

في هذه المجموعة
مسألة في المنامات................................................................ ٧
الرد على اصحاب العدد......................................................... ١٥
حكم الباء في آية (وأمسحو برؤوسكم)......................................... ٦٥
مسألة في وجه التكرار في الايتين.................................................. ٧٣
مسألة في الاستثناء............................................................. ٧٧
وجه العلم بتناول الوعيد كافه الكفاد.............................................. ٨٣
العمل مع السلطان............................................................. ٨٧
نفي الحكم بعدم الدليل عليه..................................................... ٩٩
شرح الخطبة الشقشقية......................................................... ١٠٥
مناظرة الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم.......................................... ١١٥
أحكام أهل الآخرة............................................................ ١٣١
مسألة في توارد الأدلة.......................................................... ١٤٥
تفضيل الانبياء على الملائكة.................................................... ١٥٣
المنع عن تفضيل الملائكة على الأنبياء............................................ ١٦٧
انقاذ البشر من الجبر والقدر.................................................... ١٧٥
الرسالة الباهرة في العترة الطاهرة................................................. ٢٤٩
الحدود والحقائق............................................................... ٢٥٩
رسالة في غيبة الحجة.......................................................... ٢٩١
مسألة في الرد على المنجمين.................................................... ٢٩٩
جوابات المسائل الرسية الأولى................................................... ٣١٣
جواباب المسائل الرسية الثانية................................................... ٣٨٣
بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
مسألة :
في المنامات صحيحة هي أم باطلة؟ ومن فعل
من هي؟ ومن أي جنس هي؟
وما وجه صحتها في الأكثر؟ وما وجه الانزال عند رؤية المباشرة في المنام؟.
وان كان فيها
وباطل فما السبيل الى تمييز أحدهما من الأخر ؟.
الجواب وبالله
التوفيق :
من كلام المرتضى (قدس
الله روحه) سادسة المسائل التي سألت عنها : اعلم أن النائم غير كامل العقل ، لان
النوم ضرب من السهو ، والسهو ينفي العلوم ، ولهذا يعتقد النائم الاعتقادات الباطلة
، لنقصان عقله وفقد علومه.
__________________
وجميع المنامات
انما هي اعتقادات يبتدأ بها النائم في نفسه ، ولا يجوز أن يكون من فعل غيره فيه في
نفسه ، لان من عداه من المحدثين سواء كان بشرا أو ملائكة أو جنا أجسام، والجسم لا
يقدر أن يفعل في غيره اعتقادا ، بل ابتداءً. ولا شيئاً من الأجناس على هذا الوجه ،
وانما يفعل ذلك في نفسه على سبيل الابتداء.
وانما قلنا انه لا
يفعل في غيره جنس الاعتقادات متولدا ، لأن الذي يعدى الفعل من محل القدرة إلى
غيرها من الأسباب انما هو الاعتمادات ، وليس في جنس الاعتمادات ما يولد
الاعتقادات. ولهذا لو اعتمد أحدنا على قلب غيره الدهر الطويل ما تولد فيه شيء من
الاعتقادات.
وقد بين ذلك وشرح
في مواضع كثيرة.
والقديم تعالى هو
القادر أن يفعل في قلوبنا ابتداء من غير سبب أجناس الاعتقادات. ولا يجوز أن يفعل
في قلب النائم اعتقادا ، لأن أكثر اعتقاد النائم جهل وتناول الشيء على خلاف ما هو
به ، لانه يعتقد أنه يرى ويمشي وأنه راكب وعلى صفات كثيرة ، وكل ذلك على خلاف ما
هو به ، وهو تعالى لا يفعل الجهل ، فلم يبق الا أن الاعتقادات كلها من جهة النائم.
وقد ذكر في
المقالات أن المعروف ب «صالح قبة» كان يذهب الى أن ما يراه النائم في منامه على
الحقيقة. وهذا جهل منه يضاهي جهل السوفسطائية ، لان النائم يرى أن رأسه مقطوع ،
وأنه قد مات ، وأنه قد صعد الى السماء. ونحن نعلم ضرورة خلاف ذلك كله.
وإذا جاز عند صالح
هذا أن يعتقد اليقظان في السراب أنه ماء وفي المردي إذا كان في الماء أنه مكسور
وهو على الحقيقة صحيح لضرب من الشبهة واللبس والا جاز ذلك في النائم ، وهو من
الكمال أبعد والى النقص أقرب.
وينبغي أن يقسم ما
يتخيل النائم أنه يراه إلى أقسام ثلاثة :
منها : ما يكون من
غير سبب يقتضيه ولا داع يدعو اليه اعتقادا مبتدأ.
ومنها : ما يكون
من وسواس الشيطان ، ومعنى هذه الوسوسة أن الشيطان يفعل في داخل سمعه كلاما خفيا
يتضمن أشياء مخصوصة ، فيعتقد النائم إذا سمع ذلك الكلام أنه يراه. فقد نجد كثيرا
من النيام يسمعون حديث من يتحدث بالقرب منهم ، فيعتقدون أنهم يرون ذلك الحديث في
منامهم.
ومنها : ما يكون
سببه والداعي إليه خاطرا يفعله الله تعالى ، أو يأمر بعض الملائكة بفعله.
ومعنى هذا الخاطر
أن يكون كلاما يفعل في داخل السمع ، فيعتقد النائم أيضا ما يتضمن ذلك الكلام.
والمنامات الداعية إلى الخير والصلاح في الدين يجب أن تكون الى هذا الوجه معروفة ،
كما أن ما يقتضي الشر منها الاولى أن تكون الى وسواس الشيطان مصروفة.
وقد يجوز على هذا
فيما يراه النائم في منامه ، ثم يصح ذلك حتى يراه في يقظته على حد ما يراه في منامه.
وفي كل منام يصح تأويله أن يكون سبب صحته أن الله تعالى يفعل كلاما في سمعه بضرب
من المصلحة ، بأن شيئا يكون أو قد كان على بعض الصفات ، فيعتقد النائم أن الذي
يسمعه هو يراه.
فإذا صح تأويله
على ما يراه ، فما ذكرناه أن لم يكن مما يجوز أن تتفق فيه الصحة اتفاقا ، فان في
المنامات ما يجوز أن يصح بالاتفاق وما يضيق فيه مجال نسبته الى الاتفاق ، فهذا
الذي ذكرناه يمكن أن يكون وجها فيه.
فان قيل : أليس قد
قال أبو علي الجبائي في بعض كلامه في المنامات : أن الطبائع لا تجوز أن تكون مؤثرة
فيها ، لأن الطبائع لا تجوز على المذاهب الصحيحة أن تؤثر في شيء ، وأنه غير ممتنع
مع ذلك أن يكون بعض المآكل
يكثر عندها
المنامات بالعادة ، كما أن فيها ما يكثر عنده العادة تخييل الإنسان وهو مستيقظ ما
لا أصل له.
قلنا : قد قال ذلك
أبو علي ، وهو خطأ ، لأن تأثيرات المآكل بمجرى العادة على المذاهب الصحيحة ، إذا
لم تكن مضافة إلى الطبائع ، فهو من فعل الله تعالى ، فكيف تضيف التخيل الباطل
والاعتقاد الفاسد الى فعل الله تعالى.
فأما المستيقظ
الذي استشهد به ، فالكلام فيه والكلام في النائم واحد ، ولا يجوز أن نضيف التخيل
الباطل الى فعل الله تعالى في نائم ولا يقظان.
فأما ما يتخيل من
الفاسد وهو غير نائم ، فلا بد من أن يكون ناقص العقل في الحال وفاقد التمييز بسهو
وما يجري مجراه ، فيبتدأ اعتقادا لا أصل له ، كما قلناه في النائم.
فإن قيل : فما
قولكم في منامات الأنبياء عليهمالسلام وما السبب في صحتها حتى عد ما يرونه في المنام مضاهيا لما
يسمعونه من الوحي؟.
قلنا : الأخبار
الواردة بهذا الجنس غير مقطوع على صحتها ، ولا هي مما توجب العلم ، وقد يمكن أن
يكون الله تعالى أعلم النبي بوحي يسمعه من الملك على الوجه الموجب للعلم : أني
سأريك في منامك في وقت كذا ما يجب أن تعمل عليه. فيقطع على صحته من هذا الوجه ، لا
بمجرد رؤيته له في المنام.
وعلى هذا الوجه
يحمل منام إبراهيم عليهالسلام في ذبح ولده. ولو لا ما أشرنا إليه كيف كان يقطع إبراهيم عليهالسلام بأنه متعبد بذبح ولده؟.
فان قيل : فما
تأويل ما يروى عنه صلىاللهعليهوآلهوسلم من قوله : «من رآني فقد رآني فإن الشيطان لا يتمثل بي» وقد علمنا أن المحق والمبطل والمؤمن والكافر قد يرون النبي
صلىاللهعليهوآله ويخبر كل واحد منهم عنه بضد ما
__________________
يخبر به الأخر ،
فكيف يكون رائيا له في الحقيقة مع هذا؟.
قلنا : هذا خبر
واحد ضعيف من أضعف أخبار الآحاد ، ولا معول على مثل ذلك. على أنه يمكن مع تسليم
صحته أن يكون المراد به : من رآني في اليقظة فقد رآني على الحقيقة ، لأن الشيطان
لا يتمثل بي لليقظان. فقد قيل : ان الشيطان ربما تمثل بصورة البشر.
وهذا التشبيه أشبه
بظاهر ألفاظ الخبر ، لانه قال : من رآني فقد رآني ، فأثبت غيره رائيا له ونفسه
مرئية ، وفي النوم لا رأيي له في الحقيقة ولا مرئي ، وانما ذلك في اليقظة. ولو
حملناه على النوم ، لكان تقدير الكلام : من اعتقد أنه يراني في منامه وان كان غير
راء له في الحقيقة ، فهو في الحكم كأنه قد رآني. وهذا عدول عن ظاهر لفظ الخبر
وتبديل لصيغته.
وهذا الذي رتبناه
في المنامات وقسمناه أسد تحقيقا من كل شيء قيل في أسباب المنامات ، وما سطر في ذلك
معروف غير محصل ولا محقق.
فأما ما يهذي اليه
الفلاسفة ، فهو مما يضحك الثكلى ، لأنهم ينسبون ما صح من المنامات لما أعيتهم
الحيل في ذكر سببه الى أن النفس اطلعت إلى عالمها فأشرفت على ما يكون.
وهذا الذي يذهبون
إليه في الحقيقة النفس غير مفهوم ولا مضبوط ، فكيف إذا أضيف إليه الاطلاع على
عالمها. وما هذا الاطلاع والى أي يشيرون بعالم النفس؟ ولم يجب أن تعرف الكائنات
عند هذا الاطلاع؟.
فكل هذا زخرفة
ومخرقة وتهاويل لا يتحصل منها شيء وقول صالح فيه ، مع أنه تجاهل محض أقرب الى أن
يكون مفهوما من قول الفلاسفة ، لان صالحا ادعى أن النائم يرى على الحقيقة ما ليس
يراه ، فلم يشر إلى أمر غير معقول ولا
__________________
مفهوم ، بل ادعى
ما ليس بصحيح وان كان مفهوما ، وهؤلاء عولوا على ما لا يفهم مع الاجتهاد ، ولا
يعقل مع قوة التأمل ، والفرق بينهما واضح.
وأما سبب الانزال
، فيجب أن يبنى على شيء تحقيق سبب الإنزال في اليقظة مع الجماع ، ليس هذا مما يهذي
به أصحاب الطبائع ، لأنا قد بينا في غير موضع أن الطبع لا أصل له ، وأن الإحالة
فيه على سراب لا يتحصل.
وانما سبب الانزال
أن الله أجرى العادة بأن يخرج هذا الماء من الظهر عند اعتقاد النائم أنه يجامع ،
وان كان هذا الاعتقاد باطلا. والحمد لله.
|
(١٠)
رسالة في الرد على
أصحاب العدد
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
وبه توكلي وعليه
اعتمادي بالعدد
الحمد لله على وافر الخباء وباهر العطاء
، ومتواصل الآلاء ، ومتتابع السراء وصلى الله عليه خير البشر ، وأفضل البدو والحضر
، سيدنا محمد نبيه وصفية وعلى الطاهرين من عترته وسلم.
وقفت ـ أحسن الله
توفيقك ـ على ما أنفذته من الكلام المجموع في نصرة العدد في الشهور ، والطعن على
من ذهب الى الرؤية ، واعتمدها ولم يلتفت الى ما سواها.
وأنا أجيب مسألتك
وانتفعتك بطلبتك ، وأعمل في هذا الباب كلاما وجيزا يقع بمثله
الكفاية ، فإن من طول من أصحابنا الكلام في هذه المسألة تكلف ما لا يحتاج اليه ،
والأمر فيها أقرب وأهون من أن يخرج الى التدقيق والتطويل ، والله الموفق للصواب في
جميع الأمور.
__________________
[الاستدلال بالإجماع على الرؤية]
واعلم أن هذه
مسألة إذا تأملت علم أنها مسألة إجماع من جميع المسلمين والإجماع عليها هو الدليل
المعتمد ، لان الخلاف فيها انما ظهر من نفر من أصحاب الحديث المنتمين إلى أصحابنا
، وقد تقدمهم الإجماع وسبقهم ، ولا اعتبار بالخلاف الحادث ، لانه لو كان به اعتبار
لما استقر إجماع ، ولا قامت الحجة به.
وقد علمنا ضرورة أن
أحدا من أهل العلم لم يخالف قديما في هذه المسألة ولا جرى بين أهل العلم فيها
متقدما كلام ، ولا نظر ولا جدال ، حتى ظهر من بين أصحابنا فيها هذا الخلاف.
ثم لا اعتبار بهذا
الخلاف ، سالفا كان أم حادثا متأخرا ، لأن الخلاف انما يفيد إذا وقع ممن بمثله
اعتبار في الإجماع من أهل العلم والفضل والدراية والتحصيل.
والذين خالفوا من
أصحابنا في هذه المسألة عدد يسير ممن ليس قوله بحجة في الأصول ولا في الفروع ،
وليس ممن كلف النظر في هذه المسألة ، ولا ما في أجلى منها ، لقصور فهمه ونقصان فطنة.
وما لأصحاب الحديث
الذين لم يعرفوا الحق في الأصول ، ولا اعتقدوها بحجة ولا نظر، بل هم مقلدون فيها
والكلام في هذه المسائل ، وليسوا بأهل نظر فيها ولا اجتهاد ، ولا وصول إلى الحق
بالحجة ، وانما تعديلهم على التقليد والتسليم والتفويض.
__________________
فقد بان بهذه
الجملة أن هذه المسألة مسألة إجماع ، والإجماع عندنا حجة ، لأن الإمام المعصوم
الذي لا يخلو الزمان منه ، قوله داخل فيه ، وهو حجة ، لدخول قول من هو حجة فيه.
وقد بينا في مواضع
كثيرة من كتبنا صحة هذه الطريقة ، وكيفية العلم بالطريق ، الى أن قول الامام داخل
في أقوال الشيعة وغير منفصل عنها في زمان الغيبة ، الذي يخفى عنا فيه قول الامام
على التحقيق.
منها في جواب
مسائل أبي عبد الله التبان «ره» ، وقد مضى الكلام هناك في هذه المسألة أيضا فيما
هو جواب مسائل أهل الموصل الواردة أخيرا. ومن أراد استيفاء الكلام في هذا الباب
رجع الى ما أشرنا إليه من هذه الكتب.
[الاستدلال بالسيرة على الرؤية]
دليل آخر وهو :
انا قد علمنا
ضرورة أن المسلمين من لدن النبي صلىاللهعليهوآله الى وقتنا هذا يفزعون ويلجئون في أوائل الشهور والعلم بها
على التحقيق إلى الرؤية ، ويخرجون الى الصحاري والمواضع المنكشفة ، خروجا منكشفا
ظاهرا معلنا شائعا ذائعا.
حتى أنهم يتأهبون
لذلك ويتزينون له ، ويتجملون بضروب التجملات ، لا يخالف في ذلك منهم مخالف ، ولا
يعارض منهم معارض ، ولا ينكر منهم منكر حتى أنه قد جرى مجرى الأعياد والجمع في
الظهور والانتشار.
فلو كان تعيين
الشهور التي تتعلق الاحكام بتعيينها من صوم وحج وانقضاء عدة ووجوب دين ، وغير ذلك
من الأحكام الشرعية ، انما يثبت بالعدد لا برؤية الأهلة ، لكان جميع ما حكينا من
فعل المسلمين من الفزع عبثا وغلطا وتكلف
بما لا فائدة فيه
، والعدول عما فيه الفائدة.
[الاستدلال بالآيات القرآنية على الرؤية]
دليل آخر
وهو : قوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ). وهذا نص صريح كما ترى بأن الأهلة هي المعتبرة في المواقيت
والدالة على الشهور ، لانه علق بها التوقيت.
فلو كان العدد هو
الذي يعرف به التوقيت ، محض العدد بالتوقيت دون رؤية الأهلة ، إذ لا معتبر برؤية
الأهلة في المواقيت على قول أصحاب العدد.
دليل آخر
وهو : قوله تعالى (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ
وَالْحِسابَ). وهذا نص صريح كما ترى على أن معرفة السنين والحساب مرجوع
فيها الى القمر ونقصانه وزيادته وأنه لاحظ للعدد الذي يعتمده أصحاب العدد في علم
السنين والشهور ، وهذا أوضح من أن تدخل على عاقل فيه شبهة.
[الاستدلال بالأخبار الواردة على الرؤية]
دليل آخر
وهو : الخبر
المروي عن النبي صلىاللهعليهوآله من قوله «صوموا
__________________
لرؤيته وأفطروا
لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» وهذا الخبر وان كان من طريق الآحاد ، ومما لا يعلم كما علم
طريقه من أخبار العلم ، فقد أجمعت الأمة على قبوله ، وان اختلفوا في تأويله ، فما
رده أحد منهم ، ولا شكك فيه.
وهو نص صريح غير
محتمل ، لأن الرؤية هي الأصل ، وأن العدد تابع لها وغير معتبر، الا بعد ارتفاع
الرؤية.
ولو كان بالعدد
اعتبار ، لم يعلق الصوم بنفس الرؤية ، ولعلقة بالعدد وقال : صوموا بالعدد وأفطروا
بالعدد ، والخبر يمنع من ذلك غاية المنع.
فان قيل : فما
معنى قوله «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وأي فائدة لهذا الكلام.
قلنا : معنى ذلك :
صوموا لأجل رؤيته وعند رؤيته ، كما يقول القائل : صل الغداة لطلوع الشمس ، يعني
لأجل طلوعه وعند طلوعه ، كما قال تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ).
ثم نعود الى
الكلام على ما ذكره صاحب الكتاب :
[المناقشة في الاستدلال بالكتاب على العدد]
دليل في القرآن :
قال الله تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما
كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) فأخبر بأن الصوم المكتوب علينا نظير الصوم المكتوب
__________________
على من قبلنا ،
وقد علم أنه عنى بذلك أهل الكتاب ، وأنهم لم يكلفوا في معرفة ما كتب عليهم من
الصيام الا العدد والحساب ، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله في الآية (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).
وهذا نص من الكتاب
في موضع الخلاف ، يشهد بأن فرض الصيام المكتوب أيام معدودة ، حسب ما اقتضاه
التشبيه بين الصومين ، وما فسره بقوله (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) فإذا وجب ذلك فالمحفوظ من العبادات محفوظ بعدده ، محروس
بمعرفة كميته ، لا يجوز عليه تغييره ما دام فرضه لازما على وجه.
فهذا هو الذي نذهب
إليه في شهر رمضان ، من أن نية معرفته بالعدد والحساب ، وأنه محصور بعدد سالم من
الزيادة والنقصان ، ولو لا ذلك لم يكن لقوله تعالى (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) معنى يستفاد.
يقال له : ما
رأينا أبعد عن الصواب وموقع الحجة من هذا الاستدلال ، لان الله تعالى انما جمع بين
ما كتبه علينا من الصيام ، وبين ما كتبه على من كان قبلنا ، وتشبه أحدهما بصاحبه
في صفة واحدة وهي أن هذا مفروض مكتوب ، كما أن ذلك مفروض مكتوب ، فجمع في الإيجاب
والإلزام ، ولم يجمع بينهما في كل الصفات.
ألا ترى أن العدد
فيما فرض علينا من الصيام ، وفيما فرض على اليهود والنصارى مختلف غير متفق ، فكيف
يدعى أن الصفات والأحكام واحدة.
على أنا لو سلمنا
أن الآية تقتضي التشبيه بين الصومين في كل الأحوال ـ وليس الأمر كذلك ـ لم يكن لهم
في الآية حجة ، لأنا لا نعلم أن فرض اليهود والنصارى في صومهم العدد دون الرؤية ،
واليهود يختلفون في طريقتهم إلى معرفة الشهور.
فمنهم من يذهب الى
أن الطريق هو الرؤية ، وآخرون يذهبون الى العدد ،
وإذا لم يثبت أن
أهل الكتاب كلفوا في حساب الشهور العدد دون الرؤية ، سقط ما بنوا الكلام عليه
وتلاشى.
فأما قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فلم يرد به أن الطريق إلى إثبات هذا الصيام وتعيينه هو
العدد دون الرؤية ، وانما أراد تعالى أحد أمرين : اما أن يريد ب «معدودات» محصورات
مضبوطات ، كما يقول القائل : أعطيته مالا معدودا. يعني أنه محصور مضبوط متعين ،
وقد ينحصر الشيء وينضبط بالعدد وبغيره ، فهذا وجه. أو يريد بقوله «معدودات» أنها
قلائل ، كما قال تعالى (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ
بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ) يريد أنها قليلة.
وهذان التأويلان
جميعا يسوغان في قوله تعالى (وَاذْكُرُوا اللهَ
فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ).
فأما قوله «ان
المعدود من العبادات محفوظ بعدده محروس بمعرفة كميته ، لا يجوز عليه تغيير ما دام
فرضه لازما» فهو صحيح ، لكنه لا يؤثر في موضع الخلاف في هذه المسألة ، لأن العدد
إذا كان محفوظا بالعدد مضبوط الكمية ان هذا المعدود المضبوط انما عرف مقداره وضبط
عدده ، لا من طريق الرؤية بل من الطريق الذي يدعيه أهل العدد ، فليس في كونه
مضبوطا معروف العدد ما يدل على الطريق الذي به عرفنا عدده وحصرناه ، وليس بمنكر أن
يكون الرؤية هي الطريق إلى معرفة حصره وعدده.
ثم من أين صحة
قوله «وأنه محصور بعدد سالم من الزيادة والنقصان» فليس في قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) أنها لا تكون تارة ناقصة وتارة زائدة ، بحسب ما يدل عليه
الرؤية، وانما تدل على أحد الأمرين اللذين ذكرنا هما ،
__________________
أما معنى القلة ،
أو معنى الضبط والحصر.
وليس في كونها
مضبوطات محصورات ما يدل على أنها تكون تارة زائدة وتارة ناقصة ، بحسب الرؤية وطلوع
الأهلة.
فأما انتصاب قوله
تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فقد قيل : انه على الظرف ، كأنه قيل: الصيام في أيام
معدودات ، كما يقول القائل : أوجبت علي الصيام أيام حياتي وخروج زيد يوم الخميس.
والوجه الثاني :
أن يعدى الصيام ، كأنه قال : كتب عليكم أن تصوموا أياما معدودات.
ووجه ثالث : أن
يكون تفسيرا عن «كم» يكون مرددا عن لفظة «كما» كأنه قال : كتب عليكم الصيام كتابة كما كتب
على الذين من قبلكم ، وفسر فقال : وهذا المكتوب على غيركم أياما معدودات.
ويجوز أيضا أن
يكون تفسيرا وتمييزا للصوم ، فان لفظه «الصوم» مجملة يجوز أن تتناول الأيام
والليالي والشهور ، فميز بقوله تعالى (أَيَّاماً
مَعْدُوداتٍ) وبين أن هذا الصوم واقع في أيام.
وقال الفراء : هو
مفعول ما لم يسم فاعله كقوله : أعطي زيد المال.
وخالفه الزجاج
فقال : هذا لا يشبه ما مثل به ، لانه يجوز رفع الأيام قد يكتب عليكم الصيام ، كما
يجوز رفع المال ، فيقول : أعطى زيدا المال. فالأيام لا يكون الا منصوبة على كل
حال.
ومما يمكن أن يقال
في هذا الباب مما لا نسبق اليه : أن تجعل «أياما» منصوبة بقوله «تتقون» كأنه قال :
لعلكم تتقون أياما معدودات ، أي تحذرونها وتخافون شرها ، وهذه الأيام أيام
المحاسبة والموافقة والمساءلة ودخول النار
__________________
وما أشبه ذلك من
الأيام المحذورة المرهوبة ، ويكون المعنى : ان الصوم انما كتب عليكم لتحذروا هذه [الأيام] وتخافوها ، وتتجنبوا القبائح وتفعلوا الواجب.
ثم حكى صاحب
الكتاب عنا ما لا نقوله ولا نعتمده ولا نسأل عن مثله ، وهو أن قوله تعالى (أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ انما أراد به ان كان عددها وتشاغل بنقض ذلك وإبطاله ، وإذا
كنا لا نعتمد ذلك ولا نحتج به ، فقد تشاغل بما لا طائل فيه. والذي نقوله في معنى
«معدودات» من الوجهين ما ذكرناه فيما تقدم وبيناه فلا معنى للتشاغل بغيره.
[المناقشة في الاستدلال الثاني بالكتاب على العدد]
دليل آخر من القرآن :
وهو قوله جل اسمه (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ ولِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) فأبان تعالى في هذه الآية أن شهر رمضان عدة يجب صيامها على
شرط الكمال.
وهذا قولنا في شهر
الصيام أنه كامل تام سالم من الاختلاف ، وأن أيامه محصورة لا يعترضها زيادة ولا
نقصان. وليس كما يذهب إليه أصحاب الرؤية ، إذ كانوا يجيزون نقصانه عن ثلاثين ،
وعدم استحقاقه لصفة الكمال.
يقال له : من أين
ظننت أن قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) معناه : صوموا ثلاثين يوما من غير نقصان عنها.
__________________
وما أنكرت أن يكون
قوله (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) معناه : صوموا العدة التي وجب عليكم صيامها من الأيام على
التمام والكمال ، وقد يجوز أن يكون هذه العدة تارة ثلاثين وتارة تسعة وعشرين يوما
، ومن رأى الهلال فقد أكمل العدة التي وجب عليه صيامها وما نقص عنها شيئا.
ألا ترى أن من نذر
أن يصوم تسعة وعشرين يوما من شهر ثم صامها ، نقول : انه قد أكمل العدة التي وجبت
عليه وتممها واستوفاها ولم يعم شهرا عدده ثلاثون يوما.
ثم قال صاحب
الكتاب : وقد عارض بعضهم في هذا الاستدلال فقال : ان الشهر وان نقص عدد أيامه عن
ثلاثين يوما ، فإنه يستحق من صفة الكمال ما يستحقه إذا كان ثلاثين ، وأن كل واحد
من الشهرين المختلفين في العدد ، كامل تام على كل حال.
ثم قال : وهذا غير
صحيح ، لان الكامل والناقص من أسماء الإضافات ، وهما كالكبير والصغير والكثير
والقليل ، فكما لا يقال كبير الا لوجود صغير ، ولا كثير الا لحصول قليل ، فكذلك لا
يقال الشهر من الشهور كامل الا بعد ثبوت شهر ناقص ، فلو استحال تسمية شهر بالنقصان
، لاستحالت لذلك تسمية شهر آخر بالتمام والكمال ، وهذا واضح يدل المنصف على فساد
معارضة الخصوم ووجود كامل وناقص في الشهور.
يقال له : لسنا
ننكر أن يكون في الشهور ما هو ناقص ومنها ما هو كامل ، لكن قولنا «ناقص» يحتمل
أمرين : أحدهما أن يراد به النقصان في العدد ، ويحتمل أن يراد به النقصان في الحكم
وأداء الفرض.
فإذا سألنا سائل
عن شهرين أحدهما عدده ثلاثون يوما والأخر عدده تسعة
__________________
وعشرون يوما ، وقال
: ما تقولون ان الشهر الذي عدده تسعة وعشرون يوما أنقص من الذي عدده ثلاثون يوما.
فجوابنا أن نقول
له : ان أردت بالنقصان في العدد ، فالقليل الأيام ناقص عن الذي زاد عدده. وان أردت
النقصان في الحكم وأداء الفرض ، فلا نقول ذلك.
بل نقول : ان من
أدى ما عليه في الشهر القليل العدد وصامه كملا الى آخره فقد كمل العدة التي وجبت
عليه ، ونقول : ان صومه كامل تام لا نقصان فيه ، وان كان عدد أيامه أقل من عدد
أيام الشهر الأخر ، فلم ننكر ، كما ظننت أن يكون شهر ناقصا وشهر تاما ، حتى يحتاج
الى أن تقول ان هذا من ألفاظ الإضافات ، انما فصلنا ذلك وقسمناه ووضعناه في موضعه.
ثم قال صاحب
الكتاب من بعد ذلك : ثم يقال لهم : كيف استجزتم القول بأن قياس الشهور كاملة ، مع
إقراركم بأن فيها ما عدد أيامه ثلاثون يوما ، وفيها ما هو تسعة وعشرون يوما ، وليس
في العرب أحد إذا سئل عن الكامل من هذه الشهور ، التبس عليه أنه الذي عدده ثلاثون
يوما.
يقال له : هذا مما
قد بان جوابه في كلامنا الماضي ، وجملته اننا لا ننكر أن الشهر الذي هو تسعة
وعشرون يوما أنقص عددا من الذي عدده ثلاثون يوما ، وأن الذي عدده ثلاثون يوما أكمل
من طريق العدد من الذي هو تسعة وعشرون.
وانما أنكرنا أن
يكون أحدهما أكمل من صاحبه وأنقص منه في باب الحكم وأداء الفرض ، لأنهما على الوجه
الذي يطابق الأمر والإيجاب ، وهذا ما لا يشتبه على المحصلين.
ثم قال بعد ذلك :
وقد قال بعض حذاقهم ان قوله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) انما أراد به قضاء الفائت على العليل والمسافر ، لانه ذكره
بعد قوله (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ
مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ).
ثم قال يقال لهم :
لو كان الأمر على ما ظننتموه ، لكان قاضي ما فاته من علة أو سفر مندوبا إلى
التكبير عقيب القضاء ، لقول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) وقد أجمعت الأمة على أنه لا تكبير عليه فرضا ولا سنة ،
وانما هو مندوب اليه عقيب انقضاء شهر رمضان ليلة الفطر من شوال. فعلم بما ذكرنا
سقوط هذه المعارضة وصحة ما ذهبنا إليه في معنى الآية ، وأن كمال العدة يراد به نفس
شهر الصيام ، وإيراده على التمام.
يقال له : قد
تبينا أن أمره تعالى بإكمال العدة ليس المراد به صوموا ثلاثين على كل حال ، وانما
يراد به صوموا ما وجب عليكم صيامه ، واقتضت الرؤية أو العدد الذي نصير اليه بعد
الرؤية ، وأكملوا ذلك واستوفروه ، فمن صام تسعة وعشرين يوما وجب عليه لموجب الرؤية ، كمن
صام ثلاثين يوما وجب عليه برؤية أو عدد عند عدم الرؤية ، لأنهما قد أكملا العدة
وتمماها.
وإذا كان الأمر
على ما ذكرناه فلا حاجة بنا أن نجعل قوله (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) مخصوصا بقضاء الفائت على العليل والمسافر.
ولو قال صاحب
الكتاب في جواب ما حكاه من أن بعض حذاقهم قال : ان إكمال العدة إنما أمر به العليل
أو المسافر. ان هذا تخصيص للعموم بغير دليل لكان أجود مما عول عليه ، لان قوله
تعالى (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) تمام في قضاء الفائت من شهر رمضان وفي استيفاء العدد
وتكميله ، وإذا صرفه صارف الى موضع دون آخر ، كان مخصصا بغير دليل.
فأما قوله «ان
مندوبية التكبير انما هو عقيب انقضاء شهر رمضان لليلة الفطر وليس على قاضي ما فاته
في علة أو سفر تكبير ولا هو مندوب اليه» فغلط منه ، لان التكبير وذكر الله تعالى
وشكره على نعمه مندوب إليه في كل وقت وعلى
__________________
كل حال ، وعقيب كل
أداء العبادة وقضائها ، فكيف يدعي أنه غير مندوب اليه الا عقيب انقضاء شهر رمضان؟.
[المناقشة في الخبر الدال على العدد]
ثم قال صاحب
الكتاب : دليل آخر من جهة الأثر : وهو ما روى الشيخ أبو جعفر محمد بن بابويه القمي
(رضي الله عنه) في رسالته الى حماد بن علي الفارسي في الرد على الجنيدية.
وذكر بإسناده عن
محمد بن يعقوب بن شعيب عن أبيه ، عن أبي جعفر عليهالسلام قال : قلت له : ان الناس يروون ان رسول الله صلىاللهعليهوآله صام شهر رمضان تسعة وعشرين يوما أكثر مما صامه ثلاثين.
فقال : كذبوا ما
صام رسول الله صلىاللهعليهوآله الا تاما ، ولا يكون الفرائض ناقصة ، ان الله تعالى خلق
السنة ثلاثمائة وستين يوما ، وخلق السماوات والأرض في ستة أيام يحجزها من ثلاثمائة
وستين يوما ، فالسنة ثلاثمائة وأربعة وخمسون يوما.
وهو : شهر رمضان
ثلاثون يوما لقول الله تعالى (وَلِتُكْمِلُوا
الْعِدَّةَ) والكامل تام ، وشوال تسعة وعشرون يوما ، وذو القعدة ثلاثون
يوما ، لقول الله تعالى (وَواعَدْنا مُوسى
ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً) والشهر هكذا شهر تام وشهر ناقص ، وشهر رمضان لا ينقص أبدا
، وشعبان لا يتم أبدا .
وهذا الخبر يغني
عن إيراد غيره من الاخبار ، لما يتضمنه من النص الصريح على صحة المذهب ويحويه من
البيان.
__________________
قال الشريف
المرتضى (رضي الله عنه) يقال له : أما هذا الخبر فكأنه موضوع ومرتب على مذهب أصحاب
العدد ، لانه على ترتيب مذهبهم ، وقد احترس فيه من المطاعن واستعمل من الألفاظ ما
لا يدخله الاحتمال والتأويل ، ولا حجة في هذا الخبر ولا في أمثاله على كل حال.
وقد بينا في مواضع
كثيرة من كتبنا الخبر الواحد لا يوجب العلم ، ولا يقطع على صحته وان رواه العدول
الثقات ، كان العلم به لا يجوز ، لأنا لا نأمن فيما نقدم عليه من الحكم الذي تضمنه
أن يكون مفسدة ، ولا نقطع على أنه مصلحة ، والاقدام على مثل ذلك قبيح ، حتى ان من
أصحابنا من يزيد على ذلك ويقول : ان أخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ولا التعبد
بأحكامها من طريق العقول.
وقد بينا في مواضع
كثيرة أن المذهب الصحيح هو تجويز ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد من طريق
العقول ، لكن ذلك ما ورد ولا تعبدنا به ، فنحن لا نعمل بها ، لان التعبد بها مفقود
وان كان جائزا.
فإن قيل : تجيزون
العمل بها من طريق العقول وورود العبادة بذلك ، مع ما ذكرتموه من أنه لا يؤمن من
الاقدام عليها أن يكون مفسدة ، لأن الذي يؤمن ذلك القطع على صدق روايتها ، ولا قطع
الا مع العلم ، والظن لا قطع معه.
قلنا : إذا فرضنا
ورود العبادة بالعمل بأخبار الآحاد ، آمنا أن يكون الاقدام عليها مفسدة ، لأنه لو
كان مفسدة أو قبيحا لما وردت العبادة به من الحكيم تعالى بالعمل بها ، فصار دليلا
على العمل بها ، يقطع معه أن العمل مصلحة وليس بمفسدة ، كما يقطع على ذلك مع العلم
بصدق الراوي.
وإذا لم ترد العبادة
بالعمل بأخبار الآحاد وجوزنا كذب الراوي ، فالتجويز لكون العمل بقوله مفسدة ثابتة
، ومع هذا التجويز لا يجوز الاقدام على الفعل ، لأنا لا نأمن من كونه مفسدة ،
فصارت هذه الاخبار التي تروي في هذا الباب غير
حجة ، وما ليس
كذلك لا يعمل به ولا يلتفت اليه.
[حمل أخبار الرؤية على التقية والمناقشة فيه]
قال صاحب الكتاب
دليل آخر : وهو أن مشايخ العصابة وأمناء الطائفة قد رووا أخبار العدد ، كما رووا
أخبار الرؤية ، وقد علمنا أن الأئمة عليهمالسلام كانوا في زمان تقية ولم يكتب أحد من المتغلبين في أيامهم ،
ولا من العامة في وقتهم بقول في العدد فيخوفه ، وفي علمنا بخلاف ذلك دلالة على أن أخبار الرؤية أولى
بالتقية.
يقال له : هذا منك
كلام على من يحتج في إثبات الرؤية بأخبار الآحاد المروية ، ونحن لا نحتج بشيء من
ذلك ولا نقول الا على طرف من الأدلة توجب العلم ويزول معها الشك والريب ، وقد تقدم
في صدر كتابنا هذا ما يجب أن يعول عليه.
فأما ترجيح أخبار
العدد على أخبار الرؤية بذكر الرؤية ، فهو وإن كان كلاما على غيرنا ممن يعول على أخبار الآحاد في إثبات العمل بالرؤية. فهو أيضا غير
معتمد ، لأن أكثر ما في هذا الترجيح الذي ذكره أن يكون أخبار العدد الظن فيها أقوى
منه في أخبار الرؤية ، ومع الظن بالتجويز قائم ، والعلم القاطع غير حاصل ، والعمل مع ذلك لا يسرع ، لان العمل انما يحسن مع القطع لا مع قوة الظن.
__________________
قال صاحب الكتاب :
ويزيد ذلك بيانا ما روي عن الصادق عليهالسلام أنه قال : إذا أتاكم عنا حديثان فحدثوا بأبعدهما من أقوال العامة . وفي إجماع العامة على القول بالرؤية ، مع ورود هذه
الاخبار عن الأئمة صلوات الله عليهم دلالة واضحة على وجوب الأخذ بالعدد ، وأنه
الأصل الذي عليه المعول.
يقال له : ومن أين
علم صحة هذا الخبر المروي عن الصادق عليهالسلام حتى جعلته أصلا ، وعولت عليه في العمل بالأخبار المروية ،
وترجيح بعضها على بعض ، إذ ليس هذا الخبر من أخبار الآحاد ، نعني بقولنا «انه من
أخبار الآحاد» أنه لا يوجب علما ولا ينفي تجويزا وان كان رواه أكثر من واحد.
فكيف تعول في
أخبار الآحاد وترجيح بعضها على بعضها على خبر هو من جملة أخبار الآحاد ، وهذا يعول
عليه من أصحابنا من لا يعرف ما تقوله وتأتيه وتذره.
[الاستدلال بالقياس على العدد والمناقشة فيه]
ثم قال صاحب
الكتاب : استدلال من طريق القياس ، ومما يدل على ما نذهب إليه في شهر رمضان ، انا
وجدنا صيامه أحد فرائض الإسلام ، فوجب من فرضه سلامة أيامه من الزيادة والنقصان ،
قياسا على الصلوات الخمس التي لا يجوز كونها مرة أربعا ومرة خمسا ومرة ستا ، وعلى
الزكاة أيضا لفساد إخراج أربعة من المائتين وخمسة مرة أخرى ، فعلم بهذا الاعتبار
أن شهر رمضان لا يجوز عليه زيادة ولا نقصان.
يقال له : إذا كان
القياس عندك باطلا وعند أصحابنا ، فكيف ولا خلاف
__________________
بينهم يحتج بما
ليس بحجة عندك؟ وكيف تثبت الأحكام الشرعية بما ليس بدليل؟
فان قال ما قاله
بعيد هذا الموضع. ننكر من القياس ما خالف النصوص ، وقياسنا هذا يعضده النص الوارد
في القرآن ، والاخبار تدل على صحته واستمراره على أصله.
قيل له : هذا
مخالف لما يقوله أصحابك المتقدمون والمتأخرون ، لأن القياس عندهم باطل لا يجوز
اعتماده فيما وافق النصوص وفيما خالفها ، ولا هو حجة في شيء من الاحكام على وجه
وعلى سبب.
وإذا كانت النصوص
تدل على الحكم ، أي حاجة بنا الى استعمال القياس في ذلك الحكم ، وقد عرفناه من
طريق النصوص ، فوجود القياس هاهنا كعدمه ، وانا إذا كنا نستغني بالنص الوارد في
الحكم عن نص الأخر ، وان كان الثاني حجة دالا على الحكم.
على أن القياس
الذي استعملته ليس كذلك ، استعماله باطل غير صحيح في نفسه ، لأن الأصل الذي قست
عليه ـ وهو الصلوات ـ يجوز اختلاف العبادة فيها على المكلفين بالزيادة والنقصان.
ألا ترى أن من دخل
في صلاة الظهر لا يعلم أنه يبقى حتى يصلي الركعات الأربع ، وأنه يجوز على الاخترام
قبل التمام ، وانما يعلم أنه مكلف بالأربع إذا فرغ منها وجاوزها.
وقد يجوز أن يبقي
الله سبحانه بعض المكلفين صحيحا سليما الى أن يصلي الأربع ، وقد يجوز أن يقبضه وقد
فرغ من واحدة أو اثنتين أو ثلاث ، فيعلم أن الذي دخل في تكليفه ما نقص الفراغ منه
، وما اقتطع دونه من الركعات فليس بداخل في تكليفه ، فقد اختلف الفرض كما ترى ،
وصار فرض بعض المكلفين
في الصلوات زائدا
وبعضهم ناقصا ، وجرى ذلك مجرى شهر رمضان ، فإنه يلحقه الزيادة والنقصان.
فيجب على من رأى
الهلال ليلة الثلاثين أن يفطر ، ويكون فرضه تسعة وعشرين يوما. ويكون من لم يره ولا
شهد عنده بمن يجب العمل بقبوله ، أن يصوم ثلاثين ، فيختلف فرضاهما. ويجب أيضا على الجميع
إذا غم عليهم ليلة الثلاثين أن يصوموا شهرا على التمام. ويجب عليهم إذا رأوه ليلة
الثلاثين أن يفطروا ، فيختلف التكليفان باختلاف الأحوال.
وعلى هذا يختلف
أحوال المكلف في الصيام ، فان اخترم في أيام شهر رمضان فتكليفه ما صامه
من الأيام ، وعلمنا بالاخترام أن صيام باقي الشهر لم يكن في تكليفه ، ومن الباقي
الى آخر الشهر قطعنا على أنه مكلف بصيام جميع الشهر.
وهذا يخفى على من
لم يعرف كيف الطريق الى العلم بدخول بعض الافعال في التكليف وهل يسبق ذلك وقوع
الفعل أو يتأخر عنه.
[الاستدلال بمعرفة العبادات في أوقاتها والمناقشة فيه]
قال صاحب الكتاب :
استدلال آخر وهو : ان جميع الفرائض يعلم المكلف أوقاتها قبل حلولها ، ويعلم
أوائلها قبل دخوله فيها ، وكذلك يعلم أواخرها قبل تقضيها.
ألا ترى أنه لا
شيء من الصلوات وطهورها والزكوات وشرائطها وفرائض الحج والعمرة ومناسكها الا وهذه
صفته وحكمه ، فعلمنا أن شهر رمضان كذلك إذا كان أحد الفرائض ، يجب أن يعلم أوله
قبل دخول التكليف فيه وآخره قبل
__________________
تقضيه ، وهذا لا
يقدر عليه الا بالعدد دون الرؤية ، فعلم أن العدد هو الأصل.
يقال له : إن أردت
بكلامك هذا أن جميع الفرائض لا بدّ أن يعلم المكلف أوقاتها قبل دخوله فيها
وأوائلها وأواخرها ، وأنه لا بدّ أن يعلم ذلك على الجملة ، ويكون مميزا للأول
والأخر بالصفات التي أوردتها الشريعة من غير أن يعلم أنه في نفسه لا يكون داخلا في
تكليف الأول والأخر ، فالآخر على ما ذكرت.
وان أردت أنه لا
بدّ أن يعلم قبل الدخول فيها أنه مكلف لأولها وآخرها في تكليف الأخر كما دخل في
تكليف الأول ، فقد بينا أن الأمر بخلاف ذلك ، وأن المكلف يعلم أنه مكلف للآخر ولا
كل جزء من العبادات الا بعد قطعه وتجاوزه.
فان قيل : لا يعلم
المكلف على مذهبكم قبل دخول شهر رمضان أول هذه العبادة وآخرها.
قلنا : يعلم أول
هذه العبادة بأن يشاهد الهلال ليلة الشهر ، أو يخبره من يجب عليه قبول خبره برؤيته
، فيعلم بذلك أنه أول هذه العبادة قبل دخوله فيها.
فأما آخرها فيعلمه
أيضا قبل الوصول إليه ، بأن يشاهد الهلال ليلة الثلاثين ، أو يخبره عن مشاهدته من يلزمه
العمل بخبره ، أو بأن يفقد الرؤية مع الطلب والخبر عنها ، فيلزمه أن يصوم الثلاثين
، فقد صار أول شهر رمضان وآخره متميزين عند أصحاب الرؤية كما تميز عند أصحاب
العدد.
فان قيل : التميز
عند أصحاب العدد واضح ، لأنهم يقولون على شيء واحد في أول الشهر وآخره ، وهو العدد
دون انتقال من غيره اليه ، وأصحاب الرؤية يقولون على الرؤية التي يجوز أن تحصل وأن
لا تحصل ، ثم ينتقلون إذا لم تحصل الى العدد.
قلنا : وأي فرق
بين تمييز العبادة وتعيينها بين أن يتميز بأمر واحد لا ينتقل
منه الى غيره ولا
يختلف حكمه ، وبين أن تتميز ما ميز بتقدر حصوله وبتوقع كونه فان وقع تميز به وان
لم يقع وقع الانتقال إلى أمر آخر ، وأكثر الشريعة على ما ذكرناه ، وأنها تتميز
بأوصاف مختلفة وشروط متعاقبة مترتبة.
أولا ترى أن العدة
في الطلاق قد تختلف على المرأة ، فتقيد تارة بالشهور وتارة بالاقراء، فتنتقل العدة
بالمعتدة الواحدة من شهور الى اقراء ومن اقراء الى شهور ، فتختلف العادة. وهذا
الاختلاف كاختلاف الشروط والصفات فيها.
[الاستدلال بالحصر على بطلان الرؤية والمناقشة فيه]
قال صاحب الكتاب :
أخبرونا عمن طلب أول شهر رمضان إذا رقب الهلال فرآه ، لا يخلو أمره من احدى ثلاث
خصال :
اما أن يعتقد
برؤيته أنه قد أدرك معرفة أوله لأهل الإسلام ، حتى لا يجيز ورود الخبر برؤيته قبل
ذلك في بعض البلاد.
أو يعتقد أنه أول
الشهر عنده ، لانه رآه ويجزي رؤية غيره له من قبل واستتاره عنه في الحال ، لكنه لا
يلتفت الى هذا الجواز ، ولا يعول الا على ما أدركه ورآه.
أولا يعتقد ذلك
ويقف مجوزا غير قاطع ، لإمكان ورود الخبر الصادق بظهوره لغيره قبل تلك الليلة في
إحدى الجهات. فعلى أي هذه الأقسام يكون تعويل المكلف في رؤية الهلال؟
فان قالوا : على
القسم الأول ، وهو القطع وترك التجويز مع المشاهدة ليصح الاعتقاد ، أوجبوا على
المكلف اعتقاد أمر آخر يجوز عند العقلاء خلافه وألزموه ترك ما يشهد به الامتحان
والعادة بتجويزه ، لان اللبس يرتفع عن ذوي التحصيل في اختلاف أسباب المناظر وجواز
تخصيص العوارض والموانع.
ثم ما رووه من
وجوب صوم الشك حذرا من ورود الخبر برؤية الهلال ، يدل على بطلان ذلك.
وان قالوا : يعتمد
على القسم الثاني ، فيعتقد أنه أول الشهر لما دلته عليه المشاهدة ، ولا تكثرت لما
سوى ذلك من الأمور المجوزة. أجازوا اختلاف أول شهر رمضان ، لجواز اختلاف رؤية
الهلال. وأحلوا لبعض الناس الإفطار في يوم ، أوجبوا على غيرهم فيه الصيام ، ولزمهم
في آخر الشهر نظير ما التزموه في أوله من غير انفصال.
وهذا يؤول إلى
نقصانه عند قوم وكونه عند قوم على التمام ، وفيه أيضا بطلان التواريخ وفساد
الأعياد ، مع عموم التكليف لهم بصومه على الكمال ، وهو خلاف ما أجمعت عليه الشيعة
من الرد على أصحاب القياس ، من بطلان تحليل شيء وتحريمه على غيرهم من الناس.
وهو أيضا يضاد ما
يروونه من صوم يوم الشك على سبيل الاستظهار. وظهور بطلان هذا القسم يغني من
الإطالة فيه والإكثار.
وان قالوا :
الواجب على العبد إذا رأى الهلال أن لا يبادر بالقطع والثبات ، وأن يتوقف مجوزا ،
لورود أخبار البلاد بما يصح معه الاعتقاد. كان هذا بعيدا عن الصواب وأولى بالفساد
، وهو مسقط عن كافة الأمة اعتقاد أول شهر رمضان الى أن يتصل بهم أخبار البلاد.
وكيف السبيل لمن
لم ير الهلال الى العلم ، بأنه قد رأى في بعض الجهات ، فيثبت له النية في فرض
الصيام ، بل كيف يصنع من رآه إذا اتصل به انه ظهر قبل تلك الليلة للناس ، ومتى
يستدرك النية والاعتقاد في أمر قد فات.
ثم قال : واعلم أن
إيجابهم لصوم يوم الشك ، لا يسقط ما لزمهم في هذا الكلام ، لأنا سألناهم عن النية
والاعتقاد. وليس يمكنهم القول بأن يوم الشك
من شهر رمضان ،
ولا يجب على من أفطره ما يجب من أفطر يوما فرض عليه فيه الصيام ، والشك فيه يمنع
من النية على كل حال.
يقال له : القسم
الثاني من اقسامك التي ذكرتها هو الصحيح المعتمد ، وما رأيناك أبطلت هذا القسم الا
بما لا طائل فيه ، لأنك قلت : انه يلزم على اختلاف أول شهر رمضان ، لجواز اختلاف
رؤية الهلال ، أن يحل لبعض الناس الإفطار في يوم يجب على غيرهم فيه الصيام ، وأنه
يلزم في آخر الشهر نظير ما لزم في أوله ، وهذا يؤول إلى انقضائه عند قوم، وكونه
عند غيرهم على التمام.
وهذا الذي ذكرته
كله وقلت انه لازم لهم ، صحيح ونحن نلتزم ذلك ، وهو مذهبنا. وأي شيء يمنع من
اختلاف العبادات لاختلاف أسبابها وشروطها ، وأن يلزم بعض المكلفين من العبادة ما
لم يلزم غيره ، فتختلف أحوالهم باختلاف أسبابهم.
ومن الذي يدفع هذا
وينكره والشريعة مبنية عليه ، ألا ترى أن من وجب عليه بعض الصلوات ويجتهد في جهة
القبلة ، فغلب في ظنه بقوة بعض الأمارات أنها في جهة مخصوصة ، فإنه يجب عليه
الصلاة الى تلك الجهة.
وإذا اجتهد مكلف
آخر فغلب في ظنه أنها في جهة أخرى غير تلك [الجهة] فإنه يجب عليه أن يصلي الى تلك
الجهة الأخرى وان خالفت الاولى فقد اختلفت فرض هذين المكلفين كما ترى ، وصار فرض
أحدهما أن يصلي الى جهة وفرض الأخر أن يصلي الى خلافها.
وكذلك لو دخل
اثنان في بعض الصلوات وذكر أحدهما أنه على غير وضوء وأنه أحدث ونقض الوضوء ،
والأخر لم يذكر شيئا من ذلك ، لكان فرض أحدهما أن يقطع الصلاة ويستأنفها ، وفرض
الأخر أن يمضي فيها ويستمر عليها.
وكذلك لو حضر ماء
بين يدي محدثين ، فغلب في ظن أحدهما بأمارة لاحت
له نجاسة ذلك
الماء ، والأخر لم يغلب في ظنه نجاسته ، لكان فرضاهما مختلفين ووجب على أحدهما أن
يتجنب ذلك الماء ، وعلى الأخر أن يستعمله.
وكذلك حكم الأوقات
عند من غلب في ظنه دخول بعض الصلوات ، فإنه يجب عليه الصلاة في ذلك الوقت ، ومن لم
يغلب ذلك في ظنه لا يحل له أن يصلي في ذلك الوقت. وهذا أكثر من أن يحصى ، والشريعة
مبنية على ذلك.
وكما يجوز أن يكون
الوقت وقتا للصلاة عند قوم ، وغير وقت لها عند آخرين. والقبلة في جهة عند قوم ،
وعند آخرين خلاف ذلك ، فيختلف الفرض بحسب اختلاف الأسباب ، كذلك يجوز أن يكون
الشهر ناقصا عند قوم وتاما عند آخرين ، والا فما الفرق.
فأما قوله «ان في
ذلك بطلان التواريخ وفساد الأعياد يتبعان الرؤية» وقد يجوز أن يكون عيد قوم غير
عيد غيرهم ، لان ذلك يتبع الأسباب المختلفة.
[نقل كلام المستدل بالعدد والمناقشة فيه]
فأما قوله «وفي
هذا ان نية المعلوم من حقيقة المنتهى عند الله تعالى غير معلوم لسائر العباد ، مع
عموم التكليف لهم بصومه على الكمال».
فكلام غير متحقق
لما يقوله خصومة في هذا الباب ، لان المعلوم من حكم الشريعة عند الله تعالى هو
المعلوم للعباد من غير اختلاف ولا زيادة ولا نقصان ، لان الله تعالى إذا أوجب على
من رأى الهلال ليلة الشهر أن يصومه ويفتح اليوم الذي رأى الهلال من ليله بالصوم ،
ويحكم بأنه في عبادته أول الشهر على الحقيقة في حقه وأوجب على من لم يره في تلك
الليلة ولا خبره برؤيته أن يحكم بأنه ليس من شهر رمضان ، ولا وجب عليه فيه الصيام.
فالمعلوم لله
تعالى هو هذا بعينه وانه تعالى يعلم هذا الذي فصلناه وفسرناه ،
وهو أن هذا اليوم
في حق من رأى الهلال في ليلة من شهر رمضان ، فواجب عليه صومه ، وليس هو من شهر
رمضان في حق من لم يره ولا صح بالخبر رؤيته ، ولا معلوم له يخالف ذلك.
كما قلنا في سائر
المسائل الشرعية ، وفي جهة القبلة ، وان من غلب في ظنه أنها في جهة مخصوصة ، وجب
عليه التوجه الى خلاف الجهة الاولى ، واختلف فرض هذين المكلفين ، وكان معلوم الله
تعالى مطابقا لمعلومهما وغير مختلف لما وجب عليهما وعلماه في هذا الباب.
فان قيل : أليس
الله تعالى لا بدّ أن يكون عالما بأن القبلة في جهة بعينها لا يجوز عليه الاختلاف
وان اختلف ظنون المتوجهين ، وكذلك لا بدّ أن يكون عالما بطلوع الهلال في ليلة
مخصوصة ، أو بفقد طلوعها فيها وان لم يظهر ذلك بعينه للمكلف ، وكيف يكون ما علمه
الله تعالى في هذه المواضع مساويا لما يعتقده العبد ويعمله.
قلنا : لا اعتبار
في باب التكليف بجهة الكعبة نفسها ، مع فقد المعاينة وبعد الدار ، وانما الاعتبار
الذي يتبعه الحكم انما يرجع الى ظن المكلف بما يؤديه إليه اجتهاده في جهة الكعبة
مع بعد داره عنها.
وتكليفه انما
يختلف بحسب اختلاف ظنونه ، فإذا غلب في ظنه أنها في جهة مخصوصة ، فتكليفه متعلق
بالتوجه إلى الجهة بعينها ، سواء كانت الكعبة فيها أو لم تكن ، وان كان فرضه
بالتوجه متعلقا بما يغلب في ظنه أنه جهة الكعبة ، فتلك الجهة هي قبلته ، والمفروض
عليه التوجه إليها ، وعلم الله متعلق بهذا بعينه.
وكذلك القول في
مكلف آخر غلب في ظنه أن جهة الكعبة في جهة أخرى ، فان الواجب عليه التوجه الى تلك
الجهة وهي جهة القبلة ، والقول في طلوع الهلال واستتاره كالقول في الكعبة ، فلا
معنى لإعادته.
فأما قوله في
الفصل «هو خلاف ما أجمعت عليه الشيعة في الرد على أصحاب القياس في بطلان تحليل شيء
لقوم وتحريمه على غيرهم من الناس».
فما أجمعت الشيعة
على ما ظنه ، ولا يرد من الشيعة على أصحاب القياس بهذا الضرب من الرد محصل ولا
متأمل. وقد بينا في كثير من كتبنا وكلامنا كلاما في هذا الموضع ، وأنه لا يمتنع في
التكليف أن يحلل الله تعالى شيئا على قوم ويحرمه على آخرين ، وان هذا غير متناقض
ولا متناف.
وانما يعول على
هذا الضرب من الكلام من يبطل القياس من طريق العقول ، ويعتقد أن العبادة تستحيل أن
ترد به ، وقد بينا جواز ورود العبادة بالقياس ، وانما نحرمه في الشريعة ولا نثبت
به أحكامها ، لأن العبادة ما وردت به ولا دلت على صحته.
فأما قوله «وهو
أيضا يضاد ما يروونه من صوم يوم الشك على سبيل الاستظهار» وقد كان ينبغي أن يبين
ويوضح موضع التضاد بين القولين في مذهبنا بالرؤية ، وبين ما تستحب من صوم يوم الشك
على سبيل الاستظهار وما تعرض لذلك.
فأما قوله «فالواجب
على العبد إذ رأى الهلال أن لا يبادر الى القطع والثبات ، وأن يتوقف مجوزا لورود
أخبار البلاد بما يصح ، واعتقاد هذا بعيد عن الصواب وأولى بالفساد ، وهو مسقط عن
كافة الأمة اعتقاد أول شهر رمضان الى أن يتصل بهم أخبار البلاد».
فقد بينا أن القسم
الصحيح من أقسامه التي قسمتها هو غير هذا القسم وأوضحناه ، وأن الواجب على من رأى
الهلال أن يعتقد أن هذه ليلة أول شهر رمضان في حقه وحق من يجري مجراه في رؤيته ،
وان جوز أن يكون رؤى في بعض البلاد ، ويختلف فرض من رآه تلك الليلة ومن لم يره
ويخبر عنه ، غير
__________________
أنه وان قطع
بالرؤية على أنه أول يوم من شهر رمضان.
فلا بد أن يكون
ذلك مشروطا بأن لا يرد الخبر الصحيح بأنه رئي قبل تلك الليلة وكان قد صام بالاتفاق
وعلى سبيل الشك اليوم الذي رآه غيره في ليلة أخرى ، أجزأه ذلك عنه وسقط عنه فرض
قضائه وكان مؤديا ، وان لم يتفق له صوم ذلك اليوم كان عليه قضاء صيامه ولا اثم
عليه ولا حرج.
وأما قوله «كيف
السبيل لمن لم ير الهلال الى العلم بأنه قد رئي في بعض الجهات ، فيثبت له النية في
فرض الصيام ، بل كيف يصنع من رآه إذا اتصل به أنه ظهر قبل تلك الناس؟ ومتى يستدرك
النية والاعتقاد في أمر قد فات؟».
فقد بينا كيف
السبيل لمن لم يره الى العلم بأنه قد رئي في بعض تلك الجهات قبل تلك الليلة ، وهو
أن يخبره عن ذلك من يثق بعدالته وأمانته ، فيثبت له النية ، وإذا كان ما فاته صيام
ذلك اليوم ، فقد بينا ذلك.
فأما من رآه في
بعض الليالي وصح عنده أنه ظهر قبل تلك الليلة ولم يكن صام ذلك اليوم بنية النفل ،
فعليه القضاء على ما بيناه ، وليس عليه من الاستدراك أكثر من أن يصوم يوما ويعتقد
أنه قضاء ذلك اليوم الفائت.
وأما قوله «واعلم
ان إيجابهم لصوم يوم الشك لا يسقط ما لزمهم في هذا الكلام سألناهم عن النية
والاعتقاد ، وليس يمكنهم القول بأن يوم الشك من شهر رمضان ، ولا يجب على من أفطره
ما يجب على من أفطر يوما فرض عليه فيه الصيام ، والشك فيه يمنع من النية على كل
حال».
فكلام غير صحيح ،
لأنا لا نوجب صيام يوم الشك ولا أحد من المسلمين أوجبه وما نستحبه ونرى فيه فضل واستظهار للفرض. وانما نستجيز صومه بنية النفل
والتطوع ، فان اتفق أن يظهر من شهر رمضان ، فقد أجزأ ذلك الصيام ووقع
__________________
في موقعه ولا قضاء
عليه ، وان لم يتفق ظهور أنه من شهر رمضان كان صائم ذلك اليوم مثابا عليه ثواب
النفل والتطوع.
وقوله «وليس
يمكنهم القول بأن يوم الشك من شهر رمضان ، ولا يجب على من أفطره ما يجب على من
أفطر يوما من شهر رمضان».
فبعيد عن الصواب ،
لأنا لا نوجب صيام يوم الشك على ما قدمنا ذكره ، ويوم الشك انما هو اليوم الذي
يجوز المكلفون أن يروا الهلال في ليلته ، فيحكموا أنه من شهر رمضان ، ويخرج من أن
يستحق اسم الشك بما لا يجوزون أن لا يروا الهلال في تلك الليلة ، ولا يخبرهم عن
رؤيته مخبر يقع القطع على أنه من شعبان ويزول عنه اسم الشك أيضا.
ولسنا نقول بأن
يوم الشك يوم من شهر رمضان على الإطلاق ، بل على القسمة الصحيحة التي ذكرناها.
فأما من أفطر يوم الشك ولم بر الهلال ولا أخبر عنه ، فلا اثم عليه ولا قضاء. فأما
إذا رآه في ليلة يوم الشك لو أخبر عن رؤيته ، فالذي يجب عليه أن يقضي ان كان ما
صام ذلك اليوم. وان كان قد اتفق له صيامه بنية النفل ، فلا قضاء عليه.
[الكلام في صوم يوم الشك]
ثم قال صاحب
الكتاب : وربما التبس الأمر عليهم في هذا الباب ، فظنوا أن صوم يوم الشك بغير
اعتقاد أنه من شهر رمضان يغني عن الاعتقاد إذا كان منه ويجري مجرى بقية الأيام
قياسا على المسجون إذا كان قد صام شهرا على الكمال فصادف ذلك شهر رمضان على
الاتفاق من غير علم بذلك ، وأنه يخبر به عن الفرض عليه من صومه في شريعة الإسلام
وان لم يقدم النية والاعتقاد ، والفرق واضح بين الصومين بلا ارتياب.
وذلك أن أفعال
الاضطرار يقاس عليها أمور المتمكن والاختيار ، ومعلوم تباين الممنوع والمطلق ، ومن
يتمكن من السؤال وارتقاب الهلال ومن لا يقدر ، وما هما الا كالعاجز والقادر ،
فالمماثلة فيما هذا سبيل باطلة والقياس فاسد.
يقال له : أول ما
نقوله لك : حكيت عنا أنا نقيس من خفي عليه الهلال ليلة يوم الشك فلم يره ولم يخبره
عن رؤيته ، فصام بنية النفل ثم ظهر بالخبر أنه رئي وأنه من شهر رمضان في أنه يجزي
عنه صيامه وان لم يصح بنية الفرض ، ولا يجب عليه القضاء على المسجون.
ونحن لا نقيس هذا
على ذلك ، ولا نرى القياس في الاحكام ، وانما سوينا بينهما في صحة الصيام واجزائه
، وأنه لا قضاء فيه عليه بدليل يوجب العلم. ولو لم يكن في ذلك إلا إجماع الفرقة
المحقة من الشيعة عليه ، وإجماعهم حجة لدخول المعصوم عليهالسلام فيه.
فأما قوله «ان حال
الضرورة لا يقاس على الاختيار».
فقد بينا أنه لا
نقيس حالا على أخرى ، على أنه ان رضي لنفسه بهذا القدر من الفرق ، فالحالان متساويان
في الضرورة ونفي الاختيار ، لان المسجون كما لا قدرة له ولا سبيل الى تعيين
شهر رمضان ، لانه لا يتمكن من رؤية الهلال ولا من سؤال غيره.
فكذلك من غم عليه
الهلال ليلة يوم الشك ، فلم يره ولا خبر برؤيته ولا سبيل له الى العلم بأنه ذلك
اليوم من شهر رمضان ، فهو أيضا كالمضطر الذي لا قدرة له على العلم بأن ذلك اليوم
من شهر رمضان ، فجرى مجرى المسجون في سقوط الفرض عنه.
__________________
[ما استدل به الخصم على العدد والجواب عنه]
ثم قال صاحب
الكتاب : فان تجاسر أحدهم على ادعاء المماثلة بينهما في الاضطرار، أتى بالفظيع من
الكلام ، وأدخل سائر الأمة في حكم الاضطرار ، وفتح على نفسه بابا من الإلزام في
تكليف ما لا يطاق.
لانه لا فرق بين
أن يكلف الله العباد صوم شهر رمضان على الكمال ، ولا يجعل لهم على معرفة أوله
دليلا الا دليل شك وارتياب ، يلتجئ معه المكلفون إلى أحكام الاضطرار وبين أن يفرض
عليهم أمرا ويعدمهم ما يتوصلون به اليه على كل حال ، حتى يدخلهم في حيز الإجبار ،
وهذا ما ينكره معتقد والعدول من كافة الناس.
ثم قال : ويقال
لهم : فإذا كان الله تعالى قد بعث رسوله صلىاللهعليهوآله ليبين للناس ، فما وجه للبيان في دليل فرض يعترضه اللبس ،
وأين موضع الإشكال إلا في عبادة افتتاحها الشك.
يقال له : ما الفظيع من الكلام والشنيع من المذهب الا ما عول عليه في هذا الفصل ، لأنك ظننت أن خصومك يقولون : ان الله
تعالى فرض صوم الشك على من لم يدله عليه ولم يرشده الى طريق العلم به ، وألزمت على
ذلك تكليفه ما لا يطاق.
وهذا ما لا يقوله
من الخصوم ولا من غيرهم محصل ، وصوم أول يوم من شهر رمضان لا يجب الا على من دله
الله عليه ، اما برؤيته نفسه الهلال أو بأن
__________________
يخبره عليه من يجب
عليه الرجوع الى قوله ، فأما من عدم رؤيته فصوم ذلك اليوم ليس من فرضه ولا عبادته.
وهذا الذي لا يطيق
معرفة كون هذا اليوم من شهر رمضان ما توجه اليه قط تكليف صومه.
ويلزم على هذا كل
المسائل التي ذكرناها فيما تقدم في القبلة والصلاة والاحداث ، حتى يقال له : كيف
يكلف الله تعالى مكلفا التوجه إلى الكعبة بعينها ، ولا ينصب له دليلا عليها يعلم
به أنه متوجه الى جهتها ، لأنه إذا كان بعيدا عنها فإنما يتوجه الى حيث يظن أنه
جهة الكعبة من غير تحقيق ولا قطع ، وهل هذا الا تكليف ما لا يطاق. وكذلك القول في
سائر المسائل التي أشرنا إلى بعضها ، وهي كثيرة.
وأما الرسول عليهالسلام فقد بين لنا هذه المواضع بما لا يعترضه لبس ولا يدخله شك ،
ومن تأمل ما فصلناه وقسمناه علم أنه لا لبس ولا إشكال في هذه العبادة.
[الاستدلال بخبر «يوم صومكم يوم نحركم» والجواب عنه]
قال صاحب الكتاب :
مسألة أخرى عليهم يقال لهم : قد رويتم ان «يوم صومكم يوم نحركم».
فما الحاجة الى
ذلك وعلى الرؤية معولكم؟ بل كيف يصح ما ذكرتموه على أصل معتقدكم؟ لما تجيزونه من
تتابع ثلاثة شهور ناقصة وتوالي ثلاثة أخرى تامة؟ وكيف يوافق مع ذلك أول يوم من شهر
رمضان ليوم العاشر من ذي الحجة أبدا من غير اختلاف؟.
فهل يصح هذا الا
من طريق أصحاب العدد ، لقولهم بتمام شهر رمضان
ونقصان شوال ، وأن
شهر ذي القعدة تام كشهر رمضان ، فيكون يوم الصوم أبدا موافقا ليوم النحر على اتساق
ونظام.
فما تصنعون في هذا
الخبر مع اشتهاره؟ أتقبلونه وان خالف ما أنتم عليه في أصل الاعتقاد؟ أو تلتجئون
الى الدفع والإنكار.
يقال له : أما هذا
الخبر فغير وارد مورد الحجة ، لأنه خبر غير مقطوع عليه ولا معلوم، وقد بينا أن
أخبار الآحاد لا يجب العمل بها في الشريعة ، ومن اعتمد عليها ـ وهي على هذه الصفة
ـ فقد عول على سراب بقيعة. ولا يجب علينا أن نتأول خبرا لا نقطع به ولا نعلم صحته.
وقد يجوز على سبيل
التسهيل ما عول عليه بعض أصحابنا في تأويل هذا الخبر وان لم يكن ذلك واجبا ، أن
المراد به سنة بعينها اتفق فيها أن أول الصوم كان موافقا للنحر ، فحمل على الخصوص
دون العموم ، لانه لا يصح فيه العموم ، ولشهادة الاستقراء بخلافه.
ويمكن أيضا في
تأويل الخبر وجه آخر وهو : أن يكون المراد به أن يوم الصوم يجري في وجوب الاحكام
المشروعة ولزومها مجرى يوم النحر المتعلقة به ، والمراد بذلك تحقيق المماثلة
والمساواة ، كما يقول القائل : صلاتكم مثل صومكم. أو يقول : صلاة العصر هي صلاة
الغداة ، وما يريد الأعم ويريد المماثلة والمساواة في الاحكام ، وهذا بين.
[مناقشة الخصم في آية الأهلة والجواب عنها]
ثم قال صاحب
الكتاب : مسألة أخرى لهم وجوابها ثم قال : وسئلوا عن قول الله تعالى (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ
هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ).
__________________
وأجمع الكافة على
أنها شهور قمرية ، قالوا : فما الذي أجاز لكم الاعتبار بغير القمر، وهل انصرافكم
الى العدد الا خلاف الإجماع.
ثم قال : الجواب
يقال لهم : ما ورد به النص وتقرر عليه الإجماع ، فهو مسلم على كل حال ، لكن وجود
الاتفاق على أن الهلال ميقات لا يحيل الاختلاف فيما يعرف به الميقات ، وحصول
الموافقة على أنها شهور قمرية لا تضاد الممانعة في الاستدلال عليها بالرؤية.
إذ ليس من شرط
المواقيت اختصاص العلم من جهة [من] مشاهدتها ولا لان الشهور العربية قمرية ، وجب الاستدلال
أوائلها برؤية أهلتها. ولو كان ذلك واجبا لدلت العقول عليه وشهدت
بقبح الاختلاف فيه.
وبعد فلا يخلو
الطريق إلى معرفة هذا الميقات من أن تكون المشاهدة له والعيان ، أو العدد الدال
عليه ، والحساب.
ومحال أن تكون
الرؤية ، وهي أولى بالاستدلال لما يقع فيها من الاختلاف والشك،
وذلك أن رؤية الهلال لو كانت تفيد معرفة له من الليالي والأيام ، لم يختلف فيه عند
رؤيته اثنان.
وفي إمكان وجود
الاختلاف في حال ظهوره ، دلالة على أن الرؤية لا يصح بها الاستدلال ، وأن العدد هو
الدال على الميقات ، لسلامته مما يلحق الرؤية من الاختلاف.
يقال له : هذه
الآية التي ذكرتها دليل واضح على صحة القول بالرؤية وبطلان العدد ، وقد بينا في
صدر كتابنا هذا كيفية الاستدلال بها ، وأن تعليق المواقيت
__________________
بالأهلة دليل على
أنها لا تتعلق بالعدد ولا بغير الأهلة.
و [ليس] قوله «ان وجود الاتفاق على أن الأهلة ميقات لا يحيل
الاختلاف مما يعرف به الميقات».
ليس بالصحيح ، لان
المواقيت إذا قفت على الأهلة فمعلوم أن الهلال لا طريق الى معرفته وطلوعه أو
عدم طلوعه إلا الرؤية في النفي والإثبات ، فيعلم من رأى طلوعه بالمشاهدة ، أو
بالخبر المبني على المشاهدة ، ويعلم أنه ما طلع بفقد المشاهدة وفقده الخبر عنها.
ولا يخفى على محصل
أن إثبات الأهلة في طلوع أو أفول ، مبني على المشاهدات ووصف ، لا ضيف الى العدد
الى القمر ، وكيف يكون قمرية؟ ولا اعتبار بالقمر فيها ولا له حظ في
تميزها وتعيينها.
فأما قوله «ومحال
أن يكون الرؤية هي أولى بالاستدلال لما يقع فيها من الشك والاختلاف».
فقد بينا أنه لا
شك في ذلك ولا اشكال ، وأن التكليف صحيح مع القول بالرؤية غير مشتبه ولا متناقض ،
وأن من ظن خلاف ذلك فهو قليل التأمل ، وفيما ذكرناه كفاية.
[الاستدلال بخبر صوموا لرؤيته على العدد والجواب عنه]
وقال صاحب الكتاب
: مسألة أخرى : وسئلوا أيضا عن الخبر المروي عن النبي صلىاللهعليهوآله «صوموا لرؤيته وأفطروا
لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا
__________________
ثلاثين» . قالوا : فما تصنعون في هذا الخبر؟ وقد استفاض بين الأمة
واشتهر.
ثم قال قيل لهم :
لعمري انه خبر ذائع لا يختلف في صحته اثنان ، ومذهبنا فيه ما قال الصادق عليهالسلام : ان الناس كانوا يصومون بصيام رسول الله صلىاللهعليهوآله ويفطرون بإفطاره ، فلما أراد مفارقتهم في بعض الغزوات
قالوا : يا رسول الله كنا نصوم بصيامك ونفطر بإفطارك وها أنت ذاهب لوجهك فما نصنع؟
فقال صلىاللهعليهوآله : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا
ثلاثين يوما. فخص بهذا القول لهم تلك السنة جوابا عن سؤالهم ، فاستعمله الناس على
سبيل الغلط في سائر الأعوام. ولذلك أظهر الله تعالى لهم الهلال في يوم السرار
بخلاف ما جرت به العادات ، ولو لم يدل على تخصيص هذا الخبر الا ما قدمناه في دلائل
الآثار والقرآن ، وإذا كان خاصا فاستعماله على العموم غير صواب.
يقال له : إذا كان
قوله عليهالسلام «صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته» عاما فالظاهر فلا يقبل قول من خصصه وعدل به الى أنه في سنة واحدة إلا
بدليل ، ولا دليل على تخصيص هذا الخبر ولا حجة.
وبعد فكيف يعلق
الصيام في سنة واحدة إذا سلمنا التخصيص بالرؤية ، فنقول : صوموا لأجل رؤيته ، وأن
الرؤية علمه في الصوم موجبة له.
وعلى هذا مذهب أصحاب العدد لاحظ لها في الصوم ولا تؤثر في وجوبه
، وأن العدد هو الموجب للصوم. فان اتفق ما قاله صاحب الكتاب أن يظهر الله
__________________
تعالى لهم الهلال
فعلى هذا التخريج والتعليل لم يجب الصوم لأجل الرؤية ، بل وجب لأجل العدد.
ألا ترى أنه لو
فقدت الرؤية هاهنا لوجب الصوم بالعدد ، ولم يؤثر فقد الرؤية في انتفاء وجوب
الصيام. ولو فقد العدد وثبتت الرؤية لما وجب ، فعلم أن العدد هو المؤثر دون
الرؤية.
وظاهر الخبر يقتضي
أن الرؤية مؤثرة في الصوم ، فقد بان أنه لا منفعة لهم في تخصيص الخبر أيضا.
وأما قوله عليهالسلام «وأفطروا لرؤيته ،
فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين» فهو يدل على أن العدد لا يصار اليه الا بعد اعتبار
الرؤية وفقدها ، فمن جعله أصلا يرجع اليه من غير اعتبار بفقد الرؤية فقد خالف ظاهر
الخبر «وأفطروا لرؤيته».
ويدل أيضا على أنه
يجب الإفطار إذا رأيناه وان كنا قد صمنا تسعة وعشرين ولم يبلغ الثلاثين ، لانه لو
كان ورد وأفطروا لرؤيته إذا بلغ ثلاثين ، لما كان لقوله «فان غم عليكم فعدوا
ثلاثين» معنى ، وانما يصح الكلام إذا كان معناه : وأفطروا لرؤيته على النقصان ،
فان غم عليكم فعدوا ثلاثين للتمام.
[حول خبر صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته]
قال صاحب الكتاب :
على أن من أصحابنا من استدل بهذا الخبر بعينه على صحة العدد.
فقال : انه لما
أمرهم بالصوم والإفطار لرؤية الهلال في تلك السنة ، أبان لهم بجواز الإغماء عليه
ودخول اللبس فيه ، ما يستدل به على أن الرؤية ليست بأصل يطرد استعماله في سائر
السنين.
وانما خصهم بها في
تلك السنة للعجز من ظهور الهلال يوم السرار لهم ،
ولما يعلم الله
تعالى في ذلك الوقت من مصلحتهم ، فقال لهم : فان غم عليكم فعدوا ثلاثين. فلما شهد
بالإغماء أمر بالرجوع عند ذلك الى العدد ، علمنا أن العدد هو الأصل الذي لا يعترضه
الإغماء ولا اللبس ، وأنه لو لم يكن أصلا لجاز الإغماء والاشكال عليه ، ولكان
اللبس والاختلاف يجوز ان فيه. وهذا وجه صحيح يقنع العارف المنصف والحمد لله.
يقال له : هذا
الذي ذكرته طعن على النبي صلىاللهعليهوآله ، وشهادة بأنه عول يأمنه في عبادة الصوم على ما لا تأثير له ولا طائل فيه. لأن
الرؤية إذا كان لا اعتبار بها في الصوم ولاحظ لها في الدلالة على دخول شهر رمضان
وخروجه ، فلا معنى لقوله «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته» وقد كان يجب أن يقول :
صوموا بالعدد وأفطروا بالعدد.
ولا يجعل العدد
مصارا عليه عند الغمة وامتناع الرؤية ، وكيف يصح أن يقول قائل : علمنا أن العدد هو
الأصل؟ وقد جعله النبي صلىاللهعليهوآله في هذا الخبر فرعا ، وأحال عليه عند تعذر الرؤية ، وهو على
الحقيقة فرع والأصل غيره. وهذا واضح.
قال صاحب الكتاب :
وقد ظن قوم من أهل الخلاف أن ما تضمنه هذا الخبر من الرجوع الى العدد عند وجود
الالتباس يجري مجرى التيمم بالتراب عند عدم الماء بالاضطرار.
قالوا : فكما أنه
ليس التيمم أصلا للوضوء ، فكذلك ليس العدد أصلا للرؤية.
ثم قال : وهذا
قياس بعيد ، وجمع بين أشياء هي أولى بالتفريق ، وذلك أن نية الوضوء والتيمم الذي
هو بدل منه عند الضرورة عبادة يستباح بفعلهما أداء
__________________
فرض آخر لا يعرف
بهما وقت وجوبه ، ولا يدلان على أوله وآخره.
والرؤية والعدد قد
وردا في هذا الخبر مورد العلامة ، وقاما مقام الدلالة التي يجب بهما التدين ويلزم
الاعتقاد ، ولذلك جاز موافقة العدد للرؤية في بعض السنين ، ولم يجز الجمع بين
الوضوء والتيمم على قول سائر المسلمين.
يقال له : لا شبهة
على محصل في أن النبي صلىاللهعليهوآله تعلق الصوم بالرؤية تعليقا يوجب ظاهره أنها سبب فيه وعلامة
على دخول وقته ، فقال : صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
فعلق الإفطار أيضا
بالرؤية ، كما علق الصوم بها ، وهذا يقتضي أن الصوم والإفطار متعلقان بالرؤية ولا
سبب فيهما غيرها ، لانه لو كان لهما سبب غير الرؤية من عدد أو غيره تعلقهما به.
ثم قال عليهالسلام : فان غم عليكم فعدوا ثلاثين. فأمر بالرجوع الى العدد عند
عدم الرؤية، وأنه لا حكم للعدد الا بعد انتفاء الرؤية ، ولا يجب المصير اليه الا
عند امتناعها.
وأصحاب العدد
عكسوا ذلك فقالوا : ان الصوم بالعدد والإفطار بالعدد ، لاحظ للرؤية في شيء منهما ،
ولا نمنع أن يقال : ان المصير الى العدد عند فقد الرؤية يجري مجرى استعمال التراب
عند فقد الماء.
فأما تعاطيه الفرق
بين الرؤية والعدد وبين الماء والتراب ، بأن الوضوء والتيمم عبادتان يستباح
بفعلهما أداء فرض آخر ، لا يعرف بهما وقت وجوبه ولا يدلان أوله وآخره ، وأن الرؤية
والعدد في هذا الخبر قد وردا مورد العلامة ، وقاما مقام الدلالة ، فهما لا يغني شيئا ، لأنه فرق لا من حيث الجمع بين الموضعين ،
لان التراب لا حكم له مع وجود الماء ، وانما يجب استعماله عند
__________________
فقد الماء ، فجرى العدد الذي لا حكم له في الرؤية وإمكانها ، وانما استعمل
العدد مع فقد الرؤية .. .
فأي وجوب الموضوع فيما التبس ظاهره من الآيات المتشابهات إلى أدلة العقول ،
فان جاز أن نقول : ان العدد ليس بأصل للرؤية ، وانما هو بدل منها النجأت إليه
الحاجة ، كالتيمم الذي ليس بأصل للطهارة ، وانما هو بدل منها في حال الضرورة.
جاز للآخر أن يقول
مثل ذلك في الرجوع الى القرآن عند التباس الاخبار ، والاعتماد على أدلة العقول في
متشابه القرآن ، فلما كان هذا لا يجوز بإجماع ، كان العدد والرؤية مثله.
يقال له : ان كان
هذا الذي ظننته صحيحا في الرؤية والعدد ، وانما يشبهان ما ذكرته من أمر النبي صلىاللهعليهوآله بالرجوع الى الكتاب فيما التبس من الاخبار وعرضها عليه ،
وفيما التبس من الآيات والرجوع فيها إلى أدلة العقول ، فيجب أن نقول مثله في
الوضوء بالماء والتيمم بالتراب.
وأن أمره لنا
بالرجوع الى التراب عند عدم الماء دلالة على أن التيمم هو الأصل ، كما قلت في
الكتاب والاخبار ، لان الصوم في قوله «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم
فعدوا ثلاثين» كالصورة في قوله تعالى (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً
فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً).
فكل شيء تعتمده في
أنه لا شبهة بين الوضوء والتيمم ، [و] بين الرجوع
__________________
الى الكتاب وعرض
الاخبار عليه ، فهو بعينه يفرق بين الرؤية والعدد ، وعرض الاخبار على الكتاب.
وبعد فان ما أمرنا
به من الصوم للرؤية فالإفطار لها من المصير إلى فائدة ، في أن نفرق بين الأمرين ، بأن
نقول : ان الصوم والتيمم يستباح بفعلهما أداء فرض آخر لا يعرف بهما وقت
وجوبه ، وهل هذا الا كمن فرق بينهما؟ ان هذا وضوء وتلك رؤية ، وهذا تيمم وذاك عدد.
ومن الذي يقول :
ان الموضعين يتشابهان في كل الاحكام حتى يفرق بينهما بأن صفة الوضوء والتيمم ليست
للعدد والرؤية.
فأما قوله «ان
الرؤية والعدد يتفقان ولا يتفق وجود الوضوء والتيمم في موضع من المواضع».
فغلط ، لان الرؤية
والعدد لا يتفق حكمهما وتأثيرهما على الاجتماع عند أحد ، لأن مذهبنا أنه إذا رأى
الهلال ليلة الثلاثين وجب عليه الإفطار ولا حكم للعدد ، وإذا لم ير تكمل العدة
ثلاثين والحكم هاهنا للعدد ولا تأثير للرؤية ، فكيف يجتمعان على ما ظنه؟
وأما على مذهب
أصحاب العدد ، فان اتفق على ما ادعاه أن يوافق العدد للرؤية ، البتة فلا حكم هاهنا
عندهم للرؤية ، وانما الحكم للعدد ، فما اتفق قط على مذهب اجتماع الرؤية والعدد
مؤثرين ومعتبرين.
[مخالفة أخبار الرؤية للكتاب والجواب عنه]
ثم قال صاحب
الكتاب : فصل ، واعلم أنه لا شيء أشبه بالعدد والرؤية
__________________
المذكورين في هذا
الخبر من الاستدلال في أحكام الشرع بالقرآن والأثر ، وذلك أن الرسول أمرنا بالرجوع
الى الكتاب عند التباس الاخبار وقال : ستكثر علي الكذابة من بعدي فما ورد من خبر
فأعرض على الكتاب .
وكذلك وجوب الرجوع
الذي تقدم ، وكذلك إذا تعذرت الرؤية ، وأمرنا بالوضوء بالماء وإذا فقدنا الماء فالتيمم
بالتراب ، من عرض الاخبار على الكتاب والأخذ بما يوافقه دون ما يخالفه.
والجواب أن يقال
له : ليس في هذا الموضع الذي هو الأمر بعرض الاخبار تنزيل أمرنا به ، فتصير الى
حالة بعد حالة واعتبار أمر من الأمور ، بشرط إمكانه إذا تعذر بالرجوع الى غيره ،
وانا أمرنا بعرض الاخبار على الكتاب ، لان الكتاب أصل ودليل على كل حال وحجة في كل
موضع ، والاخبار ليست كذلك ، فعرضنا ما لم نعلم صحته منها على الكتاب الذي هو
الدليل والحجة على كل حال وفي كل وقت.
وكذلك العقول
دلالة على جميع الأحوال غير محتملة ، فرددنا كل مشتبه من آيات وغيرها إلى أدلة
العقول لأنها أصل ، فما هاهنا انتقال من منزله إلى أخرى ، ولا أحوال مرتبة بعضها
على بعض ، كالوضوء والتيمم والرؤية والعدد ، لان العدد مرتب على الرؤية ، وحكم
الصيام تعلق بالرؤية.
وانما أمرنا
بالمصير الى العدد عند فوت الرؤية ، وهذه أحكام كما ترى مرتبة بعضها على بعض.
وكذلك القول في الوضوء والتيمم.
وليس من هذا شيء
في عرض الاخبار على الكتاب والأخذ بما يوافق منها ، ولا الرجوع الى العقول في
المتشابه ، فمن خلط بين الأمرين فهو قليل التأمل.
__________________
[التهافت في استدلال القائلين بالرؤية والجواب عنه]
قال صاحب الكتاب :
فان قال قائل : انا نراكم قد أقررتم بأن رؤية الأهلة دلالة على أوائل الشهور ، وان
كان العدد عندكم هو الأصل ، وقد نفيتم قبل ذلك الاستدلال بها وعدلتم عن العدد ،
وهل هذه إلا مناقضة منكم لا يخفى ظهورها؟
ثم قال : قيل له :
ليس يلزمنا مناقضة على ما ظننت ، وعلى العدد نعول في أوائل الشهور ونستدل ، وقد
ذكرنا بعض أدلتنا فيما يسألنا عن قول النبي صلىاللهعليهوآله «صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين».
أخبرنا بمذهبنا
فيه وأعلمنا السائل أنه خاص لسنة واحدة أمر الناس فيها رسول الله صلىاللهعليهوآله بالاستدلال على أن أول الشهر بالرؤية.
وأوجب عليهم
الرجوع ان عرض لهم الإغماء الى العدد ، ليعلمهم أنه الأصل الذي لا يعترضه اللبس ،
فالرؤية قد كانت دليلا لتلك السنة ، وكان في الاستدلال فيها على هذا الوجه.
وليس يلزمنا أن
يكون دليلا في كل شهر لما روي عن الصادق عليهالسلام في تخصيص الخبر.
يقال له : قد بينا
الكلام في تأويل ما روي عنه عليهالسلام «صوموا لرؤيته
وأفطروا لرؤيته» وأن الذي خرجته فيه من الخصوص لسنة واحدة تخريج باطل لاحظ له من
الصواب ، فلا معنى لإعادته.
وإذا كانت الرؤية
ليست بدليل على أوائل الشهور أو أواخرها على ما خرجته في الأوقات على الاستمرار ،
فلا يجوز أن يكون دليلا في بعض السنين حسب ما ادعيته وأخرجته. لأن الدليل لا يكون
في بعض المواضع دليلا وفي بعض غير دال ، ولأن الرؤية في تلك السنة التي ادعيت فيها
موافقتها للعدد ، لم تكن
دليلا في نفسها
مؤثرة لما يرجع إليها ، وانما المؤثر عندكم العدد ، وانما طابق العدد للرؤية على
سبيل الاتفاق.
فأما قولك في
أثناء كلامك : «ان عرض لهم الإغماء» فمصدر غمي على المريض إغماء ، وليس بمصدر لقولهم «غم الهلال» إذا خفي
واستتر ، وانما مصدره غم غما ، وهذا وان كان خارجا عما نحن فيه ، فلا بد من بيان
القول فيه من الخطأ.
[مناقشة القائلين بالعدد في استدلال الرؤية والجواب عنها]
ثم قال صاحب
الكتاب : وجه آخر : وهو ان من أصحابنا من يستدل برؤية الهلال في كل شهر ، فيقول :
ان اليوم الذي يظهر في آخره هو أول المستهل بموافقته للعدد ، فمتى رئي الاختلاف
عاد الى العدد الذي هو الأصل.
ومنهم من يستدل
بالرؤية من وجه آخر ، وهو أن يرقب ظهور الهلال له في المشرق وقبل طلوع الشمس ،
يفعل ذلك يوما بعد يوم من آخر الشهر الى أن يخفى عنه آخره من الشمس ، فلا يظهر
حينئذ أنه آخر يوم في الشهر الماضي وهو يوم السرار ، واليوم الذي يليه أول المستهل
، فليستدل بذلك ، ما لم يخالف العدد ، فإذا خالفه أو أعرض له لبس عاد مستمسكا بالأصل ، وهذه فصول مستمرة والحمد لله.
يقال له : أما ما
قدمته في هذا الفصل فهو غلط فاحش ، لأنك ادعيت أن اليوم الذي يظهر في آخره الهلال
هو أول يوم المستهل ، ثم قلت بشرط موافقته للعدد ، فان وقع اختلاف وجب الرجوع الى
العدد.
__________________
فأي فائدة في أن
يعلم المكلف إذا رأى الهلال في آخر يوم أن ذلك اليوم مستهل الشهر وقد فات وانقضى ،
ولا يتمكن من صيامه ولا أداء العبادة فيه ، وانما امارة الشهر ودخوله يجب أن تكون
متقدمة ليعلم بها الشهر فيؤدى الفرض فيه ، فأما أن يكون متأخرة وفات الصوم فيه ،
فغير صحيح.
وقوله بشرط
موافقته للعدد ليسقط أن يكون برؤية الأهلة اعتبارا ويكون دليلا في نفسها ، لأنه
إذا شرط ان توافق الرؤية العدد ، فلاحظ هاهنا ولا حكم تؤثر فيه ، وانما التأثير
للعدد دونها ، فلا معنى لقوله «انا نستدل بالرؤية على بعض الوجوه».
وقوله «ومن
أصحابنا من يستدل بالرؤية من وجه آخر» الى آخر الفصل غير صحيح ، لأنه إذا رقب ظهور
الهلال في المشرق الى آخر الشهر ، فخفي عنه لقربه من الشمس على أنه آخر يوم من
الشهر الماضي ، فيعلم أنه اليوم الذي أول المستهل.
فهذا الترتيب الذي
رتبته من اين له صحته؟ وأي دليل قام عليه؟ فما رأينا أحدا من المسلمين راعى في
رؤية الهلال هذا الذي ادعاه من مراعاة عند طلوع الشمس ، ولا رأيناهم يراعون الأهلة
الافراد آخر الأيام غياب الشمس ، ولا يبرزون إلى الأماكن المصحرة في أواخر النهار
عند مغيب الشمس ، وما رأيناهم قط اجتمعوا قبل طلوع الشمس ، ولا راعوا طلوعه في هذا
الوقت أو خفاءه.
على أنه قد نقض
الكلام كله بقوله «نستدل بذلك ما لم يخالف العدد ، فإذا خالفه كان متمسكا بالأصل»
، لأنه إذا كان الأمر على ما ذكره ، فالعدد هو الدليل وهو المؤثر ، وقد تقدم هذا.
لان ظهور الهلال
أو خفاءه في الوقت الذي ذكره إذا كان يصدق ويكذب ،
__________________
وانما يعول عليه
إذا وافق العدد ، وإذا خالفه أطرح ، فالعدد اذن هو المؤثر وبه الاعتبار دون غيره ،
ولا تأثير لرؤية الهلال.
فمن ادعى أن
الرؤية مؤثرة ، فقد استعاد هربا في الشناعة والخلاف ، وإشفاقا لما روي من قوله «صوموا
لرؤيته وأفطروا لرؤيته» ما لا يصح له ولا يستقيم على مذهبه.
[حول خبر : شهر رمضان يصيبه ما يصيب سائر الشهور]
قال صاحب الكتاب :
مسألة أخرى ثم قال : وسألوا عن الخبر المروي عن الصادق عليهالسلام انه قال : شهر رمضان يصيبه ما يصيب سائر الشهور من الزيادة
والنقصان .
ثم قال ويقال لهم
: هذا الخبر ان كان منقولا على الحقيقة ، فيحتمل أن يكون من أخبار التقية دفع به
الصادق عليهالسلام عن نفسه وشيعته ما خشيه من العوام وسلطان الزمان من
الأذية.
فإن قالوا : كيف
يجوز التقية بقول يضاد أصل المذهب وليس له معنى يخرج به عن حد الكذب؟
قيل لهم : بل
يحتمل معنى يضمن الامام يوافق الصوام ، وهو أن يقصد زيادة النهار ونقصانه في الساعات ، فيكون
شهر رمضان مرة في الصيف خمس عشرة ساعة ، ويصير مرة أخرى في الشتاء تسع ساعات ، فقد
لحقه ما لحق سائر الشهور من الزيادة والنقصان باختلاف الساعات لا في عدد الأيام.
يقال له : هذا
الخبر من أخبار الآحاد وأخبار الآحاد عندنا لا توجب علما ولا عملا ، ولا يصح
الاستدلال بها على حكم من الاحكام ، وقد بينا فيما تقدّم.
__________________
ولو وقفت أيها
المتكلم لدفعت الاحتجاج عليك بهذا الخبر بأنه لا يوجب العلم ولكفيت بذلك.
وأما قوله «انه من
أخبار التقية» فدعوى بلا برهان ، وظاهر هذه الاخبار تقتضي على أنها السلامة وعدم
الخوف ، فمن ادعى خلاف ذلك فعليه الدليل.
وأما السؤال الذي
سألت نفسك عنه ، ثم أجبت عنه ، فما يسأل عن مثله محصل من مخالفيك ، لانه لا يجوز
أن يريد الامام عليهالسلام بقوله «شهر رمضان يصيبه ما يصيب الشهور من الزيادة
والنقصان» إذا كان شيعيا خائفا على ما ادعيت أن هذا يلحقه على مذهب هذه الطائفة
التي لا ترى العدد.
كما قال الله
تعالى (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ
الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) أي عند قومك وأصحابك ، فلا يحتاج في ذلك الى ما تأولته من
زيادة الساعة ونقصانها.
[كيفية الحج على القول بالرؤية وهو لا يقدر عليها]
ثم قال صاحب
الكتاب : مسألة لهم أيضا : وسألوا عن حج الناس في وقتنا هذا على الرؤية ، فقالوا :
ما يصنع أحدكم في حجه وأنتم على العدد ، وهو لا يقدر أن ينسك مناسكه على الرؤية؟.
ثم أجاب فقال :
هذا سؤال عما نفعله وليس فيه دلالة على صحة الرؤية وبطلان ما نعتقده ، لانه قد كان
من الجائز الممكن أن يلحق الحرمين سلطان عددي ، فيأخذ الناس برأيه ويحج بهم على
مذهبه ، فتكون الحال بخلاف ما هي عليه الان.
ومعلوم أن ذلك لا
يكون دلالته على ما نذهب اليه من العدد ، وكذلك حج الناس اليوم على الرؤية ولا يصح
به الدلالة. والذي نعمله انا نقف مع الناس
__________________
الموقفين ونفعل
المناسك التي هي أصل الحج ، ولا يجب أن يكون ما نفعله من الحج على الافراد بعد فوت
المتعة كله صحيحا واقعا موقعه من المناسك ..
وليس كذلك ما
يقوله أصحاب العدد ، لانه من يقف على مذهبهم في يوم عرفات في غير يوم الموقف ،
فكأنه ما وقف ، ويأتي منى في غير اليوم الذي يجب إتيانها فيه ، فكذلك ما أتاها ،
وإذا وقعت المناسك في غير أوقاتها لمخالفتها العدد الذي هو المعتبر ، فكأنه ما صنع
شيئا فلا حج له.
فأما قوله «انا
نقف مع الناس ونتابعهم للضرورة» فليس بشيء يعتمد ، لأن السؤال عليه أن يقال : ولم
تكلف الخروج الى الحج وأنت تعلم ، وأنت لا تتمكن منه ولا تقدر أن تؤدي أفعال الحج
في أوقاتها وأنك تصد عنها وتمنع ، وهل ذلك الا عبث؟
فان قلت : قد كان
من الجائز أن يلي الحرمين سلطان عددي ، فيتمكن به من أداء الحج على واجبه وحقه.
قيل لك : فينبغي
إذا لم يقع هذا الجائز الذي يتمكن به من شرائط الحج أن يتوقف على تكليفه والخروج
إليه ، لأن ذلك منك عبثا.
فان قلت : انما
أتكلفه قبل علمي بوقوع هذا الجائز ، لتجويزي في طول الطريق الى الحج أن يلي
الحرمين من مذهبه العدد ، فيتمكن أن يكون حينئذ على موجب العدد.
قيل لك : وأي شيء
ينفعك من تغير مذهب من يلي الحرم وتابعهم عند الضرورة ، ولا يخالف جار في ذلك مجرى
الممنوع وعن بعض شرائط الحج مصدود ، وعند الاضطرار تبسط الاعذار ، وهو نظير ما
أجمعت عليه الشيعة وخالفت فيه العوام من وجوب التمتع بالعمرة إلى الحج على من لم
يكن أهله حاضري المسجد الحرام ، حتى أكد أكثرهم ذلك.
فقالوا : هو الفرض
الذي لا يتقبل في الحج غيره ممن نأت عن مكة داره.
ومعلوم جواز فوته
لمن يسلك طريق الشام ، لجواز دخوله مكة بعد الوقف من يوم التروية ، وهو وقت لا
يمكن فيه التمتع بالعمرة ، وان ذلك لفوت من حج على طريق العراق لوروده يوم عرفة.
فالتجأ الضرورة
لمن يقول هذا الرأي إلى المقام على الإحرام الذي عقده بنية التمتع بالعمرة ، ويصير
الى الافراد الذي لو ابتدأ الا حرام به لكان مخطئا عند الشيعة في كل حال ، فجوزت
له الضرورة هذا الفعال ، ولذلك عدة نظائر من الواجبات ، وستر الناس على خلافها غير
متمكنين من إقامتها على شرائطها.
يقال له : وهذه
المسألة أيضا مما لا نسأل عنه ولا نحاج عليه ، لانه لا حجة فيه.
والفرق بين فوت التمتع
بالعمرة إلى الحج لمن حج مع كافة الناس ، وهو ما يقوله أصحاب العدد واضح ، لان فوت
التمتع لا يبطل العدد ، وهو إذا كان وقف بعرفات قبل وقوف أصحاب الرؤية ، فقد فات
على كل حال من يحج مع جملة الحاج الخارجين من العراق الوقوف بعرفات على مذهب أصحاب
العدد.
وليس بنافع له أن
يتغير مذهب والى الحرم ، فيقف بعرفات على موجب العدد قبل فوته ، لان ذلك لا يمنع
من فوات الحج لهذا الذي خرج في جملة الحجيج العاملين على الرؤية في يوم الوقوف ،
وتعذر استدراك فرضه عليه.
وهذا كله واضح لمن
تأمل بعين الانصاف.
|
(١١)
مسألة في حكم الباء
في قوله تعالى آية (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
(مسألة في حكم الباء
في قوله تعالى (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ)
ليس يمتنع القول
من دخول الباء وان لم يقتض التبعيض في أصل اللغة ، وانما إذا دخلت لغير أن يعدى
الفعل بها وعريت من فائدة من لم يحمل على افادة التبعيض أن تحمل عليه.
فيقال في قوله
تعالى (وَامْسَحُوا
بِرُؤُسِكُمْ) معلوم أن الباء ما دخلت هاهنا لتعدية الفعل الى المفعول ،
لانه متعد بنفسه ، ومحال أن يكون وجودها كعدمها ، فيجب حملها على افادة التبعيض ،
والا لكان دخولها عبثا.
فان قيل : ألا
دخلت للتأكيد إذا أريد به أنه يفيد ما أفاده المؤكد من غير زيادة عليه كان عبثا ،
ويكلمنا على ما يغن ضربه من قولهم «جاء زيد نفسه»
__________________
و «ضربت زيدا نفسه»
وما شاكل ذلك من الألفاظ التي يدعى أنها على سبيل التأكيد ، وبينا أن في ذلك أجمع
فوائد زائدة على ما في المؤكد.
فإن قيل : ألا كان
دخول الباء هاهنا كدخولها من «تزوجت بامرأة»
عدولا عن «تزوجت المرأة» و «ما زيد بقائم» و «ليس عمرو بخارج». وليس يمكن ادعاء
فائدة زائدة في دخول الباء هاهنا من تبعيض ولا غيره.
وكما زادوا الباء
تأكيدا ، فقد زادوا حروفا أخر على سبيل التأكيد ، فقالوا «ان في الدار لزيدا» وما
دخول هذه اللام الا كخروجها في إفادة معنى زائد ، وما هي إلا للتأكيد. وغير ذلك
مما [لا] يحصى من الأمثلة.
الجواب :
قلنا : أما لفظ «تزوجت»
فلا يتعدى الى المفعول الا بالباء ، وانما حذفوها في قولهم «تزوجت امرأة» تخفيفا ،
كما حذفوها في قولهم «مررته» والأصل مررت به. ومثل «تزوجت» في أنه لا يتعدى بنفسه
، ولا بد من الباء إلا إذا أردت التخفيف فحذفت.
فأما قولهم «ما
زيد بقائم» و «ليس عمرو بخارج» فدخول الباء هاهنا يقتضي التيقن والتحقيق لما خبر
به أو قوة الظن. وليس كذلك إذا أسقط الباء ، فكأنه مع إسقاط الباء يخبر غير
اعتقاده ، أو غرض غير قوي ، وإذا أدخلها أخبر عن علم أو قوة ظن.
وكأنني بمن يسمع
هذا الكلام ينفر عنه ويستبعده يقول من قال هذا ومن سطره ، ومن أشار من أهل اللغة
الذين هم القدوة في هذا الباب اليه ، وليس يجب إنكار شيء والا إثباته إلا بحجة.
__________________
وقد علمنا أن أهل
اللغة كلهم يقولون قولنا «ليس زيد بقائم» و «ما عمرو بخارج» أقوى من قولنا «ليس
زيد قائما» و «ما عمرو خارجا» وأن دخول الباء يقتضي التأكيد والقوة ، ولا يزيدون
على هذه الجملة في التفسير.
ولو قيل لهم : أي
قوة أردتم ، أو ليس من نفي قيام زيد بغير باء مخبرا أو منبئا كما هو كذلك مع إدخال
الباء ، لما قدروا أن يفسروا القوة إلا بما ذكرناه ان اهتدوا اليه ، والا كانوا
مختلفين على صواب ، ويعذروا عليهم أن يسيروا إلى قوة لم يتعد مع إسقاطه الباء.
ونحن نعلم أن
العلم أقوى من الظن والظن أقوى من الاعتقاد ، والظن بعضه أقوى من بعض ، فلا يمتنع
أن يكون معنى القوة ما ذكرناه.
وبمثل هذا نجيب عن
قولهم «ان في الدار لزيد» أو «أنك لقائم» لأنهم يقولون : هذا أقوى ، وما المراد بالقوة
إلا ما ذكرناه ، والا فما معنى لها.
وربما زادت العرب
حروفا طلبا لفصاحة الكلمة وجزالتها ، وان لم يفد معنى زائدا على ذلك ، كزيادة «ما»
في قول البر ما والله ما ذلك لعدم مراس ولا قلة أواس ، ولكنها سمه ما أناس ، وانما
أرادت شمه أناس. وقولها : لأمر ما جدع قصير أنفه. وقولهم لأمر ما كان كذا ، وقول
الشاعر : لا يسودنكما . حذفوا للفصاحة في مواضع كثيرة ، فإن اسأل القرية. وكذلك
قد زادوا للفصاحة وتجاوزوا هذا بأن زادوا حروفا يعتبر بظاهرها وقبل الاطلاع على
المراد بها المعنى.
ألا ترى أن قولهم «ليس
كمثل فلان أحد» وقوله تعالى (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) الكاف فيه زائدة ، وهي في الظاهر المغيرة للمعنى ، لأنها
تقتضي أنه لا مثل لمثله ،
__________________
وانما المراد به
لا مثل له. وكذلك قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ) وانما معناه : ما منعك أن تسجد. وقول الشاعر :
ولا الزم البيض الا تسخرا
والمعنى : أن
تسخرا ، ف «الا» زائدة ، ودخولها مغير للمعنى قبل التأمل.
وأما حملهم طلب
التدني على الفصاحة على أن يزيدوا حروفا تغير ظاهرها المعنى. فالأولى أن يفعلوا
ذلك فيما لا يغير ظاهر زيادته معنى.
وأظن أني قد أمليت
في بعض كلامي وجها غريبا ينافي زيادة «لا» في قوله تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ).
وهو أن يكون
المعنى : ما حملك على أن لا تسجد ، ودعاك الى أن لا تسجد ، لأن إبليس ما امتنع من
السجود الا بداع اليه وحامل عليه ، والداعي والحامل الى أن لا يسجد مانع من السجود
، فأورد لفظة «المنع» ويبنى الكلام على معناها ، فأدخل لفظة «لا» بناء على المعنى
لا اللفظ. وهذا لطيف من التعلل.
ويمكن في قوله «الا
تسخرا» ما يقارب ذلك من الحمل على المعنى ، لان الغرض بالكلام انى لا الزمن أن تسخرن مع مشاهدة الشعر الأبيض ، فأدخل لفظة «لا».
ويجوز أن يكون سبب
إدخالها أن معنى كلامه : انى لا ألوم البيض طالبا أن لا تسخرا. وأريد ألا يكون ذلك
منهم ، لان من يبرأ من لوم البيض على أن يسخرن ، فقد يبرأ من أن يلومهن طالبا ألا
يسخرن ، فلفظة «لا» ها هنا مفيدة غير زائدة.
__________________
ولو تعاطينا ذكر
ما نقل من كلام العرب المحمول على المعنى ، وما ورد به القرآن من ذلك لا لأطلنا.
ومن ذلك قوله
تعالى (وَإِذْ بَوَّأْنا
لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ) ولا يقال : بوأت لفلان منزلا ، وانما يقال : بوأته ، لكنه
أراد بمعنى بوأت وهو جعلت ، لان من بوأ فقد جعل ، وقول الشاعر :
جئني بمثل بني
بدر لقومهم
|
|
أو مثل اخوة
منظور بن سيار
|
فنصب لفظة «مثل»
ولم يعطفها بالجر على ما عملت فيه الباء ، لان معنى : جئني هات واحضرني ، فلحظ
معنى الكلام دون لفظه ، وبنى الكلام عليه ، وهذا الجنس أكثر من أن يحصى.
والحمد لله رب
العالمين ، وصلاته على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين.
__________________
|
(١٢)
مسألة في وجه
التكرار في الآيتين
قوله تعالى (وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ)
وقوله (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ
فَلْيَفْرَحُوا)
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مسألة :
قال (رضي الله عنه)
: لا معنى لقوله تعالى (وَما تَتْلُوا مِنْهُ
مِنْ قُرْآنٍ) ما قاله النحويون انه للتوكيد ، لما ثبت أن التوكيد إذا لم
يفد غير ما يفيده المؤكد لم يصح ، وقد علمنا بقوله تعالى (مِنَ الْقُرْآنِ) انه من جملة القرآن ، فأي معنى لقوله «منه» وتكراره.
قال (رضي الله عنه)
: والصحيح أن معنى «منه» من أجل الشأن والقصد من قرآن متتحمل على الشأن والقصد ،
ليفيد معنى آخر.
وقال أيضا في قوله
تعالى (قُلْ بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا) على ما هو من فضل الله ورحمته ، ولا معنى له على ما يقوله
النحويون أنه للتأكيد ،
__________________
كما لا معنى لقول
قائل لزيد وعمرو لهما يريد به زيدا وعمرا.
فالصحيح أن يقولوا
في هذا أن معناه : قل بفضل الله ومعونة الله ورحمته ، لأن معرفة الله بفضل الله
ورحمته ، وبقول (بِفَضْلِ اللهِ
وَبِرَحْمَتِهِ) يفرح ، فيرد قوله (بِفَضْلِ اللهِ) الى القول ، أي قول بفضله ومعاونته ، وهذا القول فإن بهذا القول ومعاونته ورحمته يفرحون ، فيكون قوله «بذلك»
راجعا الى الفرح بالفضل والرحمة حتى يكون قد أفاد كل واحد من اللفظين فائدة.
تمت والحمد لله.
__________________
بسم الله الرّحمن الرّحيم
مسألة في الاستثناء
قال أدام الله
علوه :
إذا اعترض معترض
على ما نقوله من أن الاستثناء انما يخرج من الجمل ما صلح دخوله فيها ، وليس بواجب
أن يخرج منها ما وجب دخوله ، بأن يقول : هذا يقتضي حسن أن يقول القائل : جاءني رجل
الا زيدا الا عمرا ، لفظ «رجل» أن يقع على زيد وعمرو.
يقال له :
من حق الاستثناء
في اللغة العربية أن يدخل على الجمل ، فيخرج منها ما يصلح دخوله فيها ، أو ما يجب
دخوله على مذهب مخالفينا.
ولا يصح دخول
الاستثناء على الألفاظ الموحدة ، ورجل لفظ واحد ، وان وقع في المعنى على الطويل
والقصير وزيد وعمرو.
والاستثناء انما
يخرج من الجمل ما تناول لفظها دون معناها ، ولهذا لم يستحسنوا جاءني رجل الا زيدا
، وقد يستحسنون في هذا الموضع ما يجري [مجرى] الاستثناء بغير لفظة «الا» فيقولون :
جاءني رجل ليس زيدا.
ويخرجون من الكلام
ما صلح تناوله ، وان لم يسموه استثناء ولا استحسنوا لفظة «إلا» الخاصة بالاستثناء.
ولو لا صحة الأصل
الذي ذكرناه ما استحسنوا أن يقولوا : جاءني رجال الا زيدا ، لأنهم أخرجوا
بالاستثناء ما يصلح لفظ «رجال» له دون ما يتناوله وجوبا.
فان قيل : ألا كان
قوله «جاءني رجال» للجنس دون ما يدعى من تناوله للثلاثة فصاعدا ، فلهذا حسن
الاستثناء منه ، وألا كان لفظة «رجلا» في قولهم «جاءني رجل» للجنس.
قلنا : لو كان
لفظة «رجال» أريد به جنس الرجال على العموم ، لحسن استثناء النكرة منه غير وصف لها
ولا تقريب من المعرفة ، حتى يقول : جاءني رجال الا رجلا ، لأنه ان أريد الجنس حسن ذلك
لا محالة ، كحسنة لو قال : جاءني الرجال بالألف واللام الا رجلا. وأجمعوا على أن
ذلك لا يجوز ، لانه غير مفيد. ولو أريد بلفظة «رجال» هاهنا الجنس ، لكان استثناء
الرجل الواحد من غير وصف له مفيدا.
فأما لفظة «رجل»
في الإثبات ، كقولهم «جاءني رجل» فإنه لا يكون عبارة عن الجنس في شيء من كلامهم.
ولو أرادوا به الجنس لحسن لا استثناء ، كما يحسن من ألفاظ الجنس.
وانما يراد في بعض
المواضع بلفظة «رجل» الجنس إذا كانت في النفي ، مثل قولهم ، «ما جاءني رجل» و «ما
ضربت رجلا» وهاهنا يجوز أن يستثنى فتقول : الا زيدا.
تمت المسألة ،
والحمد لله رب العالمين.
|
(١٤)
مسألة وجه العلم
بتناول الوعيد كافة الكفار
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مسألة :
ان سأل سائل فقال
: إذا لم يكن عندكم في لغة العرب لفظ هو حقيقة في الاستغراق، فمن أي وجه علم تناول
الوعيد بالخلود كافة الكفار على جهة التأبيد؟.
فإن قلتم : انما
علم ذلك من قصد النبي صلىاللهعليهوآله ضرورة.
قيل لكم : والنبي صلىاللهعليهوآله من أي وجه علم ذلك؟.
فان قلتم : اضطره
الملك الى ذلك.
قيل لكم : والملك
من أين علم ذلك؟ ومع كونه مكلفا لا يصح أن يضطره الله سبحانه الى قصد.
الجواب :
انا انما قلنا انه
ليس في اللغة لفظ هو حقيقة في الاستغراق ، لعلمنا بعرف أهلها
في الخطاب وعادتهم
في المحاورة ، وأنه لا لفظ موضوع فيها لذلك.
فأما ما عداه هذه
اللغة مما لا سبيل لنا الى العلم بها ، فغير ممتنع أن يكون فيها لفظ موضوع لذلك ،
إذا كان هذا غير ممتنع أن يكون في لغة الملائكة لفظ موضوع للاستغراق ، يفهمون به
مراد الحكيم سبحانه في الخطاب.
وإذا صح ذلك
وخاطبهم الله بذلك ، صح أن يضطر الملك النبي صلىاللهعليهوآله الى مراد الله تعالى منه في الاستغراق.
ويمكن أيضا أن
يغني الله ملائكته بالحسن عن القبيح ، ويضطره الى علم مراده باستغراق كافة الكفار
في تأبيد العقاب وتناوله سائر الأوقات ، ويضطر ذلك الملك غيره من الملائكة ، ويضطر
من اضطره النبي صلىاللهعليهوآله الى ذلك.
والحمد لله وصلاته
على محمد وآله الأكرمين وسلم كثيرا.
|
(١٥)
مسألة في العمل مع
السلطان
|
بسم الله الرحمن الرحيم
مسألة في العمل مع
السلطان
الحمد لله وسلامه (عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) محمد نبيه والطيبين من عترته.
جرى في مجلس
الوزير السيد الأجل أبي القاسم الحسين بن علي المعري (أدام الله سلطانه)
في جمادى الآخرة سنة خمس عشرة وأربعمائة كلام في الولاية من قبل الظلمة ، وكيفية
القول في حسنها وقبحها ، فاقتضى ذلك إملاء مسألة وجيزة يطلع بها على ما يحتاج إليه
في هذا الباب ، والله الموقف للصواب والرشاد.
اعلم أن السلطان
على ضربين : محق عادل ، ومبطل ظالم متغلب. فالولاية من قبل السلطان المحق العادل
لا مسألة عنها ، لأنها جائزة ، بل ربما كانت واجبة
__________________
إذا حتمها السلطان
وأوجب الإجابة إليها.
وانما الكلام في
الولاية من قبل المتغلب ، وهي على ضروب : واجب وربما تجاوز الوجوب إلى الإلجاء ،
ومباح ، وقبيح ، ومحظور.
فأما الواجب : فهو
أن يعلم المتولي ، أو يغلب على ظنه بأمارات لائحة ، أنه يتمكن بالولاية من اقامة
حق ، ودفع باطل ، وأمر بمعروف ، ونهي عن منكر. ولو لا هذه الولاية لم يتم شيء من
ذلك ، فيجب عليه الولاية بوجوب ما هي سبب اليه ، وذريعة إلى الظفر به.
وأما ما يخرج إلى
الإلجاء ، فهو أن يحمل على الولاية بالسيف ، ويغلب في ظنه أنه متى لم يجب إليها
سفك دمه ، فيكون بذلك ملجأ إليها.
فأما المباح منها
: فهو أن يخاف على مال له ، أو من مكروه يقع [به] يتحمل مثله ، فتكون الولاية
مباحة بذلك ويسقط عنه قبح الدخول فيها. ولا يلحق بالواجب ، لأنه إن آثر تحمل الضرر
في ماله والصبر على المكروه النازل به ولم يتول ، كان ذلك أيضا له.
فان قيل : كيف
تكون الولاية من قبل الظالم حسنة؟ فضلا عن واجبة ، وفيها وجه القبح ثابت ، وهو
كونها ولاية من قبل الظالم ، ووجه القبح إذا ثبت في فعل كان الفعل قبيحا وان حصلت
فيه وجوه أحسن . ألا ترى أن الكذب لا يحسن وان اتفقت فيه منافع دينية
كالالطاف تقع عندها الايمان وكثيرا من الطاعات.
قلنا : غير مسلم
أن وجه القبح في الولاية للظالم هو كونها ولاية من قبلها ، وكيف يكون ذلك؟! وهو لو
أكره بالسيف على الولاية لم تكن منه قبيحة ،
__________________
فكذلك إذا كان
فيها توصل إلى إقامة حق ودفع باطل يخرج عن وجه القبح.
ولا يشبه ذلك ما
يعترض في الكذب مما لا يخرجه عن كونه قبيحا ، لأنا قد علمنا بالعقل وجه قبح الكذب
، وأنه مجرد كونه كذبا ، لان هذه جهة عقلية يمكن أن يكون العقل طريقا إليها.
وليس كذلك الولاية
من قبل الظالم ، لان وجه قبح ذلك في الموضع الذي يقبح فيه شرع ، فيجب أن يثبته قبيحا في الموضع الذي جعله الشرع كذلك.
وإذا كان الشرع قد
أباح التولي من قبل الظالم مع الإكراه ، وفي الموضع الذي فرضنا أنه متوصل به الى
إقامة الحقوق والواجبات ، علمنا أنه لم يكن وجه القبح في هذه الولاية مجرد كونها
ولاية من جهة ظالم ، وقد علمنا أن إظهار كلمة الكفر لما كانت تحسن مع الإكراه ،
فليس وجه قبحها مجرد النطق بها وإظهارها بل بشرط الإيثار.
وقد نطق القرآن
بأن يوسف عليهالسلام تولى من قبل العزيز وهو ظالم ، ورغب إليه في هذه الولاية ،
حتى زكى نفسه فقال (اجْعَلْنِي عَلى
خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ) ، ولا وجه لحسن ذلك الا ما ذكرناه من تمكنه بالولاية من
اقامة الحقوق التي كانت يجب عليه إقامتها.
وبعد : فليس
التولي من جهة الفاسق أكثر من إظهار طلب الشيء من جهة لا يستحق منها وبسبب لا
يوجبه.
وقد فعل ما له هذا
المعنى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام ،
__________________
لانه دخل في
الشورى تعرضا للوصول إلى الإمامة ، وقد علم أن تلك الجهة لا يستحق من مثلها التصرف
في الإمامة ، ثم قبل اختيار المختارين له عند إفضاء الأمر اليه وأظهر أنه صار
اماما باختيارهم وعقدهم. وهذا له معنى التولي من قبل الظالم بعينه للاشتراك في
إظهار التوصل الى الأمر بما لا يستحق به ولا هو موجب لمثله.
لكنا نقول : ان
التصرف في الإمامة كان اليه بحكم النص من رسول الله صلىاللهعليهوآله على أمته ، فإذا دفع عن مقامه وظن أنه ربما توصل إلى الإمامة
بأسباب وضعها الواضعون لا تكون الإمامة مستحقة بمثلها ، جاز بل وجب أن يدخل فيها
ويتوصل بها حتى إذا وصل الى الإمامة ، كان تصرفه فيها بحكم النص لا
بحكم هذه الأسباب العارضة. ويجري ذلك مجرى من غصب على وديعة وحيل بينه وبينها
وأظهر غاصبها أنه يهبها لصاحبها ، فإنه يجوز لصاحب الوديعة أن يتقبل في الظاهر هذه
الوديعة ويظهر أنه قبضها على جهة الهبة ، ويكون تصرفه حينئذ فيها بحكم الملك الأول
لا عن جهة الهبة.
وعلى هذا الوجه
يحمل تولى أمير المؤمنين لجلدة الوليد بن عقبة.
ولم يزل الصالحون
والعلماء يتولون في أزمان مختلفة من قبل الظلمة لبعض الأسباب التي ذكرناها ،
والتولي ، من قبل الظلمة إذا كان فيه ما يحسنه مما تقدم ذكره ، فهو على الظاهر من
قبل الظالم ، وفي الباطن من قبل أئمة الحق ، لأنهم إذا أذنوا في هذه الولاية عند
الشروط التي ذكرناها فتولاها بأمرهم فهو على الحقيقة وال من قبلهم ومتصرف بأمرهم.
__________________
ولهذا جاءت
الرواية الصحيحة بأنه يجوز لمن هذه حاله أن يقيم الحدود ويقطع السراق ، ويفعل كل
ما اقتضت الشريعة فعله من هذه الأمور.
فإن قيل : أليس هو
بهذه الولاية معظما للظالم ومظهرا فرض طاعته ، وهذا وجه قبيح لا محالة ، كان
غنيا عنه لو لا الولاية.
قلنا : الظالم إذا
كان متغلبا على الدين ، فلا بد لمن هو في بلاده وعلى الظاهر من جملة رعيته ، من
إظهار تعظيمه وتبجيله والانقياد له على وجه فرض الطاعة ، فهذا المتولي من قبله لو
لم يكن متوليا لشيء ، لكان لا بد له من التغلب معه ، مع إظهار جميع ما ذكرناه من
فنون التعظيم للتقية والخوف ، فليس يدخله الولاية في شيء من ذلك لم يكن يلزمه لو
لم يكن واليا ، وبالولاية يتمكن من أمر بمعروف ونهي عن منكر ، فيجب أن يتوصل بها
إلى ذلك.
فان قيل : أرأيتم
لو غلب على ظنه أنه كما يتمكن بالولاية من أمر ببعض المعروف ونهي عن بعض المنكر ،
فإنه يلزم لأجل هذه الولاية أفعالا وأمورا منكرة قبيحة لو لا هذه الولاية لم تلزمه
لا يتمكن من الكف عنها.
قلنا : إذا كان لا
يجد عن هذه الافعال محيصا ولا بد من أن يكون الولاية سببا لذلك، ولو لم يتوصل لم
يلزمه أن يفعل هذه الأفعال القبيحة ، فان الولاية حينئذ تكون قبيحة ، ولا يجوز أن
يدخل فيها مختارا.
فان قيل : أرأيتم
ان أكره على قتل النفوس المحرمة ، كما أكره على الولاية ، أيجوز له قتل النفوس
المحرمة.
قلنا : لا يجوز
ذلك ، لان الإكراه لا حكم له في الدماء ، ولا يجوز أن يدفع عن نفسه المكروه بإيصال
ألم الى غيره على وجه لا يحسن ولا يحل.
__________________
وقد تظاهرت
الروايات عن أئمتنا عليهمالسلام بأنه لا تقية في الدماء . وان كانت مبيحة لما عداها عند الخوف على النفس.
فان قيل : فما
عندكم في هذا المتولي للظالم ونيته معقودة على أنه انما دخل في هذه الولاية لإقامة
الحدود والحقوق ان منعه من هذه الولاية ، أو مما يتصرف فيه فيها مانع من الناس
ورام الحيلولة بينه وبين أغراضه ، كيف قولكم في دفعه عن ذلك وقتاله.
قلنا : هذه
الولاية إذا كانت حسنة أو واجبة عند ثبوت شرط وجوبها ، وبينا أنها في المعنى من
قبل إمام الحق وصاحب الأمر ، وان كانت على الظاهر الذي لا نقر به كأنها من قبل غيره ، فحكم من منع منها وعارض فيها حكم
من منع من ولاية من ينصبه الامام العادل في دفعه بالقتل والقتال ، وغير ذلك من
أسباب الدفع.
فان قيل : كيف السبيل
الى العلم بأن هذا المتولي في الظاهر من قبل السلطان الجائر بحق لا تحل معارضته ومخالفته ، وهو على الظاهر متول من قبل
الظالم الطاغي الذي يجب جهاده ولا يحسن إقرار أحكامه.
فإن قلتم : الطريق
الى ذلك أن نجد من يعتقد المذهب الحق المتولي من قبل الظلمة والمتغلبين مختارا فنعلم أنه ما اعتمد ذلك
الا لوجه صحيح اقتضاه.
قيل لكم : وهذا
كيف يكون طريقا صحيحا ، وقد يجوز لمعتمد الحق أن يعصي ، بأن يلي ولاية من قبل ظالم
لبعض أغراض الدنيا ومنافعها ، فلا يكون
__________________
دفعه ومنعه مبيحين
.
قلنا : المعول في
هذا الموضع على غلبة الظنون وقوة الأمارات ، فان كان هذا المتولي خليعا فاسقا قد
جرت عادته بتورط القبائح وركوب المحارم ورأيناه يتولى للظلمة ، فلا بد من غلبة
الظن بأنه لم يتول ذلك مع عادته الجارية بالجرم والفجور الا لأغراض الدنيا ، فيجب
منعه ومنازعته والكف عن تمكينه. وان كانت عادته جارية بالتدين والتصوب والكف عن المحارم ، ورأيناه قد تولى مختارا غير مكره لظالم
، فالظن يقوى أنه لم يفعل ذلك مع الإيثار إلا لداع من دواعي الدين التي تقدم ذكرها
، فحينئذ لا يحل منعه ويجب تمكينه.
فان اشتبه في بعض
الأحوال الأمر ، وتقابلت الأمارات وتعادلت الظنون ، وجب الكف من منعه ومنازعته على
كل حالة ، لأنا لا نأمن في هذه المنازعة أن تقع على وجه قبيح ، وكل ما لا يؤمن فيه
وجه القبح يجب الكف عنه.
ونظائر هذه الحال
في فنون التصرف وضروب الافعال أكثر من أن تحصى.
فإنا لو عهدنا من
بعض الناس الخلاعة والفسق وشرب الخمور والتردد الى مواطن القبيحة ، ورأيناه في بعض الأوقات يدخل الى بيت خمار ، ونحن لا
ندري أيدخل للقبيح أم للإنكار على من يشرب الخمر ، فانا لقوة ظننا بالقبيح منه على
عادته المستمرة ، يجب أن نمنعه من الدخول ونحول بينه وبينه إذا تمكنا من ذلك ، وان
جاز على أضعف الوجوه وأبعدها من الظن أن يكون دخل للإنكار لا لشرب الخمر.
ولو رأينا من جرت
عادته بالصيانة والديانة وإنكار المنكر يدخل بيت خمار
__________________
فإنه لا يحسن منعه
من الدخول ، لان الظن يسبق ويغلب أنه لم يدخل الا لوجه يقتضيه الدين ، اما لإنكار
أو غيره.
فإن رأينا داخلا
لا يعرف له عادة حتى ولا ينوي ترفعنا أيضا عن منعه لانه لا يجوز أن يكون الدخول لوجه جميل ولا
أمارة للقبيح ظاهرة.
فان قيل : فكيف
القول فيمن يتولى للظالم ، وغرضه أن يتم له بهذه الولاية الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، وجمع بين هذا الغرض وبين الوصول الى بعض منافع الدنيا ، اما على وجه
القبح أو وجه الإباحة.
قلنا : المعتبر في
خلوص الفعل لبعض الأغراض أن يكون لو لا ذلك الغرض لما فعله وأقدم عليه ، وان جاز
أن يكون فيه أغراض أخر ليس هذا حكمها.
فان كان هذا
المتولي لو انفردت الولاية بالأغراض الدينية وزالت عنها الأغراض الدنيوية ، لكان
يتولاها ويدخل فيها.
ولو انفردت عن
أغراض الدين بأغراض الدنيا لم يقدم عليها ، فهذا دليل على أن غرضه فيها هو ما يرجع
الى الدين ، وان جاز أن يجتمع اليه غيره مما لا يكون هو المقصود ، وان كان الأمر
بالعكس من هذا ، فالغرض الخالص هو الراجع الى الدنيا ، فحينئذ يقبح الولاية.
فإن قيل : ما
الوجه فيما روي عن الصادق عليهالسلام من قوله : كفارة العمل مع السلطان قضاء حاجات الاخوان . أو ليس هذا يوجب أن العمل من قبله معصية وذنب حتى يحتاج
إلى الكفارة عنها؟ وقد قلتم انها تكون في بعض الأحوال حسنة وراجحة.
قلنا : يجوز أن
يكون عليهالسلام أراد بذلك أن قضاء حاجات الإخوان
__________________
يخرج الولاية من
القبح الى الحسن ، ويقتضي تقربها من جهة اللوم ، كما أن الكفارة تسقط اللوم عن
مرتكب ما يقتضيها ، فأراد أن يقول : ان قضاء حاجات الاخوان يدخلها في الحسن ، فقال
: يكون كفارة لها ، تشبيها.
ويمكن أيضا أن
يريد بذلك من تولى للسلطان الظالم ، وهو لا يقصد بهذه الولاية التمكين من اقامة
الحق ودفع الباطل ، ثم قضى بعد ذلك حاجات الاخوان على وجه يحسن ويستحق الثواب
والشكر ، فهذه الولاية وقعت في الأصل. ويجوز أن يسقط عقابها ويتمحص عن فاعلها ،
بأن يفعل طاعة قصدها ويكون تلك الطاعة هي قضاء حاجات إخوان المؤمنين ، وهذا واضح.
والحمد لله رب
العالمين والصلاة على محمد وآله الطاهرين.
|
(١٦)
مسألة في نفى الحكم
بعدم الدليل عليه
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مسألة :
أن سائل سائل فقال
: أراكم تقولون في كثير من المسائل على القول بأنه لو كان كذا وكذا لكان عليه دليل
، وإذا لم يكن عليه دليل وجب نفيه على ما يستدلون به على نفي العبادة بالقياس في
الشريعة والعمل بأخبار الآحاد.
ومثله ما عولتم
عليه في كثير من مسائل فروع الحج من التمسك بأصل حكم العقل ، وأنه لو كان فيه شرع
حادث لكان عليه دليل.
فبينوا صحة هذه
الطريقة؟ وما الفصل بينكم وبين من عكس الكلام؟.
فقال : إذا أوجبتم
نفي أمر من الأمور من حيث لا دليل على إثباته.
فما الفصل بينكم
وبين من أثبته من حيث لا دليل على نفي ، فلا يكون النفي هاهنا أولى منه بالإثبات.
الجواب :
اعلم أنه لا بد
لكل مثبت أو ناف حكما عقليا أو شرعيا من دليل ، غير أن الدليل في بعض المواضع على
نفي أمر من الأمور قد يكون فقد دليل إثباته ، إذا كان مما علم بأنه لو كان ثابتا ،
لكان لا بد من قيام دليل عليه مقطع هاهنا على نفيه لفقد الدليل على إثباته ، ولم ينفه الا بدليل ، وهو الذي أشرنا اليه.
ولهذا ننفي نبوة
كل من لم يظهر على يده معجزة ، ونقطع على انتفاء نبوته دليل النبوة وهو المعجز ،
ولا نحتاج في كونه نبيا الى دليل سوى ذلك.
ولو قيل لنا : ما
الدليل على نبوة نبي بعينه لاحتجنا الى دليل يخصها ، ولا يتبع في ذلك بأنه لو لم
يكن نبيا لكان على نفي نبوته دليل ، وإذا فقدناه حكمنا بأنه نبي.
وكذلك نستدل كلنا
على أنه لا صلاة زائدة على الخمس الواجبات ، ولا صوم يجب يزيد على شهر رمضان ، أو
ما أشبه ذلك من الأحكام الشرعية.
بأن نقول : لو وجب
شيء من ذلك لوجب قيام دليل شرعي عليه ، وإذا فقدنا الدليل قطعنا على انتفاء الحكم
، ولهذا لانقطع على انتفاء كون زيد في الدار من حيث لا دليل على كونه فيها ، لان
كونه فيها ليس من الباب الذي إذا وقع فلا بد من نصب دليل عليه.
ولهذه الطريقة أصل
في الضروريات ، لأنا ننفي كون جبل بحضرتنا من حيث لو كان حاضرا لرأيناه فعلمناه ،
فإذا لم نره دل ذلك على نفي حضوره.
وأما العكس في
السؤال الذي مضى ، فليس بصحيح ، ولو كان صحيحا للزم
__________________
في نفي النبوة
والشرع الزائد على ما علمناه :
أن يقال لنا : إذا
عولتم في نفي كون بعض الأشخاص نبيا على نفي دلالة نبوته ، فالأوجب إثبات نبوته ،
لفقد ما يدل على نفيها ، فلما لم يلزم ذلك لأي شيء قبل لم يلزمها ، فما اعتمدناه من نفي العبادة بالقياس
وأخبار الآحاد وغير ذلك.
والذي يبين صحة ما
ذكرناه من الطريقة ، وبطل ما عارضوا به من العكس أنه لو احتيج في نفي كل شيء تنفيه
من نبوة وشريعة وغير ذلك الى دليل يخص ذلك المنفي من غير اعتبار بفقد دلالة إثباته
[لاحتيج إلى ] مالا نهاية له من الأدلة ، لأنه لا نهاية لما تنفيه من
النبوات ، وكذلك لا نهاية لما تنفيه من الشرائع والاحكام.
وليس كذلك ما
تثبته ، لانه متناه محصور ، فجاز أن يخصه أدلة محصورة. وهذا يكشف لك عن الفرق بين
الأمرين وفساد مذهب من سوى بينهما.
ولو قيل لمن سلك
هذه الطريقة : ولنا إذا لم ترض ما أشرنا اليه على أن زيدا ليس بنبي ، فإنه لا
يقدر [إلا ] على أنه لو كان نبيا لظهرت على يده معجزة ، وحصل فقد المعجزة دليلا على نفي نبوته.
__________________
حتى يقال : فبأي
شيء ينفصل من قال لك : فما أنكرت من كونه نبيا كذلك أنه لو لم يكن نبيا لكان على
نفي نبوته دليل ، وذا فقدنا ذلك ، فلا بد من إثبات نبوته.
فان رام الفصل
بغير ما ذكرناه لم يجده.
والحمد لله رب
العالمين ، والصلاة على محمد وآله الطاهرين ، والمنة لله.
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
تفسير الخطبة الشقشقية
مسألة يحيط على
تفسير الخطبة المقمصة وهي الشقشقية ، من إملاء السيد المرتضى (رضي الله عنه) من
كلام أمير المؤمنين عليهالسلام :
أما قوله عليهالسلام : «لقد تقمصها فلان» وانما أراد لبسها واشتملت عليه كما يشتمل القميص على لابسه.
وقوله عليهالسلام : «وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى» فالمراد
أن أمرها علي يدور وبي يقوم ، وأنه لا عوض عني فيها ولا بديل مني لها ، كما أن قطب
الرحى هو الحديد الموضوعة في وسطها عليها مدار الرحى ، ولولاها لما انتظمت حركاتها
ولأظهرت منفعتها.
وقوله عليهالسلام : «ينحدر عني السيل ، ولا يرقى الي الطير» هذا كلام
__________________
مستأنف غير موصول
المعنى بذكر قطب الرحى ، المراد به أني عالي المكان بعيد المرتقى ، لان السيل لا
ينحدر الا عن الأماكن العالية والمواضع المرتفعة.
ثم أكد عليهالسلام هذا المعنى بقوله : «ولا يرقى الي الطير» ولانه ليس كل
مكان عال عن استقرار السيل عليه واقتضى تحدره عنه ، يكون مما لا يرقى اليه الطير ،
فان هذا وصف يقتضي بلوغ الغاية في العلو والارتفاع.
وقوله عليهالسلام : «لكني سدلت دونها ثوبا ، وطويت عنها كشحا» فمعنى «سدلت» ألقيت بيني
وبينها حجابا ، أي عرضت عنها وتنزهت عن طلبها وحجبت نفسي عن مرامها.
وقوله عليهالسلام : «وطويت عنها كشحا» نظير قوله : «وسدلت دونها ثوبا» ومعنى
الكلام : أنني أعرضت عنها وعدلت عن جهتها ، ومن عدل عن جهة إلى غيرها فقد طوى كشحة
عنها ، لان الكشح : الخاصرة.
وقوله عليهالسلام : «بين أن أصول بيد جداء» فإنما أراد : مقطوعة ، لأن الجد
: القطع، ويحتمل أيضا أن يروى جذاء بالذال المعجمة ، لان الجذ أيضا : القطع ،
والجذاء : المنقطعة، قال الطائي :
أبا جعفر أن
الجهالة أمها
|
|
ولو وأم العقل
عقماء جذاء
|
فأما «الطخية» فهي
الظلمة ، وليلة طخياء أي مظلمة.
فأما قوله عليهالسلام : «فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى ، فصبرت وفي العين قذى ،
وفي الحلق شجا» ف «هاتا» لغة تجري مجرى هاذي وهذه ، و «أحجى» أولى ، وقذى العين
معروف.
و «الشجى» ما
اعترض في الحلق.
__________________
فأما التراث فهو
الميراث ، وليس كل شيء يملكه يسمى تراثا ، حتى يكون قد ورثه عن غيره. وأراد عليهالسلام «أرى تراثي نهبا»
أي حقي من لامامة وخلافة الرسول صلىاللهعليهوآله الذي ورثته عنه بنصه علي وإشارته الي «نهبا» منقسما
ومتوزعا متداولا.
وقوله عليهالسلام : «فأدلى بها الى فلان بعده» انما يريد ألقاها اليه
وأرسلها إلى جهته ، الأصل فيه قولهم : أدليت الدلو إذا ألقيتها إلى البئر ، ومنه :
أدلى الرجل بحجته.
وقوله عليهالسلام : «فيا عجبا! بينا هو يستقيلها في حياته إذ جعلها لآخر بعد وفاته» من دقيق المحاسبة وشديد المواقفة أن من
يستقيل من الأمر على ظاهر الحال ، يجب أن يكون زاهدا فيه منقبضا منه متبرما به ،
ومن عقده لغيره ووصى بها الى سواه فهو على غاية التمسك به ، والتحمل لأوقاره
والتلبس لأوزاره.
وقوله عليهالسلام : «لشد ما تشطرا ضرعيها» يريد اقتسما منفعتها ، من الشطر
الذي هو النصف.
وأما إنشاده عليهالسلام :
شتان ما يومي
على كورها
|
|
ويوم حيان أخي
جابر
|
فهذا البيت لأعشى
قيس من جملة قصيدة ، أولها :
علقم ما أنت إلى
عامر
|
|
الناقض الأوتار
والواتر
|
فأما حيان أخو
جابر ، فهو رجل من بني حنيفة ، فأراد ما أبعد ما بين يومي على كور المطية أدأب
وأنصب في الهواجر والصنابر وبين يومي وادعا قارا منادما لحيان أخي جابر في نعمة
وخفض وأمن وخصب.
وروي : ان حيان
هذا كان شريفا معظما عتب على الأعشى ، كيف نسبه الى
__________________
أخيه وعرفه به؟!
واعتذر الأعشى أن القافية ساقته الى ذلك.
والغرض في تمثيله (صلوات
الله عليه) بهذا البيت ، تباعد ما بينه عليهالسلام وبين القوم ، لأنهم قلدوا بآرائهم ورجعوا بطلابهم ، وظفروا
بما قصدوه واشتملوا على ما اعتمدوه. وهو عليهالسلام في أثناء ذلك كله مجفو في حقه مكمد من نصيبه ، فالبعد كما
رآه عنهم ، والاختلاف شديد والاستشهاد بالبيت واقع في موقعه ووارد في موضعه.
وقوله عليهالسلام : «يصيرها في ناحية خشناء يجفو مسها ويعظم كلمها» انما هو تعريض لجفاء خلق الرجل التالي للأول ، وضيق صدره
ونفار طبعه.
وقوله عليهالسلام : «كراكب الصعبة» التي ما ذللت وريضت بين خطتين ، ان أرخى
لها في الزمام توجهت به حيث شاءت بعسف وخبط. و «ان أشنق لها» بمعنى ضيق عليها
المشناق «خرم» بمعنى خرم أنفها ، لان الزمام يكون متصلا بالأنف ، فإذا والى بين
جذبه لامساكه خرقه. وعلى الرواية الأخرى «ان أشنق لها خرم» وهو معنى خرق.
«وان أسلس لها
تقحم به» مثل المعنى الذي أراده بلفظة عسف من ورود ما يكره وروده من الموارد ،
ويأبى سلوكه من المقاصد.
وقوله عليهالسلام : «فبلي الناس لعمرو الله بخبط وشماس» و «الخبط» هو السير على غير
جادة ومحجة ، و «الشماس» : النفار ، و «التلون» التلفت والتبذل ، وأما «الاعتراض»
فهو هاهنا أيضا ضربان : التلون والتغير وترك لزوم القصد والجادة ، يقال : مشى
للعرضة أي ترك القصد والمحجة وجادة الطريق
__________________
وسار في عرضها
عاسفا خابطا.
وانما تلويحه عليهالسلام ، بل تصريحه بذم الشورى ، والانفة من اقترانه من لا يساويه
ولا يضاهيه ، فهو كثير التردد في كلامه عليهالسلام ، ثم خبر بأنه فعل ذلك كله مقاربة ومساهلة واستصلاحا
وسماحا.
فقال عليهالسلام : «لكن أسففت إذ أسفوا ، وطرت إذ طاروا» يقال : سف الطائر بغير
ألف وأسف الرجل الى الأمر إذا دخل فيه بالألف لا غير.
قول عليهالسلام : «فمال رجل لضغنه ، وأصغى آخر لصهره» وانما أراد المائل إلى صهره عبد الرحمن بن عوف الزهري فإنه
كان بينه وبين عثمان مصاهرة معروفة ، فعقد له الأمر ومال إليه بالمصاهرة ، والذي
مال اليه لضغنه انما هو سعد بن أبي وقاص الزهري ، فإنه كان منحرفا عن أمير
المؤمنين عليهالسلام ، وهو أحد من قعد عن بيعته في وقت ولايته.
وأما لفظة «هن»
فان العرب تستعملها في الأمور العظيمة الشديدة ، يقولون : جرت هنة وهنات.
وقوله عليهالسلام : «الى أن قام ثالث القوم» يعني عثمان «نافجا حضنيه»
فالنفج والنفح بمعنى واحد ، والحضن هو الصدر والعضدان وما بينهما ، ومنه حضنت
الصبي حضنا وحضانة ، والحضن أيضا أصل الحبل.
ومعنى «بين نثيله
ومعتلفه» أي بين الموضع الذي يأكل فيه.
وقوله عليهالسلام : «وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضم الإبل نبتة الربيع» والخضم أقوى من القضم ، وتعمل فيه
الأشداق ، ويكون في الأكثر
__________________
للأشياء اللينة
الرطبة. والقضم بمقاديم الإنسان ، ويكون للأشياء اليابسة.
وقوله عليهالسلام : «الى أن انتكث [عليه ] فتله ، وأجهز عليه عمله ، وكبت به بطنته» والانتكاث :
الانتقاض ، وإذا تزايلت قوى الحبل وتفرقت مرده قيل : انه انتكث ، ومنه نكث العهد ،
لانه فتح الرجل العقدة.
ومعنى «أجهز عليه
عمله» أي قتله فعله ، والإجهاز لا يستعمل إلا في إتمام ما بدئ به من الجراح
وغيرها.
فإما البطنة : فهي
كثرة الأكل والسرف في الشبع ، وذلك غير محمود في نجباء الرجال وذوي الفضل منهم.
وقوله عليهالسلام : «فما راعني الا والناس كعرف الضبع [إلى ] ينثالون علي من كل وجه» والضبع ذات عرف كثيرة ، والعرب
تسمى الضبع «عرفا» لعظم عرفها. ومعنى «ينثالون» أي يتتابعون ويتزاحمون.
وقوله عليهالسلام : «حتى [لقد ] وطئ الحسنان ، وشق عطفاي ، مجتمعين حولي كربيضة الغنم»
فأراد ب «الحسنين» الحسن والحسين عليهماالسلام ، وغلب في الاسم الكبير على الصغير.
و «العطف» المنكب.
و «ربيضة الغنم» الرابضة ، وانما شبههم بالغنم لقلة الفطنة عندهم وبعد القائل منهم
، والعرب تصف الغنم بالغباء وقلة الذكاء.
وقوله عليهالسلام : «فلما نهضت بالأمر نكصت طائفة ، ومرقت أخرى ، وفسق آخرون» وفي رواية : نكثت طائفة وقسطت أخرى ، بمعنى جارت عن
الحد ومن القصد. والعرب تسمي السهم إذا لم يصب الغرض ومضى جانبا
__________________
فإنه مارق.
وأما قوله عليهالسلام : «ولكنهم حليت الدنيا في أعينهم» وفي رواية أخرى : حلت
لهم دنياهم. فمعنى «حليت» تبرقت وتزينت في أعينهم من الحلي ، ويحكى : احلولات فهو
من حلاوة الطعم. ومعنى «راقتهم زبرجها» أي أعجبهم زخرفها ، والزبرج كالزخرف ، يبدو
لهم ظاهر جميل معجب وباطن بخلاف ذلك ، وأصله الغيم الرقيق الذي لا ماء فيه ، فهو
مغر بظاهره ولا خير فيه.
وقوله عليهالسلام : «لو لا حضور الحاضر ، وقيام الحجة بوجود الناصر» الى آخر
الكلام ، فمعناه أن الفرض تعين ويوجب مع وجود من انتصر به على رفع المنكر ومنع
الباطل ، واعتذار الى من لا علم له من القعود في أول الأمر ، والنهوض في حرب الجمل
وما بعدها ، لفقد الناصر أولا وحضورهم ثانيا.
فأما «الكظة» فهي
البطنة وشدة الامتلاء من الطعام. و «السغب» هو الجوع. ومعنى «ألقيت حبلها على
غاربها» أي تركتها وتخليت منها ، لان الرجل إذا ألقى زمام الناقة على غاربها فقد
بدا له في إمساكها وزمها وخلى بينها وبين اختيارها ، ولهذا صارت هذه اللفظة من
كنايات الطلاق والفرقة. والغارب : أعلى العنق.
وقوله عليهالسلام : «ولألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» والعرب
تقول : عطفت الناقة تعفط عفطا وعفيطا وعفطانا فهي عافطة ، وهو نثرها بأنفها كما
ينثر الحمار. ويقال : عفطت ضرطت. وكلا من المعنيين تحتملهما اللفظة في هذا الموضع.
وأما قوله عليهالسلام : «تلك شقشقة هدرت ثم قرت» استقرت ، ف «الشقشقة» هي التي
يخرجها البعير من فيه عند جرجرته وعصه أو فطمه ، وانما يريد عليهالسلام أنها سورة التهبت وثارت ثم وقفت.
ولما اقتضى ابن
عباس (رضي الله عنه) بقية الكلام وقد انقطع بما اعترضه
وزال عن سننه ،
اعتذر عليهالسلام في العدول عن تمامه بانقضاء أسبابه وانطفاء ناره وتلاشي
دواعيه ، فان الكلام يتبع بعضه بعضها ويقتضي أوله آخره ، فإذا قطع انحل نظامه وخبا
ضرامه.
ونسأل الله
التوفيق ، تمت بحمد الله ومنه.
|
(١٨)
مناظرة الخصوم
وكيفية الاستدلال عليهم
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
اعلم أن الطريق
إلى صحة ما يذهب إليه الشيعة الإمامية في فروع الشريعة فيما أجمعوا عليه هو
إجماعهم ، لأنه الطريق الموصل الى العلم ، فذلك هو على الحفيقة الدليل على أحكام
هذه الحوادث.
لأنا قد بينا في
مواضع كثيرة أن إجماع هذه الطائفة حجة ، وبينا العلة في ذلك والوجه المقتضي له.
وقد بينا كيفية
الطريق إلى معرفة إجماعهم على حكم الحادثة ، على تباعد ديارهم واختلاف أزمانهم ،
وشرحناه وأوضحناه ، فلا معنى لذكره هاهنا.
وليس يمتنع مع ذلك
أن يكون في بعض ما أجمعوا عليه من الاحكام ، ظاهر كتاب يتناوله ، أو طريقة تقتضي
العلم ، مثل أن يكون ما ذهبوا اليه هو الأصل في العقل ، فيقع التمسك به ، مع فقد الدليل
الموجب للانتقال عنه.
أو طريقة قسمة ،
مثل أن تكون الأقوال في هذه الحادثة محصورة ، فإذا بطل ما عدا قسما واحدا من
الأقسام ، ثبت لا محالة ذلك القسم ، وكان الدليل على
صحته بطلان ما
عداه.
فان اتفق شيء من
ذلك في بعض المسائل ، جاز الاعتماد عليه من حيث كان طريقا الى العلم ، وصار نظيرا
للإجماع الذي ذكرناه في جواز الاعتماد عليه.
هذا فيما اتفقوا
عليه من المذهب ، فأما ما اختلفوا فيه : فقال بعضهم في الحادثة بشيء ، وقال آخرون
بخلافه. فلا يخلو من أن يصح دخوله تحت بعض ظواهر القران ومعرفة حكمه من عمومه ،
فيعتمد على ذلك فيه.
أو أن يكون مما
يرجع فيه الى حكم أصل العقل ، فيرجع فيه اليه مع فقد أدلة الشرع، إذ يمكن فيه
طريقة القسمة وإبطال بعضها وتصحيح ما يبقى ، فيسلك ذلك فيه.
أو يكون جميع
الطرق التي ذكرناها فيه متعذرة ، فحينئذ يكون مخيرا بين تلك الأقوال التي وقع
الاختلاف فيها ، ولك أن تذهب وتفتي بأي شيء شئت منها ، لأن الحق لا يعدوها ،
لإجماع الطائفة عليها ، وقد فقد الدليل المميز بينها ، فلم يبق في التكليف الا
التخيير.
وأما ما لم يوجد
للإمامية فيه نص على خلاف ولا وفاق ، كان لك عند حدوثه أن تعرضه على الأدلة التي
ذكرناها ، من عمومات الكتاب وظواهره ، فقل ما يفوت تناول بعضها من قرب أو بعد له.
فان لم يوجد له
فيها دليل ، عرض على أصل العقل وعمل بمقتضاه. وان كانت طريقة القسمة فيه متأتية ،
عمل بها. فان قدرنا تعذر ذلك كله ، كنت بالخيار فيما تعمله فيه على ما ذكرناه.
وهذا الذي بيناه
هو طريق معرفة الحق في جميع أحكام الشرع ، ولم يبق الا كيف نناظر الخصوم في هذه
المسألة.
واعلم أن كل مذهب
لنا في الشريعة عليه دليل من ظاهر كتاب ، أو حكم
الأصل في العقل
وما أشبه ذلك ، فإنه يمكن مناظرة الخصوم فيه.
فأما ما لا دليل
لنا عليه الا إجماع طائفتنا خاصة ، فمتى ناظرنا الخصوم واستدللنا عليهم بإجماع هذه
الطائفة ، دفعوا أن يكون إجماعهم دليلا ، فيحتاج أن نبين ذلك بأن الامام المعصوم
في جملتهم ، وننقل الكلام إلى الإمامة ، ونخرج عن الحد الذي يليق بالفقهاء ويبلغه
إفهامهم.
وهذا الذي أحوجنا
الى عمل مسائل الخلاف ، واعتمدنا فيها على سبيل الاستظهار على الخصوم في المسائل
على القياس وأخبار الآحاد ، وان كنا لا نذهب إلى أنهما دليلان في الشرع ، ليتأتى
مناظرة الخصوم في المسائل من غير خروج لي أصول لا يقدرون على بلوغها.
غير أن الذي
استعملنا في ذلك الكتاب من الاعتماد على القياس وأخبار الآحاد في مناظرة الخصوم في
المسائل مما يدل على صحة مذاهبنا ولا يمكننا أن نعتقد له ومن أجله هذا المذهب.
وقد عزمنا الى أن
نبيح طريقا يجتمع لنا فيه إمكان مناظرة الخصوم ، وأنه يوصل لي العلم وطريق إلى
معرفة الحق ، وهو أن يقصد إلى المسألة التي يقع الخلاف فيها بيننا وبين خصومنا ،
إذا لم يكن لنا ظاهر كتاب يتناولها ، ولا ما أشبه ذلك من طريق العلم ، فنبنيها على
مسألة أخرى قد دل الدليل على صحتها.
فنقول : قد ثبت
وجوب القول بكذا وكذا ، لقيام الدليل الموجب للعلم عليه ، وكل من قال في هذه
المسألة بكذا ، قال في المسألة الأخرى بكذا ، والتفرقة بينهما في الموضع الذي
ذكرناه خروج من إجماع الأمة لا قائل منهم به مثال ذلك : أن يقصد إلى الدلالة على
وجوب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد من غير استيناف ماء جديد.
فنقول : قد ثبت
وجوب مسح [الرأس و] الرجلين على التضييق ، وكل
من قال بذلك قال
بإيجاب مسح الرأس والرجلين ببلة اليد ، والقول بوجوب مسح الرأس مضيقا مع نفي وجوب
المسح بالبلة خلاف الإجماع. وانما اخترنا بذكر التضييق ، لأن في الناس من يقول
بمسح الرجلين على التخيير ، ولا يوجب ما ذكرناه في المسألة الأخرى.
ولك أن تسلك مثل
هذه الطريقة فيما تريد أن تدل عليه من مسائل الخلاف التي يوافق فيها بعض الفقهاء
وان خالفها بعض آخر ، وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه بين ما يخالفنا
فيه الجميع ، مثل ما قد بينا من وجوب مسح الرأس ببلة اليد ، وبين ما يخالفنا بعض
ويوافقنا فيه بعض آخر ، [وأنه لا فرق في صحة استعمال هذه الطريقة فيه ، بين ما
يخالفنا فيه بعض ويوافقنا فيه بعض آخر ].
مثال ذلك أن نقول
: قد ثبت وجوب مسح الرجل مضيقا ، وكل من أوجب ذلك أوجب الترتيب في الوضوء أو النية أو الموالاة.
وهذا ترتيب صحيح
وبناء مستقيم ، لان كل من أوجب مسح الرجلين دون غيره يوجب النية والموالاة
والترتيب في الوضوء ، وانما يوجد من يوجب تلك الاحكام من الفقهاء من غير إيجاب مسح
الرجلين.
وليس في الأمة
كلها من يوجب مسح الرجلين مضيقا ، وهو لا يوجب ما ذكرناه ، لانه ليس يوجب مسح
الرجلين على الوجه الذي ذكرناه الا الإمامية وهم بأجمعهم يوجبون النية والترتيب
والموالاة في الوضوء.
ولك أن تبني بناء
آخر فتقول إذا أردت مثلا أن تدل على وجوب الترتيب في الوضوء: قد ثبت وجوب الموالاة
فيه على كل حال ، وكل من أوجب من الأمة
__________________
الموالاة على هذا
الوجه أوجب الترتيب ، لان مالكا وان أوجب الموالاة فإنه يوجبها على من أداه
اجتهاده إليها ، ويسقطها عمن أداه الاجتهاد الى خلافها ، وليس يوجبها على كل حال
إلا الإمامية.
وليس يجوز لك أن
تبني الموالاة على الترتيب في الاستدلال ، كما بنيت الترتيب على الموالاة ، وذلك
أن معنى ظاهر الكتاب يدل على وجوب الموالاة ، وهو آية الطهارة ، لأنه أمر فيها بغسل هذه الأعضاء ، والأمر بالعرف
الشرعي يدل على الفور.
فالاية تقتضي غسل
كل عضو عقيب الذي قبله ، وليس معنى في وجوب الترتيب مثل ذلك ، فإن آية الطهارة لا يوجب
بظاهرها الترتيب ، والواو غير موجبة له لغة ، وانما نقول في إيجاب الواو للترتيب
في الشرع في أخبار آحاد ، وليست عندنا حجة في مثل ذلك، فبان الفرق بين الأمرين.
وليس كذلك أن تبنى مسألة على أخرى ، وما دل على ما جعلته أصلا يدل
على الفرع ويتناله ، فان ذلك لا يصح ، لان العلم بحكم المسألتين يحصل في حالة
واحدة ، فكيف تبنى واحدة على الأخرى.
وانما يصح ن تبنى
مسألة على أخرى فيما ينفرد العلم بالأصل عن العلم بالفرع.
مثال ذلك : لا
يجوز أن تبنى القول بأن المذي لا ينقض الطهر على أن الرعاف أو القيء لا ينقضه ،
لأنا إنما ندل على أن الرعاف أو القيء لا ينقض الطهارة ، بأن نقض الطهارة حكم شرعي
لا يقتضيه أصل العقل.
__________________
ولا دليل في الشرع
يقطع به على أنه ناقض ، لان معول المخالفين في ذلك على قياس أو أخبار آحاد ، وليس
فيهما ما يوجب العلم ، وهذا بعينه قائم في المذي ، فكيف تبني أحد الأمرين على
الأخر؟ وليس ينفرد الأصل في العلم عن الفرع.
فان قيل : هذا
ينقض كما ما قدمتموه ، لان وجوب مسح الرجلين انما تعلمونه بإجماع الإمامية عليه ،
وهذا الإجماع بعينه قائم في جميع ما بنيتموه عليه.
قلنا : قد قدمنا
أن الطريق إلى معرفة صحة ما أجمعت عليه الإمامية هو إجماعهم ، وانما استأنفنا
طريقا يتمكن من مناظرة الخصوم به من غير انتقال الى الكلام في الإمامة ، فسلكنا ما
سلكناه من الطرق راجعة إلى إجماع الأمة ، كلها مما يتفق على أن حجة ، والا
فإجماعهم كاف لنا في العلم بصحة ما أجمعوا عليه.
على أنه غير منكر
أن يكون الشيعة ناظر في وجوب مسح الرجلين إلى الدلالة بالاية على ذلك ، من
غير أن يفكر في طريقة الإجماع من الطائفة ، فيعلم بالاية صحته من غير علم بما يريد
أن ينبه عليه من وجوب موالاة أو ترتيب أو غير ذلك ، لم يبتنى المسائل على الطريقة
التي ذكرناها ، ويصح بناؤه بصحة علمه بالأصل من غير أن يعلم الفرع.
ولهذه الجملة لا
يصح أن يبتنى أن الطلاق في الحيض لا يقع على أن الطلاق بغير شهادة لا يقع ، ولا
أنه بغير شهادة لا يقع على أن في الحيض لا يقع ، لأنا إنما نعلم الجميع بطريقة
واحدة ، وهي أن تأثير الطلاق حكم شرعي لا يثبت إلا بأدلة الشرع ، ولا دليل على
ثبوت الفرقة بالطلاق في الحيض ولا بغير شهادة ،
__________________
فيجب نفي ذلك كما [لا
] يجب نفي كل حكم شرعي لا دلالة في الشرع عليه.
فان قيل : ليس يصح
لكم على أصولكم طريقة النساء التي ذكرتموها ، وذلك أن إجماع الأمة عندكم انما يكون حجة
لدخول إجماع الإمامية فيه ، فإجماع الإمامية الذي قول الإمام في جملته هو الحجة في
الحقيقة.
إذا كان الأمر على
ذلك ، لم يصح للإمامي أن يكون طريقة بناء المسائل التي عددتموها على مسألة مسح
الرجلين يوجب له العلم بحكمة تلك المسائل ، وذلك أنه لا يصح أن يعلم أن التفرقة بين
وجوب مسح الرجلين وبين وجوب مسح الرجلين وبين وجوب مسح الرأس ببلة اليد ، ليس
بمذهب لأحد من الأمة ، إلا بعد أن يعلم أن الإمامية قد أجمعت على كل واحد منهما.
فإذا علم إجماع
الطائفة على المسألتين ، حصل له العلم بصحتهما معا ، من غير حاجة الى حمل واحدة
على أخرى ، فعاد الأمر الى أن هذه الطريقة التي استأنفتموها وقلتم أنها تصلح
للمناظرة مع الخصوم ، ويمكن أن تكون طريقا الى العلم أنها تختص بالمناظرة دون حصول
العلم.
قلنا : هذا لعمري
تدقيق شديد ، وتحقيق في هذا الموضع تام ، ولو صح أن هذه الطريقة انما تنفع في
المناظرة دون إيجاب العلم ، لكان في تحريرها وتهذيبها فائدة كثيرة ومزية ظاهرة ،
ويكون أكثر فائدة من طريق القياس التي تكلفنا الكلام فيها مع الخصوم للاستظهار.
وكذلك الكلام في أخبار الآحاد.
والفرق بينهما أن
طريقة القياس وأخبار الآحاد لا يمكن أن تكون طريقا
__________________
الى العلم بشيء من
الأحكام البتة ، والحال على ما نحن عليه من فقد دليل التعبد بهما.
وليس كذلك الطريقة
التي بنينا فيها بعض المسائل على بعض ورتبناها على الإجماع ، لأنه انما لم يكن
طريقا الى العلم لان العلم يسبق الى الناظر بصحة الحكم الذي بنيته لإجماع الإمامية
عليه ، ويحصل له قبل البناء.
ولو لم يسبق اليه
لكان البناء طريقا الى حصوله ، فإن إجماع الأمة على كل طريق الى العلم بصحة ما
أجمعوا عليه لو لم يسبقه إجماع الإمامية الذي عنده يحصل العلم وفيه الحجة ،
والقياس وأخبار الآحاد بخلاف ذلك ، لما تقدم ذكره.
غير أنه يمكن على
بعض الوجوه أن يكون هذه الطريقة تحصل بها العلم للإمامي ، وذلك أن العلم بأن قول
الامام هو على الحقيقة في جملة أقوال الإمامية دون غيرهم ليس بضروري ، والطريق
اليه الاستدلال.
ويمكن أن يحصل ذلك
لبعض الإمامية ، هو يعلم على الجملة أن قول الإمام الذي هو الحجة لا يخرج من أقوال
جميع الأمة ، فإذا علم أن الأمة كلها مجمعة على شيء علم صحته ، لدخول قول الحجة
فيه ، فيصح على هذا التقدير أن يكون الطريقة التي ذكرناها توجب العلم للإمامي
زائدا على إمكان مناظرة الخصوم لها.
فان قيل : هذا
يوجب أن تبنوا جميع مسائل الفقه على مسألة واحدة مما أجمعتم عليه، وتدلوا على صحة
كل المسائل التي يخالف فيها خصومكم ، بأن تردوا تلك المسائل الى هذه على الطريقة
التي ذكرتموها. وكان مسألة وجوب مسح الرجلين إذا صحت لكم بدليلها ، فقد صح لكم
سائر الفقه بالترتيب الذي رتبتموه وما تحتاجون الى تبديل المسائل التي تجعلونها
أصولا ولا تغيرها فلا معنى لذلك.
قلنا : الأمر على
ما قلتموه ، وما المنكر من ذلك؟ وما الذي يدفعه ويفسده؟ ثم نحن بالخيار أن نجعل
الأصل مسألة واحدة ، أو نبدل ذلك على حسب ما نختاره من وضوح دلالة الأصل أو
أشباهها.
فإن قيل : كيف ومسألة إلى أخرى وبناؤها عليها ولا نسبة بينهما ولا تشابه
، وهذه مثلا من الطهارة وتلك من المواريث ، وانما فعل الفقهاء ذلك فيما يناسب
ويقارب من المسائل.
فقالوا : ان أحدا
من الأمة ما فرق بين مسألة زوج وأبوين ومسألة امرأة وأبوين ، فمنهم من أعطى الأم
في المسألتين معا ثلث ما بقي ، ومنهم من أعطاها في المسألتين ثلث أصل المال.
وبدعوا ابن سيرين
في التفرقة بين المسألتين ، لأنه أعطى الأم في مسألة زوج وأبوين الثلث مما يبقى ،
وفي مسألة زوجة وأبوين ثلث كل المال.
وكذا قالوا : ان
أحدا من الأمة لم يفرق بين من جامع ناسيا في شهر رمضان وبين من أكل ناسيا ، فمنهم
من فطرة بالأمرين ، ومنهم من لم يفطره بكل واحد من الأمرين.
وبدعوا الثوري في
تفرقته بين المسألتين وقوله ان الجماع يفطر مع النسيان والأكل لا يفطر ، فجمعوا
بين مسائل متجانسة ، وأنتم فقد سوغتم الجمع بين مالا تناسب فيه.
قلنا : لا فرق بين
المتجانس في هذه الطريقة وبين غير المتجانس ، لان المعتبر هو مخالفة الإجماع
والخروج عن أقوال الأمة ، وذلك غير سائغ ، سواء كان في متجانس من المسائل أو مختلف
، لان وجه دلالة المتجانس ليس هو كونه متجانسا ، وانما هو رجوعه إلى الإجماع على
الطريقة التي بيناها.
__________________
وإذا كان هذا
الوجه قائما بعينه فيما ليس بمتجانس كان وجه الدلالة قائما ، ولهذه العلة لا يفرق
بين أن يبتنى مسألة حظر على مسألة إباحة أو إباحة على حظر ، أو يبتنى نفيا على
إثبات أو إثباتا على نفي ، أو إيجابا على إباحة أو إباحة على إيجاب ، بعد أن يكون
طريقة الإجماع التي ذكرناها وأوضحناها في ذلك متأتية ، وانما ينظر من مثل هذا من
لا ينعم التأمل ويفطن بالعلل والمعاني.
فإن قيل : لم يبق
عليكم الا أن تدلوا على صحة الطريقة التي ذكرتموها في اعتبار الإجماع ، ففي ذلك
خلاف ، فبينوا أنه يجري مجرى أن يجمعوا على حكم واحد في أنه لا يجوز مخالفته.
قلنا : لا شبهة في
صحة هذه الطريقة على أحد من أهل العلم بأصول الفقه ، وأن مخالفة ما ذكرناه يجري
مجرى مخالفة ما أجمعوا فيه على حكم واحد في مسألة واحدة.
ألا ترى أنهم قد
بدعوا ابن سيرين والثوري لما خالف الإجماع ، وان كان في مسألتين وفي حكمين ،
وأجروه مجرى الخلاف في مسألة واحدة وحكم واحد.
وما اشتباه ذلك من
بعده عن الصواب الا كاشتباه الحال على من جوز إذا اختلف الأمة على أفاويل محصورة ،
أن يقول قائل بزائد عليها ، ما يدعى أن ذلك لا يجري مجرى إجماعهم على قول واحد ، فهو يد زائد أو يختلفوا على أقاويل ثلاثة ، فيقول قائل بمذهب رابع
، لأن في كلتي المسألتين قد خولف الإجماع وقيل بما اتفقوا على خلافه ، ومثل ذلك لا
يشتبه على ذوي النقد والتحصيل.
__________________
واعلم أنك إذا
سلكت مع الفقهاء في مسائل الخلاف في هذه الطريقة التي أشرنا إليها في الرجوع الى
أصل ما في العقل ضاقت عليهم الطريق في مناظرتك وقطعتهم بذلك عن ميدان واسع من
القياسات واعتماد أخبار الآحاد ، وحصرتهم بذلك حصرا لا يملكون معه قبضا ولا بسطا.
مثال بعض ما أشرنا
اليه وهو : أن يسأل عن إباحة نكاح المتعة؟
فنقول : قد ثبت أن
المنافع التي لا ضرر فيها عاجلا ولا آجلا في أصل العقل مباحة، ونكاح المتعة بهذه
الصفة فيجب إباحته.
فإن سالت الدلالة
على انتفاء الضرر عن هذا النكاح الذي فيه انتفاع لا محالة.
قلت : الضرر
العاجل يعرف بالعادات والأمارات المشيرة إليها ويعلم فقد ذلك ، والضرر الأجل انما
هو العقاب ، وذلك تابع للقبح. ولو كانت هذه المنفعة قبيحة يستحق بها العقاب ، لدل
الله تعالى على ذلك ، لوجوب اعلامه المكلف ما هذه سبيله.
فلم يبق بعد ذلك
الا أن يسأل الدلالة على أن المنافع التي صفتها ما ذكرناه في العقل على الإباحة ،
فينتقل من الكلام في الفروع إلى الأصول. ثم الدلالة على ذلك سهلة يسيرة ، أو يعارض
بقياس أو خبر واحد ، فلا يقبل ذلك ، لأنهما غير حجة عندك في الشرع.
فان انتقل الى
الكلام في التعبد بالقياس أو خبر الواحد ، كان أيضا منتقلا من فرع إلى أصل.
وإذا انتقل الكلام
الى ذلك ، كان أسهل وأقرب من غيره ، أو ليس كنا نسامح الخصوم في بعض الأزمان ، بأن
نقبل المعارضة منهم بالقياس أو خبر الواحد ، استظهارا أو استطالة عليهم ، فصار ذلك
من الواجب علينا ، بل المناقشة أولى وأضيق عليهم. فإذا أردت بعد ذلك أن نتبرع بما
يجب عليك من قبول ما
يعارضون به ،
والكلام عليه تغلب على بصيرة وبعد بيان وإيضاح.
وكذلك متى سلكت
معهم في بعض مسائل الخلاف الاعتماد على ظاهر كتاب.
ومثال ذلك : أن
يستدل على إباحة نكاح المتعة بقوله (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ
مِنَ النِّساءِ) وبقوله تعالى (فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) وهذا الظاهر عام في نكاح المتعة. فإن الكلام يضيق عليهم ،
لأنهم إن عارضوا بقياس أو خبر واحد وليس لهم الا ذلك لم يتقبل منهم ذلك ، لان
مذهبك بخلاف ، فيقف الكلام ضرورة عليهم.
فان قيل : قد
بنيتم بناء المسائل على الإجماع ، وبنيتم كيف يستدل أيضا بالأصل في العقل وبظواهر
الكتاب ، فاذكروا أمثلة طريقة القسمة التي ذكرتم أنها طريقة صحيحة ، ومما يعتمد
عليه في إيجاب العلم في مناظرة الخصوم.
قلنا : مثال هذه
الطريقة أن من قال لزوجته : أنت علي حرام.
فقد اختلف أقوال
الأمة فيه ، فمن قائل : انه طلاق بائن أو رجعي. ومن قائل : إنه ظهار. وقال قوم :
هو يمين.
وقال قوم وهو الحق
: انه لغو ولا تأثير له والمرأة على ما كانت عليه ، وهذا قول الإمامية وصح مذهبهم
، لانه ليس بعد إبطال تلك المذاهب.
وطريق إبطال ما
عدا مذهب الإمامية الواضح أن نقول : كونه طلاقا بائنا ، أو رجعيا ، أو ظهارا ، أو
يمينا أحكام شرعية ، والحكم الشرعي لا يجوز إثباته إلا بدليل شرعي ، ولا دليل على
ذلك ، فإن الذي سلكه القوم في ذلك من القياس ليس بصحيح ، لانه مبني على التعبد
بالقياس ولم يثبت ذلك ، فإذا بطلت تلك
__________________
الأقسام صح ما
عداها.
ولك أيضا أن
تبطلها بأن تقول : لفظة «حرام» ليس في ظاهرها طلاق ولا طهار ولا يمين ، فكيف يفهم
منها ما ليس في الظاهر ، وهل حملها على ذلك والظاهر لا يتناوله الا كحملها على ما
لا يحصى مما لا يتناوله الظاهر.
واعلم أنه لا خفاء
على أحد أن بما أوضحناه ونهجناه قد وسعنا الكلام لمن أراد أن يناظر الخصوم في جميع
مسائل الخلاف التي بيننا وبينهم غاية التوسعة ، وقد كان يظن أن ذلك يضيق على من
نفى القياس ولم يعمل بخبر الواحد.
فلا مسألة الا
ويمكن أصحابنا على الطرق التي ذكرناها أن يناظروا خصومهم فيها ، لأن مسألة الخلاف
لا يخلو من أن يكون خصومنا القائلين فيها بالحظر ونحن بالإباحة ، أو نحن نذهب الى
الحظر فيها وهم على الإباحة ، أو يكون خصومنا هم الذاهبين فيها الى ما هو عبارة
وحكم شرعي ونحن ننفي ذلك ، أو يكون نحن المثبتين للحكم الشرعي وهم ينفون ذلك.
فدللنا على بطلان
قولهم وصحة مذهبهم في هذه المسألة التي نقول فيها بالإباحة وهم بالحظر أن
الأصل في العقل الإباحة ، فمن ادعى حكما زائدا على ما في العقل ، فعليه الدليل
الموجب للعلم. وإذا أوردوا قياسا أو خبر واحد أعلموا أن ذلك ليس بجهة للعلم ولا
موجب للعمل.
مثال ذلك : ما
تقدم ذكره من الخلاف في إباحة نكاح المتعة ، وما نحلة من لحوم الأهلية ويحرمونه ،
ونبيحه من خطإ المطلقة بلفظ واحد والاستمتاع بها ويحظرونه. وأمثلته أكثر من أن
تحصى.
وهذه الطريقة نسلك
إذا كان الخلاف معهم في إثبات عبادة أو حكم شرعي ، ونحن ننفي ذلك ، لان الأصل في
العقل نفي ما أثبتوه فعليهم الدليل ، ولا
__________________
يقبل القياس ولا
أخبار الآحاد لما تقدم ذكره.
مثال ذلك : أنهم
يثبتون القيء والرعاف والمذي ومس الذكر أو المرأة ناقضا للطهارة ، وذلك حكم شرعي
خارج عن أصل ما هو في العقل ، فعلى مثبت ذلك الدليل. وكذلك إذا أثبتوا الزكاة في
الحلي وفي الذهب والفضة وان لم يكونا مطبوعين ، وأمثلة ذلك أكثر من أن تحصى.
وأما إذا كان
الحظر في جهتهم وإثبات العبادة أو الحكم الشرعي هو مذهبنا وهم ينفون ذلك ، كما
نقوله في تحريم الشراب المسكر ، وإيجاب التشهدين الأول والثاني ، والتسبيح في
الركوع والسجود ، وإيجاب الوقوف بالمشعر الحرام ، وأمثلة ذلك أيضا أكثر من أن تحصى
وأنت منتبه عليها.
فحينئذ يجب الفرع الى الطريقة التي ذكرناها ، وهو أن يقصد مسألة من المسائل
التي قد دلت عليها دليل يوجب العلم من ظاهر كتاب أو غيره.
فنقول : قد ثبت
كذا في هذه المسألة ، وكل من ذهب الى ذاك فيها ذهب في المسألة الفلانية تذكر
المسألة التي تريد أن تدل عليها كذا ، والتفريق بينهما خلاف الإجماع على ما شرحناه
فيما تقدم.
فقد بان أنه لا
يعزل طريق يسلكه مع الخصوم في كل مسائل الخلاف.
فقد بينا على
كيفية ما يعمله في جميع المسائل.
__________________
|
(١٩)
مسألة في أحكام أهل
الآخرة
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
قال [المرتضى ] رضي الله عنه :
سألت بيان أحكام
أهل الآخرة في معارفهم وأحوالهم ، وأنا ذاكر من [ذلك ] جملة وجيزة :
اعلم أن لأهل
الآخرة ثلاث أحوال : حال ثواب ، وحال عقاب ، وحال أخرى للمحاسبة. ويعمهم في هذه
الأحوال الثلاث سقوط التكليف عنهم ، وان معارفهم ضرورية ، وانهم ملجئون الى
الامتناع من القبيح وان كانوا مختارين لأفعالهم مؤثرين لها ، وهذا هو الصحيح دون
ما ذهب اليه من خالف هذه الجملة.
والذي يدل على
سقوط التكليف عن أهل الثواب منهم ، فهو أن الثواب
__________________
شرطه وحقه أن يكون خالصا غير مشوب ولا منغص ، ومقارنة التكليف للمثاب يخرجه عن صفته التي لا بد أن
يكون عليها.
فان قيل : فهبوا
أن هذا يتم في أهل الجنة الذين هم مثابون ، فمن أين زوال التكليف عن أهل النار أو
عن أهل الموقف؟
قلنا : [الجواب ] الصحيح عن هذا السؤال أنا إذا علمنا زوال التكليف عن أهل
الجنة بالطريقة التي ذكرناها علمنا زواله عن أهل العقاب وأهل الموقف بالإجماع ،
لأن أحدا من الأمة لا يفصل بين أحوال [أهل ] الآخرة في كيفية المعارف وزوال التكليف.
وهذا الوجه أولى
مما يمضي في الكتب من أن أهل الآخرة بين مناب أو معاقب أو مساءل يحاسب ، ولو كانوا مكلفين لجاز أن يتغير
أحوال [أهل العقاب الى الثواب وأحوال [أهل ] الثواب الى العقاب ، وان يصيروا دون المؤمنين حالا في
الثواب بمنزلة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في منازله في ثوابه .
وانما قلنا انه
أولى منه ، لان العقل لا يمنع مما ذكروه من تغير أحوال
__________________
[أهل ] الآخرة في الثواب والعقاب ، وان منع [من ] ذلك سمع أو إجماع ، عول عليه في المنع منه ، والا فقد كان
مجوزا.
وليس لأحد أن يقول
: كيف [يكون ] أهل الآخرة مكلفين وليس لهم دواع مترددة ، والشبهة لا
تدخل عليهم ، والتكليف انما يحسن تعريضا للثواب و [الثواب ] لا يستحق مع توفر الدواعي وامتناع دخول الشبهة.
فالجواب عن هذه
الشبهة : انه غير ممتنع دخول الشبهة على أهل الآخرة ، فيصح أن يكلفوا ، لأنهم في
معاينتهم تلك الأحوال والآيات يجرون مجرى من شاهد المعجزات العظيمة للأنبياء عليهمالسلام في أنه مكلف ، ويجوز دخول الشبهة عليه.
وأما الذي يدل على
أن أهل الآخرة لا بد أن يكونوا عارفين بالله تعالى وأحواله ، فهو أن المثاب متى لم
يعرفه تعالى ، لم يصح منه معرفة كون الثواب ثوابا وواصلا اليه ، على الوجه الذي يستحقه ، وانه دائم غير منقطع ، وإذا كانت هذه المعارف واجبة فما
لا يتم هذه المعرفة إلا به من معرفة الله تعالى وإكمال العقل وغيرهما لا بد من حصوله.
__________________
وانما قلنا بوجوب
حصول هذه المعارف لان المثاب متى لم يعرف أن الثواب واصل اليه على
سبيل الجزاء عما فعله من الطاعات لم يعلم أنه قد وفي حقه وفي له بما عرض له من التكليف الشاق ، ولان كون الثواب ثوابا مفتقر الى العلم بقصد فاعله الى التعظيم به، والعلم
بالقصد يقتضي العلم بالقاصد ، والعلم بدوام الثواب أيضا زائد في لذة المثاب وناف
للتكدير والتنغيص بجواز انقطاعه ، ومعلوم أنه لا يتم العلم بدوامه الا بعد
المعرفة بالله تعالى.
والقول في المعاقب
يقرب من القول [في ] المثاب ، لانه يجب أن يعرف أن إلا لام الواصلة اليه على
سبيل العقاب ، فيعلم أنها مستحقة وواقعة على وجه الحسن ، ويعلم قصد القاصد الى
الاستحقاق بها كما قلناه في باب الثواب والقصد الى التعظيم به ، ويعلم أيضا دوامه
، فيكون ذلك زائدا في إيلامه والإضرار به وهذا كله لا يتم الا بعد المعروفة بالله تعالى وأحواله
فيجب حصولها.
فان قيل : فمن أين
[علمتم ] أن أهل الموقف يجب أن يكونوا عارفين بالله تعالى وليس يتم
فيهم ما ذكرتموه في أهل الثواب والعقاب في وجوب المعرفة بالله تعالى.
قلنا : [أهل
الموقف يجرون مجرى أهل الثواب والعقاب ] في وجوب
__________________
المعرفة بالله
تعالى ، لأن الفائدة في المحاسبة والمساءلة والمواقفة هي حصول السرور واللذة
لأهل الثواب ، والألم والحسرة لأهل العقاب ، فلا بد [من ] أن يعرفوا الله عزوجل ليعلموا ما ذكرناه ، ولان نشر الصحف والمحاسبة والمساءلة أفعال واقعة على وجه الحكمة ، ولا يجوز أن
يعرفوا وقوعها على هذا الوجه من الحسن والحكمة إلا بعد معرفتهم بالله تعالى وأحواله ، ومتى لم يعرفوه جوزوا فيها خلاف ما بني عليه من وجوه الحكمة.
وإذا وجب في أهل
الآخرة أن يكونوا عارفين بالله تعالى لم تخل حالهم في هذه المعرفة من وجوه : اما
أن يكونوا مكتسبين لها ومستدلين عليها ، أو يكونوا ملجئين إليها والى النظر المولد
لها ، أو يكونوا مضطرين إليها والى النظر المولد لها ، ولا يجوز أن يكونوا مكتسبين
لهذه المعرفة ، لأن ذلك يقتضي كونهم مكلفين ، وقد بينا أنهم غير مكلفين ، ولا يجوز
أن يكونوا [مكتسبين ] لها على سبيل التذكر كما يفعله المنتبه عن نومه عند
انتباهه في أنه يفعل اعتقادا لما كان عالما ، فيكون له علوما لأجل التذكر.
__________________
وذلك [أن ] هذا الوجه لا يخرجون معه من جملة التكليف ، لأنهم وان
كانوا عند التذكر لا بد أن يفعلوا الاعتقادات التي تصير علوما والشبه متطرقة عليهم
ويجوز دخولها فيما علموه ، فلا بد أن يكلفوا دفعها والتخلص منها ، فالتكليف ثابت
أيضا على هذا الوجه.
على أن هذا الوجه
انما يتطرق فيمن كان عارفا بالله تعالى في دار الدنيا ، وأما من لم يكن عارفا [به ] فلا يتأتى منه.
فان قيل : هؤلاء
الذين كانوا في الدنيا لا يعرفون الله تعالى يعرفونه في الآخرة ضرورة.
قلنا : بالإجماع
نعلم ضرورة أن معارف أهل الآخرة متساوية في طريقها غير مختلفة ، ولا يجوز أن
يكونوا ملجئين إلى المعرفة ولا الى النظر المولد للمعرفة ، لأن إلا لجاء إلى أفعال القلوب لا يصح الا منه تعالى لانه المطلع على
الضمائر ، ولا يصح أن يكون تعالى ملجئا لهم الا مع تقدم معرفتهم به وبأحواله ، لأنه إنما يلجئهم الى الفعل بأن يعلمهم بأنهم متى حاولوا العدول عنه منعهم منه ، وذلك يقتضي كونهم
عارفين به تعالى وبصفاته.
على ان الإلجاء
إلى المعرفة أيضا لا يصح ، لأنه إنما يلجئ الى الاعتقادات المخصوصة، بأن يعلم
الملجإ أنه يمنعه متى رام غيرها. وأكثر ما في ذلك أن
__________________
يقع من هذا الملجإ
تلك الاعتقادات ، فما الذي يقتضي كونها علوما ومعارف؟ ولا وجه يقضي ذلك من الوجوه
المذكورة التي يصير الاعتقاد لها علما.
ولا يجوز أن يكون
تعالى مضطرا لهم الى النظر المولد للمعرفة ، لان ذلك جار مجرى العبث الذي لا فائدة
فيه لان الغرض هو المعرفة ، والاضطرار إليها يغني عن الاضطرار الى سببها ، على ان
في النظر مشقة وكلفة ، وذلك ينافي صفة أهل الثواب في الآخرة ، وإذا وجب في معرفة
أهل الثواب منهم الاضطرار وجب ذلك في معارف الجميع من الوجه الذي بيناه.
فان قيل : دلوا على أن [في ] مقدوره تعالى علما يفعله في غيره ، فيكون ذلك الغير به
عالما ، فان كلامكم مبني على أن ذلك مقدور غير ممتنع.
قلنا : لا بد من
كون ذلك في مقدوراته تعالى ، [لأنه ] لو لم يكن له مقدور لوجب في أجناس الاعتقادات على
اختلافها أن تكون خارجة من مقدور الله تعالى ، لانه لا يوصف تعالى بالقدرة على علم
يكون به هو تعالى عالما ، وإذا كان لا يوصف بالقدرة على علم يكون غيره به عالما ،
فيجب أن يكون جنس العلوم من الاعتقادات خارجا عن مقدوره، وهذا يقتضي أن يكون غيره
من المحدثين أقدر منه وأكمل حالا في القدرة ، لأنا نقدر على هذه الأجناس ، وإذا ثبت انه تعالى أقدر منا وأنه لا يجوز أن
نقدر على جنس لا يقدر هو تعالى عليه ، ثبت
__________________
أنه لا بد أن يكون
قادرا على جنس العلوم.
ولهذا كفر أبو
القاسم البلخي في هذه المسألة ، وقيل له [إنك ] مصرح بأنا أقدر منه ، ولا يلزم على هذا ما نقوله كلنا من
أنه لا يوصف بالقدرة على الجمع بين الضدين ، وأن يفعل في نفسه الحركة ، وما أشبه
ذلك ، لان هذا كله غير مقدور في نفسه من حيث لا يقدر عليه من القادرين أحد ، وليس
كذلك قبيل الاعتقادات ، لانه مقدور في نفسه لمن هو انقص حالا من القديم تعالى في
باب القدرة ، فأولى وأحرى أن يكون تعالى قادرا عليه.
فان قيل : فإذا
كان التكليف زائلا عنهم فكيف أمرهم تعالى بقوله (كُلُوا وَاشْرَبُوا
هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ).
قلنا : قيل ان هذا
اللفظ وان كان صيغة الأمر فليس بأمر على الحقيقة بل يجري مجرى الإباحة ، والإباحة لها صورة
الأمر ، فقيل أيضا انه أمر وانه تعالى أراد من أهل الجنة الأكل والشرب
على سبيل الزيادة في ملاذهم وسرورهم لا على سبيل التكليف.
فان قيل : فكيف
تقولون في شكر أهل الجنة لنعم الله تعالى ، أو ليس هو لازم لهم؟
__________________
قلنا : [أما ] ما يرجع الى القلب من الشكر ، فهو يحصل في قلوبهم ضرورة ،
لأنه يرجع الى الاعتقادات ، وما يرجع الى اللسان منه فلا كلفة فيه ، وربما كان
مثله في اللذة لان أحدنا يلتذ ويسر بالتحدث بنعم الله عليه ، لا سيما إذا
كان وصولها اليه بعد شدة ومدى طويل من الزمان.
وأما أفعال أهل
الجنة فالصحيح إنها واقعة منهم على سبيل الاختيار وان كانوا ملجئين الى الامتناع
من القبح ، بخلاف ما قاله أبو الهذيل فإنه كان يذهب الى أن أفعالهم ضرورية.
والذي يدل على صحة
ما اخترناه أنه لا بد أن يكونوا مع كمال عقولهم ومعرفتهم بالأمور ممن يخطر القبيح
بقلبه ويتصوره وهم قادرون عليه لا محالة ، ولا يجوز أن يخلي بينهم وبين فعله ، فلا
يخلون من أن يمنعوا من فعل بأمر وتكليف أو بإلجاء على ما اخترناه ، أو بأن يضطروا
الى خلافه على ما قاله أبو الهذيل. [ولا يجوز أن يكونوا مكلفين لما تقدم ذكره، ولا
مضطرين على ما قاله أبو الهذيل ] لان المضطر مستنغص اللذة غير خال من تنغيص وتكدير لكونه مضطرا ، ولان التصرف
على اختياره فيما يتناول [ما يشتهيه ] وينقله من حال
__________________
الى حال باختياره
أزيد في لذاته وأدخل في تمتعه وسروره [ولذته ] وانما يرغب الله تعالى في اللذات الواصلة في الجنة على
الوجه المعتاد في الدنيا ، فلم يبق بعد ذلك الا أنهم يلجئون الى الامتناع من
القبيح ، والا جاز وقوعه منهم.
وأما ما ظن أبو
الهذيل أنهم متى لم يكونوا مضطرين إلى أفعالهم كانت عليهم فيها مشقة وهم من حيث
تكلفوا الافعال ، وقد رأى أن قوله بذلك أدعى الى تخليص الثواب من الشوائب.
فقد بينا أن الذي
ينغص اللذة هو كونهم مضطرين لا مختارين ، وان نيل الملتذ ما يناله من اللذات باختياره وإيثاره أكمل للذته وأقوى لمنفعته.
وأما الكلفة في الأفعال ، فهي مرتفعة عنهم ، لأنهم ينالون ما يشتهون على وجه لا
كلفة فيه ولا تعب ولا نصب.
فان قيل : فهذا
يبين كون أهل الثواب غير مضطرين ، فما تقولون في أهل العقاب وأهل الموقف؟.
قلنا : أما أهل
العقاب فكونهم مختارين لأفعالهم أشد تأثيرا في إيلامهم والإضرار بهم ، لأنهم إذا
لم يتمكنوا مع كونهم مختارين أن يدفعوا ما نزل بهم من الضرر ، كان ذلك أقوى
لحسراتهم وأزيد في غمهم. وأما أهل الموقف فبالإجماع يعلم أن أفعالهم كأفعال أهل الجنة وأهل النار ، لأن أحدا لم
__________________
يفرق بين الجميع.
فان قيل : فإذا
قلتم أنهم ملجئون الى ألا يفعلوا القبيح فقد ثلم من ذلك كونهم مختارين لأفعالهم
على بعض الوجوه.
قلنا : انما
يلجئون الى ألا يفعلوا القبيح خاصة ، فالالجاء انما يكون فيما لا يفعلونه ، فأما
ما يفعلونه فهم فيه مخيرون ، لأنهم يؤثرون فعلا على غيره وينقلون من حال إلى أخرى بعد ألا يكون في
أفعالهم شيء من القبيح. وليس يمتنع أن يكون الملجإ من وجه مخيرا [كذلك ] من آخر ، لانه من الجأه السبع إلى مفارقة مكان بعينه هو
مخير في الجهات المختلفة والطرق المتغايرة ، فالتخير ثابت وان كان ملجأ من بعض
الوجوه ، وليس يجب أن يلحقهم غم ولا حسرة من حيث الجئوا الى ألا يفعلوا القبيح ، لأنهم مستغنون عنه بالحسن ، فلا
غم ولا حسرة في الإلجاء إلى مفارقة القبيح .
وهذه الجملة كافية
لمن اطلع عليها. والله الموفق للصواب.
__________________
|
(٢٠)
مسألة في توارد
الأدلة
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
مسألة
وجدت كل المتكلمين
قالوا في كتبهم ، حتى سيدنا (كبت الله أعداءه) الذي هو امامهم والكاشف عما يلبس
عليهم ، أن من شروط النظر المؤدي إلى العلم ، أن يكون الناظر شاكا في مدلول. [و]
هذا القول يوجب أن يكون العالم بحدوث الأجسام من جهة دليل الاعراض ، العالم بأن
الإدراك الا يتناول الأخص الأوصاف ، ولا يعلم بدليل أبي علي بن سينا بدلا يمكنه
النظر فيه.
ونحن نعلم أن من
لا يعلم أن الموجود إذا لم يكن قديما ، فلا بد كونه محدثا غير كامل العقل.
على أنهم قالوا
أيضا حتى سألوا نفوسهم ، فقالوا : ما وجه ترادف الأدلة على المدلول الواحد ، وجهته
: أنا نعلم أنها مما لو سبقنا إليها لوجدت العلم.
__________________
مع قولهم انا لا
نفرق بين الدليل والشبهة إلا بعد توليد الدليل للعلم ، فكيف يعلم أنها لا يمكننا
النظر فيها ولا يولد لنا علما أبدا.
فان قيل : انه إذ
نظر غيرنا فيها اضطرنا إلى أنه علم بمدلولها ، فعلمنا أنها أدلة.
أمكن له [أن ] يقال : انه لا سبيل الى أن يعلم أحدنا عالما ، وان جاز أن
يعلمه معتقدا ، وإذا لم يعلمه عالما فلا سبيل الى ما ذكروه.
الجواب :
اعلم أنه لا شبهة
في القول بأن من علم شيئا من المعلومات بدليل نظر فيه أوجب له العلم ، لا يصح أن
يعلمه بدليل آخر ، إذا اجتمع مع القول بأن وجه النظر في الأدلة المترادفة مع تقدم
العلم بالمعلوم ، انما هو ليعلم أن ذلك المنظور فيه دليل مناقضته.
وقول بيننا في أن الدليل انما يعلم دليلا إذا حصل عنده العلم فكيف
يجوز أن يعلم في الدليل الثاني إذا نظرنا فيه انه دليل وما حصل لنا عنده علم.
والذي يقوى في
النفس أن يقال : ان من نظر في شيء يعلمه من طريق الدليل ، قد يجوز أن ينظر في دليل
آخر يفضي الى العلم به ، ويكون عالما به من طريقين.
مثال ذلك : أن
ينظر في طريق إثبات الاعراض ، ويستدل بها على حدوث الأجسام، فيعلم بهذه الطريقة أن
الأجسام محدثة ، ثم ينظر في الطريقة الأخرى يعتمد فيها على أن من شأن الإدراك أن
يتعلق في كل ذات مدركة بأخص أوصافها
__________________
والجسم لو كان
قديما لوجب إدراكه على هذه الصفة ، لأنها من أخص أوصافه ، فإذا علم ضرورة أنه لا
يدرك قديما ، فلا بد من العلم بحدوثه.
وهذه الطريقة
مبنية على مقدمات :
منها : أن الجسم
مدرك.
ومنها : أن من شأن
الإدراك أن يتعلق بأخص أوصاف الذات المدركة.
ومنها : أن الجسم
لو كان قديما لكان كونه بهذه الصفة من أخص أوصافه.
ومنها : أن لا يدرك قديما.
فمتى علم بالتأمل
صحة هذه المقدمات ، فلا بد أن يفعل لنفسه اعتقادا ، لان الجسم ليس بقديم ، وإذا لم
يكن قديما وهو موجود ، فلا بد من كونه محدثا.
وانما قلنا انه مع
صحة تلك المقدمات وعلمه بها لا بد أن يفعل اعتقادا لانه ليس بقديم. أن مجموع ما
ذكرناه ملجئ له الى فعل هذا الاعتقاد ، كما أن من علم في ذات أنها لم يسبق ذواتا
محدثة ملجأ إلى اعتقاد كونها [كذلك] ومن علم في فعل له صفة الظلم ملجأ بما استقر
في عقله من قبح ماله هذه الصفة إلى فعل اعتقاد لقبحه ، ويكون ذلك الاعتقاد علما ،
لوقوعه على الوجه الذي ذكرناه.
فان قيل : كيف
ينظر في حدوث الجسم بالدليل الثاني وهو عالم بحدوثه بالدليل الأول، والعلم بالشيء
يمنع من النظر فيه ، ولو جاز أن ينظر فيما علمه ، لجاز أن ينظر في المشاهدات.
قلنا : ليس نظره
في الدليل الثاني على الحقيقة نظرا في صدور الجسم ، فيلزم أن يكون شاكا في حدوثه ، وانما ينظر في
مقدمات الدليل الثاني التي منها
__________________
أن من شأن الإدراك
أن يتعلق بأخص أوصاف المدرك ، ومنها أن الجسم لو كان قديما لكان كونه كذلك من أخص
أوصافه ، وغير ذلك مما قد بيناه.
وإذا نظر في شيء ،
فيجب أن يكون شاكا في متناول الإدراك وسائر مقدمات الدليل وعلى بالدليل الأول حدوث الأجسام لا يمنع من شكه في مقدمات
الدليل الثاني. وانما يمنع على الوجه الصحيح أن يكون ناظرا في شيء وهو عالما به ، أن النظر لا يتعلق من المنظور فيه بوجه معين ، بل
يتعلق بهل الصفة ثابتة أم منتفية ، فكأنه يمثل من الأمرين ، ويجب عن إدراكهما
الثابت ، فلا بد من الشك مع ذلك ، لان العلم والقطع ينافيان وجه تعلق النظر.
فهذا هو المانع من
نظر الناظر فيما يعلمه ، لا يذكر في الكتب من النظر في المشاهدات.
لان لقائل أن يقول
: انما لا يصح أن ينظر في المشاهدات ، لانه دليل يفضي الى العلم بها ، ولو لا أن
النظر في الدليل الثاني يحصل عنده علم بالمدلول عليه ، لوجب أن يكون من علم حدوث
الأجسام بدليل إثبات الاعراض ، ثم نظر في الطريقة الأخرى المبنية على كيفية يتناول
الإدراك متى عرض له شك في إثبات الاعراض ، أن يخرج من أن يكون عالما بحدوث الأجسام
، لان شكه في حدوث الأجسام يؤثر في علمه بحدوثها من هذا الطريق بدلالة أنه لو
انفرد كونه ناظرا بهذا الدليل دون غيره حتى يشك في إثبات الأكوان أو حدوثها أو أن
الجسم لا يخلو منها يخرج من أن يكون عالما بحدوث الأجسام.
وقد علمنا أنه إذا
كان قد نظر في الطريقة الثانية ، ثم شك في إثبات الأكوان ، لا يخرج من أن يكون
عالما بحدوث الأجسام ، فلو لا أن الطريقة الثانية قد
__________________
اقتضت حصول علم له
بالمدلول ، لما وجب مع الشبهة في الدليل الأول أن يستمر كونه عالما ، وهذا أوضح.
فإن قيل : كيف
يعلم في الدليل الثاني أنه دليل ، وهو لا يتميز له حصول العلم له من جهته ، لأنه
إذا كان عالما بحدوث الأجسام بالدليل الأول ، ثم نظر في الدليل الثاني ، وادعيتم
أنه يجب أن يفعل لنفسه عند تكامل صحة مقدمات الدليل الثاني اعتقاد حدوث الأجسام.
وهذا مما لا يتميز له ، لانه معتقد وعالم بحدوث الأجسام بالنظر الأول ، فكيف يعلم
أن الدليل الثاني دليل على الحقيقة. ولا يجري ذلك مجرى من لم يكن عالما بشيء ، ثم
نظر في دليل عليه فوجد نفسه عالما لم يكن عالما به ، لان هاهنا تمييز له حصول العلم بعد أن يكون حاصلا.
قلنا : الناظر قبل
أن ينظر في الدليل الثاني إذا تأمل مقدماته ، فلا بد أن يكون عالما بأنها من صحة ،
وعلم الناظر ذلك من حالها ، فإنه لا بد أن يفعل لنفسه علما بحدوث الأجسام ، وأنه
لا يجوز أن يتكامل له العلم بثبوت المقدمات وصحتها ، ولم يفعل لنفسه علما بحدوث
الجسم.
كما أنه يعلم قبل
النظر في طريقة إثبات الاعراض وحدوثها ، أنه متى علم الناظر أن الجسم بشيء ذواتا محدثة ، فلا بد أن يفعل لنفسه اعتقادا ، لانه
محدث ويكون ذلك الاعتقاد علما لهذا الوجه ، فكان العلم بأن الدليل دليل هو علم
بتعلقه بالمدلول على وجه مخصوص يفضي الى العلم.
ومن قال : ان
النظر في الدليل الثاني لا يحصل عنده علم ، بأن يقتضي يضيق عليه هذا الكلام.
__________________
ويقال له : ان
معنى قولك انه ينظر في الدليل الثاني أنه دليل لا يعلم المدلول عليه. فأنت تزعم أن
العلم بأن الدليل هو علم بالمدلول ، وإذا كان العلم عندك بأن الدليل دليل انما
يحصل بعد حصول العلم للناظر بالمدلول ، فهذا الناظر لا يعلم أبدا أن هذا الدليل
الثاني ، فلا بد أن يكون ما يمضي في الكتب من أن العلم بأن الدليل دليل ، وهو علم
بالمدلول فيه ضرب من التجوز والاختصار.
ويجب أن يقال : ان
العلم بأنه دليل لا بد أن يفارقه العلم بالمدلول ، والا فقد علم المدلول من لا
يعرف أن ذلك الدليل عليه ، وقد يجهل كون هذه الطريقة دالة على المدلول من يعلم
المدلول.
فالذي ذكرناه أوضح
وأتم.
والحمد لله رب
العالمين وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله الطاهرين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
|
(٢٠)
مسألة في تفضيل
الأنبياء عليهمالسلام
على الملائكة
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
[الحمد لله رب
العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين وسلم تسليما ].
اعلم أنه لا طريق
من جهة العقل الى القطع بفضل مكلف على آخر ، لان الفضل المراعى في هذا الباب هو
زيادة استحقاق الثواب ، ولا سبيل إلى معرفة مقادير الثواب من ظواهر فعل الطاعات ،
لان الطاعتين قد تتساوى في ظاهر الأمر حالهما وان زاد ثواب واحدة على الأخرى زيادة عظيمة.
وإذا لم يكن للعقل
في ذلك مجال فالمرجع فيه الى السمع ، فان دل سمع مقطوع به من ذلك على شيء عول عليه
، والا كان الواجب التوقف عنه والشك فيه.
__________________
وليس في القرآن
ولا في سمع مقطوع على صحته ما يدل على فضل نبي على ملك ولا ملك على نبي ، وسنين أن
آية واحدة مما يتعلق به في تفضيل الأنبياء على الملائكة عليهمالسلام يمكن أن يستدل بها على ضرب من الترتيب نذكره.
والمعتمد في القطع
على أن الأنبياء أفضل من الملائكة إجماع الشيعة الإمامية [على ذلك ] ، لأنهم لا يختلفون في هذا ، بل يزيدون عليه ويذهبون الى
أن الأئمة عليهمالسلام أفضل من الملائكة. وإجماعهم حجة لأن المعصوم في جملتهم.
وقد بينا في مواضع
من كتبنا كيفية الاستدلال بهذه الطريقة ورتبناه وأجبنا عن كل سؤال يسأل قد [فيها ] ، وبينا كيف الطريق مع غيبة الإمام إلى العلم بمذاهبه
وأقواله وشرحنا ذلك ، فلا معنى للتشاغل به هاهنا.
ويمكن أن يستدل
على ذلك بأمره تعالى الملائكة بالسجود لادم عليهالسلام ، وأنه يقتضي تعظيمه عليهم وتقديمه وإكرامه. وإذا كان
المفضول لا يجوز تعظيمه وتقديمه على الفاضل علمنا أن آدم عليهالسلام أفضل من الملائكة.
وكل من قال ان آدم
عليهالسلام أفضل من الملائكة ذهب الى أن جميع الأنبياء أفضل من جميع
الملائكة ، ولا أحد من الأمة فرق بين الأمرين.
__________________
فإن قيل : من أين
أنه أمرهم بالسجود [له ] على وجه التعظيم والتقديم؟
قلنا : لا يخلو
تعبدهم له بالسجود من أن يكون على سبيل القبلة والجهة من غير أن يقترن به تعظيم
وتقديم أن يكون على ما ذكرناه ، فان كان الأول لم يجز أنفة إبليس من السجود وتكبره عنه وقوله (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ
عَلَيَّ) وقوله (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ).
والقرآن كله ناطق
بأن امتناع إبليس من السجود انما هو لاعتقاده التفضيل به والتكرمة ، ولو لم يكن
الأمر على هذا لوجب أن يرد الله تعالى عليه ويعلمه أنه ما أمره بالسجود على جهة تعظيمه له [عليه ] ولا تفضيله ، بل على الوجه الأخر الذي لاحظ للتفضيل هو [والتعظيم]
فيه وما جاز إغفال ذلك ، و [يقع] سبب معصية إبليس وضلالته ، فلما لم يقع ذلك دل
على أن الأمر بالسجود لم يكن الا على جهة التفضيل والتعظيم ، وكيف [يقع ] شك في أن الأمر على ما ذكرناه وكل من أراد تعظيم آدم عليهالسلام ووصفه بما يقتضي الفخر والشرف نعته بإسجاد الملائكة ، وجعل
ذلك من أعظم فضائله ، وهذا مما لا شبهة فيه.
فأما اعتماد بعض
أصحابنا في تفضيل الأنبياء على الملائكة على أن المشقة
__________________
في طاعات الأنبياء عليهمالسلام أكثر وأوفر ، من حيث كانت لهم شهوات في القبائح ونفار عن [فعل
] الواجبات. فليس بمعتمد ، لأنا نقطع على أن مشاق الأنبياء أعظم من مشاق
الملائكة في التكليف ، والشك في مثل ذلك واجب وليس كل شيء لم يظهر لنا ثبوته وجب
القطع على انتفائه.
ونحن نعلم على
الجملة أن الملائكة إذا كانوا مكلفين فلا بد أن تكون عليهم مشاق في تكليفهم ، ولو لا ذلك ما استحقوا ثوابا على
طاعاتهم ، والتكليف انما يحسن في كل مكلف تعريضا للثواب ، ولا يكون
التكليف عليهم شاقا الا ويكون لهم شهوات فيما حظر عليهم ونفار عما أوجب [عليهم ].
وإذا كان الأمر
على هذا فمن أين يعلم أن مشاق الأنبياء عليهمالسلام أكثر من مشاق الملائكة؟ وإذا كانت المشقة عامة لتكليف
الأمة ، ولا طريق الى القطع على زيادتها في تكليف بعض وتفضيلها على تكليف آخرين ، فالواجب التوقف والشك.
ونحن الان نذكر
شبه من فضل الملائكة على الأنبياء عليهمالسلام ونتكلم عليها بعون الله تعالى :
فمما تعلقوا به في
ذلك قوله تعالى حكاية عن إبليس مخاطبا لادم وحواء
__________________
عليهماالسلام (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا
مِنَ الْخالِدِينَ) فرغبهما بالتناول من الشجرة [ليكونا ] في منزلة الملائكة حتى تناولا وعصيا ، وليس يجوز أن يرغب
عاقل في أن يكون على منزلة هي دون منزلته ، حتى يحمله ذلك على خلاف الله تعالى
ومعصيته ، وهذا يقتضي فضل الملائكة على الأنبياء.
وتعلقوا أيضا
بقوله تعالى (لَنْ يَسْتَنْكِفَ
الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) وتأخير ذكر الملائكة في مثل هذا الخطاب يقتضي تفضيلهم ، لأن العادة انما جرت بأن يقال : «لن يستنكف الوزير أن
يفعل كذا ولا الخليفة» فيقدم الأدون ويؤخر الأعظم ، ولم يجز أن يقول : «لن يستنكف
الأمير أن يفعل [كذا ] ولا الحارس» ، وهذا يقتضي تفضيل الملائكة على الأنبياء.
وتعلقوا بقوله
تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) قالوا : وليس بعد بني آدم مخلوق يستعمل في الخبر عنه لفظة «من»
التي لا تستعمل إلا في العقلاء الا الجن والملائكة ، فلما لم يقل «وفضلناهم على من
[خلقنا ]» بل
__________________
قال (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) علم أنه انما أخرج الملائكة عمن فضل بني آدم عليه ، لانه
لا خلاف في أن بني آدم أفضل من الجن ، وإذا كان وضع الخطاب يقتضي مخلوقا لم يفضل
بنو آدم عليه فلا شبهة في أنهم الملائكة.
وتعلقوا بقوله
تعالى (قُلْ لا أَقُولُ
لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ
إِنِّي مَلَكٌ) فلو لا أن حال الملائكة أفضل من حال النبي لما قال ذلك.
فيقال لهم فيما
تعلقوا به أولا : لم زعمتم أن قوله تعالى (إِلَّا أَنْ تَكُونا
مَلَكَيْنِ) معناه أن تصيرا وتنقلبا الى صفة الملائكة ، فإن هذه اللفظة ليست صريحة لما ذكرتم ،
بل أحسن الأحوال أن تكون محتملة له.
وما أنكرتم أن
يكون المعنى أن المنهي عن تناول الشجرة غير كما وأن النهي يختص الملائكة والخالدين
دونكما. ويجري ذلك مجرى قول أحدنا لغيره «ما نهيت أنت عن كذا الا أن تكون فلانا»
وانما يعني أن المنهي هو فلان دونك ، ولم يرد الا أن تنقلب فتصير فلانا. ولما كان
غرض إبليس إلقاء الشبهة لهما فمن أوكد الشبه ليهاما انهما لم ينهيا وانما المنهي غيرهما.
ومن وكيد ما يفسد
به هذه الشبهة أن يقال : ما أنكرتم أن يكونا رغبا في أن ينقلبا الى صفة الملائكة
وخلقتهم كما رغبهما إبليس في ذلك ، ولا تدل هذه الرغبة على أن
الملائكة أفضل منهما ، لان المنقلب إلى خلقه غيره لا يجب أن
__________________
يكون مثل ثوابه له
، فان الثواب لا ينقلب ولا يتغير بانقلاب الصور والخلق ، فإنه انما يستحق على الاعمال دون
الهيئات.
وغير ممتنع أن يكونا رغبا في أن يصيرا على هيئة الملائكة وصورها ، وليس
ذلك برغبة في الثواب ولا الفضل ، فان الثواب لا يتبع الهيئات والصور. ألا ترى
أنهما رغبا في أن يكونا نم الخالدين ، وليس الخلود مما يقتضي مزية في ثواب ولا
فضلا فيه ، وانما هو نفع عاجل ، وكذلك لا يمتنع أن تكون الرغبة منهما في أن يصيرا ملكين انما كانت على هذا الوجه.
ويمكن أن يقال
للمعتزلة خاصة وكل من أجاز على الأنبياء الصغائر : ما أنكرتم أن يكونا اعتقدا أن
الملك أفضل من النبي وغلطا في ذلك وكان منهما ذنبا صغيرا ، لان الصغائر تجوز عندكم على الأنبياء ، فمن أين لكم إذا اعتقدا أن الملائكة
أفضل من الأنبياء ورغبا في ذلك أن الأمر على ما اعتقداه مع تجويزكم عليهم الذنوب.
وليس لهم أن
يقولوا : ان الصغائر إنما تدخل في أفعال الجوارح دون القلوب ، لان ذلك تحكم بغير برهان ،
وليس يمتنع معنى هذا الحد في أفعال القلوب
__________________
كما لم يمتنع في أفعال الجوارح.
ويقال لهم فيما
تعلقوا به ثانيا : ما أنكرتم أن يكون هذا القول انما يوجه الى قوم اعتقدوا أن الملائكة أفضل من الأنبياء فأخرج
الكلام على حسب اعتقادهم ، وأخر ذكر الملائكة لذلك. ويجري هذا القول مجرى من قال [منا
] لغيره : «لن يستنكف أبي أن يفعل كذا ولا أبوك» ، وان كان القائل يعتقد أن
أباه أفضل ، وانما أخرج الكلام على [حسب ] اعتقاد المخاطب لا المخاطب.
ومما يجوز أن يقال
أيضا : انه لا تفاوت في الفضل بين الأنبياء والملائكة عليهمالسلام وان ذهبنا الى أن الأنبياء أفضل منهم ، ومع التقارب والتداني يحسن أن يؤخر ذكر الأفضل الذي لا تفاوت بينه وبين
غيره في الفضل ، وانما مع التفاوت لا يحسن ذلك. ألا ترى أنه يحسن أن يقول القائل : «ما
يستنكف الأمير فلان من كذا ولا الأمير فلان [من كذا]» ، وان كانا متساويين متناظرين أو متقاربين ، ولا يحسن أن يقول : «ما
يستنكف الأمير من كذا ولا الحارس» لأجل التفاوت.
وأقوى من هذا أن يقال
: إنما أخر ذكر الملائكة عليهمالسلام عن ذكر المسيح لان جميع الملائكة أكثر ثوابا لا محالة من
المسيح منفردا ، وهذا لا
__________________
يقتضي أن كل واحد
منهم أفضل من المسيح ، وانما الخلاف في ذلك.
ويقال لهم فيما
تعلقوا به ثالثا : ما أنكرتم أن يكون المراد بقوله تعالى (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير ، ولم يرد التبعيض.
ويجري ذلك مجرى قوله تعالى : (عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ
خَلَقْنا تَفْضِيلاً) أنا فضلناهم على من خلقنا وهم كثير ، ولم يرد التبعيض.
ويجري ذلك مجرى قوله تعالى (وَلا تَشْتَرُوا
بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً) والمعنى لا تشتروا بها ثمنا [قليلا ] وكل ثمن تأخذونه عنها قليل ، ولم يرد التخصيص والمنع من
الثمن القليل خاصة.
ومثله قول الشاعر
:
من أناس ليس في
أخلاقهم
|
|
عاجل الفحش ولا
سوء الجزع
|
وانما أراد نفي
الفحش كله عن أخلاقهم وان وصفه بالعاجل ، ونفي الجزع عنهم وان وصفه بالسوء.
وهذا من غريب
البلاغة ودقيقها ، ونظائره في الشعر والكلام الفصيح لا تحصر .
وقد كنا أملينا في
تأويل هذه الآية كلاما مفردا استقصيناه وشرحنا هذا الوجه وأكثرنا من ذكر أمثلته.
ووجه آخر في تأويل
هذه الآية ، وهو أنه غير ممتنع أن يكون جميع الملائكة عليهمالسلام أفضل من جميع بني آدم ، وان كان في جملة بني آدم من
الأنبياء
__________________
عليهمالسلام من يفضل كل واحد [منهم ] على كل واحد من الملائكة ، لأن الخلاف انما هو في فضل كل
بني آدم على كل ملك. وغير ممتنع أن يكون جميع الملائكة فضلاء يستحق
كل واحد منهم الجزيل الكثير من الثواب ، فيزيد ثواب جميعهم على ثواب جميع بني آدم، لأن
إلا فاضل من بني آدم أقل عددا ، وان كان في بني آدم آحاد كل منهم أفضل من كل واحد
من الملائكة.
ووجه آخر مما يمكن
أن يقال في هذه الآية أيضا : ان مفهوم الآية إذا تؤملت يقتضي أنه تعالى لم يرد
الفضل الذي هو زيادة الثواب ، وانما أراد النعم والمنافع الدنيوية. ألا ترى قوله
تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ) ، والكرامة انما هي الترفيه وما يجري مجراه. ثم قال (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ). ولا شبهة في أن الحمل لهم في البر والبحر ورزق الطيبات خارج
عما يستحق به الثواب ، ويقتضي التفضيل الذي وقع الخلاف فيه ، فيجب أن يكون ما عطف عليه من التفضيل داخلا في هذا الباب
وفي هذا القبيل ، فإنه أشبه من أن يراد به غير ما سياق الآية وارد به ومبني عليه.
وأقل الأحوال أن تكون لفظة «فضلناهم» محتملة للأمرين ، فلا يجوز
الاستدلال بها على خلاف ما نذهب اليه.
__________________
ويقال لهم فيما
تعلقوا به رابعا : لا دلالة في هذه الآية على أن حال الملائكة أفضل من حال
الأنبياء ، لأن الغرض في الكلام انما هو نفي ما لم يكن عليه ، لا
التفضيل لذلك على ما هو عليه. ألا ترى أن أحدنا لو ظن [به ] أنه على صفة وليس عليها جاز أن ينفيها عن نفسه بمثل هذا اللفظ وان كان على أحوال هي أفضل من تلك
الحال وأرفع.
وليس يجب إذا
انتفى مما تبرأ منه من علم الغيب وكون خزائن الله تعالى عنده أن يكون فيه فضل
أن يكون ذلك معتمدا في كل ما يقع النفي له والتبري منه ، وإذا لم يكن ملكا كما لم
يكن عنده خزائن الله جاز أن ينتفي من الأمرين ، من غير ملاحظة لان حاله دون هاتين
الحالتين.
ومما يوضح هذا
ويزيل الاشكال فيه أنه تعالى حكى عنه في آية أخرى (وَلا أَقُولُ
لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) ونحن نعلم أن هذه منزلة غير جليلة وهو على كل حال أرفع منها وأعلى ، فما المنكر من أن يكون
نفي الملكية عنه في أنه لا يقتضي أن حاله دون حال الملك بمنزلة نفي هذه المنزلة.
والتعلق بهذه
الآية خاصة ضعيف جدا ، وفيما أوردناه كفاية [وبالله التوفيق ]
__________________
|
(٢١)
مسألة في المنع عن
تفضيل الملائكة على الأنبياء
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
ان سأل سائل
مستدلا على فضل الملائكة على الأنبياء صلوات الله عليهم فقال : ما تنكرون أن يكون قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا
بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ
الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً) ، يدل على ذلك.
ووجه الدلالة منه
: أنه تعالى خبر بأنه فضل بني آدم على كثير ممن خلقه ، وظاهر هذا الكلام يقتضي أن
في خلقه من لم يفضل بني آدم عليه ، وقد علمنا أن المخلوقات هم الانس والجن
والملائكة والبهائم والجمادات. ومعلوم أن بني آدم أفضل من الجن والبهائم والجمادات
بلا شبهة ، فيجب أن يكون من يجب خروجه من الكلام ممن لم يفضل بني آدم عليهم هم
الملائكة عليهمالسلام والا سقطت الفائدة.
__________________
على أن لفظة «من»
لا تتوجه إلى البهائم والجمادات ، وانما تختص بمن يعقل ، فليس يدخل تحتها ممن يجوز
أن يفضل الآدميون عليه الا الملائكة والجن وإذا علمنا أنهم أفضل من الجن بقي
الملائكة خارجين من الكلام ، وفي خروجهم دلالة على أنهم أفضل.
الجواب :
يقال له : لم زعمت
أو لا أن ظاهر الكلام يقتضي أن في المخلوقات من لم يفضل بني آدم عليه ، فعلى ذلك
بنيت الكلام كله ، فإنه غير صحيح ولا يسلم. فان قال : ان لفظة «كثير» تقتضي ذلك.
قيل له : من أين
قلت انها تقتضي ما ادعيته ، ويطالب بالدلالة ، فإنا لا نجدها.
ثم يقال له : قد
جرت عادة الفصحاء من العرب بأن يستعملوا مثل هذه اللفظة من غير ارادة للتخصيص بل
مع قصد الشمول والعموم ، فيقولون : «أعطيته الكثير من مالي ، وأبحته المنيع من
حريمي ، وبذلت له العريض من جاهي» ، وليس يريدون أنني أعطيته شيئا من مالي وادخرت
عنه شيئا آخر منه ، ولا أبحته منيع حريمي ولم أبح ما ليس يمنعها ، ولا بذلت له عريض جاهي ومنعت ما ليس بعريض
، وانما المعزي بذلك والقصد : اننى أعطيته مالي ومن صفته أنه كير ، [وبذلت له جاهي
ومن صفته أنه عريض ].
وله نظائر في القرآن
كثيرة ، وفي أشعار العرب ومحاوراتها ، وهو باب معروف لا يذهب على من أنس بمعرفة
لحن كلامهم ، ونحن نذكر منه طرفا لان
__________________
استيعاب الجميع
يطول :
فمما يجري هذا
المجرى قوله تعالى (اللهُ الَّذِي رَفَعَ
السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها) ولم يرد أن لها عمدا لا ترونها بل أراد نفي العمد على كل حال.
وقال تعالى (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ
لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ) ، ولم يرد أن لأحد برهانا في دعاء مع الله تعالى ، بل أراد
أن من فعل ذلك فقد فعل مالا برهان عليه.
وقوله تعالى (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ
وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) ولم يرد تعالى أن فيمن يقتل من الأنبياء من يقتل بحق ، بل
المعنى ما ذكرناه وبيناه.
ومثله قوله (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً
قَلِيلاً) ، ولم يرد النهي عن الثمن القليل دون الكثير ، بل نهى
تعالى عن أخذ جميع الأثمان عنها والابدال ، ووصف ما يؤخذ عنها بالقلة.
وقال سويد بن أبي
كاهل :
من أناس ليس في
أخلاقهم
|
|
عاجل الفحش ولا
سوء الجزع
|
__________________
ولم يثبت بهذا
الكلام في أخلاقهم فحشا أصلا وجزعا غير سيئ ، وانما نفى الفحش والجزع على كل حال ،
ولو لا ذلك لكان هاجيا لهم ولم يكن مادحا.
وقال الفرزدق :
ولم تأت غير
أهلها بالذي أتت
|
|
به جعفرا يوم
الهضيبات عيرها
|
أتتهم بتمر لم
يكن هجرية
|
|
ولا حنطة الشام
المزيت خميرها
|
فقوله «لم يكن
هجرية» أي لم يحمل التمر الذي يكون كثير في هجر ، ولم يرد بباقي البيت أن هناك حنطة ليس في خميرها زيت ،
بل أراد بها لم يحمل تمرا ولا حنطة ، ثم وصف الحنطة بأن الزيت يجعل في خميرها.
ونظائر هذا الباب
أكثر من أن تحصى.
فعلى ما ذكرناه لا
ينكر أن يريد تعالى : انا فضلناهم على جميع من خلقنا وهم كثير ، فجرى ذكر الكثرة
على سبيل الوصف المعلق لا على وجه التخصيص وليس لأحد أن يخبر بقوله : «فعل كذا وكذا كثير من الناس» على سبيل التخصيص دون
العموم.
__________________
وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ
بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) وقوله تعالى (وَإِنَّ كَثِيراً
مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ) ، وذلك انا لم نقل ان هذه اللفظة في كل موضع تستعمل بمعنى
واحد ، بل الوجه في استعمالها يختلف ، وربما أريد بها التخصيص وربما أريد ما
ذكرناه مما تقدم ، وانما يرجع في ذلك اما الى الوضع أو الى الدلالة تدل على المعنى
المقصود ، وانما أردنا الرد على من ادعى أنها تقتضي التخصيص لا محالة ، فدفعناه عن
ذلك بما أوردناه.
وليس لأحد أن يدعي
أن الظاهر من هذه اللفظة يقتضي التخصيص وانها إذا وردت لا تقتضيه كانت مجازا وعمل
عليه بدلالة. لأن ذلك تحكم من قائله.
وإذا عكس عليه
وقيل له : بل التخصيص هو المجاز وورودها مورد النعت والوصف هو الحقيقة ، لم يجد
فصلا.
ووجه آخر :
وهو أن الجنس انما
يكون مفضلا على الجنس على أحد وجهين : اما بأن يكون كل عين من أعيانه أفضل من
أعيان الجنس الأخر ، أو بأن يكون الفضل في أعيانه أكثر ، وليس يجوز أن يفضل الجنس
على غيره بأن يكون فيه عين واحدة أفضل من كل عين في الجنس الأخر وباقية خال من فضل
، ويكون الجنس الأخر لكل عين منه فضلا وان لم يبلغ الى فضل تلك العين التي ذكرناها
، ولهذا لا يجوز أن يفضل أهل الكوفة وباقي أهل بغداد لا فضل لهم ، حتى كان كثير من
أهل الكوفة ذوي فضل وان لم يبلغوا إلى منزله الفاضل الذي ذكرناه.
__________________
فإذا صحت هذه
المقدمة لم ينكر أن جنس بني آدم [مفضولا ] لأن الفضل في الملائكة عام لجميعهم على مذهب أكثر الناس
أو لأكثرهم ، والفضل في بني آدم مخصص بقليل من كثير.
وعلى هذا لا ينكر
أن يكون الأنبياء عليهمالسلام أفضل من الملائكة وان كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني
آدم ، للمعنى الذي ذكرناه ، ولما تضمنت الآية ذكر بني آدم على سبيل الجنسية وجب أن
يفضلوا على من عدي الملائكة ، ولو ذكر الأنبياء بذكر يخصهم ممن عداهم ممن ليس بذي
فضل لفضلهم على الملائكة.
وهذا واضح بحمد
الله وحسن معونته وتوفيقه.
__________________
|
(٢٢)
إنقاذ البشر من
الجبر والقدر
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
نبدأ رسالتنا هذه بالحمد لله ربنا على نعمة الواصلة [منه ] إلينا ، وعلى إحسانه المتقدم علينا ، إذ أصبحنا بتوحيده وعدله قائمين ولمن جوّره في حكمه غائبين،
ولمعاصينا عليه غير حاملين ، وبآثار أئمة الهدى مقتدين ، وبالمحكم من كتابه وآياته
متمسكين.
فالحمد لله الذي
اختصنا بهذه النعمة ، وشرفنا بهذه الفضيلة ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ،
ورسول رب العالمين ، الذي جعله رحمة للعباد أجمعين واستنقذ به من الهلكة ، وهدى به
من الضلالة ، وكان بالمؤمنين رءوفا رحيما ، فبلغ عن ربه ، واجتهد في طاعته ، حتى
أتاه اليقين ، وعلى آله الطاهرين.
سألت أعزك الله
وأرشدك إملاء رسالة في القدر فقد جالت به الفكر وأكثرها
__________________
عن معرفته قد
انحسر ، وذكرت أن الذي حداك الى ذلك ما وجدته ظاهرا في عوام النيل ومعظم خواصها من القول المؤدي إلى الكفر المحضض بسبب الجبر
وتجويرهم الله في حكمه ، وحملهم معاصيهم عليه ، وإضافتهم القبائح اليه ، وتعلقهم بأخبار مجهولة منكرة أو
متشابهة في اللفظ مجملة ، وحجاجهم بما تشابه من الكتاب لعدم معرفتهم بفائدته ،
وقصور إفهامهم عن [الغرض ] المقصود به.
واعلم أن الكلام
في القضاء والقدر قد أعيى أكثر أهل النظر ، وأتعب ذوي الفكر ، والمتكلم فيه بغير
علم على غاية [من ] الخطر. والذي يجب على من أراد معرفة هذا الباب وهو العلم بما يستحق الباري سبحانه من الأوصاف الحميدة وما
ينفى عنه من ضدها فإنه متى علم ذلك أمن من أن يضيف اليه ما ليس من أوصافه أو ينفي
عنه ما هو منها ويتبع ذلك من الأبواب ما لا بد من الوقوف عليه : نحو المعرفة
بأقوال المبطلين ، ومعرفة أقوال المحقين ، وغير ذلك مما سنبينه فيما بعد إن شاء
الله تعالى.
[حدوث البحث في أفعال العباد]
واعلم ان أول حالة
ظهر فيها الكلام وشاع بين الناس في هذه الشريعة ،
__________________
هو أن جماعة ظهر
منهم القول بإضافة معاصي العباد الى الله سبحانه ، وكان الحسن ابن أبي الحسن البصري ممن نفى ذلك ، ووافقه في زمانه [جماعة و ] خلق كثير من العلماء كلهم ينكرون أن تكون معاصي العباد من
الله ، منهم معبد الجهني وأبو الأسود الدؤلي ومطرف بن عبد الله ووهب بن منبه وقتادة .
__________________
وعمرو بن دينار ومكحول الشامي وغيلان وجماعة كثيرة لا تحصى .
ولم يك ما وقع من
الخلاف حينئذ يتجاوز باب إضافة معاصي العباد الى الله سبحانه عن ذلك ونفيها عنه وغيره من
هذا الباب بباب القدرة والمقدور وما أشبهه .
[الأقوال في كيفية خلق الافعال]
فأما الكلام في
خلق أفاعيل العباد [و ] في الاستطاعة وفيما اتصل بذلك وشاكله فإنما حدث بعد دهر [طويل
].
__________________
ويقال : ان أول من
حفظ عنه القول بخلق أفاعيل العباد جهم بن صفوان ، فإنه زعم أن ما يكون في العبد من كفر وايمان ومعصية
فالله فاعله كما فعل لونه وسمعه وبصره وحياته ، وأنه لا فعل للعبد في شيء من ذلك
ولا صنع ، والله تعالى صانعه ، وان لله تعالى أن يعذبه من ذلك على ما يشاء ويثيبه
على ما يشاء.
وحكى عنه علماء
التوحيد انه كان يقول مع ذلك : ان الله خلق في العبد قوة بها كان فعله ، كما خلق
له غذاء يكون به قوام بدنه ، ولا يجعل العبد كيف تصرف حاله فاعلا لشيء على حقيقته ، فاستبشع من قوله أهل العدل وأنكروه مع أشياء أخر حكيت
عنه.
ولما أحدث جهم
القول بخلق أفعال العباد قبل ذلك ضرار بن عمرو بعد أن كان [ضرار ] يقول بالعدل ، فانتفت عنه المعتزلة واطرحته ، فخلط عند
ذلك تخليطا كثيرا ، وقال بمذاهب خالف فيها جميع أهل العلم وخرج عما كان عليه وأصل
بن عطاء وعمرو بن عبيد بعد ما كان يعتقد فيهما من العلم وصحة الرأي
__________________
لأنه كان في الأول
على رأيهما بل صحبهما وأخذ عنهما.
ثم تكلم الناس بعد
ذلك في الاستطاعة ، فيقال : ان أول من أظهر القول بأن الاستطاعة مع الفعل يوسف
السمتي وانه استزله الى ذلك بعض الزنادقة فقبله عنه ، ثم قال بذلك
حسين النجار ، وانتصر لهذا القول ووضع فيه الكتب فصارت مذاهب المجبرة
بعد ذلك على ثلاثة أقاويل :
«أحدها» ان الله
تعالى خلق فعل البعد وليس للعبد في ذلك فعل ولا صنع وانما يضاف إليه أنه فعله كما يضاف اليه لونه وحياته ، وهو قول جهم.
«والثاني» ان الله
تعالى خلق فعل العبد وأن العبد فعله باستطاعة في العبد متقدمة ، وهو قول ضرار ومن وافقه.
«والثالث» ان الله
تعالى خلق فعل العبد وان العبد فعله باستطاعة حدثت له في حال الفعل لا يجوز أن
تتقدم الفعل ، وهو قول النجار وبشر المريسي ومحمد
__________________
ابن غوث ، ويحيى
بن كامل وغيرهم ، من متكمي المجبرة [وعند هذا أكثر متكلمي المجبرة ] نحو الأشاعرة وغيرهم.
ثم تكلم الناس بعد
ذلك فيما اتصل بهذا من أبواب الكلام في العدل واختلفوا فيه اختلافا كثيرا ،
والكلام في ذلك [من ] أوسع أبواب العلم [وجوها وأعمقها بحرا ] ، ونحن نورد لك في هذا المعنى ما يتحصل به الغرض ، وتنحسم
به شبه الخصوم ونجعله ملخصا وجيزا بلفظ مهذب والى الفهم مقرب ،
ونبتدئ في أوله بوصف دعوة أهل الحق في ذلك ونردفها بما يجب ، وقد وسمنا هذه الرسالة ب (إنقاذ البشر من الجبر
والقدر) وها نحن مبتدئون بذلك ومستعينون يمن له الحول والقوة ، وهو حسبنا ونعم
الوكيل .
__________________
وجاء بدلا عن المريسي في ا : مرسى.
(فصل)
في دعوة أهل الحق وبيانها
قالت عصبة أهل
الحق : ان الله جل ثناؤه اصطفى الإسلام دينا ورضيه لعباده واختاره لخلقه ،
ولم يجعله موكولا إلى رأيهم ، ولا جاريا على مقادير أهوائهم ، دون أن نصب له
الأدلة ، وأقام عليه البراهين ، وأرسل به الرسل ، وأنزل به الكتب ، ليهلك من هلك
عن بينة ، ويحيى من حي عن بينة.
وللإسلام حدود ،
وللقيام به حقوق ، وليس كل من ادعى ذلك أخذه ، ولا كل من انتسب اليه صار من انتسب اليه صار من أهله ،
وقد علمنا أن أهل القبلة [قد ] اختلفوا في أمور صاروا فيها الى خلل ، فضلل بعضهم بعضا وكفر بعضهم بعضا ، وكل يدعي أن ما ذهب اليه من ذلك وانتحله
هو دين الله ودين رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
ومعلوم عند كل
عاقل أن ذلك كله على اختلافه لا يجوز أن يكون حقا لتضاده واختلافه ، ولا بد حينئذ
من اعتبار ذلك وتمييزه ليتبع منه الحق ، ويجتنب منه الباطل ، وقد علمنا بالأدلة
الواضحة ، والبراهين الصحيحة التي يوافقنا عليها جميع فرق أهل الملة بطلان قول كل من خالف جملة الإسلام ما جاء به القرآن وصح عن
الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فإذا كان الأمر كذلك
__________________
وجب أن يكون كل من قال من الأمة قولا يكون عند الاعتبار والنظر
خارجا مما يوجبه الإسلام ويشهد به الرسول (ص) والقرآن [أو ] موجبا لان يكون معتقده ليس من جملة الإسلام على سبيل قوة
واستبصار ، لقوله بما لا يصح اعتقاده الإسلام معه ولا يوصل الى معرفته ثم القول به ، فهو محجوج في مذهبه ، ومبطل في قوله ، ومبتدع في
الإسلام بدعة ليست من دين الله ولا من دين رسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قالوا : وقد
تدبرنا ما اختلف فيه أهل القبلة بفطرة عقولنا وعرضنا ذلك على كتاب الله سبحانه وسنة نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم فوجدنا الحق بذلك متميزا من الباطل تمييزا يدركه كل من
تدبر الكتاب والسنة بفكره ، وتميز الأمور بعقله ، ولم يجعل هواه قائدا له ، و [لم]
يقلد من لا حجة في تقليده ، فرأينا من الواجب علينا في الدين أن نبين أمر ذلك للناس ولا نكتمه ، وأن ندعوهم إلى الحق ونحتج له ولا
نتشاغل عن ذلك ونعرض عنه ، ونحن نرى ما حدث من البدع ، وخولف من سبيل السلف.
وكيف يجوز الاعراض
عن ذلك والله تعالى يقول (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ
أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ
عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ويقول (لُعِنَ الَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى
__________________
ابْنِ
مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ
مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ).
قالوا : وأي منكر
أفحش ، وأي معصية أعظم من تشبيه الله تعالى بخلقه ، ومن تجويره في حكمه ، ومن سوء
الثناء عليه واضافة الفواحش والقبائح اليه وكيف لا يكون كذلك وفي القول بالتشبيه
والإجبار الانخلاع عن معرفة الله تعالى ومعرفة جميع رسله ، إذ كل من شبه الله بشيء
من خلقه لم يتهيأ له أن يثبت الله قديما وقد أثبت له مثلا محدثا ، وفي ذلك عدم
العلم باصنع والصانع والرسول والمرسل ، وان من أجاز على الله جل وعلا فعل الظلم
والكذب وارادة الفواحش والقبائح لم يمكنه أن يثبت لرسول من رسل الله تعالى معجزة
أقامها الله تعالى لهداية الخلق دون إضلالهم ولرشدهم دون إغوائهم ، وفي ذلك سقوط العلم بصدق الرسل فيما دعت اليه ، وذلك
يوجب أن لا يكون معتقدا ، ولا لازم الاخبار عن ثقة ويقين من صدق الرسل ، ولا صحة الكتب ، ولا كون الجنة والنار ،
وهذا هو الخروج من دين الإسلام ، والانخلاع عن دين محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم.
قالوا : ونحن نصف
قولنا ونذكر دعوتنا فليتدبر ذلك السامع منا ، وليقابل به قول غيرنا ، فإنه سيعلم ان كان له قلب أو القى السمع
وهو شهيد أينا أهدى سبيلا ، وأقوم قيلا ، وأولى بالتمسك بالكتاب والسنة ، واتباع
الحجة ، ومجانبة البدعة.
__________________
فأول ذلك أن نقول
: ان الله ربنا ، ومحمد نبينا ، والإسلام ديننا ، والقرآن إمامنا ، والكعبة قبلتنا
، والمسلمون إخواننا ، والعترة الطاهرة من آل رسول الله (ص) وصحابته والتابعين لهم
بإحسان سلفنا وقادتنا ، والمتمسكون بهديهم من القرون بعدهم جماعتنا وأولياؤنا ،
نحب من أحب الله ، ونبغض من أبغض الله ، ونوالي من والى الله ، ونعادي من عادى
الله ، ونقول فيما اختلف فيه أهل القبلة بأصول نشرحها ونبينها : فأولها توحيدنا
لربنا ، فانا نشهد أن الله عزوجل واحد ليس كمثله شيء ، والقادر الذي لا يعجزه شيء ، وانه
الحي الذي لا يموت والقيوم الذي لا يبيد ، والقديم الذي لم يزل ولا يزال ، حيا ،
سميعا ، بصيرا ، عالما ، قادرا ، غنيا ، غير محتاج الى مكان ولا زمان ولا اسم ولا
صفة ولا شيء من الأشياء على وجه من الوجوه ولا معنى من المعاني ، قد سبق الأشياء
كلها بنفسه ، واستغنى عنها بذاته ، ولا قديم الا [هو ] وحده سبحانه وتعالى عن صفات المحدثين ، ومعاني المخلوقين
، وجل وتقدس عن الحدود والأقطار ، والجوارح والأعضاء ، وعن مشابهة شيء من الأشياء
أو مجانسة جنس من الأجناس أو مماثله شخص من الأشخاص ، وهو الا له الواحد الذي لا
تحيط به العقول ، ولا تتصوره الأوهام ، ولا تدركه الابصار ، وهو يدرك الابصار وهو
اللطيف الخبير ، الذي يعلم ما يكون ، ويعلم ما كان وما سيكون وما لا يكون لو كان
كيف كان يكون ، قد أحاط بكل شيء علما ، واحصى كل شيء عددا ، وعلم الأشياء كلها
بنفسه من غير علم أحدثه ، ومن غير معين كان معه ، بل علم ذلك كله بذاته التي لم
يزل بها قادرا عالما حيا سميعا بصيرا ، لانه الواحد الذي لم يزل قبل
__________________
الأشياء كلها ثم
خلق الخلق من غير فقر ولا حاجة ، ولا ضعف ولا استعانة ، من غير أن يلحقه لحدوث ذلك
تغير ، أو يمسه لغوب ، أو ينتقل به الى مكان ، أو يزول به عن مكان، إذ كان جل شأنه
لم يزل موجودا قبل كل مكان ، ثم حدثت الأماكن وهو على ما كان فليس يحويه مكان ،
وقد استوى على العرش بالاستيلاء والملك والقدرة والسلطان وهو مع ذلك بكل مكان إله
عالم ، مدبر ، قاهر ، سبحانه وتعالى عما وصفه به الجاهلون ، من الصفات التي لا
تجوز الأعلى الأجسام من الصعود والهبوط ومن القيام والقعود ، ومن تصويرهم له جسدا
، واعتقادهم إياه مشبها [للعباد ] يدركونه بأبصارهم ، ويرونه بعيونهم، ثم يصفونه بالنواجذ
والأضراس ، والأصابع ، والأطراف ، وانه في صورة شاب أمرد وشعره جعد قطط ، وإنه لا يعلم الأشياء
بنفسه ، ولا يقدر عليها بذاته ، ولا يوصف بالقدرة على أن يتكلم ولا يكلم أحدا من
عباده ، فتعالى الله عما قالوا ، وسبحانه عما وصفوا ، بل هو الا له الواحد الذي
ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، العليم القدير ، الذي كلم موسى تكليما ، وأنزل
القرآن تنزيلا ، وجعله ذكرا محدثا من أحسن الحديث ، وقرآنا عربيا من أحسن الكلام ، وكتابا عزيزا من أفضل الكتب ، أنزل بعضه قبل بعض
، وأحدث بعضه بعد بعض ، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ، وكل ذلك محدث كائن بعد أن
لم يكن ، والله قدير قبله لم يزل ، وهو رب القرآن وصانعه وفاعله ومدبره ، ورب كل
كتاب أنزله ، وفاعل كل كلام كلم به أحدا من عباده ، والقرآن كلام الله ووحيه ،
وتنزيله الذي أحدثه لرسوله وجعله هدى
__________________
وسمى نفسه فيه
بالأسماء الحسنى ، ووصفها فيه بالصفات المثلي ليسميه بها العباد ، ويصفوه بها ويسبحوه ويقدسوه ولا إله إلا الله وحده ، ولا قديم الا الله دون غيره من كل
اسم وصفة ومن كل كلام وكتاب ، ومن كل شيء جاز أن يذكره ذاكر ، أو يخطره على باله
مفكر. هذا قولنا في توحيد ربنا.
[دعوة أهل الحق في العدل ]
فأما قولنا في
عدله وهو المقصود من هذا الكتاب وانما أوردنا معه غيره لأنا أردنا إيراد جملة
الاعتقاد فانا نشهد أنه العدل الذي لا يجور ، والحكيم الذي لا يظلم ولا يظلم ، وانه لا يكلف عباده ما لا يطيقون ، ولا يأمرهم بما لا
يستطيعون ، ولا يتعبدهم بما ليس لهم اليه سبيل ، لأنه أحكم الحاكمين ، وأرحم
الراحمين الذي أمرنا بالطاعة ، وقدم الاستطاعة ، وأزاح العلة ، ونصب الأدلة ،
وأقام الحجة وأراد اليسر ولم يرد العسر ، فلا يكلف نفسا الا وسعها ، ولا يحملها ما
ليس من طاقتها ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) ، ولا يؤاخذ أحدا بذنب غيره ، ولا يعذبه على ما ليس من
فعله ، ولا يطالبه بغير جنايته وكسبه ، ولا يلومه على ما خلقه فيه ، ولا يستبطئه
فيما لم يقدره عليه ، ولا يعاقبه الا باستحقاقه ، ولا يعذبه الا بما جناه على نفسه
، وأقام الحجة عليه فيه ، المنزه عن القبائح ، والمبرأ عن الفواحش ، والمتعالي عن
فعل الظلم والعدوان ، وعن خلق الزور والبهتان الذي لا يحب
__________________
الفساد ، ولا يريد
ظلما للعباد ، ولا يأمر بالفحشاء ، ولا يظلم مثقال ذرة وان تك حسنة يضاعفها ويؤت
من لدنه أجرا عظيما ، وكل فعله حسن ، وكل صنعه جيد وكل تدبيره حكمة.
سبحانه وتعالى عما
وصفه به القدرية المجبرة المفترون الذين أضافوا اليه القبائح ، ونسبوه الى فعل الفواحش ، وزعموا أن كل ما يحدث في العباد من كفر وضلال ،
ومن فسق وفجور ، ومن ظلم وجور ، ومن كذب وشهادة زور ، ومن كل نوع من أنواع القبائح
، فالله تعالى فاعل ذلك كله ، وخالقه وصانعه ، والمريد له ، والمدخل فيه ، وأنه
يأمر قوما من عباده بما لا يطيقون ويكلفهم بما لا يستطيعون ، ويخلق فيهم ما لا
يتهيأ لهم الامتناع منه ، ولا يقدرون على دفعه ، مع كونه على [خلاف ] ما أمرهم به ، ثم يعذبهم على ذلك في جهنم بين أطباق النيران خالدين
فيها أبدا.
ويزعم منهم قوم
أنه يشرك معهم في ذلك العذاب الأطفال الصغار الذين لا ذنب لهم ولا جرم ، ويجيز آخرون [منهم] أنه يأمر الله تعالى العباد وهم على ما هم عليه من هذا الخلق وهذا
التركيب أن يطيروا في جو السماء وأن يتناولوا النجوم ، [وأن ] يقتلعوا الجبال ويدكدكوا الأرض ، ويطووا السماوات كطي
السجل ، فإذا لم يفعلوا ذلك لعجزهم عنه وضعف بنيتهم عن احتماله ،
__________________
عذبهم في نار جهنم
عذابا دائما ، فتعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وتقدس عما وصفوه به.
بل نقول : انه
العدل الكريم الرءوف الرحيم ، الذي حسنات العباد منسوبة اليه ، وسيئاتهم منفية عنه
، لأنه أمر بالحسنة ورضيها ورغب فيها ، وأعان عليها ، ونهي عن السيئة وسخطها ، وزجر
عنها ، وكانت طاعات العباد منه بالأمر والترغيب ولم تكن معاصيهم منه للنهي
والتحذير ، وكان جميع ذلك من فاعليه ومكتسبيه بالفعل والاحداث ، وكانت معاصيهم
وسيئاتهم من الشيطان بالدعاء والإغواء.
[آراء المخالفين لأهل العدل ]
فأما من يخالفنا
فقد افتضحوا حيث قالوا : ان من الله جور الجائرين وفساد المعتدين ، فهو عندهم
المريد لشتمه ، ولقتال أنبيائه ، ولعن أوليائه ، وانه أمر بالايمان ولم يرده ،
ونهى عن الكفر وأراده ، وأنه قضى بالجور والباطل ثم أمر عباده بإنكار قضائه وقدره
، وانه المفسد للعباد ، والمظهر في الأرض الفساد ، وأنه صرف أكثر خلقه عن الايمان
والخير ، وأوقعهم في الكفر والشرك ، وأن من أنفذ وفعل ما شاء عذبه ، ومن رد قضاءه
وأنكر قدره وخالف مشيئته أثابه ونعمه ، وأنه يعذب أطفال المشركين [بذنوب آبائهم وانه تزر الوازرة عندهم وزر أخرى ، وتكسب النفس على غيرها ، وأنه خلق أكثر خلقه
للنار ، ولم يمكنهم من طاعته ثم أمرهم بها ، وهو عالم بأنهم لا يقدرون عليها ، ولا
يجدون
__________________
السبيل إليها ، ثم
استبطأهم لم لم يفعلوا ما لم يقدروا عليه ولم لم يوجدوا ما لم يمكنهم منه؟ وانه صرف أكثر خلقه عن
الايمان ثم قال (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) وأفكهم وقال (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) ، وخلق فيهم الكفر ثم قال (لِمَ تَكْفُرُونَ) وفعل فيهم لبس الحق بالباطل ثم قال (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) ، وأنه دعا إلى الهدي ثم صد عنه وقال (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ).
وقال خلق كثير
منهم : ان الله تعالى منع العباد من الايمان مع قوله (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) وأنه حال بينهم وبين الطاعة ثم قال (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ). وأنه ذهب بهم عن الحق ثم قال (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) ، وأنه لم يمكنهم من الايمان ولم يعطهم قوة السجود ثم قال (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. وَإِذا
قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) ، وأنه فعل بعباده الاعراض عن التذكرة ثم قال (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ
مُعْرِضِينَ) وأنه يمكر بأوليائه المحسنين ، وينظر لأعدائه المشركين.
__________________
لان العبد عندهم
مجتهد في طاعته ، فبينما هو كذلك وعلى ذلك إذ خلق فيه الكفر، وأراد له الشرك ،
ونقله مما يحب الى ما يسخط ، وبينما هو مجتهد في الكفر به ، والتكذيب له ، إذ نقله من الكفر الى
الايمان ، وهو عندهم لعدوه انظر منه لوليه ، فليس يثق وليه بولايته ، ولا يرهب عدوه من عداوته.
وانه يقول للرسل :
أهدوا إلى الحق من عنه قد أضللت ، وانهوا عبادي عن أن يفعلوا ما شئت وأردت ،
وأمروهم أن يرضوا بما قضيت وقدرت ، لانه عندهم شاء الكفر ، وأراد الفجور ، وقضى
الجور ، وقدر الخيانة.
ولو لا كراهة
الإكثار لأتينا على وصف مذهبهم ، وفيما ذكرناه كفاية في تقبيح مذهبهم ، والحمد لله على قوة الحق وضعف الباطل.
فصل
[الخير والشر ومعنى نسبتهما اليه تعالى ]
ان سأل سائل فقال
: أتقولون ان الخير والشر من الله تعالى؟
قيل له : ان أردت
أن من الله تعالى العافية والبلاء والفقر والغناء ، والصحة والسقم ، والخصب والجدب
، والشدة والرخاء ، فكل هذا من الله تعالى ، وقد تسمى شدائد الدنيا شرا وهي في
الحقيقة حكمة وصواب وحق وعدل. وان أردت أن من الله الفجور والفسوق ، والكذب
والغرور والظلم والكفر والفواحش
__________________
والقبائح فمعاذ
الله أن نقول ذلك! بل الظلم من الظالمين والكذب من الكاذبين ، والفجور من الفاجرين
، والشرك من المشركين ، والعدل والانصاف من رب العالمين.
وقد أكد الله
تعالى ما قلنا فقال (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ
أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً
مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ) ولم يقل : من عند خالقهم ، فعلمنا أن المعصية من عباده ،
وليس هي من قبله ، وقال عزوجل (وَإِنَّ مِنْهُمْ
لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ
وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ
عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) فعلمنا أن الكذب والكفر ليس من عند الله ، وإذا لم يكن من
عند الله فليس من فعله ولا من صنعه.
وقال عزوجل (لَبِئْسَ ما
قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ) وما قدمته [لهم أنفسهم لم يقدمه لهم ربهم.
وقال (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ
أَخِيهِ) ولم يقل حمله على القتل ربه ، ولا ألجأ إليه خالقه.
وقال (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً.
لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ
وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا. أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ
وَلَداً) فأخبر
__________________
أنهم جاءوا بأولاد
، ولم يقل أنا جئت به فأدخلته قلوبهم ، وقال (أَنْ دَعَوْا
لِلرَّحْمنِ وَلَداً) فأخبرهم أنهم [هم ] ادعوا الولد ولم يدعه لنفسه.
ثم أخبر جل وعز عن
الأنبياء عليهمالسلام لما عوتبوا على ترك مندوب وما أشبهه إضافة ما ظاهره
الإخلال بالأفضل من الأفعال إلى أنفسها ولم تضفها الى خالقها ، فقال آدم وحواء عليهماالسلام (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) وقال يعقوب لبنيه (بَلْ سَوَّلَتْ
لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ) ولم يقل سول لكم ربكم.
وقال بنو يعقوب (يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا
إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ) ولم يقولوا ان خطايانا من ربنا.
وقال (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً
فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) بمعنى ان نضيق عليه كما قال (يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) يعني يضيق وقال (وَمَنْ قُدِرَ
عَلَيْهِ رِزْقُهُ) أي ضيق (فَنادى فِي
الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ
الظَّالِمِينَ) فأقر على نفسه ولم يضف الى ربه.
وقال (رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) من بعد ما قال (فَوَكَزَهُ مُوسى
فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) ولم يقل من عمل الرحمن.
__________________
وقال يوسف عليهالسلام (مِنْ بَعْدِ أَنْ
نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي).
وقال الله تعالى
لنبينا صلىاللهعليهوآله (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي).
وقال فتى موسى عليهالسلام (فَإِنِّي نَسِيتُ
الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ) ولم يقل وما إنسانية الا الرحمن. فما قالوه موافق لقول
الله سبحانه (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. إِنَّما
يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ
أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) فقال رجس من عمل الشيطان ، ولم يقل رجس من عمل الرحمن ،
وقال (إِنَّما يُرِيدُ
الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) فعلمنا أن ما أراد الشيطان غير ما أراد الرحمن ، وأخبر أن
الشيطان يصد عن ذكر الله ولم يقل الرحمن يصد عن ذكر الله.
وقال (إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ) ولم يقل من الرحمن.
وقال (لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) يعني بوسوسته وخديعته.
وقال عزوجل (لا تَعْبُدُوا
الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا
__________________
صِراطٌ
مُسْتَقِيمٌ. وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا
تَعْقِلُونَ) فأخبر أن الشيطان أضلهم عن الحق.
وقال (إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ
إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً) وقال تعالى (وَقالَ الشَّيْطانُ
لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ) ولم يقل فلا تلوموني ولوموا ربكم ، لانه افسدني وافسدكم ،
وكفرني وكفركم.
و [لو ] قصدنا الى الاخبار عما أضافه الله تعالى الى الشيطان من
معاصي العباد لكثر ذلك وطال به الكتاب.
فصل
[الفرق بين صنع الخالق والمخلوق ودلالة الكتاب ]
فان قال قائل : ما
الدليل على أن الله تعالى لم يفعل أفعال عباده ، وان فعل العبد غير فعل رب
العالمين؟
قيل له : الدليل
على ذلك من كتاب الله تعالى ، ومن أخبار رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ومن إجماع الأمة ، ومن حجج العقول :
فأما ما يدل على
ذلك من كتاب الله فقوله سبحانه وتعالى (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
__________________
أَتْقَنَ
كُلَّ شَيْءٍ) فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم علمنا أنه ليس من صنعه.
وقال تعالى (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا
سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وقد علمنا ان الله تعالى قد جعل وخلق الشاة والبعير ،
وانما ينفي عن نفسه ما جعلوه من الشق الذي فعلوه في آذان أنعامهم ، فعلمنا أن ما
نفاه الله تعالى عن نفسه هو كفر العباد وفعلهم.
وقال تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) فلما كان الكفر متفاوتا متناقضا علمنا انه ليس [من خلق
الله تعالى ، وقال تعالى (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) ، فلما لم يكن الكفر بحسن علمنا انه ليس ] من خلقه ولا من فعله ، لان خلق الله هو فعله ، وقد قال :
انه (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) وقال (كَذلِكَ اللهُ
يَفْعَلُ ما يَشاءُ) وأخبر أن خلقه وفعله واحد.
فان قال قائل منهم
: ان الكفر حسن لان الله خلقه.
قيل له : لو جاز
أن يكون حسنا لان الله تعالى خلقه ، جاز أن يكون حقا وصدقا وعدلا وصلاحا ، [فلما
لم يجز أن يكون الكفر حقا ولا صدقا ولا عدلا ولا صلاحا ] لم يجز أن يكون حسنا ، ولو كان الكفر حسنا كان الكافر
محسنا
__________________
إذ فعل حسنا ،
فلما كان الكافر مسيئا مفسدا كاذبا جائرا مبطلا ، علمنا ان فعله ليس بحسن ولا حق ولا صدق ولا عدل ولا صلاح.
وقال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) ولو كان فاعلا لها لكان قد أنزل بها أعظم السلطان والحجة.
وقال (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً) تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقال (وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي
تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ
ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي
السَّبِيلَ) والله قد جعل الأجسام كلها ، وانما نفى عن نفسه أن يكون
قولهم لأزواجهم وقولهم لأولادهم أنتن أمهاتنا ، وأنتم أبناؤنا ، ثم أخبر أنه لا
يقول الا حقا وان الكذب ليس من قوله ولا من فعله.
وقال عز من قائل (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ
وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ
وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ) فأخبر أنهم جعلوا له شركاء ، ولو كان الجاعل لما كان قد
جعل لنفسه شركاء ، ولا يخلو من أن يكون هو جعل لنفسه شركاء دونهم ، أو يكونوا هم الذين جعل لنفسه شركاء دون عبادة أو ان كان هو جعل ما جعلوا كان قد جعل لنفسه شركاء كما جعل ذلك
عباده. فكان قد شارك
__________________
عباده في شركهم
وكفرهم ، ومن جعل لله شريكا فقد أشرك بالله غيره [وقال ](وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ الْبَناتِ) وقال (وَيَجْعَلُونَ
لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) وقال (وَجَعَلُوا لِلَّهِ
أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ) فلو كان جاعلا ما جعلوه من الكفر كان قد جعل لنفسه ما
يكرهه ، وجعل لنفسه أندادا ، جعل الله عن ذلك.
وقال عزوجل (وَسْئَلْ مَنْ
أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً
يُعْبَدُونَ) فنفى أن يكون جعل من دونه آلهة ، فعلمنا أن اتخاذ الا له
من دون الله لم يجعله الله.
وقال عزوجل (إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) فلو كان هو الذي جعل الحمية في قلوبهم لم يقل هم الذين جعلوا
الحمية.
فإن قالوا : ما
أنكرت أن يجعل ما جعل العباد.
قيل لهم : لو جاز أن يكون جاعلا لما جعله العباد لكان عادلا بعدل
العباد ، ومصلحا بصلاح العباد ، وجائرا بجور العباد ، ومفسدا بفساد العباد ،
وكاذبا بكذبهم ، إذ كان لكذبهم وفسادهم وجورهم فاعلا ، فلما لم يجز ما ذكرناه
علمنا أن الله لم يجعل لما جعله العباد.
وقال تعالى (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا
بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ
مِمَّا
__________________
يَكْسِبُونَ) فنفى عن نفسه أن يكون كفرهم من عنده تعالى.
وقال عزوجل (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) وقال تعالى (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْداً) فلو كان الله فعل الكيد والمكر بالنبي صلىاللهعليهوآله كان قد مكر بنبيه وكاده ، تعالى الله عن ذلك.
وقال تعالى (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ
يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ) ولو كان اتخاذهم الولد فعل الله كان قد اتخذ ولدا ، ولو
كان قد فعل عباده فعله كان له شريك في الملك ، تعالى عن ذلك.
ولو قصدنا الى
استقصاء ما يدل على مذهبنا في أن الله لم يفعل الظلم والجور والكذب وسائر أفعال
العباد لطال بذلك الكتاب ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله رب العالمين.
[الأخبار المانعة من نسبة الشر الى الله تعالى ]
وأما ما روي عن
النبي (ص) من اضافة الحسن الى الله والسوء الى العباد ما روي عن أبي أمامة الباهلي
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : اضمنوا لي أشياء أضمن لكم الجنة. قالوا : وما هي يا رسول
الله؟ قال : لا تظلموا عند
__________________
قسمة مواريثكم ،
ولا تجبنوا عند قتال عدوكم ، وامنعوا ظالمكم من مظلومكم ، وأنصفوا الناس من أنفسكم
، ولا تغلوا غنائمكم ، ولا تحملوا على الله ذنوبكم.
وروي عن أبي هريرة
أنه قال : قام رجل من خثعم إلى النبي صلىاللهعليهوآله فقال : يا رسول الله متى يرحم الله عباده؟ قال «ص» : يرحم
الله عباده ما لم يعملوا بالمعاصي ثم يقولون هي من الله.
وروي عن النبي «ص»
انه قال : خمسة لا نطفأ نيرانهم ولا تموت ديدانهم : رجل أشرك بالله ، ورجل عق
والدية ، ورجل سعى بأخيه إلى سلطان جائر فقتله ، ورجل قتل نفسا بغير نفس ، ورجل
حمل على الله ذنبه.
وروي عنه (ص) أنه
قال : أتاني جبرئيل فقال : يا محمد خصلتان لا ينفع معهما صوم ولا صلاة : إلا شراك
بالله ، وأن يزعم عبد أن الله بجبره على معصيته.
ومن ذلك ما روي عن
ابن مسعود أنه سئل عن امرأة توفي عنها زوجها ولم يفرض لها صداقا؟ فقال : أقول
فيها برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله وان يكنى خطأ فمني ومن الشيطان.
وروي عن أبي هريرة
انه قال : كان رسول الله (ص) إذا قام بالليل إلى الصلاة
__________________
قال : لبيك وسعديك
، الخير في يديك ، والشر ليس إليك.
وروي عن حذيفة عن النبي (ص) انه قال : إذا دعي بي يوم القيامة أقوم فأقول
: لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك.
وروي عن أنس انه قال : قال رسول الله (ص) : سيكون في هذه الأمة أقوام
يعملون بالمعاصي ويزعمون أنها من الله ، فإذا رأيتموهم فكذبوهم ثم كذبوهم.
وما أشبه هذه
الاخبار كثير ، ولو قصدنا الى ذكرها لطال بها الكتاب وانما نذكر من الباب الذي
ينبه به على الحق.
[الأدلة العقلية على تنزيه الله من خلق الشرور]
وأما حجة القول
على أن الله لم يفعل أفعال العباد ، وأن فعل الخلق غير فعل رب العالمين ، فهو أنا وجدنا من أفعال العباد ما هو ظلم
وعبث وفساد ، وفاعل الظلم ظالم ، وفاعل العبث عابث ، وفاعل الفساد مفسد ، فلما لما
يجز أن يكون الله مفسدا علمنا أنه لم يفعل الظلم ولا العبث ولا الفساد.
__________________
وأيضا فإن أفعالهم
التي هي محكمة [منها ] ما هو طاعة وخضوع وفاعل الطاعة مطيع ، وفاعل الخضوع خاضع
، فلما يجز أن يكون الله مطيعا ولا خاضعا علمنا أنه لا يفعل الطاعة ولا الخضوع.
وأيضا فإن الله لا
يجوز أن يعذب العباد على فعله ، ولا يعاقبهم على صنعه ، ولا يأمرهم بأن يفعلوا [ما
] خلقه ، فلما عذبهم على الكفر ، وعاقبهم على الظلم ، وأمرهم بأن يفعلوا
الايمان ، علمنا أن الكفر والظلم والايمان ليست من فعل الله ولا من صنعه.
ومما يبين ما قلنا
: أنه لا يجوز أن يعذب العباد على طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم ، لان هذه الأمور
فعله وخلقه فيهم ، فلو كان الكفر والفجور فعل الله لم يجز أن يعذبهم على ذلك ولا
ينهاهم [عنه ] ولا يأمرهم بخلافه ، فلما أمر الله العباد بالايمان
ونهاهم عن الكفر ولم يجز أن يأمرهم بأن يفعلوا طولهم وقصرهم وألوانهم وصورهم علمنا
أن هذه الأمور فعل الله، وأن الطاعة والمعصية والايمان والكفر فعل العباد.
وأيضا فلو جاز أن
يفعل العبد فعل ربه ، وان يكسب خلق إلهه كما قال مخالفونا ان العباد فعلوا فعل
ربهم لجاز أن يكون كلامهم كلام الله ، فيكون كلام العبد كلام ربه كما كان كسب
العبد فعل خالقه ، فلما لم يجز أن يكون كلام العبد كلام خالقه لم يجز أن يكون فعل
إلهه ، ولا كسب العبد صنع خالقه ، فثبت أن أفعال العباد غير فعل رب العالمين.
__________________
وأيضا فإنه لا
يخلو الظلم في قوله وفعلهم من أن يكون بخلقه تعالى [فيكون الظالم ظالما ومصيبا
بذلك لا مخطئا ] فلو كان الله بخلقه الظلم عادلا [أيضا ] كان الظلم عدلا وصوابا ، لانه لا يجوز أن يصيب الا بفعل
الصواب ، ولا يعدل الا بفعل العدل ، ولو كان الكفر والظلم صوابا وعدلا كان الكافر
والظالم مصيبين عادلين [بالظلم ] ولا مصيب بفعل [الكفر والظلم ] ، فثبت أن الله لا يجوز أن يفعل الظلم والخطأ والفسوق
والفجور بوجه من الوجوه ولان بسبب من الأسباب.
وأيضا فلو جاز أن
يفعل الله الظلم ولا يكون ظالما لجاز أن يخبر بالكذب [بقوله ] ولا يكون كاذبا ، فلما لم يجز أن يكون الله يقول الكذب
لأن القائل المخبر بالكذب كاذب كذلك لم يجز أن يفعل الظلم لان الفاعل للظلم ظالم ،
فلما لم يجز أن يكون عزوجل ظالما لم يجز أن يكون لظلم فاعلا ، فنثبت ان الظلم ليس من فعل الله ولا الكذب من قوله سبحانه.
وأيضا فإن الله
سخط الكفر وعابه وذم فاعله ولا يجوز على الحكيم أن يذم العباد على فعل ولا يعيب
صنعه ولا يسخط ، بل يجب أن يرضى بفعله ، لان من فعل مالا يرضى به فهو غير حكيم ،
ومن يعيب ما صنع ويصنع ما يعيب فهو معيب والله يتعالى عن هذه الصفات علوا كبيرا ،
فلما لم يجز على ربنا أن يعيب ما
__________________
صنع و [لا ] يسخط من يفعل علمنا أن أفعال العباد غير فعل رب العالمين.
وأيضا فإن الله
قال في كتابه (وَلا يَرْضى
لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) وقال (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) فالله أحكم وأعدل من أن يسخط في فعله ، ويغضب من خلقه ،
ويفعل مالا يرضى به.
وأيضا فإن الفاعل
للفاحشة والظلم والكفر أكثر استحقاقا للذم من الأمر بالفاحشة أو الكفر ، فلما كان
الأمر بالكفر والظلم والفواحش غير حكيم الفاعل لذلك والمحدث له غير حكيم ، فلما
كان الله أحكم الحاكمين علمنا أنه غير فاعل للفكر ، ولا محدث للظلم ، ولا مبتدع
للقبائح ، ولا مخترع للفواحش ، وثبت أن الظلم فعل الظالمين ، والفساد فعل المفسدين
، والكذب فعل الكاذبين وليس شيء من ذلك فعل رب العالمين.
وأيضا فإنه لا
تخلو أفعال العباد من أن تكون كلها فعل رب العالمين لا فاعل لها غيره ، أو أن تكون
فعله وفعل خلقه وكسبهم ، أو أن تكون فعل العباد وليست بفعل الله ، فلما لم يجز أن
يكون الله تعالى منفردا بالافعال ولا فاعل لها غيره لانه لو كان كذلك كان لا يجوز
إرسال الرسل وإنزال الكتب ولبطل الأمر والنهي ، والوعد والوعيد ، والحمد والذم ،
لانه لا فعل للعباد ، وأوجب أيضا أن يكون هو الفاعل لشتم نفسه ، وللعن أنبيائه ،
وللفسوق والفجور ، والكذب والظلم ، والعبث والفساد ، فلو كان ذلك منه وحده كان هو الظالم [والكاذب ] والعابث
__________________
والمفسد ، إذ كان
لا فاعل للظلم والعبث والكذب والفساد غيره ، ولو كان فاعلا لما فعله العباد كان هو
الفاعل للظلم الذي فعله العباد والكذب والعبث والفساد وكان يجب أن يكون ظالما كما
انهم ظالمون ، وكان عابثا مفسدا إذ لم يكونوا الفاعلين لهذه الأمور دونه ، ولا هو الفاعل لها دونهم.
فلما بطل هذان
الوجهان ثبت الثالث ، وهو أن هذه الافعال عمل العباد وكسبهم ، وانها ليست من فعل
رب العالمين ولا صنعه ، ولو قصدنا الى استقصاء أدلة أهل العدل في هذا الباب لطال
بذلك الكتاب.
فصل
[اللوازم الفاسدة للقول بخلق أفعال العباد ]
ومما يسأل عنه ممن
زعم أنه فعل العباد هو فعل الله وخلقه أن يقال لهم : أليس من قولكم ان الله محسن الى عباده المؤمنين ، إذ خلق فيهم الايمان
وبين [لهم ] بفعل الأيمان؟.
فإن قالوا : لا
نقول ذلك ، زعموا أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم لم يحسن في تبليغ الرسالة ، وكفى بهذا خزيا لهم.
فان قالوا : ان
الإنسان المؤمن محسن بفعل الايمان وكسبه. يقال لهم : فقد كان إحسان واحد من محسنين
بفعل الايمان وكسبه من الله ومن العبد.
فان قالوا : بذلك.
قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون إساءة واحدة من مسيئين ،
__________________
فيكون الله عزوجل مسيئا بما فعل من الإساءة التي العبد بها مسيء ، كما كان
محسنا بالإحسان الذي به العبد محسن.
فان قالوا : انه
مسيء باساءة [العباد ] لزمهم أن يكون ظالما بظلمهم ، وكاذبا بكذبهم ، ومفسدا
بفسادهم ، كما كان مسيئا باساءتهم.
فان قالوا : لا
يجوز أن تكون إساءة واحدة بين مسيئين. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون إحسان واحد
بين محسنين ، ولا يجدون من هذا الكلام مخرجا والحمد لله رب العالمين.
وكلما اعتلوا بعلة
عورضوا بمثلها ، ويقال لهم : أليس الله نافعا للمؤمنين بما خلق فيهم من الايمان.
فمن قولهم : نعم. فيقال لهم : والعبد نافع لنفسه بما فعل من الايمان. فإذا قالوا :
نعم. قيل لهم : قد ثبت أن منفعة واحدة من نافعين هي منفعة من الله بالعبد بأن
خلقها ، ومنفعة من العبد بأن اكتسبها.
فان قالوا : نعم.
قيل لهم : وكذلك الفكر قد ضر الله به الكفار بأن خلقه ، وضر الكافر نفسه بأن اكتسب
الكفر.
فان قالوا : نعم . قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله قد أفسد الكافر بأن
خلق فساده ويكون الكافر هو أفسد نفسه بأن اكتسب الفساد.
فان قالوا : نعم.
قيل : فما أنكرتم أن يكون الكافر جائرا على نفسه بما اكتسب من الجور . [فان قالوا : جائر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون الله
جائرا على نفسه بما فعل من الجور ] أيضا كما قلتم في الكافر ، فان قالوا : جائر
__________________
خرجوا من دين أهل
القبلة ، وان قالوا : لا يجوز أن يكون الله جائرا بما فعله العباد من الجور، قيل
لهم : وكذلك ما أنكرتم أن لا يكون مفسدا بفسادهم ، ولا ضارا لهم بضررهم.
فان قالوا بذلك ،
قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون فاعلا لما فعلوه من الكفر والفساد وأن يكون فعله
غير فعلهم ، وكلما اعتلوا بعلة [في هذا الكلام عورضوا بمثلها.
ويقال لهم : أليس
الله نافعا للعباد [المؤمنين ] بما خلق فيهم من الايمان. فمن قولهم : نعم. فيقال : وكذلك
النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد نفعهم بما دعاهم الى الايمان.
فإن أبوا ذلك
وزعموا أن النبي ما نفع أحدا ولا أحسن الى أحد. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجب
على المؤمنين شكره ولا حمده ، إذ كان غير نافع لهم ولا محسن إليهم.
وان قالوا : ان
النبي (ص) قد نفعهم بدعائه إياهم الى الايمان. قيل لهم : أفليس الله بما خلق فيهم
من الايمان أنفع لهم من النبي (ص) إذ دعاهم الى الايمان ، فلا بد لهم من نعم ، لأن
النبي قد يجوز أن يدعوهم الى الايمان ، فلا بد لهم من نعم يجيبون إليه ولا يجوز أن يخلق الله فيهم الايمان الا وهم مؤمنون.
فيقال : أفليس قد
ضر الله الكافر في قولهم بما خلق فيه من الكفر؟ فمن قولهم : نعم. [يقال لهم :
وكذلك إبليس قد ضرهم بدعائه ] إياهم إلى
__________________
الكفر ، فلا بد من
نعم والا لزمهم أن لا يكون إبليس وسوس الى أحد بمعصيته ولا يجب ان يذم على شيء من
أفعاله ، وردوا أيضا مع ذلك كتاب الله ، لان الله يقول (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ
وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).
ويقال لهم : فأيما
أعظم المضرة التي فعلها الله تعالى بالكافر من خلق الكفر [فيه ] أو المضرة التي فعلها إبليس من دعائه إياهم إلى الكفر؟
فان قالوا : المضرة التي فعلها بهم إبليس من دعائه إياهم إلى الكفر أعظم. قيل لهم
: فما أنكرتم أن تكون منفعة النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم للمؤمنين أعظم بدعائه إياهم الى الايمان.
فإن قالوا : ان
المضرة التي خلقها الله فمنهم أعظم. قيل لهم : فما أنكرتم أن تكون مضرة الله
للكافرين في خلق الكفر فيهم أعظم من مضرة إبليس بدعائه إياهم إلى الكفر.
فان قالوا ذلك قيل لهم : فقد وجب عليكم ان إلهكم أضر على الكافرين من
إبليس. فإذا قالوا : انه أضر عليهم من إبليس. قيل لهم : فما أنكرتم ان يكون شرا
عليهم من إبليس كما كان أضر عليهم من إبليس كما قلتم : ان الله أنفع للمؤمنين من
النبي وخير لهم من النبي (ص).
فان قالوا : ان
الهم شر من إبليس فقد خرجوا من دين أهل القبلة ، وان أبوا ذلك لم يجدوا منه مخرجا
مع التمسك بقولهم.
ويقال لهم : أتقولون
ان الله قد ضر الكفار في دينهم؟ فمن قولهم : نعم.
__________________
فيقال لهم : فما
أنكرتم ان يغرهم في دينهم كما أنه ضرهم في دينهم. فان قالوا : ان الله لا
يغر العباد في أديانهم. قيل لهم : والله لا يضرهم في أيمانهم.
وان قالوا : ان
الله يغرهم في أديانهم. قيل لهم : فما أنكرتم أن يموه عليهم ويخدعهم
عن أديانهم؟ فإن قالوا بذلك شتموا الله أعظم الشتيمة. وان قالوا : ان الله لا يخدع
أحدا عن دينه ولا يغر أحدا عن دينه. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يضره في
دينه. وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.
ويقال لهم : أتقولون
ان الله ضر النصراني في دينه إذ جعله نصرانيا وخلق فيه الكفر ، وكذلك اليهودي؟ فإن
قالوا : نعم وهو قولهم فيقال لهم : فما أنكرتم ان يفسده في دينه فيكون مفسدا لعباده في أديانهم. فإن قالوا : انه
مفسد لهم في أديانهم. قيل لهم : أفيجب عليهم شكره وهو في قولهم مفسد لهم؟ فان
قالوا : لا يجب أن يشكر صح كفرهم ، وان قالوا : انه يجب أن يشكر. قيل لهم : على ما
ذا يشكر؟ فان قالوا : على الكفر فقد افتضحوا وبان خزيهم. وان قالوا : انه يشكر [على
] ما خلق فيهم من الصحة والسلامة. قيل لهم : أو ليس هذه الأمور عندكم قد فعلها
مضرة عليهم في دينهم ليكفروا ويصيروا الى النار ، فكيف يكون ما به هلاكهم نعمة
عليهم؟! فإذا جاز ذلك يكون من أطعمني خبيصا مسموما ليقتلني به منعما علي ومحسنا [الي
] فان قالوا : لا يكون محسنا الى الكافر بهذه الأمور إذ انما فعلها فيهم
ليكفروا ويصيروا الى النار ،
__________________
فلا بد لهم ان لا
يروا الشكر لله العباد واجبا ، فيخرجوا من دين أهل القبلة.
ويقال لهم : أليس
الله بفعله للصواب مصيبا؟ فمن قولهم : نعم يقال لهم : فإذا زعمتم أنه قد جعل الخطأ
فما أنكرتم أن يكون مخطئا؟ فإن قالوا : انه مخطئ ، بان كفرهم ، وان قالوا : لا
يكون بفعله للخطإ مخطئا. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون بفعله للصواب مصيبا كما
لم يكن بفعله للخطإ مخطئا؟ وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.
ويقال لهم : أليس
الله عزوجل مصلحا للمؤمنين بما خلق فيهم من الصلاح؟ فإذا قالوا : نعم
قيل لهم : فما أنكرتم أن كون مفسدا للكافرين بما خلق فيهم من الكفر والفساد؟ فان
قالوا بذلك. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون ظالما بما خلق فيهم من الظلم؟ فإن أبوا
ذلك يسألوا الفصل بينهما ولن يجدوه ، وان قالوا : انه ظالم ، فقد وضح شتمهم الله
تعالى.
ويقال لهم : أتقولون
ان الله مصيب عادل في جميع ما خلق؟ فإذا قالوا : نعم. قيل لهم : فما أنكرتم أن
يكون جميع ما خلق صوابا وعدلا ان كان عادلا مصيبا في خلقه فان قالوا : ان جميع ما خلق عدل وصواب. قيل لهم : أفليس من
قولكم ن الظلم والكفر والخطأ عدل وصواب. فان قالوا : ان ذلك عدل وصواب. قيل لهم :
فما أنكرتم ان يكون [ذلك ] حقا وصلاحا.
فان قالوا : بذلك
فقد وضح فساد قولهم ولزمهم أن يكون الكافر عادلا بفعله الكفر وان يكون مصيبا محقا مصلحا ان كان فعله عدلا وصوابا وحقا وصلاحا. فان أبو أن
يكون الكفر صلاحا وصوابا وحقا وعدلا قيل لهم : فما أنكرتم ان لا
__________________
يكون بفعله الجور
عادلا ، ولا بفعله الخطأ مصيبا ولا بفعله الفساد مصلحا إذا ، فإن قالوا بذلك ، قيل
لهم : فما أنكرتم ان لا يكون الخطأ والجور من فعله إذ كان مصيبا عادلا في جميع
فعله. فان قالوا بذلك ، تركوا قولهم وصاروا الى قول أهل الحق : ان الله لا يفعل
خطأ ولا جورا ولا باطلا ولا فسادا.
ويقال لهم : أتقولون
ان الله يفعل الظلم ولا يكون ظالما؟ فمن قولهم : نعم. يقال [لهم] فما الفرق بينكم وبين من قال انه ظالم وانه لم يفعل ظلما؟
وان قالوا : [انه ] لا يجوز أن يكون ظالما الا من فعل ظلما ، قيل لهم : وكذلك
لا يجوز أن يكون للظلم فاعلا ولا يكون ظالما ، بل يجب أن يكون من كان للظلم فاعلا
أن يكون ظالما.
ويقال لهم : أليس
من قولكم ان الله خلق الكفر في الكافرين ثم عذبهم عليه؟ فإذا قالوا : نعم. يقال
لهم : فما أنكرتم يضطرهم الى الكفر ثم يعذبهم عليه؟ فان قالوا : لو اضطرهم الى
الكفر لم يكونوا مأمورين ولا منهيين لانه لا يجوز أن يؤمروا ولا ينهوا بما اضطرهم
اليه. قيل لهم : ولو كان الكفر قد خلق فيهم لم يكونوا مأمورين ولا منهيين لانه لا
يجوز أن يؤمروا وينهوا بما خلق الله فيهم ، وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.
وان قالوا : ان
الله اضطرهم الى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن يكون [قد حملهم عليه واجبرهم ، [عليه ] واكرههم. فان قالوا بذلك [فقد ] صاروا الى قول جهم انه لا فعل للعباد وانما هم كالحجارة
تقلب وان لم تفعل شيئا كالأبواب تفتح وتغلق وان لم تفعل شيئا ، ولزمهم ما لزم
جهما.
__________________
فان صاروا الى قول
جهم ، قيل لهم : إذا جاز عندكم أن يعذب الله العباد على ما لم يكن منهم بل يعذبهم
على ما اضطرهم اليه وحملهم [عليه ] فما أنكرتم أن يعذبهم على ألوانهم وصورهم وطولهم وقصرهم.
فان قالوا بذلك ،
قيل لهم : فلم لا يجوز أن يعذبهم من خلقهم وخلق السماوات والأرض. فإن قالوا بذلك
سقطت مئونتهم ولم يؤمنوا لعل الله سيعذب قوما على ما ذكرنا ، وان قالوا : لا يجوز
أن يعذبهم على ما ذكرتم. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يجوز أن يعذبهم على ما اضطرهم
اليه واجبرهم عليه.
ويقال لهم ان
صاروا الى قول جهم : إذا زعمتم أن لا فاعل الا الله فما أنكرتم أن يكون لا قائل
إلا الله؟ فان قالوا بذلك : قيل لهم فما أنكرتم أن يكون هو القائل إني ثالث ثلاثة
، وان لي ولدا ، وهو الكاذب بقول الكاذب ، ولزمهم ان يكون جميع أخباره كذبا ، وان قالوا : لا يجب أن يكون لا قائل
إلا الله لان هذا يوجب انه ظالم عابث إذ لم يفعل الظلم والعبث غيره.
وان امتنع القوم
من أن يقولوا انه اضطرهم الى الكفر. قيل لهم : فما أنكرتم أن لا يكون قد خلق فيهم
الكفر كما لم يضطرهم اليه ويحملهم عليه.
ويقال لهم : أليس
الله تعالى خلق الكفر والايمان ، وأمر بالايمان ونهى عن الكفر ، وأثاب على الايمان
وعاقب على الكفر؟ فإذا قالوا : نعم ، قيل لهم فقد أمر الله تعالى العباد أن يفعلوا
خلقه ونهاهم وغضب من خلقه لأن الله تعالى غضب من الكفر [وسخط ] وهو خلقه. فان قالوا بذلك قيل لهم : فلم
__________________
لا يجوز أن يغضب
من كل خلقه كما غضب من بعض [خلقه ] ، ولم لا يجوز أن يأمر وينهى العباد ويثيبهم ويعاقبهم على
السواد والبياض والطول والقصر ، كما أمرهم بخلقه ونهاهم عن خلقه وأثابهم وعاقبهم
على خلقه.
ويقال لهم : أليس
الله تعالى [قد ] فعل الظلم وليس بظالم؟ فمن قولهم : نعم. يقال لهم : فما
أنكرتم أن يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فان قالوا بذلك لم يؤمنوا ان جميع اخباره
عن الغيب والحساب والجنة والنار كذب وان لم يكن كاذبا ، وان قالوا : لا يجوز أن
يخبر بالكذب الا كاذب ، قيل لهما : فما أنكرتم ان لا يفعل الظلم الا ظالم.
فان قالوا : لا
يجب أن يكون الله ظالما لأنه إنما فعل ظلم العباد. قيل : فما أنكرتم ان لا يكون
كاذبا لأنه إنما قال كذبا للعباد ، ولم يجدوا مما سألناهم [عنه ] مخلصا.
ويقال لهم : أليس
الله تعالى قد فعل [عندكم ] شتم نفسه ولعن أنبيائه؟ فإن قالوا : نعم. قيل لهم : فما
أنكرتم ان يكون شاتما لنفسه لا عنا لأنبيائه. فإن قالوا : انه شاتم لنفسه لا عن
لأنبيائه ، فقد سقطت مئونتهم وخرجوا عن دين أهل القبلة. وان قالوا : ان الله لا
يجوز أن يشتم نفسه ويلعن أنبياءه ، قيل لهم : فما أنكرتم ان لا يجوز أن يفعل شتم
نفسه ولا لعن أنبيائه. وكلما اعتلوا بعلة عورضوا بمثلها.
__________________
فصل
[التنديد بالقائلين بخلق الافعال ]
قد كان الاولى ان
لا ندل على مثل هذه المسألة اعني ان أفعال العباد فعلهم وخلقهم لان المنكر لذلك
ينكر المحسوسات التي قد تبين صحتها ، ولو لا ما رجوته من زوال شبهة ، ومن وضوح حجة تحصل لقارئ كتابي هذا لما كان هذا الباب مما ينتشر فيه
القول.
ولا أعجب ممن ينفي
فعله مع علمه بأنه يقع بحسب اختياره ودواعيه ومقاصده ، نعوذ بالله من الجهل ، فإنه
إذا استولى وغمر طبق وعم ، وقد قال الرسول الصادق صلىاللهعليهوآلهوسلم : حبك الشيء يعمي ويصم.
وقد قال الله
سبحانه في قوم عرفوا ثم عاندوا (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها
أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ).
فصل
[تنزيهه تعالى عن القضاء بغير الحق ]
فان قال منهم قائل
: ما ذا نفيتم ان يكون الله فاعلا لأفعالكم ، أفتقولون انه
__________________
قضى أعمالكم؟ قيل
له : ان الله تعالى قضى الطاعة إذا أمر بها ولم يقض الكفر والفجور والفسوق.
فان قال : فما
الدليل على ما قلتم؟ قيل له : من الدليل على ذلك قول الخالق الصادق عزوجل : والله يقضي بالحق وهو خير الفاصلين فعلمنا انه يقضي بالحق ولا يقضي بالباطل ، لانه لو جاز أن
يتمدح بأنه يقضي بالحق وهو يقضي غير الحق ويقضي بالباطل لجاز ان يقول : والله يقول
الحق وهو يقول غير الحق ، فلما كان قوله والله يقول الحق دليلا على انه لا يقول
غير الحق كان قوله يقضي الحق دليلا على أنه لا يقضي غير الحق.
ويدل على ذلك قوله
تعالى (وَاللهُ يَقْضِي
بِالْحَقِ) ، فعلمنا انه يقضي بالحق ولا يقضي بالجور.
ويدل على ذلك أيضا
قوله تعالى (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ، فعلمنا أنه لم يقض عبادة الأصنام والأوثان ولا عقوق
الوالدين.
ومما يبين ذلك
أيضا أن الله أوجب علينا أن نرضى بقضائه ولا نسخطه ، وأوجب علينا أن نسخط الكفر
ولا نرضاه ، فعلمنا أن الكفر ليس من قضاء ربنا.
ومما يبين ذلك أن
الله تعالى أوجب علينا أن ننكر المنكر وأن نمنع الظلم ، فلو كان الظلم من قضاء
ربنا كان أوجب علينا ان ننكر قضاءه وقدره ، فلما لم يجز أن يوجب الله تعالى إنكار
قضائه ولا رد قدره ، علمنا أن الظلم ليس من قضائه ولا قدره.
وأيضا قال الله
تعالى في كتابه (وَيَقْتُلُونَ
النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِ) وقال :
__________________
يَقْضِي
بِالْحَقِ) فعلمنا أن ما كان بغير الحق غير ما قضى بالحق ، فلو كان
قتل الأنبياء من قضاء الله كان حقا ، وكان يجب علينا الرضا به ، لانه يجب علينا
الرضا بقضاء الله ، وقد أمر الله تعالى أن لا يرضى بغير الحق ولا يرضى بقتل
الأنبياء. فعلمنا أن قتلهم ليس بقضاء ربنا ولا من فعل خالقنا.
ومما يبين أن الله
تعالى لم يقدر الكفر قوله تعالى في كتابه (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى. الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى. وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) ولم يقل انه قدر الظلال على خلقه ، ولا قدر الشقاء على
خلقه ، لأنه لا يجوز أن يتمدح بأنه قدر الضلال عن الحق ، وكل ضلال عن الحق فمن تقديره ، تعالى عن ذلك
علواً كبيراً.
فصل
[معنى خلق الأشياء كلها ]
فان قيل : فما
معنى قول الله تعالى (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) و (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)؟ قيل له : انما أراد به خلق السماوات والأرض والليل
والنهار والجن والانس وما أشبه ذلك [ولم يرد أنه خلق الكفر والظلم والكذب ، إذ لم
يجز أن يكون ظالما ولا كاذبا ، عزوجل ] وقد بين الله لنا صنعه فقال (صُنْعَ اللهِ الَّذِي
أَتْقَنَ
__________________
كُلَّ
شَيْءٍ) فلما لم يكن الكفر بمتقن ولا بمحكم ولا بحق ولا بعدل علمنا
أنه ليس من صنعة ، لانه متفاوت متناقض ، وقد قال تعالى (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ
لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) فأخبر أن الاختلاف لا يكون من عنده ، وقال تعالى (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ
تَفاوُتٍ) والكفر متفاوت [فاسد ] متناقض ، فثبت انه ليس من خلقه وانه عمل الكافرين.
فان قال : فلم
زعمتم ان قوله (كُلِّ شَيْءٍ) قد خرج منه بعض الأشياء؟ قيل له : قد قال الله تعالى (إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ) ولم يخلقها ، والايمان الذي أمر الله به فرعون والكافرين
لم يخلقه ، فثبت أن الأشياء [أطلق ] في بعض دون بعض ، وقد قال الله تعالى (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ولم تؤت من ملك سليمان شيئا ، وانما أراد مما أوتيته [هي دون ما لم تؤته.
وقال تعالى (يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) وقد علمنا أنه لم تجب اليه ثمرات الشرق والغرب ، وانما أراد مما يجبى [اليه و ] كذلك قوله تعالى
__________________
(خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) مما خلقه تعالى.
وقال تعالى (فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ
شَيْءٍ) وانما أراد ما فتح عليهم.
وقال تعالى (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) ولم يرد تبيان عدد النجوم وعدد الانس والجن ، وانما أراد
تبيان كل شيء مما بالخلق إليه حاجة في دينهم.
وقال تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ
رَبِّها) ولم يرد أنها تدمر هودا والذين معه ، وانما [أراد ] تدمر من أرسلت لتدميره.
وقال (أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ
كُلَّ شَيْءٍ) ولم ينطق الحجارة والحركة والسكون .
وما أشبه ما
ذكرناه كثير ، كذلك أيضا قوله (بَدِيعُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ) و (خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ
تَقْدِيراً) أراد الأزواج والأولاد والأجسام ، لأن هذا رد على النصارى
ولم يرد الفجور والفسوق.
__________________
وما ذكرناه في
اللغة مشهور ، قال لبيد بن ربيعة :
ألا كل شيء ما
خلا الله باطل
|
|
وكل نعيم لا
محالة زائل
|
ولم يرد أن الحق
باطل ، ولا أن شعره هذا [الذي قاله] باطل ، وقد قال كل شيء وانما أراد بعض الأشياء
، ويقول القائل «دخلنا المشرق
فاشترينا كل شيء ورأينا كل شيء حسن» ، وانما أراد كل شيء مما اشتروا ، وكل شيء مما
رأوا ، وكذا «خالق كل شيء» مما خلقه لا مما فعله عباده ، لانه لا يجوز أن يفعل
العباد خلق رب العالمين.
ويقال لهم : ان
كان يجب أن تكون أعمال العباد خلق الله لقول الله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، فيجب أن يكون كل خلقه حسنا لقوله (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) فيجب أن يكون الشرك حسنا ، وكذلك الظلم والكذب والفجور
والفسوق ، لان ذلك عندهم خلق الله تعالى.
فان قالوا : ان
قوله (الَّذِي أَحْسَنَ
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) انما أراد بعض الأشياء. قيل لهم: فما أنكرتم أن يكون قوله (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) انما وقع على كل شيء
__________________
خلقه دون ما لم
يخلقه مما يقدر عليه ويعلم أنه لا يفعله ومما يفعله عباده من الطاعة والمعصية.
فإن قال قائل :
فما معنى قول الله تعالى (وَاللهُ خَلَقَكُمْ
وَما تَعْمَلُونَ)؟ قيل له: انما خبر الله عن إبراهيم أنه حاج قومه فقال : [لهم
](أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ ، وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يقول نحتم خشبا ثم عبدتموه ، على وجه التوبيخ. ثم قال (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) يقول خلقكم وخلق الخشب الذي عملتموه صنما ، فسمى الصنم
الذي عملوه عملا لهم وان كان الذي حل فيه من التصوير عملهم.
ولما ذكرناه نظائر
من القرآن واللغة : فأما القرآن فقوله تعالى (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) وانما عملهم حل في هذه الأمور ، فأما الحجارة فهي خلق الله
لا فاعل لها غيره.
ومن ذلك أيضا قوله
(وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا) فالخشب خلق الله والعباد نجروه وعملوه فلكا وسفنا.
ومن ذلك أيضا قوله
(أَنِ اعْمَلْ
سابِغاتٍ) فالحديد خلق الله ولكن العباد عملوه دروعا ، فعمل داود عليهالسلام حل في الحديد والحديد خلق الله.
وقال في الحية (تَلْقَفْ ما صَنَعُوا) وإنما يريد أنها تلقف الحبال والعصي
__________________
التي فيها صنعهم ،
فكذلك قال (أَتَعْبُدُونَ ما
تَنْحِتُونَ. وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) خلق الخشب الذي يعملون منه صنما لا أن العباد عملوا خلق الله [و ] لا ان الله خلق أعمالهم.
وقد يقول القائل :
فلان يعمل الطين لبنا ، ويعمل الحديد أقفالا ، ويعمل الخوص زبلا. كذلك أيضا عملوا
الخشب أصناما ، فجاز أن يقال : انها عمل لهم ، كما قيل : انهم يعملون الخوص والطين
والحديد.
ثم انا نرد هذا
الكلام عليهم فنقول لهم : إذا زعمتم أن كفرهم خلقهم ، وقال إبراهيم محتجا عليهم في قولهم ان الله خلق أعمالهم
فلم ما قالوا : يا إبراهيم ان كان الله خلق فينا الكفر ولا يمكننا ان نرد ما خلق
الله فينا ولو قدرنا لفعلنا ، وأنت تأمرنا بأمر لا يكون خلق الله فينا ، فإنما
تأمرنا بأن لا يخلق الله خلقه حاشا الله ، بل قالوا ذلك لتبين إبراهيم عليهالسلام أن كفرهم غير خلق الله ، ولو كان خلق الله ما عذبوا عليه
ولا نهوا عنه ، وقد قال الله تعالى (لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ) فلو كان خلق الله ما بدل وما عذبوا الا على كفرهم الذي هو
غير خلق الله وان خلق الله حكمة وصواب ، والكفر سفه وخطأ ، فثبت أن الحكمة غير
السفه ، والخطأ غير الصواب.
ولو لا كراهة طول
الكتاب وخوف ملال القارئ لأتينا على كل شيء مما
__________________
يسألون عنه من
المتشابه في تصحيح مذهبهم. وفيما ذكرناه كفاية ودلالة على ما لم نذكره ، على أنا
قد أودعنا كتابنا (صفوة النظر) من ذلك ما فيه بلاغ. والحمد لله رب العالمين.
فصل
[معنى الهدى في المؤمن والكافر ]
ان سأل سائل فقال
: أتقولون ان الله هدى الكافر؟ قيل له : ان الهدى على وجهين : هدى هو دليل وبيان ،
فقد هدى الله بهذا الهدى كل مكلف بالغ الكافر منهم والمؤمن ، وهدى هو الثواب
والنجاة فلا يفعل الله هذا الهدى الا بالمؤمنين المطيعين القائلين عن الله رسوله.
فان قال : فما الدليل على أن الهدى ما تقولون؟ قيل : الدليل على أن
الهدى قد يكون بمعنى الدليل قوله تعالى في كتابه (وَأَمَّا ثَمُودُ
فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ
الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) فقد خبر الله تعالى أنه هدي ثمود الكفار فلم يهتدوا
فأخذتهم الصاعقة بكفرهم.
وقال الله تعالى (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ
سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ
رَبِّهِمُ الْهُدى) يعني الدلالة والبيان.
وقال تعالى (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا
إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) يعني الدلالة
__________________
والبيان.
وقال (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) يعني دللناه على الطريق.
وقال تعالى (قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا
لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ
بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ) فخبروا في الآخرة أن الهدى أتى من الله للكفار فلم يهتدوا
، وانما هدى الله هدى الدليل.
وقال تعالى لنبيه صلىاللهعليهوآلهوسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) يعني تدل وتبين ، وما أشبه ما ذكرناه أكثر من أن نأتي
عليه.
وأما ما يدل على
ذلك من اللغة : فإن كل من دل على شيء فقد هدي إليه ، فلما كان الله تعالى قد دل
الكفار على الايمان ثبت أنه قد هداهم الى الايمان.
فأما هدى الثواب
الذي لا يفعله الله بالكافرين فمنه قوله تعالى (وَالَّذِينَ قُتِلُوا
فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ. سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ
بالَهُمْ) وانما يهديهم بعد القتل بأن ينجيهم ويثيبهم.
وقال (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ
الْأَنْهارُ) انما يهديهم بايمانهم بأن ينجيهم ويثيبهم.
وقال (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ
رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ) وقال (يَهْدِي إِلَيْهِ
مَنْ أَنابَ) يعني من تاب.
__________________
فهذا الهدى وما
أشبه لا يفعله الله الا بالمؤمنين القائلين بالحق ، فأما قرين الدليل فقد هدى الله الخلق أجمعين. وكلما سئلت
عن آية من الهدى من الله تعالى فردها الى هذين الأصلين ، فإنه لا يخلو من أن يكون
على ما ذكرناه ، ولو لا كراهة التطويل لسألنا أنفسنا عن آية آية مما يحتاج الى
البيان ، وفي هذه الجملة دليل على ما نسأل عنه.
فصل
[حقيقة الإضلال منه سبحانه ]
فان قيل : أفتقولون
أن الله تعالى أضل الكافرين؟ قيل له : نقول ان الله أضلهم بأن عاقبهم وأهلكهم
عقوبة لهم على كفرهم ولم يضلهم عن الحق ولا أضلهم بأن افسدهم ، جل وعز عن ذلك.
فان قالوا : لم
زعمتم أن الضلال قد يكون عقابا؟ قيل لهم : قد قال الله تعالى (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ
وَسُعُرٍ) يعني في هلاك ، وسعر يعني سعر النار فيهم ، إذ ليس في ضلال
هو كفر أو فسق ، لان التكليف زائل في الآخرة ، وقد بين الله تعالى من يضل فقال (وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ) وقال (يُضِلُّ اللهُ
الْكافِرِينَ) وقال (ما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) وقال (كَذلِكَ يُضِلُّ
اللهُ مَنْ
__________________
هُوَ
مُسْرِفٌ مُرْتابٌ).
ثم أوضح الأمر
وخبر أنه لا يضل الا بعد إقامة الحجة ، فقال (وَما كانَ اللهُ
لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) فأخبر أنه لا يضل أحدا حتى يقيم الحجة عليه ، فإذا ضل عن
الحق بعد البيان والهدى والدلالة أضله الله حينئذ ، بأن أهلكه وعاقبه.
وأما الإضلال الذي
ننفيه عن ربنا تعالى فهو ما أضافه الله الى غيره فقال (وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) يقول : أضلهم بأن دعاهم الى عبادة العجل.
وقال (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما
هَدى) يريد أضلهم بأن قال (أَنَا رَبُّكُمُ
الْأَعْلى) وأمرهم بالكفر ودعا اليه ، والله لا يأمر بعبادة غيره ولا
يفسد عباده.
وقال (فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ
هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ).
وقال (وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا
كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) يريد أنه أفسد وغر وخدع ، والله لا يغر العباد ولا يظهر في الأرض الفساد.
وقال يخبر عن أهل
النار : انهم يقولون (ما أَضَلَّنا إِلَّا
الْمُجْرِمُونَ) يريد ما أفسدنا ولا غيرنا ولا بين الكفر والمعاصي إلا
المجرمون ، ولم يقولوا ما أضلنا
__________________
الا رب العالمين ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!
وكل إضلال أضل
الله به العباد فإنما هو عقوبة لهم على كفرهم وفسقهم.
وأما من خالفنا
زعموا ان الله تعالى يبتدئ كثيرا من عباده بالإضلال عن الحق ابتداء من غير عمل ،
وان قولهم ان عبدا مجتهدا في طاعة الله قد عبده مائة عام ثم لا يأمنه أن يضله عما
هو عليه من طاعة فيخلق فيه من الكفر ، ويزين عنده الباطل ، وان يعبد غيره
مائة عام ويكفر به ثم لا يأمن أن يخلق في قلبه الايمان فينقله عما هو عليه ، فليس
يثق وليه بولايته ، ولا يرهب عدوه من عداوته.
فصل
[عود على بدء في معنى الهدى ]
فان سأل سائل فقال
: ما معنى قوله (إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ). قيل له : معنى ذلك انك لا تنجي من العذاب من أحببت .. لأن النبي صلىاللهعليهوآله كان حريصا على نجاة أقاربه بل كل من دعاه.
فان قيل : فلم
زعمتم أن هذا [هو ] تأويل الآية؟ قيل له : لما كان الله قد هداهم بأن دلهم
على الايمان علمنا أنه لم يهدهم بهدى الثواب ، وقد بين
__________________
الله تعالى أن
الهدى بمعنى الدليل قد هداهم به ، فقال (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) يعني الدلالة والبيان.
فان قيل : فما
معنى قوله (لَيْسَ عَلَيْكَ
هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ)؟ قيل له : انما أراد به ليس عليك نجاتهم ، ما عليك الا
البلاغ ولكن الله ينجي من يشاء.
فان قيل : فلم
قلتم هذا؟ قيل له : لما أخبر الله تعالى أن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم قد هدى الكافر فقال (إِنَّكَ لَتَهْدِي
إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) وانما يريد انك تدل ، فلما كان قد دل المؤمن والكافر كان
قد هدى الكافر والمؤمن ، فعلمنا انه أراد بهذه الآية هدى الثواب والنجاة ، فقس على
ما ذكرناه جميع ما يسأل عنه من أمثال هذه الآية.
«باب»
(الكلام في الإرادة وحقيقتها)
فان سأل سائل فقال
: أتقولون ان الله تعالى أراد الإيمان من جميع الخلق المأمورين والمنهيين أو أراد
ذلك من بعضهم دون بعض؟ قيل له : بل أراد ذلك من جميع الخلق ارادة بلوى واختبار ،
ولم يرد ارادة إجبار واضطرار ، وقد قال الله تعالى (كُونُوا قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ) وقال (كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) فأراد
__________________
أن يجعلهم هو قردة
، ارادة إجبار واضطرار فكانوا كلهم كذلك ، وأراد أن يقوموا بالقسط ارادة بلوى
واختبار ، فلو أراد أن يكونوا قوامين بالقسط كما أراد أن يكونوا قردة خاسئين، لكانوا كلهم قوامين شاءوا
أو أبوا ، ولكن لو فعل ذلك ما استحقوا حمدا ولا أجرا.
ومما يدل من
القرآن على ان الله أراد بخلقه الخير والصلاح ولم يرد بهم الكفر والضلال قوله
سبحانه (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) فأخبر ان ما أراد غير ما أرادوا.
وقال (يُرِيدُ اللهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ
وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ) فأخبر أن إرادته في خلقه الهداية والتوبة والبيان ثم قال (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً
عَظِيماً) فأخبر ان ما أراد الله منهم [غير ما أراد ] غيره من الميل العظيم.
وقال (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ
بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) فأخبر انه انما يأبى ما اراده العباد من إطفاء نوره.
وقال (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) وقال (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فأخبر انه تعالى لا يريد الظلم بوجه من الوجوه ، كما انه
لما قال (وَلا يَرْضى
__________________
لِعِبادِهِ
الْكُفْرَ) لم يجز أن يرضى [به ] بوجه من الوجوه.
وكذلك لما قال (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ
عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) لم يجز أن يأمر بالفحشاء بوجه من الوجوه ، ولو جاز أن يريد
الظلم وهو يقول (وَمَا اللهُ يُرِيدُ
ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) لجاز أن يرضى بالكفر ويجب الفساد ويأمر بالفحشاء ، مع هذه
الآيات ، فلما لم يجز ذلك لم يجز أن يريد الظلم.
ومما يدل على أن
الله تعالى لم يرد الكفر والفجور : انا وجدنا المريد لشتم نفسه سفيها غير حكيم ، فلما كان الله أحكم الحاكمين علمنا انه لا يريد
شتمه ولا سوء الثناء عليه.
وأيضا فإن الكفار
إذا فعلوا ما أراد من الكفر كانوا محسنين ، لان من فعل ما أراد الله تعالى فقد
أحسن ، فلما لم يجز أن يكون [الكافر ] محسنا في شتمه الله ومعصيته له علمنا أنه لم يفعل ما أراد
الله.
وأيضا فإنه لو جاز
أن يريد الكفر به ويكون بذلك ممدوحا لجاز أن يحب الكفر ويرضى به ، ويكون بذلك
حكيما ممدوحا ، فلما لم يجز أن يرضى بالكفر ولا يحبه لم يجز أن يريده.
وأيضا فإن من أمر
العباد بما لا يريده فهو جاهل ، فلما كان ربنا أحكم الحاكمين علمنا انه لم يأمر
بشيء لا يريده ، لان نم أمر بمدحه ولم يرد أنه يفعله ونهى عن شتمه وأراد أن يفعل
فهو جاهل ناقص ، فلما كان الله احكم الحاكمين
__________________
علمنا انه لا يريد
ان يشتم ولا يثنى عليه بسوء الثناء. تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.
فصل
[في ] شبهة لهم [في الإرادة ]
قالوا : لو أراد
الله سبحانه من زيد الايمان فوقع خلافه وهو مراد الشيطان والعبد لكانا قد عجزا
الله ووجب أن يكونا أقدر منه.
والجواب عن ذلك :
أنه يقال لهم : لم قلتم ذلك؟ فان قالوا : لأنا نعلم ان جند السلطان لو فعلوا مالا
يريده لدل على عجزه وعدم قدرته .
قيل لهم : انما صح
ذلك لان السلطان لم يكن ممن يصح منه التكليف أو ممن له قدرة على الانتصاف منهم في
أي وقت أراد ولا يخاف الفوت ، ولم يكن أيضا ممن يعلم مقدار الحسنة والجزاء عليها
والسيئة والأخذ بها.
وأيضا فإن السلطان
يتألم إذا لم يقع مراده ويسر بوقوعه ، وكل هذه الأوصاف منتفية عن القديم تعالى ،
ففرق بين الأمرين ، ولم يكن للقياس الذي اعتمدوا عليه معنى في هذا الموضع ، وانما
يجب أن يجمع بين المتساويين بعلة والأمر هاهنا بخلاف ذلك.
ثم يقال لهم :
انما كان يجب أن يكون عاجزا لو أراد منهم الطاعة ارادة
__________________
اضطرار وإجبار ثم
لم تقع ، فأما إذا أراد ارادة البلوى والاختبار فهذا مالا يغبى الا على المسكين ،
وإذا كان ذلك كله فلا يكون منا التعجيز لله تعالى ، إذ فعل العباد مالا يريده من
الكفر ولم يفعلوا ما اراده من الايمان ، لانه لم يرد ان يحملهم عليه حملا ويلجئهم
اليه إلجاء ، فيكون منهم على غير سبيل التطوع.
وقد بين الله [ذلك
] في كتابه فقال (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) فأخبر أنه لو شاء لا حدث آية يخضع عندها الخلق ، ولكنه لو
فعل ذلك ما استحقوا حمدا ولا جزاء ولا كرامة ولا مدحا ، لان الملجإ لا يستحق حمدا ولا جزاء ،
وانما يستحق ذلك المختار المستطيع وقد بين الله ذلك فقال (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا
آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) وقال الله عزوجل (فَلَمْ يَكُ
يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) فأخبر انه لا ينفع الإيمان إذا كان العذاب والا لجاء.
وقال تعالى (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا
يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي
إِيمانِها خَيْراً) فأخبر أنه لا ينفع الايمان في حال الإلجاء.
__________________
وقال عزوجل (حَتَّى إِذا
أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ
بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ).
وقال الله تعالى (آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ
مِنَ الْمُفْسِدِينَ) فأخبر أنه لا ينفعه الايمان في وقت الا لجاء والإكراه.
وقال عزوجل (إِنَّمَا التَّوْبَةُ
عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ
قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ
التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ
الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) فأخبر انه لا تنفع التوبة في حال المعاينة ، وما أشبه ما
ذكرناه كثير.
ثم يقال لهم :
فإذا كان العبد بفعله ما لم يرد الله قد أعجزه فيجب أن يكون بفعله ما يريده قد
أقدره ، ومن انتهى قوله الى هذا الحد فقد استغني عن جداله وربحت مئونته.
فصل
[الايمان وحقيقة المشيئة ]
فإن سألوا عن معنى
قوله تعالى (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ
حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ).
قيل لهم : معنى
ذلك لو شاء ربك لألجأهم الى الايمان ، لكنه لو فعل ذلك
__________________
لزال التكليف ،
فلم يشأ ذلك بل شاء ان يطيعوا على وجه التطوع والإيثار لا على وجه الإجبار
والاضطرار ، وقد بين الله ذلك فقال (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ
النَّاسَ) يريد اني انا أقدر على الإكراه منك ولكنه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ
تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) وكذلك الجواب في قوله (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ
ما فَعَلُوهُ) ، و (فَلَوْ شاءَ
لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) وقوله (وَلَوْ شاءَ اللهُ
مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ
وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ) ولو شاء لحال بينهم وبين ذلك. ولو فعل ذلك لزال التكليف عن
العباد ، لانه لا يكون الأمر والنهي إلا مع الاختيار لا مع إلجاء والاضطرار.
وقد بين الله [ذلك
] بما ذكرنا من قوله (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ) فأخبر أنه لو شاء لاكرههم على الايمان.
وقد بين ذلك ما
ذكرناه من قصة فرعون وغيره انه لم ينفعهم الايمان في وقت الإكراه.
وقد بين الله في
كتابه العزيز أنه لم يشأ الشرك ، وكذب الذين أضافوا إليه ذلك ، فقال تعالى (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ) فأخبروا أنهم انما أشركوا بمشيئة الله تعالى فلذلك كذبهم ،
__________________
ولو كانوا أرادوا
أنه لو شاء الله لحال بيننا وبين الايمان لما كذبهم الله ، قال الله تكذيبا لهم (كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا) يعني عذابنا (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ
مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا) يعني هل عندكم من علم أن الله يشاء الشرك ثم قال (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [يعني تكذبون ] كقوله (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ).
وقال عزوجل (ما لَهُمْ بِذلِكَ
مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) يعني يكذبون.
وقال عزوجل (وَقالَ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا
آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) خبر أن الرسل قد دعت الى الايمان ، فلو كان الله تعالى شاء
الشرك لكانت الرسل قد دعت خلاف ما شاء الله ، فعلمنا ان الله لم يشأ الشرك.
فان قال بعض
الأغبياء : فهل يشاء العبد شيئا أو هل تكون للعبد ارادة؟ قيل له : نعم قد شاء ما
امكنه الله من مشيئته ويريد ما امره الله بإرادته ، فألقوه على الإرادة فعل الله
والإرادة فعل العبد.
والدليل على ذلك
قول الله تعالى (قُلِ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا
لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها).
__________________
وقال تعالى (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ
سَبِيلاً) وقال (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ
إِلى رَبِّهِ مَآباً) وقال (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ
مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ).
وقال (وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي
الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ).
وقال (فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما).
وقال (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ).
وقال (لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ
أَجْراً).
وقال فيما بين أن
العبد قد يريد ما يكره الله من إرادته فقال (تُرِيدُونَ عَرَضَ
الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ).
وقال (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ
الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً).
وقال (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا
لَهُ عُدَّةً) فأخبر أنهم لو أرادوا لفعلوا كما فعل من أراد الخروج.
وقال (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ
اللهِ).
__________________
وقال (يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ
ضَلالاً بَعِيداً).
وقال (إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ
يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ). وما أشبه ما ذكرنا أكثر من أن نأتي عليه في هذا الموضع.
فان قال : فما
معنى قوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ).
قيل له : ان الله
ذكر هذا المعنى في موضعين ، وقد بينهما ودل عليهما بأوضح دليل وأشفى برهان على
أنها مشيئته في الطاعة ، فقال (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فهو عزوجل شاء الاستقامة ولم يشأ الاعوجاج ولا الكفر ، وقال في موضع
آخر (إِنَّ هذِهِ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً. وَما تَشاؤُنَ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ اللهُ) فالله قد شاء اتخاذ السبيل ولم يشأ العباد ذلك الا وقد شاء
الله لهم ، فأما الصد عن السبيل وصرف العباد عن الطاعة فلم يشأ عزوجل.
ويقال لهم : أليس
المريد لشتمه غير حكيم؟ فمن قولهم : نعم. قيل لهم : أو ليس المخبر بالكذب كاذبا؟
فمن قولهم : نعم. قيل لهم : وقد زعمتم ان الله يريد شتمه ويكون حكيما فلا بد من
الإقرار بذلك أو يتركوا قولهم.
ويقال لهم : فما
أنكرتم ان يخبر بالكذب ولا يكون كاذبا؟ فان منعوا من ذلك قيل لهم : ولا يجب أن
يكون حكيما بإرادة السفه وارادة شتم نفسه ، ولا يجدون الى الفصل سبيلا. فإن أجازوا
على الله أن يخبر بالكذب لم يأمنوا بعد اخباره عن البعث والنشور والجنة والنار
أنها كلها كذب ويكون بذلك صادقا ، ولا يجدون من الخروج عن هذا الكلام سبيلا.
__________________
ويقال لهم : فما
تريدون أنتم من الكفار؟ فان قالوا : نريد من الكفار الكفر ، فقد أقروا على أنفسهم
بأن يريدوا ان يكفر بالله ويجب عليهم ان يجيزوا ذلك على النبي صلىاللهعليهوآله بأن يكون مريدا للكفر بالله تعالى ، وهذا غاية سوء الثناء عليه.
وان قالوا : ان
الذي نريده من الكفار الايمان. قيل لهم : فأيما أفضل ما أردتم من الايمان أو ما
أراد الله من الكفر؟ فان قالوا : ما أراد الله خير مما أردنا من الايمان ، فقد
زعموا ان الكفر خبر من الايمان. وان قالوا : ان ما أردنا من الايمان خير مما اراده
الله من الكفر ، فقد زعموا أنهم اولى بالخير والفضل من الله ، وكفاهم بذلك خزيا.
فيقال لهم : فما
يجب على العباد يجب عليهم ان يفعلوا ما تريدون أنتم أو ما يريد الله؟ فان قالوا :
ما يريد الله ، فقد زعموا أن على أكثر العباد ان يكفروا ، إذ كان الله يريد لهم
الكفر. وان قالوا : انه يجب على العباد أن يفعلوا ما نريد من الايمان ولا يفعلوا
ما يريد الله من الكفر ، فقد زعموا أن اتباع ما أرادوا هم أوجب على الخلق من اتباع
ما أراد الله ، وكفاهم بهذا قبحا.
ولو لا كراهة طول
الكتاب لسألناهم في قولهم ان الله تعالى أراد المعاصي عن مسائل كثيرة يتبين فيها
فساد قولهم ، وفيما ذكرناه كفاية ، والحمد لله رب العالمين.
فصل [الاخبار المسددة لمذهب العدلية]
ومما جاء من
الحديث ما يصحح مذهبنا في القضاء والمشيئة وغير ذلك
__________________
مما ذكرنا ، فمن
ذلك ما روي عنه صلىاللهعليهوآله انه قال : لا يؤمن أحدكم حتى يرضى بقدر الله تعالى. وهذا
مصحح لقولنا ، لأنا بقدر الله راضون وبالكفر غير راضين.
وروي عن عبد الله
بن شداد عنه صلىاللهعليهوآله انه كان يقول في دعائه : «اللهم رضني بقضائك ، وبارك لي في
قدرك ، حتى لا أحب تعجيل ما أخرت ، ولا تأخير ما عجلت» والنبي صلىاللهعليهوآله لا يجوز أن يرضى بالكفر ولا بالظلم.
وروي عنه صلىاللهعليهوآله أنه قال : «سيكون في آخر هذه الأمة قوم يعملون بالمعاصي
حتى يقولون هي من الله قضاء وقدر ، فإذا لقيتموهم فأعلموهم اني منهم بريء».
وروي عنه انه قال
له رجل : بأبي أنت وأمي متى يرحم الله عباده ومتى يعذب الله عباده؟ فقال صلىاللهعليهوآله : «يرحم الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا [هي منا ،
ويعذب الله عباده إذا عملوا بالمعاصي فقالوا هي من الله قضاء وقدر».
وقد روي عن عمر بن
الخطاب انه أتي يسارق فقال : «ما حملك على هذا؟ فقال قضى الله وقدره ، فضربه عمر ثلاثين سوطا ثم قطع يده فقال :
قطعت يدك بسرقتك وضربتك بكذبك على الله تعالى». وهذا خبر قد روته جميع
__________________
الحشوية ومعظم
رواة العامة ، ونقله أحمد بن حنبل وغيره من الرواة.
وروي عن الأصبغ بن
نباتة قال : لما رجع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهالسلام من صفين قام اليه شيخ فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن
مسيرنا الى الشام أكان بقضاء وقدر؟ فقال عليهالسلام [له ] : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما وطأنا موطئا ولا هبطنا
واديا ولا علونا تلعة الا بقضاء وقدر. فقال [له ] الشيخ : عند الله أحتسب عنائي ، والله ما أرى لي من الأجر
شيئا. فقال عليهالسلام [له ] : بلى ايها الشيخ لقد عظم الله اجركم بمسيركم وأنتم سائرون وفي منصرفكم وأنتم منصرفون ، ولم تكونوا في
شيء من حالاتكم مكرهين ، ولا إليها مضطرين ، فقال : وكيف لم نكن مضطرين والقضاء
والقدر ساقانا وعنهما كان مسيرنا ومنصرفنا؟ فقال عليهالسلام [له] ويحك لعلك ظننت قضاء لازما وقدرا حتما ، لو كان ذلك كذلك
لبطل الثواب والعقاب وسقط الوعد والوعيد والأمر من الله والنهي ، ولم تكن [تأتي ] لأئمة لمذنب ولا محمدة لمحسن ، ولم يكن المحسن اولى
بالمدح من المسيء ولا المسيء اولى
__________________
بالذم من المحسن ،
تلك مقالة عبدة الأوثان ، وجند الشيطان ، وخصماء الرحمن ، وشهود الزور والبهتان ،
وأهل العمى عن الصواب ، وهم قدرية هذه الأمة ومجوسها ، ان الله أمر تخييرا ، ونهي
تحذيرا ، وكلف يسيرا ، ولم يكلف عسيرا ، واعطى على القليل كثيرا ، ولم يعص مغلوبا
، ولم يطع مكرها ، ولم يرسل الرسل لعبا ، ولم ينزل الكتب للعباد عبثا ، ولم يخلق
السماوات والأرض وما بينهما باطلا (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ). فقال الشيخ : فما القضاء والقدر اللذان ما سرنا الا بهما؟ فقال عليهالسلام : ذلك الأمر من الله والحكم ، ثم تلا هذه الآية (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا
إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) فنهض الشيخ مسرورا وهو يقول :
أنت الإمام الذي
نرجو بطاعة
|
|
يوم النشور من
الرحمن رضوانا
|
أوضحت من ديننا
ما كان ملتبساً
|
|
جزاك ربك
بالإحسان إحسانا
|
وروي عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوآله انه قال : يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ثم
يقولون : الله قدرها علينا ، الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله.
وروي عن جابر عن النبي صلىاللهعليهوآله انه قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون بالمعاصي ثم
يقولون : الله قدرها علينا ، الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله».
وروي أن رجلا جاء
الى الحسن البصري فقال : يا أبا سعيد إني طلقت امرأتي ثلاثا فهل لي من مخرج؟
فقال : ويحك ما حملك على ذلك. قال : القضاء.
__________________
فقال [له ] الحسن : كذبت على ربك وبانت منك امرأتك.
وروي ان الحسن البصري
مر على فضيل بن برجان وهو مصلوب فقال : ما حملك على السرقة؟ قال : قضاء الله
وقدره. قال : كذبت يا لكع أيقضي عليك ان تسرق ثم يقضي عليك أن تصلب؟
وروي أن ابن سيرين
سمع رجلا وهو يسأل عن رجل آخر فقال : ما فعل فلان؟ فقال : هو كما يعلم الله ،
ولو كان كما شاء الله ولكن قل [هو ] كما يعلم الله ، ولو كان كما شاء الله كان رجلا صالحا.
وما أشبه هذا أكثر
من أن يحصى ، ولو لم يكن ورد عن الرسول صلىاللهعليهوآله من الآثار ما نعلم به بطلان مذهب القدرية والجبرية إلا الخبر المشهور الذي تلقته الأمة بالقبول ، وهو ما رواه
شداد بن أوس قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم يقول : من قال حين يصبح أو حين يمسي : «اللهم أنت ربي لا
إله إلا أنت ، خلقتني وانا عبدك وانا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما
صنعت وأقر لك بالنعمة وأقر على نفسي بالذنب ، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا
أنت».
__________________
وقال ابن سيرين
لرجل له مملوك : لا تكلفه مالا يستطيع ، فان كرهته فبعه. وقال صلىاللهعليهوآله : «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم».
وروي انه صلىاللهعليهوآله قال لفاطمة عليهاالسلام حين أخدمها غلاما : «لا تكلفيه ما لا يطيق».
وروي عنه صلىاللهعليهوآله انه قال : «استغفروا عن الشرك ما استطعتم» ، وهذه الاخبار مما يستدل بها على
بطلان قولهم في الاستطاعة وتصحيح قولنا ان الإنسان مستطيع ، وان الله
لا يكلف عباده مالا يطيقون ، وانما أوردناها لتكون رسالتنا هذه غير محتاجة إلى
غيرها في هذا المعنى.
ومن ذلك أيضا ما
روي عن بنت رقيقة قالت : بايعت رسول الله «ص» في نسوة فأخذ علينا ما في آية
السرقة والزنا ان لا يسرقن ولا يزنين إلخ ، ثم قال : فيما استطعتن وأطقتن. قالت :
قلنا الله ورسوله ارحم بنا من أنفسنا.
وذكر قتادة قال : بايع رسول الله صلىاللهعليهوآله أصحابه على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
وهذا يدل كل منصف
على أن رسول الله واتباعه لم يلزموا العباد الطاعة إلا فيما استطاعوا ، وكيف يجوز
على ارحم الراحمين واحكم الحاكمين أن يكلف عباده ما لا يطيقون، وأن يلزمهم ما لا يجدون.
وروي عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم انه قال : «أول ما تبين من ابن آدم
__________________
بطنه ، فمن استطاع
ان لا يدخل بطنه الا طيبا فلفعل».
[وقال صلىاللهعليهوآله : «من استطاع أن ينفع أخاه فليفعل» فلم يوجب عليهالسلام على أحد شيئا إلا بعد الاستطاعة ].
وقال صلىاللهعليهوآله : من استطاع منكم أن يقي وجهه حر النار ولو بشق تمرة
فليفعل. فلم يرغبهم الا فيما يستطيعون.
وروي عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم إلا أنبئكم بأعز الناس؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال :
الذي يعفو إذا قدر.
فبين أنه انما
يكون العفو إذا قدر العبد وإذا لم يقدر فلا يكون العفو وقد قال الله تعالى (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا) وقال (فَاعْفُ عَنْهُمْ
وَاصْفَحْ) وقال (خُذِ الْعَفْوَ
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ) فعلمنا أنه كان يقدر على أن يعاقب ، فأمره الله لذلك
بالعفو ، ولا يجوز أن يعفو عما لا يقدر له على مضرة ولا على منفعة.
وروي عنه انه قال :
«من كظم غيظا وهو قادر على إمضائه ملأ الله قلبه يوم القيامة رضي».
وروي [عن ] ابن عباس في قوله (وَقَدْ كانُوا
يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ
__________________
سالِمُونَ) قال : وهم مستطيعون في دار الدنيا.
وروي عنه صلىاللهعليهوآله انه قال : «يسروا ولا تعسروا واسكنوا ولا تنفروا ، خير
دينكم اليسر، وبذلك آتاكم كتاب الله ، قال الله (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ
الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) و (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) واعلموا رحمكم الله انه لو كان كلف خلقه مالا يستطيعون كان غير مريد بهم اليسر ، وغير مريد للتخفيف عنهم ، لانه
لا يكون اليسر والتخفيف في تكليف مالا يطاق».
وروي عن سعيد بن
عامر بن حذيم لما استعمله عمر بن الخطاب على بعض كور الشام خرج معه
يوصيه ، فلما انتهى الى المكان قال له سعيد : وأنت فاتق الله وخف الله في الناس ،
ولا تخف الناس في الله ، وأحب لقريب المسلمين وبعيدهم ما تحبه لنفسك وأهل بيتك ، وأقم وجهك تعبدا لله ، ولا تقض بقضاءين مختلف عليك أمرك ، وتنزع الى غير الحق ، وخض الغمرات إلى الحق ، ولا تخف في
الله لومة لائم. فأخذ عمر بيده فأقعده ثم قال : ويحك من يطيق هذا؟
__________________
فانظر كيف وصاه
وأمره بأن يفعل الخير ويجتهد في تحصيله ، وما أشبه هذا من الحديث أكثر من أن يحصى
، والحمد لله والصلاة على آل الله .
__________________
|
(٢٣)
الرسالة الباهرة في
العترة الطاهرة
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
قال رضي الله عنه
:
مما يدل أيضا على
تقديمهم عليهمالسلام وتعظيمهم على البشر أن الله تعالى دلنا على أن المعرفة بهم
كالمعرفة به تعالى في أنها ايمان وإسلام ، وأن الجهل والشك فيهم كالجهل به والشك
فيه في أنه كفر وخروج من الايمان ، وهذه منزلة ليس لأحد من البشر الا لنبينا صلىاللهعليهوآله وبعده لأمير المؤمنين عليهالسلام والأئمة من ولده على جماعتهم السلام.
لأن المعرفة بنبوة
الأنبياء المتقدمين من آدم عليهالسلام الى عيسى عليهالسلام ، أجمعين غير واجبة علينا ولا تعلق لها بشيء من تكاليفنا ،
ولو لا أن القرآن ورد بنبوة من سمى فيه من الأنبياء المتقدمين فعرفناهم تصديقا
للقرآن والا فلا وجه لوجوب معرفتهم علينا ولا تعلق لها بشيء من أحوال تكليفنا ، وبقي علينا أن ندل على أن الأمر على ما ادعيناه.
__________________
والذي يدل على أن
المعرفة بامامة من ذكرناه عليهمالسلام من جملة الايمان وأن الإخلال بها كفر ورجوع عن الايمان ،
إجماع الشيعة الإمامية على ذلك ، فإنهم لا يختلفون فيه ، وإجماعهم حجة بدلالة أن
قول الحجة المعصوم الذي قد دلت العقول على وجوده في كل زمان في جملتهم وفي زمرتهم
، وقد دللنا على هذه الطريقة في مواضع كثيرة من كتبنا واستوفيناها في جواب
التبانيات خاصة ، وفي كتاب نصرة ما انفردت به الشيعة الإمامية من المسائل الفقهية
، فإن هذا الكتاب مبني على صحة هذا الأصل.
ويمكن أن يستدل
على وجوب المعرفة بهم عليهمالسلام بإجماع الأمة ، مضافا الى ما بيناه من إجماع الإمامية وذلك
أن جميع أصحاب الشافعي يذهبون الى أن الصلاة على نبينا صلىاللهعليهوآلهوسلم في التشهد الأخير فرض واجب وركن من أركان الصلاة من أخل به
فلا صلاة له ، وأكثرهم يقول : ان الصلاة في هذا التشهد على آل النبي
عليهم الصلوات في الوجوب واللزوم ووقوف أجزاء الصلاة عليها كالصلاة على النبي صلىاللهعليهوآله ، والباقون منهم يذهبون الى أن الصلاة على الآل مستحبة
وليست بواجبة.
فعلى القول الأول
لا بد لكل من وجبت عليه الصلاة من معرفتهم من حيث كان واجبا عليه الصلاة عليهم ،
فإن الصلاة عليهم فرع على المعرفة بهم ، ومن ذهب الى أن ذلك مستحب فهو من جملة
العبادة وان كان مسنونا مستحبا والتعبد به يقتضي التعبد بما لا يتم الا به من
المعرفة. ومن عدا أصحاب الشافعي لا ينكرون أن الصلاة على النبي وآله في التشهد
مستحبة وأي شبهة تبقى مع هذا في أنهم عليهمالسلام أفضل الناس وأجلهم وذكرهم واجب في الصلاة. وعند أكثر
__________________
الأمة من الشيعة
الإمامية وجمهور أصحاب الشافعي أن الصلاة تبطل بتركه وهل مثل هذه الفضيلة لمخلوق
سواهم أو تتعداهم؟.
ومما يمكن
الاستدلال به على ذلك أن الله تعالى قد ألهم جميع القلوب وغرس في كل النفوس تعظيم
شأنهم وإجلال قدرهم على تباين مذاهبهم واختلاف دياناتهم ونحلهم ، وما اجتمع هؤلاء
المختلفون المتباينون مع تشتت الأهواء وتشعب الآراء على شيء كإجماعهم على تعظيم من
ذكرناه واكبارهم انهم يزورون قبورهم ويقصدون من شاحط البلاد وشاطئها مشاهدهم ومدافنهم والمواضع التي وسمت بصلاتهم فيها وحلولهم بها وينفقون في ذلك الأموال
ويستنفدون الأحوال ، فقد أخبرني من لا أحصيه كثرة أن أهل نيسابور ومن والاها من
تلك البلدان يخرجون في كل سنة الى طوس لزيارة الامام أبي الحسن علي ابن موسى الرضا
صلوات الله عليهما بالجمال الكثيرة والأهبة التي لا توجد مثلها الا للحج الى بيت الله .
وهذا مع المعروف
من انحراف أهل خراسان عن هذه الجهة وازورارهم عن هذا الشعب ، وما تسخير هذه القلوب القاسية وعطف هذه
الأمم البائنة
__________________
الا كالخارق
للعادات والخارج عن الأمور المألوفات ، والا فما الحامل للمخالفين لهذه النحلة
المنحازين عن هذه الجملة على أن يراوحوا هذه المشاهد ويغادوها ويستنزلوا عندها من
الله تعالى الأرزاق ويستفتحوا الأغلال ويطلبوا ببركاتها الحاجات ويستدعيه والا فعلوا ذلك فيمن يعتقدونهم ، وأكثرهم
يعتقدون إمامته وفرض طاعته ، وأنه في الديانة موافق لهم غير مخالف ومساعد غير
معاند.
ومن المحال أن
يكونوا فعلوا ذلك لداع من دواعي الدنيا ، فان الدنيا عند غير هذه الطائفة موجودة
وعندها هي مفقودة ولا لتقية واستصلاح فإن التقية هي فيهم لا منهم ولا خوف من جهتهم
ولا سلطان لهم وكل خوف انما هو عليهم فلم يبق إلا داعي الدين ، وذلك هو الأمر
الغريب العجيب الذي لا ينفذ في مثله الا مشية الله ، وقدرة القهار التي تذلل الصعاب وتقود بأزمتها الرقاب.
وليس لمن جهل هذه
المزية أو تجاهلها وتعامى عنها وهو يبصرها أن يقول : ان العلة في تعظيم غير فرق
الشيعة لهؤلاء القوم ليست ما عظمتموه وفخمتموه وادعيتم خرقه للعادة وخروجه من
الطبيعة ، بل هي لأن هؤلاء القوم من عترة النبي صلىاللهعليهوآله ، وكل من عظم النبي صلىاللهعليهوآله فلا بد من أن يكون لعترته وأهل بيته معظما مكرما ، وإذا انضاف إلى القرابة الزهد
وهجر الدنيا والعفة والعلم زاد الإجلال والإكرام لزيادة أسبابهما.
__________________
والجواب عن هذه
الشبهة الضعيفة أن شارك أئمتنا عليهمالسلام في حسبهم ونسبهم وقراباتهم من النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم غيرهم ، وكانت لكثير منهم عبادات ظاهرة وزهادة في الدنيا
بادية وسمات جميلة وصفات حسنة من ولد أبيهم عليه وآله والسلام ومن ولد العباس رضوان الله عليه ، فما رأينا من الإجماع على تعظيمهم
وزيارة مدافنهم والاستشفاع بهم في الأغراض والاستدفاع بمكانهم للاعراض والأمراض ،
وما وجدنا مشاهدا معاينا في هذا الشراك .
ألا فمن ذا الذي
أجمع على فرط إعظامه وإجلاله من سائر صنوف العترة في هذه الحالة يجري مجرى الباقر
والصادق والكاظم والرضا صلوات الله عليهم أجمعين ، لان من عدا من ذكرناه من صلحاء
العترة وزهادها ممن يعظمه فريق من الأمة ويعرض عنه فريق ، ومن عظمه منهم وقدمه لا
ينتهي في الإجلال والإعظام إلى الغاية التي ينتهي إلهيا من ذكرناه.
ولو لا أن تفصيل
هذه الجملة ملحوظ معلوم لفصلناها على طول ذلك ولا سمينا من كنينا عنه ونظرنا بين
كل معظم مقدم من العترة ليعلم أن الذي ذكرناه هو الحق الواضح ، وما عداه هو الباطل
الماضح .
وبعد فمعلوم ضرورة
أن الباقر والصادق ومن وليهما من الأئمة صلوات الله عليهم أجمعين كانوا في الديانة والاعتقاد وما يفتون من حلال وحرام على
__________________
خلاف ما يذهب اليه
مخالفو الإمامية ، وان ظهر شك في ذلك كله فلا شك ولا شبهة على منصف في أنهم لم
يكونوا على مذهب الفرقة المختلفة المجتمعة على تعظيمهم والتقرب الى الله تعالى بهم.
وكيف يعترض ريب
فيما ذكرناه؟ ومعلوم ضرورة أن شيوخ الإمامية وسلفهم في تلك الأزمان كانوا بطانة
للصادق والكاظم والباقر عليهمالسلام وملازمين لهم ومتمسكين بهم ، ومظهرين أن كل شيء يعتقدونه
وينتحلونه ويصححونه أو يبطلونه فعنهم تلقوه ومنهم أخذوه ، فلو لم يكونوا عنهم بذلك
راضين وعليه مقرين لأبوا عليهم نسبة تلك المذاهب إليهم وهم منها بريئون خليون
، ولنفوا ما بينهم من مواصلة ومجالسة وملازمة وموالاة ومصافاة ومدح وإطراء وثناء ،
ولا بدلوه بالذم واللوم والبراءة والعداوة ، فلو لم يكونوا عليهمالسلام لهذه المذاهب معتقدين وبها راضين لبان لنا واتضح ، ولو لم يكن الا هذه الدلالة لكفت وأغنت.
وكيف يطيب قلب
عاقل أو يسوغ في الدين لأحد أن يعظم في الدين من هو على خلاف ما يعتقد أنه الحق
وما سواه باطل ، ثم ينتهي في التعظيمات والكرامات إلى أبعد الغايات وأقصى النهايات
، وهل جرت بمثل هذا عادة أو مضت عليه سنة؟.
أو لا يرون أن
الإمامية لا تلتفت الى من خالفها من العترة وحاد عن جادتها
__________________
في الديانة
ومحجتها في الولاية ، ولا تسمح له بشيء من المدح والتعظيم فضلا عن غايته وأقصى
نهايته ، بل تتبرأ منه وتعاديه وتجريه في جميع الاحكام مجرى من لا نسب له ولا حسب
له ولا قرابة ولا علقة.
وهذا يوقظ على أن
الله خرق في هذه العصابة العادات وقلب الجبلات ليبين من عظيم منزلتهم وشريف
مرتبتهم. وهذه فضيلة تزيد على الفضائل وتربى على جميع الخصائص والمناقب ، وكفى بها برهانا لائحا
وميزانا راجحا ، والحمد لله رب العالمين .
__________________
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
بسم الله [الحمد
لله] ذي العظمة والكبرياء ، وصلاته على رسوله محمد وعلى جميع اخوته من الأنبياء
والأوصياء.
اما بعد : فان درك
حقائق الأشياء ومعرفة بيان [معاني] الألفاظ على مسمياتها مما استأثر الله بها
أولياءه الذين اطلعهم على بعض هذه المكنونات وقال فيهم : (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ
أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً). وقال رسول الله (ص) «رب أرني الأشياء كما هي». فلو لم يكن
معرفة حقائق الأشياء أشرف المعارف وأسناها لأحد [لما] كما مرغوبا فيها من جهته عليهالسلام. وكيف لا؟ ومعرفة أحكام الأشياء موقوفة على ماهياتها. فلما
ألح علي بعض المستفيدين ان أختار لهم من هذا العلم مالا بدلهم من معرفته في علمي
أصول الدين ، فكتبت هذه الوريقات مستمدا من الله العزيز العصمة والمئونة.
الالف :
الإبداع : هو الإيجاد لأعلى مثال سبق.
الاختراع : ابتداء القادر الفعل لا في نفسه.
الإثبات : هو الاخبار عن ثبوت الشيء أو اعتقاد ثبوته. ولهذا سمي
المثبت مثبتا لأنه في حال القدم يعتقد ثبوت الأشياء.
الإحساس : هو الإدراك بحاسة وآلة.
الإدراك : وجدان المرئيات وسماع الأصوات وغيرهما ، وهو في الأصل لحوق
جسم بجسم.
الإرادة : عند المحققين هي خلوص الداعي عن الصارف أو ترجحه عليه.
الاختيار : هو وقوع الفعل لأعلى وجه الإلجاء.
الاستدلال : هو التأمل الذي يتضمن ترتيب اعتقادات أو ظنون ليتوصل بها
الى الوقوف على الشيء باعتقاد أو ظن.
الايمان : هو التصديق بالقلب بكل ما يجب التصديق به ، وقيل تصديق
الرسول بكل ما علم مجيئه به.
الإسلام : هو الانقياد ، وقيل هو الإيمان أيضا.
الاجتهاد : بذل الفقيه الوسع في تعرف الحكم الشرعي من خفي النصوص أو
الأدلة الغير القاطعة أو في تعرف ما يتعلق به حكم شرعي كجهة القبلة.
الاستنباط : استخراج الحكم من فحوى النصوص.
استصحاب الحال : هو الحكم في الحادثة الشرعية بعد تغييرها كالحكم قبل
تغييرها.
الإجماع : اتفاق علماء الدين في عصر بعد الرسول في الحادثة الشرعية
على فتوى واحد ورضا واحد وعمل واحد.
أصول الفقه : هو الكلام في تصحيح أدلة الفقه على جهة الجملة.
الاستفهام : هو طلب ما عنده يعلم به مراد المخاطب.
الإلزام : هو بيان الغير وجوب ان تقول بما لا تقول به.
الاعتراض : هو الكلام الذي يراد به إفساد ما استدل به الغير أو قال به.
الاعتقاد : هو عقد القلب على ثبوت أمر أو نفيه.
الاستثناء : هو إخراج الشيء عما يصح دخوله فيه وعما دخل فيه غيره.
الاعتماد : قوة في الجسم تدافعه الى سمت مخصوص إذا فقد المانع.
الإغراء : هو البعث على الفعل على حد يصير كالمحمول عليه.
الاضطرار : ما يوجد في الحي من فعل غيره على وجه لا يمكنه دفعه عن
نفسه. ومنه العلوم الضرورية ما ليس من فعل الإنسان ، ولا يمكن دفعه عن نفسه.
الإباحة ، والإحلال ، والإطلاق ، والاذن
: بمعنى واحد.
الإصرار : هو ان لا يندم من المعصية مع العلم بها ، أو التمكن من
العلم بها ، والاستمرار على ذلك ، والعزيمة على مثله في القبح في المستقبل.
الاعتذار : هو إظهار الندم على الإساءة إلى الغير.
الأمر : هو قول القائل لغيره «افعل» أو ما جرى مجراه على جهة
الاستعلاء إذا أراد منه الفعل.
الإكراه : هو حمل العاقل على الفعل الشاق بالتخويف ، أو على ترك الفعل
على وجه يخرجه عن داعيه الأصلي مع سقوط المدح والذم.
الإلجاء : يكون في العقلاء وغيرهم ، وعلى ما يشق وغيره.
الأجل : هو الوقت المضروب لنزول أمر ، أو لبقاء أمر نفيا كان أو
إثباتا.
الأزل : عبارة عن اللاأولية.
الامارة : هي التي يقضى النظر الصحيح فيها الى غالب الظن.
الإله : هو الذي يستحق له العبادة ، ويليق به ، وينبغي له ، لانه
قادر على فعل ما يستحقها به لأجل ذلك.
الإمامة : رئاسة عامة في الدين بالأصالة لا بالنيابة عمن هو في دار
التكليف.
الإمامية : الذاهبون الى النص الجلي على امامة اثنى عشر اماما من أهل
بيت النبي «ص».
الآحاد : هو كل خبر لا يعلم ان الرسول «ع» قاله ، وان رواه أكثر من
واحد.
الإعادة : تجديد الخلق بعد الفناء الى ما كان عليه.
الإحباط : هو إبطال المعصية الطاعة أو إبطال عقاب المعصية ثواب
الطاعة.
الاستطاعة : هو التمكن من الفعل بوجود جميع ما يحتاج اليه الفعل والفاعل
ان كان مما يحتاج.
إزاحة العلة : تمكين المكلف من الفعل ورفع الموانع وتقوية دواعيه التي على
وجه لا يبقى له محذور في أن لا يفعله.
الباء
البرهان : هو كل كلام منبئ عن نظر يوصل الى العلم ، أو دليل يوصل اليه
النظر فيه الى العلم.
البقاء : هو استمرار الوجود.
الباقي : هو الموجود وقتين متصلين فصاعدا.
البداء : هو الأمر بالفعل الواحد بعد النهي عنه ، أو النهي عنه بعد
الأمر به مع اتحاد الوقت والوجه والأمر والمأمور.
البدعة : زيادة في الدين ، أو نقصان منه من إسناد إلى الدين.
الباطل : هو كل فعل وجوده كعدمه في انه لا يفيد حكما شرعيا.
البصير : هو البالغ في رؤية المرئيات ، وقيل المنهي لرؤية المرئي إذا
وجد.
البيان : هو عام وخاص ، فالعام هو الدليل على الشيء ، والخاص هو بيان
المجمل.
البيع : عقد ينتقل به عين مملوكة من شخص الى غيره بعوض مثلها أو
مخالف لها في الصفة على وجه التراضي.
البنية : امتزاج أجزاء ذات اعراض مخصوصة يظهر لامتزاجها حكم أو اسم
لا يظهر لأفرادها.
البخل : منع المحتاج حقه الواجب من ماله.
البديهة : كل ما يقتضيه العقل من العلوم بسرعة.
التاء :
التأسي بالنبي في الفعل : ان يفعله مثل ما فعله في الصورة على الوجه الذي فعل لأجل
انه فعل ، وفي الترك والقول مثله.
التقليد : قبول قول الغير من غير حجة أو شبهة.
التصور : علم بحقيقة أمر غير عين ، أو ما يقتدر تقدير معين.
التعريض : هو تعريف الغير ما يصل به الى النفع أو دفع الضرر ، مع أنه
لولاه لم يتمكن من الوصول اليه ، قاصدا بذلك الى وصوله إليه.
التأويل : رد أحد المعنيين وقبول معنى آخر بدليل يعضده ، وان كان
الأول في اللفظ أظهر.
التأكيد : هو اللفظ الموضوع لتقوية ما يجوز أن يفهم من لفظ آخر.
التكليف : هو البعث على جهة الاستعلاء على ما يشق من فعل ، أو إخلال
بفعل.
التأليف : التزاق جوهرين.
التشبيه : هو اعتقاد أو اخبار بأن الله تعالى يشبه بعض خلقه في ذاته.
التخصيص : هو إخراج بعض ما صح أن يتناوله الخطاب العام في الوضع.
التخييل : ظن الشيء المشاهد على صفة وهو على خلافها.
التقدير : إيجاد الفعل لغرض مثله ، والتدبير كالتقدير ، والتقدير أيضا
تعليق الثاني بالأول بكلمة ، أو قد يراد به العلم بهذا المعنى.
التراخي : جواز تأخير الواجب من أول أوقات الإمكان لأدائه إلى وقت
تضيقه ، أو تأخر الحكم عن مؤثرة إلى وقت وجود شرطه.
التفضل : نفع الغير على جهة الإحسان.
التوبة : الندم على المعصية لأنها معصية ، والعزم على ان لا يعاود
على مثلها.
التفكر : خروج الذم والعقاب المستحقين بمدح أو ثواب مستحقين مثلها أو
أعظم منها.
التمكين : كل ما يصح من المكلف عنده ان يفعل ما كلف.
التقريب : كل عبادة يطلب بها المنزلة عند الله والثواب.
التوحيد : العلم بأن الله تعالى لا يشاركه فيما يوصف به على الحد الذي
يوصف به غيره ، والإقرار بذلك إذا أمكنه الإقرار.
التوفيق : كل لطف يقع عند الملطوف فيه.
التقوى : اجتناب المعاصي.
التحدي : إظهار طلب المعارضة بظهور عجز للمتحدى.
التنفير : كل صفة أو فعل لو اختص به النبي أو الإمام عليهماالسلام لترك الناس اتباعه ، أو كانوا [معتقدا] ان ترك اتباعه أقرب
فيجب عصمته منه.
التواضع : الرضا بدون ما يستحقه من المنزلة.
التكبر : تكلف الترفع على الغير لاعتقاد منزلة لنفسه لا يستحق الغير
، والمتكبر في صفة الله تعالى المبالغ في العظمة.
الثاء
الثواب : هو المنافع العظيمة المستحقة على سبيل التعظيم.
الثبوت : هو الموجود على وجه اللزوم ، ونقيضه الاضطراب.
الجيم
الجوهر : الحجم الذي ليس له بعد من الأبعاد الثلاثة ، أو الذي يشغل
فراغا ، أو الجزء ، والذي لا يتجزى.
الجسم : ما كان مركبا منه ، وقيل هو الذي له أعاد ثلاثة ، وهي لا
تحصل إلا بثمانية أجزاء : أربعة فوقها أربعة.
الجثة : الحجم والجرم بمعنى واحد ، الا ان الجرم في العرف مستعمل في
الأجسام اللطيفة كالهواء.
جهة الجوهر : الفراغ الذي يجوز أن يشغله الجوهر.
الجنس : جملة أشياء منفقة بالذات مختلفة بالصفات ، وقيل جملة أشياء
متميزة بالأنواع ، وجنس الأجناس ما ليس فوقه جنس.
الجود : هو الإكثار من فعل الإحسان إلى الغير.
الجواز : يجيء بمعنى الشك ، وبمعنى صحة كون الشيء أو كون ضده ،
وبمعنى صحة الفعل الذي يتبعه أحكام كصحة الصلاة.
الجهل : نفي العلم واعتقاد ليس له معتقد يطابقه.
الجدل : صرف الخصم من مذهب الى آخر بطريق الحجة أو الشبهة أو الشغب.
الجزاء : مقابلة الفعل أو ترك الفعل بما يستحق عليه.
الحاء
الحيز : الفراغ الذي يصح ان يشغله حجم.
الحادث : هو الموجود بعد العدم.
الحدث : ما ينقض الطهارة.
الحب : أعم من الإرادة ، لأن الحب يصح تعلقه بالأعيان ولا يصح تعلق
الإرادة بها.
الحكمة : علم بلطائف الأمور ، أو علم يتمكن به من احكام الفعل
وتدبيره.
الحكيم : المبالغ في هذا العلم.
الحكم والحكمة : كلاهما بمعنى واحد ، وعند الفقهاء الحكمة : ما يدل عليه
الدليل الشرعي من حسن الفعل وقبحه ، أو وجوبه أو كونه ندبا أو مكروها.
والحكم عند
المتكلمين : كل أمر زائد على الذات يدخل في ضمن العلم بالذات أو الخبر عنها ، وقيل
الحكم ما يوجبه العلة.
الحال : مثل الحكم المعنى الأول ، والفرق بينهما ان الحكم يعتبر في
العلم به غير الذات ككون الجسم محلا ، والحال لا يعتبر به ككون الجسم أسود أو
متحركا.
الحق في العرف : كل ما كان اعتقاد ثبوته أو نفيه علما أو ظنا ، أو صوابا ،
أو الخبر عن ثبوته صدقا وصوابا ، والباطل عكسه.
الحق في الشرع : كل اختصاص لصاحبه يحسن لأجله أمر ما منه أولية.
الحي : المتميز تميزا لأجله لا يستحيل ان يعلم ويقدر ويدرك.
الحياة : اعتدال المزاج أو قوة الحس.
الحيوان : كل حي مركب من أجزاء ذات اعراض مخصوصة.
الحادث : الحدث الذي لم يبطل زمان وجوده.
الحركة : حصول الجوهر في جهة عقيب كونه في غيرها.
الحلال والمباح : ما عرف فاعله حسنه لا يستحق به مدحا ولا ذما.
الحرام : القبيح الذي منع منه بالزجر.
الحس : إدراك المدرك بآلة الإدراك.
الحسد : كراهة وصول الخير الى الغير لغم يلحقه عن وصوله اليه.
الحد : كلام جامع حقيقة شيء مانع غيره عنه على وجه يميزه عن غيره.
الحاجة : هو الطلب طبعا لما بفقدانه يختل بدن الحيوان ، أو طلب دفع
ما لوصله اليه تلحقه مضرة.
الحفظ : علم دائم مستفاد.
الحقيقة : كل لفظ أفيد [به] ما وضع له في أصل [اللغة] لمواضعه اللغوية
أو الشرعية أو العرفية ، ويستعملها المتكلمون في نفس الشيء ، وتستعمل في التصور
الجاري في الفعل مجرى نفس الشيء.
الحليم : من لا يعجل عقوبة المذنب تفضلا منه.
الحياء : هو الامتناع من الفعل مخافة أن يعاب عليه مع الفكر في وجدان
ما لا يسلم به من العيب فلا يجده.
الحجة : هو البرهان.
الحمد : مدح المنعم على نعمة ، وقيل الثناء عليه بفعل الحسن نعمة
كان أو لا.
الخاء
الخبر : الجملة يعرف بها اسناد أمر إلى غيره.
الخاص : كل كلام يفيد واحدا معينا أو غير معين.
الخطاب : كل كلام قصد به إفهام الغير.
الخشية : أبلغ من الخوف. وهو الظن بوصول ضرر اليه ، أو فوات نفع عنه
في المستقبل.
الخلق : اختراع الفعل ، أو تقدير الفعل ، لو احكامه.
الخاطر : تصور المعنى بالقلب.
الخط : جوهران أو أكثر متجاوزان في سمت واحد.
الخلأ : هو الجهة.
الخداع : إظهار ما يوهم السداد ليتوصل به الى مضرة الغير أو نفعه من
غير أن يفطن، ومخادعة الله العبد مجازاة مخادعة.
الخضوع والانخفاض : تذلل العبد في انطوائه على تعظيم الغير في عبادته أو طاعته.
الخذلان : هو ان لا يفعل في حق العاصي ما يفعله في حق المتقي من
التوفيق والعصمة.
الخلود : هو المكث الطويل.
الدال
الدعاء : طلب أمر بالقول من الله تعالى.
الداعي إلى الفعل : ما به يختار القادر الفعل ، وذلك اما علم أو ظن أو اعتقاد ،
فداعي الحكمة هو العلم بكون الفعل إحسانا أو واجبا ، وداعي الحاجة علم أو ظن أو
اعتقاد بأن له [في] الفعل منفعة أو دفع مضرة.
الدين في الشرع : كل ما يدعو اليه نبينا محمد (ص).
الدليل : هو النظر الصحيح منه يفضي الى العلم ، وكذلك الدلالة.
الدائم : هو الموجود الذي لا انقطاع لوجوده.
الدولة : هي التمكن من المنافع العظيمة على وجه لا يتمكن منه كل واحد
في الأغلب.
الذال
الذات : كل موجود يصح تعلق العلم به بعينه أصلا بنفسه ، وقيل :
الذات ما يستحق صفة أو حكما.
الذم : كل قول ينبئ عن اتضاع حال الغير مع القصد الى ذلك.
الذكر : هو ظهور المعنى للنفس بعد عزوبه عنها ، ونقيضه النسيان.
الذهن : هو القوة إلى مصادفة صواب الحكم فيما يتنازع فيه ، وقيل هو
جودة استنباط [ما] هو صحيح من الآراء.
الراء
الرحمة : هي الرقة الداعية إلى الإحسان إلى الغير ، ويقال لنفس تلك
المنفعة الحسنة الواصلة إلى المحتاج مع قصد الإحسان إليه : رحمه.
الرجاء : ظن وصول نفع اليه ، أو دفع ضرر عنه في المستقبل مع قوة
دواعيه الى أن يحصل له.
الريح : هو الهواء
المتحرك.
الروح : هواء بارد
في القلب ، وهو مادة النفس ، وهو شرط الحياة ، وقيل جسم رقيق منساب في بدن الحيوان
، وهو محل الحياة والقدرة.
الرضا : ارادة لم
يلجأ إليها صاحبها يطابعها وقوع مرادها.
الرقة : تخلخل يكثر حصوله في الجسم.
الرؤية : قوة الإدراك بحاسة البصر أو ما يجرى مجراه من غير حاسة
كرؤية الباري تعالى مرئيا لذاته.
الرزق : تمكين الحيوان من الانتفاع بالشيء والحظر على غيره.
الرخص : نقصان ما أعطيته من سعر الشيء في وقت بعينه في مكان بعينه.
الرخصة : إباحة الفعل لشدة الحاجة لولاه لما أبيح.
الربا : فضل محرم على ما يستحق بالعقد ، وقيل بيع المثل من المكيل
والموزون بالمثل متفاضلا.
الزاء
الزمان : مرور ساعات الليل والنهار.
الزاوية : منتهى طرفي الخطين.
الزلة : كل فعل أو إخلال بفعل يسير ليس بخارج عن المروة أو الدين
ومن حقه ان لا يوجد عن قصده.
الزكاة : تمليك ربع عشر النصاب من الإبل أو ما يقوم مقامه إذا كان
واجبا لا بسبب من قبله.
السين
الساعة : أقل مقادير الليل والنهار.
السحر : تخييل ما ليس له حقيقة كالحقيقة يتعذر على من لا يعلم وجه
الجملة فيه.
السطح : خطوط متصلة عرضا وأقله خطان أربعة أجزاء.
السكوت : إمساك آلة الكلام عن الاستعمال في الكلام مع التمكن من
استعمالها فيه.
السميع : المبالغ في العلم بالمسموعات.
السكون : لبث الجوهر في جهة وقتين فصاعدا.
السهو : ان لا يعلم ما جرت العادة بأن يصح ان يعلمه باضطرار.
السرور : انبساط القلب والدم في البدن.
السكر : سهو أو فتور في الأعضاء مع الطرب والنشاط يلحق الإنسان.
السنة : فعل داوم عليه الرسول «ص» من النوافل وأكد الأمر على غيره
بالدوام عليه ، وقيل : كل فعل داوم الرسول عليهالسلام ولم يثبت انه مخصوص.
السبب : كل صفة أو قوة في شيء توجب صفة أخرى.
الشين
الشيء : هو الثابت الوجود. وقيل انه لا يحد لان الحد انما هو
للتمييز ، والشيء من حيث انه شيء لا يتميز.
الشرط : ما يقف عليه وجود غيره أو عدمه.
الشبهة : تقدير مقدمتين فاسدتين أو إحداهما يظن فيها انهما صحيحتان
مشبهة بالدلالة.
الشك : خطور الشيء بالبال من غير ترجيح نفيه أو ثبوته.
الشعور : أول علم بالمدرك.
الشعاع : جسم رقيق مضيء قوى الإضاءة.
الشفاعة : طلب رفع المضار عن الغير ممن هو أعلى رتبة من لأجل طلبه.
الشم : استجلاب محل الرائحة إلى الخيشوم طلبا لإدراكها.
الشهوة : ما يقع به إدراك لذة.
الشكر : توطين النفس على تعظيم المنعم لأجل نعمه مع القصد به الى
تعظيمه ، وهو
اعتقاد وجوب تعظيم المنعم ، والعزم على انه لا يرتجع عنه في المستقبل ، ثم يتبعه الاعتراف باللسان بنعمة المنعم مع القصد الى تعظيمه بذلك.
الشعر : كل كلام موزون مقفى إذا قصد فاعله ذلك.
الشرع : في العرف ما بينه نبينا محمد «ص» من أحكام الافعال.
الشجاعة : قوة في القلب يتمكن معها تحمل الحرب [و] مكاره الحرب في
حالة لا يؤمن بنفيها على النفس أو على بعض أطرافه.
الشفعة : ضم الملك المشتري الى أملاكه بمثل ما اشتراه.
الصاد
الصادف : ما لأجله يمتنع القادر من الفعل على بعض الوجوه احترازا إذا
ترجح عليه الداعي فلا يمتنع. وقد يقال العلم أو الظن أو الاعتقاد بكون الفعل
قبيحا. وفي حق الباري يقال هو العلم بكون الفعل قبيحا.
الصبر : الكف عن الجزع عند الشدائد.
الصدق : الخبر عن الشيء على ما هو عليه في نفسه.
الصلابة : التزاق أجزاء الجسم بحيث يصعب تفكيكها.
الصحيح : الذي يتردد بين ان يوجد وان لا يوجد. والصحيح أيضا الذي لا
يستحيل وجوده ، وفي الأول يكون غير ثابت وفي الثاني قد يكون ثابتا. وفي عرف
الفقهاء الفعل الذي يتبعه أحكامه إذا لم تكن عقوبة احترازا عما يتبع الكفر والزنا
من العقوبة.
__________________
الصحة : امتزاج من أجزاء مختلفة الاعراض متساوية ، ويثبت لامتزاجها
حكمة لا يثبت لأفرادها.
الصواب : أظهر من كل ما تحده.
الصفة : كل أمر زائدا على الذات يدخل في ضمن العلم به أو الخبر عنه
نفيا كان أو إثباتا حالا كان أو غير حال فعلا كان أو نفى فعل. وقيل الصفة : كل
فائدة تضاف الى الذات بلا اعتبار غيره ، والحكة فائدة تضاف الى الذات [ولا يوصف]
بها الا عند حدوث فعل منها أو نفي فعل منها.
الصغيرة والكبيرة : أمر إضافي فإذا أضيف ما ينقص عقابه الى ما يزيد عقابه ،
يسمى الأول صغيرا والثاني كبيرا. وقيل كل معصية لصاحبها ثواب ما أعظم [من] عقابها.
الصوم : الإمساك عن المفطرات في النهار تقربا بالله تعالى.
الضاد
الضدان : كل شيئين لا يصح ان يجتمعا معا في وقت واحد لما يرجع الى
ذاتهما احترازا عما يجري مجرى الضد في الجنس كل مناف لغيره على جهة التقدير
كالسواد والبياض في محلين أو في وقتين. الجاري مجرى الضد ضد كل ما يحتاج اليه غير
ما في ما ينافيه (؟).
الضروري : ما يحدث في الحي المكلف لا من قبله ولا يمكنه دفعه عن نفسه.
الضرورة : كل فعل لا يمكن التخلص منه.
الطاء
الطاعة إيقاع الفعل أو ما يجرى مجراه موافقا لإرادة الغير إذا كان
أعلى
رتبة منه لأعلى
وجه الإلجاء.
الطول : امتداد الجسم الى قدام ، وأقل ما يحصل منه جزءان.
الطبع : قيل هو الخاصة التي يكون بها الحادث لا من جهة القدرة.
الطلب : قول القائل لمن يساويه في الرتبة «افعل» أو معناه لا على
سبيل الاستعلاء أو التذليل.
الظاء
الظلم : كل ضرر ليس بمستحق ولا نفع فيه ولا دفع ضرر أعظم منه معلوم
أو مظنون، ولا يفعل على مجرى العادة ولا على جهة الدفع عن النفس.
الظلمة : فقد النور عما يقبل النور.
الظن : تغليب بالقلب لأحد المجوزين ظاهر التجويز.
الظل : تغير الهواء الى الضياء لانفجار الصبح إذا حال بينه وبين
قرص الشمس حائل.
العين
العلم : أظهر من كل ما يحد به ، وقيل هو اعتقاد الشيء على ما هو به
مع سكون النفس الى أن تعتقده على ما اعتقد اليه.
والعلم الضروري :
علم لا يقف على استدلال العالم به إذا أمكن فيه احترازا عن علمه تعالى.
وقيل الضروري :
علم لا يمكن العالم به دفعه عن نفسه إذا انفرد احترازا عن المكتسب إذا فارقه الضروري.
وينقض هذا الحد بعلم الله تعالى بالأشياء إذ لا يمكن دفعه عن نفسه.
العلم المكتسب :
علم يمكن العالم به دفعه عن نفسه إذا انفرد.
العقل : قوة في القلب يقتضي التميز. وقيل : هو العلوم الضرورية التي
يتمكن بها من اكتساب العلوم إذ أكملت شروطها. وقيل : العقل الذي هو مناط التكليف
هو العلم بوجوب الواجبات واستحالة المستحيلات. وقيل : هو غريزة العلوم الكلية
البديهية عند سلامة الآلات.
العالم : كل موجود سوى الله.
العمل : هو إيجاد الأثر في الشيء. والفعل إيجاد الشيء. وقيل العمل
إيجاد أفعال بعناء وتعب.
العصمة : ما يمنع عنده المكلف من فعل القبيح والإخلال بالواجب ،
ولولاه لم يمنع من ذلك ومع تمكينه في الحالين. عبارة أخرى العصمة : الأمر الذي
يفعل الله تعالى بالعبد وعلم انه لا يقدم مع ذلك الأمر على المعصية بشرط ان لا
ينتهى فعل ذلك الأمر لأحد إلى الإلجاء.
العجز : انتفاء القدرة عن الحي ـ على الافعال على بعضها إذا صحت
قدرته عليها.
العادة : عود الفاعل الى مثل ما فعله أو ما يجري مجراه إذا لم يكن
ملجأ الى ذلك.
العام والعموم : كل كلام وضع لاستغراق جميع ما يصلح له. وقيل هما اللفظ
المستغرق لجميع ما وضع له بحسب وضع واحد احترازا عن المشترك أو عماله حقيقة ومجاز.
وقيل هو اللفظ الدال على شيئين فصاعدا من غير حصر احترازا عن أسماء العدد.
العبادة : نهاية التعظيم والتذلل لمن يستحق ذلك بأفعال ورد بها الشرع
على وجوه مخصوصة أو ما جرى مجراها. نعني بالوجوه : الشروط المعتبرة شرعا في كون
الفعل عبادة. وبالجاري مجراها : الإخلال بالقبائح. وفي عرف
الفقهاء هو كل فعل
لا يجري إلا بنية التعظيم لله.
العرض : ما يوجد في الجوهر من غير تجاوز احترازا عن وجود المظروف في
الظرف.
العرض : امتداد الجواهر في سمت معترضا للمحاذي.
العلة : عند من لا يثبت المعاني : كل أمر ليس بذات اثر أمرا في حالة
نفيا كان أو إثباتا.
العزم : توطين النفس والقطع على أنه سيفعل الفعل أولا يفعله لا
محالة. وقيل : العزم ارادة جازمة حصلت بعد التردد فيه.
العدل : عند المتكلمين العلوم المتعلقة بتنزيه الله تعالى من فعل
القبيح وعن الإخلال بالواجب ، وعند الفقهاء [من هو] من أهل القبول شهادته أو
روايته عن النبي «ص» أو القائم مقام على الإطلاق في نيل ذلك منه.
العفو : إسقاط الذم والعقاب عن المستحق لهما.
العمق : امتداد الاجزاء سمكا.
العقاب : المضار المستحقة على وجه الإهانة المفعولة على وجه الجزاء.
العوض : النفع المستحق المقابل للمضار بلا تعظيم.
الغين
الغرض : مراد الفاعل من الفعل إذا انتهى اليه [و] قطعه ، أو ما هو
كالفعل عن الفعل.
الغبطة : تمني ما يصح أن يحصل له من مثل فعل الغير أو منافعه.
الغضب : غليان دم القلب طلبا للانتقام.
الغم : انحصار القلب والدم الذي فيه.
الغير : كل ذاتين ليس إحداهما الأخرى ولا جملة يدخل تحتها الأخرى.
الغيبة : ذم المرء بعينه في غيبته لغير حق له ، أو ما يجرى مجرى الذم
بما لو سمعه لكرهه.
الفاء
الفرض : الواجب المقدر ، وهو ما علم من وجب عليه بوجوبه أو دل عليه.
الفسق : كل ذنب سوى الكفر ، وأيضا كل ما خرج من طاعة الله الى
مخالفته.
الفقه : العلم بجملة الأحكام الشرعية. وقيل : العلم بالأحكام
الشرعية العملية المستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة ، احترازا
عن التقليد واحترازا عن العلم بوجوب الصلاة.
الفعل : هو الحادث على جهة الصحة.
الفناء : تفريق أجزاء الجسم بحيث خرج من صحة الانتفاع به.
القاف
القديم : الواجب الوجود المطلق أو الذي لا أول لوجوده.
القادر : الذي يصح ان يفعل إذا انتفت عنه الموانع ولم يكن الفعل
مستحيلا في نفسه.
القدرة : هي الصحة ، وقيل القدرة في حقنا سلامة الأعضاء.
القبيح : ما لفعله مدخل في استحقاق الذم.
القصد : خلوص الداعي إلى فعله أو ترجحه عن الصارف.
القياس : تحصيل الحكم في الشيء لتعليل غيره عند المثبت. وقيل إثبات
مثل حكم معلوم لآخر لأجل اشتباههما في علة الحكم.
القضاء : إيجاد على التمام. وقد يقال في فضل الحكم اما بالأمر أو
بالخبر.
القدر : إيجاد الفعل على وجه الاحكام ، وبحسب المنفعة. يقال للخبر
بما يكون إذا كان يجيء على مقدار ما تقدم من الخبر.
القضاء في العبادة : إتيان مثل الفعل السابق به الأمر في الصورة والوجه أو ما
يقدر فيه المماثلة إذا فاته الأول كقضاء الجمعة.
الكاف
الكذب : الخبر الذي لا يطابق مخبره أو الذي ليس له مخبر يطابقه.
الكلام : المنتظم من الحروف المسموعة المميزة ، المواضع عليها إذا
صدر عن قادر واحد. وقيل الكلام : الجملة المفيدة.
الكلمة : كل منطوق به دال بالاصطلاح على معنى.
الكسب : إيجاد الفعل لاجتلاب منفعة أو دفع مضرة.
الكثافة : اكتتان أجزاء الجسم.
الكراهة : الصارف على الفعل.
الكون : حصول الجوهر في المحاذاة.
الكبيرة : كل ذنب عصيانه بعظيم.
الكفر : هو الإنكار والتكذيب بشيء مما يجب الإقرار والتصديق به
والجهل بذلك. وقيل : إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به.
الكمون : عند مثبتية ان يبطن في الجسم الكون بأن ينفذ من ظاهر أجزائه
إلى بواطنها ، أو ان لا يظهر حكم الكون وان كان في الجوهر.
اللام
اللطف : ما عنده يختار المكلف الطاعة ، أو يكون أقرب الى اختيارها
ولولاه لما كان أقرب الى اختيارها مع تمكنه في الحالين.
اللطيف : الجزء المنفرد أو الأجزاء القليلة [في] الشيء لا يمكن ان
يدرك بحاسة العين.
اللطيف : المنعم بالنعم من وجوه خفية لا يوقف على كنهها ، والذي يصل
نعمه الى المواضع الخفية ، والعالم بالأمور الخفية التي بعد الوقوف عليها.
اللقب : كل كلام لا يفيد في المسمى صفة ولا مجموع صفات ، ويجري مجرى
الإشارة إليه.
اللمس : مماسة محل الحيوان الجسم طلبا لإدراكه أو إدراك ما فيه ، أو
طلبا للذة المخصوصة.
اللذة : إدراك المشتهي أو ما يتعلق به الشهوة من المدركات.
الليل : امتداد الظلام من أول ما يسقط قرص الشمس الى أن يسفر الصبح.
اللين : قيل معناه عدم ما نعمه العام (؟) ، فلا يكون وجوديا.
الميم
الملة : الشرع الذي يأتي به السمع ويعم الأمر به للجميع. وقيل هو
الذي ينتحله الإنسان.
المنع : ما يتعذر لأجله الفعل مع بقاء القدرة عليه.
المتبدأ : المحدث الذي لم يتقدمه وجوده.
المعاد : الذي يتقدمه وجوده ، أي أعيد على الوجود الذي كان عليه.
المباشر : ما يبتدأ بالقدرة في محل ويقضيه.
المتولد : وهو الذي يحدث عن فعل آخر.
المباح : ما عرف فاعله حسنة ، أو دل عليه ولا يستحق عليه مدحا ولا
ذما.
المتكلم : فاعل الكلام.
المجاورة : كون جوهرين مما ستين.
المثلان : اللذان يكون ذات أحدهما كذات الأخر.
المختلفان : اللذان لا يكون ذات أحدهما كذات الأخر.
المجزي : الذي يكفي في حصول الغرض به.
المجمل : الخطاب الذي لا يدل على المراد بنفسه من غير بيان ، أو
الخطاب الذي قصد به شيء معين في نفسه واللفظ لا يعنيه ، وقد يراد به الخطاب العام
للأشياء التي تناولها.
المبين : الخطاب الدال على المراد بنفسه عن غير بيان ، وما زال
إجماله بورود بيانه ، وكذا المفسر.
المحال : كل متصور لا يصح وجوده ، وكذا المستحيل.
المحتمل : الخطاب الذي له تأويلان من جهة الاستعمال.
المحدث : الموجود بعد العدم.
المحظور والمحرم : الذي منع من فعله بالنهي والزجر.
الفعل المحكم : المرتب المسوي ، والمطابق للمنفعة.
محبة الله تعالى للعبد : ارادة الثواب ، ومحبة العبد لله إرادة الطاعة.
المحدث : المسبوق بالعدم أو ما لوجوده أول.
الملاسة : عبارة من استواء وضع الأجزاء.
المحاذاة : الجهة التي يصح ان يشغلها الجوهر.
المحل : الحجم الذي فيه عرض ، أو يصح أن يكون فيه.
المخصوص من جهة الخطاب : الذي أريد به بعض ما يقتضيه ظاهره.
المكلف : الذي دل عليه ما أريد منه العلم به.
المدلول عليه : ما يدل عليه الدليل.
المرسل : الحديث الذي لم يذكر الراوي بعد الرواية ، وقع في أصل
الرواية.
كذلك الخبر المتواتر : خبر قوم بلغوا في الكثرة إلى حد حصل العلم بقولهم.
المسند : الذي وقعت روايته متصلة إلى الرسول «ص».
المصاكة والاصطكاك : مماسة جسمين صلبين بشدة.
المذهب : اعتقاد يستمر عليه صاحبه على جهة التدين.
المطلق من الخطاب : ما لم يقيد بصفة ، أو شرط ، أو استثناء.
المقيد : ما ادخل فيه واحد من هذه الثلاثة.
المعجزة : الفعل الناقض للعادة يتحدى به الظاهر في زمان التكليف
لتصديق مدع في دعواه. وقيل : أمر خارق للعادة مقرون بالتحدي مع عدم المعارضة.
قلنا «أمر» لأن
المعجزة قد تكون بالمعتاد ، وقد تكون منعا من المعتاد ، وقلنا «مقرون بالتحدي»
لئلا يتحد الطالب معجزة غير حجة لنفيه ، وليتميز عن الإرهاص والكرامات. قلنا «مع
عدم المعارضة» ليتميز عن السحر والشعبدة.
المعدوم : المنتفى العين.
الموجود : الثابت العين وهو أظهر مما يحد به.
المعروف : كل فعل واجب أو مندوب إذا عرف ذلك فاعله أو دل عليه.
المنكر : كل فعل أو إخلال فعل عرف فاعله قبحه ، أو دل عليه.
المعصية :
كل فعل أو إخلال
بفعل كرهه الله تعالى.
المغفرة : ان لا يفعل العقاب بعد سيئة أصلا.
المفيد من الكلام : الذي ينبئ عن أمر ما ، وهو اما مفرد أو مركب.
المفرد : ما يفيد فائدة واحدة.
المركب : ما يفيد لإسناد معنى الى آخر.
المكان : الجسم الذي يعتمد عليه غيره ، والكعلى (؟) هي الجهة مكانا.
المماسة : المجاورة.
الممتنع : الذي يستحيل كونه ، والممكن نقيضه ، وهو الذي لا يلزم من
فرض وجوده ولا من فرض عدمه من حيث هو محال.
المستحيل : الذي يتعذر وجوده في نفسه.
المنة : ذكر الصنيعة على وجه من فعلت له.
الموت : ما يقتضي زوال حياة الجسم من الله تعالى أو الملك من غير
جرح يظهر.
المستحق : الفعل الحسن بعد تقدم ما يقتضي حسنة أو وجود به لو لا تقدمه
لما حسن.
المستطيع : هو المتمكن من إيجاد الفعل لحضور ما يحتاج اليه من إيجاده.
المحاباة : تخصيص أحد المستحقين [بأن] ينتفع دون الأخر مع تساويهما في
الاستحقاق.
الموازَنَة : مقابلة الثواب والعقاب ، ويسقط استحقاق الأقل منهما بالأكثر
ويسقط من الكثير أيضا ما يقابل الأول منها.
الموازنة : الموافاة توجب الوعد والوعيد الى من المعلوم منه انه يرد
القيامة مستحقا للثواب والعقاب دون ما قبل القيامة.
المانوية : قوم يذهبون الى قدم النور والظلمة ، وان العالم مركب منهما
، وانهما مطبوعان على الخير والشر ، منسوبة إلى «مانى» اسم رجل.
المجوس : قريب منهم ، ويذهبون الى ان الله تعالى هو النور الأعلى وهو
يزدان ، وان الشيطان من جنس الظلمة وهو أهرمن.
المشركون : الكافرون اثبتوا لله شريكا أو لا.
المنزلة بين المنزلتين : القول بأن للفاسق منزلة متوسطة بين منزلة الكافر والمؤمن
المستحق للثواب في الاسم والحكم.
المجبرة : الذين زعموا انه لا محدث للمحدثات المحسنات والمقبحات الا
الله تعالى.
المرجئة : الواقفة في الفساق هل لهم عذاب أم لا.
المعتزلة من العدلية :القائلون بالوعيد والعقاب لفساق أهل الصلاة قطعا والمنزلة
بين المنزلتين.
المشبهة : الذين يذهبون الى ان الله تعالى جسم طويل عريض.
المهمل : كل قول [لا] يتواضع عليه ليستعمل ، وهو نقيض المستعمل.
المعارضة : مقابلة الخصم بما يظهر عنده انه يقول بمثل ما يقول ، اما
السائل [أ] والمجيب.
المناقضة : ذكر جملتين مخبرها واحد ووقته وجهته واحد يقتضي إحداهما نفى
ما يقتضي الأخرى إثباته.
الملك : المضاف الى الفعل في الشرع القدرة على التصرف الحسن ، أما
المضاف الى العين فلا بد فيه مع القدرة على التصرف من ان يكون له التصرف بجميع
التصرفات الحسنة، لاختصاصه واختصاص سببه الذي يتبعه اختصاص التصرفات.
المالك : من قدر على التصرف فيه ولم يكن لأحد منعه منه.
من الألفاظ.
المترادفة : هي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد كالخمر والراح
والعقال.
اللفظ المشترك : الموضوع لحقيقتين مختلفتين أو أكثر وضعا أو لا من حيث هما
كذلك كالعين احترازا من المتواطى.
المتواطئة : التي تدل على أعيان متعددة بمعنى واحد مشترك بينها كاسم
الإنسان على زيد
وعمرو ، والحيوان على الإنسان والفرس والطير.
المتزايلة : هي المتباينة التي ليس بينها شيء من هذه النسب كالفرس
والذهب والثوب ونحو ذلك.
المشكك : ما يقع على مسميات بمعنى واحد لكن بينها اختلاف بالتقدم
والتأخر والشدة والضعف ، كالموجود الواقع على الخالق والمخلوقات وهو في الخالق
اولى ، وكالبياض الواقع على الثلج والعاج وفي الثلج أشد.
المشابهة : ما يكون المراد باللفظ واحدا في المسميات لكن بين المعنيين
مشابهة بوجه ما كلفظ الفرس على مسماه وعلى المصور صورة الفرس.
المحكم : اما المتقن الصنعة في الفصاحة ، واما الذي لا يحتمل تأويلين
مشتبهين ولا يمنع العقل من ظاهره.
المتشابه : اما المتساوي في الأحكام في الفصاحة وحسن المعنى ، واما
الذي يحتمل تأويلين مشتبهين احتمالا شديدا وظاهره يوضع لما يمنع منه العقل وأحد
تأويليه يحظره العقل.
المتكبر : في صفات الله تعالى التي له العظمة والكبرياء التي لا عظمة
فوقها وهو في حق العبد الذي يتكلف أفعال الكبراء وليس منهم مع اعتقاد ذلك لنفسه.
المصلحة : كل ما عنده يختار المكلف الطاعة أو يكون عنده أقرب الى
اختيارها ما تمكنه في الحالين.
المفسدة : ما يختار [عنده] المكلف المعصية أو يكون أقرب الى اختيارها
مع تمكنه في الحالين ، وليس فيه تعريض لثواب زائد.
المجاز : كل كلام أريد به غير ما وضع له في الأصل على جهة التبع
للأصل.
النون
النبي : رفيع المنزلة عند الله تعالى المحتمل رسالته بلا واسطة آدمي
بالهمزة ولا يهمز غيرها.
الندب : كلما رغب فيه بما يستحق المدح ولا يستحق شيئا بإخلاله الذم.
وكذا النفل.
الندم : الغم والأسف على ما فعل ولم يفعل.
النطق : تقطيع الأصوات حروفا باللهوات. واللهوات والشفتين أو ما
يجري مجرى ذلك كأصوات الطيور.
نظر العين : تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرائي التماسا لرؤيته ، ونظر
القلب ترتيب اعتقادات أو ظنون ليتوصل بها الى الوقوف على الشيء بعلم أو ظن.
النفي : إعدام الموجود ، أو الخبر عن عدم الشيء.
النور : الجسم الرقيق المضيء.
النهي : قول القائل لغيره «لا تفعل» على جهة الاستعلاء إذا كره ذلك
الفعل.
النص : كل كلام يظهر افادته لمعناه ولا يتناول أكثر منه.
النهار : امتداد ضياء الشمس وحركتها على وجه الأرض الى أن تغرب.
النوم : سهو يلحق الإنسان مع فتور الأعضاء من غير علة.
النسيان : نقل الضرورية (؟) بعد حصولها على مجرى العادة.
النفار : مزاج لقلب الإنسان يتأذى لأجله بإدراك ما يتعلق به ، فان
حصل ذلك المدرك في بدنه كان ألما ، وان أدركه خارج بدنه كالطعوم والروائح والأصوات
والمرئيات والحرارة والبرودة تأذى به وكرهه.
النامي : كل جسم يزداد في اقطاره بما يخالطه من الأجسام التي تستحيل
الى حقيقته زيادة مناسبة ـ اعني شيئا فشيئا.
النفاق : إظهار الإيمان مع ابطان الكفر.
النعمة : المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير.
النية : قبل الإرادة من فعل المريد لأعلى وجه الإلجاء المتعلقة
بمراد من فعله.
النص : كل خطاب يمكن أن يعلم المراد به.
الناسخ : الدليل الشرعي الذي يدل على زوال [حكم]. قيل الحكم الذي
يثبت بدليل آخر شرعي مع تراخيه عنه ، وتستعمل ذلك في الحكم دون الدليل.
ويقال في الناصب
للدلالة ، وفي المعتقد أيضا مع تراخيه عنه على وجه لولاه لكان ثابتا.
الواو
الواحد : الفرد الذي لا يتجزى ، والذي لا مثل له ولا نظير ، والذي
يختص باستحقاق العبادة دون غيره ، ويقال على الله تعالى بالمعاني الثلاثة.
الوحي في العرف : الكلام الخفي من جهة ملك في حق نبي في حال اليقظة.
الوسوسة : الكلام الخفي إذا تضمن الدعاء إلى القبائح في حال اليقظة.
الوعد : اخبار الغير بإيصال نفع محض أو دفع ضرر عنه من جهة المخبر.
الوعيد : اخبار الغير بإيصال ضرر محق اليه أو تقوية نفع عنه من جهة المخبر.
الواجب أقسام : معين ، ومخير فيه ، ومضيق ، وموسع ، وواجب على الأعيان ،
وواجب على الكفاية. فالمعين : ما للإخلال به مدخل في استحقاق الذم كالصلاة ،
والمخير فيه : ما للإخلال به وبما يقوم مقامه مدخل في استحقاق الذم كإحدى الكفارات
الثلاث.
والواجب على الأعيان
: الذي لا يقف استحقاق الذم على الإخلال به على ظن إخلال الغير به كالصلاة. واما
الواجب على الكفاية فهو الذي يقف استحقاق الذم على الإخلال الغير به كالجهاد.
والمضيق الذي لا يجوز تأخيره عن وقت الى وقت آخر كمعرفة الله تعالى ، والموسع الذي
يجوز تأخيره من وقت الى وقت كالصلاة في أول الوقت الى وسطه أو آخره.
والواجب عند
المتكلمين : الذي لا بد من كونه ويتعذر أن لا يكون ويدخل في ذلك النفي والإثبات.
الوقت : ما يقدر ظرفا لحدوث حادث أو حوادث ممتد بامتدادها.
الهاء
الهلاك : خروج الشيء عن الوجه الذي لو كان يصح الانتفاع به.
الياء
اليقين : العلم الظاهر الجلي بعد حصول اللبس في معلومه [الاولى :
الذي لا يفتقر في تقديم تصور أو تصديق آخر].
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
الحمد لله حمد
مرتبط للنعم ، مستدفع للنقم ، وصلى الله على خير العرب والعجم ، المبعوث إلى سائر
الأمم ، محمد وعلى آله الطاهري النسم ، الظاهري الفضل والكرم.
وبعد :
فان المخالفين لنا في الاعتقاد ،
يتوهمون صعوبة الكلام علينا في الغيبة وسهولته عليهم، وليس بأول اعتقاد جهل اعتقدوه ، وعند التأمل يبين عكس ما
توهموه.
بيان ذلك :
ان الغيبة فرع
لأصول إن صحت ، فالكلام في الغيبة أسهل شيء وأوضحه إذ هي متوقفة عليها. وان كانت
غير صحيحة ، فالكلام في الغيبة صعب غير ممكن.
بيان هذه الجملة :
ان العقل يقتضي بوجوب الرئاسة في كل زمان ، وأن الرئيس لا بد من كونه معصوما
مأمونا منه كل فعل قبيح.
وإذا ثبت هذان
الأصلان لم يبق إلا إمامة من نشير إلى إمامته ، لأن الصفة التي اقتضاها ودل على
وجوبها لا توجد الا فيه ، وتساق الغيبة بهذا سوقا ضروريا لا يقرب منه شبهة ،
فيحتاج أن ندل على صحة الأصلين المذكورين.
فنقول :
أما الذي يدل على
وجوب الإمامة في كل زمان ، فهو أنا نعلم لا طريق للشك علينا أن وجود الرئيس المطاع
المهيب المنبسط اليد أدعى الى فعل الحسن وأردع عن فعل القبيح ، وأن المظالم بين
الناس : اما أن يرتفع عند وجود من وصفناه ، أو يقل.
وأن الناس عند
الإهمال وفقد الرؤساء يبالغون في القبيح ، وتفسد أحوالهم ويختل نظامهم ، والأمر في
ذلك أظهر من يحتاج الى دليل ، والإشارة إليه كافية ، فاستقصاؤه في مظانه.
وأما الذي يدل على
وجوب عصمة الرئيس المذكور ، فهو أن علة الحاجة إليه موجودة ، وجب أن يحتاج إلى رئيس وامام كما احتيج اليه. والكلام في
الإمامة كالكلام فيه ، وهذا يقتضي القول بأئمة لا نهاية لها ، وهو محال ، أو القول
بوجود امام فارقت عنه علة الحاجة.
وإذا ثبت ذلك لم
يبق الا القول بإمام معصوم لا يجوز عليه القبيح ، وهو ما قصدناه ، وشرح ذلك وبسطه
مذكور في أماكنه.
وإذا ثبت هذان
الأصلان ، فلا بد من القول بأنه صاحب الزمان بعينه ، ثم
__________________
لا بد من فقد
تصرفه وظهوره من القول بغيبته ، لأنه إذا بطلت امامة من أثبتت له الإمامة
بالاختيار ، لفقد الصفة التي دل العقل عليها.
وبطل قول من خالف
من شذاذ الشيعة من أصحابنا بما صاحبنا ، كالكيسانية والناووسية والواقفية ،
لانقراضهم وشذوذهم ، ولعود الضرورة إلى فساد قولهم فلا مندوحة عن مذهبنا ، فلا بد
من صحته ، والا خرج الحق عن الإمامة.
وإذا علمنا
بالسياقة التي ساق الأصلان إليها أن الامام هو ابن الحسن عليهالسلام دون غيره، ورأيناه غائبا عن الابصار ، علمنا أنه لم يغب مع
عصمته وتعين فرض الإمامة فيه وعليه ، الا بسبب اقتضى ذلك ، ومصلحة استدعته ، وحال
أوجبته.
ولم يعلم وجه ذلك
مفصلا ، لان ذلك مما لا يلزم علمه ، وان تكلفنا وتبرعنا بذكره كان تفضلا ، كما إذا
تبرعنا بذكر وجوه المتشابه من الآي بعد العلم بحكمة الله تعالى سبحانه ، كان ذلك
تفضلا.
فنقول :
السبب في الغيبة
هو اخافة الظالمين له ، ومنعهم يده من التصرف فيه فيما جعل اليه التصرف فيه ، لأن
الإمام إنما ينتفع به النفع الكلي إذا كان متمكنا مطاعا ، مخلى بينه وبين أغراضه ،
ليقود الجنود ، ويحارب البغاة ، ويقيم الحدود ، ويسد الثغور ، وينصف المظلوم ، وكل
ذلك لا يتم الا مع التمكن. فإذا حيل بينه وبين أغراضه من ذلك سقط عنه فرض القيام
بالإمامة.
وإذا خاف على نفسه
، وجبت غيبته ، والتحرز من المضار واجب عقلا وسمعا ، وقد استتر النبي صلىاللهعليهوآله في الشعب ، وأخرى في الغار ، ولا وجه لذلك الا الخوف
والتحرز من المضار.
فان قيل :
النبي صلىاللهعليهوآله ما استتر عن قومه الا بعد أداء ما وجب عليه أداؤه ، وقولكم
في الإمام يخالف ذلك. ولان استتاره عليهالسلام لم يتطاول ولم يتماد ، واستتار امامكم قد مضت عليه الشهور
وانقضت دونه الدهور.
قلنا :
ليس الأمر على ما
ذكرتم ، لان استتار النبي صلىاللهعليهوآله كان قبل الهجرة ، ولم يكن عليهالسلام أرى جميع الشريعة ، فإن معظم الاحكام وأكثرها نزل بالمدينة
، فكيف ادعيتم ذلك؟.
على أنه لو كان
الأمر على ما ادعيتم من الأداء [و] التكامل قبل الاستتار ، لما كان ذلك رافعا
للحاجة إلى تدبيره وسياسته وأمره ونهيه.
ومن الذي يقول :
ان النبي صلىاللهعليهوآله غير محتاج اليه بعد أداء الشرع. وإذا جاز استتار النبي صلىاللهعليهوآله مع تعلق الحاجة به لخوف الضرر ، وكانت البعثة لازمة لمن
أخافه وأحوجه الى الاستتار وساقط عنه ، فكذلك القول في استتار امام الزمان.
فأما التفرقة بطول
الغيبة وقصرها ، ففاسدة ، لانه لا فرق بين القصير والممتد وذلك موقوف على علته
وسببه ، فتطول بطول السبب ، وتقصر بقصيره ، وتزول بزواله.
والفرق بينه وبين
آبائه عليهمالسلام أنه ظاهر بالسيف ، ويدعو الى نفسه ، ويجاهد من خالفه ،
ويزيل الدول. فأي نسبة بين خوفه من الاعداء وخوف
__________________
آبائه عليهمالسلام لو لا قلة التأمل.
فإن قيل :
فأي فرق بين وجوه
غائبا لا يصل إليه أحد ولا ينتفع به بشر ، وبين عدمه؟ وإلا جاز إعدامه إلى حين علم
الله سبحانه بتمكين الرعية له كما جاز أن يبيحه الاستتار حتى يعلم منه التمكين له
فيظهر؟.
قيل له :
أولا نحن نجوز أن
يصل اليه كثير من أوليائه والقائلين بإمامته فينتفعون به ومن لا يصل اليه منهم ولا
يلقاه من شيعته ومعتقدي إمامته ، فهم ينتفعون به في حال الغيبة النفع الذي نقول
انه لا بد في التكليف منه ، لأنهم مع علمهم بوجوده بينهم ، وقطعهم على وجوب طاعته
عليهم ولزومها لهم ، لا بد من أن يخافوه ويهابوه في في ارتكاب القبائح ، ويخشوا
تأديبه ومؤاخذته ، فيقل منهم فعل القبيح ويكثر فعل الحسن ، أو يكون ذلك أقرب.
وهذه جهة الحاجة
العقلية الى الامام ، فهو وان لم يظهر لأعدائه لخوفه منهم ، وسدهم على أنفسهم طرق
الانتفاع به ، فقد بينا في هذا الكلام الانتفاع به لأوليائه على الوجهين
المذكورين.
على أنا نقول :
الفرق بين وجود الامام من أجل الخوف من أعدائه ، وهو يتوقع في هذه الحالة إن
يمكنوه فيظهر ويقوم بما فوض الله اليه ، وبين عدمه جلي واضح. لأنه إذا كان معدوما
، كان [ما] يفوت العباد من مصالحهم ويعدمونه من مراشدهم ويحرمونه من لطفهم منسوبا
الى الله سبحانه ، لا حجة فيه على العباد ولا لوم.
وإذا كان موجودا
مستترا بإخافتهم إياه ، كان ما يفوتهم من المصالح ويرتفع عنهم من المنافع منسوبا
إليهم ، وهم الملومون عليه المؤاخذون به.
على أن هذا ينعكس
عليهم في استتار النبي صلىاللهعليهوآله ، فأي شيء قالوه فيه أجبناهم بمثله هنا.
والقول بالحدود في
حال الغيبة ظاهر ، وهو أنها في حياة فاعلها وحياتها فان ظهر الامام والمستحق للحدود باق ، وهي ثابتة عليه
بالبينة والإقرار ، استوفاها منه.
وان فات ذلك بموته
، كان الإثم على من أخاف الامام وألجأه إلى الغيبة وليس بنسخ الشريعة في إقامة
الحدود ، لأنه انما يكون نسخا لو سقط فرض إقامتها مع التمكين وزوال الأسباب
المانعة من إقامتها. وأما مع عدمه والحال ما ذكرنا فلا.
وهذه جملة مقنعة
في هذه المسألة ، والله المستعين وبه التوفيق.
__________________
|
(٢٦)
مسألة في الرد على
المنجمين
|
بسم الله الرّحمن
الرّحيم
قال السيد الشريف المرتضى (رحمهالله)
في كتاب الغرر والدرر في أجوبة المسائل السلارية
:
مسألة :
ما القول فيما
يخبر به المنجمون من وقوع حوادث ويضيفون ذلك الى تأثيرات النجوم؟ وما المانع من أن
تؤثر الكواكب على حد تأثير الشمس الادمة فينا؟ وان كان تأثير الكواكب مستحيلا ،
فما المانع من أن تكون التأثيرات من فعل الله تعالى بمجرى العادة عند طلوع هذه
الكواكب أو انتقالها؟
فلينعم ببيان ذلك
، فإن الأنفس اليه متشوقة. وكيف تقول ان المنجمين حادسون؟ مع أنه لا يفسد من
أقوالهم إلا القليل ، حتى أنهم يخبرون بالكسوف ووقته ومقداره ، فلا تكون الا على
ما أخبروا به ، فأي فرق بين اخبارهم بحصول
__________________
هذا التأثير في
هذا الجسم؟ وبين حصول تأثيرها في أجسامنا.
الجواب :
اعلم أن المنجمين
يذهبون الى أن الكواكب تفعل في الأرض ومن عليها أفعالا يسندونها الى طباعها ، وما
فيهم أحد يذهب الى أن الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو
بعده أفعالا ، من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك.
ومن ادعى هذا
المذهب الان منهم ، فهو قائل بخلاف ما ذهبت القدماء في ذلك ، ومتجمل بهذا المذهب
عند أهل الإسلام ، ومتقرب إليهم بإظهاره. وليس هذا بقول لأحد ممن تقدم ، وكان الذي
كان يجوز أن يكون صحيحا ـ وان دل الدليل على فساده ـ لا يذهبون اليه ، وانما
يذهبون الى المحال الذي لا يمكن صحته.
وقد فرغ المتكلمون
من الكلام في أن الكواكب لا يجوز أن تكون فينا فاعلة.
وتكلمنا نحن أيضا
في مواضع على ذلك ، وبينا بطلان الطبائع الذي يهذون بذكرها واضافة الأفعال إليها ، وبينا أن الفاعل لا
بدّ أن يكون حيا قادرا.
وقد علمنا أن
الكواكب ليست بهذه الصفة ، وكيف تفعل وما يصحح الافعال مفقود فيها ، وقد سطر
المتكلمون طرقا كثيرة في أنها ليست بحية ولا قادرة أكثرها معترض.
وأشف ما قيل في
ذلك : ان الحياة معلوم أن الحرارة الشديدة كحرارة
__________________
النار تنفيها ولا
تثبت معها ، ومعلوم أن حرارة الشمس أشد وأقوى من حرارة النار بكثير ، لأن الذي يصل
إلينا على بعد المسافة من حرارة الشمس بشعاعها يماثل أو يزيد على حرارة النار ،
وما كان بهذه الصفة من الحرارة يستحيل كونه حيا.
وأقوى من ذلك كله
في نفي كون الفلك وما فيه من شمس وقمر وكوكب أحياء ، السمع والإجماع ، وأنه لا
خلاف بين المسلمين في ارتفاع الحياة عن الفلك وما يشتمل عليه من الكواكب ، وأنها
مسخرة مدبرة مصرفة ، وذلك معلوم من دين رسول الله صلىاللهعليهوآله ضرورة.
وإذا قطعنا على
نفي الحياة والقدرة عن الكواكب ، فكيف تكون فاعلة؟ وعلى اننا قد سلمنا لهم
استظهارا في الحجة أنها قادرة.
قلنا : ان الجسم
وان كان قادرا ، فإنه لا يجوز أن يفعل في غيره الا على سبيل التوليد، ولا بدّ من
وصلة بين الفاعل والمفعول فيه. والكواكب غير مماسة لنا ولا وصلة بينها وبيننا ،
فكيف تكون فاعلة فينا.
فان ادعي أن
الوصلة بيننا هي الهواء ، فالهواء أولا لا يجوز أن يكون آلة في الحركات الشديدة
وحمل الأثقال ، ثم لو كان الهواء آلة (تحركنا بها الكواكب ، لوجب أن نحس بذلك،
ونعلم أن الهواء يحركنا ويصرفنا ، كما نعلم في غيرنا من الأجسام إذا حركناه بآلة.
على أن في الحوادث
الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة ولا يتولد عن سبب كالإرادات والاعتقادات
وأشياء كثيرة.
على أن في الحوادث
الحادثة فينا ما لا يجوز أن يفعل بآلة ولا يتولد عن سبب كالإرادات والاعتقادات
وأشياء كثيرة.
فكيف فعلت الكواكب
ذلك فينا؟ وهي لا تصح أن تكون مخترعة للأفعال ، لان الجسم لا يجوز أن يكون قادرا
الا بقدرة ، والقدرة لا تجوز لأمر يرجع الى نوعها أن تخترع بها الأفعال.
فأما الادمة فليست
تؤثرها الشمس على الحقيقة في وجوهنا وأبداننا ، وانما الله تعالى هو المؤثر لها
وفاعلها بتوسط حرارة الشمس ، كما أنه تعالى هو المحرق على الحقيقة بحرارة النار ،
والهاشم لما يهشمه الحجر بثقله ، وحرارة الشمس مسودة للأجسام من جهة معقولة مفهومة
، كما أن النار تحرق الأجسام على وجه معقول.
فأي تأثير للكواكب
فينا يجري هذا المجرى في تمييزه والعلم بصحته؟ فليشر إليه فإن ذلك مما لا قدرة
عليه.
ومما يمكن أن
يعتمد في إبطال أن تكون الكواكب فاعلة ومصرفة لنا ، أن ذلك يقتضي سقوط الأمر
والنهي والذم عنا ، ونكون مقدورين في كل إساءة تقع منا ، ونجنيها بأيدينا وغير مشكورين على
شيء من الإحسان والإفضال ، وكل شيء نفسد به قول المجبرة فهو مفسد لهذا المذهب.
وأما الوجه الأخر
: وهو أن يكون الله تعالى أجرى العادة بأن يفعل أفعالا مخصوصة عند طلوع الكواكب أو
غروبه واتصاله أو مفارقته.
وقد بينا أن ذلك
ليس بمذهب المنجمين البتة ، وانما يتجملون الان بالتظاهر به ، وأنه قد كان جائزا
أن يجري الله تعالى العادة بذلك ، لكن لا طريق الى العلم بأن ذلك قد وقع وثبت.
ومن أين لنا بأن
الله تعالى قد أجرى العادة ، بأن يكون زحل أو المريخ إذا كان في درجة الطالع كان
نحسا ، وأن المشتري إذا كان كذلك كان سعدا.
وأي سمع مقطوع به
جاء بذلك؟ وأي نبي خبر به واستفيد من جهته؟ فان عولوا في ذلك على التجربة ، بأنا
جربنا ذلك ومن كان قبلنا ، فوجدناه على هذه الصفة ، وإذا لم يكن موجبا وجب أن يكون
معتادا.
__________________
قلنا : ومن سلم
لكم صحة هذه التجربة وانتظامها وأطرافها ، وقد رأينا خطأكم أكثر من صوابكم فيها ،
وصدقكم أقل من كذبكم ، فألا نسبتم الصحة إذا اتفقت منكم الى الاتفاق الذي يقع من
المخمن والمرجم. فقد رأينا من يصيب من هؤلاء أكثر ممن يخطئ ، وهو على غير أصل
معتمد ولا قاعدة صحيحة.
فإذا قلتم : سبب
خطأ المنجم زلل دخل عليه في أخذ الطالع أو تسير الكواكب.
قلنا : ولم لا
كانت إصابته سببها التخمين ، وانما كان يصح لكم هذا التأويل والتخريج لو كان على
صحة أحكام النجوم دليل قاطع هو غير اصابة المنجم.
فأما إذا كان دليل
صحة الاحكام الإصابة. فألا كان دليل فسادها الخطأ فما أحدهما في المقابلة الا
كصاحبه.
ومما أفحم به القائلون بصحة الاحكام ولم يتحصل منهم عنه جواب ، ان
قيل لهم في شيء بعينه : خذوا الطالع واحكموا هل يؤخذ أو يترك ، فان حكموا اما
بالأخذ أو الترك خولفوا وفعل خلاف ما خبروا به ، وقد أعضلتهم هذه المسألة واعتذروا
عنها بأعذار ملفقة لا يخفى على عاقل سمعها بعدها من الصواب.
فقالوا في هذه
المسألة : يجب أن يكتب هذا المبتلى بها ما يريد أن يفعل أو يخبر به غيره فانا نخرج
ما قد عزم عليه من أحد الأمرين.
وهذا التعليل منهم
باطل ، لأنهم إذا كان النظر في النجوم يدل على جميع الكائنات التي من جملتها ما
يختاره أحدنا من أخذ هذا الشيء أو تكره.
فأي فرق بين أن
يطوي ذلك فلا يخبر به ولا يكتبه حتى يقول المنجم ما عنده ،
__________________
وبين أن يخبر به
ويكتبه قبل ذلك.
وانما فزعوا إلى
الكتابة وما يجري مجراها ، حتى لا يخالف المنجم فيما يذكره ويحكم به من أخذ أو
ترك. ولو كانت الأحكام صحيحة وفيها دلالة على الكائنات ، لوجب أن يعرف المنجم ما
اختاره من أحد الأمرين على كل حال.
ولو نزلنا تحت
حكمهم وكتبنا ما نريد أن نفعله ، لما وجدنا إصابتهم في ذلك إلا أقل من خطائهم ،
ولم يزيدوا فيه على ما يفعله المخمن المرجم من غير نظر في طالع ولا غارب ، ولا
رجوع إلى أصل ، والا فالبلوى بيننا وبينهم .
وكان بعض الرؤساء
بل الوزراء ممن كان فاضلا في الأدب والكتابة ومشغوفا بالنجوم عاملا عليها ، قال لي
يوما وقد جرى حديث يتعلق بأحكام النجوم ورأى من مخايلي التعجب ممن يتشاغل بذلك
ويفني زمانه فيه : أريد أن أسألك عن شيء في نفسي.
فقلت : سل عما بدا
لك.
قال : أريد أن
تعرفني هل بلغ بك التكذيب بأحكام النجوم الى أن لا تختار يوما لسفر ولبس ثوب جديد
وتوجه في حاجة.
فقلت : قد بلغت
الى ذلك ـ والحمد لله ـ وزيادة عليه ، وما في داري تقويم ولا أنظر فيه ، وما رأيت
مع ذلك الا خيرا.
ثم أقبلت عليه
فقلت : ندع ما يدل على بطلان أحكام النجوم مما يحتاج الى ظن دقيق ورؤية طويلة ،
وهاهنا شيء قريب لا يخفى على أحد ممن علت طبقته في الفهم أو انخفضت.
خبرني لو فرضنا
جادة مسلوكة وطريقا يمشي فيه الناس ليلا ونهارا ، وفي محجته آبار متقاربة ، وبين
بعضها وبعض طريق يحتاج سالكه إلى تأمل وتوقف
__________________
حتى يتخلص من
السقوط في بعض تلك الآبار.
هل يجوز أن يكون
سلامة من يمشي في هذا الطريق من العميان ، كسلامة من يمشي فيه من البصراء؟ وقد
فرضنا أنه لا يخلو طرفة عين من المشاة فيه بصراء وعميان.
وهل يجوز أن يكون
عطب البصراء يقارب عطب العميان؟ أو سلامة العميان مقاربة لسلامة البصراء؟
فقال : هذا مما لا
يجوز ، بل الواجب أن تكن سلامة البصراء أكثر من سلامة العميان ، ولا يجوز في مثل
هذا التقارب.
فقلت : إذا كان
هذا محالا فأحيلوا نظيره وما لا فرق بينه وبينه ، وأنتم تجيزون شبيه ما ذكرناه
وعديله ، لان البصراء هم الذين يعرفون أحكام النجوم ، ويميزون سعدها ونحسها ،
ويتوقون بهذه المعرفة مضار الزمان ويتخطونها ، ويعتمدون منافعه ويقصدونها.
ومثال العميان كل
من لا يحسن تعلم النجوم ، ولا يلتفت اليه من الفهماء والفقهاء وأهل الديانات
والعبادات ثم سائر العوام والاعراب والأكراد ، وهم أضعاف أضعاف من يراعي عدد
النجوم.
ومثال الطريق الذي
فيه الآبار ، الزمان الذي يمضي عليه الخلق أجمعون. ومثال آباره مصائبه ونوائبه
ومحنه.
وقد كان يجب لو صح
العلم بالنجوم وأحكامها ، أن تكون سلامة المنجمين أكثر ومصائبهم أقل ، لأنهم
يتوقون المحن لعلمهم بها قبل كونها ، وتكون محن كل من ذكرناه من الطبقات الكثيرة
أوفر وأظهر ، حتى تكون السلامة هي الطريقة الغريبة.
__________________
وقد علمنا خلاف
ذلك ، وأن السلامة أو المحن في الجميع متقاربة غير متفاوتة.
فقال : ربما اتفق
مثل ذلك.
فقلت له : فيجب أن
نصدق من خبرنا في ذلك الطريق المسلوك الذي فرضناه ، بأن سلامة العميان كسلامة
البصراء ، ونقول : لعل ذلك اتفق وبعد ، فان الاتفاق لا يستمر بل ينقطع. وهذا الذي
ذكرناه مستمر غير منقطع. فلم يكن عنده عذر صحيح.
ومما يفسد مذهب
المنجمين ، ويدل على [أن] ما لعله يتفق لهم من الإصابة على غير أصل ، أنا قد شاهدنا
جماعة من الزراقين الذين لا يعرفون شيئا من علم النجوم ولا نظروا قط في شيء منه ،
يصيبون فيما يحكمون به إصابات مستطرفة.
وقد كان المعروف ب
«الشعراني» الذي شاهدناه ، وهو لا يحسن أن يأخذ الأسطرلاب للطالع ، ولا نظر قط في
زيج ولا تقويم ، غير أنه زكي حاضر الجواب ، فطن بالزرق معروف به كثير الإصابة وبلوغ
الغاية فيما يخرجه من الاسرار.
ولقد اجتمع يوما
بين يدي جماعة كانوا عندي ، وكنا قد اعتزمنا جهة نقصدها لبعض الأغراض ، فسأله
أحدنا عما نحن بصدده ، فابتدأه من غير أخذ طالع ولا نظر في تقويم ، فأخبرنا بالجهة
التي أردنا قصدها ، ثم عدل الى كل واحد من الجماعة ، فأخبره عن كثير من تفصيل أمره
وأغراضه.
حتى قال لأحدهم :
وأنت من بين الجماعة قد وعدك واعد بشيء يوصله إليك ، وقلبك به متعلق ، وفي كمك شيء
مما يدل على هذا ، وقد انقضت حاجتك وانتجزت ، وجذب يده الى كمه فاستخرج ما فيه ،
فاستحيى ذلك الرجل ووجم
__________________
ومنع من الوقوف
على ما في كمه بجهده ، فلم ينفعه ذلك ، وأعان الحاضرون على إخراج ما في كمه لما
أحسوا بالإصابة من الزرق ، فأخرج من كمه رقاع كثيرة في جملتها صك على دار الضرب
بصلته من خليفة الوزراء في ذلك الوقت.
فعجبنا مما اتفق
من اصابته مع بعده من صناعة النجوم.
وكان لنا صديق
يقول أبدا : من أدل دليل على بطلان أحكام النجوم اصابة الشعراني.
وجرى يوما مع من
يتعاطى علم النجوم هذا الحديث ، فقال : عند المنجمين أن السبب في اصابة من لا يعلم
شيئا من علم النجوم ، أن مولده وما يتولاه ويقتضيه كواكبه اقتضى له ذلك.
فقلت له : لعل
بطليموس وكل عالم من عامة المنجمين ومصيب في أحكامه عليها انما سبب اصابته مولده وما
يقتضيه كواكبه من غير علم ولا فهم ، فلا يجب أن يستدل بالإصابة على العلم ، إذ
كانت تقع من جاهل ويكون سببها المولد.
وإذا كانت الإصابة
بالمواليد ، فالنظر في علم النجوم عبث ولعب لا يحتاج إليه ، لأن المولد ان اقتضى
الإصابة أو الخطأ ، فالتعلم لا ينفع وتركه لا يضر.
وهذه علة تسري الى
كل صنعة حتى يلزم أن يكون كل شاعر مفلق وصانع حاذق وناسج للديباج مونق ، لا علم له
بتلك الصناعة ، وانما اتفقت الصنعة بغير علم لما تقتضيه كواكب مولده ، وما يلزم
على هذا من الجهالات لا يحصى.
واعلم أن التعب
بعلم مراكز الكواكب وأبعادها وإشكالها وتسيراتها متى لم يكن ثمرته العلم بالأحكام
والاطلاع على الحوادث قبل كونها لا معنى له ولا
__________________
غرض فيه ، لانه لا
فائدة في أن يعلم ذلك كله ويختص نفس العلم به.
وما يجري الاطلاع
على ذلك إذا لم تتعد المعرفة إلى العلم بالأحكام الا مجرى العلم بعدد الحصى وكيل
النوى ، ومعرفة أطوال الجبال وأوزانها.
وكما أن العناء في
تعرف ذلك عبث وسفه لا يجدي نفعا ، فكذلك العلم بشكل الفلك وتسيرات كواكبها
وأبعادها ، والمعرفة بزمان قطع كل كوكب للفلك وتفاصيلها فيه.
وما شقي القوم
بهذا الشأن وأفنوا أعمارهم الا لتقديرهم أنه يفضي الى معرفة الاحكام.
فلا تغتر بقول من
يقول منهم : اننا ننظر في ذلك لشرف نفوسنا بعلم الهيئة ، ولطيف ما فيها من
الأعاجيب ، فإن ذلك تجمل منهم وتقرب الى أهل الإسلام.
ولو لا أن غرضهم
معرفة الاحكام ، لما تعنوا بشيء من ذلك كله ، ولا كانت فيه فائدة ولا منه عائدة.
ومن أدل الدليل
على بطلان أحكام النجوم ، أنا قد علمنا أن من جملة معجزات الأنبياء عليهمالسلام الاخبار عن الغيوب ، وعد ذلك خارقا للعادات ، كإحياء الميت
وإبراء الأكمه والأبرص. ولو كان العلم بما يحدث طريقا نجوميا ، لم يكن ما ذكرناه
معجزا ولا خارقا للعادة.
وكيف يشتبه على
مسلم بطلان أحكام النجوم؟ وقد أجمع المسلمون قديما وحديثا على تكذيب المنجمين ،
والشهادة بفساد مذاهبهم وبطلان أحكامهم.
ومعلوم من دين
الرسول صلىاللهعليهوآله ضرورة التكذيب بما يدعيه المنجمون والإزراء عليهم والتعجيز
لهم.
وفي الروايات عنه عليهالسلام من ذلك ما لا يحصى كثرة. وكذا عن علماء أهل بيته عليهمالسلام وخيار أصحابه ، فما زالوا يبرؤن من مذاهب المنجمين ،
ويعدونها ضلالا
ومحالا.
وما اشتهر هذه
الشهرة في دين الإسلام كيف يغتر بخلافه منتسب إلى الملة ومصل إلى القبلة.
فأما إصابتهم في
الاخبار عن الكسوفات ، وما مضى في أثناء المسألة من طلب الفرق بين ذلك ، وبين سائر
ما يخبرون به من تأثيرات الكواكب في أجسامنا ، فالفرق بين الأمرين أن الكسوفات
واقترانات الكواكب وانفصالها طريقه الحساب وتسير الكواكب ، وله أصول صحيحة وقواعد
سديدة.
وليس كذلك ما
يدعونه من تأثيرات الكواكب في الخير والشر والنفع والضر.
ولو لم يكن في
الفرق بين الأمرين إلا الإصابة الدائمة المتصلة في الكسوفات وما يجري مجراها ، فلا
يكاد يبين فيها خطأ البتة ، وأن الخطأ المعهود الدائم انما هو في الأحكام الباقية،
حتى أن الصواب هو العزيز فيها ، وما يتفق لعله فيها من الإصابة قد يتفق من المخمن
أكثر منه ، فحمل أحد الأمرين على الأخر بهت وقلة دين.
انتهى كلامه قدس
الله إسراره.
***
ثم ذكر الناسخ
كلاما آخر للسيد في مسألة النجوم قال : ومن المناسب أن نضم مع ما ذكر في هذا
المقام جوابا آخر للسيد (رحمهالله) يتعلق بهذا المرام ، بنقل بعض الاعلام عن السيد ابن طاوس (رحمهالله) عنه أنه كتب في أجوبة بعض
ما سئل عنه ، ليكون الناظر على بصيرة ، وهذا كلامه :
قلنا : ان الذي
جاء بعلم النجوم من الأنبياء هو إدريس عليهالسلام ، وانما
__________________
علم من جهته على
الحد الذي ذكرناه ، ونعلم أنه لا يجوز كونها دلالة الا على هذا الوجه فقط ، لأن
الشيء انما يدل على هذا الحد ، أو على الوجه الذي يدل الدليل العقلي عليه.
وقد بينا تعذر ذلك
في النجوم ، فلم يبق الا ما ذكرناه.
والقطع على أن
كيفية دلالتها معلوم الان غير ممكن ، لأن شريعة إدريس عليهالسلام وما علم من قبله كالمندرس ، فلا نعلم الحال فيه.
فان كان بعض تلك
العلوم قد بقي محفوظا عند قوم تناقلوه وتداولوه ، لم نمنع أن يكون معلوما لهم إذا
اتصل التواتر.
وان لم يكن كذلك ،
لم نمنع أن يكون العلم به ، وان بطل وزال أن يكون أمارة يقتضي غالب الظن عند كثير
منهم.
وهذا هو الأقرب
فيما يتمسك به أهل النجوم ، لأنهم إذا تدبرت أحوالهم وجدتهم غير واثقين بما يحكمون
، وانما يتقدم أحدهم في ذلك العلم ، كتقدم الطبيب في الطب ، فكما أن علوم الطب
مبنية على الأمارات التي تقتضيها التجارب وغالب الظن ، فكذلك القول في علم النجوم
، إلا في أمور مخصوصة يمكن أن يعلم بضروب من الاخبار. انتهى.
|
(٢٧)
جوابات المسائل
الرسية الأولى
|
بسم الله الرحمن
الرحيم
الحمد لله على
متوالي نعمه ومتتالي قسمه ، وله الشكر على أن جعلنا والتفكر حتى نميز بين الحق المبين ، والحجة المتبوعة والشبهة
المدفوعة. وصلى الله على سيد الأمم ، وأفضل العرب والعجم ، محمد نبيه وصفية
ونجيبه. وعلى أفاضل عترته وأطائب ذريته.
أما بعد :
فاني وقفت على
المسائل التي ضمنها الشريف (أدام الله عزه) كتابه ، وسررت شهد الله تعالى بما
دلتني عليه هذه المسائل من كثرة تدبر ، وجودة تبحر ، وأنس ببواطن هذه العلوم
ومآربها وكوامنها.
وأنا أجيب عن
المسائل على ضيق زماني ، وقلة فراغي ، وكثرة قواطعي ، ومن الله جلت عظمته استمد
التوفيق ، مستمطرا اغمامه ومسند مرآته؟ فهو تعالى ولي ذلك والقادر عليه ، المفزوع
فيه اليه.
__________________
المسألة الأولى
حكم معتقد الحق تقليدا
ما القول في معتقد
الحق تقليدا؟ أكافر أم مؤمن أم فاسق؟.
فان كان كافرا
وندم عن تقليده وقصد الى النظر ، أيترك التكليف الشرعي الى أن تستقر له المعرفة؟
إذ كانت صحتها موقوفة على حصول المعرفة ، أو يعمل بها مع علمنا بأنها غير عبادة.
فإن كان العمل بها
واجبا ، ففيه خلاف الأصول. وان كان غير واجب ، ففيه خلاف ما أجمع المسلمون عليه ،
من وجب التكليف الشرعي على كل بالغ كامل العقل.
وكذلك القول في
زمان مهلة النظر لكل مكلف وما زاد عليها من الأزمان التي فرط فيها في النظر في
طريق المعرفة ، هل يجب عليه فيها العبادات؟ وما يفعله إذا حصلت له المعرفة بدليلها؟
أيقضي ما تركه أو ما فعله أم لا؟.
الجواب :
اعلم أن معتقد
الحق على سبيل التقليد غير عارف بالله تعالى ، ولا بما أوجب عليه من المعرفة به.
فهو كافر لاضاعته المعرفة الواجبة.
ولا فرق في إضاعته
الواجب عليه من المعرفة ، بين أن يكون جاهلا معتقد الحق ، وبين أن يكون شاكا غير
معتقد لشيء ، أو بين أن يكون مقلدا. لان خروجه من المعرفة على الوجوه كلها حاصل في
اطاعته لها ثابتة ، وهو كافر. لأن الإخلال
__________________
بمعرفة الله
ومعرفة من يجب العلم به لا يكون الا كفرا.
وقد بينا في
كتابنا الموسوم ب «الذخيرة» كيف الطريق الى كفر من ضيع المعارف كلها ، وسلكنا فيها
غير الطرق التي سلكها المعتزلة.
فإذا ثبت كفر من
ضيع المعارف ، فلا شبهة في أنه فاسق ، لان كل كفر فسق وان لم يكن كل فسق كفرا.
فأما العمل
بالعبادات الشرعية ، فليس يجوز أن يكلفها الا من يصح منه أن يأتي بها على الوجه
الذي وجب عليه.
وقد علمنا أن من
قلد فاعتقد الحق تقليدا من غير نظر يفضي به الى المعرفة ، قد فرط فيما وجب عليه من
المعرفة ، وعري من العلم لتفريطه فيه ، فهو ملزم معاقب على تضييعه وتفريطه ، وهو
مخاطب بهذه العبادات في ابتداء الوقت الذي لو نظر وعرف ما يلزمه من المعارف ، كان
فيه عالما بوجوب هذه العبادات عليه وصح منه أداؤها على الوجه الذي وجبت.
فأما مثل هذا
الوقت الذي .. فإنه لا يجوز أن يلزمه فيه عبادة شرعية ، لأنها لا يصح
منه قبل المعرفة بوجوبها الا لمعرفته .
والقول في مهلة
النظر مثل هذا بعينه ، لان الزمان الذي لا يجوز أن يقع المعارف الا بعد تقضيه ،
ولا يمكن أن يتقدم عليه هو المسمى مهلة النظر ، وهذا زمان لا يمكن قبل انقضائه أن
يعرف وجوب شيء من العبادات ، فكيف يلزمه أن يفعل ما لا يصح أن يعلم وجوبه عليه.
فأما من أهمل
النظر وفرط فيه حتى انقضى الزمان المضروب لمهلة النظر ، فان العبادات تلزمه ، لانه
لو شاء أن ينظر في الزمان المضروب لمهلة النظر لنظر
__________________
وعرف ما يجب عليه
معرفته ، وعلم وجوب هذه العبادات عليه وأمكنه أن يفعلها على الوجه الذي وجبت عليه.
فإذا ضيع ذلك كان ملوما معاقبا ..
فان قيل : كيف
تقولون فيمن أهمل النظر في معرفة الله تعالى وضيعها وتقضى زمان مهلة النظر وأضعافه؟
أهو مكلف وحاله هذه لان يفعل العبادات؟.
فان قلتم : انه
مكلف ، فهو مكلف لما لا يطاق ، لانه لا يعلم في هذه الحال وجوبها عليه ، ولا يتمكن
أيضا من العلم بذلك ، لحاجة هذا العلم الى علوم كثيرة يتقدم عليه تضيق هذا الزمان
عنها. وان قلتم : انه غير مكلف تركتم مذهبكم في أن الكفار كلهم يخاطبون بالشرعيات.
قلنا : ان كان ذلك
الزمان الذي سئلنا عن تكليفه الشرعيات فيه زمانا يتمكن قبل حلوله من العلم بوجوب
هذه الشرعيات عليه ، فهو مخاطب بفعلها وان كان يضيق عن ذلك ، لتفريطه وإهماله الى
أن انتهى اليه.
فانا نقول : كان
مخاطبا بفعل هذه الشرعيات في هذا الزمان ، فأضاع ما كلفه ، فهو مذموم معاقب على
إخلاله بهذه الشرعيات ، لأنها كانت واجبة عليه قبل هذا الزمان ، وهو الان مخاطب
منها بما يتمكن من العلم بوجوبه. فان علم وفعل فقد قام بالواجب ، وان فرط أيضا كان
القول فيه ما تقدم ذكره ..
وأما وجوب القضاء
عليه متى عرف الله تعالى ووجوب الشرعيات ، فإنه غير واجب عليه القضاء ولا سقوط
بسقوطه ، لانفصال كل واحدة من هاتين العبادتين عن الأخرى ، لأن في العبادات ما لا
يجب أداؤه ويجب قضاؤه ، كصوم الحائض.
وهذه المسألة قد
أحكمناها واستقصيناها في مسائل أصول الفقه ، حيث دللنا على أن الكفار مخاطبون
بالشرعيات.
__________________
وبينا أنهم
متمكنون في حال كفرهم من أداء هذه العبادات ، بأن يؤمنوا ويسلموا ، فيعلموا وجوبها
، ويتمكنون حينئذ من فعله.
وبينا أن من دفع
وجوب ذلك عليهم من حيث لا يتمكنون منه في الثاني والا بعد أحوال كثيرة ، يلزمه أن
لا يكون المحدث مخاطبا بالصلاة ، لأنه لا يتمكن مع الحدث من إيقاعها ، لكنه لما تمكن
من إزالته الحدث قبل الإيقاع كان مخاطبا بالإيقاع ، وبلغنا في استيفاء ذلك الى
الغاية القصوى ..
وعندنا أن المرتد
يقضي ما فاته من الصلاة وغيرها من العبادات ، وان كان الكافر الأصلي لا يلزم قضاء
ذلك إذا أسلم ، وهو مذهب الشافعي.
والفرق بينهما أن
المرتد كفر بعد الالتزام لهذه الشرعيات ، فيجوز أن يلزمه من القضاء ما لا يلزم
الكافر الأصلي ، لأن الكافر الأصلي لم يلتزم من ذلك شيئا ، وأن له لازما.
فأما ما مضى في
أثناء الكلام من إجماع المسلمين على أن التكليف الشرعي لازم لكل بالغ كامل العقل ،
فهو خطأ بلا شبهة ، لان الخلاف كله في ذلك ..
أما المتكلمون
فيذهبون الى أن من هو في مهلة النظر لا يجب عليه العبادات الشرعيات ، فإنه لا
يتمكن من العلم بوجوبها عليه ، وان كان بالغا عاقلا.
وأكثر الفقهاء
يذهبون الى أن الكفار كلهم من اليهود والنصارى وغيرهم ، غير مخاطبين بالعبادات
الشرعية وان كانوا عقلاء بالغين ، فكيف ينبغي الإجماع فيما فيه خلاف كل محق ومبطل؟
فالصحيح اذن ما بيناه ورتبناه.
__________________
المسألة الثانية
كيفية رجوع العامي إلى العالم
إذا كنتم تقولون
ان العقلاء بأسرهم متساوون في كمال العقل ، فما الوجه في فتياكم بأن العامي المسوغ
له تقليد العلماء في الفروع ، وعلم جل الأصول ، هو الذي لا يتمكن من التدقيق في
الأصول ، ولا يقدر على التغلغل في غوامض المعارف ، ولا يستطيع حمل الشبهة ، ولا سبيل له إلى معرفة الفروع ، لافتقار العلم
بها الى أمور لا يستطيعها العامي بحال مع كونها عاقلا مكلفا ، وهل هذا الا يقتضي اختلاف العقلاء في كمال
العقل ، من حيث اختلف تكليفهم ، أو أنفع على أن العامي غير عاقل ، فيكون غير مكلف
لشيء.
الجواب :
اعلم أن العامي لا
يجوز أن يسوغ له العمل بفتيا العلماء ، الا بعد أن يكون ممن قامت عليه الحجة بصحة
الاستفتاء والعلم بجوازه.
ولن يكون كذلك الا
وهو ممن يصح أن يعلم الأحوال التي نشأ عليها صحة الاستفتاء اما على جملة أو تفصيل
، لأنه ان لم يكن بذلك عالما كان مقدما من العمل بالفتيا على ما لا يأمن كونه
قبيحا ، وانما يأمن أن يكون كذلك بأن يعلم الحجة في جواز الاستفتاء وصحته.
وقد علمنا أن
الاستفتاء مشروع ، ومن جملة ما علمناه بالسمع من جهة الرسول صلىاللهعليهوآله ، فلا بد من أن يكون هذا العامي الذي سوغنا له العمل
بالفتيا
__________________
متمكنا من العلم
بصحة الشرعية وصدق الرسول صلىاللهعليهوآله. وكذلك لا بد من أن يكون عالما بما يبتني على صحة الرواية
من التوحيد والعدل.
لكن هذه العلوم قد
يكفيه منها المجمل دون التفصيل والشرح الطويل والتدقيق والتعميق.
وقد طعن قوم في
صحة الاستفتاء ، فقالوا : العامي المستفتي لا يخلو من أن يكون عاميا في أصول الدين
أيضا أو عالما بها. ولا يجوز أن يكون في الأصول مقلدا ، لان التقليد في الفروع
انما جاز من حيث أمن هذا المقلد من كون ذلك قبيحا ، وانما يأمن منه لمعرفته
بالأصول ، وأنها سوغت له الاستفتاء ، فقطع على صحة ذلك ، لتقدم علمه بالأصول
الدالة عليه.
والأصول لا يمكن
التقليد فيها على وجه يقطع على صحته ، ويؤمن من القبيح فيه ، لانه ليس ورائها ما
يستدل الى ذلك ، كما قلناه في الفروع. فلا بد من أن يكون عالما بصحة
الأصول ، اما على جملة ، أو على تفصيل.
قالوا : ومن علم
أصول الدين وميز الحق فيها من الباطل ، كيف لا يصح أن يعلم الفروع ، وهو أهون من
الأصول.
وان كان هذا
العامي ممن لا يتمكن من اصابة الحق في أصول ولا فروع ، فهو خارج من التكليف وجار
مجرى البهائم ، ولا حاجة الى الفتيا ، فليس شيء بمحرم عليه ولا واجب.
وهذا الذي حكيناه
غلط فاحش ، لان العامي في الفروع الذي يسوغ له الاستفتاء والعمل به ، لا بد أن
يكون عالما على سبيل الجملة بالأصول ، حتى يكون ممن يقوم عليه الحجة بجواز
الاستفتاء.
__________________
وليس يجب أن يكون
هذا العلم المجمل في موضع مبسوطا مشروحا مفرعا مشعبا ، حسب ما يفعله مدققو
المتكلمين.
وليس يجب فيمن
يحصل له علم الجملة في الأصول أن يتمكن من معرفة الفروع على التفصيل ، بل لا بد في
معرفة حكم كل حادثة من فروع الشريعة من علوم ربما لم يقدر عليها صاحب الجملة في
الأصول ، إلى الاستفتاء في فروع الشريعة ، لما ذكرناه.
وقد استقصينا هذا
الكلام وبسطناه وفرعناه في جواب المسائل الحلبيات ، وانتهينا فيه الى أبعد غاياته.
وليس يجب إذا كان
العامي الذي من فرضه الاستفتاء ، ولا يتمكن من العلم بأحكام الحوادث على التفصيل ،
أن يكون غير عاقل ، أو غير كامل العقل. لان العقل اسم لعلوم مخصوصة يصح من المكلف
بما كلفه والقيام به.
وهذا العامي ما
كلف النظر في أحكام الحوادث على التفصيل والعلم بها ، فلا يكون ناقص العقل ، لان
معه من العلوم التي يسمى عقلا ما يكفيه في معرفة ما كلفه والعمل به ، وما فاته من
علوم زائدة على ذلك إذا لم تكن مخلة بشيء من تكليفه ، فإنها لا تسمى عقلا على هذا
الذي قررناه.
ولان العقلاء وان
اختلفوا في حصول العلم الضرورية لهم وزادت في بعضهم ونقصت في بعض آخر ، لا يجب أن
يكونوا مختلفين في كمال العقل ، ولا في العلوم المسماة بهذا الاسم. لأنا إذا جعلنا
هذا الاسم واقعا على ما يحتاج العاقل إليه في معرفة ما كلفه دون غيره ، لم يكن ما
فات بعضهم في هذه العلوم مسمى بكمال العقل ، لانه غير مخل بما كلفه.
__________________
فالقول بجواز
التفاوت في العلوم صحيح. وليس بصحيح القول في كمال العقل لما بيناه.
المسألة الثالثة
معرفة وجه إعجاز القرآن
إذا كان صدق مدعي
النبوة لا يثبت الا بالمعجز الخارق للعادة على وجه لا يتقدر معه إضافته إلى محدث
بحسنه أو صفته المخصوصة ، ليعلم الناظر اختصاصه بالقديم تعالى الذي لا يجوز منه
تصديق الكذب.
وكنتم تقولون ان
وجه الاعجاز في القرآن هو الصرفة المفتقر به الى العلم بالفصاحة ، ليعلم الناظر عدم الفرق الواجب حصوله بين المعجز والممكن. وذلك يقتضي تعذر
حصول العلم بالنبوة على من ليس من أهل المعرفة ، ولم يفرق ما بين صحيح الكلام
وركيكة. وفي هذا سقوط تكليف النبوة على أكثر الخلق والأعاجم وغيرهم ممن لا بصيرة
له بالفصاحة.
أو القول بوجوب
تقديم معرفة العربية ، وذلك مما يتعذر في أكثر المكلفين ويتعذر في آخرين ، مع ما
فيه من إيجاب معرفة العربية ووقوف تكليف النبوة طول زمان مهلة المعرفة بها.
ولا يمكن أن يقال
: خرق العادة وتعذر المعارضة كان هؤلاء المعلم بالنبوة.
لأنا قد بينا ما
لا خلاف فيه ، من أن خرق العادة غير كاف في الاعجاز ، حتى يكون واقعا على وجه لا
يصح دخوله تحت مقدور محدث ، وهذا الحكم
__________________
لا يحصل مع القول
بالصرفة إلا بعد المعرفة بالعربية ، وذلك يقتضي فساد ما بنينا القول به.
وكذلك ان قيل لنا
أيضا : إذا كان العلم بمراد الله تعالى ومراد رسوله والقائمين في الأمة مقامه (صلوات
الله عليه وعليهم) لا يعلم الا بعد العلم بالعربية التي خوطبنا بها ، فيجب على كل
مكلف العلم بها أن يكون عالما بالعربية ، وذلك يقتضي وجوبها مستدامة لكل مكلف
للشريعة على النظر فيها.
الجواب ، وبالله
التوفيق :
اعلم أن هذه
الشبهة لم يخطر الا ببال من تصفح كتبي ، وقرأ كلامي في نصرة القول بالصرفة ،
واعتمادي في نصرتها على أن أحدا لا يفرق بالضرورة ، من غير استدلال بين مواضع من
القرآن ، وبين أفصح كلام للعرب في الفصاحة.
فإن كان يفرق ما
بين أفصح كلامهم وأدونه بفرقة ظاهرة ، ومحال أن يفرق بين المتقاربين من لا يفرق
بين المتباعدين ، فتركيب هذه الشبهة من مفهوم هذا الكلام.
وليس يمكن أن يقول
في هذا الموضع ما لا يزال أن يقال : من أن الناظر إذا علم أن القرآن قد تحدى به ،
ولم يقع المعارضة له ، لتعذرها عليهم الذي لا يجوز أن يكون معتادا.
فليس بعد ذلك الا
أن يكون القرآن خرق العادة بفصاحته ، أو صرف القوم عن معارضته ، وأي الأمرين كان
فقد صحت النبوة ، فلا فقر بنا إلى معرفة الوجه على سبيل التفصيل.
وذلك أن هذه
الطريقة غير مستمرة ، على ما بينا في كتابنا في نصرة الصرفة
__________________
عليه ، لان تعذر
المعارضة يمكن أن يكون لفرط فصاحة القرآن وخرق عادتنا بفصاحته ، الا أن للناظر
يجوز أن يكون هذا القرآن من فعل جن ألقاه الى من ظهر عليه يخرق به عادتنا ، لأنا
لا نحيط علما بمبلغ من دين الجن في الفصاحة.
وإذا جوزنا ذلك لم
يثبت كونه معجزا بهذا الضرب من الاستدلال ، دون أن يعلم أن الذي خرق به عادتنا حكم
لا يجوز أن يصدق الكذب.
ولهذا قلنا ان
سؤال الجن عنه ، الا على مذهب القائلين بالصرفة ، لان من يذهب يعلم أن جهة تعذر
المقدمة على العرب انما هي للصرف عنها ، لفرط الفصاحة. والصرف عن العلوم التي يساق
معها الكلام الفصيح لا يصح الا من الله تعالى دون كل قادر محدث.
والجواب عن هذه
الشبهة : انه ان كان هذا القول قادحا في مذهب الصرفة ، فهو قادح في مذهب خصومهم
القائلين بأن جهة إعجاز القرآن فرط فصاحته.
لانه يقال لهم :
وإذا كان الطريق الى العلم بأن فصاحة القرآن خارقة للعادة ، وهو عدم معارضته ، فلو
عورض القرآن بما لا يشبه فصاحته كمعارضة مسيلمة ، من أين كان يعلم العجم والعوام
وكل من لا يعرف العربية ومراتب الفصاحة ، أن هذه المعارضة غير واقعة موقعها. وهو
لا يعلم أنه علم معجز الا بعد أن يعلم أنه لم يعارض معارضة مؤثرة ، فأي شيء قالوه
في ذلك قلنا لهم في مثله في نصرة القول بالصرفة.
والجواب عن الشبهة
بعد المعارضة : ان من ليس من أهل العلم بالفصاحة ومراتبها من أعجمي أو عامي ،
متمكن من العلم بفصل فصيح من الكلام على
__________________
غيره ، ومرتبة في
الفصاحة بالرجوع الى أهل الصناعة والسؤال لهم ، فيعلم من ذلك ما تدعوه الحاجة الى
علمه ، وان لم يحتج الى أن يكون هو في نفسه من أهل هذه الصناعة.
ألا ترى أن العجمي
والعامي اللذين لا يعرفان شيئا من الفصاحة ، يصح أن يعلما أن امرأ القيس أفصح ممن
عداه من الشعراء ، وأن بعض الكلام الفصيح أفضل من بعض ، حتى لا يدخل عليه في ذلك
شبهة بالخبر ممن يعرف ذلك. وكذلك من لا يعرف منا النساجة أو الصياغة ، يصح أن يعلم في
ثوب أنه أفضل من غيره أو في علق مصوغ.
وإذا كانت جهة
العلم ثابتة للأعجمي كما أنها ثابتة للعربي ، جاز أن يعلم بالرجوع الى أهل الصناعة
، أن الفرق بين أفصح كلام العرب وبين بعض قصار المفضل في الفصاحة ، غير ظاهر ظهور الفرق بين فصاحة شعر الجاهلية
والمحدثين.
فحينئذ يعلم أن
جهة اعجازه هي الصرفة لا فرط فصاحته ، لانه قد علم تعذر المعارضة لائحة ، وإذا لم
يكن معارضته لفرط الفصاحة فليس الا الصرف.
والقول في أحكام
خطاب العربية يجري مجرى ما ذكرناه ، في أن للأعجمي أن يعلمه من أهله وان لم يكن هو
في نفسه عالما بالعربية. ومن هذا الذي يشك في أن من كلف معرفة مراد الله تعالى
بخطابه ، ومراد الرسول عليهالسلام بكلامه ، لا بد من أن يكون له طريق إلى معرفة ذلك؟
فان كان من أهل
العربية والعلم بموضوعات أهله ، فهو يرجع الى علمه
__________________
ونفسه ، فالعلم بالمراد من الخطاب. وان كان ليس من أهل العربية ، فلا بد
من الرجوع الى أهلها فيما يحتاج الى علمه حتى يتم له العلم بالمراد من الخطاب.
وعلى هذا الوجه
الذي أشرنا إليه يعلم الأعاجم مراد الله تعالى بخطاب القرآن ومراد العرب بخطابهم
لهم وجوازهم . ويعلم أيضا العربي مراد العجمي في خطابه له. وهذه جملة
كافية.
المسألة الرابعة
حكم الكافرين العارفين وغيرهم
ما حكم المكلفين
الذين دعاهم رسول الله صلىاللهعليهوآله بنفسه عنه ، فأبوا الإجابة. إذا كانوا عارفين بالله تعالى وصفاته
وعدله أم لم يكونوا كذلك ، فان كانوا عارفين وجب أن يستحقوا بمعرفتهم الثواب ،
وذلك ينافي كونهم كفارا بترك إجابته صلىاللهعليهوآله على أصولكم في القول بفساد الحابط.
وان كانوا غير
عارفين ، فالواجب تقديم دعواهم وترتيب الأدلة عليهم ، من أعماق النظر فيها قبل
الدعوة الى الشرائع التي هي فرع لها وألطاف فيها. وإيجاب اللطف مع الجهل بما هو لطف فيه لا يصح.
ولان صحتها موقوفة
على تقدم المعرفة بمن يتوجه بها اليه.
__________________
ولو دعي الى ذلك
ورتبه برسيكم يوجب حصول العلم به ، على وجه لا يصح دخول الشبهة فيه ،
كسائر ما دعي اليه من الفرائض ، وكحصول العلم بما رتبه كل منهم معشر المتكلمين ،
ودعي اليه من العبادات عن الأدلة ، وفي عدم ذلك دليل على سقوط ما يوجبونه من النظر
في طريق المعارف ، أو القول بأحد ما قدمناه مما هو ظاهر الفساد عندكم.
الجواب ، وبالله
التوفيق :
اعلم أن من علمنا
أنه كافر مستحق للعقاب الدائم ، فإنه لا يجوز مع المذهب الصحيح الذي نذهب إليه في
فقد الحابط بين الثواب والعقاب ، أن يكون معه ايمان أو طاعة يستحق بها الثواب ،
لأن الطاعة يستحق بها الثواب الدائم ، ولا يجتمع استحقاق الدائمين من ثواب وعقاب.
ومن جهل نبوة
النبي صلىاللهعليهوآله كافر بلا شبهة ، فهو مستحق العقاب الدائم. فلو كان عارفا
بالله تعالى وصفاته وعدله ، لكان قد اجتمع له استحقاق الدائمين من الثواب والعقاب
مع فساد الحابط. وأجمعت الأمة على بطلان ذلك.
فعلمنا أن الذي
يظهره ما في النبوة في المعرفة بالله تعالى سهو ونفاق ، أو هو معتقد
لها تقليدا ، أو بغير ذلك. وليس يمكن أن يدعى أنا نعلم ضرورة كون أحدنا من غيره،
وانما يصح أن يعلمه معتقدا.
وقد بينا في مواضع
من كلامنا أنه لا يجوز أن يستدل على أن مخالفينا في النبوة عارفون بالله تعالى ،
من حيث نظروا في أدلتنا ورسوها برسينا ، وانه لا
__________________
يجوز أن يحصل لهم
من العلم ما حصل لنا ، لان ذلك غير معلوم لنا من جهتهم ، فانا لا نقطع على أنهم
ناظرون في الأدلة التي نظرنا فيها.
ولو نظروا فيها
لما علمنا أنهم على الصفة التي يولد معها النظر لهم العلم بالمنظور فيه ، غير ممتنع أن يكون على صفة واعتقادات لا يجوز معها ثواب النظر
المعلم.
والذي يجب أن
نعلمه على سبيل الجملة : أنهم لو نظروا وأحوالهم كأحوال من ولد نظره العلم فإذا
علمنا أنهم غير عالمين ، فلا بد من أن يكون بعض الشرائط اختلت فيهم.
وقد مثل المتكلمون
في كتبهم ذلك بالرماة على سمت واحد أصاب أحدهم الغرض ، وادعى الرامي الأخر الذي لم
يصب سهمه الغرض أنه رمى في سمت المصيب وعلى حد رميه وعلى أحواله كلها ، فانا نعلم
أن مدعي ذلك كاذب ، لانه لو كان صادقا لأصاب ، كما أصاب صاحبه.
وقد كنا ذكرنا
وجها غريبا خطر لنا في جواب المسائل البرمكيات ما ذكرناه الا فيها ، وهو أن سلمنا
حصول المعارف لبعض الكفار ، غير انا قلنا ان المعرفة انما يستحق عليها الثواب إذا
فعلت للوجه الذي وجبت ، فأما إذا فعلت لوجه آخر لم يجب منه ، فان الثواب لا يستحق
عليها.
ألا ترى من رد
الوديعة لا لوجوبها عليه ، بل للرياء والسمعة وليودع أمثالها ، فإنه لا يستحق على
الرد مدحا ولا ثوابا.
وعلى هذا التقدير
لا يمنع ان يكون من جوزنا أن يكون معه معرفة الله تعالى من الكفار ما فعلها لوجه
وجوبها بل لوجه آخر ، فلا يستحق عليها ثوابا. وانما نمنع من اجتماع الثواب والعقاب الدائمين.
__________________
وإذا جاز أن يكون
في المعارف ما لا يستحق عليه الثواب ، أجزنا أن يجامع الكفر.
فأما ما مضى في
السؤال من أنهم إذا كانوا غير عارفين بالله تعالى ، فالواجب أن يتقدم دعاؤهم إلى
المعرفة بالله تعالى على الدعاء إلى الشرائع ، فعلى هذا جرى الأمر ، وأن النبي صلىاللهعليهوآله كان يأمر الدعاة الذين ينفذون منه الى أطراف البلاد ، بأن
يدعوا الناس الى معرفة الله تعالى ووحدانيته ، ثم الى نبوته وشريعته.
والاخبار في
السيرة مملوة من هذه الألفاظ ، ولو لم يرد في ذلك خبر لكنا نعلم أن الأمر جرى عليه
لقيام الأدلة على صحته.
وانما ظهور الدعاء
إلى النبوة والشريعة أكثر من ظهور الدعاء الى التوحيد والعدل ، لأن المعرفة
بالتوحيد والعدل اليه دعاة ، وعليها حداة من الناس والخواطر ، ومشاهدة آثار الصنعة في العالم ،
فلو لم يدع إليها داع بعينه لكان في تلك الدواعي التي أشرنا إليه كفاية .
وليس كذلك النبوة
والشريعة ، لأنه لا طريق الى الدعاء إليهما إلا قول النبي صلىاللهعليهوآله وتنبيهه ، أو قول من يكون رسوله ومؤديا عنه ، ولا أحد من
المكلفين الا وهو مدعو بعقله ، ربما يسمعه أيضا من غيره ، الى النظر في معرفة الله تعالى ، ولا
داعي له إلى معرفة نبوته وشريعته الا قول ذلك النبي وتنبيهه ، أو قول من يؤدي عنه
، وهذا واضح.
__________________
المسألة الخامسة
الرجوع الى الكافي وغيره من الكتب المعتبرة
هل يجوز لعالم أو
متمكن من العلم أو عامي الرجوع في تعرف أحكام ما يجب عليه العمل به من التكليف
الشرعي الى كتاب مصنف ، ك «رسالة المقنعة» و «رسالة ابن بابويه» أو كتاب رواية ك «الكافي
للكليني» أو كتاب أصل ك «كتاب الحلبي» أم لا يجوز ذلك؟
فان كان جائزا فما
الوجه فيه؟ مع أنه غير مثمر لعلم ، ولا موجب ليقين ، بل الفقهاء العاملون بأخبار
الآحاد لا يجيزون ذلك. وان كان غير جائز فما الغرض في وضع هذه الكتب؟ وهي لا تجدي
نفعا.
وما الوجه فيما
علمناه من رجوع عامة طائفتنا على قديم الدهر وحديثه الى العمل بهذه الكتب ،
وارتفاع النكير من العلماء منا على العامل بها ، بل نجدهم يدرسونها مطلقة من جهة
خلية من تقية على ترك العمل بمتضمنها ، بل يكاد يعلم من قصدهم إيجاب التدين بها.
الجواب :
اعلم أنه لا يجوز
لعالم ولا عامي الرجوع في حكم من أحكام الشريعة الى كتاب مصنف ، لان العمل لا بد
من أن يكون تابعا للعلم على بعض الوجوه ، والنظر في الكتاب لا يفيد علماء ،
فالعامل بما وجده فيه لا يأمن من أن يكون مقدما على قبيح.
__________________
ولا يلزم على هذه
الجملة جواز العمل بالفتيا وتقليد المفتي ، لأن هذا العمل مستند الى العلم ، وهو
قيام الحجة على المستفتي ، بأن له أن يعمل بقول المفتي ، فيأمن لهذا الوجه من أن
يكون فاعلا لقبيح. وليس كل هذا موجودا في تناول الاحكام من الكتب.
فان قيل : فعلى
هذا يجب أن يجوزوا التعبد لنا بأن نرجع في الاحكام الى الكتب ، كما نرجع الى
العلماء ونأمن من القبيح ، لأجل دليل التعبد ، كما قلتم في المفتي.
قلنا : لما تعبد
العامي بالرجوع الى من له صفة مخصوصة يتمكن من معرفتها وتمييزها ويثق ، لأجل دليل
التعبد ، بأن ما يفتيه به يجب علمه عليه.
وإذا قيل له أرجع
في الاحكام الى الكتب من غير تعيين ولا صفة مخصوصة ، لم يكن للحق جهة معينة متميزة
مثمرة. ولكن لو قيل له ارجع الى الكتاب الفلاني وسمى الكتاب وعين أو وصف بوصف لا
يوجد الا فيه يجري مجرى الفتيا في جواز العبادة به ، وحصول الأمن من الاقدام على
القبيح ..
وأما الإلزام لنا
أن لا تكون في تصنيف هذه الكتب فائدة إذا كان العمل بها غير جائز. فليس بصحيح ،
لان مصنف هذه الكتب قد أفادنا بتصنيفها وحصرها وترصيفها وجمعها مذاهبه التي يذهب
إليها في هذه الاحكام ، وأحالنا في معرفة صحتها وفسادها على النظر في الأدلة ووجوه
صحة ما سطره في كتابه.
ولو لم يكن في هذه
الكتب المصنفة الا أنها تذكرة لنا يجب أن ننظر فيها من أحكام الشرعيات ، لان من لم
تجمع له هذه المسائل حتى ينظر في كل واحدة منها ودليل صحته تعب وطال زمانه في جمع
ذلك ، فقد كفى بما تكلف له من جمعها مئونة الجمع وبقي عليه مئونة النظر في الصحة
أو الفساد.
__________________
ونرى كثيرا من
الفقهاء يجمعون ويربون للمتعلمين ولنفوسهم على سبيل التذكرة رءوس مسائل الخلاف
مجردة من المسائل والعلل ، ويتدارسون ذلك ويتلقونه ، ونحن نعلم أن اعتقاد ذلك بغير
حجة ، وليس إذا لم يجز ذلك لم يكن في جمع ذلك وتسطيره فائدة ، بل الفائدة ما أشرنا
اليه.
فأما ما مضى في
أثناء الكلام من أن قوما من طائفتنا يرجعون الى العمل بهذه الكتب مجردة عن حجة ،
ولا ينكر بعضهم على بعض فعله.
فقد بينا في جواب
مسائل التبانيات الجواب عن هذا الفصل ، وبسطناه وشرحناه وانتهينا فيه الى الغاية
القصوى وقلنا :
انا ما نجد محصلا
من أصحابنا يرجع الى العمل بما في هذه الكتب من غير حجة تعضده ودلالة تسنده بقصده
ودلالته. ومن فعل ذلك منهم فهو عامي مقلد في الأصول ، وكما يرجع في الاحكام الى
هذه الكتب ، فهو أيضا يرجع في التوحيد والعدل والنبوة والإمامة إلى هذه الكتب ،
وقد علمنا أن الرجوع في الأصول الى هذه الكتب خطأ وجهل ، فكذلك الرجوع إليها في
الفروع بلا حجة.
وما زال علماء
الطائفة ومتكلموهم ينكرون على عوامهم العمل بما يجدونه في الكتب من غير حجة مشافهة
ومما يصيفونه في كتبهم ، وردهم على أصحاب التقليد ، فكيف يقال : ان النكير غير
واقع ، وهو أظهر من الشمس الطالعة.
اللهم الا أن يراد
أن النكير من بعض أهل التقليد على بعض ارتفع ، فذلك غير نافع ، لان المنكر لا ينكر
ما يستعمل قبله ، وانما ينكر من الافعال ما هو له بجانب ولا اعتبار بعوام الطائفة
وطغامهم ، وانما الاعتبار بالعلماء المحصلين
__________________
المسألة السادسة
من يجب عليه الحج من قابل
في من يجامع قبل
عرفة أو فاته مشعر الحرام ، أو تعمد ترك ركن من أركان الحج ، بأن عليه الحج من
قابل واجبا كان أو تطوعا ، أو هو مختص لحج الفرض.
فان كان مختصا
بالفرض فما الدليل المخصص له به ، مع كون الفتيا من الطائفة والرواية الثابتة بذلك
مطلقة. وان كان المراد الجميع ، فالتطوع في الأصل غير واجب ، فكيف يجب قضاؤه.
الجواب :
اعلم أنه لا خلاف
بين الإمامية في أن المجامع قبل الوقوف بعرفة أو بالمشعر الحرام ، يجب عليه مع
الكفارة قضاء هذه الحجة ، نفلا كانت أو فرضا. وما فرق أحد منهم في هذا الحكم بين
الفرض والنفل.
وما أظن أحدا من
قضاة العامة يخالف أيضا في ذلك ، وأصحاب أبي حنيفة إذا ناظروا أصحاب الشافعي في أن
الداخل في صلاة تطوع أو صيام نافلة يجب عليه هذه العبادة بالدخول فيها وقضاؤها إن
أفسدها ، وجعلوا حج النافلة أصلا لهم وقاسوا عليه غيره من العبادات.
وأصحاب الشافعي
أبدا ما يفرقون بين الموضعين ، فان الحج آكد من باقي العبادات، لانه لا خلاف في
وجوب المضي في فاسدة ، وليس كذلك الصلاة والصيام ، فليس يمتنع لهذه المزية أن يختص
الحج ، بأن يجب منه ما كان نفلا
__________________
بالدخول فيه.
وإذا كنا لا نراعي
في الشريعة القياس ، ونثبت الاحكام بعلل قياسه ، فلا حاجة بنا الى هذه التفرقة.
وما علينا أكثر من أن ندل على أن إفساد الحج ما ذكرناه ، وأنه يخالف حكم إفساد الصلاة أو الصوم
إذا كان تطوعا ، وإجماع الطائفة الذي هو حجة على ما بيناه في عدة مواضع ، هو
الفارق بين حكم الموضعين ..
فان قيل : إذا
كانت الحجة تجب بالدخول فيها ، فأي معنى لقول الفقهاء ، أن في الحج نفلا كما أن
فيه فرضا ، وعلى هذا التقدير لا حج الا وهو واجب ، لان النفل يجب بالدخول ، فيلحق
بالواجب.
قلنا : معنى قولنا
ان في الحج نفلا ، أن فيه ما لا يجب علينا أن ندخل فيه ، ولا أن ننشئ الإحرام به ،
والحج الواجب هو الذي يجب الدخول فيه ، ويستحق من لا يفعله الذم. وعلى هذا التقدير
لا يجوز أن يكون الشيء من أفعال الحج سوى الإحرام فقط نفلا غير واجب ، كالوقوف
والطواف وما أشبه ذلك.
وعلى مذهب أبي
حنيفة في وجوب الصلاة بالدخول فيها يجب أن لا يكون في أفعال الصلاة شيء نفلا سوى
تكبيرة الافتتاح ، وباقي الافعال من ركوع وسجود وقراءة يجب أن يكون واجبا ، لانه
يوجب النفل بالدخول فيه.
فان قيل : إذا كان
الصحيح من مذهبكم أن الشرعيات انما تجب لأنها ألطاف في العقليات ، ولا وجه لوجوبها
الا ذلك ، فالواجب من هذه العبادات لطف في أمثاله من واجبات العقول والنفل منها
لطف في أمثاله من نوافل العقل ، فالحجة إذا وجبت بالدخول فيها فتجب أن تكون لطفا
وأمثالها من الواجبات ، ولا يكون الا كذلك ، ففي أي موضع يكون الحج
لطفا في مثله من النوافل.
__________________
قلنا : الإحرام
إذا كان فاعله مستقلا به متطوعا ، فهو لطف في أمثاله من نوافل العقل. فأما باقي
أفعال الحج فلا تكون إلا واجبة في نفوسها ، ووجه وجوبها ألطاف في أمثالها من
واجبات العقل. فليتأمل ذلك وليقس عليه نظائره.
المسألة السابعة
حول الخبر المتواتر
وإذا كنتم تقولون
: ان من شرط الخبر المعلوم مخبره باكتساب أن يبلغ ناقلوه حدا يمتنع معه الكذب
باتفاق ولا تواطؤ وما يقوم مقامه ، ولا يكون كذلك الا ببلوغهم حدا من الكثرة ،
ويكون هؤلاء الكثرة متباعدي الديار مختلفي الآراء.
فان كانوا ينقلون
بواسطة وجب أن يكون حكمهم في الطريق الذي يعلم الناظر بلوغ الطبقة التي تليه هذا
الحد ، بلقاء كل ناقل بعينه أم بالخبر عنه ، ولا واسطة بين الأمرين يليه من ناقلي
النص وغيره من أهل زمانه في جميع البلاد ، أو من يقوم بمثلهم الحجة وذلك كالمتعذر
، وفيه إذا صح اتفاق استدلال مستدل منا على النص ومعجزات النبي صلىاللهعليهوآله أن تبقي من ذكرناه.
وان كان بالخبر
عنهم فلا يخلو حصول ذلك من وجوه : اما بخبر كذا واحدا وواحدا عن جميعهم ، أو خبر
جماعة لا يصح معها الكذب عن جماعة مثلها ، أو عن آحاد. والقسمان الأولان والرابع
ليس بطريق للعلم ، فلا اعتداد به.
والقسم الثالث
يوجب اختصاص الاستدلال بالتواتر عن بقي من الناقلين عن غيرهم ممن له صفة التواتر ، دون من لم يكن
كذلك. وهذا لاحق بالقسم
__________________
المتقدم ، وقد
بينا ما فيه. وإذا أنصف كل مستدل بتواتر من نفسه علم تعذر هذا عليه وارتفاعه عن
صفة من سمع منهم ما يقول بتواتره ، وان صح حصوله فالأعيان يكاد لا يعرفون.
الجواب :
اعلم أن القائلين
بالتواتر على ضربين :
منهم من يذهب الى
أن الخبر المتواتر فعل الله تعالى عنده للسامعين العلم الضروري بمخبره.
والضرب الأخر
يذهبون الى أن العلم بمخبره مكتسب.
فمن ذهب الى الأول
يقول على وقوع العلم الضروري له ، فإذا وجد نفسه عليه علم أن صفة المخبرين له صفة
المتواترين ، فعندهم أن حصول العلم بصفة المخبرين.
ومن قال بالمذهب
الثاني يقول : الطريق الى العلم بصفة المخبرين هو العادة ، لأن العادة قد فرقت بين
الجماعة التي يجوز عليها ان يتفق منها الكذب من غير تواطؤ وما يقوم مقامه ، وبين
من لا يجوز ذلك عليه. وفرقت أيضا [بين من لا يجوز عليه ، و] بين من إذا وقع منه التواطي جاز أن ينكتم ، وبين من لا
يجوز انكتام تواطؤ.
فان كل عاقل خالط
أهل العادات ، يعلم ضرورة أن أهل مدينة السلام ، أنه يتفق منهم الكذب الواحد من غير تواطؤ عليه ولا أن يتواطؤا ويقوم
__________________
لهم جامع على
الخبر مقام التواطي ، فينكتم ذلك فيستزيل ، لا يجوز على من حضر بعض.
فإذا علم أن وجود
كون الخبر كذبا لا يصح على هذه الجماعات ، فليس بعد ارتفاع كونه كذبا الا أنه صدق
، وأي عجب واستبعاد لان يكون أحدنا يلقى بنفسه ويسمع الخبر ممن هو على صفة
المتواترين.
أو ليس كل واحد
منا يسمع الاخبار ممن يخبره عن عمان وسجستان والبلدان التي ما شاهدها ، فيعلم
صدقهم إذا علم أن العادة لم تجئ في مثل من خبره عن ذلك بالكذب ، لعدم جواز اتفاق
الكذب والتواطي ، وهل العلم بالوقائع والحوادث الكبار في عصرنا مستفاد الا ممن
يخبرنا مشافهة عن هذه الأمور.
وكذلك العلم بالنص
الذي ينفرد به الإمامية ، لا يزال أحدنا يسمع كل امامي عاصره ولقاه يرويه له ، مع
كثرتهم وامتناع الكذب في العادات على مثلهم ، وليس يجب أن لا يعلم هذا النص الا
بعد أن يلقى كل امامي يرويه في كل بلد ، لأنه إذا لقي من جملتهم من خبره بالنص ،
وقد بلغوا من الكثرة إلى حد يقضي العادات بأن الكذب لا يجوز معه عليهم صدقهم ، وان
لم يخبره كل إمام في الأرض.
وليس من شرط الخبر
المتواتر أن يكون رواته متباعدي الديار مختلفي الآراء والأوطان ولا يحصيهم عددا ،
على ما مضى في المسألة ، على ما يظنه من لا خبرة له ، لان التواطي قد يحصل بأهل
بلد واحد ، بل بأهل محلة واحدة ، ومع اتفاق الآراء والأوطان واختلافها ، فلا معنى
لاعتباره ولا تأثير في الحكم المطلوب له.
ولم يبق الا أن
نبين أن الناقلين إذا كانوا لم ينقلوا عما شاهدوه بنفوسهم ، بل
عن طبقات كثيرة
الى أن يتصل بالمنقول عنه ، كيف السبيل الى العلم بأن الطبقات كلها في الكثرة
وامتناع الكذب عليها كالطبقة الأولى التي شاهدناها.
وقد كان أصحابنا
يستدلون على ذلك بطريقة قد بينا في كتاب الشافي وغيره أنها غير مرضية وطعنا فيها ،
وهي أن يقولوا إذا أخبرنا من يلينا من الطبقات بأنهم نقلوا الخبر عمن هو على مثل
صفتهم في الكثرة ، علمنا أن الصفات متفقة.
وهذا ليس بصحيح ،
لانه يجوز أن يخبرنا من يلينا بذلك ان لم يكونوا صادقين ، لان الكذب في مثل ذلك
يجوز على الجماعات ، لانه قد يجوز أن يدعوهم اليه داع واحد من غير أن يتواطؤا ،
وانما يقبل خبر الجماعة إذا كان عما لا يجوز أن يجتمعوا على الاخبار به الا
بالتواطي ، وقد علمنا فساده ، أو لكونه صادقا.
ولهذا نقول : ان
الجماعات الكثيرة لو نقلت أن النبي صلىاللهعليهوآله تخلف أمير المؤمنين عليهالسلام ، أو نص عليه بالإمامة من غير تعيين على خبر بعينه وألفاظ
لها صورة مخصوصة.
وقد بينا في
الشافي برد وغيره أن الطريق الى العلم باتفاق الطبقات في هذه الصفة أن الأمر لو لم
يكن على ذلك ، أو كان هذا الخبر مما حدث وانتشر بعد فقد ، أو قوي بعد ضعف ، وكثير
رواية بعد قلة يوجب أن يعلم المخالطون لرواية ذلك من حالهم ويخبرون ويتعين لهم
زمان حدوثه بعينه ، ويفرقوا بينه وبين ما تقدمه من الأزمنة ، لأن العادات تقضي
بوجوب العلم بما ذكرناه.
ألا ترى أن كل
مذهب حدث بعد فقد يعلم ضرورة من حاله ، ويفرق بين زمان حدوثه وبين ما تقدمه. فإذا
فقدنا في أهل التواتر العلم بما ذكرناه ، علمنا
__________________
أن صفة الطبقات في
نقل هذا الخبر واحدة ، وفرعنا هذه الجملة تفريعا يزيل الشبهة بها.
وفي هذا القدر
الذي ذكرناه هاهنا كفاية.
فصل
فيه ست مسائل تتعلق بالنيات في العبادات
مسألة :
إذا كان صحة
العبادة تفتقر إلى نية التعيين والى إيقاعها للوجه الذي شرعت له من وجوب أو ندب
على جهة القربة بها الى الله تعالى والإخلاص له في حال ابتدائها.
واتفق العلماء
بالشرع على وجوب المضي فيما له هذه الصفة من العبادات بعد الدخول فيها ، وقبح
إعادتها إذا وقعت مجزية ، لكون ذلك ابتداء عبادة لا دليل عليها.
فما الوجه فيما
اتفقت الطائفة الإمامية على الفتوى به من نقل نية من ابتدأ بصلاة حاضرة في أول
وقتها إلى الفائتة حين الذكر لها وان كان قد صلى بعض الحاضرة وفيه نقض ما حصل
الاتفاق عليه من وجوب المضي في الصلاة بعد الدخول فيها بالنية لها وعقدها بتكبيرة
الإحرام ، وخلاف لوجوب تعيين جملة العبادة بالنية ، ومقتضى لكون صلاة ركعتين من
فريضة الظهر الحاضرة المعينة بالنية لها ، مجزية عن صلاة الغداة الفائتة من غير
تقدم نية لها ، وهذا عظيم جدا.
مسألة :
وما الوجه فيما
اتفقوا عليه من جواز تكرير الصلاة الواحدة في آخر
الوقت رغبة في فضل
الجماعة بعد فعلها في أوله ، وفيه أمارة فعل الظهر مرتين ، لان فعل الثانية لا بد
أن يكون لوجه الوجوب أو الندب.
فان كان للوجوب
فذلك باطل ، لأنه بريء الذمة من الظهر بفعل الاولى ، ولا وجه لوجوب الثانية ، وهو
مقتض لكون الخمس صلوات عشرا ، وهذا عظيم أيضا.
وان كان للندب وهو
مخالف لظاهر الفتيا الرواية عنهم عليهمالسلام : صل لنفسك وصل معهم ، فان قبلت الاولى والا قبلت الثانية وكيف ينوي بها الندب وهو امام لقوم يقتدون به ، وصلاة
المأموم معلقة بصلاة الامام ، وهل عزمه على صلاة جماعتهم وفرضهم بأنها مندوبة إلا
كفر به على إفسادها في نفسه.
مسألة :
وما الوجه فيما
اتفقوا عليه من الفتيا بصلاة من عليه صلاة واحدة فائتة غير متعينة عدة صلوات غير
مميزات ثلاثا وأربعا واثنتين. وأن الثلاث قضاء للمغرب ان كانت ، والأربع قضاء
للظهر أو العصر أو عشاء الآخرة ، والركعتان للغداة.
أو ليس هذا يناقض
الاتفاق على وجوب تعيين النية؟ ووجوب بقاء صلاة الظهر في ذمة من صلى أربعا ، لم
ينو بها ظهرا ، بل ينوى بها مندوبة ، أو مباحة غير معينة ، أو معينة بالعصر ، أو
العشاء ، أو القضاء ، أو النذر ، ولانه لا بد أن ينوي بالرباعية المفعولة على جهة
القضاء الفائت صلاة معينة ، أو الثلاث المتغايرات ، أو لا ينوي بها شيئا.
فإن نوى صلاة
معينة لم يجز عن غيرها. وان نوى بها الثلاث المتغايرات ، فتلك نية بلا فائدة ، لأن
صلاة واحدة لا تكون ثلاث ، ولا قضاء الثلاث ، ونية
__________________
واحدة في الشريعة
لا يتبادر ثلاث عبادات متغايرات ، من حيث كان أحد شروطها تعلقها بما هي نية له على
جهة تعيين ، وان لم ينو بها شيئا لم يكن قضاء لشيء ، وما الفرق بين الفائت المتعين
والمبهم في وجوب تعيين النية لقضاء المتعين دون المبهم على تقدير هذه الفتيا
الإبهام مختص بتعذر انحصار العدد دون تغايره. وإذا كان لو فاته ظهر متعين ، لوجب
أن يقضي ظهرا باتفاق.
فكيف يجب إذا علم
أن عليه صلوات منها ظهر ومنها عصر ومنها عشاء ومغرب وغداة ، أن تصلى ظهرا وعصرا
ومغربا وعشاء وغداة ، ويكرر ذلك حتى يغلب في ظنه براءة ذمته ، كما يفعل في قضاء ما
يعين بالعدد. وهذا خلاف الفتيا المقررة.
مسألة :
وما الوجه في
الفتيا بمضي صلاة من فعلها قبل الوقت مع الجهل به أو السهو عنه ، مع دخول الوقت
وهو في شيء منها. والأمة متفقة على أن من فعل من الركعات قبل الزوال والغروب وطلوع
الفجر ، فليس بظهر ولا مغرب ولا غداة.
وإذا ثبت هذا بغير
تنازع ، فكيف يكون ما فعل قبل تعلق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلق بها في المستقبل؟
وكيف يكون صلاته ظهرا يجزيه ، وبعضها واجب لو سلم ، وبعضها غير واجب؟ وكيف يكون ما
لو قصد اليه لكان قبيحا يستحق به العقاب من فعلها قبل الوقت مجزيا عما لو قصد اليه
، لكان واجبا يستحق به الثواب من فعلها بالوقت.
مسألة :
وما الوجه في
الفتيا باجزاء صوم يوم الشك مع تقدم العزم على صومه من شعبان على جهة الندب عن يوم
من شهر رمضان إذا اتفق كونه منه ، وهب نية التعيين
لا يفتقر إليها في
أيام شهر رمضان ، لكون يوم شهر رمضان لا يمكن أن يكون من غيره ، كيف يكون ما وقع
من الفعل بنية التطوع نائبا مناب ما يجب اتباعه لوجه الوجوب.
وهل هذا الا مخالف
للأصول الشرعية من افتقار صحة العبادة إلى إيقاعها على الوجه الذي له شرعت ، وأن
إيقاعها لغيره مخرج لها من جهة التعبد ومخل باستحقاق الثواب ، وعلى هذا التقدير من
الحكم يجب أن يكون إيقاع العبادة لوجه التطوع لا ينوب مناب إيقاعها لوجه الوجوب
على حال.
مسألة :
وما الوجه في
الفتيا بأن عزم المكلف على صوم جميع شهر رمضان قبل فجر أول يوم منه ، يغني عن
تكرار النية لكل يوم بعينه؟ مع علمنا بأن العبادة الواحدة تفتقر إلى نية التعيين
في حال ابتدائها ، دون ما تقدمها أو تراخى عنها وأن الصوم الشرعي العزم على أن
يفعل مكلفة أمورا مخصوصة في زمان مخصوص ، لوجوب ذلك على جهة القربة به ، والإخلاص
كسائر العبادات المفتقرة صحتها الى الوجوه التي بها شرعت ، واتفاقنا على أن اختلال
شرط من هذه يخرج المكلف عن كونه صائما في الشريعة.
فكيف يمنع مع هذا
أن تكون النية المعقودة على هذا الوجه في أول يوم من الشهر ثابتة عن نية كل يوم مستقبل منه ، وهل ذلك الا مقتضى لصحة صوم من
تقدمت منه هذه النية ، مع كونه غير عازم في كل يوم مستقبل على أن يفعل ما يجب عليه
اجتنابه في زمان الصوم ولا فعله للوجه الذي له شرع الصوم ولا
__________________
القربة. وهذا ما
يجوز المصير اليه ، واتفاقنا على وجوب هذه الأمور في كل يوم ، والا لم يكن المرضي
مما يمنع من الفتيا التي حكيناها مع حصول الإجماع عليها ، أو يكون لها وجه ممن
يذكره.
النيات غير مؤثرة في العبادات
الجواب :
اعلم النيات غير
مؤثرة في العبادات الشرعيات صفات يحصل عنها ، كما نقوله في الإرادة أنها مؤثرة ،
وكون الخبر خبرا ، أو كون المريد مريدا. وهو الصحيح على ما بيناه في كتبنا ، لان
قولنا «خبر» يقتضي تعلقا بين الخطاب وبين ما هو خبر عنه ، وذلك المتعلق لا بد من
كونه مستندا الى صفة يقتضيه اقتضاء العلل.
وقد دللنا على ما
أغفل المتكلمون إيراده في كتبهم وتحقيقه من الدلالة ، على أن كون الخبر يقتضي
تعلقا بالمخبر عنه ، وأن المرجع بذلك لا يجوز أن يكون الى مجرد وكون المريد مريدا
لكونه خبرا ، بل لا بد من تعلق مخصوص في مسألة مفردة أمليناها تختص هذا الوجه.
ودللنا فيها على ذلك
، بأن الخبر لو لم يكن متعلقا على الحقيقة بالمخبر عنه ، وعلى صفة اقتضت هذا
التعلق لم يكن في الاخبار صدق ولا كذب ، لان كونه صدقا يفيد تعلقا مخصوصا يقتضي
ذلك التعلق ، فلو لم يكن هناك تعلق حقيقي لما انقسم الخبر الى الصدق والكذب ، وقد
علمنا انقسامه إليها .
وليس في العبادات
الشرعية كلها ما يحصل بالنية أحكام هذه العبادات ، ويسقط بها عن الذمة ما كان غير
ساقط ، ويجري ما كان لولاها لا يجرى. وهذه
__________________
اشارة منا إلى
أحكام مخصوصة لا الى صفات العبادات ، فإنها تشير الى هذه الاحكام التي ذكرناها ،
لأنك لو استفسرته على مراده لما فسر الا بذكر هذه الاحكام.
والذي يبين ما
ذكرناه أن النية لو أثرت في العبادات صفة مقتضاها غيرها ، لوجب أن يؤثر ذلك قبل
العبادة بهذه الشرعيات ، لأن المؤثر في نفسه لا يتغير تأثيره. وقد علمنا أن مصاحبة
هذه النية للعبادة قبل الشرعيات لا حكم لها ، فلا تأثير ، فصح ما نبهنا عليه.
وإذا صحت هذه
الجملة التي عقدناها ، زال التعجب من نقل النية عن أداء الصلاة الى غير وقتها الى
قضاء الفائتة ، لأن ما صلاه بنية الأداء على صفة لا يجوز انقلابه عنها ..
وانما قيل له :
إذا دخلت من صلاة حضر وقتها ، فانو أداءها واستمر على ذلك الى آخرها ، ما لم
تذكر أن عليك فائتة ، فان ذكرت فائتة فانقل نيتك الى قضاء الفائتة ، إذا كان في
بقية من صلاته يمكنه الاستدراك ، لأن الصلاة انما يثبت حكمها بالفراغ من جميعها ،
لان بعضها معقود ببعض ، فهو إذا نقل نيته الى قضاء الفائتة صارت الصلاة كلها قضاء
للفائتة لا أداء الحاضرة ، لأن هذه أحكام شرعية يجب إثباتها بحسب أدلة الشرع.
وإذا كان ما
رتبناه هو المشروع الذي أجمعت الفرقة المحقة عليه ، وجب العمل واطراح ما سواه.
وغير مسلم ما مضى
في أثناء الكلام من حصول الاتفاق على وجوب المضي في الصلاة بعد الدخول فيها بالنية
، لأنا نقسم ذلك على ما فصلناه ، ولا يوجب المضي في الصلاة على كل حال.
وغير مسلم أيضا أن
الركعتين اللتين دخل فيهما ونوى الظهر ، ثم نقل نيته
__________________
قبل الفراغ منهما
الى القضاء الفائتة في صلاة الفجر ، لما ذكرناها أن الركعتين يكونان من الظهر ، بل
انما يكونان من الظهر إذا لم يتغير النية واستمرت على الحالة الاولى.
ولا عجب من أن يقع
هاتان الركعتان من قضاء الفجر ، لما نقل بنيته الى ذلك ، وان كانت النية لم تتقدم
في افتتاح الصلاة ، لأنها وان تأخرت فهي مؤثرة في كون تلك الصلاة قضاء ، وإخراجها
من أن يكون أداء. لأنا قد بينا أن ذلك إشارة إلى أحكام شرعية ، يجب إثباتها ونفيها
بحسب الأدلة الشرعية.
وليس يجب أن يعجب
مخالفونا من مذهبنا هذا ، وهم يروون عن النبي صلىاللهعليهوآله أنه قال: من ترك صلاة ثم ذكرها فليصلها لها ، فذلك فيها . وان كان وقت الذكر منعنا لقضاء الفائتة ، فكيف يصلي فيه
صلاة أخرى في غير وقتها.
والموقت المضروب
لصلاة الظهر وان كان واسعا فإنه إذا ذكر في أوله قبل تضيقه فوت صلاة قبلها ، خرج
ذلك الوقت عند الذكر من أن يكون وقتا للظهر وخلص بقضاء الفائتة.
ولهذا نقول : انه
إذا تضيق وقت الصلاة الحاضرة ولم يتسع الا لأدائها لم يجز له أن يقضي فيه الفائتة
، وخلص لأداء الحاضرة لئلا يفوت الحاضرة ، يذهب إلى أنه متى ذكر في آخر وقت صلاة حاضرة أنه قد فاتته أخرى
قبلها بدأ بقضاء الفائتة وان فاتته الحاضرة. وخالف باقي الفقهاء في ذلك ، فان كان
يجب
__________________
فلتكن من مالك ،
لأنه بصيرة للترتيب أوجب قضاء الفائتة وان فاتت الحاضرة.
أما المسألة الثانية :
ستحباب اعادة المنفرد صلاته جماعة
وهي استحباب اعادة
من صلى منفردا بعض الصلوات ، بأن يصليها جماعة رغبة في فضل صلاة الجماعة.
فأول ما نقوله في
ذلك : ان هذا المذهب ليس مما ينفرد به الإمامية ، بل بين فقهاء العامة فيه خلاف
معروف ، لان مالكا و «عي» يستحبان لمن ذكرنا حاله أن يعيد في الجماعة كل الصلوات
الا المغرب.
وقال الحسن :
يعيدها كلها الا الصبح والعصر.
وقال «يه» :
يعيدها كلها الا الصبح والعصر والمغرب.
وقال «فعي» : يعيد
جميع الصلوات ولم يستثن شيئا منها .
وهذا هو مذهب
الإمامية بعينه.
فكان التعجب من
جواز تكرير الصلاة رغبة في فضل الجماعة انما هو إنكار لما أجمع عليه جميع الفقهاء
، لأنهم لم يختلفوا في استحباب الإعادة ، فبعضهم عم جميع الصلوات ـ وهو الذي
يوافقنا موافقة صحيحة ـ والباقون استثنوا بعض الصلوات ، واستحبوا الإعادة فيما
عداها.
ودليلنا على صحة
ما ذهبنا اليه هو إجماع الطائفة الذي بينا في غير موضع أنه حجة ..
__________________
والموافقون لنا في
هذه المسألة من العامة يعولون على خبر يروونه عن النبي صلىاللهعليهوآله يتضمن : إذا صلى أحدكم ثم أدرك قوما يصلون فيصلى معهم يكون
الاولى صلاته والتي صلاها معهم تطوعا. ويقولون على عموم اللفظ لسائر الصلوات ، فلا
معنى لاستثناء بعضها ، فإن الصلاة الثانية المفعولة جماعة بعد فعلها على سبيل
الانفراد ، الصحيح أنها بدل والفرض هي الاولى ، وهو مذهب الشافعي أيضا وقال في «دعا»
فرضه الثانية.
وأما جواز أن ينوي
هذا المقتدي لهذه الصلاة النفل وان كان امامه ينوي أداء الفرض، فلا خلاف بين
الفقهاء فيه ، لان اقتداء المتنفل بالمفترض والمفترض بالمتنفل : فعند «فه» أنه لا يجوز أن يقتدي مفترض بمتنفل ،
وكرهه ذلك «د» و «ي» ، وقال «فعي» انه جائز. وهو مذهبنا.
ودليلنا على صحته
: هو إجماع الفرقة عليهم ، لأنهم لا يختلفون فيه.
ويجوز أيضا عند «فعي»
أن يأتم المفترض بالمفترض وان اختلف فرضهما ، فكان أحدهما ظهرا والأخر عصرا ، وهو
مذهبنا. و «فه» لم يجوز أن يأتم المفترض بالمفترض الا وفرضاهما غير مختلف.
فأما ما مضى في
خلال الكلام من أنه ان كان الندب فهو مخالف لظاهر الفتيا والرواية. وليس الأمر على
ذلك ، لأنا لا نفتي الا بأن الثانية ندب وطلب الفضل. ولو كان واجبة لكان يذم من لم يصل هذه الصلاة ، وقد علمنا أنه غير
مذموم ان تركها ، وانما ترك فضلا وندبا.
ولم يخالف القائل
بهذه الرواية أيضا ، لأن قوله «صل لنفسك» و «صل
__________________
معهم وبهم» فان
قبلت الاولى والا قبلت الثانية ، لا يدل على أن الثانية واجبة ، لأن القبول الذي
هو استحقاق الثواب بالصلاة قد يكون في الندب مقبولا.
فان قال : كيف
يجوز أن يخالف نية المأموم [قلنا] لا خلاف بين المسلمين في جواز هذا الحكم ، لان
عند جميعهم أنه يجوز أن يقتدي بالمفترض المتنفل.
أما المسألة الثالثة :
حكم من فاتته صلاة غير معينة
والتي يفتي فيها
أصحابنا بأن من فاتته فريضة غير معينة ولا متميزة ، صلى ثلاثا وأربعا واثنتين ،
ونوى بالثلاث قضاء المغرب ، وبالأربع قضاء الظهر أو العصر وعشاء الأخيرين.
فأول ما نقوله في
هذه المسألة : ان الاولى عندنا من هذه حاله أن يصلي ظهرا وعصرا ومغربا وعشاء
وغداة.
وانما رخص له في
الرواية الواردة بذلك أن يجعل مكان الظهر والعصر والعشاء الآخرة
أربع ركعات ، وينوي بها قضاء ما فاته من احدى هذه الصلوات ترفها وتخفيفا ، لانه يشق
عليه أن مادح بهذه الصلوات الرباعية دفعات متكررة فخفف عنها ، بأن يأتي بأربع ينوي
بها ما فاته من احدى هذه الصلوات الثلاث ،
__________________
فهي وان كانت له
غير معينة ، فالله تعالى يعلمها على سبيل التفصيل ، فكأنه يتعين ما فاته وعلم الله
تعالى.
وليس ينبغي أن يقع
تعجب من حكم شرعي إذا دلت الأدلة الصحيحة عليه ، فان الأحكام الشرعية مبتنية على
المصالح المعلومة لله تعالى ، ووجوه هذه المصالح مغيبة عنا ، وانما نعلمها على
الجملة دون التفصيل.
وأما المسألة الرابعة :
حكم الواقع بعض صلاته قبل الوقت
بأن الصلاة
الواقعة بعضها قبل الوقت جهلا أو سهوا ، وبعضها في الوقت مجزية ماضية.
فأول ما نقوله :
ان عندي أن هذه الصلاة غير مجزية ولا ماضية ، ولا بد من أن يكون جميع الصلاة في
الوقت المضروب لها ، فان صادف شيء من أجزائها ما هو خارج الوقت لم تكن مجزية.
وبهذا يفتي محصلو
أصحابنا ومحققوهم ، وقد وردت روايات به ، وان كان في بعض كتب أصحابنا ما يخالف ذلك من الرواية.
وإذا كنا لا نذهب الى ما تعجب منه فلا سؤال له علينا.
والوجه في صحة
القول بأن من صلى بعض صلاته ، أو جميعها قبل دخول وقتها يلزمها الإعادة ، وأن
صلاته غير ماضية ، أن معنى ضرب الوقت للعبادة هو التنبيه على أنها لا تجزي الا فيه
، وإذا كان من صلى قبل الوقت مخالفا للمشروع له ومخالفة المشروع له يقتضي فساد
العبادة ، فيجب القضاء بترك الاعتداد بما وقع من الصلاة في غير الوقت ، ولأن
الصلاة بدخول الوقت تلزم لا محالة.
__________________
وقد علمنا أن ما
يفعله منها في الوقت يسقط عن ذمته وجوبها بالإجماع ، ولم نعلم أن ما فعله قبل دخول
الوقت مسقطا عن ذمته ما تنقلها ، فيجب عليه أن يفعل الصلاة في وقتها ما يعلم به براءة
ذمته من وجوبها.
وما يرويه أصحابنا
فيما يخالف ما ذكرناه من أخبار الآحاد لا يتعبد به ، لانه ليس بحجة ولا موجب علما.
ولو قامت دلالة
على أن من صلى بعض الصلاة ، أو كلها قبل دخول الوقت أجزأه، ولم يجب عليه الإعادة
لجاز ذلك عندنا ، ولم يكن مخالفا لقانون الشرع.
فلا خلاف بين
أصحابنا في أن من اجتهد في جهة القبلة وصلى ، ثم تبين له بعد خروج الوقت أنه
أخطأها وصلى الى غيرها ، فإنه لا اعادة عليه ، وأن صلاته الماضية مجزية عنه ، إذا
كان ما استدبر القبلة.
وقال أبو حنيفة ومالك
وهو أحد قولي الشافعي : انه لا اعادة عليه على كل حال. ولم يفرقوا بين الخطأ
بالاستدبار أو اليمين أو اليسار.
فما هذا التعجب من
الرواية الواردة باجزاء هذه الصلاة؟ ونحن كنا وفقهاء العامة نقول في جهة القبلة
مثل ذلك بعينه ، ونحن نعلم ان القبلة شرط في الصلاة كالوقت.
فإذا جاز أن يقوم
الخطأ مع الاجتهاد في القبلة مقام الصواب ، ويقال : ان فرضه أداه اجتهاده الى سمت
بعينه هو ذلك السمت دون غيره.
فلم لا أجاز أن
يقال أيضا : ان فرضه إذا اجتهد فأداه اجتهاده الى دخول الوقت هو إيقاع الصلاة فيه
، فما فعل الا ما هو فرضه في الحال ، وان ظهر له في المستقبل خلافه ، كما لو ظهر
له في جهة القبلة خلاف اجتهاده.
__________________
ولم نقل ذلك نصرة
لهذا المذهب ، فقد بينا أن ذلك عندنا باطل ، وأن الصحيح خلافه ، وانما قابلنا بذلك
الاستبعاد له والشناعة به.
فأما ما مضى في
أثناء السؤال من أنه يكون ما فعله قبل تعلق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلق بها في
المستقبل ، فكيف تكون صلاته مجزية ، وبعضها واجب وبعضها غير واجب ، وكيف يكون ما
لو قصد إليها لكان قبيحا يستحق به العقاب من فعلها قبل الوقت مجزيا عما لو قصد
إليها لكان واجبا يستحق به الثواب في فعلها في الوقت؟.
فمما لا يقدح في
المذهب الذي قصد الى القدح فيه لان لمن ذهب اليه أن يقول : انني لا أسلم أن وجوب
الصلاة تعلق بالذمة ، مع غلبة ظنه بدخول الوقت ، ولا أن أول صلاته غير
واجب. وليس يمتنع أن يكون ما لو قصد اليه أن يكون قبيحا يستحق به العقاب مجزية ،
بل هو فرضه فيه ، مع غلبة الظن المؤدي اليه اجتهاده.
ألا ترى أنه لو
قصد أن يصلي الى غير جهة القبلة لكان ذلك منه قبيحا يستحق به العقاب ، ومع ذلك
فإذا أداه اجتهاده الى تلك الجهة أجزأه صلاته ، ولم يكن له الإعادة وان تبين الخطأ
، فلا وجه لاستبعاد هذا المذهب الا من حيث ما ذكرناه.
وأما المسألة الخامسة :
حكم صيام يوم الشك
في أجزاء صوم الشك
إذا صامه بنية التطوع عن فرضه إذا ظهر له أنه من شهر رمضان. فهذا مذهب لا خلاف بين
الإمامية فيه ، ولا روى بعضهم ما يخالفه
__________________
على وجه ولا سبب.
والتعجب بما يقوم الحجة عليه لا معنى له.
وقد بينا في صدر
كلامنا أن دخول النية في العبادة وتعينها وإجمالها ومقارنتها وانفعالها ، انما هو
أحكام شرعية يجب الرجوع فيها إلى أدلة الشرع ، فمهما دلت عليه اشتباه واعتمدناه.
ولو كانت نية
الصوم الواجب يعتبر فيها تعيين النية على كل حال ، لما أجمعت الإمامية على أجزاء
صوم يوم الشك بنية التطوع ، إذا ظهر أنه من شهر رمضان.
وكذلك أجمعوا على
أنه ان صام شهرا بنية التطوع على أنه شعبان وكان مأسورا أو محبوسا يجب أن لا يعلم
أحوال الشهر ، لكان ذلك الصوم يجزيه عن شهر رمضان.
وانما تفتقر
العبادة إلى نية إيقاعها على الوجه المعين في الموضع الذي يتمكن المكلف للعلم
بالتعيين ، وفي يوم الشك لا يمكنه أن يعلم أنه من شهر رمضان في الحال ، فلا يجوز
أن يصومه إلا بنية التطوع ، لان التعيين لا سبيل له إليه في هذا اليوم. وغير ممتنع
أن يقوم الدليل على أنه ان صامه بهذه النية وظهر أنه من شهر رمضان أجزأ عن فرضه.
وأبو حنيفة
يوافقنا في هذه المسألة ، يذهب إلى أنه ان صام يوما بنية التطوع وظهر أنه من شهر
رمضان أجزأه ذلك عن فرضه ، ولم يجب عليه الإعادة. ويعول في الاستدلال على صحة قوله
على أشياء :
منها : قوله تعالى
(فَمَنْ شَهِدَ
مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ) فأمر بصوم شرعي ، ولا خلاف في أن الصوم بنية التطوع صوم
شرعي ، فإنه لو صام في غير شهر
__________________
رمضان يوما بنية
التطوع يوصف في الشرع بأنه صوم مطلق ، فعموم الآية يقتضي فعل ما هو صوم في
الشريعة.
ومنها : أن صوم
شهر رمضان مستحق العين على المقيم ، فعلى أي وجه فعله وقع على المستحق ، كطواف
الزيارة ورد العارية والوديعة والغصب.
ومنها : أن نية
التعيين يحتاج إليها للتمييز بين الفرض وغيره ، والتمييز انما يحتاج إليه في الوقت
الذي يصح في وقوع الشيء وخلافه فيه. فأما إذا لم يصح منه في الحال
الى الفرض لم يحتج إلى نية التعيين ، ولما لم تكن الوديعة والعارية بهذه الصفة لم
يفتقر إلى نية التعيين.
فإذا قيل : لعل ما
لا جزت صومه هذا الزمان المعين بغير نية أصلا ، كما جاز رد الوديعة بغير نية ، كما
لقوله فروقا بين الأمرين ، بأن يقول : كونه مستحق العين انما يكون علة في سقوط نية
التعيين ، لانه لو طاف بنية التطوع أجزأه عن فرضه ، ولا يسقط فيه النية على
الجملة.
وأجود مما ذكره
أبو حنيفة أن يقول : ان الصوم في الشريعة لا بد من كونه قربة وعبادة بلا خلاف بين
المسلمين ، فإذا تعين في زمان بعينه سقط وجوب نية التعيين ، ونية القربة والعبادة
لا بد منها ، والا فلا يكون صوما شرعيا ، وليس كذلك رد الوديعة والعارية.
وربما طعن الشافعي
على أبي حنيفة في هذا الكلام الذي حكيناه من أن ما تعين من زمانه من العبادات لا
يحتاج إلى نية ، بأن يقول له : ان الصلاة في آخر الوقت وعند تضيقه يفتقر إلى نية
التعيين بلا خلاف ، ومع هذا فان الزمان قد تعين في أدائها لا يمكن أن يقع فيه
سواها.
__________________
ويمكن منه أن يجيب
عن ذلك بأن يقول : هذا الزمان يمكن الا يعين فيه أداء هذه بأن يكون قدمها عليه وما
أخرها إليه ، فقد صارت هذه العبادة فيه غير متعينة ، وليس كذلك صوم شهر رمضان ،
لانه لا يمكن أن يقع فيه من جنس هذا الصوم سواه ، فقد تعين له خاصة ، وفارق بذلك
الصلاة في آخر الوقت.
واما المسألة السادسة :
حكم نية صوم الشهر كله في أوله
وهي أن النية
الواقعة في ابتداء رمضان لصوم الشهر كله مغنية عن تجديدها في كل ليلة.
فهو المذهب الصحيح
الذي عليه إجماع الإمامية ، ولا خلاف بينهم فيه ، ولا رووا خلافه.
وقد يذهب الى ذلك
مالك ويقول : ان تكرار النية لم يكن واجبا ، فإنه إن جددها لكل يوم الى آخر الشهر
كان أفضل وأوفر ثوابا. ولا تعجب من الأحكام الشرعية إذا قامت عليها الأدلة
الصحيحة.
فإن قيل : كيف
تؤثر النية في جميع الشهر وهي متقدمة في أول ليلة منه.
قلنا : انها تؤثر
في الشهر كله كما تؤثر عندنا كلنا هذه النية في صوم اليوم بأسره وان كانت واقعة في
ابتداء ليلته. ولو كانت مقارنة النية للصوم لازمة لما جاز هذا الذي ذكرناه ، ولا
خلاف في صحته.
ولو اعتبر في
التروك الافعال في زمان الصوم مقارنة النية لها لوجب تجديد النية
في كل حال من زمان كل يوم من شهر رمضان ، لأنه في هذه الأحوال
__________________
كلها تارك لما
يوجب كونه مفطرا.
وقد علمنا أن
استمرار النية طول النهار غير واجب ، وأن النية قبل طلوع الفجر كافية مؤثرة في كون
تروكه المستمرة طول النهار صوما ، كذلك القول في النية الواحدة إذا فرضنا أنها
لجميع شهر رمضان أنها تؤثر شرعا في صيام جميع أيامه وان تقدمت ، كما أثرت النية
الواقعة بالليل في صيام اليوم كله.
وما مضى في خلال
الكلام من أن ذلك يقتضي صحة صوم من تقدمت منه هذه النية ، مع كونه غير عازم في كل
يوم مستقبل على أن لا يفعل ما وجب عليه اجتنابه في زمان الصوم ـ الى آخر الفصل.
فكذلك تقول : ان
تجديد العزم على جميع ما ذكر غير واجب في كل يوم إذا كانت قد تقدمت النية في أول
الشهر على ذلك كله ، فان تقدمها يقتضي وقوع تروكه في زمان الصوم كله على وجه
القربة والعبادة والصحة ، كما اتفقنا في أن تقدم النية بالليل يقتضي وقوع كفه في
طول النهار ، كما يفعله الصائم عبادة وقربة وعلى الوجوه المشروعة.
فإن أريد بكونه
غير عازم أنه غير مجدد بالنية ، فقد مضى القول فيه. وان أريد بذلك أنه يكون عازما
على الأكل أو الشرب أو الجماع ، فقد انتقض النية المتقدمة. ألا ترى أن من أوجب النية
لكل يوم يقول لو نوى بالليل وقبل طلوع الفجر صيام يوم بعينه ، لم يجب عليه تجديد
النية والعزم ، لكنه متى عزم على الأكل أو الشرب أو الجماع أفسد صومه. وهذا بين
لمن تأمله.
فصل
يتضمن مسألتين تتعلق بأحكام النية في العبادة
المسألة الأولى :
إذا كانت الشروط
المذكورة في صفة نية العبادة معتبرة في صحتها ، فما
حكم من جهلها من
المكلفين؟ أوقع عبادته خالية عنها أو من بعضها ، هل يجب عليه اعادة ما مضى من
العبادات عارية من ذلك إذا عرف كون هذه الشروط واجبة؟ أم يجزيه ما مضى بغير نية؟
أو نية التعيين والقربة خاصة؟ من غير أن يخطر له الوجه الذي وجب ، وانما اعتقد
وجوبها على الجملة.
المسألة الثانية :
وما حكم العبادة
ذات الاحكام المتغايرة ، كالطهارة والصلاة والحج؟ هل يجب على مكلف فعلها معرفة
أعيان أحكامها وفرق ما بين واجبها ومندوبها ، أم يجزيه اعتقاد وجوبها على الجملة
من غير معرفة بتفصيل أحكامها؟.
فإن كان العلم
بتفصيلها حين البلوى بها يجب ، فهل يلزم مكلفها أن يفرد لكل حكم مفصل بينه يخصه في حال فعله؟ كغسل الوجه ومسح الرأس والركوع
والسجود والطواف والسعي وأمثال ذلك ، أم يجزيه تعيين ذلك حين القصد الى فعل
العبادة التي هذه الاحكام من تفصيل؟ ولا يحتاج الى تكرير النية لكل واجب
وندب في حال فعله ، أم لا يلزم شيء من ذلك ، بل يكفيه أن يعزم على صلاة الظهر
لوجوبها في حال تكبيرة الإحرام ، من غير أن يخطر له شيء من تفصيل.
وان كان العلم
بتفصيل أحكام العبادة وشروطها وأفعالها وتروكها واجبا ، فما حكم ما مضى مع الجهل
بذلك من العبادات يجب قضاؤه أم لا.
__________________
حكم المخل بالنية في العبادة
الجواب :
اعلم أن العبادة
إذا وجبت بنية مخصوصة وكانت النية شرطا في صحتها ، فكل مخاطب بهذه العبادة لا بد
أن يكون مخاطبا بالنية التي هي شرط في صحتها. وإذا أوقعها بغير نية فالإعادة واجبة
عليه ، لانه قد أخل بشرط صحتها.
فان فرضنا أنه جهل
وجوب هذه النية عليه ، فأوقعها عارية منها ، ثم علم بعد ذلك وجوبها ، فالصحيح أنه
ان كان جهل وجوب هذه النية عليه في حال يصح فيها من العلم بوجوبها ، وانما جهلها
تفريطا وإهمالا ، فالقضاء واجب عليه لا محالة.
وان كان لما جهل
وجوبها غير متمكن من العلم بوجوب هذه النية ، فمن المحال أن يكون مكلفا للعبادة
وهو غير متمكن للعلم بوجوبها ووجوب ما يفتقر في صحتها اليه ، ومن لم يتمكن من
العلم بوجوب الفعل وشرائطه فهو غير مكلف له ، فهذا لا يجب عليه الإعادة، لأن هذه
العبادة في الوقت الذي فعلها عارية من النية لم تكن واجبة.
فأما الوجه الذي
له وجب العبادة ، فإن أريد مثلا كونها ظهرا أو عصرا ، فلعمري انه لا بد من أن ينوي
بأدائها كونها ظهرا أو عصرا. وان أريد بوجه الوجوب الذي منه كانت مصلحة وداعية الى
فعل الواجب العقلي وصارفة عن القبيح العقلي ، فذلك مما لا يجب علمه على سبيل
التفصيل ، والعلم به على وجه الجملة كاف.
وأما المسألة الثانية :
حكم نية العبادة المشتملة على أفعال كثيرة
فإن كل عبادة
اشتملت على أفعال كثيرة ، وان كان لها اسم يتعرف به جملتها كالطهارة والصلاة والحج
، فلا بد في كل مكلف لها من أن يكون له طريق إلى معرفة وجوب ما هو واجب منها
بالتمييز بينه وبين ما هو ندب ونفل.
فإذا نوى في
ابتداء الدخول في هذه العبادة التي لها أبعاض كثيرة أن يفعلها ونوع إيقاع ما هو واجب ، منها على جهة الوجوب وإيقاع الواجب
منها واجبا والندب ندبا ، لم يحتج الى تجديد النية عند كل فعل من أفعالها ،
كالركوع والسجود وغيرهما ، وهذه الجملة مقنعة.
المسألة السادسة
عشر :
نية النيابة في العبادات وثوابها
من صفة نية النائب
عن غيره في حج أو جهاد ، هل يعزم على أداء ذلك لوجوبه عليه أم لا على مشتبه ، فان
كان يفعل ذلك لوجوبه عليه ، فلوجه غير صحيح ، لانه لم يجب عليه شيء ، وانما هو
ثابت في فعل واجب على غيره دونه.
ثم كيف يكون نائبا
عن غيره بفعل واجب عليه في نفسه؟ فان فعله لوجوبه على غيره، فكيف يصح أن يعبد الله
زيد عبادة واجبة جهة وجوبها مختص بعمرو؟ وكيف يبرأ ذمة عمرو مما وجب عليه بفعل زيد؟
مع تقرر الحكم العقلي خلافه
__________________
ورود السمع بما
يطابقه من قوله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) ، (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ) وأمثال ذلك.
الجواب :
اعلم أن النائب من
غيره في الحج يجب أن يكون نيته من جهة إلى الوجه الذي قصده بالحجة ، فان حجتها عمن وجب عليه الحج ، فيجب أن يكون بنية منصرفة الى هذا
الوجه ، وكذلك ان كان تطوعا عن غيره ، نوى بها التطوع عن ذلك الغير. ولذلك يجب أن
يسمي من أحرم عنه في بيته.
وليست هذه الحجة
بواجبة على المسببات ، حتى يقال : كيف نائبا عن غيره بفعل واجب عليه في نفسه. اللهم الا أن يفرض
أنه ولي الميت وجب عليه الحج فلم يحج ، فإن الولي يجب عليه عندنا أن يحج عنه ،
وينوي بهذه الحجة ما كان واجبا على الميت ، فهذا الموضع الذي يتعين فيه النيابة
يكون الحج واجبا على النائب ، وينوي بالحجة إيقاعها عن الميت وإسقاط حق النيابة عن
ذمته ، فالواجب على زيد وان لم يكن جهة وجوبه لها تعلق بعمرو.
فكأنه قيل لهذا
الولي : يجب عليك إذا مات مولاك وله حجة أن تحج أنت عنه ، فجهة الوجوب مختصة
بالنائب ، ولها تعلق بالميت من حيث كان تفريطه في الحج شيئا بوجوب الثابتة على وليه.
__________________
فأما ثواب هذه
الحجة ، فإن كان الميت وصى بها وأمر بأن يحج عنه ، كان الثواب مقسما بينه وبين
النائب. وان لم يكن كذلك ، فالثواب ينفرد به الفاعل فلم نخرج بهذا التفصيل من
الحكم العقلي ، ولا من ظاهر قوله (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى).
المسألة السابعة
عشر :
حكم الماء النجس يتمم كرا
إذا كان المذهب
مستقرا بأن ما بلغ من المياه المحصورة كرا لم ينجسه شيء إلا ما غير أحد أوصافه.
فما القول في ماءين نجسين غير متغيرين ينقص كل واحد منهما عن الكر خلطا فبلغا كرا
فما زاد ، أهما نجسان بعد الخلط أم طاهران. فان قلتم بطهارتهما ، فمن أين صار
الخلط مؤثرا للطهارة؟ وان قلتم بنجاستهما خالفتم قولكم بطهارة ما بلغ الكر مع عدم
التغير.
الجواب :
اعلم أن الصحيح في
هذه المسألة هو القول بأن هذا الماء يكون طاهرا بعد اختلاطه إذا كان يبلغ كرا ،
لان بلوغ الماء عندنا هذا المبلغ مزيل لحكم النجاسة التي تكون فيه ، وهو مستهلك
مكسر لها ، فكأنها بحكم الشرع غير موجودة ، الا أن تؤثر في صفات الماء يكسر به وبلوغه الى هذا الحد مستهلكا للنجاسة الحاصلة فيه ، فلا
فرق بين وقوعها بعد تكاملكونه كرا ، وبين حصولها في بعضه قبل التكامل. لان على الوجهين
معا النجاسة في ماء كثير ، فيجب أن يكون لها تأثير فيه مع تغير الصفات.
__________________
والذي يبين أن
الأمر على ما أفتينا به ، أنا لو صادفنا كرا من ماء فيه نجاسة لم تغير شيئا من
أوصافه ، لكنا بلا خلاف بين أصحابنا نحكم بطهارته ، ونجيز التوضؤ به ، ونحن لا
نعلم هل هذه النجاسة التي شاهدناها وقعت فيه قبل تكامل كونه كرا أو بعد تكامله.
ولو كان بين
وقوعها فيه قبل التكامل ، وبين وقوعها بعد التكامل فرق ، لوجب التوقف عن استعمال
كل ما توجد فيه نجاسة لم تغير أوصافه ، وان كان كثيرا ، لأنا لا ندري كيف كان حصول
هذه النجاسة فيه ، فلما لم يكن بذلك اعتبار دل على أن الأمر على ما ذكرناه.
المسألة الثامنة
عشر :
سجدة قراءة العزائم في الصلاة تجب بعد الفراغ من الصلاة
ما القول فيمن سها
أو قصد ، فقرأ في بعض فرائضه سورة من عزائم السجود ، فلم يذكر حتى لفظ بالاية التي
يجب لها السجود ، أيسجد أم لا؟.
فان قلتم يسجد
أوجبتم إفساد صلاة كان يجب المضي فيها بزيادة فيها سجدة ليست منها ، وان قلتم لا
يسجد أبحتم الإخلال بالواجب عليه في السجود. وهذان أمران لا يمكن الجمع بينهما ،
سواء عما يصح الإخلال به منهما.
الجواب :
اعلم أن ذلك إذا
اتفق من غير قصد إليه ، فالأولى أن يتوقف عن السجود ويمضي في صلاته ، فإذا سلم سجد
حينئذ ، فتأخيره السجود ـ وان وجب على الفور ـ أهون على كل حال في دفع صلاة قد بدأ
بها ، ويعين عليه الاستمرار عليها الى حين الفراغ منها.
وليس وجوب هذا
السجود جار مجرى وجوب المضي في الصلاة ، لأن الشافعي يذهب الى أن سجود القرآن لا
يجب على كل حال من الأحوال في صلاة ولا غيرها ، ووجوب المضي في صلاته لا خلاف فيه.
المسألة التاسعة
عشر :
حكم من عليه فائتة في وقت الأداء
إذا كان إجماعا
مستقرا بوجوب تقديم الفائت من فرائض الصلاة على الحاضر منها ، الى أن يبقى من وقته
مقدار فعله ، فما القول فيمن صلى فرضا حاضرا في أول وقته ، أو ثابتة وعليه فائت ، أيجزيه ذلك مع كونه مرتكبا للنهي؟ أم يجب
عليه إعادة الصلاة في آخر الوقت؟.
فان كان مجزيا فما
فائدة قولهم عليهمالسلام «لا صلاة لمن عليه
صلاة» وكيف يكون مجزيا مع كونه مرتكبا للنهي بفعلها في أول وقتها قبل القضاء.
وان كانت غير
مجزية فكيف حكم بفسادها وقد أوقعها مكلفا بنيتها المخصوصة وأتى بجميع أحكامها
وشروطها في وقت لا يصح فعلها فيه ، فاعادتها بعد فعلها على هذا الوجه يحتاج الى
دليل ولا أعلم دليلا.
وما حكم من عليه
صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل ، أينتقل بقضائها بجميع زمانه الى آخر وقت الفريضة الحاضرة ، فذلك
يقطعه من التعيش وسد الخلة، ويمنعه من النوم وغيره.
__________________
وان كان مباحا له
التشاغل بسد الخلة وحفظ الحياة بالراحة بالنوم ، مع تعلق فرض القضاء بذمته ، فهل
له ما خرج عن ذلك وزاد عليه ما هو مستغن عنه في الحال؟ أم لا يجوز التشاغل بما زاد
على ما يحفظ به حياته وجوه من يجب عليه القيام به من لباس وغذاء.
وما حكم فرض يومه
وليلته في زمان إباحة التعلق والنوم يقدمه في أول وقته ، مع ما عليه من الفوائت ،
أم يؤخره إلى وقته ، وان كان متشاغلا عنه بالتكسب.
وهل يجوز لمن عليه
فرائض غير الصلاة أن يسدي ما خوطب به من
جنسها أم حكم سائر الفرائض حكم الصلاة في وجوب التقديم على الحاضر.
الجواب :
اعلم أن من صلى
فرضا حاضر الوقت في أول وقته ، أو قبل تضيق وقت أدائه ، وعليه فريضة صلاة فائتة ،
يجب أن يكون ما فعله غير مجز عنه ، وأن يجب عليه اعادة تلك الصلاة في آخر وقتها ،
لأنه منهي عن هذه الصلاة ، والنهي يقتضي فساد الصلاة وعدم الاجزاء.
ولان هذه الصلاة
مفعولة في غير وقتها المشروع له ، لأنه إذا ذكر أن عليه فريضة فائتة، فقد تعين
عليه بالذكر أداء تلك الفائتة في ذلك الوقت بعينه ، فإذا صلى في هذا الوقت غير هذه
الصلاة كان مصليا في غير وقتها المشروع لها ، فيجب الإعادة لا محالة.
وأما ما مضى في
الكلام من القول بأن وجوب الإعادة يحتاج الى دليل. فقد
__________________
ذكرنا الدليل على
ذلك ، فلا نسلم أنه أوقع هذه الصلاة على جميع شرائطها المشروعة في وقت يصح فعلها
فيه ، لان من شرط هذه الصلاة مع ذكر الفائتة أن يؤدي بعد قضاء الفائت ، فالوقت
الذي أداها فيه وقت لم يضرب لها ، لانه يصح أن يكون وقتا لها لو لم يذكر الفائتة ،
وهذا مما لا شبهة فيه للمتأمل.
وأما المسألة
الثانية : فالواجب على من عليه صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل أن
يقضيها في كل زمان ، إلا في وقت فريضة حاضرة يخاف فوتها مع تشاغله بالقضاء ، فيقدم
أداء الحاضرة ثم يعود الى التشاغل بالقضاء.
فان كان محتاجا
الى تعيش يسد به جوعته وما لا يمكن دفعه من خلته ، كان ذلك الزمان الذي يتشاغل فيه
بالتعيش مستثنى من أوقات الصلاة ، كما استثنى منها زمان الصلاة الحاضرة. ولا يجوز
له الزيادة على مقدار الزمان الذي لا بد منه في طلب ما يمسك به الرمق.
وانما أبحنا له
العدول عن القضاء الواجب لضرورة التعيش ، فيجب أن يكون ما زاد عليها مباح . وحكم من عليه فرض نفقة في وجوب تحصيلها ، كحكم نفقته في
نفسه. وأما فرض يومه وليلته في زمان التعيش فلا يجوز أن يفعله إلا في آخر الوقت
كما قلناه ، فان الوجه في ذلك لا يتغير بإباحة التعيش.
وأما النوم فيجري
ما يمسك الحياة منه في وجوب التشاغل به مجرى ما يمسك الحياة من الغذاء وتحصيله.
وأما الفرائض
الفائتة غير الصلاة ، فليست جارية مجرى الفائت من الصلاة في تعين وقت القضاء. ألا
ترى أن من فاته صيام أيام من شهر رمضان ، فإنه مخير في تقديم القضاء وتأخيره الى
أن يخاف هجوم شهر رمضان الثاني ،
__________________
فيتضيق عليه حينئذ
القضاء.
ويجوز لمن عليه
صيام أيام من شهر رمضان أن يصوم نذرا عليه ، أو يصوم عن كفارة لزمته ، ولو صام
نفلا أيضا لجاز وان كان مكروها. وليس كذلك الصلاة الفائتة ، لأن وقت الذكر يتعين
في فعلها ، بشرط أن لا يقتضي فوت صلاة حاضر وقتها.
المسألة الحادية
والعشرون :
إثبات حجية إجماع الطائفة
إذا كان طريق معظم
الأحكام الشرعية إجماع علماء الفرقة المحقة ، لكون الامام المعصوم الذي لا يجوز
عليه الخطأ واحدا من علمائهم دون عامتهم وعلماء غيرهم ، وكان العلماء من هذه
الفرقة محصورين بدليل عدم التجويز لوجود عالم منهم يعرف فتياه ، مع تعذر معرفته
بعينه واسمه ونسبه.
ووجوب هذه القضية
يوجب أحد أمور كل منها لا يمكن القول به :
اما كون فتيا
الامام الغائب المرتفعة معرفته بعينه خارجة عن إجماع علماء الإمامية ، وهذا يمنع
من الثقة بإجماعهم.
أو كون فتياه
داخلة فيهم ، فهذا يوجب تعينه وتميز فتياه ، وهذا متعذر الان مع غيبته.
أو حصول فتياه في
جملة فتياهم مع تعذر معرفة شخصه ، فهذا يؤدي الى تجويز عدة علماء لا سبيل الى
العلم بتميزهم ، لأنه إذا جاز في فتيا الامام ـ وهو سيد العلماء ورئيس الملة ـ أن
يتعذر معرفتها على سبيل التفصيل مع حصولها في جملة فتيا شيعته ، فذلك في علماء
شيعته أجوز ، وذلك يمنع من القطع على حصول إجماعهم على الحكم الواحد.
أو يقال : ان في
إمساكه عن النكير دلالة على رضاه بالفتيا.
فهذه طريقة
المتقدمين من شيوخنا ، وقد رغبنا عنها وصرحنا بخلافها ، لان فيها الاعتراف بأن
الإمساك يدل على الرضا مع احتماله لغيره من الخوف المعلوم حصوله للغائب.
الجواب :
اعلم أن قول امام
الزمان وفتياه في كل واقعة وحادثة من الشرائع ، لا بد أن يكون في جملة أقوال علماء
الفرقة الإمامية ، وليس كل عالم من علماء الإمامية نعلمه بعينه واسمه ونسبه على
سبيل التمييز ، وأنه انما نعلمه على سبيل التفصيل بالعين والاسم والنسب من علماء
هذه الطائفة من اشتهر منهم باشتهار كتبه ومصنفاته ورئاسته وأحوال له مخصوصة ، والا
فمن نعلمه على سبيل الجملة وان لم نعلمه على سبيل التفصيل أكثر ممن عرفناه باسمه
ونسبه. ومن هذا الذي يدعي معرفة كل عالم من علماء كل فرقة من فرق المسلمين بعينه
واسمه ونسبه في كل زمان ، وعلى كل حال.
فعلى هذا الذي
قررناه لا يجب القطع على أن من لم نعرفه بعينه واسمه ونسبه من علماء الإمامية يجب
نفيه والقطع على فقده.
وليس إذا كنا لا
نعلم عين كل عالم من علماء الإمامية واسمه ونسبه ، وجب أن لا نكون عالمين على
الجملة بمذهبه ، وأنه موافق لمن عرفنا عينه واسمه ونسبه.
لان العلم بأقوال
الفرق ومذاهبها يعلم ضرورة على سبيل الجملة ، اما باللقيا والمشافهة أو بالأخبار
المتواترة ، وان لم يفتقر هذا العلم الى تمييز الأشخاص وتعينهم وتسميتهم. لأنا
نعلم ضرورة أن كل عالم من علماء الإمامية يذهب الى أن الامام يجب أن يكون معصوما
منصوصا عليه ، وان لم نعلم كل قائل بذلك
وذاهب اليه بعينه
واسمه ونسبه.
وهكذا نقول في
العلم بإجماع علماء كل فرقة من فرق المسلمين : أن الجملة فيه متميزة من التفصيل ،
وليس العلم بالجملة مفتقرا الى العلم بالتفصيل وقد علمنا أنه لا امامي لقيناه
وعاصرناه وشاهدناه الا وهو عند المناظرة والمباحثة يفتي بمثل ما أجمع عليه علماؤنا
، سواء عرفناه بنسبه وبلدته أو لم نعرفه بهما.
وكذلك كل امامي
خبرنا عنه في شرق وغرب وسهل وجبل عرفناه بنسبه واسمه أو لم نعرفه ، قد عرفنا
بالأخبار المتواترة الشائعة الذائعة التي لا يمكن إسنادها إلى جماعة بأعيانهم
لظهورها وانتشارها ، أنهم كلهم قائلون بهذه المذاهب المعروفة المألوفة ، حتى أن من
خالف منهم في شيء من الفروع عرف خلافه وضبط وميز عن غيره.
وقد استقصينا هذا
الكلام في جواب المسائل التبانيات ، وانتهينا فيه الى أبعد الغايات.
فإذا قيل لنا :
فلعل الإمام لأنكم لا تعرفونه بعينه يخالف علماء الإمامية فيما اتفقوا عليه.
قلنا : لو خالفهم
لما علمنا ضرورة اتفاق علماء الإمامية الذين هو واحد منهم على هذه المذاهب
المخصوصة ، وهل الإمام إلا أحد علماء الإمامية ، وكواحد من العلماء الإمامية الذين
لا نعرفهم بنسب ولا اسم.
ونحن إذا ادعينا
إجماع الإمامية أو غيرها على مذهب من المذاهب ، فما نخص بهذه الدعوى من عرفناه
باسمه ونسبه دون من لم نعرفه ، بل العلم بالاتفاق عام لمن عرفناه مفصلا ولمن لم نعرفه
على هذا الوجه.
وليس يجب إذا كان
امام الزمان غير متميز الشخص ولا معروف العين أن لا يكون معروف المذهب ومتميز
المقالة ، لأن هذا القول يقتضي أن كل من لم
نعرفه من علماء
الإمامية أو علماء غيرهم من الفرق ، فانا لا نعرف مذهبه ولا نحقق مقالته وهذا حد
لا يبلغه متأمل.
فإن قيل : أتجوزون
أن يكون في جملة الإمامية عالم يخالف هذه الطائفة في بعض المسائل ولم ينته إليكم
خبره ، لانه ما اشتهر كاشتهار غيره ، ولا له تصنيفات سارت وانتشرت.
فان أجزتم ذلك
فلعل الامام هو ذلك القائل. وهذا يقتضي ارتفاع الثقة ، لأن قول امام الزمان داخل لا محالة في جملة أقوال علماء
الإمامية ويبطل ما تدعونه من أن الحجة في إجماعهم. وان منعتم من كون عالم من
علمائهم يخفى خبر خلافه لهم في بعض المذاهب كابرتم.
قلنا : لا يجوز أن
يكون في علماء الإمامية من يخالف أصحابه في مذهب من مذاهبهم ، ويستمر ذلك ويمضي عليه
الدهور ، فينطوي خبر خلافه ، لان العادات ما جرت بمثل ذلك ، لان ما دعا هذا العالم
الى الخلاف في ذلك المذهب يدعوه إلى إعلانه وإظهاره ، ليتبع فيه ويقتدى به في
اعتقاده.
وما هذه سبيله يجب
بحكم العادة ظهوره ونقله وحصول العلم به ، لا سيما مع استمراره وكرور الدهور عليه.
وما تجويز عالم
يخفى خبر خلافه الا كتجويز جماعة من العلماء يخالفون من عرفنا مذاهبه من العلماء
في أصول الدين ، أو فروعه ، أو في علم العربية والنحو واللغة ، فيخفى خلافهم
وينطوي أمرهم. وتجويز ذلك يؤدي من الجهالات الى ما هو معروف مسطور ، على أن لإمام
الزمان عليهالسلام في هذا الباب مزية معلومة.
فلو جاز هذا الذي
سألنا عنه في غيره لم يجز مثله فيه ، لأن الامام قوله
__________________
حجة والجماعة التي
توافقه في مذهبه انما كانت محقة لأجل موافقتها له ، فلا بد من أن يظهر ما يعتقده
ويذهب اليه ، حتى يعرف من يوافقه ممن يخالفه ، وليس إظهاره لاعتقاده وتصريحه
بمذهبه مما يقتضي أن يعرف هو بنسبه ، لأنا قد نعرف مذاهب من لا نعرف نسبه ولا
كثيرا من أحواله.
وكيف يجوز أن يكون
للإمام مذهب أو مذاهب تخالف مذاهب الإمامية لا يكون معروفا مشهورا بين الإمامية ،
وهو يعلم أن المرجع في أن إجماع هذه الطائفة حجة الى أن قوله في جملة أقوالها.
فإذا أجمعوا على قول وهو مخالف فيه ، هل له منه مندوحة عن إظهار خلافه وإعلانه ،
حتى يزول الاغترار بأن إجماع الإمامية على خلافه.
ولهذا قلنا في
مواضع من كتبنا أن ما اختلف فيه قول الإمامية من الاحكام لا يجوز أن يحتج فيه
بإجماع الطائفة ، لأنها مختلفة ونحن غير عالمين بجهة قول الامام ولمن هو موافق من
هؤلاء المختلفين ، فلا بد في مثل ذلك من الرجوع الى دليل غير الإجماع يعلم به الحق
فيما اختلفوا فيه.
فإذا علمنا قطعنا
على أن قول الامام موافق له ، لان قوله لا يخالف الحق وما يدل عليه الأدلة.
المسألة الثانية
والعشرون :
حكم العاقد في الإحرام
ما الوجه فيما
يفتي به الطائفة من سقوط الحكم الشرعي عمن عقد نكاحا وهو محرم مع الجهل بالحكم ،
وما وردت به الروايات من سقوط الحكم في
كثير من المواضع
مع الجهل بها ، مع اتفاق العلماء على أن الجهل لا يبيح سقوطه الا عمن لا
يتمكن به.
فأما من هو متمكن
من ذلك لكونه عاقلا ، فلا يعرض العلم يلزمه ويتسعه الحكم يتعلق عليه ، وأن جهله لو
لا ذلك لكان الجهل سببا مبيحا لسقوط ما يلزم عليه من التكاليف العقلية والشرعية ،
وهذا شيء لا يقوله مسلم.
الجواب :
اعلم أن الجهل ممن
كلف العلم وله اليه طريق لا يكون إلا معصية وتفريط عن المكلف ، الا أن الحكم الشرعي غير ممتنع أن يتغير مع
الجهل ، ولا يكون حاله مساوية لحالة مع العلم.
فإذا قال أصحابنا
: من عقد نكاحا على امرأة وهو محرم فنكاحه باطل على كل حال. ثم قالوا : فان كان
هذا العاقد عالما بتحريم العقد لم يحل له هذه المرأة المعقود عليها أبدا ، وان كان
جاهلا بالتحريم بطل العقد وحلت له المرأة بعقد آخر صحيح. فلم يكن هذا القول منهم
اقامة لعذر الجاهل العاصي بجهله بما وجب أن يعلمه بل ابانة لان حكمه عند هذا الجاهل
العاصي في جهله متى عقد مع الحصول في الشريعة ، بخلاف حكم العاقد مع العلم. وان
كان الجاهل عاصيا مفرطا. والعلم بالحكم كان لازما ، وهو الان أيضا له لازم، وانما
دخلت الشبهة على من يظن أنه بالجهل يسقط عنه وجوب العلم ، وما كذلك قلنا.
__________________
وانما ذهبنا الى
تغير الحكم الشرعي الذي تغيره موقوف على المصالح التي لا يعلم وجوهها الا علام
الغيوب جلت عظمته.
المسألة الثالثة
والعشرون :
ما يجوز قتله من الحيوان المؤذي
ما تقول فيما لم
يحل أكله من الحيوان المؤذي وغير المؤذي؟.
أيحل قتل ما لا
يؤذي كالخطاف والخفاش والغراب وما أشبه ذلك؟.
وان كان لا يحل ،
فهل كون شيء منه مؤذيا أذية يجوز يحمل منه مثلها ، كوجود النمل في المسكن ، واتخاذ الطائر سقف
البيت وحائطه وكرا أبيح قتله؟.
فان قلنا بإباحة
شيء من ذلك قبل حصول الأذى أو بعده فما وجهها؟ مع علمنا أن العقول تقبح إنزال
الضرر الا سمع مقطوع به.
وهل يجوز قتل ما
جرت العادة بكونه مؤذيا؟ كالسبع والذئب والحية إن يقصدنا بأذية، وهل قصدنا الى
قتله إذا أرادنا على جهة المدافعة له أو على وجه العزم على قتله؟.
الجواب :
اعلم أن إدخال
الضرر على البهائم المؤذي لنا منها وغير المؤذي لا يحسن إلا بإذن سمعي ، الا أن
يكون ذلك الضرر يسيرا ، أو النفع المتكفل به لها عظيما فيحسن من طريقة العقل.
__________________
فان كثيرا من
الناس أجازوا ركوب البهائم عقلا من غير افتقار الى سمع ، وقال : إذا تكلفنا لها
بما تحتاج اليه من غذاء وديار ومصلحة ، ربما كانت لها فائدة لو لا تكلفنا جاز أن
ندخل عليها ضرر الركوب ، لانه يسير في جنب ما نتحمله من منافعها.
والاذن السمعي في
إدخال الضرر عليها مؤذن بأن المبيح لذلك هو التكفل بالعوض عنه ، فقتل البهائم الذي
لا أذية منها لا يجوز على وجه ، لان السمع لم يبحه. وكذلك ما يؤذي أذى يسيرا
متحملا كالنمل وما أشبهه ، فان المؤذيات من البهائم المضرات مباح قتلها كالسباع
والأفاعي.
ويجب القصد الى
قتلها والاعتماد له ، دون القصد إلى المدافعة ، لأن بالإباحة قد صار القتل حسنا ،
والقصد الى الحسن حسن ، كما يقصد الى ذبح الحيوان المأكول وان لم يكن مؤذيا ، لان
بالإباحة قد صار إتلافه حسنا ، وانما يوجب القصد إلى المدافعة إلى الضرر في من
يقصد إلى إيقاع الضرر بنا ، لان القصد إلى الإضرار به يكون قبيحا ، لانه ارادة
الظلم ، فإذا قصدنا المدافعة ودفع الضرر غير مقصود لم يكن ظلما.
ويحسن منا أن نقتل
السباع والأفاعي وان لم نخف ضررها في الحال ولم يقصدنا بأذية ، لأن الإباحة تضمنت
ذلك.
وانما نفرق بين
قتل الحية وما أشبهها في الصلاة ، فنقول : إذا خاف المصلي من ضرر الحية وقصدها له
جاز أن يقتلها في الصلاة ، لأنه فعل كثير لا يستباح في الصلاة إلا عن ضرورة. وليس
ذلك معتبرا في قتل السباع والأفاعي في غير الصلاة.
__________________
المسألة الرابعة
والعشرون :
بر الوالدين الكافرين الفاسقين
إذا كان بر
الوالدين واجبا ، وتجنب اليسير من اذاهما لازما بالمعروف مدة الحياة مأمورا به ،
كافرين كانا أو فاسقين.
فما الحكم فيهما
إذا كانا فاسقين أو ذميين أو حربيين ، أيجب أن يعمل معهما ولدهما ما نصنع بكل فاسق
وذمي وحربي من اللعن والبراءة أو القتل أم لا يجب؟ فان وجب فعل ذلك بهما ، فكيف
يجامع ما استقر من الأمر بتعظيمهما وتجنب أذاهما؟ وان لم يجب كان خالف ما عليه من
وجوب ذلك.
الجواب :
أعلم أن بر
الوالدين بالنفقة واحتمال الصحة والكراهة غير مناف للعن لهما والبراءة منهما إذا
كانا كافرين ، كما لا تنافي بين شكر الكافر على نعمه وبين لعنه على كفره ، وان كان
الشكر معه ضرب من التعظيم ، فان ذلك التعظيم غير مناف للاستخفاف على الكفر لاختلاف
جهتهما.
وإذا كنا نذهب
معشر القائلين بالارجاء الى أن التعظيم على الطاعة لا ينافي الاستخفاف على المعصية
، مع التقابل بين جهة التعظيم والاستخفاف ، لجاز أن نقول ذلك فيما لم تتقابل جهاته
من الشكر على النعم المقترن بالتعظيم والذم على المعاصي بالاستخفاف.
فإذا كانت
للوالدين نعمة التربية والحضانة وغير ذلك ، وجب من إكرامهما وتعظيمهما ما يجب لكل
منعم ، فان اقترن بذلك منهما كفر وجب لعنهم بالكفر
والبراءة منهما من
أجله. وان ارتد بعد ايمان وجب من قتلهما ما يجب فيهما لو كان في غير الوالدين. وقد
بينا أن ذلك غير متناف ولا متضاد.
المسألة الخامسة
والعشرون :
حكم المنعم الكافر
كيف السبيل لمن
أنعم عليه كافر بنعمة إلى أداء الواجب عليه من تعظيمه مع وجوب ذمه ولعنه والبراءة
منه وفساد التحابط.
الجواب :
اعلم أن الكافر
إذا كانت له نعمة وجب شكره عليها ممن بقي نعمه عليها ، وان استحق من هذا المنعم
عليه أن يلعنه على كفره يستخف به من أجله.
وأبو هاشم يوافق
هذه الجملة وان كان قائلا بالإحباط ، لأنه يذهب الى أن الإحباط بين ما تتقابل
جهاته من تعظيم الاستحقاق ، كالتعظيم على الايمان ، واستخفاف على الكفر ، وليس ذلك
قائما في الشكر على نعمة الكافر مع الذم على كفره.
وأبو علي يخالفه
في ذلك ويذهب الى أن الكفر محبط لما يستحق بالنعم من شكر وتعظيم ، كما يحبط ما
يستحق بالطاعات من ثواب وتعظيم.
والصحيح ما قاله
أبو هاشم ، ونحن نزيد على هذه الجملة ونقول : انه لا تنافي بين الذم والمدح
والتعظيم والاستخفاف ، إلا إذا كانا على فعل واحد. فأما إذا كانا على فعلين جاز أن
يجتمع استحقاقهما وان كانا متقابلين ، بعد أن يتغاير الفعلان اللذان يستحقان
منهما.
ولهذا نقول : ان
الفاسق يجتمع استحقاقهما وان كانا متقابلين ، له استحقاق الذم والمدح والتعظيم
والاستخفاف بإيمانه وطاعته وفسقه ومعاصيه. ولو لا أن الكافر قد دل الدليل على أنه
لا طاعة له ، لجاز عندنا أن يجتمع له استحقاق الثواب والعقاب والذم والمدح
والتعظيم والاستخفاف.
وإذا كنا نقول ذلك
في المتقابل الجهات ، فكيف القول بمثله فيما لا تتقابل جهات استحقاقه ، فليقس على
هذا كل المسائل ، فإنه طريق جدد.
المسألة السادسة
والعشرون :
الكافر إذا كانت له أعواض
على أي وجه يعوض
الكافر المحترم عقيب استحقاقه العوض عليه تعالى أو على غيره، مع إجماع الأمة على
أنه لا يجوز أن ينتفع في الآخرة بشيء لا في حال الموقف ولا في حال دخوله في النار
، وقد نطق القرآن بذلك.
الجواب :
اعلم أن الكافر
إذا كانت له أعواض ما استوفاها في الدنيا ، فيجب إيصالها إليه عند البعث قبل
إدخاله النار للعقاب. والأشبه أن يكون ذلك قبل المحاسبة والمراقبة ، فإنه لا يليهما
الا المعاقبة والعوض عندنا منقطع ، ويمكن إيصال الكثير في الأوقات اليسيرة.
وها هنا إجماع على
أن الكافر لا يجوز أن ينتفع بشيء بعد لعنه. فأما بعد دخوله النار فلا شبهة فيه ،
وكيف يدعى الإجماع فيما نخالف نحن فيه. وانما الإجماع على أن الكافر لا ينتفع في
حالة معاقبة.
وليس لأحد أن يمنع
من استحقاق الكافر لعوض لا يمكن استيفاؤه له في
الدنيا ، لانه لا
يجوز أن يقتله ظالم فيستحق بهذا القتل أعواضا بعد فوت الحياة.
وكذلك من الجائز
أن يلحقه باماتة الله تعالى له آلام عظيمة يستحق بها أعواضا بعد موته ، لأن أبا
هاشم وان جوز أن يبطل الحياة بغير ألم ، فإنه يجيز أن يقترن بها الألم ، وهو
الأظهر. فقد تصور جواز استحقاق الكافر الاعواض بعد عدم حياته ، وما نحتاج مع ما
ذكرناه الى ما سواه.
المسألة السابعة
والعشرون :
حكم العالم بقبائح غيره
كيف السبيل لمن
اختص علمه بقبائح غيره الى فعل الواجب عليه من ذمه ، وتسميته بأسماء السيئة من
أفعاله ، كسارق وزان وقاتل ولائط ، وبأسماء الغير الشريفة ، كفاسق وفاجر ورجس
وملعون ، ان صرح لها كان ما يجب عليه الحد.
وان اقصر على
الاعتقاد لم يؤثر ذلك على الغرض المشروع من ذم الفاسق ولعنه ، وان أسقطها جميعا
أخل بالواجب عليه.
الجواب :
اعلم أن من علم من
غيره قبائح يستحق بها منه الذم والاستخفاف ، فله أن يذمه بقلبه ولسانه ، ويقول :
انه ملعون مذموم يستحق البراءة والاستخفاف والإهانة. ويتجنب كل لفظ يقتضي إطلاقه
حدا وله في غيرها مندوحة.
فإن الألفاظ التي
تنبئ على الذم والاستخفاف لا يوجب على مطلقها حدا أوسع وأكثر من الألفاظ التي توجب
الحد. ولا خلاف بين الفقهاء في أن من ينسب غيره الى الكفر ـ وهو أعظم من كل الذنوب
ـ لا يستحق حدا ، وان كان يستحق الحد بقذفه له بالزنا. وليس تجنب الألفاظ التي
تقتضي الحد بما
منع من فعل الواجب من لعنه وإهانته والاستخفاف به.
المسألة الثامنة
والعشرون :
معنى حياة الشهداء والأنبياء والأوصياء
إذا كنا نعلم أن
علم المكلف بوصوله الى ثواب طاعاته عقيب فعلها يقتضي الجاؤه إليها ، وأن يفعلها
لأجل الثواب لا لوجه وجوبها ، وأن ذلك وجهان يقتضيان قبح تكليفها ، ولذلك قلنا
بوجوب تأخير الثواب.
فما الوجه من كون
الشهيد حيا عنده تعالى والوجيه الحال الى وما وردت به من وصول الأنبياء والأوصياء ومخلصي المؤمنين
إلى الثواب عقيب الموت ، وأنهم أجمع أحياء عند الله يرزقون.
الجواب :
اعلم أن الذي يمضي
في الكتب من أن المكلف لو قطع على وصوله الى ثواب طاعته وعقاب معصيته عقيب الطاعة
فالمعصية ، يقتضي الإلجاء على نظر في ذلك ، غير مناف لما نقوله من
أن الشهيد يدخل الجنة عقيب موته بالشهادة.
وكذلك الأنبياء
والأوصياء ، لأن الشهادة أولا ليست من فعل الشهيد ، وانما بطلان حياته بالقتل في
سبيل الله تعالى يسمى «شهادة» ، والقتل الذي به تكون الشهادة من فعل غير الشهيد ،
فكيف يجوز الإلجاء اليه؟ ولا هو يجوز أن يقال انهم ملجئون الى الجهاد، لان الجهاد
لا يعلم وقوع الشهادة لا محالة ،
__________________
ولان المجاهد انما
يفعل الجهاد ويقصد به غلبته للمشركين ، لا الى أن يغلبوه ويقتلوه شهيدا ، فالالجاء
هاهنا غير متصور.
فأما الأنبياء
والأوصياء عليهمالسلام فليس يتعين لهم الطاعة التي يجازون بالثواب ودخول الجنة
عقيبها ، ولا طاعة يفعلونها الا وهم يجوزون أن يتأخر الجزاء عليها ، بأن يغير
تكليفهم ويستمر ، كما يجوزون أن يصلوا عقيبها الى الثواب.
وهذا التجويز وعدم
القطع يزيلان الإلجاء الذي اعتبر فيمن يقطع على وصوله الى ثواب طاعته عقيب فعله ،
وهذا بين لمن تدبره.
ونسأل الله تعالى
أن يؤيدنا ويسددنا في كل قول ينحوه وفعل يعروه ، وأن يجعل ذلك كله خالصا له ومقربا
منه ، انه سميع مجيب.
كان الفراغ من
جواب هذه المسائل في اليوم التاسع من المحرم من سنة تسع وعشرين وأربعمائة. والحمد
لله رب العالمين ، وصلوات الله على خير خلقه محمد النبي وآله الطاهرين ، وحسبنا
الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير.
|
(٢٨)
جوابات المسائل
الرسية الثانية
|
بسم الله الرحمن
الرحيم
ثم وردت بعد ذلك
مسائل خمس ، فألحقنا جوابها بما تقدم :
المسألة الأولى :
سقوط القضاء بعد الوقت عمن صلى تماما في موضع القصر
ما الوجه فيما
يفتي به الطائفة من سقوط فرض القضاء عمن صلى من المقصرين صلاة متم بعد خروج الوقت
، إذا كان جاهلا بالحكم في ذلك ، مع علمنا بأن الجهل بأعداد الركعات لا يصح مع
العلم بتفصيل أحكامها ووجوهها إذ من البعيد أن يعلم التفصيل من جهل الجملة التي هي
كالأصل.
وإجماع الأمة على
أن من صلى صلاة لا يعلم أحكامها فهي غير مجزية ، وما لا يجزي من الصلاة الخمس يجب
قضاؤه باتفاق ، فكيف يجوز الفتيا بسقوط القضاء عمن صلى صلاة لا تجزيه؟
الجواب :
انا قد بينا أن
الجهل وان لم يكن صاحبه معذورا ، بل ملوما مذموما ، لا يمتنع أن يتغير معه الحكم
الشرعي ، ويكون حكم العالم بخلاف حكم الجاهل. وليس العلم بأن من لزمه التقصير إذا
تمم صلاته لا يجزيه تلك الصلاة أصلا ، كالعلم بأحكام الصلاة في قراءة وركوع وسجود
، لانه غير ممتنع أن يعلم جميع أحكام الشرعية من لا يعلم أن إتمام من وجب عليه التقصير غير مجز
، فلا تعلق بين الأمرين.
وليس جهله بأن
إتمامه ما وجب فيه التقصير هو جهلا بأعداد الركعات ، لانه قد يعلم أن المقصر انما
يجب عليه عدد مخصوص ، غير أنه لا يعلم أنه إذا لم يفعل ذلك العدد وما زاد عليه أن
فعله لا يجزيه. لأنهما موضعان مفترقان يجوز أن يعلم أحدهما من يجهل الأخر.
المسألة الثانية :
جواز تجديد نية الصوم بعد مضى شطر النهار
ما الجواب فيما
يفتي به الطائفة وغيرها من الفقهاء من جواز تجديد النية للصوم الواجب والمندوب بعد
مضي شطر النهار ، مع حصول العلم بأن ما مضى من الزمان عريا من النية ليس بصوم ،
وما بقي لا يجوز إذا كان ما مضى ليس بصوم أن يكون صوما من حيث كان بعض زمان الصوم
المشروع.
الجواب :
اعلم أن هذه
المسألة يوافق الإمامية فيها الفقهاء ، لأن أبا حنيفة يجيز صوم الفرض والتطوع بنية
متجددة قبل الزوال. والشافعي يجيز ذلك في التطوع ولا
__________________
يجيزه في الفرض.
والوجه في صحة ذلك
ما قد ذكره في جواب هذه المسائل : من أن النية انما تؤثر في أحكام شرعية ، وليس
تكون الصلاة بها على صلاة موجبة عنها ، كما نقوله في العلل العقلية.
وغير ممتنع أن تكون مقارنة نية القيام بجزء من أجزاء النهار في كون جميع النهار صوما ، لأن تأثير
العلل التي تجب مصاحبتها لما يؤثر فيه هاهنا مفقود.
وانما يثبت أحكام
شرعية بمقارنة هذه النية ، فغير ممتنع أن يجعل الشرع مقارنتها لبعض العبادة
كمقارنتها لجميعها. ألا ترى أن تقدم النية في أول الليل أو قبل فجره مؤثرة بلا
خلاف في صوم اليوم كله ، وان كانت غير مقارنة لشيء من أجزائه ، وهذا مما قد تقدم
في جواب هذه المسائل.
ولا خلاف أيضا في
أن من أدرك مع الامام بعض الركوع ، يكون مدركا لتلك الركعة كلها ومحتسبا له بها ،
وقد تقدم شطرها ، فكيف أثر دخوله في بعض الركوع فيما تقدم ، فصار كأنه أدركه كله
لو لا صحة ما نبهنا عليه.
المسألة الثالثة :
أحكام الصلوات المفروضات
قد علمنا اتفاق
الطائفة على وجوب صلاة الكسوف والعيدين والجنائز والطواف والنذر كصلاة الخمس ، وقد
تقرر فسادها بتفصيل أحكام صلاة الخمس وأفعالها وتروكها وأعيان فروضها
وسننها وأحكام السهو منها.
__________________
ولا فتيا لأحد من
الطائفة ولا رواية لشيء من ذلك فيما عدا الصلوات الخمس من الفرائض المذكورة ، مع
حاجة مكلفها الى علم ذلك.
وهل جميع ما
يتضمنه من قراءة وركوع وسجود وتكبير وقنوت فرض أو بعضه واجب وبعضه ندب ، وما حكم
السهو في تفاصيل أحكامه وأعيان ركعاته؟
الجواب :
اعلم أن الطائفة
إذا اتفقت على أن صلاة العيدين والكسوف وما جرى مجراها فرض لا يسوغ الإخلال به ،
فمعلوم أن أحكام المفروض من الصلاة واحدة فيما يجب أن يفعل ويترك من قراءة وركوع
وتسبيح وغير ذلك.
فأما القنوت فقد
نصوا على دخوله في صلاة العيدين والكسوف.
وأما ركعتا الطواف
ففي وجوبها وأنها فرض لا يجوز الإخلال به نظر. والأقوى في النفس أنها سنة مؤكدة ،
ولو كانت فرضا يجري مجرى سائر الفروض من الصلوات.
وأما أحكام السهو
في هذه الصلوات فقد بين القوم حكم السهو في المفروض من الصلاة ، وأنه لا سهو في
الأولتين من كل صلاة ، ولا في المغرب والفجر ، وعلى هذا الإطلاق لا سهو في العيدين
والكسوف والطواف.
فأما النذر ، فان
كان واقعا بركعتين فلا سهو فيهما ، وان كان بزيادة على ذلك كان له حكم السهو في
باقي الفروض من الصلوات.
المسألة الرابعة :
حكم اللاحن في القراءة في الصلاة
إذا كان حقيقة
القارئ هو الحاكي لكلام الله تعالى ، وكانت الحكاية تفتقر
__________________
إلى اللفظ وصيغته
، فما حكم من لحن في قراءة الصلاة؟ أهو قارئ أم متكلم؟ ولا يجوز أن يكون قارئا ،
لكونه غير حاك لكلام الله تعالى في الحقيقة.
وان كان متكلما
فصلاته باطلة ، مع نقل إجماع الأمة على فساد صلاته خلاف لما ورد به الخبر ، وعمل عليه كثير من الطائفة «اقرأ كما
نحن نقرأ» يرفع كما أنزل.
وأيضا فما وجدنا أحدا
من علمائنا أفتى بفساد صلاة من لحن في قراءته عامدا ، بل الفتيا بجوازها ظاهر منهم
، وفي ذلك ما فيه.
الجواب :
اعلم أن الصحيح أن
الحكاية للكلام تجب أن تكون مطابقة له في صور الألفاظ وحركاتها ومدها وقصرها ، ومن
لم يفعل ذلك فليس بحاك على الحقيقة.
وإذا كانت الطائفة
مجمعة على أن من لا ينضبط له من العامة والأعاجم وحكاية القرآن بإعرابه وحركات ألفاظه صلاته مجزية ، وكذلك
من لحن غير متعمد لذلك ، حكمنا بجواز هذه الصلاة وصحتها ، وان لم يكن هذا اللاحن
حاكيا في الحقيقة للقرآن.
وجرى مجرى الأخرس
الذي لا يقدر على الكلام والأعجمي الذي لا يفهم حرفا بالعربية في أن صلاتهما صحيحة
عربية ، وان كانا ما قرءا القرآن ، فليس من لحن في القرآن بأكثر ممن لن ينطق به
جملة.
فأما المتمكن من
اقامة الأعراب إذا لحن من غير عمد ، فصلاته جائزة بغير شك. فأما إذا اعتمد اللحن
مع قدرته على الصواب واقامة الاعراب ، فالأولى
__________________
أن تكون صلاته
فاسدة ، ومن أفتى من أصحابنا بخلافه كان غير مصيب.
المسألة الخامسة :
هل يدل الفعل المرتب المنسق على كون فاعله عالما
إذا كان وجود
الفعل مرتبا منسقا دالا على كون فاعله عالما ، وكان الكلام من جملة الأفعال ، فيجب
أن يكون وقوعه مرتبا على المعاني المعقولة ، دالا على كون فاعله عالما بما قصده من
المعاني ، ولذلك يفرق بين الكلام المفيد المقصود وبين الهذيان.
ويعلم تكامل
العلوم لأجل المتكلمين واختلالها في الأخر ، وجب لهذا الاعتبار الحكم لكل متكلم
بكلام مرتب متسق محترز من التخليط محروس من القدوح ، مقصود به العبارة عن الأدلة
دون المشبه بكونه عالما بما تضمنه كلامه من المعاني.
ولذلك يفرق كل انس
فالعلم بين عبارة المقلد للعلماء الحاكي لعباراتهم ، وبين العالم المضطلع لما
يجد العالم عليه من القدرة على إفهام ما عبرته عن الأدلة والسنة من العبارات
المرتبة مستطيعا لإسقاط ما يعترض كلامه من القدح ، وبعد ذلك أجمع على المقلد
الحاكي بعبارات العلماء عن الأدلة القاطعة.
وظهور هذا يقتضي
القطع على ايمان من علمناه معبرا عن المعارف على الوجه الذي بينا كون المتكلم بها
عالما [و] في ذلك خلاف لما امتنع منه جميع المتكلمين من القول بالقطع على الايمان من ينص الله تعالى على ايمانه ، لانسداد طريق العلم عندهم
عن كل محدث يكون غيره عالما. ودلالة
__________________
على فساد ما يذهب
إليه القائلون بالموافاة.
أو القول بأن حجة النبوة والإمامة ليس بكفر ، لوجود علماء لا يحصون كثرة ممن
يخالف في النبوة والإمامة على الصفة التي تبينا كون من كان عليها عالما بما يعتريه
عنه.
الجواب :
اعلم أن الشبهة في
المسألة ضعيفة جدا ، لان المعبر عن المعاني على الوجه المرتب المنسق ، انما يدل
فعله على أنه عالم بتلك العبارات التي فعلها على وجه الاحكام والاتساق، وبمطابقتها
للمعاني التي عقلها عليها وعزمها عنها. فأما أن يدل ذلك على أنه عالم بشيء آخر
فلا.
والذي يرتب مثلا
دليل حدوث الأجسام وبناؤه على الدعاوي الأربع ، ويذكر كيف طريق الاستدلال على صحيح
كل دعوى من تلك الدعاوي ، حتى يتكامل العلم بحدوث الأجسام ، و انما يجب أن يقطع على أنه عالم بكيفية ترتيب دلالة حدوث
الأجسام ، وبتقديم ما يقدم وتأخر ما يؤخر ، حتى يحصل هذا العلم للناظر في حدوث الأجسام.
ولا يعلم بهذا
القدر أنه هو عالم بحدوث الأجسام ، لأنه من الجائز أن يكون ما نظر هو مطلقا في حدوث الأجسام ، وان كان عالما بكيفية ترتيب الدلالة ،
للقضية إلى العلم بحدوثها. ومن الجائز أن يكون نظر على وجه لا يوجب العلم
__________________
ولا يتكامل شروط
توكيد النظر للعلم.
فليس كل من وصف
الطريق الى سلوك جهة من الجهات والصفات الصحيحة السديدة يكون سالكا لذلك الطريق
ومستعملا لما وصف كيف يكون استعماله.
ألا ترى أن من وصف
كيف يكون سلوك الطريق إلى البصرة ، ورتب ذلك وشرحه وأوضحه على الوجه الصحيح ، انما
يقطع على أنه عالم بكيفية سلوك هذا الطريق [ولا يقطع على أنه عالم بكيفية سلوك هذا
الطريق] ولا يقطع أنه قد سلكه ووصل فيه الى البصرة.
وكذلك من وصف لنا
كيف يجب أن يعمل الرامي حتى يصيب الهدف ، ورتب ما يجب أن يعلمه من إنساء القوس على وجه المخصوص واعتماد جهة السمت ، انما يجب أن يقطع على علمه
بكيفية الرمي ، وان كنا نجوز أن يكون هو ما رمى قط ، أو رمى ولم يصب الغرض.
وكذلك من وصف لنا
كيفية عمل لون من الطبيخ ، ورتب لنا ما يجمعه فيه من الأخلاط ، وما تقدم منها أو
تأخر ، انما يجب القطع على علمه بصفة ذلك اللون من غير تعرض لانه قد طبخه واتخذه.
وانما يكون العالم
بالله تعالى عارفا به ، إذا نظر في الأدلة الموصلة إلى معرفته من الوجه الذي يدل
منه ، وتكاملت شرائطه المذكورة في الكتب ، فإنه ان نظر في الدلالة من الوجه الذي
يدل ولم يتكامل الشرائط لم يولد نظره العلم فأنا يوصفه لنا كيف يجب أن يفعل الناظر وترتيب الأدلة ، فلا يجب
أن يعلم
__________________
انه عالم به
تعالى.
وقد ذكرنا في جواب
المسألة الرابعة من هذه المسائل في هذا المعنى وجها غريبا ما تقدمنا أحد اليه ،
وهو أنه : يجوز أن يكون بعض من ثبت عندنا كفره من مخالفينا عارفا بالله تعالى ،
غير أنه لا يجوز أن يستحق الثواب على معرفته ، لوقوعه على غير الوجه الذي وجب عنه.
وانما امتنع أصحابنا من كون بعض الكفار عارفا بالله تعالى ، حتى لا يجتمع له
استحقاق الثواب مع كفره.
وعلى هذا الذي
أيقظنا عليه قد كفينا هذه المئونة وأولياء الشناعة التي يفزعون معا إليها ، بأن
المخالف ينظر كنظرنا ، وسلك في الأدلة طرقنا ، فكيف يجوز أن يكون غير عارف؟ وكل
هذا بين لمن تأمله.
وصلى الله على خير
خلقه محمد وآله الطاهرين ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
فهرس الكتاب
(مسألة في المنامات)
حول
المنامات وصحتها ومن فعل من هي............................................ ٩
ماهية المنامات.................................................................. ١٠
المنامات هي من فعل تعالى....................................................... ١٠
ينقسم ما يتخليه النائم الى ثلاثة أقسام............................................ ١١
منامات الانبياء عليهمالسلام........................................................... ١٢
(الرد
على اصحاب العدد)
الاستدلال بالاجماع على الرؤية................................................... ١٨
الاستدلال بالسيرة على الرؤية.................................................... ١٩
الاستدلال بالايات القرآنیة على
الرؤية............................................ ٢٠
الاستدلال بالاخبار الواردة على الرؤية............................................. ٢٠
المناقشة في الاستدلال بالكتاب على
العدد......................................... ٢١
المناقشة في الاستدلال الثاني بالكتاب
على العدد.................................... ٢٥
المناقشة في الخبر الدال على العدد................................................. ٢٩
حمل اخبار الرؤية على التقية والمناقشة
فيه.......................................... ٣١
الاستدلال بالقياس على العدد والمناقشة
فيه........................................ ٣٢
الاستدلال بمعرفة العبادات في أوقاتها والمناقشة
فيه................................... ٣٤
الاستدلال بالحصر على بطلان الرؤية
والمناقشة فيه.................................. ٣٦
نقل كلام المستدل بالعدد والمناقشة فيه............................................. ٣٩
الكلام في صوم يوم الشك....................................................... ٤٣
ما استدل به الخصم على العدد والجواب
عنه....................................... ٤٥
الاستدلال بخبر «يوم صومكم يوم نحركم»......................................... ٤٦
مناقشة الخصم في آیة الاهلة والجواب
عنها......................................... ٤٧
الاستدلال بخير «صوموا لرؤيته» على
العدد........................................ ٤٩
حول خبر «صوموا لرؤيته وافطرو لرؤيته».......................................... ٥٥
مخالفة أخبار الرؤية للكتاب والجواب عنه........................................... ٥٥
التهافت في الاستدلال القائلين بالرؤية............................................. ٥٧
مناقشة القائلين بالعدد في استدلال
الرؤية.......................................... ٥٨
حول خبر «شهر رمضان يصيبه ما يصيب سائر
الشهور»........................... ٦٠
كيفية الحجج على القول بالرؤية وهو لا
يقدر عليها................................. ٦١
(حكم
الباء في آیة
«وامسحو
برؤسكم»)
لا يمتنع دخول الباء وان لم يقتض
التبعيض......................................... ٦٧
الرد على هذا القول............................................................. ٦٨
دخول الحروف الزوائد لفائدة زائدة................................................ ٦٩
(وجه
التكرار في الايتين)
لا معنى للتوكيد في قول النحويين................................................. ٧٥
توجيه دخول حرفين من حروف الجر متماثلين...................................... ٧٥
كيفية توجيه الايتين............................................................. ٧٦
(مسألة
في الاستثناء)
الاستثناء يخرج من الجمل ما صلح دخوله
فيها...................................... ٧٩
الاستثناء يخرج من الجمل ما تناول لفظها
دون معناها................................ ٨٠
(وجه
العلم بتناول الوعيد كافة الكفار)
من أين علم تناول الوعيد بالخلود كافة
الكفار...................................... ٨٥
الجواب عن هذا السؤال.......................................................... ٨٦
(مسألة
في العمل مع السلطان)
تقسيم السلاطين وكيفية العمل معهم.............................................. ٨٩
الالجاء الى العمل مع السلطان.................................................... ٩٠
نماذج من عمل الاولياء مع بعض السلاطين........................................ ٩١
من يجوز له اقامه الحدود وقطع السراق............................................. ٩٣
حمل الافعال على الصحة أو القبيح............................................... ٩٥
التولي للاغراض الدينية.......................................................... ٩٦
(نفي
الحكم لعدم الدليل عليه)
الفرق بين الدليل على النفي ونفي الدليل........................................ ١٠١
لابد لكل مثبت من دليل...................................................... ١٠٢
لا يصح النفي لعدم وجدان الدليل.............................................. ١٠٣
(شرح
الخطبة الشقشقية)
بدء شرح الخطبة وبيان ألفاظها.................................................. ١٠٧
انشاده عليه السلام بيت أعشى قيس........................................... ١٠٩
كلام ابن عباس واعتذار الامام عن باقي
كلامه................................... ١١٣
(مناظرة
الخصوم وكيفية الاستدلال عليهم)
صحة ما يذهب اليه الشيعة باجماعهم........................................... ١١٧
مالم يوجد للامامية فيه نص على خلاف
ولاوفاق................................. ١١٨
تطبيق الطريق على آیة المسح................................................... ١٢٠
لافرق بين المتجانسين في هذا الطريقة............................................ ١٢٥
طريق ابطال ما عدا مذهب الامامية............................................. ١٢٨
(احكام
اهل الاخرة)
أحوال أهل الاخرة الثلاث...................................................... ١٣٣
سقوط التكليف عن أهل الثواب منهم........................................... ١٣٤
القول في المعاقب من أهل الاخرة................................................ ١٣٦
الالجاء الى المعرفة غير صحيح................................................... ١٣٨
أفعال أهل الجنة اختيارية....................................................... ١٤١
(مسألة
في توارد الادلة)
شروط النظر المؤدي الى العلم................................................... ١٤٧
هذه الطريقة مبنية على مقدمات................................................ ١٤٩
يجب أن يكون الناظر شاكاً في متناول
الادراك.................................... ١٥٠
(تفضيل
الانبياء على الملائكة)
تفضيل مكلف على آخر طريقة السمع.......................................... ١٥٥
القطع على أن الأنبياء افضل باجماع
الشيعة...................................... ١٥٦
سجود الملائكة لادم عليهالسلام..................................................... ١٥٦
قياس مشاق الملائكة بالانبياء................................................... ١٥٨
(المنع
من تفضيل الملائكة على الانبياء)
الاستدلال بآية «ولقد كرمنا بني آدم»........................................... ١٦٩
الجواب على هذا الاستدلال.................................................... ١٧٠
ربما يكون جنس مفضلا على جنس آخر......................................... ١٧٣
(انقاذ البشر من الجبر والقدر)
حدوث البحث في
افعال العباد................................................. ١٧٨
الاقوال في كيفية
خلق الافعال................................................... ١٨٠
دعوة أهل الحق
وبيانها......................................................... ١٨٤
دعوة أهل الحق في
العدل....................................................... ١٨٩
آراء المخالفین لاهل العدل..................................................... ١٩١
الخبر والشر ومعنى نسبتهما الى الله
تعالى.......................................... ١٩٣
الفرق بين صنع الخالق والمخلوق ودلالة
الكتاب................................... ١٩٧
الاخبار المانعة من نسبة الشر الى الله
تعالى........................................ ٢٠١
الادلة العقلية على تنزيه الله من خلق
الشرور...................................... ٢٠٣
اللوازم الفاسدة للقول بخلق افعال
العباد........................................... ٢٠٧
التنديد بالقائلين بخلق الافعال................................................... ٢١٦
تنزيهه تعالى عن القضاء بغير الحق............................................... ٢١٦
معنى خلق الأشياء كلها........................................................ ٢١٨
معنى الهدى في المؤمن والكافر................................................... ٢٢٤
حقيقة الاضلال منه سبحانه.................................................... ٢٢٦
عود على بدء في معنى الهدى................................................... ٢٢٨
الكلام في الارادة وحقيقتها..................................................... ٢٢٩
بيان شبهة في الارادة.......................................................... ٢٣٢
الايمان وحقيقة المشيئة......................................................... ٢٣٤
الاخبار المسدودة لمذهب العدلية................................................ ٢٣٩
(الرسالة
الباهرة في العترة الطاهرة)
مما يدل على تقديم الائمة عليهمالسلام على البشر...................................... ٢٥١
الاستدلال على وجوب معرفتهم باجماع
الأمة..................................... ٢٥٢
تعظيم الائمة في النفوس دليل على تقدمهم....................................... ٢٥٣
(الحدود
والحقايق)
حرف الالف................................................................. ٢٦١
حرف الباء................................................................... ٢٦٤
حرف التاء................................................................... ٢٦٥
حرف الثاء ـ الجيم............................................................. ٢٦٧
حرف الحاء................................................................... ٢٦٨
حرف الخاء................................................................... ٢٦٩
حرف الدال.................................................................. ٢٧٠
حرف الذال ـ الراء............................................................. ٢٧١
حرف الزاء ـ السين............................................................ ٢٧٢
حرف الشين................................................................. ٢٧٣
حرف الصاد................................................................. ٢٧٤
حرف الضاد ـ الطاء........................................................... ٢٧٥
حرف الظاء ـ العين............................................................ ٢٧٦
حرف الغين.................................................................. ٢٧٨
حرف الفاء ـ القاف........................................................... ٢٧٩
حرف الكاف ـ اللام........................................................... ٢٨٠
حرف الميم................................................................... ٢٨١
حرف النون.................................................................. ٢٨٧
حرف الواو................................................................... ٢٨٨
حرف الهاء ـ الياء.............................................................. ٢٨٩
(رسالة
في غيبة الحجة)
سهولة الكلام في غيبة الحجة عليهالسلام.............................................. ٢٩٣
الادلة على وجوب الامام في كل زمان........................................... ٢٩٤
السبب في الغيبة هو اخافة الظالمين له........................................... ٢٩٥
استتار النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم........................................................... ٢٩٦
الانتفاع بوجود الامام عليهالسلام..................................................... ٢٩٧
(مسألة
في الرد على المنجمين)
لافعل للكواكب في الارض..................................................... ٣٠٢
كذب آخذي الطالع مجرب معلوم............................................... ٣٠٥
الاشارة الى ما جاء في الروايات في
تكذيب المنجمين............................... ٣١٠
كلام آخر للسید في مسألة النجوم.............................................. ٣١١
(جوابات المسائل
الرسية الاولى)
حكم معتقد الحق تقليداً....................................................... ٣١٦
كيفية رجوع العامي الى العالم................................................... ٣٢٠
معرفة وجه اعجاز القرآن....................................................... ٣٢٣
حکم
الکافرین العارفین وغیرهم................................................. ٣٢٧
الرجوع الد
الکافی وغیره من الکتب المعتبرة....................................... ٣٣١
من يجب عليه الحجج من قابل.................................................. ٣٣٤
حول الخبر المتواتر............................................................. ٣٣٦
مسائل ست تتعلق بالنيات..................................................... ٣٤٠
النيات غير مؤثرة في العبادات................................................... ٣٤٤
استحباب اعادة المنفرد صلاته جماعة............................................. ٣٤٧
حكم من فاتنه صلاة غير معينة................................................. ٣٤٩
حكم الواقع بعض صلاته خارج الوقت.......................................... ٣٥٠
حكم صيام يوم الشك......................................................... ٣٥٢
نية صوم الشهر بأجمعه في اوله.................................................. ٣٥٥
مسألتان تتعلق بأحكام النية في العبادة........................................... ٣٥٦
حكم المخل بالنية في العبادة.................................................... ٣٥٨
نية العبادة المشتملة على أفعال كثيرة............................................. ٣٥٩
نية النيابة في العبادات وثوابها................................................... ٣٥٩
حكم الماء النجس يتمم كراً..................................................... ٣٦١
سجدة قراءة العزائم في الصلاة تجب بعد
الفراغ منها............................... ٣٦٢
حكم من عليه فائتة في وقت الاداء............................................. ٣٦٣
اثبات حجية اجماع الطائفة..................................................... ٣٦٦
حكم العاقد في الاحرام........................................................ ٣٧٠
ما يجوز قتله من الحيوان المؤذي.................................................. ٣٧٢
بر الوالدين الكافرين الفاسقين.................................................. ٣٧٤
حكم المنعم الكافر............................................................ ٣٧٥
الكافر اذا كانت له أغواض.................................................... ٣٧٦
حكم العالم بقبائح غيره........................................................ ٣٧٧
معنى حياة الشهداء والانبياء والاوصياء........................................... ٣٧٨
(جوابات
المسائل الرسية الثانية)
سقوط القضاء بعد الوقت عمن صلى تماماً
في موضع القمر......................... ٣٨٣
جواز تجديد نية الصوم بعد مضي شطر
النهار.................................... ٣٨٤
أحكام الصلوات المفروضات.................................................... ٣٨٥
حكم اللاحن في القراءة في الصلاة.............................................. ٣٨٦
هل يدل الفعل المرتب على كون فاعله
عالماً....................................... ٣٨٨
|