
بعض آثار المؤلف
رضوان الله تعالى عليه
١ ـ رسالتان فى
الارث ونفقة الزوجة. طبعتا فى مجلد بقم
٢ ـ المكاسب
المحرّمة ورسالة الخمس. طبعتا فى مجلد بقم
٣ و ٤ ـ كتاب
البيع. طبع فى مجلدين بقم
٥ ـ كتاب
الخيارات. طبع فى مجلد بقم
٦ و ٧ ـ كتاب
الطهارة. طبع فى مجلدين بقم
٨ ـ الحاشية على
درر الاصول. طبعت مع الدرر بقم
٩ ـ الحاشية على
عروة الوثقى. طبعت بقم
١٠ ـ هذا الكتاب
مع مجلده الثانى.

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله
الطاهرين
«المقدّمة الاولى
في حال الوضع وتقسيمه»
لا إشكال في أنّ
الألفاظ قبل الوضع لا ارتباط بينها وبين المعاني وبه يوجد الربط والعلاقة ، وهل
هذه العلاقة نظير علاقة الزوجيّة والملكيّة قابلة للجعل الابتدائي ، فكما ينجعل
الزوجيّة والملكيّة بقول : زوّجت وملّكت بقصد الإنشاء ، كذلك ينجعل هذه العلاقة
بين اللفظ والمعنى بقول : وضعت ، أو قول : هذا اسمه حسن بقصد الإنشاء؟.
الظاهر إمكان ذلك
كما في ذينك البابين ، وتكون لهذه العلاقة آثار ، فكما أنّ من آثار الملكيّة
والزوجيّة إباحة التصرّفات والأفعال الخاصّة ، كذلك من آثار هذه العلاقة أنّه متى
سمع اللفظ عن الواضع أو من يتبعه فعهّدوه على تصوّر أصل المعنى يحكم بأنّه أي
اللاحظ تصوّر هذا المعنى في ذهنه وقصد بهذا اللفظ إلقاؤه في ذهن المخاطب ، هذا.
كما أنّه من
الممكن أيضا بمكان أن يختار الواضع في مقام الوضع طريقة اخرى وهي أن يتعهّد ويلتزم
أنّه متى أراد تفهيم هذا المعنى تلفّظ بهذه الكلمة ، فإنّه حينئذ نظير سائر
الالتزامات ، كالالتزام بأنّه متى أراد الشاي يتنحنح ، فإنّه يوجب حكم السامع
كلّما سمع منه التنحنح بأنّه أراد الشاي.
فكذا يوجب في
المقام الحكم بأنّه أراد تفهيم المعنى المذكور ، والذي يطلب بالوضع ويكون ثمرة له
هذا المعنى ، أعني إسناد المخاطب الإرادة إلى المتكلّم وإلّا فانتقاش المعنى
التصوّري ، فلا يختصّ بالوضع ، بل يحصل بقول : وضعت هذه الكلمة لهذا المعنى ،
فإنّه يوجب تذكّر المسامع متى سمع اللفظة وخطور المعنى بباله.
ثمّ الكاشف عن هذا
التعهّد قد يكون تصريح الواضع ، وقد يكون كثرة استعماله اللفظ ونصبه القرينة على
إرادة الخاص.
وقد حاول شيخنا
الاستاد دام علاه انحصار الطريق في الثاني ببيان أنّ الانتقاش ليس ثمرة الوضع كما
عرفت ، وإسناد الإرادة أيضا ما لم يكن تعهّد كيف يجوز ، وإذا لم يكن الأثر متمشّيا
من نفس ذات العمل أعني قول : وضعت بقصد الإنشاء الخالي عن التعهّد فلا يمكن أن
يقال : فعله بقصد ترتّب هذه النتيجة عليه يوجب ترتّبها ، فإنّ غاية الشيء لا بدّ
من ترتّبها على نفسه مع قطع النظر عن قصد القاصد إيّاه لأجل تلك الغاية.
وهذا بخلاف
التعهّد ، فإنّ ترتّب المتعهّد به على الشيء المتعهّد عند حصوله أمر واقع بحكم
الوجدان هذا.
ولكن استشكل عليه
بعض حضّار مجلس بحثه الشريف بأنّه كما أنّ الزوجيّة لها آثار عرفا وشرعا ، كذلك
علاقة اللفظ والمعنى أيضا لها آثار وهي الحكم بترتّب الإرادة عند التلفّظ، فجعل
المنشأ موجب لترتّب هذا الأثر عليه قهرا.
«في تقسيم الواضع»
ثم إنّ الملحوظ
حال الوضع قد يكون معنى عامّا ، وقد يكون معنى خاصّا وعلى كل تقدير قد يكون
الموضوع له نفس ذلك المعنى العامّ أو الخاصّ ، وقد يكون أمرا آخر صار ذلك المعنى
آلة وواسطة للحاظه ، فالأوّل يسمّى بالوضع العامّ والموضوع له العام ، والثانى
بالوضع الخاصّ والموضوع له الخاصّ ، والثالث بالوضع العام والموضوع له الخاصّ ،
والرابع بالوضع الخاصّ والموضوع له العامّ.
لا إشكال في
الأوّلين ، وأمّا الثالث فقد ... المحقّق الخراساني قدسسره كون العامّ وجها ومرآتا للأفراد ، بحيث يلاحظ المتكلّم
الجزئيّات بنفس ملاحظة العامّ لا أن يكون هنا لحاظ آخر متعلّق بالجزئيّات متعقّب
للحاظ العامّ ، وقد منع منه شيخنا الاستاد دام علاه في مجلس بحثه الشريف مستدلا
بأنّ العامّ مغاير للأفراد في عالم الذهن والتحليل وإن كانا متّحدين في عالم
الخارج.
ولا يخفى أنّ
الوضع أيضا بإزاء الموجود في الذهن ، وصورة الزيد عند التعرية عن كلا الوجودين وعن
العدم مغاير مع صورة الإنسان كذلك ، وحينئذ كيف يمكن لحاظ أحد المتباينين بلحاظ
المباين الآخر ، وهل هذا إلّا الخلف في بينونتهما؟
فالحقّ أن يقال :
إنّ للجزئيّات ملاحظتين : الاولى ملاحظة صورة الزيد بتفصيليّتها ، والاخرى
ملاحظتها ، لكن ببركة مفهوم الإنسان ، بمعنى أنّا نجعل الإنسان معيارا وضابطا ،
بأن نلاحظه بما هو هذا المفهوم ثمّ نشير إلى كلّ ما هو فرد ومصداق مندرج تحت هذا
المفهوم ، فحينئذ قد لاحظنا الزيد والعمرو والبكر إلى آخر الأفراد ، لكن بوجه
إجماليّ ليس هو مفهوم الإنسان ، بل هو كلّ ما هو مندرج تحت هذا المفهوم.
وعلى هذا فمثل ذلك
متأتّ في جانب الجزئي والخاصّ أيضا ، فإنّه يقال : إنّ العامّ تارة تلاحظ تفصيلا
واخرى تلاحظ بوجه إجمالي ، مثل أن نرى شخصا ولم نفهم ما نوعه المندرج هو تحته ،
بحيث لو رأينا فردا آخر نحكم بأنّه جزئي لذلك النوع أيضا ، ولكن نعلم إجمالا أنّ
له نوعا ، فنضع اللفظ بإزاء ذلك النوع ، فصار آلة المعرفة هو الخاص ، والموضوع له
هو العامّ.
وكذلك لو رأينا
شبحا من البعيد ولم نعلم أنّه إنسان أو بقر أو جاموس أو غير ذلك ، فحينئذ عند
تجريده عن الخصوصيّات الفرديّة ، يحصل عندنا صورة إجماليّة هو ما يكون نوعا لهذا ،
فالتجريد في مثل الزيد والعمر واشباههما من الأفراد المعلومة النوع يوجب ملاحظة
النوع تفصيلا ، وفي مثل الشبح والجزئي الغير المعلوم نوعه يوجب ملاحظته إجمالا ،
وليس آلة المعرفة لذلك النوع إلّا الجزئي ، كما كان آلة المعرفة للجزئي في الفرض
السابق هو الكلّ ، أعنى ما هو فرد لهذا.
ثمّ على فرض القول
بأنّ العامّ في الفرض السابق وجه ومرآة للأفراد نقول بإمكان مثله في هذا الفرض
أيضا ؛ فإنّ جهة وجهيّة العامّ للأفراد ليس إلّا الاتّحاد الخارجي ، وهو مشترك في
ما بين الطرفين ، فكما يمكن جعل ذلك المتّحد مرآتا لهذا المتّحد ، بملاك الاتّحاد
، كذلك يمكن العكس أيضا بعين تلك الجهة ، وعدم إمكان انفكاك المقسم عن القسم
والطبيعي عن أفراده ، وعلى هذا فالحقّ إمكان كلا القسمين الأخيرين ، كما قوّاه
الميرزا الرشتي طاب ثراه ، وإن أنكره عليه المحقّق الخراساني طاب ثراه في الكفاية.
ثم نقول : إنّ
المعنى الحرفي ما يكون نحو تعقّله في الذهن نحو تحقّق العرض في الخارج ، فالعرض لو
تلبّس بالوجود الخارجي فلا محالة يكون وبال الغير وكلّا عليه ومتّكيا عليه وطفيلا
له ، ويكون هذا الغير متخصّصا به ، فالقيام في الخارج صار كلّا على
زيد وطفيلا له
والزيد صار ذا تخصّص به حيث إنّه ليس راكعا وجالسا وساجدا ونائما وغير ذلك بل قائم
، وليس حاله حال الأجزاء الذهنية ، فإنّ كلّ واحد منها منحاز عن كلّ واحد من أجزاء
الجسم ، لكن لشدّة الامتزاج يشتبه الأمر على الحاسّة ، فيرى الأوّل كأنّه كلّ على
الثاني.
وأمّا أنّ العرض
والمحلّ وجودان أو وجود واحد ، فنقول : لا شك أنّ العرض ليس وجودا ضعيفا كان حملا
على وجود قوىّ كالشخص العاجز عن المشى الراكب على ظهر القادر عليه ، وبعبارة أخرى
نحو احتياج العرض بالمحلّ ليس نحو احتياج الجسم بالحيّز ، ومن هنا يمكن الخدشة في
تعريفه بقولهم ؛ إنّ العرض وجود في الموضوع ، بل العرض كيف وطور لوجود المحلّ فهما
وإن كانا عند العقل شيئين ، لكن في الخارج أحاط بهما وجود واحد ، نظير ماء الحوض ،
فإنّه عند العقل ينحلّ إلى أشياء متكثّرة ، لكن أحاط بها في الخارج وجود واحد
ومرتبة خاصّة من الوجود.
والحاصل أنّ العرض
أمر له النفس الأمريّة والواقعية والصدق والكذب وإن لم يكن له وجود على حدة.
فان قلت : ما
الفرق بين النفس الأمرية والوجود؟
قلت : النفس
الامرية شىء نقول به من باب ضيق الخناق في الموارد التي لا مسرح فيها للوجود كما فى
الإمكان والامتناع.
فكذا المعنى
الحرفي أيضا كلّ على المعنى الاسمى وطفيل له في كيفية تعقّله في الذهن وهو يكون
متخصّصا في الذهن بالمعنى الحرفي. والحقّ أنّه يتصوّر العموم في معنى الحروف وضعا
واستعمالا كما يتصوّر في معاني ألفاظ المصادر التي بمعناها بلا فرق. وتوضيحة :
أنّه لا شك أنّ الجوامع كلّها منتزعة عن الخارجيّات ، ولا شك أن السير الخارجى من
البصرة مثلا إذا حلّلته وجزّيته بنظر العقل حصل عندك ثلاثة أشياء :
الأوّل السير ،
والثاني البصرة ، والثالث خصوصيته كون السير مبتدأ من البصرة ، وهذا الثالث يمكن
لحاظه بنحوين :
الأوّل أن يلحظ
ويتعقّل مستقلا ومن حيث هو على عكسه في الخارج ، إذ هو فى الخارج عاجز محتاج إلى
المتعلّق وهو السير مندك فيه ، وفي الذهن تامّ مستغن عن غيره بحيث يكون لحاظ
المتعلّق معه وضع شيء فى جنبه.
الثاني أن يلحظ
على طبق وجوده الخارجى حذو النعل بالنعل فكما أنّه في الخارج محتاج إلى المتعلّق
وموجود ببركة وجوده ، فكذا يتعقّل في الذهن محتاجا إلى متعلّق خاصّ وببركة تعقّله
، ولا شك أنّ هذا أعنى كونه محتاجا في التعقل إلى المتعلّق الخاصّ لا يوجب أن يكون
لهذا المتعلّق الخاصّ دخلا في حقيقته ومعناه أصلا بل هو مقدّمة لتعقّله خارج عن
حقيقته.
ألا ترى أنّ مفهوم
الضرب لكونه عرضا يفتقر في الوجود الخارجي إلى شخص زيد مثلا ، ومع ذلك لا يكون
لزيد في معناه دخل أصلا ، فإذا لا فرق بين الملحوظين بهذين اللحاظين إلّا في مجرّد
كيفية اللحاظ ، حيث إنّه في الأوّل بنحو الاستقلال على عكس الخارج ، وفي الثاني
بنحو العجز والافتقار على طبقه ، ولا يعقل أنّ معنى واحد بمجرّد أن يختلف كيفيّة
لحاظه يختلف حاله في الجزئية والكلّية.
فكما أنّ الملحوظ
بالنحو الأوّل كلّي جامع للابتداءات الخارجية العاجزة ، فكذا الملحوظ بالنحو
الثاني أيضا كلّى جامع لتلك الأفراد بعينها من دون أن يكون دائرته أضيق من الأوّل
أصلا. غاية الأمر أنّ الأوّل جامع مستقلّ للأفراد العاجزة والثاني جامع عاجز
للافراد والعاجزة.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : وضع لفظ «الابتداء» للجامع بالنحو الأوّل ولفظة «من» للجامع بالنحو الثانى
، وإذا فلا فرق بينهما في عموم الوضع والموضوع له.
نعم بينهما فرق في
كيفيّة الوضع ، ففي الأوّل لمّا يمكن الإشارة إلى نفس المعنى فلهذا لا يحتاج في
مقام الوضع إلى الوجه ، بل يشار إلى نفسه ، وفي الثاني لمّا لم يمكن الإشارة الى
نفس المعنى ، ضرورة منافاة الإشارة لما هو عليه من وصف العجز والافتقار ، فلهذا لا
بدّ أن ينتزع منه في مقام الوضع إجمال ويجعل هذا الإجمال وجها له وعبارة عنه ،
بحيث يكون الفرق بينه وبين الجامع الذي هو الموضوع له بالإجمال والتفصيل.
وذلك كمفهوم
الابتداء المحتاج في التعقّل إلى المتعلّق. ولا يلزم اتّفاق الحاكي والمحكي في
جميع الجهات. فيمكن أن يكون الأوّل معنى اسميّا والثاني معنى حرفيّا كما في المقام
، كما يمكن أن يكون الأوّل كليّا والثاني جزئيّا كما فى مفهوم لفظ الجزئى ومحكيّه.
وحينئذ فإن أريد
من الخصوصية في معنى «من» خصوصيته بالنسبة إلى معنى لفظ الابتداء فقد عرفت أنّهما
مفهومان متباينان ، حيث إنّ الأوّل مستقلّ باللحاظ ، والثاني مفتقر فيه إلى الغير
، وإن أريد الخصوصيّة بالنسبة إلى مقسم القسمين وهو المعنى المجرّد عن الكيفيتين
الذي لم يوضع له لفظ فهى غير مختصّة بمعنى «من» لجريانها فى معنى لفظ «الابتداء»
أيضا ، ضرورة أخصية القسم عن المقسم. وأمّا بالنسبة إلى الخارج فقد عرفت تصادقهما
على طائفة واحدة من الخارجيات.
فان قلت : كيف وقد
استعمل لفظة «من» في قولك : «سرت من البصرة» في الابتداء الخاصّ بإضافته إلى السير
الخاصّ.
قلت : لا شك أنّ
المستعمل فيه للفظة «من» في جميع الموارد معنى واحد كلّى ، وهو ما وضعه الواضع له
، وهو أصل الابتداء العاجز ، ومن لوازم هذا المعنى أنّك أىّ معنى فعل أو شبهه
قرّبت منه وركّبت معه يتقيّد به وتصير خصوصيّة طارئة عليه ،
لكن قد عرفت أنّ
هذا المعنى المتعلّق لا ربط له بحقيقة معنى «من» وله دالّ أخر فكلّ من الدوالّ قد
استعمل في معناه الموضوع له ، فمادة سرت قد استعملت في مفهوم السير وهيئته في
الاتّحاد الخارجي ولفظة «من» في مطلق المبدئية العاجزة ، والخصوصية إنّما حصلت من
تركّب هذه المعاني ، كما أنّ لفظ «الرقبة» في قولك : رقبة مؤمنة قد استعملت في
مطلق الرقبة ، والمؤمنة في مطلق المؤمنة ، والخصوصيّة إنّما حصلت من انضمامها.
فإن قلت : موضوعية
الجامع المحكي لمفهوم الابتداء المحتاج في التعقّل إلى المتعلّق هو موضوعيّة الفرد
الخاصّ الموجود في قولك : «سرت من البصرة» على أن يكون القيد خارجا والتقيّد داخلا
لصدق ذلك العنوان عليه واتّحاده معه.
قلت : حكم
الموضوعية لا تسرى من الجامع إلى أفراده ، ألا ترى أنّ مفهوم الحيوان الناطق موضوع
له للفظ الإنسان مع عدم كون أفراده كذلك.
فإن قلت : إنّ
التبادر يقضى بأنّ معنى «من» هو خصوصيات الابتداء.
قلت : من المعلوم
بالوجدان أنّ معنى «من» لا يتفاوت بتفاوت التراكيب ، وأنّه معنى كلّى ، وإن كنت
شاكّا في ذلك فاخبرنى عن كلمة «من» فى قولك : «من البصرة سرت» قبل التلفظ بلفظ «البصرة»
هل تفيد معنى عند العرف أو لا؟ وإن أفاد فهل هو إلّا مطلق المبدئية العاجزة
الناقصة؟
الشبهة الثانية :
إنّه لا شك أن المعاني الحرفية آلات للحاظ حال متعلّقاتها ولازم ذلك كونها مقيّدة
باللحاظ ، وهو الوجود الذهني ومأخوذيته في حقيقتها ، والماهيّة إذا أخذت مع الوجود
ذهنيّا كان أو خارجيّا تصير جزئيّا حقيقيّا فمعنى «من» مثلا على هذا يتعدّد بتعدّد
اللحاظ ، ولو كان متعلّقه فيهما شيئا واحدا ضرورة تعدّد المقيد بما هو مقيّد
بتعدّد قيده.
الجواب : أنّه لا
شك أن المفاهيم لا ظرف لها واقعا سوى الذهن ، ضرورة أنّه ليس لنا علم وراء عالم
الذهن ، والخارج يكون هو عالم المفاهيم ، ولا شك أنّ الذهني بما هو ذهني مباين
للخارجي ، فلا ينطبق عليه ، فصدق المفاهيم على الخارجيّات لا يمكن إلّا بعد
تعريتها عن الوجود الذهني وإلغاء هذا الوصف عنها ، كما هو الحال فيها في النظرة
الاولى ، فإنّ الناظر بهذه النظرة لا يلتفت إلى جهة كونها في ذهنه ، بل يتخيّلها
أشياء أجنبيّة غير مرتبطة بعالمى الذهن والخارج ، ويشير إليها ويعبّر عن هذا
العالم الذي يتخيل في النظرة الاولى بظرف التقرّر وإنّما يلتفت إلى ذلك شخص آخر
يطّلع على حاله أو هو بعد انصرافه عن هذه النظرة وتلبّسه بالنظرة الثانية.
فالمفاهيم مع
كونها واقعا متّصفة بالوجود الذهني إذا صرف النظر عن هذه الصفة الكائنة فيها واقعا
ينطبق على الخارجيات ، وكما لا بدّ من تعرية المفاهيم عن هذه الصفة كذلك لا بدّ من
تعريتها عن صفاتها الخاصّة بوجودها الذهني الغير الكائنة فيها في الخارج كصفة
التجريد أعنى كون المفهوم معرّى عن جميع الخصوصيّات الخارجيّة بحيث بقى وحده
ومنفردا ، فإنّ من المعلوم أنّ المفهوم لا يتلبّس بهذه الصفة في الخارج وإنّما
يتلبّس به في الذهن ، ولهذا لو لوحظ معها يباين الخارجيات ، فالمفاهيم مع كونها
واقعا بهذه الصفات إذا صرف النظر عن هذه الصفات الكائنة فيها واقعا ينطبق على
الخارجيات.
فانقدح بذلك أنّ
مفهوم «من» مثلا كسائر المفاهيم بلا فرق فى أنّه بعد التعرية المذكورة يصير كلّيا
صادقا على الكثيرين ، مع أن واقعه موجود ذهني ، فحاله في ذلك حال مفهوم لفظ «الابتداء»
بعينه بل ابتلاء الثاني أشدّ من الأول بالذهن ، حيث إنّه على ما عرفت متّصف في
الذهن بوصف الاستقلال المضادّ لما فى الخارج من وصف الاندكاك والافتقار ، فهو
مضافا إلى التجريد عن الوجود الذهني يحتاج
إلى التجريد عن
هذه الصفة أيضا حتّى ينطبق على الخارجيات. وأمّا مفهوم «من» فهو مشابه للخارج فى
وصف الاندكاك ، فلا يحتاج إلى أزيد من التجريد عن الوجود الذهنى.
هذا كلّه هو
الكلام فيما كان من المعاني الحرفية من قبيل التصوريّات وامّا الكلام فيما كان
منها من قبيل الانشائيّات.
فاعلم أنّ الطلب
مثلا كلّما وجد في الخارج فلا محالة يكون محفوفا بالخصوصيّات كخصوصية الزمان
الخاصّ والمكان الخاصّ والمتعلّق والطالب الخاصّ والمطلوب منه الخاصّ إلى غير ذلك
، ولا شك أنّ شيئا من هذه الخصوصيات لا دخل له فى حقيقة الطلب أصلا فهيئة الأمر
موضوعة لحقيقة وجود الطلب فقط والخصوصيّات التي يتلبّس الطلب بها فى الخارج خارجة
عن معناها.
توضيح ذلك أنّ
الطبيعة منفكّة عن الخصوصيات الفردية لا يوجد فى الخارج أبدا فهي مقرونة فى الخارج
أبدا بتلك الخصوصيات ولا شك أنّ حال تلك الخصوصيات حال أصل الطبيعة فى عدم دخل شيء
من الوجود والعدم فى حقيقتها ، ولهذا يصحّ زيد موجود وزيد معدوم مثلا ، فالوجود
إذا أضيف إلى الطبيعة فى الخارج فلا محالة يكون له إضافتان إضافة إلى اصل الطبيعة
وإضافة إلى الخصوصيات الفردية ففيما نحن فيه قد الغي جهة إضافته إلى الخصوصيات
ووضع اللفظ له بلحاظ اضافته إلى اصل الطبيعة ، فنقول : إنّ وجود اصل الطلب بل كل
طبيعة كلي صادق على الكثيرين.
توضيحه انّ تعدّد
أفراد طبيعة واحدة كما لا يكون من قبل تخالفها فى العوارض الشّخصيّة ضرورة أنّ فرض
تشاكلها فى جميع تلك العوارض لا يوجب رفع التعدد عمّا بينها، كذلك لا يكون من قبل
وجود أصل تلك الطبيعة ؛ اذ لو فرض
عدم بقاء شيء سوى
وجود أصل تلك الطبيعة بلا زيادة شيء عليه لما كان تعدّد فى البين بالبديهة وإنما
هذا التعدّد من قبل أمر آخر لا يعلمه الّا الله تعالى ، فوجود أصل الطبيعة أمر
وحداني لا يقبل التعدد ويقبل الصدق على الكثيرين ولفظة «هذا» مثلا موضوعة لحقيقة
وجود الإشارة إلى المفرد المذكر ، لكن حيث إنّ الإشارة تقتضى مقطعا خاصّا معيّنا
ذهنيّا أو خارجيّا فلهذا تقع الإشارة بهذا إلى المفرد المذكر الخاص أبدا ، لا ان
يكون للخصوصيات دخل فى معني هذا بحيث لو امكن الإشارة الى كلّى المفرد المذكر
بكليته لكانت معنى هذا.
وبالجملة فالشبهة
في جزئية هذه المعانى هى ان المعانى الانشائية وجودات خارجيه والوجود الخارجى لا
يكون إلّا جزئيا ، والجواب أنّ الوجدان شاهد قطعي بأنّ الوجودات الخارجية بينها
قدر مشترك وهو صرف الوجود ، وليست أشياء متباينة بالكنه ، لا جامع لها أصلا بحيث
كان اطلاق لفظ الوجود عليها اطلاقا للفظ المشترك علي معانيه ، وهذا الجامع معروض
للكثرة فى قولنا : الخبز كثير والماء كثير مثلا ، ضرورة أنّ كلّ فرد فرد لا يكون
معروضا له ، وكذا مجموع الأفراد ، ومن المعلوم أنّ هذا الوصف له نفس أمريّة ويكون
صدقا فى مورد وكذبا فى آخر.
وايضا لو علمت
إجمالا بوجود زيد أو عمرو فكلّ منهما مشكوك الوجود ، فلو لم يكن بينهما جامع
الوجود فما يكون متعلق عملك ، ولا شك أنّ كلّ طلب خارجى له خصوصيات خارجة عن
حقيقته ، والمدّعى أنّه يمكن أن يلغي الواضع تلك الخصوصيات وينظر إلى نفس الطلب
المجرد ويضع الهيئة للطلب المجرّد ، وهذا المفهوم أعنى صرف الوجود يشترك مع
الماهية في أنّ كلّا منهما جامع ينتزعه العقل من الخارجيات ويجرّده عن الخصوصيّة
ويكون وضع اللفظ بإزائهما في حال التجريد ، ويفارقها فى أنّ الخارج ظرف لوجود
الماهية وظرف لنفس الوجود لا
لوجوده وإلّا
تسلسل ، وفي أنّ الماهية لكونها معرّاتا عن الوجود بقسميه ، والعدم تحصل وتوجد فى
الذهن ، والوجود ليس ظرفه إلّا الخارج وإلّا انقلب الذهن خارجا ، وإنّما يمكن
تعقّل صورة الوجود في مقام أخذ الجامع من الوجودات الخارجيّة.
فان قلت : إذا كان
وجود الطلب أو النداء أو الاشارة موضوعا له للألفاظ الخاصّة في حال التجريد ،
والمفروض أنّ المفهوم فى حال التجريد يباين الخارجيّات فيلزم أن لا تكون
الخارجيّات موضوعا لها ، وهو خلاف الفرض.
قلت : وصف التجريد
ثابت واقعا غير ملحوظ حين الوضع.
فان قلت : لم لا
يتسرّى من الجامع وصف كونه موضوعا له إلى الفرد.
قلت : من الأعراض
ما يعرض على المحلّ بدون توسيط الذهن ، فان كان معروضه الجامع يتسرّى منه إلى
الفرد لاتّحاده معه بحيث لا ميز بينهما أصلا ، وذلك كما فى حرارة النار ، فصار
الفرد الخارجى من النار حارا لاتّحاد الجامع معه ، ومنها ما يعرض على الجامع
بتوسيط الذهن وهو لا يتسرّى إلى الفرد ، وسرّه أنّ الجامع إنّما يكون معروضا له في
الذهن في حال التجريد ، وهو فى هذا الحال مباين للفرد ومحسوب معه اثنين ، ولهذا
يصحّ حمله عليه ، ومقتضي الاثنينيّة فقدان كلّ ما وجده الآخر وذلك كما في اختصاص
وصف الموضوعية فى قولك «زيد انسان» بزيد ، والمحمولية بالانسان ومن المعلوم أنّ
منشائه ليس إلّا اثنينيتهما وكذا وصف الكليّة ، ومن ذلك كون الجامع موضوعا له
للفظ.
وبالجملة فكلّ عرض
كان عارضا على الجامع علي تقدير التجريد فهو لا يتسرّى إلى الفرد لمكان البينونة
بينهما ، وما فى الكفاية موافق لما ذكرنا فى المدّعى وهو كون كلّ من الوضع
والموضوع له والمستعمل فيه عاما ، إلّا أنّ توجيهه علي ما
يوجد منها هو أنّ
كلمة «من» مثلا موضوعة لعين ما وضع له لفظ الابتداء والوضع مقدّمة للاستعمال
والاستعمال متأخّر رتبة عن الوضع وعبارة عن تعقّل المعني مع التلفظ فالواضع قد
اشترط بعد وضع «من» أن لا يستعمل في معناه إلّا بتعقّله آلة للغير ، وفي لفظ
الابتداء أن لا يستعمل في معناه إلّا بتعقّله مستقلا ، فاللحاظ التبعي أو
الاستقلالي كيفيّة للاستعمال أجنبي عن المعني.
وأمّا علي ما
ذكرنا فهما موضوعان لمفهومين متباينين ، وتعدّد المفهوم إنّما هو بتعدّده في
التعقّل في الذهن ، وهذا سالم عمّا يرد علي الأوّل من أنّا نتّبع الواضع في أصل
الوضع ولا نتّبعه في الشرط.
ثمّ إنّ في
الكفاية بعد هذا بلا فصل كلاما حاصله ، أنّ حال الإخباريّة والإنشائيّة حال اللحاظ
الاستقلالي والتبعي في كونهما من كيفيّات الاستعمال فتكونان متأخرتين رتبة عن ذات
المعني ، فالمعني المستعمل فيه في القضيّتين الإخباريّة والإنشائيّة متّحد إمّا من
حيث شخص المفهوم وذلك فيما اذا اتّحد الموادّ كما في اضرب وأطلب منك الضرب ، حيث
إنّ الموضوع له فيهما هو مفهوم الطلب إلّا أنّه اشترط في وضع الثاني أن يكون
الاستعمال بطور قصد الحكاية عن ثبوت المعني في موطنه ، وفي وضع الأوّل أن يكون
بنحو قصد التحقّق والوقوع ، وإمّا من حيث سنخه أعنى الكليّة والعموم ، وذلك فيما
إذا اختلفت الموادّ كما في زيد قائم ، واضرب ، حيث إنّ الموضوع له فيهما عامّ وهو
مفهوم قيام زيد في الاول ومفهوم طلب الضرب فى الثاني ، والشرط كالسابق.
وكيف كان فهذا
مشتمل على دعاو ثلاثة في كلّ منها إشكال ، الاولى : أنّ حيث الإخبارية والإنشائيّة
خارجتان عن ذات المعنى ومتأخرتان رتبة عنه ، والثانية : أنّ الخبر عبارة عن
الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه وهو إمّا الخارج كما في زيد
قائم وأمثاله
وإمّا الذهن كما في «اطلب» و «اعلم» الإخباريين وأمثالهما ، الثالثة : أنّ المعاني
الإنشائيّة يوجد ويتحقّق باللفظ مع القصد.
أمّا الإشكال في
الاولى فهو أنّه لا شك أنّ موادّ مفردات القضايا الخبريّة كلّ واحد منها دالّ على
سهمه من المعنى ، فلو كانت الحكاية عن ثبوت المعنى خارجة عن ذات المعنى بقي الهيئة
بلا معنى ، والحال أنّ لها وضعا نوعيّا باتفاق القائل المذكور ، مثلا في قولنا :
أطلب منك الضرب مفادات أربعة ، مفاد مادّة الطلب ، ومفاد ضمير المتكلّم ، ومفاد
منك، ومفاد الضرب ، وكلّ من هذه الألفاظ تدلّ على مفاده ، وليس هنا شيء آخر غير
الحكاية المذكورة حتّى يكون هو مفاد الهيئة.
وأمّا الاشكال في
الثانية فهو أنّ مجرّد الحكاية عن ثبوت المعنى في موطنه ليس فارقا بين الجمل
الخبريّة وغيرها من النسب الناقصة ؛ ضرورة أنّ زيد قائم وزيد القائم مشتركان في
الحكاية عن ثبوت القيام لزيد ؛ بداهة أنّ الثاني ليس مهملا وبلا معنى ، ولا زيادة
للأوّل عليه لا لفظا ولا معنى.
أمّا الإشكال فى
الثالثة فهو أنّه لا سنخيّة بين اللفظ والمعنى قبل الوضع بحسب الذات حتّى يكون
علّة له ، وإنّما شأن اللفظ أن يكون كاشفا وأمارة للمعنى بحسب تعهّد الواضع ،
والعلّية أمر واقعي لا يقبل الجعل ، نعم بالنسبة إلى العنوان الثانوي للحكاية وهو
إلقاء المعنى في ذهن السامع يكون اللفظ موجدا وعلّة.
والحقّ أنّ في نفس
المتكلّم بالقضيّة الخبريّة تجزّما وهو عبارة عن عقد القلب والبناء على تحقّق
النسبة بين محمول القضيّة وموضوعها وهو أمر غير الاعتقاد ويجتمع مع الشك والقطع
بالخلاف ، والرابطة أعني الهيئة في العربيّة و (است ونيست) في الفارسيّة موضوعة
أمارة على هذه الحالة النفسانيّة ، وهذا هو المراد بقيد التمام الذي هو الفارق بين
القضايا الخبريّة والنسب الناقصة ، حيث إنّ المتكلّم بالقضيّة
الخبريّة زيادة
على إلقاء الموضوع والمحمول والنسبة قد جعل نفسه أيضا في قيد السامع ، فيستريح
السامع من جهته ويتتبع بنفسه الخارج ؛ فإن وجده مطابقا لقوله صدّقه ويتخلّص هو من
قيده ، وإن وجده مخالفا له كذّبه ويقع هو في قيد ملامته ، وهذا بخلاف النسب
الناقصة ؛ فإنّ المتكلّم بها في راحة وليس في قيد ولو بأن قال : الزيد المتحقّق
الثابت قيامه في الخارج بلا شك ولا شبهة ؛ إذ له أن يقول بعد ذلك : ليس بموجود.
ثمّ كما أنّ
الاعتقاد طريق للواقع وحكاية عنه لمن ظفر به بوسيلة من يعتقده كذلك هذا التجزّم
الذي كشف عنه الرابطة أيضا حاك عن شيئين ، الأوّل أنّ اعتقاد المخبر على طبق خبره
، والثاني أنّ الواقع كذلك ، واسناد الكذب إلى المنافقين في قوله تعالى : (وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ
لَكاذِبُونَ) باعتبار الحكاية عن الاعتقاد لا الواقع.
وهذا مراد من قال
بأنّ أجزاء القضيّة أربعة وجعل الرابع هو الوقوع في القضيّة المثبتة واللاوقوع في
القضية المنفيّة ؛ فإنّ من الظاهر أنّ الوقوع واللاوقوع الخارجيين غير قابلين
لجزئيّة القضيّة ، فالمراد هو التجزّم بالوقوع أو باللاوقوع ، ومن قال بأنّها
ثلاثة أراد أنّ التجزّم كيفيّة للنسبة لا أنّ منها نسبة ثمّ تعلّق بها جزم ، فليس
هنا شيئان ، بل شيء واحد وهو النسبة التجزّمية الوقوعيّة أو اللاوقوعيّة.
والفرق بين مفردات
القضيّة الخبريّة وهيئتها أنّ الاولى موضوعة أمارة للذات المقرّرة المعرّاة عن
الوجود والعدم ، والثانية موضوعة أمارة لهذه الحالة الموجودة فعلا في النفس بحيث
لو لم يكن موجودة حين التكلّم كان الرابط مهملة وغير مستعملة في معنى أصلا ، كما
أنّه لو كانت موجودة حين التكلّم بالنسبة الناقصة كانت موضوعة في غير محلّه ، نظير
إرادة المعنى الإنشائي حين التكلّم بالخبر.
وأمّا الإنشاءات
فهي مشتركة مع الإخبار في أنّها ليست موجدة للمعنى ، ولكنّها
تحكي عن حالة
موجودة في النفس فعلا ، والفرق بينهما أنّ هذه الحالة حكاية عن ثبوت نسبة قضيّتها
في الاخبار ولا يكون حكاية عن ثبوت نسبة قضيّتها مع إمكان أن يكون حكاية عن شيء
آخر في الإنشاءات ، مثلا هيئة اضرب أمارة على الإرادة النفسانيّة ، وهذه الإرادة
ليس سنخها الحكاية عن ثبوت نسبة الضرب إلى المخاطب في الخارج كالتحريم في قولنا :
ضربت ، بل سنخها العليّة والاقتضاء لحصول هذه النسبة ، ضرورة أنّ الإرادة الآمريّة
مع انقياد العبد وتمكّنه علّة تامّة لحصول الفعل في الخارج ، نعم يكون حكاية عن
ثبوت المنفعة في الضرب مثلا ، فلو كان المتكلّم بصيغة الأمر غير مريد للفعل كانت الصيغة
مهملة غير مستعملة في معنى أصلا.
دفع إشكال :
الإرادة عبارة عن البناء القلبى على وقوع الفعل منه إن كان فاعليّا أو من غيره إن
كان آمريّا وهو أمر غير العلم بالصلاح والنفع وغير الحبّ بالفعل ، نعم يحصل عن
هذين أحيانا ؛ فلهذا لا يمتنع ايجاد الإرادة كما هو لازم من عرّفها بالعلم ، بل
يمكن كالتحريم ، ويجتمع مع عدم محبوبيّة المراد.
فاعلم أنّه كما قد
تكون الإرادة موجودة من جهة المبادي الموجودة ، في المتعلّق كأن يعلم بوجود
المصلحة في الفعل الفلاني ولا يكون له مزاحم فيحصل الحبّ والشوق والميل إليه في
النفس ، فينتهي هذا الميل إلى عقد القلب على إيقاع هذا الفعل في الخارج الذي يعبّر
عنه بالعزم والإرادة ، كذلك قد يوجد لأجل المبادي الموجودة في نفسها ، فيكون حالها
حال الفعل الخارجي ، فكما أنّه يوجد من جهة المبادي الموجودة في نفسه فكذا هذه.
والدليل على ذلك
أنّه لو قيل لأحد : امش من هذا المكان إلى المكان الفلاني بالإرادة اعطك عشرة آلاف
دنانير بحيث لو صدر منك المشي بلا إرادة لم أعطك ، و
علم بصدقه في هذا
القول ، وفرض أنّ هذا الفعل لا مزاحم لصدوره من المخاطب أصلا ، فلا شك أنّه يحدث
بذلك في نفس المخاطب ميل تامّ إلى هذا الفعل ، أعني : المشي بالإرادة ، فهل هو
حينئذ يتأسف عجزه عن الإتيان وفوت تلك المنفعة الكبيرة ، أو يبادر بالإتيان
ويدركها؟ الوجدان قاطع بالثانى.
وأيضا لا شك أنّ
إتمام الصلاة ليس أثرا لإقامة العشرة بل للعزم عليها سواء اقيم أم لا، ولا ريب أنّ
المسافر قد يتّفق أنّه لا يكون له من الإقامة منفعة أصلا ، بل لمحض إتمام الصلاة
يعزم على الإقامة ..
فإن قلت : فكيف
الحال لو كان نفس الفعل مبغوضا بمبغوضيّة أشدّ من محبوبيّة نفس الإرادة؟.
قلت : مفروضنا
صورة اجتماع المبادي في نفس الإرادة ، ومن جملتها عدم المزاحم ، والمبغوضيّة
المذكورة مزاحم ، فالآمر بالأوامر الامتحانيّة يوجد في نفسه عقد القلب على إيقاع
الفعل من الغير ويدرك نتيجته ، ضرورة أنّ الارادة الآمرية ليست بأقوى من الإرادة
الفاعليّة غاية الأمر أنّه لو كان الفعل مبغوضا له يمنع من وجوده في الخارج.
فإن قلت : الفائدة
إنّما هي في التلفظ بالأمر وإن لم يكن الإرادة النفسانيّة موجودة ، فهي مستغن عنها
فلا حاجة إلى التكلّف في إثبات وجودها.
قلت : الداعي إلى
ذلك هو الفرار عن كون تلك الأوامر مهملة ؛ إذ من البعيد ذلك، والوجدان يشهد بأنّها
على نسق غيرها مستعملة في المعنى ، نعم يكون الأمر فيها سهلا على القول بأنّ
الإرادة قسمان حقيقي ، واعتباري إنشائي ، والثاني تحقّقه باللفظ مع القصد، فهيئة
الأمر مستعملة أبدا في الثاني ، لكن قد عرفت أنّه لا معنى لذلك.
ومن هنا ظهر كون
الإرادة اختياريّة وبطلان ما تمسّكوا به على عدم اختياريّته من لزوم التسلسل على
تقدير اختياريّته بتقريب أنّ الفعل الاختياري ما كان مسبوقا بالإرادة ، فلو كانت
الإرادة اختياريّة لزم أن تكون مسبوقة بإرادة اخرى وهي بإرادة ثالثة ، وهكذا إلى
غير النهاية.
وجه البطلان أنّ
التسلسل إنّما يلزم لو لم يكن للإرادة مبدأ سوى الإرادة ، وقد عرفت أنّها إمّا أن تكون
موجودة من جهة المبادي في متعلّقها ، وإمّا أن تكون موجودة من جهة المبادي في
نفسها ، فعلى الأوّل فلا شكّ أنّ علّتها هي تلك المبادي ، وعلى الثاني فحالها حال
الفعل الخارجي ، فكما أنّه معلول للإرادة فكذا هذه أيضا معلولة لإرادة ثانية وهذه
الإرادة الثانية بالنسبة إلى الإرادة الاولى حالها حال الإرادات الآخر بالنسبة إلى
متعلّقاتها ، فكما أنّها معلولة للمبادي في المتعلّقات فكذا هذه أيضا معلولة
للمبادي في الإرادة الاولى.
وظهر ممّا ذكرنا
أيضا أنّ الإرادة التي توجد من جهة المبادي في نفسها اختياريّة ؛ لأنّ حالها حال
الفعل الخارجي بعنيه. وأمّا الإرادة التي توجد من المبادي في المتعلّق سواء كان
إرادة أم فعلا خارجيّا فلازم ما ذكرنا أنّها اختياريّة أيضا.
بيان ذلك أنّ
الشخص كما يكون مختارا وواليا على فعله الصادر عن إرادته ، كذلك قد يصير واليا
ومختارا على فعل غيره الغير المستند إلى إرادته ، والدليل على ذلك أنّ مجيء زيد في
الدار فعل له موجد بإرادته لا بإرادة صاحب الدار ، لكن لصاحب الدار أن يمنع من
تحقّق هذا الفعل بإغلاق الباب ونحوه ، وله ترك ذلك ، فالمجيء وعدم المجيء وإن كان
كلاهما صادرا عن إرادة زيد لكن لصاحب الدار دخل وعليّة فيهما ، فولاية الوقوع
واللاوقوع ثابتة لصاحب الدار ، ولا نعني بالاختياريّة إلّا ذلك.
فإن قلت : إنّ
صاحب الدار إنّما يمانع بالإرادة فهو غير خال عن الإرادة في هذا الفعل الاختياري
أعني مجيء زيد وعدم مجيئه ، فحاله حال سائر الأفعال الاختياريّة المسبوقة بالإرادة.
قلت : نعم لا يخلو
عن الإرادة ، لكنّ المدّعى أنّ المجيء وعدمه لا يستندان إلى إرادة صاحب الدار
إيّاهما ، بل إلى إرادة زيد.
فإن قلت : مجيء
زيد وعدمه ليسا باختياريّين لصاحب الدار وإنّما اختياريّته هو ايجاد المانع وعدمه
وبينهما بون بعيد.
قلت : إذا كان
إيجاد المانع اختياريّا له فثمرته وهو عدم المجيء أيضا اختياريّة ؛ فإنّ المقدور
بالواسطة مقدور ، وإذا كان عدم المجيء اختياريّا له فوجود المجيء أيضا اختياريّة ؛
إذ القدرة إنّما يتعلّق بالطرفين لا بطرف واحد.
فإن قلت : إنّ عدم
المجيء ليس مسبّبا عن إيجاد المانع بل عن إرادة زيد إيّاه ، وبالجملة فالأوّل ليس
في طول الثاني بل في عرضه.
قلت : مدّعانا لا
يتوقّف على إثبات السببية والترتيب بينهما بل يحصل مع كونهما في عرض واحد ،
والدليل على ذلك أنّه لو تنازع زيد وعمرو في مكان واحد أراد كلّ منهما الجلوس فيه
فلا شكّ أنّ زيدا لو خلّى المكان لعمرو فجلس العمرو فيه يكون لزيد ولاية على هذا
الجلوس ، مع أنّ عدم جلوسه ليس سببا له.
فنقول إذا صار
محبوبيّة الفعل مشرفة بأن يوجد العزم والإرادة في النفس فلا شكّ أنّ الشخص متمكّن
من أن يمانعها من ذلك ويوجد بسرعة الإرادة المضادّة في نفسه قبل أن يوجد
المحبوبيّة إرادة الفعل فيها.
فإن قلت : إنّ
المحبوبيّة علّة تامّة للإرادة فكيف يمكن انفكاكها عنها.
قلت : ليس
المحبوبيّة علّة تامّة للإرادة بل لعدم المزاحم أيضا دخل في تحقّقها.
فإن قلت : لا معنى
لوجود المزاحم بين المحبوبيّة والإرادة ، لعدم الفصل بينهما ، وبالجملة متى تحقّق
المحبوبيّة التامّة تحصل إرادة الفعل بسرعة ، ولا يمهل الإرادة المضادّة أن يوجد
قبلها.
قلت : لو كان
الفعل في عين الصلاح بحيث لا يشوبه ذرّة مفسدة ولكن كان في نفس إرادته مفسدة أعظم
من مصلحة نفسه فهل ترى نفسك تقدم عليه؟.
فإن قلت : إنّا لو
فرضنا أنّ الفعل في غاية المحبوبيّة وبلا مزاحم ، ونفس الإرادة أيضا بلا مزاحم ،
وحينئذ فكيف يمكن عدم وقوعها؟.
قلت : لو كانت
الإرادة غير اختياريّة فما شأن المريد يلاحظ في وجودها وعدمها الضرّ والنفع ووجود
المزاحم وعدمه ، ولو كانت غير اختياريّة لوجب أن يوجد سواء كان ضارّا أم نافعا
كحركة المرتعش ، أو لا يوجد كذلك كالطيران إلى السماء ، كيف وحال الإرادة في ذلك
حال الفعل الخارجي بعينه ، حيث إنّه أيضا لو تمّ صلاحه وفقد مزاحمه من جميع الجهات
لم يعقل من العامل أن يتركه ، وأيضا يلاحظ في فعله وتركه الضرّ والنفع ، فإذا كان حال
الإرادة في جميع ذلك حال الفعل الخارجي بلا فرق كفى ذلك في المطلوب.
* * *
«فصل»
لا شكّ أنّ صحّة
المجاز لا يتوقّف على ترخيص الواضع بحيث يكون حاله حال الحقيقة في التعبّد به ،
ويكون الفرق أنّ الوضع هناك شخصيّ وهنا نوعي ؛ ضرورة أنّه لو سمّى زيد ابنه باسم
يصحّ استعمال هذا الإسم في مشابه الابن مع أنّ ترخيص واضع اللغة لا ربط له بوضع
زيد ، وكذا لا يتوقّف على وجود إحدى العلاقات المضبوطة بين المعنى المجازى
والحقيقى ، بل يتوقّف على استحسان الطبع ، فكلّ معنى غير المعنى الحقيقي استحسن
طبع أهل العرف استعمال اللفظ فيه صحّ الاستعمال فيه ، وكلّ معنى ليس كذلك لم يصحّ.
وبعبارة اخرى
يتوقّف على الانس بين اللفظ والمعنى ، نعم منشأ هذا الانس غالبا هو المناسبة بين
المعنى المجازي والمعنى الحقيقي ، وقد ينفكّ الانس عن المناسبة كما في استعمال
اللفظ في اللفظ ، فإنّه صحيح مجازا كقولك : ضرب فعل ماض ، ومن المعلوم أنّه لا
مناسبة حينئذ بين المعنى المجازي وهو اللفظ والحقيقي وهو المعنى ، بل ينفكّ المجاز
عن الحقيقة كما في استعمال اللفظ المهمل في اللفظ كقولك : ديز مهمل ، فإنّه مجاز
لعدم كونه حقيقة ولا غلطا ، فلا يكون في البين معنى حقيقي فضلا عن المناسبة بينه
وبين المعنى المجازي.
«فصل»
لا إشكال في صحّة
استعمال اللفظ في نوعه كقولك : ضرب فعل ماض ، وكذا في صنفه كقولك : ضرب في «زيد
ضرب» فعل ماض ، وكذا في شخص مثله كقولك : ضرب فعل ماض مريدا به شخص ضرب الصادر من
لافظ ، وأمّا استعماله في نفسه كزيد في قولك : زيد لفظ ، أو مركّب من ثلاثة أحرف
إذا أردت به شخص نفسه ، فقال في الفصول : في صحّته بدون تأويل نظر ، لاستلزامه
اتّحاد الدال والمدلول أو تركّب القضيّة من جزءين انتهى.
أقول : الترديد
باعتبار الاستعمال في النفس وعدم الاستعمال ، فرتّب على الأوّل اتّحاد الدالّ
والمدلول ، وعلى الثاني تركّب القضيّة من جزءين ، وما ذكره في الشقّ الأوّل صحيح
ولكن الشقّ الثاني مستدرك ؛ لأنّ المفروض استعمال اللفظ في نفسه ، ففرض عدم
الاستعمال خروج عن المفروض.
والإنصاف عدم جواز
استعمال اللفظ في شخص نفسه لما ذكره المستدلّ من الاتّحاد؛ فإنّ قضيّة الاستعمال
أن يتعقّل معنى ويجعل اللفظ حاكيا ومرآتا ، وهذا لا يتحقّق إلّا بالاثنينيّة
والتعدّد.
لا يقال : يكفي
التعدّد الاعتباري بأن يقال : إنّ لفظ زيد مثلا من حيث إنّه لفظ صدر عن المتكلّم
دالّ ، ومن حيث إنّ شخصه ونفسه مراد مدلول.
لأنّا نقول : هذا
النحو من الاعتبار يطرئه بعد الاستعمال ، فلو أردنا تصحيح الاستعمال بهذا النحو من
التعدّد يلزم الدور.
ولكن أورد في
الكفاية على ما ذكره في الشقّ الأوّل بأنّه يمكن أن يقال بكفاية التعدّد الاعتباري
بين الدالّ والمدلول ، فيكون اللفظ باعتبار أنّه لفظ صادر من المتكلّم دالّا ،
وباعتبار أنّه مراد له مدلولا.
أقول : وهذا
يستلزم الدور ؛ لأنّ وصف الداليّة والمدلوليّة يتوقّف على التعدّد وهو يتوقّف على
وصف المراديّة ، ووصف المراديّة مع وصف الداليّة والمدلوليّة في مرتبة واحدة ، فما
يتوقّف على الأوّل يتوقّف على الثاني أيضا.
«فصل»
هل يمكن أن يقال زيد مجردا عن الدلالة على شيء أصلا بقصد إلقاء الموضوع في
عالم الخارج ويحكم على الصوت الخارجي المشتمل على «زاء» «ياء» «دال» بأنّه لفظ أو
لا يمكن؟ توضيح المقام يحتاج إلى بيان مقدّمتين.
الاولى : لا شكّ
أنّ تركيب القضيّة لا يمكن إلّا بتوسيط الذهن ، فلا بدّ أن يكون الحمل بين شيئين
ذهنيين في طرف التقرّر ؛ ضرورة اقتضاء الحمل وجود شيئين بجعل
أحدهما موضوعا
والآخر محمولا ، وذلك يكون أبدا في الذهن ، ولا بدّله من الايجاد إمّا في ظرف
الخارج أو في ظرف الذهن ليكون الحمل باعتباره ، وذلك بأن نلاحظ في الذهن صورة
الموضوع مجرّدا عن المحمول ، وصورة المحمول مجرّدا عن الموضوع ونقطع النظر عن وصف
الذهنيّة والتجريد ، ونحكم بأنّ هذين الشيئين الذين هما اثنان في ظرف التقرّر واحد
في الخارج أو في الذهن ، فعلم أنّ وصف تجريد كلّ من الموضوع والمحمول من الآخر لا
بدّ منه في تحقّق القضيّة وهو لا يتحقّق في الخارج ؛ ضرورة أنّهما فيه واحد ،
فالموضوعيّة والمحموليّة وصفان طارئان على الذهني في ظرف التجريد بلحاظ حكايته عن
الواقع ، لا على الخارجي بخارجيته، فبمجرّد تحقّق زيد قائم في قائم الخارج لا
يتحقّق القضيّة ما لم ترتب صورتها في ذهن ذاهن.
الثانية : لا بدّ
أن يكون الموضوع منظورا إليه بالنظر الفراغي ، يعنى يفرض مفروغا عن وجوده في موطنه
من خارج أو ذهن وإن لم يكن موجودا واقعا فلنفرض كذلك كما في موضوع القضيّة الكاذبة
، ضرورة أنّ إثبات اللوازم والأحكام لشيء فرع ثبوت هذا الشيء وبعد الفراغ عن نفسه
، فالمتكلّم بالقضيّة المريد لإثبات المحمول للموضوع يكون نظره إلى الموضوع نظرا
فراغيّا لا محالة ، ولا يمكن إثبات شيء لشيء في غير هذا النظر ، ومفروغيّة كلّ شيء
بحسبه ، ففي مثل «الإنسان حيوان ناطق» أو «زيد موجود» هي مفروغيّة الطبيعة
المقرّرة بحسب ظرف التقرّر وفي مثل «زيد قائم» هي مفروغيّة الوجود الخارجي ، وفي
مثل «علمي قليل» هي مفروغيّة الوجود الذهني.
إذا عرفت
المقدمتان علم أنّ زيدا في المثال لا يكون موضوعا من جهتين ، الاولى : أنّه أمر
خارجي ، وقد مرّ في المقدّمة الاولى أنّ الخارجي لا يتّصف بالموضوعيّة ، الثانية :
أنّه غير متصوّر بالتصوّر الفراغي بل بالتصوّر المقدّمي للايجاد ، وهو غير كاف في
الموضوع ، فلا بدّ أن يتصوّر ثانيا مفروغا عنه ، فيكون هذا المتصوّر الثاني
موضوعا.
لكن في الكفاية
بعد تصوير جعل شخص اللفظ موضوعا فيما إذا كان الحكم معلّقا عليه من حيث الخصوصيّة
عمّم ذلك لصورتي إرادة النوع والصنف فقال : بل يمكن أن يقال: إنّه ليس أيضا من هذا
الباب أي باب الاستعمال ، بل يكون من باب الموضوع ما إذا اطلق اللفظ واريد به نوعه
أو صنفه ، إلى قوله قدسسره : الخامس.
وحاصل مجموع
الكلام من الاستدراك وما قبله إلى أنّ القضايا التي حكم فيها على اللفظ على قسمين
، لأنّه إمّا أن يكون الحكم فيها ساريا إلى الفرد الذي تكلّم به المتكلّم ، وإمّا
أن لا يكون ساريا إليه ، فعلى الثاني كما في قولنا : «ضرب فعل ماض» أو «زيد في ضرب
زيد فاعل» تعيّن كون التكلّم بالموضوع من باب الاستعمال.
وعلى الأوّل كما
في قولنا : «ضرب ثلاثي» أو «زيد في ضرب زيد لفظ» يمكن أن يكون من باب الموضوع ،
بأن كان المتكلّم وإن أحضر شخص اللفظ للمخاطب إلّا أنّه حكم بلحاظ الجامع ومع
إلغاء الخصوصيّة لا بلحاظها.
ويمكن أن يكون من
باب الاستعمال بأن يكون لفظ زيد في المثال مثلا مستعملا في جامع «زاء ياء دال» على
هذه الهيئة نوع استعمال الالفاظ في معانيها ، وقد عرفت أنّ شخص اللفظ لا يصلح
للموضوعيّة ؛ لكونه متصوّرا بالتصوّر الإيجادي وهو غير كاف في الموضوع بل لا بدّ
أن يتصوّر مفروغا عنه ، ولا فرق في ذلك بين ما إذا كان الحكم معلّقا على شخص اللفظ
أو على الجامع.
فنقول في المقام :
لا شكّ أنّ المتكلّم لا بدّ أن يتصوّر الجامع قبل المحمول ، فهذا الجامع المتصوّر
يكون موضوعا ، وإيجاد اللفظ غير مرتبط به.
«فصل»
هل الألفاظ
المفردة موضوعة بإزاء المعاني المتقرّرة المعرّاة عن الوجود الخارجي والذهني أو
لها بوصف كونها ملحوظة في الذهن؟ قد استدلّ للأوّل بأنّ الثاني مستلزم لثلاثة توال
فاسدة :
الأوّل : أنّ من
المعلوم صحّة الحمل في القضايا من دون تجريد ، وعلى هذا يتوقّف
صحّته على التجريد
؛ ضرورة أنّ مفهوم زيد المقيّد باللحاظ الذهني مباين لمفهوم قائم المقيّد به ،
وكلّ منهما مباين للخارج ، فلا يحمل أحدهما على الآخر ، ولا شيء منهما على الخارج
، والقيد وإن كان خارجا إلّا أنّ التقيّد داخل ، فصحّة الحمل يتوقّف على تجريد
اللفظ من جزء معناه وهو التقيّد باللحاظ.
الثاني : أنّ من
المعلوم توقّف الاستعمال على تصوّر المعنى بتمامه ، فلو كانت الألفاظ موضوعة بإزاء
المعاني المتصوّرة يلزم أن يكون الاستعمال محتاجا إلى تصوّرين ، الأوّل تصوّر ذات
المعنى للتكميل ، والثاني تصوّر المعنى المتصوّر للاستعمال ، والوجدان شاهد بكفاية
تصوّر واحد في مقام الاستعمال.
الثالث : يلزم أن يكون
وضع مثل لفظ الإنسان والأسد والغنم ونحوها من أسماء الأجناس عامّا والموضوع له
خاصّا ؛ وذلك لأنّ المفهوم المقيّد بالتصوّر الخارجي جزئي حقيقي.
فإن قلت : إنّا
نأخذ التصوّر قيدا لكن لا بخارجيّته ، بل بما هو مفهوم كسائر المفاهيم له خارج وهو
النفس ، وذهن وهو تصوّر هذا المفهوم ، وتقرّر ، ومن المعلوم أنّ ضمّ كلّي إلى كلّي
آخر لا يصيّره جزئيّا حقيقيّا ، فيكون معنى لفظ الأسد مثلا هو الأسد المتصوّر.
قلت : منشأ هذا
النزاع كون المستعمل في مقام الاستعمال محتاجا إلى التصوّر الفعلي للمعنى فقيل
بجزئيّة هذا التصوّر للمعنى ، وقيل بعدم جزئيّته ، وأنت إذا تسلّمت عدم جزئيّته
فلا داعي لك إلى إدخال مفهوم من المفاهيم المتقرّرة في المعنى لتكون دائرة المعنى
بسببه مضيّقا.
والجواب عن الأوّل
أوّلا بالنقض بأسماء الأجناس ؛ فإنّها موضوعة للجهة الجامعة ، وهي عبارة عمّا يؤخذ
من الأفراد بعد إلغاء جميع الخصوصيّات ، فالتجريد عن جميع الخصوصيّات مأخوذ قيدا
وحالا لمعنى هذه الألفاظ ، ومن المعلوم أنّ المعنى المتّصف بالتجريد يباين
الخارجيّات ، فكيف يصحّ حمله عليها؟ ولو لم يكن نفس المعنى مجرّدا بل كان أعمّ
بحيث لائم مع المجرّد ومع غيره لوجب أن يكون
استعمال اللفظ في
الخاص من حيث الخصوصيّة حقيقة ، وظاهرهم الإطباق على مجازيّته.
فإن قلت : فرق بين
اللابشرط القسمي والبشرطلا ، وبعبارة اخرى بين عدم اللحاظ ولحاظ العدم ، والمقام
من قبيل الأوّل لا الثاني ، فالواضع لم يلاحظ مع المعنى شيئا من الخصوصيّات لا
أنّه لا خط التجريد معه.
قلت : مفهوم الرجل
مثلا له ثلاثة تصوّرات :
الأوّل : تصوّر
زيد ، فإنّه تصوّر للرجوليّة المندكّة فيه ،
الثاني : تصوّر
الرجل الأسود.
الثالث : تصور
الرجل ، فإن كان الموضوع له هو المقسم لهذه الثلاثة لزم أن يكون استعمال لفظ الرجل
في الزيد حقيقة ، فلا بدّ أن يكون الموضوع له هو التصوّر الأخير ، ولا شكّ أنّه
متقوّم بالتجريد بحيث يلزم من انتفاء التجريد انتفائه ، وهذا معنى القيديّة.
وعلى هذا فيكون
ضمّ الخصوصيّة إلى معنى لفظ الرجل كضم الحجر إليه ، غاية الأمر أنّه متّحد مع
الخصوصيّة في الخارج ، ومن المعلوم أنّ شيئا من الخارجيّات لا يكون متّصفا
بالتجريد البتّة.
وكذا الكلام فيما
نحن فيه ؛ فإنّه إذا تصوّر أحد مفهوم الرجل وكان تصوّره طريقا وحاكيا للخارج ،
وتصوّره آخر وكان قيد الملحوظيّة ملحوظا عنده مستقلا ، فإذا اطّلع ثالث عليهما
فكما أنّه يرى الثاني مقيّدا باللحاظ ، فكذا الأوّل بلا فرق ؛ ضرورة أنّ الوجود
الذهني كالوجود الخارجي ، فكما أنّ الزيد في الخارج مقيّد بالوجود الخارجي فكذا
مفهوم الرجل أيضا في ذهن اللاحظ الأوّل مقيّد باللحاظ الذهني ، غاية الأمر أنّ
اللاحظ الأوّل قد استطرق بتصوّره إلى الواقع ولم يأخذه موضوعا ولم يلحظه مستقلا ،
والثاني قد أخذه موضوعا ولاحظه مستقلا ، فالواضع تعهّد على أنّه متى تعقّل المعنى
مستطرقا إلى الواقع تكلّم باللفظ فيصير اللفظ بذلك أمارة على تعقّل المعنى كذلك ،
والاستعمال عبارة عن جريه على طبق تعهّده ، فاللفظ حاك عن
الصورة الذهنيّة وهي
حاكية عن الخارج.
فنقول في مقام
الحلّ : إنّ التصوّر الاستطراقي لا يراه اللاحظ مستقلا حين لحاظه وإن كان ربّما
يلتفت إليه كالتفات العالم إلى علمه والناظر بالباصرة إلى نظره ، بل يتخيّل أنّه
ليس في البين إلّا ذات المعنى ، ولهذا يقبح عنده حمله على الخارجيّات بخلاف الثالث
الذي يرى تقيّد المعنى في ذهنه باللحاظ ؛ فإنّه يحكم بمباينته للخارجيّات ،
فالواضع وضع اللفظ لمعنى يكون متحقّقا مع تتمّته في ذهن المستعمل أبدا ، لكن
المستعمل حين الاستعمال لا يرى هذه التّتمة ، وهذا نظير ما عرفت في الحروف من
أنّها موضوعة لمعان لا يمكن للمستعمل لحاظها مستقلا حال الاستعمال ، بل لا بدّ من
لحاظها حالة في الغير أبدا.
فكما وضع الواضع
اسم الجنس للمعنى المتّصف بالتجريد ، لكن إذا قطع النظر عن تجريده ولم يلاحظ قيدا
ووصفا له حتّى ينطبق على الخارجيّات ، فكذا يمكن ذلك في التصوّر أيضا بأن يتعهد
الواضع على أنّه متى تعقّل هذا المعنى ولم يلاحظ هذا التعقّل وصفا وحالا له بل
جعله طريقا للواقع تكلّم بهذا اللفظ ، فاتّصاف المعنى بكونه موضوعا له نظير اتّصاف
الطبيعة بالكليّة.
بيان ذلك : أنّ
العوارض لا يعرض على الطبيعة إلّا إذا وجدت إمّا في الخارج كبرودة الماء وحرارة
النار ، أو في الذهن ؛ ضرورة أنّ الطبيعة معرّاة عن جميع العوارض خارج هذين
العالمين ؛ لأنّ وجود العرض فرع وجود المعروض والطبيعة خارج العالمين لا شيء ؛ إذ
ليس ورائهما عالم آخر ، وهذا معنى قولهم :
«الطبيعة من حيث
هي ليست إلّا هي» يعني أنّ الماهيّة المهملة لا تكون كليّة ولا جزئيّة ؛ لأنّها
ليست بموجودة في شيء من العالمين بل هي معرّاة عن عرض كونها ليست إلّا هي أيضا.
فالتعبير به من
باب ضيق العبارة ، فلا بدّ أن يتحقّق الطبيعة في الذهن مجرّدة عن جميع الخصوصيّات
حتّى ينطبق على الخارجيّات ، فوصف الكليّة إنّما يعرض على الطبيعة في حال
الملحوظيّة والتجريد بحيث لو سلب عنها هذا الحال انتفى هذا
الوصف ، لكنّ
الطبيعة الملحوظة جزئي ذهني مباين للخارجيّات فلا يتّصف بالكليّة والصدق عليها ،
فلا بدّ أن يصير وصف الذهنيّة والتجريد ملغى بعد ثبوته واقعا ، وبعبارة اخرى لا بدّ
من التخلية عنه بعد التخلية به.
والجواب عن الثاني
أوّلا : بالتكلّم في مدرك هذا المطلب أعني : لزوم تصوّر المعنى في الاستعمال فنقول
: لا مدرك له سوى كلمات العلماء ، وقد جرت العادة على تسمية ما يتعلّق به قصد
المتكلّم وإرادته عند الاستعمال باسم المعنى ، فالمراد بهذا اللفظ اصطلاحا بل لغة
أيضا هو ما قصد من اللفظ لا ما وضع له ، وتصوّر المعنى بهذا المعنى لازم بلا
إشكال.
وثانيا : بأنّه لا
فرق في هذا المقام بين القولين ؛ إذ القائل الأوّل يقول : بأنّ هنا مرحلتين :
الاولى جعل المقابلة والاختصاص بين اللفظ وذات المعنى ، والثانية استعمال اللفظ في
المعنى ، وتصوّر المعنى لا بدّ منه لتحقّق الاستعمال فهو من مقوّمات الاستعمال ،
وهو متأخّر رتبة عن الوضع ، ولا شكّ أنّ غرض كلّ مستعمل ومقصودة هو تصيير مخاطبه
منتقلا إلى مراده بتوسط اللفظ ، ولا شكّ أيضا أنّ هذا المقصود ليس مغفولا عنه في
نظر المستعمل ، بل هو ملتفت إليه فلزم أن يتصوّر علاوة على ذات المعنى وصف كونه
مرادا له أيضا ، فهذا القائل لا بدّ له من الالتزام بذلك في مقام الاستعمال ،
والقائل الآخر أيضا لا يلتزم بشيء أزيد من هذا حتّى يوجب هذا الشيء فساد كلامه ،
غاية الأمر أنّه يقول بأنّ جعل اللفظ مقابلا لذات المعنى محال ، فالوضع عبارة عن
التعهّد على التّلفظ باللفظ عند إرادة المعنى ، والاستعمال عبارة عن متابعة هذا
التعهّد والجري على طبقه.
فإن قلت : إنّ
القائل الأوّل لا يلتزم بأنّ مقصود المستعمل تصيّر مخاطبه منتقلا إلى إرادة المعنى
بتوسّط اللفظ بل إلى ذاته.
قلت : لو كان
الأمر كذلك فلم يصر المتكلّم مذموما عند كذب القضيّة بل وجب أن يكون حاله حال سائر
الناس بالنسبة إلى هذه القضية ، فليس ذلك إلّا لموضوعيّة إرادته وعقده القلبي وقصد
إظهاره باللفظ.
والجواب عن الثالث
أنّه قد جرى الاصطلاح على أنّه متى كان المعنى المتصوّر حال الوضع خاصّا كان كلّ
من الوضع والموضوع له خاصّا ، ومتى كان عامّا فإن كان تعهّد الواضع على التلفّظ
باللفظ عند إرادة نفس العام كان كلّ منهما عامّا ، وإن كان على التلفّظ به عند
إرادة جزئياته كان الوضع عامّا والموضوع له خاصّا ، ولا مشاحة في الاصطلاح.
ثمّ إنّه قد اشتهر
عن الشيخ الرئيس أنّ الدلالة تتبع الإرادة وهو ظاهر الانطباق على ما ذكرنا ؛ إذ
مفاده أنّ الدلالة التصديقيّة الثانية للفظ بالوضع على أنّ المعنى مراد للمتكلّم
تابعة لإرادة المتكلّم للمعنى واقعا ، وما نرى من الانتقال إلى المعنى من الألفاظ
وإن صدرت من غير الشاعر فهو من باب انس الذهن وليس من باب الدلالة ، ألا ترى أنّه
لو صرّح واحد بأنّي ما وضعت اللفظ الكذائي بإزاء المعنى الكذائي وسمع منه الناس
هذه القضيّة ينتقلون إلى ذلك المعنى عند سماع ذلك اللفظ مع أنّ هذا ليس من باب
الدلالة قطعا.
لكن في الكفاية
عند توجيه هذه العبارة ما حاصله أنّ الدلالة على قسمين :
الدلالة التصوّرية
أعني كون سماع اللفظ موجبا لإخطار المعنى في البال وهذه هي الدلالة الثابتة للفظ
بسبب الوضع ، وحيث إنّها لا يتوقّف على إحراز كون اللافظ عاقلا شاعرا مختارا فضلا
عن كونه مريدا ، بل يحصل عند صدور اللفظ من الجماد أو سماعه من وراء الجدار بحيث
لم يعلم أنّ اللافظ شاعر أم لا ، فلهذا لا يمكن حمل الدلالة في العبارة على هذه.
الثانى : الدلالة
التصديقيّة اعني : التصديق والحكم بأنّ المعنى مراد للمتكلّم وهي متوقّفة على
إحراز كون المتكلّم شاعرا مختارا وكونه بصدد الإفادة ، فحينئذ يحصل التصديق بأنه
مريد للمعنى بحكم العقل لا بسبب الوضع ، والمراد من العبارة أنّ هذه الدلالة
التصديقيّة العقلية تابعة للإرادة تبعيّة مقام الإثبات للثبوت والكاشف للواقع
المكشوف.
أقول : الوضع من
حيث إنّه شيء جعل الواضع نفسه في قيده إنّما يناسب أن
ينسب إليه الدلالة
التصديقيّة لا التصوّريّة ؛ إذ هي كما يحصل منه يحصل من غيره أيضا ، كما لو حصل
عند التّلفظ بلفظ واقعة جديدة فإنّه يصير موجبا لصيرورة هذه الواقعة حاضرة في
الذهن متى سمع هذا اللفظ ، وكما لو نادى الواضع بين الناس : إنّى ما وضعت هذا
اللفظ لهذا المعنى ، فإنّ هذا النداء يوجب لحضور هذا المعنى في الذهن عند سماع هذا
اللفظ.
«فصل»
لا شكّ أنّ الجمل
الفارسيّة حيث إنّها مشتملة على لفظة «است» و «نيست» الدالّة على النسبة فلا حاجة
فيها إلى التزام وضع نوعي للهيئة ولا شخصى للمجموع منها ومن المادّة ، وكذا الجمل
الإنشائيّة كاضرب زيدا ؛ إذ مفرداتها تشتمل على وضع يتمّ به القضيّة ، وكذا بعض
الجمل الخبريّة العربيّة وهو ما اشتمل منها على لفظة «كان وليس» وما أفاد
مؤدّاهما.
وأمّا ما ليس منها
كذلك كقولنا : زيد قائم فلا بدّ فيها من القول بأنّ هيئتها موضوعة للنسبة لكن
نوعيّا لا شخصيّا بأن يكون لكلّ هيئة قائمة بكلّ مادّة وضع على حدّه ؛ ضرورة
أنّه لا داعي إلى الثاني بعد إمكان الأوّل ، وكذا لا حاجة بعد ثبوت الوضع للهيئة
بإزاء النسبة نوعيّا إلى ثبوته لمجموع الهيئة والمادّة بإزاء مجموع الطرفين ،
والنسبة شخصيّا بحيث كان كلمة زيد في قولنا : زيد قائم بمنزلة الزاء في كلمة زيد ،
فإنّ ذلك مضافا إلى لغويّته يشهد وجدان كلّ احد ببطلانه ، وكلام القائل بالوضع
للمركّبات محتمل لكلّ من هذه الثلاثة.
__________________
«فصل»
لا شكّ أنّ فائدة
الفراغ عن معنى اللفظ من أيّ طريق كان هو عدم حاجة المكلّف في مقام العمل إلى
إجراء الأصل من البراءة والاحتياط ونحوهما ، فلو علم أنّ معنى لفظ الصعيد في قوله
: «فتيمّموا صعيدا» هو مطلق وجه الأرض الشامل للرمل والطين مثلا لم يحتج عند
وجدانهما مع التراب الخالص إلى الاحتياط بالتيمّم به ، ولا عند وجدانهما مع فقده
إلى الاحتياط بالتيمّم بهما ثمّ القضاء بعد ذلك مثلا.
ولا شكّ أنّ تبادر
معنى من لفظ من حاقّه بحيث علم أنّه لا قرينة في البين أصلا شاهد قطعيّ بأنّ
استناد هذا التبادر إلى الوضع ، ضرورة عدم مناسبة بين شيء من الالفاظ وبين شيء من
المعانى قبل الوضع أصلا.
ثمّ إنّ هذا
التبادر يكون على قسمين :
الأوّل : أن يكون
عند العالم باللسان ويكون المستعلم هو الجاهل به كما لو شاهد شخص من العجم أنّ
شخصا من العرب قال لصاحبه : جئني بالخبز ، فأتاه بالطعام المعهود فيعلم أنّ لفظ
الخبز موضوع لجامع هذا الطعام ، وهذا القسم لا إشكال فيه.
الثاني : أن يكون
التبادر عند نفس المستعلم فيكون الشخص الواحد مستفتيا ومجيبا معا ، وقد استشكل على
هذا القسم بأنّه لا شكّ أنّ تبادر المعنى من اللفظ يتوقّف على العلم بأنّه معناه ؛
ضرورة أنّ الترك لا يفهم معنى اللفظ العربي قطعا ، فلو كان العلم بأنّه معناه
متوقّفا على التبادر لزم الدور.
وقد أورد إمام
المشكّكين نظير هذا الإشكال على الشكل الأوّل الذي هو أوضح الأشكال ، بيان ما أورد
هو أنّ العلم بالكبرى بكلّيتها متوقّف على العلم بالنتيجة فلا بدّ أوّلا من العلم
بأنّ العالم مثلا حادث لأنّه من أفراد المتغيّر ، فبدون العلم بحدوثه كيف يحصل
العلم بأنّ كلّ متغيّر حادث؟ فلو كان العلم بالنتيجة متوقّفا على العلم بالصغرى
والكبرى ونتيجة الاستدلال بهما لزم الدور.
والجواب عن هذا
الإشكال في الشكل الأوّل بالفرق بين الموقوف والموقوف
عليه بالإجمال
والتفصيل ، بيانه أنّ استعلام وجوب إكرام زيد بالخصوص مثلا من أجزاء علمه ، وأنّ
كلّ عالم واجب الإكرام لا ينافيه علم المستعلم بأنّ كلّ عالم واجب الإكرام ؛ لأنّ
من الواضح أنّ العلم بذلك لا يتوقّف على العلم بوجوب إكرام كلّ فرد فرد من العالم
تفصيلا، فالموقوف عليه هو العلم بوجوب إكرام زيد إجمالا وبعنوان أنّه فرد للعالم ،
والموقوف هو العلم بوجوب إكرامه تفصيلا وبعنوان أنّه زيد.
والجواب عنه في
التبادر أنّ ما يتوقّف عليه التبادر هو العلم الارتكازي وما يتوقّف على التبادر هو
العلم التفصيلي.
توضيح ذلك في عكس
ما نحن فيه وهو ما إذ كان المعنى معلوما واللفظ غير معلوم هو أنّه مثلا لو فرض أنّ
لك صديقا اسمه الحسن لكنّك نسيت اسمه فلا شكّ أنّك حينئذ كلّما عرضت على ذهنك لفظا
غير لفظ الحسن كلفظ محمّد وأحمد وعلى وحسين ونحوها يأباه الذهن حتّى إذا عرضت عليه
لفظ الحسن يقبله سريعا ويحكم بأنّه اسم هذا الصديق ، فثبت أنّ هنا علمين ، علما
ارتكازيا حاصلا قبل القبول ، والدليل على وجوده هو الامتناع والقبول المذكوران ،
وعلما تفصيليّا حاصلا بعده ، فما يتوقّف عليه القبول هو الأوّل ، وما يتوقّف على القبول
هو الثانى.
فنقول فيما نحن
فيه مثلا : لو فرض أنّك كنت من الأعراب أو مأنوسا بلغتهم واستعملت لفظة الماء في
كلامك مرارا غير شاكّ في معناه أصلا لكن عرض لك كثرة المجالسة مع العجم ، وكثر
التشكيك بين علمائهم فضلا عن عوامهم في بعض أقسام الماء فاشتبه الأمر بسبب ذلك
عليك أيضا ، فشككت أنّ لفظ الماء موضوع للطبيعة الخاصّة فيما إذا كانت خالصة عن
غيرها بالحسّ لا بالدقّة العقليّة أو لما هو أعم من ذلك بحيث يشمل وقية منها فيها
ربع من التراب ، فلا شكّ أنّك حينئذ كلما عرضت على ذهنك لفظا غير لفظ الماء كلفظ
الحمار والفرس والشجر ونحوها ليكون اسما لغير الخالص يأباه الذهن ، ومتى عرضت عليه
هذا اللفظ لم يأب منه ، فهذا الامتناع وهذا القبول يدلّان على أنّ لفظ الماء موضوع
للأعمّ من الخالص ؛ إذا المفروض أنّك كنت في السابق عالما بمعنى اللفظ بوجه صحيح.
هذا فيما إذا كان
الشكّ في أضيقيّة المفهوم وأوسعيّته ، وكذا فيما إذا كان الشكّ في أصل المعنى
فيعرض المعاني على الذهن واحدا بعد واحد مع اللفظ ، فإذا قبل الذهن واحدا منها
يحكم بأنّه معنى اللفظ.
هذا إذا كان جهل
المستعلم مسبوقا بالعلم فيكون القبول وعدم القبول عنده موجبا لحصول العلم له بمعنى
اللفظ ، وليس برهانا ودليلا عقليّا حتّى يلزم به الخصم ، وأمّا إذ كان جهله
ابتدائيّا غير مسبوق بالعلم أصلا فحينئذ لا يمكن حصول التبادر عنده ، فالمقصود من
التبادر الذي ذكر أنّه علامة للحقيقة إنّما هو التبادر عند أهل اللسان لغيرهم
والتبادر عند المستعلم الذي كان عالما في السابق.
ثمّ إنّ أصالة
الحقيقة المعبّر عنها بأصالة عدم القرينة أيضا مقيّدة عند الشكّ في أنّ استناد
التبادر إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة ، فلو شكّ أعجمي عند قول عربي لعربيّ آخر :
جئني بالأسد ، وإتيانه برجل شجاع في أنّ لفظ الأسد موضوع لمطلق الشجاع أو للحيوان
المفترس واريد الرجل الشجاع بقرينة من حال أو مقال قد اختفت عليه ، وبعبارة اخرى
في أنّ استناد فهم المخاطب إلى حاقّ اللفظ أو إلى القرينة المخفيّة ، فحينئذ يحكم
بمقتضى أصالة الحقيقة المفروغ عن حجيّتها بناء العقلاء بأنّ هذا اللفظ موضوع
للمعنى الأعمّ وأنّ استناد فهم المخاطب إلى نفس اللفظ.
فإن قلت : إنّ
القدر المتيقّن من حجيّة هذا الأصل والمسلّم من بناء العقلاء على العمل به إنّما
هو في صورة الشكّ في المراد بمعنى أنّه لو علم أنّ لفظ الأسد مثلا حقيقة في
الحيوان المفترس ومجازا في الرجل الشجاع وشكّ في أنّ مراد المتكلّم هو الأوّل أو
الثاني بالقرينة المخفيّة فحينئذ يحكم بمقتضى هذا الأصل بأنّ المراد هو الأوّل ،
وأمّا في صورة الشكّ في الوضع والعلم بالمراد فلا يصحّ التمسّك به ، وبالجملة أنّ
هذا الأصل حجّة في الشبهة المراديّة لا في الشبهة الوضعيّة.
قلت : قد استعمل شيخنا
العلّامة قدسسره نظير هذا حيث ذكر ما حاصله أنّه لو ورد أكرم العلماء وعلم
من الخارج بأنّ زيدا لا يجب إكرامه ، سواء كان عالما أو جاهلا وشكّ في أنّه عالم
حتّى يكون العالم المذكور مخصّصا ، أو ليس بعالم حتّى لا
يكون كذلك ،
فحينئذ يحكم بمقتضى أصالة عدم التخصيص بعدم عالميّته ، إلى غير ذلك من الموارد
المتفرّقة في مكاسبه ، ويظهر من ذلك ميله قدسسره إلى حجّية الاصول اللفظيّة في غير موارد الشبهة المراديّة
من موارد الشبهة في التصرّفات اللفظيّة ونحوها.
ويظهر ذلك أيضا من
سيّدنا المرتضى قدسسره حيث إنّه قائل بظهور الاستعمال في الحقيقة من دون فرق بين
كونه في معنى واحد أو معنيين وأكثر ، كما أنّ كلام من قال بأنّ الاستعمال أعم من
الحقيقة والمجاز ناص في عدم حجيّة أصالة الحقيقة في غير موارد الشبهة في المراد.
وبالجملة فإن ثبت
حجّية الاصول اللفظيّة في غير مورد الشبهة المراديّة فهو المطلوب وإلّا فحيث إنّ
دليلها لبّي ، لا بدّ أن يقتصر فيها على القدر المتيقّن منه من موارد الشبهة في
المراد ، وحينئذ فتبادر المعنى من اللفظ عند العالم بالوضع إنّما يصلح علامة على
الحقيقة للجاهل في مورد العلم باستناده إلى نفس اللفظ ، وأمّا في مورد احتمال
الاستناد إلى قرينة خفيت عليه فلا يتحقّق العلامة ؛ لعدم إمكان إحراز جزئها أعني
ثبوت الاستناد إلى نفس اللفظ بأصالة عدم القرينة.
ثمّ إنّ عدم صحّة
السلب علامة الحقيقة كما أنّ صحّة السلب علامة المجاز ، وإشكال الدور جار هنا ،
وجوابه هو ما تقدّم من الفرق بين الموقوف والموقوف عليه بالإجمال والتفصيل أو
بالإضافة إلى العالم والمستعلم.
ثمّ إنّهم ذكروا
الاطّراد علامة للحقيقة وعدم الاطّراد علامة للمجاز ، ويحتمل أن يكون المراد
بالاطّراد أحد معنيين :
الأوّل : شيوع
تطبيق اللفظ على أفراد مفهوم بين أهل اللسان ، مثاله لو راى هنديّ أنّ فارسيّا قال
لخادمه : «ببر اين چغندر را به خانه» فأطلق مفهوم لفظ «چغندر» على هذا الشيء
الخارجي ، فعند ذلك يحتمل هذا الهندي أن يكون هذا الشيء مصداقا حقيقيّا للمفهوم
الحقيقي لهذا اللفظ ، وأن يكون مصداقا ادعائيّا له من باب الحقيقة الادّعائيّة التي
أثبته السكّاكي ، وأن يكون هذا اللفظ مستعملا في
المفهوم المجازي
بقرينة قد اختفت عليه ويكون الإطلاق باعتباره.
فإذا صبر أيّاما
متردّدا في السوق وتتّبع محاورات أهله وعثر على مقدار شائع كبير من هذا الإطلاق
أعني إطلاق مفهوم لفظ «چغندر» على أمثال الشيء السابق فلا شكّ أنّ هذا مورث للقطع
بالاحتمال الأوّل وعدم الأخيرين ، ضرورة أنّ الحقيقة الادّعائية لو سلّمت فإنّما
هي في مقامات يطلب فيها البلاغة كمقام إنشاء الخطبة والشعر ونحوهما ، لا في مثل
محاورات أهل العرف الصادرة منهم في ليلهم ونهارهم المتعلّقة بامور معاشهم ومعاملاتهم
ونحوها.
وعدم سماع السامعة
للقرينة اللفظيّة إنّما هو في مورد أو موردين أو ثلاثة أو أربعة لا في عشرة موردا
، وكذا خفاء القرينة الحاليّة بأن يكون متحقّقة بنجوى بين المتخاطبين أو معهودة
بينهما في السابق بحيث لم يطّلع عليها المتتبّع إنّما هو في خمسة أو ستّة أو عشرة
موردا لا في عشرين موردا.
وكون قرينة حاليّة
عامّة في البين بحيث كان جميع أهل البلد بأصنافهم المتشتّتة مطّلعين عليها يتوقّف
على جامع كأن يأمرهم شخص نافذ الكلمة على جميعهم باستعمال هذا اللفظ في معناه
المجازي الفلاني بحيث صار ذلك قرينة عامّة يستغنى بها في استعمالات هذا اللفظ عن
قرينة اخرى. ولا يخفى أنّ هذا من الاحتمالات التي لا يعتنى بها العقلاء كاحتمال
سقوط السقف.
وبالجملة ، فشأن
القرينة الحاليّة أن يكون بين اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا بين جميع الناس ،
والحاصل أنّه يحصل القطع بعدم القرينة بقول مطلق بسبب شيوع إطلاق مفهوم اللفظ على
مصداق مفهوم ، ولازم ذلك هو القطع بعدم المجازيّة.
فإن قلت : يحتمل
أن يكون في البين شهرة ويكون الاستناد إليها ومع هذا الاحتمال كيف نقطع بعدم
المجازيّة.
قلت : إنّا نفرض
هذه العلامة في مورد كان عدم الشهرة فيه مفروغا عنه بسبب كخبر مخبر صادق ، ولا
محلّ لها بالنسبة إلى غير هذا المورد ، كما لا محلّ للتبادر بالنسبة إلى العالم
بالوضع ، وعلى هذا المعنى يكون عدم الاطّراد عبارة عن عدم بقاء
اللفظ الذي اطلق
مفهومه على مصداق مفهوم كلفظ الأسد المطلق مفهومه على مصداق الرجل الشجاع في
الاستعمالات المتأخّرة المعثور عليها بالتتبع على حاله في الاستعمال الأوّل، بأن
ينكشف قرينته في الاستعمال الخامس أو السادس أو العاشر.
الثاني : شيوع
استعمال اللفظ في المعنى وعدم اختصاصه بمقام دون مقام ، وهذا المعنى يختصّ
بالحقيقة ؛ لأنّ المجاز سواء كان لغويّا أم عقليّا يحتاج إلى القرينة والعلاقة
التي يصحّ معها الاستعمال ، فاستعماله لا يطّرد في جميع المقامات بل في خصوص
مقامات وجود العلاقة المذكورة والقرينة ، ومطلوبيّة الفصاحة كاختصاص التأكيد في
الكلام بمقامات خاصّة بخلاف المعنى الأوّل ؛ فإنّه ثابت في المجاز أيضا لكنّه فيه
مع إدراك العلاقة المذكورة والقرنية ، وقد عرفت أنّه في الحقيقة كاشف عن عدم
القرينة.
«فصل»
لا شكّ أنّ حمل
اللفظ على المعنى الحقيقي ما دام ممكنا هو المتعيّن ، وكذا سائر حالاته المطابقة
للأصل ، لكن إذا دار الأمر بين حالين أو أكثر من الأحوال المخالفة له فأيّها مرجّح؟
ذكروا وجوه ترجيح لبعضها على بعض ، لكنّها وجوه اعتبار لا اعتبار بها ولم يثبت
حجيّتها بالتعبّد ، نعم إن اوجبت ظهورا في اللفظ فهي متّبعة وإلّا فلا.
«فصل»
لا شكّ في كون
ألفاظ العبادات كالصلاة والصيام والزكاة ونحوها حقيقة في زماننا في معانيها
الشرعيّة ، إنّما الشكّ فيها في زمان الشارع ، ففيها ثلاثة احتمالات :
الأوّل : أن يضعها
الشارع بإزاء هذه المعاني بالوضع التعييني.
الثاني : أن يكون
قد استعملها فيها مجازا ثمّ صارت بكثرة الاستعمال حقيقة بالوضع التعيّنى ، وعلى
هذا فمبدأ حصول الوضع ليس بمعلوم.
الثالث : ـ وهو
المنقول عن الباقلاني ـ أن يكون قد استعملها في معانيها اللغويّة
كالصلاة في الدعاء
، والقيود الزائدة قيود للمطلوب ، ولها دوالّ أخر لا بمسمّى اللفظ ، وحصول الوضع
التعييني التصريحي أعني : ما كان بلفظ وضعت ونحوه من الشارع بالنسبة إلى هذه
الألفاظ ممّا ينبغي أن يعلم بعدمه ، لا أقلّ من كونه مستعبدا أو كون مدّعي القطع
به مكابرا.
نعم قد يحصل الوضع
التعييني بالاستعمال كما قد يتّفق في وضع الأعلام الشخصيّة كقول الوالد : جئني
بحسن مشيرا إلى المولود مريدا تسميته بهذا الإسم بهذا الاستعمال ، ويحتاج هذا
الاستعمال إلى القرينة لكن لا كقرينة المجاز ، بل لإفهام أنّ المتكلّم واضع للفظ
بإزاء المعنى كالإشارة إلى المولود في المثال ، فهذا القسم من التعييني وإن كان لا
يمكن إدّعاء الجزم بصدوره من الشارع في هذه الألفاظ لكنّه غير مستبعد.
ثمّ إنّ في
الكفاية تصريحا بأنّ هذا الاستعمال ليس بحقيقة ولا مجاز ، أمّا عدم المجازيّة
فلأنّه ربّما لا يكون للفظ معنى حقيقي ، وعلى فرضه فالعلاقة بينه وبين المستعمل
فيه غير ملحوظة ، وأمّا عدم كونه حقيقة فلأنّ المتكلّم قاصد إحداث الوضع بهذا
الاستعمال ، فلا وجود للوضع حين الاستعمال حتّى يكون في الموضوع له ولا ضير في
التزام ذلك ؛ إذا لمناط في صحّة الاستعمال هو قبول الطبع وهو موجود في المقام.
لكن يمكن أن يقال
بأنّ الوضع الذي هو أمر نفسي قد حصل في نفس المتكلّم قبل الاستعمال ، غاية الأمر
أنّه أظهره بالاستعمال ، فهذا الاستعمال كاشف عن كون المعنى موضوعا له للفظ بحسب
الجعل القلبي ، واستعمال في الموضوع له معا نظير قول ذي الخيار : بعت قبل قوله :
فسخت ؛ فإنّه كاشف عن أمرين طوليين : انتقال المال من المشتري الأوّل إلى البائع ،
وانتقاله من البائع إلى المشتري الثاني ، فيكون البيع واقعا في ملك نفسه ، بل
المقام أولى بالجواز ؛ لأنّ الفسخ القلبي بمجرّده لا يكفي في التمليك ، بل للكاشف
موضوعيّة ومدخليّة في التأثير بخلاف الوضع ؛ فإنّه يتحقّق بمجرّد الجعل القلبي من
دون توقّف على الكاشف.
هذا على المختار
من كون الألفاظ الإنشائيّة كاشفة عن معانيها ، وأمّا على القول بكونها مولّدة لها
فالاستعمال المذكور مولّد للوضع فلا تحقّق للوضع حينه ، فيتمّ ما ذكرهقدسسره.
ثمّ إنّ في
الكفاية أيضا ما معناه أنّه على تقدير عدم كون هذه المعاني مستحدثة في شرعنا
وثبوتها في الشرائع السابقة كما هو قضيّة قوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما
دُمْتُ حَيًّا) وقوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)
وقوله تعالى : (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) فالفاظها حقايق لغوية لا شرعيّة ولا يضرّ اختلافها في
الكيفيّات بحسب الشرائع ؛ لكونه اختلافا في المصاديق لا في الماهيّات ، نظير
اختلاف الصلاة بحسب الحالات في شرعنا.
وأنت خبير بأنّ
الآيات وإن كانت تدلّ على ثبوت هذه الحقائق في الشرائع السابقة ، لكنّها لا تدلّ
على كون هذه الألفاظ الخاصّة أسماء لها في تلك الأزمنة بلسان العرب ؛ فإنّها حكاية
معان بألفاظ دالّة على تلك المعاني في عرف المخاطب بهذا الكلام ، فلا تدلّ على
كونها دالّة على تلك المعاني في العرف السابق وهذا واضح ، نعم الثابت على هذا أنّه
كانت لهذه الحقائق في تلك الأزمنة ألفاظ يعبّرون بها عنها ، وأمّا أنّها كانت
مجازات أو حقائق ، وأنّها كانت هذه الألفاظ الخاصة أو غيرها فليس بمعلوم.
فمن الممكن أن كان
لها ألفاظ آخر ثمّ صارت في زمان الجاهليّة مهجورة فيه ، فهذا لا ينفع في نفي
الحقيقة الشرعيّة وإثبات الحقيقة اللغويّة ، وإنّما ينفع في ردّ من جزم بثبوت
الحقيقة الشرعيّة.
ثمّ لا يخفى أنّه
لا يمكن الجزم بثبوت الحقيقة الشرعيّة ولا بعدمه ، بل يحتمل أن يكون هذه الألفاظ
حقائق لغوية أو شرعيّة إمّا بالوضع الاستعمالي أو التعييني أو مجازات شرعيّة
وحقائق متشرّعة.
وتظهر ثمرة الثبوت
وعدمه فيما إذ اوردت هذه الألفاظ في كلام الشارع مجرّدة
عن القرينة ، فعلى
الثاني يحمل على حقائقها اللغويّة ، وعلى الأوّل يحمل على معانيها الشرعيّة فيما
إذا علم تأخّر الاستعمال من النقل ، وعلى معانيها اللغويّة في صورة العكس ، ولا
كلام في ذلك.
إنّما الكلام في
صورة الجهل بتاريخ النقل والاستعمال أو تاريخ أحدهما ، وينبغي التكلّم أوّلا في
حكم مطلق الحادثين المجهول تاريخ كليهما أو تاريخ أحدهما.
ومجمل الكلام فيه
أنّه لو لم يكن لوجود أحد الحادثين قبل الآخر أو بعده أثر شرعي فلا مجرى للأصل في
أحدهما ، ولو كان في البين أثر شرعي وكان موضوعه الوجود الخاص أعني وجود أحدهما
المقيّد بكونه قبل وجود الآخر أو بعده فحينئذ وإن كان استصحاب عدم كلّ واحد وجرّه
إلى زمان حدوث الآخر يثبت قبليّة وجود الآخر ، لكنّه بالنسبة إلى الأثر الشرعي
المترتّب على وجود الآخر أصل مثبت لا نقول باعتباره.
سلّمنا ، لكنّه
معارض بأصالة عدم هذا الوجود الخاص ، فصور الجهل بالتاريخ في هذا الفرض أعني فرض
كون الموضوع هو الوجود الخاص على وجه التقييد لا أصل فيها جاريا بلا معارض.
فنفرض الكلام فيما
إذا كان الموضوع هو الوجود والعدم على وجه التركيب كما إذا قال المولى : إذا لاقى
الماء في حال عدم الكرّية نجسا صار نجسا ، فجعل موضوع النجاسة وجود الملاقاة في
ظرف عدم الكرّية ، وحينئذ فإن جهل تاريخ أحدهما وعلم تاريخ الآخر فيجرّ استصحاب
عدم المجهول التاريخ إلى زمان حدوث المعلوم التاريخ ، كما لو علم بحدوث ملاقاة
الماء للنجاسة في أوّل طلوع الشمس ، وشكّ في أوّل زمان حدوث كرّيته ، بل هو قبل
ذلك حتّى يكون طاهرا ، أو بعده حتى يكون نجسا ، فيجرّ استصحاب عدم كريّته إلى أوّل
طلوع الشمس فيصير أحد جزئي الموضوع متحقّقا بالوجدان وهو وجود الملاقاة والآخر
بالأصل وهو عدم الكرّية ، فهذا الأصل صحيح لأنّ له أثرا شرعيّا وهو النجاسة ، إذ
المفروض أنّها مترتّبة على عدم الكرّية ووجود الملاقاة معا ، فيكون أصلا موضوعيّا
يحرز به موضوع الحكم و
ليس له معارض ؛ إذ
لا أصل في طرف الملاقاة حتّى يعارضه ؛ لأنّ عدم الملاقاة إلى ما قبل الطلوع متيقّن
كحدوثه من حينه ، فليس فيه شكّ حتّى يجرى فيه الاستصحاب.
وإن جهل تاريخ
كليهما فذهب شيخنا العلّامة قدس سرّه في رسائله إلى أنّ أصلي عدم كلّ واحد إلى
زمان حدوث الآخر يتعارضان فيتساقطان ، كما لو وجد عذرة في الماء وكان كرّا في زمان
الوجدان بعد ما لم يكن ، فشكّ في تقدّم كلّ واحد من حدوثي الملاقاة والكرّية على
الآخر ، فاصالة عدم الكرّية إلى زمان حدوث الملاقاة يقتضي النجاسة ، وأصالة عدم
الملاقاة إلى زمان حدوث الكرّية يقتضي الطهارة فيتساقطان.
لكن يمكن أن يقال
بأنّ الاستصحاب لا مورد له في هذه الصورة ولو مع قطع النظر عن وجود المعارض ؛
لأنّه لو فرض أنّ أوّل زمان القطع بمطلق وجود الملاقاة والكرّية هو أوّل طلوع
الشمس بحيث احتمل أن يكون وجود الملاقاة فيه حدوثا ووجود الكرّية بقاء ، وأن يكون
العكس ، وأن يكون وجود كليهما فيه على وجه الحدوث ، فحينئذ فإن كان زمان حدوث
الملاقاة الذي يجرّ إليه استصحاب عدم الكرّية أوّل الطلوع ، فاستصحاب عدم الكريّة
غير داخل في قوله : «لا تنقض الخ» ؛ لأنّ نقض يقين عدم الكريّة بوجودها بالنسبة
إلى هذا الزمان نقض اليقين باليقين لا بالشكّ ؛ إذ المفروض تيقّن وجود الكرّية في
أوّل الطلوع.
نعم إن كان زمان
حدوث الملاقاة ما قبل الطلوع فاستصحاب عدم الكرّية المجرور إليه يشمله «لا تنقض» ؛
لأنّ وجود الكرّية بالنسبة إلى ما قبل الطلوع مشكوك ، فنقض عدمه المتيقّن بوجوده
المشكوك فيما قبل الطلوع نقض اليقين بالشك.
والحاصل أنّ نقض
عدم الكرّية بوجودها إلى زمان الحدوث الواقعي للملاقاة المحتمل كونه أوّل الطلوع
المتيقّن فيه وجود الكرّية من الشبهات المصداقيّة لنقض اليقين بالشكّ ، فلا يمكن
التّمسك على حرمته ووجوب الاستصحاب بالنهي عن نقض اليقين بالشكّ.
نعم استصحاب عدم
الكرّية إلى الزمان المتّصل بأوّل الطلوع يكون من أفراد عدم نقض اليقين بالشكّ لكن
لا أثر له ؛ لأنّ موضوع النجاسة ليس عدم الكرّية السابق على وجود الملاقاة متّصلا
به ، بل عدم الكرّية ووجود الملاقاة الذين يجمعهما زمان واحد ، وهذا منتف في
المقام ؛ فإنّ عدم الكرّية وإن احرز بالأصل إلى ما قبل الطلوع لكن وجود الملاقاة
مقارنا له في واحد من أزمنة ما قبل الطلوع غير محرز ، فعلم أنّ الأصل في مجهولى
التاريخ غير جار ، إمّا لكونه من الشبهة المصداقيّة وإمّا لكونه بلا أثر.
فنقول : إنّ
الحادثين في المقام وهما النقل والاستعمال لا مجرى فيهما للأصل الشرعي الذي هو
مفاد «لا تنقض» حتّى في صورة الجهل بتاريخ أحدهما ؛ فإنّه لا مدخليّة للاستعمال في
موضوع الحكم الشرعي وإنّما هو لمجرّد الكشف والحكاية ، وما هو موضوع للآثار هو نفس
المعاني سواء استعمل اللفظ فيها أم لا ، ومفاد «لا تنقض» لا يشمل أزيد من نفس
الأحكام وموضوعاتها ، وفي المقام لو كان تاريخ الاستعمال معلوما وجهل تاريخ النقل
فاستصحاب عدم النقل إلى زمان الاستعمال يثبت قبليّة الاستعمال ، وهي تفيد كون
الاستعمال في المعنى اللغوي ، فينتهي بواسطتين إلى نفس المعنى الذي هو موضوع الأثر
الشرعي ، وكذا النقل أيضا ليس موضوعا لأثر شرعي.
نعم الأصل
العقلائي حيث إنّ مثبته حجّة يمكن التمسّك به في المقام بناء على أنّ خصوص أصالة
عدم النقل من الاصول العقلائيّة ، ووجه حجيّة الأصل المثبت العقلائي أنّ الاصول
العقلائيّة إنّما هي حجّة من باب الطريقيّة والكاشفيّة النوعيّة وإفادة الظنّ
النوعي ، ففي موارد احتمال وجود القرينة على المعنى المجازي مثلا لا يعتنى نوع
العقلاء بهذا الاحتمال لضعفه وقوّة احتمال عدم القرينة لكثرة عدمها وندرة وجودها ،
فحجيّة أصالة عدم القرينة من باب الظهور النوعي للفظ في المعنى الحقيقى ، فإذا وجد
هذا المقدار من الكشف وهذه المرتبة من الظن في موارد هذه الاصول في الملزوم يوجد
هذا الظن والكشف بعينه في جميع لوازمه حتّى ما كان منها بوسائط
كثيرة ، فلا بدّ
أن يعامل معه معاملة العلم في اللازم كما عومل ذلك معه في الملزوم بلا فرق.
ويجري هذا الكلام
فيما اعتبره الشارع أيضا من باب الطريقية كالبيّنة ، فكما يثبت بها المخبر به فكذا
جميع لوازمه.
فأصالة عدم النقل
في ما إذا جهل تاريخه سواء علم بتاريخ الاستعمال أم لا على هذا يفيد ظهور اللفظ في
المعنى اللغوي ولا معارض لها ، أمّا في صورة العلم بتاريخ الاستعمال فواضح ؛ إذ لا
أصل في طرفه مع العلم ، وأمّا في صورة الجهل به فلعدم الأصل الثابت الحجيّة في
طرفه لا شرعيّا ولا عقليّا كما مرّ.
وبناء العقلاء على
العمل بهذا الأصل في الجملة مسلّم ، ولكن لو شكّ في أنّ بنائهم مختصّ بصورة الشكّ
في أصل النقل أو يعمّ صورة الشكّ في تأخّره مع العلم بأصله فلا ينفع هذا الأصل
أيضا في المقام ، لكن احتمال الاختصاص بعيد ؛ لظهور أنّ بنائهم على عدم النقل من
جهة أنّ الوضع السابق عندهم حجّة فلا يرفعون اليد عنها إلّا بعد العلم بالوضع
الثاني.
هذا كلّه في طرف
النقل ، وأمّا الاستعمال فليس فيه أصل عقلائي أصلا.
«فصل»
قد اختلف في كون
ألفاظ العبادات موضوعة للصحيحة أو للأعمّ منها ومن الفاسدة؟ وتصوير هذا النزاع على
القول بثبوت الحقيقة الشرعيّة واضح ؛ فإنّه يقع النزاع حينئذ في أنّ المعنى
المنقول إليه هل هو خصوص الصحيح أو الأعمّ ، وأمّا على عدم الثبوت فأصل الاستعمال
في خصوص الصحيح وفي الأعمّ مسلّم ، فيمكن النزاع حينئذ في أنّه هل يكون في البين
قرينة منضبطة عامّة غير محتاجة إلى التصريح بها في كلّ مورد مورد على تعيين أحد من
المعنيين بحيث يحمل اللفظ بعد العلم بعدم إرادة المعنى اللغوي على هذا الأحد إلى
أن يعلم بإرادة الآخر.
ويمكن تصوير
النزاع أيضا على قول الباقلاني في أنّ القرينة المنضبطة العامّة
المفهمة للخصوصيات
الزائدة على المعنى اللغوي كالانصراف الإطلاقي المفهم للخصوصيّة الزائدة على
الطبيعة هل تحقّقت ولو بعد مدّة يحصل الشهرة المولدة للانصراف فيها على تمام
الأجزاء والشرائط أو على الأعمّ.
والعمدة في هذا
المبحث تصوير الجامع بين أفراد كلّ من عنواني الصحيح والأعمّ قبل الشروع في النزاع
؛ فإنّ المقصود إثبات الاشتراك المعنوي بين أفراد الصحيح أو الأعمّ لا اللفظي.
فنقول : لا يكاد
يمكن تصوير الجامع المركب بين الأفراد الصحيحة ؛ فإنّ أفراد الصلاة مثلا ذات قيود
متقابله ، فبعضها ثنائيّة ليس إلّا بحيث لو زيد ركعة لبطل ، وبعضها ثلاثيّة كذلك ،
وبعضها رباعيّة كذلك ، وشأن الجامع أن يكون مجرّدا عن جميع الخصوصيّات ، فإذا قطع
النظر عنها في المقام بقي ركعتان لا بشرط مثلا ، وهذا قد ينطبق على الصلاة الصحيحة
كصلاة الصبح والمسافر ، وقد ينطبق على الفاسدة كصلاة الظهر للحاضر إذا سلّم على
الثانية عالما ، أو الصبح إذا سلّم على الثالثة أو الرابعة كذلك.
وأمّا الجامع
البسيط فيمكن تصويره ؛ لإمكان أن يكون بين أفعال مختلفة مقيّدة بقيود متضادّة
بالإضافة إلى فاعلين مختلفين ـ كالصلوات المختلفة المقيّدة بعضها بالقيام وبعضها
بالقعود وبعضها بالزيارة على الركعتين وبعضها بعدمها في حقّ المختار والمضطرّ
والحاضر والمسافر ـ جامع واحد ، ولا ضير في الالتزام به في المقام بعد وجدانه في
نظيره ؛ فإنّ التعظيم يختلف الحال فيه بالاضافة إلى الفاعلين ، فبالإضافة إلى فاعل
لا يحصل إلّا بالقيام وبالإضافة إلى آخر لا يحصل إلّا بالقعود ، وبالإضافة إلى
ثالث لا يحصل إلّا بالاضطجاع ؛ فإنّ المريض الذي يشقّ عليه القيام أو القعود
يعدّان في حقّه تكلّفا زائدا لا تعظيما ، وبالإضافة إلى رابع لا يحصل إلّا بحطّ
الظهر وهكذا ، بل الالتزام بذلك في المقام متعيّن ؛ إذ اشتراك تلك المتشتّتات في
الأثر الواحد يقتضي أن يكون منتهية إلى جامع واحد يستند هذا الأثر إليه بناء على
ما قرّر في المعقول من أنّ الواحد لا يصدر إلّا من الواحد ، ولا ضير في عدم
معرفتها
بحقيقة هذا الجامع
بعد إمكان الإشارة إليه بخواصّه وآثاره كوصف كونه ناهيا عن الفحشاء ونحوه.
لكن يرد عليه
إشكالان :
الأوّل : أنّه
مخالف لظواهر الأخبار المشتملة على أنّ الصلاة أوّلها التكبير وآخرها التسليم ،
وللمركوز في أذهان المتشرّعة من أنّ الصلاة اسم للمجموع المركّب من الأفعال
الخاصّة لا لعنوان بسيط منتزع عنها.
الثاني : إنّه
يستلزم أن يكون الصحيحي عند الشكّ في جزئيّة شيء أو شرطيّته قائلا بالاحتياط مع
أنّ المشهور القائلين بالوضع للصحيح قائلون بالبراءة ، بيان الملازمة أنّه على هذا
ليس مورد الأمر هو المركّب حتّى يعتذر العبد عند مولاه عن عدم الإتيان بالجزء أو
الشرط المشكوكين بأنّي وقفت على وجوب هذا المقدار وقد اتيت به ، وشككت في وجوب
الباقي ، فالعقاب عليه عقاب بلا بيان ، بل مورده شيء وحدانيّ بسيط ، غاية الأمر
أنّ محصّله هو المركّب ، فالمأمور به دائر بين الوجود والعدم ، فالمكلّف ما لم يأت
بجميع المحتملات لم يعلم بأنّه أتى بالمأمور به أو لا ، وليس له مقدار حتّى يقول :
بأنّى قد أتيت بالقدر الذي علمت وجوبه ، والباقي لم أعرف وجوبه.
وردّ هذا الإشكال
في الكفاية بالفرق بين ما إذا كان المأمور به أمرا بسيطا مسبّبا عن المركّب ، وبين
ما إذا كان أمرا بسيطا منتزعا عنه وتكون المركبات أفرادا له ، ففي الأوّل يكون
الحال كما ذكر ، كما في الطهارة المسبّبة عن الغسلتين والمسحتين ، فلو شكّ في أنّ
الغسل من الأعلى إلى الأسفل له دخل في السبب المحصّل للطهارة يجب الإتيان به لما
ذكر ، وفي الثاني ينحّل الأمر بالعنوان البسيط إلى الأمر بأفراده ، ففي الحقيقة
يتعلّق الأمر بالمركّبات ، فيكون حاله كما إذا تعلّق الأمر بالمركّب ابتداء.
ويمكن أن يقال :
إنّه فرق بين ما إذا كان مركب الأمر هو المركّب ابتداء ، وبين ما إذا كان هو
العنوان المنطبق عليه ، ففي الأوّل لعلّه يمكن أن يقول العبد : إنّ المقدار
المعلوم وجوبه قد أتيته والزائد كان مشكوك الوجوب ، ولم يكن أمر آخر وراء
المركّب مطلوبا
بالفرض ، وأمّا في الثاني فالحجّة بين العبد ومولاه وما هو مؤاخذ ومسئول عن فعله
وتركه هو العنوان لا المركّب ، فيجب بحكم العقل أن لا يكتفي بالمقدار المعلوم بل
يأتي بمقدار علم أنّه فرد للعنوان ، فالأمر الانحلالي يتعلّق بالمركّب بعنوان أنّه
فرد لهذا العنوان.
فهنا أمر آخر وراء
المركّب يجب إحرازه وهو كونه فردا للعنوان ، ألا ترى أنّه لو قال المولى اشرب
السكنجبين لم يكن له السؤال إلّا عن شرب السكنجبين ، فلو شرب جرعة وشكّ في وجوب
الجرعة الثانية فتركها فتبيّن دخلها في الغرض كان له الاعتذار بأنّي لم أعرف
وجوبها ، وأمّا لو قال : اشرب مزيل الصفراء فحينئذ لا يسأل عن شرب السكنجبين ، بل
عن شرب المزيل للصفراء فهل يرتبط بهذا السؤال قوله : إنّى لم أعرف وجوب الجرعة
الثانية إذا تبيّن دخلها في الإزالة.
وأمّا تصوير
الجامع على قول الأعمّي فقد عدّه في الكفاية في غاية الإشكال ، وحاصل ما يرد عليه
من الإشكال أنّه لا شكّ أنّ أجزاء الصلاة مثلا أشياء متباينة فلا بدّ أن يضمّ
الواضع بعضها إلى بعض في اللحاظ ويلاحظ المجموع شيئا واحدا ويضع اللفظ بإزائه ،
فهذا المجموع الملحوظ بلحاظ واحد إمّا أن يكون تمام الأجزاء أو البعض ، ويكون
الباقي أجزاء للمأمور به دون المسمّى ، فإن كان الأوّل لزم أن لا يكون الصلاة بلا
ركوع صلاة عند الأعمّي وهو مقطوع العدم ، وإن كان الثاني فالبعض إمّا أن يكون بعضا
معيّنا كأن يعيّن من بين أجزاء الصلاة الأركان المخصوصة مثلا فيرد عليه إشكالان :
الأوّل : يلزم أن
تكون الصلاة التامّة الأجزاء مركّبة من الصلاة وغيرها لا أن يكون تمامها الصلاة
ولا يلتزم به الأعمّي ، ودعوى أنّ اعتبار الأركان لا بشرط يدفع هذا ، مدفوعة بأنّ
معنى كونها لا بشرط أن لا ينافي وصف موضوعيّتها وجود بقيّة الأجزاء ، لا أن يكون
الموضوع له على تقدير وجود البقيّة هو المجموع ، ألا ترى أنّ المعجون المركّب من
الترياق وغيره المحصّل لغرض واحد لا يطلق اسم الترياق إلّا على جزئه المخصوص دون
المجموع.
الثاني : يلزم أن
لا تكون الصلاة الفاقدة لبعض الأركان الواجدة لسائر الأجزاء أو أكثرها صلاة ،
والأعمّي غير ملتزم به أيضا.
وإمّا أن يكون
بعضا مردّدا كأن يضع لفظ الصلاة بإزاء خمسة أجزاء مردّدة بين خمسة عشر جزء ، وهذا
مضافا إلى أنّه يستلزم أن يكون جزءا داخلا في المسمّى تارة وخارجا عنه اخرى ، بل
مردّدا بين أن يكون داخلا وأن يكون خارجا فيما إذا كانت الصلاة واجدة لتمام
الأجزاء ، وهو من الركاكة بمكان يرد عليه الإشكال الأوّل من الإشكالين.
وأمّا الشرائط
فليس حالها حال الأجزاء ؛ إذ لو فرض الفراغ من جهتها وكون عشرة أجزاء صلاة ، فلا
يفرق الحال فيها بين أن تكون مستقبلة أولا ، فلا يصير العشرة بالاستقبال أحد عشر ،
فلا يستلزم إخراج الشرط عن المسمّى أن تكون الصلاة معه صلاة مع الزيادة.
ويمكن أن يقال :
إنّه لا شكّ أنّ أفعالا متعدّدة إذا اتي بها لغرض واحد كتصحيح المزاج ـ كعمل
الزورخانه ـ يطرأ عليها وحدة اعتباريّة ، ولهذا إذا أتى بعدّة منها ولم يأت
بالباقي يقول : قد أوصلت شغلي إلى النصف ، كما أنّه إذا أتى بتمامها يقول : قد
أتممت شغلي ، مع أنّ ما أتى به ليس شيء منه منصّفا ، والباقي لم يأت به أصلا ، فلو
لم يكن وحدة لم يصحّ ذلك ، وكما أنّ الوحدة الحقيقيّة الشخصيّة الموضوع لها
الأعلام الشخصيّة ويعبّر عنها بالمادّة لا تنثلم بكثرة اختلاف الحالات من الطول
والقصر وزيادة جزء ونقيصة وتغيير شكل ونحوها ، بل هي باقية في جميعها ، وتلك
الحالات كيفيّات وصور يطرأ عليها على التبادل ، فكذا هذه الوحدة الاعتباريّة أيضا
محفوظة في جميع الحالات من حالة الإتيان بفعل واحد من تلك الأفعال إلى أن يكمل
تمامها ، لكن مع إحراز الغرض في الجميع بأن يكون داعي الفاعل في الجميع هو الغرض
الواحد ، فهذه الوحدة بمنزلة المادّة في الأشخاص ، وهذه الاختلافات بمنزلة الصور
الطارئة عليها.
فنقول : لا شكّ
أنّ الأعمّي يتسلم أنّه إذا أتى بكلّ فعل من أفعال الصلاة لغرض
لم يكن ذلك بصلاة
، فيبقى الصور المختلفة غاية الاختلاف في الكيفيّة المتّحدة في الغرض ، فيكون فيها
وحدة اعتباريّة ناشئة من جهة وحدة الغرض ، وهي محفوظة في جميع تلك الصور، فهذه
الوحدة معروضة للصحّة والفساد والتمام والنقص ، لكن ليس الغرض الواحد مطلقا كافيا
؛ فإنّ الإتيان بأفعال الصلاة بغرض واحد مثل تحليل الغذاء أو بغرض السخريّة
والاستهزاء ، كما لو اجتمع جماعة من الكفّار فأقاموا الصلاة جماعة استهزاء بأهل
الإسلام ، فلا يصدق اسم الصلاة في العربيّة و (نماز) في الفارسيّة على هاتين ،
فليس في البين سوى المركّب ، غاية الأمر أنّه لم يلحظ على نحو التفصيل ، بل على
نحو الإجمال والبساطة ، بخلاف الجامع البسيط على قول الصحيحي فإنّه أمر منتزع عن
المركّب.
بل يمكن إدّعاء
أنّ وجود الجامع بين الصحيح والفاسد بديهيّ ، ألا ترى صحّة التقسيم إليها ، فيقال
: الصلاة إمّا صحيحة وإمّا فاسدة ؛ فإنّه وإن سلّمنا كونه من باب التقسيم إلى
الحقيقة والمجاز ، لكنّه لا يتصوّر بدون وجود مقسم جامع بين القسمين ، وأيضا
فالصحيحي يتسلّم أنّ استعمال هذه الألفاظ في الفاسد صحيح مجازا ، ولا شكّ أنّه لا
بدّ أن يكون بين الحقيقة والمجاز جهة جامعة يعبّر عنها بالعلاقة ، كالشجاعة
الجامعة بين الأسد والرجل الشجاع ، والأعمّي يقول بأنّ هذه الجهة الجامعة هي مسمّى
اللفظ.
وكيف كان فهل
الأمارات المميّزة للحقيقة عن المجاز من التبادر وعدم صحّة السلب مؤدّية إلى الوضع
للصحيح أو الأعمّ؟ الكلام في ذلك أنّه من المعلوم أنّ المنسبق إلى أذهان المتشرّعة
من لفظ الصلاة مثلا هو المركّب من الأفعال المخصوصة ، لا العنوان البسيط المنتزع
عنها ، وقد عرفت أنّ الجامع المركّب لا وجود له بين الأفراد الصحيحة ، فيكون هذا
التبادر شاهدا للأعمّي ، وأيضا من المعلوم بالرجوع إلى الوجدان أنّ سلب الصلاة عن
الفاسدة يحتاج إلى العناية وليس كسلب الحجر عن الإنسان بل كسلب الإنسان عن البليد
، فظهر أنّ التبادر وعدم صحة السلب كلاهما مع الأعمّي وإن استدلّ بهما للصحيحي ،
وهما العمدة في أدلّة الطرفين ، و
سائر ما ذكروه غير
خال عن الخدشة.
منها ما ذكر في
الكفاية دليلا على قول الصحيحي من مثل «الصلاة عمود الدين» أو «معراج المؤمن» و «الصوم
جنّة من النار» ممّا ظاهره تعليق الآثار على المسمّيات ، فإنّ ظاهره بحكم عكس
النقيض أنّ كلّ ما ليس بعمود وجنّة فليس بصلاة وصوم ، ومن المعلوم أنّ الفاسدة ليس
كذلك ؛ فإنّ من المعلوم ابتناء هذا الاستدلال على كون وجود الإطلاق في هذه القضايا
وابتناء ذلك على كونها واردة في مقام البيان وهو ممنوع ؛ إذ من الواضح أنّها واردة
في مقام الإهمال ، نظير قول الطبيب : الدواء الفلاني نافع للداء الفلاني ،
فالمقصود بها بيان حكم الطبيعة في قبال الطبائع الأخر ، فيكون المعنى أنّ الصلاة
لا غيرها من العبادات عمود الدين ، وليست في مقام بيان أزيد من ذلك حتّى يكون لها
إطلاق.
ومنها : الاستدلال
للأعمّي بقوله عليهالسلام : بني الإسلام على الخمس ، الصلاة والزكاة والحجّ والصوم
والولاية ، ولم يناد أحد بشيء كما نودي بالولاية ، فأخذ الناس بأربع وتركوا هذه ،
فلو أنّ أحدا صام نهاره ، وقام ليله ومات بغير ولاية لم يقبل له صوم ولا صلاة.
حيث استعمل لفظ
الأربع في قوله : فأخذ الناس بأربع ، وكذا لفظ صام في قوله : فلو أنّ أحدا صام في
الفاسدة ، لفساد عبادات منكري الولاية ، والأصل في الاستعمال الحقيقة ، وفيه أنّ
الاستعمال أعمّ من الحقيقة ، والمتيقّن من مورد أصالة الحقيقة هو الشبهة
المراديّة.
ومنها الاستدلال
له أيضا بقوله عليهالسلام : دعي الصلاة أيّام أقرائك ، فإنّ لفظ الصلاة مستعملة في
الفاسدة لعدم قدرة الحائض على الصحيحة ، وفيه مع ما عرفت أنّ المجاز هنا لازم على
كلا القولين ، أمّا على القول الصحيحي فواضح ، وأمّا على قول الأعمّي فلأنّ لفظ
الصلاة مستعملة في خصوص الفاسد من جهة اختلال شرط الطهارة من الحيض ؛ لظهور أنّ
الصلاة الفاسدة من غير هذه الجهة أيضا غير
منهي عنها في حقّ
الحائض ، فيكون من باب استعمال لفظ العام في الخاص.
ودعوى أنّ الفساد
من هذه الجهة إنّما جاء من قبل هذا النهي فهو متأخّر عنه فكيف يؤخذ فى موضوعه ،
مدفوعة بأنّ النهي كاشف عن الفساد الواقعي الغير المعلوم لنا قبل وروده لا محدث له
حتّى يرد ما ذكر.
ومنها الاستدلال
له أيضا بأنّه لو نذر أن لا يصلّي في الحمّام لزم على قول الصحيحي أن لا يحنث
بالصلاة فيه ؛ لأنّ متعلّق النذر هو الصلاة الصحيحة ، والصلاة فيه بعد هذا النذر
فاسدة لتعلّق النهي بها ، فلم يحصل منه مخالفة النذر ، وأيضا يلزم من فسادها
صحّتها وبالعكس ؛ لأنّ فسادها إنّما جاء من قبل حصول الحنث بها ، فإذا لم يحنث بها
تكون صحيحة ؛ لأنّها صلاة تامّة الأجزاء والشرائط ولم يحصل بها حنث النذر ، فيلزم
من صحتها حصول الحنث بها فتكون فاسدة وهكذا ، والأعمّي سالم من المحذورين كما هو
واضح.
أقول : الفروع
الوارد عليها إشكال لزوم الوجود من العدم وبالعكس كثيرة.
منها : ما لو أذن
مالك الماء لغيره في التصرّف فيه كيفما شاء واستثنى رفع الجنابة به ونهى عنه ، فحينئذ
لو اغتسل المأذون في هذا الماء عن جنابة بطل غسله لتعلّق نهي الشارع به تبعا لنهي
المالك فلا يحصل به الرفع ، فإذا لم يحصل به الرفع والمفروض أنّ الفساد إنّما جاء
من قبل حصول الرفع يكون صحيحا فيحصل به الرفع فيكون فاسدا ، وهكذا يلزم من عدم
حصول الرفع حصوله ومن عدم صحّة الغسل صحّته وبالعكس.
ومنها : ما لو كان
عليه قضاء خمسة أيّام مثلا من رمضان وقلنا بعدم جواز تأخير قضاء شهر رمضان إلى
رمضان الآتي فبقي ما بينه وبين رمضان خمسة أيّام فسافر وقلنا بعدم صحّة الصوم في
السفر ، فإنّ السفر حينئذ مفوّت للواجب المضيّق فيكون سفر المعصية فيجوز فيه الصوم
فلا يلزم تفويت ، فإذا لم يلزم تفويت والمفروض أنّ حرمة السفر إنّما جاء من قبله
كان السفر مباحا فلا يصحّ فيه الصوم فيلزم التفويت فيكون السفر حراما ، وهكذا يلزم
من عدم صحّة الصوم صحّته ، و
من لزوم التفويت
عدم لزومه ، ومن حرمة السفر عدم حرمته وبالعكس.
والجواب أمّا عن
الأوّل فبأنّ لفظ الصلاة عند الصحيحي موضوع للصحيح بمعنى المشتمل على تمام الأجزاء
والشرائط ، والصّحة بهذا المعنى لا ينافيها الفساد العارضي من جهة النذر أو نهي
الوالد مثلا ، والدليل على أنّ مرادهم بالصحّة هذا المعنى أنّ الفساد الطاري إنّما
نشأ من قبل الحكم ، فهو متأخّر عنه فكيف يؤخذ عدمه في موضوعه ، وحينئذ فإن أراد
الناذر المذكور الصحّة بهذا المعنى لم يلزم شيء من المحذورين كما هو واضح ، وإن
قصد الصحّة من جميع الجهات حتّى من جهة الطواري فنلتزم بعدم انعقاد نذره ؛ إذ
الصلاة الصحيحة من جميع الجهات مأمور بها فلا يمكن أن تصير منهيّا عنها.
وأمّا عن الثاني
فبأنّه إن كان نهي المالك عن إحداث أسباب حصول الرفع ومقدّماته بمائه من غسل
الأعضاء على النهج المخصوص بقصد الرفع مع نيّة القربة فلا شكّ في تأثيره في تحريم
الغسل وعدم حصول الرفع به ، ولا يلزم محذور كما هو واضح ، وإن كان نهيه عن رفع
الجنابة الذي هو أثر للغسل بجعل الشارع فلا يؤثّر شيئا ؛ إذ الغسل الرافع للجنابة
مأمور به فلا يعقل أن يصير منهيّا عنه وغير رافع.
وأمّا عن الثالث ،
فاعلم أنّ هنا أدلة ثلاثة لا بدّ من رفع اليد عن أحدها حتّى يرتفع الإشكال ، ومع
الأخذ بجميعها لا يمكن التفصّي عنه.
الأوّل : دليل عدم
جواز تأخير قضاء رمضان عن رمضان المقبل ، وهذا موجب لحصول التضييق في الصوم في
المثال
الثاني : دليل عدم
صحّة الصوم في السفر ، وهذا بضميمة الأوّل يوجب مفوّتيّة السفر للصوم فيه
والثالث : دليل
كون سفر المعصية مبيحا للصوم
فرفع اليد عن أحد
الأوّلين يوجب رفع موضوع التفويت عن البين ، وعن الأخير يوجب حصوله بلا لزوم إشكال
كما هو واضح.
فنقول : لا معارضة
بين الأوّلين وبين الثالث ؛ لكونهما محقّقين لموضوعه وهو
سفر المعصية ،
وكلّ عام تحقّق موضوعه بالأخذ بظهور أو عموم دليل آخر فهو غير معارض لهذا الدليل
الآخر ؛ لكونه في طوله لا في عرضه ، فإذا بقي الأوّلان بلا معارض تعيّن تخصيص دليل
إباحة سفر المعصية للصوم بما إذا نشأ حرمة السفر من جهة سببيّته لترك الصوم بحكم
العقل ؛ فإنّ إباحة هذا السفر للصوم غير معقول للإشكال الذي ذكر.
ومن جملة ما
استدلّ به للصحيحي أنّ ما هو محلّ للحاجة ومورد للفرض غالبا إنّما هو الصحيح التام
الأجزاء ؛ لأنّه هو الذي يترتّب عليه الأثر ، فينبغي وضع اللفظ بإزاء خصوصه ، وهو
الذي استقرّ عليه عادة الواضعين وديدنهم في وضع أسماء المعاجين ، والغرض وإن كان
يتعلّق بالفاسد أحيانا ، لكنّه ليس بمثابة يقتضي وضع اللفظ للأعمّ فيكتفى بوضعه
لخصوص الصحيح المصحّح للاستعمال في الفاسد مجازا ، وهذا الاستدلال كما ترى إمّا
راجع إلى الاستحسان أو إلى غلبة حال الواضعين ، وعلى أيّ تقدير لا يفيد إلّا الظنّ
باعتراف المستدلّ ، والظنّ لا يغني من الحقّ شيئا.
بقي أمران :
الأوّل : هل
النزاع المذكور في ألفاظ العبادات يجري في ألفاظ المعاملات كلفظ البيع والصلح
والاجارة والنكاح والطلاق ونحوها أولا؟
توضيح ذلك يحتاج
إلى تفصيل بأن يقال : إن كانت هذه الألفاظ موضوعة للآثار والمسبّبات كلفظ البيع
للمبادلة فلا مجرى للنزاع فيها ؛ إذا الأثر أمره دائر بين الوجود والعدم وليس في
البين أمر يكون تارة جامعا للأجزاء والشرائط وتارة فاقدا ليطرأ عليه باعتبار ذلك
وصف الصّحة والفساد.
وإن كانت موضوعة
للأسباب كلفظ البيع للإيجاب والقبول فيصح النزاع في أنّها موضوعة للسبب التام
الأجزاء والشرائط الغير المنفكّ عن الأثر أو للأعمّ منه ومن الناقص ، فيكون القيود
الزائدة معتبرة في التأثير لا في مسمّى اللفظ ولها دوالّ أخر.
لكن هنا إشكال وهو
أنّ ثمرة هذه الأقوال إنّما تظهر في صحّة التّمسك بالإطلاق و
عدمها ، فعلى
القولين الأوّلين لا يصح ؛ إذ مفهوم اللفظ عليهما يصير مجملا ، ففي كلّ مورد شكّ
في دخل شيء في التأثير يكون الشكّ في أصل تحقّق الموضوع على الأوّل وفي تحققه
بتمامه على الثاني ، فلا مجال للتمسّك في نفيه بإطلاق الحكم ؛ لأنّه فرع إحراز
الموضوع.
وعلى القول الأخير
يصحّ ؛ إذ عليه لا إجمال في مفهوم اللفظ ، ففي كلّ مورد شكّ في دخل شيء في التأثير
زائد على عنوان المعاملة نتمسّك في نفيه بأصالة الإطلاق ، مع أنّا نراهم قاطبة
يتمسّكون في أبواب المعاملات في نفي ما يحتمل مدخليّته في التأثير بالإطلاقات ،
وفيهم من هو قائل بالوضع للسبب الصحيح قطعا.
ويمكن أن يقال
بأنّه لا منافاة بين القول بالوضع للسبب الصحيح أو المسبّب وبين التمسّك بالإطلاق
في موارد الشكّ في هذا الباب وإن كان بين قول الصحيحي ، وبين التمسّك بالإطلاق
منافاة في باب العبادات ، ولا شكّ أنّ تصوير عدم المنافاة على القول بالوضع
للمسبّب أشكل منه على القول الآخر ، فنحن إذا بيّناه على هذا القول حصل المقصود
على القول الآخر بالطريق الأولى ، وقبل بيان ذلك لا بدّ من تحقيق أنّ هذه الألفاظ
موضوعة بإزاء المسبّبات أو الأسباب؟
فنقول : الظاهر هو
الأوّل وهو المستفاد في خصوص لفظ البيع من تعريف المصباح له بأنّه مبادلة مال بمال
، ويدّل على ذلك أنّ من المعلوم أنّ معنى «بعت» مثلا إنشاء البيع ، فلو كان معنى
البيع هو الإيجاب والقبول لزم أن يكون البائع بهذا القول قد أنشأهما مع أنّ القبول
قول أو فعل خارجي صادر من المشتري فليس قابلا لإنشاء البائع ، وبعبارة اخرى ليس
السبب في أبواب المعاملات إلّا الإنشاء ، فإذا كان مفاد مادّة «بعت» هو السبب
فيكون مفاد مجموع الهيئة والمادّة إنشاء الإنشاء وهو غير معقول.
فإن قلت : يلزم
الإشكال على تقدير الوضع للمسبّب أيضا ؛ إذا لمبادلة أثر لفعل الموجب والقابل معا
، فكيف يقصد الموجب إنشائه بالإيجاب؟.
قلت : إنّما يقصد
الموجب إنشاء المبادلة مع قطع النظر عن سببه وأنّه بم يتحقّق ،
غاية الأمر أنّ
السبب صار اتّفاقا هو المركّب من الإيجاب والقبول ، فلا ينشأ المبادلة المقيّدة
بحصولها من هذا السبب حتّى يشكل بأنّه مع العلم بذلك كيف يمكن إنشائه بمجرّد
الإيجاب، فهو قاصد لإنشاء نفس المبادلة ، ويكون حاصله في نظره الإنشائي بمجرّد
إنشائه، فيرى العمل البيعي حاصلا بتمامه من ناحيته فقط وإن كان ليس فردا للمبادلة
بنظر العرف والشرع ، فهو نظير الإيجاب الصادر من السائل ؛ فإنّه ينشئه ويكون
متحقّقا بنظره وإن كان تحقّقه بنظر العرف موقوفا على أمر غير حاصل في حقّه ،
وبالجملة فهذا يرجع إلى الاختلاف المصداقي في مفهوم المبادلة ، فكما أنّ الغاصب
يرى بيعه بنظره التنزيلي مبادلة وإن كان بنظره العرفي ليس كذلك ، فكذا البائع أيضا
يرى مصداق المبادلة موجودا بمجرّد الإيجاب بنظره الإنشائي وإن كان ليس بموجود
بنظره العرفي.
امّا بيان عدم
المنافاة فيحتاج إلى تقديم مقدمتين :
الاولى : لا شكّ
أنّ بعض المفاهيم العرفيّة لا إجمال فيها أصلا ومع ذلك قد يقع الخلاف بينهم في
تعيين مصاديقه كمفهوم البيع ، فإنّه عند الجميع هو المبادلة المذكورة ، لكن يمكن
أن يكون هذا المفهوم حاصلا عند قوم بمجرّد المصافقة ويكون ذلك عند آخرين غير كاف
في تحقّقه ، فهذا ليس من باب الاختلاف في مفهوم البيع بل في أنّ مصداقه عقيب هذا
الفعل موجود أم لا ، فكما يمكن ذلك في حقّ العرف بعضهم مع بعض ، فكذلك يمكن بين
العرف والشرع بأن يكون مفهوم مبيّنا عند كليهما ووقع الخلاف بينهما في مصداقه،
فحكم العرف بكون شيء مصداقا لهذا المفهوم ، ولا يكون مصداقا بنظر الشرع كما في
مفهوم الباطل ؛ فإنّه مفهوم واحد بين العرف والشرع ، لكن أكل المارّة يكون من
أفراده بنظر العرف وليس كذلك عند الشرع ، ويمكن العكس بأن يكون الشيء عند الشرع
مصداقا دون العرف كما في الأكل المذكور ، فإنّه مصداق لعنوان الحقّ عند الشرع دون
العرف.
الثانية : أنّه لا
بدّ أن يتعلّق الحكم في الخطابات الشرعيّة بتوسّط العنوان بالأفراد العرفيّة لا
على وجه التقييد بل بأن ينزّل الشارع نفسه بمنزلة العرف و
فرض نفسه كأنّه
واحد من أهل العرف ، فكما أنّ العرف لو علّقوا حكما على العنوان لا يكون في نظرهم
إلّا الأفراد التي هي أفراد عندهم ، فكذا الشارع أيضا يقع نظره بعد التنزيل
المذكور على ما هو فرد بنظر العرف ، فلو قال : الدم نجس ، يحمل كلامه على الأفراد
العرفيّة للدم ، فلو كان شيء فردا للدم بنظر الحكيم كاللون بناء على امتناع انتقال
العرض ، ولم يكن عند العرف فردا يحكم بطهارته ولو كان فردا واقعا ، والدليل على
لزوم هذا التنزيل في حقّ الشارع أنّه لو لاه لزم نقض الغرض ؛ إذ من المعلوم أنّ
أخذ الغرض من كلّ قوم لا يحصل إلّا بتعليق الحكم على الأفراد التي هي أفراد
بمذاقهم.
إذا عرفت ذلك
فنقول : إنّ مفهوم البيع مثلا مفهوم واحد عند الشرع والعرف وهو المبادلة على ما
عرفت ، فالاختلاف في بعض الموارد إنّما هو في مصداقه ، ومقتضى المقدّمة الثانية أن
يكون الحلّية الإمضائيّة في آية (أَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) متعلّقا بالأفراد العرفيّة ، فيكون جميع ما هو فرد عند
العرف مشمولا لهذا الحكم ، فيكون المعنى أنّ كلّ ما هو فرد للمبادلة عندكم
فترتّبون الآثار عليه فهو عندي أيضا ممضى ، ويكون فردا ومنشئا لآثار المبادلة ،
فلو تحقّق المبادلة بنظر العرف في مورد وشكّ في أنّه هل يشترط في تحقّقه عند الشرع
أمر آخر يتمسّك في نفيه بإطلاق أحلّ.
هذا كلّه على
القول بالوضع للمسبّب ، ويعلم منه الحال على القول بالوضع للسبب الصحيح المؤثّر ؛
فإنّ إطلاق البيع في أحلّ الله البيع حينئذ محمول على الأسباب المؤثّرة عند العرف
، فعند الشكّ في اعتبار أمر في التأثير مع إحراز الصدق العرفي يتمسّك بإطلاق «أحلّ»
أيضا.
وأمّا في العبادات
فحيث إنّها ماهيّات مخترعة للشرع ، فليس لها عند العرف أفراد على القول بالوضع
للصحيح حتّى يحمل الخطابات عليها ، فلا يبقى على هذا القول عند الشكّ في دخل شيء
في صحّة العبادة إلّا التوقّف وعدم التّمسك بالإطلاق ، وأمّا على قول الأعمّى فحيث
إنّ الحكم قد تعلّق بالجامع بين العبادة
الصحيحة والفاسدة
فكلّما علم بتحقّق الجامع وشكّ في دخل شيء في وصف الصحّة يتمسّك في نفيه بالإطلاق.
الأمر الثاني : قد
يكون المطلوب عدّة أشياء على نحو يكون كلّ واحد في عرض الآخر ، فيكون الطلب منبسطا
على الجميع ، وحينئذ يكون كلّ واحد جزءا ، وقد يكون شيئا بشرط أن يكون منضمّا إلى
شيء آخر ومصاحبا معه بحيث يكون المطلوب الأوّلي هو الأوّل لا كليهما ، والثاني
إنّما يكون مطلوبا ثانيا وبالعرض ولأجل أن يتحقّق بسببه خصوصيّة كون الأوّل منضما
إليه ومصاحبا معه ، وحينئذ يكون الشيء الثاني شرطا ، فظهر معنى كون الشرط خارجا
والتقيّد به داخلا ، وكذا الوضع أيضا قد يتعلّق في طرف المعنى بامور متعدّدة كلّ
في عرض الآخر فيكون كلّ واحد جزءا للموضوع له ، وقد يكون متعلّقه أمر بشرط مصاحبته
لأمر آخر فيكون الأمر الآخر خارجا والمصاحبة والتقيّد داخلا.
«فصل»
هل استعمال اللفظ
المشترك في أكثر من معنى واحد جائز أولا؟ لا إشكال في أنّ المقتضي للجواز وهو
الوضع موجود ، وكذا في أنّ المانع الوضعي مفقود ؛ إذ التقييد بالوحدة خلاف الواقع
قطعا ، وكون المعنى في حال صدور الوضع واحدا ليس إلّا ككونه في هذا الحال مصادفا
لطيران غراب ونحوه ، فلا يكون له دخل في الموضوع له إلّا بالتقييد.
وأمّا المانع
العقلي فقد ادّعى في الكفاية وجوده ببيان أنّ الاستعمال ليس إلّا إفناء اللفظ في
المعنى كأنّه الملغى ، ولا يمكن في حال الالتفات إلى معنى أن يلتفت إلى غيره ، نعم
يمكن بالتفات آخر ، لكنّ المستعمل فيه حينئذ هو الأوّل ، وكذا يمكن بالالتفات إلى
الجامع أو المجموع ، لكن ليس هذا من الاستعمال في معنيين ، بل في معنى واحد ،
والحاصل أنّ الاثنين مع محفوظيّة تعدّدهما لا يمكن النظر إليها بنظر واحد.
أقول : لا إشكال
أنّ موضوع الحكم في العام الاستغراقي والموضوع له في الوضع
العام والموضوع له
الخاصّ إنّما هما كلّ واحد واحد من الأفراد بانفرادها ، وهذا لا يمكن إلّا بإلغاء
جهة الوحدة ، وهي هيئة إحاطة المعنى الملحوظ بالجميع ورفع اليد عن الجامع وجعله
صرف العبرة والآلة والمرآة للحاظ الأفراد ، حتى يكون الملحوظ في الحقيقة هي نفس
الأفراد مع محفوظيّة تعدّدها ، بمعنى أن يكون كلّ واحد موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ
، أو موضوعا له للفظ بوضع مستقلّ من دون أن يرتبط باتّصاف بعضها بكونه موضوعا
للحكم أو موضوعا له باتّصاف الآخر بذلك ؛ ضرورة أنّ مفهوم الكلّ المضاف إلى مفهوم
الواحد ومفهوم أنّ المقيّد بمفهوم العلماء ـ مثلا ـ لا يصدقان على شيء من الآحاد.
فإذا كان هذا
المقدار من اللحاظ كافيا في موضوع الحكم ، والموضوع له كان كافيا في المستعمل فيه
أيضا قطعا ، فأىّ مانع من أن يتصوّر المتكلّم بلفظ العين معنى محيطا بجميع معانيه
ويجعله آلة للحاظها ، ويرفع اليد عن هيئة احاطته بها حتّى يكون الملحوظ كلّ واحد
من المعاني منفردا على سبيل الإجمال ، فيكون كلّ منها مستعملا فيه اللفظ مستقلا ،
من دون أن يرتبط وصف كون بعضها مستعملا فيه بوصف كون البعض الآخر كذلك.
فإن قلت : هذا
يرجع إلى الاستعمال في معنى واحد وهو المعنى المحيط ، والكلام فيما إذا كان
التعدّد محفوظا.
قلت : فلم لا يرجع
التعدّد في مرحلة الحكم والوضع إلى الوحدة؟ فكما ألغيت المعنى المحيط هناك من البين
فكذا ألغه هنا ، ولا بدّ لك من إلغاء الوحدة هناك حتّى يمتاز العام الاستغراقي عن
المجموعي ؛ فإنّ الفرق بينهما منحصر في إلغاء الوحدة في الأوّل وعدم إلغائها في
الثاني.
وأيضا فالعام
الاستغراقي يستعمل في الآحاد منفردا منفردا ، لكن طرأ عليها وحدة من جهة وحدة الوضع
؛ فإنّ العام المذكور قد وضع لتمام الآحاد بحيث لو قصد منه جميعها إلّا واحدا كان
على خلاف وضعه ، فلهذا يعدّ استعمالا في معنى واحد ، فكما جاز هنا الاستعمال في
الآحاد مع محفوظيّة تعدّدها متّكلا على وضع واحد فلم
لا يجوز ذلك في
المشترك متّكلا على أوضاع عديدة بعدد الآحاد ، فلا يطرأ حينئذ على الآحاد وحدة لا
من جهة اعتبار المتكلّم كما في مفهوم الخمسة فإنّه يعدّ معنى واحدا ، ولا من جهة
الوضع كما في العام المذكور ؛ فإذا لا فرق بين قولنا : عين مشيرا إلى كلّ من
الباصرة والجارية والميزان إلى آخر المعاني بإشارة إجماليّة بتوسّط مفهوم كلّ واحد
من هذه المعاني ، وبين قولنا : كلّ واحد من هذه المعاني في أنّه يصير كلّ من
المعاني في كلتا الصورتين موردا لإشارة إجماليّة مستقلّة ، إلّا أنّ المتكلّم في
الأوّل متّكل في كلّ من إرادته الإجماليّة المتعلّقة بالآحاد على وضع مستقلّ ، وفي
الثاني متّكل في جميعها على وضع واحد ، وليعلم أنّ مقام الاستعمال غير مقام الحكم
، فيمكن أن يلاحظ الآحاد في الأوّل منفردا منفردا ، وفي الثاني مجموعا ، كما يمكن
العكس ، نعم الإرادة الاستعماليّة كاشفة عن مطابقة الإرادة الجدّية لها ما لم تقم
قرينة على الخلاف.
ثمّ إنّه يرد على
من فصّل بين المفرد ، فلم يجوّز الاستعمال في الأكثر فيه وبين التثنية والجمع ،
فجوّزه فيها مستندا إلى أنّها في قوّة تكرار المفرد ، أنّ من المعلوم بالوجدان كون
التثنية والجمع من باب تعدّد الدالّ والمدلول ، وأنّ المادّة فيها هو المادّة في
المفرد ، فيدلّ على الماهيّة الدالّ عليها المفرد والعلامة يفيد التعدّد الفردي ،
فيصير المعنى بعد ضم الثاني إلى الأوّل فردين أو أفراد من الماهيّة ، وحينئذ فإن
اريد من المادّة في تثنية المشترك وجمعه أكثر من معنى واحد ولوحظ التعدّد المستفاد
من العلامة بالنسبة إلى كلّ من المعاني المرادة من المادّة فهذا من باب استعمال
المفرد في الأكثر ، وقد منعه القائل المذكور ، وإن استعمل المادّة في معنى
والعلامة في معنى آخر فهذا استعمال للفظين في معنيين لا لفظ واحد فيهما.
«فصل»
قد اختلف في أنّ
المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال ، أو في الأعمّ منه ومن المنقضي
عنه المبدا ، بعد الاتّفاق على كونه مجازا في من يتلبّس به في
الاستقبال ، وقبل
الخوض في النزاع لا بدّ من رسم امور :
الأوّل : لا إشكال
في أنّ بعض المشتقّات غير داخل في حريم النزاع كالماضي والمستقبل والأمر والنهي ،
وكذا المصادر لو قلنا بدخولها في المشتقّات ، وأنّ المشتقّ منه هو نفس المادّة
المجرّدة عن الهيئة ، كما أنّ بعض الجوامد داخل فيه كالزوج والزوجة والرقّ والحرّ
، فالجامع لمحلّ النزاع كلّ ما كان جاريا على الذوات ومحتاجا في التحقّق والانتزاع
إلى أمر خارج عن الذات ، فخرج بالقيد الأوّل الأفعال والمصادر ، وبالثاني مثل
الإنسان والحجر والنار ممّا كان جاريا على الذات ولا يحتاج في الانتزاع إلى أزيد
من الذاتيات ، بخلاف الضارب والزوج ونحوهما ؛ فإنّ الأوّل محتاج في التحقّق إلى
عرض الضرب والثاني إلى الإضافة المخصوصة ، والشاهد على شمول محلّ النزاع لما كان
بهذا الوصف من الجوامد ما حكي عن الإيضاح والمسالك في مسألة ما لو أرضعت إحدى
الزوجتين الكبيرتين الزوجة الصغيرة بالرضاع الكامل ، ثمّ أرضعتها الاخرى كذلك وكان
ذلك بعد الدخول بالكبيرتين من الترديد في حرمة الكبيرة الثانية بعد القطع بحرمة
الصغيرة ؛ لكونها ربيبة ، والكبيرة الاولى لصيرورتها أمّ الزوجة مستندا في الترديد
في الثانية إلى أنّ زوجيّة الصغيرة قد ارتفعت بإرضاع الاولى ، فصدق أمّ الزوجة على
المرضعة الثانية مبنيّ على كون المشتق حقيقة فيما انقضى.
ثمّ إنّه ربّما
يتوّهم أنّ سبب التحريم في الكبيرة وصف كونها أمّ الزوجة ، وفي الصغيرة وصف كونها
ربيبة ، وهذا يستلزم لأن تبقى زوجيّة الكبيرة ليطرأ على الصغيرة عنوان الربيبة
فينعدم زوجيّتها ، وأن تبقى زوجيّة الصغيرة ليطرأ على الكبيرة عنوان أمّ الزوجة ،
فينعدم زوجيّتها فيصير بقاء كلّ من الزوجيّتين علّة لزوال الاخرى ، وحينئذ فإن
تقارنا في التأثير يلزم اجتماع الوجود والعدم في كليهما في زمان واحد ، وإن تعاقبا
فيه يلزم أن يصير المؤثّر المتأخّر موجودا بعد الانعدام.
فالوجه أن يقال :
لا شكّ أنّ بقاء كلتا الزوجيّتين وعدم ارتفاع شيء منهما مناف لأدلّة تحريم أمّ
الزوجة والربيبة ، ولا يمكن الالتزام بانعدام احدى الزوجيّتين
في الزمان السابق
المتّصل بزمان تحقّق الرضاع الكامل وبقاء الاخرى وإن كان واقعا ، لمحذور مخالفة
هذه الأدلّة كما هو واضح ؛ لكونه ترجيحا بلا مرجّح ، فلا بدّ من الالتزام بانعدام
كلتيهما في الزمان المذكور لدفع حصول العنوانين لا لأجله ، أو الالتزام ببقاء
كلتيهما وعدم زوال شيء منهما أصلا وأنّ الأدلة المذكورة مخصّصة بهذا المورد.
الثاني : قد اشتهر
بين النحاة دلالة الافعال على الزمان وجعلوها المائز بينها وبين الأسماء ، والحقّ
أنّ صيغة الأمر والنهي لا دلالة لهما على الزمان أصلا ، ويصحّ إطلاقهما على الحال
والاستقبال من دون فرق وإن كان بتصرف الحال العرفي من الإطلاق في أوامر غير الشارع
، ألا ترى أنّ قولك : اضرب غدا أو بعد خمسين سنة صحيح بدون تجوّز ، كما في قولك :
زيد ضارب غدا أو بعد خمسين سنة ، فكما لا دلالة للثاني على الزمان فكذا الأوّل.
نعم إيقاع الطلب
لا بدّ أن يقع في الزمان كغيره من الإنشاءات وكالإخبار لكنّه تقييد عقليّ لا من
باب أخذ الزمان في مفهومهما ، هذا هو الحال في الأوامر والنواهي الفارسيّة ويستكشف
منها الحال في الأوامر والنواهي العربيّة ، وذلك لأنّا نقطع بأنّ لفظ «بزن» مثلا
في الفارسيّة حاله حال لفظ «اضرب» في العربيّة بلا فرق كقطعنا بكون لفظ «آ» في هذه
اللغة مرادفا للفظ «الماء» في تلك فيكفي الرجوع إلى أذهاننا في تشخيص معانيها، ولا
حاجة إلى الرجوع إلى العرب.
وأمّا الفعل
الماضي فالحقّ أنّه يستقاد منه الكون من قبل ، وأمّا أنّ لهذه القبليّة مبدأ أولا؟
فغير مفهوم من اللفظ ، نعم لازم حدوث الفاعل هو الأوّل ولازم قدمه الثاني ، وهذه
القبليّة غير الزمان الاصطلاحي الحاصل من حركة الفلك ، كيف وهو يتّصف بها ، ويشهد
لما ذكرنا أنّا لا نجد فرقا بين قولنا : علم الله ومضى الزمان وبين قولنا : علم
زيد ومضى عمرو ، مع أنّه لو كان المأخوذ هو الزمان الاصطلاحي لكان الإطلاقان
الأوّلان مجازا ، ومثل هذا يجري في المضارع أيضا فإنّه يدّل على الصدور من بعد وهو
غير الزمان ، ولهذا يصحّ قولك : يأتي الزمان ويخلق الله. وحينئذ فإن
كان المراد
بالزمان الماضي والاستقبال الواقع في كلمات القوم في هذا المقام هو ما ذكرنا وكان
التعبير به من باب ضيق العبارة فحسن ، وإن كان المراد هو الزمان الاصطلاحي ففيه ما
عرفت.
وأمّا الفعل
المستقبل فقد صرّح النحاة باشتراكه بين الحال والاستقبال ، أمّا استعماله في الاستقبال
فواضح ، وأمّا في الحال ففيه إشكال ؛ لعدم صحّة قولنا : «يقوم» بالنسبة إلى حال
التلبّس مع صحّة قولنا : «قائم» وعدم صحّة قولنا : أرى في الأمس بالنسبة إلى هذا
الحال ، مع أنّ المراد بالحال في هذا المقام وفي باب المشتق واحد ، ويأتى أنّه
هناك زمان الإجراء والنسبة ، ولكن يصحّ أن يقال في الأربعاء : جاءني زيد فى يوم
الاثنين وكان يضرب عمروا في يوم الثلثاء.
وأمّا صحّة قولنا
: يصلّي وقولنا : أرى القمر بالنسبة إلى حال التلبّس فهي لأجل أنّ الاتّصاف
بالصلاة إنّما هو بالإتمام ، فزمان الاتّصاف بالنسبة إلى حال الاشتغال الذي هو
زمان النسبة مستقبل.
ألا ترى أنّه لا
يصح قولنا : يشتغل بالصلاة بالنسبة إلى هذا الحال مع صحّة «مشتغل» ، وأمّا المثال
الثاني فيصحّ في مكانه رأيت القمر أيضا ، ألا ترى أنّه يقال لرائي القمر في حال
الرؤية هل رأيت القمر؟ فيقول نعم ويقال : هل ترى القمر؟ فيقول أيضا : نعم ، فإن
صحّحت الماضويّة في الأوّل بالآن العقلي فصحّح الاستقباليّة أيضا في الثاني به ،
وإن اردت بالحال الزمان القريب بالحاضر من الاستقبال فمثله يجري في الماضي أيضا ،
فهلّا تقول بأنّ فعل الماضي أيضا مشترك بين المضيّ والحال؟
الثالث : لا إشكال
أنّ الماضويّة والحاليّة والاستقباليّة إنّما يعتبر في هذا الباب بالنسبة إلى زمان
الإجراء والنسبة ، فزمان الاتّصاف لو كان حالا بالنسبة إلى زمان النسبة فهذا مورد
الاتّفاق على كون المشتق حقيقة ، ولو كان مستقبلا بالنسبة إليه فهذا محلّ الإطباق
على كونه مجازا ، ولو كان ماضيا بالإضافة إليه فهذا محلّ الكلام في كونه حقيقة أو
مجازا ، سواء كان في جميع هذه الصور زمان الاتّصاف بالنسبة إلى زمان النطق ماضيا
أم حالا أم مستقبلا، وعلى هذا فقولنا : زيد ضارب غدا ليس
من باب الإطلاق
على المستقبل مطلقا ، كما يظهر من النحاة ، بل لو اعتبر الغد ظرفا للضرب وكان زمان
النسبة هو زمان النطق فكان المعنى زيد ضارب الآن بملاحظة اتّصافه بالضرب غدا ،
وأمّا لو اعتبر ظرفا للنسبة فهو من باب الإطلاق على الحال.
الرابع : اختلاف
المشتقّات في المبادي لا يوجب اختلافها في الدخول تحت هذا النزاع الواقع في وضع
هيئتها ؛ فإنّ بعض المبادي يعتبر فيه الفعليّة كما في مبدإ الضارب ، وبعضها وهو ما
كان من قبيل الحرفة أو الصناعة يعتبر فيه عدم إعراض الفاعل عنه كما في مبدإ
البقّال والنجّار ، وبعضها وهو ما كان من قبيل الملكة يعتبر فيه عدم زوال الملكة
كما فى مبدإ الفقيه ، وهذا إمّا من باب المجاز في الكلمة بأن استعمل هذه المبادي
أوّلا في الحرفة والصناعة والملكة ثمّ اشتقّ منها هذه الصفات ، وإمّا من باب
المجاز العقلي الادّعائي بأن نزّل الفارغ عن حرفته أو صناعته الغير المعرض عنه
منزلة المشتغل به تغليبا لجانب الاشتغال الغالب على جانب الفراغ النادر ، ونزّل
القوّة القريبة من الفعليّة وهي الملكة في حال الغفلة أو النوم منزلة الفعليّة.
وكيف كان فعدّ
المشتقّ في الصور الثلاث الأخيرة مجمعا على وضعه بإزاء الأعمّ ممّا لا وجه له ،
فيلاحظ الماضويّة والحاليّة والاستقباليّة في زمان النسبة بالإضافة إلى زمان
الاتّصاف بالملكة أو الحرفة أو الصناعة.
الخامس : لا أصل
في نفس هذه المسألة حتّى يعول عليه عند فقدان الدليل على كلا القولين كما هو الحال
في أكثر المسائل الاصوليّة ، فلا بدّ من الرجوع في كلّ فرع إلى أصل هذا الفرع وهو
يختلف باختلاف الفروع ، فإذا ورد أكرم العلماء وشكّ في وجوب إكرام زيد العالم في
السابق الجاهل حين ورود الخطاب فالأصل هو البراءة ؛ لأنّ الشكّ في أصل التكليف مع
عدم الحالة السابقة ، ولو كان عالما حين الخطاب ثمّ جهل فشكّ في بقاء وجوب إكرامه
فالأصل هو الاستصحاب وهكذا.
إذا عرفت ذلك
فنقول : الحقّ أنّ المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في زمان النسبة ومجاز في
غيره ، وإثبات ذلك لا يتوقّف على التبادر بل يمكن بمقدّمتين
مسلّمتين متّفق
عليهما ، الاولى : أنّ الزمان خارج عن مفهوم الأسماء من غير فرق بين المشتقّات
والجوامد ، الثانية : أنّ مفهوم المشتق إمّا عبارة عن ذات ثبت له المبدا ، فمفهوم
الضارب مثلا مركّب من الذات والضرب والاتّصاف بالضرب كما هو رأى المتقدّمين ،
وإمّا عبارة عن أمر بسيط منتزع عن مجموع هذه الثلاثة ، كما هو رأى السيّد الشريف
ومن تأخّر عنه ويأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى ، فمطلق دخل الوصف كالذات في تحقّق
مفهوم المشتق أعمّ من أن يكون بنحو جزئيّته له أو بنحو كونه منشأ لانتزاعه مسلّم
متّفق عليه.
فنقول : لازم
هاتين المقدّمتين أن لا يصح إطلاق المشتقّ على نحو الحقيقة لو لم يكن وصف متحقّقا
في الزمان الذي يكون الإطلاق باعتباره ، كما لا يصحّ لو لم يكن ذات متحقّقه فيه ،
وتحقّق الوصف في الزمان السابق على الزمان المذكور غير مجد ؛ لأنّ الزمان الماضي
غير داخل في مفهوم المشتق بالفرض ، والحال أيضا وإن كان كذلك إلّا أنّه زمان يكون
الإطلاق والإجراء بملاحظته ، ألا ترى أنّ إطلاق لفظ الماء بملاحظة زمان الدخانيّة
ليس بحقيقة مع تحقّق المائية في السابق ، وكذا لو فقد بعض ذاتيّات الإنسان كأن زال
القوّة العاقلة وصار مسخا ، فإطلاقه بملاحظة زمان زوال القوّة العاقلة مجاز مع
تحقّقها في السابق.
نعم لو كان للزمان
دخل في مفهوم المشتق كان إطلاق الضارب الحالي في صورة الانقضاء مجازا وإطلاق
الضارب الأمسي مثلا حقيقة لكون الضرب الأمسي موجودا في وعاء الدهر.
وقد استدل للأعمّي
في هذا الباب بأنّه قد استدلّ الإمام عليهالسلام تأسّيا بالنبي صلىاللهعليهوآله كما عن غير واحد من الأخبار على عدم لياقة من عبد صنما أو
وثنا لمنصب الخلافة بقوله تعالى: (لا يَنالُ عَهْدِي
الظَّالِمِينَ) تعريضا بمن تصدّى لها ممّن عبد الصنم مدّة مديدة ، وهذا
التعريض بضميمة مقدّمتين مسلّمتين يثبت المدّعى.
الاولى : أنّ
الغرض من هذا الاستدلال إبطال خلافة الثلاثة لعنهم الله إلزاما
للمخالفين وإتماما
للحجة عليهم ، فلا محالة يكون على وجه استدلال العالم للعالم لا إبطالها بطريق
الطعن والشتم حتى لا يفيد إلّا للمستبصر ويكون على وجه التعبّد.
الثانية : ظاهر
تعليق فعل موضوع لحكم على عنوان اتّحاد زمان هذا الفعل مع زمان صدق هذا العنوان ،
فإذا قيل : أكرم العالم فمعناه : أكرم من يكون عالما يعني مصداقا لهذا العنوان في
حال الإكرام ، فلا يشمل إكرام من لم يكن مصداقا له في هذا الحال وإن كان كذلك في
زمان آخر ، وهذه المقدّمة أيضا مسلّمة بين الطرفين وإنّما الاختلاف في أنّه هل
يكون من تلبّس بالمبدإ في الماضي وانقضى عنه في الحال مصداقا لعنوان المشتق أولا ،
فالنزاع بالنسبة إلى هذه المقدّمة صغروي.
فنقول : لو كان
المشتق حقيقة في خصوص المتلبّس بالمبدإ في الحال لما استدلّ الإمام بهذه الآية على
بطلان خلافة الثلاثة ، لإمكان أن يقال في الجواب : إنّ ظاهر تعليق عدم النيل على
عنوان الظالم اختصاصه بمن كان مصداقا حقيقيّا لهذا العنوان في حال النيل ، فلا
يشمل من كان كذلك في الزمان السابق دون حال النيل ، فحيث استدلّ بها وعدّها دليلا
تامّا على هذا المطلب علم أنّ المصداق الحقيقي للمشتق لا ينحصر في المتلبّس
بالمبدإ فعلا ، بل كلّ من اتّصف به في زمان فهو يصير مصداقا حقيقيّا للمشتق بعد
هذا الزمان أبدا.
واجيب بأنّ إطلاق
المشتق على من انقضى عنه المبدا باعتبار حال التلبّس حقيقة ، فإطلاق الظالمين في
الآية إنّما هو بهذا الاعتبار ، فيكون المعنى والله العالم : لا ينال عهدي من ظلم
في زمان بعد هذا الزمان أبدا. وفساده ظهر ممّا ذكر في المقدّمة الثانية.
ويمكن أن يقال :
إنّه إذا كان مبدأ العنوان المذكور في الخطاب آنيّا فلا بدّ من الالتزام بكون زمان
الفعل المعلّق عليه بعد انقضائه ، وحينئذ فلا يصير الخطاب شاهدا لواحد من الأعمّي
والأخصّي ؛ لأنّ المراد منه معلوم ، فيعلم أنّ قطع يد السارق مثلا واجب وأنّ زمان
القطع بعد زمان السرقة لا محالة ، فيبقى النزاع في أنّ إطلاق اسم السارق على هذا
الذي يجب قطع يده حقيقة أو مجاز ، فإن قلنا بالأوّل
استرحنا ، وإن
قلنا بالثاني فلا بدّ من الالتزام بكون إطلاق الشارع في الآية بملاحظة زمان
الاتّصاف ورفع اليد عن ظهور تعليق الفعل على العنوان في اتّحاد زمانيهما من باب
الإلجاء.
فنقول : ليس جميع
اقسام الظلم باقيا مستمرّا ، بل بعضها كذلك كالكفر وبعضها آنيّ الحصول كضرب اليتيم
، ولا شكّ أنّ عدم النيل بالنسبة إلى الفرد الآني من الظلم لا بدّ أن يعتبر زمانه
متأخّرا عن زمان وقوع الظلم ، ولفظ الظالمين في الآية عام لجميع الأفراد ، وشموله
للفرد المتّصف بالظلم الآني يوجب الغاء الظهور المذكور للتعليق حتّى بالنسبة إلى
الفرد الباقي ظلمه ؛ ضرورة أنّ الحكم قد شمل الأفراد بنهج واحد لاتّحاد القضيّة ،
فيكون معنى الآية والله العالم : كلّ من ارتكب الظلم ولو آنا في الزمان السابق لا
يناله عهدي أبدا ، فإذا اتّضح أنّ المراد بالآية هذا فلا يكون استدلال الإمام بها
شاهدا لا للأعمّي ولا للأخصّي ؛ لتماميّته بعد وضوح المراد على كلا القولين.
وقد أجاب في
الكفاية بما حاصله أنّ الأوصاف العنوانيّة المأخوذة في موضوعات الاحكام قد لا يكون
لها مدخليّة في ثبوت الحكم لا حدوثا ولا بقاء ، بل إنّما هي معرّفات للخارج واتي
بها لأجل الإشارة إليه كما هو الحال في كلمة هؤلاء كما في قولنا : أكرم الحاضرين ؛
فإنّ من المعلوم أنّ الحضور لا مدخليّة له في وجوب الإكرام ، وقد يكون لها مدخليّة
فيه ، وحينئذ فإمّا أن يكون مجرّد حدوث الوصف كافيا في حدوث الحكم وبقائه ولا يكون
بقاء الحكم منوطا ببقائه ، وإمّا أن لا يكون كذلك بل يكون الحكم دائرا مدار الوصف
حدوثا وبقاء ، ويحتمل الوجهان في قولنا : الماء المتغيّر نجس.
فالتعليق في الآية
لو كان على الوجه الأخير فتماميّة استدلال الإمام يتوقّف على كون المشتق حقيقة في
الأعمّ كما هو واضح ، وأمّا لو كان على الوجه الثاني فيتمّ الاستدلال على كلا
القولين كما لا يخفى ، ويمكن أن يجعل جلالة قدر منصب الإمامة والخلافة وعظمة خطره
بحيث يناسب أن لا يكون المتضمّن به متلبّسا بالظلم أصلا
قرينة على كونه
على هذا الوجه.
ولكن لا يخفى أنّ
الظاهر من التعليق فيما إذا كان الحكم والوصف متناسبين هو العليّة على الوجه
الأخير ، وجلالة قدر الخلافة وعظمته لا يصلح لأن يجعل قرينة على الوجه الثاني ؛
لأنّ الاستدلال المبتني على هذا الجعل غير ملزم للخصم ؛ لعدم اعترافه بهذه الجلالة
والعظمة للخلافة ، ومن المعلوم أنّ استدلال الإمام بظاهر الآية للخصم إنّما هو على
وجه استدلال العالم للعالم ، فلا بدّ أن لا يكون شيء من مقدّماته مأخوذا منه على
وجه التعبّد كما عرفت في المقدّمة الاولى ، فالغرض إنّما هو إلزام الخصم بظاهر
الآية من دون أن يكون في البين تعبّد ، فلا يتمّ الاستدلال إلّا على القول بكون
المشتق حقيقة في الأعمّ ، فالحقّ في الجواب هو ما ذكرنا.
تنبيهات
الأوّل : مفهوم
المشتق كما ذهب إليه السيّد الشريف ومن تأخّر عنه مفهوم واحد بسيط ، ويدّل عليه
التبادر القطعي ، فإنّا إذا رجعنا إلى أنفسنا وجدنا أنّ المفهوم من لفظ الضارب
والقائم والجالس وما يرادفها من سائر اللغات معنى واحد مندمج فيه الذات والوصف
والاتّصاف ومنتزع عنها ، لا هذه الثلاثة على نحو التفصيل ، كما أنّ المفهوم من لفظ
الإنسان مفهوم وحدانيّ بسيط مندمج فيه الحيوان والناطق ، لا هما على وجه التفصيل ،
وما اشتهر من أنّ مفهوم المشتقّ ذات ثبت له المبدا فإنّما الغرض منه التفهيم
والتعلّم.
وبالجملة فإنّا
نقطع بأنّ حال المشتقّات حال لفظ الإنسان ، ونقطع أيضا بأنّ مفهوم الإنسان مغاير
لمفهوم الحيوان الناطق بالإجمال والتفصيل ، وإلّا لم يصحّ الحمل ، فيكون معاني
المشتقّات مغايرة لمفهوم ذات ثبت له المبدا بالإجمال والتفصيل أيضا.
وحكي عن السيّد
المذكور تعليل ذلك بما حاصله أنّه لو كان المأخوذ في معنى المشتق مفهوم الذات
والشيء لزم أخذ العرض العام في مفهوم الفصل كالناطق و
نحوه ، فإنّ عنوان
الذات والشيء إنّما ينتزع من الشيء بعد تماميّة وجوده بتماميّة مقدّمات الوجود من
الجنس والفصل والخصوصيّة ، فهو متأخّر رتبة عن الذاتيّات فكيف يكون منها وفي عرضها
، ومن الواضح عدم اختصاصه بأفراد حقيقة واحدة ، فيكون عرضا عامّا ، غاية الأمر
أنّه من العوارض اللازمة للمعروض ، ولو كان المأخوذ هو مصداق هذا المفهوم لزم
انقلاب مادّة الإمكان ضرورة ، ضرورة أنّ مصداق الذات في قولنا : زيد قائم هو زيد ،
وفي قولنا : الإنسان كاتب هو الإنسان ، وثبوت الشيء لنفسه ضروري.
وذكر في الفصول ما
حاصله : أنّه يمكن أن نختار الشقّ الأوّل وندفع الإشكال بأنّ الناطق مثلا وإن كان
معناه بحسب العرف واللغة مشتملا على مفهوم الذات ، لكنّ المنطقيين حيث جعلوه فصلا
للإنسان جرّدوه عنه واستعلموه في جزء معناه مجازا ، ويمكن أن نختار الشق الثاني
وندفع الإشكال بأنّ ذات المقيّد مع قطع النظر عن القيد وإن كان ضروريّا، لكن القيد
ممكن ، والمقيّد بما هو مقيّد يصير ممكنا بإمكان قيده ، ولهذا يكون النتيجة تابعة
لأخسّ المقدّمات.
وأورد في الكفاية
على دفعه على التقدير الأوّل بأنّ الظاهر أنّ المنطقيّين جعلوا لفظ الناطق مثلا
فصلا بمعناه الثابت عند العرف واللغة من دون تصرّف فيه ، ثمّ اختار في دفع الإشكال
ما حاصله أنّ الناطق مثلا ليس فصلا حقيقيّا ؛ فإنّ الفصول الحقيقيّة للأشياء لا
يعلمها إلّا الله ؛ إذ النطق بمعنى إدراك الكليّات مثلا لو كان المراد منه ما يحصل
للعوام أيضا فهو حاصل لبعض الحيوانات قطعا ، وإن كان المراد منه ما لا يحصل إلّا
لبعض الخواص لزم خروج غيرهم عن تحت الإنسانيّة ، فمقصود المنطقيّين ليس التعبير
بهذه الألفاظ عن الفصول الحقيقيّة التي لا سبيل إلى معرفتها ، بل عمّا يمتاز به
الشيء عمّا عداه من أظهر خواصّه ولوازمه ، ومن هنا ظهر أنّ التعريف بالحدّ التام
غير ممكن لنا ، وإنّما الممكن هو الثلاثة الباقية. والحاصل أنّه يلزم من أخذ مفهوم
الذات في معنى المشتق دخل العرض العام في الخاصّة لا دخله في الفصل.
ثمّ إنّ في الفصول
ـ بعد دفع الإشكال على التقدير الثاني بما ذكر ـ ما لفظه : وفيه نظر ؛ لأنّ الذات
المأخوذة مقيّدة بالوصف قوّة أو فعلا إن كانت مقيّدة به واقعا صدق الإيجاب
بالضرورة وإلّا صدق السلب بالضرورة ، مثلا لا يصدق زيد كاتب بالضرورة ، لكن يصدق
زيد الكاتب بالفعل أو بالقوّة بالضرورة ، انتهى.
لم أفهم معنى هذه
العبارة وليس معناه أنّ الزيد مثلا إن كان متلبّسا بالكتابة واقعا فهو كاتب
بالضرورة ، وإلّا فليس بكاتب بالضرورة ؛ إذ هذا المعنى لا يخفى فساده على أدنى
الطلبة فكيف على الفاضل المذكور ؛ لأنّ من الواضح أنّ اعتبار الجهة في القضيّة
إنّما هو مع قطع النظر عن الثبوت وعدم الثبوت الواقعيين وإلّا لزم انحصار الجهة في
الضرورة ؛ إذ كلّ محمول لا محالة إمّا ثابت لموضوعه واقعا وإمّا لا.
وغاية ما يمكن أن
يوجّه به كلام السيّد الشريف في الشقّ الثاني هو أن يقال : إنّه لا شكّ أنّ إجراء
الوصف على الذات مشتمل على الحمل الضمني ومفيد لفائدة القضيّة الخبريّة من الحكاية
عن الواقع ؛ ضرورة أنّ قولنا : زيد الذي أبوه عالم شاعر هرم جاءني يدلّ بالالتزام
على مفاد أنّ لزيد أبا وأنّ أباه عالم وشاعر وهرم ، مع أنّ المتكلّم قد فرض الذات
المحفوفة بهذه الاوصاف مفروغا عنها ، بل زيد في قولنا : زيد قائم ، أيضا دالّ على
مفاد زيد موجود وإن كان المتكلّم قد لاحظ الزيد المحفوف بالوجود شيئا واحدا مفروغا
عنه ، بل الحال في زيد معدوم أيضا كذلك إلّا أنّه دالّ على وجود زيد في نفس الأمر.
وبالجملة ، فحيث
إنّ وجود الموضوع في أحد العوالم الثلاثة يكون مفروغا عنه لا محالة ، فيدلّ لفظه
على كونه موجودا في هذا العالم بالالتزام ، وهذا هو المراد بقولهم : إنّ الأوصاف
قبل العلم بها أخبار ، كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف.
فالمعنى أنّ
الأوصاف والقيود المذكورة قبل مجيء الحكم والتصديق بالنسبة الخبريّة بمنزلة
الأخبار ومفيدة لفائدتها ، سواء كانت في طرف الموضوع أو المحمول كما في قولنا :
زيد هو العالم الذي ابوه عالم هرم ، وإن كان العلم المتعلّق بها بسيطا وهو غير
العلم المعتبر في تحقّق القضيّة أعني : الحكم باتحاد الذات والوصف بعد فرض
كلّ منهما منفردا
عن الآخر ، ومعنى الفقرة الثانية أنّ الأخبار بعد تحقّق التصديق بالنسبة والجزم
بالاتّحاد يصير أوصافا لصيرورتها حينئذ مع الذوات شيئا واحدا مفروغا عنه ، وليس
المراد كما توهّم من أنّ الأوصاف يكون بمنزلة الأخبار في الإفادة فيما إذا جهل
السامع بثبوتها للموصوف ، كما أنّ الأخبار تكون بمنزلة الأوصاف في عدم الإفادة
فيما إذا كان السامع عالما بها من السابق ، وذلك لوضوح عدم دخل العلم والجهل في
حقيقة الخبر والوصف.
وكيف كان فقولنا :
زيد قائم لو كان معناه زيد زيد ثبت له القيام لكان منحلّا إلى قضيتين إحداهما
ضمنيّة وهي : زيد زيد ، والاخرى أصليّة وهي : زيد ثبت له القيام ، ومن المعلوم أنّ
الاولى ضروريّة ، فيلزم أن تكون هذه القضيّة مشتملة على الضروريّة ، والوجدان كما
أنّه قاطع بعدم كونها ضروريّة كذلك قاطع أيضا بعدم اشتمالها على ضروريّة أصلا.
لكن يمكن أن يقال
في دفع هذا أنّه وإن كان مرجع كلّ قيد سواء كان في طرف الموضوع أم المحمول إلى حمل
ضمنيّ ، إلّا أنّ مناط الوحدة والتعدّد إنّما هو وحدة النسبة الأخيرة التي هي
أصليّة وتعدّدها. فإن كانت هذه النسبة واحدة تكون القضيّة واحدة ، فيصير موجّهة
بمادّة هذه النسبة ، وإن كانت مادّة غيرها من النسب الضمنيّة مخالفة لمادّتها فلا
يلزم من أخذ مصداق الذات في مفهوم المشتق كون القضيّة الممكنة في مثل قولنا : زيد
قائم ، مركبّة من الضروريّة والممكنة.
ثمّ إنّ في
الكفاية توجيها لإشكال السيد على التقدير الثاني وحاصله : أنّه إن كان المحمول ذات
المقيّد وكان القيد خارجا وإن كان التقيّد الذي هو معنى حرفي داخلا لزم كون الممكنة
ضروريّة ؛ فإنّ معنى زيد قائم على هذا : زيد الزيد الخاص ، وهذا ضروري ، وإن كان
المقيّد بما هو مقيّد بأن كان القيد داخلا لزم انحلال الممكنة إلى ضروريّة وممكنة
فذكر البيان المتقدّم هنا.
وأنت خبير بأنّ
التقييد ليس على قسمين وأنّ مرجع ما ذكره في الوجه الثاني إلى التركيب ، فكلامه قدسسره هذا مخدوش ـ مضافا إلى استبعاد أن يكون
مرادهم دخل الذات
والوصف والاتّصاف في معنى المشتق على وجه التركيب وكون كلّ في عرض الآخر ـ بأنّه
لا معنى لما ذكره في الوجه الأوّل ؛ فإنّ التقيّد إذا كان داخلا فحمل المقيّد على
المطلق ليس بضروريّ كما هو واضح. الثاني : نقل في الفصول ذهاب جماعة من أهل
المعقول إلى أنّ الفرق بين المشتق ومبدئه هو الفرق بين الشيء لا بشرط وبينه بشرط
لا، وظاهر هذا أنّ أصل المعنى واحد في كليهما ، لكنّه قد اعتبر بشرط لا في أحدهما
فامتنع حمله على الذات ، وفي الآخر لا بشرط فصحّ حمله عليها ، فجعلوا الفرق بين
العرض والعرضي كالفرق بين الجنس والمادّة وبين الفصل والصورة ؛ فإنّ أصل المعنى في
الأوّلين هو الجزء المشترك ، وفي الأخيرين هو الجزء المختصّ الذي به يمتاز الشيء
عمّا عداه ، فإذا اعتبرا لا بشرط سمّي الأوّل بالجنس والثاني بالفصل ، وصحّ حمل
كلّ منهما على الآخر وعلى الكلّ ، وحمل الكلّ على كلّ منهما ، وإذا اعتبرا بشرط لا
سمّي الأوّل بالمادّة والثاني بالصورة وامتنع حمل كلّ على الآخر وعلى الكلّ ، وحمل
الكلّ على كلّ منها ، ولهذا يمتنع «زيد بدن» أو نفس ، ولكن يصحّ «زيد حيوان» أو ناطق
، وكذا الكلام في الجزء المركب الخارجي ؛ فإنّه باعتباره اللابشرطي أي بلحاظه في
ضمن الكلّ على ما هو عليه في الخارج عين الكلّ ، وباعتباره البشرطلائي أي بلحاظه
مستقلا غيره ومقدّمته.
لكن أورد في
الفصول على هذا الكلام بما حاصله أنّه لو لم يكن بين المشتقّ ومبدئه فرق في سوى
الاعتبار المذكور وكان أصل المعنى في كليهما هو المعنى الحدثي كما هو صريح كلامهم
، فلا شكّ أنّ المعنى الحدثي عرض قائم بالذات فهو غير الذات وإن لحقه ألف اعتبار
لا بشرطي ؛ إذ معنى اللابشرطيّة عدم المنافاة للغير لا الاتّحاد معه ، وقضيّة
الغيريّة أن لا يصحّ الحكم باتحادهما إلّا بوجه من العناية ، فلازم كلامهم على هذا
أن يكون حمل الضارب على الذات محتاجا إلى العناية ، والوجدان يقطع بخلافه.
فيستكشف من ذلك
أنّ المغايرة بين المشتقّ ومبدئه في أصل المفهوم وأنّ مفهوم المشتقّ مفهوم يصحّ
حمله على الذات بلا عناية ، كما أنّ مفهوم المصدر مفهوم لا يصحّ حمله وإن لحقه ألف
اعتبار لا بشرطي إلّا بعناية ، وأمّا أنّ هذا المفهوم في طرف
المشتقّ ما ذا؟
فاختار أنّه مفهوم ذو المضاف إلى المبدا ، فجعل الفرق بين المشتقّ ومبدئه هو الفرق
بين الشيء وذو الشيء.
ولا بدّ أوّلا من
كشف القناع عن مرام أهل المعقول ثمّ النظر فيه ، فاعلم أنّ حال العرض في الخارج
أنّه ليس له وجود منحاز عن وجود المحلّ محدود بحدّ مستقلّ حتى يكون هو والمحلّ
وجودين محدودين بحدّين كان الأوّل منهما محمولا على الثاني نظير الأعرج المحمول
على الصحيح ، بل هو كيف وجود المحلّ وطوره وحدّه ، وما يتخصّص هو به وإن كان له
أيضا وجود ، لكنّه مندكّ في وجود المحلّ بحيث ليس في البين حقيقة إلّا وجود واحد
محدود بحدّ خاص ، لكن لنا إفراده عن المحلّ في اللحاظ.
وحينئذ يمكن لحاظه
بوجهين :
الأوّل : أن يلحظ
معرّفا لنحو وجوده الخارجي وحاكيا عن الخارج على ما هو عليه من الاندكاك في المحلّ
والعينيّة معه ، فحدث الضرب في هذا اللحاظ يكون مفادا للفظ الضارب ويصحّ حمله على
الذات لا محالة ، ومعنى لا بشرطيّته كونه باقيا على ما هو عليه في الواقع من دون
تصرّف فيه أصلا.
الثاني : أن يلحظه
كأنّه في الخارج شيء في قبال المحلّ ومحدود بحدّ مستقلّ ، وحدث الضرب بهذا اللحاظ
يكون مفاد لفظ الضرب ، فحاله في هذا اللحاظ بالنسبة إلى المحلّ حال الغلام بالنسبة
إلى زيد يقبل الإضافة ولا يقبل الحمل ، ومعنى كونه بشرط لا لحاظه وحده بدون انضمام
شيء إليه.
وأمّا ما ذكروه في
الفرق بين الجنس والفصل والمادّة والصورة فبيانه : أنّ الجزء المشترك الذاتي للشيء
يمكن لحاظه على نحوين :
الأوّل : أن يلحظ
معرّفا لنحو وجوده في الخارج وإشارة إليه من الاتّحاد مع الشيء في الوجود ،
فالحيوان بهذا اللحاظ يسمّى بالجنس ويصحّ حمله على الشيء وعلى الجزء الآخر ،
وحملها عليه لمكان الاتّحاد ، ومعنى لا بشرطيّته كونه باقيا على ما هو عليه في
الواقع من دون تصرّف فيه أصلا كما عرفت في سابقه.
الثاني : أن يلحظ
كأنّه في الخارج شيء منحاز عن الكلّ محدود بحدّ مستقلّ ، و
الحيوان بهذا
اللحاظ يسمّى بالمادّة ويمتنع حمله على الكلّ وعلى الجزء الآخر وحملها عليه لمكان
المغايرة ، ومعنى كونه بشرط لا هو ما تقدّم ، وكذا الكلام في الجزء المختصّ
بالنسبة إلى الفصل والصورة.
أمّا الكلام في
أجزاء المركّب فهو أنّه لا شكّ أنّ هذه الأجزاء في الخارج أشياء غير مجتمعة في
الوجود كلّما يوجد لا حقها ينعدم سابقها ، فلا يحصل لها تركيب خارجيّ ، ولكن يمكن
اجتماعها في ذهن ذاهن كالآمر ؛ فإنّه إذا تعلّق الغرض الواحد منه بأفعال متعدّدة
يلاحظ المجموع منها من حيث المجموع شيئا واحدا ويأمر به ، فواقع الجزئيّة والكليّة
يتحقّق في هذا اللحاظ ، يعني يتّصف هذا المركّب الذهني الحاكي عن الخارج بالكليّة
وكونه مأمورا به وكلّ واحد ممّا هو متألّف منه من الصور الذهنيّة لتلك الأفعال
بالجزئيّة ، ولكن لا يمكن للاحظ في نفس هذا اللحاظ أن يحكم على الأجزاء بالجزئيّة
، لاحتياج ذلك إلى لحاظها مستقلا ، وهي غير ملحوظ كذلك في هذا اللحاظ ، بل حالها
حال المعنى الحرفي.
فلا بدّ من لحاظ
ثانوي متعلّق بالجزء إمّا من هذا اللاحظ أو من لاحظ آخر وهو يتصوّر على نحوين :
الأوّل : أن يلحظ
الجزء مستقلا ويشار به إلى جزء ذاك المركّب في ذاك اللحاظ كالحمد إذا لوحظ واشير
به إلى جزء المركّب الصلاتي الموجود في ذهن ذاهن ، وبهذا اللحاظ يصحّ الحكم
بجزئيّته لذاك المركّب واتّحاده معه وحمله عليه ، ولا يخفى أنّ نفس هذا الملحوظ
الذي هو آلة للحاظ الجزء مباين لذاك المركّب ، ويسمّى هذا اللحاظ لا بشرطيّا
بالمعنى المتقدّم.
الثاني : أن يلحظ
الجزء بحدّه كالحمد إذا لوحظ نفسه من حيث هو هو ، وفي هذا اللحاظ يصير الجزء
مباينا للكلّ ويصحّ الحكم باحتياج الكلّ إليه ومقدميّته للكلّ ويسمّى باللحاظ
البشرطلائى.
هذا كلّه في
المركّب الاعتباري ، وكذا الكلام في المركّب الحقيقي كماء الحوض ؛ فإنّه قد أحاط
به بتمام قطراته وجود واحد ؛ إذ لو كان كلّ قطرة موجودة بوجود مستقلّ
لزم وجود الجزء
الغير المتجزّى وهو باطل ، بيان الملازمة أنّه لا بدّ حينئذ من تقسيم كلّ قطرة
أيضا إلى أن ينتهي إلى ما لا يقبل القسمة ، فيكون الماء المذكور وجودات متكثّره
منضمّ بعضها إلى بعض نظير ألف ألف حبّة من الخردل المجتمع في محلّ واحد.
أمّا بطلان الجزء
الغير المتجزّى فلأنّه يلزم منه أن لا يكون للجسم واقعيّة أصلا ؛ إذ كلّ ما نراه
جسما فهو على هذا التقدير وجودات مجتمعة لا يقبل شيء منها للأبعاد الثلاثة.
ونزاع المشائيّين
والإشراقيّين في أنّ تفرقة ماء كوز إلى كوزين هل هو إعدام شخص وإيجاد شخصين آخرين
، أو هو مجرّد تغيير الصورة مبنيّ على بطلان الجزء الغير المتجزى وعدمه ، فعلى
الأوّل كان الماءان قبل التفرقة موجودين بوجود واحد وبعدها بوجودين ، وعلى الثاني
كانا قبلها عشرة آلاف وجودات مثلا منضمّة وبعدها تمايزت خمسة آلاف منها عن الخمسة
الآلاف الأخر.
وبالجملة بعد
بطلان الجزء الغير المتجزّى بالبرهان المذكور لا بدّ من الالتزام بأنّ وجودا واحدا
محيط بماء الحوض مثلا ، وحينئذ يمكن لحاظ كلّ قطرة منه على نحوين :
الأوّل : أن يلحظ
معرّفة لنحو وجودها في الخارج من الاندكاك في الكلّ والاتّحاد معه فيصحّ الحكم
عليها بالجزئيّة للكلّ والعينيّة معه.
الثاني : أن يلحظ
بحدّها وبما هي عليه من القلّة فتصير مغايرة للكلّ ولا يحكم عليها بالجزئيّة بل
بالمقدميّة ، فعلى الأوّل يكون لا بشرط ، وعلى الثاني بشرط لا.
دفع وهم.
أمّا الوهم : فهو
أنّه على ما ذكرت من كون مفاد المشتقّ هو المعنى الحدثي المندكّ في الذات المتّحد
معها المتخصّصة هي به يلزم أن يكون معناه حرفيّا ، ومن المقطوع خلافه ؛ لصحّة
الحكم عليه وبه.
وأمّا الدفع فهو :
أنّه فرق بين كلمة من ولفظ الضارب ؛ فإنّ المستعمل فيه بلا واسطة في الأوّل هو
الابتداء المندكّ في المتعلّق ، وبعبارة اخرى لم يستعمل في الإجمال الحاكي عن
الابتداء المندكّ ، بل في نفسه ، بخلاف الثاني ؛ فإنّ المستعمل فيه فيه هو الإجمال
الحاكي عن الضرب المندكّ لا نفسه ، وهو معنى اسميّ وإن كان معرّفا
لمعنى حرفيّ ،
وبالجملة فحال المستعمل فيه في لفظ الضارب حال آلة اللحاظ التي أخذها الواضع عند
وضع «من». هذا تحقيق المراد من كلام أهل المعقول في المقام ونظائره.
ولكنّه بعد مخدوش
بأنّ ما ذكروه من كون الغرض متّحدا مع المحلّ ومندكّا فيه ومحدودا بحدّه لا بحدّ
على حدّة وإن كان مطلبا دقيقا صحيحا ، لكنّه أيضا لا يصحّح حمل المعنى الحدثي
المأخوذ لا بشرط على الذات كما ذكره صاحب الفصول قدسسره ، فيبقى إشكال القطع بصحّة حمل مفاد المشتقّ عليها بحاله.
توضيحه أنّ ما هو
مفاد للحمل ومعتبر فيه هو الاتّحاد بمعنى عدم الميز بين الطرفين بجهة من الجهات
أصلا بحيث كانت الإشارة إلى أحدهما إشارة إلى الآخر وعرض كلّ منها عرضا للآخر ،
وما هو متحقّق بين العرض والمحلّ ليس إلّا نحو الاتّحاد المتحقّق بين الجزء والكلّ
من مجرّد عدم كون الجزء محدودا بحدّ مستقلّ ، بل مندكّا في الكلّ ومحدودا بحدّه ،
وهذا لا يستلزم عدم الميز الأصلي المعتبر في الحمل ، كيف وماء الحوض مع وجود هذا
الاتّحاد بين قطراته يتفرّد كلّ منهما بالإشارة والمكان ، بل باللّون في بعض
الأحيان ، وكذا المعنى الحدثي بل كلّ عرض يمكن اتّصافه بما لا يتّصف المحلّ به من
الشدّة والضعف ونحوهما وبالعكس ، مع أنّ من المقطوع بالوجدان أنّ مفاد المشتقّ
معنى متّحد مع الذات بحيث لا ميز بينهما أصلا ولا يتّصف أحدهما بوصف إلّا اتّصف
الآخر به.
وبعبارة أخرى أنّ
مفاد لفظ الضارب مثلا هو عنوان الذات المتّصف بالضرب لا عنوان الضرب المندكّ في
الذات ؛ فإنّ الثاني لا يصحّ حمله على الذات ، فلا يقال : زيد هو الضرب المندكّ
فيه ، بل الصحيح أن يقال : إنّه محلّ هذا الضرب بخلاف الأوّل.
وتظهر الثمرة فيما
لو قال : جئني بالعلم ولا تجئني بالضارب ، فجاء بالعالم الضارب وقلنا بامتناع
اجتماع الأمر والنهي ، فعلى الثاني لا يكون هذا المورد من موارد الاجتماع ؛ إذ
متعلّق الأمر هو العلم ومتعلّق النهي هو الضرب ، ولا يسري عرض شيء منهما إلى الآخر
وإلى الذات ، فيحصل الإطاعة والمعصية معا ، وعلى الأوّل منها كما هو واضح فلم يحصل
إلّا واحد من الإطاعة والمعصية.
ثمّ إنّ في
الكفاية في هذا المقام ما حاصله أنّ صاحب الفصول حيث توهّم أنّ المراد ظاهر الكلام
من كون أصل المعنى في المشتق ومبدئه هو المعنى الحدثي وكون الفرق في مجرّد
الاعتبار اللابشرطي والبشرطلائي استشكل عليهم بما ذكره ، ولم يعرف أنّ مرادهم كما
يظهر من بيان الفرق بين الجنس والفصل وبين المادّة والصورة من كون المشتقّ لا بشرط
أنّ مفاده معنى لا يأبى عن الحمل على الذات ، ومن كون المبدا بشرط لا أنّ مفاده
معنى يأبى عن الحمل على الذات وهذا لا يستلزم اتّحادهما في أصل المعنى أصلا. ولا
يخفى أنّ هذا من المطالب الواضحة فيبعد إرادته من كلامهم الظاهر سياقه في كونه
لبيان دقة. الثالث : هل ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى باقية على معانيها
الأصليّة اللغويّة أو حصل فيها النقل أو التجوّز؟ التزم في الفصول بالثاني وهو قدسسره وإن لم يصرّح بكون النقل أو التجوّز في المادّة أو الهيئة
، لكن له التزامهما في الأوّل والتزامهما في الثاني لإمكانهما في كليهما.
أمّا الأوّل فلأنّ
مادّة «ع ل م» مثلا موضوعة للصورة الحاصلة من الشيء في النفس وهي مختصّة بنا وليست
من صفات الباري تعالى ، وكذا الكلام في سائر المواد ؛ فإنّها موضوعة لما هو مناسب
لنا وأجنبيّ عنه تعالى ، ضرورة أنّ الواضع كان منّا.
وأمّا الثاني
فلأنّ الهيئة موضوعة لذات له المبدا ، والعنوان منتزع عن هذا الذات ، فالمغايرة
بين المبدا والذات شرط كونها حقيقة اتّفاقا إمّا لملحوظيتها في نفس معناها أو في
منشأ انتزاعه ، ضرورة شهادة كلّ صفة بأنّها غير الموصوف ، وصفاته تعالى عين ذاته.
وأورد على هذا في
الكفاية بأنّه وإن لم يكن بين ذاته تعالى وبين المبدا بحسب الخارج مغايرة أصلا ،
لكن بينهما بحسب المفهوم مغايرة بلا إشكال ، وهذا المقدار كاف في كون الهيئة
حقيقة.
لكن في هذا أيضا
نظر ؛ لأنّ الشأن أن يحدث زيادة في المبدا يوجب تلك الزيادة عدم صحّة الحمل فيه ،
وصحّته في المشتق كما هو الحال في ألفاظ الصفات الجارية علينا ، فإنّ المغايرة
المفهوميّة للذات وإن كانت مشتركة بين المبادي والمشتقات ، لكنّ المغايرة
الخارجيّة خاصّة بالمبادي ، ضرورة اتّحاد المشتقات مع
الذات خارجا ،
وأمّا ألفاظ الصفات الجارية عليه تعالى فالمغايرة الخارجيّة للذات معدومة في
المبادي والمشتقّات كليهما ، والمغايرة المفهوميّة متحقّقة في كليهما أيضا فلم
يحدث تلك الزيادة في طرف المبادي.
والحقّ في المقام
أنّ هذه الألفاظ باقية على معانيها الأصليّة اللغويّة ولم يتصرّف فيها بالنقل أو
التجوّز لا في طرف المادّة ولا في طرف الهيئة ، أمّا في الأوّل فلأنّا نعلم بحسب
فطرتنا إجمالا بأنّ في مقابل الجهل شيئا يعبّر عنه بالعلم وأنّه حسن كما أنّ الجهل
قبيح ، وأنّ ما منه موجود فينا هو الفرد القاصر العاجز الناقص المحدود ؛ لكوننا
قاصرين عاجزين ناقصين محدودين ، وما منه موجود في الباري تعالى هو الفرد الأكمل
والأشرف الأعلى ؛ ضرورة أنّه معط لهذا الوصف الجميل إيّانا فكيف يفقده نفسه ، ولا
بدّ أن يكون الموجود فيه تعالى هو العلم بهذا المعنى المقابل للجهل ؛ إذ هو الذي
يكون صفة كمال ، وغيره لم يعلم كونه كذلك، وأمّا أنّه بأيّ نحو فلا نعلم تفصيله ،
ولفظ العلم موضوع لهذا المعنى وكيفيّات تحقّقه المختلفة بحسب اختلاف الموارد خارجة
عن الموضوع له ، وهكذا الكلام في سائر الموادّ كالحياة والقدرة والبصارة ونحوها.
وأمّا في الثاني
فلأنّه لا شكّ أنّا إذا أردنا انتزاع الوصف نتخيّل الذات مغايرا للمبدا ، والمبدا
مغايرا للذات أوّلا ، ثمّ ننتزع منهما الوصف ، فالمبدأ والذات متغايران في عالم
التخيّل من دون فرق في ذلك بين الصفات الجارية عليه تعالى وبين غيرها ، فالهيئة
موضوعة لعنوان بسيط منتزع عن الذات مع مبدإ يغايرها في عالم التخيّل ، غاية الأمر
أنّ هذه الغيريّة في غيره تعالى لها واقعيّة وفيه تعالى إنّما هي مجرّد الفرض بلا
واقعيّة ، وهذا هو السرّ في عدم صحّة حمل لفظ العلم عليه تعالى إلّا على وجه
التجوّز ، وصحّة إضافته حيث إنّ لحاظ الغيريّة مأخوذ في معناه وإن لم يؤخذ في معنى
أصل المادّة ، وهذا التخيّل لا ينافي اعتقاد العينيّة والاتحاد في صفاته تعالى
خارجا أصلا ، بل هو ممكن مع حفظ هذا الاعتقاد ، ألا ترى أنّ المعتقد بوحدة جنس
الشيء وفصله معه في الخارج يميزهما عنه في عالم الفرض مع حفظ ذلك الاعتقاد.
المقصد الأوّل في الأوامر
والتكلّم في هذا
الباب تارة في مادّة الأمر واخرى في صيغته.
فنقول : قد ذكر
للمادّة معان كالفعل كما في قوله تعالى : (وَما أَمْرُ
فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ)، والمطلب العظيم كما في قوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا) إلى غير ذلك ، والبحث في ذلك وأنّ مرجعها إلى معنى واحد أو
معنيين لا جدوى تحته.
نعم الظاهر أنّ
كونها حقيقة في الوجوب ممّا لا شكّ فيه بحكم تبادره منه ، وممّا يرادفه في
الفارسيّة من لفظ «فرمان» مع إمكان الاستشهاد بقوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ
أَمَرْتُكَ) حيث رتّب التوبيخ على مجرّد مخالفة الامر ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «لو لا أن أشق على امّتي لأمرتهم بالسواك» ونحوهما.
لنا دعويان في لفظ
الأمر بمعناه الطلبي لا بمعانيه الأخر :
الاولى : أنّ
الأمر في هذا اللفظ من حيث كونه مشتركا لفظيّا بين الوجوب والندب أو معنويّا أو
حقيقة في خصوص الأوّل أو خصوص الثاني أسهل من الصيغة ، فبأيّ من هذه الأقوال قلنا
هناك نقول هنا بكون هذا اللفظ حقيقة في خصوص الوجوب ، والدليل على هذه الدعوى هو
التبادر مضافا إلى الأدلّة اللفظيّة كقوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ) الخ حيث دلّ على وجوب الحذر من مخالفة مجرّد الأمر ، وقوله
تعالى (ما مَنَعَكَ أَلَّا
تَسْجُدَ) الخ ، حيث رتّب التوبيخ على مخالفة مجرّد الأمر ، وقوله صلىاللهعليهوآله : «لو لا أن أشقّ على امّتي لأمرتهم بالسواك» ، حيث دلّ
على ثبوت المشقّة في مجرّد الأمر ، ومن الواضح عدم المشقّة في الطلب البدني ، كما
أنّ من الواضح تعلّقه بالسواك.
وأمّا الثانية
فيحتاج بيانها إلى مقدّمة وهي أنّ بعض العناوين يستحدث بتبع الدلالة على المعنى
ويكون معلولا لها وواقعا في طولها بحيث لا يصير موجودا بمجرّد تحقّق أصل المعنى ،
وبضميمة إظهاره ، والكشف عنه يصير متحقّقا سواء كان الدالّ لفظا أو كناية أو إشارة
ونحوها ، فيكون الدالّ بعنوانه الأوّلي كاشفا عن ذاك
المعنى ، ولكونه
كاشفا عنه محدثا لهذا العنوان بالعليّة الانجعاليّة القهريّة ، لا أن يكون بعنوانه
الأوّلي محدثا لهذا العنوان بالعليّة الجعليّة ، وذلك لما عرفت سابقا من أنّ
العليّة أمر كامن في ذات العلّة ولا يقبل الجعل ، وذلك كما في عنوان المعاملة ؛
فإنّ من الواضح عدم تحقّق هذا العنوان بمجرّد تحقق رضى القلبي من الطرفين بالنقل ،
بل لا بدّ من إظهار هذا الرضى القلبي والكشف عنه بقول أو فعل ، فيحدث بتبع هذا
الإظهار والكشف عنوان المعاملة ، فيكون معنى بعت على هذا هو الرضى الموجود في
النفس فعلا بالنقل ، وكذلك عنوان النكاح ؛ لوضوح عدم تحقّقه بمجرّد الرضى القلبي
من الطرفين بالتزويج ، بل لا بدّ من صدور الكاشف عن هذا الرضى القلبي منهما فيحدث
بتبعه عنوان النكاح ، فمعنى أنكحت على هذا هو الرضى القلبي الفعلي بالتزويج.
ونظير ذلك عنوان
التعظيم ؛ لعدم تحقّقه بمجرّد تحقّق العظمة للمعظّم بالفتح في نفس المعظّم بالكسر
، بل لا بدّ من إظهار هذه العظمة النفسانيّة وإبرازها بسلام أو قيام أو ركوع
ونحوها ، فيحدث بتبع هذا الإظهار عنوان التعظيم ، ونظير ذلك في المعاني التصوريّة
للألفاظ المفردة أيضا موجود ؛ فإنّ اللفظ الدالّ يحدث عند سماعه بواسطة دلالته على
معناه انتقاش صورة معناه في ذهن السامع ، فليس هذا الانتقاش معناه الأوّلي ، بل
يكون حادثا في طول دلالته على معناه وبسببها.
إذا تقرّر ذلك
فنقول : لا يخفى أنّه متى تحقّق في النفس الإرادة من الغير فما دام هذه الإرادة
مكنونة في نفس المريد ولم يظهرها لهذا الغير وإن التفت هو إليها من غير قبله برمل
ونحوه لم يحدث بينهما شيء أصلا ولم يكن في البين سوى هذه الحالة النفسانيّة.
وأمّا إذا أظهر
المريد الإرادة الحاصلة في نفسه لهذا الغير فيقع هذا الغير في قيد هذه الإرادة
بحيث يتحرّك إلى العمل لو كان منقادا ، فهذا المعنى أعني إيقاع الغير في قيد
الإرادة قد استحدث ببركة إظهار هذه الإرادة النفسانيّة بعد ما لم يكن شيئا موجودا
، سواء كان إظهار الإرادة بالصيغة أو بالإشارة كما في أوامر رؤساء العسكر ، ومن
أجل وجود هذا المعنى المستحدث قد افيد أنّ هنا معنيين يعبّر عن
أحدهما بالفارسيّة
ب (طلب داشتن) وعن الآخر ب (طلب كردن) والثاني مفاد الصيغة، لكنّك عرفت أنّه لا
معنى لكون الثاني مفاد الصيغة بحيث كانت بعنوانها الأوّلي محدثة له بالعليّة
الجعليّة بل هي كاشفة عن الأوّل ومحدثة للثاني بتوسّط الكشف.
فالمدّعى أنّ
مادّة الأمر موضوعة لهذا المعنى المستحدث ، والشاهد هو التبادر ؛ ولهذا لو تحقّق
الإرادة في نفس العالي بالنسبة إلى السافل وعلم السافل بها من طريق الرمل مثلا لا
يقول : إنّه أمرني ، ولفظة «فرمان دادن» في الفارسيّة مشتركة مع لفظ الأمر في
العربيّة في هاتين الدعويين ، هذا هو الكلام في بيان معنى مادّة الأمر.
وينبغي هنا
التعرّض للنزاع المعروف بين الأشاعرة والمعتزلة في غيرية الطلب للإرادة أو عينيته
معها ، لابتنائه على المقدّمة المذكورة أيضا ، فنقول : إن أراد الأشعري بقوله إنّ
الطلب غير الإرادة أنّ في النفس صفة اخرى غير الإرادة موجودة ويعبّر عنها بالطلب ،
فجوابه أنّا نعلم علما ضروريّا بأنّه لا في نفس الفاعل شيء غير الشوق الأكيد
المنبعث عن ملاحظة المصلحة ودفع المنافيات المعبّر عنه بالإرادة ، ولا في نفس
الآمر شيء ممّا سوى الإرادة ،
وإن أراد أنّ في
النفس صفة واحدة يعبّر عنها بالإرادة ثمّ يحدث بتبع إظهار هذه الصفة معنى آخر
يعبّر عنه بالطلب.
فيرد عليه أنّ أصل
هذا المطلب أعني أصل وجود هذين المعنيين وتغايرهما من البديهيّات ، فلا يصلح لأن
يقع موردا لنزاع أهل المعقول ، وبعد كونه من البديهيّات فالنزاع في أنّ اللفظين
مترادفان أو متغايرا المعنى لا يطلح إلّا للغوي ، ويظهر من استدلالهم بأنّ الطلب
متحقّق في الأوامر الامتحانيّة ، ولا أراه أنّ مرادهم هو الثاني.
وأمّا المعتزلي
فإن فهم من كلام الأشعري الوجه الأوّل فكلامه راجع إلى ما ذكرنا من أنّه ليس في
النفس إلّا صفة واحدة ، وإن فهم منه الوجه الثاني فأنكر وجود المعنى المستحدث
فجوابه أنّ وجوده من البديهيّات.
ثمّ إنّ في
الكفاية ما حاصله أنّ الحقّ كما عليه أهله والمعتزلة أنّ لفظي الطلب و
الإرادة مترادفان
موضوعان لمفهوم واحد ، والمصداق الحقيقي لأحدهما أعني ما يصحّ تطبيقه عليه بالحمل
الشائع الصناعي هو المصداق الحقيقي للآخر ، والمصداق الاعتباري الغير الواقعي له
وهو ما لا يصح تطبيقه عليه بهذا الحمل هو المصداق الاعتباري الغير الواقعي للآخر ،
فالمراد اتّحاد اللفظين في هذه المراتب الثلاث لا اتّحاد المرتبة الثانية مع
الثالثة ، كيف والمغايرة بينهما من البديهيّات ، كما أنّ من البديهيّ أيضا عدم صفة
اخرى قائمة بالنفس غير الإرادة يكون هو الطلب سواء في الفاعل أم الآمر.
وبذلك يظهر أنّه
يمكن المصالحة بين القولين بأن يكون مراد القائل بالاتّحاد هو ما ذكرنا ، والقائل
بالمغايرة يريد أنّ المنساق من لفظ اطلب عند الإطلاق هو الإنشائي ، والمنساق من
لفظ الإرادة عنده هو الحقيقي ، فهما متغايران إطلاقا لا وضعا.
فإن قلت : إذا لم
يكن غير الصفات المعروفة في الإنشاءات وغير العلم في الجملة الخبريّة صفة اخرى
قائمة بالنفس ، ومن المعلوم أنّ هذه الصفات لا يكون مدلولاتها فما ذا يكون مدلولها؟
قلت : أمّا مفاد
الجملة الخبريّة فهو الحكاية عن ثبوت النسبة في موطنها من ذهن كما في زيد عالم ،
أو خارج كما في زيد قائم ، وأمّا الإنشاءات فهي موجدة لمعانيها بمعنى أنّ معانيها
يحدث بقصد تحقّقها بها ، وهذا المعنى الإنشائي ممكن الانفكاك عن تلك الصفات
الحقيقيّة وإن كان غالبا لا ينفكّ عنها.
ويمكن الخدشة فيه
أوّلا : بأنّه لا وجه لجعل الطلب الإنشائي فردا غير واقعي لجامع الطلب النفسي ؛
فإنّه كما أنّ للطلب النفسي جامعا ، كذلك للطلب الإنشائي وإن كان أمرا اعتباريّا
أيضا جامع ؛ إذ الجامع عبارة عن الصورة الحاصلة من الشيء في العقل بعد طرح
خصوصيّاته وهي متحقّقة في الامور الاعتباريّة كالفوقيّة والملكيّة ونحوهما ، كما
في الامور المتأصّلة بلا فرق ، فالامور الاعتباريّة مصاديق حقيقيّة وأفراد واقعيّة
لجامعها ، وعلى هذا فلا بدّ من الالتزام باشتراك لفظي الطلب
والإرادة لفظا أو
كونهما حقيقة ومجازا بالنسبة إلى هذين المفهومين.
وثانيا : بعدم
تعقّل معنى لكون الصيغ الإنشائيّة بعناوينها الأوّليّة موجدة لمعانيها بالعليّة
الجعليّة ، وقد مرّ تفصيل ذلك عند الخدشة فيما ذكره قدسسره في الفرق بين الخبر والإنشاء بكلا طرفيه.
ولا بأس بالإشارة
الإجماليّة هنا إليه ، فنقول : أمّا الخدشة فيما ذكره قدسسره في طرف الخبر فهي أنّ مجرّد الحكاية عن ثبوت المعنى في
موطنه من نفس أو خارج غير كاف في خبريّة الخبر ؛ ضرورة تحقّق هذه الحكاية في مثل
قولنا : زيد القائم الموجود في الخارج ، مع عدم كونه خبرا ، بل لا بدّ من زيادة
وصف التمام في التعريف قيدا للنسبة بأن يقال : إنّ الهيئة القائمة في العربيّة
مقام «است» في الفارسيّة موضوعة للنسبة التامّة ، وهذا الوصف أمر نفساني لا خارجي
أعني : التجزّم وعقد القلب بالنسبة ، وهو وإن كان مغايرا للاعتقاد لكنّه من سنخه،
فيحكي عن ثبوت النسبة في الخارج ؛ ولهذا يتّصف الخبر بالصدق والكذب ، وهذا هو
الفارق بينه وبين ما ذكر من قولنا : زيد القائم الخ ؛ ضرورة عدم تحقّق العقد
القلبي المذكور في الثاني ؛ ولهذا يصح أن يجعل محموله قولنا : ليس بموجود.
وأمّا الكلام في
الإنشاء فهو أنّه مشارك للخبر في الحكاية عن الصفة القائمة بالنفس فعلا ، لكنّه
يفارقه في أنّ هذه الصفة المحكيّة غير حاك هنا عن وقوع نسبة القضيّة في الخارج،
ولهذا لا يتّصف الإنشاء بالصدق والكذب ، فهيئة «اضرب» مثلا حاكية عن وجود الطلب في
النفس ، وإن كان جعلنا ، وهذا الطلب غير حاك عن وقوع نسبة الضرب إلى المخاطب فى
الخارج بل مقتض له ، نعم هو حاك عن أمر آخر كوجود المصلحة في الضرب ووجود المريد ،
وأمّا حديث العليّة فلم نتعقّل لها معنى ؛ لعدم قابليّتها للجعل.
فإن قلت : كيف
والمولى إذا قال لعبده : إن فعلت كذا أعطيتك كذا فقد جعل الشرط علّة للجزاء بعد ما
لم يكن بينهما عليّة أصلا.
قلت : لا يكون
حصول الفعل الذي هو الشرط علّة لحصول الإعطاء في الخارج ،
كيف والثاني قد
ينفكّ ويتخلّف عن الأوّل ، ولو كان علّة لامتنع ذلك ؛ لامتناع تخلّف المعلول عن
العلّة ، نعم يصير حصول الشرط علّة للاستحقاق ، لكن بالعليّة القهريّة الحاصلة
بتبع التعهّد والالتزام.
فإن قلت : هذا
فيما إذا كان المعلول أمرا واقعيّا متحقّقا في نفسه لا بجعل الجاعل مسلّم ، فلا
يمكن جعل الماء مثلا علّة للإحراق ، وأمّا لو كان تحقّقه وواقعيّته بجعل الجاعل
واعتباره كالملكيّة فأيّ مانع من جعل العليّة حينئذ بأن يتعهّد أنّه متى تحقّق
الشيء الفلاني اعتبر الملكيّة مثلا مترتّبا عليه.
قلت : لا شكّ أنّ
للامور الاعتباريّة واقعيّة ونفس امريّة ؛ ولهذا يكون لها الصدق والكذب وليست
بمجرّد فرض الفارض واعتبار المعتبر ، وإلّا لا نقلب الفوقيّة بالتحتيّة بفرضها
كذلك ، ومن المعلوم خلافه ، فحال عللها حال العلل الواقعيّة كالنار ، بل هي منها.
وحينئذ فنقول : لا
بدّ من وجود المناسبة بين العلّة والمعلول بالضرورة وإلّا لزم تأثير كلّ شيء في
كلّ شيء ، ولا شكّ أنّ المناسبة وعدمها من ذاتيّات الشيء ، ومن المعلوم أنّ
الذاتيّات جعلها بجعل محلّها ، ولا يمكن جعلها مستقلّة منفكّة عن المحلّ لا نفيا
ولا إثباتا ، وإلّا لزم انفكاك اللازم وهو الذاتي عن الملزوم وهو الذات ، فجعل
الناريّة والمشمشة مثلا إنّما هو بخلق النار والمشمشة ؛ ولذا ذهب من قال بقبول
الأحكام الوضعيّة للجعل كالمصنّفقدسسره إلى عدم قبول السببيّة والعليّة له.
إذا تقرّر ذلك فنقول
: من المسلّم المقرّر في محلّه أنّه لم يكن قبل الوضع بين الألفاظ والمعاني مناسبة
بوجه من الوجوه ، فحينئذ فكيف يعقل جعل المناسبة بينها؟ فالممكن إنّما هو جعل
اللفظ كاشفا عمّا في الضمير بالتعهّد ، فإن صار علّة لحدوث أمر فإنّما هو بالعليّة
القهريّة للكشف.
وأيضا لو كان
اللفظ علّة لحدوث المعنى فهو ليس بعلّة تامّة بلا إشكال وباعترافهقدسسره، بل يحتاج إلى ضميمة القصد ، وليس هو قصد التلفظ ؛ ضرورة
تحقّقه في قولنا : اضرب فعل أمر ، ولا طلب ، بل قصد ايجاد المعنى ، ولا شكّ أنّ
المخاطب
لا ينتقل إلى هذا
القصد إلّا باللفظ ، فيلزم أن ينظر إلى اللفظ أوّلا بنظر الكاشفيّة والمرآتيّة
للقصد والفناء فيه ، وثانيا بالنظر الاستقلالي ليصير متمّما للقصد في إحداث المعني
؛ ضرورة عدم إمكان الجمع بين اللحاظين في لحاظ واحد ، ومن المعلوم كفاية لحاظ واحد
في مقام الاستعمال.
فإن قلت : هذه الدلالة
إنّما هي عقليّة لا وضعيّة.
قلت : لو كانت
كذلك لكانت حاصلة عند غير العالم بالوضع أيضا ومن المعلوم خلافه ، وبالجملة إذا
كان اللفظ دالّا على هذا القصد بالوضع كان هو معناه لا محالة ، فلا وجه لجعل
المعنى هو المعنى المستحدث حتّى يلزم الاحتياج إلى النظرين ، فلا بدّ من الالتزام
بكونه مستحدثا بتبع الدلالة قهرا كما ذكرنا.
«فصل»
في أنّ صيغة الأمر
موضوعة للوجوب أو الندب أو مشترك بينهما لفظا أو معنى ، لنا في هذا المبحث دعويان
:
الاولى : أنّ
الصيغة موضوعة للمعنى الأعمّ ، والدليل على ذلك أنّ إرادة الأعمّ منها في موارد
علم ذلك كما في قول المولى : اغتسل للجمعة والجنابة ، خالية عن العناية وسالمة عن
ارتكاب خلاف الظاهر عند المتكلّم والسامع ، وليس حالها كحال إرادة الرجل الشجاع من
لفظ الأسد.
الثانية : أنّ
المتبادر منها عند الإطلاق وعدم القرنية على شيء آخر هو الوجوب ، والدليل على ذلك
أنّه لو قال المولى لعبده : افعل كذا ، فخالف العبد حسن منه عقابه ، ولم يسمع من
العبد الاعتذار بأنّ الصيغة موضوعة للمعنى الأعمّ ولم يقم قرينة على إرادة خصوص
الوجوب ، بل كان قول المولى : ألم تسمع قولي : افعل كذا حجته على العبد والجمع بين
هذين التبادرين يقتضي أن يكون الثاني اطلاقيا لا وضعيا ، وأمّا أنّ منشائه ما ذا
فغير معلوم ، فظهر أنّ حملها على الوجوب عند الإطلاق إنّما هو من جهة الانصراف ،
لكنّ المصنّف قدسسره ذهب إلى أنّ الحمل
على الوجوب إنّما
هو بمساعدة مقدّمات الحكمة كسائر المطلقات.
توضيحه : أنّ
الوجوب عبارة عن الإرادة المطلقة الصرفة المتوجّهة نحو الفعل ؛ ضرورة أنّ نفس
الإرادة مع عدم انضمام الترخيص في الترك إليها كافية في إعدام جانب العدم من غير
حاجة إلى زيادة ، بل تجويز جانب العدم الذي هو الندب يحتاج إلى زيادة الترخيص في
الترك إلى الإرادة ، ففصل الوجوب عدمي وفصل الندب وجودي وليس المناط هو الشدّة
والضعف ؛ ضرورة تحقّق الضعف في الوجوب أحيانا كالشدّة في الندب ، وأيضا هما
متحقّقان في الإرادة الفاعليّة مع عدم اتّصافه بالوجوب والاستحباب ، فسّر عدم
اتصافها بهما عدم مجامعتها للترك ، بل متى تحقّقت وقع الفعل عقيبها بخلاف الأمرية
، وأمّا جعل الفصل في الوجوب أمرا وجوديّا وهو المنع من الترك وفي الندب أمرا
عدميّا وهو عدم المنع منه فلا وجه له ؛ إذا لمنع من الترك عبارة عن طلب ترك الترك
وهو عين إرادة الفعل.
والحاصل : أنّ
مفاد الهيئة هو الإرادة المقسميّة ولها قسمان : الإرادة المطلقة الغير المقيّدة
بالترخيص في الترك وهي المسّماة بالوجوب ، والإرادة المقيّدة به وهي المسمّاة
بالندب، فحمل الهيئة عند عدم القرينة على القسم الأوّل يحتاج إلى مقدّمات تسمّى
بمقدّمات الحكمة.
منها كون المتكلّم
في مقام إظهار مراده اللبّي الجدّي النفس الأمري وبيانه ؛ فإنّ من الواضح أنّ
مراده اللبّي لا يخلو إمّا أن يكون هو المطلق أو المقيّد ؛ ضرورة عدم خلوّ الموجود
في النفس منهما ، وحينئذ فإن كان مراده اللبّي هو المقيّد فلا بدّ من ذكر قيده
الوجودي في اللفظ لئلا يلزم نقض الغرض ، فإذا لم يذكر علم أنّ المراد هو المطلق ،
فإنّ أصل المعنى المقسمي قد استفيد من اللفظ ، وعدم القيد قد احرز من عدم ذكر
القيد الوجودي ، وهذا بخلاف ما إذا لم يكن المقام مقام البيان ؛ فإنّه ربّما لا
يكون المطلوب إظهار تمام ما هو المراد اللبّي بل يقتضي المقام الإهمال والاكتفاء
بصرف ما هو مفاد اللفظ لغة كما في قول الطبيب: لا بدّ لك من شرب الدواء ، فإنّه
حينئذ لا بدّ من التوقّف والرجوع إلى الأصل العملي.
والمختار كما عرفت
أنّ مفاد الصيغة بالانصراف الإطلاقي هو الإرادة المطلقة المسمّاة بالوجوب ، وحينئذ
فلا بدّ من حمل الصيغة عند عدم القرينة عليها في جميع المقامات من دون حاجة إلى
إحراز مقدّمات الحكمة كما هو واضح.
نعم لا بدّ من
إحراز كون الكلام صادرا بفرض التفهيم لا على وجه العبث واللغو وهو أصل عقلائي
موجود في كلّ كلام صادر من المتكلّم العاقل الشاعر ، والدليل على ذلك أنّه لا يصير
حجّة العبد المخالف للأمر في قبال قول المولى : ألم أقل لك افعل كذا؟ عند العرف
والعقلاء أن يعتذر بعدم إحراز كون الأمر واردا في مقام البيان ، أو يعتذر بأنّ
الصيغة موضوعة للأعمّ ولم يقم قرينة على خصوص الوجوب.
ويجري نظير هذا
النزاع في القضيّة المسورة بالكلّ فإنّه قدسسره ذهب إلى أنّ كلمة «كلّ» موضوعة لاستيعاب تمام أفراد المراد
من مدخولها ؛ فإن كان المراد هو المقيّد فهو لاستيعاب أفراد المقيّد ، وإن كان هو
المطلق فهي لاستيعاب أفراد المطلق فهذه الكلمة إنّما هي نافعة فيما إذا احرز
بمقدّمات الحكمة كون المراد هو المطلق ؛ ضرورة أنّه لو لم يحرز ذلك احتمل أن يكون
المراد هو المقيّد ويكون الاستيعاب متعلّقا بأفراده ، مثلا لو قيل : أكرم كلّ رجل
، فلا شكّ أنّ مفاد لفظ الرجل هو الطبيعة اللابشرطيّة المقسميّة ، فكلمة «كلّ»
إنّما هي مفيدة فيما إذا احرز كون المراد من اللفظ مطلق الرجل ، لا فيما إذا احتمل
أن يكون هو الرجل الطويل أو العالم.
وذكر ذلك في
حاشيته على الرسائل عند حمل مطلقات أخبار الشك بعد المحلّ على باب الصلاة ؛ لكونه
المتّقين منها فذكر ما حاصله : إن قلت : مقتضى قوله عليهالسلام : «كلّما خرجت من شيء ودخلت في شيء آخر فشكّك ليس بشيء» هو
العموم بالنسبة إلى كلّ باب ، فالجواب أنّه إذا لم يحرز أن يكون المراد من مدخول
الكلّ هو المطلق وكان المتيقّن منه باب الصلاة فالعموم المستفاد من لفظ الكلّ
إنّما هو بالنسبة إلى هذا الباب لا غير.
والمختار أنّ كلمة
«كلّ» قد وضعت لأن يستوعب تمام ما لمدخولها من الأفراد ، ومفاد المطلق وإن كان هو
الطبيعة اللابشرطيّة المقسميّة ، لكن أفراد المقيّد كما يكون
أفرادا لها فكذا
أفراد المطلق أيضا ، فمقتضى الكلّ استيعاب تمام هذه الأفراد ، فعلى هذا فلفظ الكلّ
يصير معيّنا لكون المراد من مدخوله هو المطلق.
نعم لو كان المطلق
منصرفا إلى المقيّد كأن يكون العالم في قولنا : أكرم كلّ عالم منصرفا إلى العادل
كان ذلك بحكم ذكر القيد ، فيكون الاستيعاب متعلّقا بأفراد المقيّد ، والشاهد على
ما ذكرنا هو الوجدان.
ونظير هذا النزاع
أيضا جار في مسألة أنّ إطلاق الصيغة محمول على الوجوب التعييني أولا؟ فإنّه قدسسره قد أورد الكلام المتقدّم في المسألة المتقدّمة هنا ببيان
أنّ الوجوب التعييني ليس إلّا الوجوب المطلق أي المجرّد عن انضمام العدل والبدل ،
والتخييري ما كان مقيّدا بانضمامه ، فإذا كان المتكلّم في مقام البيان ولا قرينة
في الكلام فلا بدّ من حملها على الوجوب المطلق الذي هو التعييني ، وإذا لم يكن
كذلك فالصيغة من هذا الحيث مجملة.
والحقّ أن يقال
أوّلا : إنّ الصيغة موضوعة للقدر المشترك بدليل أنّا لا نجد بحسب وجداننا فرقا
بحسب المعنى بين قولنا : أكرم زيدا ، المستعمل في مقام الوجوب التعييني ، وبينه
إذا استعمل في مقام الوجوب التخييري وبانضمام العدل.
وثانيا : أنّ
المتبادر منها عند الإطلاق هو الوجوب التعييني بدليل أنّ اعتذار العبد المخالف
للامر في قبال قول المولى : لم خالفت قولي : افعل كذا بأنّه : لم يحرز عندي كونك
بصدد البيان ، والمفروض أنّ الصيغة موضوعة للقدر المشترك بين الوجوب التعييني
والتخييري غير مسموع منه عند أهل العرف والعقلاء قطعا.
«فصل»
لا يخفى أنّ الجمل
الخبريّة المستعملة في مقام الإنشاء كقولنا : يتوضّأ ويصلّي ويعيد قد استعملت في
نفس معانيها لا في غيره مجازا ، بمعنى أنّ صورة المعنى المستعمل فيه في هذا المقام
وفي مقام الإخبار واحدة إلّا أنّ الداعي في الثاني هو الإخبار بالواقع ، وفي
الأوّل هو البعث بنحو آكد وأتمّ ؛ فإنّ الآمر في مقام إظهار الإرادة التي
هي مستلزمة في
نظره للوقوع الخارجي قد أظهر الوقوع الخارجي الذي هو لازمها كذلك ، وهذا إظهار
للإرادة الملزومة بنحو آكد وأبلغ ، بل لا يبعد دعوى ذلك في صيغ العقود والإيقاعات
الكائنة بصيغة الماضي أيضا كبعت وأنكحت ونحوهما بأن يقال : إنّ المنشئ في مقام
إظهار الرضى القلبي الفعلي بمفاد إحدى المعاملات كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما يظهر
وقوع تلك المعاملة في السابق المستلزم واقعا لحصول الرضى القلبي بمفادها في الحال
للدلالة على الرضى في الحال الذي هو اللازم بنحو آكد وأبلغ ، فقوله : بعت مساوق
لقوله : بعت منذ أعوام في الدلالة على حصول الرضى القلبي في الحال بطريق أولى.
ثمّ إنّه لو لم
يكن المدلول المطابقي لهذه الحمل متحقّقا في الخارج فلا يلزم الكذب المحرّم ، إمّا
لعدم تحقّق موضوع الكذب لغة بناء على أنّ الصدق والكذب إنّما يلحظان بالنسبة إلى
داعي الاعلام المفروض عدم تحقّقه في المقام ، وإمّا لأنّ هذا الكذب غير محرّم في
الشريعة بناء على ملاحظتها بالنسبة إلى نفس مدلول الجملة الخبريّة ولو لم يكن
بالداعي المذكور ، والدليل على جوازه وقوعه ووقوع أمثاله من التأكيد والكناية
ونحوهما في كلام المعصومين والعدول.
«فصل»
لا شكّ أنّ الواجب
في هذه الشريعة قسمان : توصّلي وتعبّدي ، فالأوّل ما يكون مجرّد الإتيان به مجزيا
ولو لم يكن بقصد القربة ، والثاني ما لا يجزى إلّا الإتيان به بقصد القربة ،
وحينئذ فهل يمكن عند الشكّ استفادة عدم اعتبار القربة وكون الواجب توصّليّا من
إطلاق الصيغة أولا؟ فلا بدّ من الرجوع إلى الأصل العملى.
تحقيق ذلك يحتاج
إلى تمهيد مقدّمة وهي : أنّه لو كان المراد بالقربة داعي الأمر قيل يلزم من أخذها
في متعلّق الأمر الدور ؛ إذ لا شكّ أنّ الإتيان بداعي الأمر متوقّف على وجود الأمر
؛ ضرورة أنّ وجود المقيّد بما هو مقيّد متوقّف على وجود قيده ، ووجود الأمر أيضا
متوقّف على وجود الإتيان بداعي الأمر ؛ لكونه
معروضه ، ووجود
العرض متوقّف على وجود المعروض.
ويمكن دفعه بأنّه
لا شكّ أنّ الطلب إنّما يتعلّق بالصورة الذهنيّة باعتبار حكايتها عن الخارج
وانطباقها عليه لا بنفس الخارج ؛ ضرورة أنّ تعلّقه به يؤدّي إلى تحصيل الحاصل ؛
لاستحالة انفكاك العرض عن المعروض ، وحينئذ فالفعل المقيّد بداعي الأمر بما هو فعل
خارجي وإن كان يتوقّف على سبق وجود الأمر ، لكنّه ليس متعلّقا للأمر وإنّما
المتعلّق هو الصورة الذهنيّة لهذا المقيّد المنطبقة على الخارج وهي غير متوقّفة
على وجود الأمر ؛ ضرورة إمكان تصوّر الضرب بداعي الأمر مثلا مع عدم تعلّق أمر به
اصلا.
وقد تقرّر الدور
بوجه آخر وهو : أنّه لا شكّ أنّ الأمر متوقّف على قدرة المأمور على المأمور به ؛
ضرورة استحالة صدور الأمر بغير المقدور من الحكيم ، فإذا كان المأمور به هو الفعل
بداعي الأمر فالقدرة عليه أيضا متوقّفة على وجود الأمر كما هو واضح.
ويمكن دفعه أيضا
بأنّا لا نسلّم أنّ الأمر يتوقّف على سبق القدرة ، وإنّما الثابت بالعقل هو أنّ
الامر لا يجتمع مع العجز حين الامتثال ، فلو فرض أنّ الآمر عند قوله : طر إلى
السماء يوجد القدرة في المأمور بمجرّد نظره فلا مانع من هذا الأمر عقلا ، والحاصل
أنّ القدرة بالأمر يكفي في صحّته ولا يحتاج إلى القدرة قبله.
وذكر في الكفاية
ما حاصله : أنّ القدرة غير متحقّقة هنا حتّى بعد الأمر ؛ لأنّ ذات الفعل خال عن
الأمر بالفرض فلا يمكن الإتيان به بداعي أمره. لا يقال : إنّ الوجوب يسري من
المقيّد إلى المطلق لكونه جزئه ، لأنّا نقول : المطلق جزء عقليّ للمقيد لا خارجيّ
؛ إذ ليس في الخارج إلّا وجود واحد ولا معنى للوجوب النفسي في الجزء العقلي ولا
للمقدّمي بعد فرض الاتحاد في الوجود الخارجي.
ويمكن أن يقال :
إنّ المطلق الذي هو قسم للمقيّد وإن كان لا يصير واجبا بوجوب المقيّد ، ولكنّ
الذات المهملة التي هي مقسم لهما يصير واجبا كذلك ، لأنّ عرض القسم يضاف إلى
المقسم على وجه الحقيقة ؛ إذ أصل الوجود يضاف إليه بلا
إشكال ، فاذا وجد
زيد يقال : قد وجد الإنسان أو الحيوان ، فكذا عوارض الوجود من الوجوب ونحوه.
والشاهد على ما
ذكرنا أنّ القائل بالبراءة في الأقلّ والأكثر الارتباطيين ..... وهما المطلق
والمقيّد لا محالة ، كما إذا دار الأمر بين وجوب عتق مطلق الرقبة أو الرقبة
المؤمنة يقول بأنّ وجوب الأقلّ متيقّن ووجوب الزائد مشكوك فينفى بالأصل ، ولا شكّ
أنّه ليس مراده بالأقلّ هو المطلق القسمي ؛ إذ ليس وجوبه منتفيا كيف وهو احد طرفي
الترديد بل المقسمي، فلولا سراية الوجوب من المقيّد إلى الذات المهملة لم يكن
لدعوى القدر المتيقّن وجه.
لا يقال : نعم
ولكن وجوب الذات المهملة بهذا المعنى غير مثمر ؛ لأنّه لا يدعو ولا يحرّك إلى
الذات مستقلا ، بل إذا وجدت في ضمن المقيّد.
لأنّا نقول :
الأمر كما ذكرت في مثل مثال العتق ؛ ضرورة أنّ عتق غير المؤمن ناقص بخلاف ما نحن
فيه ؛ إذ لو أتى بذات العمل بداعي أمره ينطبق قهرا على المأمور به بلا نقص فيه
أصلا ، فعلم أنّ الأمر بالفعل المقيّد بداعي الأمر ليس تكليفا بما لا يطاق.
لكنّه مع ذلك محلّ
إشكال ؛ إذ شأن الأمر المولوي أن يكون صالحا لدعوة المأمور إلى المأمور به وتحريكه
إليه ، فإن كان المأمور به مطلقا حرّك إلى المطلق ، وإن كان مقيّدا حرّك إلى
المقيّد ، ولازم ذلك أن يكون الأمر فيما إذا كان المأمور به هو العمل مقيّدا بداعي
الأمر داعيا إلى نفس العمل وإلى قيده وهو داعويّته إلى نفس العمل وهذا محال ؛ إذ
يستلزم أن يكون التحريك والداعويّة سابقا على نفسه ، فإرادة الفعل المقيّد بداعي
الأمر غير ممكن لبّا.
وأمّا الواجبات
التعبّديّة في الشريعة فقد ذكر للتفصّي عن الإشكال فيها وجهان :
الأوّل وهو مختار
الكفاية أنّه : لو علم العبد أنّ الغرض الداعي إلى الأمر اخصّ بمعنى أنّ إتيان
المأمور به بمجرّده غير محصّل له بل لا بدّ من ضمّ قيد آخر ولكن حيث كان أخذ هذا
القيد في متعلّق الأمر غير ممكن تركه الآمر ، فحينئذ يحكم العقل حكما إلزاميّا
بأنّه يجب على العبد تحصيل الغرض وأنّه لا يجزي مجرّد موافقة الأمر ، فلو أتى
بالمأمور به ولم
يأت بالقيد لم يسقط عنه الأمر ولم يخرج عن عهدة امتثاله.
ووجه ذلك أنّه لا
شكّ أنّ الغرض علّة محدثة للأمر وكما أنّه صار علّة للحدوث فكذا يصير علّة للبقاء
؛ ضرورة أنّ الإبقاء أسهل مئونة من الإحداث ، فما دام الغرض باقيا كان الأمر باقيا
، وإذا سقط سقط ، فالواجب على العبد إسقاط العلّة التي هي الغرض حتّى يسقط بسببه
المعلول الذي هو الأمر ، وأمّا حكم صورة الشكّ فيذكر بعد ذلك.
لكن فيه ما سيأتي
عن قريب ، فالأولى أن يقال في وجه حكم العقل بإتيان الفعل على نحو يسقط به الغرض
أنّه لو لم يأت كذلك وإن يسقط الأمر إلّا أنّ الغرض المحدث له ما دام باقيا يحدث
أمرا آخر ، وهكذا ما دام الوقت الصالح ليحصل ذلك الغرض باقيا ، فلو أتى بالفعل على
نحو يحصل به الغرض ، وإلّا يعاقب على تفويت الغرض.
لا يقال : فوت
الغرض الذي لم يدخل تحت التكليف ليس منشئا للعقاب
لأنّا نقول : نعم
لو لم يكن الآمر بصدد تحصيله ، وأمّا لو تصدّى لتحصيله بالأمر ولكن لم يقدر أن
يأمر بتمام ما يكون محصّلا لغرضه كما فيما نحن فيه والمكلّف قادر على إيجاد الفعل
بنحو يحصل به الغرض الأصلي فلا إشكال في حكم العقل بلزوم إتيانه كذلك ، ومن هنا
تعلم أنّه لا وجه للالتزام بأمرين ، أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيّد
بداعي الأمر الذي هو الوجه الثاني ؛ لأنّ الثاني ليس إلّا لإلزام المكلّف بالفعل
المقيّد ، وقد عرفت أنّه ملزم به بحكم العقل.
الثاني : أنّ
المولى يحتاج في نيل غرضه إلى أن يتوسّل بأمرين : بأن يأمر أوّلا بنفس العمل
وثانيا بالقيد وهو : حيث كون إتيانه بداعي أمره
وأمّا ما أورده في
الكفاية على هذا من لغويّة الأمر الثاني ببيان أنّ الأمر الأوّل لا يخلو إمّا أن
لا يسقط بمجرّد موافقته ، بل لا بدّ في سقوطه من تحصيل الغرض الداعي إليه كما
ذكرنا ، وإمّا أن يسقط ، فعلى الأوّل لا حاجة إلى الأمر الثاني ؛ لاستقلال العقل
بوجوب تحصيل الغرض المتوقّف على الإتيان بقصد القربة ، وعلى الثاني لا يثمر و
لا ينال المولى
بسببه إلى غرضه ، ضرورة أنّ للعبد حينئذ أن يأتي بالعمل خاليا عن قصد القربة حتّى
لا يبقى مورد للأمر الثاني ؛ لانتفاء موضوعه بسقوط الأمر الأوّل.
فيمكن دفعه بأنّا
نختار الشقّ الثاني من سقوط الأمر الأوّل بإتيان ذات الفعل وسقوط الثاني أيضا
بارتفاع موضوعه ولا يلزم محذور أصلا ؛ لأنّ الوقت إمّا باق بعد وإمّا غير باق ،
فعلى الأوّل يوجب الغرض إيجاد أمرين آخرين على ما كانا ، وعلى الثاني يعاقب
المكلّف على عدم امتثال الأمر الثاني مع ما كان قادرا عليه بوجود الأمر الأوّل ؛
لأنّ الأمر الثاني لو فرضناه أمرا مطلقا فعدم إيجاد متعلّقه معصية بحكم العقل سواء
كان برفع المحلّ أو كان بنحو آخر وهذا واضح.
ويمكن دفعه أيضا
بأنّه لا شكّ أنّ الأمر المولوي ما يتحقّق بسببه الإطاعة والمعصية وهو يتصوّر على
نحوين ، الأوّل : أن يكون مشروطا ببقاء الموضوع كأن يكون الأمر بغسل الميّت مشروطا
ببقاء بدنه بحيث لو لم يبق بحاله وانعدم باحتراق ونحوه ولو من قبل المكلّف فلا أمر
، فلا معصية ، الثاني : أن يكون مطلقا بالنسبة إليه كأن يكون المطلوب تحقّق غسل
الميّت في الخارج ، وعصيان هذا الأمر كما أنّه يتحقّق بترك الغسل مع بقاء بدن
الميّت ، كذلك يتحقّق بإعدام البدن ، وحينئذ فللمولى فيما نحن فيه أن يقول لعبده :
إنّي أطلب منك إيجاد إتيان هذا العمل بداعي أمره في الخارج ، فلو أتى به لا بهذا
الداعي أطاع الأمر الأوّل وعصى هذا الأمر.
وأمّا مبنى الشقّ
الأوّل الذي هو الوجه الأوّل أعني : وجوب تحصيل الغرض وعدم سقوط الأمر المتعلّق
بالأعمّ بدون تحصيل الغرض الأخصّ فلم نتعقّل له معنى.
ولا بدّ لتوضيح
الحال من ذكر مثال وإن كان أجنبيّا عن المقال وهو : أنّه لو كان المأمور به وجودا
شخصيّا كقتل زيد ، ولكن كان الغرض الداعي إلى الأمر غير حاصل إلّا مع قيد لا يمكن
إدخاله تحت الأمر وأخذه في متعلّقه فأتى به المأمور بدون هذا القيد فحينئذ لا يعقل
بقاء الأمر وإن كان الغرض الداعي إليه باقيا ؛ ضرورة أنّ قابليّة المحلّ للأمر
أيضا شرط له ، فكما أنّه لو كان قتل زيد حاصلا قبل الأمر فالغرض المتعلّق به لا
يمكن أن يصير علّة لحدوث الأمر به ، كذلك لو أتى به بعد الأمر
فالغرض الباقي لا
يمكن أن يصير علّة لبقاء الأمر به.
فنقول : لو كان
المأمور به هو الطبيعة بلحاظ صرف الوجود ولكن كان الغرض لا يحصل إلّا مع داعي
الأمر الذي تبيّن عدم إمكان أخذه في متعلّقه فأتى المأمور بالطبيعة بغير هذا
الداعي فحينئذ لا يمكن بقاء الأمر ، وإن كان الغرض غير حاصل فإنّ صرف الوجود الذي
هو مقابل العدم ونقيضه وعبارة عن خرق العدم الأصلي وقلبه بالوجود لا يمكن إيجاده
إلّا مرّة واحدة ، وأمّا إيجاد الفرد الثاني فهو خرق لعدمه لا لعدم أصل الطبيعة ،
وبالجملة فحال الطبيعة بهذا اللحاظ حال الوجود الشخصي في عدم قابليّته للتكرار ،
وحينئذ فكيف يمكن بقاء الأمر بها مع حصولها وعدم حصول الغرض.
ولمّا كان الغرض
في هذا البحث هو التكلّم في الأصل اللفظي والعملي فيما لو تردّد أمر الواجب بين أن
يكون عباديّا أو توصليّا فلنشرع في مقصودنا الأصلي فنقول : لو شكّ في الواجب في
أنّه هل هو تعبّدي أو توصّلي فعلى ما ذكرنا من عدم إمكان أخذ التعبّد بالأمر في
موضوعه ، وعلى تقدير القول بثبوت أمرين أحدهما بذات الفعل والثاني بالفعل المقيّد
بداعي الأمر فلا يمكن الأخذ بإطلاق الصيغة حينئذ ؛ لأنّ الأخذ به فرع إمكان
التقييد ، وعرفت عدم إمكانه ، فمتعلّق الهيئة هو الجامع المقسمي بين المقيّد
بالداعي وبين المطلق ، وذلك لأنّ الإطلاق عبارة عن استيعاب المقيّدات وإدخال
جميعها تحت الحكم فهو هنا في قوّة قولنا : ائت بالفعل إمّا بداعي أمره وإمّا لا
بهذا الداعي ، ومن المعلوم عدم إمكان ذلك بعد عدم إمكان قوله : ائت بالفعل بداعي
أمره ، بل التقييد بغير داعي الأمر أيضا غير ممكن ؛ لأنّ شأن الأمر هو البعث
والتحريك والداعويّة للمكلّف نحو متعلّقه ، فأخذ داعويّة غيره في متعلّقه محال.
وبالجملة فحال
هذين القيدين أعني داعي الأمر وداعي غيره حال الوجود والعدم ، فكما لا يمكن أخذهما
في متعلّق الأمر لا إطلاقا ولا تقييدا ؛ ضرورة استحالة تحصيل الحاصل وإعادة
المعدوم ، فلا محيص عن توجيه الأمر إلى نفس الطبيعة المهملة من جهتهما فكذا هذان
القيدان.
وحينئذ فلا بدّ
عند الشكّ من الرجوع إلى الأصل العملي وهو هنا البراءة ؛ إذ الشكّ في التعبديّة
والتوصّلية على ما ذكرنا راجع إلى الشكّ في ثبوت أمر آخر متعلّق بالمقيّد بداعي
الأمر بعد الأمر بذات الفعل وعدمه ، فالشكّ واقع في أصل التكليف والمرجع فيه
البراءة.
وأمّا على ما قيل
من لزوم تعلّق الطلب على تقدير التعبديّة بذات الفعل مع أخصيّة الغرض فقد يقال كما
يظهر من كلمات شيخنا المرتضى قدسسره بعدم جواز التمسّك بإطلاق اللفظ لرفع القيد المشكوك ،
وكذلك لا يمكن إجراء أصالة البراءة فيه ، بل المقام ممّا يحكم العقل بالاشتغال وإن
قلنا بالبراءة في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد.
أمّا الأوّل فلأنّ
رفع القيد بأصالة الإطلاق إنّما يكون لو احتملنا دخول القيد في المطلوب ، والمفروض
عدم هذا الاحتمال والقطع بعدم اعتباره فيه أصلا ، وإنّما الشكّ في أنّ الغرض هل هو
مساو للمطلوب أو أخصّ منه ، وحدود المطلوب معلومة لا شكّ فيها على أىّ حال.
وأمّا الثاني
فلأنّه بعد العلم بتمام المطلوب في مرحلة الثبوت لو شكّ في سقوطه بإتيان ذاته وعدم
سقوطه بواسطة بقاء الغرض المحدث للأمر لا مجال إلّا للاحتياط ؛ لأنّ اشتغال الذمّة
بالأمر الثابت المعلوم متعلّقه يقتضي القطع بالبراءة عنه ، ولا يكون ذلك إلّا
بإتيان جميع ما يحتمل دخله في الغرض.
وممّا ذكر يعرف
الفرق بين المقام وسائر الموارد التي شكّ في مدخليّة قيد في المطلوب ، ويمحض الفرق
أنّ الشكّ فيه راجع إلى مرحلة الثبوت وفي المقام الى السقوط. هذا ، والحقّ عدم
التفاوت بين المقام وسائر الموارد مطلقا أعني من جهة الأخذ بالإطلاق ومن جهة إجراء
أصالة البراءة.
أمّا الأوّل فلأنّ
القيد المذكور وإن لم يحتمل دخله في المطلوب لعدم الإمكان ولكن لو فرضنا وجود
مقدّمات الأخذ بالإطلاق التي من جملتها كون المتكلّم في مقام بيان تمام المقصود
وما يحصل به غرضه نحكم بعدم مدخليّة شيء آخر في تحقّق
غرضه ؛ إذ لولاه
لبيّن ولو ببيان مستقل ، وحيث ما بيّن نكشف عن كون متعلّق الطلب تمام ما يحصل به
غرضه.
نعم الفرق بين
المورد وسائر الموارد أنّ فيها بعد تماميّة مقدّمات الحكمة نحكم بإطلاق متعلّق
الطلب ، وفيه نحكم بإطلاق الغرض والأمر سهل ، ويمكن أن يستظهر من الأمر التوصليّة
من دون احتياج إلى مقدّمات الحكمة بوجه آخر اعتمد عليه سيّد مشايخنا طاب ثراه وهو
أنّ الهيئة عرفا تدلّ على أنّ متعلّقها تمام المقصود ؛ إذ لو لا ذلك لكان الأمر
توطئة وتمهيدا لغرض آخر وهو خلاف ظاهر الأمر.
وأمّا الثاني
فلأنّه بعد إتيان ذات الفعل لا يعقل بقاء الأمر الأوّل ؛ لما عرفت سابقا من
استلزامه لطلب الحاصل فلا يعقل الشكّ في سقوط هذا الأمر ، نعم يحتمل وجود أمر آخر
من جهة احتمال بقاء الغرض وظاهر أنّ هذا شكّ في ثبوت أمر آخر والأصل عدمه ، فعلم
أنّ المقام ممّا يحكم العقل بالبراءة وإن قلنا بالاشتغال في دوران الأمر بين
المطلق والمقيّد.
ولو سلّمنا كون
الشكّ في سقوط الأمر الأوّل نقول : إنّ هذا الشكّ ينشأ من الشكّ في ثبوت الغرض
الأخص ، وحينئذ نقول في تقريب جريان أصالة البراءة أنّ اقتضاء الأمر أنّ ذات الفعل
متيقّن ، وأمّا الزائد عليه فلا نعلم ، فلو عاقبنا المولى من جهة عدم مراعاة
الخصوصيّة المشكوكة اعتبارها في الغرض مع الجهل به وعدم إقامة دليل يدلّ عليه مع
أنّ إتيانه كان وظيفة له ، لكان هذا العقاب من دون إقامة بيان وحجّة ، وهو قبيح
بحكم العقل، ولو كان الشكّ في السقوط كافيا في حكم العقل بالاشتغال للزم الحكم به
في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد مطلقا ؛ ضرورة أنّه بعد إتيان الطبيعة في ضمن
غير الخصوصيّة التي نحتمل اعتبارها في المطلوب نشكّ في سقوط الأمر وعدمه.
هذا تمام الكلام
فيما لو قلنا بأنّ العبادات يعتبر فيها قصد إطاعة الأمر ، ويمكن أن يقال : إنّ
المعتبر فيها ليس إلّا وقوع الفعل على وجه يوجب القرب عند المولى وهذا لا يتوقّف
على الأمر.
بيان ذلك أنّ
الفعل الواقع في الخارج على قسمين ، أحدهما ما ليس للقصد دخل في تحقّقه بل لو صدر
من الغافل لصدق عليه عنوانه ، والثاني ما يكون قوامه في الخارج بالقصد كالتعظيم
والإهانة وأمثالهما ، وأيضا لا إشكال في أنّ تعظيم من له أهليّة ذلك بما هو أهل له
، وكذا شكره ومدحه بما يليق به حسن عقلا ومقرّب بالذات ولا يحتاج في تحقّق القرب
إلى وجود أمر بهذه العناوين ، نعم قد نشكّ في أنّ التعظيم المناسب له أو المدح
اللائق بشأنه ما ذا؟ وقد يتخيّل كون عمل خاص تعظيما بالإضافة إليه ، أو أنّ القول
الكذائي مدح له ، والواقع ليس كذلك ، بل هذا الذي يعتقده تعظيما توهين له ، وهذا
الذي اعتقده مدحا ذمّ بالنسبة إلى مقامه.
إذا تمهّد هذا
فنقول : لا إشكال في أنّ ذوات الأفعال والأقوال الصلاتيّة مثلا من دون إضافة قصد
إليها ليس محبوبا ولا مجزيا قطعا ، ولكن من الممكن كون صدور هذه الهيئة المركّبة
من الحمد والثناء والتسبيح والتهليل والدعاء والخضوع والخشوع مثلا مقرونة بقصد نفس
هذه العناوين محبوبا للآمر ، غاية الأمر أنّ الإنسان لقصور إدراكه لا يدرك أنّ
صدور هذه الهيئة منه بهذه العناوين مناسب لمقام الباري عزّ شأنه ويكون التفاته
موقوفا على إعلام الله سبحانه ، فلو فرض تماميّة العقل واحتوائه بجميع الخصوصيّات
والجهات لم يحتج إلى إعلام الشرع أصلا.
والحاصل أنّ
العبادة عبارة عن إظهار عظمة المولى والشكر على نعمائه وثنائه بما يستحقّ ويليق به
، ومن الواضح أنّ محقّقات هذه العناوين مختلفة بالنسبة إلى الموارد ، وقد يكون
تعظيم شخص بأن يسلّم عليه ، وقد يكون بتقبيل يده ، وقد يكون بالحضور في مجلسه ،
وقد يكون مجرّد إذنه أن يحضر في مجلسك أو يجلس عندك ، إلى غير ذلك من الاختلافات
الناشئة من خصوصيّات المعظّم بالكسر والمعظّم بالفتح ، ولمّا كان المكلّف لا طريق
له إلى استكشاف أنّ المناسب بمقام هذا المولى تبارك وتعالى ما هو إلّا بإعلامه لا
بدّ أن يعلمه أوّلا ما يتحقّق به تعظيمه ثمّ يأمره به ، وليس هذا المعنى ممّا
يتوقّف تحقّقه على قصد الأمر حتى يلزم محذور الدور.
ويمكن أن يقال
بوجه آخر وهو أنّ ذوات الأفعال مقيّدة بعدم صدورها عن الدواعي النفسانيّة محبوبة
عند المولى ، وتوضيح ذلك يتوقّف على مقدّمات ثلاث :
إحداها : أنّ
المعتبر في العبادة يمكن أن يكون إتيان الفعل بداعي أمر المولى بحيث يكون الفعل
مستندا إلى خصوص أمره وهذا معنى بسيط يتحقّق في الخارج بأمرين : أحدهما جعل الأمر
داعيا لنفسه ، والثاني صرف الدواعي النفسانية ، ويمكن أن يكون إتيان الفعل خاليا عن
سائر الدواعي ومستندا إلى داعي الأمر بحيث يكون المطلوب المركّب منهما ، والظاهر
هو الثاني ؛ لأنّه أنسب بالإخلاص المعتبر في العبادات.
المقدّمة الثانية
: أنّ الأمر الملحوظ فيه حال الغير تارة يكون للغير واخرى يكون غيريا ، مثال
الأوّل الأمر بالغسل قبل الفجر على احتمال ، فإنّ الأمر متعلّق بالغسل قبل الأمر
بالصوم ، فليس هذا الأمر معلوما لأمر آخر ، إلّا أنّ الأمر به إنّما يكون مراعاة
لحصول الغير في زمانه ، والثاني الأوامر الغيريّة المسبّبة عن الأوامر المتعلّقة
بالعناوين المطلوبة نفسا.
المقدّمة الثالثة
: أنّه لا إشكال في أنّ القدرة شرط في تعلّق الأمر بالمكلّف ، ولكن هل يشترط ثبوت
القدرة سابقا على الأمر ولو رتبة ، أم يكفي حصول القدرة ولو بنفس الأمر؟ الأقوى
الأخير ؛ لعدم وجود مانع عقلا في أن يكلّف العبد بفعل يعلم بأنّه يقدر عليه بنفس
الأمر.
إذا عرفت هذا
فنقول : الفعل المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة وثبوت الداعي الإلهي الذي يكون
موردا للمصلحة الواقعيّة وإن لم يكن قابلا لتعلّق الأمر به بملاحظة الجزء الأخير
للزوم الدور أو لما مرّ ، أمّا من دون ضمّ القيد الأخير لا مانع منه.
ولا يرد أنّ هذا
الفعل من دون ملاحظة تمام قيوده التي منها الأخير لا يكاد أن يتّصف بالمطلوبيّة ،
فكيف يمكن تعلّق الطلب بالفعل من دون ملاحظة تمام القيود التي يكون بها قوام
المصلحة.
لأنّا نقول : عرفت
أنّه قد يتعلّق الطلب بما هو لا يكون مطلوبا في حدّ ذاته ، بل يكون تعلّق الطلب به
لأجل ملاحظة حصول الغير والفعل المقيّد بعدم دواعي
النفسانيّة وإن لم
يكن تمام المطلوب النفسي مفهوما ، ولكن لمّا لم يوجد في الخارج إلّا بداعي الأمر
لعدم إمكان خلوّ الفاعل المختار عن كلّ داع ، يصحّ تعلّق الطلب به ؛ لأنّه يتّحد
في الخارج مع ما هو مطلوب حقيقة ، كما لو كان المطلوب الأصلي إكرام الإنسان ،
فإنّه لا شبهة في جواز الأمر بإكرام الناطق ؛ لأنّه لا يوجد في الخارج إلّا متّحدا
مع الإنسان الذي إكرامه مطلوب أصلي.
وكيف كان فهذا
الأمر ليس أمرا صوريا بل هو أمر حقيقي وطلب واقعىّ ؛ لكون متعلّقه متّحدا في
الخارج مع المطلوب الأصلي ، نعم يبقى الإشكال في أنّ هذا الفعل أعني : الفعل
المقيّد بعدم الدواعي النفسانيّة ممّا لا يقدر المكلّف على إيجاده في مرتبة الأمر
فكيف يتعلّق الأمر به؟ وقد عرفت جوابه في المقدّمة الثالثة.
ثمّ الكلام في
مورد الشكّ في التعبّديّة والتوصّليّة على هذين الوجهين هو الكلام في دوران الأمر
بين المطلق والمقيّد ؛ إذ لا إشكال في أنّ احتمال التعبّديّة احتمال قيد زائد ،
فالشكّ فيه من جزئيات الشكّ في المطلق والمقيّد ، فإن كانت مقدّمات الأخذ بالإطلاق
موجودة نحكم بإطلاق الكلام ونرفع القيد المشكوك ، وإلّا فالمرجع هو الأصل الجاري
في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد ، ولمّا كان المختار فيه بحسب الأصل العملي
البراءة فنحكم بعدم لزوم القيد.
فاتّضح ممّا ذكرنا
من أوّل العنوان إلى هنا وجوه اربعة في تصوير العبادات وأنت خبير بأنّ كلّ ما قلنا
في الواجبات النفسيّة العباديّة يجري مثله في الواجبات المقدّميّة العباديّة ، فلا
نحتاج إلى إطالة الكلام بجعل عنوان لها مستقلا.
«فصل»
الوجوب إمّا
تعييني ، وإمّا تخييري ، وإما عيني ، وإمّا كفائي ، وإمّا نفسي ، وإمّا غيريّ.
وربّما يتوهّم أنّ التخيير الشرعي راجع إلى التخيير العقلي وأنّه متعلّق بالجامع
بين المتباينين أو المتباينات ، فهو في الحقيقة وجوب واحد تعييني يتعلّق بموضوع
واحد ، والفرق بينه وبين التعييني المصطلح أنّ الأفراد هناك واضحة عندنا
وهنا يحتاج إلى
بيانها من الشرع ، فالأمر المتعلّق بالأفراد إرشادي مسوق لبيانها ، والملزم أمر
آخر متعلّق بالجامع مكشوف بهذا الأمر ، وذلك لضرورة استحالة استناد المصلحة
الواحدة التي يريد الآمر تحصيلها من كلّ واحد على البدل إلى المتعدّد ، فإذا قال :
أكرم زيدا أو عمروا فلا بدّ أن يكون بينهما جامع كانت المصلحة مترتّبة على إكرامه
كالأبنية للبكر.
ويمكن أن يقال :
إنّ البرهان وإن كان مسلّما لا محيص عنه ، لكنّ المدّعى وهو تعلّق الأمر بالجامع
قابل للمنع ، فالغرض والداعي أعني : المصلحة لا بدّ أن يتعلّق بعنوان واحد ولا
يلزم أن يكون هذا العنوان متعلّقا للأمر ، بل يمكن أن يكون متعلّق الأمر عنوانات
أخر متعدّدة.
والأصل في ذلك
أنّه متى تعلّق غرض الآمر بعنوان فلا يلزم عليه توجيه الخطاب نحو هذا العنوان ، بل
يمكن توجيهه نحو عنوان مغاير له إمّا لعدم إمكان توجّهه للعنوان الأوّل ، كما إذا
كان مقيّدا بداعي الأمر كما مرّ ، وإمّا لحكمة يقتضي ذلك مثل أن يكون البعث نحو
العنوان الأوّل موجبا لخطاء المخاطب في مقام تعيين مصاديقه ، فلا جرم يختار الآمر
من بين المصاديق عنوانا لا يشتبه على المخاطب مصاديقه فيأمره به.
مثلا : لو تعلّق
الغرض بعنوان النافع للصفراء فلو أمر به وقيل : اشرب النافع للصفراء ربّما يعيّنه
المخاطب في مصداق الضار ؛ فلهذا يؤمر بشرب السكنجبين ، فالحق ـ بعد وضوح فساد كون
المتعلّق ما هو المعلوم عند الله إتيان العبد به ، وإلّا لزم أن لا يكون واجب في
حقّه على تقدير العصيان وعدم الإتيان ، أو كونه أمرا مبهما مردّدا بين الشيئين أو
الأشياء واقعا ـ أي عند الأمر ـ لعدم معقوليّة تعلّق الإرادة بالأمر المبهم ، وبعد
شهادة الوجدان بأنّ قول المولى : أكرم زيدا أو عمروا أمر بعنوان إكرام الزيد
وعنوان إكرام العمر ولا بعنوان آخر جامع لهما ـ أن
يقال : إنّ الطلب التخييري سنخ مستقل من الطلب وهو طلب واحد له
قرنان أو ثلاثة قرون أو أربعة فصاعدا قد تعلّق كلّ قرن منه بخاص.
فحاله حال الشكّ ؛
فإنّه متقوّم بطرفي الوجود والعدم بحيث يرتفع بارتفاع أحدهما ، وكذا الطلب
المتقوّم بالقرنين أيضا يرتفع بكسر أحد قرنيه بإتيان متعلّقه وكذا المقوّم
بالثلاثة فصاعدا ، فبقولنا : طلب واحد ، خرج الطلب الاستغراقي كأكرم كلّ واحد من
هذين ، فإنّه ينحلّ إلى طلبات متعدّدة غير مرتبط بعضها بالبعض ، وبقولنا : قد
تعلّق كلّ قرن منه بخاص خرج الطلب المجموعي ؛ فإنّ كلّ واحد من الشيئين أو الأشياء
قد لوحظ فيه على نحو الجزئيّة لا على نحو الاستقلال.
وبعبارة اخرى
الإرادة علّقت أوّلا بإكرام زيد مثلا ، ثمّ غضّ النظر عنه كأنّه لم يكن في البين
أصلا وجيء في محلّه بآخر ثمّ غضّ النظر عنه أيضا وجيء بثالث وهكذا ، لا أنّها
علّقت بعنوان واحد اخذ مرآتا للإكرامات ، ولا بالمجموع المركّب منها الملحوظ شيئا
واحدا ، وهذا النسخ من الطلب لا بدّ من تصويره ، افرض أنّ التخيير الشرعي راجع إلى
طلب واحد متعلّق بالجامع ؛ إذ ننقل الكلام حينئذ إلى التخيير العقلي فيما إذا وقعت
الطبيعة موردا للأمر ، فإنّ الحاكم باجراء كلّ فرد هو العقل فلا يمكن تصحيح هذا
الطلب الإرشادي للعقل إلّا بهذا الوجه.
فتبيّن ممّا ذكرنا
أنّ الوجوب التخييري يحتاج إلى مئونة زائدة ليست في التعييني وهو العدل ، وكذا
الوجوب الكفائي ؛ فإنّه يحتاج في التحقّق إلى العدل في طرف المكلّف ، وكذا الوجوب
الغيري فإنّه عبارة عن وجوب شيء بملاحظة الوصلة به إلى واجب آخر ، فهذه الملاحظة
مئونة زائدة وليست في الوجوب النفسي ، ولا شكّ أنّ ما وضع له الصيغة في جميع هذه
المقامات الثلاثة هو المعنى الأعمّ الجامع بين القسمين بشهادة الوجدان بأنّ الصيغة
عند إرادة الوجوب التخييري أو الكفائي أو الغيري قد استعملت في معناه عند إرادة
الوجوب التعييني أو العيني أو النفسي لا في معني آخر مجازي.
__________________
فعلى هذا لو شكّ
في أنّ المراد بالصيغة أيّ القسمين في جميع هذه المقامات أو بعضها وفرض كون
المتكلّم بصدد البيان ، أمكن نفي ذي المئونة منهما وإثبات غيره بمقدّمات الحكمة ،
وليس إعمال هذه المقدّمات لإجراء الإطلاق مقصورا على ما إذا كان نتيجته التوسعة ،
بل يصحّ ولو كانت هي التضييق كما في ما نحن فيه ؛ فإنّ دائرة الوجوب التعييني أضيق
من التخييري ، وكذا العيني والنفسي بالنسبة إلى قسيميهما ؛ ضرورة عدم الفرق في ذلك
بين المقامين أصلا.
إنّما الكلام في
أنّ حملها على غير ذي المئونة في هذه المقامات موقوف على هذه المقدّمات بحيث
لولاها حصل التحيّر أو لا ، بل ينصرف منها غير ذي المئونة عند عدم القرينة على شيء
آخر؟ الحق هو الثاني ، وحينئذ فلا حاجة إلى إحراز كون المتكلّم بصدد البيان ؛ فإنّ
هذا المقدار من البيان أعني بيان مفاد اللفظ وتفهيمه موجود في جميع الألفاظ حتّى
ما كان مفاده الطبيعة المهملة ، والألفاظ التي مفادها هذه الطبيعة يحتاج إلى وجود
بيان في البين أزيد من هذا المقدار.
والدليل على
الانصراف المذكور أنه لو قال المولى : أكرم زيدا فأكرم العبد عمروا واعتذر بأنّ :
مفاد الصيغة بحسب الوضع ليس إلّا المعنى الأعمّ ، واحتملت أن يكون مرادك وجوب
إكرام زيد أو عمرو على سبيل التخيير ، ولم أحرز كونك بصدد البيان ، وحكم عقلي
بأنّه كلّما دار الأمر بين الأقلّ والأكثر فالأخذ بالأقلّ مجز ، والأقلّ بحسب
التكليف هو التخييري ، ليس ذلك منه مسموعا أبدا ، ولو لم يكن الانصراف موجودا لكان
مسموعا ، وكذا لو اكتفى عقيب قوله : أكرم زيدا بإكرام عمرو إيّاه باحتمال أن يكون
المراد هو الوجوب الكفائي ، واعتذر بعدم إحراز كون المولى بصدد البيان ، وكذا
الكلام في الوجوب النفسي.
«فصل»
هل الصيغة بنفسها
تدلّ على المرّة أو التكرار وعلى الفور أو التراخي أو لا يدّل على شيء منها؟ توضيح
الحال في هذا المجال يحصل بذكر مقدّمة واحدة فنقول :
لا شكّ أنّ للصيغة
وضعين مادّيا وهيئيّا ، فالمادّة أعني الحروف الأصليّة الجارية في هيئات المشتقات
موضوعة بحكم الوجدان للجامع المقسمي وهو معنى معرّى عن كلّ قيد من المرّة والتكرار
والفور والتراخي بل الوجود والعدم ؛ ولهذا يصحّ أن يقال : هذه الطبيعة موجودة أو
معدومة وهو المقسم لغير الآبي عن الحمل الذي هو معنى الأوصاف ، وللأبي عنه الذي هو
معنى سائر المشتقّات من المصادر وغيرها.
وأمّا الهيئة فهي
موضوعة للإرادة إمّا الفعليّة القائمة بالنفس وإمّا الإيقاعيّة ، فلا محالة يكون
المعنى عند انضمام الهيئة بالمادّة إرادة الطبيعة ، ولا شكّ أنّ الطبيعة بنفسها
غير قابلة لتعلّق الإرادة بها ؛ لأنّها ليست إلّا هي ، فلا بدّ بحكم العقل من لحاظ
الوجود معها أعني جامع الوجودات الخارجيّة الذي هو بنفسه متحقّق في الخارج كما في
الذهن ، غاية الأمر أنّه في الأوّل موصوف بالتكثر ، وفي الثاني بالوحدة ، فبانضمام
القيد العقلي إلى المفاد اللفظي يصير المتحصّل إرادة وجود الطبيعة.
وتعلّق الطلب
بالطبيعة بلحاظ الوجود يتصوّر على أربعة أنحاء :
الأوّل : أن
يتعلّق بها بلحاظ الوجود الساري بحيث صار عند التحليل كلّ وجود موضوعا مستقلا لطلب
مستقلّ كما في «تواضع للعالم».
الثاني : أن
يتعلّق بلحاظ مجموع الوجودات من حيث المجموع.
الثالث : أن
يتعلّق بها بلحاظ إحدى الوجودات على نحو مدلول النكرة فيكون المطلوب ساريا إلى
تمام الوجودات على البدل
فإن قلت : الطلب
في هذه الثلاثة متعلّق بالفرد ؛ لأنّ وجود الطبيعة عين الفرد فهي خارجة عن الفرض
من تعلّقه بالطبيعة.
قلت : للوجود
إضافتان : واحدة إلى الفرد واخرى إلى الطبيعة ، والمراد في المقام هو بلحاظ إضافته
إلى الطبيعة ، وهو وإن كان ينطبق في الخارج على الفرد لا محالة ، لكن سهم الصيغة
ليس إلّا صرف وجود الطبيعة بأحد هذه الأنحاء الذي هو منفكّ في الذهن عن جميع
الخصوصيّات الفرديّة ، فإفهامها محتاج إلى دالّ زائد.
الرابع : أن
يتعلّق بلحاظ صرف الوجود الذي هو نقض العدم الأزلي ، وهو
ينطبق قهرا على
الوجود الأوّل ؛ لا أنّ الأوّلية مأخوذة فيه وبعد ذلك لا ينطبق على الأفراد
المتأخّرة ؛ إذ نقض العدم الأزلي للطبيعة لا يعقل فيه التكرار ، والوجود بأيّ نحو
من هذه الأنحاء كان لا يمتنع العقل من أخذه في متعلّق الإرادة ، فإن كان في البين
قرينة على إرادة أحدها فلا كلام ، وإلّا فحيث لا انصراف في البين فقضيّة مقدّمات
الحكمة لو كان المتكلّم بصدد البيان إرادة الأقلّ مئونة الذي هو الوجه الأخير ،
فجزؤه العدمي أعني : عدم المئونة الزائدة يحرز بهذه المقدّمات ، وجزئه الأخير أعني
أصل الوجود محرز بحكم العقل ، فيصير المتحصّل من مجموع القيد العقلي ومفاد الصيغة
إرادة صرف وجود الطبيعة.
وهذا معنى معرّى
عن المرّة والتكرار والفور والتراخي ، نعم له انطباق قهريّ على المرّة ، وعلى هذا
فيمتنع الامتثال بالفرد الثاني وما بعده ؛ إذ لا يعقل سلب الانطباق عن الفرد
الأوّل ؛ ولهذا قيل : الامتثال عقيب الامتثال محال.
لكنّهم ذكروا هنا
شيئا وهو أنّ الغرض والنتيجة الداعية إلى الأمر تارة يحصل بمجرّد الإتيان بالمأمور
به كما لو قال : اضرب زيدا ، فبحصول الضرب يحصل الغرض وهو التشفّي، وحينئذ يكون
الفرد الثاني وما بعده لغوا لا محالة ، واخرى لا يحصل بمجرّد إتيانه كما لو قال
المولى لعبده : اسقني شربة من الماء فأتى بالماء ووضعه في جنبه ولكن لم يشربه
المولى بعد ، وحينئذ لو وجد العبد ماء أعذب وأبرد من الأوّل فبادر وأتى به إلى
المولى قبل شرب الأوّل ليرفع عطشه بالثاني فهو كأنّه بدّل فرد الامتثال بفرد آخر
وجعل ما أتى به ثانيا عوضا عمّا أتى به أوّلا ، ويعدّ فعله مستحسنا عند العقلاء
ويصير نفسه ممدوحا ؛ لأنّه فعل فعلا نافعا لغرض المولى ، وهذا الفعل الثاني وإن لم
يكن امتثالا للأمر وخروجا عن عهدته ولهذا ليس للمولى إلزام العبد به ، لكنّه يحسب
بدلا عن الفعل الأوّل بمعنى أنّ المولى يستعمله في محلّ الأوّل ويحصل منه فائدة
الأوّل وثمرته.
وبالجملة فعدم
لغويّة الفرد الثاني بل استحسانه واقامته مقام الفرد الأوّل في تحصيل الغرض فيما
إذا كان الغرض متأخّر الحصول عن المأمور به لا امتناع فيه عقلا قطعا.
وحيث اشكل عليهم الأمر
في باب الصلاة المعادة جماعة من حيث إنّ قضيّة كون مطلوبيّة الصلاة بلحاظ صرف
الوجود وامتناع الامتثال عقيب الامتثال بطلانها ، ومع ذلك ورد النص الصريح بصحّتها
كقوله عليهالسلام : «يختار الله أحبّهما إليه» جعلوا هذا محملا للصحّة ،
ببيان أنّ ما هو المطلوب في حدّ ذاته غير المطلوب من المكلّف ، فرفع العطش في
المثال مطلوب للآمر وليس مطلوبا إيجاده من المأمور ، بل يحصل بفعله ، وفعل الأمر
مفاد المطلوب منه إنّما هو إتيان الماء فقط ، ولا شكّ أنّه يحصل ويسقط بالفرد
الأوّل ، فيمكن أن يأتي المأمور بداعي المطلوب الذاتي الذي لم يسقط بعد بالفرد
الثاني ويصرفه الآمر في مصرف الفرد الأوّل ، وكما يمكن ذلك في حقّ البشر فكذا في
حقّه تعالى ، غاية الأمر أنّ المطلوب الذاتي له تعالى أبدا ينفع بحال العبد ويعود
إليه ، وللبشر قد يكون كذلك وقد يعود إلى نفسه.
لكن لهم شبهة اخرى
في باب صحة صلاة من جهر في صلاته مقام الإخفات أو عكس ناسيا أو جاهلا ولو جهلا لا
يعذر فيه ، كما هو قضيّة إطلاق لفظ «لا يدري» في الخبر وعدم لزوم الإعادة عليه لا
في الوقت ولا في خارجه كما هو قضيّة قوله عليهالسلام فيه : «تمّت صلاته» وهي : أنّ الجاهل المقصّر كيف يحكم
عليه المولى إذا علم بالمسألة في الوقت بأنّه لا يلزم عليك الإعادة بل صلاتك مجزية
ومع ذلك اعاقبك على ترك كيفيّة الصلاة من الجهر أو الإخفات ، مع أنّ العقل حاكم
بأنّ اللازم حينئذ إلزامه بالإعادة ورفع العقاب عنه لفرض بقاء الوقت.
وأجابوا عنها
بأنّه يمكن أن يكون للمولى غرض أقصى متعلّق بالصلاة بالجهر أو الإخفات ، لكنّه إذا
انعدمت الكيفيّة فنفس الصلاة أيضا مشتملة على مقدار مصلحة واجب ، فالصلاة مع
الكيفيّة ذات مصلحتين ملزمتين إحداهما قائمة بنفسها والاخرى بكيفيتها ، وعلى هذا
يصير الحكم بصحّة الصلاة وعقوبة المكلّف كلاهما صحيحا.
أمّا الأوّل
فلأنّه قضيّة قيام المصلحة الملزمة بنفس الصلاة ، وأمّا الثاني فلأنّه يلزم من
صحّة الصلاة وسقوطها عن المكلّف فوات محلّ المصلحة الملزمة القائمة بالكيفيّة و
سقوطه عن
القابليّة ، فلا يمكن إدراكها بعد ذلك ؛ لعدم المحلّ لها ، فيعاقب المكلّف على ذلك
لاستناده إليه.
وأنت خبير بأنّه
بناء على ما ذكروه في تصوير صحّة الصلاة المعادة جماعة يلزم أن لا يفوت محلّ هذه
المصلحة لإمكان إدراكها بالصلاة المعادة جماعة التي هي أفضل من الصلاة مع الكيفيّة
، فيعود الإشكال من أنّه يلزم حينئذ الحكم بلزوم إعادتها كذلك ورفع العقاب ، لا
عدم اللزوم والعقاب.
واجيب عن هذا
بوجهين :
الأوّل : أنّ
الأخبار الواردة باستحباب الإعادة جماعة لا يشمل المقام ؛ إذ مورد السؤال فيها هو
ما إذا وقعت الصلاة المنفردة كاملة.
فإن قلت : كيف ذلك
ولا مخصّص لها لا عقلا ولا شرعا؟.
قلت : لا عموم ولا
إطلاق لهذه الأخبار بالنسبة إلى المقام حتى يسأل عن المخصّص ؛ وذلك لأنّ خصوصيّة
السؤال ربّما يوجب عدم ظهور الجواب في العموم أو ظهوره في الخصوص ، فالثاني كقوله عليهالسلام في الجواب عن السؤال من الشرب من الإناء المفضّض : «اشرب
منه واعزل فمك عن موضع الفضّة» فإنّ اللام في لفظ الفضّة بقرينة السؤال عهديّة
وإشارة إلى الفضّة المتّصلة بالإناء ولا يشمل غيرها وإن كان لو قيل ابتداء : اعزل
فمك عن موضع الفضّة كان اللام ظاهرا في الجنس والأوّل كما في أخبار الباب ؛ فإنّ
الجواب فيها بالنسبة إلى غير مورد السؤال ، وهو ما إذا وقعت الصلاة المنفردة كاملة
مجمل ، وإحراز الإطلاق بمقدّمات الحكمة غير ممكن ، أمّا بناء على اشتراط اعمالها
بعدم وجود القدر المتيقّن في البين فواضح ، وأمّا بناء على عدم الاشتراط فلأنّ
الإمام ليس في مقام البيان بالنسبة إلى غير هذا المورد.
نعم ربّما يكون
عدم ملحوظيّة الخصوصيّة للمخاطبين وملغائيّتها في نظرهما مستفادا من الخارج ، كما
لو سئل عن موت الفارة في القربة أو الحبّ هل موجب للنجاسة أو لا؟ فقيل: موجب لها ؛
فإنّ من المعلوم أنّ نظرهما ليس إلى خصوص
الفأرة والقربة أو
الحبّ بل يعمّ كلّ نجس إذا لاقى الماء القليل.
ولكنّ الإنصاف
أنّه مع ذلك لا يمكن القطع بهذا الوجه أعني : اختصاص الاستحباب بصورة كامليّة
الصلاة المنفردة ، فالأولى في الجواب هو الوجه الثاني.
الثاني : أنّه وإن
كان الإعادة جماعة مستحبّة هنا إلّا أنّه لا يمكن إدراك تلك المصلحة الفائتة بها ،
غاية الأمر أنّه يدرك بها فضيلة الجماعة علاوة على المصلحة الملزمة القائمة بنفس
الصلاة ، فمفاد قوله : «يختار الله أحبّهما» أنّ الصلاة الثانية أحبّ بالنسبة إلى
الاولى ، فإن كان الاولى كاملة كانت الثانية أحبّ بالنسبة إلى الكامل ، وإن كانت
ناقصة كانت الثانية أحبّ بالنسبة إلى الناقص.
«فصل»
هل الصيغة الواردة
عقيب الحظر ظاهرة في الوجوب أو في رفع الحظر؟ هنا تفصيل وهو أن يقال : إن كان
معلوما من الخارج أنّ نظر المتكلّم إلى المنع السابق وغرضه رفعه ، أو إلى رفع
توهّم المخاطب المنع ، فحينئذ لا إشكال في محموليّة الصيغة على الإباحة ورفع الحظر
لا على الوجوب ، كما أنّه لو علم من الخارج عدم اعتماد المتكلّم إلى قرينة المنع
السابق وتوهّمه وأنّ حاله في هذه الصيغة كحاله في سائر الصيغ الخالية عن القرينة
في كونه مستأنفا في الكلام فلا إشكال في حملها على الوجوب.
إنّما الكلام فيما
لو شكّ في نظره وكان مردّدا بين هذين النظرين ، فنقول : هذا من جزئيات ما لو كان
للفظ ظاهر ، وكان متّصلا بالكلام ما يصلح للقرينيّة من حال أو مقال وشكّ في اعتماد
المتكلّم على هذه القرينة وعدم اعتماده ، وبنى شيخنا العلّامة قدسسره الكلام في ذلك على اعتبار أصالة عدم القرينة عند العقلاء أو
أصالة الحقيقة.
توضيح هذا الترديد
أنّه تارة يقسّم اللفظ إلى ما لا قرينة ، معه وما معه قرينة ويقال بأنّ الأوّل
ظاهر عند العقلاء في المعني الحقيقي ، والثاني في المعنى المجازي ، وأمّا نفس
اللفظ الذي هو المقسم فلا ظهور له عندهم أصلا ، واخرى يقال بأنّ نفس
اللفظ حجّة عند
العقلاء ومقتض لحمله على معناه الحقيقي ويعملون به إلى أن يثبت المانع أعني :
القرينة ، فموارد ثبوت القرينة من باب تعارض الحجّتين وتقديم القرينة لكونها أقوى
حجّة.
فعلى الأوّل لا
يحرز المقتضي والحجّة إلّا بعد إحراز عدم القرينة إمّا بالعلم أو بالأصل، ولا يكفى
مجرّد اللفظ ، فلا محالة يكون اللفظ المذكور مجملا ؛ إذ لا علم بعدم القرينة
بالفرض ، وأصالة عدمها إنّما يكون حجّة عند العقلاء عند الشكّ في وجود القرينة لا
في قرينيّة الموجود الذي هو المفروض هنا.
وعلى الثاني لا
يتوقّف إحرازه على إحراز عدم القرينة بل يكفي عدم إحرازه سواء كان من جهة الشكّ في
أصل حدوثها أو في قرينيّة الموجود ، فحينئذ يكون اللفظ المذكور حجّة بلا معارض ؛
إذ مجرّد الاحتمال لا يعارضها.
وتظهر ثمرة
الوجهين أيضا في المخصّص المجمل ، فعلى الأوّل لا بدّ أن يفرق بين ما إذا كان
منفصلا كما إذا ورد : أكرم العلماء ، ثمّ بعد مدّة : لا تكرم الفساق من العلماء ،
وتردّد مفهوم الفاسق بين مطلق المذنب وخصوص مرتكب الكبيرة ، فيخصّص العام بالنسبة
إلى الفرد المتيقّن الدخول تحت المخصّص وهو مرتكب الكبيرة ، ويرجع إليه في الفرد
المشكوك وهو مرتكب الصغيرة ، ووجهه أنّ العامّ مستقرّ الظهور في العموم ، فلا يرفع
اليد عنه إلّا بحجّة أقوى منه ، والمخصّص المذكور بالنسبة إلى الفرد الأوّل كذلك ،
وأمّا بالنسبة إلى الفرد الثاني فالعامّ سليم عن المعارض ، وبين ما إذا كان متّصلا
كما لو ورد أكرم العلماء إلّا الفسّاق منهم ، فيسري الإجمال منه إلى العام ؛ إذ
المفروض أنّ استقرار ظهور العامّ في شموله للفرد المشكوك متوقّف على عدم قرينة معه
على خروجه وهو غير محرز هنا ؛ لإجمال المخصّص ، وإحرازه بالأصل غير ممكن ؛ لما
عرفت من أنّ الشكّ في قرينيّة الموجود.
وعلى الثاني لا
فرق بين الصورتين في الرجوع في الفرد المشكوك إلى العام ؛ إذ المفروض أنّ المقتضي
هو نفس العام وهو محرز في كلتا الصورتين مع عدم إحراز المانع في كلتيهما أيضا.
والظاهر من هذين
الوجهين هو الأوّل ، والدليل عليه أنّا نقطع بأنّ العقلاء ما دام للمتكلّم أن يضمّ
اللواحق بكلامه الواحد لا يحكمون بشيء ، بل إذا انقضى هذا الزمان يتأمّلون أوّلا
في أنّ المستفاد من مجموع أجزاء الكلام ما ذا ثمّ يحكمون بأنّه مراد المتكلّم ،
وهذا كاشف عن أنّ المقتضي عندهم ليس هو ذات اللفظ بل هو بوصف التجرّد عن القرينة.
فصل في الإجزاء
الإتيان بالمأمور
به على وجهه وبلا زيادة ونقيصة موجب لسقوط الأمر ، ولا يعقل مع ذلك بقائه ؛ لكونه
طلبا لتحصيل الحاصل من دون فرق في ذلك بين التوصّلي والتعبّدى ، وأمّا وجوب
الإتيان ثانيا في التعبّديّات لو أخلّ بقصد القربة فإمّا من جهة اعتبار ذلك في
المأمور به ، وإمّا من جهة تعلّق الأمر بالإتيان بالفعل ثانيا بعد سقوط الأمر
الأوّل ؛ لعدم حصول الغرض الأصلي ، وقد عرفت تفصيل ذلك فيما تقدّم.
ولا بين العناوين
الأوّليّة للمكلّف والثانويّة ، ولا في الثانية بين ما يكون من قبيل الاضطرار
كفقدان الماء بالنسبة إلى الأمر بالتيمّم وما يكون من قبيل الشكّ ، كالشكّ في وجوب
السورة بالنسبة إلى الأمر بالصلاة بلا سورة ، ويسمّى الأوامر المتعلّقة بالاولى
بالواقعيّة الثانوية ، لكون موضوعها هو العاجز عن الإتيان بالواقع الأوّلي ،
والأوامر المتعلّقة بالثانية بالظاهريّة ؛ لكون موضوعها هو الجاهل بالواقع والشاك
فيه.
فمن كان تكليفه
الصلاة قاعدا إذا أتى بها كذلك فلا شكّ في سقوط الأمر بالصلاة قاعدا عنه ، ولا
إشكال لأحد في ذلك كلّه ، سوى ما مرّ من تصوير عدم السقوط في التعبّدي لكون الغرض
متعلّقا بالأخصّ ، وعرفت دفعه وأنّه لا محيص عن الإشكال إلّا بالالتزام بتعدّد
الأمر أو بتقيّد متعلّقه بأحد الوجهين السابقين.
وإنّما الكلام في
أنّ امتثال الأوامر المتعلّقة بالعناوين الثانويّة أعمّ من الواقعيّة الثانويّة
والظاهريّة مسقط للأوامر الواقعيّة ومجز عنها أولا؟
فمن فقد الماء
وتيمّم ثمّ وجده إمّا في الوقت بناء على عدم اعتبار استيعاب الفقدان لتمام الوقت
أو في خارجه مطلقا ، فهل يقتضي دليل وجوب الوضوء أداء أو قضاء أدائه على الأوّل
وقضائه على الثاني أو لا؟ تحقيق ذلك يقتضي الكلام في موضعين :
الأوّل : في إجزاء
الامتثال للأوامر المتعلّقة بالقسم الأوّل من العناوين الثانوية عن الواقع وعدمه
وهو يتمّ بالبحث في مقامين :
الأوّل : في تصوير
أنحاء تعلّق الأمر بهذا القسم من العناوين بحسب مقام اللبّ والثبوت اللازم من
بعضها الإجزاء ومن البعض الآخر عدمه
والثاني في أنّ
الأوامر الشرعيّة المتعلّقة بهذه العناوين يكون على أيّ نحو من هذه الأنحاء بحسب
ما يستفاد من أدلّتها.
المقام الأوّل :
اعلم أنّه يتصوّر تعلّق الأمر بهذه العناوين على أنحاء.
الأوّل : أن تكون
المصلحة التي تحصل من الفعل التام بالنسبة إلى الفاعل المختار حاصلة بعينها من
الفعل الناقص بالنسبة إلى الفاعل العاجز.
الثاني : أن يكون
المصلحة التي تحصل من الأوّل والتي تحصل من الثاني متغايرتين بالسنخ.
الثالث : أن يكونا
متّحدتين بالسنخ ، لكن كانت الاولى مرتبة شديدة كاملة منه ، والثانية مرتبة ضعيفة
ناقصة وهذا يتصوّر على نحوين :
الأوّل : أن تكون
زيادة المصلحة الاولى على الثانية لازم الاستيفاء ، وإنّما لم يستوفها الآمر من
العاجز لعجزه عمّا يحصل هذه الزيادة به من الفعل التامّ.
الثاني : أن تكون
راجح الاستيفاء بحيث لو أمكن للمختار تحصيل الأصل على حدة وتحصيل الفرع على حده
كان الأوّل عليه واجبا والثاني مستحبّا ، لكن حيث انحصر في حقّه تحصيل الأصل فيما
يحصل بسببه الفرع أيضا كان هو الواجب
عليه ، وصورة كون
الزيادة لازم الاستيفاء أيضا يكون على نحوين :
الأوّل : أن تكون
الزيادة ممكن الاستيفاء بعد إتيان المكلّف بما يحصل بسببه الأصل من الفعل الناقص.
والثاني : أن تكون
غير ممكن الاستيفاء بعد ذلك.
فلا شكّ على النحو
الأوّل من هذه الأنحاء في حصول الإجزاء وعدم لزوم الإعادة عند زوال العذر ؛ إذ لا
وجه للزومها بعد إدراك عين المصلحة الحاصلة بالفعل التام بتمامها وكما لها ، بل
طلب الإعادة حينئذ لغو ، بل يجوز حينئذ أن يزيل المختار القدرة والاختيار عن نفسه
، وكذا يجوز البدار بأن يبادر الفاعل عند عدم التمكّن إلى الفعل الناقص مع العلم
بحصول التمكّن في آخر الوقت أو رجاء حصوله ، أو يبادر الآمر إلى الأمر به مع ذلك.
ولازم النحو
الثاني أنّه متى تبدّل العنوان وصار المكلّف متمكّنا بعد الإتيان بالفعل الناقص
وجب عليه الفعل التام ؛ لأنّ المصلحة القائمة به مغايرة للمصلحة الاولى وملزمة ،
إلّا أن يكون إيجاد الفعل الناقص في حال عدم التمكّن مفنيا لموضوع هذه المصلحة.
ولازم النحو
الثالث ـ وهو أن يكون المصلحتان من باب الزائد والناقص وكانت الزيادة لازم
الاستيفاء وممكنة ـ عدم حصول الإجزاء بمعنى أنّه يجب عند التمكّن الإتيان بالفعل التام
لتحصيل هذه الزيادة ، بل يجوز حينئذ البدار للمكلّف إلى الإتيان وإن كان يرجو زوال
عذره ، بل وإن كان يقطع بذلك ، وكذا الآمر إلى الإيجاب على المكلّف وإن كان ممّن
يزول عذره في علم الله في الوقت ، لعدم استلزامه لتفويت مصلحة لزوميّة بل لتفكيك
مصلحتين لزوميّتين في التحصيل ، هذا إذا كانت المصلحة مرتّبة على الاضطرار الفعلي
، وأمّا لو كانت مرتبة على الاضطرار المستوعب في الوقت ، فلا يتعلّق التكليف
بالفعل الاضطراري إلّا على من كان في علم الله مضطرّا في تمام الوقت ، فلو أتى
بالفعل في أوّل الوقت ثمّ انقطع عذره في الأثناء يكشف عن عدم كون ما أتى به مأمورا
به ، وكذا الكلام في النحو الخامس.
ولازم النحو
الرابع ـ وهو أن تكون الزيادة واجب الاستيفاء وغير ممكنة ـ حصول الإجزاء وعدم وجوب
الإتيان بالفعل التام عند عود التمكّن ؛ للغويّته بعد عدم إمكان إحراز المصلحة
الفائتة به ، وعلى هذا لا يجوز للآمر الأمر بالناقص بمجرّد حصول العجز في بعض
الوقت مع العلم بزواله في آخره أو رجاء ذلك ، ولا للمكلّف سلب التمكّن من نفسه
لمنافاة جوازهما ، للزوم الزيادة وعدم إمكان استيفائها.
ولازم النحو
الخامس وهو أن تكون الزيادة غير لازم الاستيفاء واضح أنّه الإجزاء وجواز البدار ؛
لعدم لزوم استيفاء الزيادة.
المقام الثاني :
اعلم أنّه يمكن استظهار عدم وجوب إعادة الفعل كاملا على من أتى به ناقصا للعجز إذا
تمكّن منه كاملا من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى
الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) الخ، وبيانه أنّه إذا توجّه من المولى الخطاب العام
بالصلاة إلى جميع المكلّفين فقال : اقيموا الصلاة ثمّ قال بعد ذلك : إذا أردتم
الصلاة فالواجد منكم للماء لا بدّ أن يتوّضأ والفاقد أن يتمّم والجنب أن يغتسل فلا
شكّ أنّ الظاهر من هذا عرفا أنّ هذه الحقيقة الواحدة المطلوبة من الجميع يختلف كيفيّة
امتثالها باختلاف الأشخاص ، وأنّ الفعل الناقص من الفاقد يقوم مقام الكامل من
الواجد ويفيد فائدته من إسقاط ذاك الأمر العام ، وأنّ ذلك من باب قيام الركعتين من
المسافر مقام الأربع ركعات من الحاضر ، لا من باب ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه.
وعلى هذا فأحد
الحكمين ليس في طول الآخر بل كلاهما في عرض واحد ومرتبة واحدة ، وتوصيف أحدهما
بالأوليّة والآخر بالثانويّة إنّما هو باعتبار حال متعلّقهما لا نفسهما ، حيث إنّ
الاختيار والقدرة هو مقتضى الطبيعة الأوّلية لنوع المكلّفين ، فيكون الاضطرار
عنوانا ثانويّا على خلاف الأصل.
فيعلم ممّا استفيد
من الآية من الإجزاء أنّ فعل المضطرّ لا يخلو إمّا أن يكون محصّلا لعين مصلحة فعل
المختار كما هو النحو الأوّل ، أو مع زيادة في الثاني غير لازم الاستيفاء كما هو
النحو الخامس ، أو مع زيادة فيه لازم الاستيفاء وغير ممكنة كما هو النحو الثالث.
وربّما يتمسّك
لتعيّن أحد الأوّلين بأنّ مفاد الآية الشريفة بإطلاقها أنّ المكلّف لو لم يجد
الماء سواء كان في تمام الوقت أم في أوّله يتيمّم ، فيدلّ على جواز البدار عند عدم
الوجدان في أوّل الوقت ، ومن المعلوم أنّه لو كان في فعل الوضوء زيادة مصلحة غير
ممكن الاستيفاء لما جاز ذلك ، بل وجب الصبر إلى آخر الوقت.
ولكنّك خبير بأنّه
لا إطلاق في الآية حتّى يتمسّك به على جواز البدار ، وذلك لأنّ عدم الوجدان إذ اخذ
في مقابل وقت موسّع كوقت الصلاة فلا شكّ أنّه لا يتحقّق إلّا بعدم الوجدان في تمام
أجزاء هذا الوقت ، ولا إطلاق به بالنسبة إلى عدم الوجدان في بعضه فقط وإن كان يصدق
عليه عدم الوجدان لغة.
ثمّ على تقدير عدم
الدليل على الإجزاء يتعيّن الرجوع إلى الأصل وهو هنا البراءة ؛ لأنّ الشكّ في حدوث
التكليف بعمل المختار عند حدوث الاختيار بعد العلم بعدمه في حال الاضطرار ، بل
يمكن استصحاب عدمه الثابت في تلك الحال بناء على ما سيأتي في محلّه إن شاء الله
تعالى ، ولا فرق في ذلك بين الإعادة والقضاء.
لا يقال : مقتضى
وجوب قضاء ما فات وجوب العمل التام عليه لصدق فوت العمل التام عنه
لأنّا نقول :
يعتبر في صدق الفوت اشتمال العمل على المصلحة المقتضية للإيجاب عليه ولم يستوفها
المكلّف ، والمفروض احتمال استيفاء المكلّف العاجز تلك المصلحة بإتيان الناقص ومع
هذا الاحتمال نشكّ في صدق الفوت الذي هو موضوع ادلّة القضاء.
الموضع الثاني :
في أنّ الأحكام الظاهريّة المجعولة للشاكّ في الواقع هل هي مجزية عن الواقع لو
انكشف للمكلّف في الوقت أو في خارجه أولا؟ مثلا لو قام على وجوب صلاة الجمعة أمارة
وعمل بها المكلّف ثمّ صار في الوقت عالما بخطائها وأنّ الواجب هي الظهر فهل يجب
عليه حينئذ الإتيان بالظهر؟ وكذا لو علم بذلك في خارج الوقت أولا؟
الكلام في ذلك
مبنيّ على الوجهين في كيفيّة جعل الأمارات والتعبّد بها :
الأوّل وهو
المنسوب إلى الشيخ قدسسره أن يكون على وجه السببية وهي أن
يكون قيام الأمارة
سببا لحدوث مصلحة في مؤدّاها ؛ فإنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح والمفاسد في
متعلّقاتها وهي تختلف باختلاف الوجوه والاعتبارات ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي صفة
من صفاتنا كالاضطرار ، وكون الفعل ممّا أخبر بوجوبه الثقة مثلا صفة من صفاته ،
فيمكن أن يحدث فيه بواسطة هذه الصفة مصلحة تكون هي أقوى من مصلحة الواقع في نظر
الشارع على تقدير مخالفته للواقع.
الثاني : أن يكون
على وجه الطريقيّة بأن يكون المتعلّق للحكم والمصلحة أبدا هو الواقع من دون أن
يكون في نفس سلوك الأمارة مصلحة ، إلّا أنّه لمّا اقتضت الحكمة تسهيل الأمر على
المكلّفين ونصب الطرق الموصلة إلى الواقع لهم جعل الشارع هذه الطرق طريقا إليه ،
فإن عمل بها المكلّف وكانت مؤدّية إلى الواقع فهو ، وإن كانت مؤدّية إلى خلافه
فالمكلّف صفر اليد عن المصلحة أصلا لكنّه معذور كالجاهل المركّب ، وبناء العلماء
في هذه الأزمنة على هذه الوجه كما يأتي إنشاء الله في جواب ابن قبة.
فعلى الأوّل
الكلام هنا هو الكلام في الأحكام الواقعيّة الثانويّة بحسب مقام الثبوت ، فيجري
الأنحاء الخمسة السابقة هنا ، والفرق بينهما في ثبوت الدليل هناك في مقام الإثبات
وعدمه هنا ؛ فإنّ الأصل أعني السببية لا دليل عليه والتكلّم فيه إنّما هو على وجه
البناء ، فالفرع وهو كونها على وجه يوجب الإجزاء وعدمه كذلك بطريق أولى ، فيتعيّن
الرجوع في مقام العمل إلى الأصل ، وأمّا أنّه البراءة أو الاشتغال فسيأتي بيانه.
وأمّا على الثاني
فلا وجه لسقوط الأمر الواقعي بموافقة الأمر الظاهري مع انكشاف المخالفة في الوقت ؛
لوضوح أنّ سقوط الأمر إمّا أن يكون من جهة الإطاعة وهي مفروض الانتفاء في المقام
وإمّا أن يكون من جهة العصيان وانقضاء الوقت وهو أيضا مفروض العدم هنا ، وإمّا أن
يكون من جهة عدم بقاء المحلّ للأمر الواقعي مع موافقة الأمر الظاهري ، وهذا وإن
كان محتملا ، لكنّ الأصل وحكم العقل هو الاشتغال.
وذلك لأنّ العقل
كما أنّه مستقلّ فيما إذا علم العبد بتوجّه الخطاب إليه في زمان علمه ثمّ شكّ في
الزمان البعد في حصول المبرئ وعدمه بوجوب تحصيل اليقين بالبراءة وعدم صلاحيّة
احتمال خصوص المبرئ حجّة له عند مولاه على تقدير عدم حصوله واقعا ، فكذلك هو
مستقلّ بهذا الحكم فيما إذا علم في الزمان اللاحق بتوجّه الخطاب إليه في الزمان
السابق ، وشكّ في هذا الحال في بقاء الخطاب لاحتمال حصول المسقط قبل ذلك اتّفاقا
بلا فرق ، مثلا لو علم في أوّل الظهر بتوجّه خطاب توصّلي إليه قبل ذلك ممتدّ من
أوّل الطلوع إلى الغروب ولكن احتمل أن يكون قد تبرّع بالفعل متبرّع فيكون التكليف
عنه ساقطا ، فهو وإن كان في زمان علمه شاكّا في فعليّة التكليف وبقائه ، وفي زمان
فعليّته وهو زمان ما قبل الظهر غير عالم به ، لكنّ العقل يحكم عليه بوجوب الإتيان
وعدم قبح العقاب على تقدير عدمه وعدم حصول التبرّع من الغير.
وبالجملة ، فيكفي
في حكم العقل بالاشتغال العلم بثبوت التكليف الفعلي في زمان ما وإن لم يكن هذا
الزمان ظرفا للعلم.
ومن هنا يظهر أنّه
على القول بكون العلم الإجمالي منجّزا للتكليف لا فرق بين أن يكون العلم بنجاسة
أحد الإنائين مثلا حاصلا قبل خروج أحدهما عن مورد الابتلاء ، وبين أن يكون حاصلا
بعده في وجوب الاجتناب عن الإناء الآخر ؛ لحصول العلم بتوجّه خطاب «اجتنب عن النجس»
في كلتا الصورتين وإن كان هذا العلم في الصورة الثانية حاصلا في زمان الشكّ في
بقاء الخطاب.
هذا فيما إذا
انكشف خطاء الأمارة بعد العمل في الوقت ، وكذا لو انكشف في خارجه ؛ فإنّ المكلّف
قد فاته حينئذ مصلحة الواقع من دون تداركه بشيء بالفرض ، فيشمله قوله : اقض ما فات
، فإنّ القضاء ليس تابعا لترك الفعل في الوقت عصيانا ، بل تابع لفوت المصلحة ولهذا
يجب على النائم في تمام الوقت.
فعلم أنّ القاعدة
الأوّليّة بناء على الطريقيّة هو عدم الإجزاء لو انكشف الخطاء بعد العمل ، فإن لزم
من ذلك في بعض الموارد العسر الشديد والحرج الأكيد ـ كما لو
علم بخطاء الأمارة
القائمة على طهارة ماء الغسالة بعد عدم الاحتراز عنه والصلاة مع الثوب الملاقي له
في مدّة طويلة واريد رفع ذلك بأدّلة رفع الحرج ـ يصير ذلك قاعدة ثانويّة ، ولو دلّ
دليل خاص في مورد خاص على الإجزاء فلا بدّ من حمله على كون موافقة الأمر الظاهري
مفوّتا لموضوع الأمر الواقعي ؛ إذ الجمع بين الإجزاء والطريقيّة لا يحصل إلّا
بهذا. ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون مورد الأحكام الظاهريّة الشبهات الموضوعيّة
أو الحكميّة.
وحاصل الكلام أنّ
الغرض الموجب للحكم حدوثا موجب له بقاء ما لم يحصل ، وبعد ما فرضنا أنّ متعلّقات
الأحكام الظاهريّة ليست مشتملة على مصالح حتّى يتوّهم حصول تلك الأغراض الموجبة
للتكليف بالواقعيّات بإتيانها وإنّما فائدتها رفع تنجيز الواقعيّات في مورد ثبوتها
وكونها عذرا عنها في صورة التخلّف فلا وجه لتوهّم الإجزاء ؛ لأنّه إن كان المراد
سقوط الأمر بالواقعيّات بمجرّد امتثال الأمر الظاهري فلا يعقل مع بقاء الغرض الذي
أوجب الأمر ، وإن كان المراد كونها معذورا فيها مع بقاء الأمر بها وارتفاع الشكّ
فلا يعقل أيضا ؛ لاستقلال العقل بعدم معذوريّة من علم بتكليف المولى.
نعم يمكن أن يوجب
امتثال الأمر الظاهري عدم القابليّة لاستدراك المصلحة القائمة بالواقع ، فيسقط
الأمر به من هذه الجهة ، وهذا الاحتمال مع كونه بعيدا في حدّ نفسه لا يصير منشأ
للتوقّف ؛ إذ غايته الشكّ في السقوط وهو بعد العلم بالثبوت مورد للاشتغال.
هذا إذا علم أنّ
جعل الأحكام الظاهريّة من باب الطريقيّة ، ولو شكّ في أنّه كذلك أو من باب
السببيّة ، أو علم أنّه من باب السببيّة ، ولكن شكّ في أنّ الإتيان بالمشكوك هل هو
واف بتمام الغرض الموجب للأمر بالواقع أو بمقدار يجب استيفائه أو لم يكن كذلك ،
فهل الأصل في تمام ما ذكرنا يقتضي الإجزاء أو عدمه ، أو التفصيل بين ما إذا كان
منشأ الشكّ في الإجزاء وعدمه الشكّ في أنّ جعل الأحكام الظاهريّة من باب السببيّة
أو الطريقيّة، وما إذا كان منشأ الشكّ فيه الشكّ في كيفيّة
المصلحة القائمة
بالفعل المشكوك المتعلّق للأمر بعد إحراز أنّ الجعل من باب السببيّة؟.
والحقّ أن يقال
بأنّ مقتضى الأصل عدم الاجزاء مطلقا ، بيان ذلك أنّ الأحكام الواردة على الشكّ
سواء قلنا بأنّها جعلت لمصلحة في متعلّقاتها أو قلنا بأنّها جعلت من جهة الطريقيّة
إنّما جعلت في طول الأحكام الواقعيّة ؛ لأنّ موضوعها الشكّ في الواقعيّات بعد
الفراغ عن جعلها ، فلا يمكن أن تكون رافعة لها ، غاية الأمر أنّ الإتيان
بمتعلّقاتها إن قلنا بأنّ الجعل فيها من باب السببية وأنّها وافية بمصالح
الواقعيّات مجز عنها ، وهذا غير ارتفاع الأحكام الواقعيّة وانحصار الحكم الفعلي
بمؤدّي الطريق.
إذا عرفت ذلك فنقول
: لو أتى المكلّف بما يؤدّي إليه الطريق ، فإن قطع باشتمال ما أتى به على المصلحة
المتحقّقة في الواقع فهو ، وإلّا فبعد انكشاف الخلاف يجب عليه إتيان الواقع سواء
كان الشكّ في السقوط وعدمه مستندا إلى الشكّ في جهة الحكم الظاهري ، أو في وفاء
المصلحة المتحقّقة في متعلّق الحكم الظاهري لإدراك ما في الواقع ، بعد إحراز أنّ
الجعل إنّما يكون من جهة المصلحة الموجودة في المتعلّق ؛ إذ يشترك الجميع في أنّ
المكلّف يعلم حين انكشاف الخلاف بثبوت تكليف عنه في الجملة ويشكّ في سقوطه عنه ،
وهذا الشكّ مورد للاشتغال العقلي.
وممّا ذكرنا يظهر
لك الفرق بين المقام والمقام السابق الذي قلنا فيه بالبراءة من الإعادة والقضاء
بعد إتيان ما اقتضاه التكليف في حال الاضطرار.
توضيح الفرق أنّ
المكلّف في حال الاضطرار ليس عليه إلّا الفعل الناقص الذي اقتضاه تكليفه في ذلك
الحال ، فلو كلّف بعد ارتفاع العذر بالفعل التامّ فهو تكليف ابتدائي جديد والشكّ
فيه مورد للبراءة بخلاف حال الشكّ ؛ فإنّ ما وراء هذا التكليف الذي اقتضاه الدليل
في حال الشكّ واقع محفوظ ، فإذا ارتفع الشكّ يتبيّن له ذلك الواقع الثابت ويشكّ في
سقوطه عنه ، هذا ما أدّى إليه نظري القاصر في المقام وعليك بالتأمّل التام.
* * *
فصل في مقدّمة الواجب
لو جعل العنوان في
هذا المبحث الإرادة الحتميّة المتعلّقة بالفعل الواجب فلا بدّ أن نذكر الكلام في
الإرادة الحتميّة المتعلّقة بالترك الواجب في مبحث مستقلّ ، وحيث إنّ الملاك وهو
الملازمة وعدمها في كلا المقامين واحد ؛ لكونه عقليّا ، فالاولى أن يقرّر النزاع
هكذا : الإرادة الحتميّة المتعلّقة بالشيء من حيث الفعل أو الترك هل هي موجبة
للإرادة الحتميّة المتعلّقة بمقدّمته أولا؟
ثمّ لو قلنا بثبوت
الملازمة فالواجب في طرف الفعل هو جميع المقدّمات الوجوديّة له من غير فرق بين
السبب والشرط والمعدّ وغيرها كما هو واضح ، وفي جانب الترك ترك أحد هذه المقدّمات
لا بعينه ؛ ضرورة أنّ الفعل يصير منتركا بترك أحدها ، فالواجب المقدّمي للترك
المطلوب تخييري وخصاله التروك.
ويكون كذلك ما دام
قدرة المكلّف على جميع التروك باقية ، فإذا انحصرت بواحد منها يصير هذا الواحد
واجبا تعيينيّا ، كما هو الحال في كلّ واجب تخييري عند زوال القدرة عن سائر أبدا
له ، وذلك كما لو أتى المكلّف بغير واحد من المقدّمات الوجوديّة للفعل الحرام أو
كان مضطرّا إلى إتيان غير الواحد منها ، فإنّ المقدور حينئذ منحصر في ترك هذا الواحد
فيكون واجبا تعيينيّا توصّلا إلى ترك ذاك الحرام.
ومن هنا يظهر وجه
ما ذكره سيّدنا العلّامة الميرزا الشيرازي قدسسره في حاشيته على رسالة نجاة العباد عند تفصيل الماتن في
المصبّ الغصبي لماء الوضوء بين صورتي الانحصار وعدمه ، فحكم ببطلان الوضوء في
الأوّل وبصحّته في الثاني.
ومحصّل ما ذكره قدسسره في تلك الحاشية هو التفصيل في صورة عدم الانحصار بين ما
إذا أمكن بعد صبّ الماء على العضو إمساك الماء عن الانصباب في المحلّ الغصبي ،
وبين ما إذا لم يمكن ذلك بل كان الصبّ متى حصل مستلزما للتصرّف في الغصب وعلّة
تامّة له ، فحكم بالصحّة في الأوّل وبالبطلان في الثاني.
ووجه ذلك أنّه على
الأوّل لا ينحصر مقدّمة الواجب أعني ترك التصرّف في المصبّ في ترك الصبّ ، فيكون
تركه واجبا تخييريّا ، بمعنى أنّ للمكلّف أن يفعل الصبّ ويتوصّل إلى الترك الواجب
بفعل الإمساك ويكون هو الواجب التعييني حينئذ ، وبالجملة ففعل الصبّ خال عن النهي
، فلا يمتنع أن يمتثل به الأمر الوضوئي.
نعم لو كان حين
الصبّ عازما على ترك الإمساك بعده كان متجرّيا وبطل وضوئه ، لا من جهة قبح نفس
الصبّ ، بل لأنّ الفاعل يصير حينئذ قبيحا في نظر المولى ، والعبادة لا بدّ أن يجعل
فاعلها حسنا في نظره ، وهذا بخلاف الصورة الثانية ؛ فإنّ ترك الصبّ هناك يكون
واجبا تعيينيّا لفرض عدم وجود مقدّمة اخرى بعد فعل الصبّ حتّى تصير هي المتعيّن
بعده ، فلهذا يمتنع أن يكون فعل الصبّ مأمورا به ومقرّبا.
فلا يرد عليه قدسسره أنّ صبّ الماء ليس علّة تامّة للغصب حتى يحرم بحرمته بل هو
من المقدّمات ، وما هو كذلك لا يجب تركه شخصا حتّى ينافي الوجوب ، وحاصل الجواب
أنّ صبّ الماء وان لم يكن علّة إلّا أنّه بعد انحصار المقدّمات المقدورة فيه كما
هو المفروض يجب تركه عينا.
فإن قلت : ليس
المقدور منحصرا في الصبّ ، بل الكون في المكان المخصوص أيضا من المقدّمات وهو باق
تحت قدرة المكلّف ، فلم يثبت حرمة صبّ الماء عينا.
قلت : ليس الكون
المذكور من مقدّمات تحقّق الغصب في عوض صبّ الماء ، بل هو مقدّمة لتحقّق الصبّ
الخاص الذي هو مقدّمة تحقّق الغصب ، والنهي عن الشيء يقتضي النهي عن أحد الأفعال
التي هي بمجموعها علّة لذلك الشيء ؛ فإذا انحصر المقدور من هذه الأفعال في واحد
يقتضي حرمته عينا.
ثمّ لو عرض على
واحد من التروك التى أحدها مقدّمة للترك المطلوب حرمة تعيينيّة زال الوجوب
التخييري عنه ويعيّن في الباقي ، كما هو الحال فيما لو كان الواجبات التخييريّة
أفعالا وعرض على واحد منها الحرمة التعيينيّة.
فما ربّما يتوهّم
في باب اجتماع الأمر والنهي بناء على عدم جواز اجتماعهما مع كون
محلّ النزاع هناك
صورة ثبوت المندوحة في طرف الأمر وكون مورده أعمّ من مورد النهي ، فيكون الفرد
المجمع للعنوانين واجبا تخييريّا وحراما تعيينيّا من أنّه لا بدّ من ملاحظة أقوى
الجهتين الداعيتين إلى الأمر والنهي وهما المصلحة والمفسدة وأهمها في نظر الشارع ،
فاسد.
ووجه الفساد أنّه
لا شكّ أنّ محلّ الكلام في ذلك الباب ليس هو ما إذا حصل الكسر والانكسار بين
الجهتين بحسب مقام اللبّ بحيث اضمحلّت إحداهما في جنب الاخرى وبقيت المصلحة
الخالصة أو المفسدة الخالصة ؛ ضرورة أنّ تقييد مورد النهي على الأوّل ومورد الأمر
على الثاني إنّما يكون من قبل الآمر والشارع حينئذ ، بل محلّ الكلام ما إذا كان
الجهتان موجودتين معا بأن يكون الفعل الواحد ذا مصلحة ومفسدة فعليتين من دون تزاحم
بينهما أصلا ، كأن يكون نافعا للصفراء ومورثا للصداع ويكون التحيّر في مقام
الإرادة والطلب فقط ، ويكون النزاع حينئذ صغرويّا ، فالقائل بالجواز يقول كما أنّ
في مرحلة المصلحة والمفسدة لا اجتماع في البين ، لاختصاص كلّ منهما بمحلّ ، فكذلك
في مرحلة الإرادة أيضا لا اجتماع حتّى يكون محالا ، والقائل بالامتناع يقول بأنّه
وإن لم يكن في المرحلة الاولى تزاحم في البين ، لكن التزاحم ثابت في المرحلة
الثانية لوحدة المحلّ بالنسبة إليها.
إذا عرفت ذلك
فنقول : لا شكّ أنّ المفسدة المفروض وجودها فعلا مقتضية لتعلّق الإرادة بترك الفرد
وحينئذ فالإرادة المنبعثة عن المصلحة لا يتعلّق بهذا الفرد قهرا ؛ لإمكان استيفاء
المصلحة في غيره بالفرض وإن كان المصلحة أقوى من المفسدة بأضعاف كثيرة بحيث لو لم
يمكن استيفاء المصلحة في غير هذا الفرد لاختار الآمر الفعل ، وهذا واضح في الغاية.
فالصلاة في الدار المغصوبة بناء على عدم جواز اجتماع الأمر والنهي يجب الحكم
بكونها محرّمة ، وتقييد مورد الصلاة بغير هذا الفرد وإن كانت الصلاة أهمّ من الغصب
بمراتب.
ولو كان الواجب
تخييريّا وكذلك الحرام فهل يمكن اجتماعهما في محلّ واحد بناء على عدم جواز
اجتماعهما في غير هذا المورد أم لا؟ مثاله لو كان صبّ الماء على الوجه
مقدورا وهكذا أخذه
على تقدير الصبّ بحيث لا يقع في المحلّ المغصوب ، فهل يمكن أن يكون هذا الصبّ تركه
واجبا بدلا ، لكونه ممّا يترتّب عليه ترك الحرام ، وكذلك فعله لكونه أحد أفراد غسل
الوجه في الوضوء أم لا؟
قد يقال بالعدم ؛
لأنّ كون الشيء طرفا للوجوب التخييرى يقتضي أن يكون تركه مع ترك باقي الأفراد
مبغوضا للمولى ، وكونه طرفا للحرمة التخييريّة يقتضي أن يكون الترك المفروض مطلوبا
له ، والذي يقوي في النفس أن يقال : إنّ فعل ذلك الشيء المفروض على تقدير قصد ترك
أحد الأطراف الذي هو بدل له في الحرمة لا مانع من تحقّق العبادة به ؛ لأنّه على
هذا التقدير ليس قبيحا عقلا ، بل على تقدير عدم قصد التوصّل به إلى المحرّم.
نعم على غير هذين
التقديرين وهو ما إذا كان الآتي بذلك الفعل قاصدا إلى إيجاد فعل الحرام فلا يمكن
أن يكون ذلك الفعل عبادة ، فحينئذ نقول في المثال : إنّ صابّ الماء على الوجه إن
لم يقصد به إيجاد فعل الغصب فلا مانع من صحّة وضوئه ، وإلّا فالحكم بالبطلان متّجه
، وستطّلع على زيادة توضيح لأمثال هذا المقام في مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء
الله تعالى ، وتمام الكلام في هذا المقام في ضمن امور :
الأوّل
الواجب تارة يلاحظ
فيه إضافته إلى الفاعل ، واخرى لم يلحظ فيه ذلك بأن يكون الغرض متعلّقا بمجرّد
وجوده وإن لم يستند إلى مكلّف أصلا كما في بعض التوصليّات كتطهير البدن والثوب
للصلاة.
وعلى الأوّل قد
يعتبر المباشرة ، وقد يكون المقصود اعمّ منها ومن التسبيب ، وكذا قد يعتبر الإيجاد
ببدنه وإن كان بإيجاد السبب ، وقد يكون الغرض أعمّ منه ومن الإيجاد بنائبه ، وكذا
قد يعتبر أن يكون الإيجاد بالاختيار والقصد وإن كان بنائبه وبإيجاد السبب ، وقد
يكون المراد أعمّ منه ومن الإيجاد بدون التفات أصلا وعن غفلة.
ثمّ الإيجاد
بالاختيار قد يحصل بأن يكون الداعي له هو هذا العنوان ، كما لو شرب
الخمر بداعي نفس
هذا العنوان ، وقد يكون بمجرّد الالتفات إلى نفس العنوان مع كون الداعي له عنوانا
آخر ، كما لو شرب الخمر مع العلم بكونه خمرا بداعي رفع العطش لا شرب الخمر ، فيمكن
أن يكون المقصود خصوص القسم الأوّل من هذين القسمين وأن يكون هو الأعمّ منه ومن
الثاني.
فالمقصود في هذا
المقام هو البحث عن أنّ الأمر هل يكون له ظهور في تشخيص هذه الوجوه أولا ظهور له
مطلقا أو يفصّل ، ثمّ على تقدير عدم الظهور فالأصل العملي الذي هو المرجع حينئذ ما
ذا؟
فنقول وبالله
الاستعانة : القيد على قسمين ، الأوّل : ما يحتاج إليه الطلب ولا يصحّ بدونه ،
والثاني غيره ، وكلّ منهما إمّا مذكور في الكلام وإمّا غير مذكور ، والقسم الأوّل
أعني ما يتوقّف عليه حسن الطلب إمّا أن يكون دخيلا في المطلوب والغرض الأصلي أيضا
وإمّا لا ، فإن لم يكن مذكورا في القضيّة فالظاهر عدم دخل له في الغرض ، ويعبّر عن
ذلك بإطلاق المادّة ، ولذا لمّا كان دليل وجوب الصلاة مطلقا يحكم بمطلوبيّتها في
حقّ النائم مع عدم قدرته على الصلاة ، ومن هنا يجب عليه القضاء مع كونه تابعا
للفوت الغير الصادق إلّا مع ثبوت المقتضي في حقّه.
والدليل على ذلك
أنّ المولى لمّا صار بصدد بيان محبوبه وغرضه ، فكلّما كان له دخل في غرضه دلّ عليه
، فما لم يدّل عليه يستكشف عدم دخل له في هذا المقام وإن كان له دخل في تعلّق
الطلب ، وعلى هذا فلو قال انقذ الغريق من دون التقييد بالقدرة يلزم الحكم بشمول
المحبوبيّة لجميع الأفراد حتّى فيما لو اجتمع غريقان ولم يتمكّن المكلّف إلّا من
إنقاذ أحدهما ، وأمّا لو كان هذا القيد مذكورا في الكلام كما لو قال : اضرب زيدا
إن قدرت عليه ، فلا يمكن الحكم بتقييد المادّة ولا بإطلاقها ، بل يحكم بإجمالها ،
وذلك لعدم العلم بأنّ ذكر القيد يكون لأجل مدخليّة له في المطلوب أو لتوقّف الطلب
عليه ، فالمانع عن الأخذ بأصالة الإطلاق في طرف المادّة موجود ؛ إذ من موانع الأخذ
بأصالة الإطلاق وجود ما يصلح للقيديّة في الكلام ، كما أنّ من موانع الأخذ بأصالة
الحقيقة وجود ما يصلح للقرينيّة فيه ، فيعمل بمقتضى الاصول.
وأمّا القسم الثاني وهو ما لا يتوقّف حسن الطلب وصحّته عليه كوصف الإيمان في الرقبة المأمور
بعتقها ، فإن لم يكن مذكورا في الكلام فلا شكّ أنّه لا وجه حينئذ للتقييد بل يحكم
بالإطلاق لو وجدت هناك شرائط الأخذ بالإطلاق ، وإلّا فبمقتضى الاصول ، كما لا
إشكال في أنّه متى كان مذكورا كان الظاهر هو التقييد ما لم يستظهر إلغاء القيد من
الخارج.
إذا عرفت ذلك
فاعلم أنّه لو شكّ في أنّ الشارع لاحظ إضافة الفعل المأمور به إلى المكلّف بحيث لو
صدر عن غيره ولو بتسبيب منه لم يحصل الغرض ، أو أنّه لم يلحظ ذلك ، بل الغرض
متعلّق بالأعمّ من المباشرة والتسبيب؟ فظاهر صيغة الأمر طلب وقوع الفعل من المخاطب
على وجه ينسب إليه ، ولا ينسب إليه العمل إلّا إذا كان مباشرا له ، وأمّا إذا كان
سببا فنسبته إليه مجاز.
لكن لو أمكن دعوى
أنّ المعلوم من حال الشارع في غالب خطاباته التوصّلية توسعة الغرض وتعلّقه بالأعمّ
فيحكم بذلك في مورد الشكّ إلحاقا له بالأعم الأغلب ، أو لم يمكن دعوى ذلك في
الشرعيّات وأمكن دعواه في العرفيّات فيحكم بذلك في مورد الشكّ أيضا ؛ إذ الخطابات
الشرعيّة منزّلة على طبق فهم العرف ما لم يعلم تخطئته من الشرع فلا كلام.
وأمّا إن لم يمكن
شيء من هاتين الدعويين فحيث إنّ القيد المشكوك هنا وهو المباشرة من القيود التي لا
يتوقّف حسن التكليف عليها ، كما هو واضح ، وعرفت أنّها لو كانت مذكورة في الكلام
فالظاهر تقييد المادّة بها ، فالحكم هنا هو التقييد ؛ إذ ظاهر اللفظ يعطي اختصاص
المطلوبيّة بصورة المباشرة كما عرفت ، فلو كان الغرض أعمّ لكان الواجب الإتيان
بعبارة مؤدّاها أعمّ.
ولو شكّ في اعتبار
قيد الاختيار بمعنى لزوم وقوع الفعل من الفاعل بالتفاته وشعوره وعدم كفاية صدوره
عنه لا كذلك كما في حال النوم ، أو شكّ بعد الفراغ عن اعتبار هذا القيد في اعتبار
قصد العنوان وعدمه ، فملخّص الكلام في هذين الشكّين أنّه لا إشكال في عدم معقوليّة
تعلّق الطلب بخصوص ما يصدر عن المكلّف بغير
التفاته ، وكذا لا
إشكال في عدم معقوليّة تعلّقه بخصوص ما يصدر عنه بالتفاته لكن لا بقصد عنوانه ، بل
بقصد عنوان آخر.
أمّا الأوّل فواضح
،
وأمّا الثاني
فلأنّ شأن الأمر الداعويّة إلى المتعلّق ، والمتعلّق هنا ضرب زيد مثلا ، ولا يعقل
أنّ الأمر صار داعيا ومحرّكا إلى ضرب زيد ، ومع ذلك لم يكن الضرب بعنوانه مقصودا.
إذا عرفت ذلك
فبناء على عدم إمكان تعلّق الطلب بالجامع ولزوم تعديته إلى الأفراد نقول : الجامع
بين الفرد الغير الاختياري والفرد الاختياري الغير المقصود عنوانه والفرد
الاختياري المقصود عنوانه هو ضرب زيد مثلا ، فالطلب لا بدّ وأن يسري منه إلى تلك
الأفراد ، وعرفت أنّ فردين منها غير قابلين لتعلّق الطلب ، فينحصر متعلّق الطلب في
فرد واحد وهو الاختياري المقصود عنوانه ، فيكون الاختياريّة وقصد العنوان على هذا
من القيود التي يتوقّف حسن التكليف عليها ، فما دامت القضيّة اللفظيّة خاليه عن
ذكرهما كما في قوله : اضرب زيدا ، يحكم بإطلاق المادّة بالنسبة إليهما على ما مرّ
في الضابط ، فيكون الفردان الآخران مسقطين للأمر وإن لم يكونا متعلّقين له.
وأمّا بناء على
صحّة تعلّق الطلب بالجامع بلحاظ صرف الوجود وعدم تعديته إلى الأفراد وإن كان
متّحدا معها فنقول : للجامع هنا فرد مقدور وهو ما يصدر بالتفات ، وفرد غير مقدور
وهو ما يصدر بغيره وبمجرّد كون فرد واحد منه مقدورا يصحّ توجّه الطلب إليه ؛ إذ
القدرة على الفرد الواحد قدرة على أصل الطبيعة ، وعلى هذا فميزان صحّة الطلب
مقدوريّة أصل الطبيعة الحاصلة بمقدوريّة فرد واحد منها ، بخلاف المبنى السابق ؛
فإنّ الميزان هناك هو الاختياريّة وقصد العنوان الملحوظان بالنسبة إلى الفرد ،
فهنا لو لم يكن القدرة على أصل الطبيعة مذكورة حكم بإطلاق المادّة وإلّا بإجمالها
، وأمّا الاختياريّة وقصد العنوان فعلى هذا من القيود التي لا يتوقّف حسن الطلب
عليها ، فإذا ذكرا حكم بتقييد المادّة ، وإذا لم يذكرا حكم
بإطلاقها مع وجود
الشرائط ، وإلّا فالمرجع الاصول.
وأمّا الشكّ في
اعتبار المباشرة بالبدن فلا تكفي النيابة وعدمه فالكلام فيه في مقامين:
الأوّل : في تصوير
النيابة وإمكانها عقلا في العبادات
والثاني : بعد
الفراغ عن إمكانها في الاصول اللفظيّة أو العلميّة الجارية عند الشكّ في إجزائها.
أمّا المقام الأوّل
فنقول : لا إشكال
في أنّ وصف المقربيّة من أعظم أركان العبادة فلا يسقط الأمر العبادي بدونه ،
وحينئذ فكيف يعقل قبولها للنيابة وبأن يصير سعي النائب مقرّبا للمنوب فيما إذا فرض
عدم حصول إعمال اختيار من المنوب أصلا حتّى مثل الاستدعاء للنيابة والاستيجار
عليها ، بل وعدم حصول اطلاع له على أصل النيابة ، كما لو فرض كون شخص متبرّعا من
جانبه وهو غير مطّلع.
وبالجملة ، فالقرب
لا بدّ وأن يكون ناشئا من كمال في نفس العبد وهو في الفرض المذكور معدوم ، ومجرّد
التنزيل لو كان مؤثّرا في القرب لكان مؤثّرا في التعبّد أيضا ؛ لوضوح عدم تفاوت
بينهما مع أنّه غير مؤثّر في الثاني قطعا ، فلو فرض أنّ أحدا عمل عملا سيّئا ونزّل
نفسه منزلة غيره لا يرجع تبعته إلّا إلى نفسه.
وهنا إشكال آخر
وهو أنّ الأمر المتوجّه إلى المنوب كيف يمكن أن يصير داعيا للنائب؟
وفيه أنّه يمكن أن
يكون الأمر متوجّها إلى شخص المنوب ، ومع ذلك كان الغرض متعلّقا بذات الفعل سواء
صدر منه أم من غيره ، وكان وجه تخصيص المنوب بالأمر عدم إمكان توجيهه إلى غيره ،
مثال ذلك أنّ من كان غرضه اشتراء اللحم وكان له خادم فهو مع كون مطلوبه ذات شراء
اللحم من أيّ شخص صدر لا يأمر به إلّا خادمه ؛ إذ لا حقّ له على غير الخادم حتّى
يأمره ، فعدم أمر غير الخادم لأجل
قبحه لا لأخصّية
الغرض ، وحينئذ فلو كان للخادم صديق فيمكن أن يدعو الأمر المتوجّه إلى الخادم ذلك
الصديق إلى الشراء لأجل أن يحصل بسبب ذلك غرض المولى فيسقط أمره فيستخلص بسبب ذلك
الخادم من تبعات الأمر.
لكن هذا الجواب
إنّما يجري في التوصليّات ، وأمّا في التعبديّات فبعد ما عرفته في الإشكال الأوّل
من أنّ القرب لا يحصل لأحد بفعل غيره لا يمكن داعويّة الأمر للغير أيضا ؛ إذ بعد
ما يعلم الغير أنّ فعله لا ينفع بحال المنوب ولا يخلصه من تبعات الأمر لعدم حصول
القرب له بسببه فلا ينبعث إلى العمل لا محالة ، وعلى هذا فالإشكال الثاني متفرّع
على الأوّل وجوابه جوابه.
وكيف كان فللفحول
أجوبة عن الإشكال الأوّل لا يسمن ولا يغني شيء منها من جوع.
الأوّل : أنّ
العمل وإن كان للنائب لكنّ المنوب راض به ومتشكّر منه ، فالقرب والثواب بواسطة هذا
الرضى والتشكّر ؛ إذ الراضي بفعل قوم كالداخل فيه معهم.
وفيه أنّه مستلزم
للدور ؛ لأنّ رضى المنوب وحبّه لعمل النائب متوقّف على كونه موجبا لقربه ؛ إذ لا
يعقل رضى الإنسان وحبّه لعمل الغير مع عدم عود نفع منه إليه ؛ فإنّ الحبّ والبغض
من الصفات التي لا يمكن إيجادها لمصلحة في نفسها كالعلم ، بل لا بدّ وأن يكونا
منبعثين من المصلحة والمفسدة في متعلّقهما وقد فرض أنّ حصول القرب للمنوب متوقّف
على رضاه بفعل النائب وحبّه له.
الثاني : أنّه ليس
المراد بالقرب حصول الشأن العظيم والجاه الرفيع عند المولى للعبد بواسطة عمله ، بل
المراد ما هو أعمّ من ذلك وهو أن يكون العبد الذي تنسب إليه العبادة ممتازا في نظر
المولى عن غيره الذي لم تنسب إليه ، ويتفرّع على هذا كون العامل لخوف النار أو
لطمع الجنّة متقرّبا ؛ إذ هو ممتاز عن التارك بالمرّة قطعا.
وحينئذ فنقول :
رجلان ماتا جميعا ، فتبرّع من أحدهما متبرّع فقضى عنه العبادات المتروكة ، ولم
يتبرّع من الآخر أحد ، ليسا على حدّ سواء في نظر المولى.
الثالث : أنّ
العامل يسلّم العمل إلى المنوب ، وهو يضعه في طبق الإخلاص و
يسلّمه إلى
المولى.
ويمكن أن يقال :
إنّ الأفعال مختلفة ، فبعضها لا ينسب إلّا إلى فاعله كالأكل والشرب ونحوهما.
وبعضها ينسب إلى المباشر وإلى السبب كالقتل والإتلاف والضرب وشبهها، وبعضها ينسب
إلى الغير مع عدم كونه مباشرا ولا سببا وهو كلّ فعل كان تقوّمه بالقصد فجيء به
بقصد الغير مع رضى هذا الغير وتقبّل المولى ، ففي هذه الأفعال لا بدّ من الالتزام
بأنّ الفاعل يوجد القصد بالاختيار لملاحظة المصالح والفوائد التي يراها في نفسه لا
لملاحظتها في المتعلّق.
ولهذا يكون الحقّ
مع من قال بأنّ الإرادة صفة نفسانيّة وراء العلم بالصلاح ؛ إذ لا يمكن إيجاد العلم
اختيارا ولو كان فيه ألف مصلحة ، بل يلزم التناقض فيما لو كان شاكّا في صلاح وفساد
أصل الفعل ، وإيراد التسلسل بأنّ الإرادة لو كانت اختياريّة لزم أن يكون مسبوقة
بإرادة اخرى وهكذا ، مدفوع كما عرفت في أوائل الكتاب بأنّ الإرادة الثانية موجودة
لمصلحة في المتعلّق وهو الإرادة الاولى ، وهي موجودة بالإرادة الثانية.
وبالجملة ، ففي
هذا القسم من الأفعال لو رأى الفاعل النفع في أن يقصد العنوان لأجل الغير فقصده
لأجله ، فلا يعقل بعد لحوق الإمضاء والتقبّل ممّن بيده ذلك وهو المولى عدم ترتّب
أثر كان مترتّبا على الفعل الصادر من شخص الغير.
مثلا عنوان
التعظيم لا شكّ في أنّه يحتاج في تحقّقه إلى القصد ، فحطّ الظهر مثلا في حدّ ذاته
كما قد يكون تعظيما ، كذلك قد يكون توهينا ، وقد لا يكون هذا ولا ذاك ، فهو في
مرتبة الذات خال عن جميع العناوين الثانويّة ، وإنّما يتمحّض لأحدها بالقصد ، فلا
بدّ أن يوجد النفس القصد ويضمّه إلى الفعل حتّى يصير المجموع منشأ لعنوان التعظيم
، ولا بدّ وأن نلتزم بأنّ هذا القصد يوجدها النفس اختيارا لمصلحة في نفسه لا في
المقصود ؛ إذ العمل في حدّ نفسه مردّد بين التعظيم والتوهين ، وهذه المصلحة هو
القرب من المعظّم له.
إذا عرفت ذلك
فنقول : لا شكّ في أنّ الأغراض مختلفة ، فكما أنّه قد يرى
المصلحة في أن
يقصد بالعمل كونه تعظيم نفسه عمرا فكذا قد يراها في أن يقصد كونه تعظيم زيد عمرا ،
والمفروض أنّ زمام القصد بيده ، فكما أنّه يقتدر على إيجاده في نفسه لمصلحة فيه
فكذا في الصورة الثانية.
فإن قلت : نعم
ولكنّ العمل لا يحسب تعظيما مضافا إلى زيد ما لم يكن صادرا من شخصه.
قلت : قد عرفت أنّ
ذات العمل لا يكون تعظيما لا لنفس العامل ولا لزيد ، بل نسبتهما إليه على السواء ،
وحينئذ فإذا كان ضمّ قصد تعظيم النفس إلى العمل مؤثّرا وجاعلا له تعظيما للنفس فلا
بدّ أن يكون قصد كون التعظيم لزيد أيضا جاعلا له تعظيما لزيد ، ولا وجه للتفكيك
بين هذين القصدين في التأثير.
نعم فرق بين
الصورتين من حيث إنّه في الصورة الاولى ليس في البين سوى المعظّم والمعظّم له ،
فلا يحتاج تحقّق التعظيم إلى أمر آخر سوى القصد ، وأمّا في الصورة الثانية ففي
البين ثالث وهو من وقع التعظيم بنيابته ، فيعتبر رضاه بالنيابة وتقبّله لها ، فلو
كان كارها لها لا يحصل التعظيم له ، وكذا يعتبر تقبّل المعظّم له من الثالث هذا
التعظيم الذي أتى به نائبه ، فإذا اجتمع هذه الامور الثلاثة أعني : قصد العامل كون
التعظيم للغير ، ورضى ذلك الغير ، وتقبّل المعظّم له فلازمه عقلا ترتّب كلّ أثر
كان للتعظيم الحاصل من شخص ذلك الغير ، هذا وكذلك نقول في العبادات.
مثلا الهيئة
الصلاتيّة من حيث إنّها مركّبة من تكبيرة وقيام وركوع وسجود قد تكون مقرّبة ، كما
إذا قصد بها التقرّب ، وقد تكون مبعّدة كما إذا أتى بها رئاء ، وقد تكون لغوا كما
إذ أتى بها لا عن شعور ، فحينئذ لا بدّ من ضمّ قصد التقرّب إليها حتّى يصير
المجموع مقرّبا ، فهذا القصد ممّا يوجده النفس بالإرادة والاختيار لأجل كونه ذا
مصلحة ، وكما أنّ قصد كونها مقرّبة للفاعل يكون فيه فائدة ، فكذا في قصد كونها
مقرّبة لأبيه الميّت أيضا فائدة ، فكما يمكن الأوّل ويترتّب عليه الأثر فكذا
الثاني أيضا ممكن بلا إشكال ، ويضاف العمل إلى الميّت ويوجب له القرب ، لكن بعد
رضاه وتقبّل الشارع ، أمّا رضاه فهو حاصل بالقطع ، وأمّا الثاني فقد دلّ عليه الأخبار
الدالّة على صحّة
النيابة عن الميّت.
فعلم أنّ للعامل
قصدين طوليين ، أحدهما : قصد إيجاد الصلاة بقصد تقرّب الميّت ، والعمل بلحاظ هذا
القصد يعبّر عنه بالنيابة ولا يضاف إلّا إلى العامل ، والثاني : قصد تقرّب الميّت
بالأفعال المخصوصة والعمل بهذا الاعتبار صلاة يضاف إلى الميّت وهو متقرّب به.
ثمّ إنّه قد
يترتّب الثواب على العمل باعتباره الأوّل أيضا كما لو كان متبرّعا فيكون له ثواب
الإحسان ، وقد لا يترتّب ، فلا ينافي عدم ترتّب الثواب والقرب على العمل لنفس هذا
العامل بهذا الاعتبار ترتّبهما عليه للميّت بالاعتبار الآخر ، ثمّ بعد ما ثبت
بأخبار التبرّع أنّ أصل العمل نافع بحال الميّت ، غاية الأمر أنّ للتبرّع أيضا
ثواب الإحسان ، وكان من القواعد المسلّمة أنّ ميزان صحّة الاستيجار كون العمل بحيث
يرجع منه نفع إلى الغير ، كان الاستيجار في المقام بلا مانع ، لكن مع إحراز إمضاء
الشرع للنيابة في خصوص كلّ عبادة كما في الحجّ.
وهنا وجه آخر لدفع
الإشكال ولكن لا يستقيم معه صحّة الاستيجار على العبادة وهو أن يقال : إنّ مطلوب
الشارع في العبادات وجود أصل العمل مع حصول قرب في الجملة في مقابل التوصّليّات ،
حيث إنّ المطلوب فيها ليس إلّا صرف وجود العمل ، سواء حصل معه قرب لأحد أم لا ،
وأمّا لزوم كون القرب المعتبر في العبادات حاصلا للمأمور فليس عليه دليل بل يكفي
حصوله لغيره.
كما لو كان
المطلوب في الصلاة أعمّ من مباشرة نفس المأمور ونائبه ، فيكفي حينئذ في سقوط الأمر
العبادي عن المأمور صدور العبادة عن النائب على وجه أوجب القرب له ، فيندفع أصل
الإشكال كما هو واضح ، وكذا إشكال عدم تعقّل داعويّة الأمر المتوجّه إلى المأمور
لغيره ؛ لما فرض من كون الغرض أعمّ من مباشرة نفس المأمور.
وربّما يستأنس
لهذا أعني : عدم لزوم حصول القرب في العبادة لنفس المأمور في سقوط الأمر بها بما
ذكروه في باب الزكاة التي هي من العبادات ، ويتوقّف إجزائها
على نيّة القربة
من أنّه لو امتنع من عليه الزكاة من أدائها دفعها الحاكم من ماله ، ومن المعلوم
أنّ القربة لا تتمشّى في هذا الفرض إلّا من الحاكم ، مع أنّ المأمور بالزكاة صاحب
المال ، وبما ذكروه في غسل الميّت من أنّه لو انحصر الغاسل للإمرأة الميّتة في
الامرأة الكافرة باشرت غسلها مع أنّ من المعلوم عدم تمشّي القربة من الكافرة ،
والغسل أيضا من العبادات يتوقّف على القربة ، فلا بدّ أن يتولّى النيّة من تتمشّى
منه من الرجال.
وبالجملة ، فيمكن
أن يستكشف من ذلك أنّه ليس المعتبر في العبادة إلّا ضمّ قرب إلى أصل العمل ولو بأن
يكون العمل من شخص والقرب لآخر ، أو يكون كلاهما لغير المأمور ، لكن مع كون الغرض
متعلّقا بالأعمّ من المباشرة وعمل النائب.
وعلى هذا فيمكن أن
يكون الغرض في العبادات المقرّرة في الشريعة متعلّقا بخصوص المباشرة ما دام الحياة
وصار بعد الموت بحيث يحصل بعمل النائب ، لكن على هذا الوجه لا يصحّ الاستيجار لما
فرضنا من كون العمل مقرّبا للنائب ، ومن الواضح عدم تمشّي القربة مع قصد الاجرة ،
فلا يحصل الغرض ، فلا يسقط الأمر عن الميّت ، فيكون العمل لغوا.
اعلم أنّ دلالة
الأخبار على كون النيابة نافعة بحال المنوب عنه ممّا لا شبهة فيها بمعنى أنّها
مبرئة لذمّته ، كما أنّ أداء دين الغير تبرّعا مبرئ لذمّته ؛ فإنّ العبادة دين
الله سبحانه على العبد.
نعم يبقى الكلام
في أنّ عمل النائب مثل عمل المنوب يفيد القرب للمنوب ، أو أنّه يفيده للنائب ويسقط
الأمر عن ذمّة المنوب ، ولا ثمرة لذلك في صورة التبرّع ، وإنّما تظهر الثمرة
للاستيجار ، فعلى الأوّل يصح وعلى الثاني لا يصح ؛ إذ يعتبر في حصول القرب للفاعل
أن يأتي بالعمل لغاية إلهيّة ولو كانت راجعة إلى الدنيا وإلى المشتهيات النفسانيّة
مثل أن يعمل لأجل وسعة الرزق ؛ فإنّ صرف النظر عن الخلق وتوجيهه إلى الخالق مطلوب
وإن كان لإنجاح مطلب دنيوي ، ومن المعلوم أنّ الداعي في صورة الاستيجار على العمل
محض الدنيا.
المقام الثاني
لو شكّ في قبول
عبادة خاصّة للنيابة فمقتضى القاعدة عدمه ؛ إذ الظاهر من الصيغة هو المباشرة
بالبدن فيكون المباشرة قيدا مذكورا في الكلام ، مع عدم توقّف حسن الطلب عليه ،
فيكون ظاهرا في تقييد المادّة على ما مرّ.
الأمر الثاني
ينقسم الواجب
باعتبار إلى مطلق ومشروط ، فالأوّل ما لا يتوقّف وجوبه على شيء ، والثاني بخلافه ،
واورد على هذا التقسيم إشكالان ينبغي التعرّض لهما ولدفعهما أوّلا ثمّ التكلّم في
ثمرات القسمين فهنا مقامان :
الأوّل
في التعرّض للإشكالين
ودفعهما فنقول :
أمّا الإشكال
الأوّل فهو أنّ الواجب المشروط عبارة عمّا لا يوجد وجوبه قبل وجود شرطه ، وهذا
يستلزم أحد المحذورين ، إمّا كون اللفظ في مثل أكرم زيدا إن جاءك مهملا بأن لا
يكون المتكلّم منشئا ، وإمّا كون الوجوب منفكّا عن الإيجاب وكلاهما واضح الفساد.
وأمّا الثاني فهو
أنّ الوجوب الذي هو مفاد هيئة افعل معنى حرفي ، والمعنى الحرفي لا يقبل الإطلاق
والتقييد ، والبرهان على ذلك أمران ، الأوّل : أنّ المعنى الحرفي ما لا يستقلّ
باللحاظ ، بل حاله في الذهن حال العرض في الخارج ، فكما أنّ العرض تقوّمه بالغير
وكيف لوجوده ، فكذا المعنى الحرفي تقوّمه بالمعنى الاسمي وكيف للحاظه ، ومن
المعلوم أنّ الإطلاق والتقييد فرعان لملاحظة المعنى مستقلّا ، والثاني أنّ المعنى
الحرفي جزئيّ حقيقي ، ومن المعلوم أنّ الصالح لهذين الوصفين ليس إلّا الكلّي ،
ولكنّك عرفت فيما سبق كلّية المعاني الحرفيّة فلا مانع من إطلاقها وتقييدها من جهة
جزئيتها.
وأمّا المانع
الآخر أعني : عدم استقلالها في اللحاظ فيمكن إثبات عدم مانعّيته من وجوه :
الأوّل : أنّها
وإن كانت غير مستقلّة باللحاظ ولا يمكن الإشارة إليها والحكم عليها وبها ، ولكن
يمكن في اللحاظ الثاني ملاحظتها مستقلا على نحو الإجمال ، كما أنّ هذا هو طريقة
وضع الألفاظ بإزائها ؛ إذ لا بدّ في مقام الوضع من لحاظ الطرفين مستقلا وعلى وجه
أمكن الإشارة إليها ، فالواضع في وضع الحروف لا بدّ وأن يجعل المعنى الاسمي عنوانا
ومرآتا للمعنى الحرفي ، ففي وضع «من» يلاحظ مفهوم الابتداء الملحوظ حالة للغير من
حيث هو هذا المفهوم ويجعله عنوانا لنفس المعنى الحرفي الخاص ، وهكذا يمكن فيما نحن
فيه ، فالمتكلّم بعد قوله : اضرب زيدا يمكن أن يلتفت إلى نفس ما جعله وأنشأه بنظرة
ثانية بعنوان هذا الوجوب المنجعل الملحوظ حالة للضرب ، وبعد هذا الالتفات يقول :
يوم الجمعة بجعله قيدا لنفس الوجوب.
الثاني : أن يعتبر
الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى المحلّ الذي قام به المعنى الحرفي باعتبار خصوصيّته
القائمة به اعني المعنى الحرفي ، فيسريان منه إلى خصوصيّته لا محالة ، مثلا السير
المتخصّص بكون مبدئه البصرة بوصف أنّه متخصّص لو خلّي ونفسه يكون مطلقا ، بمعنى
أنّه صادق على السير من كلّ نقطة من نقاط البصرة ، كما أنّه لو قيّد بقيد كما في
قولنا : سرت من البصرة مسجدها يصير مقيّدا ، بمعنى أنّه لا يشمل كلّ سير من البصرة
لا يكون مبدأه المسجد ، فالتقييد في الحقيقة يرجع إلى الخصوصيّة المبدئيّة للسير
المستفادة من كلمة «من».
ولو قال : أكرم
زيدا إن جاءك فقد قيّد الإكرام بوصف أنّه واجب ببعد المجيء فيدلّ على انتفاء هذا
الوصف قبله ، بخلاف ما لو قال : أكرم زيدا ؛ فإنّه يدّل على أنّ الإكرام مهما وقع
سواء قبل المجيء أم بعده يكون بهذا الوصف ، فالإطلاق والتقييد في الحقيقة راجعان
إلى الوجوب الذي تلبّس به الإكرام.
وهذان الوجهان
جاريان في القيود المذكورة في القضايا الخبريّة مثل قولنا : ضربت زيدا يوم الجمعة
؛ فإنّ جعل الظرف في هذا المثال قيدا لكلّ من الضرب
والزيد لا يصيّره
مرتبطا بالنسبة ؛ فإنّ معاني أجزاء الكلام يدخل في الذهن متدرّجا ، ولا شكّ أنّ
النسبة هنا يتصوّر قبل تصوّر القيد ، فتصوّر القيد إنّما يكون بعد تماميّة النسبة
، وحينئذ فإن جعل القيد حين تصوّره مرتبطا بمفهوم الضرب من حيث هو هذا المفهوم أو
بمفهوم زيد كذلك ، والمفروض أنّ ذلك بعد تماميّة النسبة ، فلا محالة يكون أجنبيّا
عنها.
فارتباطه بالنسبة
إنّما يحصل بأحد الوجهين ، إمّا بملاحظة أصل النسبة في اللحاظ الثاني مستقلا
بعنوان هذه النسبة الموقعة بين الطرفين مثلا وجعل الظرف قيدا لها ، وإمّا بجعله
قيدا للضرب بوصف كونه منسوبا إلى الضمير أو للزيد بوصف كونه من وقع عليه الضرب ،
فيحصل تقييد النسبة على أيّ حال.
الثالث : أنّ
القيد في القضيّة الطلبيّة على وجهين ، الأوّل : أن يكون بحيث يسري إليه الطلب
ويقتضي إيجاده من المكلّف ، والثاني : أن لا يسري إليه الطلب ، مثلا الصلاة مع
الطهارة تارة يكون مطلوبة بحيث يجب على المكلّف إيجاد الطهارة لو لم تكن موجودة ،
واخرى يكون بحيث لو كانت الطهارة حاصلة وجبت الصلاة ، فالطلب في القسم الثاني
متأخّر عن القيد.
وأمّا تصوير أنّه
كيف يعقل إيجاد الطلب قبل وجود هذا القيد مع كونه قيدا له فبأن يقال : لا شكّ في
أنّ وجود القيد في الخارج ليس مؤثّرا في وجود الطلب في النفس ؛ إذ لا يعقل تأثير
الخارج البحت في إيجاد الطلب والإرادة وأمثالهما في النفس ، والشاهد على ذلك أنّا
كثيرا ما نرى من علم بوجود القيد بالجهل المركّب يسعى في تحصيل مقدّمات مطلوبه ،
وهذا بخلاف ما إذا وجد القيد في الخارج وهو لم يطّلع على ذلك ، فإنّه لا يسعى في
تحصيلها ، وهذا يكشف عن عدم الدخل للخارج أصلا وكون تمام الدخل للصورة العلميّة النفسيّة.
وحينئذ نقول : كما
أنّه لو حصل العلم الحقيقي بحصول القيد يوجب حصول الطلب في النفس ، كذلك لو فرض
حصوله يكون لهذا الفرض أيضا ذاك التأثير ، وسرّه أنّ الفارض يرى بفرضه الخارج
ويكون فرضه حاكيا عنه فهو علم جعليّ بحصول
القيد ، ألا ترى
أنّ من يعلم أنّ ما في الإناء مثلا هو الماء لو فرض كونه خلّا فيكون لهذا الفرض
تأثير العلم الحقيقي بالخليّة.
إذا عرفت ذلك
فالمتكلّم بقوله : إن جاءك زيد يفرض حصول المجيء في الخارج ، فيكون قيد الطلب في
هذا اللحاظ حاصلا فينشأ الطلب فعلا ، فلا يلزم تفكيك الإنشاء عن المنشأ ولا تقييد
معنى الهيئة الذي هو معنى حرفيّ ؛ وذلك لما عرفت من أنّ قيده حاصل فلا يحتاج إلى
التقييد.
نعم لمّا كان واقع
هذا التصوّر فرضا ومجرّد خيال بحيث متى انتقل بالنظرة الثانية إلى ذلك يلتفت إلى
عدم حصول القيد في الخارج فلا محالة يكون الطلب موجودا بلا تأثير ، أمّا وجوده
فلما عرفت من حكاية الفرض عن الخارج ، وأمّا عدم التأثير فلكون واقع علمه وطريقه
فرضا ، فلا جرم يكون التأثير والمحرّكية والباعثيّة للمأمور في الطلب وللفاعل في
الإرادة الفاعليّة متوقّفا على حصول القيد في الخارج بالعلم الحقيقي ، وسرّه أنّ
لازم كون الطلب في عالم النفس حاصلا بعد فرض القيد وعلى تقديره ومبتنيا عليه بحيث
يدوم بدوامه ويزول بزواله أن يكون تحريكه نحو المطلوب في عالم الخارج حاصلا بعد
وجود القيد في الخارج علما.
ومن الأمثلة التي
يتّضح كون القيد فيها مصحّحا للطلب لا مقيّدا للمطلوب قولك : إن كنت عقلك أو إن
كنت عاملا بأمري فاذهب إلى المكان الفلاني ؛ فإنّ من المعلوم أنّ صلاح الذهاب غير
مقيّد بصورة كون المتكلّم عقلا للمخاطب ، أو كون المخاطب عاملا بأمر المتكلّم بل
هو ذو مصلحة وإن كانا منتفيين ، وإنّما الطلب قبيح بدونهما وحسن معهما.
المقام الثاني
اعلم أنّ من
المسلّم فيما بينهم أنّ مقدّمة الواجب المشروط لا يكون واجبا مطلقا ، ويظهر ذلك
منهم في بحث المقدّمة حيث اعترض على عنوان الباب بقولنا : مقدّمة الواجب واجبة أم
لا؟ بأنّ لفظ الواجب شامل للمشروط مع أنّ مقدّمته ليست
بواجبة على
الإطلاق بالاتّفاق ، واعتذر عنه تارة بأنّ المنصرف إليه من هذا اللفظ هو الواجب
المطلق ، واخرى بأنّه شامل للقسمين ، ومع ذلك لا محذور في البين ؛ إذ المراد أنّ
وجوب المقدّمة على نحو وجوب ذيها ، إن مشروطا فمشروط وإن مطلقا فمطلق هل يلازمه
وجوب ذيها أولا؟
ومن هنا أشكل
عليهم الأمر في بعض الموارد مثل وجوب الغسل للصوم قبل طلوع الفجر ، ووجوب المشي
إلى العرفات قبل الزوال للوقوف الواجب فيها من الزوال إلى الغروب، ومثل وجوب
مقدّمات الحجّ قبل الموسم إلى غير ذلك.
ولهم في التفصّي
عن ذلك وجهان :
الأوّل : أنّ ما
توهّم كونه مقدّميّا في تلك الموارد واجب نفسي وإن كان الغرض والحكمة في أنحائها
هو التوصّل بها إلى واجب آخر ؛ فإنّ ذلك ليس مناط الوجوب المقدّمي، وإنّما مناطه
كون وجوب الواجب معلوما لوجوب واجب آخر ومستفادا منه.
الثاني : أنّ
للواجب ثلاثة اقسام ، الأوّل : الواجب المشروط ، والثاني : الواجب المطلق وهو
منجّز إن كان ظرف الوجوب والواجب متّحدا ، ومعلّق إن كانا منفكّين ، وعلى هذا
فالصوم مثلا يتعلّق وجوبه بالمكلّف من أوّل الليل وإن كان ظرف حصوله من أوّل
النهار.
نعم هو بالنسبة
إلى اليوم السابق مشروط ، ولهذا لا يجب الغسل في اليوم السابق للصوم في اليوم
اللاحق ، ولكن يجب في الليل للصوم في النهار ، وذكر في توضيح هذا الوجه ما حاصله :
إنّ الزمان كالمكان ، فكما أنّه يمكن اعتبار الثاني في القضيّة على نحوين الأوّل :
أن يكون الطلب بالنسبة إليه مطلقا بأن يكون الصلاة في المسجد مثلا واجبة ، بحيث
وجب على المكلّف أوّلا دخول المسجد ثمّ الصلاة فيه ، الثاني : أن يكون مشروطا
بالنسبة إليه يعنى تكون الصلاة واجبة على تقدير دخول المسجد ، وفي مقام الإثبات
يكون العبارة الحاكية عن النحو الأوّل : «صل في المسجد» والعبارة الحاكية عن
الثاني : «إذا دخلت المسجد فصلّ فيه» فكذلك يمكن اعتبار الأوّل أيضا على الوجهين ،
فتكون الحكمة داعية تارة إلى إيجاب الفعل مطلقا بالنسبة
إلى زمانه بأن
يوجب حين الخطاب الفعل في الزمان المستقبل ، واخرى إلى إيجابه مقيّدا بالنسبة إليه
بأن يكون إذا دخل الوقت وجب الفعل من هذا الحين ، والعبارة الحاكية عن الأوّل أن
يقال : افعل كذا في الغد ، والعبارة الحاكية عن الثاني : إذا دخل الغد فافعل كذا.
ثمّ اورد على هذا
إشكالين :
الأوّل : أنّه إذا
كان واجبا في الحال الفعل في الغد ـ مثلا ـ فربّما لا يبقى المكلّف إلى الغد فيلزم
أن يكون التكليف لغوا
الثاني : أنّ
الفعل في الغد لا يكون مقدورا للمكلّف في الحال فكيف يصير متعلّقا للطلب في الحال؟
واجيب عن الأوّل
بالحلّ وهو : أنّ الإشكال يرتفع بتعليق الطلب على العنوان المنتزع من المكلّف
الباقي إلى الغد ، بأن يكون الطلب متوجّها إلى عنوان من يكون حيّا في الغد ، وهذا
وصف ينتزع من المكلّف في الحال إذا كان حيّا في الغد ، فيكون الطلب بالنسبة إليه
مشروطا ، فبقائه حيّا إلى الغد يكشف عن سبق الطلب ، وعدمه يكشف عن عدم توجّه الطلب
إليه أصلا.
وعن الثاني أوّلا
بالنقض بامور ثلاثة تكون بالمآل واحدا :
الأوّل : بالصوم ؛
فإنّه لا شكّ في أنّ وجوب الإمساك الممتدّ فيه من الفجر إلى الغروب يتعلّق
بالمكلّف في أوّل جزء من الفجر ، مع أنّ الإمساك في الأجزاء اللاحقة غير مقدور
للمكلّف في هذا الجزء.
الثاني : بما إذا
امر بالكون في مكان تكون المسافة بينه وبين المكلّف خمسة فراسخ مثلا ؛ فإنّه
يتوقّف الكون في هذا المكان على طيّ هذه المسافة في خمس ساعات مثلا ، فيكون الكون
المذكور قبل مضيّ هذه المدّة غير مقدور للمكلّف.
الثالث : بكلّ فعل
متدرّج الأجزاء في الوجود كالصلاة ؛ فإنّ المكلّف في حال إتيان أوّل جزء منه غير
قادر على إتيان بقيّة الأجزاء مع أنّه مكلّف بالإتمام.
وثانيا بالحلّ وهو
: أنّ المعتبر إنّما هو القدرة في حال العمل ، ولا قبح في الأمر
بفعل لا يقدر
المكلّف عليه في حال الخطاب ، ولكن يعلم الآمر أنّه يصير قادرا عليه في الوقت
المضروب لأجله بالوجدان.
أقول : الإرادة
بحسب مقام اللبّ يتصوّر على وجهين :
الأوّل : أن
يتعلّق بالفعل بتمام قيوده بحيث وقع القيد في حيّزها ، كما لو كان المراد إكرام
الضيف على وجه كانت الإرادة محيطة بمجموع المقيد والقيد ، ولا فرق في ذلك بين
الإرادة الفاعليّة والإرادة الآمريّة ، غاية الأمر أنّ الاولى توجب تحرّك عضلات
المريد نحو إيجاد المجموع ، والثاني توجب تحرّك عضلات المأمور نحوه.
الثاني : أن
يتعلّق على تقدير حصول القيد وبعد فرضه بالمقيّد ، فيكون القيد على هذا خارجا من
حيّزها ، كما لو كان الإكرام على تقدير ورود الضيف مرادا من دون فرق بين الإرادتين
أيضا ، وكذلك يتصوّر هذان الوجهان في منشأ الإرادة أعني المصلحة ؛ فإنّه قد تكون
المصلحة التامّة الفعليّة في إيجاد المجموع من المقيّد وقيده ، وقد لا تكون كذلك ،
يعني لا يكون المجموع موردا للمصلحة ، بل ربّما يكون القيد موردا للمفسدة ، ولكن
على تقدير حصوله تكون المصلحة في المقيّد وهذا واضح ، ولا يتصوّر أكثر من هذين
القسمين في الإرادة بقسميها بحسب مقام اللبّ ، فإن شئت فسمّ الأوّل بالمطلق
والثاني بالمشروط أو غير ذلك.
وأمّا ما تقدّم من
قياس الزمان بالمكان في أنّه كما يتصوّر أن يقع مجموع الفعل المقيّد بالوقوع في
مكان خاص متعلّقا للإرادة ، وأن يقع نفس الفعل على تقدير وجود المكان الخاص ، كذلك
يتصوّر هذان في الزمان.
ففيه : أنّ المكان
لكونه اختياريّا يمكن القسمان فيه ، وأمّا الزمان فحيث إنّه خارج عن تحت قدرة
الإنسان واختياره فلا جرم لا يمكن أن يقع الفعل المقيّد بالوقوع في زمان خاص مرادا
على وجه وقع القيد تحت الإرادة ، فلا بدّ أن يكون متعلّق الإرادة نفس الفعل على
تقدير وجود الزمان الخاص وفي فرضه ، وعلى هذا فجميع الموارد التي توهّم الوجوب
المعلّق فيها فالمطلوب فيها نفس العمل على تقدير وجود القيد أعني الزمان المخصوص.
وأمّا الإشكال
بأنّه كيف وجبت المقدّمة قسبل حصول القيد الذي يكون الطلب على تقديره فكيف وجب
الصوم مثلا بالوجوب المطلق ، وعلى ما ذكرت من أنّ الوجوب بالنسبة إلى القيود الغير
الاختياريّة لا بدّ وأن يكون مشروطا ، يلزم أن يكون وجوب الصوم مشروطا حتّى بعد
دخول الوقت ؛ ضرورة عدم قدرة المكلّف على الإمساك في الجزء الأخير من الوقت، فمتى
يصير خطاب الصوم مطلقا؟
فجوابه بعد
الالتزام بعدم صيرورة الخطاب مطلقا أنّ هذا الإشكال مبتن على ما هو المسلّم فيما
بينهم من كون الوجوب في الواجب المشروط معدوما قبل حصول الشرط ، ونحن نقول : الحقّ
خلاف ذلك ، بل الوجوب موجود فعلا ، غاية الأمر أنّ تأثيره في المقدّمة المفروضة غير
معقول ؛ لأنّ الشيء الذي حصل الطلب على تقدير حصوله لا يمكن أن يقتضي هذا الطلب
حصوله ؛ لكونه طلبا للحاصل.
ولكن متى علم بأنّ
هذه المقدّمة متحقّق الوقوع بعد ذلك فيكون حال الإرادة الحاصلة على تقديرها حال
الإرادة المطلقة بلا فرق ، فيحرّك الفاعل أو المأمور نحو المقدّمات الأخر التي
محلّها قبل وقوع ذي المقدّمة ؛ ولهذا لو لم يفعلها إلى زمان حصول المقدّمة
المفروضة فتعذر العمل لأجل تركها ، كان مذموما على الترك.
وأمّا ذو المقدّمة
فإنّما لا تحرّك إليه مع هذا العلم ؛ لأجل أنّها تعلّقت بوقوعه بعد وقوع القيد ،
ولازم ذلك أن لا يتحقّق التحريك إليه إلّا بعد وقوع ذاك القيد ؛ ولهذا لو كان وقوع
ذي المقدّمة مقارنا لوقوع القيد أو سابقا عليه مطلوبا ، تحرّك هذه الإرادة عند
العلم بتحقّق القيد نحو إيقاعه مقارنا لوقوع القيد أو سابقا عليه.
مثال الأوّل ما
إذا كان المطلوب هو العدو مع زيد مثلا ؛ فإنّه لا شبهة في أنّ هذا المفهوم بتمامه
لا يمكن أن يتعلّق به الإرادة ؛ لخروج عدو زيد عن تحت قدرة المريد أو المأمور ،
فلا بدّ أن يكون تعلّقها على تقدير حصول العدو من زيد وفرضه بالعدو الحاصل منهما
مقارنا له ، فإذا علم بأنّ عدو زيد سيتحقّق فلا بدّ أن يترقّب زمان شروعه بالعدو
حتّى يجعل أوّل عدو نفسه مقارنا لأوّل عدوه.
مثال الثاني
مطلوبيّة استقبال زيد على تقدير كونه قادما ؛ فإنّه إذا علم بأنّه سيقدم
فلا بدّ أن يحصّل
مقدّمات الاستقبال ويوقعه قبل وقوع القدوم.
وبالجملة ،
فالدليل الأسدّ الانصّ من أدلة وجوب المقدّمة فيما إذا كانت الإرادة مطلقة وهو
شهادة الوجدان عليه ، بعينه موجود في الإرادة المشروطة بعد العلم بأنّ الشرط
سيتحقّق ، وحينئذ فإن كانت المقدّمة ممكن التحقّق قبل وجود الشرط وبعده كما في بعض
أسباب الضيافة ـ حيث إنّ الوجدان لا يفرق في ملاك المقدّميّة بين تحصيلها قبل مجيء
الضيف وبينه بعده مع معلوميّة مجيئه ـ فنسبة الوجوب إلى الفرد الواقع قبل الشرط
والفرد الواقع بعده على السواء ، فتكون المقدّمة واجبا موسّعا مخيّرا بين أفرادها
، وإن كانت لا بدّ وأن يتحقّق قبل الشرط بحيث لو أخّر يصير متعذرا كان الوجوب
بالنسبة إلى ما قبل الشرط مضيّقا ، فلو تركها فصار ذو المقدّمة ممتنعا عند حضور
وقته بامتناع مقدّمته صحّ مؤاخذته على ذلك ، هذا.
ولكن يشكل الحال
في مسألة فقهيّة وهي : أنّه لو تيقّن المكلّف قبل دخول وقت الصلاة بعدم وجدان
الماء بعده للوضوء فلا يجب عليه الوضوء قبل الوقت على حسب ما أفتى به القوم ،
وكذلك أفتوا بعدم وجوب الغسل للصوم في النهار السابق مع القول بوجوبه في الليل ،
ومقتضى القاعدة المذكورة الوجوب المضيّق في مسألة الوضوء ، والوجوب الموسّع في
مسألة الغسل ، وحيث إنّ القاعدة وجدانيّة عقليّة غير قابلة للتخلّف فإن ثبت الحكم
في هذا الفرع بنصّ أو إجماع فلا بدّ من توجيهه على وجه لم يخالف القاعدة.
وهو بأن يقال :
إنّه إن كان الغرض في الإرادات المشروطة متعلّقا بعد حصول الشرط بصرف الوجود من
غير تقييد بالقدرة في زمان مخصوص فصارت القدرة شرطا عقليّا ، فالعقل حاكم بأنّ
القدرة في زمان ولو كان قبل الشرط مع العلم بحصوله كافية في صحّة المؤاخذة لو ترك
المقدّمة في هذا الزمان فصارت ممتنعا بعده وإن كان لا يصحّ تكليفه بها بعد
الامتناع.
لكن لو اعتبر
الشارع القدرة الخاصّة بأن كان غرضه مقيّدا بالقدرة في زمان خاص ، فلازم ذلك أنّه
لو سلبت هذه القدرة ولو باختيار المكلّف لم يلزم فوت
غرض للمولى كما هو
الحال في كلّ مقدّمة معلّق عليها الإرادة ، كما لو أوجد المانع من مجيء زيد الذي
فرض مطلوبيّة إكرامه على تقدير مجيئه.
فحينئذ نقول : لو
كان على الحكم في المسألة نصّ أو إجماع انكشف ذلك بعد عدم إمكان تخلّف القاعدة عن
أنّ الشارع جعل القدرة في الوقت كنفس الوقت شرطا للتكليف فلهذا لا يلزم على
المكلّف بعد العلم بعدم حصول القدرة الجديدة في الوقت إبقاء القدرة السابقة ، بل
له الإبقاء حتّى يصير موردا للتكليف والنقض حتى لا يصير كذلك.
لكن يبقى الكلام
حينئذ فيما لو علم بأنّ القدرة في الوقت لا يصير معدومة أيضا ؛ فإنّ مقتضى القاعدة
توسعة الوجوب حينئذ بالنسبة إلى ما قبل الوقت وما بعده ، مع أنّ من المسلّم بينهم
عدم الوجوب قبله.
وتصحيح ذلك أيضا
يمكن بوجهين ، أحدهما رافع لغائلة الإشكال ، ولكنّه مقطوع بخلافه في مسألتنا ،
والآخر رافع لها وجار في المسألة.
أمّا الأوّل فهو
أنّه كما أنّ الصلاة بوصف وقوعها عقيب الزوال مثلا مطلوبة بحيث لو وقعت قبله لم
يكن صلاة ، كذلك يمكن أن يكون مقدّميّة الوضوء للصلاة في نظر الشارع أيضا مقصورة
على صورة وقوعه عقيب الزوال بحيث لو وقع قبله لم يكن مقدّمة.
وبعبارة اخرى كان
مطلوب الشارع هي الصلاة التي وقع إعمال جميع القدرة عليها في الوقت ، فلو أعمل بعض
القدرة عليها قبل الوقت لم يحصل المطلوب ، لكنّا نعلم بأنّ الواقع خلاف ذلك وأنّ
حصول جميع المقدّمات للصلاة فضلا عن بعضها قبل الوقت كاف.
وأمّا الثاني فهو
أن يقال : إنّ وجوب ذي المقدّمة يقتضي وجوب المقدّمة من حيث الطبع الذي لا يعارض
المنع ، فإن كانت المقدّمة منحصرة في فرد واحد فإن كان مقتضى الحرمة التعيينيّة في
هذا الفرد موجودا فلا يعقل المنع منه مع محبوبيّة ذي المقدّمة حتّى على قول من
جوّز اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ مورد كلامه صورة ثبوت
المندوحة في جانب
الأمر ، والمفروض عدمها في المقام ، بل لا بدّ حينئذ من ملاحظة الترجيح بين مفسدة
المقدّمة ومصلحة ذيها ، فإن رجّح الاولى صار ذو المقدّمة مبغوضا ، وإن رجّح
الثانية صارت المقدّمة محبوبة.
مثال ذلك : كما لو
توقّف إنقاذ الغريق على المشي من طريق واحد مغصوب ، فلا بدّ إمّا من ترجيح مفسدة
الغصب وإمّا من تقديم مصلحة الإنقاذ.
وإن كانت المقدّمة
مردّدة بين أفراد وأبدال بحيث أمكن التوسّل إلى ذيها بكلّ واحد ، فلا شكّ في أنّ
قضيّة وجوب ذي المقدّمة ليس بأزيد من وجوب طبيعة المقدّمة الصادقة على كلّ واحد
وليس له اقتضاء وجوب الخصوصيّات.
وحينئذ فإن كان في
خصوص واحد معيّن من هذه الأفراد مفسدة تعيينيّة فاللازم بحكم العقل تقييد الوجوب
المقدّمي بما سوى هذا الفرد ؛ لأنّ مقتضى الجمع بين غرضي الآمر ذلك ، فلو كان
للإنقاذ طريقان أحدهما مغصوب والآخر مباح فمقتضى الجمع بين إرادة ترك الغصب وإرادة
الإنقاذ قصر الوجوب على الطريق المباح ؛ ولهذا أيضا نقول بفساد الصلاة في الدار
الغصبيّة ؛ فإنّ المصلحة الصلاتية لا اقتضاء بالنسبة إلى خصوصيّات الأفراد ، ولكن
مفسدة الغصب مقتضية لحرمة كلّ شخص على التعيين ، ولا شكّ في أنّ مسألتنا من القبيل
الثاني ، بمعنى أنّ الوضوء الذي هو واجب طبعا مقدّمة للصلاة مردّد بين أفراد
متصوّرة قبل الوقت وأفراد متصوّرة بعده.
إذا تقرّر ذلك
فنقول : كما أنّ وجود المفسدة التعيينيّة في نفس أحد الأبدال ولو كانت في غاية
الضعف يوجب تعيين الوجوب فيما سواه ، كذلك يمكن أن تكون المفسدة في إيجابه به مع
كون المصلحة التامّة في نفسه ، كما استفيد ذلك في السواك من قولهصلىاللهعليهوآلهوسلم : لو لا أن أشقّ الخ ، فيصير ذلك أيضا سببا لتقييد الإيجاب
بما عداه من الأبدال لما ذكر من الجمع بين الغرضين.
وحينئذ فإن قام
نصّ أو إجماع على صحّة الصلاة بالوضوء الذي اتى به قبل الوقت بوجه صحيح وعلى عدم
اتّصاف الوضوء بالوجوب قبله فلا محالة يكون هذا
كاشفا عن عدم
الفرق بين الوضوء قبل الوقت وبين الوضوء بعده في أصل المقدّميّة ، كما لم يكن فيها
فرق بين الطريق المغصوب والمباح في مسألة الإنقاذ ، وعن ثبوت المفسدة في إيجاب
الوضوء قبل الوقت.
فرع
إذا كان الماء
مباحا والآنية غصبيّة فالتكليف هو الوضوء أو التّيمم؟ المشهور على تعيّن التيمّم ؛
لأنّ التكليف بالوضوء المستلزم للاغتراف من الآنية الغصبيّة لا يمكن أن يجتمع مع
حرمة الغصب ، فلا محالة يقدّم تحريم الغصب لأهميّته ، ومعلوم أنّه ليس مورد هذا
الكلام ما إذا تمكّن المكلّف من اغتراف مقدار ما يكفى للوضوء دفعة واحدة ؛ فإنّ
التكليف بالوضوء حينئذ على نحو الاشتراط بنفس الاغتراف المذكور لا مانع منه ،
كالتكليف بالحجّ مشروطا بنفس ركوب الدابّة الغصبيّة ، وإنّما مورده ما إذا لم
يتمكّن إلّا من اغتراف غرفة واحدة بحيث توقّف الاستعمال الوضوئي على اغتراف ثلاث
غرفات على التعاقب ؛ فإنّ التكليف بالوضوء حينئذ على وجه الاشتراط أيضا غير ممكن ؛
لأنّه إن كان مشروطا بنفس الغرفة الاولى صار مستلزما للغصب بالنسبة إلى الغرفتين
الاخريين ، وإن كان مشروطا بنفس الغرفة الثالثة فهذا باطل ؛ إذ ليس عنده حينئذ من
الماء إلّا مقدار غرفة واحدة ، فلا محيص حينئذ عن ارتفاع التكليف بالوضوء.
وصاحب الفصول قدسسره حاول تصحيح الوضوء في الفرض مع حرمة الاغتراف بدون
المنافاة بناء على ما ذكره في تصوير الوجوب التعليقي ببيان : أنّ الوجوب التعليقي
على ما عرفت مشروط بالوصف الانتزاعي ، مثلا التكليف بالصوم المتوجّه من أوّل الليل
مشروط بكون المكلّف ممّن يدرك اليوم ، فنقول فيما نحن فيه أيضا : إنّ التكليف
بالوضوء المتوجّه من أوّل الوقت مشروط بكون المكلّف ممّن يغترف في الاستقبال ،
فيكون تعلّق الطلب بالوضوء الحاصل في ظرف الاغتراف قبل حصول الاغتراف.
وعلى هذا فالتكليف
بالوضوء غير متوجّه إلى جميع المكلّفين ، بل هم على صنفين ، فمنهم من لا يغترف
ومنهم من يغترف ، فالتكليف به متوجّه إلى الصنف الثاني دون الأوّل ، ومن المعلوم
أنّ التكليف بالوضوء بهذا الوجه لا يقتضي الاغتراف ولا عدمه ، بل المكلّف بالخيار
، فإن شاء اغترف حتّى يدخل في صنف من يغترف وإن شاء لم يغترف حتّى يدخل في الصنف
الآخر.
ويمكن الخدشة فيه
بأنّه لا شكّ في أنّ كون المكلّف متّصفا بالعنوان الانتزاعي أعني : كونه ممّن
يغترف لا يوجب رفع التكليف عن منشأ الانتزاع أعني : نفس الاغتراف في حقّه ؛ ضرورة
أنّه لم يسلب عنه في تلك الحال الاختيار بالنسبة إلى الاغتراف وعدمه ، وإنّما يسلب
بعد حصول الاغتراف ، فقبله يكون التكليف بتركه ثابتا في حقّه على وجه الإطلاق ،
ثمّ التكليف بالوضوء المفروض اشتراطه بالوصف الانتزاعي الحاصل بالفعل ثابت في عرض
ذلك التكليف أيضا على وجه الإطلاق ؛ لحصول شرطه ، فيعود إشكال اجتماع الضدّين
والتكليف بما لا يطاق.
نعم يمكن تصحيح
الوضوء مع حرمة الاغتراف بدون التنافي على القول بالترتّب في باب تزاحم الواجبين
الذين أحدهما أهمّ من الآخر ، والمراد بالترتّب تعلّق أمرين بشيئين لا يمكن جمعهما
على وجه يكون أحدهما في طول الآخر بأن يتوجّه التكليف بالأهمّ على وجه الإطلاق ،
وبغير الأهمّ على وجه الاشتراط بمخالفة التكليف الأوّل ، لا بمعني أن يكون التكليف
الثاني ثابتا بعد ارتفاع التكليف الأوّل بعصيانه ، بل بمعنى اشتراطه بفرض مخالفة
التكليف الأوّل.
مثلا من يتمكّن من
إنقاذ أحد الغريقين من عالم وجاهل في خمس دقائق يتوجّه إليه التكليف بإنقاذ العالم
في هذه الدقائق الخمس بلا شرط ، وبإنقاذ الجاهل في نفس هذه الدقائق أيضا مشروطا بفرض
ترك إنقاذ العالم.
وكذا فيما نحن فيه
يتوجّه التكليف بترك الاغتراف بلا شرط ، وبالوضوء مشروطا بفرض حصول الاغتراف ،
وهذا من المواضع التي يكون الشرط فيها مقارنا للعمل كمثال العدو المتقدّم ، وعلى
هذا فيرتفع التنافي من بين التكليفين بحيث
لو أمكن محالا
الجمع بين ترك الاغتراف وفعل الوضوء لم يحصل امتثال التكليفين معا ، بل التكليف
الأوّل دون الثاني ؛ لعدم تحقّق ظرف وجوبه.
ولكن يمكن الخدشة
في ذلك أيضا بأنّ غاية ما أفاده هذا الوجه إمكان ثبوت التكليف بالوضوء عقلا ، ولكن
لا دليل على ثبوته بهذا الوجه شرعا ، بل الدليل على خلافه؛ وذلك لأنّ المستفاد من
دليل وجوب الوضوء يقسّم المكلّف إلى واجد الماء وفاقده وأنّ مطلوبيّة الوضوء
مقصورة على الأوّل ، كما أنّ مطلوبيّة التّيمم مقصورة على الثاني ، وقد فسّر
الفقهاء رضوان الله عليهم فاقد الماء بمن لا يتمكّن من استعمال الماء إمّا لفقده
رأسا ، وإمّا لعدم التمكّن من استعماله عقلا ، وإمّا لعدم التمكّن منه شرعا ، ومن
قبيل الاخير عدم التمكّن من استعماله لكونه مستلزما للتصرّف في الغصب.
وهذا بخلاف باب
التزاحم ؛ فإنّ الحامل على ذلك هنا هو العقل ؛ وذلك لأنّ المقتضي في كلّ من
الواجبين في حدّ نفسه تامّ ، والمانع لا يقتضي أزيد من ارتفاع وجود التكليفين معا
على وجه الإطلاق ، وأمّا وجودهما على النحو المزبور فالمقتضي بالنسبة إليه موجود
بالفرض ، والمانع منه مفقود.
ومن هنا يظهر
الخدشة في تصحيح الوضوء وحرمة الاغتراف على قول من لم يصحّح الأمر الطولي بغير الأهمّ
في باب التزاحم ، ولكن يقول بأنّه إذا كان غير الأهمّ عبادة كالصلاة في سعة الوقت
مع التّمكن من الإزالة أو من أداء الدين المضيّق وأتى به المكلّف بداعي حسنه
الذاتي تقع صحيحة ، ولا يعتبر في صحّة العبادة وجود الأمر بها بأن يقال : إنّ
الوضوء وإن لم يتعلّق به التكليف الطولي لكن إذا أتى به المكلّف بداعي حسنه يقع
صحيحا؛ فإنّ هذا أيضا يتوقّف على وجود المقتضي أعني : الحسن الذاتي في الوضوء في
الفرض المزبور وقد عرفت عدمه.
فتلخّص أنّه لو
كان وجود المقتضي للوضوء في الفرض محرزا أمكن تصحيحه على القول بالترتّب في باب التزاحم
بالأمر الطولي به على وجه التقييد ، وعلى القول بعدمه بالإتيان به بداعي حسنه
الذاتي ، ولكن حيث إنّ المستفاد من الدليل نقصان المقتضي فلا محيص عن البطلان
وفاقا للمشهور.
الأمر الثالث
افترق القائلون
بوجوب مقدّمة الواجب على ثلاثة أقوال :
الأوّل : أنّ
الواجب ذات المقدّمة بلا قيد.
الثاني : أنّه هي
مقيّدة بالإيصال إلى ذي المقدّمة وترتّبه عليها ، فإن لم توصل لم تكن مطلوبة وإن
قصد بها التوصل.
الثالث : أنّه هي
مقيّدة بالاقتران بقصد التوصّل بها إلى ذي المقدّمة ، وإن لم توصل إليه ، فإن وقعت
مجرّدة عن هذا القصد لم يتّصف بالوجوب وإن أوصلت إلى ذيها.
وليعلم أنّ القائل
بوجوب ذات المقدّمة يحتاج في بعض الموارد إلى تقييد الوجوب بصورة وقوع المقدّمة عن
قصد التوصّل بها إلى ذيها لداع خارجي ، وهو ما إذا تعيّن مقدّمة الواجب في الحرام
؛ فإنّه حينئذ يحتاج إلى التقييد المذكور ، والداعي له إلى ذلك هو التحرّز عن
الوقوع في الحرام مهما أمكن والاكتفاء في تسويغه بقدر الضرورة ؛ فإنّه لا شكّ في
أنّ صورة الإتيان بالمقدّمة المذكورة لا عن القصد المزبور أشدّ قبحا من صورة
الإتيان بها معه بالبديهة الوجدانيّة ، والتزام القائل المذكور بهذا التقييد في
المورد لا يوجب التزامه به في سائر الموارد التي ليس فيها الداعي المذكور ، كما
أنّ التزامه بالتقييد بوصف الإجابة لداعي الجمع بين غرضي الآمر فيما إذا تردّد
المقدّمة بين مباح وحرام لا يوجب التزامه به في سائر الموارد.
ومن هنا ظهر
اندفاع ما أورده على هذا القول ، القائل بوجوب المقدّمة الموصلة ، وهو أنّه يلزم
على هذا القول أنّه لو توقّف فعل واجب على فعل حرام صار هذا الحرام بمجرّد ذلك
جائزا بل واجبا بأيّ وجه اتّفق ولو بأن يأتي به المكلّف بدواعيه النفسانيّة من دون
أن يتوصّل به إلى ذلك الواجب ، وبطلان هذا معلوم بصريح الوجدان ، وأنت عرفت أنّ
القائل المذكور ملتزم في هذا المورد بالتقييد بقصد
التوصّل لا
بالإيصال ، لما يأتي من عدم إمكان التقييد به من دون أن يصير هذا ملزما له على ذلك
في سائر الموارد ، هذا.
ولنتكلّم أوّلا في
القول بوجوب المقدّمة الموصلة فنقول : المراد من قيد الموصل إمّا أن يكون مصداقه ،
يعني ما لا ينفكّ وجودها عن وجود ذيها إمّا بإرادة خصوص المؤثّر أعني العلّة
التامّة ، أو الأعمّ منه ومن ملازم المؤثّر أعني الجزء الأخير من العلّة التامّة ،
فيكون القيد إشارة إلى التفصيل بين المقدّمات بأحد النحوين ، وإمّا أن يكون نفس
عنوانه.
وحينئذ إمّا يكون
المراد الأمر المنتزع الاستقبالي يعني كون المقدّمة ممّا توصل ، وإمّا يكون نفس
الإيصال الخارجي ، وعلى التقديرين إمّا أن يكون قيدا للطلب أو للمطلوب ، فهذه
أربعة احتمالات :
الأوّل : أن يكون
المراد الأمر المنتزع ويكون قيدا للطلب.
الثاني : هذا
الفرض لكن يكون قيدا للمطلوب.
الثالث : أن يكون
المراد نفس الإيصال الخارجي ويكون قيدا للطلب.
الرابع : هذا
الفرض ويكون قيدا للمطلوب ، فتصير هذه مع الاحتمالين السابقين ستّة يلزم من بطلان
جميعها بطلان القول المذكور لا محالة.
فنقول : أمّا كون
القيد إشارة إلى التفصيل بين المقدّمات بأحد النحوين ففيه : أنّه غير نافع بحال
قائله أوّلا ؛ إذ الوجوب يسري من الجزء الأخير إلى سابقه ومنه إلى سابقه وهكذا إلى
الجزء الأوّل ، يسري الوجوب من كلّ لاحق إلى سابقه ؛ إذ يصدق على كلّ سابق بالنسبة
إلى لاحقه أنّه مقدّمة غير منفكّة لواجب ، غاية الأمر أنّ الواجب هنا مقدّمي وقد
كان المقصود هو التفصيل بين الجزء الأخير وسائر الاجزاء ، وكذلك تعلّق الوجوب
بمجموع الأجزاء في العلّة التامّة يوجب تعلّقه بذات كلّ واحد من الأجزاء لا محالة
، وغير ملائم بمذاق هذا القائل ثانيا ؛ لأنّه لا يقول بالتفصيل بين المقدّمات بل
يردّه.
وأمّا كون الإيصال
الانتزاعي قيدا للطلب فهو غير معقول ؛ لأنّ التكليف
المشروط لا بدّ
وأن يكون متعلّقه مع حفظ عنوان الشرط ممكن الوقوع واللاوقوع ، مثلا الصلاة في
الوقت مع حفظ عنوان كونها في الوقت ممكن الطرفين ، وإذا كان الشرط هو الإيصال الذي
هو في معنى إتيان ذي المقدّمة المستلزم لإتيان المقدّمة فلا يمكن التكليف بذي
المقدّمة ولا بالمقدّمة ؛ لأنّهما مع حفظ عنوان هذا الشرط متحقّق الوقوع في
الاستقبال لا محالة.
مثلا مع حفظ عنوان
كون المكلّف ممّن يضرب لا يتوجّه إليه التكليف بالضرب ولا بمقدّماته ، نعم لو كان
صورة التكليف هكذا : ايت بالمقدّمة إن كنت ممّن تنتهي إلى ذي المقدّمة على تقدير
إتيان المقدّمة سلم من هذا الإشكال ؛ لأنّ المقدّمة مع حفظ هذا العنوان ممكن
الوقوع واللاوقوع معا كما هو واضح.
لكن يرد عليه أنّه
يلزم على هذا عدم توجّه التكليف بالمقدّمة إلى من لا ينتهي إلى ذي المقدّمة على
تقدير الإتيان بالمقدّمة في علم الله كالعصاة ، والقائل المذكور لا يلتزم بذلك؛
فإنّه لا يفرّق في وجوب المقدّمة بين الأشخاص.
وأمّا كون الإيصال
الانتزاعي قيدا للمطلوب ، ففيه : أنّ نحو تحقّق هذا الأمر الانتزاعي ثابت من الأزل
؛ فإنّ من معلومات الباري تعالى كون زيد مثلا سيولد ويكثر ويفعل كذا وكذا ، فلا
يكون مستندا إلى اختيار المكلّف فيمتنع أخذه قيدا للمطلوب ، نعم الامور
الانتزاعيّة التي تتحقّق بعد تحقّق منشأ انتزاعها كالفوقيّة والتحتيّة بالنسبة إلى
جعل الهيئة الخاصّة وكالاتّصال والانفصال بالنسبة إلى الوصل والفصل تكون مقدورة
بالواسطة.
وأمّا كون الايصال
الخارجي قيدا للطلب فهو أوضح فسادا من أن يخفى ؛ فإنّ مرجع التكليف على هذا يصير
إلى أنّه : إذا أتيت بالمقدّمة وذيها فأت بالمقدّمة
وأمّا كون الإيصال
الخارجي قيدا للمطلوب ففيه ثلاثة إشكالات :
الأوّل : يلزم أن
لا تقع الصلاة مثلا مع الطهارة أبدا ؛ وذلك لأنّ الطهارة من آثار امتثال الأمر
بالوضوء وهو لا يحصل إلّا بعد الإتيان بالصلاة ؛ لأنّ الموصليّة في الخارج التي هي
قيد المطلوب لا تحصل إلّا بإتيانها.
ثمّ وجود الطهارة
بعد الصلاة أيضا مستلزم للدور ؛ لأنّ صحّة الصلاة متوقفة على وجود الطهارة كما هو
واضح ، وعلى هذا الفرض يكون وجود الطهارة أيضا متوقّفا على صحّة الصلاة ، لأنّ قيد
الموصليّة الخارجيّة لا يحصل إلّا بترتّب الصلاة الصحيحة على الوضوء مثلا.
الثاني : يلزم
تعلّق التكليف المقدّمي بذي المقدّمة ؛ وذلك لأنّ الموصليّة في الخارج التي هي قيد
المطلوب يتوقّف على وجود ذي المقدّمة ، فيجب إتيانه تحصيلا لهذا القيد ، فيلزم أن
يكون الواجب النفسي واجبا مقدّميا لمقدّمته ، وهذا وإن كان لا يمتنع عقلا لكنّه
ممّا يضحك به الثكلى.
الثالث : توضيحه
يتوقّف على مقدّمة وهي : أنّ كلّ قيد له دخل في المطلوب لا يمكن عقلا أن يكون
خارجا من قسمين ، الأوّل : أن يكون أخذه لأجل أنّ المصلحة لا يحصل بدونه كما في
أخذ وصف الإيمان في الرقبة المأمور بعتقها ، الثاني : أن يكون لا لأجل هذا ، بل
لأجل غرض آخر كالجمع بين غرضي الآمر كما في المقدّمة إذا تردّدت بين الحرام وغير
الحرام ؛ فإنّ تقييد الوجوب حينئذ بالمقدّمة المباحة ليس لأجل دخل هذا القيد أعني
وصف الإباحة في مقتضى الوجوب أعني المقدّميّة ؛ لوضوح اشتراك الحرام مع المباح في
المقدّميّة ، بل إنّما هو لأجل الجمع بين غرضي الآمر.
وكما في الصلاة في
الأرض الغصبيّة على القول بعدم جواز اجتماع الأمر والنهي ؛ فإنّ الحكم بفسادها
وتقييد الوجوب بالصلاة في الأرض المباحة ليس لأجل دخل هذا القيد أعني : إباحة
المكان في حصول المصلحة الصلاتيّة ، كما هو الحال في قيد الطهارة ؛ ضرورة اشتراك
الصلاة معه والصلاة بدونه في وجدان تلك المصلحة ، فالموجب للتقييد هو الجمع بين
الغرضين ؛ ولهذا يجب إعادة الصلاة مع نسيان الطهارة ولا يجب مع إيقاعها في المكان
الغصبي نسيانا.
إذا تقرّر ذلك
فنقول فيما نحن فيه : إنّ أخذ قيد الإيصال الخارجي في مطلوبيّة المقدّمة لا بدّ
وأن يكون إمّا لأجل دخله في اقتضاء المقتضي ، وإمّا لأجل غرض
آخر ، والمفروض
عدم غرض آخر في البين ؛ لأنّ محلّ الكلام ما إذا لم يكن في البين سوى المقدّمة
وذيها ، فيتعيّن أن يكون لأجل دخله في اقتضاء المقتضي وإلّا لزم لغويّته.
وحينئذ فنقول :
المقتضي لوجوب المقدّمة ليس إلّا المقدّميّة وتوقّف الواجب النفسي عليها ، ودخل
القيد المذكور في المقدّميّة مستلزم للدور ؛ لأنّ وجود ذي المقدّمة يتوقّف على
وجود المقدّميّة وتحقّقها كما هو واضح ، فلو كان وجود المقدّميّة متوقّفا على
الإيصال الذي هو في معني وجود ذي المقدّمة لزم الدور.
ويمكن الذبّ عن
الكلّ ،
أمّا عن الأوّل
فبإمكان أن تكون الطهارة أثرا لجزء المطلوب أعني الغسلتين والمسحتين مثلا لا
لامتثال تمام المطلوب ،
وأمّا عن الثاني
فبأنّه مجرّد استبعاد لا يعتنى به في مقابل حكم الوجدان باعتبار قيد الإيصال.
وأمّا عن الثالث
فبالتزام أنّ أخذ قيد الإيصال يكون لأجل دخله في اقتضاء المقتضي، لكن نقول : إنّ
المقتضي لوجوب المقدّمة على حسب مدّعى هذا القائل هو المقدّميّة ووصف الإيصال معا
، لا المقدّميّة فقط كما هو مدّعى غيره ، وبالجملة ، فجعل المقتضي هو المقدّميّة
فقط ثمّ الإشكال بلزوم الدور ذهول عن مدّعى القائل المذكور.
فينحصر وجه بطلان
هذا الوجه الأخير في أنّ الوجدان حاكم بأنّ المقتضي لوجوب المقدّمة ليس إلّا
المقدّميّة والتوقّف ؛ إذ على هذا لا محيص عن إشكال الدور أو اللغويّة كما عرفت ،
ومن هنا يتّضح فساد القول باعتبار قصد الإيصال ؛ فإنّ اعتباره بعد وضوح عدم
مدخليّته في المقدّميّة وعدم غرض آخر في البين لغو.
فقد تلخّص ممّا
ذكرنا أنّ التقييد بالإيصال غير ممكن على بعض الوجوه ، وخلاف الوجدان على بعض آخر
، لكنّ القول بأنّ ذات المقدّمة على وجه الإطلاق مطلوبة أيضا غير ممكن ؛ لعدم
إمكان الإطلاق بعد عدم إمكان التقييد ، وأيضا
الوجدان حاكم بأنّ
المقدّمة المنفردة غير مطلوبة ، فاللازم اختيار وجه لم يخالف هذا الوجدان مع
سلامته عن إشكالات التقييد بالإيصال.
وهو بأن يقال :
إنّ الآمر والطالب يلاحظ ذوات مقدّمات مطلوبه بدون تقييدها بالإيصال ، ولا على وجه
الإطلاق ، بل على وجه الإهمال ، لكنّها متّصفة في ذهنه بترتّب بعضها على بعض وعدم
انفكاك البعض عن البعض المستلزم للإيصال إلى ذيها ، فالطلب يتعلّق بالذات المهملة
لكن في ظرف ترتّب البعض على البعض ، وهذا يوجب أن لا يتّصف بالمطلوبيّة في الخارج
إلّا المقدّمة التي يرتّب عليها وجود ذيها ؛ لأنّها المنطبقة على ما في ذهن الآمر
، وأمّا المقدّمة المنفردة فهي مضادّة له في وصف الانفراد وإن كانت مصداقا للذات
المهملة.
والحاصل أنّ الطلب
يتعلّق في الحقيقة بالمقيّد بالإيصال ، وإن لم يكن الملحوظ إلّا الذات المهملة فلا
حاجة إلى التقييد ، لحصول القيد لبّا ، فهذا نظير الأعراض الذهنيّة المتقوّمة
باللحاظ الخاصّ كعرض الكليّة ؛ فإنّه يعرض على الطبيعة في ظرف التجريد لكن مع قطع
النظر عن وصف تجريده ؛ إذ لو لوحظ معها هذا الوصف باينت الخارجيّات ومع ذلك لا
يسري منها الكليّة إلى الأفراد لما هي عليه من الاحتفاف بالخصوصيّات وعدم الاتّصاف
بالتجريد ، ولازم هذا الوجه عدم حصول امتثال الأمر بالمقدّمة إلّا مقارنا لحصول
امتثال الأمر بذيها.
ويشهد لما ذكرنا
أنّ المقدّمات العباديّة المعتبر وقوعها على وجه العباديّة كالوضوء قد اتفق الكلّ
على أنّه يعتبر فيها إتيانها بقصد غاية من الغايات التي تطلب هي لأجلها ، مع أنّه
لو كان الأمر متعلّقا بذات المقدّمة بأيّ وجه اتفقت لكفى في عباديّتها الإتيان بها
بداعي الأمر المقدّمي بها ولو مع العزم على عدم إتيان ذيها.
وأمّا على ما
ذكرنا فطريق حصول القرب بها وجعلها عبادة هو أن يقصد بإتيانها التّوصل إلى غاية من
غاياتها ، وحينئذ فإن اتّفق عدم التوصّل حصل القرب من باب الانقياد وإن لم يحصل
امتثال تمام المطلوب ، وعلى هذا فنقول : إنّ الطهارة تحصل بالغسلتين والمسحتين مع
اقترانها بحصول القرب ولو من باب الانقياد.
ويتفرّع على هذا
الوجه أنّه بناء على القول بكون ترك أحد الضدّين مقدّمة لوجود الآخر يرتفع إشكال
اجتماع الضدّين في العبادة الموسّعة المزاحمة بواجب مضيّق لو كانت مطلوبة ، فإن
ترك الصلاة مثلا إنّما يطلب مقدّمة للإزالة إذا ترتّب عليه فعل الإزالة ، وأمّا
الترك المنفرد عنها فليس محبوبا ، فلا يمتنع أن يصير مبغوضا ، ففعل الصلاة
بالإضافة إلى الترك المتوصّل به مبغوض لا محالة ، وأمّا بالإضافة إلى الترك الغير
المتوصّل به فيمكن أن يصير مطلوبا من دون أن يلزم اجتماع الضدّين.
نعم يبقى إشكال
التكليف بما لا يطاق اللازم من اجتماع الأمر بالصلاة والأمر بالإزالة في زمان واحد
، فيدفعه بأنّ الأمر بالإزالة متوجّه على وجه الإطلاق ، وبالصلاة متوجّه مشروطا
بترك الإزالة ، واجتماعهما بهذا النحو لا يقتضي الجمع بينهما.
الامر الرابع
هل الأمر المتعلّق
بالمسبّب يجب إرجاعه إلى السبب عقلا ، أم هو حقيقة متعلّقة بنفس المسبّب ، والسبب
إنّما يجب من باب المقدّمة؟ الوجوه المتصوّرة في المقام ثلاثة ، أحدها أن يقال :
إنّ الأمر بالمسبّب مطلقا راجع إلى السبب عقلا ، والثاني أن يقال : إنّ الأمر
بالمسبّب متعلّق بنفسه مطلقا ، والثالث : التفصيل بين ما إذا كانت الواسطة من قبيل
الآلات مثل انكسار الخشبة المتحقّق باتصال الآلة قوّة الإنسان إليها ، وبين ما إذا
لم تكن كذلك ، كما لو كان في البين فاعل آخر كما في إلقاء نفس إلى السبع فيتلفه أو
إلقاء شخص في النار فيحرقه.
احتجّ للأوّل بأنّ
متعلّق الإرادة والتكليف إنّما هو فعل المكلّف ؛ إذ لا معنى للأمر بما ليس من فعله
، والأفعال المرتّبة على أسباب خارجيّة ليست من فعله بل هي من فعل تلك الأسباب
والوسائط ؛ لانفكاكها عن المكلّف في بعض الأحيان ، كما إذا رمى سهما فمات فأصاب
زيدا بعد موت الرامي ، فلو كان الفاعل هو الرامي لما جاز وجود القتل في ظرف عدم
الرامي ؛ لامتناع انفكاك المعلول عن علّته زمانا ، فيكشف
ذلك عن عدم كون
الفاعل في المثال هو الرامي بل هو السهم ، غاية الأمر لم يكن فاعلا بالطبع ،
وإنّما يكون فاعليّته من جهة إحداث الرامي القوّة فيه ، وقس على ذلك سائر الأمثلة.
واجيب عنه بأنّا
نسلّم أنّ التكليف لا يتعلّق إلّا بما يعدّ فعلا للمكلّف ، إلّا أن نقول: إنّ
الفعل الصادر عنه له عنوان أوّلي وعناوين ثانويّة متّحدة معه بواسطة ترتّب الآثار
عليه ، مثلا حركة اليد المؤثّرة في حركة المفتاح لها عنوان أوّلي وهو حركة اليد ،
وتحريك اليد وبملاحظة تأثيرها في حركة المفتاح ينطبق عليها تحريك المفتاح ،
وبملاحظة تأثيرها في انفتاح الباب ينطبق عليها فتح الباب ولا إشكال في أنّه كما
أنّ حركة اليد ، التي هي الفعل الأوّل للفاعل فعل له ، كذلك العناوين المتّحدة
معها ؛ لمكان اتّحادها مع فعله الأوّل في الخارج ، وحينئذ لو تعلّق التكليف بتحريك
المفتاح التي يتّحد مع تحريك اليد الذي هو فعل للمكلّف فلا موجب لإرجاعه إلى
التعلّق بتحريك اليد ، إذ كما أنّه فعل اختياري له كذلك ما يتّحد معه.
وقد يناقش في هذا
الجواب بأنّ تحريك المفتاح في المثال لا يمكن أن ينطبق على تحريك اليد ؛ لأنّه عين
حركة المفتاح في الخارج لما تقرّر من وحدتهما في الخارج ، وإنّما الفرق من حيث
الاعتبار وهي غير حركة اليد المتّحدة مع تحريكها ، فيجب أن يكون تحريك المفتاح
أيضا غير تحريك اليد ، وإلّا لزم كون حركة اليد وحركة المفتاح متّحدين أيضا ،
والمفروض خلافه.
والجواب إنّا لا
نقول بانطباق العنوانين في عرض واحد بل نقول : إنّ الفعل الذي يكون عنوانه تحريك
اليد في الآن الأوّل ينقلب عنوانه إلى تحريك المفتاح في الآن الثاني فافهم، هذا ،
ولكن لا يخفى أنّ هذا إنّما يصحّ فيما إذا كانت الواسطة من قبيل الآلة ، وأمّا إذا
كان هناك فاعل آخر يصدر عنه الفعل فلا يمكن القول باتّحاد الفعل الصادر عنه مع
الفعل الصادر عن الفاعل الأوّل ، وهذا واضح.
وقد يجاب أيضا عن
أصل الدليل بأنّا لا نسلّم لزوم تعلّق الإرادة بالفعل الصادر عن الفاعل ، بل يكفي
في قابليّة تعلّق الحكم بشيء كونه مستندا إلى المكلّف بنحو من
الإسناد ، سواء كان
بنحو الفاعليّة أو على نحو تأثير الشرط في وجود المشروط أو غير ذلك.
وبعبارة اخرى :
الكلام في المقام إنّما هو في أنّ متعلّق الإرادة بحسب حكم العقل ما ذا؟ فنقول :
ما يقطع العقل باعتباره في متعلّق الطلب هو ارتباط المطلوب بالمكلّف بنحو من أنحاء
الارتباط ، فخرج به ما ليس للمكلّف تأثير فيه بنحو من الأنحاء ، وأمّا لو كان له
ربط بالمكلّف بوجه بحيث يكون وجوده منوطا باختياره بحيث لو شاء يوجد ولو لم يشأ لم
يوجد ، فنمنع استحالة تعلّق التكليف به عقلا.
وفيه أنّه لو أراد
أنّ التكليف فيما ليس بيد المكلّف إلّا إيجاد شرطه كالإحراق بالنار مثلا متعلّق
بما هو شأن الواسطة ، كما إذا تعلّق التكليف بما هو شأن النار في المثال فهذا غير
معقول ، وإن أراد أنّ التكليف متعلّق بما هو شأن المكلّف فهو راجع إلى الأمر
بإيجاد الواسطة.
توضيح المقام على
وجه يرفع الإبهام عن وجه المرام أنّ الأعراض باعتبار النسبة إلى محالّها تختلف
تارة بكون نسبتها إليها بمجرّد كونها حالة بها من دون أن تكون صادرة عن محالّها
كالموت والحياة والسواد والبياض ، واخرى يكون نسبتها إليها من جهة أنّها صادرة
عنها كالضرب والقيام.
أمّا ما كان من
قبيل الأوّل فلا إشكال في عدم قابليّة تعلّق الطلب به ؛ ضرورة أنّ الطلب يقتضي
صدور الفعل من الفاعل ، وما ليس من مقولة الحركة والفعل لا يمكن تعلّق الطلب به ؛
لأنّ إرادة الآمر مثل إرادة الفاعل في كونها موجبة لتحريك العضلات ، غاية الأمر
أنّ الأوّل موجب لتحريك عضلات المأمور والثاني موجب لتحريك عضلات المريد ، وظاهر
أنّ ما ليس من قبيل الحركة لا يمكن تعلّق إرادة الفاعل به ، فكذلك إرادة الآمر ،
فلو تعلّق الطلب بحسب الصورة بمثل ما ذكر يجب إرجاعه إلى ما يرجع إلى فعل المأمور.
والحاصل أنّ
متعلّق الطلب لا بدّ وأن يكون معنى مصدريّا صادرا عن المخاطب بالخطاب ، فلو لم يكن
كذلك بأن لم يكن من معنى المصدر ، أو كان ولم يكن صادرا
من المأمور لم
يمكن تعلّق الأمر به ، أمّا الأوّل فلما عرفت ، وأمّا الثاني فلما مضى من أنّ
الإرادة ما يوجب تحريك عضلات الفاعل إلى الفعل ولا يمكن تحريكها إلّا إلى فعل
نفسه.
فتحصّل ممّا ذكرنا
أنّ الطلب إذا تعلّق صورة بما ليس من الفعل الصادر من الفاعل يجب توجيهه بما يرجع
إلى ذلك ، ومن هنا يقوي التفصيل بين ما إذا تعلّق التكليف بما ليس بينه وبين
المكلّف إلّا آلة توصل قوّة الفاعل إلى القابل ، وما إذا تعلّق بالأفعال التي ليس
فعلا له ، بل هي أفعال للواسطة ، ففي الأوّل التكليف متعلّق بنفس ذلك الفعل وفي
الثاني يجب إرجاعه إلى السبب فليتأمّل جيّدا.
الأمر
الخامس
لو بنينا على وجوب المقدّمة فهل أجزاء
المركّب المتّصف بالوجوب النفسي يتّصف به أو بالوجوب المقدّمي ، والحق هو الثاني ، فهنا دعويان ، إحداهما : عدم اتّصاف
الأجزاء بالوجوب النفسي ، والثانية : اتّصافها بالوجوب المقدّمي.
لنا على الاولى
أنّ الأوامر يتعلّق بالموجودة في الذهن باعتبار حكايتها عن الخارج ، فالشيء ما لم
يوجد في الذهن لا يعقل تعلّق الأمر به وهذه المقدّمة في الوضوح ممّا يستغنى عن
البرهان ، فحينئذ الأجزاء الموجودة في ذهن الآمر لا يخلو من أنّها إمّا أن لوحظ
كلّ واحد منها بوجوداتها المستقلّة الغير المرتبط بعضها مع بعض نظير العام
الافرادي ، وإمّا أن لوحظ المجموع منها على هيئتها الاجتماعيّة.
فعلى الأوّل لا
بدّ وأن ينحلّ الإرادة بإرادات متعدّدة كما في العام الأفرادي ؛ إذ الإرادة أمر
قائم بنفس المريد متعلّق بالأفعال ، فكما أنّه يتعدّد بتعدّد المريد كذلك يتعدّد
بتعدّد المراد ؛ إذ لا يعقل وحدة العرض مع تعدّد المعروض ، وعلى الثاني أي على
تقدير كون الملحوظ الأجزاء على نحو الاجتماع فالملحوظ بهذا الاعتبار أمر واحد ،
ولا يعقل أن يشير اللاحظ في هذا اللحاظ إلى امور متعدّدة ، فوجود الأجزاء بهذا
الاعتبار في ذهن الآمر نظير وجود المطلق في ذهن من لاحظ المقيّد في أنّه وإن كان
موجودا ، إلّا أنّه لا على وجه يشاء الله ، بل هو موجود تبعا للمقيّد ومندكّا فيه.
والحاصل أنّ الموجود
بهذا الاعتبار ليس إلّا الكلّ ، والأجزاء بوجوداتها الخاصّة لا وجود لها ، فمتعلّق
الأمر النفسي لا يعقل إلّا أن يكون الكلّ الموجود في ذهن الآمر مستقلّا ، والأجزاء
لعدم وجودها في الذهن بهذا اللحاظ لا يمكن أن تكون متعلقة للأمر ، نعم يمكن استناد
الأمر إليها بالعرض ، نظير استناد الأمر المتعلّق بالمقيّد إلى ذات المطلق أعني
الطبيعة المهملة.
وهذا هو المراد من
كلام شيخنا المرتضى قدسسره الشريف في التقريرات أنّ الجزء إذا لوحظلا بشرط فهو عين
الكلّ ، وإذا لوحظ بشرط لا فهو غيره ومقدّمة لوجوده ، والمراد من قوله قدسسره : لا بشرط ، عدم اشتراط أن يكون في ذهن الآمر معه شيء أم
لا وهو الصالح لأن يتّحد مع الكل ، ومن قوله : بشرط لا ، عدم ملاحظة الآمر معه
شيئا أعني ملاحظته مستقلا ، ولا إشكال في أنّ الجزء بهذا اللحاظ لا يصلح أن يتّحد
مع الكلّ ويحمل عليه ؛ إذ لا يصدق على الحمد ولا على غيره من أجزاء الصلاة أنّه
صلاة.
ولنا على الثانية
أنّ الآمر إذا لاحظ الجزء بوجوده الاستقلالي أي غير ملحوظ معه شيء يرى أنّه ممّا
يحتاج إليه تلك الهيئة الملتئمة من اجتماع الأجزاء ، فحاله حال سائر المقدّمات
الخارجيّة من دون تفاوت أصلا ، هذه خلاصة الكلام في المقام وعليك بالتأمّل التام.
الأمر السادس
في ذكر حجج القائلين بوجوب المقدّمة.
أقول : ما تمسّك
به في هذا المقام وجوه اسدّها وامتنها ما احتجّ به شيخنا المرتضىقدسسره من شهادة الوجدان ؛ فإنّ من راجع وجدانه وأنصف من نفسه
يقطع بثبوت الملازمة بين الطلب المتعلّق بالفعل والمتعلّق بمقدّماته ، لا نقول
بتعلّق الطلب الفعلي بها كيف والبداهة قاضية بعدمه ، لجواز غفلة الطالب عن
المقدّمة ؛ إذ ليس النزاع منحصرا في الطلب الصادر من الشارع حتّى لا يتصوّر في
حقّه ذلك ، بل
المقصود أنّ
الطالب للشيء لو التفت إلى مقدّمات مطلوبه يجد من نفسه حالة الإرادة على نحو
الإرادة المتعلّقة بذيها ، كما قد يتّفق هذا النحو من الطلب النفسي أيضا فيما إذا
غرق ابن المولى ولم يلتفت إلى ذلك أو لم يلتفت بكونه ابنه ؛ فإنّ الطلب الفعلي في
مثله غير متحقّق ؛ لابتنائه على الالتفات ، لكنّ المعلوم من حاله أنّه لو التفت
إلى ذلك لأراد من عنده الإنقاذ ، وهذه الحالة وإن لم يكن طلبا فعليّا إلّا أنّها
تشترك معه في الآثار ، ولهذا نرى بالوجدان في المثال المذكور أنّه لو لم ينقذ
العبد ابن المولى عدّ عاصيا ويستحقّ العقاب.
ومنها اتفاق أرباب
العقول كافّة عليه على وجه يكشف عن ثبوت ذلك عند العقل نظير الإجماع الذي ادّعي في
علم الكلام على وجود الصانع أو على حدوث العالم ؛ فإنّ اتّفاق أرباب العقول كاشف
قطعي إجمالا عن حكم العقل ، فلا يرد على المستدلّ أنّ المسألة لكونها عقليّة لا
يجوز التمسّك لها بالإجماع ، لعدم كشفه عن رأي المعصوم عليهالسلام ؛ لأنّ الإيراد متوجّه لو أراد من الإجماع المستدلّ به
الإجماع الاصطلاحي ، أمّا على الوجه الذي قرّرناه فلا مجال للإيراد ، هذا ولكن
الشأن في إثبات مثل هذا الاتّفاق.
ومنها أنّ
المقدّمة لو لم تكن واجبة لجاز تركها ، فحينئذ فإن بقي الواجب على وجوبه يلزم
التكليف بالمحال وإلّا يلزم خروج الواجب المطلق عن كونه واجبا مطلقا ، وبطلان
اللازمين ممّا لا كلام فيه فكذا الملزوم.
والجواب أنّ ما
اضيف إليه الطرف في قوله فحينئذ إن كان الجواز ، نختار الشقّ الأوّل أعني : بقاء
الواجب على وجوبه ولا يلزم المحذور قطعا ؛ لعدم معقوليّة تأثير الوجوب في القدرة ،
وإن كان الترك مع كونه جائزا ، فإن فرض إمكان ايجاد المقدّمة عند ذلك بأن كان
الوقت موسّعا فنختار أيضا الشقّ الأوّل ولا يلزم التكليف بالمحال وهو واضح ، وإلّا
بأن انقضى زمان الإتيان بها فنختار الشق الثاني ، وقوله : يلزم خروج الواجب المطلق
عن كونه كذلك فإن أراد خروجه من أوّل الأمر عن كونه كذلك كما هو ظاهر عبارته فنمنع
الملازمة ، وإن أراد خروجه بعد ترك المقدّمة و
انقضاء زمانها
فليس اللازم باطلا ؛ لأنّ الوجوب قد يسقط بالإطاعة وقد يسقط بالعصيان.
ومنها ما حكي عن
المحقّق السبزواري قدسسره وهو أنّها لو لم تكن واجبة يلزم عدم كون تارك الواجب
المطلق مستحقّا للعقاب ، بيان الملازمة أنّه إذا كلّف الشارع بالحجّ ولم يصرّح
بإيجاب المقدّمات فتارك الحجّ بترك قطع المسافة الجالس في بلده إمّا أن يكون
مستحقّا للعقاب في زمان ترك المشي أو في زمان ترك الحج في موسمه المعلوم ، لا سبيل
إلى الأوّل ؛ لأنّه لم يصدر منه في ذلك الزمان إلّا ترك الحركة ، والمفروض أنّها
غير واجبة عليه ، ولا إلى الثاني ؛ لأنّ الإتيان بأفعال الحجّ في ذي الحجّة ممتنع
بالنسبة إليه ، فكيف يكون مستحقّا للعقاب بما يمتنع صدوره عنه.
ألا ترى أنّ
الإنسان إذا أمر عبده بفعل معيّن في زمان معيّن في بلد بعيد والعبد ترك المشي إلى
ذلك البلد ، فإن ضربه المولى عند حضور ذلك الزمان معترفا بأنّه لم يصدر إلى الآن
عنه فعل قبيح يستحقّ به التعذيب ، لكنّ القبيح أنّه لم يفعل في هذه الساعة هذا
الفعل في ذلك البلد ، لنسبه العقلاء إلى سخافة الرأي وركاكة العقل ، بل لا يصحّ
إلّا للاستحقاق السابق قطعا.
ثمّ نقول : إذا
فرضنا أنّ العبد بعد ترك المقدّمات كان نائما في زمان الفعل فإمّا أن يكون مستحقّا
للعقاب أولا ، لا وجه للثاني ؛ لأنّه ترك المأمور به مع كونه مقدورا فثبت الأوّل ،
فإمّا أن يحدث استحقاق العقاب في حالة النوم أو حدث قبل ذلك ، لا وجه للأوّل؛ لأنّ
استحقاق العقاب إنّما يكون لفعل القبيح ، وفعل النائم والساهي لا يتّصف بالحسن
والقبح بالاتّفاق ولا وجه للثاني ؛ لأنّ السابق على النوم لم يكن إلّا ترك
المقدّمة والمفروض عدم وجوبها ، هذا حاصل ما أفاده وقد نقلناه ملخّصا.
والجواب أنّه لا
محذور في اختيار كلّ واحد من الشقّين ، فلنا أن نختار الشقّ الأوّل وهو استحقاق
العقاب في زمان ترك المشي لا على ترك المشي ، بل على ترك الحجّ المستند إلى ترك
المقدّمة اختيارا ؛ فإنّ طريقة الإطاعة والمعصية مأخوذة من العقلاء وهم يحكمون
بحسن عقاب العبد التارك للمقدّمة في زمن تركها ولا يلزمون
على المولى انتظار
زمن الفعل ، وليس هذا التزاما بترتّب العقاب على تلك المقدّمة ، بل المقصود إثبات
العقاب المترتّب على ترك ذيها في زمن ترك المقدّمة وامتناع ذيها اختيارا.
ولنا أن نختار
الشقّ الثاني ونقول : إنّ تارك المقدّمة مستحقّ للعقاب في زمان الحج ، وقوله قدسسره : إنّ فعل الحجّ هناك غير مقدور فلا يمكن اتّصافه بالقبح ،
غير وجيه ؛ لأنّا نقول : يكفي في اتّصافه بالمقدوريّة كون المكلّف قادرا على إتيان
مقدّمته في زمانها ، فاتّصاف مثل هذا الفعل المقدور بواسطة مقدوريّة مقدّماته
بالقبح لا مانع له ، وأىّ قبح أعظم من ترك الواجب مع الاقتدار عليه.
وأمّا ما ذكره قدسسره أخيرا من فرض كون تارك المقدّمة نائما في زمن الفعل ،
فالجواب عنه أنّ ما لا يمكن أن يتّصف بالحسن والقبح من فعل النائم إنّما يكون فيما
استند إلى النوم مثل ما إذا ترك الصلاة مستندا إلى النوم ، وليس هذا الترك فيما
نحن فيه مستندا إلى النوم حتّى لا يمكن اتصافه بالقبح ، بل هو مستند إلى ترك
المقدّمة في زمانها اختيارا ، وهذا النوم المفروض وقوعه زمن امتناع الفعل وجوده وعدمه
سيّان وهذا واضح.
ومنها : ما حكي عن
المحقّق المذكور أيضا وهو أنّها لو لم تكن واجبة لزم أن لا يستحقّ تارك الفعل
العقاب أصلا ، وبيانه أنّ المريد للشيء إذا تصوّر أحوالا مختلفة يمكن وقوع كلّ
واحد منها ، فإمّا أن يريد الإتيان بذلك على أيّ تقدير من تلك التقادير أو يريد
الإتيان به على بعض تلك التقادير ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.
وحينئذ نقول : إذا
أمر أحد بالإتيان بالواجب في زمانه ، وفي ذلك الزمان يمكن وجود المقدّمات ويمكن
عدمها ، فإمّا أن يريد الإتيان به على أيّ تقدير من تقديري الوجود والعدم، فيكون
في قوّة قولنا : إن وجدت المقدّمة فافعل وإن عدمت فافعل ، وإمّا أن يريد الاتيان
به على تقدير الوجود ، والأوّل محال ؛ لأنّه يستلزم التكليف بما لا يطاق فثبت
الثاني ، فيكون وجوبه مقيّدا بحضور المقدّمة فلا يكون تاركه بترك المقدّمة مستحقّا
للعقاب ؛ لفقدان شرط الوجوب ، والمفروض عدم وجوب المقدّمة
فينتفي استحقاق
العقاب رأسا.
والجواب أمّا
أوّلا : فبأنّه لو تمّ ما ذكره هنا لزم أن لا يقع الكذب في الأخبار المستقبلة،
بيان الملازمة أنّه لو أخبر المخبر بأنّي غدا أشتري اللحم ، فعلى تقدير عدم الشراء
لا وجه لتكذيبه ؛ إذ له أن يقول : إنّ الإخبار بشراء اللحم إمّا أن يكون على تقدير
ايجاد جميع المقدّمات أو الأعمّ من ذلك وعدمها ، لا سبيل إلى الثاني لأوله إلى
الإخبار عن الممتنع، فثبت الأوّل فيئول إلى الإخبار بشراء اللحم على تقدير وجود
جميع المقدّمات ، والمفروض عدم وجود واحدة منها أو لا أقلّ من ذلك ، فلا يكون كذبا
؛ إذ عدم تحقّق اللازم في صورة عدم تحقّق الملزوم ليس كذبا في القضيّة الشرطيّة
الخبريّة.
وأمّا ثانيا :
فبأن اللازم على ما ذكره عدم استحقاق العقاب على ترك واجب أصلا ؛ لرجوع الواجبات
بأجمعها إلى الواجب المشروط ، بيان ذلك أنّ كلّ واجب لا بدّ له من مقدّمة ولا أقلّ
من إرادة الفاعل ، فحينئذ نقول : إمّا أن يريد ذلك الفعل في حالتي وجود المقدّمة
وعدمها أو في حالة وجودها فقط ، والأوّل مستلزم للتكليف بما لا يطاق ، والثاني
مستلزم لعدم استحقاق العقاب على ترك واجب من الواجبات ؛ إذ ترك الواجب المشروط بترك
شرطه ليس موجبا للعقاب ، وليت شعري هل ينفعه وجوب المقدّمة في دفع هذا الإشكال؟.
وأمّا ثالثا :
فبأنّ الحالات التي تؤخذ في موضوع الطلب إطلاقا أو تقييدا هي ما يمكن تعلّق الطلب
بالموضوع معه ويجوز كونه في تلك الحالة باعثا للمكلّف نحو الفعل ، وأمّا ما لم يكن
كذلك بأن لا يمكن معه أن يكون الطلب باعثا للمكلّف نحو الفعل فلا يعقل تقييد الطلب
به ولا إطلاقه.
أمّا الأوّل
فللزوم لغويّة الطلب ، وأمّا الثاني فلأنّه تابع لإمكان التقييد ، وحالتا وجود
المقدّمة وعدمها من قبيل الثاني ، لأنّه على الأوّل يصير الفعل واجبا فلا يمكن تعلّق
الطلب به على تقدير وجوبه ، وعلى الثاني يصير ممتنعا ، فلا يمكن أيضا تعلّق الطلب
به على هذا التقدير ، وبعد عدم إمكان تقييد الطلب بأحدهما لا يمكن ملاحظة
الإطلاق أيضا
بالنسبة إليهما ، بل الطلب متعلّق بذات الفعل مع قطع النظر عنها إطلاقا وتقييدا
وهو يقتضي إيجاد الفعل ، ولو لم يوجد يستحقّ العقاب وهذا واضح.
وقد ذكروا وجوها
آخر غير ناهضة على المطلوب طوينا ذكرها اقتصارا على ما هو الأهمّ في الباب وهو
الهادي إلى الصواب.
الأمر السابع
في بعض من الكلام
في مقدّمات الحرام ، وليعلم أوّلا أنّ الالتزام بحرمة مقدّمة الحرام بقصد التوصّل
إليه ليس قولا بحرمة مقدّمة الحرام ؛ لأنّ هذا من جزئيات مسألة التّجري ، فعدّ بعض
الأساطين حرمة مقدّمات الحرام بقصد التوصّل إلى ذيها من باب مقدّمة الحرام ،
واقتضاء النهي المتعلّق بذيها لها ممّا لم يعرف له وجه ؛ لأنّ الجهة المقبحة
الموجودة في إتيان المقدّمة بقصد التوصّل إلى الحرام ليست منوطة بوجود محرّم واقعي
تكون هذه المأتي بها بقصد التوصّل مقدّمة له ، بل هي بعينها موجودة فيما لو اعتقد
حرمة شيء وأتى بمقدماته بقصد التوصّل إليه ولم يكن ذلك الشيء محرّما في الواقع ،
أو اعتقد مقدّميّة شيء لمحرّم وأتى به بقصد التوصّل إلى ما اعتقد ترتّبه عليه.
وأعجب من ذلك
قياسه بباب مقدّمة الواجب ؛ فإنّ ما تحقّق هناك أنّ إتيان ذات المقدّمة من دون قصد
التوصّل إلى ذيها لا يعدّ إطاعة ، لا أنّ موضوع الطلب التبعي هو الفعل المقرون
بهذا القصد.
وكيف كان المهمّ
في هذا الباب بيان أنّ المقدّمات الخارجيّة للحرام هل تتّصف بالحرمة نظير ما قلنا
في المقدمات الخارجيّة للواجب ، أم لا تتّصف أصلا ، أم يجب التفصيل بينها؟.
فنقول : إنّ
العناوين المحرّمة على ضربين ، أحدهما : أن يكون العنوان بما هو مبغوضا من دون
تقييده بالاختيار وعدمه من حيث المبغوضيّة وإن كان له دخل في استحقاق العقاب ؛ إذ
لا عقاب إلّا على الفعل الصادر عن اختيار الفاعل ، والثاني :
أن يكون الفعل
الصادر عن إرادة واختيار مبغوضا بحيث لو صدر عن غير اختياره لم يكن منافيا لغرض
المولى.
فعلى الأوّل علّة
الحرام هي المقدّمات الخارجيّة من دون مدخليّة الإرادة بل هي علّة لوجود علّة
الحرام ، وعلى الثاني تكون الإرادة من أجزاء العلّة التامّة.
إذا عرفت هذا
فنقول : نحن إذا راجعنا وجداننا نجد الملازمة بين كراهة الشيء وكراهة العلّة
التامّة له من دون سائر المقدّمات ، كما إذا راجعنا الوجدان في طرف إرادة الشيء
نجد الملازمة بينها وبين إرادة كلّ واحد من مقدّماته ، وليس في هذا الباب دليل
أمتن وأسدّ منه ، وما سوى ذلك ممّا أقاموه غير نقّي عن المناقشة.
وعلى هذا ففي
القسم الأوّل إن كانت العلّة التامّة مركبّة من امور تتّصف المجموع منها بالحرمة
وتكون إحدى المقدّمات لا بشخصها محرّمة إلّا إذا وجد باقي الأجزاء وانحصر اختيار
المكلّف في واحد منها فيحرم عليه شخصا من باب تعيّن أحد أفراد الواجب التخييري
بالعرض فيما إذا تعذّر الباقي ، فإنّ ترك أحد الأجزاء واجب على سبيل التخيير ،
فإذا وجد الباقي وانحصر اختيار المكلّف في واحد معيّن يجب تركه معيّنا.
وأمّا القسم
الثاني أعني : فيما إذا كان الفعل المقيّد بالإرادة محرّما فلا تتّصف الأجزاء
الخارجيّة بالحرمة ، لأنّ العلّة التامّة للحرام هي المجموع المركّب منها ومن
الإرادة ، ولا يصحّ استناد الترك إلّا إلى عدم الإرادة ؛ لأنّه أسبق رتبة من سائر
المقدمات الخارجيّة.
فقد فهم ممّا
ذكرنا أنّ القول بعدم اتّصاف المقدّمات الخارجيّة للحرام بالحرمة مطلقا لسبق رتبة
الصارف وعدم استناد الترك إلّا إليه مطلقا ممّا لا وجه له ، بل ينبغي التفصيل ؛
لأنّه في القسم الأوّل لو فرض وجود باقي المقدّمات مع عدم الإرادة تحقّق المبغوض
قطعا ، فعدم إحداها علّة لعدم المبغوض فعلا.
وأمّا في القسم
الثاني لو فرضنا وجود باقي المقدّمات مع الصارف لم يتحقّق المبغوض لكونه مقيّدا
بصدوره عن الإرادة ، فالمقدّمات الخارجيّة من دون انضمامها
إلى الإرادة لا
يوجد المبغوض ، ففي طرف العدم يكفي عدم إحدى المقدّمات ، ولمّا كان الصارف أسبق
رتبة منها يستند ترك المبغوض إليه دون الباقي ، فيتّصف بالمحبوبيّة دون ترك إحدى
المقدّمات الخارجيّة ، فلا يكون فعلها متّصفا بالحرمة.
«فصل»
هل الأمر بالشيء
يقتضي النهي عن ضدّه الخاص أم لا؟ أقول : لمّا كانت المسألة مبنيّة على مقدّميّة
ترك الضد لفعل ضدّه فاللازم التكلّم فيها ، فنقول : هل ترك الضد مقدّمة لفعل ضدّه
، أو فعله مقدّمة لترك ضدّه ، أو كلّ منهما مقدّمة للآخر أي ترك الضدّ مقدّمة لفعل
ضدّه وفعل الضدّ أيضا مقدّمة لترك ضدّه ، أم لا توقّف في البين؟ والمعروف من تلك
الاحتمالات هو الأوّل والأخير ، فلا نتعرّض لغيرهما ، وستطلع على بطلانه في أثناء
البحث.
والقائل بتوقّف
فعل الضد على ترك ضدّه الآخر إمّا أن يقول به مطلقا كما عليه جلّ أرباب هذا القول
، أو تفصيل بين الرفع والدفع ، بمعنى أنّه لو كان الضدّ موجودا وأراد إيجاد الآخر
يتوقّف إيجاده على رفع ضدّه ، وإن لم يكن موجودا وأراد إيجاد ضدّه لم يكن موقوفا
على ترك الضدّ.
ثمّ إنّ وجه
التوقّف يمكن أن يكون أحد امور ثلاثة ، الأوّل أن يقال : بأنّ ترك الضدّ ابتداء
مقدّمة لفعل الضد ، والثاني : أن يكون مقدّميّة الترك من باب مانعيّة الفعل ،
والثالث: أن يكون من جهة عدم قابليّة المحلّ ؛ فإنّ المحلّ لمّا لم يكن قابلا لأن
يرد عليه كلاهما فصار وجود كلّ منهما متوقّفا على خلوّ المحلّ عن الآخر.
وكيف كان فلنشرع
فيما هو المقصود وقبل ذكر أدلّة الطرفين لا بدّ وأن يعلم حكم حال الشكّ لنرجع إليه
إذا عجزنا عن القطع بأحد الطرفين.
فنقول : لو شكّ في
كون ترك الضدّ مقدّمة بعد علمه بوجوب مقدّمة الواجب وعلمه بوجوب فعل الضدّ الآخر ،
فهل الأصل يقتضي الحكم بصحّة العمل إن كان من العبادات أو الفساد؟ قد يقال بالأوّل
؛ لأنّ فعليّة الخطاب مرتفعة بواسطة الشكّ
خصوصا في الشبهة
الموضوعيّة التي قد أطبقت على إجراء البراءة فيها كلمة العلماء رضوان الله عليهم
من الاصوليين والأخباريين ، وإذا لم يكن الوجوب فعليّا لا مانع لصحّة العمل ؛ لأنّ
المانع قد تحقّق في محلّه أنّه الوجوب الفعلي ؛ ولذا أفتى العلماء بصحّة الصلاة في
الأرض المغصوبة في صورة نسيان الغصبيّة ، ولو انكشف الخلاف بعد ذلك لم يجب عليه
الإعادة والقضاء ، وما نحن فيه من هذا القبيل.
وأوضح من ذلك صورة
القطع بعدم المقدّميّة وانكشف بعد ذلك خطاء قطعه ؛ فإنّ الحكم بفساد صلاته موجب
لفعليّة الخطاب حين القطع بعدمه.
والحقّ أنّ الشكّ
في المقام ليس موردا لأصالة البراءة لا عقلا ولا شرعا ، أمّا الأوّل فلأنّ مقتضاها
هو الأمن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي على تقدير ثبوته ولا يمكن جريانها
هنا ؛ لأنّ العقاب لا يترتّب على مخالفة التكليف المقدّمي ولا يمكن الحكم بسقوط
العقاب عن التكليف النفسي إذا استند تركه إلى هذه المقدّمة المشكوك مقدّميتها ؛
لأنّ التكليف النفسي معلوم ونعلم أنّ الإتيان به ملازم لهذا الترك الذي يحتمل كونه
مقدّمة ، إنّما الشكّ في أنّ هذا الترك الذي قد علم كونه ملازما لفعل الواجب
المعلوم هل هو مقدّمة أم لا ، وهذا لا يوجب سقوط العقاب عن الواجب النفسي المعلوم
كما هو واضح.
وأمّا الثاني
فلأنّه على تقدير كون الترك مقدّمة فالوجوب المتعلّق به بحكم العقل على حدّ الوجوب
المتعلّق بفعل ضدّه ، فكما أنّه في هذا الحال يكون فعليّا منجّزا ، كذلك مقدّمته ،
وعلى هذا الفرض لا يعقل الترخيص ، والمفروض احتمال تحقّق الفرض في نظر الشاك وإلّا
لم يكن شاكّا ، ومع هذا الاحتمال نشكّ في إمكان الترخيص وعدمه عقلا ، فلا يمكن
القطع بالترخيص ولو في الظاهر.
لا يقال : بعد
احتمال كون الترخيص ممكنا لا مانع من التمسّك بعموم الأدلّة الدالّة على إباحة
جميع المشكوكات واستكشاف الإمكان بالعموم الدالّ على الفعليّة.
لأنّا نقول : فعلى
هذا يلزم من ثبوت هذا الحكم عدمه ؛ إذ لو بنينا على انكشاف الإمكان بعموم الأدلّة
فاللازم الالتزام بدلالة العموم على عدم كون ترك الضدّ
مقدّمة ؛ إذ مع
بقاء هذا الشكّ لا يمكن انكشاف الإمكان ، فلو علم من عموم الحكم عدم كون ترك الضدّ
مقدّمة فلا مجرى له ؛ لأنّ موضوعه الشكّ ، وبالجملة فلا أرى وجها لجريان أصالة
الإباحة في المقام ، هذه خلاصة الكلام في حكم الشكّ فلنعد إلى أصل البحث.
فنقول : الحقّ كما
ذهب إليه الأساطين من مشايخنا هو عدم التوقّف والمقدّمية لا من جانب الترك ولا من
جانب الفعل ، أمّا عدم كون ترك الضدّ مقدّمة لفعل ضدّه فلأنّ مقتضى مقدّميته لزوم
ترتّب عدم ذي المقدّمة على عدمه ؛ لأنّه معنى المقدّميّة والتوقّف ، فعلى هذا
يتوقّف عدم وجود الضدّ على عدم ذلك الترك المفروض كونه مقدّمة وهو فعل الضدّ الآخر
، والمفروض أنّ فعل الضدّ أيضا يتوقّف على ترك ضدّه الآخر ، ففعل الفعل يتوقّف على
ترك ضدّه كما هو المفروض ، وترك الضدّ يتوقّف على فعل ضدّه ، لأنّه مقتضى مقدميّة
تركه.
هذا مضافا إلى عدم
إمكان تأثير العدم في الوجود وهو من الواضحات وإلّا لأمكن انتهاء سلسلة الموجودات
إلى العدم.
وأمّا عدم كون فعل
الضدّ علّة ومؤثّرا في ترك ضدّه فلأنّه لو كان كذلك لزم مع عدمه وعدم موجود يصلح
لأن يكون علّة لشيء إمّا ارتفاع النقيضين ، أو تحقّق المعلول بلا علّة ، أو استناد
الوجود إلى العدم ، بيان ذلك أنّه لو فرضنا عدم الفعل الذي فرضناه علّة لعدم الضد
وعدم كلّ شيء من الممكنات ، يصلح لأن يكون علّة لشيء فلا يخلو الواقع من امور؛
لأنّك إمّا أن تقول بوجود ذلك الفعل الذي كان عدمه معلولا أم لا.
فعلى الأوّل يلزم
استناد الوجود إلى العدم ؛ إذ المفروض عدم وجود شيء في العالم يصلح لأن يكون علّة
، وعلى الثاني إمّا أن نقول بتحقّق العدم المفروض معلولا أم لا ، فعلى الثاني يلزم
ارتفاع النقيضين ، وعلى الأوّل يلزم تحقّق المعلول بلا علّة ، مضافا إلى أنّ مقتضى
كون الفعل علّة لترك ضدّه كون تركه مقدّمة لفعل ضدّه الآخر ؛ لأنّ عدم المانع شرط
فيلزم الدور.
فإن قلت : إنّ
الدور الذي أوردت على القائل بمقدّمية ترك الضدّ لفعل ضدّه الآخر إنّما يتوجّه لو
التزم بكون الفعل أيضا علّة للترك وهو لا يلتزم به وإنّما يقول بكون ترك الضدّ
مستندا إلى الصارف لكونه أسبق من الفعل رتبة ، ومعلوم أنّ المعلول إذا كانت له علل
فهو يستند إلى أسبق علله ، فحينئذ يقول بأنّ فعل الضدّ يتوقّف على ترك ضدّه الآخر
، ولكن ترك الضدّ لا يتوقّف على فعل ضدّه الآخر ، بل يكفي فيه الصارف ، فاندفع
بذلك الدور.
قلت : الاستناد
الفعلي وإن كان إلى الصارف ليس إلّا لما ذكر من كونه أسبق العلل ، إلّا أنّه يكفي
في البطلان وقوع الفعل في مرتبة علّة الترك ؛ لاستلزام ذلك التقدّم عليه مع كون
الترك أيضا مقدّما على الفعل بمقتضى مقدّميّته ؛ لأنّ وجه بطلان الدور تقدّم الشيء
على نفسه وهذا الوجه موجود هنا بعينه ؛ فإنّ ترك الضدّ بمقتضى المقدّميّة مقدّم
طبعا على فعل ضدّه ، وكذلك فعل الضدّ بمقتضى شأنيته للعليّة يجب أن يكون مقدّما
على ترك ضدّه ، فترك الضدّ مقدّم على فعل ضدّه الذي هو مقدّم على ذلك الترك ، فيجب
أن يكون ترك الضدّ مقدّما على نفسه وكذلك فعل الضدّ.
وممّا ذكرنا يظهر
عدم الفرق بين الرفع والدفع ؛ لأنّ البرهان الذي ذكرناه على عدم التوقّف يجري
فيهما على نهج واحد ، وأنت إذا تأمّلت فيما ذكرنا لم تجد بدّا من القول بعدم
التوقّف ، فلا نطيل المقام بذكر ما أوردوه في بيان المقدّمة والمناقشة فيه. إنّما
المهمّ التعرّض للمسألة التي فرّعوها على مقدّميّة ترك الضدّ وعدمها أعني بطلان
فعل الضدّ ولو كان عباديّا ـ وقد وجب ضدّه ـ على الأوّل ، وصحّته على الثاني.
فنقول : أمّا بناء
على كون ترك الضدّ مقدّمة فلا إشكال في بطلان العمل بناء على بطلان اجتماع الأمر
والنهي ، بل قد يقال بالبطلان حتّى على القول بإمكان الاجتماع ؛ لأنّ محلّ النزاع
في مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي فيما إذا كان هناك عنوانان يتّفق تحقّقهما في
وجود واحد ، وليس المقام من هذا القبيل ؛ لأنّ عنوان المقدّميّة ليس ممّا امر به ؛
لأنّه ليس ممّا يتوقّف عليه المطلوب ، بل المطلوب إنّما يتوقّف على نفس ترك الصلاة
مثلا إذا كان ضدّه مطلوبا ، فلو جاز تعلّق الأمر بها لزم اجتماع
الأمر والنهي في
شيء واحد فيكون ذلك من باب النهي في العبادات ، هذا على القول بكون ترك الضد
مقدّمة.
وأمّا على القول
بعدم مقدّميته فإن قلنا بكفاية الجهة في صحّة العبادة وإن لم يتعلّق به الأمر
لمانع عقليّ كما هو الحق فلا إشكال في الصّحة.
وأمّا لو لم نقل
بكفاية الجهة فيشكل الأمر بأنّ الأمر بالضدّ وإن لم يقتض النهي عن ضدّه لعدم
المقدميّة ، ولكنّه يقتضي عدم الأمر به ، لامتناع الأمر بإيجاد الضدّين في زمان
واحد ، وحيث لا أمر فلا يقع صحيحا ؛ لأنّ المفروض عدم كفاية جهة الأمر في الصحّة ،
فالمناص حينئذ منحصر في تصحيح تعلّق الأمر فعلا بالضدّ مع كون ضدّه الآخر مأمورا
به ، والذي يمكن أن يكون وجها لذلك أحد أمرين :
الأوّل : ما نقل
عن بعض الأساطين قدسسره من أنّ الأمر بالضدّ إنّما ينافي الأمر بضدّه الآخر لو
كانا مضيّقين ، أمّا لو كان أحدهما مضيّقا والآخر موسّعا فلا مانع من الأمر
بكليهما ؛ لأنّ المانع ليس إلّا لزوم التكليف بما لا يطاق ، وهذا المانع منحصر
فيما إذا كانا مضيّقيين ؛ إذ لو كان أحدهما موسّعا فلا يلزم ذلك قطعا سواء كان
الآخر موسّعا أيضا أم لا ، وأيّ مانع من أن يقول المولى لعبده : اريد منك من أوّل
الظهر إلى الغروب إنقاذ هذين الغريقين ، أو يقول : اريد منك إنقاذ هذا الغريق فعلا
واريد منك أيضا إنقاذ الغريق الآخر في مجموع الوقت الذي يكون أعمّ من هذا الوقت
وغيره.
أقول : تماميّة ما
أفاده قدسسره مبنيّ على مقدّمتين :
إحداهما : أن يكون
الوقت المضروب ظرفا للواجب من قبيل الكلّي الصادق على جزئيات الوقت ، فيصير
المحصّل من التكليف بصلاة الظهر إيجاب إيجاد الصلاة في طبيعة الوقت المحدود بحدّين
؛ إذ لو كان التكليف راجعا إلى التخيير الشرعي بين الجزئيات من الأزمنة فلا يصحّ
ذلك ؛ لأنّ البعث على غير المقدور قبيح عقلا وإن كان على سبيل التخيير بينه وبين
فعل آخر مقدور ، ألا ترى قبح الخطاب التخييري بين الطيران إلى السماء وإكرام زيد
مثلا.
والثانية : أنّ
الأمر بالطبيعة لا يستلزم السراية إلى الأفراد وإلّا لكان اللازم منه المحذور
الأوّل بعينه ، وحيث إنّ عدم السراية إلى الأفراد هو المختار ـ كما يجيء تحقيقه في
مسألة اجتماع الأمر والنهي إن شاء الله ولا يبعد صحّة المقدّمة الاولى ـ فلا بأس
بالالتزام بتحقّق الأمر الفعلي بالصلاة في مجموع الوقت مع إيجاب ضدّها في أوّل
الوقت مضيّقا ، بل يمكن أن يقال : لا مانع من الأمر حتى على القول بالتخيير الشرعي
أو على القول بسراية حكم الطبيعة إلى الأفراد ؛ لأنّ المانع من التكليف بما لا
يطاق ليس إلّا اللغويّة وهو مسلّم فيما إذا كان نفس الفعل غير مقدور كالطيران إلى
السماء.
وأمّا إذا كان
نفسه مقدورا كما في ما نحن فيه ـ غاية الأمر يجب عليه بحكم العقل امتثال أمر آخر
من المولى ولا يقدر مع الامتثال إتيان فعل آخر ـ فلا يلزم اللغويّة ؛ إذ يكفي في
ثمرة وجود الأمر أنّه لو أراد المكلّف عصيان الواجب المعيّن يقدر على إطاعة هذا
الأمر ، ومن ذلك يظهر أنّ قياس مقامنا هذا بمثال الطيران إلى السماء ليس في محلّه.
والوجه الثاني ؛
ما أفاده سيّد مشايخ عصرنا الميرزا الشيرازي «قدّس الله تربته الطاهرة» ، وشيّد
أركانه وأقام برهانه تلميذه الجليل والنحرير الذي ليس له بديل سيّدنا الاستاذ
السيّد محمّد الاصفهاني جزاهما الله عن الإسلام وأهله أفضل الجزاء وهو : أن يتعلّق
الأمر أوّلا بالضدّ الذي يكون أهمّ في نظر الآمر مطلقا من غير التقييد بشيء ثمّ
يتعلّق أمر آخر بضدّه متفرّعا على عصيان ذلك الأمر الأوّل.
توضيح هذا المطلب
وتنقيحه يستدعي رسم مقدّمات :
الاولى ولعلّها
العمدة في هذه المسألة توضيح الواجب المشروط ، وهو وإن مرّ في مبحث مقدّمة الواجب
مفصّلا إلّا أنّه لا بدّ من أن نشير إليه ثانيا توضيحا لهذه المسألة التي نحن
بصددها.
فنقول وعلى الله
التوكّل : إنّ الإرادة المنقدحة في النفس المتعلّقة بالعناوين على ضربين، تارة
يكون على نحو تقتضي إيجاد متعلّقها بجميع ما يتوقّف عليه من دون
إناطتها بوجود شيء
أو عدمه ، واخرى على نحو لا يقتضي إيجاد متعلّقها إلّا بعد تحقّق شيء آخر وجودي أو
عدمي ، مثلا إرادة إكرام الضيف تارة يكون على نحو يوجب تحريك المريد إلى تحصيل
الضيف وإكرامه ، واخرى على نحو لا يوجب تحريكه إلى تحصيل الضيف ، بل يقتضي إكرامه
على تقدير مجيئه.
ثمّ إنّ الثاني
على أنحاء ، تارة يقتضي إيجاد متعلّقها بعد تحقّق ذلك الشيء المفروض وجوده في
الخارج ، كما في مثال أكرم زيدا إن جاءك ، واخرى يقتضي إيجاده مقارنا له ، كما في
إرادة الصوم مقارنا للفجر إلى غروب الشمس ، وكما في إرادة الوقوف في العرفات
مقارنا لأوّل الزوال إلى الغروب وأمثال ذلك ، وتارة يقتضي إيجاده قبل تحقّق ذلك
الشيء كما لو أراد استقبال زيد في اليوم على تقدير مجيئه غدا.
وهذه الأنحاء
الثلاثة كلّها مشتركة في أنّها مع عدم العلم بتحقّق ذلك المفروض تحقّقه لا تؤثّر
الإرادة في نفس الفاعل ، كما أنّها مشتركة في أنّه على تقدير العلم بذلك يؤثّر في
الجملة ، إنّما الاختلاف في أنّه على تقدير الأوّل العلم بتحقق ذلك في الزمن الآتي
لا يوجب تحريك الفاعل إلى نحو المراد ؛ لأنّ المقصود إيجاد الفعل بعد تحقّق ذلك
الشيء لا قبله.
نعم لو توقّف
الفعل في زمان تحقّق ذلك الشيء على مقدّمات قبل ذلك اقتضت الإرادة المتعلقة بذلك
الفعل على تقدير وجود شيء خاص إيجاد تلك المقدّمات قبل تحقّق ذلك الشيء ، كما نرى
من أنفسنا أنّ الإنسان لو أراد إكرام زيد على تقدير مجيئه وعلم بمجيئه في الغد
وتوقّف إكرامه في الغد على مقدّمات قبله يهيّئ تلك المقدّمات ، وهكذا حال إرادات
الآمر ، فلو أمر المولى بإكرام زيد على تقدير مجيئه ويعلم العبد بتحقّق مجيئه غدا
ويتوقّف إكرامه غدا على إيجاد مقدّمات في اليوم يجب عليه إيجادها ، ولا عذر له عند
العقل لو ترك تلك المقدّمات ، وهذا واضح لا ستر عليه.
وعلى التقدير
الثاني باعثيّة الإرادة بالنسبة إلى الفاعل إنّما يكون بالعلم بتحقّق ذلك الشيء
المفروض وجوده في الآن الملاصق للآن الذي هو فيه ، كما أنّه على
الثالث تؤثّر إذا
علم بتحقّقه في الزمن الآتي.
وإن شئت قلت : هذه
الإرادة المعلّقة على وجود شيء إذا انضمّ إليها العلم بتحقّق ذلك الشيء يقتضي
إيجاد كلّ من الفعل ومقدّماته في محلّه ، فمحلّ الإكرام في الفرض الأوّل بعد تحقّق
المجيء ، ومحلّ مقدّماته قبله ، ومحلّ الفعل في المثال الثاني مقارن للشرط ، ومحلّ
مقدّماته قبله ، كما في الوقوف في العرفات مقارنا للزوال ، ومحلّ الفعل في المثال الثالث
قبل تحقّق الشرط.
والحاصل أنّه لا
نعني بالواجب المشروط إلّا الإرادة المتعلّقة بالشيء مبتنية على تحقّق أمر في
الخارج ، وهذه الإرادة لا يعقل أن تؤثّر في نفس الفاعل إلّا بعد الفراغ من حصول
ذلك الأمر. وبعبارة اخرى : هذه الإرادة من قبيل جزء العلّة لوجود متعلّقها ؛ وإذا
انضمّ إليها العلم بتحقّق ذلك الشيء تؤثّر في كلّ من الفعل ومقدّماته في محلّه كما
عرفت ، فالإرادة المبتنية على أمر مقدّر ـ سواء علم بتحقّق ذلك الأمر أم لم يعلم
بل ولو علم عدمه ـ موجودة ولكن تأثيرها في الفاعل يتوقّف على العلم بتحقّق ذلك
الأمر.
المقدّمة الثانية
: أنّ الإرادة المبتنية على تقدير أمر في الخارج لا يعقل أن تقتضي إيجاد متعلّقها
على الإطلاق ، أي سواء تحقّق ذلك المقدّر أم لا ، وإلّا خرجت عن كونها مشروطة
بوجود شيء ، فمتى ترك الفعل بترك الأمر المقدّر لا يوجب مخالفة لمقتضي الإرادة ،
نعم المخالفة إنّما تتحقّق فيما إذا ترك مع وجود ذلك المقدّر ، وهذه المقدّمة في
الوضوح بمثابة لا تحتاج إلى البرهان.
المقدّمة الثالثة
: أنّ الإرادة المتعلّقة بشيء من الأشياء لا يمنع وجودها كون المأمور بحيث يترك في
الواقع أو يفعل ؛ إذ لا مدخليّة لهذين الكونين في قدرة المكلّف ، فالإرادة مع كلّ
من هذين الكونين موجودة ، ولكن لا يمكن أن يلاحظ الآمر كلّا من تقديري الفعل
والترك في المأمور به لا إطلاقا ولا تقييدا.
أمّا الثاني فواضح
؛ لأنّ إرادة الفعل على تقدير الترك طلب المحال ، وإرادة الفعل على تقدير الفعل
طلب الحاصل ، وأمّا الأوّل فلأنّ ملاحظة الإطلاق فرع إمكان
التقييد ، وحيث
يستحيل الثاني يستحيل الأوّل ، فالإرادة تقتضي إيجاد ذات متعلّقها لا أنّها تقتضي
إيجاده في ظرف عدمه ولا إيجاده في ظرف وجوده ولا إيجاده في كلا الحالين ؛ لأنّ هذا
النحو من الاقتضاء يرجع إلى طلب الشيء مع نقيضه أو مع حصوله ، فظهر أنّ الأمر
يقتضي وجود ذات الفعل من دون ملاحظة تقييد الفعل بالنسبة إلى الحالتين المذكورتين
، ولا إطلاقه بالنسبة إليهما.
نعم الأمر
المتعلّق بذات الفعل موجود سواء كان المكلّف ممّن يترك أو يفعل ولكن هذا الأمر
الموجود يقتضي عدم تحقّق الترك وتحقّق الوجود لا أنّه يقتضي الوجود على تقدير
الترك، وبعبارة اخرى : الأمر يقتضي عدم تحقّق هذا المقدّر لا أنّه يقتضي وجود
الفعل في فرض وقوعه ؛ لأنّ الثاني يرجع إلى اقتضاء اجتماع النقيضين دون الأوّل ،
فافهم فإنّه لا يخلو عن دقة.
المقدّمة الرابعة
: أنّه لم يرد في خبر ولا في آية بطلان تعلّق الأمرين بالضدّين في زمان واحد حتّى
نتمسّك بإطلاق ذلك الخبر أو تلك الآية في بطلانه حتّى في المقام ، إنّما المانع
حكم العقل بقبح التكليف بما لا يطاق وهو منحصر فيما إذا كان الطلبان بحيث يقتضي
كلّ واحد منهما سلب قدرة المكلّف عن الإتيان بمقتضى الآخر لو أراد الإتيان بما
يقتضيه ، أمّا لو كانا بحيث لا يوجب ذلك فلا مانع أصلا.
إذا عرفت
المقدّمات المذكورة فنقول : لو أمر الآمر بإيجاد فعل مقارنا لترك ضدّه الآخر فهذا
الأمر باعث في نفس المأمور لو علم بتحقّق ذلك الترك في الآن المتّصل بالآن الذي هو
فيه ؛ إذ لو صبر إلى أن يتحقّق ذلك الترك لم يقع المأمور به بالعنوان الذي امر به
وهو المقارنة، فمحلّ تأثير هذا الأمر في نفس المأمور إنّما يكون مقارنا لوقوع
الترك ، فيجب أن يؤثّر في ذلك المحلّ بمقتضى المقدّمة الاولى ، وهذا الأمر المبتني
على ترك الضدّ لا يوجب التأثير في المتعلّق مطلقا حتّى يستلزم لا بدّية المكلّف من
ترك الضدّ بحكم المقدّمة الثانية ، والأمر المتعلّق بالضد الآخر الذي فرضناه مطلقا
لا يقتضي إيجاد المتعلّق في ظرف عدمه بحكم المقدّمة الثالثة حتّى يلزم منه وجود
التكليف بالضدّين في ظرف تحقّق هذا الغرض ، بل الأمر بالأهمّ يقتضي عدم
تحقّق هذا الغرض ،
والأمر بالمهم يقتضي إيجاده على تقدير تحقّق الغرض.
ومن هنا يتّضح عدم
تحقّق المانع العقلي في مثل هذين الأمرين ؛ لأنّ المانع كما عرفت ليس إلّا لزوم
التكليف بما لا يطاق ؛ لأنّ ذلك إنّما يلزم من الخطابين لو كانا بحيث يلزم من
امتثال كلّ منهما معصية الآخر ، وقد عرفت أنّه لا يلزم منهما فيما نحن فيه ذلك ؛
لأنّ المكلّف لو امتثل الأمر الأهمّ لم يعص الأمر الآخر الذي تعلّق بالمهم ، إنّما
ترتّب على هذا الامتثال انتفاء ما كان شرطا للأمر المهم ، وقد عرفت أنّ عدم إتيان الواجب
المشروط بترك شرطه ليس مخالفة للواجب.
والحاصل أنّه لا
يقتضي وجود الخطابين بعث المكلّف على الجمع بين الضدّين ، وممّا يدلّك على هذا
أنّه لو فرضنا محالا صدور الضدّين من المكلّف لم يقع كلاهما على صفة المطلوبيّة ،
بل المطلوب هو الأعمّ لا غير ، لعدم تحقّق ما هو شرط لوجوب المهمّ.
فإن قلت : سلّمنا
إمكان الأمر بالضدّين على نحو قرّرته ولكن بم يستدلّ على الوقوع فيما إذا وجب
الإزالة عن المسجد مطلقا وكان في وقت الصلاة ؛ فإنّ حمل دليل الصلاة على وجوب
المعلّق على ترك إزالة النجاسة يحتاج إلى دليل.
قلت : المفروض أنّ
المقتضي لوجوب الصلاة محقّق بقول مطلق وليس المانع إلّا حكم العقل بعدم جواز
التكليف بما لا يطاق ، وبعد ما علمنا عدم كون هذا النحو من التكليف تكليفا بما لا
يطاق يجب بحكم العقل تأثير المقتضي ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في المقام وعليك
بالتأمّل التامّ ؛ فإنّ المقام من مزالّ الأقدام.
حجّة المانع أنّ
الضدّين ممّا لا يمكن إيجادهما في زمان واحد عقلا ، وجعلهما في زمان واحد متعلّقا
للطلب المطلق تكليف بما لا يطاق ، وهاتان المقدمتان ممّا لا يقبل الإنكار ، إنّما
الشأن بيان أنّ تعلّق الطلبين بالضدّين في زمان واحد ولو على نحو الترتّب يرجع إلى
الطلب المطلق بهذا والطلب المطلق بذاك في زمان واحد.
وبيانه : أنّ
الأمر بإيجاد الضدّ مع الأمر بايجاد ضدّه الآخر لا يخلو حاله من أنّه إمّا أمر
بإيجاده مطلقا في زمان الأمر بضدّه كذلك ، وإمّا أمر بإيجاده مشروطا بترك الآخر ،
والثاني على قسمين ؛ لأنّه إمّا أن يجعل الشرط هو الترك الخارجي للضدّ
الآخر ، أو يجعل
الشرط كون المكلّف بحيث يترك في علم الله.
أمّا الأوّل فلا
يلتزم به كلّ من أحال التكليف بما لا يطاق ، وأمّا الأوّل من الأخيرين فلا مانع
منه ، إلّا أنّه عليه لا يصير الأمر مطلقا إلّا بعد تحقّق الترك ومضيّ زمانه ،
وهذا وإن كان صحيحا لكنّه خارج عن فرض القائل بالترتّب ؛ لأنّه يدّعي تحقّق
الأمرين في زمان واحد.
وأمّا الأخير
منهما فلازمه القول بإطلاق الأمر المتعلّق بالمهمّ في ظرف تحقّق شرطه والمفروض
وجود الأمر بالأهمّ أيضا ؛ لأنّه مطلق ، ففي زمان تحقّق شرط المهمّ يجتمع الأمران
المتعلّقان بالضدّين وكلّ واحد منهما مطلق ، أمّا الأمر المتعلّق بالأهمّ فواضح ،
وأمّا الأمر المتعلّق بالمهمّ فلأنّ الأمر المشروط بعد تحقّق شرطه يصير مطلقا.
والجواب يظهر ممّا
قدّمناه في المقدّمات وحاصله : أنّ الأمر بالأهمّ مطلق والأمر بالمهمّ مشروط ،
أمّا قولك بأنّ الشرط إمّا هو الترك الخارجي أو العنوان المنتزع منه فنقول : إنّه
هو الترك الخارجي ، وقولك إنّه على هذا يلزم تأخّر الطلب عن زمان الترك ، مدفوع
بما عرفت من عدم لزوم اقتضاء الطلب المشروط إيجاد متعلّقه بعد تحقّق الشرط ، بل قد
يقتضيه كذلك وقد يقتضي مقارنة الفعل للشرط كما عرفت ذلك كلّه مشروحا.
فإن قلت : سلّمنا
كون الشرط نفس الترك الخارجي للضدّ ولا يلزم من ذلك تأخّر الطلب عن مضيّ زمان
الترك ولكن نقول : في ظرف فعليّة الطلب المشروط إمّا تقول ببقاء الطلب المطلق أولا
، والثاني خلاف الفرض ، والأوّل التزام بالأمر بما لا يطاق.
قلت : نختار الشقّ
الأوّل ولكن لا يقتضي الطلب الموجود حينئذ إلّا عدم تحقّق الترك الذي هو شرط لوجوب
الآخر ، لا أنّه يقتضي إيجاد الفعل في ظرف تحقّق هذا الترك كما أوضحناه في
المقدّمات ، فليتأمّل في المقام ؛ فإنّه ممّا ينبغي أن يصرف لأجله الليالي
والأيّام.
المقصد الثاني في النواهي
«فصل»
في جواز اجتماع
الأمر والنهي وامتناعه ، وليعلم أوّلا أنّ النزاع المذكور إنّما يكون بعد فرض وجود
المندوحة وتمكّن المكلّف من إيجاد عنوان المأمور به في غير مورد النهي ، وإلّا
فالمسلّم عند الكل عدم الجواز لقبح التكليف بما لا يطاق ، نعم ذهب المحقّق القمّى قدسسره إلى التفصيل بين ما إذا كان العجز مستندا إلى سوء اختيار
المكلّف وعدمه ، فخصّ القبح بالثاني ، ومن هنا حكم بأنّ المتوسّط في الأرض
المغصوبة منهي عن الغصب فعلا ومأمور بالخروج كذلك. ولكنّك خبير بأنّ هذا التفصيل
يأبى عنه العقل ، بل لعلّ قبح التكليف بما لا يطاق مطلقا من البديهيّات الأوّليّة.
وكيف كان فقبل
الشروع في المقصود ينبغي رسم امور :
أحدها : قد يتوهّم
ابتناء المسألة على كون متعلّق التكاليف هو الطبيعة أو الفرد ، فينبغي التكلّم في
مقامين :
أحدهما في تشخيص
مرادهم في هذه المسألة
والثاني في أنّه
هل يبتني النزاع في مسألتنا هذه عليها بمعنى أنّه لو اخذ بأحد طرفي النزاع فيها
لزم الأخذ بأحد طرفي المسألة فيما نحن فيه أم لا؟
أمّا المقام
الأوّل فنقول : يمكن أن يكون مرادهم أنّه بعد فرض لزوم اعتبار الوجود في متعلّق
الطلب فهل الوجود المعتبر هو وجود الطبيعة أو وجود الفرد ، ويمكن أن يكون مرادهم
أنّه بعد فرض اعتبار الوجود هل المعتبر أشخاص الوجودات الخاصّة أو المعنى الواحد
الجامع بين الوجودات؟.
أمّا المقام
الثاني فالحقّ عدم ابتناء مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي وعدمه عليه ؛ إذ يمكن
القول بأنّ متعلّق الأحكام هو الطبائع بكلا المعنيين الذين
احتملنا في مرادهم
، ومع ذلك نمنع جواز اجتماع الأمر والنهي ، إمّا لما ذكره صاحب الفصول قدسسره من أنّ متعلّق الطّلب إنّما يكون الوجودات الخاصّة لعدم
جامع لها في البين ، وإمّا لأنّه على تقدير تعلّق الطلب بالجامع يلزم سرايته إليها
لمكان الاتّحاد والعينيّة.
وكذلك يمكن القول
بتعلّق الطلب بالفرد بكلا الاحتمالين أيضا والالتزام بجواز الاجتماع ؛ لأنّ الفرد
الموجود في الخارج يمكن تعريته في الذهن عن بعض الخصوصيات ومع ذلك لا يخرج عن كونه
فردا ، مثلا الصلاة في الدار المغصوبة الموجودة بحركة واحدة شخصيّة لو لوحظت تلك
الحركة الشخصيّة من حيث إنّها مصداق للصلاة وجرّد النظر عن كونها واقعة في الدار
المغصوبة لم تخرج عن كونها حركة شخصيّة ، فللمجوّز بعد اختياره أنّ متعلّق
التكاليف هو الأفراد أن يقول : إنّ هذه الحركة من حيث كونها مصداقا للصلاة محبوبة
ومأمور بها ، ومن حيث إنّها مصداق للغصب منهيّ عنها.
الأمر الثاني :
أنّ الموجود الخارجي ـ من أيّ طبيعة كان ـ أمر وحدانيّ محدود بحدّ خاص ، سواء قلنا
بأصالة الوجود أم قلنا بأصالة الماهيّة ، غاية الأمر أنّه على الأوّل يكون الثاني
منتزعا ، وعلى الثاني يكون الأوّل منتزعا ، نعم يمكن أن ينحلّ في الذهن إلى ماهيّة
ووجود ، وإضافة الوجود إلى الماهيّة.
فحينئذ لو قلنا
بأنّ الوحدة في الخارج مانعة عن اجتماع الأمر والنهي فاللازم أن نقول بالامتناع ،
سواء قلنا بأصالة الوجود أو الماهيّة ، ولو قلنا بعدم كونه مانعا ويكفي تعدّد
المتعلّق في الذهن فاللازم القول بالجواز سواء قلنا أيضا بأصالة الوجود أو
الماهيّة.
الأمر الثالث :
أنّ الظاهر من العنوان الذي يجعلونه محلا للنزاع أنّ الخلاف في جواز اجتماع الأمر
والنهي وعدمه ، وغير خفيّ أنّه غير قابل للنزاع ؛ إذ من البديهيّات كون التضاد بين
الأحكام وملاكاتها إنّما النزاع في أنّه هل يلزم على القول ببقاء إطلاق دليل وجوب
الصلاة مثلا بحاله ، وكذا إطلاق دليل الغصب في مورد
اجتماعهما اجتماع
الأمر والنهي في شيء واحد حتى يجب عقلا تقييد أحدهما بغير مورد الآخر ، أو لا يلزم
، بل يمكن أن يتعقّل للأمر محلّ وللنهي محلّ آخر ولو اجتمعا في مصداق واحد؟ فهذا
النزاع في الحقيقة راجع إلى الصغرى نظير النزاع في حجيّة المفاهيم.
الأمر الرابع : لا
إشكال في خروج المتبانيين عن محلّ النزاع بمعنى عدم الإشكال في إمكان أن يتعلّق الأمر
بأحدهما والنهي بالآخر إلّا على تقدير التلازم بينهما في الوجود كما لا إشكال في
خروج المتساويين في الصدق ؛ لما عرفت من اعتبار وجود المندوحة ، كما لا إشكال في
دخول العامّين من وجه في محلّ النزاع.
إنّما النزاع في
أنّ العام المطلق والخاص أيضا يمكن أن يجري فيه النزاع المذكور أم لا؟ قال المحقّق
القمّي قدسسره : إنّ العامّ المطلق خارج عن محلّ النزاع بل هو مورد
للنزاع في النهي في العبادات.
واعترض عليه
المحقّق الجليل صاحب الفصول قدسسره بأنّه ليس بين العامين من وجه والمطلق من حيث هاتين
الجهتين فرق ، بل الملاك أنّه لو كان بين العنوان المأمور به والعنوان المنهيّ عنه
مغايرة يجري فيه النزاع ، وإن كان بينهما عموم مطلق كالحيوان والضاحك ، وإن اتّحد
العنوانان وتغايرا ببعض القيود لم يجر النزاع فيهما وإن كان بينهما عموم من وجه
نحو : صلّ الصبح ولا تصلّ في الأرض المغصوبة ، هذا.
ويشكل بأنّه لو
اكتفى المجوّز بتغاير المفهومين ووجود المندوحة فلا فرق بين أن يكون بينهما عموم
من وجه أو مطلق ، وأن يكون العنوان المأخوذ في النهي عين العنوان المأخوذ في الأمر
مع زيادة قيد من القيود أو غيره ، ضرورة كون المفاهيم متعدّدة في الذهن في الجميع ،
ولو لم يكتف بذلك فليس له لتجويز الاجتماع في العامين من وجه أيضا مجال ، فاللازم
على من يدّعي الفرق بيان الفارق.
قال شيخنا المرتضى
قدسسره في التقريرات المنسوبة إليه بعد نقل كلام المحقّق القمّي
وصاحب الفصول قدّس الله روحهما ما هذا لفظه : أقول : إنّ ظاهر هذه الكلمات يعطي
انحصار الفرق بين المسألتين في اختصاص إحداهما بمورد دون
اختها ، وليس كذلك
، بل التحقيق أنّ المسئول عنه في إحداهما غير مرتبط بالاخرى.
وتوضيحه أنّ
المسئول عنه في هذه المسألة هو إمكان اجتماع الطلبين فيما هو الجامع لتلك الماهيّة
المطلوبة فعلها والماهيّة المطلوبة تركها من غير فرق في ذلك بين موارد الأمر
والنهي ؛ فإنّه كما يصحّ السؤال عن هذه القضية فيما إذا كان بين المتعلّقين عموم
من وجه ، فكذا يصحّ فيما إذا كان عموم مطلق ، سواء كان من قبيل قولك : صلّ ولا
تصلّ في الدار المغصوبة أو لم يكن كذلك.
والمسئول عنه في
المسألة الآتية هو أنّ النهي المتعلّق بشيء هل يستفاد منه أنّ ذلك الشيء ممّا لا
يقع به الامتثال ، حيث إنّ المستفاد من إطلاق الأمر حصول الامتثال بأيّ فرد كان ،
فالمطلوب فيها هو استعلام أنّ النهي المتعلّق بفرد من أفراد المأمور به هل يقتضي
رفع ذلك الترخيص المستفاد من إطلاق الأمر أولا؟ ولا ريب أنّ هذه القضيّة كما يصحّ
الاستفسار عنها فيما إذا كان بين المتعلّقين إطلاق وتقييد فكذلك يصح فيما إذا كان
بينهما عموم من وجه كما إذا كان بينهما عموم مطلق ، وبالجملة فالظاهر أنّ اختلاف
المورد لا يصير وجها لاختلاف المسألتين كما زعموا ، بل لا بدّ من اختلاف جهة
الكلام ، انتهى موضع الحاجة من كلامه قدسسره.
أقول : والحقّ أنّ
العنوانين لو كانا بحيث اخذ أحدهما في الآخر وكان بينهما عموم مطلق أيضا لا يطرق
فيهما هذا النزاع. وتوضيحه أنّه : لا إشكال في تغاير المفاهيم بعضها مع الآخر في
الذهن سواء كان بينهما عموم مطلق أم من وجه أو غيرهما ، وسواء كان أحدهما مأخوذا
في الآخر أم لا ، إلّا أنّه لا يمكن أن يقال فيما إذا كان بين المفهومين عموم مطلق
وكان أحدهما مشتملا على الآخر أنّ المطلق يقتضي الأمر والمقيّد يقتضي النهي ؛ لأنّ
معنى اقتضاء الإطلاق شيئا ليس إلّا اقتضاء نفس الطبيعة ؛ إذ لا يعقل الاقتضاء لصفة
الإطلاق ، والمقيّد ليس إلّا نفس تلك الطبيعة منضمّة إلى بعض الاعتبارات ، ولو
اقتضى المقيّد شيئا منافيا للمطلق لزم أن يقتضي نفس الطبيعة أمرين متنافيين.
وبعبارة اخرى :
بعد العلم بأنّ صفة الإطلاق لا يقتضي تعلّق الحبّ بالطبيعة ، فالمقتضي له نفسها ،
وهي متّحدة في عالم الذهن مع المقيّد ؛ لأنّها مقسم له وللمطلق ، فلو اقتضى
المقيّد الكراهة لزم أن يكون المحبوب والمبغوض شيئا واحدا حتّى في الذهن وهذا غير
معقول ، بخلاف مثل مفهوم الصلاة والغصب مثلا ؛ لعدم الاتّحاد بينهما في الذهن
أصلا.
الأمر الخامس : قد
يتراءى تهافت بين الكلمات حيث عنونوا مسألة جواز اجتماع الأمر والنهي ومثلوا له
بالعامين من وجه ، واختار جمع منهم الجواز وأنّه لا تعارض بين الأمر والنهي في
مورد الاجتماع ، وفي باب تعارض الأدلّة جعلوا أحد وجوه التعارض التعارض بالعموم من
وجه ، وجعلوا علاج التعارض الأخذ بالأظهر إن كان في البين وإلّا التوقّف أو الرجوع
إلى المرجّحات السنديّة على الخلاف. وكيف كان ما تمسّك أحد لدفع المنافاة بجواز
اجتماع الأمر والنهي.
والجواب أنّ
النزاع في مسألتنا هذه مبنيّ على إحراز وجود الجهة والمناط في كلا العنوانين وأنّ
المناطين هل هما متكاسران عند العقل إذا اجتمع العنوانان في مورد واحد كما يقوله
المانع أم لا كما يقوله المجوّز؟ ولا إشكال في أنّ الحاكم في هذا المقام ليس إلّا
العقل ، وباب تعارض الدليلين مبنيّ على وحدة المناط والملاك في الواقع ، ولكن لا
يعلم أنّ الملاك الموجود في البين هل هو ملاك الأمر أو النهي مثلا ، فلا بدّ من أن
يستكشف ذلك من الشارع بواسطة الأظهريّة إن كان أحد الدليلين أظهر ، وإلّا التوقّف
أو الرجوع إلى المرجّحات السندية حسب ما قرّر في محلّه ، نعم يبقي سؤال أنّ طريق
استكشاف ما هو من قبيل الأوّل وما هو من قبيل الثاني ما ذا؟ وهذا خارج عن المقام.
إذا عرفت ذلك
فلنشرع فيما هو المقصود من ذكر حجج المجوّزين والمانعين.
فنقول وعلى الله
التوكّل : أحسن ما قيل في تقريب احتجاج المجوّزين هو أنّ المقتضي موجود والمانع
مفقود ، أمّا الأوّل : فلما عرفت من أنّ فرض الكلام ليس إلّا فيما يكون المقتضي
موجودا ، وأمّا الثاني : فلأنّ المانع ليس إلّا ما تخيّله الخصم من
لزوم اجتماع
المتضادّين من الحكمين والحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد ، وليس كما
زعمه.
وتوضيحه يحتاج إلى
مقدّمة وهي أنّ الأعراض على ثلاثة أقسام :
منها : ما يكون
عروضه واتّصاف المحلّ به في الخارج كالحرارة العارضة للنار والبرودة العارضة للماء
وأمثالهما من الأعراض القائمة بالمحالّ في الخارج.
ومنها : ما يكون
عروضه في الذهن واتّصاف المحلّ به في الخارج كالابوّة والبنوّة والفوقيّة
والتحتيّة وأمثالها.
ومنها : ما يكون
عروضه في الذهن واتّصاف المحلّ به فيه أيضا كالكليّة العارضة للإنسان ، حيث إنّ
الإنسان لا يصير متّصفا بالكليّة في الخارج قطعا ، فالعروض في الذهن؛ لأنّ الكليّة
إنّما تنتزع من الماهيّة المتصوّرة في الذهن ، واتّصاف تلك الماهيّة بها أيضا فيه
؛ لأنّها لا تقبل الكليّة في الخارج.
فنقول حينئذ : لا
إشكال في أنّ عروض الطلب سواء كان أمرا أم نهيا لمتعلّقه ليس من قبيل الأوّل ،
وإلّا لزم أن لا يتعلّق إلّا بعد وجود متعلّقه ، كما أنّ الحرارة والبرودة لا
يتحقّقان إلّا بعد تحقّق النار والماء ، فيلزم البعث على الفعل الحاصل والزجر عنه
وهو غير معقول ، ولا من قبيل الثاني ؛ لأنّ متعلّق الطلب إذا وجد في الخارج مسقط
للطلب ومعدم له ، ولا يعقل أن يتّصف في الخارج بما هو يعدم بسببه ، فانحصر الأمر
في الثالث ، فيكون عروض الأمر والنهي لمتعلّقاتهما كعروض الكليّة للماهيّات.
إذا عرفت ذلك
فنقول : إنّ طبيعة الصلاة والغصب وإن كانتا موجودتين بوجود واحد وهو الحركة
الشخصيّة المتحقّقة في الدار المغصوبة ، إلّا أنّه ليس متعلّق الأمر والنهي
الطبائع الموجودة في الخارج ، لما عرفت من لزوم تحصيل الحاصل ، بل هي بوجوداتها الذهنية
، ولا شكّ أنّ طبيعة الصلاة في الذهن غير طبيعة الغصب كذلك ، فلا يلزم من وجود
الأمر والنهي حينئذ اجتماعهما في محلّ واحد.
فإن قلت : لا معنى
لتعلّق الطلب بالطبائع الموجودة في الذهن ؛ لأنّها إن قيّدت بما
هي في ذهن الآمر
فلا يتمكّن المكلّف من الامتثال ، وإن قيّدت بما هي في ذهن المأمور لزم حصول
الامتثال بتصوّرها في الذهن ولا يجب إيجادها في الخارج ، وهو معلوم البطلان.
قلت : نظير هذا
الإشكال يجري في عروض الكليّة للماهيّات ؛ لأنّ بعد ما فرضنا أنّ الماهيّة
الخارجيّة لا تقبل أن تتّصف بالكليّة ولا هي من حيث هى ؛ لأنّها ليست إلّا هي ،
فينحصر معروض الكليّة في الماهيّة الموجودة في الذهن ، فيتوجّه الإشكال بأنّه كيف
يمكن أن يتّصف بالكليّة مع أنّها جزئيّة من الجزئيّات ولا يكاد أن ينطبق على
الأفراد الخارجيّة ضرورة اعتبار الاتّحاد في الحمل ولا اتّحاد بين الماهيّة المقيّدة
بالوجود الذهني وبين الأفراد الخارجيّة.
وحلّ هذا الإشكال
في كلا المقامين أنّ بعد ما فرضنا أنّ الماهيّة من حيث هي مع قطع النظر عن اعتبار
الوجود ليست إلّا هي ولا تتّصف بالكليّة والجزئيّة ولا بشيء من الأشياء ، فلا بدّ
من القول بأنّ اتّصافها بوصف من الأوصاف يتوقّف على الوجود ، وذلك الوجود قد يكون
وجودا خارجيّا كما في اتّصاف الماء والنار بالحرارة والبرودة ، وقد يكون وجودا
ذهنيّا ، لكن لا من حيث ملاحظة كونه كذلك بل من حيث كونه حاكيا عن الخارج ، مثلا
ماهيّة الإنسان يلاحظ في الذهن ويعتبر لها وجود مجرّد عن الخصوصيّات حاك عن الخارج
فيحكم عليها بالكليّة ، فمورد الكليّة في نفس الأمر ليس إلّا الماهيّة المأخوذة في
الذهن ، لكن لا بملاحظة كونها كذلك بل باعتبار حكايتها عن الخارج.
فنقول : موضوع
الكليّة وموضوع التكاليف المتعلّقة بالطبائع واحد بمعنى أنّ الطبيعة بالاعتبار
الذي صارت موردا لعروض وصف الكليّة يكون موضوعا للتكاليف من دون تفاوت أصلا.
فإن قلت : سلّمنا
ذلك كلّه لكن مقتضى كون الوجود حاكيا عن الخارج بلحاظ المعتبر أن يحكم باتّحاده مع
الوجودات الخارجيّة ، فاللازم من تعلّق إرادته بهذا الوجود السعي تعلّقها أيضا
بالوجودات ، لمكان الاتّحاد الذي يحكم به اللاحظ.
قلت : الحكم
باتّحاد الوجود السعي مع الوجودات الخاصّة في الخارج لا بدّ له من ملاحظة مغايرة
بين الموضوع والمحمول حتّى يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ، ولا ينافي ذلك
الحكم بالاتّحاد ؛ لأنّه بنظر آخر.
وبعبارة اخرى :
للاحظ ملاحظتان ، إحداهما تفصيليّة والاخرى إجماليّة ، فهو بالملاحظة الاولى يرى
المغايرة بين الموضوع والمحمول ؛ ولذا يجعل أحدهما موضوعا والآخر محمولا ،
وبالملاحظة الثانية يرى الاتّحاد.
فحينئذ لو عرض
المحمول شيء في لحاظه التفصيلى فلا وجه لسريانه إلى الموضوع لمكان المغايرة في هذا
اللحاظ ، وبهذا اندفع الإشكال عن المقام ونظائره ممّا لم تسر الأوصاف القائمة
بالطبيعة إلى أفرادها من قبيل الكليّة العارضة للإنسان مثلا ، وكذا وصف التعدّد
العارض لوجود الإنسان بما هو وجود الإنسان مع أنّ الفرد ليس بكلّي ولا متعدّد ،
وكذا الملكيّة العارضة للصاع الكلّي الموجود في الصيعان الموجودة في الصبرة ، حيث
حكموا بأنّ من اشترى صاعا من الصبرة الموجودة يصير مالكا للصاع الكلّي بين الصيعان
، والخصوصيّات ليس ملكا له ، وفرّعوا على هذا أنّه لو تلف منها شيء فالتالف من مال
البائع ما بقي مقدار ما اشترى المشتري ، فافهم واغتنم.
فإن قلت : كيف
يمكن أن يكون هذا الوجود المجرّد عن الخصوصيّات محبوبا أو مبغوضا وليس له في
الخارج عين ولا أثر ؛ لأنّ ما في الخارج ليس إلّا الوجودات الخاصّة ، ولا شبهة في
أنّ المحبوب والمبغوض لا يمكن أن يكون إلّا من الامور الخارجيّة ؛ لأنّ تعلّق
الحبّ والبغض بشيء ليس إلّا من جهة اشتماله على آثار توجب ملائمة طبع الآمر له أو
منافرته عنه ، وليس في الخارج إلّا الوجودات الخاصة المبائنة بعضها مع بعض.
قلت : إن أردت من
عدم كون الوجود الجامع في الخارج عدمه مع وصف كونه جامعا ومتّحدا مع كثيرين فهو حقّ
لا شبهة فيه ؛ لأنّ الشيء مع وصف كونه جامعا لا يتحقّق إلّا في الذهن ، وإن أردت
عدمه في الخارج أصلا فهو ممنوع ؛ بداهة أنّ
العقل بعد ملاحظة
الوجودات الشخصيّة التي يحويها طبيعة واحدة يجد حقيقة واحدة في تمام تلك الوجودات.
واقوى ما يدلّ على
ذلك الوجدان ؛ فإنّا نرى من أنفسنا تعلّق الحبّ بشرب الماء مثلا من دون مدخليّة
الخصوصيّات الخارجيّة في ذلك ، ولو لم يكن تلك الحقيقة في الخارج لما أمكن تعلّق
الحبّ بها ، والذي يدّل على تحقّق صرف الوجود في الخارج ملاحظة وحدة الأثر من
أفراد الطبيعة الواحدة ، ولو لم يكن ذلك الأثر الواحد من المؤثّر الواحد لزم تأثّر
الواحد من المتعدّد وهذا محال عقلا.
فإن قلت : ما ذكرت
إنّما يتمّ في الماهيّات المتأصّلة التي لها حظّ من الوجود في الخارج كالإنسان
ونحوه ، وأمّا ما كان من العناوين المنتزعة من الوجودات الخارجيّة كالصلاة والغصب
فلا يصحّ فيه ذلك ؛ لأنّ هذه العناوين ليس لها وجود في الخارج حتّى يجرّد من
الخصوصيّات ويجعل موردا للتكاليف ، بل اللازم في أمثالها هو القول بأنّ مورد
التكاليف الوجود الخارجي الذي يكون منشأ لانتزاع تلك المفاهيم ولا ريب في وحدة
الوجود الخارجي الذي يكون منشئا للانتزاع.
وبعبارة اخرى :
تعدّد العناوين مفهوما لا يجدي لعدم الحقيقة لها إلّا في العقل ، وما يكون موردا
للزجر والبعث ليس إلّا الوجود الخارجي الذي ينتزع منه هذه العناوين ولا شبهة في
وحدته.
قلت : بعد ما
حقّقنا تحقّق صرف الوجود في الخارج لا مجال لهذه الشبهة ؛ لأنّ العناوين المنتزعة
لا ينتزع إلّا من صرف الوجود من دون ملاحظة الخصوصيات ، مثلا مفهوم «ضارب» منتزع
من ملاحظة حقيقة وجود الإنسان واتّصافه بحقيقة وجود المبدا من دون دخل لخصوصيّات
أفراد الإنسان أو كيفيّات الضرب في ذلك.
إذا عرفت هذا
فنقول : مفهوم الغصب ينتزع من حقيقة التصرّف في ملك الغير من دون مدخليّة خصوصيّات
التصرّف من كونه من الأفعال الصلاتيّة أو غيرها في ذلك ، ومفهوم الصلاة ينتزع من
الحركات والأقوال الخاصّة مع ملاحظة اتّصافها ببعض الشرائط من دون مدخليّة خصوصيّة
وقوعها في محلّ خاصّ ، وقد عرفت ممّا
قرّرنا سابقا قابليّة
ورود الأمر والنهي على الحقيقتين المتعدّدتين بملاحظة الوجود الذهني المتّحدتين
بملاحظة الوجود الخارجي ، وهنا نقول : إنّ المفاهيم الانتزاعيّة وإن كان حقيقة
البعث والزجر المتعلّق بها ظاهرا راجعا إلى ما يكون منشئا لانتزاعها ، لكن لمّا
كان فيما نحن فيه منشأ انتزاع الصلاة والغصب متعدّدا لا بأس بورود الأمر والنهي
وتعلّقهما بما هو منشأ لانتزاعهما ، هذا غاية الكلام في المقام وعليك بالتأمّل
التام فإنّه من مزالّ الأقدام.
وينبغي التنبيه
على امور :
الأوّل : لا إشكال
في أنّ من توسّط أرضا مغصوبة لا مناص له من الغصب بمقدار زمن الخروج بأسرع وجه
يتمكّن منه ؛ لأنّ في غيره يتحقّق منه هذا المقدار مع الزائد ، وفيه يتحقّق منه
هذا المقدار ليس إلّا ، وهذا ممّا لا شبهة فيه. إنّما الإشكال في أنّ الخروج من
تلك الدار ما حكمه؟ والمنقول فيه أقوال :
أحدها : أنّه
مأمور به ومنهيّ عنه ، وهذا القول محكي عن أبى هاشم واختاره الفاضل القمّي قدسسره ونسبه إلى أكثر أفاضل المتأخّرين وظاهر الفقهاء ، وصحّته
يبتني على أمرين :
أحدهما كفاية
تعدّد الجهة في تحقّق الأمر والنهي مع كونهما متّحدتين في الوجود الخارجي ،
والثاني جواز التكليف فعلا بأمر غير مقدور إذا كان منشأ عدم القدرة سوء اختيار
المكلّف ، والأمر الأوّل قد فرغنا عنه واخترنا صحّته ، ولكنّ الثاني في غاية المنع
؛ بداهة قبح التكليف بما لا يقدر عليه ؛ لكونه لغوا وعبثا.
وأمّا ما يقال من
أنّ الامتناع أو الإيجاب بالاختيار لا ينافي الاختيار فهو في قبال استدلال
الأشاعرة للقول بأنّ الأفعال غير اختيارية بأنّ الشيء ما لم يجب لم يوجد فكلّ ما
تحققت علّته يجب وجوده ، وكلّ ما لم يتحقّق علّته يستحيل وجوده ، وحاصل الجواب أنّ
ما صار واجبا بسبب اختيار المكلّف وكذا ما صار ممتنعا به لا يخرج عن كونه
اختياريّا له ، فيصحّ عليه العقاب ، لا أنّ المراد أنّه بعد ارتفاع القدرة يصحّ
تكليفه بغير المقدور فعلا.
القول الثاني :
أنّه مأمور به مع جريان حكم المعصية عليه كما اختاره صاحب الفصول قدسسره.
القول الثالث :
أنّه مأمور به بدون ذلك.
والحقّ أن يقال :
إن بنينا على كون الخروج مقدّمة لترك الغصب الزائد فالأقوى هو القول الثاني ، سواء
قلنا بجواز اجتماع الأمر والنهي أم لم نقل به ، وإن لم نقل بمقدّميّة الخروج بل
قلنا بصرف الملازمة بين ترك الغصب الزائد والخروج ـ كما هو الحقّ وقد مرّ برهانه
في مبحث الضدّ ـ فالأقوى أنّه ليس مأمورا به ولا منهيّا عنه فعلا ولكن يجري عليه
حكم المعصية.
لنا على الأوّل
أنّ قبل الدخول ليس للخروج عنوان المقدّميّة ؛ ضرورة إمكان ترك الغصب بأنحائه ولا
يتوقّف ترك شيء منه على الخروج ، فيتعلّق النهي بجميع مراتب الغصب من الدخول في
الأرض المغصوبة والبقاء والخروج ؛ لكونه قادرا على جميعها ، ولكنّه بعد الدخول
فيها يضطرّ إلى ارتكاب الغصب مقدار الخروج فيسقط النهي عنه بهذا المقدار ؛ لكونه
غير قادر فعلا على تركه والتكليف الفعلي قبيح بالنسبة إليه وهذا واضح ،
ولكنّه يعاقب عليه
لكونه وقع هذا الغصب بسوء اختياره ، ولمّا يتوقّف عليه بعد الدخول ترك الغصب
الزائد كما هو المفروض وهذا الترك واجب بالفرض لكونه قادرا عليه ، فيتعلّق به
الوجوب بحكم العقل الحاكم بالملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب مقدّمته ، فالخروج
من الدار المغصوبة منهي عنه قبل الدخول ولذا يعاقب عليه ، ومأمور به بعد الدخول
لكونه بعده مقدّمة للواجب المنجّز الفعلي.
فإن قلت : ما ذكرت
إنّما يناسب القول بكفاية تعدّد الجهة في الأمر والنهي ، وأمّا على القول بعدمها
فلا يصحّ ؛ لأنّ هذا الموجود الشخصي أعني : الحركة الخروجيّة مبغوض فعلا وإن سقط
عنها النهي لمكان الاضطرار ، وكما أنّ الأمر والنهي لا يجتمعان في محلّ واحد كذلك
الحبّ والبغض الفعليّان ؛ ضرورة كونهما متضادّين كالأمر والنهي.
قلت : اجتماع
البغض الذاتي مع الحبّ الفعلي ممّا لا ينكر ، ألا ترى أنّه لو غرقت بنتك أو زوجتك
ولم تقدر على إنقاذهما ترضى بأن ينقذهما الأجنبي وتريد هذا الفعل منه مع كمال
كراهتك إيّاه لذاته.
فإن قلت : الكراهة
في المثال الذي ذكرته ليست فعليّة بخلاف المقام ؛ فإنّ المفروض فعليّتها فلا تجتمع
مع الإرادة.
قلت : ليت شعري ما
المراد بكون الكراهة ذاتيّة في المثال وفعليّة في المقام ، فإن أراد أنّ الشخص
المفروض في المثال لا يشقّ عليه هذا الفعل الصادر من الأجنبي ، بل حاله حال الصورة
التي يصدر هذا الفعل من نفسه ، بخلاف المقام فإنّ الفعل يقع مبغوضا للآمر ،
فالوجدان شاهد على خلافه ولا أظنّ أحدا تخيّله ، وإن أراد به أنّ الفعل وإن كان
يقع في المثال مبغوضا ومكروها للشخص المفروض ، إلّا أنّ هذا البغض لا أثر له ،
بمعنى أنّه لا يحدث في نفس الشخص المفروض إرادة ترك الفعل المذكور ؛ لأنّ تركه
ينجرّ إلى هلاك النفس ومن هذه الجهة هذا البغض المفروض لا ينافي إرادة الفعل فهو
صحيح ، ولكنّه يجري بعينه في المقام ؛ فإنّ الحركة الخروجيّة وإن كانت مبغوضة حين
الوقوع ، ولكن هذا البغض لمّا لم يكن منشئا للأثر وموجبا لزجر الآمر عنها فلا
ينافي إرادة فعلها ؛ لكونه فعلا مقدّمة للواجب الفعلي.
ومحصّل ما ذكرنا
في المقام أنّ القائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي إنّما يقول بامتناع اجتماعهما
واجتماع ملاكيهما إذا كان كلّ واحد من الملاكين منشأ للأثر وموجبا لإحداث الإرادة
في النفس ، وأمّا إذا سقط جهة النهي عن الأثر كما هو المفروض فلا يعقل أن يتخيّل
أنّ الجهة الساقطة عن الأثر تزاحم الجهة الموجودة المؤثّرة في الآمر ، مثلا لو
فرضنا أنّ المولى نهى عبده عن مطلق الكون في المكان الفلاني فأوقع نفسه في ذلك
المكان بسوء اختياره ثمّ لم يمكنه الخروج من ذلك المكان أبدا ، فلا شكّ في أنّ
الأكوان الصادرة من العبد كلّها تقع مبغوضة للمولى ويستحقّ عليها العقاب وإن سقط
عنها النهي لعدم تمكن العبد من الترك فعلا.
ثمّ إنّه لو فرضنا
أنّ خياطة الثوب مطلوب للمولى من حيث هو فهل تجد من
نفسك أن تقول : لا
يمكن للمولى أن يأمره بخياطة الثوب في ذلك المكان لأنّ أنحاء التصرّفات والأكوان
المتحقّقة في ذلك المكان مبغوض للمولى ومنها الخياطة فلا يمكن أن يتعلّق إرادته
بما يبغضه؟ وهل ترضى أن تقول : إنّ المولى بعد عدم وصوله إلى الغرض الذي كان له في
ترك الكون في ذلك المكان يرفع يده من الغرض الآخر من دون وجود مزاحم أصلا؟ وهل
يرضى أحد أن يقول : إنّ في المثال لمذكور يكون أنحاء التصرّفات في نظر المولى على
حدّ سواء؟ وبالجملة : أظنّ أنّ هذا بمكان من الوضوح بحيث لا ينبغي أن يشتبه على
أحد وإن صدر خلافه عن بعض أساتيد العصر قدسسره فلا تغفل.
والحاصل أنّ جهة
النهي إنّما تزاحم جهة الأمر إذا أمكن المكلّف بعث المكلّف إلى ترك الفعل ، وأمّا
إذا لم يمكنه ذلك لكون الفعل صادرا قهرا عن غير اختيار المكلّف فلو وجدت فيه جهة
الأمر ولم يأمر به لزم رفع اليد عن مطلوبه وغرضه من دون جهة ومزاحم. هذا إذا
اخترنا أوّل شقّي الترديد وهو كون الخروج مقدّمة لترك الغصب الزائد.
وأمّا على ثانيهما
فعدم كون الخروج موردا للحكم الشرعي واضح ؛ لعدم كونه مقدّمة للواجب حتّى يصير
واجبا كما هو المفروض وعدم قدرة المكلّف على ترك الغصب بمقدار الخروج حتى يصير
حراما.
ولكن لو طبق تلك
الحركة الخروجيّة مع عبادة كما أن يصلّى في تلك الحالة نافلة بحيث لا يستلزم
عصيانا زائدا على مقدار المضطرّ إليه أو يصلّي المكتوبة كذلك في ضيق الوقت كانت
تلك العبادة صحيحة ؛ لما ذكرنا من الوجه وهو عدم قابليّة الجهة الغير المؤثّرة في
نفس المريد للمزاحمة مع الجهة المؤثّرة.
«فصل»
في جواز اجتماع
الأمر والنهي وعدمه ، وقبل الخوض ينبغي رسم امور :
الأوّل : أنّ محلّ
النزاع ما إذا اجتمع طبيعتان إحداهما مأمور بها والاخرى
منهي عنها في
موضوع واحد وإن كان هذا الموضوع كلّيا صادقا على الكثيرين كالصلاة في الدار
المغصوبة ، فيقع النزاع في أنّه لا بدّ من تقييد أحد الأمر والنهي فرارا من التالي
الفاسد الذي يلزم من ابقائهما وهو اجتماع الأمر والنهي الذين هما ضدّان في محلّ
واحد وهو الوجود الخارجي ، أو هما باقيان والتالي المذكور غير لازم ؛ لأنّ متعلّق
الأمر والنهي ليس هو الوجود الخارجي بل هو الطبيعتان وهما متغايرتان ، فالنزاع في
الحقيقة صغروي بمعنى أنّه بعد الاتفاق على أنّ الأمر والنهي ضدّان ـ والضدّان لا
يجتمعان في محلّ واحد فهما أيضا لا يجتمعان في محلّ واحد ـ وقع النزاع في أنّ بقاء
الأمر والنهي في الوجود الواحد الذي يكون مجمعا لعنوانين هل هو اجتماع لهما في
محلّ واحد أو ليس به ، والتقييد بالواحد يكون لإخراج ما إذا لم يتّحد الطبيعتان
وجودا وإن اتّحدا مفهوما كالسجود لله والسجود للصنم ، لا لإخراج الواحد الجنسي أو
النوعي كالصلاة في الدار المغصوبة.
الثاني : أنّ
المحقّق القمّي قدسسره جعل الفرق بين هذا النزاع والنزاع في النهي في العبادات
بأنّ موضوع هذا النزاع ما إذا كان بين الطبيعتين عموم من وجه كصل ولا تغصب ؛
وموضوع النزاع الآخر ما إذا كان بينهما عموم مطلق ك «صلّ ولا تصلّ في الحمّام».
وردّه صاحب الفصول
قدسسره وجعل الفرق بأنّه إن لم يؤخذ مفهوم إحدى الطبيعتين في
مفهوم الاخرى بل كان بين مفهوميهما التغاير الكلّى فهذا موضوع لهذا النزاع وإن كان
بينهما عموم مطلق كالأمر بالحركة والنهي عن التداني إلى موضع مخصوص.
وإن اخذ مفهوم
إحداهما في مفهوم الاخرى وكان التغاير بينهما بمجرّد الإطلاق والتقييد بأن تعلّق
الأمر بالمطلق والنهي بالمقيّد فهدا موضوع للنزاع الآتي.
وردّهما الشيخ
المرتضى قدسسره في التقريرات والمحقّق الخراساني في الكفاية بأنّ مجرّد
الاختلاف الموردي لا يوجب عقد مسألتين ، بل لا بدّ من اختلافهما في جهة البحث ،
فالجهة المبحوث عنها هنا هي أنّ تعدّد الوجه والعنوان في شيء واحد هل
يوجب تعدّد متعلّق
الأمر والنهي أولا؟ وهناك أنّ النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة هل يوجب الفساد
أولا؟ نعم لو قيل بالامتناع هنا وترجيح جانب النهي كان مثل الصلاة في الدار
المغصوبة موضوعا للنزاع الآتي.
وأنت خبير بأنّه
ليس غرض المحقّق القمّي وصاحب الفصول قدسسرهما بيان انحصار الفرق في المورد حتى يرد عليهما ما أورده
المحقّقان الجليلان قدسسرهما ، بل الغرض ـ بعد الفراغ عن تعدّد جهة البحث في المسألتين
وكونهما صنفين من الكلام غير مرتبطين ووضوح ذلك بحيث لا يحتاج إلى البيان ـ هو
التنبيه على أنّ كلّا من النزاعين غير جار في جميع الموارد بل في مورد خاص ، غاية
الأمر اختلفا في تعيين هذا المورد.
والحقّ أنّ
المعيار في تعيينه هو ما ذكره صاحب الفصول وأنّه إن لم يكن بين المفهومين تغاير
كلّي ، بل كان أحدهما مأخوذا في الآخر مع كون النسبة بينهما عموما مطلقا ، وبعبارة
اخرى كانت الطبيعتان عامّا وخاصّا مفهوميّا ومصداقيا فهما مجرى للنزاع الآتي ، ولا
مطرق لهذا النزاع فيهما ، وإن لم يجتمع هذان القيدان سواء وجد أحدهما أولا
فبالعكس.
والسرّ أنّ ملاك
كلام المجوّز على ما يأتي هو أنّ الاتّحاد في الوجود الخارجي لا يوجب وحدة متعلّقي
الأمر والنهي ، بل يكفي في تعدّدهما تعدّد المفهومين ؛ فإنّ مفروض الطلب عنده هو
الوجود الذهني التعقّلي ، فلا جرم يكفي عنده في تعدّد مورد الأمر والنهي التعدّد
المفهومي الذهني ، ولا يضرّ الاتّحاد الوجودي الخارجي ، وهذا لا يتمّ في المطلق
والمقيّد المفهومي والمصداقي.
وقد يقال بأنّه
كما أنّ طبيعتي الصلاة والغصب متعدّدان مفهوما فكذلك المطلق والمقيّد ؛ فإنّهما
أيضا مفهومان متمايزان في الذهن لكون كلّ منهما قسيما للآخر في الذهن ، فملاك جواز
الاجتماع أعني : التعدّد الذهني موجود فيهما.
وفيه : أنّهما وإن
كانا متمايزين ذهنا ، إلّا أنّ ما بسببه يتمايز المطلق عن المقيّد ويصير قسيما له
هو عدم دخل شيء وجودي أو عدمي ؛ فإنّ معنى التقييد دخل شيء
وجودا أو عدما ،
ومعنى الإطلاق عدم دخل شيء أصلا ، فمعنى محبوبيّة المطلق محبوبيّة أصل الطبيعة مع
عدم مدخليّة شيء آخر في المطلوب أصلا ، لا أن يكون عدم مدخليّة شيء آخر ضميمة
للمطلوب ؛ إذ لا معنى لذلك.
وبعبارة اخرى :
محبوبيّة وصف الإطلاق ليس إلّا محبوبيّة المقسم ولا شكّ في أنّ المقسم عين القسمين
في الذهن ، وحينئذ فلو تعلّق المبغوضيّة بالمقيّد لزم تعلّق الحبّ والبغض بشيء
واحد ذهني ؛ لاتّحاد المقيّد مع المقسم في الذهن.
وهذا بخلاف ما إذا
انتفى القيدان معا كالصلاة والغصب ؛ فإنّه لا إشكال في كونهما مفهومين متمايزين في
الذهن.
وكذا لو انتفى
أحدهما إمّا بكون النسبة عموما من وجه مع كون أحد المفهومين مأخوذا في الآخر
كالصلاة الجهريّة والصلاة في الحمّام ؛ فإنّ الصلاة المقيّدة بوصف الجهريّة بما هي
كذلك مغايرة في الذهن مع الصلاة المقيّدة بوصف كونها في الحمّام بما هي كذلك.
وبالجملة فحالهما
عند المجوّز حال السجود لله والسجود للصنم ، فكما أنّ الأخيرين شيئان في الخارج
أحدهما مأمور به والآخر منهي عنه وجامعهما وهو أصل السجدة خال عن الحبّ والبغض ،
فكذا حال الأوّلين في الذهن.
وإمّا بكون
التغاير الكلّي بين المفهومين مع كون النسبة عموما مطلقا كالحركة والتداني إلى
موضع مخصوص ، نعم يمكن فرض مبغوضيّة المقيّد بوجه لا ينافي محبوبيّة المطلق وذلك
بأن نفرض تعلّق المبغوضيّة بنفس الإضافة لا بالطبيعة المضافة ، فتكون الصلاة في
الحمّام محبوبة باعتبار أصل الصلاة ومبغوضة باعتبار إيقاعها في الحمّام مثل أن
يكون الماء في الآنية المخصوصة محبوبا باعتبار أصل الماء ومبغوضا باعتبار الكون في
هذه الآنية ، وهذا لا ضير فيه إلّا أنّه خارج عن محلّ الكلام ؛ إذ الكلام فيما إذا
كان النهي متعلّقا بالعبادة.
الثالث : لا وجه
لكون هذه المسألة فقهيّة ؛ فإنّ المسألة الفقهيّة ما يكون البحث فيه راجعا إلى
الحكم الشرعي من التكليفي أو الوضعي ، وموضوعه فعل المكلّف ، و
هذا المعنى وإن
كان موجودا في بعض مسائل الاصول كما في الاستصحاب بناء على حجيّته من باب التعبّد
والأخبار ، حيث إنّ البحث فيه راجع إلى أنّ إبقاء الحالة السابقة الذي هو فعل
المكلّف واجب شرعا أولا ، إلّا أنّه غير موجود في المقام ؛ فإنّ المتنازع فيه هنا
هو الإمكان والامتناع العقليّان لا الحكم الشرعي ، والموضوع هو الأمر والنهي لا
فعل المكلّف ، ومجرّد ترتّب صحّة العبادة وفسادها على نتيجة هذه المسألة لا يوجب
إلّا فقهيّة المترتّب لا المترتّب عليه.
نعم يكون هذه
المسألة اصوليّة وكلاميّة لتوجّه نظر الاصولي والمتكلّم إليها وحصول غرضيهما بها ،
أمّا الأوّل فلأنّ
معيار المسائل الاصوليّة هو القواعد الممهّدة من العقل أو الشرع التي بعد الفراغ
منها تكون نتيجتها مثمرة لاستكشاف حال المكلّف بالنسبة إلى الأحكام الأوّليّة
الواقعيّة أعني الثابتة في اللوح المحفوظ المتساوي فيها جميع المكلّفين من العالم
والجاهل.
إمّا بأن توصل
المكلّف إليها علما مثل قاعدة الحسن والقبح العقليين وثبوت الملازمة العقليّة بين
حكم العقل وحكم الشرع ؛ فإنّه إذا حكم العقل بحسن شيء نقطع بمقتضى الملازمة
العقليّة بوجوبه واقعا عند الشرع وكذا مسألة الضدّ.
وإمّا بأن يفيد
تنجّزها في حقّ المكلّف مثل قاعدة الاحتياط في الشكّ في أطراف العلم الإجمالي ،
فإنّه لإحراز الواقع والاجتناب عمّا هو الواجب الاجتناب واقعا ، فلو كان هذا
الواحد واجب الاجتناب واقعا يصحّ من الشارع المؤاخذة على ترك اجتنابه ، وكذا في
الشكّ البدوي قبل الفحص.
وإمّا بأن يفيد
إسقاطها عن المكلّف مثل قاعدة البراءة في الشكّ البدوي بعد الفحص؛ فإنّ التكليف
المنفي بها لو كان ثابتا واقعا يقبح من المولى المؤاخذة على مخالفته.
وإمّا بأن يفيد
تنجّزها تارة وإسقاطها اخرى مثل قاعدة الاستصحاب ؛ فإنّه لو اجري في ثبوت التكليف
وكان ثابتا واقعا كان منجّزا ، أو في نفي التكليف وكان في
الواقع ثابتا كان
مسقطا ، ومثل حجيّة خبر الواحد فإنّه لو قام على وجوب شيء كان واجبا واقعا كان
منجّزا ، ولو قام على جوازه كان مسقطا.
وليس معيار
الاصوليّة وقوع نتيجة المسألة كبرى لدليل الحكم الشرعي ؛ فإنّ قاعدة «كلّ ما يضمن
بصحيحه يضمن بفاسده» فقهيّة ومع ذلك يقع كبرى للدليل المذكور ، مثلا يقال : البيع
يضمن بصحيحه فكذا بفاسده بمقتضى كلّ ما يضمن بصحيحه إلخ ، فالفرق بين هذه القاعدة
وأمثالها من القواعد الفقهيّة وبين القواعد الاصوليّة أنّ الاولى لا يفيد لإثبات
حكم آخر ما وراء نفسها ، والثانية معطية قانونا للمكلّف بالنسبة إلى الأحكام
الواقعيّة الأوّليّة كما عرفت ، وبالجملة فمسألتنا هذه من القواعد العقليّة
الموصلة إلى الحكم الواقعي علما كما هو واضح فتكون اصوليّة.
وأمّا الثاني :
فلأنّ معيار الكلاميّة كون المسألة باحثه عن أحوال المبدا والمعاد والوسائط ،
والبحث في مسألتنا أيضا راجع إلى أنّه هل يقبح من الحكيم تعالى الأمر والنهي بشيء
واحد ذي وجهين بالاعتبارين أولا ، فيكون بحثا عن حال المبدا.
وأمّا جعل هذه
المسألة من المبادي في الاصول فلا وجه له من جهة إمكان أن يقال بكون كلّ ما ذكر في
الاصول من المطالب التي لم يتعرّض لها في علم آخر من المسائل لا المبادي ، ووجه
ذلك أنّه لا إشكال في أنّ وصول المكلّف إلى الحكم الشرعي بسبب الادلّة يتوقّف على
مقدّمات عديدة كتعلّم اللغة والصرف والنحو إلى غير ذلك ممّا له دخل ولو بعيدا في
فهم الحكم من الدليل ، فاللازم على الاصولي إدراج تمام ذلك في الاصول لاشتراك
الجميع في الدخل في غرضه من استكشاف حال المكلّف بالنسبة إلى الواقعيّات ، غاية
الأمر قد كفاه عن مئونة ذكر بعض ذلك بدويّته في علم آخر ، ولهذا بعض المطالب التي
لم ينقّح في الصرف أو النحو قد نقّح في هذا العلم مثل دلالة صيغة الأمر على الوجوب
، ومن هنا تبيّن أنّ جميع ما ذكر في الاصول من المطالب لا يخلو من الدخل في الغرض
المذكور فيكون بجملتها من المسائل ، نعم قد ذكر في أثنائها بعض المطالب تطفّلا.
الرابع : لا فرق
في جريان النزاع بين ثبوت الأمر والنهي بالدليل اللفظي وبين
ثبوتهما بالدليل
اللبّي وهذا واضح ، ثمّ إنّ محلّ النزاع هو ما إذا كان أحد العنوانين من حيث هو
مشتملا على مقتضى الوجوب من دون نقص ، والآخر من حيث هو مشتملا على مقتضى الحرمة
من دون نقص ، فيقع النزاع في أنّ هذين الحكمين الحيثيتين هل يمكن فعليتهما معا
أولا ، فالصلاة في الدار المغصوبة ليس حالها حال الصلاة بدون الطهارة حتى عند
المانع.
ألا ترى أنّ
الاولى صحيحة مع نسيان الغصب والجهل به ، والثانية باطلة مع نسيان الطهارة أيضا ،
ووجه ذلك أنّ المقتضي في الثانية ناقص ؛ لفقدها شرطا شرعيّا فلا يصحّ في حال من
الأحوال ، وفي الاولى تامّ والمانع من مقرّبيّتها مبعديّة العنوان المتّحد معها ،
فإذا زال مبعديّته بالنسيان أو الجهل كانت الصلاة مقرّبة.
وبالجملة فلا مانع
من الفعليّة من قبل نفس العنوان بما هي هي ، بل المانع لو كان فإنّما هو منع العقل
من اجتماع الفعليتين لمكان التضاد ، فإذا أثبتنا عدمه أيضا كان ترتّب الأثر أعني
الوجوب الفعلي والحرمة الفعليّة على المقتضيين حينئذ بطريق القهريّة ، فلا وجه
للقول بالجواز عقلا والامتناع عرفا ؛ إذ لا معنى لمحكّميّة العرف في هذا المطلب
القهري.
الخامس : لا إشكال
في عموم هذا النزاع للوجوب والحرمة الغيريين كالنفسيين وكذا المختلفين ؛ لأنّ
التضاد بين المحبوبيّة والمبغوضيّة غير مختص بصورة كون كليهما نفسيّا وهذا واضح ،
فلا مدخليّة لقيد النفسيّة فيما هو ملاك كلام المانع أصلا.
وأمّا التخييريّان
فيمكن منع جريان النزاع فيهما والقول بجواز اجتماعهما في الشيء الواحد بوجه واحد
فضلا عن الواحد بوجهين ، فالأوّل كما إذا قال المولى : أكرم إمّا زيدا وإمّا عمروا
ولا تكرم أحدهما ، وكما إذا قال : أكرم إمّا زيدا وإمّا عمروا ، لا تكرم إمّا
عمروا وإمّا بكرا ، فإنّ كلّ واحد من إكرام زيد وعمرو في المثال الأوّل وإكرام
عمرو في المثال الثاني طرف للوجوب التخييري وللحرمة التخييريّة ، وواضح أنّه بوجه
واحد ، والثاني إذا أمر بالصلاة والصوم تخييرا ونهى عن التصرّف في دار زيد
والتكلّم مع عمرو كذلك ؛ فإنّ الصلاة في هذه الدار لها حيثيّتان
بإحداهما طرف للوجوب
التخييري وبالاخرى للحرمة التخييريّة.
وسرّ عدم الجريان
مع مساعدة الوجدان أنّ ملاك كلام المانع وهو التضادّ موجود في التعيينيين غير
موجود في التخييريين ، فإنّ الأمر التعييني مقتض لوجود المتعلّق وطارد لعدمه ،
والنهي التعييني مقتض لعدمه طارد لوجوده.
وواضح أنّ هذين
المعنيين ينافيان ولا يجتمعان ، وهذا بخلاف التخييريين ؛ فإنّ الأمر التخييري ليس
مقتضيا لوجود هذا الفرد الخاص طاردا لعدمه ، لجواز عدمه مع البدل ، وكذا النهي
التخييري ليس مقتضيا لعدم هذا الخاص وطاردا لوجوده لجواز وجوده ؛ مع البدل.
نعم الأوّل مقتض بالنسبة
إلى وجود أحد الفردين وطارد لعدم كليهما ، والثاني مقتض لعدم أحدهما وطارد لوجود
كليهما ، وبعبارة اخرى مقتضى الأوّل عدم ترك كليهما ومقتضي الثاني عدم الجمع
بينهما ، وهذان يجتمعان ولا يتنافيان.
وقد يستشكل فيما
إذا اشترك الأمر التخييري والنهي التخييري في فرد واختصّ كلّ منهما بفرد كالمثال
الثاني بأنّ الأمر التخييري له إطلاق بالنسبة إلى وجود الفرد الثالث الذي اختص به
النهي التخييري وعدمه بمعنى ثبوته في كلتا الحالتين ، والحال أنّه في صورة وجود
هذا الثالث يتعيّن الحرمة في الفرد المشترك تعيّنا عرضيّا ، وحينئذ يمتنع كونه
محلا للوجوب التخييري ؛ إذ معنى الأوّل المنع من الفعل مطلقا ومعنى الثاني الترخيص
فيه مع البدل.
وكذا النهي
التخييري له إطلاق بالنسبة إلى وجود الفرد الثالث الذي اختصّ به الأمر التخييري
وعدمه بمعنى ثبوته في كلا الحالين ، والحال أنّه في صورة عدم هذا الفرد يتعيّن
الوجوب في الفرد المشترك ، ومع ذلك يمتنع كونه محلا للحرمة التخييريّة ؛ إذ معنى
الأوّل المنع من الترك مطلقا ، ومعنى الثاني الترخيص فيه مع البدل.
ووجه عدم جريان
هذا الإشكال فيما إذا اشترك الأمر والنهي التخيريّان في كلا الفردين كالمثال
الأوّل لزوم كون متعلّقات الأوامر والنواهي معرّاتا عن الوجود والعدم إطلاقا
وتقييدا.
والجواب أنّ
امتناع الإطلاق مشترك بين الصورتين ، فكما أنّه ممتنع في الصورة الثانية لما ذكر ،
فكذا في الصورة الاولى ، ووجهه أنّ من المسلّم عدم إمكان الإطلاق عند عدم إمكان
التقييد ، والتقييد في هذه الصورة ممتنع ؛ لأنّه لو قيّد الأمر التخييري بصورة عدم
الفرد الثالث والنهي التخييري بصورة وجود الثالث الآخر لزم تقييد كلّ من الأمر
والنهي بصورة انتفائه وسقوطه ، مثلا لو قيّد الأمر بإكرام زيد أو عمرو بصورة عدم
إكرام بكر ، وكذا النهي عن إكرام عمرو أو بكر بصورة وجود إكرام زيد ، لزم أن
يتوجّه في حال وجود إكرام زيد وعدم إكرام بكر أمر تخييري ونهي تخييري والحال أنّه
في هذا الحال ليس في البين أمر تخييري ولا نهي تخييري كما هو واضح ، فلا بدّ من
أخذ متعلّق هذا الأمر وهذا النهي مهملة بالنسبة إلى وجود الثالث وعدمه وعدم أخذ
وجوده ولا عدمه فيه لا إطلاقا ولا تقييدا ، وبذلك يرتفع الإشكال.
السادس : قد
استشكل في الكفاية على من اعتبر في العنوان قيد المندوحة بأنّ الكلام في المقام في
وجود المانع وعدمه من جهة اجتماع الضدّين مع قطع النظر عن وجوده وعدمه من الجهات
الأخر ، فقيد المندوحة لا ربط له بالمقام ؛ إذ مرجع الكلام في المقام إلى استحالة
نفس التكليف وفائدة هذا القيد رفع الاستحالة من متعلّقه.
أقول : لو جعل
مصبّ النزاع أنّه هل يكفي تعدّد متعلّقي الأمر والنهي بالوجه والعنوان في رفع
محذور اجتماعهما في محلّ واحد ، أو لا بدّ في رفعه من تعدّدهما بالوجود الخارجي
كان ما ذكره قدسسره حقّا ، وأمّا لو جعل مصبّه أنّه هل يجوز اجتماع الأمر
والنهي وورودهما في الوجود الواحد بوجهين أو لا يجوز وجعل كفاية تعدّد الوجه علّة
للجواز ، ولزوم تعدّد الوجود علّة لعدمه كما هو الواقع فلا ريب في أنّه لا بدّ من
أن يكون طرح النزاع بهذا الوجه في مورد عدم وجود المانع المسلّم المانعيّة عند
الطرفين في البين ؛ لوضوح عدم الوجه لطرحه في مورد ثبوت هذا المانع.
ثمّ هو منحصر في
عدم ثبوت المندوحة ، وذلك لأنّ المفروض عدم المانع من غير جهة اجتماع الأمر والنهي
، يعني محلّ الكلام ما إذا كان المقتضي في نفس
العنوانين تامّا
والمانع المتصوّر من جهة اجتماعهما إمّا لزوم اجتماع الضدّين أو النقيضين أو
التكليف بما لا يطاق ، فعدم الجواز في مورد عدم ثبوت المندوحة من قبل العنوان
المأمور به مسلّم لا نزاع فيه ، للزوم التكليف بما لا يطاق على تقدير الاجتماع ،
وفي مورد ثبوتها يكون محلا للخلاف والنزاع على حسب الرأيين في لزوم اجتماع الضدّين
على تقدير الاجتماع وعدمه.
السابع : ربّما
يتوهّم ابتناء هذا النزاع على النزاع في تعلّق الطلب بالطبيعة أو بالفرد تارة
بأنّه لو قلنا هناك بالتعلّق بالفرد تعيّن هنا القول بالامتناع ، ولو قلنا هناك
بالتعلّق بالطّبيعة يمكن هنا القول بالجواز لتعدّد الطبائع ، وبالامتناع لسراية
حكم الطبيعة إلى الفرد ، واخرى بأنّ كلّ واحد من القولين هنا يبتني على واحد من
القولين هناك ، فالجواز على التعلّق بالطبيعة ، والامتناع على التعلّق بالفرد.
والحقّ خطاء كلا
التوهّمين ، وتوضيحه يحتاج إلى بيان مراد القائلين هناك فنقول : لا شكّ في أنّ قيد
الوجود والعدم كما أنّه يكون ملغى في الطبيعة كذلك يكون ملغى في الفرد ؛ ولهذا
قولنا : زيد موجود ليس ببديهيّة ، وقولنا : زيد معدوم ليس بتناقض ، فكلّ من
الطبيعة والفرد على هذا يمكن لحاظه عاريا عن الوجود والعدم ، ويمكن لحاظه باعتبار
الوجود.
وحينئذ نقول : لو
كان مراد القائلين هناك بالطبيعة والفرد هما باللحاظ الأوّل فكلاهما خطاء ؛ إذ هما
بهذا اللحاظ ليسا إلّا نفسهما ، فلا يقعان متعلّقين للطلب ولا لغيره من الأعراض.
ولو كان المراد
هما باللحاظ الثاني فيكون مرجع النزاع إلى أنّ الوجود الذي لا بدّ من اعتباره في
متعلّق الطلب هل هو صرف الوجود الذي لا يضاف إلّا إلى الطبيعة ، أو لا بدّ وأن
يكون هو الوجودات الخاصّة المضافة إلى الأفراد ، والعناوين المأخوذة في الأدلّة اللفظيّة
إنّما احدث باعتبار الحكاية عنها لا باعتبار نفسها.
فحينئذ على تقدير
القول هناك بالتعلّق بالطبيعة كما يمكن القول هنا بالجواز ، كما هو واضح ، كذلك
يمكن القول بالامتناع ، وذلك بأن يقال : إنّ الطلب وإن كان أوّلا
وبالذات متعلّقا
بالطبيعة إلّا أنّه بالأخرة يسري إلى الفرد ؛ لمكان الاتّحاد بينهما خارجا ، فيكون
المحلّ واحدا نظير الحرارة ، فإنّ موضوعها ليس إلّا مطلق النار من دون مدخل
للخصوصيات فيه ، ومع ذلك يسري منها إلى أفرادها ، ولهذا صحّ أن يقال : إنّ هذه
النار حارّة.
وكذا على تقدير
القول هناك بالتعلّق بالفرد كما يمكن هنا القول بالامتناع كما هو واضح كذلك يمكن
القول بالجواز ، وذلك لإمكان تعرية الفرد عن بعض الخصوصيّات المتخصّص هو بها مع
عدم خروجه بذلك عن فرديته ، مثلا قد يشار في الذهن إلى الزيد بلحاظ أنّه زيد مع
قطع النظر عن كونه ابن عمرو ، وقد يشار إليه بلحاظ أنّه ابن عمرو مع قطع النظر عن
كونه زيدا ، وهو في كلا اللحاظين فرد ، وكذا الحال فيما نحن فيه ، فالحركة الخاصّة
في الدار المغصوبة قد يلحظ بعنوان هذا الغصب مع قطع النظر عن حيث صلاتيّته وقد
يلحظ بعنوان هذه الصلاة مع قطع النظر عن جهة غصبيّته ، ولا شكّ في أنّ هذين
اللحاظين متغايران في الذهن ، والفرديّة في كليهما مع ذلك محفوظة.
الثامن : قد مرّ
أنّ محلّ الكلام ما إذا كان ملاك المحبوبيّة في أحد العنوانين تماما بلا نقص وكذلك
ملاك المبغوضيّة في الآخر ، أمّا غير هذه الصورة فليس محلا لهذا النزاع ، هذا بحسب
مقام الثبوت.
أمّا بحسب مقام
الإثبات فنقول : لو كان الروايتان متعرضتين للحكم الحيثيّتي ، فإن علم أحمالا بأنّ
أحد الملاكين ليس بموجود في مورد التصادق كما لو علم بعد ورود أكرم العلماء ولا
تكرم الفسّاق بانتفاء أحد ملاكي الوجوب والحرمة في العالم الفاسق كان من باب
التكاذب والتعارض بين الروايتين فلا بدّ من العمل في مورد التصادق بأظهرهما دلالة
لو كان، وإلّا فمقتضى الاصول ، وليس من باب الاجتماع كما مرّ وهذا واضح.
وأمّا لو علم
بوجود جميع الملاكين في مورد التصادق فعدم ملاحظة الأظهريّة والظاهريّة بين
الروايتين ممّا لا كلام فيه ، لعدم التعارض بينهما حتّى على القول
بالامتناع ،
وإنّما الكلام في أنّ حكم العقل في مورد التصادق حينئذ على القول بالامتناع ما ذا؟
والحقّ أنّه مختلف
بحسب الموارد ، ففي مورد ثبوت المندوحة في أحد الملاكين بمعنى إمكان إحرازه في غير
مورد التصادق يكون حكم العقل تقييد هذا الأحد بغير مورد التصادق وترجيح الآخر فيه
وإن كان الأوّل أقوى وأهمّ بمراتب من الثاني ، ولا يوجب أقوائيته ترجيحه وطرح
الآخر ؛ إذ لا وجه لرفع اليد عن أحد الغرضين ولو كان في غاية الضعف لأجل الآخر ولو
كان في غاية القوّة بعد إمكان إحرازهما جميعا.
مثلا لو فرضنا أنّ
المطلوبيّة في الصلاة متعلّقة بصرف الوجود المتساوي فيه جميع الأمكنة من دون
مدخليّة لخصوصيّة مكان فيها ، ولكنّ المبغوضيّة في الغصب مستوعبة لجميع الخصوصيّات
والأفراد وقلنا بامتناع الاجتماع ، فاللازم بحكم العقل هو الحكم من الابتداء
باختصاص المطلوبيّة بما سوى الصلاة الواقعة في الدار المغصوبة وكونها مبغوضة لو
تمكّن المكلّف من المكان المباح من دون حاجة إلى موازنة مصلحتها مع مفسدة الغصب.
ولهذا لو كان
المقدّمة الغير المنحصرة للواجب حراما لم يقتض وجوب الواجب إلّا وجوب ما سواها من
المقدّمات المباحة ، وفي مورد عدم ثبوت المندوحة من أحد الجانبين ، بمعنى عدم
إمكان الجمع بين الغرضين بإحراز أحدهما في غير مورد التصادق ودوران الأمر بين
إحراز هذا أو ذاك يكون حكم العقل ملاحظة مرجّحات باب المزاحمة وترجيح أقوى
المتزاحمين.
ومن هنا ظهر حكم
ما إذا تكفّل الروايتان للحكم العقلي وعلم وجود الملاكين في مورد التصادق فإنّ حكم
العقل في هذه الصورة أيضا هو التفصيل المذكور بعينه ، والفرق بينها وبين الصورة
السابقة هو أنّ التعارض هناك منتف على القولين كما عرفت ، وهنا منتف على القول
بالجواز وثابت على القول بالامتناع ، وعلامته ما ذكر من التفصيل لا ملاحظة
الأظهريّة والظاهريّة بين الروايتين ، ففي صورة ثبوت
المندوحة ترجيح
غير ذي المندوحة وإن كان ذوها أقوى ودليله أظهر ، وفي صورة عدمها ترجيح اقوى
الملاكين وإن كان دليل غيره أظهر.
وممّا ذكرنا ظهر
أنّ ما في الكفاية من الحكم بالرجوع إلى مرجّحات باب المزاحمة وترجيح أقوى
المناطين عند إحراز الاقتضاء من كليهما في المجمع بناء على القول بالامتناع غير
صحيح بإطلاقه ، والصحيح هو التفصيل بين صورتي ثبوت المندوحة وعدمها والحكم في
الاولى بتقييد ذي المندوحة وفي الثانية بما ذكره سيّما مع كون محلّ الكلام في هذا
المبحث هو صورة ثبوتها.
التاسع : لا إشكال
في حصول الإجزاء والامتثال في التوصليّات بإتيان المجمع حتّى على القول بالامتناع
، لفرض حصول الملاك والمقتضي فيه ، وأمّا التعبّديات فكذا الكلام فيها على القول
بالجواز ، بمعنى أنّ الآتي بالمجمع صدر منه إطاعة ومعصية ، وأمّا على القول
بالامتناع فلا إشكال في عدم حصول الإجزاء والامتثال لو كان الفاعل عالما بموضوع
الحرام وحكمه ؛ لوضوح عدم إمكان مقربيّة الوجود المبعّد ، وكذا لو كان جاهلا
بالحكم عن تقصير أو ناسيا بمقدّمة اختياريّة أو شاكّا فيه قبل الفحص ، هذا على
المختار على تقدير الامتناع من تقييد جانب الأمر وترجيح جانب النهي ، وأمّا على ما
اختاره صاحب الكفاية من ترجيح أقوى المناطين فمع ترجيح جانب النهي يكون الحال كما
على المختار ، ومع ترجيح جانب الأمر يحصل الإطاعة بدون المعصية في جميع الأقسام.
بقي الكلام فيما
إذا كان الفاعل معذورا سواء كان جاهلا بالموضوع أو بالحكم عن قصور ، أو ناسيا له
بمقدّمة غير اختياريّة ، أو شاكا فيه بعد الفحص.
فنقول : يمكن
القول بصحّة العبادة وإجزائها في هذا الفرض على القول بالامتناع أيضا ، بحيث لو
تبيّن الخلاف بعد العمل مثل ما إذا تبيّن بعد الصلاة كونها واقعة في الدار
المغصوبة لم يجب الإعادة ولا القضاء ، وإتمام هذه الدعوى يكون بأحد من ثلاثة وجوه
:
الأوّل : أنّه لا
يعتبر في العبادة وجود الامر ولا قصده ولا داعيه ، وإنّما المعتبر
فيها كون العمل
بوجه يكون مقرّبا لفاعله ، وحينئذ فنقول : لا إشكال في وجود الجهة المحسّنة في
المجمع بالفرض ، والجهة المقبحة وإن كانت موجودة فيه أيضا إلّا أنّها لا تؤثّر في
الفاعل شيئا ، بمعنى أنّها لا تبعّده عن ساحة المولى ولا توجب انحطاط رتبته عنده ؛
لعدم تنجيزها بواسطة عدم المعلوميّة ، فحينئذ يجب عقلا فيما إذا قصد الفاعل
العنوان العبادي المتّحد معها بداعي الجهة المحسّنة الموجودة فيه كالصلاتيّة أن
يكون هذا العنوان مقرّبا له.
والحاصل أنّ النهي
والتحريم وإن كان موجودا فعلا واقعا والأمر قد زال بمزاحمته ، إلّا أنّ هذا
التحريم قد انسلخ عنه الأثر وهو التعبّد واستحقاق العقوبة مع أىّ عنوان اتّحد
متعلّقة ، فلو كان العنوان المتّحد مع متعلّقه عباديّا فلا مانع من أن يؤثّر أثره
من القرب وإن كان يزول تأثيره بالمزاحمة عند تأثير جهة التحريم.
الثاني : تصحيح
الأمر في حقّ المعذور ، بدعوى أنّ الحكم الظاهري يمكن اجتماعه مع الحكم الواقعي
وإن قلنا بعدم إمكان اجتماع الحكمين المتضادّين في عرض واحد ، فالخمر يمكن أن يكون
حراما في الواقع وحلالا في الظاهر ؛ وذلك لما قرّر في محلّه من عدم استحالة جعل
الحكمين المتضادّين في موضوع واحد إذا كان أحدهما في طول الآخر ؛ فإنّ الحكم
الظاهري مجعول في موضوع الشاك في الواقع ، فهو متأخّر رتبة عن الشكّ في الواقع ،
والشكّ فيه متأخّر رتبة عن نفس الواقع ، إلى آخر ما بيّن في محلّه.
وحينئذ نقول :
يمكن بناء على هذا جعل الحكم الترخيصي في موضوع الشاك في الغصب موضوعا أو حكما من
دون منافاته للحرمة الواقعيّة ؛ فإذا أمكن ذلك أمكن جعل الحكم الوجوبي في هذا
الموضوع أيضا ، وضدّيته للحرمة لا يوجب الفرق ؛ فإنّ الترخيص أيضا ضدّ لها ؛ لوضوح
تحقّق التضاد بين الأحكام الخمسة بأسرها ، فهذا الوجوب وإن كان كالحكم الظاهري
مجعولا في حقّ الشاكّ في الواقع ، إلّا أنّه يفيد أثر الحكم الواقعي أعني : أنّ
موافقته موجبة لسقوط الإعادة والقضاء عن المكلّف ولو مع تبيّن الخلاف والحرمة ،
ووجه ذلك وجود ملاك المحبوبيّة واقعا في المأتيّ به
بالفرض ، فتبيّن
الخلاف فيه غير متصوّر وكذا في الأمر ؛ فإنّه وإن كان متعلّقا بموضوع الشاكّ إلّا
أنّه حكم واقعي في حقّه ، والعلم بالواقع موجب الانتفاء موضوعه لا كاشف عن عدم
مجعوليّته في حقّ الشاكّ واقعا.
وبالجملة ، فتبيّن
الخلاف غير متصوّر بالنسبة إلى عنوان الصلاة ، نعم هو متصوّر بالنسبة إلى عنوان
الغصب حيث يتبيّن كونه حراما واقعا ، ومن هنا ظهر وجه الفرق بين هذه الصلاة
والصلاة باستصحاب الطهارة بأنّ تبيّن الخلاف فيها ممكن بالنسبة إلى الملاك ، حيث
إنّ ملاك المحبوبيّة غير موجود في الصلاة بدون الطهارة وإن كان لا يمكن بالنسبة
إلى الآخر كما هنا.
الثالث : تصحيح [الأمر]
بضدّ الامتثال في حقّ المعذور بدعوى إمكان داعويّة الأمر المتعلّق بموضوع إلى
موضوع آخر مثله ، كما يمكن داعوية الأمر المتوجّه من المولى إلى عبده لغيره بغرض
دفع العقوبة عنه ؛ فإنّ العنوان المأمور به المتّحد مع العنوان المنهيّ عنه حاله
حاله عند عدم الاجتماع بلا فرق ، غاية الأمر وجود المانع العقلي من الأمر به عند
الاجتماع ، ولهذا لو كان الأمر توصليّا كان الإتيان بالمجمع مجزيا بلا كلام ، كما
لو قال : خط لي هذا الثوب فخاطه في المكان المغصوب.
وبالجملة ، وجه
داعويّة الأمر إلى متعلّقه ليس إلّا كونه مسقطا للأمر فإذا فرض كون موضوع آخر
محصّلا لغرض المولى يكون مسقطا للأمر أيضا ؛ إذ لا وجه لبقاء الأمر مع سقوط الغرض
، نعم قصد العبد أعني قصد الأمر المتعلّق بسائر الأفراد لا يتمشّي إلّا في حقّ
العالم بالحرمة ، وأمّا الجاهل فالمتمشي في حقّه قصد الأمر المتعلّق بالطبيعة ،
غاية الأمر أنّه يخيّل سرايته إلى هذا الفرد فتبيّن خطائه.
العاشر : ربما
يتوهّم تارة ابتناء هذا النزاع على النزاع الواقع في المعقول في أصالة الماهيّة أو
الوجود ، بمعنى أنّه لو قيل هناك بأصالة الماهيّة فلا بدّ هنا من الالتزام بالجواز
لتعدّد الماهيّات ، ولو قيل هناك بأصالة الوجود فلا بدّ هنا من الالتزام بالامتناع
لوحدة الوجود ، وذلك لأنّ الأصيل هو المنشأ للآثار ، فلا بدّ أن يكون هو المتعلّق
للطلب.
واخرى ابتنائه على
النزاع في تعدّد الجنس والفصل ووحدتهما والأوّل ملازم للجواز والثاني للامتناع.
والحقّ خطاء كلا
التوهّمين
أمّا الأوّل
فلأنّه لا ريب في أنّ الشيء الواحد كما لا يعقل أن يكون له أزيد من وجود واحد كذلك
لا يعقل أن يكون له أزيد من ماهيّة واحدة ؛ فإنّ الماهيّة عبارة عن المقول في جواب
ما هو الذي هو سؤال عن حقيقة الشيء ونوعه ، ومن الواضح أنّه لا يمكن أن يكون للشيء
الواحد إلّا نوع واحد.
نعم يصحّ حمل
العناوين المتعدّدة على موضوع واحد إلّا أنّه لا يمكن أن يكون كلّها ماهيّات له ،
بل لا بدّ من كون كلّها أو ما سوى الواحد منها عرضيّات.
وأمّا الثاني
فلأنّ العنوانين المجتمعين في موضوع واحد لا دخل لهما بالجنس والفصل ، مثلا الحركة
الخاصّة في الدار المغصوبة بأيّ كيفيّة تكيّفت وفي أيّ مكان تحقّقت لها جنس وفصل ،
وعنوان الصلاة عرضي قد انتزع من كيفيّاتها الخاصّة مع قصد القربة ، وكذا عنوان
الغصب عرضي قد انتزع من اضافتها إلى دار الغير.
إذا عرفت ذلك
فلنشرع في برهان كلّ من القولين ، فنقول وعلى الله التوكّل : أقوى ما احتجّ به
للقول بالجواز هو أنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، لا نزاع في وجود المقتضي لما
عرفت من أنّ محلّ الكلام ما إذا كان ملاك كلّ من الأمر والنهي موجودا في مورد
التصادق ، إنّما النزاع في وجود المانع وهو لزوم اجتماع الضدّين من الأمر والنهي
ومباديهما من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة في شيء واحد وهو الوجود الخارجي وعدمه
، والحقّ عدمه.
وبيانه يحتاج إلى
مقدّمة وهي : أنّ الأعراض على ما ذكره أهل المعقول منحصرة في ثلاثة أقسام :
الأوّل : ما يكون
عروضه واتصافه في الخارج كحرارة النار وبرودة الماء.
والثاني : ما يكون
عروضه في الذهن واتّصافه في الخارج ، والمراد بكون العروض في الذهن عدم وجود ما
يكون بحذائه في الخارج كالابوّة والبنوّة والفوقيّة
والتحتيّة ؛
فإنّها امور انتزاعيّة متعلّقة في الذهن وليس شيء في الخارج يكون بحذائها ، ولكنّ
المتّصف بها هي الذوات الخارجيّة بخلاف الحرارة ونظائرها ؛ فإنّ ما يكون بحذائها
موجود في الخارج والمتّصف بها أيضا هو الذوات الخارجيّة ، والعرضي المتّحد من
القسم الأوّل كالضارب يحمل على الذات بحمل ذو هو ، فمعنى زيد ضارب زيد ذو الضرب ،
والعرضي المتّحد من القسم الثاني كالأب تسمّى بالخارج المحمول.
والثالث ما يكون
عروضه واتصافه في الذهن كالكليّة ؛ فإنّها أمر يتعقّل في الذهن ومعروضه الطبائع
الجامعة المتعلّقة في الذهن أيضا لا الأمر الخارجي ؛ فإنّ الخارجي لا يكون إلّا
جزئيّا.
إذا تمهّد هذا
فنقول : لا إشكال في كون الإرادة والطلب من الأعراض ، ولا في عدم كونه من القسم
الأوّل ؛ لأنّ وجود هذا القسم في الخارج فرع وجود المعروض فيكون متأخّرا عنه رتبة
، ولا يعقل في الطلب أن يكون وجوده متأخرا في الرتبة عن المعروض ، للزوم طلب
الحاصل والزجر عنه وكلاهما محال ، ولا في عدم كونه من القسم الثاني ؛ إذ يعتبر في
الاتّصاف الخارجي لشيء بشيء عدم مناقضة الشيء الأوّل لوجود الشيء الثاني ، وعدم
كونه علّة لعدمه ؛ إذ لا يعقل اتصاف الشيء بما هو علّة لعدمه ، ولا شكّ في أنّ
وجود موردي الأمر والنهي معدم لهما ، فتعيّن كونه من القسم الثالث فيكون حال الطلب
[حال] وصف الكليّة ، فكما أنّ وصف الكليّة يعرض على الطبائع في الذهن فكذا الطلب
أيضا يعرض عليها في الذهن ، لكنّ الطبيعة من حيث هي لمّا لم يكن إلّا هي فلا بدّ
من لحاظ الوجود معها أيضا ، فيكون متعلّق الأمر طبيعة الصلاة باعتبار الوجود مثلا
، ومتعلّق النهي طبيعته الغصب بهذا الاعتبار ، ولا شكّ في أنّهما شيئان متمايزان
في الذهن وإن اتّحدا في الوجود الخارجي.
فإن قلت : على ما
قرّرت من أنّ متعلّق الطلب هو الطبيعة المقيّدة بالوجود الذهني فالمراد بالوجود
الذهني الذي هو القيد المقوّم ما ذا؟ لا يعقل أن يكون المراد ذهن الآمر ، وأمّا
ذهن المأمور فلازمه كفاية التصوّر في مقام الامتثال وعدم لزوم
الإتيان الخارجي.
قلت : الجواب
أوّلا : بالنقض بالكلّي الطبيعي فنقول : قد يلحظ الطبيعة في الذهن معرّاتا عن
الوجود والعدم فيقال بأنّها ليس إلّا هي ، وقد يلحظ بلحاظ الوجود فيحكم بأنّها
كلّي ، فالمراد بالطبيعة التي يحكم عليها بالكليّة ما ذا؟ لا يعقل أن يكون المراد
الطبيعة بوجودها الخارجي ؛ إذا الخارجي ليس إلّا جزئيا ، ولا هي بوجودها الذهني ،
إذ الوجود الذهني أيضا جزئيّ من الجزئيّات ومباين للخارجيّات فلا ينطبق عليها ،
ولا هي معرّاتا عن الوجودين ؛ فإنّها حينئذ لا يكون جزئيا ولا كليّا.
وثانيا : بالحل
وهو مشترك بين المقامين وهو : أنّ الوجود الذهني تارة يعتبر بالمعنى الاسمي وهذا واضح
، واخرى بالمعنى الحرفي أي بأن يكون آلة لرؤية الخارج ؛ فإنّ الذهن صفحة يرى بها
الخارج ويحكي عنه ، فالناظر بهذا النظر كأنّه يرى الخارج بنفسه ، فالوجود الذي
يوجد قيدا للطبيعة في كلا المقامين أي مقام عروض الكليّة ومقام تعلّق الطلب هو
الوجود الذهني الملحوظ باللحاظ الحاكي ، فوجود الإنسان الملحوظ باللحاظ الحاكي
يحكم بأنّه موجود في زيد وعمرو وبكر ، وهذا معنى كليّته وإن كان لو لوحظ بما هو
موجود في الذهن كان جزئيّا وباين الخارج ، بل الملحوظ للاحظ آخر ، بل لهذا اللاحظ
بلحاظ آخر.
وكذلك وجود الصلاة
الملحوظ في الذهن باللحاظ المرآتي متعلّق للطلب لا بما هو ملحوظ في الذهن ، وحينئذ
فلا جرم لا يحصل امتثاله إلّا بالعمل الخارجي ؛ إذ ملحوظ الآمر بهذا اللحاظ لا
ينطبق إلّا عليه ، وعرض هذه الطبيعة وهو المطلوبيّة لا يسري إلى الفرد كما هو
الحال في وصف الكليّة.
فإن قلت : إذا كان
متعلّق الطلب وجود الطبيعة الملحوظ باللحاظ الحاكي يجب أن يسري المطلوبيّة منها
إلى الفرد لمكان العينيّة ؛ فإنّ اللاحظ بهذا اللحاظ يرى الطبيعة عين الأفراد في
الخارج.
قلت : الأجزاء
التحليليّة المتجزّاة عند العقل التي يحكم باتّحاد بعضها مع بعض في الخارج كما في
كلّ واحد ، وهي خصوصيات يجزّئ العقل خصوصياته ويحكم
باتّحادها في
الخارج لا يمكن الحكم بعينيّة بعضها مع بعض إلّا بعد فرض التغاير ، فإنّه لا يعقل
الحكم بأنّ هذا عين ذاك إلّا بعد فرض وجود هذا وذاك في البين ، فلا بدّ في مقام
الحمل من نظرين طوليين ، تفصيلي واجمالي ، وذلك بأن ينظر الطرفين أوّلا اثنين ،
ثمّ ينظرهما واحدا في الخارج فيحكم باتحادهما فيه.
وحينئذ فما يعرض
على أحد الطرفين في النظرة الاولى أي النظر التفصيلي التحليلي لا يسري إلى الآخر ؛
لمكان التغاير والبينونة بينهما في هذا النظر ، وذلك مثل وصفي الموضوعيّة
والمحموليّة اللاحقين لذاتي الموضوع والمحمول عند ملاحظة كلا منهما منفردا ومنفصلا
عن الآخر مقدّمة للحمل والحكم بالاتحاد.
ومثل الجنسيّة
والفصليّة العارضين لذاتي الجنس والفصل عند تحليل العقل الشيء الخارجي بحسب
الحقيقة بجزءين قبل الحكم باتّحادهما.
ومثل وصف الكليّة
العارضة على صرف الوجود المضاف إلى أصل الطبيعة في مقام تجزئة العقل بين الجهة
الجامعة بين الأفراد وبين الخصوصيّات المتميّزة لها قبل الحكم بالاتّحاد.
ومثل وصف الكثرة
في قولنا : الماء في الدنيا كثير اللاحق بصرف وجود الماء في لحاظ التجريد لا لأصل
الطبيعة ولا للأفراد.
وحينئذ فنقول : لا
إشكال في أنّ الطالب يحلّل في ذهنه الأجزاء التي لها دخل في غرضه عن الأجزاء الآخر
ويعلّق طلبه بماله الدخل في غرضه دون غيره ، فيكون صرف الوجود بالنسبة إلى
الخصوصيّات التي لا دخل لها في الغرض معروضا للطلب في عالم تخليته عن تلك
الخصوصيّات ، فلهذا لا يسري الطلب منه إلى الأفراد.
وممّا ذكرنا يتّضح
وجه الحكم في مسألة فرعيّة وهي أنّ بيع الصاع من الحنطة مثلا يتصوّر على وجهين ،
الأوّل : أن يبيع الكلّي في الذمّة ، ولازمه كون التلف من البائع قبل التعيّن ،
والثاني : أن يبيع صاعا من الصبرة المشاهدة وهو يتصوّر على ثلاثة وجوه :
الأوّل : أن يكون
على وجه النكرة بأن يكون المبيع إحدى الصيعان المشتمل
عليها الصبرة
ولازمه كون التالف مردّدا بين كونه من مال البائع أو المشتري ؛ فإنّ إحدى الصيعان
التي هي المبيع كما يحتمل تطبيقه على الموجود كذلك يحتمل تطبيقه على التالف
وادّعوا الإجماع على بطلان هذا القسم.
والثاني : أن يكون
على وجه الإشاعة ولازمه كون التلف بينهما بالنسبة.
والثالث : أن يكون
على وجه الكلّي في الخارج ، ولازمه كون التلف من مال البائع ما بقي من الصبرة
مقدار صاع ؛ فإنّ وجه هذا الأخير أنّ البائع قد باع الصاع الكلّي من المشتري ،
غاية الأمر مقيّدا بوجوده في الخارج وهو مع هذا القيد وإن كان ملازما للاتّحاد مع
خصوصيّة من الخصوصيّات ، إلّا أنّه في عالم تجريده عن الخصوصيّات وقع متعلّقا
للملكيّة ، فلا تسري منه الملكيّة إلى الخصوصيّات بل هي باقية على ملك البائع ،
ولهذا يكون تلفها من ماله ما بقي منها خصوصيّته واحدة ؛ فإنّ تلف الكلّي إنّما
يكون بتلف تمام خصوصيّاته ولا يصدق بتلف بعضها.
فإن قلت : إنّ
المفاهيم المتعقّلة لا واقعيّة لها بل هي صرف إدراكات للعقل ، وإنّما الواقعيّة
للموجود الخارجي ، وما جعلته متعلّقا للطلب أعني : صرف وجود أصل الطبيعة ، مجردا
لمفهوم التعقّلي ، ومتعلّق الطلب لا بدّ وأن يكون منشئا للآثار ، فلا محالة يكون
مما له الواقعيّة وهو الوجود الخارجي ، ولا ريب في كونه واحدا إلّا بعد وقته فيعود
المحذور.
قلت : إن أردت
بعدم الواقعيّة لصرف الوجود عدم وجوده في الخارج بما هو عليه في الذهن من وصف
الجامعيّة والتجرّد عن الخصوصيّات فهو مسلّم ، وإن أردت عدم وجوده من الأصل ولو
بكيفيّة اخرى مغايرة لكيفيته في الذهن فهو ممنوع بل هو موجود في الخارج ، غاية
الأمر وصف اتّحاده مع الأفراد واندماجه فيها على خلاف ما هو عليه في الذهن من وصف
تجرّده منها.
والحاصل أنّ
الطبيعي ليس مجرّد المفهوم التعقّلي ، بل له حظّ من الوجود الخارجي ، فالوجود كما
يضاف إلى الفرد أعني : الخصوصيّة المميّزة كذلك يضاف إلى الطبيعي أيضا على الحقيقة
، غاية الأمر أنّ الوجود المضاف إليهما وجود واحد.
والدليل على وجود
الطبيعي أنّه لو توجّه شبح من بعيد وتيقنّا بأنّه حيوان وشككنا في أنّه بعير أو
فرس وكان بعيرا في الواقع فلا ريب أنّ وصف المعلوميّة مختص بحصّة وجود الحيوان
والمشكوكيّة بحصّة وجود البعير ، ولا يسري معلوميّة الأوّل إلى الثاني ولا
مشكوكيّة الثاني إلى الأوّل ، ولو لم يكن هاهنا شيء وواقعيّة إلّا وجود البعير لما
كان لنا إلّا شيء واحد مشكوك ولم يكن في البين شيء تعلّق به المعلوميّة.
وأيضا من المعلوم
بالوجدان أنّ الإنسان قد يصير طالبا لنفس الكلّي الطبيعي من دون أن يسري طلبه إلى
الخصوصيّات ، كما في طلب شرب الماء وكما في طلب وجود الإنسان إذا كان لأجل الكراهة
من الانفراد في البيت ، فلو لم يكن للطبيعي حظّ من الوجود لما وقع متعلّقا للطلب.
فثبت أنّه يمكن أن
يشير الآمر في عالم اللحاظ إلى نفس الطبيعي ويوجّه الطلب نحوه من دون لزوم
الإشكال.
فإن قلت : ما ذكرت
من جعل متعلّق الطلب صرف الوجود إنّما يتمّ في الماهيّات المتأصّلة ، وأمّا
العناوين المنتزعة فلا وجود لها في الخارج حتى يمكن اعتبار صرف الوجود معها، وذلك
لأنّ موطنها هو الذهن ، والخارج إنّما هو ظرف لمنشا انتزاعها ، فلا بدّ من صرف
الأوامر والنواهي المتعلّقة بتلك العناوين ظاهرا إلى الوجودات الخارجيّة التي هي
منشأ لانتزاعها ، وجعل تلك العناوين إشارة إليها وحاكية عنها ، وحينئذ فيلزم
المحذور من اجتماع الأمر والنهي في الواحد.
قلت : نحن إذا
تعقّلنا صرف الوجود في الماهيّات المتأصّلة نتعقّله بهتا في جانب منشأ الانتزاع ،
مثلا عنوان الضارب والقاعد لا مدخل في منشأ انتزاعهما إلّا لذات ما واتّصافهما
بحقيقة الضرب والقعود ، من دون مدخليّة لخصوصيّات الفاعل أو الفعل فيه.
فإذا جعلنا الأمر
بالصلاة والنهي عن الغصب متعلّقين بمنشإ انتزاعهما نقول : لا مدخل في منشأ انتزاع
الصلاة إلّا لمطلق الحركة بالهيئة الخاصّة المتلبّسة بقصد القربة
من دون مدخلية
للوقوع في دار الغير فيه ، وكذا لا مدخل في منشأ انتزاع الغصب إلّا لمطلق الحركة
في دار الغير بدون رضاه من دون مدخليّة للوقوع بالهيئة الخاصّة والتلبّس بنيّة
القربة فيه، فيتعقّل هنا صرف وجود يكون منشأ لانتزاع الصلاة وهو متعلّق للأمر ،
وصرف وجود آخر يكون منشئا لانتزاع الغصب وهو متعلّق للنهي. هذا خلاصة الكلام في
حجّة المجوّز.
ومنه يظهر فساد ما
قيل في حجّة المنع ، وحاصله أنّ تعدّد العنوان في محلّ النزاع لا يوجب تعدّد المعنون
، بل هو يتّحد حقيقة ووجودا من غير فرق بين القول بأصالة الماهيّة أو الوجود.
ووجه فساده هو أنّ
الطلب كما عرفت ليس من الأعراض الخارجيّة كالبياض حتّى يقال بأنّه لا يمكن التكليف
في عروضه بين حيثيّة دون اخرى لاندماج الحيثيّات واتّحادها في الخارج ، بل هو من
الأعراض التي يكون عروضها واتّصافها في الذهن ، والتفكيك بين الحيثيّات في الذهن
ممكن ، فيقع الكلام حينئذ في أنّ لهذه الحيثيّات التحليليّة العقليّة واقعيّة في
الخارج أولا ، وقد أثبتنا الواقعيّة لها.
ثمّ إنّه قد
استدلّ للجواز بوجوه أخر ، منها أنّه لو امتنع اجتماع الوجوب والحرمة في واحد
بوجهين لما وقع نظيره ، وقد وقع في الشرع كما في العبادات المكروهة كالصلاة في
الحمّام ، والمستحبّة كالفريضة في المسجد ، والمباحة كالصلاة في البيت ، وذلك لأنّ
الأحكام الخمسة متضادّة بأسرها.
ويمكن الجواب عنه
على القول بالامتناع بأنّ الحال في تلك الموارد مختلفة ؛ لأنّ الحكم المخالف للأمر
العبادي فيها إمّا أن يكون متعلّقا بأمر خارج عن العبادة متّحد معها في الوجود
أحيانا ، كما في الصلاة في موضع التهمة ؛ فإنّ النهي التنزيهي متعلّق بالكون في
الموضع المذكور المتّحد مع الصلاة في الخارج أحيانا أو يكون متعلّقا بنفسها ، وهذا
على قسمين :
إمّا أن يكون في
البين مندوحة وذلك بأن يكون الأمر العبادي متعلّقا بصرف الوجود، أولا يكون وذلك
بأن يتعلّق الأمر العبادي بالوجود الساري الاستغراقي ،
فالأوّل كما في
الصلاة في الحمام ، فإنّ الصلاة خارج الحمّام بدل عن الصلاة فيه ، والثاني كما في
صوم يوم العاشوراء والنافلة المبتدأة عند طلوع الشمس ؛ فإنّ الاستحباب فيها متعلّق
بالطبيعة باعتبار الوجود الساري ، فيكون صوم كلّ يوم ونافلة كلّ زمان مستحبّين على
الاستقلال لا بما هما فردان للطبيعة ، فلا يقع صوم غير يوم العاشوراء بدلا عن صومه
ونافلة غير زمان الطلوع بدلا عن نافلته ، بل هما مستحبّان مستقلان.
أمّا القسم الأوّل
فلا إشكال فيه على القول بالجواز مطلقا ، وأمّا على القول بالامتناع فينبغي
التكلّم في حكم اجتماع الوجوب مع الكراهة ، ويظهر منه وممّا تقدّم حكم غيره من
باقي صور اجتماع حكمين تكليفيين في واحد بوجهين ، فنقول على هذا القول هذه الصورة
بعد اشتراكها مع الصورة السابقة في بقاء الملاكين وعدم التزاحم بين الجهتين أعني :
المصلحة الوجوبيّة والحزازة هنا وفي عدم إمكان بقاء الأمر والنهي الفعليين بحالهما
وعدم ورود التقييد على شيء منهما يفرق بينهما بلزوم تقييد الأمر هناك مع بقاء
ملاكه وهو المصلحة بحكم العقل ، ولزوم تقييد الكراهة الفعليّة هنا مع بقاء ملاكها
وهو الحزازة بحكمه أيضا.
وذلك لأنّ
الصورتين وإن كانا مشتركين في ثبوت المندوحة من جانب الأمر وعدم ثبوتها من جانب
النهي بمعنى كون الأمر لا مقتضى بالنسبة إلى الخصوصيّة وكون النهي مقتضى بالنسبة
إليها ، إلّا أنّ الاقتضاء من جانب النهي التحريمي شديد ملزم مانع من النقيض طارد
للوجود ، فيكون بضميمة ثبوت المندوحة من جانب الأمر مزاحما للأمر ومعاندا له
ومقيّدا له وإن كان مصلحته أشدّ وأقوى.
وهذا بخلاف
الاقتضاء في جانب النهي التنزيهي ، فإنّه ليس بشديد بحيث يكون ملزما للترك ومانعا
من النقيض طاردا للوجود ، بل اقتضاؤه للترك مشوب بالترخيص في الفعل، فلهذا لا
يزاحم الأمر ولا يعانده وإن كان فيه المندوحة ، فإذا صار الأمر بلا مانع يلزم قهرا
انعدام الكراهة الفعليّة من البين مع بقاء الحزازة ، فيكون الصادر من المكلّف بناء
على هذا عبادة مشتملة على الحزازة ، فلهذا يكون
أقل ثوابا بالنسبة
إلى الفرد الخالي عن تلك الحزازة.
فإن قلت : ينافي
هذا الذي ذكرت من ارتفاع الكراهة الفعليّة من البين إطلاق المكروه على هذه العبادة.
قلت : حال الكراهة
هاهنا حال الحليّة في الغنم ، فكما أنّ حليّة الغنم حكم اقتضائي متعلّق بحيث
الغنميّة لو خلّي وطبعه مع قطع النظر عن الطواري والحالات ، بمعنى أنّ الغنم لو
لوحظ في قبال الكلب والخنزير حكم الشارع بحليّته ، فلهذا لا منافاة بينهما أصلا ،
وبين أن يكون الحكم الشرعي الفعلي للغنم بسبب العوارض حرمة أشدّ من حرمة الكلب
والخنزير فكذا الكراهة هاهنا ؛ فإنّ جعل الشارع حكم الكراهة في موضوع يكون على
نحوين :
الأوّل : أن يكون
حكما فعليّا ناظرا إلى جميع الأحوال والطواري.
والثاني : أن يكون
حكما اقتضائيّا متعلّقا بالحيثيّة مع قطع النظر عن جميع الطواري ، فهذا القسم لا
منافاة أصلا بينها ، وبين أن يكون الحكم الشرعي الفعلي لهذا الموضوع بسبب العوارض
الخارجيّة هو الوجوب أو حكما آخر مضادّا للكراهة ، ونظيره في الإخبارات قولنا :
الرجل خير من المرأة ، فإنّه إخبار عن خيريّة حيثية الرجل مع قطع النظر عن الطواري
من حيثيّة المرأة كذلك ، ولهذا تكون هذه القضيّة صادقة حتّى في مورد صارت المرأة
بسبب الضمائم الخارجيّة خيرا من الرجل فعلا.
ومن هنا ظهر أنّ
لفظ الكراهة في هذا المقام يكون بمعناه في سائر المقامات ، غاية الأمر أنّ لازم
اجتماع الحزازة مع ملاك الأمر أهليّة الثواب ، لا أنّ للفقهاء في هذا المقام في
هذا اللفظ اصطلاحا جديدا.
أمّا القسم الثاني
فامتناع الاجتماع فيه غير مختص بالقول بالامتناع ، بل هو ثابت على القول بالجواز
أيضا ؛ وذلك لما عرفت سابقا من خروج المطلق والمقيّد المفهوميين والمصداقيين عن
محلّ النزاع ، فلو تعلّق النهي بالمقيّد وجب تقييد المطلق وإن كان النهي تنزيهيّا.
وكيف كان فعلى
القول بالجواز فمثل الصلاة في الحمام ممّا تعلّق النهي فيه ظاهرا بالمقيّد لا
بالأمر الخارج كالكون في الحمام ولم يوجب ذلك تقييد في المطلق يلزم بحكم العقل
إرجاع النهي المتعلّق به إلى التقيّد والخصوصيّة ، والقول بأنّ نفس الصلاة في
الحمّام مثلا لا نقص في مطلوبيتها أصلا ، بل في إيقاع هذا المطلوب النفيس في
الحمام ركاكة وحزازة نظير وضع الدر الثمين في الخزف ، والتقيّد وإن كان ليس له في
الخارج وجود على حده ، إلّا أنّه في الذهن قابل للانفكاك عن الطبيعة ، فحال هذا
القسم عند المجوّز حال القسم السابق في محفوظيّة الأمر والنهي الفعليين ، غاية
الأمر أنّه اجتمع مورداهما هناك بحسب الصدق وهنا بحسب المورد دون الصدق ، وأمّا
على الامتناع فيمكن أن يكون النهي متعلّقا بالتقيّد واقتضائيّا يعني أنّ هذا
التقيّد من حيث هو ولو خلّي والطبع مكروه ، وهذا النهي لا يصير فعليّا لوجود
المانع معه أبدا وأن يكون متعلّقا بالمقيّد وإرشاديّا للإرشاد إلى ما ليس فيه
حزازة من سائر الأفراد.
وأمّا القسم
الأخير فالحال فيه أشكل من سابقه ، وذلك لما ادّعوا عليه الإجماع من كون الفعل في
هذا القسم عبادة ومع ذلك يكون الترك أرجح كما يظهر من هذا ومنهمعليهمالسلام عليه ؛ فإنّ مقتضى الأوّل رجحان الفعل ومرجوحيّة الترك ،
ومقتضي الثاني العكس ، وهذا محال حتّى عند المجوّز لوجهين ، اتّحاد الوجه وعدم
المندوحة ، فيلزم التفصّي عليه أيضا.
وما يمكن أن
يتفصّى به كلّ من المجوّز والمانع من هذا الإشكال أحد أمرين ، الأوّل : أن يقال :
إنّ للعبادة ضدّا لا يمكن الجمع بينه وبينها وهو ارجح منها ، ولكن لمّا كانت
عقولنا قاصرة عن إدراكه علّق الطلب المتعلّق به حقيقة إلى ترك العبادة ونسب إليه
بالعرض والمجاز ، نظير طلب ترك الحركة عند تعلّق الغرض بالسكون أو عكسه.
والحاصل أنّ الترك
من حيث إنّه ترك العبادة مرجوح ولم يحدث فيه من قبل هذا القيد رجحان أصلا وإنّما
نسب إليه الطلب بالعرض والمجاز وإلّا فهو متعلّق في
الحقيقة بذلك الضد
، ثمّ إنّه ربّما يحتمل أن يكون هذا الضد منطبقا على الترك وأن يكون ملازما له ،
وأنت خبير بعدم معقوليّة الأوّل ؛ لعدم تعقّل انطباق الوجودي على العدمي ، فتعيّن
أن يكون ملازما له.
والثاني أن يكون
النهي إرشاديّا للإرشاد إلى أرجحيّة هذا الضدّ وللوصلة إلى درك ما فيه من الفضيلة
الزائدة ، وعلى هذا يكون النهي متعلّقا بالترك على الحقيقة ، وعلى أيّ حال فيكون
المقام من باب المزاحمة والدوران ؛ إذ كما أنّ طلب شيئين لا يمكن الجمع بينهما ـ في
زمان وجوبا ـ محال ، فكذلك طلبهما استحبابا ، فالأمر بالعبادة بواسطة مزاحمة الضدّ
الأهمّ قد زال وبقي ملاكه ، فلهذا لو أتى المكلّف فقد أتى بالعبادة ؛ لكفاية
الملاك في صحّتها ، ولو تركها فقد أدرك الأهمّ.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ الاستدلال بتلك العبادات لا يجدي للمجوّز شيئا لعدم كونه ملزما للخصم ،
وذلك لما عرفت من لزوم التفصّي على المانع خاصّة في بعض الأقسام ، وعليه وعلى
المجوّز أيضا في بعض آخر.
وينبغي التنبيه على
امور :
الأوّل : أنّ من
توسّط أرض مغصوبة فلا شبهة في أنّ مقدارا من الغصب لا بدّ من أن يصدر منه وهو
مقدار الخروج بأسرع وجه يمكن ؛ لأنّه إن بقي فيها صدر منه هذا المقدار مع الزيادة
، وإلّا فهذا المقدار فقط ، وهذا واضح ، إنّما الكلام في حكم هذا الخروج فقيل
بأنّه مأمور به ومنهي عنه ، واختاره المحقّق القمّي ناسبا له إلى أكثر المتأخّرين
وظاهر الفقهاء وصحّته يبتني على مقدّمتين :
الاولى : كفاية
تعدّد الجهة في اجتماع الأمر والنهي وقد مضى الكلام فيه.
والثانية صحّة
التكليف لغير المقدور إذا كان عدم القدرة ناشئا من اختيار المكلّف وهذا ممنوع ؛
لاستقلال العقل بقبح التكليف بما لا يطاق مطلقا ، وأمّا ما اشتهر من أنّ الامتناع
بالاختيار لا ينافي الاختيار ، فالمراد به دفع ما زعمه الأشاعرة من عدم الفعل
الاختياري رأسا ، والمعنيّ بهذا الكلام أنّ الامتناع بمقدّمة اختياريّة
لا ينافي الاختيار
، يعني إنّه يصحّ العقاب عليه لا أنّه يصحّ التكليف.
وهنا ثلاثة أقوال
أخر : أحدها : وهو لصاحب الفصول قدسسره : أنّ المكلّف منهي قبل الدخول عن جميع أنحاء الغصب لكونه
قادرا على ترك جميعها حتّى الخروج ، بمعنى أنّه يتمكّن من ترك الخروج وترك الدخول
، وبعد الدخول يسقط النهي من الخروج ويبقى أثره وهو ترتّب العقاب ، ويصير مأمورا
به مقدّمة لترك الغصب الزائد فلم يجتمع الأمر والنهي في زمان واحد
الثاني : أنّ
الخروج مأمور به ولم يكن منهيّا عنه من أوّل الأمر
الثالث : أنّه ليس
بمأمور به ولا منهي عنه.
والتحقيق أنّه لو
منعنا مقدّميّة الخروج لترك الغصب الزائد كما هو الحقّ لا سببا ، والترك إلى
الصارف لا إلى الخروج ، نعم هو مقترن معه وملازم له ، لكن الملازمين في الوجود غير
متلازمين في الحكم فحينئذ لا بدّ من الالتزام بعدم كونه مأمورا به ولا منهيّا عنه
مع ترتّب العقاب كما هو القول الثالث. أمّا عدم الأمر فلعدم الملاك ، وأمّا عدم
النهي فلمكان الاضطرار ، وأمّا ترتّب العقاب فلكون الاضطرار بمقدّمة اختياريّة.
ولو قلنا
بالمقدّميّة فالحقّ ما ذكره صاحب الفصول قدسسره ويبقى الإشكال حينئذ في أنّه كيف يمكن تعلّق الطلب
المقدّمي بما هو مبغوض فعلا أعني الخروج ، ولذا يعاقب عليه.
بل نقول : يستلزم
ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد ، فيكون ممتنعا حتى على القول
بالجواز ، وذلك لأنّ متعلّق الأمر المقدّمي ليس عنوان المقدّميّة بل ذات الخروج ؛
إذ هو الذي يتوقّف عليه الواجب دون هذا العنوان.
ويمكن الجواب عنه
أوّلا بالنقض بما لو وقع في هذه الأرض بغير الاختيار ، فإنّ الخروج مأمور به بناء
على المقدّميّة قطعا مع أنّه متّصف بالمبغوضيّة الذاتيّة بلا إشكال ، غاية الأمر
أنّ الفاعل معذور ، ولا يعقل تأثير معذوريّة الفاعل في رفع المتضادّين المحبوبيّة
والمبغوضيّة.
وثانيا بالحلّ وهو
أنّ الفعل لو كان في غاية المبغوضيّة وكان واقعا لا محالة بحيث لا يمكن المخالفة
من وجوده في الخارج فلا إشكال في عدم صحّة الزجر عنه وإن صحّ العقاب عليه ، وإذا
كان الاضطرار إليه بمقدّمة اختيارية ، فحينئذ لو كان مقدّمة لمطلوب فلا مانع من
طلبه مقدّمة لهذا المطلوب ؛ إذ كما أنّ المبغوض الذي سقط عن تأثير الزجر في نفس
الآمر لأجل مزاحمة المحبوب الأهم لا يزاحم هذا المحبوب في التأثير كما لو غرق إحدى
محارم الشخص في الماء ولم يتمكّن بنفسه من إنقاذها فإنّك هل تجد من نفسك أنّ هذا
الشخص لا يأمر أحدا بإنقاذها وتركها حتى يغرق لأجل كراهته من وصول يد هذا الأجنبي
إليها ، أو أنّه يرضى بذلك لكون ملاكها أشدّ كراهة عنده من وصول يد هذا الأجنبي
إليها ، فكذا المبغوض الساقط عن تأثير الزجر بواسطة لا بدّية وقوعه أيضا لا يزاحم
المحبوب وإن كان المحبوب أضعف منه بمراتب.
مثلا لو فرضنا أنّ
جميع تصرّفات العبد وأكوانه في مكان مخصوص مبغوض للمولى فوقع فيه إمّا بسوء
اختياره أو بدون الاختيار ، ولم يتمكّن من الخروج أبدا فحينئذ لو أمره المولى
بخياطة جبّة له في هذا المكان ومع ذلك عاقبه على مطلق التصرّف في هذا المكان إذا
كان الوقوع بسوء اختياره ، فهل ترى أنّه فعل قبيحا.
والحاصل أنّ
المستحيل هو اجتماع المبغوض المؤثّر للزجر مع المحبوب المؤثّر للبعث في فعل واحد ؛
لمكان التناقض بين نقيضيهما وهما الوجود والعدم ، وأمّا المبغوض الساقط عن تأثير
الزجر فلا استحالة في اجتماعه مع المحبوب المؤثّر أصلا ؛ إذ مرجع هذا إلى أنّ
الشيء من حيث الذات مبغوض وصار بعد سقوط مبغوضيّة الذاتيّة عن التأثير محبوبا
بالعرض ، فلم يجتمع المحبوبيّة والمبغوضيّة فيه في عرض واحد ، بل تعلّق المحبوبيّة
بعد سقوط المبغوضيّة عن التأثير.
وأمّا قولكم :
يستلزم ذلك اجتماع الحبّ والبغض في الشيء الواحد بوجه واحد ، فلم نفهم معناه ؛
فإنّ الفعل فيما نحن فيه بعنوان أنّه غصب متعلّق للبغض ، وبعنوان أنّه خروج متعلّق
للحبّ ، فلم يتّحد متعلّقهما.
واستدلّ للقول
الثاني بأنّ الفعل الواحد الذي يكون حسنا بالذات أو بالعنوان الطاري إذا اعتبر فيه
جميع ما له دخل في صلاحه وحسنه فمجرّد الاختلاف الزماني لا يعقل أن يوجب تغيير
حسنه وقبحه.
نعم يوجب اختلاف
الزمان اختلاف الحكم إذا كان لخصوصيّة الزمان مدخل فيه فيكون الفعل في زمان حسنا
وفي زمان قبيحا كما في الصوم ، لكن هذا راجع إلى تعدّد الموضوع ، فالخروج الذي هو
فعل واحد ولا يتعدّد بتعدّد الزمان ـ بمعنى أنّه ليس هنا خروجان كان أحدهما بطيئا
والآخر سريعا ، مثلا إذا كان أحدهما قبل الدخول والآخر بعده ـ لا يعقل أن يكون
قبيحا قبل الدخول وحسنا بعده إذا فرض كونه حسنا بعد الدخول لأجل التخلّص به عن
الحرام ، فلا بدّ من الحكم به في سائر الأزمان بلا فرق.
والجواب أنّ
صيرورة الشيء متعلّقا للحسن والصلاح يكون بأحد نحوين ، الأوّل : أن يكون بنحو
الإطلاق ، والثاني : أن يكون بنحو الاشتراط ، فعلى الأوّل يلزم تحصيل القيود ،
وعلى الثاني لا يلزم ، بل ربّما يكون مبغوضا كما في الكفارة عقيب إفطار الصوم.
وحينئذ من المعلوم
بالوجدان أنّه يمكن أن يكون الشيء الواحد قبيحا مطلقا ، ولذا لزم السعي في المنع
من حصول قيده ، ولكن بعد حصول القيد صار حسنا بالعرض كما في التفرّد بضيافة زيد ؛
فإنّه ربّما يكون مبغوضا مطلقا فيسعى في عدم حصول مجيئه حتّى الإمكان ، ولكن بعد
حصول المجيء يصير حسنا دفعا للمحذور الأشدّ المترتّب على ترك التفرّد بالضيافة.
وما نحن فيه من
هذا القبيل ؛ فإنّ الخروج يكون قبيحا مطلقا ولذا يلزم السعي في عدم حصول قيده وهو
الدخول ، وبعد حصوله يصير حسنا بالعرض ، والحاصل أنّ الممتنع هو اجتماع القبح
المطلق مع الحسن المطلق في الشيء الواحد ولو في زمانين إلّا في حقّ غيره تعالى
الممكن منه النسخ والبداء ، وأمّا اجتماع القبح المطلق مع الحسن المشروط فلا محذور
فيه ، وإن شئت قلت : لا استحالة في اجتماع القبح المطلق
مع الحسن المشروط
بتقدير عدم تأثير القبح إمّا بمزاحمة الأهمّ أو بلا بدّية حصول متعلّقة.
ومحصّل الكلام في
المقام أنّ للمكلّف هنا حالتين ، حالة القدرة بالنسبة إلى الخروج ، وبعبارة اخرى
بالنسبة إلى أصل الغصب إيجادا وتركا ، وهي ما قبل الدخول ، وحالة العجز بالنسبة
إلى مقدار الخروج وهي ما بعده ، وللخروج أيضا باعتبار هاتين الحالتين حالتان ، ففي
الحالة الاولى لا يكون مقدّمة لترك الغصب ، ولذا لا يجب تحصيل مقدّمته وهو الدخول،
كما هو شأن مقدّمات الواجب الثابت لها المقدّميّة في جميع الأحوال ؛ فإنّ مقدّمات
ومقدّمات مقدّماتها واجبة ، وفي الحالة الثانية يكون مقدّمة له ، وهذا من أوائل
البديهيّات. فيكون النهي في الحالة الثانية ساقطا كسقوط النهي عن الفعل بعد
الإلقاء من الشاهق ، وفي الحالة الاولى يكون موجودا لعدم المانع منه أصلا.
ثمّ في الحالة
الثانية يكون قبحه الذاتي باقيا ، والمدّعى إمكان تعلّق الأمر مع ذلك على القول
بالامتناع أيضا ، وذلك لأنّ المانع المتصوّر على هذا القول أمران ، أحدهما تزاحم
الجهتين وحصول الكسر والانكسار بينهما في مقام التأثير في نفس الآمر ، والثاني
التزاحم والكسر والانكسار بينهما في مقام تبعيد الفاعل وتقريبه ، وكلاهما مفقود في
المقام ، أمّا الأوّل فلأنّه لا يعقل أن يصير جهة القبح الغير الموجبة لانقداح
الانبعاث في نفس الآمر مزاحمة لجهة الحسن ، وأمّا الثاني فلأنّ الذي يسلم من
القائل بالامتناع هو عدم إمكان صيرورة الوجود المبعّد مقرّبا فيما إذا كان ناشئا
من اختيار واحد ، كما في الصلاة في الدار المغصوبة ، حيث إنّ الطبيعة الحسنة
والخصوصيّة السيّئة فيها مستندتان إلى اختيار واحد ، فالمصلّي باختيار واحد يختار
الصلاة والغصب ، وهذا الاختيار يكون سوءا بالفرض ، فلا يكون الوجود المستند إليه
إلّا مبعّدا ، لا فيما إذا كان ناشئا من اختيارين أحدهما سوء والآخر خير ، كأن
يكون أصل الجامع لهذا الوجود مستندا إلى اختيار سوء والخصوصيّة إلى اختيار آخر خير
كما في المقام ؛ فإنّ أصل حقيقة الغصبيّة مستند إلى الاختيار السابق الذي
كان سوء فيكون
واجب الوجود لوجود علّته ، وخصوصيّة إيجاد هذا الغصب في موضوع الخروج والتخلّص دون
البقاء مستندة إلى اختيار جديد وهو اختيار خير بالوجدان ، فمبعّديّة هذا الوجود
باعتبار الاختيار الأوّل ومقرّبيّته باعتبار الاختيار الثاني ، وذلك لوضوح إناطة
القرب والبعد على الاختيار ، فالفعل الغير الاختياري لا يكون مقرّبا ولا مبعدا.
ثمّ إنّه ذكر في
الكفاية ما حاصله : أنّ الاضطرار إلى الحرام لو كان بمقدّمة غير اختياريّة يوجب
لأن يكون ملاك الوجوب على تقدير ثبوته فيه مؤثّرا ، كما كان مباحا من الأصل بلا
كلام حتّى على القول بالامتناع إلى أن قال ما حاصله : إنّما الكلام فيما إذا كان
الاضطرار إليه بمقدّمة اختياريّة وصار المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة للواجب ، فيه
أقوال ، واختار بعد ذكرها أنّه منهي عنه بالنهي السابق وليس بمأمور به ،
وقد ذكر قدسسره عند ذكر الثمرات بين الأقوال ما حاصله : أنّه لو اضطر
المكلّف بسوء اختياره إلى التصرّف في مكان مغصوب فصلاته فيه حال الخروج صحيحة حتّى
على القول بعدم كون نفس الخروج مأمورا به ؛ فإنّ هذا لو لا عروض مثل وجه الصلاتي
عليه ؛ إذ المفروض غلبة ملاك أمره على ملاك النهي عن الغصب.
وأنت خبير بأنّ
المستفاد من هذا الكلام قاعدة كلّية وهي أنّ كلّ فعل غلب فيه ملاك الأمر على ملاك
النهي فهو مأمور به ولو كان حراما مضطرّا إليه بسوء الاختيار ، ولا يخفى أنّ جميع
موارد الاضطرار إلى أحد محذورين والدوران بين قبيحين أحدهما أخفّ سواء كان من قبيل
الأقلّ والأكثر ، كما في مثال من توسّط أرضا مغصوبة ـ حيث دار أمره بين الغصب
بمقدار أربع دقائق أو أزيد ـ أم من قبيل المتبانيين كما في من ألقى نفسه في مكان
يضطرّ فيه إلى شرب الخمر أو قتل النفس يكون من هذا القبيل ، يعنى يكون ملاك الأمر
في الاخفّ وهو كونه سببا للتخلّص عن المحذور الأشدّ أقوى من ملاك النهي الموجود في
ذات الأخفّ ، فلا بدّ من القول بكون الأخفّ مأمورا به مطلقا ولو كان الاضطرار بسوء
الاختيار.
وحينئذ فما وجه
الكلام الأوّل الفارق بين صورتي كون الاضطرار بمقدّمة غير اختيارية وكونه بمقدّمة
اختياريّة بالقول في الاولى بوجود الأمر وتخصيص الثانية بالاشكال ثمّ اختيار عدم
الأمر؟.
فإن قلت : إثبات
الأمر لغلبة ملاكه في مثال من صلّى حال الخروج إنّما هو بالنسبة إلى حيث الصلاتي ،
ونفيه لمكان سوء الاختيار إنّما هو بالنسبة إلى حيث الخروجي ، فلا نقض.
قلت : لا يجدي
تعدّد الحيثيّة على القول بالامتناع ، والمفروض أنّه قدسسره قائل به ، فيقول الخروج المتّحد مع الصلاة في الخروج يكون
مأمورا به من أوّل الأمر لغلبة ملاك الأمر ، فكذا شرب الخمر في المثال المذكور.
ثمّ أنّه قدسسره في صدر هذا الأمر قسّم الاضطرار إلى الحرام إلى ما كان
بمقدّمة غير اختياريّة وما كان بمقدّمة اختياريّة ، وقسّم الثاني إلى ما إذا كان
المضطرّ إليه مقدّمة غير منحصرة للواجب ، وما إذا كان مقدّمة منحصرة له ، فجزم في
القسم الأوّل بتأثير ملاك الأمر ، وفي الأوّل من قسمي القسم الثاني بعدم تأثيره ،
واستشكل في ثانيهما ، ثمّ اختار عدم التأثير ، ومقتضى إطلاق كلامه في القسم الأوّل
عدم الفرق بين ما إذا كان المضطرّ إليه مقدّمة منحصرة وما إذا كان مقدّمة غير
منحصرة.
وأنت خبير بأنّه
في صورة كونه مقدّمة غير منحصرة للواجب يتعيّن الوجوب في المقدّمة الاخرى بلا
إشكال ، مثاله من وقع في الأرض المغصوبة بغير اختياره وكان لخروجه منها طريقان أحدهما
مباح والآخر مغصوب ؛ فإنّ المتعيّن حينئذ اختيار الطريق المباح.
هذا كلّه على
تقدير أن يكون المراد الاضطرار الابتدائي ، وأمّا لو كان المراد الاضطرار حين
العمل والارتكاب فيرد على تقسيمه قدسسره ـ المضطرّ إليه في القسم الثاني إلى المقدّمة المنحصرة
وغيرها ـ أنّه كيف يتصوّر كون الفعل المتّصف بالاضطرار حين وقوعه غير منحصر فيه؟.
فإن قلت : لعلّ
التقسيم بالنسبة إلى المقدّميّة وعدمها ، لا بالنسبة إلى الانحصار وعدمه بعد فرض
المقدّميّة.
قلت : عدم
المقدّميّة ليس إلّا في الاضطرار العقلي ، نظير إهراق الطعام في الفم وهو غير مراد
؛ لعدم صحّة التكليف معه ، وإنّما المراد الاضطرار العرفي الغير المنافي للاختيار
المصحّح للتكليف وهو ليس إلّا فيما إذا كان الاضطرار إلى أحد محذورين أو محذورات
كان أحدها أخفّ ، وهذا ملازم للمقدّميّة.
ثمّ إنّه قدسسره ذكر من جملة الفروع التي ذكرها عند بيان الثمرة أنّ الصلاة
في الأرض المغصوبة في سعة الوقت صحيحة على القول بالامتناع ؛ لغلبة ملاكها على
ملاك النهي وكون الباقي من ملاكها ملزما ، والصلاة في الأرض المباحة وإن كانت أهمّ
لاشتمالها على مصلحتين ملزمتين وهذا موجب لعدم الأمر بهذه الصلاة وإن كان لا يوجب
النهي عنها ؛ لكنّ الحقّ كفاية الملاك في صحّة العبادة ، أمّا كون الباقي من
ملاكها بعد الغلبة ملزما فللإجماع على تعيّن الصلاة في ضيق الوقت المستكشف منه كون
الباقي مصلحة لازمة الاستيفاء ، وأمّا كون الذاهب بالمزاحمة ملزما فإنّ مزاحمة
المفسدة الملزمة لا تتأتّى إلّا من المصلحة الملزمة ، وحينئذ فالصلاة المذكورة
صحيحة وإن كان المكلّف معاقبا على ترك درك الأهمّ.
وفيه أنّ التزاحم
ليس بين الملاكين نفسهما حتّى يحتاج إلى الموازنة بينهما وإنّما هو في مقام
تأثيرهما في نفس الأمر ، والموازنة بينهما في هذا المقام إنّما يحتاج إليها إذا
كان رفع اليد من أحد الغرضين متحتّما ، وأمّا إذا كان الجمع بينهما ممكنا فاللازم
تقييد ذي المندوحة وإن كان أهمّ ، فيكون الصلاة في الأرض المغصوبة في سعة الوقت
على هذا باطلة على القول بالامتناع.
الأمر الثاني : قد
عرفت أنّ محلّ الكلام ما إذا كان المقتضي في كلا العنوانين محرزا في مورد التصادق
وأنّ الواجب بحكم العقل بناء على الامتناع تقييد ذي المندوحة من المقتضيين في مقام
الإرادة وإن كان أهمّ. وإذن فلا تفاوت أصلا بين أن يكون الدليلان متعرّضين للحكم
الاقتضائي أو أحدهما له والآخر للفعلي أو كلاهما
للفعلي ، فالواجب
عقلا في جميع الصور تقييد ذي المندوحة وإن كان دليل غيره متعرّضا للفعليّة وكان
أظهر ، وكذا على مبنى صاحب الكفاية قدسسره من ترجيح الأقوى والأهمّ مع معلوميّة الأهمّ.
وأمّا لو لم يكن
معلوما فإن كان الدليلان متعرضين للحكم الفعلي وكان أحدهما أظهر، فمقتضى الجمع
العرفي تحكيم الأظهر على الظاهر وجعله قرينة صارفة له في مورد التصادق ، فيكون
مدلول الأظهر فعليّا ، فيستكشف من ذلك أقوائيّته بطريق الإنّ ، ولو تساويا في
الظهور فهل يرجع إلى المرجّحات السنديّة ومع فقدها يؤخذ بأحدهما تخييرا اصوليّا،
أو يتوقّف من أوّل الأمر ويرجع إلى مقتضي الأصل؟
قولان مبنيّان على
أنّ العامّين من وجه في مورد تصادقهما بعد تساويهما في الظهور هل هما مشمولان
للأخبار العلاجيّة أو لا ، بل مورد تلك الأخبار ما إذا كان بين مضموني الخبر
التباين الكلّي ولم يمكن العمل بكليهما معا أصلا ، والحقّ هو الثاني ، فيكون
المرجع هو الأصل ، وعلى تقدير القول بالأوّل يحكم تعبّدا بأقوائيّة ما كان دليله
أرجح سندا أو مأخوذا طريقا.
ولو كان الدليلان
متعرضين للحكم الاقتضائي فالمرجع هو الأصل بلا كلام ، وهل هو ما ذا؟ فنقول : إمّا
أن يكون الشكّ في أصل وجود الأقوى سواء كان على تقدير وجوده معلوم الوجود في أحد
الطرفين بعينه أو مشكوكا أيضا ، وإمّا أن يكون في تعيينه مع العلم بأصل وجوده ،
ففي الأوّل مقتضى أصالة البراءة عن التكليف الايجابي والتحريمي تساوي الملاكين ،
فيكون الفعل مباحا ، ولكن يكون عبادة ومسقطا للأمر ؛ لفرض وجود ملاك الأمر فيه مع
عدم كونه مبعّدا بمقتضى الأصل المزبور ، وفي الثاني مقتضى الأصل في جانب النهي عدم
العقاب على هذا الفعل الخاص ، وفي جانب الأمر الاجتزاء بهذا الفرد ؛ لرجوع الشكّ
في الأوّل إلى أنّ التحريم هل يسري إلى هذا الخاص أولا ، وفي الثاني إلى أنّ المطلوب
هل هو المطلق أو المقيّد بالوقوع في غير المكان المغصوب ، فيكون طرفا الشك من قبيل
الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، والمرجع فيهما البراءة.
وكيف كان لمّا
بنوا في هذا الباب على ما هو المبنى في باب الدوران بين المتزاحمين من ترجيح أقوى
المناطين احتاجوا إلى ذكر وجوه لتعيين الأقوى :
فمنها : أظهريّة
دلالة دليل الحرمة من دليل الوجوب ، فيستكشف بطريق الإنّ أقوائيّة مناط الحرمة
دائما فيما إذا كان الدليل على كلّ واحد من الوجوب والحرمة لفظيّا ومتكفّلا للحكم
العقلي.
وتوضيحه أنّ دلالة
النهي على سراية الحرمة إلى جميع أفراد الطبيعة أقوى من دلالة الأمر على سريان
الوجوب إلى جميعها ، وذلك لأنّ الاولى مسبّبة عن الوضع ، والثانية مستندة إلى
الإطلاق بمعونة مقدّمات الحكمة ، والظهور الوضعي يقدّم على الظهور الإطلاقي عند
التعارض.
ووجهه على ما
قرّره شيخنا المرتضى قدسسره في مبحث التعادل والتراجيح من الرسائل أنّ انعقاد الظهور
الإطلاقي متقوّم ومتوقّف على مقدّمات تسمّى بمقدّمات الحكمة ، ومن جملتها عدم
البيان ، ولا شكّ أنّ الظهور الوضعي هو البيان فيكون له الورود على الإطلاقي بمعنى
أنّه ينتفي بسببه موضوع الإطلاقي.
وفيه نظر ؛ لأنّ
الظهور الإطلاقي إنّما يتقوّم بعدم البيان المتّصل لا بعدم البيان المطلق ولو كان
منفصلا ، بمعنى أنّ المتكلّم ما دام مشتغلا بالكلام لو لم يذكر ما يصلح للقيديّة
ثمّ فرغ وكان سائر مقدّمات الحكمة موجودة انعقد من هذا الحين الظهور الإطلاقي ، لا
أنّ انعقاده مشروط بعدم ورود البيان ولو بعد أزمان ، فلو ورد بعد ذلك ظهور وضعي
مناف له كان من باب التعارض بين الظهورين ، فلا بدّ من مراعاة الأقوى بينهما
وربّما كان هو الإطلاقي ، وبالجملة فالحكم بتقديم الوضعي على الإطلاقي بمجرّد كونه
إطلاقيّا وبطريق الكليّة ممنوع.
وقد يخدش في أصل
الدليل بأنّ الطبيعة كما يصلح للإطلاق كذلك يصلح للتقييد ، فدلالة اللفظ الموضوع
لها على خصوص الإطلاق يحتاج إلى معونة مقدّمات الحكمة ، من غير فرق في ذلك بين
وقوعه في حيّز الإثبات أو النهي ، فكما أنّ إسراء الحكم الوجوبي المستفاد من الأمر
إلى جميع أفراد الطبيعة يحتاج إلى تلك المقدّمات ،
كذلك إسراء الحكم
التحريمي المستفاد من النهي إليها بلا فرق.
ولكنّ الحقّ هو
الفرق بين وقوع المطلق في حيّز الإثبات ووقوعه في حيّز النفي أو النهي ، ففي
الأوّل نحتاج في إسراء حكمه إلى تمام الأفراد إلى المقدّمات المذكورة وفي الثاني
لا نحتاج.
وبيانه أنّه لا
بدّ في باب الألفاظ بأسرها من المطلقات والألفاظ الدالّة بالوضع من الفراغ عن
مقدّمة ، وبعد اشتراكهما في الاحتياج إلى تلك المقدّمة يتفرّد المطلقات بالاحتياج
إلى أمر زائد ، وهذه المقدّمة هي أنّ الأصل في كلام كلّ متكلّم أن يكون صادرا بغرض
تفهيم المراد وإفادة المقصود لا بغرض آخر كتعلّم اللغة ونحوه ، ففي غير المطلقات
يعلم المقصود بعد إجراء هذا الأصل ، ولم تبق حالة منتظرة ، فالشاكّ في مجيء زيد
بسبب إجراء الأصل في كلام القائل : جاء زيد ، يستفيد المقصود.
وأمّا المطلقات
فليست موضوعة بإزاء المطلق حتّى يعلم المقصود فيها أيضا بمجرّد إجراء الأصل
المذكور فيحكم في قوله : اعتق رقبة بمطلوبيّة مطلق الرقبة ، بل إنّما وضعت بإزاء
المعنى اللابشرط المقسمي الصالح للإطلاق والتقييد على ما هو المشهور المتصوّر
المأثور من سلطان المحقّقين قدسسره.
فالذي يستفاد من
قوله : أعتق رقبة بحسب الدلالة الوضعيّة ليس إلّا مطلوبيّة عتق هذه الطبيعة
المهملة ، وحيث إنّ من المعلوم أنّ المراد اللبّي ومتعلّق الغرض الجدّي النفس
الأمري ليس إلّا المطلق أو المقيّد ، فبعد إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام
المراد اللبّي وإثبات عدم إرادة المقيّد بواسطة عدم ذكر القيد يثبت قهرا إرادة
المطلق.
وبالجملة الفارق
بين المطلقات وغيرها أنّ المدلول الوضعي في غيرها واف بتمام المقصود ، فلا جرم لا
حاجة إلى غير الأصل المذكور ، وفيها قاصر عن تمامه ، فلا جرم يحتاج في التتمّة إلى
إحراز المقدّمات المذكورة ، بحيث لو لم يحرز تلك المقدّمات لم يمكن إلزام المتكلّم
بإرادة المطلق ؛ إذ مع عدم إحراز كونه بصدد البيان له أن يقول : إنّي لست إلّا
بصدد بيان هذا المقدار من الغرض ، كما في قول الطبيب : لا بدّ لك من
شرب الدواء ، وهذا
بخلاف المطلق الواقع في حيّز النفي أو النهي ، فإنّه يكتفي في إسراء حكمه إلى تمام
الأفراد بمجرّد الدلالة الوضعيّة من دون حاجة إلى مقدّمات الحكمة ؛ فإنّ الظاهر من
قولك : لا رجل «مثلا» تعلّق النفي بما هو مفاد لفظ الرجل وضعا من الطبيعة المهملة
، ولازمه عقلا انتفاء تمام الأفراد ؛ إذ عدم الكلّي إنّما يكون بعدم كلّ ما له من
الأفراد؛ فإنّ الطبيعة لأجل إضافة الوجودات المتعدّدة إليها لا يضاف إليها إلّا
عدم واحد وهو عدم تمام تلك الوجودات ، وكذا الكلام في النهي.
ونظير هذه الخدشة
مع جوابها يجري في لفظة «كل» مع مدخولها ؛ فإنّه ربّما يقال بأنّ هذه اللفظة وإن
كانت موضوعة لاستيعاب جميع الأفراد ، إلّا أنّها سعة وضيقا تابعة لمدخولها ، فإن
كان مطلقا كانت لاستيعاب أفراد المطلق ، وإن كان مقيّدا كانت لاستيعاب أفراد
المقيّد ، ومن الواضح أنّ إثبات إرادة الإطلاق من المدخول يحتاج إلى مقدّمات
الحكمة ، فدلالة هذه اللفظة على استيعاب أفراد الطبيعة أيضا يحتاج إليها.
والجواب أنّ هذه
اللفظة موضوعة لاستيعاب كلّ ما لمدخوله من الأفراد ، والطبيعة المهملة حاوية
لأفراد الطبيعة المطلقة ، ومع ذلك لا يلزم التجوّز في قولك : كلّ رجل عالم ؛ لما
عرفت من كونها موضوعة لاستيعاب ما يكون لمدخوله من الأفراد ، كما لا يلزم التجوّز
في النهي فيما لو جعل متعلّقا بالغصب الخاص ، والحاصل أنّ هذه اللفظة وأداة النفي
والنهي يكون بمنزلة مقدّمات الحكمة في إعطاء وصف الإطلاق للطبيعة المهملة.
ومنها : أنّ
مراعاة جانب الأمر جلب للمنفعة ومراعاة جانب النهي دفع للمفسدة ، ودفع المفسدة
أولى من جلب المنفعة.
وأورد عليه في
القوانين بأنّه لا فرق في ثبوت المفسدة بين الطرفين ؛ إذ في ترك الواجب أيضا
مفسدة.
وأورد عليه في
الكفاية بأنّ الواجب لا بدّ وأن يكون في فعله مصلحة لا أن يكون في تركه مفسدة ،
كما أنّ الحرام لا بدّ وأن يكون في فعله مفسدة لا في تركه مصلحة.
وفيه أنّا لا نعني
بكون الشيء حسنا وذا مصلحة وكونه قبيحا وذا مفسدة إلّا
مجرّد استحسان
العقل إيّاه في الأوّل واشمئزازه منه في الثاني ، من دون لزوم ترتّب شيء عليه يكون
هو المنشأ للحسن والقبح ، نظير استحسان الشامّة لبعض الروائح واشمئزازه عن بعضها؛
لوضوح أنّ الموجود ليس إلّا نفس الرائحة من دون أن يكون في البين شيء آخر ورائها
يكون هو المنشأ للحسن والقبح عند الشامّة.
فالحسن والقبيح
العرضيّان لا بدّ وأن ينتهيا إلى ما يكون بالذات حسنا أو قبيحا وإلّا يلزم التسلسل
، فالظلم قبيح في نفسه لا بمعنى ترتّب شيء عليه ؛ إذ ننقل الكلام في هذا الشيء
وهكذا إلى غير النهاية ، بل بمعنى أنّه ممّا يشمئزّ منه العقل وإن لم يرتّب عليه
ضرر دنيوي ولا بعد عن ساحة المولى كما عند الدهري.
وحينئذ فلا شكّ
أنّ العقل النيّر لمّا يشمئز من فعل الحرام كذلك من ترك الواجب بلا فرق ، ألا ترى
أنّك كما تبتهج بإنقاذ أحد متعلّقيك من الأخ والابن ونحوهما ، كذلك يسوء حالك من
ترك إنقاذه.
ويرد على الوجه
المذكور أيضا أنّ محلّ هذه القاعدة ما إذا دار الأمر بين جلب المنفعة ودفع المفسدة
ولم يمكن الجمع بينهما ، لا ما إذا أمكن الجمع كما فيما نحن فيه حيث إنّ المكلّف
متمكّن من جلب المنفعة ودفع المفسدة معا بإتيان المأمور به في غير الفرد المنهيّ
عنه، مع أنّ الأوّلية في مورد الدوران مطلقا ممنوعة ؛ إذ هي تابعة للأهمّية وربّما
تكون في جانب المصلحة.
ويرد أيضا أنّ
القاعدة المذكورة أجنبيّة عن المقام ؛ إذ الكلام فيه في أنّ الحكم الشرعي لمحلّ
الاجتماع ما ذا يكون من الوجوب أو الحرمة بحسب الواقع ، ومن الواضح كون ذلك دائرا
مدار غالبيّة كلّ من المناطين واقعا ، وهذه القاعدة نافعة بحال المكلّف الجاهل
بالواقع ، فيرجّح الفعل على الترك بقضيّة أنّ المفسدة الآتية من قبل النهي دفعها
أولى من جلب المنفعة الآتية من قبل الأمر.
ومنها : أنّ
استقراء حكم الشارع في مواضع التعارض بين الوجوب والحرمة كحرمة صلاة الحائض في
أيّام الاستظهار وعدم جواز الوضوء من الإناءين المشتبهين بل الأمر بإهراق مائهما
يعطي قاعدة كلّية هي : أنّ كلّ موضع تعارض فيه
الوجوب والحرمة
فحكم الشارع فيه تغليب الحرمة.
وفيه أوّلا : أنّ
الاستقراء لا يحصل بهذا المقدار ، وثانيا : أنّ المسألة الثانية ليست ممّا تعارض
فيه الوجوب والحرمة ؛ إذ لا حرمة فيها في البين أصلا ، وذلك لعدم حرمة استعمال
الماء النجس في الوضوء وعدم حرمة الدخول معه في الصلاة ، غاية الأمر عدم الإجزاء
في المقامين ، وكذا المسألة الاولى لو قلنا بعدم الحرمة الذاتيّة لصلاة الحائض
وكون النهي للإرشاد إلى فقدان شرطها وهو الطهارة ، كما عليه المشهور ، كما يظهر من
حكمهم في موارد اشتباه حال الدم وعدم الفتوى بالاحتياط بالجمع بين تروك الحائض
وأفعال المستحاضة ؛ إذ لا يمكن الاحتياط على القول بالحرمة الذاتيّة ؛ لدوران أمر
الصلاة بين الوجوب والحرمة.
وأمّا لو قلنا
بالحرمة الذاتيّة فالصلاة المذكورة وإن كانت ممّا تعارض فيه الوجوب والحرمة ، إلّا
أنّ تغليب الحرمة فيها لم يعلم كونه من جهة مراعاة نفس الحرمة ؛ لاحتمال أن يكون
لأجل وجود الأصل الموضوعي في طرفيها أعني : الاستصحاب وقاعدة الطهارة ، فلو فرض
وجود هذا الأصل في طرف الوجوب كان هو المقدّم كما في الصلاة في أوّل زمان رؤية
الدم قبل استقرار العادة لو قلنا بعدم جريان قاعدة الإمكان هنا واختصاصها بما بعد
استقرار الحيضيّة بمضيّ الثلاثة ، فيحكم فيها بالوجوب ؛ لوجود الأصل الموضوعي في
طرفه وهو استصحاب الطهارة.
بقي الكلام في أنّ
الحكم في مسألة التوضؤ من الإنائين بعد عدم الحرمة ما ذا وإن كان أجنبيّا عن
المقام ، فنقول : في بعض الأخبار أنّه «يهريقهما ويتيمّم» فيحتمل أن يكون مورد هذا
الأخبار أعمّ ممّا إذا كان كلّ من الماءين بقدر الوضوء فقط وممّا إذا كان الماء
الثاني بقدر التطهير والوضوء أو كان كرّا.
وحينئذ يكون الحكم
بإهراق الماءين والتيمّم تعبديّا ، ويحتمل أن يكون خصوص ما إذا كان كلّ منهما بقدر
الوضوء خاصّة ، فيكون الحكم حينئذ على وفق القاعدة ، إذ مقتضي القاعدة رفع اليد من
هذين الإنائين ؛ إذ يلزم من استعمالهما القطع
بابتلاء البدن
بالنجاسة مع عدم رفع الحدث إلّا احتمالا ، ويكون الأمر بالإهراق كناية عن عدم
نفعهما في رفع شيء من الحدث والخبث لا أن يكون حكما تعبديّا.
وحينئذ يبقى
الموردان الآخران تحت القاعدة ، فالمشهور على أنّ مقتضي القاعدة فيهما هو التوضؤ
من الأوّل ثمّ تطهير مواضع الملاقاة بالثاني ثمّ التوضؤ منه ؛ فإنّه لو فعل ذلك
لقطع بحصول رفع الحدث كما هو واضح ، وأمّا الخبث فيتعارض الأصلان فيه ؛ وذلك لأنّه
يعلم بحدوث التنجّس عند ملاقاة الماءين ويشكّ في بقائه ، وكذا يعلم بحصول الطهارة
عند ملاقاة أحدهما ويشكّ في بقائهما ، فالاستصحابان متعارضان فيرجع إلى قاعدة
الطهارة، فيصير المكلّف واجدا للطهارة من الحدث ومن الخبث ظاهرا ، فيجوز له الدخول
في الصلاة.
وذهب المحقّق
الخراساني قدسسره إلى عدم جريان شيء من الاستصحابين ليكونا متعارضين لأنّه
يعتبر في الاستصحاب إحراز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين لو لوحظت الأزمنة بطريق
القهقرى وهذا مفقود في المقام ؛ لأنّ زمان اليقين بالطهارة هو زمان الفراغ عن
استعمال الماء الطاهر ، وزمان اليقين بالنجاسة زمان الفراغ عن استعمال الماء النجس
وكلاهما مردّد بين الزمانين ، وزمان الشكّ في الطهارة والنجاسة هو الأزمنة
المتأخّرة وهي متّصلة بزمان الفراغ عن استعمال الماء الثاني ولم يحرز كونه زمان
اليقين بالطهارة ولا زمان القطع بالنجاسة. هذا إذا كان الماء الثاني كرّا ليكون
بمجرّد إصابته مطهّرا لمواضع الملاقاة على تقدير تنجّسها بالماء الأوّل.
وأمّا لو كان
قليلا وكافيا للتطهير والوضوء فحيث إنّ التطهير به حينئذ على تقدير نجاسة الماء
الأوّل يتوقّف على التعدّد تكون النجاسة عند الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء
الثاني منتفية ؛ لدوران الأمر بين أن تكون النجاسة حادثة بالماء الأوّل وباقية إلى
هذا الحين وأن تكون حادثة بالماء الثاني ، وعلى أيّ حال يكون المحلّ متنجّسا في
هذا الحال ، فيكون زمان الشكّ في النجاسة وهو الأزمنة المتأخّرة عن هذا الحين
متّصلا بزمان اليقين بها ، بخلاف زمان الشكّ في الطهارة ؛ فإنّه لم يحرز
اتّصاله بزمان
اليقين بها ، لدوران الأمر بين أن يكون زمان اليقين بها زمان الفراغ عن الغسلة
الثانية بالماء الثاني وأن يكون زمان الفراغ من استعمال الماء الأوّل ، فلهذا يكون
استصحاب النجاسة حينئذ جاريا بدون استصحاب الطهارة.
وحينئذ يصير
المكلّف بواسطة العمل المذكور طاهرا من الحدث واقعا ومبتلى بالخبث ظاهرا ، فيدور
الحكم مدار أهميّة الطهارة المائيّة بنظر الشارع أو طهارة البدن عن الخبث ، فإن
قيل بأهميّة الثاني ـ كما يظهر من حكمهم بصرف الماء في رفع الخبث عند دوران الأمر
بينه وبين الصرف في رفع الحدث ـ كان المتعيّن هو التيمّم.
والحاصل أنّ
التوضّؤ من الإنائين المشتبهين له صور ، أحدها : أن يكون كلّ من الماءين بقدر
الوضوء ، وهذا هو المتيقّن من مورد الأخبار ، والثانية : أن يكون الثاني بقدر
التطهير والوضوء قليلا كان أو كرّا ، والثالثة : أن يكون كلّ منهما بقدر الوضوء
والتطهير ، فيتوضّأ بالأوّل ثمّ يطهر بالثاني ، ثمّ يتوضّأ به ثمّ يطهر بالأوّل ،
فإن قلنا بشمول الأخبار لجميع هذه الصور كان الحكم تعبّديا ، والأمر بالإهراق إمّا
نفسيّ ، وإمّا كناية عن عدم الاعتناء بالماءين ، وإن قلنا بانصرافها إلى الصورة
الاولى فلا بدّ في الصورتين الأخيرتين من المشي على القواعد ، وقد مضى الكلام في
أدلتها وأنّ مختار المشهور فيها متّحد مع مختار المحقّق المذكور نتيجة مع كرّية
الماء الثاني ، ومختلف معه فيها مع كونه قليلا ، وبقي الكلام في الثانية.
فنقول : القائل في
الصورة الثانية بجريان الاستصحابين وتعارضهما يقول به هنا بلا فرق ، وأمّا القائل
هناك بجريان استصحاب النجاسة بلا معارض مع كون الماء الثاني قليلا فلا بدّ أن يقول
هنا بعدم جريانه ، مع أنّ هذه الصورة مشتركة مع الصورة السابقة في إحراز اتّصال
زمان الشكّ بزمان اليقين ، غاية الأمر أنّ زمان اليقين هنا زمان الفراغ عن الغسلة
الاولى بالماء الأوّل في المرّة الثالثة لا زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء
الثاني ؛ إذ النجاسة فيه مقطوع الارتفاع ؛ إذ لو كانت هي الباقية فقد ارتفع
بالغسلة الثانية بالماء الثاني ، وإن كانت هي الحادثة فقد ارتفعت بالغسلة الثانية
بالماء الأوّل ، بخلاف النجاسة في زمان الفراغ عن الغسلة الاولى بالماء
الأوّل ؛ فإنّها
لو كانت هي الباقية كانت زائلة بالغسلة الثانية ، ولو كانت هي الحادثة كانت باقية
بعدها.
ولكنّه مع ذلك لا
يمكن جريان الاستصحاب فيها ؛ لأنّ نقض اليقين فيها شبهة مصداقيّة لنقض اليقين
بالشكّ ، لاحتمال أن يكون نقضا لليقين باليقين ، توضيحه أنّه لا شكّ في أنّا
قاطعين في هذه الصورة بوجود الطهارة والنجاسة المقطوعتي الارتفاع ، والطهارة
المقطوعة الارتفاع هي السابقة على الاستعمال ، والنجاسة المقطوعة الارتفاع يحتمل
أن يكون هي نفس هذا الذي نستصحبه إن كان الماء الثاني نجسا ، وأن يكون غيره إن كان
الماء الأوّل نجسا ، فعلى الأوّل لا يكون نقض المستصحب في الآن اللاحق إلّا نقضا
لليقين باليقين أي نقضا لوجوده المتيقّن في الزمان السابق بعدمه ، المتيقّن في
الزمان اللاحق.
بقي الكلام في
أنّه هل يعتبر في الاستصحاب اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين كما ذهب إليه المحقّق
المذكور أولا؟ فنقول : الظاهر أنّه غير معتبر ؛ لعدم مساعدة الدليل عليه ، ولكن
هنا مطلبا لازمه عدم جريان الاستصحاب في جميع مواضع عدم إحراز الاتصال وفي بعض
مواضع إحرازه ، وهو أنّ ما هو وظيفة الاستصحاب وشأنه ليس إلّا توسعة زمان المستصحب
وجعله طويلا ، وإضافة الزمان المشكوك إلى الزمان المقطوع ، وليس من وظيفته تطبيق
الزمان المتيقّن على زمان خارجيّ
مثلا لو استعمل
الماء الأوّل ، ثمّ استعمل بعد انقضاء ساعة الماء الثاني في مدّة أربع دقائق ، ثمّ
غسل مواضع الملاقاة بعد انقضاء ساعة بكرّ طاهر ، وهاتان الساعتان زمان الشكّ ،
والدقائق الأربعة المتوسطة يقطع فيها بالنجاسة ، والزمان المتيقّن للنجاسة ساعة
وأربعة دقائق ، وهذه الساعة مردّدة بين الساعة الاولى والثانية ، فاستصحاب النجاسة
في الساعة الأخير معيّن لتلك الساعة في هذه الساعة الخارجيّة من دون أن يزداد أو
ينقص بذلك زمان النجاسة.
ولا فرق بين هذا
المثال وغيره كما إذا كانت النجاسة مردّدة بين التحقّق في دقيقتين والتحقّق في
ساعات كثيرة إلى أيّ حدّ بلغت ؛ فإنّ الاستصحاب في الأزمنة
المتأخّرة حينئذ
وإن كان يوجب زيادة زمان النجاسة ، إلّا أنّه لا يجري في هذه الأزمنة إلّا بعد
صحّة جريانه في أوائل أزمنة الشكّ ، فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من ازمنته.
فنقول : هنا ثلاث
دقائق ، فالوسطى منها نقطع فيها بالنجاسة وطرفاها زمان الشكّ، والمتيقّن تحقّق
النجاسة في دقيقتين ونشكّ في أنّ حدوثها في الدقيقة الاولى وبقائها وانتهائها في
الوسطى ، أو أنّ حدوثها في الوسطى وبقائها في الأخيرة؟.
فاستصحاب النجاسة
في الدقيقة الأخيرة معيّن لمبدا الحدوث في الوسطى وزمان البقاء في الأخيرة من دون
أن يزيد أو ينقص بذلك زمان النجاسة ، وهذا الكلام جار أيضا في استصحاب النجاسة في
الصورة الثالثة ، أعني ما إذا كان كلّ من الماءين قليلا وكافيا للتطهير والوضوء.
مثلا لو فرضنا كون
النجاسة حينئذ بعد التطهير بالماء الأوّل مردّدة بين التحقّق في ثلاث دقائق أو
ساعات كثيرة فننقل الكلام في الدقيقة الاولى من أزمنة الشكّ ونقول : هنا أربع
دقائق نقطع في ثالثتها بالنجاسة ونشكّ في أوّليهما وهما دقيقتا التطهير والوضوء
بالماء الثاني واخيرتهما وهي ما بعد الغسلة الثانية بالماء الأوّل مع العلم بتحقّق
النجاسة في دقيقتين، فاستصحاب النجاسة في الأخيرة معيّن لها بين الدقيقتين في
الثالثة والأخيرة.
الأمر الثالث :
ومن جملة ما تمسّك به المجوّزون باب الأسباب ؛ فإنّ الغسل الواحد مثلا يكفي
للجنابة والجمعة ، مع أنّ الأوّل سبب للوجوب والثاني للاستحباب ، وكذا الكلام في
منزوحات البئر ؛ فإنّ وقوع الكلب سبب لوجوب نزح الأربعين ، وكذا وقوع الهرّة ،
فإذا وقع كلبان أو كلب وهرّة وجب أربعين واحد ، فيجتمع في نزحها وجوبان ، فيعلم من
ذلك أنّ تعدّد الجهة كاف في جواز اجتماع حكمين متضادّين أو متماثلين في شيء واحد.
أقول : الكلام في
باب الأسباب يقع في مقامين :
أحدهما أنّ مقتضى
القاعدة هل هو كفاية الفعل الواحد لسببين أو أسباب ، أو
لزوم تعدّده
بتعدّد سببه ، وبعبارة اخرى مقتضى القاعدة هو التداخل إلّا ما خرج بالدليل أو عدمه
كذلك؟
والثاني أنّه هل
يصحّ التمسّك بهذا الباب للقول بالجواز أو أنّه غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا؟.
أمّا المقام
الأوّل فنقول : جعل طبيعة سببا لفعل باتلائها لإن وإذا ونحوهما كما في قولك : إذا
نمت فتوضّأ يتصوّر على وجوه ، أحدها : أن يكون الطبيعة في جانب السبب مأخوذة
باعتبار صرف الوجود في مقابل العدم الأصلي بحيث كان السبب نقض عدمها وتبدّله
بالوجود ، والثاني : أن يكون مأخوذة باعتبار الوجود الساري ، فعلى الأوّل يكون
السبب واحدا ، لأنّ صرف الوجود لا يقبل التكرار ويتعيّن في الوجود الأوّل للطبيعة
؛ إذ به يحصل النقض دون سائر الوجودات ، وعلى الثاني يكون متعدّدا ، فكلّ وجود سبب
مستقل.
وعلى التقديرين
يمكن أخذ الطبيعة في جانب المسبّب لكلّ من الاعتبارين ، فإن احدث في جانب المسبّب
باعتبار الوجود الساري وفي جانب السبب باعتبار صرف الوجود، فالمسبّب لا يتكرّر
بتكرّر الفرد من هذا السبب ، فإنّه وإن كان قابلا لأن يتكرّر بتكرّر السبب ، إلّا
أنّ السبب لا يتكرّر ، نعم يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ومن سبب آخر.
وإن احدث في جانب
السبب أيضا باعتبار الوجود الساري فالمسبّب يتكرّر بتكرّر الفرد من هذا السبب ،
ومنه ومن سبب آخر ، ولو احدث في جانب المسبّب باعتبار صرف الوجود فلا يفرق الحال
بين أن يؤخذ في جانب السبب أيضا بهذا الاعتبار أو باعتبار الوجود الساري.
فعلى التقديرين لا
يتكرّر المسبّب لا لفردين من هذا السبب ولا لفردين منه ومن غيره، فالسبب وإن كان
متعدّدا وقابلا للتكرار إلّا أنّ المسبّب واحد لا يقبل التكرار أصلا ، هذا هو
الوجوه المتصوّرة في هذا الباب ولا إشكال في إمكان كلّ منهما عقلا ولا في الآثار
المترتبة على كلّ منها على تقدير القطع به ، إنما الكلام والإشكال في أنّ
المستفاد من
الأدلّة أيّ منها؟.
فذهب شيخنا
المرتضى قدسسره إلى أنّ ما يستفاد من الأدلّة ويكون قاعدة كلّية هو عدم
التداخل ويكون معمولا به في مورد الشكّ كباب المنزوحات ، لا في مورد القطع بالتداخل
من جهة النصّ الخاص كما في باب الأحداث ، لقوله عليهالسلام : «إذا اجتمعت لله عليك حقوق أجزأك غسل واحد».
والدليل على هذه
الدعوى وإن كان أصله مأخوذا من كلماته قدسسره في مواضع عديدة من كتبه ، إلّا أنّا نذكره مع زيادة تنقيح
ليست في كلامه قدسسره وهو : أنّ القضيّة المبدوّة بإن وإذا ونحوهما على ما هو
المعروف أو المجمع عليه ظاهرة في عليّة الشرط للجزاء وكونه علّة منحصرة ، فيكون
منطوقها بمقتضى الأوّل الثبوت عند الثبوت ، ومفهومها بمقتضى الثاني الانتفاء عند
الانتفاء ، ولا يخفي أنّ مقتضى إطلاق القضيّة تحقّق العليّة التامّة لجميع مصاديق
الطبيعة التالية لأداة الشرط ، فكما أنّ الموجود أوّلا من مصاديقها يكون مؤثّرا
تامّا فكذا الموجود منها ثانيا وثالثا وهكذا أيضا يكون مؤثرا تامّا مستقلا كالأوّل
بلا فرق ، لتحقّق الطبيعة في جميعها ، فقوله : إذا نمت فتوضّأ مثلا وإن كان رفع اليد
عن ظهوره في المنحصريّة للقطع بعدمها لقوله : إذا بلت فتوضّأ ، إلّا أنّ ظهوره في
عليّة النوم للوضوء محفوظة ، ومقتضى إطلاقه عدم الفرق بين ما وجد من مصاديق النوم
أوّلا وما وجد منها ثانيا وثالثا وهكذا ، وتخصيص العليّة بالموجود منها أوّلا
تقييد للنوم في القضية بأوّل الوجودات أو بالوجود الغير المسبوق بالوجود من دون
مقيّد.
فإن قلت : ما وجه
الفرق بين قولنا : النوم واجب والنوم سبب ، حيث نقول في الأوّل بكون مقتضى الإطلاق
اختصاص الوجوب بأوّل الوجودات وفي الثاني بكون مقتضاه سراية السببية إلى جميع
الوجودات؟
قلت : الأسباب
العادية الدنيويّة المعلومة عند العرف يكون السببيّة فيها متعلّقة بالوجود الساري
كحرارة النار السارية إلى كلّ فرد منها ، وحينئذ فالأسباب الشرعيّة وإن كان العرف
جاهلا بأصل سببيّتها لو لا إعلام الشرع ، ولكن إذا أعلم
الشرع بها وسكت عن
بيان كيفيّة سببيّتها كان إطلاق كلامه محمولا على الكيفيّة المرسومة المتعارفة عند
العرف ، أعني السببيّة بلحاظ الوجود الساري ، فمرسوميّة هذا النحو من السببيّة
أعني سببيّة الوجود الساري وتعارفها عند العرف قرينة عامّة موجبة لحمل إطلاق
الكلام الدالّ على السببيّة عليه.
فهذا نظير استفادة
كيفيّة تأثير النجاسات في التنجيس وأنّه يكون على وجه الملاقاة دون المجاورة
وغيرها من كون الغالب في التأثيرات العاديّة كونها على هذا الوجه ، فقولهعليهالسلام : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» مفهومه أنّ الماء
القليل ينجّسه النجاسات ، وأمّا كيفيّة تنجّسها له فهذا الكلام ساكت عنها ، فيحمل
على كونه بوجه الملاقاة بقرينة أنّ الغالب في التاثيرات العاديّة ذلك ، وهذا بخلاف
وصف الوجوب ؛ فإنّ تعلّقه بالطبيعة باعتبار صرف الوجود شائع في العرف والعادة.
فإن قلت : سلّمنا
ظهور إطلاق القضيّة المبدوّة بإن وإذا في تعدّد السبب بالقرينة المذكورة ، لكنّا
نقول : إنّ الأسباب المتعدّدة المتعاقبة في الوجود يختصّ أوّلها بالتأثير ويلغو
الثاني لو كان المسبّب غير قابل للتعدّد والتكرار ، والمسبّب في باب الأسباب
الشرعيّة هو الطبيعة المأمور بها كالتوضّؤ في قوله : إذا نمت فتوضّأ ، وهي غير
قابلة للتكرار ؛ لأنّها باعترافكم مأخوذة بلحاظ صرف الوجود الخارق للعدم ، وخرق
العدم لا يمكن إلّا مرّة واحدة، فالأفراد المتعدّدة المتعاقبة من النوم مثلا لا
تأثير إلّا لأوّلها ؛ لعدم قابليّة المحلّ إلّا لتأثير واحد ، نظير عدم تأثير
النار في إحراق المحلّ بعد احتراقه بنار اخرى ، والحاصل أنّ السبب وإن كان متعدّدا
إلّا أنّ المسبّب والتأثير واحدان.
قلت : أخذ الطبيعة
في جانب الوجوب بلحاظ صرف الوجود إنّما يكون من
باب الأخذ بالقدر
المتيقّن ، وبيانه أنّ الطبيعة المهملة من حيث الوجود والعدم لمّا لم يكن وقوعها
متعلّقا للطلب كان اللازم بحكم العقل اعتبار الوجود معها ، والوجود المعتبر يمكن
أن يكون هو الوجود المخصوص ، وأن يكون هو الوجود الساري ، وأن يكون صرف الوجود ،
والأوّلان مشتملان على الأخير مع الزيادة ، وحينئذ فحيثما كان المتكلّم في مقام
البيان ولم يقم في البين قرينة على اعتبار الخصوصيّة أو السريان فإطلاق كلامه
محمول على اعتبار صرف الوجود ، فعلم أنّ ظهور طلب الطبيعة في مطلوبيّة صرف الوجود
إنّما يكون ناشئا من جهة الإطلاق وكونه قدرا متيقّنا.
وحينئذ فلو قام
دليل على أنّ المعتبر هو الوجود بقيد السريان كان له الورود على الظهور المذكور ،
وعلى هذا فإذا كان ظاهر القضيّة المبدوّة بإن وإذا على ما قرّرنا سببيّة كلّ وجود
وتأثيره الفعلي المستقل ـ ومن المعلوم عدم إمكان تعدّد السبب الفعلي إلّا مع
قابليّته المسبّب للتكرار ـ كان هذا دليلا على أنّ الوجود المعتبر في جانب المسبّب
مع كونه مأمورا به هو الوجود الساري القابل للتكرار دون صرف الوجود الغير القابل
له.
فإن قلت : سلّمنا
تعدّد السبب وتعدّد التأثير لكن نقول : المسبّب للأسباب الشرعيّة هل هو الوجود أو
الوجوب؟ لا إشكال في عدم كونه هو الوجود وإلّا لزم تحقّق الوضوء عقيب النوم مثلا ،
فتعيّن أن يكون هو الوجوب ، وحينئذ فتعدّد السبب يقضي بتعدّد الوجوب وهو لا يقضي
بتعدّد الوجود ، لإمكان اجتماع الوجوبات المتعدّدة في وجود واحد وصيرورتها وجودا
واحدا متأكّدا ، كما لو قال : أكرم عالما وأكرم هاشميّا ؛ فإنّ إتيان المجمع حينئذ
متّصف بالوجوب المتأكّد ، وبعد هذا القول لا يخفى أنّ الوجوب في دليل سببيّة هذه
الأسباب متعلّق بعنوان واحد كالتوضّؤ ونزح الأربعين من دون تقييد بما يقيّد بعدد
الوجود بتعدّد الوجوب ، فيكون ظاهرا في اجتماع الوجوبات في الوجود الواحد
وصيرورتها وجوبا واحدا متأكّدا نظير قول المولى : اضرب اضرب ، فإنّه بإطلاقه وعدم
تقييد الضرب الثاني بالمرّة الاخرى ظاهر في كون المطلوب ضربا واحدا وكون طلبه
شديدا.
قلت : المسبّب
للأسباب الجعليّة التشريعيّة يكون هو الوجود لكن لا على نحو مسببيّته للأسباب
العقليّة التكوينية ؛ فإنّها فيها تكون على وجه يلزم من وجود السبب وجود المسبّب ،
وأمّا في التشريعيّات فوجود الأسباب أيضا مقتض لوجود المسبّبات لكن بجعل الآمر في
نظره ، وأمره بإيجاد المسبب ناش من قبل هذا الاقتضاء ، فكأنّه يجعل المكلّف حادثا
للمقتضي ويأمره بانفاذ اقتضائه وإجرائه وترتيب مقتضاه عليه ، ونظيره قول القائل :
البيت صار كثيفا ويقتضي الكنس ، فيثبت الاقتضاء لنفس كثافة البيت ، غاية الأمر
أنّه لمّا يرى المقتضي قاصرا يأمر الغير بإنفاد اقتضائه ، فعلم أنّ تعدّد السبب في
الأسباب الشرعيّة قاض بتعدّد الوجود.
فإن قلت : سلّمنا
تعدّد السبب وتعدّد التأثير وكون المسبب هو الوجود دون الوجوب، لكن نقول هذا لا
يقتضي تعدّد الوجود ؛ وذلك لأنّ كلّ فرد من أفراد هذه الأسباب يقتضي وجود عنوان ،
والعناوين التي تكون مسبّبات لها متصادقة في وجود واحد ، فيحصل امتثال أوامرها
بإتيان وجود واحد كما يحصل أكرم العالم وأكرم الهاشمي بإكرام المجمع.
قلت أوّلا : إن
المفروض اتحاد عنوان المسبّب لهذه الأسباب كعنوان التوضّؤ ونزح الأربعين ، ومع فرض
اتّحاد العنوان يكون تعدّد السبب قاضيا بتعدّد الوجود بلا إشكال.
وثانيا : لو شككنا
في مقام في أنّ المسبّب عنوان واحد أو عناوين متعدّدة فالمرجع هو الاشتغال دون
البراءة ؛ إذ بعد اليقين بأنّ تحقّق كلّ سبب اقتضى تحقّق شيء واشتغال الذمّة
والتعهّد به نشكّ في أنّ المشتغل به يكون عنوانا واحدا أو عناوين متعدّدة غير
متصادقة في فرد أصلا ، حتى لا يحصل الفراغ بالوجود الأوّل ، أو يكون عناوين
متعدّدة متصادقة في الوجود الأوّل حتّى يحصل الفراغ به ، فنحكم بوجوب تعدّد الوجود
وليحصل الفراغ اليقيني بعد الاشتغال اليقيني ، فالشكّ إنّما هو في حصول الامتثال
والخروج عن العهدة بعد العلم بثبوت التكليفين لا في التكليف
الزائد حتى يكون
مرجعا للبراءة ، كما هو واضح.
ثمّ إنّ هذا
الدليل كما يجري في الفردين من نوع واحد كوقوع الكلبين كذلك يجري في النوعين كوقوع
الكلب والهرّة بتقريب أنّ تخصيص السببيّة بالنوع الأوّل تقييد لدليل سببيّة النوع
الثاني ؛ لعدم مسبوقيّة وقوعه لوقوع النوع المقتضي لنزح المساوي أو الأكثر ، فيكون
مدفوعا بالإطلاق ، ويمكن هنا إيراد الإشكالات الثلاثة الأخيرة مع دفعها بمثل ما
مرّ من الأجوبة ، هذا محصّل كلامه قدسسره مع تنقيحه.
والحقّ أن يقال :
إنّه ليس لنا في باب الأسباب الشرعيّة لفظ كان معناه السببيّة والعليّة العقليّة ،
وأمّا أدوات الشرط فإن قلنا فيها بمقالته قدسسره من أنّ مفادها بحسب الظهور الوضعي أو العرفي عليّة تاليها
للجزاء بالعليّة التامّة العقليّة غاية الأمر مع زيادة قيد الانحصار ، لصحّة أخذ
المفهوم ، كان ما ذكره قدسسره هنا حقّا لا محيص عنه.
وأمّا لو أنكرنا
ذلك وقلنا بأنّ المستفاد منها عرفا ليس إلّا مجرّد كون تحقّق تاليها ملازما لتحقّق
الجزاء بعده من دون استفادة العليّة [فلا] ، نعم يستفاد عدم كونهما غير مرتبطين
أصلا ، بل يكونان مرتبطين بنحو من الربط إمّا لعليّة الأوّل للثاني ، أو بكونه
جزءا أخيرا لعلّته ، أو بتلازمهما في الوجود وكونهما معلولين لعلّة ثالثه كما هو
الحقّ ، والدليل عليه شهادة الوجدان بصحّة استعمال القضيّة الشرطيّة في المقامات
الثلاثة على حدّ سواء.
ألا ترى صحّة
قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه فيما إذا فرض كون العلّة لإكرامه هو العلم والسيادة
والمجيء من حيث المجموع ، وفرض العلم بالأوّلين من دون أن يكون استعمالا للقضيّة
الشرطيّة في غير محلّها.
وكذلك قولنا : إن
جاء زيد جاء عمرو فيما إذا فرض كون المجيئين متلازمين في الوجود ، وهذا هو المبنى
للنزاع الواقع بين العلمين الجليلين في مفهوم قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» حيث جعله أحدهما
موجبة جزئيّة مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق تعليق السبب الكلّي بالكرّية ؛ فيلزم من
انتفاء الكريّة
انتفاء السلب
الكلّي الحاصل بالإيجاب الجزئي واستقرب قول المخالف ، وجعله الآخر موجبة كليّة
مستندا إلى أنّ مفاد المنطوق كون الكريّة علّة منحصرة للسلب الكلّي ، ومرجعه إلى
أنّ الكريّة علّة منحصرة لعدم تنجيس كلّ واحد من أفراد النجاسات ، فيلزم من
انتفائها تنجيس جميع النجاسات ؛ فإنّه لو قلنا في القضيّة الشرطيّة بالمقالة
الاولى كان ما ذكره الثاني حقّا ؛ إذ لو كان عدم تنجّس بعض النجاسات مستندا إلى
عدم قابليّتها وعدم تنجيس بعض آخر إلى الكرّية لم يصدق كون الكريّة علّة تامّة
منحصرة لعدم تنجيس جميع النجاسات بل لعدم تنجيس بعضها.
ولو قلنا بالمقالة
الثانية كان ما ذكره الأوّل حقّا ، فلو فرض كون شيء سببا متمّما لعموم بحيث كان
بعض هذا العموم متحقّقا ومستندا إلى غير هذا الشيء وتتمّته مستندة إليه صحّ أن
يقال : لو تحقّق هذا الشيء تحقّق هذا العموم ، مثلا لو فرض كون عدم خوف المخاطب من
أحد على الوجه الكلّي مستندا بالنسبة إلى بعض الأشخاص إلى عدم تسلّط هذا البعض
عليه ، وبالنسبة إلى بعض آخر مستندا إلى مصاحبة المخاطب مع زيد صحّ أن يقال : إذا
كنت مع زيد فلا تخف أحدا.
وحينئذ فمفاد
منطوق الرواية ليس إلّا مجرّد تعليق السلب الكلّي بالكريّة من دون إشعار بكونه
علّة منحصرة له ، فلا جرم يلزم من انتفاء الكريّة انتفاء هذا السلب الحاصل
بالإيجاب الجزئي.
وكيف كان فلو قلنا
بالمقالة الثانية نقول في باب الأسباب الشرعيّة : إنّ المستفاد من الدليل ليس
بأزيد من أنّه متى تحقّق واحد من الأحداث وجب تحقّق الوضوء بعده ، أو أنّه متى
تحقّق وقوع الكلب أو الهرّة مثلا وجب تحقّق نزح الأربعين بعده ، ولا شكّ في أنّ
هذا المعنى يصدق فيما إذا احدث أحداث متعدّدة وتحقّق عقيبها وضوء واحد ، أو تحقّق
وقوع كلاب متعدّدة أو كلب وهرّة وتحقّق نزح الأربعين مرّة واحدة بعده ، فيصدق
تعقّب الوضوء بالنسبة إلى كلّ واحد من الأحداث ، وتعقّب النزح بالنسبة إلى كلّ
واحد من الوقوعات.
نعم لو تخلّل
الوضوء أو النزح بين حدثين أو وقوعين لم يجز الاكتفاء بهما لما وقع عقيبهما ؛ لأنّ
المستفاد من الدليل لزوم تحقّقهما عقيب هذا الأشياء هذا هو الكلام في المقام
الأوّل.
وأمّا المقام
الثاني فالحقّ أنّ باب الأسباب غير مرتبط بمبحث الاجتماع رأسا ، وبيانه أنّه لو
قلنا بكون السبب صرف الوجود لزم لغوية الفرد الثاني وكون الوجوب واحدا ، فلم يجتمع
وجوبان حتى يلزم تداخلهما ، وكذا لو قلنا بكون المسبّب صرف الوجود ، ولو قلنا بأنّ
هنا سببين ومسبّبين تعلّق بكلّ منهما وجوب فحينئذ وإن كان في البين وجوبان ، لكن
لم يلزم اجتماعهما في موضوع واحد ، بل لكلّ منهما موضوع مستقل.
نعم لو قلنا
بتعدّد الأسباب وتعدّد المسبّبات وتداخل المسبّبات في فعل واحد كما لو قلنا بأنّ
حدث الجنابة موجب لوجوب غسل وحدث الحيض لوجوب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة ،
والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّل في الحقيقة ، والجمعة لاستحباب غسل آخر
مغاير للأول في الحقيقة والجمعة لاستحباب غسل آخر مغاير للأوّلين فيها ، ولكن هذه
الأغسال المختلفة الحقائق يتحقّق في عمل واحد كان لهذا العمل المتداخل فيه ربط
بهذا المبحث في الجملة ، ولكنّه مع ذلك لا يصلح للاستشهاد ؛ إذ للمانع أن يقول: لم
يجتمع في هذا العمل وجوبان أو وجوب واستحباب ، بل يحصل من اجتماع الأوّلين وجوب واحد
متأكّد ، وكذا من اجتماع الأخيرين إلّا أنّ التأكّد هنا ليس بمثابته في الأوّل ،
كما أنّ هذا هو الحال في مثل الصلاة وفيما تصادق فيه عنوانان واجبان كما في إكرام
شخص كان عالما هاشميّا بعد ورود : أكرم عالما وأكرم هاشميّا.
«فصل في اقتضاء النهي للفساد وعدمه»
وقبل الخوض في
المقصود نقدّم امورا.
الأوّل : قد مرّ
في المبحث المتقدّم بيان الفرق بينه وبين هذا المبحث وأنّه يفترق عن هذا المبحث
سؤالا وجوابا بأنّ المسئول عنه هناك أنّه هل يمكن إبقاء الأمر و
النهي المتعلّقين
بعنوانين مجتمعين في وجود واحد ، أو لا بدّ عقلا من تقييد أحدهما ، وهنا أنّ
التحريم هل هو ملازم للفساد أولا.
وموردا بأنّه لو كان بين العنوانين عموم وخصوص مطلقا مفهوما
وخارجا يجري فيهما هذا النزاع دون النزاع المتقدّم وقد مرّ وجهه ، وأمّا غير هذا
المورد فالقول بالامتناع وتقييد جانب الأمر بجعله من مبادي هذا النزاع ، وأمّا على
القول بالجواز فلم يتعلّق نهي بالعبادة أصلا.
الثاني : أنّ هذا
النزاع هل هو عقلي او لفظي؟ الظاهر الأوّل ؛ إذ لا إشكال في أنّ هذا النزاع ليس
راجعا إلى أنّ معنى النهي المتعلّق بالعبادة أو المعاملة هل هو الإرشاد إلى الفساد
أو التحريم ، بل هو راجع إلى أنّ التحريم التكليفي سواء كان مستفادا من اللفظ أو
من غيره ملازم للفساد أولا؟ ويشهد لذلك ظاهر الكلمات والعنوانات.
أمّا الأوّل ،
فلأنّ استدلالهم على الفساد في العبادات بأنّ الوجود المبعّد لا يمكن أن يكون
مقرّبا ظاهر في كون النزاع في أمر عقلي لا لفظي ، ومن هذا السنخ أيضا استدلالاتهم
في جانب المعاملات ، وأمّا الثاني فلأنّ تقرير العنوان بأنّ النهي هل هو موجب
للفساد أو لا ، ظاهر في ذلك ؛ إذ الموجب بمعنى العلّة ، ولا يقال : إنّ اللفظ علّة
لمعناه ، بل يقال : إنّه دالّ عليه ، فلو كان النزاع في أمر لفظي لكان حقّ العبارة
في العنوان أن يقال : هل النهي دالّ على الفساد أولا ، فمعنى العبارة المذكورة أنّ
العنوان من حيث نفسه تام لا مانع فيه بحيث لو لا المانعيّة من قبل النهي كان صحيحا
بلا كلام ، فليس حاله حال الصلاة في اللباس النجس أو في جزء غير المأكول اللحم ، حيث
إنّها في حدّ نفسها فاسدة ، فالنهي فيها دالّ على الفساد ولا علّة له.
وأمّا مجرّد وجود
القائل بإنكار الملازمة عقلا وإثبات الدلالة الالتزاميّة لفظا في المعاملات فلا
يوجب كون النزاع في أمر لفظي ، بل لا بدّ من إبطال هذا القول كما
__________________
أبطلنا القول
بالجواز عقلا والامتناع عرفا في المبحث المتقدّم.
الثالث : ربّما
يقال بتعميم ملاك النزاع للنهي التحريمي والتنزيهي والنفسي والغيري والأصلي
والتبعي ، والمراد بالأصلي ما كان مدلولا بالدلالة الاستقلالية المطابقيّة ،
وبالتبعي ما كان مدلولا بتبع الدلالة على شيء آخر كما يستفاد من قوله : انصب
السلّم ، مطلوبيّة الكون على السطح انتقالا من المعلول إلى العلّة.
أقول : الحقّ عدم
كون التنزيهي محلّا للنزاع ، ووجهه أنّ المفروض كون العنوان من حيث الذات مشتملا
على المصلحة الوجوبيّة المانعة من النقيض ، وهذه المصلحة لا تزاحمها إلّا المفسدة
التحريميّة المانعة من النقيض أيضا ، لا المفسدة الكراهيّة الغير المانعة عنه
المشوبة بالرخصة في الفعل ؛ فإنّ هذه لا يعقل أن تصير مزاحمة للجهة الوجوبيّة
ومسقطة لها عن التأثير.
وبعبارة اخرى :
الجهة الكراهيّة تقتضي كون الفعل خلاف الأولى وهو غير مناف للعباديّة ، وإنّما
المنافي لها كونه معصية ، ولهذا تراهم يسمّون العبادات التي تعلّق بها النهي
التنزيهي بالعبادات المكروهة ؛ فإنّ معنى ذلك أنّها صحيحة ، غاية الأمر كونها أقلّ
ثوابا ، ولم يعهد القول بفسادها من أحد حتّى من القائلين بأنّ النهي في العبادات
موجب للفساد ، فهذا دليل على خروج النهي التنزيهي عن تحت هذا النزاع.
وأمّا النهي
النفسي التبعي فلا إشكال في دخوله في حريم النزاع كالأصلي بلا فرق ، وكذا الغيري
أصليّا كان أو تبعيّا ، وإن كان ربّما يتوّهم خروجه استنادا إلى أنّه لا عقاب على
مخالفة مقدّمات الواجب وأنّها لا توجب البعد عن ساحة المولى ، فمبغوضيّتها غير
مؤثّرة ، فليست بمانعة عن العباديّة.
ولكنّه مندفع بأنّ
مقدّمة الواجب وإن كان لا يوجب مخالفتها عقابا مستقلا عليها بمعنى أنّه لو كان
لواجب مقدّمات عديدة ، فترك تلك المقدّمات لا يوجب عقابات متعدّدة بعددها ، إلّا
أنّه لا شبهة في إيجابها العقاب والبعد عن ساحة المولى من جهة ترك ذيها.
وبعبارة اخرى : لا
شكّ في اتّصاف المقدّمة باللابديّة العقليّة ؛ إذ معنى المقدّميّة ذلك، فيكون ترك
ذيها مسبّبا عن تركها ، فيكون ترتّب العقاب والبعد على ترك ذي المقدّمة معلولا في
الحقيقة لترك المقدّمة ، وما هو علّة لترتّب العقاب والبعد ولو على غيره يكون
اختياره قبيحا لا محالة ، فيكون الحسن الفاعلي المعتبر في العبادة منتفيا فيه ،
فلهذا يمتنع عباديّة الفعل الذي يكون تركه مقدّمة لواجب.
ومن هنا ظهر أنّ
جريان ملاك النزاع في المقدّمة التي تكون علّة للحرام غير مبنيّ على القول بوجوب
مقدّمة الواجب ، بل يجري ولو على القول بعدم وجوبها ، وذلك لما عرفت من كفاية
المقدّميّة واللابدّية العقليّة في ذلك ، فمن قال في مبحث الضّد بعدم الاقتضاء لا
لمنع مقدّميّة ترك الضدّ لفعل ضدّه بل لمنع الوجوب مع تسليم المقدّميّة كان له أن
يقول بفساد الضدّ لو كان عبادة ، فيشترك هذا القول مع القول بالاقتضاء نتيجة.
الرابع : لا إشكال
في أنّ المراد بالعبادة في المقام ليس ما يكون عبادة فعليّة تامّة من جميع الجهات
؛ ضرورة عدم إمكان وقوعه متعلّقا للنهي وإن كان الظاهر من المحكيّ أبي حنيفة من
القول بإيجاب النهي في العبادة للصّحة ذلك ، بل المراد ـ على ما عرفت من أنّ
النزاع إنّما هو في ثبوت العليّة والملازمة العقليّة بين النهي والفساد حتّى
باعتراف من يجعل النزاع في الدلالة اللفظيّة الالتزاميّة كصاحب الكفاية ـ هو ما
يكون اقتضاء العباديّة والقرب فيه في حدّ ذاته ولو لا النهي تامّا حتى ينحصر
الكلام فيه في أنّه هل يحدث من جهة النهي مانع من عباديّة هذا الذي يكون في حدّ
ذاته تامّا في اقتضاء العباديّة أولا.
وأمّا ما ليس كذلك
بأن كانت المصلحة العباديّة مقيّدة بغيره وقاصرة عن أن تشمله كما في الصلاة في
اللباس النجس أو في جزء غير المأكول فليس محلا لهذا الكلام ؛ لعدم استناد الفساد
فيه إلى النهي ، بل إلى قصور المصلحة.
ومن هنا ظهر ما
فيما ذكر في الكفاية ممّا حاصله : أنّ المراد بالعبادة هنا إمّا ما يكون عبادة في
ذاته ، أو ما لو تعلّق الأمر به كان أمره تعبّديا لا توصّليّا ، ومثّل له
بصوم العيدين ؛
فإنّ الأخير بإطلاقه غير صحيح ، وإنّما يصحّ مع التقييد بإحراز وجود المصلحة ،
فصوم العيدين إنّما يصحّ جعله من محلّ الكلام لو استفيد من دليل حرمته مجرّد الحرمة
لا هي مع تقييد المصلحة بغير هذا الصوم ، وكذا الكلام في صوم الحائض وصلاتها على
القول بحرمتهما الذاتية ، ومجرّد تسميتهما بالصوم والصلاة لا يوجب كونهما من محلّ
الكلام مطلقا.
وبالجملة ، فحال
هذا المبحث حال المبحث المتقدّم في لزوم إحراز وجود المقتضي في نفس العنوان ، وبعد
إحرازه يقع الكلام هناك في إمكان بقاء الحكمين الفعليّين وعدمه ، وهنا في منافاة
التحريم للصّحة والعباديّة وعدمها.
الخامس : من
الواضح أنّ النزاع في أنّ النهي في العبادة أو المعاملة موجب لفسادهما أولا إنّما
هو فيما إذا كان طروّ الفساد ممكنا بأن يتّصف العمل بالصحّة تارة وبالفساد اخرى ،
فما لا يمكن فيه طروّ الفساد ولا ينفكّ عن أثر لكونه علّة تامّة له لا يجري فيه
هذا النزاع.
السادس : صحّة كلّ
موضوع وفساده عبارتان عن تماميّته وعدم تماميته بلحاظ الأغراض المتعلّقة به
والفوائد المنظورة منه ، فتماميته بحسب الأجزاء والقيود مستلزم لترتّب الفوائد
وعدم تماميته مستلزم لعدم ترتبها فكلّ منهما أمر وحداني في جميع الموارد وهو
التماميّة أو عدمها بلحاظ الأثر المنظور إليه.
نعم يتّصف العمل
الواحد بالتماميّة بملاحظة أثر وبعدمها بملاحظة آخر ، وكذا يختلف حاله باختلاف الأنظار
، واختلاف الفقيه والمتكلّم في تفسير الصحّة في العبادة من هذا القبيل وليس من باب
الاختلاف في المفهوم ؛ فإنّ نظر الأوّل في باب العبادة مقصور على سقوط الإعادة
والقضاء ووجوبهما ، ونظر الثاني على حصول المثوبة والقرب للعبد ، وكلاهما لازم
تماميّة العبادة ، فعبّر كلّ منهما بالصحّة عن لازمها المنظور إليه ، غاية الأمر
أنّ هذا اللازم يختلف باختلاف نظرهما.
وكذا قد يختلف حال
العمل الواحد من حيث الصحّة والفساد باختلاف الملاحظات ، مثلا لو بنينا على عدم
إجزاء موافقة الأمر الظاهري عن الواقعي وقام
أمارة على عدم
وجوب السورة وكون الصلاة مركّبة من تسعة أجزاء ـ مثلا ـ وكانت السورة في الواقع
واجبة والصلاة مركّبة من عشرة أجزاء ، فأتى المكلّف بالصلاة بدون السورة لقيام
الأمارة المذكورة عنده ، فيكون هذا العمل بملاحظة الأمر الظاهري ما دام موضوعه ـ وهو
الجهل بالواقع ـ باقيا تامّا مسقطا للإعادة والقضاء في قبال كون الإتيان بثمانية
من الأجزاء ناقصا موجبا لهما ، وهذا العمل بملاحظة الأمر الواقعي ناقص ؛ ولهذا عند
ارتفاع الجهل يجب الإعادة والقضاء.
ثمّ إنّ كلّا من
الصحّة والفساد أمر وحداني اعتباري في جميع الموارد ، بمعنى أنّه ليس في الخارج ما
وراء عشرة أجزاء مثلا شيء آخر يكون بحذاء التماميّة أو المنشئيّة للأثر أو بحذاء
عدم التماميّة أو عدم المنشئيّة للأثر ، من غير فرق في ذلك بين العبادات
والمعاملات وإن فرّق بينهما في الكفاية ردّا على من جعل الصحّة والفساد اعتباريين
بقول مطلق بما حاصله : أنّ الصحّة في العبادات بالنسبة إلى الكليّات مختلفة ،
فيكون انتزاعيّة بمعنى موافقة الأمر ، وعقليّة بمعنى سقوط الإعادة والقضاء في
المأمور به بالأمر الواقعي الأوّلي ؛ لكونه حكما يستقلّ به العقل كسائر الأحكام
العقليّة ، وجعليّة بمعنى سقوطها في المأمور به بالأمر الظاهري ، فإنّه على القول
بعدم الإجزاء في الأوامر الظاهريّة عند تبيّن الخلاف على حسب القاعدة مع تصوير
إجزائها حينئذ أيضا بأن يكون الإتيان بالناقص موجبا لسقوط الفاعل عن قابليّة تدارك
المصلحة الفائتة يكون سقوط الإعادة والقضاء في هذه الأوامر عند تبيّن الخلاف حكما
شرعيّا ، بمعنى كون بيانه من وظيفة الشرع كسائر الأحكام الشرعيّة.
وبالنسبة إلى
الجزئيّات يكون من باب انطباق الكليّات عليها نظير اتّصاف أفراد الواجب بالوجوب ؛
فإنّه ليس بالجعل ، بل من باب انطباق عنوان الواجب عليها ، وفي المعاملات بالنسبة
إلى الكلّيات جعليّة دائما ؛ لاحتياجها إلى إمضاء الشرع ؛ إذ لولاه لم يترتّب
الأثر لأصالة الفساد ، وبالنسبة إلى الجزئيّات يكون من باب الانطباق.
ولكنّه مخدوش ،
أمّا في العبادات ، فلما عرفت من أنّ الصحّة بمعنى التماميّة بلحاظ
الأثر المرغوب أمر
وحداني لا يختلف باختلاف الموارد ، وهو قدسسره أيضا معترف بذلك في صدر هذا البحث ، وما ذكره هنا متّجه
بالنسبة إلى آثار التماميّة ولوازمها لا بالنسبة إلى نفسها ، فيصحّ القول
باعتباريّة الصحّة والفساد بقول مطلق.
وأمّا المأمور به
بالأمر الظاهري فلا يتّصف على القول المذكور عند تبيّن الخلاف بالتماميّة حتى يقال
بكونها مجعولة ، غاية الأمر كونه مسقطا للإعادة والقضاء ، فسقوطهما لا يكون لازما
مساويا للتماميّة بل أعمّ ، مع أنّه لو ثبت من الشرع اتّصافه بالتماميّة في مقام
نلتزم فيه بأنّ هنا مصلحتين إحداهما أدنى والاخرى أقصى ، فاتّصاف العمل الناقص بالتماميّة
بلحاظ الأدنى ، وبعدمها والإسقاط عن قابليّة التدارك بلحاظ الأقصى.
وأمّا في
المعاملات فلأنّ وجه الحاجة فيها إلى إمضاء الشرع ، إمّا كونه دخيلا في التأثير
فإنّ الشارع مالك حقيقي فلا يقصر إمضائه عن إمضاء المالك المجازي ، فكما أنّ
الثاني جزء للمؤثّر فكذا الأوّل بطريق اولى ، وإمّا كونه كاشفا عن السببيّة
الواقعيّة بمعنى أنّ الشارع جعل اختيار الأموال بيد المالك المجازي لها ، ولكن
الأسباب التي تكون أسبابا بنظر العرف بعضها متلبّس بالسببيّة واقعا وبعضها غير
متلبس بها كذلك ، فإمضاء الشرع يرفع احتمال كون العقد من القبيل الثاني ويكشف عن
كونه من الأوّل ، كما أنّ تخطئته بالعكس.
فإن كان الثاني
فمن الواضح أنّ إمضاء الشرع حينئذ مجرّد تصديق للعرف بمعنى أنّ ما يراه العرف سببا
فهو كذلك واقعا فإنّما يحتاج إليه في مرحلة الإثبات بعد الفراغ عن ثبوت السببيّة
لبعض العقود واقعا لا بجعل جاعل.
وإن كان الأوّل
فإمضاء الشرع جزء متمّم للسبب ، فحاله حال الإيجاب والقبول وإجازة المالك المجازي
، فكما أنّ الموجب مثلا موجد لجزء السبب لا جاعل للصحّة ، فكذا حال الشارع في
إمضائه ، فإذا تحقّق أجزاء السبب التي من جملتها إمضاء الشرع انتزع من المجموع وصف
التماميّة قهرا.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ الصحّة في المعاملات أيضا أمر اعتباري كما في
العبادات ، غاية
الأمر أنّها في المعاملات منتزعة عن امور جعليّة كالإيجاب والقبول ، وفي العبادات
عن امور واقعيّة.
السابع : متعلّق
النواهي في العبادات إمّا نفسها كالنهي عن الصلاة في الحمّام ، وإمّا جزئها كالنهي
عن قراءة سورة العزيمة في الصلاة ، وإمّا شرطها كالنهي عن لبس الحرير فيها الراجع
إلى الستر المشروط به الصلاة ، لا عن لبس اللباس المغصوب ؛ فإنّ النهي فيه متعلّق
بالغصب المتّحد مع الصلاة ، وأمّا الحرير فالنهي فيه متعلّق باللبس وهو مقترن مع
الأكوان الصلاتيّة لا متّحد معها.
وإمّا وصفها غير
المفارق عنها كالنهي عن جهر المرأة في الصلاة عند سماع الأجنبي صوتها ، بناء على
كون صوتها عورة ، لا عن الجهر في صلاة الظهر مثلا ؛ فإنّ النهي فيه وضعي راجع إلى
اشتراط الإخفات لا تكليفي ، والجهر في القراءة ملازم للقراءة وإن كانت القراءة غير
ملازمة له ، وإمّا وصفها المفارق عنها المتّحد معها أحيانا كالنهي عن الغصبيّة
المتّحدة مع الأكوان الصلاتيّة.
لا إشكال في دخول
القسم الأوّل في محلّ النزاع ، ولا في دخول القسم الثاني بالنسبة إلى نفس الجزء ،
بمعنى أنّ العزيمة في الصلاة مثلا غير مجزية عن السورة الواجبة في الصلاة ، وأمّا
أنّ بطلان الجزء موجب لبطلان أصل العبادة فلا ؛ لإمكان الإتيان ثانيا بجزء غير
محرّم فتصّح العبادة بذلك ، اللهم إلّا أن يلزم من ذلك محذور آخر كالزيادة
العمديّة في الصلاة ، بناء على شمول دليل الزيادة العمديّة لمثل ذلك ، كما احتملوا
في الريا في جزء العبادة بعد القطع ببطلان نفس الجزء كونه مبطلا لأصل العبادة
لذلك.
وأمّا القسم
الثالث فإن كان الشرط توصّليّا فلا ضير في كونه محرّما ، وإن كان تعبّديا فالنهي
موجب لفساده المستلزم لفساد المشروط به.
وأمّا القسم
الرابع فادّعى في الكفاية امتناعه ؛ إذ النهي عن الوصف يسري إلى الموصوف ، فالنهي
عن الجهر في القراءة في الحقيقة نهي عن القراءة الجهريّة ، وهو لا يجتمع مع الأمر
بالقراءة ، ويمكن منعه بمنع السراية ؛ لمكان التعدّد بين الوصف و
الموصوف خارجا وعدم
الاتّحاد المصحّح للحمل الشائع الصناعي بينهما وجودا وإن قلنا بثبوت الاتّحاد
الوجودي بينهما نحو الاتّحاد الوجودي الثابت في الجسم المتّصل كماء الحوض؛ فإنّ
هذا النحو من الاتّحاد غير مناف ؛ لاختصاص كل بعرض من دون سراية عرضه إلى الآخر
كما هو المشاهد في الجسم المتّصل ، نعم كون المأمور به ملازما للمنهي عنه ممتنع ؛
للزوم التكليف بما لا يطاق ، وأمّا العكس فلا كما في نحن فيه.
وأمّا القسم
الخامس وهو ما إذا تعلّق النهي بالوصف المفارق كغصبيّة المكان أو اللباس أو
المحمول في الصلاة ، فإن لم يكن الوصف المتعلّق للنهي متّحدا مع العبادة ، ولا
كانت العبادة علّة له كما في الصلاة في المحمول المغصوب الذي لم يوجب الحركات
الصلاتية تصرّفا زائدا فيه ، ولم يتحرّك بحركاتها مثل الخيط الملصق بالبدن أو
اللباس ، فلا وجه لسراية نهيه حينئذ إلى العبادة ؛ إذ متعلّق النهي في المثال مثلا
هو استصحاب المحمول وإمساكه ، وهو غير متّحد مع الأكوان الصلاتية ، ولا هي علّة له
بل هو مقترن معها ، فحاله حال النظر إلى الأجنبيّة في الصلاة.
كما أنّه لو كانت
العبادة علّة للوصف فلا إشكال في تعلّق النهي بها ؛ لكونها علّة للحرام ، فتصير
بذلك من محلّ البحث ، وذلك كما في الصلاة في المحمول المغصوب الذي يتحرّك بالحركات
الصلاتيّة ؛ فإنّ الأكوان الصلاتيّة حينئذ يكون علّة للتصرّف في المغصوب بناء على
كونها عبارة عن نفس القيام والركوع والسجود التي هي أفعال بلا واسطة للمكلّف ،
وأمّا بناء على كونها عبارة عن نتائج تلك الأفعال والهيئات الحاصلة منها فهي مع
التصرّف في المغصوب معلولان لعلّة ثالثة وهي نفس تلك الأفعال.
وأمّا صورة إيقاع
الصلاة في المكان المغصوب فتسرية النهي فيها عن الغصب إلى الصلاة ثمّ الحكم
بفسادها مبتنية على طيّ مقدّمتين : احداهما من مسائل الاصول والاخرى من مسائل الفقه.
فالاولى مسألة
جواز اجتماع الأمر والنهي وامتناعه ، فالحكم بالتّسرية المذكورة مبتن على اختيار
الامتناع في هذه المسألة ؛ إذ لو جوّزنا الاجتماع فالنهي
متعلّق بطبيعة
الغصب وهي غير طبيعة الصلاة ، فيكون اجنبيّا عن النهي المتعلّق بالعبادة الذي هو
موضوع لهذا البحث.
والثانية اختيار
احتمال أن يكون الأكوان الصلاتيّة عبارة عن نفس القيام والركوع والسجود التي هي
أفعال مضافة إلى المكلّف بلا واسطة ؛ إذ على هذا الاحتمال تكون الأكوان الصلاتيّة
متّحدة مع الغصب ؛ فإنّ الحركة النهوضيّة ـ مثلا ـ على هذا قيام صلاتي وغصب ، وهكذا
، فيسري النهي عن الغصب إليها لا محالة بناء على القول بالامتناع كما هو المقدّمة
الاولى.
وأمّا لو اخترنا
الاحتمال الآخر فيها وهو أن يكون عبارة عن الهيئات والأطوار القائمة بالمكلّف
الناشئة من القيام والركوع والسجود ، والفرق بين هذا والاحتمال الأوّل أنّ الأكوان
على الأوّل ملحوظة بوجود مستقلّ منحاز عن وجود المحلّ ، وعلى الثاني ملحوظة بوجود
مندكّ في وجود المحلّ ، فهي على الثاني تكون من كيفيات المحلّ وأطواره وخصوصيّاته
، فالأوّل هو بعينه ما جعله أهل المعقول مفهوما لمبدا المشتق ، والثاني بعينه هو
ما جعلوه مفهوما لنفس المشتق.
وكيف كان فعلى هذا
يكون الأفعال المذكورة المتّحدة مع الغصب محقّقات للأكوان الصلاتية والأكوان نتائج
لها ، والسبب الحرام إنّما لا يجتمع مع المسبّب الواجب إذا كان السبب منحصرا فيه ،
وأمّا السبب غير المنحصر فلا ينافي حرمته مع وجوب المسبّب كما في ركوب الدابّة
الغصبيّة في طريق الحج مع عدم الانحصار ، وما نحن فيه من القبيل الثاني ؛ لتمكّن
المكلّف من إيجاد المحقّقات المذكورة في الأرض المباحة.
فتحصّل ممّا ذكرنا
أنّا لو قلنا بالامتناع في مبحث الاجتماع لا يكفي مجرّد ذلك في الحكم بفساد الصلاة
في الأرض المغصوبة ، بل لا بدّ معه من إثبات مطلب آخر وهو الاتّحاد بين الغصب
وأكوان الصلاة دون السببيّة والمسببيّة ، وبعبارة اخرى إثبات كون الأكوان نفس
الأفعال دون نتائجها.
ثمّ لو تعلّق
النهي بالعبادة وعلم كونه من جهة الجزء أو الشرط أو الوصف كما لو
نهى عن الصلاة
المشتملة على العزيمة أو في الحرير أو في المكان المغصوب وعلم كونه لأجل أحدها ،
فإن كان النهي راجعا إلى أحد الامور لبّا ونسب إلى العبادة بالعرض والمجاز ومن
قبيل نسبة الوصف بحال المتعلّق ، كان حاله حال النهي عن أحدها ، وإن كان راجعا إلى
نفس العبادة حقيقة ، وكان أحد الامور واسطة في الثبوت لا في العروض بأن أوجب
المفسدة في نفس العبادة ، كان من قبيل القسم الأوّل الذي قد مرّ أنّه من محلّ
الكلام بلا كلام.
إذا عرفت هذه
الامور فلنذكر الاستدلال في طرفي العبادات والمعاملات في مقامين :
المقام الأوّل في
العبادات ، فنقول وعلى الله الاتكال : هنا احتمالات في الفرق بين العبادة وغيرها
بحسب التصوير الاولى.
الأوّل : أنّ
العبادة ما يعتبر فيه داعي الأمر فلا يجزي بدونه بخلاف التوصّلي ،
الثاني : أنّه لا
يلزم في العبادة داعي الأمر بل يلزم كونها على وجه يحصل القرب الفعلي بها فلا يجزي
بدونه بخلاف التوصّلي.
فعلى كلّ من هذين
الاحتمالين لا إشكال في أنّ النهي موجب لفسادها ؛ إذ بعد وجود النهي لا يمكن هنا
وجود الأمر حتى على القول بالجواز ، كما مرّ وجهه سابقا ، وبعد وجود المبغوضيّة
الفعليّة لا يمكن وجود الحسن الفعلي ، وإن كان الجهة موجودة ـ كما عرفت ـ فلا يمكن
أن يكون مقرّبا فعليّا.
الثالث : أنّه لا
يلزم الداعي المذكور ولا القرب الفعلي ، بل يكفي في العباديّة مجرّد التواضع
والخضوع والخشوع وإظهار العبوديّة والتعظيم للمولى ، وهذا غير ملازم للقرب الفعلي؛
لإمكان اجتماعه مع المانع عنه كما هو المشاهد في الموالي الظاهريّة ؛ فإنّ بعض
التواضعات غير موجب للقرب عندهم ، فعلى هذا الاحتمال يمكن حفظ عنوان العبادة مع
وجود النهي ، فيكون مجزيا كالتوصّلي بمعنى كونه مسقطا للأمر المتعلّق لغيره مع كون
نفسه محرّما ؛ لحصول الغرض به ؛ إذا الفرض عدم دخل شيء في الغرض سوى عنوان التواضع
، هذا في مقام التصوير.
وظاهر كلمات
العلماء رضوان الله عليهم في باب النيّة في العبادات ثبوت الإجماع على اعتبار قصد
القربة في العبادة ، لا على وجه يكون المقصود نفس القربة ، بل بأن يكون المقصود
أحد العناوين المقرّبة ، وعلى هذا أيضا يكون النهي موجبا للفساد بلا إشكال ؛ إذ
بعد وجود النهي والالتفات إليه لا يمكن قصد القربة.
ومن هنا ظهر أنّ
النهي المتعلّق بالعبادة الفعليّة لا موضوع له على الاحتمالين الأوّلين وعلى
الاحتمال الأخير وإن كان له موضوع ، ولكنّه خلاف ظاهر استدلالهم على الفساد بأنّ
الفعل المنهيّ عنه لا يمكن أن يكون مقرّبا ، فلا بدّ من حمل لفظ العبادة في
العنوان على أحد الاحتمالين الأوّلين ، ومعه لا بدّ من أن يراد به ما كان عبادة لو
لا النهي ، وإذن فلا فرق بين أمثال السجود لله تعالى في حقّ الحائض وبين صوم
العيدين ، فكما أنّ الأوّل عبادة لو لا النهي وليس بعبادة فعليّة فكذا الثاني وإن
فرّق بينهما في الكفاية.
فإن قلت : إنّ
الاستدلال على الفساد في العبادة بأنّ النهي يفيد التحريم الذاتي وهو مناف للصحّة
والعباديّة والمقربيّة مخدوش ، بأنّ المكلّف عند إتيانه بالعبادة المنهيّ عنها لا
بدّ وأن يأتي بالعمل بقصد القربة حتّى يصير عبادة وداخلا في موضوع البحث ، وحيث
إنّ قصد القربة على وجه الحقيقة غير ممكن لمنافاته مع وجود النهي ، وجب قصدها على
وجه التشريع، وهو موجب لثبوت الحرمة التشريعيّة ، وثبوتها موجب لانتفاء الحرمة
الذاتية ؛ لامتناع اجتماع المثلين.
قلت أوّلا : لا
نسلّم تقوّم موضوع البحث بقصد القربة ، بل الموضوع نفس العمل ، فالمنهيّ عنه في
حقّ الحائض هو صورة الصلاة وإن لم تأت بها بقصد القربة.
وثانيا : سلّمنا
تقوّمه بذلك ، ولكنّه لا منافاة بين الحرمة التشريعيّة والحرمة الذاتيّة ؛ فإنّ
متعلّق الاولى ما هو من فعل القلب وهو العقد والبناء على العباديّة ، ومتعلّق
الثانية هو الفعل الخارجي ، فهذا نظير التجرّي ؛ فإنّ الفعل فيه باق على ما هو
عليه واقعا ، والحرمة متعلّقة بسوء السريرة.
وثالثا : اللازم
من اجتماع الحرمتين حصول الحرمة الواحدة المؤكّدة المستتبعة
للعقاب الأشدّ ،
فإتيان الحرام الذاتي بانيا على حلّيته محرّم آكد من إتيانه لا كذلك ، وعقاب
الأوّل أشدّ من الثاني ، وبالجملة ، الممتنع إنّما هو اجتماع المتماثلين في موضوع
واحد مع محفوظيّة تعدّدهما لا بدونها.
المقام الثاني في
المعاملات ، والتكلّم فيها في مقامين :
الأوّل : أنّ
مقتضى القاعدة هل هو الملازمة بين حرمتها وفسادها ، فالإطلاقات والعمومات مقيّدة
ومخصّصة بحكم العقل ، أو عدمها فلا مانع من الأخذ بها؟.
فنقول : النهي
الوارد في هذا الباب إمّا متعلّق بالسبب بأن يكون إنشاء عقد البيع الفلاني مثلا
حراما ، أو بالمسبّب بأن يكون نفس النقل والانتقال حراما ، أو بالتسبيب أي جعل فعل
سببا لأمر كالملكيّة والزوجيّة ونحوهما ، إمّا بمعنى عقد القلب على أنّه مؤثّر فيه
، أو بمعنى تطبيق العمل الخارجي على مؤثريته والمعاملة معه معاملة السبب وترتيب
الآثار على سببيّته ، وبعبارة اخرى بناء العمل الخارجي على مؤثريّته نظير ما هو
المراد في قوله عليهالسلام : «صدّق العادل» ، فهذه أربع صور لتعلّق النهي بالمعاملة.
وأمّا حكمها
فربّما يقال : إنّ الصورتين الاوليين مشتركتان في أنّ النهي فيهما غير ملازم
للفساد ، إلّا أنّه في الاولى منهما غير مقتض لشيء من الصحّة والفساد ؛ لوضوح
إمكان أن يكون إيجاد سبب مبغوضا ، ويكون على تقدير إيجاده عصيانا مؤثّرا واقعا ،
كما يمكن أن يكون غير مؤثّر حينئذ.
وأمّا الثانية
فالنهي فيها مضافا إلى عدم اقتضائه للفساد مقتض للصحّة ؛ وذلك لأنّ النهي عن
المسبّب دليل على مقدوريّته للمكلّف ، ومقدوريّته ملازمة للصّحة ولا يجتمع مع
الفساد كما هو واضح.
كما أنّ الصورتين
الأخيرتين مشتركتان في كون النهي فيهما مقتضيا للفساد ، ووجه ذلك أنّه وإن كان لا
منافاة عقلا بين حرمة عقد القلب على التأثير وحرمة ترتيب الأثر الخارجي على
السببيّة وبين التأثير الواقعي ، إلّا أنّه يمكن دعوى ظهور كلّ من التحريمين في
عدم التأثير عرفا ، وكذا يمكن دعوى القطع بعدم منع الشارع
عن عقد القلب على
أمر له النفس الأمريّة والثبوت الواقعي أو عن ترتيب الأثر الخارجي على المعاملة
الصحيحة مع قطع النظر عن أمر خارجي كالجنون والسفه ونحوهما ، فيكون النهي عن عقد
القلب على تأثير المعاملة الخاصّة أو عن ترتيب الأثر عليها كما في قوله : «ثمن
العذرة سحت» كاشفا عن فسادها أصلا وعدم تأثيرها رأسا بمقتضى الظهور والقطع
المذكورين.
هذا كلّه في النهي
التكليفي المفيد للتحريم ، وأمّا الوضعي المرشد إلى الفساد فخارج عن محلّ الكلام ،
ولا يبعد دعوى ظهور النهي في العقود والإيقاعات في الإرشاد إلى الفساد.
اقول : قد مرّ
سابقا أنّ وجه احتياج المعاملة إلى إمضاء الشرع إمّا كونه دخيلا في التأثير لكون
الشارع مالكا حقيقيا ، وإمّا كونه تصديقا للعرف بمعنى عدم خطاء نظره في رؤية
السببيّة ، فما ذكر إنّما يتمّ على الثاني ، وأمّا على الأوّل فيمكن أن يقال : إنّ
مبغوضيّة المسبّب مستلزمة لعدم إمضاء الشرع الموجب للفساد ؛ إذ بعد فرض توقّف
تحقّق المسبّب على إمضاء الشرع وكون وجوده مبغوضا فلو أمضاه الشرع فقد أوجد
مبغوضه.
وعلى هذا فلا يمكن
تعلّق النهي بالنقل والانتقال الفعلي ؛ لعدم مقدوريّته للمكلّف ، فلا بدّ من إرجاع
النهي المتعلّق به ظاهرا إلى النقل والانتقال لو لا عدم الإمضاء الذي هو راجع إلى
السبب ، نظير ما قلنا في العبادة من لزوم إرجاع نهيها عقلا إلى العبادة لو لا
النهي.
وأمّا مبغوضيّة
السبب فمعناها مبغوضيّة إنشاء العقد بقصد ترتّب الأثر ؛ إذ معنى السبب ذلك ، ولا
ريب أنّ المبغوضيّة بهذا الوجه في الحقيقة راجعة إلى المسبّب ، مثلا مبغوضيّة نصب
السلّم بقصد ترتّب الكون على سطح الغير علّته في الحقيقة راجعة إلى مبغوضيّة نفس
الكون ، فيكون حال هذا القسم حال سابقه ، فظهر أنّه يمكن دعوى الجزم بالفساد في
السابق ، وكذا في اللاحق بعد رجوعه إلى السابق ، اللهم إلّا أن يقال : إنّ للشارع
حيثيتين ، فمن حيث إنّه شارع يكون ناهيا ، ومن حيث إنّه
مالك يكون مجيزا ،
كما أنّه قد يريد شيئا بالإرادة التشريعيّة ومن حيث إنّه شارع ، ويريد خلافه
بالإرادة التكوينية ومن حيث إنّه خالق ، ولهذا يوجد أسباب خلافه ومقدّماته.
والثاني : أنّ
النهي في المعاملة وإن قلنا بعدم ملازمته للفساد عقلا هل هو ملازم له شرعا أولا؟
فنقول : يمكن الاستدلال على الملازمة شرعا بعموم التعليل الواقع في خبر تزويج العبد
بغير إذن سيّده المرويّ في الكافي والفقيه عن زرارة عن الباقر عليهالسلام «سأله عن مملوك
تزوّج بغير إذن سيّده؟ فقال : ذلك إلى سيّده إن شاء أجازه وإن شاء فرّق بينهما ،
قلت : أصلحك الله تعالى إنّ حكم بن عتبة وإبراهيم النخعي وأصحابهما يقولون : إنّ
أصل النكاح فاسد ولا يحلّ إجازة السيّد له؟ فقال أبو جعفر عليهالسلام : إنّه لم يعص الله ، إنّما عصى سيّده ، فإذا أجاز فهو له
جائز».
فإنّ ظاهر الفقرة
الأخيرة أنّ كلّ معاملة كانت معصية لله ومخالفة للنهي التكليفي بعنوانه الأوّلي
فهي غير قابلة للصّحة ، وتزويج العبد وإن كان محرّما لكونه معصية السيّد ، إلّا
أنّ الحرمة متعلّقة بعنوان مخالفة السيّد لا بعنوان التزويج.
فإن قلت : المراد
بالمعصية المنفيّة مخالفة النهي الوضعي دون التكليفي ؛ إذ المراد بمعصية السيد
بقرينة الصدر هو مجرّد الفعل بدون رضاه وإذنه وإمضائه ، فيكون المراد بالمعصية
المنفيّة أيضا بقرينة السياق هو مجرّد الفعل الذي لم يمضه الله ولم يشرّعه بل نهى
عنه وضعيّا ، بمعنى فقدانه شرطا شرعيّا ، وهذا لا كلام في فساده.
قلت : حمل المعصية
على مخالفة النهي الوضعي خلاف الظاهر في الغاية ، بل الظاهر منها مخالفة النهي
التحريمي ، وأمّا عدم الإذن الواقع في صدر الرواية فمحمول على الكراهة وإطلاقه
عليها شايع في العرف ، ألا ترى أنّه يقال : فلان غير راض بكذا فيما إذا كان كارها
له ، مع أنّ عدم الرضى أعمّ بحسب اللغة من الكراهة ، وبالجملة ، فإبقاء المعصية
على ظاهرها ورفع اليد عن ظهور عدم الإذن فيما هو أعمّ من الكراهة أولى من العكس ؛
لأقوائيّة ظهور الأوّل من الثاني ، فيتمّ بذلك الاستدلال بالرواية على المطلوب.
«المقصد الثالث في المفاهيم»
مقدّمة : المفهوم
ما يكون غير المنطوق والمدلول الأوّلي للفظ ويكون لازما للكيفيّة الخاصة الثابتة
للمدلول الأوّلي ، ويجب أن يكون الدلالة عليه دلالة لفظية مستندة إلى اللفظ ليصحّ
عدّ هذا المبحث من مباحث الألفاظ ، وذلك بأن يكون الانتقال إلى خصوصيّة المعنى
الأوّلي موجبا للانتقال إلى المعنى الآخر عرفا لكون المعنى الآخر لازما بيّنا
بالمعنى الأخصّ لتلك الخصوصيّة ، فلو انتفى هذا الانتقال في مقام لزم الحكم بعدم
المفهوم فيه ، فالنزاع في ثبوت المفهوم وعدمه في الحقيقة راجع إلى أنّه هل يكون
للفظ مدلول خاص يلزم من الانتقال إلى خصوصيته الانتقال إلى معنى آخر أولا؟.
«فصل»
المعروف ثبوت
المفهوم للقضيّة الشرطيّة ، فقولنا : إن جاءك زيد فأكرمه ، مشتمل على كيفيّة خاصّة
مستلزمة لقضيّة سالبة هي قولنا : إن لم يجئك فلا يجب إكرامه ، ومرجع هذا القول إلى
دعوى الظهور الوضعي أو العرفي الثانوي أو الظهور المستند إلى مقدّمات ، مثل ظهور
الأمر في الطلب التعييني بمعونة احتياج غيره إلى المئونة الزائدة ، لا مثل الظهور
المستند إلى مقدّمات الحكمة في المطلقات ؛ لانفكاكه عن اللفظ في مورد عدم ثبوت تلك
المقدّمات ، والمدّعى في المقام هو الظهور الغير القابل للانفكاك من اللفظ ، فلا
بدّ أن يكون مستندا إلى مقدّمات غير منفكّة عنه ، نظير ما قلنا في كلمة «كلّ» من
كونها قرينة على إرادة الإطلاق من مدخولها.
وليعلم أوّلا أنّه
لا نزاع في الحكم الشخصي بمعنى أنّ انتفائه عند انتفاء موضوعه عقلي لا يقبل النزاع
، فإذا قيل : إذا جاء زيد فأكرمه فعند عدم تحقّق المجيء عدم تحقّق وجوب الإكرام
المسبّب عن المجيء عقليّ ، وبالجملة ، فانتفاء الموضوع الشخصي موجب لانتفاء الحكم
الشخصي المتعلّق بذاك الموضوع عقلا ، وانّما النزاع
في انتفاء سنخ
الحكم المذكور في القضيّة الشرطيّة أو الوصفيّة عند انتفاء الموضوع ، كأن يكون
انتفاء المجيء في قولنا : إذا جاء زيد فأكرمه أو العلم في قولنا : أكرم زيد العالم
موجبا لانتفاء وجوب الإكرام رأسا ، ولو كان مسبّبا من جهة اخرى فلو احتملنا حينئذ
وجوبه مستندا إلى جهة اخرى ككونه محسنا أو مسنّا أو نحوهما كان هذا الاحتمال
مدفوعا بمقتضى ظاهر القضيّة.
فنقول : هنا أشياء
يمكن القطع بظهور القضيّة الشرطيّة في بعضها ولا يمكن في بعض آخر ، فمجرّد
المقارنة الاتّفاقيّة بين شيئين لا يرتبط أحدهما بالآخر بجهة من الجهات أصلا يمكن
دعوى الجزم بعدم كونها معنى القضيّة المذكورة ولو استعملت فيها أحيانا كما لو قيل
: إن أكلت في اليوم طعاما فأنت تموت في آخر عمرك إمّا في الليل أو النهار فمحمول
على الهزل والمزاح.
وبالجملة ، فمجرّد
المقارنة الاتفاقيّة بين مثل الثلج والباب غير محقّق لمعنى «إن» وأمثالها ، بل
يمكن الترقّي من هذا والقول بعدم كفاية مجرّد التلازم أيضا ، فالمعلولان لعلّة
ثالثة وإن كان بينهما ربط لكونهما متلازمين في الوجود ويصحّ استعمال القضيّة فيهما
، إلّا أنّ التلازم بهذا النحو خلاف الظاهر الأوّلي للقضيّة ، بل الظاهر الأوّلي
منها هو التلازم بنحو ترتّب الثاني على الأوّل وكونه في طوله لا في عرضه ، وكذا
الكلام فيما إذا كان في البين ترتّب لكن على العكس ، بأن كان الأوّل معلولا للثاني
ومترتّبا عليه.
فتحصّل أنّ
المستفاد من القضيّة الشرطية شيئان ، أحدهما اللزوم في قبال مجرّد المقارنة
الاتفاقيّة ، والثاني ترتّب الجزاء على الشرط في قبال عدم الترتّب رأسا وترتّب
الأوّل على الثاني ، كما يشهد به صحّة إتيان «الفاء» في صدر الجزاء.
وهنا دعويان
اخريان :
إحداهما : دعوى
العليّة التامّة المستقلّة لتالي «إن» وأمثالها بالنسبة إلى الجزاء ، وهذه الدعوى
إنّما هي مثمرة لباب الأسباب بتقريب نقلناه هناك عن الشيخ الجليل المرتضى قدسسره وقد مرّ دفعهما هناك أيضا بأنّا لا نفهم من كلمة «إن»
ونحوها إلّا مجرّد أنّه متى وجد الشرط وجد الجزاء عقيبه ، نعم لا بدّ أن لا يكونا
غير مرتبطين
أصلا بل يستفاد
أنّ بينهما ربطا ما بنحو ترتّب الثاني على الأوّل أعمّ من العليّة الناقصة
والتامّة ، وفرّعنا على هذا أنّه لو تحقّق أسباب شرعيّة متعدّدة على التعاقب أو
دفعة يكفي وجود مسبّب واحد عقيبها ؛ إذ بصدق عليه أنّه مرتّب على هذا وذاك وأنّ
هذا وذاك مؤثران فيه على وجه الشركة ، وليس على الزائد من هذا المقدار دليل إلّا
في صورة التخلّل.
والثانية : دعوى
الانحصار ، والقول بالمفهوم فيما نحن فيه مبنيّ على هذه الدعوى فقط ؛ ضرورة أنّه
كما يصحّ أخذ المفهوم في صورة كون الشرط علّة تامّة منحصرة ، كذلك يصحّ في صورة
كونه جزاء أخيرا للعلّة المنحصرة ، فالمهمّ في المقام إنّما هو إثبات ذلك ، وأقوى
ما يدلّ عليه ـ لو كان ـ هو حكم الوجدان بتقريب أنّ من المسلّم فيما بينهم دلالة
كلمة «لو» على امتناع الجزاء لأجل دلالتها على امتناع الشرط ، ولا شبهة في أنّ
انتفاء الشرط إنّما يوجب انتفاء الجزاء لو كان السبب منحصرا فيه ، ضرورة أنّه لو
لم يكن منحصرا فيه أمكن قيام سبب آخر مقامه ، فلا يدلّ انتفائه على امتناع الجزاء
، فدلالة هذه الكلمة على امتناع الجزاء لو سلّمنا كما يتوقّف على دلالتها على
امتناع الشرط كذلك يتوقّف على دلالة اخرى لها على انحصار السبب فيه ، ثمّ بعد ذلك
نقول : لا فرق بين هذه الكلمة وبين كلمتي «إن» و «إذا» إلّا في مجرد دلالة الاولى
على امتناع وقوع الشرط ، والثانية على احتمال وقوعه وعدم وقوعه ، والثالثة على
تحقّق وقوعه ، وفي غير هذه الجهة لا فرق بينها حتى في الدلالة على الانحصار بحكم
الوجدان ، ولكن لم يحصل لنا الجزم بذلك إلى الآن في غير كلمة «لو».
وبعبارة اخرى :
إنّا نفهم من قول القائل : إذا جاء زيد فأكرمه ، أنّ السبب الموجب للإكرام غير
موجود في نفس زيد ، وأنّه أمر خارجيّ ، وأنّ وجود المجيء سبب له ، وأمّا أنّه لو
لم يتحقّق المجيء وتحقّق شيء آخر احتملنا كونه سببا لوجوب إكرامه أيضا ، فهذه
القضيّة متعرّضة لنفي هذا الاحتمال ، فلم يحصل الجزم به إلى الآن.
ثمّ إنّه ربّما
يستدل للانحصار بوجوه آخر ضعيفة.
منها : أنّه لا
شكّ في دلالة أداة الشرط على اللزوم كما مرّ وله أنحاء أكملها اللزوم الثابت بين
العلّة المنحصرة ومعلولها ، والمطلق منصرف إلى الفرد الأكمل عند الإطلاق.
وفيه أوّلا : أنّ
مجرّد عدم وجود الشريك في التأثير لا يوجب أكمليّة المؤثّر ، مثلا لو فرض كون شخص
واجدا لمرتبة خاصّة من صناعة فلا يعقل حدوث تفاوت في حاله بوجود الشريك له في تلك
المرتبة وعدمه ، فلا يحدث بالأوّل نقصان لهذا الشخص ولا بالثاني كمال له ، نعم عدم
الشريك موجب للكمال فيما إذا كان وجوده موجبا للنقص كما في الشركة في مالكيّة
الدار ، ومن الواضح أنّ ما نحن فيه ليس من هذا القبيل.
وثانيا أنّ
الأكمليّة على فرض تسليمها لا يوجب الانصراف وإنّما المنشأ للانصراف هو الانس
الذهني للفظ بالمعنى الناشئ من شيوع الاستعمال أو المناسبة ؛ ولهذا لا ينصرف لفظ
الإنسان إلى أكمل أفراده.
فإن قلت : سلّمنا
منع الانصراف لنفس اللفظ ، ولكن يمكن بضمّ مقدّمات الحكمة حمل مطلق التعليق
واللزوم المستفاد من الأداة على خصوص التعليق على العلّة المنحصرة كما يحمل مطلق
الوجوب على الوجوب النفسي بضمّها.
قلت : ربّما يجاب
عن هذا بأنّ التمسّك بتلك المقدّمات فرع إمكان جريانها وليس بممكن ، لكونه منافيا
لكون التعليق معنى الحرف ، وفيه أنّ هذا إنّما يتمّ على القول بجزئيّة معنى الحرف
؛ إذ الأخذ بتلك المقدّمات إنّما يصحّ فيما إذا كان في البين جامع حتى يحكم
بتعيينه في فرد خاص بضمّها ، وأمّا الجزئي الحقيقي فليس إلّا نفسه ، وأمّا على
القول بكونه كلّيا كما هو مذاق هذا القائل فحاله حال سائر الكليّات ، فكما يمكن في
سائر الكليّات تعيينها في فرد خاص بمقتضى الانصراف أو بضمّ تلك المقدّمات فكذا فيه
بلا فرق ، ومسألة عدم استقلال معنى الحرف باللحاظ غير مضرّة ، وبيانه أنّه لا
إشكال في احتياج الواضع في وضع الحرف إلى ملاحظة الإجمال المنتزع من المعنى الذي
هو حالة للغير ، مثلا في وضع «من» يحتاج إلى
ملاحظة الابتداء
الملحوظ حالة للغير وهذا الإجمال يحمل عليه بالحمل الشائع الصناعي أنّه مستقلّ
باللحاظ ومعنى اسميّ ، وبالحمل الذاتي أنّه غير مستقلّ فيه ومعنى حرفي ، وهو إجمال
وعنوان تفصيله ومعنونه نفس المعنى الحرفي ، والوضع إنّما يكون بإزاء واقعه ونفس
معنونه.
فنقول : حال
المستعمل في ذلك حال الواضع بعينه ؛ ضرورة أنّ مستعمل الحرف يلتفت إلى أنّه
يستعمله في ما ذا ، والفرض أنّ الالتفات التفصيلى يخرج المعنى عن كونه حرفيا ، فلا
بدّ أن يتعلّق لحاظه والتفاته إلى عين ما تعلّق به لحاظ الواضع وهو المعنى الاسمي
الذي هو عنوان للمعنى الحرفي ، لا بمعنى أنّه يحتاج في مقام الاستعمال إلى لحاظين
: لحاظ العنوان ولحاظ المعنون ، بل يكفي لحاظ العنوان وحده ، ويصير الحرف مستعملا
في نفس المعنون قهرا ، فلو كان لهذا المعنى الاسمي الملحوظ منصرف إليه أو أمكن
تعيينه في فرد خاص بضميمة المقدّمات يسري ذلك إلى معنى الحرف قهرا.
ولهذا يرى أنّه مع
صحّة استعمال كلمة «في» في ربط اللباس باللابس كما يقال : الصلاة في لباس كذا حكمه
كذا ، وصحّة استعمالها في ربط المحمول بالحامل كما يقال : الصلاة في محمول كذا حكمه
كذا ، لو قيل : الصلاة في الشيء النجس باطلة ، يحمل على اللباس دون المحمول ؛
لتحقّق الظرفيّة على وجه الحقيقة في الأوّل دون الثاني ، هذا مع أنّ كلام المجيب
منقوض بما اعترف هو به من حمل معنى هيئة الأمر ـ وهو الوجوب المطلق ـ على الوجوب
النفسي بمقدّمات الحكمة مع كونه معنى حرفيّا.
فالحقّ في الجواب
أن يقال : إنّ فائدة تلك المقدّمات تعيين المطلق في الفرد الأخفّ مئونة ، مثلا
الوجوب التعييني يتحقّق بمجرّد جعل الوجوب متعلّقا بموضوع وإبقائه بحاله من دون
ضمّ عدل إلى هذا الموضوع ، بخلاف التخييري فإنّه يحتاج مع ذلك إلى ضمّ العدل ، فلو
قال : أكرم زيدا وسكت عن قوله : أو عمروا ـ مثلا ـ يستكشف من عدم ذكر هذا مع كونه
بصدد البيان أنّ مراده جعل الوجوب على نحو التعيين دون التخيير ؛ إذ لو لم يرد أحد
النحوين لأراد المهملة وهو خلف ؛ إذ المفروض كونه في مقام البيان ، ولو أراد
التخييري لذكر العدل ، والمفروض عدم
ذكره ، فتعيّن أن
يكون المراد هو التعييني.
وكذا الوجوب
النفسي يتحقّق بمجرّد تصوّر نفس الموضوع مع إيجابه ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذاك ،
بخلاف الغيري فإنّه يحتاج إلى ثلاثة تصورات : تصوّر نفس الموضوع ، وتصوّر إيجابه ،
وتصوّر وجوب آخر ، فلو قال : انصب السلّم يستكشف بمقدّمات الحكمة أنّه لم يوجد في
نفس القائل سوى التصوّران الأوّلان ؛ إذ لو وجد التصوّر الأخير أيضا لقيّد بقوله :
للكون على السطح.
وأمّا ما في
الكفاية من تقرير أخفيّة مئونة النفسي من الغيري بأنّ النفسي واجب على كلّ حال
والغيري واجب على تقدير دون تقدير ، ففي غير محلّه ؛ إذ الغيري أيضا واجب على كلّ
حال ، هذا.
بل وكذا حال
الوجوب بالنسبة إلى الندب ، فيمكن أن يقال بأنّ هيئة الأمر عند القائل بوضعها
لمطلق الطلب محمولة على الوجوب بمقدّمات الحكمة ؛ فإنّ الوجوب وإن كان أشدّ مئونة
على الفاعل من الندب إلّا أنّه أخفّ مئونة منه في إنشاء المنشئ ، بمعنى أنّ
الإرادة المتوجّهة نحو الفعل بنفسها مقتضية للإيجاد وطاردة للعدم ، فبمجرّد إنشاء
الإرادة نحو الفعل يتحقّق الوجوب من دون حاجة إلى ضمّ إنشاء آخر ، بخلاف الندب ،
فإنّه يحتاج إلى إنشاء الإذن في الترك في جنب الإرادة التشريعيّة.
ومن هنا انقدح أنّ
الفرق بينهما ليس بالشدّة والضعف ؛ ولهذا لا يتّصف بهما الإرادة الفاعليّة ؛ إذ لا
يعقل أن يرى الفاعل نفسه مخيّرا بين الفعل والترك ومع ذلك كان واجدا للإرادة ، وما
نحن فيه ليس من هذا القبيل ، بمعنى أنّ تعليق حكم على موضوع وتأثير موضوع في حكم
لا يتفاوت حاله بوجود سبب آخر لهذا الحكم وعدمه ، ولا يصير أخفّ مئونة في الصورة
الثانية منه في الصورة الاولى ، بل حاله في الصورتين على السواء ، فهو في كليهما
محتاج إلى القرينة ، فقياس ما نحن فيه وهو نفس التعليق واللزوم المستفاد من الأداة
على ما ذكر من الوجوب النفسي قياس مع الفارق.
ومنها : التمسّك
بإطلاق التعليق على شيء خاص ، لا بإطلاق نفس التعليق ،
بتقريب أنّ قول
القائل : إن جاءك زيد فأكرمه ، معناه أنّ وجوب الإكرام معلّق على المجيء ومسبّب
عنه مطلقا سواء سبقه شيء أو قارنه أم لا ، وهذا الإطلاق ملازم للحصر ؛ إذ لو كان
في البين سبب آخر وسبق المجيء لم يستند وجوب الإكرام إلى المجيء ، أو قارنه لم
يستند إلّا إلى المجموع.
وجوابه مضافا إلى
احتياجه كسابقه ولا حقه إلى مقدّمات الحكمة ـ وهي غير جارية على وجه الكليّة ـ أنّ
التمسّك بهذا الإطلاق غير منتج ؛ إذ لنا أن نأخذ به مع عدم كونه ملازما للحصر
ومنافيا للتعدّد ؛ إذ لو قلنا بتعدّد المسبّبات عند تعدّد الأسباب فكلّ سبب يقتضي
مسبّبا مستقلا من دون أن يرتبط مسبّب هذا بذاك ولا مسبّب ذاك بهذا ، فيكون الإطلاق
صحيحا على أىّ حال.
وأمّا لو قلنا
بوحدة المسبّب وعدم قبوله للتكرار فكذلك على القول بكون المسبّب هو الوجوب ؛ إذ
كلّ سبب يقتضي وجوبا مستقلا ، غاية الأمر صيرورة الوجوبات وجوبا واحدا متأكّدا ،
وعلى القول بكونه هو الوجود أيضا يبتنى صحّة التمسّك بالإطلاق المذكور على القول
بظهور القضية الشرطيّة في السببيّة المستقلّة ؛ إذ على هذا ينتفي وصف الاستقلال
عند سبق سبب آخر أو مقارنته.
وأمّا على ما
اخترناه من عدم ظهور القضيّة في ذلك فلا ؛ لإمكان حفظ الإطلاق على كلّ حال أيضا ،
وذلك لثبوت أصل السببيّة في صورتي السبق والمقارنة ، غاية الأمر كونها على نحو
الشركة.
فتحصّل أنّ
التمسّك بهذا الإطلاق لإثبات الحصر مبنيّ على ثلاث مقدّمات كلّها قابلة للمنع :
كون المسبّب غير قابل للتكرار ، وكونه هو الوجود ، وكون الظاهر من القضيّة
الشرطيّة هو السببيّة المستقلّة.
ومنها : التمسّك
بإطلاق نفس الشرط بتقريب أنّه لو لم يكن السبب منحصرا بل كان أحد الأمرين احتاج
إلى ذكر العدل ، بخلاف ما إذا كان منحصرا ، فإنّه لا يحتاج إلى سوى ذكر السبب
الواحد ، فإذا قال : إن جاءك زيد فأكرمه ولم يقل : أو أحسن إليك عقيب قوله : إن
جاءك مثلا مع كونه بصدد البيان ، كان هذا دليلا
على الانحصار
والتعيّن ، كما يحمل الوجوب على التعييني بقرينة عدم ذكر العدل.
وفيه أنّ الغالب
في القضيّة الشرطيّة كون وجه الكلام إلى أنّ حكما كذا مرتّب على موضوع كذا ، فيؤخذ
بمقام البيان في هذه الجهة بلا إشكال ، ففي قوله : إن جاء زيد فأكرمه يصحّ دفع
احتمال أنّ الواجب إكرام خاص أو الدخيل مجيئي خاص بمقدّمات الحكمة ، وأمّا كيفيّة
الشرطيّة وأنّها يكون على وجه الانحصار والتعيّن أولا ، فليس المتكلّم بهذه
القضيّة بصدد بيانها غالبا.
نعم لو كان في
مقام بصدد تعداد شروط وجوب الإكرام وقال في هذا المقام : إن جاءك زيد فأكرمه يؤخذ
بمقدّمات الحكمة لإثبات التعيّن والوحدة ، وليس هذا مختصّا بالقضيّة المذكورة ، بل
هو جار في كلّ قضيّة ، مثلا لو كان في مقام تعداد القائم أو الواجب الإكرام في
العالم وقال في هذا المقام : زيد هو القائم أو الواجب الإكرام كان الأخذ بمقدّمات
الإطلاق مقتضيا لانحصار الوصفين في زيد ، وهذا بخلاف إنشاء الوجوب ؛ فإنّ المتكلّم
فيه يكون بصدد جعل الإيجاب وفي مقام إنشائه ، والمفروض أنّ جعله ممكن على نحوين مع
العدل وبدونه ، فالأخذ بالمقدّمات المذكورة لإثبات الثاني بلا مانع.
ومن هنا يظهر أنّه
لو أثبت الشرطيّة لشيء بأداة الشرط وعطف عليه شيئا آخر بكلمة «أو» فلعلّ القول
بظهور القضيّة حينئذ في انحصار السبب في هذين الشيئين كان أقرب من القول بظهورها
في الانحصار في السبب الواحد في صورة عدم العطف ، ووجهه أنّ المتكلّم في الصورة
الاولى قد تعرّض لبيان كميّة الشرط.
وقال في الكفاية
ما حاصله أنّه لو فرضنا كون المتكلّم بصدد بيان كيفيّة الشرطيّة أيضا لا يفيد
التمسّك بهذا الإطلاق لإثبات الانحصار ، وذلك لأنّ الوحدة والتعدّد خارجان عن
كيفيّات الشرطيّة ؛ ضرورة أنّ الشرط واحدا كان أم متعدّدا فكيفيّة شرطيّته واحدة
لا تتفاوت ، كما أنّ وجود زيد لا يتفاوت نحوه وكيفيّته بوجود عمرو في العالم وعدمه
، وهذا بخلاف الوجوب فإنّ نحوه يتفاوت بوجود العدل وعدمه.
ولكن لا إشكال في
أنّ وجود سبب آخر يصير منشئا لانتزاع وصف لهذا
الشرط ، وعدمه
يصير منشئا لانتزاع وصف آخر له وهو كونه مع الغير على الأوّل ووحده على الثاني ،
فهذان وإن لم يكونا من الكيفيّات الخارجيّة لكن يكونان من الأوصاف والحالات
الاعتباريّة.
ثمّ إنّه استدلّ
المنكرون للمفهوم بوجوه ،
منها : ما عزّي
إلى السيّد قدسسره ممّا حاصله أنّ المستفاد من الأداة ليس إلّا شرطيّة التالي
والشرطيّة غير ملازمة لعدم البدل والقائم مقامه ؛ إذ الشرائط التي لها بدل لا تعدّ
ولا تحصى ، مثلا شهادة العدلين شرط للقبول ، وقيام امرأتين يقوم مقام العدل الواحد
، وكذا اليمين وأربع نساء يقوم مقام العدلين وهكذا.
والجواب أنّ
المقدّمة الاولى غير مفروغ عنها وذلك لأنّ مدّعي المفهوم لا يستند إلى ملازمة
الشرطيّة لعدم البدل حتّى يرد عليه ما ذكر ، بل إلى ظهور القضيّة في الانحصار كما
عرفت ، فالأولى منع هذا الظهور ومطالبة مدّعيه بإقامة البرهان.
ومنها : الاستدلال
بآية (لا تُكْرِهُوا
فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) ؛ إذ لازم القول بالمفهوم عدم حرمة الإكراه في صورة عدم
إرادة التعفّف.
والجواب أنّ محلّ
الكلام في القضيّة الشرطيّة هو ما إذا كان للقضيّة موضوع ومحمول وشرط ، وكان
الموضوع ثابتا في صورتي وجود الشرط وعدمه ولم يكن لوجود الشرط وعدمه دخل في وجود
الموضوع ، بل كان وجوده محفوظا في كلتا الحالتين ، ففي قولك : إن جاء زيد فأكرمه ،
الموضوع زيد ، والمحمول وجوب الإكرام ، والشرط هو المجيء ، فالقائل بالمفهوم يقول
بأنّ الحكم المحمول على زيد في صورة وجود المجيء وجوب الإكرام وفي صورة عدمه عدم
وجوبه.
وأمّا ما إذا كان
الشرط محقّقا لوجود الموضوع بحيث لزم من انتفائه انتفاء الموضوع فعدم الحكم حينئذ
عند عدمه ليس من باب المفهوم ، بل لأجل ارتفاع الموضوع ، وقد عرفت أنّ ارتفاع
الحكم بارتفاع موضوعه عقلي خارج عن محلّ الكلام ، فلو قال : إن رزقت ولدا فاختنه
أو إن ركب الأمير فخذ ركابه ، فعدم وجوب الختان وأخذ الركاب عند عدم الشرط إنّما
هو لأجل انتفاء الموضوع وهو
الولد في الأوّل
والركاب في الثاني ، والآية الشريفة من هذا القبيل ، إذ في صورة عدم إرادتهن
التحفّظ والتعفّف لا يبقى موضوع للإكراه ، فعدم حرمة الإكراه حينئذ سالبة بانتفاء
الموضوع، فيصحّ أن يقال : إنّ الإكراه في هذه الصورة ليس بحرام وتجب الممانعة.
بقي هاهنا امور :
الأوّل : أنّ من
المسلّم فيما بين القائلين بالمفهوم في القضيّة الشرطيّة لزوم ثبوت الاتّفاق بين
القضيّة المنطوقيّة والمفهوميّة في جميع الجهات وعدم الاختلاف بينهما إلّا في جهة
السلب والإيجاب ، فلهذا ربّما توهّم أنّ القضايا الإنشائيّة التي يرتّب فيها حكم
جزئي على موضوع كما في قولك : إن جاء زيد فأكرمه حيث إنّ الجزاء هو الوجوب الجزئي
الحاصل بالإنشاء الخاص ، فإنّ المعاني الإنشائيّة حرفيّة ، فتكون جزئيات لا بدّ أن
يكون المنفي في مفهومها هو هذا الحكم الجزئي بجزئيّته لا بسنخه للأصل المزبور ،
وهو لا ينافي ثبوت جزئي آخر من هذا السنخ بأن يكون الزيد عند عدم مجيئه واجب
الإكرام بوجوب آخر غير الوجوب المنشأ على تقدير المجيء ، وهذا بخلاف القضايا
الإخباريّة الّتي يرتّب فيها الحكم الكلّي على الموضوع كما في قولك : إن جاء زيد
يجيء عمرو حيث إنّ الجزاء هو كلّى المجيء ، فالمفهوم في هذه القضايا يفيد نفي كلّي
الحكم وسنخه
وجوابه أوّلا
بالنقص ، وبيانه أنّ المعلّق على الشرط في القضايا الإخباريّة لو كان هو نفس
المخبريّة ، مثلا في قولنا : إن جاء زيد يجيء عمرو كان المعلّق على مجيء زيد نفس
مجيء عمرو ، يلزم أن يكون المتكلّم قد أخبر بوقوع أمر معلّق ، وكذب هذا القسم من
الإخبار كما يصدق بعدم حصول المعلّق فكذا بعدم حصول المعلّق عليه ، فيلزم أن يكون
المتكلّم في المثال كاذبا عند عدم مجيء زيد ، ومن المعلوم خلافه ، فلا بدّ أن يكون
المعلّق على الشرط في هذه القضايا هو نفس الإخبار بأن يكون المتكلّم بعد فرض حصول
الشرط وتحقّقه قد أخبر بوقوع أمر ، وكذب هذا الإخبار
لا يصدق إلّا بعدم
حصول المخبريّة مع حصول الشرط ، وأمّا بدونه فليس في البين صدق ولا كذب ؛ لعدم
حصول ظرف الإخبار.
وحينئذ فيشترك
القضيّة الإخباريّة مع الإنشائيّة في الجهة المذكورة ، فكما أنّ الجزاء في الثانية
هو الحكم الجزئي الحاصل بالإنشاء الخاص فكذا في الاولى أيضا يكون هو الإخبار
الجزئي الحاصل بالإنشاء الخاص ، فيكون المنفيّ في طرف المفهوم هو هذا الإخبار
الخاص.
وثانيا : بالحل
وهو أنّ انتفاء الحكم الجزئي ليس من محلّ الكلام ، وإنّما الكلام في انتفاء سنخ
الحكم ، فنحن سواء قلنا بجزئيّة المعاني الحرفيّة أم بكليّتها لا بدّ وأن نقول هنا
بلزوم اتفاق القضيتين المنطوقيّة والمفهوميّة في سنخ الحكم لا في شخصه ، وإلّا
فانتفاء شخصه بانتفاء الموضوع من البديهيّات الأوّليّة ولا يصلح لأن يقع محلا
للنزاع ، هذا مضافا إلى أنّ الحقّ هو أنّ المعاني الحرفيّة كليّات كما قرّر في
محلّه.
الثاني : أنّ من
المسلّم بين القائلين بالمفهوم في القضيّة الشرطيّة لزوم موافقة القضيّة
المنطوقيّة مع القضيّة المفهوميّة في الموضوع والمحمول والقيود الثابتة لكلّ منهما
، وكون التفاوت بمجرّد الإيجاب والسلب لوجود الشرط في المنطوق وعدمه في المفهوم ،
فلو قال : إن جاء الرجل العالم فأكرمه ، لزم أخذ الرجل في المفهوم مع هذا القيد ،
وكذلك لو قال : إن جاء زيد فاكرمه بالتسليم عليه ، حتى لو اخذ في المنطوق عموم
موضوعا في طرف الموضوع أو المحمول فلا بدّ من أخذه كذلك في المفهوم في أحدهما.
فلو قال : إن جاء
جميع العلماء فأكرمهم ، بحيث كان الملحوظ مجيء الجميع من حيث المجموع فلا بدّ أن
يكون الملحوظ في موضوع المفهوم عدم مجيء المجموع من حيث المجموع ، وكذلك في طرف
المحمول كما لو قال : إن جاء زيد فأكرمه بجميع أنحاء الإكرام بحيث كان الملحوظ
مجموع الأنحاء من حيث المجموع ولا إشكال في ذلك كلّه.
إلّا أنّه قد وقع
النزاع بينهم في كلّ قضيّة كان المحمول فيها مشتملا على عموم
استغراقي كقوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» حيث إنّ الجزاء
سالبة كليّة ، فقال الشيخ صاحب التعليقة قدسسره : بكون المفهوم موجبة جزئيّة ، والشيخ المرتضى بكونه موجبة
كليّة ، ومن هنا ذهب إلى انفعال الماء القليل بكلّ نجاسة ، وهذا النزاع كما ترى
جار في جميع المحصورات الأربع. وكيف كان فما يمكن أن يكون وجها لنظريهما أحد أمرين
:
الأوّل : أنّه لو
اخذ العموم في هذه القضيّة وأمثالها في طرف المنطوق على وجه الموضوعيّة فلا إشكال
في أخذه كذلك في طرف المفهوم ، إلّا أنّ هنا امورا لم يلحظها المتكلّم قيدا
للقضيّة وحالة لها ، ولكنّها تصير من حالات القضيّة وصفاتها قهرا ، وذلك مثل
العموم الاستغراقي ، وبيان ذلك أنّ القضيّة المسوّرة بكلمة «كل» ونحوها يمكن لحاظ
العموم فيها بوجهين :
الأوّل أن يلحظ
بالمعنى الاسمي ومستقلا وموضوعا بحيث صار الأفراد أجزاء ارتباطيّة له ، وحينئذ
فليس له امتثال واحد لو وقع مأمورا به.
والثاني أن يلحظ
بالمعنى الحرفي ومرآتا للأفراد وهو عبارة عن لحاظ إجمالي محيط بالآحاد منفردا
منفردا ، وحيث كان تعداد الأفراد تفصيلا وترتيب الحكم على كلّ على حده موجبا
للتطويل والإطالة جعل هذا اللحاظ مرآتا لها ، وحينئذ فيتعلّق الحكم لا محالة
بالمرئى وهو الآحاد منفردا منفردا دون المرآة ، فينحل إلى أحكام عديدة ويتعدّد
بذلك مناط الإطاعة والمعصية ، ويتّضح الحال في القسمين بملاحظة الحال في لفظ
العشرة وأمثالها ؛ إذ فيها أيضا يمكن هذان اللحاظان بعينهما ، ولا يلزم في اللحاظ
الثاني استعمال كلمة «كلّ» ونحوها في غير معناها ؛ إذ هنا مرحلتان ، مرحلة
الاستعمال ومرحلة الحكم ، ففي الاولى قد لوحظ العموم بالمعنى الاسمي وفي الثانية
بالمعنى الحرفي.
إذا تقرّر ذلك فإن
لاحظ المتكلّم العموم على الوجه الأوّل فلا كلام ، وإن لاحظ على الوجه الثاني فهو
حينئذ وإن لم يلحظ إلّا على نحو المرآتية الصرفة دون الموضوعيّة ، إلّا أنّ لحاظه
كذلك لمّا صار موجبا لتعلّق الحكم بالآحاد من دون
استثناء واحد منها
فقد أوجب ورود العموم وعروضه على القضيّة قهرا ؛ إذ يصدق عليها أنّها قضيّته عامّة
لا يخرج عن تحت حكمها فرد واحد من أفراد عنوان موضوعها.
فكما أنّ قولنا :
هذا واجب الإكرام وهذا واجب الإكرام وهذا واجب الإكرام ، وهكذا إلى آخر الأفراد
موجب لانتزاع العموم في البين وإن لم يتّصف به واحدة من تلك القضايا ، فكذلك قولنا
: كلّ عالم واجب الإكرام أيضا موجب لانتزاع العموم في البين ولكن يتّصف به هذه
القضيّة قهرا ؛ فإنّ الثاني أيضا إشارة إجماليّة عقليّة إلى كلّ واحد واحد من
الأفراد منفردا.
وحينئذ فنقول :
يمكن أن يكون كلام صاحب التعليقة قدسسره ناظرا إلى أنّ العموم في هذه القضيّة وأمثالها وإن لوحظ
مرآتا لا موضوعا ، إلّا أنّه لا يخفى أنّ القضية الشرطيّة قضيّتان صارتا بواسطة
أداة الشرط قضيّة واحدة.
وبعبارة اخرى
أنّها قضيّة مربوطة بقضيّة اخرى ، فللقضيّة الجزائيّة لحاظان ، لحاظ نفسها ولحاظ
إناطتها بالقضيّة الشرطيّة ، فالعموم في لحاظها الأوّل وإن كان ملحوظا على وجه
المرآتية ، إلّا أنّه في لحاظها الثاني ملحوظ على وجه الموضوعيّة ، ووجه ذلك أنّه
لا بدّ أوّلا من تماميّة القضيتين ثمّ من إيقاع الارتباط بينهما ، فلا جرم تكون
القضيّة الجزائيّة مع جميع توابعها ولواحقها الحاصلة لها قصدا أو قهرا منوطة
بالقضيّة الشرطيّة ، ومن جملتها وصف العموم ، فيصير محصّل معنى القضيّة المذكورة
أنّ كرّية الماء موجبة لتحقّق قضيّة عامّة هي قولنا : «لم ينجّسه شيء» فعدمها موجب
لارتفاع هذه القضيّة العامّة ، وهو يحصل بالإيجاب الجزئي كما بالإيجاب الكلّي.
ويكون كلام شيخنا
المرتضى قدسسره ناظرا إلى أنّ المفهوم لا يؤخذ عن المنطوق بعد ورود العموم
عليه ، بل القيود التي لاحظها المتكلّم في المنطوق لا بدّ من لحاظها في المفهوم
على نحو لحاظها في المنطوق ، فكما أنّ العموم ملحوظ في المنطوق على وجه المرآتيّة
نفيا ، فلا بدّ أن يكون في المفهوم أيضا ملحوظ كذلك ، وحينئذ فيكون عروض العموم
على المنطوق والمفهوم في عرض واحد.
وبعبارة اخرى كلام
المتكلّم بمنزلة مائة قضيّة منطوقيّة فيكون المفاهيم أيضا
مائة ، فهذا نظير
وصف الإطلاق الوارد على الجزاء كما في قولك : إن ظاهرت فاعتق رقبة ، فإنّ المفهوم
لا يؤخذ من المنطوق بعد ورود الإطلاق عليه ، كيف وإلّا لزم أن يكون المفهوم في
القضيّة المذكورة هكذا : إن لم تظاهر فلا يجب عليك عتق مطلق الرقبة ، وهذا لا
ينافي لوجوب رقبة خاصّة ، ومن المعلوم خلافه ، بل المفهوم فيها هو أنّه إن لم
تظاهر فليس عليك عتق الرقبة ، فعند هذا يطرأ وصف الإطلاق على المنطوق والمفهوم في
عرض واحد.
ولكن يمكن الفرق
بين وصف الإطلاق والعموم بأن يقال : إنّ وصف الإطلاق ليس مدلولا للقضيّة ولا
ملحوظا للمتكلّم ؛ فإنّ ملحوظه هو نفس الحكم ونفس الطبيعة ، وأمّا أنّه لا دخل
لشيء آخر سوى الطبيعة في الاقتضاء وأنّ الطبيعة في أيّ فرد تحقّقت وبأىّ نحو
اتّفقت تامّة في الاقتضاء فيمكن أن لا يكون المتكلّم ملتفتا إليه اصلا وإنّما
الإطلاق من لوازم عدم وجود القيد مع كون المتكلّم بصدد البيان ، وما شأنه هذا يكون
ساريا إلى طرفي القضيّة من المنطوق والمفهوم على حدّ سواء.
وأمّا احتمال أنّ
المتكلّم قد لاحظ الجزاء بملاحظة ثانية مع ما حصل له من وصف الإطلاق وأناطه مطلقا
بالشرط فبعيد عن الظاهر جدا ، وهذا بخلاف العموم ؛ فإنّه مدلول للقضيّة وملحوظ
للمتكلّم ؛ إذ المفروض أنّه عند لحاظه نفس القضيّة الجزائيّة لاحظ العموم على وجه
المرآتية ، وحينئذ فعند لحاظ الإناطة إمّا أن ينظره بنظرة ثانية إلى العموم الحاصل
للقضيّة الجزائيّة على وجه الاستقلال ويشير إليها بوصف العموم فيصير المنوط
والمعلول هو القضيّة بوصف العموم الاجتماعي ، فيكون المفهوم لا محالة إيجابا
جزئيا.
وإمّا أن ينظر عند
هذا أيضا إلى العموم بالنظرة الاولى المرآتيّة فيكون المنوط والمعلول هو كلّ واحد
من الأحكام الشخصيّة المتعلّقة بأفراد موضوع الجزاء الملحوظ إجمالا ، فيصير حال
المفهوم بعينه حال المنطوق في طريان وصف العموم عليه كما هو واضح ، والمعيّن لأحد
هذين الوجهين هو العرف ولا شكّ في أنّه مساعد على الأوّل.
هذا كلّه هو
الكلام فيما إذا كان اللفظ الدال على العموم في الجزاء مذكورا كما في
قولنا : إن جاءك
زيد فأكرم العلماء أو كلّ عالم.
هذا مضافا إلى أنّ
المثال الذي صار محلا للبحث من قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» لو سلّمنا خلوّه
عن الأداة المفيدة للعموم وكون النكرة الواقعة في سياق النفي غير مفيدة له بالوضع
، بل إنّما حال العموم فيه حال وصف الإطلاق في كونه من لوازم توجّه النفس إلى نفس
الطبيعة المتوقّف على نفي جميع الأفراد وسلّمنا في طرف الإطلاق سرايته إلى المنطوق
والمفهوم على حدّ سواء ، ولكنّه بعد ذلك يكون المفهوم في المثال موجبة جزئيّة ؛
وذلك لأنّ لازم وقوع الإطلاق في حيّز النفي كما في منطوق المثال هو العموم
والاستغراق ، ولازم وقوعه في حيّز الإثبات كما في مفهومه أعني قولنا : إذا لم يكن
الماء قدر كرّ ينجّسه شيء هو الجزئيّة ، فإنّ الاستغراق هو مقتضى نفس النفي دون
إطلاق الدخول ، فإذا تبدّل بالإثبات في جانب المفهوم تبدّل الاستغراق بالجزئيّة
للاكتفاء في وجود الطبيعة بوجود فرد واحد منها.
الثاني من الوجهين
لطرفي هذا البحث أن يقال : بعد فرض تسليم الطرفين كون مقتضى ظاهر القضيّة إناطة
العموم ، أو استفادة ذلك من الإطلاق ووضوح عدم اقتضاء إناطة العموم نفي الإيجاب
الكلّي في طرف المفهوم وكون التعبير بالإيجاب الجزئي لأنّه القدر المعلوم أنّ
المدّعى للإيجاب الكلّي مدّعي وجود معيّن له من الخارج وهو عموم العليّة بدليل
النقل.
وبيانه أنّ
المستفاد من القضيّة الشرطيّة شيئان ، العليّة التامّة لتالي الأداة ، وكون العلّة
منحصرة فيه ، فيكون مفاد قوله عليهالسلام : «إذا كان الماء الخ» كون عموم السلب المذكور منوطا
بكريّة الماء ومعلولا لها ، ولازم ذلك عقلا ثبوت العليّة للكريّة بالنسبة إلى كلّ
فرد من أفراد العموم المذكور ، وإلّا فلو كان العلّة في بعضها شيئا آخر لزم أن لا
تكون الكريّة علّة تامّة للتمام بل للإتمام ، وأن يكون العموم المذكور حاصلا من
أشياء عديدة من جملتها الكرّية ، فيكون نسبته إليها نسبة المعلول إلى جزء علّته ،
وقد كان مفاد القضيّة كونها تمام علّة بالنسبة إلى العموم.
وحينئذ فحيث إنّ
مفاد القضيّة هو الانحصار أيضا ، كما هو المبنى للقول بالمفهوم فيصير المحصّل ثبوت
العليّة المنحصرة للكريّة بالنسبة إلى كلّ فرد من العموم ، فيلزم من انتفائها
انتفاء جميع الأفراد لانتفاء علّتها المنحصرة ، فينتفي بانتفاء الكرّية عدم
التنجيس بالنسبة إلى جميع النجاسات ، فيصير الجميع منجّسا ، والمدّعي للإيجاب
الجزئي له أن يمنع ما ذكر من استفادة العليّة التامة المستقلّة من القضيّة
الشرطيّة ويقول بأنّ استفادة أصل الترتّب وإن كان حقّا كاستفادة الانحصار ، إلّا
أنّ الترتّب المستفاد أعمّ من أن يكون على نحو الترتّب على العلّة التامّة أو على
الجزء الأخير منها ؛ وذلك لأنّ المستفاد منها ليس إلّا مجرّد أنّه متى وجد الشرط
فليس لترتّب ما هو الجزاء وهو عموم السلب في المثال المذكور حالة منتظرة ، وهذا
أعمّ من كون الشرط علّة تامّة للعموم المذكور وكونه علّة متمّمة له ، وحينئذ فيكون
القدر المتيقّن عند انتفاء الشرط انتفاء الحكم عن بعض أجزاء العموم فلا يفيد
المثال المذكور في طرف المفهوم أزيد من الإيجاب الجزئي.
«فصل»
لا إشكال في أنّه
قد يؤتى بالوصف لأجل أن يكون معرّفا للموضوع لعدم مميّز آخر له سواه مع أنّه لا
دخل للوصف فيما هو المراد ومتعلّق الغرض أصلا وإنّما اتي به لمجرّد توضيح الموضوع
وتعريفه ، وذلك مثل ما يقال : جئني بذلك الرجل الأبيض قلنسوته أو الأبيض قبائه أو
الأطول من الجميع مشيرا إلى شخص لا يميّزه المخاطب من بين جماعة هو فيهم إلّا بهذا
النحو من الأوصاف.
كما أنّه قد يؤتى
به لأجل كونه محلا للابتلاء إمّا لغلبة الوجود وإمّا لقربه من المخاطب ، مثلا كما
لو قيل : جئني بماء من القناة إذا كان تعيين هذا الماء لكونه أقرب من المخاطب من
ماء آخر ، لا لتعلّق غرض بخصوصه ، والقسم الأوّل لا يجري إلّا في الموضوعات
الشخصيّة ؛ إذ هي التي تشتبه على المخاطب أحيانا ، وأمّا الموضوعات الكليّة فلا
تشتبه على أحد حتّى يحتاج إلى المميّز.
فالرجل في قولك :
أكرم الرجل العالم ليس كالموضوع الشخصي حتّى يمكن أن يكون العلم مميّزا له ، نعم
يمكن أن يؤخذ الوصف في الكليّات معرّفا لكلّي آخر يكون هو الوصف للكلّي الموصوف ،
ولكن لمّا كان تشخيص مصاديقه صعبا على المخاطب اتى بوصف آخر يكون ملازما له ولا
يشتبه مصاديقه عليه لأجل تعريف ذلك الوصف الذي له الدخل واقعا، كما أنّ الأوصاف
التي تكون واردة مورد الغالب كما في آية (وَرَبائِبُكُمُ
اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) لا مجرى لتوهّم دلالتها على المفهوم أصلا كما هو واضح.
وحينئذ فنقول :
إنّ القضايا الكليّة بعد إحراز أنّ الوصف فيها ليس من قبيل الأوصاف المميّزة التى
تكون تمام الدخل لموصوفها كما هو المفروض ، وإحراز أنّه ليس واردا مورد الغالب
تكون ظاهرة عند العرف في عليّة الوصف للحكم وكونه دخيلا فيه وأنّه لا يكون أجنبيّا
صرفا عن الحكم وغير مربوط به أصلا ، وهذا هو المصحّح لحمل المطلق على المقيّد عند
اجتماع شرائطه من وحدة الحكم ووحدة السبب.
كما لو ورد : إن
ظاهرت فاعتق رقبة ، وورد أيضا : إن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة ، وعلم أنّ الحكم في
كليهما هو الوجوب مع إيجاد سببه من الظهار ؛ إذ لو لم يكن للوصف ربط بالحكم أصلا
لما كان وجه للحمل في الصورة المزبورة كما هو أوضح من أن يخفى ، ولهذا أيضا قد
اشتهر أنّ الأصل في القيد أن يكون احترازيّا ولكن مجرّد هذا لا يكفي لإثبات
المفهوم ؛ لوضوح عدم منافاة ثبوت العليّة للوصف عليّة شيء آخر ، فالمدّعي للمفهوم
يحتاج مضافا إلى ذلك إلى دعوى ظهور القضيّة في الانحصار.
ومن هنا ظهر ما في
الاستدلال للمفهوم بما لا يفيد أزيد من العليّة مثل التمسّك بحمل المطلق على
المقيّد ؛ فإنّه لا يقتضي إلّا كون الوصف مضيّقا لدائرة الموضوع بالنسبة إلى هذا
الحكم المسبّب من هذا السبب من دون منافاته لتعلّق الحكم من جهة سبب آخر بالمطلق.
فتحصّل أنّ
العليّة وإن كانت مستفادة من القضيّة الوصفيّة ، ولكن في استفادة الانحصار إشكال
ولا بدّ لمدّعي المفهوم من إثباته بالتبادر فإن ادّعاه فعليه عهدته.
«تذنيب»
لا إشكال في أنّ
حال المفهوم هنا على القول به ليس بأقوى من حاله في القضيّة الشرطيّة ، فكما أنّه
هناك يتعرّض لحال موضوع القضيّة عند عدم الشرط من دون تعرّض لحال موضوع آخر فكذا
هنا ، فكما أنّ مفهوم قولنا : إن جاءك زيد فأكرمه لا يتعرّض لحال العمرو وأنّه عند
عدم المجيء واجب الإكرام أولا ، فكذا مفهوم قولنا : أكرم الرجل العالم أيضا غير
متعرّض لحال المرأة وأنّها عند عدم العلم واجب الإكرام أولا.
وإذن فيختصّ مورد
الكلام هنا في ثبوت المفهوم بما إذا كان للموصوف مورد افتراق من الوصف بأن يكون
الوصف أخصّ مطلقا ، أو أعمّ من وجه حتّى يحكم على القول بالمفهوم بانتفاء سنخ
الحكم من الموضوع في مورد الافتراق ولا يحكم به على القول الآخر ، وأمّا ما إذا لم
يكن من جانب الموصوف مورد افتراق بأن يكون الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا فخارج عن
محلّ الكلام ؛ إذ يلزم من انتفاء الوصف حينئذ انتفاء الموضوع.
نعم يظهر ممّا حكي
بعض الشافعيّة من القول بدلالة قولنا : في الغنم السائمة زكاة بالمفهوم على عدم
الزكاة في معلوفة الإبل أنّه حاول أن يقول هنا بمفهوم أقوى ممّا يقال به في
القضيّة الشرطيّة أيضا ، وذلك بأن يدّعى أنّ القضيّة الوصفيّة يستفاد منها عليّة
الوصف لنفس الحكم في أيّ موضوع كان ، فيدور الحكم ثبوتا مدار ثبوت الوصف سواء
تحقّق هذا الموضوع أم لا ، ونفيا مدار نفيه كذلك ، وعليه فيعم محلّ الكلام ما إذا
كان الوصف مساويا أو أعمّ مطلقا كما هو واضح.
ولكنّك عرفت بطلان
أصل الدعوى المذكورة وأنّ العليّة المستفادة إنّما هي بالنسبة إلى الحكم المتعلّق
بهذا الموضوع لا غير.
«فصل»
في أنّ القضيّة
المغيّاة بغاية كقولك : اجلس في المسجد إلى الزوال تدلّ على ارتفاع الحكم عند حصول
الغاية أولا؟ ومعنى المفهوم هنا أيضا هو انتفاء سنخ الحكم لا شخصه ، وإلّا فارتفاع
شخصه عند حصول الغاية واضح إلى النهاية وهو معنى كون الغاية غاية ، فمعنى ثبوت
المفهوم للمثال ظهوره في عدم تحقّق سبب آخر عقيب الزوال اقتضى وجوب الجلوس منه إلى
الغروب مثلا ، ومبدأ الارتفاع يعتبر من حين حصول الغاية بناء على خروجها عن
المغيّا وممّا بعدها بناء على دخولها فيه.
ثمّ إنّ الغاية
بحسب القضيّة اللفظيّة قد يكون قيدا للحكم وقد يكون قيدا للموضوع ، والظاهر أنّ
المعيار أنّه كلّما كانت الغاية من قبيل الزمان كان ظاهرا في الأوّل كالمثال
المتقدّم، ومنه قوله عليهالسلام : «كلّ شيء حلال حتّى تعرف أنّه حرام» وقوله : «كلّ شيء
طاهر حتى تعلم أنّه قذر» وكلّما كانت من قبيل المكان ونحوه كان ظاهرا في الثاني
كما في سر من البصرة إلى الكوفة ، واقرأ أوّل الآية إلى آخرها ، فإنّ الظاهر أنّ
متعلّق الحكم في أمثالهما هو الفعل المحدود بالحدّين.
ففصّل بين
الصورتين في الكفاية فجعل التحقيق في الثاني عدم الدلالة على انتفاء سنخ الحكم عن
غير المقيّد بالغاية كعدم دلالة التقييد بالوصف على انتفائه عن غير المقيّد بالوصف
مع الدلالة على انتفاء شخصه بسبب انتهاء الفعل إلى غايته ، وجعله في الأوّل هو
الدلالة على ارتفاع سنخ الحكم بحصول غايته ، وجعل هذا واضحا إلى النهاية ، وعلّله
بأنّه لو لا ذلك كما كانت الغاية بغاية.
وأنت خبير بعدم
الفرق بينهما أصلا ؛ فإنّ الأوّل أيضا يدل على ارتفاع شخص هذا الحكم الذي اقتضى
جعله سبب خاص بحصول غايته من دون دلالة له أصلا على ارتفاع سنخه بعد الغاية ولو
كان مسبّبا من سبب آخر.
فالحقّ عدم ثبوت
المفهوم للغاية من دون أن يكون في هذه الجهة فرق بين الصورتين ، نعم يظهر الفرق
بينهما في الأصل الجاري عند الشكّ في ثبوت الحكم بعد
الغاية ، فإنّه في
الأوّل هو الاستصحاب عند من يجوّز استصحاب الكلّي في القسم الثالث ، أعني ما إذا
كان زوال فرد من الكلّي مقطوعا بعد العلم بوجوده ، ولكن احتمل حدوث فرد آخر من هذا
الكلّي مقارنا لزوال الفرد الأوّل ؛ إذ في هذه الصورة أيضا يقطع بزوال وجوب الجلوس
مثلا عند الزوال بعد العلم بثبوته قبله ولكن يحتمل حدوث شخص آخر من وجوبه بعد
الزوال متّصلا بالشخص الأوّل ، فيجرى الاستصحاب بالنسبة إلى أصل الوجوب ،
وهذا بخلاف الصورة
الثانية ؛ فإنّ الشكّ فيها ليس في بقاء الحكم المتعلّق بموضوع واحد ، بل في حدوث
الحكم المتعلّق بموضوع آخر ، مثلا نشكّ في حدوث الوجوب المتعلّق بالجلوس من الزوال
إلى الغروب بعد العلم بزوال الوجوب المتعلّق بالجلوس من الصبح إلى الزوال ، فيكون
مجرى للبراءة دون الاستصحاب ؛ لاختلاف الموضوع.
بقي الكلام في
النزاع الآخر في هذا الباب في أنّ الغاية داخلة في المغيّا أو خارجة عنه؟ فنقول :
قد يكون النزاع ـ بعد تسليم أنّ مفاد كلمتى «إلى» و «حتّى» ونحوهما هو الغاية
العقليّة ـ في أنّ الغاية العقليّة داخلة في المغيّا أو خارجة؟ وقد يكون ـ بعد
تسليم أنّ الغاية العقليّة خارجة ـ في أنّ مفاد الكلمتين هل هو الانتهاء الداخل أو
الخارج.
والظاهر أنّ
النزاع هنا ليس على الوجه الأوّل ، وذلك لأنّ الغاية العقليّة عبارة عن حدّ الشيء
وطرفه ، والحد والطرف أمر عدمي خارج من الشيء ؛ لأنّه عبارة عن نفاد الشيء
وتماميّته كما هو الحال في البداية العقليّة ، فالخطّ الفرضي الممتدّ بقدر امتداد
الشيء، النقطة الموهومة المتّصلة به من طرف أوّل الشيء هو البداية ، كما أنّ
النقطة الموهومة المتّصلة به من طرف آخره هي النهاية ، ولهذا لم يعهد منهم مثل هذا
النزاع في كلمة «من» ونظائرها مع أنّه لو كان النزاع هنا على الوجه الأوّل لوجب أن
يجري مثله في كلمة «من» بعد تسليم دلالتها على البداية العقليّة ، فيكون النزاع
هنا على الوجه الثاني.
وإذن فلا فرق في
جريانه بين ما إذا كان الغاية قيدا للحكم ، وما إذا كان قيدا للعمل ، فيقال في مثل
قولك : اجلس في المسجد من الصبح إلى الظهر : إنّ حكم وجوب الجلوس بحسب مفاد كلمة «إلى»
هل هو مستمرّ إلى الآن الواقع قبل الظهر المتّصل به فيرتفع في هذا الآن ، أو أنّه
يستمرّ إلى ما بعد دخول الظهر ويرتفع حينئذ ، كما يقال في مثل قولك : سر من البصرة
إلى الكوفة : إنّ السير بحسب مفادها لا بدّ وأن يشمل جزء من الكوفة أو يكفي
اختتامه في المكان الغير المحسوب من الكوفة عرفا المتّصل بها.
وحينئذ فالاستدلال
للخروج بأنّ غاية الشيء حدّه وحدّ الشيء خارج عنه ، لا مساس له بمحلّ الكلام ،
والظاهر الدخول في الغاية كما هو الحال في المبدا ، فالمسير من البصرة إلى الكوفة
لا يتحقّق إلّا بالمسير المبتدإ في جزء من البصرة المنتهى في جزء من الكوفة وهكذا.
«فصل»
الظاهر أنّ
القضيّة الاستثنائيّة دالّة على الحصر بلا إشكال ، ولذا اشتهر أنّ الاستثناء من
الإثبات يفيد النفي ومن النفي يفيد الإثبات ، نعم هنا كلام آخر وهو أنّ هذا الحصر
هل هو مستفاد من نفس الأداة حتّى أنّ قولنا : إلّا زيد بمنزلة قولنا : أستثني زيدا
لا غير ، أو أنّ الأداة لا يفيد سوى الإخراج وليس إلّا بمنزلة قولنا : أستثني ،
والحصر مستفاد من مجموع الجملتين ، بل ليس الحصر في الحقيقة إلّا عبارة عمّا هو
مفاد الجملتين منطوقا ، ففي قولنا : جاءني القوم إلّا زيدا ليس الحصر إلّا مجيء
جميع من سوى زيد وعدم مجيء زيد والجزء الأوّل دلّ عليه الحكم المعلّق على العام
المستثنى منه ، والثاني دلّ عليه الأداة ، فليس الحصر مدلولا ثالثا حتّى يجعل من
باب المفهوم على هذا الاحتمال.
وكيف كان فليس
النزاع في ذلك ـ بعد فرض كون استفادة الحصر مسلّمة ـ بمهمّ وإن كان الظاهر هو
الوجه الثاني ، وتظهر الثمرة فيما لو ورد مخصّص منفصل
ظاهر في التخصيص
كما لو ورد بعد أكرم العلماء إلّا زيدا : لا تكرم عمروا ، وكان العمرو مشتركا بين
شخصين ، أحدهما عالم والآخر جاهل وكان منصرفا عند الإطلاق إلى العالم ، فعلى
الثاني يعامل معه معاملة العام والخاص فيقدّم الخاص المذكور على العام ، وعلى
الأوّل لا بدّ من موازنة ظهور العام المؤيّد بظهور الأداة في الحصر مع ظهور الخاص
وترجيح ما كان أقوى منهما ، وربّما يكون الأقوى ظهور العام ، فإنّ الخاص على هذا معارض
لظهور العام ولظهور الأداة أيضا ؛ فإنّ مفاد «إلّا زيدا» ينحصر غير واجب الإكرام
من العلماء في زيد، ومفاد الخاص المنفصل أنّ عمروا يكون غير واجب الإكرام أيضا
والنسبة بينهما تباين.
وأنكر أبو حنيفة
دلالة القضيّة المذكورة على الحصر مستدلا بقوله : لا صلاة إلّا بطهور ؛ إذ لو كان
للاستثناء مفهوم لزم إثبات الصلاة مع الطهور مطلقا وإن اجتمع مع عدم القبلة ،
وبطلانه من الواضحات ، فعلم أنّ الاستثناء من النفي مثلا غير مفيد لحصر النفي في
السابق والإثبات فى اللاحق.
والجواب أنّ بعد
إثبات المفهوم للقضيّة بحكم الوجدان لا بدّ من التوجيه في أمثال هذه القضيّة كقوله
: لا يحلّ مال امرئ الخ إمّا بجعل المنفي هو المستجمع لجميع الشرائط ممّا سوى
المذكور بعد «إلا» فيقال في المثال : إنّ الصلاة التي فرض اجتماعها للشرائط غير
الطهارة ليست بصلاة إلّا مع الطهور ، وإمّا بجعل النفي مطلقا وفي جميع الحالات
حتّى يكون مفاد الأداة نفي النفي المطلق اللازم منه الإيجاب الجزئي ، فيقال في
المثال : الصلاة منفيّة على وجه الإطلاق مع كلّ شيء إلّا مع الطهور ، فليست منفيّة
على وجه الإطلاق ، وليس مفاد هذا إلّا ثبوت الصلاة مع الطهور في الجملة فيكون
الحصر إضافيّا بالإضافة إلى الطهور.
ثمّ إنّه قد
استدلّ لدلالة القضيّة على الحصر بقبول إسلام من قال : لا إله إلّا الله ، فإنّ
للفظ وإن كان الموضوعيّة في المقام كما في العقود بمعنى عدم كفاية مجرّد النسبة
القلبيّة ، إلّا أنّ اللفظ من حيث كونه دالّا على المعنى جعل موضوعا للحكم
بالإسلام وأمارة على الاعتقاد الجناني تعبّدا ، فدلالة هذه الكلمة على معنى
التوحيد لا بدّ منه ،
ومن المعلوم عدم
تماميّته إلّا على تقدير ثبوت المفهوم كما هو واضح ، واجيب بأنّ الدلالة لقيام
القرينة ، هذا.
ثمّ في هذه الكلمة
المباركة إشكال وهو أنّ خبر «لا» إمّا يقدّر «موجود» وإمّا «ممكن» فعلى الأوّل
يلزم نفي الوجود عن غيره تعالى وإثباته له ، وأمّا عدم إمكان وجود الغير ووجوب
وجوده فمسكوت عنه ، ومن المعلوم عدم تماميّة الإسلام بدون ذلك ، وعلى الثاني يلزم
نفي الإمكان عن الغير وإثباته له تعالى وهذا أعمّ من إثبات الوجود له تعالى وعدمه
، والإسلام لا يتحقّق إلّا مع إثبات الوجود.
ويمكن الجواب بأنّ
الخبر المقدّر «موجود» إلّا أنّه مختلف معناه بحسب الموارد ، ففي المحسوسات
والقضايا التي يكون مدرك الجزم فيها هو الحسّ كما في قولك : ليس في الدار إلّا زيد
، ليس المفاد إلّا مجرّد اثبات الوجود لما بعد «إلّا» ونفيه عمّا قبله من غير
تعرّض للإمكان والامتناع ، وهذا بخلاف القضايا العقليّة التي يحصل الجزم فيها
بالبراهين العقليّة كما في الكلمة المباركة ، فإنّ إثبات الوجود فيها لما بعد
الأداة ونفيه عمّا قبلها لا يمكن حصول الجزم به إلّا بمعونة البرهان على وجوب وجود
الصانع وامتناع وجود الشريك له ، والحاصل أنّ هذه الكلمة قد جعلت أمارة شرعيّة على
الجزم القلبي بمضمونها ، والجزم بمضمونها متوقّف على برهان امتناع التعدّد ؛ إذ لو
لم يقم عنده هذا البرهان والمفروض أنّ المقام ليس من قبيل المحسوسات فمن أين يجزم
بعد وجود إله آخر غيره تعالى؟.
والحاصل أنّ هنا
مقامان :
الأوّل كون هذه
الكلمة كاشفة عن الجزم القلبي وهو أمر تعبّدي لا بدّ أن نقول به على كلّ تقدير ،
والثاني أنّها إذا
كشفت عن الجزم والاعتقاد بمضمونها فليس الاعتقاد بمضمونها إلّا حاصلا إمّا من البرهان
العقليّ القائم لدى صاحبه تفصيلا ، وإمّا من التصديق بما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله وهذا أيضا من أفراده ، ولا شكّ أنّه حينئذ جزم بامتناع
الشريك إجمالا ؛ فإنّ امتناعه ممّا أخبر به النبي صلىاللهعليهوآله ، فإذا
حصل الاعتقاد بصدق
كلّ ما جاء صلىاللهعليهوآلهوسلم به فقد حصل الاعتقاد بهذا أيضا في الضمن ، فعلم أنّ
الاعتقاد الحقيقي بمضمون هذه الكلمة من أينما حصل يكون ملازما مع الاعتقاد بامتناع
الشريك فتدبّر.
وأجاب في الكفاية
بأنّ المراد بالإله واجب الوجود ، وحينئذ تدلّ القضيّة على امتناع إله آخر بالالتزام
؛ إذ لو أمكن وجود الإله الآخر لوجد ؛ لعدم احتياج وجوده إلى العلّة ، فحيث لم
يوجد انكشف امتناعه ، وبتوجيه آخر بقيّة أفراد الواجب لا يمكن اتّصافها بالإمكان
الخاص ، للزوم خروجها عن كونها مصداقا للواجب ، وأمّا الإمكان العام فهو إمّا
متحقّق في ضمن الإمكان الخاص وإمّا في ضمن الوجوب ، فما يكون منه من القبيل الأوّل
يمتنع اتّصاف هذه الأفراد به لما مرّ ، وما يكون من القبيل الثاني فالاتّصاف به
وإن لم يمتنع إلّا أنّه مناف للحصر ، فتعيّن أن يكون البقيّة غير ممكن أصلا.
وفيه أنّ لفظ
الإله ليس بحسب اللغة واجب الوجود بل يطلق على المعبود ، والمناسب أن يراد به
هاهنا المعبود بالحقّ لئلّا يلزم الكذب من حصره فيه تعالى.
المقصد الرابع في العام والخاص.
«فصل»
ليعلم أوّلا أنّ
العام المقصود هاهنا ليس هو العام المنطقي الذي يعبّر عنه بالكلّي ويعرف بما لا
يمتنع فرض صدقه على كثيرين ؛ فإنّ هذا هو المسمّى في الاصول بالمطلق فهو المقصود
في باب المطلق والمقيّد.
ثمّ إنّهم ذكروا
تعريفات للعامّ ، وأوردوا عليها خدشات إمّا عكسا وإمّا طردا ، وهذا يدّل على أنّ
المعرّف معنى واضح عند الجميع ، والأولى أن يعرّف بما يكون مسوّرا بسور محيط
بأفراد حقيقة واحدة كما في كل عالم والعلماء وجميع العلماء ، فخرج مثل لفظ «كلّ» و
«الجميع» ؛ فإنّها أداة العموم وليس بعام ، وكذلك لفظ عالم وعلماء وأمثالهما ،
فإنّها مطلق لا عام وإنّما يصير عاما إذا كانت مصدّرة ومسوّرة بأحد أدوات العموم.
ثمّ إنّ العموم
يكون على ثلاثة أقسام ، الأوّل العموم الاستغراقي وهو أن يكون كلّ واحد من الأفراد
متعلّقا للحكم ومناطا للنفي والإثبات مستقلا ، والثاني العموم المجموعي وهو أن
يكون مجموع الأفراد من حيث الاجتماع متعلّقا ، والثالث العموم البدلي وهو أن يكون المتعلّق من الأفراد لا على التعيين كمفاد
النكرة ، والانقسام إلى هذه الأقسام يتصوّر على نحوين :
الأوّل : أن يكون
حقيقة المعنى في الجميع واحدة وهو معنى الجميع ، لكن يحدث عند تعلّق الحكم بهذا
المعنى أنحاء ثلاثة ، فالاختلاف إنّما جاء من قبل كيفيّة تعلّق الحكم بهذا المعنى
الواحد ، الأوّل أن يلحظ الهيئة الاجتماعيّة بالمعنى الحرفي ويجعل عبرة ومرآتا
للأفراد فيحكم على كلّ فرد مستقلا ، الثاني أن تكون هذه الهيئة
__________________
محفوظة وملحوظة
بالمعنى الاسمي في مقام تعلّق الحكم ، والثالث أن تجعل الهيئة في هذا المقام عبرة
للواحد لا على التعيين.
والثاني : أن تكون
حقيقة المعنى في كلّ من الأقسام غيرها في الآخر ، بأن يكون لنا مع قطع النظر عن
مقام الحكم ثلاثة أنحاء من التعقّل والملاحظة للعموم ، ولازم جعل نحوه الأوّل تحت
الحكم أن يكون كلّ واحد موضوعا مستقلا لحكم مستقلّ ، ولازم جعل نحوه الثاني كذلك
أن يكون الموضوع هو المجموع ، ولازم الثالث أن يكون هو الواحد لا على التعيين ، والحقّ
هو الثاني وإن اختار الأوّل في الكفاية ، فإنّا إذا راجعنا انفسنا نجد ثلاثة
معقولات متباينة الحقيقة في عالم الذهن وهي مفاهيم كلّ واحد من الأفراد ، ومجموع
الأفراد ، وواحد من الأفراد.
ويشهد لهذا أنّ في
الفارسيّة لكلّ من هذه الثلاثة لفظا مخصوصا ، فللمجموعي لفظة «همه» وللاستغراقي
لفظة «هر» وللبدلي «هركدام مى خواهى» فيستعمل في العربيّة لفظة «كل» في مواضع
الثلاثة ويحتاج في كلّ مقام إلى القرينة ، والقرينة لمقام الاستغراق إضافته إلى
النكرة مثل : كلّ واحد وكلّ عالم ؛ ولهذا يترجم حينئذ في الفارسيّة بقولنا : «هريك»
أو «هريك عالم» ، ولو كان معناه في جميع المواضع ما يرادف قولنا : «همه» لكان
ترجمته في الموضعين «همه يك» أو «همه يك عالم» فكان ظاهرا في المجموعي دون
الاستغراقي فتدبّر.
ثمّ في الكفاية ما
حاصله أنّ شمول العشرة لأجزائه ليس كشمول العام لآحاده ؛ إذ العام يصلح للانطباق
على كلّ واحد من الآحاد ولا يصلح العشرة للانطباق على كلّ من أجزائها ، وهذا مخدوش
؛ إذ العام بوصف العموم أيضا لا يصلح للانطباق على الآحاد ، فكما أنّ الواحد مثلا
ليس بعشرة ، كذلك فرد واحد من العلماء لا يصدق عليه مفهوم الكلّ ، فالأولى أن يقال
: إنّ المعتبر في العامّ شيئان : أحدهما ما يكون جامعا للأفراد وصالحا للانطباق
على كلّ منها ، والثاني ما يكون محيطا بها ، وهذان منتفيان في العشرة ؛ إذ ليس
مفهوم العشرة جامعا لما تحته من الأجزاء كما هو واضح ، بل حاله حال الكلّ ، وأمّا
ما يضاف إليه هذا اللفظ أو مفهوم العدد وإن كان جامعا لها ، إلّا أنّ العشرة غير
محيط بتمام آحاد هذين المفهومين ، بخلاف قولنا : كلّ عالم ؛ فإنّ العالم جامع
للأفراد ولفظة «كلّ» محيط بها.
«فصل»
الحق أنّ للعموم
لفظا يخصّه ويدّل عليه بالحقيقة لا بالمجاز ولا بالاشتراك بينه وبين الخصوص ككلمة «كلّ»
و «الجميع» ونحوهما بشهادة التبادر ، وأمّا ما يقال من أنّ التخصيص قد شاع بحيث
قيل : ما من عام إلّا وقد خص فالأولى أن يقال بوضع هذه الألفاظ للخصوص ؛ إذ تقليل
المجاز أولى من تكثيره.
ففيه أوّلا أنّ
استلزام التخصيص للتجوّز ممنوع ، وذلك لأنّ العام المخصّص يمكن فيه ثلاثة وجوه ،
الأوّل أن يستعمل
في الخصوص مجازا وكان الخاص قرينة على إرادة الخصوص من العام عند الاستعمال.
والثاني أن يراد
بالعام في مقام الاستعمال العموم الشامل للخاص أيضا ، ولكن في مرحلة الحكم علّق
الحكم على ما سوى الخاص واغمض النظر عن الخاص ، ففي قولنا : أكرم العلماء إلّا
زيدا يكون العلماء مستعملا في تمام الأفراد حتى الزيد ، ولكن خصّص الحاكم حكم وجوب
الإكرام عند إنشائه بما سوى الزيد وأغمض نظره عنه.
والثالث أن يراد
بالعام في مقام الاستعمال العموم أيضا وعلّق الحكم على المجموع أيضا لكن كان حكما
صوريّا نظير الحكم الصوري في مقام التقيّة فلا يطابق الجدّ واللبّ.
وبعبارة اخرى لنا
إرادة استعماليّة وهي إرادة المعنى من اللفظ عند التلفّظ ، وإرادة جديّة وهي
الثابتة واقعا الناشئة عن الأغراض ، والغالب تطابق الإرادتين ، وقد يتخالفان كما
في التقيّة ، والأصل في مورد الشكّ هو التطابق ، فالمراد الجدّي في قوله : أكرم
العلماء إلّا زيدا هو وجوب إكرام ما سوى الزيد ولكن إنشاء الحكم بحسب الصورة في
موضوع العلماء الشامل للزيد أيضا ، وقوله : إلّا زيدا قرينة على خروج الزيد عن
المراد الجدّي ، وواضح أنّه على الوجهين الأخيرين لا تجوّز في البين أصلا ،
فالتخصيص غير ملازم للتجوّز حتى يلزم من كثرته كثرة المجاز.
وثانيا لو سلّم
الملازمة بين التخصيص والتجوّز فلا محذور بعد قيام القرينة على المجاز مع مساعدة
الوجدان على كون اللفظ حقيقة في خصوص العموم.
«فصل»
لا إشكال في أنّ
النكرة الواقعة في سياق النفي أو النهي سواء كان دالّا على الطبيعة كما في «لا رجل»
أو على فرد واحد منها كما في : ما جاءني رجل ، لا تدلّ على العموم بحسب الوضع
اللغوي أو العرفي بمعنى أنّ قولنا : لا رجل ، ليس بمعنى ليس كلّ فرد من الرجل ،
ومراد القائل بدلالته على العموم أنّ لازم نفي الطبيعة عقلا نفي جميع الأفراد ؛ إذ
لا يصدق انتفاء الطبيعة مع وجود فرد واحد منها ، وكذلك لا يصدق نفي فرد واحد من
الطبيعة إلّا بنفي جميع الأفراد ، فالدلالة على العموم إنّما هي بالاستلزام
العقلي.
وأيضا لا إشكال في
عدم حصول التجوّز لا في أداة النفي ولا في المدخول عند التقييد ، فلو قيل «لا رجل
عالم» لا يلزم التجوّز في لفظة «لا» ؛ إذ هي موضوعة لنفي أفراد مدخولها مقيّدا كان
المدخول أو مطلقا ، ولا في لفظة رجل على ما هو التحقيق من وضع المطلقات للطبيعة
المهملة القابلة للإطلاق والتقييد ؛ لتعدّد الدال والمدلول ، وكذلك الكلام في كلمة
«كل» وما في معناها ، فالتقييد غير مناف لمدلولها ، لكونها موضوعة لاستيعاب أفراد
ما يراد من مدخولها ، ولا لمدلول مدخولها.
وإنّما الكلام
والاشكال في أنّه هل نحتاج في الحكم بالعموم عقلا أو وضعا إلى تمهيد مقدّمات
الحكمة أوّلا في المدخول وإثبات إرادة الطبيعة المرسلة منه بتلك المقدّمات ، ثمّ
الحكم بعد ذلك بانتفاء جميع أفراد هذه الطبيعة المرسلة عقلا في أدوات النفي
واستيعاب جميعها وضعا في أدوات العموم ، فعند عدم تماميّة المقدّمات لم نحكم
بالعموم ، أو لا نحتاج بل يكفي كلمة «لا» وكلمة «كل» في الحكم بالعموم وإن احتمل
التقييد في مدخولهما مع التصديق بعدم منافاته لمدلول شيء منهما ومن مدخولهما؟
الحقّ هو الثاني ،
والدليل عليه ـ بعد مساعدة الوجدان على أنّ قولنا : كلّ رجل أو لا رجل ، معناه
العموم بدون الاحتياج إلى شيء آخر ـ أنّه فرق بين المجمل والمهمل ونحن نسلّم أنّه
لو كان مدخول اللفظين مجملا ومردّد بين المطلق والمقيّد يسري الإجمال إليهما ؛ إذ
لم يعلم أنّ المنفي أو المستوعب أفراد المطلق أو المقيّد لكنّ المهمل مفهوم متّضح
لا إجمال فيه أصلا.
فنقول : لو كان
المراد في قوله : «لا رجل» الرجل العالم فلا يخلو إمّا أن يكون مرادا لبيّا مع
استعمال لفظ الرجل في معناه ، أو يكون مرادا استعماليّا بأن استعمل قوله : لا رجل،
في لا رجل عالم ، فإن كان الثاني كان على خلاف قانون المكالمة ؛ إذ يلزم نقض الغرض
؛ إذ الغرض إفهام المقاصد ، واستعمال اللفظ في غير معناه نقض لهذا الغرض ، وإن كان
الأوّل فاللفظ مستعمل في الطبيعة المهملة كما هو الموضوع له.
فنقول : كلمة «لا»
مفيدة للنفي وهو إذا تعلّق بالطبيعة المهملة يلزم انتفاء جميع الأفراد ؛ إذ
المهملة مقسم للمطلق والمقيّد ، ونفي المقسم ملازم لنفي جميع الأقسام ، وكذلك نقول
في كلمة «كل» فإن كان الرجل في قوله : كلّ رجل مثلا مستعملا في الرجل العالم فهذا
نقض للغرض ، وإن كان مستعملا في الطبيعة المهملة والمفروض أنّ كلمة «كل» موضوعة
لاستيعاب أفراد مدخولها ، فيصير مجموع المعنى جميع أفراد الطبيعة المهملة ولازمه
استيعاب جميع الأفراد الثابتة لجميع الأقسام ؛ إذ فرد كلّ قسم فرد للمقسم.
وممّا يؤيّد
المطلب أنّه لو صرّح في الكلام بقيد الإطلاق فقيل : لا رجل مطلقا ، لم يشكّ أحد في
الحكم بالإطلاق ، وليس إلّا لأجل أنّ إرجاع قيد الإطلاق إلى الطبيعة المهملة كما
هو مفاد اللفظ يتولّد منه الإطلاق ، ولم يلتزم أحد بأنّ الحكم بالإطلاق في هذا
المثال يتوقّف على إحراز مقدّمات الحكمة في لفظ «رجل» وإلّا كان مجملا ، مع أنّ
التقييد غير مناف لمدلول الرجل ولا لمدلول الإطلاق ، ففي قولنا : لا رجل عالم
مطلقا ليس في البين تجوّز في لفظه أصلا فتدبّر.
ولا يخفى عليك
أنّه فرق بين ما ذكرنا وبين إجراء المقدّمات في المطلقات ؛ إذ هناك ما يكون مفاد
اللفظ قاصر عن إفادة المقصود ، بل يحتاج إلى إحراز أنّ للمتكلّم حالة إلقاء تمام
المراد اللبّي فيحكم بعد إحراز هذا وسائر المقدّمات أنّ المراد اللبّي في قوله :
أعتق رقبة مطلق الرقبة وإلّا لذكر القيد ، فإن لم يحرز تلك الحالة للمتكلّم لم
يعلم أنّ المراد عتق المطلق أو خصوص المؤمن ، ولا يمكن تعيين هذا من مفاد اللفظ
بالفرض ، وهذا بخلاف المقام ؛ إذ يكفي فيه مجرّد ما هو مفاد اللفظ وضعا من دون
حاجة إلى شيء آخر أصلا.
«فصل»
في أنّ العام
المخصّص حجّة في الباقي أولا؟ دليل عدم الحجيّة إجماله أنّه بعد العلم بعدم إرادة
العموم منه يكون مردّدا بين مراتب الخصوص ، فقبل قيام القرينة على تعيين أحدها لم
يحمل على شيء منها ، وكون تمام الباقي أقرب المجازات إلى الحقيقة إنّما هو بحسب
الكمّ والمقدار ، وما هو مرجّح لحمل اللفظ هو الأقربيّة بحسب الانس الذهني ، بأن
يكون هذا المعنى من بين المعاني المجازيّة أكثر انسا باللفظ من غيره ، ومن الواضح
عدم تحقّق الأقربيّة بهذا المعنى في المقام ، فإنّ حال العام بالنسبة إلى جميع
مراتب الخصوص على السواء في كونه خلاف معناه الوضعي نظير المائة ؛ فإنّه بعد عدم استعماله
في العدد الخاص الذي هو معناه يكون نسبته إلى الواحد والتسعة والتسعين واحدا.
وفيه أنّه قبل
ملاحظة المعنى المحيط بتمام الأفراد لا يمكن استعمال العام مجازا في شيء من مراتب
الخصوصيّات ، وذلك لعدم عنوان كان منطبقا على واحدة من تلك المراتب دون غيرها حتى
يستعمل الأداة بعد عدم استعماله في المحيط بتمام الأفراد في هذا العنوان.
نعم بعد إحضار
المعنى المحيط في الذهن يمكن الغضّ عن واحد أو اثنين أو ثلاثة فصاعدا واستعمال
اللفظ في تمام الباقي ، لكن هذا في المخالفة للظاهر بمكان ؛ فإنّ عدم إمكان
الاستعمال المجازي في الباقي بدون ملاحظة المعنى الجامع المحيط أوّلا أدل دليل على
أنّ لفظ العموم مستعمل في معناه الحقيقي أعني : المعنى المحيط أبدا ، ولا ينافي
ذلك ورود المخصّص بعده متّصلا أو منفصلا ؛ لإمكان الجمع بأحد نحوين : إمّا بجعل
الفرد المخصّص خارجا في مرحلة الحكم دون مقام الاستعمال بأن كان اللفظ مستعملا في
المحيط ثمّ غضّ النظر عن الفرد المعيّن وأنشأ الحكم في موضوع الباقي ، وإمّا بجعله
خارجا عن المراد اللبّي مع كونه داخلا في مرحلة الحكم كمقام الاستعمال بأن لاحظ
المعنى المحيط عند مقام الاستعمال وكذا لاحظه أيضا عند جعل الحكم ،
لكن كان تعميمه
الحكم للجميع بحسب الصورة مع اختصاص الباقين به بحسب اللب.
فعلى الأوّل لا
إخراج في البين حقيقة ، وعلى الثاني يكون الإخراج من هذا الحكم الصوري ويكشف عن
عدم الدخول في الحكم الجدّي من الأوّل ، وعلى التقديرين يكون العام حجّة في الباقي
، أمّا على الأوّل فلأنّ المفروض عدم الإغماض عن ما سوى هذا الفرد في مرحة الحكم ،
ولازم ذلك شمول الحكم لجميع ما سواه ، وأمّا على الثاني فلأنّ المفروض تعلّق الحكم
الصوري بجميع الأفراد ، غاية الأمر قد علم مخالفته للحكم الجدّي في خصوص هذا الفرد
بالدليل ، فيبقى أصالة التطابق بين الحكمين بالنسبة إلى الباقي بحالها.
«فصل»
لا إشكال في عدم
الفرق بين المخصّص المتّصل والمنفصل فيما إذا كان مبيّنا لا إجمال فيه أصلا ،
فيكون العام حجّة في الباقي ، ويسقط عن الحجيّة في غيره في كلتا الصورتين ، غاية
الأمر لا يستقرّ ظهور العام من أوّل الأمر إلّا في الباقي في صورة الاتّصال ،
ويستقرّ ظهوره في الجميع ، فيعارض ظهوره بالنسبة إلى الفرد الخارج بظهور أقوى ،
فيسقط عن الحجيّة بالنسبة إليه في صورة الانفصال.
وبعبارة اخرى
المتّصل مزاحم لأصل ظهور العام ، والمنفصل مزاحم لحجيّته لا لظهوره.
وكذا لا إشكال في
عدم الفرق بين الصورتين في صورة إجمال المخصّص وتردّده بين المتباينين كما لو قال
: أكرم العلماء إلّا زيدا ، أو ورد بعد أكرم العلماء : لا تكرم زيدا وكان الزيد في
المثالين مشتركا بين رجلين عالمين فاشتبه المراد به في المثالين فيسقط ظهور العام
بالنسبة إلى كلا طرفي الترديد عن الحجيّة في كلتا الصورتين لمكان العلم الإجمالي ،
غاية الأمر أنّه لا ينعقد الظهور للعام بالنسبة اليهما في صورة الاتصال ، وينعقد
ولكن يسقط عن الحجيّة لقيام الحجّة الأقوى على خلافه في صورة الانفصال.
إنّما الكلام
والإشكال في صورة الإجمال والتردّد بين الأقلّ والأكثر ، فالمحكيّ عن أساتيد الفن
قدّس الله أسرارهم هو الفرق بين المخصص المتّصل والمنفصل ، فالأوّل يسري إجماله
إلى العام فيصير العام بالنسبة إلى الفرد الغير المتيقّن الخروج مجملا ، والثاني
يقتصر في تخصيصه للعام على القدر المتيقّن ويكون عموم العام بالنسبة إلى غير
المتيقّن محكّما.
والدليل على هذه
الدعوى أنّ العامّ في صورة انفصال المخصّص قد انعقد له ظهور مستقرّ في العموم فصار
موضوعا للحجيّة بمقتضى أدلّة حجيّة الظواهر ، غاية الأمر صار حجّة في حدّ ذاته
بحيث لا ينافي عدم حجيّته عند معارضة الحجّة الأقوى ، فإذا ورد على خلافه دليل خاص
منفصل كان من باب التعارض بين الحجّتين ، وحيث إنّ الخاص أقوى حجّة من العام
لنصوصيّته أو أظهريّته يكون مقدّما ، لكن لو فرض كون هذا الخاص مجملا بين الأقلّ
والأكثر ينحصر حجيّته في القدر المتيقّن وهو الأقلّ ، وأمّا في الزائد فلا حجيّة
له لعدم الظهور وثبوت الإجمال ، وحينئذ فما يمكن أن يزاحم فيه الخاص العامّ في
الحجيّة إنّما هو القدر المتيقّن ، وأمّا بالنسبة إلى الزائد فلا مزاحمة له للعام
أصلا ؛ لعدم معقوليّة تعارض اللاحجّة مع الحجّة.
فلو ورد أكرم
العلماء ، ثمّ لا تكرم الفسّاق من العلماء ، وشكّ في مفهوم الفاسق أنّه مرتكب
الكبيرة أو مطلق من ارتكب ذنبا ، فما يمكن أن يصير هذا الخاص مزاحما فيه لذاك
العام إنّما هو خصوص مرتكب الكبيرة ، وأمّا مرتكب الصغيرة فليس الخاص حجّة فيه
لإجماله وقد فرض كون العام حجّة فيه فيكون العام بالنسبة إليه حجّة بلا معارض.
ولو قلنا بأنّ
الخاص يجعل العام معنونا فيصير عنوانه في المثال هو العالم الغير الفاسق فإنّما
نقول به بالنسبة إلى القدر المتيقّن أيضا لا مطلقا ، فلا يرد أنّ العام بعد
صيرورته معنونا بعدم الخاص يصير مجملا أيضا.
وممّا يشهد بذلك
أنّه لو لم يكن في البين عام وورد دليل خاص على حرمة إكرام العالم الفاسق كان
المرجع في الفرد المشكوك أعني المرتكب للصغيرة هو أصالة
البراءة ؛ لإجمال
الدليل بلا إشكال ، ففي صورة وجود العامّ يرجع إلى عمومه ، بل يرفع بسببه الإجمال
عن الخاص ؛ لكونه دليلا اجتهاديّا فمثبته أيضا حجّة ، فيقال : إنّ مرتكب الصغيرة
يجب إكرامه بمقتضى عموم العام ، وكلّ فاسق يحرم إكرامه بمقتضى دلالة الخاص ، فينتج
أنّ مرتكب الصغيرة ليس بفاسق ، فيتبيّن بذلك مفهوم الفاسق وأنّه خصوص من ارتكب
الكبيرة.
وهذا بخلاف ما إذا
كان المخصّص متّصلا ، فإنّ الكلام حينئذ واحد وعلى المخاطب أن يصبر إلى أن يأتي
تمام أجزاء الكلام ولواحقه ثمّ ينظر أنّ المستفاد من مجموع الصدر والذيل ما ذا
فيحكم بأنّ هذا المستفاد هو ظاهر القضيّة ، فإذا قال : أكرم العلماء فليس للمخاطب
أن يحكم بمجرّد سماع هذا أنّ المراد عموم العلماء ، نعم يكون له حينئذ ظهور بدوي
في العموم كظهور لفظ الأسد بدوا في الحيوان المفترس ، ولكنّه ليس ظهورا مستقرّا
معتدّا به إلّا بعد مجيء تتمّة الكلام ، فإن لم يكن في التتمّة قرينة على خلاف هذا
الظاهر البدوي صار مستقرّا وإلّا استقرّ الظهور على الخلاف ، كما في رأيت أسدا
يرمي ، ولازم هذا أنّه إذا كان في التتمّة لفظ مجمل كقوله : إلّا الفسّاق منهم كان
الإجمال ساريا إلى عموم العام أيضا.
هذا تقريب مرامهم قدسسرهم ، والإنصاف أنّه لم يحصل الجزم به إلى الآن و
__________________
وجهه أنّ قولهم :
إنّ العام يكون له ظهور مستقرّ فيكون موضوعا للحجيّة في صورة الانفصال إنّما يتمّ
في العام الواقع في كلام من يتكلّم لتحصيل أغراضه الشخصيّة ، كما هو المرسوم في
مكالمات العامّة ؛ إذ المرسوم أنّه لو كان للعام مخصّصات ذكروها بجملتها في مجلس
ذكر العام ، فلو قيل : أضف كلّ عالم هذا البلد ولم يستثن أحدا علم أنّ مراده
الجميع ، حتى لو صرّح بعد انقضاء المجلس باستثناء فرد منهم يحمل على حصول البداء
له بالنسبة إلى هذا الفرد وأنّه كان إلى الآن بانيا على ضيافته فظهر له الآن كون
الصلاح في ترك ضيافته.
وهذا بخلاف كلام
المتكلم الذي يتكلّم في الامور العامّة وتأسيس القوانين ، فإنّه ربّما يذكر عامّا
في مجلس ولم يقتض المصلحة ذكر مخصّصه معه ، فيذكر المخصّص في مجلس آخر ، فالعمومات
الواقعة في كلام هذا المتكلّم لا بدّ أن يعامل معها معاملة العام الواقع في كلام
المتكلّم الأوّل قبل فراغه من الكلام ، فكما ليس للمخاطب هناك الاعتماد على الظهور
البدوي في العموم ، بل لا يستقرّ ظهوره فيه إلّا بعد انقضاء الكلام وعدم ذكر
المخصّص ، كذلك هاهنا ليس له الحكم بالظهور في العموم بمجرّد أخذه لفظا عامّا في
مجلس ؛ إذ لا يستقرّ له ظهور إلّا بعد التتبّع والفحص عن المخصّص في المجالس الأخر
التي يجوز تأخير ذكر المخصّص إليها ، فعند عدم وجدانه بعد هذا الفحص يستقرّ الظهور
في العموم ، فالمجالس المتعدّدة لهذا المتكلّم في حكم المجلس الواحد لذاك.
والذي يدّل على ما
ذكرنا من عدم استقرار الظهور وعدم صيرورة العامّ موضوعا للحجيّة بالنسبة إلى هذا
المتكلّم إلّا بالفحص المذكور لزوم الفحص عن المخصّص وعدم جواز التمسّك بالعام
قبله.
فإن قلت : لعلّه
من جهة كثرة التخصيص بحيث قيل : ما من عامّ إلّا وقد خصّ.
قلت : لو كان كذلك
لكان اللازم الفحص إلى حدّ صار التخصيص خارجا عن
__________________
أطراف العلم
الإجمالى وكان الزائد على ذلك غير لازم وليس كذلك ، فلو وجد عشرة مخصّصات لعام
وخرج بذلك عن أطراف العلم المذكور ولكن يحتمل وجود المخصّص يجب الفحص أيضا.
فإن قلت : لزوم
الفحص عن المخصّص لا ينافي حجيّة العام ؛ فإنّ الثابت من دليل حجيّته ليس أزيد من
الحجيّة الجهتية الذاتية ، بمعنى أنّه حجّة لو لم يعارض بحجّة أقوى وإلّا سقط عن
الحجيّة ، فلزوم الفحص لأجل الاطمئنان بعدم تلك الحجّة الأقوى.
قلت : لو كان كذلك
لزم فيما إذا كان العام قطعي السند والخاص ظنيّة أن يقدّم العام ؛ إذ يعارض ظهور
العام حينئذ مع ظهور دليل اعتبار السند وظهور العام أقوى من ظهوره ، مثلا لو قام
العام الكتابي على الوجوب وقام الخبر الواحد الظني الصدور على حرمة الخاصّ ، وقع
التعارض بين ذلك العامّ وبين ظهور دليل حجيّة خبر الواحد ، أعني قولهعليهالسلام: صدّق العادل ، والأوّل أقوى ، وليس كذلك ، بل الخاصّ
الظنّي الصدور الغير الخارج عن موضوع الحجيّة وإن كان سنده في غاية الضعف يقدّم
على العام القطعي الصدور، ولا يمكن أن يكون وجه هذا إلّا ما ذكرنا من عدم استقرار
الظهور والمعاملة مع مكالمات هذا المتكلّم المتفرّقة في المجالس العديدة معاملة
المكالمات المجتمعة في مجلس واحد الصادرة عن غيره ؛ إذ على هذا متى وجد خاص بالوصف
المذكور في مجلس غير المجلس الذي ذكر فيه العام يكون اللازم ضمّ هذا الخاص إلى ذاك
العام وفرض كونهما صادرين في مجلس واحد ، فيستقرّ ظهور العام بعد ملاحظة الخاص ،
فليس بينهما معارضة أصلا ، ولازم هذا أنّه لو كان في الخاص المنفصل الواقع في كلام
هذا المتكلّم إجمال يسري منه إلى العام ، هذا كلّه هو الكلام في الشبهة
المفهوميّة.
وأمّا الشبهة
المصداقية بأن لا يكون في مفهوم لفظ الخاص إجمال أصلا أو لم يكن في البين لفظ ، بل
كان المعنى متواترا أو مجمعا عليه ، ولكن شكّ في فرد معيّن من أفراد العام أنّه من
مصاديق هذا الخاص أو لا ، فالمعروف عدم جواز التمسّك فيها بعموم العام ، فلو ورد
أكرم العلماء ، ثمّ لا تكرم الفسّاق ، وفرض العلم بمدلول لفظ الفسّاق
فشكّ في عالم أنّه
من مصاديق الفاسق أولا ، لم يمكن التمسّك على وجوب إكرامه بعموم أكرم العلماء ،
كما لا يمكن التمسّك على حرمته بعموم لا تكرم الفسّاق ، وقيل بالجواز.
أمّا تقريب الأوّل
فهو أنّ أصالة العموم إنّما تكون حجّة لأن يرفع بها الشبهة في المراد ويكون هذا في
مقام كان المتكلّم قادرا على رفع التحيّر عن الشاكّ ، وبعبارة اخرى مقام إجراء
أصالة العموم ما إذا صحّ السؤال عن المتكلّم بأن يقال له : ما أردت من قولك : أكرم
العلماء مثلا ، وأمّا إذا كان مراده واضحا وكانت الشبهة ممحّضة في المصداق كما هو
المفروض فليس المقام صالحا للسؤال عن المتكلّم فلا يسأل عنه أنّ هذا الرجل العالم
فاسق أم لا ، فربّما يكون المتكلّم أيضا متحيّرا في ذلك.
وأمّا تقريب
الثاني فهو أنّه لو ورد أكرم العلماء مثلا ثمّ لا تكرم الفسّاق من العلماء ، فلا
شكّ أنّ الأوّل عامّ لجميع الأفراد من العادل والفاسق ، والثاني إنّما نجعله
محدودا بقدر الحاجة فنقول : وإن كان بحسب الواقع ليس في البين إلّا فردان ، عادل
وفاسق إلّا أنّه يحصل بحسب الحالات ثلاثة أفراد ، الأوّل معلوم العدالة ، والثاني
معلوم الفسق ، والثالث مشكوك العدالة والفسق ، فالعام بالنسبة إلى معلوم الفسق
مخصّص قطعا ، كما أنّ معلوم العدالة باق تحته بلا كلام ، وأمّا المشكوك فالمانع عن
شمول العام أنّه إذا كان فاسقا في الواقع كان محرّم الإكرام وهو ينافي وجوب
إكرامه.
والجواب أنّ هذا
بعينه هو ما تخيّله ابن قبة ، وأجابوا عنه بأنّ الحكمين طوليّان ولا منافاة بينهما
، فكما نقول : إنّ الخمر حرام واقعا والمشكوك منه حلال فكذا نقول هنا : لا منافاة
بين كونه واقعا محرّم الإكرام وكونه بحسب الظاهر داخلا في عموم أكرم.
وبالجملة ، لا
مانع من العموم بالنسبة إلى الفرد المشكوك ، وأمّا قولك إنّ أصالة العموم في مقام
كان رفع الشكّ مقدورا للمتكلّم ، وهاهنا ليس رفعه بيده نقول : لا شكّ أنّه يقدر
على رفع الشكّ من حيث جعل الحكم في الموضوع المشكوك ، فهو وإن كان قد لا يقدر على
رفع الجهالة من حيث العدالة والفسق إلّا أنّه يقدر على أنّ الفرد المجهول داخل تحت
حكم العام أولا ، فالمقام مقام السؤال عنه لرجوعه إلى إرادته.
فإن قلت : يلزم أن
يكون خطاب واحد متكفّلا لحكمين أحدهما واقعي والآخر ظاهري.
قلت : لا ضير فيه
فإنّ الحكم الظاهري ليس سنخا آخر غير الحكم الواقعي ، غاية الأمر أنّ الأوّل
متعلّق بنفس الواقع والثاني بالشكّ فيه.
فإن قلت : إنّ
الشكّ المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري لا بدّ وأن لا يكون شكّا متعلّقا بالموضوع
الواقعي بنفسه مع قطع النظر عن حكمه إذ حينئذ يقع في عرض الحكم الواقعي ويكون مخصّصا
له ؛ إذ دليل الخمر مثلا يفيد أنّ جميع أفراد الخمر حرام ، ودليل الحكم الظاهري
مفاده أنّ الخمر المشكوك الخمريّة حلال ، فرفع المنافاة عمّا بينهما وجعل الظاهري
في طول الواقعي إنّما يتحقّق لو جعل الشكّ متعلّقا بالحكم سواء كان ناشئا عن الشكّ
في الموضوع أم لا ، فيقال : إنّ المشكوك الحرمة سواء كان الشكّ في حرمته لأجل
الشكّ في كونه خمرا أو ماء مثلا ، أو كان موضوعا محرزا وشكّ في الحكم الكلّي
المتعلّق به ، وبعبارة اخرى : قد أخذ في موضوع الحكم الثانوي الشكّ في الحكم
الأوّلي فالشكّ متأخّر رتبة عن نفس الحكم الأوّلي ، والحكم الثانوي متأخّر رتبة عن
الشكّ في الحكم الأوّلي لكونه موضوعا.
قلت : الأمر من
هذه الجهة سهل ؛ إذ يدّعى تعلّق الشكّ بالموضوع لا من حيث نفسه ، بل من حيث
منشئيته للشكّ في حكمه الجائي من قبل المخصّص ، هذا.
ويرد على ما ذكره قدسسره امور ،
أحدها : أنّ الشكّ
المأخوذ في الحكم الظاهري لا بدّ وأن يلحظ قيدا لا على وجه الإطلاق ، وبعبارة اخرى
لا بدّ وأن يكون دخيلا في الحكم لا كالأوصاف التي يلحظ على وجه الإطلاق كالإيمان
والفسق والكفر الملحوظة في أعتق رقبة ، فإنّها ملحوظة على وجه يساوي وجودها وعدمها
في ثبوت الحكم ، فمن حيث إنّ القضيّة متعرّضة للحكم الواقعي لا بدّ وأن يلاحظ
الشكّ في حكم المخصّص على وجه الإطلاق ؛ إذ لم يوجد في موضوع الحكم الواقعي الشكّ
في حكم آخر ، ومن حيث أنّها متكفّلة للحكم الظاهري لا بدّ وأن يلحظ فيها الشكّ في
حكم المخصّص قيدا ،
فيلزم الجمع بين
لحاظي الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى الشكّ المذكور في لحاظ واحد.
وثانيها : أنّه
كما لا يمكن أن يكون الحكم ناظرا إلى نفسه ؛ إذ يلزم طوليّته بالنسبة إلى نفسه
وتأخّره عن نفسه ، كذلك لا يمكن ذلك بالنسبة إلى حكم آخر مساو معه رتبة ، ويكون
معه في عرض واحد لوجود الملاك المذكور عينا ؛ إذ يلزم تأخّر الحكم عن نفسه ، فإنّ
المفروض أنّه في رتبة الحكم المنظور إليه ، فلو كان متأخّرا عنه لزم أن يكون
مساويا معه ومتأخّرا معا.
فنقول : لازم كون
الدليلين من باب العام والخاص ـ حيث يتخصّص العام بالخاص ـ كونهما في عرض واحد
واردين على الموضوع ، وإلّا لم يتحقّق التخصيص ، فإنّ معناه مصادمة الخاص للعام في
بعض مدلول العام وهي لا تتحقّق مع الاختلاف في الرتبة وهذا واضح.
فلو فرضنا العام
ناظرا إلى حكم الخاص ومتكفّلا لحكم الشكّ فيه فلا محالة يكون مترتّبا عليه وفي
طوله ، وبهذا يخرجان عن باب العام والخاص وإن كان يصحّ تكفّل العام للحكم الظاهري
، وإن فرضنا العام في رتبة الخاص فهما في عرض واحد يردان على موضوع واحد ، فلا
يمكن النظر لأحدهما إلى الآخر ، وبالجملة وإن كانا حينئذ من باب العموم والخصوص
لكن لا يتحقّق بهذا البيان حكم ظاهري.
ثالثها : أنّه لا
شكّ أنّ العموم الأحوالي تابع للعموم الأفرادي ويكون الأوّل في طول الثاني ، فلو
خرج من العام فرد وخصّص بذلك عمومه الأفرادي فلا يعقل بقاء عمومه الأحوالي
المتحصّل من دخول الأفراد تحت العام بحاله بالنسبة إلى الفرد المخرج ؛ إذ الدليل
إنّما يتكفّل أحوال الفرد إذا كان نفس الفرد باقيا تحت عموم موضوعه.
وبعبارة اخرى :
بعد اندراج الفرد تحت عموم الموضوعي يشمله مقدّمات الحكمة ، وبدون ذلك لا موضوع
لتلك المقدّمات ؛ إذ بعد عدم شمول الحكم نفس الفرد فلا كلام في هذا الفرد حتى يحكم
بسرايته إلى أحواله بمقدّمات الحكمة.
فإن قلت : هذا مسلّم
فيما كان للحكم ملاك واحد ، وأمّا لو كان هناك ملاكان أحدهما في الفرد من حيث ذاته
وانطباق العام عليه والآخر من حيث حاله وكونه
معروضا للحالة
الفلانيّة كما في المقام ـ حيث إنّ الفاسق الواقعي الذي شكّ في حرمة إكرامه ووجوبه
من جهة الشكّ في فسقه وعدالته قد اجتمع فيه ملاكان لوجوب الإكرام أحدهما العلم
والآخر كونه مشكوك العدالة والفسق ـ فإذا خرج عن العموم بواسطة لا تكرم الفسّاق
يبقى تحته من حيث كونه مشكوك الفسق والعدالة.
قلت : لا فرق بين
اتّحاد الملاك وتعدّده ؛ إذ على أيّ حال يكون الأحوال واردا على المفرد ونريد
إسراء الحكم إلى حالاته بمقدّمات الحكمة ، فهو موقوف على بقاء نفسه تحت عموم
الدليل ؛ إذ ليس بحسب الفرض في البين دليل آخر ، بل المقصود استفادة الحكمين من
الدليل الواحد وهو لا يتمّ إلّا بمحفوظيّة نفس الفرد وهذا أيضا واضح.
فإن قلت : ما
ذكرته في الإشكال من اجتماع اللحاظين ممنوع ؛ إذ من الممكن إجراء الحكم على طبيعة
مشتملة على أصناف لملاك في نفس كلّ واحد من تلك الأصناف كما إذا قال : أعتق كلّ
رقبة وكان وجوب عتق الرقبة الكافرة لملاك في نفسه خاص به ، وكذا في المؤمنة ، وليس
في ذلك اجتماع لحاظين : لحاظ الإطلاق ولحاظ التقييد كما هو واضح.
قلت : لا محيص عن
إمكان ما ذكر لكنّه خلاف ظاهر القضيّة ؛ حيث إنّه كون ملاك الحكم في نفس الطبيعة
التي علّق عليها الحكم من دون تفاوت بين أصنافها.
نعم لا يبعد عدم
مخالفة الظاهر في بعض القضايا كما لو قال : أكرم هؤلاء وكان إكرام كلّ بجهة خاصّة
به ، وكما لو قال : أكرم ساكني البلد إذا كان سبب الإكرام جهة خاصّة بكلّ واحد من
الأفراد لا الجهة الجامعة أعني السكون في البلد ، ومن هنا يعلم أنّه وإن فرغنا عن
الإمكان من جهة الإشكالين الآخرين أيضا لا ينفع بحال المدّعي بل لا بدّ للمدّعي
المذكور مضافا إلى الإمكان من دعوى الظهور ، والإنصاف عدمه ، بل الظهور منعقد على
الخلاف في كلا الأمرين يعني أنّ الظاهر من قول القائل : أكرم العلماء وقوله منفصلا
: لا تكرم الفسّاق من العلماء أنّهما حكمان في عرض واحد ولم يلحظ في الأوّل الشكّ
في الثاني ، وكذا الظاهر أنّ الحالات التي يشملها العام الأحوالي وتكون مندرجة تحت
الإطلاق يكون بحسب الظاهر اللفظي غير دخيلة
في الحكم ،
فالظاهر من أكرم العلماء الذي هو بمنزلة أكرم العلماء سواء كانوا معلوم العدالة أو
مشكوك العدالة والفسق أنّ المشكوكيّة ليست مناطا لحكم أكرم ، فعلم أنّه قدسسره وإن أتعب قلمه الشريف في توجيه ما قاله لكنّه مخدوش ثبوتا
وإثباتا ، ومن هنا يظهر أنّ الحقّ عدم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقية.
نعم قد يكون
التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة جائزا وهو مشروط بشرطين ، الأوّل : أن يكون
النسبة بين الدليلين هو العموم من وجه لا مطلقا مثل أكرم العلماء ولا تكرم الفساق
، والثاني : احتمال أن يكون المتكلّم مستقصيا في أفراد كلّ من العامين وعالما بعدم
تداخلهما في فرد ، مثلا لو قال : أضف جميع علماء البلد وقال في مقام آخر : أهن كلّ
فاسق هذا البلد واحتملنا أنّه تفحص بين علماء البلد فلم يجد فيهم فاسق ، وتفحّص
بين فسّاقهم فلم يجد فيهم عالم فحينئذ نحتمل في العالم المشكوك الفسق أن يكون
مريدا جدّيا لإكرامه ويكون الإرادة الجديّة بالنسبة إليه محفوظة ، فيكون المقام
مقام أصالة العموم ، لكن هذا في القضايا اللفظيّة التي لا تتعرّض لحال المستقبل والأفراد
المقدّرة الحاصلة فيما بعد كالمثال المذكور.
وبعبارة اخرى تكون
خارجيّة لا حقيقيّة ، أو تتعرّض لها وتكون حقيقيّة لكن كان المتكلّم عالما بالغيب
واحتمل أنّه في هذه القضيّة أعمل علمه بالغيب وأصدر الكلام مبنيّا عليه.
وأمّا لو كان
متعرّضا لحال ما يأتي من الأفراد ولم يكن المتكلّم عالما بالغيب أو كان وعلمنا
أنّه في هذه القضيّة لم يعمل علمه بالغيب كما في ألفاظ الشارع عند بيان الأحكام
الشرعيّة فليس في البين احتمال أن تكون الإرادة الجدّية محفوظة بالنسبة إلى الفرد
المشكوك.
وكذا لو لم يكن
بينهما عموم من وجه ، بل كان عموما مطلقا كقوله : أكرم العلماء ولا تكرم الفسّاق
من العلماء ؛ إذ مع وجود الخاص لا يحتمل أن يكون المتكلّم مستقصيا لأفراد العام
وحاكما على كلّ منها باعتبار عدم وجدانه شيئا منها معنونا بعنوان الخاص ؛ إذ لو
كان كذلك لم يتكلّم بالخاص.
نعم لو كان الخاص
دليلا لبيّا كان لهذا الاحتمال مجال ، كما لو علم من الخارج أنّه لا يريد إكرام
العالم الفاسق من أهل البلد ، ولكن لم يكن منه في البين لفظ يدّل على هذا فقال:
أكرم علماء هذا البلد.
وبالجملة إذا كان
محفوظيّة الإرادة الجديّة في خصوص هذا الفرد الذي شكّ في كونه مصداقا لعنوان محكوم
بحكم مضاد محتملة ، سواء ورد حكم هذا العنوان في الدليل اللفظي مع كونه عامّا من
وجه ، أو ثبت حكمه بالدليل اللبّي مطلقا ، فأصالة العموم جارية ، بل يمكن التمسّك
بها في رفع الإبهام والتحيّر عن الفرد وتبيين عدم كونه معنونا بهذا العنوان ،
فيقال مثلا بعد ورود : لعن الله بني اميّة قاطبة والقطع بعدم جواز لعن المؤمن إذا
شكّ في إيمان بعض بني اميّة : إنّ هذا البعض جائز اللعن بأصالة العموم في لعن الله
الخ ، وكلّ مؤمن يحرم لعنه ، فينتج أنّ هذا ليس بمؤمن.
فإن قلت : لا شبهة
أنّه لا يمكن أن يجعل أصالة العموم في الحكم طريقا لإحراز موضوع نفس هذا الحكم
واستكشافه وهذا واضح ؛ إذ عموم الحكم فرع إحراز موضوعه ، فلو كان إحراز الموضوع
أيضا متوقّفا على عمومه لزم الدور ، وبعد ما فرضتم أنّ المخصّص المنفصل يجعل موضوع
العام مقيّدا ومضيّقا كالمتّصل ـ في كلمات الشارع وأمثاله ممّن جرت عادته بذكر
القرائن لكلامه منفصلة يلزم ما ذكر من الإشكال ، فكما لا يمكن إحراز القيد بأصالة
العموم فيما إذا كان المخصّص متّصلا بالعام فكذلك في المنفصل أيضا ؛ لأنّه بحكمه
حسب الفرض.
قلت : لنا قسمان
من القيود ، الأوّل ما أحال المتكلّم إحرازه إلى المخاطب ، ففيه يتمّ ما ذكرته ،
فليس للمخاطب إحراز هذا القيد بأصالة العموم في كلام المتكلّم ، بل لا بدّ من
إحراز المخاطب هذا القيد من الخارج ، والثاني القيد الذي جعله المتكلّم في عهدة
نفسه وصار هو متعهّدا بإحرازه في تمام أفراد الموضوع ورفع مئونته عن عهدة المخاطب
، ففي مثله يجوز للمخاطب إحراز القيد بأصالة العموم في كلام المتكلّم ، كما أنّه
يصحّ السؤال عن نفس المتكلّم عن حال الفرد المشكوك وأنّه واجد القيد أولا؟ وقد
ذكرنا أنّه كلّ مورد كان كذلك كان مجرى لأصالة العموم ، فعلم ممّا ذكرنا أنّ ما
اشتهر من أنّ عموم
الحكم فرع إحراز الموضوع وأنّ الحكم لا يمكن أن يستكشف ويحرز به موضوعه ليس على
إطلاقه.
ثمّ إنّ في
الكفاية فصّل بين ما إذا كان المخصّص لفظيّا فحكم بعدم الجواز كليّة وبين ما إذا
كان لبيّا فحكم بالجواز كليّة ، وتمسّك بأنّ الحجّة من جانب المولى في قبال العام
موجود في الأوّل وهو لفظه ، وأمّا في الثاني فليس في البين حجّة ملقاة من طرفه في
قبال العام ، فلا بدّ من الأخذ بالعام الذي هو حجّة واحدة إلى أن يقطع بالخلاف.
وعلمت ممّا ذكرنا
أنّ الجواز وعدمه يجريان في كلّ من اللفظي واللبّي ، والمناط في الجواز هو ما عرفت
من احتمال التفحّص والتتبّع ، فمعه يجوز التمسّك في كليهما ، ومع عدمه لا يجوز في
كليهما ، وعرفت أنّ هذا الاحتمال في اللفظي منحصر بما إذا كان خاصّا من وجه وكان
هو والعام متعرّضين لحال الأفراد الموجودة فقط ، أولها ولما يأتي إذا كان المتكلّم
عالما بالغيب واحتمل أنّه أصدر الكلام مبتنيا على العلم بالغيب.
وأمّا ما ذكره قدسسره أنّ اللفظي حجّة ملقاة من السيّد في قبال العام ، ففيه :
أنّ القطع لا يقصر حاله عن لفظ السيد ، بل القطع حجّة أقوى من ظواهر الألفاظ ،
فإذا كان اللفظ موجبا لسقوط العام عن الحجيّة في الفرد المشكوك كان القطع كذلك
بطريق أولى.
إيقاظ
لا يخفى أنّ الخاص
وإن لم يجعل العام معنونا بعنوان الضدّ إلّا أنّه يجعله معنونا بغير عنوانه ،
فالعلماء في أكرم العلماء يصير بعد ورود لا تكرم الفسّاق معنونا بعدم الفسق ،
وبصير موضوع وجوب الإكرام العلماء الغير الفسّاق ، لا العلماء العدول ، فاستصحاب
عدم الفسق في الفرد المشكوك إذا كان مسبوقا به يكفي في الحكم بوجوب الإكرام من دون
حاجة إلى إثبات العدالة حتى يكون أصلا مثبتا.
وحينئذ فإن كانت
الحالة السابقة في الفرد المشكوك هو الاتّصاف بعنوان الخاص ، كأن يكون الحالة
السابقة في الفرد المشكوك الفسق من العلماء هو الفسق فلا كلام ، وأمّا إن لم يعلم
حالته السابقة أو لم يكن له كما في المرأة التي يشكّ في كونها قرشيّة أو تميميّة
مثلا، فإنّ المرأة إمّا أن تكون وجدت قرشيّة أو وجدت تميميّة ، فليس لهذا الشكّ
حالة سابقة ، فهل يكفي استصحاب عدم عروض عنوان الخاص على هذا الفرد المشكوك في
الأزل ، فيكفي في المرأة المذكورة استصحاب عدم تحقّق الانتساب بينهما وبين القريش
الثابت قبل وجود المرأة قطعا ؛ فإنّ المرأة القرشيّة أيضا لا يتحقّق قبل وجودها
الانتساب بينها وبين قريش، فإنّ النسبة تحتاج إلى طرفين فيصدق انتفائها بانتفاء أحد
الطرفين.
وبعبارة اخرى وإن
كان لسلب القرشيّة على نحو السالبة بانتفاء المحمول بأن يقال : هذه المرأة لم تكن
قرشيّة حالة سابقة ، لأنّها إمّا وجدت قرشيّة أو غيرها إلّا أنّ لسلبها عنها على
نحو السالبة بانتفاء الموضوع بأن يقال : ليست المرأة قرشيّة حالة سابقة ، فالسلب
على النحو الأوّل وإن لم يجر فيه الاستصحاب لكن الثاني يجري فيه ، فهل يكفي هذا
الاستصحاب أولا؟.
الكلام في ذلك
مبنيّ على أنّ هاتين السالبتين مرجعهما إلى حقيقة واحدة وليس بينهما تباين بحسب
الحقيقة ، أو أنّهما حقيقتان من السلب مختلفتين؟ فذهب صاحب الكفاية إلى الأوّل ،
فلذا حكم فيها في المقام بأنّه قلّما لم يجر الأصل الموضوعي الذي ينقّح به كون
الفرد المشتبه داخلا تحت العام ؛ إذ مورد عدم جريانه على هذا ينحصر في مورد اتصاف
الفرد في السابق بوجود العنوان الخاص ، ولكنّ الحقّ هو الثاني وبيانه أنّ الأوّل
سلب للحكم ورفع له عن موضوع مفروض الوجود إمّا محقّقا وإمّا مقدّرا ، كما أنّ
القضيّة الموجبة إثبات للحكم ووضع له في موضوع كذلك ، فكما أنّ معنى زيد قائم أنّ
الزيد المفروغ عن وجوده ثبت له القيام ، فكذا زيد ليس بقائم معناه أنّ الزيد
المفروض الوجود ليس له القيام ، أو أنّ الزيد لو كان موجودا يكون له القيام ، أو
على تقدير الوجود ليس له القيام ، وهذا بخلاف النحو الثاني ؛ فإنّه سلب
الوجود عن العرض
المنتسب إلى الموضوع باعتبار كونه ماهيّة معرّاتا عن الوجود والعدم ، وفرق بين
هذين بحسب الحقيقة أعني سلب العرض عن الموضوع الموجود وسلب الوجود عن العرض
المنتسب إلى الموضوع المأخوذ ماهيّة.
فتارة يقال :
الزيد ـ وينظر إليه بنظر الفراغ عن وجوده التحقيقي أو التقديري ـ ليس له القيام ،
واخرى يقال : قيام الزيد ـ وينظر إلى ماهيّة الزيد بدون اعتبار الوجود أصلا ـ ليس
بموجود في العالم ، فهذا إن لم يكن الزيد موجودا يكون صادقا ، وإن كان موجودا ولم
يكن قائما أيضا يكون صادقا ، والتعبير الحاكي عن هذا قولنا : ليس زيد قائما ،
فكأنّه قيل: ليست هذه القضيّة بموجودة ، كما أنّ التعبير الحاكي عن الأوّل : زيد
ليس بموجود ، ويقال له باصطلاح المنطقيين : القضيّة الموجبة السالبة المحمول.
إذا عرفت هذا
فنقول : السلب على النحو الأوّل ليس له حالة سابقة بالعرض ، والثاني وإن كان له
حالة سابقة ، لكن لم يؤخذ في الدليل موضوعا في الغالب ، وإثبات الأوّل باستصحاب
الثاني لا يتمّ إلّا على الأصل المثبت ، مثلا عموم ما دلّ على أنّ منتهى الحيض في
كلّ مرأة هو الخمسون قد خصّص بالقرشيّة ، فيصير مفادها بعد هذا التخصيص أنّ كلّ
مرأة لا تكون قرشيّة ترى الحمرة إلى الخمسين ، ولا شكّ أنّ هذا السلب إنّما هو على
نحو السلب بانتفاء المحمول عن الموضوع المفروغ الوجود ، وهذا ليس له في المرأة
المشكوكة حالة سابقة ؛ إذ لم يصدق في زمان أنّ هذه المرأة ليست بقرشيّة قطعا ، بل
الشكّ سار إلى أوّل أزمنة وجودها.
نعم استصحاب عدم
تحقّق النسبة بين هذه المرأة وبين القريش كان له حالة سابقة ، لكنّ المفروض أنّ
المستفاد من الدليل هو السلب على النحو الآخر لا على هذا النحو ، فهذا السلب لا
أثر له شرعا.
وبعبارة اخرى ليس
الأثر لعدم تحقّق النسبة بين المرأة والقريش ، بل لعدم كون المرأة الموجودة إمّا
فعلا وإمّا تقديرا قرشيّة ، والاستصحاب إنّما هو جار في الأوّل دون الثاني ، وحيث
إنّ الغالب في القضايا السالبة الشرعيّة هو كون السلب مأخوذا
على النحو الأوّل
أعني السلب بانتفاء المحمول فلهذا قلّما يتّفق أن يكون هذا الاستصحاب الموضوعي
نافعا لتنقيح كون الفرد المشكوك باقيا تحت العام.
«وهم وإزاحة»
ربّما توهّم بعض
جواز التمسّك بالعام في الفرد المشكوك من غير جهة التخصيص بل من جهة اخرى ، فتوهّم
جواز التمسّك على مشروعيّة الوضوء بالماء المضاف وصحّة الصلاة معه بعموم وجوب
الوفاء بالنذر إذا وقع متعلّقا للنذر ، بتقريب أنّه يصير بعموم هذا الدليل واجبا ،
وإذا صار واجبا يكون لا محالة صحيحا.
وفيه أنّ الأحكام
المتعلّقة بالعناوين الثانويّة كالمنذوريّة إذا احدث في موضوعها الأحكام المتعلّقة
بالعناوين الأوّليّة ، لا يصحّ التمسّك بدليلها لإثبات هذه الأحكام المتعلّقة
بالعناوين الأوّليّة ، فوجوب الوفاء بالنذر الذي موضوعه العمل الراجح لا يمكن
إثبات رجحان العمل بعموم هذا الدليل ؛ إذ عمومه فرع إحراز الرجحان من الخارج ،
فإذا ثبت مرجوحيته من الخارج كما في الوضوء المذكور لم يكن بين دليل المرجوحيّة
وبين هذا الدليل معارضة أصلا.
نعم إذا لم يوجد
في موضوع الأحكام المتعلّقة بالعناوين الثانوية الأحكام المتعلّقة بالعناوين
الأوّليّة كما لو قلنا بعدم اعتبار الرجحان في متعلّق النذر ، فحينئذ يصحّ التمسّك
على جوازه ومشروعيته بعموم هذا الدليل ، فيقع التزاحم بين هذا الدليل الدال على
الحكم الاقتضائي أعني المشروعية في العنوان الثانوي وبين دليل عدم المشروعيّة من
حيث العنوان الأوّلي ، فيرجّح الأقوى منهما ، لكن على هذا التقدير مع ترجيح دليل
النذر في الوضوء المذكور غاية ما يلزم أن يكون هذا الوضوء واجبا بوجوب توصّلى ،
فإن أراد هذا البعض بالصحّة مطابقة الأمر النذري فلا كلام ، وأمّا لو أراد صحّته
بمعنى العباديّة بحيث كان الدخول معه في الصلاة جائزا فدليل وجوب الوفاء قاصر عن
إفادة عباديته ، وأمّا نذر الصيام في السفر والإحرام قبل الميقات الذي ربّما تمسّك
هذا القائل به فيمكن توجيه صحته بأحد نحوين :
الأوّل : أن يقال
: إنّه يستكشف من النصّ الوارد على جوازهما مع عدم مشروعيّة الصوم في السفر
والإحرام قبل الميقات أنّه يحدث بسبب النذر يعنى العمل النذري إذا تعلّق بهذين
العملين رجحان في نفسهما ، فيصير بعد تعلّق الأمر النذري مجمعا لرجحانين أحدهما
استحبابي قد أوجده فيه العمل النذري ، والثاني وجوبي جاء من قبل الأمر الوجوبي
الذي جاء لتحقّق موضوعه ، غاية الأمر أنّ نفس العمل النذري صار موجدا لموضوع هذا
الأمر ، ولا دليل على ثبوت الرجحان لنفس العمل قبل تعلّق النذر به ومع قطع النظر
عنه ، وعلى هذا لم يلزم مخالفة الأدلّة الدالّة على اعتبار الرجحان في متعلّق
النذر ، ولا يلزم الإشكال الآخر أيضا وهو تصحيح العباديّة ؛ فإنّ العباديّة قد
فرضنا تحقّقها بواسطة نفس العمل النذرى.
والثاني : أن يكون
النصّ الوارد فيهما مخصّصا لعمومات اعتبار الرجحان في متعلّق النذر ، لكن يرد
حينئذ أنّه غاية ما يلزم حينئذ صيرورة متعلّق النذر في المقامين واجبا مع عدم
رجحانه في حدّ ذاته ، ولا إشكال أنّ الأمر النذري توصّلي وليس بتعبّدي ، فمن أين
يصحّح عباديّة الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات.
ويمكن أن يجاب
بأنّ التوصّلي لا يحتاج إلى قصد القربة ، لا أنّه لا يمكن فيه هذا القصد كما في
غسل الثوب ، والحاصل أنّه بعد توجّه الأمر النذري يتحقق إمكان الإتيان بالعملين
على الوجه القربي ولو لم يكن ممكنا قبل توجّهه ، فهذا الأمر يتحقق التمكن من
امتثاله بنفسه مع عدم التمكّن منه قبل وجوده ، ولا ضير في كون الأمر موجدا لتمكّن
المكلّف من الامتثال ، هذا ولكنّ الوجه الأوّل لا يلائمه الأدلة ؛ وذلك لأنّه
يستفاد من قوله: «لا نذر إلّا أن يجعل شيئا لله» ـ وإن قلنا بعدم كون اللام في «لله»
قرينة وجعلناها وصليّة ومفيدة للاختصاص نظيرها في قولك : جعلت هذا الزيد ـ لزوم
كون متعلّق النذر راجحا قبل تعلّق النذر به وعدم كفاية طروّ الرجحان عليه مقارنا
للنذر ، فإنّ جعل شيء لأحد لا يتحقّق مفهومه إلّا بعد الفراغ عن كون المجعول له
طالبا للشيء المجعول وكون هذا الشيء مطلوبا له ، وإلّا فلا معنى لجعل أمر لا يطلبه
أصلا له.
والحاصل أنّه
يستفاد منه أنّه يلزم أن يكون جعل الجاعل متعلّقا بمطلوب لله ، وما يصير بسبب هذا
الجعل راجحا ومطلوبا لا يصدق أنّ المكلّف جعل أمرا مرغوبا مطلوبا بل أنّه في حدّ
نفسه غير مرغوب وصار بعد الجعل وبسببه مرغوبا.
ثمّ إنّ هنا وجها
آخر ذكروه في نذر النافلة في وقت الفريضة ـ بناء على حرمتها وعدم مشروعيتها في وقت
الفريضة لا بناء على كراهتها فإنّه على هذا يكون راجحا غاية الأمر أنّ شيئا آخر
يكون في البين أرجح منه ـ وهو أن يقال : إنّ متعلّق الحرمة هو النافلة بوصف نفلها
، فإذا زال وصف نفلها بواسطة الأمر النذري وتبدّل بالوجوب ارتفع موضوع الحرمة ،
وهذا بظاهره مستلزم للدور ؛ إذ مجيء الوجوب يتوقّف على ارتفاع موضوع الحرمة وفرضنا
أنّه أيضا يتوقّف على طروّ الوجوب.
ولكنّه مندفع ،
بيانه أنّ متعلّق الحرمة لا يمكن أن يكون هو النفل الفعلي ، بل لا بدّ وأن يكون هو
النفل الذاتي التعليقي ، فمتعلّق الحرمة هو ما لو لا وقوعه في وقت الفريضة كان
راجحا ؛ فإنّ الصلاة أمر مرغوب خير موضوع في حدّ نفسه ، وحينئذ فلو رفع هذا النفل
التعليقي وبدّل بالوجوب التعليقي فصار ما لو لا وقوعه في وقت الفريضة كان نفلا
مبدّلا بما لو لا وقوعه في هذا الوقت كان واجبا ، فلا إشكال في ارتفاع الحرمة
لانقلاب العنوان الذي هو موضوعها إلى عنوان آخر.
فنقول : إذا نذر
النافلة في وقت الفريضة يتحقّق فيها المقتضي للوجوب ؛ فإنّ النذر مقتض للوجوب ،
فمتى تعلّق بشيء ، يكون راجحا بحسب الذات يتبدّل رجحانه الاقتضائي بالوجوب
الاقتضائي ، فإن صادف وجود المانع لا يصير فعليّا ، وإن صادف عدمه يصير فعليّا ، ألا
ترى أنّ نذر طبيعة الصوم منعقد مع أنّ لهذه الطبيعة فردا واجبا ومستحبّا ومكروها
وحراما ، وينصرف نذرها إلى الفرد الغير الحرام أعني غير صوم العيد مثلا ؛ وذلك
لأنّ في طبيعة الصوم رجحانا اقتضائيّا ، وفي بعض أفرادها المانع موجود وفي بعض آخر
معدوم ، فحكم العقل تأثير المقتضي في الثاني دون الأوّل.
والحاصل أنّه يكفي
في النذر الرجحان الاقتضائي ، فبعد النذر يتبدّل بالوجوب الاقتضائي ، ثمّ بعد
تحقّق المقتضي للوجوب في هذه الصلاة يكون عنوان هذه الصلاة أنّه لو لا وقوعها في
وقت الفريضة كان واجبا ؛ إذ المانع عن الفعليّة هو الوقوع في هذا الوقت ، فلو لم
يكن هذا المانع في البين أثّر المقتضي أثره ؛ إذ المفروض ثبوت الرجحان في ذات
الصلاة ، فالمقتضي للوجوب وهو النذر إذا تحقّق فيه يصدق أنّ هذه الصلاة لو لا
وقوعها الذي هو المانع من ظهور أثر المقتضي كان واجبا ، وإذا صدق عليه هذا العنوان
فلا يصدق أنّه لو لم يقع في هذا الوقت كان نفلا ، والمفروض أنّ الحرمة كان متقوّما
بهذا العنوان ، فإذا ارتفع هذا العنوان بتحقّق العنوان الضد ارتفع الحرمة
المتقوّمة به أيضا ، وإذا ارتفع الحرمة التي فرضناها مانعا عن فعليّة الوجوب كان
صيرورة الوجوب فعليّا بحكم العقل ؛ فإنّ مقتضيه موجود بالفرض وهو النذر وقد انعدم
المانع أيضا ، فانفكاك الأثر عن المقتضي في هذا التقدير ممتنع ، غاية الأمر أنّ
وجود المقتضي صار علّة لانقلاب موضوع المانع وتبدّله إلى موضوع آخر ، فصادف وجود
المقتضي عدم المانع ، فعدم تأثيره ليس له جهة.
«فصل»
هل يجوز إجراء
أصالة عدم التخصيص فيما إذا علم بخروج فرد من حكم العام ولم يعلم كونه من مصاديقه
حتى يلزم التخصيص أو ليس منها حتى لا يلزم؟ كما لو علم بعد ورود أكرم العلماء بأنّ
زيدا غير واجب الإكرام ، ولكن لم يعلم أنّه عالم حتى يخصّص العام به أو جاهل حتى
يكون العموم محفوظا ، فهل أصالة عدم التخصيص وحفظ العموم يعيّن الثاني ويثبت كون
زيد في المثال غير عالم ، فإنّ الاصول اللفظيّة مثبتها أيضا حجّة فيحكم بآثار عدم
العالميّة على زيد لو كان ، أو لا يعيّن وإنّما يجري هذا الأصل في موارد تكون
الشبهة في مراد المتكلّم ، لا في ما إذا لم يكن شكّ في مراده بل في شيء آخر.
وهذا الكلام بعينه
يجري في أصالة الحقيقة وأصالة عدم القرينة فيقال : إنّه هل
يخصّ جريانهما بما
إذا شكّ في مراد المتكلّم بعد تشخيص الحقيقة عن المجاز فشكّ أنّه أراد أيّهما من
اللفظ ، فيعيّن الأوّل بهذا الأصل ، أو يجري أيضا فيما إذا كان المراد معلوما ولم
يتميّز الحقيقة عن المجاز فشكّ في أنّ هذا المعنى الذي أراده من اللفظ هل هو مفهوم
من حاقّ اللفظ حتى يكون اللفظ حقيقة ، أو من القرينة حتى يكون مجازا ، فيعيّن
أصالة الحقيقة وعدم القرينة الأوّل أعني كون التبادر من حاقّ اللفظ ، فيرتّب آثار
المعنى الحقيقي على هذا المعنى في مقامات أخر.
وإلى هذا ينظر
الخلاف الواقع بين علم الهدى والمشهور حيث ذهب إلى أنّ الأصل في الاستعمال الحقيقة
، وذهبوا إلى أنّ الاستعمال أعمّ ، مع أنّ المشهور أيضا مسلّمون أنّ الأصل في
الاستعمال هو الحقيقة في الجملة ، فيكون هذا النزاع منزّلا على ما إذا كان المراد
من اللفظ معلوما ، كما لو استعمل الصيغة في الندب ولم يعلم أنّه مفهوم من حاقّها
أو من القرينة ، فيحكم السيّد بالأوّل بالأصل ، والمشهور لا يجرون الأصل في مثله.
وكيف كان فقد أجرى
الشيخ الأجلّ المرتضى في رسائله ومكاسبه هذين الأصلين في هذا المقام أعني الشبهة
الغير المراديّة ؛ فإنّه ذكر في رسائله في ردّ الاحتجاج على حجيّة قول اللغوي
بأنّه لو لم يكن حجّة ينسدّ باب العلم بأكثر الأحكام الشرعية ، لعدم الطريق إلى
تشخيص موضوعاتها ممّا سوى قول اللغوي بما حاصله : أنّ الانسداد ممنوع ؛ فإنّ معاني
أكثر الألفاظ مقطوع لنا ولا نحتاج فيها إلى الرجوع إلى اللغوي ، وأصالة الحقيقة أيضا
موجودة في بعض من الألفاظ التي لا نعلم معناها ، ولكن وقعت في كلام الشارع مستعملة
في معنى ، فأصالة الحقيقة يثبت كونها حقائق في هذه المعاني.
وذكر في مكاسبه
أنّه على القول بعدم إفادة المعاطاة للملك وإفادته للإباحة فلا إشكال أنّ مقتضى
عموم على اليد يشمل كلّا من العوضين فيكون كلّ منهما مضمونا في يد آخذه بالمثل أو
القيمة ؛ فإذا فرض ثبوت الإجماع على أنّه لو تلف أحدهما لم يكن مضمونا بالمثل أو
القيمة ، بل يكون مضمونا بالمسمّى ، فحينئذ لا بدّ من الالتزام
بحصول الملك
القهري آناً ما قبل التلف لحفظ هذه القاعدة عن التخصيص ، فمع معلوميّة مراد الشارع
اثبت الملكيّة آناً ما حفظا لعموم قاعدة على اليد عن التخصيص.
ولكنّ الحق أن
يقال : إنّ هذه الأصول حيث تكون مأخوذة من العقلاء لبّا فلا بدّ من الاقتصار على
القدر المتيقّن ، والقدر المتيقّن من إجراء العقلاء هو في الشبهات المراديّة ،
ولعلّ السرّ أنّ وجه الحاجة إليها هو الإلزام والالتزام والاحتجاج بين المتكلّم
والمخاطب ، فلو قال : أكرم العلماء ، فلم يكرم المخاطب فردا من العلماء يلزمه
المتكلّم ويحتجّ عليه بأنّه لم لم تكرمه مع أنّ العلماء قد شمل هذا أيضا ، كما
أنّه لو أكرم المخاطب فردا وقال المتكلّم : لم أكن مريدا لإكرام هذا الفرد كان
للمخاطب إلزامه والاحتجاج عليه بأنّ لفظك كان عامّا شاملا لهذا أيضا ، وإن كنت غير
مريد لإكرامه كان عليك الاستثناء.
والحاصل أنّ إلزام
أحد المتخاطبين للآخر واحتجاجه عليه إنّما يكون في مقامات الشكّ في المراد ، وأمّا
لو كان المراد معلوما فلا إلزام ولا احتجاج في البين كما هو واضح.
«فصل»
هل يجوز التمسّك
بالعام قبل الفحص عن المخصّص أولا؟ قد يقال بعدم الجواز ؛ لأنّا نعلم إجمالا بوجود
مخصّصات كثيرة للعمومات بحيث قيل : ما من عام إلّا وقد خصّ ، والعام مع هذا العلم
الإجمالي وإن لم يسقط عن الظهور لثبوت الظهور له في العموم وجدانا ، إلّا أنّه
يصير مجملا وبلا ظهور حكما يعني يسقط عن الحجيّة ، ولا نحتاج في باب الظهورات إلى
كون العلم الإجمالي على خلافها منجّزا للتكليف في إسقاطها عن الحجيّة بخلاف باب
الاصول.
ولهذا لو علم بعد
ورود أكرم العلماء بعدم وجوب إكرام زيد أو عمرو يسقط العام بالنسبة إلى كلا
الفردين عن الحجيّة مع أنّه مثبت للتكليف ، والعلم الإجمالي متعلّق بنفيه ، وهذا
بخلاف ما إذا علم بحصول طهارة أحد الثوبين بعد الشكّ في طهارتهما و
نجاستهما مع العلم
بالنجاسة سابقا ، فإنّ استصحاب النجاسة في كليهما جار ، ولا يضرّ العلم الإجمالي
بطهارة أحدهما بعدم كونه منجّزا لتكليف ، وإنّما هو مثبت للإباحة ، والاصول يعمل
بها ما لم يلزم المخالفة العمليّة القطعيّة وإن قطع بمخالفة مضمونها للواقع.
وفيه أنّ المدّعى
مركّب من قضيتين كليّتين ، إحداهما : لا يجوز العمل بكلّ عام قبل الفحص ، والاخرى
: يجوز العمل بكلّ عام بعده ، وهذا الدليل لا يفيد هذا المدّعى ؛ لأنّه لو كان
المراد العلم الإجمالي بوجود مخصّصات كثيرة في الواقع أعمّ ممّا يكون موجودا في ما
وصل إلينا من الكتاب والسنّة ومن غيره فربّما يحصل الفحص ولا ينحّل هذا العلم ،
وذلك بأن يكون القدر المتيقّن من المخصّصات الواقعيّة أزيد ممّا نجده من المخصّصات
في الكتاب والسنّة بعد الفحص ، كما لو كان ما وجدناه خمسمائة مخصّص لجميع العمومات
والمتيقّن تخصيص تمام العمومات بستمائة ، فحينئذ يلزم أن لا يجوز العمل بالعام بعد
الفحص أيضا لبقاء العلم الإجمالي وعدم انحلاله.
وأيضا ربّما ينحّل
العلم الإجمالي قبل الفحص كأن يكون المتيقن خمسمائة مخصّصا لتمام العمومات ووجدنا
في الكتاب والسنّة خمسمائة لأربع مائة عام فيلزم جواز العمل بغير هذه الأربعمائة
من العمومات قبل الفحص لخروجه عن أطراف العلم الإجمالي ، وإنّما تعلّق الشّك
البدوي بتخصيصه ، فعلى هذا التقدير لا يستقيم الكليّة في شيء من الجانبين ، لا في
الجواز بعد الفحص ولا في عدمه قبله ، ولو كان المراد العلم الإجمالي بوجود
المخصّصات في ما بأيدينا من الكتاب والسنّة ، فحينئذ وإن كان يجوز العمل بالعامّ
بعد الفحص دائما ؛ لانحلال العلم الإجمالي بعده كذلك ، إلّا أنّه قد يجوز قبل
الفحص أيضا ؛ لانحلاله قبله ، كما لو وصلنا في خمسمائة عامّ بخمسمائة مخصّص ،
فانحلّ العلم الإجمالي وتبدّل في سائر العمومات التي لم نفحص عن مخصّصاتها بالشكّ
البدوي ، فعلى هذا التقدير لا يثبت الكليّة في جانب عدم الجواز قبل الفحص وإن كان
يثبت في جانب الجواز بعده.
وربّما يوجّه وجوب
الفحص بما ذهب إليه المحقّق القمي قدسسره من أنّا نتبع في باب الظهورات للظنون الشخصيّة ولا نكتفي
بالظنون النوعيّة ، وليس للظهورات
عنوان مستقلّ
للحجيّة وإنّما حجيّتها من باب مطلق الظن ، ولا شكّ أنّا إذا احتملنا احتمالا
عقلائيّا أن يكون للعام تخصيص أو تخصيصات لا يحصل لنا الظنّ بمدلوله ، فيتوقّف
حصول الظن الشخصي الذي هو المناط للحجيّة على الفحص.
وفيه مضافا إلى
أنّ هذه الطريقة مردودة عند الأكثر لا يفيد كليّة الدعوى ، بل يلزم اختلاف الحال
بالنسبة إلى الأشخاص ، فربّما لا يجوز العمل بعد الفحص أيضا بالنسبة إلى من لم
يحصل له الظن بالمدلول بعده أيضا ، وربّما يجوز قبله بالنسبة إلى من حصل له الظن
قبله.
والحقّ أن يقال :
إنّ وجه وجوب الفحص أحد أمرين ، وذلك لأنّا إمّا أن نقول في ما إذا كان المخصّص
منفصلا عن العام بأنّ العام يصير موضوعا للحجيّة ويستقرّ له الظهور ، وإمّا أن
نقول بأنّه في مكالمات من ليس من عادته ذكر المخصّصات بجملتها في مجلس واحد، بل
ذكرها في مجالس متفرّقة حاله في تلك المكالمات بالنسبة إلى المخصّصات المنفصلة حال
العام في مكالمات غيره بالنسبة إلى المخصّصات المتّصلة ، فكما يجب الصبر هناك ولا
يستقرّ الظهور قبل انقضاء الكلام ، كذلك هنا أيضا لا يستقرّ الظهور إلّا بعد عدم
وجود ما ينافيه في مجلس متأخّر ، فعلى الثاني يكون من الواضح وجوب الفحص ؛ فإنّه
حينئذ لأجل توقّف استقرار الظهور عليه ، وأمّا على الأوّل فلأنّه وإن كان موضوعا
للحجيّة ومستقرّ الظهور إلّا أنّه معلّق على عدم وجود الحجّة الأقوى في قباله ،
ولا يصدق موضوع عدم مزاحمة حجّة أقوى بمجرّد عدم الوجدان الابتدائي ، كما لا يصدق
موضوع قبح العقاب بلا بيان بمجرّد عدم الاطّلاع على البيان قبل الفحص عنه مع
احتمال وجوده في الواقع واحتمال أنّه لو فحص لوصل إليه ، فإنّه حينئذ لو كان في
الواقع موجودا ولم يفحص عنه لم يكن البيان بالنسبة إليه معدوما ، فالاحتمال هاهنا
بمنزلة البيان وإن كان لو فحص ولم يصل إليه ينكشف عدم البيان بالنسبة إليه من
الأوّل.
وفيما نحن فيه
أيضا مجرّد الاحتمال المذكور بمنزلة الحجّة الأقوى ، فلو كان في الواقع ولم يفحص
لم يكن معذورا عند العقلاء ، والفرق بين الفحص في باب الظهورات و
بينه في باب
الاصول هو أنّه في الأوّل يكون لاستعلام وجود حجّة أقوى في قبال حجّة غير أقوى ،
وفي الثاني يكون لاستعلام ما يكون هو الحجّة ، وما في قباله يكون لا حجّة مع وجوده
، والفرق بين المبنيين في العام المخصّص بالمنفصل هو أنّه على الأوّل لا نحتاج بعد
الفحص وعدم وجدان المخصّص إلى إجراء أصالة عدم التخصيص ؛ إذ لو فرض وجود الحجّة
الأقوى في الواقع ولم يصل إليه المكلّف فهو ليس بحجّة على المكلّف ، فالحجّة
بالنسبة إليه يكون بلا مزاحم ، بل يكشف الفحص حينئذ أنّ العام كان من الأوّل بلا
مزاحم بحجّة اخرى أقوى ، وعلى الثاني نحتاج إلى إجرائه لإحراز عدم ورود مخصّص آخر
غير ما ظفر به المكلّف ، فإنّه لا بدّ على هذا من إحراز عدم المخصّص في استقرار
الظهور إمّا بالأصل وإمّا بالوجدان والقطع.
«إيقاظ»
قد ردّد الشيخ
الأجلّ المرتضى قدسسره في موضعين من رسائله في أنّه هل المتّبع في باب ظهور اللفظ
هو أصالة الحقيقة أو أصالة عدم القرينة؟ وأورد عليه المحقّق الخراساني قدسسره في الحاشية على الرسائل بأنّه لا وجه للترديد بين الشقّين
، بل الحقّ أنّ الشكوك مختلفة ، فربّ شكّ يكون المرجع فيه والرافع له هو الأصل
الأوّل ، وربّ شكّ يكون مرجعه الأصل الثاني ، وربّ شكّ يكون مرجعه كلا الأصلين ،
فالأوّل هو ما إذا شكّ في مرحلة الإرادة اللبيّة بعد الفراغ عن مرحلة الاستعمال ،
والثاني ما إذا كان الأمر بعكس ذلك ، والثالث ما إذا شكّ في كلا الأمرين أعني أنّ
اللفظ استعمل في الحقيقي أو المجازي ، وعلى أيّ التقديرين يكون المستعمل فيه مرادا
جدّيا أولا.
والحقّ أن يقال :
إنّ الكلام في هذا المقام يكون مع قطع النظر عن مرحلة تطابق الإرادتين وبعد الفراغ
عن أنّ الأصل الجاري في كلام كلّ متكلّم شاعر قاصد أن يكون مريدا لظاهر كلامه
فيشكّ في أنّ ظاهر كلامه ما ذا؟
فحينئذ إمّا أن
نقول بأنّ ذات اللفظ التي هو المقسم لما يكون مع القرينة ولما
يكون بدونها في
الألفاظ التي يكون لها معنى موضوع له يكون حجّة وظاهرا من دون حاجة إلى إحراز قيد
آخر ، فتكون القرينة المخالفة من باب تعارض الحجّتين ، أو أنّ دائرة موضوع الظاهر
والحجّة يكون ضيقا وهو اللفظ المقيّد بالتجرّد عن القرينة ، فلا يكفي مجرّد اللفظ
بدون إحراز تجرّده ، وليس له ظهور لا في الحقيقي ولا في المجازي ، بل متى احرز قيد
التجرّد يصير ظاهرا في الحقيقي ، كما أنّه متى احرز قيد الاقتران مع القرينة يكون
ظاهرا في المجازي ، فالمرجع عند الشكّ على الأوّل هو أصالة الحقيقة وعلى الثاني
أصالة عدم القرينة ، وكذلك الحال بعينه في أصالة العموم وأصالة عدم التخصيص.
وتظهر ثمرة هذا
النزاع في مواضع :
منها : ما إذا كان
في الكلام ما يصلح للقرينيّة ، وبعبارة اخرى كان الشّك في قرينيّة الموجود ، فعلى
الأوّل يكون الأصل جاريا ؛ إذ الحجّة وهو نفس اللفظ موجود بالفرض ، ولم يعلم
الحجّة الأقوى في قباله بل يعلم بعدمه ؛ إذ ليس في البين إلّا المشكوك القرينيّة
وهو غير حجّة لإجماله ، وعلى الثاني لا يجري الأصل ؛ إذ لا بدّ من إحراز عدم
القرينة أو التخصيص على هذا إمّا بالأصل وإمّا بالقطع ، والقطع منتف بالفرض ،
وأمّا الأصل فالقدر المتيقّن من مورده ما إذا كان الشكّ في أصل وجود القرينة لا في
قرينيّة ما يقطع بوجوده.
ومنها : أنّه على
الأوّل لا بدّ من ملاحظة العام القطعي السند مع الخاصّ الظنّي السند والترجيح
بينهما ؛ إذ يقع التعارض بين ظهور العام وبين دليل اعتبار سند الخاص ، وظهور العام
يكون أقوى من ظهور دليل السند ، والحاصل لا بدّ من ملاحظة مرجّحات باب التعارض
فيما بين العام والخاص لا تقديم الخاص مطلقا ، بخلافه على الثاني فإنّ الخاص بعد
الفراغ عن سنده بمعنى دخوله في موضوع الحجيّة وإن كان ضعيفا يكون مقدّما على العام
وإن كان بحسب السند أقوى ؛ إذ قد عرفت أنّ العام لا يستقرّ له ظهور ولا يندرج في
موضوع الحجيّة إلّا بعد ملاحظة الخاص.
ومنها : أنّه على
الأوّل لا يسري الإجمال من المخصّص المنفصل المجمل إلى العام ،
بل يكون العام
متّبعا بعمومه لكونه في نفسه حجّة وعدم وجدان حجّة أقوى في قباله ؛ فإنّ المجمل
ليس بحجّة ، وعلى الثاني يسري الإجمال منه إلى العام كما مرّ بيانه فيما تقدّم
فراجع.
والحقّ أن يقال :
إنّه ينبغي القطع بالشقّ الثاني وهو حجيّة أصالة عدم القرينة فيما يكون من القرائن
والقيود والمخصّصات متّصلة بالكلام ، حيث إنّ المجموع كلام واحد ، فلا يستقرّ لبعض
أجزائه ظهور في معنى إلّا بعد إحراز عدم وجود ظهور أقوى منه في لو احق هذا الكلام
يكون قرينة على صرف ذلك الظهور البدوي عن مقتضاه ، وأمّا فيما يكون منها منفصلا عن
الكلام فينبغي التفصيل بين متكلّم يكون غرضه مقصورا على تحصيل الأغراض الشخصيّة
وبين من يتكلّم في تأسيس القوانين لإصلاح امور العامّة ، ففي الأوّل تكون المتّبع
أصالة الحقيقة وأصالة العموم ، وفي الثاني هو أصالة عدم القرينة وعدم التخصيص ،
ووجه الفرق هو استقرار الظهور في الأوّل بمجرّد انقضاء الكلام بدون انتظار شيء آخر
وعدم استقراره في الثاني وكونه مراعى إلى أن يظهر عدم القرينة.
«فصل»
في جواز تخصيص
العام الكتابي بخبر الواحد ، لا إشكال في أنّ حال هذا المخصّص بالنسبة إلى هذا
العام حال سائر المخصّصات المنفصلة بالنسبة إلى سائر العمومات في أنّه لو قلنا
بأنّ الإجمال لا يسري منها إلى العام لو كانت مجملة وأنّ المعتبر أصالة العموم ولا
يلزم إحراز عدم التخصيص ، وتقديم المخصّص المنفصل يكون من باب تقديم الحجّة
الأقوى.
فحينئذ لا بدّ
فيما إذا كان العام قطعيّ الصدور سواء كان كتابيا أم متواترا أم آحاديّا محفوفا
بالقرينة القطعيّة والخاص ظنيّة من ملاحظة دليل اعتبار الظهور في العام مع دليل اعتبار
السند في الخاص وملاحظة الأقوى منهما وترجيحه.
لا يقال : السند
والدلالة ليسا في عرض واحد ، فلا معارضة بينهما ؛ إذ الدلالة فرع
الصدور من المعصوم
عليهالسلام ومتأخّر عنه ، فأوّلا لا بدّ من إثبات الصدور ثمّ من إثبات
الدلالة.
وبعبارة اخرى :
موضوع الدلالة هو اللفظ الصادر عن المعصوم عليهالسلام فقد اخذ الصدور في موضوع الدلالة ، فهنا امور أربعة :
دلالة العام وسنده ، ودلالة الخاص وسنده ، ولا معارضة بين الدلالتين بالفرض ، لفرض
كون دلالة العام ظهورا ، ودلالة الخاص على نحو النصوصيّة ، وكذا بين السندين
لإمكان أن يكون كلا اللفظين صادرا.
نعم بين سند الخاص
ودلالة العام المعارضة ثابتة ، لكنّهما ليسا في عرض واحد ، بل لا بدّ من ملاحظة
دليل السند أوّلا ، وفي هذه المرتبة لا معارض له بالفرض ، ثمّ ملاحظة الدلالة ،
وحينئذ فلا محيص من تقديم الخاص وإن فرض كون دلالة العام على العموم أقوى من دلالة
دليل سند الخاص على اعتبار هذا الخاص.
لأنّا نقول : نعم
بين دليل اعتبار السند ودليل اعتبار الظهور ترتّب والثاني في طول الأوّل لكن
بالنسبة إلى لفظ واحد ، فاللفظ الواحد لا يلاحظ فيه دليل السند ودليل الظهور في
عرض واحد ، بل الأوّل مقدّم على الثاني رتبة ، وأمّا بالنسبة إلى اللفظين
المنفصلين فلا ، فليس سند أحدهما واقعا في طول دلالة الآخر ، فإذا قال : أكرم
العلماء ثمّ أخبر العادل بعدم وجوب إكرام زيد العالم وكان خبر العادل لازم
الاتّباع بقوله : اعمل بكلّ ما أخبر به العدل ، فحينئذ يقع التعارض في وجوب إكرام
زيد وعدمه بين دلالة أكرم ودلالة اعمل ، فكلّ منهما كان أظهر كان مقدّما ومع
التساوي يرجع إلى الأصل.
ولو قلنا بأنّ
المتّبع هو أصالة عدم التخصيص المنفصل في كلام من كان عادته عدم ذكر المخصّصات
والمقيّدات للعمومات والإطلاقات الواقعة في كلامه في مجلس واحد وأنّه لا يستقرّ
ظهور العام في كلام هذا المتكلّم في العموم إلّا بعد إحراز عدم التخصيص متّصلا
ومنفصلا بالقطع أو بالأصل ، فحينئذ لا محيص من تقديم الخاص وإن كان سنده في أدنى
مرتبة الاعتبار على العام وإن كان في أقصى مرتبة من
اعتبار السند ، إذ
الخاص على هذا يكون واردا على العام بحسب الحجيّة فيكون خارجا من باب تعارض
الدليلين ؛ لثبوت الجمع العرفي في البين وهو تقديم الخاص.
فتحصّل أنّ مقتضى
القاعدة على المبنى الأوّل ملاحظة سند الخاص مع دلالة العام ، وعلى الثاني ترجيح
الخاص مطلقا.
لكن هنا شيء في
خصوص الخبر الواحد بالنسبة إلى عموم الكتاب وهو أنّه قد وصل إلى حدّ اليقين من
أخبار المعصومين عليهمالسلام هذا المضمون وهو أنّهم عليهمالسلام لم يقولوا بما خالف الكتاب وأنّ كلّ ما وجدتموه مخالفا له
فاضربوه على الجدار ، نعم الأخبار مختلفة في خصوص المخالفة وعدم الموافقة ، ففي بعضها
التصريح بالأوّل وفي الآخر التصريح بالثاني وهو أعمّ من الأوّل ، فالتواتر بالنسبة
إلى المخالفة متحقّق ، هذا مع حصول القطع بورود الأخبار الكثيرة منهم عليهمالسلام بتخصيص عمومات الكتاب وتقييد مطلقاته كما في ما ورد
باختصاص الحبوة بالكبير من الأولاد ، وعدم إرث الزوجة مطلقا أو خصوص غير ذات الولد
من العقار بالنسبة إلى عموم آية الإرث الشاملة بعمومها للكبير والصغير الظاهرة في
تساويهم فيما ترك ، وعموم آية ارث كلّ من الزوجين من الآخر الغير الفارق بين
العقار وغيره ، وكما في ما دلّ على عدم صحّة البيع الغرري من قوله نهى النبيّ صلىاللهعليهوآله عن بيع الغرر بالنسبة إلى عموم آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) إلى غير ذلك.
فجعل هذه الموارد
خارجة عن عموم تلك الأخبار خلاف الإنصاف ؛ فإنّ مضمونها آب عن التخصيص ، فالقدر
المعلوم أنّ هذه الموارد خارجة عن مدلول تلك الأخبار إمّا ببيان أنّ مخالفة العموم
والخصوص ليست من أنحاء المخالفة عرفا وأنّها مختصّة بالمخالفة على وجه التباين ،
أو يكون المراد نفي المخالفة لما هو المراد من الآية واقعا وإن كان مخالفا لما هو
الظاهر عندنا من الآية بحسب مدلولها اللغوي ، أو نلتزم بأنّ لهذه الأخبار معنى لا نفهمها
، وعلى أيّ حال فالقطع حاصل بأنّ مدلولها ما ليس شاملا للتخصيص والتقييد ، وحينئذ
فحال الخبر الواحد حال سائر المخصّصات المنفصلة.
«فصل»
العام والخاص قد
يكونان متعاقبين بتقديم الأوّل على الثاني أو العكس ، وقد يكونان متقارنين ، فإن
كان العام مقدّما على الخاص فإمّا أن يكون الخاص واردا بعد حضور العمل بالعام ،
وإمّا أن يكون واردا قبله ، فالخاص المتأخّر سواء ورد عقيب وقت الحاجة إلى العمل
بالعام أم قبله يكون تخصيصا أو ما هو كالتخصيص.
بيان ذلك : إنّا
نشاهد كثيرا من الأحكام جرت بلسان النبيّ صلىاللهعليهوآله في القرآن أو السنّة أو واحد من الأوصياء عليهمالسلام على وجه العموم ، ثمّ ورد بعد أزمنة متمادية ما يدل على
خلاف الحكم في بعض أفراد العام على لسان الإمام المتأخّر عليهالسلام ، ومثل هذا كثير في الأحكام جدّا.
فإن قلنا بأنّ ذلك
من قبيل النسخ وأنّ الخصوصيّات المتأخّرة الجارية على لسان المتأخّر نواسخ
للعمومات الجارية على لسان النبي أو الوصيّ المتقدّم بالنسبة إلى الفرد الخاص،
فهذا وإن كان سليما ممّا توهّم كونه إشكالا على النسخ من استحالته ، من جهة
استلزامه إمّا الإيقاع في المفسدة أو تفويت المصلحة ـ لإمكان أن تكون المصلحة
مقيّدة ببرهة من الزمان ففي الحقيقة واللب يكون النسخ إظهارا لانقضاء أمد المصلحة
الموجبة للحكم السابق وانقلابه بالقيد ، لا أنّه رفع لما كان ثابتا وإن كان هو
كذلك بحسب مقام الظاهر والإثبات ؛ إذ الرفع لا يتحقّق إلّا بالنسبة إلى غير العالم
بالعواقب الجائز في حقّه البداء بأن يلتفت في اللاحق بمصلحة لم يكن ملتفتا لها في
السابق فرجع عن حكمه السابق ورفعه في اللاحق وبدّله بالضدّ لا بالنسبة إلى الحكيم
تعالى. وكذا لا يرد على هذا الوجه مخالفته لقوله عليهالسلام : «حلال محمّد صلىاللهعليهوآله حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة» ؛ إذ
مفاد القضيّة أنّ الأحكام التي جاء بها النبي من قبل الله باقية إلى يوم القيامة
من دون أن يبدّلها شريعة جديدة كما في الشرائع السابقة. والفرق بين هذا النسخ وبين
نسخ الشرائع أنّ الأوّل يكون ناسخه ومنسوخه ممّا جاء به النبي ، غاية الأمر أنّه
أوكل
بيان الناسخ إلى
وصيّه ومن هو قائم مقامه ، فكأنّه جرى بيان الناسخ والمنسوخ على لسان نفس النبي
صلّى الله على وآله ؛ إذ الوصي وجود تنزيلي للنبي ، وهذا بخلاف نسخ الشرائع ؛ فإنّ
الناسخ فيه جاء به نبيّ آخر من قبل الله سبحانه ، لا أنّه كان نائبا من النبي
السابق في بيانه ؛ إذ النبي السابق لم يكن مأمورا من الله بأزيد من المنسوخ ،
والمأمور بالناسخ هو النبي اللاحق ، والقضيّة نافية للثاني دون الأوّل كما لا تنفى
ما إذا كان الناسخ أيضا جاريا على لسان النبي صلىاللهعليهوآله ـ إلّا أنّه مع ذلك لا يمكن الالتزام بهذا الوجه للقطع
بندرة النسخ وعدم تكثّره إلى هذه الغاية.
وإن قلنا بأنّ ذلك
من قبيل التخصيص فهذا وإن كان سالما عن إشكال لزوم تأخير البيان عن وقت الحاجة ـ إذ
لا نسلّم أن يكون تأخير البيان إلى ما بعد وقت الحاجة من العناوين الغير المنفكّة
عن القبح التي هي علّة تامّة له كعنوان الظلم ، بل هو من قبيل بعض العناوين التي
قبحها اقتضائي معلّق على عدم طروّ جهة حسن عليها كضرب اليتيم ، فمن الممكن أن يكون
مصلحة في البين اقتضت التأخير وبذلك صار التأخير راجحا حسنا ، غاية ما في البين أن
يقال : إنّ التأخير وعدم البيان كان فيه المصلحة ، فما وجه بيان الخلاف ، وهذا
أيضا مردود بأنّا نقطع بأنّ كثيرا من الأحكام لم يكن المصلحة في بيانها ، بل بعض
الموضوعات لم يبيّن حكمها إلى زمان ظهور القائم عجّل الله تعالى فرجه كحكم شرب
التتن ولا بدّ أن نلتزم في أمثال ذلك بأنّ المصلحة اقتضت عدم البيان ، فكما نلتزم
في هذه الأحكام بكون المصلحة في عدم البيان نلتزم في ما نحن فيه بكون المصلحة
متعلّقة ببيان الخلاف ـ إلّا أنّه مع ذلك لا يخلو عن ركاكة وحزازة ؛ إذ يلزم على
هذا سلب الوثوق عن عامّة العمومات ؛ لاحتمال أن لا يكون بصدد بيان الحكم الواقعي
وأنّ المصلحة اقتضت بيان الخلاف.
فما يكون هو الوجه
في هذا لمقام هو أن يقال : إنّا تصوّرنا في أحكام الشارع قسمين من الحكم ـ وإن لم
نجدهما في أحكام غيره ـ كلاهما صحيح تام سالم من الإشكال ، الأوّل: جعل الحكم في
موضوع الواقع وهو المسمّى بالواقعي ، والثاني :
جعله في موضوع
المشكوك وهو المسمّى بالظاهري ودفعنا ما أورده ابن قبة على هذا الحكم من تفويت
المصلحة أو الإيقاع في المفسدة أو اجتماع الضدّين بأنّهما حكمان طوليّان ، فليس
بينهما التنافي وكلّ منهما في موضوع نفسه حكم واقعي.
وحينئذ نقول : من
الممكن أن يكون الحكم الذي تكفّله تلك العمومات بالنسبة إلى بعض الأفراد حكما
واقعيّا وبالنسبة إلى بعضها ظاهريّا ، غاية الأمر أنّه لم يصرّح في هذا البعض باسم
الشكّ لأجل كونه حاصلا ؛ إذ المكلّف كان شاكّا في حكم هذا الفرد ولم يرتفع شكّه
بمجرّد ورود العام لاحتمال التخصيص ، بل هو باق إلى أن يظهر الخاص ، فبظهوره يرتفع
ويكون الخاص بيانا للحكم الواقعي لهذا الفرد.
وحينئذ يرتفع
الإشكال بحذافيره ، أمّا عدم البيان للحكم الواقعي لهذا الفرد وتأخيره إلى زمان
ورود الخاص فهو نظير عدم بيان حكم سائر الموضوعات الغير المبيّنة حكمها كشرب التتن
، وأمّا بيان الخلاف فلأنّه حكم واقعي متعلّق بموضوع الشاك وهو موضوع آخر غير
مرتبط بنفس الواقع ، فليس فيه إغراء بالجهل وإيقاع في المفسدة ، وهذا الوجه يكون
كالتخصيص في النتيجة والثمرة ، وأمّا إذا كان الخاص واردا قبل الحضور فهو تخصيص
حقيقي بلا كلام كالخاص المقارن.
وملخّص الكلام في
المقام أنّ المخصّص المنفصل قد يكون متقدّما على العامّ وقد يكون متأخّرا ، وعلى
التقديرين قد يكون المتأخّر واردا قبل حضور وقت العمل بالمتقدّم وقد يكون واردا
بعده ، فهذه أربع صور ، وقد يكون التاريخان مشكوكين ، فصورة العلم بتأخّر الخاص
سواء كان قبل حضور وقت العمل بالعام أم بعده حيث أن لا ثمر بحسب العمل للخلاف في
كونه نسخا أو تخصيصا بالنسبة إلينا لكوننا واقعين في هذه الأزمنة التي هي زمان
العمل بالخاص وظهور الثمر بالنسبة إلى المكلّفين الواقعين بعد زمان ورود العام
وقبل ورود الخاص لا يوجب الجدوى في البحث بالنسبة إلينا.
وإذن فعدّ هذه
الصورة في باب تعارض الأحوال والكلام في أنّ مقتضى
الاصول العقلائيّة
تعيين أيّ الحالتين لعلّه في غير محلّه ؛ إذ الاصول العقلائيّة كالشرعيّة إنّما
يجري في ما إذا ترتّب عليها أثر عملي.
نعم اللائق بالبحث
هو الأمر الحكمي العقلي وهو تصوير عدم لزوم القبح على الحكيم تعالى على تقدير
النسخ وعدم مخالفته للقضيّة المشهورة «حلال محمّدصلىاللهعليهوآله الخ» وتصوير ذلك على تقدير التخصيص من جهة قبح تأخير
البيان ، وقد عرفت تصويره على كلا التقديرين ، وأمّا الخاص المتقدّم ففيه يظهر
الثمر العملي بين التخصيص والنسخ ؛ إذ الأمر فيه دائر بين أن يكون الخاص تخصيصا
فرديّا للعام وبين أن يكون العام تخصيصا زمانيّا للخاص ، فعلى الأوّل يكون الفرد
الخاص بعد ورد العام محكوما بحكم الخاص ، وعلى الثاني يكون محكوما بحكم العام.
وملخّص الكلام فيه
أنّ العام لو كان واردا قبل حضور العمل به فالظاهر عدم الإشكال في كونه مخصّصا
للعام ، ولو كان واردا بعد ذلك فإن حصل لنا من كثرة وقوع التخصيص وشيوعه وندرة
وقوع النسخ الظنّ الاطميناني بالتخصيص الذي هو عند العقلاء بمنزلة العلم ، ويكون
احتمال خلافه في حكم العدم فنعم المطلوب ، وإن لم يحصل من ذلك إلّا الظن الغير
البالغ حدّ الاطمئنان فحيث لا دليل على اعتبار هذا الظنّ وحجيّته لعدم كونه لفظيّا
فنرجع إلى دلالة اللفظين ، وقد عرفت معارضة أصالة العموم الأزماني في الخاص لأصالة
العموم الأفرادي في العام.
وتوهّم أنّ الأوّل
إطلاقي حاصل بمقدّمات الحكمة والظهور في الثاني وضعي فيكون له الورود على الأوّل
مدفوع ، مضافا إلى أنّ العموم الأفرادى أيضا قد يكون إطلاقيّا ، ومحلّ الكلام عام
للقسمين بأنّ ما يمنع من انعقاد مقدّمات الحكمة هو البيان المتّصل ، فعند عدم
البيان المتّصل ينعقد الظهور الإطلاقي للكلام ، فلو وجد بعد ذلك ظهور مخالف كان
معارضا له وإن كان وضعيّا.
وكيف كان فإن كان
أحد هذين الظهورين أقوى من الآخر كان هو المقدّم وإلّا فالمرجع هو الأصل العملي ،
وهو دائما يكون استصحاب حكم الخاص.
فتحصّل أنّ الخاص
المتأخّر بكلا قسميه لا يليق بالبحث إلّا من الجهة العقليّة ، و
الخاص المتقدّم لو
كان العام واردا قبل حضور العمل به كان تخصيصا ، ولو كان العام واردا بعد حضور
العمل به فمع حصول الاطمئنان المذكور يكون تخصيصا أيضا ، ومع عدم حصوله وعدم
الأظهر يكون تخصيصا بحكم الأصل ، هذا ملخّص الكلام في الصور الأربعة للعلم بالتاريخين.
وقد اتّضح منه
الحال في صور الشكّ ؛ فإنّ الحكم هو التخصيص ؛ إذ قد علم أنّ الخاص على تقدير
تأخّره يكون تخصيصا ، وعلى تقدير تقدّمه أيضا يكون كذلك إمّا بالاطمينان ، وعلى
تقدير عدمه فإمّا أن يكون أصالة العموم الأزماني في الخاص أظهر أو يكون هو مساويا
لأصالة العموم الأفرادي في العام فيرجع إلى الأصل ومقتضاه أيضا هو التخصيص ، وأمّا
أظهريّة أصالة العموم الأفرادي فلعلّه لم يكن له مورد إلّا فيما لو فرض مساعدة
القرائن المقاميّة ، وهذا الفرض أيضا في غاية الندرة وفي حكم العدم.
«المقصد الخامس»
«في المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن»
«فصل»
ما يطلب التكلّم
فيه في هذا الباب ويبحث عمّا وضع هو له أقسام ويطلق على بعضها اسم المطلق.
منها : أسماء
الأجناس أعمّ ممّا يكون موضوعا للجواهر كلفظ الإنسان أو للأعراض كلفظ البياض أو
للعرضيّات كلفظ الأبيض.
والمحكي عن سلطان
العلماء هو القول بكونها موضوعة للطبيعة المهملة والمعنى اللابشرط المقسمي ؛ وذلك
لوضوح تقسيم الإنسان مثلا إلى ثلاثة أقسام بحسب عالم اللحاظ ، الأوّل أن يلحظ
الإنسان ولم يكن قيد معه ملحوظا ، والثاني أن يلحظ مع قيد وجودي ، والثالث أن يلحظ
مع قيد عدمي ، والأوّل هو المسمّى بالمطلقة والأخيران مسمّيان بالمقيّدة ويسمّى
الأوّل أيضا باللابشرط القسمي ، والثاني بالمعنى بشرط شيء ، والثالث بشرط لا ،
وكذا الكلام في سائر الألفاظ.
وقد يستشكل على
هذا القول بأنّه إن اريد باللابشرط القسمي الماهيّة التي لم يلحظ معها قيد يعني
يكون اللابشرطيّة حالة لها ، لا أن يكون مأخوذة قيدا ووصفا لها ، فما الفرق بينها
وبين المقسم ، وإن اريد أنّ اللابشرطيّة قيد فيها ، وبعبارة اخرى لوحظ وصف التجرّد
عن كلّ قيد قيدا لها ، فيفترق عن المقسم بأنّ المقسم ما يكون خاليا عن هذا القيد
أيضا ، فيرد عليه أنّ الطبيعة بهذا القيد لا ينطبق على الخارجيات ؛ إذ هي في
الخارج لا ينفكّ عن التقيّد بالخصوصيّات الفرديّة ، فيلزم أن يمتنع امتثال مثل
جئني بإنسان ، مع أنّهم يحملون متعلّقات التكاليف على هذا القسم بمقدّمات الحكمة.
والتحقيق أن يقال
: إنّا نجد بحسب عالم التصوّر واللحاظ ثلاثة أنحاء من الملاحظة والتصوّر لمفهوم
الإنسان ، فقد يتصوّر بانضمام قيد وجودي وإن كان هو الإرسال والسيلان بأن يلحظ هذا
المفهوم مقيّدا بكونه في أيّ وجود تحقّقت لم يكن منافيا له ، وقد يتصوّر بانضمام
خصوصيّة عدميّة ، وقد يتصوّر هو ولا يتصوّر معه
خصوصيّة وجوديّة
ولا عدميّة ، فهذا القسم يكون قسيما للأوّلين وبقبالهما باعتبار أنّه في الواقع
يكون مقيّدا بقيد التجرّد ويكون له حالة التجرّد عن كلّ ضميمة وقيد ، وهما يكونان
منضمّين إلى ضميمة وإن لم يكن حال التجرّد في الأوّل ملحوظا لكنّه واقعا موجود ،
فلا يرد أنّه غير منطبق على الخارج وأنّه كلّي عقلي لا موطن له سوى الذهن ؛ إذ ذلك
إنّما يلزم لو لوحظ وصف التجرّد معه قيدا وحالا ، وليس كذلك.
ثمّ إنّ الشخص
الآخر إذا لاحظ هذه الأقسام الموجودة في ذهن لاحظ آخر أو نفس هذا اللاحظ إذا لاحظ
بعد ملاحظة تلك الأقسام في ذهنه إيّاها بملاحظة ثانويّة ينتزع من هذه الموجودات
الذهنيّة جامعا ، كما ينتزع من الخارجيّات جامع ، والفرق بين هذا الجامع والقسم
الأخير أنّ التجرّد مقوّم للثاني ، والأوّل يناسب معه ومع الخصوصيّة الوجوديّة أو
العدميّة ، والموجود في ذهن هذا الشخص المنتزع للجامع لما في الذهن وإن كان ليس
خارجا من أحد الأقسام ـ يعنى أنّ واقع ما يلاحظه ويجعله مقسما وجامعا يكون هو
المفهوم اللابشرط فإنّ التجرّد ثابت له واقعا وليس بملحوظ ـ لكنّه يشير به ويجعله
حاكيا ومرآتا لما هو المقسم والجامع بين الأقسام المذكورة.
إذا عرفت ذلك
فنقول : المدّعى هو أنّ أسماء الأجناس موضوعة لهذا الجامع ، والدليل عليه أنّها لو
كانت موضوعة للمفهوم اللابشرط القسمي أعني ما يكون قيد التجرّد مقوّما له يلزم أن
يكون الاستعمال في مثل الإنسان الأبيض فيما إذا استعمل اسم الجنس في الماهيّة
منضمّة إلى خصوصيّة وجوديّة أو عدميّة مجازيا ؛ فإنّه استعمال في غير ما وضع له ؛
إذ المفروض أنّه متقوّم بالتجرّد وعدم لحاظ الضميمة والخصوصيّة ، والمقطوع
بالوجدان خلاف ذلك وأنّ الاستعمال المذكور يكون على وجه الحقيقة كصورة عدم ذكر
القيد ، فيكون دليلا على أنّ اللفظ موضوع لما هو الجامع بين القسمين.
نعم يلزم على هذا
أن يكون حال معاني تلك الأسماء حال معاني الحروف ؛ إذ كما أنّ معاني الحروف محتاجة
إلى الغير وتكون مندكّة في الغير ولا بدّ عند وضعها أو استعمالها من لحاظ معنى هو
واقعا مفهوم مستقل باللحاظ ويشار به إلى ما هو قائم بالغير ووصف وحالة له ، كأن
يشار بمفهوم الابتداء الملحوظ حالة للغير إلى حقيقة معنى «من» كذلك معاني هذه
الأسماء أيضا تكون محتاجة في التصوّر واللحاظ إلى
غيرها ؛ فإنّ مقسم
الأقسام المذكورة لا يوجد في الذهن إلّا مندكّا في أحد تلك الأقسام ولا يمكن لحاظه
بدون لحاظ واحد منها ، ولا بدّ عند الوضع أو الاستعمال من ملاحظة أحد الأقسام
والإشارة به إلى الجامع.
وبالجملة كما أنّ
معاني الحروف متّصفة بالاحتياج والافتقار في الوجود الذهني إلى المتعلّقات ويكون
معان آلية عاجزة مستندة إلى الغير ومربوطة به كاستناد معنى من البصرة إلى مفهوم
السير والبصرة وارتباطه بهما ، ولا يكون له وجود إلّا مندكّا في المتعلّقات ، كذلك
معاني أسماء الأجناس أيضا تكون متّصفة بالاحتياج والافتقار في الوجود الذهني إلى
واحد من الأقسام ولا يوجد إلّا مندكّا في أحدها ، ولكن لا ضير في الالتزام بذلك
إذا ساعده الوجدان.
فيمتاز تلك
المعاني عن معاني الحروف بأنّ المعنى الحرفي يحتاج إلى محلّ يقوم به ويكون عرضا
وحالة له وخصوصيّة من خصوصيّاته ككون معنى من البصرة خصوصيّة لمفهوم السير ، وهذه
المعاني تكون مفتقرة إلى شيء آخر يكون هذا الشيء الآخر قائما بتلك المعاني ومن
خصوصيّاتها ، وهو إمّا وصف التجرّد أو الاقتران بخصوصيّة وجوديّة أو عدميّة ،
فمفهوم من البصرة يحتاج إلى أن تكون خصوصيّة لمفهوم السير ، ومفهوم السير الذي هو
معنى للفظ السير يحتاج إلى كون هذه الخصوصيّة خصوصيّة له.
وبالجملة الفرق
بين الحروف وهذه الأسماء هو أنّ الاولى موضوعة لمعان يكون أبدا أعراضا في الذهن
لغيرها ، والثانية لمعان يكون أبدا معروضات لغيرها ، فيكون حال معاني أسماء
الأجناس في الذهن حال معاني أعلام الأشخاص في الخارج ، فكما أنّ موضوعات الأعلام
لا ينفكّ في الخارج عن العوارض والحالات الطارئة ، كذلك موضوعات هذه الأسماء لا
ينفكّ في الذهن عن الخصوصيّات المقسمة.
ومنها : علم الجنس
، والمعروف بين أهل الأدبيّة أنّ الفرق بينه وبين اسم الجنس أنّ الثاني موضوع لذات
الطبيعة فقط ، والأوّل له مع قيد الحضور في الذهن ، والحضور وإن كان من لوازم
استعمال اللفظ في المعنى ولا يمكن بدونه إلّا أنّه في اسم الجنس يكون من اللوازم العقليّة
للاستعمال ، وفي علم الجنس يكون مدلولا عليه بجوهر اللفظ.
واستشكل عليه في
الكفاية بأنّ الحضور لو كان قيدا في المعنى لما صحّ الحمل على
الخارجيّات ؛
لوضوح أنّ الطبيعة بقيد حضورها في الذهن كلّي عقلي لا موطن له سوى الذهن فيمتنع
حمله على الخارج إلّا مع التجريد عن خصوصيّة هذا القيد والتجوّز باستعمال اللفظ في
جزء معناه ، والحال أنّا نرى صحّة الحمل في قولنا : هذه اسامة بدون عناية وتجريد
وملاحظة علاقة ، وقال بمثل ذلك في اسم الجنس أيضا ردّا على قول من قال بوضعه
للمطلق اللابشرط القسمي دون المقسمي.
فاستشكل عليه بأنّ
التّجرد عن القيد ووصف اللابشرطيّة ملحوظ قيدا في الماهيّة اللابشرط القسمي ، فلو
كان اسم الجنس موضوعا لها لما صحّ حمله على الخارجيّات ؛ لامتناع حمل الكلّي
العقلي على الخارجي ؛ إذ لا موطن له سوى الذهن وكان الحمل محتاجا إلى التجوّز
وتجريد المعنى عن هذه الخصوصيّة ، فيلزم التجوّز في عامّة استعمالات اسم الجنس ،
وهذا مناف لحكمة الوضع ، وقال نظير ذلك في القسم الآتي كما يأتي ذكره إن شاء الله.
والحقّ أنّه غير
تام في الكلّ وإن كان أصل المطلب حقّا في اسم الجنس بحكومة التبادر وشهادة الوجدان
، وذلك لأنّ مدّعي الحضور في علم الجنس ليس مراده معنى الحضور بعنوان الاستقلال
وبالمعني الاسمي ، بل مراده هو الحضور بالمعنى الحرفي الآلي أي الآلة الحاكية لذات
الطبيعة ، وقد تصوّرنا في الحروف كون المعنى الحكائي المرآتي تمام المعنى ، فيمكن
كونه جزء من المعنى أيضا ، ولا ريب في صحّة الحمل حينئذ ، إذا للاحظ حينئذ لا يلحظ
إلّا ذات الطبيعة.
ونظيره في
المحاورات العرفيّة قولك فيما إذا كان بينك وبين المخاطب صورة إنسان مثلا معهودة ،
فرأيت هذا الإنسان فتقول : هذا ذاك الرجل ، فتشير بهذه الإشارة إلى معقوليّته في
ذهنك وذهن مخاطبك سابقا ، فهذه الإشارة حاكية عن ذاك التعقّل والحضور الذهني وهو
لمّا كان مأخوذا مرآتا صحّ الحمل ، فهنا أيضا نقول : هذه اسامة ونشير إلى المعنى
المتعقّل المركوز في الأذهان ، وأمّا قولك : هذا أسد فحال عن هذه الإشارة ، والدال
على هذه الإشارة في الفارسيّة ليس هو اللفظ بل الوضع الخاص لليد والعين ، وفي
العربيّة وضع له لفظ خاص ، وكذلك الكلام في اسم الجنس على القول بالوضع للماهيّة
اللابشرط القسمي التي هي المسمّى بالمطلق ، بأن يقال : إنّ التسوية بين الحالات
الطارئة على الطبيعة لا بدّ أن يلحظ قيدا ، فلفظ «رجل» يفيد معاني ألفاظ رجل ،
سواء كان كذا أو كذا أو كذا ، فلو استعمل في ماهيّة
الرجل مع قيد كان
مجازا ، فإنّا نعلم بالوجدان صحّة الحمل مع هذه الملاحظة يعني ملاحظة التسوية بين
الحالات والخصوصيات.
ووجهه أنّ التعرية
والتجريد لم يلحظ قيدا بالمعنى الاسمي الاستقلالي ، بل بالمعنى الحرفي على وجه لم
يخرج عن حكاية ذات الطبيعة بأن يكون هذا الوصف ثابتا واقعا في الذهن ولم يكن قيدا
في اللحاظ ، فللقائل المذكور أن يجعله بهذا النحو جزء لما وضع له اسم الجنس لا
بالنحو الأوّل حتّى يتوجّه عليه الإيراد.
ويشهد لما ذكرنا
أنّ القضايا المطلقة هي ما كان الموضوع فيها هو الطبيعة المطلقة ، فإن لم يمكن حمل
المطلق على الخارج فكيف يمكن جعله موضوعا للأحكام المحمولة على الخارجيّات ، وعلى
ما ذكره قدسسره لا بدّ من جعل عامّة القضايا مهملة ، فنحن لا بدّ وأن
نتصوّر صحّة حمل هذا المعنى وتطبيقه على الخارج حتّى يصحّ ترتيب القضيّة المطلقة ،
غاية الأمر أنّا نقول في هذه القضايا أنّ اللفظ مستعمل في المهملة ، والإطلاق دلّ
عليه مقدّمات الحكمة وصار مجموع الطبيعة مع قيد الإطلاق موضوعا للحكم ، والقائل
المذكور يقول بأنّ المجموع من الطبيعة ووصف الإطلاق مدلول لفظ المطلق.
ومنها : المفرد
المحلّى بالألف واللام ، والمعروف بين أهل الأدبيّة أنّ اللام أو الهيئة الحاصلة
منه ومن المدخول موضوعة لتعريف الجنس أو للعهد بأقسامه الثلاثة من الذهني والذكري
والحضوري وللاستغراق ، والظاهر أنّ أقسام العهد ليس معاني مختلفة ، بل هي راجعة
إلى معنى واحد وهو المعهوديّة في الذهن ، غاية الأمر أنّ منشأ المعهوديّة في الذهن
قد يكون الذكر في الكلام ، وقد يكون الحضور ، وقد يكون غيرهما ، بل نقول : مرجع
الجنس والاستغراق أيضا إلى هذا.
وبيانه أن يقال :
إنّ اللام أو الهيئة موضوعة للإشارة إلى المعهود في الذهن ؛ فإن كان هو الشخص
الخاص كان إشارة إليه ، وإن كان هو نفس الطبيعة والجنس كان الإشارة إلى نفس
الطبيعة والجنس ، فيصير الإشارة هنا من قبيل الإشارة الذهنيّة في علم الجنس ، وإن
كان هو الاستغراق ـ كما في «أحلّ الله البيع» ـ كان إشارة إلى
الاستغراق ، ثمّ
إن كان الاستغراق مستفادا من المقدّمات كما في المثال فالحال كما ذكر ، وإن كان
مستفادا من اللفظ كما في الجمع المعرّف باللام فحيث إنّ المتعيّن في الذهن حينئذ
ليس هو الاستغراق ، بل هو مردّد بينه وبين أقلّ ما يدّل عليه الجمع بالوضع فليس في
الذهن أمر متعيّن منهما حتى يكون اللام إشارة إليه ، ومن هنا يجيء القول بعدم
إفادة الجمع المحلّى للعموم.
ثمّ التعريف
باللام كما ذكرنا من قبيل التعريف الذهني في علم الجنس سواء كان داخلا على المفرد
أو الجمع ، فكما لا يكون هذا التعريف الذهني مانعا هناك عن الحمل على الخارج فكذا
هنا بالتفصيل المتقدّم.
وفي الكفاية أورد
هنا أيضا الكلام المتقدّم ولهذا جعل الألف واللام مطلقا للتزئين كما في الحسن
والحسين فرارا من المحذور الذي تخيّله من امتناع الحمل لو قيل بكون اللام إشارة
إلى التعيين الذهني خلافا لعامّة علماء الأدب.
ومحصّل الكلام في
المقام أمّا في مقام الثبوت فهو أنّا نتصوّر تعريف الجنس كما في علم الجنس وفي اسم
الجنس سواء في المفرد أو في الجمع كما في : فلان يركب الخيل ، وإنّما الصدقات
للفقراء» الآية.
وتعريف العهد
الخارجي حضوريا كان كما في يا أيّها الرجلان وأيّها الرجال ، أو ذكريّا كما في «وأرسلنا
إلى فرعون رسولا فعصى فرعون الرسول» وجاءني رجلان أو رجال فأكرمت الرجلين أو
الرجال ، أو غيرهما كما في جاءني الرجل الذي كان معنا أمس أو الرجلان اللذان كانا
أو الرجال الذين كانوا معنا أمس.
وتعريف العموم
البدلي ـ كما في اشتر اللحم ـ الذي يسمّى بالعهد الذهني في قبال الثلاثة المتقدّمة
المسمّاة بالعهد الخارجي ، وحقيقة هذا التعريف هي الإشارة إلى الطبيعة الملحوظة في
ضمن أحد الوجودات باعتبار تعيّنها في الذهن بهذه الكيفيّة لمعهوديّتها في ذهن
المتخاطبين ، كذلك في المثال.
وتعريف استغراق
الجنس في المفرد كما في «أحلّ الله البيع» وهو الإشارة إلى الماهيّة المتعلّقة في
الذهن بلحاظ كونها في ضمن كلّ وجود ؛ فإنّ هذا نوع تعيّن
للطبيعة في عالم
الذهن يصلح الإشارة بسببه إلى الطبيعة الملحوظة بهذا النحو.
والفرق بين
استغراق الجنس في المفرد واستغراق الأفراد في الجمع أنّ الملحوظ في الأوّل هو
الطبيعة باعتبار سريانها في كلّ وجود ، فيجري الحكم أوّلا على الطبيعة وبتبعها على
الأفراد ، وكذا الإشارة أوّلا تكون إلى الطبيعة وثانيا إلى الأفراد ، وفي الثاني
يكون الملحوظ من الابتداء كلّ فرد بنحو الاستيعاب ، والحكم والإشارة متعلّقان من
الأوّل إلى الأفراد.
فالتعريف بجميع
هذه الأنحاء معقول متصوّر ولا يستلزم القول بوضع اللام له امتناع صدق المعرّف به
على الخارج قطعا كما ذكر في علم الجنس.
وعلم ممّا ذكرنا
أنّ التعريف في جميع الأقسام معنى وحداني وهو الإشارة إلى المتعيّن في الذهن ،
فالقول بالاشتراك اللفظي أو المعنوي أو الحقيقة في البعض والمجازيّة في الآخر لو
قلنا بوضع اللام لهذا المعنى باطل جدّا.
وأمّا في مقام
الإثبات فالظاهر ثبوت الظهور للّام في التعريف في العهد الخارجي بأقسامه الثلاثة ،
وأمّا أنّه حيث لا عهد يكون اللام في المفرد للجنس بمعنى أنّ المفرد المعرّف حيث
لا عهد مفيد لمعنى علم الجنس بلا فرق ويتضمّن الإشارة إلى الطبيعة المعقولة
المتعيّنة في الأذهان ، أو أنّه خالية عن هذه الإشارة ومتّحد مع اسم الجنس في
المعنى ، فعلى الأوّل معرفة حقيقته معنويّة ، وعلى الثاني لفظيّة ، كلّ محتمل ،
وكذا في مقام لا عهد ولا جنس بل يقتضي المقام استغراق الجنس كما في «أحلّ الله
البيع» و «خلق الله الماء طهورا» هل اللام ظاهرة في الإشارة إلى الطبيعة السارية
باعتبار تعيّنها الذهني أو اللفظ المعرّف الواقع في هذا المقام متّحد معنى مع
المنكّر الواقع فيه كما في «علمت نفس ما أحضرت» و «نمرة خير من جرادة» «وأنزلنا من
السماء ماء طهورا» ، فكما أنّ مفاد الثاني هو الطبيعة السارية بدون الإشارة إليه
فكذا الأوّل ، كلّ محتمل.
بقي الكلام في
الجمع المعرّف باللام هل هو ـ حيث ليست جملة من الأفراد معهودة حتّى يكون اللام
إشارة إليها كما في الامثلة المتقدّمة ـ مفيد للعموم
الاستغراقي أولا؟
، الظاهر الأوّل ؛ فإنّ استعماله حينئذ في الجنس وإن كان صحيحا واقعا كما في :
فلان يركب الخيل ، و (إِنَّمَا الصَّدَقاتُ
لِلْفُقَراءِ) الآية ، إلّا أنّ الظاهر الأوّلي منه عند الإطلاق هو
الاستغراق ، وهل هذا بواسطة وضع اللام للاستغراق أو المركّب منه ومن الجميع أو
أنّه مستفاد بمعونة دلالة اللام على الإشارة؟ لكل قائل.
والثالث لصاحبي
التعليقة والفصول قدسسرهما ، فذهبا إلى أنّ إفادة الجمع المعرّف للعموم ليست من جهة
وضعه له بالخصوص ، بل من جهة دلالة اللام على الإشارة ، ومن المعلوم اقتضائها
لمشار إليه معيّن ، فلا محالة تكون عند انتفاء القرائن ظاهرة في الإشارة إلى ما
دلّ عليه صريح مدخوله ، ولمّا كان وضع الجمع بإزاء خصوص المراتب من الثالثة إلى ما
فوقها وليس شيء من المراتب ممّا دون الجميع بمتعيّن ، بل كلّ منها يتطرّق فيه
الاختلاف الكثير من جهة صدقه على كثيرين مختلفين ، وأمّا الجميع فهو كالشخص الواحد
متعيّن لا اختلاف فيه ، كانت الإشارة إلى الجميع لا محالة لتعيّنه وعدم الإبهام
فيه المنافي للتعيين والتعريف دون غيره من المراتب ؛ إذ لا معروفيّة لها عند العقل
حتّى يشار إليها.
ومنها : النكرة ،
ولها استعمالان ، فتارة يستعمل في معنى له تعيين في الواقع كما في «وجاء رجل من
أقصى المدينة» غاية الأمر أنّ هذا المعنى تارة يكون عند المتكلّم معلوما ويخفيه
على المخاطب ، واخرى يكون عنده أيضا مردّدا ، كما لو رأى الشبح من بعيد ولم يعلم
أنّه زيد أو عمرو أو غيرهما من أفراد الرجل ، وثالثة يكون عنده وعند المخاطب جميعا
معلوما والمقصود إخفائه على ثالث ، وهذا المعنى له احتمال الصدق على كثيرين ، لكن
على البدليّة لا في عرض واحد ، بمعنى أنّه في حال يحتمل صدقه على زيد غير صادق على
غيره ، وفي حال يحتمل كونه عمروا أيضا لا يصدق على غيره ، وهكذا إلى آخر الأفراد ،
فلا يصدق في حال الصدق الاحتمالي على كلّ على غيره ، فهذا المعنى جزئي بلا إشكال.
واخرى يستعمل في
معنى صادق على كثيرين في عرض واحد كما في جئني
برجل ، فكلّ من
أفراد الرجل جيء به كان هو هو ، ولا يقال : إنّه هو أو غيره ، وفي حال الصدق على
فرد يصدق على غيره ، ولهذا قد يتوهّم أنّ هذا المعنى كلّي حقيقة على خلاف المعنى
الأوّل ، بمعنى أنّ مادّة النكرة تدل على طبيعة كليّة والتنوين يدل على مفهوم
الوحدة ، وهو أيضا كلّي ، وضمّ الكلّي إلى كلّي لا يصيّره جزئيّا بل يصير كليّا
ثالثا مضيّق الدائرة كما في الإنسان الأسود.
فمعنى «رجل» على
هذا طبيعة الرجل مع قيد الوحدة ، وهذا معنى كلّي ، نعم لا يصدق على اثنين فصاعدا
من حيث المجموع ؛ إذ حينئذ يخرج عن فرديّته ، فكما لا يصدق الإنسان على فرد البقر
كذلك لا يصدق هذا المعنى المقيّد بمفهوم الوحدة على ما هو فرد لمفهوم الاثنين أو
ما فوقه ، نعم يصدق على الاثنين بعنوان أنّه فردان منه ، وعلى الثلاثة بعنوان
كونها ثلاثة أفراد وهكذا. وبعبارة أخرى الاثنان مثلا يكونان فردين لهذا المعنى ،
ولا يكون فردا واحدا له.
ولكن يمكن دعوى
كون النكرة مستعملة في كلا الموردين في معنى واحد وأنّه لا اختلاف بحسبهما فيما
استعمل فيه لفظ النكرة ، بل المستعمل فيه في كليهما جزئي حقيقي غير قابل الصدق على
الكثيرين.
بيان ذلك أنّه لا
إشكال في كون الكليّة والجزئيّة من صفات المعقول الذهني دون الخارج ؛ فإنّ المعقول
الذهني إن كان بحيث يمكن انطباقه على كثيرين فهو كلّي ، وإن امتنع واستحيل أن يصدق
وينطبق إلّا على شيء واحد فهو جزئي.
إذا عرفت هذا فلا
إشكال حينئذ أنّه لو راى الإنسان شبحا من بعيد وتردّد عنده بين أن يكون بقرا أو
إنسانا فالمعقول في ذهنه صورة منطبقة على هذا الشبح محدودة بالحدود المعيّنة ، لكن
ليس فيه اعتبار الزيديّة ولا العمرويّة بل ولا كونه إنسانا ولا بقرا ، وكون أحد
هذه الأشياء ثابتا في الواقع لا ربط له بالصورة المنقّشة في الذهن ، ومع ذلك فهل
ترى صدقه على كثيرين ، بل يحكم بأنّ هذه الصورة جزئي لا يصدق إلّا على شيء واحد
فقط ، فإذا كانت هذه الصورة جزئيّا كما هو الموجود في الاستعمال الأوّل فكذلك
الصورة التي نتصوّره أوّلا قبل رؤية شبح في الخارج و
نلاحظ له جميع
التعيّنات والتشخّصات والحدود بحيث لا يكون صادقا بهذه التشخّصات إلّا على واحد
فقط ونجرّده عما يكون الصورة الأوّلي متجرّدة عنه من الزيديّة والعمرويّة
والبكريّة ، وكذا خصوصيّة تمام الأفراد ، فهذه الصورة أيضا لا بدّ أن يكون جزئيّة
إذ لا فرق بين هذه وبين تلك إلّا في مجرّد أنّ الاولى كانت منطبقة على شبح خارجي
هو مشتمل على الزيديّة ، ولكن هذا الا يعقل أن يوجب تفاوتا ، إذ لا يعقل دخل ثبوت
الزيديّة للأمر الخارجي في جزئيّة ما يتعقّل في الذهن مع كونه معرّى عن وصف
الزيديّة ، فإذا كان هذه الصورة المعرّاة عن الزيديّة والعمرويّة ونحوها جزئيا ،
فكذا تلك المعرّاة عن هذه أيضا ؛ إذ لا فرق بينهما أصلا ، فهذا المعنى لا محالة
يكون مصداقه أبدا شيئا واحدا لا أزيد ، غاية الأمر أنّه يدور بين تمام الإفراد ،
وإمكان اشتراك المصداقيّة له بين جميع الأفراد في عرض واحد لا ينافي ذلك ؛ إذ
الإمكان غير الصدق ، فلا يتّصف جميع الأفراد بالمصداقيّة له في عرض واحد ، ولكن
يتّصف جميعها بإمكان المصداقيّة له كذلك.
ومحصّل ما ذكرنا
أنّ تعقّل معنى له تعيين عند الله وفي اللوح المحفوظ كما في ما يتصوّر عند رؤية
الشبح جزئي بمعنى أنّه غير قابل لأن يتحمّل أن يكون طرفا لزيد وعمرو في عرض واحد
كما هو الحال في الكلّي الطبيعي بالنسبة إلى أفراده ، فيصحّ أن نقول : هذا هو
الإنسان ، وهذا هو الإنسان ، وهذا هو الإنسان ، ولكن لا يصح فيما نتعقّل عند رؤية
الشبح المتحرّك من البعيد ولا يتحمّل الأفراد بهذا النحو ، فلا يصحّ أنّ زيدا هذا
وعمروا هو بكرا هو.
نعم يمكن أن يكون
زيدا وعمروا وبكرا ، لكن إن كان زيدا لا يكون عمروا وإن كان عمروا لا يكون زيدا
وإن كان بكرا لا يكون عمروا ولا زيدا ، وهذا معنى صدقه على كثيرين على البدليّة ،
يعني يصدق على هذا بدلا عن ذاك وعلى ذاك بدلا عن هذا ولا يصدق عليهما معا.
وبعبارة اخرى لا
يصدق على كثيرين في واحد بالعطف بالواو ، بل يصدق على الكثيرين في الطول وبالعطف
بكلمة «أو» وهذا معنى جزئيّته ، مع أنّ هذا المعنى
المتصوّر خال عن
خصوصيّة الزيديّة والعمرويّة وكذا جميع الخصوصيّات ، ووجودها في الأمر الخارجي غير
مرتبط بالأمر المتصوّر الذهني.
فكما لا يضرّ هذا
التجرّد عن تلك الخصوصيّات بالجزئيّة في هذا المعقول فكذا نقول في النكرة الواقعة
موضوعا في الإنشاءات فنقول فيها أيضا بتصوّر معنى لا إمكان لأن ينطبق على كثيرين
في عرض واحد ، بل كان انطباقه على واحد على البدل ، فرجل في قولنا : جئني برجل
معناه رجل واحد بحيث إن كان زيدا لا يكون عمرا وإن كان عمرا لا يكون زيدا وإن كان
بكرا لا يكون زيدا ولا عمرا ، فهذا أيضا لا محالة يكون جزئيّا ؛ إذ معنى الكلّي أن
يكون المعنى ذا سعة لا يأبى بسببها عن الحمل على الكثيرين في عرض واحد ، ويتحمّل
الطرفيّة للإثنين وما فوق ، وهذا منتف فيما فرضناه ، ومجرّد أنّ للمعقول في الصورة
الاولى وفي الإخبارات واقعا له التشخّص والتعيّن وهنا ليس له واقع كذلك لا يوجب الفرق
بينهما ؛ إذ الجزئيّة والكليّة من المعقولات الذهنيّة بلا كلام ولا إشكال ، فلا
يعقل أن يكون للخارج دخل فيهما.
نعم فرق بين
المعقول في المقامين من حيث إنّ الأوّل له تعيين عند الله وفي الثاني يكون التعيين
بيد المكلّف ويكون هو بالخيار في تعيينه ، مع أنّه لو جعل الكلّي خصوص ما يصدق على
الكثيرين في عرض واحد بحيث لو كان في الطول كان جزئيّا لزم عدم الفرق بين النكرة
الواقعة في الإخبارات والواقعة في الإنشاءات في الجزئيّة كما ذكرنا ، وإن كان
المراد بالكلّي مطلق ما كان صادقا على الكثيرين وإن كان في الطول كان في كلا المقامين
كليّا ؛ إذ النكرة في الإخبار أيضا له الصدق بهذا النحو ، يعني ما تصوّره المستعمل
واستعمل اللفظ فيه معنى قابل لأن يصدق على كثيرين على البدل ، ففي جاء رجل من أقصى
المدينة ، المتصوّر هو المعنى المتردّد بين أفراد الرجل والمعرّى عن جميع
الخصوصيّات وإن كان الجائي في الخارج هو خصوص الرجل المعهود وهو حبيب النجّار.
وبالجملة ،
فالتفرقة بين الإخبار والإنشاء بإثبات الجزئيّة للنكرة في الأوّل والكليّة في
الثاني غير متّجه ، والحقّ كما عرفت هو اختصاص الكليّة بالصدق العرضي
على كثيرين ،
والصدق الطولي على كثيرين لا ينافي الجزئيّة ؛ فإنّ الكليّة بمعنى السعة ،
والجزئيّة بمعنى الضيق ، والذي لا يتحمّل إلّا مصداقا واحدا على البدل ضيق ، غاية
الأمر مردّد بين كثيرين ، وهذا معنى كونه جزئيّا مردّدا ، فالحقّ عدم الفرق بين
النكرة في المقامين في كونه جزئيّا حقيقيّا غير قابل الصدق على كثيرين مردّدا ،
وأمّا الفرق بين الوحدة المأخوذة في النكرة وما هو مأخوذ في مفهوم الواحد فهو أنّ
الوحدة في الثاني كلّي ؛ فإنّه عبارة عن جهة جامعة أخذ الذهن من أفراد كثيرة
متّصفة بها ، وهذا لا يمتنع أن يسع في عرض واحد كثيرين فيقال : هذا واحد وهذا واحد
وهذا واحد.
نعم لا يصدق على
اثنين ، فلا يشار إلى مجموع الشخصين بإشارة واحدة ويقال : هذا المجموع واحد ؛
فإنّه مصداق للإثنين الذي هو ضدّ الواحد ، فعدم صدقه عليه كعدم صدق البقر على
أفراد الإنسان.
وهذا بخلاف الوحدة
في النكرة فإنّها مأخوذة من شخص واحد دون أشخاص كثيرين ، كما في ما يوجد في الذهن
عند رؤية الشبح من البعيد ، فالوحدة مأخوذة فيه من الشيء الخاص المرئي وليس مشتركا
بينه وبين ما يشابهه ، وكذا في ما يقع موضوعا في الإنشاء أيضا يوجد الوحدة القائمة
بالشخص لا القائمة بالأشخاص ، والميزان أنّه لو تصوّر المعنى المتقيّد بالوحدة
واحد في الذهن على وجه لا يقبل لأن يصدق على هذا إلّا بدلا لذاك ، وعلى ذاك إلّا
بدلا لهذا فهذا جزئي.
وإن كان قابلا لأن
يصدق على هذا وذاك في عرض واحد فهذا كلّي ، والنكرة موضوعة لملاحظته على الوجه
الأوّل ، ومفهوم الواحد موضوع له بالملاحظة الثانية.
ثمّ لو أتى
المكلّف بما زاد على الواحد عند توجّه الأمر بالنكرة إليه فإمّا أن يأتي على
التدريج أو دفعة ، ففي الأوّل يمتثل بأوّل الأفراد وما سواه لغو مطلقا ، وعلى
الثاني يكون الممتثل به واحدا لا على التعيين لو كان المراد هو الواحد اللابشرط ،
وإن كان المراد الواحد بشرط لا يعني بشرط عدم الغير فلا يحصل الامتثال في هذه
الصورة أصلا.
«فصل»
قد ظهر ممّا تقدّم
أنّ اسم الجنس وضع لما هو المقسم للمطلق والمقيّد وهو الجامع بين عدم دخل شيء آخر
في المطلوب سوى نفس الطبيعة ودخل شيء آخر غيره ، وكذا النكرة وإن قلنا بجزئيّته ؛
فهو أيضا موضوع للجامع بين ذي القيد والمجرّد عن القيد ، وبعبارة اخرى بين معنى
يكون اللاقيديّة منافية معه ومعنى يكون التقييد منافيا له وهذا واضح.
إنّما الكلام في
المقام في أنّه عند عدم قرينة لفظيّة ولا انصراف يقتضي تعيين إحدى الخصوصيتين من
الإطلاق والتقييد يحتاج إلى تمهيد مقدّمات للحمل على الإطلاق تسمّى بمقدّمات
الحكمة ، أو لا يحتاج إليها ، بل وإن لم يكن تلك المقدّمات محرزة كلّا أو بعضا
يمكن تعيين الإطلاق من وجه آخر.
فإن قلنا
بالاحتياج والتوقّف عند عدم إحراز المقدّمات التي من جملتها كون المتكلّم في مقام
البيان ، فلو لم يحرز ذلك الكون لا يمكن الحمل على الإطلاق وإن كان الأصل في كلام
كلّ متكلّم أن يكون صادرا بغرض الإفادة وتفهيم المراد ، فلا يكفي هذا الأصل لتعيين
الإطلاق.
بيان ذلك : أنّ
لنا مقامين للبيان ، أحدهما محرز في عامّة باب الألفاظ ولا اختصاص له بالمطلقات ،
والثاني هو المقصود في المقام ومعدود من مقدّمات الحكمة.
فالأوّل : عبارة
عن كون الكلام الصادر عن المتكلّم عند إحراز عقله وشعوره ، صادرا بغرض الإفادة
وتفهيم المعنى ؛ فإنّ التكلّم بالكلام قد يكون بلا قصد معنى أصلا إمّا على نحو
اللغو والعبث ، وإمّا على نحو تعلّق الغرض بمجرّد اللفظ كتلفّظ العربي بالعجمي
لمجرّد تعليم اللفظ من دون فهم المعنى إلى غير ذلك ، فالأصل يقتضي أن يكون التكلّم
بالكلام بغير هذه الوجوه بل كان مقصودا به الإفادة وكان المتكلّم مريدا لمدلوله
ومعناه الحقيقي ، فهذا المقدار من البيان محرز في عامّة الألفاظ و
لا يكفي هذا
المقدار لتعيين الإطلاق في المقام ؛ إذ لا يثبت بهذا في ألفاظ المطلقات إلّا مجرّد
كون المتكلّم بصدد بيان المدلول اللغوي للفظ وهو الطبيعة المهملة وقد فرضنا أنّه
مقسم للإطلاق والتقييد فيبقي التحيّر والتردّد بحاله ؛ إذ لا إشارة في المقسم إلى
تعيين شيء من الأقسام.
وأمّا الثاني :
فهو عبارة عن كون المتكلّم علاوة على ما ذكر من كونه مريدا للمدلول اللفظي بصدد
بيان تمام المراد اللبّي ، لا في مقام الإجمال والإهمال كما في قول الطبيب : اشرب
الدواء ، وهذا هو المقصود في المقام والمحتاج إليه لتعيين الإطلاق ؛ إذ مع إحراز
هذه الحالة للمتكلّم نقول : لو كان للمراد الجدّي اللبّي قيد في اللّب لكان اللازم
ذكره ؛ إذ يلزم من عدم ذكره نقض الغرض ، فحيث لم يذكر القيد يعلم أنّ المراد بحسب
اللبّ هو المطلق الخالي عن كلّ قيد.
لكن يمكن أن يقال
بعدم الحاجة إلى تلك المقدّمات وهو الشقّ الثاني من طرفي الترديد الذي ذكرناه ،
وذلك بأن نقرّر الأصل على تعيين إرادة الإطلاق عند عدم قرينة لفظيّة وعدم انصراف
في البين.
بيانه أنّ المهملة
مردّدة بين المطلق والمقيّد ولا ثالث لهذين وهذا واضح ، ولا إشكال أنّه لو كان
المراد هو المقيّد كما في مواضع علم ذلك بالقرينة تكون الإرادة أصالة متعلّقة
بالمقيّد ، ومركب الحبّ الأصالي يكون أوّلا وبالذات هو المقيّد.
نعم يصحّ انتساب
الإرادة والحبّ إلى نفس الطبيعة حينئذ بالعرض والمجاز وثانيا وبالتبع على طريق
الإسناد إلى غير ما هو له ، نظير ما إذا كان المطلوب الأوّلي فردا من الرجل ولا
شكّ أنّ هذا الفرد مطلوب ومحبوب بالحقيقة والأصالة ويسري منه إلى طبيعة الرجل
لمكان اتّحادها مع الفرد فينسب إلى الطبيعة بالعرض والمجاز.
فنقول : الظاهر من
قوله : جئني بالرجل أو برجل كون تعشّقه وحبّه أوّلا وبالذات متعلّقا بالطبيعة ، لا
أنّه كان متعشّقا بالمقيّد وطالبا إيّاه ثمّ تأمّل والتفت إلى أنّ هذا الحبّ
والتعشّق يسريان إلى ما هو متّحد مع هذا المقيّد من الطبيعة أو ما هو
معنى النكرة
فجعلهما متعلّقا لإرادته بعد هذه الملاحظات بالعرض والمجاز ؛ فإنّ هذا خلاف الظاهر
، بل الظاهر من القول المذكور عدم توجّه النظر نحو غير الطبيعة وعدم تعلّق الحبّ
إليها أوّلا وبالذات.
فإن قلت : إنّ
المهملة التي هي المقسم لا يمكن وقوعها متعلّقا للأمر والطلب الأصالي بمعنى أن
يكون الحبّ والتعشّق في اللبّ والواقع متعلّقا بما هو مفاد اسم الجنس الجامع بين
المطلق والمقيّد.
نعم يمكن في مقام
الإثبات جعل الحكم والطلب على موضوع المهلة بحيث لو سئل عن الآمر عن إطلاق مطلوبه
وتقييده لردّ السائل ويقول : لما ذا تريد؟ لا يرتبط بك ، وأمّا في مقام اللبّ فلا
يمكن ؛ إذ لو سئل عن اللبّ فإمّا أن يكون فيه أمر دخيلا في المحبوب وإمّا أن لا دخل
بشيء سوى المهملة أصلا فيكون هذا معنى الإطلاق ولا ثالث لهذين ؛ لكونهما نقيضين.
نعم قد يفرض في
اللبّ أيضا بالنسبة إلى من لا يعلم الآن بأنّ الخصوصيّة الفلانيّة دخيلة في متعلّق
غرضه وحبّه أولا ، لكن بالنسبة إلى من هو ملتفت إلى جميع حيثيّات مطلوبه كما هو
المفروض في الشارع أبدا فلا محالة إمّا متعلّق بالمهملة بلا دخل شيء أو بها مع
دخله ، فتبيّن أنّ الإرادة الأصليّة لا تتعلّق في اللبّ إلّا بالمطلق أو المقيّد.
وحينئذ فالإرادة
الأصاليّة لو كانت متعلّقة بالمطلق كانت في المهملة على خلاف الظاهر ، كما أنّها
لو كانت متعلّقة بالمقيّد أيضا يكون في المهملة على خلاف الظاهر وغير أصاليّة ،
فإذا أثبتت بالظهور كون الإرادة أصاليّة يتردّد الأمر بين المطلق والمقيّد ،
فتعيين المطلق بلا دليل ، فيعود الحاجة إلى مقدّمات الحكمة لتعيينه.
قلت : إذا كانت
الإرادة أصاليّة ولم يكن في البين قيد كما هو المفروض وكان اللفظ مستعملا في
المهملة كما هي الموضوع له فهذا معنى الإطلاق ، ويتعيّن المقسم في الإطلاق ؛ إذ
معنى الإطلاق أن يكون التعشّق الأصالي الحقيقي متعلّقا بالمهملة من دون دخل
الخصوصيّات ولا يعتبر في المطلق ملاحظة عدم القيد ؛ إذ ليس عدم
الدخل قيدا له ،
كيف وإلّا كان هو أيضا واحدا من القيود بل أقوى منها ؛ حيث إنّه التعرية من كلّ
شيء ، فكان المطلق واحدا من المقيّدات فلم يثبت المقدّمات إيّاه على ما هو المعروف
من إثباته بها ، فهذا دليل على أنّ وصف التجرّد وعدم الدخل لا حاجة إلى ملاحظته في
المطلق.
ولا يتوهّم
التنافي بين قولنا هنا وما سبق من عدم إمكان تعلّق الحبّ الأصلي بالمهملة؛ إذ
المراد هناك تعلّق الحبّ الأصلي به مع بقائه على كونه مهملة ، وهنا وإن كان مدلول
اللفظ ومتعلّق الطلب الأصلي مهملا أيضا ، لكنّه بعد تعلّق الحبّ الأصالي بمعنى
دخله وعدم دخل غيره يخرج عن كونه مهملة إلى كونه مطلقا قهرا ؛ لما عرفت من أنّ
تعلّق الحبّ الأصلي بالمهملة لازمه عقلا هو التبدّل والانقلاب إلى الإطلاق.
تقرير ثان للمقام
: أمّا على طريقة المشهور فهو أنّه بعد أنّ أسماء الأجناس وسائر المطلقات موضوعة
لما هو جامع للمطلق والمقيّد وقابل للتقييد والإطلاق ، فهذا المعنى لا يوجب رفع
التحيّر عن موضوع الحكم ؛ إذ المكلّف لا يعلم أنّ موضوع الحكم هو المطلق أو
المقيّد ، وعلى الثاني فالقيد ما ذا؟
ومن هنا يظهر أنّه
بمجرّد إعمال الأصل العقلائي الجاري في عامّة باب الألفاظ أيضا لا يستريح ؛ إذ الأصل
المذكور يرفع احتمال كون اللفظ مهملا وصادرا بلا شعور لمعناه ، أو مع إرادة أجنبيّ
عما هو موضوع له.
وبعبارة اخرى
تعيّن احتمال أن يكون المتكلّم مريدا لما هو موضوع له لهذا اللفظ وقاصدا بالتلفّظ
به إفادة ذاك المعني ، وهذا المقدار لا يفيد في المقام ؛ لأنّ الموضوع له معنى
قابل للانطباق على المطلق والمقيّد ، فرفع التحيّر عن المكلّف موقوف على جعل الحكم
إمّا على خصوص المقيّد وإمّا على خصوص المطلق ، فالدالّ على الجعل في المقيّد أحد
الأمرين : إمّا ذكر القرينة اللفظيّة الدالّة على القيد في الكلام مع المطلق ،
وإمّا انصراف الكلام إلى القيد ، فإنّه بمنزلة الذكر أيضا.
وأمّا المعيّن
للثاني أعني الجعل في المطلق ، فعلى مذاق المشهور من المتأخّرين هو المقدّمات
المعهودة التي من جملتها إحراز كون المتكلّم في مقام البيان ، أعني كان
معلوما بالشواهد
الخارجيّة أنّ للمتكلّم حالة يريد أن يظهر جميع ما في نفسه ولا يغادر منه مثقال
ذرّة ، كما لو فرض أنّه لا يرى المخاطب بعد هذا المجلس لكونه مريدا للمسافرة إلى
مكان بعيد ، فإنّه يقال حينئذ : إنّه لم يذكر سوى اللفظ الموضوع للمعنى القابل
للإطلاق والتقييد ، ولو كان في نفسه المقيّد لذكر القيد بمقتضى المقام ، فحيث لم
يذكر يكشف هذا عن أنّ الموجود في نفسه وعند اللبّ ليس إلّا ما وضع له هذا اللفظ
أعني المهملة ، فهذه المقدّمات يتبيّن إرادة المطلق ؛ إذ وجود الجامع في اللبّ
وعدم وجود الغير معه معنى الإطلاق.
وأمّا لو لم يكن
له هذه الحالة بل كان غرضه إشارة إجماليّة ليتهيّأ المكلّف ويستعدّ للامتثال ثمّ
يذكر له تمام مراده في مجلس آخر ، فإنّ في هذا المقام ما هو مدلول اللفظ قابل
للتقييد والإطلاق ولا شيء في البين غيره يعيّن أحدهما بالفرض ، والمتكلّم أيضا ليس
في مقام إظهار تمام المراد ، فيحتمل أن يكون المراد اللبّي هو المطلق ، ويحتمل أن
يكون المقيّد ولا يعلم شيء منهما.
وأمّا على المختار
فالأصل العقلائي المذكور كاف بضميمة مقدّمات اخرى هي جارية في جميع الموارد
الخالية عن القرينة اللفظيّة والانصراف لا كالمقدّمات المذكورة الموجودة في بعض
المقامات دون بعض ، وكون المتكلّم في مقام البيان يعلم بهذه المقدّمات أيضا.
بيانها أنّ الظاهر
من القضايا الإنشائيّة المعلّق فيها الحكم على موضوع أنّ تعلّق الحكم المذكور في
القضيّة بهذا الموضوع يكون من حيث نفس هذا الموضوع وابتداء لا بوساطة شيء آخر
وبتطفّله وبركته ؛ ووجه ذلك أنّ الموضوع الأصلي الأوّلي للحكم لو كان هذا الموضوع
فنظر الحاكم يقع من أوّل الأمر على هذا الموضوع ويجعله تحت الحكم.
وأمّا لو كان
تطفّليا وعرضيا فلا بدّ أن يكون نظر الحاكم واقعا من الابتداء على شيء آخر وجعله
تحت الحكم ثمّ انتقل من هذا الشيء إلى شيء آخر ، والتفت إلى كونه متّحدا مع مطلوبه
، فجعل هذا الشيء الثاني أيضا تحت الحكم لمكان اتّحاده مع
ما هو مقصود له
وموضوع للحكم ذاتا ، ولا شكّ أنّ هذا النحو من الموضوعيّة للحكم خلاف الظاهر من
القضيّة ، بل الظاهر منها أنّ الموضوع نفس ما هو المذكور فيها من حيث الذات لا
نقول : إنّ النحو الأوّل يوجب المجاز إمّا في اللفظ وإمّا في الإسناد بل نقول:
إنّه خلاف الظاهر.
إذا عرفت ذلك
فنقول : لو كان الموضوع في الواقع هو المقيّد لزم أحد الأمرين ، إمّا كون تعلّق
الحكم بالطبيعة المهملة على نحو التطفّل وعدم الأصالة وقد كان مقتضى الظاهر كونه
على نحو الذاتية والأصليّة فإنّه إذا كان الحكم أوّلا وبالذات ثابتا للإنسان
الأبيض مثلا كان تعلّقه بالإنسان أعني المعنى القابل للتقييد والإطلاق على نحو
التطفّل لا محالة ؛ إذ كما أنّ المطلوب حقيقة لو كان هو الزيد فإرادة الإنسان يكون
بتطفّل الزيد ووساطة الاتّحاد معه، أو كان المطلوب كذلك هو الإنسان ، فإرادة الزيد
تطفليّة وتبعيّة ، كذلك الحال في المقام بلا فرق.
وإمّا إضمار
المتكلّم القيد في نفسه ولم يتكلّم بلفظه مع عدم انصراف في البين ، وهذا أبعد من
الأوّل ؛ فإنّ عدم التّلفظ باللفظ ونيّة معناه بعيد عن المحاورات ؛ لوضوح كون ذلك
إمّا لغوا وإمّا مخلّا بالغرض ، فتعيّن أن تكون الإرادة الذاتية الأصليّة متعلّقة
بمفاد اللفظ المطلق من الطبيعة المهملة.
فإن قلت : من
المحال أن يكون الحكم الذاتي الأصلي متعلّقا بنفس المهملة القابلة للإطلاق
والتقييد مع كونه في نظر الحاكم متردّدا بينهما ؛ إذ لا يمكن جعل الحكم في موضوع
مردّد غير معيّن حتى عند الحاكم ، وعلى هذا فاللازم تعلّق الطلب الأصلي إمّا
بالمطلق أو بالمقيّد ، وطريق تعيين الأوّل منحصر في مقدّمات الحكمة.
قلت : توجّه
الإرادة الأصليّة الذاتيّة نحو المعنى الجامع للمطلق والمقيّد كاف في تعيّن هذا
الجامع في المطلق ؛ إذ لا حاجة في تحقّق المطلق في الذهن من ملاحظة شيء آخر سوى
الجامع ، فإنّ قيده عدم شيء آخر ، وهذا العدم يتحقّق عند توجّه الإرادة الذاتيّة
نحو الجامع قهرا وإن لم يكن اللاحظ ملتفتا إليه بل كان ناظرا إلى نفس الجامع
القابل للإيجاد مع المطلق ومع المقيّد.
وهذا نظير تحقّق
الخط في الخارج ؛ فإنّه إذا بدأ الشخص بترسيم خط على الأرض مثلا فهذا الخط من
ابتداء وجوده قابل للانتهاء إلى الشبر والشبرين وثلاثة أشبار إلى غير ذلك من
الحدود ، ثمّ إذا وقف على حدّ الشبرين مثلا ورفع اليد حصل الخط المحدود بحدّ الشبرين
وإن كان رفع اليد بدون التفاته ، ووجهه أنّ القيد هو عدم الغير ولا حاجة في عدم
الغير إلى ملاحظة مستقلّة وإيجاد آخر ، بل متى أوجد الخط إلى الحدّ المخصوص ولم
يوجد بعده يتعيّن ذاك الخطّ القابل للأنحاء الكثيرة في هذا النحو.
ففي المقام إذا
نظر اللاحظ إلى المهملة فهي وإن كان قابلا لأن يكون مطلقا وأن يكون مقيّدا ، لكن
إذا جعل هذا المعنى القابل تحت الإرادة الذاتيّة حصل المطلق قهرا ولا يحتاج إلى
مئونة زائدة وراء ذلك ؛ إذ القيد حاصل بنفسه ؛ إذ هو عدم دخل شيء آخر سوى المهملة
في تعلّق الحكم ، وإذا فرضنا أنّ مركب الحكم الذاتي الأوّلي هو المهملة فمعنى ذلك
عدم دخل أمر آخر وراء المهملة في الحكم.
وبالجملة ، الحمل
على الإطلاق على مذاق المشهور يتوقّف على كون المتكلّم في مقام البيان أعني بيان
تمام المراد وانتفاء ما يوجب التعيين وانتفاء القدر المتيقّن ، وهذا لا يوجد في
جميع الموارد ، فقد لا يكون الكون في مقام البيان محرزا ، وقد لا يكون القدر
المتيقّن منتفيا ، ولكن ما ذكرنا يشمل جميع موارد انتفاء ما يوجب التعيين.
«تقرير ثالث للمذهب المختار»
وهو أنّ لنا بحسب
مقام الثبوت نحوين من الإرادة عند إرادة الطبيعة المهملة :
الاولى : أن يكون
بتبع إرادة الخاص ، كأن يكون طبيعة الرجل مطلوبة بتبع الرجل الأسود ؛ فإنّ
مطلوبيّة الشخص يسري إلى الطبيعة تبعا لمكان الاتّحاد ، كما أنّ مطلوبيّة الكلّ
يسري إلى الجزء تبعا ، فيصحّ عند تعلّق الطلب بالمركّب من إجراء نسبة هذا الطلب
إلى كلّ واحد من أجزائه بتبع الكلّ ؛ ولهذا ـ أي لأجل أنّ الجزء
يصير موردا
للإرادة التبعيّة بواسطة توجّه الإرادة نحو الكلّ ـ صحّ إجراء البراءة عن الأكثر
عند الدوران بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ، فإنّ قولنا في تقريب البراءة بأنّ
المركّب من التسعة مثلا مراد قطعا ليس إلّا لأجل أنّ المركّب من العشرة لو كان في
الواقع مرادا أيضا يكون التسعة في ضمنه مرادة بتبعه ، فالمقصود إثبات الأعمّ من
هذه الإرادة ، ثمّ هذه الإرادة لا يسري من الطبيعة إلى جميع أفرادها قطعا.
والثانية : أن
تكون الطبيعة مرادة في نفسها لا بتبع الشخص ، وحينئذ لا محالة تسري الإرادة إلى
تمام أفرادها ، لا إشكال في ثبوت هذين النحوين من الإرادة المتعلّقة بالطبيعة في
عالم اللبّ.
أمّا في مقام
الظهور اللفظي فنقول : إذا قيل : جئني بالرجل ، ففيه احتمالات ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
الموضوع في القضيّة نفس هذه الطبيعة ولكن كانت الإرادة تبعيّة بأن كانت متعلّقة
بها بتبع مطلوبيّة الزيد.
الثاني : أن تكون
الإرادة أصليّة متعلّقة بما هو موضوع القضيّة باعتبار نفسه لا بتبع أمر آخر ، لكن
لم تكن هذه الطبيعة موضوعا ، بل إنّما احدث طبيعة الرجل معرّفة للزيد واشير بها
إلى الزيد ، غاية الأمر لم يؤت بالدالّ على زيد ، فهو مثل ما إذا كان الدال عليه
مذكورا كما لو قيل : جئني بالزيد الذي هو الرجل ، فإنّ الرجل هنا لم يوجد إلّا على
وجه المرآتيّة للزيد دون الموضوعيّة ، فالموضوع في الحقيقة هو الزيد.
الثالث : أن تكون
الإرادة أصليّة مع كون الموضوع نفس طبيعة الرجل دون أن يكون معرّفه ، وحيث إنّ
أظهر الاحتمالات هو الأخير فإنّ الظاهر أن تكون الإرادة أصليّة لا تبعيّة ، وأن
تكون طبيعة الرجل مأخوذة موضوعا لا معرّفا ومرآتا ، فيتعيّن الحمل على الإطلاق ؛
فإنّ توجّه الإرادة الأصليّة التبعيّة نحو مفهوم الرجل الذي هو المقسم ملازم لتعيّن
المقسم في المطلق ؛ إذ لو سئل عن المريد هل لأمر آخر وراء هذا المفهوم دخل في
مرادك؟ لقال : لا ، وهذا معنى الإطلاق.
ومن هنا يظهر أنّ
وجود القدر المتيقّن غير كاف لتعيينه ؛ وذلك لوضوح أنّ
المراد بكون القيد
قدرا متيقّنا ما إذا لم يكن انس الذهن باللفظ في القيد بحيث صار موجبا لانصراف
اللفظ إلى القيد والانتقال منه عند سماعه إليه ، وإلّا لكان كالقيد المذكور في
الكلام ومحمولا عليه الإطلاق بلا كلام ، وحينئذ فيقال : الذي أفاده اللفظ ليس إلّا
الطبيعة المهملة ؛ لفرض عدم كون القيد منصرفا إليه ومدلولا باللفظ ، والظاهر أن
تكون الإرادة أصليّة وأن يكون هذا الذي أفاده اللفظ من المهملة موضوعا ، لا أن
يكون معرّفا للموضوع، فيتعيّن أن يكون المراد هو المطلق.
فعلم ممّا ذكرنا
أنّ الحمل على الإطلاق ليس موقوفا لا على إحراز كون المتكلّم بصدد البيان إمّا
علما أو أصلا ، ولا على انتفاء القدر المتيقّن ، ويشهد لما ذكرنا أنّ المتداول بين
أهل اللسان في محاوراتهم ومكالماتهم كان هو الأخذ بالإطلاق والتمسّك به من دون
الفحص عن حال المتكلّم من حيث إنّه كان بصدد البيان أم لا وإن جعل ذلك صاحب
الكفاية دليلا على أنّ كون المتكلّم بصدد البيان يكون عندهم أصلا.
وكذا يشهد لما
ذكرنا أنّه لم يعهد من أهل اللسان التوقّف في حمل المطلقات على الإطلاق بواسطة
وجود القدر المتيقّن ؛ إذ قلّما يتّفق أن يكون المطلق منفكّا عنه ، ألا ترى أنّ
المطلقات الواردة في الجواب عن السؤال مع كون مورد السؤال خاصّا وكونه هو القدر
المتيقّن منها لم يعهد من أحد الاقتصار في حكمها على مورد السؤال اعتمادا على أنّه
هو المتيقّن منها ، بل الأمر بالعكس ، فيتجاوزون عن موارد السؤالات حتّى إنّه قد
اشتهر أنّ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص المورد ، هذا.
وربّما يقال بأنّ
وجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب مضرّ بالأخذ بالإطلاق وإن فرض إحراز عدم
القيد اللفظي في الكلام وعدم انصراف في البين وكون المتكلّم في مقام البيان ؛ وذلك
لأنّ الموجب للحمل على الإطلاق عند كون المتكلّم في مقام البيان إنّما هو عدم لزوم
نقض الغرض ، فيقال : إنّه كان في مقام إظهار جميع ما في نفسه ممّا يرتبط بمراده ،
ولو كان أزيد من مدلول اللفظ دخيلا في مراده للزم عليه التنبيه عليه لئلّا يلزم
نقض الغرض ، فحيث لم ينبّه علم أنّ ما وراء ما دلّ عليه اللفظ و
هو الطبيعة
المهملة غير دخيل ، وهذا معنى الإطلاق.
فنقول : إنّ القيد
لو كان هو المتيقّن من المطلق ـ ككون عدم نقض اليقين بالشكّ في باب الوضوء متيقّنا
من قوله عليهالسلام : «لا تنقض اليقين بالشك» ؛ فإنّه ورد جوابا عن السؤال عن
الخفقة والخفقتين هل يبطل الوضوء بسببها أولا ـ لا يلزم من إرادته مع عدم التنبيه
عليه في اللفظ نقض للغرض ؛ فإنّ المتكلّم الكائن في مقام البيان ليس عليه إلّا
الإتيان بما هو صريح في تمام مراده أو ظاهر ، وبعبارة اخرى الإتيان بالكاشف لتمام
ما هو مراده بحيث لم يبق جزء من مراده بلا كاشف ، وإذا فرض أنّ المتيقّن من اللفظ
المطلق في ذهن المتخاطبين معا هو القيد والمفروض أنّ المقيّد به تمام المراد فقد
أتى بالكاشف بإزاء تمام المراد من دون خفاء جزء منه.
فإذا كان تمام
المراد عدم نقض اليقين بالشكّ المقيّد بباب الوضوء ، وكان ذات المقيّد مدلولا عليه
باللفظ ، وكان القيد مفهوما أيضا من باب كونه قدرا متيقّنا ، فقد سلم المتكلّم عن
نقض الغرض وإن لم يصرّح بهذا القيد في كلامه ، وهذا بخلاف القيود الأخر أعني ما
ليس متيقّنا كالسواد والبياض وطول القامة وقصرها بالنسبة إلى مفهوم الرجل ، فإنّه
لو كان المراد هو الرجل المقيّد بواحد منها ولم يصرّح باللفظ الدالّ عليه لما كان
المراد معلوما للمخاطب ؛ فإنّ جميع القيود ما أراده منها وما لم يرده يكون في عرض
واحد ونسبة المطلق إليها على السواء ، فإرادة بعضها بدون إقامة الكاشف إخفاء لبعض
المراد ونقض للغرض.
وعلى هذا فليس
للمخاطب تعدية الحكم في صورة وجود القدر المتيقّن إلى غير مورد وجوده ، فلا بدّ أن
لا يعمل بحديث عدم نقض اليقين بالشكّ في غير باب الوضوء من الأبواب ، إذ لو عمل به
في غيرها وكان المراد واقعا مقيّدا بباب الوضوء فعاتبه المولى على ذلك لم يكن له
في قبال المولى حجّة وبرهان ؛ فإنّ غاية ما يحتجّ به عليه أنّك كنت في مقام بيان
تمام المراد وأتيت باللفظ مطلقا ، وما صرّحت بالقيد في كلامك ولم يكن في البين
انصراف ، ولازم ذلك كلّه كون المطلق هو المراد بدون دخل شيء آخر ؛ إذ دخله مناف
لكونك في مقام البيان وعدم الإتيان بالكاشف
عنه ، لكن هذا لم
يصر حجّة له ؛ إذ المولى يقول في جوابه : سلّمت كوني في مقام البيان وعدم الإتيان
بالقيد في اللفظ وعدم الانصراف في البين ، لكن ذلك لا يلازم إرادة المطلق ؛ فإنّ
قضيّة كوني في مقام البيان ليس إلّا الكشف عن تمام مرادي وقد كشفت عنه ؛ فإنّ
مرادي عدم النقض في باب الوضوء وقد أفاد عدم النقض لفظي ، وأفاد القيد أعني باب
الوضوء كون السؤال عن هذا الباب ، فلم يلزم تفويت غرضي بإرادة هذا المقيّد من لفظي
المطلق أصلا.
هذا ما يقال ،
وجوابه أنّ المراد بعد مردّد بين أن يكون هو المطلق وأن يكون هو المقيّد ، فما
بيّن المراد على تقدير كونه هو المقيّد ؛ فإنّ المقصود بالبيان بيان أنّ هذا مراد
لإتيان ذات المراد مع عدم بيان وصف المراديّة ، فإذا كان بصدد بيان المراد بهذا
المعنى واكتفى بالقدر المتيقّن عن بيان القيد فقد أخلّ بغرضه ، فقرينة الحكمة
شاهدة على إرادة الإطلاق.
هذا مع أنّ أحدا
لم يقتصر في مدلول الحديث على باب الوضوء لأجل ذلك ، وكذا في الأجوبة عن الأسئلة
الاخرى تعدّوا عن مورد الأسئلة إلى غيرها عملا بالإطلاق ، فهذا شاهد على صحّة ما
ذكرناه وبطلان ما زعموه.
إيراد ودفع ، أمّا
الأوّل فهو أنّه إذا كان الحمل على الإطلاق بمعونة المقدّمات إمّا على نحو طريقة
المشهور ، وإمّا على ما ذكرنا يلزم إذا ورد بعد المطلق مقيّد منفصل إمّا موافق أو
مخالف بطلان المقدّمات ، فلا يمكن رفع ما سوى هذا القيد من القيود المحتمل دخلها
بالإطلاق.
وبيان هذا أمّا
على طريقة المشهور أنّ من جملة المقدّمات عندهم كون المتكلّم في مقام البيان ،
وعند ظهور القيد بعد انقضاء مجلس المطلق يعلم أنّه ما كان بصدد البيان ، وأنّ ما
تخيّله المخاطب من كونه بهذا الصدد كان اشتباها ، وذلك أنّه إن كان في هذا المقام
لذكر القيد ولم يؤخّر ذكره ، فإذا أخّر يعلم أنّه لم يكن هناك غرضه متعلّقا إلّا
بذكر بعض المراد.
وأمّا على ما
ذكرنا فإنّه بعد ما علم بورود القيد المنفصل يعلم بأحد الأمرين إمّا
من كون إرادته
المتعلّقة بالمطلق تبعيّة ، وإمّا من أخذ المطلق معرّفا ومرآة للمقيّد ، وبالجملة
يعلم بأنّه لم يكن في البين إرادة أصليّة متعلّقة بنفس مدلول المطلق ، وقد كان هذا
مبنى الحمل على الإطلاق والسريان.
أمّا الدفع ، فعلى
طريقتهم الكلام هنا هو الكلام في العام بعد ورود خاص منفصل ، وبيانه أنّه يمكن
بحسب الإرادة الاستعماليّة وفي مقام الإثبات مع قطع النظر عن اللبّ أن يكون
المتكلّم بصدد بيان ما هو موضوع وما هو محمول لهذه الإرادة الإنشائيّة التي ينشئها
بكلامه بتمام قيوده وروابطه ، ويمكن بحسب هذه الإرادة وهذا المقام أن يكون بصدد
بيان بعض ما هو موضوع ومحمول لهذه القضيّة التي ينشئها ، فتكون القضيّة التي ركبها
في إرادته الاستعماليّة غير تامّ الموضوع أو المحمول ، وأوكل بيان البعض الآخر إلى
مقام آخر.
ففي كلّ مقام ظهر
من حال المتكلّم أنّه في المقام الأوّل أعني بصدد إتمام الموضوع والمحمول للقضيّة
بحسب المراد الاستعمالي حكمنا بحسب الأصل المقرّر في كلام كلّ متكلّم من تطابق
إرادته من الاستعماليّة والجديّة بأنّ موضوع القضيّة ومحمولها بحسب مراده اللبّي
أيضا هو الذي كان موضوعا ومحمولا بحسب مراده الاستعمالي ، وفي كلّ مقام احرز أنّه
في مقام الإجمال بحسب إرادته الاستعماليّة ، فلا تكون القضيّة بحسب مراده
الاستعمالي تامّة حتى يحكم بالتطابق بينه وبين الجدّي.
وبعبارة اخرى
المراد الاستعمالي المستكشف باللفظ بعد تماميته بموضوعه ومحموله وقيود كلّ منهما ـ
ويعلم هذه التماميّة بالعلم أو بالأصل المقتضيين لكون المتكلّم في مقام البيان ـ يكون
كاشفا عن المراد اللبّي وظاهرا فيه ، يعني من الأصل المقرّر عند العقلاء حمل كلام
المتكلّم على كونه صادرا عن تعلّق الغرض بمداليل ألفاظه ، لا بغرض آخر كالامتحان
ونحوه من المصالح ، وبعبارة كان صادرا عن المصلحة في نفس متعلّق الإنشاء والحكم
والإرادة لا عن المصلحة الكائنة في نفس الإنشاء والحكم والإرادة.
ففي ما إذا كان
المحرز بالعلم أو الأصل كون المتكلّم بصدد إتمام القضيّة موضوعا و
محمولا وقيدا بحسب
مراده الاستعمالي ولم يذكر قيدا للمطلق ، يحرز بمقتضى الظهور وأصالة التطابق أنّ
موضوع الحكم بحسب غرضه اللبّي أيضا مطلق ، فإذا ورد القيد وقع التعارض بين ظهور
الدليلين ، فظهور دليل المطلق أنّ المراد اللبّي سار في جميع القيود والأحوال ،
وظهور دليل المقيّد أنّه خاص بالحالة الفلانيّة أو غير مجامع مع الحالة الفلانيّة
، وحيث إنّ الثاني نصّ يرفع اليد من الظهور الأوّل بالنسبة إلى هذا القيد لأجل
الظهور الثاني ، لأقوائيّته ، وأمّا بالنسبة إلى القيود الأخر فظهور المطلق باق
بحاله ويكون حجّة ؛ لعدم المعارض.
فظهر أنّ المراد
بكون المتكلّم في مقام البيان المعدود من جملة المقدّمات كونه كذلك بحسب المراد
الاستعمالي ، لا بحسب المراد اللبّي ؛ لإمكان انفكاك الاستعمالي عن اللبّي ، فيكون
ما جعله بحسب المراد الاستعمالي تمام الموضوع صوريّا فقط ، ويكون بحسب الواقع بعض
الموضوع ، فيكون إنشائه على نحو الإنشاء في الأحكام الصوريّة ناش عن المصلحة في
نفس الإنشاء لا في المنشأ.
نعم المراد
الاستعمالي ظاهر في كونه منطبقا على المراد اللبّي ، فإذا احرز أنّ المتكلّم بحسب
المراد الاستعمالي والقضيّة الإنشائيّة في مقام البيان حكم بأنّ موضوع قضيّة
الإنشائيّة الاستعماليّة هو مفاد المطلق ، فيحكم بأنّ الموضوع بحسب المراد اللبّي
أيضا هو مفاد المطلق ، هذا ظاهر دليل المطلق ويعارضه ظاهر دليل المقيّد ؛ فإنّ
ظاهره كون الموضوع اللبّي هو المقيّد بالقيد الفلاني ، فيسقط الظهور الأوّل عن
الحجيّة بالنسبة إلى هذا القيد ، وبالنسبة إلى القيود الأخر بكون بلا معارض.
وأمّا على ما
ذكرنا فهو أنّه بحسب مقام الاستعمال والإرادة الإنشائيّة ظاهر القضيّة اللفظيّة
كون الإرادة أصليّة ، وكون ما جعل موضوعا من مفاد المطلق موضوعا حقيقيا ، والآن
أعني بعد ظهور المقيّد أيضا يكون كذلك ، وقد ذكرنا أنّ مقتضى هذا الظاهر عقلا نفي
كلّ قيد والشيوع والسريان ، ثمّ إنّ دليل المقيّد أسقط هذا الظهور بالنسبة إلى نفي
القيد الخاص عن الحجيّة ، فيبقي بالنسبة إلى نفي القيود الأخر بلا معارض.
«فصل»
إذ ورد مطلق
ومقيّد فلا يخلو إمّا أن يكونا متخالفين في الإيجاب والسلب ، وإمّا أن يكونا
متوافقين فيهما ، فإن كانا من المتخالفين كما في أعتق رقبة ولا تعتق رقبة كافرة
فالنهي المتعلّق بالمقيّد محتمل لأن يكون للتحريم إمّا تكليفا ، وإمّا إرشادا إلى
الوضع من عدم الإجزاء، ولأن يكون تنزيهيّا مفيدا للكراهة.
فنقول : لا محيص
عن التقييد وحمل المطلق على المقيّد سواء كان النهي من القبيل الأوّل أم من القبيل
الثاني ، وذلك لأنّ الظاهر من قوله : لا تعتق رقبة كافرة مثلا هو أنّ المنهيّ عنه
هو العتق المقيّد بكون معتقه رقبة كافرة ، لا أن يكون مورد النهي والمرجوحيّة هو
إضافة الطبيعة إلى القيد مع محفوظيّة الرجحان بالنسبة إلى أصل الطبيعة ؛ فإنّ هذا
يحتاج في تأديته إلى تعبير آخر ، وإذن فإن كان مورد الأمر والرجحان هو المطلق للزم
اجتماع الراجحيّة والمرجوحيّة في محلّ واحد وهو أصل الطبيعة.
بيان ذلك أنّ
الطبيعة المقيّدة بقيد يكون عند التحليل منحلّة إلى جزءين ، أحدهما نفس الطبيعة ،
والآخر إضافتها إلى القيد وإن كان هذان الجزءان يوجدان في الخارج بوجود واحد.
فإن كانت
المرجوحيّة المتعلّقة بالطبيعة المقيّدة غير راجعة إلى إضافتها إلى الطبيعة ، بل
كانت راجعة إلى الطبيعة المضافة فتكون الطبيعة أيضا مرجوحة في ظرف هذه الإضافة ،
فهذه منافية لما فرضنا من تعلّق الرجحان بالطبيعة على وجه الإطلاق والسريان ؛ إذ
معناه اجتماع الرجحان والمرجوحيّة في أصل الطبيعة عند إضافتها إلى القيد.
وإن كانت
المرجوحيّة راجعة إلى إضافة الطبيعة إلى القيد من دون أن يحدث في أصل الطبيعة بسبب
ذلك حزازة أصلا ـ كما في الدر الثمين الموضوع في الظرف السفال ؛ فإنّ الحزازة لوضع
الدر في الظرف المذكور من دون أن ينقص من بهاء الدر
وحسنه شيء أصلا ـ فهذا
يجتمع مع رجحان أصل الطبيعة على وجه الإطلاق.
ولهذا قد قلنا في
ما تقدّم في العبادات المكروهة ـ مثل الصلاة في الحمام ـ بأنّ النهي التنزيهي
الكراهي تعلّقه بعنوان العبادة الملازمة للرجحان الذاتي لا يمكن إلّا بفرضه
متعلّقا بإضافة العبادة إلى القيد مثل إيقاع الصلاة في الحمام لا إلى نفس العبادة
؛ إذ يمتنع اجتماع الضدّين في محلّ واحد ، وهذا يستلزم أقليّة الثواب يعنى أنّ
الطبيعة إذا لم تكن مع هذه الاضافة المستلزمة للحزازة فثوابها أكثر منها إذا كانت
مع هذه الإضافة ، وهذا معنى قولهم : إنّ النّهي في العبادة بمعنى أقليّة الثواب ،
فليس المراد أنّ من معاني كلمة «لا» هو ذلك ، بل المراد أنّ النهي محمول على معنى
يستلزم الأقليّة ، وعلى هذا فيمكن العبادة المحرّمة أيضا بتعلّق الحرمة بالإضافة
لا بنفس العبادة ، لكنّه ملازم للفساد من حيث إنّ الوجود واحد ، والوجود الواحد لا
يمكن أن يصير مقرّبا ومبعّدا بخلاف العبادة المكروهة ؛ فإنّها أيضا وإن كانت في
الوجود واحد لكن لا بعد فيها من جهة الكراهة حتّى لا يجتمع مع القرب.
وكيف كان ففي ما
إذا احرز أنّ المقيّد الواقع تحت النهي مطلوب ومتعلّق للأمر من حيث نفس الطبيعة
الموجودة في ضمنه كما في العبادات المكروهة فاللازم هو صرف النهي إلى الإضافة بحكم
العقل وإن كان على خلاف الظاهر ، وأمّا مع عدم إحراز ذلك مع وجدان النهي متعلّقا
بحسب ظاهر القضيّة اللفظيّة بالمقيّد بما هو مقيّد الذي لازمه سراية النهي إلى نفس
الطبيعة الموجودة في ضمنه فاللازم حينئذ صرف الأمر المتعلّق بالمطلق إلى المقيّد
بضدّ هذا القيد بحكم العقل وإن كان ظاهر القضيّة هو الإطلاق.
وإن كان المطلق
والمقيّد متوافقين إثباتا ونفيا كما في أعتق رقبة واعتق رقبة مؤمنة فنقول أوّلا :
إنّه يمكن بحسب التصوّر هنا وجوه أربعة.
الأوّل : أن يكون
هنا تكليفان ، أحدهما بالمطلق والآخر بالمقيّد ، فإتيان المقيّد كاف عن التكليفين
وموجب للخروج عن العهدتين كما في الإتيان بالمجمع عند توجّه خطابين ، أحدهما
بإكرام العالم والآخر بإكرام الهاشمي ، والإتيان بغير هذا المقيّد خروج عن عهدة
التكليف بالمطلق دون التكليف بالمقيّد.
والثاني : أن يكون
هنا تكليف واحد بالمطلق ، والأمر بالمقيّد كان للاستحباب لا
للتكليف الوجوبي
فقيّد استحباب الخصوصيّة الفردية كما في الصلاة في المسجد.
والثالث : أن يكون
هنا أيضا تكليف واحد إيجابي لكن كان تخييريّا وكان أحد طرفي التخيير هو المطلق
والآخر هو المقيّد ، فيكون الأمر بالمقيّد أمرا بأفضل فردي الواجب التخييري.
والرابع : أن يكون
هنا أيضا تكليف واحد إيجابي تعييني متعلّق بالمقيّد لبّا وإن كان متعلّقا بالمطلق
في الصورة.
والسالم عن محذور
الوقوع في مخالفة الظاهر من هذه الأربعة أوّلها ، فإنّ الثاني مستلزم لطرح ظهور
الأمر المتعلّق بالمقيّد في الوجوب ، والثالث لطرح ظهور هذا الأمر في التعيينيّة ،
والرابع مخالف لظاهر الأمر المتعلّق بالمطلق ؛ فإنّه بعد إحراز المقدّمات ظاهر في
كون المطلوب هو المطلق دون المقيّد ، فالتقييد يوجب رفع اليد عن هذا الظهور.
ثمّ نقول : لو ورد
أمر بالمطلق وأمر بالمقيّد ، ولم يعلم من الخارج كون التكليف واحدا ولا ذكر في
اللفظ ما هو سبب للتكليف حتى يستفاد من وحدته وحدة التكليف ومن تعدّده تعدّده ،
فحينئذ لا إشكال في تعيّن الوجه الأوّل من حمل كلّ منهما على تكليف مستقل ، وأصالة
البراءة عن التكليف الزائد غير مفيدة بعد وجود الدليل وهو ظهور كلّ من الأمرين في
كونه تكليفا مستقلا غير مرتبط بالآخر ، ولا وجه لاختيار سائر الوجوه بعد ما عرفت
من استلزامها لمخالفة الظاهر وسلامة هذا الوجه عنها.
وأمّا لو علم من
الخارج بوحدة التكليف وأنّه إمّا متوجّه إلى المطلق وإمّا إلى المقيّد فحينئذ يدور
الأمر بين الوجوه الثلاثة المتأخّرة ولا ترجيح لأحدها ، لاشتراك الجميع في كونه
ارتكابا لخلاف الظاهر ، ولا سبيل إلى تعيين الأقوائيّة في أحدها حتّى يتعيّن
اختياره وارتكاب المخالفة في غيره.
وأمّا لو علم وحدة
التكليف من ذكر السبب الواحد قبل كلّ من الأمرين كما لو قيل : إن ظاهرت فأعتق رقبة
، وإن ظاهرت فاعتق رقبة مؤمنة فإنّه يعلم أنّ الظهار
الذي هو سبب واحد
لا يمكن تأثيره في مسبّبين بناء على ما قرّر في المعقول من امتناع صدور الاثنين عن
علّة واحدة ؛ فإنّ العلّة لا بدّ من وجود السنخيّة بينها وبين المعلول ، وإلّا
لأثّر كلّ شيء في كلّ شيء ، ومن المعلوم عدم إمكان تحقّق السنخيّة بين الواحد وبين
الاثنين بما هما اثنان متباينان ، فيلزم أن يكون المعلول هو الجامع بينهما وهو
خلاف الظاهر من القضيّتين ؛ حيث إنّ الظاهر من كلّ منهما كون المسبّب للظهار هو
خصوص المطلق أو خصوص المقيّد بخصوصهما لا بجامعهما.
وحينئذ فنقول : لا
إشكال في أنّ الظاهر من قوله : إن ظاهرت فأعتق رقبة مؤمنة هو كون الظهار سببا لعتق
الرقبة المؤمنة بما هو مقيّد بهذا القيد ؛ فإنّ من الواضح أنّه لو كان لمطلوبيّة
خصوصيّة هذا القيد سبب آخر وراء الظهار وكان الظهار سببا لمطلوبيّة نفس العتق مع
قطع النظر عن خصوصيّته لكان هذا التعبير خطأ ؛ فإنّ الظهار وإن كان سببا لأصل وجوب
العتق لكنّ المفروض أنّ الخصوصيّة مطلوبة بسبب آخر ، فلا وجه لتعليق وجوب أصل
العتق مع مطلوبيّة الخصوصيّة جميعا على الظهار ؛ فإنّه بالنسبة إلى الثاني تعليق
للشيء على ما هو أجنبيّ عن سببه وعلّته ، ولا إشكال في عدم صحّته.
فهذا نظير ما لو
قيل : إذا دخل الوقت فصّل في المسجد ، والصحيح أن يقال : إذا دخل الوقت فصّل ؛ إذ
لا ربط لدخول الوقت إلّا بوجوب أصل الصلاة ، فلا يصح أن يعلّق عليه إلّا وجوب أصل
الصلاة ، وأمّا رجحان إتيان الصلاة في المسجد فهو جاء من قبل سبب آخر غير دخول
الوقت ، فحال الدخول بالنسبة إليه حال سائر الأشياء الأجنبيّة عن هذا المعلول ،
فتعليقه على الدخول كتعليقه على أحدها.
وحاصل الكلام في
المتوافقين أنّه إمّا أن يعلم بوحدة التكليف أو يعلم بوحدة السبب أو لا يعلم بشيء منهما
، ففي صورة عدم العلم يدور الأمر في الحقيقة بين رفع اليد عن ظاهر الخطابين من كون
كلّ منهما تكليفا مستقلا والأخذ به ، ولا ريب في تعيّن الثاني ، ولهذا جعلوا من
مقدّمات حمل المطلق على المقيّد العلم بوحدة التكليف ، وأمّا لو علم بوحدة التكليف
من الخارج لا من جهة وحدة السبب فلا إشكال في رفع
اليد عن الظهور
المذكور ، يعني لا يمكن الأخذ بمجموع الظهورين ، فيدور الأمر حينئذ بين التصرّف في
المطلق ورفع اليد عن ظهوره في الإطلاق بحمله على المقيّد وبين التصرّف في المقيّد
بأحد نحوين : إمّا بجعل الأمر المتعلّق به إرشادا إلى الخصوصيّة المشتملة على
الفضل ، فيكون الأمر في قوله : أعتق رقبة مؤمنة مثل الأمر فيما إذا كان أصل وجوب
الصلاة مثلا مفروغا عنه عند المتخاطبين ، ومع ذلك أمر بالصلاة في المسجد للإرشاد
إلى أنّ الصلاة المفروغ عن وجوبها يكون من الفضل ، وإلّا لمستحب إتيانها في المسجد
، وإمّا بجعل الأمر المتعلّق بالمقيّد مثل الأمر فيما إذا علّق الأمر الساري من
مطلق الصلاة إلى أفرادها على الصلاة في المسجد وكان تخصيص هذا الفرد من بين أفراد
الصلاة بالذكر للإرشاد إلى ما فيه من الفضل ، والأوّل تصرّف في هيئته الأمر بحملها
على الاستحباب ، والثاني تصرّف في ظهور القيد في كونه دخيلا في موضوع الوجوب.
وبعبارة اخرى :
الأمر بالطبيعة المقيّدة يمكن على أنحاء ثلاثة ، الأوّل : أن يكون إيجابا للمقيّد
بما هو مقيّد ، والثاني : أن يكون للإشارة إلى فضيلة خصوصيّة إضافة الطبيعة إلى
القيد مع الفراغ عن وجوب أصل الطبيعة ، فيكون الكلام في قوّة أن يقال : يستحب
إتيان هذه الطبيعة الواجبة بهذه الخصوصيّة ، والثالث : أن يكون أمرا إيجابيّا لكن
لم يتعلّق بهذا المقيّد بنفسه بل من باب كونه من مصاديق الطبيعة الواجبة ؛ فإنّه
يصحّ نسبة الوجوب المتعلّق بأصل الطبيعة إلى جميع أفرادها على نحو التخيير العقلي
، ومن جملة الأفراد المقيّد بالقيد الخاص ، فيصحّ الأمر الإيجابي به بلحاظ الطبيعة
الموجودة في ضمنه ويكون اختيار هذا المقيّد من بين الأفراد الواجبة بوجوب الطبيعة
تخييرا للإشارة إلى الفضيلة الكائنة فيه. ولا فرق في هذا الوجه بين أن يكون ذهن
المخاطب مسبوقا بأصل وجوب الطبيعة أو لم يكن.
وبالجملة ، فعلى
هذا لا شبهة في كون الهيئة مستعملة في الوجوب ولكنّ القيد لم يؤت به لأجل دخله في
موضوع الوجوب وقوامه به ، بل للإرشاد إلى الفضيلة الكائنة فيه ، فيكون من هذه
الجهة خلاف الظاهر ، وأمّا الثاني فهو خلاف الظاهر من
جهة كون الهيئة
على تقديره مستعملة في الاستحباب ، وأمّا الوجه الأوّل فهو السليم عن مخالفة
الظاهر.
وحينئذ فنقول بعد
عدم إمكان حفظ ظهور المطلق والمقيّد معا ـ كما هو المفروض ـ لا بدّ إمّا من
التصرّف في المطلق وإمّا في المقيّد بأحد النحوين ، إمّا بالتصرّف في الهيئة
بحملها على الاستحباب كما هو الوجه الثاني ، وإمّا بالتصرّف في القيد بحمله على
أنّه اتى به بغرض الإرشاد إلى الفضيلة كما هو الوجه الثالث ، وحيث لا معيّن لأحد
هذه الثلاثة فلا بدّ من التوقّف.
وأمّا لو علم
بوحدة السبب ، كما لو صرّح بأنّ الظهار سبب لوجوب عتق الرقبة ويقول منفصلا عن ذلك
: الظهار سبب لوجوب عتق الرقبة المؤمنة ، فيتعيّن حينئذ التقييد ، أمّا رفع اليد
عن الظاهر الأوّلي من ثبوت التكليفين فبوحدة السبب ، فيعلم من وحدتها وحدة التكليف
المسبّب ، أمّا تعيين التقييد من بين الوجوه الثلاثة المردّد بينها بعد رفع اليد
عن الظاهر الأوّلي فلأنّه على التقديرين الآخرين يلزم نسبة العلّة الثابتة لأصل
وجوب الطبيعة إلى المقيّد وهي غير صحيحة ؛ إذ ليست العليّة كالعوارض الطارئة على
الطبيعة ، فإنّه يصح نسبة وجوب الإكرام المتعلّق بطبيعة الرجل إلى الرجل الأسود
ولكن لا يصحّ إثبات عليّة ما يكون علّة لأصل الطبيعة للمجموع منها ومن القيد ؛
وذلك لأنّ استناد الطبيعة في مقام الإيجاد يكون إلى هذه العلّة وأمّا الخصوصيّة
فليس اختيارها بعليّة هذه العلّة بديهة ، بل يكون بعليّة أمر آخر ، ولكن يصحّ نسبة
ما يكون علّة لمجموع الطبيعة والتقيّد من حيث المجموع إلى كلّ منهما.
وإذن فيتعيّن حمل
المطلق على المقيّد والجمع بأنّ نسبة العليّة في المطلق من باب نسبة علّة الكلّ
إلى الجزء ، ونسبتها في المقيّد من باب نسبة علّة الشيء إلى نفسه ، هذا.
وقد عرفت ممّا
ذكرنا أنّه لا بدّ في حمل المطلق على المقيّد من إحراز مقدّمتين ، الاولى وحدة
التكليف والاخرى وحدة السبب ، وإن شئت قلت : يحتاج إلى مقدّمة واحدة وهي إحراز
وحدة السبب ، وهذا على خلاف مذاق المشهور من اعتبار
وحدة التكليف ولو
لم يكن وحدة السبب محرزة ؛ ولهذا لم يفرقوا في الحمل على التقييد بين الصورتين ،
فحملوا المطلق على المقيّد في الصورة الاولى أيضا التي ذكرنا أنّ الأمر دائر فيها
بين مخالفة أحد الظهورات الثلاثة.
وربّما يتمسّك على
المشهور بما ذكره الشيخ المرتضى قدسسره في باب التعارض والتراجيح من أنّه إذا دار الأمر بين
التقييد ومخالفة ظاهر آخر فالتقييد أولى ؛ لموهونيّة ظهور المطلق في الإطلاق حينئذ
، فيكون أولى برفع اليد ؛ وذلك لأنّ ظهور المطلق متقوّم بعدم البيان ، فبورود ما يصلح
للبيانيّة يصير ظهوره موهونا ، لكن قد عرفت فيما تقدّم دفع هذا بأنّه وإن كان قوام
ظهور المطلق في الإطلاق بعدم البيان ، لكن بعدم البيان المتّصل لا بعدمه مطلقا ولو
منفصلا حتى لا يستقرّ الظهور للمطلق أبدا.
نعم يمكن توجيه
التقييد في الصورة المذكورة بوجه نفينا عنه البعد في باب الألفاظ ، ولكنّه مستتبع
لثمرة لا يقول بها المشهور وهو أن يقال : الكلمات الصادرة من كلّ متكلّم ما دامت
يكون في معرض إلحاق القيد والقرينة بها لا يستقرّ لها الظهور ، غاية الأمر أنّ
المعرضيّة يختلف بحسب اختلاف المتكلّمين وكذا المخاطبين ، فالمتكلّم إذا كان من
أهل العرف في التكلّم في الامور الجزئيّة الشخصيّة فمعرضيّة كلامه ما دام مشتغلا
بالكلام ، فإذا فرغ استقرّ له الظهور ويعدّ القيد بعد ذلك متنافيا معه ، فلو قال
أوّلا : أكرم جميع علماء أهل البلد فذكر في مجلس آخر : أهن زيد العالم يحمل ذلك
على حصول البداء ونحوه ، ولا يحمل على أنّه أراد في كلامه الأوّل ما سوى هذا الفرد
، وكلامه الثاني قرينة على ذلك.
وأمّا إذا كان
المتكلّم بانيا على عدم الاقتصار في بيان مقاصده على مجلس واحد ، لكون مقاصده
مطالب عظيمة وقوانين كليّة لا يمكن تفهيمها إلّا بترتيب مجالس عديدة ولا يسع لها
مجلس واحد ، فزمان المعرضيّة بالنسبة إلى كلام هذا المتكلّم في مقام اليقين يصير
أوسع ولا يكتفي بمجرّد انقضاء المجلس وانقطاع الكلام ، بل يختلف الحال في ذلك بين
المخاطبين.
فالمخاطب المشافه
ما لم يصل زمان العمل لا يأخذ بظهور ما سمعه وإن طال المدّة ولم يظهر القرينة ؛
لاحتمال وجود القرينة وإرادة المتكلّم إبلاغها إليه إمّا بالمشافهة وإمّا بإرسال
شخص إليه يبلغه ذلك القرينة ، نعم لو حضر وقت العمل ولم يسمع القرينة لا من المولى
ولا من الرسول كان حينئذ حال ما أخذه من المتكلّم في رأس مدّة طويلة حال الكلام في
غيره بعد الانقطاع وفصل زمان قليل ، فكما يعامل مع الثاني معاملة العموم أو
الإطلاق على إحدى الطريقتين المتقدمتين من مقدّمات الحكمة أو المقدّمات التي
ذكرناها ، فكذا يعامل ذلك مع الثاني بعد مضيّ تلك المدّة الطويلة وعدم وصول
المخصّص أو المقيّد إليه.
وأمّا المخاطب غير
المشافه الذي طريقه في استعلام التكاليف الرجوع إلى المكتوبات كما في أحكام الشارع
بالنسبة إلينا فلا بدّ من أن يفحص ، ولا يكتفي بمجرّد رؤية المطلق أو العام في
صفحة ، بل يجعل ما في الصفحة الاخرى قرينة عليه ، بل ما يكون في باب قرينة في حقّه
على ما يكون في باب آخر ، بل ما يكون في كتاب على ما في كتاب آخر ، فبعد الفحص في
جميع ما وصل إليه من الكتب وعدم وصوله إلى المخصّص أو المقيّد يكون حال الكلام
حينئذ حال الكلام من المتكلّم في الامور الجزئيّة بعد انقطاع كلامه.
وإذن فربّما يكون
زمان المعرضيّة للحوق القيد بالنسبة إلى المخاطب المراجع إلى الكتب والآثار أوسع
من زمان المعرضيّة بالنسبة إلى المخاطب المشافه ، ولازم هذا أنّه لو رأى المخاطب
الأوّل بعد رؤية المطلق مقيّدا بعد الفحص التام والتتبع في الكتب ـ مثلا رأى في
موضع : أعتق رقبة واطّلع بعد الفحص والتتبع في موضع آخر على قوله : أعتق رقبة
مؤمنة وعلم باتّحاد التكليف ـ فلا بدّ من أن يعامل مع هاتين القضيتين من هذا
المتكلّم معاملته معهما لو سمعهما من المتكلّم في الجزئيّات في مجلس واحد قبل مضيّ
لحوق القيد بالمطلق ، فكما أنّه يجعل المقيّد قرينة على المطلق في الثاني بلا كلام
فكذا لا بدّ أن يعامل ذلك في الأوّل ؛ إذ المطلق في القابليّة للحوق القيد
والمعرضية له وعدم استقرار الظهور على السواء في المقامين ، هذا.
ولكن لازم هذا
الذي ذكرنا من عدم الفرق بين القرائن المتّصلة والمنفصلة في كلام الشارع هو سراية
الإجمال من المقيّد المنفصل المجمل إلى المطلق ، كما لو كان المقيّد المتّصل مجملا
بلا فرق ، والمشهور غير ملتزمين بذلك بل يفرقون بين المتّصل والمنفصل فيجعلون
إجمال الأوّل ساريا دون الثاني ؛ لأنّهما حجّتان مستقلّتان فلا يوجب إجمال إحداهما
إلّا طرحها خاصّة في مورد الإجمال ولزوم الأخذ بالاخرى فيه.
«فصل»
قد عرفت أنّ حمل
المطلق على الإطلاق على ما اختاره المشهور يتوقّف على إحراز مقدّمات الحكمة التي
من جملتها كون المتكلّم بصدد البيان ، وعلى ما اخترناه يتوقّف على إحراز أنّ
الإرادة أصليّة ، وأنّ الطبيعة موضوع بنفسها لا معرّف للموضوع ، ولازم ذلك عقلا هو
الإطلاق ، فنقول : على كلا المبنيين مقتضى المقدّمات في موضوع الإرادة هو الشياع
والسريان إمّا على نحو العموم الاستيعابي وإمّا على نحو العموم البدلي حسب اختلاف
المقامات كما سنشير إليه إليه إن شاء الله تعالى.
وأمّا في نفس
الإرادة فمقتضاها هو الحمل على خصوص الوجوب النفسي التعييني العيني وإن قلنا بأنّ
الهيئة موضوعة لمطلق الطلب الجامع بين الندب والوجوب بأقسامه.
وبيان ذلك أمّا
على طريقة المشهور فهو أنّ وجه الحمل على الشياع في الموضوعات هو أنّ إرادة عدم
الشياع يحتاج إلى مئونة زائدة ، ففي «أعتق رقبة» يحصل الشياع بمجرّد ملاحظة مدلول
هذا الكلام ، وامّا عدم الشياع فيحتاج إلى ملاحظة زائدة وقيد زائد ، مثل ملاحظة
أعتق رقبة مؤمنة ، فعند الإطلاق لا بدّ من حمل المطلق على ما كان أقلّ مئونة.
وربّما يشكل كون
الوجوب أقلّ مئونة بأنّه إذا قلنا بأنّ الهيئة موضوعة لمطلق الطلب وهو الجامع بين
الوجوب والندب فكلّ من الوجوب والندب مشتمل على
مئونة زائدة ،
كذلك كلّ من أقسام الوجوب يحتاج إلى مئونة زائدة ، فليس بعضها أقلّ مئونة عن الآخر
، بل الأقلّ مئونة من الجميع هو الجامع أعني مطلق الطلب ، فلا بدّ عند الإطلاق من
حمل الهيئة على الجامع المشترك بين الندب والوجوب بتمام أقسامه.
فتعيينه حينئذ في
خصوص الوجوب دون الندب ، وفي خصوص التعييني دون التخييري ، وفي خصوص العيني دون
الكفائي ، وفي خصوص النفسي دون الغيري مضافا إلى عدم كونه حملا لها على ما هو أقلّ
مئونة يكون ترجيحا بلا مرجّح ؛ فإنّ الندب مساو مع الوجوب في المئونة ، فالحمل على
خصوص أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، وكذا الكلام في التعييني مع التخييري والعيني مع
الكفائي والنفسي مع الغيري.
قلت : الحقّ أنّ
الوجوب أقلّ مئونة من الندب وبيانه أنّ الإرادة متى تعلّق مخالبها بالمراد فليس
فيها تطرّق العدم وليس فيها عدم الفعل ، بل هي صرف الاقتضاء للوجود والفعل مثل
الإرادة الفاعليّة ، فهل يمكن تخلّفها عن المراد؟ وهل يتطرّق فيها العدم ، بل متى
تحقّقت الإرادة من الفاعل صدر منه الفعل عقيبها ، وليس ذلك إلّا لأنّ الإرادة
معناها اقتضاء الفعل وليس فيها تطرّق العدم ، فالإرادة الآمرية التشريعيّة أيضا
حالها حال الإرادة الفاعل.
والفرق بينهما أنّ
العبد في الإرادة الآمريّة صار بمنزلة العضلات للمولى ، فالمولى من حيث ما يكون من
قبله من تشريع الإرادة يقتضي بإرادته من العضلات التنزيليّة إيجاد الفعل من دون
تطرّق العدم كالفاعل حيث يقتضي بإرادته إيجاد الفعل بواسطة العضلات ، وإذن
فالمشرّع متى أبقى الإرادة التي شرّعها بحالها كانت إيجابا قهرا.
وأمّا الندب فهو
محتاج إلى أنّ يشرّع مشرّع الإرادة بعد تشريعها الترخيص والإذن في الترك ؛ فإنّ
الإرادة قد حدثت بنفس تشريعه ، فإذا ضمّ نفس المشرّع الإذن في الترك إليها صارت
ندبا ، فعلم أنّ الندب مئونته أكثر من مئونة الوجوب ، ولهذا يحمل إطلاق اللفظ
الموضوع للطلب وهو الهيئة على الوجوب.
وأمّا لو علم
بوجود نفس الطلب بدليل لبّي وشكّ في كونه من أيّ القسمين فأصالة البراءة مقتضية
للحمل على الندب ، وسرّ ذلك أنّه فيما إذا كان في البين دليل لفظي فالمقدّمات
مقتضية لحمل اللفظ على ما هو أخفّ مئونة بالنسبة إلى ملاحظة المتكلّم ، وقد ذكر
أنّه الوجوب ، وأمّا مع عدم الدليل اللفظي وكون الدليل لبّيا فلا مجرى للمقدّمات
المذكورة حتى يعيّن الأخفّ مئونة للمتكلم ؛ لعدم وجود اللفظ ، وجريانها فرع وجوده
، وأصل البراءة وقبح العقاب بلا بيان إنّما يقتضيان الحمل على ما يكون أخفّ مئونة
بالنسبة إلى المخاطب ، ولا إشكال أنّ مئونة الندب بالنسبة إليه أخفّ من الوجوب ،
هذا.
وأمّا الفرق بين
الوجوب والندب بالشدّة والضعف فليس في محلّه ؛ فإنّ العزم على الفعل إن كان موجودا
في النفس فهو الإرادة ، وإن لم يكن فلا إرادة ، فهو أمر بسيط لا يعقل فيه الشدّة
والضعف ، نعم هما يعقلان في مبادي الإرادة من الحبّ والبغض والمصلحة والمفسدة ،
فقد يكون الحبّ شديدا والمصلحة شديدة ، وقد يكونان ضعيفين ، ومن المعلوم أنّ
الإرادة غير هذه الأشياء.
وأمّا أخفيّة
الوجوب النفسي عن الغيري مئونة فلأنّ المقدّمي محتاج إلى ملاحظة الغير ، ولا يحتاج
النفسي إلّا إلى ملاحظة نفسه ، مثلا لو كان نصب السلّم مطلوبا بنفسه لما احتاج
المريد إلى ملاحظة أمر سوى نفسه ، وأمّا لو كان مطلوبا مقدّمة للكون على السطح
فيحتاج إلى إيجابه بملاحظة الكون على السطح.
وأمّا أخفيّة
التعييني عن التخييري فلأنّه لا يحتاج إلّا إلى إنشاء الإرادة في موضوع ، وأمّا
التخييري فيحتاج إلى ذلك وإلى ضمّ العدل ، فأكرم زيدا يكون تعيينيّا بدون الحاجة
إلى ضمّ «أو كذا» وتخييريّته محتاجة إلى ضمّه ، فيصير أكرم زيدا أو عمرا.
وأمّا العيني فوجه
أخفيّته عن الكفائي أنّه محتاج إلى توجيه الإرادة نحو جميع المكلّفين ، غاية الأمر
فعل البعض مسقط عن الباقين وليس متوجّها إلى الجامع ، بل إلى جميع الأشخاص ، وأمّا
العيني فيكون متوجّها إلى شخص واحد.
والحاصل أنّ
الإطلاق بأحد النحوين يقتضي في متعلّق الإرادة الحمل على الجامع بين الأفراد
والشياع ، وفي نفس الإرادة يقتضي الحمل على النوع الخاص أعني الوجوب النفسي
التعييني العيني حتّى عند من يقول بكون لفظها حقيقة في الجامع ، ووجهه أنّ
المقدّمات يقتضي الحمل على الأقلّ مئونة بالنسبة إلى المتكلّم وإن كان أشدّ على
المخاطب ، وهو في المتعلّق هو الجامع وفي الإرادة هو الوجوب ؛ فإنّ الإرادة معناها
العزم على الفعل ، والعزم لا ينفكّ عن نفس الفعل ، يعني لا مانع من تأثيره في
الفعل وتحريك العضلات نحوه من قبل نفس العازم ، فلو لم يمنعه مانع فالعزم محرّكه
نحو الفعل وليس لهذا العزم مراتب ، نعم يكون لمباديه مراتب.
فإذن العزم ينبعث
عن الحبّ والإدراك الملائم كما قال في المنظومة :
عقيب داع دركنا
الملائما
|
|
شوقا مؤكّدا
إرادة سما
|
فمراتب الحب ودرك
الملائم وإن كانت مختلفة لكن العزم نحو واحد ، فالعزم في الفاعل محرّك لعضلات نفسه
، وفي الآمر لعضلات عبده ، فكما أنّه في الفاعل لا ينفكّ عن الفعل ففي الآمر أيضا
متى كان هذا العزم ولم يكن معه شيء كان بهذا النحو ، يعني بحسب تشريع المولى ليس
للمراد لا وقوع ، نعم إن ضمّ جنب العزم التشريعي الإذن التشريعي في الترك كان
ندبا.
فظهر أنّ الوجوب
مقيّد بقيد عدمي ولا يحتاج في التحقّق إلى ملاحظة والتفات مستقلّ نظير الخطّ
البالغ ذرعا ، فإنّه يتحقّق الخط الذرعي ولو لم يلتفت الموجد انتهاء الخط إلى هذا
الحد ولم يكن بقصده.
فلا يشكل بأنّ
الهيئة على تقدير كونها موضوعة للقدر المشترك فالاستعمال فيه غير ملازم للوجوب ؛
فإنّ ذلك لو كان للوجوب قيد وجودي ، وأمّا إذا كان عبارة عن نفس هذا القدر المشترك
إذا لم ينضمّ إليه قيد بل كان مطلقا وبلا قيد ولو من دون التفات للمريد نحو كونه
بلا قيد فهو يتحقّق بالاستعمال في القدر المشترك مع عدم ضمّ شيء إليه قهرا ، فعلم
أنّ الإطلاق يجعل الإرادة خاصّة ويجعل متعلّقها عامّا.
وكذا مئونة النفسي
ليس إلّا توجيه الإرادة نحو نصب السلّم مثلا ، وأمّا الغيري فيحتاج إلى ملاحظته
مرتبطا مع واجب آخر كالكون على السطح ، وكذا التعييني لا يحتاج إلّا إلى توجيه
الإرادة نحو إكرام العلماء مثلا ، وأمّا التخيير فيحتاج إلى ملاحظة العدل أيضا،
وكذا الكفائي يحتاج إلى مئونتين ، ملاحظة جميع الأشخاص بعنوان إجمالي وتعليق
التكليف على الجميع ثمّ ملاحظة أنّ إتيان الواحد مسقط التكليف عن الباقين أيضا ،
والعيني غير محتاج إليهما بل هو صرف تعليق الطلب وتوجيهه نحو المكلّف من دون
احتياج إلى ملاحظة اخرى ، هذا.
ويمكن أن يقال :
لا حاجة لنا في حمل الصيغة على الوجوب النفسي التعييني العيني إلى إحراز المقدّمات
بحيث لو لم نحرزها ما كان لنا محيص عن التوقّف ، وذلك بأن يدّعى أن الصيغة وإن كانت
موضوعة للقدر المشترك بين هذه الأقسام بمعنى أنّ استعمالها في كلّ غير مستلزم
للتجوّز مع أنّه استعمال في معنى واحد بحكم الوجدان ، إلّا أنّ المتبادر منها عند
الإطلاق يعني عدم وجود القرينة على خصوص الندب هو الإيجاب ، وعند عدم القرينة على
خصوص التخييري هو التعييني ، وعند عدم القرينة على الكفائي هو العيني أو على
الغيري هو النفسي ، وبالجملة ، الظهور لنفس اللفظ ثابت في هذا النوع الخاصّ ولا
يكون انعقاد ظهوره فيه معلّقا على إحراز المقدّمات ، وهذا نظير ما ادّعيناه في
كلمة «كلّ» حيث ربّما توهّم أنّ دلالته على الاستغراق منوطة بإحراز المقدّمات في
مدخولها ؛ فإنّ كلّ رجل مثلا لو اريد بالرجل المطلق كان لفظ «كل» مستعملا في معناه
، وإن كان المقيّد كان أيضا مستعملا في معناه ، وإذن فلا بدّ أوّلا من إحراز
المقدّمات في مدخول هذه اللفظة وإثبات كون المراد به مطلقا ثمّ الحكم بإفادة هذه
اللفظة الاستغراق ، وأمّا مع عدم إحرازها فيه فيصير هذه اللفظة أيضا مجملة ولا
يدلّ على الاستغراق لاحتمال كون المراد من مدخوله المقيّد.
فدفعنا ذلك بأنّا
إذا راجعنا الوجدان وجدنا عدم الحاجة في فهم الاستغراق من هذه الكلمة إلى
المقدّمات ، بل لا يتوقّف فهم ذلك منها إلّا على عدم ذكر القيد عقيب مدخوله، فإذا
لم يذكر فالظاهر منه الاستغراق مطلقا ، وإن كان لو اريد المقيّد أيضا
كان هذه الكلمة
مستعملة في معناها ولا يجوز فيها ، فكذا نقول في الهيئة أيضا أنّها وإن كان لا
يجوز فيها لو استعملت في كل من الأقسام لكنّها ينصرف عرفا إلى النوع الخاص الذي هو
الإيجاب النفسي التعييني العيني.
ويمكن التمسّك في
حمل الصيغة على ذلك بوجه آخر وهو الأصل العملي دون الظهور اللفظي كما على تقدير
الأخذ بالمقدّمات أو الانصراف ، والمراد بالأصل العملي ليس هو البراءة ؛ لوضوح أنّ
مقتضاها الندب ، وعلى فرض الوجوب هو التخييري ؛ فإنّ مرجع الشكّ إلى أنّه هل يعاقب
على ترك إكرام الزيد مطلقا ولو أكرم عمروا ، أو أنّه معاقب لو ترك إكرام جميعهما؟
ولا شكّ أنّ مقتضى البراءة هو الثاني ، وكذا مقتضاها الغيريّة والكفائيّة كما هو
واضح ، بل المراد أن يقال : إنّ الحجّة والبرهان على نفس الإرادة موجودة وهو نفس
الصيغة ، وعلى غيرها أعني الترخيص والإذن في الترك غير موجودة.
فالمكلّف لو عصى
فلا عذر له عند المولى لو عاتبه على الترك فيقول له : أما اطّلعت على إرادتى وأما
كانت الإرادة مقتضية للإيجاد ، فمع وجود المقتضي للإيجاد وعدم المقتضي للترك لم
تركت؟
وكذا لو وصل من
المولى طلب إكرام الزيد بقوله : أكرم زيدا وقلنا لا ظهور للصيغة في التعييني ؛
فإنّه لو لم يكرم الزيد وأكرم عمرا باحتمال أن يكون أمرا تخييريّا بينه وبين الزيد
فيقول له المولى : أنا اردت منك إكرام الزيد وأنت تجيبني بإكرام عمرو ، فلو كان
المراد في الواقع تعيينيّا فالعقاب ليس بلا حجّة وبيان وإن قلنا بظهور اللفظ في
الجامع ليس إلّا.
وكذا لو قال :
انصب السلّم وقلنا بأنّه ليس له انصراف إلى النفسي وكان المراد في الواقع نفسيّا ،
فصعد المكلّف على السطح من طريق الدرج ، فيكون للمولى حجّة على هذا العبد ويصحّ
عقابه ويقول له : كان لك الحجّة على نفس إرادة نصب السلّم ولم يكن لك حجّة على
المقدار الزائد أعني : كون هذه الإرادة مرتبطة بإرادة شيء آخر ، ومجرّد احتمال
ثبوته في الواقع لا يكون بحجّة ، وكذا الكلام في العيني.
والحاصل أنّ اللفظ
وإن كان موضوعا للقدر المشترك بين النوعين وظهوره
بالسويّة بالنسبة
إليهما ، لكنّه مع ذلك حجّة عقليّة على الأقلّ مئونة من النوعين ؛ فإنّ اللفظ حجّة
بحسب الظهور على أصل الإرادة التي هي الجامع بين النوعين وليس على زيادة النوع
الآخر حجّة ، ومجرّد الاحتمال لا يثمر ، وبذلك يصير حجّة عقليّة على النوع الذي لا
زيادة فيه ، فيجب بحكم العقل البناء في مقام العمل على طبق هذا النوع وإن كان
اللفظ بحسب الظهور اللفظي مجملا بينهما.
ومن هنا ظهر أنّ
الأخذ بالأقلّ عند الشكّ بين الأقلّ والأكثر الارتباطيين ونفي الزائد بأصالة
البراءة صحيح بتقريب أنّ التكليف بالأقلّ معلوم وبالزائد مشكوك ننفيه بالأصل ؛
فإنّ المراد بمعلوميّة التكليف بالنسبة إلى الأقلّ ليس إلّا معلوميّة الجامع بين
الغيري والنفسي ومع ذلك يلزم العقل بالإتيان ؛ إذ في عدم الإتيان خوف العقاب
لاحتمال نفسيّة التكليف واقعا.
وليس هذا من قبيل
الموارد التي يكون احتمال الضرر فيها موجودا ومع ذلك يكون حكم العقل هو البراءة ؛
إذ ذلك فيما إذا كان العقاب والمؤاخذة على الترك على تقدير ثبوت التكليف واقعا بلا
بيان ، لا بالنسبة إلى مثل المورد الذي يكون البيان موجودا ؛ فإنّ المفروض كون
وجود الأمر والطلب المقتضيين للإيجاد معلوما وإن لم يعلم جهته من كونه نفسيّا أو
مقدّميّا ؛ إذ هذا المقدار يكفي بالوجدان لكونه حجّة للمولى لو كان التكليف في
الواقع نفسيّا ، ولا يكون العقاب معه بلا بيان ، وإذن فاحتمال الضرر موجود
والمؤمّن وهو كون العقاب بلا بيان على تقدير الثبوت غير موجود ، فيجب دفعه
بالاحتياط بحكم العقل.
فلا يرد على القول
بالبراءة في الأقلّ والأكثر بأنّ التكليف المعلوم مردّد بين أن يكون مقدميّا وأن
يكون نفسيّا ، فالأوّل غير مفيد ؛ إذ لا يوجب مخالفته العقاب ، والثاني وإن كان
مفيدا لكنّه مشكوك بدوي ؛ فإنّ هذا تشكيك في قبال الوجدان وحكم العقل.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ حمل الهيئة على خصوص الوجوب النفسي التعييني العيني يكون بأحد الوجوه
الثلاثة.
وأمّا مفاد
المادّة بل مطلق متعلّق الحكم وإن كان الحكم وضعيّا ، بل وإن كان
واقعيّا غير مجعول
، فهو مختلف باختلاف المقامات ، فقد يكون محمولا على العموم البدلي وقد يكون على
الاستغراقي ، وليعلم أنّ ذلك فيما إذا كان في البين لفظ دالّ على العموم لا فيما
إذا لم يكن في البين كالنكرة ؛ فإنّها لا يحتمل العموم بل يكون صريحا في إرادة
الوحدة وإن لم يعلم أنّ المراد واحد معيّن أو غير معيّن فيدفع الأوّل بمقدّمات
الإطلاق.
وأمّا ما إذا كان
في البين ما يصلح للعموم فالتكلّم فيه في مقامين ، مقام الثبوت ومقام الإثبات ،
أمّا الأوّل فنقول : لا شكّ أنّ العرض الطاري على الطبيعة يسري إلى أفرادها ،
فالحبّ والمطلوبيّة وكذا سائر الأحكام إذا تعلّقت بنفس الطبيعة فلا محالة يسري إلى
جميع أفرادها ، لكن للطبيعة بحسب مقام التصوّر ملاحظتين بكلّ منهما يقع متعلّقة للأحكام
، وبإحدى الملاحظتين يصير ذات أفراد كثيرة بحيث كلّما وجد في الخارج من مصاديق هذا
النوع كان فردا لها ، وبالاخرى يصير على نحو لا يمكن انطباقها عقلا إلّا على فرد
واحد ، وتعيين كلّ من القسمين في مقام الإثبات لا بدّ أن يكون بقرينة عامّة أو
خاصّة ولا يكون بالمقدّمات للإطلاق ؛ فإنّ كلا منهما نحو من الملاحظة ، وتعيين
أحدهما بلا مرجّح.
الاولى : أن يلحظ حاكية عن نحو وجودها في الخارج ، فكما أنّ
الإنسان مثلا في الخارج موجود في ضمن الزيد والعمرو والبكر إلى آخر الأفراد فكذا
لوحظت الطبيعة بهذا الوصف أعني السريان والانتشار ، فإن كانت الطبيعة بهذا النحو
متعلّقة للحبّ والحكم لزم سراية الحبّ والحكم أيضا إلى كلّ ما يسري إليه الطبيعة
كما في حرارة النار ؛ فإنّها وصف للطبيعة لوضوح عدم دخل الخصوصيّات في تحقّقها ومع
ذلك يسري إلى كلّ فرد منها.
والثانية : أن
ينتزع جامع عن الوجودات الخارجيّة على اختلافها قلّة وكثرة يعبّر عنه بمطلق الوجود
في قبال العدم ويلاحظ الطبيعة مقيّدة بهذا النحو ، وبعبارة اخرى اخذت مقيّدة
بالوجود الناقض لعدم الأصلي ، يعني أنّ المقصود خروج
__________________
الطبيعة عن العدم
الأزلي وانهدام ركن عدمها الأصلي ، ومن المعلوم أنّ هذا المعنى لا ينطبق إلّا على
أوّل فرد وجد ، والفرد الثاني لا يعقل فرديّته لها ؛ إذ النقض للعدم الأصلي
للطبيعة قد حصل بالفرد الأوّل ولا يمكن ثانيا ، والفرد الثاني إخراج لهذا الفرد عن
عدمه لا إخراج لأصل الطبيعة عن عدمها.
والحاصل أنّ صرف
الوجود والوجود الناقض غير ممكن الانطباق على غير الفرد الأوّل، فلو تعلّق الحكم
والحبّ بالطبيعة بهذا النحو فلا جرم يخصّ الفرد الأوّل بهذا الحبّ والحكم دون ما
بعده. نعم لو أتى بأفراد كثيرة دفعة واحدة صار الجميع متعلّقا لحبّ واحد وحكم واحد.
أمّا مقام الإثبات
فمتعلّق الأمر عند عدم القرينة ظاهر في القسم الثاني ، ومن هنا قيل: يمتنع
الامتثال عقيب الامتثال ، فإذا قيل : أعطني الماء ، فالمراد مطلق وجود إعطاء الماء
لا وجود كلّ فرد منه ، فيلزم إعطاء جميع مياه العالم ، ومتعلّق النهي عند عدم
القرينة ظاهر في القسم الأوّل ، فالمنهيّ عنه جميع الأفراد لا أوّل الفرد ، فإذا
قيل : لا تشرب الخمر فلا يكون النهي متعلّقا بصرف إيجاد شرب الخمر بأن يكون لو
شربه عصى وارتفع الحكم بارتفاع الموضوع فلم يكن شربه بعد ذلك بمحرّم ، بل الأمر
على خلاف ذلك. فالشرب في كلّ هذه معصية على حده ، وليس ذلك إلّا لأجل سراية النهي
المتعلّق بالطبيعة إلى كلّ فرد ، فالحكم متعدّد والموضوع متعدّد ولكل إطاعة
ومعصيته على حدة.
وأمّا الأحكام
الغير التكليفيّة فمختلفة ، فمثل الطبيعة الفلانيّة سبب لكذا معناه السببيّة
المستقلّة لكلّ فرد ؛ ولهذا حكم شيخنا المرتضى قدسسره في موجبات النزح بتعدّد المقدّر بتعدّد وقوع نوع واحد بناء
على مذاقه من استفادة السببيّة التامّة من أداة الشرط ، ومثل أحلّ الله البيع ظاهر
في الاستغراق أيضا ؛ فإنّ العموم البدلي مناف لمقام الامتنان وإن كان من الممكن أن
يكون ما أحلّ في حقّ كلّ مكلّف بيعا من البيوع وكان اختيار تعيينه بيده ، لكنّ
المناسب لمقام الامتنان إحلال جميع أفراد البيع في حقّه ، إلى غير ذلك من الموارد
، فلا بدّ في كلّ مورد من ملاحظة مقتضى هذا المورد وأنّه أيّ من القسمين وليس له
ضابط.
«المقصد السادس في الأمارات المعتبرة شرعا»
ولا بدّ أوّلا من
البحث عن أحكام القطع لشدّة مناسبته بالمقام ، وعلى هذا فتقسيم المكلّف إلى حالات
تطرأ عليه وتكون مرتبطة بمطالب الاصولي على وجه لم يتداخل الأقسام يكون على نحو ما
ذكره شيخنا المرتضى في حاشية الرسائل.
فنقول في توضيحه :
اعلم أنّ المكلّف يعني من وضع عليه قلم التكليف ، ـ كما يقال : فلان صار مكلّفا ،
لا خصوص من تنجّز عليه التكليف فعلا حتّى يرد أنّ المقسم لا ينطبق على الأقسام ؛
فإنّ فيها من لا يكون له تكليف فعلي كما في مورد البراءة مثلا ـ إذ التفت إلى حكم
شرعي ، وهذا قيد احترازي ؛ فإنّ المكلّف بالمعنى الذي ذكرنا يشمل الغافل، ووجه
التقييد عدم جريان الحالات الثلاث من القطع وما بعده في الغافل ، مضافا إلى أنّ
الغافل لا يتعلّق بالبحث عن تكليفه في حال الغفلة غرض ؛ إذ لا يرجع فائدته لا إلى
نفس الغافل في حال غفلته ولا إلى غيره ، وأمّا هو بعد الالتفات فيصير داخلا في
موضوع الملتفت.
وبالجملة فهذا
المقسم لا يخلو من قسمين ؛ لأنّه إمّا يكون قاطعا بالحكم الواقعي أولا، فالأوّل هو
المقصود بالبحث في مبحث حجيّة القطع ، وعلى الثاني إمّا يكون عنده طريق معتبر
وأمارة معتبرة على الواقع أولا ، والأوّل هو المقصود في مبحث حجيّة الأمارات ،
وعلى الثاني ـ ولا محالة يكون شاكا في الحكم الواقعي ـ إمّا يكون لشكّه حالة سابقة
ملحوظة ، يعني اعتبرها الشارع وراعاها أولا ، أعمّ من أن لا يكون لشكّه حالة سابقة
أصلا أو كان ولم يعتبرها الشارع كما في الشكّ في
المقتضي بناء على
عدم جريان الاستصحاب فيه.
فالأوّل مجرى
الاستصحاب ، وعلى الثاني إمّا يكون عالما بحقيقة التكليف أعمّ من أن يكون عالما
بجنسه دون نوعه كما لو علم بوجوب هذا أو حرمة ذاك ، أو علم بأنّ هذا إمّا واجب
وإمّا حرام ، ومن أن يكون عالما بالجنس والنوع معا كما لو علم بأنّ الواجب إمّا هذا
وإمّا ذاك ، أو لا يكون عالما بحقيقة التكليف الذي هو الإلزام فضلا عن نوعه ،
فالثاني مجرى البراءة ، والأوّل إمّا يمكن فيه الاحتياط أولا ، فالأوّل مجرى
الاحتياط كما لو علم بوجوب شيء أو حرمة شيء آخر ، أو علم بوجوب الظهر أو الجمعة
مثلا وكان الوقت واسعا لهما ، والثاني مجرى التخيير كما لو علم بالوجوب أو الحرمة
في شيء واحد أو علم بوجوب الظهر أو الجمعة مثلا ولم يسع الوقت إلّا لأحدهما.
فإن قلت : إنّ
المقسم وهو المكلّف الملتفت أعمّ من المجتهد والمقلّد والحال أنّ بعض الأقسام
مختصّ بالمجتهد كما في الأمارات والاصول ؛ فإنّ الأمارات حجيّتها مختصّة بالمجتهد
لوضوح عدم قدرة المقلّد على الاستنباط ، وما سوى الاستصحاب من الاصول أيضا واضح
اختصاصها بالمجتهد ؛ لتوقّف إجرائها في مواردها على الفحص عن البيان والدليل وعدم
الظفر به ، وليس الفحص من شأن المقلّد.
وكذا الكلام في
الاستصحاب في الكليّات ؛ فإنّ إجرائه أيضا يتوقّف على اليأس عن الدليل بعد الفحص
عنه ، وأمّا في الجزئيّات وإن كان المجتهد والمقلّد فيها على السواء إلّا أنّ
المقصود بالبحث في هذا الفن هو القسم الأوّل ولا يبحث عن الاستصحاب في الجزئيّات
إلّا استطرادا.
لا يقال : كيف
يختصّ مثل ذلك بالمجتهد والحال أنّ نظره فيها حجّة على المقلّد ، ولو كان العمل
بمقتضاها من الشئون الخاصّة به لم يكن للمقلّد فيها حظّ وإن كان بتقليد المجتهد ،
كما هو الحال في سائر المختصّات به كالقضاء والإفتاء وحفظ مال الغائب ؛ فإنّها
وظيفة المجتهد وهو المخاطب بها خاصّة وليس للمقلّد تصدّي هذه الامور وإن كان
بالتقليد عن المجتهد.
لأنّا نقول :
الطرق والقواعد متعرّضة للحكم المعلّق على عنوان يشترك فيه المقلّد والمجتهد ،
مثلا لسان الأمارة تحقّق حكمها في حقّ جميع المكلّفين من العالم والجاهل وكذا
الاصول ، ففي الاستصحاب مثلا الحالة السابقة المعلومة شاملة للجميع من دون اختصاص
حكمها بأحد ، ومفاد الاستصحاب ليس إلّا إبقاء عين هذا الحكم الثابت في السابق في
حقّ الجميع في اللاحق ، والمخاطب بهذا الإبقاء وإن كان ليس إلّا طائفة واحدة ،
إلّا أنّ ما يستصحبه هذه الطائفة الواحدة حكم الجميع.
وبعبارة اخرى :
إذا استنبط المجتهد من الأدلة وجوب صلاة الجمعة مثلا فهو بحسب نظره يعتقد مشروعيّة
هذا الحكم في حقّه وحقّ جميع من عداه من المكلّفين حتى المجتهدين ، ويرى أنّ
التكليف الواقعي الأوّلي في حقّ الجميع وجوب الجمعة ، غاية الأمر أنّ نظره هذا ليس
متّبعا لغيره من المجتهدين ؛ لعدم كونه طريقا لهم إلى الواقع ، واللازم بالنسبة
إلى من يجب عليه اتّباع نظره من المقلّدين متابعته والعمل على طبق نظره ، فعلم
أنّه لا منافاة بين اختصاص الخطاب بالعمل على طبق الاصول والأمارات بالمجتهد ووجوب
متابعة المقلّد إيّاه لعموم مداليلها للمقلّد أيضا ، وهذا بخلاف مثل منصب القضاء
والإفتاء وحفظ مال الغائب؛ فإنّ دليلها غير متعرّض لحكم شخص آخر وراء المجتهد ، بل
مفاده جعل ذلك وظيفة لشخص المجتهد من دون شركة الغير له.
قلت : ليس مفاد
أدلّة حجيّة الأمارات والاصول إلّا العمل على طبق مداليلها ، فمفاد «صدّق العادل»
لزوم العمل على طبق مقول قوله ، وكذا «ابن على الحالة السابقة» مفاده البناء في
مقام العمل على السابق ، ومن الواضح أنّ العمل غير مختصّ ببعض دون بعض والكلّ قادر
عليه ، فالعمل على طبق قول الزرارة مثلا في قوله : قال الصادق : صلّ الجمعة كما هو
مطلوب من المجتهد كذلك يكون مطلوبا من المقلّد أيضا بلا فرق ، وكذا «لا تنقض
اليقين بالشكّ» كما أنّه خطاب إلى المجتهد يكون خطابا إلى المقلّد أيضا.
حتّى أنّ الرجوع
إلى الأعدل عند التعارض أيضا خطاب عامّ ؛ إذ مرجعه إلى
لزوم الأخذ بما
قاله الأعدل والعمل على طبقه ، إلّا أنّ تشخيص ما قاله العدل أو الأعدل عند
التعارض وكذا تعيين موارد البناء على الحالة السابقة صار بواسطة طول الزمان
متوقّفا على مقدّمة مفقودة في حقّ المقلّد وهي ملكة الاستنباط والاقتدار على فهم
معنى الآية والخبر؛ فلهذا لا بدّ من رجوع المقلّد إلى المجتهد لا بمعنى أنّ طريقه
إلى الواقع بلا واسطة هو قوله ، بل قول المجتهد طريق للمقلّد إلى ما هو طريقه إلى
الواقع من خبر العدل ونحوه ، فهو في الحقيقة عامل على طبق ما قاله العدل ، غاية
الأمر أنّ طريقه إلى ما قاله العدل قول المجتهد ، كما أنّ طريق المجتهد إليه فهمه
ونظره.
فعلم أنّ الخطاب
بالأمارات والاصول عامّ للمقلّد أيضا غاية الأمر يجب رجوعه في تشخيص الأمارات
والاصول إلى المجتهد ، فوظيفة الاستنباط وأخذ الأحكام من مآخذها من مختصّات
المجتهد وليس للمقلّد حظّ في ذلك ، ولكن العمل على طبق ما استنبطه عامّ له
ولمقلّديه لما عرفت من أنّ مفاد أدلة التنزيل وجعل الأصل في حقّ الشاكّ ليس إلّا
العمل على طبق مؤدّي الأمارة والجري على وفق مقتضي الاصول ، ويدلّك على ذلك أنّ
أدلّة الأحكام مثل (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) و (آتُوا الزَّكاةَ) وغيرهما خطابات عامّة يندرج تحتها العالم والجاهل.
وأمّا الظن في حال
الانسداد فإن قلنا بأنّه يستكشف من مقدّمات الانسداد أنّ الشارع جعله طريقا إلى
الواقع وكاشفا عنه في تلك الحال فيكون داخلا في الطرق المعتبرة شرعا ، وإن قلنا
بالحكومة بمعنى أنّ العقل حاكم بعد عدم إمكان الاحتياط أو عسره بترك الموهومات
وأخذ المظنونات والمقطوعات وفي الحقيقة يكون حكمه راجعا إلى تبعيض الاحتياط فيكون
الظنّ داخلا في قاعدة الاحتياط ؛ فإنّ معناه أنّه بعد عدم إمكان الأخذ بجميع
المحتملات ودوران الأمر بين الأخذ بطائفة خاصّة منها ، فالعقل حاكم بتقديم الأقرب
منها إلى الواقع فالأقرب ، يعني يجب الأخذ بالاحتياط مهما أمكن وليس للعقل سبيل
إلى أن يجعل الظن في تلك الحال كاشفا عن الحكم الشرعي الواقعي.
بقي الكلام في أنّ
المناسب بمقصد الاصولي هو تثليث الأقسام كما فعلنا وفاقا لشيخنا المرتضى ، أو
تثنيتها كما اختارها صاحب الكفاية فجعل المكلّف الملتفت على قسمين ؛ لأنّه إمّا
قاطع بالحكم الفعلي الظاهري أو الواقعي وإمّا شاكّ ، وأمّا الظن فإن كان من طريق
معتبر فداخل في القطع وإلّا فداخل في الشكّ ، والشكّ الذي يكون مجرى للأصل الشرعي
أيضا داخل في القطع ؛ فإنّ هذا الشاكّ أيضا قاطع بالحكم الفعلي الظاهري ، فالشاكّ
المقابل للقاطع عبارة عمّن ليس له يقين بالواقع ولا ظن معتبر به ولا أصل من الاصول
الشرعيّة ، ومرجعه إلى الظنّ لو تمّت المقدّمات وقلنا بالحكومة ، وإلّا فإلى
الاصول العقليّة من البراءة والاحتياط والتخيير.
أقول : لا إشكال
في إمكان تقسيم المكلّف إلى أقسام كثيرة بحسب الحالات الطارئة عليه من القيام
والقعود ونحوهما ، ويمكن جعله قسما واحدا بأن يقال إنّه قاطع بوظيفته العمليّة
أبدا وليس متحيّرا فيها في وقت من الأوقات ولكن لا بدّ من مراعاة المناسبة للمقاصد
المندرجة في الكتاب حتى يكون التقسيم بمنزلة الفهرست لها ، وحيث إنّ المطالب
المجموعة في الكتاب الاصولي مطالب تفيد المستنبط فصار المناسب هو التثليث ؛ فإنّ
المستنبط يرجع أوّلا إلى القطع ومع عدمه إلى الظنون المعتبرة ، ومع عدمها إلى
الاستصحاب مقدّما له على سائر الاصول لبرزخيّته بين الأماريّة والأصليّة وتمحّضها
للثانية ، ومع عدمه إلى سائر الاصول العمليّة الشرعيّة ، ومع عدمها إلى الظنّ لو
حصل له وقد تمّت المقدّمات على تقدير الحكومة ومع عدمه إلى الاصول العقليّة من
البراءة والاحتياط والتخيير.
فعلم أنّه مع
تثنية الأقسام أيضا لا بدّ من تقسيم القاطع إلى ثلاثة أقسام بأن يقال : إنّ قطعه
بالحكم الفعلي إمّا حاصل من القطع بالحكم الواقعي وإمّا حاصل من الطريق المعتبر
وإمّا من الأصل العملي ، فصار الأولى هو التثليث.
وكيف كان فبيان
أحكام القطع وأقسامه يستدعي رسم امور :
الأوّل : هل
القاطع بالحكم الواقعي يحتاج إلى جعل قطعه حجّة أولا ، بل يجب
عليه متابعته ، بل
لا يمكن منعه عن المتابعة ، بل وأمره بها على نحو الأمر المولوي ، فلا بدّ من حمل
الأمر لو كان على مجرّد الإرشاد؟ فهنا ثلاثة مقامات :
الأوّل : أنّ
القاطع هل هو كالظان في احتياجه في العمل إلى جعل الحجيّة أو يلزم عليه العمل على
طبق القطع بحكم العقل؟
الثاني : أنّه وإن
قلنا بلزوم العمل بدون الحاجة إلى جعل الحجيّة هل يمكن للمولى لو رأى المفسدة في
متابعة قطع أن يمنع العبد عن متابعته أولا؟.
الثالث : أنّه وإن
قلنا بعدم الحاجة واستحالة المنع هل يمكن توجّه الأمر المولوي أولا؟.
أمّا الأوّل فالحق
عدم الحاجة ؛ إذ ليس ما وراء القطع حجّة اخرى ، فيلزم على تقدير احتياجه إلى جعل
الحجيّة ارتفاع الحجّة من البين رأسا ؛ إذ لو فرض القطع بحكم وفرض القطع بقول
الشارع : اعمل بقطعك ، فلا يكون القطع بهذا القول حجّة ويحتاج في جعله حجّة بجعل
ثانوي ، وكذا الكلام في القطع بالجعل الثانوي فيحتاج إلى جعل ثالث وهكذا ، فيلزم
التسلسل ؛ فإنّه لا ينتهي المحتاج إلى غير المحتاج أبدا. وبالجملة فلزوم متابعة
القاطع لقطعه بديهيّ لا يحتاج إلى البيان.
أمّا الثاني فقيل
فيه بعدم الإمكان مستدلا بلزوم العمل بالتناقض ، وبيانه أنّه لو قطع المكلّف بكون
المائع مثلا خمرا وقطع بالكبرى أيضا أعني حرمة الخمر فيقطع بالبديهة بأنّ هذا
المائع حرام ؛ فإنّ الشكل الأوّل بديهيّ الإنتاج ، فلو منعه المولى من العمل بهذا
القطع فيلزم أن يعلم المكلّف بمتناقضين أعني حكم اجتنب وحكم رخّصتك وإن كان قطعه
بكون هذا خمرا جهلا مركّبا ؛ فإنّه لا يحتمل الخطاء في قطعه.
واورد عليه بالنقض
بالقياس في حال الانسداد ؛ فإنّه لا شكّ في كونه قائما مقام العلم ؛ فإنّ الامتثال
له مراتب يحكم العقل بتقديم بعضها على بعض ، فالامتثال القطعي هو المقدّم ، ومع
عدم إمكانه يلزم الظنّي على اختلافه بحسب قوّة الظن وضعفه ، فيقدّم الأقوى على
الأضعف ، والمناط تقديم ما هو الأقرب إلى القطع فالأقرب ، فيكون الظن عند انتفاء
القطع قائما مقامه ، ومع ذلك قد نهى الشارع عنه
إذا كان حاصلا من
القياس ، فإذا جاز ذلك في ما يقوم مقام القطع جاز فيه أيضا لاتّحاد الملاك.
وأجاب عنه صاحب
الكفاية في الحاشية على الرسائل بإبداء الفرق بين القطع والظن بوجود السترة في
الثاني بالنسبة إلى الواقع وعدمها في الأوّل ، فمرتبة الحكم الظاهري محفوظة في
الثاني دون الأوّل.
وفيه أنّه كما
يمتنع القطع بصدور المتناقضين من الشارع كذلك الظنّ به ، بل مجرّد احتماله ؛ فإنّ
الظانّ بحرمة الفعل الخاص في الواقع إذا منعه المولى عن متابعة هذا الظن فمعناه
أنّه رخّصتك في فعله ، فيلزم أن يجتمع الظنّ بالحرمة والقطع بالرخصة ، فيلزم الظن
بوجود المتناقضين في الواقع وهو أيضا كالقطع به.
وإن اريد ذلك مع
اختلاف متعلّق الظن ومتعلّق المنع بأن يكون الواقع الميسور حكما شأنيّا والمنع
حكما فعليّا فهذا غير مختصّ بالظن ، فإنّه يمكن في القطع أيضا بأن يكون الواقع
المقطوع حكما شأنيّا والمنع حكما فعليّا ، وإن اريد أنّ الظّن بعد ورود المنع
ينقلب إلى القطع بالضّد فليس كذلك ؛ فإنّا مع ورود مثل هذه النواهي الأكيدة عن
العمل بالقياس يحصل لنا الظنّ بالحكم الشرعي من طريق القياس.
وبعبارة اخرى
إنّما نتكلّم من حيث ما في نفس الأمر لا من حيث التنجيز وحكم العقل بوجود الامتثال
، فالمقصود ملاحظة وجود التناقض في ما في نفس الأمر وعدمه وإن لم يكن امتثال أمره واجبا
، ومن هذا الحيث كما يكون التناقض في القطع كذلك يكون في الظّن ؛ إذ تقول في القطع
: إنّ العبد يقطع بكون هذا الشيء مبغوضا للمولى وأنّ نفس المولى متنفّر منه غاية
التنفّر وهذا مع قول المولى له : لا تعمل بهذا القطع مضادّ ومناقض ؛ إذ معنى هذا
النهي أنّه لا تنفّر لي من هذا الشيء ، فيلزم الجمع بين التنفّر واللاتنفّر ،
وبعبارة اخرى معنى الواقع المقطوع أنّك لست بمأذون في الفعل ، ومعنى النهي أنّك
مأذون فيه.
ونقول نحن في
الظّن : إنّ العبد إذا قطع بكون هذا خمرا وظنّ كون الخمر حراما فحيث إنّ النتيجة
تابعة لأخسّ المقدّمتين فيظن أنّ هذا الشيء حرام والمولى متنفّر
منه غاية التنفّر
، فقول المولى : لا تعمل بهذا الظن يوجب القطع بعدم تنفّره من هذا ، وهذا ظنّ
بالتضاد والتناقض كما أنّ الأوّل كان قطعا بهما ومجرد ذلك فرق لا ينفع ، فمن حيث
الإشكال لا تفاوت بين القطع والظن.
إن قيل : إنّ
القاطع ـ حيث إنّ القطع طريق ـ لا ينظر إلّا إلى نفس الواقع ولا يرى ورائه في هذه
النظرة شيئا.
فالجواب أوّلا
بمنع عدم إمكان الالتفات إلى نفس القطع ، بل يمكن أن يعلم القاطع بكونه قاطعا ،
وثانيا لا فرق من هذه الجهة بين القطع والظن ؛ فإنّ الظن أيضا طريق ، ففي هذه
النظرة لا ينظر إلى ما وراء الواقع.
إن قيل : إنّ
الظّن حيث يكون فيه سترة وحجاب فالحكم المجعول فيه ظاهري ، وأمّا القطع فحيث إنّه
تمام الانكشاف وكشف تامّ فليس الحكم المجعول عليه ظاهريّا.
قيل : لا نزاع لنا
في الإسم ، فإن كان في الظّن ممكنا ففي القطع أيضا ممكن ولا نسمّيه باسم الظاهري
بل باسم آخر ، وإن لم يمكن في القطع لا يمكن في الظنّ أيضا.
وبالجملة المدّعى
عدم الفرق إشكالا وجوابا بين القطع والظّن من حيث القطعيّة والظنيّة بمعنى أنّه
ليس مجرّد حيث الظنيّة موجبا لعدم جريان الإشكال أو اندفاعه ، ومجرّد حيث كون
القطع قطعا موجبا لخلافه ، فهذا من حيث الإشكال.
وأمّا من حيث
الجواب فكلّ جواب يدّعيه المجيب في الظنّ ندّعيه في القطع ؛ فإنّ المجيب لا يخلو
من حالين ، إمّا يبنى في الجمع والتوفيق بين الحكم الواقعي والظاهري بالقول بثبوت
المراتب للأحكام بمعنى أنّه يقول : إذا تبيّن لنا الظاهري نحمل الواقعي المظنون
على الحكم الشأني وإن كان ظاهره الفعليّة والوصول إلى مرتبة البعث والزجر ،
والظاهري على الحكم الفعلي.
فنقول : لا فرق في
ذلك بين القطع والظن ، فإذا وصل إليك المنع عن العمل بالقطع فاحمل الحكم الذي قطعت
به من حرمة الشرب على الشأني ، وهذا النهي على الفعلي.
فإن قلت : إنّ
القاطع قاطع بالحكم على وجه الفعليّة وليس قابلا للحمل على الشأنيّة.
قلت : إنّا نفرض
مثل ذلك في الظّن أيضا بأن يكون ظانّا بأصل حكم لا تشرب وقاطعا بأنّه على تقدير
تحقّقه فعلي ، فالأمر دائر بين أن لا يكون حكم أصلا على وهم ، وأن يكون وكان
فعليّا ووجوده شأنيّا مقطوع العدم ، ففي هذا الفرض أيضا لا يمكن الجمع بين الواقع
المظنون وبين المنع.
وبالجملة فهذا فرق
راجع إلى حيث المتعلّق ؛ فإنّه مختلف بحسب المقامات لا أنّه راجع إلى حيث الظن
والقطع.
فالمتعلّق سواء
كان مقطوعا أم مظنونا على قسمين ؛ إمّا قابل للحمل على الشأنيّة وهذا في صورة قطع
أو ظنّ بوجود لا تشرب واقعا ، وظاهره وإن كان كونه فعليّا لكن يحتمل كونه شأنيّا ،
ففي هذه الصورة إذا ورد المنع سواء عن العمل بالقطع أم عن العمل بالظن يتعيّن حمل
لا تشرب المقطوع أو المظنون على خلاف ظاهره من الشأنيّة وحمل هذا المنع على
الفعليّة للجمع.
وإمّا ليس قابلا
إلّا للحمل على الفعليّة وهذا في صورة قطع أو ظنّ بوجود لا تشرب وقطع بأنّه حكم
فعلي ، فلا يمكن الجمع بين هذا الحكم المقطوع أو المظنون وبين المنع ؛ لعدم إمكان
جعل الحكمين في موضوع واحد في مرتبة واحدة.
وإمّا يبني على أنّه ليس للأحكام إلّا مرتبة واحدة مثل الإرادة
الفاعليّة ؛ فإنّها إمّا موجودة فعلا وإمّا معدومة ، ولكن رتبة الحكم متفاوتة ،
يعني أنّ الحكم الواقعي متعلّق بنفس الواقع ، والظاهري متعلّق بالشكّ في الحكم
الواقعي أو الظنّ به والشكّ والظنّ متأخّران رتبة عن نفس الحكم.
فكذلك نقول في
القطع أيضا ؛ فإنّ العلم بالحكم الواقعي أيضا متأخّر عنه ، فالحكم الواقعي متعلّق
بنفس المتعلّق مع قطع النظر عن العلم ، فالعلم بنفس هذا
__________________
المتعلّق أو بحكمه
ليس إلّا كاشفا صرفا وطريقا محضا بالنسبة إلى هذا الحكم ، لكنّه بالنسبة إلى الحكم
الآخر أعني النهي مأخوذ على وجه الموضوعيّة ، مثلا تعلّق الحرمة الواقعيّة بنفس
شرب الخمر الواقعي ، فالعلم بأنّ هذا خمر وكذا العلم بأنّ الخمر حرام لا مدخليّة
لهما في موضوع هذه الحرمة ، ولكنّه دخيل في موضوع حكم الرخصة المستفادة من قوله :
لا تعمل بالعلم الذي حصّلته من الجفر ، فليس نفس الشرب بواقعيّته متعلّقا للرخصة
كما أنّه كذلك متعلّق للحرمة ، بل باعتبار كونه مقطوع الخمريّة أو الحرمة بالقطع
الحاصل من الجفر.
فعلم أنّ حيث
الكاشفيّة التامّة وعدم السترة والكاشفيّة الناقصة ووجود السترة لا يجديان فرقا
أصلا لا إشكالا ولا جوابا.
نعم بين القطع
والظنّ فرق من جهة اخرى وهي مرحلة الامتثال ، وبيانه : أنّ العبد إذا علم بأنّ
الشيء الفلاني محبوب للمولى بحيث لا يرضى بتركه يتحقق بسبب هذا العلم موضوع
الإطاعة وموضوع العصيان في حقّ هذا العالم ، ولا إشكال في أنّ إطاعة المولى المنعم
حسن ذاتا بحيث لا يمكن أن ينفكّ منه الحسن إلّا بانقلاب موضوعها ، وكذلك عصيان هذا
المولى قبيح ذاتا بحيث لا يمكن انفكاك القبح منه ؛ فإنّ بعض العناوين علّة تامّة
للقبح ، فما دام باقيا فالقبح لازمه ذاتا ، بل الأسماء الأخر لا بدّ من انتهائها
إلى هذا ليصير قبيحا ، وذلك مثل الظلم ، كما أنّ بعض العناوين علّة تامّة للحسن ما
دام باقيا ، وسائر الأشياء إن انتهت إليه صارت حسنا ، وذلك مثل الإحسان ، وبعض
العناوين يكون الحسن والقبح فيها بالوجوه والاعتبار ، يعنى نحتاج في اتّصافها
بالحسن من انتهائها إلى العنوان الأوّلي مثل الإحسان ، وبالقبح إلى عنوان أوّلي
آخر مثل الظلم وذلك كضرب اليتيم ؛ فإنّه إن اندرج تحت الظلم كان قبيحا وإن دخل في
الإحسان كان حسنا.
فنقول : مخالفة
المولى المنعم وعصيانه ظلم عليه ، بل من أبده أفراد الظلم وأعظمها ، فيكون قبحه
أبده من قبح سائر الأفراد وأعظم ، فلو رخّص المولى هذا العبد العالم بترك ما هو
عالم بمحبوبيّته له بواسطة منعه عن العمل بعلمه يلزم الإذن في
فعل ما هو من أقبح
القبائح وأشدّ أفراد الظلم ، والترخيص في القبيح قبيح ، وليس حسن الإطاعة لأجل
ترتّب الثواب عليها ولا قبح المخالفة لأجل إيجابها العقاب والوقوع في العذاب، بل
هما لازمان لهما ولو فرض عدم ترتّب الثواب على الإطاعة ولا العقاب على المخالفة
وإن كان بتصريح من المولى ؛ فإنّ الحسن والقبح غير معلّلين بشيء ، فإنّه ينقل
الكلام في العلّة فلا بدّ أن يكونا فيها أيضا لعلّة وهكذا إلى غير النهاية فيلزم
التسلسل ، فلا بدّ من انتهاء السلسلة إلى ما يكون الحسن والقبح فيه ذاتا لا لأجل
جهة ، ولذا نرى أنّ الدهري الغير القائل بترتّب الثواب على الإحسان والعقاب على
الظلم يحكم بديهة بحسن الأوّل وقبح الثاني.
وهذا بخلاف الظن
فإنّه حيث يكون الواقع معه غير منكشف تمام الانكشاف بل مع سترة وحجاب فلا يوجب
الظن بأنّ هذا حرام ومبغوض تحقّق عنوان التمرّد والعصيان على فعله بالنسبة إلى
الظان حتى يكون قبيحا مطلقا ، بل القبح منحصر فيه من جهة العلم الإجمالي بثبوت
تكاليف في الواقع وبظنّ كون هذا التكليف في ضمن المظنون فيجب ارتكابه عقلا دفعا
للضرر المظنون ، فإذا ورد الترخيص من الشرع ارتفع القبح لوجود المؤمّن ، فقبحه
تعليقي معلّق على عدم ورود الترخيص بخلاف قبح التمرّد في العلم ، فإنّه حكم مطلق
بتّي لا يرتفع بترخيص الشرع.
هذا في العلم ،
وأمّا الظن فلا يلزم فيه ذلك ، بيانه أنّ موضوع القبح وما هو علّة تامّة له ليس هو
مجرّد المخالفة الواقعيّة للطلب الواقعي ، ولهذا لو لم يسمع العبد صوت المولى عند
صدور الأمر لا يلام على الترك ، بل الموضوع هو العصيان ، والعلم والالتفات محقّق
لموضوعه، فتحقّقه فرع تحقّق العلم.
وأمّا العلم
الإجمالي لو قلنا بكونه كالتفصيلي في صيرورته موجبا لتنجّز التكليف ووجوب الاجتناب
عن جميع الأطراف ففيه وإن جاز للشارع الترخيص في ارتكاب بعض الأطراف ولا يلزم منه
الترخيص في القبيح ، إلّا أنّ وجوب الاجتناب من أحد الأطراف ليس من جهة العصيان
بتركه حتّى يكون تركه قبيحا بحكم بتّي ، وإنّما هو لأجل وجوب الموافقة القطعيّة
بحكم العقل من باب توقّف دفع
الضرر المحتمل أو
الموهوم أو المظنون عليها ، فارتكاب بعض الأطراف ليس بعصيان وإنّما هو مخالفة لحكم
العقل بوجوب الموافقة القطعيّة لوجوب دفع الضرر.
ومخالفة هذا وإن
كان قبيحا أيضا إلّا أنّ قبحه ليس على وجه البتّ ، بل هو معلّق على عدم وجود
المؤمّن إمّا من الشرع أو العقل في أحد الأطراف ، وترخيص المولى في ارتكاب بعض
الأطراف مؤمّن عن خوف الوقوع في الضرر من جهة هذا الارتكاب ورافع لموضوع حكم العقل
وهو الخوف ، فالقبح في مخالفة حكم العقل بوجوب الامتثال القطعى بارتكاب بعض
الأطراف حكم تعليقى يرتفع بورود الترخيص من المولى ، والقبح في العصيان حكم بتّي
لا يرتفع بالترخيص ، فلهذا لا يجوز الترخيص في مخالفة العلم التفصيلي ويجوز في
مخالفة الإجمالي بالنسبة إلى بعض الاطراف.
وحينئذ فنقول :
الظنون التي ورد النهي عن اتّباعها لا يخلو من حالين : إمّا تكون لازم الاتّباع
بحكم العقل كما في الظنّ في حال الانسداد على تقدير تماميّة المقدّمات ، وإمّا
تكون غير لازم الاتّباع بحكم العقل كما في الظن عند الانفتاح ، فإن كان من قبيل
الثاني فلا إشكال في جواز الترخيص في مخالفته ، وإن كان من قبيل الأوّل فيجوز أيضا
؛ فإنّ قبح مخالفته معلّق على عدم ورود الترخيص ؛ فإنّ لزوم متابعة المظنونات في
حال الانسداد إنّما هو لأجل العلم الإجمالي بورود تكاليف من الشرع وكونها مشتبهة
بين امور بعضها مظنونات وبعضها مشكوكات وبعضها موهومات مع عدم تمكّن الاحتياط
بموافقة الجميع أو عسره ، فإنّ هذا موجب للأخذ بالمظنونات وطرح الباقي ، فالأخذ
بالظن وقبح مخالفته يكون لأجل التحفظ عن الوقوع في ضرر مخالفة التكليف المعلوم
إجمالا ، والترخيص في ترك العمل بالظنون في تلك الحال مؤمّن وموجب للاستراحة عن
الوقوع في هذا الضرر ، فلا تكون المخالفة قبيحة ، فلا يكون الترخيص ترخيصا في
القبيح.
وأمّا المقام
الثالث وهو عدم جواز الأمر المولوي بموافقة القطع والنهي المولوي عن مخالفته وإن
كان الأوّل حسنا وواجدا للحسن الملزم والثاني قبيحا
بقبح ملزم ويجب
على المولى الأمر والنهي المولويين في مثل هذين من باب اللطف ، إلّا أنّه في هذين
لا يمكنه ذلك.
فقد يقال في وجه
عدم الجواز بأنّه مستلزم للتسلسل ، بيانه أنّ الأمر باطاعة الأمر المعلوم محقّق
لموضوع الإطاعة بالنسبة إلى هذا الأمر الثاني ، فيكون هنا بعد هذا الأمر إطاعتان ،
إطاعة حقّق موضوعها الأمر الأوّل بذات العمل مع العلم به ، والاخرى حقّق موضوعها
الأمر الثاني بإطاعة الأمر الأوّل مع العلم به ، وتكون هذه أيضا مشتملة على الحسن
الملزم ، فيلزم الأمر بها أيضا ثالثا ، ثم يتحقّق إطاعة اخرى للأمر الثالث ، فيتحقّق
في حقّ المكلّف ثلاث إطاعات لثلاثة أوامر ، وإطاعة الأمر الثالث أيضا مشتملة على
الحسن الملزم فيلزم الأمر به رابعا ، ثمّ ننقل الكلام في إطاعة الرابع وهكذا إلى
غير النهاية ، ولو اقتصر على الأمر ببعض الإطاعات دون بعض يلزم الجزاف ؛ لكونها
أمثالا والحكم في الأمثال واحد ولا مرجّح لبعضها.
وهذا مخدوش بأنّه
لا يوجب المحذور من حيث إنشاء الأمر ولا من حيث امتثال المأمور ، أمّا الأول
فلأنّه لا يحتاج إلى أزيد من إنشاء واحد للأمر بإطاعة الأمر بذات العمل، ثمّ إطاعة
هذا الأمر الثانوي أيضا مشمولة لهذا الإنشاء أيضا ، غاية الأمر قد حدث موضوعه بنفس
هذا الإنشاء ، ولا بعد في شمول الحكم للفرد الذي وجد بنفس الحكم كما في القضيّة
الطبيعيّة ، مثل ما لو قال : كلّ خبري صادق ؛ فإنّ موضوع هذا الخبر أعني الإخبار
بأنّ كلّ خبري صادق لا يتحقّق إلّا بعد تمام الحكم بتمام موضوعه ومحموله ، لكن مع
ذلك يكون هذا الفرد داخلا في عموم الحكم ؛ فإنّ الحكم قد تعلّق بطبع الخبر ، فهنا
أيضا ينشأ الأمر بطبع إطاعة الأمر فيقول : أطع أمري ، ثمّ هذا بعمومه يشمل إطاعة
هذا الأمر التي حدثت بنفسه ويكون أمرا بها أيضا ثمّ بالإطاعة الحاصلة من هذا الأمر
ثالثا وهكذا إلى غير النهاية.
وأمّا من حيث
الامتثال فلأنّ المأمور يمتثل جميع هذه الأوامر بعمل واحد وإتيان واحد لنفس العمل
، وعند هذا تنقطع سلسلة الأوامر المترتّبة.
لا يقال : فقل مثل
ذلك في المقام الأوّل ؛ حيث أوردت على احتياج القطع بجعل
الحجيّة بلزوم
التسلسل ؛ فنحن ندفع هذا التسلسل أيضا بأنّ قوله : اعمل بقطعك حكم مجعول في موضوع
طبيعة القطع فيشمل القطع الحاصل بهذا الأمر أيضا ؛ لأنّه من أفراد طبيعة القطع ،
ثمّ القطع بوجود الأمر بالمتابعة في هذا القطع أيضا مشمول للأمر المذكور وهكذا إلى
غير النهاية.
لأنّا نقول : نعم
لكن لا ينتهي الأمر إلى غير المحتاج في حال ؛ إذ كلّ قطع حصل فالمفروض كونه محتاجا
إلى دليل الحجيّة إيّاه ، مثلا القطع بوجوب الصلاة محتاج إلى شمول دليل وجوب العمل
بالقطع إيّاه ، ثمّ القطع بأنّ كلّ قطع واجب العمل أيضا محتاج إلى شمول دليل وجوب
العمل بالقطع إيّاه ، فيحصل القطع بأنّ هذا القطع حجّة بواسطة شمول الدليل إيّاه ،
فهذا القطع أيضا محتاج ، فيقطع بكونه حجّة لعموم الدليل ، فننقل الكلام في هذا
القطع ، وبالجملة لا تستقرّ سلسلة المحتاجات إلى غير المحتاج في حال.
وأمّا في ما نحن
فيه فلا يلزم محذور عقلي ؛ فإنّ مئونة الأمر إنشاء واحد وهذا الإنشاء يسري حكمه في
الأفراد الطوليّة الغير المتناهية ، ومئونة المأمور ليست إلّا عملا واحدا ، وعلى
تقدير العصيان يلزم استحقاق عقابات غير متناهية ، وبعبارة اخرى الخلود ، وهذا أيضا
ممكن عقلا.
وقد يوجّه عدم
الجواز بلزوم اللغوية ؛ فإن الغرض الباعث على الأمر المولوي ليس إلّا دعوة المأمور
نحو المأمور به لو لم يكن فيه داع آخر ، والمفروض أنّه قد صدر من الآمر أمر بذات
العمل صالح لداعويّة العبد المطيع للمولى ، فالعبد إن كان منقادا فهذا الأمر يصلح
لتحريكه وبعثه نحو العمل من دون حاجة إلى أمر آخر ، وإن كان متمرّدا فلا يفرق في
حاله بين أمر واحد وأمرين ، فكما لا يتحرّك بالأمر الواحد فكذلك بالأمرين وأزيد ،
فعلى أيّ حال الأمر الثاني لغو ولا طائل تحته.
وفيه أيضا منع ؛
فإنّ العبيد مختلفون ، فمنهم من يكفيه أمر واحد للعمل ولا كلام فيهم ، ومنهم من لا
يتأثّر بالأمر أصلا لا بالواحد ولا بالمتعدّد ولا كلام فيهم أيضا ، ومنهم من
يتجرّى على معصية أمر واحد ولكن لا يتجرّى على معصية أمرين ولا
تقدم نفسه عليها ،
ففائدة هذا الأمر تحريك هذا الصنف من العبيد ، ويكفي هذا المقدار في الخروج عن
اللغويّة.
وربّما يوجّه بوجه
ثالث وهو لزوم انتفاء الموضوع بنفس امتثال الأمر ، والأمر بموضوع ينتفي بمجرّد
امتثال الأمر ويقتضي الأمر خروجه عن عنوانه قبيح ، بيان ذلك أنّ عنوان إطاعة الأمر
بالصلاة مثلا إنّما يتحقّق بالإتيان بالأركان المخصوصة بداعي خطاب «صلّ» ، وهكذا
إطاعة كلّ أمر يتحقّق بالإتيان بالمأمور به بدعوة هذا الامر وتحريكه ، فإذا فرضنا
كون الأمر بإطاعة «صلّ» مولويّا فهذا الأمر أيضا يقتضي تحرّك الفاعل نحو الصلاة
بدعوة هذا الأمر ، والإتيان بالصلاة بدعوة هذا الأمر ليس إطاعة لأمر «صلّ»
والمفروض أنّ الأمر تعلّق باطاعته ، فموضوع أمر أطع الأمر بالصلاة وهي إطاعة خطاب «صلّ»
متقوّمة بكون داعي المصلّي هذا الخطاب ، ومقتضى خطاب «أطع» كونه بداعي هذا الخطاب
وهذا معنى كون الأمر مقتضيا لخروج موضوع الإطاعة عن كونه إطاعة.
ولا يختصّ ذلك
بالتعبديّات ، بل يجري في التوصليّات أيضا ؛ فإنّها وإن كان الإتيان بمتعلّقاتها
بدون داعي أمرها مجزيا إلّا أنّ المقصود من تلك الأوامر أيضا هو الداعويّة نحو
الفعل وتحريك المأمور لو لم يتحرّك بداع آخر ، فعنوان اطاعتها إنّما يصدق لو كان
العمل بداعي أمرها لا بداع آخر ، ومرجع هذا الوجه إلى عدم إمكان داعويّة هذا الأمر
اعني : أطع أمر صلّ مثلا إلى متعلّقة ؛ إذ بدعوته يخرج متعلّقه عن كونه متعلّقه ،
وبهذا الاعتبار يصير الأمر لغوا وإن سلم عدم لغويّته من جهة الفاعل كما هو الوجه
الثاني.
والجواب بإمكان
تعدّد الداعي في الطول بأن يكون خطاب «صلّ» مثلا داعيا إلى نفس الصلاة ، ويكون
خطاب «أطع» داعيا إلى الصلاة بداعي أمرها ، وكذلك يكون خطاب «أطع» ثانيا داعيا إلى
الإتيان بالصلاة بداعي أمرها بدعوة أمر «أطع» أوّلا ، وهكذا.
وبعبارة أخرى :
هذا الأمر يصير داعيا إلى الإطاعة ، والأمر الأوّل يصير داعيا
إلى نفس الفعل ،
فيكون الأمر الثاني داعيا إلى الداعي نظير أمر الشارع بإطاعة الوالدين ، فالفعل
بدعوة أمرهما يكون بدعوة أمر الشارع بحيث لو لا أمر الشارع لم يكن أمرهما داعيا.
فهذه ثلاثة أوجه
لعدم إمكان الأمر مولويّا بمتابعة القطع والنهي مولويّا عن مخالفته ، وقد عرفت
الجواب عن جميعها.
وقصارى ما يمكن أن
يقال في تقريب عدم الإمكان : إنّ الأمر المولوي حاله حال الإرادة الفاعليّة ومن
سنخها بحيث يصح نسبة الإيجاد إلى نفس الأمر بنوع من العناية والاعتبار ؛ فإنّه
بإرادته المولويّة الآمريّة محرّك عضلات عبده التي هي العضلات التنزيليّة لنفسه
نحو الفعل ، فالآمر هو المريد وهو الموجود ببدنه التنزيلي والفاعل يريد ويوجد
ببدنه التحقيقي ، فكما أنّ إرادة الفاعل علّة تامّة وسبب مستقلّ للمتعلّق والمراد
بحيث لا يشركه في التأثير شريك فكذا إرادة الآمر أيضا لا أقلّ من أنّه لا بدّ وأن
يكون قابلا وصالحا لأن يكون سببا مستقلا لتحريك نفس العبد بحيث لم ينضمّ إليها في
هذا التحريك والدعوة ضميمة وإن كان فعلا مؤثّرا مع الضميمة وداعيا مع الشركة ، كما
هو الحال في الأوامر المتعدّدة بشيء واحد للتأكيد إذا فرض عدم تأثّر نفس المأمور
إلّا من المجموع بوصف الاجتماع ؛ فإنّ كلّ واحد منها يصلح للدعوة بالاستقلال وبدون
الضميمة كما لو كان منفردا والعبد ذليل النفس منقادا ، كما لو كان فعلا غير مؤثّر
أصلا ولو مع الشركة كما لو كان العبد طاغيا متمرّدا.
وبعبارة اخرى
الإرادة الآمريّة بشيء لا بدّ وأن يكون الآمر بإرادته إيّاها موجدا بالعناية لهذا
الشيء لو كان الفاعل قابلا ، فمقدّمة الإيجاد بالعناية من ناحية المولى تامّة ،
وهذا المعنى في الإطاعة غير ممكن ؛ لأنّ الإرادة فيها إمّا غير مؤثّرة أصلا وإمّا
مؤثّرة مع الضميمة ، فلا يصلح أن يكون إرادتها مولويّا إيجادا بالعناية مستقلا
أبدا ، ووجه ذلك أنّ الأمر بالإطاعة لا بدّ وأن يكون مسبوقا بالأمر بنفس الفعل ،
ضرورة أنّ قبله لا يكون في البين عنوان الإطاعة حتّى يجعل متعلّقا للأمر ، بل
تحقّقه فرع وجود الأمر بذات العمل واطلاع العبد عليه والتفاته إليه.
وحينئذ لا يخلو
العبد من ثلاثة أحوال : إمّا يكون بحيث يتأثّر بنفس الأمر الأوّل ويتحرّك نحو
العمل بداعويّته ، أو يكون بحيث لا يتأثّر نفسه من أمر المولى أصلا ، أو يكون بحيث
يتحمّل معصية أمر واحد ويتحمّل لعقاب مخالفة أمر واحد ولكن لا يحضر نفسه لتحمّل
عقابين لمخالفة أمرين ، فالامر الواحد لا يحرّكه ولكنّه بضميمة أمر آخر يصير
محرّكا له على نحو الشركة ، ولا رابع لهذه الثلاثة.
فعلى الأوّلين
يلزم عدم تأثير الأمر بعنوان الإطاعة رأسا وكون تمام التأثير الأوّل المتعلّق بذات
العمل على أوّلهما وعدم التأثير له أيضا على ثانيهما ، وعلى الثالث لا يكون الأمر
الثاني إلّا جزء العلّة.
فعلم أنّ الإيجاد
التام لا يتصوّر استناده إلى الإرادة المتعلّقة بعنوان الإطاعة ، ولا يعقل أن يكون
المريد لها موجدا تامّا بالعناية في حال إرادته إيّاها ، وقد قلنا إنّ الإرادة
الآمريّة لا بدّ وأن يكون مريدها موجدا بالعناية والإيجاد بالعناية مستندا إلى
نفسها بالاستقلال لا مع الضميمة ، كما أنّ الإرادة الفاعليّة يكون مريدها موجدا
بالحقيقة والإيجاد مستندا إلى إرادته بالاستقلال لا بالشركة ، فالأمر المذكور يكون
نصف الأمر لا تمام الأمر ؛ لأنّ الإيجاد بالعناية لا يتأتّى منه.
وبالجملة ، فلا
بدّ أن يكون الأمر بالإطاعة والردع عن المخالفة ارشاديين ، وأمّا أمر الشارع
بإطاعة الوالدين فهو صالح للداعويّة التامّة ، فإنّ أمر الوالدين لو لا أمر الشارع
في البين لم يكن له تأثير أصلا ، وإنّما داعويّته بواسطة أمر الشارع ، فالداعي
الحقيقي إلى الفعل هو أمر الشارع ، وهذا بخلاف ما إذا كان الأمران صادرين من مولى
واحد.
البحث في التجرّي
الأمر الثاني : قد
ظهر ممّا تقدّم أنّ القطع حجّة في نفسه ، فلو علم بأنّ المائع خمر وأنّ الخمر حرام
وشربه ، فصادف كونه خمرا في الواقع ، فلا إشكال في استحقاقه العقاب ؛ لأنّه شرب
الخمر عن حجّة ، وإنّما الكلام في ما لو شرب المائع الذي علم
خمريّته مع العلم
بحرمة الخمر ولم يكن في الواقع خمرا ، وهذا هو المسمّى عندهم بالتجرّي وقد وقع
محلا للتشاجر والنقض والإبرام بين الأعلام.
وما يمكن أن يكون
محلا للكلام في المقام ثلاث مقامات :
الأوّل : أنّ
المتجرّي أعني الفاعل لما اعتقده حراما ولم يكن حراما في الواقع هل يستحقّ العقوبة
ويحسن عقابه من المولى الحكيم أولا؟ والبحث من هذه الجهة يناسب علم الكلام ؛ إذ
مرجعه إلى أنّ الآمر الحكيم لو عاقب المتجرّي فهذا العقاب منه قبيح أولا؟ فالبحث
إنّما هو عن فعل الآمر.
الثاني : أن يكون
البحث عن فعل المتجرّي وحسنه وقبحه عقلا ، فيقال : ارتكاب الفعل الذي قطع بحرمته
مع عدم حرمته واقعا قبيح عقلا أولا؟ فيكون البحث على هذا اصوليّا ، لوقوع نتيجته
في طريق استنباط الحكم الفرعي ؛ إذ يستكشف من حكم العقل بالقبح حكم الشرع بالحرمة
، ومن عدم القبح العقلي عدم الحرمة الشرعيّة بقاعدة الملازمة العقليّة بين حكم
العقل وحكم الشرع.
الثالث : أن يكون
البحث في فعل المتجرّي من حيث الحرمة الشرعيّة وعدمها ، فيكون البحث فقهيّا ،
ويظهر من بعض كلمات شيخنا المرتضى أنّ النزاع في الحرمة الشرعيّة ، ومن بعضها
الآخر أنّه في القبح العقلي.
وكيف كان فنحن
نحرّر الكلام مع تحقيق ما هو الحقّ في كلّ مقام بعون الملك العلّام فنقول : البحث
عن كون فعل المتجرّي حراما شرعا الذي هو المقام الثالث ، فالعناوين المجتمعة في
هذا الفعل أعمّ من الأوّليّة والثانوية التي يدّعى تعلّق الحرمة بأحدها امور :
الأوّل : شرب
الماء ، الثاني : شرب المائع ، والثالث : شرب مقطوع الخمريّة ، الرابع: التجرّي
بالمعنى المصطلح وهو الإقدام على فعل ما قطع حرمته مع عدم إصابة قطعه الواقع ،
الخامس : ارتكاب مقطوع الحرمة ، وهذه العناوين بين ما ليس بحرام قطعا ، وما لا
يمكن أن يقع متعلّقا للتحريم لخروجه عن الاختيار ، وما لا يمكن تعلّق النهي به
مولويّا مع كونه اختياريّا.
فالأوّل هو
الأوّلان ، والثاني هو الرابع ، فإنّ التجرّي الاصطلاحي مأخوذ فيه عدم إصابة القطع
للواقع وهو خارج عن اختيار المكلّف وقصده ؛ فإنّ المتجرّي قاطع بخلاف هذا العنوان
أعني ارتكاب ما قطع خمريّته ولم يكن واقعا خمرا ولا يحتمل ذلك ، فكيف يكون قاصدا
له.
وأمّا الثالث فهو
الاثنان الآخران ؛ فإنّ ارتكاب مقطوع الحرمة أو شرب مقطوع الخمريّة أو الحرمة ـ بحيث
كان القطع جزء الموضوع ـ مقدور ويصح توجّه القصد إليه بأن كان القاطع ملتفتا إلى
قطعه وناظرا إليه استقلالا وموضوعا ثمّ انقدح في نفسه القصد إلى الفعل بعنوان أنّه
شرب مقطوع الخمريّة لا بعنوان أنّه شرب الخمر ، لكن لا يمكن النهي المولوي عنه ؛
لما مرّ في الأمر الأوّل من عدم إمكان تعلّق النهي المولوي بعنوان المخالفة والأمر
المولوي بعنوان الإطاعة ؛ فإنّ القاطع بكون المائع خمرا يتحقّق في حقّه عنوان
المخالفة ، فالنهي عن ارتكاب مقطوع الحرمة راجع إلى النهي عن مخالفة خطاب لا تشرب
الخمر ، وقد عرفت أنّ الردع المولوي لا يمكن تعلّقه بهذا المعنى.
وبعبارة اخرى : من
يقطع بحرمة الخمر وخمريّة المائع يكون قاطعا بوجود خطاب لا تشرب بالنسبة إليه ومع
التفاته إلى هذا النهي ، فالنهي الثاني عن ارتكاب مقطوع الخمريّة في حقّه لا يمكن
أن يفيد في حقّه فائدة الأمر المولوي ببيان تقدّم في الأمر بالإطاعة. نعم يمكن ذلك
لو لم يكن نفس الخمر بواقعه حراما ، وهذا خلاف الفرض ؛ لعدم تحقّق التجرّي معه ،
هذا.
وربّما يتوهّم عدم
تصوّر فعل اختياري في حقّ المتجرّي بالمرّة وينفى الحرمة الشرعيّة عن فعله من هذه
الجهة ببيان أنّ من شرب الماء باعتقاد أنّه خمر فعنوان شرب الماء وإن صدر منه لكن
ما قصده ، وعنوان شرب الخمر وإن قصده لكن ما صدر منه ، وأمّا عنوان شرب المائع
الذي هو الجامع بين ما صدر وما قصد فهو أيضا ما قصد ؛ لأنّ الفرض تعلّق القصد
بخصوص فرد من هذا الجامع وهو شرب الخمر ، والقصد إلى خصوص الخاص ليس قصدا للعام.
نعم لو كان القصد
حقيقة متعلّقا بالعام وعمد إلى الخاص بتبعه ، أو كان له غرضان أحدهما بالجامع
والآخر بالخصوصيّة فقصد الخاص بالداعيين كان في الصورتين قاصدا للعام وإن فرض وجود
العام في خاص آخر غير هذا الخاص ، والحاصل أنّه لا إشكال في صورة تعلّق القصد
الأصلي بالعام والتبعي بالخاص ، وفي صورة وجود القصدين الأصليين أحدهما بالعام
والآخر بالخاص من باب تعدّد المطلوب.
وأمّا لو تعلّق
القصد الأصلي الواحد بخصوص الخاص فالعامّ لا يصير مقصودا بمجرّد ذلك ، ومن هنا
تبيّن أنّ عنوان ارتكاب مقطوع الخمريّة أيضا غير مقصود ؛ إذ القصد تعلّق بما يقطع
أنّه خمر واقعي ، فمجرّد هذا العنوان الطاري الآلي أعني ارتكاب مقطوع الخمريّة
أعمّ من أن يكون مصادفا أو لا غير مقصود ؛ فإنّ القاطع لا يحتمل عدم المصادفة ، بل
يعلم خلافها ويشاهد الواقع بلا سترة وحجاب فيقصد مقطوع الخمريّة بما هو عنوان
واقعي استقلالي ، وبعبارة اخرى يقصد خصوص مقطوع الخمريّة بالقطع المصادف ، فالجامع
بين هذا وبين مقطوع الخمريّة الذي ليس خمرا واقعا وهو مطلق مقطوع الخمريّة الذي هو
عنوان آلي غير مقصود بالقصد إلى خصوص القسم الأوّل ، هذا بيان ما توهّمه المتوهم
في المقام.
وهو ممنوع بأنّ
العنوان الاختياري الذي هو المطلوب في باب التكاليف على قسمين ، الأوّل : أن يكون
نفس العنوان داعيا للفاعل مثل من يشرب الخمر بداعي شرب الخمر ، والثاني : أنّه وإن
لم يصر داعيا للفاعل ولم يقصد الفعل بهذا العنوان بل بعنوان آخر ، لكن كان الفاعل
ملتفتا إلى هذا العنوان لفعله ولم يكن رادعا له عن الفعل مع كونه قابلا لذلك.
وبعبارة اخرى كان
المكلّف قادرا على الإيجاد والترك من حيث هذا العنوان الملتفت إليه ، كمن يشرب
الخمر مع الالتفات بأنّه خمر بداعي شرب المائع البارد ورفع العطش ، والوجدان حاكم
بأنّه كما يصحّ كون القسم الأوّل موردا للتكليف والمؤاخذة ، كذلك يصحّ التكليف
والمؤاخذة في القسم الثاني أيضا ، فيصحّ في المثال
الثاني مؤاخذته
على شرب الخمر كما يصحّ في المثال الأوّل.
والحاصل أنّ الفعل
إذا كان مجمعا لعناوين متعدّدة وكان جميع تلك العناوين ملتفتا إليها ، ولكن كان
الداعي إليه أحد تلك العناوين أو عنوانا اعتقاديا غير موجود فيه واقعا في جميع تلك
العناوين مقدورة واختياريّة ، سواء كانت عرضيّة كما لو ضرب شخصا عالما هاشميّا
لكونه ابن عمرو مثلا مع الالتفات إلى علمه وهاشميّته ، فيصحّ ذمّه على ضرب العالم
والهاشمي وإن لم يكن بهذا العنوان داعيا له ، أو كانت حلوليّة كما لو حرّك اليد
بقصد الضرب فقتله فيصح ذمّه على مطلق حركة اليد الذي هو الجامع بين الضرب والقتل
وإن لم يكن بعنوانها مقصودة ، بل بعنوان أنّها ضرب.
فكذا في ما نحن
فيه أيضا ؛ فإنّ من يشرب المائع باعتقاد أنّه خمر وليس بخمر يلتفت إلى حيث ما
يعيّنه وإن كان الداعي إليه خصوص الخمريّة ، فلو كان مطلق شرب المائع ممنوعا صحّ
مؤاخذته والقول له : لم شربت المائع مع العلم بحرمته ، فالمعيار في صحّة المؤاخذة
والتكليف كون العنوان ملتفتا إليه وإن كان الداعي شيئا آخر ؛ إذ بمجرّد الالتفات
يصير قادرا على الفعل والترك لأجل هذا العنوان ، ولا يطلب لصحّة التكاليف إلّا
الاختياريّة بمعنى القدرة على طرفي الفعل والترك ، فيصحّ النهي بمجرّد صلاحيّة
العنوان لأن يصير بسبب النهي رادعا للفاعل عن الفعل ، ويصح العقاب على الفعل وإن
لم يكن مأتيّا بداعي هذا العنوان ؛ لعدم ارتداعه مع الالتفات إلى العنوان المحرّم.
هذا مع أنّ
المتوهّم سلّم الاختياريّة لمجرّد الإرادة التبعيّة للخاص والأصلية للعام كالمثال
الذي ذكرنا من كون الداعي شرب المائع البارد وشرب الخمر لكونه كذلك مع الالتفات
إلى خمريته ، وهذا عكس ما نحن فيه ؛ فإنّ الداعي هنا شرب الخمر وشرب المائع ملتفت
إليه ومراد بالتبع ، فإن كان المعتبر هو خصوص العنوان الداعي ولم تكن الإرادة
التبعيّة كافية في الاختياريّة لزم عدم الكفاية في عكس ما نحن فيه أيضا كمثالنا ،
وإن كانت كافية لزم الاكتفاء بها في المقامين ، فالفرق لا وجه له.
وبالجملة فتقريب
المدّعى من عدم الحرمة الشرعيّة للفعل المتجرّى به بما ذكره المتوهّم من عدم فعل
الاختياري هنا في البين غير سديد ، فالحقّ في تقريبه هو ما ذكرنا من أنّ العناوين
المجتمعة في هذا الفعل إنّما يكون بين ما لا نزاع في عدم حرمته وما لا يمكن حرمته
لعدم القدرة عليه وخروجه عن الاختيار وما لا يمكن حرمته لأجل عدم إمكان تعلّق
النهي المولوي به مع كونه مقدورا واختياريّا وهو عنوان ارتكاب مقطوع الحرمة مع قطع
النظر عن المصادفة وعدمها.
وأمّا إن كان
النزاع في التجرّي في القبح العقلي فربّما يقال بأنّ الفعل المتجرّى به أعني شرب المائع مثلا وإن لم يكن
بعنوانه الذاتي الواقعي وهو شرب الماء مثلا قبيحا ، إلّا أنّه بعنوانه الطاري
الثانوي وهو شرب المقطوع الخمريّة قبيح عقلا ، ويكون هذا من الوجوه والاعتبارات
التي يختلف بها الحسن والقبح ؛ فإنّ العناوين الحسنة والقبيحة على ثلاثة أقسام
بحسب الحسن والقبح :
أحدها : أن يكون
علّة تامّة لأحدهما وهي العناوين الأوّليّة مثل الإحسان والظلم.
والثاني : ما يكون
لو خلّي وطبعه حسنا أو قبيحا ولا ينافي الاتّصاف بالضدّ لعارض مثل الكذب ؛ فإنّه
بحسب ذاته قبيح يعني فيه اقتضاء القبح ، ولو كان منجيا للنبي ـ مثلا ـ صار حسنا.
والثالث : ما لا
يكون فيه اقتضاء شيء منهما كمطلق حركة اليد مثلا ؛ فإنّه لا بدّ في اتّصافه من
عروض عنوان ضرب اليتيم للإساءة أو عنوان ضرب اليتيم للتأديب مثلا عليه.
وانقسام الأشياء
إلى هذه الثلاثة أمر وجداني من الواضحات وليس قابلا للنزاع ، وما وقع بينهم من
النزاع في أنّ حسن الأشياء وقبحها ذاتي أو يكون بالوجوه والاعتبار لا بدّ من
التسالم بين مترافعيه بأنّ مراد الأوّل أنّ ضرب اليتيم للإساءة مثلا يكون ظلما
فيكون قبيحا ذاتيا ، بعبارة اخرى كلّ شيء اتّصف بأحدهما
__________________
لا بدّ من انطباق
أحد العناوين الذاتيّة الأوّليّة للحسن أو للقبح عليه ، فيكون الاتّصاف ذاتيّا ؛
فإنّ ما بالعرض لا بدّ من انتهائه إلى ما بالذات وإلّا لتسلسل ولا ينقطع السؤال
بلم أبدا.
مثلا يقال : لم
صار ضرب اليتيم للإساءة قبيحا؟ فيقال : لأنّه ظلم ، ثمّ يقال لم صار الظلم قبيحا؟
فيقال لأنّه إيذاء ، ثمّ يقال : لم صار الإيذاء قبيحا وهكذا ، يتسلسل ، فلا بدّ من
انطباق عنوان عليه كان أحدهما ذاتيا له حتّى ينقطع السؤال ؛ فإنّ الذاتي لا يعلّل
، والقائل الثاني ينظر إلى العنوان الذاتي لنفس الفعل مثل ضرب اليتيم ؛ فإنّه بعد
انطباق الظلم عليه يسري قبحه إليه ويصير قبيحا بالعرض.
وبالجملة
فالمتجرّى به أعني شرب المائع مثلا يكون قبحه بالوجه والاعتبار ولا كلام مع هذا
القائل من هذه الجهة ، إنّما الكلام معه في أنّ عنوان شرب المقطوع الخمريّة الذي
هو عنوان ووجه عارض على شرب المائع يكون قبيحا بالذات ، أو لانطباق عنوان آخر عليه؟
يظهر من مواضع من كلامه أنّ قبحه يكون لأجل انطباق عنوان هتك المولى المنعم
والاستخفاف بأمره ونهيه والجرأة عليه.
فنقول : لا إشكال
في كون هذه العناوين قبيحة بالذات ، وفي الحقيقة يكون من شعب الظلم ، إنّما الكلام
في انطباقها على مورد التجرّي دائما ، ولا إشكال أنّا نتصوّر في المعصية الحقيقيّة
انفكاكها عن هذه العناوين ؛ فإنّه يمكن أن يكون العبد مع كمال الاعتناء بالمولى
وعظم أمره عنده مرتكبا لمعصيته مع كمال التضرّع في هذا الحال راجيا لعفوه لغلبة
شقوته عليه ، لا لعدم اعتنائه بمولاه وأوامره ، كما هو الحال في فسّاق المسلمين.
ويدّل على إمكان
ذلك قوله عليهالسلام في دعاء أبي حمزة : «إلهي لم أعصك حين عصيتك وأنا
بربوبيّتك جاحد ، ولا بأمرك مستخفّ ، ولا لعقوبتك متعرّض ، ولا لوعيدك متهاون ،
ولكن خطيئة عرضت وسوّلت لي نفسي وغلبني هواي وأعانني عليها شقوتي وغرّني سترك
المرخى علي».
وبالجملة ، فإذا
فرضنا المعصية الحقيقيّة خالية من جميع تلك العناوين فالتجرّي
ليس بأعظم منها
قطعا ، فيمكن خلوّه أيضا منها ولو نادرا ، وهذه يكفي في عدم كونه قبيحا ، يعني أنّ
الفعل الخارجي المتجرّى به من حيث هو لا يكون قبيحا عقليّا ، وما يكون موضوعا لذلك
هو شيء آخر أعني عنوان الاستخفاف ، نعم يكون غالب الانطباق على الفعل المتجرّى به
، كما يمكن انطباقه على غيره أيضا كالمباحات ، كما لو جعل أحد مباحا شرعيّا محرّما
على نفسه من باب الاستخفاف بإباحة المولى ، وبالجملة نحن نتكلّم من حيث التجرّي ،
وحيث الاستخفاف أمر آخر وراء التجرّي.
فإن قلت : فعلى
هذا يلزم عدم قبح المعصية في الحقيقة أيضا ، لإمكان انفكاك هذه العناوين عنه.
قلت : نعم قد
ينفكّ هذه عنها ، لكن عنوان الظلم ينطبق عليها دائما وهذا مفقود في مورد التجرّي ؛
إذ فيه لا يلزم مخالفة أمر من أوامر المولى وتضييع غرض من أغراضه بخلاف المعصية
الحقيقيّة ؛ فإنّها غير منفكّة عن ذلك ، فتحصّل من جميع ما ذكرنا إلى هنا أنّ
الفعل الخارجي المتجرّى به ليس محرّما شرعيّا ولا قبيحا عقليّا ، ومن ذلك يظهر
أنّه ليس ممّا يستحقّ عليه العقاب أيضا.
بقي الكلام في
أفعال النفس التي يكون الفعل الخارجي الاختياري مسبوقا بها أبدا ، فلا بدّ من
استقصاء تلك الأفعال.
فنقول : إنّ من
يعزم على فعل خارجي يحصل أوّلا في ذهنه تصوّر هذا الفعل بماله من الفوائد والمنافع
، ثمّ يحصل له عند هذا ميل إليه ، ثمّ يحصل في الذهن تصوّر مضارّه المترتّبة عليه
، ويقع بين هذه المضار وتلك الفائدة والمنفعة كسر وانكسار في النفس ، فإن غلبت
فائدته يصير الميل في طرف الفعل ثابتا فقط ، وبعد ذلك يتحقق العزم والإرادة نحو
الفعل.
ومن الواضح أنّ
شيئا من هذه المذكورات التي هي مقدّمات للإرادة والعزم ليس باختياري ، لا تصوّر
نفس الفعل ، ولا تصوّر منافعه ، ولا الميل ، ولا تصوّر مضارّه ، ولا الكسر
والانكسار وتحقّق الميل نحو الفعل محضا ، بل كلّ ذلك امور قهريّة يحصل بعضها عقيب
بعض ، نعم قد يمكن أن يكون نفس تصوّر الفعل اختياريّا
ومسبّبا عن أمر
مقدور ، فيكون سائر الامور المترتّبة على تصوّره أيضا اختياريّا لتسبّبها عن الأمر
الاختياري ، لكنّ الدعوى نفي كليّة اختياريّتها.
وأمّا العزم
والإرادة ، فأوّلا لا إشكال في أنّ العزم على معصية المولى أمر قبيح ذاتا بمعنى
اشمئزاز طبع الإنسان عنه في قبال العزم على طاعته ، حيث إنّ الطبع يستحسنه ، ولا
إشكال أنّ القبح الفعلي ملازم للقبح الفاعلي لو كان الفعل عن اختيار الفاعل ،
فيكون الفاعل مستحقّا للملامة والعقاب ، فالمهمّ إثبات اختياريّة العزم أو
اضطراريّته.
فنقول : قد يقال
بأنّ الإرادة هو العلم بالصلاح وإن اختلف تعبيره في الخالق والمخلوق ، فيعبّر عنه
في الأوّل بالعلم بالأصلح ، وفي الثاني باعتقاد النفع ، والمحصّل أنّه إذا صار
الصلاح والنفع معلوما فالمضرّة لو كانت فهي مضمحلّة في جنب الصلاح ، وبعبارة اخرى
علم النفع الخالص السالم عن المزاحم ، فعند ذلك يحصل حركة العضلات ولا يحتاج إلى
شيء آخر وراء هذا العلم.
فلا إشكال أنّ
العزم على هذا القول ليس باختياري مطلقا إلّا فيما إذا كانت مقدّماته اختياريّة ،
وأمّا إذا لم يكن مقدّماته في البين مثل ما لو علم عدم النفع في الفعل فليس
باختياري ؛ إذ لا يمكن في هذا الفرض إيجاد العلم بالصلاح في النفس بمجرّد إحراز
مصلحة في نفس هذا العلم.
ولكنّ الحقّ أنّ
الإرادة حالة نفسانيّة وراء العلم بالصلاح ، والدليل عليه أنّا نتمكّن بالوجدان من
إيجاد الإرادة في النفس مع عدم العلم بمصلحة في متعلّقها ، بل والقطع بعدم صلاح
فيه أصلا ، والمثال الواضح لذلك أنّ المقيم عشرة أيّام في البلد إذا فرض عدم ترتّب
نفع له على نفس البقاء في البلد ، بل يعزم لمجرّد إتمام الصلاة ، فإنّ عزمه هذا لا
يمكن جعله عبارة عن العلم بالصلاح ، كيف وهو عالم بعدم نفع في نفس البقاء مع قطع
النظر عن العزم ؛ فإنّه لو لم يعزم يقصّر صلاته وإن بقي عشرة أيّام ، ولو عزم يتمّ
وإن لم يبق عشرة أيّام ، فهو عالم بعدم فائدة في نفس البقاء ومع ذلك يعزم عليه ،
وكذلك كلّ موضع كان لنفس الاختيار مدخليّة في ترتّب الاثر.
فلو كان العزم هو
العلم بالصلاح لزم في هذه المواضع الدور ، لوضوح توقّف العلم بالصلاح فيها على
الاختيار ، فلو كان الاختيار أيضا متوقّفا على العلم بالصلاح كان دورا، فيلزم أن
لا يمكن الاختيار في هذه المواضع وقد فرضنا إمكانه ، فيلزم أن يكون الاختيار حالة
اخرى وراء العلم المذكور.
ثمّ هل هذه الحالة
النفسانيّة المسمّاة بالإرادة اختياريّة أو اضطراريّة؟ الوجدان يشهد بالأوّل ،
وبرهان الخصم غير تامّ.
أمّا برهان الخصم
فهو أنّ الفعل الاختياري ليس إلّا عبارة عمّا هو مسبوق بالإرادة بحيث لو شاء فعل
ولو شاء ترك ، فلو كان نفس الإرادة أيضا اختياريّة لزم مسبوقيّتها بإرادة ثانية
وهي بثالثة وهكذا ، فيتسلسل.
والجواب على وجه
يظهر بطلان التسلسل ودليل الاختياريّة يكون بتمهيد مقدّمتين :
الاولى : أنّ
العلّة لوجود الإرادة شيئان كلّ منهما وجد يكتفى به ، وإن وجد كلاهما اشتركا في
التأثير ، أحدهما : الصلاح في نفس المتعلّق مثل ما لو كان في ضرب الزيد فائدة
فيريده ، والثاني : الصلاح في نفس الإرادة ، وحينئذ يحتاج في وجودها إلى إرادة
اخرى فتكون الإرادة الاولى معلولة للإرادة الثانية ، وهي مع الإرادة الاولى حالها
حال الإرادة للأفعال الخارجيّة ، فالإرادة الاولى تصير بمنزلة فعل خارجي ،
فالإرادة المتعلّقة به معلولة للصلاح فيها ، كما أنّ الإرادة المتعلّقة بالفعل
الخارجي معلولة للصلاح في الفعل الخارجي ، فالإرادة الاولى علّتها الإرادة الثانية
__________________
وهي علّتها الصلاح
في الإرادة الاولى لا إرادة ثالثة ؛ فاتّضح بطلان التسلسل فيما إذا وجد الإرادة
بالإرادة ، وإنّما يتحقّق التسلسل في هذه الصورة لو كان سبب وجود الإرادة منحصرا
في الإرادة وقد عرفت عدمه.
والثانية : أنّ
بعض الأفعال يكون اختياريّة بحيث يصحّ وقوعها متعلّقا للتكليف مع عدم مسبوقيّتها
بإرادة المكلّف ، بل بمجرّد قدرته على مقدّمة وجوده ، فالاختيارية المصحّحة
للتكليف أعمّ من أن يكون الفعل ناشئا عن الإرادة ، وأن يكون مقدّمته بيده وإن كان
ناشئا عن إرادة غيره ، فيصحّ في الصورة الثانية العقاب على نفس ذي المقدّمة وما هو
النتيجة لكونها مقدورة بالواسطة ، مثلا مجيء العمرو إلى دار الزيد وإن كان غير ناش
عن إرادة الزيد بل عن إرادة العمرو ولكن يكفي في كون وجوده وعدمه مقدورين للزيد
قدرته على ممانعة العمرو من دخول الدار بإغلاق الباب ، فيصحّ عقابه على نفس مجيء
العمرو الذي هو النتيجة ، كما يصحّ على ترك إيجاد المانع.
إذا عرفت ذلك علمت
أنّ الإرادة أعمّ ممّا يوجد منها لمصلحة فيها وما يوجد لمصلحة في المتعلّق يكون
اختياريّة.
أمّا القسم الأوّل
فواضح وإشكاله لزوم التسلسل وقد عرفت منعه في المقدّمة الاولى.
وأمّا القسم
الثاني ـ وهو ما يوجد لمصلحة في المتعلّق سواء كان متعلّقه إرادة اخرى أو فعلا
خارجيّا ـ فلأنّه إذا ثبت الاقتدار على إيجاد الإرادة لمصلحة في نفسها كما هو
القسم الأوّل فيثبت الاقتدار على تركها والممانعة من وجودها فيما يكون لمصلحة في
المتعلّق إذا كانت في نفسها مضرّة مزاحمة لما في المتعلّق من المنفعة ، فكما
يتمكّن من إيجادها لمصلحتها فيتمكّن من تركها في القسم الثاني لمضرّتها إذا غلبت
على مصلحة المتعلّق ، وإذا غلبت مصلحته أيضا فهو متمكّن ، حيث اختار الوجود بعد
الكسر والانكسار وغلبة مصلحة المتعلّق لما عرفت في المقدّمة الثانية ، فإنّه لو
شاء يتمكّن من إيجاد إرادة الضدّ في نفسه قبل وجود الإرادة في النفس ، فهو وإن لم
يصدر منه الإرادة
أعني القسم الثاني منها بسبق إرادة اخرى عليها ، لكن يكفي في كون وجود هذه الإرادة
وعدمها تحت قدرته واختياره كون وجودها منوطا بمطلوبيّة ما فيها من المضرّة لمصلحة
المتعلّق ، وكون إيجاد المانع عن وجوده وهو إيجاد إرادة الضدّ قبل وجودها مقدورا
له ، فيصحّ عقوبته على نفس هذه الإرادة ، كما يصحّ على ترك إيجاد الإرادة المانعة.
وبالجملة فكما
تكون الاختياريّة المصحّحة للتكليف في الأفعال الخارجيّة حاصلة تارة بالصدور عن
الإرادة واخرى بمقدوريّة مقدّمة وجودها أو عدمها في الخارج ، فكذا هذان القسمان
موجودان في الإرادة أيضا بلا فرق ، هذا وصاحب الكفاية قدسسره مع قوله بكون العزم غير اختياري صحّح العقوبة عليه معلّلا
بأنّه راجع إلى جناية النفس وهي أمر ذاتي والذاتي لا يعلّل ، فالقادم على المعصية
خبيث النفس ، وخبيث النفس يدخل النار كما أنّ الكلب يمنع من الدخول في البيت المفروش
لقذارته الذاتيّة ، ونحن في فسحة من ذلك حيث جعلنا العزم اختياريّا.
فإن قلت : سلّمنا
كون العزم على المعصية اختياريّا وقبيحا ، لكن ذلك إنّما يوجب القبح الفاعلي عقلا
واستحقاقه اللوم عن العقلاء ، ولا يلازم استحقاق العقوبة من المولى كما هو المدّعى
؛ فإنّ مجرّد القبح العقلي ما لم ينته إلى الشرعي لا يوجب العقاب ، ولهذا قيل
بالملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع من باب قاعدة اللطف ؛ فإنّ القبيح العقلي لا
يكون نفوس النوع منصرفة عنه ، فاللطف يقتضي بأن يأمر الشارع بالحسن وينهى عن القبح
حتى يصير النوع مع الداعي ؛ فإنّ مخالفة الأمر والنهي يكون من تبعتها العقاب
والعذاب ، فبعض النفوس يصير داعيها إلى الترك مجرّد القبح العقلي ، وبعض النفوس لا
يحصل الداعي لها إلّا بالأمر والنهي حتّى يدعوه خوف وقوعه في العذاب والنكال.
فلو كان مجرّد
القبح العقلي مورثا للعقاب المولوي لم يصح إثبات الملازمة بقاعدة اللطف ؛ إذ كان
مجرّد القبح عقلا كافيا في ردع النوع ولم يحتج إلى الأمر والنهي مضافا إليه ؛ إذ
لم يكن فيهما لطف على هذا التقدير.
وبالجملة لا بدّ
في استحقاق العقوبة في القبائح العقليّة إلى ضميمة حكم الشرع بقاعدة الملازمة ،
وهنا لا يمكن ذلك لعين ما ذكر في نفس المعصية من عدم إمكان توجّه النهي المولوي
إليها ؛ فإنّ هذا بعينه موجود في إرادة المعصية أيضا ؛ فإنّها لا تتحقّق إلّا بعد
العلم بوجود النهي واقعا ، فإذا لم يصرفه هذا النهي فالنهي عن الإرادة لا يمكن
مولويته بالبيان المتقدّم.
قلت : وجه الحاجة
في سائر المواضع إلى ضميمة الأمر والنهي لاستحقاق العقاب المولوي أنّ مجرّد ارتكاب
القبيح مع قطع النظر عن النهي لا يرتبط بالمولى من حيث إنّه مولى، نعم هو من حيث
إنّه واحد من العقلاء مشمئزّ من الفعل ، فالظلم لو لا النهي ليس هتكا للشارع من
حيث إنّه مولى ، نعم هو من حيث كونه من العقلاء يشمئزّ منه ، فيحتاج إلى إيجاد
الأمر والنهي في موضوع الحسن أو القبح العقليين حتى يكون الارتكاب أو الترك مرتبطا
بمقام مولويته.
وهذا بخلاف المقام
فإنّه بدون النهي يرجع سوئيته إلى المولى ، بل قبح إرادة معصية المولى عقلا إنّما
هو لأجل كونها راجعة إلى المولى وكونها بمنزلة الظلم عليه ، كما أنّ هذا هو الحال
في إرادة الطاعة المسمّاة بالانقياد ؛ فإنّه من الابتداء يرجع حسنه إلى المولى ،
بل حسنه يكون من جهة كونه حسنا راجعا إلى المولى ، فيكون المولى أهلا للثواب عليه
، وإرادة المعصية أيضا تكون من الابتداء قبيحا راجعا إلى المولى ، وقبحه العقلي
أيضا من جهة ذلك ، فيكون المولى هو الأهل للعقاب عليه.
والحاصل أنّ العزم
على المعصية قبيح عقلي يستحقّ عليه العقاب بدون النهي كما أنّ العزم على الطاعة
حسن عقلي يستحقّ عليه الثواب بدون الأمر ، ولا يتوهّم منافاة بين ما ذكر هنا وما
تقدّم من إمكان انفكاك التجرّي عن عنوان الاستخفاف وما أشبهه ؛ فإنّه وإن كان يمكن
أن لا يكون استخفافا ولكنّه لا ينفكّ عن كونه جريا على خلاف إرادة المولى وإرادة
على خلاف ميله فيكون رجوع أمره إليه ، مثلا لو ضرب العبد ابن شخص آخر غير المولى
فالمولى من حيث إنّه أحد العقلاء يبغض هذا الفعل ، وأمّا لو ضرب ابن المولى فهذا
الضرب له تعلّق بالمولى وهو من حيث
مولويته متأثّر
منه ، فيكون أهلا للمجازاة عليه وإن لم يسبق منه نهي عن هذا العمل.
فتحصّل أنّ قصد
المعصية في التجرّي قبيح عقلي وأنّ قبحه لتعلّقه بحيث مولويّة المولى موجب
لاستحقاق العقاب ، فلا يكون حراما شرعيّا وإن قلنا بالملازمة.
لكن هل يكون
استحقاق العقوبة على هذا في المعصية الحقيقيّة متعدّدا فيكون العاصي مستحقّا
لعقوبتين ، إحداهما للقصد الذي هو الفعل القلبي والاخرى لنفس الفعل الخارجي ، أو
يكون مستحقّا لعقاب واحد لمجرّد القصد؟ الظاهر هو الأوّل ؛ إذ يلزم على الثاني عدم
مدخليّة الفعل الخارجي في العاصي لاستحقاق عقاب أصلا وأن لا يكون عقاب على فعل
خارجي أصلا ، وهو ممّا لا يمكن الالتزام به ، وإذن فلا مانع من القول باستحقاق
العاصي عقابا أشدّ من عقاب من صدر منه القصد مع الفعل الخارجي المخالف أو مجرّدا
وهما سيّان في الاستحقاق ؛ لتساويهما في القصد الذي هو المنشأ له ، والعفو في
القسم الثاني لا ينافي مع الاستحقاق ؛ فإنّ العفو ورفع فعليّة العقاب لا ينافي
الاستحقاق كما هو واضح.
بقي الكلام في
الدليل العقلي الذي أقاموه على استحقاق المتجرّي على الفعل الخارجي كالعاصي ، وهو
أنّه لو فرضنا شخصين كلّ منهما شرب مائعا يعتقد هو بخمريّته واتّفق مصادفة أحدهما
للواقع ومخالفة الآخر فإمّا نقول باستحقاق كليهما ، أو بعدم استحقاق كليهما ، أو
باستحقاق من خالف اعتقاده الواقع دون من صادف ، أو باستحقاق من صادف دون من خالف ،
فهذه أربعة وجوه.
لا سبيل إلى عدم
استحقاق كليهما ، ولا إلى استحقاق من خالف دون من صادف ؛ لمخالفة كليهما مع
الوجدان والقطع بخلافهما ، وأمّا استحقاق من صادف دون من خالف فهو مستلزم لإناطة
الاستحقاق وعدمه على أمر خارج عن قدرة المكلّف ؛ فإنّ المصادفة والمخالفة كليهما
خارج عن الاختيار ، فيتعيّن استحقاق كليهما وهو المطلوب.
والجواب أنّا
نختار استحقاق من صادف دون من خالف ، قولك : يلزم إناطة الاستحقاق بأمر غير
اختياري مدفوع بأنّ صحّة العقوبة لا ينفكّ عن الإناطة بأمر
غير اختياري ، لا
أقلّ من المقدّمات السابقة على الإرادة من تصوّر الفعل والميل ونحوهما ، بل وجود
الفاعل وقدرته ووجود الموضوع مثل الخمر مثلا ؛ فإنّ كلّ ذلك دخيل في صحّة العقوبة
قطعا.
ألا ترى أنّ من
كان واجدا للخمر وشربه يستحقّ العقوبة ومن لم يشربه لأجل أنّه لا يجد لا يصحّ
عقوبته ، مع أنّ وجود الخمر عند الأوّل وعدمه عند الثاني غير اختياريين ، وبالجملة
المصحّح للعقوبة كون الفعل بالأخرة منتهيا إلى اختيار المكلّف بأن كان آخر مقدّمة
وجوده بيده ، فإذا تحقّق ذلك لا يضرّ عدم اختياريّة سائر المقدّمات وإن كانت ألف
مقدّمة، نعم لو كان جميع المقدّمات خارجا عن الاختيار ولم يرجع إليه حتى بالاخرة
لم يصحّ حينئذ العقاب.
وحينئذ فنقول :
إنّ من شرب الخمر الواقعي فوجود الخمر الذي هو أحد أسباب الاستحقاق وإن كان غير
اختياري متحقّق في حقّه ، فلهذا صار مستحقّا ، ومن شرب الماء باعتقاد الخمريّة فهذه
المقدّمة منتفية في حقّه ؛ فلهذا لا يكون مستحقّا ، نظير من كان الخمر عنده موجودا
ويشربه ، ومن يكون عنده مفقودا فلهذا لا يشربه ، كما مثّلنا به ، وهذا من جهة
الفعل الخارجي ، وبعبارة اخرى من حيث عقاب معصية شرب الخمر ، وأمّا من حيث القصد
فقد عرفت عدم الفرق بينهما.
الكلام في القطع الطريقي والموضوعي
الأمر الثالث :
جميع ما ذكرناه من التكلّم في حجيّة القطع بنفسه وعدم إمكان النهي عنه وعدم
قابليّته للأمر المولوي ومن البحث في أحكام التجرّي كلّها إنّما هو في القطع
الطريقي ؛ فإنّ القطع قد يكون طريقا صرفا ، والأثر لنفس متعلّقه ، ولازم هذا
حجيّته على الإطلاق من أيّ سبب حصل ولأىّ شخص كان وفي أيّ زمان وجد ، وقد يكون
مأخوذا على وجه الموضوعيّة وحينئذ ففي سعة دائرته وضيقها وإطلاقه وتقييده يتبع
دليله اللفظى ؛ فإنّه في ذلك تابع لنظر الجاعل وجعله ، فقد يجعل القطع موضوعا
مطلقا وقد يجعل القطع الخاص موضوعا كالقطع الحاصل من
الحسّ لا الحدس أو
من غير الجفر والرمل إلى غير ذلك من الخصوصيات.
ثمّ أخذ القطع
موضوعا يتصوّر على نحوين :
الأوّل : أن يكون
تمام الموضوع بأن يكون تمام الدخل للقطع من دون دخل للواقع ، فمتى تحقّق القطع وإن
كان جهلا مركّبا تحقّق الموضوع الواقعي كما إذا تعلّق الحرمة بمقطوع الخمريّة وإن
لم يكن خمرا واقعا ، وما لم يقطع بخمريّته كان حلالا واقعا وإن كان في الواقع
خمرا.
والثاني : أن يكون
جزء الموضوع بأن يكون القطع والواقع كلاهما دخيلا وكلّ منهما منفردا لا يوجب أثرا
، كما لو تعلّق بالخمر المقطوع الخمريّة بحيث لو كان خمرا ولم يكن مقطوعا كان
حلالا واقعا ، وكذا لو كان مقطوعا ولم يكن خمرا أيضا ؛ فإنّ في هذا الفرض يتحقّق
التجرّي.
وعلى كلا
التقديرين إمّا يؤخذ القطع على وجه الصفتيّة ، وإمّا يؤخذ على وجه الطريقيّة ،
فهذه أربعة أقسام : القطع المأخوذ تمام الموضوع على وجه الصفتيّة ، والمأخوذ جزء
الموضوع على هذا الوجه ، والمأخوذ تمام الموضوع على وجه الطريقيّة ، والمأخوذ جزئه
على هذا الوجه.
والفرق بين نحو
الصفتيّة ونحو الطريقيّة أنّ الموضوع إن كان هو الأوّل لم يقم الأمارات وبعض
الاصول مقام القطع ، فلو كان معلوم الخمريّة بالعلم على نحو الصفتيّة حراما
فالمائع الذي قام على خمريّته البنيّة أو الاستصحاب ليس بحرام لانتفاء جزء الموضوع
وهو صفة القطع ، وإن كان الموضوع هو الثاني يقوم الأمارات وبعض الاصول مقامه ، هذا
حاصل التقسيم والفرق الذين ذكرهما شيخنا المرتضى قدسسره.
واستشكل عليه
المحقّق الخراساني قدس سرّه في قيام الأمارات وبعض الاصول مقام القطع الموضوعي على
نحو الطريقيّة ، وحاصل ما ذكره في تقريب الإشكال أنّ العلم له نسبة إلى العالم
ونسبة إلى المعلوم ؛ فإنّه نور وانكشاف قائم بنفس العالم ومنوّر ومظهر للشيء
المعلوم ، فيراد بصفتيته اعتباره من حيث قيامه بالنفس و
بطريقيته اعتباره
من حيث حكايته ومظهريّته للمعلوم.
وحينئذ فنقول :
المفروض أنّ موضوع الأثر هو الخمر المقطوع بدخل الخمر والقطع معا مع أخذ القطع
طريقا ، ولازم ذلك عدم قيام الأمارات وبعض الاصول مقامه ؛ لأنّ دليل حجيّتها لا
يخلو من حالين : إمّا مفاده التنزيل من حيث آثار المعلوم ، وإمّا من حيث آثار
العلم ، فعلى الأوّل لا بدّ من أن يكون النظر إلى القطع والظن طريقيّا بأن ينظر
بهما إلى المعلوم والمظنون فيصير معنى أنّ البيّنة ـ مثلا ـ حجّة أنّ : المائع
الذي قام على خمريّته البيّنة بمنزلة الخمر المعلوم ، وهذا يوجب ترتيب كلّ أثر
يترتّب على نفس الخمر على هذا المائع ، وقد فرضنا كون الأثر للخمر والقطع معا ،
فكلّ أثر كان للقطع لا يترتّب يعني لا يفيده هذا الدليل ، فيحتاج إلى دليل آخر على
تنزيل الظنّ أيضا مقام القطع حتّى يحصل كلا جزئي الموضوع.
وعلى الثاني لا
بدّ من أن يكون النظر إليهما استقلاليا ويحكم بأنّ الظن كالقطع وهذا لا يوجب إلّا
ترتيب جميع الآثار التي تمام موضوعها القطع على الظن ، وينفي الآثار التي تمام
موضوعها الواقع أو هو مع القطع ، فيحتاج إلى تنزيل آخر بنظر طريقي حتّى ينزّل
مؤدّى الظن أيضا منزلة مؤدّى القطع حتى يحكم بتلك الآثار أيضا.
فعلم أنّ قيام
الأمارة والأصل مقام العلم في جميع الآثار يحتاج إلى تنزيلين تكفلهما دليلان ،
وأمّا الدليل الواحد فلا يتكفّلهما ؛ ضرورة أنّهما لحاظان متباينان لا يمكن جمعهما
في لحاظ واحد.
ثمّ العمومات
الدالّة على حجيّة الأصل والأمارة يكون التنزيل منزلة الواقع قدرا متيقّنا منها ،
ومع ذلك لا يمكن دلالتها على التنزيل الآخر ، ولازم ذلك عدم قيام الأمارات والاصول
مقام العلم في الآثار التي يكون العلم تمام موضوعها أو جزئه وإن كان العلم موضوعا
على وجه الطريقيّة.
هذا حاصل الإشكال
ولا بدّ أوّلا من فهم معنى الطريقيّة والصفتيّة ، فنقول : إن كان المراد بالطريقية
كون العلم مرآتا صرفا لمتعلّقه ، بحيث لا ينظر فيه أصلا ، فيلزم عدم دخله في
الموضوع ؛ لأنّ المفروض أنّ الجاعل لم ينظر إلى القطع إلّا بالنظر
المرآتي ، والحكم
المجعول في هذا النظر لا محالة يكون تمام موضوعه الواقع ؛ لأنّه لا يرى إلّا إياه.
وإن كان المراد أن
ينظر ثانيا إلى حيث طريقيّة القطع بنظر الاستقلالي فما المراد بالصفتية إن كان
المقصود حيث كون القطع صفة نفسانيّة؟ فهذا جامع لجميع الصفات النفسانيّة من الحسد
والبخل وغيرهما ، فيلزم كونها أيضا موضوعا.
وإن اريد هذه
الصفة الخاصّة والحالة النفسانيّة المخصوصة المقابلة لسائر الصفات والحالات
النفسانيّة ، فالخصوصيّة التي بها تمتاز هذه الصفة عن سائر صفات النفس وتصير
مقابلة لها ليس إلّا كونه كشفا تامّا ، فبالكشف تمتاز عن جميع الصفات غير الظن
كالحسد والبخل ونحوهما ؛ حيث لا كشف فيها أصلا ، وبقيد التمام تمتاز عن الظن ؛ حيث
إنّه وإن كان كشفا لكنّه ناقص.
وبالجملة ، فيصير
على هذا مرجع الصفتيّة إلى الطريقيّة ؛ إذ المنظور في الثانية أيضا هو الكشف التام
، وإلّا فإن كان منظورا على نحو المرآتية وبالمعنى الحرفي فقد عرفت أنّه يلزم عدم
دخله في الموضوع أصلا ، فاللازم هو التزام أنّ القطع بمعنى الكشف التامّ الملحوظ
بالاستقلال لا يكون إلّا ذا حيثيّة واحدة وليس له حيثيتان حتى يسمّى باعتبار
إحداهما صفة وبالاخرى طريقا.
وعلى هذا فلا بدّ
من حمل الطريقيّة والصفتية في كلام شيخنا المرتضى على معنى آخر، بأن يقال : إنّ
جعل معلوم الخمريّة موضوعا يتصوّر على نحوين :
الأوّل : أن يكون
المقصود هو الخمر المفروغ عن خمريّته بقيام طريق متّبع عليها ، وبعبارة اخرى :
الخمر الذي له كاشف وطريق أعمّ من أن يكون كاشفه وطريقه هو القطع أو طريقا معتبرا
آخر ، ووجه تخصيص القطع بالذكر كونه أظهر أفراد الكاشف وأتمّها.
والثاني : أن يكون
نفس هذه الصفة التي هي الكشف التام بخصوصيّته هذه معتبرا ، فعلى هذا لا يقوم طريق
آخر مقامه ؛ إذ غاية الأمر إحراز نفس الواقع بقيام طريق آخر بسبب دليل حجيّته ،
فيبقى خصوص صفة القطع والكشف التام الذي هو
جزء الموضوع أو
تمامه منتفيا ، وأمّا على الأوّل ـ وهو أن يكون النظر إلى جهة طريقيته وكشفه مع
قطع النظر عن خصوصيّة كونه تامّا ـ فيقوم مقامه الأمارات وبعض الاصول لو اخذ بهذا
النحو موضوعا.
لا يقال : إنّه
على هذا ليس الأصل والأمارة قائما مقام القطع بل هما أيضا في عرض القطع ؛ فإنّ
الدليل نسبته إليهما على حدّ سواء ؛ إذ لم يعتبر فيه إلّا وجود الطريق المطلق ،
وكما أنّ القطع أحد أفراد الطريق فكذا الأصل والأمارة ، فيكون ترتيب الأثر عليهما
بنفس هذا الدليل كالقطع لا بدليل التنزيل.
لأنّا نقول : معنى
قيامهما مقام القطع حينئذ إنّما هو بالنسبة إلى نفس الواقع ؛ فإنّ الأثر يكون لنفس
الواقع والطريق ، فلا بدّ من إحراز شيئين : نفس الواقع والطريق ، فلو لم يكن دليل
التنزيل في البين فالظن بخمريّة مائع وإن كان يتحقّق به الطريق لكن يحتاج إلى
تنزيل هذا المائع المظنون الخمريّة أيضا منزلة الخمر الواقعي ليرتّب عليه أثر
الخمر الواقعي ، فيكون أحد الجزءين وهو الظنّ مثلا حاصلا بالوجدان والجزء الآخر
وهو الخمر حاصلا بالتنزيل للمؤدّى منزلة الواقع ، فيكون قيام الظن مثلا مقام القطع
في الجزء التنزيلي لا في الجزء الوجداني.
فإن قلت : لا أثر
لنفس الواقع بالفرض ، بل له مع الطريق ، وتنزيل المظنون منزلة الواقع يفيد في
ترتيب الآثار المترتّبة على نفس الواقع.
قلت : يكفي الأثر
التعليقي المترتّب على جزء الموضوع ، فيفيد التنزيل إثبات هذا الأثر التعليقي
للمظنون ، نظير الأصل والأمارة القائمين على إثبات جزء الموضوع في سائر الموارد
كالبيّنة القائمة على تعديل عدل واحد ليكون موضوعا لقبول الشهادة إذا انضمّ إليه
عدل آخر ، أو إثبات الكريّة بالاستصحاب ليرتّب عليها عدم الانفعال إذا انضمّ إليها
الطهارة والإطلاق.
وبالجملة فإذا قام
الظنّ أو البيّنة على خمريّة مائع فيقوم هذا الظنّ أو البيّنة مقام القطع بواسطة
دليل تنزيلهما منزلته ، فيحكم بكون المائع خمرا ، وبعد إثبات خمريّته بذلك يصير ذا
طريق قهرا ، فدليل التنزيل يثبت خمريّة المائع تشريعا وطريقيّة
الظن والبيّنة
تكوينا ، هذا كلّه فيما إذا كان القطع جزء موضوع.
وأمّا إذا كان
تمام موضوع فإن كان لمتعلّقه أثر آخر غير ما اخذ القطع تمام موضوعه فالأمارة
والأصل يقومان مقامه ؛ إذ بلحاظ ذاك الأثر يصحّ التنزيل وبه يتحقّق مصداق الطريق ،
فالصغرى أعني طريقيّة الأمارة تثبت به ، والكبرى أعني ثبوت الأثر الذي تمام موضوعه
القطع لكلّ طريق معتبر بدليل هذا الأثر ، فكون الأمارة طريقا يثبت بالتنزيل ، وكون
كلّ طريق حكمه كذا ثبت بدليل هذا الحكم ، وإن لم يكن لمتعلّقه أثر أصلا فلا يشمل
دليل التنزيل إيّاه ، إذ هو بلحاظ الأثر ، وإذ ليس فليس ، فلا يقوم الأمارة والأصل
مقام القطع ، فتبيّن أنّ قيام المقام مخصوص بموضع قابل له.
تتمّة : القطع
بحكم لا يمكن جعله موضوعا لمثل هذا الحكم ولا لضدّه ، أمّا الأوّل فللزوم اللغويّة
في الأمر والنهي المولويين كما تقدّم ، لا من جهة اجتماع المتماثلين ؛ إذ هو غير
لازم لاختلاف الرتبة كما تقدّم أيضا ، وكذا في الثاني ليس الجهة لزوم التناقض لعدم
لزومه باختلاف الرتبة ، بل الجهة لزوم الإذن في المخالفة وهو أيضا كالمخالفة في
القبح.
مثلا القطع بوجوب
موضوع لو صار موضوعا لوجوب آخر لهذا الموضوع فهذا لغو ، وإن صار موضوعا لحرمته لزم
الإذن في ترك الواجب ، ولو لم يلزم أحد المحذورين فلا بأس كما في جعل القطع بإباحة
شيء موضوعا لوجوبه أو حرمته أو استحبابه أو كراهته ، وكما في جعل القطع بالكراهة
موضوعا للحرمة دون العكس ، أو جعل القطع بالاستحباب موضوعا للوجوب دون عكسه ، وفي
مورد لزوم أحدهما لا بدّ من جعله موضوع الحكم على موضوع آخر مثل قولك : إذا قطعت
بكون المائع خمرا وحراما فتصدّق بدرهم.
ثمّ إنّه يرد على
المحقّق المذكور القائل بعدم قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ على نحو الكشف
والطريقية موضوعا النقض بالاصول العمليّة ؛ فإنّ غايتها العلم ، فقاعدة الطهارة
مغيّاة بالعلم بالنجاسة ، وقاعدة الاستصحاب مغيّاة بيقين مثل
اليقين السابق ،
وهكذا سائر الاصول ؛ فإنّها مجعولة في حقّ الشاكّ ما دام الشكّ ، فإذا ارتفع الشكّ
وتبدّل بالعلم ارتفع موضوعها ، ولا إشكال أنّ العلم المذكور وإن اخذ طريقا محضا
بالنسبة إلى حكم متعلّقة ، لكنّه موضوع بالنسبة إلى عدم جريان الأصل.
فلازم القول
المذكور عدم كون الأمارة القائمة على خلاف الاصول واردة عليها ، بل اللازم هو
التعارض بين الأصل والأمارة ، فإذا شكّ في حدوث خمريّة مائع قطع بخليّته سابقا
فقضيّة عدم نقض اليقين السابق بالشكّ بل بيقين مثله هو البناء على كون هذا المائع
خلّا ما دام الشكّ في خمريّته باقيا ، فإذا قام أمارة على خمريّة هذا المائع
فقضيّة دليل اعتبار هذه الأمارة المفيد لتنزيل نفس المؤدّى منزلة الواقع دون تنزيل
الشكّ منزلة اليقين ليس إلّا تنزيل هذا المائع منزلة الخمر وترتيب آثار الخمر
الواقعي عليه ، لا تنزيل شكّ المكلّف وترديده النفساني منزلة اليقين ، ومن المعلوم
أنّ تنزيل المائع بمنزلة الواقع لا يرفع الشكّ ، فيكون المائع خمرا بمقتضى دليل
التنزيل ، ويكون المكلّف شاكا لعدم حصول العلم له لا وجدانا ـ بلا إشكال ـ ولا
تنزيلا كما هو الفرض ، فيكون موضوعا للاستصحاب وعدم نقض اليقين بالشكّ ، فيكون
مقتضى هذا هو الحكم بالخليّة ، ومقتضى دليل الأمارة هو الحكم بالخمريّة فيقع
التعارض بينهما بدون الورود.
ومبنى هذا المحقّق
في باب ورود الأمارة على الأصل هو أنّ العلم المجعول غاية للأصل ، المراد به هو
العلم بالحكم الفعلي لا خصوص العلم بالحكم الواقعي ، ولا شكّ أنّ من تقوم عنده
أمارة على وجوب شيء ـ مثلا ـ يعلم بأنّ حكم الله في حقّه فعلا هو وجوب هذا لشيء ،
وبهذا يخرج عن موضوع الشاكّ ، وينقطع الأصل الجاري في حال الشكّ في الوجوب.
وأنت خبير بعدم
تأتّي ذلك في الشبهة الموضوعيّة ، فمن شكّ في حرمة شرب التتن لو قام عنده خبر
العادل الثقة على حرمته يعلم وجدانا بأنّ الحكم الفعلي هو الحرمة بضميمة وجوب
العمل على طبق خبر العادل الثقة ، وأمّا من شكّ في خمريّة مائع مع العلم بخليّته
سابقا وقام البيّنة على خمريّته فهو لا يحصل له العلم
بالخمريّة ؛
فإنّها غير قابلة للجعل ، فليست كالحكم القابل له ، ومن المعلوم أنّ دليل عدم نقض
اليقين بالشكّ إنّما يعتبر اليقين والشكّ فيه في الشبهات الموضوعيّة في نفس
الموضوعات، فمفاده أنّ العلم بالخليّة في السابق لا ينقض إلّا بالعلم بالخمريّة
وقد عرفت أنّ دليل الأمارة لا يصير سببا للعلم بنفس الخمر وإن كان يصير سببا للعلم
بحكمه.
وبالجملة ، فكلّ
ما يختاره هذا المحقّق الجليل في ورود الأمارة على الأصل في الشبهة الموضوعيّة
نختاره نحن في هذا الباب أعني قيام الأمارات مقام العلم المأخوذ في الموضوع على
نحو الكشف ، ونجيب به عن إشكاله قدسسره ، فبين اختيارية قدسسره في المقامين تهافت وتدافع.
لا يقال : إنّه
إذا قام الأمارة على خمريّة المائع المذكور فقد حصل كلا جزئي الغاية ، أحدهما
بالتنزيل والآخر بالوجدان ؛ فإنّ الغاية لحكم الأصل وعدم نقض اليقين بالخليّة
السابقة هو شيئان ، خمر وعلم به ، وقبل قيام الأمارة ليس شيء منهما محرزا ، وأمّا
بعده فالخمر يحرز بالتنزيل ، وأمّا العلم فيحصل حينئذ بالوجدان ؛ إذ بعد قيام
الأمارة وإن كان لا يحصل العلم بالخمر الواقعي ، ولكن يحصل العلم بالخمر التعبّدي
بالوجدان ، فيتحقّق الخمر المعلوم الذي هو الغاية والموضوع ، نظير إحراز موضوع
الكرّ الطاهر بإحراز كريّته بالوجدان وطهارته بالتنزيل.
لأنّا نقول : نعم
يمكن إحراز أحد جزئي الموضوع بالتنزيل مع إحراز جزئه الآخر بالوجدان كإحراز جميع
أجزائه بالتنزيل ، لكن بشرط أن يكون الجزء المحرز بالوجدان عين ما اخذ في الدليل
الأوّل لا شيئا آخر غيره ، وفي المقام الجزء الوجداني هو العلم بالخمر التعبّدي،
ولو كان المأخوذ دليل الأصل علما وخمرا منفردين كانا حاصلين ، ولكن من المعلوم أنّ
المأخوذ فيه هو الخمر والعلم بالخمر الواقعي لا مطلق العلم ولو بشيء أجنبيّ عن
الخمر الواقعي وبعد قيام الأمارة وإن كان نفس الخمر محرزا بدليل التنزيل ، ولكنّ
العلم الوجداني غير ما اخذ في غاية حكم الأصل ؛ فإنّه علم بالخمر الواقعي ، وهذا
علم بالخمر التعبّدي ، فالعلم الذي هو الجزء غير محرز لا
بالوجدان ولا
بالتنزيل كما هو المفروض ، والعلم الذي هو محرز ليس بجزء.
ثمّ على تقدير
تماميّة ما ذكر فمن الواضح عدم اختصاصه بما إذا كان القطع الموضوعي مأخوذا على وجه
الطريقيّة ، بل يعمّ ما إذا كان على وجه الصفتية ، فيلزم قيام الأمارة مقام القسم
الثاني أيضا بهذا البيان كما هو واضح.
ثمّ إنّه قدسسره بعد ما جوّز قيام الأمارات مقام القطع الطريقي المحض لم
يجوّز قيام الاصول غير الاستصحاب مقامه معلّلا بأنّ قيام المقام ليس إلّا ترتيب ما
للواقع من الآثار والأحكام، والاصول ليست إلّا وظائف مقرّرة في حقّ الجاهل.
وفيه أنّ كونها
وظائف مقرّرة في حقّ الجاهل في مقام العمل لا يضرّ بقيامها في حقّه مقام العلم
بمعنى ترتيب آثار الواقع على مؤدّاها ، فقاعدة الطهارة قائمة مقام العلم بمعنى
أنّه يحكم بسببها بجميع آثار موضوع الطاهر كما لو علم بهذا الموضوع ، وهذا أيضا هو
الموجود في الأمارة ؛ فإنّها أيضا لا تفيد أزيد من ترتيب الآثار ، فالأمارة على
كلّ موضوع تقوم مقام العلم بهذا الموضوع في ترتيب جميع آثاره ، وأصل الطهارة أيضا
يقوم مقام العلم بها في ترتيب جميع آثار الطهارة.
وكذا الكلام في
قاعدة الفراغ ؛ فإنّها تقوم مقام القطع بالصحّة ، فكما يرتّب على هذا القطع عدم
وجوب الإعادة ، فكذا يحكم به بهذا الأصل أيضا ، وهكذا سائر الاصول الشرعيّة.
نعم لا معنى لقيام
الأصل العقلي وهو الاحتياط والبراءة مقامه ، ووجهه أنّ الاحتياط ليس إلّا عبارة عن
نفس حكم العقل بتنجّز التكليف وكونه ثابتا في رقبة المكلّف وكونه معاقبا بالمخالفة
لو كان التكليف موجودا واقعا ، والبراءة ليست إلّا عبارة عن حكم العقل برفع
التنجيز واستحقاق العقوبة على تقدير ثبوت التكليف ، ومن المعلوم أنّ العلم إن كان
بوجود التكليف فهو موجب للحكم بالتنجّز واستحقاق العقوبة بالمخالفة ، لا أنّ
مؤدّاه نفس هذا الحكم ، وإن كان بعدمه فهو موجب لرفع التنجّز والاستحقاق لا أنّ
نفس مؤدّاه ذلك.
وبالجملة ، لو كان
الاحتياط مؤدّيا إلى شيء يكون من آثاره التنجيز ، وكانت
البراءة مؤدّية
إلى شيء هو موجب لرفع التنجيز صحّ قيامهما مقام العلم ؛ فإنّ مؤدّاه أيضا إمّا
منجّز وإمّا رافع للتنجيز ، لكن ليسا كذلك ، بل هما كما عرفت نفس التنجيز العقلي
والمعذوريّة العقليّة وليسا مؤدّيين إلى شيء من آثاره أحد هذين.
ثمّ إنّه قدسسره بعد ما بيّن عدم قيام الأمارة مقام العلم الموضوعي بيّن
عدم قيام الاستصحاب مقامه أيضا ، ولعلّ وجه ذكره بالخصوص مع معلوميّة حاله من
الأمارة وعدم كونه أقوى منها أنّ في دليله ذكر لفظ الشكّ واليقين ، فربّما يتوهّم
وفائه بتنزيل الشكّ منزلة اليقين فيما إذا كان له دخل في الموضوع ، فصرّح به أيضا
دفعا لهذا التوهّم وأنّه لا بدّ إمّا من ملاحظة المتيقّن السابق والمشكوك بجعل
اليقين طريقا إلى متعلّقه ليفيد تنزيل المشكوك منزلة المقطوع بلحاظ آثار نفس
الواقع ، وإمّا من ملاحظة اليقين والشكّ على وجه الاستقلال ليفيد التنزيل بلحاظ
آثار نفس القطع ، وحيث إنّ الدليل ظاهر في اللحاظ الأوّل والجمع بينه والثاني أيضا
غير ممكن فتعيّن عدم وفاء دليله بقيامه مقام القطع فيما له دخل في الموضوع.
ثمّ إنّه قدسسره ذكر كلاما ذكره في حاشيته مع جوابه ، وحاصل ما ذكره في
الحاشية إمكان أن لا يفيد دليل الأمارة والاستصحاب إلّا تنزيل المؤدّى والمستصحب
ومع ذلك كان كافيا للتنزيل منزلة القطع ؛ فإنّه إذا حكم بالأمارة أو الاستصحاب
بالخمريّة فالقطع بالخمريّة التعبديّة يحصل ، وكما يدّل دليل الأمارة والاستصحاب
على تنزيل المشكوك منزلة الخمر يدّل على تنزيل هذا القطع أيضا منزلة القطع بالواقع
؛ للملازمة بين هذين التنزيلين.
وحاصل الجواب أنّ
الملازمة ليست بعرفيّة قطعا بحيث يلزم عرفا من الانتقال إلى الأوّل الانتقال إلى
الثاني ، كما يلزم من الانتقال إلى تنزيل شخص منزلة الأب لشخص آخر الانتقال إلى
تنزيل الشخص الثاني منزلة الابن للشخص الأوّل ، فلو كان حكم مرتّبا على مجموع
الابوّة والبنوّة فالتنزيل في أحدهما فقط كاف لإحراز موضوع هذا الحكم بتمامه ؛
فإنّه وإن كان دلالة الدليل على تنزيل أحد الجزءين في طول دلالته على تنزيل الآخر
لكنّهما بحسب الواقع في عرض واحد ، ففي مقام
الثبوت قد نزّل
كلاهما في عرض واحد وإن كان في مقام الإثبات قد دلّ على أحدهما في طول الدلالة على
الآخر.
وهذا بخلاف المقام
؛ فإنّ الملازمة هنا إنّما يدّعى من جهة عدم لزوم اللغويّة وذلك لأنّ التنزيل يكون
في موضوع ذي أثر وفي غيره لغو ، فإذا فرضنا أنّ نفس الخمر لا أثر له ، فالتنزيل
فيه إنّما لا يكون لغوا إذا كان جزء آخر للموضوع وهو القطع بالخمر محرزا إمّا
بالوجدان أو بتنزيل آخر في عرض التنزيل الأوّل.
ولهذا لو كان هنا دليل
خاص على تنزيل هذا الخمر تعيّن القول بالملازمة بين تنزيله وتنزيل القطع بالخمر
التعبّدي أيضا منزلة القطع بالخمر الواقعي لئلّا يلزم اللغويّة ؛ فإنّ تنزيل الخمر
بدون تنزيل القطع مع فرض عدم كون الخمر ذا أثر لغو وإنّما يخرج عن اللغويّة إذا
كان الجزء الآخر محرزا بالوجدان أو بالتنزيل الآخر.
وهذا غير جار في
الدليل العام ؛ فإنّ غايته أنّ أصالة العموم محفوظة بالنسبة إلى هذا الخمر فيكشف
عن ثبوت التنزيل في القطع أيضا لعدم لزوم اللغويّة ، لكن لا إشكال أنّ التمسّك
بإطلاق حكم أو عمومه إنّما يصحّ فيما هو مصداق موضوعه مع قطع النظر عن إجراء عموم
الحكم فيه لا فيما يصير مصداقا للموضوع بسبب الإجراء ؛ فإنّه في رتبة الإجراء غير
مصداق ، فلا يجري بالنسبة إليه أصالة العموم من باب التخصّص لا التخصيص.
فنحن إذا فرضنا
أنّ موضوع دليل العام للتنزيل هو كلّ ذي أثر ، فلا بدّ أوّلا من إحراز كون هذا
الخمر ذا أثر ليصير مصداقا للموضوع ليصحّ التمسّك فيه بعموم الحكم وإجراء التنزيل
فيه ، وكونه ذا أثر يتوقّف على كون القطع بالخمر الواقعي مورد التنزيل في عرض ذاك
التنزيل ، وكونه موردا للتنزيل يتوقّف على دلالة الدليل على تنزيل نفس الخمر لكي
يحكم صونا له عن اللغويّة بالتنزيل في القطع أيضا ، وبالجملة ، فمصداقيّته لذي
الأثر الذي هو موضوع دليل التنزيل إنّما يتحقّق بسبب إجراء عموم التنزيل فيه ،
وبعده فلا يشمله العموم للتخصّص ولا التخصيص.
الأمر الرابع : هل
يجب الموافقة الالتزاميّة كالموافقة العلميّة ويحرم المخالفة
الالتزاميّة
كالمخالفة العمليّة أولا؟ فاعلم أوّلا أنّ للمخالفة الالتزاميّة مرتبتين ، الاولى
: مجرّد عدم الانقياد القلبي بالحكم الشرعي ، وبعبارة اخرى اللابناء ، والثانية :
البناء القلبي على الخلاف مضافا إلى عدم انقياد الحكم وعدم الإذعان به.
ومحلّ الكلام ما
إذا لم يكن في البين مخالفة قطعيّة عمليّة لا في زمان واحد ولا تدريجا ، وهو لا
محالة يكون فيما إذا دار الأمر في زمان مخصوص يسع عملا خاصّا بين كون هذا العمل
الخاص حراما أو واجبا مع العلم بعدم الحرمة والوجوب قبل هذا الزمان وبعده ؛ فإنّ
المخالفة القطعيّة من حيث العمل غير ممكن حينئذ ولو بطريق التدريج ، والمخالفة
الاحتماليّة لازمة على أيّ حال ؛ لعدم إمكان صدور الفعل والترك معا عن المكلّف ولا
خلّوه عنهما وبشرط عدم العلم بالتعبّد به إمّا في الوجوب معيّنا أو في الحرمة كذلك
أو كليهما ؛ لوضوح أنّه معه يتحقّق المخالفة القطعيّة كما هو واضح.
وهذا في الشبهة
الحكميّة لم نعثر له على مثال ؛ فإنّ الأحكام الشرعيّة ثابتة من أوّل هذه الشريعة
إلى الأبد وليس فيها ما يكون دوامه ساعة واحدة مثلا ، حتّى يعلم إجمالا بكون
العنوان الفلاني في الساعة الفلانيّة من اليوم الفلاني من الشهر الفلاني من السنة
الفلانية إمّا واجبا وإمّا حراما ، مع كونه خاليا عن الوجوب والحرمة قبل هذه
الساعة وبعدها إلى الأبد.
نعم له مثال في
الشبهة الموضوعيّة ، وهو كما إذا علم بصدور حلف منه متعلّق بالمرأة الفلانيّة في
الساعة الاولى من ظهر يوم الجمعة الفلاني بقدر زمان يسع الوطي الواحد فقط ، ولم
يعلم أنّه حلف على وطئها فيها أو على ترك الوطي ؛ فإنّ الأمر دائر حينئذ بين
الوجوب والحرمة في الشيء الواحد والزمان الواحد ، ومن المعلوم أنّه لا يخلو من
الفعل والترك في هذا الزمان ، فينازع في مثل ذلك في أنّه هل يحرم عدم البناء على
شيء أصلا والبناء على عدم الوجوب والحرمة معا أولا؟.
فنقول : إن كان
مقصود المدّعي أنّ المكلّف يكون عالما بالإلزام على نحو الإجمال فيلزم عليه
الانقياد والتصديق القلبي على قدر علمه وبمقدار معلومه ، فيلزم الاعتقاد بأصل
الإلزام على ما هو عليه واقعا من الوجوب والحرمة ، فالظاهر أنّه
مسلّم ؛ فإنّ معنى
الإيمان والإسلام والتصديق بما جاء به النبي صلىاللهعليهوآله هو انقياد ما علم أنّه حكم الله من غير فرق بين علمه
تفصيلا أو إجمالا ، فإن كان تفصيليّا فعلى نحو التفصيل ، وإن كان إجماليّا فعلى
نحو الإجمال كما فيما نحن فيه.
ويشهد لذلك مراجعة
الوجدان في من يشرب الخمر معتقدا أنّه معصية المولى ومن يشربه مستحلّا له أو غير
بان على شيء أصلا ؛ فإنّ الثاني والثالث أغلظ من
__________________
الأوّل قطعا ؛
فإنّهما مستخفّان بحكم المولى ، والأوّل غير مستخفّ به ، بل قابل له ، وبالجملة
التفرقة بينهما في مراتب الاستحقاق لعلّه من أوائل البديهيّات ، وليس منشأ ذلك إلّا
المخالفة الالتزاميّة الموجودة في الأخيرين دون الأوّل.
فيكون هذا شاهدا
على المدّعى فيما نحن فيه وهو صورة العلم الإجمالى وعدم إمكان المخالفة القطعيّة
العمليّة ؛ لعدم الفرق بينها وبين صورة العلم التفصيلي وإمكانها ، فإذا كانت
المخالفة القطعيّة الالتزاميّة محرّمة في الثانيّة فهي كذلك في الاولى أيضا ولا
يعقل التفكيك ، وبالجملة يلزم الانقياد القلبي على طبق العلم وحذوه ، إن تفصيليّا
فتفصيليّا ، وإن إجماليّا فإجماليّا.
وإن كان المقصود
لزوم عقد القلب على الشخص المعيّن من الحكم بمعنى أنّه يلزم في المثال البناء على
خصوص ما كان واقعا ثابتا من الوجوب أو الحرمة أو كان هو بالخيار في تعيين أحدهما ،
فإمّا يبنى على شخص الوجوب أو على شخص الحرمة ، فيكون حال الموافقة الالتزاميّة في
مورد العلم الإجمالي حال الموافقة العمليّة في مورد العلم الإجمالي ، فكما يجب
الموافقة القطعيّة وقد يجب الموافقة الاحتماليّة عملا في صورة العلم الإجمالي ،
فكذلك الحال في الموافقة الالتزاميّة.
ففيه أنّ الأوّل
وهو الالتزام والبناء على خصوص الحكم الواقعي غير ممكن
__________________
لكونه تكليفا بما
لا يطاق ؛ لفرض عدم العلم بهذا الحكم الشخصي ، والثاني وهو الالتزام والبناء على
خصوص أحد الحكمين على نحو التخيير وإن كان ممكنا ولكن لا دليل يدلّ على ثبوت هذا
التكليف التخييري ، وإذا لم يثبت الدليل جاء حرمته من باب التشريع ؛ فإنّ البناء
على خصوص وجوب الوطي في المثال أو خصوص حرمته إدخال لما لا يعلم أنّه من الدين في
الدين ، فيشمله أدلّة حرمة التشريع ، فيكون موافقة احتماليّة للحكم الواقعي
ومخالفة قطعية لحرمة التشريع.
وربّما يتوهم أنّ
الدليل تنقيح المناط فيما ورد في الخبرين المتعارضين من جعل أحدهما طريقا على
التخيير ، وأنّ المناط هو الحكمان المشتبهان اللذان دلّ عليهما الخبران ، لا خصوص
كونهما خبرين ، فإذا دلّ أحدهما على وجوب الجمعة والآخر على حرمته فالمكلّف يشكّ
في أنّ حكم الله هو الوجوب أو الحرمة؟ فالتخيير يكون من هذا الحيث ، فيجري في كلّ
ما إذا دار الأمر بين حكمين شرعيين ، فمعنى الأخذ بما دلّ على الوجوب هو الأخذ
بالوجوب ، ومعنى الأخذ بما دلّ على الحرمة هو الأخذ بالحرمة.
وفيه أنّه تابع
لإثبات كون المناط هذا ، وأنّى لأحد بإثباته ، فلا يمكن العلم به ، وإن كان لو علم
مناطيّة ما ذكر صحّ إجراء الحكم في غير مورد الخبرين المتعارضين بتنقيح المناط.
ثمّ بعد تبيّن عدم
لزوم البناء على واحد شخصي على التخيير فإن قلنا بأنّ أدلّة حليّة كل مشتبه من مثل
قوله عليهالسلام : كلّ شيء مطلق
حتّى يرد فيه نهي غير شاملة إلّا لما إذا شكّ في أصل الإلزام كما إذا كان أحد
الطرفين الوجوب والآخر الإباحة ، فهي غير شاملة للمقام ممّا يكون أصل الإلزام فيه
متيقّنا ، وحينئذ فمن حيث أصل الإلزام حيث إنّه عالم يلزم الانقياد قلبا ، ومن حيث
التعيّن والشخص فحيث إنّه جاهل لا يجب عليه شيء.
وإن قلنا بشمول
تلك الأدلّة لمثل المقام فيجب هنا عليه التزامان الالتزام بالإلزام الواقعي أيّا
ما كان ، والالتزام بالإباحة والحليّة ، ولا منافاة بين الالتزامين
كما لا منافاة بين
نفس الحكمين ؛ فإنّ أحدهما بحسب مرحلة الواقع والآخر بحسب مرحلة الظاهر ، فمن حيث
مرحلة الواقع المكلّف عالم بأصل الإلزام وجاهل بشخصه ومنقاد بالإلزام الإجمالي ،
ومن حيث مرحلة الظاهر بان على حليّة كلّ مشتبه الحرمة ومنه المقام.
والمحصّل أنّ محلّ
الكلام أنّ المخالفة العمليّة في مورد العلم الإجمالي ، كما أنّها مانعة عن جريان
أصالة الإباحة في الأطراف كذلك الالتزاميّة أيضا أولا؟.
فلنفرض الكلام في
صورة لم يكن مانع عن جريانه من جهة العمليّة وكان ممحّضا في الالتزاميّة كالشبهة
الموضوعيّة التي مثّلنا بها ، فالمدّعي للمانعيّة لا بدّ وأن يقول : كما أنّ العلم
الإجمالي ينجّز التكليف في مقام العمل في خصوص الأطراف ، ففي ما علم بوجود إناء
نجس بين إناءين يوجب الموافقة العمليّة في خصوص شخص هذا الطرف وذاك الطرف ، كذلك
يوجب تنجزّ التكليف في مقام عقد القلب في خصوص الطرف.
ففي ما علم
بالتكليف المردّد بين الوجوب والحرمة يجب الالتزام بخصوص شخص الوجوب أو شخص الحرمة
، نظير الالتزام بطريقيّة أحد الخبرين عند التعارض ؛ فإنّه حينئذ لا يمكن إجراء
أصالة الإباحة ؛ فإنّه وإن كان لا مانع من حيث المخالفة العمليّة ـ إذ القطعيّة
منها غير ممكنة والاحتماليّة غير منفكّة ، وأمّا من جهة المخالفة الالتزاميّة
فالمانع موجود ؛ إذ لا يمكن عقد القلب في فعل واحد في زمان واحد على وجوبه أو
حرمته وعلى إباحته ـ ولكن قلنا : إنّ المقدار الذي تعلّق به العلم وهو مجرد
التكليف الحتمي الإلزامي من غير تعيين كونه أمرا أو نهيا يلزم التصديق والبناء
القلبي به ، وأمّا الزائد على هذا بأن وجب عقد القلب على خصوص الأمر أو خصوص النهي
فإن كان خصوص الواقع فمحال ، وإن كان خصوص أحد الطرفين مخيّرا فممكن ، لكن لا دليل
عليه ، فيكون مشمولا لأدلّة التشريع ويصير موافقة احتماليّة للتكليف المعلوم ومخالفة
قطعيّة لدليل التشريع.
وإذن فينحصر المانع
في الالتزام بما تعلّق به العلم أعني التكليف الإلزامي و
هو غير مانع عن
شمول دليل أصل الإباحة لو قلنا بعدم اختصاصه بما إذا كان أحد طرفي الشكّ التكليف
والآخر اللاتكليف ، بل عمومه لكلّ ما إذا شكّ في الحرمة سواء كان طرفها الوجوب أم
غيره ، والجمع بين الالتزام بالتكليف والالتزام بالإباحة على نحو قرّر في الجمع
بين الحكم الظاهري والواقعي.
هذا كلّه في ما
إذا لم يمكن المخالفة القطعيّة العمليّة ولو تدريجا ، وأمّا لو أمكن بطريق التدريج
فيقع الكلام في أنّ المخالفة القطعيّة الحاصلة بالتدريج ليست بمانعة عقلا عن إجراء
الإباحة أو هي مانعة؟.
وليعلم أوّلا أنّه
ليس المراد بالتدريج مطلق الحصول في جزءين متعاقبين من الزمان ؛ لوضوح أنّ شرب
الإنائين المشتبهين بالخمر أيضا تدريجي بهذا المعنى ، بل المراد التدريجيّة من حيث
توجّه التكليف بأن كان التكليف المعلوم مردّدا بين ما يتوجّه إلى المكلّف في الحال
، وما يتوجّه إليه في الاستقبال ، كما لو علم بأنّه إمّا يجب عليه إكرام زيد في
هذا اليوم أو إكرام عمرو فيما بعد أربعة أيّام ؛ فإنّ الواجب إن كان الأوّل فهو في
الحال يتنجّز عليه التكليف ، وإن كان الثاني فهو في الحال غير مكلّف ؛ إذ تنجّز
ذاك يتوقّف على حضور ذاك الزمان.
وهذا موجود في
الشبهة الحكميّة ، كما لو شكّ في وجوب صلاة الجمعة في جميع الأسابيع أو حرمته في
جميعها ، فلو صلاها في اسبوع وتركها في اسبوع آخر يعلم بملاحظة الزمانين بصدور
المخالفة القطعيّة منه ؛ إذ يعلم بأنّه إمّا أن يكون الفعل في الأوّل حراما أو
الترك في الثاني ، فماله دخل في حصول المخالفة القطعيّة في هذا الفرض هو العلم
بأنّه إمّا يحرم في الاسبوع الأوّل وإمّا يجب في الاسبوع الثاني ، لوضوح أنّ العلم
بالوجوب أو الحرمة في كلّ واحد من الاسبوعين منفردا لا دخل له في ذلك ؛ لعدم إمكان
المخالفة القطعيّة من هذا الحيث.
إذا تقرّر ذلك فقد
يقال بأنّ المكلّف في الاسبوع الأوّل لا يعلم بتوجّه تكليف إليه ؛ لاحتمال أن تكون
الصلاة في الاسبوع الثاني واجبة ؛ إذ على هذا التقدير لا يتوجّه هذا التكليف
التحريمي إليه في هذا الاسبوع ، ثمّ في الاسبوع الثاني أيضا
لا يعلم بتوجّه
التكليف إليه ، لاحتماله أن كانت الصلاة في الأوّل محرّمة ، فهو لا يعلم بالتكليف
في أحد الزمانين.
نعم بعد الزمانين
يعلم بحصول المخالفة منه ، فلهذا لا يكون جعل الإباحة في حقّه ترخيصا في المخالفة
القطعيّة.
وبالجملة ، هذه
مخالفة لم يحصل العلم بها حين الارتكاب ، وإنّما يحصل بعده ، والمحذور الترخيص في
المخالفة القطعيّة التي يحصل القطع بها حين الارتكاب.
وجوابه ظهر ممّا
مرّ في بيان الواجب المشروط من أنّه إذا كان الوجوب مشروطا بشرط يعلم بحصوله فيما
بعد فهو كالوجوب المطلق ، ولهذا لو توقّف إتيان الواجب في المستقبل على مقدّمة
سابقة عليه فتركها يستحقّ العقاب لذلك.
والحاصل أنّ مجرّد
تدريجيّة المخالفة بالمعنى المذكور لا يوجب الفرق في حكم العقل بوجوب الموافقة
القطعيّة وحرمة المخالفة القطعية أصلا ، وإذن فلو تمكّن من الموافقة القطعيّة وترك
المخالفة القطعيّة كان هو المتعيّن ، كما في ما لو علم بوجوب إكرام زيد في اليوم
أو عمرو فيما بعد ، أو علم بحرمة إكرام زيد في اليوم أو وجوبه في ما بعد ؛ فإنّه
يأتي بالإكرامين في الزمانين في الأوّل ويتركه في الزمان الأوّل ويأتي به في
الزمان الثاني في الثاني.
وأمّا لو لم يتمكّن
من الموافقة القطعيّة إلّا مقرونة بالمخالفة القطعيّة ، ومن ترك المخالفة القطعيّة
إلّا مقرونا بترك الموافقة القطعيّة كما في مثال صلاة الجمعة ؛ فإنّه كما يحصل
بإتيانها في اسبوع وتركها في آخر القطع بالمخالفة ، كذلك يحصل القطع بالموافقة
أيضا كما هو واضح ، ولو اختار الفعل فقط في جميع الأسابيع أو الترك كذلك ، فكما لا
يحصل إلّا الموافقة الاحتماليّة ، كذلك لا يحصل إلّا المخالفة الاحتماليّة ،
فيبتني الكلام حينئذ على أنّه هل قبح المخالفة القطعيّة أشدّ أو قبح ترك الموافقة
القطعيّة؟.
فإن كان الأوّل
لزم رفع اليد من حسن الموافقة القطعيّة واختيار الفعل أو الترك في جميع الأزمان
تخلّصا من محذور المخالفة القطعيّة ، وإن كان الثاني لزم الفعل في
اسبوع والترك في
آخر وانحصل المخالفة القطعيّة تخلّصا من محذور ترك الموافقة القطعيّة ، وحيث إنّا
نختار الأوّل فيما يأتي في العلم الإجمالي إن شاء الله تعالى مستدلا بأنّ قبح
المخالفة القطعيّة بتّي ؛ ولهذا نحصّص به أدلة الاصول ، وأمّا ترك الموافقة
القطعيّة والاكتفاء بالاحتماليّة فقابل للزوال بمجيء الترخيص من الشرع ؛ فلهذا يجب
بحكم العقل اختياره باختيار الفعل أو الترك في تمام الأزمان تخلّصا من القبح
الأشدّ.
ثمّ ربّما يورد
على ما ذكرنا من عدم جريان الأصل تدريجا فيما تكون المخالفة فيه تدريجيّة بالنقض
بالخبرين المتعارضين ، حيث ورد في الأخبار العلاجيّة أنّه : بعد فقد المرجّحات
وتساويهما من كلّ الجهات يكون المكلّف مخيّرا في الأخذ بأيّهما شاء ، فاختلف في
ذلك ، فذهب جمع كثير إلى أنّ التخيير استمراري يعني بعد الأخذ بأحدهما أيضا يكون
التخيير ثابتا ، فيجوز العدول منه والأخذ بالآخر.
وذهب آخرون إلى
أنّه بدوي بمعنى أنّه قبل البناء على طريقيّة أحدهما كان مخيّرا ، وبعده يصير هذا
الواحد المأخوذ متعيّنا وهو ملزم بالأخذ به ويسقط اختياره ، ومنشأ الخلاف هو
الاختلاف في تعيين مدلول الخبر العلاجي الدالّ على التخيير.
فمستند الأوّلين
أنّ له إطلاقا بالنسبة إلى جميع الأزمان قبل الأخذ وبعده ، ومستند الآخرين إنكار
الإطلاق له وأنّ القدر المتيقّن منه إثبات التخيير قبل الأخذ ؛ فإنّه زمان التحيّر
، وأمّا بعده فلا تحيّر ، هذا مدرك الطرفين ، ومن الواضح أنّ التخيير الاستمراري
مستلزم للمخالفة القطعيّة التدريجيّة ، فلو كان لزومها محذورا لم يقل به الأوّلون
، أو يستشكل عليهم الآخرون وجعلوه مدركا للرجوع عن مقالتهم ، دون نفي الإطلاق المذكور.
وكذلك الكلام
بعينه في تخيير المقلّد بين الرجوع إلى فتوى المجتهدين المتساويين في العلم
والعدالة ؛ فإنّه ذهب جمع إلى كونه استمراريّا ، وآخرون إلى كونه بدويّا ، وليس
مستند الآخرين إلّا أنّ طريقيّة قول المجتهد الذي أخذ بقوله معلومة إمّا تعيينا أو
تخييرا ، وأمّا طريقيّة قول الآخر فغير معلومة.
وبعبارة اخرى يدور
الأمر بعد الأخذ بقول أحدهما بين التعيين والتخيير ، ونحن وإن قلنا في مورد دوران
الأمر بينهما في مسألة فرعيّة بالبراءة وعدم التعيين ، لكن نقول بالاشتغال وثبوت
التعيين هنا ؛ وذلك لأنّ الأصل حرمة التعبّد بقول من لا يعلم إصابته وخطائه إلّا
ما خرج بالدليل ، فيكون الأخذ بقول الآخر المشكوك طريقيّته والتعبّد بطريقيّته
محرّما ، وبالجملة، لم يستند أصحاب هذا القول إلّا إلى أمثال ذلك ، ولم يتعرّض أحد
منهم لمخالفة القول بالتخيير الاستمراري لحكم العقل وورود الإشكال العقلي عليه ،
مع أنّه مستلزم للمخالفة التدريجيّة كما هو واضح.
والجواب أنّه لا
يوجب وهنا في حكم العقل بقبح المخالفة التدريجيّة كالدفعيّة في مورد يحكم به ورود
ما يخالفه من الشرع في مورد آخر ، بل اللازم التعرّض لإصلاح المورد الثاني
والتكلّم فيه في وجه الجمع بين حكم الشرع والعقل ، وهو واضح.
فنقول : لو كان في
الخبرين المتعارضين ما هو نصّ صريح في استمرار التخيير بحيث لا تعتريه شبهة ، كما
لو علم بتصريح الشرع بالاستمرار ، لكان اللازم من باب الإلجاء الالتزام بالبدل
لامتثال الحكم المعلوم بالإجمال ، بمعنى أنّ الشارع جعل لامتثال الحكم الواقعي
المعلوم وجوده بين مدلولي الخبرين بدلا يكتفي به ويتقبّله عوضا عن امتثاله وهو
الالتزام بطريقيّة الخبر المخالف للواقع ، فكأنّه أمر المكلّف بأنّه يجب عليك إمّا
الإتيان بالفعل الفلاني أو الالتزام وعقد القلب على طريقيّة الخبر الفلاني.
فهنا أيضا وإن كان
ليس التكليف بحسب الواقع الأوّلي إلّا واحدا معيّنا بلا عدل ، ولكن بعد علم
المكلّف إجمالا يصير ذا عدل وبدل من هذا الحين ، ففي ما كان مدلول أحد الخبرين
وجوب الجمعة ، ومدلول الآخر حرمتها ، وكان واجبا واقعا ، فيجب على المكلّف بعد
اطّلاعه على الخبرين أحد الأمرين من صلاة الجمعة والالتزام بطريقيّة الخبر الذي
دلّ على حرمة الجمعة ، فجعل هذا الالتزام الذي هو فعل القلب بدلا لامتثال الأمر
بالجمعة.
وكذلك الحال بعينه
في مسألة التقليد ، فلو كان في البين نصّ صريح على
الاستمرار بحيث
ألجأنا إلى الجمع فوجه الجمع ما ذكرنا من أنّه يستكشف أنّ الشارع جعل الالتزام
والتعبّد بطريقيّة قول من خالف قوله الواقع بدلا لامتثال الواقع ، ومن المعلوم أنّ
حكم العقل في ما إذا علم التكليف ليس إلّا وجوب الامتثال بنفس هذا التكليف أو
ببدله.
وهذا بخلاف ما نحن
فيه ؛ فإنّه ليس مفاد دليل الأصل إلّا الإباحة وجواز الفعل والترك ، وليس فيه
إيجاب لعمل حتى يجعل بدلا عن الواقع ، وبالجملة ، لا بدّ من عمل ليكون بدلا عن
الامتثال ، وليس في الأصل عمل يصلح للبدليّة سوى الالتزام بمدلوله.
فنقول : ليس مدلول
الأصل العملي ودليل حجيّته الالتزام القلبي بحكم الأصل ، بل مدلول الجري على طبقه
في مقام العمل الخارجي ، بل وكذا الحال في دليل حجيّة الأمارة ؛ فإنّه وإن كان
مفاده التصديق وإلغاء احتمال الخلاف ، ولكن من المعلوم أنّه ليس المقصود التصديق
الجناني بل ترتيب الآثار بحسب العمل الخارجي الأركاني.
وبالجملة ، وجه الالتزام
ببدليّة الالتزام في المسألتين هو الإلجاء بسبب وجود النصّ الصريح على استمرار
التخيير ولسنا ملجئين هنا ، نعم لو علم بحجيّة أصل شرعي معلوم المخالفة للواقع في
مقام التزمنا فيه أيضا بمثل ذلك.
وأمّا في المقام
الذي لا نعلم بجريان الأصل وليس إلّا عموم دليله والحكم العقلي مانع عن إجرائه
إلّا على وجه كون الالتزام بمضمونه بدلا ، وهو خلاف ظاهر دليله ولا يوجب عملا آخر
يصلح البدليّة ، فلا جرم يخصّص دليل الأصل بالنسبة إلى المقام بواسطة قبح المخالفة
التدريجيّة عقلا ، فاللازم البناء العملي على واحد من الفعل والترك والبقاء عليه
وعدم العدول عنه أبدا ، وكذلك الكلام في المسألتين على تقدير عدم وجود النصّ
المذكور في البين كما هو كذلك.
هذا كلّه هو
الكلام على تقدير الفراغ من حيث دلالة دليل الأصل في شموله للمقام أعني ما إذا كان
أصل الإلزام معلوما ولم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة.
وأمّا الكلام في
دلالته وعدم الدلالة فالظاهر العدم ، وذلك لأنّ دليل البراءة ممّا سوى حديث الرفع
بين ما يكون أجنبيّا عن الباب وبين ما يناسبه ، ولا يشمل المقام إمّا للانصراف أو
لعدم كونه مورده ؛ فإنّه دليلان : أحدهما :
قوله عليهالسلام : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال» ؛ فإنّه إمّا
متعرّض لحكم الشبهة المحصورة فيكون أجنبيّا عن الشبهة في شيء واحد بالمرّة ، وإمّا
أنّ معناه : كلّ شيء فيه احتمال الحليّة واحتمال الحرمة ، فيرتبط بالشبهة في الشيء
الواحد ولكن أجنبيّ عن خصوص المقام ؛ فإنّ الشبهة فيه بين الوجوب والحرمة دون
الحليّة والحرمة.
وثانيهما قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي» فإمّا أن يقال : إنّه
متعرّض لحال الأشياء قبل ورود الشرع عليها الذي هو موضوع بحث الحظر والإباحة
العقليين فلا يرتبط بالمقام ؛ لفرض كونه ممّا ورد فيه الشرع ، غاية الأمر لا يعلم
بأنّ التشريع الموجود هو الإيجاب أو التحريم ، وإمّا أن يقال : إنّ معنى «يرد»
يبلغ ، فيشمل الشبهة الحاصلة بعد ورود الشرع أيضا ، لكنّه منصرف إلى غير المقام ؛
إذا الظاهر منه صورة كون الشبهة في التحريم والإباحة.
وبعبارة اخرى : ما
إذا كان أحد طرفي الاحتمال التقييد بقيد التكليف والآخر اللاتقييد والإطلاق ، فحكم
فيه بأنّه مطلق حتّى يعلم تقييده الذي يحتمل أعني التحريم ، فلا يشمل ما إذا كان
أصل وجود التقييد وعدم الإطلاق معلوما وشكّ في كون التقييد أمرا أو نهيا.
وأمّا حديث الرفع
فمورده المنّة ، ففي ما إذا كان هناك احتمال الحرمة والإباحة فمعنى منّة الشارع
أنّه لم يجعل الاحتياط على العباد مع أنّه كان له جعله حفظا للأحكام الشرعيّة ،
لكن ما جعله منّة عليهم ، فيكون الرفع بمعنى الدفع.
وأمّا في ما إذا
كانت الشبهة في الحرمة والوجوب فإن كانت واقعة شخصيّة لا يمكن فيها المخالفة
القطعيّة ولو تدريجا ، فلا يعقل معنى لجعل الإباحة فيها لطفا ومنّة ؛ إذ لم يكن
للشارع أن يجعل الاحتياط حتّى يتحقّق بعدم جعله لطف ومنّة ؛ إذ
الاحتياط بالخلوّ
عن الفعل والترك غير ممكن ، والالتزام بأحدهما ليس فيه حفظ للحكم الشرعي ؛ إذ هما
متساويان من حيث لزوم الموافقة الاحتماليّة والمخالفة الاحتماليّة.
وإن كانت واقعة
كليّة يتحقّق فيها المخالفة التدريجيّة ، فجعل الإباحة فيها بمعنى جواز الفعل مرّة
والترك اخرى ، وبعبارة اخرى الإباحة الاستمراريّة فهو وإن كان منّة لكونه أسهل من
بناء العمل أوّلا على أحدهما تخييرا ولزوم البقاء على ما بنى عليه ، إلّا أنّه غير
ممكن ؛ لكونه ترخيصا في المخالفة القطعيّة بدون جعل شيء بدلا للامتثال.
وأمّا الالتزام
القلبى بالإباحة فقد قلنا : إنّه لا يجري هنا وان قلنا بثبوت مثله في الخبرين
المتعارضين ، والفرق بين المقامين قد مرّ سابقا وحاصله أنّ دليل الأصل مثل هذا
الحديث غير متعرّض إلّا لحيث مقام العمل ، ولا إشعار فيه بمقام الالتزام فضلا عن
الدلالة ، فمدلولها الإباحة بمعنى ترخيص الفعل والترك ورفع البأس عنهما ، لا بمعنى
لزوم عقد القلب عليها ، بخلاف قوله عليهالسلام في الخبرين المتعارضين : «وإذن فأنت مخيّر» يعني في الأخذ
بأيّهما كما في قوله في رواية اخرى : «بأيّهما أخذت من باب التسليم وسعك» فإنّ
الظاهر من الأخذ التعبّد بطريقيّة الخبر والبناء القلبي على حجيّته دون صرف العمل
الخارجى على طبقة ، ولو كان هو أيضا كذلك للزم طرحه لمخالفته لحكم العقل ، هذا في
الإباحة الاستمراريّة.
وأمّا الإباحة
البدويّة فهي غير موافقة للمنّة ؛ إذ ليس للشارع جعل احتياط من هذه الجهة بأن يلزم
البناء من أوّل الأمر على خصوص الفعل أو على خصوص الترك ؛ إذ ليس فيه حفظ للحكم ،
لمساواتهما في لزوم الموافقة والمخالفة الاحتماليين ، كما في الشبهة الشخصيّة.
وبالجملة ، في
الشبهة الحكميّة من حيث الإباحة الاستمراريّة جعل الإباحة موافق للمنّة ، لكن غير
ممكن ، ووجه عدم إمكانه مرّ سابقا ، وهذه الشبهة من حيث الإباحة البدويّة وكذا
الشبهة الموضوعيّة كالمرأة المردّدة ليس جعل الإباحة فيهما
لطفا ومنّة ودفعا
لمئونة زائدة كان للشارع إثباتها ، نعم يمكن جعل الإباحة فيهما لحكمة اخرى غير
الامتنان بدليل آخر غير الحديث المفروض كون الحكمة فيه الامتنان ، ولكن عرفت عدم
دليل آخر.
وإذن فمن حيث
الواقع عرفت أنّه يجب الالتزام بأنّ حكم هذا الشيء هو الإلزام على ما هو عليه من
الوجوب أو الحرمة ، وأمّا من حيث هذا الشخص الخارجى بشخصيّته فلا بدّ أن يكون
المكلّف بلا بناء وبلا التزام ، يعنى لا يلتزم بوجوبه ولا بحرمته ؛ لما عرفت من
حرمة هذين الالتزامين بدليل التشريع ، وكذلك لا يلتزم بإباحته ؛ لما عرفت هنا من
قصور دليل أصالة الإباحة عن شموله للمقام.
وينبغي هنا شرح
عبارة الكفاية في هذا المقام ، فقال قدسسره ـ بعد بيان أنّه في مورد العلم الإجمالي بالوجوب أو الحرمة
على القول بلزوم الموافقة الالتزاميّة تلزم هي ، وإن كان لا يجب الموافقة القطعيّة
العلميّة ، ولا يحرم المخالفة القطعيّة العمليّة لامتناعهما ؛ للتمكّن من الالتزام
بما هو الثابت واقعا ، وإن أبيت إلّا عن لزوم الالتزام بالحكم الواقعى بخصوص
عنوانه فالموافقة القطعيّة الالتزاميّة بمعنى التزام نفس الحكم الواقعي غير ممكنة
، وأمّا الالتزام بواحد تخييري وإن كان ممكنا ، لكنّه غير واجب ؛ إذ الالتزام بضدّ
التكليف ليس محذوره بأقلّ من محذور عدم الالتزام به ، مع أنّ التكليف لو اقتضى
الالتزام لاقتضى الالتزام بنفسه عينا دون الالتزام به أو بضدّه تخييرا ـ ما هذا
لفظه : ومن هنا ـ يعني ممّا ذكرنا من أنّه لا يجب إلّا الالتزام بما هو الثابت
واقعا وإن لم يعلم أنّه الوجوب أو الحرمة ـ قد انقدح أنّه لا يكون من قبل لزوم
الالتزام مانع عن إجراء الاصول الحكميّة أو الموضوعيّة في أطراف العلم لو كانت
جارية مع قطع النظر عنه ـ لما ذكرنا من إمكان الجمع بين الالتزام بكون حكم الواقع
هو الإلزام وبين الالتزام بأنّ حكم هذا الشخص الخارجى هو خصوص الإباحة ـ كما لا
يدفع هنا محذور عدم الالتزام به ، بل الالتزام بخلافه لو قيل بالمحذور فيه حينئذ
أيضا إلّا على وجه دائر.
يعني كما أنّه لو
قلنا ـ كما هو المختار ـ بأنّه لا يجب أزيد من الالتزام بما هو الثابت
واقعا فالأصل لا
مانع من جريانه من قبل لزوم الالتزام ، كذلك لو قلنا بخلاف المختار من لزوم
الالتزام بخصوص عنوان الوجوب أو الحرمة وعدم كفاية مجرّد ما هو الثابت واقعا ،
فحينئذ لا يدفع بواسطة أصل الإباحة محذور عدم الالتزام بخصوص الوجوب أو الحرمة ،
كما هو المفروض من ثبوت المحذور فيه ، بل الالتزام بخلافه وهو الإباحة ؛ إذ يلزم
الدور ؛ إذ المفروض ثبوت المحذور في ترك الالتزام بأحد الوجوب أو الحرمة ،
والمقصود رفع هذا المحذور ، بل محذور الالتزام بالخلاف بجريان الأصل ، ولا شكّ أنّ
جريان الأصل أيضا موقوف على عدم المحذور في عدم الالتزام اللازم من جريانه.
اللهم إلّا أن
يقال : إنّ قبح عدم الالتزام ليس بتيّا لا يرفع بالأصل ؛ إذ حينئذ من الواضح أنّ
جريان الأصل موقوف على عدم ترتّب مثل هذا القبح عليه ، فاذا قصد دفع قبحه أيضا
بجريان الأصل يلزم الدور ، بل قبحه معلّق على عدم ورود الرخصة عليه من الشرع ، إذ
حينئذ ما لم يرد الرخصة يكون قبيحا وبعد وروده يرتفع القبح بارتفاع موضوعه ، فلا
يلزم الدور.
وأمّا نحن حيث
اخترنا عدم لزوم الالتزام إلّا بما هو الثابت واقعا ففي فسحة من هذا الإيراد وهذا
الجواب ، بل يكون الأصل جاريا بلا كلام ؛ لإمكان حفظ هذا الالتزام مع جريان الأصل
؛ لاختلاف الرتبة.
«إلّا أنّ الشأن
في جواز جريان الاصول في أطراف العلم الإجمالي ، مع عدم ترتّب أثر عملي عليها ، مع
أنّها أحكام عمليّة كسائر الأحكام الفرعية ، مضافا إلى عدم شمول أدلّتها لأطرافه ؛
للزوم التناقض في مدلولها على تقدير شمولها كما ادّعاه شيخنا العلّامة أعلى الله
مقامه وإن كان محلّ تأمّل ونظر» .
ووجه التأمّل على
المختار عدم لزومه بسبب اختلاف الرتبة كما ذكرنا ، هذا هو الكلام في المخالفة
الالتزاميّة.
__________________
وأمّا المخالفة
العمليّة للتكليف المعلوم بالإجمال كما لو علم بعد العلم بورود «لا تشرب الخمر»
على نحو التكليف الفعلي بأنّ هذا الإناء خمر وذاك الإناء ماء أو بالعكس ، أو علم
بعد العلم باجتنب عن النجس على نحو التكليف الفعلي بأنّ هذا نجس وذاك طاهر أو
بالعكس ـ هذا في الشبهة التحريميّة ـ وأمّا الوجوبيّة فكما لو علم بأنّ هذا الفعل
واجب أو ذاك.
فيقع الكلام تارة
في أنّ العلم الإجمالى بالتكليف الفعلي هل يؤثّر أثرا وينجّز على العالم شيئا ، أو
هو كالعدم ويعامل مع الأطراف معاملة المشكوك البدوي فيجري في جميعها الأصل العملي
وهو البراءة فيجوز أن يرتكب جميعها في التحريمية ويترك الجميع في الوجوبيّة؟
وربّما يظهر من
بعض كلمات المحقّق القمي قدسسره في القوانين اختيار الثاني ، فجوّز المخالفة القطعيّة على
التدريج كشرب أحد الإنائين المشتبهين بالخمر أوّلا ثمّ شرب الآخر بعده ، وأمّا شرب
الجميع دفعة فلا كلام في كونه شرب خمر محرّما.
واخرى يقع بعد
التنزّل عن المقام الأوّل وتسليم عدم كونه بلا أثر واقتضاء أصلا ، بل له أثر
واقتضاء في الجملة في أنّ هذا الأثر ما ذا؟ فهل يوجب حرمة المخالفة القطعيّة فقط ،
فليس له في الشبهة التحريميّة ارتكاب الجميع ولا في الوجوبية ترك الجميع ، ولكن لا
يوجب وجوب الموافقة القطعية ، فيكفي في التحريميّة ترك أحد الأطراف وإن أتى
بالباقي ، وفي الوجوبيّة إتيان أحدها وإن ترك الباقي ، أو أنّه يكون كالعلم
التفصيلي؟ ، فكما يوجب حرمة المخالفة القطعيّة كذلك يوجب وجوب الموافقة القطعية
أيضا ، والحاكم في هذين المقامين هو الوجدان.
فنقول : أمّا
المقام الأوّل فصريح الوجدان هو الحكم ببطلان كون العلم الإجمالي حاله كالعدم في
عدم تنجيز شيء على العالم أصلا ، ومعاملة الشكّ البدوي معه.
ألا ترى أنّه لا
فرق في عصيان لا تشرب الخمر واستحقاق العقوبة عقلا بين من علم تفصيلا بأنّ هذا خمر
وشربه ، وبين من علم إجمالا بأنّ أحد الإنائين خمر وشربهما تدريجا ، فكما أنّ
العقل مستقلّ باستحقاق الأوّل فكذلك يكون مستقلّا به في
الثاني أيضا ،
وليس إلّا لأنّ العلم الإجمالى صار موجبا لتماميّة الحجّة على المكلّف.
ولا فرق في ذلك
بين اقسام العلم الإجمالي من كون أصل الحكم الكلّي كحرمة الخمر معلوما وكان الشبهة
في موضوعه كاشتباه الخمر بين الإنائين ، وكما لو علم بوجوب إكرام زيد واشتبه الزيد
بين شخصين ، ومن كون الشبهة في أصل الحكم لتردّده بين حكمين فى موضوعين ، كما لو
علم أنّه إمّا يجب عليه الدعاء عند رؤية الهلال وإمّا يجب عليه الصلاة عند ذكر
النبي صلىاللهعليهوآله ، مع اتحاد نوع التكليفين كهذا المثال ، ومع اختلافه كما
لو علم بأنّه إمّا يجب عليه الدعاء عند الرؤية ، وإمّا يحرم عليه الخمر ، فإنّه فى
القسم الأخير الذي يكون الشكّ فيه في موضوع التكليف ونوع التكليف لو فرض كونهما
محلّا لابتلائه ، كما لو كان عنده خمر ورأى الهلال فترك الدعاء وشرب الخمر ؛ فإنّه
عند العقل فعل قبيحا بلا كلام ، وكذلك سائر الأقسام. هذا في المقام الأوّل.
وأمّا المقام
الثاني فنقول : بعد البناء على كون العلم الإجمالي منجّزا لمتعلّقه في الجملة لا
وجه للتفكيك بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب الموافقة القطعية ، وذلك لأنّ ما
يحكم به العقل هو أنّ المؤاخذة والعقاب بلا بيان وحجّة من قبل المولى على التكليف
قبيح ، فيرفع بذلك احتمال العقاب على تقدير ثبوت التكليف واقعا أيضا ، كما هو الحال
في الشبهة البدويّة فى التكليف ، فإنّ الارتكاب يعلم بحكم العقل خلوّه عن الضرر
وإن صادف الحرام الواقعي ، لعدم إمكان مؤاخذة المولى على هذا التقدير العبد بأنّه
: لم ارتكبت ما حرّمته عليك ؛ إذ ليس له حجّة وبيان على هذا التكليف.
وهذا بخلاف المقام
؛ فإنّا قد فرضنا في المقام الأوّل صيرورة التكليف بواسطة تعلّق العلم الإجمالي به
ذا حجّة وبيان ، بمعنى أنّه يكون للمولى أن يخاطب العالم بالعلم الإجمالي ويقول له
: ما ذا فعلت مع أمري الفلاني أو نهيي؟
كما يصحّ ذلك له
بالنسبة إلى العالم بالعلم التفصيلي ، ولا يمكن أن يقال : إنّ هذا يكون للمولى في
العالم الإجمالي بالنسبة إلى صورة المخالفة القطعيّة ، ولا يصحّ بالنسبة إلى
صورة ترك الموافقة
القطعيّة.
وبعبارة اخرى :
الحجّة موجودة بالنسبة إلى الأوّل وغير موجودة بالنسبة إلى الثانى ؛ فإنّ الحجّة
على التكليف إذا صارت موجودة يلزم بحكم العقل اجتناب أحد الأطراف أيضا؛ إذ المفروض
أنّه على تقدير الارتكاب يحتمل أن يكون الحرام الواقعي هو هذا الذي يرتكبه ، وقد
فرضنا أنّه على هذا التقدير كان العقاب والمؤاخذة على مخالفة التكليف التحريمى
عقابا ومؤاخذة مع الحجة والبيان ، فيلزم اجتنابه تحرّزا عن الوقوع في هذا الضرر ،
والضرر وإن كان محتملا لكن لكونه اخرويّا ، والضرر الاخروي يكون اهتمام العقل
بدفعه أزيد من الدنيوي ؛ لكونه أشدّ منه ، فلهذا يستقلّ العقل بوجوب دفع محتمله
أيضا.
وبعبارة اخرى :
الحكم الواقعي بعد تعلّق العلم الإجمالي به لا يخلو من حالين : إمّا يكون الحجّة
عليه موجودة ، وإمّا لا ، فعلى الثاني لا يحرم عليه المخالفة أيضا ، وقد فرضنا
خلافه في المقام الأوّل ، فتعيّن الأوّل ، وعليه يجب الموافقة القطعية أيضا ، ولا
معنى للتفكيك بين المخالفة والموافقة.
فثبت أنّ العلم
الإجمالي بحسب حكم العقل لا فرق في تنجيزه بين حرمة المخالفة القطعيّة ووجوب
الموافقة القطعيّة.
وأمّا بحسب الشرع
، فهل يجوز للشارع أن يرخّص في المخالفة القطعيّة وارتكاب جميع الأطراف ، فيصير
العلم بعد كونه مؤثرا تمام التأثير عقلا غير مؤثر لشىء أصلا شرعا ، أو أنّه لا
يجوز له الترخيص في ارتكاب الجميع الذي هو المخالفة القطعية ، ولكن قبح ترك
الموافقة القطعية عقلا ليس بهذه المثابة ، بل هو قابل لإذن الشرع ، وحينئذ فيكون
بحسب الشرع مؤثّرا بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعيّة دون وجوب الموافقة القطعيّة
، أو أنّه ليس له الترخيص في ترك الموافقة القطعيّة أيضا ، كما أنّه ليس له
الترخيص في فعل المخالفة القطعية، فيصير العلم الإجمالي كالتفصيلي في جميع الآثار
عقلا وشرعا.
وبعبارة اخرى : هل
اقتضاء العلم الإجمالى لقبح المخالفة القطعيّة وقبح ترك
الموافقة القطعية
يكون في كليهما على نحو العليّة التامّة بحيث لا يمكن الترخيص من الشرع في شيء
منهما؟ أو أنّ اقتضائه في كليهما يكون على نحو الاقتضاء ، بمعنى أنّ العقل لو خلّي
وطبعه يحكم بالقبح ، وللشارع أن يرخصّ من حيث الشارعيّة في المخالفة القطعيّة ،
فحكم العقل بالمنع إنّما هو لو لا حكم الشرع بالجواز ، أو هنا تفصيل ، فبالنسبة
إلى المخالفة القطعيّة يكون على نحو العليّة التامّة ، وبالنسبة إلى وجوب الموافقة
القطعيّة يكون على نحو الاقتضاء ولو لا حكم الشرع.
وبعبارة ثالثة :
هل العلم الإجمالي كالتفصيلي ليس للشارع التصرّف فيه لا نفيا ولا إثباتا بوجه من
الوجوه ، أو أنّه يكون له التصرّف فيه نفيا من حيث المخالفة الاحتماليّة دون
القطعيّة ، أو له ذلك في كليهما؟
فنقول : أمّا
المخالفة القطعيّة فقد يقال بأنّه لو رخّص الشارع في جميع الأطراف يلزم التناقض
بين هذا الترخيص وبين الحكم الواقعى المعلوم إجمالا ، فمن يعلم بأنّ أحد الإنائين
خمر لو جوّز له الشرع شرب كليهما كان راجعا إلى تجويز شرب الخمر وهو مخالف لقوله :
لا تشرب الخمر ، وهذا مدفوع ؛ لعدم التناقض ، لما يأتى في وجه الجمع بين الحكم
الواقعي والظاهري ، فإنّ جعل الترخيص هنا يكون في موضوع الشكّ لثبوته في كلّ من
الطرفين بالخصوص.
وحينئذ فإمّا نختار
مذاق من يقول للحكم بمراتب ، ونقول : إنّ قوله : لا تشرب الخمر وإن كان ظاهرا في
الفعليّة ولكن بعد ما ورد الترخيص في كلا الطرفين يستكشف ـ قضيّة للجمع بينهما ـ منه
كون ذاك حكما غير فعلي من حيث الشكّ ، وكون هذا حكما فعليّا من جميع الحيثيّات ،
والمخالفة القطعيّة للحكم الفعلي وإن كانت قبيحة بحيث لا يمكن أن يجوّزها الشرع ،
ولكن هذا ليس مخالفة للحكم الفعلي.
وإمّا نختار مذاق
من يقول بأنّ الحكم والأمر والنهي لا يعقل له إلّا مرتبة واحدة ؛ لأنّه إمّا موجود
فيكون فعليّا ، وإمّا معدوم فلا يعقل أن يكون موجودا وغير فعلي. فنقول : وإن كان
كلّ من «لا تشرب الخمر» والترخيص في الأطراف حكما فعليّا ، ولكن مع ذلك لا تناقض ،
لكون رتبتهما مختلفة ، فإن الثاني في طول الأوّل ، فعلم أنّه
من حيث التناقض لا
مانع من اجراء الأصل في كلا الطرفين على كلا المذاقين ، كيف وقد عرفت عدم لزومه في
ترخيص مخالفة العلم التفصيلي أيضا ، إلّا أنّه يمكن أن يقال على مذاق من يجعل
للحكم مراتب ؛ إنّه وإن كان لا يلزم التناقض مع الواقع ؛ لاختلاف المرحلتين ، ولكن
يلزم التناقض مع الغاية التي جعلت في الأدلّة غاية للاصول.
بيان ذلك : أنّ
قوله عليهالسلام : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهى» كما يدلّ على المطلقية
قبل ورود النهي بمعنى معلوميّته ، كذلك يدلّ على عدم المطلقيّة بعد معلوميّة النهي
، فذيل الرواية يدلّ على أنّ تعلّق العلم بالنهى يجعله فعليّا ، وصدره يدلّ على
أنّه حال الشكّ فيه غير فعلي ويجوز مخالفته ، فيكون بين الصدر والذيل في أطراف
الشبهة تناقض وتهافت ؛ إذ المكلّف في خصوص كلّ واحد شاكّ في الحرمة ، فيكون خصوص
كلّ واحد مطلقا مرخّصا فيه باعتبار مشكوكيّة النهي فيه بمقتضى الصدر.
ولا يخفى أنّه مع
هذا الشكّ عالم إجمالا بوجود خمر في البين ، فيعلم بخطاب النهي عن شرب الخمر ، فلا
يكون هذا المعلوم مطلقا ومرخّصا فيه باعتبار معلوميّة نهيه بمقتضى الغاية ، ولا
إشكال أنّ كونه في قيد بالنسبة إلى هذا التكليف المعلوم ينافي كونه مطلقا وبلا قيد
من حيث ارتكاب الطرفين ؛ إذ معناه عدم التقيّد بالنسبة إلى ذاك المعلوم.
فإن قلت : لا يلزم
ذلك ، إذ المراد بالعلم الذي هو غاية إنّما هو العلم التفصيلي في خصوص الشخص
المشكوك.
قلت : هذا مناف
للإطلاق ؛ فإنّه بإطلاقه يشمل العالم الإجمالي ؛ فإنّه أيضا عالم بالحكم ،
والتقييد بالتفصيلي يدفعه الإطلاق.
فإن قلت : الظاهر
من قوله : «كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي» أنّه يعلم في هذا الشيء نهي ، والظاهر
من الشيء الأشياء الخارجيّة ، وليس في المقام لنا إلّا شيئان خارجيّان ، فمدلول
الرواية أنّ كلّا منهما مطلق حتّى يعلم في خصوصه نهي ، وعلى
هذا فلا يشمل
العلم الإجمالي ، فلا تهافت في الدليل.
قلت : نعم ، لكنّ
الإطلاق لا يمكن إنكاره في قوله : رفع ما لا يعلمون الذي مفاده أنّه لم يرفع ما
يعلمون ، وكذلك قوله : الناس في سعة ما لا يعلمون ، بكلا احتماليه.
وممّا ذكر في هذه
الرواية يعرف الكلام في قوله : «الناس في سعة ما لا يعلمون» أو في سعة ما لا
يعلمون ، بجعل «ما» ظرفيّة لا موصوله ؛ فإنّه أيضا كما يدلّ على السعة حال الجهل ،
يدلّ أيضا على الضيق حال العلم ، وهنا يكون الجهل والعلم موجودين ، فالجهل من حيث
الخصوص والعلم من حيث الإجمال ، فمقتضى الأوّل السعة وجواز ارتكاب كلا الطرفين ،
ومقتضى الثانى الضيق وعدم جوازه.
هذا كلّه على قول
من يجعل للحكم مراتب.
ويمكن ان يقال على
قول من لا يجعل له بعد الوجود سوى مرحلة الفعليّة أيضا : إنّه وإن كان لا يستحيل
ترخيص أطراف الشبهة من حيث لزوم التناقض ، ولكنّه يستحيل من جهة لزوم الترخيص في
المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلي ، فإنّ المخالفة القطعيّة لهذا التكليف ظلم على
المولى ، والظلم لا يرتفع قبحه بالترخيص ، بل يكون ترخيصه أيضا قبيحا.
وجه لزوم ذلك أنّ
المفروض كون الخطاب الواقعي حكما فعليا ، فإذا تعلّق به العلم يقبح عقلا من
المكلّف مخالفته ، والمفروض أنّه هنا عالم أيضا بهذا الخطاب ، غاية الأمر بالعلم
الإجمالى ، وعرفت أنّه لا فرق في قبح المخالفة بين العلم التفصيلي والإجمالى ،
وعرفت هنا أنّ قبح المخالفة القطعية يكون من باب الظلم وعلى نحو العليّة التامّة ،
فإنّ المولى يطلب الفعل أو الترك من العبد بكمال الشدّة والاهتمام ويظهر عدم رضاه
بالمخالفة ، فكما أنّ مخالفته مع هذه الحالة وعدم المبالاة بكمال بغضه ذلك ظلم قبل
الترخيص ، فهو بعينه باق على هذا الحال بعده ؛ لأنّه بعده أيضا ظلم ، لفرض قيام
عدم الرضى والطلب بكمال الجدّ بالمولى بعده أيضا ، فيكون الترخيص قبيحا ؛ لكونه
ترخيصا للظلم ، فيمتنع صدوره عن الحكيم.
ولا يتوهم أنّ
قبحه إنّما هو من جهة لزوم الجري على خلاف المراد ورفع اليد عن
الغرض ونقضه ؛ إذ
لو كان ذلك للزم بعينه في إجراء الأصل في الشبهة البدوية ، ولا اختصاص له بالشبهة
المقرونة بالعلم ؛ فإنّ معنى الأصل في الشبهة البدويّة أنّ الفعل مثلا جائز ، سواء
كان في الواقع جائزا أم حراما ، فتجويزه على تقدير حرمته نقض للغرض ، بل المانع ما
ذكرنا من لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة.
ولا يتوهّم أنّ
المانع ذلك مع لزوم التهافت في دليل الأصل كما ذكرناه على القول الآخر ؛ فإنّ
المانع على هذا القول منحصر في الجهة المذكورة ولا يلزم التهافت في الدليل اللفظي
، وذلك لأنّك عرفت أنّ الحكم الواقعي على هذا يكون فعليّا بمجرّد وجوده ، فالعلم
به يكون بحكم العقل منجّزا له ، وليس بعد العلم للشارع الأمر بمتابعة هذا العلم
على نحو المولويّة ، كما ليس له المنع عنه مولويّا.
فلو وقع الأمر به
في مقام كما في الغاية الواقعة في قوله : كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي ، يعني
بعد ورود النهي والعلم يجب المتابعة ، وقوله : الناس في سعة ما لا يعلمون يعني
أنّهم في ضيق ما يعلمون ، فلا بدّ من حمل ذلك على الإرشاد إلى حكم العقل وتقريره
من دون مولويّة وشارعيّة ، وإذا لم يكن الغاية حكما من قبل الشرع من حيث إنّه شرع
لم يبق في البين إشكال التهافت ؛ فإنّه مبنيّ على كون حكمين شرعيّين هنا كما على
القول الآخر ، إذ عليه كما أنّ الترخيص المشتمل عليه الصدر معلوم أنّه شرعي فكذلك
الغاية ؛ فإنّها وإن كان علما بالتكليف ، لكن مجرّد العلم بالتكليف لا يخرجه عن
تصرّف الشرع ، فإنّه لو كان التكليف المعلوم شأنيا كما هو المفروض في متعلّق هذا
العلم فبعده أيضا يكون إعطاء الفعليّة له بيد الشرع ومن قبله ، فهنا حكم بموافقة
العلم وعلم منه أنّه جعل الواقع فعليا لصيرورته في مقام البعث إليه والزجر عن تركه.
وأمّا على القول
بنفي المرتبة فالإشكال ممحّض من حيث الترخيص في المخالفة القطعيّة الذي مبناه حكم
العقل بقبح المخالفة القطعيّة ، وليس من الشرع حكم في موضوع القطع ، وإنّما قرّر
حكم العقل بقبح مخالفة القطع.
والملخّص من جميع
ما ذكرنا أنّ الترخيص في جميع أطراف الشبهة إمّا أنّه
ممكن عقلا بحسب
مقام الثبوت ولا يلزم التناقص ، لأجل اختلاف مرحلة الحكم الواقعي والظاهري ،
ولكنّه غير واقع بحسب مقام الإثبات للزوم التهافت في دليل إثباته ، فيتساقط جزءا
دليله للتعارض ، فيبقى بلا دليل ، ودعوى عدم التعارض بأنّ المراد من العلم هو
العلم بالتكليف مفصلا فلا يشمل المقام المفروض وجود العلم به على نحو الإجمال
مردودة بالإطلاق.
وإمّا أنّه غير
ممكن عقلا لا من جهة التناقص لأجل اختلاف الرتبة ، ولا من جهة لزوم التهافت فى
الدليل ؛ إذ ليس الغاية إلّا تقريرا لحكم العقل ، ولا يمكن أن يكون حكما مولويّا
شرعيّا ، بل من جهة لزوم الترخيص في المخالفة القطعيّة للتكليف الفعلى المعلوم
بالإجمال. هذا هو الكلام في ترخيص الشرع في ارتكاب جميع الأطراف.
وأمّا الترخيص في
بعض الأطراف إمّا معيّنا وإمّا مخيّرا ، فالكلام فيه تارة يقع في إمكانه عقلا مع
قطع النظر عن ثبوت الدليل عليه وقوعا وإثباتا بحسب الشرع وعدمه ، واخرى في ثبوت
الدليل عليه إثباتا بحسب الشرع بعد فرض إمكانه والتكلّم في دليل الأصل من حيث إنّه
هل هو قاصر عن شمول أحد الأطراف كما كان كذلك عن شمول الجميع ، أو له دلالة عليه؟
أمّا الإمكان
العقلي فلا نرى مانعا هنا ، فإنّا إذا عرضنا على النفس المخالفة القطعيّة نراها
معصية بحيث لا يمكن أن يصير بواسطة مصلحة جائزة ، فإنّه عناد وشقاق مع المولى
وقيام على وجهه وفي قباله ومعارضة معه بعلانية ووضوح ، وهذا أمر لا يجوّز العقل أن
يوجد فيه صلاح يزاحم قبحه وفساده ويجعله جائزا أو راجحا.
وإذا عرض عليها
المخالفة الاحتماليّة فهو وإن كان لا يفرق بينها على تقدير المصادفة لمخالفة
التكليف وبين المخالفة القطعيّة في صحّة العقوبة ، لكنّه ليس بأزيد من الإقدام على
شيء يحتمل كونه مخالفة تمّت عليها الحجّة ، بمعنى أنّه مع وصف محتمليّته تكون الحجة
عليه تامّة كالمقطوع ، بخلاف الشبهة البدويّة ، فإنّه وإن كانت مخالفة محتملة ،
لكن ليست الحجّة عليها تماما ، فليس للمولى على تقدير المصادفة للحرام
العقاب ، ومجرد
تماميّة الحجّة لا يوجب عدم إمكان الترخيص ، وليس مثل ما اذا كانت المعصية مقطوعة.
إذ أوّلا قد ورد
الترخيص من الشرع فيه في بعض المواضع كما في الشبهة بين الأقلّ والأكثر
الارتباطيين ، حيث حكموا فيها بالاحتياط بحكم العقل ، ثمّ رفعوه وحكموا بالبراءة
بحديث الرفع المشتمل على رفع ما لا يعلمون ، وكذلك في الشبهة البدويّة قبل الفحص ؛
فإنّهم حكموا فيما كانت منها في الأحكام بالاحتياط ؛ لعدم ورود الترخيص فيها شرعا
، فأوجبوا الفحص ، وفي ما كانت منها في الموضوعات حكموا بالبراءة ؛ لورود الترخيص
وعدم وجوب الفحص فيها بالخصوص ، مع أنّهما من واد واحد ؛ لأنّهما مشتركان في
تماميّة الحجّة في كليهما ؛ فإنّه لو كان معلوما عادة أو لخصوص الشاكّ أنّه لو
تفحّص لحصل العلم بالواقع ، فلا فرق في تماميّة الحجّة حينئذ بين كون الشبهة في
الحكم أو في الموضوع.
وبالجملة ، يستكشف
من الترخيص في هذه الموارد إمكان الإذن في المخالفة الاحتماليّة ولو فرض أنّ العقل
في هذا المقام متحيّر ولا حكم له بالمنع والجواز.
وثانيا : أنّا لو
فرضنا وجود مصلحة في المخالفة الاحتمالية كما لو رأى المولى أنّ العبد في الشبهة
الوجوبيّة مثلا لو أتى بوقائع عديدة لاجل درك واقعة واحدة لسقط عن درك كثير من
الوقائع الأخر ، ويكون ذلك حرجا عليه ، فيرفع عند ذلك عنه مئونة بعض هذه الوقائع
التي وقعت أطرافا للشبهة واكتفى منه بإتيان واحدة منها وإن كانت هذه الواقعة قد
يصادف الواجب وقد لا يصادفه ولكنّه يرفع اليد عن بعض أوقات مصادفته أيضا رعاية
لحال العبد ليصير الأمر عليه سهلا ، ولا يقع في الحرج والشدة ، ومع ذلك كان موافقا
وآتيا بالأمر أيضا في بعض الأوقات لم يقع في محذور مخالفته في جميع الاوقات ، فلا
نرى الوجدان آبيا عن ذلك كإبائه ذلك في المخالفة القطعيّة.
أمّا الضرر
المحتمل فهذا الترخيص مؤمّن شرعي منه ، وأمّا الشقاق مع المولى والقيام في قباله
فلا يحصل إلّا مع العلم بمخالفة أمره لا مع حصولها منه بلا علم ، بل مع
احتمال ، وحاصل
هذا الوجه أنّه لا منع من العقل في هذا المقام كما في المخالفة القطعيّة.
فتحصّل أنّ كون
العلم الإجمالى لا شيء وغير منشأ لأثر باطل ، بل هو ذو أثر ، فإسقاطه عن التأثير
رأسا غير ممكن شرعا كالعلم التفصيلي ، وبعبارة اخرى : المخالفة القطعية للعلم
الإجمالي والتفصيلى قبيح بقبح ذاتي اقتضياه على نحو العليّة التامّة ، فلا يقبل
تجويزا من الشرع ، وإنّما يظهر الفرق بين التفصيلى والإجمالي في الموافقة القطعيّة
؛ فإنّ اقتضائها يكون في الأوّل على نحو العليّة التامة ، وفي الثاني على نحو الاقتضاء
المعلّق على عدم ورود الترخيص الشرعي ، هذا.
ولكن في الكفاية
جعل اقتضاء العلم الإجمالي في المخالفة القطعيّة أيضا على نحو الاقتضاء القابل
لتصرّف الشرع مستدلّا بمحفوظيّة المرتبة الظاهريّة في كلّ واحد من الأطراف ، لفرض
الشك في كلّ واحد ، فيكون كالشبهة البدويّة في هذه الجهة ، فللشارع جعل الترخيص في
تمامها ، ولا يلزم التناقض ، لاختلاف مرتبة الحكمين.
ونحن نطالبه بوجه
الفرق بينه وبين التفصيلي ؛ حيث إنّه لم يسلّم ورود الترخيص هناك ؛ للزوم التناقض
، فنقول : لا فرق في لزومه بين العلم بقسميه والشكّ ، غاية الأمر أنّ في الشكّ
احتمال التناقض ، وفي العلم بقسميه يقينه ، واحتماله أيضا كيقينه محدود ، وإذا
دفعتم الأوّل باختلاف المرتبة وكذلك تقولون في أطراف العلم الإجمالي ، فلم لا يجرى
هذا الجواب في العلم التفصيلي؟ فإنّ فيه أيضا يمكن دفع التناقض باختلاف المرتبة
بأن نقول : المولى لا يعمل بالعلم الحاصل من الرمل أو الجفر ، هذا في الامكان
العقلى.
وأمّا التكلّم في
قصور دليل الأصل لشمول المقام وعدمه بعد فرض الإمكان فملخّصه أنّه بعد ما فرضنا
عدم إمكان دخول كلا الطرفين في زمان واحد في عمومه للزوم التناقض يبقى هنا ثلاثة
احتمالات ، الأوّل : أن لا يشمل شيئا منهما ، والثاني : أن يشمل واحدا معيّنا ،
والثالث : أن يشمل واحدا مخيّرا ، والاحتمال الثانى مدفوع بلزوم الترجيح بلا مرجّح
، لمساواة الدليل بالنسبة إلى الطرفين ، بقى احتمال التخيير وعدم الشمول رأسا.
فإن قلنا بأنّ
الواحد التخييرى ليس مستفادا من الدليل ، بل ظاهره الأشياء المعيّنة يبقى عدم
الشمول رأسا ، إلّا أن يتمسّك في إثبات التخيير بالإطلاق بأن يقال : إنّ الدليل لو
لا حكم العقل كان باطلاقه دالّا على ترخيص هذا الطرف ، سواء أتى بالطرف الآخر أو
لم يؤت به ، وكذلك كان شاملا لذاك الطرف أيضا سواء أتى بهذا أم لا ، فحكم العقل قد
أوجب تقييد هذين الإطلاقين ، فقيّد إطلاقه في كلّ منهما بحال عدم إتيان الآخر ،
فيلزم ثبوت التقييد في مدلول الرواية بالنسبة إلى الشبهة المقرونة بالعلم دون
البدوية.
وقد يقال : إنّه
استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى واحد ، وتنقيح المطلب والتكلّم فيه أزيد من
هذا يطلب في بحث أصالة البراءة إن شاء الله تعالى.
الأمر الخامس :
على تقدير القول بأنّ العلم الإجمالي يقتضي وجوب الموافقة القطعيّة ، فهل يكتفى في
مقام الامتثال بالإتيان على وجه الإجمال مع التمكّن من تعيين مورد التكليف تفصيلا
، كمن علم إجمالا بوجوب الظهر أو الجمعة وهو يتمكّن من تعيين أنّ أيّهما هو الواجب
عليه بالاستفتاء من العالم مثلا ومع ذلك أتى بها بدون تعيين ، وكمن اشتبه عليه
القبلة بين أربع جهات ، فصلّى إليها مع إمكان تشخيص القبلة في إحداها.
والكلام يقع تارة
في التوصّليات واخرى في التعبّديات.
أمّا التوصّليات
فلا كلام في الاكتفاء بهذا النحو من الامتثال فيها ، فمن يعلم إجمالا باشتغال
ذمّته لأحد رجلين فأدّى إليهما كان بريئا بلا إشكال.
وأمّا التعبديّات
فإمّا يكون مورد الشبهة فيها عملا واحدا ويدور أمره بين الوجوب والإباحة وإمّا
يكون عملا واحدا ويدور بين الوجوب والاستحباب ، وإمّا يكون عملا واحدا معلوم
الوجوب ويدور أمره بين الأقلّ والأكثر ، ثمّ أمر الزيادة المشكوكة إمّا دار بين
الوجوب والإباحة وإمّا ، بين الوجوب والاستحباب.
وإمّا يكون مورد
الشبهة عملين ، فالاحتياط في القسم الأخير مستلزم للتكرار دون ما سبقه ، فإن قلنا
بأنّه يعتبر في الامتثال الإتيان بداعويّة الأمر ففي ما يكون
الأمر دائرا بين
الوجوب والإباحة لم يحصل الامتثال ؛ لأنّ نفس الأمر لم يصر داعيا ، بل احتماله.
وإن اعتبرنا مع
ذلك أن يكون وجه الأمر معلوما عند الفاعل من الوجوب أو الندب ويقصده إمّا وصفا
وإمّا غاية وإمّا معا على الخلاف ، بأن يأتى بالفعل الفلاني الواجب لوجوبه ، ففي
ما يكون الأمر دائرا بين الوجوب والاستحباب لم يحصل الامتثال ؛ لأنّه وإن كان داعي
الأمر فيه متمشّيا ، إلّا أنّ قصد الوجه لعدم معلوميّته غير متمشّ.
وإن اعتبرنا مع
ذلك قصد التمييز بأن يكون الفعل المأمور به حين الإتيان مميّزا عن غيره ففي ما
يدور الواجب بين عملين لم يحصل الامتثال ؛ فإنّه وإن كان يشتمل على قصد الأمر وعلى
قصد وجهه ، لوضوح إمكان أن يأتي بالعملين بداعي الواجب الذي في البين بوصف وجوبه
ولعلّة وجوبه ، لكنّ التمييز حين الإتيان مفقود.
فنقول : مقتضى
القاعدة جواز الاكتفاء بهذا النحو من الامتثال ، فعلى من يدّعي العدم إثبات المانع
إمّا من العقل أو النقل.
أمّا من جهة العقل
فربّما يقال : إنّ العبادة ما يعتبر فيه وقوعه من المكلّف بحيث صار مقرّبا له ،
وهذا ممّا إشكال فيه ، بخلاف التوصّلي ، فإنّه يجزى ويسقط أمره وإن لم يقع على وجه
مقرّب ، وكلّ عبادة ولو صدرت من الفاسق لا محالة تكون مقرّبة ، فإنّا لا نعني
بمقرّبيته أن يصير العبد ذا منزلة عظيمة عند المولى ويصل مرتبه الجبرئيل ، بل
المقصود أن يكون فاعل الفعل غير مساو مع تاركه ، وهذا له مراتب مختلفة لا تحصى ،
ولا يلازم القبول الذي هو بمعنى خرق الحجب.
فعبادة شارب الخمر
وإن كان يمنع شربه عن خرقها الحجب ولكنّه غير مساو مع من يترك هذه العبادة ،
فالفعل المأمور به ما لم يكن بداعوية الأمر ، أو كان معها وتجرّد عن قصد الوجه أو
اشتمل عليهما وتجرّد عن قصد التمييز لا يصير مقرّبا للفاعل ؛ ولهذا قيل : إنّ من
علم بوجوب أمر عليه بين عدّة امور وأتى بجميعها كان مستهزئا بأمر المولى وعابثا ،
وكذلك من لم يعلم بالأمر وأتى برجائه أو لم يعلم
بوجوبه وأتى برجاء
الوجوب.
وأمّا من جهة
النقل فللإجماع على الاعتبار في كلّ من المراحل الثلاث ، والجواب أمّا عن الإجماع
فواضح ، فإنّ النزاع كما ترى إنّما هو في منافاة عدم الامور الثلاثة مع العباديّة
والمقرّبية عقلا وعدمها ، فالإجماع لو كان محقّقا لم يعبأ به في مثل هذه المسألة ؛
لعدم كشفه عن رأى المعصوم ، كيف وهو في المقام منقول.
وأمّا عمّا ذكر من
المنافاة للقرب فبأنّه لا إشكال أنّ من علم بأنّ الفعل الفلاني إمّا واجب عبادي ،
وإمّا مباح فأتى به برجاء كونه واجبا قد تحقّق منه الإطاعة والانقياد ويكون حسنا ،
بمعنى أنّه غير مساو مع من يترك هذا الفعل قطعا.
وكذلك الكلام
بعينه في من يأتى بالفعل الذي علم إجمالا بوجوبه أو استحبابه برجاء أنّه واجب ؛
فإنّه لا يعدّ مساويا مع تاركه بلا ريب.
وأمّا في ما كان
الاحتياط مستلزما للتكرار ، فإن لم يكن في البين داع عقلائى كمن أمره المولى بشيء
وتردّد عنده بين أشياء ، وهو متمكّن من أن يستعلم من المولى فلم يستعلم وأتى بجميع
هذه الأشياء الكثيرة ، لكون واحد منها متعلّقا لغرض المولى فهذا لا كلام فيه ،
فإنّه يعدّ مستهزئا ولاغيا عابثا.
وأمّا إن كان له
داع عقلائي إلى التكرار كما لو عرض له الشكّ في قلب الليل وتوقّف الاستعلام على
إيقاظ العالم وهو حرج عليه ، فإنّ إتيانه حينئذ بكلا الطرفين حسن مرغوب وهو مع
غيره التارك غير متساويين قطعا ، فيكون مجزيا وموجبا لسقوط الأمر ، كما أنّه في
القسم الأوّل لو كان الأمر في الواقع موجودا أجزأ عنه الإتيان المذكور ، وإن لم
يكن موجودا فقد تحقّق منه الانقياد.
وبالجملة ، فبطلان
الدعوى في هذه المراحل الثلاث استنادا إلى الإجماع أو دليل العقل المذكورين واضح
لا يحتاج إلى البيان.
والذي يمكن
الاستناد إليه في إثبات الدعوى في كلّ من المراحل ما أشار إليه شيخنا المرتضى في
رسائله ، وهو أن يقال : إنّه لا أقلّ من تحقّق الاحتمال لأن يكون الإتيان بداعي
الأمر دخيلا في غرض المولى ، وكذا من المحتمل أن يكون الغرض متعلّقا
بالمقيّد بداعي
الوجه ، وكذا أن يكون الغرض هو التقييد بداعي التمييز ، وإذا جاء الاحتمال في دخل
شرط أو شطر في متعلّق الغرض فلا يمكن رفعه إلّا بأحد أمرين : أصالة البراءة وأصالة
الإطلاق ، وكلاهما في المقام مفقود ، فلا إطلاق في البين ، والأصل في خصوص هذه
القيود هو الاحتياط وإن قلنا بكون الأصل في مورد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر
في القيود الأخر هو البراءة.
أمّا الأوّل :
فلأنّ الإطلاق والتقييد توأمان ، وإمكان الأوّل فرع إمكان الثاني ، ففي أعتق
الرقبة يمكن التقييد بالمؤمنة ، فيؤخذ مع اجتماع شرائط الإطلاق به في رفعه ، ولكنّ
التقيّد في هذه القيود غير ممكن ، ووجه ذلك أنّ القيود على قسمين :
قسم لا يحدث
بالأمر ، بل له الواقعيّة مع قطع النظر عن الأمر كقيد المؤمنة في الرقبة ؛ فإنّه غير
متوقّف تحقّقه وواقعيّته على وجود الأمر بالعتق ، فهذا يمكن أخذه في متعلّق الأمر
على وجه الإطلاق وعلى وجه التقييد.
وقسم لا يحدث إلّا
بالأمر ولا واقعيّة وتحقّق له قبل وجود الأمر ، وذلك مثل داعي الأمر وداعي وجه
الأمر وداعي تمييز المأمور به عن غيره ، فهذه تكون متأخّرة في الرتبة عن الأمر ،
فلا يعقل أخذها في متعلّقه لا إطلاقا ولا تقييدا ، وإذا لم يمكن الأخذ بنحو فاللفظ
بالنسبة إليها مهمل ، قال شيخنا المرتضى : وليس هذا تقييدا في دليل العبادة حتّى
يدفع بإطلاقه.
وأمّا الثاني :
فلأنّ وجه إجراء البراءة في القيود الأخر أنّ الشكّ كان فيها في التكليف بحسب
مرحلة أصل الثبوت بمعنى أنّه شكّ في أصل ثبوت التكليف بالنسبة إلى الزائد المشكوك
، وأمّا هنا لا شبهة بحسب مرحلة الثبوت ، بل الحال معلوم والمأمور به بحدوده
وقيوده معلوم ، وإنّما الشكّ واقع بعد عدم الأخذ في متعلّق الأمر قطعا وكونه من
هذه الجهة عامّا في دخل تلك القيود في الغرض ، فيكون الغرض أخصّ ممّا تعلّق الأمر
به ؛ لعدم إمكان أخذ القيد فيه ، فيشكّ بعد الإتيان بدون هذا القيد في حصول الغرض
وعدمه ، وبذلك يشكّ في سقوط الأمر وعدمه ؛ إذ سقوط الأمر منوط بحصول الغرض الباعث
إليه.
وبالجملة ، فالشكّ
واقع في مرحلة السقوط بعد معلوميّة ثبوت الأمر ، ومن المعلوم أنّه مع ذلك لا مجرى
للبراءة ، بل الحقيق هو الاحتياط. هذا غاية تقريب الدعوى.
وأنت خبير بأنّ
مبنى عدم الجريان في كلا الأصلين هو امتناع التقييد بهذه القيود ، وحيث انجرّ
الكلام إلى هنا ينبغي التكلّم في مقامين وإن تقدّم البحث عنهما في صدر الكتاب عند
تقسيم الواجب إلى التعبّدي والتوصّلي :
الأوّل : في
امتناع هذا التقييد وإمكانه بحسب مقام الثبوت ، ثمّ تصحيح الأمر العبادي على تقدير
الامتناع.
والثاني : في
تمهيد الأصل لحال الشكّ في أصل التعبّدية أو في هذا التقييد بعد الفراغ عن أصل
التعبديّة.
أمّا المقام
الأوّل : فاعلم أنّ ما قيل أو يمكن أن يقال في تقريب امتناع التقييد المذكور وجوه
أربعة :
الأوّل : لزوم
الدور ، بيانه أنّ هذه القيود متأخّرة رتبة عن الأمر ؛ فإنّ حدوثها معلول له
وبتبعه ، ولا شكّ أنّ المعلول متأخّر رتبة عن علّته ، وموضوع الشيء متقدّم رتبة
على الشيء ، فيلزم من درج هذه القيود في موضوع الأمر تقدّم الشيء على النفس ؛ فإنّ
الموضوع المقيّد بأحدها بما هو مقيّد به متوقّف على وجود الأمر ، ووجود الأمر أيضا
متوقّف على هذا المقيّد لكونه موضوعه.
والجواب أنّ موضوع
الأمر ليس هو الوجود الخارجي للمقيّد ، بل هو الوجود التصوّري له ، وإلّا يلزم طلب
الحاصل ، والإتيان بالفعل بداعي الأمر بحسب الخارج متوقّف على وجود الأمر ، وأمّا
بحسب التصوّر فلا ؛ لوضوح إمكان أن يتصوّر الآمر قبل إنشاء الأمر نفس الفعل والأمر
وتقييد الأوّل بالثاني ، ثمّ يجعل هذا المفهوم المقيّد محلا لإنشاء الأمر ، فما
يتوقّف عليه الأمر تصوّر الموضوع ، وما يتوقّف على الأمر خارج الموضوع ، فاختلف
الطرفان ، فأحدهما الوجود التصوّري ، والآخر الوجود الخارجي.
والثاني : لزوم
الدور بوجه آخر ، وبيانه : أنّ الأمر يتوقّف على قدرة المأمور على متعلّقه ؛ لوضوح
استحالة الأمر بغير المقدور من الحكيم ، والقدرة على الفعل المقيّد بهذه القيود
متوقّفة أيضا على الأمر ، فإنّ المكلّف لا يتمكّن من الإتيان بالفعل في الخارج
بهذه القيود إلّا بعد الأمر.
والجواب : أنّ
توقّف القدرة على الأمر مسلّم ، ولا نسلّم توقّف الأمر على القدرة السابقة على
الأمر ؛ فإنّ الممتنع عقلا هو اجتماع الأمر وعجز المكلّف في زمان الامتثال ، وأمّا
لو فرض تمكّنه حين الامتثال فلا امتناع وإن كان التمكّن جائيّا بالأمر ومتحقّقا من
قبله لا قبله.
والثالث : أنّ التكليف
بالمقيّد بهذه القيود تكليف بغير المقدور ، ولا يحصل القدرة على متعلّقه حتى بعد
الأمر ؛ فإن القيد هو داعي الأمر المتعلّق بذات الفعل ، والقدرة عليه متوقّفة على
الأمر بذاته ، ولا يكفي الأمر بالمقيّد منه بداعي أمره ؛ فإنّ الأمر بالمقيّد ليس
أمرا بالمطلق.
لا يقال : كيف لا
يكون أمرا بالمطلق وهو جزء للمقيّد ، والأمر المتعلّق بالكلّ متعلّق بكلّ واحد من
أجزائه نفسيّا باعتبار تحقّقه في ضمن الكلّ ، ومقدّميّا باعتبار نفسه مستقلا.
فإنّه يقال : نعم
، المطلق جزء للمقيّد ، لكنّه جزء عقلي وليس بخارجي بمعنى أنّه ليس للقيد والذات
في الخارج وجودان منحازان ، بل هما موجودان فيه بوجود واحد ، والمطلوبيّة
المقدّمية إنّما يصحّ في الجزء الخارجي ، فلا يصحّ أن يقال في «أعتق رقبة مؤمنة» :
إنّ مطلق الرقبة مطلوب من باب المقدّمة بعد فرض أنّ في الخارج ليس إلّا وجود واحد
له ولقيده ، وكذا الكلام في المطلوبيّة النفسيّة ؛ فإنّها متعلّقه بالوجود في
الخارج فهي إنّما تسري من الكلّ إلى الجزء الخارجي الموجود بوجود على حدة باعتبار
تحقّقه في ضمن الكلّ.
والجواب أنّ
المطلق وإن كان لا يسري إليه الأمر من المقيّد ، ولكنّ المقسم بينهما لا نسلّم فيه
ذلك ، فكما أنّ الوجود يسري من المقيّد إليه ، فإذا وجد زيد يصحّ
نسبة الوجود حقيقة
إلى الإنسان ، فكذلك الوجوب ، ولهذا نقول في توجيه البراءة في دوران الواجب بين
المطلق والمقيّد أنّ المتيقّن وجوب الأقلّ ، والزائد وجوبه غير معلوم ؛ فإنّ
المراد بالمتيقّن الوجوب لا يكون هو المطلق ، كيف وهو طرف الترديد ، فلا بدّ أن
يكون هو الجامع بينهما ، ولو لا سراية الوجوب من المقيّد إلى الجامع لما صحّ ذلك.
فإن قلت : هذه
الإرادة المتعلّقة بالجامع غير قابل للامتثال ولا يدعو نحو متعلّقه ؛ فإنّها إرادة
عرضيّة ولا يدعو إلّا نحو المطلوب الأصلي أعني المقيّد ، ألا ترى أنّه لو كان
المراد الأصلي عتق الرقبة المؤمنة فلا توجب الإرادة العرضيّة المتعلّقة بالرقبة
المهملة تحريك المكلّف نحو المهملة في ضمن رقبة كافرة ، فإتيانها غير مثمر للدعوى
: فإنّها متوقّفة على أمر بذات الفعل صالح للدعوة إلى الذات.
قلت هذا إنّما هو
في ما إذا لزم من الدعوة نحو المهملة المجرّدة عن القيد وجود قيد آخر مباين لما
اخذ في متعلّق الأمر كما في المثال ، حيث يلزم من الدعوة نحو عتق الرقبة المجرّدة
عن وصف الإيمان تحقّق الكفر المباين له ؛ فإنّه حينئذ لا يدعو إلى المهملة في غير
هذا القيد ، لكون المطلوب ناقصا وغير حاصل بتمام أجزائه ، وأمّا لو فرض أنّه لو
دعا نحو المهملة يتمّ المطلوب بقيده قهرا ، فلا مانع من داعويته ، ففي المقام
المفروض تعلّق الأمر فيه بالفعل بداعي الأمر لو أتى بالفعل بداعي الأمر العرضي
المتعلّق به كان هو عين المطلوب ؛ فإنّ القيد قد حصل بنفس الدعوة نحو المهملة.
والرابع : وهو
الوجه الذي لا مدفع له أنّ من شأن الأمر المولوي وإن كان توصليّا أن يكون صالحا
للدعوة نحو متعلّقه ؛ فإنّ الغرض منه صيرورته داعيا للعبد نحو المطلوب لو لم يكن
في نفسه داع آخر ، فإن كان المطلوب مقيّدا لا بدّ أن يكون صالحا للتحريك نحو كلّ
من الذات وقيدها ، والأمر المتعلّق بالفعل مقيّدا بداعي الأمر لا يمكن أن يصير
داعيا إلى القيد ؛ فإنّه عبارة عن داعويّة نفسه ، ويمتنع أن يصير الأمر داعيا إلى
داعوية نفسه نظير صيرورة العلّة علّة لعليّة نفسها.
وإذ قد تبيّن امتناع
التقييد المذكور فلا بدّ من تصوير الأمر العبادي لمعلوميّة وقوعه في الشريعة
المطهّرة كثيرا ، فنقول : يمكن تصويره بأحد وجوه أربعة :
الأوّل : أن يكون
نحو الأمر في العباديّات نحو الأمر في التوصّليات ، بمعنى أنّه كان متعلّقا بذات
الفعل ، ولكن حيث علم المكلّف من الخارج كالإجماع ونحوه بأخصيّة الغرض وكونه
متعلّقا بالفعل مع قصد القربة لا مطلقا ، لزم بحكم العقل إتيان القيد أيضا ، لئلا
يلزم تفويت غرض المولى القبيح عقلا ، فوجوب أصل الفعل جاء من قبل الأمر ، ووجوب
القيد من قبل أخصيّة الغرض وأضيقيته.
والثاني : التزام
أمرين ، أحدهما بذات العمل ، والآخر بالعمل المقيّد بإتيانه بداعي الأمر المتعلّق
بذاته ، فداعوية الأمر الأوّل اخذت قيدا لمتعلّق الأمر الثاني ، فالأمر الأوّل
يحرّك إلى نفس العمل بأيّ وجه اتفق ، والثاني يحرّك إلى إتيانه بقصد أمره ،
فإتيانه بداعي غير الأمر إطاعة للأوّل وعصيان للثاني.
والثالث : أنّ
المعتبر في العبادة ليس كونها صادرة بداعي الأمر ، بل المعتبر كونها مقرّبة، ولا
ينحصر القرب بصورة الإتيان بداعي الأمر ، بل يمكن أن يكون ذات العمل مع قطع النظر
عن تعلّق الأمر به مقرّبا موجبا لقرب فاعله ، فعنوان الخضوع والخشوع لله حسن في
ذاته مقرّب للعبد وإن لم يتعلّق به أمر أصلا.
فنقول الأوامر
التعبّدية كلّها متعلّقة بأفعال هي في حدّ ذاتها حسن مقرّب كما في الأمر بالصلاة ؛
فإنّه متعلّق بالمركّب من التكبير والحمد والثناء والتهليل والتسبيح والدعاء
والخضوع والخشوع ، ومن الواضح أنّ نفس صدور هذه الأفعال وإن كان بداع نفساني يكون
حسنا ، وبالجملة ، فالأوامر التعبديّة متعلّقة بأفعال هي مقرّبة بالذات من دون
حاجة إلى داعي الأمر ، لا بما لا يقرّب إلّا مع هذا الداعي حتى يلزم المحذور.
والرابع : التزام
الامر بالعمل مقيّدا بعدم دواع أخر من الدواعى النفسانيّة ؛ فإنّه حينئذ يصير
المكلّف مقهورا بالإتيان بداعي الأمر ؛ لامتناع خلوّ الفعل الاختيارى عن جميع
الدواعي ، هذا هو الكلام في المقام الأوّل.
أمّا المقام
الثانى ، فاعلم أنّه لو شكّ في واجب أنّه تعبّدي أو توصّلي ، أو شكّ في الواجب
المعلوم تعبّديته أنّه هل يعتبر في إجزائه وقوعه بداعي الأمر أو
الوجه أو التمييز
أولا؟ فهل هنا إطلاق يدفع به مئونة التعبديّة أو احتمال القيد الزائد أولا؟ وأيضا
هل يجري البراءة في رفعها أولا بناء على كلّ من الوجوه الأربعة في تصحيح الأمر
التعبّدي.
الحقّ أن يقال :
إنّ هذه الوجوه بين ثلاثة أقسام :
الأوّل : التصحيح
بأضيقيّة الغرض مع عدم إمكان التقييد.
الثاني : التصحيح
بتعدّد الامر.
الثالث : تدرّج
القيد المحتاج إليه في العبادة في المأمور به على نحويه من كون نفس الفعل مقرّبا
ومن كون القيد عدم الدواعي الأخر.
فلا إشكال على
القسم الأخير ؛ فإنّ الكلام في القيد المذكور على نحو القيود الأخر، فإن كان
مقدّمات الإطلاق موجودة نأخذ بها ، وإلّا فالمرجع الأصل العملى وهو البراءة ،
ونرفع بها القيد.
وكذلك لا إشكال
على القسم الوسط ؛ فإنّ الإطلاق وإن كان غير ممكن بناء عليه ، ولكنّ البراءة جارية
هنا وإن قلنا بعدم جريانها في دوران الأمر بين المطلق والمقيّد ، والوجه أنّ الشكّ
هنا ليس في القيد الزائد حتى يكون جريان البراءة فيه محلّا للكلام ، بل في وجود
أمر مستقلّ بالمقيّد غير الأمر بذات العمل وهو محلّ البراءة بلا كلام.
وأمّا على القسم
الأوّل أعني أضيقيّة الغرض ، فالإطلاق في كلام واحد وإن كان غير ممكن ، لكن في
مجموع الكلامات ممكن ، بيان ذلك : أنّ للإطلاق قسمين ، الأوّل : ما كان في كلام
واحد وهو الإطلاق المصطلح ، والثاني : ما يستفاد من مجموع كلامات واردة في خصوص
باب ، ومثاله الاخبار الواردة في الأمر بغسل اليد أو الثوب عند الملاقاة بشيء خاص
، فإنّ كلّ واحد واحد منها لا يمكن أخذ الإطلاق منه لرفع وجوب العصر والتعدّد ؛
فإنّها واردة مورد حكم آخر وهو نجاسة الشيء الخاص ، وأمّا أنّ كيفيّة الغسل من حيث
العصر والتعدّد ما ذا فليست في مقام بيانها.
ولكن يمكن أن يستفاد
من خلوّ جميع هذه الأخبار عن ذكر العصر والتعدّد ـ مع
أنّه لو كانا
معتبرين للزم التعرّض في واحد من هذه الأخبار ـ أنّه لم يكن في باب التطهير تعبّد
زائد على القدر المعتبر عند العرف ، وهو صبّ الماء إلى أن يزول العين ، فعدم تقييد
كلّ منها منفردا وإن لم يكن كافيا في الإطلاق ولكن عدم تقييد الكلّ كاف في ثبوته ،
بل ربّما يحصل من ذلك اليقين بعدم الاعتبار.
وكذلك الكلام في
ما نحن فيه ، فإنّ ملاحظة ابتلاء العامة بالصلاة في كلّ يوم وبالصوم في السنة
وبغيرهما من العبادات ، وملاحظة أنّ قيد داعي الأمر بمعنى عدم كفاية داعي احتماله
، وكذلك داعي الوجه والتميز ممّا يغفل عنه عوام الناس ولا يلتفتون إليه قطعا ،
وابداء احتماله نشأ من المتكلّمين ، وملاحظة خلوّ جميع ما ورد من الأئمة الطاهرين
صلوات الله عليهم أجمعين في باب العبادات عن ذكره والتعرّض له ، يكفي في إثبات
إطلاق الغرض وإن لم يمكن إثبات إطلاقه من كلام واحد ، بل ربّما يحصل من ذلك القطع
بعدم الاعتبار ، فإنّ الشارع الذي لم يدع الأحكام الجزئيّة كأحكام التخلية إلّا
بيّنها ولم يهملها ، كيف يهمل مثل هذا الأمر الذي يكون من المهميّة بمكان ويجعله
في سترة الخفاء.
وأمّا قوله تعالى
: (فَادْعُوهُ
مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) فليس المراد بالإخلاص فيها إلّا فعل العبادة ممحّضا لله في
مقابل جعلها للصنم والنفس والشيطان ، فهو نهي عن عبادة هذه وأمر بعبادته تعالى ،
وأمّا أنّ عبادته على أيّ نحو هي يعتبر فيها داعي الأمر أو الوجه أو التمييز فلا
تعرّض في الآية له.
فتبيّن أنّ أصالة
الإطلاق الاصطلاحي أعنى ما كان جاريا في كلام واحد وإن لم يمكن هنا ، لكن أصالة
الإطلاق ، بل القطع يمكن اصطيادهما من تضاعيف الكلمات المتكثّرة الخالية عن ذكر
القيد ، ولو سلّمنا عدم كفاية هذا الإطلاق وبقاء الشكّ في الاعتبار معه بحاله نقول
: ما الفرق بين هذا القيد المجهول والقيد المجهول في سائر المقامات في ملاك قبح
العقاب بلا بيان ، حيث إنّه في سائر المقامات لو عاقب عليه المولى عاقب على أمر
مجهول لم ينبّه عليه ولم يتمّ الحجّة عليه ، ولكن لم يلزم ذلك لو عاقبنا على هذا
القيد المجهول.
فإن قيل : الفرق
إمكان الأخذ في المأمور به في سائر المقامات وعدم إمكانه هنا.
نقول : إنّما كان
غير الممكن هو الأخذ في المأمور به ، لكن بيان القيد ببيان منفصل كان بمكان من
الإمكان ، فكما يحتجّ العبد في سائر المقامات على المولى بأنّه لم ما احدث القيد
في المأمور به؟ يحتجّ عليه هنا بأنّه لو أردت القيد فلم ما بيّنته لى في كلام
منفصل؟ وبالجملة ، العقل في كلا المقامين يحكم بقبح العقاب بلا فرق أصلا.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ الاحتياط في مقام الامتثال والاكتفاء بالإتيان الإجمالى خال عن الإشكال
على جميع الوجوه في تصحيح العبادة ، لكن هذا في ما إذا لم يكن التكرار في مورد
يستلزمه الاحتياط لغوا وكان بداع عقلائى ، كما لو شقّ عليه تعيين القبلة أو شقّ
عليه السؤال في الشبهة الحكميّة.
وأمّا لو كان
التكرار لغوا وعبثا ـ كما لو تمكّن في الشبهة الحكميّة مثلا عن السؤال وتعيين مورد
التكليف بسهولة كما لو كان النبيّ جالسا في المجلس ومع ذلك لم يسأل عنه وأتى
بأفعال عديدة ـ ولا يراد باللغويّة صدور الفعل بدون الداعي ؛ فإنّ البحث في الفعل
الاختياري الغير المنفكّ عن الداعي ، والمقصود تقسيمه إلى قسمين ، أحدهما ما لا
يعدّونه لغوا وهو ما يكون بداع عقلائي ، والآخر ما يعدّونه العرف مع وجود الداعي
لغوا ، وهو ما إذا كان بداع سفهائي ، كما لو نصب السلّم على سقف البيت ثمّ استلم
السقف بعد طيّ الدرج ؛ فإنّ هذا فعل لغو مع كونه صادرا عن الداعي ، فتحقّق أنّ
اجتماع اللغويّة مع وجود الداعي ممكن.
ثمّ لا إشكال أنّ
من يحتاط بالتكرار يكون الداعى له إلى أصل العمل أمر المولى ، ضرورة أنّه لو لا
الأمر لما تحمّل مشقّة ، بل كان يستريح عن العمل رأسا وإنّما تحقّق منه اللغويّة
بعد تحقّق هذا الداعي العقلائي منه في طريق الامتثال وكيفيته ، فيقع حينئذ الكلام
في الإجزاء في هذه الصورة المفروض ثبوت اللغويّة في كيفية الامتثال بعد صدور أصل
العمل بداعى الأمر ، والكلام في ذلك من جهتين :
الاولى : أنّ
العمل يتّصف باللغويّة حتى في الفرد المصادف للواقع : والثانية أنّ اللغوية مانعة
عن القرب والعباديّة ، أمّا الاولى فنقول : لا إشكال أنّ من يتمكن من
رفع الشبهة
والاحتمال بسهولة كما لو كان النبي صلىاللهعليهوآله جالسا في مجلس العمل فعدم رفع الشبهة في الشبهة الحكميّة
بالسؤال عنه مع كمال سهولته والإتيان بأفعال عديدة بداعي الاحتمال يعدّ سفها ولغوا
عرفا.
وبعبارة اخرى :
إبقاء الاحتمال وإتيان كلّ واحد من الأعمال مستندا إليه مع إمكان رفعه وإبداله
بالجزم واتيان العمل عن جزم يكون عرفا من اللغو ولو في الواحد الذي مصادف للواقع ،
فلا يقال : إنّه مع فرض تحقّق داعي الأمر لا وجه لكون الواحد المصادف عبثا ووقوعه
لغوا ؛ لما عرفت من أنّ نفس إتيانه بداع الاحتمال الذي يمكن تبديله بالجزم بسهولة
يجعله لغوا ولو فرض كون الواحد المصادف حاصلا في الأوّل ؛ فإنّ أوليّته لا تنافي
اتّصافه باللغوية ، كما أنّه لو كان الاحتياط بإتيان عشرة أعمال مخلا بالنظام
فالآتي بها يكون من أوّل اشتغاله بتلك الأعمال آتيا بما يخلّ بالنظام ومشتغلا
بالفعل المحرّم وإن كان أوّل ما يأتي به هو الواجب واقعا.
وأمّا الثانية :
وهي بيان منافاة اللغويّة للقرب والعبادية فنقول : لا إشكال أنّه يعتبر في
العباديّة والمقرّبية علاوة على الحسن الفعلي وكون الفعل في حدّ نفسه فعلا حسنا ذا
مصلحة أن يصير موجبا لصيرورة الفاعل أيضا بواسطة إتيانه بهذا الفعل الحسن حسنا
وممدوحا ، ولا شكّ أنّ الفعل اللغو والعبث وإن فرض اشتماله على الحسن الفعلي ـ كما
في الواحد المصادف ـ ولكن لا يوجب الحسن الفاعلي ؛ إذ الفاعل اللاغي العابث لا
يتّصف بالحسن أبدا ، فيمتنع أن يكون فعله عبادة ، فلا يكون مجزيا.
فتحقّق من جميع ما
ذكرنا أنّ ما ذكرنا من كفاية الامتثال الإجمالي ـ وإن كان مستلزما للتكرار وعدم
لزوم تحصيل العلم التفصيلي ـ إنّما هو في غير ما إذا كان التكرار لغوا، كما أنّه
مخصوص أيضا بغير ما إذا كان الاحتياط مخلا بالنظام ، وفي هاتين الصورتين يلزم
تحصيل العلم التفصيلي بمورد التكليف ، لمنافاة الاحتياط مع المقرّبيّة في الاولى ،
وكونه حراما، فلا يتّصف بالعباديّة في الثانية ، ووجه كفايته في غير هاتين
الصورتين هو ما عرفت من أنّ إتيان المكلّف به على وجهه وبعنوان أنّه
هذا الشيء المعيّن
المتميّز عمّا عداه ليس له دخل في حصول القرب ، واحتمال دخله في الغرض أيضا مرفوع
بالأصل ، هذا كلّه على تقدير إمكان تحصيل العلم التفصيلي.
وأمّا مع عدم
إمكانه وإمكان الظنّ التفصيلى ، فعلى ما ذكرنا من عدم دخل قصدي الوجه والتميز في
القرب وكون احتمال دخله في الغرض مرفوعا بالأصل فالأمر دائر بين القطع بحصول العمل
المكلّف به وبين الظنّ به ، ولا شكّ أنّ الأوّل مقدّم.
ولا فرق في ذلك
بين الظنّ الخاص أعنى : ما دلّ على اعتباره دليل شرعي ، فإنّ غاية هذا الدليل هو
الارفاق بالمكلّف بارتفاع مئونة الاحتياط عنه والاكتفاء منه بإتيان المظنون لا تعيين
العمل به وتحريم الاحتياط ، وبين الظنّ المطلق أعني : ما ثبت اعتباره بمقدّمات
الانسداد ؛ فإنّ غاية تلك المقدّمات الاكتفاء بالظنّ في المقام دون إيجابه ؛
فإنّها عبارة عن امور :
أحدها : العلم
الإجمالي بوجود تكاليف في الواقع.
ثانيها : تعذّر
العلم والعلمي ، يعنى العلم التفصيلى والعلمي بهذا العلم بقرينة المقدمة الاولى ،
ثالثها : عدم وجوب الاحتياط بإتيان تمام الأطراف ؛ لما فيه من العسر.
ويمكن إرجاع جميع
هذه الامور الثلاثة إلى أمر واحد وهو عدم وجوب الامتثال القطعي أعمّ من القطع
التفصيلي الوجدانى والشرعي الذي هو الظنّ التفصيلي الوجدانى والقطع الاجمالى.
وبالجملة ، فإذا
كان من جملة هذه المقدّمات عدم وجوب الاحتياط فلا يعقل تقدّم الظنّ على الاحتياط ،
نعم لو كان الاحتياط مخلّا بالنظام أو كان لغوا كان الظنّ التفصيلي بقسميه من
الخاصّ والمطلق مقدّما عليه.
وبالجملة ، بعد المصير
في صورة إمكان العلم التفصيلى إلى كفاية الاحتياط في غير الصورتين ، يكون الاكتفاء
به في غيرهما في صورة عدم إمكانه وإمكان الظنّ التفصيلي ، بل أولويّته على الظنّ
واضحا.
إنّما الكلام في
تقديم الظنّ على تقدير القول بتقدّم العلم التفصيلي في صورة إمكانه وعدم الاكتفاء
بالاحتياط ، إمّا لأنّ الإتيان بالمكلّف به على وجهه وبعنوان أنّه هذا المعيّن
يكون دخيلا في القرب ، أو لأنّه محتمل الدخل في الغرض ، والأصل فيه الاشتغال وإن
كان في غيره من دوران الأمر بين الأقلّ والاكثر هو البراءة.
فنقول : إن كان
الظنّ من الظنون الخاصّة فالأمر دائر بين الامتثال المقطوع والامتثال المشكوك ؛
وذلك لأنّه لو عمل بالظنّ كان مجزيا قطعا ؛ لانتهائه إلى القطع بواسطة دليل اعتبار
هذا الظن ، ومع ذلك قد أتى بالقيد المشكوك الذي يجري فيه الاشتغال ، أو المقطوع
دخله في القرب ؛ فإنّه يأتي بالعمل على وجه التكليف الفعلي ولو كان ظاهريا ، وعلى
نحو تميّز المكلّف به الفعلي ولو كان ظاهريّا ، فيقطع ببراءة الذّمة ، وهذا بخلاف
ما لو احتاط ؛ فإنّه قد أخلّ بقصد الوجه أو التميز ، فلم يقطع بالبراءة والإجزاء ،
ولا شكّ أنّ الأوّل مقدّم.
وإن كان الظّن من
الظنون المطلقة ، فإن قلنا بالكشف بمعنى أنّ المقدّمات تكشف عن جعل الشارع مطلق
الظن حجّة ، فكذلك الكلام بعينه لوجود الحكم الشرعي الظاهري في طرف الظّن ، ويمكن
قصده على التعيين ، ولو أراد الاحتياط يأتي بالطرف المظنون مع قصد الوجه والتميز ،
ويأتي مع ذلك بالطرف الموهوم برجاء كون الواقع فيه ، ولا فرق في حصول هذا الاحتياط
بين تقديم المظنون على الموهوم والعكس وإن كان شيخنا المرتضى قدسسره جعل في ظاهر كلامه لتقديم المظنون دخلا في حصوله ، ولكن لم
نعلم له وجه.
وأمّا لو قلنا
بالحكومة بمعنى أنّ العقل مستقلّ باعتبار الظن ، فحينئذ كما لا يمكن قصد الوجه
والتميز مع الاحتياط فكذلك مع الظن أيضا ؛ فإنّ الوجه المقصود لو كان وجه الحكم
الواقعي فالمفروض أنّه غير معلوم ؛ بل مظنون ، ولو كان وجه الحكم الظاهري فغير
موجود ؛ فإنّ العمل بالظنّ على هذا التقدير ليس إلّا عملا بالراجح من أطراف العلم
الإجمالي وتقديمه على المرجوح والمتساوي الطرفين بحكم العقل ، وأمّا حكم الشرع
فغير موجود؛ فإنّ المقام مقام الامتثال ، وهو محلّ لحكم العقل محضا
وليس قابلا لحكم
الشرع ؛ فإنّ العقل يرى للامتثال مراتب :
الاولى : القطعي ،
وهو الإتيان بتمام الأطراف.
والاخرى : الظنّي
، وهو الإتيان بالمظنونات.
والثالثة :
المشكوك.
والرابعة :
الموهوم ، ولا شكّ أنّه حاكم بتعيّن الظنّي بعد رفع اليد عن القطعي ، والأمر
المولوي في مرحلة الامتثال غير ممكن ، وهذا غير جعل المظنون بما هو مظنون حجّة كما
هو مفاد المقدّمات على تقدير الكشف ؛ فإنّه حكم مولوي في موضوع الظنّ لا حكم مولوي
بالامتثال الظنّي.
وبالجملة ، فعلى
الحكومة حيث إنّ الموجود في البين هو حكم العقل المحض فالعامل بهذا الظّن أيضا
كالمحتاط في أنّه لا بدّ وأن يعمل بالمظنون برجاء كونه الواقع ، من دون قصد تعيين
التكليف الفعلي ولو كان ظاهريا ، وبعد ذلك لا وجه لتقديم الظنّ على الاحتياط ، بل
الثاني أولى من الأوّل ؛ لاختصاصه بحصول القطع معه بحصول ذات المكلّف به ، وعلى
الأوّل يظنّ مع كون كليهما مشتركا في حصول الإجزاء بهما.
هذا تمام الكلام
في القطع ممّا يناسب المقام ، فيقع المقال في ما هو المهمّ من عقد هذا المقصد وهو
بيان.
ما قيل باعتباره
من الأمارات الغير العلميّة أو صحّ أن يقال.
وقبل الخوض في ذلك
ينبغي تقديم امور :
أحدها : أنّ ما
سوى القطع من الأمارات ليس حجّة بالذات وليس حالها كالقطع ، حيث علمت أنّ حجيّته
لا يحتاج إلى الجعل ؛ بل هي يحتاج في الحجيّة إلى جعل أو ثبوت مقدّمات مفيدة
لحكومة العقل بحجيّتها.
ثمّ لا فرق في ذلك
بين مرحلة الثبوت ومرحلة السقوط ، ففي كليهما يحتاج الحجيّة في غير القطع إلى
الدليل ، بخلاف القطع ، بمعنى أنّ القطع بثبوت التكليف حجّة ولا يحتاج إلى الدليل
، وكذلك القطع بالفراغ حجّة من دون حاجة إلى دليل ؛ إذ
ليس فوق القطع
حجّة أحرى وأعلى.
وأمّا الظن فهو
بقسميه من المتعلّق منه بثبوت التكليف ، ومن المتعلّق منه بفراغ الذمّة عن التكليف
المعلوم الثبوت محتاج إلى جعل الحجيّة ودليل الاعتبار.
إلّا أنّه نقل في
الكفاية عن بعض المحقّقين المصير إلى أنّ الظّن بالفراغ يكون حجّة عقلا كالقطع.
أقول : لا نفهم
كون الظّن كالقطع وإن قلنا بعدم وجوب دفع الضرر الموهوم ؛ فإنّ معنى كونه كالقطع
أنّه يسقط حجّة المولى ولا يصحّ عقابه لو فرض كون العبد مشغول الذمّة واقعا وكون
ظنّه بفراغ ذمّته مخالفا للواقع ، كما أنّ القاطع بالفراغ لا يصحّ عقابه لو فرض
كون قطعه جهلا مركّبا وكونه غير فارغ واقعا ، وهذا المعنى لا يمكن إثباته في الظنّ
ولو على مبنى القول بعدم وجوب دفع الضرر الموهوم.
بيان ذلك : أنّ
الحكم بعدم الوجوب لا يوجب رفع موضوع الضرر وتبدّل احتماله ووهمه بالقطع بالعدم ،
بل المقصود أنّه مع بقائه على وصف موهوميّته واحتمال طرفي وجوده وعدمه غير واجب
الدفع ، ومعنى ذلك أنّه لو وقع أحيانا في الضرر كان هذا الوقوع عقلائيّا ومعذورا
فيه عند العقلاء ، فمن يسلك طريقا يظنّ بعدم البئر مثلا فيه ، ويحتمل بطريق الوهم
وجود البئر فيه ، لو سلكه ولم يعتن بهذا الوهم فاتّفق وقوعه في البئر كان غير
مذموم عند العقلاء.
وبعبارة اخرى ليس
إلقاء النفس في الضرر في هذه الصورة قبيحا مستحقّا للّوم والذّم عليه ، فكذلك نقول
في المقام ، فإنّ من يعلم من ابتداء الأمر بتوجّه التكليف وقطع باستحقاقه العقاب
على الترك ، ثمّ ظنّ بسقوط هذا التكليف عنه فهو محتمل وهما لعدم سقوطه وكونه
معاقبا على تركه ، فلو فرضنا حكم العقلاء في هذا الفرض بأن هذا العقاب الذي هو
موهوم لا يجب دفعه.
وبعبارة اخرى : لا
بأس بالإقدام ولو استلزم الوقوع في العقاب ، فمعناه أنّ الوقوع فيه على تقدير صدق
الوهم وقوع في العذاب على نحو عقلائي ، وإمضاء الشرع أيضا ليس زائدا على أنّ
الوقوع على هذا النحو عقلائي ، وأين هذا من عدم
ترتّب العقاب رأسا
كما هو المدّعى.
وبعبارة اخرى لو
تبدّل بعد الظنّ بالفراغ وهم العقاب بالقطع بعدمه بواسطة حكم العقل بعدم وجوب دفع
الضرر الموهوم وإمضاء الشرع له ، فهذا مع ما فيه من أنّ الحكم لا يوجب ارتفاع
الموضوع أنّه حينئذ خارج عن مسألة عدم وجوب دفع الضرر الموهوم ، ويدخل في باب
القطع بعدم العقاب ، ولو لم يتبدّل وكان الاحتمال باقيا فهو غير منفكّ عن اتّفاق
الوقوع في العقاب أحيانا ، كما هو الحال في الضرر الدنيوي كما مثّلناه.
وبالجملة ، فلم
يحصل بمجرّد ذلك الأمن من العقاب على كلّ تقدير ، ولا نعني بالحجّة إلّا ما يوجب
ذلك كالقطع بالبراءة ؛ فإنّه مؤمّن من العقاب ؛ إذ نقطع بأنّ عقاب المولى قبيح على
تقدير كون القطع جهلا مركّبا.
ثانيها : في إمكان
التعبّد بغير العلم من الأمارات والاصول وعدمه ، المعروف هو الأوّل ، ويظهر من
الدليل الذي أقامه ابن قبة على استحالة التعبّد بخبر الواحد عموم المنع لكلّ ما
سوى العلم.
فاعلم أوّلا أنّ
الإمكان تارة يقال في مقابل الامتناع الذاتي ، والمراد بالامتناع الذاتي أن يكون
مجرّد تصوّر الشيء وتعقّله كافيا في الجزم بامتناعه من دون حاجة في إثباته إلى
التشبّث بشيء آخر ، وذلك كاجتماع الوجود والعدم ، فإنّ الوجدان يكفي في الحكم
بامتناعه ، ولا يحتاج إلى التعليل ، وينقطع السؤال بلم وبم ، كما أنّ قبح الظلم
ذاتا معناه أنّ نفس تصوّر ذاته موجب لاشمئزاز العقل عنه من دون حاجة إلى إدراجه
تحت عنوان آخر ، بخلاف ضرب اليتيم.
وهذا القسم من
الإمكان ليس محلا للنزاع في المقام ، بمعنى أنّ ابن قبة لا يدّعي أنّ التعبّد
بالأمارة ممّا يدرك امتناعه بنفس تعقّله ، كيف ولو كان مدّعيا لذلك لم يحتج إلى
الاستدلال وهو حاول إثبات مطلبه بالدليل ، مع أنّ من الواضح عدم كون التعبّد
بالأمارة من هذا القبيل.
واخرى يقال بمعنى
الاحتمال ، ويمكن أن يكون هذا المعنى مرادا من الإمكان في
قاعدة الإمكان
المقرّرة في باب الحيض ، ويظهر الثمرة بينه وبين إرادة الإمكان الوقوعي في أوّل ظهور
الدم ؛ فإنّه قبل تبيّن استمراره إلى الثلاثة لا يستقرّ إمكان حيضيّته بالمعنى
الثاني ، وقد استقرّ بالمعنى الأوّل ، وهذا أيضا ليس محلا للكلام ؛ فإنّ الاحتمال
أمر وجداني فليس قابلا لأن يقع مطرحا لأنظار العلماء.
وثالثة يقال في
قبال الامتناع بالعرض الذي يطلق عليه الامتناع الوقوعي أيضا ، وهو ما لا يدرك
امتناعه بالوجدان بمجرّد تصوّر ذاته ، بل يحتاج إلى التشبّث بأمر آخر كان هو محالا
بالذات ، وكان هذا الشيء محالا لاستلزامه لذاك الأمر المحال ، فيكون امتناع هذا
الشيء بالغير لا بالذات ، وهذا هو محلّ البحث في هذا المبحث.
فمحصّل محلّ
الكلام أنّه هل يستلزم التعبّد بالأمارات الغير العلميّة بعد الفراغ عن إمكانه
ذاتا محذورا حتى يكون ممتنعا وقوعا ، أو هو غير مستلزم لمحذور أصلا فيكون ممكنا
وقوعيّا أيضا؟ ، ولا بدّ أن لا يكون هذا الكلام من جهة المقتضي ؛ فإنّ الأشياء من
هذه الجهة غير خارجة عن الواجب والممتنع ؛ لأنّها إمّا أن توجد علّتها فتجب ،
وإمّا أن لا توجد فتمتنع ، فلا يتصوّر الممكن ، ويساوق القطع بالإمكان على هذا مع
القطع بالوجود ، بل يكون الكلام في الإمكان الوقوعي من حيث المانع ، فالقائل
بالإمكان مقصوده نفي المانع مع قطع النظر عن المقتضي ، يعني أنّ التعبّد بالأمارة
لا يمنع عنه مانع ، ولا ينافي ذلك امتناعه وقوعا لأجل عدم المقتضي.
وكيف كان فقد
استدلّ المعروف في قبال ابن قبة : بأنّا نقطع بعدم المانع واقعا ، واستشكل عليهم
شيخنا المرتضى قدسسره بأنّ هذه الدعوى فرع الاطّلاع على جميع الجهات المحسّنة
والمقبّحة ، وهو غير حاصل لغير علّام الغيوب ، فلا يمكن دعوى الجزم لغيره.
فالأولى أن يقال :
إنّا لا نجد من عقولنا مانعا من التعبّد بالأمارة ، والحكم بالإمكان عند ذلك أصل
عقلائي في كلّ ما دار الأمر فيه بين الإمكان والامتناع ، نظير عدم وجدان القرينة ؛
حيث يجعلونه في باب الألفاظ عند الدوران بين وجود
القرينة وعدمها
قرينة وأمارة على العدم ، وكذلك كلّما دار الأمر بين إمكان شيء وامتناعه يجعلون
عدم وجدان المانع عنه دليلا على الإمكان.
ولعلّ نظره قدسسره إلى القضيّة المحكيّة عن الشيخ الرئيس : كلّ ما قرع سمعك
من الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يمنعك عنه قائم البرهان ، بناء على أن يكون
الإمكان في كلامه بمعنى الإمكان الوقوعي وتكون إشارة إلى الأصل المذكور.
أقول : أمّا دعوى
القطع الوجداني الذي منشائه الوجدان كما هو ظاهر المعروف فإنّما يصحّ ممّن يقطع بعدم لزوم تحليل الحرام وتحريم
الحلال من التعبّد بالأمارة ، ويقطع أيضا بعدم لزوم الإلقاء في المفسدة وتفويت
المصلحة ، وذلك لا يحصل إلّا مع القطع بإصابة جميع الأمارات للواقع ؛ فإنّه حينئذ
يقطع بعدم لزوم شيء من المحذورات ، وأمّا اجتماع المثلين فهو غير لازم ؛ لإمكان
الحمل على التأكّد ، ومن الواضح أنّ هذا القطع غير متمشّ في حقّنا ، وهذا هو مراد
شيخنا قدسسره.
وأمّا ما ذكره من
جعل الحكم بالإمكان أصلا عقلائيا عند الدوران بين الإمكان والامتناع وعدم وجدان
المانع في عقولنا فغير مسلّم ولم يثبت هذا الأصل ، و
__________________
القضيّة المحكيّة
عن الشيخ الرئيس إن كان ناظرا إلى ذلك فلا نسلّمها ، ويحتمل أن يكون الامكان فيها
بمعنى الاحتمال ، وعلى هذا فليست قاعدة علميّة ، بل وصيّة للطلاب بعدم المبادرة
إلى الحكم بعدم المعقوليّة بمجرّد سماع شيء من الغرائب ، بل إبقائه على احتمال
الإمكان والامتناع ما لم يقم على امتناعه البرهان.
وكيف كان فالتعبّد
بالأمارة يبقى على احتمال الإمكان والامتناع من دون أن يكون هنا أصل عقلائي على
إمكانه ، نعم ليس على امتناعه أيضا دليل.
وحينئذ يجوز لنا
بمجرّد عدم القطع بالامتناع واحتمال الإمكان وإن لم يكن الأصل معاضدا لنا أن نأخذ
بظاهر دلّ على وقوع التعبّد بالأمارة كظاهر آية النبأ ؛ إذ لا وجه لطرحه أو تأويله
، وحينئذ يتبدّل احتمال الامتناع بالجزم بالإمكان.
نعم يعتبر أن يكون
هذا الدليل الدالّ على التعبّد قطعيّا وإن كان ظاهرا ثبت حجيّته بدليل قطعي ،
فإنّه لو لم يكن قطعيّا لم يحصل لنا القطع بالإمكان ، وأمّا لو كان قطعيّا كما لو
قطعنا بأنّ ظاهر آية النبأ حجّة ، فنقطع بوقوع التعبّد بخبر العادل ، ومن هنا نكشف
إمكانه ونقطع بعدم جميع المحاذير واقعا ، وهذا ثمرة عدم القطع بالامتناع.
وأمّا من يقطع به
كابن قبة فهو لم يجز له الأخذ بهذا الظاهر ، كيف وهو قاطع بخلافه ، فلا بدّ له من
التأويل أو الطرح والقول بعدم حجيّة هذا الظاهر.
ومحصّل الكلام
أنّه بعد الاحتمال والترديد وعدم القطع بشيء من الطرفين لا يخلو الحال إمّا أن
يكون في البين دليل قطعيّ على التعبّد بالأمارة من الشرع ، وإمّا أن لا يكون ،
فعلى الأوّل يكشف بهذا الدليل عن الإمكان ويقطع بعدم شيء من المحاذير بقضيّة حكمة
الشارع ، وعلى الثاني فلا ثمرة عمليّة في البحث عن الإمكان والامتناع.
__________________
وكيف كان فقد
استدلّ ابن قبة على امتناع التعبّد بخبر الواحد بوجهين ، الأوّل : أنّه لو جاز
التعبّد بالإخبار عن النبي صلىاللهعليهوآله لجاز بالإخبار عن الله سبحانه ، والتالي باطل بالإجماع ،
فالمقدّم مثله ، وسند الملازمة هو القاعدة المسلّمة من أنّ حكم الأمثال في ما يجوز
وما لا يجوز واحد ، والإخبار عن النبي والإخبار عن الله مثلان ؛ فإنّ الإخبار عن النبي أيضا إخبار عن الله ، غاية الأمر
مع وساطة النبي ، ولا ملازمة بين الإخبار عن الله والنبوّة ، فإنّها إنّما كانت لو
لم يكن له طريق غير الوحي وليس كذلك ؛ إذ يمكن أن يكون بطريق الإلهام والمكاشفة ،
فلو كان التعبّد بالإخبار عن النبي ممكنا لكان بالإخبار عن الله أيضا ممكنا كأن
يقول الشارع : متى أخبركم الزهراء سلام الله عليها أو السلمان أو غيرهما بحكم عن
الله تعالى فعليكم بقبول قوله والعمل على طبقه ، ولكنّ الثاني غير جائز فكذا
الأوّل بقضيّته المماثلة.
والجواب : أنّا
نسلّم كونهما مثلين ، ولكن قضيّة المماثلة ليست إلّا اتّحادهما بحسب الحكم في ما
يجوز وفي ما لا يجوز ، لا في ما وقع وفي ما لم يقع ، ونحن نقول بمساواة الاخبارين
في الإمكان ، والاجماع لم يقم في الإخبار عن الله إلّا على عدم الوقوع لا على عدم
الإمكان ، فهما بعد اتّحادهما في إمكان التعبّد افترقا في أنّ التعبّد بالإخبار عن
النبي واقع وعن الله غير واقع بدليل الإجماع.
والثاني : أنّ
التعبّد بخبر الواحد لو جاز لزم تحليل الحرام وتحريم الحلال ، أقول : وهذا بعض
المحاذير الذي يتوهّم لزومها ، وهنا محاذير أخر ، وتوضيح الجميع أنّه على ما هو
الصواب من مذهب المخطئة يكون لنا أحكام واقعيّة مجعولة في حقّ جميع
__________________
المكلّفين سواء
العالم والجاهل ، وأنّ الطرق والأمارات ليست تقييدا في أدلّة تلك الأحكام ، ولا
شكّ أيضا في أنّ الأحكام الخمسة بأسرها متضادّة.
وإذن فيلزم من
التعبّد بالأمارة أن يجتمع في واقعة واحدة اجتماع الضدّين على تقدير مخالفة
الأمارة للواقع ، كما لو كانت صلاة الظهر واجبة واقعا وقامت الأمارة على حرمتها ،
فيلزم اجتماع الوجوب والحرمة فيها وهما ضدّان ، وكذلك يلزم اجتماع المحبوبيّة
والمبغوضيّة ، والمصلحة اللزوميّة والمفسدة اللزوميّة الاجتناب بدون الكسر
والانكسار.
ولو قام على إباحة
ما هو واجب مثلا واقعا يلزم علاوة على اجتماع الضدّين اجتماع النقيضين ؛ فإنّ
الإباحة مضادّة للوجوب ومع ذلك يلزم اجتماع المحبوبيّة وعدمها ، والمصلحة
اللزوميّة وعدمها ؛ فإنّ مبدأ الإباحة هو الخلوّ عن المفسدة والمصلحة ، فيلزم في
هذا الفرض اجتماع الوجود والعدم في المحبوبيّة والمصلحة وهما نقيضان.
ويلزم التكليف بما
لا يطاق في ما لو قام على وجوب المحرّم الواقعي ؛ فإنّه يلزم الإيجاب على كلّ واحد
من الفعل والترك ، وكذلك لو قام على إيجاب ضد الواجب الواقعي في زمانه ، فإنّه
يلزم إيجاب الضدين في زمان واحد ، ويلزم أيضا تفويت المصلحة اللزوميّة الإدراك ،
فإنّه لو قام على إباحة ما هو الواجب واقعا فيلزم أن يكون الشارع قد فوّت مصلحة
هذا الواجب على العباد. وكذلك الإلقاء في المفسدة اللزوميّة الاجتناب ، كما لو قام
على إباحة ما هو الحرام واقعا ، فيلزم أن يكون الشارع قد ألقى العباد في مفسدة هذا
الحرام.
هذا كلّه على
تقدير مخالفة الأمارة للواقع ، ويلزم على تقدير إصابتها ـ كما لو قام على وجوب
الجمعة الواجبة واقعا ـ اجتماع المثلين ، فيلزم في المثال اجتماع الوجوبين.
فتحصّل أنّ اللازم
من التعبّد بالأمارة اجتماع الضدّين ، والنقيضين ، والمثلين ، والتكليف بما لا
يطاق ، وتفويت المصلحة ، والإلقاء في المفسدة.
والجواب عن ذلك
على وجه لم يلزم شيء من هذه المحاذير يكون على وجوه :
أحدها : أن يكون
الأمر بالعمل بمؤدّى الأمارة بنحو الترتّب على الأمر بالواقع وفي طوله ، وبهذا
يدفع إشكال اجتماع الضدّين والنقيضين والمثلين في النفس. نعم نحتاج في دفع إشكال
تفويت المصلحة والإلقاء في المفسدة ولزوم التكليف بما لا يطاق إلى جواب آخر ،
وتوضيح الترتّب في هذا المقام يحصل بمقدّمات ثلاث :
الاولى : أنّه لا
إشكال في أنّ الحبّ والإرادة والبغض والكراهة ليس اتّصاف الشيء بها على نحو
اتّصافه بالأعراض الخارجيّة ـ كاتّصاف الجسم الخارجي بالبياض ، والنار الخارجي
بالحرارة ـ بأن لا يكون لتصوّر هذا الشيء دخل أصلا في اتّصافه كما هو الحال في
البياض والحرارة ؛ فإنّ الجسم الخارجي يتّصف بهما في الخارج سواء تصوّره ذهن ذاهن
أو لم يتصوّره ، بل كان مغفولا عنه ، وأمّا الحبّ والإرادة ونحوهما فليس الشيء
الخارجي في حال الغفلة وعدم تصوّره ، متّصفا بها ؛ فإنّها امور نفسانيّة ، فلا
يعقل تعلّقها بالأمر الخارجي بلا وساطة تعقّله في النفس.
وإن شئت قلت : إنّ
الحبّ والإرادة يتعلّقان بالأشياء المتصوّرة ، غاية الأمر على نحو يراها المتصوّر
خارجيّة ، وأمّا بلا توسيط التصوّر والالتفات فلا اتّصاف ، ولا فرق بين أوامر
الباري تعالى وغيره ، فوساطة الرؤية والالتفات محتاج إليها ، ولا يمكن اتّصاف
الخارج الصرف ، غاية الأمر أنّ الرؤية والالتفات فيه تعالى ليس على حذوه في غيره.
الثانية : الموضوع
المتصوّر تارة يكون على وجه بأيّ حالة تصوّره المتصوّر وكلّ طور تفكّر له المتفكّر
فهو في جميع تلك الحالات وجميع تلك الأطوار مريد ومحبّ له ، وليس شيء من هذه
الأطوار والحالات دخيلا في حبّه وإرادته ، واخرى يكون على خلاف هذا بأن يرى
المتفكّر أنّه لو تصوّره مع بعض الحالات وضمّ إليه في عالم التصوّر بعض الأطوار
فهو محبّه ومريده ، ولو تصوّره في غيره هذه الحالة وضمّ إليه ضدّها فهو غير مريد.
وهذا على قسمين ؛
لأنّ عدم حبّه في بعض الحالات إمّا يكون لأجل عدم المقتضي في المتصوّر بهذا النحو
، وإمّا أن يكون لأجل الإضرار بغرض آخر له مع
وجود المقتضي فيه
، فهو نافع بهذا الغرض ، لكن ضارّ بغرض آخر ، وغيره نافع به وغير ضارّ بغيره.
فطالب عتق الرقبة
المؤمنة يكون عدم طلبه للرقبة الكافرة إمّا من باب عدم حصول الفائدة المقصودة به ،
وإمّا من باب إضراره بغرض آخر له مع حصول الفائدة المقصودة بمطلق عتق الرقبة ،
فهنا ثلاثة أقسام :
الأوّل : أن يكون
الشيء مع كلّ من الخصوصيّات المحاط بها في عالم التصوّر والتفكّر لهذا الشيء
محصّلا للغرض ومفيدا له ،
والثاني : أن يكون
منضمّا إلى بعضها مفيدا لهذا الغرض غير مخلّ بغرض آخر ومع بعضها غير مفيد أصلا
لهذا الغرض ،
والثالث : أن يكون
مع البعض مفيدا لهذا بلا إخلال بغيره ومع غيره مفيدا لهذا ومضرّا بغيره.
فلا إشكال في
إطلاق الإرادة في القسم الأوّل وتقييدها في الثاني ، وكذلك يقع الكسر والانكسار في
مقام الإرادة ، ويقيّد الإرادة في الثالث بخصوص البعض المفيد الخالي عن الضرر ،
ولا ينقدح الإرادة في النفس بالنسبة إلى البعض الآخر المقيّد مع الاشتمال على
الضرر فرارا عن هذا الضرر ، وبالجملة ، الفرار عن هذا الضرر مع درك تلك الفائدة
يقتضي تقييد الإرادة وإن كان الضرر في غاية الضعف ، ومن المعلوم أنّ هذا مبنيّ على
القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي.
الثالثة : أنّه لو
فرض أنّ عنوانين لا يوجدان في عالم التصوّر أبدا إلّا على التبادل ، ولا يمكن
جمعهما في هذا العالم في شيء من الأوقات ، وكان في أحدهما مقتضى الحبّ وفي الآخر
مقتضى البغض فلا محالة متى تصوّر المتصوّر العنوان المحبوب ينقدح في نفسه الإرادة
المطلقة نحوه ؛ فإنّ هذا قضيّة عدم المزاحم له في عالم التصوّر الذي هو الدخيل في
عروض الحبّ والبغض.
وكذلك متى تصوّر
العنوان المبغوض ينقدح في نفسه الكراهة المطلقة نحوه ؛ إذ هذا قضيّة خلّوه في
التصوّر عن تصوّر ما يزاحم مبغوضيّته.
وأمّا الوجود
الخارجي الذي هو مجمع للعنوانين فهو لا يوجد في الذهن معنونا بأحدهما إلّا وهو
معرّى عن الآخر ؛ إذ المفروض أنّه لا يمكن أن يوجد في الذهن على نحو وجوده في
الخارج منطبقا عليه العنوانان حتّى يزاحم في مقام الإرادة المبغوض من العنوانين مع
محبوبهما ، ويخصّ الإرادة بصورة تجرّد العنوان المحبوب عن المبغوض.
وبالجملة ، فبعد
فرض عدم إمكان دخول كلا العنوانين في الذهن فلا محيص عن إطلاق الإرادة ، فإنّه متى
وجد فيه وجد وحده بدون العنوان المزاحم له ، ولازم هذا توجّه الإرادة المطلقة
نحوه.
ومحصّل هذه
المقدّمات :
أنّ المقدّمة
الاولى أنّ الحبّ والإرادة ليس كالأعراض الأخر حتى لا يحتاج إلى تصوّر الموضوع
ودرجه في القوّة الخياليّة ، فالجسم متّصف في الخارج بالبياض وإن لم يتصوّره احد ،
ولكنّه لا يتّصف بالمحبوبيّة لك قبل أن تتصوّره.
والمقدّمة الثانية
أنّ المتصوّر إذا تصوّر الموضوع فلا يخلو من حالين : إمّا أنه لو لاحظه مع كل حالة
تتصوّر له في الخيال فهو مع بعض تلك الحالات يكون فيه مقتضى الحب دونه مع البعض
الآخر ، وحينئذ فقهرا يتقيّد الإرادة بالبعض الأوّل ، وإمّا أنّه يكون فيه مقتضيه
مع كلّ واحدة واحدة ، وحينئذ فإمّا أن يجد في شخص بعض هذه المتصوّرات مانع ، وإمّا
لا يجد في شيء منها مانع شخصي عن الحبّ ففي هذه الصورة يسري الحبّ قهرا إلى الجميع.
وأمّا في الاولى
فبناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي يلزم عقلا تقييد الحبّ ، وليس مقام ملاحظة
الأهميّة والمهميّة ، بل وإن كان الضرر الشخصي أضعف بمراتب من النفع الجنسي ؛ فإنّ
المحبوب له بدل ومع البدل له يقدّم جانب المبغوض في مقام الإرادة حفظا للغرضين.
والمقدّمة الثالثة
أنّه لو فرضنا أنّ هنا موضوعين ، أحدهما يكون فيه مقتضى الحبّ والآخر إمّا ليس فيه
مقتضيه ، وإمّا يكون فيه مقتضى البغض ، لكن لا يتّفق
لمتصوّر ولاحظ أن
يجمع بين هذين في عالم تصوّره ولحاظه وقوّة خياله أبدا ، بل إمّا هذا متصوّر دون
ذاك وإمّا ذاك دون هذا ، وفي ظرف تصوّر هذا لا يمكن أن يقع في الخيال تصوّر ذاك ،
وفي حال تصوّر ذاك لا يمكن أن يقع فيه تصوّر هذا فلا محالة لا يتقيّد إرادته ،
فإنّ المناط جمعهما في الخيال ودرجهما في التصوّر مجتمعين حتّى يقع الكسر
والانكسار بينهما بحسب الإرادة ؛ فإنّك قد عرفت أنّه بدون توسيط التصوّر لا يمكن
تعلّق الإرادة بشيء ، فلا محالة يكون مناط الكسر والانكسار في الحبّ والبغض
والإرادة والكراهة اجتماع ما يقتضي الحبّ مع ما يقتضي الخلاف في عالم التصوّر
بمعنى تصوّرهما منضمّين ؛ فإنّه بعد هذا التصوّر تكون الإرادة الجائية عقيب هذا
التصوّر متعلّقا بغير صورة الاجتماع.
وأمّا على ما
فرضنا من أنّ هذا لا يتصوّر إلّا بدون ما يقتضي خلاف الحبّ ، وما يقتضي خلافه لا
يتصوّر إلّا بدون هذا ، فهذا التصوّر لمقتضى الحبّ لا محالة مورث لتعلّق الحبّ ؛
فإنّ تصوّر الشيء الملائم بدون تصوّر منافر طبع معه لا محالة موجب الحبّ به.
فإن قلت : يمكن أن
يتصوّر أحدهما ثمّ بعده يتصوّر الآخر ، ثمّ بعد هذا تصوّر اجتماع الشيئين الذين
تصوّرهما ، فبهذا النحو يمكن جمعهما في عالم الخيال وإن كان لا يمكن في النظرة
الاولى.
قلت : إنّا نفرض
أن يكون اجتماعهما حتّى في النظرة الثانية أيضا غير ممكن وأنّه بهذا النحو أيضا لا
يقع صورة اجتماعهما في الذهن ، وبالجملة ، فلا إشكال على تقدير تحقّق هذا الفرض في
عدم تقيّد الإرادة ، وإنّما الكلام والإشكال في تحقّق هذا الفرض وإثبات الصغرى له
في الخارج.
المقدّمة الرابعة
: في إثبات صغرى هذا الفرض وهو محلّ الكلام والنقض والإبرام ، فنقول وعلى الله
التوكّل : إنّ العناوين الأوّليّة التي هي موضوعات الأحكام الواقعيّة ، والعناوين
الثانوية التي هي موضوعات الأحكام الظاهريّة ، أعني الموضوعات بما هي مشكوكة الحكم
، لا يمكن أن يقعا ويندرجا في القوّة
الخياليّة وعالم
التصوّر في زمان واحد أبدا.
بيان ذلك أنّ
الإرادة مثل العلم ، والعلم لا يتعلّق إلّا بنفس المعلوم لا بالمعلوم مع وصف العلم
، فالعلم يتعلّق بالذات المجرّدة عن المعلوميّة.
نعم يمكن أن يلتفت
الإنسان حال العلم إلى علمه ، لكن في رتبة تعلّق العلم لا يمكن أن يتعلّق إلّا
بالشيء المجرّد ، فهو في هذه الرتبة متجرّد عن وصف المعلوميّة ، بل لا يعقل أن
يكون ملحوظا بوصف المعلوميّة ؛ فإنّ العلم المأخوذ فيه إن كان نفس هذا العلم الذي
يتعلّق به فهذا تقدّم الشيء على النفس ودور ، وإن كان علما آخر لزم التسلسل ،
وهكذا التصوّر، فإنّ الإنسان يتصوّر ذات الشيء لا الشيء المتصوّر ، فلا يتعلّق
التصوّر بالموصوف بالتصوّر، بل لا يعقل.
وكذلك الكلام في
الإرادة ، فهي أيضا لا بدّ أن تتعلّق بذات المراد مع التجرّد عن وصف المراديّة ،
بل لا يعقل أن تتعلّق الإرادة في أوّل الوهلة بالمراد ، وهذا في الوضوح بمثابة لا
يحتاج إلى بيان.
إذا تقرّر هذا
فنقول : إنّ في ابتداء تعلّق البغض بعنوان الخمر مثلا لا شكّ أنّه يتصوّره الشارع
، فإذا تصوّره بهذا التصوّر الذي لم يوجد في حالة إرادة ولا كراهة بل هو مقدّمة
ويتعقّبه إحداهما فهو يتصوّر الخمر ويتصوّر جميع ما يطرأ عليه من الكيفيّات ،
فيتصوّر أنّ بعضه أسود وبعضه أبيض وبعضه اصفهاني وبعضه طهراني ، إلى غير ذلك من
خصوصيّاته ، فيلاحظ ويرى أنّه مع كلّ هذه الخصوصيّات اخذ ليس فيه إلّا النفرة ولا
يجد منه إلّا المساءة ، فحينئذ لا محالة يبغضه ويكرهه ويحرّمه.
هذا في نظرته الاولى
، ثمّ بعد ذلك يعني بعد ما صار مبغوضا يحدث ويوجد له حينئذ أفراد أخر لم يكن له
تلك الأفراد سابقا وهو مشكوك الحكم ومعلومه ومظنونه ، وهذه إنّما يحدث له بعد
تحقّق الحكم حقيقة أو بعد تقديره إن لم يكن متحققا ، كما لو كان في حال التصوّر
الأوّلي قبل حصول الإرادة والكراهة ، فيتصور كون الخمر على تقدير الطلب مشكوك
الحكم. وبالجملة ، هذه حالات تحصل عقيب الطلب وبعد مفروغيّته.
فنقول : لا إشكال
ولا كلام في أنّ هذا العنوان المستحدث بسبب الحكم لا يمكن تصوّره في رتبة المتصوّر
الأوّل أعني : نفس الخمر ؛ فإنّه حادث بالمبغوضيّة ، فكيف يتصوّر في حال حصول
المبغوضيّة وانقداحها ، وإلّا لزم الدور التسلسل ؛ إذ كما أنّ مبغوضيّة المبغوض لا
يمكن ، كذلك مبغوضيّة مشكوك المبغوضيّة ؛ فإنّ الشكّ في المبغوضيّة متأخّر عن نفس
المبغوضيّة ، فإذا لم يعقل اتّصاف الشيء في حال يتعلّق به المبغوضيّة بالمبغوضيّة
، فكذلك لا يمكن اتّصافه بالشكّ في المبغوضيّة ، وهذا أيضا واضح.
فإن قلت : لا
ندّعي سراية الحكم إلى هذا المتقيّد بالمشكوكيّة ، بل نقول : إنّ الحكم متعلّق
بالذات ، والذات موجودة في ضمن المتقيّد بالمشكوكيّة ، فلا محالة يسري حكمها
إليها.
قلت : إنّ معنى
كون مقيّد تحت الإطلاق أن يتعلّق الحكم بالذات والقيد بحيث وقعا جميعا في حيّز
الحكم ، وهو فرع إمكان رؤية القيد في مرتبة الحكم ، والمفروض كونه متأخّرا عنه ،
فلا إشكال في أنّ الحكم الأوّلي لا يتجاوز من مرتبة الذات إلى مرتبة نفس الحكم
والطواري الطارية عليه.
إنّما الكلام
والإشكال في عدم إمكان الجمع بين المتصوّر الأوّلي مع الثانوي في رتبة المتصوّر
الثانوي ، فربّما يقال : إنّ من يتصوّر في الرتبة الثانية الخمر المشكوك الحرمة
فهو قد تصوّر نفس الخمر الذي أيضا هو متصوّرة في المرتبة الاولى ، فقد جمع بين
المتصوّرين في هذه الرتبة ، والمقصود عدم إمكان جمعهما حتى في الرتبة الثانية
والنظرة الثانية ، وقد اجتمعا فيها ، وهذا يكفي في وقوع الكسر والانكسار ، فتتبدّل
كراهة الخمر بطروّ عنوان المشكوكيّة الخالي عن مقتضى البغض عليه في عالم التصوّر
بعدم الكراهة ، وإلّا يلزم المحذورات جميعا في هذه الرتبة.
وقد يقال : إنّ
جمعهما في هذه الرتبة أيضا لا يمكن ، وبيانه أنّ الخمر عند التصوّر الأوّلي كان
واجدا لكيفيّة خاصّة بها صار ضيّق الدائرة ، وفي التصوّر الثانوي زالت تلك
الكيفيّة عنه وتبدّلت باخرى صار معها أوسع دائرة وأكثر أفرادا ، فهذا الخمر
المتصوّر في ثاني
الحال غير الخمر المتصوّر في أوّل الأمر في هذه الكيفيّة.
فإن قلت : إنّ
المطلق موجود في ضمن المقيّد وغاية الأمر أنّ الخمر كان عند التصوّر الأوّل متّصفا
بوصف الإهمال بالنسبة إلى قيد المشكوكية ، لا متّصفا بالإطلاق ولا بالتقييد ، ولكن
في الثاني صار مقيّدا بهذا القيد ، ولا إشكال أنّ المهملة موجودة في ضمن المقيّد.
قلت : كيف يكون
المتصوّر الأوّل موجودا في ضمن الثاني ، والموجود في ضمن الثاني متكيّف بكيفيّة
مضادة مع الكيفيّة القائمة بالأوّل ، والكيفيّة الحاصلة في الأوّل هي كونه بحيث لا
يصدق على المشكوك ، والكيفيّة الموجودة في الثانية كونه بحيث يصدق عليه ، وإن شئت
قلت : إنّه في الأوّل كان فاقد الحكم ، وفي اللحاظ الثاني صار واجد الحكم ،
وبينهما بون بعيد.
فإن قلت : إنّ
موضوع المبغوضيّة نفس الخمر بدون تقيّده بشيء حتّى بهذه الكيفيّة التي ذكرت ،
وبالجملة ، فرق بين عدم وجود الحكم وعدم وجود الاتّصاف والتقيّد بهذا العدم،
فالمعتبر في المرحلة الاولى عدم الاتّصاف ، لا أنّ البغض يتعلّق بالمتقيّد بعدم
الاتّصاف والمشروط به.
قلت : قد ذكرنا
أنّ الإرادة تكون مثل العلم وأنّه لا يمكن أن يتعلّق بالمبغوض أو بمشكوك البغض ،
وحينئذ فقوام المبغوضيّة بالتجرّد عن المبغوضيّة ، فهذا معنى تقيّد الخمر بهذا
التجرّد وعدم الاتّصاف ، فمعنى التقيّد لازميّة وجوده ، وأنّه لولاه لما تمّ وصحّ
تعلّق الحكم والبغض.
فإن قلت : لا شكّ
أنّ قوام المبغوضيّة ليس إلّا بنفس الخمر بدون قيد أصلا ولم يحتج إلى ملاحظة سوى
نفس الخمر ، فكيف يكون قوام المبغوضيّة بما ليس بملحوظ أبدا.
قلت : إنّ التقيّد
ثابت واقعا وغير ملحوظ بعنوانه ، وإن شئت توضيح ذلك في ضمن المثال فاعلم أنّ
الكلّي الطبيعي يشترط ويعتبر في اتّصافه بالكليّة والصدق على الكثيرين تجريده عن
جميع الخصوصيّات ؛ إذ لولاه كان جزئيّا وغير صادق
على الكثيرين ،
فقوام وصف الكليّة بوصف التجريد ، فهو متقيّد بالتجريد واقعا ، وليس قيد التجريد
ملحوظا معه بعنوانه ، وإلّا لزم أيضا جزئيته.
فكذلك في ما نحن
فيه ، فالخمر مثلا مع وصف كونه بحيث يمتنع انطباقه على مشكوك الحكم يكون موجودا في
ذهن الحاكم في النظرة الاولى ، وهذا ثابت له في خياله ولحاظه ، كيف وإلّا لما أمكن
تعلّق المبغوضيّة به ، فإنّ متعلّقها لا بدّ من أن يتجرّد من ذلك كما عرفت ، مع
أنّ هذا الوصف غير ملحوظ بعنوانه.
وبعبارة اخرى : ما
يتصوّر في الأوّل لا بدّ أن يكون موضوعا بلا حكم ، وما يتصوّر في الثاني موضوع
مفروغ عن حكمه ، وكيفيّة كونه موضوعا بلا حكم في الأوّل دخيلة في مبغوضيّته ، ولا
يعقل عروض المبغوضيّة عليه بدون هذه الكيفيّة ، كما أنّ كيفيّة تجريد الكلّي
الطبيعي عن الخصوصيّات دخيلة في كليّته ، ولا يعقل عروض الكليّة عليه بدون هذه
الكيفيّة.
وحينئذ فإذا
تصوّرت الإنسان متجرّدا عن جميع الخصوصيّات فلا إشكال أنّه متّصف بالكليّة فتحكم
عليه في اللحاظ الثانوي بأنّه كلّي ، ثمّ إنّك في قولك : زيد إنسان ما تصوّرت
ولاحظت إلّا عين ما لاحظت وتصوّرت في اللحاظ الأوّل بلا نقيصة وزيادة ، فما وجه
أنّ ملحوظك في الأوّل كلّي ، وأمّا ملحوظك في الثاني وهو الإنسان المخصوص في ضمن
زيد جزئي وليس بكلّي؟ ، وهل هذا إلّا لأجل أنّ الأوّل في لحاظك متجرّد عن جميع
الخصوصيات ومتكيّف بهذه الكيفيّة ، وفي الثاني يكون مقرونا معها ومتكيّفا
بالاقتران؟.
فإن قلت : لكن مع
ذلك لو تعلّق المبغوضيّة بالإنسان كانت متعلّقة بالزيد قطعا مع كونهما على الوصف
الذي ذكرت من تضادّ الكيفيّة.
قلت الأعراض التي
تعرض الجامع تكون على قسمين ، فبعضها تعرضه لا بوصف جامعيّته ولا بتوسيط الذهن ،
وذلك مثل المبغوضيّة ونحوها ، وهذا يسري فيه إلى الأفراد ، وبعضها تعرضه بوصف
جامعيته وبتوسيط الذهن كوصف أنّه يصدق على الكثيرين ، فهذا لا يسري منه إلى
الأفراد.
كما أنّ أعراض
الفرد أيضا على قسمين ، فبعضها تعرضه لا بفرديّته وتوسيط الذهن، وهذا يسري منه إلى
الجامع ، وبعضها تعرضه بفرديّته وتوسيط الذهن كوصف أنّه لا يصدق على الكثيرين ،
وهذا لا يسري منه إلى الجامع ، فمناط عدم سراية عرض أحدهما إلى الآخر تقوّم العرض
بالوصف الذهني وكونه شرطا وواسطة في عروضه.
والحاصل أنّ هنا
مطلبين ، الأوّل : أنّ العنوان الثانوي أعني المشكوك ليس محفوظا في الرتبة الاولى
، والثاني : أنّ العنوان الأوّلي غير محفوظ في الرتبة الثانية ، أمّا الأوّل فلأنّ
كلّ عرض لا بدّ أن يكون الذات منسلخا في مرتبة عروضه عن هذا العرض ونقيضه ؛ لئلّا
يجتمع المثلان ولا النقيضان ، فالجسم الأبيض إنّما يرد عليه البياض حال انسلاخه عن
البياض ونقيضه ، والماهيّة في رتبة عروض الوجود عليها لا بدّ أن ينسلخ منه ومن
العدم ، كيف وهو الموضوع وهما محمولاه ، ورتبة المحمول متأخرة عن الموضوع ، ففي
رتبة الموضوع هو لا موجود ولا معدوم ، يعني له قابليّة الوجود والعدم.
فكذلك هنا أيضا
عرض البغض في رتبة عروضه بالخمر لا بدّ أن يكون الخمر منسلخا عن البغض ونقيضه
ومتكيّفا بالتجرّد عن الحكم ، فيمتنع أن يكون من أفراده مشكوك الحكم والمبغوضيّة
وإن قلنا على تقدير كونه منها بسراية المبغوضيّة من عنوان الخمر إليه ، بناء على
سراية الأعراض من العناوين إلى الجزئيات.
وإذن فلا يرى
الناهي عن شرب الخمر في هذه الرتبة مشكوك الحكم حتى تقع المزاحمة والكسر والانكسار
بينه وبين الخمر بحسب الحبّ والبغض ؛ فإنّ الحبّ والبغض أمران حاصلان في النفس كما
مرّ ، فلا بدّ من تصوّر العنوان المحبوب مع الحالة المبغوضة في القوّة العاقلة حتى
يحصل التنفّر ويحصل البغض ، وأمّا بدون تصوّرهما في الخيال فلا ، فالمزاحم الذي لا
يتعقّل بل يغفل عنه لا يعقل تزاحمه في باب الحبّ والبغض ، فليسا كالحرارة والبرودة
، فالماء البارد والماء الحارّ لو اختلطا في الخارج وقع بينهما الكسر والانكسار
ولا حاجة إلى التصوّر ، ولكن هنا ما لم يتصوّر حالة
اجتماعهما لم يعقل
التزاحم.
وأمّا عدم
محفوظيّة العنوان الأوّل في الرتبة الثانية فربّما يقال : إنّه بعد تمام الحكم
والبغض وتحقّق مشكوك الحكم أنّ الخمر المشكوك الحكم كيف يجوز تحليله ، وهل هو إلّا
تحليل المبغوض ؛ فإنّ الخمر مبغوضة وهو هنا موجود مع الزيادة ، فليس تحليله إلّا
تحمّلا للمبغوض وترخيصا فيه.
قلت : الكيفيّة
التي يتعقّل في الرتبة الاولى هي كون الخمر متصوّرا بحيث يمكن أن يكون من مصاديقه
مشكوك الحكم ؛ فإنّه في هذه الرتبة منسلخ عن الاتّصاف بالحكم ، ونقيض هذا الاتّصاف
وهي الثانية قد يعقل على كيفيّة يكون من أفراده مشكوك الحكم ، وهاتان الكيفيّتان
لا تجتمعان في لحاظ واحد قطّ ، كيف وإلّا يلزم اجتماع المتناقضين في الذهن ؛ فإنّ
الانسلاخ عن الحكم والاتّصاف به لا يمكن جمعهما في الذهن.
وحينئذ فلا تقع
المزاحمة والكسر والانكسار أصلا ؛ فإنّه فرع اجتماع ما هو المبغوض وهو الخمر
بكيفيّة الخاصّة مع عنوان مشكوك الحكم في التصوّر ، وقد فرض امتناع اجتماعهما ،
فكيف تقع المزاحمة بحسب الحبّ والبغض؟.
فالخمر الخارجي
المشكوك الحكم يكون الخمر الذي في ضمنه ساريا إليه المبغوضيّة من عنوان الخمر ،
ولا يسري إلى وصف كونه مشكوك الحكم ، فتكون الذات متّصفة بالمبغوضيّة والوصف خاليا
عنها ، أو يكون محبوبا ، ولا يزاحم محبوبيّة هذا الجزء لمبغوضيّة ذلك الجزء ، ولا
مبغوضيّة ذلك الجزء لمحبوبيّة هذا ؛ فإنّ المناط هو الذهن وعالم التصوّر ؛ وفيه لا
يتّفق بل لا يمكن الاجتماع ، وبدونه لا يقع بين الحبّ والبغض كسر وانكسار ، فلا
محيص إلّا عن اجتماعهما في الوجود الخارجي.
فتحصّل ممّا ذكرنا
أنّا وإن قلنا بأنّ الحكم يسري من العناوين إلى الجزئيات ، وقلنا أيضا بامتناع
اجتماع الأمر والنهي في عنوانين باعتبار اتّحادهما في الوجود ولزوم وقوع الكسر
والانكسار بينهما ، ولكن هذه السراية وهذا الكسر والانكسار إنّما هما في ما إذا
كان هذان العنوانان ممّا أمكن جمعهما في عالم التصوّر وتصوّرهما
مجتمعين ، وكان
هذا الجزئي ممّا أمكن وقوعه تحت هذا العنوان في عالم التصوّر. وأمّا لو لا ذلك كما
في عنوان مشكوك الحكم وعنوان الخمر فلا محيص عن عدم تقييد حبّ أحدهما ببغض الآخر
ولا العكس وعدم السراية ، ولازمه اجتماعهما في الخارج.
ثمّ هذا كلّه
بالنّسبة إلى عرض الحبّ والبغض الذين هما يعرضان المتصوّر الذهني دون الشيء
الخارجي.
ومن هنا يندفع
الإشكال بأنّه كيف اجتمع الضدّان في موضوع واحد ؛ فإنّ الخارج ليس بموضوع الحكم
والإرادة والكراهة ، وإنّما هو المتصوّر ، وعرفت عدم اجتماع الضدّين ولا النقيضين
ولا المثلين فيه.
نعم ، يقع الكلام
في ما موضوعه الخارج وليس مرتبطا بعالم التعقّل وهو المفسدة والمصلحة ، وكذلك
التكليف بما لا يطاق فيما إذا كان حكم مشكوك الحكم مثلا الوجوب ، وحكم نفس العنوان
الحرمة ، فإنّه يقال : كيف اجتمع المفسدة والمصلحة في الوجود الواحد بدون الكسر
والانكسار ، وكيف يوجّه التكليف بالفعل وبالترك معا بالنسبة إلى شيء واحد ، وكذلك
تفويت المصلحة ، كما لو أدّى الأمارة إلى حرمة الجمعة الواجبة واقعا ، والإبقاء في
المفسدة فيما إذا أدّى إلى حليّة الخمر المحرّم واقعا.
فنقول : أمّا
التكليف بما لا يطاق فهو يلزم على تقدير كون كلا التكليفين منجّزا وليس كذلك ؛
فإنّ شرائط التنجيز لا يوجد فيهما معا في شيء من الأوقات ، فكلّما كان الحكم
الواقعي معلوما فهو منجّز دون الظاهري ؛ لعدم تحقّق موضوعه وهو الشكّ في الحكم
الواقعي ، وكلّما كان الحكم الواقعي غير معلوم فالمنجّز هو الحكم الظاهري دونه ،
لعدم العلم به الذي هو من شرط التنجيز.
وأمّا اجتماع
المصلحة والمفسدة في الوجود الواحد بلا كسر وانكسار فهو ليس بمحذور ؛ إذ من الممكن
بمكان من الإمكان أن يكون وجود واحد منشئا لأثرين من جهتين، كأن يكون شرب
السكنجبين الحارّ مزيلا للصفراء من حيث ذاته ، ومورّثا لضعف القلب من حيث وصف
حرارة مائه.
وبالجملة ، فليس
كلّ مصلحة ومفسدة متضادّين ، بل لو قلنا في مبحث اجتماع الأمر والنهي بالامتناع
أيضا فلا نقول بوقوع الكسر والانكسار إلّا في نفس الطالب بين إرادتيه ، لا في
الخارج بين المفسدة والمصلحة ، ففي المثال لو كان حبّه بزوال الصفراء أكثر من حبّه
بعدم عروض الضعف يريد الشرب ويغضّ النظر عن عروض الضعف ، ولو كان العكس كان العكس.
وأمّا لزوم
التفويت أو الإلقاء أحيانا من العمل بالحكم الظاهري فنلتزم لدفعه بوجود مصلحة في
العمل على طبق الظاهري يتدارك بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة فيها.
«تقرير هذا الوجه
وتوضيحه مرّة أخرى»
المقدّمة الاولى :
أنّ الأحكام المتعلّقة بالموضوعات ليست كالأعراض الخارجيّة مثل حرارة النار وبرودة
الماء وبياض اللبن ، فاتّصاف هذه بهذه الأوصاف لا يتوقّف على حضورها في ذهن ذاهن ،
بل هي واجدة لها في الخارج وإن لم يتصوّرها أحد ، وهذا بخلاف الأحكام ، فإنّ
عروضها على موضوعاتها لا يحصل إلّا بتوسّط ملاحظة الموضوع وتصوّره ، فالتصوّر دخيل
في عروضها وهذا واضح.
المقدّمة الثانية
: أنّ الطالب لشيء متى تصوّر هذا الشيء وتصوّر جميع حالاته التي تطرأ عليه وقلّبه
في عالم التخيّل مع كلّ واحدة من تلك الحالات فهذا يكون على ثلاثة أقسام :
الأوّل أن يكون
هذا الشيء مع جميع حالاته مطلوبا.
والثاني : أن يكون
مع بعضها مطلوبا ومع بعضها غير مطلوب ، والصورة
__________________
الاولى تكون على
قسمين : الأوّل : أن يكون في خصوصيّة بعض الحالات منفّر الطبع بأن يكون فيه مع
الفائدة المحبوبة فائدة اخرى مبغوضة ، والثاني : أن يكون الجميع خاليا عن منفّر
الطبع ، وبعبارة اخرى واجدا لمقتضى المطلوبيّة وفاقدا للمانع ، فهذه أقسام
متصوّرة.
فلا إشكال أنّه في
صورة يكون الشيء مع بعض حالاته مطلوبا فقط يكون إرادة الطالب مقيّدة بهذا البعض ،
فلو كان طالبا لعتق الرقبة ولم يحصل مطلوبه إلّا مع كون الرقبة مؤمنة بحيث لا يحصل
المطلوب من عتق الكافرة فهو لا محالة يريد عتق المؤمنة.
وكذلك لو كانت
الفائدة المطلوبة قائمة بمطلق عتق الرقبة وإن كانت كافرة ، ولكن كان في خصوص عتق
الكافرة جهة اخرى منفّرة الطبع ، وعتق المؤمنة سالمة عن هذه الجهة المزاحمة ، فلا
محالة أيضا يريد عتق المؤمنة للجمع بين غرضيه من تحصيل الجهة المطلوبة والفرار عن
الجهة المنفّرة ، فيرفع اليد عن مصلحة عتق الكافرة لأجل الفرار عن مفسدته ؛ لأنّ
مصلحته ممكن الإدراك في عتق المؤمنة مع السلامة عن محذور مفسدته وإن فرض كون المصلحة
أقوى بمراتب من المفسدة.
وليس هنا مقام
ملاحظة الأهمّ والمهم ، ومقامها مورد الدوران بين فوت المصلحة والفرار عن المفسدة
بأن لم يكن لما فيه المصلحة والمفسدة ، بدل أمكن درك المصلحة فيه مع السلامة عن
المفسدة ، وقد عرفت البدل هنا ؛ ولهذا على القول بامتناع اجتماع الأمر والنهي تكون
الصلاة في الدار المغصوبة فاسدة وإن فرض أشدّية مصلحة الصلاة بمراتب من مفسدة
الغصب ؛ لإمكان درك هذه المصلحة مع الفرار عن تلك المفسدة بالصلاة في مكان آخر
مباح.
وأمّا الصورة
الثالثة وهي أن يكون الشيء مع جميع الحالات واجدا لمقتضى المطلوبيّة مع خلوّ
خصوصيّة جميع حالاته عن المانع ، فحينئذ يكون الطالب مريدا على نحو الإطلاق بدون
تقييدها بشيء ، وهذه المقدّمة أيضا واضحة ولا كلام فيها وإن قلنا بامتناع اجتماع
الأمر والنهي.
المقدّمة الثالثة
وهي أيضا واضحة ، وهي أنّه لو فرضنا عنوانين ليس لهما جمع في عالم الخيال ، بل
لهما فيه وجود بدلي وكان في أحدهما مقتضي المبغوضيّة وفي الآخر مقتضى الترخيص
فالعنوان الأوّل يصير مبغوضا مطلقا ، والثاني مرخّصا فيه كذلك وإن فرض جمعهما في
الوجود الخارجي ، وهذا بعد وضوح المقدّمتين السابقتين لا إشكال فيه ؛ فإنّك قد
عرفت أنّ عروض الأحكام إنّما هو بتوسيط الذهن.
فإن وصل ما فيه
مقتضي المبغوضيّة بما فيه مقتضي الترخيص في عالم الخيال يوجب صرف الترخيص عمّا فيه
مقتضيه ، ولكن هذا فرع إمكان الوصل الذهني والجمع اللحاظي ، والمفروض عدم إمكانه ،
ومعه لا ثمرة لإمكان الجمع في الخارج بعد أنّ عروض المبغوضيّة والترخيص إنّما هو
بتوسيط الذهن ، فلا محالة يصير ما فيه مقتضى البغض محلا للكراهة المطلقة ، وما فيه
مقتضى الترخيص محلا للترخيص المطلق ، ولا كلام في ذلك.
إنّما الكلام
والإشكال في تشخيص صغراه وأنّ العناوين الأوّليّة المتعلّق بها الأحكام الواقعيّة
مع العناوين الثانوية التي هي موضوع الأحكام الظاهرية يكون من هذا القبيل؟
فنقول وعلى الله
التوكيل :
أمّا المرحلة
الاولى وهو عدم جمع العنوان الثانوي مع الأوّلي في رتبة لحاظ الأوّلي للحكم عليه
بالحكم الواقعي فهو واضح ؛ فإنّ الحكم على الخمر مثلا بالحرمة والمبغوضيّة لا يمكن
إلّا مع تجرّده عن المبغوضيّة ؛ فإنّ عروض العرض على المحلّ لا بدّ وأن يكون في
حال خلوّ المحلّ عن هذا العرض ، ففي هذه المرحلة الخمر المشكوك مبغوضيّته لا يمكن
تصوّره ، فلا محالة لا يحكم عليه إلّا بالحرمة ؛ فإنّه مع كلّ حالة يمكن لحاظه
معها في هذه المرحلة لو لوحظ لا يوجد فيه سوى المفسدة.
وأمّا المرحلة
الثانية وهو عدم اجتماع الأوّلي مع الثانوي في عالم لحاظ الثانوي للحكم عليه
بالحكم الظاهري ففيها الإشكال ، ووجهه أنّ من يلاحظ الخمر
المشكوك مبغوضيّته
فهو قد لاحظ عنوانين : شرب الخمر ومشكوكيّة الحكم ، والأوّل هو الذي لاحظه في
المرحلة الاولى وحكم عليه بالمبغوضيّة المطلقة ، فكيف يحكم في الثانية بالإباحة أو
الوجوب؟ وليس هذا إلّا اجتماع الضدّين وهما الحبّ والبغض ، والإرادة والكراهة ،
والوجوب والحرمة ، أو الحرمة والإباحة ، أو المتماثلين في محلّ واحد في النفس.
وجوابه أنّ البغض
قوامه إنّما هو بوصف خاص وكيفيّة مخصوصة تعقليّة ، وحينما يعرض ضدّه ينفكّ عنه هذه
الكيفيّة والوصف ، بل يحصل له في عالم التعقّل كيفيّة اخرى مضادّة لتلك الكيفيّة ،
ولا ضير في اجتماع الضدّين في عالم النفس في شيء واحد مع اختلاف كيفيّة تعقّله عند
عروض كلّ من العرضين المتضادّين.
ولتوضيح ذلك نمثّل
لك مثالا وهو : أنّ الإنسان مثلا إنّما يعرض عليه وصف الكليّة في الذهن عند تعقّله
مجرّدا عن جميع الخصوصيّات والضمائم ، ولا يصير كليّا مع ملاحظته معها ، فقوام
كليّته يكون بوصف تجرّده ، مع أنّ التجرّد لا يمكن أن يقع قيدا له ، فإنّ اللاحظ
لو لاحظ وصف التجرّد أيضا فلا ينطبق على أمر آخر ، وليس إلّا نفسه ، فيكون قوام
الكليّة بثبوت التجرّد في عالم النفس واقعا وعدم كونه ملحوظا للحاكم.
ثمّ لو لاحظ هذا
الحاكم نفس الإنسان الذي لاحظه أوّلا وحكم عليه بالكليّة بملاحظة ثانويّة مع
ملاحظة حالة تجرّده فلا يحكم عليه هذا الحاكم في هذا اللحاظ الثاني إلّا بالجزئيّة
، فقد اتّصف الشيء الواحد وهو الإنسان في عالم النفس بعرضين متضادّين وهما
الجزئيّة والكليّة مع كون الحاكم واحدا.
ونظير ذلك أيضا
اجتماع الجزء والكلّ في أجزاء المركّب ؛ فإنّها على ما ذكره الاصوليّون وأهل
المعقول يلاحظ.
تارة على نحو خاص
وهو لحاظه لا بشرط وعلى سبيل الاندكاك في الكل ، فيحكم حينئذ عليه بعينيته مع
الكلّ ويصير متعلّقا للوجوب النفسي مثلا.
واخرى يلاحظ بما
هو شيء برأسه وعلى سبيل الاستقلال ويعبّر عنه بلحاظه
بشرط لا ، وحينئذ
يحكم عليه بالغيريّة للكلّ ومقدّميّته له وأنّه صار متحصّلا منه ومن سائر الأجزاء
، ويصير متعلّقا للوجوب المقدّمي ، فقد لزم اتّصاف الشيء الواحد في النفس بعرضين
نفسيين متضادين وهما الجزئيّة والكليّة ، وكذا يلزم اجتماع المثلين أعني الوجوب
النفسي والغيري ، وليس وجه صحّة ذلك إلّا اختلاف كيفيّة التعقّل ونحو الاعتبار.
فقوام كليّة
الإنسان في المثال الأوّل بتجرّده عن الخصوصيّات في عالم التعقّل مع عدم ملحوظيّة
تجرّده ، وقوام جزئيّته بلحاظ وصف تجرّده ، وقوام عينيّة الحمد والقطرة للصلاة
وماء الحوض بلحاظهما لا بشرط ، وقوام جزئيتهما بلحاظهما بشرط لا.
فكما جاز في هذين
الموضعين جمع المتضادّين والمتماثلين في معروض واحد بمجرّد اختلاف كيفيّة التعقّل
، فنقول في المقام أيضا : إنّ الخمر مثلا عند عروض المبغوضيّة عليه متّصف في عالم
التعقّل بالتجرّد عن المبغوضيّة ، ومبغوضيّته متقوّمة بذلك ، ولا يمكن اتصافه بها
مع كونه متّصفا بها ، وأمّا عروض الإباحة عليه فيكون في حال كونه متّصفا في عالم
التعقّل بمفروغيّة مبغوضيّته وشكّ المكلّف فيها ، وهاتان كيفيتان لا يمكن جمعهما
في تعقّل واحد ، واتصاف الخمر بالحرمة يكون في حال إحداهما ، وبالإباحة في حال
الاخرى ، وليس لمقامنا زيادة على المقامين أصلا ، فكما لا يستشكل فيهما من جهة جمع
الضدين أو المثلين فلا بدّ أن لا يستشكل أيضا فيه.
هذا حاصل الكلام
في دفع لزوم اجتماع الضدين والمثلين في النفس ، بقي الكلام في أمرين آخرين :
أحدهما : اجتماع
المصلحة والمفسدة وترخيص ما فيه المفسدة وتحريم ما فيه المصلحة.
والثاني : التكليف
بما لا يطاق وهو اجتماع إيجاب الفعل وإيجاب الترك في موضوع واحد في ما لو كان
الفعل بحسب الواقع حراما ، وأدّى الطرق إلى وجوبه ، أو العكس.
فنقول : أمّا
التكليف بما لا يطاق فهو إنّما يلزم لو ساق المكلّف التكليف نحو الضدّين في آن
واحد على وجه صار شرائط التنجيز حاصلا في كليهما في آن واحد وعرض واحد ، كما لو
أمر بالقعود والقيام في آن واحد مع علم المأمور بذلك ، وأمّا لو أمر بالضدّين على
وجه لم يلزم اجتماع شرائط التنجيز في كليهما في زمان واحد أبدا فلا محذور فيه ،
كما هو الحال في المقام ؛ فإنّ إيجاب الفعل مثلا يكون تنجيزه في حال العلم به ،
وإيجاب الترك لا يحصل موضوعه إلّا مع الشكّ في إيجاب الفعل وهو في حال الشكّ غير
منجّز ؛ إذ العلم من شرائط التنجيز ، فالوجوب والحرمة وإن كانا موجودين فعلا ، لكن
أحدهما مؤثّر في العقاب بحسب حكم العقل ، والآخر خال عن التبعة والعقاب بحكم
العقل.
وأمّا الإشكال
الأوّل ، فالمصلحة والمفسدة وإن كانا من قبيل الحرارة والبرودة ، والسواد والبياض
من الأعراض الخارجيّة العارضة على محالّها بدون توسيط ذهن ذاهن ـ فالخمر بوجوده
الخارجي يكون ذا مفسدة فترخيصه في حال الشكّ في حرمته يكون ترخيصا لأمر ذي مفسدة ،
وهو قبيح لا يصدر من الحكيم ـ إلّا أنّا بعد ورود الترخيص من الشرع نلتزم بأنّ
مفسدة الخمر وإن كانت غير منقلبة إلى المصلحة ـ كيف وإلّا يلزم التصويب ، بل
مفسدته لا فرق فيها بين حالتي العلم والشكّ ـ إلّا أنّه يمكن أن يكون الخمر مثلا
في نظر الشارع ذا مفسدة كإيراثه لقساوة القلب ، ولكنّه رأى أنّه لو حرّمه في حال
الشكّ في حرمته يلزم مفسدة اقوى كلزوم العسر الشديد على المكلّف في تحصيل الحال
فيه وكونه مؤدّيا إلى قتل النفس مثلا.
وبالجملة ، فرأى
الأمر في حال الشكّ دائرا بين الوقوع في المفسدة الصغرى الكائنة في ذات الخمر ،
والمفسدة العظمى الحاصلة في تحريمه حال الشكّ ، فرجّح الوقوع في الصغرى على الوقوع
في العظمى.
ومن هنا ظهر
اندفاع الإشكال بلزوم نقض الغرض ؛ فإنّ للشارع غرضين ، أحدهما أهمّ من الآخر ،
فعند الدوران رجّح الأهمّ منهما على غيره ، فاندفع الإشكال بحذافيره.
الوجه الثاني من
وجوه الجواب عن إشكال لزوم المحاذير من التعبّد بغير العلم ما ذكره شيخنا المرتضى
وهو ممّا يمكن أن يقال به وهو : أنّ الأوامر الصادرة من الشارع في باب الطرق ليست
أحكاما مولويّة ، بل هي إرشاد إلى الصواب والواقع.
وتصوير كونها
إرشاديّة في حال انفتاح باب العلم أنّ الانسداد عقلي وشرعي ، فالعقلي هو عدم إمكان
الواقع ، مثل أن يكون السفر من البلاد البعيدة إلى مدينة المعصوم للسؤال عنه موجبا
لانتشار تشيّع السائل ومورثا لقتل النفوس الكثيرة من الشيعة أو الإمامعليهالسلام ، فلهذا يرفع عنه مولويّا وجوب تحصيل العلم ؛ فإنّ وجوب
تحصيل العلم عقليّ ، فإنّ مراتب الامتثال أربع ، فأوّلها العلم وبعده الظن وبعده
الاحتمال وبعده الوهم.
فإن قلت : هذا
مبني على بقاء العلم الإجمالي بالأحكام وعدم انحلاله بالأمارات المعتبرة وهو خلاف
الواقع.
قلت : الكلام الآن
في اعتبار الأمارات ، فنحن ندّعي عدم جعل الشارع لها حجيّة ، وإنّما أرشد إلى
الطريق الأقرب ، والعقل بعد جزمه بصدق الشارع يحكم بالحجيّة ، فببركة هذا البحث
نريد انحلال العلم ، وبالجملة ، فالصادر من الشارع حكمان ، أحدهما مولوي ، والآخر
إرشادي ، فالحكم المولوي الصادر من الشرع في هذا الحال ليس إلّا رفع وجوب تحصيل
العلم بالحكم الواقعي ، وهذا موضوع آخر غير موضوع الحكم الواقعي ؛ فإنّ موضوع
الوجوب مثلا صلاة الجمعة ، وموضوع رفع الوجوب تحصيل العلم بحكمها.
فإن قلت : نعم
يتغاير الموضوعان وبذلك يرتفع غائلة التضادّ ونحوه ، لكن إشكال نقض الغرض باق
بحاله كما هو جار في الانسداد العقلي ؛ فإنّ الشارع يمضي طريقة العقل فيتسبّب
بإمضائه إلى نقض غرضه.
قلت : لا محيص عنه
؛ فإنّ تحصيل الغرض يكون بإيجاب تحصيل العلم أو بإيجاب الاحتياط وكلاهما مشتمل على
المحذور الأشدّ ، فلا بدّ من الصبر على عدم مثل هذا الغرض.
ثمّ بعد حصول هذه
المقدّمات للمكلّف أعني : صيرورة تحصيل الواقع موجبا لمفسدة أعظم ودفع وجوبه من
الشارع يصير حاله حال من انسدّ عليه باب العلم بالواقع عقلا ، ولا إشكال أنّ
المكلّف في هذا الحال أي حال انقطاع يده من العلم لو خلّي وطبعه ، لكان حكم عقله
الرجوع إلى ظنّه الفعلي في تشخيص الحكم الواقعي ، وكان هو المتعيّن بعد العلم بحكم
عقله.
لا يقال : إنّ
نتيجة مقدّمات الانسداد على فرض تماميّتها هو التبعيض في الاحتياط لا حجيّة الظّن.
لأنّا نقول : نحن
نتكلّم على فرض المبنى الأخير ، فلو أعلمه الشارع العالم بالغيب بطريق أقرب كما لو
رأى الشارع أنّ المكلّف بعد هذه المقدّمات لو عمل على طبق ظنّه كما هو مقتضى عقله
، لوقع في أكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر ، ولكن لو عمل على طبق مفاد خبر
الثقة لكان واقعا في أكل الميتة فقط ويكون وقوعه في خلاف الواقع أقلّ فأعلمه
الشارع حينئذ بأنّ هذا الطريق الخاص أقرب من سائر الطرق إلى الواقع فهل صدر منه
فعل قبيح ، وهل يقول العاقل في ما إذا أدّى هذا الطريق الخاص إلى حليّة الخمر مثلا
: إنّ الشارع قد أوقعه في مفسدة شرب الخمر؟ أو يقال : إنّه فعل فعلا حسنا؟ فإنّه
لو لم يعلمه وقع في هذه المفسدة ومائة مفسدة اخرى ، فالشارع حفظه عن الوقوع في
خمسين منها.
وبعبارة اخرى :
أنّه وإن كان للشارع في الواقعة الواحدة حكمان أحدهما عدم الجواز والآخر الجواز ،
إلّا أنّه صدر الأوّل منه على أنّه حاكم ، وصدر الثاني منه على أنّه عاقل ، فكما
أنّ العقل لو رأى فيما بين الظنون ظنّا أقوى من سائر الظنون يحكم بتعيّنه ، فكذا
هنا أرشد الشارع إلى أنّ خبر الثقة أقوى من الظنّ الفعلي ، وبعد القطع بصدقه يحكم
العقل بوجوب اتّباع خبر الثقة دون سائر الظنون.
فإن قلت : كيف
يمكن منع المكلّف عن الطريق الذي يكون أقرب بنظره إلى الواقع إلى غير الأقرب ؛
فإنّ الظنون الفعليّة كلّها أقرب من الأوهام التي في قبالها ، فكيف يمكن إرجاع
المكلّف إلى الأوهام؟.
قلت : يمكن كون
الظن النوعي أقرب إلى الواقع من الشخصي ، فإذا اجتمع جميع الظنون الشخصيّة واجتمع
جميع الظنون النوعيّة يمكن أن يكون الثانية أقرب من الاولى ، كما هو الحال في
ظواهر الألفاظ وكما يمكن أن يقطع الإنسان بمخالفة واحد من ظنونه للواقع.
والفرق بين هذا
الوجه والوجه المتقدّم أنّ الحكم الظاهري على ذلك الوجه كان مولويّا، وعلى هذا
يكون إرشاديّا.
ونقول لتوضيحه
أيضا : ألا ترى أنّه لو كان لحاكم أحكام وكان في تحصيلها بطريق العلم مفسدة أقوى ،
أو كان غير ممكن فجاء المحكوم إلى هذا الحاكم واستفسر عنه من حيث إنّه عاقل كامل
فقال له : الظنون التي هي مرجعي في أحكامك الغير الممكن علمي بها أيّ منها أقرب
إلى الواقع ويوجب الوقوع في المفسدة أقل؟ فعيّن الحاكم له على سبيل الإرشاد وإراءة
الصلاح بأنّ الطريق الفلاني أسلم ، وإيجابه للمفسدة أقل ، فهل يقال لهذا الحاكم في
ما إذا أخطأ هذا الطريق : إنّك حكمت في موضوع واحد بحكمين متضادّين؟.
ولو قيل له ذلك
يقول : أمّا من حيث كوني حاكما فلا يتفاوت حكمي بجهل المكلّف وعلمه ، وليس لي وراء
الحكم الأوّلي حكم آخر ، وأمّا من حيث كوني عاقلا ومرشدا إلى الصواب وهاديا إلى
الواقع فقد حكمت بسلوك الطريق الفلاني ؛ لأنّي رأيته أقرب من سائر الطرق إلى
الواقع ، ولم يصدر منّي إلّا مجرّد إراءة صلاح المكلّف والإرشاد إلى الصواب من دون
صدور حكم منّي أصلا.
فإن قلت : على
تقدير اللابدّيّة من رفع اليد عن المصالح الواقعيّة إمّا بالانسداد والحرج في
الاحتياط ، أو بما ذكرت من المفسدة الأعظم في تحصيل العلم هل يكون فعليّة التكليف
بمعنى البعث والزجر الفعليين نحوه إلّا فعلا لغوا لا يصدر من الحكيم؟.
قلت : الجواب هو
الجواب عن إشكال فعليّة التكليف عند جهل المكلّف مركّبا أو بسيطا مع قصوره ، حيث
يكون معذورا عقلا والشارع يمضي ذلك من العقل ، وعند علم الشارع بعصيان العبد ، فما
كان هو الجواب في ذينك المقامين نقوله في هذا المقام
وأنّه لا ينثلم
بذلك فعليّة التكليف ، ولا يوجب الكسر والانكسار بين مصلحة الواقع ومفسدة تحصيل
العلم حتّى يصير الواقع اقتضائيّا شأنيّا.
والحلّ في الجميع
أنّ أوامر الشارع مقرّبات إلى المصالح الواقعيّة ، ونواهيه مبعّدات عن المفاسد
كذلك ، ويجب عليه هذا المعنى بمقتضى حكمته ، ففرامينه ليست كفراميننا ، حيث إنّ
غرضنا ممحّض في شراء اللحم وإتيان الماء وغيرهما من الأغراض المترتّبة على الوجود
الخارجي للمأمور به ، فلهذا لو علمنا أنّ عبدنا متمرّد ولا يطيع أمرنا لا نأمره ،
ولو علمنا المانع من إتيانه المأمور به نمتنع من الأمر ، لكن فرامين الشارع نظير
حكم الحاكم في مقام فصل الخصومة وختم المرافعة ، حيث لا عشق له في وجدان زيد
للعباء وفقدان عمرو له ، بل وظيفته الجلوس في مسند القضاء وإصدار الحكم ، فالغرض
في نفس الحكم.
وهكذا في مقامنا
ليس لطف الحكيم تعالى مقتضيا لأزيد من نصب الإمام وجعل الأحكام ، ولو لا ذلك وكان
غرضه في حصول المتعلّقات أيضا لزم العياذ بالله أن يكون الله دائما مقهورا لعباده
؛ إذ ما من زمان إلّا وفيه جماعة من الناس يعصون الله ، فالمقصود يتمّ بالنصب
والجعل ، وبعد ذلك يصير النقصان راجعا إلى المكلّفين إمّا لعصيانهم وإمّا لكونهم
موجبين لغيبة الإمام عليهالسلام ، وعلى كلّ حال يقع التقصير على عنقهم بعد تمام اللطف من
الله وإتمام الحجّة من قبله.
فإن قلت : مع هذا
أيضا يبقى محذور المضادّة بحالها ؛ إذ الكراهة والحبّ بالنسبة إلى المتعلّقات
سلّمنا انتفائهما وأنّ المصلحة في نفس الحكم ، لكن نقول : نفس الحالة الباعثة
والزاجرة ولو انقدحت لمصلحة في نفسها ينافي مع إراءة طريق يؤدّي إلى خلاف متعلّقها
؛ إذ معناه الرضى بترك المتعلّق في هذا الحال ، والمفروض أنّه في بحبوحة البعث
نحوه والتحريك إليه.
قلت : نعم ولكن
إحدى الحالتين من حيث كونه شارعا ، والاخرى من حيث كونه عاقلا ، ولا محذور بين
الإيجاب والترخيص مع اختلاف الحيثيّة ولو اتّحد الشخص ، فكما لا منافاة بين بعث
الشرع وترخيص العقل لتعدّد الحاكمين ، فكذلك
في المقام ؛ لفرض
كون الشارع حاكما بحيثية الشارعيّة في أحدهما وقطع النظر عن ذلك في الآخر وحكم
بحيثية العاقليّة ، فافهم.
الوجه الثالث :
أنّ المقام من فروع مسألة اجتماع الأمر والنهي في الشيء الواحد ؛ فإنّ هنا عنوانين
أحدهما شرب الخمر مثلا ، والآخر اتّباع العادل ، فمورد النهي والمفسدة هو الأوّل ،
ومورد الأمر والمصلحة هو الثاني ، وقد تقدّم في بابه أنّ تعدّد العنوان كاف في رفع
غائلة اجتماع الحكمين المتضادّين في موضوع واحد وإن فرض اجتماع العنوانين في
الوجود الخارجي.
لا يقال : إنّ من
يجوّز الاجتماع بتعدّد العنوان إنّما يقول به إذا كان للمكلّف مندوحة كما في
الصلاة والغصب ؛ فإنّ النهي وإن كان عن كلّ فرد من الغصب تعينيّا ، ولكن الأمر لا
يقتضي كلّ وجود على التعيين ، بل أحد الوجودات ، فيمكن امتثاله بالصلاة في مكان
مباح ، وهذا بخلاف المقام ؛ فإنّ المطلوب من المكلّف كلّ فرد من اتّباع العادل على
التعيين، ففي المثال نهي تعييني عن شرب الخمر ، وأمر تعييني بشربه لكون العادل قد
أخبر بوجوبه ، فعلم أنّ القائل بالجواز لا يقول به هنا لعدم المندوحة.
لأنّا نقول : لا
فرق في رفع غائلة اجتماع المتضادّين بتعدّد العنوان بين صورة ثبوت المندوحة وصورة
عدمها ، وتقييد الجواز بصورة ثبوتها ليس لأجل دخله في رفع هذا المحذور ، بل هو لأجل
دفع محذور آخر وهو لزوم التكليف بما لا يطاق ، والعمدة في المقام رفع محذور اجتماع
الضدين وهو حاصل بتعدّد الجهة عند مجوّز الاجتماع ، وأمّا محذور التكليف بما لا
يطاق فقد عرفت جوابه وأنّه إنّما يلزم لو كان كلّ من التكليفين منجّزا في عرض واحد
، وليس كذلك في المقام ، هذا ما ربّما يقال في تقريب هذا الوجه.
وفيه أنّه لا بدّ
في مبحث الاجتماع أن يكون قوام كلّ من الأمر والنهي بأحد العنوانين كما في الصلاة
والغصب ، وليس كذلك في المقام ؛ فإنّ عنوان اتّباع العادل
ليس مأمورا به على
أنّه هذا العنوان ، بل المطلوب حقيقة إتيان ما أخبر العادل بوجوبه ، مثلا
على أنّ هذا العنوان المخبر عن وجوبه واجب ، مثلا لو أخبر العادل بوجوب صلاة
الجمعة فاتّباعه ومعامله الصدق مع إخباره هو الإتيان بصلاة الجمعة على أنّه بعنوان
كونه صلاة الجمعة واجبة ، لا الإتيان بها على أنّها بعنوان كونها متابعة لخبر
العادل واجبة.
وعلى هذا فمرجع
أمر الشارع باتّباع العادل هو الأمر بنفس العناوين التي أخبر العادل بوجوبها بما
هي هذه العناوين.
وبعبارة اخرى :
الأمر المذكور أمر طريقي بمعنى أنّه طريق إلى ما هو المطلوب حقيقة ، وهذا إنّما
طلب لأجل إيصاله إلى ذاك ومقدّميّته له ، وليس بأمر موضوعي كان المطلوب نفسه.
وإذن فيلزم في ما
إذا أخبر العادل بوجوب صلاة الجمعة مع حرمتها واقعا أن تكون صلاة الجمعة بعنوان
أنّها صلاة الجمعة متعلّقة للوجوب والحرمة معا ، فيلزم اجتماع المتضادّين في الشيء
الواحد مع اتّحاد الجهة ، فهو خارج عن موضوع مسألة الاجتماع ويكون باطلا
بالاتّفاق.
هذا كلّه بناء على
مذهب المشهور من طريقيّة الأحكام الظاهريّة ، وأمّا على ما يظهر من شيخ الطائفة قدسسره من موضوعيّتها وأنّ المصالح والمفاسد يكون بالوجوه
والاعتبار ، وكوننا ظانّين بصدق الراوي جهة من جهات العمل وصفة من صفاتنا ، فيمكن
أن يتغيّر بسببه حسن العمل وقبحه ، فيلزم التصويب المجمع على بطلانه.
وتفصيل هذا
الإجمال أنّ التصويب يكون على ثلاثة أقسام :
الأوّل : هو القول
بعدم ثبوت حكم مجعول واقعي رأسا مع قطع النظر عن العلم والظّن ، بل الحكم الواقعي
تابع لآراء المجتهدين ، وهذا محال عقلا ؛ للزوم كون العلم
__________________
محدثا للحكم بنظر
العالم وهو محال للدور ، نعم يمكن أن يكون علم شخص يرى للحكم واقعا محدثا له بنظر
شخص آخر.
والثاني : هو
القول بأنّ الشارع لكونه عالما بالغيب يعلم بأنّ ما يجعله وينشئه أيّ مكلّف يصل
إليه ، وأيّ مكلّف لا يطّلع عليه وإن تتّبع ، فمن أوّل الجعل يخصّ جعله بمن يعلم
أنّه يتتبّع ويطّلع ، دون من لو تتّبع لا يطّلع أو يطّلع على الخلاف ، وهذا هو
الشأن في أوامر الموالي الظاهريّة بالنسبة إلى عبيدهم أيضا ، فإنّهم يخصّون
أحكامهم وأوامرهم بمن يعلمون أنّه يسمع صوتهم ، ولا يوجّهون الحكم نحو من يعلمون
عدم سماعه.
وعلى هذا فصلاة
الجمعة في حقّ من يؤدّي نظره إلى وجوبها واجبة بجعل الشارع من أوّل الأمر ، وفي
حقّ من يؤدّي إلى حرمته محرّمة كذلك ، وهذا وإن كان لا يستلزم محذورا عقليّا ،
ولكن يمكن دعوى الإجماع القطعي على بطلانه ؛ فإنّ كلّ أحد يعلم بالضرورة بأنّ لله
تعالى في كلّ واقعة حكما واحدا يساوي فيه جميع المكلّفين.
الثالث : هو القول
بأنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما واقعيّا يساوي فيه العالم والجاهل ، إلّا أنّ
طروّ عنوان كون العمل ممّا أخبر بوجوبه العادل يوجب انقلاب المفسدة الكامنة في
ذاته إلى المصلحة ، فيكون الحكم الواقعي في حقّ من قام عنده الأمارة اقتضائيّا فقط
، ولم يصل إلى مرتبة الفعليّة ، وهذا وإن كان ممكنا عقلا وليس بمثابة الثاني في
ثبوت الإجماع القطعي على بطلانه ، إلّا أنّ الأساتيد نقلوا الإجماع على بطلانه.
ثمّ إنّ المحقّق
الخراساني أعلى الله مقامه اختار لدفع المحاذير المذكورة وجها آخر وهو أنّها بين
ما ليس بمحذور وبين ما ليس بلازم ، ثمّ بيّن هذا بوجهين.
الأوّل : أنّه ليس
المجعول في مورد الأمارات هو الحكم ، بل المجعول هو الحجّية
__________________
بناء على أنّ
الحجيّة أمر وراء الحكم وتناله يد الجعل ، بمعنى أنّ الحجيّة ليست منتزعة من
الأحكام ولا مستتبعة لها ، فإنّه قد يقال : إنّ الصادر الأمر بتصديق العادل وبسبب
ذلك ينتزع الحجيّة ، فيقال : قد تمّ الحجّة ، فإنّ أمر المولى حجّة ذاتيّة ، وقد
يقال : إنّ الحجيّة بنفسها مجعولة ، لكن يلزمها الحكم المولوي والأمر بالمتابعة ،
فالمدّعى أنّ الحجيّة الصرفة المعرّاة عن الحكم سابقا ولا حقا مجعولة ، فيصير
موضوع حكم العقل بلزوم الاتباع ، والمقصود منه إعطاء شيء حال العلم.
فكما أنّ العبد
العالم بأمر مولاه أو نهيه يكون علمه حجّة بالذات بمعنى أنّه لو طابق الواقع تنجّز
الواقع ، فلا عذر له لو خالف وعصى ، ولو كان جهلا مركّبا يعذّر العبد ، فلا عذر
للمولى في عقوبة العبد على المخالفة ، فكون العلم حجّة معناه كونه على حالة يصحّ
به الاحتجاج ، ومن آثاره حسن العقوبة على الترك عند المصادفة وقبحها عند عدمها
وإسقاط العذر من الطرفين.
ثمّ هذا المعنى في
العلم ذاتي وجدانا ، فإنّ من يرى أمر المولى بلا سترة فلا عذر له ويستحقّ العقوبة
، فأمر المولى حجّة ذاتيّة وما وراءه ليس هكذا قطعا ، فربّما يدّعى أنّ للشارع أن
يحدث ويوجد هذا المعنى فيه بعد ما لم يكن بتوسّط الجعل والإنشاء ، كما يوجد
الأحكام ، وذلك كما لو قال المولى لعبده : جعلت قول الشخص الفلاني حجّة بيني وبينك
، بحيث لو اتبعته وظهر مخالفته ما كان لي عذر في عقوبتك وحقّ لمؤاخذتك ، ولو
خالفته وكان مطابقا ما كان لك العذر.
وفيه أنّ الحجيّة
ليست إلّا سببيّة مخصوصة وهو كون الشيء سببا لرفع العذر عمّا بين شخصين ، كما أنّ
السند عبارة عمّا هو سبب لرفع الكلام عن بين مترافعين.
وبالجملة ، لا
يتصوّر معنى للحجيّة إلّا السببيّة لصحّة العقاب ولعدم صحّته وقد قرّر في محلّه
أنّ مطلق السببيّة غير قابلة للجعل ، وعلّل بأنّه لا بدّ من وجود سنخيّة ومناسبة
بين العلّة ومعلولها ؛ فإنّ المعلول مرتبة نازلة للعلّة ، ولأنّه لو لا ذلك لأثّر
كلّ شيء في كلّ شيء، والنسخيّة إن كانت بين شيئين فهو ، وإلّا فلا يمكن إحداثها في
فاقدها.
فنقول : قول
العادل قبل هذا الجعل لم يكن حجّة وسببا للآثار المذكورة ، وما كان كذلك لا يعقل
إعطاء السببيّة إيّاه.
ومحصّل الكلام
أنّه قد يقال : إنّه بتوسّط الوضع والقرار على أنّه متى أراد من العبد الفعل
الفلاني يقول كذا أو يفعل كذا ، فيصر أمارة وعلامة على إرادته ، فيعرض عليه وصف
الحجيّة قهرا ، فهذا ليس من باب جعل الحجيّة أوّلا ، نعم هو فعل يعرض عليه عنوان
ثانوي قهرا هو جعل الحجيّة وهذا هو الحال في حجيّة الظواهر ، فإنّ متعلّق الجعل
أوّلا ليس هو الحجيّة ، بل ينجعل بتركه الوضع ، وقد يقال : إنّ العنوان الأوّلي
جعل الحجيّة بدون توسيط أمر آخر.
فنقول : لا يتعقّل
من الحجيّة إلّا معذوريّة العبد واستحقاقه اللذان هما وصفان للعبد أو المصححيّة
للعقاب والمعذريّة اللذان هما وصفان لخبر الثقة مثلا ، وشيء منهما غير قابل للجعل
بهذا النحو ، فإنّ العبد إمّا معذور وإمّا لا ، وإمّا مستحقّ وإمّا لا ، ولا يمكن
تكوين المعذوريّة أو عدمها فيه ، وكذا في المصححيّة والمعذريّة ، وإن اريد معنى
آخر فلا نتعقّله.
فالحقّ ما ذكره
شيخنا المرتضى من أنّه لا معنى لجعل الحجيّة إلّا جعل الأحكام التي هي مفاد خبر العادل
مثلا ، فمعنى حجيّة خبره ليس إلّا وجوب العمل على طبقه ولزوم اتّباعه ، ومعنى هذا
إنشاء الحكم الذي هو المخبر عنه في خبره ، وكيف كان فإن قلنا بقابليّة الحجيّة
للجعل وإن قلنا بعدم قابليّة مطلق السببيّة له ، وقلنا أيضا بأنّ لزوم الاتّباع
حكم عقلي يحكم به العقل بعد جعل الحجيّة ، فليس الحاكم به الشرع وعلى فرضه يكون
ارشاديا ، نظير أوامر الإطاعة في الأوامر فلا يلزم اجتماع حكمين ، بل اللازم إنشاء
حكم وحجيّة ، وشأن الحجّة أن يصادف تارة ويخالف اخرى ، فهذا محذور غير لازم.
وأمّا تفويت
المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فهو غير محذور ؛ إذ نلتزم بوجود مصلحة اخرى يتدارك
بها المصلحة الفائتة أو المفسدة الواقعة فيها.
والوجه الثاني : أنّه لو قلنا بقبول الحجيّة للجعل وأنّ لازم جعلها جعل
لزوم الاتباع الراجع إلى جعل الحكم الذي أفاده الأمارة ، أو قلنا بأنّ الحجيّة غير
قابلة للجعل ، ومعنى جعلها جعل وجوب العمل ولزوم الاتّباع ، كما قاله شيخنا
المتقدّم قدسسره فاجتماع الحكمين وإن كان يلزم ، إلّا أنّهما غير متضادّين
ولا متماثلين ، وذلك لأنّ الاحكام الواقعيّة ناشئة عن مصالح أو مفاسد في التعليقات
، والحكم الظاهري ناش عن مصلحة في نفس إنشائه ، نظير الأمر الامتحاني.
وبعبارة اخرى :
تضادّ الحكمين إنّما هو من باب تضادّ منشئهما في نفس الحاكم بأن يكون الإيجاب عن
إرادة الفعل والحبّ به ، والتحريم عن كراهته وبغضه ، فلا محالة لا يمكن اجتماعهما
في محلّ يمكن وجودهما مثلا لنفس النبويّة والولويّة ، وهذا بخلاف ما إذا كان منشأ
أحدهما إرادة الفعل أو كراهته ، ومنشأ الآخر إرادة نفس الإنشاء.
وتوضيح المقام أنّ
الحكم الطريقي بحسب ما يقتضيه الارتكاز يكون عبارة عن حكم لا ملاك في موضوعه ،
فإنّ العنوان مشير صرف لا موضوعيّة فيه أصلا ، بمعنى أنّه لا يحصل غرضا مستقلا غير
الأغراض الواقعيّة وليس مقدّمة لوجود تلك الأغراض أيضا ، فينحصر أن يكون الملاك
منحصرا في الواقع ، وهذا الحكم يكون عن ملاك في نفسه ، ثمّ مقتضى طريقيته أنّه إن
صادف الواقع يصير عينه لا مغايرا له مثله حتى يلزم اجتماع المثلين ، وهذا معنى
جدّيّته عند المصادفة.
ولو خالف الواقع
يصير إنشاء صرفا ليس موضوعا لوجوب الامتثال عقلا ، وهذا معنى صوريّته عند عدم
الإصابة ، ومن المعلوم أنّ الإنشاء الصرف وبعبارة اخرى الطلب الإيقاعي الذي هو
الموضوع له لصيغة «افعل» بمذاق هذا المحقّق الجليل قدسسره لا منافاة بينه وبين الطلب الحقيقي المتعلّق بضدّ متعلّقه.
والترخيص المشتمل
عليه هذا الطلب الانشائي أيضا ترخيص إنشائي لا حقيقي
__________________
كما هو واضح ، فلا
منافاة من جهته أيضا ، هذا تقريب رفع المنافاة من جهة المضادّة والمناقضة
والمماثلة.
وأمّا تقريب كون
الحكم الطريقي قائما مقام العلم في منجزيّة الواقع ورفع العقوبة عنه ، أنّ الأمر
المولوي الطريقي الذي شأنه العينيّة مع الواقع لدى الإصابة لا يؤمّن عن ضرر عقوبته
لأجل هذا الاحتمال ، حتى يعلم بصوريّته وعدم إصابته ، فتنجّز الواقع يكون مقتضى
طريقيته وعدم موضوعيّته ، وشأنه الاتّحاد والعينيّة مع الواقع ، وملاك تنجّزه
إحراز أمر المولى مع احتمال جديّته ، فإنّ ذلك موضوع للزوم الامتثال عند العقل.
وأمّا وجه الفرق
بين الحليّة التي هي مفاد «كلّ شيء حلال» والحليّة التي هي مفاد خبر الثقة حيث قال
بلزوم المنافاة في الاولى بينهما وبين المنع الفعلى لو صادفته ، وبعدم اللزوم في
الثانية ، أمّا عدم اللزوم في الثانية فقد اتّضح وجهه ببيان أنّه صرف حكم إيقاعي
إنشائي وليس بترخيص حقيقي ، وأمّا اللزوم في مفاد «كلّ شيء حلال» فلأجل أنّه ترخيص
حقيقي في موضوع مشكوك الحليّة وليس بطريقي ؛ لأنّ عنوان المشكوك لا طريقيّة فيه ،
ومن المعلوم أنّ الإذن الحقيقي ينافي المنع كذلك.
هذا محصّل ما
أفاده هذا المحقّق الجليل على ما وضحه عند البحث بعض تلاميذ تلامذته أيدهم الله
تعالى بتوفيقه ، ولكن استشكل عليه شيخنا المحقّق النحرير واستادنا الذي ليس له
نظير أفاض الله تعالى علينا من بركات أنفاسه بما حاصله : إنّ الحكم الطريقي إن جعل
عبارة عن صرف الإيقاع الذي يحدث في النفس عند التلفظ ب «افعل» الذي لا تنافي بينه
وبين الإيقاع بهذا المعنى الذي هو مفاد «لا تفعل» فكما لا محذور بأن يتلفّظ الإنسان
بكلمتي «افعل» و «لا تفعل» لا محذور أيضا في انقداح معناهما في الذهن كما في مقام
الهزل ، فالإشكال متّضح الورود ، إذ حال هذا المعنى معلوم عند العقل وأنّه لا يجب
اتباعه أصلا.
وإن اريد به
الحالة النفسانيّة الباعثة والزاجرة التي يحمل المأمور في الإرادة الآمريّة على
العمل عند تمام شرائط التنجيز ، والفاعل في الإرادة الفاعليّة ، فحينئذ
يصحّ كونه موضوعا
لحكم العقل بلزوم الامتثال ، لكن هذا المعنى متى تحقّق في النفس ولو من قبل مصلحة
في نفسها على ما حقّقنا من إمكان ذلك يضادّه تحقّق مثله في طرف النقيض ، فكيف حكم
بأنّه لا مضادّة بين الحكمين؟ ومجرّد كون المصلحة في أحدهما في المتعلّق وعدمها
فيه في الآخر لا يوجب عدم اجتماع كراهتين وحبّين في المتعلّق ، وأمّا اجتماع
الحالتين الباعثة والزاجرة فيلزم [أن يكون] هما أيضا متضادّان.
ويرد على هذا أيضا
أنّه ما معنى كون الرافع بسبب هذا الحكم مثبتا على تقدير الإصابة ومسقطا على تقدير
عدمها ؛ إذ الأمر المولوي الجدّي بموضوع تصديق العادل وإن كان طريقا ومرآة إلى
العنوان الواقعي ، لكنّه في مرحلة الحجيّة موضوع ، يعني أنّ المولى لا يؤاخذ العبد
عند المصادفة وترك الامتثال على ترك الواقع ، بل على ترك التصديق ، فإنّ شأن الأمر
هو الحجيّة بالنسبة إلى متعلّقه ليس إلّا.
فتحصّل أنّ الأمر
الإنشائي الصوري ليس له قابليّة تنجيز الواقع ؛ إذ بعد ما لم يدخل تحت حكم العقل
بلزوم الإطاعة كيف ينجّز الغير؟ وأمّا الأمر الجدّي البعثي فهو موضوع حكم العقل ،
لكن لا يرتفع غائلة التّضاد بالتزامه أوّلا ولا تنجّز الواقع ثانيا.
لا يقال : على ما
ذكرت من كون المؤاخذة على ترك التصديق لا على الواقع المتروك فلم لا يؤاخذ عند عدم
الإصابة.
لأنّا نقول : عدم
المؤاخذة حينئذ من باب عدم تفويته غرضا من المولى لما هو المفروض من طريقيّته ، وعلى
هذا يستشكل بأنّه لا فرق بين الأمارة المرخّصة والأصل المرخّص ، فلو اغمضنا عمّا
ذكرنا وقلنا بأنّ محض كون المصلحة في نفس الحكم ولو الحقيقي يرتفع التضاد بينه
وبين ما يكون المصلحة في متعلّقه فعين هذا موجود في الحكم الأصلي أيضا.
ثمّ قال استادنا
دام ظلّه : بأنّ كلامه قدسسره عام في كلا شقّي الترديد
المذكورين في
كلامه من استتباع الحجيّة للتكليف واستتباع التكليف للحجيّة ، ويمكن توجيه كلامه
وذبّ الإشكال عنه على أحد الشقّين أعني استتباع الحجيّة للتكليف ، فإنّه على هذا
يكون المجعول الأوّلي هو الحجيّة ، غاية ما في الباب من باب الملازمة العقليّة لا
ينفكّ جعلها عن جعل حكم بمتابعة الحجّة المجعولة ، ومن المعلوم أنّ المؤثّر في
تنجيز الواقع وإسقاطه حينئذ هو الحجيّة ، والحكم المستتبع بالنسبة إلى هذا الأثر
وجوده وعدمه سواء.
فيمكن أن يقال
حينئذ بعد الإغماض عن أنّ الحجيّة إنّما تستتبع الحكم الفعلي وعلى فرض صدور حكم من
الشرع في هذا الخصوص يكون إرشاديّا ، والقول بإمكان جعل الحكم المولوي ، بل لزومه
وعدم انفكاكه ، بأنّه لا نلتزم بعد هذا التسليم بأنّه حكم جدّي ليس إلّا، بل نقول
: أمّا عند الإصابة فالحكم الواقعي موجود يكفي عن جعل حكم آخر ، وأمّا عند عدمها
فالمستتبع ـ بالفتح ـ إنّما هو حكم صوري إنشائي ، ولا مضادّة بينه وبين الواقع،
وهذا بخلاف الحال في الأصل ، فإنّ فيه يكون المجعول أوّلا هو الحكم لا حجيّة
مستتبعة للحكم ، والحكم المجعول لا محالة جدّي فينافي الواقع ، لكن هذا كلّه على
تقدير هذا الشّق من الترديد.
وأمّا على تقدير
القول بأنّ المجعول في الأمارات أيضا هو التكليف ، والحجيّة أمر ينتزعه العقل من
التكليف ، بمعنى أنّ العقل يرى الأمر شيئا يحتجّ به المولى على العبد والعبد على
المولى ، فحينئذ المؤثّر في التنجيز والإسقاط لا محالة هو التكليف ، فلا محيص عن
الالتزام بكونه جدّيا ، ضرورة عدم الأثر للإنشائي أصلا ، فيبقى الإشكالات بحالها.
ثمّ إنّه قدسسره بعد وصوله إلى هنا استدرك بقوله : نعم يشكل الأمر في بعض
الاصول العمليّة كأصالة الإباحة الشرعيّة ، فإنّ الإذن في الإقدام والاقتحام ينافي
المنع فعلا ، كما في ما صادف الحرام وإن كان الإذن فيه لأجل مصلحة فيه لا لأجل عدم
مصلحة أو مفسدة ملزمة في المأذون فيه ، انتهى.
فيرد عليه أنّه ما
وجه الفرق بين هذا وسائر الطرق؟ فكما تقولون في الأمارة
التي مفادها
الإباحة بأنّ المصلحة في نفس الترخيص فلم لا تقولون به هنا؟.
ثم قال ما حاصله :
إنّه لا محيص في مورد هذا الأصل عن الالتزام بعدم انقداح الإرادة أو الكراهة في
النفس النبويّة أو الولويّة أيضا كالمبدإ الأعلى ، ولكن هذا لا يوجب عدم كون الحكم
الواقعي بفعلي ، بل هو مع ذلك فعلي ، بمعنى أنّه فعلي مع قطع النظر عن حالة الشكّ
والترخيص.
وتوضيح ذلك أنّه
كما يكون للحكم مراتب كذلك للفعلي أيضا مرتبتان ، الأوّل : الفعلي بجميع الجهات
وبجميع اللحاظات ، والثاني : الفعلي ببعضها ، والأوّل واضح ، والثاني مثل حليّة
الغنم ؛ فإنّها بلحاظ كبر الجثّة وصغرها والسواد والبياض فعلي ، بمعنى أنّه ناظر
بجميع هذه اللحاظات ، وأمّا بلحاظ الموطوئيّة فشأني ، وليس إلّا ناظرا إلى
الاقتضاء ، فلا منافاة بين دليلها وبين دليل حرمة الموطوء ، وهكذا في ما نحن فيه.
فحرمة شرب الخمر
مثلا حكم فعلي بجميع لحاظاته بحسب الظاهر ، ولكن بعد ورود الترخيص في الخمر
المشكوك يعلم أنّ فعليّته إنّما هو بجميع لحاظات الخمر من اللون والكيفيّة
والمعلوميّة إلّا بالنسبة إلى لحاظ مشكوكيّته ، فبالنسبة إليه حكم اقتضائي ، فما
دام الشكّ لا منافاة بينه وبين حكم الأصل ، وإذا رفع الشكّ وحصل العلم فقد ارتفع
المانع عن الفعليّة فلا يحتاج إلى إنشاء جديد ، بل يصير بنفسه وقهرا فعليّا.
ثمّ قال ما حاصله
: إنّه على هذا فانقدح أنّه لا يلزم الالتزام بكون الحكم الواقعي في مورد الاصول
والأمارات غير فعلي بل شأني حتى يلزم عليه إشكالان ، ثمّ أخذ في تقريب الإشكالين.
وحاصل الأوّل
منهما أنّه لو كان الحكم الواقعي في المورد المذكور شأنيّا فيلزم أن لا يوجب
الأمارات تنجيز الحكم الواقعي ، فإنّ قيامها ليس بأقوى من حصول العلم ، ولا شكّ
أنّه لو حصل العلم بالحكم الشأني فلا يلزم امتثاله واتّباعه ، فكذا ما يقوم مقام
العلم.
ثمّ ذكر هنا سؤالا
وجوابا ، وحاصل الأوّل أنّ الحكم الواقعي بنفسه ولو لا قيام
الأمارة كذلك ،
وأمّا هو بعد أداء الأمارة فيصير فعليّا.
وحاصل الجواب أنّ
دليل الاعتبار ليس إلّا التنزيل للمؤدّى منزلة نفس الواقع لا منزلة الواقع المؤدّى
، وبعبارة اخرى : خبر الثقة مثلا إنّما يحكي نفس وجوب صلاة الجمعة الواقعي، ودليل الاعتبار
أيضا ليس أزيد من الالتزام بهذا المضمون وتنزيل ذلك منزلة العلم بهذا المعنى ،
وليس حكايته عن الوجوب المؤدّي للطريق ، وليس التنزيل أيضا منزلة الوجوب المؤدّى
له ، بل منزلة نفس الوجوب الواقعي.
ثمّ قال ما حاصله
: اللهم إلّا أن يقال : إنّ دليل الحجيّة يدّل على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع ذى
الطريق بدلالة الاقتضاء ، فإنّه لو كان تنزيله منزلة نفس الواقع فكما أنّ نفس
الواقع إنشائي ليس له وجوب اتّباع ، فكذا المجعول بدليل الحجيّة أيضا يصير حكما
إنشائيا ليس له وجوب اتباع ، فيكون لغوا ، فلصون الكلام عن اللغوية لا بدّ من
الحمل على أنّ التنزيل إنّما هو منزلة الواقع ذي الطريق ، فكما أنّ الواقع ذي
الطريق له وجوب اتّباع ، فكذلك مؤدّى الأمارة.
ولكن هذا إنّما
يتمّ في ما إذا لم يكن للحكم الإنشائي أثر أصلا ، وإلّا أمكن التنزيل بلحاظ ذلك
الأثر ، كما لو كان الحكم الواقعي حليّة اللحم ، فيصح تنزيل مؤدّي الأمارة منزلته
لا من حيث جواز الأكل ، ولكن من حيث جواز الصلاة في الشعر والوبر وسائر الأجزاء ،
هذا حاصل الإشكال الأوّل.
وحاصل الإشكال
الثاني أنّه لو كان الحكم في المورد المزبور شأنيا لزم إمّا عدم المورد لشيء من
الاصول والأمارات ، وإمّا التنافي والتناقض بحسب الاحتمال ، بيان ذلك أنّه لا
إشكال أنّ موضوع الاصول والأمارات هو الشكّ في الحكم الفعلي دون الشأني ، ضرورة
أنّه لو قطع بكون الحكم المحتمل وجوده في المقام شأنيّا فلا مجرى لشيء من الاصول
والأمارات.
فنقول : لو كان
الحكم الواقعي المحتمل ثبوته في مورد الأصل والأمارة مقطوع الشأنية وغير محتمل
الفعليّة فيلزم عدم جريان شيء منهما في شيء من الموارد ، فيصيران بلا مورد ، وإن
كان محتمل الفعليّة فيلزم احتمال حكمين متناقضين في
موضوع واحد ؛ فإنّ
الحكم الذي أفاده الأصل أو الأمارة فعلي بلا شكّ ، فاحتمال الفعليّة في الحكم
الواقعي أيضا مع كون أحدهما الحليّة والآخر الحرمة مثلا ليس إلّا احتمالا لوجود
التناقض ، وكما أنّ القطع بالتناقض محذور كذلك احتماله أيضا ، هذا على تقدير القول
بكون الحكم الفعلي ذا مرتبة واحدة وهو الفعلي من جميع الجهات.
وأمّا على ما ذكرنا
من تحقّق الفعلي ببعض الجهات وكون الحكم الواقعي من هذا القبيل فلا يلزم هذا
الإشكال ، وذلك لأنّ الحكم المدلول للأصل أو الأمارة وإن كان فعليّا بالقسم الأوّل
، ولكنّ الواقعي المشكوك فعلي مع قطع النظر عن الحكم الظاهري المذكور ، وهذا ليس
بتناقض محتمل ، وإنّما يكون لو كان كلا الحكمين فعليّا بالقسم الأوّل ، ووجه عدم
التناقض في الأوّل أنّه قد اخذ في فعليّة أحد الفعليتين قطع النظر عن الآخر ، ثمّ
أخذ في بطلان الجواب بالترتّب بأنّ الحكم الظاهري وإن كان لا يجتمع مع الواقعي في
رتبته ، ولكنّ الواقعي يجتمع معه في رتبته ، فيلزم اجتماع الضدّين وسائر المحاذير
في هذه الرتبة.
هذا محصّل كلامه قدسسره في هذا المقام وقد عرفت الجواب عن إشكاله في جواب الترتّب
فلا حاجة إلى الإعادة.
وأمّا إشكاله
الأوّل على الجواب بكون الواقعي إنشائيّا بأنّه على هذا يلزم أن لا يصير الواقع
بعد قيام الأمارة منجّزا فإنّ الأمارة إنّما يحكي نفس الواقع دون الواقع ذي الطريق
، والمفروض أنّ الواقع حكم شأني.
فجوابه أنّ الحكم
الشأني لا بدّ في الحكم بفعليّته في زمان من التماس دليل دالّ على أنّه متى يصير
فعليّا؟ فإنّ من يبنى على كون الواقعي إنشائيّا فلا محالة يكون مآل أمره إلى هذا ،
ولا شكّ أنّ قضيّة قوله : الناس في سعة ما لا يعلمون ، ورفع عن امّتي ما لا
يعلمون، هو ارتفاع السعة بعد العلم ، فيكون المحصّل منها أنّ الحكم الواقعي متى
تعلّق به العلم يصير فعليّا ، ثمّ لو قام الأمارة على حكم نقول بفعليته أيضا
بواسطة قيامها مقام العلم في جميع الآثار ، فإنّ العلم المأخوذ في هذه الادلّة
طريقي بلا إشكال ، فيكون مفادها أنّه متى تعلّق العلم أو قام طريق معتبر على حكم
يصير فعليّا.
وحينئذ فالأمارة
علاوة على حكاية الواقع يفيد أمرين آخرين ، أحدهما تعبّدي وهو صيرورة الحكم بسبب
قيامه فعليّا ، فهذا مأخوذ من التعبّد ، وهو الأدلّة المذكورة المعلّقة لرفع السعة
على العلم بضميمة أدلّة الاعتبار الدالّة على تنزيل المؤدّى منزلة الواقع.
وبعبارة اخرى :
موضوع الفعليّة له جزءان ، أحدهما الحكم ، والآخر قيام الطريق المعتبر عليه ، ففي
مورد الأمارة الجزء الثاني محرز بالوجدان ولا حاجة فيه إلى التنزيل ، بمعنى أنّه
لا حاجة إلى تجشّم أنّ مفاد دليل الاعتبار بدلالة الاقتضاء هو تنزيل المؤدّى منزلة
الواقع ذي الطريق ، وذلك لأنّ الحكم بعد قيام الأمارة عليه يكون ذا طريق قهرا ،
نعم في كونه هو الواقع يحتاج إلى التنزيل ، ودليل الاعتبار متكفّل لهذا التنزيل
وإن فرض كون الواقع إنشائيّا لا أثر له أصلا ؛ فإنّ التنزيل بلحاظ الأكثر التعليقي
صحيح ، أعني كون الواقع الإنشائي بحيث لو لا تعلّق به العلم أو الطريق يصير
فعليّا.
والحاصل أنّ مؤدّى
الطريق يكون واقعا لو تعلّق به العلم أو الطريق ليصير فعليّا بدليل التنزيل وتعلّق
الطريق به بالوجدان.
والأمر الآخر
الحاصل من الأمارة عقلي وهو التنجيز ، فالأمارة تحكي الواقع بدليل الاعتبار وتوجب
الفعليّة بدليل الرفع والسعة ويوجب التنجّز بمقدّمات عقليّة.
الامر
الثالث
بعد تبيّن إمكان
أصل الحجيّة نتكلّم قبل الشروع في الوقوع في الشك فيها. فنقول : لو شكّ في حجيّة
شيء ولم يظفر بعد الفحص بالدليل عليها فهو كالمقطوع عدم حجيّته.
بيان ذلك أمّا على
رجوع الحجيّة إلى الإيجاب الشرعي بمعنى إيجاب الاتّباع فواضح ، فإنّ هذا الإيجاب
ليس بأزيد من إيجاب نفس الواقع ، مثلا لو أوجب
الشارع العمل على
طبق الشهرة وقامت على وجوب الجمعة وكانت واجبة واقعا ، ولكن شكّ المكلّف في كلا
الإيجابين فكما أنّه عند العقل معذور بحسب نفس وجوب الجمعة وليس في قيده ، كذلك
بالنسبة إلى إيجاب اتّباع الشهرة الذي هو حكم طريقي يكون كذلك ، يعنى لا يترتّب
الأثر الذي كان مترتّبا لو علم بالحجيّة وهو استحقاق العقاب ؛ فإنّ أثر الحجّة هو
العذر عند مخالفة الواقع مع متابعته ، والاستحقاق عند موافقة الواقع ومخالفته ،
فهذان الأثران مسلوبان عند الشكّ في الحجيّة بهذا المعنى ، فمعنى مقطوعيّة عدم
الحجيّة مقطوعيّة عدم هذه الآثار ، كما هو المراد في الحكم الواقعي ، فإنّه عند
الشكّ في وجوده لا يصير مقطوع العدم بالبديهة ، ولكنّ الآثار العقليّة وهو وجوب
الاتّباع مقطوعة العدم.
وأمّا بناء على
القول بأنّ الحجيّة ـ أعني المعذورية في وقت والاستحقاق في وقت ـ بنفسها مجعول
للشارع ، فكيفيّة كونه عند الشكّ فيه مقطوع العدم أن يقال : إنّه كما يكون للحكم
مراتب كذلك للحجيّة أيضا مراتب ، فالمرتبة الاولى نفس الإنشاء والجعل ، فهذا
يتحقّق بنفس الإنشاء ، والمرتبة الاخرى انجعالها وفعليّتها وهو يحتاج مع الجعل إلى
علم المكلّف بهذا الجعل ، فالمعذوريّة والاستحقاق مشكوك من حيث وجودهما الجعلي
الإنشائي ، ومقطوع عدمهما بحسب الوجود الانجعالي الفعلي ؛ لتوقّفه على علم المكلّف
وهو مفقود.
وإذن فيرجع في كلّ
واقعة إلى الاصول التي يجري في ذاتها ، فإن كان الأصل الذاتي فيها البراءة يحكم
بالبراءة وإن قامت الحجّة المشكوكة على ثبوت التكليف ، فعلى تقدير الموافقة للواقع
لا يوجب الاستحقاق ، وإن كان الأصل الذاتي فيها الاحتياط ـ كما لو كان طرفا للعلم
الإجمالي ، أو كان من باب الأقلّ والأكثر ـ يعمل به وإن كانت الحجّة المشكوكة
حاكمة بنفي التكليف عن الطرف أو بنفي جزئيّة الجزء المشكوك فلا يكون عذرا لو
اتّبعها المكلّف وكان التكليف أو الجزئيّة ثابتا في الواقع ، فهذا هو الحال في
الشكّ في الحجيّة بعد الفحص ، كما هو الظاهر من كلامهم ، فإنّ الرجوع إلى الأصل
إنّما يكون بعد اليأس عن الدليل.
وأمّا قبل الفحص
فإن كانت قائمة على رفع التكليف فهو كما بعد الفحص في أنّه على تقدير الثبوت لا
أثر لوجودها الواقعي ، فلو كان التكليف موجودا في الواقع وتحقّق أسباب تنجّزه مثل
العلم الإجمالي ، لا تصير هذه الحجّة مسقطا وإن كانت مثبتة للتكليف ، فإن كانت
بحسب الواقع ثابتة والمكلّف لو فحص لظفر فهو كمن هو عالم بالحكم.
وبعبارة اخرى :
الوجود الواقعي للحكم في هذا التقدير منجّز ؛ إذ ليس الساتر بينه وبين المكلّف سوى
التكاهل والتهاون عن الفحص الجزئي ، فكذلك الحجيّة بأيّ المعنيين يكون في هذا
التقدير بوجودها الواقعي منجّز ؛ إذ ليس الساتر بينها وبين المكلّف سوى التهاون في
الفحص بالمقدار المتعارف ، فلو كانت مثبتة للتكليف وخالفها المكلّف فهو كمن خالف
الحجّة المعلوم الحجيّة في الاستحقاق للعقوبة إذا كانت الحجّة مطابقة للواقع.
وأمّا قبل الفحص
مع كون الحجّة ثابتة في الواقع ولم يكن المكلّف على فرض الفحص المتعارف ظافرا به
في علم الله ، فقد اختار شيخنا المرتضى قدسسره في الشكّ قبل الفحص في نفس الحكم الواقعي استحقاق العقوبة
، فإنّ نفس التكاليف الواقعيّة لها اقتضاء الاستحقاق ، غاية الأمر أنّ العذر مانع
عن العقاب ، فلو فحص ولم يظفر كان العذر ثابتا ، وأمّا لو لم يفحص فهو وإن كان في
علم الله لو تفحّص لم يظفر ولكن ليس له في قبال العقاب عذر.
فعلى هذا المبنى
يكون الحال في الشكّ قبل الفحص في الحجيّة أيضا ذلك ، فيقال : لو فحص ولم يظفر فهو
معذور ، ولكن قبل الفحص ليس له عذر ، فعدم العذر إنّما هو من أثر الشكّ المذكور ،
ووجود الحجيّة وعدمها سيّان ، بل على هذا يكون في صورة كونه لو فحص لظفر أيضا كذلك
، يعني أنّ الشكّ هو المنجّز لا الحجّة الواقعيّة.
ولكن منعنا هذا
الكلام في ذلك المقام بأنّ العقاب بلا حجّة قبيح ، ولا يمكن أن يكون الشكّ حجّة ،
فمن شكّ في ثبوت التكليف ولم يفحص وجه كونه ملزما بالاحتياط أو الفحص أنّه شاكّ في
أنّ العقاب مع الحجّة أو بلا حجّة ، فلهذا يحكم
عقله بالاحتياط أو
الفحص حتى يستريح ، ولا يحكم باستراحته قبل الفحص ؛ لاحتمال وجود الحكم في الواقع
ووصول المكلّف إليه لو فحص عنه بحيث يكون حجّته على العقاب على هذا التقدير هو هذا
الحكم الواصل ، لا الشكّ قبل الفحص بنفسه.
وبعبارة اخرى :
الشكّ قبل الفحص بيان قطعي على البيان ، لا أنّ نفسه بيان ، وأمّا على ما هو
المفروض من أنّه وإن فحص فهو لا يصل إلى الحكم في علم الله فعقابه عند الله عقاب
بلا حجّة وإن كان هو يحتمل كونه عقابا مع الحجّة ، ولا يرخّصه عقله بالاستراحة ،
بل يوجب عليه الفحص من باب دفع الضرر المحتمل ، وعلى هذا ففي الشكّ في الحجيّة قبل
الفحص مع عدم الظفر على تقدير الفحص يحكم بعدم الاستحقاق بعين هذا البيان.
فإن قلت : كما
أنّه لو علم المكلّف بأنّ هذا المائع خمر وكان غصبا تقولون بأنّه مستحقّ للعقوبة ،
ووجهه أنّه خالف تكليف المولى مع وجود الملزم ، فكذلك الحال في الشكّ قبل الفحص ،
الملزم ، وهو نفس الشكّ موجود ، والمفروض وقوعه في مخالفة الواقع.
قلت : وجه
الاستحقاق في المثال أنّه علم بأصل الحرمة الشرعيّة التي كانت نتيجة لقياس «كلّ
خمر حرام وهذا خمر فهو حرام» والمفروض إصابة علمه في هذه الجهة ، وهذا بخلاف
مقامنا ؛ فإنّ الشكّ وجه ملزميّته احتمال وجود البيان ، فمع عدم وجوده لا مصحّح في
البين ولا يكفي وجود البيان على البيان مع عدم نفس البيان ، وهل هو إلّا كوجود
البيان على الواقع مع عدم نفس الواقع ، وإلّا فاللازم في ما إذا كان التكليف
المعلوم في أطراف العلم الإجمالي موجودا في جميع الأطراف أن يتعدّد العقاب لو
ارتكب الأطراف ، فإنّ وجه تنجّزه أيضا من باب احتمال الواقع المنجّز في كلّ طرف ،
فالملزم في كلّ طرف موجود ، فإذا صادف مع الواقع في الكلّ يلزم على قولك تعدّد
العقاب ، ووجه الكلّ أنّ المدار على البيان القائم على الواقع ، لا على البيان
القائم على البيان.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ الحجّة المشكوكة بعد الفحص يكون مقطوعا
عدم حجيّتها بلا
شكّ على كلا معنييها ، وكذلك قبل الفحص في النافية للتكليف ، وأمّا المثبت فقبل
الفحص مع الظفر على تقديره يكون منجّزة كالحجّة المعلومة بلا شكّ ، وقبل الفحص مع
عدم الظفر على تقديره فبناء على مبنى الشيخ المرتضى يكون كصورة الظفر على تقديره ،
وعلى ما ذكرنا يكون كالصورة الاولى.
فعلى ما ذكرنا
يكون الحجّة الواقعيّة منجّزة في صورتين ، إحداهما : الفحص والظفر بها ، والثانية
: عدم الفحص والظفر على تقديره ، وغير منجّزة في غيرهما.
وخلاصة ما ذكرنا
مع تشريح زائد أن يقال : إنّ الحجيّة التي إثباتها ونفيها مهمّنا قد اخذ في
حقيقتها أمران وأثران ، الأوّل : التنجيز ، والثاني : الإسقاط ، فإذا كان في
الواقع أحكام ملزمة وأصابت الأمارة فهي منجّزة لهذه الأحكام ، ولو كانت الأحكام
ملزمة وقامت الأمارة على الإباحة فهي مسقطه لها ، فنقول : هذان الأمران اللذان هما
إمّا نفس الحجيّة ، وإمّا فائدتاها لا يمكن عند الشكّ في الحجيّة القطع والجزم
بعدمهما بالضرس القاطع ، بل لا بدّ من التفصيل.
فنقول : أمّا من
حيث الأثر الأوّل وهو التنجيز والإثبات والإلزام فهو بعد الفحص وعدم الظفر مقطوع
العدم ، بمعنى أنّ وجود الحجّة الواقعيّة حينئذ كعدمه وليس مورثا لوقوع المكلّف في
مئونة التكليف الذي يشتمله هذه الحجّة ، كيف والحال كذلك في نفس الواقع ، فالحكم
الواقعي بوجوده الواقعي ليس مؤثّرا في عقاب تاركه لو تفحّص ولم يجده ، فكذا
الحجيّة الواقعيّة أيضا لا يؤثّر في تنجيز مفادها لو تفحّص عنها المكلّف ولم يجدها
، وهذا واضح.
وأمّا الحال
بالنسبة إلى هذا الأثر قبل الفحص فهو أنّه على مبنى شيخنا المرتضى يكون الحكم هو
الإلزام ، فيقول بأنّ نفس الشكّ ملزم سواء كان في الواقع حجّة واقعيّة أم لم يكن
أصلا ، وعلى الأوّل سواء كانت بحيث يظفر به على تقدير الفحص ، أم كانت بحيث لم
يظفر به على هذا التقدير ، غاية الأمر ما دام لم يتفحّص يكون الشكّ بنفسه ملزما ، ولكن
بعد الفحص لو ظفر بالحجّة وعلم بها تصير الحجّة المعلومة حينئذ ملزمة للمكلّف ،
فينقلب الحجيّة من الشكّ إلى الحجّة المعلومة ،
فتكون على هذا
أيضا الحجيّة الواقعيّة بلا أثر ؛ لأنّ الأثر للشكّ.
وأمّا على ما
ذكرنا من أنّه لا موضوعيّة للشكّ بنفسه وإنّما يحكم العقل في حاله بالتفحّص لأجل
احتمال وجود الحجّة في الواقع ، فإنّه يكفي في حجّة المولى على العبد أن يقيم
الحجّة له بحيث لو تفحّص عنها العبد لظفر بها ووصل إليها ، فيكون الأمر تابعا
للواقع، فإن كان بحسب علم الله تعالى لا حجيّة واقعيّة في البين أصلا فالمكلّف يكون
في فسحة ووسعة ، وكذلك لو كانت الحجيّة الواقعيّة ثابتة في علم الله ولكن كان
الأمر في علم الله تعالى أيضا بحيث لو تفحّص المكلّف لما يصل إلى الحجيّة ويظفر ،
فيكون في فسحة أيضا ولا إلزام عليه.
وأمّا لو كان
الحجّة في علم الله تعالى ثابتة في الواقع وكان في علمه تعالى أيضا بحيث لو تفحّص
عنه لظفر به ، فحينئذ تكون الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي المجهول مؤثّرا في
التنجيز والإثبات ، وليس متوقّفا على تحقّق الوجود العلمي لها ؛ فإنّ الإيصال الذي
شأن الآمر ليس إلّا نصب الدليل على وجه يكون سهل الوصول إلى من أراد الوصول ولم
يكن محتاجا إلى مقدّمات صعبة خارجة عن المتعارف ، وليس في باب نفس الواقع ولا
دليله حكم العقل بأزيد من ذلك ؛ إذ لو اعتبر في تماميّة الحجيّة الإيصال الفعلي
للزم إقحام الأنبياء ؛ إذ لم يجب على أحد الحضور في مجلسهم وسماع كلامهم ، بل
كانوا يضعون الأصابع في آذانهم.
فتحقّق من ذلك أنّ
الحجّة الواقعيّة المجهولة ليس وجودها الواقعي غير مؤثر بقول مطلق ، بل هو مؤثّر
بشرطين ، الأوّل : أن يكون لها واقعيّة ، والثاني : أن يكون بحيث لو تفحّص لظفر به
، هذا هو الكلام من حيث أثر التنجيز.
وأمّا أثر الإسقاط
فالحجّة المجهولة غير مقيّدة من هذا الحيث مطلقا ، سواء كانت حجّة في الواقع أم لم
يكن ، وعلى الأوّل سواء وصل به على تقدير الفحص أم لم يوصل ، وسواء قبل الفحص
وبعده.
أمّا بعده فواضح ،
وأمّا قبله مع فرض الوصول لو تفحّص ـ مثلا لو كان المبتلى به من أطراف العلم
الإجمالي ـ ثمّ قامت الشهرة على إباحة هذا الطرف وكان الواجب
واقعا موجودا فيه
وشكّ في حجيّة الشهرة وكانت في الواقع حجّة وبحيث لو تفحّص المكلّف عن حجيّته لوصل
إليها ، ومع ذلك لم يتفحّص وارتكب هذا الطرف على جهل بحجيّة الشهرة ، فهذه الحجيّة
الواقعيّة بوجودها الواقعي لا يورث سقوط تبعة ذلك الوجوب الواقعي عن هذا المكلّف.
وسرّ ذلك أنّ
مقدّمات صحّة عقوبة المولى وحجّته على العبد تامّة لا نقص فيها ، فإنّ العلم
الإجمالى منجّز للواقع وحجّة تامّة للمولى ، ولا بدّ للعبد في ترك الاطاعة مع وجود
هذه الحجّة القويّة للمولى من وجود مستند يستند إليه في ذلك حتى يجيب به عند سؤال
المولى ويكون حجّة له في قبال حجّة المولى ، وفي هذا الفرض المفروض أنّ تحقّق
الحجّة على الإباحة في الواقع مع شكّ المكلّف فيه ليس لهذا المكلّف الشاك حجّة في
قبال المولى ، فيكون حجّة المولى وهو العلم الإجمالي حجّة عليه ومورثة لصحّة
عقابه.
والفرق بين هاهنا
ومرحلة التنجيز ـ حيث قلنا هناك بأنّ الحجّة الواقعيّة بوجودها الواقعي حجّة
للمولى ومستند له في العقاب ، وقلنا هنا بأنّ وجوده الواقعي الموصوف بكونه يوصل
إليه على تقدير الفحص ليس بمستند وحجّة للعبد في رفع العقاب ـ أن لا يطلب في باب
حجّة المولى إلّا إتمام المقدّمات التي من شأن المكلّف ـ بالكسر ـ اقامتها ، وليس
المقدّمات الأخر للوصول إلى المكلّف ـ بالفتح ـ المطلوبة منه مطلوبة من المكلّف ـ بالكسر
ـ مثلا لو بيّن الشارع الحكم في مكان يصل صوته إلى العبد عادة فأوجد العبد
باختياره مانعا عن إصغائه ، فليس التقصير حينئذ إلّا من قبل العبد ، فوظيفة المولى
إقامة الحجّة على وجه كان الوصول إليه بطريق المتعارف سهلا ، فلو أقامها كذلك ثمّ
تهاون العبد عن التفحّص عنه بالقدر المتعارف ، فليس جهله حينئذ عذرا له ، بل
الحجّة الواقعيّة حجّة للمولى.
فإن قلت : على ما
تقدّم من الجمع بين الحكمين الظاهري والواقعي بالترتّب مع أخذ حال التجرّد لحاظا
لا قيدا في الواقعي فالمكلّف في مورد العلم الإجمالي مستريح ؛ لأنّه شاك.
قلت : إنّما اخذ
التجرّد من غير الشكّ المقرون بالعلم.
فإن قلت : فما وجه
الجمع بين الحكم الترخيصي في الأطراف مع الواقع؟ قلت : نختار في باب العلم
الإجمالى الطريق الآخر أعني : حيازة الشرع كرسي العقل وأنّه أرشد إلى ما هو الصلاح
، كما لو رخّص العقل في بعض الأطراف ، فهنا لم يدرك عقل العامّة ، لكن الشارع رآه
فأرشد إليه من باب أنّه عقل ، ولا منافاة بين الحكم الصادر منه بما هو شارع ،
والحكم الصادر عنه بما هو حائز لكرسي العقل.
فإن قلت : فإذا
فرضنا أنّه حكم بحجيّة الطريق المؤدّى إلى خلاف التكليف الثابت واقعا فمعناه أنّ
سلوك هذا الطريق مرضيّ ؛ ولا تنجيز للواقع معه ، وليس في هذا الحكم قيد الوصول إلى
المكلّف ، فمن أين احدث هذا القيد؟.
قلت : حال هذا
الحكم كحال الأحكام الواقعيّة ، فكما هاهنا بوجوداتها الواقعيّة لا يؤثّر ، بل
بضميمة العلم ، فكذلك هنا أيضا العقل التام الكامل وإن كان حكم بالمعذوريّة ، لكن
هذا حكم شأني ، وإنّما يصير فعليّا عند وصوله إلى المكلّف.
وبعبارة اخرى : العلم
الإجمالي منجّز للتكليف الواقعي لو لم يقم في أحد الأطراف مؤمّن ، ووجود الحجّة
العقليّة واقعا مع عدم الوصول إلى المكلّف ليس في حكم العقل مؤمّنا ، فمؤمنيّته
إنّما يكون في صورة الوصول ، غاية الإشكال المتصوّر هنا بعد تسليم فعليّة الواقع
مع العذر العقلي أنّ المعذريّة إن كان متعلّقا بالوجود الواقعي فلا فرق بين الوصول
وعدمه ، وإن كان متعلّقا بالموضوع مع قيد الوصول يلزم الدور ، مع أنّه خلاف
الواقع.
والجواب أنّه كما
أنّ المنجزيّة في العلم الإجمالي يكون بنحو الاقتضاء بحيث يقبل أن يمنع عنه العذر
العقلي القائم في بعض الأطراف ، كذلك المعذّرية متعلّقة هنا بالواقع ، لكنّه على
نحو الاقتضاء بحيث يقبل منع المانع.
فنقول : جهل
المكلّف مانع ، والعلم الإجمالي مقتض للتنجيز ، والحجّة الواقعيّة أيضا مقتض للعذر
، ولكنّ الجهل مانع عن اقتضائه ، فيكون مقتضى التنجيز سليما عن المانع.
وهذا بخلاف مرحلة
الإسقاط ، فوجود الحجّة في الواقع بهذا النحو ليس مثمرا ومنتجا للعبد شيئا في رفع
العقاب عن نفسه ، فإنّ رافع العقاب عنه استناده في العمل على خلاف القواعد والاصول
المنجّزة عليه التكليف ظاهرا إلى حجّة قائمة على الرخصة ، والاستناد إنّما يتحقّق
لو علم بوجود الحجّة المذكورة ، فلا يتحقّق الاستناد إليه بمجرّد وجودها الواقعي
مع عدم العلم بها.
فتحصّل أنّ وجود
الحجّة الواقعيّة المجهولة لا يؤثّر شيئا في مرحلة التنجيز والإثبات إلّا في صورة
واحدة ، وهي ما إذا كانت موجودة وكان المكلّف يظفر بها لو تفحّص ، وأمّا في مرحلة
الإسقاط فلا يؤثّر شيئا أصلا في شيء من الصور.
ثمّ إنّ شيخنا
المرتضى قدسسره حاول في هذا المقام إثبات عدم الحجيّة عند الشكّ بأدلّة
حرمة التشريع عقلا ونقلا ، وأنت تعرف أنّه لا مساس لهذه المسألة بمقامنا ؛ فإنّ
البحث في هذا المقام عن الحجيّة وعدمها والتنجيز والإسقاط وعدمهما ، وليس لازم
وجود الحجيّة صحّة الاستناد إلى الشارع.
ألا ترى أنّ حجيّة
الظن بمقدّمات الانسداد على تقرير الحكومة ليس الحاكم بها إلّا العقل ، ولا يستند
حجيّته إلى الشرع أصلا ، وذلك لأنّ الحجّة العقليّة غير منتهية إلى الشرع، فكما
أنّ وجوب اتّباع الحكم المعلوم عند انفتاح باب العلم حكم عقلي ولا مدخل للشرع فيه
أصلا ، فكذا وجوب اتّباع الحكم المظنون عند الانسداد على هذا التقرير أيضا عقلي
محض لا دخل للشرع فيه.
وبالجملة ، فالحكم
بحجيّة شيء مشكوك الحجيّة ليس ملازما لنسبة حكم مشكوك الورود عن الشرع إلى الشرع ،
وليس داخلا في هذا العنوان حتى يرجع في حكمه إلى الأدلّة الدالّة على حرمة هذا
العنوان.
إذا عرفت ذلك
فلنشرع في وقوع التعبّد بعد تبيّن إمكانه ، ونذكر مواضعه في ضمن فصول.
* * *
«فصل»
في أنّ ظهور اللفظ
متّبع في تشخيص مراد المتكلّم أولا ، وينبغي أوّلا تحرير محلّ الكلام فنقول :
الإرادة على قسمين ، إرادة لبيّة وتسمّى بالأغراض ، وإرادة استعماليّة وهي إرادة
تفهيم معنى كلّ لفظ عند التنطق به.
فهنا كلام بعد
إحراز الإرادة الثانية في أنّها مطابقة للاولى أولا؟ ، كما لو علم بأنّ المتكلّم
أراد معاني الألفاظ التي تكلّم بها لنصوصيّتها ، ولكن لا يعلم مطابقتها مع غرضه
اللبّي ومقصوده الجدّي ، فإذا قال : أكرم العلماء فيعلم أنّه أراد بالإرادة
الاستعماليّة إيجاب إكرام جميع العلماء ، ولكن لا يعلم أنّه بحسب الجدّ أيضا كذلك
أو يستثنى بعض الأفراد ، وأخّر بيانها لمصلحة ، ثمّ يبيّنه قبل حضور وقت العمل ،
فيقال عند هذا الشكّ : إنّ الأصل العقلائي على التطابق بين الإرادتين ، والكلام في
هذا المقام وهذا الأصل ليس مهمّا لنا في هذا المقام.
وكلام في إحراز
إرادة المتكلّم معاني ألفاظه بعد الفراغ عن مدلول اللفظ التصوّري الانتقاشي الذي لو
سمع من الجدار أيضا يكون مصحوبا للفظ ، أي ينتقش في الذهن ، أعمّ من أن يكون
وضعيّا أم انصرافيّا ، أم حاصلا بقرينة حاليّة على التجوّز أو مقاليّة ، ويسمّى
هذا بالدلالة التصوّريّة ، ثمّ البناء بعده والحكم بأنّ المتكلّم أراد من اللفظ
تفهيم هذا المعنى بالإرادة الاستعماليّة يسمّى بالدلالة التصديقيّة.
فنقول : هنا ثلاثة
مقدّمات إذا صارت بجميعها مسلّمة متيقّنة تكون نتيجتها القطع :
الاولى : أنّ غرض
المتكلّم إفادة المراد باللفظ لا شيء آخر كالتعلّم للغة العرب في التكلّم بالعربي
مثلا.
والثانية : عدم
وجود قرينة حاليّة أو مقاليّة في البين دالّة على إرادة خلاف الظاهر.
والثالثة : عدم
غفلة المتكلّم عن نصب القرينة على مراده.
فعند تحقّق هذه
الثلاثة ومسلميّتها يحصل القطع بأنّ المتكلّم أراد المعاني
التصوريّة الظاهرة
من الألفاظ بإرادة استعماليّة وإلّا لزم نقض الغرض ، مثلا لو قال : أكرم العلماء ،
وعلم أنّه يكون بصدد إفادة المطلب ، وليس التكلّم لغرض آخر وأنّه لا قرينة في
البين ، وكان ملتفتا غير عاقل ، فلو كان حينئذ مريدا من هذا الكلام ضرب حجر على
رأس زيد مثلا فهو ناقض للغرض ؛ فإنّ غرضه إفادة ما هو مريد له في مرحلة الاستعمال
باللفظ ، فاتى بلفظ لا يفيده بل يفيد الخلاف ، ونقض الغرض لا يحتاج إلى إثبات قبحه
ليتمسّك لعدمه بحكمة الشارع ، بل هو ولو فرض عدم قبحه ، بل حسنه لا يصدر من أدنى
جاهل ، بل من واحد من الحيوان فضلا عن الإنسان العاقل.
فالكلام إنّما هو
في صورة الشكّ في إحدى تلك المقدّمات ، كما لو شكّ في أنّه تكلّم لغرض الإفادة أو
لغرض آخر ، أو شكّ بعد العلم بأنّه يتكلّم للإفادة في وجود القرينة وعدمها ، فهل
هنا أصل عقلائي على الحمل على أنّه تكلّم للإفادة في المقام الأوّل ، أو أنّه أراد
ظاهر اللفظ بإرادة استعماليّة في المقام الثاني ، أو ليس.
لا كلام في وجوده
في المقام الأوّل ، فجرى سيرة العقلاء على حمل التكلّم على صدوره بغرض الإفادة ولو
عند الشكّ ، فلو أمر المولى عبده فترك العبد الإطاعة معتذرا بأنّي لم أعرف أنّك
تريد الإفادة واحتملت أنّ غرضك مجرّد إيجاد الكلام لما تقبّل هذه المعذرة عند
العقلاء في رفع العقوبة عنه.
وهذا غير مقام
البيان الذي قد اشتهر في باب الإطلاق أنّه لا بدّ من إحرازه من الخارج ، وإلّا
يعامل مع اللفظ معاملة الإهمال ؛ فإنّ الإطلاق أمر زائد على مفاد اللفظ ، وهذا
الأصل إنّما هو بالنسبة إلى ما هو مفاد اللفظ ، فمجراه في باب الإطلاق هو المهملة
، فلو جهل بأنّه تكلّم بالمطلق خاليا عن إرادة المعنى رأسا حتّى المهملة فهذا
الأصل يدفعه.
وبالجملة ، فباب
الشكّ من هذه الجهة مسدود بهذا الأصل العقلائي ، كما أنّ باب الغفلة في كلام
الشارع غير محتمل ، وفي غيره مسدود أيضا بالأصل العقلائي ، فيمحّض منشأ الشكّ في
إرادة المتكلّم استعمالا لما هو المنتقش من اللفظ بما هو عليه
من الحالات
والخصوصيّات في احتمال وجود القرينة الصارفة ، بمعنى أنّه يحتمل أنّها كانت واختفت
علينا ، فالكلام في هذا المقام قد انعقد لدفع هذا الشكّ.
وكذلك لا كلام في
الجملة في اتّباع الظهور في المقام الثاني وعند الشكّ في وجود القرينة ، إلّا أنّ
الكلام في أمرين يختلف الحال بحسبهما وهو أنّه هل اتّكالهم في ذلك على أصالة
الحقيقة أو أصالة عدم القرينة.
وتوضيح الأوّل أنّ
اللفظ إذا وضع لمعنى يحصل طبع ، فمقتضى طبع اللفظ بعد الوضع كونه مستعملا في معناه
الموضوع له ، فإنّه وضع لاجل ذلك ، فاستعماله في غير معناه خروج عن مقتضى طبع
اللفظ الموضوع ، وبناء العقلاء في جميع الأشياء هو البناء على ما هو قضيّة الطبع
الأوّلي للشيء إلى أن يعلم بما يكون حدوثه من جهة الطواري.
ومن هذا القبيل
الحكم بحيضيّته دم المرأة المردّد بين الحيض والاستحاضة ؛ فإنّ الاستحاضة مرض
بخلاف الحيض ، ومقتضى الطبع الأوّلي للمرأة صحّة المزاج ، والمرض يحدث بالعرض ،
فعند الشكّ يبنى على بقائها على صحّة المزاج التي هي مقتضى طبعها الأوّلي ، فيحكم
بحيضيّة دمها.
__________________
ومن هذا القبيل
أصالة الصحّة في جميع الأشياء ؛ فإنّ الفساد في كلّ شيء يكون على خلاف الطبع ،
فالبطّيخ بحسب طبعه الأوّلي صحيح وفساده يطرأ عليه بالعرض ، وبالجملة ، الطبع
الأوّلي للفظ بقاءه في الاستعمال الشخصي على معناه الذي وضع له.
وتوضيح الثاني
أنّه كثر خروج اللفظ في الاستعمالات عن مقتضى طبعه واستعماله في
خلاف معناه مع نصب القرينة إلى حدّ صار له قابليّة الانقسام إلى قسمين : اللفظ
الجاري على طبعه وهو ما ليس معه قرينة ، والجاري على خلاف طبعه وهو ما يقترن
بقرينة ، فحينئذ يصير ذاك اللفظ أعني ما هو مقسم القسمين بلا أثر وطبع ، بل الطبع
حصل للفظ المجرّد ، فكما نحتاج في الحمل على المعنى المجازي إلى إحراز القيد وهو
وجود القرينة ، فكذلك في الحمل على الحقيقي أيضا نحتاج إلى إحراز القيد وهو
التجرّد عن القرينة.
وتظهر الثمرة بين
هذين الوجهين فيما إذا كان في الكلام ما يصلح للقرينيّة ، فإن قلنا بأنّ الاتّكال
على أصالة الحقيقة فنحكم بإرادة المعنى الحقيقي للمساعدة مع طبع اللفظ ما لم يعلم
الخلاف ، وإن قلنا بكون الاتّكال على أصالة عدم القرينة فلا نحكم بإرادة المعنى
الحقيقي ولا المجازي ، بل نتوقّف ويكون الكلام مجملا ؛ فإنّ البناء على عدم
القرينة إنّما هو فيما إذا كان الشكّ في أصل الوجود ، وأمّا لو كان الوجود محرزا ،
وكان الشكّ في قرينيّة الموجود ، فليس البناء على عدم القرينيّة.
__________________
وتظهر أيضا فيما
إذا تعقّب العام باستثناء كان له قدر متيقّن وكان في الباقي محتملا ، فإن كان
الاتّكال على أصالة الحقيقة يقتصر على القدر المتيقّن ويؤخذ بالباقي لمساعدة طبع
العام ، وإن كان الاتّكال على أصالة عدم القرينة فيسري الإجمال بالنسبة إلى الباقي
إلى العام؛ لأنّ الشكّ ليس في وجود القرينة ، بل في قرينيّة الموجود ، وهذا في
الحقيقة مثال للفرض المتقدّم.
وشيخنا المرتضى قدسسره في غير موضع من رسائله ذكر الوجهين على سبيل الترديد ولم
يجزم بشيء منهما ، والإنصاف أيضا عدم إمكان الجزم ، وإذن فالقدر المتيقّن أنّهم
يتّبعون الظهور في ما إذا لم يكن في البين ما يصلح للقرينيّة وشكّ في وجود القرينة
، وأمّا أنّه للاتّكال على أيّ من الأصلين فليس معلوما.
نعم لو كان معلوما
اتّباع الظهور عند وجود ما يصلح للقرينيّة تبيّن أنّ الاتّكال على أصالة الحقيقة ،
ولكن لم يعلم اتّباعهم الظهور في هذا المورد ، بل يحكمون بالإجمال ويتوقّفون.
فإن قلت : إذا كان
التوقّف في هذا المورد لأنّها مساويا لأصالة عدم القرينة فبه يثبت أنّ الأصل الذي
ملاك العقلاء في باب الظهورات هو هذا الأصل ، لا أصالة الحقيقة ، فما معنى قولك :
إنّه مع ذلك لا يعلم أنّ الاتّكال على أيّ من الأصلين.
قلت : لا نسلّم
أنّه لازم مساو ، بل أعمّ ؛ إذ من المحتمل أن يكون اتّكالهم على أصالة الحقيقة في
ذلك المورد ـ أعني الشكّ في وجود القرينة ـ دون غيره والأمر سهل.
إذا عرفت ذلك
فالمدّعى في هذا المقام أنّ ظهور اللفظ في معنى يورث حمله
__________________
على هذا المعنى
عند الشكّ في إرادة المتكلّم له للشكّ في وجود القرينة مع عدم ما يصلح للقرينيّة
في البين ، وهذا الظهور متّبع مطلقا ، سواء حصل الظنّ الفعلي على وفاقه أم لا ،
خلافا للمحقّق القمّي قدسسره حيث خصّ حجيّة ظهور الألفاظ بصورة وجود الظنّ الفعلي منه
بإرادة المتكلّم إيّاه من اللفظ ، فإن لم يحصل هذا الظنّ فليس الظهور حجّة.
وسواء حصل الظّن
الفعلي الغير المعتبر على خلافه ، أم لا ، خلافا لمن اعتبر في حجيّة الظهور عدم
الظن بإرادة خلاف الظاهر ، وسواء بالنسبة إلى من قصد إفهامه ومن لم يقصد ، خلافا
للمحقّق القمّي قدسسره حيث ذهب إلى أنّ الأخذ بالظواهر حقّ لمن قصد إفهامه وليس
لغيره حقّ ذلك ، فلعلّه كان بين المتخاطبين مطلب معهود فاريد من الكلام خلاف ظاهره
بقرينة العهد ، لأنّ من مقدّماته الأصلي اللفظي لزوم نقض الغرض ، وهذا غير جار هنا
؛ إذ لو كان في البين قرينة معهودة مخفية على هذا السامع الغير المقصود إفهامه
بالخطاب لما لزم نقض الغرض.
وفيه أنّ هذا
المطلب ليس طريق صحّته وسقمه إلّا العرض على أهل السوق ، فإذا رأيناهم يمشون
بخلافه يعنى لا يفرقون بين من قصد وغيره بعد الشركة في التكليف في صحة الاحتجاج
فهذا معنى الحجيّة ، إذ هذا مقصودنا من حجيّة الظواهر لا كشف الواقع وإدراكه ،
وإلّا فكيف يعقل استكشاف الواقع من طرف الوهم ، والحال أنّ معنى الوهم أنّ احتمال
كون الواقع في خلافه أرجح.
ألا ترى أنّه لو
فرضنا المقام غير مقام الاحتجاج بين العبد والسيّد ، كما لو قال رفيق لرفيقه :
اشتر المتاع الفلاني ؛ فإنّ فيه النفع ، أو لا تشتره فإنّ فيه الضرر وكان
__________________
المخاطب ظانّا
بالنفع في الثاني والضرر في الأوّل فإنّه لا يتّبع في المقامين إلّا ظنّ نفسه.
فلو أمر المولى
أحد عبيده بأمر وكان بعض عبيده الآخر يسمع كلام المولى وعلم أنّه يشترك جميع
العبيد في الحكم فترك هذا العبد الغير المواجه العمل بظاهر كلام المولى ليس للمولى
إذا علم بسماعه عقابه.
وبالجملة ،
فالمدّعى حجيّة الظهور عند الشكّ في وجود القرينة من غير تقييد بالظّن بالوفاق ولا
بعدم الظّن بالخلاف ، ومن غير فرق بين من قصد إفهامه ومن لم يقصد ، والدليل في
الجميع هو سيرة العقلاء على العمل بالظهور في الموارد المذكورة ، ثمّ بضميمة عدم
ردع الشارع يصير حجّة شرعيّة ، فلا بدّ لإثبات المرام من إثبات مطلبين ، الأوّل :
وجود السيرة المذكورة ، والثاني : عدم ردع الشارع.
أمّا الأوّل فنقول
: يمكن لنا إثبات الدعاوي الثلاث بالمرتكز في طبعنا ؛ فإنّ العقلاء يأخذون
بالظواهر حجّة لهم وعليهم ، فربّما كان حجّة للمتكلّم على المخاطب فيؤاخذ المتكلّم
المخاطب محتجّا بأنّه : أما قلت لك كذا؟ وربّما يكون حجّة للمخاطب على المتكلّم
فيؤاخذ المخاطب المتكلّم محتجّا بأنّه ألم تقل كذا؟ ، ولا نعني بالحجيّة هنا إلّا
ذلك أعني صحّة المؤاخذة والاحتجاج لا الكشف عن الواقعيات ، فلا يرد أنّ الأخذ
بالشكّ في مقام الواقع بل بالوهم مقامه ليس من طريقة جاهل فضلا عن عاقل ، فكيف
يمكن الحجيّة مع عدم الظّن بالوفاق ، بل مع الظّن بالخلاف.
فنقول مثبتا لسيرة
العقلاء في كلّ من المقامات الثلاثة على الترتيب موضحا بالتمثيل : لو قال مولى
لعبده : أضف جميع طلّاب البلد ، فاحتمل العبد عدم إرادة المولى واحدا معيّنا منهم
، لما شاهد من عدم معاملة المولى مع هذا الواحد معاملة المحبّة فلأجل هذا الاحتمال
لم يخبره بالضيافة ، فإذا حضر الجميع إلّا هذا الواحد فلم ير المولى إيّاه فيما
بينهم ، فهل ترى من وجدانك وطبعك مانعا من صحّة مؤاخذة العبد بأنّه لم ما أخبرت
الشخص الفلاني ، ولو اعتذر العبد بأنّه ما ظننت من قولك إرادته هل يصحّ جوابه بأنّ
الأمر لو كان كذلك لقلت : إلّا فلان ، فهذا الذي فعلت فعلته من جانب نفسك ، أو لا
يصحّ.
وفي عين هذا
المثال الذي لم يكن إرادة هذا الواحد مظنونة للعبد وكان شاكّا لو كان الواقع أيضا
كذلك وغير مقصود واقعا ، كما احتمله العبد ، ولكن أخبره مع ذلك وحضر هو مع الجماعة
فهل يصح للمولى [أن يقول] : لم أخبرت هذا فإنّي لم احبّ ضيافته ، ولو قال ذلك
فأجابه العبد بأنّك قلت : أخبر كلّ الطلاب ، فما تقصيري ، كان عذرا مقبولا وحجّة
موجّهة؟
ثمّ افرض في هذا
المثال أنّ العبد ظنّ بعدم إرادة الشخص الخاص ، لكن بظنّ غير معتنى به عند العقلاء
، كالحاصل من النوم ، فلم يخبر الشخص ولم يعلمه الضيافة ، فهل يصحّ أن يقول في
جواب المولى ويحتج بأنّي : رأيت في المنام أنّك لا تحبّ صحبة هذا الشخص ولا تميل
في مجالسته ، فظننت من هذا بأنّك ما قصدت من قولك إيّاه؟.
وكذلك في هذا
المثال لو لم يعتن بظنّه الحاصل من نومه وأعلم الشخص ، فأتى مع الجماعة المدعوّين
، فاتّفق مصادفة ظنّه الواقع وأنّ المولى واقعا كان كارها لحضوره وغير قاصد له من
الكلام فلا حقّ له بمؤاخذة العبد ، فإنّ حجة العبد في قباله ـ : قلت لى : أعلم
الجميع ، وما كان بيدي سوى النوم وهو ليس محلا للاعتبار فما تقصيري ـ مسموعة.
نعم لو ظنّ ظنّا
يعمل على طبقه العقلاء ويعتنون بشأنه ، كما لو حصل من مأخذ صحيح ، فحينئذ يصير هذا
الظنّ حجّة في قبال الظهور ، وكذا الحال في الشارع ، ولو كان الظنّ ممّا يعتبره
العقلاء وعند الشرع كان ملغى فهو لا يقوم في قبال الظهور عند الشرع وإن كان له
صلاحيّة ذلك عند العقلاء.
ثمّ افرض أنّ
لمولى عبدين ، فخاطب أحدهما في بيته وقال له : يجب على جميع عبيدي احترام العلماء
وتوقيرهم ، ولا بدّ أن لا يصدر منهم خلاف الاحترام بالنسبة إلى واحد منهم ، واتّفق
وجود العبد الآخر في البيت وسماعه هذا الحكم ، ولم يشعر بذلك المولى ، فلم يطع
العبد الثاني وصدر منه خلاف الاحترام بالنسبة إلى بعض العلماء ، واطّلع المولى
فيما بعد وجود هذا العبد في البيت عند مخاطبته مع العبد الآخر وسماعه للحكم ، فهل
ترى مانعا من صحّة المؤاخذة وجعله في معرض العتاب و
الاحتجاج بأنّك : ألم
تسمع مقالتي مع شريكك في التكليف ، فلم خالفت؟ وهل له الجواب بأن يقول : كان وجهة
كلامك وطرف خطابك عبدك الآخر ، فلا ارتباط لذاك الخطاب بي؟
ومثال آخر أوضح :
لو كان لك رفيقان ، فاتّفق اجتماعهما في بيت وأنت في بيت آخر تسمع كلامهما وتعرف
شخصهما وهما غير شاعران بوجودك في البيت ، فأخذ أحدهما في غيبتك عند الآخر وذكر
عيوبك له ، فإذا خلوت معه هل لك أن تقول له : أتذكر ما قلت فيّ عند فلان في المكان
الفلاني وأنا كنت أسمع كلامك ولم تستشعر ، فلم قلت كذا وكذا في حقّي ، فهل له أن
يجيبك معتذرا ومحتجّا بأنّي كنت اقاول مع غيرك فما ربطه بك؟ فهذا هو الكلام في
السيرة في المقامات الثلاث.
وأمّا إمضاء الشرع
، فاعلم أنّ الأمر الذي صار مركوزا في أذهان العقلاء وكانوا مجبولين عليه ومفطورين
وعجنوا به من أسلافهم فالعامّة لا يتفطّنون لخلافه ولا يدخل في ذهنهم غيره ولو
احتمالا أو وهما ، مثلا لو اتّخذ مولى خادما جديدا فلا يحتمل هذا الخادم
ولا يخطر بباله أن يكون طريقة هذا المولى في المحاورة مخالفة لطريقة سائر الناس ،
بل يعامل على حسب ما اجبل به من الأخذ بالظواهر من دون أن يكون خلافه محتملا له بل
مشعورا به ، بل هو أمر مغفول عنه.
نعم نادر قليل
وأوحديّ من الناس بواسطة كثرة توغّله في الأفكار العلميّة والتخيّلات في الدرس
والبحث يقع في ذهنه احتمال أنّه يمكن عدم رضى الشارع بهذا
__________________
الأمر وكونه
مخطّئا لهذه الطريقة.
وحينئذ فإن كان
الأمر المركوز في الأذهان العرفية غير مرضي للشرع فلا بدّ في الردع عنه من النصّ
والتنصيص ، فإنّ رفع اليد عن أمر استقرّ عليه العادة من لدن أدم عليهالسلام وعجن الناس به لا يمكن إلّا بالتصريح والتنصيص ، كما هو
المشاهد في باب الربا ، فترى النهي عنه على الوجه الصريح مؤكّدا بالتخويفات
الاكيدة والإنذارات البليغة والإيعادات الكثيرة ، حتى ورد في درهمه وديناره ما ورد
، فكذا الردع عن كلّ أمر مرتكز غير مرضيّ لا بدّ وأن يكون بهذا النحو.
فنقول : ليس في
مقامنا في قبال الطريقة الجارية والسيرة المستمرّة المرتكزة ما يتوهّم منه النهي
والردع سوى الأخبار والآيات الناهية عن العمل بالظن ، وهي لا صراحة لها في شمول
المقام ، بل لها الظهور ، ظهور العام في الخاص ، وهي غير صالحة للردع ؛ لأنّها لا
يخلو حالها من شقّين ، إمّا أن لا يكون ظهورها حجّة ، وإمّا أن يكون ، فعلى الأوّل
واضح ، وعلى الثاني يكون مقطوع التخصيص لأقوائيّة الارتكاز من ظهورها ، فيحرم
العمل بالظن إلّا في باب ظهور الألفاظ ، وإذن فثبت حجيّة الظهور اللفظي عند العرف
والشرع.
فإن قلت : ما
المانع من أن يكون مثل قوله تعالى : (وَلا تَقْفُ ما
لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) رادعا ؛ إذ لا شبهة في أنّ الظواهر ممّا ليس به علم ،
ويتفطّن لذلك العامّة أيضا ، فما وجه عدم إجرائهم العموم فيه؟.
قلت : نعم إنّهم
يرون الظواهر مصداقا لما ليس به علم ، ولكن حكمهم بدخولها تحت عموم الحكم فرع لأن
يكون حجيّة الظواهر عندهم مقيّدة بعدم ورود منع من الشارع كما في الظنّ في حال
الانسداد ؛ إذ حينئذ يكون العموم كافيا في رفع اليد عن الحجيّة ، ولكن ليس الأمر
كذلك ، بمعنى أنّ حجيّة الظواهر يكون عندهم على الإطلاق ، وبلغت في ارتكازهم
بمثابة لا يحتملون تخطئة الشارع إيّاهم ، وكما لا يحتمل بعضهم في حقّ بعض آخر منهم
أن يكون له طريقة اخرى في المحاورة ، لا يحتملون ذلك في حقّ الشارع ؛ فإنّهم يرونه
كواحد منهم.
ولهذا لو قال هذا
الكلام واحد من المولي الظاهريّة لعبده لا يأخذ ذلك من يده طريقة المحاورة ،
والحاصل وإن كانوا يفهمون أنّ الظواهر ما ليس به علم ، لكن لا يمكن ردعهم عن العمل
بمجرّد : لا تعمل بما ليس لك به علم ؛ فإنّهم يقطعون بأنّ المراد من هذا العام غير
هذا الفرد من الظنون ، ويقطعون بتخصيصه في هذا الفرد.
والحاصل : هنا
ثلاثة امور ارتكازيّة ، الاوّل : حجيّة ظواهر سائر الألفاظ غير هذه الآية وحجيّة
ظاهر هذه الآية ، وأنّ العام القطعي التخصيص يعمل به في غير مورد القطع بتخصيصه ،
وهذه الامور الثلاثة لها جمع في ارتكازهم ، فيبقون على ارتكازهم القطعي في سائر
الألفاظ ويعملون بهذا الظاهر في غير الظواهر.
وإن قلت : فلو كان
الأمر كما ذكرت من الحجيّة على وجه الإطلاق فالتنصيص أيضا لا يفيد بحالهم.
قلت : التنصيص
القطعي بوجوده يؤثّر في رفع قطعهم ويقفون على خطابهم بسببه.
فإن قلت : لو سئل
عنهم هل تقبل هذه الحجيّة منع الشارع بنحو التنصيص أولا؟ لأجابوا بنعم ، فكيف تكون
الحجيّة عندهم تنجيزيّة؟
قلت : الشرطيّة لا
يستلزم صدق طرفيها ، فيمكن أن يتفطّنوا عند التنبيه ، وأمّا عند عدم التنبيه فهذا
الاحتمال مغفول عنه عندهم بالمرّة ، فليس في ذهنهم من هذه الجهة حكم لا إثباتا ولا
نفيا ، والموجود هو القطع بالحجيّة بلا تقييد.
وهذا التقريب لعدم
رادعيّة الآيات كما ترى جار بعينه في حجيّة خبر الثقة ولا يحتاج إلى تقريب الدور
كما فعله في الكفاية ، هذا مع أنّ في خصوص مقامنا الذي هو الظواهر وحجيّة الآيات
أيضا من باب الظواهر طريقا آخر لعدم الرادعية ، وهو أنّ الظواهر لو كانت حجّة
فالآية مخصّصة ، وإن لم يكن حجّة فالآية أيضا منها ، فما وجه الاستدلال؟.
مضافا إلى إمكان
دعوى التخصيص وإن لم يتلقّوها بالقبول ، وذلك أنّه بعد ما عرفت من أنّ العامّة
قاطعون بالحجيّة قطعا تنجيزيّا واحتمال الردع مغفول عنه في أذهانهم ، فيكون
الاتّكال والاعتماد في عملهم على القطع بالحقيقة دون الظّن.
«في حجيّة ظاهر الكتاب»
بقي الكلام في
ظواهر الكتاب حيث ذهب جماعة من الأخباريين إلى عدم حجيّتها ، وما يمكن أن يكون
وجها لهم امور :
الأوّل وهو العمدة
: الأخبار القريبة من التواتر الواردة على المنع عن تفسير القرآن والإفتاء به ،
وأنّ من فسّره بالرأي فليتبوّأ مقعده من النار.
والثاني : العلم
الإجمالى بورود تخصيصات كثيرة على عمومات القرآن ، وتقييدات كذلك على إطلاقاته ،
وتجوّزات كذلك على ظواهره ، فكلّ آية أردنا التمسّك بها والعمل بظاهرها كانت طرفا
للعلم الإجمالي ، فليس بحجّة.
والثالث : أنّ في
القرآن محكما ومتشابها ، وورد المنع عن الأخذ بالمتشابه في الآية ولم يتبيّن لنا
أنّ الآيات المتشابهة كم هي وما هي ، فكلّ آية أخذنا بها يحتمل كونها من
المتشابهات.
والرابع : حصول
التحريف في القرآن كما يشهد به الأخبار ، وإذن فكلّ آية محتملة لأن يكون غير قرآن
، أو يكون قرآنا ولكن كانت متّصلة بقرينة فسقطت تلك القرينة ، وبالجملة ، فلا يحصل
الوثوق بشيء من ظواهر الآيات ؛ لاحتمال التحريف.
والجواب أمّا عن
الأخبار المانعة عن التفسير والإفتاء بالقرآن فبأنّ هذه الأخبار ثلاث طوائف :
الاولى : ما يشتمل
على التفسير بالرأي مثل النبوي «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار».
والثانية : ما
يشتمل على التفسير بدون التقييد بكونه بالرأي ، مثل قوله عليهالسلام : «ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن».
والثالثة :
الخبران الواردان في منع المفتين من العامّة وهما أبو حنيفة وقتادة عن الإفتاء
بالقرآن.
أحدهما مرسلة شبيب
(شعيب خ ل) بن أنس عن أبي عبد الله عليهالسلام أنّه «قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ،
قال : فبأيّ شيء تفتيهم؟ قال : بكتاب الله وسنّة نبيّه صلىاللهعليهوآله ، قال : يا أبا حنيفة تعرف كتاب الله حقّ معرفته ، وتعرف
الناسخ من المنسوخ؟ قال : نعم ، قال عليهالسلام : يا أبا حنيفة لقد ادّعيت علما ، ويلك ما جعل الله ذلك
إلّا عند أهل الكتاب الذي انزل إليهم ، ويلك وما هو إلّا عند الخاصّ من ذريّة
نبيّنا صلّى الله على وآله ، وما ورثك الله من كتابه حرفا»
وثانيهما : رواية
زيد الشحّام «قال : دخل قتادة على أبي جعفر عليهالسلام ، فقال له : أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ،
فقال : بلغني أنّك تفسّر القرآن ، قال : نعم ، إلى أن قال : يا قتادة إن كنت قد
فسّرت القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت ، وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد
هلكت وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به»
أمّا الطائفة
الاولى والثانية فلا دلالة فيهما على المنع ، ووجه ذلك أنّ تقرير معنى الكلام عند
غير أهل اللسان كتقرير الكلام العربي بلسان الفارسيّة عند أهل هذا اللسان لا يكون
تفسيرا بل هو ترجمة.
وأمّا تقريره عند
أهل اللسان مثل ما إذا قال مولى لعبده : أكرم العلماء ، فقال هذا العبد لرفيقه
أنّه قال لي مولاي : أكرم العلماء ، أو نقل مطلب الغير بغير ألفاظه بما لا يتغيّر بسببه
المطلب فليس هذا أيضا تفسيرا ، بل يسمّى بنقل القول ، فالتفسير إنّما يصدق إذا كان
في المراد من الكلام محجوبيّة ومستوريّة واندماج ، فرفع هذه المحجوبيّة وصنع له
ظاهر بمعونة التّدبر وإعمال الفكر ، فحينئذ يقال : إنّه فسّر الكلام وشرحه ، أي
كشف القناع والحجاب عن وجه معناه ، وهذا ظاهر.
ثمّ لو سلّم كون
حمل اللفظ على ظاهره من التفسير ، فلا نسلّم كونه تفسيرا بالرأي ، فإنّ المراد
بالرأي الاعتبار الظنّي الذي لا اعتبار به ، فيكون منه حمل اللفظ على خلاف ظاهره
لرجحانه بنظره ، وحمل المجمل على محتمله لمساعدة الاعتبار ، و
لو سلّم شموله
للحمل على الظاهر أيضا فلا محيص عن حمل هذه الأخبار على ما ذكر جمعا بينها وبين
الأخبار الدالّة على جواز الرجوع إلى ظواهر القرآن.
فالعمدة هو
الخبران الأخيران حيث إنّه توجّه الخطاب فيهما إلى أبي حنيفة وقتادة الذين كان
شأنهما الفقاهة ، ومعناها هو الذي نحن بصدده من الأخذ بالظواهر ، لا الأخذ
بالتوجيهات العرفانيّة ومموّهات المتصوّفة ، فإنّه ربّما يقال بأنّه يستفاد منهما
أنّ كلّ من هو حاله حال أبي حنيفة وقتادة في عدم المعرفة بالقرآن حقّ معرفته وعدم
معرفة الناسخ من المنسوخ يشترك معهما في هذا الحكم.
والمفروض أنّ
الإمام عليهالسلام خصّ هذه المعرفة بالخاص من ذريّة نبيّنا ومن خوطب بالقرآن
، فجميع الناس غيرهم حالهم حال هذين الشخصين ، فيقال لكلّ مفت بالقرآن ومستخرج
للحكم من ظواهره : هل تعرف القرآن حقّ معرفته والناسخ منه من منسوخه ، فإن قال :
لا ، قلنا : فلم تفتون ، وإن قال : نعم ، قلنا في الجواب ما قاله الإمام في جواب
أبي حنيفة وقتادة.
وبالجملة ، موضوع
كلام الإمام ومورده كلّ من فقد المعرفة المذكورة وهو عامّة الناس ممّن سواهم ،
فيدلّ على عدم جواز استخراج الأحكام من القرآن في حقّ من عداهم عليهمالسلام واختصاصه بهم عليهمالسلام.
فإن قيل : نختار
الشقّ الثاني ولا يرد الجواب المذكور في حقّهما في حقّنا ، فإنّا نميز ذلك ونحصّل
المعرفة بضميمة الأخبار المأثورة عن الأئمّة عليهمالسلام ، فنحن ندّعي المعرفة ببركة آثارهم وبياناتهم.
قلنا أوّلا : فهذا
ليس عملا بالقرآن ، بل بالأخبار ، وثانيا : نفرض الكلام في آية لا توجد فيها هذه
الضميمة ؛ فإنّ جميع الآيات لم يرد فيها من الأئمّة عليهمالسلام بيان ، ولو ورد فليس جميعه واصلا إلينا ، فبالنسبة إلى
الآية الخالية عن هذه الضميمة يصير حالنا حالهما.
والجواب أنّ موضوع
كلام الإمام عليهالسلام هو هذا الشخصان ومن يحذو حذوهما ، فإنّهما كانا يرجعان إلى
القرآن والسنّة من دون رجوع إلى شيء آخر
سواهما ، ولم
يكونا مراجعين إلى الأئمّة عليهمالسلام ، بل متى وصل إليهما حكم منهم عليهمالسلام وكان مخالفا لظاهر القرآن كانا يردّانه به ، فكانا في قبال
الأئمّة لا من أتباعهم ، فمقصود الإمامعليهالسلام هو أنّ هذا الذي جعلتما شعاركما وصنعكما ـ من الرجوع في
الأحكام إلى القرآن وحده بدون الرجوع إلى شيء ـ ليس إلّا شأن من كان عارفا بالقرآن
حقّ معرفته وعارفا بناسخه ومنسوخه ، وليس هذا لكما ، فليس المنصب المذكور أيضا
لكما ، بل هو مخصوص بالخاص من أهل بيت محمّد صلىاللهعليهوآله وبالجملة يدّل على أنّ شخصا يتصدّي هذا العمل و
__________________
هو الرجوع بالقرآن
بالاستقلال ووحده من دون نظر إلى شيء آخر لا بدّ وأن يكون واجدا للمعرفة المزبورة
، فالإمام عليهالسلام عالم بجميع ما في القرآن قبل الرجوع إلى القرآن ، فما في
القرآن ـ وهو علم ما كان وما يكون ـ ومعلومات الإمام متطابقان ، لا أنّ الإمام
يستخرج الأحكام من القرآن مع مجهوليّتها عنده قبل الرجوع.
فالحاصل أنّ
المفتي بالقرآن يجب أن يكون عنده علم ما في القرآن ، حتّى يضع القرآن بين يديه
ويحكم بطبق ما فيه ، من دون رجوع إلى خارج ، وهذا ليس إلّا شأن من خوطب بالقرآن ،
فليس لأحد غيرهم عليهمالسلام ذلك أعني : وضع القرآن بين يديه والحكم بما فيه بلا رجوع
إلى شيء ، وهذا غير ما نحن بصدده من الرجوع إلى ظواهر القرآن في بعض الأحكام مع
استنباط أكثرها من الأخبار المرويّة عن الأئمّة عليهمالسلام ، والحاصل : لا إشكال في اختصاص فهم تمام القرآن بمحكماته
ومتشابهاته بمن خوطب به ، وهذا هو المراد من المعرفة المختصّة بهم عليهمالسلام في الروايتين ، ضرورة أنّ في القرآن ما لا يختصّ فهمه بهم عليهمالسلام ، مثلا
__________________
فهم معنى آية
أوفوا بالعقود.
وأمّا عن شبهة
التحريف والمراد به الإسقاط والتصحيف فنقول : أوّلا أنكر جمع من الإماميّة وقوع
التحريف ، وثانيا : على فرض وقوعه لا علم بوقوعه في آيات الاحكام إذ لم يكن داعي
التحريف بالنسبة إليها موجودا ، فتكون هذه الآيات خارجة من أطراف العلم الإجمالي وإنّما
فيها احتمال بدوي.
وثالثا : على
تقدير تسليم ذلك أيضا ـ يعني كون هذه الآيات أيضا موردا للعلم ، لكنّ الغاية كونها
أحد طرفي العلم ـ فإنّ دعوى العلم بوقوع التحريف في خصوص هذه الآيات مكابرة ،
فغاية ما يمكن ادّعاؤه أنّ العلم حاصل بوقوع التحريف إمّا في آيات الفضيلة والطعن
، وإمّا في آيات الأحكام.
وحينئذ نقول : قد
تقرّر في باب الاصول العمليّة أنّه لو خرج أحد طرفي المعلوم إجمالا عن مورد
الابتلاء فالأصل بالنسبة إلى الطرف المبتلى به جاريا بلا معارض ، فلو علم بخمريّة
هذا الإناء أو الإناء الموجود في الافرنج فأصالة الحلّ والطهارة بالنسبة إلى هذا
الإناء جارية بلا معارضته بأصالتهما في الإناء الآخر ؛ فإنّ الإناء الآخر ليس
موردا للحكم أصلا.
فكما لا يضرّ
العلم الإجمالي بخلاف أحد الأصلين الخارج مورد أحدهما عن محلّ الابتلاء بالنسبة
إلى الآخر الذي مورده مبتلى به فكذلك لا يضرّ العلم الإجمالي بطروّ الاختلال على
أحد الطريقين والأمارتين الخارج أحدهما عن مورد الابتلاء بصحّة التمسّك بالآخر
الباقي في محلّ الابتلاء كما في نحن فيه ؛ فإنّ الآيات الواردة في باب الفضائل
والمطاعن ليست محلا للابتلاء ، فليس العلم الإجمالي بطروّ الاختلال إمّا على
ظاهرها أو على ظاهر الآيات الواردة في الأحكام الشرعيّة العمليّة بقادح في الأخذ
بظاهر الثانية التي هي محلّ الابتلاء.
فإن قلت : فرق في
ذلك بين الاصول والطرق ؛ فإنّ المناط في الاولى ليس هو الكشف عن الواقع ولم يؤخذ
في موضوعها سوى الشكّ في الحكم الشرعي أو موضوعه ، فإذا تعلّق العلم الإجمالي
بنجاسة أحد الإنائين الخارج أحدهما عن مورد
الابتلاء ،
فالإناء الآخر مشكوك الطهارة والنجاسة ، فيشمله عموم دليل طهارة كلّ مشكوك.
وأمّا وجه عدم
الجريان عند ثبوت كلا الطرفين في محلّ الابتلاء هو لزوم المحذور العقلي؛ فإنّه لو رخّص
في ارتكاب كليهما بمقتضى الأصل يلزم الإذن في المخالفة القطعيّة ، فعدم الجريان
ليس لعدم الموضوع ، بل لأجل المانع العقلي ، فكلّما ارتفع هذا المانع كان الأصل
جاريا.
ولهذا لو تعلّق
العلم بالترخيص وكان مفاد الأصلين هو الإلزام كانا جاريين ، فلو علم بنجاسة الإنائين
تفصيلا ثمّ علم بطروّ الطهارة على أحدهما إجمالا ، فاستصحاب النجاسة السابقة جار
في كليهما ، فإنّه لا يلزم من ذلك مخالفة قطعيّة وإن كان مخالفة أحدهما للواقع
معلوما ؛ فإنّ مجرّد ذلك بدون لزوم المخالفة العمليّة ليس بمانع عن جريان الأصل
والتمسّك بعموم دليله.
وبالجملة الموضوع
للأصل هو الشكّ وإنّما لم يحكم به مع العلم الإجمالي لأجل المانع العقلي ، فعند
خروج أحد الطرفين عن محلّ الابتلاء كان المانع مرتفعا ، فيكون الأصل جاريا، لتحقّق
موضوعه وفقدان المانع.
وهذا بخلاف
الأمارات ، فإنّ المعيار فيها ليس شكّ المكلّف حتّى يحكم فيها أيضا بذلك ، بل
المعيار فيها هو الكاشفيّة النوعيّة عن الواقع ، ولا شكّ أنّ هذا المعيار يرتفع
برأسه عند العلم الإجمالي ، فلا يبقى الكشف النوعي أصلا ، فيسقط عن الحجيّة
لارتفاع موضوعه.
ألا ترى أنّه لو
قال المولى : أكرم العلماء ، وقال أيضا : لا تهن الفسّاق ، وعلم العبد إجمالا
بخروج زيد العالم عن العموم الأوّل ، أو عمر الفاسق عن العموم الثاني فلا يبقى
لهما بالنسبة إلى أحدهما ظهور ، بل يصير مجملا في كليهما؟.
قلت : نعم في ما
ذكرت من المثال ينتفي الكشف ويسقط بذلك عن الحجيّة ، ولكن حيث إنّ المتّبع في باب
الظهورات بناء العقلاء في محاوراتهم ، فلا بدّ من الرجوع إليهم ، وإذا راجعناهم
نرى أنّهم يفرقون بين أمثال هذا المثال وبين ما إذا
علم إجمالا
بمخالفة الظاهر إمّا بالنسبة إلى ظاهر محلّ الابتلاء وإمّا بالنسبة إلى ظاهر خارج
عنه ، فنراهم يحكمون في الثاني بالنسبة إلى الظاهر المبتلى به بالحجيّة ، ويعاملون
معه معاملة الاحتمال البدوي ، ولا يجعلونه مع الظاهر الآخر في عرض واحد ، وأمّا
وجه ذلك فلا نعلم، وثبوت بنائهم على ذلك مسلّم.
وإن شئت توضيحه لك
بالمثال فنقول : لو قال مولى لعبده في أحد بلاد العجم : أعلم جميع الطّلاب للضيافة
، وقال مولى آخر ببلاد الهند لعبده : اقطع أشجار هذه الأجمة ، وعلم بذلك العبد
الأوّل ، وحصل له العلم الإجمالي بأنّه إمّا أنّ مولاه لم يقصد من الطّلاب شخصا
معيّنا ، وإمّا أنّ مولى ذلك العبد لم يقصد من الأشجار الشجر الفلاني ، فلم يخبر
الشخص المعيّن لأجل ذلك فآخذه المولى فاعتذر بأنّي علمت إجمالا بأنّه إمّا أنّك
غير قاصد لهذا الشخص من عامّك ، وإمّا المولى الهندي غير قاصد للشجر المعيّن من
عامّه الصادر بالنسبة إلى عبده ، فلا شكّ في أنّ هذا الاعتذار يضحك منه العقلاء ،
فليس إلّا لأنّ الظاهر الخارج عن الابتلاء لا يحسبونه طرفا لما هو محلّ الابتلاء ،
بل يجعلونه منحازا عن هذا.
وحينئذ لو علمنا
في مقامنا بوقوع التحريف إمّا في آية (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وإمّا في آية (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ) وأنّه كان الأصل «ما انزل اليك في على عليهالسلام» فليس هذا مورثا للقدح في ظاهر الآية الاولى بعد كونها
محلا للابتلاء وعدم كون الثانية كذلك.
وبالجملة ،
المستند في المقام بناء العقلاء على الفرق بين الابتلاء بكلا الطرفين ، وبين
الابتلاء بأحدهما ، وهذا الوجه جار ولو علم أنّ الخلل المحتمل فيه أو في غيره سقوط
قرينة متّصلة بأحدهما ، ودعوى أنّ أصل وجود القرينة حينئذ معلوم ، والشكّ في وجوده
في هذا أو ذاك ، ولم يعلم بنائهم على الأصل في هذا ، وبالجملة ، مورد الأصل ما إذا
كان عروض الشكّ بعد استقرار ظهور الكلام وهنا لم يحرز استقرار الظهور ، فلو علم
إجمالا بوجود قيد فاسقطوه إمّا في آية أوفوا بالعقود ، وإمّا في آية يا أيّها
الرسول بلغ ، الآية ، فلا يبقى ظهور موثوق به للآية الاولى ، مدفوعة بما
عرفت ، مع أنّ
الخلل المحتمل في المقام يحتمل كونها من قبيل الجملة المستقلّة أو الجزء الغير
المغيّر للمعنى ، وهذا وجه آخر للتفصّي ولو اغمض عن خروج بعض الأطراف عن محلّ
الابتلاء.
وأمّا الجواب عن
العلم الإجمالي بوجود مخصّصات ومقيّدات ، فهو أنّ المقصود إن كان العلم بوجود
مخصّصات ومقيّدات لعمومات الكتاب وإطلاقاته في ما بأيدينا من السنّة ، فهذا واضح
الدفع ؛ فإنّه إذا تفحّصنا في السنّة ولم نجد لعموم خاصّ من عمومات الكتاب مخصّصا
، فيخرج عن تحت العلم الإجمالي ، نظير ما إذا كان الغنم الموطوء المردّد بين
القطيعة أسود ، فالأبيض خارج عن طرف العلم.
وإن كان المقصود
العلم بوجود المخصّصات والمقيّدات في الواقع ولو لم يكن في ما بأيدينا فحينئذ نقول
: تارة يدّعى هذا العلم في خصوص غير آيات الأحكام فهذا لا يضرّ بآياتها ، واخرى
يدّعى بالنسبة إلى مجموع الآيات فتكون آيات الأحكام أيضا طرفا للعلم.
فالجواب ما تقدّم
في مسألة التحريف من أنّ أحد الطرفين خارج عن محلّ الابتلاء ، فآيات القصص
والحكايات مثل قصّة يوسف وحكاية نوح غير مبتلى بها لنا ، فيكون الطرف المبتلى به
ظاهره مأخوذا به على ما تقدّم من أنّ القاعدة في الاصول أنّه لو كانت الاصول ملزمة
ومثبتة للتكليف والعلم حاصلا على الترخيص ، فلا محذور في جريان الاصول والعمل
بعموم دليلها ، فيبنى بحسب الظاهر بحرمة الطرفين مع العلم بحليّة أحدهما واقعا.
ولو انعكس الأمر
يعني كانت الاصول نافية للتكليف ومرخصة وكان العلم متعلّقا بالتكليف فحينئذ لا
يجري الاصول ؛ للمانع العقلي وهو المخالفة القطعيّة ، هذا في الاصول.
وأمّا الأمارات
فهي إذا كان العلم الإجمالي في قبالها فمطلقا يسقط عن الحجيّة ، وإن كان العلم
متعلّقا بالرخصة والأمارة حاصلة على إثبات التكليف ، لارتفاع الكشف النوعي عن
الواقع من البين ، مثل العلم إجمالا بخروج واحد من زيد أو عمرو عن تحت «أكرم
العلماء» بمعنى أنّ أحدهما لا يجب إكرامه ، لا أنّه يحرم ، فالعلم
ليس إلّا بمجرّد
عدم الوجوب ، ولكن ظاهر أكرم العلماء بحسب عمومه مع قطع النظر عن هذا العلم هو
الوجوب في كليهما ، فيسقط هذا الظهور عن الحجيّة ؛ لعدم بقائه بوصف الكشف عن
الواقع نوعا وانقلابه إلى الإجمال.
ولكن فيما إذا كان
أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن محلّ الابتلاء فحال الأمارة في خصوص هذا حال
الأصل ، فكما يجري الأصل في الطرف الآخر ، فكذا الأمارة.
فقصص نوح ولوط
وهود وإبراهيم غير مرتبطة بنا ، فالعلم بورود تخصيص إمّا فيها وإمّا في ما هو محلّ
ابتلائنا من آيات الأحكام لا يوجب عدم جواز الأخذ بظاهرها وسقوطها عن الحجيّة عند
العقلاء كما ذكرنا.
وأمّا إن كان
المقصود العلم الإجمالي بمخصّصات في الواقع بخصوص آيات الأحكام نقول : لا محالة
يكون لهذا العلم قدر متيقّن ، فالواحد معلوم والاثنان كذلك وهكذا يعدّ إلى عدد
توقّف فيه وكان شاكّا فيه فنأخذ القدر المتيقّن. فنقول : مع وجود هذا العلم وقبل
فحص وتجسّس لا إشكال في عدم جواز الأخذ ونحن لا نفعل أيضا ، ولكن نفحص فيما
بأيدينا من الأخبار ونجد بقدر هذا القدر المتيقّن الذي يكون الزائد منه مشكوكا
بدويّا.
مثلا مقدار العشرة
قدر متيقّن ، ومقدار عشرة آلاف محتملة ، فبالنسبة إلى الزائد عن العشرة نجري أصالة
البراءة ، وأمّا العشرة ، فإذا راجعنا الأخبار فوجدنا بالنسبة إلى عموم «أوفوا
بالعقود» أنّه خصص بالبيع الغرري ، وعموم آخر خصّص بفرد وهكذا وجدنا إلى عشرة
عامّات وعشرة مخصّصات ، فهذا العدد القدر المتيقّن وإن كان وقع متعلّقا للعلم بدون
عنوان ما بأيدينا ، لكن بعد هذا الفحص والوجدان ينطبق قهرا العشرة المعلومة على
هذا العشرة الموجودة فيما بأيدينا التي ظفر بها بالفحص ، فيكون العلم منحلا إلى
العلم التفصيلي بهذه العشرة والاحتمال البدوي بغيرها ، ويجري فيها أصالة البراءة
بناء على ما تقرّر في محلّه من انحلال العلم الإجمالي بالطرق القائمة في بعض
أطرافه ، بل وبالاصول إمّا حقيقة وإمّا حكما.
وهذا الفحص والعلم
في غاية السهولة في زماننا حيث قد بوّب الأخبار و
الأحاديث ، وأيضا
الكتب الفقهيّة المبسوطة تكون بأيدينا مثل الجواهر ، ففي كلّ مسألة إذا روجع الجواهر
ولم يذكر فيه مخصّصا يحصل العلم بأنّه ليس في الأخبار له مخصّص وإلّا لذكره.
فيعلم إجمالا أنّه
بعدد المعلوم بالإجمال يكون المخصّص في أخبار الوسائل مثلا موجودا ، فإذا ورد ما
في باب الطهارة ولم نشهد خبرا في الوسائل في هذا الباب راجعا إلى المسألة المطلوبة
نعلم بكونها خارجة عن مورد الطرق التي انحلّ العلم الإجمالي بسببها ، فنعلم بكونها
من موارد الشكوك البدويّة ، فلا يقال : إنّه على هذا لا بدّ من الفحص والانحلال
ثمّ استدلال.
ونحن علاوة على
هذا الفحص نفحص زائدا على مقدار العلم أيضا بقاعدة اخرى غير قاعدة العلم الإجمالي
، وهو أنّا فرضنا الفحص بمقدار العشرة المتيقّنة ، وانحلّ العلم الإجمالي ، لكن مع
ذلك في كلّ آية نحتمل أن يكون له في الأخبار مخصّص لو فحصنا لوصلنا إليه وظفرنا به
فنفحص بمقدار نطمئنّ بعدم هذا المخصّص أيضا وصار بحيث لو كان موجودا واقعا كان
وجوده الواقعي بلا أثر.
وأمّا الجواب عن
إجمال المتشابه فهو أنّ ذلك ممنوع ، بل لا إجمال لا في مفهوم الظاهر ولا في مفهوم
المتشابه ، فإنّ المراد به المجمل ، وهو مثل فواتح السور حيث ليس لها ظاهر أصلا ،
ومنه أيضا ما كان له ظاهر ولكن كان المقطوع عدم إرادته ، وبعد الغضّ عنه لم يكن له
ظاهر ثانوي ، بل كان أمره دائرا بين محتملات لا مرجّح لأحدها ، وإذن فمن المعلوم
خروج الظواهر عن تحت المتشابه ودخولها تحت المحكم.
وحاصل الجواب أنّه
أوّلا نمنع إجمال المتشابه ، فإنّه مفهوم مبيّن كمفهوم المحكم والنصّ والظاهر ،
والمراد به ما ليس له ظاهر عرفا ، ولو سلّمنا إجماله مفهوما فالمتيقّن من النهي
عنه هو المجملات ، فلا يكون دليلا على المنع في الظواهر ، فيكون من قبيل المخصّص
المجمل المفهومي بين الأقلّ والأكثر حيث نأخذ بالقدر المتيقّن منه ، وفي غيره نرجع
إلى العام ، ففي المقام يبقى الظواهر بعد إجمال هذا النهي تحت عموم القاعدة
الارتكازية من حجيّة الظواهر؛ فإنّه لم يعلّق الجواز في الأدلّة على عنوان
المحكم حتّى يحتاج
إلى إثبات المحكميّة ، وإنّما ورد النهي عن العمل بالمتشابه ، فجواز العمل بعد
إجمال المتشابه ليس له حالة منتظرة.
ثمّ إنّك بعد ما
عرفت فساد ما تمسّك به لعدم جواز التمسّك بظاهر الكتاب فلا حاجة إلى إقامة الدليل
على جوازه في خصوص هذا الظاهر بعد إقامته على الجواز في مطلق الظواهر.
وما تمسّك به
للجواز أيضا لا يخلو أكثره عن الخدشة ؛ فإنّ منها خبر الثقلين ، ويمكن الخدشة فيه
بأن غاية ما يستفاد منه جواز التمسّك بالكتاب ، وأمّا كيفيّة التمسّك فلا تعرّض
لها فيه ، فلعلّ المراد التمسّك بنصوصه وإن كانت قليلة ، دون ظواهره.
ومنها قوله عليهالسلام في بعض الروايات : «يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله» وظاهره
توبيخ السائل على سؤاله مع إمكان الرجوع إلى الكتاب ، ولو كان المقصود الرجوع إلى
الظواهر لما كان وجه للتوبيخ ، فإنّ العمل بالظواهر شرطه الفحص عن القرينة على
خلافها ، ولم يكن له طريق غير السؤال عن الإمام عليهالسلام ، فلم يكن السؤال عنه مع وجود ظاهر القرآن في البين للفحص
عن بقائه بحاله أو ورود تجوّز أو تقييد عليه موردا للملامة والتوبيخ ، فلا بدّ أن
يكون كلام الإمام عليهالسلام محمولا على وجوه أخر لا نعلمها.
ومنها الأخبار
الدالّة على عرض الأخبار المتعارضة على كتاب الله والعمل بما وافقه والطرح لما
خالفه ، وهذا أيضا قابل للخدشة ؛ فإنّ ما يستفاد من هذه الأخبار كون ظواهر الكتاب
صالحة للمرجحيّة للخبرين المتعارضين ، ولا ملازمة بين المرجحيّة وبين المرجعيّة
والحجيّة ، فيمكن كون الشيء مرجّحا مع عدم كونه مرجعا وحجّة كما يقوله الشيخ في
الظنون المطلقة ، حيث جعلها مرجّحة للخبرين المتعارضين مع عدم جعله إيّاها حجّة
مستقلّة.
هذا ولكنّ الإنصاف
وجود ما يصلح للدليليّة فيما بين هذه الأخبار على صحة الرجوع في الأحكام إلى
الآيات ولو مثل الأمر بالتدبّر في القرآن الواقع في الأخبار ؛ فإنّه سليم عن
الخدشة.
«في اعتبار قول اللغوي»
ومن جملة الظنون
التي ادّعي خروجها عن الأصل واقيم الدليل على حجيّتها الظّن الحاصل من قول اللغوي
، والظاهر أنّ المراد به هنا الظنّ النوعي كما في باب الظواهر دون الفعلي ،
والمراد حجيّة قوله في تشخيص ظواهر الألفاظ بعد فهم مراده الجدّي من ظواهر كلامه
أو نصوصه ، فيقال : هذا الذي ثبت مراديّته جدّا بظاهر كلامه ـ كما مرّ في الباب
المتقدّم ـ أو بنصّه يجب الحكم بمطابقته مع الواقع.
والحاصل : أنّ
الكلام هنا في تطبيق الإرادة الجدّي مع الواقع بحسب العمل ، وهو غير تطبيق الإرادة
الاستعماليّة مع الإرادة الجدّية ، فالمدّعى تصديقه في العمل وترتيب آثار الصدق
على مفاد قوله في مقام تشخيص الظواهر وإن لم يورث الظّن الفعلي ، نظير حجيّة قول
العادل ، فكما لو أخبر العادل وكان ظاهر كلامه أو نصّه ملكيّة هذا لزيد يرتّب عليه
آثار الملكيّة الواقعيّة تعبّدا وإن لم يورث الظنّ فعلا ، فكذا لو أخبر اللغوي
بأنّ لفظ الصعيد موضوع لمطلق وجه الأرض ، وظاهر هذا شموله للرمل والحجر أيضا ، فلا
بدّ من ترتيب أثر الواقع على هذا الظاهر وإن لم يظن بالصدق ، فيحكم بترتيب الأثر
الشرعي المرتّب على الصعيد على الرمل وو الأحجار .
__________________
والدليل الذي أقاموه على هذا المدّعى
وجهان :
الأوّل : أنّ
اللغوي خبرة في هذا الباب ، وقول الخبرة حجّة.
وجوابه أنّ الصغرى
وهي خبروية اللغوي في مقام تشخيص الظواهر يمكن أن يمنع حقّ المنع ، وذلك لأنّه ليس
وظيفة اللغوي إلّا تتّبع موارد الاستعمال ، فيذكرون عقيب كلّ مادّة معاني عديدة ،
ويستشهدون لكلّ معنى ببعض أشعار العرب أو كلام سمعوه من العرب ، فكلّ معنى وجدوا
استعمال اللفظ فيه في لسان العرب نقلوه ، وربّما كان في البين قرينة على هذا
المعنى ولم ينبّهوا لذلك ؛ لأنّهم ليسوا في هذا المضمار.
وبالجملة ، لم يجر
ديدنهم على تميّز الحقيقة عن المجاز ، أو المشترك عن الحقيقة والمجاز ، فلم يجدي
شيئا لما هو المهمّ لنا وهو كون اللفظ عند التجرّد عن القرينة ظاهرا في المعنى
الفلاني ؛ لما مرّ من أنّهم ليسوا بصدد بيان التجرّد عن القرينة والاحتفاف بها ،
فلو شككنا من جهة موارد الاستعمال كان للرجوع إليهم وجه ، لأنّهم خبرة هذا المقام.
فلو عيّن بعضهم
بواسطة بعض الأمارات والعلامات الدالّة على الحقيقة مثل أصالة عدم القرينة ونحوها
المعنى الحقيقي عن غيره فهو في هذا التعيين غير خبرة ويكون كواحد منّا ، وخبرويّة
هذا المقام إنّما يحصل بالفحص في استعمالات العرب ومحاوراتهم والممارسة لذلك حتّى
يحصل له القطع في كلّ مورد مورد بأنّ المعنى الفلاني قد أراده المستعمل من حاقّ
اللفظ ، وفهمه المخاطب أيضا كذلك ، وأنّ المعنى الفلاني ليس هكذا ، وإنّما اريد
وفهم بمعونة القرينة الخارجة عن حاقّ اللفظ لا أن يحرز ذلك بالأمارات الظنيّة.
فعلم أنّ الرجوع
إلى قول اللغوي بعد تسليم الكبرى المذكورة أعني حجيّة قول الخبرة يبتني على إحراز
مقدّمتين ، الاولى : كون اللغوي بصدد تميز الحقائق عن المجازات لا صرف موارد
الاستعمال ، والثانية : كونه خبرة في معرفة الحقائق والمجازات لا متّكئا على
الأمارات المعمولة.
وأمّا لو كان
الشكّ في مقام آخر وهو أنّ الانفهام والتبادر هل هو من حاقّ اللفظ أو من القرينة
فحالهم في ذلك حالنا بلا فرق ، وليس لهم خبرويّة فيه أصلا ، و
بالجملة ، فالصغرى
ممنوعة وإن كان الكبرى وهي حجيّة قول الخبرة مسلّمة بالوجدان ، بل عليه الفقهاء في
مسألة التقويم ومسألة التقليد ، فرجوع الجاهل في كلّ صنعة إلى العالم بها ممّا لا
ينكر وإن كان يظهر من شيخنا المرتضى قدسسره منع الكبرى أيضا.
لا يقال : إنّك
تسلّمت خبروية اللغوي في تشخيص موارد الاستعمال ، وهذا المقدار يكفينا ؛ فإنّ
الشكّ الحاصل في مرحلة وجود القرينة وعدمها يرفع بأصالة عدم القرينة ، فيثبت بذلك
أنّ الانفهام من حاقّ اللفظ.
لأنّا نقول : لا
يثبت بذلك حجيّة قول اللغوي مستقلا كما هو المدّعى ، نعم الكلام في الأصل المذكور
وجريانه في هذا المقام أو لا؟ كلام آخر يأتي ، وعلى فرض الجريان لا ربط له بحجيّة
قول اللغوي.
الوجه الثاني :
مقدّمات انسداد باب العلم ، وبيانه أنّ الاستنباط لا شكّ في كونه واجبا على
المجتهدين ، ولا شكّ في توقّفه على فهم الألفاظ الواقعة في الكتاب والسنّة ، ولا
طريق له سوى الرجوع إلى كتب اللغة ، فلو لم يكن قول اللغوي حجّة يلزم تعطيل باب
الاجتهاد ؛ لانسداد باب العلم بمعاني الألفاظ.
والجواب أنّ
المقدّمات المذكورة بين ما يمكن منعه ، وبين ما لو سلّم صحّته فلا ينتج المدّعى ،
وبيان ذلك أنّ الملازمة بين الانسداد وعدم الحجيّة ممنوعة ، فلنا أن نقول بعدم
حجيّة قول اللغوي ، ومع ذلك لا يلزم كون باب العلم بمداليل الألفاظ مسدودا ، بل هو
مفتوح ؛ فإنّ من المعلوم إمكان تحصيل القطع في عامّة الألفاظ بدون الرجوع إلى
اللغة والاستفسار من أهلها ؛ فإنّ أحدا لا يشكّ في معنى «ضرب» وهكذا غيره إلّا ما
شذّ وندر ، ولا يلزم من إجراء الأصل في هذا الشاذ النادر محذور.
وأمّا مدرك هذا
القطع فلا نحتاج إلى تشخيصه ، ولا يضرّ كونه اتّفاق أهل اللغة ؛ إذ لا منافاة بين
عدم حجيّة الظنّ الحاصل من قول واحد واحد منهم ، وبين حصول القطع من اجتماع الظنون
الغير المعتبرة. وبالجملة ، لا نحتاج في تشخيص معاني الألفاظ إلى الاستفسار من أهل
اللغة في عامّة الألفاظ.
والحاصل : إن كان
مقصود المستدلّ إثبات الحجيّة مع ملاحظة انسداد باب العلم بمعظم الأحكام وسائر
مقدّمات دليل الانسداد فهذا منتج لحجيّة كلّ ظنّ فعلي ، وقول اللغوي إذا حصل منه
الظّن الفعلي يصير حجّة بملاك مطلق الظنّ وإن فرض انفتاح باب العلم باللغات في غير
هذا المورد ، والمقصود إثبات كونه ظنّا مخصوصا.
وإن كان المقصود
إثباتها مع قطع النظر عن انسداد العلم بمعظم الأحكام بمعنى أنّ أخبار الثقات كانت
حجّة وهي وافية بمعظم الفقه ، ومعاني ألفاظها أيضا غالبا طريق العلم بها موجود ولا
يحتاج إلى الرجوع إلى اللغوي ولا يلزم من عدم الرجوع إليه إلّا الانسداد في الشاذ
النادر ، فالقاعدة في هذا الشاذ النادر يقتضي الرجوع إلى الاصول العمليّة بعد
انقطاع اليد عن العلم والعلمي وإن فرض انسداد باب العلم باللغات في غير الأحكام ،
ولا يقتضي مجرّد وجوب الاجتهاد على المجتهد حجيّة قول اللغوي في هذا المورد.
فإن قلت : نعم لا
حاجة إليه بالنسبة إلى تشخيص أصل المعاني ، وأمّا موارد الحاجة إلى قوله في تفصيل
المعاني وتعيين الحال في المصاديق المشكوكة فأكثر من أن يحصى كما في ألفاظ الوطن
والمفازة والتمر وغيرها.
قلت : الإنصاف عدم
الحاجة رأسا في تعيين تفاصيل المعاني أيضا : ووجه ذلك أنّا نقطع بأنّه كما في لغة
العرب لفظ الماء بإزاء المعنى الخاص كذلك في لغة الفرس لفظ (آب) موضوع له ، وإذا
خلط مقدار من التراب في مقدار من الماء بحيث حصل لنا الشكّ في صدق مفهوم (آب) فلا
شكّ أنّ العرب أيضا في صدق الماء عليه متحيّر وشاكّ ، فلا معنى لرجوع طائفة الفرس
إلى طائفة العرب في تشخيص مصاديق المفاهيم بعد فرض عموم التحيّر وثبوت الشكّ في
كلتا الطائفتين ، بل المرجع ليس إلّا تخلية كلّ طائفة ذهنه واستفهام الحال من
المخلّى بالذهن من هذه الطائفة لا استفهام العجمي من المخلّى بالذهن العربي.
وكذا الحال في
سائر الألفاظ المشكوكة في سعة مفاهيمها وضيقها ، فإنّ الوطن نقطع بأنّ مرادفه في
الفارسيّة (جايگاه) ، وكذا المفازة ؛ فإنّها اسم للمهالك ، سميّت
بالمفاوز تفؤّلا
بالخير ، فنقطع بأنّ بإزاء الصحاري المخوفة المهلكة اسما في الفارسيّة أيضا ، ثمّ
لو بقينا على الشكّ ولم يتّضح الحال بعد تخلية الذهن أيضا في نادر من المقامات فلا
بأس بإجراء الأصل في هذا المقام ، ولا يلزم ارتفاع الدين بالأصل كما هو إحدى
مقدّمات الانسداد.
ثمّ لو سلّمنا
تماميّة مقدّمات الانسداد فمقتضاها حجيّة كلّ ظنّ فعلي ، ومن جملته الظنّ الحاصل
من قول اللغوي ، مثلا إذا قال اللغوي : الصعيد اسم لمطلق وجه الأرض فحصل الظنّ
بصدقه فيحصل الظنّ قهرا بترتّب حكم الصعيد على الرمل والحصى ، وأين هذا من المدّعى
من اختصاص الحجيّة بخصوص الظنّ الحاصل من قول اللغوي.
وبالجملة ، نتيجة
مقدّمات الانسداد على فرض تسليمها مخالفة للمدّعى من جهتين، الاولى : أنّ نتيجتها
حجيّة الظنّ الشخصي الفعلي والمدّعى هو الظنّ النوعي.
والثانية : أنّه
لا اختصاص بحسب هذه المقدّمات بالظّن الناشي من قول اللغوي والمدّعى هو الاختصاص
بهذا الظن.
والحاصل أنّ معنى
الحجيّة صحّة الاعتذار ، فلو تيمّم على الحصى مع إمكان التراب ، فسأل الله عن ذلك
يوم القيامة أمكن أن يجاب بأنّه : قد قال الجوهري مثلا بأنّ الصعيد أعمّ ، فإن حصل
الاطمئنان بحيث صحّ الجواب عند سؤال الله فهو معنى الحجّة ، وإن لم يحصل هذا الاطمئنان
والجزم فلا حجيّة.
والإنصاف عدم
حصوله من هذه الأدلّة ، فإذن فلا بدّ من الرجوع في كلّ مقام إلى الأصل المناسب به
، ففي هذا المثال يرجع إلى الأصل الجاري في الأقلّ والأكثر ، لكون الترديد بين
مطلق وجه الأرض أو خصوص التراب الخاص ، فإن قلنا إنّه البراءة حكم بها ، وإن قلنا
إنّه الاشتغال حكم به.
بقي الكلام في
أنّه هل يفيد ضمّ أصل عدم القرينة إلى قول اللغوي في تشخيص الظواهر أولا؟ فإنّه قد
ذكرنا خبرويّته في تشخيص أصل موارد استعمال اللفظ في كلام العرب ، فبعد تشخيص كون
المعنى من موارد استعمال اللفظ بالرجوع
إلى اللغوي يرفع
احتمال الاتكال إلى القرينة بأصالة عدمها ، فيثبت بذلك كون المعنى حقيقيّا، فينفع
ذلك للمواضع التي نجد اللفظ في كلام الشارع أو غيره بدون قرينة ، فنحمله على هذا
المعنى.
فنقول : قد تقدّم
في بعض المباحث السابقة أنّ القدر المعلوم من العمل بهذا الأصل هو ما إذا كان
الشكّ في المراد مع محرزيّة الموضوع له ، مثلا لفظ الأسد الذي نعلم بأنّه موضوع
للحيوان المفترس ، ومجاز في الرجل الشجاع لو شككنا في أنّ المتكلم ب (جئني بأسد)
هل أراد الأوّل أو الثاني ، فعند هذا يجري الأصل لتشخيص المراد.
وما نحن فيه عكس
هذا ، فنعلم أنّ هذا المعنى مراد في استعمال العرب ، والشكّ في المعنى الموضوع له
، وهذا هو الذي وقع محلا للنزاع بين السيّد والمشهور ، فذهب السيّد إلى أنّ الأصل
في الاستعمال الحقيقة ، وذهب المشهور في قباله إلى أنّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة
، فلا يمكن الجزم لمكان هذا النزاع بحجيّة الأصل المذكور لإثبات الوضع في مقام
الشكّ في الموضوع له مع إحراز المراد وإنّما الثابت حجيّته لإثبات الإرادة في مقام
الشكّ في المراد مع إحراز الموضوع له ، والظاهر أنّ من قبيل الثاني تشخيص مصداق
العامّ بأصالة عدم التخصيص في ما إذا علم عدم حكم العام في موضوع وشكّ في أنّه
داخل في أفراد العام حتّى يكون خروجه عن الحكم تخصيصا أو خارج حتى يكون تخصّصا.
وقد وقع في مواضع
من مكاسب شيخنا المرتضى قدسسره ، مثلا لو قال : أكرم العلماء وعلم بأنّ زيدا لا يجب
إكرامه ، بل يحرم ، ولكن لم يعلم أنّه عالم حتى يكون تخصيصا في العامّ ، أو جاهل
حتى يكون تخصّصا فيه.
فربّما يقال في
هذا أيضا : أنّ الثابت جريان هذا الأصل في ما إذا كان الشكّ في الحكم بعد إحراز
الموضوع ، وهذا شكّ في الموضوع بعد إحراز الحكم ، فإذا علم أنّ زيدا عالم يصحّ [إجراء]
أصالة عدم التخصيص لإثبات وجوب إكرامه ، وأمّا إذا علم أنّه محرّم الإكرام فلا
يصحّ إجرائها لإثبات جهله.
ولكن يمكن أن يقال
: إنّ الشكّ هنا يرجع بالأخرة إلى المراد الإجمالي من العام ،
فإنّه لو كان
الزيد المحرّم الإكرام عالما يلزم أن يكون المراد الجدّي في أكرم العلماء بعض
العلماء، وإن كان جاهلا يلزم أن يكون المراد الجدّي فيه تمامهم ، فلا يعلم أنّه
أراد بقوله : أكرم العلماء تمام العلماء أم بعضهم ، ونشأ هذا من الشكّ في علم زيد
وجهله مع العلم بحرمة إكرامه ، فيصحّ إجراء الأصل لإثبات مراديّة التمام دون البعض
، فيتشخّص بسببه الحال في زيد ، فيستكشف عدم علمه وكونه جاهلا ، فيكون حال هذا
العام حال العام العلمي أو العقلي.
فكما لو علم
بمضمون «كلّ عالم يجب إكرامه» وعلم أنّ زيدا لا يجب إكرامه ، علم بعكس النقيض أنّه
ليس بعالم ، وكذا إذا حكم العقل بأنّ كلّ إنسان حيوان ناطق ، فعلم بأنّ الجسم
الخاص ليس بحيوان ناطق ، علم بعكس النقيض أنّه ليس بإنسان ، فكذا الحال في العامّ
الغير العلمي والعقلي بضميمة الأصل المذكور ، ويظهر الثمرة في ما إذا كان حكم
مرتّبا على عنوان الجهال فيحكم بترتّب هذا الحكم على زيد ، فإنّ المثبت من هذه
الاصول أيضا حجّة.
وبالجملة ، فالشكّ
في هذا المقام راجع إلى الشكّ في المراد ، وهذا بخلاف ما إذا علم أنّ المراد من
لفظ الأسد مثلا الرجل الشجاع ، ولكن لم يعلم أنّه موضوع لما يعمّ الرجل الشجاع ،
أو لمعنى يكون الرجل الشجاع معنى مجازيّا بالنسبة إليه ، فإنّ الشكّ لا يرجع إلى
مراد المتكلّم أصلا.
والحاصل أنّ محلّ
إجراء الأصل اللفظي ما كان وظيفة المتكلّم تعيينه لو كان حاضرا وسئل عنه ، ففي
مقام علمنا بإرادته من الأسد ، الحيوان المفترس قد فرغ من وظيفته من بيان المراد
اللفظي والجدّي.
وأمّا فهم أنّ هذا
المعنى معنى حقيقيّا فاللائق بهذا السؤال هو من كان خبرة من اللغوييّن في هذا
المقام بخلاف الحال في العام ، فإنّه وإن لم يكن للمكلّف تحيّر في مقام العمل
لعلمه بحرمة إكرام زيد ، لكن له حقّ فهم مراد المتكلّم لينتفع به في مقام آخر ،
وهذا من شأنه بيانه بحيث لو كان حاضرا وسئل عنه لكان سؤالا راجعا بحيث متكلميّته ؛
لأنّه سؤال عن إرادته الجدّية وأنّها متعلّقة بتمام أفراد العالم أو ببعضها بعد
ما فرغ اللغوي
الخبرة عن بيان ما هو وظيفته بعكس اللفظ المشكوك كون مورد استعماله حقيقيّا أو
مجازيّا ، فإنّه قد فرغ من إرادة المتكلّم بحسب اللفظ وبحسب الجدّ وبقي ما هو
وظيفة اللغوي الخبرة.
وبعبارة اخرى هنا
مرحلتان ، الاولى : أنّ المعنى بعد انفهامه من اللفظ وكونه تحت الإرادتين يبحث عن
كيفيّة انفهامه وأنّه كان بالوضع أو بمعونة القرينة ، والثانية : أنّ المعنى
المنفهم بأيّ كيفيّة كان من الوضع أو القرينة هل وقع تحت الإرادة اللفظيّة أو
الجدّيّة ، ولو فرض أنّ المراد بحسب نفس الأمر كان معلوما ، ولكن فرق بين المراد
الجدّي بحسب نفس الأمر والمراد الجدّي في مفهوم اللفظ.
فإن قلت : على ما
ذكرت يلزم جواز التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة في ما إذا كان بينه وبين
المخصّص عموم من وجه ، مثل قوله : أكرم العلماء ، وقوله : لا تكرم الفسّاق ، فإنّه
إذا شكّ في كون زيد العالم مثلا فاسقا : الشكّ في المراد الجدّي من أكرم العلماء
بالتقريب المتقدّم وأصالة عدم التخصيص ينفي احتمال التخصيص ، وحيث إنّ هذا الأصل
في اللوازم أيضا حجّة نأخذ بلازمه وهو عدم كون الزيد فاسقا ولا حاجة إلى قيد احتمال
استقصاء حال الأفراد من المتكلّم كما قيّدته سابقا ؛ إذ صورتا وجوده وعدمه
متساويتان في الملاك الذي ذكرته هنا.
قلت : نعم كلّ ما
ذكرنا في هذه المسألة أعني مسألة دوران الأمر بين التخصيص والتخصّص لترجيح الثاني
على الأوّل جار بعينه في تلك المسألة ، ولكن قيد احتمال الاستقصاء محتاج إليه في
كلتا المسألتين ، فلو قال : أكرم العلماء ، ثمّ قال : أهن زيدا وشككنا في كونه
عالما أو جاهلا وعلمنا بكون المتكلّم أيضا مثلنا في عدم العلم بحاله فإنّه لا شبهة
في عدم جريان الأصل من رأس ، لا أنّه جار ولا يثبت اللازم ، فإنّ الأصل المذكور
يكون جاريا في مقام صحّ السؤال عن المتكلّم لو كان حاضرا ، ففي مورد احتمال الفحص
والاستقصاء يجري الأصل ويصحّ السؤال ، ومع عدمه العدم من غير فرق بين المسألتين ،
ومن هنا يعرف أنّ الشبهة المراديّة بالطريق الذي ذكرنا ليست موردا للأصل على وجه
الكليّة.
فتحصّل أنّ
التمسّك بأصالة عدم القرينة لإثبات الوضع مع معلوميّة المراد غير جائز وإن قلنا
بجواز التمسّك بأصالة عدم التخصيص لإثبات خروج الموضوع عن تحت العام مع معلوميّة
حكمه مخالفا لحكم العام.
ثمّ إنّ في
الكفاية في مقام ذكر حجج المانعين عن التمسّك بظاهر الكتاب ذكر وجوها خمسة :
الأوّل : أنّ فهم
القرآن مختص بأهله ومن خوطب به ، كما يشهد به ما ورد في ردع أبي حنيفة وقتادة عن
الفتوى.
والثاني : أنّ
القرآن مشتمل على مطالب عالية لا تصل إليها أيدي اولى الأفهام ، كيف ولا يصل إلى
فهم كلام مثل امرئ القيس وابن سينا إلّا الأوحدي من الأفاضل ، فما ظنّك بكلامه
تعالى مع اشتماله على علم ما كان وما يكون وحكم كلّ شيء ، والفرق بين الوجهين بعد
اشتراكهما في عدم فهمنا لمطالب القرآن وعدم معرفتنا بها أنّ الأوّل يكون بالخبر
والتعبّد ، والثاني بالوجدان ، وهذا الوجه لم نذكره نحن لوضوح الجواب منها ، فإنّا
نسلّم على اشتمال القرآن على البطون وبطون البطون ، لكن أين هذا من ظواهر مثل آية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فلا يدّل هذا إلّا على عدم جواز الأخذ بما لم يظهر معناه.
والثالث : أنّ
المتشابه ممنوع عن اتّباعه وهو شامل للظواهر ، ولا أقلّ من احتمال شموله له بأن
يكون ما نزعمه ظاهرا من قبيل الرموزات والإشارات التي لا يلتفتها إلّا من خوطب
بالقرآن ويكون كما قيل بالفارسيّة.
ميان عاشق
ومعشوق رمزى است
|
|
نداند آنكه اشتر
مى چراند
|
مثلا كان الياء في
(يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا) إشارة إلى مطالب عالية و «أيّها» إلى مطالب أخر وهكذا.
والرابع : أنّ
ظواهر القرآن وإن لم يكن من قبيل المتشابه ذاتا ، إلّا أنّها صارت منه عرضا للعلم
الإجمالي بطروّ التخصيص والتقييد والتجوّز في كثير من ظواهره.
والخامس : الأخبار
الناهية عن تفسير القرآن بالرأي لشمولها لحمل الكلام
الظاهر في معنى
على هذا المعنى.
ثمّ ذكر بعد ذلك
ما حاصله أنّ النزاع يختلف صغرويّة وكبرويّة بحسب هذه الوجوه ، والمقصود أنّ مرجع
بعض هذه الوجوه إلى نفي الظهور مع تسليم أنّ كلّ ظاهر حجّة ، ومرجع بعضها إلى نفي
حجيّة كلّ ظهور مع تسليم أصل الظهور ، فمرجع عدم المعرفة بمطالب القرآن إلّا لمن
خوطب به بكلا وجهيه ، وكذا العلم الإجمالي بطروّ التخصيص ونحوه إلى نفي الظهور ،
ومرجع شمول المتشابه للظاهر والأخبار الناهية إلى منع أنّ كلّ ظاهر حجّة.
والظاهر أنّ هذا
الكلام منه قدسسره ناظر إلى الاعتراض بكلام شيخنا المرتضى قدسسره في الرسائل حيث حكم بصغرويّة النزاع على وجه الكليّة ،
ومحصّل الاعتراض أنّ هنا تفصيلا ، ويختلف صغرويّة النزاع وكبرويّته بحسب الوجوه ،
فلا وجه للحكم بصغرويّته بقول مطلق ، هذا.
أقول : الكبرى
المأخوذة في المقام يختلف باختلافها حال النزاع ، فإن كانت هي أنّ كلّ ظاهر حجّة
كان كما ذكره قدسسره من الاختلاف باختلاف الوجوه ، ولكن شيخنا المرتضى قدسسره لم يجعل هذا كبرى الباب ، بل الكبرى التي ذكرها في صدر
البحث هي أنّ الشارع في تعيين مراده وإفهام مرامه لم يخترع ولم يجعل طريقة جديدة
غير طريقة العرف ، ولا يخفى أنّه على هذه الكبرى يكون جميع النزاعات في هذا المقام
راجعة إلى الصغرى سواء في ذلك نزاع الأخباري في الكتاب ونزاع المحقّق القمّي في
السنّة بالاختصاص بمن قصد إفهامه.
بيان ذلك أنّ أحدا
لا ينكر أنّ الشارع لم يخترع طريقه جديدة في تعيين مراده ، ويقول به الأخبارى
والمحقّق المذكور أيضا. وإنّما الأخباري يقول : إنّ كلّ اثنين تباينا على التكلّم
بالرمز فليس لثالث حقّ تشخيص المراد بظاهر كلامهما عند العرف أيضا وأنّه على هذا
جرت طريقة العرف ، فالقرآن من هذا القبيل.
وكذا المحقّق أيضا
يقول : ليس للشارع طريقة جديدة ، ولكن طريقة العرف أنّ الأخذ بالظواهر مخصوص بمن
قصد إفهامه ، فهذان وإن كانا بالنسبة إلى حجيّة
الظواهر كبرويين
ولكنّهما بالنسبة إلى عينيّة طريقة الشرع مع طريقة العرف ليسا إلّا صغرويين، يعني
أنّ الرسم المألوف بين أهل العرف جرى على أنّ من يتكلّم مع مخاطبه بالرمز لا يكون
للغير حقّ بأن يعيّن المراد بالأخذ بالظواهر.
وكذا على أنّ غير
المقصود بالإفهام لا يكون له تعيين المراد بالرجوع إلى الظواهر ، لا أنّ هذا طريقة
جديدة مخترعة مجعولة للشرع.
وبالجملة ، لا
يلازم كبرويّة النزاع على الكبرى التي اتّخذها صاحب الكفاية كبرويّتها على كبرى
الشيخ قدسسره ، فلا وجه للإيراد والاعتراض.
تتمّة ، لو اختلفت
القراءة في آية على وجهين مختلفين في المؤدّى مثل «يطهرن» بالتخفيف و «يطّهرن»
بالتشديد فلا إشكال أنّ المتضادّين لا يمكن أن يكون
__________________
كلاهما حكم الله ،
فلا يمكن أن يكون حدّ حرمة الوطي النقاء ، وأن يكون هو الغسل. وحينئذ فإن قطعنا
بتواتر القراءات ، والقول بتواترها يمكن على وجهين :
الأوّل : يقال :
بأنّهما آيتان نزلتا على النبي صلىاللهعليهوآله كان الغاية في إحداهما يطهرن وفي الاخرى يطّهّرن ، والثاني
، أن يقال : الآية واحدة ، ولكن في خصوص هذه اللفظة يكون المنزل على النبي هو
المادّة وجعل الاختيار لإحدى الهيئتين بيد القاري.
وعلى كلّ حال فإن
حصل القطع بالتواتر بأحد وجهيه فلا بدّ من ملاحظة أنّ أيّ القطعين أظهر من الآخر
في معناه ، مثلا ظهور يطهرن في النقاء أقوى أو ظهور يطهّرن في الغسل ، فإن كان في
البين أظهر يجعل الأظهر قرينة على صرف الظاهر ، وكذا النصّ لو كان يجعل قرينة
لغيره.
وإن لم يحصل القطع
بالتواتر فنقول : قد ورد في الأخبار الأمر بالقراءة كما يقرأ
__________________
الناس وهذا الأمر
محتمل لمعنيين ، الأوّل : أن يكون المفاد نظير مفاد دليل التعبّد بالخبر ، فكما
أنّ مفاده لزوم البناء العلمي على كون ألفاظ الخبر صادرة عن المعصوم ، فكذا مفاد
هذا أيضا هو البناء على أنّ ما يقرئه الناس هو القرآن وترتيب آثار القرآن الواقعي
عليه ، ففي صورة الاختلاف يصدق على كل قراءة أنّه ما يقرئه الناس ، فيلزم البناء
على قرآنيّة الجميع ، فيصير القراءتين المتعارضتين في المؤدّي بمنزلة خبرين
متعارضين رواهما الثقة.
والثاني : أن يكون
الغرض من الأمر بقراءة القرآن الذي يقرئه الناس هو الردع عن التفحّص عن القرآن
الذي جمعه الأمير عليهالسلام وأتاه إلى الجماعة ، فقالوا : كفانا ما بأيدينا ، فقال لا
ترونه حتّى يجيء به ابني مهدي عليهالسلام ، وعلى هذا فيكون المستفاد من هذا الأمر حصول ثواب قراءة
القرآن على قراءة ما يقرءوه وترتيب آثار قراءة القرآن الواقعي عليه ، فلا تعرّض
فيه لجواز العمل بالحكم الذي هو مشتمل عليه ، وبالجملة فالمستفاد حينئذ جواز
القراءة لا جواز الاستدلال.
ثمّ هذا المعنى
أيضا محتمل لوجهين :
الأوّل : أن يكون
قضيّة مطلقة شاملة لكلّ قراءة حتى في صورة اختلاف القراءات ، فمفاده أنّ كلّ قراءة
يجوز القراءة على طبقها وتؤثّر أثر قراءة القرآن الواقعي من الثواب وغيره.
والثاني : أن يكون
قضيّة مجملة وكان في مقام مجرّد الردع عن فحص قرآن الأمير عليهالسلام والإرجاع إلى ما في الأيدي من دون نظر إلى أنّ في صورة
الاختلاف يجوز القراءة بكلّ قراءة أولا؟ فيكون الحال من هذه الجهة موكولة على
مقتضى القاعدة ، فإن اتّفقت القراءات فلا كلام ، وإن اختلفت فلا بدّ من ملاحظة
الأوثق الأتقن.
وهذان الوجهان وإن
كان لا تظهر ثمرة بينهما في ما نحن بصدده ؛ فإنّ كليهما مشترك في سكوت الأمر
المذكور عن جواز الاستدلال والعمل على طبق المدلول ، وإنّما يدلّ على جواز القراءة
، فمن حيث العمل والاستدلال لا يجوز الرجوع إلى شيء
من القرآنين وإن
كان نصّا ، بل يرجع إلى القاعدة.
نعم تظهر الثمرة
بينهما في مقام آخر وهو الآثار المترتّبة على قراءة القرآن ، فعلى الأوّل يحكم
بترتّبها على جميع القراءات ، وعلى الثاني على خصوص الأوثق إن كان ، وإلّا فيحتاط
، مثلا وجوب القراءة في الصلاة أثر للقرآن أعني الحمد والسورة ، فإن اختلفت
القراءة في واحد من ألفاظ الحمد مثل «مالك» حيث قرء «ملك» أيضا فعلى الوجه الأوّل
يجوز القراءة بكلّ منهما ؛ لأنّ قراءة كلّ بمنزلة قراءة القرآن ، وعلى الثاني إن
كان أحدهما أقوى وأتقن يتعيّن هو بالقراءة ، وإلّا فيحتاط بقراءة كليهما.
وكيف كان فعلى
المعنى الأوّل وهو التنزيل منزلة القرآن الواقعي قراءة وعملا كالخبر يصير القراءتان
المتعارضتان كالخبرين المتعارضين ، فإن كان بينهما نصّ أو أظهر يجعل قرينة على
الظاهر ، وإن تساويا في الظهور فقد جعل الشارع لتعارض الخبرين قانونا وهو الرجوع
إلى المرجّحات ، وعند فقدها التخيير ، دون الرجوع إلى ثالث ، وهذا القانون لو لا
التعبّد به من الشرع لكان على خلاف القاعدة ، فإنّ الأمارات إن جعلت حجّة من باب
الطريقيّة فقاعدة باب الطرق هو التساقط عند التعارض ، وإن جعلت من باب السببيّة
فقاعدة باب الأسباب هو التخيير عند التزاحم كإنقاذ الغريقين ، فالترجيح بالمرجّحات
يكون على خلاف القاعدة على أيّ حال ، فيقتصر فيه على مورده وهو الخبران المتعارضان
، فيكون المعمول به في القراءتين هو القاعدة ، وحيث إنّ المختار هو الطريقيّة كان
مقتضى القاعدة تساقطهما ، فيجوز القراءة بكلّ منهما ولا يجوز الاستدلال بشيء منهما
؛ فإنّه لا تعارض بينهما بحسب القراءة ، وإنّما التعارض ثابت بحسب العمل ، فيتعيّن
الرجوع إلى دليل آخر وهو مختلف بحسب المقامات.
ففي الآية
المذكورة يبنى على وجود العموم الأزماني وعدمه ، فإن قلنا بالأوّل يعني بكون كلمة «أنّى»
في قوله تعالى : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) زمانيّة استيعابيّة استغراقيّة بأن كان الزمان ملحوظا قطعا
متعدّدة وكلّ قطعة
ملحوظة على وجه
الاستقلال بأن كان المفاد هو جواز إتيان الحرث في كلّ زمان ، فحينئذ يكون المرجع
عموم هذه الآية ؛ فإنّه قد استغرقت جميع الأزمان ومن جملتها الزمان بين النقاء
والغسل ، وخرج عنه بقضيّة الخاص زمان التلبّس بالحيض ، فيبقى الباقي تحت العموم.
وإن قلنا بعدم
إرادته العموم الزماني إمّا بكون كلمة «أنّى» ظرفية مكانيّة ، أو كانت للزمان لكن
لوحظ الزمان قطعة واحدة وجعل ظرفا للحكم واستمرّ الحكم باستمراره ، لا أن يكون قد
لوحظ كلّ زمان مستقلا ، فالمرجع قاعدة استصحاب حكم المخصّص.
والحاصل أنّ هنا ثلاث صور :
الاولى : أن نقول
بتواتر القراءات ، وحينئذ فكأنّ كلّ قراءة منزلة من السماء ، فإن كان في البين
أظهر أو نصّ يحكّم على غيره.
والثانية : أن لا
نقول بتواترها ولكن قلنا : يجوز الاستدلال واستفادة الأحكام بكلّ قراءة كما يجوز
القراءة ، وحينئذ فكلّ قراءة منزلة من السماء تعبّدا قراءة وعملا ، فإن كان في
البين أظهر أو نص يحكّم أيضا على غيره.
والثالثة : أن لا
نقول لا بالتواتر ولا بجواز الاستدلال ، وأنّ الثابت جواز القراءة ، فكلّ قراءة
بمنزلة المنزل من السماء قراءة لا عملا ، وحينئذ لا يجوز التمسّك بالنص والأظهر لو
كان أيضا ؛ لاحتمال عدم القرآنيّة.
ففي جميع صور
الصورة الأخيرة وفي صورة عدم النص والأظهر من الصورتين الاوليين لا بدّ من الرجوع
إلى قاعدة اخرى ، ولا يلاحظ علاج الخبرين المتعارضين بين القراءتين في الصورتين
الاوليين ؛ فإنّ الأمارة إذا تعارضت بأمارة اخرى فمقتضى القاعدة هو التساقط
والتماس دليل آخر ، وأمّا عدم الخروج عنها إمّا بترجيح إحداهما لو كان مرجّح ،
وإمّا بالتخيير بينهما عند فقده فهو خلاف القاعدة ؛ فإنّ المرجّح أيضا إن كان
أمارة مستقلّة فهو المرجع ، وإلّا فكونه مرجّحا خلاف القاعدة ، فيقتصر في ذلك على
مورد الأخبار العلاجيّة وهو الخبران المتعارضان.
وبالجملة ، ففي
القراءتين المتعارضتين مفادا وعملا لا بدّ في جميع صور الصورة الأخيرة وصورة عدم
الأظهر والنص من الصورتين الاوليين من الرجوع إلى القاعدة وهو مختلف على المبنيين
؛ لأنّه إن قلنا بأنّ كلمة «أنّى» في آية (فَأْتُوا حَرْثَكُمْ
أَنَّى شِئْتُمْ) زمانيّة واستيعابيّة فالمرجع هو العموم الزماني ، وإن قلنا
بأنّه غير زمانيّة أو غير استيعابيّة فالمرجع قاعدة استصحاب حكم المخصّص.
وهذا نظير ما ذكره
شيخنا المرتضى في رسائله ومكاسبه تعرّضا على المحقّق الكركي في باب الخيارات
الحادثة في البين وبعد حدوث العقد ، مثل خيار تلقّي الركبان عند الاطّلاع على سعر
البلد في مسألة أنّه هل بعد مضيّ الزمان بقدر الفسخ يبقي خيار أولا؟ فإنّه قد
اختار المحقّق الفوريّة مستدلا بآية (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) فإنّه يدّل على وجوب الوفاء في تمام الأزمان ، خرج زمان
الفسخ بالدليل ، فيبقى الباقي تحت هذا العموم.
واعترض عليه شيخنا
بأنّه فرع أن يكون في الآية عموم بالنسبة إلى الأزمنة ، كما أنّ له عموما بالنسبة
إلى أفراد العقود ، وليس كذلك ؛ إذ ليس في الآية تقييد بالزمان ، بل هو حكم واحد
ممتدّ بامتداد الزمان ، والمفروض أنّه انقطع في جزء من الزمان ، وبعده يحتاج
إثباته إلى دليل آخر ، فليس من مقام الرجوع إلى العموم ، بل المرجع استصحاب حكم
المخصّص.
توضيح المقام أنّ
الاختلاف ينشأ من ناحية الجاعل وكيفيّة جعله وإنشائه ، فقد يجعل هو حكمه بحيث يجعل
كلّ زمان زمان موضوعا مستقلا في عالم فرضه ، فينحلّ الحكم بحسب هذا الجعل إلى
أحكام عديدة بحسب قطعات الزمان ، وقد يجعل في عالم الفرض حكما واحدا ويلاحظ الزمان
شيئا واحدا فيمتدّ هذا الحكم الواحد بامتداد الزمان ما دام موضوعه باقيا.
فلازم الصورة
الاولى أنّ الحكم متى ارتفع في زمان بدليل خاص يثبت بعد ذلك الزمان بقضيّة العموم
، ولازم الثاني أنّه لو انقطع حكمه وزال استمراره في زمان فهذا الحكم الواحد
المستمرّ قد انقطع استمراره إلى هنا بالدليل ، ولا دليل على ثبوت
حكم جديد ثانيا
كان مبدؤه ما بعد هذا الزمان.
مثلا تارة يقول :
أكرم العلماء في كلّ زمان ، وحينئذ لو قام إجماع على عدم وجوب إكرام زيد العالم
يوم الجمعة وشككنا أنّه يوم السبت واجب الإكرام أولا؟ لا شكّ أنّ الدليل الأوّل
اقتضى وجوب إكرامه في كلّ يوم ، والقدر الخارج يوم الجمعة ، فيوم السبت باق تحت
العموم.
واخرى يقول : أكرم
العلماء ، من دون تقييد بالزمان ، فلا شكّ أنّه لو لم يرد مخرج فهو بالنسبة إلى
زيد وعمرو وبكر وسائر الأفراد مستمرّ ما دام حياتهم ، ولكن إذا قطع استمرار هذا
الحكم في زيد في يوم الجمعة فلا دليل يدّل على وجوب إكرامه يوم السبت ، ووجوب
الإكرام الأوّلي قد فرض انقطاعه ليوم الجمعة.
والحاصل أنّ
الرجوع إلى العام يحتاج إلى إثبات دلالتين له :
الاولى : إثبات
الحكم من الأوّل إلى ما قبل زمان المخصّص.
والثانية : إثباته
من ما بعد هذا الزمان إلى آخر أزمنة الموضوع ، ومن المعلوم عدم إمكان إثبات الدلالة
الثانية ، نعم يمكن تقييد الدليل بالنسبة إلى الدلالة الواحدة من حيث الأوّل ،
فيكون منقطع الأوّل ، أو من حيث الآخر ليصير منقطع الآخر.
مثلا يمكن جعل
مبدإ وجوب الوفاء في العقد الذي فيه خيار من ابتدائه أوّل انقضاء هذا الخيار ، أو
في العقد الذي فيه خيار من آخره بجعل مقطع وجوب الوفاء ومنتهاه في أوّل حدوث هذا
الخيار ، فيلزم في الصورتين تقييد البيع بكونه من الزمان الفلاني ، أو إلى الزمان
الفلاني.
وأمّا إذا انقطع
الوجوب من الوسط فلا يمكن إثبات الوجوب في ما بعد الوسط إلّا بدلالتين ، إحداهما
على الحكم من الأوّل إلى الوسط ، والآخر من ما بعده إلى الآخر ، وليس للدليل
الدلالة الثانية وهو في هذا نظير الاستصحاب ؛ فإنّه ما لم ينقطع استمرار الحكم
الموجود في زمان يستصحب في ما بعده ، ولو حدث القاطع له في الأثناء انقطع
الاستصحاب.
إذا تقرّر ذلك
فنقول : إن كان لفظة «أنّى» مفيدة للزمان على وجه الاستيعاب
فالقدر الخارج
زمان التلبّس بالدم ويبقى الباقي تحته ، فيكون المرجع العموم المستفاد من هذه
اللفظة ، وأمّا إن كان مفيدة للمكان أو للزمان لكن لا على وجه العموم والاستيعاب ،
فيقال : الحكم الثابت في القطعة السابقة من الزمان حرمة الوطي فيستصحب هذا الحكم
في القطعة اللاحقة.
ثمّ في كليّة ما
ذكره شيخنا قدسسره في صورة عدم ملاحظة الزمان قطعة قطعة بمقدار يسع الوطي
مثلا من أنّ المرجع هو الاستصحاب نظر ، بل هنا أيضا تفصيل ، ولا يصحّ الرجوع إلى
الاستصحاب مطلقا ، بل ربّما يكون المرجع أصل آخر ، نعم عدم صحّة الرجوع إلى العموم
يكون مطلقا ، وذلك لأنّه لا بدّ من أن ينظر الدليل الدالّ على خلاف حكم العام في
فرد في زمان وأنّه ما ذا يستفاد منه ، هل يستفاد كون الزمان جزء من الموضوع وقيدا
له ، أو كونه ظرفا وخارجا عن الموضوع والمحمول.
وكذا لا بدّ من
ملاحظة حال الزمان في تلك القضيّة عند العرف وأنّه هل يراه العرف داخلا في الموضوع
أو المحمول أو خارجا عنها وظرفا للحكم ، فصحّة الرجوع إلى استصحاب حكم المخصّص
مبتن على عدم فهم القيديّة للزمان لا من دليل المخصّص ولا من العرف ، كما لو كان
في مثال الوطي موضوع الحرمة هو الوطي وكان زمان الحيض ظرفا لهذا الحكم.
وأمّا لو كان
الموضوع بحسب الدليل أو العرف هو المقيّد بالزمان الخاص كما لو كان موضوع الحرمة
في المثال هو الوطي في زمان الحيض بحيث اعتبر حال الحيض قيدا في الموضوع فحينئذ
وإن كان لا يمكن الاستدلال بعموم العام لإثبات حكمه في ما بعد ، ولكن التمسّك
لإثبات حكم المخصّص أيضا بقاعدة الاستصحاب غير صحيح ، لعدم بقاء الموضوع مع فرض
كونه مقيّدا بالزمان الخاص وانقضاء هذا الزمان ، فارتفع الحكم بارتفاع الموضوع ،
فلا يمكن الاستصحاب ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر وهو مختلف في المقامات ، وفي
هذا المثال يكون هو البراءة ، وكذلك الحال عند الشكّ وعدم تبيّن أنّ الزمان من أحد
القسمين ، فلا يمكن الاستصحاب حينئذ ، لعدم إحراز الموضوع.
«في حجيّة الإجماع المنقول وعدمها»
«فصل»
من جملة الظنون
التي اقيم على حجيّتها الدليل الإجماع المنقول بخبر الواحد ، وتحقيق المقام يبتني
على بيان امور :
أحدها : اعلم أنّ
الكلام هنا في أنّه لو سلّمنا دلالة الأدلّة على حجيّة الأخبار المنقولة عن النبي
والأئمّة عليه وعليهمالسلام ، وزدنا فيه كلّ قيد واشترطنا فيه كلّ شرط احتملناه وصار
المحصّل حجيّة ما ينقله الثقة والعادل ، وفرغنا عن ذلك ، فهل نقل الإجماع مع فرض
كون الناقل واجدا لما اعتبرناه في الخبر من العدالة تكون تلك الأدلّة شاملة له
بالعموم أو الإطلاق أولا؟.
ثمّ فهم أنّ
الأدلة المذكورة هل يشمل هذا النقل أولا يتوقّف على فهم حقيقة الحال في الإجماعات
التي يدّعيه العلماء في المقامات ومعرفة حقيقتها وكيفيتها.
وليعلم أنّ
الإجماع ، المخترع والمؤسّس له هو العامّة ، وادّعوا قيام النصّ على حجيّته ، ثمّ
لمّا رأى الخاصّة أنّ عدّ الإجماع بالمعنى الذي هم يعنون ويعرّفون في جملة الأدلة
لا يضرّ ؛ فإنّهم تارة يعرّفونه بأنّه اتّفاق أمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم على أمر من الأمور الدينيّة كما عن الغزالي ، واخرى بأنّه
اتفاق أهل الحلّ والعقد من أمّة محمد صلىاللهعليهوآله على أمر من الامور كما عن الفخر الرازي ، والمراد من أهل
الحلّ والعقد على ما نبّه عليه ، غير واحد منهم المجتهدون ، وثالثة بأنّه اجتماع
المجتهدين من هذه الامّة في عصر على أمر كما عن الحاجبي ، ومن المعلوم أنّ هذا
الموضوع متى تحقّق فالمعصوم داخل ؛ إذ هو واحد من الامّة وأهل الحلّ والعقد من
الامّة ومن علماء الإسلام بل أكملهم ، لامتناع خلوّ عصر وزمان عن وجوده الشريف.
فعند ذلك وإن كان
لم يثبت على خصوص هذا المعنى دليل عندهم ونصّ عن
أئمّتهم تبعوا
العامّة خوفا من إثارة الفتنة بإظهار الخلاف منهم وانتهاء الأمر إلى عنادهم مع
الشيعة بهذه المخالفة ، مع كون المعنى مسلّما ، فوجدوا في الوفاق معهم سلامة عن
كيد الأعداء مع عدم الخروج عن طريق السداد ، فقالوا هم أيضا بحجيّة هذا المعنى
واعتبار هذا الموضوع لمجرّد متابعة الجماعة ، من دون أن يكون لهم فيه اصطلاح جديد
، نعم قد يتسامح في إطلاقه على اتّفاق جماعة خاصّة يعلم بدخول الإمام فيهم ، لوجود
الملاك وعدم الاعتناء بمخالفة غيره ، مع ما فيه من إسكات الخصم وإلزامه بما التزم.
الأمر الثاني :
اعلم أنّ طريق إحراز هذا المعنى أعني اتفاق علماء الإسلام الموجودين في العصر
الواحد بلا استثناء واحد منهم يكون أحد امور ثلاثة :
الأوّل : أن
يستفتي الإنسان بعد الفحص والاستقراء في تمام أصقاع الارض ونواحيها من كلّ عالم
وجد فيها بحيث لم يبق عالم من الاسلام إلّا واستفتى منه ، ثمّ صار رأي الجميع شيئا
واحدا ، ويسهل ذلك لو انحصر علماء الإسلام في دورة قليلين أمكن الإحاطة بهم ، لكن
مع العلم بوجود الإمام عليهالسلام فيما بينهم ، فيكون رأيه في جملة الآراء وإن لم يعرف بشخصه
الشريف بعينه.
والثاني : أن يحرز
ويحصل فتاوى كلّ من في وجه الأرض من ذوي الفتوى ممّن عدى الإمام عليهالسلام ، بحيث لا يبقى أحد غير الإمام ، ثمّ بعد تحصيل هذا احرز
انضمام فتواه عليهالسلام ورأيه بالفتاوى وكونه على طبق الآراء من قاعدة اللطف ،
فإنّ من اللطف الواجب على الإمام أن لا يترك رعيّته طرّا وكلّا على الجادّة
الباطلة ، بل يظهر الحقّ لهم إمّا بنفسه ، وإن كان مغيّبا بإرسال واحد فيهم يظهر
بتوسّطه الحقّ عليهم ويلقيه إليهم ، فحيث ما فعل كشف عن مطابقة رأيه الشريف
لآرائهم ، فإنّه لا يخلو بحسب الواقع أمر الاتّفاق من حالين، إمّا مطابق لرأيه عليهالسلام فيتمّ المطلوب ، وإمّا مخالف له فيلزم خلاف اللطف ، فحيث
يمتنع الثاني يتعيّن الأوّل.
ثمّ بعد إحراز
رأيه بهذه القاعدة يضمّ إلى سائر الآراء فيتمّ موضوع الإجماع ، فإنّ
قبله لم يتم ؛ إذ
اتفاق جميع علماء الإسلام في عصر واحد لا يتحقّق من اتفاق من عدى الإمام ما لم يضم
إليهم رأيه ؛ فإنّه أعلم العلماء وإمامهم ، فكيف يتحقّق المعنى المذكور بدونهعليهالسلام؟ وبالجملة ، فبعد إحراز رأيه بذلك يسمّى المجموع منه ومن
سائر الآراء من حيث المجموع إجماعا.
والثالث : أن يحصل
أيضا بالفحص والاستقراء آراء جميع العلماء من عصر واحد بحيث علم عدم بقاء واحد
منهم ممّن عدى الإمام عليهالسلام ، وبعد رؤية اتفاق الجميع في الرأي يستفاد رأى الإمام عليهالسلام بواسطة الحدس ، وهو حدس رأي الرئيس من رأي رعيّته ، ولكن
ليعلم أنّ الحدس لا يحصل لو كان المسألة ممّا يتطرّق فيها العقل بحيث احتمل اعتماد
الجميع على حكم العقل ، فيتوقّف على العلم بعدم تطرّق العقل فيه ، وكذلك لا يحصل
لو كان أخبار صحيحة على طبق آرائهم ؛ إذ يحتمل كونهم مستندين إليها ، فيتوقّف على
عدم وجود الأخبار الصحاح في البين.
ثمّ بعد استكشاف
رأيه بطريق الحدس يسمّى المجموع من حيث المجموع إجماعا ، هذا.
ويمكن التسامح في
إطلاق لفظ الإجماع بحسب كلّ من هذه المناطات الثلاثة ، فمن كان مناط الحجيّة عنده
الوجه الأوّل يطلقه مسامحة على اتّفاق جماعة قليلة مثل ثلاثة أو اثنين إذا كان فيه
المناط بأن كان واحدهم الإمام ؛ ولذا قال المحقّق : ولو خلا المائة من علمائنا عن
الإمام لم يكن بحجّة ، ولو وجد في اثنين كان قولهما حجّة.
ومن كان مبناه
الوجه الثاني مثل شيخ الطائفة قدسسره يطلقه مسامحة على اتّفاق خصوص من عدى الإمام مع عدم كونه
إجماعا مصطلحا ، لخروج الإمام عنه ، ومع ذلك يطلق عليه اسم الإجماع باعتبار وجود
مناط الحجيّة فيه وهو كونه محلّا لقاعدة اللطف المتقدّمة.
ومن كان المناط
عنده الوجه الأخير يطلقه على اتفاق عدد يسير من أعيان العلماء واساطينهم مع عدم
كون المسألة عقليّة وعدم خبر صحيح أو أصل معتبر ؛ فإنّه ربّما يحصل لبعض ـ لحسن
الظنّ بهذه العدّة القليلة مع ملاحظة كثرة تخالف
آرائهم وتشتّت
مذاهبهم من اتّفاقهم في المسألة مع عدم ظهور دليل معتبر ـ الحدس بمطابقة آرائهم مع
رأي الإمام عليهالسلام ، فيسميه إجماعا لاشتماله على وجه حجيّته وهو كونه مدركا
للحدس عن رأي الإمام.
الأمر الثالث :
اعلم أنّ القسم الأوّل يمكن لكلّ أحد دعوى القطع بعدم تحقّقه في الإجماعات
المنقولة في كتب أصحابنا الفقهيّة ؛ لعدم الوصول إلى جنابه في هذه الأزمنة إلّا
للأوحدي في نادر من الزمان ، فيمكن القطع بأنّ واحدا من تلك الإجماعات ليس مشتملا
على قول المعصوم بأن يكون أحد مجمعيه جنابه عليهالسلام.
وأمّا القسم الوسط
ففيه جهتان من المناقشة والإشكال ، الاولى : الاستبعاد ؛ فإنّ إحراز الاتفاق
يتوقّف على الفحص التام والاطلاع على رأى العلماء الاعلام والسعي والمداقّة حتى لا
يبقى واحد منهم ، فإنّه لو احتمل وجود عالم لم يحصل الظفر به وبرأيه وكان مخالفا
لم يتم إجراء قاعدة اللطف ، فإجراؤها يتوقّف على العلم بعدم وجود واحد على وجه
الأرض من العلماء إلّا وظفر به وحصول الاتفاق بين آراء الجميع ، ومن المعلوم عدم
إمكان هذا الأمر لأحد عادة.
ثمّ على تقدير
إمكانه في بعض الأحيان كما لو اجتمع جميع علماء الاسلام في بلدة مخصوصة يرد
الإشكال الثاني وهو القدح في المبنى ، فإنّه بعد وجود فوت الفيوض الكثيرة والبركات
الغفيرة من جهة غيبة الإمام لا غرو في أن يكون هذا أيضا واحدا من الفيوض التى
حرمناها بواسطة عدم وجود جنابه فينا ، ومع ذلك لا ينافي اللطف ، فإنّ عدمه عليهالسلام منّا ، فإنّا نحن بذنوبنا أوجدنا السبب لغيبته ، فحرماننا
عن فيوض وجوده إنّما هو سوء بلغنا من سوء أعمالنا ، فليس هذا السوء الوارد بنا
إلّا منّا ، وإلّا فمن ناحية المولى لم يقع تقصير ولا قصور ، تعالى عن ذلك علّوا
كبيرا ، بل أتمّ أسباب ما يقرّب العبد إلى الجنّة ويبعدّه عن النار كما يليق
وينبغي ، والتقصير منا ، فابتلينا بسوء أعمال انفسنا وسوء اختيارنا.
وحاصل الإشكال أنّ
الواجب عقلا إنّما هو جعل الأحكام ونصب الإمام ، فإنّه مع عدم الأوّل لكان للناس
أن يقولوا : أنت السبب في عدم وصولنا إلى الكمال ،
فإنّك ما جعلت في
حقّنا أوامر على طبق المصالح ونواهي في موارد المفاسد حتى نرتدع عنها ونتحرّك إلى
المصالح ، وكذلك مع عدم الثاني ، فإنّه مع الجعل وعدم من يبعث ويزجر ويبلغ الأحكام
إلى العباد لا يحصل المقصود ، وأمّا بعد جعل الأحكام ونصب الإمام فرفع المانع الذي
تحقّق من عصيان العصاة فليس واجبا في مقام اللطف ، فإنّ الدار دار التكليف وجعل
العباد في معرض الإطاعة والعصيان ، فالمنع التكويني عن عصيان العصاة خلاف هذا
الشأن.
وبالجملة ، إبقاء
المانع المستند إلى عصيان العصاة بحاله وعدم رفعه تكوينا لا يقدح في تماميّة اللطف
من الله تعالى ، وعلى هذا فكلّ ما كان من تبعة هذا من الحرمان عن فيوضات وجود
الإمام عليهالسلام التي منها خفاء الحكم الواقعي في الواقعة الجزئيّة ليس
مخالفا للطف ، مع أنّه من الممكن أن يكون اللطف في الإخفاء كما في غالب الأحكام في
صدر الاسلام.
فإن قلت : فعلى
هذا فالبرهان الذي أقمت على إمضاء الشارع للطريقة الارتكازيّة المغفول عنها
للعامّة يمكن الخدشة فيه بمثل هذا البيان.
فإنّه يقال :
إنّما عليهم في اللطف الواجب عليهم (ع) بيان الأحكام ، فلعلّه قد بيّنوا أيضا في
هذه القضيّة ، ثمّ عرض اختفائه من جهة الموانع الخارجيّة ، وليس ابقاؤهم هذه
الطريقة بحالها وعدم الردع عنها مع كونها غير مرضيّ لهم نقضا لغرضهم ، فإنّ الفرض
كون غرضهم إتمام الحجّة والفرض إمكان حصوله.
قلت : نعم ، ولكن
نحتاج في ذلك الباب إلى مقدّمة اخرى وهي كون القضيّة محلا لابتلاء العامّة في جميع
الأعصار بلا استثناء ، مثل الصلوات اليوميّة والطهارة والنجاسة ومسألة حجيّة
الظواهر ؛ فإنّ مثل هذا الأمر لا محالة كان بمرأى ومسمع من الصادقين وسائر الأئمّة
عليهمالسلام مع ما رأوا من ابتلاء الناس في يومهم وليلتهم ، ففي مثل
هذه القضيّة عدم ورود التخطئة وعدم وصوله إلينا موجب للقطع بعدم صدوره عنهم ، لكون
القضيّة ممّا يتوفّر الدواعي على النقل فيها ، فلو كان لبان.
ثمّ بعد هذا نقول
: لا يخلو الأمر إمّا أنّ هذا الأمر الارتكازي كان مرضيّا لهم
أولا ، فعلى
الأوّل يثبت المطلوب ، وعلى الثاني يلزم خلاف اللطف ـ العياذ بالله ـ وهذا بخلاف
الحال في مقامنا ؛ فإنّه يمكن عدم ورود الحكم فيه من الأئمّة عليهمالسلام ، لعدم كونه محلّ ابتلاء الناس ، واستمرّ ذلك إلى زمان من
أوان الغيبة فاتّفق علمائها في عصر من باب القاعدة على رأي واحد. فتحصّل أنّ
تماميّة هذا القسم من الاجماع مخدوشة صغرى وكبرى ، فتعيّن في الوجه الأخير.
إذا عرفت هذا
فنقول : لو نقل الإجماع ناقل فحجيّة هذا النقل على الوجه الأخير مبنيّة على
تماميّة دلالة ما يدّل على حجيّة خبر الواحد وشمولها لنقل الثقة ، وكون مفادها
حجيّة الأعمّ من النقل الذي يدركه الحسّ والذي يدركه الحدس.
ثمّ على تقدير
عموم هذه الأدلّة لا بدّ من عدم العلم بابتناء حدس الناقل على مقدّمة اجتهاديّة
باطلة ، فإنّه حاك لرأي الإمام بأقوال العلماء ، وحدسه الناشي من تلك الأقوال على
الوجه الباطل ، كحسن الظنّ بجماعة لا ينبغي حسن الظنّ بهم في هذا المقام ، نعم لو
اشتبه الحال ولم يعلم أنّ حدسه على وجه باطل أو صحيح فمفاد الأدلّة حجيّته ، سواء
كان المقدار من الأقوال التي حصلها وصارت منشئا لحدسه موجبة لحدس المنقول إليه
أيضا لو حصلها ، أو لم يحصل منها الحدس عنده.
وأمّا على تقدير
عدم العموم لتلك الأدلّة وعدم شمولها إلّا للنقل الذي يدركه الحس فالمقدار الذي
نقل عن حسّ في نقل الإجماع هو نقل أقوال عدّة من العلماء ، وأمّا حدسه فهو اجتهاده
، فليس لنقله حجيّة من جهة حدسه ، وكذلك من جهة قول الإمام ؛ لأنّها مستندة إلى
حدسه ، فيكون بالنسبة إلى الأمر الحسّي أعني تتبّع أقوال العلماء نقله حجّة ،
فنأخذ به ونجعل هذا المقدار من الأقوال كالمحصّل ونعامل معاملة المحصل.
مثلا لو نقل الشيخ
الإجماع وقال : أجمعت العلماء ، فنعلم أنّه تتبّع أقوال خمسين نفرا من علماء عصره
لا محالة ، وهذا مقدار متيقّن ، والزيادة محتملة ، فنفرض أنّ أقوال الخمسين محصّلة
لنا ؛ فإن كان بنفسه موجبا للحدس عندنا فهو ، وإلّا فنضمّه إلى أمارات أخر وأقوال
سائر العلماء حتى يحصل السبب التام للحدس.
والحاصل أنّ نقل
الإجماع بحسب ما ذكر ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأوّل : أن يعدّ
الناقل المفتين ويصرّح بأسمائهم في كلامه وكان المنقول إليه بحيث لو حصّل بطريق
الحسّ فتاوى هؤلاء المعدودين لقطع بالملازمة بحكم الله ورأي الإمام.
والثاني : أن لا
يكون عنده ملازمة بينهما ، وعلى هذا أيضا قد يكون ما نقله من الفتاوى بمقدار يحصل
للمنقول إليه العلم بضميمة الأمارات الموجودة عنده وقد لا يكون كذلك.
والثالث : أن يشكّ
في أنّ هذا الإجماع من الأوّل أو الثاني ، وعلى تقدير كونه من الثاني من أيّ من
قسميه ، بأن ينقل الإجماع بدون تصريح بأسماء المجمعين وتعيين لعددهم ، فيحتمل أن
يكون متتبّعا لأقوال عدد يوجب القطع للمنقول إليه ويحتمل عدمه ، وهو الغالب في
الإجماعات المنقولة التي بأيدينا.
فنقول : لا إشكال
في الأوّل بمعنى حجيّة نقل الإجماع كاشفا ومنكشفا ، أمّا الأوّل وهو إخباره بفتاوى
عدّة من العلماء معلوم العدد فواضح أنّه إخبار عن الحسّ ، فيكون كما لو حصّل
المنقول إليه هذه الأقوال بنفسه ، وحيث يثبت في الأمارات اللوازم الثابتة للمؤدّى
أيضا بخلاف الاصول ، والمفروض ثبوت الملازمة بين المؤدّى هنا وهو فتاوى هؤلاء
الخاصّة ، وبين رأي الإمام ، فبعد ثبوت الملزوم بخبر الثقة يحكم بثبوت ما هو لازمه
لو حصّله بنفسه وهو رأي الإمام.
مثلا لو قطع أحد
بثبوت الملازمة الاتفاقيّة بين عدالة عمرو وفسق بكر ، فأخبر البنيّة بعدالة عمرو
فيكون حجّة له بالنسبة إلى فسق بكر أيضا ، وأمّا الثاني وهو جهة حكايته عن رأي
الإمام بالالتزام فلأنّه نقل عن حدس مبناه الحس ، وأدلّة حجيّة خبر الثقة يشمل مثل
هذا أيضا.
ألا ترى قبول
الشهادة بالعدالة مع أنّها ملكة باطنيّة وليست قابلة للحسّ ، ولكنّها يستكشف
بالحدس من احساس آثارها ، فيعلم أنّ الحدس القريب بالحسّ أيضا بمنزلة الحسّ في باب
حجيّة الخبر.
ولا إشكال في
القسم الثاني من القسم الثاني أيضا عكسا ، بمعنى عدم إمكان الوصول إلى رأي الإمام
بنفس نقل الإجماع لا كاشفا ولا منكشفا ، أمّا الأوّل فلما هو المفروض من أنّه لا يصير
سببا للقطع عند المنقول إليه ، وأمّا الثاني فلأنّ حكايته مبنيّ على ما لا يراه
المنقول إليه للمدركيّة للحدس ، وهذا غير مشمول لأدلّة حجيّة الخبر ، بمعنى أنّه
قاطع ببطلان الحدس والخبر المبني على الحدس الباطل لدى من يراه باطلا لا نفي
الأدلّة بحجيّته.
نعم في القسم
الأوّل منه يمكن إثبات حجيّة نقله من حيث الكاشف بأدلّة الحجيّة بالنظر إلى الأثر
التعليقي الثابت لجزء الموضوع ، فيفرض ما نقل إليه من فتاوى فلان وفلان وفلان إلى
خمسين نفرا مثلا كأنّه المحصّل عنده ، وهي وإن كانت بنفسها لا يفيد له القطع ،
ولكن حسب الفرض يمكن أن يفيده له بعد ضمّ أقوال خمسين نفرا آخر حصّلها بنفسه ،
وقرائن وأمارات أخر إلى أقوال الخمسين التي نقلها الثقة ، فأوجب المجموع قطعه بحكم
الله ورأى المعصوم ، فيكون مشمولا للأدلّة بملاحظة هذا الأثر المعلّق حصوله على
حصول الضميمة وتتمّة السبب.
بقي الكلام في
القسم الثالث وهو الثابت في الإجماعات المنقولة ، وهو صورة عدم تبيّن الحال ونقل
الإجماع بدون تصريح بصاحبي الأقوال وعددهم ؛ فإنّه يحتمل أن يكون هو من قبيل ما
ذكره شيخنا المرتضى من أنّه ربّما يكون الإجماع على الأصل فيدّعيه الناقل على
الفرع ، كما لو استدلّ على عدم جواز الصلاة المؤدّاة في وسعة الوقت لمن كان عليه
المقضيّة بالإجماع لوجود خبر ثقة على هذا المضمون بملاحظة إجماعهم على اتّباع خبر
الثقة ووجوب العمل به.
أو يحكى الإجماع
على طهارة خرء الطير بملاحظة وقوع الإجماع على أنّ كلّ مشكوك طاهر حتى يعلم أنّه
قذر ، مع أنّ من المعلوم أن لا ملازمة بين الإجماع على الأصل في المسألتين وبينه
في الفرع ؛ إذ ربّما لم يكن الراوي عندهم ثقة أو لم يتّضح دلالة الخبر عندهم ، أو
كان له معارض أقوى ، وكذا ربّما كان لهم دليل على النجاسة في المسألة الثانية ،
ولا يجري الأصل مع وجدان الدليل.
ويحتمل أيضا أن
يكون قد اطّلع على فتاوى جماعة في خصوص المسألة ، ولكن حصل له القطع لكونه سريع
القطع ، بحيث لا ينتفي حصول القطع بهذا المقدار بحسب المتعارف.
ويحتمل أن يكون قد
اطّلع على فتاوى جماعة وحصل له القطع ، لكن من جهة أنّه تتبّع أحوالهم وحصل له اطلاع
زائد فصار قاطعا بفتواهم بحكم الله لحسن ظنّه بهم واحتسابه إيّاهم لسانا للفقهاء ،
كما لو اطّلع على حصول علم لهم قد وصل إليهم صدرا بصدر ، فهم حاكون لحكم الإمام
بما عندهم والثابت في صدورهم منتقلا إليه من صدور أسلافهم ؛ فإنّ من المعلوم عدم
حجيّة النقل في هاتين الصورتين أيضا بالنسبة إلى من ليس له هذا الاطلاع بأحوالهم ،
فحينئذ يبتنى حجيّة نقل الإجماع على وجود دليل بحجيّة نقل حكم الله بأيّ وجه كان
إذا كان الناقل ثقة.
فنقول : أمّا
السيرة وبناء العقلاء فمعلوم أنّه بالنسبة إلى غير هذا المورد ، وأمّا الأخبار
المدّعى تواترها في الجملة فموردها حجيّة نقل الرواة في الأحاديث التي سمعوها من
لسان الإمام ، وأمّا الآية فأوّلا : يتوقّف أصل دلالتها على حجيّة خبر العادل على
القول بثبوت المفهوم لمطلق الوصف ، وتقرّر في محلّه عدم ثبوته.
وثانيا : على فرض
القول بثبوته في مطلق الوصف أو في خصوص هذا الوصف نقول : إنّ المستفاد من الآية في
موضوع خبر العادل حكم حيثي وهو الاعتبار بخبره من حيث احتمال تعمّده الكذب في
أخباره ، فالآية دالّة على عدم الاعتناء بهذا الاحتمال ، فخبره في الحسيّات بعد
رفع احتمال تعمّده الكذب بالآية ، ورفع احتمال خطائه في الحس وسهوه ونسيانه بالأصل
العقلائي الجاري في حقّ كلّ عاقل ، يحمل أقواله وأفعاله وحركاته وسكناته على الوجه
الصحيح ، لا على وجه الغفلة والسهو والنسيان ، يكون متّبعا.
وأمّا في
الحدسيّات فالآية أيضا دالّة على الاعتناء بخبره من الحيثيّة المزبورة
__________________
أعني احتمال
تعمّده الكذب ، وأمّا احتمال خطائه في الحدس فالآية ساكتة من رفعه وليس عليه أصل
عقلائي أيضا ، ولا ملازمة ـ كما هو واضح ـ بين العدالة ومطابقة الحدس للواقع ؛ إذ
ربّ فاسق يكون أفطن وحدسه أصدق من عادل ، فيكون الاعتماد على خبر العادل في
الحدسيّات غير مستفاد من الآية على ما ذكرنا من كونه حكما حيثيّا لا فعليّا من
جميع الحيثيّات ، بمعنى أن يكون المفاد أنّه متى أخبر العادل يجب الأخذ به
والتصديق له والبناء على أنّ مؤدّى خبره هو الواقع.
والدليل على عدم
كونه بهذا النحو وكونه بالنحو الأوّل هو التعليل الواقع في آخر الآية وهو قوله
تعالى : (أَنْ تُصِيبُوا
قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) فإنّ من المعلوم أنّ ترتّب الوقوع في الندم على الاعتماد
على خبر الفاسق بدون التبيّن إنّما هو لأجل فسقه وعدم تحرّزه عن الكذب في إخباره
عمدا بخلاف العادل ، فإنّه بمقتضى عدالته متحرّز عن تعمّد الكذب ، فلا يوجب العمل
بقوله الوقوع في الندم ، فلا يجب التبيّن في خبره لأجل هذه العلّة.
وبالجملة ، فما به
الامتياز فيما بين الفاسق والعادل إنّما هو هذه الجهة ، وإلّا فالخوف المذكور من
جهة الخطاء في الحدس لا اختصاص له بالفاسق ، وليس جهة فارقة بين الفاسق بما هو
فاسق والعادل بما هو عادل ، فالآية مسوقة للفرق من الجهة التي يتمايزان فيها محضا
، ولا نظر لها إلى غير تلك الجهة ، وعلى هذا فعدم وجوب التبيّن في خبر العادل من
هذه الجهة لا ينافي وجوبه لأجل احتمال خطائه في الحدس.
فالآية على تقدير
ثبوت المفهوم لها دالّة على أنّ العادل مأمون في خبره ، فهو في إخباره مصدّق من
هذه الجهة ، يعني ولو احتمل أنّه صار فاسقا بنفس إخباره هذا لتعمّده بالكذب فيه لا
بدّ أن لا يعتنى بهذا الاحتمال ، ومن هنا علم أنّ الموضوع هو العادل مع قطع النظر
عن هذا الإخبار ؛ إذ العادل مع النظر إليه ليس محلا للكلام ؛ إذ يقطع حينئذ بصدقه.
فان قلت : على ما
ذكرت من أنّ ما اشتمله الآية بحسب المفهوم حكم حيثي وليس بفعلي ناظر إلى جميع
الحيثيّات ، فليست الآية بثمرة في شيء من المواضع ، أمّا
في الحدسيّات فلما
ذكرت ، وأمّا في الحسيّات فلأنّ الآية ليس بفعليّ بمعنى أنّه لا تدلّ على لزوم
البناء والتعبّد على كون مؤدّى الخبر هو الواقع ، وإنّما دلّت على عدم الاعتناء
باحتمال تعمّده الكذب ، وهذا أعمّ من الحكم بمطابقة خبره للواقع ؛ إذ ربّما يكون
هذا مشروطا بأمر آخر أيضا ، كما هو المشاهد في باب الشهادة في الموضوعات ، فإنّه
لا يجوز البناء على واقعيّة المؤدّى بمجرّد إخبار العدل الواحد مع رفع احتمال
تعمّده الكذب أيضا بعموم الآية ، فكما صار التعبّد بقوله في الموضوعات منوطا بشرط
آخر علاوة على العدالة وهو التعدّد ، من المحتمل أن يكون خبره في الأحكام أيضا
منوطا بشيء آخر ، فلا تدلّ الآية على هذا على حجيّة خبره في موضع أصلا.
قلت : لا إشكال في
أنّ وجه محجوبيّة الواقع ومستوريّته علينا بعد إخبار العدل منحصر في أمرين لا ثالث
لهما ، بحيث إذا ارتفعا لم يبق وجه لعدم الأخذ بقوله وعدم ترتيب أثر الواقع عليه ،
أحدهما : احتمال تعمّده الكذب في إخباره وكونه في إخباره بقيام زيد مثلا كاذبا ،
والثاني : احتمال خطائه في حسّه ، فجهة عدم حصول الجزم لنا بإخباره بقيام زيد
منحصرة في هذين الاحتمالين.
فإذا دلّ الشرع
على إلغاء الاحتمال الأوّل كما هو المفروض من دلالة الآية وجرى بناء العقلاء على
إلغاء الاحتمال الثاني في حقّ العقلاء يلزم قهرا ترتيب آثار الواقع بلا تأمّل؛ إذ
قد وضّح الواقع وارتفع المحجوبيّة عن البين بالتعبّد وبناء العقلاء ، فلا مانع عن
إجراء آثار الواقع.
لا يقال : إنّ هذا
رجوع عن الاستدلال بالآية إلى الاستدلال بالسيرة والأصل العقلائي.
فإنّه يقال :
المقصود هو عدم التوقّف في النتيجة ولو كان بتتميم الاستدلال بالآية من الخارج ،
فإنّ مدّعى المستشكل على ما حكي هو لزوم التوقّف وعدم إمكان إثبات الحجيّة من
الآية ولو بضميمة من الخارج ، فراجع كلامه.
فإن قلت : لا بدّ
بعد هاتين القضيتين الحيثيتين من بناء ثالث من العقلاء في مورد
اجتماعهم على وجوب
العمل وترتيب آثار الواقع على مؤدّى الخبر ، فيكون تتميم الأمر بهذا البناء ، ولو
نوقش فيه فلا بدّ من التوقّف عند احتمال إناطة الحكم بوجوب الأخذ بوجود شيء آخر.
قلت : لا حاجة إلى
البناء الثالث في مورد الاجتماع ، فإنّه لا يعقل سدّ باب العدم من هاتين الحيثيتين
مع فرض انحصار بابه فيهما ، ومع ذلك نتوقّف في مقام العمل ، فلا بدّ إمّا من العمل
أو رفع اليد من أحد هذين الأصلين التعبّدي والعقلائي ، فلهذا نقول في موارد عدم
رخصة الشارع في ترتيب الأثر بمجرّد العدالة كما في باب الشهادة حيث اعتبر العدد
أيضا مضافا إلى العدالة : أنّه لا بدّ فيها من الالتزام بأحد امور ثلاثة :
الأوّل : أنّ هذا
مستثنى من القاعدة التعبّديّة المدلول عليها بالآية من إلغاء احتمال التعمّد للكذب
في إخبار العادل ، والقول بتخصيص هذه القاعدة في باب الشهادة ، بأن كان الشارع
لأجل الاهتمام بهذا المورد قد اعتنى بالاحتمال المذكور ، إلّا أن يكون المخبر
اثنين ، ولم يلغه في صورة الوحدة ، وعلى فرض القول بأنّ القاعدة عقلائيّة وليست
بتعبديّة صرفة والآية إمضاء لطريقة العقلاء وتقرير لبنائهم من تصديق الأمين والثقة
فالشارع في باب الشهادة لم يمض هذه الطريقة بل خطّأها.
والثاني : أن يكون
الشارع في باب الشهادة قد خطّأ العقلاء في أصلهم الجاري لرفع احتمال الغفلة
والنسيان ، فلم يعتن بهذا الأصل في موضوع العدل الواحد في باب الشهادة ومقام
المرافعات.
والثالث : أن يكون
الشارع قد اعتبر في موضوع وجوب الحكم بمعنى فصل الخصومة عمّا بين المترافعين ـ الذي
جعله منصبا للقاضي ـ العدد ، فما لم يكن الشاهد متعدّدا لم يتحقّق موضوع الحكم ،
فليس الحكم عند فقد العدد بمشروع وإن كان الوصول إلى الواقع وترتيب آثاره بينه
وبين الله حاصلا بنفس إخبار العادل.
وبعبارة اخرى :
لنا هنا شيئان :
الأوّل : هو إدراك
الواقع وترتيب آثاره والالتزام بأحكامه في مقام العمل ،
كإدراك أنّ هذا
المال مال لزيد دون عمرو ، وترتيب أثر ملكيّة زيد كجواز شرائه منه وعدم جوازه من
عمرو ، وجواز الصلاة فيه لو كان ثوبا بإذن زيد وعدمه بإذن عمرو ، إلى غير ذلك.
والثاني : وجوب
فصل الخصومة والنزاع عن البين ، بدفع المال إلى زيد بعد نزعه من يد عمرو لو كان في
يده وختم الأمر بذلك ، ولا ملازمة بين هذين الأمرين ؛ لوضوح إمكان حصول الأوّل بأن
يلزم على القاضي ترتيب آثار ملكيّة زيد دون عمرو من جواز شرائه من الأوّل المشهود
له دون الثاني المشهود عليه ، وجواز صلاته فيه بإذن الأوّل دون الثاني ، ولكن كان
الأمر وهو وجوب القضاء ومشروعيّة الحكم ونفوذ فصله الخصومة منوطا بحسب الشرع على
حصول العدد ، فلا يشرع له ولا يجب عليه نزع المال من يد عمرو ودفعه إلى زيد وطيّ
النزاع على ذلك ما لم يشهد عنده شاهد آخر بملكيّته لزيد.
وعلى هذا فلو شهد
فاسق كان في أعلى درجة من الوثوق في مقام الإخبار بحيث كان قاطعا بعدم تعمّده
الكذب في الإخبار ـ وكان وجه عدم القطع بخبره منحصرا في صدور غفلة وسهو منه في
إخباره ـ بملكيّة المال لعمرو يلزم عليه ترتيب آثار ملكيّته لعمرو في مقام عمل
نفسه ، فإنّه قد وقع الواقع في يده ، فلا يعقل منه عن إجراء أثره ، ومع ذلك ليس
يجب عليه فصل الخصومة بمجرّد شهادة فاسق أو فاسقين بهذا الوصف.
وهذا نظير ما قاله
بعض في ما إذا حصل القطع للقاضي من الخارج بحقيّة المدّعي مثلا في حقوق الله تعالى
من أنّه لا يجوز له إجراء الحكم بمجرّد قطعه ما لم يقم شاهدان ، مع أنّه بحسب
معاملات نفسه لا إشكال في كونه مكلّفا بمقتضى قطعه ، فيعلم أنّه لا منافاة بين
ثبوت الواقع ولزوم ترتيب أثره وبين عدم لزوم القضاء وفصل الخصومة.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّه لا دليل على التعبّد بقول الثقة في نقل الإجماع على الوجه الثالث ؛
لعدم الدليل على لزوم الأخذ والعمل بحدسه ، نعم يكون حجة بالنسبة
إلى من كان مقلّدا
للناقل ؛ فإنّ دليل التقليد قائم في حقّه بحجيّة حدسيّات الناقل له ولزوم اتّباعها
عليه.
ثمّ على تقدير
تسليم الإطلاق في مفهوم الآية بالنسبة إلى جميع أقسام خبر العادل من الحسيّة
والحدسيّة نقول : لا إشكال في أنّ الحدس المبتني على مقدّمة اجتهاديّة بعيدة عن
الحسّ ليس في حقّ غير صاحبه من مجتهد آخر حجّة ، كيف ولو كان كذلك لكان اجتهاد كلّ
مجتهد في حقّ غيره حجّة ومن قبيل خبر العادل ونقل الثقة لحكم الله ، والمقطوع
خلافه، فعلى فرض الإطلاق في الآية يكون مخصّصا بغير الإخبار الحدسي الاجتهادي
البعيد عن الحسّ.
فإن قلت : القدر
المخرج من هذا الإطلاق هو ما علم استناده إلى اجتهاد المخبر كما هو الحال في فتاوى
المجتهدين ، فإنّهم وإن كانوا يخبرون بطريق القطع يكون مؤدّى نظرهم حكم الله في
حقّهم وحقّ جميع المكلّفين ، إلّا أنّ إخبارهم معلوم الاستناد إلى اجتهادهم ،
وأمّا المشكوك حاله ، المحتمل كونه عن اجتهاد من المخبر وكونه عن حسّه فهو مشمول لهذا
الإطلاق ، ولم يثبت له مخرج.
قلت : المخرج عن
الإطلاق غير مقيّد بالعلم ، بل نفس الخبر الذي استناده بحسب الواقع إلى الاجتهاد
البعيد خارج ، وليس للعلم والجهل مدخل في عنوان المخصّص ، وإذن فالتمسّك بهذا
الإطلاق في مورد يحتمل كونه من أفراد المخصّص يكون من باب التمسّك في الشبهة
المصداقيّة ، وهو غير جائز على ما تقدّم في بابه.
بقي هنا أمر آخر
ربّما يتمسّك به لحجيّة الإجماع المنقول وهو أنّ بعد حجيّة قول الناقل : أجمعت
الطائفة ، أو أجمعت العصابة بالنسبة إلى مقدار محسوساته فالذي يمنعنا عن التمسّك
بقوله أحد أمرين ، الأوّل : أن يكون قد ادّعى الإجماع المنعقد على الأصل في الفرع
، والثاني : أن يكون فتاوى جماعة حصّلها موجبة لقطعه بموافقة الإمام ، لكونه في
حصول القطع خارجا عن المتعارف فيقطع بما ليس سببا للقطع بحسب المتعارف ، فيكون
إخبار هذه الجماعة الذي هو مدركه في نقل الإجماع من هذا القبيل.
ولنا لرفع كلّ من
هذين طريق.
أمّا الأوّل :
فطريق رفعه أنّ من يقول : ماء الغسالة طاهر بالإجماع مثلا فلا إشكال في ظهور هذا
القول في انعقاد الإجماع في نفس الفرع ، وقد فرغنا عن حجيّة الظواهر ، فيكون ظهور
كلامه حجّة يرفع به احتمال إرادة الإجماع على الأصل ، وبعد هذا الظهور يرتفع
احتمال إرادته الخلاف بدليل اعتبار الظهور ، ويرتفع احتمال كونه مريدا للظاهر ،
لكن كان كاذبا في دعواه وأنّ الواقع كونه محصّلا للإجماع على الأصل بأدلّة الغاء
احتمال كذب العادل.
وأمّا الثاني :
فلأنّ طريقة العقلاء حمل أفعال العاقل على ما هو غير خارج عن حدّ المتعارف ، فكما
يرفعون احتمال الخطاء والغفلة والنسيان في حقّ من يحتملون فيه ذلك ، كذلك يرفعون
احتمال الخروج عن المتعارف في حصول التصديق والاعتقاد أيضا مع احتماله، وجرى
بنائهم على عدم الاعتناء بالاحتمال في المقام الثاني ، كما جرى في المقام الأوّل.
وإن شئت قلت : إنّ حالة الخروج عن حدّ المتعارف في الاعتقاد في جانب الحصول مثله
في طرف عدم الحصول يكون من الأمراض لصاحبه ، فأصالة الصحّة صالحة لرفع احتماله.
قلت : هذا أيضا لا
يسمن ولا يغني من جوع ؛ فإنّا سلّمنا رفع احتمال كون الإجماع المدّعى في الفرع
منعقدا في الأصل دون الفرع لظاهر الكلام ، ولكنّ الأصل المدّعى في المقام الثاني
ممنوع ، وجه المنع أنّ الاعتقاد بحسب طرفيه من الحصول وعدم الحصول وإن كان محدودا
وهو أن يتعدّى عن الطريقة المتعارفة تعدّيا فاحشا ، إمّا في جانب الإفراط بأن لا يحصل
له الجزم من إخبار آلاف عدول محتاطين في الإخبار ، وإمّا في جانب التفريط ، كأن
يحصل له الاعتقاد بمجرّد إخبار رجل واحد مجهول غير معتنى بإخباره ، لكن ليس لوسطه
حدّ محدود ومقدار مضبوط ، بل الأشخاص مختلفون في ذلك غاية الاختلاف.
ولهذا ترى أنّه
يكون إخبار جماعة عند أحد بالغا حد التواتر ، لإفادته له القطع ، ولا يكون عند آخر
بالغا هذا الحد ، لعدم إفادته القطع له ، فليس للتواتر عدد معلوم ،
ولهذا أيضا ترى
اختلاف الاشخاص في الاستظهار من الأدلّة اللفظيّة ، فربّما يكون شخص في غاية
المتانة والفطانة يحصل له القطع بإخبار أربعة بواسطة معاشرته معهم واطلاعه على
أحوالهم بما يوجب كمال وثوقه بهم ، أو قابل مصنّفاتهم مع مصنّفات غيرهم ، فوجد في
كلماتهم اتقانا لم يجده في كلمات غيرهم ، ومن هنا يحصل له القطع من اتفاقهم
بموافقة الامام ، ولكن لا يحصل هذا القطع لغير المعاشر الغير المتتبع.
وبالجملة ، فأحوال
النقلة وتتبّعهم مختلف في ذلك اختلافا كثيرا ، وليس لمتعارفه حدّ محدود حتّى يعيّن
هذا الحدّ بالأصل فيثبت بذلك كونه من قبيل ما لو كان محصّلا لدى المنقول إليه
لأوجب حدسه وقطعه ، بل يحتمل أن يكون حصل للناقل القطع بما لا يوجبه للمنقول إليه
، مع عدم خروج أحدهما عن المتعارف.
بقي الكلام في نقل
التواتر في الآية أو الخبر ، فاعلم أوّلا أنّ الخبر تارة لا يكون بما هو خبر مفيدا
للقطع ، بل بملاحظة حال المخبر ووثاقته ، فربّما يفيد بهذه الملاحظة خبر شخص واحد
، واخرى يكون بما هو خبر مع قطع النظر عن الناقل مفيدا للقطع ، والتواتر من هذا
القبيل ، فإنّ الاخبار تصير متعدّدة إلى حدّ يحصل العلم للإنسان ، ثمّ ليس له حدّ
مضبوط وعدد معلوم متى تحقق الاخبار من هذا العدد تحقّق العلم نوعا ، ومتى لم
يتحقّق لم يتحقّق العلم نوعا ، بل هو مختلف بحسب الأشخاص ، فربّ عدد يكون تواترا
ومفيدا للقطع عند شخص ولا يكون عند آخر.
إذا عرفت ذلك
فالآثار التي يطلب ترتيبها بحجيّة نقل التواتر يكون بين ثلاثة أقسام ، الأوّل :
الأثر المترتّب على نفس الواقع المخبر به ، فإذا نقل تواتر الأخبار على طهارة
الغسالة فالمنقول اليه هل يرتّب أثر الطهارة أولا؟ ، والثاني الأثر المترتّب على
نفس التواتر لو كان أثر لهذا الموضوع ، مثل ما لو نذر أن يحفظ كلّ خبر متواتر ،
وهذا على قسمين ، إمّا أن يكون موضوع الأثر هو التواتر عنده ، وإمّا أن يكون هو
التواتر عندنا ، لا إشكال في ترتيب الأثر المترتّب على التواتر عنده ، فإنّه يشمله
أدلّة حجيّة خبر العادل ، فإنّ اخباره مستند إلى الحس والوجدان ؛ فإنّ إخباره
بتعدّد المخبرين والرواة حسّي ، وبحصول العلم له من إخبارهم وجداني ، فلو لم يقبل
نقله
بالنسبة إلى هذا
الحسّي والوجداني لما كان وجه لذلك إلّا حمل كلامه على تعمّد المكذب المنفي بأدلّة
الحجيّة.
وكذلك لا إشكال
ظاهرا في عدم ترتّب الأثر المترتّب على التواتر عندنا وإن كان ربّما يتوهّم كونه
محلا للإشكال باعتبار أنّه إذا كان الموضوع للأثر هو الثبوت عندنا فلا فرق بين
ثبوته بالعلم أو بطريق تعبّدي يقوم مقامه ، فهو كما إذا قال المولى : إذا ثبت عندك
قيام زيد فافعل كذا ، فإنّ طريق ثبوت القيام كما يكون بالعلم كذلك يكون بإخبار
العادل به ؛ إذ معنى الثبوت هو وجدان الطريق ، فكذا إذا قيل : متى ثبت عندك
التواتر فافعل كذا ، فإنّه أيضا يلزم ترتيب هذا الأثر عند إخبار العادل بالتواتر ،
فإنّه قد ثبت عندي التواتر بخبر العادل.
ولكنّه توهّم في
غير المحلّ ؛ فإنّك قد عرفت أنّ حدّ التواتر ليس بمضبوط ، بأن يكون إخبار الألف
مثلا تواترا بحسب نوع الأشخاص ، وإخبار ما دونه لا يكون تواترا بحسب نوعهم ، فإذن
فلا بدّ في إحرازه من تحقّق العدد المفيد للعلم عند كلّ شخص حتى ثبت التواتر عنده
، وحينئذ فحال إخبار الناقل عن التواتر غير خارج عن شقّين ، فإنّه إمّا يدّعي بأنّ
العدد المفيد للعلم عنده قد تحقّق ، فهذا ليس بموضوع للأثر ؛ إذ قد فرضنا أنّه
العدد المفيد للعلم لنا.
وإمّا يدّعي تحقّق
العدد المفيد للعلم عندنا ، فلا دليل على التعبد بقوله ، فإنّه لا طريق له إلى
وجدان شخص آخر غير نفسه ، وإنّما ذلك حدس منه نظير الحدس الحاصل من مدّعي الإجماع
حيث إنّه أيضا يدّعي أنّ هذا ممّا يوجب القطع النوعي ، كمدّعي الظهور النوعي ، لكن
قلنا : إنّه مع عدم لزوم كون المدّعى خارجا عن المتعارف حتى يدفع بالأصل يحصل
الاختلاف حسب اختلاف الأشخاص ، وبعد عدم شمول الآية إلّا للإخبار عن الحسّ لا ينفى
احتمال خطائه في هذا الحدس بأصل عقلائي ولا شرعي.
فإن قلت : نحن
نفرض أنّ الناقل قد أحرز من حال المنقول إليه أنّه يقطع بإخبار ألف نفر ، فلو
أخبره بهذا العدد فلا بدّ من ثبوت التواتر.
قلت : نعم ولكن
يلزم ترتيب آثار الواقعي على هذا أيضا ، ومدّعانا أنّه في مورد يتوقّف في ترتيب
آثار الواقع لا يمكن ترتيب آثار التواتر عند المنقول إليه ، فإذا فرضنا أنّ رؤية
شخص عدد المخبرين في الكثرة بالغا حدا يحصل منه القطع عادة ليس ملازما عاديا لثبوت
نفس الواقع ، وذلك لمدخليّة خصوصيّة الأشخاص في ذلك ، فكما لا يمكن الحكم بثبوت
الواقع وترتيب آثاره ، فكذلك لا يمكن الحكم بثبوت التواتر الذي هو العدد الملازم
لثبوت الواقع ، فكما يقال : إنّ حدسه في المقام الأوّل لا دليل على اتّباعه ،
فكذلك في المقام الثاني بلا فرق ، فدعوى اطّلاعه على وجداننا غير مسموعة منه.
وبالجملة ، فهذا
نظير ما إذا رتّب الأثر على نفس العلم ولو على وجه الطريقيّة ، فإنّه لا ريب في
أنّ هذا الأثر يتوقّف ترتّبه على حصول العلم لنا بالوجدان ، ولا يكفي إخبار عادل
بحصول العلم ، فإنّه إن ادّعى العلم له فلم يتحقّق الموضوع في حقّنا ، وإن ادّعاه
لنا فهو مقطوع الخلاف ، فإنّ كلّ أحد أعرف بوجدان نفسه من غيره ، فكيف يكون قوله
حجّة مع اطلاعنا على عدم حصوله في وجداننا.
وهكذا الكلام في
التواتر ، فإنّه عبارة عن إخبار عدد يوجب الجزم ، ولا ينفك عن الجزم الفعلي ؛ إذ
قد فرضنا أنّه لا يستقرّ على عدد معلوم حتى يصير له موضوع خارجي معلوم مثل قيام
زيد في المثال ، بل هو دائر مدار حصول العلم ، فيكون مثل نفس العلم ، فلا بدّ من
قيام هذا العدد عند كلّ أحد وإفادته للجزم في نفسه ووجدانه حتى يتحقّق عنده موضوع
التواتر.
وأمّا مجرّد إخبار
عادل بحصول هذا العدد فإن كان مدّعاه حصول ما يفيد الجزم له ، فهذا ليس محقّقا
لموضوع التواتر بالنسبة إلى غيره ، وإن كان مدّعاه حصول ما يفيد الجزم لغيره فهذا
دعوى لا يسمع من غير من يعلم الغيب.
وإذن فلا إشكال في
عدم حجيّة نقل التواتر بالنسبة إلى الآثار المترتّبة على التواتر عند المنقول إليه
وإن فرض كون العلم مأخوذا في الموضوع على وجه الطريقيّة دون الصفتية ، بأن كان
الموضوع هو العلم بالتواتر بمعنى الطريق إليه.
وأمّا بالنسبة إلى
الآثار المترتّبة على الواقع أعني ما هو المخبر به للتواتر فالكلام في نقل التواتر
هو الكلام في الإجماع المنقول حرفا بحرف ؛ فإنّ إخباره عن السبب أعني سبب العلم
ليس إلّا عن السبب عند نفس الناقل ، ويحتمل كونه سببا عند المنقول إليه أيضا ،
ويحتمل عدمه ، وحينئذ فيؤخذ بالعدد الذي هو المتيقّن من كلامه ، فيكون قوله
بالنسبة إلى هذا المقدار حجّة ، فإن أفاد هذا المقدار بنفسه العلم للمنقول إليه لو
كان محصّلا له يعامل معه معاملة تمام السبب ، وإلّا فيضم إليه من سائر الأمارات
والروايات ما يبلغ به تمام السبب.
«فصل»
«في حجيّة الشهرة»
ممّا قيل باعتباره
بالخصوص الشهرة ، واستدلّ له بوجهين :
الأول : أنّ
الدليل الدال على حجيّة خبر الثقة يستفاد منه حجيّة الشهرة بطريق أولى ، فإنّ
حجيّة الخبر يكون من باب إفادته الظنّ ، ولا شك أنّ الظن الحاصل من الشهرة أقوى من
الحاصل عن الخبر.
وتقرير ذلك على
نحوين :
الأوّل : أن يكون
على نحو فحوى الخطاب.
والثاني : أن يكون
على نحو القياس الاولوي القطعي وتنقيح المناط ، والفرق أنّه على الأوّل يكون من
باب دلالة اللفظ ، وعلى الثاني يكون من باب إسراء الحكم إلى ما وجد فيه مناطه
القطعي ، وهذا الوجه بكلا نحويه باطل.
أمّا الأوّل فواضح
؛ فإنّ المعتبر في الفحوى أن يكون المعنى منفهما عند العرف من اللفظ عند إطلاقه ،
بل يكون سوق الكلام لأجل إفادته وكان هو المقصود الأصلي كما في قوله تعالى : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ) فإنّه يفهم منه عرفا حرمة الضرب ، بل ربّما
لا يكون المدلول
المطابقي ملحوظا أصلا ، كما يقال : لو نظرت إلى ظلّ فلان نظر سوء لأفعلنّ بك كذا ،
فإنّ المقصود في الحقيقة ليس النهي عن النظر إلى ظلّه ، بل إيراد أنواع التوهين
عليه ، ومن المعلوم أنّه لا يتفوّه أحد مثل ذلك في الشهرة بالنسبة إلى أدلّة حجيّة
خبر الثقة ، وأنّى لأحد أن يدّعي أنّ العرف يفهم من قولنا : خبر الثقة حجّة ، أنّ الشهرة
أيضا حجّة.
وأمّا الثاني
فتماميّته مبتنية على كون المناط لحجيّة خبر الثقة إفادته الظن الفعلي أو النوعي ،
وليس كذلك ، بل مناط الحجيّة غلبة المطابقة مع الواقع بحيث كان موارد التخلّف في
غاية الندرة ، كما لو كان المتخلّف بين المائة واحدا.
فإن قلت : إنّ العقلاء
ـ كالشرع ـ يرون خبر الثقة حجة ، ويرون الشهرة أيضا حجّة ، والفرق بين هذين
الظنّين وسائر الظنون الغير الحجّة عندهم ليس لا محالة إلّا من جهة رؤية غلبة
المطابقة في هذين دون ذلك ، ولا يخفى أنّ هذا المناط عندهم في الشهرة أقوى من خبر
الثقة.
قلت : لو نزّلنا الأدلّة
الواردة في حجيّة خبر الثقة على تقرير طريقة العرف ، تمّ ذلك على فرض تسليم ما
ذكرت من حجيّة الشهرة عند العقلاء وأتمّية المناط عندهم فيها ، وأمّا لو كانت
الأدلّة المذكورة بصدد التأسيس فلا يخفى أنّ إحراز أغلبيّة المطابقة إنّما يكون
بنظر العرف ، ولا ملازمة بينها وبين الأغلبيّة بنظر الشرع ، والملاك إنّما هو
الثاني.
فإن قلت : إذا
احرز الأغلبيّة بنظر العرف فلا محالة يحرز بنظر الشارع ؛ لأنّ هذا معنى الظنّ
وإدراك الواقع بطريق الراجح ، وإلّا يلزم التناقض وأنّه رجّح في نظرهم ذلك ، وما
رجّح.
قلت : نعم ، ولكن
غايته الظن بذلك دون القطع ، فيصير تنقيحا ظنّيا للمناط لا قطعيّا ، ولا دليل على
حجيّة هذا الظن ، وذلك لأنّ الإنسان إذا جمع مائة فرد من ظنون الحاصلة في مائة
مورد فهو لا يقطع بأنّ المخالف ممّا بين المائة واحد ، بل يحتمل موهوما كون الجميع
مخالفا ، نعم يظنّ ذلك ، وهو ما ذكرنا من التنقيح الظنّي ، ثمّ من
الممكن أن يكون
المناط في نظر الشارع لم يكن مطلق الغلبة ، بل الغلبة بالحدّ الخاص ، ومن الممكن
عدم بلوغ الغلبة المظنونة لنا في الشهرة ذلك الحدّ ، وبذلك يخرج عن كونه تنقيحا
ظنّيا أيضا.
فتحصّل أنّ ملاك
الحجيّة في خبر الثقة هو الطريقيّة ، ولكنّ الطريقيّة هناك ليس بمعنى الظنّ الفعلي
أو النوعي ، بل المقصود بها هو أنّ الشارع رأى هذا الطريق أغلب مطابقة من غيره
فلهذا أوجب العمل به دون غيره ، ولم يحرز هذا المعنى في الشهرة ؛ إذ لا طريق لنا
إلى إثبات كون الأغلب من أفرادها مطابقا ، بل يحتمل موهوما أن تكون جميع أفرادها
أو غالبها مخالفا ، وعلى تقدير كون غالب أفرادها مطابقا فمن أين نعلم كون الغلبة
فيها على حدّ الغلبة في الخبر ، فلعلّ الغلبة في الخبر يكون في نظر الشارع بحدّ
ليس بين المائة خبر إلّا مخالف واحد ، وهذا الحدّ له خصوصيّة في نظر الشارع في
الحجيّة.
وبالجملة ، من أين
لنا سبيل إلى إحراز الغلبة في الشهرة على حذو الغلبة التي رآها الشارع في الخبر
بلا تفاوت أصلا؟ وبدون ذلك لا يمكن دعوى القطع بتنقيح المناط ، بل يمكن أن يقال :
إنّ مناط الحجيّة ليس هو الأقربيّة إلى الواقع وقلّة التخلّف ، وذلك لأنّ ظواهر
الألفاظ عند العقلاء حجّة في تشخيص مراد المتكلّم ، ولو كان الظنّ الفعلي على
خلافه من طريق غير معتبر فلا يعتنون بهذا الظن ، حتى لو فرض وجود هذا الظن في غالب
موارد الظواهر ، مع أنّه لا يمكن الحكم في تلك الموارد بأنّ المتخلّف في هذا
المظنونات المخالفة للظواهر أكثر من المتخلّف في تلك الموهومات الموافقة لها ، فلا
بدّ أن يقال : إنّ الأقربيّة المذكورة ليست تمام المناط ، بل لخصوصيّة المورد أيضا
دخل تعبّدا عقلانيا.
ألا ترى أنّ
الوثوق الحاصل من المخبر بعد الفراغ من إخباره متّبع عندهم ، وأمّا الوثوق الحاصل
بأصل صدور الخبر من الخبر لا من قول مخبر بالصدور غير متّبع ، مع أنّهما في ملاك
الأقربيّة بنظرهم بمرتبة واحدة.
والوجه الثاني :
دلالة مرفوعة زرارة ومقبولة عمر بن حنظلة الواردتين في
الخبرين
المتعارضين على ذلك.
ففي الاولى : «خذ
بما اشتهر بين أصحابك ودع الشاذ النادر» وجه الاستدلال أنّ المورد وإن كان خصوص
الشهرة في الرواية ، ولكنّ العبرة بعموم اللفظ دون خصوص المورد ، فيستفاد من تعليق
الحكم بالشهرة كون الشهرة في حدّ نفسها حجّة وإن تحقّقت في الفتوى.
ومنه يعلم وجه
الاستدلال بالثانية ؛ فإنّ فيها : «ينظر إلى ما كان من روايتهم عنّا في ذلك الذي
حكما به المجمع عليه بين أصحابك فيؤخذ به ويترك الشاذ الذي ليس بمشهور عند أصحابك
، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، وإنّما الامور ثلاثة ، أمر بيّن رشده فيتّبع ،
وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ حكمه إلى الله ورسوله ، قال رسول اللهصلىاللهعليهوآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك الخ».
فإنّ التعليل بأنّ
المجمع عليه لا ريب فيه بعد معلوميّة أنّ المراد به المشهور بقرينة قوله : «ويترك
الشاذ الذي ليس بمشهور» أوضح دلالة على المدّعى من الخبر السابق.
وهذا الوجه أيضا
باطل ؛ فإنّ فيه.
أوّلا : أنّ
خصوصيّة المورد في أمثال ذلك لها مدخليّة عرفا ، ألا ترى أنّه لو سئل عن أحد عن
أحبّ الرمّانين إليه فأجاب بما هو أكبر لا يلزم كون كلّ أكبر أحبّ إليه ولو كان
يقطينا؟ ، وكذا لو سئل عنه عن أحبّ المسجدين إليه فأجاب بما كان أكثر جمعيّة ، فلا
يلزم أحبيّة كلّ مكان كان أكثر جمعيّة ولو كان سوقا أو خانا.
فكذا مورد السؤال
في الروايتين الخبران المتعارضان ، فاجيب بوجوب الأخذ بما اشتهر ، فلا ربط له بما
اشتهر من الفتوى بينهم.
وثانيا : سلّمنا
أنّ لفظ الجواب عام والحكم قد علّق بمطلق الشهرة ، ولكن
__________________
نقول : إنّ الشهرة
الاصطلاحيّة التي هي عبارة عن الكثرة في مقابل القلّة اصطلاح جديد يطلق في مقابل
الإجماع ، وإلّا فمعنى هذه اللفظة لغة هو الوضوح والظهور ، يقال : فلان شهر سيفه
وسيف شاهر ، يعني برز ، فالمراد بالمشهور في الروايتين هو الواضح الذي يعرفه كلّ
أحد ، وهذا داخل في بيّن الرشد ، ومن هنا قال : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه»
واستشهد بحديث التثليث ، وهذا المعنى متى يتحقّق لا ريب في حجيّته ، ولكنّه أجنبيّ
عن الشهرة.
وثالثا : لو
سلّمنا كون الشهرة أعمّ من الفتوائيّة وكون المراد هي الاصطلاحيّة بملاحظة قوله :
هما معا مشهوران ، والجواب بالرجوع إلى أعدلهما ، فإنّه مع مقطوعيّة صدور كلّ
منهما وعدم الشكّ لا معنى للأخذ بالأعدل كما هو واضح ، ولكن غاية ما يثبت
بالروايتين مرجحيّة الشهرة ، ولا منافاة بين كون الشيء مرجّحا وعدم كونه مرجعا
بالاستقلال ، ولهذا على مبنى شيخنا المرتضى في الخبرين المتعارضين ـ حيث تعدّى عن
المرجّحات المنصوصة إلى كلّ ظنّ حصل من أيّ سبب ، فعند وجود ظنّ على طبق أحد
المتعارضين ذهب إلى الأخذ بالطرف المطابق له ـ يكون الظنّ المطلق مرجّحا ، مع عدم
قوله قدسسره بحجيّته ومرجعيّته.
وبالجملة ، فلا
ملازمة بين المعنيين ، والثابت من الروايتين هو المرجحيّة ، فيبقى مرجعيّة الشهرة
بلا دليل ، فيكون داخلة تحت الأصل أعني حرمة العمل بالظنّ.
فإن قلت : قوله في
المقبولة : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» بعد فرض كون المراد هو المشهور كما
ذكرنا ، ووضوح أنّ المراد بكونه «لا ريب فيه» أيضا لا يمكن كونه كذلك بقول مطلق ،
فلا بدّ من إرادة أنّه لا ريب فيه بالإضافة إلى مقابله الذي ليس بمشهور ، ووجه
إطلاق «لا ريب فيه» عليه بقول مطلق أنّه ممّا لا ريب فيه عند العقلاء ولا يصير
كذلك إلّا مع كون المشهور متّبعا وحجّة عقلائيّة ، فحينئذ يحصل من التعليل أمران :
تشخيص صغرى الحجّة العقلائيّة ، وتقرير الشارع هذه الطريقة ، ومن المعلوم أنّ
الشهرة مثلا إذا كانت كذلك عند العقلاء كان ذلك مساوقا لحجيّته بالاستقلال.
قلت : نمنع ذلك ؛
إذ لا يستفاد من الرواية إلّا أنّه ممّا لا ريب فيه في مقام ترجيح أحد المتعارضين
لا مطلقا ، ولا غرو في ثبوت ذلك عند العقلاء ، ولهذا تراهم عند تعارض الظهورين
يعتمدون على بعض المؤيّدات الموجودة في أحد الجانبين مع عدم اعتمادهم على هذا
المؤيّد بالاستقلال.
وقد يجاب بأنّ كون
المشهور ممّا لا ريب فيه عقلائيّا مختصّ بالحسيّات ، ولا يورث ظنّا فضلا عن
الحجيّة في الحدسيّات.
وفيه أنّ الشهرة
في الحدسيّات متّحد الملاك مع الإجماع على مذاق الحدس ، غاية الأمر هي أدون منه
مرتبة ، فإنّ اتفاق المشهور من الماهرين في الفتوى واولي الأنظار يورث الظن بأنّ
ذلك من جهة وصول الحكم الواقعي إليهم يدا بيد.
وحينئذ فالذي يمكن
أن يقال في المقام : إنّ الشهرة لها مراتب فإذا وصلت بالمرتبة التي حصل منها
الاطمئنان وسكون النفس فهي حجّة ، وذلك لأنّ الظنّ من أيّ سبب حصل لا يبعد دعوى
أنّه مع وصوله بهذا الحدّ حجّة عقلائيّة ، وبضميمة عدم الردع يصير حجّة شرعيّة
سواء في الموضوعات أم في الأحكام ، ولكن هذا ليس إثباتا للحجيّة في بعض أقسام
الشهرة ، بل الحجّة في الحقيقة هو الاطمئنان ، هذا.
«فصل»
«في حجيّة الخبر الواحد»
من الظنون الخارجة
عن الأصل خبر الواحد.
اعلم أنّ ما له
نفع كثير في الفقه من الاصول هو [بحث] حجيّة الظواهر وحجيّة الأخبار ؛ فإنّه لا
بدّ أوّلا من إحراز حجيّة الأخبار وضمّ حجيّة الظواهر إليه ، ثمّ ننظر أنّه وصل
إلى حدّ يكفينا هذا المقدار في الفقه ويوجب انحلال العلم الإجمالي ، أو أنّه
لا يصل إلى هذا
المقدار ، وأمّا حجيّة الظواهر فقط بدون حجيّة الأخبار فلا يكفينا قطعا ، فإنّه
حينئذ ينحصر الدليل في ظواهر الكتاب والخبر المتواتر أو المحفوف بالقرينة القطعيّة
، ومن المعلوم قلّة ذلك بحيث لا يفي بمعظم مسائل الفقه ، فيلزم انسداد باب العلم
بالنسبة إلى غالب المسائل ، فينتهى إلى القول بحجيّة مطلق الظنّ.
وأمّا بعد الفراغ
عن حجيّة الظواهر فلو فرغنا أيضا عن حجيّة سند الأخبار ولم يكن الخبر الذي فرغنا
عن حجيّته قليل الفرد ، نادر الوجود ـ كما يقول به صاحبا المدارك والمسالك ،
فإنّهما قائلان بحجيّة فرد مخصوص من الخبر وسمّياه بالصحيح الأعلائي وهو ما يكون
جميع رجال السند فيه عدلا إماميّا إلى أن ينتهى إلى المعصوم ، فإنّ من المعلوم
ندرة وجود ذلك في الأخبار ـ بل كان شائعا بين الأخبار مثل خبر الثقة ، فإنّ الوثوق
يجتمع مع فساد المذهب ومع عدم العدالة.
فحينئذ لو رأينا
في الفقه أنّه يوجد لنا خبر الثقة بالنسبة إلى غالب الأحكام بحيث ينحّل علمنا
الإجمالي ولا يوجب العمل بالأصل في ما عداه خروجا عن الدين فلا يلزم القول بحجيّة
الظنّ المطلق.
إذا عرفت هذا
فنقول : إذا وجدنا خبر واحد غير مقطوع الصدور وله ظاهر فالحكم بأنّ ما يستفاد منه
بحسب ظاهره هو حكم الله تعالى يتوقّف على مقدّمات فرغنا عن بعضها في علم الكلام ،
مثل إثبات الصانع والنبي والوصي ، فقول الصادق صلوات الله عليه مثلا لكونه مفترض
الطاعة يجب العمل به ، وبعد المقدّمات المفروغ عنها في الكلام يتوقّف على مقدّمات
أربع :
الاولى : أنّ هذا
الخبر صادر عن الإمام عليهالسلام.
والثانية : إحراز
معاني ألفاظ الخبر وما هو المفهوم منها عرفا.
والثالثة : إحراز
كون هذا المفهوم والظاهر لدى العرف مراد.
والرابعة : أنّ
هذا المراد مطابق للحكم الواقعي اللوح المحفوظي ، وبعبارة اخرى : كان الداعي إلى
إظهاره بيان لحكم الله الواقعي لا التقيّة والخوف ، فإنّه قد يكون
الظاهر من اللفظ
مستعملا فيه ومرادا جدّيا ، لكن الداعي إليه الخوف أو التقيّة دون بيان الواقع
اللوح المحفوظي.
فالمقدّمة الثانية
قد عرفت حالها وأنّ طريق إحراز الظواهر منحصر في القطع وإثباتها بقول اللغوي محلّ
إشكال والمقدّمة الثالثة أيضا قد مرّ البحث فيها في حجيّة الظواهر وأنّ إثباتها
بالظواهر لا إشكال فيه. والمقدّمة الرابعة أيضا يمكن إحرازها بالأصل العقلائي ،
فإنّهم متّفقون على حمل كلام المتكلّم صادرا لغرض بيان المطلوب الواقعي لا لتقيّة
أو خوف ، وليس هو أصالة تطابق الإرادتين الاستعماليّة والجديّة ، بل بعد إجرائها
وإحراز التطابق يكون هنا أصل آخر وهو أنّ الداعي إلى إظهار هذا المراد الجدّي هو
بيان الواقع دون التقيّة والخوف ونحوهما.
فيبقى المقدمة
الاولى هي : إثبات الصدور ولو تعبّدا ، وهي التي عقد هذا المبحث لها، ثمّ تعرّض
هنا شيخنا المرتضى لإثبات كون المسألة اصوليّة ببيان أنّ البحث راجع إلى أنّه هل
السنّة الواقعيّة أعني قول المعصوم وفعله وتقريره التي هي مفروغ عن دليليّته يثبت
بخبر الواحد أولا؟ فعلى المشهور من كون مسائل الاصول باحثة عن أحوال الأدلّة
بعنوان كونها أدلّة وبعد الفراغ عن ذلك يتّضح كون هذه المسألة اصوليّة ، ولا يحتاج
إلى جعل الموضوع خبر الواحد الذي هو الموضوع الذي يحتاج إلى البحث عن دليليّته
وتجشّم أنّ المراد بالأدلّة في الموضوع ذاتها ، ليرجع البحث عن الدليليّة إلى
البحث عن أحوال الموضوع.
واستشكل عليه قدسسره بأنّ مسائل العلم لا بدّ وأن يكون باحثة عما يعرض بموضوعه
، بعد الفراغ عن وجوده وثبوته ، وبعبارة اخرى عمّا يثبت له ثبوت شيء
__________________
لشيء الذي هو مفاد
كان الناقصة ، فالبحث عن أصل ثبوت الموضوع الذي هو مفاد كان التامّة يخرج عن
المسائل ويندرج في المبادي.
واجيب بأنّ الثبوت
الذي هو مفاد كان التامّة إنّما هو الثبوت الوجداني ، وأمّا الثبوت التعبّدي الذي
هو المبحوث عنه هنا فهو من مفاد كان الناقصة كما هو واضح.
واجيب عن هذا
الجواب بأنّ هذا وإن كان مفاد كان الناقصة ، لكنّه ليس من عوارض السنّة الواقعيّة
المحكيّة بخبر الواحد ، بل من عوارض نفس الحاكي الذي هو الخبر ، فإنّ معنى الحجيّة
أنّه يجب العمل بالخبر والحكم بمطابقة مؤدّاه مع الحكم الواقعي والسنّة الواقعيّة.
قلت : لو سلّمنا
عدم ورود هذا الإشكال وأنّ البحث عن الحجيّة يرجع إلى البحث عن أحوال الدليل نقول
: إن أمكن إتمام هذا المعنى أعني وجوب إرجاع كلّ مسألة إلى البحث عن أحوال الدليل
في تمام مسائل الفن فهو ، ولكن لا يتمّ ذلك فإنّ الموضوع في مسألة الاستصحاب وأصل
البراءة هو الشكّ في التكليف مع الحالة السابقة أو مع عدمها ، أو فعل المكلّف في
الحالين ، وليس ذلك واحدا من الأدلّة لا بعنوانها ولا بذاتها.
وأيضا فلا بدّ من
ملاحظة أنّ موضع الذي نتكلّم فيه ونرد السلب والإثبات عليه في المسألة ما ذا ، وهو
في مسألة حجيّة خبر الواحد ، خبر الواحد ، فلا داعي إلى إخراجه عن وضعه وإرجاعه
إلى البحث عن أنّ السنّة الواقعيّة هل يثبت بخبر الواحد أولا ، بل نسبة هذه
المسائل بالمسائل الفقهيّة ، فإنّها بحث عن الحكم الفرعي ووجوب العمل بالحالة
السابقة أو بمضمون الخبر ، أو إباحة الفعل والترك ، وهذا الحكم مستفاد من الأدلّة
التفصيليّة أيضا من الآية والخبر والعقل ، وموضوعها أيضا فعل المكلّف ، فينطبق
عليها تعريف الفقه الذي هو العلم بالأحكام الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة.
وحينئذ فيجب رفع
اليد عن هذا الميزان أعني كون ميزان الاصوليّة رجوع
البحث في المسألة
إلى البحث عن أحوال واحد من الأدلّة إمّا بعنوانها أو بذاتها والرجوع إلى ميزان
آخر وهو أنّ الاصول هو العلم بالقواعد الممهّدة لكشف الحال بالنسبة إلى الأحكام
الواقعيّة.
وبعبارة اخرى
نتيجة هذه القواعد مفيدة بحال تلك الأحكام إمّا علما بها ، وإمّا تنجيزا لها ،
وإمّا عذرا عنها على تقدير الثبوت ، يعني ثبوت الإلزام في الواقع.
أقول : لا بأس
بتفصيل الكلام في هذا المرام وإن تقدّم الكلام فيه في أوّل الشروع في الفن ، فنقول
: إنّ القوم جعلوا موضوع الاصول الأدلّة الأربعة فاستشكل عليهم بأنّه على هذا يلزم
خروج جلّ المسائل لو لا كلّها عن كونها مسائل الفن واندراجها في المبادي ، وذلك
لأنّ البعض الذي يكون مباديا للعلم من قبيل المبادي اللغوية واضح كونها من
المبادي.
وأمّا البعض الذي
يحسب من المسائل فلا إشكال أنّ البحث في شيء منها ليس عن عوارض الأدلّة بعد الفراغ
عن كونها أدلّة ، وإنّما يبحث فيها عن الدليليّة إلّا مباحث التعادل والتراجيح ،
فإنّها باحثة عن أحوال الدليل بعد إثبات دليليّته ، مع أنّه يمكن أن يقال : إنّ
البحث فيها أيضا عن الدليليّة ، ضرورة أنّه يبحث فيها عن أنّ الدليل عند تعارض
الدليلين ما هو ، هل هو شيء ثالث ، أو الأقوى منهما أو الأرجح أو أحدهما ، فالبحث
إنّما هو عن الدليليّة في هذا الحال ، وإذن فلا يبقى من المسائل ما كان مسألة
ويلزم اندراج الجميع في جملة المبادي.
فأجاب بعضهم عن
هذا الإشكال بأنّ المراد بالأدلّة التي جعلناها موضوعة هي ذواتها لا هي بوصف كونها
أدلّة ، ولا يشكل بأنّ ذواتها متباينة بالحقيقة ، فإنّه يقال : نعم لكنّها مندرجة
تحت جامع مثل عنوان الذوات التي يمكن البحث فيها عن الدليليّة ، وعلى هذا فيكون
البحث عن الدليليّة بحثا عن عوارض هذه الذوات.
وحاول شيخنا
المرتضى تصحيح الحال مع محفوظيّة كون الأدلّة بوصف أنّها أدلّة موضوعة للاصول بدون
الحاجة إلى تجشّم أنّ المراد ذاتها بما عرفت من التوجيه.
وفيه أيضا بعد
تسليمه أنّ هذا لا يتمّ في الاصول العمليّة ؛ فإنّ موضوع مسألة الاستصحاب ليس هو
السنة وإن قلنا باعتباره من باب الأخبار ، لوضوح أنّه على هذا يكون البحث عن دلالة
«لا تنقض» من أجل كونه مدركا للمسألة ، وإلّا فليس العنوان الذي هو المطرح في أوّل
هذه المسألة أنّه : هل يكون لقوله عليهالسلام : «لا تنقض» الخ دلالة أولا؟ بل ما يعنون في صدر الباب أنّ
الشكّ في الشيء بعد العلم بتحقّقه سابقا يوجب البناء على بقائه أولا.
ثمّ قد يجعل
المدرك للأوّل دلالة هذا الخبر ، وقد يجعل العقل ، فالموضوع هو الشكّ الذي له حالة
سابقة ، كيف ولو كان البحث عن دلالة «لا تنقض» موجبا لجعله بحثا عن أحوال السنّة
لزم دخول تمام مسائل الفقه ، فإنّها أيضا مشتملة على البحث عن دلالة الأدلّة ،
وكذلك الكلام في سائر الاصول العمليّة.
وحينئذ نقول : قد
عرّف الفقه بأنّه العلم بالأحكام الشرعيّة الفرعيّة عن أدلّتها التفصيليّة ، وجعل
موضوعه فعل المكلّف ، وأنت خبير بأنّه يمكن جعل مسألة الاستصحاب من هذا القبيل ،
فإنّ البحث فيه عن حكم شرعي مأخوذ عن الأدلّة التفصيليّة وهو وجوب البناء على
الحالة السابقة وعدمه ، وموضوعه فعل المكلّف وهو البناء على الحالة السابقة. بل
يمكن ذلك أيضا في حجيّة الأمارات وحجيّة الظواهر ، فإنّ البحث عن حجيّة خبر الواحد
مثلا ، بناء على أنّ الحجيّة ليست أمرا آخر وراء وجوب العمل على طبق خبر الواحد
بحث عن حكم شرعي ، وموضوعه عمل المكلّف ، وهكذا حجيّة الظواهر.
ونحن نذكر أوّلا
ما هو وجه التمييز والفرق بين علمي الاصول والفقه ثمّ نشير إلى ما هو الموضوع لهذا
العلم ، فنقول : لا إشكال أنّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما واقعيّا ثابتا في اللوح
يعبّر عنها بالأحكام الواقعيّة الأوّليّة ، وهي مطلوبة بنفسها وليس ما وراءها حكم
آخر يكون الغرض من جعلها ملاحظة ذاك الحكم ، وإنّما الغرض من جعلها نفسها ، مثل
حرمة الخمر ووجوب الصلاة ، فالشارع جعل حرمة
الخمر لأجل نفسه
والمفاسد الكامنة في الخمر ، وكذا جعل وجوب الصلاة لأجل نفسها والمصالح الكامنة في
الصلاة ، لا أن كان مطلوبه وملحوظه في جعلهما حكما آخر ورائهما.
ثمّ تبيّن حال
المكلّف بالنسبة إلى هذه الأحكام يحتاج إلى مقدّمات مثل النحو والصرف واللغة
وحجيّة خبر الواحد ، وغير ذلك ، فإنّ المكلّف في طريق استكشاف تلك الأحكام يحتاج
إلى العلوم الثلاثة لفهم معانى ألفاظ الكتاب والسنّة ، وكذلك يحتاج إلى مقدّمات
أخر ، فإنّه قد لا يظفر بشيء في طريق استكشاف الواقع ويبقى في الشكّ والتحيّر
فيحتاج إلى قواعد من الشرع أو العقل تبيّن حاله عند الشكّ والتحيّر.
وعلى هذا فكلّ
مسألة متى بلغنا بعد إمعان النظر فيها وبذل الوسع إلى نتيجة تكون هذه النتيجة حكما
شرعيّا وليس مجعولا إلّا بملاحظة نفسه لا بملاحظة شيء آخر فهي مسألة فقهيّة ، مثل
قاعدة كلّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده ، فإنّه قاعدة مطلوبة لنفسها وليس المطلوب
منها كشف الحال بالنسبة إلى حكم آخر ورائه.
وكلّ مسألة وصلنا
بعد طيّ طريق الاحتجاج والاستدلال فيها إلى نتيجة هي مجعولة بلحاظ حكم وراءه لا
لأجل نفسه ، فهي مسألة اصوليّة مثل مسألة حجيّة خبر الواحد ، فإنّا وإن قلنا بأنّ
الحجّة ليست إلّا وجوب العمل ، لكن لا إشكال أنّه ليس مجعولا على حذو وجوب الصلاة
وكون نفسه عملا مطلوبا للشارع ، بل هنا واقع محجوب مستور تحت الحجاب ، وهذا الخبر
إمّا مطابق له ، وإمّا مخالف ، فالشارع جعل هذا الوجوب ملاحظة لحال ذاك الواقع
المستور ، فإن طابقه يكون التارك له مستحقّا للعقاب ولا عذر له في ترك الواقع ،
وإن خالفه يكون العامل به معذورا على ترك الواقع.
وكذلك الاستصحاب ،
فإنّ البناء على الحالة السابقة ليس له عند الشارع مطلوبيّة نفسيّة ، وإنّما جعله
واجبا على المكلّف إمّا لسقوط عذره بالنسبة إلى الواقع
لو ترك العمل مع
الموافقة ، أو كونه معذورا لو عمل مع المخالفة ، وكذلك البراءة في الشك بعد الفحص
، فإنّها أيضا مجعولة لأجل الأحكام الواقعيّة وسقوطها عن المكلّف على تقدير
الثبوت.
ومن هنا يعلم عدم
تماميّة ما ذكره شيخنا المرتضى قدسسره في مسألة الاستصحاب في مقام تعيين المعيار لكون المسألة
اصوليّة أو فقهيّة ، من أنّه إن كانت ثمرة المسألة نافعة بحال المجتهد والمقلّد
على السواء فالمسألة فقهيّة ، وإن لم ينفع ثمرتها إلّا للمجتهد فهي اصوليّة ، مثلا
حجيّة خبر الواحد لا ينفع للمقلّد إلّا بواسطة التقليد عن المجتهد ، وليس له العمل
به بلا واسطة ، كما هو الحال في حرمة الخمر إذا تلقّاها من المجتهد ، فإنّك تعلم
أنّ هذا ليس معيارا ، فإنّ القاعدة المتقدّمة أعني قولنا : كلّ ما يضمن بصحيحه
يضمن بفاسده ، لا إشكال في كونها قاعدة فقهيّة ، ومع ذلك لا يمكن رجوع المقلّد
إليها ، بل هي مرجع للمجتهد لا غير ، لأنّه متمكّن من تشخيص صغراها لا غير.
ثمّ نقول في مقام
تشخيص الموضوع : إنّ بعض مقدّمات استكشاف الواقع قد دوّنوه في علوم آخر مثل مسائل
النحو والصرف واللغة ، فإنّهم ـ شكر الله مساعيهم ـ وإن دوّنوها لأجل غرض آخر ،
لكن يكفي لمهمّنا ، فبقي أشياء أخر نحتاج إليها في تحصيل هذا الغرض ، فهي دوّنت في
هذا العلم وسميّت بالاصول ، وهذه المسائل لها موضوعات شتّى ، وحينئذ لا داعي لنا
إلى جعل الموضوع شيئا واحدا ، بل نجعل هذه المتشتتات موضوعا للاصول ، وبينها جامع
لا محالة على ما تقرّر في المعقول من عدم إمكان انتهاء غرض واحد ونتيجة واحدة إلى
أشياء متعدّدة ، ولسنا بصدد تعيين الإسم لهذا الجامع.
ومن هنا علمت أنّ
تمايز العلوم ليس بتمايز الموضوعات ، كما أنّ وحدتها لا تكون بوحدتها ، ألا ترى
أنّ علمي النحو والصرف علمان ومع ذلك يكون لهما موضوع واحد وهو الكلمة والكلام.
فإن قلت : قد
جعلوا موضوع الأوّل هما من حيث الإعراب والبناء ، وموضوع الآخر هما من حيث الصحّة
والاعتلال تحفّظا لتلك القاعدة.
قلت : لا إشكال في
أنّ الإعراب والبناء من مسائل النحو ، وكذا الصحّة والاعتلال من مسائل الصرف ،
فكيف يجعل ما هو من المسائل داخلا في الموضوع؟ فالتمايز ليس إلّا بتمايز الغرضين ،
فالمسائل المدوّنة لأجل غرض واحد يكون علما واحدا وإن كان موضوعها متعدّدا ،
والمسائل المتعلّقة بموضوع واحد يعدّ علمين إذا كان تدوينها لغرضين ، فعلم أنّ في
مسألتنا لا حاجة إلى جعل الموضوع ذات الأدلّة ليصير البحث عن الدليليّة بحثا عن
أحوال الدليل ، ولا إلى جعل الموضوع هو السنّة الواقعيّة ، بل الموضوع خبر الواحد.
إذا عرفت ما ذكرنا
فاعلم أنّه قد اختلف في حجيّة خبر الواحد ، فالمنقول عن السيّد المرتضى والقاضي
وابن زهرة والطبرسي وابن إدريس عدمها ، والمشهور على الحجيّة.
واستدلّ للمانعين
بالأدلّة الثلاثة ، أمّا الكتاب فالآيات الناهية عن العمل بغير العلم والظن ،
والتعليل الواقع في آية النبأ ، حيث يستفاد منه النهي عن كلّ ما يوجب خوف الوقوع
في خلاف الواقع وفي الندم ، وهو موجود في كلّ ما ليس بعلم.
وأمّا السنّة
فأخبار كثيرة بالغة حد التواتر الإجمالي الناهية عن العمل بما لا يوافق الكتاب ،
وما خالفه ، وما ليس له شاهد أو شاهدان في الكتاب أو السنّة المعلومة ، فيعلم منها
المنع عن العمل بالخبر المجرّد عن القرينة.
وأمّا الإجماع فقد
ادّعاه سيّدنا المرتضى حتى أنّه جعل بطلان العمل بخبر الواحد معلوما من مذهب
الشيعة كمعلوميّة بطلان القياس.
والجواب أمّا عن
الآيات الناهية عن العمل بالظن وما عدى العلم فهو أنّ هذه الآيات ليست إلّا عمومات
، والأدلّة التي نقيمها على الحجيّة مخصّصة لها ، بل نقول : إنّ تلك الأدلّة حاكمة
على هذه الآيات ، فإنّ الخبر بعد ما صار حجّة لا يكون العمل
به عملا بغير
العلم ؛ إذ معنى الحجيّة جعله بمنزلة العلم ، فالعمل به عمل بالعلم تنزيلا وإن كان
عملا بغيره حقيقة ولغة ، فتكون أدلّة الحجيّة حاكمة على تلك الآيات وهو أقوى من
المخصّص.
وأمّا عن التعليل
فيظهر الجواب عنه عند البحث عن دلالة آية النبإ ، ومحصّله أنّ مدلول التعليل ليس
إلّا المنع عن العمل السفهائي الناشي عن جهالة ، فإنّ صاحب هذا العمل يقع في الندم
عند كشف الخلاف ، وأمّا إذا كان العمل عقلائيّا فليس متعقّبا بالندم وإن انكشف
خلافه ، ونحن إذا جعلنا خبر الواحد حجّة بالسيرة أو بناء العقلاء أو التعبّد
الشرعي يصير العمل به من الأفعال العقلائيّة ، فلا يتعقّبه الندم وإن ظهر الخلاف ،
فعلم أنّ أدلّة حجيّة الخبر واردة على التعليل المذكور ورافعة لموضوعه حقيقة ، وهو
اقوى من المخصّص والحاكم.
وأمّا عن الأخبار
المذكورة فهي ليست متواترة لا لفظا ولا معنى بأن يكون لفظ واحد منقولا بالتواتر ،
أو مضمون واحد منقولا بألفاظ مختلفة ، كشجاعة الأمير عليهالسلام ، وهذه ليست لا متواترا بحسب اللفظ ولا بحسب المضمون ، نعم
هي متواترة إجمالا بمعنى أنّها بالغة عددا يحصل القطع بعدم كذب جميعها ، مثلا إذا
نقلت إلينا مائة أخبار يحصل لنا القطع بعدم كذب تمام المائة ونقطع بوجود الخبر
الصادر في ما بينها ، وحينئذ لو لم يكن بين تلك المائة قدر جامع لم ينتج في مقام
العمل ، وأمّا لو كان يجب العمل بالأخصّ مضمونا من تلك الأخبار ، فإنّ الصادر إن
كان هو فهو ، وإن كان الأعم فالأعمّ موجود في الاخصّ ، فالعمل بالأخصّ متعيّن على
أيّ حال.
فنقول : هذه
الأخبار بين ثلاث طوائف :
الاولى : ما يكون
واردا لبيان الحال عند التعارض وأنّ ما لا يوافق الكتاب يجب طرحه.
والثانية : ما
اشتمل على طرح ما لا يوافق الكتاب على الإطلاق من دون تقييد بصورة التعارض ، فيشمل
بإطلاقه الخبر الغير الموافق الذي لا معارض له.
والثالثة : ما
يشتمل على الأمر بطرح ما خالف الكتاب.
أمّا الاولى :
فالجواب عنها واضح ، فإنّ موردها صورة التعارض ، فلا عموم ولا إطلاق لها بالنسبة
إلى غيرها ، فكأنّه قيل : الخبران المتعارضان يجب الأخذ بما يوافق الكتاب منهما ،
وبعبارة اخرى : لا يلزم من المرجحيّة لدى التعارض سقوط ما لا يوافق عن المرجعيّة
مع عدمه ، واختصاص المرجعيّة أيضا بما يوافق ، فربّما يكون الشيء مرجّحا ولا دخل
له في المرجعيّة.
وأمّا الطائفتان
الاخريان فالقطع حاصل بوجود الصادر في ما بينها ، لكثرة مجموع الطائفتين ، فلاحظ
الوسائل في كتاب القضاء ، وأخصّهما مضمونا هو الطائفة الثانية اعني الآمرة بطرح ما
خالف الكتاب ، فإنّ عدم الموافقة كما يصدق مع وجود خلاف الحكم في الكتاب ، كذلك
يصدق مع عدم وجوده ولا وجود خلافه رأسا في الكتاب بحسب ظاهره ، دون باطنه الذي
علمه لدى الإمام عليهالسلام ، فيكون هذا المعنى منطبقا على المخالفة أيضا.
فنقول : غاية ما
يثبت بتلك الأخبار طرح خبر الواحد الموجود خلاف مضمونه في القرآن ، وأين هذا من
خبر الواحد الوارد في مسألة الشكّ بين الثلاث والأربع في الصلاة التي لا عين ولا
أثر لها في القرآن ونحوها من المسائل الغير الموجودة فيه؟ وهذا المقدار يكفي في
المطلوب ، فإنّ مطلوبنا إثبات الحجيّة بالإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلّي.
وأمّا المخالفة
على وجه العموم والخصوص دون التباين الكلّي فربّما يتوهّم شمول هذه الأخبار لها
محتجّا بأنّ المخالفة على وجه التباين الكلّي لا يصدر من الكذّابين ، ضرورة أنّه
لو جاء أحد وقال : إنّ الصادق قال : يا أيّها الذين آمنوا لا يجب عليكم الوفاء
بالعقود ، لا يسمع منه أحد ، فلا يصدر منهم إلّا المخالفة على وجه العموم والخصوص
، فلا بدّ من عموم تلك الأخبار لتلك المخالفة ، لئلا يلزم الحمل على الفرد النادر
أو المعدوم.
وفيه أنّا نقطع
بصدور المخالفة على هذا الوجه منهم عليهمالسلام كثيرا كما في البيع الغرري، ومنع الزوجة عن العقار ،
واختصاص الولد الأكبر بالحبوة ، وغير ذلك ممّا ورد التخصيص في عموم الكتاب بالسنّة
والأخبار المرويّة عن الأئمة عليهمالسلام.
فعلى ما ذكر من
شمول الأخبار المذكورة للمخالفة على هذا النحو يلزم كون ذلك تخصيصا فيها ، وكلّ
أحد يعلم أنّها آبية عن التخصيص ، فإنّ المعصوم عليهالسلام في مقام التحاشي عن التحديث والقول بما لا يوافق الكتاب
والأمر باتّقاء الله من نسبة ذلك إليهم وكونه زخرفا وباطلا.
وكيف يظنّ أحد
إمكان تعقيب هذه المضامين بالاستثناء ولو بالنسبة إلى مورد واحد أو موردين ، فكيف
بهذه الأخبار الكثيرة في الموارد الكثيرة ، فيتعيّن حمل هذه الأخبار على المخالفة
بنحو التباين الكلّي ، مضافا إلى أنّ الطائفة الآمرة بطرح ما لا يوافق أيضا يمكن
إرجاعها بحسب المضمون إلى الطائفة الاخرى ، وأنّ المفهوم عرفا من عدم الموافقة هو
المخالفة وإن كان بحسب اللغة أعمّ.
ألا ترى أنّه إذا
قيل : فلان لا يوافق ميلى في أفعاله ، يشمل بحسب اللغة ما إذا لم يكن لك ميل أصلا
، أو كان على الخلاف ، ولكنّ العرف يفهمون منه الثاني ، وحينئذ فتصير متواترة
مضمونا ومعنى ، ويكون مؤدّى الكلّ لزوم طرح الخبر المخالف للقرآن على وجه التباين
الكلّي.
وأمّا ما ذكر في
الاحتجاج على شمولها للمخالفة من حيث العموم والخصوص بأنّه يلزم على تقدير عدمه
حملها على الفرد النادر أو المعدوم ، فالجواب : أنّه لا بعد في صدور المخالفة بنحو
التباين الكلّي عن الكذابة إذا كان جعلهم إيّاها بنحو الدّس في كتب أصحاب الأئمّة عليهمالسلام ، نعم لا يتصوّر صدورها منهم إذا أسندوا الرواية إلى
أنفسهم ، ولكن بنحو الدسّ ممكن ، والداعي لهم إلى ذلك تخفيف الأئمّة في أنظار عوام
الشيعة ، وإظهار أنّهم عليهمالسلام ما كانوا بصيرين بآيات القرآن ـ العياذ
بالله ـ حتّى صدر
منهم مخالفتها بهذا الوجه.
وأمّا عن إجماع
سيّدنا المرتضى فهو أنّ هذه الدعوى ليست ممّا انفرد به السيّد قدسسره ، بل كلّ أحد يعترف بها بأدنى تأمّل في حال أصحاب الأئمّة
، فإنّهم حيث كانوا مبتلين بمعاشرة العامّة ، فلهذا صاروا هم السبب لأن يشتهر
وينتشر بين المخالفين أنّهم غير عاملين بخبر الواحد ، ولا يجوز ذلك في مذهبهم
كالقياس حتّى يصير ذلك مغروسا في أذهان مخالفيهم ، حتى إذا جاء أحد منهم بخبر إلى
الشيعة عن أئمّتهم ، كان عذرهم في عدم قبوله كونه خبر واحد ، فهذا الإجماع ـ أعني
عدم جواز العمل بخبر الواحد من دون تقييده بغير الإمامي أو بغير العدل أو الثقة ـ صدر
منهم لمصلحة.
وبهذا يجمع بين
إجماع سيّدنا المرتضى ، بل دعواه لضرورة المذهب على المنع وبين إجماع شيخنا
المرتضى ، بل دعواه ضرورة المذهب على الجواز ، فإنّهم كانوا مجمعين على منع العمل
بخبر الواحد بقول مطلق في الظاهر ، وكانوا مجمعين على جواز العمل بخبر الواحد
الإمامي في الباطن.
وأمّا حجج
المجوّزين فالأدلّة الأربعة ، أمّا الكتاب فآيات ، ومن جملة الآيات التي استدلّ
بها على الجواز آية النبأ وهو قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا).
تقريب الاستدلال
بهذه الآية يكون من ثلاثة وجوه :
الأوّل : بمفهوم
الشرط ، فإنّ مفهومه أنّه : إن لم يجئكم فاسق النبإ فلا يجب التبيّن ، يعني إن
جاءكم عادل به فلا يجب التبيّن ، وهذا الوجه على ما قرّره القدماء محتاج إلى ضمّ
مقدّمة اخرى وهي أنّه بعد نفي وجوب التبيّن في خبر العادل بمقتضى المفهوم إمّا
يردّ بدون التبين ، وإمّا يقبل كذلك ، وحيث إنّ الأوّل باطل ؛ إذ يلزم أن يكون
العادل أسوأ حالا من الفاسق ، فيتعيّن الثاني وهو المطلوب ، لكن قد كفانا مئونة
هذه المقدّمة شيخنا المرتضى جزاه الله خيرا ببيان : أن ليس المراد في الآية الوجوب
النفسي للتبيّن ،
بل المراد الوجوب الشرطي ؛ إذ من المعلوم أنّه لا يجب علينا تفتيش الحال عند كلّ
خبر يخبره فاسق في العالم ، بل المقصود أنّه يجب التبيّن عند خبر الفاسق للعمل ،
فلا يجوز العمل بدون التبيّن.
فيصير المفهوم على
هذا أنّه يصحّ العمل في خبر العادل بدون التبيّن ، وهو المطلوب ، فإنّ مفاد
المنطوق على هذا يصير هكذا : إن جاءكم فاسق بنبإ فيشترط في صحّة العمل بمضمون هذا
النبأ الفحص والوصول إلى صدق هذا المضمون ، فيصير المفهوم هكذا : إن جاءكم غير
الفاسق بنبإ فلا يشترط في صحّة العمل التبيّن وتحصيل العلم ، ومعنى نفي الاشتراط
هو الإطلاق وهو المطلوب.
لا يقال : يلزم
اللغوية في الشرطيّة ؛ إذ المحصّل أنّ العمل بخبر الفاسق مشروط بالعلم، والحال
أنّه مع العلم يكون العمل به لا بخبر الفاسق.
فإنّا نقول :
المقصود أنّ العمل بمضمون هذا النبأ مشروط بالعلم ، وهذا لا يلزم منه لغويّة كما
هو واضح.
هذا مضافا إلى ما
ذكره قدسسره أيضا من أنّه : لو كان المراد الوجوب النفسي لما تمّ
الاستدلال بالآية أصلا ، فإنّه على هذا يكون مفاد المنطوق مطلوبيّة التبيّن عند
خبر الفاسق لإظهار فسقه وتفضيحه ، والمفهوم أنّ خبر العادل لا يجب التبيّن عنده
لأجل احترامه.
وأنت خبير بأنّ
هذا ساكت عن مقام العمل رأسا ، فيكون اجنبيّا عن المقام بالمرّة ولا يلزم أسوئيّة
حال العادل أيضا ، بل يلزم أحسنيّته كما هو واضح ، وأمّا بحسب مقام العمل فيمكن توقّفه
على التبيّن في كليهما وعدم جوازه قبله فيهما ، وبالجملة ، بعد وضوح أنّ المراد هو
الوجوب الشرطي فالأمر سهل.
والوجه الثاني :
هو التمسّك بمفهوم الوصف بأن يكون النظر إلى مجرّد تعليق الحكم على وصف الفسق ،
فكما أنّ قولنا : أهن الفاسق يدّل بحسب المفهوم على عدم وجوب الإهانة في غير
الموصوف ، فكذا في المقام حيث وجب التبيّن في خبر الفاسق
يدّل بالمفهوم على
عدم وجوبه في خبر غير الموصوف.
والوجه الثالث :
هو التمسّك بمناسبة وصف الفسق لوجوب التبيّن ، وهذا أقوى من مفهوم الوصف ؛ فإنّ
المفهوم دائر مدار استفادة حصر العليّة من تعليق الحكم على الوصف وإن لم يعلم
مناسبة بينهما ، بل الملحوظ مجرّد الوصف ، وأمّا هنا فيبتني استفادة العليّة على
أمرين ، الأوّل : درك المناسبة بينه وبين الحكم مثل : أكرم العالم وأهن الفاسق ،
وتبيّن في خبر الفاسق ، والثاني : كون الوصف عرضيّا وطارئا على الذات ، فإنّه
يستفاد من ذلك عليّة الوصف ولو لم يستفد حصرها الذي هو مبنى أخذ المفهوم ؛ إذ لو
كان للذات اقتضاء لكان التعليل بالوصف لغوا ، بل لزم جعل الحكم معلّلا بالذات ،
لكونه أقدم رتبة من الوصف ، وإن فرض اقتضاء للوصف أيضا ، مثلا لو قيل : أكرم الرجل
العالم ، فالعالميّة وإن كان لها اقتضاء وجوب الإكرام ، لكن لو كان للرجوليّة أيضا
اقتضائه لكان اللازم جعل الوجوب معلّلا بالرجوليّة ، لأنّه موضوع والعلم محموله ،
ورتبة الموضوع مقدّم على محموله.
والحاصل : أنّ
مبنى الوجه الثاني على مجرّد تعليق الحكم على الوصف وأنّه يفيد العليّة مع الحصر
ولو كان وصفا غير مناسب كما في : أكرم الجهال ، ومبنى الوجه الثالث على حصر
استفادة أصل العليّة بدون الحصر على التعليق مع وجود المناسبة بين الحكم والوصف
المعلّق عليه مثل : أكرم العالم.
والحاصل : إنّه
يقال : يستفاد من الآية أنّ ذات الحجّة مع قطع النظر عن الطواري ليس فيه اقتضاء
التبيّن ، بل بملاحظة الطواري ، فهذه الاستفادة مبنيّة على استفادة العليّة من
المناسبة العرفيّة ولو لم يستفد الحصر ؛ إذ لو كان للذات أيضا الاقتضاء لكان
الإناطة بالفسق لغوا ، كما نقول في قضيّة «إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجّسه شيء ،
إنّه يعلم أنّ ذات الماء ليس فيه مقتضى الاعتصام في قبال من يقول : إنّه كذلك ، لا
في قبال من يثبت الاعتصام للجاري أيضا.
فهنا أيضا الآية
ردّ لمن يسلب الحجيّة عن طبيعة الخبر بالسلب الكلّي ، لا لمن
يثبت اقتضاء وجوب
التبيّن لوصف آخر أيضا ، مثل كونه نبأ العادل الكثير السهو ، ومقصودنا أيضا إثبات
الإيجاب الجزئي في قبال السلب الكلّي.
وقد اورد على هذه
الوجوه إيرادات كثيرة ، ونبدأ أوّلا بذكر ما كان صعب الذّب منها، فقد استشكل على
التمسّك بمفهوم الشرط بأنّ القائلين بمفهوم الشرط إنّما يقولون به فيما إذا كان
هناك موضوع ومحمول وواسطة بحسب متفاهم العرف من القضيّة ، كما في قولنا : إن جاءك
زيد فأكرمه ، فإنّ العرف يفهم منها أنّ زيدا موضوع ، ووجوب إكرام زيد محمول ،
والمجيء واسطة لثبوت هذا المحمول لذاك الموضوع ، وكان انتفاء الواسطة غير موجب
لانتفاء الموضوع كما في المثال ، حيث لا يلزم من انتفاء المجيء انتفاء الزيد.
فحينئذ يقولون
بأنّ القضيّة تدلّ مفهوما على أنّ انتفاء الواسطة يوجب انتفاء الحكم من الموضوع ،
فعند عدم المجيء في المثال يحكم بعدم وجوب الإكرام لزيد ، ولكن لا يثبت بذلك عدم
وجوبه لعمرو ؛ إذ هو موضوع مغاير لموضوع القضيّة ، فهو مسكوت عن حكمه.
وأمّا لو كان
انتفاء الواسطة ملازما لانتفاء الموضوع فلا موضوع عند انتفاء الواسطة حتّى يحكم
بقضيّة المفهوم بانتفاء الحكم عنه.
نعم هنا مطلب عقلي
أجنبيّ عن المفهوم ثابت في كلّ قضيّة ولا اختصاص له باللفظيّة الشرطيّة وهو انتفاء
الحكم بانتفاء موضوعه ، ومن المعلوم أنّه ليس من باب الدلالة المفهوميّة ، وإن شئت
سمّه مفهوما ، لكنّه ليس من المفهوم النافع في سائر المقامات ، ومن هذا القبيل
القضايا التى تكون بصورة الشرطيّة يذكر أداة الشرط فيها ، ولكن سيقت لأجل تحقّق
الموضوع.
وقد مثّلوا لها
بأمثلة ، منها قولك : إذا رزقت ولدا فاختنه ، فوجوب الختان حكم موضوعه الولد
للمخاطب لا ولد غيره ، والشرط أعني المرزوقيّة بالولد محقّق له ، ولا وجود له
بدونه ، ومعه يكون عدم وجوب ختان الولد أمرا عقليّا ، ولا تعرّض في
القضيّة لحال غير
ولد المخاطب حتى يقال بثبوت المفهوم فيه ، فيقال عند عدم المرزوقيّة : لا يجب ختان
غير الولد من ولد الأشخاص الأخر.
وبالجملة ، فالآية
الشريفة من هذا القبيل ، وذلك لأنّ الموضوع فيها خبر الفاسق ، فإنّ الجزاء وجوب
التبيّن في خبر الفاسق ، ومن المعلوم أنّ هذا الموضوع معدوم عند عدم الشرط أعني :
عدم مجيء الفاسق بالنبإ ، وأمّا خبر العادل فهو أجنبيّ عن موضوع الحكم في الآية ،
فهو مثل العمرو في مثال : إن جاءك زيد فأكرمه ، فكما لا تعرّض فيه لحال العمرو لا
منطوقا ولا مفهوما ، فكذا هنا لا تعرّض لحال خبر العادل لا في منطوق الآية ولا في
مفهومها.
فإن قلت : مبنى ما
ذكرت على أنّ مبنى أخذ المفهوم وجود ثلاثة أشياء : موضوع ومحمول وشرط خارج عن
الطرفين ، حتّى يكون الموضوع بجميع خصوصيّاته محفوظا في جانب المفهوم.
وفيه أنّه غير
معقول ؛ لأنّه لا محالة يتأتّى من قبل الشرط تضيّق في عالم الموضوع ، لا نقول إنّه
بمنزلة التقييد ، لكن حاله حال المقدّمة الموصلة في أنّه موضوع في لحاظ الشرط ،
وليس له إطلاق حالي يشمل حال عدم الشرط ، وعلى هذا فإذا جعلنا الموضوع طبيعة النبإ
فلا محالة يصير متضيّقة بلحاظ وجود الشرط أعني مجيء الفاسق به ، فالطبيعة منفكّة
عن هذا اللحاظ ما وقع تحت حكم وجوب التبيّن ، فلا يلزم الإشكال الذي ذكرت من سراية
الحكم إلى النبإ المجيء به للعادل ، كيف والشرط مساوق لعلّة الحكم ، فلو سرى الحكم
إلى الفرد الغير المقترن بالشرط لزم انفكاك المعلول عن علّته ، وهذا ما ذكرنا من
عدم المعقوليّة.
قلت : لا يرد هذا
الإشكال أصلا ، وذلك بعد مقدّمة وهي أنّه من الممكن أن يكون وجود الشرط في فرد من
الطبيعة موجبا لإنشاء الحكم في فردها الآخر ، مثل قولك : إن جاءك زيد فأكرم عمرا ،
فحينئذ نقول : من الممكن أن يكون اقتران الطبيعة المهملة بالشرط موجبا للحكم في
جميع أفرادها حتى الخالي منها على
الشرط ، وليس هذا
إنكارا لما قرّرته من ورود التضيّق من قبل الشرط على الموضوع.
فإنّا نقول :
نسلّم هذا التضيّق في المقام ، لكن في قبال أنّ الطبيعة بنفسها مع قطع النظر عن
أمر خارج لا يصير محكوما بالحكم ، وليس مقتضاه تحديد الموضوع الذي يتعلّق به وجوب
التبيّن أيضا بالشرط ، فمتى اتّصفت المهملة فالمتّصف وغير المتّصف منها يصير تحت
الحكم ، بل لو كان ذلك ممكنا في الموضوع الشخصي مثل «الزيد» في : إن جاء زيد
فأكرمه لقلنا بذلك فيه أيضا ، لكن لا يتصوّر فيه بعد حالة المجيء حالة عدم المجيء
، وأمّا الطبيعة المهملة فانقسامها إلى القسمين بعد محفوظ ، فلا مانع من الإطلاق
فيه ، بل لا وجه للتقييد.
فعلم أنّه إن اريد
السلامة من هذا فلا بدّ من ملاحظة التقييد في موضوع الجزاء ، فيقال : طبيعة النبأ
إن جاء بها الفاسق ، فتلك الطبيعة المتّصفة بمجيء الفاسق بها يجب فيها التبيّن ،
فيجري إشكال شيخنا المرتضى قدسسره.
فإن قلت : إنّ لنا
في الآية موضوعا موجودا في حالتي وجود الشرط وعدمه وهو مطلق النبأ من دون اعتبار
إضافته إلى الفاسق أو العادل ، فكأنّ القضيّة تكون بهذه الصورة : النبأ إذا جاء به
الفاسق فتبيّن عنه ، ولا شكّ أنّ مفهومه يصير حينئذ : النبأ إذا جاء به العادل فلا
يجب التبيّن عنه ، فاتّحد الموضوع في المنطوق والمفهوم.
ونظير ذلك أيضا
ممكن في المثال ، فيقال : الولد إن رزقته فاختنه ، فالمفهوم يصير : الولد إذا لم
تكن أنت رزقته فلا يجب عليك اختتانه ، يعني لا يجب عليك اختتان ولد غيرك ، ولا
ملزم لنا بأن نجعل الموضوع للقضيّة في الآية نبأ الفاسق ، وفي المثال هو الولد لك
حتى يقال : إنّه على فرض عدم مجيء الفاسق بالنبإ وعدم المرزوقيّة بالولد فلا موضوع
في البين ، وعدم الحكم حينئذ ليس من المفهوم في شيء.
قلت : إن اريد
بالنبإ الذي يجعل موضوع القضيّة طبيعة النبأ الغير المقيّدة بالتشخيص الخارجي فلا
شكّ أنّ الطبيعة بعد حصول الشرط وهو مجيء الفاسق بها
قابلة للانقسام
إلى قسمين : ما جاء به العادل ، وما جاء به الفاسق ؛ ضرورة أنّ الطبيعة المجيء بها
الفاسق يتصوّر لها الفرد المجيء بها العادل ، نعم خصوص هذا الشخص المجيء به الفاسق
لا يتصوّر مجيء العادل به ، ولكن نفس الطبيعة المجرّدة تكون بعد مجيء الفاسق بها
على حالها قبل المجيء بلا تفاوت ، فلها فردان كما كانا له قبل حصوله.
وبالجملة ، فيصير
محصّل مدلول القضيّة حينئذ : إن جاء الفاسق بنبإ فطبيعة النبأ يصير واجب التبيّن
سواء جاء بها العادل أم الفاسق ، وهذا خلاف المقصود ، وأيضا لا يخفى ما في المعنى
حينئذ من البرودة ؛ إذ يلزم وجوب تبيّن تمام أخبار العالم بمجرّد مجيء فاسق بنبإ ،
وحينئذ فلا بدّ من أن نجعل الطبيعة باعتبار التقيّد بمجيء الفسق موضوعا للحكم بأن
نعتبر الموضوع في قولنا : النبأ إن جاءكم فاسق به فتبيّنوا عنه ، هو النبأ المجيء
به الفاسق ، فالطبيعة المقيّدة بقيد مجيء الفاسق يكون واجب التبيّن ، فإذا صار
القيد فعليّا وموجودا في الخارج يصير الحكم وهو وجوب التبيّن منجّزا لتنجّز شرطه ،
وحينئذ فيستقيم المعنى ، لكن لا يفيد المفهوم ؛ إذ عند عدم تحقّق الشرط لا تحقّق
للموضوع أعني الطبيعة المقيّدة ، فيعود الإشكال من أنّ الانتفاء عند انتفاء
الموضوع ليس من المفهوم ، ونبأ العادل مغاير لموضوع القضيّة.
وإن اريد بالنبإ
المجعول موضوعا الأفراد الخارجيّة ، يعني أنّ الموضوع كل شخص شخص من الأخبار
الموجودة في الخارج ، فلا ريب أنّ النبأ الشخصي الخارجي ليس قابلا للتقسيم بين ما
جاءه العادل وما جاءه الفاسق ، ضرورة أنّ ما جاءه الفاسق لا يتصوّر فيه مجيء
العادل وبالعكس ، ولكن يصحّ فيه الترديد فيقال : هذا الشخص من النبأ إمّا جاء به
العادل وإمّا جاء به الفاسق ، فحينئذ يصحّ تركيب القضيّة على وجه يفيد المفهوم ،
بأن يقال في كل واحد واحد من الأنباء الشخصيّة : إن كان الجائي به فاسقا فيجب فيه
التبيّن ، فيصير المفهوم أنّه إن لم يكن الجائي به فاسقا ولا محالة يكون حينئذ
عادلا فلا يجب التبيّن.
لكن هذا كما ترى
إنّما يناسب مع المضيّ كما مثّلنا وهو خلاف الموجود في الآية ، فإنّ الشرط فيها
يكون مسوقا للاستقبال ، فلا يناسب إلّا مع الطبيعة ، ضرورة أنّه لا يصحّ التعبير ب
(يجيء) في النبأ الشخصي الخارجي ، وإنّما الصحيح هو التعبير ب (جاء) على معنى
المضىّ ، نعم التعبير ب (يجيء) يناسب الطبيعة ، فيقال : طبيعة النبأ إمّا يجيء بها
العادل وإمّا يجيء بها الفاسق ، كما يناسبها التعبير بالمضيّ أيضا ، ولا يخفى أنّ
كلمة (جاءكم) في الآية يكون بمعنى الاستقبال.
والحاصل : الفرد
الموجود في الخارج فعلا ، أو الذي وجد وانعدم في الأوصاف التي تكون من نحو وجوده ،
مثل الرجوليّة والانوثيّة في الإنسان ، ولا محالة يكون قابليّته لأمرين منها على
نحو الترديد ، يكون التعبير الصحيح في مثل ذلك بالمضيّ فقط ، مثلا يقال : هذا
الشخص إمّا وجد رجلا وإمّا امرأة ، ولا يصح إمّا يوجد.
وكذا في الفارسيّة
يقال : يا مرد است يا زن است ، ولا يقال : يا مرد مى شود يا زن، بخلاف الأوصاف
العرضيّة التي يعتور اثنان منها على فرد واحد في حالين مثل العلم والجهل ،
فالتعبير بالاستقبال حينئذ صحيح ، فيقال : الزيد إن كان يصير عالما فكذا ، وفي
الفارسيّة أيضا يصحّ التعبير بأنّه «اگر عالم شود چنين» ومن هذا القبيل قضيّة «إذا
بلغ الماء قدر كر».
وأمّا الفرد الذي
لم يوجد بعد ويوجد في المستقبل ففرديّته موقوفة على لحاظ الفراغ عن وجوده ورؤيته
موجودا في الخارج كأنّه المحسوس والمشاهد بالعين ، ولو لم يلاحظ كذلك فكلّ ما زيد
القيد على القيد لا يصير جزئيّا ، بل كليّا مضيّقا ، فالتعبير بالاستقبال حينئذ
وإن كان صحيحا لكن حاله حال الكلّي ، كما يقال : النبأ الذي يوجد في ما بعد إمّا
يجيئه العادل وإمّا يجيئه الفاسق.
وأمّا لو لوحظ على
نحو الفراغ عن الوجود فحاله حال الموجود الفعلي أو الماضوي في أنّ التعبير
بالاستقبال فيه غلط ، فلا يصحّ أن يقال في هذا اللحاظ بالفارسيّة مثلا : مردى كه
فردا موجود مى شود يا مرد موجود مى شود يا زن ، بل
يقال : يا مرد است
يا زن ، وكذلك لا يقال : صيدى كه فردا زيد مى كند يا آهو صيد مى كند يا چيز ديگر ،
بل يقال : يا آهو است يا چيز ديگر ، نعم يصحّ هذا التعبير في اللحاظ الأوّل أعني
لحاظ عدم الفراغ الذي تكون الكليّة معه محفوظة ، فتدبّر فإنّه دقيق.
فتحصّل من جميع ما
ذكرنا أنّ هنا ثلاثة أشياء : الأوّل : النبأ الموجود الخارجي ، وهذا لو جعلناه
موضوعا وإن كان يمكن تركيب القضيّة على وجه أمكن أخذ المفهوم منها ، إلّا أنّه لا
يمكن موضوعيّته في الآية المفروض كون الشرط فيها المجيء في المستقبل.
والثاني : طبيعة
النبأ ، وعلى تقدير موضوعيّته يلزم وجوب التبيّن في خبر العادل أيضا عند حصول مجيء
الفاسق بهذه الطبيعة ، وهو مضرّ بالمدّعى من حجيّة خبر العادل لا نافع ، مضافا إلى
بشاعة المعنى على تقديره.
والثالث : طبيعة
النبأ المقيّدة بمجيء الفاسق ، وجعل هذا موضوعا متعيّن ؛ لسلامته عن الإشكال بحسب
المعنى واللفظ ، لكن على تقديره لا مفهوم للآية ؛ لعدم التحقّق لهذا الموضوع عند
عدم الشرط ، فتحصل بعدم الشرط سالبة منتفية الموضوع ، ولا ربط لها بانتفاء وجوب
التبيّن عن موضوع نبأ العادل ، فعلم عدم إمكان ذبّ الإشكال بجعل الموضوع مطلق
النبأ وإن تخيّله بعض الأساطين قدسسره.
فإن قلت : المفروض
هو بناء الاستدلال على القول بثبوت المفهوم للقضيّة الشرطيّة ، ففي ما إذا لم يكن
في البين موضوع موجود في كلتا الحالتين ليمكن انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند
انتفاء الشرط يجب الأخذ بالمفهوم مهما أمكن ، فإنّ مبنى المفهوم هو إفادة الأداة
للعليّة المنحصرة ، فإذا لم يكن الأخذ بظهورها في العليّة المنحصرة في الموضوع
المذكور في القضيّة وجب الأخذ بظهورها في العليّة في الجملة ، بأن يقال بالعليّة
للتالي بالنسبة إلى سنخ الحكم ، نظير ما يقال في مفهوم الوصف على القول به ، فإنّه
يدّل على انتفاء سنخ الحكم ، لا شخص الحكم المذكور في القضيّة المحمول على الموضوع
المذكور فيها.
مثلا قولنا : أكرم
الرجل العالم لو قيل بالمفهوم فيه فمعنى مفهومه انتفاء سنخ وجوب الإكرام عند
انتفاء العلم ولو كان في الرجل الجاهل ، وليس مفاد المفهوم انتفاء نفس هذا الحكم
المنشأ في هذه القضيّة ؛ فإنّ المذكور في هذه القضيّة هو وجوب الإكرام المعلّق على
الرجل العالم ، فليس المفهوم أنّه لو انتفى العلم ينتفي وجوب الإكرام المعلّق على
الرجل العالم؛ إذ هذا من باب حكم العقل بانتفاء الحكم عند انتفاء الموضوع ، وليس
بقضيّة المفهوم ، بل قضيّتها كون العلم علّة منحصرة لسنخ وجوب الإكرام للرجل أعمّ
من المعلّق منه على العالم أو الجاهل ، فيكون الحكم عند انتفاء العلم بانتفاء هذا الوجوب
عن العالم من باب حكم العقل ، وعن الجاهل من باب المفهوم ، فيكون المفهوم في
القضيّة الوصفيّة هو انتفاء الحكم عن غير الموضوع المذكور فيها ، كما أنّه في
القضيّة الشرطيّة انتفاؤه عن الموضوع المذكور فيها.
وحينئذ نقول في
الأمثلة التي ليس فيها موضوع محفوظ في كلتا الحالتين بأنّ كلمة «إن» و «إذا» لم
يسقطا عن إفادة العليّة المنحصرة بالمرّة ، بل هما يفيدان في هذه الموارد مفاد
الوصف والعليّة المستفادة منه ، فنحن وإن استشكلنا في إفادة الوصف بنفسه للمفهوم،
ولكن إذا وقع في سياق أداة الشرط في أمثال تلك الموارد قلنا بإفادة هذا المفهوم
للأداة.
فنقول في الآية :
إنّه لو كان الكلام بصورة القضيّة الوصفيّة بأن قيل : يجب التبيّن في نبأ الفاسق
وقلنا بثبوت المفهوم للوصف ، كان المستفاد عليّة وصف الفسق لثبوت التبيّن ، بمعنى
أنّه متى انتفى هذا الوصف انتفى وجوب التبيّن الكلّي لا الشخص المعلّق منه على نبأ
الفاسق ، ضرورة أنّه بديهيّ بحكم العقل بانتفاء الحكم لانتفاء موضوعه ، فكان مفاد
المفهوم انتفاء وجوب التبيّن عن نبأ العادل ؛ إذ لو ينتف لما كان الفسق علّة تامّة
منحصرة لوجوب التبيّن الكلّي وسنخه ، وقد فرض استفادة ذلك من القضيّة.
فنقول : إنّ عين
هذا المعنى يكون لكلمة «إن» في الآية ، فليست لمجرّد ربط
الوجود بالوجود
بدون مفهوم له أصلا ، بل نقول بالمفهوم له على طرز مفهوم الوصف ، وهذا الوجه
لإثبات مفهوم الشرط في الآية قد تعرّض له المحقّق الجليل المولى محمّد كاظم
الخراساني طاب ثراه في حاشيته على الرسائل وأشار إليه في كفايته أيضا ، ونقل
الاستاد دام ظلّه إصراره عليه في الدرس.
قلت : هذا مبنيّ
على إثبات ظهورين لأداة الشرط في معنيين ولو لم يكونا في عرض واحد وبوصفين ، بل
كان أحدهما في طول الآخر ومن باب أقرب المجازات عند عدم إرادته ، الأوّل : ظهورها
في العليّة المنحصرة كما هو مبنى الأخذ بالمفهوم ، والثاني ظهورها في ثبوت هذه
العليّة للتالي بالنسبة إلى الحكم المتعلّق بالموضوع الأجنبي عن التالي كما في :
أكرم زيدا إن جاءك ، حيث أفادت كلمة «إن» العليّة المنحصرة للمجيء بالنسبة إلى
وجوب الإكرام المتعلّق بالزيد الذي هو غير المجيء.
وحينئذ فإذا لم
يمكن الأخذ بظهور الأداة في المعنى الثاني أعني خصوصيّة ثبوت العليّة المنحصرة
للتالي لثبوت الحكم للموضوع المغاير للتالي ، كان ظهورها في المعنى الأوّل أعني
أصل العليّة المنحصرة محفوظا.
ولكنّك خبير بأنّا
إن قلنا بثبوت مفهوم الشرط فلا إشكال أنّ للأداة وضعا واحدا وظهورا واحدا في معنى
واحد وهو العليّة المنحصرة الخاصّة بخصوصيّة كونها في التالي المغاير للموضوع ،
وليس لها ظهور في مطلق العليّة المنحصرة بعد عدم إمكان إرادة الخصوصيّة.
فدعوى أنّ الوضع
وإن كان واحدا بإزاء العليّة الخاصّة ، إلّا أنّا نقول بمراتب الظهور وكون مطلق
العليّة أقرب المجازات إلى المعنى الحقيقي ، لوضوح أنّ أمر الأداة بعد عدم إمكان
الحمل على العليّة الخاصّة يدور بين الحمل على مجرّد ربط وجود هذا بوجود ذاك من
دون إشعار بالعليّة أصلا ، وبين الحمل على العليّة لسنخ الحكم المستلزمة لانتفائه
عن موضوع آخر ، ولا شكّ أنّ الأقرب إلى العليّة الخاصّة هو الثاني دون الأوّل ،
فنحن وإن سلّمنا عدم الظهور في مطلق العليّة في عرض الظهور
في العليّة
الخاصّة بأن يكون هنا وصفان ، ولكن نقول بثبوت الظهور الأوّل عند رفع اليد عن
الثاني وفي طوله ، وبعبارة اخرى : وإن سلّمنا عدم ثبوت الظهور في مطلق العليّة من
باب الحقيقة ، ولكن نقول به من باب أقرب المجازات عند تعذّر المعنى الحقيقي ، نظير
ظهور صيغة الأمر بالنسبة إلى الاستحباب عند تعذّر الوجوب.
مدفوعة بأنّه لا
يخفى على من راجع الأمثلة العرفيّة من قبيل قولنا : إذا رأيت زيدا فاقرأه منّي
السلام ونحوه أنّ دعوى انفهام العليّة بالنسبة إلى سنخ الحكم منها بعيدة ، بل إمّا
يكون هذا المعنى في الظهور والانفهام العرفي مساويا مع مجرّد تحقيق الموضوع بدون
نظر إلى العليّة ، وإمّا أنّ الثاني أظهر ، ولا يبعد القول بأنّ المتفاهم لدى
العرف من هذه الأمثلة هو سوق الشرط لمجرّد تحقيق الموضوع ، فهي متّحدة المفاد مع
القضيّة الحمليّة ، وليس الملحوظ فيها اشتراط شيء بشيء وإناطته به على وجه العليّة
المنحصرة ، هذا هو الكلام في مفهوم الشرط.
وأمّا مفهوم الوصف
فالجواب أنّه تقرّر في محلّه عدم ثبوت المفهوم للوصف ، وأمّا المناسبة العرفيّة
وقضيّة فهم العليّة من ذلك ، فلا يخفى أنّ الاستشكال على أصل فهم المناسبة بأنّه
يحتمل أن يكون النكتة لإتيان الوصف هو التنبيه على فسق وليد لا لأجل دخالته
وعليّته في حكم وجوب التبيّن ، خروج عن طريق السداد وبعيد عن الإنصاف ، لكمال
الظهور للآية في كونها مسوقة لبيان الحكم الكلّي ، لا أن يكون الغرض من التعليق
بيان نكتة شخصيّة ، هذا.
ولكن يرد على هذا
الاستدلال أنّه وإن كان مناسبة الوصف في الآية وهو الفسق للحكم المقترن به فيها
وهو وجوب التبيّن مسلّمة ، إلّا أنّه من القريب أن يكون وجه تعليق الحكم بوجوب
التبيّن على مجيء الفاسق بالنبإ هو أنّ الغالب عدم حصول العلم من إخبار الفاسق
بملاحظة فسقه وعدم تحرّزه عن الكذب ، بخلاف العادل ؛ فإنّ الغالب حصول العلم من
خبره بملاحظة قيام ملكة العدالة المانعة عن ارتكاب تعمّد الكذب به ، مع كون خبره
في المحسوسات ، والاشتباه فيها قليل ، مثل احتمال خروج
العادل عن عدالته
بنفس هذا الإخبار لتعمّده الكذب فيه ، فإنّ باب هذا الاحتمال منسدّ غالبا.
وبالجملة ، فمن
المسلّم غلبة العلم بالمخبر به في جانب العادل وغلبة الجهل به في جانب الفاسق.
وحينئذ فمن
المحتمل قريبا أن يكون وجه تعليق وجوب التبيّن على مجيء الفاسق بالنبإ هو ما يكون
الغالب في خبره من ثبوت الجهل معه بالمخبر به ، وحينئذ فيصير الكلام في قوّة إناطة
وجوب التبيّن على الجهل ، وإناطة عدمه على العلم ، وهذا أجنبيّ عمّا نحن بصدده من
جعل الضابط لوجوب التبيّن عنوان خبر الفاسق ، والضابط لعدمه عنوان خبر العادل ،
وبعبارة اخرى : يصير موضوع وجوب التبيّن الخبر الغير المفيد للعلم ، وموضوع عدمه
الخبر المفيد للعلم ، وهذا غير أن يكون موضوع الوجوب خبر الفاسق وموضوع عدمه خبر
العادل.
والحاصل أنّ
الظاهر عدم مدخليّة خصوص الفسق بما هو فسق وإن كان ظاهر العنوان نوعا هو
الموضوعيّة لا المعرّفيّة ، لكن في خصوص المقام بملاحظة هذا المحمول أعني وجوب
التبيّن تكون الموضوعيّة بعيدة ، بل الظاهر أنّ وجه التعليق هو كون الفاسق ليس له
ملكة رادعة عن الكذب ، فاحتمال تعمّد الكذب فيه متمشّ ، فيحب التبيّن في خبره لأجل
هذا الاحتمال ، وإلّا فلو كان المخبر شارب الخمر مثلا لكن نعلم بعدم تعمّده الكذب
فلا تعمّه الآية بظاهرها.
فعلم أنّ خصوصيّة
الفسق ملغاة ، وإنّما المعتبر هو احتمال تعمّد الكذب ، ولكن لمّا كان فرده الشائع
في الفاسق فلهذا خصّ بالذكر ، وأمّا العادل فدرجاته مختلفة ، فربّ عادل لا يحتمل
في حقّه الكذب في شخص إخباره هذا ، وهذا لا يحتاج في حجيّة خبره إلى التعبّد؛ لأنّ
احتمال كذبه مفقود ، واحتمال خطائه مسدود بالأصل العقلائي ، وربّ عادل لا تكون
الملكة الرادعة فيه بمثابتها في الأوّل ، بل يحتمل في حقّه الخروج عن مقتضاها في
شخص الإخبار الشخصي ، وهذا يحتاج إلى التعبّد ، وقد عرفت
قصور الآية عن
الدلالة على حجيّته.
ومن هنا تعرف أنّا
لو أغمضنا عن إشكال شيخنا المرتضى في ثبوت المفهوم للشرط في الآية بكونه محقّقا
للموضوع وقلنا : إنّه ليس كذلك وأنّ الموضوع مطلق النبأ ، فيفيد المفهوم لأنباء
الفاسق ، لكن نقول بعد فرض إلغاء خصوصيّة الفسق في جانب المنطوق وكون الاعتبار
باحتمال تعمّد الكذب كان المعتبر في المفهوم أيضا ذلك.
فكأنّه قيل : إذا
جاءكم مخبر يحتمل في حقّه تعمّد الكذب بنبإ فتبيّنوا ، فالمفهوم أنّه : إذا جاءكم
غير هذا المخبر ـ يعني من لا يحتمل في حقّه تعمّد الكذب ـ فلا يجب التبيّن ، وقد
عرفت أنّ هذا لا يفي بالمقصود.
والحاصل كلّما فرض
الفراغ منه في الموضوع لا يصحّ جعله تلو «إن» وهنا حيث إنّ أصل مجيئه الخبر مفروغ
عنه حسب الفرض لا يصحّ تلويّته لإن ، نعم يصحّ ذلك بالنسبة إلى قيد المجيء أعني
كون الجائي فاسقا.
وحينئذ نقول : هذا
وإن كان صحيحا ، لكنّه خلاف الظاهر في تلك القضيّة وأمثالها مثل : إن رزقت ولدا
ونحوه ؛ فإنّ الظاهر فيها عدم المفروغيّة من الذات في الموضوع حتى لوحظ التعليق
بالنسبة إلى القيد فقط ، بل الظاهر تعلّق التعليق بمجموع الذات والقيد ، ومعه عرفت
أنّه لا يصحّ أن يكون الموضوع مفروغ الاتّصاف بأصل الذات.
فتبيّن أنّ إشكال
عدم ثبوت المفهوم للآية غير ممكن الذبّ ، كما ذكره الشيخ الأجلّ شيخنا المرتضى قدسسره.
بقي الكلام في
الإيرادات التي يورد على الآية بعد تسليم المفهوم لها.
أحدها : أنّ
المفهوم يعارضه عموم التعليل في ذيل الآية ، فإنّه قد علّل فيها وجوب التبيّن
للعمل بخبر الفاسق بأنّ الإقدام عليه قبله بجهالة وغير علم يكون في معرض ظهور
خلافه وحصول الندم لذلك.
فيدلّ على أنّ كلّ
إقدام على عمل كان عن غير علم وفي معرض تبيّن الخلاف و
الوقوع في الندم
لا يجوز قبل التبيّن ، ولا شكّ أنّ هذا ينطبق على العمل بخبر العادل الغير المفيد
للعلم فإنّه إقدام عن جهل ، ويكون في معرض الوقوع في مخالفة الواقع والندم ، فيكون
ممنوعا بمقتضى التعليل ، فإنّ الحكم المعلّل يتبع العلّة عموما وخصوصا ، فربّما
تكون العلّة مخصّصة للمورد ، وربّما تكون معمّمة له ، وثالثة تكون مخصّصة من جهة
ومعمّمة من اخرى.
ألا ترى أنّ قول
القائل : لا تشرب الخمر لأنّه مسكر يفيد حرمة كلّ مسكر وإن كان الموضوع في القضيّة
خصوص الخمر ، وقول القائل : لا تأكل الرّمان لأنّه حامض مخصّص من جهة إخراج الفرد
الغير الحامض من الرّمان ، ومعمّم من جهة إدخال الفرد الحامض من غير الرّمان.
لا يقال : إنّ
التعليل عام يشمل كلّ عمل صادر عن جهل ، ولكنّ المفهوم أخصّ منه مطلقا ، لاختصاصه
بخبر العادل الغير العلمي ، وعدم اشتماله الخبر العادل العلمي ، فيلزم تخصيص عموم
التعليل بالمفهوم ، فيكون المحصّل وجوب التبيّن في كلّ إقدام عن جهالة إلّا في
العمل بخبر العادل.
لأنّا نقول : ليس
المناط في التقديم مجرّد كون أحد الدليلين أخصّ ، بل الوجه في تقديم الأخصّ إمّا
كونه نصّا أو أظهر ، فيدور الأمر بين رفع اليد عن النصّ أو الأظهر وحفظا للظاهر
وبين عكسه ، ولا شكّ في تعيّن العكس كما في قولك : أكرم العلماء ، وقولك : لا تكرم
زيدا العالم ، فإنّ الثاني نصّ في حرمة إكرام الزيد ، والأوّل ظاهر في وجوبه.
وأمّا هنا فالأمر
دائر بين طرح ظهور التعليل في العموم وحفظ ظهور القضيّة في المفهوم وبين العكس ،
فالتعارض واقع بين الظهورين.
وبعبارة اخرى :
إنّما نعمل بالخاص لأنّ في العمل به عملا بكلا الدليلين ؛ لأنّ فيه العمل بالعام
في بعض أفراده ، بخلاف العمل بالعام حيث يلزم منه طرح الخاص بالمرّة ، وليس العمل
بالعام هنا إلّا على نحو العمل بالخاص من حيث كون كلّ منهما
أخذا ببعض الدليل
المخالف وطرحا لبعضه ، فإنّا إن أخذنا بظهور القضيّة في المفهوم لا يلزم إلّا طرح
العموم في بعض أفراده ، كذلك لو أخذنا بالعموم لا يلزم إلّا طرح أحد جزئي القضيّة
وهو المفهوم ، ولا يلزم طرح ظهورها بالمرّة.
وحينئذ فالترجيح
لأظهرهما ، ولا شكّ أنّه التعليل ، فإنّ ظهور القضيّة في المفهوم لو سلّمناه
فإنّما هو بالالتماس ، وليس إلّا ظهورا أوّليا لا يقاوم مع ظهور التعليل خصوصا
بملاحظة أنّ العموم المستفاد من العلل أقوى من المستفاد من الصيغ ، ككلمة «كلّ»
ونحوها.
وإن شئت قلت : إنّ
المفهوم وإن كان اخصّ ، ولكنّه ليس بدليل مستقلّ حتى يلاحظ في مقام المعارضة
بانفراده ، وإنّما الدليل نفس القضيّة التي يكون المفهوم بعض مدلولها ، والنسبة
بينها وبين العام المعارض إنّما هو العموم من وجه ، فإذا كان العموم المعارض منفصلا عن القضيّة فلا بدّ من
ملاحظة الأظهريّة فيما بينهما ، ويمكن أن يكون ظهور القضيّة في المفهوم أقوى من
ذلك العام في العموم ، وأمّا إذا كان العموم في ذيل القضيّة المشتملة على المفهوم
، وكانت هي معلّلة به ، فحينئذ حيث قلنا إنّ العبرة في المعلّل بالنظر إلى العلّة
عموما وخصوصا ولا ينظر إلى نفس المعلّل فلو فرض المساواة أيضا بين ظهور القضيّة في
حدّ ذاتها في المفهوم وظهور العلّة في العموم لوجب رفع اليد عن المفهوم ، لكون
العموم في العلّة قرينة صارفة مانعة عن انعقاد ظهور المفهوم ، فكيف مع كون العموم
المستفاد من التعليل أقوى من سائر العمومات وآبيا عن التخصيص.
هذا حاصل الإيراد
، وقد عدّه شيخنا المرتضى قدسسره ممّا لا يمكن الذبّ عنه ، والحقّ إمكان التفصّي عنه بأن
يقال : إنّ كلمة «جهالة» الواقعة في التعليل وإن كانت
__________________
بحسب المادّة
ظاهرة في المعنى المقابل للعلم فيشمل كلّ شكّ وظنّ ، إلّا أنّ المراد بها هنا هو
السفاهة ، أعني العمل بالجهل الذي لا يكون عقلائيّا ، ولا ينبغي صدوره عن العاقل ،
والدليل على إرادة ذلك منه هو تفريع الندامة عليه ، فإنّ العمل بالشكّ بمجرّد كونه
عملا بالشكّ لا يكون معرضا للندامة ؛ إذ ربّما يعمل العقلاء بالشكوك فيما إذا كانت
معتبرة عندهم ولا يحصل الندم عقيب ظهور الخلاف.
ألا ترى أنّه إذا
أخبر البيّنة بطهارة شيء فعاملت معه معاملة الطهارة ، ثمّ ظهر كونه نجسا لا تحصل
لك الندامة على موافقة البيّنة ، لأنّه فعل عقلائي وهو لا يتعقّبه الندم ، فكلّ
إقدام كان مستندا إلى حجّة عقلائيّة ممضاة للشرع أو تعبديّة شرعيّة فليس متعقّبا
بالندم.
وإذن نقول : خبر
العادل بعد ما جعله الشارع حجّة بقضيّة المفهوم تكون موافقته فعلا عقلائيّا ،
فيخرج عن عموم التعليل خروجا موضوعيّا ، نعم قبل جعله حجّة كان من أفراده ومعدودا
من الأفعال السفهائيّة.
إن قلت : كيف يمكن
ذلك في كلام واحد ؛ فإنّ استقرار ظهور نفس القضيّة المعلّلة في المفهوم مبنيّ على
عدم شمول التعليل لخبر العادل ، وعدم شموله مبنيّ على استقرار ظهورها في المفهوم.
قلت : إنّما يلزم
ذلك لو كان التعليل منافيا لأخذ المفهوم وهاهنا الأخذ به وعدمه في حدّ سواء
بالنسبة إلى التعليل ، وذلك لأنّه إن كان خبر العادل حجّة فيلزم خروجه عن التعليل
خروجا موضوعيّا ، وإن لم يكن حجّة يكون واحدا من أفراد موضوعه ، فنقول : نأخذ
بظهور القضيّة في المفهوم كما هو المفروض ونحكم باستقراره من دون ارتكاب خلاف ظاهر
في التعليل ، وإذا أمكن الجمع بين الظهورين فلا وجه لطرح أحدهما ، وملاحظة تمام
أجزاء الكلام التي من جملتها العلّة إنّما يلزم لأخذ المفهوم ليكون المفهوم
المنتزع مطابقا لها ولم يكن في الكلام ما يخالفه ، والمفروض أنّه هنا كذلك ؛ إذ
ليس في المفهوم مخالفة للعلّة أصلا، فطرحه مع ذلك ليس إلّا طرحا للظهور بلا دليل.
فإن قلت : لا شكّ
أنّه لو لا حجيّة خبر العادل كان مشمولا لعموم التعليل ، فنحن ندّعي أنّها متأخّرة
رتبة عن هذا العموم ببيان أنّ وجوب التبيّن لكونه معلولا لهذه العلّة متأخّرة رتبة
عنها ، فنقيضه الذي هو الحجيّة أيضا متأخّر عنها بقضيّة وحدة رتبة النقيضين ، فحيث
لا حجيّة في رتبة التعليل أثّر التعليل أثره.
قلت : هذا خلط
لمقام الثبوت بمقام الإثبات ؛ فإنّ قضيّة العليّة والمعلوليّة بحسب مقام الثبوت ما
ذكرت ، وأمّا بحسب مقام الإثبات والتلفّظ وترتيب ترصيف المعاني في الذهن وانتقاشها
تكون طبق الألفاظ ، فما كان في اللفظ مقدّما كان مقدّما في التصوّر والانتقاش ،
ولا شكّ أنّ القضيّة الشرطيّة حسب الفرض في حدّ ذاتها لها دلالة تصوّريّة انتقاشيّة
على المفهوم ، غاية ما في الباب أنّك تقول : إنّ هذا الظهور الانتقاشي يحتاج
استقراره إلى تمام الكلام وحجيّته منتظرة لاستقراره.
فنقول : نعم الأمر
كذلك ، لكن بعد ثبوت أصل هذا الظهور الانتقاشي من الصدر يلاحظ في الذيل ، فإن كان
فيه ما ينافيه ولا يجامعه نرفع اليد عنه ، كما في قضيّة رأيت أسدا يرمي بالقوس ،
وأمّا إذا لاحظناه غير مماس به ولا متعرّض لنفيه ولا إثباته فقهرا يستقرّ ما
فهمناه تصوّرا من الصدر عند تمام الكلام.
فنقول : أيّ
منافاة بين هذين الكلامين لو فرضناهما مستقلّين ، أعني قولك : لا تعمل بغير الحجّة
وقولك : خبر العادل حجّة ، فإن فهمت في صورة الاستقلال منافاة فقل في صورة
الاتّصال وكون أحدهما في الصدر والآخر في الذيل : إنّ أحدهما قرينة صارفة عن ظهور
الآخر ، وأمّا بعد عدم المنافاة ـ كما هو الواضح ـ لعدم تعرّض الاولى لحجيّة شيء
وعدمها فلا وجه للصرف.
فعلى هذا نحن نقول
: لا شكّ أنّ العلّة وإن كانت مضيّقة لدائرة الموضوع في بعض الأحيان ، لكنّه ليس
كالتقييد ، بمعنى أنّه لو شكّ في فرد من العام أنّه متّصف بالعلة أو لا ، يمكن
الأخذ بالإطلاق أعني إطلاق قوله : لأنّهم عدول مثلا في قوله : أكرم العلماء لأنّهم
عدول ، وإن كان يتوقّف في مشكوك العدالة من العلماء لو كان الكلام بصورة
التقييد ، كما قال
: أكرم العلماء العدول ؛ لأنّه تمسّك بالعام في الشبهة الموضوعيّة.
وحينئذ نقول : كما
يرفع الشكّ بواسطة العلّة عن الأفراد المشكوكة ، كذلك لو كان الكلام ذا مدلولين ،
منطوق ومفهوم ، فالعلّة المذكورة فيه تدلّ على انتفاء نفسها في مورد المفهوم ، وجه
الدلالة أنّ العلّة علّة لمجموع ما للكلام من المدلول ، والفرض أنّ من مدلوله حصر
الحكم على الموضوع المذكور فيه الذي هو منشأ أخذ المفهوم.
فإذا قيل : أكرم
زيدا إن جاءك لأنّه يعطيك درهما ، يفهم منها أنّ العلّة أيضا مقصورة على صورة
المجيء وأنّ في صورة عدمه لا يعطي الدرهم وإن أكرمه.
وبالجملة ، بعد ما
فرضنا أنّ القضيّة الشرطيّة ومدلولها ومفادها في حدّ ذاتها إثبات الحكم على وجه
الحصر ، فإيراد العلّة أيضا لا محالة يكون على هذا المفاد ، ومعنى إيرادها عليه أنّ
العلّة غير مشتركة بين صورتي وجود الشرط وعدمه ، بل مختصّة بالصورة الاولى.
نعم لو فرضنا
العلم من الخارج بالاشتراك فحينئذ نأخذ بعموم العلّة ونجعله صارفا ومانعا عن
انعقاد استقرار ظهور الجملة في المفهوم ، لكن عند عدم العلم وفرض مشكوكيّة الحال
يحكم ظاهر العلّة بواسطة ارتباطها بالحصر بعدم وجودها في حالة عدم الشرط ، ويرفع
الشكّ الحاصل لنا ، كما قلنا : إنّ العالم المعلوم من الخارج عدم عدالته نحكم
بخروجه من العام في قوله : أكرم العلماء لأنّهم عدول بقضيّة العلّة ، وأمّا الفرد
المشكوك العدالة يرفع الشك في عدالته ويحكم بدخوله بقضيّتها أيضا.
ثانيها : وهو
إشكال على جميع أدلّة الحجيّة لخبر الواحد ولا اختصاص له بالآية : أنّ حجيّة خبر
الواحد يلزم من وجودها عدمها ، وكلّ ما يلزم من وجوده عدمه فهو محال ، ينتج أنّ
حجيّة خبر الواحد محال.
أمّا الكبرى
فواضحة ، وأمّا الصغرى فلأنّ من جملة أخبار الآحاد التي نقول بحجيّتها خبر السيّد قدسسره بعدم حجيّة خبر الواحد ، لاجتماعه جميع شرائط القبول
والحجيّة ، فلو كان خبر الواحد الذي من جملته خبر السيّد بعدم الحجيّة حجّة لزم من
حجيّته عدمها.
وأجاب شيخنا
المرتضى قدسسره بما حاصله أنّه لا بدّ من ملاحظة أنّ هذا الأمر المحال نشأ
من قبل أيّ شيء؟ فنقول : لا ريب في أنّه ناش من شمول أدلّة الحجيّة لهذا الخبر
أعني خبر السيّد قدسسره ، فإنّ هذا الخبر لو كان داخلا لزم من دخوله عدم حجيّة
نفسه ، ولا شيء من سائر الأخبار فيلزم من الحجيّة عدمها ، فعلينا أن نقلع مادّة
الفساد وهو دخول هذا الخبر ، فتكون العمومات مخصّصة بغير هذا الفرد بتخصيص عقلي.
أقول : يمكن
الاستشكال عليه قدسسره بما قد علّمه قدسسره إيّانا وهو أن نقول : كما أنّكم تفحّصتم عن منشأ لزوم
المحال في أدلّة الحجيّة وقلتم : إنّه دخول خبر السيّد نحن أيضا نتفحّص عن أنّ
موجب لزوم المحال في خبر السيّد قدسسره ما ذا؟ فنقول : لهذا الخبر مدلولان ، أحدهما أنّ ما سواه
من الأخبار ليس بحجّة ، والثاني أنّ نفسه غير حجّة ، ولا شكّ أنّ دلالته على عدم
حجيّة غيره من الأخبار لا مدخل لها في لزوم المحال كما هو واضح.
وأمّا دلالته على
عدم حجيّة نفسه فهي المنشأ بمعنى عدم إمكان شمول الأدلّة لخبر السيّد بملاحظة
دلالته هذه ، فنحن نقول : لا تشمل الأدلّة لخبر السيّد بلحاظ هذا المدلول وهو سلب
الحجيّة عن نفسه ، فتكون شاملة له من حيث مدلوله الآخر وهو سلب الحجيّة عن غيره ،
فيلزم من دخول خبر السيّد تحت الأدلّة خروج الأخبار الواردة في باب الصلاة مثلا
عنها ، كما أنّه يلزم من دخول تلك الأخبار فيها خروج خبر السيّد.
فغاية ما في الباب
وقوع التعارض بين خبر السيّد وأخبار الصلاة وغيرها ، فيكون الجواب وجود المرجّح في
طرف الأخبار لكثرتها ووحدة خبر السيّد ، فإنّه إذا دار الأمر بين خروج فرد واحد أو
خمسمائة فرد مثلا فلا ريب في رجحان الأوّل ، هذا مضافا إلى ما يلزم على الثاني من
صيرورة الكلام من نحو اللغز والمعمّا ، فإنّه قد حكم على جميع الأفراد بحكم واريد
فرد واحد ينافي ثبوت الحكم لسائر الأفراد ،
فقيل : كلّ خبر
عادل حجّة واريد به خبر السيّد الذي مضمونه أنّه لا شيء من خبر عادل بحجّة.
وحاصل أصل الإشكال
أنّ حجيّة خبر الواحد محال ؛ لأنّه يلزم من حجيّته عدم حجيّته ، وذلك لأنّه لو كان
خبر الواحد حجّة لكان خبر السيّد حجّة ؛ لأنّه أيضا خبر واحد ، وحجيّته مستلزمة لعدم
حجيّة خبر الواحد ، وهذا هو المدّعى من استلزام حجيّة خبر الواحد عدم حجيّته.
وحاصل الجواب
الشيخ عنه أنّ هذا المحذور مختصّ بخبر السيّد دون سائر الأخبار ، وذلك لأنّ خبر
السيّد دالّ إمّا باللفظ وإمّا بالملاك على عدم حجيّة نفسه قطعا ، ولذا لو سئل عن
السيّد عنه لقال : ليس بحجّة ، ولهذا لو كان خبره المذكور المفيد لعدم حجيّة نفسه
حجّة لزم من حجيّته عدم حجيّته ، فالاستلزام المذكور مختصّ بخصوص هذا الخبر دون
الأخبار الأخر ، فاللازم إخراج هذا الخبر بتخصيص عقلي.
وحاصل إشكالنا على
الشيخ ـ وهو في الحقيقة شيء تنبّهنا له ببركة تنبيه الشيخ فأوردنا ما استفدنا منه
عليه ـ هو أنّه كما أنتم حلّلتم الإشكال في كلّي خبر الواحد وبيّنتم أنّه من جهة
خبر السيّد ، كذلك نحن أيضا نحلّل الإشكال في خبر السيّد ونبيّن أنّه من جهة أيّ
من مداليله.
فنقول : هو عامّ
يشمل نفسه أيضا بالقطع إمّا لفظا وإمّا ملاكا ، فله مدلولان ، عدم حجيّة نفسه وعدم
حجيّة غيره ، فحجيّته بالنسبة إلى المدلول الأوّل محال ؛ إذ يلزم حجيّته وعدم
حجيّته ، وأمّا بالنسبة إلى المدلول الثاني فغير محال ، فيمكن شمول أدلّة الحجيّة
له بملاحظة هذا المدلول ، فخبر السيّد بعد اندراجه تحت دليل الحجيّة بمنزلة عام لا
يمكن إرادة فرد منه ، فيكون مخصّصا عقلا بغيره ، فحينئذ يقع التعارض بين هذا الخبر
مع سائر الأخبار؛ إذ دخوله مستلزم لخروجها ، ودخولها مستلزم لخروجه.
وإذن فالأولى في
الجواب أن يقال : بعد دوران الأمر في الآية بين أن تكون نازلة من السماء لخصوص خبر
السيّد وبين كونها نازلة لأجل غيره من الأخبار الكثيرة أنّ المقدّم هو الثاني ، لا
لأجل مجرّد كثرته واستلزام الأوّل انتهاء التخصيص إلى الواحد ، بل لاستلزام الأوّل
استبشاع المعنى ؛ إذ يلزم إفادة عدم حجيّة خبر الواحد بعبارة دالّة على حجيّة خبر الواحد
وهو من المضحكات والهزليّات ومحسوب من الألغاز والمعميّات ، هذا.
ومن أغرب ما كتب
في حاشية المولى الأعظم محمّد كاظم الخراساني طاب ثراه على الرسائل ما كتبه في هذا
المقام ممّا حاصله : أنّه يمكن الالتزام بأنّ الآية تدلّ على حجيّة خبر الواحد إلى
زمان السيّد ، وتدلّ على عدم حجيّته بعد هذا الزمان بدلالته على حجيّة خبر السيّد
، ثمّ ذكر ما حاصله أنّه وإن كان التفكيك مقطوع الخلاف للإجماع على أنّه لو كان
خبر الواحد حجّة للأوّلين فيكون حجّة للآخرين أيضا ، بل ولا يحتمل كونه حجّة
للأوّلين وغير حجّة للآخرين وإن كان عكسه وهو عدم حجيّته للأوّلين بملاحظة انفتاح
باب العلم وحجيّته للآخرين باعتبار انسداده محتملا ، إلّا أنّه لا بأس بأن نلتزم
في مرحلة الظاهر بعدم حجيّة خبر الواحد بعد زمان خبر السيّد لوجود الحجّة عليه وهو
خبر السيّد ، وأمّا ما قبل هذا الزمان فهو خارج عن محلّ الابتلاء.
والحاصل أنّ الأخذ
بهذه الحجّة وإن كان لا يمكن في غير محلّ الابتلاء للزوم القبح ، لكن لا يضرّ ذلك
بمحلّ الابتلاء إذا أمكن الأخذ بها فيه.
وحاصل مرامه
بعبارة اخرى أنّ مخالفة الإجماع على المطلب الواقعي لموافقة حجّة ظاهريّة لا تضرّ
، وهنا من هذا القبيل ، فالواقع حسب الإجماع لا يخلو من أحد الأمرين فقط ، إمّا
إرادة الحجيّة وإمّا عدمها ، ولكن في مقام الظاهر والأخذ بالحجّة وقع التفكيك ،
ففي قطعة من الزمان ـ وهو ما بين صدور الآية إلى زمان صدور خبر السيّد ـ كانت
الحجّة الفعليّة الغير المزاحمة واقعا بشيء قائمة على الحجيّة ، فكان
تكليف الناس في
مرحلة الظاهر الأخذ بهذه الحجّة أعني ظاهر عموم الآية ، وفي قطعة اخرى ـ وهو ما
بعد صدور خبر السيّد ـ كانت الحجّة الفعليّة قائمة على عدم الحجيّة ، فمن هذا
الحين صار تكليفهم الرجوع إلى هذه الحجّة الظاهريّة وهو خبر السيّد المخصّص بعموم
الآية.
فإن قلت : صدور
خبر السيّد وإن كان في الزمان المتأخّر ، لكن مفاده عدم الحجيّة من الزمان الأوّل
، فيشمل زمان صدور الآية أيضا ، فيعود الإشكال.
قلت : نعم ولكن
الحجيّة مختصّة بمفاده بالنسبة إلى زمان وجوده وما بعده ، فلا يلزم محذور بالنسبة
إلى ما هو الحجّة ، أمّا بالنسبة إلى الأوّلين فلعدم الموضوع أعني خبر السيّد ،
وأمّا بالنسبة إلينا فلعدم كون تلك الأزمان السابقة محلا لابتلائنا وموردا لعملنا
، فتكون الحجيّة مختصّة بنا بالنسبة إلى الزمان المتأخّر.
وأنت خبير بما فيه
، أمّا أوّلا فلأنّ إشكال الاستبشاع جار بعينه في ما بعد زمن إخبار السيّد أيضا ،
فإنّ التعبير عن عدم حجيّة خبر الواحد بعبارة مؤدّاها أنّ خبر الواحد حجّة يكون
مستبشعا مطلقا ، سواء كان بملاحظة أوّل زمان صدور الآية أم بملاحظة ما بعد خبر
السيّد.
وأمّا ثانيا
فلأنّا نحصر ما يحتمل إرادته من الآية في وجوه بالفحص والترديد والدوران ، ونبيّن
بطلان إرادة كلّها سوى الوجه الذي ذكرنا من خروج خبر السيّد ودخول ما عداه.
فنقول : المراد
بمفهوم الآية الدال على أنّ خبر الواحد حجّة لا يخلو إمّا أن يكون حجيّة خصوص خبر
السيّد من أوّل زمان الصدور ، وإمّا حجيّة خبر الواحد من الأوّل إلى زمان خبر
السيد ، وحجيّة خبر السيّد فقط ممّا بعد هذا الزمان ، وإمّا حجيّة خبر السيد
والأخبار الأخر معا ، وإمّا حجيّة الأخبار الأخر دون خبر السيّد ، ولا خامس لهذه
الوجوه.
لا سبيل إلى
الأوّل ؛ للزوم الاستبشاع في المعنى ، ولا إلى الثاني ؛ لكونه مقطوع
الخلاف ، ولا إلى
الثالث ؛ للزوم المحال من حجيّة الأخبار الأخر وعدم حجيّتها ، فتعيّن الرابع وهو
المطلوب.
ثمّ إنّ أحسن
الأجوبة عن أصل الإشكال أن يقال : إنّ خبر السيّد غير مشمول لأدلّة الحجيّة رأسا ؛
لأنّه إجماع منقول ، وقد عرفت في ما تقدّم أنّ الآية إنّما تدلّ على حجيّة الخبر
عن حسّ أو قريب عن الحس ، ولا يشمل الإخبار الحدسي فتذكّر.
ثالثها : وهو أيضا
وارد على جميع أدلّة حجيّة خبر الواحد ولا اختصاص له بالآية ـ وله تقريبان مرجعهما
إلى الواحد :
الأوّل : أنّ تلك
الأدلّة موردها الخبر بلا واسطة ، ولا يمكن أن يشمل الخبر مع الواسطة ، بيان ذلك
أنّه إذا أخبرنا الشيخ أنّه قال المفيد : كذا ، فالخبر الوجداني لنا منحصر في خبر
الشيخ ، فلا بدّ من إجراء «صدّق العادل» في خبر الشيخ ليثبت ببركة هذا الحكم خبر
المفيد تعبّدا ، لنرتّب بعد حصول موضوع الخبر التعبّدي نفس حكم «صدّق» عليه أيضا ،
فيلزم أن يكون الحكم محقّقا لموضوع نفسه ، فإنّ حكم «صدّق» المترتّب على خبر الشيخ
تحقّق موضوع خبر المفيد التعبّدي ، فيصير حكما له ، فيلزم تقدّم الحكم على موضوعه
والواجب العكس ، فالواجب أن لا يشمل الحكم الموضوع المتحقّق بسببه لئلا يلزم هذا المحذور.
فقول القائل : كلّ
خبري صادق ، لا بدّ أن لا يشمل نفسه ، فإنّ حكم «صادق» يكون سببا لتحقّق موضوع هذا
الخبر ، فلا يمكن أن يكون حكما له أيضا ، غاية الأمر أنّ الحكم في هذه القضيّة
موجد المخبر حقيقة وفي قضيّة «صدّق» موجد له تعبّدا.
والثاني : أنّ
معنى «صدّق العادل» ليس هو التصديق الجناني ، بل المراد هو التصديق العملي الذي هو
عبارة عن ترتيب الأثر الثابت لمقول قوله عليه ، ومقول قول الشيخ هنا قول المفيد ،
وليس أثر قول المفيد لزوم العمل مثل قول الصادق عليهالسلام ، بل إنّما أثره تصديق العادل ، فيلزم أن يكون صدق العادل
المرتّب على خبر الشيخ بلحاظ ترتيب نفسه ، ولا يمكن أن يكون الحكم التنزيلي ناظرا
إلى نفسه ، بل
لا بدّ أن يكون
الحكم بتصديق العادل بلحاظ أثر آخر غير هذا الأثر الذي هو نفسه.
ولا يخفى أنّ مرجع
التقرير الأوّل إلى الثاني ؛ فإنّه ليس الحال في «صدّق العادل» هو الحال في «كلّ
خبري صادق» ؛ فإنّ الثاني يكوّن الخبر ويوجد الفرد الحقيقي له ، وأمّا هنا فصدق
العادل لا يوجد الفرد الحقيقي لخبر المفيد مثلا ، بل الخبر التعبّدي ، والخبر
التعبّدي يعنى ما يكون له أثر الحقيقي ، وليس التعبّد بالخبر إلّا ترتيب أثر الخبر
الحقيقي وهو تصديق العادل.
وبعبارة اخرى :
معنى «صدّق العادل» في خبر الشيخ هو البناء على وجود خبر المفيد ، ومعنى البناء
على وجوده ترتيب أثر التصديق عليه ، فيرجع إلى عدم إمكان أن يكون الحكم بالتصديق
بلحاظ ترتيب نفسه.
وقد أجابوا عن هذا
الإشكال أنّ المراد بقوله : رتّب الأثر ، ترتيب طبيعة الأثر ، وهذه الطبيعة صادقة
على هذا الحكم الذي هو وجوب التصديق ، فخبر العادل كلّ أثر يكون لقوله يجب ترتيبه
وإن كان الأثر وجوب التصديق ، وعلى هذا فهذه القضيّة تشمل نفسه بالمدلول اللفظي ،
ويمكن بتنقيح المناط أيضا ، للعلم بعدم خصوصيّة أثر دون آخر في نظر الشارع ، هذا
ما قالوه.
وأظن أنّ هذا
الجواب غير نافع لهذا المقام ، لأنّ المراد بتصديق العادل كما اعترفوا به هو
التصديق العملي ، والحاصل أنّه لا بدّ أن يكون معنى «صدّق العادل» «صلّ الجمعة»
مثلا ، فما لم يرجع معناه إلى العمل لا معنى لإجرائه ، وعلى هذا فالأثر الذي يهمّ
ترتيبه هنا على خبر الشيخ باخبار المفيد ليس إلّا تصديق المفيد في خبره ، وتصديق
المفيد لا إشكال في أنّه في حدّ ذاته ليس عملا مطلوبا شرعيّا.
فإن قلت : ثمرته
الانتهاء إلى قول الإمام عليهالسلام : «صلّ الجمعة» وهو أثر عملي ، وتصديق المفيد وغيره من
الوسائط وسائط لهذا الأثر.
قلت : فيكون «صدّق
العادل» بلحاظ ذاك الأثر الذي هو الحكم الصادر عن الإمام ، وهو مناف لما ذكروه من
أنّ الأثر المرتّب على تصديق الشيخ تصديق المفيد
وأثره تصديق
الصدوق وهكذا إلى أن ينتهي إلى قول الإمام ، فهنا يجب إجراء حكم «صدّق العادل»
المتعدّد المرتّب في الطول ، وكلّ لا حق يكون بلحاظ سابقه.
والحقّ في الجواب
أن يقال : إنّه لا حاجة لنا إلى أزيد من الخطاب الواحد ب «صدّق العادل» ، وبإجراء
الفرد الوحد من «صدّق» يرتفع الإشكال ، بيان ذلك أنّه إذا أخبرنا الشيخ أنّه أخبره
المفيد أنّه أخبره الصدوق أنّه أخبره أبوه أنّه أخبره الصفّار أنّه قال له العسكري
عليهالسلام : صلاة الجمعة واجبة مثلا ، فلا شكّ أنّه من هذه السلسلة
قد استفدنا قول الإمام وحكي لنا رأيه عليهالسلام ، وذلك لأنّ خبر الشيخ يحكى بالحكاية الظنّية الشخصيّة
مثلا عن خبر المفيد ، وهو يحكي لنا ويفيد الظنّ الشخصي بقول الصدوق ، وهكذا كلّ
يفيد الظنّ الشخصى بمحكيّه إلى قول الصفار ، وهو أيضا يفيد الظنّ الشخصي بمحكيّه
وهو صدور قول : «صلّ الجمعة» عن الامام.
فتحقّق هنا
الحكاية الظنّية عن قول الإمام مستندة إلى خبر العادل ، والدليل دلّ على أنّ الظنّ
بالحكم الشرعي المستند إلى خبر العادل واجب الاتّباع ، ولا يلزم في باب الأمارة أن
يكون الحكم الشرعي الذي يقصد ترتيبه أثرا شخصيّا لمؤدّاها.
ألا ترى أنّه لو
قام البيّنة على طهارة أحد الإنائين المعلوم إجمالا نجاسة أحدهما يحكم بنجاسة
الإناء الآخر ، مع أنّ نجاسة الثاني ليست أثرا شرعيّا لطهارة الأوّل ، وإنّما حصل
التلازم بينهما بحسب علمك ، فأنت بهذا الاعتقاد قاطع على تقدير صدق البيّنة بنجاسة
الإناء الثاني ، فإذا حصل لك الظنّ الشخصي من قول البيّنة الحاكية لطهارة الأوّل
حصل لك الظنّ أيضا بنجاسة الثاني ، فيكون خبر البيّنة حاكيا لنجاسته بالحكاية
الظنيّة.
فكذلك هنا أيضا
يكون التلازم بين قول العادل والصدق ظنّا ، فكلّ من خبر الشيخ والمفيد الخ يكون
متلازم الصدق ظنّا إلى قول الإمام ، فيصدق الحكاية الظنيّة عن قول الإمامعليهالسلام مستندة إلى خبر العادل ، ثمّ بعد هذه الحكاية يدور
الأمر بين اثنين
لا ثالث لهما :
الأوّل : أن يكون
القول صادرا عن الإمام عليهالسلام ، والثاني : أن يكون عادل كاذبا ، فإنّه لو لم يصدر القول
عنه عليهالسلام فلا يخلو إمّا يكون الشيخ كذب في قوله : أخبرني المفيد ،
ولو صدق هو فيلزم أن يكون المفيد كاذبا في خبره : أخبرني الصدوق ، ولو صدق هو كان
الصدوق كاذبا في خبره : أخبرني أبي ، وهكذا لو صدق الأب لزم كذب الصفّار ، ولا
يمكن أن لا يكون في البين كذب عادل ومع ذلك لم يكن القول صادرا عن الإمام.
نعم لو كان في
الوسائط فاسق ولو واحدا لأمكن صدق العادل وعدم صدور الحكم عن الإمام ، وأمّا بعد
كون الوسائط جميعا محقّق العدالة غير مشكوك في عدالتهم فلا محالة يكون عدم الصدور
ملازما لكذب عادل واحد ، وحينئذ فالتوقّف عن العمل بالحكم المحكيّ بالحكاية
المذكورة أعني وجوب الجمعة ليس له سبب وعلّة إلّا احتمال كذب العادل ، ضرورة أنّه
مع القطع بعدم كذب العادل فلا مانع عن المصير إلى العمل ، فعند هذا التوقّف لأجل
هذا المانع يكون المكلّف مخاطبا بخطاب «صدّق العادل» وهذا الخطاب يدعوه إلى العمل
بالحكم المزبور ؛ إذ مع إلغاء هذا الاحتمال ينتفي المانع عن العمل مطلقا.
فعلم أنّ المحتاج
إليه ليس بأزيد من فرد واحد من «صدّق العادل» ويكون المقصود طبيعة العادل من دون
إشارة إلى شخص خاص من الشيخ ومن قبله من الوسائط ، ويكون اللازم العادي لتصديقه هو
العمل أعني صلاة الجمعة.
والحاصل أنّ قول
الإمام صدورا وعدما يدور مدار صدق العادل بقول مطلق وكذبه ولو في ضمن فرد واحد منه
، وكون تمام توقّف المكلّف عن العمل بسبب مجرّد احتمال كذب العادل يكفي في توجّه
خطاب واحد إليه بتصديق العادل.
فإن قلت : ما ذكرت
من كفاية خطاب واحد إنّما يتمّ في ما إذا كان هناك اخبار عدول متعدّدة محقّقة
محرزة لنا وجدانا ، كما لو علمنا وجدانا بصدور الخبر عن كلّ
واحد من الشيخ ومن
قبله إلى الصفّار ، فحينئذ لو لم يكن القول صادرا عن الإمام فلا محالة يلزم كذب
عادل واحد ، فخطاب واحد بتصديق طبيعة العادل يكفي في سدّ باب هذا الاحتمال ،
والتحريك نحو العمل ، وهذا بخلاف ما نحن فيه ، حيث إنّ الخبر الوجداني المحقّق
منحصر في خبر الشيخ ، وأمّا خبر غيره فلا بدّ من إحرازه بخطاب «صدّق» المتعلّق
بخبر الشيخ ، فب «صدق العادل» في خبر الشيخ يثبت خبر المفيد وب «صدق العادل»
الجاري في خبر المفيد يثبت خبر الصدوق ، فلا محيص عن خطابات عديدة طوليّة ، ولا
يكفي سوق خطاب واحد نحو طبيعة العادل مع عدم إحراز ما عدا خبر الشيخ.
قلت : لكن مع ذلك
كلّه لا يخرج الأمر من حالين ، إمّا صدر من الإمام الحكم ، وإمّا كذب عادل واحد ،
ولا ثالث لهذين ، وهذا العادل الواحد إمّا الشيخ وإمّا المفيد وإمّا الصدوق وإمّا
أبوه وإمّا الصفّار ، فنحن نرفع احتمال الكذب عن الجميع بخطاب «صدّق العادل» ومن
المعلوم أنّ اللازم العادي للاخبار المسلسلة هو صدور الحكم عن الإمام ظنّا.
وإن شئت التوضيح
فافرض حصول القطع من خبر كلّ من الشيخ ومن قبله ، فعند هذا القطع يلزم قهرا حصول
القطع بقول الإمام ، فكذلك لو حصل الظّن بصدق العادل حصل قهرا الظنّ بالصدور ،
فيصدق أنّه حصل الظنّ بقول الإمام من خبر العادل كما يصدق في المثال حصول القطع به
من خبر العادل ، وقد قلنا : إنّه لا يلزم أن يكون أثرا لقول العادل ، بل يكفي ثبوت
الملازمة بينهما بمعنى أن يكون العمل لازما له أو ملزوما بحيث صدق الحكاية.
فهنا أيضا تكون
الملازمة بين قول العادل والظنّ بالصدق وبقول الإمام عليهالسلام كما هو واضح ، فإذا رفع احتمال الكذب عن البين بواسطة «صدّق
العادل» فلا معنى لهذا الخطاب إلّا الإلزام بصلاة الجمعة.
وحاصل الكلام في
المقام أنّ مجرّد تصديق العادل ما لم ينته إلى العمل ليس بأثر ؛
إذ ليس مفاد «صدّق»
هو التصديق القلبي ، حتى أنّ في ما يكون الأثر الشرعي لمؤدّى الأمارة بواسطة
ملازمات خارجيّة أيضا ليس المقصود تصديق ما هو اللازم للمؤدّى بلا واسطة ، بل
المقصود توجيه المكلّف نحو العمل الذي هو متأخّر عن الجميع ، مثلا لو أخبر بشيء
وكان في الخارج ملازما مع وجوب صلاة ركعتين فليس معنى «صدّق» ابن على وقوع هذا
الأمر الخارجي ، بل المقصود : صلّ الركعتين.
وحينئذ نقول :
يكفي في الحكاية بقول العادل كون الوقوع واللاوقوع منوطين بصدقه وكذبه ، كما في
مثال المخبر بأحد المتلازمين بعد الفراغ عن الملازمة الخارجيّة بينهما ، فإنّه لو
لم يكن اللازم الآخر متحقّقا فلا محالة كذب العادل ، ولو صدق فلا محالة يكون
اللازم الآخر متحقّقا ، وبمجرّد هذا القدر حصل المطلب بحكاية قول العادل وببركته ،
ولا يحتاج في تحقّق الحكاية إلى كون المحكيّ مدلولا مطابقيّا لقوله ، بل ولا كونه
التزاميّا بأن لا يلتفت المخبر بملازمته أصلا ، بل ولو كان قاطعا بالخلاف.
فإذا أخبر بطهارة
أحد المشتبهين كان حكاية عن نجاسة الآخر لمن له العلم الإجمالي ، وإن كان نفس
المخبر قاطعا بطهارة الآخر فيكفي في الاستفادة والتحصيل للمطلب من قول العادل ثبوت
الوقوع على تقدير صدقه ، وهذا هو المراد لو اعتبر كون الواسطة من اللوازم العقليّة
أو العاديّة ، فإن الملاك هو الحكاية المتحقّقة بدوران الوقوع واللاوقوع على صدقه
وكذبه.
فنقول في ما نحن
فيه : وجوب الجمعة الذي هو الأثر العملي وإن لم يكن مدلولا مطابقيّا إلّا لقول
الصفّار ، ولكن نحن لا نشكّ في أنّه لو لم يكن الشيخ والمفيد والصدوق وأبوه
والصفّار كاذبين فهذا الحكم واقع ، وإن كان لا واقعيّة له فلا محالة إمّا مستند
إلى كذب الصفّار وإمّا أب الصدوق وهكذا ، فتحقّق الحكاية عن قول الإمام بخبر
العادل ، وأنّا قد استفدنا من هذه السلسلة من العدول وببركة أخبارهم حكم الإمام ،
فإذن فنحن مكلّفون بصدق العادل لأجل نفس هذا الأثر العملي المحكيّ بقول العادل
المترتّب على صدقه ، هذا غاية توجيه مرام شيخنا الاستاد دام ظلّه على
ما استفدته من
تقريره في مجلس الدرس.
وأنا أقول : هنا
سؤال وهو أنّ طبيعة خبر العادل التي علّق عليها في الأدلّة حكم «صدّق» لا يخلو من
حالين ، إمّا يسري حكمه إلى أفراده وإمّا لا ، وحيث إنّ المختار هو سراية الحكم من
الطبيعة إلى الفرد فيتعيّن الأوّل ، وحينئذ فنقول : إخبار شيخ الطائفة لنا بخبر
المفيد الذي هو الفرد الحقيقي لهذه الطبيعة في المقام وليس غيره فرد وجداني آخر لا
يخلو إمّا يكون من جملة تلك الأفراد التي يسري إليها الحكم المذكور من الطبيعة
وإمّا خارج عنها.
فإن كان الثاني
فنحن في الراحة ؛ إذ لا يجب علينا تصديق هذا الخبر ، وليس غيره خبر آخر في أيدينا
، وإن كان الأوّل كان هذا النزاع في ما بين الاستاد والشيخ الأجلّ المرتضى لفظيّا
، فإنّه على هذا يجب إسراء حكم «صدّق» في خبر الشيخ من الطبيعة ، وبه يتحقّق موضوع
خبر المفيد تعبّدا ، فيشمله هذا الحكم بالسراية ، فيتحقّق موضوع الخبر التعبّدي
للصدوق ، فيشمله أيضا ، فهنا أحكام طوليّة ، كلّ لاحق محقّق لموضوع السابق.
فينحصر وجه تصحيح
الإشكال بما ذكره الشيخ من جعل قضيّة صدق العادل طبيعيّة، بأن يكون المراد منها
طبيعة الأثر ولو كان جاريا بنفس هذا الحكم ، فهو قدسسره إنّما يقول بتعلّق حكم «صدّق» بخصوص شخص خبر الشيخ من باب
السراية ، وإلّا فلا يقول بتعلّقه به أوّلا وبالذات.
والاستاد دام ظلّه
يقول : هنا حكم على طبيعة العادل من دون نظر إلى خصوص الأفراد ، وهذا مسلّم إلّا
أنّه تبعا يتعلّق بالأفراد كما هو معترف أيضا ، فلا محالة يكون النزاع ـ في أنّ
المحتاج إليه خطاب واحد ب «صدّق» أو خطابات طوليّة بعدد الاخبار ـ على هذا الوجه
نزاعا لفظيّا.
وطريق التخلّص
منحصر في جعل القضيّة عامّة إمّا بالملاك وإمّا بجعلها طبيعيّة ، والمراد بالتصديق
أيضا تصديق عملي ، ولكن لا يلزم عدم الواسطة بينه وبين العمل ،
بل يكفي كون
المنتهى إليه عملا كما هنا ، فصدّق في خبر الشيخ ناظر إلى «صدّق» في خبر المفيد
وهو إلى «صدّق» في خبر الصدوق إلى أن ينتهي إلى «صلّ الجمعة» ، والغاية الأصليّة
للجميع هو هذا بحيث لو لم يكن هذا لما كان محلّ لخطاب «صدّق» أصلا.
فإن قلت لا شبهة
في أنّ حكم «صدّق» موجود في موضوع خبر العادل قبل أن يخبر ، غاية الأمر على نحو
التعليق ، يعني لو وجد فصدّقه ، وهذه القضيّة التعليقيّة أبدا موجودة وإن لم يكن
لها مصداق في العالم أصلا.
فنقول : خبر
الصفّار والصدوق والمفيد والشيخ موضوع لهذا الحكم التعليقي بلا ترقّب لحصول أمر ،
فحينئذ إذا حصل لخبر الشيخ المصداق الخارجي وصار فعليّا صار هذا الحكم التعليقي
فعليّا ، وهذا الحكم بانضمام الأحكام التعليقيّة الموجودة في نفسها في موضوع خبر
الآخرين من دون توقّف له على تحقّق الحكم لخبر الشيخ يفيد المدّعى ويكفي في الوصول
إلى قول الإمام ؛ فإنّ مقول قول الشيخ هو قول المفيد ونحن مكلّفون بالتكليف الفعلي
التنجيزي بتصديق خبر الشيخ ، وحينئذ فإن لم يقل المفيد لزم كذب الشيخ ، وهذا خلاف
ما امرنا به ، وإن قال فالمفروض أنّه أيضا واجد للقضيّة التعليقيّة ، وهكذا نقول
في خبر الصدوق والصفّار ، فيكفي لنا أيضا خطاب واحد ب «صدّق العادل».
قلت : هذا عين
تقرير مطلبنا ، فإنّ القضيّة التعليقية قبل صيرورتها منجّزة لا يترتّب عليها أثر ،
وهذا من البديهيّات الأوّليّة في الميزان ، فلا بدّ من صيرورة هذه القضيّة
التعليقيّة في خبر المفيد بتوسّط وبركة فعليّتها في خبر الشيخ حتّى يكون لها أثر ،
ففي مرتبة القضيّة التعليقيّة وإن كان لا ترتّب بين القضايا ، بل كلّها في عرض
واحد ، ولكن في مرتبة الفعليّة والتنجيز الذي هو لا بدّ منه يكون بينهما الترتّب ،
بمعنى أنّ فعليّة الحكم التعليقي للموضوع السابق الذي هو خبر المفيد يحدث من قبل
فعليّته للموضوع اللاحق الذي هو خبر الشيخ.
فالحكم المتصوّر
هنا في كلّ من الأفراد بدون الترتّب وتوقّف وجود السابق
بوجود اللاحق ـ وهو
التعليقي ـ غير مفيد ، والحكم الذي له فائدة وهو الوجوب الفعلي لا يتصوّر بغير
الترتّب ومجيء السابق من قبل اللاحق ، فعلم أنّه لا يمكن إخراج المقام عن إيجاد
الحكم بالحكم كما هو واضح ، هذا وقد قرّر دام ظلّه مرامه بتقرير آخر دفعا لما
أوردناه عليه.
وحاصل تقريره
الثاني أنّه لا بدّ من تقديم مقدّمة لها كمال الدخل في فهم المطلب وهي. فهم الفرق
بين الاصول والأمارات.
فنقول : يجب في
الاصول الاقتصار على مدلولها ، ولا يجوز التعدّي منه إلى شيء أجنبي عن مدلولها ،
مثلا مدلول الاستصحاب عدم نقض اليقين بالشكّ ، فلو كان إناءان مشكوكا الطهارة وكان
أحدهما مسبوقا بها دون الآخر ، ولكن علم التلازم بين طهارتيهما فحينئذ يبنى على
طهارة الأوّل دون الثاني ، لعدم كون الحكم بطهارته من مصاديق عدم نقض اليقين بالشك
، ومدلول الأصل هو هذا لا غيره فلا يجوز التعدّي عنه.
وكذلك لو كان في
طول المدلول ومترتّبا عليه ، كما لو شكّ في حياة الزيد بعد العلم بها ، وكان من
لوازم حياته إلى هذا الزمان بياض لحيته ، وكان لبياض لحيته أثر شرعي كوجوب صلاة
ركعتين ، فإنّه لا يحكم باستصحاب الحياة بوجوب الركعتين ، فإنّ بياض اللحية أجنبي
عن مدلول الاستصحاب ، لعدم تحقّق المصداق ، لعدم نقض اليقين بالنسبة إلى بياض
اللحية ، وإنّما تحقّق بالنسبة إلى الحياة وهي غيره.
نعم يحكم باللوازم
الشرعية مثل طهارة الملاقي عند استصحاب الطهارة في ملاقاه ، فإنّ مدلول الأصل
البناء على الطهارة ، ومعنى ذلك معاملة الطهارة التي من جملته طهارة ملاقيه.
وهذا بخلاف
الإمارات ، فمعنى «صدّق العادل» مثلا : رتّب أثر الصدق على قوله وألق احتمال
الخلاف ، فكلّ كشف يحصل للإنسان بواسطة الاعتماد على «صدّق العادل» لزم الأخذ به
إذا كان كشفا لحكم شرعي ، فإذا علمنا التلازم بين طهارة
الإنائين
المشكوكين وأخبر العادل بطهارة أحدهما فمدلول قوله والمخبر به لإخباره إنّما هو
طهارة هذا الأحد لا غير ، لكنّ المقدار الحاصل من الكشف عن طهارة هذا الأحد من
قوله تحصّل هذا المقدار بعينه بلا زيادة ونقيصة بالنسبة إلى طهارة الآخر ، فيندرج
تحت دليل «صدّق» وإن كان العادل لم ير الملازمة أو قطع بالنجاسة.
وكذا الحال في ما
إذا كان الأثر في طول ما أخبر به العادل ، كما لو أخبر بأنّ المنار الموجود في
بلاد الإفرنج ستّة عشر ذرعا ، وكان بين كون المنار المذكور بهذا القدر وبين وجوب
صلاة ركعتين ملازمة فإنّه كما يحصل الكشف بالنسبة إلى مقدار المنار يحصل بعينه
بالنسبة إلى وجوب الركعتين ، وحينئذ لا يلزم تعلّق خطاب «صدّق» أوّلا باللازم بلا
واسطة وهو المقدار الخاص للمنار ثمّ تعلّقه بالأثر ، بل يكون متعلّقا من الأوّل
بلحاظ الأثر، يعني هذا الكشف الحاصل من إخبار العادل يجب الأخذ به وإلغاء احتمال
خلافه الملازم لكذب العادل.
والحاصل : حيث ما
دار وقوع الحكم وعدم وقوعه مدار صدق العادل وكذبه وجب البناء على صدقه وإلغاء
احتمال الكذب ، ولو كان معنى «صدّق العادل» هو البناء على مقول قوله لما كان فرق
بين الأمارة والأصل ، فليس الموضوع لوجوب التصديق خبر العدل ، بل ما انكشف بسبب
ملاحظة الملازمة بين خبره ومطابقته للواقع.
وحينئذ نقول في ما
نحن فيه : بين قول الصفّار ومطابقة مقوله للواقع ملازمة ظنيّة ، وكذا الصدوق ،
فيحصل الكشف الظنّي من قول الصدوق باخبار الصفّار ، ومنه يحصل الكشف الظنّي بوجود
تكليف «صلّ الجمعة» فيتحقّق هنا كشف في نفس الإنسان لحكم وجوب الجمعة من جهة
الاعتماد على صدق العادل ، بحيث لا يمكن الخلاف إلّا مع كذب عادل واحد لا محالة ،
فإذا علمنا من الشارع أنّه أراد إلغاء هذا الاحتمال في حقّ العادل كان معناه وجوب
الجمعة ، فلو كان بالفرض حجيّة قول العادل دائرا مدار الظنّ الفعلي لكان يصدق أنّ
الظّن الفعلي حصل بصلاة الجمعة من قول العادل ، إذ لا إشكال في أنّ قول العادل في
حدّ نفسه مع قطع النظر عن حكم
«صدّق» يكون بينه
وبين مطابقة مدلوله للواقع ملازمة ظنيّة.
فبقول الشيخ يحصل
الكشف الظنّي بقول الصفّار ، وبه يحصل بوجوب الجمعة ، فيتحقّق هنا كشف حاصل من
الاعتماد على مطابقة قول العادل ، فلو كان أحد الوسائط فاسقا لما حصل هذا المضمون
أعني : الكشف الحاصل من الاعتماد على صدق العادل.
وكذلك الحال على
ما هو الواقع من اعتبار الظنّ النوعي ؛ فإنّ معناه أنّه قد لا يكون فعليّا لأجل
شوب الذهن ببعض العوارض والمعارضات ، وإلّا كان اللازم حصول الظنّ الفعلي.
وكيف كان فحينئذ
يكون هنا كشف ظنّي نوعي لوجوب الجمعة حاصل من قول العادل يعني من صدقه وعدم كذبه
فلا تغفل ، فإنّه لا نجعل الموضوع خبر العادل حتّى نحتاج إلى تجشّم تعلّقه أوّلا
بخبر الشيخ حتى يثبت به موضوع خبر الصفّار ، بل نجعل الموضوع الانكشاف الحاصل في
النفس من جهة الاتّكال على صدق العادل وإلغاء احتمال كذبه ، وهذا يكون ملازما بلا
واسطة للحكم الشرعي ، ويكون معنى «صدّق» من أوّل الأمر «صلّ الجمعة».
والحاصل أنّه لو كان معنى الحجيّة الطريقيّة هو التعبّد بمدلول
القول مطابقة أو التزاما ، وبعبارة اخرى : كانت الحجيّة دائرة مدار عنوان الإخبار
والمخبر بهيّة ولازم ذلك الجمود على هذا ، كما في التعبّد بعنوان عدم النقض ، وعدم
التعدّي إلى اللوازم والملزومات والملازمات العاديّة أو العقليّة ، فضلا عن
الملازمات العلميّة ، ـ إذ ليس في الكلام إشعار بذلك ولا في ذهن المتكلّم احتماله
، فكيف يصحّ إطلاق أنّه : قاله ، أو أخبر به ، أو دلّ عليه لفظه ، أو كان معناها
إيراد التنزيل أوّلا على المقول ثمّ
__________________
على الوسائط فيكون
هنا تنزيلات طوليّة مترتّبة بعدد الوسائط وترتيبها ـ كان الإشكال متوجّها ؛ إذ
يلزم على التقدير الأوّل في المقام إجراء التعبّد في خبر الشيخ ليثبت ببركته مقوله
وهو قول المفيد ، ثمّ في هذا القول الثابت تعبّدا ليثبت ببركته قول الصدوق وهكذا ،
وعلى التقدير الثاني إجراء الحكم أوّلا في قول الشيخ ثمّ جعل الملازمة بينه وبين
قول المفيد وهكذا ، وحيث إنّ الأثر الملحوظ في التنزيل على كلّ من التقديرين وجوب
التصديق لزم كون الحكم ناظرا إلى نفسه.
ولكنّ الأمر على
خلاف ذينك التقديرين ، والحقّ في استكشاف حقيقة معنى الطريقية هو الرجوع إلى العرف
في الطرق العرفيّة ، ونحن إذا راجعناهم وجدنا معنى طريقيّة قول الثقة مثلا عندهم
هو الاعتبار بكلّ انكشاف كان منشائه حسن الظنّ بالثقة وبعد احتمال الكذب في خبره ،
فلو فرض انكشافات طوليّة حاصلة بتوسّط الملازمة القطعيّة فهذه الانكشافات وإن كانت
مترتّبة في الوجود ، ولكنّها في ملاك الأخذ عندهم في عرض واحد.
وكذا لو أخبر ثقة
أنّه أخبر فلان الثقة بكذا ، فعين تلك الدرجة من حسن الظنّ والبعد المذكورين يحصل
هنا كما يحصل عند إخبار الثقة بلا واسطة ، وليس الغرض التشبّث بهذا الأصل المطلب
حتى يقال : لعلّ وجه الأخذ وجود المناط أو صحّة القضيّة الطبيعيّة ، بل المقصود
التشبّث بهذا في فهم الطريقيّة الواردة في الأدلّة اللفظيّة الشرعية.
فنقول : الفرق بين
«لا تنقض» وبين «صدّق العادل» هو الدوران في الأوّل مدار صدق العنوان ، وأمّا في
الثاني فنحكم بشهادة ذلك الارتكاز العرفي أنّ كلّ انكشاف لحكم شرعي نشأ من
الاعتماد بقول العادل ولو بغير هذا الحكم ، بحيث لزم من عدمه كذب العادل في خبر من
أخباره ، فالشارع حكم بلزوم الأخذ بهذا الحكم ولو كان في البين وسائط عقليّة أو
عاديّة ، فالجعل يتعلّق أوّلا بهذا الكشف المتعلّق بالحكم الشرعي ، لأنّه القابل
للجعل من دون تعلّق له بتلك الوسائط أصلا.
وحينئذ نقول : إذا
قال الشيخ : قال المفيد : قال الصدوق : قال الصفّار : قال العسكري عليهالسلام : تجب صلاة الجمعة ، فنحن بعد إحراز عدالة هؤلاء المذكورين
في السلسلة وعدم تخصيص حكم «صدّق العادل» بالنسبة إلى واحد منهم لا نحتاج إلّا إلى
تعبّد واحد بوجوب صلاة الجمعة.
وذلك لأنّ خبر
الشيخ محرز وجدانا وهو كاشف نوعيّ عن خبر المفيد ، وهذا المكشوف كاشف نوعي عن خبر
الصدوق وهكذا إلى وجوب صلاة الجمعة ، بحيث لو فرض حصول الظنّ الفعلي من قول العادل
لكنّا ظانّين بوجوب الجمعة فعلا من قول العادل، غاية الأمر أنّ الحال يحصل الظن
النوعي من هذه السلسلة التي أوّلها وجداني ، نعم هذا كشف ناقص فنحتاج ـ كما في كلّ
مقام ـ إلى تتميمه بقول الشارع : «صدّق العادل».
وبالجملة ، يصدق
على هذا الانكشاف أنّه حصل من قول العادل ونشأ من حسن الظنّ به وبعد احتمال الكذب
في حقّه ، بحيث لو لم يكن المنكشف لزم كذب أحد العدول المذكورة في السلسلة.
نعم لو كان واحد
من أهل السلسلة خارجا عن حكم «صدّق» بأن كان فاسقا أو مشكوك الحال لا يتمّ ما
ذكرنا ، فحاله حال ما إذا كان في الوسائط أولويّة ظنّية أو غيرها من الظنون الغير
المعتبرة ، ووجهه كما مرّ أنّا نحتاج إلى وجود دليل الاعتبار في كلّ واسطة ولو على
نحو التعليق على وجود الموضوع من دون حاجة إلى إحراز الموضوع ، فإنّه مع عدم ترتيب
الأثر يلزم قطعا إمّا كذب الشيخ ، ولو صدق هو كذب المفيد وهكذا ، والحال أنّ الكلّ
واجب التصديق ومحرّم التكذيب بلا تقييد بوصول شخص خبرهم إلينا تفصيلا ؛ إذ الألفاظ
موضوعة للمعاني النفس الأمريّة لا المحرزة الواصلة إلى المكلّف تفصيلا.
فتحصّل أنّا لا
نحتاج في إجراء دليل التعبّد في هذا الانكشاف إلى إدراجه تحت عنوان مقول العادل ،
ولا إلى تصحيح الملازمات الكائنة قبله لنحتاج على
التقديرين إلى
التعبّدات المترتّبة ، بل نجري أوّلا دليل التعبّد في نفس هذا الانكشاف لاتّصافه
بما هو المعيار من كونه حاصلا من قول العادل وأنّه لولاه لزم كذب عادل في خبر لا
محالة.
ثمّ إنّ شيخنا
الاستاد دام بقاه استشكل على القضيّة الطبيعيّة في المقام بوجهين ، الأوّل : في
كلّي شمول الطبيعية نفسها ، والثاني : في خصوص المقام ولو فرغ عن كليّه ، أمّا
الخاص بالمقام فهو أنّ التصديق الواجب ليس المراد به التصديق الجناني ، بل العمل
الخارجي، وليس لخبر المفيد وغيره في المقام أثر عملي حتى بعد ملاحظة كونه موضوعا
لوجوب التصديق ، فإنّه بعد عدم كون المراد منه البناء القلبي على الصدق ليس في حدّ
نفسه أثرا عمليّا ، فيرجع الأمر بالأخرة إلى إيجاب الصلاة التي هي المنتهى إليه
السلسلة ، ومنه يعلم أنّه لو صحّحنا الطبيعيّة في مقام آخر فلا ينفعنا في هذا
المقام ، بل النافع هي الطريقة التي ذكرناها ليس إلّا.
وفيه أنّه يمكن
تجزئة هذا العمل الواحد الذي هو الصلاة وتسهيمه على هذه الأخبار، فباب عدمها من
ناحية كلّ خبر ينسدّ بواسطة «اعمل» المتعلّق بهذا الخبر ، فكلّ يتكفّل لسدّ باب من
ابواب عدمه ولإصلاح طرف من أطرافه ، نظير شيء له مقدّمات أخبر بكلّ واحدة منها
عادل.
وأمّا الإشكال
العام فهو أنّ المتكلّم لو لاحظ الطبيعة في جانب الموضوع على نحو لا يتعدّى نظره
منها إلى الأفراد أصلا وبعبارة اخرى : كان بصدد امتياز الطبيعة عن طبيعة اخرى كما
في قضيّة ، «الرجل خير من المرأة» ففي هذه الصورة يمكن شمول حكم القضيّة لنفسها
باعتبار الطبيعة الموجودة فيها ، لفرض أنّ النظر مقصور على صرف الطبيعة ، والإشكال
أعني وحدة الحكم والموضوع وبعبارة اخرى إيجاد الحكم لموضوع نفسه إنّما يحدث من
وقوع النظر على خصوصيّة شخص هذا الفرد المتأتّي من قبل الحكم.
وأمّا لو لاحظ
الطبيعة على نحو السريان وأنّها بكلّ وجود تلبّس ، لها هذا الحكم
فلا محالة حينئذ
يقع نظره على هذا المصداق المتأتّي من قبل الحكم أيضا.
فإن قلت : إنّما
يسري إليه بما هو وجود للطبيعة لا بما هو وجود خاص.
قلت : الخصوصيّة
خارجة ، ولكنّ الخاص بما هو خاص يصير معروضا.
فإن قلت : مع هذا
أيضا يمكن التفكيك ؛ فإنّ الخاص بما هو حصّة خاصّة للطبيعة مغاير ذهنا معه بما هو
وجود هذا الفرد كما قلت في مبحث الاجتماع.
قلت : فرق بين
العرض التحليلي أعني ما يتعلّق بالطبيعة باعتبار وجودها التحليلي ، ففيه يتمّ ذلك
ومحلّ الكلام في ذلك المبحث من هذا القبيل ، وبين العرض الخارجي وما يعرضها في
الوجود الخارجي ؛ فإنّه لا محالة يسري إلى الفرد ، فإذا صار الإنسان أبيض فلا
محالة يصير الزيد أيضا أبيض ، وما نحن فيه من هذا القبيل ، والفرق هو اختلاف ما
بين الأفعال المتعلّقة للأحكام والموضوعات المتعلّقة لتلك الأفعال.
وفيه أنّه فيما
إذا علّق الحكم على الطبيعة بلحاظ الوجود الساري يكون النظر مقصورا على حصّة
الطبيعة بما هي هذه الحصّة الخاصّة للطبيعة ، وهي مغايرة في اللحاظ عن الخاص
بالخصوصيّات الشخصيّة الفرديّة ، ولهذا يصحّ إيقاع الحمل بينهما ، ويقال : هذا
الإنسان مثلا زيد ، فنقول : إذا ثبت عرض لهذا الإنسان فالمتكلّم ما لاحظ الزيد وإن
كان صحّة النسبة وصدقها تكون موقوفة على ثبوت هذا العرض في الخارج على وجه لا
ينفكّ عن وقوع الخاص بتمام الوجود ، بحيث لا يبقي حيثيّة منه خارجا متلبّسا بهذا
العرض ، ولكن في لحاظ الإثبات إنّما اثبت العرض بحيثيّة واحدة وهي حيثيّة حصّة
الطبيعة.
ففرق بين : كلّ
إنسان كذا وقولنا : الإنسان كذا بلحاظ الطبيعة بالوجود السرياني ، ففي الأوّل وقع
كلّ خاصّ خاصّ بشراشر وجوده وحيثيّاته تحت الحكم في لحاظ الحاكم بنحو الإجمال ،
ولهذا نقول : لا يمكن شمول القضيّة بهذا النحو نفسها ؛ إذ لحاظ ما يتفرّع على
الحكم ويتأتّى من ناحيته غير ممكن قبل الحكم ولو على نحو
الإجمال. وأمّا في
الثاني فلم يتعلّق نظر الحاكم بالخصوصيّة المتأتّية من قبل الحكم لا إجمالا ولا
تفصيلا.
فإن قلت : فعلى
هذا نحتاج إلى المناط بالإضافة إلى الخصوصيّة لإحراز أنّه لا مانع من قبلها في
فعليّة الحكم المتعلّق بالحصّة.
قلت : بعد ما وقع
هذه الحصّة تحت الحكم لا يعقل وقوع الخصوصيّة تحت ما يضادّه ، فإنّه لا يعقل أن
يحكم على هذا الإنسان بما هو هذا الإنسان بأنّه واجب الإكرام ، ويحكم عليه بما هو
زيد بأنّه محرّم الإكرام.
فإن قلت : لا مانع
من أن يتعلّق حكم بالذات بلا سراية إلى الخصوصيّة ، وحكم مضادّ له بالخصوصيّة كما
هو الحال في الظاهري مع الواقعي.
قلت : قد استشكلنا
عين هذا الإشكال هناك أيضا وهو أنّه وإن كان في الرتبة الثانية لا يسري الحكم إلى
الاولى ولكنّه ينافي معه ؛ لأنّ لحاظ أصل الذات مع فرض الحكم عليه بالوجوب مثلا
ينافي مع الحكم في الرتبة الثانية بمضادة ، وقد أجبتم عن الإشكال بإمكان دخل قيد
التجرّد في الحكم ، ولكن هذا لا يتمشّي هنا ؛ إذ الفرض تأتّي الحكم بمقتضى الإطلاق
في هذه الذات ، وبعد ذلك يلزم اللغوية لو جعل الحكم المضادّ في الخصوصيّة.
وبالجملة وإن كان
الإطلاق قاصرا عن شمول الخصوصيّة ، لكنّه يكون بحيث يكفينا مئونة تحصيل المناط من
الخارج ؛ إذ بنفسه يستكشف عدم المانع من قبل الخصوصيّة لمكان التنافي بينهما ،
والأمارات مثبتاتها أيضا حجّة.
ومن جملة الآيات
التي استدلّ بها لحجيّة خبر الواحد آية النفر ، وهي قوله تعالى : (فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ
مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) حيث دلّت الآية على وجوب الحذر عقيب الإنذار ، فيدلّ على
وجوب القبول عند التفقّه والإخبار.
أمّا دلالتها على
وجوب الحذر عقيب الإنذار فمن وجوه :
الأوّل : أنّ معنى
كلمة «لعلّ» هو الطلب مع الرجاء للحصول ، واحتمال عدم الحصول وقيد الرجاء غير ممكن
في البارى تعالى فينسلخ عنه ويبقى الطلب المجرّد ، وبعد ذلك يصير المحصّل أنّ
الحذر مطلوب.
فنقول : إذا ثبت
رجحان الحذر ثبت وجوبه لوجهين ، الأوّل : ما ذكره في المعالم من أنّ مقتضى الوجوب
إمّا موجود وإمّا لا ، وبعبارة اخرى : إمّا تكون الحجّة تامّة وإمّا لا ، فعلى
الأوّل يجب الحذر وعلى الثاني لا يحسن ، والثاني : الإجماع على أنّه متى ثبت هنا
الرجحان ثبت الوجوب ، وذلك لأنّهم في هذا الباب بين من لا يجوّز العمل بخبر الواحد
وبين من يوجبه ، ولا قائل بالرجحان وعدم الوجوب.
والوجه الثاني :
أنّ الحذر وقع غاية للإنذار وهو واجب ؛ لأنّه وقع غاية للنفر وهو واجب بواسطة كلمة
«لو لا» وغاية الواجب واجبة إذا كانت من فعل المكلّف.
والوجه الثالث :
أنّ الإنذار واجب لما تقدّم ، ووجوبه مستلزم لوجوب الحذر والقبول؛ إذ لو لم يجب
القبول لزم لغويّة وجوب الإنذار ، وبنظير ذلك استدلّوا في باب وجوب قبول شهادة
المرأة بما في رحمها ، لثبوت النهي عن كتمان ما في أرحامهنّ في الآية ، فبهذه
الوجوه الثلاثة ثبت وجوب الحذر والقبول عقيب الإنذار ، فيكون خبر الواحد في
الأحكام الشرعيّة واجب القبول.
أقول : أمّا ما
ذكر في الوجه الأوّل من انسلاخ لفظة «لعلّ» عن معنى الترجّي فمبنيّ على كون مثل
هذه الكلمة من هيئة الأمر ونحوها حقيقة في الصفات الموجودة في النفس كالترجّي
الحقيقي والإرادة الحقيقيّة ، وأمّا على قول من يقول بأنّ تلك الهيئات والألفاظ
حقيقة في المعنى الذي يوجدها تلك الألفاظ ، وبعبارة اخرى : هيئة الأمر موضوعة
للطلب الإيقاعي دون الطلب الواقعي ، ولفظة «لعلّ» موضوعة للترجّي الإيقاعي دون
الواقعي ، فهي أبدا مستعملة في معناها الحقيقي الإيقاعي ، والاختلاف إنّما هو في
الدواعي، فقد يكون إيقاع هذا المعنى بداعي الوصف الواقعي ، وقد يكون بداع آخر.
فحينئذ لا يلزم
الانسلاخ لإمكان تمشّي الترجّي الإيقاعي في حقّ الباري ؛ لعدم منافاة إيقاع هذا
المعنى مع العلم بالحصول أو عدم الحصول ، بخلاف القول الأوّل أعني كون هذه الألفاظ
كواشف عن الصفات المتحقّقة في النفس دون كونها موجدة لمعانيها ـ كما قوّيناه ـ غاية
الأمر أنّ الصفة القائمة بالنفس المحكيّة بهذه الألفاظ قد تكون حاصلة عن مصلحة في
المتعلّق ، وقد تكون ناشئة عن المصلحة في نفسها يعني يوجدها الإنسان لمصلحة فيها ،
فإنّه كما أنّ الترجّي الحقيقي الناشئ من المصلحة في المتعلّق غير ممكن في حقّ
الباري لابتنائه على الشكّ الممتنع في حقّه تعالى ، كذلك ما يوجد لأجل المصلحة في
نفسه ، فإنّه صفة قائمة بانفسنا ، ولو قلنا به في حقّه تعالى لزم كونه تعالى محلا
لهذه الصفة الإيجاديّة وقيامها بذاته تعالى وهو محال.
ولكن يمكن حفظ
المعنى الحقيقي لهذه اللفظة وأمثالها إذا وقعت في كلامه تعالى على هذا القول أيضا
بأن يقال : ربّما يكون المتكلّم عالما وينزّل نفسه منزلة الشاكّ فيستفهم ، فحينئذ
يستعمل كلمة الاستفهام في كلامه في معناه ، كذلك ربّما ينزّل من هو عالم بحصول أمر
نفسه منزلة الشاكّ بحصول هذا الأمر المتوقّع لحصوله ، فيستعمل لفظة «لعلّ» فتقع
اللفظة في كلامه مستعملة في معناها الحقيقي من دون حاجة إلى تجريد وانسلاخ.
وبالجملة ، بحسب
مقام المحاورة والمكالمة يمكن أمثال ذلك في حقّه تعالى أيضا ، والأمر في ذلك سهل ،
ولعلّ من هذا القبيل كلمة «لعلّ» فيما إذا كان المقصود إلقاء التّرجي وإبدائه
للمخاطب بدون أن يكون الغرض إظهار ترجّي نفس المتكلّم كما في قوله تعالى : (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى).
وكيف كان فالحق
عدم جواز الاستدلال بالآية لحجيّة الخبر ، والوجوه
__________________
المذكورة كلّها
مخدوشة ، أمّا توجيه الملازمة بين رجحان الحذر عقيب الإنذار وبين وجوبه بما ذكره
في المعالم ، فلأنّه إنّما يتمّ بالنظر إلى العقاب ؛ إذ هو إمّا معلوم الاستحقاق
فيجب الحذر ، وإمّا غير معلوم فلا يحسن ، للعلم بعدمه بحكم العقل بقبح العقاب بلا
بيان ، فإنذار المنذر إمّا حجّة فيجب الحذر ، وإمّا لا فلا يحسن ، ولكنّه بالنظر
إلى المصلحة والمفسدة غير تامّ ؛ إذ يمكن فرض الرجحان بدون الوجوب للحذر عن فوت المصلحة
أو الوقوع في المفسدة الكامنتين في الفعل ، فيحسن لأجل ذلك الاحتياط والتحذّر وإن
كان لا يحسن من حيث العقوبة.
وأمّا توجيه
الملازمة بالإجماع المركّب والوجه الثاني ـ أعني إثبات وجوب الحذر بكونه غاية
للانذار الواقع غاية للنفر الواجب بقضيّة لفظة «لو لا» ـ والوجه الثالث اعني ـ إثبات
الوجوب في الإنذار بما ذكروا في الحذر بلزوم اللغويّة ـ فالخدشة في الكلّ من
جهتين.
الاولى : أنّ
الآية إنّما تدلّ على المدّعى لو استفيد منها وجوب الحذر مطلقا ، سواء
__________________
فإن قلت : الجاهل نفس جهله واحتماله
يكفي في جريان حكم العقل في حقّه. قلت : فرق واضح بين الجاهل العامل أو الملتفت
المغمور في الشهوات ، وبين من يعظه وينذره شخص عالم فقيه خبير بالمطالب ، وبالجملة
إنكار ثمرة الإنذار حتّى في حقّ العالم فضلا عن الجاهل بمثابة إنكار البديهي. منه قدسسره الشريف.
كان الإنذار مفيدا
للعلم أم لا ، وليس كذلك ، فليست الآية إلّا بصدد أصل مطلوبيّة النفر والتفقّه
والإنذار والحذر عقيبه ، أمّا أنّ مطلوبيّة الحذر تكون مطلقة أو مشروطة بحصول
العلم فالآية ساكتة عن هذه الجهة.
وبالجملة الآية
متعرّضة لتكليف النافرين وفي مقام تحريصهم على النفر والتفقّه ، وذكر الحذر من
المتخلّفين يكون على سبيل الفائدة ، فتكون من جهته في مقام الإهمال.
فحينئذ من الممكن
أن يكون وجوب الحذر مخصوصا بما إذا حصل العلم بصدق الإنذار ، لصدوره من طائفة
وجماعة واحدا بعد واحد ، بل ربّما يستظهر ذلك من كلمة «لعلّ» ومن استدلال الإمام عليهالسلام بهذه الآية لوجوب النفر لمعرفة الإمام ؛ إذ يعلم منه أنّ
الآية إمّا مخصوصة بالاصول أو عامّة لها وللفروع ، ومن المعلوم أنّ الإنذار في
الاصول يجب قبوله لو أفاد العلم لا غير.
والثانية : أنّ
النفر وجب لأجل تفقّه المسائل التي هي من الدين واقعا ، والإنذار بهذه المسائل
أيضا واجب ، فالحذر إنّما يجب عقيب الإنذار بالامور التي تكون من الدين واقعا ،
وهذا لا يصير منجّزا إلّا بعد إحراز كون إنذار المنذر إنّما تعلّق بالأمر الواقعي
، وهو لا يتحقّق إلّا مع العلم بصدقه ، وأمّا لو لم يعلم أنّه أنذر بالواقع أو لا
فلا يجب الحذر ، والحاصل أنّه لا يستفاد من الآية حكم تعبّدي بلزوم قبول إخبار
المنذر وإن لم يفد العلم.
فإن قلت : إنّ ما
ذكرت من عدم كون الآية بصدد إيجاب تصديق المنذر وقبول قوله تعبّدا ، وعدم استفادة
التعبّد منها أصلا ينافيه إيجاب جميع أفراد الإنذار ما أفاد منها العلم وما لم يفد
؛ إذ الطائفة الغير المفيدة للعلم يكون إيجابها على هذا لغوا ، لعدم إيجاب قبوله.
قلت : لو كان بين
هاتين الطائفتين مميّز خارجي أو أمكن التقييد في الكلام بقيد يساوق الأفراد
المفيدة للعلم كان ما ذكرته حقّا ، ولكن ليس تلك الأفراد متمايزة
بنفسها ، وليس هنا
قيد حصل الامتياز بسببه أيضا وإن كان هو علم المنذر بحصول العلم للمنذر بإنذاره ،
فإنّ الشارع رأى أنّه لو قيّد بذلك فأوجب الإنذار الذي يعلم المنذر أنّه مفيد
للعلم فربّما يخطأ في تشخيص مصداقه ، فيعلم المفيد غير المفيد ، فلهذا أوجب عليه
جميع الأفراد إدراكا لما فيها من الواجب الأصلي ، ولا يعدّ هذا من اللغو في شيء.
وإن شئت توضيح ذلك
بالمثال فلاحظ حاكم البلد حيث يأمر الحفظة بالليل بأخذ كلّ من وجدوه بعد مضيّ أربع
ساعات من الليل مثلا ، مع أنّ من الواضح أن ليس المقصود إلّا أخذ السارق ، ولكن
لمّا لم يكن للسارق علامة يمتاز بها عن غيره ، والإحالة إلى نظر الحفظة أيضا قد
يؤدّي إلى خلاف الواقع ، إذ اللازم حينئذ عدم أخذ مشكوك الحال لأجل الشبهة
المصداقيّة فلا جرم جعلوا المأمور به أخذ كلّ من يخرج بالليل بعد المدّة المعيّنة.
وهنا فرد آخر وهو
ما إذا حصل العلم بسبب إنذار المتعدّد منضمّا لا من كلّ واحد منفردا ، فحينئذ حاله
حال ما إذا لم يتمكّن العشرة كلّ منهم منفردا لرفع الحجر مع قدرة المجموع بهيئة
الاجتماع عليه ، فحينئذ وإن كان إعمال قوّة كلّ مطلوبا مقدّميّا ـ وقد قلنا في باب
المقدّمة : إنّ وجوب المقدّمة مختصّة بحال وجود سائر المقدّمات ـ ولكنّ الواجب هنا
تعليق الحكم بنحو الإطلاق نحو عمل كلّ واحد واحد ؛ إذ لو كان الوجوب في حقّ كلّ
مشروطا بإقدام غيره فيلزم أن يتقاعدوا جميعا ولا يكونوا في هذا الفرض بعاصين ،
فيلزم نقض الغرض ، فإذا انحصر طريق دفع نقض الغرض بتوجيه الأمر المطلق نحو كلّ
واحد يجب عقلا ذلك وإن كان ملاك الحبّ مخصوصا بحالة الاجتماع ، فهذا نظير أمر
العسكر بالتهاجم على العدو بإلزام كلّ فرد منهم على سبيل الإطلاق وتوعيده على
التخلّف ، غاية الأمر حمل كلّ على الإقدام هناك بالعمل الخارجي يعني بالزجر
الخارجي ، وهنا يكون بالأمر التشريعي.
فقد تحصّل ممّا
ذكرنا أنّ الآية لا تنفع لحجيّة الإنذار تعبّدا أصلا ، وإنّما يفيد
وجوب الحذر لو حصل
العلم من الإنذار ، فكلّ فرد من الإنذار واجب على المنذر بالكسر، لكن لا يجب
القبول على المنذر بالفتح إلّا عقيب خصوص الإنذار المفيد للعلم.
ثمّ إنّ شيخنا
المرتضى قدسسره ـ بعد الغضّ عن الإشكالين السابقين وتسليم دلالة الآية على
لزوم الحذر مطلقا سواء حصل العلم من قول المنذر أم لا ـ استشكل في دلالة الآية على
حجيّة الخبر أيضا بما حاصله : أنّ الراوي ليس له الإنذار للمجتهد ؛ لابتنائه على
فهم معنى ألفاظ الحديث ، فإنّ الإنذار إنّما هو بمعناها ، وربّما اختلف فهمه مع
فهم المجتهد في ذلك ، ففهم هو الوجوب فلهذا أنذر ، والمجتهد يفهم عدم الوجوب فلا
إنذار بحسب رأيه ، نعم له حقّ ذلك بالنسبة إلى من يكون رأيه متّبعا في حقّه
كمقلّديه ؛ وأمّا المجتهد فليس للراوي إنذاره ممّا فهمه من معنى الرواية ، وإنّما
يكون له بالنسبة إليه نقل ألفاظ الحديث فقط.
فالآية حيث إنّها
مشتملة على وجوب الحذر عقيب الإنذار ، ووجوب قبوله مختصّة بإنذار المجتهد لمقلّديه
فهي إنّما تدلّ على حجيّة الإنذار في مقام الفتوى ، ولا دلالة له لحجيّته في مقام
الخبر والرواية ، فالاستدلال بها لوجوب التقليد أولى منه لوجوب تصديق الرواة.
قلت : قد عرفت أنّ
مع عدم الإغماض عن الإشكالين لا دلالة للآية لحجيّة الإنذار أصلا لا في مقام
الإفتاء ولا في مقام الإخبار ، وإنّما تفيد وجوب القبول في مقام حصول العلم ،
وأمّا مع الغضّ عنهما فالإنصاف تماميّة دلالتها على حجيّة الخبر دون الإفتاء ،
وذلك لأنّ الاجتهاد والتقليد قد حدثا في هذه الأزمنة بعد عدمهما في زمان حضور
الإمام.
فحال الرواة في
تلك الأزمنة كان كحال نقلة الفتاوى للمقلّدين في هذه الأزمنة ، فكما أنّه قد ينذر
ناقل الفتوى للعوام كأن قال : قال العالم الفلاني : من شرب الخمر عوقب بكذا من دون
مدخليّة رأي الناقل في ذلك أصلا ، كذلك في تلك الأزمنة
كان ناقل الأحكام
عن الإمام بلفظه أو بالمعنى قد ينذر المنقول إليهم ، وكان الغالب تصديقهم له في
فهم المعنى من دون إظهار مخالفة له في فهمه كما هو الحال في نقل الفتوى في زماننا.
والحاصل : كان همّ
الرواة مصروفا بضبط المطالب والمعاني دون مجرّد الألفاظ ، وكان المهمّ في النقل
أيضا نقل المطالب ، وكان تفقّههم ذلك ، والاختلاف في فهم المعاني كان كما هو كذلك
الآن في غاية الندرة ، وعلى هذا فصدق الإنذار على نقل الراوي لا إشكال فيه ، هذا.
ويمكن أن يقال :
إنّ ظاهر الآية وجوب الحذر عقيب الإنذار بطور الإطلاق وهو ينافي مع كونها في مقام
الحجيّة على المجتهد الذي شأنه الفحص في سائر ما بيده من الأمارات والأدلّة ،
وملاحظة وجود المعارض وعدمه ، وقوّته وعدمه ، ثمّ بعد اليأس عن المعارض الأقوى
يحذر من قول المنذر ، وظاهر الآية أن لا يكون للمنذر بالفتح بعد الإنذار حالة
منتظرة ، بل يتحذّر ويتخوّف بنفس الإنذار ويكون الإنذار علّة تامّة لحذره ، فالآية
مناسبة بحال المستفتي والمفتي.
وإن شئت التوضيح
فلاحظ منذرين أحدهما ينذر مقلّده والآخر ينذر المجتهد ، فالأوّل بمحض إنذاره يذهب
مقلّده نحو العمل بلا مهلة ، وأمّا المجتهد فيقول : اصبر حتّى اراجع لأن أفهم هل
في البين دليل أقوى أولا ، فعلى الثاني اتحذّر من قولك ، فأنصف من نفسك أيّهما
ألصق وأنسب بالمدلوليّة للآية؟.
وحاصل الكلام أنّ
الحذر أوّلا ليس هو العمل ، وثانيا ليس للآية إطلاق حتى في حال الشكّ ، وثالثا
سلّمنا أنّ الحذر بمعنى العمل وأنّ للآية الإطلاق ، ولكن ليس في مقام التعبّد
وإنّما الحكم متعلّق بنفس الواقع المنذر به ، وأين هو من التعبّد وجعل الإنذار
حجّة في مقام الظاهر ، ورابعا سلّمنا أنّ الحذر بمعنى العمل ، والآية لها إطلاق
وتكون بمقام التعبّد ، لكن ليس مرتبطا بجعل حجيّة الخبر وقول الراوي ، وإنّما
ترتبط بحجيّة قول المفتي في حقّ المستفتي ، وذلك لأنّ استناد العمل في الأوّل إلى
فهم نفس المنذر
بالفتح ، وفي الثاني أيضا وإن كان العمل يحتاج إلى الفهم ، ولكنّ الفهم فيه فهم
مدّعى المنذر بالكسر ، وفي الأوّل يكون فهم مستنده ، وظاهر الآية أن يكون الحذر
مستندا إلى الإنذار بلا واسطة شيء في ما بين العمل والإنذار.
والحاصل : في مقام
الرواية الإنذار سبب لفهم المنذر ، وفهمه سبب لحذره ، ولكن في مقام الفتوى الإنذار
سبب بلا واسطة للحذر ، غاية الأمر الالتفات شرط تأثيره ، ولعلّ مراد شيخنا المرتضى
أيضا ذلك فراجع عبارته.
وبالجملة فالآية
على هذا تدلّ على حجيّة الرواية مع الإنذار ، وتكون دالّة على الحجيّة بدونه
بضميمة عدم القول بالفصل ، بمعنى أنّه تكون الآية دليلا فيما يشتمل على الوجوب أو
التحريم ونفي غيره ممّا يشتمل على الإباحة أو الكراهة أو الاستحباب ، ويتمّ الحكم
فيه بعدم القول بالفصل بين الأخبار.
ومن جملة الآيات
آية الكتمان ، وهي قوله تعالى في سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ
يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما
بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ
اللَّاعِنُونَ).
حيث دلت على حرمة
الكتمان ووجوب إظهار الحق للناس ، ولو كان القبول غير لازم لزم اللغويّة.
وجوابه يظهر ممّا
مرّ في آية النفر من خلوّ الآية عن التعبّد بقبول قول المظهر ، لسكوته عن أنّ وجوب
القبول عقيبه يكون على نحو الإطلاق سواء حصل العلم أم لا ، وإنّما المقصود وجوب
إظهار الحقّ ، ولعلّه كان وجوب القبول مشروطا بوضوح الحق والعلم به لكثرة مظهريه ،
فأوجب الله على الآحاد الإظهار ليتّضح بسبب إظهاراتهم الحق ويصير معلوما للناس ،
فيصير قبوله حينئذ واجبا ، وأيضا فما يحرم كتمانه ويجب إظهاره إنّما هو الحقّ
الواقعى ، فالواجب قبوله أيضا هو الحقّ الواقعي ، فلا بدّ أوّلا من إحراز أنّ ما
يظهره المظهر حقّ واقعي ثمّ الحكم بوجوبه ، وهو لا يتمّ إلّا مع حصول العلم من
إظهاره ، وأمّا بدونه فيكون من الشبهة المصداقيّة.
ثمّ الجواب عن
لزوم اللغويّة في إيجاب الفرد الغير المفيد للعلم من الكتمان هو الجواب منه في
الآية المتقدّمة حرفا بحرف.
ومن جملة الآيات
آية السؤال عن أهل الذكر وهي آيتان ، إحداهما في سورة النحل وهي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا
رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ).
والاخرى في سورة
الأنبياء وهي قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا
قَبْلَكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
وجه الاستدلال نحو
ما تقدّم من أنّ وجوب السؤال ملازم لوجوب القبول ، وإلّا يلزم اللغويّة ، ثمّ
بضميمة عدم القول بالفصل يثبت المدّعى في جميع الأخبار ممّا كان مسبوقا بالسؤال
وما كان كلاما ابتدائيّا.
وفيه أمّا أوّلا :
فلأنّ ظاهر هذا الكلام وجوب تحصيل العلم كما يقال عرفا : إن كنت جاهلا فاسئل من
العالم يعني لتصير عالما ، فمعنى الآية والله العالم : فاسألوا أهل الذكر إن كنتم
لا تعلمون لتعلموا ، فليس في مقام الحكم بالتعبّد بالجواب حتى يقال : إنّ العلم
طريقي ، والظنّ بعد التعبّد يقوم مقام العلم الطريقي ويكون علما ، بل يكون في مقام
الإرشاد إلى علاج رفع الجهل وجدانا.
وأمّا ثانيا :
فلأنّ ظاهر سياق الآية كما يظهر من ملاحظة الصدر هو السؤال عن علماء أهل الكتاب عن
أحوال أنبياء السلف ، فلا يشمل الرواة ، ومن هنا يظهر وجه آخر لعدم كون الآية في
مقام التعبّد ؛ فإنّ موردها مسألة اعتقاديّة متعلّقة بمعرفة الأنبياء ، ولا شكّ في
عدم التعبّد في العقائد ولزوم تحصيل العلم فيها.
وأمّا ثالثا : فمع
الغضّ عن ذلك فقد ورد في الأخبار أنّ المراد بأهل الذكر هم الأئمّةعليهمالسلام إمّا لكون هذا الكلام جملة مستقلّة وعدم كونها تتمّة
للمطلب السابق وإن كان خلاف ظاهر «الفاء» التفريعيّة ، وإمّا على وجه التأويل.
وحينئذ فإن كانت
هذه الأخبار متواترة فلا ربط للآية بما نحن فيه ، وإن كانت
أخبار آحاد فيلزم
من الاستدلال بالآية على حجيّة أخبار الآحاد أن يلزم من حجيّتها عدم حجيّتها ؛
فإنّ من جملة أخبار الآحاد هذه الأخبار الدالّة على أنّ المراد بأهل الذكر هم
الأئمّة ، فإذا صارت حجّة بالآية ثبت أنّ المراد من الآية غير الرواة ، فيلزم من
وجود الحجيّة عدمها.
ثمّ على تقدير
الغضّ عن جميع ذلك وتسليم اشتمال الآية على لزوم قبول الجواب تعبّدا قد يتوهّم عدم
دلالتها على حجيّة الرواية أيضا ؛ لأنّ المراد من أهل الذكر أهل العلم ، فتكون مسوقة
لحجيّة قول المجتهد على العوام إذا سألوا عنه ، فالآية دالّة حينئذ على وجوب
التقليد دون حجيّة قول الراوي ، وهذا التوهّم فاسد فإنّ الرواة في الأزمنة السابقة
كانوا هم أهل الذكر والعلم وهو كذلك ، ويشهد لذلك ما ورد في الأخبار المستفيضة من
أنّه «اعرفوا منازل الرجال منّا بقدر رواياتهم عنّا» .
وعلى هذا فكلّ من
كان راويا لرواية يكون بالنسبة إلى من لا علم له بهذه الرواية فردا حقيقيّا لأهل
الذكر ، فلا حاجة إلى تجشّم أنّ مثل الزرارة وابن مسلم وأمثالهما كانوا من أهل
الذكر أيضا ، فإذا ثبت حجيّة الرواية منهم ثبت من الراوي الذي ليس من أهل الذكر
بعدم القول بالفصل ، حتّى يجاب عن ذلك بأنّ كون قول زرارة وابن مسلم وأضرابهما من
حيث هم أهل الذكر حجّة لا يدّل على حجيّة القول الصادر عنهم من حيث هم رواة.
ومن جملة الآيات
آية الاذن المذكورة في سورة التوبة ، وهي قوله تعالى : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ
النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ
وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ).
قد قرن الإيمان
للمؤمنين بالإيمان بالله تعالى ومدحه بهما ، ومن ذلك نعلم أنّ الإيمان للمؤمن
وتصديقه مطلوب على حد مطلوبيّة الإيمان بالله ، فيكون واجبا
__________________
أيضا ، فيدلّ على
حجيّة خبر المؤمن ووجوب تصديقه ، فإن استفيد من أدلّة اخرى زيادة قيد آخر علاوة عن
الإيمان قيّدنا الآية به وخصّصنا الحجيّة بخبر المؤمن الواحد لذاك القيد ، وإلّا
فيكون خبر المؤمن بقول مطلق حجّة ، هذا.
والإنصاف عدم
الدلالة في هذه الآية أيضا ، وذلك لأنّ الإيمان الذي هو المراد في تلك الآية ومدح
به النبي وقرن بالإيمان بالله تعالى ليس هو التصديق بمعنى ترتيب جميع ما للواقع من
الآثار على مفاد خبر المؤمن ، بل المقصود حسن المعاشرة مع المؤمن وقبول قوله في الآثار
المرتبطة بمقام المعاشرة وحسن المصاحبة.
والذي يرشدك إلى
هذا أنّ من كان رئيسا على قوم فمن أعظم أركان بقاء رئاسته وميل النفوس إليه وعدم
تشتّتهم عن حوله اتّصافه بمقدار من الاذنيّة بمعنى أن يكون سريع التصديق لهم في
الآثار التي بينهم وبين شخص نفسه ، مثلا لو اطّلع ولو بإخبار ألف عدل على أنّه قال
في حقّه فلان بكذا ، ثمّ أنكر هذا الفلان وادّعى أنّه ما تكلّم في ذمّه وسبّه بشيء
يصدّقه ، ويفرض ما صار في الوضوح كالمرئيّ بعينه كأنّه لم يره ولم يسمع به ، ولا
يقطع مودّته ومحبّته معه ، ضرورة أنّ الرئيس لو بنى على أن يرتّب الأثر على كلّ
خبر يحكى عنده من ارتكاب بعض رعيّته سوء أدب بالنسبة إليه فقام بصدد مجازاته لم
يبق في أطرافه إلّا شاذ قليل أوحدي واحد أو قليل ، فيختلّ بذلك أمر رئاسته ، وبه
يسقط عن تمام الأغراض والقيام بما هو الوظيفة ، وهذا معلوم بالحسّ والعيان وبالتجربة
الحاصلة من النظر إلى أحوال الرؤساء العامّة
__________________
من العلماء أو
غيرهم.
وعلى هذا فالآية
مسوقة مساق الرواية الواردة في باب حسن معاشرة الإخوان من أنّه«إذا شهد عندك خمسون
قسامة أنّه قال قولا وقال : لم أقله فصدّقه وكذّبهم» وقد فسّر القسامة بالبيّنة
الشرعيّة أعني العدلين ، فإنّ الملحوظ بهذا الكلام هو المبالغة في حفظ مقام
الاخوّة ومراعاة حسن السلوك مع الإخوان وعدم قطع علاقة المودّة ولو بإخبار هذا
العدد من العدول بأنّه قال في غيابك كذا وكذا إذا أنكر هو وقال : ما صدر منّي
جسارة إليك ، فالمقصود من تصديقه حينئذ قبول قوله وإظهار الاعتقاد القلبي بمفاد
قوله ، وليس المقصود هو التصديق بمعنى ترتيب مطلق الآثار ، وإلّا فكيف يمكن تكذيب
خمسين بيّنة وتصديق الواحد.
فلو كان لما أخبر
به العدول أثر شرعي غير مربوط بمقام المعاشرة مثل الحدّ مثلا لو أخبروا بأنّه شرب
الخمر ـ مثلا ـ فليس هنا مقام التصديق وعدم إجراء الحدّ عليه ، بل المراد هو التصديق
بمعنى عدم ترتيب ما كان للمخبر به من الآثار بحسب المعاملة الشخصيّة المرتبطة
بمقام مراودة شخص المخبر له مع المخبر عنه ، مثل قطع المودّة ونحوه ، وممّا يؤيّد
إرادة هذا المعنى من الآية أيضا هو تكرار لفظة «يؤمن» فيها وتعدية الأوّل بالباء
والثاني باللام الدالّة على المنفعة.
فإن قلت : إنّ في
خبر إسماعيل بن جعفر الصادق صلوات الله عليه دلالة على أنّ المراد بالإيمان في
الآية التصديق بمعنى ترتيب آثار الواقع للتالي ، فأنّه عليهالسلام قال لإسماعيل بعد أن شهد عنده المسلمون على أنّ الرجل
القرشي المريد للسفر إلى اليمن شرب الخمر وأراد مع ذلك أن يدفع إليه دنانيره ليتجر
بها له : إذا شهد عندك المسلمون فصدّقهم ، واستشهد بهذه الآية.
قلت : المراد
بالتصديق في هذه الرواية أيضا ما ذكرنا ، يعني وإن كان مع إنكار الرجل ذلك لا بدّ
أنّ لا يغيّر معه السلوك ويقبل قوله بأنّه ما شرب ، ولكن لا بدّ من الاقتصار على
مجرّد اظهار التصديق وعدم التعدّي إلى مقام الفعليّة ، بمنى الحذر عنه
في الباطن وعدم
المعاملة معه معاملة الأمين ، فبالنسبة إلى مقام الفعليّة والعمل يجب تصديق الشهود
، ومن حيث آثار المعاشرة الظاهريّة تكذيبهم وتصديقه.
هذا مضافا إلى ما
في تسليم المال إليه بلا خوف مع سماع قول جماعة من المسلمين بما يدلّ على عدم
أمانته بمجرّد إظهاره الإنكار من توهين تلك الجماعة وعدم الاعتناء بأخبارهم
والإعراض عن متابعة خبرهم ، فمقتضى حسن المعاشرة معهم وحفظ حقوقهم أيضا هو التصديق
لهم بعدم استيمان الرجل ، فتحصّل من جميع ما ذكرنا عدم جواز الاستدلال بالآية
للمقام لكونها أجنبيّة عنه ، هذا ملخّص الكلام في الآيات التي تمسّك بها في الباب.
وأمّا السنّة ،
فاعلم أنّ الأخبار التي يتمسّك بها لهذا المقام لا بدّ وأن تكون متواترة ، لوضوح
عدم إمكان إثبات حجيّة أخبار الآحاد بأخبار الآحاد ، والمتواتر قد يكون متواترا
باللفظ وهو أن يكون لفظ الخبر مرويّة بطرق كثيرة بالغة حدّ التواتر ، واخرى يكون
بالمعنى وهو أن يخبر عدد كثير يحصل من كثرتهم العلم بمضمون واحد بألفاظ مختلفة ،
وثالثة يكون لا باللفظ ولا بالمعنى ويسمّى تواترا إجماليّا ، وهو أن يكون كثرة عدد
المخبرين بقضايا عديدة كلّ منها في مطلب غير ما يفيده الآخر بحدّ يحصل العلم بأنّ
أحد هذه القضايا التي أخبر بها هذه الجماعة صدق مطابق للواقع.
كما لو أخبر ألف
نفر كلّ منهم بخبر غير خبر الآخر ، فالإنسان يقطع بعدم إمكان كذب جميع هذه الأخبار
وعدم صدق واحد منها عادة ، فحينئذ لو لم يتوافق هذه الأخبار على معنى واحد أصلا
فلا ثمرة ، وأمّا لو كان هنا معنى يتوافق عليه كلّ هذه الأخبار يحصل العلم بصدق
هذا المعنى وواقعيّته وتحقّقه فاللازم الأخذ بما كان أخصّ مضمونا من هذه الأخبار ؛
إذ هو الذي يتوافق الكلّ عليه.
مثلا لو دلّ طائفة
كثيرة من الأخبار على حجيّة خبر الواحد ، وطائفة كثيرة اخرى على حجيّة خبر الثقة ،
وطائفة كثيرة ثالثة على حجيّة خبر العدل فحينئذ
تكون حجيّة خبر
الواحد الثقة العدل مقطوعا بها ، لعدم إمكان وجود الخبر الصادق بين هذه الطوائف
المتكثرة.
وحينئذ نقول : يجب
أوّلا ملاحظة أنّ ما يستفاد حجيّته من تضاعيف الأخبار يكون بحيث يفي في الفقه
بمقدار لم يبق من العلم الإجمالي شيء حتّى احتجنا إلى مقدّمات تفيد حجيّة مطلق
الظّن ، أو أنّه قليل بحيث لا يقضى منه الحاجة في الفقه بهذا المقدار ، وحينئذ
أيضا يمكن الاكتفاء بهذا العدد المتيقّن الغير الوافي في الفقه بدون لزوم انتهاء
الأمر إلى حجيّة مطلق الظن ، وذلك بأن يوجد في الأخبار ما يكون فردا لهذا المتيقّن
الحجيّة وكان هذا الخبر دالّا على حجيّة مقدار واف من الأخبار.
مثلا لو فرضنا أنّ
القدر المتيقّن من الأخبار حجيّة خبر العدل الإمامي عن مثله حتى يصل إلى المعصوم ،
الذي يعبر عنه بالصحيح الأعلائي ، وفرضنا عدم وفائه في الفقه على مقدار العلم
الإجمالي ، ولكن وجدنا في الأخبار خبرا واحدا صحيحا اعلائيّا كان دالّا على حجيّة
خبر الثقة وفرضنا وفاء خبر الثقة بمقدار العلم ، كان هذا مثل ما إذا كان مضمون
التواتر بلا واسطة حجيّة خبر الثقة ، ثمّ لو فرضنا عدم وفاء خبر الثقة أيضا فإن
وجد خبر ثقة دلّ على حجيّة خبر غيره على وجه كان وافيا أخذنا به ، وهكذا الحال إلى
أن يثبت الحجيّة على قدر الوفاء ، فلا ينتهي الأمر إلى حجيّة مطلق الظنّ.
فنقول : قد ادّعى
صاحب الوسائل أنّ الأخبار متواترة على حجيّة خبر الثقة ، فإن ثبت هذا التواتر فنعم
المطلوب ، وإن لم يثبت فلا أقلّ من أنّ المتيقّن حجيّة ما كان من قبيل الصحيح
الأعلائي ، وقد ظفرنا ـ بحمد الله تعالى ـ على فرد من هذا القسم دلّ على حجيّة خبر
الثقة وهو قوله عليهالسلام : «لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك في ما يرويه عنا
ثقاتنا» ، ثمّ لا يخفي على من راجع الفقه وفاء هذا النوع من الخبر على مقدار العلم
، والحمد لله ، ولكن ليعلم أنّه لا يثبت بهذا الخبر إلّا حجيّة رواية الثقة دون
مطلق الرواية التي حصل الوثوق بصدورها ولو من غير جهة
الوثوق براويها ،
بل من الأمارة الخارجيّة ، نعم حجيّة الثاني هو مفاد الإجماع على تقريره ببناء
العقلاء كما يأتي إن شاء الله تعالى.
وأمّا الاجماع
فتقريره من وجوه :
الأوّل : تحصيل
الإجماع إمّا من ملاحظة فتاوى المفتين بحجيّة خبر الواحد ، وإمّا من نقل نقلة
الإجماع لوصوله إلى حدّ التواتر على حجيّة خبر الواحد مطلقا.
والثاني : تحصيله
بأحد الوجهين على حجيّة في حال انسداد العلم ، فالأوّل إجماع من غير السيّد
وأتباعه ، فلو حصل العلم بهذا النحو من الإجماع لا بدّ من تخطئة السيّد ومن تبعه ،
والثاني إجماع من السيّد وغيره ؛ فإنّ السيّد أيضا معترف بحجيّة الخبر في حال
الانسداد.
والثالث : سيرة
المسلمين والمتديّنين بهذا الدين من حيث هم مسلمون ومتديّنون على العمل بخبر
الواحد الغير العلمي ، والفرق بينه وبين الإجماع أنّه إجماع جميع أهل الدين من غير
اختصاص ببعضهم ، بخلاف الثاني ، فإنّه إجماع خصوص العلماء منهم فتوى وعملا.
والإنصاف أنّ
التمسّك بالإجماع من هذه الوجوه مخدوش ، أمّا الإجماع تحصيلا أو نقلا على الحجيّة
مطلقا ، ففيه أنّه إنّما ينفع لو لم يحتمل أنّ مدرك المجمعين ومستندهم هو ما تقدّم
من الآيات والروايات ، وأمّا لو احتمل ذلك فلا يكون كاشفا قطعيّا عن رأى الإمامعليهالسلام ، ومن المعلوم أنّ باب هذا الاحتمال واسع.
وأمّا الإجماع على
أحد الوجهين على الحجيّة في حال الانسداد ففيه أنّه مركّب من إجماع طائفتين ،
إحداهما من يقول بالحجيّة من باب الظنّ المطلق ، والاخرى يقول بها من باب الظنّ
الخاص ، فأمّا الاولى فمستندهم مقدّمات الانسداد ، وأمّا الثانية فمدركهم الآيات
والروايات ، فكيف يتأتّى من هذا الإجماع الكشف القطعي عن قول الإمام.
هذا مضافا إلى
الخدشة بما في الكفاية من أنّ هذا الإجماع غير مفيد ؛ لأنّ القائلين كلّا
منهم قائل بحجيّة
خبر خاص ، ومثل هذا لا يفيد الكشف لحجيّة أصل الخبر.
بيان ذلك أنّ
العدد الذي يفيد قول جمعهم العلم لامتناع تواطئهم على الكذب إنّما هو مفيد للعلم
إذا أخبروا بمضمون واحد ، كما لو فرضنا أنّ العشرة هكذا ، فأخبر عشرة رجال بأنّ
الزيد قائم ، فبملاحظة امتناع تواطئهم على الكذب يحصل العلم بالصدق. وأمّا لو أخبر
هذا العدد كلّ منهم بمجيء شخص غير من أخبر بمجيئه الآخر ، فحينئذ لا يحصل العلم لا
بمجيء أحد الأشخاص المعيّنة ولا بمجيء الإنسان ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني
فلأنّه لو سئل عن كلّ من المخبرين أنّه لو لم يجئ الشخص الذي أخبرت بمجيئه فهل جاء
الإنسان؟ لقال : لا أعلم ، وأمّا لو وصل عدد هؤلاء المخبرين بمجيء الأشخاص
المختلفين إلى حدّ حصل العلم العادي باستحالة كذب مثل هذا العدد عادة ـ ويعبّر عنه
بالتواتر الإجمالي ـ حصل العلم حينئذ بالقدر المشترك أعني : مجيء الإنسان وإن لم
يحصل بأحد الخصوصيّات معيّنا.
مثلا لو أخبر مائة
رجل كلّ واحد بمجيء شخص غير من أخبر الآخر بمجيئه ، وقلنا: إنّ كذب المائة محال
عادة ، حصل العلم بأنّ واحدا من الأشخاص قد جاء وإن كان كلّ منهم مرددا لو سئل عن
مجيء الإنسان على تقدير عدم مجيء الخاص الذي أخبر بمجيئه.
نعم يمكن حصول
العلم بالقدر المشترك من إخبار العشرة أيضا لو كان إخبار كلّ واحد بمجيء الشخص
المعين متضمّنا للإخبار بمجيء الإنسان ، فكان قد أخبر بخبرين ، الأوّل : مجيء
الإنسان ، والثاني : أنّه هذا الشخص ، فحينئذ يحصل العلم بمجيء الإنسان ؛ لامتناع
التواطؤ على الكذب وإن كان لا يحصل بواحد من الخصوصيّات.
وحينئذ نقول : إنّ
المفتين بحجيّة خبر الواحد طائفة منهم قائلون بحجيّة خبر الثقة مثلا وطائفة بحجيّة
خبر العدل مثلا ، وطائفة بحجيّة خبر خاص آخر ، فإن كانوا هذه الطوائف لو سألوا
أنّه على تقدير فساد مذهبكم هل يكون هنا خبر حجّة؟
لقالوا : لا نعلم
فهذا الإجماع غير مفيد للعلم لا بحجيّة أحد الخصوصيّات ولا بحجيّة أصل الخبر في
الجملة ، وإن كانوا أجابوا بوجود خبر كان حجّة فكان في ما بينهم من المسلّم حجيّة
خبر واحد واختلفوا في خصوصيّاته ، فحينئذ إجماعهم نافع ، للعلم بحجيّة خبر الواحد
في الجملة ، ولكن دون إثبات كون إجماعهم من القبيل الثاني خرط القتاد.
وأمّا التمسّك
بالسيرة فإنّما ينفع لو احرز أنّ بناء المسلمين من حيث هم مسلمون ومتديّنون على
العمل بالخبر الموثوق به ، وأمّا لو لم يحرز ذلك واحتمل ذلك واحتمل أنّه لأجل
كونهم عقلاء فلا يبقى الكشف الحاصل بالسيرة ، نعم يصير دليلا من باب البناء فيرجع
إلى رابع الوجوه.
وكيف كان فالتمسّك
بالسيرة على وجه لم يرجع إلى التمسّك ببناء العقلاء غير وجيه، نعم لو أمكن تحصيل
القطع بالإجماع على أحد المعنيين أعني الحجيّة المطلقة أو المقيّدة بحال الانسداد
على وجه كشف عن قول المعصوم بأن علم عدم استناد المجمعين إلى هذه الوجوه كان هذا
الإجماع نافعا بحالنا.
ولا يتوهّم عدم
نفعه لأجل أنّه على تقدير عدمه كان الحجيّة ثابتة بدليل الانسداد ، وذلك لظهور
الثمرة بين إثبات الحجيّة بالإجماع وبين إثباته بدليل الانسداد في أمرين ، الأوّل
: أنّه لو أثبتنا الحجيّة بنتيجة دليل الانسداد فاللازم الاقتصار على الظنّ الفعلي
، فيدور الأمر مدار إفادة الخبر الظنّ الفعلي وعدمها ، فإن أفاد كان حجّة وإلّا
فلا ، وأمّا على إثباته بالإجماع فالخبر في نفسه حجّة سواء أفاد الظنّ فعلا أم لا.
والثاني : أنّه لو
قلنا بالحجيّة بنتيجة دليل الانسداد ورد إشكال التبعيض في الاحتياط الذي نبّه عليه
شيخنا المرتضى ، بمعنى أنّه لا يفيد المقدّمات الاقتصار على المظنونات وإجراء
البراءة في المشكوكات والموهومات ، بل قضيّتها هو العمل بالمشكوكات أو ببعضها أيضا
إذا لم يوجب الوقوع في الحرج والعسر ، بل و
بالموهومات مع عدم
استلزام العسر.
وبالجملة ،
فالاحتياط الغير الموجب للعسر واجب الأخذ ، وهو قد ينطبق على المظنونات فقط ، وقد
ينطبق عليها وعلى بعض المشكوكات ، وقد ينطبق على المظنونات والمشكوكات مع إضافة بعض
الموهومات.
وأمّا على تقدير
الحجيّة بالإجماع لا ورود لهذا الإشكال ، بل القائل في سلامة عنه كما هو واضح ،
لفرض قيام الإجماع على حجيّة الظنّ النوعي الحاصل من الأخبار ، فعلى الثاني يثبت
حجيّة الظنّ النوعي المذكور ، والأوّل غير ملازم لحجيّة الظنّ الفعليّ المطلق.
الوجه الرابع من
وجوه تقرير الإجماع على حجيّة الخبر هو التمسّك ببناء العقلاء ، فإنّه لا شكّ في
استقرار طريقة العقلاء على العمل بخبر المفيد للاطمئنان ولو لم يكن الناقل ثقة ،
ولكن حصل الوثوق بالصدق من أجل أمارة خارجيّة ، وجرت عادتهم على ذلك في امورهم العادية
، وهذا ثابت في غير فرق المسلمين من أهل الملل ، بل ومن غيرهم ممّن لا يتديّن بدين
كالدهري ، فإنّه لو اطمئنّ الدهري بأنّ سفر البحر وركوب السفينة لا يوجب الغرق
لنفسه وماله وحصل له هذا الاطمئنان من إخبار المخبرين فهو يقدم على هذا السفر ، مع
أنّه محتمل مع ذلك للغرق ولكن لا يعتني به ، بل يعامل معاملة المعدوم.
وكذلك الحال في
معاملة العبيد مع مواليهم ، فلو حصل الاطمئنان للعبد أنّ مولاه أراد الركوب وأراد
ركوبه معه في ركابه ، وحصل له ذلك بنقل ناقل مع وثوق الناقل أو ضميمة أمارة
خارجيّة ، يركب بمجرّد ذلك ويذهب إلى مقرّ المولى ، بحيث لو لم يركب وكان المولى
مريدا واقعا لم يكن معذورا ، وبالجملة فمجبوليّة العقلاء واقتضاء فطرتهم ذلك في
جميع امورهم ممّا لا يقبل الإنكار.
إن قلت : نعم
ولكنّهم غير معصومين وقابلون للخطإ ، وهذا هو الفارق بين بناء العقلاء وحكم العقل
، فإنّ الحاكم قاطع بحكمه ولا يحتمل الخلاف وإن كان من
الممكن كون قطعه
جهلا مركّبا ، ولكن لا يتّفق احتمال ذلك لنفس القاطع ، وأمّا لو استقرّ طريقة
العقلاء على أمر فمن المحتمل خطائهم ، فحكم العقل حجّة شرعيّة في نفسه بلا حاجة
إلى ضمّ شيء آخر ، وأمّا بناء العقلاء فلا يصير حجّة إلّا بعد إحراز الإمضاء من
الشرع ، وأمّا بدونه فيحتمل خطائهم ، ومع الإمضاء كان الحجّة هو إمضائه.
قلت : نعم ولكن
نحن نستكشف إمضاء الشارع بعدم ردعه ، فنجعل عدم ردعه دليلا على إمضائه وطريقا إليه
، ووجه طريقيّته أنّه بعد ما عرفت من أنّ مقتضى الفطرة هو العمل بالاطمئنان الحاصل
من نقل النقلة ، فهم لو لم يصرفهم صارف فهم باقون على حسب فطرتهم ويعاملون مع
الشارع معاملتهم مع سائر الموالي والأرباب ؛ فإنّ الله تعالى ربّ الأرباب ونبيّه صلىاللهعليهوآله مفترض الطاعة كسائر الموالي العرفيّة بنظرهم ، فكما يعملون
في أحكام سائر الموالي وأوامرهم بالاطمئنان الحاصل لهم من النقل كذلك يعملون به في
أحكام هذين الموليين ، فلو كان الموليان مخطّئين لهذه الطريقة لكان عليهما إعلام
العبيد بذلك وصرفهم عمّا يمشونه بفطرتهم ، فحيث لم يعلما ولم يصرفا علم أنّهما
راضيان بهذه الطريقة وممضيان لها.
فإن قلت : كيف لم
يردعا وقد ورد في الآيات حرمة العمل بغير العلم وبالظّن ، وبهذا المعنى ينادي
الأخبار أيضا بأعلى صوت ، أفلا يكفي في الردع مثل هذه النواهي البليغة الأكيدة ،؟
وبالجملة ، فنحن وإن كنّا نسلّم جريان بناء العقلاء على حجيّة الاطمئنان من الخبر إلّا
أنّ موضوع حجيّة بناء العقلاء مقيّد بعدم ردع الشرع ، فالأدلّة الناهية عن العمل
بغير العلم الواردة من الشرع واردة على بناء العقلاء ؛ لكونها ردعا ، فلا يبقى
معها موضوع الحجيّة في بناء العقلاء.
قلت : لا بدّ
لتوضيح دفع هذا الإشكال من التكلّم في صلاحيّة هذه الأدلّة للرادعيّة وعدمها.
فنقول : قد ادّعى
المولى الجليل المولى محمّد كاظم الطوسي في حاشيته على رسائل شيخنا المرتضى قدسسرهما وحكى إصراره عليه في الدرس استحالة رادعيّة هذه الأدلّة ،
ومحصّل ما أفاد في وجه الاستحالة أنّ هذه الأدلّة ليست بأزيد من عمومات قابلة
للتخصيص ، فالعمل بعمومها في المقام أعني الظنّ الحاصل من الخبر الموثوق به وحجيّة
ظهورها في هذا الفرد ـ حتى يحصل لها وصف الرادعيّة ـ يتوقّف على عدم حجيّة هذا
الظن ؛ إذ لو كان حجّة كانت العمومات مخصّصة به ، فلا تتّصف بالرادعيّة ، فإذا
توقّف عدم حجيّة هذا الظن أيضا على رادعيّة هذه الأدلّة كان دورا ، وحاصله توقّف
رادعيّة الأدلّة على عدم حجيّة هذا الفرد ، وتوقّف عدم حجيّته أيضا على رادعيّتها
، هذا حاصل ما أفاده.
ولكنّك خبير بأنّه
ممكن القلب ؛ لإمكان تقرير هذا الإشكال بعينه في طرف الحجيّة ، فنقول : حجيّة هذا
الظن يتوقّف على عدم رادعيّة الأدلّة ، وعدم رادعيّتها أيضا متوقّف على حجيّة هذا
الظن ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني أعني : توقّف عدم رادعيّة الأدلّة على
حجيّة هذا الظنّ فلأنّ تلك العمومات بطبعها مقتضية لشمول هذا الفرد أيضا ،
والمفروض عدم المخصّص ، فتكون شاملة له ، فتكون رادعة ، فصحّ أن يقال : إنّ عدم
رادعيّتها يتوقّف على حجيّة هذا الظنّ ، فإذا توقّف حجيّته أيضا على عدم رادعيّتها
كان دورا محالا.
هذا مضافا إلى عدم
لزوم الدور رأسا ، بيانه أنّه : إذا ورد دليلان متنافيا المضمون فمن شرط تنافي
أحدهما للآخر ومعارضته معه أن لا يكون موضوع أحد الدليلين مقيّدا بعدم الآخر ، وإن
شئت المثال فلاحظ دليل حرمة العمل بالقياس ، فإنّه عام أو مطلق شامل لحالتي
الانفتاح والانسداد ، وأمّا الظنّ المستفاد حجيّته من نتيجة دليل الانسداد فهو وإن
كان مطلق الظنّ ، لكن موضوعه مقيّد بعدم قيام دليل على المنع ، فنتيجة دليل
الانسداد إنّما يثبت حجيّة الظنّ الذي لم يقم على منعه دليل من الشرع ، فلا يفيد
حجيّة الظنّ القياسي ، مع أنّ دليل حرمة القياس ليس إلّا عموما أو إطلاقا
شاملا لحال
الانسداد.
ويمكن تقرير الدور
في عمومها للظنّ القياسي في حال الانسداد فيقال : إنّ شمولها وعمومها لهذا الظن
متوقّف على عدم حجيّة هذا الظنّ ؛ إذ لو كان حجّة كان عموم هذا الدليل مخصّصا في
هذا الفرد ، فإذا توقّف عدم حجيّة هذا الظنّ على شمول العموم أيضا كان دورا ،
فيلزم حجيّة هذا الظنّ في حال الانسداد عند القائل بحجيّة الظنّ المطلق.
والسرّ في تقديم
العام ورفع الدور أنّ وجه تقديم المخصّصات المنفصلة على عموم العام إنّما هو
المعارضة بالأقوى وكون الخاص نصّا أو أظهر من العام ، فإذا ورد : أكرم العلماء ،
وورد : لا تكرم زيدا ، فليس الأوّل بعد ورود الثاني مسلوب الدلالة أو الحجيّة
الذاتية لخروج الزيد عن أفراد العالم ، بل معه أيضا مقتض بعمومه ، لوجوب إكرام
الزيد وحجّة ذاتية عليه ، ولكنّ الثاني أقوى دلالة وحجيّة من العام ، فلهذا يقدّم
على العام.
وبالجملة ، فعقد
موضوع الحجيّة الذاتية الاقتضائية في العام غير مقيّد بعدم المخصّص المنفصل ، بل ولو
كان مقيّدا بعدم المنفصل أيضا ، لكنّ المضرّ إنّما هو المنفصل الذي كان حجيّته
مطلقة ، دون ما كان حجيّته منوطا بعدم العام كما هو واضح.
نعم بناء على
أصالة عدم القرينة هو مقيّد بعدم المخصّص المتّصل ، وأمّا الخاص المفروض في المقام
أعني الحجيّة المستفادة من دليل الانسداد فعقد حجيته منوط ومربوط بعدم المنع
المنفصل من الشرع ، فيكون العام الوارد واردا على هذا الخاص ، ووجه عدم الدور أنّ
الأخذ بالعام كما عرفت بحسب الحجيّة الاقتضائيّة غير متوقّف على عدم الخاص ، فإذا
أخذنا به يكون منعا يرفع موضوع الخاص أعني عدم المنع ، أعني يقوم المنع في مقام
عدم المنع؛ لأنّهما في مرتبة واحدة ، فيرتفع حجيّة الخاصّ برفع موضوعها.
ومن هنا يظهر أنّ
الخاصّ المقدّم على العام إنّما هو خاص لا يكون عقد الموضوع فيه مقيّدا بعدم دليل
على خلافه ، وإلّا فكان اللازم تقديم العام عليه ، لوضوح عدم
المقاومة للخاص
بهذا الوصف مع أدنى دليل ، مثلا لو ورد : أكرم العلماء ، وورد : لا تكرم زيدا ما
دام لم يقم دليل على وجوب إكرامه فهل ترى يقدّمون هذا الخاص على العام ، بل لا شكّ
في أنّهم عاملون بالعام ؛ لأنّه دليل ، وموضوع الخاص مقيّد بعدم الدليل ، فيكفي في
رفع اليد عنه وجود أدنى دليل.
إذا تقرّر هذا
فنقول : هكذا الحال في ما نحن فيه ، فإنّ الأدلّة الناهية عن العمل بغير العلم
عمومات شاملة بعمومها للاطمئنان الحاصل من قول الثقة وبناء العقلاء وإن كان ثابتا
في خصوص هذا الاطمئنان ، إلّا أنّ حجيّة ما يثبت حجيّته ببناء العقلاء مقيّد بعدم
قيام دليل على منعه ، فإذا دلّ عليه عموم كان له الورود على بناء العقلاء.
وهنا جواب آخر
للدور تعرّضه شيخنا في الكتاب ، وهو أنّ توقّف الردع على عدم الحجيّة مسلم ، لكن
توقّف عدم الحجيّة على ثبوت الردع ممنوع ، بل يكفي فيه عدم ثبوت الإمضاء قبل ثبوت حال
الآية في الردع وعدمه ، وفيه أنّ الموقوف عليه عدم الحجيّة إنّما هو ثبوت الردع ،
ولا يكفي عدم ثبوت الإمضاء ؛ لأنّه معه يستكشف الإمضاء لئلّا يلزم نقض الغرض.
هذا والذي يمكن
الاستظهار به لدفع رادعيّة العمومات هو أن يقال : إنّ المرتكزات العرفيّة تكون
بحيث يغفل عن كون حجيّتها مقيّدة بعدم منع الشرع نوع النفوس ، فالارتكاز مانع عن
خطور خلافه في ذهن النوع ، فالعبد كما يعامل مع مولاه في أحكامه وأوامره بالعمل
فيها على الاطمئنان الحاصل من قول القائل على حسب فطرته كذلك هو باق على مقتضى هذه
الفطرة لو صار عبدا لمولى آخر ، من دون أن يخطر بباله أن تكون طريقة هذا المولى في
امتثال أوامره غير طريقة المولى السابق.
فكذا الحال في
معاملة العبيد مع الموالي الحقيقيّة ، يعني لا يخطر ببال العامّة أنّه يريد منهم
أمرا جديدا وطريقة مخترعة غير ما هم مجبولون عليه ، فلا يرضى بالعمل
بالاطمئنان من قول
القائل ، بل لا يرضى إلّا بترتيب الأثر على العلم ، وكذلك لا يخطر ببالهم أنّ
حجيّة هذا الارتكازي موقوف على عدم منع المولى ، فهم عاملون على هذا التقييد صغرى
وكبرى ، فالحاصل عندهم هو الحجيّة التنجيزيّة الإطلاقيّة.
فلهذا لو ورد من
الشارع النهي عن العمل بالظنّ ينصرف نظرهم إلى غير هذا الاطمئنان فيقطعون أنّه
بمنزلة العلم وإن كان غير علم ، بل ويعمّمون الحكم المعلّق على العلم بالنسبة إلى
هذا الاطمئنان مثل عدم نقض اليقين إلّا باليقين ، فالنقض بهذا الاطمئنان يكون في
نظرهم نقضا باليقين ، وبالجملة ، لا يدخل في ذهنهم من دليل مثبت للحكم على الظنّ
هذا الفرد ، ويدخل في ذهنهم من الدليل الدال على الحكم في العلم هذا الفرد ،
والسبب لذلك هو الارتكاز والمجبوليّة المانعة عن دخول مضادّه في أذهانهم ، بمعنى
أنّهم مع وقوع نظرهم إلى هذا العموم والإطلاق الصادرين من المولى لا يحتملون أنّ
هذا الطريق الذي يمشونه من العمل بمقتضى الاطمئنان لعلّه كان على خلاف الواقع وغير
مرضيّ لمواليهم وكان طريقة المولى طريقة اخرى.
ويمكن أن يقال :
إنّ صورة المعارضة الصورية أيضا ينقدح في ذهنهم ، لكنّه مقرون بالقطع بالتخصيص ،
وبالجملة ، لا يذهب عنهم هذا العموم قطعهم بعدم قابليّة طريقتهم للردع ، وبعبارة
اخرى : لا يذهب قطعهم بالكبرى ، والاحتمال الصوري إنّما يتعلّق بمقام الصغرى ، فهم
يرون الإرادة الصوريّة المستفادة من العموم قد تعلّق بأمر لا يقبل الإرادة الجديّة
، فهو عام عندهم قطعي التخصيص نظير أكرم العلماء مع القطع بلا تكرم زيدا ، والفرق
بين هذا وسابقه أنّ الأوّل دعوى الانصراف وهذا دعوى التخصيص.
هذا هو الحال في
عامّة الناس المتّصفين بالغفلة عن تصوّر خلاف مرتكزهم ، وأمّا الملتفتون وهم الشاذ
القليل من الناس فهذه الطريقة وإن كان ليست في نفسها حجّة لهم لاحتمالهم الخطاء في
حقّهم لعدم كونهم معصومين ، ولكن يثبت الحجيّة عند تحقّق الارتكاز عندهم أيضا
بالبرهان.
وهو أن يقال : لو
كان للشارع طريقة جديدة غير ما الناس مجبولون عليه ، ويكون خلافه مغفولا عنه لهم ،
والنهي عن العمل بالظنّ على وجه العموم منصرفا عندهم عمّا ارتكز حجيّته عندهم ، أو
مخصّصا قطعيا بغيره ، لكان يجب على الشارع التنصيص على إظهار أنّه مريد منهم خلاف
هذا الطريق المعمول ، كما هو المشاهد في المرتكزات في الجاهليّة التي خطّأها
الشارع بالإبلاغات الصريحة الأكيدة والإيعادات بأنواع العذاب ، فإنّ صرف الأذهان
عن ما ارتكز فيها لا يحصل بغير هذا الوجه ولا يمكن الاكتفاء في تبليغه بعموم
وإطلاق ، فيلزم على تقدير الاكتفاء في بيانه بهما إغراء عامّة الناس بالقبيح.
والحاصل : لو كان
احتمال أن تكون الطريقة المجبول عليها من العمل على وفق الاطمئنان الحاصل من قول
المخبر غير مرضيّة لدى الشرع وأنّه يحتاج إلى إحراز ذلك حاصلا لعامّة الناس ، كان
أدلّة النهي عن العمل بالظنّ صالحة للردع ومحكّمة ؛ إذ المفروض أنّ كلّا من آحاد
النوع يحتمل عدم إمضاء الشرع للطريقة التي يمشي عليها في الامور العادية ، ومن
المعلوم أنّ هذه الطريقة إنّما تصير حجّة في الامور الشرعيّة لو لم ترد تخطئة من
الشرع ، فإذا ورد العمومات الناهية عن العمل بالظنّ كان لها الورود وكانت ردعا
وتخطئة لهذه الطريقة كما ذكرنا نظيره.
ولكنّ الذي سهّل
الخطب أنّ الاحتمال غير حاصل إلّا للشاذ القليل من الأشخاص، فيقوم عند هذا الأشخاص
ـ المحتملين ـ البرهان على حجيّة الطريقة المألوفة بين أهل العرف.
وحاصله أنّ هذه
العمومات غير صالحة للردع لصرف أذهان العامّة منها إلى غير مورد ارتكازهم ، ويثبت
عدم الرادع من جهة اخرى بلزوم الإغراء بالجهل على تقديره ؛ إذ لو كان واقعا غير
راض بالطريقة المألوفة المأنوسة كان الواجب عليه إقامة الدليل بحدّ لا يبقى لأحد
تشكيك من كثرة التصريحات المحفوفة بالإنذارات والبيانات المكتنفة بالوعيدات ، فعدم
الرادع في مقام الإثبات يصير دليلا على عدمه
في مقام الثبوت ،
واحتمال نصب هذا الدليل وعدم وصوله إلينا مقطوع العدم ، فإنّه لا بدّ في هذه
الامور إقامة النصّ الصريح على وجه تبلغ صيته جميع العالمين ، فإذا لم يثبت هذا
الدليل قطعنا بأنّه ليس طالبا لهذا الأمر.
ومن هنا نقول في
باب اعتبار نيّة الوجه والتمييز في العبادة أنّ لنا رفع هذين القيدين وإن قلنا
بعدم جريان البراءة فيهما كما يقوله شيخنا المرتضى بهذا الطريق ، فنقول : إنّ
اعتبار الوجه والتمييز مغفول عنه للعامّة ولا يخطر احتماله ببالهم ، وإنّما يحتمله
بعض أهل الدقّة من العلماء ، وما كان شأنه هكذا فلو طلبه الشارع كان الواجب عليه
إقامة مقدّمات تبليغه من التنصيص الغير القابل للتشكيك عليه ، ولو كان لبان ، وحيث
ما أقام نقطع بأنّه ما أراد ، وبالجملة ، يصحّ دفع الدور المذكور بأن نقول :
سلّمنا توقّف الحجيّة على عدم الرادع ، ولكن نجعل العدم في مرحلة الإثبات دليلا
على العدم في مرحلة الثبوت بمعونة البرهان.
وبعبارة اخرى :
الحجيّة الشرعيّة لدى الملتفت موقوفة على عدم الرادعيّة لتلك العمومات ، وهي
موقوفة على الحجيّة الارتكازيّة ، وهذا بخلاف من يدّعي أنّ العقلاء مع كونهم
محتملين عدم رضى الشارع بطريقتهم وعدم كونهم غافلين عنه يبنون على رضائه به ما لم
يثبت ردعه عنه ، وهذا بمنزلة أصل عندهم ، حيث إنّ عند الشكّ في وجود الردع يبنون
على عدمه ، فإنّه وإن كان لا يلزم الدور ببيان تقدّم ، لكن يتمّ الرادعيّة
للعمومات على هذا التقدير لما مرّ من عدم المعارضة بين المقتضي التنجيزي وهو
العمومات والتعليقي وهو البناء ، بل اللازم تقديم التنجيزي ؛ لوروده على التعليقي.
وأمّا الدليل
العقلي فهو على قسمين ، قسم يفيد حجيّة خصوص الخبر ، والآخر يفيد حجيّة الظنّ في
الجملة ، ومن أفراده الخبر ، غاية الأمر يدور الحجيّة حينئذ مدار حصول الظنّ
الفعلي منه. أمّا الأوّل : فتقريره من وجوه :
الأوّل : وهو الذي
قال شيخنا المرتضى : وهو الذي اعتمدته سابقا ، وهو أنّا
نعلم إجمالا بأنّ
كثيرا من الأخبار التي بأيدينا وغالبها وجلّها صادرة ، وطريقنا إلى هذا العلم هو
الفحص عن حال الرجال ومتانتهم وضبطهم وحفظهم الأحاديث لأن لا يتغيّر حرف وكلمة ولا
يزيد ولا ينقص ، وغير ذلك مثل اقتصارهم على ما سمعوا دون ما وجدوا في الكتب ، حتّى
أنّ بعضهم قد سمع من أبيه في حال الصغر فلم يرو عن أبيه لأجل كونه صغيرا في حال
السماع ، وروى عن أخويه ، ومثل تركهم رواية من يعمل بالقياس ، حتّى أنّ أحمد بن
محمّد بن عيسى أخرج البرقي عن القم لأنّه كان يروي عن الضعفاء مع كمال وثاقته ؛
لأجل مجرّد روايته عن الضعفاء ، إلى غير ذلك.
فيحصل من ذلك علم
إجمالي بأنّ كثيرا من الأخبار صادرة عن المعصومين عليهمالسلام ، ويكون في هذه الأخبار مقدار المعلوم الإجمالي على قدر
التكاليف المعلومة بالإجمال ، يعني نعلم اجمالا بصدور هذا المقدار في الأخبار التي
بأيدينا ، وحينئذ ينحّل علمنا الإجمالي بالتكليف إلى علم إجمالي صغير وشكّ بدوي ،
كما لو كان هذه الأخبار الصادرة التي نعلم بوجودها إجمالا بين الأخبار معلومة لنا
بالتفصيل ، فإنّه لا إشكال في انحلال العلم الإجمالي حينئذ إلى العلم التفصيلي
بموارد هذه الأخبار والشكّ البدوي في غيرها. فكذلك في فرض العلم الإجمالي بالأخبار
الصادرة في ضمن الأخبار ، فإنّه ينحّل إلى العلم الإجمالي بخصوص ما في الأخبار
والشكّ البدوي في غيرها.
وليعلم أنّ النافع
لانحلال العلم هو العلم الإجمالي بصدور خصوص الأخبار المثبتة للتكليف كما هو واضح
، ولا بعد في وجود هذا العلم ، فإنّ الأخبار المثبتة كثيرة ، وبضميمة حال الرجال
يحصل العلم الإجمالي بصدور غالبها ، وإن كان لنا هذا العلم أيضا في خصوص النافية
أيضا فهنا علمان إجماليّان ، أحدهما متعلّق بالمثبتة والآخر بالنافية ، إلّا أنّ
النافع للانحلال هو العلم الإجمالي الذي يكون قوامه بالمثبتة المحضة ، وأمّا لو
كان قوامه به وبالنافية بمعنى أنّه لو لم يضمّ النافية إلى المثبتة
فلا يبقى علم
إجمالي ، فلا يؤثّر في انحلال العلم الإجمالي بالتكليف.
ونحن نمثّل لذلك
مثالا في العلم الإجمالي الصغير حتى يتّضح الحال في الكبير ، مثلا لو علمنا إجمالا
بوجود واجب واحد علينا وكان غير معلوم بعينه ومشتبها بين الأفعال ، فقام عندنا خبر
على وجوب فعل معيّن ، وقام خبر آخر على وجوب فعل آخر ، وقام خبر ثالث على إباحة
فعل ثالث ، فإن حصل لنا علم إجمالي بصدور واحد من هذه الأخبار الثلاثة ، فالعلم
الإجمالي الأوّل بوجود واجب باق بحاله. وأمّا لو حصل لنا علم إجمالي بصدور أحد
الخبرين الدالّين على الوجوب فلا شكّ أنّ العلم الإجمالي بتكليف واحد ينحّل إلى
تفصيلي بالموجود بين الفعلين وشكّ بدوي في غيرهما وهذا واضح.
والجواب عن هذا
الوجه أنّه لا يفيد المدّعى ؛ فإنّ غاية ما يثبت بهذا هو وجوب العمل على طبق الخبر
، لمكان العلم الإجمالي المذكور ومن باب الاحتياط لإحراز الواقع ، وهذا غير حجيّة
الخبر التي إثباتها مهمّنا.
فعلى هذا لو كان
في قبال الخبر عموم الكتاب أو السنّة القطعيّة أو إطلاق أحدهما لم يخصّص العموم
وتقييد الإطلاق بالخبر ، بل يجب العمل بهما دون الخبر ، وكذلك لو قام أصل ـ ثبت
حجيّته بالأخبار المتواترة ونحوها ـ على خلاف الخبر لا يجب طرح الأصل ؛ لعدم
الحجّة في قباله ، سواء كان الأصل المخالف نافيا للتكليف أم مثبتا لتكليف آخر ضدّ
ما يفيده الخبر ، كما لو أفاد الخبر وجوب الفعل وقام الاستصحاب مثلا على حرمته ، بل الواجب حينئذ هو العمل بالأصل في
المقامين ، غاية الأمر أنّه أصل قائم في بعض الموارد التي علم إجمالا بخلاف الأصل
فيها ؛ فإنّ الأصل معمول به في هذا المورد إذا كان بلا معارض ، كما في الإنائين
__________________
المشتبهين
بالنجاسة إذا كان الأصل في أحدهما فقط هو الطهارة ، فإنّه جار بلا إشكال.
نعم لو قلنا بأنّ
العلم المأخوذ غاية للاصول أعمّ من التفصيلي والإجمالي ، لما كان له حينئذ مجرى ،
ولكنّه خلاف المختار ، وإذن فالواجب هو العمل بالأصل النافي أو المثبت المقابل
للخبر ، فإنّه لا يعقل مزاحمة اللاحجّة مع الحجّة.
هذا كلّه مع عدم
العلم بمخالفة الاصول إجمالا ، وأمّا لو علم إجمالا ذلك فإن كان العلم الإجمالي
بمخالفة بعض الاصول المثبتة للتكليف للواقع ومطابقة الخبر الدالّ على ضدّ هذا
التكليف له ، بمعنى أنّا إذا لاحظنا مجموع الاصول المثبتة القائمة على خلاف
الأخبار المثبتة في الموارد المتفرّقة كما لو قام الخبر في مورد على الوجوب والأصل
على الحرمة ، وفي مورد آخر قام الخبر على الحرمة والأصل على الوجوب وهكذا ، فإنّا
نعلم إجمالا بصدور بعض هذه الأخبار القائم في قبالها الأصل المثبت للتكليف ،
فيتولّد منه العلم الإجمالي بمخالفة بعض من هذه الاصول المثبتة القائمة على خلاف
الخبر للواقع ، فيلزم من العمل بهذه الاصول في جميع هذه الموارد وطرح العمل بالخبر
في قبالها مخالفة قطعيّة للتكليف.
فيكون كما إذا كان
الأصل في كلّ من الإنائين المشتبهين هو الطهارة ، فإنّ العمل بالأصل موجب لمحذور
المخالفة القطعيّة للتكليف المعلوم بالإجمال ، غاية الأمر أنّ الاحتياط هناك ممكن
بالاجتناب عن كلا الإنائين ، لكونه جمعا بين الدليل والأصل ، فإنّ مقتضى الأصل هو
الترخيص في الارتكاب لا إلزامه ، فاختيار الاجتناب ليس مخالفة له ، وأمّا هنا
فالاحتياط غير ممكن ، لكونه من باب الدوران بين المحذورين ؛ لدوران الأمر في كلّ
من الجمعة والدعاء مثلا بين الوجوب والحرمة ، فالاحتياط بالجمع بين الواقع المعلوم
والأصل غير ممكن.
فحينئذ هل يجب
إلغاء الأصلين في المقام للزوم المحذور المذكور كما في مثال المشتبهين والاحتياط
بعد ذلك بالعمل بالخبرين باجتناب الجمعة وإتيان الدعاء ،
فنحن وإن لم نقل
بأنّ غاية الاصول هو الأعمّ من الإجمالي ، بل خصّصناه بالعلم التفصيلي فلا نقول
بجريانه هنا لأجل المانع العقلي ، أو أنّ العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين هنا
لا يوجب طرحهما ، غاية الأمر لمّا لم يمكن العمل بكليهما أيضا للزوم محذور
المخالفة القطعيّة كان المكلّف مخيّرا في العمل بأحدهما ، بمعنى أنّ كلّا من
الدعاء والجمعة مثلا أمره دائر بين كونه واجبا واقعيّا ، وبين كونه مصداقا للنقض
الحرام ، فيتخيّر المكلّف في كليهما في الفعل الآخر.
قد يرجّح الأوّل
بعدم الفرق بين المقام ومثال الإنائين أصلا ، فيجري هنا كلّ ما يجري هناك حرفا
بحرف ، فإنّ وجه طرح الأصلين هناك أنّ العمل بكليهما يوجب المخالفة القطعيّة،
والعمل بأحدهما بعينه ترجيح بلا مرجّح ؛ فإنّ نسبة الدليل إلى كليهما على السواء ،
والعمل بأحدهما بعينه الذي مرجعه إلى التخيير في العمل بواحد منهما يكون بلا دليل
؛ فإنّ دليل الأصل مقتضاه جريان حكمه في مورده على التعيين ، فالتخيير يحتاج إلى
دليل آخر عليه ، وهذا بعينه جار في المقام.
ولكنّه فاسد ،
فإنّ الدليل الآخر على التخيير يكفي فيه حكم العقل أيضا ، ألا ترى أنّ الغريقين
المتعذّر إنقاذ أحدهما مع إمكان الآخر حكم العقل فيه هو التخيير ، مع أنّ الدليل
الدال على وجوب الإنقاذ له اقتضاء تعييني في وجوب إنقاذ هذا واقتضاء تعييني لوجوب
إنقاذ ذاك.
وسرّ ذلك أنّه لو
احرز أنّ الغرض والمقتضي في كليهما حال التعذّر أيضا موجود تام، فاحرز من حال
المولى بواسطة إطلاق المادّة أنّ إنقاذ الغريق محبوب له من غير تقييد بحال ، فإنّه
حينئذ يجب بحكم العقل أن لا يترك كلا غرضي المولى ، بل يبادر بدرك أحدهما.
وحينئذ فحيث لا
يعلّم أنّ أيّا من الغرضين أهمّ بنظره كان مخيّرا في إنقاذ أيّهما شاء.
ثمّ من جملة
المقتضيات هي العناوين التي رتّب عليها الحكم في الأدلّة ، حيث إنّ الظاهر كونها
مقتضيات لأحكامها ومن جملتها عنوان المشكوك ، فقولنا : المشكوك
محكوم ببقاء حرمته
السابقة مثلا ، أو محكوم بالترخيص ظاهر في كون الشكّ مقتضيا لذلك.
فإن قلت : الترخيص
لا يكون باقتضاء المقتضي ، بل هو ناش عن الاقتضاء ، فالشكّ لا يمكن أن يكون مقتضيا
للترخيص.
قلت : بل الترخيص
تارة يكون من جهة عدم الاقتضاء كما في إباحة شرب الماء ، واخرى يكون من جهة
المقتضى له كما في الترخيص الناشي عن العسر والحرج ، حيث إنّه من جهة اقتضاء العسر
وتقدّم العناوين الثانوية على الأوليّة إنّما هو في خصوص الأوّل ، فلو صار شرب
الماء منذورا أو محلوفا عليه خرج عن اللااقتضاء إلى الاقتضاء ، أمّا لو تعلّق
الحلف أو النذر بأمر صار مباحا لأجل لزوم العسر من التكليف فيه كان من باب تزاحم
المقتضيين.
ثمّ إنّ الشكّ من
هذا القبيل أيضا مثلا المشكوك المائيّة والخمريّة مباح ، معناه أنّ الشكّ سبب
للإباحة وإن كان المائع في الواقع خمرا.
وبالجملة ، فإذا
استفدنا من أدلّة الاصول أنّ لموضوعها ـ أعني الشكّ ـ اقتضاء لحكمها ، ففي
الموردين الذين علمنا بمخالفة حكم الأصل في أحدهما للواقع نعلم أنّ الشكّ في هذا
مقتض لحكم الأصل ، والشكّ في ذاك أيضا مقتض له ، فإذا لم يمكن العمل بكليهما وجب
بواحد منهما على التخيير ، فالتخيير وإن لم يكن مستفادا من الدليل الشرعي ، لكنّه
مستفاد من الدليل العقلي.
وحينئذ نقول : لا
بدّ في صحّة الأخذ بأحد المقتضيين على التخيير عند عدم إمكان الجمع بينهما أن لا
يكون هنا مقتض آخر يقتضي خلافه ، كما في مثال إنقاذ الغريقين ، حيث إنّ المقتضي
للإنقاذ الذي يؤتي به تخييرا يكون موجودا والمقتضي لعدمه ليس في البين ، ضرورة
أنّه لو كان وكان أقوى كان هو المقدّم ، وإن لم يعلم الأقوائيّة لأحد الجانبين
فالتخيير.
ومن هنا يظهر
الفرق بين الأصلين في المقام وبينهما في مثال الإنائين المشتبهين ،
فإنّ هنا يكون
الشكّ في بقاء الحرمة السابقة مثلا مقتضيا تعيينيّا لحرمة هذا والشكّ في بقاء
الوجوب السابق في ذاك مقتضيا تعيينيّا لوجوب ذاك ، وهذا وإن كان موجبا للأخذ
بالاقتضاء مهما أمكن ، فعند عدم إمكان الجمع يعيّن الأخذ بأحدهما ، إلّا أنّ هنا
مقتضيا آخر يقتضي خلاف ما يقتضيه هذا المقتضي وهو العلم الإجمالي ، فإنّه لا شكّ
أنّ العلم الإجمالي بالواقع مؤثّر ومقتض لإتيان الواقع ، وهذا مناف للعمل بأحد
الأصلين.
فإن كان هذا
المقتضي بنظر الشارع أقوى من اقتضاء الشكّ المذكور ، لا شكّ في أنّه يطلب من
المكلّف حينئذ طرح الأصل والعمل على وفق علمه ، وإن كان اقتضاء الشكّ أقوى فلا شكّ
أنّه يطلب من المكلّف العمل بالأصل في كلا الموردين ، وحيث إنّ المكلّف متحيّر ولا
يعلم أقوائيّة أحدهما ولا عدمها كان نتيجة تحيّره التخيير بحكم العقل.
مثلا الشكّ في
بقاء حرمة الدعاء مقتض للإلزام على تركه ، والشكّ في بقاء وجوب الجمعة مقتض
للإلزام على فعله ، ولا يمكن إعمال كلا المقتضيين للزوم محذور المخالفة القطعية ،
للعلم الإجمالي بصدور أحد الخبرين الدال أحدهما على وجوب الدعاء والآخر على حرمة
الجمعة ، فيتحصّل من الأصل وهذا العلم إحراز ثلاث مجعولات شرعيّة في البين ، اثنان
منهما الحكم الاستصحابي المفروض كون غايته خصوص العلم التفصيلي ، لا الأعمّ منه
ومن الإجمالي ، فإطلاق المادّة يقتضي أنّ هنا استصحابين مجعولين ، والمجعول الثالث
مضمون أحد الخبرين المقطوع صدور أحدهما.
فإن قلت : كيف
يمكن وجود الإرادتين مع وجود الإرادة الواقعيّة بالخلاف ، ولو فرض أنّه ليس تناقضا
في الإرادة فلا شبهة في كونه تناقضا بحسب مقام الأثر.
قلت : يأتي إن شاء
الله تعالى في مبحث الشكوك ما يندفع به هذا الإشكال ، وبالجملة ، فيدور أمر
المكلّف في كلّ من الفعلين بين الوجوب والحرمة مع عدم إحراز
الأقوى منهما ،
فيكون مخيّرا بين الفعل والترك.
هذا في ما إذا كان
كلّ من العلم الإجمالي والأصل مثبتين للتكليف ، وأمّا لو كان العلم مثبتا للتكليف
والأصل نافيا له كما في مثال الإنائين فإنّ العلم مقتض تعييني في تحريم كلّ من
الإنائين ، والأصل مقتض تعييني لترخيص كلّ منهما ، ولا شكّ في تقديم مقتضي التحريم
على مقتضي الترخيص وإن فرض كون الثاني أقوى من الأوّل بمراتب ، فإنّ في العمل
بالأوّل عملا بكلا المقتضيين بخلاف العمل بالثاني ، فإنّه طرح للأوّل ، فلهذا يجب
الاحتياط في ذلك المثال ، ويثبت التخيير في المقام.
ومن هنا يظهر حال
العلم الإجمالى بمخالفة الاصول النافية الواردة في موارد الأخبار المثبتة ، وأنّ
الحكم العمل بالعلم وطرح الأصل ، وذلك لأنّ الشكّ في كلّ واحد من الفعلين مقتض
تعييني للترخيص ، ولكن إجراء كليهما غير ممكن ، فيرجع الأمر بحكم العقل إلى
التخيير بإعمال المقتضي المذكور في أحد الإنائين ، والعمل فى الآخر على طبق العلم
الإجمالي ، ولكن مع ذلك يكون في البين مقتض على الخلاف في البين ، فإنّ العلم
الإجمالي يقتضي التجنّب عن النجس الواقعي ، ولعلّه كان في ضمن هذا الإناء الذي حكم
بترخيصه بالأصل.
وحينئذ فإن كان
اقتضاء هذا العلم واقعا وبنظر الشارع أقوى من اقتضاء الشكّ كان اللازم طرح الأصل
في الموردين والتجنّب عن كلا الإنائين ، وإن كان اقتضاء الشكّ أقوى ، لزم ترك
العمل بالعلم وإجراء الترخيص في كلا الإنائين ، ولو شكّ في أنّ أيّهما أقوى كان
المتعيّن حينئذ هو الاحتياط بالجمع بعدم مخالفة أحد المقتضيين لإمكانه هنا ، فإنّ
ترك الارتكاب ليس مخالفة للحكم الترخيصي كما عرفت.
فتحصّل أنّ نتيجة
تحيّرا لمكلّف في الأقوى من المقتضيين في الصورة السابقة أعني ما إذا كان الأخبار
مثبتة للتكليف والاصول مثبتة للتكليف المخالف هو التخيير في كلّ مورد بين الفعل
والترك ، لعدم إمكان الاحتياط ، وامّا في الصورة الثانية اعني ما إذا كان الأخبار
مثبتة للتكليف والأصل نافيا له فهو الاحتياط.
وهنا صورة ثالثة
يظهر حكمها ممّا تقدّم ، وهى ما إذا كان الأخبار نافية للتكليف والاصول مثبتة له ،
فإنّه يعمل بالأصل في جميع موارده ، غاية ما يلزم التزام ترك مباح أو فعله وهو ليس
بمحذور ، وهو من قبيل إجراء استصحاب النجاسة في الإنائين المشتبهين مع العلم
بطهارة إحداهما.
هذا ملخّص الكلام
في حكم الاصول ، وعلم أنّ الدليل المذكور لا يفى بما هو المقصود من حجيّة الخبر
التي معناها عدم الاعتناء بالأصل في مقابله أصلا للحكومة أو الورود ، وإنّما يثبت
بسببه وجوب العمل بالأخبار من باب العلم الإجمالى من دون كونها حجّة ، فيجري الأصل
في مقابله على ما تقدّم من التفصيل ، ومحصّله لزوم العلم بالأصل مثبتا كان أم
نافيا لو لم يكن علم إجمالي بمخالفته للواقع بالعلم إجمالا بمطابقة ما في قباله من
الأخبار له ، وأمّا مع هذا العلم فالمتعيّن التفصيل بين الصور الثلاثة.
فإن قلت : كيف
يمكن إجراء الأصل مع احتمال وجود الخبر الحجّة في مورده ومعه مورود أو محكوم؟.
قلت : المفروض نفي
العلم بالصدور أعني صدور مضمون بعض الأخبار في موارد الاصول للواقع ، وأين هو من
العلم بالحجيّة.
فإن قلت : نعم ،
لكن ظاهر لفظ الخبر الصادر حجّة وبه يتمّ المطلوب.
قلت : مضافا إلى
أنّ الكلام من حيث الصدور لا الظهور ليس حال الحجّة إلّا كحال نفس الواقع ، فكما
أنّ نفس الواقع إنّما ينافي الأصل بوجوده الواصل لا بوجوده الواقعي ، كذلك الحجّة
أيضا لا تصير حاكمة أو واردة بوجودها الواقعي حتى يكون الأصل حكما ظاهريّا في حكم
ظاهري ، بل مجراه نفس الواقع ، فلا يوجب الحكومة أو الورود إلّا الوجود الواصل
للحجّة ، والوصول أيضا لا بدّ أن يكون على نحو العلم التفصيلي ، وأمّا الإجمالي
فحسب الفرض لا يضرّ وصول نفس الواقع بهذا النحو لجريان الأصل ، فكيف بالحجّة وإلّا
يلزم زيادة الفرع على الأصل.
ثمّ إنّ في هذا
المقام إيراد للمولى الجليل الخراساني على الشيخ الأجلّ المرتضى طاب ثراهما قد
تعرّض له في الحاشية وحكى الاستاد تسجيله إيّاه في درسه ، ومنشائه الاشتباه في
مراد الشيخ وحمل كلامه على ما ليس مدّعاه ، والتحقيق أنّه على تقدير صحّة مدّعاه قدسسره لا مجال للإشكال عليه ، والمناقشة الممكنة إنّما هي في أصل
مدّعاه ، فالإشكال لو كان كان بمنع الصغرى.
وبيان هذا الاجمال
أنّ الشيخ بعد أن ذكر هذا الوجه وأنّه ممّا اعتمده سابقا وأنّ العلم الإجمالي
بمقدار من التكاليف ينحّل بواسطة العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار أورد على
ذلك بأنّا إذا ضممنا سائر الأمارات إلى الأخبار نجد علما إجماليّا أوسع دائرة من
الأوّل بين مجموع الأخبار وسائر الأمارات من الشهرات والإجماعات المنقولة وغيرهما
، فهنا علمان إجماليان : الأوّل مخصوص بالأخبار ، والثانى موجود بينها وبين
الإمارات الأخر ، فالعلم الإجمالى بصدور كثير من الأخبار لا يوجب انحلال العلم
الإجمالي الأوسع ، بل هو باق بحاله، فاللازم الاحتياط في جميع أطرافه من الأخبار
وسائر الأمارات.
أقول : لا بدّ
لتوضيح مرام الشيخ من تقديم بيان مطلب وهو : أنّ كلّما كان لنا علمان إجماليّان
متداخلان في بعض الأطراف وكان أحدهما أوسع دائرة من الآخر فلذلك تصويران :
الأوّل : أن يفرض
ذلك مع اتّحاد عدد المعلوم بالإجمال في كلا العلمين ، كما لو علم إجمالا بموطوءين
في الغنم السود وكان في مجموع القطيع المشتمل على السود وغيرها أيضا هذا العلم
موجودا ، اعني العلم بوجود موطوءين لا أزيد.
والثاني : أن يصير
في العلم الإجمالي الأوسع عدد المعلوم بالإجمال أزيد وأكثر ، كما لو كان لو نظر
إلى خصوص سود الغنم علم بوجود موطوءين في ما بينها ، وأمّا لو نظر إلى مجموع
القطيع كان المعلوم الموطوئيّة اكثر من اثنين.
ففي الصورة الاولى
لو عزل المقدار المعلوم الإجمالي من الطائفة الخاصة لم يبق
علم إجمالي بينها
وبين غيرها ، ففي المثال لو عزل اثنان من الغنم السود وضمّ بقيّة السود إلى سائر
الغنم لم يكن فيها علم إجمالى ، بل الثابت مجرّد الاحتمال ، لاحتمال أن يكون
الاثنان الموطوءان هما هذين الغنمين الذين عزلناهما ، وأمّا في الصورة الثانية لو
عزلنا مقدار المعلوم الإجمالي عن الطائفة الخاصّة وضممنا الباقي إلى غيرها فالعلم
باق بحاله.
مثلا لو علمنا
بعشرة موطوءات في قطيع الغنم ، ولكن كان خمسة منها متعيّنة في السود ، والخمسة
الاخرى لم يعلم كونها في السود أم في غيرها ، فإذا عزل عن السود خمسة وضمّ الباقي
إلى باقي القطيع ، فحينئذ يبقى علم إجمالي بوجود خمسة موطوءات وإن كان قد ارتفع
العلم بوجود الخمسة المتعيّنة في السود بالعزل المزبور ، إلّا أنّ العلم بما
ورائها الموجود في مجموع القطيع بحاله.
وحينئذ نقول :
مراد الشيخ قدسسره أنّ العلم الكبير الأوسع طريق معرفة أنّه غير العلم
الإجمالي الصغير الأضيق أو أنّه عينه هو عزل المقدار المعلوم إجمالا من أطراف
العلم الأضيق ، فإن كان الباقي مع ضمّ أطراف الأوسع غير محلّ للعلم فهما علم واحد
، والأضيق يوجب انحلال الأوسع إلى شبهة بدويّة في غير أطراف الأضيق وعلم إجمالي
فيها.
وإن كان الباقي ،
مع ضمّ أطراف الأوسع محلا للعلم الإجمالى أيضا فهما علمان إجماليّان ، فالأوسع لا
يصير منحلا بالأضيق.
مثلا : إنّا من
ابتداء الأمر إذا نظرنا إلى مجموع ما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات علمنا
إجمالا بوجود تكاليف كثيرة واقعيّة في ضمنها ، فهذا علمنا الأوسع ، ثمّ إذا نظرنا
إلى خصوص الأخبار علمنا بوجود الأحكام الصادرة في ما بينها أيضا ، فهذا علمنا
الأضيق وإن كان مقدارا لتكاليف المعلومة إجمالا بين تمام الأخبار والأمارات أكثر
من مقدار الأحكام الصادرة المعلومة إجمالا بين الأخبار ، والكاشف عن ذلك أنّا لو
عزلنا المقدار الذي علم إجمالا بين خصوص الأخبار من التكاليف
عن الأخبار وضممنا
بقيّة الأخبار إلى سائر الأمارات وجدنا أيضا ثبوت العلم الإجمالي بينها، فتعيّن
مقدار من التكاليف في الأخبار لا يوجب انحلال العلم الثابت بينها وبين الأمارات في
الزائد عن هذا المقدار.
وإن تطابق
المقداران فكان مقدار التكاليف المعلومة بين الأخبار وغيرها مساويا للمقدار الذي
علمناه ثانيا في خصوص الأخبار واحتملنا أن يكون هذا هو ذاك ، فحينئذ وإن كان
المعلوم الأوّلي غير مقيّد ، لكن عند حصول العلم بهذا المقدار مقيّدا بالأخبار صار
ذاك المطلق منطبقا على هذا المقيّد ، ويظهر نتيجته في اخراج ما عدى الأخبار عن
طرفيّة العلم وكونها ملحقة بالشبهة البدويّة.
ثمّ المولى
المتقدّم توهّم أنّ مراد الشيخ هو صورة التطابق ، فاستشكل عليه بما حاصله ، أنّ
تعيّن المعلوم بالإجمال في طائفة خاصّة كيف لا يوجب الانحلال ، ألا ترى أنّا لو
كنّا علمنا إجمالا بوجود عشرين موطوء في القطيع ، ثمّ قام البيّنة على كون العشرين
من خصوص السود موطوء فلا شكّ أنّ مورد العلم بعد عدم كونه ذا علامة يصير منطبقا
على ذي العلامة، أعني العشرين المتّصفة بالسواد ، وفائدته خروج غير مورد العلامة
عن طرفيّة العلم وصيرورته الشبهة البدويّة.
وأنت خبير بأنّ
مراده صورة عدم التطابق وكون مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الصغير أقلّ منه في
الكبير.
وبالجملة ، فالشيخ
مثلا يدّعي أنّ عدد التكاليف المعلومة في مجموع ما بأيدينا هو أربعون تكليفا مثلا
، وليس هذا المقدار معلوما في الأخبار ، بل المعلوم فيها ثلاثون مثلا ، فبعد تعيّن
ثلاثين فى الأخبار تكون الأمارات الأخر أيضا طرفا بالنسبة إلى العشرة الاخرى ،
والذي ينادي بأعلى صوت أنّ مراده قدسسره هو الصورة الثانية دون الأوّل مثاله قدسسره بالعلم الإجمالي بالموطوء في قطيع الغنم.
قال قدسسره بعد بيان الإشكال في الأخبار : نظير ذلك ما إذا علمنا
إجمالا بوجود شياه محرّمة في قطيع غنم ، بحيث تكون نسبته إلى كلّ بعض منها كنسبته
إلى
البعض الآخر ،
وعلمنا أيضا بوجود شياه محرّمة في خصوص طائفة خاصّة من تلك الغنم ، بحيث لو لم يكن
من الغنم إلّا هذه علم إجمالا بوجود الحرام فيها أيضا ، والكاشف عن ثبوت العلم
الإجمالى فى المجموع ما أشرنا إليه سابقا من أنّه لو عزلنا من هذه الطائفة الخاصّة
التى علم بوجود الحرام فيها قطعة يوجب انتفاء العلم الإجمالي فيها ، وضممنا إليها
مكانها باقي الغنم حصل العلم الإجمالي بوجود الحرام فيها أيضا ، انتهى.
فإنّ فرضه قدسسره بقاء العلم الإجمالي بعد العزل والضمّ صريح في صورة كون مقدار
المعلوم بالإجمال في الطائفة الخاصّة أقلّ من مقداره في تمام القطيع ، إذ مع فرض
تطابق عدديهما فلا يمكن فرض بقاء العلم الإجمالي بعد العزل والضمّ المذكورين ،
فعلم أنّه على تقدير تماميّة ما ادّعاه قدسسره من عدم وفاء الأخبار المقطوع الصدور بتمام المعلوم بالإجمال
من التكاليف وأنّها إنّما تكون وافية ببعض من هذا المقدار ، والباقي من هذا
المقدار يحتمل كونه في الأخبار ، ويحتمل كونه في سائر الأمارات ، يكون ما ذكره من
عدم إيجاب العلم الإجمالي بصدور كثير من الأخبار ، الانحلال ، صحيح لا محيص عنه.
نعم يمكن الخدشة
في صغرى هذه الدعوى أعني كون الأخبار بهذه الصفة ، وهذا أمر راجع إلى وجدان كلّ
أحد بحسب تتبّعه في الفقه والأخبار ، وبعد ذلك يمكن أن يدّعى أنّا بالمقدار الذي
علمنا بالتكاليف وصدور الأحكام عن المعصومين صلوات الله عليهم في أبواب الفقه ،
نعلم إجمالا بوجود الأخبار الصادرة بهذا القدر في ضمن ما بأيدينا من الأخبار ،
فيكون اللازم هو الانحلال وإلحاق غير الأخبار من سائر الأمارات بالشبهة البدويّة.
ويمكن أن يدّعى
مثل دعوى الشيخ بأنّ القدر المعلوم الصدور من الأخبار أقلّ عن عدد التكاليف
المعلومة الصدور الموجودة بين تمام ما بأيدينا من الأخبار وسائر الأمارات ، فيكون
اللازم حينئذ عدم انحلال العلم وكون سائر الأمارات أيضا
طرفا ، فيجب
الاحتياط فيها كما في الأخبار ، غاية الأمر أنّه يجب في الأخبار من جهتين ، وفي
سائر الأمارات من جهة واحدة.
الوجه الثاني : ما
ذكره صاحب الوافية ، وحاصله أنّا مكلّفون بالأحكام الواقعيّة ولا سيّما الاصول
الضرورية من الصلاة والصوم والحج ، ولا شكّ أنّ لهذه الأركان أجزاء وشرائط وموانع
، والمتكفّل لبيان ذلك هو الأخبار ، فلو تركنا العمل بخبر الواحد لزم خروج هذه
الحقائق عن الصورة التي جاء بها النبي ؛ لأنّ جلّ كيفيّتها مذكور في الأخبار.
وهذا كما ترى صريح
في دعوى العلم الإجمالي بالصدور في الأخبار الواردة في بيان كيفيّة هذه الأركان
وأجزائها وشرائطها ، فيكون مثل الوجه السابق ، غاية الأمر أنّ ذاك علم في مجموع
الأخبار ، وهذا في خصوص طائفة منها ، فيرد على هذا كلّ ما ورد على ذاك حرفا بحرف.
ويرد على هذا
علاوة على ذاك أنّه بناء على دعوى اختصاص العلم الإجمالي بهذه الطائفة تكون
الأخبار الواردة في بيان الأحكام الابتدائيّة من غير كونها لبيان كيفيّة واحد من
الضروريات غير واجب العمل ؛ لخروجها عن أطراف العلم.
والوجه الثالث :
ما ذكره الشيخ محمّد تقي طاب ثراه في حاشية المعالم ، وحاصله : أنّا مكلّفون
بالعمل بالكتاب والسنّة إلى يوم القيامة بالبداهة والضرورة ، وحينئذ فإن أمكن
العمل بهما على وجه العلم أو الظنّ المعتبر فهو ، وإلّا وجب العمل على وجه الظنّ ،
ونتيجة ذلك وجوب العمل بالأخبار الظنيّة الصدور ، فإنّه عمل بالسنّة على وجه الظنّ
، وأمّا من حيث الدلالة فقد فرغنا عن كفاية الظنّ النوعي.
وفيه أنّه إن كان
المراد بالكتاب والسنّة هو الكتاب والسنّة الواقعيّة التي هي واجب العمل بالضرورة
، فهذا راجع إلى الانسداد ، فبعد ضمّ سائر المقدّمات وتماميّتها يكون منتجا لحجيّة
كلّ ظن حاصل بالكتاب والسنة الواقعيين ولو كان من شهرة ونحوها من الأمارات.
وبالجملة ، يلزم
حجيّة كلّ ظنّ بحكم الله الواقعي ، فإنّه ظن لا محالة بالكتاب أو السنّة ، للعلم
بأنّه إمّا مدلول للسنّة قولا أو فعلا أو تقريرا ، وإمّا مدلول للكتاب ، ولا أقل
من الأخير ؛ إذ (لا رَطْبٍ وَلا
يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ) ، وبالجملة ، فالنتيجة أعمّ من المدّعى ؛ فإنّ المدّعى
وجوب العمل بخصوص الظنّ الحاصل من الخبر لكونه مظنون الصدور، والنتيجة وجوب العمل
على طبق كلّ أمارة ظنيّة.
وإن كان المراد
بالسنّة هي الأخبار الحاكية للسنّة الواقعيّة فلا بدّ أن لا يكون جميع ما دوّن في
الكتب ، وإلّا كان الدعوى من أوّل الأمر حجيّة تمام الأخبار ، بل لا بدّ من دعوى
العلم الإجمالي بوجوب العمل على طبق خبر في ما بين الأخبار.
وحينئذ يرد عليه
أوّلا : أنّ هذا المعنى ـ أعني كون خبر في ما بين أخبار الآحاد واجب العمل ـ ليس
من الضروريات ، كيف والقائل بعدم الحجيّة موجود.
وثانيا : أنّه إن
كان المراد هو العلم الإجمالي بوجود الخبر الصادر في مجموع الأخبار فهو راجع إلى
الوجه الأوّل الذي قد عرفت الكلام عليه.
وإن كان المراد هو
العلم الإجمالي بوجود الخبر الحجّة في ما بين الأخبار فلا شكّ أنّ الأخبار من هذه
الجهة بالتفاوت ، مثلا الخبر القوي إذا لوحظ مع الخبر الضعيف كان الأوّل قدرا
متيقّنا ، ثمّ القوي إذا لوحظ مع الممدوح كان أحدهما متيقّنا وهكذا.
وبالجملة ، لا
يحتمل أحد أن يكون الخبر الصحيح الأعلائي مثلا غير حجّة ، ويكون الأدون منه حجّة ،
فهو متيقّن الحجيّة لا محالة ، وحينئذ فإن انتفى العلم الإجمالي وانحلّ كان
المتعيّن هو الاقتصار على الصحيح الأعلائي ، فإن لم يكن وافيا بالفقه فيؤخذ بالخبر
الأوسع الذي قام على حجيّة الصحيح الأعلائي ، فإن لم يف هو أيضا فيؤخذ بثالث دلّ
الثاني على حجيّته ، وهكذا إلى أن يفي.
ثمّ إن بقي بعد
أخذ القدر المتيقّن المذكور أعني الصحيح الأعلائي علم إجمالي أيضا بأن علم بوجود
الحجّة في غيره أيضا فلا محالة يكون في ما بين الباقي أيضا قدر متيقّن مثل خبر
الثقة مثلا ، فإن كان في غير أيضا علم إجمالي فيؤخذ بالقدر
المتيقّن من غيره
، وهكذا إلى أن انتفى العلم الإجمالي ، ثمّ لو فرض على سبيل مجرّد الفرض عدم وجود
القدر المتيقّن في ما بين الأخبار وكان نسبة العلم الإجمالي إلى الجميع على حدّ
سواء ، فاللازم هو الاحتياط بالعمل على طبق كلّ خبر كان محتمل الحجيّة ، دون ما
ليس فيه هذا الاحتمال ، لخروجه عن أطراف العلم ، وهذا الاحتياط غير مستلزم للعسر
كما على مذهب من يزعم حجيّة جميع الأخبار المدوّنة في الكتب.
ثمّ لو فرض على
سبيل مجرّد الفرض كونه مستلزما للعسر فاللازم حينئذ هو الاقتصار على الخبر المظنون
الحجيّة ، وأين هذا من الخبر المظنون الصدور ، كما أنّ المدّعى وجوب العمل به ،
فيرد عليه حينئذ ما ورد على الوجه الأوّل من عدم جواز العمل بالأخبار في قبال
الاصول المثبتة ، وعلاوة عليه عدم كونه منتجا للمطلوب ، هذا هو الأدلّة على وجوب
العمل بالظنّ الخبري.
وأمّا الأدلّة
الّتي اقيمت على حجيّة مطلق الظنّ.
فهي وجوه :
الأوّل : إنّ
المجتهد إذا ظنّ بوجوب شيء أو حرمته ظنّ بأنّ في مخالفته الضرر ، ودفع الضرر
المظنون واجب ، ينتج أنّ العمل بالظنّ المذكور واجب ، أمّا الكبرى فمسلّمة ، وأمّا
الصغرى فيمكن إثباتها بنحوين :
الأوّل : أنّه إذا
ظنّ بوجوب شيء ظنّ بالعقاب على تركه ، وإذا ظنّ بالحرمة بالعقاب على الفعل ،
فالظنّ بالتكليف ظنّ بالضرر الاخروي.
والثاني : أنّ
الظنّ بالوجوب ظنّ بالمفسدة في الترك ، وبالحرمة ظنّ بالمفسدة في الفعل بناء على
ما هو المشهور بين العدليّة من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الكامنة في نفس
المتعلّقات دون الإنشاء والجعل ، فالظنّ بالتكليف ظن بالضرر الدنيوي.
والجواب أمّا على
تقدير فرض الضرر العقاب فيمتنع الصغرى ، وذلك لأنّ الظانّ بالتكليف لا يحتمل
العقاب بعد مسلميّة قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ إذ لو عاقبه
المولى على مخالفة
التكليف المظنون كان بلا بيان وحجّة وهو قبيح ، فيحصل القطع بعدم العقاب ،
وبالجملة فبهذه القاعدة يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ؛ وذلك لأنّ
المفروض أنّه ليس في البين ما يصلح لأن يكون بيانا وحجّة إلّا نفس هذه القاعدة
أعني: وجوب دفع الضرر المحتمل ، وهذا أيضا غير صالح ، ووجهه أنّه لا يعقل أن يكون
حكم الشيء محقّقا لموضوعه ، بل لا بدّ من تحقّق الموضوع من الخارج ثمّ تعليق الحكم
على الموضوع المحقّق.
ولو جعلت هذه
القاعدة بيانا وجعلت هي واردة على القاعدة الاخرى ونافية لموضوعها لزم أن يكون موضوع
القاعدة وهو احتمال الضرر محقّقا من قبل نفس القاعدة ، وهو غير معقول ، فتحقّق أنّ
العقاب هنا غير محتمل حتى يصير موضوعا لقاعدة دفع الضرر.
وأمّا على تقدير
فرض الضرر وهو المفسدة الكامنة في القول أو الفعل ، فأوّلا بأنّا نمنع الكبرى أعني
وجوب دفع الضرر عقلا ، بيان ذلك أنّ بعضا من الأحكام مبناها الحسن والقبح ، مثل
حكم العقل بقبح الظلم وحسن الإحسان ، ففي هذه الموارد يكون العقل حاكما بوجوب
الإقدام أو الترك ، ويكون حكمه مستلزما لحكم الشرع أيضا ، وإن لم يكن مستلزما له
كما في الحكم بقبح المعصية أو بقبح التجرّي حيث عرفت عدم قبولها للحكم الشرعي ،
فلا أقلّ من كونه مصحّحا للعقوبة.
وبالجملة ، ففي
موارد حكم العقل بالقبح يترتّب على الإقدام علاوة على الوقوع في القبيح استحقاق
المقدم للعقاب ؛ لكونه فعل القبيح ، وليس كذلك قاعدة دفع الضرر ، فإنّه لو أقدم
فغاية ما يترتّب هو الوقوع في الضرر ، بل ولو فرضنا كون الضرر مقطوعا لا مظنونا ،
فإنّه ليس في مخالفته والإقدام عليه إلّا التضرّر بهذا الضرر ، يعني بحسب حكم
العقل ليس هنا أثر آخر للإقدام كما في الإقدام على الظلم.
والحاصل أنّ
الكلام في أنّه لو فرض عدم ورود حكم الشرع على وجوب الدفع الضرر المالي أو النفسي
فهل يكون هنا حكم بالاستقلال للعقل؟ مثلا لو أوقع أحد
على نفسه ضررا
وفرض له الداعي العقلائي لئلا يلزم اللغوية فيلزم القبح من هذه الجهة ، مثل أن
يقتل نفسه بداعي أن يستريح من هموم الدنيا ، فهل هو في نظر العقل علاوة على الضرر
الذي أوقع نفسه فيه مستحقّ لعقوبة على نفس فعله الذي هو الإيقاع ، لكونه فعل فعلا
قبيحا ، كما لو أقدم على الظلم؟ من المعلوم عدم ذلك.
حتى أنّ الحال ذلك
في الضرر الاخروي أيضا ، كما لو علم بأنّ الفعل الفلاني موجب لدخول النار ، فليس
في نظر العقل في إقدامه إلّا الدخول في النار ، ولا يحكم بدخوله في نارين أحدهما
بقطعه ، والاخرى لإقدامه على عمل قبيح وهو إيقاع نفسه في النار ، وتوضيح ذلك كمال
الإيضاح مشاركة الحيوانات للإنسان في دفع الضرر عن النفس ، فإنّه يعلم أنّه ليس
مبناه اللزوم العقلي المبتني على الحسن والقبح ، بل لأجل جبلّة النفوس على حبّ
النفس الباعث على تجنّب الضرر ، وإلّا فليس حفظ الكلب مثلا نفسه عن الوقوع في
البئر لأجل خوفه صدور أمر قبيح منه.
فإذا لم يكن مبنى
دفع الضرر الحسن والقبح العقليين فليس له وجوب عقلي ، فالتعبير بأنّ دفع الضرر
لازم بحكم العقل مسامحة ، والحقّ أنّ الضرر لا يتحمّله الطباع ويفرّون منه بالفطرة
والجبلّة ، فالمتحقّق عدم الصدور وعدم الارتكاب دائما لا الوجوب العقلي ، فتحقّق
أنّه ليس هنا حكم عقلي حتى يكون مستلزما للشرعي أو موجبا لصحّة العقاب ، هذا كلّه
مع قطع النظر عن عمومات حرمة الضرر بحسب الشرع وملاحظة حكم العقل محضا.
وأمّا العمومات
المذكورة فهي أيضا غير شاملة للمقام ، وذلك لأنّ الحكم فيها مرتّب على موضوع الضرر
يعنى ما يسمّى عرفا ضررا وإلقاء في التهلكة ، مثل شرب السمّ ونحو ذلك ، أمّا مثل
المقام ممّا لا يلتفت إلى ضرريّته إلّا أهل المعقول بالدقّة العقليّة ـ فإنّ الضرر
الاخروي منتف بالفرض ، كما بيّن في الجواب على التقدير الأوّل ، وأمّا الضرر
الكامن في نفس الفعل أو الترك وهو المفسدة فهو غير ملتفت إليه لعامّة أهل العرف ـ فلا
يكون النهي عن إلقاء النفس في الضرر شاملا لمثل
هذا الفرد ، فثبت
من جميع ما ذكرنا منع الكبرى في المقام عقلا وشرعا.
وثانيا : نمنع
الصغرى وبيانه أنّا سلّمنا مقالة المشهور من أنّ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد
في بعض المتعلّقات ، دون الإنشاء والجعل كما هو مقالة آخرين ، لكن نقول مع ذلك :
إنّ المفسدة في نفس المتعلّق لا يلزم أن يكون شخصيّة راجعة إلى شخص المقدم ، بل
يمكن كونه نوعيّة راجعة ضرره إلى النوع ، مثل وجوب الجهاد والدفاع في مقابل
الكفّار ، فإنّ عدم الإقدام عليه ربّما لا يكون فيه مفسدة على شخص التارك ، بل فيه
مصلحة له من سلامة بدنه ، ولكن فيه مفسدة النوع وهو إضرار الكفّار وتسلّطهم على
النوع ، فحينئذ لم يلزم من ترك الواجب الوقوع في المفسدة.
نعم يصحّ ذلك في
مثل شرب الخمر ممّا يعود ضرره إلى شخص الفاعل ؛ فإنّ فيه ضرر قساوة قلب الشارب ،
وبالجملة ، فالصغرى بكليّتها ممنوعة ، يعني ليس كلّما ظنّ بالتكليف حصل الظن
بالضرر الدنيوي على النفس.
هذا مضافا إلى
وضوح الفرق بين المفسدة والضرر والمصلحة والنفع ، فإنّ المصلحة ليست إلّا عبارة عن
كون العمل في نظر العقل راجحا ، والمفسدة ليست إلّا عبارة عن كونه في نظره مرجوها.
وبعبارة اخرى :
الاولى عبارة عن استحسان العقل ، والثانية عن اشمئزازه ، ولا ملازمة بين الاولى
وبين النفع ، ولا بين الثانية وبين الضرر ، بل ربّما يشتمل ذو المصلحة على الضرر
كالإحسان ويشتمل ذو المفسدة على النفع كالظلم ونهب مال الناس ، ووجه ذلك أنّه ليست
المصلحة ولا المفسدة في الشيء معلّلة بعلّة وإلّا لتسلسل ، بل لا بدّ من انتهاء
الأمر إلى نفس استحسان العقل أو نفس اشمئزازه ، فليست المصلحة لأجل النفع ، ولا
المفسدة لأجل الضرر ، بل هما أمران ذاتيان قد يجامع أوّلهما مع الضرر وثانيهما مع
النفع ، فظهر ما في دعوى المستدلّ من أنّ الظنّ بالمفسدة ظنّ بالضرر.
الثاني : أنّ
الأخذ بالظّن أخذ بالطرف الراجح ، والأخذ بالوهم أخذ بالطرف المرجوح وترجيح
المرجوح على الراجح قبيح ، ينتج وجوب العمل والأخذ بالظنّ.
والجواب يبتني على
تقديم مقدّمة وهي أنّ هنا أمران : الترجيح بلا مرجّح ، وترجيح المرجوح على الراجح
، فالأوّل يمكن دعوى عدم استحالته بأنّه يمكن أن تكون نفس الإرادة مرجّحا ، فالممتنع
هو الترجيح بلا مرجّح ، وأمّا الترجيح فلا.
وأمّا الثاني فله
معنيان ، أحدهما محال ، والآخر قبيح.
فالأوّل : ترجيح
الراجح بالنظر إلى أغراض الفاعل على المرجوح بالنظر إليها ، فإنّه يتحقّق بحسب
الأغراض الفاعليّة راجح ومرجوح ، مثلا لو كان غرض الفاعل رفع العطش عن نفسه ولم
يكن له غرض آخر أصلا ، والحاصل كان الغرض العملي الحاصل له بعد الكسر والانكسار
بين جميع الجهات وملاحظة تمام المزاحمات هو رفع العطش ، وكان هناك ماء بارد رافع
للعطش ، وماء آخر حارّ إمّا غير رافع له وإمّا مزيد له وإمّا رافع لقدر قليل منه،
فحينئذ لا يعقل من فاعل أن يرجّح هذا الثاني ، فإنّه نقض للغرض وهو محال أن يصدر
من فاعل عاقلا كان أم غيره.
والثاني : أن يؤخذ
الراجح والمرجوح بملاحظة القواعد العقليّة وبالنظر إلى الحسن والقبح الفعليين ،
مثلا لو صار نصب الإمام واجبا بحكم العقل على الرعيّة ، وتردّد الأمر بين من كان
أعلم ومن كان غير أعلم ، فالراجح هو ما كان أقرب بالغرض العقلائي وهو نصب الأعلم ،
والمرجوح ما كان أبعد منه في النظر ، فتقديمه وترجيحه قبيح عقلا وليس بمحال ؛
لإمكان أن يصير الأبعد من الغرض العقلائي أقرب من الغرض النفساني وأشدّ ملائمة
بنفس الفاعل والمقدم.
وما حكي عن
الأشعري من تجويزه ترجيح المرجوح على الراجح لا بدّ من حمله على المعنى الثاني ،
فإنّه لإنكاره الحسن والقبح لا يرى المرجوح مرجوحا والراجح راجحا ، بل يزعم أنّه
متى حصل الملاءمة للنفس في جانب المرجوح دون
الراجح فاختاره
الفاعل لم يصدر عنه قبيح ، فمعنى تجويزه ترجيح المرجوح على الراجح إنكاره الحسن
والقبح ، وإلّا فتجويزه بالمعنى الأوّل لا يمكن صدوره من أحد ولو كان في أدنى
مرتبة الجهالة وقصور الإدراك.
إذا عرفت ذلك
فنقول : إن أراد المستدل من الكبرى المذكورة في كلامه ترجيح المرجوح على الراجح
بالمعنى الذي يكون محالا ، فالجواب أنّ الكبرى وإن كانت مسلّمة إلّا أنّ الصغرى
ممنوعة وهو لزوم الترجيح بهذا المعنى من الأخذ بالموهوم ، وذلك لأنّ الظانّ بوجوب
شيء التارك له لا يختار جانب الترك إلّا لأجل كون هذا الطرف ملائما لنفسه وأوفق
بغرضه النفساني من الآخر ، فترجيحه للموهوم ليس إلّا ترجيحا للراجح بحسب أغراضه
النفسانيّة على المرجوح بحسبها ، بل ولا يمكن أن يتحقّق منه ترجيح المرجوح بحسب
هذه الأغراض على الراجح بحسبها ؛ لما عرفت من كونه نقض غرض يمتنع صدوره من كلّ
فاعل.
وإن أراد بالكبرى
في كلامه ترجيح المرجوح على الراجح بالمعنى الذى يكون قبيحا فلا يتمّ الصغرى إلّا
على تقدير تماميّة مقدّمة ، وهي أنّ المكلّف يكون بحكم العقل ملزما بتحصيل الواقع
والتجسّس عنه مهما أمكن ، فإنّ الأنسب بهذا الغرض العقلائي أنّ يقدّم بعد تعذّر
القطع مظنوناته على مشكوكاته وموهوماته ، ولو عكس كان ترجيحا للمرجوح على الراجح
بحسب هذا الفرض ، ومع ذلك يحتاج إلى ضمّ هذه المقدّمة إلى سائر مقدّمات دليل
الانسداد وبدون أحدها لا يتحقّق موضوع للكبرى ، فلا يكون دليلا آخر وراء دليل
الانسداد.
وكذا الحال في
الوجه الثالث المحكىّ عن السيد الطباطبائي قدسسره ، فإنّه ليس إلّا تعرّضا لبعض مقدّمات دليل الانسداد مع
حذف بعضها الآخر ، فلا يصلح عدّه دليلا في قباله.
فعلم انحصار
الدليل في الباب أعني لإثبات حجيّة مطلق الظنّ في
دليل الانسداد
وهو : الوجه
الرابع وهو مركّب من مقدّمات أربع أو ثلاث ، فإن جعلنا العلم الإجمالي منها كانت
أربعا وإلّا فثلاثا ، ويمكن أن يقال بعدم كونه من المقدّمات ، فإنّه علّة لبعض
المقدّمات فلا يصلح عدّه في عرضها ، فإنّ ما يكون مقدّمة لصحّة مقدّمة النتيجة لا
يصحّ عدّه في عرض مقدّماتها ، ووجه ذلك أنّ من بعض المقدّمات أنّه لا يجوز لنا ترك
التعرض للوقائع المشتبهة ، فلو صحّ هذا كان النتيجة حاصلة ولو لم يضمّ إليه العلم
الإجمالي ، فإنّه لو لم نعلم إجمالا بوجود أحكام وتكاليف كثيرة ولكن علمنا من
إجماع ونحوه أنّه لا يجوز لنا إهمال الوقائع المشتبهة ، وضممنا المقدّمات الأخر
كانت النتيجة حاصلة ، فالاحتياج إلى العلم الإجمالي إنّما هو في طريق إثبات عدم
جواز ترك التعرّض ، فإنّه معلّل بوجوه منها الإجماع القطعي ، ومنها العلم الإجمالي
، ثمّ مع الإغماض عن ذلك نذكره في عداد المقدّمات.
فنقول : المقدمة
الاولى : أنّا نعلم إجمالا بوجود تكاليف وأحكام كثيرة لا نعلمها تفصيلا وإنّا مكلّفون
بها.
المقدّمة الثانية
: ـ وهذه يمكن عدّها مقدّمات ، ويمكن عدّها مقدّمة واحدة ـ أنّه لا يجب علينا
الامتثال القطعي لهذه المعلومات الإجماليّة ، ولا يكون شغلنا الخروج عن عهدة
التكاليف الواقعيّة خروجا قطعيّا ، وتفريغ الذمّة منها فراغا علميّا ، وذلك لأنّ
طريق الفراغ والخروج القطعي إمّا بتحصيل العلم بها والإتيان ، وإمّا بتحصيل الواقع
على وجه الظنّ الخاص ثمّ الإتيان ، وإمّا بالاحتياط بإتيان كلّ محتمل الوجوب وترك
كلّ محتمل الحرمة ، وإمّا بالعمل بالاصول المثبتة للتكليف الثابتة الحجيّة
بالأدلّة القطعيّة ، مثل استصحاب التكليف السابق في الشبهات الحكميّة المسبوقة
بثبوت التكليف ، ومثل الاحتياط في جزئيّات الموارد من الشبهات الحكميّة ، مثل
دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر فيها ، فإنّ بناء العمل في موارد هذه الاصول عليها
يوجب انحلال العلم الإجمالي بالتكاليف ، بناء على المختار من أنّ
الاصول المثبتة لو
كان في أطراف العلم بالتكاليف فهي جارية ويورث انحلال العلم.
فأمّا القطع
والظنّ الخاص فلا سبيل لنا إليهما ، والاحتياط غير واجب أو غير ممكن، والعمل
بالاصول المثبتة والاكتفاء بها في هذا المقام غير جائز فثبت أنّ الامتثال القطعي
بجميع طرقه وأنحائه ليس شغلا تعيينيّا لنا ، فالعبارة الجامعة أنّ الامتثال
والخروج القطعي ليس واجبا علينا أعمّ من أن يكون من جهة عدم الإمكان أو من جهة
الرخصة في تركه مع الإمكان ، أو من جهة عدم جوازه في هذا المقام.
والمقدّمة الثالثة
: أنّ حالنا ليس كالبهائم والمجانين حتّى يجوز لنا إهمال هذه الوقائع المشتبهة
وترك التعرّض لها ، سواء كان بواسطة إجراء أصالة البراءة في جميع موارد ثبوت
التكليف أو بدون واسطتها.
والمقدّمة الرابعة
: أنّ تقديم الموهومات والمشكوكات على المظنونات قبيح ، هذا.
أمّا المقدّمة
الاولى : فهي من الوضوح بمثابة لا تكون مخفيّة على أهل الملل والأديان الخارجة عن
الإسلام ، فإنّهم أيضا عالمون بأنّ في شريعة الإسلام أحكاما وتكاليف مجعولة لا بدّ
للداخل فيه من التديّن بها والعمل عليها.
وأمّا المقدّمة
الثانية : فبالنسبة إلى دعوى عدم السبيل إلى العلم في مقدار الوافي من الأحكام
بمقدار المعلوم بالإجمال يساعدها وجدان كلّ أحد ؛ فإنّ المعلومات بالتواتر أو
الضرورة من الأحكام قدر قليل إذا لوحظ في جنب الباقي يلحق بالمعدوم.
وأمّا بالنسبة إلى
انسداد الظنّ الخاص بالمقدار الوافي ، فالانصاف أنّ خبر الواحد حسب قضيّة الأدلّة
المتقدّمة يكون حجّة بمقدار واف وهو خبر الثقة ، بل بملاحظة بناء العقلاء قلنا :
إنّ الحجيّة لا يختصّ بخصوص هذا ، بل تشمل كلّ خبر موثوق بصدوره وإن لم يكن من جهة
وثاقة الراوي ، ولهذا استقرّ بناء المشهور على انجبار الخبر الضعيف بعمل الأصحاب ،
ووجهه أنّ بعملهم يحصل الوثوق بصحّة
السند ، وإلّا فلا
معنى لانجبار الدلالة بذلك ، ولكن لو لم يستفد أحد حجيّة هذا المقدار من خبر
الواحد من الأدلّة المتقدّمة فله أن يدّعي هنا انسداد باب الظنّ الخاص أيضا.
وأمّا بالنسبة إلى
العمل بالاصول المثبتة فوجه عدم جواز الاكتفاء بها هنا أمران :
الأوّل : أنّا إذا
لاحظنا جميع موارد الاستصحابات المثبتة للتكليف في موارد الشكّ في الحكم الكلّي
وضممنا إليها الاحتياطات الجزئيّة في موارد هذا الشكّ فالإنصاف عدم بلوغ مجموع
هذين على قدر المعلوم الإجمالي بوجود التكاليف ، فمع هذا يكون لنا علم إجمالي
بالتكليف غير ما اشتمله هذه الاصول ، وبالجملة ، فالعلم الإجمالي بالتكاليف لا
ينحّل بهذه الاصول ، فيبقى وجوب الاحتياط بحاله بالنسبة إلى سائر موارد الاصول ولا
يرفع العمل بها مئونة ذلك عنّا.
والثاني : أنّا
نعلم إجمالا بأنّ بعضا من هذه الاصول على خلاف الواقع إمّا بأن نعلم بأنّ في محلّ
هذا البعض تكليفا مضادّا لما أثبته ، وإمّا بأن نعلم بأنّ في محلّه اللاتكليف ،
وعلى كلّ حال لا ينفع الاصول نفعا بحالنا.
أمّا على الأوّل
فواضح ، فإنّه يجب حينئذ الجمع بين الأصل والعلم بقدر الإمكان ، فافرض أنّ العلم
الإجمالي بمقدار مائة تكليف ، وكان الاصول المثبتة أيضا مائة ، ولكن علمنا بأنّ في
ما بين هذه المائة تكليف على خلاف مقتضى الأصل ، فلا يجوز لنا الاكتفاء بهذه
الاصول مع هذا العلم ، بل يجب العمل بالعلم في بعض هذه الموارد وبالأصل في البعض
الآخر كما تقدّم تفصيله.
وأمّا لو كان
العلم بنفي التكليف في بعض الاصول المثبتة له فحينئذ وإن كنّا في غير المقام قلنا
بأنّ العمل على طبق الاصول لا يضرّه العلم بعدم التكليف في بعضها ، ولكن لا يجري
هذا في هذا المقام ، ووجه ذلك أنّ المفروض هنا ثبوت العلم الإجمالي بالتكاليف ،
فلو سلّمنا وفاء الاصول المثبتة بمقداره أيضا ، كما فرضنا من كون مقدار كلّ من
المعلوم بالإجمال وموارد الاصول المثبتة مائة تكليف ، ولكن
علمنا إجمالا أنّ
ثلاثين من هذه الاصول مخالف للواقع بمعنى أنّ عوضها اللاتكليف ، فنعلم بقضيّة
العلم الإجمالي بمائة تكليف بثبوت ثلاثين تكليفا في غير موارد الاصول ، فيحصل
العلم الإجمالي في خارج الاصول ، فيجب الاحتياط فيها.
ونظير هذا ما لو
علمنا بوجود عشرين شاة موطوءة في جملة قطيع غنم ، فأخبر البيّنة بموطوئيّة عشرين
من هذا القطيع ، ثمّ علمنا بأنّ عشرة من هذا العشرين غير موطوءة وإخبار العادل
بموطوئيّتها كذب ، فإنّه يجب حينئذ الاجتناب من كلّ القطيع.
وأمّا بالنسبة إلى
الاحتياط بأن يرتكب كلّ محتمل الوجوب ويجتنب كلّ محتمل الحرمة فربّما يدّعي بعضهم
بأنّ ذلك موجب لأمر أعظم من العسر والحرج وهو اختلال النظام وفساد امور العامّة
معاشا ومعادا ، وادّعى ذلك أيضا شيخنا المرتضى ، فيكون الاحتياط حراما بالدليل
العقلي ، ولسنا رهين اقامة الدليل الشرعي على رفع وجوب موجب العسر وتقرير الدعوى
أنّه على هذا يلزم بأن يرفع جميع الناس أيديهم عن أشغالهم ويصرفوا جميع وقتهم في
تعلّم موارد الاحتياط ، ويصرف المجتهد وقته في تعليم ذلك إيّاهم ؛ إذ كثيرا ما
يتّفق الاحتياط في الاحتياط ، فيجب معرفة ذلك لمقام الابتلاء والحاجة.
أقول : الإنصاف
عدم استلزام الاحتياط في جميع الموارد اختلال النظام وفساد جميع امور بني النوع ،
وتوضيح ذلك أنّ كثيرا من الأفعال لا يحتمل أحد وجود التكليف فيها ، أترى أنّ أحدا
يحتمل أن يكون جعل اليد بوضع خاص مثلا محرّما شرعا؟ وهكذا من هذا القبيل كثير ،
فهذه الموارد خارجة عن أطراف العلم ، بقي الموارد التي يكون وجود التكليف فيها
احتمالا عقلائيّا إما لكون العنوان مستحدثا غير موجود في عصر الشارع مثل شرب التتن
، فيحتمل وجود التكليف فيه ولم يبلغ إلينا ، أو لغير ذلك ، وهذه الموارد محصورة لا
يحصل الاختلال من مراعاة الاحتياط فيها ، فلاحظ موارد ذلك من الصلاة ، فإنّ أحد
موارد الاشتباه فيها اللباس المشكوك فيبني على خلعه في حالها ، وأحدها جلسة الراحة
فيبني على
إتيانها ، وأحدها
السورة فكذلك ، وهكذا.
وأمّا الابتلاء
بالاحتياطات العديدة الداخل بعضها في بعض الموجبة لاستيعاب الوقت كما مثّله الشيخ
فقد يتّفق بندرة ، كما لو فرض انحصار الماء في المضاف فيحتاط بالتوضّؤ منه
والتّيمم ، ولو فرض انحصار الساتر في النجس فيصلّي صلاة عريانا وصلاة مع الساتر ،
ولو تردّد ما يصحّ السجود عليه بين أمرين كرّر الصلاة عريانا ومع الساتر مع كلّ من
الأمرين، ولا يخفى قلّة الابتلاء بذلك للإنسان ، نعم المبتلى بذلك نلتزم بحجيّة
الظنّ في حقّه ، لكن لا يورث ذلك في حقّ النوع الغير المبتلين به.
والشاهد على أنّ
موارد احتمال التكليف والاشتباه ليس بمثابة لزم من مراعاة الاحتياط فيها اختلال
معاش الإنسان أنّا قد اطّلعنا على عصرين متتابعين انحصر المرجع للناس في الفتوى في
شخص واحد ، أحدهما : عصر شيخنا المرتضى ، فقد انتقل الرئاسة الإماميّة إليه ،
والأخر بعده ، فانتقل الرئاسة العامّة إلى السيّد الأجلّ الميرزا الشيرازي جزاهما
الله عن الإسلام وأهله خير الجزاء ، وقد كان طريقتهما في أكثر الموارد هو الاحتياط
، ومع ذلك لم نطّلع على انتهاء الأمر في حقّ أحد من العامّة إلى الحرج والعسر
واختلال نظام المعاش ، فإنّ العامل بهذه الاحتياطات كان موجودا بين الناس قطعا ، فالحقّ
عدم استلزام الاحتياط في موارد الاشتباه للاختلال ، نعم لا شبهة في كونه مستلزما
للحرج على العامّة وأنّه يتضيّق الأمر عليهم لو كانوا ملزمين بمراعاة الاحتياط
فيها.
وبالجملة ، إنّ
العسر المخلّ بالنظام صغراه ممنوعة وإن كان كبراه أعني عدم وجوبه بل عدم جوازه
عقليّة مسلّمة ، وأمّا العسر على غير وجه الإخلال فصغراه واضحة في مقامنا ، ولكن
كبراه أعني عدم وجوبه شرعي لا عقلي ، فنحتاج فيه من التمسّك بالأدلّة الشرعيّة . ثمّ الخدشة في هذه الكبرى الشرعيّة المستفادة من الأدلّة
__________________
__________________
اللفظيّة من مثل
قوله تعالى : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ
فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) هي دعوى عدم شمول هذه الأدلّة اللفظيّة لهذا المقام ، فإنّ
مفاد نفي الحرج بحسب جعل الشارع أنّ جعل الشارع أمرا ونهيا ليس متعلّقا بما فيه
العسر والحرج ، وهذا لا ينافي أن يكون الحرج حاصلا لا بجعله ، بل كان جعله خاليا
عن الحرج ، ولكن طرأ عليه العسر بواسطة جهل المكلّف مع ضميمة حكم العقل ، فإنّ
التكاليف المجعولة بحسب الواقع ليس بحدّ كان في امتثالها الحرج ، ولكن لمّا جهل
بها المكلّف وتردّدت عنده بين امور كثيرة أوجب حكم عقله بوجوب الاحتياط الحرج
عليه.
وإن شئت توضيح ذلك
بالمثال ، مثلا لو تردّد القبلة في أربع جهات وانحصر الساتر في النجس وتردّد حكم
البسملة بين الجهر والإخفات ، فمراعاة الاحتياط موجب لإتيان ستّ عشرة صلاة ، مع
أنّ المجعول فيها صلاة واحدة.
والحاصل أنّ وجوب
تمام الأطراف ليس بجعل الشارع ، بل بعضها ، ووجوب الباقي جاء من قبل الجهل وحكم
العقل بالاحتياط ، فيصدق أنّ الشارع ما جعل على المكلّف حرجا.
__________________
والجواب أنّ هذا
المعنى دقّة عقليّة ، وأمّا في فهم العرف فلا فرق بين القسمين ، فكما يفهمون من
نفي جعل الحرج نفي الأمر أو النهي الذي نفس امتثاله حرج ، كذلك يفهمون نفي الأمر
أو النهي الذي يصير منشأ للحرج بعد جهل المكلّف.
نعم فرق بين جعل
الشارع الحرج وبين جعل المكلّف إيّاه والتزامه له على نفسه ، مثل أن ينذر الحجّ
ماشيا مع كونه شاقّا عليه ، أو يؤجر نفسه للعمل الشاقّ ، فإنّ أدلّة الوفاء
بالعقود لا مانع من شموله لهذا المقام ، ولا معارضة له مع دليل نفي الحرج ، فإنّ
المنفي هو أن يكون الحرج مجعولا من قبل الشارع بالجعل الابتدائي ، وأمّا لو كان
الجاعل له نفس المكلّف غاية الأمر لم يمنعه الشارع وأبقاه على جعله ، فلا يصدق أنّ
الشارع جعل عليه الحرج ، ومن المعلوم أنّ المقام على تقدير وجوب الاحتياط ليس من
هذا القبيل ، نعم لو نذر المكلّف أن يحتاط في جميع الوقائع المشتبهة كان منه ،
فيكون خارجا عن تحت هذا الكبرى الشرعيّة ، وأمّا بدونه فمشمول لها بلا كلام.
وأمّا المقدّمة
الثالثة : أعني عدم جواز إهمال الوقائع المشتبهة وترك التعرّض لها ، فالدليل عليه
هو العلم الإجمالي ، وأمّا عدم وجوب الامتثال القطعى والترخيص في تركه ـ كما مرّ
في المقدّمة الثانية ـ فليس بمانع من تأثير العلم الإجمالي في الأطراف الخالية عن
الحرج.
بيان ذلك أنّ
المختار هو حفظ فعليّة الواقع مع ورود الحكم الظاهري والجمع بين فعليّتهما بكون
الظاهري في طول الواقعي كما مرّ تفصيله ، وعلى هذا يمكن حفظ العلم الإجمالي
بالتكاليف الفعليّة مع الترخيص المذكور بدون منافاة لهذا الترخيص مع فعليّة
المعلوم بالإجمال.
فإن قلت : نعم ،
ولكن إذا ورد الترخيص من الشرع بارتكاب بعض الأطراف والمفروض احتمال كون الواقع في
ضمنه ، فيكون الطرف الآخر شبهة بدويّة ، فلو كان الواقع فيه وارتكبه المكلّف كان
العقاب عليه بلا بيان وحجّة.
قلت : الحجّة
والبيان هو العلم الإجمالي ، والحاصل أنّ العلم الإجمالي إذا تحقّق
صار الحجّة على
التكليف تامّة في كلا الطرفين ، فإذا ورد الترخيص في أحدهما فالحجّة بالنسبة إلى
الآخر تامّة ، لبقاء العلم الإجمالي.
وبعبارة اخرى :
أثر العلم الإجمالي شيئان : وجوب الموافقة القطعيّة ، وحرمة المخالفة القطعيّة ،
فحكم العقل بالنسبة إلى الأوّل حكم تعليقي معلّق على عدم الأمن من العقاب ،
فالترخيص الشرعي يرفع موضوعه ، وبالنسبة إلى الثاني حكم بتّي ، فالعقل قاطع بقبح
المخالفة القطعيّة وقبح تجويزها ، فلو ارتكب مع الطرف المرخّص فيه الطرف الآخر لزم
ذلك ، وبالجملة ، فعلى المبنى المذكور لا إشكال في إيجاب الاحتياط بقدر لا يحصل
الحرج.
وحينئذ نقول : إذا
جاء دفع الحرج بترك بعض المحتملات فهل يجوز دفعه بترك المظنونات والإتيان
بالمشكوكات والموهومات؟ مقتضى حكم العقل بوجوب الخروج عن عهدة الواقعيات يعيّن دفع
الحرج بترك المشكوكات والموهومات وإتيان المظنونات دون العكس؛ لكون الأوّل أقرب
إلى امتثال الواقع ، فترجيح الثاني قبيح.
وبعبارة اخرى :
تكون للموافقة بحسب العقل مراتب مرتّبة لا مجال للمرتبة اللاحقة مع إمكان السابقة
، فالاولى منها الموافقة القطعيّة ، فإذا تنزّلنا منها بالترخيص الشرعي تعيّن
الموافقة الظنيّة ، ولا نتنزّل مع إمكانها إلى الشكيّة والوهميّة ، فإذا حصل
التنزّل من الظنيّة تعيّن الشكيّة وبعدها الوهميّة ، فهذه هي المقدّمة الرابعة ،
فتحصّل أنّ على مبنانا كان جميع المقدّمات تامّة على فرض تماميّة انسداد باب الظنّ
الخاص بمعظم الأحكام.
بقي الكلام بناء
على مبنى المولى الجليل المحقّق الخراساني طاب ثراه في الجمع بين الواقعي والظاهري
، فإنّه على هذا المبنى لا يمكن الجمع بين العلم الإجمالي بالأحكام الفعليّة مع
الترخيص الشرعي ظاهرا في بعض الأطراف ، فإنّه لو أذن الشارع في شرب أحد الإنائين
المشتبهين بالخمر مثلا فلو كان هو الخمر واقعا علم
أنّ «لا تشرب
الخمر» لم يكن فعليّا ، فينحل العلم الإجمالي ويتبدّل بالشبهة البدويّة ، فإنّ
الواقع على تقدير وجوده في الأطراف الغير المرخّص فيها كان حكما فعليّا واجب
الامتثال.
وعلى تقدير وجوده
في الأطراف المرخّص فيها كان شأنيّا وليس له وجوب الامتثال ، فالعلم الإجمالي وإن
كان حاصلا بأصل الحكم أعمّ من الفعلي والشأني ، لكن بخصوص الفعلي غير حاصل ،
والعلم الذي يكون الامتثال معه واجبا عقلا هو العلم بالتكليف الفعلي ، فالعلم
الإجمالي على هذا المبنى يرتفع من البين ، فلا بدّ من التمسّك لإيجاب الاحتياط في
غير الطائفة المرخّص فيها بدليل آخر وهو أن يقال : إنّه وإن لم يكن علم إجمالي
بالتكليف الفعلي مع الرخصة الشرعيّة ، ولكن قام الإجماع القطعي على أنّه لا يجوز
ترك جميع المحتملات.
ولكن يرد عليه
حينئذ أنّه لا وجه لتعيّن العمل بالمظنونات ، بل يمكن عدم ترك جميع الوقائع بإتيان
الموهومات والمشكوكات ، فإنّ المعيّن له هو لزوم إتيان الواقع وتنجّزه ، والمفروض
أنّ شرط ذلك وهو العلم الإجمالي مفقود.
فإن قلت : نستكشف
من هذا الإجماع اهتمام الشارع بالواقعيّات ، فيكون احتمالها في كلّ واقعة احتمالا
للواقع المهتمّ به وهو عند العقل منجّز كالعلم ، ومن هذا الباب أيضا منجزيّة
الأحكام الطريقيّة للواقع ، فإنّ احتمال الواقع في مواردها احتمال للواقع الذي
اهتمّ به الشارع حتّى جعل للوصول إليه هذا الطريق ، ولأجل هذا أيضا يلزم الفحص عند
دعوى مدّعى النبوّة عن صدقه وكذبه.
قلت : أيّ فرق بين
هذا وبين احتمال كون الواقع الموجود في مورد الشبهات البدويّة الأخر واقعا مهتمّا
به؟ ومجرد كون الكبرى في المقام قطعيّة ـ وهو كون الواقع مهتمّا به وإنّما الشكّ
في مقام التطبيق والصغرى ، وفي سائر المقامات يكون الشكّ في كلتا المقدّمتين ،
أعني نشكّ في أصل وجود الواقع في المورد وفي كونه على تقدير الوجود مهتمّا به ـ لا
يجدي شيئا بعد كون النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين ، ففي كلتا
الصورتين تكون
النتيجة احتمال وجود الواقع المهتمّ.
وحينئذ نقول : إن
قست حالك مع أغراض مولاك بحالك مع أغراض نفسك وجدت نفسك في أغراض نفسك لا تدور
مدار المهتميّة وعدمها ، بل متى بلغ الغرض درجة الوجوب أو التحريم ، ففي موارد
الاحتمال مع عدم الابتلاء بالمزاحمة بمعنى أن يكون في أحد من جانبي الفعل والترك
الوقوع في خلاف ذلك الغرض اللازم الاستيفاء ، ولا يكون في الجانب الآخر ضرر ولا في
هذا الجانب نفع يتدارك به ذلك المحذور ، فهل تقدم على ذلك الطرف المحتمل المحذور؟.
نعم في موارد
الابتلاء بالمزاحمة كما في ركوب البحر تقدم ، وحينئذ فكيف صار أغراض نفسك أولى
بالرعاية من أغراض مولاك ، مع أنّ الواجب كون الأمر بالعكس ، فعلى هذا لا بدّ من
كون كلّ احتمال منجّزا ، وهذا إشكال غامض لا بدّ من أن نجيب عنه في محلّه إن شاء
الله تعالى ، والقول بأنّ الاحتمال لا يكون له تأثير في باب الأمر والنهي أصلا
ومطلقا ، وباب الطرق يكون من باب إحراز أمر المولى وهو حجّة ما لم يعلم صوريّته ،
وباب الفحص عن مدّعي النبوّة لأجل حجيّة نفس الواقع الذي لو فحص لوجد وظفر به ،
فقياس بهما في غير المحلّ.
وإذن فالوجه أن
يقال : إنّه يستكشف بهذا الإجماع الاهتمام ، ويستكشف بالاهتمام إيجاب الاحتياط أو
جعل الطريق ، وحيث لا طريق واصل غير الظنّ يتعيّن كونه ذلك المجعول ، فتكون اللازم
من هذا حجيّة الظنّ على تقرير الكشف.
فإن قلت : إنّا
نستكشف من هذا الإجماع بطريق اللّم أنّ للشارع تكاليف فعليّة يهتمّ بمراعاتها ولا
يرضى بتركها ، وقضيّة ذلك هو تقديم الظن على الشكّ والوهم ، لقبح ترجيح المرجوح
على الراجح.
قلت : إن كان هذا
الاستكشاف على نحو العلم كان وجود التكاليف الفعليّة المستكشفة بإيجابه الاحتياط
مناقضا مع صدور الرخصة منه كما هو مذاق المولى المذكور ، فيلزم صدور المتناقضين عن
الشارع ، وإن كان على سبيل الاحتمال نقول :
المتّبع حينئذ بعد
عدم الدليل العقلي وتمحّض الدليل في الشرعي هو لسان هذا الدليل ، فإن أوجب علينا
هذا الدليل التعبّدي إتيان خصوص المظنونات صار متعيّنا ، ولو أوجب خصوص الموهومات
أو المشكوكات فكذلك ، ولو أحال الاختيار إلى أيدينا كان لنا الخيار فنختار ما شئنا
وإن كان هو الموهومات أو المشكوكات.
فتحصّل أنّه لا
محيص حينئذ من دعوى إجماع آخر على تعيين اختيار خصوص المظنونات على غيرها ، وبدونه
لا يتمّ المطلوب ، ومعه تكون حجيّة الظنّ شرعيّة لا عقليّة ، وقد كان المقصود
إثبات الحجيّة العقليّة.
وحاصل الكلام على
هذا المبنى أنّ الرخصة في ترك الاحتياط الكلّي إذا ثبت من الشرع بأدلّة نفي الحرج
ارتفع العلم الإجمالي عن البين ، فلا بدّ من أن يتمسّك بالإجماع على أنّ الشارع لا
يرضى بترك مراعاة هذه التكاليف المحتملة مع كونها محتملة ، فيكشف من هذا الإجماع
أنّ مجعول الشارع فيها إيجاب الاحتياط كما يستكشف ذلك في الشبهات البدوية في باب
الدماء والفروج ، فيستشكل حينئذ أنّه لا دليل على أنّه جعل إيجاب الاحتياط في خصوص
الطائفة المظنونات ، فلعلّه جعله في المشكوكات أو الموهومات ، فلا بدّ من دعوى
إجماع آخر على أنّه جعله في خصوص الاولى.
اللهم إلّا أن
يقال : إنّه يكفينا الإجماع الأوّل لكشف إيجاب الاحتياط في خصوص المظنونات
بالتقريب الذي سننكره في ردّ إشكال شيخنا المرتضى على القائلين بالكشف ، وحاصله
أنّه إذا كشف المقدّمات أنّ الشارع جعل لنا طريقا لامتثال الواقع فمن أين يكون هو
الظنون؟ فإنّ الطريق المجعول للشارع لا بدّ أن يكون أقرب إلى الواقع بنظره لا
بنظرنا ، ولهذا ترى طرقه المجعولة قد لا تكون مفيدة للظنّ الفعلي ، فلا يكون
النتيجة حجيّة الظنّ.
وحاصل الردّ أنّا
إذا علمنا أنّ الشارع عيّن لنا طريقا ولكن لم يبيّنه لنا تعيّن في الطريق الواصل إلينا
وما هو الأقرب بنظرنا ، فلا تصير النتيجة على الكشف مهملة ،
بل يكون كما على
الحكومة ، فيقال في المقام أيضا : إذا علمنا بالإجماع بأنّ الشارع جعل لامتثال
الأحكام المحتملة طريقا ولم يبيّن لنا أنّ هذا الطريق ما ذا تعيّن في ما هو الطريق
عندنا؛ إذ لو لم يكن هذا مراده كان عليه البيان ، فيستكشف بملاحظة هذا من الإجماع
الأوّل حجيّة الظن ، ولكن كما عرفت يلزم الحجيّة الشرعيّة دون العقليّة الثابتة
بمعونة المقدّمة الرابعة.
وكيف كان فعلى
المبنى الذي هو المختار من أنّ الرخصة في ترك الاحتياط الكلّي لا يورث قدحا في
العلم الإجمالي يتمّ حجيّة الظنّ بحكم العقل.
وينبغي التنبيه على امور.
الأوّل : الظنّ
الذي يكون حجّة بمقتضى المقدّمات هل هو أيّ ظنّ؟ فنقول : هنا احتمالات ثلاثة :
الأوّل : أن يكون
الحكم والتكليف نفيا وإثباتا دائرا مدار الظنّ وتابعا له ، فإذا حصل الظنّ
بالتكليف حكم بإثباته ، وإذا حصل بعدمه حكم بالعدم ، والحاصل يعامل مع الظنّ في
كلّ مورد حصل ، معاملة العلم ، وفي الموارد المشكوكة يرجع إلى الاصول الثابتة في
تلك الوقائع ، وهذا هو مراد المشهور القائلين بحجيّة الظنّ المطلق.
والثاني : أن يؤتي
بالموافقة الظنيّة ويعمل بالظنّ على مقدار عدد التكاليف المعلومة بالإجمال ، بأن
يلاحظ أنّ القدر المتيقّن من العلم الإجمالي بالتكليف في الوقائع المشتبهة أيّ عدد
، فيعمل بمظنونات الوجود بهذا العدد ، فلو فرض أنّ القدر المتيقّن مائة تكليف وكان
الظنون المثبتة للتكليف خمسمائة فلا يجب علينا إلّا العمل بمائة من هذه الخمسمائة
ونترك الاحتياط في عداها ؛ فإنّ قضيّة العلم الإجمالي بمائة تكليف أوّلا هو
الامتثال القطعي لمائة تكليف بأن يؤتى بتمام المحتملات ، فإذا فرض التنزّل عن هذه
المرتبة كان الواجب بعد ذلك الامتثال الظني لمائة تكليف.
فإذا كانت الظنون
المثبتة خمسمائة فأوّلا لا بدّ من ملاحظتها من حيث القوّة و
الضعف ، فيرجّح
الظنّ الأقوى على غيره ، فإنّ المرتبة النازلة بعد الامتثال على وجه القطع هو
الامتثال على وجه الظنّ الاطمئناني ، فإن كان بين الظنون شدّة وضعف فيعمل بمائة من
الظنون الاطمئنانية ، ولا يجب بالظنون الآخر ، وإن لم يكن بين الظنون تفاوت كان
المكلّف مخيّرا في اختيار كلّ مائة منها شاء.
والحاصل : ليس يجب
على هذا الوجه إلّا العمل بالظنّ والامتثال الظنّي على المقدار المتيقّن من العلم
الإجمالي ، وتظهر الثمرة بين هذا والوجه المتقدّم في الظنون المثبتة زائدا على هذا
المقدار ، فيجب العمل بها على الأوّل دون الثاني.
فإن قلت : بعد
تعذّر العلم لا بدّ من التنزّل إلى أقرب المراتب إلى العلم ، ولا شكّ أنّه الإتيان
بما عدى مقدار دفع الحرج جميعا ، لا الاقتصار على المائة من الظنون الاطمئنانيّة ،
ضرورة أنّ الكلّ أعظم من الجزء ، فإنّ احتمال عدم التكليف في هذه المائة موهوما
ينسدّ كثير منه بإتيان سائر الظنون والاحتمالات.
قلت : بعد فرض كون
ثبوت التكليف في هذه المائة مظنونا بظنّ اطمئناني متاخم للعلم ، فلا يصير
الاطمئنان بمائة موافقة وامتثال أقوى بإتيان سائر المظنونات والمحتملات ، لاستحالة
تحصيل الحاصل ، فإتيان المظنونات إنّما يؤثّر في الزائد عن المائة ، وكذلك
المحتملات ، يعني يطمئنّ المكلّف بعد إتيان الكلّ بمائة موافقة ويظنّ أو يحتمل
الزيادة على المائة ، والحاصل : الاطمئنان بالمائة قد يحصل بكثرة الأطراف المأتيّ
بها ، وهذا إذا لم يكن بشخص مائة منها الاطمئنان ، وقد يحصل بشخص مائة طرف
اطمئناني.
والثالث : أن
يتعيّن ترك الاحتياط في الظنون الاطمئنانيّة بعدم التكليف ويجب الاحتياط في الظنون
الضعيفة بالعدم ، والمشكوكات ومظنونات الوجود ، وإن لم يدفع الحرج بهذا القدر يقيم
مقدار الدافع له من الظنون الضعيفة ، وهذا هو الذي يعبّر عنه بالتبعيض في
الاحتياط.
ثمّ يتبيّن تحقيق
الحقّ من هذه الوجوه بتصفية الكلام في مبنيين ، وهو أن يقال :
المقدار الذي علم
إجمالا به من التكليف ما ذا يكون قضيّة العلم الإجمالي بحسب حكم العقل في تنجيز
هذا المقدار؟ فهذا العلم الإجمالي ينجّز على المكلّف الموافقة لهذا المقدار بطريق
القطع وإلّا فبالظنّ ، أو ينجّز عليه عدم المخالفة لهذا المقدار قطعا وبعده ظنّا ،
مثلا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين فالتكليف المعلوم إجمالا واحد ، فهل يوجب
عليه موافقة التكليف الواحد أو عدم مخالفة التكليف الواحد؟ وتظهر الثمرة في ما شرب
أحدهما وترك الآخر فانكشف بعد ذلك كون كليهما نجسا.
فعلى الأوّل لا
يستحقّ العقوبة ، فإنّ غرض الشارع قد حصل وهو موافقة «اجتنب» واحد ، فإنّه قد وافق
تكليفا واحدا بالاجتناب وإن كان هو غير ملتفت إليه ، لكنّه في علم الله يكون كذلك
، نعم صدر عنه مخالفة تكليف واحد أيضا ، لكن لم يصحّ عقوبته عليها ، لعدم علمه
إلّا بتكليف واحد.
وعلى الثاني
يستحقّ العقوبة ، فإنّ المطلوب منه عدم مخالفة تكليف واحد ، ويصدق في هذا المثال
أنّه خالف تكليفا واحدا ، والمفروض أنّ الحجّة بالنسبة إلى عدم مخالفة تكليف واحد
كانت عليه تامّة.
فإن قلت : كما
أنّه في صورة طلب المولى الموافقة الواحدة قد خرج عن العهدة باجتناب الإناء الواحد
لكون المطلوب فردا منتشرا ونكرة يقبل الانطباق على كلّ طرف على نحو البدليّة ،
كذلك لو كان المطلوب ترك المخالفة الواحدة على سبيل النكرة ، فقد خرج عن العهدة
بواسطة تسليم مخالفة واحدة متروكة ، وأيضا فاللازم ممّا ذكرت اجتماع الموافقة
والمخالفة بالنسبة إلى تكليف واحد في المثال ، فإنّك اعترفت بصدق الموافقة لتكليف
واحد بلا عنوان ، ومع هذا اعترفت بصدق المخالفة ، فقد اجتمع الضدّان في أمر واحد.
قلت : ليست لنا
قضيّة لفظيّة نتكلّم في صدق ألفاظها ، وبعبارة اخرى : ليس نزاعنا في صدق الإسم ،
وإنّما النزاع في أمر عقلي ، وهو أنّ قضيّة العقل عند عرض المثال المذكور عليه كون
هذا العبد عاصيا ومستحقّا للعقوبة ، أو متجرّيا وغير
عاص ، فإن حكم
بالأوّل كما هو الذي نجده بالوجدان كان هذا معنى حكم العقل بترك حقيقة المخالفة ،
وسمّ ذلك ما شئت ، وإن كان حكمه بالثاني كان هذا معنى اكتفائه بموافقة واحدة ،
وسمّه أيضا ما شئت.
والحاصل : فإن
قلنا بالثاني فلا محيص عمّا ذكره شيخنا المرتضى من الوجه الثالث ، وذلك لأنّ من علم
بمائة تكليف يجب عليه بمقتضى العلم الإجمالي أوّلا القطع بعدم مخالفة مائة تكليف ،
ولا يحصل إلا بإتيان جميع محتملات الوجوب وترك جميع محتملات الحرمة ، فإذا تنزّلنا
عن القطع كان الواجب عليه الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة مائة تكليف ، وهذا لا يحصل
إلّا بتخصيص ترك الاحتياط في الظنون الاطمئنانيّة بعدم التكليف ، فإنّه لو ترك
الاحتياط في المشكوكات لم يحصل الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة المائة ، بل يحتمل
خلافه ، فلو كان هناك مائة ظن اطمئناني بثبوت التكليف لا يجوز الاقتصار عليها ؛ إذ
لا يحصل الظنّ الاطمئناني بعدم مخالفة مائة تكليف بموافقتها ، بل يتوقّف على
الاقتصار في ترك الاحتياط على موارد الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف ، فإن حصل
العسر يضمّ بعض من موارد الظنّ الضعيف بعدم التكليف إلى حدّ انتفى الحرج.
وإن قلنا بالوجه
الأوّل تعيّن ما لا قائل له من الوجه الثاني ، فإنّ من علم بمائة تكليف كان الواجب
عليه أوّلا بحكم العقل موافقة مائة تكليف قطعا بأن يأتي بجميع محتملات الوجوب
ويترك جميع محتملات الحرمة فإذا تنزّلنا عن القطع كان الواجب عليه الظّن
الاطمئناني بموافقة مائة تكليف ، فإذا عمل على طبق مائة ظن اطمئناني مثبت للتكليف
حصل ذلك ولا يجب عليه العمل بالظنّ أزيد من هذا ، فقد تحقّق أنّ ما ذكره الجمهور
القائلين بمطلق الظنّ من الوجه الأوّل لا يستقيم على قاعدة.
ثمّ التحقيق من
المبنيين هو الثاني ، بمعنى أنّ حكم العقل في العلم الإجمالي تنجيز عدم مخالفة
المقدار المعلوم الإجمالي على المكلّف لا تنجيز موافقة هذا المقدار ، والدليل على
ذلك أنّه لو فرض أنّ المكلّف علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين وكان
كلاهما في الواقع
نجسا فشرب أحدهما وترك الآخر يستحقّ العقاب على شرب هذا الواحد لمكان العلم
الإجمالي الذي هو الحجّة على التكليف.
لا يقال : فيلزم
أن يكون الشارب لكليهما في هذا المثال مستحقّا لعقوبتين مع أنّه واضح البطلان ،
فإنّ العقاب على مقدار علمه وهو تكليف واحد.
لأنّا نقول : بل
لا يلزم إلّا استحقاقه لعقاب واحد على مخالفة التكليف الواحد المعلوم إجمالا ،
ولكن هذا التكليف الواحد الذي يعاقب على مخالفته ليس له علامة ، فلا يمكن تعيينه
في خصوص هذا النجس ولا في ذاك ، فنقول : لا فرق بين صورة ارتكاب الجميع وبين
ارتكاب أحد الطرفين وترك الآخر في أنّه يصدق أنّه خالف تكليفا واحدا مع كون حجّة
المولى عليه تماما ، غاية الأمر أنّه في الصورة الثانية صدر منه موافقة تكليف واحد
أيضا.
ووجهه ما ذكرنا من
أنّ العلم الإجمالي صار حجّة على تكليف واحد ، وهذا التكليف بلا علامة يصدق على
كلّ من الطرفين ، فلا يمكن أن يقال : إنّه خصوص هذا الذي حصل موافقته ، فيكون
الآخر الذي حصل مخالفته بلا حجّة ، فيكون العقاب عليه قبيحا ، بل من الواضح بطلان
هذا وصحّة العقاب على مخالفة الواحد الذي شرب ، وهذا دليل على أنّ المطلوب في باب
العلم الإجمالي عدم المخالفة لا الموافقة ، ومعه فقد عرفت أنّه لا محيص عن الوجه
الأخير من الأوجه الثلاثة ، فيكون نتيجة المقدّمات تبعيض الاحتياط دون حجيّة الظن
، نعم يكون الظنّ الاطمئناني بعدم التكليف حجّة على هذا.
الامر الثاني :
عرفت أنّ نتيجة دليل الانسداد إمّا حجيّة كلّ ظنّ ، وإمّا حجيّة الظنّ بمقدار
العدد المتيقّن من التكاليف المعلومة بالإجمال ، وإمّا حجيّة الظنون الاطمئنانيّة
النافية للتكليف ، وعرفت أنّ الأقوى هو الأخير ، فهل الظنّ الذي يثبت حجيّته
بمقدّمات الانسداد أيّا من هذه الثلاثة؟ كان هو خصوص الظنون المتعلّقة بالواقع ،
أو خصوص الظنون المتعلّقة بالطريق ـ كما اختاره صاحب الفصول و
الحاشية ـ أو
الأعمّ من القسمين ، كما اختاره شيخنا المرتضى قدسسره؟ وجوه.
وحاصل ما أفاده
شيخنا في تقريب مدّعاه هو أنّ العلم الإجمالي بالتكليف مقتضاه هو العلم بالمبرئ
والمؤمّن دون تحصيل الواقع ، وكما أنّ المكلّف في حال الانفتاح لو علم بالواقع
وأتى به حصل له العلم بالمبرئ ، كذلك لو علم بالطريق المنصوب إلى الواقع وأتى على
طبقه أيضا يحصل له العلم بالمبرئ.
فنقول : في حال
الانسداد يتنزّل من العلم إلى الظّن في كلّ مقام وجب العلم حال الانفتاح ، فعند
تعذّر العلم بالواقع والعلم بالطرق المجعولة إليه يرجع إلى الظنّ بهما ، فكما أنّ
العلم بالواقع موجب للعلم بالمبرئ ، كذلك الظنّ بالواقع أيضا موجب إلى الظنّ
بالمبرئ ، وكما أنّ العلم بالطرق المجعولة إلى الواقع أيضا يورث العلم بالمبرئ
فكذا الظنّ بها أيضا ظنّ بالمبرئ ، فينتقل في حال الانسداد من كلّ من العلمين إلى
الظنّ ، فينتقل من العلم بالواقع إلى الظنّ به ، ومن العلم بالطريق إلى الظّن به ،
هذا.
وفيه نظر واضح ،
ووجهه أنّه لو كان الحجيّة الواقعيّة بنفسها مع قطع النظر عن تعلّق العلم بها مبرئ
كان ما ذكره حقّا ، حيث إنّ الظنّ بالحجيّة الواقعيّة كان ملازما مع الظنّ بالمبرئ
، كما هو الحال في الظنّ بنفس الواقع ؛ إذ لا إشكال في كون نفس صدور الواقع عن
المكلّف مبرئ ، ولو كان بغير التفاته فلا محالة يكون الظنّ به ملازما للظنّ
بمبرئيّة ، ولكن كون نفس الحجيّة بوجودها الواقعي مبرئ ممنوع.
ألا ترى أنّه لو
علم إجمالا بوجوب واحد من الظهر والجمعة في يوم الجمعة ، فأتى بالجمعة دون الظهر
وكان في الواقع الظهر واجبا وكان أيضا في الواقع طريق معتبر قائما على وجوب الجمعة
، ولكنّ المكلّف لم يستشعر به فهل يجدي مجرّد مصادفة عمله اتّفاقا مع الحجّة
الواقعيّة في رفع العقاب عنه على مخالفة الواقع الذي صار منجّزا عليه بسبب العلم
الإجمالى؟ من الواضح عدمه وكونه مستحقّا للعقوبة.
وبعبارة اخرى :
الموجب للعذر والمبرئ للذمّة هو استناد العمل إلى الحجّة والطريق المعتبر ،
والاستناد إليها في العمل إنّما يتحقّق مع العلم بالحجيّة ، فالمؤمّن و
السبب للمعذوريّة
إنّما هو العلم بالحجيّة دون نفسها ، فإذا تحقّق العلم بها فلكون العلم طريقا
معتبرا في ذاته يحصل علم ثانوي بالمبرئ أعني الطريق المعلوم الحجيّة ، فالعلم
الأوّل مأخوذ في موضوع المبرئ.
وأمّا لو حصل
الظنّ بالحجيّة فنفس الظنّ ليس كالعلم حجّة ذاتيّة ، وإلّا لحصل العلم بالمبرئ في
الرتبة الثانية كما في العلم ، وإثبات الحجيّة بالمقدّمات أيضا دور ، فإنّه يتوقّف
شمولها لهذا الظنّ على كونه ظنّا بالمبرئ ، والمفروض توقّف وصف الإبراء على شمولها
أيضا ، والحاصل لا يمكن أن يحقّق الحكم موضوعه.
وأمّا ما افيد في
تقريب المدّعى الثاني وهو حجيّة خصوص الظنّ المتعلّق بالطريق فوجهان ، الأوّل : ما
ذكره صاحب الفصول قدسسره وحاصله أنّه لا إشكال في أنّه كما أنّا نقطع إجمالا بوجود
تكاليف في الواقع متوجّهة إلينا ، وقد انسدّ باب العلم التفصيلي بنفس هذه الأحكام
وبالطرق المجعولة إليها ، كذلك نقطع إجمالا بأنّ الشارع نصب إلى معرفة هذه الأحكام
طرقا مخصوصة ، وكلّفنا بالرجوع إلى هذه الطرق المخصوصة لمعرفة الواقعيات ، وقد
انسدّ علينا باب العلم التفصيلي بنفس هذه الطرق المخصوصة وبالطرق المجعولة إليها ،
ومرجع هذين العلمين إلى علم واحد ، فإنّ المتحصّل من العلمين أنّا نعلم بكوننا
مكلّفين بالأحكام الواقعيّة التي اشتملت عليها هذه الطرق المخصوصة.
وإذن فنحن ندور
مدار هذه الطرق ، فإن كان العلم بها ممكنا تعيّن ، وإلّا فالمتّبع هو الظنّ بها ،
ولو حصل الظنّ بالواقع الذي ليس مشمولا لهذه الطرق فهو غير معتنى به ، لخروج
المحتملات التكليف الواقعي المعلوم عدم إيصال طريق إليها عن الأطراف العلم
الإجمالي، والتنجيز ولحوقها بالشبهة البدويّة.
وفيه أوّلا : أنّ
ما ذكره قدسسره من أنّ مرجع العلمين الإجماليين إلى علم إجمالي واحد وإن
كان حقّا ، وذلك لأنّا إذا علمنا بثبوت تكاليف واقعيّة ، وعلمنا أيضا بثبوت طرق
جعلها الشارع طريقا إلى تلك الواقعيّات فقد انحلّ العلم الأوّل
بواسطة الثاني
وتضيّق دائرته لتعيّن أطرافه في محتملات ثبوت الطريق وبقي محتملات التكليف الخارجة
عن دائرة محتملات ثبوت الطريق شبهة بدوية خارجة عن أطراف التنجيز.
مثلا لو علمنا
إجمالا بوجوب واحد من الظهر أو الجمعة ، أو الدعاء عند الرؤية وقام طريق على وجوب
الجمعة وآخر على وجوب الظهر ، وعلمنا إجمالا بكون أحد هذين الطريقين حجة ، فعند
العلم الثاني يتضيّق دائرة العلم الإجمالي الأوّل ويتعيّن في الظهر والجمعة ،
ويصير الدعاء خارجا عن أطرافه ، فيصير العلمان علما واحدا.
إلّا أنّ ما ذكره
من الرجوع ابتداء إلى الظنّ بالطريق مع هذا العلم الإجمالي الثاني لا يتمّ إلّا
على تقدير عدم القدر المتيقّن في ما بين الطرق والأمارات ، وأمّا معه كما هو
الواقع ، فإنّ الخبر الصحيح مثلا لا يحتمل عدم مجعوليّته ومجعوليّة الخبر الضعيف ،
فاللازم الاقتصار على القدر المتيقّن لو كان وافيا بالقدر المتيقّن من العلم
الإجمالي ، وإلّا فيؤخذ بالقدر المتيقّن بالإضافة إلى الباقي ، وهكذا إلى أن يحصل
المقدار الوافي ، فيرجع في ما عدا ذلك إلى مقتضى الاصول وإن كان مخالفا للظنّ ،
لكونها من الشبهة البدويّة.
وثانيا : سلّمنا
عدم القدر المتيقّن ، لكن ما ذكره من الرجوع ابتداء إلى العمل بالظنّ مخالف لقاعدة
العلم الإجمالي ، فإنّ مقتضاه هو الاحتياط ، فيلزم هنا الاحتياط بجميع محتملات
التكليف من محتملات الطريق ، ولا وجه للاقتصار على التكاليف المحتملة في خصوص
مظنونات الطريق وترك الاحتياط في الباقي ، واستلزام هذا الاحتياط للعسر ممنوع ،
لوضوح أنّ من بنى على العمل بجميع التكاليف المثبتة في الأخبار المذكورة في
الوسائل ـ مثلا ـ لا يلزم عليه حرج أصلا.
وثالثا : أنّ لنا
منع العلم الإجمالي المذكور رأسا ، بمعنى أنّا لا نقطع بأنّ للشارع في حال
الانسداد طرقا خاصة مجعولة ، بل من المحتمل أن يكون قد أحال العباد إلى القواعد
والطرق المعمولة عند العقلاء حال انسداد باب العلم عليهم في أوامر
مواليهم الظاهريّة
وهو العمل بالظنّ عند تعذّر العلم.
فتحصّل أنّ العلم
الإجمالي بالطرق أوّلا ممنوع ، والعلم الإجمالي منحصر بما يتعلّق بنفس التكاليف ،
ومعه قد عرفت عدم إمكان القول بحجيّة الظن بالطريق بمقدّمات الانسداد ، وعلى تقدير
تسليم العلم الإجمالي بالطرق فالنتيجة وهو حجيّة الظنّ بها ممنوعة ، بل اللازم
أوّلا هو الرجوع إلى القدر المتيقّن ومع تسليم عدمه الاحتياط.
وكيفيّته أن يعمل
على طبق الطرق المثبتة للتكليف بجميعها ، والاصول النافية الجارية في مواردها
ساقطة ؛ إذ لو عمل بجميع هذه الاصول لزم المخالفة القطعيّة في الطرق ، ولو عمل
ببعضها دون بعض كان ترجيحا بلا مرجّح ، فيلزم سقوط الجميع.
وأمّا الاصول
المثبتة للتكليف على خلاف الطرق فلو عمل بها لزم المخالفة القطعيّة في الطرق ، ولو
عمل بالطرق لزم المخالفة القطعيّة في الاصول ، فاللازم هو التخيير كما مرّ تفصيل
ذلك في ما تقدّم.
مثال ذلك في العلم
الإجمالي الصغير ما لو علم المكلّف إجمالا بأنّه يجب عليه إمّا الظهر أو الجمعة أو
الدعاء عند رؤية الهلال ، فقام طريق على وجوب الجمعة وآخر على وجوب الظهر ، وكان
الأصل في كليهما هو الحرمة وعلم إجمالا بحجيّة أحد الطريقين ، فإنّ العمل بالأصل
في كليهما طرح للطريق المعلوم الحجيّة إجمالا ، وبالطريق في كليهما طرح للأصل
المعلوم الحجيّة إجمالا ، فيعمل في أحدهما بالأصل وفي الآخر بالطريق.
هذا هو الكلام في
الاصول التي في قبال الطرق المثبتة ، وأمّا الكلام في ما بقبالها من الطرق النافية
فنقول : لو تعارض طريقان فأثبت أحدهما التكليف ونفاه الآخر فإمّا أن يكونا مختلفي
السنخ كأن يكون أحدهما شهرة والآخر إجمالا منقولا ، وإمّا أن يكونا متحدي السنخ ،
وحينئذ إمّا أن يكون السنخ الواحد هو الخبر كأن يقوم خبر ثقة على التكليف ، وخبر
ثقة آخر على عدمه ، وإمّا أن يكون غير الخبر كأن
يكون شهرة على
التكليف وشهرة اخرى على عدمه.
ومحصّل الكلام في
هذه الأقسام الثلاثة أمّا في القسم الأوّل ـ وهو ما إذا كان الطريق المثبت والطريق
النافي مختلفين سنخا ـ فاللازم هو العمل على الطريق المثبت ، لكونه من أطراف العلم
الإجمالي بثبوت الطرق ؛ إذ المحتملات في الواقع ثلاثة :
الأوّل : أن لا
يكون شيء منهما بحسب الواقع حجّة ويكون المرجع هو الأصل
والثاني : أن يكون
كلاهما حجّة ويكونان متساقطين للتعارض ، فيكون المرجع أيضا هو الأصل.
والثالث : أن يكون
أحدهما حجّة والآخر غيرها ، فلا يكون مجرى للأصل ، ولازم هذا هو العمل بالطريق
المثبت دون الطريق النافي كالأصل النافي ، وأمّا الأصل المثبت فقد عرفت التخيير
بينه وبين الطريق المثبت.
وأمّا في ما إذا
كان الطريق المثبت والنافي من سنخ واحد غير الخبر فالمتعيّن حينئذ هو الرجوع إلى
الأصل ، إذ المحتمل بحسب الواقع أمران ، الأوّل : أن يكون كلاهما حجّة ، والآخر :
أن يكون كلاهما غير حجّة ، وعلى أيّ حال يكون المرجع هو الأصل ، أمّا على الثاني
فواضح ، وأمّا على الأوّل فلتساقط الطريقين الحجّتين بالتعارض.
وأمّا في ما إذا
كان الطريقان من سنخ الخبر فالمتعيّن هو العمل بالأرجح إن كان ، والتخيير إن لم يكن ؛ إذ المحتمل على تقدير وجود
الأرجح عدم حجيّتهما وحجيّتهما ، فعلى الأوّل المرجع هو الأصل ، وعلى الثاني
المرجع هو الأرجح ، وعلى تقدير عدم الأرجح والتساوي يحتمل أيضا الحجيّة فيهما وعدم
الحجيّة كذلك ، فعلى الثاني المرجع هو الأصل ، وعلى الأوّل هو التخيير ، فالاحتياط
في المسألة
__________________
الاصوليّة هو
العمل بالأرجح أو التخيير ، فلا مجرى للأصل النافي ، لكون الخبرين من أطراف العلم
الإجمالي ، وأمّا الأصل المثبت فالمكلّف مخيّر بين العمل عليه والعمل بالأرجح أو
التخيير.
ثمّ على تقدير كون
الأرجح هو الخبر النافي أو عدم الأرجح وكون المكلّف مخيّرا بين العمل بالخبر
المثبت أو النافي ، فلا يجب الاحتياط في المسألة الفرعيّة بالعمل بالخبر المثبت
على تقدير كون الأصل نافيا ، فإنّ هذا الاحتياط معلوم العدم ، فإنّه إمّا لا يكون
الخبران حجتين فالمرجع هو الأصل النافي ، وإمّا يكونان حجتين فالمرجع هو الخبر
النافي الذي هو الأرجح ، أو التخيير بينه وبين المثبت ، فتعيّن العمل بالمثبت منفي
قطعا على كلّ تقدير.
وأمّا إذا كان ما
بقبال الطريق المثبت طريقا مثبتا للتكليف المضاد ، فالعمل على الأصل في غير صورة
كونهما فردين من الخبر ، وفيهما على التخيير إن لم يكن مرجّح ، وتعيين أحدهما مع
المرجّح.
ورابعا : سلّمنا
العلم الإجمالي بثبوت الطرق المجعولة لامتثال الواقعيّات وأنّ القدر المتيقّن
بينها غير موجود وأنّ الاحتياط بالعمل بأطراف الطرق حرج ، وبعبارة اخرى سلّمنا
تماميّة مقدّمات الانسداد بالنسبة إلى الطرق ، فهل تكون النتيجة هي حجيّة الظنّ
بالطريق متعيّنا أو حجيّة الظن مطلقا ، سواء كان بالطريق أم بالواقع؟
هذا مبنيّ على
تحقيق مطلب وهو أنّه لو علمنا إجمالا بالواقع بين أطراف ، ثمّ قام طريق معتبر
معلوم الحجيّة تفصيلا على هذا الواقع في واحد من الأطراف ، مثلا لو علمنا إجمالا
بوجوب واحد من الظهر والجمعة وقام طريق احرز حجيّته على التفصيل على وجوب الظهر ،
فهل العلم الإجمالي الثابت قبل قيام الطريق يصير بعد قيامه منحلا حقيقة ومعدوما
صرفا ويكون الطرف الآخر شبهة بدويّة في الحقيقة؟ كما لو حصل بعد العلم الإجمالي
المذكور علم تفصيلي وجداني بوجوب الظهر ، فإنّه موجب للانحلال الحقيقي وانعدام
العلم الإجمالي موضوعا ، فالطريق المعتبر أيضا
حاله حال العلم
الوجدانى.
ولازم هذا أنّه لو
خالف المكلّف في هذا المثال ولم يعمل بالطريق وترك الظهر والجمعة معا ثمّ تبيّن
أنّ الواجب واقعا كان هو الجمعة ، لم يكن المكلّف مستحقّا لعقوبة إلّا عقوبة
التّجري ؛ فإنّ الظهر الذي قام الطريق على وجوبه تبيّن عدم كون الواقع متحقّقا فيه
، وقد تقرّر في محلّه أنّ الأحكام الظاهرية ليس في مخالفتها من حيث نفسها استحقاق
عقاب ، وإنّما هو من جهة مخالفة الواقع ، والمفروض أنّه لو صادف مع خلاف الواقع لم
يكن في مخالفتها عقاب أصلا إلّا عقاب التّجري.
وأمّا عدم
الاستحقاق على ترك الجمعة فهي وإن كان الواقع في ضمنها ، ولكن كان للمكلّف فيها
أصالة البراءة ، فيلزم ارتفاع العقوبة عن ترك الجمعة وعن ترك الظهر معا ، نظير ما
لو علم جهلا مركّبا بوجوب الظهر بعد العلم إجمالا بوجوب واحد منه ومن الجمعة ، ثمّ
خالف وترك كليهما ، ثمّ ظهر أنّ الواجب هو الجمعة ، فإنّه لا إشكال حينئذ في عدم
استحقاقه عقابا على ترك شيء منهما.
أو أنّ قيام
الطريق المعتبر ليس بمنزلة العلم الوجداني موجبا للانحلال الحقيقي وانعدام العلم
الإجمالي موضوعا ، بل مع ذلك يكون موضوعه موجودا ويكون أثره بالنسبة إلى تنجيز
الواقع على المكلّف باقيا ، ففي المثال يكون له استحقاق العقوبة على ترك الواقع ،
وغاية ما هناك بعد قيام الطريق أنّه لو أتى المكلّف بالطرف الذي قام عليه طريق ولم
يأت بالطرف الآخر فظهر وجود الواقع في الآخر كان العقاب مرتفعا ؛ إذ ليس للمولى
مطالبة الواقع المعلوم بالإجمال منه وعدم اكتفائه بمؤدّى الطريق ، فإنّ هذا مناف
لتنزيله المؤدّى منزلة الواقع وجعله إيّاه نفس الواقع ، فإنّ مقتضى ذلك أنّه متى سلّم
العبد هذا المؤدّى عند طلب المولى للواقع تسلّمه المولى عوضا لمطلوبه.
والحاصل أنّ قضيّة
العلم الإجمالي الموجود بالوجدان بعد قيام الطريق المعتبر هو تنجيز الواقع على
المكلّف بمعنى أنّه يوجب على المكلّف ويلزم عليه بحكم العقل
أن يمتثل الواقع
ويأتي به إمّا بنفسه وإمّا ببدله ، وأمّا في ما ذكر من المثال فالمكلّف قد ترك
الواقع ولم يمتثله بشيء من نحوي امتثاله ، فللمولى أن يؤاخذ منه ويطالب الواقع
الذي علم به.
الذي يحكم به
الوجدان هو الثاني ، فيقضي بوقوع المكلّف تحت قيد التكليف بسبب العلم الإجمالي
بالنسبة إلى الواقع أو بدله بحيث لا يستريح ولا يخلّي سبيله لو رفع اليد عن الواقع
وبدله لو خالف طريقه الواقع ، ولا يصير كمن لم يتوجّه إليه تكليف ولم يحصل له علم
إلّا في خصوص التّجري.
وعلى هذا فنلتزم
بأنّ أصالة البراءة في الطرف المقابل المتحقّق في ضمنه الواقع إنّما هي جارية معلّقا
على الإتيان بمؤدّي الطريق حتى يكون قد حصل الامتثال بالبدل ، وإلّا فلا مجرى فيه
للبراءة.
إذا عرفت ذلك
فنقول : العلم الإجمالي بثبوت الطرق إن قلنا بأنّه لا يوجب ارتفاع العلم الإجمالي
بالواقعيات ، بل هو مع ذلك باق بحاله موضوعا وباق على اقتضائه من تنجيز الواقع على
المكلّف فحينئذ لو احتاط المكلّف ، بالإتيان بمقتضى كلّ ما احتمل طريقيّته فقد علم
بالمبرئ ؛ فإنّه يعلم بالخروج عن عهدة الواقع بتسليم نفسه أو بدله.
وأمّا لو كان
الاحتياط حرجا وصار الأمر متعيّنا في العمل بالظن فحينئذ الظن بالطريق والظن
بالواقع في عرض واحد ، فإنّ الظنّ بالواقع ظن بالأصل ، وبالطريق ظنّ بالبدل ،
والأوّل لو لم يكن بأقوى من الثاني ليس بأقصر قطعا ، فلا وجه لحجيّة الظنّ بالطريق
متعيّنا.
نعم لو قلنا
بانحلال العلم الإجمالي بالواقعيات حقيقة بسبب العلم الإجمالي
__________________
بثبوت الطرق
المجعولة بقدر الوفاء بالمعلومات الإجماليّة من التكاليف في ما وصل إلينا من الطرق
والأمارات كان الأمر منحصرا في الطرق ويكون الخارج منها محلا للبراءة ، فلا همّ
للمكلّف إلّا تحصيل الظنّ بالطريق ، ولا همّ له بتحصيل الظن بالواقع ؛ إذ ذلك
قضيّة انحصار تكليفه في مؤدّى الطريق وتعيّن محلّ ابتلائه فيه.
ثمّ لا يخفى أنّ
الإشكال الذي أوردناه على شيخنا المرتضى لا يرد على صاحب
__________________
الفصول قدسسرهما ، فإنّه مدّع للعلم الإجمالي بثبوت الطرق ، والطريق إذا
تعلّق العلم به يصير مبرئ ، وبالجملة ، موضوع المبرئ أعني الطريق المعلوم الحجيّة
متحقّق على هذا ، فيكون الظنّ بالطريق ظنّا بالمبرئ أعني الحجّة المعلوم الحجيّة.
والوجه الثاني :
ما ذكره الشيخ محمّد تقي صاحب الحاشية وهو مركب من مقدّمات :
الاولى : إنّا
نقطع ببقاء التكليف بالنسبة إلينا بالواقعيات وأنّ مجرّد الجهل بالتعيين لا يوجب
سقوطها عنّا.
والثانية : أنّ
كلّ ما يجب حال انفتاح باب العلم تحصيل العلم به ففي حال الانسداد يلزم الظنّ بهذا
الشيء ، ويقوم الظنّ به في هذا الحال مقام العلم في تلك الحال.
والثالثة : أنّ
الواجب في حال الانفتاح هو تحصيل العلم بالمبرئ في حكم المكلّف والآمر وفي نظره ،
فيكون الواجب في حال الانسداد أيضا تحصيل الظنّ بالمبرئ ، وذكر في بعض مقدّمات
مطلبه في مقام الاستشهاد على هذه الدعوى ـ أعني كون الواجب في حال الانفتاح هو
العلم بالمبرئ في نظر الآمر ـ ما حاصله أنّه يتّضح ذلك بملاحظة سيرة السلف وأصحاب
النبي والأئمّة عليهمالسلام ، فإنّ المعلوم من حالهم عدم بذل الجهد في تحصيل الواقع ،
بل همّهم كان بتحصيل العلم بالمبرئ ، وإلّا لوجب أن يقتصروا فى طريق تحصيل الأحكام
وتعليمها على السماع من المعصوم أو بالتواتر أو بالخبر المحفوف بالقرينة القطعيّة
، ومن المعلوم عدم كون ذلك من سيرتهم ، فنعلم من هذا أنّ الواجب في حال الانفتاح
لم يكن تحصيل الواقع علما ، بل كان هو العلم بالمبرئ.
والرابعة : أنّ
الظنّ بالواقع ليس مستلزما للظنّ بالمبرئ ، بخلاف الظنّ بالطريق ، فإنّه مستلزم له
، أمّا عدم استلزام الظنّ بالواقع للظنّ بالمبرئ فلأنّه يجتمع مع القطع بعدم
الإبراء كما في الظنّ الحاصل من القياس ، فإنّه ظن بالواقع ومع ذلك نقطع بعدم
الإبراء ، ولو كان
الظن بالواقع ملازما للظنّ بالابراء لامتنع هذا.
وأمّا استلزام
الظنّ بالطريق للظنّ بالمبرئ فلأنّ معنى الحجيّة والطريقيّة هو أنّ المولى متقبّل
لو سلّم إليه العمل على وفق الطريق ولو لم يكن مطابقا للواقع ، ولازم هذا سقوط
الواقع وفراغ ذمّة المكلّف عنه ، فيكون الظنّ بالطريق ملازما للظنّ بالإبراء ، هذا
حاصل ما مهّده لاستنتاج المطلب المذكور.
أقول : ويرد عليه.
أوّلا : النقض بما
إذا حصل الظنّ بالطريق أيضا من طريق القياس ، فإنّه ظن بالطريق وقد اجتمع مع القطع
بعدم الإبراء ، فعدم الملازمة على فرض تسليمه مشترك الورود بين الظنّين ولا وجه
لتخصيصه بالظنّ بالواقع.
وثانيا بالحل ،
وهو أنّا لا نتعقّل معنى لقوله : إنّ الواجب في حال الانفتاح هو تحصيل العلم
بالمبرئ في حكم المكلّف والآمر ؛ فإنّ البراءة وفراغ الذّمة عقيب الامتثال لا
يرتبط بحكم الآمر ، وإنّما الحاكم بها العقل دون الآمر ، ووظيفة الآمر إنّما هو
جعل نفس الحكم أو نفس الطريق ، وأمّا حصول البراءة والفراغ عقيب عمل المكلّف على
طبق ما جعله الآمر من الحكم أو الطريق فليس إلّا بحكم العقل.
وإذن فليس العلم
بالواقع أو بالطريق في حال الانفتاح علما بالمبرئ ، وإنّما يحصل العلم بالمبرئ بعد
العمل الخارجي على طبق الحكم أو الطريق المعلومين.
هذا حال الانفتاح
، وأمّا في زمان الانسداد فلا فرق أيضا بين الظنّ بالواقع والعمل على وفقه ، والظن
بالطريق والعمل به في أنّ العمل على وفق كلّ منهما يوجب الظنّ بالبراءة ، كاستلزام
العلم بهما مع العمل للعلم بالبراءة في حال الانفتاح بلا فرق أصلا ، فهل ترى
المكلّف لو ظنّ بوجوب الدعاء عند الرؤية عليه فأتى به لا يظن بسقوط هذا الوجوب
المظنون عنه ؛ إذ لا يعقل بقاء التكليف بالواقع مع إتيان المكلّف به.
وأمّا ما ذكر من
القطع بعدم الإبراء في الظنّ القياسي ، فإنّما المقصود بهذا القطع أنّه على تقدير
خطاء هذا الظنّ وظهور كون التكليف على خلافه ، كما لو كان ما ظنّ
بوجوبه بهذا الظنّ
محرّما واقعا لا يكون المكلّف معذورا في ترك الواقع ؛ إذ معنى هذا في ما إذا كان
الظنّ بعدم التكليف والوهم بثبوته وكان المقطوع الحرمة الطريقيّة جعل إيجاب
الاحتياط الطريقي بمراعاة جانب الوهم ، وأمّا مع الحرمة النفسيّة فمعذوريّة الظنّ
بحالها ، غاية الأمر ارتكب معصية بالركون إليه ، كما أنّ معناه في الظنّ بالثبوت
هو عدم فعليّة الواقع المظنون من حيث هذه الجهة سواء كانت الحرمة طريقيّة أم
نفسيّة.
وأمّا على تقدير
الإصابة كما هي المظنون فلا يعقل تفكيك الظنّ بالواقع مع الظنّ بالإبراء ولو في
الظنّ القياسي ، فإنّ العمل بالقياس إمّا نقول بحرمته موضوعا وبالحرمة النفسيّة
كشرب الخمر ، وحينئذ لا منافاة بين حصول البراءة عن التكليف الواقعي واستحقاق
العقوبة على ارتكاب هذا المحرّم النفسي ، وإمّا أن نقول بأنّ معنى حرمته هو مجرّد
عدم حجيّته ، وحينئذ فمن الواضح حصول البراءة على تقدير الإصابة ، وبالجملة ،
فالظنّ بالواقع من أيّ طريق حصل ولو كان من طريق مقطوع عدم حجيّته يكون ملازما
للظنّ بالإبراء عقيب العمل على طبقه ، هذا.
مضافا إلى أنّه
يرد عليه قدسسره ما أوردناه على شيخنا المرتضى ، فإنّه قدسسره غير مدّع للعلم الإجمالي بثبوت الطرق المجعولة ، فيرد عليه
أنّ الظنّ بالطريق ليس ظنّا بالمبرئ ، فإنّ نفس الحجيّة الواقعيّة ليست بمبرئ ما
لم يعلم بها المكلّف ويستند عمله إليه ، فلم يكن الظنّ بنفس الحجّة ظنّا بالمبرئ.
الأمر الثالث :
إنّ نتيجة مقدّمات دليل الانسداد هل هي حجيّة الظنّ على وجه الكشف أو على نحو
الحكومة ؟ قولان ، والمراد بالكشف أن تكون تلك
__________________
المقدّمات
العقليّة كاشفة عن كون الظنّ حجّة بحكم الشرع في حال الانسداد ، فطريق الاستكشاف
هو العقل ، وإنّما المستكشف به هو الحكم الشرعي ، فحجيّة الظنّ حال الانسداد حكم
شرعي استكشف بطريق عقلي ، والمراد بالثاني أنّ العقل له الحكومة في هذا الباب على
الاستقلال ، فالحكم عقلي دون أن تكون الحكومة للشرع وكاشفه العقل ، بل الحكومة
لنفس العقل بالاستقلال ، وذلك لأنّ المقام باب الإطاعة والامتثال ، والحاكم في هذا
الباب هو العقل دون الشرع فكما أنّ الحاكم بوجوب الموافقة القطعيّة عند إمكانها
وانفتاح بابها هو العقل ولم يكن لحكم الشرع فيه مجال ، فكذا الحاكم بوجوب الطاعة
الظنيّة مع تعذّر القطعيّة أيضا هو العقل ، ولا مجال لحكم الشرع فيها.
وحينئذ فلا مجال
لدعوى أنّه إذا ثبت حكم العقل ثبت حكم الشرع بقاعدة الملازمة بين الحكمين ، فتكون
الحجيّة على هذا أيضا شرعيّة مستكشفة بالعقل.
لأنّا نقول : هذا
الموضوع ـ أعني الاطاعة ـ كالمعصية غير قابل لحكم الشرع ، والملازمة إنّما هي في
المورد القابل له ، ووجه عدم القبول أنّ الغرض من الحكم المولوي هو إيجاد الباعث
أو الزاجر بالنسبة إلى النوع ، ولهذا يقال : إنّ حكم الشرع في موارد حكم العقل لطف
، وهذه العلّة منتفية في موضوع الإطاعة ، فإنّ اللطف قد تمّ بالأمر الأوّل ، فإذا
قال : «صلّ» فلا حاجة إلى أمر ثانوي بإطاعة الأمر ، فيكون هذا الأمر الثاني لغوا ،
لعدم مدخليّته في اللطف ، فيمتنع صدوره من الحكيم تعالى.
__________________
فإن قلت : قد قرّر
في محلّه أنّ العلم بالحكم متى حصل لا يمكن جعل آخر في موضوعه من الشارع لا إثباتا
ولا نفيا ، وبعبارة اخرى : حجيّة العلم عقليّة وليس بتعبديّة وإلّا لزم التسلسل
وسائر المحاذير المذكورة في محلّه ، خلافا للظنّ ؛ فإنّ حجيّته محتاجة إلى التعبّد
، فالحاصل أنّه لا إشكال في قبوله للتعبّد وإمكان التعبّد فيه ، وإنّما الكلام في
وقوعه وأنّه هل يساعد دليل عليه أولا ، وعلى هذا فإذا ثبت حكم العقل بحجيّة الظنّ
حال الانسداد والمفروض ثبوت الملازمة بينه وبين حكم الشرع فقد ثبت حكم الشرع ؛
لأنّ المقتضي موجود والمانع مفقود ، فقولكم في الجواب عن قاعدة الملازمة بأنّ
المورد غير قابل لحكم الشرع كيف التوفيق بينه وبين القول بإمكان التعبّد الشرعي في
الظنّ وقبوله له؟ وهل هو إلّا التناقض الواضح؟
قلت : جعل الظنّ
حجّة يتصوّر على نحوين ، أحدهما ممكن الصدور من الشارع والآخر غير ممكن ، وأمّا
الأوّل الذي هو الممكن هو أن يحكم الشرع في موضوع ظنّ المكلّف بحكم فيه مطابقا
لمظنون المكلّف ، فإن كان قد ظنّ الوجوب جعل فيه الوجوب ، وإن ظنّ الحرمة جعل فيه
الحرمة ، وهذا ممّا يمكن من الشارع صدوره ، فإنّه حكم مستقلّ كسائر أحكامه ، فلو
علم به المكلّف وجب عليه امتثاله بحكم العقل ، فيكون حكم العقل بامتثاله متأخّرا
عن نفس جعله وإنشائه ويكون جعله وانشائه موضوعا لحكم العقل ؛ لأنّه حكم مستقل ،
فيقتضي امتثالا مستقلا ، فليس هذا تصرّفا في مرحلة الامتثال ، بل في موضوع الحكم
العقلي بضم أمر إلى الأوامر الواقعيّة حتى يحكم عليه العقل بالامتثال مثلها.
وأمّا الثاني فهو
أن لا يجعل الحكم بما هو مستقلا مطابقا للمظنون ، بل يجعل الوجوب في مورد الظنّ به
بعنوان كونه امتثالا للحكم الواقعي المظنون ، فهذا الاعتبار لا يستتبعه حكم العقل
بالامتثال ، وهذا غير ممكن الصدور من الشرع ، لما مرّ من أنّه كما أنّ الطاعة
العلميّة يكفي في اللطف في موردها الأمر الأوّلي بنفس
المأمور به ، كذلك
الإطاعة الظنيّة أيضا يكفي في تمام اللطف في موردها الأمر الأوّلي ، فلا مدخليّة
للأمر ثانيا بنفسها في اللطف أصلا.
إذا عرفت هذا
فنقول : أمّا على مبنانا الذي أسلفناه في المقدّمات فلا محيص عن القول بالحكومة ،
وهو أنّ العلم الإجمالي بالواقعيات محفوظ ولا يورث قدحا فيه أصلا الترخيص الشرعي
الوارد في موارد لزوم العسر ، فإنّه حكم ظاهري ، ومتعلّق العلم حكم واقعي ، وهما
مرحلتان طوليّان ، فليس للترخيص في بعض الأطراف بحسب الرتبة الثانية مساس بالعلم
الإجمالي المتعلّق بالأحكام بحسب الرتبة
__________________
الاولى ؛ إذ حينئذ
بعد ضمّ سائر المقدّمات لا ملازمة بين اجتماع المقدّمات مع جعل الشارع طريقا
للمكلّفين ليكون هو المرجع لهم حال انسداد باب العلم عليهم بعد فرض أنّ العقل له
الحكومة والاستقلال في تعيين ما هو المعيار في باب الامتثال وليس تحيّر وتوقّف
حتّى يحتاج لتعيينه إلى الشرع.
ألا ترى أنّك لو
صرت عبدا لمولى ظاهري وعلمت بتكاليف من قبله عليك ولم تتمكّن من امتثالها على وجه
العلم ولم ينصب لك طريقا لحال عدم تمكّن العلم فهل تتوقّف عن العمل؟ أو ترى نفسك
مكلّفا بتكليف عقلي نازل وهو الموافقة على مقدار الظن من دون أن تنسب إلى مولاك
تكليفا بالاحتياط الطريقي على تقدير
__________________
الالتفات ، بمعنى
أنّه لو التفت على هذه الحالة لأمرني بالاحتياط ، نظير ما تنسبه في حال غرق ابنه ،
هذا كلّه على المبنى المختار.
وأمّا على مبنى
المولى الجليل محمّد كاظم الطوسي قدسسره حيث يقول بأنّ العلم الإجمالي بالتكاليف يصير منحلا بسبب
ورود الترخيص في بعض الأطراف ويكون متبدّلا بالشكّ البدوي فقد يقال : إنّه يتعيّن
حينئذ القول بالكشف ؛ إذ لا يبقى حينئذ مورد قابل لحكم العقل ، فإنّ مورد حكم
العقل بالتنجيز ولزوم الامتثال صورة وجود العلم ، فإذا انتفى العلم وارتفع من
البين مورد اقتضاء الامتثال والتنجيز العقلي ، فلا يبقى مجال للحكومة العقليّة ويخرج
الأمر عن يد العقل.
وإذن فلا بدّ من
الرجوع إلى الشرع ، وإذا أحرزنا من الشرع بواسطة الإجماع أنّ الوقائع المشتبهة
لكثرتها لا يجوز لنا إهمالها والاستراحة من جهتها كشف ذلك لنا من وجوب الاحتياط ،
ولو اقتصر على هذا الإجماع يلزم جواز الاقتصار على المشكوكات والموهومات ، وحيث لا
يقول به أحد فهنا إجماع آخر على عدم الاكتفاء بالمشكوكات والموهومات ، فينتج
الإجماعان أنّ الشارع جعل طريقا إلى الواقعيات وهو وإن لم يتعيّن بدليل شرعي ، لكن
يمكن إحراز تعيينه في خصوص المظنونات بسكوت الشرع وعدم تعيينه في غيرها ، فإنّ عدم
تعيينه دليل على تعيينه في ما هو أقرب بنظرنا إلى الواقع وهو المظنونات ، وعلى هذا
فيصير حجيّة الظنّ شرعية لا عقليّة.
وكذلك الكلام بناء
على قول من يدّعي أنّ العلم الإجمالي لا يكون منجّزا بل حاله حال الشكّ البدوي ،
كما يظهر من بعض كلمات صاحب القوانين قدسسره ، فبين هذين القولين تناف مع القول بالحكومة ، ولا يمكن
جمعهما معه ، هذا.
ولكن يمكن أن يقال
بعدم المنافاة وإمكان القول مع ذلك بالحكومة كما هو
__________________
مختار المولى المتقدّم
قدسسره ، وتوضيحه أن يقال : إنّا بعد احراز القطع من الإجماع أو
الضرورة بأنّ الشارع لا يرخّصنا في ترك التعرّض للوقائع المشتبهة وإهمالها نستكشف
من ذلك أنّ للشارع اهتماما بالواقعيات ، بمعنى أنّها على فرض وجودها في ضمن هذه
الأطراف التي ليست موردا للترخيص يهتمّ الشارع بها ، ومع إحراز الاهتمام يكون
الاحتمال أيضا منجّزا بحكم العقل ، ولا يبقى مجال للبراءة العقليّة كما في باب
الدماء والفروج حيث لا تجري البراءة فيها لأجل اهتمام الشرع فيها.
وبالجملة ، فمع
إحراز الاهتمام من القطع المذكور لا يبقى مجال لدعوى الإجماع الثاني ولا لاستكشاف
جعل الشارع إيجاب الاحتياط الطريقي ، بل يستقلّ العقل بوجوبه وتقرير حكومته حينئذ
بأنّ الوقائع المهتمّة بنظر الشارع يجب أوّلا بحكم العقل ولو لم يتعلّق العلم بها،
بل كان الموجود مجرّد احتمالها امتثالها بطريق القطع ، يعني يقطع امتثالها على
تقدير وجودها، وإذا تنزّلنا عن الامتثال القطعي بأدّلة الحرج وجب الاقتصار على
مقدار دفع الحرج والاحتياط في غيره ، فنتنزّل من
__________________
الامتثال القطعي
إلى الامتثال الاطمئناني ، ويكون الثاني متعيّنا بعد الأوّل بحكومة العقل
واستقلاله.
الامر الرابع : في
أنّ نتيجة مقدمات الانسداد هل هي مهملة على كلّ من تقريرى الحكومة والكشف ، أو
ليست بمهملة على كليهما ، أو مهملة على أحدهما ومعيّنة على الآخر؟
تفصيل الكلام في
ذلك أنّه أمّا على القول بالحكومة فلا إهمال في النتيجة أصلا ، وليس هذا مبتنيا
على الكبرى التي ذكرها شيخنا المرتضى من أنّ حكم العقل لا يقبل الإهمال، فإنّه
أوّلا يأخذ في الموضوع كلّ قيد يرى دخله في الحكم وبعد استجماع تمام هذه الصور
يحكم ، ومن المعلوم أنّ الموضوع المستجمع لها واجد أبدا للحكم ، ولا يرتفع الحكم
منه في وقت ، ووجه عدم الابتناء أنّا قد استشكلنا في هذا الكلام كما يأتي في محلّه في مبحث
الاستصحاب إن شاء الله تعالى ، وحاصله أنّ الموضوع الذي لا يقبل الإهمال ولا
يتصوّر فيه الإجمال هو ما يكون موضوعا لإدراك العقل فعلا ، فإنّه لا محالة يدرك
القبح في موضوع متبيّن ، وهو ما اجتمع فيه القيود المحتملة الدخل ، وبعبارة اخرى :
ما كان اتّصافه بالحسن أو القبح متيقّنا على كلّ تقدير.
مثلا ضرب اليتيم
إذا انضمّ إليه قصد الإيذاء صار موضوعا لجزم العقل وانزجاره الفعلي ، وكذلك الكذب
الضارّ يجزم العقل بقبحه ، فموضوع الجزم و
__________________
الانزجار الفعلي
معلوم لدى العقل ، وهو مجموع القيد والمقيّد في المثالين ، وأمّا أنّ ملاك القبح
وموضوع القبيح ما ذا؟ فيمكن تشكيك العقل وترديده من جهته وعدم معلوميّته عنده كما
في المثالين ، حيث إنّه بعد العلم بوجود الملاك في مجموع القيد والمقيّد لا يعلم
بأنّ ما يقوم به الملاك ويدور معه هل هو خصوص المقيّد وإن فارق عنه القيد أو مجموع
الأمرين ، فلو سئل عنه أنّ الكذب الغير الضّار قبيح أم لا لأجاب بعدم العلم لا
بالعلم بعدم القبح.
فتحصّل أنّه يمكن
أن يكون موضوع حكم العقل غير معلوم عنده وإن كان موضع جزمه وإدراكه القبح معلوما
لديه.
وحينئذ ففي المقام
حيث يحكم العقل في حال الانسداد بحسن العمل بالظنّ يمكن ويتصوّر أن يكون العقل
مردّدا وشاكّا في أنّ الظنّ الذي يكون العمل به حسنا في هذا الحال هل هو خصوص
الظنّ الاطمئناني ، أو مطلق الظنّ ، فليس المدّعى عدم تصوير الإهمال في النتيجة
لكونها حكم العقل ، بل المدّعى أنّ الإهمال مع إمكانه وتصويره لا وقوع له في
المقام بحسب الاتفاق.
وبيانه أنّا إمّا
أن نقول بأنّ اقتضاء العقل في باب العلم الإجمالي تنجيز عدم مخالفة المعلوم بالإجمال
، وإمّا أن نقول إنّه تنجيز موافقته ، فإن قلنا بالأوّل فلا إشكال أنّ المعتبر
أوّلا هو القطع بعدم المخالفة ، كما لا إشكال في أنّ المعتبر بعد القطع هو
الاطمئنان ، فكما أنّ المعتبر في حال إمكان القطع كان هو القطع بعدم المخالفة كذلك
القائم مقام هذا القطع عند عدم إمكانه هو الاطمئنان بعدم المخالفة ، وإن كان
المعتبر حال الانفتاح هو القطع بالموافقة كان القائم مقامه حال الانسداد هو
الاطمينان بالموافقة ، فلا بدّ أوّلا من إحراز أنّ قضيّة العقل في باب العلم
الإجمالي أىّ من الأمرين ، وبعد إحرازه لم يبق إهمال في حكم العقل في هذا المقام.
هذا كلّه هو
الكلام في عدم إهمال النتيجة من حيث درجات الظنّ ، وأمّا من حيث الأسباب والموارد
فالحقّ عدمه بناء على الحكومة من هاتين الجهتين أيضا ، و
ذلك لأنّ المعتبر
أوّلا هو القطع بالواقع من أيّ سبب حصل ، وبعده الظنّ به من أيّ سبب حصل ، فكما لا
يفرق بين الأسباب في القطع حال الانفتاح كذلك لا تفاوت بينها في الظنّ في حال
الانسداد ، وسرّه أنّ الملاك هو الكشف عن الواقع ، ومن المعلوم أنّه لا مدخل في
هذا الملاك لخصوصيات الأسباب.
وأمّا من حيث
الموارد فلا فرق في نظر العقل بين أبواب الفقه ، وذلك لأنّ اللازم
أوّلا هو العلم بواقعيات أحكام الله تعالى ، ومع عدمه فاللازم هو الظنّ بها من دون
فرق في ذلك بين أحكام الله المتعلّقة بالعبادات والمعاملات والعقود والايقاعات إلى
غير ذلك من أوّل الفقه إلى آخره ، فإنّ كلّ ذلك أحكام الله ، هذا كلّه على الحكومة.
وأمّا بناء على
القول بالكشف فقد أورد الشيخ المرتضى قدس سرّه على هذا القول أنّه لو تمّ هذا لزم
بقاء المكلّف في الجهالة والحيرة وعدم العلم بما هو شغله ، وذلك لأنّ نتيجة
المقدّمات على هذا ليس إلّا أنّ الشارع قد جعل للمكلّفين طريقا إلى الواقع ، وأمّا
أنّ هذا الطريق خصوص الظنّ فلا يدلّ عليه دليل ، فلعلّه كان أمرا آخر غير الظن ،
كما نشاهد في الطريق التي حكم الشرع بحجيّتها إمّا جعلا وإمّا امضاء حيث لا يحصل
منها الظنّ ، بل ربّما يكون الظنّ على خلافها.
__________________
ألا ترى أنّه
ربّما لا تفيد البيّنة ظنّا ، بل يظنّ على خلافها ، وكذلك الحال في ظواهر الألفاظ
، ومع ذلك جعلها الشارع حجّة ، وبالجملة فالمعتبر على هذا هو الأقرب إلى الواقع في
نظر الجاعل ، وحيث لا سبيل لنا إلى تعيينه فلا محالة يكون ما جعله حجّة مردّدا غير
معلوم ، هذا.
والحقّ أنّه لا
إهمال في النتيجة بناء على هذا القول أيضا أصلا ، وموضوع الحجيّة معلوم متبيّن لا
إجمال فيه من جهة كما على القول بالحكومة ، بيان ذلك أنّه لا إشكال في قضيّة
المقدّمات على هذا هو أنّ الشارع أراد رفع الحيرة عن المكلّفين عند حصول هذه
المقدّمات ، وانفتاح القفل لهم بواسطة جعل الطريق ، ولا يحصل هذا الغرض وهو رفع
الحيرة والجهالة بمجرّد جعل الطريق واقعا بدون بيانه للمكلّف ، فحيث لم يبيّن
طريقا آخر يعيّنه العقل في الطريق الذي له امتياز عمّا عداه في إراءة الواقع
والأقربيّة إلى إصابة الواقع والأبعديّة عن مخالفته في نظر المكلّف ، ولا شكّ أنّ
هذا بعد تعذّر القطع ليس إلّا الاطمئنان ، ثمّ كلّ مرتبة من الظنّ على ترتيب
الدرجات.
وإذن فيصير موضوع
الحجيّة في حكم الشرع بناء على الكشف هو الموضوع لها في حكم العقل بناء على
الحكومة ، فلم يبق ثمرة بين القولين على هذا.
ثمّ لو سلّمنا
وجود الثمرة بين القولين فإنّه إهمال النتيجة بناء على الكشف كما ذكره شيخنا قدسسره ، فيحتاج إلى مقدّمات آخر لتعيين النتيجة ورفع الإهمال
عنها ، فنقول : من جملة الوجوه لتعيين النتيجة هو الأخذ بالقدر المتيقن لا بمعنى
القدر المتيقّن على وجه الإطلاق، فإنّه لو كان كان حجّة معلومة بالتفصيل وهو خلاف
الفرض من انسداد باب العلم والعلمي ، بل بمعنى أنّه على تقدير صدور جعل الطريق من
الشارع كان القدر المتيقّن هو هذا القسم.
مثلا لو جعل
الشارع طريقا فالقدر المتيقّن في ما بين الشهرة والاستقراء والخبر هو الخبر ،
فإنّه حجّة على هذا التقدير قطعا ولا بدّ أن يكون القدر المتيقّن وافيا بمقدار
المعلوم بالإجمال
من الأحكام ، وإلّا فالاعتبار بالمتيقّن فالمتيقّن ، مثلا المتيقّن في ما بين
الصحيح الأعلائي وخبر الثقة هو الأوّل ، ولو فرض عدم وفائه وأنّ الطريق المجعول
موجود في غيره أيضا كان القدر المتيقّن بعده هو خبر الثقة ، وبالجملة ، فتعيين
الطريق بهذا النحو ممّا لا إشكال فيه ، وإنّما الكلام في ما إذا لم يكن بين أقسام
الطرق قدر متيقّن رأسا ، بل كان كلّها في عرض واحد ، فالمرجع بناء على مذاق الكشفي
في هذه الصورة ما ذا؟
فنقول : لا بدّ
عنده حينئذ من إقامة مقدّمات الانسداد في نفس الطرق أيضا ، فتكون قضيّتها أنّ
الشارع جعل طريقا لتعيين الطريق إلى الحكم الواقعي من بين الطرق ، فإن حصل الإجمال
والترديد في طريق الطريق أيضا فصار مردّدا بين امور مع عدم القدر المتيقّن الوافي
في البين أعمل المقدّمات مرّة ثالثة في هذه الامور أيضا ، وهكذا يعمل المقدّمات في
كلّ مرتبة إلى أن يتعيّن الأمر في واحد معيّن وينحصر الطريق في موضوع مبيّن ، أو
متعدّد لا محذور في الاحتياط فيه.
ولنمثّل لك مثالا
للتوضيح فنقول : إنّا نعلم إجمالا بوجود أحكام واقعيّة أوّلية للشارع ولا يمكن
الاحتياط إلى غير ذلك من سائر المقدّمات ، فتصير النتيجة أنّ الشارع جعل لنا طريقا
إلى تلك الواقعيّات ، ثمّ إذا تردّد عندنا هذا الطريق بين الشهرة والإجماع المنقول
والخبر والأولويّة والاستحسان ، فعند ذلك يحصل لنا علم إجمالي آخر بوجود أحكام
طريقيّة ثانوية مردّدة بين هذه الامور الخمسة ، والاحتياط غير ممكن إلى آخر
المقدّمات ، فتكون النتيجة أنّ الشارع جعل طريقا لما هو المجعول طريقا للواقع من
هذه الامور ، فإذا نظرنا وجدنا أنّ الشهرة لم يجعل طريق على حجّيتها ، وكذا
الإجماع المنقول والاولويّة والاستحسان ، وانحصر ذو الطريق في الخبر تعيّن هو
للطريقيّة.
ولو كان أربعة
منها مثلا ذا طريق أعمل المقدّمات في طرق هذه الأربعة ، فإن كان ذو الطريق بينها
منحصرا في واحد اتّضح الحال ، وإلّا اجريت في هذه الطرق
المتعدّدة أيضا ،
وهكذا إلى أن انتهى الأمر إلى أن يتعيّن وينحصر ذو الطريق في واحد معيّن.
فظهر من جميع ما
ذكرنا اندفاع كلا الإشكالين الذين أورد أحدهما شيخنا المرتضى ، والآخر بعض
الأساطين في طيّ كلماته بصورة الإلزام على القول بالكشف.
أوّلهما : أنّ
النتيجة تكون مهملة لاحتمال أن يكون ما جعله الشارع حجّة في حال الانسداد أمرا غير
الظن ، والثاني : أنّه جعل النتيجة بناء على الكشف دائرا بين ثلاثة ، الأوّل :
حجيّة الطريق الواصل بنفسه ، والثاني : حجيّة الطريق الواصل ولو بطريقه ، والثالث:
حجيّة الطريق ولو لم يصل أصلا لا بنفسه ولا بطريقه.
ثمّ جعل قضيّة
القسم الأوّل الأخذ بالقدر المتيقّن الوافي لو كان وإلّا فالكل حجّة ، ولم يجعل
للمقدّمات حينئذ مجرى ، لأنّ النتيجة على هذا متعيّن تعيينا أو تعميما ، وإجرائها
فرع الإهمال.
وقضيّة القسم
الثانى أنّه لو لم يكن الموجود في يد المكلّف ممّا بين الطرق المحتملة إلّا واحدا
، أو كان الموجود متعددا ، ولكن لم يكن بينها تفاوت أصلا في القطع بالحجيّة وعدمه
وفي قيام الطريق على الحجيّة وعدمه ، فلا إشكال في الصورتين ، لارتفاع الإجمال
وتعيّنه في ذاك الواحد في الاولى وفي الكلّ في الثانية ، وأمّا إن كان الموجود
متعدّدا ومتفاوتا ، فإن كان القدر المتيقّن منها وافيا فهو ، وإلّا فلا بدّ حينئذ
من إجراء المقدّمات ثانيا في الطرق مرّة أو مرّات إلى أن ينتهي إلى ظن واحد أو
متعدّد بلا تفاوت ، أو متفاوت يكون القدر المتيقّن منه وافيا.
وقضيّة القسم
الأخير الأخذ بالمتيقّن لو كان ، وإلّا فيحتاط في الطريق إن لم يلزم محذور ، وإلّا
فلا بدّ من الانتهاء إلى حكومة العقل بالاستقلال في تعيين مرتبة الامتثال ، ولا
يجرى على هذا مقدّمات الانسداد في تعيين الطريق ؛ إذ لا يلزم محال من بقاء نتيجة
المقدّمات في الفروع على الإهمال حسب ما هو المفروض من أنّ النتيجة حجيّة طريق ولو
لم يصل أصلا.
هذا محصّل كلامه قدسسره المأخوذ من التعليقة والكفاية ، وأنت خبير بأنّ ما ذكره في
القسم الأخير من منع إجراء المقدّمات في الطريق لعدم لزوم المحال من بقاء النتيجة
مهملة غير تامّ ، فإنّه لا يعقل فرق بين المسائل الفرعيّة وهذه المسألة الاصولية
أعني تعيين ما هو المرجع والمتّبع في حال الانسداد ، غاية ما في الباب أنّ الاولى
حكم شرعي أوّلى ، والثاني حكم شرعي ثانوي ، ومجرّد عدم أخذ الوصول في الموضوع
مشترك في المسألتين ، كما أنّ حيثيّة الأوّلية والثانويّة غير فارقة قطعا ، وعدم
لزوم المحال من الإهمال أيضا مشترك ، وما كان وجها لاستكشاف العقل لحجيّة الطريق
في الفروع موجود في الاصول.
وليت شعري كيف
أفادنا المقدّمات عند ما أجرينا ها في الفروع والأحكام الأوّليّة استكشاف جعل
الطريق من الشارع ، ولم يفدنا ذلك عند ما أجريناها في الاصول والأحكام الثانوية؟
فإن قلت : بعد فرض
كون النتيجة الطريق الأعمّ من الواصل وغيره ، ففي المرتبة الثانية أيضا تكون
النتيجة هكذا.
قلت : نعم ، ولكن
الفائدة حينئذ أنّ دائرة الاحتياط في طرق الواقع أضيق من دائرته في نفس الواقع ،
وفي طرق الطرق أضيق منها في نفس الطرق ، وهكذا في كلّ مرتبة نازلة أضيق منها في
المرتبة العالية ، فإمّا أن ينتهي الأمر إلى الظنّ الواحد أو المتعدّد الذي يكون
فيه المتيقّن الوافي ، أو لا يلزم من الاحتياط فيه محذور عقلى أو شرعي.
ومحصّل الجواب عن
الإشكال الأوّل أنّا مع إمكان أن يكون الشارع في غير هذا الحال جعل غير الظنّ حجّة
نقول بأنّ المجعول في هذا الحال خصوص الظن ، ووجهه أنّه لمّا لم يعلم الشارع بغيره
علم أنّ ما جعله هو الظنّ ، فإنّه لو جعل شيئا آخر لزم الإعلام به لئلّا ينقض غرضه
من رفع التحيّر عن المكلّفين ، فحيث لم يعلم بشىء آخر يقطع العقل بأنّ ما جعله
حجّة هو خصوص الظنّ ، فإنّه الطريق الواصل إلى
المكلّفين.
وعلى هذا فموضوع
الحجيّة بعينه يكون نفس ما كان على تقرير الحكومة بلا فرق إلّا في أنّ الحجيّة على
ذاك التقرير كان بحكومة العقل واستقلاله ، لكن على هذا يكون بحكومة الشرع ، غاية الأمر
طريق استكشافه العقل ، فالذي شأن العقل مجرّد أنّ الشارع جعل شيئا حجّة وتعيين هذا
الشيء في الظنّ ، وأمّا أصل الحجيّة فحكم الشرع لا مدخل للعقل فيه.
وأمّا الجواب عن
الثاني فبأنّا بعد أن سلّمنا الإهمال في هذا المقام ، لكن نقول : لا ينتهي الأمر
إلى تقرير الحكومة ، بل لا بدّ من إجراء مقدّمات الانسداد مرّة اخرى للأحكام
الثانوية المعلومة بالإجمال في ضمن الطرق المحتمل الحجيّة بعد إجرائها أوّلا
للأحكام الأوليّة ، فعند عدم القدر المتيقّن أو عدم وفائه وتعسّر الاحتياط في جميع
الطرق كان النتيجة أيضا حجيّة طريق لتعيين تلك الأحكام الثانوية على وجه الإهمال ،
وفي هذه الرتبة يصير أطراف الاحتمال أقلّ من الرتبة الاولى ، فيرتفع عسر الاحتياط
، ولو فرض عسر الاحتياط فيه أيضا اجريت المقدّمات ثالثة لتلك الأحكام الثانية في
الرتبة الثالثة لأجل تعيين الأحكام الثانوية ، فتكون النتيجة أيضا حجيّة طريق إلى
تلك الأحكام ، فتصير دائرة الاحتمال عند هذا أضيق من الرتبتين الاوليين ، فإن أمكن
الاحتياط بدون العسر ، وإلّا فيتنزّل بالمقدّمات في المراتب النازلة حتى يتعيّن
الحجيّة وينحصر موضوعها في واحد مخصوص ، أو متعدّد مع عدم تعسّر الاحتياط ، فعلم عدم
انتهاء القول بالكشف بالأخرة إلى القول بالحكومة أصلا.
الأمر الخامس : في
الظن القياسي على تقرير الحكومة وأنّ أىّ امتياز له في ما بين الظنون أوجب خروجه
عن دائرة الحكومة العقليّة ، وقد أطال فيه الكلام شيخنا المرتضى قدس سرّه ، وملخّص
القول فيه أنّ الطريق منحصر في ثلاثة ، إمّا أنّ ملاك حكم العقل غير موجود في
الظنّ القياسي ، وإمّا أنّه موجود فيه ، ولكن قد خصّص الحكم العقلي بالنسبة إليه ،
وإمّا أنّ الملاك غير موجود وكذا التخصيص أيضا و
نلتزم بحجيّة
الظنّ القياسي في هذا الحال ، وأنّ النواهي مخصوصة بأزمنة انفتاح باب العلم ، ولا
يمكن الالتزام بشىء من هذه الثلاثة.
أمّا الأوّل وهو
عدم الملاك فمن الواضح أنّ ملاك حكم العقل ليس إلّا الظنّ ، وتحصيل الموافقة
الظنيّة ، ومن المعلوم تحقّقه في الظن القياسي ، وأمّا الثاني فلأنّ الحكم العقلي
كيف يقبل التخصيص ، وأمّا الثالث فهو خرق لما هو من ضروريات المذهب من بطلان
القياس.
فان قلت : نختار
الشق الأوّل وهو عدم الملاك ووجهه أنّ الموضوع الذي يحكم العقل بحجيّته عند
الانسداد هو الظنّ الذي لم يمنع عنه الشرع ، ومن المعلوم أنّه إذا ورد منع من
الشرع في خصوص ظنّ يرتفع الحكومة بارتفاع موضوعها ، ويصير هذا المنع واردا على
حكومة العقل ورافعا لموضوعها.
قلت : فعلى هذا
يلزم عدم حكومة العقل في الظنون التي يحتمل منع الشارع عنها ، وقلّ ظن خاليا عن
هذا الاحتمال ، فإنّه لا بدّ أوّلا من إحراز أنّ هذا الظنّ لم يمنع عنه الشارع ،
وحينئذ يجزم العقل بالحكم لحجيّته ، وما دام لم يحرز بالقطع فلا جزم للعقل ولا
حكومة.
والذي يمكن أن
يقال في دفع الإشكال هو : إنّا نختار الشق الأوّل وهو عدم الملاك ونقرّر ذلك بأنّ
الموضوع لحكم العقل بالحجيّة هو الظنّ الذي لم يعلم منع الشارع فيه ، فالظنّ
القياسي المعلوم فيه المنع الشرعي خارج عن موضوع حكم العقل فمنع الشرع بضميمة
القطع به رافع لموضوع حكم العقل ، وهذا سالم عن الإشكال المتقدّم ، لبقاء محتمل
المنع تحت موضوع حكم العقل على هذا ، فيكون هناك دعاو ثلاث.
الاولى : عدم ملاك
حكم العقل في ما علم فيه منع الشارع ،
والثانية : أنّ
احتمال منع الشارع عن العمل بخصوص ظن لا يكون دافعا لجزم العقل بحجيّته ولزوم
العمل على طبقه ،
والثالثة : أنّ
الشارع مع وجود جعل الأحكام الواقعيّة وإرادتها من المكلّفين
منعهم عن الظنّ
القياسي مع مصادفته لتلك الواقعيات كثيرا ، وبعبارة اخرى : ردّ الإشكال بأنّه كيف
يجوز للشارع الجمع بين هذين أعني إرادة تلك الاحكام من المكلّف ومنعه عن العمل
بهذا الظن.
أمّا الدعوى
الاولى فتقريبها أنّ العقل ما يكون بصدده ويتوجّه إليه همّه ، وتمام توجّهه إنما
هو استخلاص المكلّف عن العقوبة وتحصيل براءته عن التكليف والأمن من تبعته ، وليس
وراء ذلك له مقصد ومهمّ ، فلو فرض أنّ ارتكاب الفعل مأمون عن العقاب جوّز ارتكابه
وإن كان فيه ألف مفسدة أو خلاف المصلحة.
وحينئذ نقول : إذا
قطع من الشرع المنع عن العمل بظنّ فهذا القطع راجع إلى القطع ببراءة الذمّة عن
الواقع الذي هو في ضمن المظنون على تقدير وجوده ، بمعنى أنّه بعد القطع بممنوعيّة
ظنّه بالتكليف يقطع بأنّ هذا التكليف على تقدير تحقّقه فهو في الفسحة منه وليس في
مضيقة ، فيقطع بأنّه لو ارتكبه كان سالما عن المؤاخذة المولويّة والعقاب ولو كان
مصادفا للتكليف الواقعي ، وعند هذا فقد انتفى الملاك من البين ، فإنّه كان تمام
ملاك حكمه بلزوم العمل بالظنّ تفريغ الذمّة وتحصيل البراءة عن الواقعيّات المعلومة
بالإجمال على وجه الظنّ عند التنزّل عن العلم ، والمفروض حصول البراءة القطعيّة في
ترك العمل بهذا الظن، فلا جرم ينتفي حكمه بوجوب العمل.
وأمّا الدعوى
الثانية ـ وهو عدم دافعيّة احتمال منع الشارع عن حصول ظنّ عن جزم العقل وحكومته
بحجيّته ـ فبيانها أنّه عند احتمال المنع فهو يحتمل براءة الذمّة على تقدير وجود
التكليف في هذا العمل ، وليس له أزيد من الاحتمال شيء ، فإنّ المفروض أنّه يحتمل
المنع ، فلا جرم ليس له إلّا احتمال البراءة ، وقد فرضنا أنّ العلم الإجمالي
بالتكاليف قضيّته بحكم العقل تحصيل العلم بالفراغ منها ، ومع التنزل عنه تحصيل
الظنّ بالفراغ والمؤمّن من العقاب ، فلا يجوز بعد العلم ، التنزّل إلى شكّ الفراغ
أو وهمه مع إمكان تحصيل الظنّ به ، ولهذا يستقلّ عند هذا بتعيّن العمل على
طبق الظن المذكور
، فإنّ فيه الظنّ بالبراءة على أيّ حال ، إذ الواقع إمّا غير موجود فلا يضرّ العمل
، وإمّا موجود مع البراءة عنه لمنع الشرع عن العمل بالظنّ المتعلّق به فأيضا لا
يضرّ العمل ، وإمّا موجود مع اشتغال الذمّة به فقد حصل المطلوب ، فقد حصل بهذا
التقدير الظنّ بالبراءة عن التكليف الذي هو أحد أطراف العلم الإجمالى على نحو
الظنّ ، بخلاف صورة ترك العمل بهذا الظنّ ، فإنّه ليس فيه إلّا احتمال البراءة ،
والعقل حاكم بعدم الاجتزاء به ما دام البراءة الظنيّة ممكنة.
وأمّا الجواب عن
الإشكال المذكور فهو أنّه إن أردت بهذا الإشكال المعروف من قديم الأيّام من لزوم
التناقض أو الوقوع في المفسدة أو خلاف المصلحة فقد فرغنا عن دفعه في ما تقدّم
باختلاف رتبة الحكم الظاهري مع الواقعي ، وبذلك يندفع التناقض وأنّ المفسدة وخلاف
المصلحة يتدارك بمصلحة أقوى ، وبالجملة ، فليس إشكالا جديدا ، وإن كان المقصود
كلاما جديدا غير ذاك الإشكال فلا بدّ من بيانه.
الأمر السادس : في
الظنّ المانع والممنوع ، وهو أن يحصل ظنّ بحكم فرعي ، وظنّ آخر بعدم حجيّة الظنّ
الأوّل ، مثل أن يظنّ بنجاسة العصير العنبى ، ثمّ حصل الظنّ الآخر بأنّ هذا الظن
ليس بحجّة ، وهذا البحت مبنيّ على أن تكون مقدّمات الانسداد منتجة وأن يقال بتعميم
النتيجة للواقع والطريق.
أمّا على تخصيصها
بالأوّل فالأمر واضح ، وعلى التخصيص بالثاني يتمحّض محلّ البحث في ما إذا كان
متعلّق الظنّين هو الطريق ، مثل أن يحصل ظنّ من الشهرة بحجّية الأولوّية ، ثمّ حصل
ظنّ من الاستقراء بأنّ الظنّ الحاصل من الشهرة ليس بحجّة.
وكيف كان فعلى
التعميم لا إشكال في أنّ معيار الحجيّة موجود في كلا الظنّين ولا يمكن اجتماعهما
في الحجيّة ، فإنّ مفاد أحدهما أنّ العصير نجس ، ومفاد الآخر أنّه لا يمكن التعويل
على هذا الظن ويكون ساقطا عن درجة الاعتبار ، وهذان مضمونان متنافيان لا يمكن شمول
الحجيّة للظن بكليهما ، وحينئذ فهل الحجّة هو الظنّ المانع أو الممنوع؟
فنقول : أمّا بناء
على القول الغير المختار من أنّ النتيجة كون الظنّ حال الانسداد كالعلم نفيا
وإثباتا فهو نظير ما إذا حصل العلم بفرع ، ثمّ حصل العلم بأنّ العلم الأوّل لا
يكون حجّة ، وهذا وإن كان فرضا غير ممكن التحقّق ، لكن لو فرض وقوعه فلا إشكال أنّ
العقل لا يحكم بحجيّة أحدهما ووجوب العمل به بالخصوص ، لتساويهما في الملاك ،
فتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجّح ، فكذا على المبنى المذكور يكون حال الظنّ حال
العلم ، فمع فرض التساوي في الملاك ليس للعقل إلّا التوقّف ولا حكم له بالحجيّة
على شيء منهما.
لكن قد يقال حينئذ
بأنّ المتعيّن حجيّة الظن المانع وعدم حجيّة الممنوع ، ويقاس ذلك بالشكّ السببي
والمسبّبي ، فكما أنّ حكم الأصل يختصّ بالشكّ السببي دون المسبّبي ، كذلك حكم
العقل في المقام أيضا يشمل الظنّ المانع دون الممنوع.
وتقرير ذلك أنّ
وجه الاختصاص بالشك السببي أنّ إجراء «لا تنقض» في الماء المسبوق بالطهارة يكون من
اثره شرعا طهارة الثوب المتنجّس المغسول به ، وأمّا إجرائه في الثوب لا يكون من
أثره نجاسة الماء ، فالشكّ في الثوب بإجراء «لا تنقض» في الماء يرتفع موضوعا ،
فيكون خارجا عن دليل الاستصحاب من باب التخصّص ، والشك في الماء على فرض إجراء «لا
تنقض» في الثوب يكون باقيا بحاله ، فلا محيص عن التزام عدم إجراء الحكم فيه من باب
التخصيص ، وإذا دار الأمر بين التخصّص والتخصيص فالأوّل أولى.
وهذا الوجه أعني
دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص جار في ما نحن فيه ، فإنّ الحجيّة لو شمل الظنّ
المانع يصير الممنوع ظنّا قام الدليل على عدم حجيّته ، فيخرج عن موضوع حكم العقل ؛
لأنّ موضوعه الظن الذي لم يقم الدليل على عدم حجيّته ، فيكون خروجه من باب التخصّص
، وأمّا لو تعلّق الحجيّة بالممنوع فلا يصير المانع ممّا قام الدليل على عدم
حجيّته ، فإنّ الممنوع ليس مفاده عدم حجيّة المانع ، بل حكم مربوط بالمسألة
الفرعيّة ، غاية الأمر لا يجامع حجيّته مع حجيّة
المانع ، وبمجرّد
ذلك لا يدخل المانع في عنوان ما دلّ الدليل على عدم حجيّته ، فلا حجّة يكون خارجا
عن حكم العقل مع كونه من افراد موضوعه ، فيكون خروجه من باب التخصيص.
بل التحقيق كما
يأتي في محلّه إن شاء الله تعالى عدم ابتناء الحكم في المقيس عليه أعني تقدّم
الشكّ السببي على المسبّبي في عبارة «لا تنقض» على كونه مستلزما للتخصّص وخلافه
للتّخصيص ، بل الحكم كذلك وإن قلنا بعدم استلزام الإجراء في المسبّب أيضا إلّا
لخروج السبب من باب التخصّص ، كما لو اخترنا القول بحجيّة الأصل المثبت أو قلنا
بكون الاستصحاب حجّة من باب الطريق ، فإنّه حينئذ وإن لم يكن نجاسة الماء من آثار
استصحاب النجاسة في الثوب المغسول به شرعا ، إلّا انّه لا شكّ فى كونها ملازما
لنجاسة الماء ، فيؤخذ بهذا الملزوم أيضا عند استصحاب نجاسة الثوب ، فيكون الشكّ في
الماء أيضا مرتفعا موضوعا باجراء الأصل في الثوب كالعكس ، ووجه تقدّم السبب مع ذلك
بحيازة الأصل سبقه رتبة على المسبّب ، فإنّ الشكّ في الثوب معلول الشكّ في الماء ،
فيكون رتبته متأخّرة عن رتبة علّته ، فيكون الشكّ المسبّبي في درجة حكم الشكّ
السببي لا في درجة نفسه.
وحينئذ نقول : قد
تقرّر في مسألة العلّتين والمعلول الواحد أنّه لو تحقّق علّتان وكان كلّ منهما
صالحا لحيازة المعلول وكان إحدى العلّتين متقدّمة في الرتبة على الاخرى اختصّ هي
بحيازة المعلول ، فهنا أيضا يكون كلّ من الشكّ السببي والمسبّبي علّة لحكم «لا
تنقض» فإذا كان السببي متقدّما في الرتبة على المسبّبي اختصّ هو بحيازة هذا
المعلول وبقي المسبّبي بلا أثر لا محالة.
والحقّ أنّ قياس
الظنّ المانع والممنوع بالشكّ السببي والمسبّبي مع الفارق ، فإنّ إجراء حكم الأصل
في السبب يوجب خروج المسبّب عن الموضوع دون العكس كما مرّ من أنّ «لا تنقض» لو
اجري في الماء صار الثوب ممّا قام الدليل على طهارته وخرج عن عنوان المشكوك ، ولو
اجري في الثوب لم يصر الماء ممّا قام الدليل على
نجاسته وكان
مشكوكا مع ذلك ، فهذا مستلزم للتخصيص ، والأول للتخصص.
وأمّا ما نحن فيه
فكما أنّ حكم الحجيّة العقليّة لو اجري في المانع يصير الممنوع ممّا قام الدليل
على عدم حجيّته ، فكذلك لو اجري في الممنوع يصير المانع ممّا قام الدليل على عدم
حجيّته ، لأنّهما مشتركان في أنّ كلا منهما صار تحت الدليل العقلي يصير الآخر
مقطوعا عدم حجيّته وممّا قام القطع على عدم حجيّته ، فدخول كلّ منهما لا يستلزم
إلّا التخصّص في الآخر.
ثمّ لو سلّمنا في
الشكّ السببي والمسبّبي أيضا أنّ دخول كلّ يوجب التخصّص في الآخر لا التخصيص كما
على حجيّة الأصل المثبت أو حجيّة الاستصحاب من باب الطريقيّة فنقول كما تقدّم :
أنّ الترجيح مع ذلك لجانب السبب لأسبقيّته في الرتبة ، فيكون أولى بحيازة «لا تنقض»
عند عدم السبيل إلّا إلى «لا تنقض» في جانب واحد وعدم إمكان الجمع كما هو المقرّر
في العلّتين المترتبتين في الوجود مع وحدة المعلول ، حيث يحيز المعلول أسبقهما
ويبقى الآخر بلا محلّ ، ولا مجرى لذلك أيضا في المقام ، لأنّ الظنّين في رتبة
واحدة وليس بينهما ترتّب أصلا لحصولهما من سببين غير مرتبطين ، كما لو حصل الشهرة
على نجاسته العصير من تتبّع الأقوال وحصل الظنّ بعدم حجيّة الشهرة من الاستقراء
مثلا ، هذا.
مع أنّا لو سلّمنا
أنّ المقام أيضا مثل مسألة الشكّين في دوران الأمر بين التخصّص والتخصيص نقول : مع
ذلك لا يلزم من الحكم بتقدّم السبب هناك بقاعدة تقدّم التخصّص على التخصيص الحكم
بتقدّم المانع هنا لتلك القاعدة ؛ فإنّ القاعدة المذكورة إنّما يفيد في مقام
الإثبات بعد أخذ الحكم من الحاكم ، فإنّ القاعدة حينئذ يقتضي أنّ الحكم ما دام
الموضوع باقيا يحكم بثبوته ، إلّا أن يدّل دليل على الخلاف ، وبعبارة اخرى أن يؤخذ
بعموم الحكم لكلّ فرد إلّا ما دلّ الدليل على تخصيص الحكم فيه ، فلا جرم إنّما
يفيد في ما دار الأمر بين فردين من عام ورد الحكم به كان أحدهما مخرجا للآخر عن
الموضوع دون الآخر.
فحينئذ قضيّة تلك
القاعدة تعيين الأوّل ، فإنّه لا يستلزم إخراج الموضوع عن تحت الحكم بلا دليل ، بل
رفعه عمّا ليس بموضوع ، فليس فيه مخالفة لقاعدة العمل بالعموم مهما أمكن ، بخلاف
الثاني ، فإنّه رفع الحكم عن فرد الموضوع وتخصيص بلا دليل ، وأمّا المقام فهو مقام
تأسيس الحكم.
وبعبارة اخرى :
الكلام هنا مع الحاكم فى حكمه ، فيقال : أيّها الحاكم الذى هو العقل بعد فرض أنّ
هذين الظنّين كلاهما على السواء في ملاك حكمك وتساويهما في القوّة والضعف فما
المرجّح لتقديمك المانع على الممنوع في مرحلة الحكم؟ ولا عبرة بأنّ الممنوع يخرج
عن الموضوع بتقديم المانع دون العكس ، فإنّ هذا إنّما هو بالنظر إلى ما بعد الحكم
والفراغ عنه والكلام مع قطع النظر عنه ، ولا شكّ أنّ كلاهما في هذه المرحلة فرد
الموضوع ، فلا جرم لا يكون ترجيح أحدهما على الآخر إلّا ترجيحا بغير مرجّح.
والحاصل أنّ
المسألة المتقدّمة مقام استفادة المراد بالقواعد المقرّرة مع الجهل بالملاك ،
فالمقصود سدّ باب الاحتجاج على الحاكم ، فإنّه لو رجّح في مقام الإثبات الشكّ
السببي ليس له المؤاخذة على ذلك ، إذ للعبد أن يجيب بأنّه يكون فيه السلامة عن
محذور التخصيص في كلا الفردين ، بخلاف ما لو رجّح المسبّب ، فإنّ للمولى أن يقول :
لم رجّحته على السبب وخصّصت عمومي فى السبب.
وأمّا مسألتنا
فالنزاع فيها مع الحاكم في مرحلة أصل الحكم ومقام واقعه وثبوته ، ومن المعلوم أنّ
القاعدة غير مربوطة بهذا المقام ، فعلم أنّ المسألتين بينهما كمال البينونة لا وجه
لتشبيه أحدهما بالاخرى.
ثمّ هذا كلّه بناء
على ما هو خلاف المختار في نتيجة المقدّمات من كون الظنّ حال الانسداد كالعلم نفيا
وإثباتا ، وقد عرفت أنّ الحقّ عليه هو طرح كلا الظنّين ، لاستلزام تقديم كلّ منهما
الترجيح بغير مرجّح.
بقي الكلام على ما
هو قضيّة القاعدة وإن كان على خلاف المشهور من أنّ النتيجة
إنّما هي لزوم
الامتثال الظنّي على قدر المعلوم إجمالا من التكاليف ، فيعمل في باقي الظنون فضلا
عن الشك والوهم بالتكليف بأصالة البراءة ، أو أنّ النتيجة إنّما هي الظنّ بعدم
المخالفة على مقدار المتيقّن من العلم الإجمالي ليلزم العمل بجميع مظنونات التكليف
ومشكوكاته وبعض موهوماته.
فنقول : أمّا على
التقدير الأوّل فلا شكّ أنّ العمل على عدم التكليف في موارد الظنون المتعلّقة بعدم
التكليف لا يكون من باب العمل بالظنّ بل لحصول الظنّ بالموافقة على قدر المعلوم
بالإجمال بدون العمل بهذا التكليف.
نعم في الظنون
المتعلّقة بالتكليف على القدر المذكور يكون العمل عملا بالظن ؛ إذ اللازم على
المكلّف هو الظنّ بالموافقة المذكورة على ما هو الفرض ، وحينئذ فإذا كان الظنّ
الممنوع من الظنون المتعلّقة بالعدم فإذا قطع بعدم حجيّته أو حرمة العمل به لا
يضرّ بعمل المكلّف وبنائه على العدم ، لأنّه غير معتمد على الظنّ فضلا عن الظنّ
بعدم حجيّته أو حرمة العمل به ، وهذا واضح.
وأمّا إذا كان
الممنوع من الظنون المتعلّقة بالثبوت فإن كان الظنّ المانع متعلّقا بمجرّد أنّ
الممنوع ليس بحجّة فلا شكّ أنّه إذا أتى على طبق الممنوع فقد حصل الظنّ بالموافقة
الذي هو المطلوب ، فيكون العمل على الممنوع ، وإن كان المانع متعلّقا بأنّ الظنّ
الممنوع محرّم العمل نفسا فلا يخلو إمّا أنّ هذا التكليف التحريمي يكون من أطراف
العلم الإجمالى ، وإمّا لا يكون ، فإن كان من الأطراف فالمتعيّن العمل بالمانع ،
لأنّ في ترك العمل به والعمل بالممنوع ظنا بمخالفة هذا التكليف ، أعني حرمة العمل
بالممنوع وإن كان يحصل الظنّ بموافقة الواقع.
لا يقال : كذلك
الحال فى ترك العمل بالممنوع ، فانّ فيه الظنّ بمخالفة التكليف الذي هو الواقعي
وإن كان ظنّا بموافقة الظاهري.
لأنّا نقول : ليس
هكذا ، فإنّ الظنّ المانع إذا قام على حرمة العمل بالممنوع فمعناه أنّ التكليف على
فرض ثبوته ليس في تركه عقاب ولا يؤاخذ الشارع عليه ، فيكون
متعلّق الممنوع
تكليفا بظنّ يعدم فعليّته على تقدير ثبوته ، وأمّا المانع فمتعلّقه تكليف فعلي ،
إذ لم يرد ظنّ آخر على حرمة العمل به ، فهو باق على فعليّته ، ويرفع فعليّة
الممنوع ، وإذن ففي ترك العمل بالمانع ظن بمخالفة التكليف الفعلي وظنّ بموافقة
التكليف الغير الفعلي ، وفي ترك العمل بالممنوع ظن بمخالفة الغير الفعلى وظنّ
بموافقة الفعلي ، ومن المعلوم تعيّن الثاني ، وأمّا إن لم يكن هذا التكليف الظاهري
من أطراف العلم فالمتعيّن هو العلم بالممنوع لأصالة البراءة عن هذا التكليف.
وأمّا على التقدير
الثاني فلا يخفى أنّ العمل بالتكليف في موارد الظنون المثبتة لا يكون من باب العمل
بالظن ، بل لأجل تحصيل الاطمينان بعدم المخالفة على قدر المعلوم بالإجمال ، نعم
البناء على عدم التكليف في موارد الاطمينان بالعدم يكون عملا بالظنّ من حيث هو ظنّ
، إذا للازم العمل بالاطمئنان المذكور على ما هو الفرض وحينئذ فيكون الأمر هنا على
عكسه على التقدير المتقدّم.
فان كان الظن
الممنوع من الظنون المثبتة فلا فرق بين أن يكون مفاد المانع عدم حجيّة الممنوع أو
حرمة العمل به في كون عمل المكلّف على ثبوت التكليف ، بل ومع القطع بعدم الحجيّة
أيضا كذلك ، إذ لا أقلّ من الشكّ وقد كان اللازم عليه على هذا التقدير الاحتياط في
المشكوكات أيضا.
وأمّا إن كان
الممنوع من جملة الظنون الاطمئنانيّة بالعدم فحينئذ إن كان مفاد المانع مجرّد عدم
الحجيّة فلا ضير في العمل بالممنوع ، إذ معه يحصل المطلوب من الاطمئنان بعدم
المخالفة بالوجدان ، وإن كان مفاده الحرمة النفسية وكان هذا التكليف من الأطراف
تعيّن العمل بالمانع ، إذ فى ترك العمل به الظنّ بمخالفة هذا التكليف وإن كان يحصل
الظنّ بعدم مخالفة الواقع ، وهذا بخلاف ترك العمل بالممنوع ؛ إذ هو ظن بعدم مخالفة
كلا التكليفين ، وإن لم يكن من الأطراف فالأصل البراءة عنه ، فالعمل على الممنوع.
فتحقّق أنّ على
هذين التقديرين الكلام في مسألة الظنّ المانع والممنوع خال عن
شوب الإشكال رأسا
، ويتّضح الحال على كلّ حال ولا يبقى التّردد والخفاء في صورة حتّى نتكلّم فيها.
والحمد لله أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا
والصلاة على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.
فهرست المطالب
المقدمة
فى
حال الوضع
واقسامه........................................................ ٥
فى تقسيم الوضع.............................................................. ٧
فى المعنى الحرفى................................................................ ٨
فى الانشاء
والاخبار.......................................................... ١٧
فى انّ المجاز لا
يتوقف على ترخيص الواضع...................................... ٢٥
فى صحة استعمال
اللفظ فى نوعه وصنفه وشخصه............................... ٢٥
فى ان الالفاظ
المفردة موضوعة بازاء المعانى المعرّاة عن الوجود الخارجى والذهنى او...... ٢٨
فى ان الدلالة
تتبع الارادة..................................................... ٣٣
فى وضع المركّبات............................................................. ٣٤
فى انّ التبادر
دليل الوضع..................................................... ٣٥
فى ان عدم صحّة
السلب علامة الحقيقة......................................... ٣٨
فى ان الاطّراد
علامة الحقيقة ام لا.............................................. ٣٨
فى تعيّن حمل
اللفظ على المعنى الحقيقى ما دام ممكنا............................... ٤٠
فى الحقيقة
الشرعية........................................................... ٤٠
فى كون الفاظ
العبادات موضوعة للصحيحة او للاعم............................ ٤٦
الاستدلال للصحيحى........................................................ ٥٢
فى كون الفاظ
المعاملات موضوعة للصحيحة او للاعم............................ ٥٥
فى استعمال اللفظ
فى اكثر من معنى............................................ ٥٩
فى ان المشتق
حقيقة فى خصوص............................................... ٦١
فى انّ بعض
المشتقات غير داخل فى حريم النزاع.................................. ٦٢
فى دلالة الافعال
على الزمان................................................... ٦٣
فى انّ اختلاف
المشتقّات فى المبادى............................................ ٦٥
فى انّه لا اصل فى
نفس هذه المسألة............................................ ٦٥
الحقّ فى المسألة.............................................................. ٦٥
فى انّ مفهوم
المشتق مفهوم واحد............................................... ٦٩
دفع وهم................................................................... ٧٦
المقصد
الاوّل فى الاوامر
فى مادّة الامر
وصيغته........................................................ ٨٠
فى الانشاء
والاخبار.......................................................... ٨٤
فى انّ صيغة الامر
موضوعة للوجوب............................................ ٨٦
فى الجمل الخبرية
المستعملة فى مقام الانشاء...................................... ٨٩
فى تقسيم الواجب
إلى التعبّدى والتوصّلى........................................ ٩٠
فى تقسيمات الوجوب...................................................... ١٠٠
فى دلالة الصيغة
على المرّة والتكرار............................................ ١٠٣
فى انّ صيغة الامر
عقيب الحظر ظاهرة فى الوجوب ام لا......................... ١٠٨
فى الاجزاء................................................................. ١١٠
فى مقدّمة الواجب.......................................................... ١١٩
تمام
الكلام فى هذا المقام فى ضمن امور
الامر الاول................................................................ ١٢٢
الامر الثانى................................................................ ١٣٢
الامر الثالث............................................................... ١٤٦
الامر الرابع................................................................ ١٥٢
الامر الخامس.............................................................. ١٥٥
الامر السادس فى
ذكر حجج القائلين بوجوب المقدّمة........................... ١٥٦
الامر السابع فى
مقدمات الحرام............................................... ١٦١
فى انّ الامر
بالشيء يقتضى النهى عن ضدّه................................... ١٦٣
فى ما نقل عن بعض
الاساطين............................................... ١٦٧
فى ما افاده
الميرزا الشيرازى والسيد محمد الاصفهانى.............................. ١٦٨
المقصد
الثانى فى النواهى
فى جواز اجتماع
الامر والنهى وامتناعه......................................... ١٧٤
ينبغى
رسم امور
الامر الاوّل................................................................ ١٧٤
الامر الثانى................................................................ ١٧٥
الامر الثالث............................................................... ١٧٥
الامر الرابع فى
ان العامّ المطلق والخاصّ ايضا يمكن ان يجرى فيه النزاع ام لا......... ١٧٦
الامر الخامس فى
جواب التهافت المتراءى بين الكلمات.......................... ١٧٨
احتجاج المجوزين............................................................ ١٧٨
فى من توسّط ارضا
مغصوبة.................................................. ١٨٣
ايضا
فى جواز اجتماع الامر والنهى وعدمه
الامر الاول فى
محلّ النزاع.................................................... ١٨٦
الامر الثانى فى
الفرق بين هذا النزاع والنزاع فى النهى فى العبادات.................. ١٨٧
الامر الثالث فى
انّ هذه المسألة فقهيّة او اصوليّة وكلاميّة........................ ١٨٩
الامر الرابع................................................................ ١٩١
الامر الخامس فى
عموم هذا النزاع للوجوب والحرمة الغيريين....................... ١٩٢
فى عدم عموم هذا
النزاع فى التخييريين........................................ ١٩٢
الامر السادس فى
قيد المندوحة............................................... ١٩٤
الامر السابع فى
دفع توهّمين.................................................. ١٩٥
الامر الثامن فى
انّ محلّ الكلام ما اذا كان ملاك المحبوبية والمبغوضية تماما............ ١٩٦
الامر التاسع فى
الاجزاء باتيان المجمع فى التوصّليات والتعبّديات................... ١٩٨
الامر العاشر فى دفع
توهّمين آخرين........................................... ٢٠٠
حجّة المجوّزين.............................................................. ٢٠١
التنبيه الاول فى
من توسّط ارضا مغصوبة....................................... ٢١١
التنبيه الثانى............................................................... ٢١٨
فى ذكر وجوه
لتعيين اقوى المناطين............................................ ٢٢٠
فى حكم التوضؤ من
الإناءين................................................ ٢٢٤
فى انّه هل يعتبر
فى الاستصحاب اتصال زمان الشكّ بزمان اليقين................. ٢٢٧
الكلام فى باب
الاسباب.................................................... ٢٢٨
المقام الاول فى
انّ مقتضى القاعدة هل هو كفاية الفعل الواحد لسببين او اسباب ام لا....
المقام الثانى فى
انّه هل يصحّ التمسّك بهذا الباب للقول بجواز الاجتماع............ ٢٣٦
فى اقتضاء النهى
للفساد وعدمه.............................................. ٢٣٦
فى الاستدلال فى
طرفى العبادات والمعاملات.................................... ٢٤٦
المقصد
الثالث فى المفاهيم
فى مفهوم الشرط........................................................... ٢٥١
بقى البحث فى امور
فى مفهوم الشرط......................................... ٢٦٠
فى مفهوم الوصف.......................................................... ٢٦٦
تذنيب.................................................................... ٢٦٨
فى مفهوم الغاية............................................................ ٢٦٩
فى مفهوم الاستثناء
المقصد
الرابع في العامّ والخاصّ
تعريف العامّ............................................................... ٢٧٧
فى النكرة الواقعة
فى سياق النفى او النهى...................................... ٢٧٨
فى حجيّة العامّ
المخصص فى الباقى........................................... ٢٨٠
فى عدم الفرق بين
المخصّص المتّصل والمنفصل.................................. ٢٨١
ايقاظ..................................................................... ٢٩٢
وهم وازاحة................................................................ ٢٩٥
هل يجوز اجراء
اصالة عدم التخصيص فيما اذا علم بخروج فرد.................... ٢٩٨
هل يجوز التمسّك
بالعامّ قبل الفحص عن المخصّص............................ ٣٠٠
ايقاظ..................................................................... ٣٠٣
فى تخصيص العامّ
الكتابى بخبر الواحد......................................... ٣٠٥
فى العامّ والخاصّ
المتعاقبين والمتقارنين........................................... ٣٠٨
المقصد الخامس فى المطلق والمقيّد والمجمل والمبيّن........................ ٣١٣
فى مقدّمات الحكمة........................................................ ٣٢٥
فصل ؛ اذا ورد
مطلق ومقيّد فلا يخلو إما ان يكونا متخالفين فى الايجاب والسلب وامّا ان يكونا
متوافقين ٣٣٨
فى انّ مقتضى
مقدّمات الحكمة هو الشياع.................................... ٣٤٦
المقصد
السادس فى الامارات المعتبرة
البحث عن احكام
القطع................................................... ٣٥٥
هل القاطع يحتاج
إلى جعل قطعه حجّة........................................ ٣٥٩
البحث فى التجرّى......................................................... ٣٧١
الدليل القطعى
الذي اقاموه على استحقاق المتجرّى كالعاصى..................... ٣٨٤
فى القطع الطريقى
والموضوعى................................................ ٣٨٥
هل بجب الموافقة
الالتزامية................................................... ٣٩٥
فى انّ المخالفة
القطعية العملية التدريجيّة هل تكون مانعة عن إجراء الاباحة......... ٤٠١
شرح عبارة الكفاية.......................................................... ٤٠٨
فى المخالفة
العملية للتكليف المعلوم بالاجمال................................... ٤١٠
هل يجوز للشارع ان
يرخص فى المخالفة القطعية................................ ٤١٢
هل يجوز الترخيص
فى بعض الاطراف......................................... ٤١٧
هل يكتفى فى مقام
الامتثال بالاتيان على وجه الإجمال فى التوصّليات والتعبّديات... ٤٢٠
فى امتناع التقييد
بقيود تاتى من ناحية الامر.................................... ٤٢٤
هل هنا اطلاق يدفع
به مئونة التعبّدية عند الشك.............................. ٤٢٨
الامارات المعتبرة
غير العلميّة.................................................. ٤٣٤
الاصل فى ما سوى
القطع عدم الحجيّة........................................ ٤٣٤
فى امكان حجيّة
الظن وكلام ابن قبة.......................................... ٤٣٦
فى الجمع بين الحكم
الواقعى والظاهرى........................................ ٤٤١
فى انّه لو شكّ فى
حجية شيء فهو كالمقطوع عدم حجيته........................ ٤٧٥
فى حجية الظواهر.......................................................... ٤٨٤
فى حجية ظواهر
الكتاب.................................................... ٤٩٥
فى اعتبار قول
اللغوى....................................................... ٥٠٧
حجج المانعين عن
التمسّك بظاهر الكتاب.................................... ٥١٥
لو اختلفت القراءة.......................................................... ٥١٧
فى حجية الاجماع
المنقول.................................................... ٥٢٥
فى التواتر المنقول........................................................... ٥٤٠
فى حجية الشهرة........................................................... ٥٤٣
فى حجية الخبر
الواحد....................................................... ٥٤٨
فى انّ هذا البحث
من مسائل الاصول ام لا.................................... ٥٥٠
استدلال المانعين
عن الحجية................................................. ٥٥٦
حجج المجوزين :
آية النبأ.................................................... ٥٦٠
الايرادات التى
يورد على الاستدلال بآية النبأ................................... ٥٧٣
آية النفر.................................................................. ٥٩٨
آية الكتمان............................................................... ٦٠٦
آية السؤال................................................................ ٦٠٧
آية الاذن................................................................. ٦٠٨
الاستدلال بالسنّة
لحجية الخبر الواحد......................................... ٦١١
الاستدلال
بالاجماع......................................................... ٦١٣
الدليل العقلى على
الحجية................................................... ٦٢٣
دليل الانسداد............................................................. ٦٤٤
التنبيه على امور............................................................ ٦٥٦
الامر الاوّل................................................................ ٦٥٦
الامر الثانى................................................................ ٦٦٠
الامر الثالث فى
انّ نتيجة مقدّمات دليل الانسداد هى الكشف او الحكومة........ ٦٧٢
الامر الرابع فى
ان النتيجة هى مهملة او معيّنة.................................. ٦٧٩
الامر الخامس فى
الظنّ القياسى............................................... ٦٨٦
الامر السادس فى
الظنّ المانع والممنوع......................................... ٦٨٩
|