المؤلّف

١ ـ قالوا فيه.

٢ ـ مشايخه.

٣ ـ تلامذته ورواته.

٤ ـ أعماله ووظائفه.

٥ ـ ابنه تاجُ الدين.

٦ ـ مؤلَّفاته ، وقائمة بأهمّها.

٧ ـ ترجمته بقلم الحافظ ابن حجر العسقلاني ، وابن كثير الدمشقي.

٨ ـ مصادر ترجمته.

المؤلّف :

عليّ بن عَبْد الكافي بن علي بن تمام ، الأنصاريّ الخزرجيّ ، أبو الحسن ، تقيّ الدين ، السبْكيّ المصري الشافعيّ ، المولود بسُبك من أعمال المنوفيّة (ثالث صفر ٦٨٣) والمتوفّى مسموماً ، بالقاهرة (رابع جُمادى الآخِرةِ ٧٥٦) ودفن بها بصعيد السعداء بباب النصر.

١ ـ قالوا فيه :

شيخُ الإسلام (١) الإمام ، القاضي ، العلامة ، الفقيه ، المحدّث الحافظ ، فخر العلماء.

كان صادقاً ، متثبّتاً ، خيّراً ، ديّناً ، متواضعاً ، من أوعية العلم ، يدري الفقه ويقرّره ، وعلم الحديث ويحرّره ، والاصول ويقرؤها ، والعربية ويحقّقها ، وصنّف التصانيف المتقنة.

__________________

(١) أطلقه عليه جماعة ومنهم ولده ونقله عن البرزالي أنه لم يكتب «شيخ الإسلام» إلّا له ولابن تيمية وابن أبي عمر.

وقد بقي في زمانه الملحوظ إليه بالتحقيق والفضل ، سمعتُ منه وسمع مني ، وحكم بالشام وحُمدت أحكامه ، فالله يؤيّده ويُسدّده ، سمعنا معجمه بالكلاسة (١).

قال فيه شيخه الدمياطي : إمام المحدّثين ، وقال ابن الرفعة : إمام الفقهاء ، فلما بلغ ذلك الباجي فقال : وإمام الاصوليين (٢).

حجة المذاهب ، مفتي الفِرَق ، قدوة الحفّاظ ، آخر المجتهدين ، قاضي القضاة ، التقيّ البرّ ، العليّ القدر (٣).

الإمام الحافظ المجتهد النظّار (٤) العلامة ذي الفنون فخر الحفّاظ ، صاحب التصانيف ، ثقة ، جمّ الفضائل ، حسن الديانة ، صادق اللهجة ، قويّ الذكاء ، من أوعية العلم ، رفيقنا الإمام (٥).

الإمام الحافظ العلامة ، قاضي القضاة ، بقية المجتهدين ، ممّن طبّق الممالك ذكرُه ، ولم يخْفَ على أحدٍ خبره.

ممّن جمع فنون العلم من الفقه والأدب والنحو واللغة والشعر والفصاحة والزهد والورع والعبادة الكثيرة والتلاوة والشجاعة والشدّة في دينه (٦).

شيخ الإسلام ، وأحد الأئمة المجتهدين الأعلام (٧).

شيخ الإسلام ، إمام العصر ، وتصانيفه تدلّ على تبحّره في الحديث (٨).

__________________

(١) قال ذلك الذهبي في المعجم المختصّ ، ونقله ولده في طبقات ١٠ / ١٤٨.

(٢) نقله ابن قاضي شهبة ٣ / ٤١ ، وهو في طبقات السبكي ١٠ / ١٩٧.

(٣) قاله العمري في مسالك الأبصار نقله ولده في الطبقات ١٠ / ١٤٨.

(٤) الكتاني في فهرس الفهارس ص ١٠٣٣ ، وعنه نقلنا ما في المصادر التالية.

(٥) الذهبي في المعجم المختص ، لاحظ ما قاله الكتاني تعليقاً عليه في المصدر السابق.

(٦) أبو المحاسن الحسيني الدمشقي ، في ذيل طبقات الحفاظ للذهبي ص ٣٩.

(٧) الحافظ ابن ناصر الدمشقي في طبقات الحفاظ ص ٥٢٢.

(٨) السيوطي في طبقات الحفاظ ص ٥٥.

الشيخ العالم الكبير ، إمام من أئمة الشافعية ، وعالم من كبار علماء الديار المصرية ، ومن يُعترف له بالرتب العليّة ، وله عدالة الأصل وأصالة القول ، وإصابة النقل ، ورزانة العقل ، وجزالة القول والفعل ، ومتانة الدين والفضل ، إلى تحصيل وتفنُّن وتأصيل في المنقولات والمعقولات وتمكّن نظر راجح وحفظ راسخ ، وتقدّم في الحديث والرواية عالٍ شامخ.

كريم : شهد له العيان ، وإليه يعزى البيان ، ومن بحره يخرج اللؤلؤ والمرجان إلى آدابٍ غضّة ، وفضائل من فضة (١).

كان أنْظر من رأيناه من أهل العلم ، ومن أجمعهم للعلوم ، وأحسنهم كلاماً في الأشياء الدقيقة ، وأجلدهم على ذلك.

وكان في غاية الإنصاف والرجوع إلى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد المستفيدين منه مواظباً على وظائف العبادات ، مراعياً لأرباب الفنون (٢).

تفقّه به جماعة من الأئمة ، وانتشر صيته وتواليفه ، ولم يخلف بعدَهُ مثلُه (٣).

ومحاسنه ومناقبه أكثر من أن تحصر وأشهر من أن تذكر (٤).

وقد اعترف بفضله السلفية أتباع ابن تيمية :

فقال ابن كثير : الإمام العلامة ... قاضي دمشق ... برع في الفقه والاصول والعربية وأنواع العلوم ... انتهت إليه رئاسة العلم في وقته ... وله كلام في صحّة القراءات أبان فيه عن تحقيق وسعة اطلاع (٥).

__________________

(١) أبو البقاء القاضي خالد بن أحمد البلوي الأندلسي في رحلته ، نقله الكتاني في فهرس الفهارس ص ١٠٣٥ ، وقال : لقاؤه في وسط أمره ... فانظر ما يقول فيه لو لقيه آخره عمره؟

(٢) الاسنوي في الطبقات ، لاحظ الدرر الكامنة ٣ / ١٧٠.

(٣) الحافظ العراقي كما في الدرر الكامنة ٣ / ١٧٠.

(٤) طبقات ابن قاضي شهبة ٣ / ٤١.

(٥) البداية والنهاية ١ / ٥٥١ رقم ٢٢٥١.

وقال الزركلي الوهابيّ : شيخ الإسلام في عصره ، وأحد الحفّاظ المفسّرين المناظرين (١).

ولما نقل الكتاني كلام الذهبي فيه ، قال : فقف على وصفه له ب «فخر الحفّاظ» وكونه «من أوعية العلم» وناهيك بذلك (٢).

٢ ـ مشايخه :

جمعهم أبو الحسين أحمد بن أيبك الحسامي الدمياطي في (معجمه) في عشرين جزءاً ولم يستوعبهم ، سمعه عليه الحفاظ كالمزي والذهبي ، وانتقى منه ولده أبو نصر أربعين حديثاً حدث بها وبغيرها من المرويّات ، فمنهم :

١ ـ والده : تفقّه عليه في صغره.

٢ ـ نجم الدين ابن الرفعة : آخر من اشتغل عليه.

٣ ـ علاء الدين الباجي : أخذ الأصلين وسائر المعقولات عنه.

٤ ـ سيف الدين البغداديّ : أخذ الخلاف والمنطق عنه.

٥ ـ أبو حيّان : أخذ النحو عنه.

٦ ـ العراقيّ علم الدين : أخذ التفسير عنه.

٧ ـ تقيّ الدين ابن الصائغ : أخذ القراءات عنه.

٨ ـ الدمياطيّ الحافظ شرف الدين : أخذ الحديث عنه ، ولازمه كثيراً.

٩ ـ الحافظ إمام الفن سعد الدين الحارثي : أخذ الحديث منه وهو كبير.

١٠ ـ ابن عطاء الله تاج الدين : أخذ التصوّف عنه.

١١ ـ الشيخ عبد الله الغماريّ المالكيّ : أخذ الفرائض عنه.

__________________

(١) الأعلام ٤ / ٣٠٢.

(٢) فهرس الفهارس ص ١٠٢٣.

١٢ ـ ابن مشرف : أخذ عنه بدمشق.

١٣ ـ يحيى بن الصوّاف : أخذ عنه بالاسكندرية.

١٤ ـ عبد الرحمن بن مخلوف بن جماعة : أخذ عنه بالاسكندرية.

١٥ ـ يحيى بن محمد بن عبد السلام : أخذ عنه بالاسكندرية.

١٦ ـ علي بن نصر بن الصوّاف ، أخذ عنه بالقاهرة.

١٧ ـ علي بن عيسى بن القيّم : أخذ عنه بالقاهرة.

١٨ ـ علي بن محمد بن هارون الثعلبي : أخذ عنه بالقاهرة.

١٩ ـ الرضي الطبري : أخذ عنه.

٢٠ ـ ابن الموازيني أبي جعفر : أخذ عنه بدمشق.

٢١ ـ الذهبي : قال : كتب عني وكتبت عنه ، وسمعته وسمع مني.

٢٢ ـ الحافظ مسعود الحارثي : حدّث عنه.

٢٣ ـ أبو نصر الشيرازي : حدّث عنه.

٢٤ ـ ابن بنت الأعز : ذكره ولده ، وابن قاضي شهبة.

٢٥ ـ شيخ الإسلام تقي الدين ابن دقيق العيد : قال ولده : وقيل : إن والده دخل به إليه وعرض عليه التنبيه ولم يتحقق هو ذلك.

٢٦ ـ الحسن بن عبد الكريم سبط زيادة ، قال ابن كثير : سمع الشاطبية والرائية منه أخذ عنه بالقاهرة.

٢٧ ـ عبد المؤمن بن خلف الدمياطي الحافظ : أخذ عنه بالقاهرة.

٢٨ ـ شهاب بن علي المحسني : أخذ عنه بالقاهرة.

٢٩ ـ موسى بن علي بن أبي طالب : أخذ عنه بالقاهرة.

٣٠ ـ محمد بن عبد العظيم السقطي : كذلك.

٣١ ـ محمد بن المكرّم الأنصاري : كذلك.

٣٢ ـ محمد بن محمد بن عيسى الصوفي : كذلك.

٣٣ ـ محمد بن نصير بن أمين الدولة : كذلك.

٣٤ ـ يوسف بن أحمد المشهدي : كذلك.

٣٥ ـ عمر بن عبد العزيز الحسين بن رشيق : كذلك.

٣٦ ـ شُهْدة بنت عمر بن العديم : كذلك.

٣٧ ـ أبو بكر بن أحمد بن عبد الدائم : أخذ عنه بدمشق.

٣٨ ـ أحمد بن موسى الدشتي : كذلك.

٣٩ ـ اسحاق بن أبي بكر بن النحاس : كذلك.

٤٠ ـ عيسى المطعّم : كذلك.

٤١ ـ سليمان بن حمزة القاضي : كذلك.

٤٢ ـ الرشيد بن أبي القاسم : أجاز له من بغداد.

٤٣ ـ إسماعيل بن الطبال : أجاز له من بغداد.

وغيرهم ، خلق ، وجمع معجمه الجمّ الغفير ، والعدد الكثير (١).

٣ ـ تلامذته ورواته :

قال الدمشقي الحسيني في ذيل طبقات الحفّاظ ص ٣٩ : تخرّج به طائفة من العلماء وحمل عنه امم. منهم :

١ ـ ولده القاضي أبو نصر ، عبد الوهاب صاحب (طبقات الشافعية).

٢ ـ أبو المعالي ابن رافع.

٣ ـ خالد بن أحمد البلدي الأندلسي : صاحب الرحلة : «تاج المفرق في تحلية علماء المشرق» قال : لقيته بمنزله في القاهرة ، وسمعت عليه ، ورسم لي الإجازة

__________________

(١) لاحظ طبقات السبكي ١٠ / ١٤٧ ، دار إحياء التراث العربي.

العامة بخطه.

٤ ـ أبو محمد البرزالي ، ذكره ابنه في الطبقات.

٥ ـ الحافظ أبو الحجاج المِزّي.

٦ ـ الحافظ الذهبيّ. ذكر سماعه عليه ابن قاضي شهبة في طبقات الشافعية ، وقد اعترف الذهبي بكتابته عنه ، وسماعه منه.

٧ ـ سراج الدين البلقيني.

٨ ـ محمد بن يعقوب المقدسي ، قرأ عليه القراءات.

٩ ـ أحمد بن الغزي الشهير بالشريف الحسيني قرأ عليه القراءات.

١٠ ـ الاسنوي صاحب الطبقات ، قال فيه : شيخنا.

١١ ـ خليل بن أيبك الشيخ صلاح الدين الصفدي ، قال السبكي : قرأ على الشيخ الإمام جميع كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام عليه أفضل الصلاة والسلام» (١).

١٢ ـ أبو البقاء.

١٣ ـ ابن النقيب.

١٤ ـ تقي الدين أبو الفتح.

قال ابن قاضي شهبة : وأولاده ، وغيرهم من الأئمة الأعلام.

٤ ـ أعماله ووظائفه :

* تولى مشيخة المعاد بالجامع الطولوني ، بمصر.

* تولّى قضاء الشام عند شعوره بموت الجلال القزويني في جمادى الآخرة

__________________

(١) طبقات الشافعية ١٠ / ٥ رقم ١٣٥٢.

سنة (٧٣٩) فباشر ذلك على ما يليق به واستمر إلى سنة (٧٥٦).

* قال ولده : سنة تسع وثلاثين وسبعمائة في تاسع عشر جمادى الآخرة منها ، طلبه السلطان الملك الناصر محمد بن قلاون ، وذكر له أن قضاء الشام قد شغر ، وأراده على ولايته ، فأبى ، فما زال السلطان ، فقبل الولاية : يا لها غلطةً ، افٍّ لها ، وورطةً ليته صَمَّم ولا فعلها! (١)

قالوا : فما حفظ عنه في التركات ، ولا في الوظائف ما يُعاب عليه ، وكان متقشفاً في اموره ، متقلّلاً من الملابس ، وكان لا يستكثر على أحدٍ شيئاً.

ولما مات وجدوا عليه اثنين وثلاثين ألف درهمٍ ديناً (٢).

* درّس في مدارس الشام بالغزاليّة ، والعادليّة الكبرى ، والأتابكية ، والمسرورية ، والشاميّة البرّانية ـ وليها بعد موت ابن النقيب ـ.

* وولي بعد وفاة الحافظ المِزّي مشيخة دار الحديث الأشرفيّة.

* وقد خطب بجامع دمشق مدّة ، وقال الذهبي في ذلك شعراً :

ليهنَ المنبر الامويّ لمّا

علاه الحاكم البحر التقيُ

شيوخ العصر أحفظهم جميعاً

وأخطبهم و «أقضاهم عليُّ» (٣)

وانظر الى قوله : «وأقضاهم عليّ» ففيه اقتباس جليّ ، ولذلك قال العمريّ في شأنه : سميُّ عليّ كرم الله وجهه ، الذي هو باب العلم ، ولا غروَ أن كان هذا المدخل إلى ذلك الباب ، والمستخرج من دقيق ذلك الفضل هذا اللباب والمستعير من تلك المدينة التي ذلك الباب بابُها ، والواقف عليها من سميّه فذاك بابُها وهذا بوّابُها (٤).

__________________

(١) جاء ذلك في طبقات الشافعية الكبرى ١٠ / ١٦٨.

(٢) ذكره ابن قاضي شهبة في طبقاته.

(٣) الشعر رواه ولده السبكي في طبقاته ١٠ / ١٦٩ ونقله عنه ابن قاضي شهبة في طبقاته ٣ / ٤٠.

(٤) طبقات السبكي ١٠ / ١٤٨.

٥ ـ ابنه تاج الدين :

لقد خلّف الإمام السبكيّ أولاداً فضلاء ، كلّهم قضاة نابهون ، إلّا أن أنبههم وأشهرهم الإمام ابن السبكيّ : تاج الدين عبد الوهاب صاحب (طبقات الشافعية) الكبرى.

ولد (٧٢٨) وختم القرآن صغيراً وطلب العلم وهو ابن عشر سنين بدمشق ، وعُنِيَ بالحديث ، وأجاز له الحجّارُ ، ولازم الذهبيّ ، وسمع الكثير من شيوخ عصره ، ومهر في الفنون ، وولي قضاء دمشق بعد أبيه ، وخرج له مع قصر عمره ما يتعجب منه ، قاله ابن حجر في طبقات الحفاظ.

وقال الذهبي في (المعجم المختصّ) : وكتب عني أجزاء نسخها وأرجو أنْ يتميّز في العلم ، درّس وأفتى وعُني بهذا الشأن.

وقال البوني في ثبته : الإمام المجمع على جلالة قدره وتمام بدره ، بل لو قيل : «لو قُدِّرَ إمام خامس مع الأئمة الأربعة لكان ابن السبكي».

نقل كل هذا المحدّث العلامة الكتاني في فهرس الفهارس والأثبات ص ١٠٢٨ رقم ٥٨٦ ، وقال : من تأمّل ترجمة ابن السبكي هذا ، بقلم الحافظ ابن حجر ، مع ترجمة أبيه بقلم الحفّاظ الأعلام : الذهبي وابن ناصر والحسيني والسيوطي في طبقات الحفّاظ ، يعلم عظمة الرجلين [السبكي وابنه].

لأن مَنْ ذكر ـ خصوصاً الذهبي وابن ناصر ـ كانا كالخصمين لهم ، لتشيّعهما لابن تيميّة وحزبه ، خصوصاً ابن ناصر : كان يُعادي بعداوته ، ويحبّ بحبّه!!

ومع ذلك ما وسعهما إلّا الاعتراف للأب والابن ، بما ذكر!

قال الكتاني : لتعلم ، أنّ الحقَّ أحقُ بالاتّباع.

فما يتقوّله بعض مَنْ لا علم له : «بأنّ السبْكيّ إنّما مَجَّدَهُ وقدّسه ولدُه في

الطبقات!» هو الدليل بعينه على جهل قائله وكذبه! (١)

٦ ـ مؤلّفاته وقائمة بأهمّها :

قال الذهبي : صنّف التصانيف المتقنة.

وقال السيوطي : صنّف أكثر من مائة وخمسين مصنّفاً ، تدلّ على تبحّره في الحديث.

وقال الحسيني الدمشقي : كتب بخطّه المليح الصحيح المتقن شيئاً كثيراً من سائر علوم الإسلام ... وسارت بتصانيفه وفتاويه الركبان.

قال ابن حجر : كان لا تقع له مسألة مستغربة أو مشكلة إلّا ويعمل فيها تصنيفاً يجمع فيه شتاتها ، طال أو قصر ، وذلك يبين في تصانيفه.

وقال الحافظ ابن حجر : قد استوعب ولده عدّة تصانيفه في ترجمته التي أفردها وأفرد مسائلها التي انفرد بتصحيحها أو باختيارها في كتابه (ترشيح التوشيح).

وسنذكر نحن بعض ما ذكروه له ، ولنقدّم ما أورده المترجمون من المجاميع المنسوبة إليه :

أ ـ قال الكتاني : وقد ظفرت في المكتبة الخالدية ببيت المقدس لمّا زرته عام (١٣٢٤) بمجموعة بخطّ المترجم له الشيخ تقي الدين السبكيّ ، اشتملت على عدّة مؤلّفات ، منها :

١ ـ الأدلة في إثبات الأهلّة.

٢ ـ رسالة في مضارّ القصيدة النونيّة المتضمّنة الردّ على الأشاعرة.

__________________

(١) فهرس الفهارس والأثبات ص ١٠٢٨ رقم ٥٨٦ : ابن السبكي الصغير.

وهي (٢٥) ورقة في القالب الكبير ، كتبت سنة (٧٤٩).

٣ ـ الاعتبار ببقاء الجنّة والنار.

كتبت (٧٤٨) تتضمّن تضليل من قال بفناء النار من أهل عصره (١).

وغير ذلك ، وهي مجموعة قيّمة لا ثمن لها ، من النفاسة بمكان (٢).

ب ـ وقال الزركلي الوهّابي في أعلامه ٤ / ٣٠٢ : ورأيت مجموعة اخرى كلها بخطّه في الرباط (٣٠٦ أوقاف) تشتمل على تسع رسائل له ، منها :

١ ـ المحاورة والنقاط في المجاورة والرباط.

٢ ـ مصمي الرمأه في وقف حماه.

وقال ولده : حجّ في سنة (٧١٦) ثمّ عاد ، وألقى عصا السفر واستقرّ ، وانتهت إليه رئاسة المذهب بمصر ... وفي هذه المدّة ردّ على الشيخ ابن تيميّة في مسألتي الطلاق والزيارة ، وألّف غالب مؤلّفاته المشهورة : كالتفسير ، وتكملة شرح المهذّب ، وشرح المنهاج للنوويّ ، وغير ذلك من مبسوط ومختصر (٣).

قائمة بأهم مؤلّفاته :

١ ـ النكت على صحيح البخاري ، في مجلد.

قال الكتاني : وقفت عليه بمكتبة مكناسة.

٢ ـ ضياء المصابيح في اختصار مصابيح البغوي.

ذكره الكتاني.

٣ ـ السيف المسلول على مَنْ سبّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) وهو ابن تيمية ، راجع دفع الشبه للحصني (ص ١١٦).

(٢) فهرس الفهارس ص ١٠٢٦ آخر ترجمة رقم ٥٨٥ وقد ذكر الزركلي الوهابي هذه المجموعة وقال : رأيت مجموعة بخطه في مجلد ضخم ، ولم يحدّد موقعها!

(٣) الطبقات ١٠ / ١٦٧.

ذكره السبكي ، والكتاني ، والزركلي : له نسخ في تركيا : في السليمانية ٢٤ (٣١٩) وعاشر أفندي ١٢ (١٦١) وفيض الله ١١٣ (٢١٣٢) ولا له لي ٣٨ (٣٦٥) ويكي جامع ١٢ (٢٠٩).

٤ ـ إبراز الحِكَم من حديث رفع القلم.

ذكره الكتاني ، وذكره ولده السبكي وذكر بعده : الكلام على حديث رفع القلم ، وكأنّهما واحد. ومنه نسخة في دار الكتب بالقاهرة رقم (١٦١٦) و (١٦٢٥) وله مختصر في الظاهرية رقم ٢٩٤ مجموع (٣٢).

٥ ـ الدر النظيم في تفسير القرآن العظيم.

ذكره السبكي وذكره الزركلي ، وقالا : لم يكمل ، وله جهود تفسيرية متفرقة بين آيات خصّص لها أجزاء صغار ، سنعدّدها ، وبين آيات متفرقة جمعت في بداية (فتاوى السبكي).

٦ ـ إحياء النفوس في صنعة إلقاء الدروس.

ذكره السبكي ولده ، وذكره الزركلي.

٧ ـ الإغريض في الحقيقة والمجاز والكناية والتعريض.

ذكره السبكي ، والزركلي.

٨ ـ المسائل الحلبية في الفقه.

ذكره السبكي ، والزركلي.

٩ ـ شفاء السقام في زيارة خير الأنام.

ذكره ولده وهو كتابنا هذا ، ردّاً على ابن تيمية في تحريمه زيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويسمّى (شنّ الغارة على مانع الزيارة) وسيأتي الكلام عنه مفصّلاً.

١٠ ـ المحاورة والنقاط في المجاورة والرباط.

قال الزركلي : وجدتها في مجموعة بخطّه في الرباط (٣٠٦ أوقاف) ضمن تسع

رسائل له.

١١ ـ مصمي الرمأه في وقف حماه.

ذكره الزركلي مع المجموعة (٣٠٦ أوقاف ـ في الرباط).

١٢ ـ الأدلّة في إثبات الأهلّة.

ذكره الكتاني والزركلي ، ضمن مجموعة بخطه ، في المكتبة الخالدية ، بالقدس الشريف.

١٣ ـ الاعتبار ببقاء الجنة والنار.

ذكره ولده ، وذكره الكتاني والزركلي ، ضمن مجموعة الخالدية بالقدس. وهو مطبوع.

١٤ ـ السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل.

ردّ على القصيدة النونية لابن قيّم الجوزية الحنبلي السلفيّ ، الموسومة بالكافية في العقائد ردّاً على الأشاعرة ، رآها الكتاني والزركلي في مجموعة الخالدية بالقدس كما مرّ في بداية هذه القائمة ، وهو مطبوع مع تكملة مهمّة للإمام الكوثريّ.

١٥ ـ الابتهاج في شرح المنهاج في الفقه الشافعي.

ذكره السبكي والزركلي.

١٦ ـ الفتاوى السبْكيّة.

ذكره ولده والزركلي ، وذكر ابن حجر : أن ولده عبد الوهاب جمع فتاواه ورتّبها في أربع مجلدات ، طبع في مصر في مجلدين ، وأعادته دار المعرفة ـ بيروت.

١٧ ـ التمهيد فيما يجب فيه التحديد.

ذكره الزركلي وأشار إلى أنه مطبوع ، وأنه في المبايعات والمقاسمات والتمليكات وغيرها.

١٨ ـ تكملة (المجموع في شرح المهذب للنووي)

من باب الربا إلى التفليس ، في خمس مجلدات ، ذكره السبكي ولده.

١٩ ـ التحبير المُذهَب في تحرير المَذْهَب.

وهو شرح مبسوط على (المنهاج). ذكره السبكي ، وقال : ابتدأ فيه من كتاب الصلاة ، فعمل قطعة نفيسة.

٢٠ ـ الابتهاج في شرح المنهاج للنووي.

قال السبكي : وصل فيه إلى أوائل الطلاق.

ثمّ كمّله ابنه أحمد بهاء الدين ، كما في كشف الظنون ص ١٨٧٣.

٢١ ـ الدرّة المضيئة في الردّ على ابن تيميّة.

طبعت في الرسائل السبكية ، وفي (التوفيق الرباني).

٢٢ ـ التحقيق في مسألة التعليق.

قال السبكي : وهو الردّ الكبير على ابن تيمية في مسألة الطلاق.

٢٣ ـ رافع الشقاق في مسألة الطلاق.

قال السبكي : وهو الردّ الصغير على ابن تيمية.

وله رد ثالث مختصر باسم النظر المحقق ، مطبوع في الفتاوى ٢ / ٣٠٩.

وذكر ولده السبكي المؤلفات التالية له :

٢٤ ـ أحكام «كلّ» وما عليه تدلّ.

٢٥ ـ بيان حكم الربط في اعتراض الشرط على الشرط.

٢٦ ـ الإقناع في الكلام على أنّ «لو» للامتناع.

٢٧ ـ وشْيُ الحُلَى في تأكيد النفي بلا.

٢٨ ـ الكلام على حديث «إذا مات ابن آدم انقطع عملُهُ».

٢٩ ـ أجوبة سؤالات حديثيّة وردت من الديار المصريّة حول بعض ما في (تهذيب الكمال) للمِزيّ.

وذكره الكتاني.

٣٠ ـ تنزيل السكينة على قناديل المدينة. نشر في الفتاوى السبكية ١ / ٢٧٤.

٣١ ـ مسألة فناء الأرواح.

٣٢ ـ مسألة في التقليد في اصول الدين.

٣٣ ـ المفرق في مطلق الماء والماء المطلق.

٣٤ ـ أمثلة المشتق.

وهي ارجوزة في الصرف ذكرها السبكي ، وأوردها طابعو طبقات الشافعية في هوامش الصفحات ص ١٨٦ وما بعدها من الجزء (١٠) منها.

٣٥ ـ القول الصحيح في تعيين الذبيح.

٣٦ ـ القول المحمود في تنزيه داوُد.

٣٧ ـ ورد العِلَل في فهم العِلل.

٣٨ ـ التهدّي في معنى التعدّي ، في الصرف.

٣٩ ـ بيان المحتمل في تعدية «عَمِل» وانظر الرقم (٤٩).

٤٠ ـ نيل العلا بالعطف بلا.

٤١ ـ الألفاظ : هل وضعت بإزاء المعاني الذهنيّة ، أو الخارجيّة؟

٤٢ ـ أحاديث رفع اليدين ، ذكره ولده ، والكتاني.

٤٣ ـ الاقتناص في الفرق بين الحصر ، والقصر ، والاختصاص ، في علم البيان.

٤٤ ـ نصيحة القضاة.

٤٥ ـ كتاب برّ الوالدين.

وقد ذكر ولده من مؤلّفاته ما يدخل ضمن التفسير ، مثل :

٤٦ ـ التعظيم والمنة في (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ، وَلَتَنْصُرُنَّهُ) الآية ٨١ من سورة آل عمران ، وهو مطبوع في فتاوى السبكي ١ / ٤٨.

٤٧ ـ الإقناع في تفسير قوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) الآية ١٨ من سورة غافر ، ولاحظ فتاوى السبكي.

٤٨ ـ الحلمُ والإناه في إعراب قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) الآية ٥٣ من سورة الأحزاب ، طبع في فتاوى السبكي ١ / ١٠٥.

٤٩ ـ تفسير : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا) الآية ٥١ من سورة المؤمنون.

٥٠ ـ الكلام على قوله تعالى : (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) الآية ٢٣٦ من سورة البقرة.

هذا ما اخترناه من أسماء مؤلّفاته التي تبلغ (١٥٠) ، وقد أورد ولده السبكي أسماء ما يزيد على (١٢٥) منها في ترجمته في طبقات الشافعية ١٠ / ٣٠٧ ـ ٣١٥ وأورد (١٨) رسالة ذات النصوص الصغار في الفتاوى السبكيّة ، وجمع بعضها الاستاذ كمال أبو منى في (الرسائل السبكية) وهو مطبوع.

ومما طبع أيضاً في الفتاوى السبكية :

٥١ ـ بذل الهمّة في إفراد العمّ وجمع العمّة ١ / ٩٧.

٥٢ ـ الفهم السديد في إنزال الحديد ١ / ١٢٩.

٥٣ ـ إشراق المصابيح في صلاة التراويح ١ / ١٦٥.

٥٤ ـ الاعتصام بالواحد الأحد من إقامة جمعتين في بلد ١ / ١٨١.

٥٥ ـ مختصر : فصل المقال في هدايا العمّال ١ / ٢١٣.

٥٦ ـ حفظ الصيام من قوت التمام ١ / ٢٣٠.

٥٧ ـ قدر الإمكان المختطف في دلالة «كان إذا اعتكف» ١ / ٢٤٢.

٥٨ ـ نثر الجمان في عقود الرهن والضمان ١ / ٣٠٩.

٥٩ ـ منبّه الباحث في دين الوارث ١ / ٣٣٠.

٦٠ ـ الطريقة النافعة في الإجارة والمساقاة والمزارعة.

٦١ ـ مؤلّف في مياه دمشق.

٦٢ ـ الغيث المغدق في ميراث ابن المعتق ٢ / ٢٢٤.

٦٣ ـ مؤلّف في ترميم الكنائس ٢ / ٣٦٩.

٦٤ ـ الدلالة على عموم الرسالة ٢ / ٥٩٤.

٧ ـ ترجمة المؤلّف : بقلم الحافظ ابن حجر العسقلاني في «الدرر الكامنة»

قال الحافظ ابن حجر العسقلاني : علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام بن حامد بن يحيى بن عمر بن عثمان بن علي بن سوار بن سليم السبكي تقي الدين ، أبو الحسن الشافعي.

ولد بسُبك العبيد ، أوّل يوم من صفر سنة (٦٨٣) وتفقّه على والده ، ودخل القاهرة ، واشتغل على ابن الرفعة ، وأخذ الأصلين عن الباجي ، والخلاف عن السيف البغدادي ، والنحو عن أبي حيان ، والتفسير عن العلم العراقي ، والقراءات عن التقي الصائغ ، والحديث عن الدمياطي ، والتصوّف عن ابن عطاء الله (١) والفرائض عن الشيخ عبد الله الغماري.

وطلب الحديث بنفسه ، ورحل فيه إلى الشام ، والإسكندرية والحجاز ، فأخذ عن ابن الموازيني ، وابن مشرف ، وعن يحيى بن الصواف وابن القيم ، والرضيّ الطبري ، وآخرين يجمعهم معجمه الذي خرجه له أبو الحسين ابن أيبك.

وولي بالقاهرة تدريس المنصورية ، وجامع الحاكم والكهارية وغيرها.

__________________

(١) ابن عطاء.

وكان كريم الدين الكبير والجاي الدوادار وجنكلي بن البابا والجاولي وغيرهم من أكابر الدولة الناصرية يعظّمونه ويقضون بشفاعته الأشغال.

ولمّا توفّي القاضي جلال الدين القزويني بدمشق ، طلبه الناصر في جماعة ليختار منهم من يقرّره مكانه ، فوقع الاختيار على الشيخ تقيّ الدين ، فوليها ـ على ما قرأتُ بخطه ـ في تاسع عشر جُمادى الآخِرة سنة ٧٣٩ ، وتوجّه إليها مع نائبها تنكز ، فباشر القضاء بهمّة وصرامة وعفّة وديانة.

واضيفت إليه الخطابة بالجامع الاموي فباشرها مدّة في سنة ٧٤٢ ، ثمّ اعيدت لابن الجلال القزويني.

وولي التدريس بدار الحديث الأشرفية ، بعد وفاة المِزي ، وتدريس الشامية البرّانية بعد موت ابن النقيب في أوائل سنة ٤٦ ، وكان طلب في جُمادى الاولى إلى القاهرة بالبريد ليقرر في قضائها فتوجّه إليها وأقام قليلاً ولم يتم الأمر واعيد إلى وظائفه بدمشق ، ووقع الطاعون العام في سنة ٧٤٩ فما حفظ عنه في التركات ولا في الوظائف ما يُعاب عليه.

وكان متقشفاً في اموره متقلّلاً في الملابس ، حتى كانت ثيابه في غير الموكب تقوّم بدون الثلاثين درهماً وكان لا يستكثر على أحد شيئاً حتى أنه لما مات وجدوا عليه اثنين وثلاثين ألف درهم ديناً ، فالتزم ولداه تاج الدين وبهاء الدين بوفائها.

وكان لا يقع له مسألة مستغربة أو مشكلة إلّا وجعل فيها تصنيفاً يجمع فيه شتاتها طال أو قصر ، وذلك يبين في تصانيفه.

وقد جمع ولده فتاويه ورتّبها في أربع مجلدات.

قال الصفدي : لم يرد أحد من نواب الشام ولا من غيرهم تعرض له فأفلح ، بل يقع له إمّا عزل وإما موت ، جرّبنا هذا وشاع وذاع حتى قلت له يوماً في قضية : يا سيدي دع أمر هذه القرية فإنك قد أتلفت فيها عدداً وملك الأمراء وغيره في ناحية

وأنت وحدك في ناحية وأخشى أن يترتب على ذلك شرّ كثير فما كان جوابه إلّا أنشد قوله :

وليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب

قلت : رأيتُ بخطه عدّة مقاطيع ينظمها في ذلك كأنه يتوسل بها إلى الله فإذا انقضت حاجته طمس اسم الذي كان دعا عليه.

وقد استوعب ولده عدّة تصانيفه في ترجمته التي أفردها وأفرد مسائلها التي انفرد بتصحيحها أو باختيارها في كتابه التوشيح (١).

قرأت بخط الشيخ تقي الدين السبكي : كتب إليّ أبو الفتح ـ يعني قرابته ـ ورقة بسبب شخص أن أكتب إلى شخص في حاجة له ، وذلك قبل ولاية الشام بسنة فأجبته : «وقفتُ على ما أشرت إليه ، والذي تقوله صحيح ، وهو الذي يتعيّن على العاقل ، ولكني ما أجد طباعي تنقاد إلى هذا بل تأبى منه أشدّ الإباء ، والله خلق الخلق على طبائع مختلفة وتكلّف ما ليس في الطبع صعب» إلى أن قال : «وأنا من عمري كلّه لم أجد ما يخرجني عن هذه الطريقة ، فإني نشأت غير مكلّف بشيء من جهة والدي وكنتُ في الريف قريباً من عشرين سنة وكان الوالد يتكلف لي ولا أتكلف له ولا أعرف من الناس فيه غير الاشتغال ثمّ ولي والدي نيابة الحكم بغير سؤال فصرت أتكلم الكلام بسببه وأما في حق نفسي فلا أكاد أقدم على سؤال أحد إلّا نادراً بطريق التعريض اللطيف فإن حصل المقصود وإلّا رجعت على الفور وفي نفسي ما لا يعلمه إلّا الله ، وأما في حق غيري من الأجانب فكانوا يلحّون إلي فأتكلف فأقضي من حوائجهم ما يقدره الله ، ولم أزل يكن معي عشرة أوراق أو أكثر ولا أتحدث فيها مع المطلوبة منه إلّا معرفاً وشغلت بذلك عن مصلحتي

__________________

(١) ترشيح التوشيح اظن هذا الصواب وقد جعله صاحب كشف الظنون كتابين.

ومصلحة أولادي لأن اجتماعي بهم كان قليلاً يروح في حوائج الناس ولا ينقضي بها حاجة حتى يزيد نفور نفسي عن الحديث فيها وكان آخر ذلك أن طلبت حاجة تقي الدين الاقفهسي فأجابني المطلوب منه بجواب لا يرضاه فحلفت لا أسأله حاجة بعدها فمات بعد نحو نصف سنة وحصلت لي الراحة بترك السؤال ولكن استمرّ الوالد في نيابة المحلة فعرض من الجلال وولده ما يقتضي أن خاطري يغريه فحصل لي ضجر فقدّر الله وفاة الوالد وماتت الوالدة بعده بأربعين يوماً فعزفت نفسي عن الدنيا ، وأنا الآن ابن اثنين وخمسين سنة ، وقد تعبت نفسي في حوائج الناس مدّة ، فأريد أن اريح نفسي فيما بقي وأيضاً فلي نحو عشر سنين لا أتحرك تحركة في الدنيا فأحمدها فأخاف إذا تحدثت لغيري أن لا ينجح فأندم ويتعب قلبي ، فالعزلة أصلح» إلى أن قال : «وليعلم أن الإنسان إنما يفعل ذلك إما لطبع فطري أو مكتسب ، وهما مفقودان عندي ، أو لحامل عليه من إيجاب شرعي وليس من صورة المسألة ، أو غرض دنيوي وأرجو أن لا يكون عندي ، أو اكتساب أجر بأن يكون مندوباً ، ومثل هذا : الظاهر أن تركه هو المندوب ، ثمّ لو سلم فالنفس لا تنقاد إليه في أكثر الأحوال كما يترك الإنسان المندوب لطبع أو ضعف باعث والمندوب أن قل ان يعمل إلى المخالطة على جميعها وذلك بحسب قوة الباعث وضعفه والسلام انتهى ملخّصه.

وقرأت بخط الشيخ شمس الدين محمد بن عبد الرحمن بن الصائغ الحنفي على جزء من تفسير الشيخ تقي الدين ما نصه ، يقول (١) :

أتيت لنا من الدرّ النظيم

سلوكاً للصراط المستقيم

جمعت به العلوم في الفرد

حوى تصنيفه جمع العلوم

وكان ينظم كثيراً وشعره وسط ، فمنه ما وصى به ولده محمداً ، قال :

ابنيّ لا تُهمل نصيحتيَ التي

اوصيك واسمع من مقالي ترشدِ

احفظ كتاب الله والسنن التي

صحّت وفقه الشافعي محمّدِ

وتعلّم النحو الذي يدني الفتى

من كلّ فهم في القرآن مسدّد

واعلم اصول الفقه علماً محكماً

يهديك للبحث الصحيح الأيدِ

واسلك سبيل الشافعي ومالك

وأبي حنيفة في العلوم وأحمدِ

ومنها قوله أيضاً :

واقطع عن الأسباب قلبك واصطبر

واشكر لمن أولاك خيراً واحمد

منها قوله أيضاً :

وخذ العلوم بهمّة وتيقّظ

وقريحة سمحاء ذات توقّدِ

ومنها قوله أيضاً :

واقف الكتاب ولا تمل عنه وقف

متأدّباً مع كلّ حبر أوحدِ

ومنها قوله أيضاً :

وطريقة الشيخ الجنيد وصحبه

والسالكين سبيلهم بهم اقتدِ

واقصد بعلمك وجهَ ربك خالصاً

تظفر سبيل الصالحين وتهتدي

يقول في آخرها :

هذي وصيتيَ التي اوصيكها

أكرم بها من والدٍ متودّدِ

وعدّتها نحو العشرين ، هذا مختارها.

وله أيضاً :

إنّ الولايةَ ليس فيها راحةٌ

إلّا ثلاث يبتغيها العاقلُ

حكم بحقٍ أو إزالة باطلٍ

أو نفع محتاجٍ سواها باطلُ

وله أيضاً :

إذا أتتك يدٌ من غير ذي مقةٍ (١)

وجفوة من صديق كنتَ تأملهُ

خذها من الله تنبيهاً وموعظةً

بأنّ ما شاء لا ما شئتَ يفعلهُ

وقد كان نزل عن منصب القضاء لولده تاج الدين بعد أن مرض ، فلما استقر تاج الدين وباشر ؛ توجّه الشيخ تقي الدين إلى القاهرة وأقام بها قليلاً في دار على شطّ النيل وهو موعوك إلى أن مات في ثالث جمادى الآخرة سنة ٧٥٦.

فكانت إقامته بالقاهرة نحو العشرين يوماً وكان وصول التقليد لتاج الدين في ثالث عشر شهر ربيع الأول ولبس الخلعة في النصف منه وباشر ثمّ عوفي أبوه وركب وحضر معه بعض الدروس وحكم بحضرته وسرّ به وتوجّه إلى القاهرة في سادس عشري شهر ربيع الآخر من السنة.

ثمّ لما مات سعى ولده أن يدفن عند الإمام الشافعي داخل القبة فامتنع شيخو من إجابة سؤاله فدفنه بسعيد السعداء.

__________________

(١) في نسخة : ثقة.

قال الاسنوي في (الطبقات) (١) : كان أنظر من رأيناه من أهل العلم ، ومن أجمعهم للعلوم وأحسنهم كلاماً في الأشياء الدقيقة وأجلهم على ذلك ، وكان في غاية الإنصاف والرجوع الى الحق في المباحث ولو على لسان آحاد الطلبة ، مواظباً على وظائف العبادات مراعياً لأرباب الفنون محافظاً على ترتيب الأيتام في وظائف آبائهم.

وقال شيخنا العراقي : طلب الحديث في سنة ٧٠٣ ثمّ انتصب للإقراء وتفقّه به جماعة من الأئمة ، وانتشر صيته وتواليفه ، ولم يخلف بعده مثله.

ومن ماجرياته : أنه بحث مع ابن الكناني فنقل عن الشيخ أبي إسحاق شيئاً في الاصول فلما رجع بعث إليه قاصداً يقول له : المسألة التي ذكرها ، ما هي في (اللمع)! فكتب إليه :

سمعتُ بإنكار ما قلته

عن الشيخ إذ لم يكن في اللمعْ

ونقلي لذلك من شرحه

وخير خصال الفقيه الورع

لو وقفتَ على شرح اللمع ما أنكرت النقل فانظر فيه فإنه كتاب مفيد.

فلما وقف ابن الكناني على الجواب تألّم تألماً كثيراً ، وكان أسنَّ من السبكي بكثير ، لكن تقدّم السبكي واشتهر ، واستمرّ هو على حالة واحدة.

ولذا كان ابن عدلان وابن الانصاري يمتعضان من السبكي لكونهما أسنّ منه وتقدّم عليهما (٢).

ترجمة المؤلّف بقلم ابن كثير الدمشقي المؤرّخ المفسّر

علي بن عبد الكافي بن علي بن تمام بن يوسف بن موسى بن تمام ، الإمام

__________________

(١) طبقات الشافعية للاسنوي ص ٧٥ رقم ٦٦٦.

(٢) الدرر الكامنة في المائة الثامنة ٣ / ٦٣.

العلامة أبو الحسن السبكي الشافعي قاضي دمشق.

ولد سنة (ثلاث وثمانين وستمائة) وبرع في الفقه والأصول والعربية وأنواع العلوم ، وقرأ القراءات على الصائغ ، وسمع الشاطبية والرائية من سبط زيادة ، وقدم دمشق قاضياً سنة (تسع وثلاثين وسبعمائة) قرأ عليه القراءات محمد بن يعقوب المقدسي وأحمد بن الغزي الشهير بالشريف الحسيني ، انتهت إليه رئاسة العلم في وقته ، وله كلام في صحّة القراءات العشر والردّ على من طعن فيها أبان فيه عن تحقيق وحسن اطلاع. تُوفّيَ سنة (سبع وخمسين وسبعمائة) بمصر (١).

٨ ـ مصادر ترجمته :

١ ـ الدرر الكامنة في المائة الثامنة لابن حجر ٣ / ٦٣ وقد أوردناها بتصرّف ، في ما تقدّم.

٢ ـ فهرس الفهارس والأثبات للكتاني ص ١٠٢٣ ـ ١٠٣٧ رقم ٥٨٥.

٣ ـ الأعلام للزركلي الوهّابي ٤ / ٣٠٢.

٤ ـ البداية والنهاية لابن كثير ١٤ / ٢٥٣ وقد أوردناها في مواضع متفرّقة من هذا الجزء بمناسبات مختلفة.

٥ ـ طبقات الشافعية ، لولده عبد الوهاب تاج الدين ١٠ / ١٣٩ ـ ٢٢٦ وفي طبعة الحسينية ٦ / ١٤٦ وقد استفدنا منها كثيراً.

٦ ـ حسن المحاضرة ١ / ١٧٧.

٧ ـ غاية النهاية ١ / ٥٥.

٨ ـ الدارس في المدارس ١ / ٤ / ١٣٤

٩ ـ قضاة دمشق لابن طولون ص ١٠١.

__________________

(١) البداية والنهاية ١ / ٥٥١.

١٠ ـ البدر الطالع ١ / ٤٦٧ ـ ٤١٩.

١١ ـ طبقات الشافعية لابن قاضي شهبة ٣ / ٣٧ ـ ٤٢ رقم ٦٠٣.

١٢ ـ طبقات الشافعية ، للاسنوي ص ٧٥ رقم ٦٦٦. وقد ذكرها ابن حجر في الدرر وأثبتناها معه.

١٣ ـ النجوم الزاهرة ١٠ / ٣١٨.

١٤ ـ ذيل تذكرة الحفاظ للسيوطي ص ٣٥٢.

١٥ ـ بغية الوعاة للسيوطي ٣٤٢.

١٦ ـ شذرات الذهب لابن العماد ٦ / ١٨٠.

١٧ ـ مفتاح السعادة ٢ / ٢٢١.

١٨ ـ هدية العارفين ١ / ٧٢٠.

١٩ ـ مقدّمة (فتاوى السبكي) طبعة مصر ، أعادته دار المعرفة ـ بيروت.

٢٠ ـ بروكلمان ٢ / ٨٦ وذيله ٢ / ١٠٢.

٢١ ـ معجم المؤلّفين لكحالة ٧ / ١٢٧.

٢٢ ـ وقد أفرد ولده عبد الوهاب صاحب الطبقات ، ترجمةً خاصة لوالده ، ونسخة منها باسم (ترجمة تقي الدين السبكي) في دار الكتب المصرية رقم ١٦٣٤ وصورتها في معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية رقم (١٤٩٤ تاريخ) كتبت سنة ٧٦٤ وعليها خط المؤلّف.

٢٣ ـ وخصّص تراجم آل السبكي ، الاستاذ محمد الصادق حسين في كتاب (البيتُ السبكي) طبع بدار الكاتب المصري عام ١٩٤٨ م.

الكتاب

١ ـ الردّ على ابن تيميّة في منع الزيارة.

٢ ـ شفاءُ السقام في نظر الأعلام.

٣ ـ من هو ابن عبد الهادي صاحب الصارم المنكي.

٤ ـ أهم ما في كتاب الصارم المنكي.

٥ ـ الصارم المنكي في نظر العلماء.

٦ ـ قاموس شتائم ابن عبد الهادي.

٧ ـ نصيحة للمغترين بالسلفية في عصرنا.

٨ ـ محتوى الكتاب ومادّته.

٩ ـ عملنا في الكتاب.

١ ـ الرد على ابن تيمية في منع الزيارة :

قال ابن فضل الله العمري ، في ترجمة السبكي :

إمام ناضَحَ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنضاله ، وجاهد بجداله ، ولم يلطّخ بالدماء حدّ نصاله ، حمى جناب النبوّة الشريف ، وبقيامه في نصره ، وتسديد سهامه للذبّ عنه من كنانة مصره ، فلم يُخْطِ على بُعد الديار سهمه الراشق ، ولم يُخْفِ مسامّ تلك الدسائس فهمه الناشق ... قام حين خُلّطَ على ابن تيمية الأمر ، وسَوَّلَ له قرينه الخوض في ضحضاح ذلك الجمر ، حين سَدَّ باب الوسيلة ... وأنكر شدّ الرحل لمجرّد الزيارة.

إلى أن يقول : كيف يُزار المسجد ، ويُجفى صاحبه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو يخفيه الإبهام ، أو تُذاد عنه وهي تتراشق إليه كالسهام؟

ولولاه عليه الصلاة والسلام ، لما عرف تفضيل ذلك المسجد؟ ولا يمّم إلى ذلك المحلّ تأميل المغير ولا المنجد!؟

ولولاه لما قدّس الوادي ، ولا اسّس على التقوى مسجد ذلك النادي؟!

شكر الله له ، قام في لزوم ما انعقد عليه الإجماع ، وبعد الظهور بمخالفته على

الأطماع.

وردّ القرن وهو ألدّ خصيم ، وشدّ عليه وهو يشدّ على غير هزيم ، وقابله وهو الشمس تغشي الأبصار ، وقاتله ـ وكم جهد ـ ما يثبت البطلُ لعليّ وفي يده ذو الفَقار.

إلى أن يقول : وانجلت غياهب ذلك العِثْبَر : تبرق فيه صفحات الحق السويّ ، والحظّ السعيد النبويّ ، والنصر المحمّدي إلّا أنّه بالفتوح العَلويّ ، بجهادٍ أيّد صاحب الشريعة وآزره ، وردّ على من سدّ باب الذريعة وخذل ناصره (١).

وقال ولده في الطبقات : ثمّ حجّ في سنة ستّ عشرة [وسبعمائة] وزار قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعاد ، وألقى عصا السفر واستقرّ وانتهت إليه رئاسة المذهب بمصر ...

وفي هذه المدّة ردّ على الشيخ أبي العباس ابن تيمية في مسألتي الطلاق والزيارة (٢).

وذكر في الطبقات : ومما أورده ابن فضل الله [العمري] عنه في التاريخ :

في كلّ وادٍ بليلى والِهٌ شغِفٌ

ما إن تزالُ به من مسّها وصبُ

ففي بني عامِر من حبّها دَنِفٌ

ولابن تيميّةٍ من عهدها سَغَب

وكان قد قالهما وقد وجد إكثار ابن تيمية من ذكر ليلى وتمنّيها ، وأراد بعهد ليلى ـ ظاهراً ـ ما هوله ، وباطناً يمينها ، واليمين : العهد (٣).

ونقل ابنه : صحّ من طرق شتّى عن الشيخ تقيّ الدين ابن تيمية : أنّه كان لا يعظّم أحداً من أهل العصر كتعظيمه له ، وأنّه كان كثير الثناء على تصنيفه في الردّ عليه (٤).

__________________

(١) العمري في مسالك الأبصار ، لاحظ طبقات السبكي ١٠ / ١٤٩ ـ ١٥١.

(٢) الطبقات للسبكي ١٠ / ١٦٧.

(٣) الطبقات للسبكي ١٠ / ١٨٠.

(٤) الطبقات للسبكي ١٠ / ١٩٤.

وقد ردّ الإمام السبكي على الفكر التيميّ ، بكتب :

١ ـ الدرّة المضيئة.

٢ ـ شفاء السقام (وهو كتابنا الذي نتحدث عنه بتفصيل).

٣ ـ السيف الصقيل في الردّ على ابن زفيل ـ وهو ابن قيم الجوزية مقلد ابن تيمية ـ.

٤ ـ التحقيق في مسألة التعليق ، وهو الردّ الكبير على ابن تيمية في مسألة الطلاق.

٥ ـ رافع الشقاق في مسألة الطلاق ، وهو الردّ الصغير عليه.

٦ ـ الاعتبار ببقاء الجنّة والنار.

٧ ـ النظر المحقّق في الحلف بالطلاق المعلق ، طبع في الفتاوى ٢ / ٣٠٩.

وسيأتي التفصيل في ذكر مؤلّفاته.

ويظهر من طبقات السبكي أن ابن تيميّة كتب كتاباً ردّاً على ما كتبه الشيخ عليه في مسألة الطلاق (١) ولكنه لم يطق أن يردّ عليه في مسألة الزيارة ، بل كانَ يعظّمه ـ مع ان ابن تيميّة كان جَسُوراً يعتدي على جميع علماء عصره ، بل السابقين ـ إلّا أنّه كان يقرّ بفضل الإمام السبكي ، ويُعجبه ما كتبه في (شفاء السقام) ردّاً عليه في مسألة الزيارة ، مع أنّه ردّ بعنف على الإمام الاخنائيّ المالكي ، كما ستعرف.

ولاحظ بقيّة الحديث عن موقفه من ابن تيمية في عنوان : «محتوى الكتاب» في هذه المقدّمة.

٢ ـ شفاء السقام في نظر الأعلام :

قال الحافظ أبو زرعة العراقي ، وهو بصدد الكلام على المسائل التي انفرد ابن

__________________

(١) طبقات السبكي ١٠ / ١٩٥.

تيمية بها : وما أبشع مسألتي ابن تيمية في الطلاق والزيارة وقد ردّ عليه فيهما معاً : الشيخ تقي الدين السبكي ، وأفرد ذلك بالتصنيف فأجاد وأحسن (١).

وقال : وللشيخ تقي الدين ابن تيمية كلام بَشِعٌ يتضمّن منع شدّ الرحل للزيارة ، وأنه ليس من القُرب بل بضدّ ذلك ، وردّ عليه الشيخ تقي الدين السبكي في «شفاء السقام» فشفى صدور قومٍ مؤمنين (٢).

وأنشد الصلاح الصفدي ـ الذي قرأ الشفاء على مؤلّفه (٣) ـ في مدح الكتاب :

لقول ابن تيميةٍ زخرُفٌ

أتى في زيارة خير الأنامْ

فجاءت نفوس الورى تشتكي

إلى خير حَبْرٍ وأزكى إمامْ

فصنّفَ هذا ، وداواهُم

فكان يقيناً «شفاءَ السقام» (٤)

وقال الإمام ابن حجر المكّي في الفتاوى الحديثيّة ، ما نصّه : ابن تيمية عبدٌ خَذله الله وأضلّه وأعماه وأصمّه وأذلّه ، وبذلك صرّح الأئمّة الذين بيّنوا فساد أحواله ، وكذب أقواله ، ومن أراد ذلك فعليه بمطالعة كلام الإمام المجتهد المتفق على إمامته وبلاغه رتبة الاجتهاد أبي الحسن السبكي ، وولده التاج (٥).

قال الإمام محمد بخيت المطيعي شيخ الإسلام : ولما تظاهر قوم في هذا العصر بتقليد ابن تيمية في عقائده الكاسدة وتعضيد أقواله الفاسدة ... وجدنا كتاب الإمام الجليل والمجتهد الكبير تقي الدين أبي الحسن السبكي آتياً على ما قاله ابن تيمية ، مقوّضاً لبنيانه ،

__________________

(١) الأجوبة المرضيّة عن الأسئلة المكية ص ٩٦ ـ ٩٨.

(٢) طرح التثريب ٦ / ٤٣.

(٣) لاحظ طبقات الشافعية للسبكي ١٠.

(٤) الوافي بالوفيات ٢١ / ٢٥٦.

(٥) الفتاوى الحديثيّة ، لابن حجر المكّي الهيتميّ صاحب الصواعق.

مزعزعاً لأركانه ، ماحياً لآثاره ، ماحقاً لأباطيله ، مظهراً لفساده ، مبيّناً لعناده (١).

وقال العلامة المعاصر المحمود السعيد الممدوح :

إن كتاب «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» الذي دبجتْهُ يراعة الإمام التقيّ السبكيّ : أنفسُ كتابٍ صُنِّفَ في هذا الباب ، جمع فيه مؤلّفه بين النقل والعقل.

وزاد أبواباً في غاية الأهميّة ، كالتوسّل ، وحياة الأنبياء ، والشفاعة ، وغير ذلك.

وكان عفَّ اللسان ، قويّ الحجّة ، ناصع البرهان :

وقد حقّق الأقوال في مسألة الزيارة وغيرها من مباحث الكتاب تحقيقاً ما عليه مزيد (٢). إلّا أنّ ابن عبد الهادي تصدّى للردّ على هذا الكتاب ومؤلّفه؟! في كتاب باسم «الصارم المنكي»؟

٣ ـ من هو ابن عبد الهادي صاحب الصارم المنكي :

هو ، محمد بن أحمد بن عبد الهادي من آل قدامة الحنابلة ، الدمشقيين : ولد ٧٠٤ ومات ٧٤٤.

ترجمه القليلون ، وبالغ في ترجمته الحنابلة والشاميون المتعصبون كابن رجب فقال : «المقرئ الفقيه ، المحدث الحافظ ، الناقد ، النحوي ، المتفنّن ...».

وأكثر فيه ابن كثير الشامي في تاريخه سنة ٧٤٤ (١٤ / ٢٤٤) وأطراه وقال : «... كان مستقيماً على طريقة السلف! واتباع الكتاب والسنة ...» يعني طريقة ابن تيمية وحزبه.

وذكره أبو المحاسن والذهبي وابن حجر والسيوطي ، وقال : أحد الأذكياء ، مهر في الحديث والاصول والعربية.

__________________

(١) تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد للمطيعي (ص ١٣) ط مصر.

(٢) رفع المنارة ص ١٣.

وقال الصفدي : «لو عاش كان آية ، كنت إذا لقيتُه سألته عن مسائل أدبيّة وفوائد عربيّة ، فينحدر كالسيل ...».

وذكروا له من المؤلّفات :

العقود الدريّة في ترجمة ابن تيميّة ، مطبوع.

والصارم المنكي ، رآه ابن حجر ، وذكر عنه في لسان الميزان ١ / ٢٠ وفي ط. الهندية ١ / ١٤ قاعدة ابن حبان في التعديل ، وقال : «وقد تصرّف في عبارة ابن حبّان».

واتفقوا على ذكائه ومعرفته بطرق الحديث وحفظه لأسماء الرجال.

واهتمّ سلفية عصرنا بطبع الصارم ، فله طبعة بتحقيق إسماعيل الأنصاري. وطبعة بمؤسسة الرّيان ـ بيروت عام ١٤١٢ ه‍ بعمل عقيل اليماني ، وهي التي اعتمدناها هنا.

٤ ـ أهم ما في كتاب الصارم المنكي؟!

وبعد ما عرفنا شخصيّة ابن عبد الهادي ، فلنحط بأهمّ ما احتواه كتابه حتى نعرف مدى مقولة سُفلية العصر من أنّه أهمّ كتابٍ في باب الدفاع عن آرائهم حول منع زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والردّ على شفاء السقام للإمام ، فنقول : أهمّ ما في عمل ابن عبد الهادي أنه :

أولاً : يُحاول إقناع القُرّاء بأنّ «ابن تيميّة لا يمنعُ من أصل زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يقول باستحبابها ، وبأن قبره أفضل القبور ، وإنّما ابن تيمية يمنع فقط من شدّ الرحال إلى زيارة القبر النبويّ الشريف».

ويؤكّد على : «أنّ نسبة الإمام السبكيّ إلى ابن تيميّة بأنّه يمنع زيارة المصطفى عليه‌السلام ، غير صحيحة».

ولذلك يحاول في (الصارم) إيراد عبارات طويلة ومكررة ينقلها عن مؤلّفات ابن تيميّة ، ليثبت هذه المحاولة.

لكنّا :

١ ـ نجد نفس تلك العبارات التي نقلها ابن عبد الهادي ، مليئة بجمل صريحة في أن ابن تيميّة يعتقد أن : زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ممكنة ، لأنّ القبر غير ظاهر ، ولأنّ الصحابة لم ينقل عن أحدهم القيام بزيارة القبر ، ولأنّ زيارة القبر ممنوعة منهيٌّ عنها لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «لا تجعلوا قبري عيداً» وحتى شكك في استعمال لفظ الزيارة ، وقال مرادهم «السلام».

ولأن ذلك من فعل المشركين والنصارى وعبادة للقبر.

وأمثال هذه التعليلات ، منثورة في كلماته التي نقلها عبد الهادي نفسه.

ومع ذلك كلّه : فإنّ عبد الهادي يدّعي ـ بكل وقاحة ـ أن ابن تيميّة لا يمنع الزيارة؟

واللطيف : أن ابن تيميّة حينما يجد في عبارة الفقهاء وإجماعهم على استحباب «زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» يقول : المراد زيارة مسجده.

ومع هذا : فإنّ عبد الهادي يقول : لا يمنع من أصل الزيارة!!

وأمّا نسبة الإمام السبكي فتوى المنع إلى ابن تيميّة :

فهي ليست منفردة ولا محصورة بالإمام ، بل كلّ من تعرّض للمسألة نسب إلى ابن تيميّة هذا القول البشع ، فانظر :

* إبراز الغيّ للإمام أبي الحسنات اللكهنوي.

* رفع المنارة للشيخ محمود ممدوح ص ٩٢.

* دفع شُبَه التشبيه للإمام الحصني.

ثانياً : يحاول ابن عبد الهادي ـ تبعاً لابن تيمية نفي كل نصّ يحتوي على لفظ

«الزيارة لقبر النبيّ» ويُناقش في أسانيد جميع الأحاديث والروايات ، حتى يصل إلى النتيجة التي يؤكّد عليها ابن تيمية : إنّها مكذوبة بل موضوعة.

وهذا الادّعاء ، لا بدّ أنّ يحكم فيه صيارفة نقد الحديث وجهابذة علم الجرح والتعديل ، وقد حكموا بأنّ في أحاديث الزيارة المقدّسة ما هو صحيح وحسن ، أيضاً ، وإن كان فيها ما قيل فيه إنه من «قسم الضعيف» إلّا أنّ من «الضعيف» ما يُعمل به ، خصوصاً في المسائل والأحكام الفرعية العمليّة ، والتي عمل الزيارة منها بلا ريب ، وقد عمل بذلك المحدّثون والفقهاء والاصوليون.

فما هذه المخالفات لهم منكم؟!

ثالثاً : يُحاول ـ تبعاً لابن تيمية ـ تعميم النهي في حديث : «لا تجعلوا قبري عيداً ولا تتخذوه وثناً ...» ليكون شاملاً لما يفعله المسلمون الموحّدون عند قبره الشريف من السلام والدعاء والتكريم والتعظيم ، ناسباً جميع أفعال المؤمنين عند القبر إلى الشرك وعبادة القبر ، وما إلى ذلك من الألفاظ المهولة!

ومن الواضح لدى كل مسلم يزور قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه ممتلئ بالإيمان بالله ورسوله ، والحبّ لهما ، ولا يدعوه إلى المجيء إلى ذلك القبر إلّا محض التوحيد والإيمان ، وامتلائه بالعقيدة الراسخة.

ورابعاً : حديث «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة ...» وهو عمدة ابن تيميّة وحزبه في منع الحجّاج القاصدين بعد أداء حجّهم إلى زيارة قبر نبيّهم ، وإزعاجهم في مقام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعند المقصورة الشريفة بالضرب واللعن والتشريك والتكفير والدفش ، والتهديد.

بدعوى : أنّ الحديث يدلّ على حرمة قصد زيارة القبر لمن يسكن بعيداً عنه من البلاد النائية.

وقد انهالت الاعتراضات الإسلاميّة من المذاهب الفقهيّة ، وعلى مستويات

أهل العلم والفكر من المسلمين على هذه الفتوى البشعة «منع السفر إلى مرقد الرسول» منذ طلوع نباتها الخبيث من رأس الشيطان في القرن الثامن أعني شيخ حرّان ، الممتلئ بمعاداة هذه الشعائر الإسلاميّة التي تدلّ على عظمة الرسول ومقامه في قلوب المؤمنين برسالته.

وكثرت المؤلّفات في عصر مبتدع تلك الفتوى ابن تيميّة وإلى يومنا هذا ، في الردّ عليها وتفنيدها وتزييفها ، وقد بلغت المئات ، وجمعناها في كتاب (معجم المؤلّفات الإسلاميّة في الردّ على بدع ودعاوى السلفيّة والوهابيّة).

وكتاب «شفاء السقام» للإمام التقيّ السبكيّ ، هو من أهم وأقدم ما ردّ عليه في عصره.

وقد عجز ابن تيميّة من الإجابة عمّا فيه ، بل كان يعظّم الإمام السبكي ويُعجبه كلامه في «شفاء السقام».

وابن عبد الهادي جرو ابن تيميّة ، حاول ـ عبثاً ـ في الصارم المنكي ـ من مواجهة الحجج والأدلة العلمية الواردة في شفاء السقام ، لكنّه أخفق! ولم يأت بطائل ، بل قد أصبح ما ألّفه وكتبه في (الصارم المنكي) محلّا لنقد العُلماء ، وتصدّوا له بالردّ والتنكيل ، كما ستقرأ في الفقرة التالية.

٥ ـ «الصارم المنكي» في نظر العلماء :

قال العلامة الكتاني في ترجمة ابن تيميّة ، وقوله بالمنع من زيارة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسافر إليها : انتدب للكلام معه فيها جماعة من الأئمة الأعلام ، فوّقوا إليه بها السهام : كالشيخ تقي الدين السبكي ، والكمال ابن الزملكاني ، وناهيك بهما؟

وتصدّى للرد على السبكي : ابنُ عبد الهادي الحنبلي ولكنّه : ينقل الجرح

ويغفل عن التعديل ، وسلك سبيل العُنف ، والتشديد!؟

وقد ردّ عليه ، وانتصر للسبكي ، جماعة (١).

وقال العلامة المحدّث السيّد عبد العزيز ابن الصدّيق الغماري :

ابن عبد الهادي : سلك في الكتاب (/ الصارم) مسلك الإفراط الخارج عن قواعد أهل الحديث ، فيجبُ الحذر منه (٢).

زيادةً على سوء الأدب في التعبير مع التقيّ السبكيّ ، الحافظ ، الفاقة ، وإتيانه في حقّه بما لا يليق بأهل العلم سلوكه.

يُضاف إلى ذلك ما أتى به من القول الفاسد والرأي الباطل ، والخروج عن سبيل السلف في ذلك! وإن زعم أنه ينصر عقيدتهم؟!

ويكفيك من ذلك : أنّه ذكر الخلاف في مسألة النزول «هل يخلو العرش من الرحمن»! عند نزوله في ثلث الليل؟ أو لا؟ (٣)

وهذا مما لا ينبغي (٤) أن يذْكره في كتابٍ ، إلّا بليد لا يفقه ، ولا يدري ما يخرج من رأسه!

وأين يوجد عن السلف هذا التشبيه؟ حتى يُبنى عليه الخلاف في «خلوّ العرش» أو عدم خلوه؟

وهذا مما ينتقده أهل العلم على كثير من بُلداء أهل الحديث ، كما هو معلوم (٥).

__________________

(١) فهرس الفهارس ص ٢٧٧.

(٢) لكنه لم يرد في (كتب حذّر منها العلماء) للسلفيّ المغمور! بل هو مما يرغّب فيه السلفية!؟

(٣) انظر هذه السخافة في الصارم المنكي ص ٢٣٠ وقبلها وبعدها ما لا يقل سخافةً.

(٤) بل : لا يجوز ، ويحرم البتّةَ ، والاستثناء التالي منقطع ، فإن هذا لا ينبغي أن يُدعى كتاباً ، وهو بهذه الدرجة من السقوط! كما هو أكثر مؤلّفات السلفية المعاصرين.

(٥) راجع : التهاني في التعقّب على الصغاني ، لابن الصدّيق ص ٤٢.

وقال العلامة المعاصر المحدّث الشيخ محمود سعيد ممدوح : بعد النظر في «الصارم المنكي» رأيتُ الهول فيه ، فتراه :

١ ـ يتعنّت أشدّ التعنُّت في ردّ الأحاديث.

٢ ـ تطويله للكلام يخرجه عن المقصود إلى اللغو والحشو مع التكرار المملّ.

٣ ـ يذكر أبحاثاً خارجة عن المقصود.

٤ ـ يُطيل الكتاب جدّاً ، ولو اختصر بحذف الخارج ، لجاء في جزء صغير.

٥ ـ أما تهجّمه على الإمام المجتهد التقيّ السبكيّ ، فحدِّثْ ولا حرج!؟ (١)

٦ ـ وأحياناً يأتي بتعليلات للأحاديث ، خارجة على قواعد الحديث.

٧ ـ وقد أكثر في كتابه من الدعاوى على التقيّ السبكي ، من غير برهان ، وعند المحاققة نجد الحقّ مع الإمام المجتهد السبكي (٢).

٨ ـ يجزم الواقف عليه بأن عبد الهادي قد ظلمه بصارمه ولم يُجِبْ على كثير من مباحثه (٣).

وقال المعلّق على ذيل تذكرة الحفّاظ ص ٣٥٢ عند ذكر الصارم المنكي لابن عبد الهادي : ولقد تهوّر فيه لابن تيميّة في شذوذه ، فوقع في أغلاط من حيث الكلام على الأحاديث والاستنباط منها.

«ولم تدخل الهوى شيئاً إلّا أفسدتْهُ».

__________________

(١) اقرأ نماذج من شتائمه في الفقرة التالية : قاموس شتائم ابن عبد الهادي!

(٢) لاحظ : رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسل والزيارة ص ١٠ ـ ١١ ، وهو كتاب نفيس في موضوعه ، واعتنى بالرد على الصارم المنكي ، وحثالة حشوية العصر : بكر أبو زيد ، وعثيمين ، وأضرابهما من أجراء الوهابيّة ، واجَرائهم.

(٣) رفع المنارة ص ١٣.

الردود على الصارم المنكي :

قال العلامة الكتاني :

وقد رد عليه ، وانتصر للسبكي جماعة ، منهم :

١ ـ الإمام عالم الحجاز في القرن الحادي عشر ، الشمس ، محمد بن علي بن علّان ، الصديقي ، المكي ، له : المبرد المبكي في ردّ الصارم المنكي.

٢ ـ ومن أهل عصرنا : البرهان إبراهيم بن عثمان السمنودي المصري سمّاه : نصرة الإمام السبكي بردّ الصارم المنكي.

٣ ـ وكذا الحافظ ابن حجر ، له : الإنارة بطرق حديث الزيارة (١).

وقال الكتاني أيضاً ، في ترجمة أبي الحسنات عبد الحي اللكنهوي الأنصاري الهندي : خاتمة علماء الهند ، وأكثرهم تأليفاً ، وأتمّهم تحريراً واطلاعاً وإنصافاً ، ولد (١٢٦٤ ه‍) وكلامه كلّه جواهر ودرر ، ومات (١٣٠٤ ه‍).

وله في مسألة زيارة القبر النبويّ ، وشدّ الرحال له ، عدّة مصنّفات ، منها :

٤ ـ الكلام المبرم في نقض القول المحكم.

٥ ـ الكلام المبرور في ردّ القول المنصور.

٦ ـ السعي المشكور في ردّ المذهب المأثور.

قال رحمه‌الله : ألّفتها ردّاً لرسائل مَنْ حجّ ولم يزر قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحرم زيارة قبره المعهود في العصور الإسلامية.

وكتبه هذه الثلاثة هي كالردّ على (الصارم المنكي) لابن عبد الهادي الحنبلي الذي قال عنه : راجعته فوجدتُه منقلباً على نحر شيخه.

ودعوى أنه لم يقدر أحدٌ من المخالفين على معارضته! صادرةٌ عن الغفلة! فقد

__________________

(١) فهرس الفهارس ص ٢٧٧.

ردّه على أحسن وجهٍ ابنُ علّان ، ورددتُ كثيراً من مواضعه في (السعيُ المشكور) (١).

٧ ـ وفي عصرنا الحاضر (١٤١٨ ه‍) ردّ عليه الاستاذ المحدّث الواعي الشيخ محمود سعيد ممدوح ، أفضل ردّ وأحسنه في كتابه القيّم «رفع المنارة في تخريج أحاديث التوسّل والزيارة» وقد نقلنا عنه في تعاليقنا ، وهو مطبوع طبعة ثانية في دار الإمام الترمذي ـ القاهرة ١٤١٨ ه‍.

٨ ـ ورددنا عليه ردّاً مركّزاً مفحماً في رسالة «زيارة القبر النبويّ المعظّم» وفّقنا الله لإصدارها.

٦ ـ قاموس شتائم ابن عبد الهادي :

المتتبّع في (الصارم المنكي) لا يجد فيه بعد المناقشات السنديّة المطوّلة ، غير المنقول عن ابن تيميّة في (الجواب الباهر) و (الرد على الأخنائي) كلاماً من ابن عبد الهادي ، غير ما أضافه من الشتائم والسباب.

ولقد تعوّد المدّعون للسلفيّة على التلفظ بألفاظ نابية ضدّ معارضيهم فهم لا يتورّعون من كلّ ما هو قذفٌ وسبٌّ وشتمٌ ، يربأ المسلمُ بنفسه أن يتفوَّهَ به ، ويتعاطاه السلفيّة! ويدّعون مع ذلك اتّباع السنة ، لكن يخالفونها حيث يجدونها تصرّح : «لا تكونوا سبّابين».

وقد أفرط ابن عبد الهادي الحنبلي التيمي ـ من أتباع ابن تيميّة ـ في مواجهة الإمام الورع التقيّ السبكيّ ، بكلّ ما جرى على فمه وخرج من رأسه ، يُحاول بذلك إرضاء نفسه ، لمّا يجدها قاصرة من مواجهة حجج الإمام ومحكم أدلته :

__________________

(١) فهرس الفهارس ص ٧٣٠.

ونحن نورد هنا قائمة ببعض ما أورده في الصارم المنكي ، كي يتّضح ذلك لكلّ مسلم ورعٍ ، ويعرف بذاءة منطق هؤلاء المتمسلفين المدّعين لاتّباع الكتاب والسنة (١) :

ونترك القرّاء ليقارنوا بين هذا وبينما قرءوه في صدر هذه المقدمة ممّا قاله العلماء في الإمام السبكي :

قال ابن عبد الهادي (الصارم ١٣) لكون مؤلّف الكتاب : رجلاً ، ممارياً ، معجباً برأيه ، متّبعاً لهواه ، ذاهباً في كثير ممّا يعتقده إلى الأقوال الشاذّة ، والآراء الساقطة ، صائراً في أشياء مما يعتقده إلى الشبهِ المخيلة والحجج الداحضة وربما خرق الإجماع في مواضع لم يسبق إليها ولم يوافقه أحد من الأئمة عليها!

يقول (ص ١٤) ما حكاه من الافتراء العظيم والإفك المبين والكذب الصراح!

ويقول (الصارم ١٥) : لكنه يُطفّف ويداهن ويقول بلسانه ما ليس في قلبه ... شتمل عليه [الكتاب] من الظلم والعدوان والخطأ والخبط والتخليط والغُلوّ والتشنيع والتلبيس.

ويقول (ص ٢١) متضمّن للتحامل والهوى وسوء الأدب والكلام بلا علم.

وقال (الصارم ص ٤٤) : هذا المعترض المخذول.

وقال (الصارم ص ٦٥) ارتكب امراً يدل على جهله ، أو على أنّه رجلٌ متّبع لهواه.

وقال (الصارم ص ٦٦) : كلام المعترض مشتمل على الوهم والإبهام والخبط

__________________

(١) لاحظ كتاب (قاموس شتائم الألْباني تأليف العلامة الورع السيد حسن السقاف) والألباني واحد من دُعاة السفليّة البذيئة في عصرنا ، ويبدو من اتحاد سيرته مع إمامه ابن تيمية وابن عبد الهادي أنّهم خلقوا من طينة خبيثة واحدة ، نعوذ بالله منها.

والتخليط ـ والتلبيس ... فهو جاهل مخطئ بالإجماع أو معاند صاحب هوى متّبع لهواه ، مقصوده الترويج والتلبيس وخلط الحقّ بالباطل.

ويقول (ص ٧١) : على ما في كلامه من الكذب وسوء الأدب ... من الجور والعدوان والظلم .. مما وقع فيه من التخليط والتلبيس.

(الصارم ٨٧) : كلام المعترض «مزوّق غير محقّق ولا مصدّق ، بل فيه من الوهم والإبهام والتلبيس والخَبط والتخليط ودفع الحقّ وقبول الباطل».

(الصارم ص ٢٨٥) جرأة المعترض وإقدامه على تكذيب ما لم يُحط بعلمه بغير برهان ، بل بمجرد الهوى والتخرّص ، وليس هذا ببدع منه ، فإنّه قد عرف منه مثل ذلك في غير موضع ... بل حمله فرط غلوّه ومتابعته هواه على نسبة أمور عظيمة لا احبّ ذكرها وهكذا عادته ودأبه يكذّب النصوص الثابتة أو يعرض عنها ، ويقبل الأشياء الواهية التي لم تثبت والامور المجملة الخفيّة ويتمسّك بها بكلتا يديه.

ويقول (ص ٢٩٥) صدرت منه عن الفهم الفاسد والهوى المتّبع.

ويقول (٣٣٤) ما تضمنه من الغلوّ والجهل والتكفير بمجرد الهوى وقلّة العلم أفلا يستحي من هذا مبلغ علم أن يرمي أتباع الرسول؟

ويقول (ص ٣٣٤) هذا المعترض وأشباهه من عبّاد القبور!؟

ويقول (ص ٣٤١) في هذا الكلام من التلبيس والتمويه والغلو والتخليط والقول بغير علم!

واعلم أنّ هذا المعترض من أكثر الناس تلبيساً وخلطاً للحقّ بالباطل!

إلى غير ذلك ممّا كاله ابن عبد الهادي وسوّد صحائف أعماله من الشتائم!! على الإمام السبكي الذي وصفوه بأنه «شيخ الإسلام» من أوعية العلم ، كان صادقاً متثبّتاً خيّراً ديّناً متواضعاً ـ وهذا كلّه من كلام الذهبي ـ التقي البرّ العليّ القدر ، جمّ

الفضائل ، حسن الديانة ، صادق اللهجة ، جمع الزهد والورع والعبادة الكثيرة ، ... والشدّة في دينه ، له عدالة الأصل وأصالة القول ... ومكانة الدين والفضل!

أهكذا تسبّه ، وتتجاوز على مقامه! يا ابن عبد الهادي!

٧ ـ نصيحة للمغترين بالسلفيّة في عصرنا :

وبعد معرفتنا بالعيان عظمة الإمام السبكي ، وموقعه المقبول لدى طوائف الأمة من علمائها خاصّة ، ومؤرّخيها عامّة ، حتى أعداءه وخصومه الحنابلة والتيميّة ، لم يجرءوا أن يَنْبِسُوا ـ ضدّهُ ـ ببنت شَفَهْ!

وبعد معرفتنا بما أقدم عليه ابن عبد الهادي الحنبليّ ، في غمط حقّ السبكي ممّا أدى إلى تذمّر العلماء. والفضلاء ، وجميع القرّاء المنصفين ، وذمّهم لطريقته المتعنّتة ، والجافية ، والخاطئة ، فردّوه وانتقدوه ، وقد بتر الله عمره ، لما تجاسر على شيخ الإسلام السبكي وإمام عصره!

نرى من الواضح بطلان ما عليه سُفليّة العصر ، من أَجْراء الوهابيّة واجَرائهم ، من الاغترار بما لفّقه ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) فنجدهم يرفعون عقيرتهم بما فيه ، ويفتخرون به ، كالعِنِّين يفتخر بهن أبيه!

ولكن نحن ندعو العقلاء ، إلى الاعتبار من تاريخ ابن عبد الهادي وما خلّفه بهذا الكتاب (/ الصارم) لنفسه من العار والمذمّة والشنار. كما بتر الله عمره ، لما تجاسر على الحقّ وعلماء عصره ، وخالف المسلمين كافة ، بتوجيه الإهانة إلى زائري مرقد النبيّ الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

ندعوهم أن يعتبروا بذلك ، وأن يتركوا الجدال بالباطل ، والتمادي في الغيّ ، باتّباع الحزب السلفيّ الجاهل.

وأن يعودوا إلى صفّ الامّة الإسلاميّة ، ويتأمّلوا ـ لا بعين السخْط ـ كلمات

علماء الامة الأفاضل.

وأنْ يُقارنوا بأنفسهم ـ لا بإرشاد المطاوعة ، ولا المُتَدكْتِرين السلفية ـ بين الأقوال ، كما جاء في كتابي شفاء السقام ، والصارم!

وأن يلتزموا الورع والتقوى ، في تصرفاتهم وأحكامهم على الكتب وعلى الناس!

فإنّ وراءهم عقبةً كئوداً ، وسوف يُسألون عما كانوا يفعلون ، ويعتقدون.

وفي البرزخ سوف يواجهون منكراً ونكيراً ، ويحاسَبون!

فليتركوا كل فعل وكلمة تؤدّي إلى التفرقة والاختلاف بين المسلمين ، وتشتيت كلمة امة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الموحّدين!

ولا يصدّوا الناس عن زيارة قبر النبيّ المعظم ، ولا يهينوا المؤمنين ، باتهامهم بالشرك والبدعة والشتائم!

فإنّ الله لهم بالمرصاد ، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون!

٨ ـ محتوى الكتاب ومادّته :

رتّب المؤلّف كتابه على عشرة أبواب :

احتوى «الباب الأول» على «الأحاديث الواردة في الزيارة» وفيها لفظ من مادّة الزيارة : زارَ ، زائر ، زيارتي ، فزار ، زارني ، يزرني ، يزر.

وعنون لخمسة عشر حديثاً ، بنصوص مختلفة ، لكنّها كلّها تحتوي على الحثّ على زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يدلّ على زيارة القبر النبويّ المعظم بالخصوص ، بعد وفاته ، أو بالعموم ، أو بالإطلاق.

وقد بحث في كل حديث عن مصادره وسنده وضبط نصّه ، وتوثيق رجاله ، بكلّ دقّة.

حتّى أنّه يُسْند إلى المؤلّفين بطرق السماع أو القراءة المباشرة على مشايخه ، وإلى النسخ ، ويذكر بلاغات القراءة والتحديث ، كل ذلك للتأكد من الضبط والتوثيق.

وهذه الطريقة التي كانت معتمدةً لدى القدماء ، وقلّ مَنْ استخدمها في زمان الإمام السبكي.

والهدف من ذلك التأكّد من صحّة النسخ وضبطها ، لتكون النصوص قابلة للاعتماد في الاستدلال ، بشكلٍ لا يتطرّق إليه الريب ، بخلاف المعتمدين على النسخ الرائجة المبتذلة التي يتلاقفها الورّاقون ، فإن اعتمادها من شأن الصُّحفيين غير الموثوقين.

وبالرغم من جلالة عمل الإمام السبكيّ هذا ، فإنّه لم يَرُقْ ابن عبد الهادي الحنبلي في الصارم (ص ١٦ و ٤٠) فراح يهرّج عليه بقوله : أطال بذكر الأسانيد وتكرارها منه إلى مؤلّفي الكتب كالطبراني والدارقطني وغيرهما ، وحشد فيه بتعداد الطرق إليهم والرواية بالإجازات المركّب بعضها على بعض ... وذكر طباق السماع وأسماء السامعين ، ونحو ذلك مما يكبّر حجم الكتاب ، وليس إلى ذكره كبير حاجة.

نقول : وهكذا تنقلب الأسانيد ، عند الحنبلي إلى «حشد ليس إليه كبير حاجة»؟ مع أنّها أعمدة الحديث ، والدين؟

ولكنّه الهوى يحسّن للسلفية القبيح! ويقبّح الحسن المليح؟!

وهذا الجهد العلمي ، لا يهمّ الصحفيين الذين يهتمون بما يوافق أهواءهم ، أما تصحيح النسخ وضبطها وهي من أهم الامور عند العلماء ، لرفع ما يقع فيها من التصحيف والتحريف والسهو والغلط ، فلا يهتمّ به إلّا الجهابذة الأتقياء المتقنون.

ثمّ إنّ المؤلّف ـ وعلى أساس مما وصلته بالطرق العلمية من النسخ المتقنة ـ يتطرق إلى دلالات الأحاديث ، بشكل علميّ منطقي رائع.

وقد أبدى إعجاب العلماء في دقّته في النقل من المصادر والكتب ، وهو ما

لاحظناه عند تخريجاتنا لمنقولاته ، فوجدنا الأمانة التامة ، والمحافظة على اختلافات الألفاظ حتى في الكلمة الواحدة.

وأما في علم الرجال ، وفقه الحديث ، وفنون العلم الاخرى فهو علّامة نَيْقَد بصير.

وفي «الباب الثاني» أورد الأحاديث الدالة على المراد ، من دون احتوائها على لفظٍ من مادّة «زار».

فذكر ما فيه السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا «الصلاة عليه».

وذكر فصلاً في علم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن يصلّي عليه ، وسماعه سلام مَنْ يسلّم عليه من قرب ، وإبلاغ الملائكة إليه سلام البعيد.

وفي دلالة كلّ ذلك على المراد يورد المناقشات والاحتمالات ، ويبحث بحريّة من دون تعنّت.

وعقد «الباب الثالث» لذكر «ما ورد في السفر إلى زيارته صريحاً وبيان أن ذلك لم يزل قديماً وحديثاً».

فأثبت فيه قيام الصحابة والتابعين ، ومَنْ بعدهم ، بالسفر وشدّ الرحل إلى قبر الرسول الأعظم من دون تحرّج ، بل بكل رغبةٍ وشوق.

رادّاً بذلك على مزعومة ابن تيمية بعدم قيام الصحابة والتابعين ومَنْ يسمّيهم السلف ، بذلك.

وفي «الباب الرابع» : ذكر تقرير الفقهاء للسفر إلى زيارة القبر الشريف.

ناقلاً عن فقهاء جميع المذاهب الأربعة هذا الحكم ، وما ذكروه في كتب مناسك الحجّ من استحباب الزيارة وحكاية الإجماع على ذلك.

وفي هذا الباب ذكر حديث العُتْبي ، وحكاية مالك مع المنصور العبّاسي ، مما هو مشهور ومذكور في المؤلّفات.

ثمّ أورد أقاويل المانعين وما استندوا إليه :

من كراهة مالك للفظ «زيارة القبر وزيارة النبيّ» ونسبة المنع إلى أهل البيت ، وحديث «لا تجعلوا قبري عيداً ...».

وردّ عليها ردّاً قويماً مفحماً.

وفي «الباب الخامس» قرر كون زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة.

واستدلّ على ذلك بالكتاب والسنة والإجماع والقياس.

وذكر أنواع الزيارة وأحكامها ، وزيارة النساء للقبور ، وأخيراً ذكر اجتماع الأغراض الشرعية في زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ ذكر جهة القربة في زيارة القبور ، وانتهى إلى أن زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة ، لحثّ الشرع عليها وترغيبه فيها.

وعقد «الباب السادس» في «كون السفر إلى الزيارة قربة» من وجوه : الكتاب ، والسنة والإجماع ، وأن وسيلة القربة قربة.

وفي الوجه الأخير فصّل البحث عن أن قواعد الشرع معتبرة بالمقاصد ، واستدلّ على ذلك بأبواب كثيرة من الفقه.

ثمّ ذكر الحكم في المقدمة ، والفرق بينها وبين الوسيلة ، واعتبارات السفر في مسألة الزيارة.

وعقد «الباب السابع» لذكر شُبَه الخصم وتتبُّع كلماته ودفع ما فيها من الأوهام ، في فصلين :

الأول في ذكر شُبَهِهِ ودفعها ، وهي :

الاستدلال بحديث «لا تشدّ الرحال» فذكر ألفاظه ومصادره ثمّ ذكر دلالته ومعناه ، ثمّ ذكر محطّ البحث عند الفقهاء في شدّ الرحال إلى المساجد ، وعنوان المسألة في كتب الفقه.

وأورد ذكر فتاوى مُخْتَلَقَةً منسوبة إلى علماء بغداد أنّهم ايّدوا فتوى ابن تيمية بمنع شد الرحال إلى الزيارة الشريفة.

ثمّ إنّ المؤلّف نقل نصّ فتوى لابن تيميّة جاء فيها التصريح بمنع أصل الزيارة للقبر النبوي الشريف ، ولو بغير شدّ رحلٍ ولا سفرٍ.

وأجاب عمّا فيها من الشبه :

والشبهة الثانية : عدم مشروعية أصل الزيارة ، وأنّها من البدع إلى آخر ما ذكره ابن تيمية من عدم فعل الصحابة والتابعين لها.

فردّ عليها المؤلّف بورود التشريع للزيارة بالنصّ الصحيح ، وعدم وجود دليل عند ابن تيمية لما نفاه من فعل الصحابة والتابعين.

والشبهة الثالثة : ربطه بين الزيارة والشرك.

فقد فصّل المؤلّف في ردّ هذا التخيّل ، وأن الزيارة لا ترتبط بالشرك ، ولا يقصد بها سوى التبرّك والتعظيم ، والشرك لا يكون إلّا بالعبادة واتخاذ الندّ والوثن ، وليس شيء من هذا متصوّراً في زيارة القبر النبويّ.

وأما الفصل الثاني فعقده لتتبّع كلماته.

فنقل أولاً نصّ الفتيا الرسمية التي كتبها ابن تيميّة ، ووصلت إلى قضاة المذاهب الأربعة في مصر ، فحاكموه على أساسها وسجنوه من أجلها ، وكتب القضاة أحكامهم عليها.

ثمّ بدأ بالردّ عليها فقرةً ، فقرةً ، بما لم يبق لها قيمة علمية.

ثمّ عقد الباب الثامن في التوسل والاستغاثة والتشفّع بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ذكر جواز التوسّل بالنبيّ ، وأنّه على ثلاثة أنواع :

قبل خلقه ، كتوسّل آدم وعيسى عليهما‌السلام به.

والتوسّل به بعد خلقه ، وذكر حديث الأعمى المتوسّل به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والتوسّل به بعد موته ، كما في حديث عثمان بن حنيف.

ثمّ حديث الاستسقاء بمعنى طلب الدعاء منه.

والتوسّل بعد موته بالشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر الاستغاثة بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعقد الباب التاسع ، لذكر حياة الأنبياء عليهم‌السلام بعد موتهم وفي قبورهم ، في فصول :

الفصل الأوّل : في ما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

الفصل الثاني : في حياة الشهداء.

الفصل الثالث : في سماع سائر الموتى لسلام الأحياء وكلامهم وإدراكهم وحياتهم وعود الروح إلى الجسد في القبر.

الفصل الرابع : الفرق بين الشهداء وغيرهم ، في هذه المسألة.

الفصل الخامس : كيفية حصول السماع ، للميت؟

و «الباب العاشر» خصّصه لمسألة «الشفاعة».

وذكر أنّ وجه تعرّضه لها هو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل حديث ذكر في الكتاب : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وقد أشبع الكلام حولها ، فذكر مصادرها وأحاديثها ، وفصّل في ما تدلّ عليه من أنواعها وعددها ، وذكر شرح الحديث الطويل في التجاء الناس ـ يوم القيامة ـ إلى الأنبياء وتوسّلهم بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعصمة الأنبياء وترتيب الشفاعات ، والمقام المحمود ، كلّ ذلك في فصول.

وختم الكتاب بجمع النصوص المحتوية على الألفاظ المأثورة بالصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأورد (٦٥) نصّاً.

والحقّ أنّ الإمام السبكيّ لم يعرض لبحثٍ فيخرج منه إلّا أشبعه بالدقّة

والتحقيق ، وكما قال الحافظ ابن حجر : «لا تقع له مسألة مشكلة أو مستغربة إلّا ويجمع شتاتها» بأفضل ما يتوقّع! ويُغني القارئ له عمّا سواه.

٩ ـ عملنا في الكتاب :

(١) التحقيق :

قمنا بجمع نسخ الكتاب المطبوعة (١) ، وهي :

١ ـ طبعة مصر الاولى عام (١٣١٨ ه‍) بالمطبعة الكبرى الأميرية ، ببولاق مصر المحميّة ، بالقسم الأدبي.

طبعت بمعرفة الشيخ فرج الله التركي الكردستاني وشركائه. في مجلد يحتوي على :

١ ـ كتاب شفاء السقام في زيارة خير الأنام (كتابنا هذا).

ـ ويليه كتاب : نفحات القرب والاتصال ، بإثبات التصرّف لأولياء الله تعالى ، والكرامات بعد الانتقال. لشيخ الإسلام شهاب الدين أحمد الحسيني الحمويّ.

ـ ويليه أيضاً : رسالة في إثبات كرامات الأولياء للعلامة السجاعي.

ـ ومعها جواب سؤال عن كرامات الأولياء ، للعلامة الشوبري.

ـ وفي مقدمة الكتاب تأليف (تطهير الفؤاد عن دَنَس الاعتقاد) للعلامة محمد بخيت المطيعي.

٢ ـ وطبعة الهند عام ١٤٠٣ ه‍ الطبعة الثالثة ، تحت إدارة السيّد شرف الدين أحمد مدير دائرة المعارف العثمانية وسكرتيرها قاضي المحكمة العليا سابقاً.

__________________

(١) لقد اطّلعنا على وجود نسخ مخطوطة للكتاب ، لكنّا لم نتمكّن من الوقوف عليها ، منها نسخة يكي جامع ١٤ (٢٦٤) بخط المصنّف ، وطوبقبو سراى ٢ / ٢٣٢ ـ ٢٩٦٣ ـ ٣٢٤ ألف ـ ١٦٤ و/ ٧٧٥ ه‍ ، كلاهما في تركيا لاحظ الفهرس الشامل ص ١٠٣٢ رقم ٦٥٤.

بمطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية ، بحيدرآباد الدكن ـ الهند.

(٢) فقمنا بمقارنة النسختين ، وانتخاب الصحيح في المتن ، والإشارة إلى المخالفة في الهامش.

ثمّ التقويم والتقطيع والتنقيط ، حسب أحدث الأساليب العلمية المتداولة.

(٣) وقمنا بالتخريج الواسع للأحاديث والأقوال حسب المصادر والمراجع المذكورة في الأصل ، والمتيسّرة الحصول لنا ، ولو بواسطة الكتب الاخرى.

(٤) لقد راجعنا ما أورده ابن عبد الهادي في (الصارم المنكي) حرفياً من عبارة كتابنا هذا ، ومتابعة ما أورده عليه باسم الردّ ، وإراءة ما زيّفه من النقل ، وما حرّفه من الكلم ، بما يعدّ محاكمة عملية له ، ومقارنة بين الكتابين.

وسيقف المطالع على تحريفات فظيعة قام بها ابن عبد الهادي يَرْبؤُ العالم الورع المتقي لله ، بنفسه أنّ يقوم بها.

(٥) أضفنا على جملة الصلاة والسلام على النبي الأعظم كلمة (وآله) اتّباعاً لسنّته في تعليم الصلاة عليه كما تدل عليه النصوص المنقولة في خاتمة الكتاب ، وابتعاداً عن الصلاة البتراء المنهيّ عنها في بعض الأحاديث.

(٦) وأخيراً وضعنا العناوين المناسبة لمواضيع الكتاب وبحوثه ، بين المعقوفات ، إضافة على ما كتبه المؤلّف للأبواب والفصول ، لتمكين القرّاء من معرفة ما يحتويه الكتاب ، وسهولة الوصول إلى ما فيه.

(٧) نظمنا الفهارس الضرورية للتسهيل على القارئ.

ونحمد الله تبارك وتعالى على التوفيق لإنجاز هذا العمل ، ونسأله الرضا عنّا بفضله وإحسانه ، وأن يُتحفنا بالقبول بمنه وإفضاله ، إنّه ذو الجلال والإكرام.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي منّ علينا برسوله ، وهدانا به إلى سواء سبيله ، وأمرنا بتعظيمه وتكريمه وتبجيله ، وفرض على كلّ مؤمن أن يكون أحبّ إليه من نفسه وأبويه وخليله ، وجعل اتّباعه سبباً لمحبّة الله وتفضيله ، ونصب طاعته عاصمة من كيد الشيطان وتضليله ، ويغني عن جملة القول وتفصيله ، رفعُ ذكره وما أثنى عليه في محكم الكتاب وتنزيله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم صلاة دائمة بدوام طلوع النجم وافوله.

أمّا بعد ، فهذا كتاب سمّيته «شفاء السقام في زيارة خير الأنام» ورتّبته على عشرة أبواب :

الأوّل : في الأحاديث الواردة في الزيارة.

الثاني : في الأحاديث الدالّة على ذلك وإن لم يكن فيها لفظ «الزيارة».

الثالث : فيما ورد في السفر إليها.

الرابع : في نصوص العلماء على استحبابها.

الخامس : في تقرير كونها قربة.

السادس : في كون السفر إليها قربة.

السابع : في دفع شُبَه الخصم وتتبّع كلماته.

الثامن : في التوسّل والاستغاثة.

التاسع : في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

العاشر : في الشفاعة ؛ لتعلّقها بقوله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وضمّنت هذا الكتاب الردّ على من زعم : أنّ أحاديث الزيارة كلّها موضوعة؟! (١) وأنّ السفر إليها بدعة غير مشروعة؟!

وهذه المقالة أظهر فساداً من أن يردّ العلماء عليها ، ولكنّي جعلت هذا الكتاب مستقلّاً في الزيارة وما يتعلّق بها ، مشتملاً من ذلك على جملة يعزّ جمعها

__________________

(١) أوّل من ابتدع هذا القول ، واجترأ على الحكم بالوضع على أحاديث الزيارة ، هو أحمد بن عبد الحليم المعروف بابن تيمية الحرّاني ، وسيأتي نقل كلامه ص ١٠٩ ، ولاحظ : العقود الدريّة ص ٣٣٦ ، ومجموع فتاوى ابن تيمية ٢٧ / ١٨٩ قال بحروفه : «وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فكلّها ضعيفة! ، باتفاق أهل العلم بالحديث!! بل هي موضوعة!!!

لم يرو أحد من أهل السنن المعتمدة شيئاً منها ، ولم يحتج أحدٌ من الأئمة بشيء منها!!!» انتهى كلامه.

وكلّها دعاوى باطلة وكذب على أهل الحديث والأئمة وأهل السنن ، كما سيتّضح لك في هذا الكتاب ، فراجع (ص ٧٩ ـ ٨٠) ، وراجع الباب (٧) منه خاصة.

وكذلك عمل جروه ابن عبد الهادي فقال : وجميع الأحاديث التي ذكرها ... في هذا الباب ليس فيها حديث صحيح بل كلّها ضعيفة واهية ، وقد بلغ الضعف ببعضها!! إلى أن حكم عليه الأئمة الحفاظ بالوضع! كما أشار إليه شيخ الإسلام! الصارم المنكي ص ٢١.

وقد بدا تحريفه في كلمة (بعضها) مع أن شيخ إسلامه ابن تيمية أظهر الحكم فيها كلّها بقوله : «بل هي موضوعة!!».

وقد غفل ابن عبد الهادي عن هذه الحيلة ، وعادَ ، وصرّح كشيخه ـ بانّها كلها موضوعة في الصارم ص ١١٤ فظهر بذلك دَجَلُهُ وسوء صنيعه!

وكتب السيّد

على طالبها.

وكنت سمّيت هذا الكتاب «شنّ الغارة على من أنكر سفر الزيارة» ثمّ اخترت التسمية المتقدّمة.

واستعنت بالله تعالى ، وتوكّلت عليه ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

الباب الأوّل

في

الأحاديث الواردة في الزيارة نصّاً

الحديث الأول : «من زار قبري وجبت له شفاعتي»

رواه الدارقطنيّ والبيهقيّ وغيرهما :

أخبرنا الحافظ أبو محمّد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن شرف بن الخضر بن موسى التونيّ الدمياطيّ رحمة الله تعالى ، بجميع «سنن الدارقطنيّ» سماعاً ، قال : أنا الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقيّ ، أنا ناصر بن محمّد بن أبي الفتح أبو برح القطّان ، أنا أبو الفتح إسماعيل بن الإخشيد السرّاج ، أنا أبو طاهر محمّد بن أحمد بن محمّد بن عبد الرحيم ، أنا أبو الحسن عليّ ابن عمر بن أحمد بن مهديّ الحافظ الدارقطنيّ رحمه‌الله ، قال : حدّثنا القاضي المحاملي ، حدثنا عبيد بن محمّد الورّاق ، حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبيد الله بن عمر (١) ،

__________________

(١) قال الدولابي في الكنى ٢ / ٦٤ في ترجمة عبد الله العمري : حدثنا علي بن معبد بن نوح حدثنا موسى بن هلال قال حدثنا عبد الله بن عمر أبو عبد الرحمن أخو عبيد الله عن نافع عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : من زار قبري وجبت له شفاعتي ، قال : وما بين قبري ومنبري ترعة من ترع الجنة ـ.

عن المولوي محمد حسن الزمان الحيدرآبادي.

عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» (١).

[روايته بتصغير «عبيد الله»]

هكذا في عدّة نسخ معتمدة من «سنن الدارقطنيّ» : «عبيد الله» مصغّراً ، منها نسخة كتبها عنه أحمد بن محمّد بن الحارث الأصفهانيّ ، وعليها طباق كثيرة على ابن عبد الرحيم فمن بعده إلى شيخنا.

وكذلك رواه الدارقطنيّ في غير السنن ، واتفقت روايته على ذلك في السنن وفي غيره من طريق ابن عبد الرحيم ، كما ذكرناه.

ومن طريق محمّد بن عبد الملك بن بشران ، ومن طريق أبي النعمان تراب بن عبيد أيضاً :

فأمّا رواية ابن بشران : فأخبرنا بها عثمان بن محمّد في كتابه إليّ من مكّة

__________________

(١) سنن الدارقطني (٢ / ٢٧٨) ح ١٩٤ كتاب الحجّ وفيه : عُبيد الله بن محمد الورّاق ، ولاحظ شعب الايمان للبيهقي (٣ / ٤٩٠) والدولابي في الكنى (٢ / ٦٤) والخطيب في تلخيص المتشابه (١ / ٥٨١) وغيرهم.

وأورده العقيلي في الضعفاء (٤ / ١٧٠) في ترجمة موسى بن هلال ، وانظر الكامل لابن عدي (٦ / ٢٣٥٠).

وقال ابن حجر في تلخيص الحبير (٧ / ٤١٧) حديثُ «من زار قبري فله الجنّة» رواه الدارقطني بلفظ «من زار قبري وجبت له شفاعتي» ورواه ابن خزيمة في صحيحه وقال : إن صحّ الخبر فإنّ في القلب من إسناده (!) ثمّ رجّح انّه عن رواية (عبد الله) العمري المكبّر الضعيف ، لا المصغّر الثقة ، وصرّح بأن الثقة لا يروي هذا الخبر المنكر!

وقال العقيلي : لا يصح حديث موسى ولا يتابع عليه ، ولا يصحّ في هذا الباب شيء!!

قال ابن حجر : وفي قوله «لا يُتابع عليه» نظر ، فقد رواه الطبراني ... إلى آخر كلام ابن حجر في تلخيص الحبير ، فراجع.

شرّفها الله تعالى قال : أخبرنا الحافظ أبو الحسين يحيى بن عليّ القرشيّ بمصر ، وأبو اليمن بن عساكر بمكّة بقراءتي عليهما ، قالا : أنا أبو البركات الحسن بن محمّد بن الحسن الشافعيّ العدل ـ وهو جدّ أبي اليمن ، بدمشق ـ قال أبو الحسين : بقراءتي عليه ، وقال أبو اليمن : قراءةً عليه ـ قال : أنا عمّي أبو الحسين هبة الله بن الحسن بن هبة الله الفقيه الاصوليّ الحافظ ، أنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر ابن محمّد بن يوسف ، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الملك بن بشران ، أنا أبو الحسن عليّ ابن عمر بن مهديّ الدارقطنيّ الحافظ ، حدثنا القاضي المحامليّ ، حدثنا عبيد الله بن محمّد الورّاق ، حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

هكذا أورده أبو اليمن بن أبي الحسن زيد بن الحسن في كتاب «إتحاف الزائر وإطراف المقيم للسائر (١) في زيارة سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو عندي عليه خطّ مصنّفه ، وقراءة أبي عمرو عثمان بن محمّد التوزريّ لجميعه عليه.

وكذلك أورده الحافظ أبو الحسين القرشيّ في كتاب «الدلائل المتينة (٢) في فضائل المدينة» وقد قرأه عليه التوزريّ أيضاً ، وسمعه أيضاً جماعة من شيوخنا على مصنّفه المذكور رحمه‌الله تعالى.

وأمّا رواية أبي النعمان تراب بن عبيد : فذكرها القاضي أبو الحسن عليّ بن الحسن الخلعيّ في فوائده ، وهي عشرون جزءاً ، قرأت منها بثغر الإسكندريّة سنة أربع وسبعمائة على الشيخ الفاضل المقرئ أبي الحسن (٣) ؛ يحيى بن أبي الفضل أحمد بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الباقي بن الصوّاف : الجزء الأوّل ، والثاني ،

__________________

(١) في (ه) : المسافر.

(٢) في (ه) : المبيّنة.

(٣) في (ه) : الحسين.

وبعضَ الثالث.

وحدّثني بهذا القدر كلمة كلمة ، فإنّه كان قد عمّر وعمي وثقل سمعه ، فصرت أقرأ عليه لفظة ويعيدها ؛ لأتحقّق سماعه ، وناولني جميع الأجزاء الستّة الاولى ، والسادس عشر ، والسابع عشر ، والتاسع عشر ، بسماعه لذلك من ابن عماد سنة عشرين وستمائة.

وقرأت منها بدمشق على المسند أبي عبد الله محمّد بن أبي العزّ بن مشرف بن بيان (١) الأنصاريّ القدرَ الذي يرويه منها باتصال السماع ، وهو من أوّل الجزء الثامن إلى آخرها ، وذلك ثلاثة عشر جزءاً بسماعه من أبي صادق الحسن بن يحيى ابن صباح المخزوميّ المصريّ : أخبرنا ابن رفاعة.

والحديث المذكور في السابع من الفوائد المذكورة.

وأنا به شيخنا ابن الصوّاف المتقدّم ذكره ، والشريف أبو الحسن عليّ بن أحمد ابن عبد المحسن القرافيّ (٢) في كتابيهما إليّ من الثغر ، قالا : أنا أبو عبد الله محمّد بن عماد ابن محمّد الحرّاني ـ قال ابن الصوّاف : بقراءة والدي عليه وأنا أسمع سنة عشرين ، وقال القرافيّ : بقراءة والدي عليه وأنا أسمع عنه ثلاثين وستمائة ـ قال : أنبأنا أبو محمّد عبد الله بن رفاعة بن عدين (٣) السعديّ الفرضيّ.

(ح) وكتب إليّ عثمان بن محمّد من مكّة شرّفها الله تعالى : أنّه قرأ على الحافظ أبي الحسين يحيى بن عليّ القرشيّ في تصنيفه المسمّى «الدلائل المتينة (٤) في فضائل المدينة» قال : أنا القاضي أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن عبد الله بن محمّد الشافعي

__________________

(١) في (ه) : بنان.

(٢) في (ه) : الغرافيّ ، ويأتي في ص ٢٦ : العراقيّ.

(٣) في (ه) : غدين.

(٤) في (ه) : المبيّنة.

بقراءتي عليه بمصر ، وأبو عبد الله محمّد بن أبي المعالي الحرّاني بالإسكندرية قالا : أنا أبو محمّد عبد الله بن أبي الخير الشافعيّ الفرضيّ ، أنا القاضي أبو الحسن عليّ بن الحسن بن الحسين بن محمّد الشافعيّ المعروف ب «الخلعيّ» أنا أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد ، حدثنا أبو الحسن عليّ بن عمر الدارقطني ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل ، قال : حدثنا عبيد بن محمّد الورّاق ، حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبيد الله ابن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وممّن رواها من طريق الخلعيّ الحافظ أبو القاسم ابن عساكر في تأريخه (١) في باب «أنّ من زار قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد وفاته كان كمن زار حضرته في حال حياته» :

أخبرنا بذلك عبد المؤمن بن خلف وعليّ بن محمّد وغيرهما مشافهة ، عن القاضي أبي نصر محمّد بن هبة الله الشيرازيّ قال : أنا الحافظ أبو القاسم ابن عساكر قال : أنا خالي أبو المعالي محمّد بن يحيى القرشيّ القاضي بدمشق ، أنا أبو الحسن الخلعيّ ، أنا تراب بن عمر بن عبيد ، حدثنا أبو الحسن الدارقطنيّ ، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن إسماعيل ، حدثنا عبيد بن محمّد الورّاق ، حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

فقد اتفقت الروايات عن الدارقطنيّ عن المحامليّ على : (عُبيد الله) مصغّراً.

وكذلك رواه غير الدارقطنيّ عن غير المحامليّ عن عبيد بن محمّد :

أنا بذلك عبد المؤمن بن خلف وغيره إذناً ، عن أبي نصر الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو القاسم الشحاميّ ، أنا أبو بكر البيهقيّ ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر

لاحظ مختصر ابن منظور (٢ / ٤٠٦).

أبو الفضل محمّد بن إبراهيم ، حدثنا محمّد بن زنجويه العشيريّ ، حدثنا عبيد بن محمّد بن القاسم بن أبي مريم الورّاق ـ وكان نيسابوريّ الأصل سكن بغداد ـ حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

فقد ثبت عن عبيد بن محمّد روايته على التصغير ، وعبيد بن محمّد ثقة ، قاله الخطيب رحمه‌الله تعالى (١).

[متابعات وشواهد]

ورواه عن موسى بن هلال عن عبيد بن محمّد جماعة :

منهم : جعفر بن محمّد البزوريّ

قال العقيليّ في كتابه : حدثنا محمّد بن عبد الله الحضرميّ ، حدثنا جعفر بن محمّد البزوريّ ، حدثنا موسى بن هلال البصريّ ، عن عبيد الله ، عن نافع ، عن ابن عمر قال :

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي».

هكذا رأيته في نسخة عبيد الله (٢).

ومنهم : محمّد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحمسيّ واختلف عليه

فروي عنه مصغّراً : كما رواه غيره ، أخبرنا بذلك عبد المؤمن وغيره إذناً ، عن أبي نصر ، أنا عليّ بن الحسن الحافظ ، أنا إسماعيل بن محمّد بن الفضل الحافظ ، أنا أحمد بن عليّ بن خلف ، أنا أبو القاسم بن حبيب ، حدّثنا أبو بكر أحمد بن نصر بن نصير (٣) بن بكار البخاريّ ، أنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن عبيد الله ، حدثنا محمّد بن

__________________

(١) تاريخ بغداد (١١ / ٩٧) رقم ٥٧٨٩.

(٢) الضعفاء الكبير للعقيلي (٤ / ١٧٠) ترجمة موسى بن هلال ، وفيه عبد الله.

(٣) في (ه) : نصر.

إسماعيل الأحمسيّ ، عن موسى بن هلال ، عن عبيد الله.

[من رواه بتكبير «عبد الله»]

وروي عنه مكبّراً : أنا بذلك أقسيان (١) بن محفوظ بن محمود بن هلال بقراءتي عليه سنة ستّ وسبعمائة ، أنا أبو سعيد قايماز بن عبد الله المعظميّ ، أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن محمّد السلفي ، أنا أبو سعيد أحمد بن الحسن بن أحمد بن عليّ بن الخصيب الخوانساريّ ، أنا أبو بكر أحمد بن الفضل بن محمّد المقرئ إمام الجامع بأصبهان ، حدثنا أبو بكر محمّد بن الحسن بن يوسف بن يعقوب الإمام ، حدثنا عبيد الله بن محمّد بن عبد الكريم الرازيّ ، حدثنا محمّد بن إسماعيل بن سَمُرة الأحمسيّ ، حدثنا موسى بن هلال العبديّ ، عن عبد الله بن عمر.

هكذا نقلته من خطّ الحافظ أبي محمّد عبد العظيم المنذري رحمه‌الله ، وهكذا قاله أبو أحمد بن عديّ في كتاب «الكامل» (٢) :

كما أنبأنا عبد المؤمن وآخرون ، عن أبي الحسن بن المقير ، عن أبي الكرم بن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيليّ.

(ح) وأنا عبد المؤمن وغيره أيضاً ، عن ابن مميل ، أنا عليّ بن الحسن الدمشقيّ ، أنا أبو القاسم الشحاميّ ، أنا أبو بكر البيهقيّ ، أنا أبو سعيد المالينيّ.

(ح) قال الدمشقيّ : أنا أبو القاسم ابن السمرقنديّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة ، أنا حمزة بن يوسف قالا : أنا أبو أحمد بن عديّ الحافظ ، حدّثنا محمّد بن موسى الحلوانيّ.

(ح) قال الدمشقيّ : وأخبرنا عليّ بن إبراهيم الخطيب ، أنا رشأ بن

__________________

(١) علق في (ه) : التصحيح ممّا سيأتي ، وفي المطبوع السابق : ابن محيل ، وهو خطأ.

(٢) الكامل في الضعفاء لابن عدي (٦ / ٢٣٥٠) ترجمة موسى بن هلال.

لطيف (١) ، أنا الحسن بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن مروان ، حدثنا محمّد بن عبد العزيز الدينوريّ.

قالا : حدثنا محمّد بن إسماعيل بن سَمُرة ، حدثنا موسى بن هلال ، حدثنا عبد الله بن عمر.

وكذلك كتب إليّ عثمان بن محمّد من مكّة شرّفها الله تعالى : أنّه قرأ على الحافظ يحيى بن عليّ : أنا الحافظ عليّ بن المفضّل قراءةً عليه غير مرّة ، والقاضي أبو القاسم حمزة بن عليّ بن عثمان المخزوميّ قالا : أنا الحافظ أبو طاهر السلفيّ.

(ح) وأنبأنا جماعة عن جماعة عنه ، أنا أبو إبراهيم الخليل بن عبد الجبّار ، أنا سليم بن أيّوب ، أنا أحمد بن عبد الله المعدّل بالري ، أنا عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازيّ ، حدثنا محمّد بن إسماعيل الأحمسيّ ، حدثنا موسى بن هلال ، عن عبد الله بن عمر.

ومرّض الحافظ يحيى بن عليّ القرشيّ هذه الرواية ، وذكر أنّ الصواب «عبيد الله» بالتصغير.

ورأيت في «تأريخ ابن عساكر» (٢) بخطّ أبي عبد الله البرزاليّ : المحفوظ عن ابن سَمُرة «عبيد الله».

قال أبو أحمد بن عديّ في كتاب «الكامل» فيما أنبأنا جماعة بالإسناد المتقدم إليه : عبد الله أصحّ (٣).

وفيما قاله نظر.

[رأي المؤلّف بترجيح رواية التصغير]

والذي نرجّح أن يكون «عبيد الله» لتظافر روايات عبيد بن محمد كلّها ،

__________________

(١) في (ه) : لظيف.

(٢) تاريخ ابن عساكر

(٣) الكامل لابن عدي (٦ / ٢٣٥٠) ترجمة موسى بن هلال.

وبعض روايات ابن سَمُرة ، ولما سنذكره من متابعة مسلمة الجهنيّ لموسى بن هلال ، كما سيأتي في الحديث الثالث.

ويحتمل أن يكون الحديث عن عبيد الله وعبد الله جميعاً ، ويكون موسى سمعه منهما ، وتارة حدّث به عن هذا ، وتارة عن هذا.

وممّن رواه عن موسى عن عبد الله : الفضلُ بن سهل ؛ فيما أنا أبو محمد الدمياطيّ وغيره إذناً عن أبي نصر : أنا ابن عساكر أنا أبو سعيد (١) أحمد بن محمّد البغداديّ ، أنا أبو نصر محمّد بن أحمد بن محمّد ، أنا أبو سعيد الصيرفيّ ، أنا أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن أحمد الصفّار ، حدثنا أبو بكر بن أبي الدنيا ، حدثنا الفضل بن سهل ، حدثنا موسى ابن هلال ، حدثنا عبد الله بن عمر.

وهكذا قاله أبو الحسين يحيى بن الحسن الحسينيّ في كتاب «أخبار المدينة» قال : حدثنا رجل من طلبة العلم ، حدثنا الفضل بن سهل ... فذكره.

قال حفيد صاحب الكتاب الحسن بن محمّد بن يحيى في موضع آخر منه : يعني أبا بكر.

وكذلك رواه ابن الجوزيّ في «مثير العزم (٢) الساكن» (٣) ونقلته من خطّه قال : أنبأنا الحريريّ ، أنا الخيّاط ، أنا ابن دُرُست ، حدثنا ابن صفوان ، حدثنا أبو بكر القرشيّ ؛ وهو ابن أبي الدنيا ... فذكره.

وهذه الطريق إن صحّت ، تحمل على أن الحديث عنهما ، كما قدّمناه ، فإنّه لا تنافي في ذلك.

__________________

(١) في (ه) : سعد.

(٢) كذا في كتابنا ، وسيتكرر ذكر هذا الكتاب بهذا الاسم ، وهو المذكور في مؤلفات ابن الجوزي ، وقد ذكره الحصنيّ في (دفع شبه التشبيه ص ١٤٣ و ١٧٠ و ١٨٣ و ١٨٧ و ١٩٣) باسم «مثير الغرام الساكن» فلاحظ.

(٣) مثير العزم الساكن ، لابن الجوزي.

[الاعتماد على رواية «عبد الله»] (١)

على أنّ عبد الله المكبّر روى له مسلم مقروناً بغيره ، وقال أحمد رحمه‌الله : صالح.

وقال أبو حاتم : رأيت أحمد بن حنبل يحسن الثناء عليه (٢).

وقال يحيى بن معين : ليس به بأس ، يكتب حديثه ، وقال : إنّه في نافع : صالح (٣).

وقال ابن عديّ : لا بأس به صدوق (٤).

وقال ابن حبّان : كان ممّن غلب عليه الصلاح حتّى غلب عن ضبط الأخبار

__________________

(١) يلاحظ أن ابن عبد الهادي في ردّه على المؤلّف في سند هذا الحديث ضعّفه ، نظراً إلى ما قاله الجارحون ، ولم يُعر اهتماماً لما ذكره هؤلاء الأعلام : أحمد ، وابن معين ، وابن حبان وحتى ابن عدي! قال الاستاد العلّامة محمود سعيد ممدوح في (رفع المنارة ص ٧٩. لاحظ ص ٣١٤) : بعد النظر في الصارم المنكي رأيت الهَوْل ، فتراه يتعنّت أشدّ التعنّت في ردّ الأحاديث عند كلامه على الرجل ، ويطوّل الكلام جدّاً ، ناقلاً ما يراه يؤيّد رأيه ـ وهو الجرح! ـ ولا يذكر من التعديل إلّا ما يوافقه!! كما فعل مع عبد الله بن عمر العمري ، وقال ممدوح : فالعمري حسن الحديث كما قال غير واحدٍ من الأئمة وهذا ابن عبد الهادي الذي أقام الدنيا ولم يقعدها! وحشد الأقوال في تضعيف (عبد الله) قد استدل بحديثه في تنقيح التحقيق (١ / ١٢٢)!

ثمّ انطلق العلّامة المحمود في دفع ما وجّه إلى الراوي في رفع المنارة (٣٨٠ ـ ٣١٨) فجزاه الله خيراً.

بينما الإمام السبكي : ذكر الجرح ـ رغم شهرته ـ وذكر وجهه ، إلى جنب الاعتماد ووجهه مفصّلاً.

ومع هذا فإن ابن عبد الهادي يتّهم الإمام السبكي بالتغافل عن الجرح! واللهُ يتولّى الصالحين.

وكتب السيّد

(٢) الجرح والتعديل للرازي

(٣) الكامل (٤ / ١٤٥٩) نقله عن ابن معين.

(٤) الكامل (٤ / ١٤٦١) ترجمة عبد الله بن عمر بن حفص العمري.

وجودة الحفظ للآثار ، تقع المناكير في روايته ، فلمّا فحش خطؤه استحقّ الترك (١).

وهذا الكلام من ابن حبّان يعرّفك أنّه لم يتكلّم فيه لجرح في نفسه ، وإنّما هو لكثرة غلطه.

وأمّا حكمه باستحقاقه الترك ، فمخالف لإخراج مسلم رحمه‌الله تعالى له في المتابعات.

وليس هذا الحديث في مظنّة أن يحصل فيه التباس على عبد الله ؛ لا في سنده ، ولا في متنه ، فإنّه في نافع [صالحٌ] كما سبق ، وخصّيص به ، ومتن الحديث في غاية القصر والوضوح ، فاحتمال خطئه فيه بعيد ، والرواة جميعهم إلى موسى بن هلال ثقات لا ريبة فيهم ، وموسى بن هلال قال ابن عديّ : أرجو أنّه لا بأس به (٢).

وأمّا قول أبي حاتم الرازيّ فيه : «إنّه مجهول» فلا يضرّه ؛ فإنّه إمّا أن يريد جهالة العين ، أو جهالة الوصف :

فإن أراد جهالة العين ـ وهو غالب اصطلاح أهل هذا الشأن في هذا الإطلاق ـ فذلك مرتفع عنه ؛ لأنّه قد روى عنه أحمد بن حنبل ، ومحمّد بن جابر المحاربيّ ، ومحمّد بن إسماعيل الأحمسيّ ، وأبو اميّة محمّد بن إبراهيم الطرسوسيّ ، وعبيد بن محمّد الورّاق ، والفضل بن سهل ، وجعفر بن محمد البزوريّ ، وبرواية اثنين تنتفي جهالة العين ، فكيف برواية سبعة؟!

وإن أراد جهالة الوصف فرواية أحمد عنه ترفع من شأنه ، لا سيّما مع ما قاله ابن عديّ فيه.

وممّن ذكره في مشايخ أحمد رحمه‌الله تعالى أبو الفرج ابن الجوزيّ ، وأبو إسحاق الصريفينيّ ، وأحمد رحمه‌الله لم يكن يروي إلّا عن ثقة.

__________________

(١) كتاب المجروحين لابن حبان.

(٢) الكامل (٦ / ٢٣٥٠).

وقد صرّح الخصم بذلك في الكتاب الذي صنّفه في (الردّ على البكريّ) بعد عشر كراريس منه ، قال : إنّ القائلين بالجرح والتعديل من علماء الحديث نوعان :

منهم من لم يرو إلّا عن ثقة عنده ، كمالك ، وشعبة ، ويحيى بن سعيد ، وعبد الرحمان بن مهديّ ، وأحمد بن حنبل ، وكذلك البخاريّ وأمثاله (١).

وقد كفانا الخصم بهذا الكلام مئونة تبيين أنّ أحمد لا يروي إلّا عن ثقة ، وحينئذٍ لا يبقى له مطعن فيه.

وأمّا قول العقيليّ : إنّه لا يتابع عليه ، وقول البيهقيّ : سواء قال : عبيد الله ، أم عبد الله ، فهو منكر عن نافع عن ابن عمر ، لم يأتِ به غيره.

فهذا وما في معناه يدلّك على أنّه لا علّة لهذا الحديث عندهم إلّا تفرّد موسى به ، وأنّهم لم يحتملوه له ؛ لخفاء حاله ، وإلّا ، فكم من ثقة يتفرّد بأشياء ويُقبل منه؟!

وأمّا بعد قول ابن عديّ فيه ما قال ، ووجود متابع ، فإنّه يتعيّن قبوله ، وعدم ردّه.

ولذلك ـ والله أعلم ـ ذكره عبد الحقّ رحمه‌الله (٢) في «الأحكام الوسطى» و «الصغرى» وسكت عنه.

وقد قال في خطبة «الأحكام الصغرى» : إنّه تخيّرها صحيحة الإسناد ، معروفة عند النقّاد ، قد نقلها الأثبات ، وتداولها الثقات.

وقال في خطبة «الوسطى» وهي المشهورة اليوم ب «الكبرى» : إنّ سكوته عن الحديث دليل على صحّته فيما يعلم ، وإنّه لم يتعرّض لإخراج الحديث المعتلّ كلّه ،

__________________

(١) الرد على البكري ، لابن تيمية ، لم نعثر عليه في ما طبع لابن تيمية من مجموع الفتاوي وغيره ، لكن ذكر اسمه في عداد (مجموع مؤلفاته ص ٦١ رقم ٢) وقال المؤلف : قطعة منه ، ومصدره : برلين الغربية رقم (٣٩٦٨) وقال يعرف بالاستغاثة.

(٢) هو عبد الحقّ الاشبيلي ، لاحظ رفع المنارة (ص ٢٨٠).

وأخرج منه يسيراً ممّا عمل به أو بأكثره عند بعض الناس ، واعتمد وفزع إليه الحفّاظ عند الحاجة إليه ، وإنّه إنّما يعلّل من الحديث ما كان فيه أمر أو نهي ، أو يتعلّق به حكم ، وأمّا ما سوى ذلك فربّما في بعضها سمح ، وليس منها شيء عن متّفق على تركه.

وسبقه الحافظ أبو عليّ بن السكن إلى تصحيح الحديث الثالث ، كما سنذكره ، وهو متضمّن لمعنى هذا الحديث.

وقول ابن القطّان : إنّ قول ابن عديّ صدر عن تصفّح روايات موسى بن هلال ، لا عن مباشرة أحواله.

لا يضرّ أيضاً ؛ لأنّ كثيراً من جرح المحدّثين وتوثيقهم على هذا النحو ، بل هو أولى من ثبوت العدالة المجرّدة من غير نظر في حديثه ، وقد وجدنا لرواية موسى بن هلال متابعة وشواهد من وجوه سنذكرها.

وبذلك تبيّن : أنّ أقلّ درجات هذا الحديث أن يكون حسناً إن نوزع في دعوى صحّته ، فإنّ الحسن قسمان :

أحدهما : ما في إسناده مستور لم تتحقّق أهليّته ، وليس مغفّلاً كثير الخطأ ، ولا ظهر منه سبب مفسّق ، ومتن الحديث مع ذلك روي مثله أو نحوه من وجه آخر.

وأقلّ درجات موسى بن هلال رحمه‌الله تعالى أن يكون بهذه الصفة ، وحديثه بهذه المثابة.

والقسم الثاني للحسن : أن يكون راويه مشهوراً بالصدق والأمانة ، لم يبلغ درجة رجال الصحيح ؛ لقصوره في الحفظ ، وهو مع ذلك يرتفع عن حال من يُعدّ ما ينفرد به حديثه منكراً ، وهذا قد يقتضي إطلاق اسم «الحسن» على بعض ما سنذكره من الأحاديث أيضاً.

وليس لقائل أن يقول : إن هذا يقتضي سلب اسم «الحسن» عن الحديث الذي

نحن فيه.

فإنّ ما ذكرناه ليس اختلافاً في حدّ الحسن ، بل هو تقسيم له ، والحديث الحسن صادق على كلّ من النوعين.

[قوّة الحديث بتضافر الإسناد]

ثمّ إنّ الأحاديث التي جمعناها في الزيارة ، بضعة عشر حديثاً ممّا فيه لفظ «الزيارة» غير ما يستدلّ به لها من أحاديث اخر ، وتظافر الأحاديث يزيدها قوّة ؛ حتّى أنّ الحسن قد يترقّى بذلك إلى درجة الصحيح.

والضعيف قسمان :

قسم يكون ضعف راويه ناشئاً من كونه متّهماً بالكذب ونحوه ، فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا الجنس لا يزيدها قوّة.

وقسم يكون ضعف راويه ناشئاً من ضعف الحفظ ، مع كونه من أهل الصدق والديانة ، فإذا رأينا ما رواه قد جاء من وجه آخر ، عرفنا أنّه ممّا قد حقّقه ، ولم يختلّ فيه ضبطه له ، هكذا قاله ابن الصلاح رحمه‌الله وغيره (١).

فاجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا النوع يزيدها قوّة ، وقد يترقّى بذلك إلى درجة الحسن أو الصحيح.

ولهذا لمّا تكلّم النوويّ رحمه‌الله في أنّ ميقات ذات عرق ، هل هو منصوص عليه ، أو مجتهد فيه؟ صحّح أنّه منصوص عليه ، وذكر عن جمهور أصحابنا تصحيحه للأحاديث الواردة فيه ، وإن كانت أسانيد مفرداتها ضعيفة ، فمجموعها يقوّي بعضه بعضاً ، ويصير الحديث حسناً ، ويحتجّ به ، هكذا ذكره في «شرح المهذّب» في

__________________

(١) علوم الحديث لابن الصلاح (ص ٣٤) في التنبيه الثاني من النوع الثاني وهو (الحسن).

كتاب الحجّ (١).

فهذه مباحث في إسناد هذا الحديث :

أوّلها : تحقيق كونه من رواية «عُبيد الله» المصغّر ، وترجيح ذلك على ما رواه عن «عَبد الله» المكبّر.

وثانيها : القول بأنّه عنهما جميعاً.

وثالثهما : على تقدير التنزّل وتسليم أنّه عن عبد الله المكبّر وحده ، فإنّه داخل في قسم الحسن ؛ لما ذكرناه.

ورابعها : على تقدير أن يكون ضعيفاً من هذا الطريق وحده ـ وحاشا لله ـ فإنّ اجتماع الأحاديث الضعيفة من هذا النوع يقوّيها ، ويوصلها إلى رتبة الحسن.

وبهذا بل بأقلّ منه ، يتبيّن افتراء من ادعى أنّ جميع الأحاديث الواردة في الزيارة موضوعة.

فسبحان الله!! أما استحى من الله ومن رسوله في هذه المقالة التي لم يسبقه إليها عالم ولا جاهل؟ لا من أهل الحديث ، ولا من غيرهم؟

ولا ذكر أحد موسى بن هلال ولا غيره من رواة حديثه هذا بالوضع ، ولا اتهمه به فيما علمنا!

فكيف يستجيز مسلم أن يطلق على كلّ الأحاديث التي هو واحد منها : «أنّها موضوعة» ولم ينقل إليه ذلك عن عالم قبله ، ولا ظهر على هذا الحديث شيء من الأسباب المقتضية للمحدّثين للحكم بالوضع.

ولا حكم متنه ممّا يخالف الشريعة.

فمن أيّ وجه يحكم بالوضع عليه لو كان ضعيفاً؟! فكيف وهو حسن

__________________

(١) شرح المهذب للنووي (٧ / ١٩٤ ـ ١٩٥).

أو صحيح؟!

ولنقتصر على هذا القدر ممّا يتعلّق بسند هذا الحديث الأوّل.

[دلالة الحديث]

وأمّا متنه فقوله : «وجبت» معناه حقّت وثبتت ولزمت ، وأنّه لا بدّ منها ؛ لوعده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تفضّلاً منه.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «له» إمّا أن يكون المراد له بخصوصه ؛ بمعنى أنّ الزائرين يخصّون بشفاعة لا تحصل لغيرهم عموماً ، ولا خصوصاً.

وإمّا أن يكون المراد أنّهم يفردون بشفاعة ممّا تحصل لغيرهم ، ويكون إفرادهم لذلك تشريفاً وتنويهاً بهم بسبب الزيارة.

وإمّا أن يكون المراد أنّه ببركة الزيارة ، يجب دخوله في عموم من تناله الشفاعة ، وفائدة ذلك البشرى بأنّه يموت مسلماً.

وعلى هذا التقدير الثالث يجب إجراء اللفظ على عمومه ؛ لأنّا لو أضمرنا فيه شرط الوفاة على الإسلام ، لم يكن لذكر الزيارة معنى ؛ لأنّ الإسلام وحده كافٍ في نيل هذه الشفاعة.

وعلى التقديرين الأوّلين يصحّ هذا الإضمار.

فالحاصل : أنّ أثر الزيارة إمّا الوفاة على الإسلام مطلقاً لكلّ زائر ، وكفى بها نعمة ، وأمّا شفاعة خاصّة بالزائر أخصّ من الشفاعة العامّة للمسلمين.

وقوله : «شفاعتي» في الإضافة إليه تشريف لها ؛ فإنّ الملائكة والأنبياء والمؤمنين يشفعون ، والزائر لقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له نسبة خاصّة منه ، فيشفع فيه هو بنفسه ، والشفاعة تعظم بعظم الشافع ، فكما أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من غيره ، كذلك شفاعته أفضل من شفاعة غيره.

ويحتاج هنا إلى ذكر الشفاعة الاخرويّة ، ولكنّي أؤخّر الكلام فيها (١) ؛ لئلّا يملّ الناظر قبل كمال مقصوده من الزيارة.

الحديث الثاني : «من زار قبري حلّت له شفاعتي»

[سند الحديث]

رواه الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزّار في مسنده (٢) ، قال : حدّثنا قتيبة ، حدثنا عبد الله بن إبراهيم ، حدثنا عبد الرحمن بن زيد ، عن أبيه ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري حلّت له شفاعتي».

وهذا هو الحديث الأوّل بعينه ، ولذلك عزاه عبد الحقّ رحمه‌الله إلى الدارقطنيّ والبزّار جميعاً ، إلّا أنّ في الحديث الأوّل : «وجبت» وفي هذا : «حلّت» فلذلك أفردته.

وقد نقلته من نسخة معتمدة سمعها الحافظ القاضي أبو عليّ الحسين بن محمّد الصدفيّ على الشيخ الفقيه صاحب الأحكام ؛ أبو محمّد عبد الله بن محمّد بن إسماعيل ابن فُورْتش في سنة ثمانين وأربعمائة بسرقسطة ، وعليها خطّ أبي محمّد عبد الله بن فُورْتش بسماع الصدفيّ عليه ، وأنّه حدّثه بها عن الشيخ أبي عمر أحمد بن محمّد

__________________

(١) عقد المؤلّف (الباب العاشر) من هذا الكتاب ، لذكر (الشفاعة) مفصّلاً لورودها في هذا الحديث ، فراجع.

(٢) مسند البزّار (لاحظ كشف الأستار للهيثمي ٢ / ٥٧) وسنن الدارقطني (٢ / ٢٧٨).

قال السيوطي في الدرّ المنثور (١ / ٢٣٧) ط اولى :

وأخرج الحكيم الترمذي ، والبزار ، وابن خزيمة ، وابن عدي والدارقطني ، والبيهقي ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي».

وانظر مجمع الزوائد (٤ / ٢).

المقرئ الطلمنكيّ إجازة : أنا أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن يحيى بن معرّج (١) ، حدثنا أبو الحسين محمّد بن أيّوب بن حبيب بن يحيى الرقّي الصموت ، حدثنا أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزّار.

وعلى هذه النسخة : أنّها قوبلت بأصل القاضي أبي عبد الله بن معرّج الذي فيه سماعه على الرقّي محمّد بن أيّوب ، وأكثر أصل ابن معرّج بخطّ الرقّي.

وقد حدّث القاضي أبو عليّ الصدفيّ بهذه النسخة مرّات ، وعليها الطباق عليه ، وممّن قرأها على الصدفيّ محمّد بن خلف بن سليمان بن فتحون في سنة ثلاث وخمسمائة.

وقد حدّث بهذه النسخة أيضاً الفقيه العالم المتقن أبو محمّد بن حوط الله ، قرأها عليه محمّد بن محمّد بن سَماعة في سنة ستّ وستمائة بمرسية.

وفُوْرْتش بضمّ الفاء بعدها واو ساكنة ، ثمّ راء ساكنة ، ثمّ تاء مثنّاة من فوق ، ثمّ شين معجمة.

وقتيبة شيخ البزّار هو ابن المرزبان ، روى عنه أحاديث غير هذا.

وعبد الله بن إبراهيم هو الغفاريّ يقال : إنّه من ولد أبي ذر رضى الله عنه روى له أبو داود والترمذيّ ، قال أبو داود : منكر الحديث.

وقال ابن عديّ : عامّة ما يرويه لا يتابعه عليه الثقات (٢).

وقال البزّار عقب ذكره هذا الحديث : عبد الله بن إبراهيم حدّث بأحاديث لم يتابع عليها ، وإنّما يكتب من حديثه ما لا يحفظ إلّا عنه.

وعبد الرحمان بن زيد بن أسلم روى له الترمذيّ وابن ماجة ، وضعّفه

__________________

(١) كذا في المطبوعتين هنا وما يلي ، لكن أثبتها في (الصارم ص ٤٠) : مفرج.

(٢) الكامل (٤ / ١٥٠٨) ترجمة عبد الله بن ابراهيم ، وانظر المجروحين لابن حبان (٢ / ٣٦).

جماعة (١) ، وقال ابن عديّ : إنّه له أحاديث حسان ، وإنّه ممّن احتمله الناس وصدّقه بعضهم ، وإنّه ممّن يكتب حديثه (٢).

وصحّح الحاكم رحمه‌الله تعالى حديثاً من جهته سنذكره في التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وإذ كان المقصود من هذا الحديث تقوية الأوّل به وشهادته له ، لم يضرّ ما قيل في هذين الرجلين ؛ إذ ليس راجعاً إلى تهمة كذب ، ولا فسق ، ومثل هذا يحتمل في المتابعات والشواهد (٤).

الحديث الثالث : «من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً

عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

[سند الحديث]

رواه الطبرانيّ في معجمه الكبير (٥) ، والدارقطنيّ في أماليّه (٦) ، وأبو بكر ابن

__________________

(١) الكامل (٤ / ١٥٨٥).

(٢) الكامل (٤ / ١٥٨٥) ترجمة عبد الرحمن بن زيد.

(٣) راجع ص ٢٩٤ ـ ٢٩٥ ، في الباب الثامن.

(٤) وبهذا تبرّأ الإمام السبكي من الحكم على هذا الحديث بالصحّة ، فهو لا يريد ذلك ، ولذا ذكر كلام من ضعفه برمّته ، فقول ابن عبد الهادي في ردّه : «ان المستدل بالحديث عليه أن يبيّن صحّته» (الصارم ص ٤٢) هراء وخروج عن قواعد البحث ، فالسبكي لا يُريد أن يستدل بهذا ولا حكم بصحّته ، بل جعله شاهداً ومتابعاً ، والمتابعة لا يشترط فيها الصحّة ، وهذا واضح للمبتدئ بعلم الحديث!! وكتب السيّد

(٥) المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٢٩١) رقم ١٣١٤٩.

وقال المعلّق ورواه في الأوسط (١٥٧) ولاحظ مجمع الهيثمي (٤ / ٢).

(٦) أمالي الدارقطني.

المقرئ في معجمه ، وصحّحه سعيد بن السكن (١).

وهو من رواية مسلمة الجهنيّ عن عبيد الله العمريّ ، ففيه متابعة لموسى بن هلال في شيخه ، وبيان لأنّه لم يتفرّد بالحديث ، وكان ينبغي لأجل ذلك أن نذكره مع الأوّل ، لكن لمّا تضمّن زيادة معنى أفردناه.

وقد ورد في بعض الروايات : «لا يعمله» وفي بعضها : «لا ينزعه».

واختلف على مسلمة في عبيد الله وعبد الله ، كما اختلف على موسى بن هلال ، فرواه عبد الله بن محمّد العُباديّ البصريّ عن مسلمة ، عن عُبيد الله مصغّراً ، عن نافع.

والعُباديّ بضمّ العين المهملة ، وفتح الباء المخفّفة المنقوطة بواحدة ، وفي آخره الدال ، نسبة إلى عباد بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن عليّ بن بكر.

قال أبو سعد ابن السمعانيّ : والمشهور بالنسبة إليهم : عبد الله بن محمّد العُباديّ ، يروي عن الحسن بن حبيب بن ندبة ، حدّث عنه عبدان وغيره (٢).

وقال الصوريّ : بتشديد الباء. قال ابن ماكولا : ما نعرفه إلّا مخفّفاً.

أخبرنا أبو الفضل إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم ابن النحّاس الأسديّ بقراءتي عليه بجامع دمشق في عاشر صفر سنة ثمان وسبعمائة ، قلت له : أخبرك الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقيّ قراءة عليه وأنت تسمع ، أنا أبو عبد الله بن أبي زيد بن حُمَيْد (٣) بن نصر الكرانيّ ، أنا أبو منصور محمود بن إسماعيل بن محمّد الصيرفيّ ، أنا أبو الحسين أحمد بن محمّد بن الحسين بن فاذشاه ،

__________________

(١) لاحظ رفع المنارة (ص ٣٠١).

(٢) الأنساب للسمعاني (العبادي) (ص ٣٨٠) طبعة مرجليوت.

(٣) في (ه) : حمد.

أنا أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللخميّ الطبرانيّ ، حدثنا عبدان بن أحمد ، حدثنا عبد الله بن محمّد العُباديّ البصريّ ، حدثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ ، حدّثني عبيد الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة» (١).

وأخبرنا به أيضاً عليّ بن أحمد العراقيّ (٢) في كتابه : أنا ابن عماد ، أنا ابن رفاعة ، أنا الخلعيّ (ح).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد : أنّه قرأ على الحافظ يحيى بن عليّ القرشيّ : أنا عبد الله بن محمّد وابن عماد قالا : أنا ابن رفاعة ، أنا الخلعيّ ، أنا أبو النعمان تراب بن عمر بن عبيد بن محمّد بن عبّاس العسقلانيّ ، حدثنا أبو الحسن عليّ بن عمر بن أحمد ابن مهديّ الدارقطنيّ البغداديّ إملاءً بمصر ، حدثنا يحيى بن محمّد بن صاعد ، حدثنا أبو محمّد عبد الله بن محمّد العُباديّ من بني عباد بن ربيعة في بني مرّة بالبصرة سنة

__________________

(١) تلخيص الحبير (٧ / ٤١٧) عن الطبراني ، وقال : وجزم الضياء في الأحكام وقبله البيهقي بأن عبد الله بن عمر المذكور هو المكبّر ، ورواه الخطيب في الرواة عن مالك في ترجمة النعمان بن شبل ، وقال : إنّه تفرّد به عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ «من حج ولم يزرني فقد جفاني».

ذكره ابن عدي وابن حبان في ترجمة النعمان.

ورواه البيهقي عن حديث أبي داود الطيالسي عن سوار بن ميمون ، وفي الباب عن أنس : أخرجها ابن أبي الدنيا في كتاب «القبور» مرفوعاً «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً يوم القيامة».

وقال ابن حجر : طرق هذا الحديث كلّها ضعيفة ، لكن صحّحه من حديث ابن عمر أبو علي بن السكن في إيراده إيّاه في أثناء (السنن الصحاح) له وعبد الحق في (الأحكام) في سكوته عنه ، والشيخ تقي الدين السبكي (وهو المؤلف) من المتأخرين باعتبار مجموع الطرق.

(٢) في (ه) : الغرافي.

خمسين ومائتين ، حدّثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ إمام مسجد بني حرام ومؤدّبهم ، حدثنا عبيد (١) الله بن عمر ، عن نافع ، عن سالم ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

وأخبرنا أيضاً عبد المؤمن وغيره إذناً عن أبي نصر ، أنبأنا ابن عساكر ، أنا خالي أبو المعالي محمّد بن يحيى بن عليّ ، أنا عليّ بن الحسن بن الحسين الخلعيّ ... فذكره بإسناده ومتنه.

وفي هذين الطريقين ـ أعني طريق عبدان ، وطريق يحيى بن محمّد بن صاعد ـ : «نافع ، عن سالم».

ورواه غيرهما فقال فيه : عن نافع وسالم ، كذلك قرئ على أبي الفضل إسحاق بن أبي بكر بن إبراهيم بن هبة الله بن طارق بن سالم بن النحّاس الأسديّ الحنفيّ في معجم ابن المقرئ وأنا أسمع بدمشق ، أنّ الحافظ أبا الحجّاج يوسف بن خليل الدمشقيّ أخبره قراءة عليه وهو يسمع بحلب ، أنا أبو مسلم المؤيّد بن عبد الرحيم بن أحمد ابن الإخوة ، وزوجته عين الشمس بنت أبي سعيد بن الحسن قالا : أنا أبو الفرح سعيد بن أبي الرجاء الصيرفيّ ـ قال المؤيّد : سماعاً ، وقالت زوجته : إجازةً ـ قال : أنا الشيخان أبو طاهر أحمد بن محمود الثقفيّ ، وأبو الفتح منصور بن الحسين بن عليّ بن القاسم ، قالا : أنا أبو بكر محمّد بن إبراهيم ابن عليّ ابن عاصم بن المقرئ.

(ح) وأخبرنا عبد المؤمن بن خلف وغيره إذناً ، عن أبي نصر ، أنا عليّ بن الحسن بن هبة الله ، أخبرناه أبو الفرج سعيد بن أبي الرجاء الأصبهاني ، أنا منصور

__________________

(١) في (ه) : عبد.

ابن الحسين وأبو طاهر بن محمود ، قالا : أنا أبو بكر ابن المقرئ ، حدثنا محمّد بن أحمد ابن محمّد الشطويّ ببغداد ، حدثنا عبد الله بن يزيد الخثعمي ، حدثنا عبد الله بن محمّد ، حدّثني مسلمة بن سالم الجهنيّ إمام مسجد بني حرام ومؤدّبهم بالبصرة قال : حدّثني عبيد الله بن عمر العمريّ ، عن نافع وسالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لا ينزعه إلّا زيارتي ، كان حقّاً على الله عزوجل أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية ابن عساكر «حقّ» بالرفع.

وهذه الطرق كلّها متفقة عن عبد الله بن محمد العُباديّ ، عن مسلمة ، عن «عُبيد الله» مصغّراً.

ورواه مسلم بن حاتم الأنصاريّ ، عن مسلمة ، عن «عبد الله»

أخبرنا بذلك ابن خلف وغيره إذناً ، عن ابن هبة الله ، أنا الدمشقيّ ، أنا أبو عليّ الحدّاد في كتابه ، ثمّ حدثني عبد الرحيم بن عليّ أبو مسعود عنه ، أنا أبو نعيم الحافظ ، حدّثنا أبو محمّد بن حيّان ، حدثنا محمّد بن أحمد بن سليمان الهرويّ ، حدثنا مسلم ابن حاتم الأنصاري ، حدثنا مسلمة بن سالم الجهنيّ ، حدّثني عبد الله ـ يعني العمريّ ـ حدّثني نافع ، عن سالم ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

هذه طرق هذا الحديث.

وقد ذكره الإمام الحافظ أبو عليّ سعيد بن عثمان بن سعيد بن السكن البغداديّ المصريّ البزّار [توفّي بمصر ٣٥٣] في كتابه المسمّى ب «السنن الصحاح المأثورة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو كتاب محذوف الأسانيد ، قال في خطبته :

أمّا بعد ، فإنّك سألتني أن أجمع لك ما صحّ عندي من السنن المأثورة التي نقلها الأئمّة من أهل البلدان ، الذين لا يطعن عليهم طاعن فيما نقلوه ، فتدبّرت ما سألتني

عنه ، فوجدت جماعة من الأئمّة قد تكلّفوا ما سألتني من ذلك ، وقد وعيت جميع ما ذكروه ، وحفظت عنهم أكثر ما نقلوه ، واقتديت بهم ، وأجبتك إلى ما سألتني من ذلك ، وجعلته أبواباً في جميع ما يحتاج إليه من أحكام المسلمين.

فأوّل من نصب نفسه لطلب صحيح الآثار البخاريّ ، وتابعه مسلم ، وأبو داود ، والنسائي ، وقد تصفّحتُ ما ذكروه ، وتدبّرتُ ما نقلوه ، فوجدتُهم مجتهدين فيما طلبوه ، فما ذكرته في كتابي هذا مجملاً فهو ممّا أجمعوا على صحّته ، وما ذكرته بعد ذلك ممّا يختاره أحد من الأئمّة الذين سمّيتهم ، فقد بيّنت حجّته في قبول ما ذكره ، ونسبته إلى اختياره دون غيره ، وما ذكرته ممّا يتفرد به أحد من أهل النقل للحديث فقد بيّنت علّته ، ودلّلت على انفراده دون غيره ، وبالله التوفيق.

قال في هذا الكتاب في آخر كتاب الحجّ : «باب ثواب من زار قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من جاءني زائراً لم تنزعه حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة».

ولم يذكر ابن السكن في هذا الباب غير هذا ، وذلك منه حكم بأنّه مجمع على صحّته ؛ بمقتضى الشرط الذي شرطه في الخطبة (١).

__________________

(١) لقد تغافل ابن عبد الهادي في ردّه ، عن تصحيح ابن السكن للحديث وراح على عادة السلفية المتزمّتين ، يلوك بذكر الجروح في الرواة ، وغاية ما طرحه : أن هناك حديثاً واحداً ، رواه شيخان : أحدهما فيه زيارة القبر من دون «تعمله» والآخر فيه «تعمله» بلا ذكر القبر ، فمع ضعف الرواة لا يمكن الاعتماد عليه! لاحظ (الصارم ٥٠).

أقول : مع اعترافه بوحدة الحديث ، لا وجه لإغفاله تصحيح حافظ جليل مثل ابن السكن ولا الإعراض عن الطرق الكثيرة المذكورة هنا ، وفي الحديث الأول المتحد معه في الرواة.

وأما الدلالة : فمقتضى الجمع بين الدلالتين ، هو أن يكون مدلولهما الإعمال إلى زيارة القبر الشريف ، وهو الذي فهمه العلماء المحقّقون ، فأثبتوا هذه الأحاديث في أبواب زيارة القبر ،

وابن السكن هذا إمام حافظ ثقة ، كثير الحديث ، واسع الرحلة ، سمع بالعراق والشام ومصر وخراسان وما وراء النهر من خلائق ، وهو بغداديّ سكن مصر ، ومات بها في النصف من المحرّم سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة.

[دلالة الحديث]

وتبويب ابن السكن يدلّ على أنّه فهم منه أنّ المراد بعد الموت ، أو أنّ ما بعد الموت داخل في العموم ، وهو صحيح (١).

الحديث الرابع : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني

في حياتي»

رواه الدارقطنيّ في سننه وغيرها ، ورواه غيره أيضاً :

__________________

والسفر إليها.

وأما التفرقة بينها بجعل بعضها لمطلق الزيارة بلا قبر ، وبعضها للقبر بلا إعمال ، فهو عمل البُلداء ممّن لا يعرفون الحديث ولا فقهه!

ثمّ إن من خبط ابن عبد الهادي وتمويهه تعرّضه لأحاديث اخرى عن ابن عمر في سكنى المدينة والموت بها.

فهل ثبوت هذه الأحاديث مهما صحّت وكثرت ، فيها أدنى دلالة على نفي أحاديث الزيارة؟! حتى يطوّل فيها بلا طائل ، مع أن لها دلالة من طرف آخر ، على خلاف غرضه ، حيث أنّ فيها الترغيب في سكنى المدينة ، ولا ريب أنه يستحبّ لساكنها زيارة القبر ، فتكون بالتالي دالّة على الترغيب في الزيارة ، ولو مع واسطة السكنى في المدينة ، كما سيأتي ذيل الحديث الخامس في كتابنا هذا. والتيميّة لا يُوافقون على ذلك ، فليدقّق.

(١) قال العلّامة ممدوح : عند ما رتب ابن حزم كتب السُنّة ، جعل (صحيح ابن السكن) ثالث الكتب ، بعد الصحيحين ، راجع : تذكرة الحفاظ للذهبي (٣ / ١١٥٣). كما في رفع المنارة (ص ٣٠١ ه‍ (١)) وقال في المتن : الحافظ بن السكن صحّح هذا الطريق بمفرده ، فما بالك؟ وهذا الطريق متابع لموسى بن هلال البصري؟! فهو مقبول ، حسب القواعد.

أخبرنا عبد المؤمن بن خلف الحافظ ، أنا يوسف بن خليل الحافظ ، أنا ناصر ابن محمّد أبو برح ، أنا إسماعيل بن الفضل بن الإخشيد ، أنا أبو طاهر بن عبد الرحيم ، أنا عليّ بن عمر الحافظ الدارقطنيّ قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ.

(ح) وقرأت على أبي محمّد إسحاق بن يحيى بن إسحاق بن إبراهيم الآمديّ ـ واللفظ له ـ : أخبرك يوسف بن خليل الحافظ ، أنا محمّد بن أبي زيد الكرانيّ ، أنا محمود الصيرفيّ ، أنا ابن فاذشاه ، أنبأنا الطبرانيّ ، حدثنا الحسين بن إسحاق التستريّ ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد ، من مكّة : أنّه قرأ على الحافظ أبي الحسين بمصر قال : أنا أبو البركات الحسن بن محمّد بن الحسن الشافعيّ ، أنا أبو طاهر عبد الرحمن بن أحمد بن عبد القادر بن يوسف البغداديّ ، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الملك بن بشران ، أنا أبو الحسن الدارقطنيّ ، حدّثنا عبد الله بن محمّد بن عبد العزيز ، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي».

وأخبرناه عبد المؤمن وغيره إذناً عن الشيرازيّ ، أنا الحافظ الدمشقيّ ، أنا أبو عبد الله الخلّال ، أنا إبراهيم بن منصور ، أنا أبو بكر ابن المقرئ ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا أبو الربيع ، حدثنا حفص بن أبي داود ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن

__________________

(١) سنن الدارقطني (٣ / ٣٧٨) ح ١٩٣ ، كتاب الحج ، وانظر المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٤٠٦) ح ١٣٤٩٧.

عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزارني بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وكذلك رواه أبو أحمد بن عديّ في «الكامل» : أخبرنا أبو محمّد التونيّ ـ هو الحافظ الدمياطيّ ـ وآخرون إذناً ، عن أبي الحسن النجّار ، عن أبي الكرم المبارك ابن الحسن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيلي ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ ، أنا أبو أحمد عبد الله بن عديّ الجرجاني ، أنا الحسن بن سفيان ، حدثنا عليّ ابن حجر.

وثنا عبد الله بن محمّد البغويّ ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ.

قال عليّ : حدثنا حفص بن سليمان ، وقال أبو الربيع : حدثنا حفص بن أبي داود.

وقالا : عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي وصحبني». واللفظ لابن سفيان (٢).

وذكر أبو بكر البيهقيّ في السنن رواية ابن عديّ هذه من الطريقين ، عن أبي سعد المالينيّ ، عن ابن عديّ.

وذكر ابن عديّ ذلك في ترجمة حفص بن سليمان الأسديّ الغاضريّ القارئ ، وذلك حكم منه بأنّه حفص بن أبي داود المذكور في الإسناد ، وقال ـ أعني ابن عديّ ـ : إنّ أبا الربيع الزهرانيّ يسمّيه حفص بن أبي داود ؛ لضعفه ، وهو حفص بن سليمان.

__________________

(١) مسند أبي يعلى الموصلي.

انظر المطالب العالية (١ / ٣٧٢).

(٢) الكامل لابن عدي (٣ / ٧٨٩ ـ ٧٩٠) ترجمة حفص بن سليمان ، ورواه في الترغيب والترهيب (١ / ٤٤٧) والفاكهي في أخبار مكة (١ / ٤٣٧).

وقال البيهقيّ : تفرّد به حفص ، وهو ضعيف (١).

وكذلك الحافظ ابن عساكر ، ورواه مسمّىً : أخبرنا الدمياطيّ إذناً ، أنبأنا ابن هبة الله الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا الخلّال ، أنا إبراهيم بن منصور السلميّ ، أنا أبو بكر ابن المقرئ ، أنا أبو سعيد المفضّل بن محمّد بن إبراهيم الجندي ، حدثنا مسلمة ـ وهو ابن شبيب ـ حدثنا عبد الرزاق ، حدثنا أبو عمر حفص بن سليمان.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أبو القاسم ابن السمرقنديّ ، أنا أبو القاسم إسماعيل ابن مسعدة ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ.

قالا : أنا أبو أحمد بن عديّ ، أنا الحسن بن سفيان ، حدثنا عليّ بن حجر.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أبو القاسم الشحاميّ ، أنا أبو بكر البيهقيّ ، أنا عليّ ابن أحمد بن عبدان ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدّثني محمّد بن إسحاق الصفّار ، حدثنا ابن بكّار ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».

زاد السهميّ : «وصحبني» (٢).

ورواه البيهقيّ في السنن بدون هذه الزيادة ، عن عبد الله بن يوسف ، أنا محمّد ابن نافع الخزاعيّ ، حدثنا المفضّل الجنديّ ـ فذكره سنداً ومتناً ، كما ذكره ابن عساكر من طريق ابن المقرئ (٣).

وكتب إليّ عثمان بن محمّد التوزريّ من مكّة شرّفها الله تعالى : أنّه قرأ على أبي

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي (٥ / ٢٤٦) باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كتاب الحجّ ، وانظر شعب الإيمان له.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر ، لاحظ مختصره لابن منظور (٢ / ٤٠٦).

(٣) السنن للبيهقي (٥ / ٢٤٦).

اليمن ابن عساكر بها قال : أنا الحسن بن محمّد ، أنا عليّ بن الحسن ، أنا أبو القاسم إسماعيل بن محمّد ، نا أحمد بن عبد الغفّار بن أشتة ، أنا أبو سعيد النقاش ، أنا أبو بكر محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الجوزجانيّ ، حدثنا الحسن بن الطيّب البلخيّ ، حدثنا عليّ بن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي».

وقال ابن النجّار الحافظ البغداديّ في كتاب «الدرة الثمينة في أخبار المدينة» (١) : أنبأنا عبد الرحمن بن عليّ ، أنا أبو الفضل الحافظ ، عن أبي عليّ الفقيه ، أنبأنا أبو القاسم الأزهريّ ، أنا القاسم بن الحسن ، حدثنا الحسن بن الطيّب ، حدثنا عليّ ابن حجر ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزار قبري بعد موتي ، كان كمن زارني في حياتي وصحبني».

قال أبو اليمن ابن عساكر رحمه‌الله بالإسناد المتقدّم إليه : وقد روى هذا الحديث الحسن بن الطيّب عن عليّ بن حجر ، فزاد فيه زيادة منكرة ، قال فيه : «من حجّ فزار قبري بعد موتي ، كان كمن زارني في حياتي وصحبني» تفرّد بقوله «وصحبني» الحسن بن الطيّب ، وفيه نظر.

قلت : وقد ذكرنا هذه الزيادة من طريق الحسن بن سفيان ، فلا تفرّد فيها.

وعبد الرحمان الذي روى عنه ابن النجّار هو ابن الجوزيّ رحمه‌الله وقد رأيته بخطّه في كتابه «مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن» بالإسناد المذكور (٢).

وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن حفص بن سليمان ، عن كثير بن

__________________

(١) الدرة الثمينة لابن النجار (ص ٣٩٧) الباب (١٦) فضل زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) مثير العزم الساكن لابن الجوزي ، ولاحظ كنز العمّال (١٥ / ٦٥١) ح ٢٥٨٢.

شنظير ، عن ليث بن أبي سليم :

أخبرنا بذلك الحافظ أبو محمّد الدمياطيّ إجازة ، أنبأنا أبو نصر مكاتبة ، أنا ابن عساكر سماعاً ، أنا الشحاميّ ، أنا الجنزروديّ ، أنا ابن حمدان ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا يحيى بن أيّوب ، حدثنا حسّان بن إبراهيم ، حدثنا حفص بن سليمان ، عن كثير بن شنظير ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ فزارني بعد وفاتي عند قبري ، فكأنما زارني في حياتي».

وأشار ابن عساكر إلى أن الصواب الأوّل (١).

أمّا كون حفص بن سليمان القارئ الغاضريّ ، هو حفص بن أبي داود ، فكذلك قال البخاريّ ، وابن أبي حاتم ، وابن عديّ ، وابن حبّان ، وغيرهم.

وأمّا كونه هو الراوي لهذا الحديث ، فكذلك قاله ابن عديّ ، وابن عساكر ، وأشار إليه البيهقيّ ، وهو السابق إلى الذهن.

لكن ابن حبّان في كتاب «الثقات» ذكر ما يقتضي التوقّف في ذلك ، فإنّه قال : حفص بن سليمان البصريّ المنقريّ يروي عن الحسن ، مات سنة ثلاثين ومائة ، وليس هذا بحفص بن سليمان البزّاز أبي عمر القارئ ، ذاك ضعيف ، وهذا ثبت.

ثمّ قال في الطبقة التي بعد هذه : حفص بن أبي داود يروي عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي جحيفة ، روى عنه أبو ربيع الزهرانيّ (٢).

هذا كلام ابن حبّان ، ومقتضاه أنّ حفص بن أبي داود المذكور في الطبقة الأخيرة ثقة ، وأنّه غير القارئ الضعيف المذكور في الطبقة التي قبله على سبيل التمييز بينه وبين المنقريّ البصريّ ، ولعلّ أبا الربيع الزهرانيّ روى عنهما جميعاً ؛ أعني حفص بن سليمان المنقريّ ، وحفص بن أبي داود ، وإن اختلفت طبقتهما.

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر.

(٢) الثقات لابن حبّان (٦ / ١٩٥) ، ولاحظ التاريخ الكبير للبخاري (١ / ٢ / ٣٦٠).

وقد ذكر ابن حبّان حفص بن سليمان المقرئ في كتاب المجروحين ، وذكر ضعفه وقال : إنّه ابن أبي داود (١).

ويبعد القول بأنّه اشتبه عليه وجعلهما اثنين : أحدهما ثقة ، والآخر ضعيف ، على أنّ هذا الاستبعاد مقابل بأنّ ابن عديّ ذكر في ترجمة حفص القارئ حديثاً من رواية أبي الربيع الزهرانيّ ، عن حفص بن أبي داود ، عن الهيثم بن حبيب ، عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه قال : مرّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم برجل يصلّي قد سدل ثوبه ، فعطفه عليه (٢).

ويبعد أيضاً أن يكونا اثنين ، ويشتبه على ابن عديّ فيجعلهما واحداً.

والموضع موضع نظر ، فإن صحّ مقتضى كلام ابن حبّان زال الضعف فيه ، ولا ينافي هذا كونه جاء مسمّى في رواية هذا الحديث ؛ لجواز أن يكون قد وافق حفصاً القارئ في اسم أبيه وكنيته.

وإن كان هو القارئ كما حكم به ابن عديّ وغيره ، وهو ابن امرأة عاصم ، فقد أكثر الناس الكلام فيه ، وبالغوا في تضعيفه ، حتّى قيل عن عبد الرحمن بن يوسف بن خِراش : إنّه كذّاب متروك يضع الحديث.

وعندي أنّ هذا القول سرف ، فإنّ هذا الرجل إمام قراءة ، وكيف يعتقد أنّه يقدم على وضع الحديث والكذب ، ويتّفق الناس على الأخذ بقراءته؟! (٣)

__________________

(١) المجروحين لابن حبان (٢ / ٢٥٠) ولاحظ (١ / ٢٥٥).

(٢) الكامل لابن عدي (٢ / ٧٨٩) ترجمة حفص بن سليمان.

(٣) وهكذا تجدهم ، لا يحفظون حُرْمَة القرآن ، فيتهمون أكبر قرّائه بمثل هذا ، من دون أن يتنبهوا إلى ما ذا يجرّ عملهم؟! فهذا (حفص) هو صاحب القراءة المتداولة بين المسلمين المعروفة بقراءة (حفص عن عاصم) ولكن كلا الرجلين مجروحان عند هؤلاء ، لأنّهما من الشيعة ،

وإنّما غايته أنّه ليس من أهل الحديث ، فلذلك وقعت المنكرات والغلط الكثير في روايته.

وقد قال عبد الله بن أحمد بن حنبل : سألته ـ يعني أباه ـ عن حفص بن سليمان المنقريّ ، فقال : هو صالح.

وروى عثمان بن أحمد الدقّاق عن حنبل بن إسحاق ، قال : قال أبو عبد الله : وما كان بحفص بن سليمان المنقريّ بأس.

وحسبك بهذين القولين من أحمد رحمه‌الله وهما مقدّمان على من روى عن أحمد خلاف ذلك فيه.

[متابعات للحديث]

ولو ثبت ضعفه ـ كما هو المشهور ـ فإنّه لم يتفرّد بهذا الحديث.

وقول البيهقيّ رحمه‌الله تعالى : إنّه تفرّد به ، [فهو] بحسب ما اطلع عليه.

وقد جاء في معجمي الطبرانيّ الكبير والأوسط متابعته : أخبرنا به في «المعجم الكبير» أبو محمد إسحاق بن يحيى الآمديّ بقراءتي عليه بسفح قاسيون في

__________________

والحمد لله.

وقد حاول الذهبي في (سير أعلام النبلاء ٥ / ٢٦٠) في ترجمة عاصم ، أن يعتذر عن هذا العمل الشنيع ، بقوله : ما زال في كل وقت يكون العالم إماماً في كلّ فنّ مقصّراً في فنون ، وكذلك كان (حفص بن سليمان) ثبتاً في القراءة ، واهياً في الحديث ، وكان الأعمش بخلافه كان ثبتاً في الحديث ليّناً في الحروف. انتهى.

أقول : وهذا العذر أقبح من الفعل ، لأنّ الوَهْي في (حفص) لو كان بمثل (الكذب) والوضع في الحديث ، فإنّه يسلب الثقة عن نقله ، ومهما كان المنقول أهم وأعظم ، لزم كون ناقله أوثق ، فاعتماد الناس على حفص في القراءة دليل واضح على ثقته بأتمّ شكل ، كما صرّح المؤلّف رحمه‌الله.

وكتب السيّد

يوم السبت رابع عشر صفر سنة ثمان وسبعمائة ، قلت له : أخبرك الحافظ أبو الحجّاج قراءة عليه وأنت تسمع ، أنا ابن أبي زيد الكراني ، أنا محمود الصيرفيّ ، أنا ابن فاذشاه ، أنا الطبرانيّ رحمه‌الله حدثنا أحمد بن رشدين ، حدثنا عليّ بن الحسن بن هارون الأنصاريّ ، حدثنا الليث ابن بنت الليث بن أبي سليم قال : حدّثتني جدّتي عائشة بنت يونس امرأة الليث ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي كان كمن زارني في حياتي» (١).

وأخبرناه أيضاً عبد المؤمن وغيره إذناً ، عن ابن مميل ، أنا الحافظ عليّ بن الحسن ، أنا أبو الفتح أحمد بن محمّد بن أحمد بن سعيد الحدّاد في كتابه ، أنا عبد الرحمن بن محمّد بن حفص الهمذانيّ ، حدثنا سليمان بن أيّوب ، وهو الطبرانيّ ، فذكره.

وقد روى بعضهم هذا الحديث فقال فيه : «جعفر بن سليمان الضبعيّ» كذلك وقع في جزء أبي بكر محمّد بن السريّ ، أخبرنا به عبد المؤمن الحافظ إذناً ، عن يوسف بن خليل الحافظ ، أنا أبو الفتوح نصر بن أبي الفرج بن عليّ الحصريّ ، أنا أبو محمّد محمّد بن أحمد بن عبد الكريم التميميّ ، أنا أبو نصر محمّد بن محمّد بن عليّ الزينبيّ.

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٤٠٦) رقم ١٣٤٩٦ ، وقال المعلق : رواه في الأوسط (١ / ٢٠١) رقم (١٥٧) ، ولاحظ مجمع الزوائد (٤ / ٢).

وروى الطبراني بعده : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي».

المعجم الكبير (١٢ / ٤٠٦ ـ ٤٠٧) رقم ١٣٤٩٧ ، وخرجه المعلق عن الأوسط (١٥٧) وابن عدي () والدارقطني في سننه (٢ / ٢٧٨) والبيهقي في سننه (٥ / ٢٤٦) والسلفي في الثاني عشر من المشيخة البغدادية (٥٤ / ٢).

(ح) وأنبأنا عبد المؤمن أيضاً قال : أنبأنا أبو نصر ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو الفرج عبد الخالق بن أحمد بن عبد القادر بن محمّد بن يوسف ، أنا الزينبيّ.

(ح) وأنبأنا عالياً أبو جعفر محمّد بن عليّ بن الحسين بن سالم السلميّ المرداسي ابن الموازنيّ (١) مكاتبة ومشافهة قال : أنبأنا أبو القاسم الحسين بن هبة الله ابن محفوظ بن صصري ، أنا عبد الخالق بن يوسف وأبو المظفّر بن الترنكيّ (٢) كلاهما عن الزينبيّ.

(ح) ووجدته بخطّ إسماعيل ابن الأنماطيّ : أنا محمّد بن علوان ، أنا سعيد بن محمّد ، حدثنا أبو سعد ابن السمعانيّ إملاء بهراة ، أنا المظفّر بن أحمد ومحمّد بن القاسم قالا : أنا الزينبيّ ، أنا أبو بكر محمّد بن عمر بن خلَف بن زنبور الكاغذيّ ، أنا أبو بكر محمّد بن السريّ بن عثمان التمّار ، حدثنا نصر بن شعيب مولى العبديّين ، حدثنا أبي ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعيّ ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ بعد وفاتي وزار قبري كان كمن زارني في حياتي».

قال ابن عساكر : كذا قال : «جعفر بن سليمان الضبعيّ» وهو وهم ، وإنّما هو حفص بن سليمان أبو عمر الأسديّ الغاضريّ القارئ (٣).

الحديث الخامس : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني»

رواه ابن عديّ في «الكامل» وغيرُه (٤).

أخبرناه إذناً ومشافهة عبد المؤمن وآخرون ، عن أبي الحسن ابن المقير

__________________

(١) في (ه) : الموازيني.

(٢) في (ه) : التريكي.

(٣) تاريخ ابن عساكر.

(٤) الكامل لابن عدي (٧ / ٢٤٨٠) ترجمة النعمان بن شبل.

البغداديّ ، عن أبي الكرم ابن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة الإسماعيليّ ، أنا حمزة بن يوسف السهميّ ، أنا أبو أحمد بن عديّ ، حدثنا عليّ بن إسحاق ، حدثنا محمّد بن محمّد بن النعمان ، حدّثني جدّي قال : حدّثني مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».

وذكر ابن عديّ أحاديث النعمان ثمّ قال : هذه الأحاديث عن نافع ، عن ابن عمر ، يحدّث بها النعمان بن شبل عن مالك ، ولا أعلم رواه عن مالك غير النعمان بن شبل ، ولم أرَ في أحاديثه حديثاً غريباً قد جاوز الحدّ فأذكره.

وروى في صدر ترجمته عن عمران بن موسى الزجاجيّ : أنّه ثقة ، وعن موسى بن هارون : أنّه متّهم.

وهذه التهمة غير مفسّرة فالحكم بالتوثيق مقدّم عليها.

وذكر أبو الحسن الدارقطنيّ رحمه‌الله هذا الحديث في أحاديث مالك بن أنس الغرائب التي ليست في «الموطّأ» وهو كتاب ضخم (١).

قال : حدثنا أبو عبد الله الأيليّ وعبد الباقي قالا : حدثنا محمّد بن محمّد بن النعمان بن شبل ، حدثنا جدّي ، حدثنا مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني».

قال الدارقطنيّ : تفرّد به هذا الشيخ ، وهو منكر.

هذه عبارة الدارقطنيّ ، والظاهر أنّ هذا الإنكار منه بحسب تفرّده وعدم

__________________

(١) غرائب مالك التي ليست في الموطأ ، للدارقطني.

قال ابن حجر في تلخيص الحبير (٧ / ٤١٧) : رواه الخطيب في (الرواة عن مالك) في ترجمة ابن النعمان بن شبل ، وقال : بأنّه تفرّد به عن مالك عن نافع عن ابن عمر بلفظ : «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني».

ولاحظ تاريخ جرجان للسهمي (ص ٢١٧).

احتماله بالنسبة إلى الإسناد المذكور ، ولا يلزم من ذلك أن يكون المتن في نفسه منكراً ، ولا موضوعاً.

وقد ذكره ابن الجوزيّ في «الموضوعات» (١) وهو سرف منه ، ويكفي في الردّ عليه ما قاله ابن عديّ.

وقال ابن الجوزيّ : عن الدارقطنيّ أنّ الحمل فيه على محمّد بن محمّد بن النعمان ، لا على جدّه.

وكلام الدارقطنيّ الذي ذكرناه محتمل لذلك ، ولأن يكون المراد تفرّد النعمان ، كما قاله ابن عديّ.

وأمّا قول ابن حبّان : إنّ النعمان يأتي عن الثقات بالطامّات (٢) ، فهو مثل كلام الدارقطنيّ ، إلّا أنّه بالغ في الإنكار ، وقد روى ابن حبّان في كتاب «المجروحين» عن أحمد بن عبيد ، عن محمّد بن محمّد.

وقول ابن الجوزيّ في كتاب الضعفاء : «إنّ الدارقطنيّ طعن في محمّد بن محمّد ابن النعمان» (٣) ، فالذي حكيناه من كلام الدارقطنيّ رحمه‌الله هو الإنكار ، لا التضعيف.

فتحصّل من هذا إبطال الحكم عليه بالوضع ، لكنّه غريب ، كما قال الدارقطنيّ ، وهو لأجل كلام ابن عديّ صالح لأن يعتضد به غيره.

وهذا الحديث كان ينبغي تقديمه بعد الأوّل ؛ لكونه من طريق نافع ، ولكنّا أخّرناه لأجل ما وقع فيه من الكلام.

وممّا يجب أن يتنبّه له : أنّ حكم المحدّثين بالإنكار والاستغراب ، قد يكون بحسب تلك الطريق ، فلا يلزم من ذلك ردّ متن الحديث ، بخلاف إطلاق الفقيه «أنّ

__________________

(١) الموضوعات لابن الجوزي (٢ / ٢١٧).

(٢) المجروحين لابن حبان (٣ / ٧٣) ترجمة النعمان.

(٣) الضعفاء لابن الجوزي (٣ / ٩٧) رقم ٣١٨٣.

الحديث موضوع» فإنّه حكم على المتن من حيث الجملة ، فلا جرم قبلنا كلام الدارقطنيّ ، ورددنا كلام ابن الجوزيّ ، والله أعلم.

وحديث آخر : من رواية ابن عمر رضي الله عنهما :

ذكره الدارقطنيّ في «العلل» في مسند ابن عمر في حديث : «من استطاع أن يموت بالمدينة فليفعل» (١).

قال : حدثنا جعفر بن محمّد الواسطيّ ، حدثنا موسى بن هارون ، حدثنا محمّد بن الحسن الختليّ ، حدثنا عبد الرحمن بن المبارك ، حدثنا عون بن موسى ، عن أيّوب ، عن نافع ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني إلى المدينة كنت له شفيعاً وشهيداً».

قيل للختليّ : إنما هو سفيان بن موسى!

قال : اجعلوه عن ابن موسى.

قال موسى بن هارون : ورواه إبراهيم بن الحجّاج ، عن وهب ، عن أيّوب ، عن نافع مرسلاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا أدري أسمعه من إبراهيم بن الحجّاج أو لا؟

وإنّما لم افرد هذا الحديث بترجمة ؛ لأنّ نسخة «العلل» للدارقطنيّ التي نقلت منها سقيمة (٢).

__________________

(١) العلل للدارقطني () ومسند أحمد (٢ / ٧٤).

(٢) انظر إلى مدى احتياط الإمام السبكي في نقله للحديث ، وتمييزه بين الصائب والسقيم ، وعدم وضعهما في محلٍّ واحدٍ للاستدلال؟ وهذا غاية الورع والضبط والدقّة.

وكل هذا لم يَرُقْ في عين ابن عبد الهادي فاعترض عليه بقوله : يعتلّ بأنّ النسخة التي نقل منها سقيمة؟! (الصارم ٩٥).

الحديث السادس : «من زار قبري» أو «من زارني» «كنت شفيعاً

له» أو «شهيداً»

رواه أبو داود الطيالسيّ في مسنده (١) ، وقد سمعت المسند المذكور كلّه متفرّقاً على أصحاب ابن الخليل : أخبرنا أبو بكر أحمد بن محمّد بن أبي القاسم بن بدران بن أبان الدشتيّ بقراءتي عليه بالشام سنة سبع وسبعمائة قال : أنا الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل بن عبد الله الدمشقيّ بحلب سنة ثلاث وأربعين وستمائة قال : أنا القاضي أبو المكارم أحمد بن محمّد بن محمد بن عبد الله بن محمّد بن عبد الرحمن بن محمّد بن قيس اللبان قراءة عليه وأنا أسمع غير مرّة بأصبهان في سنة إحدى وتسعين وخمسمائة ، قيل له : أخبركم أبو عليّ الحسن بن أحمد بن الحسن الحدّاد المقرئ قراءة عليه وأنت تسمع في محرّم سنة اثنتي عشرة وخمسمائة فأقرّ به ، قال : أنا الإمام أبو نعيم أحمد بن عبد الله بن أحمد بن إسحاق الحافظ قراءة عليه وأنا أسمع ، أنا أبو محمّد عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس ، حدثنا أبو بشر يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود الطيالسيّ ، حدثنا سوار بن ميمون أبو الجرّاح العبديّ

__________________

ولم يعرف المنكوب! أنّ الإنسان لم يكلّف إلّا ما في وسعه ، والواجب عليه التنبيه على خطأ النسخة ليخرج من عهدته.

ولمّا كان الإمام السبكي يؤكّد على قراءات النسخ ويوصل طرقه إلى النسخ الصحيحة المسموعة التي عليها بلاغات القراءة والسماع والطباق ، نرى ابن عبد الهادي يضجّ ـ أيضاً ـ من ذلك ، ويعتبره تطويلاً لا حاجة إليه!!

فلا يرضى جناب ابن عبد الهادي الحنبلي ، بالتصريح بالتصحيح ، ولا بالتنبيه على السقم؟!

فبالله عليك ـ أيها القارئ الكريم ـ أيّ الطريقتين أهدى ، وأقرب رشداً؟ طريقة الإمام السبكيّ ، أو طريقة الحنبلي؟ وكتب السيّد

(١) مسند أبي داود الطيالسي (١ / ١٢) وفيه : نوار بن ميمون. وانظر منحة المعبود (١ / ٢٢٨).

قال : حدّثني رجل من آل عمر ، عن عمر رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من زار قبري» ـ أو قال : «من زارني» ـ «كنت له شفيعاً» ـ أو «شهيداً» ـ ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله عزوجل في الآمنين يوم القيامة».

وذكر البيهقيّ هذا الحديث في «السنن الكبير» (١) من جهة الطيالسيّ رحمه‌الله.

وذكره الحافظ ابن عساكر من جهته (٢) : أنبأناه عبد المؤمن وغيره ، عن ابن الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو عليّ الحدّاد إجازة ، ثمّ أنا ابن السمرقنديّ ، أنا يوسف بن الحسن التفكريّ قالا : أنا أبو نعيم حدثنا ابن فارس.

(ح) وبه إلى ابن عساكر قال : وأخبرنا الشحاميّ ، أنا أبو بكر البيهقيّ ، أنا ابن فورك ، أنا ابن فارس ، فذكره.

وسوار بن ميمون روى عنه شعبة ؛ لما سنذكره في الحديث السابع ، ورواية شعبة عنه دليل على ثقته عنده ، فلم يبق في الإسناد من ينظر فيه إلّا الرجل الذي من آل عمر ، والأمر فيه قريب ، لا سيّما في هذه الطبقة التي هي طبقة التابعين (٣).

وأمّا قول البيهقيّ : هذا إسناد مجهول.

فإن كان سببه جهالة الرجل الذي من آل عمر فصحيح ، وقد بيّنا قرب الأمر فيه.

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي (٥ / ٢٤٥) باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولاحظ شعب الإيمان (٣ / ٤٨٨).

(٢) تاريخ ابن عساكر.

(٣) هذا هو المعروف بحديث (حاطب) الذي قال عنه الذهبي انّه أجود أحاديث الزيارة إسناداً ، وأقرّه السخاوي في المقاصد الحسنة (ص ٤١٣) والسيوطي في الدرر المنتثرة (ص ١٧٣) قال ممدوح : فهؤلاء ثلاثة من الحفّاظ اتّفقوا على مقولةٍ تدحض المخالف. لاحظ رفع المنارة (ص ٣٣٣).

وإن كان سببه عدم علمه بحال سوار بن ميمون ، فقد ذكرنا رواية شعبة عنه ، وهي كافية.

وقد روى البيهقيّ أيضاً رواية شعبة عنه في غير السنن ، كما سنذكره في الحديث السابع.

وذكر البيهقيّ في موضع آخر : أنّه اختلف فقيل : سوار بن ميمون ، وقيل :

ميمون بن سوار ، من رواية وكيع عنه.

الحديث السابع : «من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة»

رواه أبو جعفر العقيليّ (١) وغيره من رواية سوار بن ميمون المتقدّم على وجه آخر غير ما سبق :

أخبرنا الحافظ أبو محمّد إذناً ، أنا ابن الشيرازيّ في كتابه ، أنا ابن عساكر سماعاً ، أنا الشحاميّ ، أنا البيهقي ، أنا أبو عبد الله الحافظ ، أخبرني عليّ بن عمر الحافظ ، حدثنا أحمد بن محمّد الحافظ ، حدّثني داود بن يحيى.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أبو البركات ابن الأنماطيّ ، أنا أبو بكر الشاميّ ، أنا أبو الحسن ، أنا أبو الحسن العتيقيّ ، أنا ابن الدخيل ، حدثنا أبو جعفر محمّد بن عمرو العقيليّ ، حدثنا محمّد بن موسى ، قالا : حدثنا أحمد بن الحسن الترمذيّ ، حدثنا عبد الملك بن إبراهيم الجديّ ، حدثنا شعبة ، عن سوار بن ميمون ، عن .. (٢).

وفي حديث الشحاميّ : حدثنا هارون بن قزعة ، عن رجل من آل الخطّاب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة». زاد الشحاميّ :

__________________

(١) الضعفاء الكبير للعقيلي (٤ / ٣٦١) رقم ١٩٧٣.

ولاحظ شعب الإيمان للبيهقي (٣ / ٤٨٩) وانظر رفع المنارة (ص ٣٣٥).

(٢) في هامش الهندية : كذا في الأصل.

«ومن سكن المدينة وصبر على بلائها ، كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة». وقالا : «ومن مات في أحد الحرمين بعثه الله في الآمنين». وقال الشحاميّ : «من الآمنين يوم القيامة».

وهارون بن قزعة : ذكره ابن حبّان في «الثقات» (١) والعقيليّ لمّا ذكره في كتابه (٢) لم يذكر فيه أكثر من قول البخاريّ : إنّه لا يتابع عليه ، فلم يبق فيه إلّا الرجل المبهم ، وإرساله.

وقوله فيه : «من آل الخطّاب» ، كذا وقع في هذه الرواية ، وهو يوافق قوله في رواية الطيالسيّ : من آل عمر ، وقد أسنده الطيالسيّ عن عمر ، كما سبق.

لكنّي أخشى أن يكون «الخطّاب» تصحيفاً من «حاطب» فإنّ البخاريّ لمّا ذكره في التأريخ قال : هارون أبو قزعة ، عن رجل من ولد حاطب ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات في أحد الحرمين ...» روى عنه ميمون بن سوار ، لا يتابع عليه.

وقال ابن حبّان : إنّ هارون بن قزعة يروي عن رجل من ولد حاطب المراسيل.

وعلى كلا التقديرين فهو مرسل جيّد.

وأمّا قول الأزديّ : إنّ هارون متروك الحديث ؛ لا يحتجّ به.

فلعلّ مستنده فيه ما ذكره البخاريّ والعقيليّ ، وبالغ في إطلاق هذه العبارة ؛ لأنّها إنّما تطلق حيث يظهر من حال الرجل ما يستحقّ به الترك.

وقد عرفت أنّ ابن حبّان ذكره في الثقات ، وابن حبّان أعلم من الأزديّ وأثبت.

وقد روي عن هارون بن قزعة أيضاً مسنداً بلفظ آخر ، وهو :

__________________

(١) الثقات لابن حبان (٧ / ٥٨٠) ترجمة هارون.

(٢) الضعفاء للعقيلي (٤ / ٣٦١) رقم ١٩٧٣.

الحديث الثامن : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني

في حياتي» (١)

رواه الدارقطنيّ وغيره ، أخبرناه الحافظ أبو محمّد الدمياطيّ سماعاً عليه في كتاب «السنن» للدارقطنيّ قال : أنا الحافظ أبو الحجّاج يوسف بن خليل ، أنا أبو برح ، أنا ابن (٢) الإخشيد ، أنا ابن عبد الرحيم ، أنا الدارقطنيّ ، حدثنا أبو عبيد والقاضي أبو عبد الله وابن مخلّد قالوا : حدثنا محمّد بن الوليد البسريّ ، حدثنا وكيع ، حدثنا خالد بن أبي خالد وأبو عون ، عن الشعبيّ والأسود بن ميمون (٣) ، عن هارون بن قزعة ، عن رجل من آل حاطب ، عن حاطب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن مات بأحد الحرمين بعث من الآمنين يوم القيامة».

هكذا هو في «سنن الدارقطنيّ» (٤).

وأنبأنا به أيضاً عبد المؤمن ، أنبأنا ابن الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا فراتكين التركيّ ، أنا الجوهريّ ، أنا عليّ بن محمّد بن لؤلؤ ، أنا زكريّا الساجيّ.

(ح) قال ابن عساكر : وأنا أحمد بن محمّد البغداديّ ، أنا ابن شكرويه ومحمّد

__________________

(١) في تلخيص الحبير (٧ / ٤١٥) رواه الدارقطني ، وفي طريق آخر بلفظ «وفاتي» بدل «موتي» ورواه أبو يعلى في مسنده ، وابن عدي في كامله ، ورواه الطبراني في الأوسط ، ورواه العقيلي عن حديث ابن عباس.

وقال الممدوح : وأخرجه البيهقي والمحاملي والساجي كما في الميزان ، وعلقه ابن عبد البرّ في الاستذكار ، ورواه البخاري في تاريخه بلفظ : «من مات ...» لاحظ رفع المنارة (ص ٣٣٠).

(٢) الكلمة (ابن) لا توجد في الطبعة المصرية والصحيح إثباتها لاحظ ص (٩٠) وغيرها.

(٣) علّق في المصرية : كذا وقع في الأصل هنا ، وفيما يأتي ، وانظر هل هو المتقدّم أو غيره.

(٤) سنن الدارقطني (٢ / ١٩٣) وفي طبعة (٢ / ٢٧٨) كتاب الحج ، وفيه : هارون أبي قزعة ، وانظر شعب الإيمان للبيهقي (٣ / ٤٨٨).

ابن أحمد الشمار (١) قالا : أنبأنا إبراهيم بن عبد الله ، أنا المحامليّ قالا : حدثنا محمّد بن الوليد البسريّ ، حدثنا وكيع ، حدثنا خالد بن أبي خالد وابن عون ، عن الشعبيّ والأسود ابن ميمون ، عن هارون بن قزعة ، به.

وأنبأناه عبد المؤمن أيضاً ، أنبأنا أبو نصر ، أنا ابن عساكر ، أنا عليّ بن إبراهيم الحسينيّ ، أنا رشأ بن نظيف المقرئ ، أنا الحسن بن إسماعيل الفرات ، حدثنا أحمد بن مروان المالكيّ ، حدثنا زكريّا بن عبد الرحمن البصريّ ، حدثنا محمّد بن الوليد ، حدثنا وكيع بن الجرّاح ، عن خالد وابن عون ، عن هارون بن قزعة مولى حاطب ، عن حاطب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن مات في أحد الحرمين بُعِث يوم القيامة من الآمنين» (٢).

كذا وقع في رواية أحمد بن مروان المالكيّ ، وهو صاحب المجالسة ، عن هارون ، عن حاطب ، والذين رووا عن رجل عن حاطب ـ كما تقدّم ـ أولى بأن يكون الصواب معهم.

الحديث التاسع : «من حجّ حجّة الإسلام ، وزار قبري ، وغزا غزوة ،

وصلّى عليّ في بيت المقدس ، لم يسأله الله عزوجل فيما

افترض عليه»

رواه الحافظ أبو الفتح الأزديّ في الجزء الثاني من «فوائده» (٣) :

أخبرنا به أبو النجم شهاب بن عليّ المحسنيّ قراءة عليه وأنا أسمع ، بالقرافة الصغرى في سنة سبع وسبعمائة ، وأبو الفتح بن إبراهيم بقراءتي عليه سنة ثلاث

__________________

(١) في (ه) : السمسار.

(٢) تاريخ ابن عساكر ، لاحظ مختصر ابن منظور (٢ / ٤٠٦).

(٣) لاحظ لسان الميزان (٢ / ٤) ترجمة الأزدي ، قال وهو الثامن من فوائده.

وعشرين ، قالا : أنا أبو محمّد عبد الوهّاب بن ظافر بن عليّ بن فتوح الأزديّ المعروف ب «ابن رواج» قال الأوّل : سماعاً ، وقال الثاني : إجازة ، قال : أنا الحافظ أبو طاهر أحمد بن أحمد بن محمّد بن أحمد بن محمّد بن إبراهيم بن سلفة الأصبهانيّ قراءة عليه وأنا أسمع ، أنا أبو طالب عبد القادر بن محمد بن يوسف ببغداد ، حدثنا أبو إسحاق بن إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكيّ ، أنا أبو الفتح محمّد بن الحسين بن أحمد الأزديّ الحافظ ، حدثنا النعمان بن هارون بن أبي الدلهاث ، حدثنا أبو سهل بدر بن عبد الله المصيصيّ ، حدثنا الحسن بن عثمان الرماديّ (١) ، حدثنا عمّار بن محمّد ، حدّثني خالي سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله بن عمر (٢) رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من حجّ حجّة الإسلام ، وزار قبري ، وغزا غزوة ، وصلّى عليّ في بيت المقدس ، لم يسأله الله عزوجل فيما افترض عليه».

عمّار بن محمّد ابن اخت سفيان الثوري : روى له مسلم.

والحسن بن عثمان الرماديّ : قال الخطيب (٣) : كان أحد العلماء الأفاضل ، من أهل المعرفة والثقة والأمانة ، ولي قضاء الشرقيّة في خلافة المتوكّل ، وروى عنه طلحة بن محمّد بن جعفر ، وذكره غير الخطيب أيضاً ، وكان صالحاً ديّناً فهماً ، قد عمل الكتب ، كانت له معرفة بأيّام الناس ، وله تأريخ حسن ، وكان كريماً واسعاً مفضالاً.

وأبو سهل بدر بن عبد الله المصيصيّ : ما علمت من حاله شيئاً.

__________________

(١) في تاريخ بغداد (٦ / ٣٥٦) : الزياديّ.

(٢) هكذا ورد في الكتاب : «ابن عمر» وقال ممدوح : والصواب : ابن مسعود ، كما في لسان الميزان (٢ / ٤) والقول البديع للسخاوي (ص ١٣٥) وتنزيه الشريعة (٢ / ١٧٥) تبعاً لذيل اللآلي المصنوعة للسيوطي.

أقول : وعبارة الصارم «عن عبد الله» فلاحظ.

(٣) تاريخ بغداد (٧ / ٣٥٦) ترجمة الزيادي.

والنعمان بن هارون بن أبي الدلهاث : حدّث ببغداد عن جماعة كثيرين ، وروى عنه محمّد بن المظفّر ، وعليّ بن عمر السكريّ ، قال الخطيب : وما علمت من حاله إلّا خيراً.

وصاحب الجزء ابو الفتح محمّد بن الحسين بن أحمد بن الحسين بن عبد الله بن بريدة (١) بن النعمان الأزديّ الموصليّ : من أهل العلم والفضل ، كان حافظاً ، صنّف كتاباً في علوم الحديث ، ذكره الخطيب في «التأريخ» (٢) وابن السمعانيّ في «الأنساب» أثنى عليه محمّد بن جعفر بن علّان ، وذكره بالحفظ وحسن المعرفة بالحديث.

وقال أبو النجيب الأرمويّ : رأيت أهل الموصل يوهنونه جدّاً ، ولا يعدّونه شيئاً ، وسئل البرقانيّ عنه فأشار إلى أنّه كان ضعيفاً ، وذكر غيره كلاماً أشدّ من هذا (٣).

الحديث العاشر : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ»

رواه أبو الفتوح سعيد بن محمّد بن إسماعيل اليعقوبيّ في «جزء له فيه فوائد» مشتملة على بعض شمائل سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وآثاره ، وما ورد في فضل زيارته ، ودرجة زوّاره.

وهذا الجزء رواية المحدّث إسماعيل بن عبد الله بن عبد المحسن الأنصاريّ المالكيّ المشهور ب «ابن الأنماطيّ» ونقلت من خطّه قال :

أنا أبو محمّد عبد الله بن علوان بن هبة الله بن ريحان الحوطيّ التكريتيّ الصوفيّ

__________________

(١) في (ه) : يزيد.

(٢) تاريخ بغداد (٢ / ٢٤٣) رقم ٧٢٤ والأنساب للسمعاني (١ / ١٢٠) الأزدي.

(٣) لاحظ كلام البرقاني في تاريخ بغداد (٢ / ٢٤٣) رقم ٧٢٤ ترجمة الأزدي.

قراءة عليه وأنا أسمع ، بالحرم الشريف على دكّة الصوفيّة بجانب باب بني شيبة تجاه الكعبة المعظّمة زادها الله شرفاً ، قال : حدثنا أبو الفتوح (١) سعيد بن محمّد بن إسماعيل اليعقوبيّ في ربيع الأوّل سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة قال : حدثنا الإمام ابن السمعاني ، حدثنا أبو سعيد أحمد بن محمّد بن أحمد بن الحسن الحافظ إملاء في الروضة بين قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنبره في الزورة الثانية ، أنا أبو الحسين أحمد بن عبد الرحمن الذكوانيّ ، أنا أحمد بن موسى بن مردويه الحافظ ، حدثنا الحسن بن محمّد السوسيّ ، حدثنا أحمد بن سهل بن أيّوب ، حدثنا خالد بن يزيد ، حدثنا عبد الله بن عمر العمريّ قال : سمعت سعيد المقبريّ يقول : سمعت أبا هريرة رضى الله عنه يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ ، ومن زارني كنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».

خالد بن يزيد : إن كان هو العمريّ ، فقد قال ابن حبّان : إنّه منكر الحديث (٢).

وأحمد بن سهل بن أيّوب : أهوازيّ ، قال الصريفينيّ : مات بالأهواز يوم التروية سنة إحدى وتسعين ومائتين.

الحديث الحادي عشر : «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له

شفيعاً وشهيداً»

وفي رواية : «من زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة».

أنبأنا الدمياطيّ وابن هارون وغيرهما قالوا : أنبأنا محمّد بن هبة الله قال : أنا عليّ بن الحسن الحافظ سماعاً ، أنا زاهر ، أنا البيهقي ، أنا أبو سعيد بن أبي عمرو.

__________________

(١) في (ه) : الفتح.

(٢) كتاب المجروحين لابن حبان (١ / ٢٨٤).

(ح) قال الحافظ : وأنا أبو سعد ابن البغداديّ ، أنا أبو نصر محمّد بن أحمد بن سيبويه (١) أنا أبو سعيد الصيرفيّ ، أنا محمّد بن عبد الله الصفّار ، حدثنا ابن أبي الدنيا ، حدّثني سعيد بن عثمان الجرجانيّ ، حدثنا محمّد بن إسماعيل بن أبي فديك ، أخبرني أبو المثنّى سليمان بن يزيد الكعبيّ (٢) ، وفي حديث زاهر : العتكيّ.

(ح) قال الحافظ : وأنا ابن السمرقنديّ ، أنا ابن مسعدة ، أنا حمزة ، حدثنا أبو بكر ابن محمّد بن أحمد بن إسماعيل بجرجان ، حدثنا أبو عوانة موسى بن يوسف القطّان ، حدثنا عبّاد بن موسى الختليّ ، حدثنا ابن أبي فديك ، عن سليمان بن يزيد الكعبيّ ، عن أنس ابن مالك رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً». وفي حديث عبادة : «كنت له شهيداً» أو «شفيعاً». وقالا : «يوم القيامة» (٣).

وذكره ابن الجوزيّ في «مثير العزم الساكن» (٤) ومن خطّه نقلت بسنده إلى ابن أبي الدنيا بإسناده المذكور.

وبالإسناد إلى البيهقيّ : أنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا عليّ بن عيسى ، حدثنا أحمد بن عبدوس بن حمدويه الصفّار النيسابوري ، حدثنا أيّوب بن الحسن ، حدثنا محمّد بن إسماعيل بن أبي فديك بالمدينة ، حدثنا سليمان بن يزيد الكعبيّ ، عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من مات في أحد الحرمين بعث من الآمنين يوم

__________________

(١) في (ه) : شبويه.

(٢) في (ه) : العكي.

(٣) قال ممدوح : أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (٣ / ٤٨٨) ، والسهمي في تاريخ جرجان (ص ٤٣٤) وابن أبي الدنيا في القبور. وانظر المداوي لعلل المناوي (٦ / ٢٣٢٥) لأحمد بن الصديق الغماري. رفع المنارة (ص ٣٢٤ ـ ٣٢٦).

(٤) مثير العزم الساكن لابن الجوزي.

القيامة ، ومن زارني محتسباً إلى المدينة كان في جواري يوم القيامة».

هذه الأسانيد الثلاثة دارت على محمّد بن إسماعيل بن أبي فديك ، وهو مجمع عليه.

وسليمان بن يزيد : ذكره ابن حبّان في الثقات (١) ، وقال أبو حاتم الرازيّ : إنّه منكر الحديث ، ليس بقويّ (٢).

الحديث الثاني عشر : «ما من أحد من امّتي له سعة ثمّ لم يزرني ،

فليس له عذر»

قال الحافظ أبو عبد الله محمّد بن محمود بن النجّار في كتاب «الدرّة الثمينة في فضائل المدينة» : أنبأنا أبو محمّد بن عليّ ، أنا أبو يعلى الأزديّ ، أنا أبو إسحاق البجليّ ، أنا سعيد بن أبي سعيد النيسابوريّ ، أنبأنا إبراهيم بن محمّد المؤدّب ، أنا إبراهيم بن محمّد ، حدثنا محمّد بن محمّد ، حدثنا محمّد بن مقاتل ، حدثنا جعفر بن هارون ، حدثنا سمعان بن المهديّ ، عن أنس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني ميّتاً فكأنّما زارني حيّاً ، ومن زار قبري وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، وما من أحد من امّتي له سعة ثمّ لم يزرني فليس له عذر».

الحديث الثالث عشر : «من زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم

القيامة شهيداً» أو قال : «شفيعاً».

ذكره الحافظ أبو جعفر العقيليّ في كتاب الضعفاء في ترجمة «فضالة بن سعيد ابن زميل المازنيّ» (٣) ، قال : حدثنا سعيد بن محمّد الحضرميّ ، حدثنا فضالة بن سعيد بن

__________________

(١) الثقات لابن حبان (٦ / ٣٩٥).

(٢) الجرح والتعديل للرازي.

(٣) الضعفاء للعقيلي (٣ / ٤٥٧) وفيه : ان ابن زميل بلفظ : «كنت له شهيداً».

زميل المازني ، حدثنا محمّد بن يحيى المازنيّ ، عن ابن جُرَيْجٍ ، عن عطاء ، عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي ، ومن زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً» أو قال : «شفيعاً».

وذكره الحافظ ابن عساكر (١) من جهته أيضاً : أنبأنا به أبو محمّد الدمياطيّ ، عن ابن هبة الله بسماعه منه ، أنا أبو البركات عبد الوهّاب بن المبارك الأنماطيّ ، أنا أبو بكر محمّد بن المظفّر الشاميّ ، أنا أبو الحسن أحمد بن محمّد العتيقيّ ، أنا يعقوب بن يوسف بن أحمد الصيدلانيّ ، حدثنا أبو جعفر محمّد بن عمرو العقيليّ ... فذكره بإسناده ، إلّا أنّه قال : «من رآني في المنام كان كمن رآني في حياتي» والباقي سواء.

ووقع في روايته أيضاً : شعيب بن محمّد الحضرميّ ، ولعلّه تصحيف.

وفضالة بن سعيد : قال العقيليّ في ترجمته : حديثه غير محفوظ ، لا يعرف إلّا به ، هكذا رأيته في كتاب العقيليّ ، وذكر الحافظ ابن عساكر عنه أنّه قال : لا يتابع على حديثه من جهةٍ تثبت ، ولا يعرف إلّا به.

ومحمّد بن يحيى المازنيّ : ذكره ابن عديّ في «الكامل» (٢) وقال : إنّ أحاديثه مظلمة منكرة.

ولم يذكر ابن عديّ هذا الحديث في أحاديثه ، ولم يذكر فيه ، ولا العقيليّ في فضالة شيئاً من الجرح سوى التفرّد والنكارة.

__________________

(١)

تاريخ دمشق لابن عساكر.

(٢) الكامل لابن عدي (٦ / ٢٢٣٨).

الحديث الرابع عشر : «من لم يزر قبري فقد جفاني»

قال أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر الحسينيّ (١) في كتاب «أخبار المدينة» : حدثنا محمّد بن إسماعيل ، حدّثني أبو أحمد الهمداني ، حدثنا النعمان بن شبل ، حدثنا محمّد بن الفضل ـ مدينيّ ـ سنة ستّ وسبعين ، عن جابر ، عن محمّد بن عليّ ، عن عليّ رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن لم يزرني فقد جفاني».

وقال الحافظ أبو عبد الله ابن النجّار في «الدرّة الثمينة» (٢) : روي عن عليّ رضى الله عنه أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من لم يزر قبري فقد جفاني».

وقال أبو سعيد عبد الملك بن محمّد بن إبراهيم النيسابوريّ الخركوشيّ الواعظ في كتاب «شرف المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : روي عن عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه قال : قال نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي ، ومن لم يزر قبري فقد جفاني» (٣).

وهذا الكتاب في ثمان مجلدات ، ومصنّفه عبد الملك النيسابوريّ ، صنّف في علوم الشريعة كتباً ، توفّي سنة ستّ وأربعمائة بنيسابور ، وقبره بها مشهور يزار ويتبرّك به ، وشيخه في الفقه أبو الحسن الماسرجسي.

وقد روي حديث عليّ رضى الله عنه من طرق اخرى ليس فيها تصريح بالرفع ، ذكرها ابن عساكر (٤) :

__________________

(١) في (ه) : المصفّى. وعلّق فيها : هو يحيى بن الحسن بن جعفر الحجّة بن عُبيد الله الأعرج بن الحسين الأصغر بن الإمام السجّاد زين العابدين ، المتوفى سنة (٢٧٧ ه‍) الأعلام للزركلي ٩ / ١٧٠.

(٢) الدرة الثمينة لابن النجار (ص ٣٩٧) ب (١٦).

(٣) شرف المصطفى للخركوشي (ص ٤٢١ و ٤٦٦) كما في بعض التخريجات.

(٤) تاريخ دمشق لابن عساكر ، لاحظ مختصر ابن منظور (٢ / ٤٠٦).

أنبأنا عبد المؤمن وآخرون ، عن ابن الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو العزّ أحمد بن عبيد الله ، أبا أبو محمّد الجوهريّ ، أنا عليّ بن محمّد بن أحمد بن نصير بن عرفة ، حدثنا محمّد بن إبراهيم الصلحيّ ، حدثنا منصور بن قدامة الواسطيّ ، حدثنا المضيء ابن أبي الجارود ، حدثنا عبد الملك بن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عليّ ابن أبي طالب قال : «من سأل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدرجة الوسيلة حلّت له شفاعتي يوم القيامة ، ومن زار قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في جوار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

عبد الملك بن هارون بن عنترة : فيه كلام كثير ، رماه يحيى بن معين وابن حبّان ، وقال البخاريّ : منكر الحديث ، وقال أحمد : ضعيف الحديث.

الحديث الخامس عشر : من أتى المدينة زائراً ...».

قال يحيى الحسينيّ في «أخبار المدينة» في باب ما جاء في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي السلام عليه : حدثنا محمّد بن يعقوب ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن رجل ، عن بكر ابن عبد الله ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أتى المدينة زائراً لي وجبت له شفاعتي يوم القيامة ، ومن مات في أحد الحرمين بعث آمناً» (١).

وقد وردت أحاديث اخر في ذلك فيها : «من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام».

وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى في الكلام عن زيارة سائر الأنبياء والصالحين (٢).

__________________

(١) لاحظ وفاء الوفاء للسمهودي (٤ / ١٣٤٨) والدرّة الثمينة (ص ٣٩٧) ورفع المنارة للممدوح المحمود (ص ٣٢٧ ـ ٣٢٩).

(٢) لاحظ ما يلي (٥ ـ ١٩٦) ولاحظ الباب التاسع.

الباب الثاني :

في

ما ورد من الأخبار والأحاديث

دالّا على فضل الزيارة

وإن لم يكن فيه لفظ «الزيارة»

رُوّينا في «سنن أبي داود السجستانيّ» (١) عن أبي هريرة رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام» (٢).

__________________

(١) سنن أبي داود السجستاني (٢ / ٢١٨) ح ٢٠٤١ كتاب المناسك ، باب زيارة القبور.

(٢) قال ابن حجر في تلخيص الحبير (٧ / ٤١٨) في أحاديث الزيارة : وأصح ما ورد في ذلك ما رواه أحمد وأبو داود من طريق أبي صخر حُميد بن زياد عن يزيد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة مرفوعاً «ما من أحد يسلّم ...» الحديث وبهذا الحديث صدّر البيهقي الباب.

وقال في الصارم المنكي (ص ١٨٩) : روى الإمام أحمد حديث أبي هريرة هذا في مسنده (٢ / ٥٢٧) [وانظر تحفة الاشراف (١٠ / ٤٢١) مع النكت الظراف لابن حجر].

وقال ابن عبد الهادي : اعلم ان هذا الحديث هو الذي اعتمد عليه الإمام أحمد وأبو داود وغيرهما من الأئمة في مسألة الزيارة ، وهو أجود ما استدل به في هذا الباب ، ومع هذا فلا يسلم من مقال في إسناده : من جهة تفرّد ابن صخر عن ابن قسيط عن أبي هريرة ، ولم يُتابع ابن قسيط.

أقول : وتعنّت ابن عبد الهادي هنا واضح ، إذ يُظهر أن الحديث بحاجة إلى متابعة حتى يسلم عن مقالة فيه! وهو خطأ فادح لم ينطق به متعلِّم في الحديث فضلاً عن عالم به.

أنا بذلك وبجميع «سنن أبي داود» شيخنا الحافظ أبو محمّد الدمياطيّ بقراءتي عليه لبعضها ، وقراءةً عليه وأنا أسمع لباقيها قال : أنا بجميعها أبو الحسن بن أبي عبد الله بن أبي الحسن البغداديّ قراءة عليه وأنا أسمع ، عن أبي المعالي الفضل بن سهل بن بشر الأسفرايينيّ ، عن الخطيب أبي بكر أحمد بن عليّ بن ثابت الحافظ.

قال شيخنا : وأنا أيضاً أبو الحسن ، عن الحافظ أبي الفضل محمّد بن ناصر بن محمّد بن علي الفارسيّ الأصل السلاميّ ، وقال : أخبر الشيخان أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عمر بن السمرقنديّ المقرئ ، والعدل الفقيه أبو الحسين محمّد بن محمّد بن الحسين بن محمّد الفرّاء الحنبليّ قالا : أنا الخطيب ـ وفات ابن السمرقنديّ الجزء السابع والعشرين ، فرواه عن الخطيب بالإجازة ـ.

__________________

ثمّ نقل كلمات أهل الجرح في رواة الخبر ، وقال : انّه لا يُنتهى به إلى درجة الصحيح» بالرغم من اعترافه بأنهم من رجال صحيح مسلم ، لكنّه اعترض «انّه لم يرو عنهم عن أبي هريرة» ثمّ قال (ص ١٩٧) فعلم ان الحديث لا ينبغي أن يقال : هو على شرط مسلم ، وإنّما هو حديث إسناده مقارب ، وهو صالح أن يكون متابعاً لغيره وعاضداً له.

ثمّ ذكر (ص ١٩٧) النزاع في دلالة الحديث : من جهة احتمال لفظه فان قوله «ما من أحد يسلّم عليّ» يحتمل أن يكون المراد به عند قبره كما فهمه جماعة من الأئمة ، ويحتمل أن يكون معناه على العموم ، وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد ، وهذا هو ظاهر الحديث ، وهو الموافق للأحاديث المشهورة ....

أقول : أوّلاً : إن فهم الأئمة وهم أفقه الناس بالحديث هو الحجّة ، وموجب لصرف الظاهر ـ إن ثبت ـ كما فعل أبو داود حيث ترجم للباب بزيارة القبور وأورد الحديث المذكور فيه في (السنن).

وثانياً : العموم يشمل القريب أيضاً فيكون دليلاً على مشروعية قصد السلام عليه بالسفر للزيارة ، وهو كافٍ في دحض مقالة السلفيّة ، والأحاديث المشهورة كلّها عاضدة لهذا الحكم ودليل على صحّة قصد المسلّم حضرته الشريفة ، فلما ذا تخالفون سنته بالمنع عن ذلك؟ وكتب السيّد

قال ابن ناصر : وقرأت هذا الكتاب مراراً على الشيخ الصالح ؛ أبي غالب محمّد بن الحسن بن عليّ البصريّ الماورديّ.

قالا : أنا أبو عليّ عليّ بن أحمد بن علي التستريّ قال : أنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشميّ ، أنا أبو عليّ محمّد بن أحمد بن عمرو اللؤلؤيّ ، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث بن إسحاق السجستانيّ قال : حدثنا محمّد بن عوف ، حدثنا المقرئ ، حدثنا حَيْوة ، عن أبي صخر حُمَيْد بن زياد ، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط ، عن أبي هريرة ... فذكره بلفظه.

وهذا إسناد صحيح ؛ فإنّ محمّد بن عوف ـ شيخ أبي داود : ـ جليل حافظ لا يسأل عنه ، وقد رواه معه عن المقرئ عبّاس بن عبد الله الترقفيّ ، رواه من جهته أبو بكر البيهقيّ (١).

والمقرىء ، وحَيْوة ، ويزيد بن عبد الله بن قسيط : متّفق عليهم.

وحُمَيْد بن زياد : روى له مسلم ، وقال أحمد : ليس به بأس ، وكذلك قال أبو حاتم ، وقال يحيى بن معين : ثقة ليس به بأس.

وروي عن ابن معين فيه رواية : أنّه ضعيف.

ورواية التوثيق ترجّح عليها ؛ لموافقتها أحمد ، وأبا حاتم ، وغيرهما.

وقال ابن عديّ : هو عندي صالح الحديث ، وإنّما أنكرت عليه حديثين : «المؤمن يألف» وفي القدريّة ، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيماً (٢).

وأمّا قول الشيخ زكيّ الدين فيه : إنّه أنكر عليه شيئاً من حديثه ، فقد بيّنا عن ابن عديّ تعيين ما أنكر عليه ، وليس منه هذا الحديث ، وبمقتضى هذا يكون هذا

__________________

(١) السنن الكبرى للبيهقي (٥ / ٢٤٥) كتاب الحج ، باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٢) الكامل لابن عدي (٢ / ٦٨٤) ترجمة حميد بن زياد ، والجرح والتعديل للرازي (٣ / ٢٢٢).

الحديث صحيحاً إن شاء الله تعالى.

وقد اعتمد جماعة من الأئمّة على هذا الحديث في مسألة الزيارة ، وصدّر به أبو بكر البيهقيّ «باب زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو اعتماد صحيح ، واستدلال مستقيم ؛ لأنّ الزائر المسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحصل له فضيلة ردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم السلام عليه ، وهي رتبة شريفة ، ومنقبة عظيمة ، ينبغي التعرّض لها ، والحرص عليها ؛ لينال بركة سلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قيل : ليس في الحديث تخصيص بالزائر ، فقد يكون هذا حاصلاً لكل مسلّمٍ ؛ قريباً كان أو بعيداً ، وحينئذٍ تحصل هذه الفضيلة بالسلام من غير زيارة ، والحديث عامّ.

قلت : قد ذكره ابن قدامة من رواية أحمد (١) ، ولفظه : «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري» وهذه زيادة مقتضاها التخصيص.

فإنّ ثبت فذاك ، وإن لم يثبت فلا شكّ أنّ القريب من القبر يحصل له ذلك ؛ لأنّه في منزلة المسلّم بالتحيّة التي تستدعي الردّ ، كما في حال الحياة ، فهو بحضوره عند القبر قاطع بنيل هذه الدرجة على مقتضى الحديث ، متعرّض لخطاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له بردّ السلام عليه ، وفي المواجهة بالخطاب فضيلة زائدة على الردّ على الغائب.

[أنواع السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

واعلم : أنّ السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على نوعين :

أحدهما : المقصود به الدعاء (٢) ، كقولنا : «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» فهذا دعاء منّا

__________________

(١) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٨).

(٢) سيذكر المؤلّف في (خاتمة) هذا الكتاب ألفاظ «الصلاة» على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواردة في النصوص الحديثية ، فراجع.

له بالصلاة والتسليم من الله تعالى ، ويقال للعبد : «مسلّم» لدعائه بالسلام ، كما يقال له : «مصلّ» إذا دعا بالصلاة :

قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الآية (٥٦) سورة الأحزاب (٣٣)].

وسئل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما ثبت في الصحيحين (١) وغيرهما ـ قيل : قد عرفنا السلام عليك ، فكيف الصلاة عليك؟

قال : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد ، والسلام كما قد علّمتم».

قال العلماء : معناه كما قد علّمتم في التشهّد «السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته».

وقد يأتي هذا القسم بلفظ الغيبة ، كما روي عن فاطمة بنت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورضي عنها قالت : قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا دخلت المسجد فقولي : بسم الله ، والسلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، واغفر لنا ، وسهّل لنا أبواب رحمتك ، فإذا فرغت فقولي مثل ذلك غير أن قولي : وسهّل لنا أبواب فضلك».

رواه القاضي إسماعيل بهذا اللفظ ، ورواه ابن ماجة في سننه (٢) عن فاطمة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل المسجد يقول : «بسم الله ،

__________________

(١) صحيح البخاري (٦ / ٤٨٩) باب (٤٥٢) كتاب التفسير ، ذيل الآية وصحيح مسلم (٢ / ١٦) باب الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد التشهّد.

(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٢٥٣) كتاب المساجد والجماعات ، باب (١٣) الدعاء عند دخول المسجد.

والسلام على رسول الله ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك» وإذا خرج قال : «بسم الله ، والسلام على رسول الله ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب فضلك».

والإسناد إلى فاطمة رضي الله عنها عن الطريقين فيه انقطاع.

والمختار أن يقول في ذلك أيضاً : السلام عليك أيّها النبيّ ، كما في التشهد.

والمقصود من هذه الأحاديث : بيان هذا النوع من السلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ الخطاب والغيبة جميعاً ، ولا فرق في ذلك بين الغائب عنه ، والحاضر عنده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهذا النوع هو الذي قيل باختصاصه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأُمّة ؛ حتّى لا يسلّم على غيره من الأُمّة إلّا تبعاً له ، كما لا يُصلّى على غيره من الأُمّة إلّا تبعاً له.

النوع الثاني : ما يقصد به التحيّة ، كسلام الزائر إذا وصل إلى حضرته الشريفة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته وبعد وفاته.

وهذا غير مختصّ ، بل هو عامّ لجميع المسلّمين ، ولهذا كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يأتي إلى القبر ويقول : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه ، وورد عنه بلفظ الخطاب وبلفظ الغيبة.

إذا عرف هذان النوعان ، فالنوع الثاني لا شكّ في استدعائه الردّ ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يردّ على المسلّم عليه ، كما اقتضاه الحديث ؛ سواء أوصل بنفسه إلى القبر ، أم أرسل رسولاً؟ كما كان عمر بن عبد العزيز يرسل البريد من الشام إلى المدينة ليسلّم له على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ففي هذين القسمين من هذا النوع يحصل الردّ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما هو عادة الناس في السلام.

وأمّا النوع الأوّل فالله أعلم ، فإن ثبت الردّ فيه أيضاً ـ وحبّذا ، لتشملنا بركة

ذلك كلّما سلّمنا ـ فلا شكّ أنّ الحاضر عند القبر له مزيّة القرب والخطاب ، وإن كان الردّ مختصّاً بالنوع الثاني حرم من لم يزر هذه الفضيلة ، لا حرم الله مؤمناً خيراً.

وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أتاني ملك فقال : يا محمّد ، ربّك يقول : أما يرضيك أن لا يصلّي عليك أحد من امّتك إلّا صلّيت عليه عشراً ، ولا يسلّم عليك إلّا سلّمت عليه عشراً» ، رواه القاضي إسماعيل.

والظاهر أنّ هذا في السلام بالنوع الأوّل.

وقد ورد تفسير هذا الحديث عن الإمام الجليل ؛ أبي عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ ، بما يوافق النوع الثاني :

أخبرنا بذلك سليمان بن حمزة قاضي القضاة الحنبليّ بالشام بقراءتي عليه بسفح جبل قاسيون ، أخبرنا جعفر الهمدانيّ ، أخبرنا السلفيّ ، أخبرنا الشراح ، أخبرنا أبو محمّد الحسن بن محمّد الخلّال الحافظ ، حدثنا عبد الله بن محمّد بن الحسن بن محمّد الشراحيّ قدم علينا قال : سمعت أبا عبد الله أحمد بن خالد الجروريّ قال : سمعت أبا عبد الله محمّد بن زيد يقول : سمعت المقرئ عبد الله بن يزيد يقول في قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام» وقال : هذا في الزيارة إذا زارني فسلّم عليّ «حتّى ردّ الله عليّ روحيّ حتّى أردّ عليه»

فصل : في علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن يسلّم عليه

روي عن عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض ؛ يبلغوني من امّتي السلام».

رواه النسائيّ (١) وإسماعيل القاضي وغيرهما من طرق مختلفة بأسانيد صحيحة

__________________

(١) سنن النسائي (٣ / ٤٣).

لا ريب فيها إلى سفيان الثوريّ ، عن عبد الله بن السائب ، عن زاذان ، عن عبد الله ، وصرّح الثوريّ بالسماع فقال : حدّثني عبد الله بن السائب ، هكذا في كتاب القاضي إسماعيل (١).

وعبد الله بن السائب وزاذان : روى لهما مسلم ، ووثّقهما ابن معين ، فالإسناد إذن صحيح.

ورواه أبو جعفر محمّد بن الحسن الأسديّ ، عن سفيان الثوريّ ، عن عبد الله ابن السائب ، عن زاذان ، عن عليّ رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ لله ملائكة يسيحون في الأرض ؛ يبلغوني صلاة من صلّى عليّ من امّتي».

قال الدارقطنيّ (٢) : المحفوظ عن زاذان ، عن ابن مسعود : «يبلغوني عن امّتي السلام».

وقال بكر بن عبد الله المزنيّ : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حياتي خير لكم ؛ تحدّثون ، ويحدّث لكم ، فإذا متّ كانت وفاتي خيراً لكم ؛ تعرض عليّ أعمالكم ، فإن رأيت خيراً حمدت الله ، وإن رأيت غير ذلك استغفرت الله لكم» (٣).

__________________

(١) كتاب فضل الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، للقاضي إسماعيل.

(٢) سنن الدارقطني.

نقله في مجمع الزوائد (٩ / ٢٤) عن البزّار ، قال في الصارم (٢٠٢) : رواه أحمد في مسنده ، ورواه أبو يعلى الموصلي ورواه ابن أبي عاصم ورواه الحاكم في المستدرك (٢ / ٤٢١) وحكم له بالصحّة ، ورواه أبو حاتم البستي (٢ / ١٣٤) في كتاب الأنواع والتقاسيم عن أبي يعلى وقد سُئل الدار قطني في كتاب العلل عنه؟ فقال ....

وعلّق عليه : رواه في الكبرى كما في تحفة الأطراف (٧ / ٢١) وفي عمل اليوم والليلة رقم (٦٦) قال الهيثمي في مجمع الزوائد (٩ / ٢٤) : رواه البزار ورجاله رجال الصحيح ، وفي فيض القدير (٢ / ...) قال الحافظ العراقي : الحديث متفقٌ عليه دون قوله «سيّاحين».

(٣) قال في الصارم (ص ٢٠٣) هذا خبر مرسل رواه القاضي إسماعيل بن إسحاق في كتاب فضل

قال أيّوب السختيانيّ : بلغني ـ والله أعلم ـ أنّ ملكاً موكّل بكلّ من صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى يبلغه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي كتاب «فضل الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» للقاضي إسماعيل ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث كنتم ، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم».

وهذا الحديث في «سنن أبي داود» (١) من غير ذكر السلام ، وفي هذه الرواية زيادة : «السلام».

وروى ابن عساكر (٢) من طرق مختلفة عن نعيم بن ضمضم العامريّ [عن عمران] بن حميري الجعفيّ قال : سمعت عمّار بن ياسر رضي الله عنهما يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله أعطاني ملكاً من الملائكة يقوم على قبري إذا أنا متّ ، فلا يصلّي عليّ عبد صلاة إلّا قال : يا أحمد ، فلان بن فلان بن فلان يصلّي عليك ، يسمّيه باسمه واسم أبيه ، فيصلّي الله عليه مكانها عشراً».

وفي رواية : «إنّ الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماء الخلائق» ـ وفي رواية : «أسماع الخلائق» ـ «فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة ...» وذكر الحديث.

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : ليس أحد من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلّي عليه صلاة إلّا وهي تبلغه ؛ يقول له الملك : فلان بن فلان يصلّي عليك كذا

__________________

الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ص ٣٦ رقم ٢٥) عن سليمان بن حرب عن حمّاد بن زيد عن غالب القطان عن بكر بن عبد الله ، وهذا إسناد صحيح إلى بكر المزني ، وبكر من ثقات التابعين وأئمّتهم.

(١) سنن أبي داود (٢ / ٢١٨) ح ٢٠٤٢ كتاب المناسك زيارة القبور ، وزاد : ولا تجعلوا قبري عبداً ، ورواه القاضي في فضل الصلاة (ص ٤٥).

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر.

وكذا صلاة (١).

وما تضمّنته هذه الأحاديث والآثار من تبليغ الملائكة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تبيّن ما ورد من كون الصلاة عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعرض عليه ، كما جاء ذلك في أحاديث :

منها في «سنن أبي داود والنسائيّ وابن ماجة» (٢) عن أوس بن أوس رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ من أفضل أيّامكم يوم الجمعة ، فأكثروا عليّ من الصلاة فيه ، فإنّ صلاتكم معروضة عليّ».

قال : فقالوا : يا رسول الله ، وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ قال يقولون : بليت ـ.

__________________

(١) وروى المتعصّب العنيد ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص ٢٠٦) قال : وقال عيسى بن علي الوزير : قرئ على القاضي أبي القاسم بدر بن الهيثم ـ وأنا أسمع ـ قيل له : حدثكم عمرو بن النصر العزال ، حدّثنا عصمة بن عبد الله الأسدي ، حدّثنا نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن الحميري ، قال : قال لي عمّار بن ياسر ـ وأنا وهو مُقْبِلان ، ما بين الحيرة والكوفة ـ : يا عمران بن الحميري ، ألا اخبرك بما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ قال : قلت : بلى ، فأخبرني! قال : إن الله أعطى ملكاً من الملائكة أسماع الخلائق ، فهو قائم على قبري إلى يوم القيامة ، لا يصلّي عليَّ أحدٌ صلاةً إلّا سمّاه باسمه واسم أبيه ...» الحديث.

وقال عثمان بن خُرّزاذ : حدّثني سعيد بن محمد الجرمي ، حدّثنا علي بن القاسم الكندي عن نعيم بن ضمضم ، عن عمران بن حميري ، قال : قال لي عمّار بن ياسر : ألا احدّثك عن حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّار ، ان الله عزوجل أعطى ملكاً أسماع الخلائق ...» الحديث بنحوه.

وقد روى هذا الحديث أيضاً محمد بن هارون الروياني في مسنده () عن أبي كريب عن قبيصة عن نعيم ، وهو حديث غريب (!) تفرّد به نعيم عن عمران بن حصين ، والله أعلم!!.

(٢) سنن أبي داود (١ / ٢٣٦) باب فضل الجمعة وليلة الجمعة ح ١٠٤٧ و (١ / ٣٤٢) ح ١٥٣١ باب في الاستغفار ، وسنن النسائي (٣ / ٩١) ، وسنن ابن ماجة (١ / ٣٤٥) كتاب إقامة الصلاة باب (٧٩) في فضل الجمعة ح ١٠٨٥ وفيه : شدّاد عن أوس ، وذكره في الجنائز كما سيأتي.

قال : «إنّ الله حرّم على الأرض أجساد الأنبياء» (١).

قال الشيخ الحافظ زكيّ الدين المنذريّ رحمه‌الله : وله علّة دقيقة أشار إليها البخاريّ وغيره ، وقد جمعت طرقه في «جزء الحديث المذكور» من رواية حسين الجعفيّ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، عن أبي الأشعث الصنعانيّ ، عن أوس ابن أوس ، وهؤلاء ثقات مشهورون ، وعلّته أنّ حسين بن عليّ الجعفيّ لم يسمع من عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وإنّما سمع من عبد الرحمن بن يزيد بن تميم ، وهو ضعيف ، فلمّا حدّث به الجعفيّ غلط في اسم الجدّ فقال : ابن جابر.

قلت : وقد رواه أحمد في مسنده (٢) عن حسين الجعفيّ ، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، هكذا بالعنعنة ، وروى حديثين آخرين بعد ذلك قال فيهما : حسين ، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ، وذلك لا ينافي الغلط إن صحّ أنّه لم يسمع منه.

وروى ابن ماجة الحديث المذكور من طريق آخر ذكره في آخر كتاب الجنائز (٣) ، وفي متنه زيادة.

أنا أقضى القضاة أبو بكر محمّد بن عبد العظيم بن عليّ الشافعيّ المعروف ب «ابن السقطيّ» بقراءتي عليه ، بجميع «سنن ابن ماجة» قال : أنا أبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن أبي الفتح بن ياقا ، إجازة ، قال : أنا أبو زرعة طاهر بن محمّد بن طاهر المقدسيّ سماعاً ، إلّا ما عيّن في الكتاب بإجازته من أبي زرعة ، وهذا الحديث من

__________________

(١) أخرجه في الصارم المنكي (ص ٢١٢) عن القاضي إسماعيل في فضل الصلاة (ص ٣٥) رقم (٢٢ و ٢٣).

(٢) مسند أحمد (٤ / ٨) وانظر سنن الدارمي (١ / ٣٦٩) باب في فضل الجمعة ، والسنن الكبرى للبيهقي (٣ / ٢٤٨) باب ما يؤثر به في ليلة الجمعة ويومها من كثرة الصلاة على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٣) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ٨٦٣٦ باب (٦٥) ، وانظر المستدرك على الصحيحين للحاكم (١ / ٢٧٨) و (٤ / ٥٦٠) ، ولاحظ كنز العمال (٧ / ٧٠٨) ح ٢١٠٣٧.

المسموع ، قال : أنا أبو منصور محمّد بن الحسين بن أحمد بن الهيثم المقوميّ ، إجازة إن لم يكن سماعاً ـ ثمّ ظهر سماعه منه ـ أنا أبو طلحة القاسم بن أبي المنذر الخطيب ، أنا أبو القاسم عليّ بن إبراهيم بن سلمة بن بحر القطّان ، حدثنا أبو عبد الله محمّد بن يزيد ابن ماجة ، حدثنا عمرو بن سوّاد المصريّ ، حدثنا عبد الله بن وهب ، عن عمرو بن الحارث (١) ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أيمن ، عن عبادة بن نسيّ ، عن أبي الدرداء رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة ؛ فإنّه مشهود تشهده الملائكة ، وإنّ أحداً لن يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها».

قال قلت : وبعد الموت؟

قال : «وبعد الموت ، إنّ الله حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء عليهم‌السلام ، فنبيّ الله حيّ يرزق».

هذا لفظ ابن ماجة ، وفيه زيادة قوله : «حين يفرغ منها» (٢) وفي الأصل : «حتّى» التي هي حرف غاية ، وعليه تضبيب ، وفي الحاشية : «حين» التي هي ظرف زمان.

فإن كانت هي الثابتة استفيد منها أنّ وقت عرضها على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين الفراغ من غير تأخير.

وإن كان الثابت «حتّى» كما في الأصل دلّ على عرضها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت قوله ، فيدلّ على عدم التأخير أيضاً.

وفيه زيادة أيضاً ، وهي قوله : «وبعد الموت» بحرف العطف ، وذلك يقتضي أنّ

__________________

(١) في الأصل : «عمرو بن أبي الحرب» كذا في الهندية ، وفي نسخة : الحرث.

(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ١٦٣٧ ب ٦٥ كتاب الجنائز.

عرضها عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حالتي الحياة والموت جميعاً.

وفي إسناد الحديث المذكور : «زيد بن أيمن عن عبادة بن نسيّ» مرسل ، إلّا أنّه يتقوى باعتضاده بغيره.

وقد روّينا من جهة القاضي إسماعيل عن الحسن عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرسلاً قال : «أكثروا عليّ الصلاة يوم الجمعة ، فإنّها تعرض عليّ».

وروى الإمام أبو بكر أحمد بن محمّد بن إسحاق ابن السنيّ في كتاب «عمل يوم وليلة» عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا الصلاة عليّ يوم الجمعة» (١).

وأنبأنا عبد المؤمن وآخرون ، أنبأنا ابن الشيرازيّ ، أنا ابن عساكر ، أنا أبو الحسين ، أنا جدّي أبو بكر البيهقيّ ، أنا عليّ بن أحمد الكاتب ، حدثنا أحمد بن عبيد ، حدثنا الحسين بن سعيد ، حدثنا إبراهيم بن الحجّاج ، حدثنا حمّاد بن سلمة ، عن برد بن سنان ، عن مكحول الشاميّ ، عن أبي امامة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا عليّ من الصلاة في كلّ يوم جمعة ، فإنّ صلاة امّتي تُعْرض عليّ في كلّ يوم جمعة ؛ فمن كان أكثرهم عليّ صلاة كان أقربهم منّي منزلة».

وهذا إسناد جيّد.

وعن حصين بن عبد الرحمن ، عن يزيد الرقاشيّ قال : إنّ ملكاً موكّل يوم الجمعة بمن صلّى على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّ فلاناً من امّتك صلّى عليك.

وعن أبي طلحة رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتاني جبرئيل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : بشّر امّتك ؛ من صلّى عليك صلاة واحدة كتب الله له بها عشر حسنات ، وكفّر عنه بها عشر سيّئات ، ورفع له بها عشر درجات ، وردّ الله عليه مثل قوله ، وعرضت

__________________

(١) عمل يوم وليلة ، لابن السنّي.

عليّ يوم القيامة».

رواه ابن عساكر (١).

ولا تنافي بين هذه الأحاديث ، فقد يكون العرض عليه مرّات : وقت الصلاة ، ويوم الجمعة ، ويوم القيامة.

وحديث أبي هريرة ، وحديث ابن مسعود مصرّحان : بأنّه يبلغه سلام كلّ من سلّم عليه ، وهما صحيحان إن شاء الله.

وحديث أوس بن أوس وما في معناه يدلّ على أنّ الموت غير مانع من ذلك.

وكان مقصودنا بجمع هذه الأحاديث بيان العرض على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ مراده التبليغ من الملائكة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما تضمّنه حديث أبي هريرة ، وحديث ابن مسعود ، وهذا في حقّ الغائب بلا إشكال.

[سماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمصلّي عليه عند قبره]

وأمّا في حقّ الحاضر عند القبر ، فهل يكون كذلك ، أو يسمعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير واسطة؟

ورد في ذلك حديثان :

أحدهما : «من صلّى عليّ عند قبري سمعتُه ، ومن صلّى عليّ نائياً بُلِّغْتُهُ».

وفي رواية : «نائياً منه أبلغت». وفي رواية : «نائياً من قبري».

وفي رواية : «عن قبري».

والحديث الثاني : «ما من عبد يسلّم عليّ عند قبري إلّا وكّل بها ملك ليبلغني ، وكفي أمر آخرته ودنياه ، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية : «من صلّى عليّ عند قبري وكّل الله بها ملكاً يبلغني ، وكفي أمر

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر.

دنياه وآخرته ، وكنت له شهيداً وشفيعاً يوم القيامة».

وفي رواية : «ما من عبد صلّى عليّ عند قبري إلّا وكّل الله به» وفيها : «شفيعاً وشهيداً».

وهذان الحديثان كلاهما من رواية محمّد بن مروان السدّي الصغير ، وهو ضعيف ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أمّا الحديث الأوّل الذي فيه : «من صلّى عليّ عند قبري سمعته».

فرواه أحمد بن عليّ الحبرانيّ ، ويوسف بن الضحّاك الفقيه ، ومحمّد بن عثمان ابن أبي شيبة ، وأحمد بن إبراهيم بن ملحان ، وعيسى بن عبد الله الطيالسيّ ، وليث ابن نصر الصاغانيّ ، والحسن (١) بن عمر بن إبراهيم الثقفيّ ، كلّهم عن العلاء بن عمرو الحنفيّ ، عن محمّد بن مروان السدّي بالسند المذكور.

وفي رواية عيسى الطيالسيّ : حدثنا العلاء بن عمرو الحنفيّ ، حدثنا أبو عبد الرحمن عن الأعمش.

قال ابن عساكر : قال لنا أبو الحسن سبط البيهقيّ : قال لنا جدّي أبو بكر : أبو عبد الرحمن هذا هو محمّد بن مروان السدّي فيما أرى ، وفيه نظر.

القائل : «وفيه نظر» هو البيهقيّ ، كذا رأيته في جزء «حياة الأنبياء» من تصنيفه.

وأمّا الحديث الثاني :

فرواه محمّد بن عبد الله بن إبراهيم الشافعيّ ، وأبو الحسين أحمد بن عثمان الآدميّ ، وأبو عبد الله الصفّار ، ومحمّد بن عمر بن حفص النيسابوريّ ، كلّهم عن محمّد بن يونس بن موسى الكديميّ ـ وفي بعض هذا عن محمّد بن موسى ؛ نسبةً إلى جدّه ـ عن الأصمعيّ عبد الملك بن قريب ، عن محمّد بن مروان السدّي ، عن

__________________

(١) في (ه) : الحسين.

الأعمش بالسند الأوّل.

وهذا الحديث أضعف من الأوّل ؛ لأنّه انضمّ فيه ضعف الكديميّ إلى ضعف السدّي ، والأوّل ليس فيه إلّا ضعف السدّي خاصّة.

فإن ثبت ذلك فكفى بها شرفاً ، وإن لم يثبت فهو مرجوّ ، فينبغي الحرص عليه ، والتعرّض لإسماعه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك بالحضور عند قبره ، والقرب منه.

وسنذكر (١) في الأحاديث والآثار والأدلّة ما يدلّ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع من يسلّم عليه عند قبره ، ويردّ عليه عالماً بحضوره عنده ، وكفى بهذا فضلاً حقيقاً أن ينفق فيه ملك الدنيا حتّى يتوصّل إليه من أقطار الأرض.

وسنفرد باباً (٢) لحياة الأنبياء : بعد تمام المقصود من إقامة الدلائل على الزيارة ، وبإثبات الحياة تتأكّد الزيارة ، ولكنّي رأيت ذكره بعدُ ، لئلّا يجادل فيه جدل متطرّق به إلى المجادلة في الزيارة.

عن سليمان بن سحيم قال : رأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في النوم فقلت : يا رسول الله ، هؤلاء الذين يأتونك ويسلّمون عليك ، أتعلم سلامهم؟

قال : «نعم ، وأردّ عليهم».

وعن إبراهيم بن بشّار قال : حججت في بعض السنين ، فجئت المدينة ، فتقدّمت إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسلّمت عليه ، فسمعت من داخل الحجرة : «وعليك السلام».

فإن قيل : ما معنى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلّا ردّ الله عليّ روحي؟».

قلت : فيه جوابان :

__________________

(١) سيذكره في ص ١٣٢.

(٢) سيفرد له الباب (التاسع).

أحدهما : ذكره الحافظ أبو بكر البيهقيّ (١) ؛ أنّ المعنى إلّا وقد ردّ الله عليّ روحي ؛ يعني أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد ما مات ودفن ردّ الله عليه روحه ؛ لأجل سلام من يسلّم عليه ، واستمرّت في جسده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والثاني : يحتمل أن يكون ردّاً معنويّاً ، وأن تكون روحه الشريفة مشتغلة بشهود الحضرة الإلهيّة والملأ الأعلى من هذا العالم ، فإذا سلّم عليه أقبلت روحه الشريفة على هذا العالم ، فيدرك سلام من يسلّم عليه ، ويردّ عليه.

__________________

(١) قال في الصارم (ص ٢٢٢) : ذكره البيهقي في (الجزء) الذي جمعه في (حياة الأنبياء عليهم‌السلام بعد دفنهم).

ثمّ قال (ص ٢٢٥) : وهذا التأويل المنقول عن البيهقي في هذا الحديث قد تلقّاه عنه جماعة من المتأخرين ، والتزموا لأجل اعتقادهم له ، اموراً ظاهرة البطلان.

أقول : ومن شذّ عن فهم الناس والتزامهم ، فهو في النار!

الباب الثالث :

في

ما ورد في السفر إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحاً

وبيان أنّ ذلك لم يزل قديماً وحديثاً

وممّن رُوِيَ ذلك عنه من الصحابة ؛ بلال بن رباح مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سافر من الشام إلى المدينة لزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روّينا ذلك بإسناد جيّد إليه ، وهو نصّ في الباب ، وممّن ذكره الحافظ أبو القاسم ابن عساكر رحمه‌الله بالإسناد الذي سنذكره.

وذكره الحافظ أبو محمّد عبد الغنيّ المقدسيّ رحمه‌الله في «الكمال» في ترجمة بلال فقال : ولم يؤذّن لأحد بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما روي إلّا مرّة واحدة في قدمة قدمها المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب إليه الصحابة ذلك ، فأذّن ولم يتمّ الأذان.

وقيل : إنّه أذّن لأبي بكر الصديق رضى الله عنه في خلافته ، وممّن ذكر ذلك أيضاً الحافظ أبو الحجّاج المزي أبقاه الله.

وها أنا أذكر إسناد ابن عساكر في ذلك (١) ، أنبأنا عبد المؤمن بن خلف ، وعليّ ابن محمّد بن هارون وغيرهما قالوا : أنا القاضي أبو نصر بن هبة الله بن محمّد بن

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر لاحظ مختصر ابن منظور (٤ / ١١٧) وتهذيب تاريخ دمشق لبدران (٢ / ٢٥٩) ترجمة إبراهيم بن محمد بن سليمان.

مميل الشيرازيّ ، إذناً ، أنا الحافظ أبو القاسم عليّ بن الحسن (١) بن هبة الله بن عساكر الدمشقيّ قراءة عليه وأنا أسمع قال : أنا أبو القاسم زاهر بن طاهر قال : أنا أبو سعيد محمّد بن عبد الرحمن قال : أنا أبو أحمد محمّد بن محمّد ، أنا أبو الحسن محمّد بن الفيض الغسّاني بدمشق قال : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمّد بن سليمان ابن بلال بن أبي الدرداء ، حدّثني أبي محمّد بن سليمان ، عن أبيه سليمان بن بلال ، عن امّ الدرداء ، عن أبي الدرداء قال : لمّا دخل (٢) عمر بن الخطّاب رضى الله عنه من فتح بيت المقدس ، فصار إلى الجابية ، سأل بلال أن يقرّه بالشام ، ففعل ذلك ، قال : وأخي أبو رويحة الذي آخى بيني وبينه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فنزل داريّا في خَوْلان ، فأقبل هو وأخوه إلى قوم من خولان فقال لهم : قد أتيناكم خاطبين ، وقد كنّا كافرين فهدانا الله ، ومملوكين فأعتقنا الله ، وفقيرين فأغنانا الله ، فان تزوّجونا فالحمد لله ، وإن تردّونا فلا حول ولا قوة إلّا بالله! فزوّجوهما.

ثمّ إنّ بلالاً رأى في منامه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يقول له : «ما هذه الجفوة يا بلال؟! أمّا آن لك أن تزورني يا بلال!».

فانتبه حزيناً وجلاً خائفاً ، فركب راحلته وقصد المدينة ، فأتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجعل يبكي عنده ، ويمرّغ وجهه عليه ، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما فجعل يضمّهما ويقبّلهما.

فقالا له : نشتهي نسمع أذانك الذي كنت تؤذّن به لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المسجد ، ففعل ، فعلا سطح المسجد ، فوقف موقفه الذي كان يقف فيه.

فلمّا أن قال : الله أكبر ، الله أكبر ، ارتجّت المدينة.

__________________

(١) في المصرية : الحسين.

(٢) راجع تهذيب تاريخ ابن عساكر ٢ / ٢٥٩.

فلمّا أن قال : أشهد أن لا إله إلّا الله ، ازداد رجّتها.

فلمّا أن قال : أشهد أنّ محمّداً رسول الله ، خرجت العواتق من خدورهنّ ، وقالوا : أبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فما رئي يوم أكثر باكياً ولا باكية بالمدينة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك اليوم.

كذا ذكره ابن عساكر في ترجمة بلال رضى الله عنه (١).

وذكره أيضاً في ترجمة إبراهيم بسند آخر إلى محمّد بن الفيض : أنبأنا جماعة عن ابن عساكر قال : أنبأنا أبو محمّد ابن الأكفانيّ ، حدثنا عبد العزيز بن أحمد ، حدثنا تمام بن محمّد ، حدثنا محمّد بن سليمان ، حدثنا محمّد بن الفيض فذكره سواء ، إلّا أنّه سقط منه «من فتح بيت المقدس» ، وقال : آخى بينه وبيني ، ولم يقل «خاطبين» (٢).

أبو رويحة : اسمه عبد الله بن عبد الرحمن الخثعميّ ، وفي «الطبقات» : أنّ مؤاخاته لبلال لم يثبتها محمّد بن عمر ، وأثبتها ابن إسحاق وغيره ، واختار أنس أن يجعل ديوانه معه ، فضمّه عمر إليه ، وضمّ ديوان الحبشة إلى خثعم ؛ لمكان بلال منهم.

وسليمان بن بلال بن أبي الدرداء : روى عن جدّه وأبيه بلال ، روى عنه ابنه محمّد ، وأيّوب بن مدرك الحنفيّ ، ذكر له ابن عساكر حديثاً ، ولم يذكر فيه تجريحاً (٣).

وابنه محمّد بن سليمان بن بلال : ذكره مسلم في الكنى (٤) ، وأبو بشر الدولابيّ (٥) ، والحاكم أبو أحمد ، وابن عساكر (٦) ، كنيته أبو سليمان ، قال ابن أبي

__________________

(١) تاريخ دمشق ترجمة بلال.

(٢) تاريخ دمشق (٧ / ١٣٦) ترجمة إبراهيم برقم ٢٩٣.

(٣) تاريخ دمشق لابن عساكر (١٠ / ١١٨) رقم ٨٦٤.

(٤) الكنى لمسلم.

(٥) الكنى والأسماء للدولابي.

(٦) تاريخ دمشق لابن عساكر.

حاتم : سألت أبي عنه فقال : ما بحديثه بأس.

وابنه إبراهيم بن محمد بن سليمان أبو إسحاق : ذكره الحاكم أبو أحمد ، وقال : كنّاه لنا محمّد بن الفيض ، وذكره ابن عساكر ؛ وذكر حديثه ، ثمّ قال : قال ابن الفيض : توفّي سنة اثنتين وثلاثين ومائتين (١).

ومحمّد بن الفيض بن محمّد بن الفيض أبو الحسن الغسّاني الدمشقيّ : روى عن خلائق ، روى عنه جماعة منهم : أبو أحمد بن عديّ ، وأبو أحمد الحاكم ، وأبو بكر ابن المقرئ في معجمه ، ذكره ابن زبر وابن عساكر في التأريخ (٢) ، توفّي سنة خمس عشرة وثلاثمائة ، ومولده سنة تسع عشرة ومائتين ، ومدار هذا الإسناد عليه ، فلا حاجة إلى النظر في الإسنادين اللذين رواه ابن عساكر بهما وإن كان رجالهما معروفين مشهورين.

وليس اعتمادنا في الاستدلال بهذا الحديث على رؤيا المنام فقط ، بل على فعل بلال ، وهو صحابيّ ، لا سيّما في خلافة عمر رضى الله عنه ، والصحابة متوافرون ، ولا يخفى عنهم هذه القصّة.

ومنام بلال ورؤياه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يتمثّل به الشيطان ، وليس فيه ما يخالف ما ثبت في اليقظة ، فيتأكّد به فعل الصحابيّ.

[إبْراد عمر بن عبد العزيز بالسلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وقد استفاض عن عمر بن عبد العزيز رضى الله عنه : أنّه كان يبْرِد البريد من الشام يقول : سلّم لي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

__________________

(١) تاريخ دمشق لابن عساكر (٧ / ١٣٦) رقم ٤٩٣.

(٢) تاريخ دمشق لابن عساكر (١٥ / ٨٦١) من النسخة المصوّرة.

(٣) رواه البيهقي في شعب الإيمان () كما نقله في الصارم (ص ٢٤٦).

وممن ذكر ذلك ابن الجوزيّ ، ونقلته من خطّه في كتاب «مثير العزم الساكن» وقد ضبطه بإسكان الباء الموحّدة ، وكسر الراء المخفّفة ، وهو كذلك ، يقال : أبرد فهو مُبْرِدٌ.

وذكره أيضاً الإمام أبو بكر أحمد بن عمرو بن أبي عاصم النبيل ، ووفاته سنة سبع وثمانين ومائتين في «مناسك» له لطيفة جرّدها من الأسانيد ، ملتزماً فيها الثبوت ، قال فيها : وكان عمر بن عبد العزيز يبعث بالرسول قاصداً من الشام إلى المدينة ؛ ليقرئ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ يرجع.

وهذه المناسك رواية شيخنا الدمياطيّ : أنا ابن خليل ، أنا الطرطوسيّ (١) والكرانيّ ، أنا الصيرفيّ ، حدثنا أبو بكر محمّد بن عبد الله بن شاذان ، حدثنا القباب ، حدثنا ابن أبي عاصم.

فسفر بلال في زمن صدر الصحابة ، ورسول عمر بن عبد العزيز في زمن صدر التابعين من الشام الى المدينة ، لم يكن إلّا للزيارة والسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يكن الباعث على السفر غير ذلك ؛ لا من أمر الدنيا ، ولا من أمر الدين ، لا من قصد المسجد ، ولا من غيره ، وإنما قلنا ذلك لئلّا يقول بعض من لا علم له : إنّ السفر لمجرّد الزيارة ليس بسنّة! وسنتكلّم على بطلان ذلك في موضعه.

وأمّا من سافر الى المدينة لحاجة ، وزار عند قدومه ، أو اجتمع في سفره قصد الزيارة مع قصد آخر فكثير.

وقد ورد عن يزيد بن أبي سعيد مولى المهريّ قال : قدمت على عمر بن عبد العزيز ، فلمّا ودّعته قال : لي إليك حاجة ، إذا أتيت المدينة سترى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقرئه منّي السلام.

__________________

(١) في (ه) : الطرطوشي.

وورد هذا عن غير عمر بن عبد العزيز أيضاً : قال أبو الليث السمرقنديّ الحنفيّ في «الفتاوى» في باب الحجّ : قال أبو القاسم : لمّا أردت الخروج إلى مكّة قال القاسم بن غسّان : إنّ لي إليك حاجة ، إذا أتيت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأقرئه منّي السلام.

فلمّا وضعت رجلي في مسجد المدينة ذكرت.

قال الفقيه : فيه دليل أنّ من لم يقدر على الخروج ، فأمر غيره ليسلّم عنه ، فإنّه ينال فضيلة السلام إن شاء الله تعالى ، انتهى.

وفي «فتوح الشام» (١) : أنّه لمّا كان أبو عبيدة منازلاً بيت المقدس ، أرسل كتاباً إلى عمر مع ميسرة بن مسروق رضى الله عنه يستدعيه الحضور ، فلمّا قدم ميسرة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، دخلها ليلاً ، ودخل المسجد ، وسلّم على قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى قبر أبي بكر رضى الله عنه.

وفيه أيضاً : أنّ عمر لمّا صالح أهل بيت المقدس ، وقدم عليه كعب الأحبار وأسلم ، وفرح عمر بإسلامه ، قال عمر رضى الله عنه له : هل لك أن تسير معي إلى المدينة وتزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتمتع بزيارته؟

فقال لعمر : يا أمير المؤمنين ، أنا أفعل ذلك.

ولمّا قدم عمر المدينة أوّل ما بدأ بالمسجد ، وسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد ذكر المؤرّخون والمحدّثون ـ منهم أبو عمر بن عبد البرّ في «الاستيعاب» (٢) وأحمد بن يحيى البلاذريّ في «تأريخ الأشراف» (٣) وابن عبد ربّه في «العقد» (٤) ـ أنّ زياد بن أبيه أراد الحجّ ، فأتاه أبو بكرة رضى الله عنه وهو لا يكلّمه ، فأخذ ابنه فأجلسه في

__________________

(١) فتوح الشام (١ / ١٤٨) ذكر فتح بيت المقدس.

(٢) الاستيعاب (٢ / ٥٢٦) رقم (٨٢٥).

(٣) أنساب الأشراف (١ / ٤٩٣) رقم ٩٩٣.

(٤) العقد الفريد لابن عبد ربه (٥ / ١٢) أخبار زياد.

حجره ليخاطبه ويسمع زياداً فقال : إنّ أباك فعل وفعل ، وإنّه يريد الحجّ ، وأم حبيبة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هناك ، فإن أذنت له فأعظم بها مصيبة وخيانة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن هي حجبته فأعظم بها حجّة عليه.

فقال زياد : ما تدع النصيحة لأخيك ، وترك الحجّ تلك السنة ، هكذا حكاه البلاذريّ.

وحكى ابن عبد البرّ ثلاثة أقوال :

أحدها : أنّه حجّ ، ولم يزر من أجل قول أبي بكرة.

والثاني : أنّه دخل المدينة وأراد الدخول على امّ حبيبة رضي الله عنها فذكر قول أبي بكرة فانصرف عن ذلك.

والثالث : أنّ امّ حبيبة حجبته ولم تأذن له.

والقصّة على كلّ تقدير تشهد لأنّ زيارة الحاجّ كانت معهودة من ذلك الوقت ، وإلّا فكان زياد يمكنه أن يحجّ من غير طريق المدينة ، بل هي أقرب إليه ؛ لأنّه كان بالعراق ، والإتيان من العراق إلى مكّة أقرب ، ولكن كان إتيان المدينة عندهم أمراً لا يُترك.

[البدأة بمكّة أو بالمدينة ، في سفر الحجّ؟]

واختلف السلف رحمهم‌الله في أنّ الأفضل البداءة بالمدينة قبل مكّة ، أو بمكّة قبل المدينة.

وممّن نصّ على هذه المسألة وذكر الخلاف فيها ؛ الإمام أحمد رحمه‌الله في كتاب «المناسك الكبير» من تأليفه ، وهذه المناسك رواها الحافظ أبو الفضل محمّد بن

ناصر ، عن الحاجب أبي الحسن عليّ بن محمّد العلّاف ، عن أبي الحسن عليّ بن أحمد بن عمر الحمامي ، عن إسماعيل بن عليّ الخطئيّ (١) ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أبيه.

في هذه المناسك : سئل عمّن يبدأ بالمدينة قبل مكّة؟

فذكر بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد وعطاء ومجاهد قالوا : إذا أردت مكّة فلا تبدأ بالمدينة ، وابدأ بمكّة ، وإذا قضيت حجّك فامرر بالمدينة إن شئت.

وذكر بإسناده عن الأسود قال : احبّ أن يكون نفقتي وجهازي وسفري أن أبدأ بمكة.

وعن إبراهيم النخعيّ : إذا أردت مكّة فاجعل كلّ شيء لها تبعاً.

وعن مجاهد : إذا أردت الحجّ أو العمرة فابدأ بمكّة ، واجعل كلّ شيء لها تبعاً.

وعن إبراهيم قال : إذا حججت فابدأ بمكّة ، ثمّ مرّ بالمدينة بعد.

وذكر الإمام أحمد أيضاً بإسناده عن عديّ بن ثابت : أنّ نفراً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يبدءون بالمدينة إذا حجّوا ، يقولون : نهلّ من حيث أحرم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وذكر ابن أبي شيبة في مصنّفه هذا الأثر أيضاً (٢) ، وذكر بإسناده عن علقمة والأسود وعمرو بن ميمون : أنّهم بدءوا بالمدينة قبل مكة (٣).

وقال الموفّق بن قدامة : قال ـ يعني أحمد ـ : وإذا حجّ للذي لم يحجّ قطّ ـ يعني من غير طريق الشام ـ لا يأخذ على طريق المدينة ؛ لأنّي أخاف أن يحدث به حدث ، فينبغي أن يقصد مكّة من أقْصَر الطرق ، ولا يتشاغل بغيره.

__________________

(١) في (ه) : الخطبي.

(٢) المصنف لابن أبي شيبة (٤ / ٣١٨) ب ٣٢ في الرجل يحجّ يبدأ بمكّة أو بالمدينة ، ح (١).

(٣) المصنف لابن أبي شيبة (نفس الموضع والباب) ح (٦).

قلت : وهذا في العمرة متّجه ؛ لأنّه يمكنه فعلها متى وصل إلى مكّة ، وأمّا الحجّ فله وقت مخصوص ، فإذا كان الوقت متّسعاً لم يفت عنه بمروره بالمدينة شيء.

وممّن نصّ على هذه المسألة من الأئمّة أبو حنيفة رحمه‌الله وقال : الأحسن أن يبدأ بمكّة ، روى ذلك الحسن بن زياد عنه فيما حكاه أبو الليث السمرقنديّ.

فانظر كلام السلف والخلف في إتيان المدينة إمّا قبل مكّة ، وإمّا بعدها.

ومن أعظم ما تؤتى له المدينة الزيارة ، ألا ترى أنّ بيت المقدس لا يأتيه إلّا القليل من الناس وإن كان مشهوداً له بالفضل ، والصلاة فيه مضاعفة؟!

فتوفّر الهمم خلفاً عن سلف على إتيان المدينة إنّما هو لأجل الزيارة ، وإن اتفق معها قصد عبادات اخر فهو مغمور بالنسبة إليها.

وأمّا ما نقل من تعليل بعض الصحابة بالإهلال من ميقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذلك أمر مقصود ، وليس هو كلّ المقصود ، ولعلّهم رضي الله عنهم رأوا أنّه ميقاتهم الأصليّ لمّا كانوا بالمدينة مع نبيّهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحبّوا أن لا يغيّروا ذلك ، وإلّا فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقّت لأهل كلّ بلد ميقاتاً ، ولعلّ الإحرام منه أولى ، إلّا أن يعارضه معارض.

والتابعون الكوفيّون الذين اختاروا البداءة بالمدينة لم يُنقل عنهم تعليل ، فلعلّ سببه عندهم إيثار الزيارة ، ولو كانت العلّة الإحرام من ميقات النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يأتوها إذا اتفق لهم البداءة بمكّة ؛ لفوات الإحرام ، فلمّا اتفقوا على إتيانها ـ وإنّما اختلفوا في البداءة ـ دلّ على أنّ العلّة غيره ، وهي ما فيها من المشاهد ، وأعظمها الزيارة ، فهي إمّا كلّ المقصود ، أو معظمه ، وغيرها منغمر فيها.

وممّن اختار البداءة بمكّة ثمّ إتيان المدينة والقبر ؛ الإمام أبو حنيفة ، كما سنحكيه عنه في الباب الرابع.

[الفقهاء يقرّرون السفر لزيارة القبر الشريف]

وقال أبو بكر محمّد بن الحسين الآجريّ في كتاب «الشريعة» (١) في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أحد من أهل العلم قديماً ولا حديثاً ـ ممّن رسم لنفسه كتاباً نسبه إليه من فقهاء المسلمين ، فرسم كتاب المناسك ـ إلّا وهو يأمر كلّ من قدم المدينة ممّن يريد حجّاً أو عمرة ، أو لا يريد حجّاً ولا عمرة ، وأراد زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمقام بالمدينة لفضلها إلّا وكلّ العلماء قد أمروه ورسموه في كتبهم ، وعلّموه كيف يسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكيف يسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما : علماء الحجاز قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل العراق قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل الشام قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل خراسان قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل اليمن قديماً وحديثاً ، وعلماء أهل مصر قديماً وحديثاً ، فلله الحمد على ذلك.

وقال قريباً من هذا الكلام أبو عبد الله عبيد الله بن محمّد بن محمّد بن حمدان بن بطة العكبريّ الحنبليّ في كتاب «الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة» (٢) في باب دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً قال : بحسبك دلالة على إجماع المسلمين واتفاقهم على دفن أبي بكر وعمر مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّ كلّ عالم من علماء المسلمين وفقيه من فقهائهم ، ألّف كتاباً في المناسك ، ففصّله فصولاً ، وجعله أبواباً ، يذكر في كلّ باب فقهه ، ولكلّ فصل علمه ، وما يحتاج الحاجّ إلى علمه والعمل به قولاً وفعلاً : من الإحرام ، والطواف ، والسعي ، والوقوف ، والنحر ، والحلق ، والرمي ، وجميع ما لا يسع الحاجّ جهله ،

__________________

(١) الشريعة للآجري.

(٢) الإبانة لابن بطة.

ولا غنى بهم عن علمه ، حتّى يذكر زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصف ذلك فيقول :

ثمّ تأتي القبر فتستقبله ، وتجعل القبلة وراء ظهرك وتقول : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، حتّى يصف السلام والدعاء.

ثمّ يقول : وتقدم على يمينك قليلاً وتقول : السلام عليك يا أبا بكر وعمر.

وإنّ الناس يحجّون البيت من كلّ فجّ عميق وبلد سحيق ، فإذا أتوا البيت لا يشكّون أنّه بيت الله المحجوج إليه ، وكذلك ما يأتونه من أعمال المناسك وفرائض الحجّ وفضائله ينادي بعضه بعضاً ، حتّى يأتوا قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّمون عليه وعلى صاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وقد أدركنا الناس ورأيناهم ، وبلغنا عمّن لمن نره أنّ الرجل إذا أراد الحجّ فسلّم عليه أهله وصحابته قالوا له : وتقرأ على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر منّا السلام ، فلا ينكر ذلك أحد ولا يخالفه.

هذا كلام ابن بطة رحمه‌الله تعالى ، وقد أنبأنا به جماعة من شيوخنا عن الحافظ أبي الحجّاج يوسف بن خليل بسنده إلى ابن بطة.

ومقصوده ومقصود الآجريّ الردّ على بعض الملحدة في إنكار دفن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمّا زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم ينكرها أحد ، وإنّما جاءت في كلامهما على سبيل التبع ؛ لأنّه لم يظنّ أحد أن يقع فيها أو في السفر إليها نزاع في قرن الثمانمائة.

واستفيد من كلامهما أنّ سفر الحجيج إليها لم يزل في السلف والخلف ، وأنّها تابعة للمناسك.

وأبو بكر الآجريّ هذا قديم ، توفّي في المحرّم سنة ستّين وثلاثمائة ، وكان ثقة صدوقاً ديّناً ، وله تصانيف كثيرة ، وحدّث ببغداد قبل سنة ثلاثين وثلاثمائة ، انتقل إلى مكّة فسكنها حتّى توفّي بها.

وابن بطة المذكور توفّي في المحرّم سنة سبع وثمانين وثلاثمائة بعكبرى ، من فقهاء الحنابلة ، كان إماماً فاضلاً عالماً بالحديث ، وفقهه أكثر من الحديث ، وصنّف التصانيف المفيدة.

وهكذا قال غيرهما :

قال القاضي عياض (١) : قال إسحاق بن إبراهيم الفقيه : وممّا لم يزل من شأن من حجّ المرور بالمدينة والقصد إلى الصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتبرّك برؤية روضته ، ومنبره ، وقبره ، ومجلسه ، وملامس يديه ، ومواطئ قدميه ، والعمود الذي كان يستند إليه ، وينزل جبرئيل بالوحي فيه عليه ، وبمن عمّره وقصده من الصحابة وأئمّة المسلمين ، والاعتبار في ذلك كلّه.

وقد ذكرنا في باب نصوص العلماء على استحباب الزيارة قول الباجي المالكيّ : إنّ الغرباء قصدوا لذلك ؛ يعني قصدوا المدينة من أجل القبر والتسليم.

ذكر هذا في معرض الفرق بين أهل المدينة والغرباء لمّا فرق مالك رحمه‌الله بينهم ، كما سبق.

وسنذكر في الباب الرابع من كلام العبديّ المالكيّ في «شرح الرسالة» أنّ المسير إلى المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس.

وأكثر عبارات الفقهاء أصحاب المذاهب ممّن حكينا كلامهم في باب الزيارة ، يقتضي استحباب السفر ؛ لأنّهم استحبّوا للحاجّ بعد الفراغ من الحجّ الزيارة ، ومن ضروريّها السفر.

__________________

(١) الشفاء ، بتعريف حقوق المصطفى عليه‌السلام للقاضي عياض (٢ / ١٩٧) الفصل (٩) حكم زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وشعب الايمان للبيهقي (ص).

[حكاية العُتبيّ عن الأعرابيّ]

وحكاية الأعرابيّ المشهورة التي ذكر المصنفون في مناسكهم ، وفي بعض طرقها : أنّ الأعرابيّ ركب راحلته وانصرف ، وذلك يدلّ أنّه كان مسافراً.

والحكاية المذكورة ذكرها جماعة من الأئمة عن العتبيّ ، واسمه محمّد بن عبيد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبي سفيان ؛ صخر بن حرب ، كان من أفصح الناس ، صاحب أخبار ورواية للآداب ، حدّث عن أبيه ، وسفيان ابن عيينة (١) توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين ، يكنّى أبا عبد الرحمن.

وذكرها ابن عساكر في تأريخه (٢) ، وابن الجوزيّ في «مثير العزم الساكن» وغيرهما بأسانيدهم إلى محمّد بن حرب الهلاليّ قال : دخلت المدينة ، فأتيت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فزرته وجلست بحذائه ، فجاء أعرابيّ فزاره ، ثمّ قال : يا خير الرسل ، إن الله أنزل عليك كتاباً صادقاً قال فيه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) وإنّي جئتك مستغفراً ربّك من ذنوبي ، مستشفعاً فيها بك.

وفي رواية : وقد جئتك مستغفراً من ذنبي ، مستشفعاً بك إلى ربّي.

ثمّ بكى وأنشأ يقول :

يا خير من دفنت بالقاع أعظمه

فطاب من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

ثمّ استغفر وانصرف فرقدت فرأيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في نومي وهو يقول : «الحق الرجل ، وبشّره أن الله قد غفر له بشفاعتي» فاستيقظت فخرجت أطلبه

__________________

(١) في (ه) : عتبة.

(٢) تاريخ ابن عساكر.

فلم أجده.

وقد نظم أبو الطيّب أحمد بن عبد العزيز بن محمّد المقدسيّ رحمه‌الله وسأله بعضهم الزيادة على هذين البيتين وتضمينهما ، فقال ـ ورواها ابن عساكر رحمه‌الله عنه ـ (١) :

أقول والدمع من عينيّ منسجم

لمّا رأيتُ جدار القبر يُستلم

والناس يغشونه باكٍ ومنقطعٌ

من المهابة أو داعٍ فملتزم

فما تمالكتُ أن ناديتُ من حرق

في الصدر كادت له الأحشاء تضطرم

يا خير من دُفنتْ بالقاع أعظمُه

فطابَ من طيبهنّ القاع والأكم

نفسي الفداء لقبر أنتَ ساكنه

فيه العفاف وفيه الجود والكرم

وفيه شمس التقى والدين قد غربت

من بعد ما أشرقتْ من نورها الظلم

حاشا لوجهك أن يبلى وقد هُديتْ

في الشرق والغرب من أنواره الأمم

وأن تمسّك أيدي الترب لامسةً

وأنت بين السماوات العلى علم

لقيتَ ربّك والإسلام صارمه

ماضٍ وقد كان بحر الكفر يلتطم

فقمت فيه مَقام المرسلين إلى

أن عزّ فهو على الأديان يحتكم

لئن رأيناه قبراً إنّ باطنه

لروضة من رياض الخلد تبتسم

طافت به من نواحيه ملائكة

تغشاه في كلّ ما يوم وتزدحم

لو كنتُ أبصرته حيّاً لقلت له :

لا تمشِ إلّا على خدّي لك القدم

هدى به الله قوماً قال قائلهم

ببطن يثرب (٢) لمّا ضمه الرجم :

إن مات أحْمَدُ فالرحمن خالقه

حيّ ونعبده ما أورق السلم

قال الجوهريّ رحمه‌الله : الرجَم ـ بالتحريك ـ القبر ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر.

(٢) حرّف ابن عبد الهادي في الصارم المنكي (ص ٢٥٣) كلمة «يثرب» إلى (حكة)!!

الباب الرابع :

في

نُصوص العُلماء على استحباب زيارة

قبر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وبيان أنّ ذلك مجمعٌ عليه بين المسلمين

قال القاضي عياض رحمه‌الله : وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سنّة بين المسلمين مجمع عليها ، وفضيلة مرغّب فيها (١).

وقال القاضي أبو الطيّب : ويستحبّ أن يزور النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن يحجّ ويعتمر.

وقال المحامليّ في «التجريد» : ويستحبّ للحاجّ إذا فرغ من مكّة أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال أبو عبد الله الحسين بن الحسن الحليميّ في كتابه المسمّى ب «المنهاج في شعب الإيمان في تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فذكر جملة من ذلك ، ثمّ قال : وهذا كان من الذين رزقوا مشاهدته وصحبته ، فأمّا اليوم فمن تعظيمه زيارته.

وقال الماورديّ في «الحاوي» : أمّا زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فمأمور بها ، ومندوب إليها.

وذَكر الماورديّ في «الأحكام السلطانيّة» باباً في الولاية على الحجيج قال :

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ١٩٤) الفصل (٩) وفي طبعة (٢ / ٧٤).

ولاية الحجّ ضربان :

أحدهما : على تسيير الحجيج.

والثاني : على إقامة الحجّ.

فأمّا الأوّل : فشرط المتولّي أن يكون مطاعاً ذا رأي وشجاعة ، وعليه في هذه الولاية عشرة أشياء ... فذكرها.

ثمّ قال : فإذا قضى الناس حجّهم أمهلهم الأيّام التي جرت عادتهم بها ، فإذا رجعوا سار بهم على طريق مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليجمع لهم بين حجّ بيت الله ، وزيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رعايةً لحرمته ، وقياماً بحقوق طاعته ، وذلك وإن لم يكن من فروض الحجّ فهو من مندوبات الشرع المستحبّة ، وعادات الحجيج المستحسنة (١).

وقال صاحب «المهذّب» : ويستحبّ زيارة قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال القاضي حسين : إذا فرغ من الحجّ فالسُنّة أن يقف بالملتزم ويدعو ، ثمّ يشرب من ماء زمزم ، ثمّ يأتي المدينة ويزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال الروياني : يستحبّ إذا فرغ من حجّه أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا حاجة إلى تتبّع كلام الأصحاب في ذلك ، مع العلم بإجماعهم وإجماع سائر العلماء عليه.

والحنفية قالوا : إنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفضل المندوبات والمستحبّات ، بل تقرب من درجة الواجبات.

وممّن صرّح بذلك منهم أبو منصور محمّد ابن مكرم الكرمانيّ في «مناسكه» ، وعبد الله بن محمود بن بلدحي في «شرح المختار» (٢).

__________________

(١) الأحكام السلطانية للماوردي (ص ١٠٨ ـ ١٠٩).

(٢) لاحظ ردّ المحتار على شرح المختار (٢ / ٢٥٧).

وفي «فتاوى أبي الليث السمرقنديّ» في باب أداء الحجّ : روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنّه قال : الأحسن للحاجّ أن يبدأ بمكّة ، فإذا قضى نسكه مرّ بالمدينة ، وإن بدأ بها جاز ، فيأتي قريباً من قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقوم بين القبر والقبلة ، فيستقبل القبلة ، ويصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ويترحّم عليهما.

وقال أبو العباس السروجيّ في «الغاية» : إذا انصرف الحاجّ والمعتمرون من مكّة ، فليتوجّهوا إلى طيبة مدينة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزيارة قبره ؛ فإنّها من أنْجح المساعي.

[نصوص الحنابلة]

وكذلك نصّ عليه الحنابلة أيضاً ؛ قال أبو الخطّاب محفوظ بن أحمد بن الحسن (١) الكلواذانيّ الحنبلي في كتاب «الهداية» في آخر باب صفة الحجّ : وإذا فرغ من الحجّ استحبّ له زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر صاحبيه.

وقال أبو عبد الله محمّد بن عبد الله بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن إدريس السامريّ في كتاب «المستوعب» : باب زيارة قبر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإذا قدم مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم استحبّ له أن يغتسل لدخولها ، ثمّ يأتي مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام ويقدّم رجله اليمنى في الدخول ، ثمّ يأتي حائط القبر ، فيقف ناحية ، ويجعل القبر تلقاء وجهه ، والقبلة خلف ظهره ، والمنبر عن يساره ... وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

ومنه : اللهمّ إنّك قلت في كتابك لنبيّك عليه‌السلام : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ

__________________

(١) في (ه) : الحسين.

جاؤُكَ ...) الآية ، وإنّي قد أتيت نبيّك مستغفراً ، فأسألك أن توجب لي المغفرة ، كما أوجبتها لمن أتاه في حياته ، اللهمّ إنّي أتوجّه إليك بنبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وذكر دعاء طويلاً.

ثمّ قال : وإذا أراد الخروج عاد إلى قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فودّع.

وانظر هذا المصنّف من الحنابلة ـ الذين الخصم متمذهب بمذهبهم (١) ـ ، كيف نصّ على التوجّه بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!

وكذلك أبو منصور الكرمانيّ من الحنفيّة قال : إن كان أحد أوصاك بتبليغ السلام تقول : السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان ، يستشفع بك إلى ربّك

__________________

(١) دعوى ابن تيميّة أنّه على المذهب الحنبلي مشهورة ، لكنّه مخالف له في عقائده بأصول الدين وأحكامه في فروع الدين ، لاحظ للتوسع :

كتاب «دفع شُبَه من شَبّه وتمرّد ونسب ذلك إلى الإمام أحمد» للإمام تقي الدين الحِصْنيّ ، وهو مطبوع.

وكتاب «صلح الإخوان في الردّ على من قال على المسلمين بالشرك والكفران» للعلّامة داود بن سليمان النقشبندي العاني البغدادي ، وهو مطبوع.

وانظر الصارم المنكي (ص ١٤٥) فقد نقل الأثرم عن أحمد بن حنبل : قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يُلمس ويتمسّح به؟ قال : ما أعرف هذا ، قلت : فالمنبر؟ قال : أما المنبر ، فنعم.

وقد جاء عن ابن عمر انّه مسح على المنبر ، ومن سعيد بن المسيب : في الرمانة.

قلت : انّهم يلصقون بطونهم بجدار القبر ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسّونه ويقومون ناحية فيسلّمون ، فقال : نعم.

وهكذا صدّق أحمد بأنّ الناس كانوا يفعلون بجدار القبر ، ولم يستنكره ، ولم يكرهه ولم يكفر القائمين بمسح بطونهم بجدار القبر ، كما يفعل السلفية المدعون للحنبلية في عصر ابن تيمية والوهابية اليوم! قطع الله أيديهم ، وكفى القبر الشريف وزائريه الكرام شرورهم.

وانظر رفع المنارة (ص ٥٧ ه‍) فقد نقل نصّاً قاطعاً عن الحافظ الذهبي في معجم الشيوخ (١ / ٧٣ ـ ٧٤) فيه عن أحمد انّه لم يرَ بأساً بلمس القبر النبوي. وفيه كلام عجيب تكفّره عليه السلفيّة الأجلاف!

بالرحمة والمغفرة ، فاشفع له.

وسنعقد لذلك باباً في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى.

وقال نجم الدين بن حمدان الحنبليّ في «الرعاية الكبرى» : ويسنّ لمن فرغ من نسكه زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبر صاحبيه رضي الله عنها ، وله ذلك بعد فراغ حجّه ، وإن شاء قبل فراغه.

وقد عقد ابن الجوزيّ في كتابه المسمّى «مثير العزم الساكن إلى أشرف الأماكن» (١) باباً في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر فيه حديث ابن عمر وحديث أنس رضي الله عنهم.

وقال الشيخ موفّق الدين بن قدامة المقدسيّ في كتاب «المغني» (٢) وهو من أعظم كتب الحنابلة التي يعتمدون عليها : فصل : يستحبّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكر حديث ابن عمر من طريق الدارقطنيّ ومن طريق سعيد بن منصور عن حفص ، وحديث أبي هريرة رضى الله عنه من طريق أحمد : «ما من أحد يسلّم عليّ عند قبري ...» (٣).

وكذلك نصّ عليه المالكيّة ، وقد تقدّم حكاية القاضي عياض الإجماع.

وفي كتاب «تهذيب المطالب» (٤) لعبد الحقّ الصقليّ عن الشيخ أبي عمران المالكيّ : أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة (٥).

__________________

(١) مثير العزم الساكن لابن الجوزي.

(٢) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٥٨).

(٣) المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٨) وقد مرّ سابقاً.

(٤) في معجم المؤلفين (٥ / ٩٤) سمّاه : تهذيب الطالب! فلاحظ.

(٥) وجوب الزيارة نقله الأخنائي المالكي في ردّه على ابن تيمية كما في (الصارم ص ١٥٧). قال رحمه‌الله : وعُنِيَ السادة العلماء المجتهدين بالحضّ على ذلك والندب إليه وعلى ذلك والندب

قال عبد الحقّ : يعني من السنن الواجبة.

وقال عبد الحقّ أيضاً في هذا الكتاب : رأيت في بعض المسائل التي سئل عنها الشيخ أبو محمّد بن أبي زيد : قيل له في رجل استؤجر بمال ليحجّ به ، وشرطوا عليه الزيارة : لم يستطع تلك السنة أن يزور لعذر منعه من تلك؟

قال : يردّ من الاجرة بقدر مسافة الزيارة.

__________________

إليه والغبطة لمن سارع لذلك وداوم عليه حتى نحا بعضهم في ذلك إلى الوجوب ورفعه عن درجة المباح والمندوب.

لا بدّ أن يحمل هذا الوجوب على الكفائي ـ دون العيني ـ وذلك بعنوان تعظيم الشعائر الإسلامية ، إذ لا ريب أنّ تركها فيه من الجفاء وعدم الاهتمام بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما يتوق له أعداء الإسلام ، ويروّجون له ، ولهذا ترى السلفية اللئام يركّزون عليه ، ويمنعونه ويقبّحونه بشتّى الأشكال والأساليب ، وبكلمة «التوحيد» التي هي حق ، لكن يُراد بها باطل لازدراء بمقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبره المعظّم.

والمحافظة على كرامة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوفود على قبره المعظّم وزيارته والسلام عليه عند قبره بالقصد الخاص من أعظم القرب الدينية والشعائر الإسلامية ، في كل العصور ، وخصوصاً في عصرنا الذي تستولي زمرة الوهابيّة ، عبّاد الامراء والملوك ، وعبيد الدنيا والدولار ، على تلك المشاهد الشريفة والبيوت المرفوعة ، قطع الله شأفتهم ، وأراح البلاد والعباد منهم ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وسيأتي بعض هذا في كلام الإمام السبكي المؤلّف في الباب الخامس : في تقرير كون زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة.

وسيعيد المصنّف عبارة الصقلي هذا في هذا الباب عند نقل فتوى مالك كراهة لفظ «الزيارة».

والغريب ان ابن عبد الهادي ذكر في الصارم (٣٢٥) النوع الثالث من أنواع زيارة القبور ، قال : فهو زيارتها للدعاء .. إلى أن يقول : وهذا مشروع ، بل فرض على الكفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين! لكنّه لم يصرّح هنا باسم زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل أطلق ، وهذا من أساليب تلبيس السلفية الأوغاد. وكتب السيّد

قال الحاكي عنه ذلك : وقال غيره من شيوخنا : عليه أن يرجع ثانياً (١) حتّى يزور.

قال عبد الحقّ : انظر ، إن استؤجر للحجّ لسنة بعينها ، فها هنا يسقط من الأُجرة ما يخصّ الزيارة ، وإن استؤجر على حجّة مضمونة في ذمّته فهاهنا يرجع ويزور ، وقد اتفق النقلان.

وعبد الحقّ هذا هو : عبد الحقّ بن محمّد بن هارون السهميّ القرويّ ، صقليّ ، تفقّه بشيوخ القيروان ، وتفقّه بالصقليّين أيضاً ، منهم : أبو عمران وغيره ، وحجّ ولقي عبد الوهّاب رحمه‌الله ، وحجّ ثانياً فلقي إمام الحرمين ، فباحثه في أشياء ، وسأله عن مسائل أجابه عنها ، وكان مليح التأليف ، ألّف كتباً كثيرة في مذهب مالك ، توفّي بالإسكندريّة سنة ستّ وستّين وأربعمائة.

وهذا الفرع الذي ذكره في الاستئجار على الزيارة فرع حسن.

والذي ذكره أصحابنا : أنّ الاستئجار على الزيارة لا يصحّ ؛ لأنّه عمل غير مضبوط ، ولا مقدّر بشرع ، والجعالة إن وقعت على نفس الوقوف لم يصحّ أيضاً ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يصحّ فيه النيابة عن الغير ، وإن وقعت الجعالة على الدعاء عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانت صحيحة ؛ لأنّ الدعاء ممّا يصحّ النيابة فيه ، والجهل بالدعاء لا يبطلها ، قال ذلك الماورديّ في «الحاوي» في كتاب الحجّ (٢).

وبقي قسم ثالث لم يذكره الماورديّ : وهو إبلاغ السلام ، ولا شكّ في جواز الإجارة والجعالة عليه ، كما كان عمر بن عبد العزيز يفعل.

والظاهر أنّ مراد المالكيّة هذا ، وإلّا فمجرّد الوقوف من الأجير لا يحصّل للمستأجر غرضاً ، وسيأتي في كتاب ابن المواز من نصّ مالك ما يقتضي أنّه يقف

__________________

(١) في (ه) : نائبه.

(٢) الحاوي للماوردي.

ويدعو عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يفعل عند وداع البيت.

وفي كتاب «النوادر» لابن أبي زيد ـ بعد أن حكى في زيارة القبور من كلام ابن حبيب ، وعن المجموعة عن مالك ، ومن كلام ابن القرظيّ ـ ثمّ قال عقيبه : ويأتي قبور الشهداء بأُحد ويسلّم عليهم ، كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ضجيعيه.

وفيه أيضاً من كلام ابن حبيب : ويدلّ على التسليم على أهل القبور ما جاء من السنّة في التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر مقبورين.

وقال أبو الوليد محمّد بن رشد المالكيّ في شرح «العينيّة» المسمّى بكتاب «البيان والتحصيل» (١) في كتاب الجامع ، في سلام الذي يمرّ بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وسئل عن المارّ بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أترى أن يسلّم كلّما مرّ؟

قال : نعم ، أرى ذلك عليه أن يسلّم عليه إذا مرّ به ، وقد أكثر الناس من ذلك ، فأمّا إذا لم يمرّ به فلا أرى ذلك ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

فقد أكثر الناس من هذا ، فإذا لم يمرّ عليه فهو في سعة من ذلك.

قال : وسئل عن الغريب يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّ يوم؟

فقال : ما هذا من الأمر ، ولكن إذا أراد الخروج.

قال محمّد بن رشد : المعنى في هذا ، أنّه يلزمه أن يسلّم عليه كلّما مرّ به متى ما مرّ ، وليس عليه أن يمرّ به ليسلّم عليه إلّا للوداع عند الخروج ، ويكره له أن يكثر المرور به ، والسلام عليه ، والإتيان كلّ يوم إليه ؛ لئلّا يجعل القبر بفعله ذلك كالمسجد الذي يؤتى كلّ يوم للصلاة فيه ، وقد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ؛ لقوله : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور

__________________

(١) البيان والتحصيل ، لابن رشد.

أنبيائهم مساجد» انتهى كلام ابن رشد.

وانظر كيف جعل عليه أن يأتيه للوداع ، وبطريق الأولى السلام ، وإنّما كراهة الإكثار لما ذكره ، وأصل الاستحباب متّفق عليه.

[مناظرة الإمام مالك وأبي جعفر المنصور]

وقد روى القاضي عياض في «الشفاء» (١) قال : حدثنا القاضي أبو عبد الله محمّد ابن عبد الرحمن الأشعريّ ، وأبو القاسم أحمد بن بقيّ [الحاكم] ، وغير واحد فيما أجازوا به (٢) ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر بن دلهاث ، حدثنا عليّ بن فهر ، حدثنا محمّد بن أحمد ابن الفرج ، حدثنا عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ، حدثنا ابن حميد قال :

ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له مالك : يا أمير المؤمنين ، لا ترفع صوتك في هذا المسجد ؛ فإنّ الله تعالى أدّب قوماً فقال : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) الآية ، ومدح قوماً : (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ...) الآية ، وذمَّ قوماً ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ ...) الآية ، وإنّ حرمته ميّتاً كحرمته حيّاً.

فاستكان لها أبو جعفر وقال : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ٢٠١ ـ ٢٠٦) فصل ٩.

ونقلها في الصارم (٢٦٣) عن اقتضاء الصراط المستقيم لابن تيمية ص ٣٩٣ ـ ٣٩٤ ، وقد حاول تضعيفها والحكم بأنها مغيّرة! وببطلان ذيلها!!!

وهكذا يُحاول فيما لا يوافق هواه!

(٢) في الصارم (٢٥٩) : أجازوا فيه.

فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه؟ وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟!

بل استقبله واستشفع به ، فيشفعه الله تعالى ، قال الله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ ...) الآية.

فانظر هذا الكلام من مالك رحمه‌الله وما اشتمل عليه من الزيارة والتوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن الأدب معه.

وقال القاضي عياض : قال ابن حبيب : وتقول إذا دخلت مسجد الرسول : بسم الله ، وسلام على رسول الله ، السلام علينا من ربّنا ، وصلّى الله وملائكته على محمّد ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنّتك ، ي نظفحاو من الشيطان الرجيم.

ثمّ اقصد إلى الروضة ، وهي ما بين القبر والمنبر ، فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر.

ثمّ تقف بالقبر متواضعاً متواقراً ، فتصلّي عليه ، وتثني بما يحضرك ، وتسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وتدعو لهما.

ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء.

وقال مالك في «كتاب محمّد» : ويسلم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا دخل وخرج ؛ يعني في المدينة وفيما بين ذلك.

وقال محمّد : وإذا خرج جعل آخر عهده الوقوف بالقبر ، وكذلك من خرج مسافراً.

وقال مالك في «المبسوط» : وليس يلزم من دخل المسجد أو خرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر ، وإنّما ذلك للغرباء.

وقال فيه أيضاً : لا بأس لمن قدم من سفر أو خرج إلى سفر أن يقف على قبر

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصلّي عليه ، ويدعو له ولأبي بكر وعمر.

فقيل له : فإنّ ناساً من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ، ولا يريدونه ، يفعلون ذلك في اليوم مرّة أو أكثر ، وربّما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرّة والمرّتين أو أكثر عند القبر ، فيسلّمون ويدعون ساعة.

فقال : لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا ، وتركه واسع ، ولا يصلح آخر هذه الأُمّة إلّا ما أصلح أوّلها ، ولم يبلغني عن أوّل هذه الأُمّة وصدرها أنّهم كانوا يفعلون ذلك ، ويكره إلّا لمن جاء من سفر أو أراده.

قال ابن القاسم : ورأيت أهل المدينة إذا خرجوا منها أو دخلوها ، أتوا القبر فسلّموا ، قال : وذلك رأيي.

قال الباجي : ففرق بين أهل المدينة والغرباء ؛ لأنّ الغرباء قصدوا لذلك ، وأهل المدينة مقيمون بها ، لم يقصدوها من أجل القبر والتسليم.

انتهى ما حكاه القاضي عياض.

وانظر قول الباجي : إنّ الغرباء قصدوا لذلك ، ودلالته على أنّ الغرباء قصدوا المدينة من أجل القبر والتسليم.

والمتلخّص من مذهب مالك رحمه‌الله : أنّ الزيارة قربة ، ولكنّه على عادته في سدّ الذرائع يكره منها الإكثار الذي قد يفضي إلى محذور.

والمذاهب الثلاثة يقولون باستحبابها واستحباب الإكثار منها ؛ لأنّ الإكثار من الخير خير ، وكلّهم مجمعون على استحباب الزيارة.

وفي كتاب «النوادر» : ويأتي قبور الشهداء بأُحد ، ويسلّم عليهم كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ضجيعيه.

وقال أبو محمّد عبد الكريم بن عطاء الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن محمّد بن عيسى بن الحسن المالكيّ في «مناسكه» التي التزم فيها مشهور

مذهب مالك : فصل : إذا كمل لك حجّك وعمرتك على الوجه المشروع ، لم يبقَ بعد ذلك إلّا إتيان مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للسلام على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والدعاء عنده ، والسلام على صاحبيه ، والوصول إلى البقيع ، وزيارة ما فيه من قبور الصحابة والتابعين ، والصلاة في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينبغي للقادر على ذلك تركه.

وقال العبديّ في «شرح الرسالة» : وأمّا النذر للمشي إلى المسجد الحرام ، أو المشي إلى مكّة ، فله أصل في الشرع ، وهو الحجّ والعمرة ، وإلى المدينة لزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس ، وليس عندهما حجّ ولا عمرة ، فإذا نذر المشي إلى هذه الثلاثة لزمه ، فالكعبة متّفق عليها ، واختلف أصحابنا وغيرهم في المسجدين الآخرين.

قلت : الخلاف الذي أشار إليه في نذر إتيان المسجدين ، لا في الزيارة.

[عمل الصحابة والتابعين]

فهذه نقول المذاهب الأربعة ، وكذلك غيرهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

فقد صحّ من وجوه كثيرة عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنّه كان يأتي القبر ، فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

أنا عبد المؤمن بن خلف ، أنا إبراهيم بن أبي الخير ، وأبو عبد الله محمّد بن المنى ، منفردين في الرحلة الأُولى ، قالا : أنا شهدة ، أنا الحسن بن أحمد بن سليمان ، أنا الحسن بن أحمد بن شاذان ، أنا دعلج ، أنا محمّد بن عليّ بن زيد الصائغ ، حدثنا سعيد ابن منصور ، حدثنا مالك بن أنس ، عن نافع ، عن ابن عمر : أنّه كان يأتي القبر فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر.

وقال دعلج : هذا الحديث في «الموطّأ» (١) عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، وأنا به إسحاق بن النحّاس من طريق آخر إلى سعيد بن منصور حدثنا مالك به.

وروي عن ابن عون قال : سأل رجل نافعاً : هل كان ابن عمر يسلّم على القبر؟

قال : نعم ، لقد رأيته مائة مرّة أو أكثر من مائة مرّة ؛ كان يأتي القبر فيقوم عنده فيقول : السلام على النبيّ ، السلام على أبي بكر ، السلام على أبي.

وفي «الموطّأ» من رواية يحيى بن يحيى الليثيّ عن ابن عمر : كان يقف على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيصلّي على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى أبي بكر وعمر.

وعن ابن القاسم والقعنبيّ : ويدعو لأبي بكر وعمر.

وقال في رواية ابن وهب : يقول المسلّم : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

قال في «المبسوط» : ويسلّم على أبي بكر وعمر.

قال القاضي أبو الوليد الباجي : وعندي أنّه يدعو للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بلفظ «الصلاة» ولأبي بكر وعمر ؛ لما في حديث ابن عمر من الخلاف.

وقال عبد الرزاق في مصنّفه : باب السلام على قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، وروى فيه

__________________

(١) الموطأ لمالك.

أقول لم أجده فيه ، ولعلّ نسخه مختلفة كرواياته ، وقد نقل السيوطي في الدر المنثور (١ / ٢٣٧) قال : أخرج البيهقي عن ابن عمر أنه كان يأتي القبر فيسلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يمسّ القبر ، ثمّ يسلّم على أبي بكر ثمّ على عمر.

(٢) المصنّف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٦) ح ٦٧٢٥. ويلاحظ ان القبر هنا لا يمكن تأويله بالمسجد كما يُحاول ابن تيمية! لأنّه لا معنى للسلام على المسجد ، إلّا أن يدّعي أن المراد : السلام على باب المسجد ، يعني السلام على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على باب المسجد ، فانّه مستحب ، وليس مثل هذه التأويلات البعيدة بعيداً عن عمل ابن تيمية وأتباعه!

آثاراً ، منها بإسناد صحيح أنّ ابن عمر كان إذا قدم من سفر ، أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبتاه.

وروى عبد الرزاق في هذا الباب أيضاً أنّ سعيد بن المسيّب رأى قوماً يسلّمون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما مكث نبيّ في الأرض أكثر من أربعين يوماً.

ثمّ روى عبد الرزاق فيه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مررت بموسى ليلة اسري بي وهو قائم يصلّي في قبره» (١).

كأنّه قصد بذلك ردّ ما روي عن ابن المسيّب ، وهو ردّ صحيح ، وما ورد عن ابن المسيّب ورد فيه حديث نذكره في باب حياة الأنبياء.

وقد روي عن عثمان بن عفّان رضى الله عنه أنّه لمّا حُصر ، أشار بعض الصحابة عليه بأن يلحق بالشام فقال : لن افارق دار هجرتي ومجاورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيها.

وهو مخالف لما قال ابن المسيّب رحمه‌الله وهو الصحيح ، وكذلك ما ذكرناه عن ابن عمر.

ثمّ لو صحّ قول ابن المسيّب ، لم يمنع من استحباب زيارة القبر ؛ لشرفه بحلوله فيه ، ونسبته إليه ، كما قال الشاعر :

أمر على الديار ديار ليلى

اقبّل ذا الجدار وذا الجدارا

وما حبّ الديار شغفن قلبي

ولكن حبّ من سكن الديارا

وابن المسيّب رحمه‌الله لم ينكر التسليم ، وإنّما ذكر عدم الفائدة.

__________________

(١) المصنف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٧) ح ٦٧٢٧. الحديث من كنز العمال (١١ / ٥١١) برقم (٣٢٣٨٧) وقال : حل ـ عن أنس.

وقال السيوطي في الدر المنثور (٤ / ١٥٠) أخرج ابن مردويه عن أبي سعيد رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لما اسري بي مررت بموسى وهو قائم يصلّي في قبره.

وقال القاضي عياض في «الشفاء» (١) : قال بعضهم : رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوقف فرفع يديه ، حتى ظننت أنّه افتتح الصلاة ، فسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ انصرف.

[استقبال القبر الشريف عند السلام عليه]

وفي «مسند الإمام أبي حنيفة رحمه‌الله» (٢) تصنيف أبي القاسم طلحة بن محمّد بن جعفر الشاهد العدل ، قال : حدثنا محمّد بن مخلّد ، حدّثني محمّد بن يعقوب بن إسحاق ابن حكيم ، حدّثني أحمد بن الخليل ، حدّثني الحسن ، حدثنا ابن المبارك ، حدثنا وهب ، عن أبي حنيفة قال : جاء أيّوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستدبر القبلة ، وأقبل بوجهه إلى القبر ، فبكى بكاء غير متباكٍ.

وقال إبراهيم الحربيّ في «مناسكه» : تولي ظهرك القبلة ، وتستقبل وسطه ـ يعني القبر ـ وتقول : السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته.

وقال ابن بطّال في «شرح البخاريّ» قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة» ـ بعد أن حكى القولين المشهورين ـ قال : واستدلّ الثاني بقوله : «ارتعوا في رياض الجنّة» يعني حلق الذكر والعلم ، قال : ويكون معناه التحريض على زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلاة في مسجده ، انتهى.

ولو استوعبنا الآثار وأقاويل العلماء في ذلك ، لخرجنا إلى حدّ الطول والملل.

[كراهة مالك لفظ : الزيارة]

فإن قلت : قد كَرِهَ مالك رحمه‌الله أن يقال : «زرنا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (٢ / ١٩٨) فصل (٩).

(٢) مسند أبي حنيفة.

قلت : قال القاضي عياض : قد اختلف في معنى ذلك :

فقيل : كراهية الاسم ؛ لما ورد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله زوّارات القبور».

وهذه يردّه قوله : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها» وقوله : «من زار قبري ...» فقد أطلق اسم «الزيارة».

وقيل : لأنّ ذلك ما قيل : «إنّ الزائر أفضل من المزور».

وهذا أيضاً ليس بشيء ، إذ ليس كلّ زائر بهذه الصفة ، وليس عموماً ، وقد ورد في حديث أهل الجنّة : «لزيارتهم لربّهم» ، ولم يمنع هذا اللفظ في حقّه.

والأولى عندي : أنّ منعه وكراهة مالك له ؛ لإضافته إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّه لو قال : «زرنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لم يكرهه ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد ، اشتدّ غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» فحمى إضافة هذا اللفظ إلى القبر والتشبيه بفعل أولئك ؛ قطعاً للذريعة ، وحسماً للباب ، والله أعلم.

هذا كلام القاضي (١) ، وما اختاره يشكل عليه قوله : «من زار قبري» فقد أضاف الزيارة الى القبر ، إلّا أن يكون هذا الحديث لم يبلغ مالكاً ، فحينئذٍ يحسن ما قاله القاضي في الاعتذار عنه ، لا في إثبات هذا الحكم في نفس الأمر.

ولعلّه يقول : إنّ ذلك من قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا محذور فيه ، والمحذور إنّما هو في قول غيره.

وقد قال عبد الحقّ [الصقلي] ، عن أبي عمران المالكيّ : إنّه قال : إنّما كره مالك أن يقال : «زرنا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» لأنّ الزيارة من شاء فعلها ، ومن شاء تركها ، وزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجبة ـ.

قال عبد الحق : يعني من السنن الواجبة ، ينبغي أن لا تذكر الزيارة فيه ، كما

__________________

(١) الشفاء للقاضي بن عياض (٢ / ١٩٥ ـ ١٩٧) فصل (٩).

تذكر في زيارة الأحياء الذين من شاء زارهم ، ومن شاء ترك ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أشرف وأعلى من أن يسمّى أنّه يزار.

وهذا الجواب بينه وبين جواب القاضي بون في شيئين :

أحدهما : أنّه يقتضي تأكّد نسبة معنى الزيارة إلى القبر ، وإن تجنّب لفظها ، وجواب القاضي يقتضي عدم نسبتها إلى القبر.

والثاني : أنّه يقتضي التسوية في كراهية اللفظ بين قوله : «زرت القبر» وقوله : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وجواب القاضي يقتضي الفرق بينهما.

وقد قال أبو الوليد محمّد بن رشيد في «البيان والتحصيل» : قال مالك : أكره أن يقال : «الزيارة» لزيارة البيت الحرام ، وأكره ما يقول الناس : «زرت النبيّ» وأعظم ذلك أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزار.

قال محمّد بن رشد : ما كره مالك هذا ـ والله أعلم ـ إلّا من وجه أنّ كلمة أعلى من كلمة ، فلمّا كانت الزيارة تستعمل في الموتى ، وقد وقع فيها من الكراهة ما وقع ، كره أن يذكر مثل هذه العبارة في النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كره أن يقال : «أيّام التشريق» واستحبّ أن يقال : «الأيّام المعدودات» كما قال الله تعالى ، وكما كره أن يقال : «العتمة» ويقال : «العشاء الأخيرة» ونحو هذا.

وكذلك طواف الزيارة كأنّه يستحبّ أن يسمّى ب «الإفاضة» كما قال الله تعالى في كتابه (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ) فاستحبّ أن يشتقّ له الاسم من هذا.

وقيل : إنّه كره لفظ «الزيارة» في الطواف بالبيت والمضيّ إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّ المضيّ إلى قبره عليه‌السلام ليس ليصله بذلك ، ولا لينفعه به ، وكذلك الطواف بالبيت ، وإنّما يفعل تأديةً لما يلزمه من فعله ، ورغبته في الثواب على ذلك من عند الله عزوجل ، وبالله التوفيق ، انتهى كلام ابن رشد.

وقد وقع فيه كراهية مالك قول الناس : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وهو يردّ ما قاله

القاضي عياض.

فأمّا كراهية إسناد الزيارة الى القبر ، فيحتمل أن تكون العلّة فيه ما قاله القاضي عياض ، ويحتمل أن تكون العلّة ما قاله أبو عمران وابن رشد.

وأمّا إضافة الزيارة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن ثبت ذلك عن مالك ـ فيتعيّن أن تكون العلّة فيه ما قاله أبو عمران وابن رشد.

والمختار في تأويل كلام مالك رحمه‌الله ما قاله ابن رشد ، دون ما قاله القاضي عياض ؛ لأنّ ابن المواز حكى في كتابه في كتاب الحجّ في باب ما جاء في الوداع قال أشهب : قيل لمالك : في من قدم معتمراً ، ثمّ أراد أن يخرج إلى رباط ، أعليه أن يودّع؟

قال : هو من ذلك في سعة.

ثمّ قال : إنّه لا يعجبني أن يقول أحد : «الوداع» وليس هو من الصواب ، وإنّما هو «الطواف» قال الله تعالى (وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ).

قال : وأكره أن يقال : «الزيارة» وأكره ما يقول الناس : «زرت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وأعظم ذلك أن يكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يزار!.

وقال مالك في وداع البيت : ما يعرف في كتاب الله ولا سنّة رسوله عليه‌السلام «الوداع» ، إنّما هو «الطواف بالبيت».

قلت لمالك : أفترى هذا الطواف الذي يودّع به أهو الالتزام؟

قال : بل الطواف ، وإنّما قال فيه عمر : آخر النسك الطواف بالبيت.

قيل لمالك : فالذي يلتزم أترى له أن يتعلّق بأستار الكعبة عند الوداع؟

قال : لا ، ولكن يقف ويدعو.

قيل له : وكذلك عند قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قال : نعم ، انتهى ، ما أردت نقله من «الموازية» وهي من أجلّ كتب المالكيّة

القديمة المعتمد عليها.

وسياقة حكاية أشهب عن مالك ترشد إلى المراد ؛ وأنّ مالكاً رحمه‌الله إنّما كره اللفظ ، كما كرهه في طواف الوداع.

أفَترى يتوهّم مسلم أو عاقل أنّ مالكاً كره طواف الوداع؟!

وانظر في آخر كلام مالك ، كيف اقتضى أنّه يقف ويدعو عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما يقف ويدعو عند الكعبة في طواف الوداع.

فأيّ دليل أبين من هذا في أنّ إتيان قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوقوف والدعاء عنده من الامور المعلومة ، التي لم تزل قبل مالك وبعده؟!

ولو عرف مالك رحمه‌الله أنّ أحداً يتوهّم عليه ذلك من هذا اللفظ ، لما نطق به! ولا لوم على مالك ، فإنّ لفظه لا إبهام فيه ، وإنّما يتلبس على جاهل أو متجاهل! (١).

[عدم كراهة ذلك هو الحق]

والمختار عندنا أنّه لا يكره إطلاق هذا اللفظ أيضاً ؛ لقوله : «من زار قبري» وقد تقدّم الاعتذار عن مالك فيه.

ولا يرد عليه قوله : «زوروا القبور» لأنّ زيارة قبور غير الأنبياء لينفعهم ويصلهم بها وبالدعاء والاستغفار.

ولهذا قال : قال أبو محمّد عبد الله بن عبد الرحمن المالكيّ المعروف

__________________

(١) ليلاحظ القارئ الكريم كيف تصبح كلمة مالك وحبّه وكراهته محطّاً لاهتمام هؤلاء الناس وكشف مراده ، ويحتجّ بها السلفية كانّه وحيٌ منزل ، وتهاجم الأكداس من الأحاديث والآثار المرويّة في الكتب والمذكورة في الأحكام والمؤلَّفات ، التي يعتمدها المؤلِّفون والرواة وكلّها تنادي بصراحة «زيارة القبر» واستحبابها وكونها المقصود للزائر ، فضلاً عن إطلاق لفظ الزيارة؟!!؟ مع عمل الأمّة سلفاً وخلفاً على القيام بها؟!

ب «الشارمساحي» في كتاب «تلخيص محصول المدوّنة من الأحكام» الملقّب ب «نظم الدرّ» في كتاب الجامع في الباب الحادي عشر في السفر : إنّ قصد الانتفاع بالميّت بدعة ، إلّا في زيارة قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذا الذي ذكره في الانتفاع بقبور المرسلين صحيح ، وكذلك سائر الأنبياء ، وأمّا ما ذكره في غير الأنبياء فسنتكلّم عليه إن شاء الله تعالى في قبور غير الأنبياء.

وأمّا زيارة أهل الجنّة لله تعالى ، فإن صحّ الحديث فيها! فلا ترد على شيء من المعاني التي قالها عبد الحقّ وابن رشد ؛ لأنّها ليست واجبة ، فإنّ الآخرة ليست دار تكليف ، وقد انقطع الإلحاق بزيارة الموتى في توهّم الكراهة.

فقد بان لك بهذا وجه كلام مالك رحمه‌الله وأنّه :

على جواب القاضي عياض إنّما كره زيارة القبر ، لا زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وعلى جواب غيره إنما كره اللفظ فقط ، دون المعنى.

وكذلك أكثر ما حكيناه من كلام أصحابه أتوا فيه بمعنى الزيارة ، دون لفظها.

فمن نقل عن مالك «أنّ الحضور عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والسلام عليه والدعاء عنده ـ ليس بقربة» ، فقد كذب عليه.

ومن فهم عنه ذلك فقد أخطأ في فهمه وضلّ ، وحاشا مالكاً وسائر علماء الإسلام ، بل وعوامّهم ممّن وقر الإيمان في قلبه.

[نسبة المنع من الزيارة إلى أهل البيت]

فإن قلت : فقد روى عبد الرزاق في مصنّفه (١) بسنده إلى الحسن بن

__________________

(١) المصنّف لعبد الرزاق (٣ / ٥٧٧) ح ٦٧٢٧. وهو في المصنّف لابن أبي شيبة ـ أيضاً ـ

الحسن بن عليّ : أنّه رأى قوماً عند القبر فنهاهم ، وقال : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تتّخذوا قبري عيداً ، ولا تتّخذوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم ، فإنّ صلاتكم تبلغني».

قلت : قد روى القاضي إسماعيل في كتاب «فضل الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بسنده إلى عليّ بن الحسين بن عليّ ـ وهو زين العابدين ـ : أنّ رجلاً كان يأتي كلّ غداة ، فيزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّي عليه ، ويصنع من ذلك ما انتهره عليه عليّ بن الحسين ، فقال له عليّ بن الحسين : ما يحملك على هذا؟

__________________

(٣ / ٢٢٦) كتاب الجنائز باب (١٤٦) ح ٥. عن حسن بن حسن قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تتّخذوا ...» الحديث.

وأورده الذهبي في ترجمته من سير أعلام النبلاء (٤ / ٤٨٤) رقم (١٨٥) وقال بعد الحديث : هذا مرسل (!). وأضاف الذهبيّ : وما استدل حسن ـ في فتواهُ ـ بطائل من الدلالة.

فمن وقفَ عند الحجرة المقدّسة ذليلاً مسلِّماً مصلّياً على نبيّه ، فيا طوبى له ، فقد أحسن الزيارة ، وأجمل في التذلّل والحبّ ، وقد أتى بعبادةٍ زائدة على من صلّى عليه في أرضه ، أو في صلاته ، إذ الزائر له أجر الزيارة وأجر الصلاة عليه ، والمصلّي عليه من سائر البلاد له أجر الصلاة فقط. «فمن صلّى عليه واحدة صلّى الله عليه عشراً».

ولكن من زاره ـ صلوات الله عليه ـ وأساء أدب الزيارة!! أو سجد للقبر!!! أو فعل ما لا يشرع!!! فهذا فعل حسناً وسيّئاً ، فيعلّمُ برِفْقٍ ، والله غفورٌ رحيم.

فو الله ما يحصل الانزعاج لمسلمٍ والصياح وتقبيل الجدران وكثرة البكاء ، إلّا وهو محبٌّ لله ولرسوله ، فحبّهُ المعيار والفارق بين أهل الجنّة وأهل النار.

فزيارة قبره من أفضل القُرب ، وشدّ الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء ـ لئن سلّمنا أنّه غير مأذون فيه ، لعموم قوله صلوات الله عليه : «لا تشدّوا الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد»! ـ فشدّ الرحال إلى نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستلزم لشدّ الرحل إلى مسجده ، وذلك مشروعٌ بلا نزاع ، إذ لا وصول إلى حضرته إلّا بعد الدخول إلى مسجده ، فليبدأ بتحيّة المسجد ، ثمّ بتحيّة صاحب المسجد ، رزقنا الله وإيّاكم ذلك ، آمين.

قال : احبّ التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال له عليّ بن الحسين : هل لك أن أحدّثك حديثاً عن أبي؟

قال : نعم.

فقال له عليّ بن الحسين : أخبرني أبي ، عن جدّي أنّه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا قبري عيداً ، ولا تجعلوا بيوتكم قبوراً ، وصلّوا عليّ وسلّموا حيث ما كنتم ، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم» (١).

وهذا الأثر يبيّن لنا أنّ ذلك الرجل زاد في الحدّ ، وخرج عن الأمر المسنون ، فيكون كلام عليّ بن الحسين موافقاً لما تقدّم عن مالك ، وليس إنكاراً لأصل الزيارة ، أو يكون أراد تعليمه : أنّ السلام يبلغ من الغيبة ، لمّا رآه يتكلّف الإكثار من الحضور.

وعلى ذلك يحمل ما ورد عن حسن بن حسن وغيره من ذلك.

ولم يذكر هذا الأثر ليحتجّ به ، بل للتأنيس بأمر يحتمل في ذلك الأثر المطلق ، وإبداء وجه من وجوه التأويل.

وكيف يتخيّل في أحد من السلف منعهم من زيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم مجمعون على زيارة سائر الموتى؟!

وسنذكر ذلك ، وما ورد من الأحاديث والآثار في زيارتهم.

فالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء الذين ورد فيهم أنّهم أحياء ، كيف يقال فيهم هذه المقالة؟!

__________________

(١) فضل الصلاة ... للقاضي إسماعيل (ص ٣٣) ، وقال في الصارم (ص ٢٩٤) قد رواه أبو يعلى الموصلي والحافظ المقدسي في الأحاديث المختارة ، وله شواهد كثيرة. هو خبر محفوظ مشهور.

[حديث : لا تجعلوا بيتي عيداً]

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا قبري عيداً» فرواه أبو داود السجستانيّ (١) ، وفي سنده عبد الله بن نافع الصائغ ، روى له الأربعة ومسلم.

قال البخاريّ : تعرف حفظه وتنكر.

وقال أحمد بن حنبل : لم يكن صاحب حديث ؛ كان ضعيفاً فيه ، ولم يكن في الحديث بذاك.

وقال أبو حاتم الرازيّ : ليس بالحافظ ؛ هو ليّن تعرف حفظه وتنكر.

ووثقه يحيى بن معين ، وقال أبو زرعة : لا بأس به.

وقال ابن عديّ : روى عن مالك غرائب ، وهو في رواياته مستقيم الحديث (٢).

فإن لم يثبت هذا الحديث فلا كلام ، وإن ثبت ـ وهو الأقرب ـ فقال الشيخ زكيّ الدين المنذريّ : يحتمل أن يكون المراد به الحثّ على كثرة زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن لا يهمل حتّى لا يزار إلّا في بعض الأوقات ، كالعيد الذي لا يأتي في العامّ إلّا مرّتين.

قال : ويؤيّد هذا التأويل ما جاء في الحديث نفسه : «لا تجعلوا بيوتكم قبوراً» أي لا تتركوا الصلاة في بيوتكم حتّى تجعلوها كالقبور التي لا يصلّى فيها.

قلت : ويحتمل أن يكون المراد لا تتّخذوا له وقتاً مخصوصاً لا تكون الزيارة إلّا فيه ، كما ترى كثيراً من المشاهد ، لزيارتها يوم معيّن كالعيد ، وزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس فيها يوم بعينه ، بل أيّ يوم كان.

__________________

(١) سنن أبي داود (١ / ٤٥٣) ح ٢٠٤٢ ، باب زيارة القبور.

(٢) الكامل لابن عدي.

ويحتمل أيضاً أن يراد أن يجعل كالعيد في العكوف عليه ، وإظهار الزينة والاجتماع ، وغير ذلك ممّا يعمل في الأعياد ، بل لا يؤتى إلّا للزيارة والسلام والدعاء ، ثمّ ينصرف عنه.

والله أعلم بمراد نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

__________________

(١) أقول : المحفوظ في بعض النصوص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تجعلوا بيتي عيداً ...» والظاهر أن من رواه بلفظ «قبري» إنّما حرّفه ، والقرينة على ذلك لفظ «بيوتكم» في ما ورد بلفظ «قبري» وعلى هذا فالمراد منعهم من مراودة بيته والجلوس فيه ، للسمر والسهر ، وهو أذيّة للرسول ومزاحمة لحياته ، ولمن يُريد الاستفادة من علمه ، كما ورد في القرآن الكريم في سورة الأحزاب (٣٣) الآية رقم (٥١) قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ...) وللتفصيل محلٌ آخر ، فراجع رسالتنا حول «الزيارة». وكتب السيد.

الباب الخامس :

في

تقرير كون الزيارة قُرْبَةً

وذلك بالكتاب ، والسنة ، والإجماع ، والقياس :

[أما الكتاب العزيز]

أمّا الكتاب :

فقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ ، تَوَّاباً رَحِيماً).

دلّت الآية على الحثّ على المجيء إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاستغفار عنده ، واستغفاره لهم ، وذلك وإن كان ورد في حال الحياة فهي رتبة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تنقطع بموته ؛ تعظيماً له.

فإن قلت : المجيء إليه في حال الحياة ليستغفر لهم ، وبعد الموت ليس كذلك؟

قلت : دلّت الآية على تعليق وجدانهم الله تعالى توّاباً رحيماً بثلاثة امور : المجيء ، واستغفارهم ، واستغفار الرسول.

فأمّا استغفار الرسول : فإنّه حاصل لجميع المؤمنين ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

استغفر للمؤمنين والمؤمنات ، لقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ).

ولهذا قال عاصم بن سليمان ـ وهو تابعيّ ـ لعبد الله بن سرجس الصحابيّ رضى الله عنه : استغفر لك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : نعم ، ولك ، ثمّ تلا هذه الآية ، رواه مسلم (١).

فقد ثبت أحد الامور الثلاثة ؛ وهو استغفار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكلّ مؤمن ومؤمنة ، فإذا وُجِدَ مجيئهم ، واستغفارهم ؛ تكمّلت الامور الثلاثة الموجبة لتوبة الله ورحمته.

وليس في الآية ما يعيّن أن يكون استغفار الرسول بعد استغفارهم ، بل هي مجملة (٢).

والمعنى يقتضي بالنسبة إلى استغفار الرسول أنّه سواء تقدّم أم تأخّر؟ فإنّ المقصود إدخالهم لمجيئهم واستغفارهم تحت من يشمله استغفار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإنّما يحتاج إلى المعنى المذكور إذا جعلنا (اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ) معطوفاً على (فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ) أمّا إن جعلناه معطوفاً على جَاءوكَ لم يحتج إليه.

هذا كلّه ، إن سلّمنا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يستغفر بعد الموت ، ونحن لا نسلّم ذلك ؛ لما سنذكره من حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستغفاره لأُمّته بعد موته.

وإذا أمكن استغفاره ، وقد علم كمال رحمته وشفقته على امّته ، فيعلم أنّه لا يترك ذلك لمن جاءه مستغفراً ربّه تعالى.

فقد ثبت على كلّ تقدير أنّ الامور الثلاثة المذكورة في الآية ، حاصلة لمن

__________________

(١) صحيح مسلم (٧ / ٨٦) كتاب الفضائل ، باب إثبات خاتم النبوّة ، وفي طبعة (٤ / ١٨٢٣) وانظر الشمائل للترمذي رقم ٢٢.

(٢) في الصارم (ص ٣١٤) : «محتملة» بدل : مجملة.

يجيء إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغفراً في حياته وبعد مماته.

والآية وإن وردت في أقوام معيّنين في حالة الحياة ، فتعمّ بعموم العلّة كلّ من وجد فيه ذلك الوصف في الحياة وبعد الموت.

ولذلك فهم العلماء من الآية العموم في الحالتين ، واستحبّوا لمن أتى إلى قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتلو هذه الآية ، ويستغفر الله تعالى.

وحكاية العتبيّ في ذلك مشهورة ، وقد حكاها المصنّفون في المناسك من جميع المذاهب ، والمؤرّخون ، وكلّهم استحسنوها ، ورأوها من آداب الزائر ، وما ينبغي له أن يفعله ، وقد ذكرناها في آخر الباب الثالث.

[وأمّا السنّة]

وأمّا السنّة : فما ذكرناه في الباب الأوّل والثاني من الأحاديث ، وهي أدلّة على زيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخصوصه ، وفي السنة الصحيحة المتّفق عليها الأمر بزيارة القبور.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور ، فإنّها تذكّركم الآخرة».

وقال الحافظ أبو موسى الأصبهانيّ في كتابه «آداب زيارة القبور» : ورد الأمر بزيارة القبور من حديث بريدة ، وأنس ، وعليّ ، وابن عبّاس ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وابيّ بن كعب ، وأبي ذر رضي الله عنهم ، انتهى كلام أبي موسى الأصبهاني.

فقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ سيد القبور ـ داخل في عموم القبور المأمور بزيارتها.

[وأمّا الإجماع] (١)

وأمّا الإجماع : فقد حكاه القاضي عياض ؛ على ما سبق في الباب الرابع (٢).

وأعلم : أنّ العلماء مجمعون على أنّه يستحبّ للرجال زيارة القبور ، بل قال بعض الظاهريّة بوجوبها ؛ للحديث المذكور.

وممّن حكى إجماع المسلمين على الاستحباب أبو زكريّا النوويّ.

وقد رأيت في «مصنّف ابن أبي شيبة» (٣) عن الشعبيّ قال : لو لا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن زيارة القبور ، لزرت قبر بنتي.

وهذا إن صحّ ، يحمل على أنّ الشعبي لم يبلغه الناسخ ، مع أنّ الشعبيّ لم يصرّح بقول له ، ومثل هذا لا يقدح.

وكذلك رأيت فيه : عن إبراهيم قال : كانوا يكرهون زيارة القبور (٤).

وهذا لم يثبت عندنا ، ولم يبيّن إبراهيم الكراهة عمّن؟ ولا كيف هي؟ فقد تكون محمولة على نوع من الزيارة مكروهة.

__________________

(١) لم يتمكّن المتعصّب العنيد من دفع الإجماع على مشروعية الزيارة ، وقول علماء الإسلام بها ، إلّا بقوله في الصارم المنكي (ص ٣٣٠) : إن الإجماع المذكور في هذه المسألة غير محقّق ، وإن كان قول من خالف الجمهور ضعيفاً!! وشيخ الإسلام (؟!) لم يذهب إلى هذا القول المخالف لقول الجمهور ، وإنّما حكاه غيره.

أقول : ومن المعلوم أن مخالفة الضعيف لا يؤثر في الإجماع وتحقّقه ، وإلّا كان كل قول واحتمال ، ممّن هبّ ودبّ ، مؤثّراً في نقض الإجماع ، فلم ينعقد إجماع على شيء!!

(٢) سبق ص ١٥٥.

(٣) المصنف لابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٦) كتاب الجنائز (٩) الباب (١٤٦) من كره زيارة القبور ح (١١).

(٤) المصنف لابن أبي شيبة (الموضع والباب) ح (٩).

ولم أجد شيئاً يمكن أن يتعلّق به الخصم غير هذين الأثرين (١) ، ومثلهما لا يعارض الأحاديث الصريحة الصحيحة ، والسنن المستفيضة المعلومة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم.

بل لو صحّ عن الشعبيّ والنخعيّ التصريح بالكراهة ، لكان ذلك من الأقوال الشاذّة التي لا يجوز اتّباعها والتعويل عليها ؛ فإنّا نقطع ونتحقّق من الشريعة بجواز زيارة القبور للرجال ، وقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم داخل في هذا العموم.

ولكن مقصودنا إثبات الاستحباب له بخصوصه ؛ للأدلّة الخاصّة ، بخلاف غيره ممّن لا يستحبّ زيارة قبره لخصوصه ، بل لعموم زيارة القبور ، وبين المعنيين فرق كما لا يخفى.

فزيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلوبة بالعموم والخصوص.

بل أقول : إنّه لو ثبت خلاف في زيارة قبر غير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يلزم من ذلك إثبات خلاف في زيارته ؛ لأنّ زيارة القبر تعظيم ، وتعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واجب.

وأمّا غيره فليس كذلك.

__________________

(١) لاحظ استدلال ابن تيمية على منع الزيارة بأسخف من هذين ، وهو أنّ مالكاً كره أن يُقال «زرت قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» مجموع فتاوى (٢٧ / ٢٦) والصارم (ص ٣٢٨).

وأمثال ذلك من الحكايات التي (ينطبق عليها قوله في موضع آخر :) قد تكون صدقاً ، وقد تكون كذباً ، وبتقدير أن تكون صدقاً فإنّ قائلها غير معصوم ومَنْ يعارض النقل الثابت عن المعصوم (في مشروعية الزيارة) بنقلٍ (من هذه الحكايات) غير ثابت حتى عن غير المعصوم؟ إلّا مَنْ يكون من الضالّين (المنحرفين عن تقديس الرسول وصحابته كالسلفية والوهابية) إخوان الشياطين.

وهذا من أسباب الشرك وتغيير الدين! بحكم ابن تيمية في مجموع فتاواه (٢٧ / ١٧١).

[زيارة النساء للقبور]

ولهذا المعنى أقول ـ والله أعلم ـ : إنّه لا فرق في زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين الرجال والنساء لذلك ، ولعدم المحذور في خروج النساء إليه.

وأمّا سائر القبور فمحلّ الإجماع على استحباب زيارتها للرجال.

وأمّا النساء ففي زيارتهن أربعة أوجه في مذهبنا :

أشهرها : أنّها مكروهة ، جزم به الشيخ أبو حامد ، والمحامليّ ، وابن الصبّاغ ، والجرجانيّ ، ونصر المقدسيّ ، وابن أبي عصرون ، وغيرهم.

وقال الرافعيّ : إن الأكثرين لم يذكروا سواه.

وقال النوويّ : قطع به الجمهور ، وصرّح بأنّها كراهة تنزيهٍ.

والثاني : أنّها لا تجوز ، قاله صاحب «المهذّب» وصاحب «البيان».

والثالث : لا تستحبّ ولا تكره ، بل تباح ، قاله الرويانيّ.

الرابع : إن كانت لتجديد الحزن والبكاء بالتعديد والنوح ـ على ما جرت به عادتهنّ ـ فهو حرام ، وعليه يحمل الخبر ، وإن كانت للاعتبار بغير تعديد ولا نياحة كره ، إلّا أن تكون عجوزاً لا تُشتهى فلا تكره ، كحضور الجماعة في المساجد ، قاله الشاشيّ ، وفرّق بين الرجل والمرأة : بأنّ الرجل معه من الضبط والقوّة بحيث لا يبكي ولا يجزع ، بخلاف المرأة.

واحتجّ المانعون بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله زوَّارات القبور» رواه الترمذيّ في حديث أبي هريرة ، وقال : حسن صحيح ، ورواه ابن ماجة من حديث حسّان بن ثابت (١).

__________________

(١) سنن الترمذي (٢ / ٢٥٩) ح ١٠٦١ ، باب (٦١) ما جاء في كراهية زيارة القبور للنساء ، وفيه : عن أبي هريرة : ان رسول الله لعن ...» ورواه البيهقي في السنن الكبرى (٤ / ٧٨) وسنن ابن ماجة

واحتجّ المجوزون بأحاديث :

منها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها» (١).

وأجاب المانعون بأنّ هذا الخطاب للذكور.

ومنها : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمرأة التي رآها عند قبر تبكي : «اتقي الله واصبري» ولم ينهها عن الزيارة.

وهو استدلال صحيح.

ومنها : قول عائشة : كيف أقول؟ يا رسول الله!

قال : «قولي السلام على أهل الديار من المؤمنين».

وسنذكره في خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للبقيع.

وهو استدلال صحيح.

[الاستدلال على استحباب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقياس]

وقد خرجنا عن المقصود ، فنرجع إلى غرضنا : وهو الاستدلال على أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة.

وممّا يدلّ على ذلك القياس ؛ وذلك على زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البقيع وشهداء

__________________

(١ / ٥٠٢) ح ١٥٧٤ ، باب ما جاء في زيارة القبور ، والموجود في المطبوع : عن حسان بن ثابت : لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زوّارات القبور ، لا ما نقله في المتن من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله ...» ، وقد روى بعده عن ابن عباس وأبي هريرة مثله. وحديث حسّان رواه الحاكم في مستدركه (١ / ٣٧٤) ، والبيهقي في السنن الكبرى (٤ / ٧٨) ، لكن في كنز العمال (١٦ / ٣٨٨) رقم (٤٥٠٣٨) : «لعنَ الله زوّارات القبور» حم ت ه ك. عن حسان : وحم ت ه عن أبي هريرة فليلاحظ ، وفي مصنف ابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٦) كتاب (٩) باب (١٤٦) ج (١٠) وفيه : زائرات.

(١) المصنف لابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٣) كتاب (٩) الجنائز ، الباب (١٤٥) من رخص في زيارة القبور ح (١).

أحد ـ وسنبيّن أنّ ذلك غير خاصّ به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل مستحبّ لغيره ـ وإذا استحبّ زيارة قبر غيره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقبره أولى ؛ لما له من الحقّ ووجوب التعظيم.

فإن قلت : الفرق : أنّ غيره يزار للاستغفار له ؛ لاحتياجه إلى ذلك ، كما فعل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارته أهل البقيع ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغنٍ عن ذلك؟

قلت : زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما هي لتعظيمه ، والتبرّك به ، ولتنالنا الرحمة بصلاتنا وسلامنا عليه ، كما أنّا مأمورون بالصلاة عليه والتسليم ، وسؤال الوسيلة ، وغير ذلك ممّا يعلم أنّه حاصل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير سؤالنا ، ولكنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرشدنا إلى ذلك ؛ لنكون بدعائنا له متعرّضين للرحمة التي رتّبها الله تعالى على ذلك.

فإن قلت : الفرق أيضاً : أنّ غيره لا يخشى فيه محذور ، وقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخشى الإفراط من تعظيمه أن يُعْبَدَ؟!

قلت : هذا كلام تقشعرّ منه الجلود ، ولو لا خشية اغترار الجهّال به لما ذكرته ، فإنّ فيه تركاً لما دلّت عليه الأدلّة الشرعية بالآراء الفاسدة الخياليّة!

وكيف تقدم ـ على تخصيص قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور» وعلى ترك قوله : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» وعلى مخالفة إجماع السلف والخلف ـ بمثل هذا الخيال الذي لم يشهد به كتاب ولا سنّة؟!

بخلاف النهي عن اتخاذه مسجداً ، وكون الصحابة احترزوا عن ذلك المعنى المذكور ؛ لأنّ ذلك قد ورد النهي فيه.

وليس لنا نحن أن نشرّع أحكاماً من قبلنا : (أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ).

فمن منع زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد شرع من الدين ما لم يأذنْ به الله! وقوله مردود عليه ، ولو فتحنا باب هذا الخيال الفاسد لتركنا كثيراً من السنن ، بل ومن الواجبات.

والقرآن كلّه ، والإجماع المعلوم من الدين بالضرورة ، وسير الصحابة

والتابعين ، وجميع علماء المسلمين ، والسلف الصالحين ؛ على وجوب تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمبالغة في ذلك.

ومن تأمّل القرآن العزيز ، وما تضمّنه من التصريح والإيماء إلى وجوب المبالغة في تعظيمه وتوقيره والأدب معه ، وما كانت الصحابة يعاملونه به من ذلك ، امتلأ قلبه إيماناً ، واحتقر هذا الخيال الفاسد ، واستنكف أن يصغي إليه ، والله تعالى هو الحافظ لدينه : وَ (مَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي) و (مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلا هادِيَ لَهُ).

وعلماء المسلمين متكفّلون بأن يبيّنوا للناس ما يجب من الأدب والتعظيم ، والوقوف عند الحدّ الذي لا يجوز مجاوزته ؛ بالأدلّة الشرعية ، وبذلك يحصل الأمن من عبادة غير الله تعالى.

ومن أراد الله ضلاله من أفراد الجهّال ، فلن يستطيع أحد هدايته.

فمن ترك شيئاً من التعظيم المشروع لمنصب النبوّة ؛ زاعماً بذلك الأدب مع الربوبيّة ، فقد كذب على الله تعالى ، وضيّع ما أمر به في حقّ رسله.

كما أنّ من أفرط وجاوز الحدّ إلى جانب الربوبيّة فقد كذب على رسل الله ، وضيّع ما أمروا به في حقّ ربّهم سبحانه وتعالى.

والعدل حفظ ما أمر الله به في الجانبين.

وليس في الزيارة المشروعة من التعظيم ما يفضي إلى محذور (١).

__________________

(١) وعند هذا الموضع ، قد انقطع ابن عبد الهادي عن ردّه السخيف على الإمام السبكي ، فصرم الله عمره وبتره بما أبداه على هذا الإمام الهمام من التعدّي والظلم وقد تركَ ما بقي من الكتاب ، وهو القسم الأكبر والأهم ويحتوي على الأبواب الخمسة المتبقية من (الباب السادس) إلى (الباب العاشر) التي جاء فيها الإمام السبكي بالعجب العجاب من الكلام الحكيم القويم ، والفقه الصائب ، والحقّ الصراح.

وقد شرحنا جانباً من أسباب نكوص السلفي البغيض عن التعرّض لهذه الأبواب في المقدّمة ، فراجع.

[أقسام الزيارة]

واعلم : أنّ زيارة القبور على أقسام :

القسم الأول : أن تكون لمجرّد تذكّر الموت والآخرة.

وهذا يكفي فيه رؤية القبور من غير معرفة بأصحابها ، ولا قصد أمر آخر من الاستغفار لهم ، ولا من التبرّك بهم ، ولا من أداء حقوقهم ، وهو مستحبّ ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور ؛ فإنّها تذكّركم الآخرة».

وذلك لأنّ الإنسان إذا شاهد القبر تذكّر الموت وما بعده ، وفي ذلك عظة واعتبار.

وهذا المعنى ثابت في جميع القبور ، ودلالة القبور على ذلك متساوية ، كما أنّ المساجد ـ غير المساجد الثلاثة ـ متساوية لا يتعيّن شيء منها بالتعيين بالنسبة إلى هذا الغرض.

القسم الثاني : زيارتها للدعاء لأهلها ، كما ثبت من زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل البقيع.

وهذا مستحبّ في حقّ كلّ ميت من المسلمين.

القسم الثالث : للتبرّك بأهلها إذا كانوا من أهل الصلاح والخير.

وقد قال أبو محمّد الشارمساحيّ المالكيّ : إنّ قصد الانتفاع بالميّتِ بدعة ، إلّا في زيارة قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين.

وهذا الذي استثناه من قبور الأنبياء والمرسلين صحيح.

وأمّا حكمه في غيرهم بالبدعة ففيه نظر ، ولا ضرورة بنا هنا إلى تحقيق الكلام فيه ؛ لأنّ مقصودنا أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأنبياء والمرسلين للتبرّك بهم مشروعة ، وقد صرّح به.

القسم الرابع : لأداء حقّهم ، فإنّ من كان له حقّ على الشخص ، فينبغي له برّه

في حياته ، وبعد موته ، والزيارة من جملة البرّ ؛ لما فيها من الإكرام ، ويشبه أن تكون زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبر امّه من هذا القبيل ، كما روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه زار قبر امّه فبكى وأبكى مَنْ حوله ، فقال : «استأذنت ربّي في أن استغفر لها فلم يؤذن لي ، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي ، فزوروا القبور ، فإنّها تذكّر الموت» رواه مسلم (١).

ويدخل في هذا المعنى الزيارة رحمة للميّت ورقّة له وتأنيساً ، فقد روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «آنس ما يكون الميّت في قبره إذا زاره من كان يحبّه في دار الدنيا».

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما من أحد يمرّ بقبر أخيه المؤمن يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه ، إلّا عرفه وردّ عليه‌السلام».

ذكره جماعة ، وقال القرطبيّ في «التذكرة» : إنّ عبد الحقّ صحّحه ، وروّيناه في «الخلعيّات» من حديث أبي هريرة رضى الله عنه أيضاً.

والآثار في انتفاع الموتى بزيارة الأحياء ، وما يصل إليهم منهم ، وإدراكهم لذلك ، لا تحصر.

[اجتماع الأغراض الشرعية في زيارة النبي خير البرية]

إذا عرف هذا ، فنقول : زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبت فيها هذه المعاني الأربعة :

أمّا الأول : فظاهر.

وأما الثاني : فلأنّا مأمورون بالدعاء له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كان هو غنيّاً بفضل الله عن دعائنا.

وأمّا الثالث والرابع : لأنّه لا أحد من الخلق أعظم بركة منه ، ولا أوجب حقّاً علينا منه ، فالمعنى الذي في زيارة قبره لا يوجد في غيره ، ولا يقوم غيره مقامه ، كما

__________________

(١) صحيح مسلم (٣ / ٦٥) كتاب الجنائز ، باب استئذان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في زيارة قبر امّه.

أنّ المسجد الحرام لا يقوم غيره مقامه ، ومن هاهنا شُرِّعَ قصده بخصوصه ويتعيّن ، بخلاف غيره من القبور ، هذا لو لم يرد في زيارته دليل خاصّ ، فكيف وقد ورد في زيارته بخصوصه ما سبق من الأحاديث! وغيره لم يرد فيه إلّا الأدلة العامّة.

فزيارة قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستحبّة بعينها ؛ لما ثبت من الأدلّة الخاصّة ، ولما فيها من المعاني العامّة التي لا تجتمع في غيره.

وأمّا زيارة قبر غيره ؛ فهي مستحبّة بالإطلاق.

وقد تقدّمت النصوص الدالّة على استحباب زيارة القبور ، وحكاية الإجماع على ذلك ، وأنّ من الناس من قال بوجوبها.

وفي كتاب «النوادر» لابن أبي زيد من «كتاب ابن حبيب» : ولا بأس بزيارة القبور ، والجلوس إليها ، والسلام عليها عند المرور بها ، وقد فعل ذلك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قدم ابن عمر من سفر وقد مات أخوه عاصم ، فذهب إلى قبره فدعا له واستغفر ـ وفي غير «كتاب ابن حبيب» ـ : ورثاه فقال :

فإن تك أحزان وفائض دمعة

جرين دماً من داخل الجوف منقعا

تجرّعتها من عاصم واحتسيتها

فأعظم منها ما احتسى وتجرّعا

فليت المنايا كنّ خلّفن عاصماً

فعشنا جميعاً أو ذهبن بنا معا

دفعنا بك الأيّام حتّى إذا أتت

تريدك لم نسطع لها عنك مدفعا

قال ابن حبيب : وفعلته عائشة رضي الله عنها لمّا مات أخوها عبد الرحمن وهي غائبة ، فلمّا قدمت أتت قبره ، فدعت له واستغفرت.

قال : وقد خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البقيع يستغفر لهم.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا سلّم على أهل القبور يقول : «السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم

لاحقون ، اللهمّ ارزقنا أجرهم ، ولا تفتنّا بعدهم».

والقول في ذلك واسع بقدر ما يحضر منه.

ويدلّ على التسليم على أهل القبور ما جاء من السنّة في التسليم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر مقبورين.

وقد أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبور شهداء احد ، فسلّم عليهم ، ودعا لهم.

ومن «المجموعة» عن مالك : أنّه سئل عن زيارة القبور؟

فقال : قد كان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عنه ، ثمّ أذن فيه ، فلو فعله إنسان ولم يقل إلّا خيراً ، لم أرَ به بأساً ، وليس من عمل الناس.

وروي عنه أنّه كان يضعّف زيارتها.

قال ابن القرظيّ (١) : وإنّما أذن في ذلك ليعتبر بها ، إلّا لقادم من سفر ، وقد مات وليّه في غيبته ، فليدع له وليترحّم عليه ، ويؤتى قبور الشهداء بأُحد ، ويسلّم عليهم ، كما يسلّم على قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى ضجيعيه ، انتهى كلام ابن أبي زيد في «النوادر».

وما وقع في كلام ابن حبيب من قوله : «ولا بأس» قد يوهم أنّه مباح ، ولكن ذلك لا ينافي كونه سنّة ، ولعلّ زيارة القبور عنده من قبيل عيادة المرضى ونحوها من القربات التي لم توضع بأصلها عبادة ؛ على ما سيأتي عند الكلام في نذر الزيارة.

وإذا اريد هذا المعنى فلا يبعد الموافقة عليه ، فإنّ زيارة الموتى كزيارة الأحياء ، وزيارة الأحياء لا يقول : بأنّها وضعت عبادة ، بل تفعل على قصد التقرّب تارة ، فيثاب عليها ، وعلى غير قصد التقرب تارة ، فلا يثاب ، وتكون إمّا مباحة ، أو غير مباحة بحسب قصده ، وهكذا زيارة القبور.

__________________

(١)

في (ه) : القرطبي.

[جهة القربة في زيارة القبور]

وجهة القربة فيها على أنواع :

منها : الاعتبار ، وهو مستحبّ لكلّ أحد.

ومنها : الترحّم والدعاء ، وهو مؤكّد لمن مات قريبه في غيبته ، كما فعل ابن عمر حين قدم بعد موت أخيه عاصم ، وكان ابن عمر إذا قدم وقد مات بعض ولده قال : دلّوني على قبره ، فيدلّونه عليه ، فينطلق فيقوم عليه ، ويدعو له ، رواه ابن أبي شيبة (١).

وكما فعلته عائشة حين مات أخوها عبد الرحمن ، وكان قد مات بالحُبْشيّ ـ والحُبْشيّ على اثني عشر ميلاً من مكّة ، هكذا في كتاب ابن أبي شيبة عن ابن جريج ـ فحُمِلَ حتّى دفن بمكّة ، فقدمت عائشة من المدينة ، فأتت قبره فوقفت عليه ، فتمثّلت بهذين البيتين :

وكنّا كندماني جذيمة حقبة

من الدهر حتّى قيل : لن يتصدّعا

فلمّا تفرّقنا كأنّي ومالكاً

لطول اجتماع لم نبت ليلة معا

أمّا والله لو شهدتك ما زرتك ، ولو شهدتك ما دفنتك إلّا في مكانك الذي متّ فيه (٢).

وروى ابن سعد في «الطبقات» (٣) بسنده إلى ابن أبي مليكة قال : رحت من منزلي وأنا اريد منزل عائشة ، فتلقّتني على حمار ، فسألت بعض من كان معها.

قال : زارت قبر أخيها عبد الرحمن.

__________________

(١) المصنّف لابن أبي شيبة (٣ / ٢٢٤) كتاب (٩) ، الجنائز ، باب (١٤٥) ح ٩.

(٢) المصنّف لابن أبي شيبة (نفس الموضع والباب) ح (٨) باختلاف يسير.

(٣) الطبقات الكبير لابن سعد.

وفي «السير الكبير» (١) لمحمّد بن الحسن تصنيف شمس الأئمّة السرخسيّ الحنفيّ : أنّها جاءت من المدينة حاجّة أو معتمرة ، فزارت قبره.

وقال في قولها : «لو شهدتك ما زرتك» إنّما قالت ذلك لإظهار التأسّف عليه حين مات في الغربة ، ولإظهار عذرها في زيارته ، فإنّ ظاهر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله زوّارات القبور» يمنع النساء من زيارة القبور.

قال : والحديث وإن كان متأوّلاً ، فلحشمة ظاهرة قالت ما قالت ، انتهى.

ومقصودنا : أنّ زيارة ما عدا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يثاب الشخص على فعله ، وقد يتأكّد بحسب بعض الأحوال ، فزيارة القريب آكد من غيره ، وتطلب لمعنى فيه مختصّ به ؛ وهو القرابة ، وزيارة غير القريب أيضاً مستحبّة ؛ للاعتبار والترحّم والدعاء ، وذلك عامّ في كلّ المسلمين ، وسيأتي من نصوص المالكيّة في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جملة اخرى في الباب السابع (٢).

وإذا زار قبراً معيّناً ، يكون مؤدّياً للسنّة بما تضمّنه من زيارة جنس القبور ، ولا نقول : إنّ زيارة ذلك القبر المعيّن بخصوصه سنّة ، حتّى يرد فيها فضل خاصّ ، أو نعرف صلاحه ، فإنّ زيارة جميع الصالحين قربة ، كما يقولون : إنّ الصلاة في المسجد مطلوبة ، ولا نقول : الصلاة في مسجد بعينه مطلوبة ، إلّا في الثلاثة التي شهد الشرع بها ، ويقوم ما هو الأفضل منها ، كالمسجد الحرام عن غيره.

وإذا ظهر لك تنظير زيارة القبور بإتيان المساجد ، فمتى كان المقصود بالزيارة تذكّر الموت ، لا يشرع فيها قصد قبر بعينه ، وإن صحّ عن أحد من العلماء أنّه يمنع من شدّ الرحال إلى زيارة القبور ـ كما نقل عن ابن عقيل ، وكما وقع في «شرح مسلم» ـ فليحمل على هذا القسم.

__________________

(١) السير الكبير (١ / ٢٣٦) رقم ٣٠٣ باب الشهيد ما يصنع به؟

(٢) سيأتي في ص ٢٣١.

وكذلك إذا كان المقصود التبرّك ممن لا يقطع له بذلك ؛ وإن كنّا نستحبّ زيارة قبور الصالحين من حيث الجملة ، ونرجو البركة بزيارتها أكثر ممّا يستحبّ زيارة مطلق القبور.

وأمّا من يقطع ببركته ـ كقبور الأنبياء ، ومن شهد الشرع له بالجنة ، كأبي بكر وعمر ـ فيستحبّ قصده.

ثمّ هم في ذلك على مراتب ؛ أعظمهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما أنّ المساجد المشهود لها بالفضل على مراتب ، أعظمها المسجد الحرام.

ولا تشدّ الرحال في هذا القسم إلى قبر أحد غير الأنبياء.

وإذا كان المقصود الدعاء من غير حقّ خاصّ لذلك الميّت ، فلا يتعيّن أيضاً.

نعم ، لو نذره لميّت بعينه ممّن يجوز الدعاء له ، وجب الوفاء بالدعاء ؛ لتعلّق حقّه به ، ولا يقوم غيره مقامه ، كما لو نذر الصدقة على فقير بعينه.

وفي وجوب الوفاء بالزيارة مع الدعاء ـ كما [لو] نذره ـ نظر ، والأقرب وجوب الوفاء ؛ لأنّ الدعاء عند القبور مقصود ، كما في الدعاء لأهل البقيع ، وحينئذٍ يجوز شدّ الرحل لأداء هذا الواجب بعد لزومه بالنذر ، ولا يستحبّ شدّ الرحل لهذا الغرض قبل النذر ، فإنّ الدعاء لذلك الميّت بعينه عند قبره لم يطلبه الشارع ، ولا تعلّق به حقّ الميّت.

وأمّا الزيارة لأداء الحقّ ، كزيارة قبر الوالدين ، فيظهر أنّ قصد ذلك بعينه مشروع ، ويجوز ، بل يستحبّ شدّ الرحال إليه ؛ تأدية لهذا الحقّ.

وأعظم الحقوق حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيستحبّ شدّ الرحال إليه لذلك.

هذا لو لم يرد فيه دليل خاصّ ، فكيف ، وقد قام الإجماع على فعله خلفاً عن سلف؟!

فإن قلت : ما قولكم فيمن نذر زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هل ينعقد نذره ويلزمه

ذلك ، أم لا؟ فإنّ مقتضى قولكم باستحبابها أن يلزم بالنذر.

قلت : نعم ، نقول بانعقاد نذره ، ولزوم الزيارة به ، وبه صرّح القاضي ابن كج من أصحابنا ، ولم نر لغيره من الأصحاب خلافه ، وقد قدّمنا في الباب الرابع عن العبديّ المالكيّ لزومه ، على أنّه لا يلزم أنّ كلّ مستحبّ أو قربة يلزم بالنذر ، فإنّ القربات نوعان :

أحدهما : قربة لم توضع لتكون عبادة ، وإنّما هي أعمال وأخلاق مستحسنة ، رغّب الشارع فيها لعموم فائدتها ، وقد يبتغي فيها وجه الله تعالى فينال الثواب ، كعيادة المرضى ، وزيارة القادمين ، وإفشاء السلام ، وما أشبه ذلك.

فهذا النوع في لزومه بالنذر وجهان ، أصحّهما اللزوم ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من نذر أن يطيع الله فليطعه» ومن هذا النوع تشييع الجنائز ، وتشميت العاطس.

والنوع الثاني : في العبادات المقصودة ، وهي التي وضعت للتقرّب بها ، وعرف من الشرع الاهتمام بتكليف الخلق بإيقاعها عبادة ، كالصلاة ، والصوم ، والصدقة ، والحجّ ، فهذا النوع يلزم بالنذر بالإجماع إلّا فيما يستثنى.

ومنهم من يعبّر عن النوع الأوّل ب «ما لم يوجبه الشرع ابتداء» وعن الثاني ب «ما أوجبه» وأدرجوا الاعتكاف في النوع الثاني وإن كان لم يجب ابتداء ، وقالوا : الاعتكاف لبث في مكان مخصوص ، ومن جنسه ما هو واجب شرعاً ، وهو الوقوف بعرفات.

وجعلوا من النوع الأوّل تجديد الوضوء ، فإنّه ليس في الشرع وضوء واجب بغير حدث ، وليس الوضوء مقصوداً لنفسه ، بل للصلاة ، والأصحّ لزوم تجديده بالنذر.

والمستثنى ممّا اجمع عليه صور :

منها : ما إذا أفرد صفة الواجب بالإلزام ، كتطويل القراءة ، وإقامة الفرائض في جماعة ، ففي لزومه بالنذر وجهان ، أصحّهما اللزوم.

ومنها : ما فيه إبطال رخصة شرعيّة ، كنذر صوم رمضان في السفر ، ففي لزومه وجهان ، أصحّهما المنع ، وكذلك نذر المريض القيام بتكلّف المشقّة في الصلاة ، ونذر صوم بشرط أن لا يفطر في المرض ، فلا يلزم بالشرط ، على الأصحّ.

وأجرى الرافعيّ الوجهين فيمن نذر القيام في النوافل ، أو استيعاب الرأس بالمسح ، أو التثليث في الوضوء ، أو أن يسجد للتلاوة والشكر ونحو ذلك ، وجعل نذر فعل السنّة الراتبة ـ كالوتر ، وسنّة الفجر ـ على الوجهين فيما إذا افردت الصفة بالنذر ، والذي يتّجه التسوية بين هذا وبين استيعاب الرأس بالمسح ونحوه.

وإذا نذر التيمّم ، لا ينعقد نذره على المذهب ؛ لأنّه إنّما يؤتى به عند الضرورة.

ولو نذر الصلاة في موضع لزمه الصلاة قطعاً ، وهل يتعيّن ذلك الموضع؟

إن كان المسجد الحرام تعيّن ، وإن كان مسجد المدينة تعيّن على الأصحّ هو أو المسجد الحرام ، وإن كان المسجد الأقصى تعيّن على الأصح هو أو المسجدان ، وإن كان ما سواها من المساجد والمواضع لم يتعين.

ولو نذر إتيان المسجد الحرام لزمه ، إلّا على وجه ضعيف.

ولو نذر إتيان مسجد المدينة والمسجد الأقصى ، ففيه قولان للشافعيّ ، أظهرهما عند الشافعيّة عدم اللزوم.

قال الشافعيّ في «الأُم» (١) : لأنّ البرّ بإتيان بيت الله فرض ، والبرّ بإتيان هذين نافلة.

__________________

(١) الام للشافعي (٢ / ٢٨١).

واستدلّوا لهذا القول بما روى أبو داود في «سننه» (١) عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما : أنّ رجلاً قام يوم الفتح فقال : يا رسول الله ، إنّي نذرت لله إن فتح الله عليك مكّة أن اصلّي في البيت المقدس ركعتين.

قال : «صلّ هاهنا». ثمّ أعاد. قال : «صلّ هاهنا». ثمّ أعاد عليه. فقال : «صلّ هاهنا». ثمّ أعاد عليه. فقال : «شأنك إذن».

وعن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن رجال من أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الخبر ، زاد ، فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي بعث محمّداً بالحقّ ، لو صلّيت هاهنا لأجزأ عنك صلاة في البيت المقدس».

واعلم : أنّ الصلاة في مكّة تجزئ عن الصلاة في بيت المقدس ـ كما قدمناه ـ بلا خلاف.

وإن قلنا بتعيّنه ، فقد يقال : إنّ الحديث محمول على ذلك ، وإنّه لا دلالة له فيه على المدّعى من عدم لزوم الإتيان.

ووجه الدلالة : أنّ الصلاة في مكّة تقوم مقام الصلاة في بيت المقدس ؛ لأنّهما جنس واحد ، والصلاة بمكّة أفضل ، فالتضعيف الذي ألزمه في بيت المقدس يحصل له في مكّة وزيادة ، وأمّا المشي فأمر زائد على الصلاة ، وهو عبادة اخرى ، فلو لزم لما قامت الصلاة بمكّة مقامه ، فمن لزمه الصلاة ببيت المقدس من غير مشي ـ بأن كان وقت النذر ببيت المقدس ـ فلا شكّ أنّ الصلاة بمكّة تجزيه.

ومن نذر المشي إلى بيت المقدس والصلاة فيه ، فهما عبادتان ، فإن قلنا بعدم لزوم إتيانه لم يبقَ عليه إلّا الصلاة ، فتجزيه الصلاة بمكّة ، وإن قلنا يجب إتيانه فيظهر أنّ الصلاة لا تقوم مقامه ، ولو مشى إلى مكّة ـ من مسافة ـ مثل المسافة التي بينه

__________________

(١) سنن أبي داود (٢ / ١٠٢) باب (٢٤) من نذر أن يصلّي في بيت المقدس ، ح (٣٣٠٥).

وبين بيت المقدس ـ أجزأه.

وصيغة الحديث ، كما رُوِّيناه ، لم يصرّح فيه بإتيان بيت المقدس ، فيحتمل أن يقال : إنّما التزم الصلاة ، فلذلك قامت الصلاة في مكّة مقامها.

ويحتمل أن يقال : إنّ الناذر لمّا لم يكن في بيت المقدس ، فهو بنذره للصلاة ملتزم إتيانه ؛ بناءً على أنّ ما لا يتمّ الواجب إلّا به فهو واجب ، وحينئذ يكون الإتيان ملتزماً ، لو صرّح به ، فلمّا أفتاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالصلاة في مكّة ، دلّ على عدم لزوم الإتيان بالنذر ، كما استدلّ به الشافعيّ والأصحاب.

وقد أطلنا في هذا الفصل أكثر ممّا يحتمله هذا المكان ، وظهر لك منه أنّ القربات :

منها : ما يلزم بالنذر بلا خلاف.

ومنها : ما يلزم على الصحيح.

ومنها : ما لا يلزم على الصحيح.

وظهر لك مأخذ كلّ قسم منها ، والصحيح عندنا أنّه لا يشترط في المنذور أن يكون جنسه واجباً ، وهو مذهب مالك ، والوجه الثاني لأصحابنا اشتراطه ، وينقل عن أبي حنيفة.

[زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة]

إذا عرفت هذا ، فزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة ؛ لحثّ الشرع عليها ، وترغيبه فيها ، وقد قدّمنا أنّ فيها جهتين : جهة عموم ، وجهة خصوص :

فأمّا من جهة الخصوص وكون الأدلّة الخاصّة وردت فيها بعينها ، فيظهر القطع بلزومها بالنذر ؛ إلحاقاً لها بالعبادات المقصودة التي لا يؤتى بها إلّا على وجه العبادة ، كالصلاة ، والصدقة ، والصوم ، والاعتكاف.

ولهذا المعنى ـ والله أعلم ـ قال القاضي ابن كج رحمه‌الله : إذا نذر أن يزور قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعندي أنّه يلزمه الوفاء وجهاً واحداً ، ولو نذر أن يزور قبر غيره ففيه وجهان.

قلت : وما قاله من القطع بلزوم الوفاء بها هو الحقّ ؛ لما قدّمناه من الأدلّة الخاصّة عليها ، وتردّده في قبر غيره :

يحتمل أن يكون محلّه عند الإطلاق ، وسواء لو عيّن أم لا؟ تشبيهاً لذلك بزيارة القادمين ، وإفشاء السلام ، ونحو ذلك ممّا لم يوضع قربة مقصودة وإن كان قربة ، وعلى هذا يكون الأصحّ لزومه بالنذر ، كما في تلك المسائل.

ويحتمل أن يكون محلّه عند التعيين ، فإنّ زيارة قبر معيّن من غير الأنبياء لا قربة فيها بخصوصها ، كما سبق عند الكلام في أغراض الزيارة.

وأمّا إذا نظرنا إلى زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جهة العموم خاصّة ، واجتماع المعاني التي تقصد بالزيارة فيه ، فيظهر أن يقال أيضاً : إنّه يلزم بالنذر قولاً واحداً.

ويحتمل على بُعْدٍ أن يقال : إنّه كما لو نذر زيارة القادمين وإفشاء السلام ، فيجري في لزومها بالنذر ذلك الخلاف ، مع كونها قربة في نفسها قبل النذر وبعده.

وقد بان لك بهذا : أنّها تلزم بالنذر ، وأنّه على تقدير أن يقال : «لا تلزم بالنذر» ، لا يخرجها ذلك عن كونها قربة.

ومن يشترط في المنذور أن يكون ممّا وجب جنسه بالشرع ، ويقول : إنّ الاعتكاف كذلك ؛ لوجوب الوقوف ، فقد يقول : إنّ زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب جنسها ، وهي الهجرة إليه في حياته.

فقد ظهر بهذا : أنّ كلّ ما يلزم بالنذر قربة ، وليس كلّ قربة تلزم ، وزيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القرب التي تلزم بالنذر ، ولو ثبت عن أحد من العلماء أنّه يقول : «لا تلزم بالنذر» ، لم يكن في ذلك ما يقتضي أنّه يقول : إنّها ليست بقربة.

وقد وقفت على كلام بعض المتعصّبين للباطل قال فيه : إنّ القاضي إسماعيل قال في «المبسوط» : إنّه رُوي عن مالك : أنّه سئل عمّن نذر أن يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليأته ، وليصلّ فيه ، وإن كان إنّما أراد القبر فلا يفعل ؛ للحديث الذي جاء «لا تعمل المطيّ إلّا إلى ثلاثة مساجد».

وهذه الرواية ـ إن صحّت عن مالك! ـ يجب تأويلها على وجه لا يمنع كون الزيارة قربة ؛ جمعاً بينها وبين ما ثبت عنه وعن جميع العلماء وجميع المسلمين.

وهذه الرواية تحتمل وجوهاً :

أحدها : أن تكون من القرب التي لا تلزم بالنذر ، كما أنّ إتيان مسجد قباء لمن كان في المدينة أو قريباً منها قربة عند جميع العلماء ، ولا يلزم بالنذر عند جمهور العلماء ، إلّا ما روي عن محمّد بن مسلمة المالكيّ : أنّه قال بلزومه بالنذر.

الثاني : الجواب المذكور ، ولكن بالنسبة إلى البعيد خاصّة ، كما دلّ عليه بقيّة الكلام من الاستدلال بالحديث الذي جاء : «لا تعمل المطيّ إلّا إلى ثلاثة مساجد» فيكون المراد أنّه إذا نذر السفر إليه لا يلزم ، ولا يمنع ذلك كون السفر إليه قربة بغير النذر ، كمسجد قباء في حقّ القريب عند غير محمد بن مسلمة ، ولا يمنع أيضاً من لزوم الزيارة في حقّ القريب ، كما قاله محمّد بن مسلمة في مسجد قباء ، وهذا الوجه هو أقرب التأويلات على قواعد مالك رحمه‌الله تعالى.

قال في «التهذيب للمسائل المدوّنة» : من قال : «عليّ أن آتي المدينة» أو «بيت المقدس» أو «المشي إلى المدينة» أو «بيت المقدس» فلا يأتهما حتّى ينوي الصلاة في مسجديهما ، أو يسمّيهما فيقول : «إلى مسجد الرسول» أو «مسجد إيلياء» وإن لم ينوِ الصلاة فيهما فليأتهما راكباً ، ولا هدي عليه ، وكأنّه لمّا سمّاهما قال : «لله عليّ أن اصلّي فيهما». ولو نذر الصلاة في غيرهما من مساجد الأمصار ، صلّى بموضعه ، ولم يأته.

ومن نذر أن يرابط أو يصوم بموضع يتقرّب بإتيانه إلى الله تعالى ـ كعسقلان

والإسكندريّة ـ لزمه ذلك فيه ، وإن كان من أهل مكّة والمدينة ، ولا يلزم المشي إلّا من قال : «عليّ المشي إلى مكّة» أو «بيت الله» أو «المسجد الحرام» أو «الكعبة» أو «الحجر» أو «الركن» انتهى كلام «التهذيب».

وهو يدلّ على أنّه إنّما يلزم إتيان المدينة إذا سمّى مسجدها ، أو نوى الصلاة فيه ، فما عدا هذا لا يلزم بالنذر ، وإن كان قربة.

الثالث : إنّا قدّمنا أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مطلوبة بالخصوص ؛ للأحاديث التي صدّرنا بها هذا الكتاب ، ولعمل السلف والخلف ، ومطلوبة بالعموم ؛ لاندراجها تحت الأحاديث الصحيحة المشهورة في زيارة القبور.

واللزوم بالنذر ظاهر من الجهة الاولى ، وأمّا من الجهة الثانية ، فقد قدّمنا أنّ مقاصد الزيارة متعدّدة ، وزيارة القبور ـ من حيث الجملة ـ كزيارة القادمين ، وقد قدّمنا في لزوم زيارة القادمين بالنذر خلافاً مع القطع بكونها قربة ، وزيارة القبور ـ من حيث الجملة ـ مثله.

وزيارة قبر معيّن إن قصد بها الدعاء له أو أداء حقّه ، ظهر اللزوم ؛ لحقّ الميّت ، وإن قصد التبرّك ظهر اللزوم أيضاً في قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعيّنه دون غيره ، وإن قصد الاتعاظ لم يتعيّن ، وكان لزوم أصل الزيارة على الخلاف ، وإن لم يقصد شيئاً فأبعد عن اللزوم.

والسائل لمالك رحمه‌الله إنّما ذكر مجرّد الإتيان ، فلعلّ مالكاً لم يلزمه لذلك ، ولعلّ مالكاً رحمه‌الله لم تبلغه الأحاديث الخاصّة الواردة في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الخصوص ، وإنّما يدرجه تحت الأحاديث الواردة في زيارة القبور ، وإن كان هو أشرفها وأحقّها بالزيارة ، ولا يلزمه بالنذر لذلك في حقّه ، ولا في حقّ غيره.

الرابع : أنّ إتيان القبر قد يقصد زيارة من فيه ، وهو الذي نقول : بأنّه قربة ، وهو الذي يقصده الناس غالباً.

وقد يقصد زيارة المكان في نفسه لشرفه ، وهذا لا نقول بأنّه قربة إلّا فيما شهد الشرع به ، فلعلّ مالكاً رحمه‌الله أجاب على ذلك.

ويدلّ على أنّ هذا مراده استدلاله بالحديث الذي جاء «لا تعمل المطيّ إلّا إلى ثلاثة مساجد».

وسنبيّن بياناً واضحاً : أنّ الحديث إنّما هو في السفر للأمكنة ، لا للمقاصد التي فيها ، ومالك أجلّ وأعلم وأوسع باعاً وأعلى كعباً من أن يخفى عليه ذلك ، فاستدلاله به يدلّ على أنّه أراد المكان ، فيكون مراده أنّ زيارة القبر من حيث هو تلك البقعة ليس بقربة ، وهو يوافق ما حمل القاضي عياض عليه قوله : «زرت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وحينئذ فإمّا أن نوافق مالكاً رحمه‌الله على ذلك ؛ عملاً بقوله رحمه‌الله : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» ويحمل قوله : «من زار قبري» على أنّ المراد من زارني في قبري ، كما هو الظاهر المتبادر إلى الفهم.

وأما إن يقال : إنّ زيارة قبره أيضاً قربة بقوله : «من زار قبري» وهذا أخصّ من قوله : «لا تشدّ الرحال» فيخصّص به.

إلّا أنّ كلّاً منهما أعمّ وأخصّ من وجه ، فلا يقضى بتخصيص أحدهما للآخر.

والأولى أنّ المراد بقوله : «من زار قبري» : من زارني في قبري ، ويكون قصد البقعة نفسها ليس بقربة ، كما اقتضاه كلام مالك رحمه‌الله.

فقد بان بهذا معنى كلام مالك رحمه‌الله ، وأنّه ليس فيه ما يقتضي أنّ الزيارة ليست بقربة ، ولا أنّ السفر إليها ليس بقربة ، بل هي قربة عند جميع العلماء ، ولهذا لو نذر الإتيان إلى مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قلنا : بأنّه يلزمه ، وأنّه يشترط ضمّ قربة إلى الإتيان ، قال الشيخ أبو عليّ السنجيّ من أصحابنا : إنّه يكتفى بالزيارة ، وقال الرافعيّ : إنّه الظاهر ، وتوقّف فيه الإمام ؛ من جهة أنّ الزيارة لا تتعلّق بالمسجد

وتعظيمه ، وليس توقّفه لكون الزيارة ليست قربة ، هذا لم يقله أحد.

وقد قدّمنا في الباب الرابع (١) من كلام العبديّ المالكيّ التصريح بأنّ المشي إلى المدينة للزيارة ، أفضل من الكعبة ومن بيت المقدس.

__________________

(١) تقدّم ص ١٥٠.

الباب السادس :

في

كون السفر إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة

وذلك من وجوه :

أحدها : الكتاب العزيز :

في قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ ...) الآية.

وقد تقدّم تقريرها في الباب الخامس (١).

والمجيء صادق على المجيء من قرب ومن بعد ، بسفر وبغير سفر.

ولا يقال : إنّ جَاءُوكَ مطلق ، والمطلق لا دلالة له على كلّ فرد ، وإن كان صالحاً لها.

لأنّا نقول : هو في سياق الشرط فيعمّ ، فمن حصل منه الوصف المذكور وجد الله توّاباً رحيماً.

الثاني : السنّة :

من عموم قوله : «من زار قبري» (٢).

__________________

(١) تقدم (ص ١٧٩).

(٢) وهذا الحديث الثاني ، المذكور في الباب الأوّل ، (ص ٨١).

فإنّه يشمل القريب والبعيد ، والزائر عن سفر وعن غير سفر ، كلّهم يدخلون تحت هذا العموم ، لا سيّما قوله في الحديث الذي صحّحه ابن السكن : «من جاءني زائراً لا تعمله حاجة إلّا زيارتي» (١) فإنّ هذا ظاهر في السفر ، بل في تمحيض القصد إليه ، وتجريده عمّا سواه.

وقد تقدّم (٢) أنّ حالة الموت مرادة منه إمّا بالعموم ، وإمّا أنّها هي المقصود.

والثالث : من السنّة أيضاً :

لنصّها على «الزيارة» (٣) ولفظ «الزيارة» يستدعي الانتقال من مكان الزائر إلى مكان المزور ، كلفظ «المجيء» الذي نصّت عليه الآية الكريمة.

فالزيارة إمّا نفس الانتقال من مكان إلى مكان بقصدها ، وإمّا الحضور عند المزور من مكان آخر.

وعلى كلّ حال لا بدّ في تحقيق معناها من الانتقال ، ولهذا إنّ من كان عند الشخص دائماً لا يحصل الزيارة منه ، ولهذا تقول : «زرت فلاناً من المكان الفلانيّ» وتقول : «زرنا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مصر» أو «من الشام» فتجعل ابتداء زيارتك من ذلك المكان ، فالسفر داخل تحت اسم الزيارة من هذا الوجه.

فإذا كانت كلّ زيارة قربة ، كان كلّ سفر إليها قربة.

وأيضاً : فقد ثبت خروج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المدينة لزيارة القبور ، وإذا جاز الخروج إلى القريب جاز إلى البعيد.

فممّا ورد في ذلك :

__________________

(١) مرّ نقله عن الطبراني (١٢ / ٤٠٦) رقم ١٣٤٩٦ ، وانظر هنا (ص ٨٣).

(٢) تقدّم (ص ١٨٦).

(٣) لاحظ أحاديث الباب الأوّل الجامع لما ورد وفيه لفظ من مادّة الزيارة.

خروجه إلى البقيع ، كما هو ثابت في الصحيح ، وقد ذكرته في الباب السابع من هذا الكتاب (١).

وخروجه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقبور الشهداء

روى أبو داود في سننه (٢) عن طلحة بن عبيد الله قال : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نريد قبور الشهداء ، حتّى إذا أشرفنا على حرّة واقم ، فلمّا تَدَلّينا منها فإذا قبور مجنبة (٣) ، قال قلنا : يا رسول الله ، أقبور إخواننا هذه؟ قال : «قبور أصحابنا».

فلمّا جئنا قبور الشهداء قال : «هذه قبور إخواننا».

وإذا ثبت مشروعيّة الانتقال إلى قبر غيره ، فقبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى.

الرابع : الإجماع :

لإطباق السلف والخلف ، فإنّ الناس لم يزالوا في كلّ عام إذا قضوا الحجّ يتوجّهون إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنهم من يفعل ذلك قبل الحجّ ، هكذا شاهدناه ، وشاهده من قبلنا ، وحكاه العلماء عن الأعصار القديمة ، كما ذكرناه في الباب الثالث ، وذلك أمر لا يرتاب فيه ، وكلّهم يقصدون ذلك ، ويعرجون إليه وإن لم يكن طريقهم ، ويقطعون فيه مسافة بعيدة ، وينفقون فيه الأموال ، ويبذلون فيه المهج ، معتقدين أنّ ذلك قربة وطاعة.

وإطباق هذا الجمع العظيم من مشارق الأرض ومغاربها على ممرّ السنين ـ وفيهم العلماء والصلحاء وغيرهم ـ يستحيل أن يكون خطأ ، وكلّهم

__________________

(١) الباب السابع ، لاحظ ص ٢٤٣.

(٢) سنن أبي داود (٢ / ٢١٨) ح ٢٠٤٣ كتاب المناسك ، باب زيارة القبور وفيه : يريد ، بدل : نريد.

(٣) في (ه) : بمحنية.

يفعلون ذلك على وجه التقرّب به إلى الله عزوجل.

ومن تأخّر عنه من المسلمين فإنّما يتأخّر بعجز ، أو تعويق المقادير ، مع تأسّفه عليه ، وودّه لو تيسّر له.

ومن ادعى أنّ هذا الجمع العظيم مجمعون على خطأ ، فهو المخطئ.

فإن قلت : إنّ هذا ليس ممّا يسلّمه الخصم ؛ لجواز أن يكون سفرهم ضمّ فيه قصد عبادة اخرى إلى الزيارة ، بل هو الظاهر ، كما ذكر كثير من المصنّفين في المناسك : أنّه ينبغي أن ينوي مع زيارته التقرّب بالتوجّه إلى مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصلاة فيه.

والخصم ما أنكر أصل الزيارة ، إنّما أراد أن يبيّن كيفيّة الزيارة المستحبّة ، وهي أن تضمّ إليها قصد المسجد ، كما قاله غيره.

قلت : أمّا المنازعة فيما يقصده الناس (١) ، فمن أنصف من نفسه ، وعرف ما الناس عليه ، علم أنّهم إنّما يقصدون بسفرهم الزيارة من حين يعرجون إلى طريق المدينة ، ولا يخطر غير الزيارة من القربات إلّا ببال قليل منهم ، ثمّ مع ذلك : هو مغمور بالنسبة إلى الزيارة في حقّ هذا القليل ، وغرضهم الأعظم هو الزيارة ، حتّى لو لم يكن ربّما لم يسافروا ، ولهذا قلّ القاصدون إلى بيت المقدس مع تيسّر إتيانه وإن كان في الصلاة فيه من الفضل ما قد عرف.

فالمقصود الأعظم في المدينة الزيارة ، كما أنّ المقصود الأعظم في مكّة الحجّ أو العمرة ، وهو المقصود ـ أو معظم المقصود ـ من التوجّه إليها.

وإنكار هذا : مكابرة ، ودعوى كون هذا الظاهر أشدّ.

وصاحب هذا السؤال إن شكّ في نفسه ، فليسأل كلّ مَنْ توجّه إلى المدينة ، ما

__________________

(١) لاحظ تدخّل ابن تيميّة في تحميله أغراضه ومقاصده ، على الناس ، واتهامهم بها ، والرد على ذلك. ص ٢٥٨ ، ٢٦٠ و ٢٧٧.

قصد بذلك؟

وأمّا ما ذكره المصنّفون في المناسك ، فإنّهم لم يريدوا به أنّه شرط في كون السفر للزيارة قربة! ما قال هذا أحد منهم ، ولا توهّمه ، ولا اقتضاه كلامه ، وإنّما أرادوا أنّه ينبغي أن يقصد قربة اخرى ليكون سفراً إلى قربتين ، فيكثر الأجر بزيادة القُرب ، حتّى لو زاد من قصد القربات زادت الاجور ، كأن يقصد مع ذلك زيارة شهداء احد ، وغير ذلك من القرب التي هناك.

وأرادوا بالتنبيه على ذلك : أنّه قد يتوهّم أنّ قصد قربة اخرى ، قادح في الإخلاص في نيّة الزيارة ، فنبّهوا بذلك على هذا المعنى.

ولهذا قال أبو عمرو ابن الصلاح : ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى.

فمن تخيّل أنّ مرادهم : أنّ شرط كون سفر الزيارة قربة ضمّ قصد قربة اخرى إليه ، فقد أخطأ خطأ لا يخفى على أحد ممّن له فهم.

وقوله : «إنّ الخصم إنّما أراد أن يبيّن كيفيّة الزيارة المستحبّة ، وهو أن يضمّ إليها قصد المسجد ، كما قاله غيره».

إنّ غيره لم يقل ذلك ، ولا دلّ عليه كلامه ، ولا أراده.

الخامس : أنّ وسيلة القربة قربة :

فإنّ قواعد الشرع كلّها تشهد بأنّ الوسائل معتبرة بالمقاصد.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا أدلّكم على ما يمحو الله به الخطايا ، وترفع به الدرجات؟».

قالوا : بلى يا رسول الله.

قال : «إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطى إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط» رواه مسلم (١).

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٥١) كتاب الطهارة باب فضل إسباغ الوضوء.

والخطى إلى المساجد إنّما شرفت لكونها وسيلة إلى عبادة.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا توضّأ فأحسن الوضوء ، ثمّ خرج إلى المسجد لا تخرجه إلّا الصلاة ، لم يخط خطوة إلّا رفعت له بها درجة ، وحطّ عنه بها خطيئة» رواه البخاريّ ومسلم (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أعظم الناس أجراً في الصلاة ، أبعدهم فأبعدهم ممشى» رواه البخاري ومسلم (٢).

وقال رجل : ما يسرّني أنّ منزلي إلى جنب المسجد ، إنّي اريد أن يكتب ممشاي إلى المسجد ، ورجوعي إذا رجعت إلى أهلي.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «قد جمع الله لك ذلك كلّه» رواه مسلم (٣).

وقال جابر : كانت ديارنا نائية من المسجد ، فأردنا أن نبيع بيوتنا فنقرب من المسجد ، فنهانا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «إنّ لكم بكلّ خطوة درجة» رواه مسلم (٤).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تطهّر في بيته ، ثمّ مشى إلى بيت من بيوت الله ليقضي فريضة من فرائض الله ، كانت خطوتاه إحداهما تحطّ خطيئة ، والاخرى ترفع درجة» رواه مسلم (٥).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من غدا إلى المسجد أو راح ، أعدّ الله له نزلاً كلّما غدا أو راح»

__________________

(١) صحيح البخاري (١ / ٣١٩) ح ٦١٢ كتاب الأذان باب (٤٢٣) فضل صلاة الجماعة. وصحيح مسلم (٢ / ١٢٩) كتاب الصلاة ، باب فضل صلاة الجماعة.

(٢) صحيح البخاري (١ / ٣٢٠) ح ٦١٥ كتاب الأذان باب (٤٢٤) فضل صلاة الفجر في جماعة. وصحيح مسلم (٢ / ١٣٠ ـ ١٣١) كتاب الصلاة ، باب فضل كثرة الخطى إلى المساجد.

(٣) صحيح مسلم (٢ / ١٣٠ ـ ١٣١) كتاب الصلاة ، باب فضل كثرة الخطى.

(٤) صحيح مسلم (٢ / ١٣٠ ـ ١٣١) نفس الموضع.

(٥) صحيح مسلم (٢ / ١٣١) كتاب الصلاة ، باب المشي إلى الصلاة.

رواه البخاري ومسلم (١).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من بيته متطهّراً إلى صلاة مكتوبة ، فأجره كأجر الحاجّ المحرم ، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلّا إيّاه فأجره كأجر المعتمر» رواه أبو داود (٢).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بشر المشّائين في الظلم إلى المساجد بالنور التامّ يوم القيامة» رواه أبو داود والترمذيّ وابن ماجة (٣).

وفي رواية : «أولئك الخوّاضون في رحمة الله».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من غسل واغتسل ، وغدا وابتكر ، ودنا من الإمام ولم يلغ ، كان له بكلّ خطوة عمل سنة صيامها وقيامها» رواه أبو داود (٤).

وفي رواية : «ومشى ولم يركب».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أتى أخاه المريض عائداً مشى في مخرقة (٥) الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس غمرته الرحمة» (٦).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من عاد مريضاً أو زار أخاً له في الله ، ناداه مناد من السماء : أن

__________________

(١) صحيح البخاري (١ / ١٦١) ح ٦٢٣ كتاب الأذان ، باب فضل من غدا إلى المسجد.

صحيح مسلم (٢ / ١٣٢) كتاب الصلاة باب المشي إلى الصلاة.

(٢) سنن أبي داود (١ / ١٥٣) ح (٥٥٨) كتاب الصلاة باب ما جاء في فضل المشي إلى الصلاة ، عن أبي امامة ، وفيه زيادة.

(٣) سنن أبي داود (١ / ١٥٤) ح (٥٦١) نفس الموضع ، عن بريدة.

سنن الترمذي (١ / ١٤٢) ح (٢٢٣) باب (١٦٥) ما جاء في فضل العشاء.

سنن ابن ماجة (١ / ٢٥٦) ح (٧٨١) باب (١٤) كتاب المساجد والجماعات.

(٤) سنن أبي داود (١ / ٩٥) ح ٣٤٥ كتاب الطهارة باب في الغسل يوم الجمعة.

(٥) في (ه) : غرفة. وفي سنن ابن ماجة : خرافة.

(٦) سنن ابن ماجة (١ / ٤٦٢) ح ١٤٤٢ ب ٢ كتاب الجنائز.

طبت وطاب ممشاك ، وتبوّأت من الجنّة منزلاً» رواه الترمذيّ وابن ماجة (١).

وقال الترمذيّ : حسن غريب.

فهذه الأحاديث كلّها تدلّ على أنّ وسائل القربة قربة ، وكيف يتأتّى نزاع في ذلك والشريعة كلّها طافحة به؟ والقرآن ناطق به؟! قال تعالى :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ* وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢).

فهذه الامور كلّها إنّما كتبت لهم وكتب لهم بها أجر ؛ لأنّها وسيلة إلى الجهاد في سبيل الله ، بل الجهاد نفسه إنّما شُرّف لكونه سبباً لإعلاء كلمة الله.

وكذلك جميع ما طلبه الشرع ممّا هو معقول المعنى ، فهو وسيلة لذلك المعنى المعقول منه ، وبسببه طلب.

وقد نقل الاصوليّون الإجماع على أنّ من مشى من مكان بعيد حتّى حجّ ، كان أفضل ممّن حجّ من مكّة.

وفي الحديث عن الله تعالى : «بعيني ما يتحمّل المتحمّلون من أجلي».

ولا شك أنّ المتوسّل إلى قربة بمباح فيه مشقّة ـ كالسفر وغيره ـ متحمّل لتلك

__________________

(١) سنن الترمذي (٣ / ٢٤٦) ح ٢٠٧٦ باب (٦٣) ما جاء في زيارة الإخوان.

ونسبه في كنز العمال (٩ / ٩٤) رقم ٢٥١١٣٤ إلى الترمذي وقال المعلّق : أخرجه في كتاب البرّ والصلة ، باب زيارة الاخوان (ح ٢٠٠٨).

سنن ابن ماجة (١ / ٤٦٤) ح ١٤٤٣ ب ٢ كتاب الجنائز.

ورواه أحمد في مسنده (٢ / ٣٤٤ و ٣٥٤).

(٢) سورة التوبة : الآية ١٢٠ ـ ١٢١.

المشقّة من أجل الله تعالى ، فهو بعين الله تعالى ، والله ناظر إليه ، وجازيه على سعيه.

بل المباح الذي لا مشقّة فيه ، وفيه راحة للنفس ، إذا قصد به التوصّل إلى قربة ، حصل له به أجر ، كمن نام ليتقوّى على قيام الليل ، أو أكل ليتقوّى على الطاعة ، ولهذا ورد في الأثر : «إنّي أحتسب نومتي كما احتسب قومتي» (١).

وتكلّم العلماء في أنّ الثواب في هذا القسم على القصد خاصّة ، أو على الفعل؟

والأقرب : الثاني ، ويشهد له قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الصحيح : «إنّك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله ـ حتّى اللقمة ترفعها إلى في امرأتك (٢) إلّا ازددت رفعة ودرجة» (٣).

فهذا يشهد لأنّه يؤجر على المباح ، إذا اقترن بالنيّة.

وكذلك الحديث الصحيح «إنّه يضع شهوته في الحلال ، وله فيها أجر».

[أقسام العبادات]

وحاصلها : أنّ العبادات أربعة أقسام :

أحدها : ما وضعه الشرع عبادة إمّا تعبّداً ، وإمّا لمعنى يحصل بها ، كالصلاة ، والصوم ، والصدقة ، والحجّ.

فهذا متى صحّ كان قربة ، ولا يمكن وجوده شرعاً على غير وجه القربة.

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه بلفظ : فأحسب (٥ / ١٠٨).

وفي سنن أبي داود (٢ / ٣٢٧) ح ٤٣٥٤ وفيه : وأرجو ، بدل (أحتسب).

(٢) أي : فم زوجته.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه (٣ / ١٨٦) وأحمد في المسند (١ / ١٧٢ ـ ١٧٧). و (٤ / ٢٦٧) و (٥ / ١٢٧) و (٦ / ١٨٩) و (٨ / ٥).

وصحيح مسلم (٥ / ٧١) وسنن أبي داود (١ / ٦٥٤) ح ٢٨٦٤.

والبيهقي في السنن الكبرى (٣ / ٣٧٦) و (٦ / ٢٦٨) و (٧ / ٤٦٧) و (٩ / ١٨).

وثانيها : ما طلبه الشرع من مكارم الأخلاق ، كإفشاء السلام ونحوه ؛ لما فيه من المصالح ، وهذا مقصود الشارع ، فإذا وجد منه الامتثال كان قربة ، وإن وجد بدونها كان من جملة المباحات.

وثالثها : ما لا يستقلّ بتحصيل مصلحة ، ولا يفعل إلّا على وجه التوصّل به إلى غيره ، كالمشي ونحوه ، فهذا لا يقع غالباً إلّا على وجه الوسيلة ، فيكون بحسب ما يُقصد به ؛ إن قُصد به حرام كان حراماً ، أو مباح كان مباحاً ، أو قربة كان قربة ، وإن وقع من المكلّف لا بقصد أصلاً كان عبثاً ، فيكون مكروهاً.

ولا نزاع في هذا القسم أنّه إذا قصد به القربة كان قربة ، وهو القسم الذي نحن بصدده ، وتصدّينا لتقرير كونه قربة.

ورابعها : ما وضع مباحاً مقصوداً لتحصيل المصالح الدنيويّة ، كالأكل والشرب والنوم لمصلحة الأبدان ، فهذا إن حصل بغير نيّة أو بنيّة دنيويّة ، كان مستوي الطرفين ، وإن حصل بنيّة دينيّة ، حصل الأجر إمّا على النيّة وحدها ، كما ذكره بعض العلماء ، وإمّا على النيّة مع الفعل ، وهو الحقّ لما سبق.

وهذا القسم الرابع أخفض رتبة من الوسيلة ، كما أنّ الوسيلة أخفض رتبة من القسمين الأوّلين.

فقد تقرّر بهذا : أنّ وسيلة القربة قربة ، والسفر بقصد الزيارة وسيلة إليها ، فتكون قربة.

فإن قلت : قد يقول الخصم : الزيارة قربة في حقّ القريب خاصّة ، أمّا البعيد الذي يحتاج إلى سفر فلا ، وحينئذٍ لا يكون السفر إليها وسيلة إلى قربة في حقّه ، وإنّما تكون الوسيلة قربة إذا كانت يتوصّل بها إلى قربة مطلوبة من ذلك الشخص المتوسّل.

قلت : الزيارة قربة مطلقاً في حقّ القريب والبعيد ، فإنّ الأدلّة الدالّة عليها غير

مفصّلة ، ومن ادعى تخصيص العام بغير دليل قطعنا بخطئه.

فإن قلت : فالصلاة مطلقاً قربة ، والسفر إليها ليس بقربة إلّا إلى المساجد الثلاثة.

قلت : قد يكون الشيء قربة ، وانضمامه إلى غيره ليس بقربة ، فالصلاة في نفسها قربة ، وكونها في مسجد بعينه غير الثلاثة ليس بقربة ، فالسفر إليه وسيلة إلى ما ليس بقربة.

فإن قلت : لو كانت وسيلة القربة قربة مطلقاً ، لكان النذر قربة ؛ لأنّه وسيلة إلى إيقاع العبادة واجبةً ، والواجب أفضل من النفل ، والنذر مكروه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن النذر وقال : «إنّه لا يأتي بخير ، وإنّما يستخرج به من البخيل» (١).

قلت : جعل النفل فرضاً ليس بقربة ، بل هو مكروه ؛ لما فيه من الخطر والتعرّض للإثم بتقدير الترك ، ووقوع العبادة ممكن بغير النذر ، فلم يحصل بالنذر إلّا التعرّض للخطر والحرج.

على أنّا نقول : إنّ وسيلة القربة قربة من حيث هي موصلة لذلك المطلوب ، وقد يقترن بها أمر عارض يخرجها عن ذلك ، كمن مشى إلى الصلاة في طريق مغصوب ، والمدّعى أنّ الفعل إذا كان مباحاً ولم يقترن به إلّا قصد القربة به ، كان قربة ، وهذا لا يستثنى منه شيء.

فإن قلت : كيف تجزمون بهذا ، وقد اشتهر خلاف الاصوليّين في أنّ الأمر بالشيء أمر بما لا يتمّ إلّا به ، أو لا؟! ومقتضى ذلك أن يجري خلافٌ ، أنّ وسيلة المندوب هل هي مندوبة ، أو لا؟

__________________

(١) البخاري (٨ / ٥١٣) ح ١٤٦٣ كتاب القدر ، باب (٨٢٩) و (٨ / ٥٣٩) ح ١٥٤٢ كتاب الأيمان والنذور ، باب (٨٦٥) الوفاء بالنذر.

قلت : سنبيّن في آخر الكلام أنّ كون الفعل قربة ، أعمُّ من كونه مأموراً به. ونبدأ أوّلاً بالكلام على كون هذا السفر مأموراً به أمرَ ندبٍ :

فنقول : ما لا يتمّ المأمور به إلّا به ينقسم إلى شرط في وجوده ، وإلى ما هو تابع يشترط للعلم بوجوده ، كغسل جزء من الرأس للعلم بغسل الوجه ، والخلاف في القسم الثاني قويّ ، وليس ممّا نحن فيه.

وأمّا القسم الأول ـ وهو ما كان شرطاً أو سبباً لوجود المأمور به ، كالذي نحن فيه ، ونعبّر عنه ب «المقدّمة» ـ فالجمهور على أنّه مأمور به واجب ؛ لوجوب المقصد ، وخالف في ذلك فريقان من الاصوليّين :

فرقة خالفوا في الشرط ، ولم يخالفوا في السبب.

وفرقة خالفوا في الشرط والسبب جميعاً ، وربّما نقل الخلاف في ذلك عن الواقفيّة ؛ وأنّهم لم يجزموا في ذلك بشيء ، بل توقّفوا على عادتهم ، وربّما نقل الجزم بعدم الوجوب.

وكلا القولين :

إن اخذ بالنسبة إلى دلالة اللفظ ؛ وأنّ دلالة لفظ الأمر بالمقصود قاصرة عن دلالته على الأمر بالمقدّمة ، فيسهل الأمر فيه ، ولا يمنع عدم دلالة غيره ، ولا ينفي ذلك كون مقدّمة المأمور به مأموراً بها لدليل عقليّ.

وإن اخذ بالنسبة إلى أنّه إذا ترك يعاقب على ترك المقصد خاصّة ، ولا يعاقب على ترك المقدّمة ، فقريب أيضاً ، ولكنّه إنّما ينفي (١) الوجوب لا الندب ، وكلامنا في الندب.

وإن اخذ بالنسبة إلى أنّ المشروط الذي ورد الأمر به مطلقاً ، لا يجب إلّا عند وجود شرطه ، كما صرّح به بعض متأخّري الاصوليّين ، فهذا قول باطل لم يتحقّق القول به عن أحد من الأئمة المعتمد على كلامهم ، وقواعد الشريعة تقطع ببطلانه ، ولا شكّ أنّ الأئمّة المعتبرين الذين هم أئمّة الفتيا على خلافه.

__________________

(١) هذا هو الصواب ، وفي النسخ : «يبقى» فلاحظ.

ومستند من فرّق بين السبب والشرط : أنّ إيجاب المسبّب لو كان مقيّداً بحال وجود السبب ، لكان إيجاباً لتحصيل الحاصل ؛ لأنّ المسبّب حاصل مع السبب ، بخلاف الشرط.

وقد أطلنا في ذلك ، والمقصود أنّ الزيارة إذا كانت مندوبة في حقّ البعيد ، والسفر شرط لها ، كان مندوباً ، وهذا لم يحصل فيه نزاع بين العلماء.

فإن قلت : هل يقولون إنّ كلّ سفر للزيارة مندوب ، أو مطلق السفر لها؟

قلت : قد تقرّر في اصول الفقه أنّ الأمر بالماهيّة الكلّية ليس أمراً بشيء من جزئيّاتها ، ولكنّه مأمور بجزئيّ من الجزئيّات لا بعينه ؛ لأنّه لا يتحقّق الإتيان بالكلّي بدونه ، وهو مخيّر في تعيين ذلك الجزئيّ ، فإذا أتى بجزئيّ معيّن خرج عن عهدة الأمر وتقول : إنّه أتى بالمأمور به ؛ وهو الكلّي والجزئيّ لا بعينه ، وأمّا هذا الجزئيّ المعيّن فلا تقول : إنّه مأمور به ، لأنّه مخيّر فيه ، ولكنّه قربة وطاعة ؛ لأنّه فعل لامتثال الأمر.

فكلّ سفر يقع بقصد الزيارة ، ولم يقترن به قصد محرّم أو مكروه ، فهو قربة ؛ لكونه موصلاً إلى قربة ، وبه يحصل أداء السفر المأمور به ؛ لأنّه حاصل في ضمن ذلك المشخّص ، ولا تقول : إنّ ذلك المشخّص هو المأمور به ؛ لأنّ الأمر إنّما يتعلّق بكلّي ، وهذا جزئيّ ، لكنّه قربة ؛ لكونه قصد به القربة ، ووسيلة إليها.

فالقربة تصدق على الكلّي والجزئيّ ، والطلب لا يتعلّق إلّا بكلّي ، والسفر المعيّن وسيلة إلى الزيارة ، وليس شرطاً فيها ، ومطلق السفر للزيارة وسيلة وشرط ، ومطلق السفر شرط ، وقد لا يقصد به التوسّل ، فلا يسمّى «وسيلة».

[بين المقدمة والوسيلة]

فإن قلت : هل المقدّمة هي الوسيلة ، أو غيرها؟

قلت : المقدّمة ما يتوقّف عليها الشيء ، وقد علمت خلاف الاصوليّين في أنّها هل تجب بوجوب ذلك الشيء ، أو لا؟ وذلك خارج عن كونها قربة أو ليست بقربة.

فإنّ الذي يتوقّف عليه الفعل قد يفعل بقصد القربة ، فيكون قربة ، وقد يفعل لا بقصد القربة ، فلا يكون قربة ، فمن مشى إلى مكّة لمقصد غير صالح ، ثمّ حجّ ، لم يكن سفره قربة ، ولكن سقط عنه الأمر بالمقدّمة ؛ لزوال السبب المقتضي لوجوبها.

وأمّا الوسيلة فقال الجوهريّ : الوسيلة ما يتقرّب به إلى الغير ، والجمع الوسل ، والوسائل ، والتوسيل والتوسّل واحد ، يقال : وسّل فلان إلى ربّه وسيلة ، وتوسّل إليه بوسيلة ؛ إذا تقرّب إليه بعمل ، انتهى كلام الجوهريّ (١).

فاسم «الوسيلة» إذا اطلق على المقدّمة ، فهو من حيث كونها يتقرّب بها ، لا من حيث كونها متوقّفاً عليها ، بل :

قد يكون المقصد متوقّفاً على الوسيلة بعينها ، فيجري في وجوبها الخلاف السابق.

وقد لا يتوقّف المقصد عليها بعينها ، بل على ما هو أعمّ منها ، ويختارها العبد للتوسّل بها.

وقد لا يتوقّف المقصد عليها أصلاً في نفس الأمر ، ولكن يقصد العبد أو يتوهّم توقّفه ، أو خطر بباله أنّها موصلة إليه ، ولم يخطر بباله أمر آخر.

ففي كلّ هذه الأحوال تسمّى «وسيلة» و «قربة» لا يجري فيها الخلاف الاصوليّ.

فالوسيلة لا تطلق على المقدّمة حتّى يقصد بها التقرّب إلى المقصود ، ولا

__________________

(١) الصحاح للجوهري (٥ / ١٨٤١) باب اللام فصل الواو (وسل).

تسمّى «وسيلة» بدون هذا القصد إلّا على سبيل المجاز ؛ بمعنى أنّها صالحة للتوسّل ، ومراد الاصوليّين ب «المقدّمة» ما يتوقّف عليها الشيء ؛ سواء أقصد بها التوصّل إليه ، أم لا؟ فبينهما عموم وخصوص من وجه.

ولو سلّمنا أنّ الوسيلة مرادفة للمقدّمة ، فلا شكّ أنّها لا تكون قربة حتّى يقصد بها التقرّب إلى قربة ، فمرادنا بقولنا : «وسيلة القربة قربة» هذا المعنى.

ومن هاهنا يظهر : أنّ كون الشيء قربة ، غير كونه واجباً ومندوباً ، فإنّ حكم الحاكم بالإيجاب أو الندب إنّما هو على الماهيّة الكلّية ، وكلّ ما وجد في الخارج مشخّص لا يتعلّق الطلب به بخصوصه ، فلا يحكم عليه بخصوصه : بأنّه واجب ، لكنّه مؤدّ للواجب في ضمنه ، والحكم بكون الشيء قربة تارة : يكون باعتبار حقيقته ، وهو ما وضع لأنّ يتقرّب به ، فيكون كذلك ، وتارة : يكون باعتبار ما قصد به التقرّب ، فيطلق على الفعل بعد تشخّصه.

[اعتبارات السفر في مسألة الزيارة]

إذا عرف ذلك فهاهنا اعتبارات :

أحدها : مطلق السفر.

والثاني : السفر إلى المدينة.

والثالث : السفر إلى المدينة بقصد القربة.

وكلّ واحد من القسمين الأوّلين ليس مطلوباً ولا قربة من حيث هو هو ، وإنّما قد يطلب طلب الوسائل لغيره.

والقسم الثالث مطلوب وقربة ، وتتفاوت مراتبه بحسب تفاوت القربة المقصودة به ، فإنّها قد تكون الزيارة ، وقد تكون قربة اخرى ، كالصلاة في المسجد ونحوها ، وقد تكون مجموع ذلك ، أو القدر المشترك بينها ، وهو مطلق القربة ، وكلّ

من هذه الأربعة قربة ؛ لما قرّرناه.

ولأنّ السفر إلى المدينة لم يكن قربة لمطلق كونه سفراً ، ولا سفراً إلى المدينة ، وإنّما كان لعلّة ؛ وهي قصد القربة ، وحيث وجدت العلّة وجد المعلول ، ولا فرق في الحكم بالقربة على كلّ واحد من الأربعة بين أن يوجد كلّياً ، أو جزئيّاً مشخّصاً ؛ لما قدّمناه.

وأمّا الحكم بكونه مطلوباً أو مندوباً إليه بخصوصه ، فلا يتعلّق بمشخّص منها كان ، ولا بواحد من الأربعة بعينه ، وإنّما يتعلّق بواحد منها لا بعينه ، ومهما وجد منها كان قربة يتأدّى المأمور به في ضمنه.

وهذا التقسيم وحكم كلّ واحد منها ، لا يتأتّى فيه نزاع بين العقلاء ؛ سواء قلنا : مقدّمة المأمور به مأمور بها ، أم لا؟ وهكذا حكم كلّ كلّي طلبه الشرع ، ولم ينصّ على أنواعه.

وأمّا خصال الكفّارة :

فقيل : إنّ الواجب فيها القدر المشترك بين الخصال ، فيأتي في أنواع الخصال ما قلنا في الجزئيّات.

والمشهور أنّ كلّ خصلة واجبة بعينها على تقدير أن لا يأتي بغيرها ، فمتى فعلها وقعت واجبة بخصوصها ؛ لنصّ الشرع عليها ، أعني خصوص العتق مثلاً بالنسبة إلى الإطعام والكسوة ، وأمّا إعتاق الرقبة المعيّنة فهو كأشخاص الكلّي بلا إشكال ، فيأتي فيه ما سبق من البحث.

فإن قلت : السفر ينقسم :

إلى ما يقصد به المسافر ضمّ عبادة اخرى إلى الزيارة ، كصلاة واعتكاف في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا إشكال في كونه قربة.

وإلى ما يقصد قصره على قصد الزيارة لا غيره ، والنزاع إنّما هو في هذا.

وإلى ما يعرى عن القصدين.

واستدلالكم بكون وسيلة القربة قربة فيه نظر ؛ لأنّ توقّف الشيء على الأعمّ لا يستلزم توقّفه على الأخصّ ، وزيارة من كان على مسافة بعيدة ، إنّما تتوقّف على سفر من الأسفار الثلاثة المذكورة المقصودة ، لا على القسم الثاني ليتمّ ما ذكرتم.

قلت : هذا خلف من الكلام ؛

لأنّك إن لم تقل : بأنّ وسيلة القربة قربة ، فلا حاجة بك إلى هذا الاستدلال والتقسيم ، وقل : إنّ وسيلة القربة ليست بقربة.

وحينئذٍ يرد عليك ما لا قبل لك به ممّا قدّمناه من الاستدلال على كون وسيلة القربة قربة ، وذلك أمر معلوم من الشرع.

ثمّ يلزمك أن السفر للزيارة وقربة اخرى لا يكون قربة على زعمك ؛ لأنّه إنّما يكون قربة لكونه وسيلة إلى قربة.

وإن كنت تقول : بأنّ وسيلة القربة قربة ، فما وجه النظر بعد تقرير كون الزيارة قربة؟!

واحتجاجك بأنّ توقّف الشيء على الأعمّ لا يستلزم توقّفه على الأخصّ ، عجيب جدّاً.

لأنّك إن فسّرت الوسيلة بما يفعل لقصد التقرّب إلى المقصود كما فسّرناه ، كان كلّ واحد من السفر الذي قصد به الزيارة مع قربة اخرى ، والسفر الذي قصد به الزيارة فقط قربةً ؛ لأنّه قصد به التوسّل إلى قربة ، فوجب أن يكون قربة ؛ سواء كانت الزيارة متوقّفة على عينه أم لا؟ فالفرق بين القسمين باطل قطعاً.

وإن فسّرت الوسيلة بما يتوقّف عليه المقصود ، كما يشعر به ظاهر كلامك :

فإن أخذته بشرط قصد القربة معه ، وجعلت علّة القربة ذلك القصد ، عاد الكلام ، وكان كلّ من القسمين قربة ؛ لأنّ الموجب لجعله قربة قصد القربة ، وهو

موجود في القسمين.

وإن جعلت العلّة التوقّف ، وقلت : إنّه يتوقّف على الأعمّ ، لا على الأخصّ ، لزمك أن تقول : القربة ما هو أعمّ من السفرين ، وخصوص كلّ منهما ليس بقربة ، ففرقك بين القسمين لا وجه له.

وإن أخذته مجرّداً فهو باطل ؛ لأنّه يدخل فيه مطلق السفر ، ولم يقل أحد : بأنّه قربة ؛ فإنّ السفر من حيث هو هو مباح ، وإنّما تعرض له القربة بعلّة قصد القربة ، فحيث حصلت تلك العلّة حصل معلولها ، وحيث لا فلا ، ففرقك بين قربة وقربة لا وجه له.

فقد بان بهذا : أنّه بعد العلم بكون الزيارة قربة ، وبكون وسيلة القربة قربة ، يقطع بأنّ السفر للزيارة قربة ؛ سواء ضمّ معه قصد قربة اخرى أم لا؟ والشكّ في ذلك إنّما يكون للشكّ في إحدى المقدّمتين.

وتقرير السؤال مختلّ على كلّ تقدير.

وليس لك أن تقول : إنّ السفر للزيارة المجرّدة داخل تحت النهي بقوله : «لا تشدّ الرحال» والسفر لها وللمسجد سفر للمسجد ، فكان مباحاً للحديث.

لأنّا سنبيّن معنى الحديث ، وأنّه لا يشمل الزيارة.

وبتقدير أن يكون السفر للزيارة منهيّاً عنه ، فالسفر لها وللمسجد ينبغي أن يكون منهيّاً عنه على هذا البحث ؛ لتركّبه من منهيّ عنه وغيره.

وأيضاً : فإنّ هذا دلّ على أنّك لا تقول : بأنّ وسيلة القربة قربة ، فكان يكفيك من الأوّل أن تقول : إنّ وسيلة القربة ليست قربة ، وإنّما كان السفر في القسم الأوّل قربة لدليل آخر ، فانتقالك إلى هذا التطويل لا فائدة فيه.

فعلى كلّ تقدير هذا الكلام ساقط.

وأمّا السفر العاري عن القصدين المذكورين ، فيدخل فيه السفر لقربة غير

الزيارة فقط ، والسفر المباح ، والسفر لغيرهما ، ولا حاجة بنا إلى الكلام في ذلك.

وأمّا قولك في القسم الثاني من أقسام السفر : «ما يقصد به قصره على قصد الزيارة لا غير» فهذه العبارة تحتمل أمرين :

أحدهما : أن يقصد الزيارة ، ويقصد أن لا يفعل معها قربة اخرى من تحيّة المسجد ولا غيرها ، وهذا الأمر لا يقصده عاقل غالباً ، وليس هو المسئول عنه ، فإنّ الناس إنّما يسألون عن الواقع منهم ، وبهم حاجة إلى معرفة حكمه ، فذكر هذا القسم هوس ، وإرادته في فتيا العامّة بعبارة يفهمون منها العموم تضليل.

ثمّ إنّا نقول : ولو فرض ذلك ، كان سفره قربة ؛ لأنّه قصد به قربة ، ولكن قصده ترك غيرها من القربات ليس بقربة.

الأمر الثاني : أن يقصد الزيارة ، ولا يخطر بباله أمر آخر بنفي ولا إثبات ، ولا وجه للتوقّف في كون ذلك قربة بعد العلم بكون الزيارة قربة ، ووسيلة القربة قربة.

والظاهر من صاحب هذا السؤال أنّه أراد هذا الأمر الثاني ، فإنّه الذي قال : إنّ الخصم إنّما أراد أن يبيّن كيفيّة الزيارة المستحبّة ، وهي أن تضمّ إليها قصد المسجد ، كما قاله غيره ، وقدّمنا الكلام على ذلك.

ففي هذه القطعة من كلامه بيان أنّ شرط الاستحباب في الزيارة عند الخصم (١) وغيره ، ضمّ قصد المسجد إليها ، ومقتضى ذلك أنّ عند عدم الضمّ ينفي الاستحباب ؛ سواء أراد عدم ما سواها من القرب أم لا؟

وهو يبيّن أنّ مراده فيما تقدّم ـ «بما يقصد قصره على قصد الزيارة لا غير» ـ المعنى الثاني الذي قدّمناه ، وهو عدم قصد سواها ، لا قصد عدمه ، وقد

__________________

(١) لاحظ كلام ابن تيمية في حكم الزيارة وشرطها : مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٧ / ص ٢٦ ـ ٣٤) وقد نسب فيه إلى الفقهاء أحكاماً لم يقولوا بها ، واستفاد من الأحاديث معاني لا تفيدها ، فراجع.

قدّمنا أنّه لا وجه للتوقّف في كون ذلك قربة ؛ لأنّه وسيلة إلى قربة ، ولم يقترن به قصد صارف ، ولا مانع من الحكم بالقربة عليه بالمعنى الثاني.

[مع] إنّ إطلاق قوله يقتضي أنّ الخصم وغيره إنّما يستحبّون الزيارة مطلقاً من غير سفر ؛ إذا ضمّ إليها قصد المسجد ، وحينئذٍ لا تكون الزيارة وحدها قربة ؛ سواء كانت عن سفر ، أم عن غير سفر؟

وهو مخالف للأدلّة الدالّة على أنّ الزيارة قربة ، وكأنّه إنّما أراد السفر للزيارة ، وإنّما أطلق العبارة ، وأيّا ما كان فهو باطل ؛ لما قدّمناه.

واعلم : أنّ هذا السؤال المبنيّ على تقسيم السفر ضعيف ، وكذلك السؤال المبنيّ عليه الذي قدّمته في الاستدلال بعمل السلف والخلف على السفر ، وإنّما ذكرتهما لأنّي وقفت على كلام بعض الفضلاء ذكرهما فيه ، فاحتجت إلى جوابهما ، والخصم الذي النزاع معه لعلّه لا يرتضيهما.

والعجب ممّن أوردهما مع موافقته على أنّ السفر لمجرّد الزيارة قربة.

فإن كان قال ذلك بغير دليل فهو باطل.

وإن كان قاله لأحد الدليلين المذكورين ، فالقدح فيهما قدح فيه ، فلا يمكنه الجزم به.

وإن كان قاله لدليل آخر فكان ينبغي أن يبيّنه حتّى يظهر أنّه يفترق الحال فيه بين الأسفار أو لا؟

بل العجب منه قوله بهذه الامور ، مع قوله : بأنّ كون الزيارة قربة معلوم من الدين بالضرورة ، وجاحده محكوم عليه بالكفر.

وقد بان بما ذكرناه : أنّ لزوم كون السفر لمجرّد الزيارة قربة ، لازم لكون الزيارة قربة ، وأنّ اللزوم بينهما بيّن ليس بالخفيّ ، والعلم بالملزوم مع التوقّف في اللازم البيّن له مستحيل ، فالقول بإثبات الملزوم مع التوقّف في إثبات اللازم لا يجتمعان.

فمن توقّف في كون السفر لمجرّد الزيارة قربة ، لزمه التوقّف في كون الزيارة قربة.

ومن قال : بأنّ كون السفر لمجرّد الزيارة قربة من الأُمور الخفيّة ، لزمه أن يقول بذلك في الزيارة ، فإنّه تقرّر أنّ الملازمة بينهما بيّنة معلومة من الشرع.

فإن قلت : فما تقولون في السفر إلى زيارة ما عدا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

قلت : قال الفقيه الإمام أبو محمّد عبد الله بن عبد الرحمن بن عمر المالكيّ المعروف ب «الشارمساحي» في كتاب «تلخيص محصول المدوّنة من الأحكام» الملقّب ب «نظم الدرّ» في كتاب الجامع في الباب الحادي عشر في السفر ، وهو أحد أبوابه ، قال في هذا الباب : والسفر قسمان : هرب ، وطلب ، أمّا الهرب فالخروج من أرض الحرب ، وأرض البدعة ، وأرض غلب عليها الحرام ، ومن خوف الأذى في البدن ، ومن الأرض الغمّة (١).

وأمّا الطلب فيكون للحجّ ، والجهاد ، والعمرة ، والمعاش ، والاتّجار ، وقصد البقاع الشريفة ؛ وهي المساجد الثلاثة ، ومواضع الرباط تكثيراً لأهلها ، ولطلب العلم ، ولتفقّد أحوال الإخوان ، وزيارة الموتى ؛ لينتفعوا بترحّم الأحياء ، وقصد الانتفاع بالميّت بدعة إلّا في زيارة قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ، انتهى.

فأمّا استثناؤه قبر المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر المرسلين صلوات الله عليهم أجمعين ، واقتصاره إن قصدها للانتفاع بهم سنّة ، فصحيح.

والظاهر أنّ ذلك عامّ في زيارتها ، والسفر إليها ، كما يقتضيه صدر كلامه.

وأمّا السفر لزيارة غيرهم من الموتى لينتفعوا بترحّم الأحياء ، فقد عدّه

__________________

(١) في هامش الهندية : لعلّه : الوخمة.

الشارمساحيّ ـ كما ترى ـ من أقسام سفر الطلب ، والظاهر إن قصده أنّه سنّة ، والأمر كذلك ، وإن كان عدّ معه سفر التجارة الذي هو مباح.

وأمّا قوله : «إنّ قصد الانتفاع بالميّت غير الأنبياء بدعة» ففيه نظر ؛ فإن ثبت فينبغي أن يخرج منه [من] يتحقّق صلاحه ، كالعشرة المشهود لهم بالجنّة وغيرهم ، وحينئذٍ يكون السفر لهم كالقسم الثاني.

فخرج من هذا أنّ الزيارة حيث استحبّت استحبّ السفر لها ، وذلك عامّ في قصد انتفاع الميّت بالترحّم ، وخاصّ في قصد الانتفاع بالميّت.

الباب السابع :

في

دفع شُبَهِ الخَصْم وتتبُّع كلماتِهِ

وفيه فصلان :

الأوّل : في شبهه

وله ثلاث شبه :

[الشبهة الاولى حديث : «لا تشدّ الرحال ...» ألفاظه ومصادرها]

إحداها : فهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تُشَدُّ الرحالُ إلّا إلى ثلاثة مساجد»

فتوهّم الخصم أنّ في هذا منع السفر للزيارة (١).

وليس كما توهّمه ، ونحن نذكر ألفاظ الحديث ، ثمّ نذكر معناه إن شاء الله.

فنقول : هذا الحديث متّفق على صحّته عن أبي هريرة رضى الله عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وورد بألفاظ مختلفة :

أشهرها : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، ومسجد

__________________

(١) عن استدلال ابن تيمية بهذا الحديث راجع مجموع فتاواه (ج ٢٧ ص ٢٦) ومواضع عديدة في هذا الجزء الخاص بالزيارة وشدّ الرحال إليها.

الحرام ، ومسجد الأقصى» وهذه رواية سفيان بن عيينة عن الزهريّ.

والآخر : «تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد» من غير حصر ، وهذه رواية معمّر عن الزهريّ.

وآخر : «إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد : مسجد الكعبة ، ومسجدي ، ومسجد إيلياء». وهذه من طريق غير الزهريّ.

وهذه الروايات الثلاث ذكرها مسلم في فضل المدينة عن أبي هريرة (١).

وذكر قبل ذلك في سفر المرأة عن أبي سعيد الخدريّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّوا الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجدي هذا ، والمسجد الحرام ، والمسجد الأقصى» (٢) ولفظه ـ كما ذكرنا ـ بصيغة النهي ، واللفظ السابق بصيغة الخبر.

وورد في خبر أبي سعيد أيضاً : «إنّما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد : مسجد إبراهيم ، ومسجد محمّد ، ومسجد بيت المقدس» رواه إسحاق بن راهويه في مسنده (٣).

وورد في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أيضاً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولفظه بصيغة النهي : «لا تشدّوا الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد بيت المقدس» رواه الطبرانيّ في معجمه (٤).

هذه ألفاظ المرويّات.

[دلالة الأحاديث ومعناها]

وأمّا معناها : فاعلم : أنّ هذا الاستثناء مفرّغ ، تقديره : لا تشدّ الرحال إلى

__________________

(١) صحيح مسلم (٤ / ١٢٦) كتاب الحج باب لا تُشدُّ الرحال ...

(٢) صحيح مسلم (٤ / ١٠٢) كتاب الحج باب سفر المرأة مع محرم.

(٣) مسند ابن راهويه.

(٤) المعجم الكبير للطبراني (١٢ / ٣٣٧) ح ١٣٢٨٣ ، وفيه (لا تشدّ) وعلّق عليه : قال في مجمع (الزوائد) ٤ / ٤ ، بعد أن نسبه إلى الأوسط : ورجاله رجال الصحيح ، ورواه البزّار أيضاً.

مسجد إلّا إلى المساجد الثلاثة ، أو لا تشدّ الرحال إلى مكان إلّا إلى المساجد الثلاثة.

ولا بدّ من أحد هذين التقديرين ليكون المستثنى مندرجاً تحت المستثنى منه.

والتقدير الأوّل أولى ؛ لأنّه جنس قريب ، ولما سنبيّنه من قلّة التخصيص أو عدمه على هذا التقدير.

ثمّ اعلم : أنّ السفر فيه أمران :

أحدهما : غرض باعث عليه ، كالحجّ ، أو طلب العلم ، أو الجهاد ، أو زيارة الوالدين ، أو الهجرة ، وما أشبه ذلك.

والثاني : المكان الذي هو نهاية السفر ، كالسفر إلى مكّة ، أو المدينة ، أو بيت المقدس ، أو غيرها من الأماكن لأيّ غرض كان.

ولا شكّ أنّ شدّ الرحال إلى عرفة لقضاء النسك ، واجب بإجماع المسلمين ، وليس من المساجد الثلاثة.

وشدّ الرحال لطلب العلم إلى أيّ مكان كان ، جائز بإجماع المسلمين ، وقد يكون مستحبّاً ، أو واجباً على الكفاية ، أو فرض عين.

وكذلك السفر إلى الجهاد ، ومن بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام ؛ للهجرة وإقامة الدين ، وكذلك السفر لزيارة الوالدين وبرّهما ، وزيارة الإخوان والصالحين ، وكذلك السفر للتجارة ، وغيرها من الأغراض المباحة.

فإنّما معنى الحديث : أنّ السفر إلى المساجد مقصور على الثلاثة على التقدير الأوّل الذي اخترناه.

أو أنّ السفر إلى الأماكن مقصور على الثلاثة على التقدير الثاني.

ثمّ على كلا التقديرين : إمّا أن يجعل المساجد أو الأمكنة غاية فقط ، وعلّة السفر أمراً آخر ، كالاشتغال بالعلم ونحوه من الأمثلة التي ذكرها ، فهذا جائز إلى

كلّ مسجد وإلى كلّ مكان ، فلا يجوز أن يكون هو المراد.

وقد يقال على بُعدٍ : إنّ خروج تلك المسائل بأدلّة على سبيل التخصيص للعموم ، فلا يمنع من إرادته في الباقي.

وهذا لو قيل به ، فتقدير المساجد أيضاً أولى من تقدير الأمكنة ؛ لعلّة التخصيص ، إذ التخصيص على تقدير إضمار الأمكنة أكثر ، فيكون مرجوحاً.

ثمّ على هذا التقدير : فالسفر بقصد زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غايته مسجد المدينة ؛ لأنّه مجاور للقبر الشريف ، فلم يخرج السفر للزيارة عن أن تكون غايته أحد المساجد الثلاثة ، وهو المراد على هذا التقدير (١).

وإمّا أن يجعل المساجد أو الأمكنة علّةً فقط ، ويكون قد عبّر ب «إلى» عن اللام ، أو غايةً وعلّةً من باب تخصيص العامّ بأحد حاليه ؛ لأنّ غاية السفر قد يكون هو العلّة ، وقد لا يكون ، فيكون المراد النوع الأوّل ، وهو ما يكون علّة مع كونه غاية.

ومعنى كونه علّة : أنّه يسافر لتعظيمها ، أو للتبرّك بالحلول فيها ، أو بأن يوقع فيها عبادة من العبادات التي يمكنه إيقاعها في غيرها ؛ من حيث أنّ إيقاعها فيها أفضل من إيقاعها في غيرها ، وكلّ ذلك إنّما نشأ من اعتقاد فضل في البقعة زائد على غيرها ، فنهي عن ذلك إلّا في المساجد الثلاثة ، وهذا هو المراد ، وغيرها من الأماكن والمساجد لا يؤتى إلّا لغرض خاصّ لا يوجد في غيره ، كالثغر للرباط الذي لا يوجد في غيره.

وعلى هذا التقدير أيضاً ، المسافر لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخل في الحديث ؛ لأنّه لم يسافر لتعظيم البقعة ، وإنّما سافر لزيارة مَنْ فيها ، كما لو كان حيّاً وسافر إليها فيها

__________________

(١) لاحظ ما ذكره الذهبي في سير الأعلام (٤ / ٤٨٤) في هذا الصدد وقد نقلناه في الباب الرابع (ص ١٧٤) فراجع الهامش.

أو في غيرها ، فإنّه لا يدخل في هذا العموم قطعاً.

وملخّص ما قلناه على طوله : أنّ النهي عن السفر مشروط بأمرين :

أحدهما : أن يكون غايته غير المساجد الثلاثة.

والثاني : أن تكون علّته تعظيم البقعة.

والسفر لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غايته أحد المساجد الثلاثة ، وعلّته تعظيم ساكن البقعة ، لا البقعة ، فكيف يقال بالنهي عنه؟!

بل أقول : إنّ للسفر المطلوب سببين :

أحدهما : ما يكون غايته أحد المساجد الثلاثة.

والثاني : ما يكون لعبادة وإن كان إلى غيرها.

والسفر لزيارة المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتمع فيه الأمران ، فهو في الدرجة العليا من الطلب ، ودونه ما وجد فيه أحد الأمرين ، وإن كان السفر الذي غايته أحد الأماكن الثلاثة ، لا بدّ في كونه قربة من قصد صالح.

وأمّا السفر لمكان غير الأماكن الثلاثة لتعظيم ذلك المكان ، فهو الذي ورد فيه الحديث ، ولهذا جاء عن بعض التابعين أنّه قال : قلت لابن عمر : إنّي اريد أن آتي الطور.

قال : إنّما تشدّ الرحال إلى ثلاثة مساجد : مسجد الحرام ، ومسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومسجد الأقصى ، ودع الطور فلا تأته.

[محط البحث عند الفقهاء]

وفي مثل هذا الذي تكلّم الفقهاء في شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة.

فنقل إمام الحرمين عن شيخه : أنّه كان يفتي بالمنع عن شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد ، قال : وربّما كان يقول : يكره ، وربّما كان يقول : يحرم ؛ أخذاً

بظاهر النهي.

وقال الشيخ أبو عليّ : لا يكره ، ولا يحرم ، ولكن أبان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ القربة المقصودة في قصد المساجد الثلاثة ، وما عداها ليس في قصد أعيانها قربة ، قال : وهذا حسن لا يصحّ عندي غيره.

قلت : ويمكن أن يقال : إن قصد بذلك التعظيم فالحقّ ما قاله الشيخ أبو محمّد ؛ لأنّه تعظيم لما لم يعظّمه الشرع ، وإن لم يقصد مع عينه أمراً آخر ، فهذا قريب من العبث ، فيترجّح فيه ما قاله الشيخ أبو عليّ ، ولا نعلم في مذهبنا غير ذلك.

وذهب الداوديّ إلى أنّ ما قرب من المساجد الفاضلة من المصر ، فلا بأس أن يؤتى مشياً وركوباً ؛ استدلالاً بمسجد قباء ، ولا يدخل تحت النهي في إعمال المطيّ ؛ لأنّ الإعمال وشدّ الرحال لا يكون لما قرب غالباً.

ونقل القاضي عياض عن بعضهم : أنّه إنّما يمنع المطيّ للناذر ، وأمّا غير الناذر ممّن يرغب في فضل مشاهد الصالحين فلا.

فهذه أربعة مذاهب في إتيان ما سوى الثلاثة من المساجد ، وعلى المذهب الرابع المفصّل بين أن يكون بالنذر أو بغيره ، حمل بعضهم إتيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجد قباء ؛ لأنّه كان بغير نذر ، ولا حرج فيه ، بل متى خفّ عليه فعل القربة.

فيجيء في نذر ما سوى الثلاثة من المساجد ثلاثة مذاهب :

أحدها : أنّه لا يصحّ ، وهو مذهبنا ومذهب الجمهور.

والثاني : يصحّ مطلقاً ، وهو مذهب الليث بن سعد.

والثالث : يلزم ما لم يكن بشدّ رحل ، كمسجد قباء ، وهو قول محمّد بن مسلمة المالكيّ.

وقد روى مالك عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم : أنّ عبد الله بن عباس سُئل عمّن جعل على نفسه مشياً إلى مسجد قباء وهو بالمدينة؟ فألزمه ذلك ، وأمره

أن يمشي.

قال عبد الملك بن حبيب في كتاب «الواضحة» : فكذلك من نذر أن يمشي إلى مسجده الذي يصلّي فيه جمعته ، أو مكتوبته ، فعليه أن يمشي إليه ، وليس ذلك بلازمه فيما نأى عنه من المساجد لا ماشياً ، ولا راكباً ، وكذلك روى ابن وهب وغيره عن مالك إلّا المساجد الثلاثة ، فيلزمه في المسجد الحرام ما نذر من مشي أو ركوب ، ولا يلزمه في المسجدين ـ مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيت المقدس ـ المشي إليهما ، ويلزمه أن يأتيهما راكباً للصلاة فيهما.

هذا كلّه في قصد المكان بعينه ، أو قصد عبادة فيه تمكن في غيره.

أمّا قصده بغير نذر لغرض فيه ـ كالزيارة وشبهها ـ فلا يقول أحد فيه بتحريم ولا كراهة.

فإن قلت : فقد قال النوويّ في «شرح مسلم» (١) في باب سفر المرأة مع مَحْرَمٍ إلى الحجّ : اختلف العلماء في شدّ الرحال وإعمال المطيّ إلى غير المساجد الثلاثة ، كالذهاب إلى قبور الصالحين ، وإلى المواضع الفاضلة ونحو ذلك ، فقال الشيخ أبو محمّد من أصحابنا : هو حرام ، وهو الذي أشار القاضي عياض إلى اختياره.

والصحيح عند أصحابنا ـ وهو الذي اختاره إمام الحرمين والمحقّقون ـ أنّه لا يحرم ولا يكره ، قالوا : والمراد أنّ الفضيلة التامّة إنّما هي في شدّ الرحال إلى هذه الثلاثة خاصّة ، والله أعلم ، انتهى كلام النوويّ.

وقد جعل الذهاب إلى قبور الصالحين من محلّ الخلاف.

قلت : رحم الله النوويّ ، لو اقتصر على المنقول أو نقده حقّ النقد لم يحصل خلل ، وإنّما زاد التمثيل فحصل الخلل من زيادته.

__________________

(١) شرح مسلم للنووي (٩ / ١٠٦).

والذي نقله الإمام الرافعيّ والنوويّ في غير «شرح مسلم» عن الشيخ أبي محمّد رحمه‌الله ليس فيه هذه الزيادة ، بل فيه ما يبيّن أنّ مراده ما قدّمناه.

فإنّ الإمام قال : إذا نذر أن يأتي مسجداً من المساجد سوى المسجد الحرام ، قال العلماء : فإن كان المسجد الذي عيّنه غير مسجد المدينة ومسجد القدس ، فلا يلزم بالنذر شيء أصلاً ، فإنّه ليس في قصد مسجد بعينه غير المساجد الثلاثة قربة مقصودة ، وما لا يكون قربة ولا عبادة مقصودة فهو غير ملزم بالنذر ، وكان شيخي يفتي بالمنع عن شدّ الرحال إلى غير هذه المساجد ... وذكر ما قدّمناه.

وكذلك الرافعيّ قال : إذا نذر إتيان مسجد آخر سوى الثلاثة لم ينعقد نذره ، قال الإمام وكان شيخي يفتي ... وذكر ما تقدّم.

وكذلك النوويّ في «شرح المهذّب» (١) وكذلك في «شرح مسلم» في باب فضل المساجد الثلاثة ، كلامه مشعر بما قلناه.

ومع ذلك قال : إنّ ما قاله الشيخ أبو محمّد غلط.

ففي كلام كلّ من الإمام والرافعيّ والنوويّ ـ في غير «شرح مسلم» وفي «شرح مسلم» في غير هذا الباب ـ ما يبيّن أنّ فرض المسألة في قصد المساجد ، فيحمل كلام أبي محمّد عليه.

أمّا قصد الأغراض الصحيحة في المساجد وغيرها من الأمكنة ـ من الزيارة ، والاشتغال والجهاد ، وغيرها ـ فلم يتكلّم فيه أبو محمّد ، ولا يجوز أن ينسب إليه المنع منه ، ولو قاله هو أو غيره ممّن يقبل كلامه الغلط لحكمنا بغلطه ، وأنّه لم يفهم مقصود الحديث ، لكنّه بحمد الله لم يثبت عندنا أنّه قال ذلك ، ولا نقله عنه أحد غير ما وقع في «شرح مسلم» من التمثيل على سبيل السهو والغفلة ، ولهذا أجللنا

__________________

(١) المجموع شرح المهذب للنووي (٨ / ٤٧٧) وانظر نذر الصلاة في (٦ / ٤٨٨) وانظر (٨ / ٤٧٣) و (٨ / ٤٧٥).

مالكاً رحمه‌الله عن أن يستدلّ بالحديث على هذا المقصود ، وأوجبنا تأويل كلامه على إرادة البقعة لعينها.

وهكذا القاضي عياض ، فإنّه قال في «الإكمال» (١) : قوله عليه الصلاة والسلام : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» فيه تعظيم هذه المساجد ، وخصوصها بشدّ الرحال إليها ؛ لأنّها مساجد الأنبياء عليهم‌السلام ، وتفضيل الصلاة فيها ، وتضعيف أجرها ، ولزوم ذلك لمن نذره ، بخلاف غيرها ممّا لا يلزم ولا يباح شدّ الرحال إليها ؛ لا لناذر ، ولا لمتطوّع ، بهذا النهي ، إلّا ما ألحقه محمّد بن مسلمة من مسجد قباء.

وهذا الكلام من القاضي عياض ليس فيه تعرّض لزيارة الموتى أصلاً ، ولا يجوز أن ينقل ذلك عنه بتصريح ولا بإشارة ، وإنّما أشار به إلى غير الثلاثة من المساجد.

[عنوان المسألة في كتب الفقه]

فإن قلت : قد قال ابن قدامة الحنبليّ في كتاب «المغني» (٢) : فصل : فإن سافر لزيارة القبور والمشاهد فقال ابن عقيل : لا يباح له الترخّص ؛ لأنّه منهيّ عن السفر إليها ، قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد».

والصحيح إباحته ، وجواز القصر فيه ؛ لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يأتي قباء ماشياً وراكباً ، وكان يزور القبور ، وقال : «زوروها تذكّركم الآخرة».

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد» فيحمل على نفي

__________________

(١) الإكمال للقاضي عياض.

(٢) المغني لابن قدامة (٢ / ١٠٣).

الفضيلة ، لا على التحريم ، وليست الفضيلة شرطاً في إباحة القصر ، ولا يضرّ انتفاؤها.

قلت : قد وقفت على كلام ابن قدامة المذكور ، وترجمته بالسفر لزيارة القبور والمشاهد ، ولم أقف على كلام ابن عقيل ، فإن كان في المشاهد ، أو في قصدها مع الزيارة ، فلا يرد علينا ؛ لأنّه من باب قصد الأمكنة ، وهذا هو الظاهر من استدلاله بالحديث على ما تقرّر ، وكلامنا إنّما هو في مجرّد قصد الزيارة للميّت من غير قصد البقعة أصلاً ، وليس في كلام ابن عقيل ولا ابن قدامة تصريح بذلك ، بل كلامه يشير إلى أنّه إنّما تكلّم في القبور التي بنيت عليها المشاهد ، وقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يدخل في ذلك ؛ لأنّ مكانه لا يسمّى «مشهداً».

ولو سلّمنا اندراجه في مدلول كلامه فيجب تخصيصه ، وحمل كلامه على ما سواه.

وإذا كنّا نخصص كلام الله وكلام رسوله بالأدلّة ، فأيّ شيء كلام ابن عقيل حتّى لا نخصّص ؛ إذا أحسنّا الظنّ به؟!

والموجب لتخصيص هذا القبر الشريف عن سائر القبور ، الأدلّة الواردة في زيارته على الخصوص ، وإطباق الناس على السفر إليه ، فإن لم يعتبر ابن عقيل هذه الأدلّة لفوّقت سهام التخطئة إليه ، وردّ كلامه عليه ، ولكنّه لم يثبت بحمد الله عندنا ذلك عنه.

فإن قلت : قد أكثرت من التفرقة بين البقعة ، وقصد مَنْ فيها ، وسلّمت أنّ قصد البقعة داخل تحت الحديث ، والزيارة لا بدّ فيها من قصد البقعة ، فإنّ السلام والدعاء يحصل من بعد ، كما يحصل من قرب ، وهو مقصود الزيارة.

قلت : قصد البقعة لما اشتملت عليه ليس بمحذور ، ولا نقول بنفي الفضيلة عنه ، وإنّما قلنا ذلك في قصد البقعة لعينها ، أو لتعظيم لم يشهد به الشرع.

على أنا نقول : إنّه لا يلزم من الزيارة أن يكون للبقعة مدخل في القصد

الباعث ، بل تارة : يكون ذلك مقصوداً ، وتارة : يجرّد قصد الشخص المزور من غير شعور بما سواه.

وقوله : «إنّ مقصود الزيارة يحصل من بُعد» ممنوع ؛ فإنّ الميّت يعامل معاملة الحيّ ، فالحضور عنده مقصود ، ألا ترى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا خرج فيه ليلة عائشة إلى البقيع ، فقام فأطال القيام ، ثمّ رفع يديه ثلاث مرّات ... الحديث المشهور ، وفيه : أنّ عائشة سألته فقال : «إنّ جبرئيل أتاني فقال : إنّ ربّك عزوجل يأمرك أن تأتي أهل البقيع وتستغفر لهم».

قالت فقلت : كيف أقول لهم يا رسول الله؟

قال : قُولي : «السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين ، يرحم الله المستقدمين منّا والمستأخرين ، وإنّا إن شاء الله بكم لاحقون» رواه مسلم (١).

فانظر كيف خرج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى البقيع بأمر الله تعالى يستغفر لأهله ، ولم يكتفِ بذلك من الغيبة ، وهذا أصل في الإتيان إلى القبور لزيارة أهلها للاستغفار لهم.

وقد سألت عائشة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف تقول؟ تعني إذا فعلت كفعله ، وعلّمها ، وفي ذلك دليل على أنّه يجوز لها وللنساء ، الإتيان إلى القبور لهذا الغرض ؛ لأنّ سؤالها ذلك كان بعد رجوعهما إلى البيت ، فلم يكن المقصود منه : كيف أقول الآن؟ وإنّما معناه كيف أقول مرّة اخرى؟ فلو كان لا يجوز لها ذلك لبيّنه لها.

__________________

(١) صحيح مسلم (٣ / ٦٣) كتاب الجنائز ، باب ما يقال عند دخول القبر.

وليس هذا المقصود هنا ، فإنّا نذكره إن شاء الله تعالى في موضع آخر (١).

وإنّما المقصود هنا أنّ الحضور عند القبر لسبب زيارة من فيه والدعاء مطلوب ، وليس ذلك من باب قصد الأمكنة ، ولا دلّ الحديث على امتناعه ، ولا قال به أحد من العلماء.

[فتاوى مُخْتَلقَة مزوّرة باسم علماء بغداد (٢)]

وقد أحضر إليّ بعض الناس صورة فتاوى منسوبة لبعض علماء بغداد في هذا الزمان ، لا أدري هل هي مختلقة من بعض الشياطين الذين لا يحسنون؟ أو هي صادرة ممّن هو متّسم بسمة العلم ، وليس من أهله؟ :

فأوّلها : فتيا مالكيّ قال فيها : قد نصّ الشيخ أبو محمّد الجويني في كتبه على تحريم السفر لزيارة القبور ، وهو اختيار القاضي الإمام عياض في إكماله (٣).

__________________

(١) يأتي.

(٢) نسب هذه الفتاوى ولفظها السلفيّ محمد بن عبد الهادي الذي انتصر لابن تيميّة ، وقد نقل نصّ فتواه ، ثمّ عقّبها بقوله : وقد وصل ما أجاب به الشيخ في هذه المسألة إلى «علماء بغداد» فقاموا في الانتصار له ، وكتبوا بموافقته ، ورأيتُ خطوطهم بذلك ، وهذه صورة ما كتبوا ، العقود الدرية (ص ٣٤٢) ونقله في مجموع فتاوى ابن تيميّة (٢٧ / ١٩٣).

ثمّ أوردها ، وهي كما عرفت بلا سَنَدٍ ولا صادرة عن اناسٍ معروفين بل كلّها أسماء نكرات ، ومنقولاتهم فيها مزيّفة وكاذبة ، واستدلالاتهم باطلة ، كما ستعرف.

ولقد أغرق ابن عبد الهادي في التعصّب لما ادّعى في (الصارم ص ١٥) أن هذه الفتاوى مشهورة! ممّا شاع خبرها وذاع واشتهر أمرها وانتشر! وهي صحيحة ثابتة ، متواترة!

ولاحظ المقارنة بين قوله (مشهورة) و (متواترة)!!

(٣) هذا النص في مجموع فتاوى ابن تيمية (١٣ / ١٩٧) وهو الجواب الثاني ، كتبه محمد بن عبد الرحمن البغدادي الخادم للطائفة المالكية بالمدرسة الشريفة المستنصرية.

ولقد كذب في هذا النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض جميعاً ... ثمّ أطال الكلام بما لا فائدة فيه.

وثانيها : فتيا شافعيّ قال فيها : إنّ المفهوم من كلام العلماء ونظّار العقلاء ، أنّ الزيارة ليست عبادة وطاعة بمجرّدها (١).

فإن أراد المفهوم عنده فلا علينا منه ، ونقول له : المفهوم عند العلماء خلافه.

ثمّ قال : إنّ من اعتقد جواز الشدّ إلى غير ما ذكر أو وجوبه أو ندبه ، كان مخالفاً لصريح النهي ، ومخالفة النهي معصية إمّا كفرا وغيره ؛ على قدر المنهيّ عنه ووجوبه وتحريمه.

ويكفي هذا الكلام ضحكةً على ما قاله أن يجعل المنهيّ عنه منقسماً إلى وجوب وتحريم ، دع سوء فهمه للحديث.

وثالثها : فتيا آخر شارك فيها الأوّل في النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض.

وقد تقدّم جوابه ، وأساء الفهم في الحديث ، كما أساءه غيره.

ورابعها : فتيا آخر ليس فيها طائل.

وكلّهم خلط مع ذلك ما لا طائل تحته ، والأقرب أنّها مختلقة ، وأنّ مثلها لا يصدر عن عالم ، وإنّما ذكرتها هنا لتضمّنها النقل عن الشيخ أبي محمّد والقاضي عياض الذي تعرّضت هنا لإفساده.

__________________

(١) هذا النص في مجموع فتاوى ابن تيمية (١٣ / ١٩٦) وهو الجواب الأول لمحرّره ابن الكتبي الشافعي.

[ابن تيميّة يمنع الزيارة مطلقاً ، لا شدّ الرحل إليها فقط] (١)

تنبيه : قد يتوهّم من استدلال الخصم بهذا الحديث : أنّ نزاعه قاصر على السفر للزيارة ، دون أصل الزيارة.

وليس كذلك ، بل نزاعه في الزيارة أيضاً ؛ لما سنذكره في الشبهتين الثانية والثالثة ، وهما :

كون الزيارة على هذا الوجه المخصوص بدعة.

وكونها من تعظيم غير الله المفضي إلى الشرك ، وما كان كذلك كان ممنوعاً.

وعلى هاتين الشبهتين بنى كلامه ، وأصل الخيال الذي سرى إليه منهما لا غير ، وهو عامّ في الزيارة والسفر إليها.

__________________

(١) لقد كذّب ابن عبد الهادي هذه النسبة ، ونفى أن يكون ابن تيمية منع عن مطلق الزيارة ، وهو عمدة عمله في الصارم المنكي ، لكن ما نقله المصنّف من كلام ابن تيميّة واضح الدلالة على ذلك ، وقد أفردنا له كتاب «الزيارة» فراجع.

ثمّ أورد ابن عبد الهادي أجوبة اخرى بعنوان : «ووقفت على كتاب ورد مع أجوبة أهل بغداد وصورته : ...» ، وقد ذكر هذا مكرراً ، وذكر أجوبة ليس فيها طائل ، كما ذكر المؤلّف الإمام السبكي.

وهكذا يعتمد على الرقاع والمكاتيب التي لا سند لها ولا خطم ولا أزمّة ، ويعتبرها شيئاً ، بينما لو فعل غير السلفية هذا ، لأقامت الدنيا وما أقعدتها؟ باعتبار اعتماد شيء لا سند له ، وهي الرقاع ، والمكاتيب ، إلى آخر حملاتهم الشنعاء على أهل العلم وكتب العلم ، وأنهم صحفيون!!

ثمّ ما حجّة كلام هؤلاء ، أمام الحجج الشرعية والنصوص الإلهية والنبوية الدالّة على مشروعيّة أعمال العباد القاصدين بها القربة وامتثال أوامر الرسول والأئمّة الامناء على الناس ديناً ودنياً.

ثمّ لما ذا خصّت بغداد وعلماؤها الأعلام! بهذا النقض للأحكام الصادرة من سلطان مصر؟ أليس يستشم منها رائحة السياسة التي يسير في فلكها السلفية الأميريّون أتباع الحكّام الظلمة والامراء الفسقة في كل عصر ومصر!

ولهذا يدّعي هو : أنّ الأحاديث الواردة في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها ضعيفة ، بل موضوعة (١).

ويستدلّ بقوله : «لا تتخذوا قبري عيداً» وبقوله : «لعن الله اليهود والنصارى ، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

وبأنّ هذا كلّه محافظة على التوحيد ، وأن اصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد ، كما سنذكر ذلك في نصّ كلامه المنقول عنه.

وقد رأيت أيضاً فتيا بخطّه ، ونقلت منها ما أنا ذاكره ، قال فيها ـ ومن خطّه نقلت ـ :

[نصّ فتوى قديمة لابن تيمية]

وأمّا السفر للتعريف عند بعض القبور ، فهذا أعظم من ذلك ، فإنّ هذا بدعة وشرك ، فإنّ أصل السفر لزيارة القبور ليس مشروعاً ، ولا استحبّه أحد من العلماء ، ولهذا لو نذر ذلك لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع بين الأئمّة.

ثمّ قال : ولهذا لم يكن أحد من الصحابة والتابعين ـ بعد أن فتحوا الشام ، ولا قبل ذلك ـ يسافرون إلى زيارة قبر الخليل عليه‌السلام ولا غيره من قبور الأنبياء التي بالشام ، ولا زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك ليلة اسري به.

والحديث الذي فيه : «هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه ، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى ، انزل فصلّ فيه» كذب لا حقيقة له.

وأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين سكنوا الشام ، أو دخلوا إليه ولم يسكنوه ، مع عمر بن الخطّاب رضي الله تعالى عنه وغيره ، لم يكونوا يزورون شيئاً من هذه

__________________

(١) لاحظ مواضع هذه العبارة في كلام ابن تيميّة وجروه ابن عبد الهادي في أول تعليقة لنا على هذا الكتاب (ص ٦٠).

البقاع والآثار المضافة إلى الأنبياء.

ثمّ قال : ولم يتّخذ الصحابة شيئاً من آثاره مسجداً ولا مزاراً ؛ غير ما بيّناه من المساجد ، ولم يكونوا يزورون غار حراء ، ولا غار ثور.

ثمّ قال : حتّى أنّ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظٌ بزيارته ، وإنّما صحّ عنه «الصلاة عليه والسلام» ؛ موافقة لقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) الآية.

ثمّ قال : ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهدٌ يُزار ؛ لا على قبر نبيّ ، ولا غير نبيّ ، فضلاً عن أن يُسافر إليه ؛ لا بالحجاز ، ولا بالشام ولا اليمن ، ولا العراق ، ولا مصر ، ولا المشرق!

ثمّ قال : ولهذا كانت زيارة القبور على وجهين : زيارة شرعيّة ، وزيارة بدعيّة :

فالزيارة الشرعيّة مقصودها السلام على الميّت ، والدعاء له إن كان مؤمناً ، وتذكّر الموت سواء كان الميّت مؤمناً أم كافراً.

وقال بعد ذلك : فالزيارة لقبر المؤمن نبيّاً أو كان غير نبيّ ، من جنس الصلاة على جنازته ، يدعى له كما يدعى إذا صلّى على جنازته.

وأمّا الزيارة البدعيّة ، فمن جنس زيارة النصارى مقصودها الإشراك بالميّت ، مثل طلب الحوائج منه ، أو به ، أو التمسّح بقبره ، وتقبيله ، أو السجود له ، ونحو ذلك ، فهذا كلّه لم يأمر الله به ورسوله ، ولا استحبّه أحد من أئمّة المسلمين ، ولا كان أحد من السلف يفعله ؛ لا عند قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا غيره.

ثمّ قال : ولم يكونوا يقسمون على الله بأحد من خلقه ؛ لا نبيّ ، ولا غيره ، ولا يسألون ميّتاً ، ولا غائباً ، ولا يستغيثون بميّت ، ولا غائب ؛ سواء كان نبيّاً ، أو غير نبيّ ، بل كان فضلاؤهم لا يسألون غير الله شيئاً.

انتهى ما أردت نقله من كلام ابن تيمية رحمه‌الله من خطّه ، وأنا عارف بخطّه (١).

وهو يدلّ على ما ذكرناه : من أنّ نزاعه في السفر والزيارة جميعاً ، غير أنّه كلام مختبط ؛ في صدره ما يقتضي منع الزيارة مطلقاً ، وفي آخره ما يقتضي أنّها إن كانت للسلام عليه والدعاء له جازت ، وإن كانت على النوع الآخر الذي ذكره لم يجز.

وبقي قسم لم يذكره : وهو أن تكون للتبرّك به من غير إشراك به.

فهذه ثلاثة أقسام :

أوّلها : السلام والدعاء له.

وقد سلّم جوازه ، وأنّه شرعيّ ، ويلزمه أن يسلّم جواز السفر له ، فإن فرّق في هذا القسم بين أصل الزيارة وبين السفر ـ محتجّاً بالحديث المذكور ـ فقد سبق جوابه.

والقسم الثاني : التبرّك به والدعاء عنده للزائر.

وهذا القسم يظهر من فحوى كلام ابن تيمية رحمه‌الله أنّه يلحقه بالقسم الثالث ، ولا دليل له على ذلك ، بل نحن نقطع ببطلان كلامه فيه ، وأنّ المعلوم من الدين وسير

__________________

(١) هذه الفتوى لم ينقلها أحد من أتباع ابن تيميّة ، والظاهر أنّها الفتوى القديمة في مسألة الزيارة التي قال عنها ابن عبد الهادي في (العقود ص ٣٢٧) «وكان للشيخ في هذه المسألة كلام متقدّم أقدم من الجواب المذكور بكثير ، وذكره في كتاب «اقتضاء الصراط المستقيم» وغيره وفيه ما هو أبلغ من هذا الجواب الذي ظفروا به.

أقول : وقد ذكرنا أن الإمام السبكي إنّما ألَّف كتاب (شفاء السقام) في مصر حوالي سنة (٧١٦) واعتمد كما يقول هنا ، على هذه الفتوى ، وهي صريحة في منع ابن تيميّة لمطلق زيارة القبر المعظّم ، مضافاً إلى منعه لشدّ الرحال إلى زيارته ، كما أثبته السبكي هنا.

ونفس هذه المقاطع الدالّة على منعه لمطلق الزيارة ، مبثوثة في كتبه ، ومجموع فتاواه ، وفي النقول عنه ، فلاحظ كتابه : الجواب الباهر ـ وهو الذي كتبه بعد تكفير علماء الامّة له ـ وطبع في مجموع الفتاوى (٢٧ / ٤١٤ ـ ٤٤٤) و (ج ١٧ ص ٤٦١) وانظر (١٥ / ١٥٤ و ١٤٣ ـ ١٤٤) والردّ على الأخنائي ومختصره في المجموع (٢٧ / ١١٤ ـ ٢٨٨) واقتضاء الصراط ، وغيرها.

السلف الصالحين ، التبرّك ببعض الموتى من الصالحين ، فكيف بالأنبياء والمرسلين؟!

ومن ادعى أنّ قبور الأنبياء وغيرهم من أموات المسلمين سواء ، فقد أتى أمراً عظيماً نقطع ببطلانه وخطئه فيه ، وفيه حطّ لدرجة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى درجة من سواه من المسلمين ، وذلك كفر متيقّن ، فإنّ من حطّ رتبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا يجب له ، فقد كفر.

فإن قال : إنّ هذا ليس بحطّ ، ولكنّه منع من التعظيم فوق ما يجب عليه.

قلت : هذا جهل وسوء أدب ، وقد تقدّم في أوّل الباب الخامس (١) الكلام في ذلك ، ونحن نقطع بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يستحقّ من التعظيم أكثر من هذا المقدار في حياته وبعد موته ، ولا يرتاب في ذلك من كان في قلبه شيء من الإيمان.

وأمّا القسم الثالث : وهو أن يقصد بالزيارة الإشراك بالله تعالى :

فنعوذ بالله منها وممّن يفعلها ، ونحن لا نعتقد في أحد من المسلمين ـ إن شاء الله ـ ذلك.

وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ لا تجعل قبري وثناً يعبد» ودعاؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب ، وقد أيس الشيطان أن يعبد في جزيرة العرب (٢).

فهذا شيء لا نعتقده إن شاء الله في أحد ممّن يقصد زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا التمسّح بالقبر وتقبيله والسجود عليه ونحو ذلك :

فإنّما يفعله بعض الجهّال ، ومن فعل ذلك ينكر عليه فعله ذلك ، ويعلّم آداب الزيارة ، ولا ينكر عليه أصل الزيارة ، ولا السفر إليها ، بل هو مع ما صدر منه من

__________________

(١) الباب الخامس ص (١٧٩ ـ ٢٠٠).

(٢) لاحظ سنن الترمذي (٤ / ٤٠١) ح ٢١٥٩ كتاب الفتن ، وسنن ابن ماجة (٢ / ١٠١٥) ح ٣٠٥٥ كتاب المناسك ، وسنن النسائي (٦ / ٣٥٣) ح ١١٢١٣ كتاب التفسير ، ومسند أحمد (٢ / ٣٦٨).

الجهل محمود على زيارته وسفره ، مذموم على جهله وبدعته (١).

وأمّا طلب الحوائج عند قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسنذكره في باب الاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) :

ولنتكلّم على الشبهة الثانية والثالثة اللتين بنى ابن تيمية رحمه‌الله كلامه عليهما :

[مشروعية الزيارة]

أمّا الشبهة الثانية :

وهي كون هذا ليس مشروعاً ، وأنّه من البدع التي لم يستحبّها أحد من العلماء ؛ لا من الصحابة ، ولا من التابعين ومن بعدهم.

فقد قدّمنا سفر بلال من الشام إلى المدينة لقصد الزيارة.

وأنّ عمر بن عبد العزيز كان يجهّز البريد من الشام إلى المدينة للسلام على النبيّ عليه الصلاة والسلام.

وأنّ ابن عمر كان يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيسلّم عليه وعلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.

وكلّ ذلك يكذّب دعوى : أنّ الزيارة والسفر إليها بدعة.

ولو طولب ابن تيمية رحمه‌الله بإثبات هذا النفي العامّ ، وإقامة الدليل على صحّته ، لم يجد إليه سبيلاً.

فكيف يحلّ لذي علم أن يُقْدِمَ على هذا الأمر العظيم بمثل هذه الظنون ، التي مستنده فيها أنّه لم يبلغه ، وينكر به ما أطبق عليه جميع المسلمين شرقاً وغرباً في سائر الأعصار ؛ ممّا هو محسوس خلفاً عن سلف ، ويجعله من البدع؟!

__________________

(١) لاحظ ما ذكره الذهبي ، ونقلناه (ص ١٧٤).

(٢) سيأتي في الباب الثامن.

فإن قلت : إنّ الذي كان يفعله السلف من النوع الأوّل ؛ وهو السلام والدعاء له ، دون النوع الثاني والثالث.

قلنا : أمّا الثالث فلا استرواح إليه ؛ لأنّا نبعد كلّ مسلم منه.

وأمّا النوع الأوّل والثاني ، فدعوى كون السلف كلّهم كانوا مطبقين على النوع الأوّل ؛ وأنّه شرعيّ ، وكون الخلف كلّهم مطبقين على الثاني ؛ وأنّه بدعة ، من التخرّص الذي لا يقدر على إثباته ، فإنّ المقاصد الباطنة لا يطّلع عليها إلّا الله تعالى.

فمن أين له أنّ جميع السلف لم يكن أحد منهم يقصد التبرّك ، أو أنّ جميع السلف لا يقصدون إلّا ذلك؟!

ثمّ إنّه قال فيما سنحكيه من كلامه : «إنّ أحداً لا يسافر إليها إلّا لذلك» ؛ يعني لاعتقاده أنّها قربة ، وأنّه متى كان كذلك كان حراماً.

ولا شكّ أنّ بلالاً وغيره من السلف ـ وإن سلّمنا أنّهم ما قصدوا إلّا السلام ـ فإنّهم يعتقدون أنّ ذلك قربة.

فلو شعر ابن تيمية رحمه‌الله أنّ بلالاً وغيره من السلف فعل ذلك ، لم ينطق بما قال ، ولكنّه قام عنده خيال : أنّ هذه الزيارة فيها نوع من الشرك ، ولم يستحضر أنّ أحداً فعلها من السلف ، فقال ما قال وغلط رحمه‌الله فيما حصل له من الخيال ، وفي عدم الاستحضار.

ودعواه : «أنّه لو نذر ذلك ، لم يجب عليه الوفاء به بلا نزاع من الأئمّة».

نحن نطالبه بنقل هذا عن الأئمّة.

وتحقيق أنّه لا نزاع بينهم فيه.

ثمّ بتقرير كون ذلك عامّاً في قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره.

ليحصل مقصوده في هذه المسألة التي تصدّينا لها.

ومتى لم تحصل هذه الأُمور الثلاثة لا يحصل مقصوده ، وليس إلى حصولها سبيل.

ونحن قد نقلنا أنّ زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلزم بالنذر ، وعلى مقتضاه يلزم السفر إليها أيضاً بالنذر ؛ على الضدّ ممّا قال.

وأمّا قوله : «إنّ الصحابة لمّا فتحوا الشام ، لم يكونوا يسافرون إلى زيارة قبر الخليل وغيره من قبور الأنبياء التي بالشام».

فلعلّه لأنّه لم يثبت عندهم موضعها ، فإنّه ليس لنا قبر مقطوع به إلّا قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا قوله : «ولا زار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً من ذلك ليلة اسري به».

فلعلّه لاشتغاله بما هو أهمّ.

وقد تحقّقنا زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم القبور بالمدينة وغيرها في غير تلك الليلة ، فليس ترك زيارته في تلك الليلة دليلاً على أنّ الزيارة ليست بسنّة ، فالتشاغل بالاستدلال بذلك تشاغل بما لا يجدي.

وأمّا قوله : «إنّ الحديث الذي فيه : «هذا قبر أبيك إبراهيم فانزل فصلّ فيه ، وهذا بيت لحم مولد أخيك عيسى انزل فصلّ فيه» كذب لا حقيقة له.

فصدق فيما قال.

وهذا الحديث يرويه بكر بن زياد الباهليّ ، قال ابن حبّان : شيخ دجّال يضع الحديث على الثقات ، لا يحلّ ذكره في الكتب إلّا على سبيل القدح فيه.

وذكر ابن حبّان من طريقه الحديث المذكور ، وفيه : «ثمّ أتى بي إلى الصخرة فقال : يا محمّد ، من هاهنا عرج ربّك إلى السماء ...» وذكر كلاماً طويلاً كره ابن حبّان ذكره.

قال ابن حبان : وهذا شيء لا يشكّ عوام أصحاب الحديث أنّه موضوع ،

فكيف البُزل في هذا الشأن؟! هذا كلام ابن حبّان (١).

وقد ذكر هذا الحديث أبو القاسم المكّي بن عبد السلام بن الحسين بن القاسم المقدسيّ الرمَيْليّ في «كتاب صنّفه في فضائل زيارة قبر إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام».

والرُمَيْليّ هذا بضمّ الراء ، وفتح الميم ، وسكون الياء ، نسبة إلى الرّمَيْلة من الأرض المقدّسة.

وذكره أبو سعد عبد الكريم بن محمد بن منصور ابن السمعانيّ في كتاب «الأنساب» (٢) فقال : كان حافظاً مكثراً ، رحل إلى مصر ، والشام ، والعراق ، والبصرة ، قال ابن ناصر : وصنّف كتاباً في تأريخ بيت المقدس ، وسمع من الخطيب بالشام وبغداد ، وكان فاضلاً صالحاً ثبتاً ، وعاد إلى بيت المقدس ، وأقام بها يدرّس الفقه على مذهب الشافعيّ ، ويروي الحديث ، إلى أن غلبت الفرنج على بيت المقدس ، ثمّ قتل شهيداً.

قال ابن السمعانيّ : روى عن مكّي بن عبد السلام : محمّد بن علي الاسفرايينيّ ، وأبو سعيد عمّار التاجر ، ولم يحدّث عنه سواهما.

وقال ابن النجّار (٣) : عزم على أن يعمل تأريخاً لبيت المقدس ، فحالت دونه منيّته ، قتلته الفرنج بالحجارة في اليوم الثاني عشر من شوّال سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة.

وذكر أبو القاسم عمر بن أبي جرادة في «تأريخ حلب» (٤) : أنّه ولد في المحرّم يوم

__________________

(١) كتاب المجروحين لابن حبان.

(٢) الأنساب للسمعاني (الرميلي) ظهر ص ٢٥٩. من طبعة مرجليوث.

(٣) ذيل تاريخ بغداد لابن النجار.

(٤) تاريخ حلب لابن أبي جرادة.

عاشوراء سنة اثنتين وثلاثين وأربعمائة بِبَيت المقدس.

قلت : وذكر في هذا التصنيف آثاراً في زيارة قبر إبراهيم الخليل ، منها الحديث المذكور ، قال : أنا الشيخ الصالح الثقة أبو محمّد عبد العزيز بن أحمد بن عمر بن إبراهيم المقدسيّ قراءة عليه رحمة الله ، أنا محمّد بن أحمد أبو بكر بن محمّد الواسطيّ الخطيب قراءة عليه ، حدثنا أبو القاسم عيسى بن عبيد الله بن عبد العزيز الموصليّ المعروف ب «المصاحقيّ» (١) حدثنا أبو الحسن عليّ بن جعفر بن محمّد الرازي وكيل المسجد الأقصى ، حدثنا العباس بن أحمد بن عبد الله وأنا سألته ، حدثنا عبد الله بن أبي عمرة المقدسيّ ، حدثنا بكر بن زياد الباهليّ ، عن عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن زرارة بن أبي أوفى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اسري بي إلى بيت المقدس ، مرّ بي جبرئيل إلى قبر إبراهيم عليهما الصلاة والسلام فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين ؛ فإنّ هنا قبر أبيك إبراهيم عليه‌السلام ، ثمّ مرّ بي إلى بيت لحم فقال : انزل صلّ هاهنا ركعتين ؛ فإنّ هاهنا ولد أخوك عيسى عليه‌السلام ثمّ أتى بي إلى الصخرة ...» قال : وذكر الحديث.

ورواه ابن حبّان ، عن محمّد بن أحمد بن إبراهيم ، حدثنا عبد الله بن سليمان بن أبي عمرة ، حدثنا بكر بن زياد.

وإنّما تكلّمنا على هذا الحديث للتنبيه على الفائدة فيه ، وليس بنا ضرورة إلى إثباته أو نفيه في تحقيق المقصود ، لما سبق أنّ عدم الزيارة في وقت خاصّ لا يدلّ على عدم الاستحباب.

وقوله : «إنّ الصحابة لم يكونوا يزورون شيئاً من هذه البقاع والآثار».

فكلامنا إنّما هو في زيارة ساكن البقعة ، لا في زيارة البقعة ، وقد تقدّم التنبيه

__________________

(١) في (ه) : المصاحفيّ.

على الفرق بينهما.

ثمّ إنّ هذه شهادة على نفي ، يصعب إثباتها ؛ وإن كنّا مستغنين عن منعها أو تسليمها.

وقوله : «حتّى أنّ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

هذا هو المقصود في هذه المسألة.

وقوله : «لم يثبت عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفظ بزيارة».

قد تقدّم إبطال هذه الدعوى ؛ وتحقيق ثبوت الحديث فيها.

وقوله : «ولهذا لم يكن على عهد الصحابة والتابعين مشهد يُزار على قبر نبيّ ، ولا غير نبيّ ، فضلاً عن أن يسافر إليه ...» إلى آخر كلامه.

إن أراد ما يسمّى «مشهداً» فموضع قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يسمّى «مشهداً» وكلامنا إنّما هو فيه ، وإن أراد أنه لم يكن في ذلك الزمان زيارة لقبر نبيّ من الأنبياء ، فهذا باطل لما قدّمناه.

وبقيّة كلامه ؛ وتقسيمه الزيارة إلى : شرعيّة ، وبدعيّة ، سبق الكلام عنه.

وفيه اعتراف بمطلق الزيارة ، ويلزمه الاعتراف بالسفر إليها ، ولا يمنع من ذلك كون نوع منها ، يقترن به من بعض الجهّال ما هو منهيّ عنه.

فمن ادعى الزيارة من غير انضمام شيء آخر إليها بدعة ، فقد كذب وجهل.

ومن حرّمها فقد حرّم ما أحلّه الله تعالى.

ومن أطلق التحريم عليها ـ لأنّ بعض أنواعها محرّم ، أو يقترن به محرّم ـ فهو جاهل.

وهكذا من امتنع من إطلاق الاستحباب على الزيارة من حيث هي ـ لوقوع بعض أنواعها من بعض الناس على وجه التحريم ـ فهو جاهل أيضاً ، فإنّ الصلاة قد تقع على وجه النهي عنه ، كالصلاة في الدار المغصوبة ، وما أشبه ذلك ، ولا يمنع

ذلك من إطلاق القول : بأنّ الصلاة قربة أو واجبة.

فهكذا أيضاً الزيارة من حيث هي قربة ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور» وإن كان بعض أنواعها يقع على وجه منهيّ عنه ، فيكون ذلك الوجه منها منهيّاً عنه وحده ، والحكم بالابتداع على هذا النوع لا يضرّنا ، ونحن نسلّمه ، ونمنع من يفعله ، والحكم بالابتداع على المطلق عين الابتداع.

[القبور والشرك]

وأمّا الشبهة الثالثة : وهي أنّ من الشرك بالله تعالى اتخاذ القبور مساجد ، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى : (قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً).

قالوا : كان هؤلاء قوماً صالحين في [عهد] نوح ، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثمّ صوّروا على صورهم تماثيل ، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

وتخيّل ابن تيمية : أنّ منع الزيارة والسفر إليها من باب المحافظة على التوحيد ، وأنّ فعلها ممّا يؤدّي إلى الشرك.

وهذا تخيّل باطل ؛ لأنّ اتخاذ القبور مساجد ، والكعوفَ عليها ، وتصويرَ الصور فيها ، هو المؤدّي إلى الشرك ، وهو الممنوع منه ، كما ورد في الأحاديث الصحيحة ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (١) يحذّر ممّا صنعوا.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا أخبر بكنيسة بأرض الحبشة : «أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجداً ، ثمّ صوّروا فيه تلك الصورة ، أولئك شرار الخلق

__________________

(١) صحيح البخاري (١ / ١١٠ و ١١٢ و ١١٣) و (٢ / ٩١ و ١٠٦) و (٤ / ١٤٤) و (٥ / ١٣٩ و ١٤٠) و (٧ / ٤١) وصحيح مسلم (٢ / ٦٧).

عند الله» (١).

وأمّا الزيارة والدعاء والسلام ، فلا يؤدّي إلى ذلك ، ولهذا شرعه الله تعالى على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ثبت من الأحاديث المتقدّمة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قولاً وفعلاً ، وتواتر ذلك ، وإجماع الأُمّة عليه.

فلو كانت زيارة القبور من التعظيم المؤدّي إلى الشرك ـ كالتصوير ونحوه ـ لم يشرّعها الله تعالى في حقّ أحد من الصالحين ، ولا فعلها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة في حقّ شهداء احد والبقيع وغيرهم.

وليس لنا أن نحرّم إلّا ما حرّمه الله وإن تخيّلنا : أنّه يفضي إلى محذور ، ولا نبيح إلّا ما أباحه الله وإن تخيّلنا : أنّه لا يفضي إلى محذور.

ولمّا أباح الزيارة وشرعها ، وسنّها رسوله ، وحظر اتخاذ القبور مساجد ، وتصوير الصور عليها ، قلنا بإباحة الزيارة ومشروعيّتها ، وتحريم اتخاذ القبور مساجد والتصوير.

فمن قاس الزيارة على التصوير في التحريم ، كان مخالفاً للنصّ ، كما أنّ شخصاً لو قال بإباحة اتخاذ القبور مساجد إذا لم يفضِ إلى الشرك ، كان مخالفاً للنصّ أيضاً.

والوسائل التي لا يتحقّق بها المقصود ، ليس لنا أن نجري حكم المقصود عليها إلّا بنصّ من الشارع ؛ فإنّ هذا من باب سدّ الذرائع الذي لم يقم عليه دليل.

فالمفضي إلى الشرك حرام بلا إشكال ، وأمّا الأُمور التي قد تؤدّي إليه ، وقد لا تؤدّي ، فما حرّمه الشرع منها كان حراماً ، وما لم يحرّمه كان مباحاً ؛ لعدم استلزامه للمحذور.

وهذه الأُمور التي نحن فيها من هذا القبيل :

__________________

(١) لاحظ صحيح البخاري (١ / ١١١ و ١١٢) و (٤ / ٢٤٥) وصحيح مسلم (٢ / ٦٦).

حرّم الشرع منها اتخاذ القبور مساجد ، والتصوير ، والعكوف على القبور.

وأباح الزيارة ، والسلام ، والدعاء.

وكلّ عاقل يعلم الفرق بينهما ، ويتحقّق أنّ النوع الثاني إذا فعل مع المحافظة على آداب الشريعة ، لا يؤدّي إلى محذور ، وأنّ القائل بمنع ذلك جملة ـ سدّاً للذريعة ـ متقوّل على الله ، وعلى رسوله ، منتقص ما ثبت لذلك المزور من حقّ الزيارة.

واعلم : أنّ هاهنا أمرين لا بدّ منهما :

أحدهما : وجوب تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورفع رتبته عن سائر الخلق.

والثاني : إفراد الربوبيّة ؛ واعتقاد أنّ الربّ تبارك وتعالى منفرد بذاته وصفاته وأفعاله عن جميع خلقه.

فمن اعتقد في أحد من الخلق مشاركة الباري تعالى في ذلك ، فقد أشرك وجنى على جانب الربوبيّة فيما يجب لها ، وعلى الرسول فيما أدّى إلى الأُمّة من حقّها.

ومن قصّر بالرسول عن شيء من رتبته ، فقد جنى عليه فيما يجب له ، وعلى الله تعالى بمخالفته فيما أوجب لرسوله.

ومن بالغ في تعظيم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنواع التعظيم ، ولم يبلغ به ما يختصّ بالباري تعالى ، فقد أصاب الحقّ ، وحافظ على جانب الربوبيّة والرسالة جميعاً ، وذلك هو العدل الذي لا إفراط فيه ولا تفريط.

ومن المعلوم : أنّ الزيارة بقصد التبرّك والتعظيم ، لا تنتهي في التعظيم إلى درجة الربوبيّة ، ولا تزيد على ما نصّ عليه في القرآن والسنّة ، وفعل الصحابة من تعظيمه في حياته وبعد وفاته ، وكيف يتخيّل امتناعها؟!

إنا لله وإنّا إليه راجعون.

وهذا الرجل قد تخيّل : أنّ الناس بزيارتهم متعرّضون للإشراك بالله تعالى ،

وبنى كلامه كلّه على ذلك ، وكلّ دليل ورد عليه يصرفه إلى غير هذا الوجه ، وكلّ شبهة عرضت له يستعين بها على ذلك.

فهذا داء لا دواء له إلّا بأن يلهمه الله الحقّ.

أيرى هو لمّا زار : قصد ذلك ، وأشرك مع الله غيره؟!

الفصل الثاني :

في تتبّع كلماته

وقد سبق تتبّع ما نقلته من خطّه في فتيا لم يسأل فيها عن الزيارة قصداً ، بل جاء ذكرها تبعاً للكلام في المشاهد.

والذي اتصل عنه بالدولة نسخة فتيا نقلت من خطّه ، وعلى رأسها بخطّ قاضي القضاة جمال الدين ما صورته :

قابلت الجواب عن هذا السؤال المكتوب دونه ، في هذه الورقة ، على خطّ تقيّ الدين ابن تيمية ، فصحّ ، سوى ما علّم عليه بالأحمر ، فإنّ مواضعه من الورقة التي بخطّه وجدتها واهية ، وليس ذلك بمحزّ ، إنّما المحزّ جعله زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور سائر الأنبياء عليه‌السلام معصية بالإجماع ، مقطوعاً بها.

وكتب محمّد بن عبد الرحمن القزوينيّ الشافعيّ.

وقد علّم عليها الآن بالأسود في هذه النسخة (١) :

بسم الله الرحمن الرحيم

ما يقول السادة العلماء أئمّة الدين ـ نفع الله بهم المسلمين ـ في رجل نوى زيارة (قبر نبيّ من الأنبياء) (٢) مثل نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره ، فهل يجوز له في سفره أن يقصر الصلاة؟ وهل هذه الزيارة شرعيّة أم لا؟

وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني» و «من زارني بعد موتي كمن زارني في حياتي».

وقد روي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تشدّ الرحال إلّا [إلى ثلاثة مساجد] المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى (٣) ، ومسجدي هذا».

أفتونا مأجورين.

[صورة فتوى ابن تيميّة التي استنكرها علماء الملّة الإسلاميّة]

صورة ما وجد بخطّ تقي الدين بن تيمية رحمه‌الله مكتوباً تحت هذا السؤال ، جواباً عنه :

الحمد لله [ربّ العالمين].

أمّا من سافر لمجرّد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين :

__________________

(١) أورد هذه الفتوى ابن عبد الهادي في (العقود الدرية) ص (٣٣٢ ـ ٣٤٠) ونقلها في مجموع فتاوى ابن تيمية (٢٧ / ١٨٢) وقد قابلنا المطبوع في كتابنا بما فيهما ، ووضعنا ما أُضيف بين المعقوفين.

(٢) في المجموع : (قبور الأنبياء والصالحين).

(٣) فيه تأخير (والمسجد الأقصى).

أحدهما : ـ وهو قول متقدّمي العلماء الذين لا يجوّزون القصر في سفر المعصية ، كأبي عبد الله بن بطة ، وأبي الوفاء بن عقيل ، وطوائف كثيرة من العلماء المتقدّمين ـ أنّه لا يجوز القصر في مثل هذا السفر ؛ لأنّه سفر منهيّ عنه.

ومذهب مالك والشافعيّ وأحمد : أنّ السفر المنهيّ عنه في الشريعة لا يقصر فيه.

والقول الثاني : أنّه يقصر فيه ، وهذا قول من يجوّز القصر في السفر المحرّم ، كأبي حنيفة رحمه‌الله ، ويقوله بعض المتأخّرين من أصحاب الشافعيّ وأحمد ممّن يجوّز السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين ، كأبي حامد الغزاليّ ، وأبي الحسين بن عبدوس الحرّاني ، وأبي محمّد بن قدامة المقدسيّ ، وهؤلاء يقولون : إنّ هذا السفر ليس بمحرّم ؛ لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «زوروا القبور».

وقد يحتجّ بعض من لا يعرف الأحاديث بالأحاديث المروية في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كقوله : «من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي» رواه الدارقطنيّ وابن ماجة (١).

وأمّا ما يذكره بعض الناس من قوله : «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني» فهذا لم يروه أحد من العلماء ، وهو مثل قوله : «من زارني وزار أبي إبراهيم في عام واحد ، ضمنت له على الله الجنة» فإن هذا أيضاً باطل باتفاق العلماء لم يروه أحد ، ولم يحتجّ

__________________

(١) سنن الدارقطني

وهكذا نقله ابن تيميّة عن ابن ماجة ، وسيأتي (ص ٢٧٢) ردّ المصنّف عليه أنّه ليس في سنن ابن ماجة ، وهو كذلك ، ولكن المحقّق السلفيّ (الأمين!) للعقود الدرية حذف كلمة (وابن ماجة) فلاحظ (ص ٣٣٣)!! والغريب ان ابن عمّه جامع (مجموع فتاوى ابن تيميّة) أثبته فيه (٢٧ / ١٨٥) فلاحظ الجمع بين الخيانة والغباء.

وقد مرّ نقله عن العقيلي في الضعفاء في الحديث (١٣) من الباب الأول ، فراجع.

به واحد (١) ، وإنّما يحتجّ بعضهم بحديث الدارقطنيّ (٢).

وقد احتجّ أبو محمّد المقدسيّ على جواز السفر لزيارة (قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقبور الأنبياء : بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣) كان يزور مسجد قباء ، وأجاب عن حديث : «لا تشدّ الرحال» بأنّ ذلك محمول على نفي الاستحباب.

وأمّا الأوّلون فإنّهم يحتجّون بما في «الصحيحين» عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تشدّ الرحال إلّا إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، والمسجد الأقصى ، ومسجدي هذا».

وهذا الحديث ممّا اتفق الأئمة على صحّته والعمل به.

فلو نذر الرجل أن يصلّي في مسجد أو مشهد ، أو يعتكف فيه ، أو يسافر إليه (٤) غير هذه الثلاثة ، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمّة.

ولو نذر أن [يُسافر و] يأتي المسجد الحرام بحجّ أو عمرة ، وجب عليه ذلك باتفاق العلماء.

ولو نذر أن يأتي مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو المسجد الأقصى لصلاة أو اعتكاف ، وجب عليه الوفاء بهذا النذر عند مالك والشافعيّ [في أحد قوليه] وأحمد ، ولم يجب عند أبي حنيفة ؛ لأنّه لا يجب عنده بالنذر إلّا ما كان (من) جنسه واجباً بالشرع.

وأمّا الجمهور فيوجبون الوفاء بكلّ طاعة ؛ لما ثبت في «صحيح البخاريّ» (٥) عن عائشة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن

__________________

(١) في المجموع والعقود : أحد ، بدل (واحد).

(٢) أضاف في المجموع والعقود هنا : ونحوه.

(٣) في المجموع والعقود : (القبور بأنه) بدل ما بين القوسين.

(٤) حرف في العقود هذه الفقرة إلى هنا ، فلاحظ.

(٥) صحيح البخاري (٨ / ٥٤٠) ح ١٥٤٥ كتاب الايمان والنذور باب (٨٦٧) النذر في الطاعة.

يعصي الله فلا يعصه» والسفر إلى المسجدين طاعة ، فلهذا وجب الوفاء به.

وأمّا السفر إلى بقعة غير المساجد الثلاثة ، فلم يوجب أحد من العلماء السفر إليه إذا نذره ؛ حتّى نصّ العلماء على أنّه لا يسافر إلى مسجد قباء ؛ لأنّه ليس من [المساجد] الثلاثة ، مع أنّ مسجد قباء يستحبّ زيارته لمن كان في المدينة ؛ لأنّ ذلك ليس بشدّ رحل ، كما في الحديث الصحيح : «من تطهّر في بيته ، ثمّ أتى مسجد قباء لا يريد إلّا الصلاة فيه ، كان كعمرة».

قالوا : ولأنّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين بدعة ؛ لم يفعلها أحد من الصحابة والتابعين ، ولا أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا استحبّ ذلك أحد من أئمّة المسلمين ، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها (١) فهو مخالف للسنّة ، ولإجماع الأُمّة.

وهذا ممّا ذكره أبو عبد الله بن بطة في «إبانته الصغرى» من البدع المخالفة للسنّة والإجماع.

وبهذا يظهر ضعف (٢) حجّة أبي محمّد [المقدسيّ] ، فإنّ زيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمسجد قباء لم تكن بشدّ رحل ، وهو يدلّهم (٣) أنّ السفر إليه لا يجب بالنذر.

وقوله : إنّ قوله : «لا تشدّ الرحال» محمول على نفي الاستحباب ، يحتمل (٤) وجهين :

أحدهما : أنّ هذا تسليم منه أنّ هذا السفر ليس بعمل صالح ، ولا قربة ، ولا طاعة ، ولا هو من الحسنات ، فإذن من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنّها قربة وعبادة وطاعة ، فقد خالف الإجماع ، وإذا سافر لاعتقاده أنّها

__________________

(١) في المجموع والعقود (وفعله).

(٢) في العقود والمجموع : (بطلان) بدل : ضعف.

(٣) في المجموع (يسلّم لهم) بدل : يدلهم ، ولم يرد في العقود ؛ وفيه : بشدّ رحل ، ولأن السفر.

(٤) في العقود والمجموع : يجاب عنه ، بدل : يحتمل.

طاعة كان ذلك محرّماً بإجماع المسلمين ، فصار التحريم (من الأمر المقطوع به) (١) ، ومعلوم أنّ أحداً لا يسافر إليها إلّا لذلك.

وأمّا إذا قدّر (٢) أنّ الرجل يسافر إليها لغرض مباح ، فهذا جائز ، وليس من هذا الباب.

الوجه الثاني : أنّ (النفي يقتضي النهي) (٣) ، والنهي يقتضي التحريم.

وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث ، بل هي موضوعة! لم يروِ أحد من أهل السنن المعتمدة شيئاً منها! ولم يحتجّ أحد من الأئمّة بشيء منها!! (٤)

بل مالك ـ إمام أهل المدينة النبويّة ، الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة ـ كره أن يقول : «زرت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ولو كان هذا اللفظ هو معروفاً عندهم ، أو مشروعاً ، أو مأثوراً عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكرهه عالم [أهل] المدينة!!

والإمام أحمد ـ أعلم الناس في زمانه بالسنّة ـ لمّا سئل عن ذلك لم يكن عنده ما يعتمد عليه ، [في ذلك من الأحاديث] إلّا حديث أبي هريرة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال :

__________________

(١) في العقود والمجموع بدل ما بين القوسين : من جهة اتخاذه قربة.

(٢) في العقود والمجموع : (نذر الرجل أن يسافر) بدل : (قدّر أن الرجل يسافر).

(٣) في العقود والمجموع : بدل ما بين القوسين : «أن هذا الحديث يقتضي النهي». والأصوب ما في كتابنا ، لأنّ المذكور في الحديث هو النفي ، فلاحظ.

(٤) لاحظ ما علقناه في صدر الحديث الأول من الباب الأول من كتابنا هذا (ص ٦٠) وقال العلّامة ممدوح : شاع بين كثير من الناس (!) أن أحاديث الزيارة كلّها ضعيفة ، بل موضوعة!!

وهو خطأ بلا ريب ، ومصادم لقواعد الحديث بلا مين ، ويكفي اللبيب قول الذهبي الحافظ الناقد عن حديث الزيارة : طرقُه كلّها ليّنةٌ ، لكن يتقوّى بعضها ببعض لأنّ ما في روايتها متّهم بالكذب! نقله عنه السخاوي ، وأَقَرَّهُ ، في المقاصد الحسنة (ص ٤١٣) لاحظ (رفع المنارة ص ٩).

«ما من رجل يسلّم عليّ إلّا ردّ الله عليّ روحي حتّى أردّ عليه‌السلام» وعلى هذا اعتمد أبو داود في سننه (١).

وكذلك مالك في «الموطأ» (٢) روى عن عبد الله بن عمر : أنّه كان إذا دخل المسجد قال : السلام عليك يا رسول الله ، السلام عليك يا أبا بكر ، السلام عليك يا أبت ، ثمّ ينصرف.

وفي «سنن أبي داود» : عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «لا تتّخذوا قبري عيداً ، وصلّوا عليّ ، فإنّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم» (٣).

وفي «سنن سعيد بن منصور» (٤) : أنّ عبد الله بن حسن بن حسن بن عليّ بن أبي طالب ، رأى رجلاً يختلف إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [و] يدعو عنده ، فقال : يا هذا ، إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا تتّخذوا قبري عيداً ، وصلّوا عليّ حيث ما كنتم ؛ فإنّ صلاتكم تبلغني» فما أنت ورجل بالأندلس إلّا سواء.

وفي «الصحيحين» : عن [عائشة ، عن] النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في مرض موته : «لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد» (٥) يحذّر ما فعلوا.

قالت عائشة : ولو لا ذلك لُابرز قبره ، ولكن كره أن يتّخذ مسجداً.

فهم دفنوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء ؛ لئلّا يصلّي أحد عند قبره ، ويتّخذه مسجداً ، فيتّخذ قبره وثناً.

__________________

(١) سنن أبي داود (٢ / ٢١٨) كتاب المناسك ، باب زيارة القبور ح ٢٠٤٢ من حديث أبي هريرة. ولاحظ ما ذكره أحمد.

(٢) الموطأ لمالك ، لم نجده في الموطأ المطبوع!

(٣) سنن أبي داود (الموضع الأسبق).

(٤) سنن سعيد بن منصور.

(٥) صحيح البخاري (١ / ٢٥٠) باب (٢٩٦) حلّ نبش قبور مشركي الجاهلية ح ٤١٧.

وكان الصحابة والتابعون ـ لمّا كانت الحجرة النبويّة منفصلة عن المسجد إلى زمان الوليد بن عبد الملك ـ لا يدخل أحد (إلى عنده) (١) لا لصلاة هنالك ، ولا لمسح بالقبر ، ولا دعاء هناك ، بل هذا جميعه إنّما يفعلونه في المسجد.

وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء ، دعوا مستقبلي القبلة ، ولم يستقبلوا القبر.

وأمّا وقت (٢) السلام عليه ، فقال أبو حنيفة رحمه‌الله : يستقبل القبلة أيضاً ، ولا يستقبل القبر.

وقال أكثر الأئمّة : (بل يستقبل القبر عند السلام خاصّة ،

ولم يقل أحد من الأئمّة : إنّه يستقبل القبر) (٣) عند الدعاء ، إلّا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ، ومذهبه بخلافها.

واتفق الأئمّة على أنّه لا يتمسّح بقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يقبّله.

وهذا كلّه محافظة على التوحيد ؛ فإنّ من اصول الشرك بالله اتخاذ القبور مساجد ، كما قال طائفة من السلف في قوله تعالى : (وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً).

قالوا : هؤلاء كانوا قوماً صالحين في قوم نوح ، فلمّا ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثمّ صوّروا على صورهم تماثيل ، ثمّ طال عليهم الأمد فعبدوها.

وقد ذكر هذا المعنى البخاريّ في صحيحه (٤) عن ابن عبّاس ، وذكره ابن جرير

__________________

(١) في العقود والمجموع : (إليه) بدل ما بين القوسين.

(٢) في العقود والمجموع (الوقوف للسلام) بدل : وقت السلام.

(٣) في العقود بدل ما بين القوسين (يستقبل القبر عند الدعاء) فلاحظ.

(٤) صحيح البخاري (٢ / ٩٣) باب بناء المساجد على القبر.

الطبريّ (١) وغيره في التفسير عن غير واحد من السلف ، وذكره وثيمة وغيره في «قصص الأنبياء» من عدّة طرق ، وقد بسط الكلام على اصول هذه المسائل في غير هذا [الموضع] (٢).

[وأوّل مَنْ وضع الأحاديث في السفر لزيارة المشاهد التي على القبور هم أهل البدع من الرافضة ونحوهم ، الذين يُعطّلون المساجد ، ويعظّمون المشاهد ، يدعون بيوت الله التي أَمَر أن يُذكر فيها اسمه ويُعبد وحده لا شريك له ، ويعظّمون المشاهد التي يُشرك فيها ويُكذب فيها ويُبتدع فيها ما (٣) لم ينزّل الله به سُلطاناً].

والكتاب والسنة إنّما فيهما ذكر المساجد دون المشاهد ، كما قال الله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ.)

وقال الله تعالى : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ ...) الآية.

وقال الله تعالى : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً).

وقال الله تعالى : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ).

وقال الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها ...) الآية.

وقد ثبت عنه في الصحيح أنّه كان يقول : «إنّ من كان قبلكم كانوا يتّخذون القبور مساجد ، ألا فلا تتّخذوا القبور مساجد ، فإنّي أنهاكم عن ذلك».

__________________

(١) تفسير الطبري

الدر المنثور للسيوطي (٦ / ٢٦٩) عن ابن جرير الطبري في تفسير قوله تعالى (وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً ...).

(٢) علّق في العقود الدرية : في قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة ، وفي الرد على الأخنائي والبكري وفي اقتضاء الصراط المستقيم ، وفي منهاج السنة ، وغير ذلك كثير.

(٣) في العقود والمجموع : «دينٌ»! بدل (ما).

والله سبحانه أعلم ، كتبه أحمد بن تيمية.

هذا صورة خطّة من أوّل الجواب إلى هنا (١).

[الردّ على فتوى ابن تيميّة]

قلت : أمّا قوله : «من سافر بمجرّد زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، فهل يجوز له قصر الصلاة؟ على قولين معروفين».

فيرد عليه فيه أسئلة :

أحدها : أنّ زيارة قبور الأنبياء والصالحين إمّا أن تكون عنده قربة ، أو مباحة ، أو معصية.

فإن كانت معصية فلا حاجة إلى قوله : «مجرّد» فإنّ القولين في سفر المعصية سواء تجرّد قصد المعصية ، أم انضمّ إليه قصد آخر.

وإن كانت قربة لم يجر فيها القولان ، بل يقصر بلا خلاف.

وإن كانت مباحة ، فالمسافر لذلك له حالتان :

إحداهما : أن يسافر معتقداً أنّ ذلك من المباحات المستوية الطرفين ، فيجوز القصر أيضاً بلا خلاف ، ولا إشكال في ذلك ، كالسفر لسائر الأُمور المباحة.

والثانية : أن يسافر معتقداً أنّ ذلك قربة وطاعة ، وهذا سيأتي الكلام فيه.

وعلى تقدير أن يسلّم له ما يقول ، يكون كلامه هنا مطلقاً في موضع التفصيل ، فهو على التقديرين الأوّلين خطأ صريح ، وعلى التقدير الثالث خطأ بالإطلاق في موضع التفصيل.

السؤال الثاني : أنّه بنى كلامه في ذلك على أنّ هذا السفر مختلف في تحريمه ،

__________________

(١) قابلناه على النسخة المطبوعة في مجموع فتاوى ابن تيميّة (٢٧ / ص ١٨٤ ـ ١٩٢) وأثبتنا الفوارق هنا باسم (المجموع).

فقد قدّمنا إنكار هذا الخلاف ، وأنّه لم يتحقّق صحّته إلّا ما وقع في كلام ابن عقيل ، وقد قدّمنا الكلام عليه.

وعلى تقدير صحّته وعدم تأويله ، لم يتعرّض فيه لقبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يجوز أن ينقل عنه فيه بخصوصه شيء ، من إطباق الناس على السفر إليه.

وابن تيمية رحمه‌الله نقل المنع من القصر فيه عن ابن بطة ، وابن عقيل ، وطوائف كثيرين من العلماء المتقدّمين.

وهو مطلوب بتحقيق هذا النقل؟ وتبيين هؤلاء الطوائف الكثيرين من المتقدّمين؟

السؤال الثالث : أنّه جعل المنع من القصر قول متقدّمي العلماء ، كابن بطة ، وابن عقيل ، فجعل ابن عقيل من المتقدّمين.

ثمّ جعل القول بجواز القصر قول أبي حنيفة رحمه‌الله وبعض المتأخّرين من أصحاب الشافعيّ وأحمد ، كالغزاليّ وغيره.

والغزالي في طبقة ابن عقيل ، بل تأخّرت وفاته عنه ، فإنّ وفاة الغزاليّ في سنة خمس وخمسمائة ، ووفاة ابن عقيل في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، فكيف يجعل ابن عقيل من المتقدّمين ، والغزالي من المتأخّرين؟!

وليس ابن تيمية رحمه‌الله ممّن يخفى عنه طبقتهما ، فإن كان مراده بجعله ابن عقيل من المتقدّمين أن [يقوّيَ] قوله عند العوام لاختياره إيّاه ، وبجعله الغزاليّ من المتأخّرين أن يضعّف قوله عند العوامّ ، فليس ذلك صنيع أهل العلم!

وقوله : إن «من زارني بعد مماتي فكأنّما زارني في حياتي» رواه ابن ماجة ، ليس كذلك ؛ لم أره في «سنن ابن ماجة» (١).

__________________

(١) لم يخرجه ابن ماجة. وقد مرّ أنّ هذا من جهل ابن تيميّة بالحديث وهذا من موارد جهل ابن

قوله : «من حجّ ولم يزرني فقد جفاني» لم يروه أحد من العلماء!

ليس بصحيح ، وقد قدّمنا (١) من رواه وإن كان ضعيفاً.

قوله : «لو نذر الرجل أن يصلّي في مسجد أو مشهد ، أو يعتكف فيه ، أو يسافر إليه غير هذه الثلاثة ، لم يجب عليه ذلك باتفاق الأئمّة».

ليس بصحيح ، فإنّ في مذهب الشافعيّ وجهين مشهورين فيما إذا نذر الاعتكاف في مسجد معيّن غير المساجد الثلاثة ، هل يتعيّن كما تتعيّن المساجد الثلاثة ، أو لا؟

قوله : «حتّى نصّ العلماء على أنّه لا يسافر إلى مسجد قباء ؛ لأنّه ليس من الثلاثة».

ليس كذلك عن العلماء كلّهم ، فإنّ المنقول عن الليث بن سعد : أنّه متى نذر مسجداً لزمه من المساجد الثلاثة وغيرها.

والمنقول عن بعض المالكيّة : أنّه يجوز إعمال المطيّ لغير الناذر مطلقاً ، وحمل على ذلك إتيان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسجد قباء ، فإنّه كان بغير نذر.

فهذان المذهبان يردّان قوله : «إنّ العلماء نصّوا على أنّه لا يسافر إلى مسجد قباء».

قوله : «قالوا : ولأنّ السفر إلى زيارة قبور الأنبياء والصالحين ، بدعة لم يفعلها أحد من الصحابة ، ولا التابعين ، ولا أمر بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا استحبّ ذلك أحد من أئمّة المسلمين ، فمن اعتقد ذلك عبادة وفعلها فهو مخالف للسنّة ، ولإجماع الأُمّة».

__________________

تيميّة بتخريج الحديث ومصادره ، ونسبته لما يشتهي إلى المحدّثين الكبار ترويجاً لرأيه ، لاحظ (ص ٢٦٣) وقد مرّ الحديث في الباب الأوّل برقم (١٣) عن الضعفاء للعقيلي.

(١) تقدّم في الباب الأوّل ، الحديث الخامس (٩٨).

هذا من البهت الصريح ، وقد قدّمنا من فعل ذلك من الصحابة والتابعين ، ومن استحبّه من علماء المسلمين وأئمّتهم ، فجحد ذلك مباهتة.

ثمّ قوله : «قالوا»

وجعله ذلك على لسان غيره ، إن كان مراده به أن يخلص من تبعته عند المخالفة ، فليس ذلك من دأب العلماء.

ثمّ هو مطلوب بنقل هذا القول برمّته عن المتقدّمين الذين نسبه إليهم ، أو عن بعضهم!

ثمّ نسبة ذلك إلى غيره لا تخلّصه ؛ لأنّه إنّما حكاه حكاية من يرتضيه وينتصر له ، ويفتي به العوامّ ، ويغريهم على اعتقاده ، ولا يفرّق العاميّ الذي يسمع هذه الفتيا بين أن يذكره عن نفسه ، أو حاكياً عن غيره.

وقوله : «وهذا ممّا ذكره أبو عبد الله بن بطة في «إبانته الصغرى».

قلنا : قد ذكرنا عن ابن بطة في الإبانة ما يخالف هذا في حقّ قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ورأيت من يذكر أنّ لابن بطة إبانتين ، وأنّ الذي نقله ابن تيمية رحمه‌الله من الصغرى ، والذي نقلناه من الكبرى ، فإن صحّ ذلك ، وصحّ ما نقله ابن بطة في الصغرى ، فيحمل على غير قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفيقاً بين الكلامين.

وإن قال ابن بطة خلاف ذلك ، لم يُلتفت إليه.

وقد ذكر الخطيب ابنَ بطة في «تأريخ بغداد» (١) وحكى كلام المحدّثين فيه من جهة دعوى سماع ما لم يسمع ، وقول أبي القاسم الأزهريّ فيه : إنّه ضعيف ، ضعيف ، ضعيف ، ليس بحجّة.

وذكر عنه ، عن البغويّ ، عن مصعب ، عن مالك ، عن الزهريّ ، عن أنس ،

__________________

(١) تاريخ بغداد للخطيب

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كلّ مسلم» وقال : إنّه باطل من حديث مالك ومن حديث مصعب عنه ، ومن حديث البغويّ عن مصعب ، وهو موضوع بهذا الإسناد ، والحمل فيه على ابن بطة ، هكذا قال في التاريخ.

وحكى مع ذلك أيضاً : أنّه كان شيخاً صالحاً مستجاب الدعوة ، فالله تعالى يسلّمنا من اثمِهِ.

وإنّما أردنا أن نبيّن حاله ليعلم الناظر : أنّه على تقدير صحّة النقل عنه ليس ممّن يبعد في كلامه الخطأ.

وقوله : «إنّ قول أبي محمّد المقدسيّ : إنّ قوله : «لا تشدّ الرحال» محمول على نفي الاستحباب ، يحتمل وجهين : أحدهما : أنّ هذا تسليم منه أنّ هذا السفر ليس بعمل صالح ، ولا قربة ، ولا طاعة ، ولا هو من الحسنات ، فإذن من اعتقد في السفر لزيارة قبور الأنبياء والصالحين أنّها قربة وعبادة وطاعة ، فقد خالف الإجماع.

واعلم : أنّ هذا الكلام في غاية الإيهام والفساد.

أمّا الإيهام ، فلأنّ بعض من يراه يتوهّم : أنّه استنتج ممّا سبق انعقاد الإجماع على أنّ ذلك ليس بقربة ، ونحن قد قدّمنا عن الليث بن سعد وبعض المالكيّة ما يقتضي ؛ أنّ السفر إلى غير المساجد الثلاثة قربة ، فبطل التعرّض لدعوى الإجماع ، وإنّما مقصود ابن تيمية رحمه‌الله إلزام أبي محمّد المقدّسي على قوله : إنّ «لا تشدّ الرحال» محمول على نفي الاستحباب.

وعلى تقدير أنّ هذا تسليم منه ، لأنّ هذا السفر ليس بعمل صالح ، فغاية ما يلزم من هذا أنّ هذا السفر ليس بقربة ، وأنّ من اعتقد أنّه قربة فقد خالف أبا محمّد.

وأين ذلك من مخالفة الإجماع؟!

وأمّا فساده ، فلأنّ أبا محمّد إنّما تكلّم في جواز القصر ، ومقصوده إثبات

الإباحة ، فإنّها كافية فيه ، فنفى توهّم التحريم بحمل الحديث على نفي الفضيلة ؛ أي لا يستحبّ شدّ الرحال إلى مكان إلّا إلى الثلاثة.

ومع هذا لا بدّ فيه من تأويل ؛ لأنّ السفر مستحبّ لطلب العلم وغيره إلى غيرها.

فالمقصود لا يستحبّ إليها من حيث هي ، وقد يكون هناك أمر آخر يقتضي الاستحباب أو الوجوب ، ولا مانع بكون قصد زيارة شخص مخصوص أو أشخاص ، ممّا يقتضي الاستحباب ، ولم يتعرّض أبو محمّد لذلك ؛ لأنّه لم يتكلّم فيه ، وإنّما تكلّم في جواز القصر ، فاقتصر على ما يكفي فيه ؛ وهو إثبات الإباحة.

وقوله : «وإذا سافر لاعتقاده أنّها طاعة ، كان ذلك محرّماً بإجماع المسلمين ، فصار التحريم من الأمر المقطوع به».

هذا أيضاً موهم وفاسد :

أمّا إيهامه ، فلأنّ كثيراً ممّن يسمعه يظنّ أنّ هذا كلام مبتدأ ، ادعي فيه انعقاد الإجماع على التحريم ، وأنّ ذلك مقطوع به ، وكأنّ ابن تيمية أراد ذلك ، وجعله معطوفاً على إلزام الشيخ أبي محمّد ، حتّى إذا حوقق فيه يتخلّص من دركه بجعله معطوفاً.

وليس هذا دأب من يبغي الإرشاد ، بل من يبغي الفساد.

وأمّا فساده ، فلأنّا لو سلّمنا أنّ السفر ليس بطاعة بالإجماع ، فسافر شخص معتقداً أنّه طاعة ، كيف يكون سفره محرّماً بإجماع المسلمين ، أو على قول عالم من علماء المسلمين؟!

فإنّ من فعل مباحاً معتقداً أنّه قربة لا يأثم ، ولا يوصف ذلك بكونه محرّماً ، بل إن كان اعتقاده ذلك لما ظنّه دليلاً ، وليس بدليل ، وقد بذل وسعه في ذلك ، كان مثاباً عليه بمقتضى ظنّه ، وإلّا كان جهلاً ، ولا إثم عليه فيه ، ولا أجر ، وفعله

موصوف بالإباحة على حاله.

فمن أين يأتي وصفه بالتحريم؟!

وإنّما يأتي هذا الكلام في المباح إذا فعله على وجه العبادة ، مع اعتقاده أنّه ليس بعبادة ، فهذا يأثم به ، ويكون حراماً ؛ لأنّه تقرّب إلى الله تعالى بما ليس بقربة عند الله تعالى ، ولا في ظنّه.

ومن هنا نشأ الغلط في هذه المسألة وهكذا سائر البدع.

ومن ابتدع عبادة فعليه إثم ابتداعه ؛ لأنّه أدخل في الدين ما ليس منه ، وإثم فعله ؛ لأنّه تقرّب بما يعتقد أنّه ليس من الدين.

وأمّا من قلّده من العوامّ :

فإن كان ذلك ممّا يسوغ فيه التقليد كالفروع ، وفعله معتقداً بأنّه عبادة شرعيّة ، فلا إثم عليه.

وإن كان ممّا لا يسوغ فيه التقليد ، كأُصول الدين ، فعليه الإثم.

ومسألتنا هذه من الفروع ، فلو فرضنا أنّه لم يقل أحد باستحباب السفر ، وفعله شخص على جهة الاستحباب ، معتقداً ذلك لشبهة عرضت له ، لم يحرم ، ولم يأثم.

فكيف ، وكلّ الناس قائلون باستحبابه؟!

وقوله : «ومعلوم أنّ أحداً لا يسافر إليها إلّا لذلك».

هذا يقتضي أنّ كلامه ليس في أمر مفروض ، بل في الواقع الذي عليه الناس ، وأنّ الناس كلّهم إنّما يسافرون لاعتقادهم أنّها طاعة ، والأمر كذلك.

ويقتضي على زعمه أنّ سفر جميعهم محرّم بإجماع المسلمين!

فإنّا لله ، وإنا إليه راجعون ، أيكون جميع المسلمين في سائر الأعصار ، من سائر أقطار الأرض ، مرتكبين لأمر محرّم ، مجمعين عليه؟!

فهذا الكلام من ابن تيمية رحمه‌الله يقتضي تضليل الناس كلّهم ، القاصدين لزيارة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعصيتهم.

وهذه عثرة لا تقال ، ومصيبة عظيمة ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم.

وقوله : «وأمّا إذا قدّر أنّ الرجل يسافر إليها لغرض مباح ، فهذا جائز ، وليس من هذا الباب».

مفهوم هذا الكلام أنّ غرض الزيارة ليس بمباح.

وقوله : «الوجه الثاني : أنّ النفي يقتضي النهي ، والنهي يقتضي التحريم».

ظاهر صدر كلامه أنّ كلام أبي محمّد يحتمل وجهين هذا ثانيهما ، وإنّما يتّجه هذا الوجه الثاني على سبيل الردّ لقول أبي محمّد ؛ يعني أنّ حمله على نفي الاستحباب خلاف الظاهر ؛ لأنّه نفي ، والنفي يقتضي النهي ، والنهي يقتضي التحريم.

وجواب هذا بالدليل المانع من حمله على التحريم ، وتعيّن المصير إلى المجاز.

على أنّ هذه العبارة فاسدة ؛ لأنّ النفي لا يقتضي النهي ، وإنّما يستعمل فيه على سبيل المجاز ، نعم قد يقال : بأنّ النهي يقتضي النفي على العكس ممّا قال ، أمّا كون النفي يقتضي النهي فلا يقول به أحد ، وإنّما مراده أنّه نفي بمعنى النهي.

وإذا عرف هذا ، فلأبي محمّد أن يقول : لا شكّ أنّ حقيقة النفي خبر ؛ لا يقتضي تحريماً ، ولا كراهة.

والنهي له معنيان ؛ أحدهما : هو فيه حقيقة ؛ وهو التحريم ، والآخر : هو فيه مجاز ؛ وهو الكراهة.

فإذا صرف النفي عن حقيقة الخبريّة إلى معنى النهي ، احتمل أن يستعمل في التحريم أو الكراهة ، وأيّا ما كان فاستعماله فيه مجاز ؛ لأنّ الخبر غير موضوع له ، فإنّ رجح استعماله في التحريم لبعض المرجّحات ، كان ذلك من باب ترجيح بعض المجازات على بعض ، وقد يكون ذلك الترجيح معارضاً بترجيح آخر.

فلأبي محمّد أن يمنع كون اللفظ المذكور حقيقة في التحريم أو ظاهراً فيه ؛ فإنّ الخبر ليس مستعملاً في لفظ النهي ، بل في معناه ، ومعناه منقسم إلى الحقيقيّ والمجازيّ.

فإن قيل : النهي النفسانيّ شيء واحد ؛ وهو طلب الترك الجازم المانع من النقيض ، وما سواه ليس بنهي حقيقة ، فإذا ثبت أنّ المراد بالخبر النهي ثبت التحريم.

قلنا : حينئذٍ ، يمنع أنّ المراد بالخبر النهي.

وقوله : «إنّ ما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فكلّها ضعيفة باتفاق أهلم العلم بالحديث ، بل هي موضوعة ؛ لم يروِ أحد من أهل السنن المعتمدة شيئاً منها».

قد بيّنا بطلان هذه الدعوى في أوّل هذا الكتاب (١).

وما روي [عن] مالك من كراهة قوله : «زرت قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بيّنا مراده في الباب الرابع (٢).

قوله : «ولو كان هذا اللفظ مشروعاً ... إلى آخره».

كلام في غير محلّ النزاع ؛ لأنّ النزاع ليس في اللفظ ، ولم يسأل عنه ، وإنّما هو في المعنى.

وما ذكره عن أحمد وأبي داود ومالك في «الموطّأ» فكلّه حجة عليه ، لا له ؛ لأنّ المقصود معنى الزيارة ، وهو حاصل من تلك الآثار.

وأما حديث «لا تتّخذوا قبري عيداً» فقد تقدّم الكلام عليه (٣).

__________________

(١) تقدّم في جميع الباب الأوّل ، وكذا الباب الثاني من هذا الكتاب. (ص ٦٠).

(٢) مرّ في الباب الرابع. (ص ١٦٩ ـ ١٧٠).

(٣) تقدّم لاحظ ص ١٧٧ و ٢٤٧.

وحديث «لعن الله اليهود والنصارى ؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد».

لا يدلّ على مدّعاه ؛ لأنّا لم نتّخذه مسجداً ، فإن أراد قياس الزيارة عليه فقد سبق الكلام في ذلك.

قوله : «فهم دفنوه في حجرة عائشة خلاف ما اعتادوه من الدفن في الصحراء ؛ لئلّا يصلّي أحد عنده قبره ، ويتّخذه مسجداً ، فيتّخذ قبره وثناً».

هذا ليس بصحيح ، وإنّما دفنوه في حجرة عائشة لما روي لهم : «إنّ الأنبياء يُدفنون حيث يُقبضون» بعد اختلافهم في أين يدفن؟ فلمّا روي لهم الحديث المذكور دفنوه هناك ، وهذا من الامور المشهورة التي يعرفها كلّ أحد ، ولم يقل أحد : إنّهم دفنوه هناك للغرض الذي ذكره.

قوله : «وكان الصحابة والتابعون لمّا كانت الحجرة النبوية منفصلة عن المسجد ، لا يدخل أحد إلى عنده لا لصلاة هنالك ، ولا لمسح بالقبر ، ولا دعاء هناك».

فنقول : إنّ هذا لا يدلّ على مقصوده ، ونحن نقول : إنّ من أدب الزيارة ذلك ، وننهى عن التمسّح بالقبر والصلاة عنده.

على أنّ ذلك ليس ممّا قام الإجماع عليه.

فقد روى أبو الحسين يحيى بن الحسن بن جعفر بن عبيد الله الحسينيّ في كتاب «أخبار المدينة» قال : حدّثني عمر بن خالد ، حدثنا أبو نباتة ، عن كثير بن زيد ، عن المطّلب بن عبد الله بن حَنْطَب قال : أقبل مروان بن الحكم ، فإذا رجل ملتزم القبر ، فأخذ مروان برقبته ، ثمّ قال : هل تدري ما ذا تصنع؟!

فأقبل عليه فقال : نعم ، إنّي لم آتِ الحجر ، ولم آتِ اللبن ، إنّما جئت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

لا تبكوا على الدين إذا وليه أهله ، ولكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله.

قال المطّلب : وذلك الرجل أبو أيّوب الأنصاريّ رضى الله عنه (١).

قلت : وأبو نباتة يونس بن يحيى ومن فوقه ثقات.

وعمر بن خالد : لم أعرفه ، فإن صحّ هذا الإسناد لم يكره مسّ جدار القبر.

وإنّما أردنا بذكره القدح في القطع بكراهة ذلك.

قوله : «وكان السلف من الصحابة والتابعين إذا سلّموا عليه وأرادوا الدعاء ، دعوا مستقبلي القبلة ، ولم يستقبلوا القبر».

هذا فيه اعتراف بدعاء السلف عند السلام ، وتركهم الدخول إلى الحجرة مبالغة في الأدب ، وتركهم استقبال القبر عند الدعاء ـ إن صحّ ـ لا يدلّ على إنكار الزيارة ، ولا على إنكار السفر لها.

قوله : «وأمّا وقت السلام عليه فقال أبو حنيفة رحمه‌الله : يستقبل القبلة أيضاً».

هو كذلك ، ذكره أبو الليث السمرقنديّ في الفتاوى ، عطفاً على حكاية حكاها الحسن بن زياد عن أبي حنيفة رحمه‌الله.

وقال السروجيّ الحنفيّ : يقف عندنا مستقبل القبلة.

قال الكرمانيّ : وعن أصحاب الشافعيّ وغيره : يقف وظهره إلى القبلة ، ووجهه إلى الحظيرة ، وهو قول ابن حنبل.

واستدلّت الحنفية : بأنّ ذلك جمع بين عبادتين.

وقول أكثر العلماء : استقبال القبر عند السلام ، وهو الأحسن والآدب ؛ فإنّ الميّت يعامل معاملة الحيّ ، والحيّ يسلّم عليه مستقبلاً ، فكذلك الميّت ، وهذا لا

__________________

(١) حديث أبي أيّوب الأنصاري ، والتزامه القبر واحتضانه. رواه المحدّثون الأئمّة الكبار في مصنّفاتهم ، مثل : مسند أحمد (٥ / ٤٢٢) مسند أبي أيوب. ومستدرك الحاكم (٤ / ٥١٥) وكنز العمال (٦ / ٨٨) عن أحمد والحاكم ومجمع الزوائد (٥ / ٢٤٥) عن أحمد والطبراني في الكبير والأوسط.

ينبغي أن يتردّد فيه.

وقوله : «إنّ أكثر العلماء قالوا : يستقبله عند السلام خاصّة».

التقييد بقوله : «خاصّة» يُطلب بنقله؟

بل مقتضى كلام أكثر العلماء من الشافعيّة والمالكيّة والحنابلة : الاستقبال عند السلام والدعاء.

وذكر النقل في استقبال القبلة عن أبي حنيفة رحمه‌الله ليس في المشهور من كتب الحنفيّة ، بل غالب كتبهم ساكتة عن ذلك.

وقد قدّمنا (١) عن أبي حنيفة رحمه‌الله أنه قال : جاء أيوب السختيانيّ فدنا من قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستدبر القبلة ، وأقبل بوجهه إلى القبر.

وقال إبراهيم الحربيّ في مناسكه : تولّي ظهرك القبلة ، وتستقبل وسطه ؛ يعني القبر ، ذكره الآجريّ عنه في كتاب الشريعة (٢) ، وذكر السلام والدعاء.

قوله : «ولم يقل أحد من الأئمّة : أنّه يستقبل القبر عند الدعاء ، إلّا في حكاية مكذوبة تروى عن مالك ، ومذهبه بخلافها».

أمّا إنكاره ذلك عن أحد من الأئمّة : فقد قدّمنا (٣) عن أبي عبد الله السامريّ الحنبليّ صاحب كتاب «المستوعب في مذهب أحمد» أنّه قال : يجعل القبر تلقاء وجهه ، والقبلة خلف ظهره ، والمنبر عن يساره ، وذكر كيفيّة السلام والدعاء إلى آخره.

وظاهر ذلك أنّه يستقبل القبلة في السلام والدعاء جميعاً.

وهكذا أصحابنا وغيرهم ، إطلاق كلامهم يقتضي أنّه لا فرق في استقبال القبر

__________________

(١) قدّمناه (ص ١٧٠).

(٢) ص ١٤٩.

(٣) ص ١٥٧.

بين حالتي السلام والدعاء ، وكذا ما قدّمناه الآن عن إبراهيم الحربيّ.

وقد صرّح أصحابنا بأنّه يأتي القبر الكريم ، فيستدبر القبلة ، ويستقبل جدار القبر ، ويبعد من رأس القبر نحو أربعة أذرع ، فيسلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يتأخّر عن صوب يمينه ، فيسلّم على أبي بكر رضى الله عنه ، ثمّ يتأخر أيضاً ، فيسلّم على عمر رضى الله عنه ، ثمّ يرجع إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتوسّل به في حقّ نفسه ، ويستشفع به إلى ربّه سبحانه وتعالى ويقول حكاية العتبيّ (١) ، ثمّ يتقدّم إلى رأس القبر ، فيقف بين القبر والاسطوانة التي هناك ، ويستقبل القبلة ، ويحمد الله تعالى ويمجّده ، ويدعو لنفسه ولوالديه ومن شاء بما أحبّ.

وحاصله : أنّ استقبال القبلة في الدعاء حسن ، واستقبال القبر أيضاً حسن ، لا سيّما حالة الاستشفاع به ومخاطبته ، ولا أعتقد أنّ أحداً من العلماء كره ذلك ، ومن ادعى ذلك فليثبته.

وقوله : «إنّ الحكاية عن مالك مكذوبة».

فقد قدّمنا أنّ هذه الحكاية رواها القاضي عياض ، عن القاضي أبي عبد الله محمّد بن عبد الرحمن الأشعريّ ، وأبي القاسم أحمد بن بقيّ الحاكم ، وغير واحد فيما أجازوه ، قالوا : حدثنا أحمد بن عمر بن دلهاث ، حدثنا عليّ بن فهر ، حدثنا محمّد بن أحمد بن الفرج ، حدثنا أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ، حدثنا يعقوب بن إسحاق بن أبي إسرائيل ،

__________________

(١) قصّة العُتْبي مذكورة في أكثر مصادر مسألة الزيارة ، وجاءت في كتب الحديث ، والفقه ، والتاريخ ، فذكرها النووي في (الأذكار) (٥ / ٤٢ ـ ٤٣) المطبوع مع الفتوحات الربّانية وانظر هامشه (ص ٣٩). لكنها محذوفة من طبعة السعوديين السلفيين ، الامناء! في الرياض عام ١٤٠٩ ه‍.

وانظر المغني لابن قدامة (٣ / ٥٨٩) والشرح الكبير (٣ / ٤٩٤) وكشاف القناع للبهوتيّ (٢ / ٥١٥) والثلاثة الأخيرات من كتب فقه الحنبلية. وانظر الأحكام السلطانية للماوردي (ص ١٠٩ ـ ١١٠) ودفع الشبه للحِصْني (ص ١٤٢ ـ ١٤٤).

حدثنا ابن حميد قال : ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكاً في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... فذكرها.

إلى أن قال أبو جعفر : يا أبا عبد الله ، أستقبل القبلة وأدعو ، أم أستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : ولِمَ تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم عليه‌السلام الى الله تعالى يوم القيامة؟! بل استقبله واستشفع به ، فيشفّعك الله تعالى.

هكذا ذكرها القاضي عياض في «الشفاء» في الباب الثالث في تعظيم أمره ، ووجوب توقيره وبرّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ولم يعقبها بإنكار ، ولا قال : إنّ مذهبه بخلافها ، بل قال في الباب الرابع (٢) في فصل في حكم زيارة قبره : قال مالك في رواية ابن وهب : وهو إذا سلّم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودعا ، يقف وجهه إلى القبر ، لا إلى القبلة ، ويدنو ويسلّم ، ولا يمسّ القبر بيده.

فهذا نصّ عن مالك من طريق أجلّ أصحابه ـ وهو عبد الله بن وهب أحد الأئمّة الأعلام ـ صريح في أنّه يستقبل عند الدعاء القبر ، لا القبلة.

وذكر القاضي عياض أنّه قال في «المبسوط» : لا أرى أن يقف عند القبر يدعو ، ولكن يسلّم ويمضي (٣).

قلت : فالاختلاف بين «المبسوط» ورواية ابن وهب في كونه يقف للدعاء أو لا ، وليس في الاستقبال.

وقد قدّمنا عن كثير من كتب المالكيّة أنّه يقف ويدعو ، ولم نرَ أحداً منهم قال : بأنّه إذا وقف عند القبر يستدبره ويدعو ، ولا يجعله إلى جانبه.

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض ، الباب الثالث (٢ / ١٩٨) الفصل ٩.

(٢) الشفاء للقاضي عياض ، الباب الرابع.

(٣) الشفاء (٢ / ١٩٩).

فكيف يحلّ لذي علم أن يدّعي : أنّ مذهب مالك ، بل مذهب جميع العلماء ، بخلاف الحكاية المذكورة.

ويجعل ذلك وسيلة إلى تكذيبها وتكذيب ناقليها بمجرّد الوهم والخيال! من غير دليل اقتضى له ذلك إلّا مجرّد شيء قام في نفسه؟!

وقد ذكر القاضي عياض إسنادها ، وهو إسناد جيد :

أمّا القاضي عياض : فناهيك به نبلاً وجلالة وثقة وأمانة وعلماً ومجمعاً عليه.

وشيخه أبو القاسم أحمد بن محمّد بن أحمد بن مخلّد بن عبد الرحمن بن أحمد ابن بقيّ بن مخلّد : من بيت العلم والجلالة ، ذكره ابن بشكوال ، وذكر شيوخه الذين سمع منهم ، ثمّ قال : وكتب إليه أبو العباس العذريّ بالإجازة ، وشُوور بالأحكام بقرطبة ، فصار صدر المفتين بها لسنّه وتقدّمه ، وهو من بيت علم ونباهة ، وفضل وصيانة ، وكان ذاكراً للمسائل والنوازل ، دريّاً بالفتوى ، بصيراً بنقد الشروط وعللها ، مقدّماً في معرفتها ، أخذ الناس عنه ، ولد في شعبان سنة ستّ وأربعين وأربعمائة ، وتوفّي في سلخ سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة.

وذكر ابن بشكوال أيضاً أبا عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن عليّ بن سعيد بن عبد الله بن سيرين : يكنى أبا عبد الله ، كان من أهل العلم والمعرفة والفهم ، عالماً بالفروع والاصول ، واستقضي بإشبيلية ، وحمدت سيرته ، توفّي سنة ثلاث وخمسمائة ، كتب إليّ القاضي أبو الفضل بوفاته (١).

قلت : والظاهر أنّه الذي وصفه القاضي عياض بالأشعري.

وشيخهم أبو العباس أحمد بن عمر بن أنس بن دلهاث العدويّ : قال أبو

__________________

(١) الصلة لابن بشكوال.

القاسم خلف بن عبد الملك بن مسعود بن موسى بن بشكوال : رحل إلى المشرق مع أبويه سنة سبع وأربعمائة ، وصلوا إلى بيت الله الحرام في شهر رمضان سنة ثمان ، وجاوروا أعواماً ، وانصرف عن مكّة سنة ستّ عشرة ، فسمع بالحجاز سماعاً كثيراً ، وصحب الشيخ الحافظ أبا ذر الهرويّ ، وسمع منه «صحيح البخاريّ» سبع مرّات ، وكان معتنياً بالحديث ونقله ، وروايته وضبطه ، مع ثقته وجلالة قدره ، وعلوّ إسناده ، سمع الناس منه ، وحدّث عنه كبار العلماء : ابن عبد البرّ ، وابن حزم ، وأبو عليّ الغسّاني وجماعة.

قال أبو عليّ : أخبرني أبو العبّاس أنّ مولده في ذي القعدة سنة ثلاث وتسعين وثلاثمائة ، وتوفّي في آخر شعبان سنة ثمان وسبعين وأربعمائة ، ودفن بالمدينة.

وشيخه أبو الحسن عليّ بن الحسن بن عليّ بن فهر الرازيّ المصريّ الحافظ : روى عن الحسن بن رشيق ، وإسماعيل بن أبي محمّد الأزديّ ، وروى مسند «الموطّأ» عن مؤلّفه [في] (١) الحرم ، وسمعه منه بمصر ، روى عنه البيهقيّ.

وشيخه محمّد بن أحمد بن محمّد بن الفرج ؛ أبو بكر المعرّي الجزائري القماح (٢) ، توفّي في ذي القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمائة ، وذكره ابن السمعانيّ في الجزائريّ (٣) ، ذكره القراب عن المالينيّ قال : وقال ابن المنذر : هو ثقة.

وشيخه أبو الحسن عبد الله بن المنتاب ؛ هو عبد الله بن محمّد بن المنتاب القاضي ، روى عنه أبو الحسن الجوزيّ ـ أحد أئمّة أصحابنا ـ مقروناً بأبي بكر النيسابوريّ حديثَ : «الإسلام أن تسلم وجهك ، فتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحجّ البيت وتعتمر».

__________________

(١) كلمة [في] ساقطة من النسخ ، فلتلاحظ.

(٢) في (ه) : العماج.

(٣) الأنساب للسمعاني (الجزائري) ظهر ص ١٢٩ ، من طبعة مرجليوث.

وشيخه يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم بن كامجر المعروف والده ب «إسحاق بن أبى إسرائيل» : حدّث عن أبيه ، وداود بن رشيد ، وأحمد بن عبد الصمد الأنصاريّ ، والحسن بن شبيب ، وعمر بن شبّة النميريّ ، روى عنه المفضّل بن سلمة ، وعبد الصمد الطنيبيّ (١) ، وأبو القاسم الطبرانيّ ، قال الدارقطنيّ : لا بأس به ، ذكره الخطيب (٢).

وشيخه ابن حميد : أظنّ أنّه أبو سفيان محمّد بن حميد المعمّري ؛ فإنّ الخطيب ذكره في الرواة عن مالك ، وأنّه قال : كتب عن مالك موطّأه ، أرانيه فجعل يعرضه عليّ ويقول : قلت في كسوة المسلمين في كفّارة اليمين كذا ، أليس هذا حسناً؟

فإن يكنه فهو ثقة ، روى له مسلم ، توفّي سنة اثنتين ومائتين ، وقيل له : المعمريّ ، لأنّه رحل إلى معمّر.

فانظر إلى هذه الحكاية ، وثقة رواتها ، وموافقتها لما رواه ابن وهب عن مالك ، وحسبك بابن وهب! فقد قيل : كان الناس بالمدينة ؛ يختلفون في الشيء عن مالك ، فينتظرون قدوم ابن وهب حتّى يسألوه عنه.

وقال ابن بكير : ابن وهب أفقه من ابن القاسم.

ولنا هاهنا طرق :

إحداها : الأخذ برواية ابن وهب فقط ؛ لرجحانها.

الثانية : الاعتراف بالروايتين ، وأنّ هذا ليس من الاختلاف في حلال وحرام ، ولا في مكروه ، فإنّ استقبال القبلة حسن ، واستقبال القبر حسن.

الثالثة : لو ثبت له ما زعمه من استقبال القبلة خاصّة ، وعدم استقبال القبر عند الدعاء ، فأيّ شيء يلزم من ذلك؟ وهل هذا إلّا كما إذا قلت : «المصلّي يستقبل

__________________

(١) في (ه) : الطبسيّ.

(٢) تاريخ بغداد (١٤ / ٢٩١) وفيه : الطستي.

القبلة ، ولا يستقبل القبر» فهل لهذا مدخل في الزيارة؟!

ولفظة [مكذوبة] (١).

مَنْ كان من العوام يربأ بنفسه عن هذا الكلام ، فضلاً عن علماء الإسلام!؟!.

وقد طالعت عدّة كتب من كتب المالكيّة ، فلم أرَ فيها عن أحد المنع من استقبال القبر في الدعاء ، ولا كراهة ذلك ، ولا أنّه خلاف الأولى ، غير ما قدّمته عن «المبسوط» وليس ذلك في أنّه يدعو غير مستقبل ، كما ادعاه ابن تيمية!

والذي ادعى ابن تيمية أنّه مذهب مالك ، ومذهب جميع العلماء ، وأنّه إذا سلّم مستقبل القبر ، وأراد الدعاء استدبر القبر ، ولأجله ردّ الحكاية المذكورة عنه ، لم نلقه في شيء من كتب المالكيّة! ولا من كتب غيرهم.

وقد قدّمت في الباب الرابع من كلام المالكيّة في الزيارة جملة ، وبقيت جملة أذكرها هاهنا :

قال أبو الحسن اللخميّ في «التبصرة» في باب من جاء مكّة ليلاً أو بعد العصر أو الصبح : ويبتدئ في مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بركعتين ـ تحيّة المسجد ـ قبل أن يأتي القبر ويسلّم ، وهذا قول مالك.

وقال ابن حبيب : يقول إذا دخل : «بسم الله ، وسلام على رسول الله» ؛ يريد أنّه يبتدئ بالسلام من موضعه ، ثمّ يركع ، ولو كان دخوله من الباب الذي بناحية القبر ومروره عليه ، فوقف فسلّم ، ثمّ تمادى إلى موضع يصلّي فيه لم يكن ضيّقاً ، انتهى كلام اللخميّ.

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من النسخ ومحله في الهندية : (؟) علامة استفهام بين القوسين ، والظاهر أن الإمام السبكي انتقد ابن تيميّة في إطلاقه هذه اللفظة على حكاية مالك ، كما في نص فتواه التي سبق نقلها في ص ٢٨١ ولاحظ ٢٦٨ و ٢٨٢.

وقال ابن بشير المالكيّ في كتاب «التنبيه على مبادي التوجيه» في دخول مكّة ، وحكم الطواف والركوع والسعي : والأولى لمن دخل المدينة الابتداء بالركوع في مسجده ، ثمّ ينصرف الداخل إلى القبر ، فيسلّم على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويكثر من الصلاة عليه ، ثمّ يدعو في نفسه بما أحبّ ، ثمّ يسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، ويستحبّ له أن يفعل ذلك عند خروجه من المدينة.

وظاهر هذا الكلام أنّه يدعو مستقبل القبر.

وقال ابن يونس المالكيّ في باب فرائض الحجّ ، والغسل لها ، ودخول المدينة ، وصفة الإحرام والتلبية : قال ابن حبيب : ويقول إذا دخل مسجد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بسم الله ، السلام على رسول الله ، السلام علينا من ربّنا ، صلّى الله وملائكته على محمّد ، اللهمّ اغفر لي ذنوبي ، وافتح لي أبواب رحمتك وجنّتك ، ي نظفحاو من الشيطان.

ثمّ اقصد إلى الروضة ـ وهي ما بين القبر والمنبر ـ فاركع فيها ركعتين قبل وقوفك بالقبر ؛ تحمد الله تعالى ، وتسأله تمام ما خرجت له ، والعون عليه ، وإن كانت ركعتان في غير الروضة اجزأتا عنك ، وفي الروضة أفضل ، وقد قال عليه‌السلام : «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنّة ، ومنبري على ترعة من ترع الجنّة».

قال ابن حبيب : ثمّ اقصد إذا قضيت ركعتيك إلى القبر من وجاه القبلة ، فادْن منه ، ثمّ سلّم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأثن عليه ، وعليك السكينة والوقار ؛ فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع ويعلم وقوفك بين يديه ، وتسلّم على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، وتدعو لهما ، وأكثر الصلاة في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام بالليل والنهار ، ولا تدع أن تأتي مسجد قباء وقبور الشهداء ، انتهى.

وناهيك بهذا الكلام من ابن حبيب رحمه‌الله ، وتصريحه وجزمه بأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمع كلام المسلّم عليه ، ويعلم وقوفه بين يديه.

وابن حبيب رحمه‌الله من أجلّة العلماء.

وقال النوويّ في كتاب «رءوس المسائل» عن الحافظ أبي موسى الأصبهانيّ : إنّه روى عن مالك بن أنس الإمام رحمه‌الله أنّه قال : إذا أراد الرجل أن يأتي قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيستدبر القبلة ، ويستقبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويصلّي عليه ويدعو.

ورأيت في شرح كتاب عبد الله بن عبد الحكم الكبير ، لأبي بكر محمّد بن عبد الله بن صالح الأبهريّ في كتاب الجامع : قال ابن وهب : سئل مالك : أين يقف من أراد التسليم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من القبر؟

قال : عند الزاوية التي تلي القبلة ممّا يلي المنبر مستقبل القبلة ، ولا احبّ أنّ يمسّ القبر بيده.

إنّما قال ذلك لأنّه شاهد الناس يسلّمون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاستحبّ الاقتداء بهم ، ولا يمسّ قبره ولا حائطه ؛ تعظيماً له ، ولأنّ ذلك لم يكن عليه فعل من مضى.

وهذه النسخة يحتمل أن تكون غلطاً ؛ لأنّ رواية ابن وهب عن مالك ـ كما تقدّم (١) ـ أنّ المسلّم يستقبل القبر ، لا القبلة ، ويشهد لها رواية أبي موسى ، وكلام المالكيّة.

ويحتمل أن يكون عنه في ذلك روايتان ، إحداهما : كمذهب أبي حنيفة رحمه‌الله والاخرى : هي المشهورة.

ولو ثبت عن مالك وعن غيره أنّ الأولى استقباله القبلة في الدعاء لا القبر ، لم يكن في ذلك شيء من منع الزيارة ولا السفر ، ولا مانعاً من تعظيم القبر.

ومن اعتقد ذلك فقد ضلّ.

وكلّ ما ذكره بعد ذلك تقدّم الجواب عنه ، وأنّه لا يدلّ على مقصوده.

__________________

(١) تقدّم ص ٢٨٣.

الباب الثامن :

في

التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اعلم : أنّه يجوز ويحسن التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ربّه سبحانه وتعالى.

وجواز ذلك وحسنه من الامور المعلومة لكلّ ذي دين ، المعروفة من فعل الأنبياء والمرسلين ، وسير السلف الصالحين ، والعلماء والعوامّ من المسلمين.

ولم ينكر أحد ذلك من أهل الأديان ، ولا سمع به في زمن من الأزمان ، حتّى جاء ابن تيمية ، فتكلّم في ذلك بكلام يلبّس فيه على الضعفاء الأغمار ، وابتدع ما لم يسبق إليه في سائر الأعصار.

ولهذا طعن في الحكاية التي تقدّم ذكرها عن مالك ؛ فإنّ فيها قول مالك للمنصور : «استشفع به».

ونحن قد بيّنا صحّتها ، ولذلك أدخلنا الاستغاثة في هذا الكتاب لمّا تعرّض إليها مع الزيارة.

وحسبك أنّ إنكار ابن تيمية للاستغاثة والتوسّل ، قول لم يقله عالم قبله ، وصار بين أهل الإسلام مُثْلةً!!

وقد وقفت له على كلام طويل (١) في ذلك رأيت من الرأي القويم أن أميل عنه إلى الصراط المستقيم ، ولا أتتبّعه بالنقض والإبطال ؛ فإنّ دأب العلماء القاصدين لإيضاح الدين وإرشاد المسلمين ، تقريب المعنى إلى أفهامهم ، وتحقيق مرادهم ، وبيان حكمه ، ورأيت كلام هذا الشخص بالضدّ من ذلك ، فالوجه الإضراب عنه.

وأقول : إنّ التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جائز في كلّ حال : قبل خلقه ، وبعد خلقه ، في مدّة حياته في الدنيا ، وبعد موته ، في مدّة البرزخ ، وبعد البعث في عرصات القيامة والجنّة ، وهو على ثلاثة أنواع :

النوع الأوّل : أن يتوسّل به ؛ بمعنى أنّ طالب الحاجة يسأل الله تعالى به ، أو بجاهه ، أو ببركته.

فيجوز ذلك في الأحوال الثلاثة ، وقد ورد في كلّ منها خبر صحيح :

[حديث توسّل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

أمّا الحالة الاولى : قبل خلقه ، فيدلّ على ذلك آثار عن الأنبياء الماضين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، اقتصرنا منها على ما تبيّن لنا صحّته ؛ وهو ما رواه الحاكم أبو عبد الله بن البيّع في «المستدرك على الصحيحين أو أحدهما» (٢) قال :

__________________

(١) كلام ابن تيمية في الاستغاثة والتوسل.

في مجموع فتاوى ابن تيمية الجزء الأول صفحات عديدة منها (١٤٠ ـ ١٤١) و (٣١٥ ـ ٣٢٢) و (٣٤٢ ـ ٣٤٣) وغيرها ، وله كتاب باسم (التوسل والوسيلة) مطبوع.

(٢) المستدرك على الصحيحين ، للحاكم (٢ / ٦١٥) ، ورواه الآجري في الشريعة (ص ٤٢٧) وانظر ص ٤٢٢ ، ولاحظ الدر المنثور للسيوطي (١ / ٦٠).

وقد ذكر الإمام ابن الصدّيق في الرد المحكم المتين (ص ١٣٨ ـ ١٣٩) شاهداً للحديث ، أخرجه ابن الجوزي في الوفا بفضائل المصطفى كما في فتاوى ابن تيمية (٢ / ١٥٠) نقل ذلك الاستاذ المحمود في رفع المنارة (ص ٧ ـ ٢٤٨).

حدثنا أبو سعيد عمرو بن محمّد بن منصور العدل (١) ، حدثنا أبو الحسن محمّد بن إسحاق ابن إبراهيم الحنظليّ ، حدثنا أبو الحارث عبد الله بن مسلم الفهريّ ، حدثنا إسماعيل ابن مسلمة ، أنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن عمر بن الخطّاب رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اقترف (٢) آدم عليه‌السلام الخطيئة (٣) قال : يا ربّ أسألك بحقّ محمّد لمّا غفرت لي.

فقال الله : يا آدم ، وكيف عرفت محمّداً ولم أخلقه؟

قال : يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ، ونفخت في من روحك ، رفعتُ رأسي ، فرأيتُ على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا الله ، محمّد رسول الله ، فعرفتُ أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك.

فقال الله : صدقتَ يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليَّ ، إذ سألتني بحقّه فقد غفرتُ لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك».

قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ، وهو أوّل حديث ذكرته لعبد الرحمن بن زيد بن أسلم في هذا الكتاب.

ورواه البيهقيّ أيضاً في «دلائل النبوّة» (٤) وقال : تفرّد به عبد الرحمن ،.

وذكره الطبرانيّ وزاد فيه : «وهو آخر الأنبياء من ذرّيتك» (٥).

__________________

(١) في (ه) : المعدّل.

(٢) في (ه) : اعترف.

(٣) في (ه) : بالخطيئة.

(٤) دلائل النبوّة للبيهقي (٥ / ٤٨٩) عن الحاكم.

(٥) لم يطبع من المعجم الكبير للطبراني مسند عمر! ولكنه موجود في المعجم الصغير (٢ / ٨٢) ، وانظر مجمع الزوائد (٨ / ١٥٣) فقد نقله عن الأوسط والصغير.

[توسّل عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وذكر الحاكم مع هذا الحديث أيضاً : عن عليّ بن حمّاد (١) العدل ، حدثنا هارون ابن العبّاس الهاشميّ ، حدثنا جندل بن والق ، حدثنا عمرو بن أوس الأنصاريّ ، حدثنا سعيد ابن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيّب ، عن ابن عبّاس قال : أوحى الله إلى عيسى عليه‌السلام : «يا عيسى ، آمن بمحمّد ، وأمر من أدركه من امّتك أن يؤمنوا به ، فلولا محمّد ما خلقتُ آدم ، ولولاه ما خلقتُ الجنّة والنار ، ولقد خلقتُ العرش على الماء فاضطرب ، فكتبتُ عليه : «لا إله إلّا الله» فسكن» (٢).

قال الحاكم : هذا حديث حسن صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه ، انتهى ما قاله الحاكم.

والحديث المذكور لم يقف عليه ابن تيمية بهذا الإسناد ، ولا بلغه أنّ الحاكم صحّحه.

فإنّه قال ـ أعني ابن تيمية ـ : «أمّا ما ذكره في قصّة آدم من توسّله ، فليس له أصل ، ولا نقله أحد عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإسناد يصلح الاعتماد عليه ، ولا الاعتبار ، ولا الاستشهاد».

ثمّ ادعى ابن تيمية أنّه كذب ، وأطال الكلام في ذلك جدّاً بما لا حاصل تحته ، بالوهم والتخرّص ، ولو بلغه أنّ الحاكم صحّحه لما قال ذلك ، أو لتعرّض للجواب عنه (٣).

__________________

(١) في (ه) حمشاد.

(٢) المستدرك للحاكم (٢ / ٦١٥).

(٣) لا ، بل هو متعمّد الكذب في مثل هذا المجال ، وقد تفطّن له الحافظ ابن حجر حيث قال في ترجمته في لسان الميزان : طالعت ردّ ابن تيميّة على الحلّي ، فوجدته كثير التحامل في ردّ الأحاديث التي يوردها الحلّي ، ورد [ابن تيميّة] في ردّه كثيراً من الأحاديث الجياد ، لسان الميزان (٦ / ٣١٩) من الطبعة الهندية. وانظر الدرر الكامنة لابن حجر (٢ / ٧١).

وكأنّي به إن بلغه بعد ذلك : يطعن في «عبد الرحمن بن زيد بن أسلم» راوي الحديث.

ونحن نقول : قد اعتمدنا في تصحيحه على الحاكم ، وأيضاً : عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، لا يبلغ في الضعف إلى الحدّ الذي ادعاه.

وكيف يحلّ لمسلم أن يتجاسر على منع هذا الأمر العظيم الذي لا يردّه عقل ولا شرع؟

وقد ورد فيه هذا الحديث؟!

وسنزيد هذا المعنى صحّة وتثبيتاً بعد استيفاء الأقسام.

[وسّل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وأمّا ما ورد من توسّل نوح وإبراهيم وغيرهما من الأنبياء :

فذكره المفسّرون ، واكتفينا عنه بهذا الحديث ؛ لجودته وتصحيح الحاكم له.

[التعبير عن التوسّل والاستغاثة]

ولا فرق في هذا المعنى بين أن يعبّر عنه بلفظ «التوسّل» أو «الاستغاثة» أو «التشفّع» أو «التجوّه».

__________________

وقال الاستاذ عبد الفتاح أبو غدّة : ولشيخنا الكوثري الإمام الحسن بن زاهد رحمه‌الله : «التعقّب الحثيث لما ينفيه ابن تيميّة من الحديث» لا يزال مخطوطاً ، كذا في الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكهنوي ص ١٩٩ هامش.

وقال : وانظر لزاماً : الأجوبة الفاضلة للأسئلة العشرة الكاملة (ص ١٧٤ ـ ١٧٦) للمؤلّف اللكهنوي.

أقول : وانظر رفع المنارة (ه ص ٢٠ ـ ٢١) وقد ذكر مؤلّفه الفاضل : أن له جزءاً في الأحاديث التي ينكرها ابن تيمية ، لشططه!

والداعي بالدعاء المذكور وما في معناه :

متوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه جعله وسيلة لإجابة الله دعاءه.

ومستغيث به ، والمعنى أنّه استغاث الله به على ما يقصده ، فالباء هاهنا للسببيّة ، وقد ترد للتعدية ، كما يقول : «من استغاث بك فأغثه».

ومستشفع به.

ومتجوّه به ، ومتوجّه ، فإنّ التجوّه والتوجّه راجعان إلى معنى واحد.

فإن قلت : المتشفّع بالشخص مَنْ جاء به ليشفع ، فكيف يصحّ أن يقال :

يتشفّع به؟

قلت : ليس الكلام في العبارة ، وإنّما الكلام في المعنى ؛ وهو سؤال اللهَ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما ورد عن آدم ، وكما يفهم الناس من ذلك ، وإنّما يفهمون من التشفّع والتوسّل والاستغاثة والتجوّه ذلك ، ولا مانع من إطلاق اللغة بهذه الألفاظ على هذا المعنى.

والمقصود جواز أن يسأل العبدُ اللهَ تعالى بمن يقطع أنّ له عند الله قدراً أو مرتبة.

ولا شكّ أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له عند الله قدر عليٌّ ، ومرتبة رفيعة ، وجاه عظيم.

وفي العادة أنّ من كان له عند الشخص قدر ؛ بحيث أنّه إذا شفع عنده قبل شفاعته ، فإذا انتسب إليه شخص في غايته ، وتوسّل بذلك ، وتشفّع به ، فإنّ ذلك الشخص يجيب السائل ؛ إكراماً لمن انتسب إليه وتشفّع به ، وإن لم يكن حاضراً ولا شافعاً ، وعلى هذا التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل خلقه.

ولسنا في ذلك سائلين غير الله تعالى ، ولا داعين إلّا إيّاه ، ويكون ذكر المحبوب أو العظيم سبباً للإجابة.

كما في الأدعية الصحيحة المأثورة : «أسألك بكلّ اسم لك ، وأسألك بأسمائك

الحسنى ، وأسألك بأنّك أنت الله ، وأعوذ برضاك من سخطك ، وبمعافاتك من عقوبتك ، وبك منك».

وحديث الغار الذي فيه الدعاء بالأعمال الصالحة ، وهو من الأحاديث الصحيحة المشهورة (١).

فالمسئول في هذه الدعوات كلّها ؛ هو الله وحده لا شريك له ، والمسئول به مختلف ، ولم يوجب ذلك إشراكاً ، ولا سؤال غير الله.

كذلك السؤال بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس سؤالاً للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل سؤال لله به.

وإذا جاز السؤال بالأعمال وهي مخلوقة ، فالسؤال بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى.

ولا يسمع الفرق : بأنّ الأعمال تقتضي المجازاة عليها.

لأنّ استجابة الدعاء لم تكن عليها ، وإلّا لحصلت بدون ذكرها ، وإنّما كانت على الدعاء بالأعمال.

وليس هذا المعنى ممّا يختلف فيه الشرائع حتّى يقال : إنّ ذلك شرع من قبلنا ، فإنّه لو كان ذلك ممّا يخلّ بالتوحيد ، لم يحلّ في ملّة من الملل ؛ فإنّ الشرائع كلّها متّفقة على التوحيد.

وليت شعري ، ما المانع من الدعاء بذلك؟!

فإنّ اللفظ إنّما يقتضي أنّ للمسئول به قدراً عند المسئول.

وتارة : يكون المسئول به أعلى من المسئول :

إمّا الباري سبحانه وتعالى ، كما في قوله : «من سألكم بالله فأعطوه» وفي الحديث الصحيح في حديث أبرص وأقرع وأعمى : «أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن ، والجلد الحسن ...» الحديث ، وهو مشهور (٢).

__________________

(١) حديث الغار أخرجه البخاري في صحيحه (٣ / ٥١) باب من استأجر أجيراً ...

(٢) حديث الأبرص والأقرع والأعمى أخرجه البخاري في صحيحه (٤ / ١٤٦) و (٧ / ٢٢٣).

وإمّا بعض البشر ، ويحتمل أن يكون من هذا القسم قولُ عائشة لفاطمة : أسألك بما لي عليك من الحقّ.

وتارة : يكون المسئول أعلى من المسئول به ، كما في سؤال الله تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه لا شكّ أنّ للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدراً عنده ، ومن أنكر ذلك فقد كفر.

فمتى قال : «أسألك بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فلا شكّ في جوازه.

وكذا إذا قال : «بحقّ محمّد».

والمراد بالحقّ الرتبة والمنزلة ، والحقّ الذي جعله الله على الخلق ، أو الحقّ الذي جعله الله بفضله له عليه ، كما في الحديث الصحيح قال : فما حقّ العباد على الله؟

وليس المراد بالحقّ الواجب ، فإنّه لا يجب على الله شيء ، وعلى هذا المعنى يحمل ما ورد عن بعض الفقهاء في الامتناع من إطلاق هذه اللفظة.

[حديث الأعمى المتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

الحالة الثانية : التوسّل به بذلك النوع بعد خلقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مدّة حياته :

فمن ذلك ما رواه أبو عيسى الترمذيّ في جامعه (١) في كتاب الدعوات ، قال : حدثنا محمود بن غيلان ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا شعبة ، عن أبي جعفر ، عن عمارة بن خزيمة ابن ثابت ، عن عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ادع الله أن يعافيني.

__________________

(١) الجامع الصحيح (سنن الترمذي) كتاب الدعوات ح (٣٥٧٨) وسنن ابن ماجة (١ / ٤٤١) رقم (١٣٨٥) والطبراني في المعجم الكبير (٩ / ١٩) ، ومستدرك الحاكم (١ / ٣١٣ و ٥١٩) وصححه ووافقه الذهبي. واسد الغابة (٣ / ٥٥٧) ، ودلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٦٦) ومن دعواته الكبير.

وللأستاذ العلّامة محمود السعيد : بحث قيّم حول أسانيد الحديث ، وفيه ردّ قويّ على الألباني المتمسلف المبتدع ، الذي ضعف الحديث ، فراجع رفع المنارة (ص ١٢٢ ـ ١٤٦).

قال : «إن شئتَ دعوتُ ، وإن شئتَ صبرتَ ، فهو خير لك».

قال : فادعه.

قال : فأمره أن يتوضّأ فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء : «اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نَبِيّ الرحمة ، يا محمّد ، إنّي توجّهت بك إلى ربّي في حاجتي ليقضي لي ، اللهمّ شفّعه في».

قال الترمذيّ : هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلّا من هذا الوجه من حديث أبي جعفر الخطميّ.

ورواه النسائي في اليوم والليلة (١) عن محمود بن غيلان بإسناده نحوه.

وعن محمّد بن معمر ، عن حبّان ، عن حمّاد ، عن أبي جعفر ، عن عمارة بن خزيمة ، عن عثمان بن حنيف نحوه.

وعن زكريّا بن يحيى ، عن ابن مثنى ، عن معاذ بن هشام ، عن أبيه ، عن أبي جعفر ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان نحوه.

وأخرجه ابن ماجة في الصلاة (٢) عن أحمد بن منصور بن سيّار ، عن عثمان بن عمر بإسناده نحوه.

وروّيناه في «دلائل النبوة» (٣) للحافظ أبي بكر البيهقيّ ، ثمّ قال البيهقيّ : وزاد محمّد بن يونس في روايته : فقام وقد أبصر.

قال البيهقي : ورويناه في «كتاب الدعوات» (٤) بإسناد صحيح عن روح بن

__________________

(١) اليوم والليلة ، للنسائي (ص ٤١٧). ومسند أحمد (٤ / ١٣٨) والبخاري في تاريخه (٦ / ٢٠٩).

(٢) سنن ابن ماجة (١ / ٤٤١) باب ما جاء في صلاة الحاجة ورواه أحمد في المسند (٤ / ١٣٨) وسنن الترمذي (٥ / ٢٢٩) ومستدرك الحاكم (١ / ٣١٣ و ٥٢٦).

(٣) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٦٦) وفيه : فيجلي لي بصري. ورواه أحمد في مسنده (٤ / ١٣٨) وقد مرّ تخريجه عن الترمذي وغيره.

(٤) الدعوات الكبير للبيهقي (ص ٢٥١) ح ٢٠٤.

عبادة ، عن شعبة قال : ففعل الرجل فبرأ.

قال : وكذلك رواه حمّاد بن سلمة عن أبي جعفر الخطميّ.

ثمّ روى بإسناده عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر المدينيّ ـ وهو الخطميّ ـ عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف فذكره ، وفي آخره : «يا محمّد ، إنّي أتوجّه بك إلى ربّي فيجلي عن بصري ، اللهمّ شفّعه فيَّ ، وشفّعني في نفسي».

قال عثمان : فو الله ما تفرّقنا ولا طال الحديث حتّى دخل الرجل وكأنّه لم يكن به ضرّ قطّ.

وسنذكر هذا الحديث أيضاً في التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته من طريق الطبرانيّ والبيهقيّ.

وقد كفانا الترمذيّ والبيهقيّ رحمهما‌الله بتصحيحهما مئونة النظر في تصحيح هذا الحديث ، وناهيك به حجّة في المقصود.

فإن اعترض معترض : بأنّ ذلك إنّما كان لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفع فيه ، فلهذا قال له أن يقول : «إنّي توجّهت إليك بنبيّك».

قلت : الجواب من وجوه :

أحدها : سيأتي أنّ عثمان بن عفّان وغيره استعملوا ذلك بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك يدلّ على أنّهم لم يفهموا اشتراط ذلك.

الثاني : أنّه ليس في الحديث أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن له ذلك.

الثالث : أنّه ولو كان كذلك لم يضرّ في حصول المقصود ؛ وهو جواز التوسّل إلى الله بغيره ؛ بمعنى السؤال به ، كما علّمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك زيادة على طلب الدعاء منه ، فلو لم يكن في ذلك فائدة لما علّمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأرشده إليه ، ولقال له : إنّي قد شفّعت فيك ، ولكن لعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أراد أن يحصل من صاحب الحاجة التوجّه بِذُلّ الاضطرار

والافتقار والانكسار ، ومستغيثاً بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيحصل كمال مقصوده.

ولا شكّ أنّ هذا المعنى حاصل في حضرة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيبته في حياته وبعد وفاته ؛ فإنّا نعلم شفقته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على امّته ، ورفقه بهم ، ورحمته لهم ، واستغفاره لجميع المؤمنين وشفاعته ، فإذا انضمّ إليه توجّه العبد به حصل هذا الغرض الذي أرشد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأعمى إليه.

[التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته]

الحالة الثالثة : أن يتوسّل بذلك بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

لما رواه الطبرانيّ رحمه‌الله في «المعجم الكبير» (١) في ترجمة (عثمان بن حنيف) ، وذلك في الجزء الخمسين ، فإنّ أوّل الجزء الخمسين مَنْ اسمه (طفيل) ، وآخره «جعلني إمامهم وأنا أصغرهم» قبل ترجمة (عمّار بن طلحة) ، قال في هذا الجزء الخمسين :

حدثنا طاهر بن عيسى بن قريش (٢) المصريّ المقرئ ، حدثنا أصبغ بن الفرج ، حدثنا ابن وهب ، عن أبي سعيد المكّي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر الخطميّ المدنيّ ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان رضى الله عنه في حاجة له ، فكان عثمان لا يلتفت إليه ، ولا ينظر في حاجته ، فلقي ابن حنيف فشكا ذلك إليه.

فقال له عثمان بن حنيف : ايت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ ايت المسجد فصلّ فيه

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني (٩ / ١٧) رقم ٨٣١١ ، وخرجه المعلق : رواه الطبراني في المعجم الصغير (١ / ١٨٣) وصحّحه ، وفي كتاب الدعاء له. ورواه ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص ٢٠٩) رقم (٦٢٨) والحاكم في المستدرك (١ / ٥٢٦) والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ / ١٦٧).

(٢) في (ه) : قبرس.

ركعتين ، ثمّ قل : اللهمّ إنّي أسألك وأتوجّه إليك بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبيّ الرحمة ، يا محمّد ، إنّي أتوجّه إليك إلى ربّك فيقضي حاجتي.

وتذكر حاجتك ، ورُحْ حتّى أروح معك.

فانطلق الرجل ، فصنع ما قال له ، ثمّ أتى باب عثمان بن عفّان ، فجاءه البوّاب حتّى أخذ بيده ، فأدخله على عثمان بن عفّان ، فأجلسه معه على الطنفسة فقال : ما حاجتك؟ فذكر حاجته ، وقضاها له ، ثمّ قال له : ما ذكرت حاجتك حتّى كان الساعة ، وقال : ما كانت لك من حاجة فاذكرها.

ثمّ إنّ الرجل خرج من عنده ، فلقي عثمان بن حنيف فقال له : جزاك الله خيراً ، ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت إليّ حتّى كلّمته في.

فقال عثمان بن حنيف : والله ما كلّمته ، ولكنّي شهدت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أو تصبر؟».

فقال : يا رسول الله ، إنّه ليس لي قائد ، وقد شقّ عليّ.

فقال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ايت الميضاة فتوضّأ ، ثمّ صلّ ركعتين ، ثمّ ادع بهذه الدعوات».

قال ابن حنيف : فو الله ، ما تفرّقنا وطال بنا الحديث حتّى دخل علينا الرجل كأنّه لم يكن به ضرر قطّ.

حدثنا إدريس بن جعفر العطّار ، حدثنا عثمان بن عمر بن فارس ، حدثنا شعبة ، عن أبي جعفر الخطميّ ، عن أبي امامة بن سهل بن حنيف ، عن عمّه عثمان بن حنيف ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نحوه.

ورواه البيهقيّ (١) بإسناده عن أبي جعفر المدينيّ ، عن أبي امامة بن سهل بن

__________________

(١) دلائل النبوة للبيهقي

حنيف : أنّ رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفّان ، فذكره بنحو ممّا سبق.

رواه من طريقين ؛ أحدهما : عن عبد الملك بن أبي عثمان الزاهد ، أنا أبو بكر محمّد بن عليّ بن إسماعيل الشاشيّ القفال ، أنا أبو عروبة ، حدثنا العبّاس بن الفرج ، حدثنا إسماعيل بن شبيب ، حدثنا أبي ، عن روح بن القاسم ، عن أبي جعفر.

والاحتجاج من هذا الأثر ؛ لفهم عثمان رضي الله تعالى عنه ومن حضره الذين هم أعلم بالله ورسوله ، وفعلهم.

النوع الثاني : التوسّل به ؛ بمعنى طلب الدعاء منه ، وذلك في أحوال :

[حديث الاستسقاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته]

إحداها : في حياته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وهذا متواتر ، والأخبار طافحة به ، ولا يمكن حصرها ، وقد كان المسلمون يفزعون إليه ويستغيثون به في جميع ما نابهم ، كما في «الصحيحين» (١) : أنّ رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائم يخطب ، فاستقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائماً قال : يا رسول الله ، هلكت الأموال ، وانقطعت السبُل ، فادع الله تعالى يغيثنا.

فرفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه ، ثمّ قال : «اللهمّ أغثنا ، اللهمّ أغثنا».

فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس ، فلمّا توسّطت السماء انتشرت ، ثمّ أمطرت.

قال : فلا والله ما رأينا الشمس سبتاً ... الحديث.

__________________

(١) الصحيحان : البخاري (٢ / ٤٥٥) كتاب الاستسقاء ، باب (٦٤٣) الاستسقاء يوم الجمعة ، وفيه : ستّاً. ومسلم (٢ / ٢٤) كتاب صلاة الاستسقاء.

وروى البيهقي في دلائله (١) عن أبي وجزة يزيد بن عبد (٢) السلميّ (٣) قال : لمّا قفل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غزوة تبوك أتاه وفد بني فزارة ... إلى أن قال : فقالوا : يا رسول الله ، أسنتت بلادنا ، وأجدبت جنّاتنا ، وعريت عيالنا ، وهلكت مواشينا ، فادع ربّك أن يغيثنا ، واشفع لنا إلى ربّك ، ويشفع ربّك إليك.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سبحان الله ، ويلك ، إن أنا شفعت إلى ربّي فمن ذا الذي يشفع ربّنا إليه؟! الله لا إله إلّا هو العظيم ، وسع كرسيّه السموات والأرض ، وهو يَئِطُّ من عظمته وجلاله ...» وذكر بقيّة الحديث.

إلى أن قال : فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فصعد المنبر ، وفيه : كان ممّا حفظ من دعائه : «اللهمّ اسق بلدك وبهيمتك ، وانشر رحمتك ، وأحي بلدك الميّت ...» وذكر دعاء وحديثاً طويلاً.

وفي «سنن أبي داود» (٤) في كتاب السنّة عن جبير بن مطعم قال : أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرابيّ فقال : يا رسول الله ، جهدت الأنفس ، وضاعت العيال ، ونهكت الأموال ، وهلكت الأنعام ، فاستسق الله لنا ؛ فإنّا نستشفع بك على الله ، ونستشفع بالله عليك.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ويحك ، أتدري ما تقول؟! إنّه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه ؛ شأن الله أعظم من ذلك ...» وذكر حديث الأطيط.

وفي إسناده محمّد بن إسحاق وعنعنته ، فإن ثبت فهو موافق لمقصودنا ، فإنّه لم ينكر الاستشفاع به ، وإنّما أنكر الاستشفاع بالله ، ولعلّ سبب ذلك أنّ شأن الشافع

__________________

(١) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٤٣) باب استسقاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفيه : السلمي بدل (السعدي).

(٢) في (ه) : عبيد.

(٣) في (ه) : السعديّ.

(٤) سنن أبي داود (٤ / ٢٣٢) كتاب السنّة ، باب الجهميّة ح ٤٧٢٦ وهو حديث الأطيط!

أن يتواضع للمشفوع عنده.

وروي عن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : جاء أعرابيّ إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، أتيناك وما لنا صبيّ يصطبح ، ولا بعير يئطّ ، وأنشد :

أتيتك والعذراء تدمي لبانها

وقد شغلت امّ الصبيّ عن الطفل

وألقى بكفّيه الفتى لاستكانة

من الجوع هوناً ما يمرّ ولا يحلي

ولا شيء ممّا يأكل الناس عندنا

سوى الحنظل العامي والعلهز الفسل

وليس لنا إلّا إليك فرارنا

واين فرار الناس إلّا إلى الرسل

فقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجرّ رداءه حتّى صعد المنبر ، فرفع يديه ثمّ قال : «اللهمّ اسقنا ...» وذكر الدعاء إلى أن قال : فما ردّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده حتّى ألقت السماء بأرواقها ، وجاء أهل البطانة يضجّون (١) : الغرق ، الغرق.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «حوالينا ولا علينا» فانجاب السحاب عن المدينة حتّى أحدق بها كالإكليل ، وضحك النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى بدت نواجذه.

ثمّ قال : «لله درّ أبي طالب ، لو كان حيّاً قرّت عيناه ، من ينشدنا قوله؟».

فقال علي بن أبي طالب رضى الله عنه : يا رسول الله ، كأنّك تريد قوله :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل

يطوف به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وبيت الله نبزي محمداً

ولمّا نطاعن حوله ونناضل

ونسلمه حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجل» (٢).

__________________

(١) في (ه) : يصيحون.

(٢) دلائل النبوّة للبيهقي (٦ / ١٤٠ ـ ١٤٢) وفيه اختلاف في متن الأشعار.

فقام رجل من كنانة رضي الله تعالى عنه فقال :

لك الحمد والحمد ممّن شكر

سقينا بوجه النبيّ المطر

دعا الله خالقه دعوة

إليه وأشخص منه البصر

فلم يك إلّا كما ساعة

وأسرع حتّى رأينا الدرر

دفاف العَزاليّ جمّ البعاق

أغاث به الله عَليا مضر

فكان كما قاله عمّه

أبو طالبٍ أبيض ذو غرر

فمن يشكر الله يلقى المزيد

ومن يكفر الله يلقى الغبر

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن يك شاعر أحسن فقد أحسنت».

والأحاديث والآثار في ذلك أكثر من أن تحصى ، ولو تتبّعتها لوجدت منها ألواناً.

ونصّ قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ ...) الآية ، صريح في ذلك.

[استسقاء عمر بالعبّاس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

وكذلك يجوز ويحسن مثل هذا التوسّل بمن له نسبة من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما كان عمر ابن الخطّاب رضى الله عنه إذا قحط استسقى بالعبّاس بن عبد المطّلب رضى الله عنه ويقول : اللهمّ إنّا كنّا إذا قحطنا توسّلنا بنبيّنا فتسقينا ، وإنّا نتوسّل إليك بعمّ نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاسقنا.

قال : فيسقون ، رواه البخاريّ من حديث أنس (١).

__________________

(١) صحيح البخاري (٢ / ٤٥٣) كتاب الاستسقاء ، باب (٦٤٠) سؤال الناس الإمام إنْ قُحطوا ، ح (٩٤٧).

واستسقى به عام الرمادة فسقوا ، وفي ذلك يقول عبّاس بن عتبة بن أبي لهب :

بعمّي سقى الله الحجاز وأهله

عشيّة يستسقي بشيبته عمر (١)

واستسقى حمزة بن القاسم الهاشميّ ببغداد فقال : «اللهمّ إنّا من ولد ذلك الرجل الذي استسقى بشيبته عمر بن الخطّاب فسقوا» ، فما زال يتوسّل بهذه الوسيلة حتّى سقوا.

وروي أنّه لمّا استسقى عمر بالعبّاس ، وفرغ عمر من دعائه ، قال العباس : اللهمّ إنّه لم ينزل من السماء بلاء إلّا بذنب ، ولا يكشف إلّا بتوبة ، وقد توجّه بي القوم إليك لمكاني من نبيّك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهذه أيدينا إليك بالذنوب ، ونواصينا بالتوبة ... وذكر دعاء ، فما تمّ كلامه حتّى ارتخت (٢) السماء بمثل الجبال.

وكذلك يجوز مثل هذا التوسّل بسائر الصالحين ، وهذا شيء لا ينكره مسلم ، بل متديّن بملّة من الملل.

فإن قيل : لِمَ توسّل عمر بن الخطّاب بالعبّاس ، ولم يتوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بقبره؟

قلنا : ليس في توسّله بالعبّاس إنكار للتوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بالقبر.

وقد روي عن أبي الجوزاء قال : قحط أهل المدينة قحطاً شديداً فشكوا إلى

__________________

و (٥ / ٨٢) كتاب فضائل أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باب (٤١) ذكر العبّاس ح ٢٢٩ ، وانظر فتح الباري (٢ / ٤٩٤) ، وأورده البغوي في شرح السنة (٣ / ٤٠٩) والبيهقي في دلائل النبوّة (٦ / ١٤٧) وفي السنن الكبرى (٣ / ٣٥٢).

(١) مرّ حديثه ، وأورده الحاكم في المستدرك (٣ / ٣٣٤) وفيه قول عمر : واتخذوه وسيلة إلى الله فيما نزل بكم.

ولاحظ مِنَح المدح لابن سيد الناس (ص ١٩١ ـ ١٩٢)

(٢) في الهندية : ارتجت.

عائشة رضي الله عنها ، فقالت : فانظروا قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاجعلوا منه كوى إلى السماء حتّى لا يكون بينه وبين السماء سقف.

ففعلوا فمطروا ، حتّى نبت العشب ، وسمن الإبل ، حتّى تفتّقت من الشحم ، فسمّي «عام الفتق».

ولعلّ توسّل عمر بالعبّاس لأمرين :

أحدهما : ليدعو كما حكينا من دعائه.

والثاني : أنّه من جملة من يستسقي وينتفع بالسقاء ، وهو محتاج إليها ، بخلاف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذه الحالة ، فإنّه مستغنٍ عنها ، فاجتمع في العبّاس الحاجة وقربُهُ من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشيبته ، والله تعالى يستحي من ذي الشيبة المسلم ، فكيف من عمّ نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!! ويجيب دعاء المضطرّ ، فلذلك استسقى عمر بشيبته.

[التفرقة بين الألفاظ!]

فإن قال المخالف : أنا لا أمنع التوسّل والتشفّع ؛ لما قدّمتم من الآثار والأدلّة ، وإنّما أمنع إطلاق «التجوّه» و «الاستغاثة» لأنّ فيهما إيهام أنّ المتجوّه به والمستغاث به ، أعلى من المتجوّه عليه والمستغاث عليه.

قلنا : هذا لا يعتقده مسلم ، ولا يدلّ لفظ «التجوّه» و «الاستغاثة» عليه.

فإنّ «التجوّه» من الجاه والوجاهة ، ومعناه علوّ القدر والمنزلة ، وقد يتوسّل بذي الجاه إلى من هو أعلى جاهاً منه.

و «الاستغاثة» طلب الغوث ، فالمستغيث يطلب من المستغاث به أن يحصل له الغوث من غيره ، وإن كان أعلى منه.

فالتوسّل والتشفّع والتجوّه والاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء والصالحين ، ليس لها معنى في قلوب المسلمين غير ذلك ، ولا يقصد بها أحد منهم

سواه ، فمن لم ينشرح صدره لذلك فليبك على نفسه ، نسأل العافية.

وإذا صحّ المعنى فلا عليك في تسميته «توسّلاً» أو «تشفّعاً» أو «تجوّهاً» أو «استغاثة».

ولو سُلّمَ أنّ لفظ «الاستغاثة» يستدعي النصر على المستغاث منه ، فالعبد يستغيث على نفسه وهواه والشيطان وغير ذلك ممّا هو قاطع له عن الله تعالى بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من الأنبياء والصالحين ، متوسّلاً بهم إلى الله تعالى ليغيثه على من استغاث منه من النفس وغيرها ، والمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسطة بينه وبين المستغيث.

[التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة]

الحالة الثانية : بعد موته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة ؛ بالشفاعة منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وذلك ممّا قام الإجماع عليه ، وتواترت الأخبار به ، وسنذكر تفاصيل الشفاعة المجمع عليها والمختلف فيها في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى (١).

[التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البرزخ]

الحالة الثالثة : المتوسّطة في مدّة البرزخ

وقد ورد في هذا النوع فيها أيضاً : أنا أبو بكر بن يوسف بن عبد العظيم المعروف ب «ابن الصباح» بقراءتي عليه في المجلّد الحادية عشرة من «دلائل النبوّة» للبيهقيّ قال : أنا أبو الكرم لاحق بن عبد المنعم بن قاسم الأرتاحيّ قراءة عليه وأنا أسمع ، أنا أبو محمّد المبارك بن عليّ بن الحسين البغدادي المعروف ب «ابن الطبّاخ» أنا

__________________

(١) راجع الباب العاشر.

الشيخ السديد أبو الحسن عبيد الله بن محمّد بن أحمد البيهقيّ ، أنا جدّي الإمام أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقيّ ، أنا أبو نصر بن قتادة وأبو بكر الفارسيّ قالا : أخبرنا أبو عمر بن مطر ، حدثنا إبراهيم بن عليّ الذهليّ ، حدثنا يحيى بن يحيى ، أنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن أبي صالح ، عن مالك الدار قال : أصاب الناس قحط في زمان عمر بن الخطّاب رضى الله عنه فجاء رجل إلى قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله ، استسق الله لُامّتك فإنّهم قد هلكوا.

فأتاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المنام فقال : «ائت عمر فأقرئه السلام ، وأخبره أنّهم مسقون ، وقل له : عليك الكيس ، الكيس».

فأتى الرجل عمر فأخبره ، فبكى عمر رضى الله عنه ثمّ قال : يا ربّ ما آلو إلّا ما عجزت عنه (١).

ومحلّ الاستشهاد من هذا الأثر طلبه الاستسقاء من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته في مدّة البرزخ ، ولا مانع من ذلك ؛ فإنّ دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لربّه تعالى في هذه الحالة غير ممتنع ، وقد وردت الأخبار على ما ذكرنا ، ونذكر طرفاً منه.

وعلمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسؤال من يسأله ورد أيضاً.

ومع هذين الأمرين فلا مانع من أن يسأل الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاستسقاء ، كما كان يسأل في الدنيا.

__________________

(١) دلائل النبوّة للبيهقي (٧ / ٤٧) وقد أورده ابن أبي شيبة في المصنف (١٢ / ٣١ ـ ٣٢) وابن حجر في الإصابة (٣ / ٤٨٤) والقرطبي في الاستيعاب (٢ / ٤٦٤). وانظر فتح الباري (٢ / ٤٩٥) ، والبداية والنهاية لابن كثير (٧ / ١٠١) ، وجامع المسانيد ـ مسند عمر ـ (١ / ٢٢٣) ، وقد أقر ابن تيمية بثبوته في اقتضاء الصراط له (ص ٣٧٣).

وقد فصل الاستاذ المحمود السعيد الممدوح في رفع المنارة (ص ٢٦٢ ـ ٢٧٨) في الكلام عليه وعلى إسناده ، وردّ في نحر الألباني المتمسلف في تضعيفه ، فراجع.

[التوسُّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسبُّبه]

النوع الثالث من التوسّل : أن يطلب منه ذلك الأمر المقصود بمعنى أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادر على التسبّب فيه بسؤاله ربّه وشفاعته إليه.

فيعود إلى النوع الثاني في المعنى وإن كانت العبارة مختلفة.

ومن هذا قول القائل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أسألك مرافقتك في الجنّة ، قال : «أعنّي على نفسك بكثرة السجود».

والآثار في ذلك كثيرة أيضاً.

ولا يقصد الناس بسؤالهم ذلك إلّا كون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبباً وشافعاً ، وكذلك جواب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن ورد على حسب السؤال.

كما روّينا في «دلائل النبوّة» (١) للبيهقيّ بالإسناد إلى عثمان بن أبي العاص قال : شكوت إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوء حفظي للقرآن ، فقال : «شيطان يقال : خنزب ، ادن منّي يا عثمان». ثمّ وضع يده على صدري ، فوجدت بردها بين كتفيّ ، وقال : «اخرج يا شيطان من صدر عثمان».

قال : فما سمعت بعد ذلك شيئاً إلّا حفظته.

فانظر أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج للشيطان ؛ للعلم بأنّ ذلك بإذن الله تعالى وخلقه وتيسيره.

وليس المراد نسبة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الخلق والاستقلال بالأفعال!! هذا لا يقصده مسلم ، فصرف الكلام إليه ومنعه ، من باب التلبيس في الدين ، والتشويش على عوام الموحّدين.

__________________

(١)

دلائل النبوّة للبيهقي (٥ / ٣٠٧) باب تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن أبي العاص.

[لا حرجَ في الألفاظ كلها]

وإذ قد تحرّرت هذه الأنواع والأحوال في الطلب من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وظهر المعنى ، فلا عليك في تسميته «توسّلاً» أو «تشفّعاً» أو «استغاثة» أو «تجوّهاً» أو «توجّهاً» لأنّ المعنى في جميع ذلك سواء :

أمّا التشفّع : فقد سبق في الأحاديث المتقدّمة قول وفد بني فزارة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تشفّع لنا إلى ربّك ، وفي حديث الأعمى ما يقتضيه أيضاً.

والتوسّل : في معناه.

وأمّا التوجّه والسؤال : ففي حديث الأعمى.

والتجوّه : في معنى التوجّه ، قال تعالى في حقّ موسى عليه‌السلام : (وَكانَ عِنْدَ اللهِ وَجِيهاً).

وقال في حقّ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام : (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

وقال المفسّرون وَجِيهَاً أي ذا جاه ومنزلة عنده.

وقال الجوهريّ في فعل «وجه» : وجه إذا صار وجيهاً ذا جاه وقدرٍ.

وقال الجوهريّ أيضاً في فعل «جوه» : الجاه القدر والمنزلة ، وفلان ذو جاه ، وقد أوجهته ووجّهته أنا ؛ أي جعلته وجيهاً (١).

وقال ابن فارس : فلان وجيه ؛ ذو جاه (٢).

إذا عرف ذلك ؛ فمعنى «تجوّه» توجّه بجاهه ، وهو منزلته وقدره عند الله تعالى إليه.

__________________

(١) الصحاح للجوهري (٦ / ٢٢٣١) جوه.

(٢) مجمل اللغة (٣ / ٩١٧) (وجه) وما يثلّثها.

[الاستغاثة]

وأمّا الاستغاثة : فهي طلب الغوث.

وتارة : يطلب الغوث من خالقه ؛ وهو الله تعالى وحده ، كقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ).

وتارة : يطلب ممّن يصحّ إسناده إليه على سبيل الكسب ، ومن هذا النوع الاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذين القسمين.

وتعدّي الفعل تارة : بنفسه ، كقوله تعالى : (إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ). (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ) وتارة : بحرف الجرّ ، كما في كلام النحاة في المستغاث به ، وفي «كتاب سيبويه» رحمه‌الله تعالى : فاستغاث بهم ليشتروا له كليباً.

فيصحّ أن يقال : «استغثت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» و «أستغيث بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بمعنى واحد ؛ وهو طلب الغوث منه بالدعاء ونحوه على النوعين السابقين في التوسّل من غير فرق ، وذلك في حياته وبعد موته.

ويقول : «استغثت الله» و «أستغيث بالله» بمعنى طلب خلق الغوث منه ، فالله تعالى مستغاث ، فالغوث منه خلقاً وإيجاداً ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستغاث ، والغوث منه تسبّباً وكسباً ، ولا فرق في هذا المعنى بين أن يستعمل الفعل متعدّياً بنفسه ، أو لازماً ، أو تعدّى بالباء.

وقد تكون الاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه آخر ؛ وهو أن يقول : «استغثت الله بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كما يقول : «سألت الله بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» فيرجع إلى النوع الأوّل من أنواع التوسّل ، ويصحّ قبل وجوده وبعد وجوده ، وقد يحذف المفعول به ويقال : «استغثت بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» بهذا المعنى.

فصار لفظ «الاستغاثة بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» له معنيان :

أحدهما : أن يكون مستغاثاً.

والثاني : أن يكون مستغاثاً به ، والباء للاستعانة.

فقد ظهر جواز إطلاق «الاستغاثة» و «التوسّل» جميعاً ، وهذا أمر لا يشكّ فيه ؛ فإنّ «الاستغاثة» في اللغة طلب الغوث ، وهذا جائز لغة وشرعاً من كلّ من يقدر عليه بأيّ لفظ عبّر عنه ، كما قالت امّ إسماعيل : أغث إن كان عندك غواث.

وقد روّينا في «المعجم الكبير» (١) للطبرانيّ حديثاً ظاهره قد يقدح في هذا :

قال الطبرانيّ : حدثنا أحمد بن حمّاد بن زغبة المصريّ ، حدثنا سعيد بن عفير ، حدثنا ابن لهيعة ، عن الحارث بن يزيد ، عن عليّ بن رباح ، عن عبادة قال : قال أبو بكر رضى الله عنه : قوموا نستغيث برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا المنافق.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّه لا يستغاث بي ، إنّما يستغاث بالله عزوجل».

وهذا الحديث في إسناده عبد الله بن لهيعة ، وفيه كلام مشهور ، فإن صحّ الحديث فيحتمل معاني :

أحدها : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أجرى على المنافقين أحكام المسلمين بأمر الله تعالى ، فلعلّ أبا بكر ومن معه استغاثوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتله ، فأجاب بذلك ؛ بمعنى أنّ هذا من الأحكام الشرعيّة التي لم ينزل الوحي بها ، وأمرها إلى الله تعالى وحده ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعرف الخلق بالله تعالى ، فلم يكن يسأل ربّه تغيير حكم من الأحكام الشرعيّة ، ولا يفعل فيها إلّا ما يؤمر به ، فيكون قوله : «لا يستغاث بي» عامّاً مخصوصاً ؛ أي لا يستغاث بي في هذا الأمر ؛ لأنّه ممّا يستأثر الله تعالى به.

ولا شكّ أنّ من أدب السؤال أن يكون المسئول ممكناً ، فكما أنّا لا نسأل الله تعالى إلّا ما هو في ممكن القدرة الإلهيّة (٢) ، كذلك لا نسأل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا ما يمكن أن

__________________

(١) المعجم الكبير للطبراني.

(٢) أي في ما قدّر الله تعالى إمكانَه ، فلو قدّر امتناعَهُ فهو جارٍ على ما قدّر من الامتناع ، وتعالى أن يتناقض تقديره وفعله ، فلاحظ. وكتب السيّد

يجيب إليه.

والثاني : أن يكون ذلك من باب قوله : «ما أنا حملتكم ، ولكنّ الله حملكم» أي أنا وإن استغيث بي ، فالمستغاث به في الحقيقة هو الله تعالى ، وكثيراً ما تجيء السنّة بنحو هذا من بيان حقيقة الأمر ، ويجيء القرآن بإضافة الفعل إلى مكتسبه ، كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لن يُدخل أحداً منكم الجنّة عمله» مع قوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّي : «لإن يهدي الله بك رجلاً واحداً ...».

فسلك الأدب في نسبة الهداية إلى الله تعالى ، وقد قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) فنسب الهداية إليهم ، وذلك على سبيل الكسب ، ومن هذا قوله تعالى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

وأمّا قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) فالأحسن أن يكون المراد به التسلية ، والحمل عن قلب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عدم إسلام عمّه أبي طالب!!! فكأنّه قد قيل : «أنت وفيت بما عليك ، وليس عليك خلق هدايته ؛ لأنّ ذلك ليس إليك ، فلا تذهب نفسك عليه».

وبالجملة : إطلاق لفظ «الاستغاثة» بالنسبة لمن يحصل منه غوث ـ إمّا خلقاً وإيجاداً ، وإمّا تسبّباً وكسباً ـ أمر معلوم لا شكّ فيه لغة وشرعاً ، ولا فرق بينه وبين السؤال ، فتعيّن تأويل الحديث المذكور.

وقد قيل : إنّ في البخاريّ في حديث الشفاعة يوم القيامة (١) : فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، ثمّ بموسى ، ثمّ بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو حجّة في إطلاق لفظ «الاستغاثة».

ولكنّ ذلك لا يحتاج إليه ؛ لأنّ معنى «الاستغاثة» و «السؤال» واحد سواء عبّر

__________________

(١) صحيح البخاري (٤ / ١١٣) و (٥ / ٢٢٨) ومفصّلاً في (٨ / ٢٠١).

عنه بهذا اللفظ ، أم بغيره ، والنزاع في ذلك نزاع في الضروريات ، وجوازه شرعاً معلوم ، فتخصيص هذه اللفظة بالبحث ممّا لا وجه له ، وإنكار السؤال بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مخالف لما قدّمناه من الأحاديث والآثار وما أشرنا إليه ممّا لم نذكره.

الباب التاسع :

في

حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

[والشهداء ، وحال سائر الموتى]

قد تضمّنت الأحاديث المتقدّمة أنّ روح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تردّ عليه ، وأنّه يسمع ويردّ السلام ، فاحتجنا إلى النظر فيما قد قيل في ذلك بالنسبة إلى الأنبياء وسائر الموتى ، وقد رتّبنا الكلام في هذا الباب على فصول :

الفصل الأول :

فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

صنّف الحافظ أبو بكر البيهقيّ رحمه‌الله في ذلك جزءاً ، وروى فيه أحاديث منها : «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلّون».

ورواه ابن عديّ في «الكامل» (١) أنا غير واحد إذناً عن ابن المقير ، عن ابن الشهرزوريّ ، أنا إسماعيل بن مسعدة ، أنا حمزة بن يوسف ، أنا أحمد بن عديّ الحافظ ، قال : حدثنا قسطنطين بن عبد الله الروميّ مولى المعتمد على الله أمير المؤمنين ، حدثنا الحسين بن عرفة ، حدّثني الحسن بن قتيبة المدائنيّ ، حدثنا المتسلّم بن سعيد الثقفيّ ، عن الحجّاج الأسود ، عن ثابت البنانيّ ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأنبياء صلوات الله عليهم أحياء في قبورهم يصلّون».

قال ابن عديّ : وللحسن بن قتيبة هذا أحاديث غرائب حسان ، فأرجو أنّه لا بأس به.

__________________

(١) الكامل في الضعفاء لابن عدي.

وذكره ابن أبي حاتم ، ولم يذكر فيه جرحاً ولا تعديلاً ، وذكره الخطيب في «التأريخ» (١) وقال : عن البرقانيّ عن الدارقطنيّ : أنّه متروك الحديث.

وروى البيهقيّ هذا الحديث في صدر «الجزء الذي صنّفه» عن أبي سعيد ؛ أحمد ابن محمّد بن الخليل الصوفيّ عن ابن عديّ بسنده المذكور ، ثمّ قال البيهقيّ : هذا حديث يعدّ في أفراد الحسن بن قتيبة.

وقد روي عن يحيى بن أبي بكير ، عن المتسلم بن سعيد ، وهو فيما أنا الثقة من أهل العلم ، أنا أبو عمرو بن حمدان ، أنا أبو يعلى الموصليّ ، حدثنا أبو جهم الأزرق بن علي ، حدثنا يحيى بن أبي بكير ، حدثنا المتسلّم بن سعيد ، عن الحجّاج ، عن ثابت البنانيّ ، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأنبياء أحياء في قبورهم يصلّون» (٢).

قلت : ويحيى بن أبي بكير : ثقة ، والمتسلّم بن سعيد : ثقة ، والحجّاج (٣) : إن كان ابن أبي زناد فثقة ، وإن كان غيره فلم أعرفه.

قال البيهقيّ : وروي كما أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنا أبو حامد أحمد بن عليّ الحسنويّ إملاء ، حدثنا أبو عبد الله محمّد بن العبّاس الحمصيّ بحمص ، حدثنا أبو الربيع الزهرانيّ ، حدثنا إسماعيل بن طلحة بن يزيد ، عن محمّد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن ثابت ، عن أنس رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الأنبياء لا يتركون في قبورهم بعد أربعين ليلة ، ولكنّهم يصلّون بين يدي الله تعالى حتّى ينفخ في الصور».

__________________

(١) تاريخ بغداد (٧ / ٤٠٤) رقم ٣٩٤٨.

(٢) مجمع الزوائد (٨ / ٢١١) وقال رواه أبو يعلى والبزار ورجال أبي يعلى ثقات.

(٣) قال في الفتح في باب واذكر في الكتاب مريم من أحاديث الأنبياء : أخرجه البزار لكن وقع عنده عن الحجّاج الصواف وهو وهم ، والصواب الحجاج الأسود لما وقع التصريح به في رواية البيهقي وصحّحه البيهقي.

قال البيهقيّ : وهذا إن صحّ بهذا اللفظ ، فالمراد به ـ والله أعلم ـ : لا يتركون لا يصلّون إلّا هذا المقدار ، ثمّ يكونون مصلّين فيما بين يدي الله تعالى.

قال البيهقيّ : ولحياة الأنبياء بعد موتهم ، شواهد من الأحاديث الصحيحة.

ثمّ ذكر البيهقي بأسانيده حديث : «مررت بموسى وهم قائم يصلّي في قبره».

وحديثَ : «قد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ، وإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي ، أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفيّ ، وإذا إبراهيم قائم يصلّي أشبه الناس به صاحبكم ـ يعني نفسه ـ فحانت الصلاة فأممتهم ، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل لي : يا محمّد ، هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه ، فالتفتّ إليه فبدأني بالسلام» أخرجه مسلم (١).

وفي حديث سعيد بن المسيّب وغيره : أنّه لقيهم في بيت المقدس ، وفي حديث أبي ذر في صفة المعراج : أنّه لقيهم في السماوات ، وكلّموه وكلّمهم.

وكلّ ذلك صحيح لا يخالف بعضه بعضاً ، فقد رَأى موسى عليه‌السلام قائماً يصلّي في قبره ، ثمّ يُسرى بموسى وغيره إلى بيت المقدس ، كما أُسري بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ يعرج بهم إلى السماوات ، كما عرج بنبيّنا عليه الصلاة والسلام فيراهم فيها كما أخبر.

وحلولهم في أوقات بمواضع مختلفات ، فإنّه في العقل كما ورد في خبر الصادق ، وفي كلّ ذلك دلالة على حياتهم.

وممّا يدلّ على ذلك ما ساق إسناده إلى أوس بن أوس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل أيّامكم يوم الجمعة ، وفيه خلق آدم ، وفيه قبض ، وفيه النفخة ، وفيه الصعقة ، فأكثروا عليَّ من الصلاة فيه ؛ فإنّ صلاتكم معروضة».

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٠٦ ـ ١٠٨) كتاب الايمان ، باب من ذكر المسيح.

قالوا : وكيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت؟ ـ يقولون : بليت ـ

فقال : إنّ الله تعالى حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء ، أخرجه أبو داود (١).

قال البيهقيّ : وله شواهد ، منها :

ما أنا أبو عبد الله ، أنا ابن إسحاق الفقيه ، أنا الأبار ، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن ، حدثنا الوليد ، حدثنا أبو رافع ، عن سعيد المقبريّ ، عن أبي مسعود الأنصاريّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «أكثروا الصلاة عليَّ في يوم الجمعة ، فإنّه ليس يصلّي عليّ أحد يوم الجمعة إلّا عرضت عليَّ صلاته».

وأنا عليّ بن أحمد ، أنا أحمد بن عبيد ، حدثنا الحسين بن سعيد ، حدثنا إبراهيم ، حدثنا حمّاد ، عن برد ، عن مكحول ، عن أبي امامة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أكثروا عليَّ من الصلاة في كلّ يوم جمعة ، فإنّ صلاة امتي تعرض عليَّ في كلّ يوم جمعة ، فمن كان أكثرهم عليَّ صلاة كان أقربهم منّي منزلة» (٢).

وأنا الإسفرايينيّ ، حدّثني والدي ، أنا اسامة بمصر ، حدثنا محمّد بن إسماعيل الصائغ ، حدّثتنا حكامة بنت عثمان بن دينار ، عن مالك بن دينار ، عن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أقربكم منّي يوم القيامة في كلّ موطن ، أكثركم عليَّ صلاة في الدنيا ، فمن صلّى عليَّ يوم الجمعة وليلة الجمعة ، قضى الله له مائة حاجة : سبعين من حوائج الآخرة ، وثلاثين من حوائج الدنيا ، ثمّ يوكل الله بذلك ملكاً يدخله في قبري ، كما تدخل عليكم الهدايا ؛ يخبر عمّن صلّى عليّ باسمه ونسبه إلى عشيرته ، فأُثبته عندي في صحيفة بيضاء».

ثمّ ذكر البيهقيّ حديث : «فإنّ صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم».

__________________

(١) سنن أبي داود (٢ / ٨٨) كتاب الصلاة ، باب في الاستغفار ح ١٥٣١.

(٢) السنن الكبرى للبيهقي (٣ / ٢٤٩) كتاب الجمعة ، باب ما يدخر به في ليلة الجمعة ويومها.

وحديث : «ما من أحد يسلّم عليَّ إلّا ردّ الله عليَّ روحي حتّى أردّ».

قال البيهقيّ ، وإنّما أراد ـ والله أعلم ـ إلّا وقد ردّ الله علي روحي حتّى أردّ عليه (١).

قلت : وقد تقدّم احتمال آخر.

ثمّ ذكر البيهقيّ حديث : «إنّ لله ملائكة سيّاحين يبلغوني عن امّتي السلام».

وقولَ ابن عبّاس : ليس أحد من امّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلّى عليه صلاة إلّا وهي تبلغه ، يقول له الملك : فلان يصلّي عليك كذا وكذا صلاة.

وحديث : «من صلّى عليَّ عند قبري سمعته» من طريق أبي عبد الرحمن ، وقال : هو محمّد بن مروان السدّي فيما أرى ، وفيه نظر ، وقد مضى ما يؤكّده.

هذا قول البيهقيّ.

وذكر ما قدّمناه عن سليمان بن سحيم ، ثمّ قال : وممّا يدلّ على حياتهم ما أنا أبو عبد الله الحافظ ... وساق إسناده ، وذكر حديث : «فإذا موسى باطش بجانب العرش ، فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق قبلي ، أو كان ممّن استثنى الله عزوجل» رواه البخاريّ ومسلم (٢).

قال البيهقيّ : وهذا إنّما يصحّ على أنّ الله عزوجل ردّ على الأنبياء صلوات الله عليهم أرواحهم ، فهم أحياء عند ربّهم كالشهداء ، فإذا نفخ في الصور النفخة الاولى صعقوا فيمن صعق ، ثمّ لا يكون ذلك موتاً في جميع معانيه إلّا في ذهاب الاستشعار ، فإن كان موسى عليه‌السلام ممّن استثنى الله بقوله : (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) فإنّه لا يذهب استشعاره في تلك الحالة ، فيحاسبه بصعقة يوم الطور.

ويقال : إنّ الشهداء من جملة من استثنى الله عزوجل بقوله تعالى : (إِلَّا مَنْ

__________________

(١) السنن الكبرى (٥ / ٢٤٥) كتاب الحج ، باب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(٢) صحيح البخاري (٤ / ١٣١) و (٧ / ١٩٣) و (٨ / ١٩٢) وصحيح مسلم (٧ / ١٠١).

شاءَ اللهُ) ورُوّينا في ذلك خبراً مرفوعاً.

هذا جملة ما ذكره الحافظ أبو بكر البيهقيّ في كتاب «حياة الأنبياء في قبورهم» لم نحذف منه إلّا بعض الأسانيد ، أو بعض الزيادة في الأسماء.

وقد قدّمناه في حديث من «سنن ابن ماجة» (١) فيه : «فنبيّ الله حيّ يرزق».

وقال البيهقيّ في «دلائل النبوّة» (٢) : وفي الحديث الصحيح عن سليمان التيميّ وثابت البنانيّ ، عن أنس بن مالك : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أتيت على موسى ليلة اسري بي عند الكثيب الأحمر ، وهو قائم يصلّي في قبره».

وروّينا في الحديث الصحيح عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ...» وذكر إبراهيم وعيسى ووصفهم ، ثمّ قال : «فحانت الصلاة فأممتهم».

وروّينا في حديث ابن المسيّب : أنّه لقيهم في بيت المقدس.

وروّينا في حديث أنس : أنّه بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ، فأمّهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الليلة.

وروّينا في الحديث الصحيح عن أنس ، عن مالك بن صعصعة ، وعن أنس ، عن أبي ذر رضي الله عنهم : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى موسى بن عمران في السماء السادسة.

وليس بين هذه الأخبار منافاة ، فقد يراه في مسيره قائماً يصلّي في قبره ، ثمّ يسرى به إلى بيت المقدس ، كما اسري بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرآه فيه ، ثمّ يعرج به إلى السماء السادسة ، كما عرج بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فرآه في السماء ، وكذلك سائر من رآه من الأنبياء في الأرض ثمّ في السماء ، والأنبياء صلوات الله عليهم أحياء عند ربّهم كالشهداء ، فلا

__________________

(١) سنن ابن ماجة (١ / ٥٢٤) ح ١٦٣٧ ، تقدم.

(٢) دلائل النبوة للبيهقي.

ينكر حلولهم في أوقات بمواضع مختلفات ، كما ورد خبر الصادق به ، هذا كلام البيهقيّ.

[أحاديث الاسراء ولقاء الأنبياء أحياء]

وقد ثبت في الصحيح في حديث الإسراء : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجد آدم في السماء الدنيا ، وقال فيه : «فإذا رجل عن يمينه أسودة ، وعن يساره أسودة ، فإذا نظر قِبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قِبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبيّ الصالح والابن الصالح» ووجد إبراهيم في السابعة مسنداً ظهره إلى البيت المعمور.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مررت ليلة اسري بي على موسى بن عمران ؛ رجل آدم طوال جعد كأنّه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى بن مريم ؛ مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض ، سبط الرأس».

وقال في حديث آخر : «لقيت موسى فإذا برجل» حسبته قال : «مضطرب رَجِل الرأس كأنّه من رجال شنوءة ، ولقيت عيسى فإذا ربعة أحمر كأنّما خرج من ديماس» ـ يعني حمّاماً «ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به».

وفي حديث آخر : «أراني ليلة عند الكعبة ، فرأيت رجلاً آدم ؛ كأحسن ما أنت راءٍ من الرجال ، له لمّة ، كأحسن ما أنت راءٍ من اللّمم قد رجلها ، فهي تقطر ماءً متّكئاً على رجلين» أو «على عواتق رجلين يطوف بالبيت ، فسألت : من هذا؟ فقيل : هذا المسيح ابن مريم».

وفي حديث : «لقد رأيتني في الحِجْر وقريش تسألني عن مسراي ، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها ، فكربت كرباً ما كربت مثله قطّ» قال : «فرفعه الله أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلّا أنبأتهم ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، فإذا موسى قائم يصلّي ، فإذا رجل ضرب جعد كأنّه من رجال شنوءة ،

وإذا عيسى بن مريم قائم يصلّي ؛ أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود الثقفيّ ، وإذا إبراهيم قائم يصلّي أشبه الناس به صاحبكم» يعني نفسه «فحانت الصلاة فأممتهم ، فلمّا فرغت من الصلاة قال قائل : يا محمّد ، هذا مالك صاحب النار فسلّم عليه ، فالتفت إليه فبدأني بالسلام».

وفي حديث آخر : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرّ بوادي الأزرق فقال : «كأنّي أنظر إلى موسى هابطاً من الثنيّة ، وله جؤار إلى الله بالتلبية».

ثمّ أتى على ثنيّة هَرْشَى فقال : «كأنّي أنظر إلى يونس بن متّى على ناقة حمراء جعدة ، عليه جبّة من صوف ، خطام ناقته خليّة ، وهو يلبّي».

وفي حديث آخر : «كأنّي أنظر إلى موسى واضعاً إصبعيه في اذنيه».

وهذه الأحاديث كلّها في الصحيح.

وقد تقدّم في موسى وعيسى وجميع الأنبياء المذكورين شيء كثير من صفات الأجسام ، وكذلك صلاتهم قياماً ، وإمامة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهم.

ولا يقال : إنّ ذلك رؤيا منام ، وإنّ قوله : «أراني» فيه إشارة إلى النوم ؛ لأنّ الإسراء وما اتفق فيه كان يقظة على الصحيح الذي عليه جمهور السلف والخلف.

ولو قيل : بأنّه نوم ، فرؤيا الأنبياء حقّ.

وقوله : «أراني» لا دلالة فيه على المنام ؛ بدليل قوله : «رأيتني في الحِجْر» وكان ذلك في اليقظة ، كما يدلّ عليه بقيّة الكلام.

وقال تعالى : (فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ) وفي «صحيح مسلم» (١) : كان قتادة يفسّرها أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد لقي موسى.

وقد قيل في قوله تعالى : (وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا) : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سألهم ليلة الإسراء.

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٠٥).

قال القاضي عياض رحمه‌الله :

فإن قيل : يحجّون ويلبّون وهم أموات ، وهم في الدار الآخرة ، وليست دار عمل.

فاعلم أنّ للمشايخ وفيما ظهر لنا عن هذا ، أجوبةً :

أحدها : أنّهم كالشهداء ، بل أفضل منهم ، والشهداء أحياء عند ربّهم ، فلا يبعد أن يحجّوا ويصلّوا ، كما ورد في الحديث الآخر ، وأن يتقرّبوا إلى الله تعالى بما استطاعوا ؛ لأنّهم ـ وإن كانوا قد توفّوا ـ فهم في هذه الدنيا التي هي دار العمل ، حتى إذا فنيت مدّتها وتعقّبتها الآخرة التي هي دار الجزاء ، انقطع العمل.

والوجه الثاني : أنّ عمل الآخرة ذكر ودعاء ، قال الله تعالى : (دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللهُمَ).

الثالث : أن يكون رؤيا منام ، فهو في غير ليلة الإسراء.

الرابع : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُري حالهم التي كانت في حياتهم ، ومثلوا له في حال حياتهم كيف كانوا ، وكيف كان حجّهم وتلبيتهم.

الخامس : أن يكون أخبر عمّا اوحي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أمرهم ، وما كان منهم ؛ وإن لم يرهم رؤية عين.

هذا كلام القاضي.

والوجه الأوّل والثاني يلزم منهما الحياة ، والثالث لا يأتي في ليلة الإسراء ، والرابع والخامس إنّما يأتيان في الحجّ والتلبية ونحوهما ، وأمّا فيما حصل ليلة الإسراء فلا.

والجواب الصحيح في الصلاة ونحوها أحد جوابين :

إمّا أن نقول : البرزخ ينسحب عليه حكم الدنيا في استكثارهم من الأعمال ؛ وزيادة الاجور ، وهو الجواب الأوّل الذي ذكره القاضي.

وإمّا أن نقول : إنّ المنقطع في الآخرة إنّما هو التكليف ، وقد تحصل الأعمال من غير تكليف ؛ على سبيل التلذّذ بها والخضوع لله تعالى ، ولهذا إنّهم يسبّحون ، ويدعون ، ويقرءون القرآن.

وانظر إلى سجود النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقت الشفاعة ، أليس ذلك عبادة وعملاً!!

وعلى كلا الجوابين ، لا يمتنع حصول هذه الأعمال في مدّة البرزخ.

وقد صحّ عن ثابت البنانيّ التابعيّ أنّه قال : اللهمّ إن كنت أعطيت أحداً أن يصلّي في قبره فأعطني ذلك.

فرُئي بعد موته يصلّي في قبره.

وتكفي رؤية النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لموسى قائماً يصلّي في قبره.

ولأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر الأنبياء ، لم يقبضوا حتّى خيّروا بين البقاء في الدنيا ، وبين الآخرة ، فاختاروا الآخرة ، ولا شكّ أنّهم لو بقوا في الدنيا لازدادوا من الأعمال الصالحة ، ثمّ انتقلوا إلى الجنّة ، فلو لم يعلموا أنّ انتقالهم إلى الله أكمل ما اختاروا ، ولو كان انتقالهم من هذه الدار يفوّت عليهم زيادة فيما يقرّب إلى الله ، لما اختاروه.

فهذه نبذة من الأحاديث الصحيحة الدالّة على حياة الأنبياء.

والكتاب العزيز يدلّ على ذلك أيضاً ، قال تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ).

وإذا ثبت ذلك في الشهيد ثبت في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بوجوه :

أحدها : أنّ هذه رتبة شريفة اعطيت للشهيد ؛ كرامةً له ، ورتبة أعلى من رتبة الأنبياء ، ولا شكّ أنّ حال الأنبياء أعلى وأكمل من حال جميع الشهداء ، فيستحيل أن يحصل كمال للشهداء ، ولا يحصل للأنبياء ، لا سيّما هذا الكمال الذي يوجب زيادة القرب والزلفى والنعيم والانس بالعليّ الأعلى.

الثاني : أنّ هذه الرتبة حصلت للشهداء أجراً على جهادهم وبذلهم أنفسهم لله تعالى ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي سنّ لنا ذلك ، ودعانا إليه ، وهدانا له بإذن الله تعالى وتوفيقه ، وقد قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سنّ سنّة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة ، ومن سنّ سنة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل اجور من يتّبعه ؛ لا ينقص ذلك من اجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم آثام من يتّبعه ؛ لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً».

والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة ، فكلّ أجر حصل للشهيد حصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لسعيه مثله ، والحياة أجر ، فيحصل للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلها زيادة على ما له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأجر الخاصّ من نفسه على هدايته للمهتدي ، وعلى ما له من الاجور على حسناته الخاصّة ؛ من الأعمال والمعارف والأحوال التي لا تصل جميع الامّة إلى عرف نشرها ، ولا يبلغون معشار عشرها.

وهكذا نقول : إنّ جميع حسناتنا وأعمالنا الصالحة وعبادات كلّ مسلم ، تسطّر في صحائف نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم زيادة على ما له من الأجر ، ويحصل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الاجور بعدد امّته أضعافاً لا يحصرها إلّا الله تعالى ، ويقصر العقل عن إدراكها ، فإنّ كلّ مهتدٍ وعامل إلى يوم القيامة يحصل له أجر ، ويتجدّد لشيخه في الهداية مثل ذلك الأجر ، ولشيخ شيخه مثلاه ، وللشيخ الثالث أربعة ، وللرابع ثمانية ، وهكذا يضعّف في كلّ مرتبة بعدد الاجور الحاصلة بعده ... إلى أن تنتهي إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإذا فرضت المراتب عشرةً بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأجر ألف وأربعة وعشرون ، فإذا اهتدى بالعاشر حادي عشر صار أجر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألفين وثمانية وأربعين ، وهكذا كلّما ازداد واحد يتضاعف ما كان قبله أبداً إلى يوم القيامة.

وهذا أمر لا يحصره إلّا الله تعالى ، ويقصر العقل عن كنه حقيقته ، فكيف إذا اخذ مع كثرة الصحابة ، وكثرة التابعين ، وكثرة المسلمين في كلّ عصر!! فكلّ واحد من الصحابة يحصل له بعدد الاجور التي يترتّب على فعله إلى يوم القيامة ، وكلّ ما يحصل لجميع الصحابة حاصل بجملته للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبهذا يظهر رجحان السلف على الخلف ؛ فإنّه كلّما ازداد الخلف ازداد أجر السلف ، وتضاعف بالطريق الذي نبّهنا عليه.

ومن تأمّل هذا المعنى ، ورزق التوفيق ، انبعثت همّته إلى التعليم ، ورغب في نشره ؛ ليتضاعف أجره في حياته وبعد موته على الدوام ، ويكفّ عن إحداث البدع والمظالم من المكوس وغيرها ، فإنّها تضاعف عليه بالطريق التي ذكرناها ما دام يعمل بهذا ، فليتأمّل المسلم هذا المعنى ، وسعادة الهادي إلى الخير ، وشقاوة الداعي إلى الشرّ.

الثالث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شهيد ، فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا سمّ بخيبر ، وأكل من الشاة المسمومة ، وكان ذلك سمّاً قاتلاً من ساعته ، مات منه بشر بن البراء رضى الله عنه ، وبقي النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك معجزة في حقّه ، صار ألم السمّ يتعاهده إلى أن مات به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم [وقال] في مرضه الذي ماتَ فيه : «ما زالت أكلة خيبر تعاودني حتّى كان الآن أوان قطعت أبهري».

قال العلماء : فجمع الله له بذلك بين النبوّة والشهادة.

وتكون الحياة الثابتة للشهداء لا تختصّ بمن قتل في المعركة ، فإنّا إنّما اشترطنا ذلك في الأحكام الدنيويّة ، كالغسل ، والصلاة ، أمّا الآخرة فلا ، وهذا لا شكّ فيه بالنسبة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمّا غيره وغير شهداء المعركة ؛ ممّن شهد له الشرع بالشهادة ، كالمطعون ، والمبطون ، والغريق ، ونحوهم ، فهل نقول : إنّ الحياة الثابتة للمقتولين في سبيل الله

تثبت لهم؟

هذا يحتاج إلى توقيف.

و «الشهيد» فعيل إمّا بمعنى الفاعل ، أو بمعنى المفعول ، وقد اختلف في سبب هذه التسمية :

فنقل عن النضر بن شميل : أنّ الشهيد هو الحيّ ؛ لأنّ كلّ من كان حيّاً كان شاهداً ، أو مشاهداً للأحوال ، والشهيد حيي بعد أن صار مقتولاً ، واستدلّ بالآية.

فعلى مقتضى هذا القول ، كلّ من ورد الشرع بأنّه شهيد ، ثبت له هذا الوصف ؛ وهو كونه حيّاً.

وقيل على كونه فاعلاً : إنّه شهيد على الامم الخالية يوم القيامة ، وإنه شاهد لطف الله ورحمته.

وقيل على كونه بمعنى مفعولاً : إنّ ملائكة الرحمة يحضرونه ، ويرفعون روحه إلى منازل القدس ، وكلّ هذه المعاني موجودة في حقّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل في سبب التسمية غير ما ذكرنا.

واعلم : أنّه لا بد من تفسير الحياة التي نثبتها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحياة التي نثبتها للشهيد وحياة سائر الموتى أيضاً :

فأمّا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعدّ صاحب «التلخيص» من الشافعيّة في خصائصه : أنّ ماله بعد موته قائم على نفقته وملكه.

وقال إمام الحرمين رحمه‌الله : إنّ ما خلّفه بقي على ما كان في حياته ، فكان ينفق أبو بكر رضى الله عنه منه على أهله وخدمه ، وكان يرى أنّه باقٍ على ملك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ الأنبياء أحياء.

وأعلم : أنّ هذا القول يقتضي إثبات الحياة في أحكام الدنيا ، وذلك زائد على حياة الشهيد.

والقرآن العزيز ناطق بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال تعالى : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ).

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي مقبوض».

وقال الصدّيق رضى الله عنه : فإنّ محمّداً قد مات.

وأجمع المسلمون على إطلاق ذلك.

فالوجه إذا ثبت القول المذكور أن يقال : إنّ ذلك موت غير مستمرّ ، وإنه احيي بعد الموت ، ويكون انتقال الملك ونحوه مشروطاً بالموت المستمرّ ، وإلّا فالحياة الثابتة حياة اخرويّة ، ولا شكّ أنّها أعلى وأكمل من حياة الشهيد.

وهي ثابتة للروح بلا إشكال.

والجسد : قد ثبت أن أجساد الأنبياء لا تبلى.

وعود الروح إلى البدن سنذكره في سائر الموتى ، فضلاً عن الشهداء ، فضلاً عن الأنبياء ، وإنّما النظر في استمرارها في البدن ، وفي أنّ البدن يصير حيّاً بها ، كحالته في الدنيا ، أو حيّاً بدونها ، وهي حيث شاء الله تعالى ، فإنّ ملازمة الحياة للروح أمر عاديّ لا عقليّ ، فهذا ممّا يجوّزه العقل ، فإن صحّ به سمع اتّبع ، وقد ذكرناه عن جماعة من العلماء ، وشهد له صلاة موسى عليه‌السلام في قبره ، فإنّ الصلاة تستدعي جسداً حيّاً ، وكذلك الصفات المذكورة في الأنبياء ليلة الإسراء ، كلّها صفات الأجسام.

ولا يلزم من كونها حياة حقيقيّة أن تكون الأبدان معها ـ كما كانت في الدنيا ـ من الاحتياج إلى الطعام ، والشراب ، والامتناع عن النفوذ في الحجاب الكثيف ، وغير ذلك من صفات الأجسام التي نشاهدها ، بل قد يكون لها حكم آخر ، فليس في العقل ما يمنع من إثبات الحياة الحقيقيّة لهم.

وأمّا الإدراكات ـ كالعلم ، والسماع ـ فلا شكّ أنّ ذلك ثابت ، وسنذكر ثبوته لسائر الموتى ، فكيف بالأنبياء!!

الفصل الثاني : في الشهداء

أجمع العلماء على إطلاق لفظ «الحياة» على الشهيد ، كما نطق به القرآن ، ولكن اختلفوا هل هي حياة حقيقيّة ، أو مجازيّة؟

وعلى تقدير كونها حقيقيّة ، هل هي الآن ، أو يوم القيامة؟

وعلى تقدير كونها الآن ، هل هي للروح ، أو للجسد؟

فهذه أربعة أقوال ، لا خامس لها.

أضعفها قول من قال : إنّ المراد أنّهم يصيرون أحياء يوم القيامة ، وليس المراد أنّهم أحياء الآن.

وهذا قول باطل بوجوه :

منها : قوله تعالى : (وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ) فهذا خطاب للمؤمنين بأنّهم لا يشعرون بحياة من قُتِلَ في سبيل الله ، وكلّ المؤمنين يشعرون ويعلمون بحياتهم يوم القيامة ، وإنّما الغريب الذي لا يُشْعَرُ به : حياتهم الآن.

ومنها : قوله تعالى : (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) والمراد

إخوانهم الذين في الدنيا ، ولم يموتوا بعدُ.

ومنها : الأحاديث الصحيحة عن ابن عبّاس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لمّا اصيب إخوانكم بأُحد ، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر ترد أنهار الجنّة ، تأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة في ظلّ العرش ، فلمّا وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ومقيلهم قالوا : من يبلغ إخواننا عنّا أنّا أحياء في الجنّة نرزق ؛ لئلّا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب.

فقال الله تعالى : أنا ابلغهم عنكم ، فأنزل الله عزوجل (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً ...)» الآية ، رواه أبو داود ، وأخرجه الحاكم في صحيحه (١).

وفي «صحيح مسلم» (٢) عن مسروق قال : سألنا عبد الله بن مسعود عن هذه الآية (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)؟

فقال : أما أنا قد سألنا عن ذلك فقال : «أرواحهم في جوف طير خضر ، لها قناديل معلّقة بالعرش ، تسرح من الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى تلك القناديل ، فاطّلع إليهم ربّهم اطّلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً؟

قالوا : أيّ شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنّة حيث نشاء!!

فيقول ذلك لهم ثلاث مرّات.

فلمّا رأوا أنّهم لم يتركوا من أن يسألوا ، قالوا : يا ربّ ، نريد أن تردّ أرواحنا في أجسادنا حتّى نقتل في سبيلك مرّة اخرى.

فلمّا رأى أنّ ليست لهم حاجة تركوا».

__________________

(١) سنن أبي داود (١ / ٥٦٦). والمستدرك على الصحيحين للحاكم (٢ / ٨٨) و (٢ / ٢٩٧) وأورده البيهقي في السنن الكبرى (٩ / ١٦٣).

(٢) صحيح مسلم (٦ / ٣٨) كتاب الإمارة ، باب في بيان أن أرواح الشهداء في الجنّة.

وهذان الحديثان صريحان في أنّ ذلك حصل فيما مضى.

وعن جابر بن عبد الله رضيّ الله عنهما قال : لقيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «يا جابر ، ما لي أراك منكّساً؟».

قلت : يا رسول الله ، استشهد أبي قبل يوم احد ، وترك عيالاً ، وعليه دين.

قال : «أفلا ابشّرك بما لقي الله عزوجل به أباك؟».

قلت : بلى يا رسول الله.

قال : «إنّ الله ما كلّم أحداً قطّ إلّا من وراء حجاب ، وأحيا أباك وكلّمه كفاحاً ، فقال له : يا عبدي ، تمنّ عليّ أعطك.

فقال : يا رب ، تحييني فاقتل فيك مرّة ثانية.

قال الربّ عزوجل : قد سبق منّي أنّهم لا يرجعون».

قال : وانزلت هذه الآية : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً) رواه الترمذيّ وقال : حسن غريب من هذا الوجه (١).

وقوله : «أحيا أباك» يقتضي تجدّد حياة ، والروح باقية لم تمت ، فإمّا أن يحمل على الجسد ، وإمّا على أنّ مفارقتها الجسد حياة لها.

ومنها : ما سنذكره في سائر الموتى ؛ وأنّهم منقسمون في القبور إلى منعّم ومعذّب.

فثبت بهذه الوجوه أنّ الحياة حاصلة للشهيد الآن.

ولكن من الناس من قال : إنّها حياة مجازيّة ، ثمّ سلكوا في وجه المجاز وجوهاً :

إمّا لأنّهم في حكم الله مستحقّون للنعيم في الجنّة.

أو لأنّ ثناءهم باقٍ.

أو غير ذلك من وجوه المجازات.

__________________

(١) سنن الترمذي (٤ / ٢٩٨) ، ورواه ابن ماجة (٢ / ٩٣٦) ح (٢٨٠٠).

وكلّها ضعيفة ؛ لأنّها عدول عن الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.

فلم يبق إلّا أنّها حياة حقيقيّة الآن ، وأنّ الشهداء أحياء حقيقة ، وهو قول جمهور العلماء.

[حياة الشهداء : للروح أو للجسد؟]

لكن هل ذلك للروح فقط ، أو للجسد معها؟ فيه قولان :

أحدهما : للروح فقط ؛ لما ذكرناه من حديث ابن عبّاس وابن مسعود رضي الله عنهما وأنّ الروح في أجواف طير خضر ، وحياة الجسد إنّما تكون بعود الروح إليه.

والثاني : للجسد معها.

وسنذكر مثل ذلك في سائر الموتى وإثبات حياتهم في قبورهم ؛ وأنّ عذاب القبر ونعيمه للجسد والروح جميعاً ، وإذا كان نعيم غير الشهيد كذلك فنعيم الشهيد أتمّ وأولى وأكمل.

وذكر القرطبيّ : أنّ أجساد الشهداء لا تبلى ، وقد صحّ عن جابر أنّ أباه وعمرو بن الجموح رضي الله عنهم ـ وهما ممّن استشهد بأُحد ، ودفنا في قبر واحد ـ حفر السيل قبرهما ، فوجدا لم يتغيّرا ، وكان أحدهما قد جرح ، فوضع يده على جرحه ، فدفن وهو كذلك ، فاميطت يده عن جرحه ثمّ ارسلت ، فرجعت كما كانت ، وكان بين ذلك وبين احد ستّ وأربعون سنة (١).

__________________

(١) ذكر المؤرخ المتتبع عاتق بن غيث البلادي ـ مؤرخ مكّة المكرّمة وجغرافيّها اليوم ـ أنه لما حُفرت منطقة الشهداء في مكة لتأسيس بعض المباني ، عُثر على قبر فيه جسد طريّ ، ويدُ المدفون على صدره ، فلما أزيحت اليد عن الصدر انبعث الدم ، وكلّما اعيدَت إلى موضعها انقطع الدم ، فتركوا الجسد في الموضع ، وعُفّي عليه. وهذا الموضع هو المعروف باسم «فخّ» الذي كانت فيه معركة بين جماعة من أهل البيت ، والامويين عام (١٣١) للهجرة. وكتب السيّد

ولمّا أجرى معاوية رضى الله عنه العين التي استنبطها بالمدينة ، وذلك بعد احد بنحو من خمسين سنة ، ونقل الموتى ، أصابت المسحاة قدم حمزة رضى الله عنه فسال منه الدم.

ووجد عبد الله بن حرام كأنّما دفن بالأمس.

وروى كافّة أهل المدينة أنّ جدار قبر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا انهدم أيّام الوليد ، بدت لهم قدم عمر بن الخطّاب رضى الله عنه وكان قتل شهيداً.

ولا حاجة إلى الإكثار من ذلك ؛ فقد صحّ أنّ الأنبياء لا تأكل الأرض أجسادهم ، وورد مثله في الشهداء.

ويعني بالشهيد من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

فلا يرد علينا : أنّا قد نرى من يقاتل وتأكله الأرض لكن بقاء الجسد لا يدلّ على حياته والكلام هنا إنّما هو في الحياة ، وقد صحّ في الشهداء أنّهم يقولون : نريد أن تردّ أرواحنا إلى أجسادنا ، وهذا يردّ قول من يقول : إنّ جسد الشهيد حيّ بروحه ، كما كان في الدنيا.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّه حيّ بغير تلك الروح ، نوعاً من الحياة مخالفاً للحياة الدنيويّة.

وقد جاء في أرواح الشهداء : «أنّها في أجواف طير تسرح في الجنّة حيث شاءت ، ثمّ تأوي إلى قناديل من تحت العرش».

فمن العلماء من قال : أرواح الشهداء في أجواف طير في الجنّة ، وأرواح غيرهم من المؤمنين في قبورهم ، وممّن ذكر ذلك القرطبيّ في «التذكرة».

ومنهم من طعن في الحديث وقال : إنّه لم يصحّ كونها في حواصل طير ، وزعم أنّها بذلك تكون محبوسة ، نقل ذلك عن أبي الحسن القاليّ وغيره من المالكيّة.

وهو مردود ؛ لأنّ الحديث صحيح.

ومنهم من أوّل «في» بمعنى «على».

ومنهم من قال : إنّها ليست في طير ، ولكنّها نفس الطير ؛ لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما نسمة المؤمن طائر تعلق».

ومنهم من يقول : أرواح الشهداء مختلفة :

منها : ما هو طائر تعلق من شجر الجنّة.

ومنها : ما هو في حواصل طير خضر.

ومنها : ما تأوي إلى قناديل تحت العرش.

ومنها : ما هو في حواصل طير بيض.

ومنها : ما هو في حواصل طير كالزرازير.

ومنها : ما هو في أشخاص وصور من صور الجنّة.

ومنها : ما هو في صور تخلق لهم من ثواب أعمالهم. ومنها ما يسرح ويتردّد إلى جثّتها يزورها.

ومنها : ما يتلقّى أرواح الموتى. وممّن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه‌السلام.

ومنها : ما هو في كفالة آدم عليه‌السلام.

ومنها : ما هو في كفالة إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

قال القرطبيّ رحمه‌الله تعالى : وهذا قول حسن ، فإنّه يجمع الأخبار حتى لا تدافع ، والله تعالى أعلم.

الفصل الثالث :

في سائر الموتى في السماع والكلام والإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد

أمّا السماع والكلام : فرواهما البخاريّ رحمه‌الله :

أنا بجميع «صحيح البخاريّ» أبو الحسن عليّ بن محمّد بن هارون بقراءتي عليه غير مرّة بالقاهرة ، وفاطمة بنت البطائحيّ بقراءتي عليها بسفح قاسيون ظاهر دمشق ، وأبو العبّاس أحمد بن أبي طالب ، ووزيرة بنت عمر بن أسعد برميخا قراءة عليهما وأنا أسمع وآخرون.

قال الأربعة المذكورون : أنا الحسين بن المبارك بن يحيى بن الزبيديّ ـ قال الأوّل : وأنا حاضر ، وقال الثلاثة : ونحن نسمع ـ قال أنا أبو الوقت عبد الأوّل بن عيسى قراءة عليه وأنا أسمع ، أنا جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمّد بن المظفّر الداوديّ ، أنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن حمويه ، أنا أبو عبد الله محمّد بن يوسف بن مطر الفربريّ ، حدثنا الإمام أبو عبد الله محمّد بن إسماعيل البخاريّ ، قال حدثنا عيّاش ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا سعيد.

وبه قال : وقال لي خليفة : حدثنا ابن زريع ، حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «العبد إذا وضع في قبره وتولّى وذهب عنه أصحابه ـ حتّى أنّه يسمع قرع نعالهم ـ أتاه ملكان فأقعداه ، فيقولان له : ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد؟

فيقول : أشهد أنّه عبد الله ورسوله.

فيقال : انظر إلى مقعدك من النار ، أبدلك الله به مقعداً من الجنّة.

قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فرآهما جميعاً.

وأمّا الكافر أو المنافق فيقول : لا أدري كيف؟ أقول ما يقول الناس.

فيقال : لا دريت ، ولا تليت ، ثمّ يضرب بمطرقة من حديد ضربة بين اذنيه ، فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلّا الثقلين» (١).

وروى مسلم رحمه‌الله من حديث أسماء قريباً منه ، وفيه : «وأمّا المنافق أو المرتاب». قال الراوي : لا أدري أيّ ذلك قالت أسماء (٢).

وفي الترمذيّ : أنّ الملكين يقولان للمؤمن : «نم كنومة العروس لا يوقظه إلّا أحبّ أهله إليه» (٣).

وبالإسناد إلى البخاريّ قال : حدثنا عبد العزيز بن عبد الله ، حدثنا الليث ، عن سعيد المقبريّ ، عن أبيه : أنّه سمع أبا سعيد الخدريّ يقول : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا وضعت الجنازة واحتملها الرجال على أعناقهم ، فإن كانت صالحة قالت : قدّموني ،

__________________

(١) صحيح البخاري (٢ / ٥٦٧) باب (٨٥٢) الميت يسمع خفق النعل ح (١٢٤٨).

(٢) صحيح مسلم (٣ / ٣٢) ، ولاحظ صحيح البخاري (١ / ٢٩ و ٣٠ و ٥٤ و ٢٢١) و (٢ / ٢٨) و (٨ / ١٤١). ومسند أحمد (٦ / ٣٤٥) ، والسنن الكبرى للبيهقي (٣ / ٣٣٨) ، ولاحظ كنز العمال (١٥ / ٦٣٣).

(٣) سنن الترمذي (٢ / ٢٦٧).

وإن كانت غير صالحة : قالت : يا ويلها ، أين تذهبون بها؟! يسمع صوتها كلّ شيء إلّا الإنسان ، ولو سمعه صعق».

وبالإسناد إلى البخاريّ قال : حدثنا عبد الله بن يوسف ، حدثنا الليث بن سعد ... فذكر بمثله ، وقال : «قالت لأهلها : يا ويلها» وقال : «ولو سمع الإنسان لصعق» (١).

فانظر هذه الأحاديث الصحيحة التي لا مرية فيها ، وتأكيد الكلام بما لا يحتمل المجاز ؛ وهو قول : «يسمع صوتها كلّ شيء إلّا الإنسان» ولو لا هذا لأمكن أن يحمل على القول بلسان الحال ، لكن بعد هذا لا يسوغ هذا الحمل.

وأيضاً فإنّ لسان الحال معلوم عند الإنسان ، فلا شكّ في حصول كلام حقيقيّ ، هذا ونحن نشاهد على أعناق الرجال ميّتاً.

ومن الأحاديث الصحيحة المتّفق عليها ، نداؤه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أهل البئر ، وقوله : «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» (٢).

وأمّا الإدراك : فيدلّ له مع ذلك الأحاديث الواردة في عذاب القبر ، وهي أحاديث صحيحة متّفق عليها ، رواها البخاريّ ومسلم وغيرهما ، وأجمع عليها وعلى مدلولها أهل السنّة ، والأحاديث في ذلك متواترة.

ومن أحسنها ما رواه أبو داود الطيالسيّ ، أنا أبو العباس أحمد بن محمّد الدشتيّ بقراءتي عليه بالشام في سنة سبع وسبعمائة قال : أنا الحافظ ابن خليل ، أنا اللبان ، أنا الحدّاد ، أنا أبو نعيم ، أنا ابن فارس ، حدثنا يونس بن حبيب ، حدثنا أبو داود

__________________

(١) صحيح البخاري (٢ / ٨٨).

(٢) حديث القليب ، صحيح البخاري (٢ / ١٠١) ولاحظ كتاب الجنائز باب (٨٧١) ما جاء في عذاب القبر ح ١٢٧٨ ، ولاحظ (٥ / ٩) وصحيح مسلم (٣ / ٤٤) ومستدرك الحاكم (٣ / ٢٢٤) ومسند أحمد (٢ / ١٣١) و (٦ / ٢٧٦).

الطيالسيّ ، حدثنا الأسود بن شيبان ، عن بحر بن مرّار (١) عن أبي بكرة قال : بينما أنا أمشي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعي رجل ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يمشي بيننا ، إذ أتى على قبرين ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ صاحبي هذين القبرين ليعذّبان الآن في قبورهما ، فأيّكما يأتيني من هذا النخل بعسيب؟».

فاستبقت أنا وصاحبي فسبقته ، وكسرت من النخل عسيباً ، فأتيت به النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فشقّه نصفين من أعلاه ، فوضع على أحدهما نصفاً ، وعلى الآخر نصفاً وقال : «إنّه يهوّن عليهما ما دام فيهما من بلولتهما شيء ، إنّهما يعذّبان في الغيبة والبول» (٢).

قال الطيالسيّ : وروى هذا الحديث مسلم بن إبراهيم ، عن الأسود ، عن مجزأة ، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة.

هكذا نقلته من مسند أبي داود الطيالسيّ (٣) التي هي أصل سماعي ، وهي بخطّ ابن خليل ، وأصل الحديث ثابت في «الصحيحين» (٤).

وفي هذه الرواية النصّ على أنّ العذاب الآن ، وأنّه في القبور.

وخرّج البخاريّ ومسلم عن البراء بن عازب : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ محمّداً رسول الله ، فذلك قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي

__________________

(١) في (ه) : البكراويّ.

(٢) البخاري ، مسلم.

(٣) مسند الطيالسي

(٤) صحيح البخاري (١ / ٦١) و (٢ / ٩٩) و (٢ / ١٠٣) باب عذاب القبر من الغيبة والبول و (٧ / ٨٦) ، صحيح مسلم (١ / ١٦٦) ، مسند أحمد (١ / ٢٢٥) و (٥ / ٣٥ و ٣٩ و ٢٦٦) ، وسنن الدارقطني (١ / ١٨٨) ، وسنن ابن ماجة (١ / ١٢٥) والسنن الكبرى للبيهقي (٢ / ٤١٢).

الْآخِرَةِ)» (١).

وقد ورد عن البراء بن عازب حديث طويل جامع لأحكام الموتى ، وفيه التصريح بعود الروح إلى الجسد : أنا به الدشتيّ ، أنا ابن خليل ، أنا اللبان ، أنا الحدّاد ، أنا أبو نعيم ، أنا ابن فارس ، حدثنا يونس ، حدثنا أبو داود الطيالسيّ قال : حدثنا أبو عوانة ، عن الأعمش ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب رضي الله عنهما.

قال أبو داود : حدّثناه عمرو بن ثابت سمعه من المنهال بن عمرو ، عن زاذان ، عن البراء بن عازب ، وحديث أبي عوانة أتمّهما.

قال البراء : خرجنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد ، فجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجلسنا حوله كأنّما على رءوسنا الطير.

قال عمرو بن ثابت : «وَقَع» ولم يقله أبو عوانة.

فجعل يرفع بصره وينظر إلى السماء ، ويخفض بصره وينظر إلى الأرض ، ثمّ قال : «أعوذ بالله من عذاب القبر» قالها مراراً.

ثمّ قال : «إنّ العبد المؤمن إذا كان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، جاءه ملك فجلس عند رأسه فيقول : اخرجي أيّتها النفس المطمئنّة إلى مغفرة من الله ورضوان ، فتخرج نفسه ، وتسيل كما يسيل قطر السقاء».

قال عمرو في حديثه ولم يقله أبو عوانة : «وإن كنتم ترون غير ذلك ، وتنزل ملائكة من الجنّة بيض الوجوه ، كأنّ وجوههم الشمس ، معهم أكفان من أكفان الجنّة ، وحنوط من حنوطها ، فيجلسون منه مدّ البصر ، فإذا قبضها الملك لم يدعوها في يده طرفة عين ، فذلك قوله عزوجل : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا

__________________

(١) صحيح البخاري (٦ / ٤٢٧) كتاب التفسير / سورة ابراهيم باب (٣٧٧) ح ١١٢٣.

صحيح مسلم

يُفَرِّطُونَ)».

قال : «فتخرج نفسه كأطيب ريح وجدت ، فتعرج بها الملائكة ، فلا يأتون على جند بين السماء والأرض إلّا قالوا : ما هذه الروح؟

فيقال : فلان ؛ بأحسن أسمائه ، حتّى ينتهوا به إلى باب سماء الدنيا فتفتح له ، ويشيّعه من كلّ سماء مقرّبوها ، حتّى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فيقول : اكتبوا كتابه في علّيين : (وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ)» فيكتب كتابه في علّيين.

ثمّ يقال : ردّوه إلى الأرض ، فإنّي وعدتُهم أنّي (منها خلقناهم ، وفيها نعيدهم ، ومنها نخرجهم تارة اخرى).

فتردّ إلى الأرض ، وتعاد روحه في جسده.

فيأتيه ملكان شديدا الانتهار ، فينتهرانه ويجلسانه فيقولان : من ربّك ، وما دينك؟

فيقول : ربّي الله ، وديني الإسلام.

فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟

فيقول : هو رسول الله.

فيقولون : وما يدريك؟

فيقول : جاءنا بالبيّنات من ربّنا فآمنت به وصدّقته.

قال : «وذلك قوله عزوجل : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ)».

قال : «وينادي منادٍ من السماء : قد صدق عبدي ، فألبسوه من الجنّة ، وأفرشوه منها ، وأروه منزله منها.

فيلبس من الجنّة ، ويفرش منها ، ويرى منزله منها ، ويفسح له مدّ بصره ،

ويمثل له عمله في صورة رجل حسن الوجه ، طيّب الريح ، حسن الثياب فيقول : أبشر بما أعدّ الله عزوجل لك ، أبشر برضوان من الله ، وجنّات فيها نعيم مقيم.

فيقول : بشّرك الله بخير ، من أنت ، فوجهك الوجه الذي جاءنا بخير؟

فيقول : هذا يومك الذي كنت توعد ، والأمر الذي كنت توعد ، وأنا عملك الصالح ، فو الله ما علمتك إلّا كنت سريعاً في طاعة الله ، بطيئاً عن معصية الله ، فجزاك الله خيراً.

فيقول : يا ربّ أقم الساعة كي أرجع إلى أهلي ومالي».

قال : وإن كان فاجراً فكان في قبل من الآخرة وانقطاع من الدنيا ، جاءه ملك فجلس عند رأسه فقال : اخرجي أيّتها النفس الخبيثة ، أبشر بسخط الله وغضبه ، فتنزل ملائكة سود الوجوه معهم مسوح ، فإذا قبضها الملك قاموا فلم يدعوها في يده طرفة عين».

قال : «فتفرّق في جسده ، فيستخرجها تقطّع معها العروق والعصب ، كالسفود الكبير الشعب في الصوف المبلول ، فتؤخذ من الملك ، فتخرج كأنتن ريح وجدت ، فلا تمرّ على جند فيما بين السماء والأرض إلّا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟

فيقولون : هذا فلان ؛ بأسوإ أسمائه ، حتّى ينتهوا إلى السماء الدنيا فلا يفتح له.

فيقول : ردّوه إلى الأرض إنّي وعدتهم أنّي منها خلقناهم ، وفيها نعيدهم ، ومنها نخرجهم تارة اخرى.

قال : «فيرمى به من السماء» قال : فتلا هذه الآية : (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ ...) الآية.

قال : «ويعاد إلى الأرض ، وتعاد فيه روحه ، ويأتيه ملكان شديدا الانتهار ، فينتهرانه ويجلسانه فيقولان : من ربّك ، وما دينك؟

فيقول : لا أدري.

فيقولان : فما تقول في هذا الرجل الذي بعث فيكم؟

فلا يهتدي لاسمه فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون ذلك».

قال : «فيقال : لا دريت ، فيضيّق عليه قبره حتّى تختلف أضلاعه ، ويمثل له عمله في صورة رجل قبيح الوجه ، منتن الريح ، قبيح الثياب ، فيقول : أبشر بعذاب من الله وسخطه.

فيقول : من أنت ، فوجهك الوجه الذي جاء بالشرّ؟

فيقول : أنا عملك الخبيث ، والله ما علمتك إلّا كنت بطيئاً عن طاعة الله ، سريعاً إلى معصية الله».

قال عمر في حديثه عن المنهال ، عن زاذان ، عن البراء ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيقيّض له ملك أصمّ أبكم معه مرزبة ، لو ضرب بها جبل صار تراباً» أو قال : «رميماً» «فيضربه بها ضربة يسمعها الخلائق إلّا الثقلين ، ثمّ تعاد فيه الروح ، فيضربه ضربة اخرى».

وهذا الحديث أخرجه جماعة من الأئمة في مسانيدهم ، منهم الإمام أحمد (١) ، وعبد بن حميد (٢) ، وعليّ بن معبد في الطاعة والمعصية وغيرهم ، ورجال إسناده كلّهم ثقات.

وتكلّم فيه ابن حزم من جهة المنهال بن عمرو.

وهذا الكلام ليس بشيء ؛ لأنّ المنهال بن عمرو روى له البخاريّ ، ووثّقه غير واحد ، منهم يحيى بن معين.

والكلام الذي فيه من جهة أن شعبة تركه ، وقد قال عبد الرحمن بن مهديّ : إنّ سبب ترك شعبة له ؛ أنّه سمع من داره صوت قراءة بالتطريب ، وإذا عرف هذا

__________________

(١) مسند أحمد (٤ / ٢٩٦) ونحوه في سنن أبي داود (٢ / ٤٢٥).

(٢) مسند الكسي عبد بن حميد.

السبب لم يضرّ ترك شعبة إيّاه ؛ لأنّ جماعة من العلماء قالوا بإباحة ذلك ، وما كان مختلفاً فيه من هذا الجنس فلا تردّ الرواية به ، ولا الشهادة ، ولا سيّما ولم يعلم أنّ ذلك الصوت منه ، فقد يكون في داره من غيره ، ولا علم له به.

وبالجملة : فهذا كلام لا وجه له ، ولا شكّ في ثقة المنهال بن عمرو ، وأنّه ممن يحتجّ بحديثه ، ولا معنى لإنكار عود الروح وتضعيفه بالمنهال بن عمرو ، مع دلالة بقيّة الأحاديث المتّفق عليها على السماع ، والكلام ، والقعود ، وغيرها ممّا يستلزم الحياة وعود الروح.

وقد روى البغويّ في «شرح السنّة» (١) عن أبي هريرة عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ الميّت يسمع حسّ النعال إذا ولّى عنه الناس مدبرين ، ثمّ يجلس ويوضع كفنه في عنقه ، ثمّ يسأل».

وقد أجمع أهل السنّة على إثبات الحياة في القبور ، قال إمام الحرمين في «الشامل» (٢) : اتفق سلف الامة على إثبات عذاب القبر ، وإحياء الموتى في قبورهم ، وردّ الأرواح في أجسادهم.

وقال الفقيه أبو بكر بن العربيّ في «الأمد الأقصى في تفسير أسماء الله الحسنى» : إنّ إحياء المكلّفين في القبر وسؤالهم جميعاً ، لا خلاف فيه بين أهل السنّة.

وقال سيف الدين الآمديّ في كتاب «أبكار الأفكار» (٣) : اتفق سلف الامة قبل ظهور المخالف ، وأكثرهم بعد ظهوره ، على إثبات إحياء الموتى في قبورهم ، ومساءلة الملكين لهم ، وإثبات عذاب القبر للمجرمين والكافرين ، وقوله تعالى : (وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي حياة المساءلة في القبر ، وحياة الحشر ، لأنّهما حياتان عرفوا

__________________

(١) شرح السنّة للبغوي.

(٢) الشامل للجويني.

(٣) أبكار الأفكار للآمدي.

الله بهما ، والحياة الاولى في الدنيا لم يعرفوا الله بها.

وقال القرطبيّ : إنّ الإيمان به مذهب أهل السنّة ، والذي عليه الجماعة من أهل الملّة ، ولم يفهم الصحابة الذين نزل القرآن بلسانهم ولغتهم من نبيّهم عليه‌السلام غير ذلك ، وكذلك التابعون بعدهم ، وذهب بعض المعتزلة إلى موافقة أهل السنّة على ذلك.

وذهب صالح قبة والصالحيّ وابن جرير ؛ إلى أنّ الثواب والعقاب ينال الميّت من غير حياة ، وهذا مكابرة للعقول.

وذهبت طائفة إلى أنّ الميّت يألم كما يألم السكران ، فإذا حشر وجد ذلك الألم ، كما يجد السكران الألم إذا عاد العقل إليه ، وهذا المذهب تخليط لا حاصل له.

وذهب ضرار بن عَمرو وبشر المريسي ويحيى بن كامل وغيرهم من المعتزلة ؛ إلى أن [من] مات فهو ميّت في قبره إلى يوم البعث.

ومنهم من اعترف بعذاب القبر ، وأنّه يكون بين النفختين.

وكلا الأمرين مخالف لما تظافرت به الأحاديث.

وطعن بعض الملحدة : بأنّا نرى المصلوب لا يظهر عليه شيء من ذلك ، ومن افترسه السبع وتفرّقت أجزاؤه ، كيف يقال بذلك فيه؟!

وللأئمة رضي الله عنهم طرق في الأجوبة عن ذلك :

منها : أنّه لا يبعد أن تكون المساءلة على أجزاء مخصوصة من الجسد ، كأجزاء القلب ونحوها ، فيردّ الله الروح إليها ويسائلها.

ومنها : أنّه لا يبعد أن يردّ الروح إلى المصلوب من حيث لا نشعر ، ونحن نحسبه ميّتاً ، كما نحسب صاحب السكتة ميّتاً ، وأمّا من تفرّقت أجزاؤه فيردّ الله الروح إلى كلّ جزء ، ويسائله الملكان.

ومنها : أنّ الذين في القبور يجلسون ويُسألون ، والذين بقوا على وجه الأرض من الموتى ، يحجب الله المكلّفين عمّا يجري عليهم ، كما حجبهم عن رؤية الملائكة مع

رؤية النبيّين لهم صلوات الله عليهم.

وممّا تعلّقوا به قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى).

(وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.)

وإنكار عائشة رضي الله عنها سماع أهل القليب.

فأمّا قوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) فنحن نقول به ، وإنّما نقول : يَسمعون إذا ردّت إليهم أرواحهم.

وأمّا قوله : (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) فمعناه : إذا كانوا موتى.

وأمّا عائشة رضي الله عنها فقد اعترفت بالعلم ، وقالت : إنّما قال : «إنّهم الآن ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ» ، وإذا جاز العلم جاز السماع ؛ لأنّهما جميعاً مشروطان بالحياة على الجملة.

فهذه الامور ممكنة في قدرة الله تعالى ، وقد وردت بها الأخبار الصحيحة ، فيجب التصديق بها ، ويقطع بأنّ الحياة تعود إلى الميّت.

وأمّا أنّه هل يموت بعد ذلك موتة ثانية؟

لم يرد في الأحاديث تصريح بذلك ، لكن في كلام بعضهم ما يقتضيه ، وحمل عليه قوله تعالى : (رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ) على اختلاف المفسّرين فيها.

والقائلون بعذاب القبر يقولون باستمراره ، وهكذا تقتضي الأحاديث الصحيحة ، كما تقدّم : «هذا مقعدك حتّى يبعثك الله» وقوله تعالى : (يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا).

وقد صحّ في مسلم عن زيد بن ثابت قال : بينما النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حائط لبني النجّار على بغلة له ونحن معه ، إذْ حادت به ، فكادت تلقيه ، وإذا أقْبُر ستّة أو خمسة أو أربعة ، فقال : «ومن يعرف أصحاب هذه القبور؟».

فقال رجل : أنا.

فقال : «فمتى مات هؤلاء؟».

قالوا : ماتوا في الإشراك.

فقال : «إنّ هذه الامة تبتلى في قبورها ، فلولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع» (١).

وهذا يدلّ على استمرار عذاب القبر.

وعن أنس : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمع صوتاً من قبر ، فقالوا : دفن في الجاهليّة.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو لا أن تدافنوا لدعوت الله أن يُسمعكم عذاب القبر» (٢).

وأمّا قوله تعالى : (مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا) فهو يشعر بالحياة ؛ لأنّ الرقاد للحيّ ، وقد قيل في تفسيره أقوال :

منها : أنّ العذاب يرفع عن أهل القبور بين النفخات ، نفخة الفزع ، ونفخة الصعق ، ونفخة النشر ، فلا يعذّب في هذه الأوقات إلّا من قتل نبيّاً ، أو قتله نبيّ ، أو قتل في معترك نبيّ.

ومنها : أنّ العذاب ليس بدائم ، بل بكرة وعشيّاً ، ويفتر فيما بين ذلك ، فتقوم الساعة في ارتفاع النهار ، فيصادف قيامها وقت الفترة.

وقد تلخّص من هذا : أنّ الروح تعاد إلى الجسد ، ويحيا وقت المساءلة ، وأنّه ينعّم أو يعذّب من ذلك الوقت إلى يوم البعث ؛ إمّا متقطعاً ، أو مستمرّاً على ما سبق.

وهل ذلك من بعد وقت المساءلة إلى البعث للروح فقط ، أو لها مع الجسم؟

__________________

(١) أخرجه مسلم في صحيحه (٨ / ١٦٠). ومسند أحمد (٥ / ١٩٠).

(٢) أخرجه مسلم في صحيحه (٨ / ١٦٠) كتاب الجنة وصفة نعيمها ، باب عرض مقعد الميت من الجنّة ... وانظر سنن النسائي (٤ / ١٠٢) ومسند أحمد ٣ / ١١١ و ١١٤.

[يترتّبان] (١) على أنّ الجسم هل يفنى ، أو يتفرّق ، وكلا الأمرين جائز عقلاً ، وفي الواقع منه قولان للمتكلّمين ، ولم يرد في الشرع ما يمكن التمسّك به في ذلك إلّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «كلّ ابن آدم يبلى إلّا عجب الذنب».

فحيث يكون الجسم أو بعضه باقياً ، فلا امتناع من قيام الحياة به ، وحيث يعدم بالكلّية يتعيّن القول بالروح فقط.

على أنّها ـ أيضاً ـ قد تعدم عند فناء العالم ، ليكون المعاد وارداً عليها وعلى الجسم معاً.

وقد جاءت أحاديث تدلّ على أنّ بعض الموتى ، يقيهم الله تعالى فتنة القبر ، منهم الشهيد ، ومن مات يوم الجمعة ، أو ليلة الجمعة ، وآخرون وردت بهم أحاديث ، وهؤلاء إن خصّوا من المساءلة فالنعيم والحياة شاملان لهم.

وقد عرف بهذا : أنّ حياة جميع الموتى ـ بأرواحهم وأجسامهم في قبورهم ـ لا شكّ فيها ، واستمرار العقاب أو النعيم بعد المساءلة لا شك فيه أيضاً ؛ لما سبق ، وكون ذلك فيما بعد وقت المساءلة للروح فقط ، أولها مع الجسم؟ ممّا يتوقف على السمع.

وقد ذكر سعيد بن السكن في سننه ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «الميّت إذا وضع في قبره إنّه ليسمع خفق نعالهم حين يولّون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ...» وذكر حديثاً طويلاً ، إلى أن قال : «فيفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، وينوّر له فيه ، ويعاد الجسد بما بدىء منه ، وتجعل النسمة في النسم الطيّبة ، فهو يطير ويعلق في شجر الجنّة».

وفي «المستدرك على الصحيحين» للحاكم في فضائل عائشة رضي الله عنها

__________________

(١) في الأصل : يلتفت.

قالت : كنت أدخل البيت الذي دفن فيه معهما عمر ، والله ما دخلت إلّا وأنا مشدودة عليّ ثيابي ؛ حياءً من عمر (١).

قال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرّجاه.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين للحاكم (٣ / ٦١) ومسند أحمد (٦ / ٢٠٢) وعنه في مجمع الزوائد (٨ / ٢٦) و (٩ / ٣٧).

الفصل الرابع

قد عرفت مقالات الناس في سائر الموتى وفي الشهداء ، وعرفت أنّ القول فيهم بعود الروح إلى الجسد ، وبقائِها فيه إلى يوم القيامة ، بعيد مخالف للحديث الصحيح أنّها ترجع إلى جسده يوم القيامة.

وعرفت أنّ النعيم حاصل لأرواح السعداء من الشهداء وغيرهم ، والعذاب حاصل للأشقياء.

فلعلك تقول : ما الفرق حينئذٍ بين الشهداء وغيرهم؟

والجواب عن هذا من وجهين :

أحدهما : أنّ إثبات الحياة للشهداء لا ينفي ثبوتها عن غيرهم ، فالآيتان الكريمتان الواردتان بقوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) ليس فيهما نفي هذا الحكم عن غيرهم ، بل الردّ على ما يعتقد أنّهم ليسوا كذلك ، ونصّ عليهم ؛ لأنّ الواقعة كانت فيهم.

الثاني : أنّ أنواع الحياة متفاوتة : حياة للأشقياء معذّبين ، أعاذنا الله تعالى

منها ، وحياة بعض المؤمنين من المنعّمين ، وحياة الشهداء أكمل وأعلى ، فهذا النوع من الحياة والرزق لا يحصل لمن ليس في رتبتهم ، وأمّا حياة الأنبياء فأعلى وأكمل وأتمّ من الجميع ؛ لأنّها للروح والجسد على الدوام على ما كان في الدنيا ، على ما تقدم عن جماعة من العلماء.

ولو لم يثبت ذلك ، فلا شكّ أنّ كمال حياتهم أيضاً أكبر من الشهداء وغيرهم ؛ أمّا بالنسبة إلى الروح ، فلكمال اتصالها ونعيمها وشهودها للحضرة الإلهيّة ، وهي مع ذلك مقبلة على هذا العالم ، ومتصرّفة فيه ، وأمّا بالنسبة إلى الجسد ، فلما ثبت من الحديث.

وبالجملة : كلّ أحد يُعامل بعد موته كما كان يُعامل في حياته ، ولهذا يجب الأدب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته ، كما كان في حياته.

وقد روي عن أبي بكر الصدّيق رضى الله عنه قال : لا ينبغي رفع الصوت على نبيّ حيّاً ولا ميّتاً (١).

وروي عن عائشة رضي الله عنها : أنّها كانت تسمع صوت الوتد يوتد ، والمسمار يضرب في بعض الدور المطيفة بمسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فترسل إليهم : لا تؤذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

قالوا : وما عمل عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه مصراعي داره إلّا بالمناصع ، توقّياً لذلك ، هكذا رواه الحسيني في «أخبار المدينة».

وهذا ممّا يدلّ على أنّهم كانوا يرون أنّه حيّ.

وعن عروة قال : وقع رجل في عليّ عند عمر بن الخطّاب ، فقال له عمر بن الخطّاب : قبّحك الله ، لقد آذيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبره.

__________________

(١) أخرجه

(٢) أخرجه

ومن نظر سير السلف الصالحين والصحابة والتابعين ، علم أنّهم كانوا في غاية الأدب مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته ، كما كانوا في حياته ، وكانوا مع قبره الشريف كذلك.

وكيف لا؟! وقد روي عن كعب الأحبار قال : ما من فجر يطلع إلّا نزل سبعون ألفاً من الملائكة حتّى يحفّوا بالقبر ؛ يضربون بأجنحتهم ، ويصلّون على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى إذا أمسوا عرجوا ، وهبط مثلهم ، فصنعوا مثل ذلك ، حتّى إذا انشقّت الأرض خرج في سبعين ألفاً من الملائكة.

فلو لم يكن في الحضور عند القبر إلّا الدعاء بحضرة هؤلاء الملائكة ، فكيف وفيه حضرة سيّد الخلق أجمعين!!

ولذلك كانت الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين يغضّون أصواتهم في مسجده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعظيماً له.

ففي البخاريّ : عن عمر بن الخطاب رضى الله عنه أنّه قال لرجلين من أهل الطائف : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ؛ ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

ولو جمعنا الأحاديث الصحيحة التي فيها ما كانت الصحابة عليه من تعظيم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتعظيم آثاره ، وأدبهم معه ، لجاءت مجلّدات.

بل الملائكة أيضاً كانوا يسلكون كمال الأدب معه.

كما روى أبو بكر بن أبي شبية في مصنّفه (٢) : حدثنا ابن فضيل ، عن عطاء بن السائب ، عن محارب ، عن ابن بريدة قال : وردنا المدينة ، فأتينا عبد الله بن عمر فقال : كنّا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأتاه رجل جيّد الثياب ، طيّب الريح ، حسن الوجه فقال : «السلام عليك يا رسول الله».

__________________

(١) صحيح البخاري (١ / ٢٦٢) باب (٣٢٤) رفع الصوت في المسجد.

(٢) المصنّف لابن أبي شيبة.

فقال : «وعليك».

فقال : «يا رسول الله ، أدنو منك؟».

قال : «ادنه» فدنا دنوة.

فقلنا : ما رأينا كاليوم قطّ رجلاً أحسن ثوباً ولا أطيب ريحاً ولا أحسن وجهاً ولا أشدّ توقيراً لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثمّ قال : «يا رسول الله ، أدنو منك؟».

قال : «نعم». فدنا دنوة ، فقلنا مثل مقالتنا.

ثمّ قال له في الثالثة : «أدنو منك يا رسول الله؟».

قال : «نعم» وذكر حديث جبرئيل ، وسؤاله عن الإسلام.

فانظر تعظيم جبرئيل ، وأدبه مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذلك ملك الموت ، وغير ذلك من الأحاديث التي لا تحصر ، والكتاب العزيز ، وإجماع المسلمين.

ولا شكّ أنّ من قال : «لا يُزارُ ، ولا يسافر لزيارته ، أو لا يستغاث به».

بعيدٌ من الأدب معه ، نسأل الله تعالى العافية.

وقد روى القاضي إسماعيل في «أحكام القرآن» عن محمّد بن عبيد ، حدثنا محمّد ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : أنّ رجلاً قال : لو قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتزوّجت فلانة ، فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً) (١).

قال معمر : وبلغني أنّ طلحة قال : لو قبض النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتزوّجت عائشة.

فانظر محافظة القرآن العزيز على حفظه ، وصونه عمّا يؤذيه في حياته وبعد مماته ، وهذا معلوم من الدين بالضرورة ، وإشعار الآية الكريمة بأنّ نكاحهنّ بعد

__________________

(١) لاحظ : السنن الكبرى للبيهقي (٧ / ٦٩).

الموت يؤذيه ، فيقتضي أنّه يتأذّى بعد الموت.

فينبغي للمحترز على دينه أن يسلك كمال الأدب ويتحفّظ غاية التحفّظ ؛ لئلّا يزلّ وهو لا يشعر فيما يؤذيه ، فيخسر الدنيا والآخرة.

نسأل الله تعالى أن يعصمنا في ديننا ، ويسترنا فيما بقي من أعمارنا ، ويجعل ما نقوله حجّة لنا لا علينا ، ونوراً يسعى بين أيدينا ، وأن يحشرنا في زمرة هذا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتحت لوائه ، ويوردنا حوضه ، ويرزقنا شفاعته ورضاه عنّا ، ويجعلنا من المتّبعين لسنّته ، السالكين بهديه بمنّه وكرمه ، آمين.

الفصل الخامس

كان المقصود بهذا كلّه تحقيق السماع ونحوه من الأعراض بعد الموت ، فإنّه قد يقال : إنّ هذه الأعراض مشروطة بالحياة ، فكيف تحصل بعد الموت؟!

وهذا خيال ضعيف ؛ لأنّا لا ندّعي أنّ الموصوف بالموت موصوف بالسماع ، وإنّما ندّعي أنّ السماع بعد الموت حاصل لحيّ ، وهو إمّا الروح وحدها حالة كون الجسد ميّتاً ، أو متصلة بالبدن حالة عود الحياة إليه.

والإنسان فيه أمران (١) : جسد ، ونفس ، فالجسد إذا مات ولم تعد إليه الحياة ، لا نقول بقيام شيء ـ من الأعراض المشروطة بالحياة ـ به ، وإن عادت الحياة إليه صحّ اتصافه بالسماع وغيره من الأعراض ، والنفس باقية بعد موت البدن ، عالمة ،

__________________

(١) قال السبكيّ : للسيد الصفويّ هنا تحقيق في مسألة المعاد فليراجع ، وعبارته : الإنسان هو مجموع الجسد ، والروح ، وما فيه من المعاني ، فإنّ الجسد الفارغ من الروح والمعاني يسمّى «شبحاً» و «جثّة» لا إنساناً ، وكذا الروح المجرّد لا يسمّى «إنساناً» وكذا المعاني المحقّقة لا تسمّى على الانفراد «إنساناً» لا عرفاً ، ولا عقلاً ، انتهى من الاصول المنقول عنها.

باتفاق المسلمين ، حتّى أنّ عائشة رضي الله تعالى عنها لمّا أنكرت سماع أهل القليب ، وافقت على العلم وقالت : إنّما قال : «إنّهم الآن ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ».

بل غير المسلمين من الفلاسفة وغيرهم ممّن يقول ببقاء النفوس ، يقولون بالعلم بعد الموت ، ولم يخالف في بقاء النفوس إلّا من لا يعتدّ به.

وليس مرادنا أنّها واجبة البقاء ، كما قال به بعض أهل الزيغ والإلحاد ، ولا أنّها تبقى دائماً وإن كانت ممكنة ، فإنّه قد يفنيها الله تعالى عند فناء العالم ، ثمّ يعيدها ، إنّما المراد أنّها تبقى بعد موت البدن ، ثمّ بعد ذلك إن فنيت اعيدت مع البدن يوم القيامة ، وإن لم تفنَ اعيد البدن ورجعت.

وما دامت باقية تدرك المعقولات بلا إشكال.

وأمّا إدراكها للمحسوسات كالسمع وغيره ، ففي حال تعلّقها بالبدن اختلف المتكلّمون هل هي المدركة فقط ـ والحواسّ بمنزلة الطاقات ـ أو الحواسّ تدرك ، ثمّ تنقل إليها؟ كالحجّاب يسمعون ، ثمّ ينقلون إلى الملك؟

وعلى كلّ من القولين ، هي مدركة للمسموع ، ولم يقم دليل على أنّ اتصالها بالبدن شرط في هذا الإدراك ، بل الظاهر أنّه ليس بشرط ، كما أنّه ليس بشرط في العلم بالمعقولات ، ونحن يكفينا بيان إمكان ذلك عقلاً ، فإذا ورد به سمع اتُّبِع.

ولسنا في مقام إثباته بمجرّد العقل ، بل في مقام عدم استحالته ؛ وأنّه ليس الأمر على ما توهّمه السائل.

وما ذكره من مشروطيّة السمع بالحياة صحيح ، والحياة تتّصف الروح بها ، وبيان ذلك يحوج إلى الكلام في حقيقة النفس.

وقد أكثر الناس الكلام فيها والتصانيف ، وتباينت فيها أقوال الناس ، هل هي جسم ، أو عرض ، أو مجموعهما ، أو جوهر فرد متحيّز ، أو جوهر مجرّد غير

متحيّز؟ ولا يمكن قول سادس ، وإنّما الكلام في تعيين واحد من الخمسة.

ومن الناس من توقّف فيها ، وهو أسلم ، وحمل على ذلك قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) وأنّه لم يأمره أن يبيّنها لهم.

ومنهم من قال : إنّها جسم ، وهؤلاء تنوّعوا أنواعاً ، أمثلها قول من قال : إنّها أجسام لطيفة مشتبكة بالأجسام الكثيفة ، أجرى الله العادة بالحياة مع بقائها ، وهو مذهب جمهور أهل السنّة ، وإلى ذلك يشير قول الأشعريّ ، والباقلّاني ، وإمام الحرمين ، وغيرهم ، ويوافقهم قول كثير من قدماء الفلاسفة.

ومنهم من قال : إنّها عرض خاصّ ، ولم يعيّنه ، قاله جماعة من المتكلّمين ، ونصره الهرّاسي من أصحابنا.

ومنهم من عيّنه ، وتنوّعوا في ذلك أنواعاً.

ومنهم من قال : إنّها جوهر فرد متحيّز ، نقل ذلك سيف الدين الآمديّ عن الغزاليّ ومعمر وغيرهما من الإسلاميّين القائلين : بأنّها بسيطة.

والقائلون بهذه الأقوال الثلاثة يقولون : إنّ قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) جواب ؛ فإنّ أمر الربّ هو الشرع والكتاب الذي جاء به ، فمن دخل في الشرع وتفقّه في الكتاب والسنّة ، عرف الروح ، فكان معنى الكلام : ادخلوا في الدين تعرفوا ما سألتم عنه.

على أنّه قد قيل : إنهم لم يسألوا عن الروح الإنسانيّ ، بل عن ملك من الملائكة ، والأقوال في ذلك مذكورة في التفسير.

وقيل : ليس سؤالاً عن حقيقتها ، بل عن حدوثها ، وأجابهم بما يدلّ على حدوثها ؛ وأنّها من فعل الله تعالى.

وكلّ من قال : بأنّها جسم ، يجوّز اتصافها بالحياة ، وأمّا القول : بأنّها عرض ، فبعيد.

ومن الناس من قال : الروح جوهر مجرّد لا متحيّز ، ولا حالّ في متحيّز ، وهو مذهب حذّاق الفلاسفة ، والذي يظهر أنّ هذا مذهب الغزاليّ أيضاً ، وهكذا هو في «المضنون به على غير أهله الكبير» و «المضنون به على غير أهله الصغير» ولكنّ الآمديّ نقل عنه ما ذكرت.

و «المضنون الكبير» فيه أشياء من اعتقاد الفلاسفة خارجة عن اعتقاد المسلمين ، ولذلك إنّ بعض الفضلاء كان ينكر نسبته إلى الغزاليّ رحمه‌الله (١).

وهو في «الإحياء» في شرح عجائب القلب لم يفصح بذلك ، وإنّما قال : إنّها لطيفة ربّانية روحانيّة هي حقيقة الإنسان ، وهي المدرك العالم العارف من الإنسان ، وهي المخاطب المطالب ، ولهذه اللطيفة علاقة مع القلب الجسمانيّ ، وقد تحيّر أكثر العقول في إدراك وجه علاقته.

وقال : إنّ هذه اللطيفة الربّانية يطلق عليها «الروح» و «النفس» و «القلب» و «العقل» وهي غير الروح الجسمانيّ ، وغير النفس الشهوانيّة ، وغير القلب الصنوبريّ ، وغير العقل الذي هو العلوم ، فالمعاني خمسة ، والألفاظ أربعة ، كلّ لفظ

__________________

(١) وعلى ذكر هذا الكتاب ، نورد هذه الظريفة التي سجّلناها من قبل :

قال الوهابيّ السلفي مشهور حسن في كتابه (كتب حذر العلماء منها ١ : ٤٥) ما نصّه : الصنعاني (ت ١١٨٢) اصيبَ بالإسهال ، وطلب له العلاج ، فجيء له بكتابين : الأول (الإنسان الكامل) للجيلي ، والآخر (المظنون به على أهله «كذا!») للغزالي.

قال الصنعاني : طالعت الكتابين فوجدت فيهما كفراً صريحاً! فأمرت بإحراقهما بالنار ، وان يُطبخ على نارهما خبزٌ لي!

فأكل من ذلك الخبز بنيّة الشفاء (!) فما شكا بعد ذلك مرضاً.

نقول : لم يفهم جرو السلفية المغمور أنّه دلّ بهذا على كفر الصنعاني الذي طلب الشفاء من غير الله! وبإحراق الكتابين المشتملين على الآيات القرآنية والأحاديث النبوية وأسماء الله والأنبياء!! وإن كان له في ذلك اسوة بسلفه!!

لمعنيين ، هذا كلامه في «الإحياء» (١).

واتفق الأطباء على أنّ في بدن الإنسان ثلاثة أرواح :

روح طبيعيّ ؛ وهو جسم لطيف معدنه الكبد ، ثمّ ينبثّ في سائر البدن ، ويحمل القوى الطبيعيّة.

وروح حيوانيّ ؛ وهو جسم لطيف معدنه القلب ، ويثبت في سائر البدن ، ويحمل قوّة الحياة.

وروح نفسانيّ ؛ وهو جسم لطيف معدنه الدماغ ، وينبث في سائر البدن ، وفعله الحسّ والحركة.

وهذه الأرواح تشترك فيها الحيوانات ، ولم يتكلّموا في النفس الناطقة الخاصّة بالإنسان التي هي غرضنا هنا.

إذا عرف ذلك ، فالفلاسفة القائلون في النفس الناطقة : إنّها جوهر مجرّد ، فإنّهم يقولون : إنّه حيّ عالم متكلّم سميع بصير قادر مريد ، ولكنّه ممكن بإيجاد الله تعالى ، حادث بعد العدم مخلوق.

وقد يطلقون «المخلوق» على ما له كمّية يدخل بسببها تحت المساحة والتقدير ، ويقولون : عالم الخلق ما كان كذلك ، وعالم الأمر : الموجودات الخارجة عن الحسّ والخيال والجهة والمكان والتحيّز ، وهو ما لا يدخل تحت المساحة والتقدير ؛ لانتفاء الكمّية عنه.

والمنتصرون لهذا يجعلون قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) جواباً بأنّها من عالم الأمر.

والمتكلّمون من المسلمين لا يثبتون هذا الوصف إلّا لله تعالى ، ويقولون : كلّ

__________________

(١) إحياء علوم الدين للغزالي (٣ / ٩) كتاب شرح عجائب القلب ، باب بيان معنى الروح والنفس والقلب والعقل.

ممكن فهو إمّا متحيّز ، وإمّا حالّ في المتحيّز ، والفلاسفة يثبتونه ، وهو أشرف الممكنات عندهم ؛ لأنّه لا يحتاج إلّا إلى موجِده فقط.

ولكلّ من المتكلّمين والفلاسفة على نفيه وإثباته أدلّة ليست بالقويّة ، والآية الكريمة ليس فيها دليل لهم ، كما عرف في التفسير.

وظواهر الشريعة تقتضي أنّ الروح متحيّزة ، فقد روى ابن ماجة بإسناد صحيح عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يحضر الملائكة ، فإذا كان الرجل صالحاً قالوا : اخرجي أيّتها النفس المطمئنّة ، كنت في الجسد الطيّب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ، وربّ راضٍ غير غضبان ، فلا يزال يقال لها ذلك حتّى تخرج ثمّ يعرج بها إلى السماء ، فتفتح لها ، فيقال : من هذا؟

فيقولون : فلان بن فلان.

فيقال : مرحباً بالنفس المطمئنّة ، كانت في الجسد الطيّب ، ادخلي حميدة ، وأبْشِري بروح وريحان ، وربّ راض غير غضبان.

فلا يزال يقال لها هذا حتّى تنتهي» يعني إلى علّيين (١).

ووردت أحاديث كثيرة بمعنى هذا ، والقرآن يشهد له ، قال تعالى : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) الآية.

وقال تعالى : (لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ) جاء أنّها الأنفس الخبيثة.

وقد يقال : إنّ الإشارة بذلك إلى الروح الحيوانيّ ، ولعلّ الروح الحيوانيّ الموجود في الإنسان يبقى بعد الموت ، وينتقل إلى علّيين أو سجّين ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

__________________

(١) أخرجه سنن النسائي (٤ / ٨). ومنسد أحمد (٢ / ٣٦٤) و (٦ / ١٤٠). وسنن ابن ماجة (٢ / ١٤٢٤) ح ٤٢٦٢. وانظر مجمع الزوائد (٢ / ٣٢٨).

الباب العاشر :

في

الشفاعة

ووجه ذكرها شرح متن الحديث الأوّل ؛ وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من زار قبري وجبت له شفاعتي»

وختمنا بها الكتاب ؛ لتكون هي خاتمة أمرنا إن شاء الله تعالى.

والقول الجمليّ في الشفاعات الاخروية :

أنّها خمسة أنواع ، وكلّها ثابتة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعضها لا يدنو أحد إليه سواه ، وفي بعضها يشاركه غيره ، ويكون هو المتقدّم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاختصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعموم الشفاعة ، وببعض أنواعها ، وأمّا الباقي فيصحّ نسبته إليه ؛ لمشاركته وتقدّمه فيه.

فالشفاعات كلّها راجعة إلى شفاعته ، وهو صاحب الشفاعة بالإطلاق ، فقوله : «شفاعتي» يصحّ أن يكون إشارة إلى النوع المختصّ به ، وإلى العموم ، وإلى الجنس ؛ لنسبة ذلك كلّه إليه ، فهذه لطيفة يجب التنبّه لها.

وأمّا التفصيل :

فقال القاضي عياض (١) وغيره : الشفاعة خمسة أقسام :

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض (١ / ٤٣١) باب ٣ فصل (١٠) تفضيله بالشفاعة والمقام المحمود.

اولاها : مختصّة بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي الإراحة من طول الوقوف ، وتعجيل الحساب.

لا يدنو إليها غيره ، وهي الشفاعة العظمى ، ولم ينكرها أحد.

الثانية : الشفاعة في إدخال قوم الجنّة بغير حساب.

وهذه أيضاً وردت لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تبيّن في الأحاديث التي نذكرها إن شاء الله تعالى.

قال ابن دقيق العيد : ولا أعلم الاختصاص فيها ، أو عدم الاختصاص؟

قلت : ولفظ الحديث الذي يأتي : «فأقول : يا ربّ ، امّتي امّتي ، فيقال : يا محمّد ، أدخل الجنّة من امّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة ، وهم شركاء الناس في ما سوى ذلك من الأبواب» (١).

وحديث دخول قوم الجنّة بغير حساب ، رواه البخاريّ ومسلم من طرق عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعضها : «يدخل من امّتي الجنّة سبعون ألفاً بغير حساب».

فقال رجل : يا رسول الله ، ادع الله أن يجعلني منهم.

فقال : «اللهمّ أجعله منهم» والرجل عكاشة (٢).

وفي حديث آخر : قالوا : ومن هم ، يا رسول الله؟

قال : «هم الذين لا يسترقون ، ولا يتطيّرون ، ولا يكتوون ، وعلى ربّهم يتوكّلون» (٣).

وفي حديث آخر : «عرضت عليَّ الاممُ ، فرأيت النبيّ ومعه الرهط ، والنبيّ

__________________

(١) أخرجه البخاري (٧ / ١٦ و ٢٦ و ١٨٣ و ١٩٨) ومسلم (١ / ١٣٦ ـ ١٣٨).

(٢) صحيح مسلم (١ / ١٣٦) كتاب الإيمان ، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب.

(٣) صحيح مسلم (نفس الموضع).

معه الرجل والرجلان ، والنبيّ ليس معه أحد ، ورفع لي سواد عظيم ، وتمنّيت أنّهم امّتي ، فقيل لي : هذا موسى عليه‌السلام وقومه ، ولكن انظر إلى الافق ، فنظرت فإذا هو سواد عظيم ، فقيل لي : انظر إلى الافق الآخر ، فنظرت فإذا سواد عظيم.

فقيل لي : هذه امّتك ، ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب» (١).

وفي حديث آخر : «وهؤلاء سبعون ألفاً يدخلون الجنّة بغير حساب ولا عذاب» (٢).

وفي حديث آخر : «يدخل من امّتي زمرة هم سبعون ألفاً ، تُضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر» (٣).

وهذه الأحاديث كلّها في الصحيح.

وفي حديث آخر في الصحيح : «لا يدخل أوّلهم حتّى يدخل آخرهم» (٤).

وهو إشارة إلى سعة باب الجنّة ، وسيأتي التصريح به.

وقوله : «أوّلهم» و «آخرهم» :

إمّا أن يراد به الدنيا ؛ وأنّ المتقدّم في الزمان والمتأخّر يدخلون دفعة واحدة.

وإمّا أن تكون كناية عن سرعة تعاقبهم ؛ فإنّهم يدخلون متماسكين ، وإلّا فيستحيل أن يكون لهم أوّل وآخر في الدخول ، ولا يدخل أوّلهم قبل

__________________

(١) صحيح البخاري (٨ / ٤٩٥) كتاب الرقاق ، باب (٨٢١) يدخل الجنّة سبعون ألفاً بغير حساب ح ١٤٠٦.

(٢) صحيح البخاري (٧ / ١٩٩).

(٣) صحيح البخاري (٧ / ١٩٩ و ٢٠١) ، صحيح البخاري (٨ / ٤٩٥) ح ١٤٠٧ ، ومسلم (١ / ١٢٢ و ١٣٦).

(٤) صحيح مسلم (١ / ١٣٨) كتاب الايمان ، باب الدليل على دخول طوائف ....

آخرهم حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، فلا شكّ أنّ زمرة تدخل الجنّة بغير حساب ، وهم بالصفة المذكورة في الحديث ، وقد دخل فيهم عكاشة رضى الله عنه بدعوة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

والظاهر أنّ كلّ من حصلت له الصفة المذكورة في الحديث استحقّ هذا الجزاء ، لكنّ دخولهم الجنّة متوقّف على شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا شفع أذن الله له بإدخالهم من الباب الأيمن ، كما هو ظاهر الحديث ، فإنّه جعل «كونهم لا حساب عليهم» وصفاً ثابتاً لهم.

ويحتمل أن ذلك الجزاء إنّما يستحقّونه بشرط الشفاعة وإن اشتملوا على الصفات المذكورة ، لكن لم يدلّ دليل على هذا.

وأعني بالحديث المذكور قوله تعالى : «أدخل الجنّة من لا حساب عليه».

وأمّا أنّ شخصاً لا يتّصف بالصفة المذكورة في الحديث ، ويكون ممّن يستحقّ الحساب ، فهل يشفع فيه حتّى يدخل الجنّة بغير حساب ، أو لا؟

لفظ الحديث لا يدلّ على ذلك بنفي ولا إثبات.

وظاهر قوله : «سبعون ألفاً» أنّهم لا يزيدون على ذلك ، وأنّهم كلّهم بالصفة المذكورة.

وهل من الامم السابقة من غير الأنبياء مَنْ يدخل الجنّة بغير حساب؟

لم يرد فيه شيء بنفي ولا إثبات.

وقال أبو طالب عقيل بن عطيّة رحمه‌الله : الظاهر أنّ فيهم من هو كذلك.

قلت : وعلى كلّ من التقادير المفروضة ، فالخصوصيّة ثابتة لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إدخال أوّل زمرة من امّته الجنّة بشفاعته ؛ فإنّ شفاعته المذكورة تكون في أوّل مقام الشفاعة قبل أن تجعل الشفاعة لغيره ، ويترتب عليها الإذن في إدخال الزمرة المذكورة ، وهي أوّل من يدخل الجنّة كما سيأتي.

وهذا المعنى لا يشاركه أحد فيه ؛ سواء كان في الامم المتقدّمة من يدخل بغير حساب ، ويحتاج إلى شفاعة نبيّه ، أو لا.

وحينئذٍ تكون العبارة المحرّرة عن هذه الشفاعة : أنّها شفاعة في استفتاح الجنّة ، وإدخال أوّل زمرة تدخلها.

وهي في الرتبة الثانية من الشفاعة العظمى التي لفصل القضاء والإراحة من طول الوقوف في ذلك المكان.

وعبارة القاضي عياض ومن تابعه ، تقتضي إثبات شفاعته في إسقاط الحساب ، وهو من الامور الجائزة عقلاً ، فإن ورد به سمع اتُّبِعَ.

والقاضي عياض وغيره لمّا ذكروا ذلك ، أشاروا إلى الحديث المذكور ، وقد بيّنا ما يقتضيه ، وسنذكر في بعض أحاديث الشفاعة سؤال المؤمنين لآدم عليه‌السلام في استفتاح الجنّة ، ونتكلّم على كون السؤال مرّتين أو مرّة.

وعلى كلّ تقدير ، فالشفاعة في استفتاح الجنّة ، متأخّرة الرتبة عن الشفاعة في فصل القضاء ، فيصلح عدّه شفاعة ثانية ، وكلاهما خاصّ بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بغير شكّ.

ومن تأمّل الأحاديث التي سنذكرها عرف : أنّ أوّل فصل القضاء تميّز الامم ، والأمر بأن تتبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، إلى أن لا يبقى إلّا المؤمنون ، فيدخلون الجنّة زمراً ، وجميع ذلك ـ والله أعلم ـ يعطاه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل مرّة إذا رفع رأسه من السجود وشفع ، وقيل له : «أدخل الجنّة من لا حساب عليه من امّتك من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب» (١).

وقوله : «وهم» يعود على الامّة ، فإمّا أن يحمل على من لا يدخل النار ، أو على الجميع ، ويكون ذلك بشرى للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدخولهم جميعهم الجنّة وإن تأخّر

__________________

(١) أخرجه صحيح البخاري (٥ / ٢٢٧) وصحيح مسلم (١ / ١٢٩) ومسند أحمد (٢ / ٤٣٦).

بعضهم ، ثمّ السجدات الباقية لإخراج المذنبين من النار.

ولعلّ السبعين ألفاً يدخلون بغير عرض ؛ فإنّ ظاهر الحديث يقتضي أنّه لا حساب عليهم أصلاً ، ومن يحاسب حساباً يسيراً خارج عنهم ، والحساب اليسير هو العرض ، كما جاء تفسيره في الحديث الصحيح ، وكلا القسمين لا يعذّب ، ومن نوقش الحساب عذّب.

الشفاعة الثالثة : الشفاعة لقوم استوجبوا النار ، فيشفع فيهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يشاء الله

هكذا ذكره القاضي عياض ، وأشار بذلك إلى ما سنذكره في حديث أبي سعيد من قوله : «ثمّ يضرب الجسر على جهنّم ، وتحلّ الشفاعة ، فيقولون : اللهمّ سلّم سلّم».

وظاهر هذا أنّها شفاعة تحلّ بعد وضع الصراط بعد الشفاعتين الاوليين ، وأنّها في إجازة الصراط ، ويلزم من ذلك النجاة من النار.

ولم يرد تصريح بذلك ، ولا بكونها مختصّة ، أو غير مختصّة ، لكن سيأتي في الأحاديث : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون في ذلك اليوم إمام النبيّين ، وصاحبَ شفاعتهم ، فكلّ ما يقع من شفاعتهم ينسب إليه بذلك ، فلا يخرج شيء عن شفاعته ؛ لا من أنواع الشفاعة ، ولا من الأشخاص المشفوع فيهم من ملّته ، ومن غير ملّته ؛ لأنّه إذا كان صاحب شفاعة الأنبياء ، والكلّ تحت لوائه ، فكلّ من شفعوا فيه فبسببه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدّموا للشفاعة فيه ، وإجابة شفاعتهم إجابة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فكلّ من تقع شفاعة النبيّين فيه ، داخل تحت شفاعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن شفع فيه المؤمنون كذلك بطريق الأولى ، فهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شفيع الشفعاء.

الشفاعة الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين

وقد جاءت الأحاديث الصحيحة بإخراجهم من النار بشفاعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وسائر الأنبياء ، والملائكة ، وإخوانهم من المؤمنين «ثمّ يخرج الله تعالى كلّ من قال : لا إله إلّا الله» كما جاء في الحديث (١) ، ولا يبقى فيها إلّا الكافرون.

وهذه الشفاعة ، والشفاعة الاولى العظمى : تواترت الأحاديث بهما ، واختصاص النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعظمى كما سبق.

وأمّا هذه فقد جاء فيها شفاعة الملائكة ، والأنبياء ، والمؤمنين ، وأنّ الله تعالى بعد ذلك يخرج برحمته من قال : لا إله إلّا الله.

وفيه أقوال سنذكرها ، أحسنها أنّه من قال من غير هذه الامّة «لا إله إلّا الله» ولم يشمله شفاعة أنبيائهم وغيرهم من الشافعين.

أمّا هذه الامّة فكلّها يخرج بشفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن وقع في بعضهم شفاعة لإخوانهم من المؤمنين ، فهي في طيّ شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أشرنا إليه فيما سبق.

وإذا ثبت ذلك ، فاختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من هذا النوع بإخراج عموم امّته حتّى لا يبقى منهم أحد ، وهذا هو الموافق لعموم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «شفاعتي لأهل الكبائر من امّتي» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة ، فتعجّل كلّ نبيّ دعوته ، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعة لُامّتي يوم القيامة ، فهي نائلة إن شاء الله تعالى من مات من امّتي لا يشرك بالله شيئاً» رواه مسلم من طرق ، وروى البخاريّ طرفاً منه (٣).

__________________

(١) أخرج الترمذي في السنن (٤ / ١١١) وانظر : المغني لابن قدامة (٢ / ٣٠١) متفق على هذه الأحاديث.

(٢) أخرجه أحمد في المسند (٣ / ٢١٣) وسنن أبي داود (٢ / ٤٢١) وسنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤١) ح (٤٣١٠) ، والترمذي (٤ / ٤٥) ح (٢٥٥٢) وبعده ومستدرك الحاكم (١ / ٦٩ و ٣٨٢) والسنن الكبرى للبيهقي (٨ / ١٧).

(٣) صحيح مسلم (١ / ١٣١) ، صحيح البخاري قوله (ولكل نبيّ دعوة) في (٧ / ١٤٤). ومسند أحمد (٢ / ٢٧٥ و ٤٢٦).

وقولِه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتاني آتٍ من عند ربّي عزوجل ، فخيّرني بين أن يدخل الجنّة نصف امّتي ، أو بين الشفاعة ، فاخترت الشفاعة ، وهي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً» رواه الترمذيّ (١).

وقولِه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «خيّرت بين الشفاعة ، وبين أن يدخل نصف امّتي الجنّة ، فاخترت الشفاعة ، لأنّها أعمّ وأكثر ، ترونها للمؤمنين المتقين؟! لا ، ولكنّها للمذنبين الخطّائين المتلوّثين» رواه ابن ماجة (٢).

فهذه العمومات كلّها متظافرة على عموم شفاعته لكلّ الامّة ، وكذلك قوله بين يدي الله تعالى يوم القيامة : «امّتي ، امّتي» وهي دعوة يتحقّق استجابتها.

وقد قال العلماء في قوله : «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة» : إنّه على يقين من إجابتها ، وباقي دعواته يرجوها ، فقد ظهر بهذا اختصاصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعموم هذه الشفاعة لكلّ امّته.

الشفاعة الخامسة : في زيادة الدرجات في الجنّة لأهلها

ذكرها القاضي عياض وغيره ، ولا ينكرها المعتزلة أيضاً ، ولم أجد في الأحاديث تصريحاً بها.

لكن عبد الجليل القصريّ في كتاب «شعب الإيمان» له ، ذكر في تفسير الوسيلة التي اختصّ بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّها التوسّل ، وأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكون في الجنّة بمنزلة الوزير من الملك ـ بغير تمثيل ـ لا يصل إلى أحد شيء إلّا بواسطته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإذا كان كذلك فهذه أيضاً خاصّة به.

هذا تفصيل الشفاعات الخمس ، ومن تأمّلها وعرف عموم شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لها ، واختصاصه بما اختصّ منها ، وأمعن النظر في ذلك ، عرف عليَّ قدر رتبة هذا

__________________

(١) سنن الترمذي (٤ / ٤٧) ح (٢٥٥٨).

(٢) سنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤١) ح (٤٣١١).

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكلّما أمعن في ذلك ازداد اعتقاداً ، وهو كما قال القائل :

يزيدك وجهه حسناً

إذا ما زدته نظراً

وقد رأيت أن لا اخلي هذا الكتاب من أحاديث الشفاعة على سبيل الاختصار.

فمن ذلك ما رواه البخاريّ ومسلم رحمهما‌الله تعالى في «صحيحيهما» من حديث أبي هريرة رضى الله عنه ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا سيّد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون بم ذاك؟ يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد ، فيسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس ، فيبلغ الناس من الغمّ والكرب ما لا يطيقون وما لا يحتملون.

فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه ، ألا ترون ما قد بلغكم ، ألا تنظرون إلى من يشفعكم إلى ربّكم؟

فيقول بعض الناس لبعض : ائتوا آدم.

فيأتون آدم فيقولون : يا آدم ، أنت أبونا ، أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا!!

فيقول آدم : إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنّه نهاني عن الشجرة ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح.

فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح ، أنت أوّل الرسل إلى أهل الأرض ، وسمّاك الله : عبداً شكوراً ، اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى ما قد بلغنا!!

فيقول لهم : إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب

بعده مثله ، وإنّه قد كانت لي دعوة دعوت بها على قومي ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى إبراهيم.

فيأتون إبراهيم فيقولون : أنت نبيّ الله ، وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا!!

فيقول لهم إبراهيم : إنّ ربّي قد غضب غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى موسى.

فيأتون موسى فيقولون : يا موسى ، أنت رسول الله ، فضّلك الله برسالاته ، وبتكليمه على الناس ، اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى إلى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بلغنا!!

فيقول لهم موسى : إنّ ربّي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإنّي قتلت نفساً لم أؤمَر بقتلها ، نفسي نفسي ، اذهبوا إلى عيسى.

فيأتون عيسى فيقولون : يا عيسى ، أنت رسول الله ، وكلّمت الناس في المهد ، وكلمة منه ألقاها إلى مريم ، وروح منه ، فاشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا!!

فيقول لهم عيسى : إنّ ربّي غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولا يغضب بعده مثله ـ ولم يذكر له ذنباً ـ نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد.

فيأتون فيقولون : يا محمّد ، أنت رسول الله خاتم الأنبياء ، وغفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر ، اشفع لنا إلى ربّك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى إلى ما قد بلغنا!!

فأنطلقُ ، فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربّي ، ثمّ يفتح الله عليّ ، ويلهمني

من محامده وحسن الثناء عليه شيئاً لم يفتحه لأحد قبلي.

ثمّ يقال : يا محمّد ، ارفع رأسك ، سل تعطه ، اشفع تشفّع.

فأرفع رأسي فأقول : يا ربّ ، امّتي امّتي.

فيقال : يا محمّد ، أدخل من امّتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنّة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب.

والذي نفس محمّد بيده ، إنّ ما بين المصراعين من مصاريع الجنّة لكما بين مكّة وهَجَر ، أو كما بين مكّة وبصرى» هذا لفظ مسلم (١).

وذكره البخاريّ في مواضع مقطّعاً ، وذكره بطوله في سورة بني إسرائيل ، وذكر فيه من قول آدم ومن دونه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام : «نفسي ، نفسي ، نفسي» ذكرها ثلاثاً ، وقال : «امّتي يا ربّ ، امّتي يا ربّ ، امّتي يا ربّ» (٢).

وروى البخاريّ ومسلم أيضاً عن أنس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة ماج الناس بعضهم إلى بعض ، فيأتون آدم ، فيقولون له : اشفع لذرّيتك!

فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بإبراهيم ؛ فإنّه خليل الله.

فيأتون إبراهيم ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بموسى ؛ فإنّه كليم الله تعالى.

فيؤتى موسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بعيسى ؛ فإنّه روح الله وكلمته.

فيأتون عيسى ، فيقول : لست لها ، ولكن عليكم بمحمّد.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فيأتوني ، فأقول : أنا لها ، فأنطلق فأستأذن على ربّي فيؤذن لي ، فأقوم بين يديه ، فأحمده بمحامد لا أقدر عليها الآن ؛ يلهمنيها الله ، ثمّ أخرّ له ساجداً.

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٧) كتاب الإيمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة فيها.

(٢) صحيح البخاري (٦ / ٤٣٦) كتاب تفسير القرآن ، باب (٣٨٨) ح (١١٣٧).

فيقال لي : يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل ، يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفّع.

فأقول : امّتي امّتي.

فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثال حبّة من بِرٍّ أو شعيرة من إيمان ، فأخرجه منها.

فأنطلقُ فأفعل ، ثمّ أرجع إلى ربّي ، فأحمده بتلك المحامد ، ثمّ أخرّ له ساجداً.

فيقال لي : يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل ، يُسمع لك ، وسل ، تُعطه ، واشفع تُشفّع.

فأقول : يا ربّ ، امّتي امّتي.

فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه مثال حبّة من خردل من إيمان فأخرجه منها.

فأنطلقُ فأفعل ، ثمّ أعود إلى ربّي فأحمده بتلك المحامد ، ثمّ أخرّ له ساجداً.

فيقال لي : يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل ، يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفّع.

فأقول : يا ربّ ، امّتي امّتي.

فيقال لي : انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثال حبّة من خردل من إيمان ، فأخرجه من النار.

فأنطلقُ فأفعل ، ثمّ أرجع إلى ربّي في الرابعة ، فأحمده بتلك المحامد ، ثمّ أخرّ له ساجداً.

فيقال لي : يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل ، يُسمع لك ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفّع.

فأقول : يا ربّ ، ائذن لي فيمن قال : لا إله إلّا الله.

قال : «ليس ذلك لك» أو قال : «ليس ذلك إليك ، ولكن وعزّتي وكبريائي ،

وعظمتي وجبريائي ، لأخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» هذا لفظ مسلم (١).

وقال البخاريّ في الاولى : «مثقال شعيرة من إيمان».

وفي الثانية : «مثقال ذرّة وخردلة من إيمان».

وفي الثالثة : «أدنى أدنى أدنى مثقال حبّة من خردلة من إيمان ، فأُخرجه من النار ، من النار ، من النار ، فأنطلق فأفعل» ولم يقل فيه : «ليس ذلك إليك» قال : «وعزّتي وجلالي ، وكبريائي وعظمتي ، لُاخرجنّ من قال : لا إله إلّا الله» (٢).

وخرّج البخاريّ ومسلم حديث أنس من طريق آخر ، وفيه ذكر نوح بعد آدم ، كما في حديث أبي هريرة ، وفيه من قول عيسى : «ائتوا محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عبدٌ قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فيأتوني ، فأستأذن على ربّي فيؤذن لي ، فإذا أنا رأيته وقعت ساجداً ، فيدعني ما شاء الله.

فيقال : يا محمّد ، ارفع رأسك قل يسمع لك ، وسل تعطه ، واشفع تشفّع!

فأرفع رأسي فأحمد ربّي بتحميد يعلّمنيه ، ثمّ أشفع فيحدّ لي حدّاً فأُخرجهم من النار ، وادخلهم الجنّة ، ثمّ أعود فأقع ساجداً».

وفيه في الثالثة والرابعة : «فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» أي وجب عليه الخلود ، هكذا في رواية.

وفي رواية عند البخاريّ في الرابعة : «ثمّ أرجع فأقول : يا ربّ ، ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن ؛ ووجب عليه الخلود» (٣).

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٥) كتاب الايمان.

(٢) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب ١٢٣١.

(٣) صحيح البخاري (٩ / ٧٨٨) كتاب التوحيد ، باب (١٢١٣) ح ٢٢١٢.

ومسلم (١ / ١٢٣) كتاب الايمان ، من أهل الجنّة منزلة.

وفي البخاريّ في رواية ذكر الشفاعة ثلاث مرّات ، وفيه في الثلاث : «فأستأذن على ربّي في داره فيؤذن لي عليه».

وفيه : ثمّ تلا هذه الآية (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) قال : «هذا المقام المحمود الذي وعده نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١).

وفي رواية عند مسلم عن أنس : أنّ نبيّ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يجمع الله المؤمنين يوم القيامة ، فيلهمون لذلك يقولون : لو استشفعنا على ربّنا» (٢).

وفي «مسند أبي عوانة» عن حذيفة بن اليمان ، عن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنهم قال : أصبح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم ، فصلّى الغداة ، ثمّ جلس ، حتّى إذا كان من الضحى ضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثمّ جلس مكانه حتّى صلّى الاولى ، والعصر ، والمغرب ، كلّ ذلك لا يتكلّم ، حتّى صلى العشاء الآخرة ، ثمّ قام إلى أهله.

فقال الناس لأبي بكر : سل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما شأنه صنع اليوم شيئاً لم يصنعه قطّ؟

فسأله فقال : «نعم ، عرض عليّ ما هو كائن من أمر الدنيا وأمر الآخرة ، فجمع الأوّلون والآخرون في صعيد واحد ، ففزع الناس لذلك ، حتّى انطلقوا إلى آدم والعرق كاد يلجمهم فقالوا : يا آدم ، أنت أبو البشر ، وأنت اصطفاك الله ، اشفع لنا إلى ربّك.

قال : قد لقيت مثل الذي لقيتم ، انطلقوا إلى أبيكم بعد أبيكم ، انطلقوا إلى نوح ...» وذكر الحديث قريباً من رواية أنس إلى أن انتهى إلى عيسى ، قال : «ليس ذاكم عندي ، ولكن انطلقوا إلى سيّد ولد آدم».

وفيه قال : فينطلق فيأتي جبرئيل ، فيقول الله له : «ائذن له ، وبشّره بالجنة».

__________________

(١) صحيح البخاري (٩ /) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.

(٢) صحيح مسلم (١ / ١٢٣) الايمان ، باب أدنى أهل الجنّة منزلة.

قال : فينطلق به جبرئيل ، فيخرّ ساجداً قدر جمعة ، ثمّ يقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».

قال : فيرفع رأسه ، فإذا نظر إلى ربّه خرّ ساجداً قدر جمعة اخرى ، فيقول الله : «يا محمّد ، ارفع رأسك ، وقل يسمع ، واشفع تشفّع».

قال : فيذهب ليقع ساجداً ، فيأخذ جبرئيل عليه‌السلام بضبعيه ، فيفتح الله عليه من الدعاء شيئاً لم يفتحه على بشر قطّ ، قال فيقول : «أي ربّ ، جعلتني سيّد ولد آدم ولا فخر ، وأوّل من تنشقّ عنه الأرض يوم القيامة ، ولا فخر ، حتّى أنّه ليرد على الحوض أكثر ممّا بين صنعاء وأيلة» (١).

وهذا الحديث يشير إلى أمر عظيم ممّا رآه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأعلمه في ذلك اليوم ، لا يحيط به إلّا الله تعالى ومن أعلمه إيّاه ، وأنّ ما اشتمل عليه حديث أنس وأبي هريرة رضى الله عنه وغيرهما من التفاصيل ، جزء يسير ممّا علمه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أحوال يوم القيامة ، أعاننا الله تعالى عليه.

والظاهر أنّ هذه السجدة الاولى المذكورة في هذه الرواية ، لم تذكر في حديث أنس وأبي هريرة ، ويكون المراد في حديث أنس وأبي هريرة : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم في مقام الشفاعة أربع مرّات ، والمذكور هنا تفصيل المرّة الاولى منها.

وجاءت أحاديث اخر فيها بعض أحوال يوم القيامة أيضاً :

منها حديث عن حذيفة بن اليمان وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجمع الله الناس ، فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة ، فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنّة.

فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى ابني إبراهيم خليل الله».

__________________

(١) مسند أحمد (١ / ٥).

قال : «فيقول إبراهيم : لست بصاحب ذلك ، اعمدوا إلى موسى الذي كلّمه الله تكليماً.

فيأتون موسى فيقول : لست بصاحب ذلك ، اذهبوا إلى عيسى كلمة الله وروحه.

فيقول عيسى : لست بصاحب ذلك.

فيأتون محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقوم ويؤذن له ، وترسل الأمانة والرحم ، فتقومان جنبتي الصراط يميناً وشمالاً ، فيمرّ أوّلكم كالبرق الخاطف ، ثمّ كمرّ الريح ، ثمّ كمرّ الطير ، وشدّ الرجال تجري بهم أعمالهم ، ونبيّكم قائم على الصراط يقول : يا ربّ سلّم سلّم ، حتّى تعجز أعمال العباد ؛ حتى يجيء الرجل فلا يستطيع السير إلّا زحفاً».

قال : «وفي حافتي الصراط كلاليب معلّقة مأمورة بأخذ من امرت به ، فمخدوش ناج ، ومكروس في النار».

رواه مسلم وانفرد بقوله : «يقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنّة» وبذكر الأمانة والرحم ، وقيامهما جنبتي الصراط ، وبذكر قيام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الصراط ، وبقيّته رواه البخاريّ من طرق اخرى (١).

وعن أبي سعيد الخدريّ رضى الله عنه في حديث الرؤية قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كان يوم القيامة أذّن مؤذّن ليتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير الله من الأصنام والأنصاب إلّا يتساقطون في النار ، حتّى إذا لم يبقَ إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر وغير أهل الكتاب ، فتدعى اليهود فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٣٠) ولاحظ (١ / ١١٢) ، لاحظ البخاري (١ / ١٩٦) و (٧ / ٢٠٥) و (٨ / ١٨٠) ، وانظر مستدرك الحاكم (٤ / ٥٨٣).

قالوا : كنّا نعبد عزير ابن الله.

فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد ، فما ذا تبغون؟

قالوا : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.

فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى النار ، فيتساقطون في النار.

ثمّ تدعى النصارى فيقال لهم ، ما كنتم تعبدون؟

قالوا : المسيح ابن الله.

فيقال لهم : كذبتم ، ما اتخذ الله من صاحبة ولا ولد.

فيقال لهم : ما تبغون؟

فيقولون : عطشنا يا ربّنا ، فاسقنا.

قال : فيشار إليهم ألا تردون ، فيحشرون إلى جهنّم ، فيتساقطون فيها ، حتى إذا لم يبق إلّا من كان يعبد الله من برّ وفاجر أتاهم ربّ العالمين».

وفيه : «فيكشف عن ساق ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه ، إلّا أذن الله له بالسجود ، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء ، إلّا جعل الله ظهره طبقة واحدة ؛ كلّما أراد أن يسجد خرّ على قفاه ، ثمّ يضرب الجسر على جهنّم ، وتحلّ الشفاعة ، ويقولون : اللهمّ سلّم سلّم».

قيل : وما الجسر يا رسول الله؟

قال : «دحض مزلّة فيه خطاطيف وكلاليب وحسكة ، فيمرّ المؤمنون كطرف العين ، وكالبرق ، وكالريح ، وكالطير ، وكأجاويد الخيل والركاب ، فناج مسلم ، ومخدوش مرسل ، ومكدوس في النار ، حتّى إذا خلص المؤمنون من النار ، فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشدّ مناشدة لله في استيفاء الحقّ من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار ، فيقولون : ربّنا ، كانوا يصومون معنا ، ويصلّون ، ويحجّون.

فيقال لهم : أخرجوا من عرفتم ، فتحرّم صورهم على النار ، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أخذت النار إلى نصف ساقيه ، وإلى ركبتيه ، فيقولون : ربّنا ، ما بقي فيها أحد ممّن أمرتنا به.

فيقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقول : ارجعوا ، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرّة من خير فأخرجوه ، فيخرجون خلقاً كثيراً.

ثمّ يقولون : ربّنا ، لم نذر فيها خيّراً.

فيقول الله عزوجل : شفعت الملائكة ، وشفع النبيّون ، وشفع المؤمنون ، ولم يبق إلّا أرحم الراحمين ، فيقبض قبضة من النار ، فيخرج قوماً لم يعملوا خيراً قطّ قد عادوا حمماً ، فيلقيهم في نهر الحياة ، فيخرجون كاللؤلؤ في رقابهم الخواتيم ، يعرفهم أهل الجنّة ، يقولون : هؤلاء عتقاء الله أدخلهم الجنّة بغير عمل عملوه ، ولا خير قدّموه.

ثمّ يقول : ادخلوا الجنّة ، فما رأيتموه فهو لكم.

فيقولون : ربّنا أعطيتنا ما لم تعط أحداً من العالمين.

فيقول : لكم عندي أفضل من هذا.

فيقولون : يا ربّنا ، وأيّ شيء أفضل من هذا؟

فيقول : رضائي فلا أسخط عليكم بعده أبداً».

قال أبو سعيد الخدريّ : بلغني أنّ الجسر أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف ،

لفظ مسلم (١).

وللبخاريّ قريب منه (٢).

وقال : «دينار من إيمان» و «نصف دينار من الإيمان» و «ذرة من إيمان» (٣).

وفي رواية البخاريّ من حديث أبي هريرة في الرواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يجمع الله الناس فيقال : من كان يعبد شيئاً فليتبعه».

وفي آخره : «فيضرب الصراط بين ظهري جهنّم».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأكون وامّتي من يجيز ، ولا يتكلّم يومئذٍ إلّا الرسل ، ودعوى الرسل يومئذٍ : اللهمّ سلّم سلّم» (٤).

قوله : «يجيز» يقال : جاز وأجاز لغتان.

وقوله : «ذرّة» بفتح الذال المعجمة ، وتشديد الراء ، ومن قال خلاف ذلك فقد صحّف.

وقال بعضهم في هذه الأحاديث : إنّ المعاني التي في الدنيا تظهر يوم القيامة للحسّ والعيان ، فلذلك تشاهد الأنبياء والمؤمنون ما في القلوب على هذه الأوزان المخصوصة.

وجعل قول أبي سعيد في الصراط : «إنّه أدقّ من الشعرة ، وأحدّ من السيف» راجعاً إلى صعوبة الاستقامة على الصراط في الدنيا ، وأنّ الكلاليب والحسك التي حوله هي الأغراض والأهواء التي في الدنيا.

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١١٧).

(٢) صحيح البخاري (٩ / ٧٩٨) ب ١٢١٨ ح ٢٢٣٩.

(٣) صحيح البخاري (٨ / ١٨٢).

(٤) صحيح البخاري (٢ / ٣٨١) كتاب الصلاة ، باب (٥٢٢) فضل السجود ح ٧٦٢.

وكتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.

وقوله : «تحلّ الشفاعة» قيل : هو من الحِلّ نقيض الحرمة ؛ أي يؤذن فيها.

وقيل : من الحلول ؛ أي تحصل وتقع.

وفي البخاريّ : «حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود» (١) واختلف في تفسيره ، والصحيح أنّ المراد بها دارات الوجوه ، كما ورد مصرّحاً به.

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أوّل الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشّرهم إذا يئسوا ، لواء الحمد بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على ربّي ، ولا فخر».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٢).

وعن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيّين وخطيبهم ، وصاحبَ شفاعتهم ، من غير فخر».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٣).

وعن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا سيّد ولد آدم يوم القيامة ، وبيدي لواء الحمد ، ولا فخر ، وما من نبيّ يومئذٍ ـ آدم فمن سواه ـ إلّا تحت لوائي».

رواه الترمذيّ وقال : حسن (٤).

وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «أنا حبيب الله ، ولا فخر ، وأنا حامل لواء الحمد يوم القيامة ، ولا فخر ، وأنا أوّل شافع وأوّل مشفَّع يوم القيامة ، ولا فخر ، وأوّل من يحرّك حلق الجنة ، فيفتح الله لي فيدخلنيها ومعي

__________________

(١) كتاب التوحيد (٩ / ٧٩٦) باب (١٢١٨) ح ٢٢٣٨.

(٢) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٥) ح (٣٦٨٩).

(٣) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٢).

(٤) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٧) ح (٣٦٩٤) ولاحظ (٤ / ٣٧٠) ح (٥١٥٦).

فقراء المؤمنين ، ولا فخر ، وأنا أكرم الأوّلين والآخرين ، ولا فخر».

رواه الترمذيّ (١).

وعن أنس بن مالك رضى الله عنه قال : سألت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يشفع لي يوم القيامة.

فقال : «أنا فاعل».

قال قلت : يا رسول الله ، فأين أطلبك؟

قال : «اطلبني أوّل ما تطلبني على الصراط».

قال قلت : فإن لم ألقك على الصراط؟

قال : «فاطلبني عند الميزان».

قلت : فإن لم ألقك عند الميزان؟

قال : «فاطلبني عند الحوض ، فإنّي لا اخطئ هذه الثلاث المواطن».

رواه الترمذيّ وقال : حسن غريب (٢).

وعن أبي هريرة رضى الله عنه قال قلت : يا رسول الله ، من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟

قال : «لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أولى منك ؛ لما رأيت من حرصك على الحديث ، إنّ أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : «لا إله إلّا الله» خالصاً من قبل نفسه».

رواه البخاريّ (٣).

وعن أبي سعيد الخدريّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخلّص المؤمنون من

__________________

(١) سنن الترمذي (٥ / ٢٤٨) ح (٣٦٩٥).

(٢) سنن الترمذي (٤ / ٤٢) ح (٢٥٥٠).

(٣) صحيح البخاري (٨ / ٥٠١) كتاب الرقاق ، باب (٨٢٢) صفة الجنّة والنار ح (١٤٣١) وانظر (١ / ٣٣) باب الحرص على الحديث. وفيه : من قلبه أو نفسه.

النار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنّة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتّى إذا هذّبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنّة» انفرد به البخاريّ (١).

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برّة ، ثمّ يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرّة» متّفق عليه (٢).

زاد البخاريّ بعد ذكر هذا الحديث : قال أبان : حدثنا قتادة ، حدثنا أنس ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من إيمان» مكان «خير» وترجم عليه «باب زيادة الإيمان ونقصانه» (٣).

وعن أنس رضى الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إذا كان يوم القيامة شفعت فقلت : يا ربّ أدخل الجنّة من في قلبه خردلة ، فيدخلون ، ثمّ أقول : أدخل الجنّة من كان في قلبه أدنى شيء».

رواه البخاريّ (٤).

وعن جابر رضى الله عنه قال : هل سمعت بمقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّه مقام محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري (٨ / ٤٩٣) باب الرقاق ، باب (٨١٩) القصاص يوم القيامة ح ١٤٠٠ وفي (٧ / ١٩٧).

(٢) أخرجه البخاري (٨ / ١٧٣) وانظر (١ / ١٦) ، وصحيح مسلم (١ / ١٢٥) وسنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤٣) ، والترمذي (٤ / ١١٢) ، وانظر كنز العمال (١٤ / ٣٩٧).

(٣) صحيح البخاري (١ / ٨٥) كتاب الإيمان ، باب (٣٤) زيادة الإيمان ونقصانه ح ٤٣.

(٤) صحيح البخاري (٩ / ٨٢١) كتاب التوحيد ، باب (١٢٣١) كلام الرب يوم القيامة مع الأنبياء وغيرهم ح ٢٣٠٨.

(٥) أخرجه صحيح مسلم (١ / ١٢٣).

وعن عمران بن حصين رضي الله عنهما عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يخرج قوم من النار بشفاعة محمّد ، فيدخلون الجنّة».

رواه البخاريّ في باب صفة الجنّة والنار (١).

وعن أنس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا أوّل الناس يشفع في الجنّة ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً».

رواه مسلم (٢).

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : نحن يوم القيامة على تلّ مشرفين على الخلق.

ذكره عبد الحقّ ، وهو في مسلم ، لكنّه وقع فيه إشكال لعلّه على بعض الرواة ، فأسقط اللفظ المذكور حتّى صار لا يفهم معناه ، وقال : على كذا (٣).

وعن ابن عمر قال : فيرقى هو ـ يعني محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وامّته على كوم فوق الناس ، وقد ورد مبيّناً من طرق : منها عن كعب بن مالك ، رواه أحمد في مسنده (٤) :

أنا الإمام الحافظ أبو محمّد مسعود بن أحمد بن مسعود الحارثيّ رحمه‌الله قراءة عليه وأنا أسمع قال : أخبرنا أبو الفرج عبد اللطيف بن عبد المنعم الحراني ، قراءة عليه وأنا أسمع ، قال : أنا أبو محمّد عبد الله بن أحمد بن أبي المجد الحربيّ ، أنا هبة الله بن عبد الواحد بن الحصين ، أنا أبو عليّ الحسن بن عليّ بن محمّد المذهب ، أنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك القطيعيّ ، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال :

__________________

(١) صحيح البخاري (٨ / ٥٠٠) كتاب الرقاق باب (٨٢٢) صفة الجنة والنار ، ح ١٤٢٨ ، وفي آخره : يسمّون الجهنميّين ، وفي طبعة (٧ / ٢٠٣).

(٢) صحيح مسلم (١ / ١٣٠).

(٣) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).

(٤) مسند أحمد (٣ / ٤٥٦) ، ومستدرك الحاكم (٢ / ٣٦٣) ، ومجمع الزوائد (٧ / ٥١) عن أحمد.

حدّثني أبي ، حدثنا يزيد بن عبد الربّ قال : حدّثني محمّد بن حرب ، حدثنا الزبيديّ ، عن الزهريّ ، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك ، عن كعب بن مالك رضى الله عنه : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «يبعث الناس يوم القيامة ، فأكون أنا وامّتي على تلّ ، ويكسوني ربّي حلّة خضراء ، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود».

وفي مسلم بقيّة الحديث عن جابر : «يعطى كلّ إنسان منهم ـ منافق أو مؤمن ـ نوراً ، وعلى جسر جهنّم كلاليب وحسك تأخذ من شاء الله ، ثمّ يطفأ نور المنافقين ، ثمّ ينجو المؤمنون ، فينجو أوّل زمرة وجوههم كالقمر ليلة البدر ؛ سبعون ألفاً لا يحاسبون» (١).

وفي البخاريّ عن ابن عمر رضي الله عنهما : إذا كان يوم القيامة كان الناس حثيّاً ، تتبع كلّ امّة نبيّها ؛ يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتّى ينتهى إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

والأحاديث في الشفاعة كثيرة ، ومجموعها يبلغ مبلغ التواتر.

وأعني بالتواتر هنا ما اشتركت فيه الروايات من الشفاعة ، لا لفظاً واحداً منها بخصوصه ، وهذا النوع من التواتر في السنّة كثير ، وأمّا التواتر في لفظ حديث مخصوص فعزيز.

وقد تضمّنت هذه الأحاديث من المناقب الشريفة والمآثر الجليلة والفوائد الجمّة ، ما لا يسعه هذا المكان ، ولكنّا نشير إلى شيء منه على سبيل الاختصار :

أمّا قوله في أوّله : «يجمع الله الناس» وفي رواية اخرى : «يجمع المؤمنون» :

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٢).

(٢) صحيح البخاري كتاب التفسير ، باب (٣٩٤) ح ١١٤٣ تفسير قوله تعالى : (أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) وفي طبعة (٥ / ٢٢٨) ، وفي طبعة الميمنية (٦ / ١٠٨) تفسير سورة بني إسرائيل.

ففيه إشارة إلى أنّ الذي يتوجّه إلى الأنبياء ويخاطبهم بسؤال الشفاعة ؛ هم المؤمنون وإن كان الغمّ والكرب قد عمّ جميع الناس من الكفّار ، والمؤمنين ؛ الأوّلين ، والآخرين ، واختصاص المؤمنين بسؤال الأنبياء مناسب لأمرين :

أحدهما : ما لهم من الصلة بهم بالإيمان.

والثاني : أنّه يحصل لهم بإراحتهم من ذلك المكان خير ، والكفّار ينتقلون إلى ما هو أشدّ عليهم.

فهذه الشفاعة العظمى وإن ترتّب عليها فصل القضاء لعموم الناس ، فليس الكفّار مقصودين بها ، قال تعالى : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ).

وقال تعالى حكاية عنهم : (فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ).

وقد قيل : إنّ جميع الناس يُسألون ؛ مؤمنهم ، وكافرهم.

فصل] التوسّل بالأنبياء [

وفي التجاء الناس إلى الأنبياء في ذلك اليوم ، أدلّ دليل على التوسّل بهم في الدنيا والآخرة ، وأنّ كلّ مذنب يتوسّل إلى الله عزوجل بمن هو أقرب إليه منه.

وهذا لم ينكره أحد ، وقد قدّمنا طرفاً من ذلك في باب الاستغاثة ، ولا فرق بين أن يسمّى ذلك «تشفّعاً» أو «توسّلاً» أو «استغاثة».

وليس ذلك من باب تقرّب المشركين إلى الله تعالى بعبادة غيره ، فإنّ ذلك كفر ، والمسلمون إذا توسّلوا بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بغيره من الأنبياء والصالحين ، لم يعبدوهم ، ولا أخرجهم ذلك عن توحيدهم لله تعالى ؛ وأنّه هو المتفرّد بالنفع والضرر ، وإذا جاز ذلك جاز قول القائل : «أسأل الله تعالى برسوله» لأنّه سائل الله تعالى ، لا لغيره.

فصل [سؤال الأنبياء قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟]

وأمّا إلهامهم سؤال آدم ومن بعده صلوات الله تعالى وسلامه عليهم ، ولم يلهموا في الابتداء سؤال نبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فالحكمة فيه ـ والله تعالى أعلم ـ أنّهم لو سألوه ابتداء لأمكن أن يقول قائل : يحتمل أنّ غيره يقدر على هذا.

فأمّا إذا بذلوا الجهد في السؤال والاسترشاد ، وسألوا غيره من رسل الله تعالى وأصفيائه واولي العزم ، فامتنعوا ، ولم يألوهم جهداً في النصح والإرشاد ، فانتهوا إليه وأجاب ، وحصل غرضهم ، حصل العلم لكلّ أحد بنهاية مرتبته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وارتفاع منزلته ، وكمال قربه ، وعظم إجلاله وانسه ، وتفضيله على جميع المخلوقين من الرسل الآدميّين والملائكة.

وحقّ لصاحب هذا المقام أن يكون سيّد الامم ، وأن يسافر إلى زيارته على الرأس ، لا على القدم.

فصل [عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر]

وأمّا ما يذكره الأنبياء عليهم‌السلام

فنبّه القاضي عياض رحمه‌الله تعالى فيه على فائدة جليلة تؤكّد القول المختار أنّهم معصومون من الكبائر والصغائر.

فإنّ هذه الأشياء التي ذكروها : ـ أكل آدم عليه‌السلام من الشجرة ناسياً ، ودعوة نوح عليه‌السلام على قوم كفّار ، وقتل موسى لكافر لم يؤمر بقتله ، وكان ذلك قبل النبوّة ، ومدافعة إبراهيم عليه‌السلام على الكفّار بقولٍ عرّض به هو فيه صادق من وجه ـ وهذه كلّها في حقّ غيرهم ليست بذنوب ، لكنّهم أشفقوا منها ؛ إذ لم تكن عن أمر الله تعالى ، وعتب على بعضهم فيها لعلوّ منزلتهم من معرفة الله تعالى ، ولو صدر منهم

شيء غير ذلك لذكروه في ذلك المقام ، فليتأمّل الناظر هذه الفائدة ، وليأخذها بكلتا يديه.

وما اختاره القاضي عياض من عصمتهم من الصغائر كعصمتهم من الكبائر ، هو الذي أعتقده وأدين الله به وإن كان أكثر المتكلّمين على خلافه ، ولا يحتمل هذا المكان التطويل بالاستدلال له.

قال القاضي عياض : ولا يهولنّك أن نسب قوم هذا المذهب إلى الخوارج ، والمعتزلة ، وطوائف من المبتدعة ، إذ منزعهم فيه منزع آخر من التكفير بالصغائر ، ونحن نتبرّأ إلى الله تعالى من هذا المذهب.

فصل [ترتيب الشفاعات حسب الروايات]

وأمّا قوله عليه‌السلام عقب رفع رأسه : «يا ربّ ، امّتي امّتي» فظاهره أنّ أوّل شفاعته في امّته.

وفي حديث حذيفة المتقدّم : أنّه يقوم «وترسل الأمانة والرحم ، فيقومان جنبتي الصراط».

ومال القاضي عياض إلى أنّ هذا في الأوّل ؛ لأنّ هذه الشفاعة هي التي لجأ الناس إليه فيها ؛ وهي الإراحة من الموقف ، والفصل بين العباد.

ثمّ بعد ذلك حلّت الشفاعة في امّته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المذنبين ، وحلّت شفاعة الأنبياء والملائكة وغيرهم.

وجاء في الأحاديث المتقدّمة : اتباع كلّ امّةٍ ما كانت تعبد ، ثمّ تمييز المؤمنين من المنافقين ، ثمّ حلول الشفاعة ووضع الصراط ، فيحتمل أنّ الأمر باتباع الامم ما كانت تعبد ، هو أوّل الفصل والإراحة من هول الموقف ، وهو أوّل المقام المحمود ، وأنّ الشفاعة التي ذكر حلولها ، هي الشفاعة في المذنبين على الصراط ، وهو ظاهر

الأحاديث ، وأنّها لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره ، كما نصّ عليه في الأحاديث السابقة.

ثمّ ذكر بعدها الشفاعة فيمن دخل النار.

وبهذا تجتمع متون الأحاديث ، وتترتّب معانيها إن شاء الله تعالى.

هذا كلام القاضي رحمه‌الله ، وهو ترتيب حسن ، وليس فيه ما يعارض شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لُامّته عقب رفع رأسه من السجود في المرّة الاولى ، فإنّه يحتمل أن يكون ذلك ابتداء فصل القضاء ، فقد صحّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ امّته هي المقضيّ لهم قبل الخلائق.

فيكون صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لمّا يدنو للشفاعة في فصل القضاء ، ويؤذن له في الشفاعة ـ يبتدئ بالسؤال لمن يقضى له أوّلاً ، فيجاب : بأن يدخل الجنّة من امّته من لا حساب عليه ، هذا في المرّة الاولى ، ويكون إعلامه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك في أوّل الأمر ، من كمال الإكرام.

ثمّ بعد ذلك تتّبع كلّ امّة ما كانت تعبد ، ويوضع الصراط ، ويؤذن في الشفاعة للمذنبين ، فيشفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأنبياء والملائكة في نجاة من يشاء الله من النار.

ثمّ بعد ذلك يدخل أهل الجنّة الجنّة ، وأهل النار النار ، ومن شاء الله تعالى من المذنبين ، فيقع بعد ذلك الشفاعة في إخراج المذنبين من النار.

ولعلّ سؤال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لُامّته في الثانية والثالثة والرابعة حينئذٍ ، ويشفع الأنبياء أيضاً والملائكة والمؤمنون في إخوانهم.

ويحتمل أن يكون اقتصار النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على ذكر امّته ، من كمال الأدب مع ربّه سبحانه وتعالى ، فإنّهم الأخصّون به ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلم أنّه يحصل في ضمن ذلك ما قصد إليه ولجأ الناس بسببه ؛ من فصل القضاء العامّ.

على أنّه قد ورد في حديث آخر ذكره القاضي عياض في «الشفاء» : «أما ترضون أن يكون إبراهيم وعيسى فيكم يوم القيامة!!».

ثمّ قال : «إنّهما في امّتي يوم القيامة ؛ أمّا إبراهيم فيقول : أنت دعوتي وذرّيتي ،

فاجعلني من امّتك ، وأمّا عيسى فالأنبياء إخوة بنو علات ، امّهاتهم شتّى ، وأنّ عيسى أخي ليس بيني وبينه نبيّ ، وأنا أولى الناس به» (١).

ويحتمل أن يكون السؤال للأنبياء مرّتين : مرّة من جميع الناس في فصل القضاء ، ثمّ مرّة من المؤمنين بعد تميّزهم في استفتاح الجنّة ، وسقط من الحديث ذكر الشفاعة الاولى.

وقد ورد هذا مصرّحاً به ؛ روى عليّ بن معبد في كتاب «الطاعة والمعصية» عن المسيّب بن شريك ، عن إسماعيل بن رافع المدنيّ ، عن عبد الله بن يزيد ، عن محمّد بن كعب القرظيّ ، عن أبي هريرة ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حديثاً طويلاً فيه : «فتوقفون في موقف حفاة عراة غرلاً مقدار سبعين (٢) عاماً ، لا ينظر الله إليكم ، ولا يقضى بينكم ، فتبكي الخلائق حتّى تنقطع الدموع ، ثمّ يدمع دماً ، ويعرقون حتّى يبلغ منهم الآذان ، أو يلجمهم ، فيضجّون ويقولون : من يشفع لنا إلى ربّنا فيقضي بيننا؟

فيؤتى آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى ، ثمّ يستقرون الأنبياء نبيّاً نبيّاً ؛ كلّما جاءوا نبيّاً أبى».

فقال رسول الله : «حتّى يأتوني ، فإذا جاءوني انطلقت فأخرّ قدام العرش لربّي ساجداً ، حتّى يبعث الله إليّ ملكاً فيأخذ بعضدي فيرفعني.

فيقول لي حين يرفعني الملك : ما شأنك يا محمّد؟ وهو أعلم.

فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة ، فشفّعني في خلقك فاقض بينهم.

فيقول الله تعالى : قد شفّعتك ، أنا آتيكم فأقضي بينكم».

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فأرجع فأقف مع الناس ، فبينا نحن وقوف إذا سمعنا

__________________

(١) الشفاء للقاضي عياض.

(٢) في (ه) : اربعين.

حسّاً شديداً من السماء فهالنا ، فنزل أهل سماء الدنيا بمثلي من فيها من الإنس والجنّ ، ثمّ ينزلون على قدر ذلك من التضعيف ، ثمّ يضع عرشه حيث شاء من الأرض.

ثمّ يقول : وعزّتي وجلالي ، لا يجاورني اليوم أحد بظلم».

وفيه : «ثمّ يقضي الله عزوجل بين خلقه كلّهم إلّا الثقلين الجنّ والإنس ، ثمّ يقضي بين الثقلين ، فيكون أوّل ما يقضي فيه الدماء».

وفيه بعد ذلك : «حتّى إذا لم يبقَ لأحد عند أحد تبعة نادى منادٍ : ليلحق كلّ قوم بآلهتهم ، ويجعل ملك على صورة عيسى ، فيتّبعه النصارى».

وفيه : «حتّى إذا لم يبقَ إلّا المؤمنون وفيهم المنافقون».

وفيه بعد ذلك : «ثمّ يضرب الصراط فيمرّون».

وفيه بعد ذلك : «فإذا أفضى أهل الجنّة إلى الجنّة قالوا : من يشفع لنا إلى ربّنا ليدخلنا الجنّة؟

فيؤتى آدم : فيقول : عليكم بنوح ...» وذكر مثل ما في الأحاديث المشهورة : نوح ، ثمّ إبراهيم ، ثمّ موسى ، ثمّ عيسى إلى أن قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«فيأتوني ولي عند الله ثلاث شفاعات ، فأنطلق آتي باب الجنّة ، فآخذ بحلقة الباب واستفتح ، فيفتح لي ، فأُحَيّى ويرحّب بي ، فإذا دخلت خررت ساجداً ...» إلى أن قال في الثالثة : «فأقول : يا ربّ ، وعدتني الشفاعة فشفّعني في أهل الجنّة.

فيقول : قد شفّعتك ، قد أذنت لهم في دخول الجنّة.

ثمّ أشفع فأقول : يا ربّ ، من وقع في النار من امّتي ...» وذكر بقيّة الحديث (١).

__________________

(١) قد مرّ تخريج أحاديث الشفاعة ويأتي.

فصل [أهل «لا إله إلّا الله»]

وأمّا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرّة الرابعة : «ائذن لي فيمن قال : لا إله إلّا الله» ففيه أقوال :

أحدها : أنّهم الذين معهم مجرّد الإيمان ، قاله القاضي عياض.

قال : وهم الذين لم يؤذن في الشفاعة فيهم ، وإنّما دلّت الآثار على أنّه أذن لمن عنده شيء زائد من العمل على مجرّد الإيمان ، وجعل للشافعين من الملائكة والنبيّين صلوات الله عليهم وسلامه عليه دليلاً عليه ، وتفرّد الله عزوجل بعلم ما تكنّه القلوب ، والرحمة لمن ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان ، وضرب بمثال ذرّة المثل لأقلّ الخير ، فإنّها أقلّ المقادير.

قال : والصحيح : أنّ معنى «الخير» شيء زائد على مجرّد الإيمان ؛ لأنّ مجرّد الإيمان الذي هو التصديق لا يتجزّأ ، وإنّما يكون هذا التجزّؤ بشيء زائد عليه : من عمل صالح ، أو ذكر خفيّ ، أو عمل من أعمال القلب ، من شفقة على مسكين ، أو خوف من الله تعالى ، ونيّة صادقة.

ويدلّ على قوله في الرواية الاخرى : «يخرج من النار من قال : لا إله إلّا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن ... كذا».

وهذا الذي قاله القاضي يشكل عليه امور :

أحدها : رواية البخاريّ المتقدّمة ، وقوله : «إيمان» مكان «خير» والروايات يفسّر بعضها بعضاً.

والخير أعمّ من الإيمان ، فيصدق على من ليس عنده إلّا مجرّد الإيمان أنّ عنده خيراً.

فلو لم يرد إلّا هذه الرواية كانت دالّة على إخراج جميع المؤمنين ، فكيف وقد رد وصحّ التصريح بالإيمان؟!

وحمل الإيمان على الزائد عليه مجازاً ، من غير دليل ، لا يسوغ.

الثاني : ما يلزمه من تخصيص شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ببعض المؤمنين ، والأحاديث التي وردت في ذلك عامّة ، وكثرتها تبعد تخصيصها ، ولا ضرورة إلى التخصيص ؛ لما سنبيّنه.

الثالث : أنّ الذي تكنّه القلوب من أعمال القلوب والإيمان ، سواء في الخفاء ، فإذا جعل الله لبعض خلقه أمارة على أعمال القلوب الخفيّة الزائدة على الإيمان ، فلا بدّ أن يجعل له دليلاً على الإيمان.

وإنّما ألجأ القاضي إلى هذا : أنّ من يخرجه الله بغير شفاعة لا بدّ أن يكون الإيمان في قلبه.

وهذا صحيح ؛ لأنّه لا يتعيّن أن يكون من هذه الامّة.

وأمّا ما تمسّك به من أنّ الإيمان لا يتجزّأ.

فجمهور السلف على أنّه يزيد وينقص ، وحقيقته غير متجزّئة ، وليس هذا محلّ تحقيق ذلك.

نعم ، لا بدّ في الردّ على القاضي من تحقيق أنّ الإيمان القائم بالقلب ، يقبل القوّة والضعف ، وإلّا فيصحّ ما قاله.

القول الثاني : أنّ المراد من قال : «لا إله إلّا الله» من غير هذه الامّة ، قاله أبو طالب عقيل بن عطيّة.

وهو الصحيح عندي ـ والعلم عند الله تعالى ـ تمسّكاً بدلالة الألفاظ ، فإنّه لم يقل : «من امّتي» ، وقد سبق أنّه قال : «ما بقي في النار إلّا من حبسه القرآن» والظاهر أنّ المراد من امّته ؛ أي لم يبقَ منهم أحد.

فيكون النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلب بعد ذلك أن يؤذن له في غير امّته ممّن قال : لا إله إلّا الله ، فقيل : «ليس ذلك إليك».

والداعي له إلى طلب ذلك : كمال شفقته على الخلق ، مع إطلاق قوله تعالى : «اشفع تشفّع».

مع كونه اقيم مقام البسط والإدلال ، ومع ذلك لم يقل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا : «ائذن لي» أي ائذن لي في أن أشفع ؛ لأنّه لا يشفع عنده إلّا بإذنه.

فتنبّه لهذه الدقيقة ، فإنّ فيها محافظة على إطلاق قوله تعالى : «اشفع تشفّع» وأنّ شفاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا تردّ.

ثمّ اعلم : أنّ قوله : «لا إله إلّا الله» من جملة العمل ، وقد سبق في الأحاديث أنّه تعالى يخرج برحمته قوماً لم يعملوا خيراً قطّ.

فإمّا أن يكون المراد لم يعملوا خيراً زائداً على الإيمان.

أو يكون المراد قول : «لا إله إلّا الله» بالقلب وإن لم ينطق بها بلسانه ، فإن كان ذلك كافياً في الملل المتقدّمة في الإيمان ، صحّ الحمل عليه ، وإن كان النطق شرطاً كما هو عندنا ، فيحمل على من تعذّر منه النطق.

فصل [السلف والشفاعة]

قال القاضي عياض : قد عرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح رضي الله عنهم شفاعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورغبتهم فيها.

وعلى هذا لا يلتفت إلى قول من قال : إنّه يكره أن يسأل الله تعالى أن يرزقه شفاعة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكونها لا تكون إلّا للمذنبين ، فإنّها قد تكون ـ كما قدّمنا ـ لتخفيف الحساب ، وزيادة الدرجات.

ثمّ كلّ عاقل معترف بالتقصير ، محتاج إلى العفو ، غير مُعْتَدٍّ بعمله ، مشفق أن يكون من الهالكين.

ويلزم هذا القائل أن لا يدعو بالمغفرة والرحمة! لأنّها لأصحاب الذنوب ،

وهذا كلّه خلاف ما عرف من دعاء السلف والخلف!!

فصل في المقام المحمود

قال القاضي عياض ، ذكر مسلم من حديث جابر المقام المحمود : أنّه «الذي يخرج الله به من يخرج من النار» (١) ومثله عن أبي هريرة ، وابن عبّاس ، وابن مسعود رضي الله عنهم وغيرهم.

وقد روى في الصحيح عن ابن عمر ما ظاهره أنّها شفاعة المحشر ، قال : فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود (٢).

عن حذيفة ـ وذكر المحشر ، وكون الناس فيه سكوتاً لا تكلّم نفس إلّا بإذنه ـ فينادي محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : «لبّيك وسعديك ، والخير في يديك ...» إلى آخر كلامه ، قال : فذلك المقام المحمود (٣).

وعن كعب بن مالك : «يحشر الناس على تلّ ، فيكسوني ربّي حلّة خضراء ، ثمّ يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود» (٤).

قال : والذي يستخرج من جملة الأحاديث ؛ أنّ مقامه المحمود هو كون آدم ومن دونه تحت لوائه يوم القيامة ؛ من أوّل عرصاتها إلى دخولهم الجنّة وإخراج من يخرج من النار.

فأوّل مقاماته إجابة المنادي ، وتحميده ربّه ، وثناؤه عليه بما ذكر وبما ألهمه محامده.

__________________

(١) صحيح مسلم (١ / ١٢٢) ، الشفاء للقاضي عياض.

(٢) أخرجه البخاري (٥ / ٢٢٨) باب قوله (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك (٢ / ٣٦٣).

(٤) مسند أحمد (٣ / ٤٥٦) ومستدرك الحاكم (٢ / ٣٦٣) ومجمع الزوائد (٧ / ٥١) عن أحمد.

ثمّ الشفاعة عن إراحة العرض وكرب المحشر ، وهذا مقامه الذي حمده فيه الأوّلون والآخرون.

ثمّ شفاعته لمن لا حساب عليه من امّته.

ثمّ لمن يخرج من النار حتّى لا يبقى فيها من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان.

ثمّ يتفضّل الله تعالى بإخراج من قال : «لا إله إلّا الله» ومن لم يشرك بالله شيئاً ولا يبقى في النار إلّا المخلّدون.

وهذا آخر عرصات القيامة ومثاقل الحشر ، فهو في جميعها له المقام المحمود بيده فيها لواء الحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فصل [دعوة الرسول هي الشفاعة]

قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اعطيت خمساً لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي ...» وذكر من جملتها : «اعطيت الشفاعة» مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ نبيّ دعوة مستجابة ، وإنّي اختبأت دعوتي شفاعةً لُامّتي يوم القيامة» (١).

يستفاد منه أنّ الشفاعة التي اعطيها وخصّ بها عن الأنبياء ، غير الشفاعة التي ادّخرها لُامّته ؛ لأنّها دعوة شاركوه في جنسها ، والاولى هي العظمى ، وهي إمّا الشفاعة في فصل القضاء ، أو العموم ؛ بالتقرير الذي سبق ، وأنّه صاحب الشفاعة ، وكلّ الشفعاء داخلون في شفاعته ، والثانية هي الشفاعة في إخراج المذنبين من النار ، كما يشير إليه قوله : «أترونها للمؤمنين المتّقين؟! لا ، ولكنّها للمذنبين المتلوّثين الخطّائين» (٢).

__________________

(١) مسند أحمد (٢ / ٢٧٥).

(٢) سنن ابن ماجة (٢ / ١٤٤١) ، ومجمع الزوائد (١٠ / ٣٧٨) عن أحمد والطبراني.

خاتمة

[في]

[نصوص الصلوات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم]

نختم الكتاب بالصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالألفاظ التي وردتْ مأثورةً في الأحاديث كلّ لفظٍ على حِدَته ، ولا نذكر منها إلّا ما رُوِيَ :

وكلّ لفظ من ألفاظ الصلاة وجدته ، فأنقل أنّه مرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد جمع ذلك كلّه أبو عبد الله محمّد بن عبد الرحمن بن عليّ بن عبد الرحمن النميريّ في كتاب «الإعلام بفضل الصلاة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» (١) :

١ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٢ ـ «اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

__________________

(١) أقول : والمؤلّفات في نصوص الصلوات المأثورات وفضل الصلاة ، كثيرة جدّاً.

٥ ـ «اللهم بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٦ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٧ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٨ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، والسلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته».

٩ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٠ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١١ ـ «اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٢ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٣ ـ «اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٤ ـ «اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما جعلتها

على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٥ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى أزواجه وذرّيته ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وأزواجه وذرّيته ، كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

١٦ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك ، كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم».

١٧ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صليت على إبراهيم ، وبارك على محمد كما باركت على إبراهيم».

١٨ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

١٩ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

٢٠ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد عبدك ورسولك كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم».

٢١ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد».

٢٢ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد».

٢٣ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٢٤ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد».

٢٥ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد النبيّ الامّي وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمّد النبيّ الامّي وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٢٦ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد النبيّ الامّي وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم ، وبارك على محمّد النبيّ الامّي كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٢٧ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد النبيّ الامّي وعلى آل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمّد النبيّ الامّي وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

وفي رواية : «وآل إبراهيم» في الموضعين.

٢٨ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم».

٢٩ ـ «اللهمّ بارك على محمّد كما باركت على آل إبراهيم».

٣٠ ـ «اللهمّ صلّى على محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣١ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٢ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٣ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٤ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٥ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٦ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، وبارك على محمّد ، إنّك حميد مجيد».

٣٧ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد النبيّ وأزواجه امّهات المؤمنين وذرّيته وأهل بيته ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٣٨ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد».

٣٩ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٠ ـ «اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك وبركاتك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤١ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت وباركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٢ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنك حميد مجيد ، وارحم محمّداً وآل محمّد كما رحمت آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٣ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل بيته كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، اللهمّ صلّ علينا معهم».

٤٤ ـ «اللهمّ بارك على محمّد وعلى أهل بيته كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، اللهمّ بارك علينا معهم ، صلاة الله وصلوات المؤمنين على محمّد النبيّ الامّي ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

ذكر ذلك في آخر التشهّد من جهة الدارقطنيّ بسند فيه ضعف تفرّد به.

٤٥ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٦ ـ «اللهمّ بارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٧ ـ «اللهمّ وتحنّن على محمّد وعلى آل محمّد كما تحنّنت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٨ ـ «اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على محمّد النبيّ ، وأزواجه امّهات المؤمنين ، وذرّيته وأهل بيته ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٤٩ ـ «اللهمّ اجعل صلواتك ورحمتك على محمّد وأزواجه وذرّيته وامّهات المؤمنين ، كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٥٠ ـ «اللهم صلّ على محمّد وعلى أزواجه امّهات المؤمنين وذرّيته وأهل بيته كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

٥١ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد ، كما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين ، إنّك حميد مجيد».

٥٢ ـ «اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وآل

إبراهيم».

وفي رواية : «كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

هذا كلّه مرويّ عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأسانيد ، منها صحيح ، ومنها غير ذلك.

بعض ما حفظ عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم :

٥٣ ـ عن عليّ رضى الله عنه : اللهمّ داحي المدحوّات ، وباري المسموكات ، وباني المبنيّات ، ومرسي المرسيّات ، وجابل (١) القلوب على فطرتها ؛ شقيّها ، وسعيدها ، وباسط الرحمة للمتقين ، اجعل شرائف صلواتك ، ونوامي زكواتك ، ورأفة تحنّنك ؛ على محمّد عبدك ورسولك ، الخاتم لما سبق ، والفاتح لما اغلق ، والمعلن للحقّ بالحقّ ، والدامغ (٢) لجيشات الأباطيل ، كما حُمّل فاضطلع بأمرك لطاعتك ، مستوفزاً في مرضاتك ؛ بغير نكل في قدم ، ولا وهي في عزم ، واعياً لوحيك ، حافظاً لعهدك ، ماضياً على نفاذ أمرك ؛ حتّى أورى قبساً لقابس ، وآلاء الله تصل بأهله أسبابه ، به هديت القلوب بعد خوضات الفتن والإثم ، وأبهج موضوحات الأعلام ، ومنيرات الإسلام ، ودائرات الأحكام ، فهو أمينك المأمون ، وخازن علمك المخزون ، وشهيدك يوم الدين ، وبعيثك نعمةً ، ورسولك بالحقّ ورحمةً.

اللهمّ افسح له مفتسحاً في عدنك ، وأجزه مضاعفات الخير من فضلك له ؛ مهنّآتٍ غير مكدّرات ، من فوز ثوابك المجلول (٣) ، وجزيل عطائك المعلول (٤).

__________________

(١) في الأصل : وجبّار.

(٢) في النهج : والدافع.

(٣) في (ه) : المضنون.

(٤) في (ه) : المحلول.

اللهمّ أعلِ على بناء الناس (١) بناءه ، وأكرم مثواه لديك ومنزلته ، وأتمم له نوره ، وأجزه من ابتعاثك له مقبول الشهادة ، مرضيّ المقولة ، ذا منطق عدل ، وخطّة (٢) فصل ، وحجّة وبرهان عظيم (٣).

اللهمّ اجعلنا سامعين مطيعين ، وأولياء مخلصين ، ورفقاء مصاحبين.

اللهمّ أبلغه منّا السلام ، واردد علينا منه السلام.

٥٤ ـ عن ابن مسعود رضى الله عنه : اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيّد المرسلين وإمام المتّقين ؛ محمّد عبدك ورسولك ، إمام الخير ، وقائد الخير ، ورسول الرحمة.

اللهمّ ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأوّلون والآخرون.

اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وآل محمّد كما باركت على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.

٥٥ ـ عن ابن عمر رضي الله عنهما : اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك ورحمتك على سيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ، وخاتم النبيّين ، وعبدك ورسولك ، إمام الخير ، وقائد الخير.

اللهمّ ابعثه يوم القيامة مقاماً محموداً يغبطه الأوّلون والآخرون ، وصلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.

٥٦ ـ عن الحسن البصريّ رحمه‌الله : اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على أحمد كما

__________________

(١) في (ه) : البنائين.

(٢) في النهج : وخُطبة.

(٣) أخرجه إلى قوله : «وبرهان». في كنز العمال (٢ / ٢٧١) برقم (٣٩٨٩) وقال : (طس ، وأبو نعيم في عوالي سعيد بن منصور) عن سلامة الكندي ، قال : كان عليّ يعلِّم الناس الصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول :

جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.

اللهمّ اجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد كما جعلتها على آل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.

السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته ، ومغفرة الله تعالى ورضوان الله.

اللهمّ أجعل محمّداً أكرم عبادك عليك ، وأرفعهم عندك درجة ، وأعظمهم خطراً ، وأمكنهم عندك شفاعة.

اللهمّ أتبعه من امّته وذرّيته ما تقرّ به عينه ، واجزه عنّا خير ما جزيت نبيّاً عن امّته ، واجز الأنبياء كلّهم خيراً ، السلام على المرسلين ، والحمد لله ربّ العالمين.

اللهمّ صلّ على محمّد ، وعلى آله ، وأصحابه ، وأولاده ، وأهل بيته ، وذرّيته ، ومحبّيه ، وأتباعه ، وأشياعه ، وعلينا معهم أجمعين ، يا أرحم الراحمين.

سؤال المَقْعَد المقرّب يوم القيامة

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من صلّى عليّ وقال : اللهمّ أعطه المَقْعَد المقرّب عندك يوم القيامة ، وجبت له شفاعتي» (١) صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.

وليكن هذا آخر كلامنا ، والحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله وصحبه والتابعين وسلّم تسليماً ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند (٤ / ١٠٨).

وفي مجمع الزوائد (١٠ / ١٦٣) قال : رواه البزار والطبراني في الأوسط الكبير ، وأسانيدهم حسنة.

وفي كنز العمال (١ / ٤٩٦) رقم ٢١٨٨ ، (حم ، وابن قانع عن رويفع بن ثابت).

وفي (٧ / ٧٠٤) رقم ٢١٠٢٠ : من قال إذا سمع النداء : اللهمَّ ربَّ هذه الدعوة التامّة ... الخ (قط في الافراد عن جابر).

[يقول محقّق الكتاب :

والحمد لله على إتمامه والصلاة والسّلام على سيّد المرسلين محمّد وعلى آله وصحبه الثابتين على الحقّ والتزامه والتابعين لهم الحريصين على سلامة الدين ودوامه ونسأله الرضا عنّا بفضله وإحسانه وإكرامه ، إنّه ذو الجلال والإكرام ، والحمد لله خير ختام.

وكتب السيّد

في ١٧ / ربيع الأوّل / ١٤١٩ ه‍]

الفهارس

١ ـ فهرس المصادر والمراجع.

٢ ـ فهرس المحتوى.

١ ـ فهرس المصادر والمراجع

ـ الأحكام السلطانية

للماوردي ، علي بن محمد بن حبيب (ت ٤٥٠ ه‍) مكتبة الحلبي وأولاده القاهرة ١٣٨٠ ه‍.

ـ الأذكار النووية

للإمام النووي ، مطبوع مع شرحه : الفتوحات الربانية ، لمحمد بن علّان الصديقي الشافعي المكّي ، نشر المكتبة الإسلامية لرياض الشيخ ـ بيروت ، من طبعة جمعيّة النشر والتأليف الأزهرية ـ القاهرة.

ـ الاستيعاب في معرفة الأصحاب

للقرطبي يوسف بن عبد البر الأندلسي ، تحقيق علي محمد البجاوي ـ دار النهضة ـ القاهرة.

ـ الأنساب

للسمعاني ، عبد الكريم بن محمّد التيمي (ت ٥٦٢ ه‍) طبعة المستشرق مرجليوث ليدن ١٩١٢ م أعادته مكتبة المثنى ـ بغداد. وطبعة البارودي ، دار الجنان ـ بيروت ١٤٠٨ ه‍.

ـ أنساب الأشراف

للبلاذري ، أحمد بن يحيى ، تحقيق محمد حميد الله ، معهد المخطوطات جامعة الدول العربية ، ودار المعارف مصر.

ـ تاريخ بغداد

للخطيب البغدادي أحمد بن علي بن ثابت (ت ٤٦٣ ه‍) المكتبة السلفية ، المدينة المنوّرة.

ـ تاريخ مدينة جرجان

للسهمي ، حمزة بن يوسف (ت ٤٢٧ ه‍) مطبعة مجلس دائرة المعارف ـ حيدرآباد الدكن ـ الهند ١٣٨٧ ه‍.

ـ تاريخ مدينة دمشق

لابن عساكر ، الحافظ الحسن بن هبة الله (ت ٥٧١ ه‍) نسخة مصوّرة ـ دار البشير.

ـ التذكرة في أحوال الموتى وامور الآخرة

للقرطبي محمد بن أحمد (ت ٦٧١ ه‍) دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤٠٧ ه‍.

ـ تطهير الفؤاد عن دنس الاعتقاد

لشيخ الاسلام محمد بخيت المطيعي المصري ، طبع مع (شفاء السقام) طبعة مصر المطبعة الأميرية بولاق ١٣١٨ ه‍.

ـ تلخيص الحبير في تخريج الرافعي الكبير

لابن حجر العسقلاني أحمد بن علي (ت ٨٥٢ ه‍) دار الفكر بيروت (١٢) مجلداً.

ـ التهاني في التعقّب على موضوعات الصغّاني

لابن الصدّيق الغماري السيّد عبد العزيز الحسني (ت ١٤١٨ ه‍) دار الإمام النووي ـ عمان ـ الأردن ١٤١٥ ه‍.

ـ الثقات

لابن حبان التميمي البستي (ت ٣٥٤) حيدرآباد الهند ١٤٠١ ه‍.

ـ الدعوات الكبير

للبيهقي ، تحقيق بدر بن عبد الله البدر ، مركز المخطوطات والتراث ـ الكويت ١٤٠٩ ه‍.

ـ دفع الشُّبه عن الرسول والرسالة.

لتقي الدين الحصني (ت ٨٢٩) تحقيق لجنة من العلماء الطبعة الثانية ١٤١٨ ه‍.

ـ رفع المنارة بتخريج أحاديث التوسّل والزيارة

للعلامة محمود سعيد ممدوح ، دار الإمام الترمذي القاهرة طبعة ثانية ١٤١٨ ه‍.

ـ الرفع والتكميل في الجرح والتعديل

للكهنوي عبد الحي ، حققه عبد الفتاح أبو غدة ، مكتب المطبوعات الإسلامية ـ حلب ـ الفرافرة ، جمعية التعليم الشرعي طبعة ثانية ١٣٨٨ ه‍.

ـ سنن ابن ماجة

محمد بن يزيد القزويني (ت ٢٧٥ ه‍) تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي دار الفكر ـ بيروت.

ـ سنن أبي داود

لسليمان بن الأشعث السجستاني (ت ٢٧٥ ه‍) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد ، دار إحياء السنة النبوية.

ـ وتحقيق سعيد محمد اللحام ـ دار الفكر ـ بيروت (مجلدان)

ـ سنن الترمذي

لمحمد بن عيسى بن سورة (ت ٢٧٩ ه‍) صحّحه عبد الوهاب عبد اللطيف دار الفكر ـ بيروت.

ـ سنن الدارمي

لعبد الله بن عبد الرحمن بن بهرام (ت ٢٥٥ ه‍).

بعناية محمد أحمد دهمان ـ دمشق ١٣٤٩ ه‍.

ـ السنن الكبرى

للبيهقي ، أحمد بن الحسين (ت ٤٥٨ ه‍) دار الفكر ـ بيروت (١٠) مجلدات.

ـ سنن النسائي

بشرح السيوطي وحاشية السندي ، دار الفكر ـ بيروت ١٣٤٨ ه‍.

ـ شرح كتاب السير الكبير

للشيباني محمد بن حسن (ت ١٤٠ ه‍) إملاء محمد بن أحمد السرخسي تحقيق الدكتور صلاح الدين المنجّد ، معهد المخطوطات بجامعة الدول العربية ١٩٧١ ه‍.

ـ شرح النووي على صحيح مسلم

مطبوع مع صحيح مسلم دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٤٠٧ ه‍.

ـ الشريعة

للآجري محمد بن الحسين (ت ٣٦٠ ه‍) تحقيق محمّد حامد الفقّي ١٤٠٣ ه‍.

ـ شعب الإيمان

للبيهقي ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

ـ الصارم المنكي

للحنبلي محمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي (ت ٧٤٤ ه‍) حققه عقيل المقطري اليمني مؤسسة الريان بيروت ١٤١٢ ه‍.

ـ الصحاح

للجوهري إسماعيل بن حماد ، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار ، دار العلم للملايين ١٤٠٤ ه‍.

ـ صحيح البخاري

لمحمد بن اسماعيل بن المغيرة بن بروديه ، دار الطباعة العامرة استامبول ، تصوير دار الفكر ـ بيروت ١٤٠١ ه‍ (٨) أجزاء.

ـ صحيح مسلم

لمسلم بن الحجاج النيسابوري القشيري ، دار الفكر ـ بيروت.

ـ الضعفاء الكبير

للعقيلي ، تحقيق عبد المعطي قلعجي ، دار الكتب العلمية ـ بيروت.

ـ الضعفاء والمتروكون

لابن الجوزي البغدادي ، تحقيق أبو الفداء القاضي دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤٠٦ ه‍.

ـ طبقات الشافعية

للاسنوي ، عبد الرحيم بن الحسن (ت ٧٧٢ ه‍) تحقيق عبد الله الجبوري مطبعة الإرشاد ـ بغداد ١٣٩١ ه‍.

ـ طبقات الشافعية

لابن السبكي عبد الوهاب بن علي تاج الدين (ت ٧٧١ ه‍) تحقيق الحلو والطناحي دار إحياء الكتب العربية ـ القاهرة ١٣٩٦ ه‍.

ـ طبقات الشافعية

لابن قاضي شهبة ، أحمد بن محمد الدمشقي (ت ٨٥٠ ه‍) اعتنى بتصحيحه عبد العليم خان ـ عالم الكتب ـ بيروت ١٤٠٧ ه‍.

ـ العقد الفريد

للاندلسي ابن عبد ربه أحمد بن محمد ، تحقيق الأبياري ورفاقه دار الكتاب العربي ـ بيروت ١٤٠٣ ه‍.

ـ العقود الدريّة

للحنبلي محمد بن عبد الهادي ابن قدامة المقدسي (ت ٧٤٤ ه‍) حققه حامد الفقي ـ دار الكتب العلمية ـ بيروت.

ـ علوم الحديث

لابن الصلاح ، عثمان بن عبد الرحمن الشهرزوري (ت ٦٤٣ ه‍) تحقيق نور الدين عِتِر. دار

الفكر ـ دمشق ١٤٠٤ ه‍.

ـ فتاوى السبكي

للإمام تقي الدين علي بن عبد الكافي (ت ٧٥٦ ه‍) دار المعرفة بيروت عن طبعة مصر ـ مجلدان.

ـ فتوح الشام

للواقدي ، تحقيق عبد الله الشرقاوي ، دار إحياء التراث ـ بيروت.

ـ الفهرس الشامل للتراث العربي الإسلامي المخطوط

(علوم الحديث) المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية عمان الأردن ـ ١٩٨٩ ه‍.

ـ فهرس الفهارس والأثبات

للمحدث عبد الحي بن عبد الكبير الكتاني ، باعتناء إحسان عباس دار الغرب الإسلامي ١٤٠٦ ه‍.

ـ كنز العمال

للهندي علي المتّقي بن حسام (ت ٩٧٥ ه‍) ضبطه الشيخ بكر حياني والشيخ صفوة السقّا ، مؤسسة الرسالة ـ بيروت ١٤٠٩ ه‍.

ـ المجروحين

لابن حبّان ، محمد التميمي البستي (ت ٣٥٤ ه‍) تحقيق محمود إبراهيم زائد ، دار الوعي ، حلب ١٣٩٦ ه‍.

ـ مجمع الزوائد ومنبع الفوائد

للهيثمي علي بن أبي بكر نور الدين (ت ٨٠٧ ه‍) بتحرير العراقي وابن حجر ، دار الكتب العلمية ـ بيروت ١٤٠٨ ه‍.

ـ مجمل اللغة

لابن فارس أحمد بن زكريا أبو الحسين (ت ٣٩٥ ه‍) تحقيق زهير عبد المحسن مؤسسة

الرسالة ـ بيروت ١٤٠٦ ه‍.

ـ المجموع شرح المهذب

للنووي ، يحيى بن شرف الدين (ت ٦٧٦ ه‍) دار الفكر ـ بيروت.

ـ مجموع فتاوى ابن تيمية

جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي الحنبلي ، دار عالم الكتب ـ الرياض ١٤١٢ ه‍.

ـ مجموعة مؤلّفات ابن تيميّة (القسم الأول)

إعداد محمد بن إبراهيم الشيباني ، مركز المخطوطات والتراث الكويت ١٩٩٣ ه‍.

ـ مختصر تاريخ دمشق

لابن منظور الأنصاري ، تحقيق إبراهيم صالح ، دار الفكر ـ بيروت.

ـ المستدرك على الصحيحين

للحاكم النيسابوري (ت ٤٣٠ ه‍) إشراف د. يوسف عبد الرحمن المرعشلي ـ دار المعرفة ـ بيروت.

ـ وطبعة حيدرآباد ـ الهند ، وبذيله (تلخيص الذهبي) في أربع مجلّدات كبار.

ـ مسند أبي داود الطيالسي

سليمان بن داود (ت ٢٠٤ ه‍) دار المعرفة ـ بيروت.

ـ مسند أبي يعلى الموصلي

دار المأمون للتراث ـ بيروت ١٤١٤ ه‍.

ـ مسند أحمد

لأحمد بن محمد بن حنبل الشيباني (ت ٢٤١ ه‍). وبهامشه (منتخب كنز العمال للمتقي) دار صادر ـ بيروت.

ـ المصنّف

للصنعاني ، عبد الرزاق بن همّام (ت ٢١١ ه‍). تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي ، المكتب الإسلامي ـ بيروت ١٤١٣ ه‍.

ـ المصنّف في الأحاديث والآثار

لابن أبي شيبة عبد الله بن محمد الكوفي (ت ٢٣٥ ه‍) تحقيق سعيد اللحام دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٩ ه‍.

ـ المعجم الكبير

للطبراني ، سليمان بن أحمد الحافظ (ت ٣٦٠ ه‍) حققه حمدي السلفي ، دار إحياء التراث العربي ـ بيروت مكتبة ابن تيمية ـ القاهرة.

ـ المغني

لابن قدامة عبد الله بن أحمد المقدسي موفق الدين (ت ٦٢٦ ه‍) دار الكتاب العربي ـ بيروت (١٢) مجلداً.

ـ مِنَحُ المدح في شعراء الصحابة

لابن سيّد الناس محمد بن محمد بن محمد المصري (ت ٧٣٢ ه‍) تحقيق عفة وصال حمزة. دار الفكر ـ دمشق ١٤٠٧ ه‍.

ـ الموضوعات

لابن الجوزي (ت ٥٦٧ ه‍) تحقيق عبد الرحمن محمد عثمان دار الفكر ـ بيروت ١٤٠٣ ه‍.

وباقي المراجع منقول عنها بالواسطة ، فلتلاحظ طبعاتها بدقّة ، ولتراجع الكتب حسب الموضوعات ، ثمّ الأبواب وأرقام الأحاديث في الطبعات المرقّمة ، والله الموفّق للصواب.

٢ ـ فهرس المحتوى

تقديم........................................................................... ٧

المقدّمة........................................................................ ٥٩

الباب الأوّل

في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّاً

الحديث الأول : «من زار قبري وجبت له شفاعتي»................................. ٦٥

روايته بتصغير «عبيد الله»....................................................... ٦٦

متابعات وشواهد............................................................... ٧٠

من رواه بتكبير «عبد الله»....................................................... ٧١

رأي المؤلّف بترجيح رواية التصغير................................................. ٧٢

الاعتماد على رواية «عبد الله»................................................... ٧٤

قوّة الحديث بتضافر الإسناد...................................................... ٧٨

دلالة الحديث.................................................................. ٨٠

الحديث الثاني : «من زار قبري حلّت له شفاعتي».................................. ٨١

سند الحديث

الحديث الثالث : «من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له ...       ٨٣

سند الحديث............................................................... ٨٣

دلالة الحديث............................................................... ٨٩

الحديث الرابع : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي»................. ٨٩

متابعات للحديث........................................................... ٩٦

الحديث الخامس : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني»............................ ٩٨

وحديث آخر : من رواية ابن عمر رضي الله عنهما :.............................. ١٠١

الحديث السادس : «من زار قبري» أو «من زارني» «كنت شفيعاً له» أو «شهيداً»... ١٠٢

الحديث السابع : «من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة».................... ١٠٤

الحديث الثامن : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي»....................... ١٠٦

الحديث التاسع : «من حجّ حجّة الإسلام ، وزار قبري ، وغزا غزوة ، وصلّى عليّ في بيت المقدس ، لم يسأله الله عزوجل فيما افترض عليه»....................................................................... ١٠٧

الحديث العاشر : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ»....................... ١٠٩

الحديث الحادي عشر : «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً»........... ١١٠

الحديث الثاني عشر : «ما من أحد من امّتي له سعة ثمّ لم يزرني ، فليس له عذر»..... ١١٢

الحديث الثالث عشر : «من زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً» أو قال : «شفيعاً».      ١١٢

الحديث الرابع عشر : «من لم يزر قبري فقد جفاني».............................. ١١٤

الحديث الخامس عشر : من أتى المدينة زائراً ...»................................. ١١٥

الباب الثاني

في ما ورد من الأخبار والأحاديث دالّا على فضل الزيارة وإن لم يكن فيه لفظ «الزيارة»

أنواع السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم................................................. ١٢٢

فصل : في علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن يسلّم عليه...................................... ١٢٦

سماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمصلّي عليه عند قبره........................................ ١٣٢

الباب الثالث

في ما ورد في السفر إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحاً وبيان أنّ ذلك لم يزل قديماً وحديثاً

إبْراد عمر بن عبد العزيز بالسلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم............................. ١٤٢

البدأة بمكّة أو بالمدينة ، في سفر الحجّ؟.......................................... ١٤٥

الفقهاء يقرّرون السفر لزيارة القبر الشريف........................................ ١٤٨

حكاية العُتبيّ عن الأعرابيّ...................................................... ١٥١

الباب الرابع

في نُصوص العُلماء على استحباب زيارة قبر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان أنّ ذلك مجمعٌ عليه بين المسلمين

نصوص الحنابلة............................................................... ١٥٧

مناظرة الإمام مالك وأبي جعفر المنصور........................................... ١٦٣

عمل الصحابة والتابعين........................................................ ١٦٦

استقبال القبر الشريف عند السلام عليه.......................................... ١٦٩

كراهة مالك لفظ : الزيارة...................................................... ١٦٩

عدم كراهة ذلك هو الحق...................................................... ١٧٣

نسبة المنع من الزيارة إلى أهل البيت............................................. ١٧٤

حديث : لا تجعلوا بيتي عيداً................................................... ١٧٧

الباب الخامس

في تقرير كون الزيارة قُرْبَةً

أما الكتاب العزيز............................................................. ١٨١

وأمّا السنّة................................................................... ١٨٣

وأمّا الإجماع.................................................................. ١٨٤

زيارة النساء للقبور............................................................. ١٨٦

الاستدلال على استحباب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقياس.............................. ١٨٧

أقسام الزيارة.................................................................. ١٩٠

اجتماع الأغراض الشرعية في زيارة النبي خير البرية................................. ١٩١

جهة القربة في زيارة القبور...................................................... ١٩٤

زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة...................................................... ٢٠٠

الباب السادس

في كون السفر إليها قربة

وذلك من وجوه : أحدها : الكتاب العزيز :...................................... ٢٠٩

الثاني : السنّة :............................................................... ٢٠٩

والثالث : من السنّة أيضاً :.................................................... ٢١٠

الرابع : الإجماع :............................................................. ٢١١

ونبدأ أوّلاً بالكلام على كون هذا السفر مأموراً به أمرَ ندبٍ :....................... ٢٢٠

بين المقدمة والوسيلة........................................................... ٢٢١

اعتبارات السفر في مسألة الزيارة................................................ ٢٢١

الباب السابع

في دفع شُبَهِ الخَصْم وتتبُّع كلماتِهِ

وفيه فصلان : الأوّل : في شبهه................................................ ٢٣٣

وله ثلاث شبه :

الشبهة الاولى حديث : «لا تشدّ الرحال ...» ألفاظه ومصادرها................... ٢٣٣

دلالة الأحاديث ومعناها....................................................... ٢٣٤

محط البحث عند الفقهاء...................................................... ٢٣٧

عنوان المسألة في كتب الفقه.................................................... ٢٤١

فتاوى مختلفة مزوّرة باسم علماء بغداد............................................ ٢٤٤

ابن تيميّة يمنع الزيارة مطلقاً ، لا شدّ الرحل إليها فقط.............................. ٢٤٥

نصّ فتوى قديمة لابن تيمية.................................................... ٢٤٦

الردّ على ابن تيمية فقرة فقرة.................................................... ٢٤٩

مشروعية الزيارة............................................................... ٢٥١

القبور والشرك................................................................ ٢٥٧

الفصل الثاني : في تتبّع كلماته.................................................. ٢٦١

صورة فتوى ابن تيميّة التي استنكرها علماء الملّة الإسلاميّة........................... ٢٦٢

الردّ على فتوى ابن تيميّة....................................................... ٢٧٠

الباب الثامن

في التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

النوع الأوّل : أن يتوسّل به ؛ بمعنى أنّ طالب الحاجة يسأل الله تعالى به ، أو بجاهه ، أو ببركته.      ٢٩٤

حديث توسّل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم........................................... ٢٩٤

توسّل عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم............................................... ٢٩٦

توسّل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم................................... ٢٩٧

التعبير عن التوسّل والاستغاثة................................................... ٢٩٧

حديث الأعمى المتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم........................................... ٣٠٠

التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته................................................. ٣٠٣

النوع الثاني : التوسّل به ؛ بمعنى طلب الدعاء منه ،................................ ٢٠٥

حديث الاستسقاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته........................................ ٣٠٥

استسقاء عمر بالعبّاس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.......................................... ٣٠٨

التفرقة بين الألفاظ!........................................................... ٣١٠

التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة......................................... ٣١١

التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البرزخ................................................. ٣١١

التوسُّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسبُّبه................................................... ٣١٣

لا حرجَ في الألفاظ كلها....................................................... ٣١٤

الاستغاثة.................................................................... ٣١٥

الباب التاسع

في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام

الفصل الأول : فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام..................... ٣٢١

الفصل الثاني : في الشهداء..................................................... ٣٣٥

حياة الشهداء : للروح أو للجسد؟.............................................. ٣٣٨

الفصل الثالث في سائر الموتى في السماع والكلام والإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد ٣٤١

أمّا السماع والكلام :......................................................... ٣٤١

الفصل الرابع : في عود الروح الى البدن.......................................... ٣٥٥

الفصل الخامس : إنّ هذه الأعراض مشروطة بالحياة ، فكيف تحصل بعد الموت؟!...... ٣٦٠

الباب العاشر

في الشفاعة

اولاها : هي الشفاعة العظمى ، ولم ينكرها أحد.................................. ٣٧٠

الثانية : الشفاعة في إدخال قوم الجنّة بغير حساب................................. ٣٧٠

الشفاعة الثالثة : الشفاعة لقوم استوجبوا النار ، فيشفع فيهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يشاء الله ٣٧٤

الشفاعة الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين.................................... ٣٧٤

الشفاعة الخامسة : في زيادة الدرجات في الجنّة لأهلها.............................. ٣٧٦

من أحاديث الشفاعة.......................................................... ٣٧٧

والأحاديث في الشفاعة كثيرة ، ومجموعها يبلغ مبلغ التواتر.......................... ٣٩٢

فصل التوسّل بالأنبياء......................................................... ٣٩٣

فصل سؤال الأنبياء قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟......................................... ٣٩٤

فصل عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر........................................ ٣٩٤

فصل ترتيب الشفاعات حسب الروايات......................................... ٣٩٥

فصل أهل «لا إله إلّا الله».................................................... ٣٩٩

فصل السلف والشفاعة........................................................ ٤٠١

فصل في المقام المحمود.......................................................... ٤٠٢

فصل دعوة الرسول هي الشفاعة................................................ ٤٠٣

خاتمة نصوص الصلوات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم....................................... ٤٠٥

بعض ما حفظ عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم :......................... ٤١٣

سؤال المَقْعَد المقرّب يوم القيامة.................................................. ٤١٥

الفهارس..................................................................... ٤١٧

١ ـ فهرس المصادر والمراجع..................................................... ٤١٩

٢ ـ فهرس المحتوى............................................................. ٤٢٨

شفاء السّقام في زيارة خير الأنام صلى الله عليه وآله

المؤلف: علي بن عبدالكافي بن علي أبوالحسن الأنصاري الخزرجي المصري الشافعي [ تقي الدين السبكي ]
الصفحات: 432
  • تقديم 7
  • المقدّمة 59
  • الباب الأوّل
  • في الأحاديث الواردة في الزيارة نصّاً
  • الحديث الأول : «من زار قبري وجبت له شفاعتي» 65
  • روايته بتصغير «عبيد الله» 66
  • متابعات وشواهد 70
  • من رواه بتكبير «عبد الله» 71
  • رأي المؤلّف بترجيح رواية التصغير 72
  • الاعتماد على رواية «عبد الله» 74
  • قوّة الحديث بتضافر الإسناد 78
  • دلالة الحديث 80
  • الحديث الثاني : «من زار قبري حلّت له شفاعتي» 81
  • سند الحديث
  • الحديث الثالث : «من جاءني زائراً لا يعمله حاجة إلّا زيارتي ، كان حقّاً عليّ أن أكون له ...       83
  • سند الحديث 83
  • دلالة الحديث 89
  • الحديث الرابع : «من حجّ فزار قبري بعد وفاتي فكأنّما زارني في حياتي» 89
  • متابعات للحديث 96
  • الحديث الخامس : «من حجّ البيت ولم يزرني فقد جفاني» 98
  • وحديث آخر : من رواية ابن عمر رضي الله عنهما : 101
  • الحديث السادس : «من زار قبري» أو «من زارني» «كنت شفيعاً له» أو «شهيداً»... 102
  • الحديث السابع : «من زارني متعمّداً كان في جواري يوم القيامة» 104
  • الحديث الثامن : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني في حياتي» 106
  • الحديث التاسع : «من حجّ حجّة الإسلام ، وزار قبري ، وغزا غزوة ، وصلّى عليّ في بيت المقدس ، لم يسأله الله عزوجل فيما افترض عليه» 107
  • الحديث العاشر : «من زارني بعد موتي فكأنّما زارني وأنا حيّ» 109
  • الحديث الحادي عشر : «من زارني بالمدينة محتسباً كنت له شفيعاً وشهيداً» 110
  • الحديث الثاني عشر : «ما من أحد من امّتي له سعة ثمّ لم يزرني ، فليس له عذر» 112
  • الحديث الثالث عشر : «من زارني حتّى ينتهي إلى قبري كنت له يوم القيامة شهيداً» أو قال : «شفيعاً».      112
  • الحديث الرابع عشر : «من لم يزر قبري فقد جفاني» 114
  • الحديث الخامس عشر : من أتى المدينة زائراً ...» 115
  • الباب الثاني
  • في ما ورد من الأخبار والأحاديث دالّا على فضل الزيارة وإن لم يكن فيه لفظ «الزيارة»
  • أنواع السلام على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 122
  • فصل : في علم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمن يسلّم عليه 126
  • سماع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمصلّي عليه عند قبره 132
  • الباب الثالث
  • في ما ورد في السفر إلى زيارته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صريحاً وبيان أنّ ذلك لم يزل قديماً وحديثاً
  • إبْراد عمر بن عبد العزيز بالسلام على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 142
  • البدأة بمكّة أو بالمدينة ، في سفر الحجّ؟ 145
  • الفقهاء يقرّرون السفر لزيارة القبر الشريف 148
  • حكاية العُتبيّ عن الأعرابيّ 151
  • الباب الرابع
  • في نُصوص العُلماء على استحباب زيارة قبر سيّدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبيان أنّ ذلك مجمعٌ عليه بين المسلمين
  • نصوص الحنابلة 157
  • مناظرة الإمام مالك وأبي جعفر المنصور 163
  • عمل الصحابة والتابعين 166
  • استقبال القبر الشريف عند السلام عليه 169
  • كراهة مالك لفظ : الزيارة 169
  • عدم كراهة ذلك هو الحق 173
  • نسبة المنع من الزيارة إلى أهل البيت 174
  • حديث : لا تجعلوا بيتي عيداً 177
  • الباب الخامس
  • في تقرير كون الزيارة قُرْبَةً
  • أما الكتاب العزيز 181
  • وأمّا السنّة 183
  • وأمّا الإجماع 184
  • زيارة النساء للقبور 186
  • الاستدلال على استحباب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقياس 187
  • أقسام الزيارة 190
  • اجتماع الأغراض الشرعية في زيارة النبي خير البرية 191
  • جهة القربة في زيارة القبور 194
  • زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قربة 200
  • الباب السادس
  • في كون السفر إليها قربة
  • وذلك من وجوه : أحدها : الكتاب العزيز : 209
  • الثاني : السنّة : 209
  • والثالث : من السنّة أيضاً : 210
  • الرابع : الإجماع : 211
  • ونبدأ أوّلاً بالكلام على كون هذا السفر مأموراً به أمرَ ندبٍ : 220
  • بين المقدمة والوسيلة 221
  • اعتبارات السفر في مسألة الزيارة 221
  • الباب السابع
  • في دفع شُبَهِ الخَصْم وتتبُّع كلماتِهِ
  • وفيه فصلان : الأوّل : في شبهه 233
  • وله ثلاث شبه :
  • الشبهة الاولى حديث : «لا تشدّ الرحال ...» ألفاظه ومصادرها 233
  • دلالة الأحاديث ومعناها 234
  • محط البحث عند الفقهاء 237
  • عنوان المسألة في كتب الفقه 241
  • فتاوى مختلفة مزوّرة باسم علماء بغداد 244
  • ابن تيميّة يمنع الزيارة مطلقاً ، لا شدّ الرحل إليها فقط 245
  • نصّ فتوى قديمة لابن تيمية 246
  • الردّ على ابن تيمية فقرة فقرة 249
  • مشروعية الزيارة 251
  • القبور والشرك 257
  • الفصل الثاني : في تتبّع كلماته 261
  • صورة فتوى ابن تيميّة التي استنكرها علماء الملّة الإسلاميّة 262
  • الردّ على فتوى ابن تيميّة 270
  • الباب الثامن
  • في التوسّل ، والاستغاثة ، والتشفّع بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم
  • النوع الأوّل : أن يتوسّل به ؛ بمعنى أنّ طالب الحاجة يسأل الله تعالى به ، أو بجاهه ، أو ببركته.      294
  • حديث توسّل آدم عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 294
  • توسّل عيسى عليه‌السلام بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 296
  • توسّل نوح وإبراهيم وسائر الأنبياء بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 297
  • التعبير عن التوسّل والاستغاثة 297
  • حديث الأعمى المتوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 300
  • التوسّل بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد موته 303
  • النوع الثاني : التوسّل به ؛ بمعنى طلب الدعاء منه ، 205
  • حديث الاستسقاء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته 305
  • استسقاء عمر بالعبّاس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 308
  • التفرقة بين الألفاظ! 310
  • التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عرصات القيامة 311
  • التوسّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في البرزخ 311
  • التوسُّل بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتسبُّبه 313
  • لا حرجَ في الألفاظ كلها 314
  • الاستغاثة 315
  • الباب التاسع
  • في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
  • الفصل الأول : فيما ورد في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام 321
  • الفصل الثاني : في الشهداء 335
  • حياة الشهداء : للروح أو للجسد؟ 338
  • الفصل الثالث في سائر الموتى في السماع والكلام والإدراك والحياة وعود الروح إلى الجسد 341
  • أمّا السماع والكلام : 341
  • الفصل الرابع : في عود الروح الى البدن 355
  • الفصل الخامس : إنّ هذه الأعراض مشروطة بالحياة ، فكيف تحصل بعد الموت؟! 360
  • الباب العاشر
  • في الشفاعة
  • اولاها : هي الشفاعة العظمى ، ولم ينكرها أحد 370
  • الثانية : الشفاعة في إدخال قوم الجنّة بغير حساب 370
  • الشفاعة الثالثة : الشفاعة لقوم استوجبوا النار ، فيشفع فيهم نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن يشاء الله 374
  • الشفاعة الرابعة : فيمن دخل النار من المذنبين 374
  • الشفاعة الخامسة : في زيادة الدرجات في الجنّة لأهلها 376
  • من أحاديث الشفاعة 377
  • والأحاديث في الشفاعة كثيرة ، ومجموعها يبلغ مبلغ التواتر 392
  • فصل التوسّل بالأنبياء 393
  • فصل سؤال الأنبياء قبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ 394
  • فصل عصمة الأنبياء من الصغائر والكبائر 394
  • فصل ترتيب الشفاعات حسب الروايات 395
  • فصل أهل «لا إله إلّا الله» 399
  • فصل السلف والشفاعة 401
  • فصل في المقام المحمود 402
  • فصل دعوة الرسول هي الشفاعة 403
  • خاتمة نصوص الصلوات على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم 405
  • بعض ما حفظ عن الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم : 413
  • سؤال المَقْعَد المقرّب يوم القيامة 415
  • الفهارس 417
  • 1 ـ فهرس المصادر والمراجع 419
  • 2 ـ فهرس المحتوى 428