالى حاصلا في الحيز والجهة يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فوجب أن
يكون القول به محالا.
الحجة السابعة : لو كان الله تعالى حاصلا في الحيز والجهة ، لكان المسمى بالحيز والجهة ، إما
أن يكون موجودا أو معدوما ، والقسمان باطلان ، فبطل القول بوجوب كونه تعالى في
الحيز. أما الحصر فظاهر ، وإما إبطال كون الحيز موجودا. فالدليل عليه : أنه امتنع
خلو ذات [الله تعالى عن الحصول في الحيز ، ولو كان الحيز أمرا موجودا ، لزم احتياج
ذات الله تعالى ] إلى غيره ، وواجب الوجود لذاته يمتنع كونه محتاجا إلى
الغير. وأما إبطال كون الحيز معدوما [فلأن المعدوم ] نفي محض وعدم صرف ، فجعله ظرفا لذات الله تعالى ، وجعل
ذات الله مظروفا فيه : محال.
فإن قيل : فهذا
بعينه وارد في الأجسام فيلزم نفي كونها حاصلة في الأحياز ، وذلك قول باطل. فنقول :
الجواب عنه من وجهين :
الأول : إنا نقول : الحيز والجهة أمر موجود ، وهو البعد المجرد والفضاء المحض ، فإذا قلنا :
إن الجسم يحتاج إليه لم يلزم منه محال ، لأن الجسم ممكن الوجود لذاته ، والقول
بكون الممكن لذاته محتاجا إلى الغير ليس قولا باطلا. أما القول بأن واجب الوجود
لذاته يحتاج إلى الغير فهو قول باطل فظهر الفرق.
__________________
الوجه الثاني في الجواب : أن نقول : المكان إما أن يكون مفسرا بالبعد الذي ينفذ فيه الجسم ،
أو بالسطح المحيط. فإن كان الحق هو الأول ، فالجواب ما ذكرناه في الوجه الأول. وهو
فرق صحيح ، وإن كان الحق هو الثاني ، قلنا : إن كل العالم ليس في حيز وجهة البتة ،
بل هو ذات مركبة من الأجزاء والأبعاض ، فإن حكمتم بكون الباري تعالى كذلك ، كان
ذلك قولا بأنه جسم مؤلف من الأجزاء ، وقد سبق بيان أن ذلك قول باطل.
الحجة الثامنة : إن كل ما صحت الإشارة الحسية إليه بأنه هاهنا أو هناك ، فإما أن يكون
موصوفا بهذه الصفة على سبيل الأصالة والاستقلال ، أو على سبيل التبعية ، فإن كان
الأول فهو الجسم ، وإن كان الثاني فهو العرض ، ولما دللنا في الفصل المتقدم على
أنه يمتنع كونه جسما. وظاهر أنه أيضا ليس بعرض ، وإلّا لكان محتاجا إلى المحل ،
فحينئذ يلزم منه امتناع كونه حاصلا في الحيز والجهة. وهو المطلوب.
الحجة التاسعة : إن كل ما كان مشارا إليه بحسب الحس ، وكان شيئا عظيما ، فإنه لا بد وأن
نفرض فيه الأجزاء والأعضاء ، لأن الشيء الذي منه يحاذي يمين العرش ، غير الشيء
الذي منه يحاذي يسار العرش ، وكيف لا نقول ذلك ونقول : بأن هذا الجانب يحاذي يمين
العرش لا يساره ، والجانب الآخر منه يحاذي يسار العرش لا يمينه؟ فلو كان الجانبان
شيئا واحدا ، لزم اجتماع النفي والإثبات ، وأنه محال.
وإذا ثبت هذا
فنقول : كل واحد من النصفين يماس النصف الآخر بأحد وجهيه دون الثاني. والوجهان
متساويان في تمام الماهية ، والمتساويان في تمام الماهية ، يجب أن يصح على كل واحد
منهما ما يصح على الآخر ، وكما صح على أحد النصفين أن يماس النصف الآخر بأحد وجهيه
دون الثاني ، وجب أن يصح عليه أن يماسه بالوجه الثاني دون الأول. ومتى صح ذلك ، لزم
صحة التفرق والتمزق عليه ، فيثبت : أن كل ما حصل في الجهة والحيز ، وكان عظيم
الذات ، فإنه يكون جسما مؤلفا من الأجزاء ، أو يكون التفرق والتمزق عليه
جائزا ، ولما كان
ذلك على الله محال ، وجب القول بتنزيهه عن الحيز والجهة [والله أعلم ].
الحجة العاشرة : لو كان تعالى فوق العرش ، أو مباينا للعرش ببينونة متناهية ، أو مباينا له
ببينونة غير متناهية. والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكونه فوق العرش قول باطل.
أما الحصر فظاهر. وأما بيان أنه يمتنع أن يكون مماسا للعرش : فالدليل عليه : أن
العرش مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، فالذي يماسه هذا الجزء من العرش ، غير الذي
يماسه الجزء الثاني من العرش ، وكما أن العرش مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، وجب أن
يكون الله تعالى مؤلفا من الأجزاء والأبعاض. وأيضا : فلو عقل بأن يكون المؤلف من
الأجزاء والأبعاض إلها ، فلم لا يجوز أن يقال : إن إله العالم هو العرش نفسه؟ لأنه
لو جاز أن يقال : إن الإله مؤلف من الأجزاء والأبعاض ، مع أنه لا يقبل التفرق
والتمزق ، فلم لا يجوز أن يقال : العرش وإن كان مؤلفا من الأجزاء والأبعاض إلا أنه
لا يقبل التفرق والتمزق ومعلوم أن فتح هذا الباب يفضي إلى نفي الصانع ، وكل صفة
يفضي إثباتها إلى نفي الموصوف فهو باطل فيثبت : أن القول بكون الإله مماسا للعرش
قول باطل.
وأما القسم الثاني وهو أنه تعالى مباين
للعرش ببينونة متناهية : فهذا أيضا باطل ، لأن على هذا التقدير تكون ذات الله تعالى محاذية لذات العرش ، وموازية
لها ، وواقعة في مقابلتها ، وكل ما ذكرناه في المماسة فهو بعينه قائم في هذه
المحاذات وأيضا : فعلى هذا التقدير لا يمتنع أن يرتفع العالم من حيزه إلى الجانب
الأعلى ارتفاعا متناهيا وحينئذ يلزم صحة أن تصير ذات الله مماسا للعرش.
وأما القسم الثالث وهو أن يكون مباينا
للعرش ببينونة غير متناهية : فهذا أيضا باطل ، لأنه إذا كان العالم من أحد الجانبين وكانت ذات الله من الجانب
الآخر ، فحينئذ يكون البعد بينهما محدودا بهذين الطرفين ، فلو قلنا : إن
__________________
هذا البعد غير
متناه ، لزم أن يقال : إن ما لا نهاية له محصور بين حاصرتين وذلك محال. فثبت فساد
هذه الأقسام الثلاثة ، ويلزم من فسادها القول بتنزيه ذات الله تعالى عن المكان
والحيز.
فإن قيل : لم لا
يجوز أن يقال : إنه مماس للعرش ، أو مباين له بينونة متناهية؟ قوله : «إنه لو كان
كذلك ، لكان الذي يماس منه أحد أجزاء العرش ، مغاير للذي يماس منه الجزء الثاني»
قلنا : لا نسلم. ولم لا يجوز أن يقال : إنه شيء واحد ، وهو بعينه حاصلا في جميع
الأحياز ، وهو بعينه يماس جميع أجزاء العرش ، أو يحاذيها؟ وأقصى ما في الباب أن
هذا في الجوهر الفرد محال ، فإن الجوهر الواحد لا يحصل في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة.
فلم قلتم : إنه لما كان الأمر كذلك في الجوهر ، وجب أن يكون الأمر كذلك في حق
الباري تعالى؟ فإن قياس الغائب على الشاهد مطلقا باطل ، لا سيما على مذهبكم فإن
الأصل المعتبر في إثبات التنزيه أن قياس الغائب على الشاهد لا يجوز.
سلمنا أنه يلزم
منه كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض. فلم قلتم : إن ذلك محال؟ ولم لا يجوز
أن يقال : إنه وإن كان مؤلفا من الأجزاء ، إلا أنها لا تقبل التفرق والتمزق بل هي
واجبة البقاء على نسق واحد؟
سلمنا أن ذلك باطل
إلا أن هذا إنما يلزم ، إذا قلنا : إنه تعالى محاذ للعرش ببعد متناه أما إذا قلنا
: إنه مباين للعرش ببعد غير متناه فهذا غير لازم. أما قوله «لو كان كذلك ، لزم أن
يكون ما لا نهاية له محصورا بين حاصرين ، وذلك محال» قلنا : أليس أن الله تعالى
قديم أزلي؟ فعلى هذا أنه لا أول لوجوده في جانب الأزل ، أما وجوده من الجانب الذي
يلينا فإنه مقارن لوجود كل واحد من هذه الحوادث ، فإذا جاز في المدة والزمان أن
تكون ذاته مباينة لهذه الحوادث ، من جانب الأزل بينونة غير متناهية ، مع أنه يكون
مقارنا للعالم في جانب الأبد. فلم لا يجوز أيضا أن يقال : إن ذاته مباينة للعرش
ببعد
__________________
غير متناه ، مع
أنه يكون مختصا بالحيز والجهة؟ والجواب : إنا إذا أشرنا إلى شيء مختص بحيز وجهة ،
فقد حصل هناك شيء. وذلك الشيء هل له وجود في سائر الجوانب الستة أم لا؟ أما الثاني
فهو باطل. لأنه يلزم عليه أن يكون إله العالم جوهرا فردا ، وجزءا لا يتجزأ؟ وذلك
باطل بالاتفاق. بقي القسم الأول فنقول : الحاصل في كل واحد من الأحياز التي لا
تنقسم. إما أن يكون عين الحاصل في الحيز الآخر أو غيره؟ فإن كان الأول لزم أن يكون الذات الواحدة حاصلة
في الأحياز الكثيرة دفعة واحدة ، وذلك معلوم الامتناع ببديهة العقل. وأيضا : فلو
عقل ما ذكرتم ، فلم لا يعقل أيضا أن يقال : العرش جوهر فرد ، وجزء لا يتجزأ وهو
بعينه حاصلا في الأحياز الكثيرة؟ وعلى هذا التقدير ، فلم يجوز أن يكون إله العالم
هو نفس العرش؟ وحينئذ يلزم إبطال القول بإثبات الصانع وهو باطل. قوله : «لم لا
يجوز أن يكون مركبا من الأجزاء إلا أن تلك الأجزاء لا تقبل التفرق والتمزق»؟ قلنا
: لأنا بينا أن الأجزاء الشاغلة للحيز ، يجب كونها متساوية في تمام الماهية ،
وحينئذ يلزم جواز التفرق والتمزق ، ولأنه لو عقل ما ذكرتم ، فلم لا يجوز أن يقال :
إله العالم هو العرش نفسه؟ وهو وإن كان مركبا من الأجزاء والأبعاض إلا أن يقال :
إله العالم هو العرش نفسه؟ وهو وأن كان مركبا من الأجزاء والأبعاض إلا أنه لا يقبل
التفرق والتمزق ، وحينئذ يلزم نفي الصانع وهو باطل. أما قوله «لم لا يجوز أن يكون
الباري تعالى مباينا للعرش بينونة غير متناهية»؟ فنقول : هذا باطل. وذلك لأن ذات
الباري تعالى ، لا بد وأن يكون متناهيا محدودا من جانب التحت وإلا لزم أن يكون
العالم حاصلا في ذات الباري تعالى وهو محال بالاتفاق ، وإذا ثبت لذات الباري حد
ونهاية من جانب التحت ، وثبت أيضا للعالم حد ونهاية ، فحينئذ يلزم أن يكون البعد
بين الباري وبين العالم محدودا بهذين الحدين ، وذلك [لا] يوجب كون ذلك
البعد متناهيا ، فالقول بأنه غير متناه يوجب الجمع بين النقيضين وهو محال. وهذا
بخلاف قولنا : إنه تعالى
__________________
موجودا في الأزل ،
فإن الأزل ليس عبارة عن وقت معين ، وحد محدود ، حتى يقال : البعد بين ذلك الوقت
المعين وبين هذا الوقت الذي نحن فيه ، بعد غير متناه ، بل الأزل عبارة عن نفي
الأولية من غير أن يكون ذلك عبارة عن وقت معين ، وحد محدود. وأما هاهنا فبتقدير أن
تكون ذات الله تعالى مباينة للعالم بالحيز والجهة ، وجب أن يكون ذات الله محدودا
من جهة التحت ، فيكون ذلك الحد ظرفا معينا ، وحدا معينا ، فيكون البعد بينه وبين
طرف العالم محدودا بهذين الطرفين ، فيمتنع وصفه بكونه غير متناه. وهذا تمام الكلام
في تقرير هذا الدليل.
الحجة الحادية عشر : إنه تعالى لو كان حاصلا في حيز معين لكنا إذا فرضنا وصول إنسان إلى طرف ذلك
الشيء ، فإما أن يمكنه الدخول فيه ، والنفوذ فيه وإما أن لا يمكن ، فإن كان الأول
كان كالهواء اللطيف ، والماء اللطيف ، فحينئذ يكون قابلا للتفرق والتمزق ، وإن كان
الثاني فحينئذ يكون صلبا كالحجر الصلد الذي يمتنع النفوذ فيه ، فيرجع حاصل هذا
القول : إلى أن إله العالم عند القائلين بالمكان والجهة : شيء رقيق كالماء والهواء
[أو شيء صلب كالحجر ] فيكون [هذا القابل أما الهواء اللطيف وأما الحجر الصلب ] فيكون حاصل قوله : إنه حصل فوق العرش حجر صلب : جاري مجرى
جبل عظيم ، وهو بعينه ذلك الجبل. ومعلوم أن هذا القول بعيد عن العقل جدا.
الحجة الثانية عشر : وهي حجة استقرائية اعتبارية ـ فنقول : إنا رأينا أن الشيء كلما كان حصول معنى
الجسمية فيه أقوى وأكمل ، كانت القوة الفاعلة المؤثرة فيه أضعف وأنقص. وكلما كان
حصول معنى الجسمية فيه أنقص وأضعف ، كان حصول القوة الفاعلة فيه أقوى وأكمل ،
وتقريره : إنا وجدنا الأرض أكثف الأجسام وأقواها حجمية ، فلا جرم لم يحصل فيها إلا
قبول الأثر
__________________
فقط ، فأما أن
يكون للأرض الخالية تأثير في غيره ، فقليل جدا. وأما الماء فهو أقل كثافة وحجمية
من الأرض ، فلا جرم حصلت فيه قوة مؤثرة ، فإن الماء جاري بطبعه ، فإذا اختلط
بالأرض أثر فيه أنواعا من التأثيرات وأما الهواء فإنه أقل حجمية وكثافة من الماء ،
فلا جرم كان أقوى في التأثير من الماء.
ولذلك قال بعضهم :
«إن الحياة لا تكمل إلا بالنفس» وزعموا : أنه لا معنى للروح إلا الهواء المستنشق ،
وأما النار فإنها ألطف من الهواء ، فلا جرم كانت أقوى الأجسام العنصرية في التأثير
، فإن بقوة الحرارة يحصل الطبخ والنضج ، وتكون المواليد الثلاثة ـ أعني : المعادن
والحيوان والنبات ـ وأما الأفلاك فإنها لما كانت ألطف من الأجرام العنصرية ، لا
جرم كانت هي المستولية على هذه العناصر بالتمزيج والتركيب ، وهذا على قول أكثر
الفلاسفة المتقدمين الذين يقولون : أجرام الأفلاك ليست صلبية ، بل هي جارية مجرى
الأنوار اللطيفة.
وإذا ثبت هذا.
فنقول : هذا الاستقراء يدل على أن الشيء كلما كان أكثر جرمية وحجما كان أقل قوة
وتأثيرا ، وكلما كان أقوى قوة وتأثيرا ، كان أقل حجمية وجرمية ، وإذا كان كذلك
فهذا الاستقراء يفيد ظنا قويا أنه حيث حصل كمال القوة والقدرة على الإحداث
والإيجاد ، وجب أن لا يحصل هناك معنى الحجمية والجرمية ، والاختصاص بالحيز والجهة
، وهذا وإن كان بحثا استقرائيا ، إلا أنه عند الاعتبار العام ، يفيد كونه سبحانه
منزها عن الجسمية ، والاختصاص بالحيز ، والجهة. [والله أعلم ]
__________________
الفصل السادس
في
حكاية شبهات مثبتي الجسمية والمكان
اعلم : أن القوم
عولوا على وجوه من الكلمات :
فالشبهة الأولى : [من شبهات مثبتى الجسمية ] أن قالوا : لما خلق الله تعالى العالم. فإما أن يقال :
إنه خلقه في ذاته ، أو في خارج ذاته. والأول باطل بالاتفاق لأنه يلزم أن تكون ذاته
مخالطة للقاذورات. والثاني يقتضي كون العالم واقعا خارج ذات الله تعالى ، مباينا
عن ذاته ، فيكون الله تعالى مباينا للعالم بالحيز والجهة ، فأما القول بأن العالم
واقع [لا في ذات الله ولا في خارج ذات الله تعالى ، فهذا مما لا
يقبله العقل البتة.
الشبهة الثانية : قالوا : لا شك أن هذا العالم موجود ، وذات الله تعالى موجود أيضا ، وكل
موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا في الآخر ، أو مباينا عنه بجهة من الجهات
الست. وأما الذي لا يكون ساريا ولا مباينا عنه في شيء من الجهات ، فهذا هو العدم المحض
، والنفي الصرف فالقول به تصريح بنفي الصانع ، وذلك باطل ، ألا ترى أنا إذا قلنا
في الشيء : إنه غير حاصل في الدار ، وغير حاصل أيضا خارج الدار ، كان هذا تصريحا
بكونه عدما محضا
__________________
[ونفيا صرفا ،
فيثبت أنه تعالى لو لم يوجد خارج العالم كان معدوما محضا ] وذلك باطل. فوجب القول بكونه موجودا خارج العالم.
الشبهة الثالثة : لا نزاع بين المسلمين في أنه تعالى عالم بالجزئيات. فنقول : العالم
بالجسمانيات لا بدّ وأن يكون جسما حاصلا في الحيز. والدليل عليه : أنا إذا تخيلنا مربعا
مجنحا بمربعين متساويين. فنحن نميز في خيالنا بين هذين المربعين الواقعين على هذين
الطرفين، وهذا الامتياز إما أن يكون واقعا في الوجود الخارجي ، أو في الوجود
الذهني. والأول باطل لأنه يمكننا أن نتخيل هذه الصورة حال كونها معدومة في الخارج.
فيثبت : أن هذا الامتياز واقع في الذهن ، وليس ذلك الامتياز بسبب حصول الامتياز في
الماهية ولوازمها ، لأن الماهية ولوازمها مشترك فيها بين هذين المربعين ، فوجب أن
يكون سبب هذا الامتياز شيء من العوارض. لكن الامتياز في العوارض لا يحصل إلا عند
التغاير في القابل فإن الصورتين لو اجتمعتا في محل واحد ، وفي قابل واحد ، لكان كل
ما يعرض عارضا لأحدهما ، كان هو بعينه عارضا للآخر ، وحينئذ يصير ذلك العارض
مشتركا فيه. فلا يكون موجبا للتغاير والتباين فثبت أنه لا يمكن حصول الامتياز في
الذهن بين هذين المربعين الواقعين على الجانبين إلا إذا كان محل أحدهما غير محل
الآخر ، فثبت أن المدرك لهذه الصورة لا بد وان يكون جسما منقسما ، فثبت أنه تعالى
مدرك للجزئيات ، وثبت أن كل من كان مدركا للجزئيات ، وجب أن يكون جسما حاصلا في
الحيز والجهة ، ينتج : أنه تعالى حاصل في الحيز. واعلم : أنه ثبت بالوجه الذي
ذكرناه : أن إدراك الجزئيات لا يحصل إلا عند حصول الجسمية. ثم إن الفلاسفة قالوا :
لكنه ليس بجسم ، فيمتنع كونه مدركا للجزئيات ، والمجسمة قالوا : لكنه مدرك
للجزئيات ، فوجب كونه جسما.
الشبهة الرابعة : إنه تعالى ذات موصوف بالصفات ، وكل ما كان كذلك فلا بد وأن يكون جسما حاصلا
في الحيز. بيان الأول : أنه تعالى عالم قادر ،
__________________
والمعقول من كونه
ذاتا قائما بالنفس ، مغاير للمعقول من كونه عالما قادرا. ولذلك فإنه يمكننا أن
نعقل كونه ذاتا قائمة بالنفس مع الشك في كونه تعالى عالما قادرا ، والمعلوم مغاير
لغير المعلوم ، فيثبت : أن العلم والقدرة صفتان قائمتان بالذات. وبيان أن كل ما
كان موصوفا بالصفات فلا بد وأن يكون جسما حاصلا في الحيز : هو أن المعقول من قيام
الصفة بالذات كون الصفة حاصلة في تلك الجهة المعينة ، تبعا لحصول محلها في تلك
الجهة. فإنا إذا رفعنا هذا المعنى من العقل فحينئذ لا يبقى في العقل تفاوت بين
الذات وبين الصفة. وحينئذ لا يكون كون أحدهما ذاتا والآخر يجب أن يكون حاصلا في
الحيز ، لزم القطع بكونه تعالى حاصلا في الحيز. والحاصل : أنه ثبت أنه لا معنى لا
تصاف الذات بالصفة إلا حصول الصفة في الجهة المعينة ، تبعا لحصول محلها في تلك
الجهة.
ثم إن المعتزلة
قالوا : لكنه يمتنع كونه تعالى حاصلا في الحيز ، فيمتنع كونه موصوفا بالصفات.
والمجسمة قالوا :
لكنه ثبت كونه موصوفا بالصفات ، فوجب الجزم بكونه تعالى حاصلا في الحيز.
الشبهة الخامسة : إني رأيت مناظرة طويلة ، جرت بين مشبه وموحد ، فلخصت تلك المناظرة وضممت إليها
زوائد كثيرة. وهي هذه : قالوا : لا شك أن كل موجودين فلا بد وأن يكون أحدهما
مجانبا للآخر أو مباينا عنه. والمراد من المجانبة كون كل واحد منهما بجنب الآخر ،
أي أن يكون أحدهما ساريا في الآخر. وهذا هو المراد من لفظ المجانبة ، فليكن المراد
معلوما منه ، إذا ثبت هذا فنقول : كون كل موجودين في الشاهد كذلك إما أن يكون
بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه عرضا ، أو لأمر مشترك بين الجوهر والعرض ، وذلك
المشترك إما الوجود أو الحدوث والكل باطل سوى الوجود ، فوجب أن تكون العلة لذلك
الحكم هي الوجود فقط ، والباري تعالى موجود فوجب الجزم بأنه تعالى لا بدّ وأن يكون
إما مجانبا للعالم ، أو مباينا عنه بالجهة.
__________________
واعلم أن هذا
الكلام لا يتم إلا بتقرير مقدمات ، ونحن نذكرها :
أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : كل
موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن
يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا عنه بجهة. فنقول : هذا الحكم لا بد له من
علة. والدليل عليه : هو أن المعدوم لا يصح فيه هذا الحكم ، وهذه الموجودات التي في
الشاهد يصح فيها هذا الحكم ، ولو لا امتياز ما صح فيه هذا الحكم عما لا يصح فيه
هذا الحكم ، وإلا لامتنع حصول هذا الامتياز.
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أنه يمتنع تعليل هذا الحكم ، بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه
عرضا. والدليل عليه : أن المقتضى لهذا الحكم لو كان هو كونه جوهرا ، لصدق على
الجوهر أنه ينقسم إلى ما يكون مجانبا لغيره ، وإلى ما يكون مباينا عنه. ومعلوم أن
ذلك باطل ، لأن الجوهر يمتنع أن يكون مجانبا لغيره ، وبهذا الطريق يظهر أن المقتضى
لهذا الحكم ، ليس كونه عرضا أيضا ، لامتناع كون العرض مباينا لغيره بالجهة.
المقدمة الثالثة : في بيان أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث. ويدل عليه وجوه :
الأول : إن الحادث عبارة عن وجود سبقه عدم ، والعدم غير داخل في العلية وإذا
سقط العدم عن درجة الاعتبار ، لم يبق إلا الوجود.
والثاني : إنه لو كان هذا الحكم معللا بالحدوث ، لكان الجاهل بكون السماء محدثة
، وجب أن يكون جاهلا بأن السماء بالنسبة إلى سائر الموجودات ، التي في هذا العالم،
إما أن تكون مجانبا لها ، أو مباينا عنه بالجهة ، لأن المقتضى للحكم إذا كان أمرا
معينا ، فالجاهل بذلك المقتضى بذلك المقتضى ، يجب أن يكون جاهلا بذلك الحكم ، ألا
ترى أن الموجود لما كان هو المستدعي للتقسيم إلى القديم ، وإلى المحدث ، لا جرم
كان اعتقاد أنه غير موجود يكون مانعا للتقسيم بالقدم والحدوث ، ولما كان التقسيم
إلى الأسود والأبيض مفرعا على كونه ملونا ، لا جرم كان اعتقاد أن الشيء غير ملون ،
مانعا من اعتقاد التقسيم إلى الأسود والأبيض. ولما رأينا أن الدهري الذي يعتقد قدم
السموات
والأرضين لا يمنعه
ذلك من اعتقاد أن السموات إما أن تكون مجانبة للأرضين ، أو مباينا عنها بالجهة ،
علمنا : أن هذا الحكم غير معلل بالحدوث.
الوجه الثالث : وهو أن كون هذه السموات والأرضين محدثة ، أمر علم بالدليل. [ووجوب كونها
إما مجانية ، وإما مباينة أمر معلوم بالضرورة ، والوصف الذي يعلم بالدليل ] يمتنع جعله أصلا للوصف الذين نعلم ثبوته بالضرورة.
فثبت بهذه الوجوه
: أن المقتضى لقولنا : إن هذه الأشياء ، إما أن تكون مجانبة ، أو مباينة ، ليس هو
الحدوث.
المقدمة الرابعة : إنه لما كان المقتضى لهذا الحكم في الشاهد هو الوجود والباري تعالى موجود ،
وكان المقتضى لكونه تعالى إما مجانبا للعالم ، أو مباينا عنه ، حاصلا في حقه ، وجب
أن يكون هذا الحكم حاصلا في حق الله تعالى. واعلم أنا نفتقر في تقرير هذه المقدمة
إلى بيان أن الموجود حقيقة واحدة في الشاهد وفي الغائب. وهذا غاية ما يمكن ذكره في
تقرير هذه الشبهة.
الشبهة السادسة : قالوا : جميع العقلاء مجبولون بأصل الخلقة على اعتقاد أن الله تعالى موجود فوق
العالم. فإنا نراهم مع اختلاف أديانهم ، وتباين مذاهبهم ، مجبولين عند الدعاء
والخضوع والخشوع على رمي الأبصار إلى جهة فوق ، وعلى رفع الأيدي إلى تلك الجهة ،
ولو أن الناس تركوا على أصل الخلقة ، ومقتضى الجبلة الأصلية لم يعتقدوا إلا أن إله
العالم موجود في جهة فوق. وإذا كان هذا المعنى مما تشهد به فطرة العقل ، وجب أن
يكون القول به حقا.
الشبهة السابعة : إن جميع كتب جميع الأنبياء والرسل عليهمالسلام مملوءة من كونه في جهة فوق. أما القرآن فقد جاء فيه كونه
على العرش بصريح اللفظ
__________________
سبع مرات
وذكر أيضا :«وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ
وقوله :«إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ
والألفاظ الدالة على النزول والتنزيل كثيرة جدا والآيات المشتملة على لفظ إلى
الدالة على انتهاء الغاية خارجة عن الحد ، وليس في القرآن البتة لفظ يدل على نفي
الجهة. فلو كان الدين الحق عنده نفي الجهة ، لكان من الواجب أن يذكر ذلك مرة واحدة.
فلما أثبت الجهة في آيات لا حصر لها ، ولا حد لها ، ولم يذكر البتة نفي الجهة ،
علمنا أنه تعالى كان مصرا على إثبات الجهة.
وأما الأخبار المنقولة عن الرسول صلّى
اللّه عليه وسلّم فلا حصر لها ولا حد.
وأما التوراة : فمملوءة من هذه المعاني
، وهذا يدل على أن الأنبياء والرسل عليهم السلام كانوا متفقين على إثبات الجهة
للّه تعالى.
وليس لقائل أن يقول : إنا نذكر لهذه
الألفاظ تأويلات «٤» ، وذلك لأن
__________________
الدين الحق لو كان هو
التنزيه الذي ذكرتموه ، لكان من الواجب أن يرد في هذه الكتب الإلهية ما يدل على
تقرير هذا الأصل العظيم ، وعلى تأكيده بصريح اللفظ ، حتى يصير الحق معلوما ،
وحينئذ نصرف بقية الألفاظ إلى التأويل. ولما لم يرد في شيء من الكتب الإلهية البتة
ما يدل على التنزيه الذي تذكرونه .
ورأيناها مملوءة
بالألفاظ الدالة على كونه تعالى موجودا في الفوق. علمنا : أن مذهب الأنبياء والرسل
ـ عليهمالسلام ـ هو هذا المذهب. وأن الذي تقولونه ، مخالف لأديانهم
ومذاهبهم. فهذا تقرير شبهات القوم في هذا الباب.
الشبهة الثامنة : ثبت أنه يجوز رؤية الله تعالى ، والرؤية ممتنعة إلا إذا كان الرائي
مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل له ، وذلك يقتضي كون الإله تعالى في الجهة.
والحاصل أن جواز الرؤية مشروط بالمقابلة. ثم قالت المشبهة : ثبت جواز الرؤية فوجب
القول بكونه تعالى في الجهة. وقالت المعتزلة : يمتنع كونه تعالى في الجهة ، فوجب
أن تمتنع رؤيته [والله أعلم بالصواب ]
__________________
الفصل السابع
في
الجواب عن تلك الشبهات
أما الجواب عن الشبهة الأولى والثانية :
فقد تقدم في الفصل
الأول على سبيل الاستقصاء. وذلك لأن قولنا : إن إثبات موجود لا يحصل في داخل
العالم ولا في خارجه : محال ، إما أن يكون العلم بامتناع هذا القسم علما ضروريا ،
أو استدلاليا. وبطل كونه ضروريا للوجوه الكثيرة المذكورة فوجب أن يكون استدلاليا.
لكن صحة الدلائل التي ذكرتموها موقوفة على إبطال هذا ، فلو ثبت إبطال هذه المقدمة
، بتلك الدلائل ، لزم الدور ، وهذا هو الجواب المعتمد الذي يعول عليه.
وأما الشيخ الرئيس
أبو علي بن سينا فإنه سلم : أن الجزم بهذه المقدمة حاصل إلا أنه زعم : أن الجازم
بهذه المقدمة هو الوهم لا العقل ، وزعم أن حكم الوهم في غير المحسوسات ] باطل غير ملتفت إليه.
ولقائل أن يقول : أتسلمون
أن الجزم الحاصل بصحة هذه المقدمة يساوي الجزم الحاصل بالقضايا البديهية الأولية ،
أو لا تعترفون؟ فإن كان الحق هو الثاني ، وهو أن الجزم الحاصل في هذه المقدمة أضعف
من الجزم الحاصل في البديهيات ، فحينئذ يفتقر الجزم بهذه المقدمة [إلى الدلائل
المنفصلة وعند هذا
__________________
فلا حاجة بنا في
هذا المقام إلى بيان : أن الحاكم بهذه المقدمة ] هو الوهم أو غيره. وأما إن اعترفتم بأن الجزم بهذه القضية
يساوي الجزم بالبديهيات. فنقول : إن العلم بأن أحد الجزمين حاصل من العقل الصادق ،
وأن الجزم الثاني حاصل من الوهم الكاذب ، أهو علم ضروري أو نظري؟ فإن كان علما
ضروريا ، كان العلم الضروري حاصلا بأن الحكم [بأن كل موجودين فلا بد وأن يكون
أحدهما ساريا في الآخر ، أو مباينا عنه بالجهة حكم ] كاذب. ومتى كان الأمر كذلك ، كان كذب هذه القضية معلوما
بالضرورة. وقد كنا فرضنا : أن الجزم بصحتها يساوي الجزم بالبديهيات في القوة. هذا
خلف. وإن كان ذلك العلم مستفادا من الحجة والدليل ، فحينئذ تتوقف صحة البديهيات ،
على هذا النظر والدليل ، لكن العلم بصحة النظريات ، موقوف على العلم بالبديهيات.
فيلزم الدور ، والدور باطل. فكان العلم بصحة هذه البديهيات موقوفا ، على مقدمة
باطلة ، والموقوف على الباطل باطل، فيلزم القدح في كل البديهيات ، وذلك باطل قطعا.
فعلمنا : أن الجواب الذي عول عليه الشيخ الرئيس هاهنا فيه هذا البحث الغامض [والله
أعلم ].
والجواب عن الشبهة الثالثة : إنه بناء على أن إدراك الشيء ، لا يتم إلا عند حصول صورة
المعلوم في ذات العالم ، والاستقصاء التام فيه. قد سبق.
والجواب عن الشبهة الرابعة : إنها مبنية
على أن معنى حصول الصفة
في الموصوف : حصول تلك الصفة في ذلك الحيز ، تبعا لحصول تلك الذات فيه. وهذا باطل.
لأن حصول تلك الذات في هذا الحيز صفة لتلك الذات ، قائمة بها ، فلو كان معنى حصول
الصفة ما ذكرتم ، لوجب أن يكون حصوله في الحيز مسبوقا بحصول آخر في ذلك الحيز ،
وذلك يوجب التسلسل وهو محال.
والجواب عن الشبهة الخامسة : من وجوه :
__________________
الأول : إن مدار هذه الشبهة على أن كل موجودين في الشاهد ، فإنه يجب
أن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو مباينا له بالجهة. وهذه المقدمة ممنوعة. وبيانها
من وجوه : الأول : إن جمهور الحكماء [أثبتوا موجودات غير مجانبة لهذا العالم
الجسماني ، ولا مباينة عنه بالجهة. وذلك لأنهم ] أثبتوا العقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة ،
وأثبتوا الهيولى ، وزعموا أن هذه الأشياء موجودات غير متحيزة ، ولا حالة في
المتحيز ، ولا يصدق عليها أنها مجانبة لهذا العالم ، ولا مباينة ، عنه بالجهة.
الثاني : إن جمهور المعتزلة أثبتوا إرادات وكراهات موجودة لا في محل ، وفناء لا في
محل ، إذا خلقه الله تعالى ـ يعنون به جميع الأجسام ـ وهذه الأشياء لا يصدق عليها
أنها مجانبة للعالم ولا أنها مباينة عنه بالجهة. الثالث : إنا نقيم الدلالة
القاطعة على أن الإضافات موجودات في الأعيان. ثم نبين أنه يمتنع كونها مجانبة
للعالم أو مباينة عنه بالجهة. وذلك يبطل كلامهم.
أما بيان كون
الإضافات موجودات في الأعيان : [فقد ذكرناه في باب أقسام الأعراض. وأما بيان أنه
لما كانت الإضافات موجودة في الأعيان ] فإنه يمتنع أن يصدق عليها كونها مجانبة للذوات أو مباينة
عنها بالجهة ، فهو أنه لو كان الأمر كذلك ، لزم أن يقوم بنصف الأب ، نصف الأبوة ،
وبثلثه ثلثها. ومعلوم أن ذلك باطل ، فيثبت أن كون هذه الإضافات سارية في ذات الأب
، قول محال. وأيضا يمتنع أن يقال إن هذه الإضافات مباينة بالجهات عن ذات الأب ،
وإلا لزم كون الأبوة جوهرا قائما بذاته وهو محال. فثبت بهذه البيانات : وجود
موجودات لا يصدق عليها أنها مجانبة للجسم ، أو أنها مباينة عن ذات الجسم بالجهة ،
فيثبت بهذا بطلان هذه المقدمة.
السؤال الثاني : سلمنا : أن كل موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا
للآخر ، أو مباينا عنه بالجهة ، لكن كون الشيء بحيث يصدق
__________________
عليه إما كذا وإما
كذا : إشارة إلى كونه قابلا للانقسام إليهما لكن قبول القسمة حكم عدميّ والعدم لا
يعلل.
وإنما قلنا : إن
قبول القسمة حكم عدمي [لأن الأصل للقبول حكم عدمي ] فوجب أن يكون قبول القسمة حكما عدميا. وإنما قلنا : إن
أصل القبول حكم عدمي ، لأنه لو كان أمرا ثبوتيا ، لكان صفة من صفات الشيء المحكوم
عليه ، بكونه قابلا. والذوات قابلة للصفات القائمة بها ، فيكون قبول ذلك القبول
زائدا عليه. ويلزم التسلسل. وهو محال. وإنما قلنا : إنه لما كان أصل القبول حكما
عدميا ، كان قبول القسمة أيضا كذلك. لأن قبول القسمة قبول مخصوص ] وتلك الخصوصية. إن كانت صفة موجودة ، لزم قيام الوجود
بالعدم ، وهو محال ، وإن كانت عدمية ، لزم القطع بأن قبول القسمة [عدمي. وإذا ثبت
أنه حكم عدمي ، امتنع تعليله. لأن العدم نفي محض ، فكان التأثير فيه محالا. فثبت :
أن قبول القسمة ] لا يمكن تعليله.
السؤال الثالث : هب أنه من الأحكام المعللة ، فلم لا يجوز أن يكون ذلك معللا بخصوص
كونه جوهرا أو بخصوص كونه عرضا؟ قوله : «لأن كونه جوهرا ، يمنع من المجانبة، وكونه
عرضا يمنع من المباينة بالجهة ، وما كان علة لقبول الانقسام إلى قسمين يمتنع كونه
مانعا من أحد القسمين» قلنا : ما الذي تريدونه بقولكم : الموجود في الشاهد ينقسم
إلى المجانب ، وإلى المباين بالجهة؟ إن أردتم به أن الموجود في الشاهد قسمان :
أحدهما : الذي يكون مجانبا لغيره ،
وهو العرض. والثاني : الذي يجب أن يكون مباينا لغيره بالجهة وهو الجوهر ، فهذا مسلم. لكنه في الحقيقة إشارة
إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين ، فإن عندنا وجوب كونه مجانبا بغيره ،
معلل بكونه عرضا ، ووجوب كون القسم الثاني مباينا عن غيره
__________________
بالجهة ، معلل
بكونه جوهرا ، فبطل قولكم : إن خصوص كونه عرضا ، وخصوص كونه جوهرا لا يصلحان لعلية
هذا الحكم ، وإن أردتم به أن إمكان الانقسام إلى هذين الحكمين حكم واحد ، وأنه
ثابت في جميع الموجودات التي في الشاهد ، فهذا باطل لأن إمكان الانقسام إلى هذين
القسمين ، لم يثبت في شيء من الموجودات التي في الشاهد ، فضلا عن أن يثبت في
جميعها ، لأن كل موجود في الشاهد فهو إما جوهر وإما عرض ، فإن كان جوهرا امتنع
كونه مجانبا لغيره ، فلم يكن قابلا لهذا الانقسام ، وإن كان عرضا امتنع كونه
مباينا لغيره بالجهة ، فلم يكن قابلا لهذا الانقسام ، فثبت بما ذكرنا : أن الذي
قالوه مغالطة. والحاصل : أن هذا المستدل أوهم أن قوله الموجود في الشاهد إما أن
يكون مجانبا لغيره ، أو مباينا عنه بالجهة إشارة إلى حكم واحد ثم بنى عليه أنه لا
يمكن تعليل ذلك الحكم بخصوص كونه جوهرا ، أو بخصوص كونه عرضا. ونحن بينا : أنه
إشارة إلى حكمين مختلفين معللين بعلتين مختلفتين.
السؤال الرابع : سلمنا أنه لا يمكن تعليل هذا الحكم بخصوص كونه جوهرا ، ولا بخصوص كونه
عرضا. فلم قلتم : إنه لا بد من تعليله إما بالحدوث وإما بالوجود؟ وما الدليل على
هذا الحصر؟ أقصى ما في الباب أن يقال : سبرنا وبحثنا فلم نجد قسما آخر إلا أنا
بينا في الكتب المنطقية : أن عدم الوجدان لا يوجب وجدان العدم ، وقد قررنا : أن
التقسيمات المنتشرة لا تفيد الظن فضلا عن اليقين.
السؤال الخامس : سلمنا أن عدم الوجدان يفيد وجدان العدم ، إلا أنا نذكر وجوها أخرى هاهنا ، سوى
الحدوث والوجود. وبيانه من وجهين : ـ
الأول : إنه يحتمل أن يكون المقتضى لقولنا : الشيء إما أن يكون مجانبا للعالم أو
مباينا عنه. هو كونه بحيث تصح الإشارة الحسية إليه ، وذلك لأنا نقول : كل شيئين
تصح الإشارة الحسية إليهما ، فأما أن تكون الإشارة إلى أحدهما غير الإشارة إلى
الآخر ] وهذا هو المباينة في الجهة. فيثبت أن
__________________
المقتضى لقبول هذه
القسمة هو كون الشيء مشارا إليه بحسب الحسّ ، وعلى هذا التقدير فما لم تقيموا
الدلالة على أنه تعالى مشارا إليه بحسب الحسّ فإنه لا يمكن أن يقال : إنه يجب أن
يكون إما مجانبا للعالم أو مباينا عنه بالجهة ، لكن كونه تعالى بحيث تصح الإشارة
إليه بحسب الحس ، هو عين ما وقع النزاع فيه ـ وحينئذ يتوقف صحة الدليل على صحة
المدلول وذلك يفضى إلى الدور ، وأنه باطل.
الثاني : إنه لا شك أن الجوهر والعرض يخالفان ذات الله تعالى ، والأمر الذي به يخالفان ذات الله
وصفاته ، مفهوم مشترك بينهما ، فلم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبول القسمة إلى
المجانب وإلى المباين ، هو ذلك المفهوم المشترك؟
السؤال السادس : سلمنا الحصر ، فلم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبول هذه القسمة هو الحدوث؟] قوله :
[الحدوث ] ماهية مركبة من العدم والوجود» قلنا الممكن هو الذي تكون
ماهيته قابلة للعدم والوجود ، وكون الشيء بحيث ينقسم إلى المجانب والمباين معناه
قبول الانقسام إلى هذين القسمين.
فالقابلية إن كانت
صفة وجودية كانت كذلك في الموضعين ، وإن كانت صفة عدمية فهي كذلك في الموضعين ،
فتعليل أحدهما بالآخر يقتضي إما تعليل وجود بوجود ، أو تعليل عدم بعدم ، ولا
امتناع في واحد من هذين الأمرين.
أما قوله ثانيا : «لو
كان المقتضى لهذا الحكم هو الحدوث لكان الجهل بحدوث الشيء يوجب الجهل بهذا الحكم»
قلنا : لم قلتم : إن الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر؟ ألا ترى أن جهل الناس
بموجبات الصحة والمرض ، لا يوجب جهلهم بحصول الصحة والمرض. وجهل الدهريين بكونه
تعالى قادرا على الخلق والتكوين ، لا يوجب جهلهم بوجود هذا العالم؟ وأيضا : إن كان
الجهل بالمؤثر يوجب الجهل بالأثر ، لكان العلم بالمؤثر ، أولى أن يوجب العلم
بالأثر فعلى هذا التقدير لو كان المقتضى للانقسام إلى المجانب وإلى المباين بالجهة
__________________
هو الوجوب لكان كل
من علم كون الله تعالى موجودا ، وجب أن يلزم من ذلك العلم ، علمه بكونه تعالى
مجانبا لغيره أو مباينا لحيزه بالجهة ، ومعلوم أن ذلك باطل. لأن جمهور أهل التنزيه
على كثرتهم وقوة خواطرهم ، يعلمون كونه تعالى موجودا ، مع أنه لا يخطر ببالهم
البتة وجوب كونه تعالى إما مجانبا للعالم أو مباينا عنه بالجهة. فبطل قولهم.
وأما قوله ثالثا :
«كونه محدثا وصف معلوم بالدليل ، وكون السموات إما مجانبة للأرض ، أو مباينة عنها
بالجهة معلوم بالضرورة ، والشيء المعلوم بالضرورة لا يمكن تعليله بالشيء الذي لا
يعلم إلا بالنظر» قلنا : فهذا ممنوع ، فإنا بينا في كثير من الأشياء : أن الأثر
معلوم بالضرورة ، والاستدلال معلوم بالنظر.
السؤال السابع : سلمنا أن المؤثر في هذا الحكم [ليس ] هو الحدوث. وأنه هو الوجود. لكن لم قلتم : يلزم حصول هذا
الحكم في حق الله تعالى؟ وبيانه : أن هذا المطلوب إنما يلزم لو كان وجود الله
تعالى مساويا لوجود الممكنات. وهذا إنما يصح إن قلنا : إن وجود الله تعالى صفة
قائمة بماهيته. والكرامية لا يقول أكثرهم بذلك.
السؤال الثامن : إنه قد يحصل المقتضى ، ولكن يتخلف عنه الحكم. إما لأن المحل غير قابل ،
وإما لأن الشرط فائت ، ألا ترى أن كون الحي حيا يصحح قبول الشهوة والنفرة والألم
واللذة والجهل والموت. ثم إنه تعالى حيّ ، مع أن شيئا من هذه الأحكام لا يصح عليه
، إما لأن ذاته تعالى غير قابلة لهذه الأحكام ، أو لأن قبول هذه الأحكام موقوف على
شرط ، يمتنع حصوله في حق الله تعالى. فلم قلتم : لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك؟.
السؤال التاسع : [إن ما ذكرتم إن دل على أن المقتضى لقبول هذه القسمة هو الوجود فههنا ما
يدل على أنه ليس الأمر كذلك ، فإنه لو كان ]
__________________
المقتضى لقبول
الانقسام إلى المجانب وإلى المباين هو الوجود.
ثم إن الوجود [حاصل
بالسوية. فوجب أن ينقسم الجوهر ، إلى ما يكون مجانبا ، وإلى ما يكون ] مباينا بالجهة. ومعلوم أن انقسام الجوهر إلى هذين القسمين
: محال. ولزم أيضا في العرض أن ينقسم إلى هذين القسمين. ومعلوم أنه محال. فإن
قالوا : إن كل جوهر وعرض ، فإنه يصح أن يكون منقسما إلى هذين القسمين ، نظرا إلى
كونه موجودا. وإنما يمتنع ذلك الانقسام ، نظرا إلى مانع منع منه ، وهو خصوصية
ماهيته. فنقول : فهذا اعتراف بأنه لا يلزم من كون الوجود علة لصحة أمر من الأمور ،
أن يصح ذلك الحكم على كل ما كان موصوفا بالوجود ، لاحتمال أن تكون خصوصية تلك
الماهية ، مانعة من ذلك الحكم.
السؤال العاشر : إن ما ذكرتموه من الدلائل قائم في صور كثيرة ، مع أن النتيجة المطلوبة
باطلة قطعا. فالأول : إن كل ما سوى الله فإنه محدث ، فتكون صحة الحدوث حكما مشتركا
بينهما ، فنقول : هذه الصحة حكم مشترك ، فلا بد لها من علة مشتركة والمشترك إما
الحدوث وإما الوجود ، ولا يمكن أن يكون المقتضى لصحة الحدوث هو الحدوث ، لأن صحة
الحدوث سابقة على الحدوث بالرتبة ، والسابق بالرتبة على الشيء يمتنع كونه معللا
بالمتأخر ، فثبت : أن صحة الحدوث لا يمكن أن تكون معللة بالحدوث ، فوجب كونها
معللة بالوجود ، فوجب أن يكون كل موجود بحيث يصح أن يكون محدثا ، ومعلوم أنه باطل.
والثاني : إن كل موجودين في الشاهد ، فلا بد وأن يكون أحدهما مجانبا للآخر ، أو
مباينا عنه في أي جهة كان ثم نذكر التقسيم المتقدم حتى يظهر أن هذا الحكم معلل بالوجود
، والباري تعالى موجود فيلزم أن يصح على الباري كونه مجانبا للعالم أو مباينا عنه
بأي جهة كانت ، وذلك يقتضي جواز الحركة على الله تعالى ، وهو محال. والثالث : وهو
أن كل موجود في الشاهد ، فهو إما حجم وإما قائم بالحجمية ، ثم نذكر التقسيم الذي
ذكرتم إلى آخره ،
__________________
فيلزم أن يكون
الباري تعالى ، إما حجما وإما قائما بالحجم. وأكثر الكرامية لا يقولون به.
واعلم أنا إنما
طولنا في الكلام على هذه الشبهة ، لأن الكرامية يعوّلون عليها ، ويظنون أنها حجة
قاهرة ، ونحن بعد أن بالغنا في تهذيبها وترتيبها ، أوردنا عليها هذه الأسئلة
القاهرة ليظهر ضعفها. والله أعلم.
والجواب عن الشبهة السادسة وهي رفع
الأيدي إلى السماء. فنقول : إن رفع الأيدي إلى السماء إنما كان لأجل أن السماء منزل البركات
والخيرات. فإن الأنوار إنما تنزل منها والماء إنما ينزل منها وإذا ألف الإنسان
حصول الخيرات من جانب ، مال طبعه إليه ، فهذا المعنى هو الذي أوجب رفع الأيدي إلى
السماء وتوجه الأبصار إليها.
والذي يدل عليه :
أن الموضع الذي من السماء : يكون فوقا لأهل بلد ، يكون يمينا لأهل بلد آخر ،
ويسارا لأهل بلدة ثالثة. والدليل عليه : أن الشمس إذا كانت في أول السرطان ، فإن
الضوء ينزل إلى أعماق الآبار في مكة والمدينة ويضيء جميع جوانب البئر ، وليس الأمر
كذلك في البلاد الشمالية ، وهذا مما يعرفه جميع العوام الذين سافروا في البلاد.
وإذا ثبت هذا فنقول : إن أهل كل بلد ، يرفعون أيديهم إلى الجانب الذي هو فوقهم ،
فإن كان إله العالم كائنا في الموضع الذي هو فوق هذه البلدة ، لزم أن يكون [إله
العالم ] كائنا لا فوق البلدة الثانية ، بل إما على يمينها ، أو
على يسارها ، أو جهة أخرى. وحينئذ لا يلزم من رفع الأيدي إلى السماء كون الإله فوق
ذلك الموضع. وأما إن قلنا : إن إله العالم كائن فوق جميع البلاد فهذا القول إنما
يتم لو كان إله العالم كرة محيطة بجميع الأرض ، وحينئذ يرجع حاصل هذا القول إلى أن
إله العالم فلك من الأفلاك المحيطة بالأرض ، ومعلوم أن العاقل لا يقول ذلك.
والجواب عن الشبهة السابعة : هو أن الدعوة للخلق إلى الحق يجب أن تكون واقعة على أحسن الوجوه
وأقربها إلى الصلاح ، ولما كان التصريح بالتنزيه
__________________
مما لا تقبله عقول
العوام ، لا جرم كان الأولى اشتمال الدعوة على ألفاظ توهم التشبيه مع التنبيه على
كلمات تدل على التنزيه المطلق.
والجواب عن الشبهة الثامنة : إن الكلام في أنه هل تجوز رؤية الله تعالى؟ سيأتي تقريرها. وبتقدير
صحتها فإنا نقول : إن كان مجرد الاستبعاد كافيا ، فلا شك أن الوهم والخيال يستبعد
وجود موجود معبود لا داخل العالم ولا خارجه ، فوجب أن يكتفى بهذا القدر من غير
حاجة إلى التمسك بالرؤية ، وإن كان غير كافي فنقول. كما أثبتنا موجودا لا في
العالم ولا في خارج العالم على خلاف حكم الوهم والخيال ، فكذلك جمع عظيم من الناس
أثبتوا رؤية شيء ، لا في الجهة ، فلم قلتم : إن ذلك محال؟ وما الدليل الذي دل على
امتناعه؟ فإن أحدا من المخالفين لم يذكر فيه شيئا سوى الاستبعاد. وهذا تمام
الأجوبة على شبهات من أثبت الحيز والجهة. [والله أعلم بحقائق الأمور ].
__________________
الفصل الثامن
في
بيان أنه يمتنع أن يكون إله العالم
هو هذا الفضاء الذي لا نهاية له
اعلم : أن من
الناس من قال : إن هذا الفضاء الذي لا نهاية له : هو الله سبحانه. قالوا : والسبب
في اعتقاد هذا المذهب : إن بديهة العقل حاكمة بأن الموجود ، إما هذا الفضاء ، وإما
شيء يحصل في هذا الفضاء. إما حصولا على سبيل الاستقلال وهو الجسم ، أو على سبيل
التبعية وهو العرض. قالوا : والصفات والأعراض محتاجة إلى الذوات التي هي الجواهر
والأجسام. وهذه الذوات محتاجة في وجودها إلى هذا الفضاء ، وأما هذا الفضاء فإنه
غير محتاج إلى شيء آخر ، لأن الفضاء شيء قائم بنفسه ، فلا حاجة به إلى فضاء آخر.
وأيضا : العقل
يأبى تصور عدم هذا الفضاء ، لأن بتقدير أن يرتفع هذا الفضاء فهل يتميز هاهنا
الجانب الذي هو قدامي عن الجانب الذي هو خلفي ، أو لا يتميز؟ فإن لم يتميز ، فهذا
مدفوع في بديهة العقل ، [وإن تميز أحد الجانبين عن الآخر ، فذلك الفضاء موجود لأنا
لا نعني بهذا الفضاء إلا الأمر الذي يتميز فيه جهة عن جهة ] وجانب عن جانب. وعلى هذا التقدير : الفضاء شيء يلزم من
فرض عدمه فرض وجوده ، وهذا محال. والمفضي إلى المحال محال.
فيثبت : أن فرض
عدم هذا الفضاء ممتنع لذاته [فيثبت بما ذكر : أن هذا
__________________
الفضاء واجب الوجود
لذاته ، ويثبت : أن ما سواه من الذوات والصفات مفتقر إليه ]
ويثبت : أنه غني عن كل ما سواه ولا معنى للإله الواجب الوجود لذاته ، إلا ذلك.
فيثبت : أن إله العالم ليس إلا هذا الفضاء الذي لا نهاية له. ثم قالوا : إن جميع
الصفات اللائقة بالإلهية ، حاصل فيه. فإحداهما : قولنا : الإله يجب أن يكون غير
متناهي ، وهذا الفضاء كذلك ، لأنه لو كان متناهيا ، لكان إما أن يتميز جانب عن
جانب في الخارج منه ، وإما أن لا يتميز ، فإن حصل ذلك الامتياز فهو موجود حال ما
فرض معدوما.
هذا خلف. وإن لم يحصل ذلك الامتياز ،
فقد ذكرنا : أن بديهة العقل تحكم بامتناع ذلك. وثانيها : أن من صفات الإله تعالى
أنه مع كونه غير متناهي ، يكون غير قابل للفصل والوصل ، والاجتماع والافتراق. وهذا
الفضاء كذلك. لأنه مع كونه غير متناهي لا يقبل التفرق والتمزق ، والفصل والوصل ،
بل هو باقي أبد الآباد على حالة واحدة. وثالثها : أنه جاء في صفة اللّه تعالى كونه
قريبا من عباده ، كما في جاء في الكتاب الإلهي من قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ)
ومن قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ
الْوَرِيدِ)
والقول : بأن إله
العالم هو هذا الفضاء يحقق هذا الكلام.
وأما قول من يقول : إنه على هذا التقدير
تكون ذاته مخالطة للقاذورات. فهو كلام ضعيف. لأن هذا إنما يصير إذا تأثر ذلك الشيء
بمخالطة غيره
والفضاء لا تتغير ذاته ولا حقيقته بحسب ما يحصل فيه البتة ، ألا ترى أنه لا نزاع
في أنه تعالى موجود
مع كل الحوادث ، ولم يلزم من كونه تعالى مع هذه الحوادث بسبب الوقت والزمان : نقص
في ذاته. فكذلك لا يلزم من كونه تعالى معها بحسب الجهة والمكان : حصول نقص فيه.
ورابعها : إن على هذا
__________________
التقدير يكون غنيا عن
المكان والحيز ، لأن من المعلوم بالضرورة : أن هذا الفضاء ليس حاصلا في فضاء آخر ،
بل هو شيء قائم بنفسه ، غني عن كل ما سواه.
فهذا حكاية شبهات
هؤلاء الأقوام.
واعلم أن هذا
القول عندنا باطل. لأن هذا الفضاء إما أن يكون محضا ، وإما أن يكون موجودا ، فإن
كان عدما محضا ، امتنع القول بكونه إلها للعالم ، وإن كان موجودا فلا شك أنه قابل
للمساحة والتقدير والتبعيض. فإن الخلاء الذي بين جداري الصفّة أصغر من الخلاء الذي
بين جداري البلد ، وما كان كذلك كان قابلا للقسمة والتجزئة. وما كان كذلك كان
مركبا وكل مركب ممكن ، ولا شيء من الممكن بواجب ، ينتج : فلا شيء من الفضاء بواجب
الوجود لذاته. وينعكس فلا شيء من الواجب الوجود لذاته بفضاء. وهذا برهان قاطع في
إثبات المطلوب.
وأما قولهم : بأن
هذا الفضاء غني عن الغير ، وقريب ، وغير متناهي ، والإله غني عن الغير ، وقريب
وغير متناهي. فكل ذلك تمسك بقياس من موجبتين في الشكل الثاني ، وأنه غير منتج ،
لما ثبت أنه لا يمتنع في العقل اشتراك الماهيات المختلفة في بعض اللوازم. [والله
أعلم ].
__________________
الفصل التاسع
في
تفسير قولنا : إن الإله تعالى غير متناهي
اعلم أن هذا اللفظ
يطلق في حق الله تعالى تارة بحسب ذاته ، وتارة بحسب دوام وجوده ، وتارة بحسب صفاته
، وقبل الخوض في هذه التفاصيل نقول : إن قولنا للشيء : إنه لا نهاية له قد يذكر
بمعنى السلب وقد يذكر بمعنى العدول. أما بمعنى السلب فهو أن يكون المراد : أن
الماهية القابلة لمعنى الحد والنهاية مسلوبة عنه. وذلك لأن النهاية عبارة عن طرف
مقدار الشيء ومقطعه ، وإذا كان خاليا عن المقدار وجب خلوه عن طرف المقدار ، لأن
عند انتفاء المقدار ، يستحيل حصول طرف المقدار وأما بمعنى العدول ، فهو أن يكون
الشيء له حجمية ومقدار ، إلا أنه لا ينتهي مقداره إلى مقطع وحد ، بل كلما عددته أو
قدرته ، فإنك تجد خارجا عنه شيئا آخر منه من غير حاجة إلى التكرير. إذا عرفت هذا
فنقول : إذا قلنا : إن ذات الله تعالى غير متناهي ، فإنا نريد به معنى السلب. نعني
: أنه منزه عن المقدار والحجمية والوضع والحيز ، وإذا كان الأمر كذلك فالمعنى الذي
لأجله يصح وصف الشيء بأن له حدا أو طرفا ، مسلوب عن ذات الله تعالى ، فكأن ذاته
غير متناهية بهذا التفسير. وهذا عند من يقول إنه تعالى منزه عن المقدار والجسمية
والوضع والحيز ، أما عند من يقول بهذه المذاهب ، فإنه نفس كونه تعالى غير متناهي ،
إما في جميع الجهات ، أو في بعض الجهات بالتفسير الثاني. وهذا هو الكلام في تفسير
كونه تعالى غير متناهي ، بحسب الذات.
وأما كونه تعالى
غير متناهي بحسب الدوام والبقاء ، فإن تفسيره هو الوجه الثاني ، وهو أنا إذا
استحضرنا في أوهامنا ، وخيالاتنا أيا من السنين؟ كم سنينا من الأعداء؟ فإنا لا
ننتهي إلى طرف وحد إلا ويحكم العقل بأنه تعالى كان موجودا قبل ذلك ، وهذا الحكم
باقي أبد الآباد ، فإن قالوا : فهذا الدوام لا يمكن تعقله إلا مع فرض الزمان
الدائم ، والمدة المستمرة ، وإذا كان الله تعالى واجب الدوام ، وثبت أن حقيقة
الدوام لا تعقل إلا مع المدة والزمان ، فحينئذ يلزم افتقار ذات الله تعالى في
الدوام والبقاء ، إلى شيء غيره ، والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون
الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. هذا خلف. ونقول : دوام الشيء لا يتوقف على اعتبار حال
الزمان والمدة ، لأن ذلك الزمان إما أن يكون دائما أو لا يكون ، فإن كان دائما فدوامه
ليس لأجل دوام زمان آخر ، وإلا لزم أن يكون كل زمان مظروفا لزمان آخر ، إلى غير
النهاية [أو كلها يكون موجودا دفعة. وذلك محال. وإذا كان دوام الزمان ] ليس لأجل زمان آخر ، فقد عقلنا معنى الدوام من غير اعتبار
زمان آخر ، فليعقل مثله في حق واجب الوجود لذاته ، وأما إن قلنا : إن الزمان غير
دائم مع أن واجب الوجود دائم لذاته ، فحينئذ لا يكون دوامه مشروطا بشيء آخر ، وذلك
يوجب سقوط السؤال المذكور وأما كونه تعالى غير متناهي بحسب الصفات فنقول : إنه
تعالى قادر على ما لا نهاية له ، ولا نريد به أن تلك المعدودات أعداد متشخصة بحيث
يكون كل واحد منها في نفسه متميزا عن الأخر ، وأنه تعالى قادر عليها ، كما يقوله
القائلون : بأن المعدوم شيء بل المراد منه : أنه تعالى لا ينتهي في الخلق والتكوين
إلى حد ، إلّا ويبقى بعد ذلك قادرا على الإيجاد والتكوين كما كان قبل ذلك ، وهذا
هو المراد من قولنا : إنه تعالى قادر على ما لا نهاية له. ونقول [أيضا : إنه عالم
بما لا نهاية له ] والمراد ما ذكرناه ، والإشكال هاهنا أصعب لأن القدرة
مؤثرة في المقدور ، فلم يلزم أن يكون المقدور مقدورا في نفسه قبل ذلك التأثير. أما
العلم بأنه يتعلق بالشيء على ما هو عليه ، فوجب تقرير
__________________
تلك الماهيات
المعلومة في أنفسها قبل تعلق ذلك العلم بها ، فهذا موضع بحث غامض.
وأما القائلون
بقدم العالم فقد يقولون : إن الحوادث الماضية غير متناهية ، وقد يقولون أيضا : [إن
الحوادث المستقبلة غير متناهية. أما إذا قلنا : الحوادث الماضية غير متناهية فلا
نريد به ] أن ذلك المجموع دخل في الوجود ، مع كونه غير متناهي العدد
، فإن ذلك المجموع البتة لا وجود له. لا في الأعيان ولا في الأذهان ، أما في
الأعيان فلأن الموجود منه أبدا ليس إلا الواحد ، وأما المجموع فلا يحصل له وجود
البتة في شيء من الأوقات ، وأما في الأذهان فلأن الذهن لا يقوى على استحضار أعداد
غير متناهية على التفصيل. نعم الذهن يقوى على استحضار معنى اللانهاية ، إلا أن هذا
المعنى شيء واحد ، وحقيقته واحدة. فأما أن يقوى الذهن على استحضار أعداد لا نهاية
لها فذلك محال. فيثبت : أن مجموع الحوادث الماضية لا وجود لها في الأعيان ولا في
الأذهان. وإذا ثبت هذا فنقول : إنا إذا قلنا : إنه لا نهاية للحوادث الماضية عنينا
به : أن الوجود لا ينتهي في طرف الماضي إلى جانب لا يكون مسبوقا بحادث آخر ، بل
يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر ، لا إلى أول.
وهذا هو تفسير
قولنا : إنه لا نهاية للحوادث في طرف الماضي. وأما قولنا : إنه لا نهاية لها في
طرف المستقبل فاعلم أنه يصح أن يقال : إن الحوادث في طرف المستقبل أبدا متناهية
بالفعل ، ويصح أن يقال : إنها أبدا متناهية بالقوة [ويصح أن يقال إنها أبدا غير
متناهية لا بالفعل ولا بالقوة. أما أنها أبدا متناهية بالفعل ] فلأنها أبدا تكون منتهية إلى حادث معين ، يكون هو آخر لكل
ما مضى ، فالحوادث أبدا تكون متناهية بالفعل ، وأما أنها أبدا تكون متناهية بالقوة
، فلأن كل حادث يحدث فستحدث بعده حوادث أخرى بعد ذلك ، وتلك الحوادث المستقبلة
تكون بالقوة والجملة الماضية عند كل واحد منها تكون متناهية ، فالجملة الماضية
بحسب كل واحد من تلك الآحاد التي هي
__________________
موجودة بالقوة ،
تكون متناهية بالقوة. وأما أنها غير متناهية لا بالقوة ولا بالفعل ، فهي بحسب
النهاية [التي لا يوجد بعدها نهاية أخرى ، فإذا كانت هذه النهاية ] ممتنعة الحصول ، كان انتهاء الجملة الماضية إلى مثل هذه
النهاية لا تكون موجودة لا بالفعل ولا بالقوة. [وكانت الجملة الماضية غير متناهية
إلى مثل هذه النهاية لا بحسب الفعل ولا بحسب القوة ] وهذا تمام الكلام في هذا الباب.
ونختم هذا الفصل
بذكر ما جاء في الفلسفة القديمة : [وهو ] أن إله العالم هو حقيقة اللانهاية. فنقول : إن عنوا به أن
إله العالم هو الذي يصدق عليه كونه غير متناهي في الذات ، وفي الدوام ، وفي الصفات
، على التفاسير المذكورة. فقد صدقوا في هذا القول. وإن عنوا به أن إله العالم هو
نفس معنى اللانهاية [فقد أبعدوا ، لأن مجرد معنى اللانهاية ] اعتبار ذهني ، ولا استقلال له في الثبوت والوجود ، فيمتنع
القول بكونه إلها واجب الوجود لذاته. [والله أعلم ].
__________________
الفصل العاشر
في
أنه هل يصح أن نرى واجب الوجود لذاته؟
اعلم : أنه قد عظم
الشغب فيه بين المتكلمين. ويجب قبل الخوض فيه تقديم مقدمات، لا يتم الكلام إلا بتقديمها.
المقدمة الأولى : في تفسير الرؤية.
فنقول : إدراك الشيء يقع على ثلاث مراتب. فالمرتبة الأولى : إنا إذا رأينا البناء ، علمنا أنه لا بد له من باني. وهاهنا المعلوم ليس
إلا كونه بانيا فأما حقيقته المخصوصة ، وذاته
المعينة من حيث هي هي ، فإنها لا تصير معلومة البتة. والمرتبة الثانية : إنا إذا
علمنا الماهية [المخصوصة المسماة باللون عن طريق الإبصار ، وعلمنا الماهية المخصوصة المسماة ] بالصوت عن طريق السماع ، ثم أغمضنا العين ، وسددنا الأذن
، فإنا نكون عالمين بحقيقة اللون من حيث إنه هو ، وبحقيقة الصوت من حيث إنه هو ،
ولا شك أن هذه المرتبة أقوى في كونه معلوما متصورا مدركا من المرتبة الأولى. فإنا
في المرتبة الأولى ما علمنا الشيء إلا بحسب صفة عرضية من صفاته ، وأما في هذه
المرتبة فقد علمنا الماهية المخصوصة من حيث إنها هي ، فهذه المرتبة أقوى في
المعلومية وفي المتصورية من المرتبة الأولى. وأما
المرتبة الثالثة في الإدراك : فهو أن ننظر بالعين إلى اللون ، وأن نسمع بالأذن ذلك الصوت فإنا حال ما غمضنا العين ، كنا عالمين
بماهية اللون المخصوص ، علما
__________________
لا شك لنا فيه ،
ثم لما فتحنا العين ونظرنا إليه حصلت حالة زائدة على الحالة الأولى في الخلاء
والكشف. وصريح العقل حاكم بأن هذه المرتبة الثالثة أكمل وأقوى من المرتبة الثانية
، كما أن المرتبة الثانية كانت أقوى وأكمل من المرتبة الأولى.
إذا عرفت هذا
فنقول : إنا إذا علمنا أن العالم ممكن ، علمنا أن كل ممكن فلا بد له من سبب ،
وعلمنا أن الدور والتسلسل باطلان ، فحينئذ نعلم أن هذه الممكنات يجب انتهاؤها إلى
موجود واجب الوجود لذاته. فههنا المعلوم : إثبات موجود ، يستند غيره إليه ولا
يستند هو إلى غيره ، والمعلوم هاهنا أمور ثلاثة : أحدها : الوجود المطلق. والثاني
: وجوب استناد غيره إليه ، وهذا نفس الإضافة. والثالث : امتناع استناده إلى غيره
وهذا سلب. فيثبت أن المعلوم هاهنا وجود مقيد ، يفيد إضافة ويفيد سلبا ، وكل ذلك
مغاير للحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود.
فيثبت : أن الحاصل
عندنا من معرفة الله تعالى ليس إلا المرتبة الأولى. وأما المرتبة الثانية فهل هي
حاصلة لأحد من الخلق؟ وبتقدير أن لا تكون حاصلة لأحد ، فهل هي ممكنة الحصول
للملائكة فقط ، أو لهم وللأنبياء ، أو هي ممكنة الحصول للكل؟ وهذه المباحث لا بد
فيها من البحث. أما المرتبة الثالثة فهل هي ممكنة الحصول لأحد من الخلق أم لا؟ هذا
هو المراد من قولنا : إن رؤية الله تعالى هل هي ممكنة الحصول أم لا؟ فهذا تمام
البحث عن قولنا : إنه هل تصح رؤية الله تعالى أم لا؟.
وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن
رؤية الموجود الذي لا
يكون مختصا بالمكان أو الحيز ، هل هو معلوم الامتناع في بديهة العقل أم لا؟ فنقول
: القول الصحيح : إن الرؤية بالتفسير الذي ذكرناه ليست معلومة الامتناع في بديهة
العقل ، وذلك لأنا في هذه الحياة علمنا الله تعالى علما واقعا في المرتبة الأولى ،
وعلمنا أنه منزه عن الجسمية والمكان. فهل يمكن أن نعلم الله تعالى علما واقعا في
المرتبة الثانية مع العلم بكونه منزها عن الجسمية والمكان؟ وإذا ثبت هذا فهل يمكن
إدراكه على الوجه الواقع في المرتبة الثالثة ، مع كونه منزها عن الجسمية
والجهة؟ ومن
المعلوم بالضرورة أن امتناع ذلك غير معلوم بالضرورة ، لأنا قد ذكرنا أن المراد
بالرؤية نوع من الانكشاف ، نسبته إلى المرتبة الثانية كنسبة رؤية اللون إلى تصور
ماهية اللون ولا شك أن الحكم بجواز حصول هذه الحالة ، وبامتناع حصولها ، مما يتوقف
العقل فيه ، ولا يمكنه الجزم به ، لا بالنفي ولا بالإثبات ، إلا بالدليل المنفصل.
والتحقيق فيه : إن
محض الاستبعاد إن كان حجة في العدم ، كان القول بإثبات موجود لا يكون في الجهة والحيز محالا ،
وهذا باطل عند المعتزلة والفلاسفة ، وإن لم يكن حجة ، وجب أن لا يكون محض
الاستبعاد هاهنا أيضا حجة ، فالقول بأنه حجة هاهنا وليس حجة هناك : متناقض فاسد.
المقدمة الثالثة : إن رؤية الله تعالى
بالتفسير المذكور بتقدير
أن تحصل فمحلها هو هذه العين والحدقة أم جوهر النفس؟ والأول كالمستبعد جدا وأما أن
محل ذلك الإدراك الشريف هو جوهر النفس الناطقة فهذا أقرب إلى العقل.
فهذه مقدمات
لخصناها قبل الشروع في ذكر الدلائل.
ولترجع إلى
المقصود فنقول : أما القائلون بأنه تمتنع رؤية الله فقد احتجوا بوجوه :
الحجة الأولى : قالوا : لو صحت رؤيته ، لوجب أن نراه الآن ، والثاني باطل. فالمقدم باطل.
بيان الملازمة إنما يظهر عند تقديم مقدمة ، وهي أن نقول : إن عند حصول ثمانية
أنواع من الشرائط فإنه يجب حصول الرؤية. أولها : كون الحاسة سليمة. والثانية : كون
الشيء بحيث تصح رؤيته. وثالثها : أن لا يحصل
القرب القريب. ورابعها : أن لا يحصل البعد البعيد. وخامسها : أن لا يكون المرئي في غاية الصغر. وسادسها : أن
لا يكون في غاية اللطافة مثل الهواء. وسابعها : أن لا يتوسط بين الرائي وبين
المرئي شيء من الحجب. وثامنها : أن يكون المرئي مقابلا للرائي أو في حكم المقابل.
__________________
إذا عرفت هذا
فنقول : عند حصول هذه الشرائط الثمانية يجب الإبصار ، إذ لو لم يجب لجاز أن يكون
بحضرتنا تلال وبوقات ونحن لا نراها ولا نسمعها. وذلك يفضى إلى السفسطة. فيثبت أن
عند حصول هذه الشرائط الثمانية يجب الإبصار.
إذا عرفت هذا
فنقول : لو كانت رؤية الله جائزة لما اعتبر في حصولها إلا الشرطان الأولان ، أعني
كون الحاسة سليمة ، وكون المرئي بحيث تصح رؤيته. فأما الشرائط الستة الباقية فإنه
يمتنع اعتبارها في حق الله تعالى ، لأنه إنما يمكن اعتبارها بالنسبة إلى الجسم ،
وإلى الشيء الذي يكون حاصلا في الحير والجهة ، والباري تعالى مقدس عن هذه الحالة ،
فيثبت أنه بتقدير أن تجوز رؤية الله تعالى ، فإن الشرائط الست لا يمكن اعتبارها في
حق الله تعالى ، فلم يبق في حصول رؤية الله إلا سلامة الحواس ، وكون المرئي بحيث
تصح رؤيته. وهذا أن الشرطان حاصلان في الحال ، فكان يجب أن نراه الآن ، فيثبت بما
ذكرناه : أنه لو صحت رؤيته لوجب أن نراه الآن ، ومعلوم أنا لا نراه الآن ، فوجب أن
يقال : إنما لا نراه الآن لكونه في نفسه ، بحيث تمتنع رؤيته ، وذلك هو المطلوب.
الحجة الثانية : إن شرط حصول الرؤية كون الرائي مقابلا للمرئي ، أو في حكم المقابل ،
والعلم بهذا الاشتراط ضروري ، وهذا الشرط إنما يعقل ثبوته في حق الشيء الذي يكون
مختصا بالحيز والجهة ، ولما كان الله تعالى منزها عن هذه الصفة ، كان شرط جواز الرؤية
فائتا فوجب القطع بامتناع حصول هذه الرؤية.
الحجة الثالثة : إن الرؤية يمتنع حصولها إلا عند انطباع صورة المرئي في حدقة الرائي ، وهذا إنما
يعقل إذا كان المرئي له شكل وصورة ، ولما كان ذلك في حق الله تعالى محالا ، كانت
رؤية الله تعالى ممتنعة عقلا.
الحجة الرابعة : المرئي يجب أن يكون لونا أو متلونا ، ويجب أن يكون شكلا ولما كان الحق
تعالى منزها عن هذه الأحوال ، وجب القطع بامتناع رؤية
الله تعالى [فهذا
مجموع دلائل القاطعين بامتناع رؤية الله تعالى ].
واعلم : أن هذه
الوجوه خسيسة ضعيفة جدا أما الوجه الأول فالاعتراض عليه من وجوه : الأول : إنا لا
نسلم أن عند حصول الشرائط الثمانية يجب حصول الابصار ، ويدل عليه وجوه : الأول :
إنا إذا وضعنا على الطبق منّا من الدقيق ، فإنا نراه ، ونقول : ذلك الدقيق عبارة
عن تلك الذرات الصغيرة المتلاصقة. فرؤية الدقيق عبارة عن رؤية مجموع تلك الذرات ،
ورؤية ذلك المجموع عبارة عن رؤية كل واحد من تلك الذرات مع الأخرى ، ونقول : إما
أن تكون رؤية كل واحدة من تلك الذرات موقوفة على رؤية الذرة الأخرى وحينئذ يلزم
منه الدور ، وإما أن تتوقف رؤية إحدى الذرتين على رؤية الذرة الأخرى ، ولا تتوقف
رؤية الذرة الثانية على رؤية الذرة الأولى ، وذلك محال. لأن تلك الذرات متساوية في
تمام الماهية ، فتوقيف أحد الجانبين على الجانب الآخر من غير عكس ، يكون حكما
بترجيح الممكن من غير مرجح. وهو محال. وإما أن يكون الحق هو أن رؤية كل واحدة من
تلك الذرات غير موقوفة على رؤية الذرة الأخرى ، وإذا كان الحق هو هذا القسم وجب
الحكم بأنه تصح رؤية كل واحدة منهما حال انفرادها عن كل ما سواها مع أنا لا نراها
، وذلك يوجب القطع بأنه لا يلزم من كون الشيء صحيح الرؤية ، مع سائر الشرائط :
وجوب رؤيته. السؤال الثاني : سلمنا هذا الوجوب في رؤية الأجسام والأعراض ، فلم
قلتم : بأنه لما وجبت رؤية الأجسام والأعراض عند اجتماع هذه الشرائط الثمانية ،
وجب حصول رؤية الله تعالى عند اجتماعها؟ وبيانه : أن بتقدير جواز رؤية الله تعالى
، فإن رؤيته تكون مخالفة بالماهية لرؤية الأجسام والأعراض ، ولا يلزم من ثبوت حكم
في ماهية ، ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالف تلك الماهية ، فعلى هذا لا يلزم من وجوب
رؤية الأجسام والأعراض عند اجتماع هذه الشرائط ، وجوب رؤية الله تعالى عند اجتماع
هذه الشرائط. وهذا سؤال ظاهر قوي ، وأنا شديد
__________________
التعجب من أن
القوم كيف غفلوا عنه.
والسؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : هذه المرتبة الثالثة التي هي الانكشاف التام ، إن حصلت
في حق المحسوسات والجسمانيات ، فإنها تكون واجبة الحصول عند سلامة الحاسة الظاهرة
وإن اعتبرت في حق المجردات والمفارقات ، فإن تلك الحالة إنما تحصل لجوهر النفس
القدسية ، وحصول تلك الحالة لجوهر النفس القدسية ، مشروط بشرائط هي فائتة في هذه [الحالة
، ولأجل فواتها لم تحصل هذه الرؤية ، وهذا محتمل ، ومع تمام هذا الاحتمال يسقط هذا
] الاستدلال. فهذا تمام الكلام على الحجة الأولى.
وأما الحجة الثانية : فنقول : إنا قد
ذكرنا مرادنا من الرؤية
، وهي : أنها حالة. نسبتها إلى معرفة ذات الله ، كنسبة إبصار اللون المعين إلى
العلم بذلك اللون المعين. وإذا ثبت هذا ، فلم قلتم : إن حصول ذلك الانكشاف مشروط
بحصول المقابلة؟ بل حصول انكشاف ماهية الشيء المختص بالمكان والحيز ، مشروط بحصول
المقابلة فأما حصول انكشاف ماهية الشيء المنزه عن المكان والحيز. فلم قلتم : إنه
مشروط بحصول المقابلة؟ وهذا لا يمكن إثباته بحال مناسب ، فضلا عن ادعاء العلم
الضروري فيه.
وأما الحجة الثالثة : وهي قوله : «رؤية الشيء لا تحصل إلا عند ارتسام صورة المرئي في حدقة
الرائي» فنقول : قد ذكرنا أن الرؤية عبارة عن الكشف التام ، والتجلي التام ،
وانكشاف كل حقيقة تكون على وفق تلك الحقيقة ، فإن كان ذلك الشيء موصوفا بشكل وصورة
، ولون ، كانت رؤيته حاصلة بسبب انكشاف ذلك الشكل والصورة [وإن كان ذلك الشيء
منزها عن الشكل والصورة ، كان انكشافه منزها عن الشكل والصورة ] وهذا هو بعينه الجواب عن الحجة الرابعة.
__________________
فظهر بهذه
البيانات : أن هذه الدلائل التي تمسك بها نفاة الرؤية في غاية الضعف والسقوط.
وأما مثبتو الرؤية فقد عولوا
على أن قالوا : الله تعالى موجود ، وكل موجود فإنه تصح رؤيته ودليلهم في الإثبات :
أن كل موجود تصح رؤيته : قد ذكرناه في أحكام الموجودات ، وأوردنا عليه اعتراضات
قوية ، لا يمكن دفعها البتة وإذا عرفت ضعف دلائل الفريقين فنقول : بقي هذا البحث
في محل التوقف ، إلا أنا رأينا الأنبياء والرسل عليهمالسلام مخبرين عن حصول هذه الرؤية ، ورأينا أصحاب المكاشفات
يخبرون عن وقوع أحوال كأنها جارية مجرى المقدمات لهذه الرؤية ، فقوي الظن في جواز
وقوعها وحقائق الأشياء لا يعرفها بتمامها إلا الله الحكيم.
__________________
الفصل الحادي عشر
في
أنا في هذه الحياة هل
نعرف ذات الله تعالى من حيث إنها
هي : أعني : تلك
الحقيقة المخصوصة. وبتقدير أن لا
نعرفها. فهل يمكن
حصول تلك المعرفة لأحد من الخلق ، أو
لكلهم. أم لا؟
نقول : أما البحث
الأول. وهو أنا في هذه الحياة الدنيا. هل نعرف تلك الحقيقة المخصوصة؟ فنقول : إن
هذه المعرفة : غير حاصلة. ويدل عليه وجوه :
الحجة الأولى : إن المعلوم عندنا من الحق سبحانه ، إما الوجود ، أو كيفية ذلك الوجود
أو الإضافات أو السلوب. والعلم بهذه المعلومات ليس نفس العلم بذات الله المخصوصة ،
ولا أيضا هذه العلوم توجب العلم بتلك الذات المخصوصة ، فوجب أن يقال : إنا لا نعرف
تلك الحقيقة المخصوصة.
فنفتقر في تقرير هذا
الدليل إلى مقدمات :
المقدمة الأولى : في بيان أنا لا نعرف من الله إلا هذه الأمور الأربعة. فالأول : إنا إذا علمنا
أن العالم محدث وكل محدث فله محدث. فههنا قد علمنا وجود الله. وأما الثاني : وهو معرفة
كيفية ذلك الوجود فهي من وجهين : الأول : إنا نعرف أنه واجب الوجود لذاته ، وهو
عبارة عن معرفة أن ذلك الوجود واجب الثبوت له ، لما هو هو ، وذلك عبارة عن معرفة
صفة من صفات ذلك الوجود. والثاني : إنا نعرف كونه قديما أزليا باقيا سرمديا ، وهو
عبارة عن كون ذلك الوجود دائما مبرأ عن العدم فيما قبل وفيما بعد ، ويرجع حاصله
إلى معرفة صفة من صفات ذلك الوجود.
وأما الثالث : وهو
معرفة السلوب. فهي مثل علمنا بأنه تعالى ليس بمتحيز ، ولا في مكان ، ولا حال ، ولا
في محل ، ولا ملون ، ولا يكيف ، ولا مركب ، ولا مبعض.
وأما الرابع : وهو
معرفة الإضافات فهو مثل علمنا بأنه يصح منه الفعل والترك. وهذه الصحة إضافة مخصوصة
، ومثل علمنا بكونه عالما ، والعلم عبارة عن إضافة مخصوصة بين العالم وبين
المعلوم. فهذه الأنواع الأربعة من المعارف حاصلة للعقول البشرية.
المقدمة الثانية : إن العلم بهذه المعلومات ليس علما بالذات المخصوصة ، التي هي ذات الله تعالى. أما
العلم بالوجود فليس هذا العلم علما بذات الله لأنا قد دللنا على أن وجود الله صفة
قائمة بذات الله تعالى ، وأما العلم بكونه واجب الوجود لذاته ، وبكونه دائم الوجود
، فذلك أيضا ليس علما بالذات المخصوصة ، لأنا بينا أن العلم بالوجوب علم بكيفية
مخصوصة من كيفيات ذلك الوجود ، وذلك العلم [بالدوام ، علم بكيفية مخصوصة من كيفيات
ذلك الوجود ، ولما ثبت أن العلم ] بالوجود ، ليس نفس العلم بتلك الذات المخصوصة ، فالعلم
بكيفيات ذلك الوجود أولى أن لا يكون نفس العلم بتلك الذات المخصوصة. وأما العلم
بتلك السلوب ، فهو ليس نفس العلم بتلك الذات المخصوصة. لأنا إذا قلنا : إنه ليس
بجوهر ، ولا بعرض ، فالمفهوم منه : سلب الجوهرية والعرضية. وذاته المخصوصة ، ليست
عبارة عن عين هذه السلوب ، والعلم به ضروري.
وأما العلم بتلك الإضافات ، فليس هو نفس العلم بتلك الذات المخصوصة ، لأن الإضافات الحاصلة
بين الشيئين ، مغاير لهما معا. فالعلم بتلك الإضافة لا يكون نفس العلم بتلك الذات
المخصوصة. فثبت بما ذكرنا : أن هذه العلوم الأربعة ليست عبارة عن العلم بتلك الذات
المخصوصة. وأما بيان أن العلم بهذه المعلومات الأربعة ، لا يوجب العلم بالذات
المخصوصة ،
__________________
فهو ظاهر. لأنا
عند العلم بهذه المقدمات الأربعة ، لا نجد من أنفسنا إلا أنه شيء ما. لا نعرف أنه
ما هو.؟ إلا أنه موصوف بهذه الأنواع الأربعة من الصفات. وذلك يدل على أن العلم بهذه
المعلومات ، لا يوجب العلم بالذات المخصوصة.
وأما المقدمة الثالثة : فهي في بيان أنا
لا نعرف من الله
تعالى إلا هذه الأنواع الأربعة من المعلومات. وهي من رجع إلى نفسه واعتبر حال عقله وفهمه ، علم بالضرورة أنه
ليس عنده [من المعارف الإلهية إلا هذه الأنواع الأربعة ، ولما ثبت أنه ليس عنده ] إلا هذه المعارف الأربعة ، وثبت أنها ليست نفس العلم بذات
الله تعالى ، ولا أنها توجب العلم بذات الله ، ظهر حينئذ أن العلم بالذات المخصوصة
لله تعالى غير حاصل عندنا البتة.
والحجة الثانية في إثبات هذا المطلوب :
أن نقول : العلم إما تصور
وإما تصديق ، والتصديق هو الحكم على أحد المتصورين ، بإثباته للمتصور الآخر ، أو
سلبه عنه. وهو فرع على التصور. وأما التصورات فإنه لا يمكننا أن نتصور شيئا إلا
على أحد وجوه أربعة : أحدها : التصورات التي أدركناها وتصورناها بواسطة الحواس
الخمس ، مثل تصورنا لحقيقة السواد والبياض ، ومثل تصورنا لحقيقة الصوت والحرف ،
وكذلك القول في سائر التصورات المستفادة من الحواس الخمسة. وثانيها : التصورات
التي أدركناها من وجدانات النفوس ، مثل علمنا بحقيقة الألم واللذة والشهوة والنفرة
والفرح والغم. وغيرها. وثالثها : التصورات التي ندركها بمحض العقل مثل تصوراتنا
لمعنى الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والامتناع والإمكان. ورابعها :
التصورات التي يركبها الخيال والعقل من تلك المدركات البسيطة. أما تركيبات الخيال
فمثل إنسان له ألف رأس ، وذلك لأنا إذا أدركنا صورة [الإنسان وصورة ] الرأس بحواسنا وأدركنا معنى الإنسان بعقولنا ، فالخيال
يركب إنسانا له ألف
__________________
رأس ، لأن هذه
التصورات كانت حاضرة عند الإنسان ، فالخيال ركب بعضها مع البعض. وأما تركيبات
العقل فمثل تركيب أحد التصورين بالآخر حتى تتركب منهما مقدمة ، وتركيب أحدى
المقدمتين بالأخرى حتى يتركب منهما قياسا.
إذا عرفت هذه
الأقسام الأربعة من التصورات. فنقول : الإنسان لا يمكنه أن يستحضر نوعا من أنواع
التصورات ، إلا على أحد هذه الأقسام الأربعة ، فأما ما يكون مغايرا لهذه الأقسام
الأربعة فإنه لا يمكنه [أن يستحضر ] تصورها البتة. والدليل عليه : أنا إذا رجعنا إلى انفسنا
واعتبرنا أحوال إدراكاتنا وتعقلاتنا ، علمنا أنه لا يمكننا أن نستحضر شيئا من
التصورات إلّا على أحد هذه الوجوه الأربعة. فإن قالوا : إنا نحكم بأن شريك الإله
ممتنع ، ولو لا أنا تصورنا معنى شريك الإله ، وإلا لما أمكننا أن نحكم عليه
بالامتناع ، فيثبت أن معنى شريك الإله : متصور لنا ، مع أنه خارج عن الأقسام
الأربعة المذكورة. فنقول : بل هذا من باب تركيب العقل ، وذلك لأنه حصل عنده معنى
الشريك ، حيث وجد. وحصل عنده معنى الإله. فنقول عند هذا : حصول شيء : لله تعالى.
نسبته إليه كنسبة أحد الشريكين إلى الآخر فيما بيننا : محال. فيثبت أن هذا من باب
التصورات المركبة. وإذا ثبت هذا فنقول : حقيقة الإله : ما وجدناها بحواسنا ، ولا
من القسم الثاني وهو الوجدانيات النفسانية ، ولا من التصورات العقلية مثل الوجود
والعدم ، [ولا من القسم الرابع ] وهو التصورات المركبة من تلك الأقسام الثلاثة. ولما كانت
الحقيقة المخصوصة التي هي ذات الله مخالفة لهذه الأقسام الأربعة وثبت بالاستقراء
أنه لا يمكننا تحصيل شيء من التصورات ، إلا على أحد تلك الأقسام الأربعة ، وجب الجزم
بأن تصور حقيقة تلك الذات المخصوصة غير حاصل للبشر.
__________________
الحجة الثالثة : إن الفلاسفة بينوا أن
العلم بماهية العلة ، يوجب العلم
بالمعلولات ولا شك أن الممكنات منتهية في سلسلة الحاجات ، ودرجات الافتقارات إلى
الحقيقة المخصوصة التي لواجب الوجود لذاته. فلو كانت تلك الحقيقة المخصوصة ،
معقولة لأحد من البشر ، لكان ذلك الإنسان عالما بالعلة التامة الحقيقية لجميع
الممكنات ، والعلم بالعلة التامة يوجب العلم بالمعلول ، فكان يجب أن يكون ذلك
الإنسان عالما بجميع أقسام الممكنات وأجناسها وأنواعها وأصنافها وأشخاصها على
الترتيب النازل من عنده طولا وعرضا ، لكن الأمر ليس كذلك. وهو معلوم بالضرورة.
فوجب القطع بأنا لا نعرف ماهية الشيء الذي هو علة لجميع الممكنات. ولا شك أن ذاته
المخصوصة هي المبدأ لجميع الممكنات. وهذا يفيد الجزم بأنا لا نعرف تلك الحقيقة
المخصوصة من حيث هي هي.
الحجة الرابعة : إن الفلاسفة أثبتوا : أن العلم بالشيء عبارة عن حصول صورة مساوية في الماهية
للمعلوم في العالم. وإذا ثبت هذا الأصل فنقول : لو عرفنا تلك الحقيقة المخصوصة،
لوجب أن تكون تلك الصورة العقلية ، مساوية لذات الله تعالى في تمام الماهية ،
وحينئذ تكون تلك الحقيقة المخصوصة نوعا حصل تحته أشخاص ، لكنه ثبت بالبراهين أن
ذلك محال ، فوجب القطع بأنه يمتنع حصول العلم بتلك الذات المخصوصة. واعلم أنه لو
ثبت أن العلم لا يحصل إلّا عند حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، لكان هذا
برهانا يقينيا في أن معرفة تلك الذات المخصوصة ممتنعة في حق كل المخلوقات.
الحجة الخامسة : ثبت في الحكمة : أن الطبيعة الكلية إذا قيدت بقيد كلي ، كانت الماهية
المتقيدة بذلك القيد الكلي ، تكون كلية أيضا مثاله : إن قولنا : الإنسان : طبيعة
كلية. وقولنا : العالم : طبيعة أيضا كلية. فإذا قيدنا الإنسان بالعالم ، كان
الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا الإنسان العالم بقيد
كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان الكلي ، وهو أيضا طبيعة كلية. فإذا قيدنا
الإنسان العالم بقيد كونه زاهدا كان الحاصل هو الإنسان
العالم الزاهد ،
وهو أيضا كلي. ولو أضفت إليه قيد [بعد قيد ] إلى ألف ألف مرتبة ، كان الحاصل هو الكلي. فهذا إحدى
المقدمات.
والمقدمة الثانية : إن الكلي ليس عين الجزئي والشخصي ، والعلم به ضروري.
والمقدمة الثالثة : إن الذات المخصوصة التي هي الله تعالى ليس أمرا كليا ، بل هو ذات
معينة وحقيقة مشخصة.
إذا عرفت هذا
فنقول : كل ما نعرفه من الله تعالى ، فهو أمر كلي [مقيد بقيد كلي. مثلا : إذا قلنا
: موجود فهو كلي ] فإذا قيدناه بقيد كونه موجودا واجب الوجود. كان المجموع
هو أنه موجود واجب الوجود لذاته. ثم إذا قيدناه بقيد أنه ليس بجسم ولا بجوهر ولا
بعرض ، كان المجموع كليا. فإذا قيدناه بالصفات الإضافية مثل قولنا : إنه عالم ،
قادر ، حي ، كان ذلك تقييدا للكلي بالكلي ، فيكون المجموع الحاصل بعد ضم تلك
القيود إليه أمرا كليا ، فيثبت : أن كل ما نعلمه من الله تعالى فهو أمر كلي. وثبت
: أن هذا الكلي ليس هو نفس تلك الذات المخصوصة.
ثبت : أن العلم
بهذه المعلومات الكلية ، ليس علما بتلك الذات المخصوصة. وإذا ثبت أنا لا نعلم إلا
ذلك المعلوم الكلي ، وثبت أن العلم بذلك المعلوم الكلي ، ليس نفس العلم بتلك الذات
المخصوصة ، لزم القطع بأنا لا نعرف تلك الذات المخصوصة.
فإن قالوا : [لما علمنا أنه سبحانه واحد ، وأنه لا يمكن أن تكون تلك الحقيقة حاصلة لشيء آخر
سواه ] فهذا المعلوم مانع من احتمال الشركة ، فلم يكن هذا المعلوم كليا ، بل كان
علمنا به من حيث إنه تلك الذات المعينة. فنقول : العلم بأنه سبحانه واحد، وبأنه لا
يمكن وقوع الشركة فيما بينها وبين
__________________
غيرها : علم أيضا
بأمر كلي مشترك فيه ، وذلك لأن بتقدير أن يكون ذلك الواحد هو الألف كان ذلك الحكم
صادقا [وبتقدير أن لا يكون ذلك الواحد هو الألف بل كان هو الباء ، بدلا عن كونه
ألفا ، كان ذلك الحكم أيضا صادقا ].
فيثبت بهذا : أن
ذلك المعلوم لا يمنع من وقوع الشركة فيه [وأما تلك الذات المخصوصة من حيث إنها تلك
الذات المعينة ، فإنها مانعة من وقوع الشركة فيه ] فعلمناه أن العلم بأنها ذات واحدة ، غير قابلة للشركة ،
لا يكون علما بتلك الذات المعينة المخصوصة.
الحجة السادسة : قال المتقدمون : إنه تعالى غير متناهي ، والعقول البشرية متناهية ،
والمتناهي يمتنع أن يحيط بغير المتناهي. وتفسير هذا الكلام : إن من جملة صفات الله
تعالى كونه قديما أزليا ، فإذا أردنا أن يحيط عقلنا بالأزل. ففرضنا مائة ألف ألف
سنة ، ونحسب كل لحظة ولمحة من هذه المدة الطويلة ، وفرضنا مائة ألف ألف سنة ،
وبالغنا في استحضار هذه الأعداد في عقولنا وأفكارنا وإن كانت مع كثرتها متناهية
محدودة ثم أسقطناها من معنى الأزل بقى الأزل كما كان ، من غير أن ينتقص منه شيء ،
وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ ظهر أن كل ما تصل إليه عقولنا وأفكارنا فإنه متناهي.
وكل متناهي فإنه خارج عن الأزل. وهذا يفيد أن عقلنا لا يصل البتة إلى تصور معنى
الأزل ، بل كل ما يتصوره فإنه يكون خارجا عن معنى الأزلية. وإذا ظهر بهذا البيان [عجز
عقول الخلق ، عن معرفة هذه الصفة الواحدة ، وهي معنى الأزلية ] فبأن تكون العقول عاجزة عن معرفة الموصوف ، كان ذلك أليق
وأحق.
الحجة السابعة : قالوا : العلم نوع استيلاء على المعلوم ، ألا ترى أن من لم يكن عالما بشيء
كانت روحه بالنسبة إلى ذلك المعلوم ، كالعاجز المقهور ، فإذا علمه وأحاط به صار
كالمستولى عليه ، والقاهر له؟ إذا ثبت هذا فنقول : لو
__________________
وصلت العقول إلى
كنه حقيقته ، لحصل للخلق استيلاء على الحق من بعض الوجوه ، أما لما عجزت العقول عن
معرفته ، كان الخلق أبدا في ذلك القهر وعجز المعرفة ، وكان الاستيلاء والقهر للحق
، وذلك هو الواجب.
الحجة الثامنة : قالوا : العقل لا يقدر على استحضار معلومين دفعة واحدة. بدليل : أنه إذا
اشتغل باستحضار معلوم ، امتنع عليه في تلك الساعة استحضار معلوم آخر ، فإذا كان
العقل عاجزا عن استحضار معلومين دفعة واحدة فكيف يمكنه الوصول إلى كنه حقيقة أعظم
المعلومات ، وأعلاها؟.
واحتج القائلون
بكون الخلق عارفين بذاته المخصوصة بوجوه :
الحجة الأولى : إن كل تصديق ، فإنه يجب أن يكون مسبوقا بتصور الموضوع والمحمول. فإذا
قال القائل : إن حقيقته غير معقولة للخلق ، كان موضوع هذه القضية : هو قولنا
حقيقته. ومحمولها : هو قولنا : غير معقولة للخلق. والحاكم باستناد هذا المحمول إلى
هذا الموضوع ، يجب كونه عالما بهذا الموضوع ، وبهذا المحمول ، حتى يمكنه هذا
الاستناد. فيثبت : أن صدق قولنا : إن حقيقته غير معلومة للخلق ، يقتضي كون حقيقته
معقولة للخلق من حيث إن موضوع القضية يجب أن يكون معلوما ، وما أدى نفيه [إلى
ثبوته ، كان نفيه ] باطلا. فوجب أن يكون قولنا : [حقيقته ] غير معقوله للخلق : قولا باطلا. فإن قالوا : إن تلك
الحقيقة معقولة بحسب بعض صفاتها وأحوالها. فنقول : إذا قلنا إن حقيقته غير معقولة
فموضوع هذه القضية ، إما أن يكون تلك الحقيقة من حيث هي هي ، أو تلك الحقيقة بحسب
بعض صفاتها وأحوالها. فإن كان الأول لزم كون تلك الحقيقة من حيث إنها هي معقولة
للخلق. لما بينا أن موضوع القضية من الاعتبار الذي به صار موضوعا للقضية ، يجب أن
يكون متصورا. فإذا كان موضوع هذه القضية هو تلك الحقيقة من حيث إنها هي ، وجب كون
تلك الحقيقة من حيث هي هي ،
__________________
معلومة. وحينئذ
يلزم التناقض. وأما إن قيل : إن موضوع هذه القضية هو تلك الحقيقة بحسب بعض صفاتها
المعلومة ، أو بحسب بعض أحوالها المعلومة ، فحينئذ قد حكم على الأمر المعلوم من
حيث إنه معلوم بأنه غير معلوم ، وذلك أيضا يوجب التناقض. فقد ظهر بما ذكرنا : أن
قولنا : إن تلك الحقيقة ، غير معلومة : يوجب التناقض على جميع التقديرات.
الحجة الثانية : إن كل تصديق فإنه مسبوق بتصور الموضوع والمحمول ، فإذا أثبتنا الصفات لتلك الذات ،
فالذي يجعل موضوعا لهذه الصفات ، إما أن يكون هو تلك الذات من حيث هي هي ، وإما أن
يكون هو تلك الذات بحسب صفات أخرى ، فإن كان الأول فحينئذ يكون الموضوع لتلك
المحمولات ، التي هي الصفات ، ليس إلا تلك الذات المخصوصة من حيث هي هي أن تكون
معلومة ، وإن كان الثاني وهو أن موضوع هذه الصفات تلك الذات بحسب صفات أخرى ،
فحينئذ ينتقل الكلام إلى كيفية استناد تلك الصفات. فإن أسندناها إلى صفات أخرى ،
لزم التسلسل وهو محال ، أو الانتهاء إلى صفة نثبتها لتلك الذات من حيث هي هي ،
وحينئذ يلزم كون تلك الذات معلومة [متصورة ] من حيث إن موضوع القضية يجب كونه معلوما.
الحجة الثالثة : إنا نعلم من الله تعالى شيئا. وذلك المعلوم إما الذات من حيث هي هي ، أو
الصفة من حيث هي هي ، لا بحسب استنادها إلى تلك الذات ، أو بحسب استنادها إلى تلك
الصفة فإن كان الأول لزم منه كوننا عالمين بتلك الذات ، وإن كان الثاني ، وهو أن
نعلم تلك الصفات ، لا من حيث كونها مستندة إلى تلك الذات ، فهذا أيضا باطل. لأنا
إذا علمنا العلم من حيث هو هو ، فهذا مغاير لما إذا علمنا أن الله تعالى موصوف
بالعلم. وأما القسم الثالث وهو أنا نعلم تلك الصفات من حيث إنها قائمة بتلك الذات.
فهذا العلم بمعرفة تلك الذات ، لأن العلم بحصول شيء لشيء آخر ، مشروط
__________________
بعلم كل واحد من
الشيئين. وهذا يقتضي كوننا عالمين بتلك الذات المخصوصة.
الحجة الرابعة : وهي أنه لا نزاع في أنا نعلم أنه ذات قائمة بالنفس.
والمعلوم بهذا
العلم إما تمام تلك الذات ، وإما جزء من أجزاء ماهية تلك الذات ، وإما أمر آخر
خارج عن ماهية تلك الذات. فإن كان الأول كان العلم بهذا المعنى علما بتمام الذات ،
وهو المطلوب. وإن كان الثاني لزم كون تلك الذات مركبة من جزءين أو أكثر ، وكل مركب
ممكن ، فتلك الذات ممكنة. هذا خلف. وإن كان الثالث لزم أن يكون كونه ذاتا ، صفة
خارجة عن الذات ، فيلزم أن يقال : إن الذات ليست عبارة عن الذات ، بل عبارة عن
الصفة ، التي هي أمر مغاير للذات ، فيلزم أن تكون الذات ليست ذاتا ، بل تكون شيئا
غير الذات. وذلك متناقض باطل.
والجواب عن الأول والثاني : إن قولكم :
إن موضوع القضية يجب
كونه متصورا : منقوض بقولنا : إن ما لا يكون متصورا [لا يمكن الحكم عليه. فإن هذا
الكلام قضية ، ولو كان موضوع القضية يجب أن يكون متصورا ] وموضوع هذه القضية هو قولنا : ما لا يكون متصورا ، فيلزم
أن يكون غير المتصور متصورا ، وذلك جمع بين النقيضين. فإن قالوا : يلزم أن غير
المتصور : متصورا منه كونه غير متصور. فنقول : إذا قلنا غير المتصور لا يمكن الحكم
عليه ، فههنا المحكوم عليه إما غير المتصور من حيث إنه غير المتصور ، أو من حيث
إنه متصور ، فإن كان الأول فحينئذ الموضوع في القضية المعلومة إما أن يكون أمرا
غير متصور ، من حيث أنه غير متصور. وذلك ينقض قولكم : إن موضوع القضية يجب أن يكون
متصورا. وإن كان الثاني هو أن الموضوع في هذه القضية أمر متصور ، فنقول : فحينئذ وجب
أن يكذب عليه قولنا : إنه لا يمكن الحكم عليه ، لأن كل ما كان متصورا ، فإنه يمكن
الحكم عليه بكونه
__________________
متصورا ، أو بكونه
ممتازا عن غيره.
فالحاصل : أن
موضوع هذه القضية [إن لم يكن متصورا لزم التناقض ، وإن كان متصورا لزم كون هذه
القضية ] كاذبة ، وكلاهما أمران باطلان.
والجواب عن الثالث : إنا إذا علمنا الذات ، فالمراد منه كونه مستقلا بنفسه ، غير محتاج إلى
غيره ، وهذا مفهوم سلبي ، والسلوب خارجة عن الماهيات. وهذا هو بعينه الجواب عن
الوجه الرابع.
فهذا تمام الكلام
في هذا الباب. ثم نقول : هذا جملة الكلام في أن هذا العلم غير حاصل للبشر ، فأما
أنه هل هو حاصل للملائكة أم لا؟ وبتقدير أن يقال : إنه غير حاصل لهم. فهل يمكن حصول
هذه المعرفة للملائكة أو للخلق؟ فهذا متوقف فيه.
واعلم : أن
المباحث في الإلهيات إذا انتهت إلى هذه المضائق ، فحينئذ تدهش العقول وتقف الأفكار
، وليس بعد ذلك إلا الالتجاء إلى الله تعالى في إفاضة المعارف الحقيقية. [وبالله
التوفيق ].
__________________
الفصل الثاني عشر
في
تنزيه ذات الله تعالى عن الكيفيات
اعلم : أنا لما
دللنا على أنه سبحانه ليس بجسم ولا بجوهر كان ذلك يفيد كونه منزها عن الكمية ،
ويفيد أيضا كونه منزها عن بعض أقسام الكيفيات ، وهو الشكل والخلقة. وأما سائر
الكيفيات مثل الألوان والطعوم والروائح ، فالقول بإثباتها لله تعالى يستبعده العقل
، لأن هذه صفات الأجسام ، فكان إثباتها للذات المنزهة عن الجسمية محالا إلا أن
لقائل أن يقول: لا يلزم من ثبوت هذه الصفات للأجسام ، امتناع ثبوتها لما لا يكون
جسما ، لأن الماهيات المختلفة لا يمتنع اشتراكها في بعض الصفات.
ومن الناس من قال
: إن صفات الإلهية وهي الخلق والتكوين لا تتوقف على حصول هذه الألوان والطعوم.
وليس يمكن أن يقال : إن بعض أنواعها من صفات الكمال ، وأضدادها من صفات النقص ،
حتى يمكن القول بأن ما كان منها من صفات الكمال فهو ثابت لله تعالى وما كان من
صفات النقص فهو منفي عن الله تعالى. وإذا كان كذلك ، فلم يكن ثبوت بعض تلك الصفات
لله ، أولى من ثبوت البواقي ، فإما أن يجب ثبوت كلها لله تعالى ، وحينئذ يلزم
الجمع بين الضدين ، أو يجب تنزيه الله عن الكل. وذلك هو المطلوب.
ولقائل أن يقول :
هذا الدليل ضعيف من وجوه :
الأول : إن كيفية النور من صفات الكمال ، والمدح. وكيفية الظلمة من
صفات النقص. وإذا
كان كذلك ، فلم لا يجوز أن تكون ذات الله موصوفة بصفة النور مع كونه منزها عن
الجسمية والجهة؟ لما ثبت أنه يجب كونه تعالى موصوفا بصفات الكمال والمدح ، ويجب كونه
منزها عن صفات النقص.
والثاني : هب أنا سلمنا أنه ليس شيء منها صفة كمال ومدح ، لكن لم لا يجوز أن يكون
موصوفا ببعضها دون البعض؟ قوله : «إنه ليس اتصاف ذاته ببعضها أولى من اتصافها
بالبواقي» فنقول : قد بينا في علم المنطق أن قول القائل ليس هذا ، أولى من ذلك مقدمة
ضعيفة. فإنه إن كان المراد عدم الأولوية في أذهاننا وفي عقولنا ، بمعنى أنا لا
نعرف دليلا يدل على أن هذا أولى بالوقوع. فهذا مسلم ، إلا أن هذا لا يفيد إلا
الوقف والشك ، وإن كان المراد بعدم الأولوية أنه يمتنع كون أحد الجانبين أولى في
نفس الأمر ، فهذا ممنوع. فلم لا يجوز اتصاف ذاته ببعض هذه الأضداد أولى ، وإن كنا
لا نهتدي ولا نعرف المعنى الموجب لتلك الأولوية؟.
والسؤال الثالث : لم لا يجوز أن يقال : يحصل السواد والبياض فيه معا ، ثم يحصل من
اجتماعهما هيئة مركبة من اجتماعهما؟ ولا بد في إبطال هذا الاحتمال من دليل
منفصل. واعلم أنه لما ثبت أنه تعالى منزه عن الجسمية والصول في الحيز ، فحينئذ
يمتنع أن يكون اللون القائم به ، لونا ساريا في ذاته منبسطا على سطحه ، فيبقى أن
يكون ذلك اللون ماهية ، تخالف ما شاهدناه في الأجسام ، وحينئذ لا تكون تلك الصفة لونا ،
بل صفة أخرى مخالفة لما يعقل من اسم اللون ، وذلك يفيد نفي الألوان على الوجه الذي
عقلناه [والله أعلم ].
__________________
الفصل الثالث عشر
في
إثبات أنه يمتنع كونه تعالى حالا في غيره
نقول : أما تفسير
الحلول فقد سبق على الاستقصاء ونقول : أما الجمهور فقد عولوا في نفي
الحلول على أن قالوا : لو حل لحلّ إما مع وجوب أن يحل [أو مع جواز أن يحل والقسمان باطلان ، فبطل القول بالحلول ، وإنما قلنا : إنه
لا يجوز أن يحل مع وجوب أن يحل ، وذلك لوجهين :
الأول : إنه لو حلّ مع وجوب أنه يحل ، لكان مفتقرا في ذاته إلى ذلك المحل ،
والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته. هذا خلف.
والثاني : إنه تعالى لما حلّ في المحل مع وجوب أن يحل فيه ، لزم من قدم الله ، قدم ذلك
المحل [ومن افتقار ذات الله إليه ، كونه واجب لذاته ، لأن ذاته تعالى واجبة لذاته ]. وإذا كان مفتقرا إلى ذلك المحل ، فمن المعلوم أن الذي
يفتقر الواجب لذاته إليه يكون أولى بالوجوب الذاتي ، وحينئذ يصير واجب الوجود ،
أكثر من واحد. وذلك محال.
__________________
وإنما قلنا : إنه
يمتنع أن يحل في محل ، مع جواز أن يحل فيه. وذلك لأن الحال في الشيء ، يجب أن يكون
محتاجا إليه ، والذي لا يحل في شيء ، هو الذي يكون غنيا عنه. فإذا قلنا في الشيء :
إنه قد يحل في المحل مع جواز أن لا يحل فيه ، صار المعنى : أن الغني عن الشيء ،
يجوز أن يصير محتاجا إليه. وذلك محال.
لأن الغني عن
الشيء يمتنع أن ينقلب محتاجا إليه ، فيثبت : أنه تعالى لو حل في شيء لحل إما مع
وجوب أن يحل ، أو مع جواز أن يحل ، والقسمان فاسدان ، فالقول بالحلول باطل. فإن
قيل : الإنسان إنه لو حل في شيء مع وجوب أن يحل فيه ، لكان محتاجا إلى المحل ،
وذلك لأنه [لا ] يمتنع أن توجب ذاته ، ذات ذلك المحل. ثم إن ذلك المحل
يوجب حلوله في نفسه ، أو يقال : ذاته توجب ذات ذلك المحل ، وتوجب حلول نفسه في ذلك
المحل ، بشرط وجود ذلك المحل ، وتوجب حلول نفسه في ذلك المحل ، بشرط وجود ذلك
المحل. وبهذا التقدير فإنه لا يلزم افتقار [ذاته إلى ذلك المحل. لأن لوازم الشيء
وآثاره واجبة الحصول عند حصول ذلك المؤثر ، مع أنه لا يلزم افتقار المؤثر إلى ] الأثر. ثم نقول : لم لا يجوز أن يحل في الشيء مع جواز
حلوله فيه؟ قوله : «لأن الحال في المحل ، مفتقر إلى ذلك المحل ، والذي لا يكون
حالا فيه ، يكون غنيا عنه ، وكون الشيء الواحد بالنسبة إلى الشيء الواحد ، غنيا
عنه ، ومحتاجا إليه : محال» فنقول : لم قلتم : إن الحال في الشيء يكون محتاجا إليه؟
ألا ترى أن الجسم المعين ، يحصل في الحيز المعين ، بعد أن كان غير حال فيه ، مع
أنه لا يكون محتاجا لذاته إلى الحلول في ذلك الحيز المعين؟ فإذا عقل هذا في الحصول
في الحيز ، فلم لا يعقل مثله في الحلول في المحل؟ واعلم أن هذه السؤالات واردة على
هذه الطريقة ويصعب الجواب عنها.
فالأولى : أن نقول : البحث عن أنه هل يجوز أن يصير حالا في شيء ، أم لا :
مسبوق بالبحث عن ماهية الحلول؟ فنقول : المعقول من الحلول
__________________
أمران : الأول :
كون الصورة حاصلة في الحيز المعين ، تبعا لحصول محلها فيه. فإذا قلنا اللون حال في
الجسم ، فإن معناه أن اللون حصل في ذلك الحيز المعين ، تبعا لحصول ذلك الجسم فيه.
والحلول بهذا التفسير إنما يعقل في الشيء الذي يكون حاصلا في الجهة والحيز ، فإذا
كان الباري تعالى منزها عن هذه الصفة ، كان إثبات الحلول في حقه محالا. والتفسير
الثاني للحلول : كونه مختصا به ، مع كونه محتاجا إليه كقولنا : إن صفة العلم والقدرة
حالة في ذات العالم القادر. والحلول بهذا الوجه مفسر باحتياج الصفة إلى الموصوف ،
ولما كان الإله تعالى واجب الوجود لذاته ، ممتنع الافتقار إلى الغير ، كان حصول
الحلول في حقه بهذا التفسير محالا. وهذا هو المعقول من لفظ الحلول ، وقد ثبت أن
ذلك في حق الله تعالى ممتنع. فأما الحلول بتفسير ثالث فهو غير معقول ولا متصور ،
فكان الكلام في إثباته ونفيه محالا. فهذا هو الكلام الملخص في هذا الباب.
ثم نقول : إذا
جوزتم الحلول على ذات الله ، وجب أن تكونوا شاكين في أنه هل حل في هذه البقة ، وفي
هذه النملة ، وفي هذه البعوضة؟ أقصى ما في الباب أن يقال : إنه لم يظهر من هذه
النملة حال عظيمة مهيبة ، إلا أنا نقول : هذا إشارة إلى أنه لم يوجد ما يدل على
حصول هذا الحلول ، ولا يلزم من عدم علمنا بحصول الدليل ، عدم المدلول. فيثبت : أن
من جوّز الحلول لزمه أن يبقى شاكا في كل واحد من هذه الأجسام الخسيسة ، أنه تعالى
هل صار حالا فيها أم لا؟ ولما كان ذلك باطلا ، كان القول بالحلول باطلا.
الفصل الرابع
في
عشر في نفي الاتحاد
اعلم أن قولنا : إن هذا الشيء صار شيئا
آخر : له تفسيران : أحدهما : أن تكون الذات المعينة موصوفة بصفة ، ثم زالت عنه تلك الصفة ، وحدثت فيه صفة أخرى.
وهذا معقول. كقولنا : إن الماء صار هواء ، فإن معناه : أن الجسم المعين كان موصوفا
بالصفة المائية وزالت هذه الصفة عن ذلك الجسم ، وحدثت فيه الصفة الهوائية ، وهذا
معقول جائز. وأما التفسير الثاني : وهو أن تصير نفس هذه الحقيقة بعينها نفس حقيقة
أخرى ، فهذا قول باطل. والدليل عليه : أنهما عند الاتحاد إما أن يكونا باقيين ، أو
يكونا معدومين ، أو يكون أحدهما باقيا ، والآخر معدوما ، فإن كانا عند الاتحاد
باقيين ، فهما أثنان لا واحدا ، فكان القول بالاتحاد باطلا. وإن كانا معدومين فهما
قد عدما وهذا الذي حصل وحدث ، شيء ثالث مغاير لهما ، وهذا معقول ، إلا أنه ليس هذا
من باب الاتحاد ، وأما إن قلنا : إن عند الاتحاد يكون أحدهما باقيا ، ويكون الثاني
فانيا ، فهذا أيضا باطل لأنهما لو اتحدا ، لزم أن يقال : إن الموجود عين المعدوم ،
وذلك باطل قطعا ، فثبت : أن القول بالاتحاد محال. ولقائل أن يقول : القول بالاتحاد
له تفسير معقول صحيح وذلك لأنه ثبت أن الوجود زائد على الماهية ، فإذا كان لكل
واحدة من هاتين الماهيتين ، وجود على حدة ، كان ذلك مبطلا للاتحاد ، وأما إذا حصل
لهما معا وجود واحد ، فهذا هو الاتحاد. وذلك لأنه لما كان لكل واحد منهما وجود على
حدة ، ثم إنه زال
عن كل واحد منهما ما قام به من الوجود ، وحصل لمجموعها وجود واحد ، فهذا هو
الاتحاد. وإذا كان هذا قسما من الأقسام المعلومة ، فما لم يقيموا الدليل على فساده
، لم يكن القول بالاتحاد باطلا.
إذا عرفت هذا
فنقول : القول بالاتحاد في حق الله تعالى محال ، لأن ذلك [إنما يعقل] إذا زال عنه الوجود القائم به ، وحصل لمجموع حقيقته مع
حقيقة أخرى صفة الوجود.
إلا أن ذلك محال ،
لأنه لما كان واجب الوجود لذاته ، كان زوال ذلك الوجود عنه محالا ، فكان اتصافه
بذلك الوجود الذي هو منفرد به ، واجبا لذاته ، ومتى كان الأمر كذلك كان الاتحاد في
حقه محالا.
__________________
الفصل الخامس عشر
في
بيان أنه يمتنع كونه تعالى محلّا لغيره
هاهنا أبحاث
البحث الأول : أنه هل يعقل أن يكون محلا للحوادث؟ قالوا : إن هذا قول لم يقل به أحد
إلا الكرامية . وأنا أقول : إن هذا قول قال به أكثر أرباب أهل المذاهب.
أما الأشعرية : فإنهم يدعون الفرار من هذا القول ، إلا أنه لازم عليهم من وجوه :
الأول : إنه تعالى كان قادرا على إيجاد الجسم المعين من الأزل إلى الأبد ، فإذا
حلق ذلك الجسم المعين ، يمتنع أن يقال : إنه بقى قادرا على إيجاده ، لأن إيجاد
الوجود محال. والمحال لا قدرة عليه ، فتعلق قادريته بإيجاد ذلك الجسم قد زال وفني.
والثاني : إنه في الأزل يمتنع أن يقال : إنه كان يطلب من زيد إقامة الصلاة ، وإيتاء
الزكاة في الحال. ثم إن عند دخول زيد في الوجود ، يصير مطالبا له بإقامة الصلاة في
الحال ، وإيتاء الزكاة. وهذا الطلب إلزام ، والإلزام الحاصل ، ما كان حاصلا ثم حصل
، وهذا يقتضي حدوث الصفة في ذات الله
__________________
تعالى. ولو قال
قائل : إن كونه مطالبا لزيد في الحال بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة تعلق خاص ونسبة
خاصة ، والحادث هو النسب والتعلقات ، لا الصفات. فنقول : هذه النسب والتعلقات ، هل
لها وجود في نفس الأمر أو ليس كذلك؟ والثاني يقتضي نفي كونه تعالى مطالبا في الحال
بإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة. وأما الأول فيقتضي حدوث الصفة في ذات الله.
والثالث : وهو أنه تعالى يمتنع أن يسمع صوت زيد قبل وجوده ، وأن يرى صورة زيد قبل
وجودها ، فكونه سامعا لذلك [الصوت ، إنما حدث عند حدوث ذلك الصوت ، وكونه رائيا
لتلك الصورة إنما حدث عند حدوث تلك الصورة وهذا] يقتضي حدوث هذه الصفات في ذات الله تعالى.
وأما المعتزلة : فقد ذهب أبو علي وأبو هاشم إلى أنه يحدث في ذاته صفة المريدية
والكرامية ، ويحدث في ذاته كونه سامعا مبصرا لهذه الأصوات الحادثة ، ولهذه الألوان
الحادثة. وأما أبو الحسين البصري فقد صرح بأن علم الله يتغير عند تغير المعلومات ،
وأن تلك العلوم إنما تحدث في ذات الله تعالى.
وأما الفلاسفة : فإنهم مع كونهم أبعد
الناس عن هذا المذهب ،
قد قالوا به من حيث لم يشعروا به. وبيانه : وهو أن الإضافات صفات موجودة في
الأعيان عندهم ، ولا شك أن الباري تعالى موجود مع كل حادث يحدث ويدخل في الوجود.
ولا شك أنه كان موجودا قبل حدوث ذلك الحادث ، وسيبقى موجودا بعد فناء ذلك الحادث ،
وهذه القبلية والمعية والبعدية ، إضافات حادثة في ذات الله تعالى ، وإذا كانت
الإضافات موجودات في الأعيان، كان هذا قولا بحدوث المعاني والصفات ، وفي ذات الله
تعالى.
فيثبت بهذا البحث
الذي ذكرناه : أن القول بحدوث الصفات في ذات الله قول قال به جميع الفرق.
__________________
إذا عرفت هذا فنقول :
اعلم أن الصفات على ثلاثة أقسام :
أحدها : الصفات الحقيقية العارية عن الإضافات ، مثل اللون والطعم والرائحة. ومثل:
الوجود والحياة.
وثانيها : الصفات الحقيقية الموصوفة بالإضافات والنسب وذلك مثل : العلم عند من يقول :
إنه صفة لها تعلق بالمعلوم. فإن على هذا القول : العلم صفة حقيقية وحصل بين تلك
الصفة وبين المعلوم نسبة خاصة ، وتعلق خاص.
وثالثها : الصفات التي هي محض النسب والإضافات مثل : كون زيد يمينا لعمرو ،
أو يسارا له ، مثل ما إذا تزوج أخو زيد بامرأة ، وحصل له ولد ، فإن زيدا يصير عمّا
لذلك الولد ، بعد أن كان عاريا عن هذه الصفة ، وهذا يقتضي حدوث هذه الإضافات
المختصة في ذات زيد.
إذا عرفت هذا
فنقول : أما القول بحدوث الصفات الإضافية فذاك أمر يجب الاعتراف به ، ولا يمكن
إنكاره البتة يقينا مع الصفات الحقيقية ، سواء حصلت لها إضافات إلى الغير ، أو لم
يحصل. وهاهنا محل الخلاف. فمن الناس من جوز حدوث مثل هذه الصفات في ذات الله تعالى
، ومنهم من منع منه. هذا هو تلخيص محل الخلاف.
واحتج القائلون بامتناع
قيام الحوادث بذات الله تعالى بوجوه :
الحجة الأولى : أن نقول : كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو عنها ، وما لا يخلو
عن الحوادث فهو حادث. أما قولنا : إن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا يخلو
عنها. فالدليل عليه : أن نقول : إن تلك الذات التي لا يمكن خلوها عن قابليه
الحوادث [حادثة. فيلزم أن يقال : كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه لا ينفك عن
الحوادث ] وأما بيان أن كل ذات تقبل الحوادث فإنها لا تنفك عن تلك
القابلية.
__________________
فالدليل عليه : أن
تلك القابلية إما أن تكون من لوازم تلك الذات ، وإما أن لا تكون [من لوازمها ] فإن كانت من لوازمها ، فحينئذ لا تنفك تلك الذات عنها ،
وذلك هو المطلوب.
وأما إن قلنا : إن
تلك القابلية ليست من لوازم تلك الذات ، بل هي من الصفات المفارقة ، كانت الذات
قابلة لتلك القابلية ، فكونها قابلة لتلك القابلية. إن كانت من لوازم الذات [فحينئذ
تكون القابلية من لوازم الذات ] وإن لم تكن من لوازمها كان الكلام فيها كما في الأول ،
فيلزم أن تكون قبل كل قابلية أخرى ، ويلزم التسلسل ، وهو محال. فيثبت بهذا : أن
هذه القابليات وجب انتهاؤها إلى قابلية تكون من لوازم تلك الذات. وهو المطلوب.
وأما بيان أن تلك
القابلية صفة حادثة ، فالدليل عليه : إن قابلية الصفة الحادثة يمتنع حصولها ، إلّا
عند إمكان حصول الصفة الحادثة وإمكان [حصول الحادث له أول لأن ] حصول الحادث في الأزل محال. لأن الحادث هو الذي له أول.
والأزل هو الذي لا أول له ، والجمع بينهما محال. فيثبت : أن صحة حدوث الحوادث لها
أول ، فقابلية هذه الصفة أيضا لها أول ، لأن إمكان اتصاف الشيء بشيء آخر ، مشروط
بكون ذلك الشيء في نفسه ممكن الحصول ، لأن إمكان حصوله لغيره فرع على إمكان حصوله
في نفسه ، لأن ما لا وجود له في نفسه ، امتنع وجوده لغيره ، ولما كان حصول الحادث
في الأزل محالا ، كان إمكان كون الذات قابلة للحادث في الأزل محالا. فثبت بما
ذكرناه : أن كل ما كان قابلا للحوادث ، فإنه يمتنع خلوه عن قابليته للحوادث [وثبت
أيضا : أن قابلية الحوادث لها أول فيثبت بما ذكرناه : أن كل ما كان قابلا للحوادث
فإنه يمتنع خلوه عن الحوادث ] ثم من المتفق عليه بين
__________________
المتكلمين : أن كل
ما لا يخلو عن المحدث فهو محدث ، فيلزم القطع بأن كل ما يقبل الحوادث ، فإنه يكون
محدثا ، ولما ثبت أنه تعالى منزه عن الحوادث ، ثبت أنه يمتنع كونه قابلا للحوادث.
الحجة الثانية في المسألة : إن الصفة
التي حدثت في ذات الله
تعالى ، إما أن تكون من صفات الكمال ، وإما أن لا تكون من صفات الكمال ، فإن كانت
من صفات الكمال ، كانت تلك الذات قبل حدوث تلك الصفة فيها خالية عن صفة الكمال ،
والخلو عن صفة الكمال نقصان فيلزم كون تلك الذات ناقصة. والنقصان على الله محال.
وإن كانت تلك الصفة ليست من صفات الكمال ، كان إثباتها في حق الله تعالى حالا ،
لحصول الاتفاق على أن صفات الله تعالى بأسرها يجب أن تكون من صفات الكمال والمدح.
الحجة الثالثة : كل صفة يشير العقل إليها ، فإما أن تكون ذات الله كافية في استلزام حصولها ،
أو كانت كافية في استلزام عدمها ، أولا تكون كافية في واحد منهما ، فإن كان الأول
لزم دوام وجود تلك الصفة بسبب دوام تلك الذات ، وإن كان الثاني لزم دوام عدم تلك
الصفة بسبب دوام تلك الذات ، وإن كان الثالث فحينئذ لا تكون تلك الذات كافية لا في
وجود تلك الصفة ولا في عدمها. معلوم : أن تلك الذات لا تنفك عن وجود تلك الصفة وعن
عدمها. ونقول : الذات موقوفة على حصول أحد هذين القسمين ، إما وجود تلك الصفة وإما
عدمها ، لكن وجودها وعدمها لما لم يكف فيه تلك الذات ، فلا بد فيه من سبب منفصل
فتكون تلك الذات موقوفة على أحد هذين القسمين ، وكل واحد منهما موقوف على سبب
منفصل ، والموقوف على الموقوف على الشيء ، يجب كونه موقوفا على الشيء ، فيلزم كون
ذات الله تعالى موقوفة على سبب منفصل ، والموقوف على الغير ممكن لذاته ، فواجب
الوجود لذاته ممكن الوجود لذاته ، وذلك محال. فيثبت : أن ذات الله تعالى لا تقبل
الصفات الحادثة ، وأنه كما أن ذاته دائم لم يزل ولا يزال ، فكذلك صفاته دائمة لم
تزل ولا تزال.
الحجة الرابعة : قال بعضهم : لو حدث صفة في ذات الله تعالى ، لزم
وقوع التغير وذلك
محال بالاتفاق ، فوجب أن يكون حدوث تلك الصفة في ذات الله تعالى محالا. ولقائل أن
يقول : إن عنيتم بهذا التغير حدوث صفة في ذات الله تعالى ، بعد عدمها. فهذا يفيد
إلزام الشيء على نفسه ، وذلك لا يفيد ، وإن عنيتم به وقوع التبدل في نفس تلك الذات
المخصوصة ، فمعلوم أن هذا غير لازم. فيثبت أن هذا الكلام ضعيف.
وأما القائلون
بحدوث الصفات فقد بنوا كلامهم على مسائل : أحدها : أنه تعالى عالم بالجزئيات ،
والعلم يجب تغيره عند تغير المعلوم ، وهذا يقتضي حدوث العلوم في ذات الله. وثانيها
: أنه تعالى مريد وثبت أن القصد إلى إحداث الشيء ، لا يحصل إلّا حال الإحداث، وهذا
يقتضي حدوث الإرادة ، لكن الإرادة والمريدية صفة لله فيلزم حدوث هذه الصفة في ذات
الله. وثالثها : إنه تعالى سميع بصير ، وسماع الكلام قبل حدوثه محال ، وإبصار
الصورة قبل حدوثها محال فيثبت : أن ذلك السماع إنما حدث عند حدوث ذلك الصوت ، وأن
ذلك الإبصار إنما حدث عند حدوث ذلك المرئي. وأما الدلائل الدالة على أنه لا يحدث
في ذات الله تعالى شيء ، فهي بأسرها مشكلة الصفات الإضافية. فإنا قد بينا : أنه لا
بدّ من الاعتراف بحدوثها ، مع أن الدلائل التي ذكرتموها قائمة فيه. [وهذا آخر هذه
المسألة ، والله أعلم ]
__________________
الفصل السادس عشر
في
بيان أن الألم واللذة محالان على الله تعالى
أما الألم فقد أطبقوا على أنه محال على
الله ، وأما اللذة فقسمان : لذة جسمانية ، ولذة روحانية. أما اللذة الجسمانية فقد
أطبقوا على أنها محال على الله. واحتجوا على امتناع هذا الألم وهذه اللذة على الله
تعالى بوجهين :
الأول : إن اللذة عن إدراك الملائم ، والألم عبارة عن إدراك المنافي ،
وإدراك الملائم والمنافي في مشروط بحصول الملائم والمنافي ، وحصول الملائم
والمنافي ، مشروط بكون الذات قابلة للزيادة والنقصان. وذلك إنما يعقل في حق الجسم
الذي يقبل الزيادة والنقصان والنمو والذبول. ولما كان واجب الوجود لذاته ، منزها
عن الجسمية ، كان ثبوت الألم واللذة في حقه محالا. ولقائل أن يقول : إنا نجد عند
إدراك الملائم حالة طيبة مسماة باللذة ، وعند إدراك المنافي حالة مكروهة مسماة
بالألم. ونحن لا نعرف أن تلك الحالة الطيبة المسماة باللذة ، هل هي نفس ذلك
الإدراك ، أو حالة مغايرة لذلك الإدراك حاصلة عند حصول ذلك الإدراك؟ [وبتقدير أن
يكون الحق هو أن اللذة حالة مغايرة للإدراك حاصلة عند حصول الإدراك ] فإنه لا يلزم من عدم حصول الملائم والمنافي ، عدم اللذة
والألم. لأن إدراك الملائم على هذا التقدير يكون سببا لحصول اللذة ، وإدراك
المنافي يكون سببا لحصول الألم. ولا يلزم من انتفاء
__________________
السبب المعين
انتفاء المسبب. لاحتمال أن يحصل ذلك المسبب بسبب آخر ، فيثبت بما ذكرنا : أن هذا
الدليل ضعيف.
الحجة الثانية على امتناع حصول اللذة في
حق الله تعالى : أن نقول : لو التذ الله
تعالى بشيء ، لكان الملتذ به إما أن يكون حاصلا في الأزل ، وإما أن لا يكون.
والقسمان باطلان ، فالقول بكونه ملتذا باطل. بيان أنه يمتنع كونه ملتذا في الأزل :
ذلك لأن الالتذاذ بالشيء ، مشروط بحصول الملتذ به ، فلو كانت اللذة أزلية [لكان
المتلذذ به أزليا ] فيلزم قدم العالم ، وقد أبطلناه. وبيان أنه يمتنع القول
بأن كونه ملتذا : صفة حادثة : وذلك لأن حصول الالتذاذ في حق من يصح عليه الالتذاذ
أمر مطلوب الحصول. فإذا كان الله تعالى عالما في الأزل بأنه يمكنه تحصيل الالتذاذ
، ولا مانع له من تحصيل ذلك الشيء البتة ، وجب أن يحدث ذلك الملتذ به. وهذا محال ،
لأنه لا وقت يفرض أن الله تعالى يحدثه فيه ، إلا والداعي إلى إحداثه كان حاصلا قبل
ذلك ، وكانت الموانع المانعة عن إحداثه زائلة ، وإذا كان الأمر كذلك [وجب أن يحدثه
قبل ذلك الوقت ، فلزم أن يقال : إنه لا وقت إلا والله تعالى قد أحدث ذلك الملتذ به
قبل ذلك الوقت ، وإذا كان الأمر كذلك ] لزم أن يقال : إن الله أحدثه في الأزل ، وحينئذ يرجع
الكلام إلى القسم الأول ، وهو أن الملتذ به كان حاصلا في الأزل ، ويلزم منه قدم
العالم. وقد أبطلناه ، فثبت أن القول بصحة كونه تعالى ملتذا أمر يفضى إلى أحد هذين
القسمين ، وثبت كونهما باطلين ، فكان القول بجواز اللذة على الله تعالى محالا. هذا
هو الكلام في اللذات الحسية.
وأما اللذات العقلية : فهي مثل الالتذاذ بحصول صفات الكمال والجلال له. وهذا النوع من الالتذاذ قد
أطبقت الفلاسفة على إثباته في حق الله تعالى. والمتكلمون أطبقوا على إنكاره. أما
الفلاسفة فقد احتجوا على إثباته بأنه تعالى عالم بكونه موصوفا بصفات الكمال
والجلال ، [وهذا العلم يوجب البهجة والالتذاذ ، فوجب أن يحصل هذا النوع من البهجة
في حق الله تعالى. أما أنه
__________________
موصوفا بصفات
الكمال والجلال ] فهذا بناء على مقدمتين : إحداهما : كونه تعالى موصوفا
بصفات الجلال والكمال. [والثانية : أنه تعالى عالم بهذه الأحوال. أما عن صفات
الجلال والكمال ] فالأمر فيه ظاهر ، لأن أعظم صفات الكمال والجلال ، وجوب
الوجود في الذات وفي الصفات ، وكمال العلم وكمال القدرة وكمال الفردانية في هذه
الصفات. وكل ذلك حاصل في حق الله تعالى. وأمّا أنه تعالى عالم [بهذه الأحوال فلأنه
تعالى لما ثبت. أنه عالم ] بذاته وبجميع صفاته ، وجب كونه عالما بهذه الأحوال. وأما
أن كونه عالما بكونه موصوفا بصفات الكمال والجلال ، يوجب الابتهاج واللذة والسرور
، فالاستقراء يدل عليه ، لأنا متى علمنا من أنفسنا هذه الأحوال ، حصل أنواع من
البهجة والفرح والسرور. فإذا كانت الكمالات في حق الله تعالى لا نسبة لها إلى
كمالات البشر ، وعلم الله لا نسبة له إلى علم البشر في القوة والظهور ، وجب القطع
بأنه لا نسبة لتلك البهجة والفرح إلى ما يحصل للبشر من هذا النوع. [فهذا تمام
الكلام في هذا الباب ] ولقائل أن يقول : كمالاتنا مخالفة بالماهية ، لكمالات
الله تعالى فوجب أن يكون علمنا بكمالاتنا ، مخالفا لعلم الله تعالى بكمالات النفس
، ولا يلزم من ثبوت حكم ما في ماهية ثبوت مثل ذلك الحكم فيما يخالف تلك الماهية [فهذا
محصول الكلام في هذا الباب ]
__________________
الفصل السابع عشر
في
أنه هل يصح إطلاقه لفظ الجوهر على الله تعالى أم لا؟
اعلم : أن الجوهر
قد يذكر ويراد به أحد أمور أربعة : التفسير الأول : المتحيز الذي لا يقبل القسمة ،
وهذا على قول من يثبت الجوهر الفرد ، ولما دللنا على أنه تعالى يمتنع أن يكون
متحيزا ، وجب القطع بأنه ليس بجوهر. والتفسير الثاني : أن يقال : الجوهر هو الذات
القابلة لتوارد الصفات المتضادة عليه ، وهذا إنما يعقل ثبوته إذا كانت الذات قابلة
للصفات المتجددة المتعاقبة ، ولما دللنا على أن تعاقب الصفات على ذات الله تعالى
محال ، امتنع أن يكون جوهرا ، بهذا الوجه. والتفسير الثالث للجوهر : إنه الماهية
التي إذا وجدت في الأعيان كانت لا في موضع. وهذا المفهوم إنما يصدق على الشيء الذي
تكون ماهيته غير وجوده ولما كان مذهب الشيخ أبي علي : أن وجود الله ـ تعالى ـ نفس
ماهيته وليس صفة مغايرة لماهيته ، امتنع كونه تعالى جوهرا بهذا الوجه ، وأما عندنا
فلما كان الجوهر ، هو أن وجود الله تعالى صفة قائمة بذاته المخصوصة كان جوهرا بهذا
الوجه. والتفسير الرابع للجوهر : إنه الموجود والغني عن محل يحل فيه ، وأحق
الأشياء بأن يكون جوهرا بهذا التفسير هو الله تعالى لأنه غني عن المحل الذي يحل
فيه وعن الحيز الذي يحصل فيه ، وعن الفاعل الذي يوجده ، وعن الصورة التي تتممه ،
فكان أحق الأشياء بالجوهرية بهذا هو الله تعالى.
ومن الناس من يعبر
عن هذا المعنى بكونه قائما بالنفس ، [فيطلق على
واجب الوجود لذاته
كونه قائما بالنفس ] ولا يطلق عليه لفظ [الجوهر ، وهذا النزاع بعيد ، لأن لفظ ] القائم بالنفس مجاز
من وجهين : أحدهما : إن إطلاق لفظ القائم بالنفس لإفادة معنى الاستغناء مجاز.
والثاني : إن إطلاق لفظ النفس لإرادة
الذات والماهية ، اطلاق للفظ المشترك لإرادة أحد مفهوميه ، لأن لفظ النفس [قد يراد
به الجسد والدم ، وقد يراد به الذات والحقيقة. فيثبت : أن لفظ القائم بالنفس ] مجاز من وجهين. وأما لفظ الجوهر فهو مأخوذ من الجهارة
والظهور ، وكل ما كان أكمل في الاستغناء عن الغير ، كان أبقى وأدوم ، فكان معنى
الجهارة فيه أكثر ، فكان أولى بإطلاق هذا اللفظ عليه. فهذا هو الكلام في تفسير لفظ
الجوهر.
فإن قال قائل :
المفهوم من الجوهر : جنس لما تحته ، فلو صدق عليه تعالى كونه جوهرا لكان داخلا تحت
الجنس ، وكل ما كان داخلا تحت الجنس كان امتيازه عن سائر الأنواع بالفصل ، فيلزم
كون ذاته مركبة من الجنس والفصل ، وذلك محال ، لما ثبت أن كل مركب فهو ممكن ، ولا
شيء من واجب الوجود بممكن. والجواب : إن الجنس عبارة عن الجزء المشترك ، فالجنس
جزء من أجزاء الماهية ، والاستغناء عن المحل مفهوم عدمي ، والمفهوم العدمي يمتنع
أن يكون جزءا من أجزاء الماهية [الموجودة فيثبت أن الجوهر بهذا المعنى ليس جزءا من
أجزاء الماهية والجنس جزء من أجزاء الماهية ] فيمتنع كون الجوهر بهذا المعنى جنسا [فهذا تمام الكلام في
هذا الباب والله أعلم ].
__________________
القسم الثاني
في بيان أنّه سبحانه وتعالى
منزّه عن الضّدّ والنّدّ
الفصل الأول
في
أن واجب الوجود لذاته ليس إلّا الواحد
اعلم أن الناس ذكروا أنواعا من الدلائل على وحدانية الله تعالى
، ونحن نذكرها على الاستقصاء :
أما الحجة الأولى : التي عليها تعويل الفلاسفة فهي أن قالوا : لو فرضنا موجودين يكون كل
واحد منهما واجب الوجود لذاته ، لكانا متشاركين في المفهوم من الوجوب الذاتي، ولا
بد وأن يختلفا بالتعين والتشخص ، إذ لو كان كون هذا حاصلا لذاك ، لكان هذا عين ذاك
، ولكان ذاك عين هذا. وحينئذ يكون الكل شيئا واحدا ، فيثبت أنا لو فرضنا موجودين
يكون كل واحد منهما واجب الوجود لذاته ، لوجب كونهما متشاركين في الوجوب الذاتي ،
وكون كل واحد منهما [للآخر في نفسه وتشخصه ، وما به المشاركة غير ما به المخالفة
فيكون كل واحد منهما ] مركبا من الوجوب الذي به يشارك غيره ، ومن التعين الذي به
يخالف غيره ، وهذا محال لوجوه :
الأول : إن كل مركب فإنه مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزائه غيره ،
فكل مركب فإنه مفتقر إلى غيره [وكل مفتقر إلى غيره ]
__________________
فإنه ممكن ، فثبت
أنا لو فرضنا موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ، لوجب كون كل واحد منهما
ممكنا لذاته ، وما أفضى ثبوته إلى عدمه كان باطلا ، فيثبت أن فرض موجودين. يكون كل
واحد منهما واجبا لذاته : فرض باطل محال فيثبت أن وجود موجودين واجبي الوجود قول
باطل.
الثاني : إنه إما أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء واجب الوجود لذاته ، وإما أن لا
يكون كذلك والقسم الثاني باطل ، لأن المركب مفتقر إلى كل واحد من أجزائه ، فلو كان
[شيء من أجزائه ] ممكنا لذاته ، مع أنه يكون مفتقرا إلى [ذلك الجزء ، لزم
كونه في ذاته مفتقرا إلى ] الممكن لذاته ، والمفتقر إلى الممكن أولى بالإمكان ،
فيلزم أن يكون [الواجب لذاته ، ممكنا لذاته. وذلك محال فيثبت : أن كل واحد من تلك
الأجزاء يكون ] واجبا لذاته ، فتلك الأجزاء متشاركة في الوجوب الذاتي ،
ومتباينة بخصوصياتها التي باعتبارها يخالف بعضها بعضا ، وما به المشاركة غير ما به
المخالفة ، فيلزم كون كل واحد من تلك الأجزاء مركبا [من جزءين آخرين ، والكلام في
تلك الاجزاء كما في الأول ، فيلزم كون كل واحد منهما مركب ] من أجزاء غير متناهية [وذلك محال. لأن كل كثرة متناهية أو
غير متناهية ] فإن الواحد فيها موجود إلا أن أي شيء صدق ، يحكم العقل
بأنه واحد وهذا في نفسه ليس بواحد ، لأن ذلك الواحد لا بدّ وأن يشارك سائر الأجزاء
في الوجوب الذاتي ، ويخالفه في التعين فيكون ذلك الشيء مركبا ، فلا يكون الواحد
واحدا. هذا خلف.
والوجه الثالث في إبطال كون كل واحد
منهما مركبا من الوجوب الذي به تحصل المشاركة ومن التعين الذي به تحصل المخالفة :
هو أنه لما كان كل واحد منهما مركبا من هذين الجزءين ، فإما أن يكون الوجوب الذي
به المشاركة يستلزم ذلك التعين لعينه ، وإما أن يكون [ذلك التعين الذي به المخالفة
، يستلزم
__________________
ذلك الوجوب الذي
به المشاركة أو أن يكون ] كل واحد منهما غير مستلزم للثاني ، والأقسام الثلاثة
باطلة. أما الأول وهو أن الوجوب الذي به المشاركة ، يستلزم ذلك التعين الذي به
المخالفة. فنقول : إن كان الأمر كذلك ، فأينما حصل الوجوب بالذات ، وجب أن يحصل
ذلك التعين وكل ما كان واجب الوجود لذاته ، وجب أن يكون هو ذلك المعين ، فحينئذ
يكون واجب الوجود لذاته ليس إلا ذلك الواحد ، وأما الثاني وهو أن يقال : إن ذلك
التعين يوجب الوجوب بالذات ، فهذا أيضا باطل ، لأن الوجوب بالذات إذا كان معللا
بذلك التعين ، كان الوجوب بالذات واجبا بغيره ، وكل ما كان واجبا بغيره كان ممكنا لذاته ،
فيلزم أن يكون الوجوب بالذات ممكنا لذاته. وذلك متناقض. وأما الثالث وهو أن يقال :
الوجوب بالذات لا يستلزم ذلك الجزء. وذلك التعين أيضا لا يستلزم الوجوب بالذات ،
فحينئذ يكون اجتماعهما لا بد وأن يكون بسبب منفصل ، فيلزم أن يكون الواجب لذاته
واجبا بغيره. وذلك محال.
الوجه الرابع في إبطال أن يقال أن الذات
المتعينة مركبة : هو أن نقول : واجب الوجود إما أن يكون هو نفس ذلك التعين ، أو يكون موجبا لذلك التعين ، أو
لا يكون نفس ذلك التعين ، ولا موجبا له والقسمان الأولان يوجبان أن يكون واجب
الوجود لذاته واحدا ، والقسم الثالث يقتضي أن لا يصير واجب الوجود لذاته متعينا [إلا
] بسبب منفصل ، وما لا تثبت هويته إلا بسبب منفصل ، كان ممكنا لذاته فيلزم أن
يكون واجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته ، وذلك محال.
الحجة الثانية : في توحيد واجب الوجود لذاته : هي أن واجب الوجود لذاته [إن كان مقولا على أشياء
كثيرة ، فحينئذ يكون المفهوم من قولنا : واجب
__________________
الوجود لذاته ] أمرا مشتركا ، ويدخل تحت ذلك المشترك أشياء كثيرة. فنقول
: ذلك المشترك إما أن يكون جنسا تحته أنواع ، أو يكون نوعا تحته أشخاص ، وطريق
الحصر فيه أن نقول : الأشياء الداخلة تحت ذلك المشترك إما أن يخالف بعضها بعضا في
الماهية أولا يكون كذلك. فإن كان الأول فهو جنس تحته أنواع [وإن كان الثاني فهو نوع تحته أشخاص
فنقول : لا يجوز أن يكون واجب الوجود لذاته ، جنسا تحته أنواع ] ويدل عليه وجوه : الأول : إن على هذا التقدير يكون كل
واحد من تلك الأشياء مركبا من الجنس والفصل ، وكل مركب ممكن ، فواجب الوجود لذاته
، ممكن الوجود لذاته. هذا خلف. والثاني :
إن الفصل سبب لوجود حصة
النوع من الجنس ، فلو فرضنا هاهنا فصلا ، لكان ذلك الفصل سببا لوجود [واجب الوجود ] لذاته. وذلك محال. لأن واجب الوجود لذاته ، يمتنع أن يحصل
له وجودا آخر ، يكون ذلك الوجود من تأثيرات ذلك الفصل ، بخلاف سائر الماهيات
الجنسية ، لأن تلك الماهيات ليست موجودة من حيث هي هي ، فأمكن أن يحصل الوجود لها
بسبب ذلك الفصل ، أما وجوب الوجود فيستحيل أن يحصل له وجود آخر ، فامتنع كون الفصل
مقوما له. والثالث : هو أن المفهوم من كونه واجب الوجود لذاته ، إن كان قائما بنفسه ، غنيا بذاته عن غيره ، امتنع
كون الفصل سببا لقوامه ، وإن لم يكن قائما بنفسه ، لزم أن يكون المفهوم من الوجوب
بالذات ، ممكنا بالذات ، محتاجا بالذات ، وذلك متناقض. وأما القسم الثاني وهو أن
يقال : إن واجب الوجود لذاته نوع تحته أشخاص، فنقول : المقتضى لذلك الشخص المعين ،
إن كان هو تلك الماهية أو شيء من لوازمها وجب أن يقال : إنه أينما حصلت تلك
الماهية النوعية ، أن يحصل ذلك الشخص بعينه فكان واجب الوجود هو ذلك الشخص فقط ،
وإن كان المقتضى لذلك الشخص سببا منفصلا ، فحينئذ يلزم أن لا يوجد ذلك المعين ،
إلا
__________________
بسبب منفصل فيكون
الواجب لذاته ، واجبا بغيره. وهو محال. فهذا هو الكلام المستقصى في تقرير هذه
الوجوه.
ولقائل أن يقول : السؤال على ما ذكرتم
من وجوه :
السؤال الأول : أن نقول : أنتم بنيتم كل هذه الوجوه على حرف واحد ، وهو أنا لو فرضنا
موجودين يكون كل واحد منهما واجبا لذاته ، فإنه يلزم وقوع التركيب في ذات كل واحد
منهما. فنقول : هذا ممنوع وذلك لأن هذا التركيب ، إنما يلزم إن كان الوجوب الذي به
الاشتراك مفهوما ثبوتيا ، وكان التعين الذي به الامتياز مفهوما ثبوتيا ، وحينئذ
يلزم التركيب وتستمر الشبه التي ذكرتموها. أما بتقدير أن يكون الوجوب الذي به
المشاركة مفهوما عدميا ، فإنه لا يلزم التركيب ، لاحتمال أن يقال : إنه وقع
الاشتراك في المفهوم السلبي ، ووقع الامتياز بتمام الماهية ، فنفتقر في تقرير هذا
السؤال إلى بيان أمرين :
أحدهما : أن الوجوب مفهوم سلبي ،
والثاني : أنه إذا كان الأمر كذلك ، لم
يلزم وقوع التركيب.
أما المقام الأول : فيدل عليه وجوه :
الأول : إن كل ما صدق عليه أن وجوده ممتنع ، صدق عليه أن عدمه واجب. وعلى هذا التقدير
فالوجوب محمول على العدم والمحمول على العدم يمتنع أن يكون موجودا [وإلا لزم قيام
الصفة الموجودة بالعدم المحض ، والنفي الصرف. وإنه محال ] فيثبت بهذا : أن المفهوم من الوجوب يمتنع أن يكون أمرا
موجودا.
الثاني : وهو أنه لو كان الوجوب أمرا ثبوتيا ، لكان إما أن يكون تمام تلك الحقيقة أو جزء
منها أو أمرا خارجا عنها ، والأقسام الثلاثة باطلة فالقول بكون الوجوب مفهوما
ثبوتيا : باطل.
أما أنه لا يجوز
أن يكون تمام الماهية فلوجوه :
__________________
أحدها : إنا نصف تلك الماهية بالوجوب. ووصف الشيء بنفسه محال. لأنا ندرك تفرقة
بديهية بين قولنا : هذه الذات ، وبين قولنا : هذه الذات واجبة الوجود.
وثانيها : إنه لو كان الوجوب هو نفس تلك الماهية ، لكان كل من عرف الوجوب بالذات عرف
تلك الماهية المخصوصة ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن الوجوب ليس نفس
الماهية.
وثالثها : إن نقيض قولنا : واجب لذاته : أنه ليس بواجب ، ولا يناقضه قولنا :
إنه ليس تلك الذات الفلانية ، ولو كان الوجوب نفس تلك الذات لكان نقيض أحدهما ،
عين نقيض الآخر.
وأما بيان أنه لا
يجوز أن يكون الوجوب جزءا للماهية. لأنكم لما ذكرتم أن كل ماله جزء فهو : ممكن ،
فلو كان الواجب بالذات له جزء ، لكان ممكنا بالذات.
وأما بيان أنه لا يجوز أن يكون خارجا عن
الماهية. فلوجهين :
الأول : إن كل صفة خارجة عن الماهية فهي مفتقرة إلى تلك الماهية ، والمفتقر
إلى الغير ممكن لذاته ، وواجب بغيره ، فيلزم أن يكون الواجب بالذات ممكنا لذاته
ويلزم منه الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وأيضا : فلما كان الوجوب بالذات واجبا
بغيره ، كان وجوب ذلك الغير سابقا على وجوب هذا الأثر ، فيلزم أن يحصل قبل ذلك
الوجوب ، وجوب آخر إلى غير النهاية. وذلك محال.
والثاني : إن الصفة مفتقرة إلى الذات ، محتاجة إليها ، فلو حكمنا بأن وجوب تلك الذات
إنما كان بسبب هذه الصفة لزم كون كل واحد منهما مفتقرا ، إلى الآخر وهو محال ،
فيثبت بما ذكرنا : أنه يمتنع كون الوجوب بالذات نفس الماهية ، ولا جزءا منها ، ولا
صفة خارجة عنها فيمتنع كون الوجوب صفة ثبوتية.
الثالث : لو كان الوجوب أمرا ثابتا لكان مساويا لسائر الموجودات في كونه موجودا ،
ومخالفا لها في ماهيته المعينة ، فيكون وجوده غير ماهيته فاتصاف ماهيته بوجوده إن كان على سبيل الإمكان
بالذات ، وهو محال. وإن كان على سبيل الوجوب ، لزم أن يكون وجوب لوجود زائدا عليه.
ولزم التسلسل. وهو محال.
الرابع : لو كان الوجوب بالذات أمرا ثبوتيا لكان ممكنا لذاته ، وهذا محال ، فذاك محال ،
بيان الشرطية : أن الوجوب ينقسم إلى ما يكون وجوبا بالذات ، وإلى ما يكون وجوبا
بالغير ، والمفهوم من الوجوب هو الذي به يشترك هذان القسمان ، وكونه بالذات هو
الذي به يتميز أحد هذين القسمين عن الثاني ، وما به المشاركة غير ما به المباينة ،
فكونه وجوبا ، مغاير لكونه بالذات ، وإذا كان كذلك كان الوجوب بالذات ماهية مركبة
وكل ماهية مركبة فهي ممكنة ينتج أنه لو كان الوجوب بالذات موجودا ، لكان ممكنا.
وإنما قلنا : إن ذلك محال لأن كونه وجوبا بالذات ، ماهية مناقضة للإمكان. فالقول
بكون إحدى الماهيتين نفس الثاني ، جمع بين النقيضين وهو محال.
الخامس : وهو أن المعقول من الوجوب بالذات ، إما عدم افتقاره إلى سبب منفصل، وإما كونه
مقتضيا لوجود نفسه. ولا يعقل من الوجوب بالذات [أمر آخر ] سوى هذين المفهومين.
أما الأول : وهو عدم افتقاره إلى سبب منفصل ، فلا شك أن هذا المفهوم مفهوم سلبي
لا ثبوتي. والعلم بأن الأمر كذلك علم ضروري.
وأما الثاني : وهو أن كون تلك الماهية مقتضية لوجود نفسها ، فنقول : ذلك الافتقار إن
كان أمرا ثبوتيا ، مغايرا لتلك الماهية ، ولذلك الوجوب ، كان ذلك الاقتضاء لاحقا
من لواحق تلك الماهية ، وصفة من صفاتها ، فلا تكون قائمة بنفسها ، مستقلة بذاتها ،
فلا بد لها من اقتضاء آخر ، وذلك يوجب
__________________
التسلسل. فثبت
بهذه الوجوه الخمسة : أن المفهوم من كون الشيء واجبا لذاته ، ليس مفهوما ثبوتيا ،
بل هو مفهوم سلبي.
لا يقال : الدليل على أنه مفهوم ثبوتي
وجهان :
الأول : إن وجوب الوجود عبارة عن تأكيد الوجود ، فلو كان الوجوب قيدا عدميا ، لزم
أن يكون الشيء متأكدا بسلب نفسه ، وبنقيض نفسه ، وأنه محال.
والثاني : أن نقيض الوجوب هو اللاوجوب ، والمفهوم من اللاوجوب يصدق إما على الممتنع
وإما على الممكن الخاص. أما الممتنع فإنه عدم محض. فالذي يصدق عليه ، يجب أن يكون
عدما محضا ، وإلا لزم قيام الصفة الموجودة بالعدم المحض. وهو محال. وأما الممكن
الخاص فإنه لا يمتنع بقاؤه على العدم ، مع أنه في هذه الحالة يصدق عليه أنه غير
واجب. فالمفهوم من اللاوجوب يصدق على العدم المحض في هذه الصورة أيضا. [فوجب أن
يكون المفهوم من اللاوجوب هاهنا أيضا عدما محضا ، فيثبت بهذا البرهان : أن اللاوجوب
عدم محض ] فوجب أن يكون المفهوم من الوجوب ثبوتا محضا بالضرورة ،
لأن أحد النقيضين لا بد وأن يكون مفهوما ثابتا. لأنا نقول :
أما الوجه الأول : فجوابه : أن نقول : ما المراد من قولكم : الوجوب تأكيد الوجود؟ إن أردتم به
أن ما يكون واجب الوجود لذاته ، فإنه يفتقر في وجوده إلى سبب منفصل ، فهذا معقول ،
إلا أن هذا المعنى. مفهوم سلبي ، والأمر فيه ظاهر. وإن عنيتم به كون تلك الماهية
مقتضية لذلك الوجود فقد دللنا على اقتضاء الشيء لشيء آخر ، يمتنع أن يكون موجودا
زائدا ، وإلا لزم التسلسل. وإن عنيتم بهذا التأكيد مفهوما ثالثا ، فلا بد من
بيانه.
وأما الوجه الثاني فجوابه : أن هذا معارض بأن قولنا : إنه ليس بممكن بالإمكان الخاص ، نقيض
لقولنا : إنه ممكن بالإمكان الخاص ، لكن قولنا : إنه
__________________
ليس بممكن
بالإمكان الخاص يصدق على الممتنع الذي هو عدم محض فوجب أن يكون قولنا : إنه ليس
بممكن بالإمكان الخاص عدما محضا ، وإلا لزم قيام الموجود بالمعدوم. وإذا كان كذلك
كان قولنا : إنه ممكن بالإمكان الخاص ، مفهوما ثبوتيا.
وإذا ثبت هذا
فنقول : الوجوب بالذات عبارة عن نفي الإمكان الخاص وعن نفي الامتناع وثبت أن
الإمكان الخاص مفهوم ثبوتي ، وأن الامتناع مفهوم عدمي ، فإن لزم من كون الوجوب
بالذات رافعا للامتناع ، كونه ثبوتيا لأن رافع العدم ثبوت لزم من كون هذا الوجوب
بالذات ، رافعا للامتناع ، كونه ثبوتيا لأن رافع العدم ثبوت لزم من كون هذا الوجوب
بالذات رافعا للإمكان الخاص كونه عدميا ، لأن رافع الثبوت عدم ، وإن لم يلزم هذا ،
لم يلزم ذاك أيضا.
فهذا مجموع
المباحث الدالة على أن المفهوم من الوجوب بالذات [يمتنع كونه ثبوتيا.
المقام الثاني : في بيان أنه لما كان المفهوم من الوجوب بالذات ] أمرا سلبيا ، لم يلزم منه كون الواجب لذاته مركبا.
وتقريره : أنه على هذا التقدير يكون الاشتراك حاصلا في هذا المفهوم السلبي ، ويكون
الامتياز حاصلا بتمام تلك الحقيقة ، وهذا لا يوجب وقوع التركيب في الحقيقة.
والدليل عليه : أنه لا شك في وجود ماهية من الماهيات وتلك الماهيات إما أن تكون
بسيطة أو مركبة ، فإن كانت بسيطة فقد حصلت الماهية البسيطة ، وإن كانت مركبة
فالمركب إنما يتولد من البسائط. فالقول بإثبات الماهية البسيطة أمر لا بدّ من
الاعتراف به ، على كل حال ثم إن كل بسيطين ، فإنه لا بدّ وأن يشتركا في سلب كل ما
عداهما عنهما ، فإن كان الاشتراك في السلوب يوجب وقوع التركيب في الماهية ، لزم
كون البسيط مركبا ، وذلك محال. فيثبت بما ذكرنا : أن المفهوم من الوجوب بالذات
مفهوم سلبي ، وثبت أنه متى وقع الاشتراك في المفهومات
__________________
السلبية ، فإنه لا
يلزم وقوع التركيب في الماهية ، فيلزم أن بتقدير وجود أشياء يكون كل واحد منها
واجب الوجود لذاته ، فإن لا يلزم وقوع التركيب في ذات كل واحد منها [وهذا آخر
الكلام في تقرير هذا المقام ]
السؤال الثاني : إن سلمنا أن المفهوم من وجوب الوجود بالذات أمر ثابت ، وسلمنا أن تلك
الأشياء متباينة بتعيناتها ، فلم قلتم : إن تعين كل متعين أمر ثابت ، حتى يلزم
عليه كون كل واحد من تلك الأشخاص مركبا في ذاته؟ فنفتقر هاهنا إلى بيان أن التعين
ليس أمرا ثابتا ثم إلى بيان أنه متى كان الأمر كذلك ، لم يلزم وقوع التركيب. أما
بيان أن التعين لا يجوز أن يكون أمرا ثابتا ، فيدل عليه وجوه :
الوجه الأول : إن التعين لو كان أمرا ثابتا ، لوجب أن يكون تعين هذا الشخص ، مغايرا لتعين ذلك
الشخص الآخر إذ لو كان تعين هذا ، نفس تعين ذاك الآخر ، لكان هذا هو عين ذاك الآخر
، وذلك يمنع من حصول التعدد وإذا ثبت هذا فنقول : هذه التعينات المتعددة تكون
متشاركة في الماهية المسماة بالتعين ، ومتباينة بتشخصاتها ، فيلزم أن يكون تعين
التعين زائدا عليه. ويفضي إلى التسلسل [لكن القول بالتسلسل ] يوجب القول [بوجود أسباب ومسببات لا نهاية لها. لأن تعين
كل متعين ، علة ، لحصول ذلك المتعين. لكن القول بوجود أسباب ومسببات ، لا نهاية
لها محال ] فكان هذا محالا.
وهاهنا وجه آخر
يدل على امتناع هذا وذاك وهو : إن كل كثرة فإن الواحد فيها موجود ، فلو حصلت هذه
الكثرة ، لكان الواحد فيها حاصلا ، لكن أي شيء فرض كونه واحدا ، فذلك الواحد متعين
، فتعينه زائد عليه ، فلا يكون ذلك الواحد واحدا ،
وقد فرضناه كذلك.
هذا خلف فيثبت : أن القول بأن التعين زائد على
__________________
الذات ، يفضى إلى
هذا المحال ، فكان القول به باطلا.
ولا يقال : لم لا
يجوز أن يقال : إنا إذا قلنا : هذا السواد. فهذا السواد إنما تعين لأنه انضافت
ماهية السواد إلى ماهية التعين ، وكذلك انضافت ماهية التعين ، إلى ماهية السواد [فماهية
السواد ] تعينت لانضمام ماهية التعين إليها ، وكذلك ماهية التعين
إنما تعينت لانضمام ماهية السواد إليها ، وبهذا الطريق انقطع التسلسل؟ لأنا نقول :
هذا باطل. لأن ماهية السواد ماهية كلية ، وماهية التعين ماهية كلية ، [والماهية
الكلية ] إذا تقيدت بماهية أخرى كلية ، كان الحاصل بعد ذلك يكون
كليا لا شخصيا ، فلو كان الأمر كما ذكرتم ، لكان هذا السواد كليا ، لا شخصا معينا.
وحيث لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن ما ذكرتموه باطل.
الوجه الثاني : في بيان أن التعين يمتنع كونه معنى زائدا على الذات : هو أنه لو كان
معنى زائدا على الذات ، لكان هذا المتعين ليس شيئا واحدا بل شيئان أحدهما : ذلك
الشيء. والثاني : تعينه ، وكل معين فتعينه زائدا عليه ، فيلزم أن يكون كل واحد
منهما ليس شيئا [بل شيئين ، فعلى هذا التقدير لا يكون ذلك الشيء الواحد شيء واحدا]
بل أشياء غير متناهية ولما كان ذلك محالا كان القول بأن التعين زائدا على
الذات قولا باطلا.
والوجه الثالث : إن تعين هذا الشخص مغاير لتعين ذلك الشخص ، فلولا أن حصة [هذا
الشخص] من ماهية السواد مباينة عن حصة الشخص الآخر من السواد ،
وإلا لامتنع أن ينضاف هذا التعين إليه دون ذلك التعين. لأن انضاف شيء أجنبي إليه
بعينه دون الآخر ، مشروط بامتيازه في نفسه عن الآخر ، فيلزم أن يكون إمكان انضاف
هذا التعين إليه ، دون انضاف التعين الآخر إليه مسبوقا بحصول التعين فيه ، فيكون
حصول الشيء مسبوقا بحصول
__________________
غير ذلك الشيء.
وهذا محال. فكان القول بأن التعين أمر زائد على الذات باطلا.
الوجه الرابع : إن التعين لو كان مفهوما زائدا ثابتا ، لكان هذا التعين مركبا من جزءين. وكل
واحد من هذين الجزءين ، إن كان واجبا لذاته ، صار واجب الوجود أكثر من واحد ،
وأنتم إنما تذكرون هذه الدلائل لإبطاله ، وإن لم يكن كذلك ، فحينئذ يلزم القول
بكون أحد هذين الجزءين ممكنا لذاته [وما يكون أحد أجزائه ممكنا لذاته] كان ذلك المركب أولى بالإمكان ، فيلزم أن يكون كل ذات
معينة مشخصة في الوجود أن تكون ممكنة لذاتها. وهذا يقتضي أن لا يحصل في الوجود
موجود معين ، يكون هو في نفسه واجب الوجود ، وذلك محال.
الوجه الخامس : إنه لا معنى للتعين إلا أن هذا الشيء ليس هو ذلك الآخر. ومعلوم أن هذا المفهوم سلب
محض. ولا يقال : الدليل على أن التعين مفهوم ثبوتي : هو أنا نبين أنه مفهوم زائد
على أصل الماهية ، ثم نبين أن ذلك الزائد يجب أن يكون أمرا ثابتا.
أما الذي يدل على أنه مفهوم زائد على
أصل الماهية وجوه :
الأول : إنه لو كان لا فرق بين السواد وبين هذا السواد [لكان متى حصل السواد فقد
حصل هذا السواد] ومعلوم أن ذلك باطل فيثبت أن قولنا : هذا السواد قد اشتمل
على قيد ، لم يحصل في قولنا : السواد.
[الثاني : إن قولنا : السواد ] ماهية لا يمنع نفس مفهومها عند وقوع الشركة فيها [وقولنا
: هذا السواد يمنع عن وقوع الشركة فيها] ولو لا التفاوت في الحقيقة ، وإلا لما حصل هذا التفاوت في
هذا الحكم ، ولا شك أن
__________________
المفهوم من السواد
حاصل في المفهوم من قولنا : هذا السواد. فوجب أن يكون قولنا : هذا السواد قد اختص
بقيد زائد على المفهوم من مجرد قولنا : السواد [وذلك هو المطلوب :
الثالث : إن بديهة العقل حاكمة بأن المفهوم من قولنا : هذا السواد] مفهوم مركب من قولنا : هذا ، ومن قولنا : السواد. وحاكمة
أيضا بأن المفهوم من قولنا : هذا مغاير للمفهوم من قولنا : السواد. وذلك يدل على
أن تعين المتعينات أمر زائد على الماهية.
إذا ثبت هذا فنقول
: هذا المفهوم الزائد : أمر ثبوتي. ويدل عليه وجهان :
الأول : إن هذا السواد من حيث إنه هذا السواد موجود. وقولنا : هذا ، جزء من مفهوم
قولنا : هذا السواد. والمعدوم يمتنع أن يكون جزءا من الموجود ، فوجب أن يكون
المفهوم من قولنا : هذا : موجودا.
والثاني : إن بتقدير أن يكون تعين هذا المتعين مفهوما عدميا ، فإنه لا يكون عبارة
عن عدم أي شيء كان ، وإنما هو عبارة عن عدم تعين المتعين الآخر ، وذلك التعين
الآخر إن كان عدما ، كان هذا التعين عدما للعدم. وعدم العدم ثبوت. فهذا التعين
ثبوت. فيكون التعين الآخر ثبوتا ، ضرورة أن التعينات أفراد ماهية واحدة فيكون
حكمها بأسرها حكما واحدا. وإن كان التعين الآخر ثبوتا وجب أن يكون هذا التعين أيضا
ثبوتا لعين ما ذكرناه.
فثبت بهذه
البيانات : أن تعين كل متعين : صفة موجودة زائدة على الذات ، وحينئذ ينتظم الدليل
المذكور ، لأنا نقول : هذه الدلائل التي ذكرتم تفيد أن التعين صفة زائدة على
الماهية . والدلائل التي ذكرناها تفيد أن الأمر ليس كذلك ، فحصل
التعارض ، وبقي الشك [ومع قيام هذا الشك] صار
__________________
الدليل المذكور في
توحيد واجب الوجود مشكوكا ، لأن الموقوف على المشكوك مشكوك.
السؤال الثالث : سلمنا أن وجوب الوجود ، مفهوم ثابت ، وأن التعين مفهوم ثابت ، إلا أنا
نقول : والكثرة التي التزمتموها لازمة على القول بوحدة واجب الوجود ، وإذا كان هذا
المحذور لازما ، سواء قلنا بتوحيد واجب الوجود أم لم نقل به فحينئذ يسقط هذا
الاستدلال.
وإنما قلنا : إنه لازم مع القول بتوحيد
واجب الوجود لوجوه :
الأول : إن المبدأ الأول ليس عبارة عن محض وجوب الوجود ، الذي هو ماهية كلية [لا
يمنع نفس مفهومها عن وقوع الشركة فيها. لأن الماهية الكلية ] لا وجود لها في الأعيان البتة بل الموجود في الأعيان ذات
معينة موصوفة بكونها واجبة الوجود ، فيكون ذلك التعين زائد على ماهية وجوب الوجود
، وذلك التعين لا بد وأن يكون صفة ، فيكون ذلك التعين زائد على ماهية وجوب الوجود
، وذلك التعين لا بد وأن يكون صفة لواجب الوجود، والصفة مفتقرة إلى الموصوف ،
والمفتقر إلى الغير ممكن لذاته ، فذلك التعين ممكن لذاته ، وهو معلول بوجوب الوجود
، فيلزم أن تكون الذات المعينة مركبة من جزءين أحدهما ممكن لذاته. والذي يكون جزء
ماهيته لذاته ، كان هو بالإمكان أولى ، فيلزم أن تكون تلك الذات المعينة ممكنة
الوجود لذاتها ، فعلى هذا كل ما هو موجود في الأعيان فهو ممكن لذاته ، فينعكس
انعكاس النقيض : إن كل ما لا يكون ممكنا لذاته ، فهو ليس بموجود في الأعيان. فيثبت
: أن الإلزام الذي أوردتموه على القول بكثرة واجب الوجود لذاته هو بعينه قائم مع
القول بوحدة واجب الوجود لذاته.
الثاني : وهو إن مدار كلامكم على أنه لو كان واجب الوجود أكثر من واحد ، لكان كل واحد
منهما مركبا من الوجوب الذي به يشارك غيره ومن التعين الذي به يمتاز عن غيره، ثم
إن كان الوجوب علة [لذلك التعين ، فكل
__________________
واجب الوجود هو
ذلك التعين ، وإن كان ذلك التعين علة] للوجوب يلزم أن يكون وجوب الوجود ، معلول شيء آخر. فنقول :
هذا لازم عليكم مع القول بتوحيد واجب الوجود. وذلك [لأن الوجوب صفة عارضة لاتصاف
الماهية بالوجود وذلك لأن الوجود والإمكان والامتناع] جهات ، وهي صفات للرابطة الحاصلة بين الموضوع والمحمول ،
وإذا كان الأمر كذلك ، كان الوجوب على كل التقديرات صفة خارجة عن الماهية ، وكل
صفة خارجة عن الماهية ، فهي ممكنة لذاتها معللة بالغير. فيثبت أن هذا المحذور
لازم. سواء قلنا : إن واجب الوجود لذاته واحدا ، أو قلنا إنه أكثر من واحد.
الثالث : إنا نعلم بالضرورة أن من الماهيات ما يكون مستلزما لذاته ماهية أخرى ، مثل
قولنا : إن الثلاثة مستلزمة للفردية ، وإن الأربعة مستلزمة للزوجية وكون الثلاثة
مستلزمة للفردية أمر واجب لذاته [لا لغيره ، وكون الأربعة مستلزمة للزوجية أمر
واجب لذاته] فهذه الوجوبات الذاتية أشياء كثيرة. فالواجب لذاته أكثر من
الواحد.
فإن قالوا : هذه
الوجوبات الذاتية ليست ذوات قائمة بأنفسها ، وإنما هي أحوال نسبية اعتبارية ، وكلا
منا في أن الذوات القائمة بنفسها ، الواجبة الوجود لذاتها ، يجب أن تكون واحدة.
فنقول في الجواب : أنتم بنيتم التقسيم الذي ذكرتموه في توحيد واجب الوجود لذاته
على مفهوم الوجوب بالذات. والوجوب بالذات حاصل في هذه الاعتبارات ، لأنها من حيث
هي هي ، أمور واجبة لذواتها ، ممتنعة التعيين لما هي هي ، فكان هذا وجوبا بالذات ،
فكان هذا نقضا على ما ذكرتموه.
الرابع : إن كلامكم مبنى على أن كل مركب في ماهية ، فإنه يمتنع أن يكون واجبا لذاته.
فنقول : إن هذا باطل لأن الوجوب على قسمين ، منه ما يكون وجوبا بالذات ، ومنه ما
يكون وجوبا بالغير ، فالوجوب هو القدر المشترك
__________________
وكونه بالذات هو
الذي به يحصل الامتياز ، فالوجوب بالذات ، مركب من الجنس وهو مسمى الوجوب ، ومن
الفصل وهو خصوص كونه بالذات ، [فيثبت : أن الوجوب بالذات] ماهية مركبة من قيدين فإن كان كل مركب ممكنا ، لزم أن يكون
الوجوب بالذات ممكنا بالذات [هذا خلف] فيكون أحد المعاندين عين الثاني ، وذلك باطل ، وإن لم يلزم
فيما يكون متركبا لماهية ، كونه ممكنا. فحينئذ تبطل هذه المقدمة. [وهذا تمام
الكلام عن الحجة الأولى] .
وأما الحجة الثانية وهي قولكم : لو كان
واجب الوجود أكثر
من واحد ، لكان واجب الوجود ، إما أن يكون جنسا تحته أنواع ، أو نوعا تحته أشخاص. قلنا
هذا الكلام إنما يلزم لو ثبت أن وجوب الوجود مفهوم ثبوتي داخل في الماهية ، حتى
يقال : إنه بالنسبة إلى الأشياء الداخلة فيه ، يجب أن يكون جنسا بالنسبة إلى الأنواع
أو نوعا بالنسبة إلى الأشخاص ، وقد بينا أنه مفهوم سلبى ، فيمتنع أن يكون داخلا في
الماهية ، فيكون كونه مقولا على ما تحته ، ليس على قياس قول الجنس على أنواعه ولا
على قياس قول النوع على أشخاصه. وتمام التقرير ما تقدم. [والله أعلم] .
__________________
الفصل الثاني
في
حكاية دلائل المتكلمين على أن الإله واحد
اعلم : أنهم ذكروا أنواعا من الدلائل. أقواها دليل التمانع. فقالوا
: لو قدرنا إلهين قادرين على جميع الممكنات ، ثم أراد أحدهما تحريك جسم ، وأراد
الآخر تسكينه ، فإما أن يحصل المراد معا ، أو يحصل أحدهما دون الآخر. والأقسام
الثلاثة باطلة ، فكان القول بوجود الإلهين باطلا. أما الحصر فظاهر ، وأما أنه
يمتنع حصول المرادين معا ، فلأنه يلزم منه كون الجسم الواحد دفعة واحدة : متحركا وساكنا
معا. وهو محال. وأما أنه يمتنع حصول المرادين معا ، فالدليل عليه : أن المانع من حصول
مراد هذا ، ليس مجرد كون الثاني قادرا ، وإنما المانع من حصول مراد الأول هو حصول
مراد الثاني ، والحكم لا يحصل إلا عند حصول العلة ، فامتناع مراد هذا ، معلل بحصول
مراد ذاك ، وامتناع حصول مراد ذاك معلل بحصول مراد هذا ، فلو امتنع المرادان معا ،
لزم حصول المرادين معا ، حتى يكون وجود كل واحد منهما مانعا من حصول الآخر ، فيثبت
: أن امتناع كل واحد منهما ، يوجب حصول كل واحد منهما ، وما أفضى نفيه إلى ثبوته
كان باطلا فالقول بامتناع المرادين معا ، وجب أن يكون باطلا. واعلم أنه لو ثبت أن
الأعراض [غير ] باقية ، حصل لنا
__________________
في إبطال هذا
القسم دليل آخر. وهو : أنه لو تعذر على كل واحد منهما تحصيل مراده ، لزم أن يبقى
الجسم خاليا عن الحركة والسكون ، وذلك محال. أما إذا قلنا : الأعراض باقية ، لم
يلزم منه محال البتة ، لأنه لما اندفع كل واحد منهما بالآخر ، بقي الجسم على ما
كان عليه قبل ذلك ، فيبقى العرض الذي كان موجودا قبل ذلك. وأما أنه يمتنع حصول أحد
المرادين دون الآخر فيدل عليه وجهان : الأول : إنه لما كان كل واحد منهما قادرا
على ما لا نهاية له من الممكنات ، امتنع كون أحدهما أقوى قدرة من الثاني ، ولما
كانا متساويين في كمال الاقتدار ، فلو رقع مراد أحدهما دون الثاني ، كان هذا قولا
برجحان أحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ،
وأنه باطل. والثاني : إنه إذا حصل مراد أحدهما دون الثاني ، فالذي لم يحصل مراده ، كان عاجزا ، والعاجز لا يكون
إلها. فهذا تقرير هذا الدليل.
فإن قيل : هذا
الدليل بناء على جواز أن يريد أحدهما شيئا ، ويريد الثاني ضده. فلم قلتم : إن هذا
ممكن؟ وما الدليل عليه؟ لا يقال : الدليل عليه : أنه لو انفرد هذا بالإلهية صح منه
إرادة الحركة ، ولو انفرد الثاني صح منه إرادة السكون ، فإذا اجتمعا ، فإما أن
يبقيا على ما كانا عليه حال الانفراد ، أولا يبقيا على تلك الحالة [فإن بقيا على
تلك الحالة ] فحينئذ يصح من هذا إرادة الحركة ، ومن الثاني إرادة
السكون حال الاجتماع ، وهذا هو المطلوب.
وإن لم يكن بقيا
حال الاجتماع على ما كانا عليه حال الانفراد ، فهذا باطل لوجوه :
الأول : إنهما لما كانا متساويين في كمال القدرة والإلهية ، لم يكن امتناع
هذا عن الإرادة بسبب ذاك ، أولى من امتناع ذاك عن الإرادة بسبب هذا. فوجب أن يندفع
كل واحد منهما بالآخر وذلك محال. لأن الموجب لاندفاع الجانب الأول حصول الجانب
الثاني ، والموجب لاندفاع الثاني حصول الجانب الأول ، فلو اندفع الجانبان معا ،
لزم الجانبين معا على ما ذكرناه في أول
__________________
الدليل. وكل شيء
يفضى ثبوته إلى نفيه ، أو نفيه إلى ثبوته كان باطلا ، فوجب أن يكون هذا الكلام
باطلا.
الثاني : وهو أن تعلق إرادة كل واحد منهما بذلك الفعل المعين ، حكم ثبت من الأزل ،
والأزل لا يجوز زواله ، فوجب أن لا تبطل تلك الإرادة.
الثالث : إنه لما أراد هذا شيئا ، وأراد الثاني ضده. ثم عجزا عن تحصيل مراديهما ، عند
الاجتماع. كان هذا العاجز أقوى ، والضعيف أكمل
فهذا تمام الكلام
في تقرير هذا المقام. لأنا نقول : مدار هذا الكلام على أن كل حكم يصح حصوله عند
الانفراد ، وجب أن يبقى صحيحا ممكنا عند الاجتماع. فنقول : وهذا باطل بدليل : أن
هذا عند الانفراد قادر على تحصيل مراده ، وذلك عند الانفراد أيضا قادر على تحصيل
مراده ، وأما عند الاجتماع فلم يبقيا على هذه الحالة ، فيثبت أنه لا يلزم من حصول
حكم حال الانفراد ، إمكان حصوله حال الاجتماع ، فظهر سقوط هذا الكلام.
السؤال الثاني : إن دل ما ذكرتم على أن حصول المخالفة بينهما جائز ، إلا أنه حصل
عندنا وجوه دالة على امتناع ذلك.
فالوجه الأول : إن كل واحد منهما يجب أن يكون عالما بجميع المعلومات ، ومن المعلوم بالضرورة
أنه لا بد وأن يكون الواقع أحد القسمين إما الحركة وإما السكون ، وإذا كان الأمر
كذلك ، كان كل واحد من الإلهين عالما بأن الداخل في الوجود هو ذلك القسم ،
والإرادة يجب أن تكون على وفق العلم ، لأن خلاف المعلوم محال الوقوع. وما كان محال
الوقوع امتنع أن يكون مرادا ، مع العلم بكونه محال الوقوع ، وإذا كان كل واحد
منهما عالما بأنه لا يقع إلا ذلك الشيء ، وثبت أن ذلك يوجب الاتحاد في الإرادة ،
فحينئذ يظهر أن المخالفة بينهما في الإرادة ممتنعة.
__________________
الوجه الثاني : وهو أنه إما أن يكون أحد الجانبين أرجح في كونه مصلحة من الجانب الآخر ،
أو لا يكون. فإن كان أحد الجانبين أرجح كان كل واحد من الإلهين عالما بذلك الرجحان
، فوجب أن يكون كل واحد منهما مريدا لذلك الجانب.
وعلى هذا التقدير
فإنه يمتنع اختلافهما في الإرادة ، وأما إن لم يكن أحد الجانبين أرجح ، فحينئذ
يكون كل واحد منهما عالما بحصول المساواة في الطرفين ، والفعل بدون المرجح محال ،
فحينئذ يكون كل واحد منهما عالما بأن الترجيح محال هاهنا. ومع هذا العلم يمتنع أن
يريد ترجيحه. فيثبت أن على جميع التقديرات يمتنع أن يخالف أحد الإلهين الثاني في
القصد والإرادة.
الثالث : إن علم كل واحد منهما بأنه لو حاول المخالفة لتعذر عليه تنفيذ مراده يمنعه من
إرادة المخالفة. فهذه الوجوه الثلاثة دالة على امتناع حصول المخالفة بينهما.
السؤال الثالث : سلمنا صحة المخالفة بينهما إلا أن المحاولات المذكورة ، إنما تلزم من
حصول المخالفة ، لا من مجرد إمكان حصول المخالفة. فهب إنكم دللتم على إمكان حصول
المخالفة ، إلا أنكم ما لم تذكروا الدليل على حصول المخالفة لم يتم دليلكم.
السؤال الرابع : لم لا يجوز أن يتعذر على كل واحد منهما تحصيل [مراده؟ قوله : «المانع لكل
واحد منهما عن تحصيل مراده ، هو حصول مراد الثاني ، فلو امتنع المرادان معا ، لوجب
حصول المرادين معا. وأنه باطل» قلنا : لم لا يجوز أن يقال : المانع لكل واحد منهما
عن تحصيل مراده ، علمه بأنه لو حال تحصيل مراده ، يمنعه الآخر منه. فهذا العلم هو
المانع فقط ، وحينئذ لا يلزم المحذور المذكور؟
السؤال الخامس : لم لا يجوز أن يقال : يقع مراد أحدهما دون الآخر؟
__________________
قوله : «إن هذا
يقتضي حصول الرجحان لا لمرجح ، وأنه باطل» قلنا : أليس أن العالم لما كان محدثا ،
وجب الاعتراف بأنه تعالى خصص إحداثه بوقت معين دون سائر الأوقات من غير مخصص اختص
به ذلك الوقت؟ فإذا جاز هذا ، فلم لا يجوز رجحان أحدهما على الآخر لا لمرجح؟ فإن
قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه تعالى خصص إحداث العالم بالوقت المعين لأجل أن
ذلك الوقت أقرب إلى إصلاح المكلفين؟ فنقول : الدليل على فساد هذا القسم ، أن نقول
: جميع الأوقات إما أن تكون متساوية في جميع الأمور المعتبرة في الخلق ، وإما أن
لا تكون متساوية.
فإذا كان الأول
فالإشكال لازم ، وإن كان الثاني فنقول : اختصاص ذلك الوقت المعين بتلك الخاصية ،
إما أن يكون لذاته ، أو لشيء من لوازم ذاته ، أو للفاعل المنفصل. فإذا كان الأول
أو الثاني فقد جوزتم أن يكون للوقت المعين أثر في اقتضاء حصول تلك الخاصية ، وإذا عقل
ذلك ، فلم لا يعقل أن يقال : إن ذلك الوقت هو الذي اقتضى حدوث العالم؟ وعلى هذا
التقدير فإنه لا يمكن الاستدلال بحدوث العالم على إثبات الصانع، وإن كان الثالث
عاد التقسيم المذكور في أن ذلك الفاعل [المباين ، لم ] خصص ذلك الوقت المعين بتلك الخاصية؟ فإن كان ذلك لأجل
اختصاص ذلك الوقت بخاصية أخرى ، عاد التقسيم فيه ، ولزم التسلسل. وإن لم يكن لأجل
اختصاص ذلك الوقت بشيء من الخواص ، فحينئذ قد جوزتم في الفاعل المختار أن يرجح أحد
مقدوريه على الآخر لمرجح ، فإذا جوزتم ذلك [فلم لا يجوز أيضا أن أحد الإلهين يقع
مقدوره ، والإله الثاني لا يقع مقدوره ] مع أنه لا يكون أحدهما مخصوصا بما لأجله حصل الرجحان؟ أما
قوله ثانيا : «القديم العاجز محال» قلنا : لا نسلم. والدليل عليه هو : أن الإله
تعالى كان موجودا في الأزل مع أنه ما كان قادرا البتة على الفعل في الأزل. لأن
الفعل ما له أول. والأزل ما لا أول له. والجمع بينهما محال. والمحال لا قدرة عليه.
__________________
فيثبت : أنه تعالى
ما كان قادرا على الإيجاد والتكوين في الأزل البتة. وإذا كان هذا غير ممتنع ، فكيف
يمتنع أن يعجز عن فعل واحد ، من وقت واحد؟
السؤال السادس : إن هذا التقسيم إن صح لزم أن لا يقدر العبد على الفعل أصلا ، وهذا محال [فذاك
محال ] بيان الملازمة : وهو أن العبد لو كان قادرا على الإيجاد والتكوين ، فإذا
اتفق أن الله أراد تحريك جسم ، وقصد العبد إلى تسكينه فإما أن يقع المرادان معا
وهو محال [أولا يقع واحد منهما وهو أيضا محال ] لعين ما ذكرتم من الدليل. وإما أن يقع أحدهما دون الثاني
، وهذا أيضا محال. وذلك لأنا وإن قلنا : إن الله تعالى [كان ] قادرا على ما لا نهاية له ، وكان العبد لا يقدر إلا على
المتناهي ، إلا أن قدرة الباري على تحريك الجوهر الواحد يمتنع أن تكون أقوى وأكمل
من قدرة العبد على تسكين ذلك الجوهر لأن الجوهر الفرد لا يقبل القسمة فحركته وسكونه أيضا لا يقبل القسمة وإذا كانت هذه الحركة وهذا السكون غير قابلين للتفاوت
والقسمة ، امتنع وقوع التفاوت في القدرة عليهما ، فالباري تعالى قادر على ما لا
نهاية له من المقدورات والعبد لا قدرة له إلّا على المتناهي. إلا أن وقوع ذلك
التفاوت في كيفية القدرة على ذلك المتناهي محال.
إذا ثبت هذا فنقول
: لو وقع مراد الله تعالى دون مراد العبد مع أنا بينا أن القدرة عليها لا تقبل
التفاوت أصلا ، فحينئذ يلزم رجحان الممكن لا لمرجح وهو محال. فيثبت : أن هذا
التقسيم لو صح لوجب أن لا يكون العبد قادرا على الإيجاد والتكوين. وإنما قلنا : إن
ذلك محال. وذلك لأن حسن المدح والذم [معلوم بالضرورة ثم علمنا أن من أحسن الذم
والمدح ] فرع على كون
__________________
العبد فاعلا
وموحدا ، ومتى كان الفرع معلوما بالضرورة ، كان الأصل أيضا معلوما بالضرورة، فوجب
أن يكون العلم بكون العبد موجدا علما ضروريا.
وهذه مقدمات لا بد من تقريرها.
أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إن العلم الضروري حاصل بحسن المدح والذم. فتقريره: أن كل
من أحسن إلى إنسان ، وأوصل إليه نوعا من أنواع الخير ، فإن صريح عقله يحكم بحسن
الشكر والمدح والثناء له ، وكل من آذاه وأوصل إليه نوعا من أنواع الضرر ، فإن صريح
عقله يحمله على أن يقول : لم فعلت هذا؟ وبئس ما فعلت. والعلم بحسن هذا المدح والذم
من أجلى العلوم الضرورية ، والمنازع فيه مكابر في أجلى العلوم البديهية.
وأما المقدمة الثانية : وهي في بيان أن العلم بحسن المدح والذم فرع على العلم بكونه فاعلا.
فالدليل عليه : أن من رمى وجه إنسان بحجر حتى شجّه ، فإنه يجد من قبله ذمّ ذلك
الرامي ، ولا يجد البتة ذم ذلك الحجر ولو قيل له : لم فرقت بينهما في هذا الحكم؟
فكل عاقل يفرق بينهما بقوله : إن الرامي فعل هذا الفعل باختياره ، فأستحق المدح
والذم. وأما الحجر فلا قدرة له على الفعل البتة. فيثبت بما ذكرنا : أن صريح العقل
حاكم بأن حسن المدح والذم فرع على العلم بكون الفاعل فاعلا.
وأما المقدمة الثالثة : وهي في بيان أن
العلم بالفرع لما كان ضروريا ، وجب
أيضا أن يكون العلم بالأصل ضروريا. فالدليل عليه : أن الأصل إذا لم يكن معلوما
بالضرورة أمكن وقوع الشك فيه. وعند وقوع الشك في الأصل يلزم وقوع الشك في الفرع ،
فيثبت : أن كون
الأصل نظريا ،
يقتضي جواز وقوع الشك في الفرع ، ولما دللنا على أن وقوع الشك في هذا الفرع محال ،
أعني العلم باستحقاق المدح والذم ، وجب أن يكون العلم بذلك الأصل ، أعني العلم
بكون العبد موجدا غير قابل للشك. ومتى كان الأمر كذلك ، كان ذلك معلوما بالضرورة.
فيثبت بما ذكرنا : أن التقسيم الذي ذكرتم لو صح ، لزم القدح في كون العبد موجدا
لأفعال نفسه ، وثبت أن هذا باطل ، فوجب أن يكون ذلك التقسيم باطلا.
السؤال الرابع : هب أن ما ذكرتم من الدليل يمنع من وجود إلهين يكون كل واحد منهما قادرا
على [ما لا نهاية له من المقدورات ، إلا أنه لا يدل على امتناع وجود إلهين يكون كل
واحد منهما قادرا على بعض المقدورات ] ولا يدل أيضا على وجود موجود آخر واجب الوجود لذاته ،
بحيث لا يقدر على شيء البتة ، سواء كان حيا أو ميتا.
فهذا جملة الكلام في طرف السؤال.
والجواب عن السؤال الأول : إنا قد دللنا
على أن كل واحد منهما
لو انفرد ، فإنه يصح منه القصد إلى تكوين ذلك الضد ، وعند اجتماعهما ، وجب أن
يبقيا على ما كانا عليه حال الانفراد. قوله : «ينتقض هذا ، بما أن هذا وحده قادر
على خلق الحركة ، وذاك وحده قادر على خلق السكون ، ثم إنهما عند الاجتماع لا
يبقيان قادرين على تحصيل هذين المرادين» قلنا الدليل يقتضي بقاء كل واحد منهما
قادرا عند الاجتماع على ما كان قادرا عليه حال الانفراد ، إلا أن ذلك محال ، لما
أنه يقتضي الجمع بين الضدين فكان القول بوجود الإلهين مفضيا إلى أحد هذين المحالين
، وهو أن يتعذر عليهما حال الاجتماع ، ما كان مقدورا لهما حال الانفراد إلا أن ذلك
محال ، لما أنه يقتضي الجمع بين الضدين. ولما كان القول. بوجود الإلهين مفضيا إلى
أحد هذين المحالين وجب القطع بأن فرض وجود الإلهين محال. وهذا يؤكد الدليل المذكور
ولا يوجب الطعن فيه. أما قوله في المعارضة الأولى : «إن كل واحد منهما عالم بجميع
المعلومات ، فيكون كل واحد منهما عالما بأن أي الطرفين يقع ، وأيهما لا يقع؟ وإذا
كان كذلك امتنع أن تريد ، إلا ذلك الواحد ، فيمتنع وقوع المخالفة بينهما» قلنا :
العلم بالوقوع تبع للوقوع الذي هو تبع لإرادة الوقوع ، فلو جعلنا إرادة الوقوع
تابعة للعلم بالوقوع ، لزم الدور ، وأنه باطل. أما قوله في المعارضة الثانية : «إن
كل واحد منهما يكون عالما بأن الطرف الراجح في المصلحة أيهما؟ فوجب كونهما مريدين
لذلك الطرف» قلنا : الفعل إما أن يتوقف على الداعي
__________________
أو لا يتوقف [على
الداعي ] فإن توقف على الداعي ، توقف صدور الفعل منا على الداعي ،
وتلك الداعية لم تحصل بنا وإلا لافتقرت إلى داعية أخرى ، ولزم التسلسل ، وهو محال.
فعلى هذا أفعال العباد مستندة إلى دواعي يخلقها الله تعالى ، وتكون كل تلك الدواعي
موجبات لهذه الأفعال ، فالقاصد إلى تكوين السبب الموجب ، قاصد إلى تكوين المسبب ،
فيلزم أن تكون أفعال العباد بأسرها واقعة بتكوين الله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك
، فحينئذ لا تتوقف فاعلية الله تعالى على رعاية المصالح ، بل قد يقع ما يكون على
خلاف رعاية المصالح ، وإذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من الإيجاد في وجه المصلحة : المساواة
في الإرادة ، والفعل. وأما إن لم يتوقف الفعل على الدواعي فعند استواء التحريك
والتسكين في جميع جهات المصالح والمفاسد ، لا يمتنع وقوع أن يحاول أحدهما التحريك
ويحاول الآخر التسكين. وعند وقوع هذا التقدير تحصل المخالفة في القصد والتكوين
ويتم الدليل المذكور. أما قوله في المعارضة الثالثة : «إن علم كل واحد منهما بما
أنه لو حاول مخالفة الثاني لتعذر عليه تحصيل مراده بمنعه من المخالفة» فنقول : هذا
إشارة إلى المنع من الإقدام على المخالفة. وفيه تسليم أنه لو لا هذا المانع ،
لكانت المخالفة ممكنة.
وأما قوله في السؤال الثالث : «إن هذه
المحاولات إنما لزمت من
وقوع المخالفة ، لا من إمكان » حصول المخالفة. فما الدليل على وقوع المخالفة»؟ فنقول في
الجواب : هاهنا مقدمة يقينية وهي أن كل ما كان ممكنا ، فإنه لا يلزم من فرض وقوعه
محال ، إذ لو لزم من فرض وقوعه محال ، لوجب أن يكون محال الوقوع ، مع أنا قد
فرضناه ممكن الوقوع ، وهذا يفضي إلى الجمع بين النقيضين وهو محال. فيثبت : أن كل
ما كان ممكنا فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال البتة. إذا عرفت هذا. فنقول : إنا
إذا فرضنا وجود الإلهين ، وفرضنا حصول هذه المخالفة بعد أن أقمنا الدلالة على أن
هذه المخالفة ليست ممتنعة لذاتها وعينها ، ثم رأينا أن المحاولات قد لزمت. فنقول :
هذه
__________________
المحاولات ما لزمت
من فرضنا وقوع المخالفة لأنا بينا أن فرض الممكن موجودا ، لا يلزم منه محال البتة.
فعلمنا أن هذه المحاولات إنما لزمت من فرض وجود الإلهين ، وما يلزم من فرض وجوده
المحال ، يكون محالا. فعلمنا بهذا الطريق : أن وجود الإلهين محال. أما قوله : «لم
لا يجوز وقوع مراد أحدهما دون الثاني»؟ قلنا : لأنه يقتضي وقوع أحد الجائزين من
غير مرجح وقوعا على سبيل الوجوب ، وأنه محال.
وقوله : «أليس أن
القادر قد يرجح أحد الجانبين على الآخر لا لمرجح؟ فلم لا يجوز مثله هاهنا»؟ قلنا :
الذين يقولون بجواز ذلك ، قالوا : إن ذلك إنما يجوز بشرط أن يصح منه فعل ضده.
وهاهنا لا يصح منه ذلك. فيكون ذلك قدحا في كون القادر قادرا. أما قوله : «إن هذا
التقسيم يقدح في كون العبد موجدا لفعل نفسه» فنقول : هذا السؤال يتعلق بمسألة
الجبر والقدر. والكلام المستقصى فيه سيأتي إن شاء الله. أما قوله : «إن هذا الدليل
[لا يدل ] على امتناع وجود [الإلهين. اللذين يكون كل واحد منهما
قادرا على بعض المقدورات دون البعض ، ولا يدل على وجود ] موجود ثان ، لا يقدر على شيء أصلا ، سواء قيل : إنه حي ،
أو ليس بحي» قلنا : مقصودنا من هذا الدليل ليس إلا بيان امتناع القول بوجود آلهين
كاملي القدرة فقط. [والله أعلم ].
الحجة الثانية في إثبات أن إله العالم
واحد بناء على أصول المتكلمين : أن نقول : لو قدرنا وجود إلهين ، قادرين على جميع الممكنات ، لزم القطع
بكون كل واحد منهما قادرا على عين مقدور الآخر. وهذا محال. فالقول بوجود الإلهين
محال. أما الشرطية فظاهرة ، وأما أن هذه الملازمة ممتنعة. فتقريره : أنه لما كان
كل واحد منهما [قادرا ] على جميع الممكنات ، فكل ما كان مقدورا لهذا ،
__________________
فهو بعينه مقدور
لذاك. وإن وقع ذلك المقدور ، فإما أن يقع بهما معا ، وإما أن يقع [بواحد منهما ،
واما أن يقع ] بأحدهما دون الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول
بوجود الإلهين باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع وقوعه بهما معا. وذلك لأن هذا القادر
لما كان مستقلا بالإيقاع وصار ذلك الفعل مع هذا الفاعل واجب الوقوع به ، ووجوب
وقوعه به يمنعه من الاستناد إلى الثاني ، ووجوب وقوعه بالثاني يمنعه من الاستناد
إلى الأول. فإذا اجتمعا عليه ، لزم أن يكون وجوب وقوعه بكل واحد منهما مانعا من
وقوعه بالثاني ، فيلزم أن يكون واقعا بهما ، حال ما يمتنع كونه واقعا بكل واحد
منهما [وذلك يوجب الجمع بين النقيضين ، وهو محال. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن لا
يقع بواحد منهما ] لأن المانع من وقوعه بهذا ليس إلا وقوعه بذاك وبالضد.
والأثر لا يوجد إلا عند حصول المؤثر ، فلو امتنع بهما معا ، لزم أن يقع بكل واحد منهما
حتى يكون وقوعه بهذا مانعا من وقوعه بذاك وبالضد. وحينئذ يلزم أن يكون واقعا بكل
واحد منهما. فالحاصل : أن في القسم الأول : وقوعه بكل واحد منهما ، يمنع من وقوعه
بهما. وفي الثاني عدم وقوعه بهما [يقتضي وقوعه بهما ] من حيث أن الأثر لا يوجد إلا عند حصول المؤثر ، والمؤثر
في امتناع وقوعه بكل واحد منهما هو وقوعه بالآخر. وإنما يمتنع وقوعه بأحدهما دون
الثاني ، لأنهما لما استويا في التأثير وفي القوة ، كان وقوعه ، بأحدهما دون الآخر
رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح ، وهو محال.
وأعلم. أن الفرق
بين هذه الطريقة وبين الطريقة المتقدمة : هو أنا في هذه الطريقة تكلمنا فيما إذا
اجتمعا على إيجاد مقدور واحد ، وفي الطريقة الأولى تكلمنا فيما إذا أراد كل واحد
منهما أحد الضدين ، دون إرادة الآخر.
الحجة الثالثة في المسألة : قالوا : لو
قدرنا إلهين عالمين ،
بكل
__________________
المعلومات ،
فحينئذ يكون علم كل واحد منهما متعلقا بعين ما تعلق به علم الثاني ، وكل علمين
تعلقا بمعلوم واحد على وجه واحد فهما مثلان ، فيلزم أن يكون علم كل واحد منهما
مثلا لعلم الآخر ، وكل ما صح على الشيء ، صح على مثله ، فكما صح على هذا العلم أن
يكون قائما بهذه الذات ، فكذلك وجب أن يصح على العلم القائم بالثاني ، أن يكون
قائما بالأول ، فيثبت أن كل واحد من هذين العلمين ، يصح قيامه بكل واحد منهما بدلا
عن الآخر.
وإذا كان الأمر
كذلك كان اختصاص هذه الذات بهذا العلم دون الذات الأخرى وجب أن يكون بتخصيص [مخصص ] وجعل جاعل ، وكل ما حصل بالفاعل الجاعل ، كان حادثا ،
فلزم أن يكون علم الله محدثا ، وأن تكون قدرته محدثة ، وكل ما كان كذلك امتنع كونه
إلها. فيثبت : أن القول بوجود الإلهين يفضي إلى هذه المحالات ، فوجب أن يكون
محالا. وفي تقرير هذه الحجة وتزييفها أبحاث كثيرة غامضة.
الحجة الرابعة : قالوا : لو فرضنا إلهين
، لامتنع أن يمتاز أحدهما
عن الآخر بالزمان ، لأنهما قديمان ، وبالمكان لما ثبت أن الإله يجب أن يكون منزها
عن الحجمية والمكان ، وإذا لم يحصل الامتياز بينهما ، وجب أن لا يبقى التعدد وقيل
عليه : لم لا يجوز أن يتميز أحدهما على الآخر بالماهية والحقيقة؟ ألا ترى أنه إذا
حلّ في الجوهر الواحد علم وقدرة ، فإنه لم يحصل الامتياز بينهما لا بالزمان ولا
بالمكان ولا بالمحل ، ولكن حصل الامتياز بينهما بالماهية والحقيقة. فلم لا يجوز أن
يكون الأمر هاهنا كذلك؟ وأجيب عنه : بأنه لو وجد إلهان لامتنع أن يمتاز أحدهما عن
الآخر بالزمان لأنهما قديمان وبالمكان لأنهما من الصفات ، وإما أن لا يكون كذلك.
فإن حصل الامتياز بينهما بأمر من الأمور ، فذاك الأمر إما أن يكون معتبرا في تحقق
الإلهية ، وإما أن لا يكون كذلك ، فإن كان ذلك الأمر معتبرا في الإلهية [فالذي لم
يحصل له ذلك الأمر ، وجب أن لا
__________________
يكون إلها ، وإن
لم يكن معتبرا في الإلهية ] كان حصول الإله بدون تلك الصفة جائزا. فإن فرضناهما
حاصلين بدون تلك الصفة ، وجب أن لا يحصل الامتياز بينهما أصلا. فيثبت: أنا لو
فرضنا إلهين ، وجب أن لا يحصل الامتياز بينهما بأمر من الأمور البتة ، وإذا لم
يحصل الامتياز البتة ، لم يحصل التعدد البتة ، فيثبت : أن القول بالتعدد : محال.
الحجة الخامسة : إن وجود الإله الواحد كافي في حصول تدبير العالم. وأما الزائد عليه
فهو غير معلوم بالضرورة ولا بالنظر ، فلا يجوز إثباته. أما أنه غير معلوم بالضرورة
[فظاهر. وأما أنه غير معلوم بالنظر ] فلأن الدليل الدال على وجود الصانع هو هذا العالم ، إما
بحسب جوازه ، أو بحسب حدوثه. وعلى التقديرين فالصانع الواحد كافي. فيثبت : أن
الصانع الثاني لم يعلم وجوده لا بالضرورة ولا بالنظر البتة. وإذا كان كذلك ، امتنع
إثباته. فوجب الاقتصار على القول بالإله الواحد.
وهاهنا آخر الكلام
في حكاية دلائل القائلين بالتوحيد.
أما القائلون بالتثنية فقد تعلقوا
بأشياء.
الحجة الأولى : قالوا : وجدنا في هذا العالم خيرا ، وشرا ، ونفعا وضرا ولذة وألما ، وصحة وسقما
ومرارا ومكروها. ومعلوم أن فاعل الخير خير ، وفاعل الشر شرير. والفاعل الواحد
يمتنع أن يكون خيّرا وشريرا معا. وأن يكون ممدوحا ومذموما معا. فلا بد من فاعلين
ليكون أحدهما خيرا ممدوحا ، ويكون الثاني شريرا مذموما.
الحجة الثانية : إن المفهوم من قولنا : واجب الوجود لذاته ، أمر لا يمتنع مفهومه من كونه مقولا
على كثيرين. إذ لو كان نفس هذا المفهوم مانعا من هذه الكثرة ، لكان من تصور معنى
واجب الوجود لذاته ، وجب أن يعلم ببديهة العقل ، أنه يمتنع كون هذا المفهوم مشتركا
فيه بين كثيرين ، ولما لم يكن الأمر
__________________
كذلك ، علمنا أن
نفس تصور هذا المعنى غير مانع من الشركة.
إذا ثبت هذا فنقول
: إما أن يقال : قارنه مفهوم آخر ، يمنع من هذه الشركة ، أو لم يقارنه ذلك. والأول
باطل لأن ذلك المقارن إما أن يكون ماهية من الماهيات أو لا يكون كذلك. فإن كان
الأول فتلك الماهية من حيث انها ماهية تكون محتملة للشركة. فإذا قيدنا ماهية وجوب
الوجود بهذه الماهية الثانية ، كان الحاصل [أيضا ماهية كلية لأن الكلي إذا تقيد
بالكلي ، كان الحاصل ] منهما كليا أيضا. والكلي لا يمنع من احتمال الشركة. وأما
إن قلنا : إن هذا المقارن ليس له ماهية ولا حقيقة أصلا ، امتنع كونه مقارنا لشيء
آخر.
هذا إذا قلنا : إن
مفهوم وجوب الوجود بالذات قارنه ما صار مانعا من الشركة ، وأما إذا لم يقارنه شيء
أصلا. فنقول : تلك الماهية كانت محتملة للشركة ، ولم يقارنه ما يمنع من هذه الشركة
، وهذا يقتضي أن تكون هذه الشركة غير ممتنعة أصلا ، وإذا لم تكن ممتنعة ، فهي إما
ممكنة بالإمكان الخاص ، فحينئذ [لا يكون شيء منها واجب الوجود لذاته ، فحينئذ ] لا تكون الكثرة واقعة في الأشياء التي يكون كل واحد منها
واجب الوجود لذاته، قد فرضنا أن الأمر كذلك. هذا خلف. وإذا بطل كون تلك الأشياء
ممكنة بالإمكان الخاص ثبت كونها واجبة الوجود لذواتها. وهذا يقتضي وجود أشياء يكون
كل واحد منها واجب الوجود لذاته.
الحجة الثالثة : إن أقل مرتبة من مراتب الوجود وأشدها نقصانا هو الواحد ، فلو كان واجب
الوجود لذاته ليس إلا الواحد ، لوجب أن يكون في نهاية القلة والنقص ، وذلك محال.
والجواب عن الشبهة الأولى : أن نقول : الإله الخير إن لم يقدر على دفع الشرير عن الشر ، فهو
ناقص حقير ، ولا يصلح للإلهية ، وإن كان قادرا
__________________
عليه. فإن فعله
فقد اندفع الشرير وظهر عجزه ، فلا يصلح للإلهية ، وإن لم يدفعه عن الشر مع كونه
قادرا على ذلك الدفع ، فحينئذ يكون الإله الخيّر ، راضيا بفعل الشر. والراضي بفعل
الشر شرير ، فيلزم أن يكون الإله الخيّر شريرا. وذلك محال. فيثبت : أن القول
بالاثنين باطل على كل التقديرات.
والجواب عن الشبهة الثانية : لم لا يجوز
أن يقال : ماهية واجب
الوجود بالذات اقتضى ذلك التعين بعينه ، فلا جرم كان واجب الوجود ، يجب أن يكون
ذلك المعين ولهذا السبب كان واجب الوجود لذاته واحد؟.
والجواب عن الشبهة الثالثة : إنه لو كان كل الإنسان إلا الواحد ، فحينئذ يكون تمام ماهية الإنسان
محصورة في ذلك الشخص ، أما إذا كانت الإنسانية مشتركا فيها بين أشخاص كثيرين ، لم
يكن تمام هذه الماهية ، موجودا في شخص واحد ، ومن المعلوم بالضرورة أن الأول أكمل [والله
أعلم ]
__________________
الفصل الثالث
في
أن وحدة الله تعالى هل هي عين الذات
أو صفة قائمة بالذات؟
لقائل أن يقول : لو كانت الوحدة صفة ، لكانت تلك الصفة واحدة ،
فيلزم أن يكون للوحدة وحدة أخرى إلى غير النهاية. وأنه محال.
ولقائل آخر أن يقول : الوحدة لا بد وأن
تكون صفة زائدة على الذات. ويدل عليه وجوه :
الأول : إنه يصح تقسيم الواحد إلى الواجب لذاته ، وإلى الممكن لذاته. فيقال :
الواحد إما أن يكون واجبا لذاته ، أو ممكنا لذاته ، ومورد التقسيم مشترك بين
القسمين ، فكونه واحدا مشترك فيه [بين الواجب لذاته وبين الممكن لذاته ، وخصوص
كونه واجبا لذاته غير مشترك فيه ] بين القسمين ، وهذا يدل على أن كونه واحدا ، مغاير لخصوص
كونه واجب الوجود لذاته.
والثاني : إن الواحد يقابل الكثير ، والواجب لذاته يقابل ما ليس واجبا لذاته ، وما يصلح لأن
يكون مقابلا لأحدهما ، لا يصلح أن يكون مقابلا للثاني ، وهذا يوجب أن يكون كونه
واحدا ، مغايرا لكونه واجب الوجود لذاته.
__________________
والثالث : إنا نعقل كونه واحدا مع الشك في أن ذلك الواحد واجب لذاته ، أو ممكن لذاته.
وكذلك قد نعقل ماهية الواجب لذاته ، مع الشك في أنه واحد أو كثير. والمعلوم مغاير
لغير المعلوم ، فوجب أن يكون كونه واحدا مغايرا لكونه واجب الوجود لذاته.
والرابع : إن الواحد قد يصدق حمله على الممكن لذاته ، والواجب بالذات البتة لا يصدق
حمله على الممكن. فالواحد مغاير في الماهية للواجب بالذات.
ثم نقول : المفهوم
من كونه واحدا ليس سلبيا. والدليل عليه : أنه لو كان سلبيا لكان سلبا للعدد.
والعدد عبارة عن مجموع وحدات ، فالوحدة إن كانت عدما ، كان العدد عبارة عن مجموع
عدمات ، فيكون العدد مفهوما عدميا. فإذا كانت الوحدة عبارة عن سلب العدد وكان
العدد مفهوما عدميا كانت الوحدة عبارة عن عدم العدم. فوجب كونها صفة وجودية وأما
إن كانت الوحدة عبارة عن مفهوم وجودي ، فذلك هو المطلوب. فيثبت : ان الوحدة صفة
وجودية زائدة على كونه واجب الوجود لذاته. وهاهنا آخر الكلام في المباحث المتعلقة
بالتنزيه. [والحمد لله حق حمده.
قال الداعي. رحمهالله عليه :
وقد تم هذا الكتاب
ب «جرجانية خوارزم» في النصف الأخير ، من ربيع الأول ، سنة خمس وستمائة.
وقد تمت نسختنا
هذه ليلة الخميس ، بعد انقضاء أعظم ليل ، الحادي عشر من جمادي الأولى ، سنة ست
وثلاث وستمائة. والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد ، النبي الأمى ،
وعلى آله أجمعين ]
* * *
تم الجزء الثاني
من «المطالب العالية من العلم الإلهي» للامام فخر الدين الرازي. ويليه الجزء
الثالث. وموضوعه في : «الصفات الإيجابية» وهي كونه سبحانه وتعالى : قادرا عالما.
حيا. سميعا. بصيرا. متكلما. باقيا.
__________________
الفهرس
تمهيد........................................................................... ٣
القسم الأوّل
في بيان كونه سبحانه وتعالى منزّها عن
التّحيّز والجهة.................................. ٥
الفصل الأول :
في بيان أن اثبات موجود ليس بجسم ولا
حال في الجسم : ليس بممتنع الوجود في بديهة العقل ٧
الفصل الثاني :
في بيان أنه لا يجب أن يكون لكل موجود
نظير وشبيه. وانه ليس يلزم من نفي النظير والشبيه نفي ذلك الشيء ٢١
الفصل الثالث :
في إقامة الدلائل على أنه تعالى يمتنع
أن يكون جسما............................... ٢٣
الفصل الرابع :
في إقامة الدلائل على أنه يمتنع كونه
جوهرا......................................... ٣٣
الفصل الخامس :
في بيان أنه يمتنع أن يكون واجب الوجود
مختصا بمكان وحيّز......................... ٣٥
الفصل السادس :
في حكاية شبهات مثبتي الجسمية والمكان.......................................... ٥٥
الفصل السابع :
في الجواب عن تلك الشبهات.................................................... ٦٢
الفصل الثامن :
في بيان أنه يمتنع أن يكون إله العالم
هو هذا الفضاء الذي لا نهاية له.................. ٧٢
الفصل التاسع :
في تفسير قولنا : إن الإله تعالى غير
متناهي........................................ ٧٥
الفصل العاشر :
في أنه هل يصح أن نرى واجب الوجود لذاته؟..................................... ٧٩
الفصل الحادي عشر :
في أنا في هذه الحياة هل نعرف ذات الله
تعالى من حيث إنها هي : أعني : تلك الحقيقة المخصوصة. وبتقدير أن لا نعرفها. فهل
يمكن حصول تلك المعرفة لأحد من الخلق ، أو لكلهم. أم لا؟............................. ٨٦
الفصل الثاني عشر :
في تنزيه ذات الله تعالى عن الكيفيات.............................................. ٩٧
الفصل الثالث عشر:
في إثبات أنه يمتنع كونه تعالى حالا في
غيره......................................... ٩٩
الفصل الرابع عشر :
في نفي الاتحاد................................................................ ١٠٢
الفصل الخامس عشر :
في بيان أنه يمتنع كونه تعالى محلّا
لغيره........................................... ١٠٤
الفصل السادس عشر :
في بيان أن الألم واللذة محالان على
الله تعالى...................................... ١١٠
الفصل السابع عشر :
في أنه هل يصح إطلاقه لفظ الجوهر على
اللّه تعالى أم لا؟......................... ١١٣
القسم الثاني :
في بيان أنّه سبحانه وتعالى منزّه عن
الضّدّ والنّدّ................................... ١١٥
الفصل الأول :
في أن واجب الوجود لذاته ليس إلّا
الواحد....................................... ١١٧
الفصل الثاني :
في حكاية دلائل المتكلمين على أن الإله
واحد.................................... ١٣٣
الفصل الثالث :
في أن وحدة الله تعالى هل هي عين الذات
أو صفة قائمة بالذات؟................... ١٤٨
|