


المقصد الثاني :
في العلم بالسماوات والأرض
وما بينهما
(إِنَّ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ
مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما
أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ
مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* تِلْكَ آياتُ اللهِ
نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ
يُؤْمِنُونَ)
(سورة الجاثية ،
الآية ٣ ـ ٦)
في هيئة العالم وأجرامه البسيطة
(رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا
عَذابَ النَّارِ)
أصل
الأجرام تنقسم إلى
: بسيط ، ومركّب.
ونعني بالبسيط :
ما له طبيعة واحدة ، كالهواء ، والماء ، والأفلاك.
وبالمركّب : الّذي
يجمع بين طبيعتين متخالفتين ، أو أكثر ، باختلاف قوى وطبائع فيه ، كأبدان
الحيوانات.
والبسيط ينقسم إلى
: ما له وجود كمالي ، وحياة ذاتية يمكن له مع بساطته وهويته عبادة الحق ، وطاعته ،
ومعرفته ، من غير اكتساب قوّة أخرى يحتاج إليها في ذلك.
وإلى ما ليس له
ذلك ، من حيث هو هو ؛ لقصور جوهره ، وخسّة صورته ، ولكن يتأتّى منه التركّب الموصل
إلى ذلك بالفساد والكون ، فإنّ الموجودات لم تخلق عبثا وهباء ، بل لأن تكون عبادا
عابدين لله عزوجل ، شاهدين لوجوده ووحدانيته.
__________________
فالأجسام البسيطة
صنفان : صنف يختصّ بصورة واحدة ، لا ضدّ لها ، فيكون حدوثها عن الباري جل وعز على
سبيل الإبداع ، لا على سبيل التكوّن من جسم آخر ، ولها حياة ذاتية ، وتسمى
بالعلويّات.
وصنف تهيّأ لقبول
صورة بعد أخرى ، فتارة يقبل هذه بالفعل ، وتلك بالقوة ، وتارة بالعكس ، وليس لها
حياة بالذات ، وتسمى بالسفليات.
ولنبيّن الصنفين
تبيانا ، ونشرّحهما تشريحا ، في فصول :
وصل
أما الصنف الأوّل
، فقد دللنا على وجوده في مباحث تحديد الجهات بإثبات جسم بسيط مستدير ، مبدع ، ذي
طبيعة ونفس وعقل غير قابل للحركة المستقيمة ، ولا التركيب ، ولا الكون والفساد ،
إلّا عن العدم البحت ، وإليه .
وأمّا عدد أجرام
هذا الصنف فيدل على أقلّه وجدان تسع حركات متخالفة ، قدرا وجهة ، بالأرصاد ،
اثنتان منها لجميع الكواكب المزيّنة للسماء الدنيا ، من السيارات ، والثوابت ،
إحداهما الحركة السريعة الظاهرة الفاعلة للّيل والنهار ، المشاهد بها طلوع الشمس
والقمر والنجوم كلّها بكرة وعشيا ، والأخرى الحركة البطيئة الخفية الّتي وجدت بنظر
أدقّ ، ممتازة عن الأولى ، باختلاف المنطقة والأقطاب.
وسبع أخرى للكواكب
السبعة السيارة ، الّتي هي النيّران اللذان جعلهما الله سبحانه ضياء ونورا ، وجعل
أعظمهما سراجا وهّاجا ، والخمسة المتحيرة في
__________________
جمال بارئها ،
المعبّر عنها في القرآن المجيد ب (... بِالْخُنَّسِ*
الْجَوارِ الْكُنَّسِ) ، وعن أعلاها ب (... الطَّارِقِ* وَما
أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ) .
فهذه الحركات
التسع المتخالفة تدلّ على وجود تسعة أجرام فلكية مستديرة ، دورية الحركات ، ترتكز
في سبعة منها السبعة الجاريات (كُلٌّ فِي فَلَكٍ
يَسْبَحُونَ) ، وفي آخر سائر النجوم ، وواحد غير مكوكب ، محيط بالكلّ ،
كأنه مع الكلّ حيوان واحد ، له نفس واحدة لتحريكه الكلّ بالحركة السريعة ، كتحريك
الإنسان بدنه وأعضاءه ، كما أن ما تحته مع كلّ ما يحاط به ، كذلك لتحريكه إياها
بالحركة البطيئة.
وما يقال من أن
المحاط يتحرك بحركة المحيط حركة بالعرض ، فلا يستقيم إلّا بما ذكر من جهة الوحدة ،
وإلّا فلا وجه للتبعية.
ثم ما ذكرناه من
تعدد الأفلاك إنّما يتم لو كانت الكواكب مرتكزة في مواضع معينة من أفلاكها دائما ،
وإنما تتحرّك بحركة الأفلاك تبعا حركة بالعرض ، لا كحركة السمكة في الماء ، وهو
كذلك ؛ لامتناع الخرق والالتئام فيما لا يقبل الحركة المستقيمة ، ولهذا وصف الله
سبحانه السماوات بالشدّة في قوله عزوجل : (وَبَنَيْنا
فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً) ، وقوله : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ
خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) .
__________________
وبالمحفوظية في
قوله تعالى : (وَجَعَلْنَا
السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) .
وأمّا ما في حديث
المعراج ، فهو من قبيل المعجزات ، وخرق العادات ، كأصل العروج، ويأتي سرّه.
وقد ورد عن سيد
العابدين عليهالسلام أنه قال في حديث له : «ثمّ وكّل بالفلك ملكا ومعه سبعون
ألف ملك ، فهم يديرون الفلك ، فإذا أداروه دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه
، فنزلت في منازلها الّتي قدّرها الله فيها ليومها وليلتها». الحديث ، وهو نصّ في المطلوب.
وفي كلام أمير
المؤمنين عليهالسلام ، المذكور في نهج البلاغة أيضا ما يدلّ عليه .
فصل
يشبه أن يكون
الفلكان المحيطان من فوق أحدهما هو العرش المشار إليه بقوله سبحانه: (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) ، من وجه ، والآخر هو الكرسي المشار إليه بقوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ) ، من وجه ، والسبعة الأخر هي السماوات السبع المشار إليها
بقوله عزوجل : (خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) ، وقوله : (خَلَقَ سَبْعَ
سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى
__________________
فِي
خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ* ثُمَّ
ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ
حَسِيرٌ) .
روى علي بن
إبراهيم ، والعياشي ، في تفسيريهما ، عن مولانا الرضا عليهالسلام : أنّ «هذه أرض الدنيا ، والسماء الدنيا فوقها قبّة ،
والأرض الثانية فوق السماء الدنيا ، والسماء الثانية فوقها قبّة ، وهكذا ـ إلى أن
قال : ـ والسماء السابعة فوق الأرض السابعة قبّة ، وعرش الرحمن تبارك وتعالى فوق
السماء السابعة ، وهو قول الله تعالى : (الَّذِي خَلَقَ
سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ) » .
أقول : كأنه عليهالسلام جعل كلّ سماء أرضا بالإضافة إلى ما فوقها ، وسماء بالنسبة
إلى ما تحتها ، ويكون التعدد باعتبار تعدد سطحيهما.
والعرش في لسان
العرب قد يطلق ويراد به الملك ، يقال : ثلّ عرش الملك إذا دخل في ملكه خلل ، وقد
يطلق ويراد به السرير ، كما هو معروف.
والكرسي في لسانهم
قد يطلق ويراد به العلم ، وقد يطلق ويراد به السرير ، وعلى الثاني يرادف العرش
بالمعنى الثاني ، ولهذا اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر في الحديث المذكور في مقام
تعداد الأجرام.
وعلى المعنى
الأوّل هو من المعاني ليس من الأجسام ، إلّا باعتبار اتحاد العلم بالمعلوم ، فهو
من وجه هو الجرم ، ومن وجه هو العلم ، وكذلك العرش من وجه هو جملة الخلق والأمر من
حيث وحدته ، ومن وجه هو العلم المحيط
__________________
بالكلّ.
سئل الإمام الصادق
عليهالسلام عن العرش والكرسي ، ما هما؟ فقال : «العرش في وجه هو جملة
الخلق ، والكرسي وعاؤه ، وفي وجه آخر العرش هو العلم الذي أطلع الله عليه أنبياءه
ورسله وحججه عليهمالسلام ، والكرسي هو العلم الّذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه
ورسله وحججه عليهمالسلام» .
وفي خبر آخر أنه عليهالسلام سئل عن قول الله عزوجل (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، قال : «علمه» .
فصل
وأمّا أن هذه
الأجرام حيّة بالحياة الذاتية ، فلأنّ لها نفوسا ناطقة قاهرة عليها ، تدبّرها
وتحرّكها ؛ وذلك لأنّ حركاتها إرادية ، كما بيّنا فيما سبق أن الحركة المستديرة لا
تكون طبيعية ، والقسر لا يكون دائميا ، مع أنه لا قاسر في الأفلاك ، فهي إمّا
حسّية ، أو عقلية.
لا جائز أن تكون
حسّية ؛ إذ لا نموّلها ، ولا تغذي ؛ إذ لا كون لها من شيء حتى تكون لها شهوة تزيد
بحصول ما اشتهته شهوتها ، ولا فساد لها ؛ ليكون لها غضب تدفع به ما يزاحمها ،
ويفسدها.
والأغراض الحسية
لا تخرج عن هذين ، أعني الشهوية والغضبية ، فليس
__________________
حركتها إذن إلّا
عقلية ، فلها مراد عقلي ، وإدراك كلي ، فمحرّكها إذن ليست طبيعة محضة، ولا نفسا
جرمية ، فهو إمّا نفس ناطقة ، أو عقل محض ، لا جائز أن تكون عقلا محضا ؛ إذ العقل
لا يقبل التغيّر ، والإرادة الكلية لا توجب حركة جزئية من موضع إلى آخر ، ومن
الثاني إلى ثالث ، بل لا بدّ فيها من تجدد إرادات جزئية.
فإرادتك للحج ـ مثلا
ـ لا توجب حركة رجلك بالتخطّي من باب منزلك إلى جهة معيّنة ما لم تجدّد ذلك إرادة
جزئية لتلك الخطوة ، ثمّ إذا تخطّيت يحدث لك بتلك الخطوة تصوّر لما بعدها ، وتنبعث
منه إرادة جزئية للخطوة الثانية ، وإنما تنبعث من الإرادة الكلية المنبعثة من
التصور الكلي الّتي تقتضي دوام الحركة إلى الوصول إلى الكعبة ، فيكون الحادث حركة
وتصوّرا وإرادة ، والحركة حدثت بالإرادة الجزئية ، والإرادة الجزئية حدثت بالتصور
الجزئي مع الإرادة الكلية ، والتصور الجزئي حدث بالحركة.
وهكذا الحال في
تجدد بعضها من بعض على وجه الدور الغير المستحيل.
مثاله : كمن مشى
بسراج في ظلمة ، لا يظهر له بالسراج إلّا مقدار خطوة بين يديه ، فيتصوّره بضوء
السراج ، فينبعث منه مع الإرادة الكلية إرادة الكلية إرادة جزئية لسلوكه ، فيسلكه
، وإذا سلكه وقع ضوء السراج على مقدار آخر ، وحصل منه تصور آخر ، وإرادة أخرى ،
جزئيين لسلوكه مع التصور والإرادة الكليين للحركة ، فيقع سلوك آخر موجب لحصول
الضوء على مقدار آخر.
وهكذا الكلام في
أجزاء الخطوة الواحدة والتصورات والإرادات والحركات المتعلّقة بها بعينه هذا
الكلام.
وكذا في أجزاء
أجزائها حسب قبول المقدار الانقسام بلا نهاية.
فهكذا يمكن أن
تكون حركة السماء وكلّ ما هو متغيّر الإرادة والتصور
يسمّى نفسا ، لا
عقلا محضا ، وصاحب الإرادة الكلية والجزئية يجب أن يكون شيئا واحدا حتّى يحصل
الارتباط ، وتتم الحركة المتصلة لمحرك السماوات.
إذن نفوس مجردة
ناطقة عاقلة بذواتها ، ذوات إدراكات كلية وجزئية ، تحرّكها بتصوّرات حيوانية
منبعثة عنها ، منطبعة في أجرامها ، كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا ، على ما
سيأتي بيانه ، لا بمعنى أن للفلك ذوات متعددة متباينة الوجود عقلا ونفسا ، وطبيعة
سارية في جرمه ، فإنّ ذلك ممتنع ، ولا أن صورة ذاته إحدى هذه الأمور وغيرها من
العوارض والآلات الخارجة عنها ، بل ذات الفلك وهويّته البسيطة جامعة لحدود هذه
المراتب.
فقولنا : إن حركة
الفلك ليست طبيعية ، أي ليس قاصد هذه الحركة وداعيها طبيعة محضة ، ناقصة الكون ،
غير شاعرة بغاية فعلها ، وإلّا فمباشر الحركة ليس إلّا ما يميل الجسم بقوته ، فكما
أن العقل من جهة عقليّته لا يباشر التحريك ؛ لتساوي نسبة الإرادة الكلية إلى
جزئيات حدود الحركة ، فكذا حكم النفس من حيث جوهرها العقلي.
وأمّا من حيث
نشأتها الحيوانية فلها وجه إلى القدس ، فيها عين جارية ، نبع منها ماء الحياة ،
ووجه إلى طبيعة الفلك فيها سرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، فإنّ الوجود الواحد قد
يكون مع أحديّته جامعا لحدود متفاوتة ومراتب متفاضلة ، وسيأتي لهذا مزيد تحقيق
وتوضيح في مباحث النفوس الإنسانية.
وصل
وممّا يدلّ على أن
السماوات أحياء عالمون ، ويوضح ذلك بسرعة أن المانع من قبول الفيض الّذي يكون
للأجسام التضاد والتفاسد ، والكثافة الطبيعية الحاصلة عن البعد عن الاعتدال.
وسنبيّن أن
الأجسام البسيطة المتضادّة الطبائع إذا تركّبت واعتدلت ازدادت في قبول الفيض
والحياة بقدر اعتداله وتوسّطه في المتضادّات ، فما ظنّك بأجرام كريمة صافية دورية
الحركات ، دائمة الأشواق ، تترشّح من حركاتها البركات والخيرات على ما دونها.
فكل جرم سماوي فهو
حيوان مطيع لله جل وعزّ ، متصرّف في نظام الكون بالتدبير ، متجلّي بقدر قسطه
ومرتبته بانتقاش صور الأشياء وأحوالها في لوح نفسه ، ورقيم ذهنه ، وكتاب عقله.
وما في الصحيفة
السجادية ، في دعاء الهلال : «أيها الخلق المطيع ، الدائب السريع، المتردد في
منازل التقدير ، المتصرّف في فلك التدبير» ، شاهد صدق على ذلك.
وصل
وهل النفس الناطقة
الّتي بها حياة السماء تتعلّق بالكوكب أوّل تعلّقها ، وبأفلاكه الكلية والجزئية
الّتي بها تتم حركته على ما يأتي بواسطة الكوكب بعد
__________________
ذلك ، كما تتعلق
نفس الحيوان بقلبه أولا ، وبأعضائه الباقية بعد ذلك ، وبتوسّطه ، فالقوّة المحركة
منبعثة عن الكوكب الّذي هو كالقلب في أفلاكه الّتي هي كالجوارح ، والأعضاء
الباقية، أو أنّ لكلّ جرم منها فلكا كان ، أو كوكبا ، كليا أو جزئيا ، نفسا ناطقة
هي مبدأ حركة مستديرة على نفسه ، حتّى أن للكواكب أيضا حركات وضعية على أنفسها؟
وجهان.
ويؤيد الثاني وجوب
اختصاص كلّ جرم بسيط في الإبداع بصورة كمالية ، والأوّل امتناع صيرورة موجود حي
بالذات جزء لموجود آخر ، ويشبه أن يكون الثاني حقّا ، وتكون الجزئية والاستقلال
باعتبارين ، ويكون الكلّ ذا درجات ، كما مرّ مثله آنفا.
ومن هنا قيل : إن
لمجموع العالم أيضا نفسا واحدة ، تدبّرها ، كما أشرنا إليه ، وسيأتي له مزيد بيان
، وبه يستقيم تحرّك الكلّ بحركة واحدة.
فصل
الأفلاك كلّها
كروية الأشكال ، صحيحة الاستدارة ، تحديبا ، وتقعيرا ؛ لبساطتها ، وعدم مانع لها
عن ذلك ، وأمّا اختلاف الشكل فيما ارتكز فيه كوكب منها ، أو اشتمل على أفلاك أخر
جزئية بسبب النفرات واختلافها بالرقة والغلظ ، كما ستعرف ، مع أنه لا قاسر هناك ،
فلا يقدح في بساطتها ؛ لما دريت في مباحث الماهيات والتشخّصات ، فتذكّر له.
وممّا يدلّ على كرويتها
واستدارة حركاتها أنا نرى الكواكب طالعة من مشارق الأرض ، مرتفعة بالتدريج إلى حد
ما ، هابطة منه كذلك ، إلى أن تغيب في
المغارب ، ماكثة
في غيبتها زمانا ما ، عائدة بعد ذلك إلى المشارق ، متكافئة في أزمنة الظهور
والخفاء ، في المشارق والمغارب ، في جلّ الأمر ، كأنها على دوائر متوازية مترتبة.
ويؤكد ذلك مشاهدة
استدارة الكواكب الأبدية الظهور حول نقطة تصلح لأن تكون قطبا للكل في دوائر
متوازية مختلفة الصغر والكبر على الترتيب ، بحسب البعد من تلك النقطة إلى أن تنتهي
إلى ما تطلع وتغيب ، وتزداد أزمنة الخفاء ، وتنقص أزمنة الظهور بحسب ازدياد البعد
إلى أن يتساويا ، ثمّ يختلفان على عكس الأوّل ، بنسبة واحدة.
ويزيده تأكيدا
تساوي مقدار الكواكب في النظر في جميع أبعادها ، في دوراتها ، إلّا عند الأفق ،
فإنّ تراكم الأبخرة المرتفعة من الأرض يري ما وراءها من الأشخاص أكبر ممّا يجب أن
يرى ، كما يشاهد فيما يرى تارة في الهواء ، وتارة في الماء ، ولذلك يزداد الكبر
إذا صار الهواء أغلظ ، وبالضدّ ، وكذلك ظهور النصف من الفلك ، أو قريب منه دائما ،
لكلّ من على الأرض في أيّ موضع يكون ، إلى غير ذلك من الأعراض الخاصة بالاستدارة.
فصل
وكلّها كاملة تامة
، كما لا يليق بالجوهر الجسماني ، فليست هي بالقوّة في جواهرها ، ولا في أعراضها
الذاتية ، ولا في أشكالها ، بل هي بالفعل في جميع الصفات ، أي كلّ ما هو ممكن لها
، فهو حاصل لها بالفعل ، إلّا أمر واحد لا يمكن أن يكون فيه بالفعل ، وهو الوضع ؛
إذ لا يمكن أن يكون على وضعين في حالة واحدة ، ولو لم يكن لها هذا القدر بالقوّة
لم تكن أجساما ، وليس لها بعض
الأوضاع بأولى من
بعض ، حتّى تلازم ذلك ، وتترك البقية ، فإذا لم يمكن جميع الأوضاع بالفعل دفعة ،
ويمكن جمعه بالنوع على سبيل التعاقب قصد أن يكون كلّ وضع له بالفعل في آن ، وأن
يستديم جميعها بطريق التعاقب ليكون نوع الأوضاع دائما له بالفعل ، كما أن الإنسان
الحسّي لما لم يكن بقاء شخصه بالفعل ، دبّر لبقاء نوعه بطريق التعاقب الأشخاص
الجسمانية ، فلها من الأشكال أفضلها وأقدمها بالطبع ، وأتمها بالذات ، وأحوطها لما
يحويه ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (وَالسَّماءَ
بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) .
وأحكمها في القوام
، وأصونها عن الآفات ، كما أشير إليه بقوله عزوجل : (هَلْ تَرى مِنْ
فُطُورٍ) ، وبقوله جل وعزّ : (وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ) .
ولها من الهيئات
أفضلها ، وهي الإضاءة والشفيف ، ومن الكيفيات المتضادّة الخلو عنها جميعا عند
الجمهور ، والجمع بينها من حيث لا تضادّ فيها عند المحقّقين ؛ لأنّ كلّ جوهر شريف
يشتمل على ما يوجد في الجوهر الدني بوجه أعلى وأشرف ، وكلّ ما هو أبسط فهو أحوط
للوجود ، فالجرم الّذي تمتنع عليه الكثرة الانفكاكية لا بدّ وأن يوجد فيه جميع
الكمالات الموجودة في الأجسام الأخر على وجه يليق به ، وهو الإمكان الأشرف.
وحكي عن بعض
الحكماء المتقدّمين أنه عرج بنفسه إلى العالم
__________________
العلوي ، فسمع
بصفاء جوهر نفسه ، وذكاء قلبه ، نغمات الأفلاك ، وأصوات حركات الكواكب ، ثمّ رجع
إلى البدن ، ورتّب عليه الألحان والنغمات ، وكمّل علم الموسيقى.
ومنهم من قال : إن
الأجرام الفلكية لما أبدعت على أتمّ ما ينبغي ، من الوثاقة والصلابة والملاسة
والحركة الدائمة ، فيحتكّ بعضها ببعض ، فتظهر منها نغمات لا يمكن أن يكون أنسب
منها ، ولا أوفق يناسب عشقها وشوقها.
وممّا يؤيد كون
الأفلاك مشتملة على النغمات ، بل الروائح والطعوم ، وجميع ما تدركه الحواس ، كون
هذه الكيفيات من حيث كونها مدركة لنا ليست هي الّتي تكون في الخارج ، من قوانا ؛ لما
ثبت أن المحسوس ـ بما هو محسوس ـ وجوده في نفسه ليس إلّا وجود للجوهر الحاسّ ،
ومعلوم أنّ وجودها للخيال مناط علمنا بها وانكشافها لدينا ، وقد ثبت أن الخيال
وجميع ما يحصل فيه خارج عن هذا العالم.
فإذن كما توجد تلك
الأشياء في قوّة من قوانا تارة من جهة أمور خارجية ، وتارة من أسباب باطنية ، كما
في المنام ، فكذلك يجوز ذلك في
__________________
الأفلاك من جهة
الباطن ، سيّما وسنبيّن أن السماوات بقوّتها الخيالية محل عالم الملكوت بجميع
نقوشها ، ففيها جميع ما في عالم الكون والفساد على نحو أشرف وألطف.
فصل
وترتيبها يعرف من
انكساف بعض الكواكب ببعض ، فإنّ فلك المنكسف إنّما يكون فوق فلك الكاسف ، كما هو
ظاهر.
وقد ثبت أن بعض
الثوابت ينكسف بزحل ، المنكسف بالمشتري ، المنكسف بالمرّيخ ، المنكسف بالزهرة ،
المنكسفة بعطارد ، المنكسف بالقمر ، الكاسف للشمس ، فعلم الترتيب في غير فلك
الشمس.
وطريقة الكسف لا
تتمشى بين الشمس وغير القمر من الكواكب ، لاضمحلالها تحت الشعاع عند مقارنتها
إياها ، فعلم بالأرصاد من طريقة أخرى أن فلكها تحت فلك المرّيخ ، وأمّا كونه فوق
فلك الزهرة ، أو تحته ، أو تحت عطارد أيضا ، فباق على الاحتمال.
وقد يؤيّد الأوّل
بتأييدات وهو الأشهر ، وعليه الأكثر ، والعلم عند الله.
فصل
وأمّا الصنف
الثاني من الأجسام البسيطة ، وهي السفليات ، فمعلوم لنا وجوده بالحسّ ، بمشاهدة
الأجسام العنصرية القابلة للتركيب ، إمّا تركيبا غير تام ، مقدور لنا ، كما ركّبنا
الماء بالتراب ، وإما تركيبا تاما طبيعيا ، غير متأت إلّا
بقدرة الله تعالى
، كالمعدن والنبات والحيوان ؛ وذلك لمّا لم يتم إلّا بكيفيات فعلية وانفعالية ، لا
بدّ لها من حرارة مبدّدة محلّلة ، وبرودة جمّاعة مسكنة ، ورطوبة قابلة للتخليق
والتشكيل ، ويبوسة حافظة لما أفيدت من التقويم والتعديل ، فخلق الله سبحانه بلطفه
وجوده عناصر أربعة ، متضادّة الأوصاف والكيفيات ، ساكنة بطبعها في أماكن متخالفة ،
بعضها فوق بعض ، بحسب ما يليق بطبائعها ، مرتبة ترتيبا بديعا ، منضدة نضدا عجيبا ،
حيث جعل كلّ متشاركين في كيفية واحدة ، فعلية أو انفعالية ، متجاورين.
فجعل النار لكونها
أخف من الكلّ مجاورة للسماء ؛ لما بينهما من مناسبة اللطافة والضياء ، وجعل الأرض
لكونها عكر الكلّ ، وثفلها ، وأثقلها ، في غاية السفل ، وأبعد المواضع من حركة
الفلك ، لتكون مسكن المركّبات الحيوانية ، وجعل الماء مجاورا للأرض ؛ لكونه أشد
مناسبة لها من جهة البرودة والكثافة ، وجعل الهواء مجاورا للنار ؛ لكونه أشدّ
مشابهة إياها ، من جهة الشفيف والحرارة ، والخفة.
ووضعت الأرض في
الوسط لئلّا تحترق بتسخين حركة الفلك ، ولم يجعل مجاور الفلك غير النار ؛ لئلّا يتسخّن
بحركته فينفسد بين النارين.
فانظر إلى الحكمة
، ثمّ إلى الرحمة ، تبهرك ما لا تقدر قدره ، فسبحانه سبحانه ما أظهر برهانه.
فصل
وعددها علم
باستقراء الكيفيات الأربع الأول ، ووجدان عدم خلوّ الأجسام المستقيمة الحركات عن
إحدى الفاعلتين اللتين هما الحرارة والبرود ، المقتضيتان للحركة ، إمّا من الوسط ،
أو إليه بالغة إلى الغاية أولا ، وكذا عن إحدى المنفعلتين اللتين هما الرطوبة
واليبوسة المقتضيتان لقبول الأشكال ، بيسر أو عسر ، على وجه الكمال والنقص ،
وامتناع اجتماع اثنتين من كلّ من القبيلين في جسم واحد ؛ للتقابل بينهما ، فإذا
تركّب كلّ من الفعلين مع كلّ من الانفعاليين حصلت أربعة أقسام : بارد رطب ، هو
الماء ؛ وبارد يابس ، هو الأرض ؛ وحارّ يابس ، هو النار ؛ وحارّ رطب ، هو الهواء.
فأبرد الأربعة هو
الماء ، ثمّ الأرض ، وأرطبها هو الهواء ؛ لشدة ميعانه بالنسبة إلى الثلاثة ، ثمّ
الماء ، وأيبسها هو الأرض ، ثمّ النار ، وأحرّها النار ، ثمّ الهواء.
أما برودة الماء
فهي ظاهرة كرطوبتها ، وكذلك يبوسة الأرض ، وحرارة النار ، ورطوبة الهواء.
وأمّا برودة الأرض
؛ فلأنها إذا خلّيت وطباعها ولم تسخن بسبب من الأشعة العلوية والرياح الحارة وغيرها
، بردت.
وأمّا يبوسة النار
؛ فلتكوّن الأجسام الصلبة الأرضية ، الّتي يقذفها السحاب الصاعق عنها حين خمدت ،
وفارقتها السخونة ، وفيه نظر.
وأمّا حرارة
الهواء ؛ فلأن الماء يتشبّه به إذا سخن ، ويلطف بتبخّره ،
وبتصاعده في
حيّزه. وما هو ألطف فهو أسخن ، فالهواء حار بالنسبة إلى الماء.
وفي هذه الأحكام
أقوال مختلفة ، وآراء شتّى ، أحسنها ما قلناه.
فصل
وبما ذكر ثبت وجود
كلّ منها على الوجه الّذي وصفناه ؛ وذلك لأنّ كلّ صفة وكيفية لا بدّ فيها من مبدأ
ذاتي ؛ إذ الاتفاقي لا يدوم ، ولا يقع أكثريا ، كما ثبت في مقامه ، فاختلاف الآثار
دليل على تباين مصادرها ، فلا وجه لإنكار النار وكونها عنصرا برأسها ، أو كونها
عند الفلك.
وأيضا اقتضاء كلّ
منها مكانا غير مكان صاحبه ، على ما يشاهد ، دليل على اختلاف صورها ، واختلاف
الصور لمّية اختلاف الأمكنة في نفس الأمر ، لكن اختلاف الأمكنة لما كان أوضح من
اختلاف الصور كان الاستدلال به على ذلك استدلالا بما هو أوضح عندنا.
وأمّا الحكم
باختلاف اقتضائها لأمكنتها ، فإنما هو باختلاف ميولها الطبيعية ، كما مضى ، وهو من
أقوى الحجج ؛ لأنها على طريقة اللّم.
وأيضا قاعدة
الإمكان الأشرف دالّة على وجود هذا النوع من البسائط الجسمانية ؛ لأنّه أشرف ممّا
دونه ، وأخسّ ممّا فوقه ، ومنع كون النار أشرف من سائر العناصر في ذاتها ، مكابرة
؛ وذلك لقوّة وجودها ، وتسلّطها على الإحالة والإحراق ، وتفريق المختلفات ، وجمع
المتشابهات.
وبالجملة : كثرة
فعلها ، وقلّة انفعالها الجسمانيين ، دليل على شرفها ، وهذا بعكس الأرض فهي أخسّ
العناصر ؛ لأنها أكثر انفعالا ، وأقلّ فعلا ، وكونها أقبل
من النار لحصول
الآثار العلوية ، لا يدلّ على شرفها وفضلها على النار ، بل على خسّتها.
كيف لا ، وقد دريت
أن البسيط الّذي يتأتّى منه التركيب إنّما هو كذلك ؛ لنقصه في جوهره ، وعدم
تماميته.
وأيضا إن المجاور
لجسم فلكيّ سريع الحركة ، يجب أن يكون مناسبا للسخونة الشديدة، بحسب العناية.
لست أقول : إن
النار خلقت من حركة الفلك ، كما يراه بعض الناس ، فإنّ الأنواع ليست حاصلة عقيب
الحركات ، والاستعدادات ، والقسر لا يكون دائميا ، بل إن العناية اقتضت ما هو
الأوفق بكلّ نوع على الوجه الّذي يصحّ أن ينسب إلى إرادة خالية عن شوب تغيّر ،
وانفعال ، وهذا ضرب من البرهان اللمّي الّذي يقام على وجود الأشياء ، من جهة
العناية المتعلّقة بما هو الأوفق بالنظام الأفضل.
فنقول : لو وجد
عنصر آخر مجاورا للفلك لاحترق ، وانقلب نارا صرفا ، فلو كان هذا خيرا يجب صدوره من
العناية أولا ؛ إذ لا مانع من هذا الترتيب بحسب الفطرة الأولى ، وإن كان شرا ،
فكيف وجدت المخلوقات من الواجب الأعلى الّذي هو خير محضّ بتضرّر بعضها من بعض
دائما بحسب الكون الأوّل الإبداعي.
وأيضا إن الجسم
المحرق الّذي يتولّد هاهنا ، من الزند والمقدحة ، لو لم تكن له صورة مسخّنة نارية
فمن أين تحصل له هذه الحرارة الشديدة؟ فإن حصل له من مجاورة جسم آخر يكسب منه
السخونة بالمجاورة ، فهو إمّا هواء ، أو ماء ، أو أرض ، وشيء منها لا يحسّ منه
سخونة ضعيفة أيضا ، وإن حصل من
جرم فلكيّ ، فلا
محالة إمّا أن يؤثر فيها تأثيرا كتأثير جسماني في جسماني ، بمشاركة الوضع ، كإضاءة
الشمس وجه الأرض ، أو تسخينها له ، فذلك لا يكون إلّا بحسب المواجهة ، ويأتي الأثر
من جانب الظاهر للجسم ، فيتأثّر أولا ظاهره ، ثمّ يسري في باطنه ، وإذا وقع حجاب
يزول الأثر ، وليس الأمر فيما نحن فيه من هذا القبيل.
وإما أن يكون
تأثيره فيها على سبيل الإعداد وتهيئة الموادّ ، ويكون الفاعل فيها أمرا روحانيا ،
من جانب الله ، فوق الأفلاك ، فذلك تأثير يأتي في باطنها وطبيعتها أولا ، ثمّ يسري
إلى ظاهرها ، ومنه إلى غيرها ، فهذا يدلّ على أن لها صورة ذاتية ، لها قوّة
الحرارة والتسخين ، مخالفة لسائر العناصر ، وهو المطلوب.
وكذا الكلام لو
كان المؤثر فيها أولا من الروحانيات ، من جهة الله سبحانه ؛ لأن مثل هذا التأثير
لا يكون أولا إلّا في بواطن الأجسام وغرائزها ، ومنها إلى ظواهرها ، أو ظواهر ما
يجاورها.
وأيضا فإنّ الهواء
إذا خلّي وطبعه لم يكن محرقا ، وإذا صار محرقا فهو إمّا لمجاورة صورة محرقة ، وإما
لانقلاب صورته إلى صورة محرقة نارية ؛ لما دريت بالبرهان أن كلّ فعل جسماني، أو
صفة جسمانية ، فلا بدّ له من الانتهاء إلى مبدأ ذاتي ، كذا أفاده أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ.
قال : بل التحقيق
أن كلّ ما يفعل مثل هذه الآثار الّتي تصدر عن النار فهو ذو صورة مسخّنة نارية ، ما
دامت على تلك الحالة ؛ إذ لا مانع عن ذلك بعد أن حقّق أن المادّة قابلة لكلّ صورة
، وأنّ كلّ فعل يناسب فاعله ، والذي يفعل الإحراق لا يكون إلّا صورة محرقة ، ولا
نعني بالنار إلّا ما تفعل مثل هذه الآثار.
وقد دريت أنّ
الأصل في كلّ شيء هو وجوده ، والماهية تابعة للوجود ، فما كان له نحو وجود النار
كان له ماهية النار.
وممّا ينبّه على
ذلك قوله تعالى في زبر الحديد الّذي اتّخذه ذو القرنين للسد : (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ
ناراً) ، فأطلق عليه النار.
وكذا الماء إذا
اشتدّت سخونته بمجاورة النار ، ويفعل فعلها ، فإنه ينقلب نارا ، بل ربّما كان غير
المسمى نارا أشدّ تسخينا من النار ؛ لصلابة جرمه ، وكثافة مادته ، كالحديدة
الحامية فإنّ الصورة الجوهرية تقبل الأشد والأزيد.
وبهذا تندفع شبهة
أوردت على أن المعلول لا يساوي العلة في التأثير ، من أنّ النار قد تذيب الجواهر
فتجعلها أسخن منها .
وجه الاندفاع ظاهر
على أنّ النار ليست علّة فاعلية ، بل هي معدّة.
وبهذا التحقيق
يظهر أن الطبائع والنفوس أيضا نيرانات غير محسوسة ؛ وذلك لأنها تفعل أفاعيل النار
، كالنقل من موضع إلى موضع ، وكالطبخ ، والنضج ، والتعقيد ، وكالكلس ، والإذابة ،
وكالتليين ، والتلطيف ، والإحالة ، والهضم ، والإلصاق ، والدفع ، والشهوة ، الّتي
هي ضرب من الجذب ، والإمساك ، والغضب ، الذي هو ضرب من الهضم ، والدفع ، والإحساس
، الّذي هو ضرب من التغذية ، وكذا كلّ إدراك وعلم حادث ، وكالتحريك الّذي مرجعه
إلى الجذب والدفع ، وغير ذلك ، كما يأتي تفاصيله في مواضعه.
__________________
فصل
وهذه الأربعة هي
أصول الكائنات ، وأركان عالم الكون ، والفساد ، واسطقسات المركبات ، وعناصرها
الّتي منها التركيب ، وإليها التحليل.
وأنت إذا تعقّبت
جميع الأجسام الّتي عندنا وجدتها منتسبة بحسب الغلبة إلى واحد منها ، وهي إنّما لم
تقبل الحياة المعتدّ بها ؛ لأجل تضادها ؛ ولهذا إذا تركّبت واعتدلت قبلتها.
فصل
وكلّها كروية
الأشكال ؛ لبساطتها ، إلّا أن الأرض لقبولها التشكّلات القسرية من جهة يبوستها
وقعت في سطحها تضاريس لأسباب خارجة ، كجري المياه ، وهبوب الرياح ، وغيرها ، كما
يشاهد من الجبال والوهاد ، ولكن هذه التضاريس لا تخرجها عن الكروية الحسّية ؛ إذ
نسبة أعظم الجبال إليها كنسبة كرة قطرها سبع عرض شعيرة إلى كرة قطرها ذراع ، كما
يتبين لك عند الوقوف على مساحة الأرض.
ولا منافاة بين
اقتضاء الكروية واقتضاء الكيفية الحافظة لأي شكل كان ، بل الثاني مؤكّد للأول ،
لكن لما أزالت القواسر عنها الشكل ولم تزل اليبوسة صارت اليبوسة حافظة للشكل
القسري ، ومنعت عن العود إلى الشكل الطبيعي بالعرض ، وعروض ذلك لكونها مقسورة من
وجه ، مطبوعة من وجه ، كالمريض الذي تفعل طبيعته في بدنه الّذي قلّت رطوبته ، بسبب
القاسر حرارة توجب فساده.
فصل
وممّا يدلّ على
كروية الأرض طلوع الكواكب وغروبها في البقاع الشرقية قبل طلوعها وغروبها في
الغربية ، بقدر ما تقتضيه أبعاد تلك البقاع في الجهتين ، على ما علم من إرصاد
كسوفات بعينها ، لا سيّما القمرية في بقاع مختلفة ، فإنّ ذلك ليس في ساعات متساوية
البعد من نصف النهار على الوجه المذكور ، وكون الاختلاف متقدّرا بقدر الأبعاد دليل
على الاستدارة المتشابهة الساترة بحدبتها المواضع الّتي يعلو بعضها بعضا على قياس
واحد بين الخافقين ، وازدياد ارتفاع القطب والكواكب الشمالية ، وانحطاط الجنوبية
للسائرين إلى الشمال ، وبالعكس للسائرين إلى الجنوب ، بحسب سيرهما ، دليل على
استدارتها بين الجنوب والشمال ، وتركّب الاختلافين يعطي الاستدارة في جميع
الامتدادات.
ويؤيده مشاهدة
استدارة أطراف المنكسف من القمر الدالّة على أن الفصل المشترك بين المستضيء من
الأرض ، وما ينبعث منه الظل ، دائرة ، وكذلك اختلاف ساعات النّهر الطوال والقصار ،
في مساكن متفقة الطول ، إلى غير ذلك.
ولو كانت اسطوانية
، قاعدتاها نحو القطبين لم يكن لساكني الاستدارة كوكب أبدي الظهور ، بل إمّا
الجميع طالعة غاربة ، أو كانت كواكب تكون من كلّ واحد من القطبين على بعد تستره
القاعدتان أبدية الخفاء ، والباقية طالعة غاربة ، وليس كذلك. وأيضا فالسائر إلى
الشمال قد تغيب عنه دائما كواكب كانت تظهر له ، وتظهر له كواكب كانت تغيب عنه بقدر
إمعانه في السير ؛ وذلك يدلّ على استدارتها في هاتين الجهتين أيضا.
فصل
وممّا يدلّ على
استدارة سطح الماء الواقف طلوع رؤوس الجبال الشامخة على السائرين في البحر أولا ،
ثمّ ما يلي رؤوسها شيئا بعد شيء ، في جميع الجهات ، إلّا أن الماء ليس بتامّ
الاستدارة ، بل هو على هيئة كرة مجوّفة ، قطع بعض منها ، وملئت بالأرض على وجه
صارت الأرض مع الماء بمنزلة كرة واحدة ، ومع ذلك ليس شيء من سطحيه صحيح الاستدارة.
أما المحدب فلما
فيه من الأمواج ، وأمّا المقعّر فلتضاريس ما فيه من الأرض ؛ لأنّه خرج من سطحه ما
ارتفع منها ؛ وذلك لأنّ الأرض لما حدثت فيها جبال شاهقة ووهاد غائرة ، انحدر الماء
إليها بالطبع ، فانكشفت المواضع المرتفعة لتكون مسكنا للحيوانات المتنفّسة وغيرها
من المركّبات المحوجة إلى غلبة العنصر اليابس الصلب ؛ لحفظ الصور والأشكال ، وربط
الأعضاء والأوصال ، عناية من الله سبحانه.
قال الإمام سيد
العابدين عليهالسلام في قوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً) ، قال : «جعلها ملائمة لطبائعكم ، موافقة لأجسادكم ، لم
يجعلها شديدة الحمي والحرارة ، فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة ، فتجمدكم ولا شديدة
طيب الريح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللين كالماء
فتغرقكم ، ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم ، وقبور موتاكم ،
ولكنه عزوجل جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به ، وتتماسكون عليها ،
__________________
وتتماسك عليها
أبدانكم وبنيانكم ، وجعل فيها ما تنقاد به لدوركم ، وقبوركم ، وكثير من منافعكم» .
فصل
وأمّا الهواء ،
فمقعّره مضرّس أيضا ، بحسب تضاريس ما فيه من الماء والأرض ، كالأمواج والجبال ،
وغيرهما ، ومحدّبه تابع لمقعّر النار ، والنار كروية الشكل ، صحيحة الاستدارة
تحديبا وتقعيرا ، إن جعلت عنصرا برأسها ، كما هو التحقيق.
أما تحديبا ؛
فلكونها مماسّة لمقعّر فلك القمر ، الّذي هو صحيح الاستدارة ، وأمّا تقعيرا ؛
فلكونها قوية على إحالة ما وصل إليها من الأدخنة إلى نفسها ، وإن جعلت متكوّنة من
الهواء بواسطة حركته التابعة لحركة الفلك ، فهي كرة تامة ، سطحها المحدب صحيح
الاستدارة ، والمقعّر اهليجي الشكل ؛ لأنها تتكوّن عند المنطقة أكثر لسرعة الحركة
، وتتدرّج في القلّة إلى القطبين ، وإن لم تتكون في محاذاة جميع أجزاء الفلك ، بل
تكوّنت في محاذاة المنطقة متدرجة في القلّة إلى أن تنفذ قبل الوصول إلى القطبين ؛
لبطؤ الحركة حولها جدا ، فلا تتكوّن ، فهي كرة غير تامة ، محدّبها مستدير غير تامّ
، ومقعّرها إهليلجي كذلك ، هذا في المشهور.
قيل : ويحتمل
كروية سطحيها مطلقا ، وإن تكوّنت من الهواء ؛ لاقتضاء طبيعتها الميل إلى المحيط
أكثر من الهواء.
أقول : إذا كان
حدوثها بالحركة فحيث لا يصل أثر الحركة تكون هواء
__________________
دائما ، فإذا وصلت
النار إلى هناك تنقلب هواء لا محالة ؛ لزوال القاسر ، فالإهليلجية لازمة على تقدير
التكوّن من الهواء البتة ، إمّا تامة أو ناقصة ، فأحسن التأمل فيه.
فصل
الأجرام السفلية
سبع طبقات : الأرض المحيطة بالمركز ، ثمّ طبقتها المخالطة بغيرها ، الّتي تتولد
فيها الجبال والمعادن ، وكثير من النباتات والحيوانات ، ثمّ طبقة الماء ، ثمّ طبقة
البخار الّتي جانبها الّذي يلي الأرض كثيف حارّ ، والطرف الآخر بارد زمهريري ،
فيها يكون السحب والرعد والبرق والصواعق ، ثمّ طبقة الدخان الّتي يكون في أحد
جانبيه يلي البخار الشهب ، وفي الآخر النيازك وذوات الأذناب ، ثمّ طبقة الهواء
الخالية عن الدخان والبخار ، ثمّ كرة النار الصرفة الّتي ينتهي بها في جانب العلو
عالم الكون والفساد.
وصل
فالعالم الجسماني
قبّة منضّدة من عدّة قباب متلاصقة ، متماسّة ، أعلاها الأطلس الخالي عن النقوش ،
ثمّ المزيّن بالثوابت ، ثمّ السماوات السبع للكواكب السبعة على الترتيب المذكور (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) ، ثمّ كرة النار ، ثمّ الهواء بطبقاته ، ثمّ الماء ، ثمّ
الأرض بطبقتيها ، وكلما يبعد عن المركز ويقرب من
__________________
المحيط يصير ألطف
وأشرف ، حتّى ينتهي إلى العرش الّذي هو واسطة بين العالم الجسماني والعالم
الروحاني.
فصل
كلّ واحد من
الأفلاك والعناصر نوع برأسه ، لا يماثله غيره في حقيقته ؛ لأنّه وجد في مكان خاصّ
به ، على وضع خاص ، لا يسع لغيره ، ولا يسع هو في مكان غيره.
واختلاف الأماكن
والأوضاع دليل اختلاف الطبائع ، ويشبه أن تكون الإشارة إلى هذا الاختلاف ما ورد من
التعبير باختلاف الألوان والأسماء ، فيما روي عن الإمام الرضاعليهالسلام : أن أمير المؤمنين عليهالسلام سئل عن ألوان السماوات السبع وأسمائها ، فقال : «اسم سماء
الدنيا : فيّع ، وهي من ماء ودخان ، واسم السماء الثانية : فندم ، وهي على لون النحاس ، واسم السماء الثالثة : المأدوم ،
وهي على لون الشبه ، والسماء الرابعة اسمها : ارقلون ، وهي على لون الفضّة ،
والسماء الخامسة اسمها : هيعون ، وهي على لون الذهب ، والسماء السادسة اسمها :
عروس ، وهي ياقوتة خضراء ، والسماء السابعة اسمها : عجماء ، وهي درّة بيضاء» .
__________________
فصل
البسائط كلّها
شفّافة ، لا تحجب عن أبصار ما وراءها ، ما عدا الكواكب ، وهذا محسوس مشاهد في
الأفلاك والعناصر ، ما عدا الطبقة الأولى من الأرض ، وأمّا الثانية فليست من
البسائط ، كما عرفت.
وأمّا النار
المستضيئة الساترة لما وراءها فإنّها إنّما تكون لها الاستضاءة إذا علقت شيئا
أرضيا ينفعل بالضوء عنها ، فهي ليست بسيطة ؛ ولذلك أصول الشعل ، وحيث النار قويّة
شفّافة لا يقع لها ظلّ ، ويقع لما فوقها ظلّ عن مصباح آخر.
وربما كان انفراج
رأس الشعلة وتحجّمه وانتشاره أكثر من حجم الشفّاف ، فلا يتوهّم أن الشفيف للانتشار
، وخلافه لاستحداد الصنوبرية ، واجتماع أجزاء النار.
وأمّا العرش
والكرسي فلكونهما ألطف من الكلّ فهما أولى بالشفيف ، كما يحكم به الحدس الصائب.
فصل
الزرقة الّتي يظنّ
أنها لون السماء إنّما هي في كرة البخار ؛ لأنّه لما كان الألطف من البخار أشد
صعودا من الأكثف كانت الأجزاء القريبة من سطح كرته أقل قبولا للضوء ؛ لكثرة البعد
واللطافة من الأجزاء القريبة من الأرض ؛ ولهذا تكون كالمظلة بالنسبة إلى هذه
الأجزاء ، فيرى الناظر في كرة البخار لونا
متوسّطا بين
الظلام والضياء ؛ لأنّه إذا رأى شيئا مظلما من خلف شيء مضيء رأى لونا مخلوطا من
الظلمة والضياء ، أو لأنّ كرة البخار مستضيئة دائما بأشعة الكواكب ، وما وراءها ؛
لعدم قبول الضوء كالمظلم بالنسبة إليها ، فإذا نفذ نور البصر من الأجزاء المستنيرة
بأشعة الكواكب ووصل إلى المظلم رأى الناظر ما فوقه من الجوّ المظلم بما يمازجه من
الضياء الأرضي ، والضياء الكوكبي لونا متوسطا بين الظلام والضياء ، وهو اللون
اللاجوردي ، كما إذا نظرنا من وراء جسم مشف أحمر ـ مثلا ـ إلى جسم أخضر ، فإنه
يظهر لنا لون مركّب من الحمرة والخضرة ، وهذا اللون اللاجوردي أشد الألوان مناسبة
وتقوية للأبصار ، فظهوره عناية من الله سبحانه للناظرين المتفكّرين في خلق
السماوات والأرض ؛ لتكون لهم لذّة وقوّة في الأبصار في النظر ، كما تكون لعقولهم
لذّة وقوّة عقلية في التأمل فيها ، فلله الحمد على نعمائه ، وله الشكر على آلائه.
فصل
إنما خلق الله
الأرض ملوّنة كثيفة غبراء لتقبل الضياء ، وخلق ما فوقها من العناصر مشفّة لطيفة
بالطباع ؛ لينفذ فيها ويصل إلى غيرها ساطع الشعاع ، فإنّ الكواكب ـ وسيّما الشمس
والقمر ـ أكثر تأثيراتها في العالم السفلي بوسيلة أشعّتها المستقيمة ، والمنعطفة
والمنعكسة بإذن الله ، فسبحان من جعل الشمس والقمر دائبين في مرضاته ، يبليان كلّ
جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، وجعلهما آيتين فمحى آية الليل ، وجعل آية النهار مبصرة
، لتبتغوا فضلا من ربكم ، ولتعلموا عدد السنين والحساب ، وكلّ شيء فصّله تفصيلا.
فصل
الأرض في وسط
السماء ، كالمركز في الكرة ، فينطبق مركز حجمها على مركز العالم ؛ وذلك لتساوي
زماني ارتفاع الكواكب وانحطاطها مدّة ظهورها ، وظهور النصف من الفلك دائما ،
وتطابق أظلال الشمس في وقتي طلوعها وغروبها عند كونها على المدار الّذي يتساوى فيه
زمانا ظهورها وخفائها على خطّ واحد مستقيم ، أو عند كونها في جزئين متقابلين من
الدائرة الّتي تقطعها بسيرها الخاص بها ، وانخساف القمر في مقاطراتها الحقيقية
للشمس ، فإنّ الأوّل يمنع ميلها إلى أحد الخافقين ، والثاني إلى أحد السمتين ـ الرأس
والقدم ـ والثالث إلى أحد القطبين ، والرابع إلى شيء منها ، أو من غيرها من الجهات
، كما لا يخفى.
فصل
وكما أن مركز
حجمها منطبق على مركز العالم ، فكذا مركز ثقلها ؛ وذلك لأن الثقال تميل بطبعها إلى
الوسط ، كما دلّت عليه التجربة ، فهي إذن لا تتحرّك عن الوسط ، بل هي ساكنة فيه ،
متدافعة بأجزائها من جميع الجوانب إلى المركز ، تدافعا متساويا ، فلا محالة ينطبق
مركز ثقلها الحقيقي المتّحد بمركز حجمها التقريبي على مركز العالم ، ومستقرّها عند
وسط العالم ؛ لتكافؤ القوى ، بلا تزلزل واضطراب يحدث فيها ؛ لثباتها بالسبب
المذكور ، وكون الأثقال المنتقلة من جانب منها إلى آخر في غاية الصغر بالقياس
إليها ، فلا يوجب انتقال مركز ثقلها
من نقطة إلى أخرى
بحركة شيء منها ، وكذا الأجزاء المباينة لها ، تهوي إليها وهي تقبلها من جميع
نواحيها من دون اضطراب.
نعم ، لما كانت
أولا كرة حقيقية لم تثبت على وضع واحد ، بل كانت تتحرك الحركة الوضعية بأدنى سبب ؛
لأنّ بعض أوضاعها لم تكن أولى من بعض ، فخلق الله سبحانه بلطيف صنعه الجبال عليها
؛ ليخرجها عن كونها حقيقية لتثبت ولا تضطرب ؛ لأنّ الجبال بما بينها من الأهوية
والمياه تقاوم الرياح والأمواج أن تحرّكها ، فتثبت ، وإذا ثبتت ثبتت الأرض بثباتها
؛ ولذلك سمّيت الجبال أوتادا ، فإنّ الوتد يوجب ثبات ما يربط به.
وأيضا فإنّ الجبال
تحفظها وتمنعها من أن تتحرّك بالزلازل ، ونحو ذلك ، فسبحان من أمسكها بعد موجان
مياهها ، وأجمدها بعد رطوبة أكنافها ، فجعلها لخلقه مهادا ، وبسطها لهم فراشا ،
فوق بحر لجّيّ راكد ، لا يجري ، وقائم لا يسري ، تكركره الرياح العواصف ، وتمخضه
الغمام الذوارف ، أمسكها من غير اشتغال ، وأرساها على غير قرار ، وأقامها بغير
قوائم ، ورفعها بغير دعائم ، وحصّنها من الأود والاعوجاج ، ومنعها من التهافت
والانفراج ، أرسى أوتادها ، وضرب أسدادها.
قال عز اسمه : (وَالْجِبالَ أَرْساها) ، وقال جل وعز : (أَلَمْ نَجْعَلِ
الْأَرْضَ مِهاداً* وَالْجِبالَ أَوْتاداً) ، وقال سبحانه : (وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) ، (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
__________________
دُونِهِ) ، (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) .
فصل
الأرض كالنقطة
عندما [تكون] فوق فلك الشمس ، سيّما العرش والكرسي ، كما في الحديث عن الإمام زين
العابدين عليهالسلام : «إن الأشياء كلّها في العرش كحلقة ملقاة في فلاة» ، فلا قدر لها محسوسا ؛ وذلك لظهور النصف من تلك الأفلاك
دائما ؛ إذ لا فرق بين السطح المارّ بوجه الأرض ، الفاصل بين الظاهر والخفي منها ،
وبين السطح المارّ بمركز الكلّ الموازي لذلك السطح ، كما يدلّ عليه طلوع أحد
الكوكبين المتقاطرين عند غروب الآخر ، وبالعكس.
وأمّا بالإضافة
إلى فلك الشمس وما دونه فلها قدر محسوس ، بدليل أن الموضع المرئي للشمس وما تحتها
من الكواكب من سطح الأرض غير مواضعها الحقيقية من مركز الأرض ، كما علم بالرصد
باستعمال ذات شعبتين ، وهذا التفاوت في الشمس قليل ، ويكثر فيما دونه ، سيّما
القمر ، فإذا كان أحد هذه الكواكب على سمت الرأس كان الخط الّذي يخرج من مركز
الأرض إليه منطبقا على الخط الّذي يخرج من منظر الأبصار إليه ، فلا يكون اختلاف في
المنظر ، وإذا كان مائلا عن سمت الرأس كان الخطان ملتقيين عند مركزه ، ويتباعدان
حتى إذا انتهيا إلى سطح الفلك الأعلى اختلف موقعهما ، فيقع الخط الّذي خرج من منظر
الأبصار مائلا إلى الأفق عن الخط الّذي خرج من مركز الأرض ، وكلما
__________________
كان الكوكب إلى
الأفق أقرب كان الاختلاف أكثر ، والموضع المرئي له أقرب إلى الأفق من الموضع
الحقيقي أبدا.
فصل
الشمس كوكب عظيم
ليس في الكواكب أعظم منه ، وهو رئيس السماء ، واهب الضياء ، شديد الضوء ، فاعل
النهار والليل ، بالحضور والغيبة ، وجاعل الفصول الأربعة بالذهاب والأوبة ، بأمر
الله سبحانه وطاعته ، وما ازداد على الكواكب بمجرّد المقدار والقرب ، بل بالشدة ،
فإنّ ما يتراءى من الكواكب بالليل مقدار مجموعها أكبر من الشمس بما لا يتقايس ،
ولا يفعل النهار ، فسبحان من صوّرها ونوّرها ، وفي عشق جمال بارئها دوّرها.
والمستضيء بها من
الأرض أكثر من نصفها دائما ، لما بيّن في محلّه أنّ الكرة الصغرى إذا قبلت الضوء
من الكبرى كان المستضيء منها أعظم من نصفها.
وظل الأرض على
هيئة مخروط يلازم رأسه مدار الشمس ، وينتهي في فلك الزهرة ، كما علم بالحساب ،
والنهار مدّة كون المخروط تحت الأفق ، والليل مدّة كونه فوقه ، فإذا ازداد قرب
الشمس من شرقي الأفق ازداد ميل المخروط إلى غربيه ، ولا يزال كذلك حتّى يرى الشعاع
المحيط به.
وأوّل ما يرى منه
هو الأقرب إلى موضع الناظر ؛ لأنّه أصدق رؤية ، وهو موقع خطّ يخرج من بصره عمودا
على الخط المماس للشمس والأرض ، فيرى الضوء مرتفعا عن الأفق ، مستطيلا ، وما بينه
وبين الأفق مظلما ؛ لقربه من قاعدة المخروط الموجب لبعد الضوء هناك عن الناظر ،
وهو الصبح الكاذب.
ثم إذا قربت الشمس
جدا يرى الضوء معترضا ، وهو الصبح الصادق ، ثمّ يرى محمرّا. والشفق بعكس الصبح ، يبدو
محمرا ثمّ مبيضّا معترضا ، ثمّ مرتفعا مستطيلا ، فسبحان فالق الإصباح ، وجاعل
الليل سكنا ، والشمس والقمر حسبانا (ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ).
فصل
القمر كوكب كمد
صقيل ، بين السواد والزرقة ، يستضيء أكثر من نصفه بالشمس دائما ؛ لكبرها وصغره ،
وتختلف أوضاعه بالقرب والبعد عنها ، ففي الاجتماع وجهه المظلم إلينا والمضي إليها
، وهو المحاق ، وإذا بعد عنها يسيرا رأينا منه قليلا ، وهو الهلال ، ويزداد بزيادة
البعد إلى المقابلة ، فيصير تمام وجهه المضيء إلينا ، وهو البدر ، ثمّ يتناقص
المتقارب فيؤول إلى المحاق ، وهكذا ، فإذا اجتمع بها عند منطقة حركتها حال بيننا
وبينها ، فسترها كلا أو بعضا ، وهو الكسوف ، وإذا استقبلها كذلك حالت الأرض بينهما
، ووقع كله أو بعضه داخل مخروط ظلها ، وهو الخسوف.
وأمّا المحو في
وجه القمر فله وجوه مشهورة ، لا سبيل إلى الجزم بشيء منها.
__________________
فصل
وأمّا سائر
الكواكب فكون أنوارها ذاتية أو مقتبسة من الشمس باق على الاحتمال ، وعدم تشكّلاتها
البدرية والهلالية لا يدلّ على عدم الاقتباس ؛ لإمكان نفوذ الضوء فيها ، ومن الناس
من أثبت لها ألوانا كالقمر ، فإذا كانت كذلك ، وكانت أنوارها مقتبسة لم ينفذ الضوء
في كليتها على السواء ، بل أقام على الوجه الّذي يلي الشمس ، وإن كانت مشفّة لا
يضيء كليتها ، بل من حيث ينعكس عنها.
قال في الشفاء : وأقول على سبيل الظن : يشبه أن يكون لكلّ كوكب مع الضوء
المشرق منه لون بحسب ذلك اللون ، يختلف أيضا الضوء المحسوس بها فيأخذ إشراق بعضها
إلى الحمرة ، وبعضها إلى الرصاصية ، وبعضها إلى الخضرة ، وكأن الشعاع والنور لا
يكون إلّا في جرم له خاصية لون ، فإنّ النار إنّما يشرق دخانها وهو في جوهره ذا
لون ما ، ويختلف المرئي من اللهيب باختلاف الكون الذي يخالطه النور الناري ، وليس
هذا شيئا أجزم به جزما. انتهى كلامه .
وينبغي أن لا يراد
باللون هناك مثل الألوان الّتي عندنا ، بل على وجه أعلى وألطف ، يناسب تلك الأجرام
الشريفة ، وكذلك من أثبت لها الحرارة والبرودة وغير ذلك من الصفات.
روى في الكافي ، بإسناده
عن الإمام الصادق عليهالسلام ، قال : «إنّ الله تعالى
__________________
خلق نجما في الفلك
السابع ، فخلقه من ماء بارد ، وسائر النجوم الستة الجاريات من ماء حارّ ، وهو نجم
الأنبياء والأوصياء ، وهو نجم أمير المؤمنين عليهالسلام ، يأمر بالخروج من الدنيا والزهد فيها ، ويأمر بافتراش
التراب ، وتوسّد اللّبن ، ولباس الخشن ، وأكل الجشب ، وما خلق الله نجما أقرب إلى
الله تعالى منه» .
قلت : هذا الكلام
من الأنوار الساطعة من معدن الولاية ، وأهل بيت النبوّة ، سلام الله عليهم ، وهو
مطابق لما يراه المنجّمون من نحوسة زحل ؛ وذلك لأنّ نظرهم مقصور على النشأة
الفانية ، والدنيا والآخرة ضرّتان ، فافهم واغتنم.
فصل
الكواكب الثابتة
لا يمكن أن تحصى كثرة ، وقد رصد منها ألف وخمسة وعشرون ، فعرف مواضعها ، ورتب
أقدارها المختلفة في ستّ مراتب ، ينقص كلّ مرتبة عن صاحبتها في القطر بسدس ،
فأولها أعظمها ، وفيها خمسة عشر كوكبا ، وفي الثانية خمسة وأربعون ، وفي الثالثة
مائتان وثمانية ، وفي الرابعة أربعمائة وسبعون ، وفي الخامسة مائتان وسبعة عشر ،
وفي السادسة تسعة وأربعون.
وسبعة عشر خارجة
عن المراتب ، تسعة خفية تسمى مظلمة ، وخمسة سحابية ، كأنها قطعة غيم ، وثلاثة تسمى
صغيرة ، وربما لا تجعل من المرصودة.
ثم توهّموا لتعريف
هذه الكواكب صورا تكون هي عليها ، أو فيما بينها ، أو بقربها ، والصور ثمانية
وأربعون ، إحدى وعشرون في الشمال ، هي ثلاثمائة وستون كوكبا ، واثنتا عشرة على
المنطقة ، هي ثلاثمائة وستة وأربعون كوكبا ،
__________________
وهي صور البروج
المشهورة ، وخمس عشرة في الجنوب ، هي ثلاثمائة وستّة عشر كوكبا.
والدائرة اللبنية
المسمّاة بالمجرة يقال إنها مؤلفة من كواكب صغار متقاربة ، متشابكة ، كثيرة جدا ،
صارت من تكاثفها وصغرها كأنها لطخات ؛ وذلك شبّهت باللبن لونا.
وأمّا منازل القمر
فهي الكواكب القريبة من المنطقة ، جعلتها العرب علامات للأقسام الثمانية والعشرين
الّتي قسمت المنطقة بها ؛ لتكون مطابقة لعدد أيام دور القمر ، فيرى كلّ ليلة نازلا
بقرب أحدها ، وأسماؤها مشهورة ، فسبحان من قدر القمر منازل حتّى عاد كالعرجون
القديم.
في كيفية حركات الأفلاك ، وما يتبع ذلك
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ
تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ* وَالْقَمَرَ
قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ* لَا
الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها
أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي
فَلَكٍ يَسْبَحُونَ)
فصل
كلّ واحد من أفلاك
الكواكب السبعة يشتمل على أفلاك أخر جزئية مفروزة عن كلّها ، متحرّكة بحركة أخرى
غير حركة الكلّ ؛ وذلك لأنّه تعرض لها في حركاتها السرعة والبطؤ ، والتوسّط بينهما
، وكذا الوقوف والرجوع ، والاستقامة ، وقد تكون حركة بعضها متشابهة حول نقطة ، أي
تحدث عندها في أزمنة متساوية زوايا متساوية ، وقسيّا متساوية ، مع أنه يقرب منها
تارة ويبعد أخرى ، وقد لا يتم بعضها الدورة ، إلى غير ذلك من الاختلافات الّتي
نذكرها جميعا ، وقد علمت بالأرصاد ، ويظهر بعضها عند الحس من دون تدقيق نظر ،
واستعمال آلة ، فلا بد من أصول تقتضي تشابهها في أنفسها ، واختلافها بالقياس إلينا
بحسب رؤيتنا ، إمّا لاختلاف وضعي ، أو لتركّب في الحركة ، من حركات متشابهة
يقتضيان ذلك ؛ وذلك لأنّ الحركات المختلفة لا يمكن صدورها عن
__________________
الفلكيات ؛
لبساطتها ، وعدم انخراقها ، وتنزّه نفوسها عن تركّب القوى ، واختلاف الدواعي
والآراء.
فمن الأصول كون
الحركة متشابهة حول نقطة خارجة عن مركز العالم ، إمّا بأن يكون الفلك المتحرك
محيطا بمركز العالم ، ويسمى بالخارج المركز ، أو غير محيط به ، ويسمى بالتدوير.
والخارج المركز
إذا فرض وحده وفرض الكوكب متحركا عليه حول مركزه حركة بسيطة متشابهة صيّر الحركة
بالقياس إلى مركز العالم وغيره من النقط الّتي هي غير ذلك المركز مختلفة ، فتكون
في القطعة الّتي هي أبعد منه بطيئة ، وفي القطعة الأخرى منه الّتي هي أقرب سريعة ؛
وذلك لأنّ القسي المتساوية المقدار المختلفة بالبعد والقرب ، يرى البعيد منها أصغر
من القريب ، وإذا أخرج خطّ يمرّ بمركزه ومركز العالم ، أو بالنقطة المفروضة الّتي
هي غيرهما ، مرّ بالبعد الأبعد ، وهو منتصف القطعة البعيدة ، وبالبعد الأقرب وهو
منتصف القطعة القريبة.
ثم إذا قام عليه
عمود يمرّ بمركز العالم أو بتلك النقطة ووصل إلى المحيط في الجانبين ، مرّ
بالبعدين الأوسطين ، وهما الفصل المشترك بين القطعتين ، البعيدة والقريبة ،
وعندهما تكون الحركة متوسّطة بين السرعة والبطؤ.
وأمّا التدوير ،
فإذا فرض وحده وتحرك الكوكب على محيطه كانت القسي المتساوية المقدار منه أيضا
مختلفة ، بالقياس إلى مركز العالم ، وكان الخط الواصل بين المركزين مارا بالبعدين
الأبعد والأقرب منه ، والخطّان الخارجان من مركز العالم المماسّان للتدوير من
جانبيه، يفصلان بين القطعتين القريبة والبعيدة ، إلّا أن الكوكب يرى في إحدى
القطعتين راجعا عن السمت الّذي
يقصده في القطعة
الأخرى إلى أن يصل إلى المبدأ الّذي يتحرك منه ، ولا تنقطع أجزاء الفلك المحيط
بمركز العالم جميعا بتلك الحركة.
فبهذين الأصلين
يستقيم أمر الاختلافين الأولين ، وللمتأخّرين أصول أخر بها يستقيم غيرهما من
الاختلافات أيضا ، لكن لما لم يتعيّن شيء منها لذلك لم يحصل الجزم بعدد الأفلاك
الجزئية ، وإنما المتيقّن القدر المشترك ، وهو كثرتها.
وينبغي الاقتصار
على الأقلّ الأبسط ، وعدم إثبات الفضل مهما أمكن ، ونحن نقتصر على ذكر ما هو
المشهور الموروث من القدماء في ذلك ، وإن كان يبقى معه بعض الإشكالات بعد ؛ روما
للاختصار فيما لم يتحقّق بخصوصه ، فاسمع :
وصل
أما فلك الشمس ،
فينفصل عنه فلك آخر شامل للأرض ، مركزه خارج عن مركز العالم ، مائل إلى جانب من
الفلك الكلي لها ، بحيث يماسّ محدّب سطحيه ، السطح الأعلى من الفلك الكلي على نقطة
مشتركة بينهما ، ويسمى الأوج ، ومقعّر سطحيه ، السطح الأدنى منه على نقطة مشتركة ،
يسمى الحضيض ، فيحصل بسبب ذلك جسمان متدرّجا الثخن إلى غاية هي ضعف ما بين
المركزين ، أحدهما حاو للفلك الخارج المركز ، والآخر محويّ ، فيه رقّة الحاوي ،
ممّا يلي الأوج ، وغلظه ممّا يلي الحضيض ، ورقّة المحوي وغلظه بالعكس ، يقال لكلّ
واحد منهما : المتمّم.
وجرم الشمس مركوز
في ثخن الخارج عند منتصف ما بين قطبيه ، مماسّ لسطحيه على نقطتين ، وأفلاك كلّ من
الكواكب العلوية والزهرة كذلك ، إلّا أنّ لها تداوير مركوزة في خوارجها ، كارتكاز
الشمس وهي فيها بحيث يماسّ سطح كلّ سطح تدويره على نقطة.
وكذلك فلك القمر ،
إلّا أن له فلكا آخر مركزه مركز العالم ، محيطا بالكلّ ، يسمى بالجوزهر.
وأمّا عطارد فمركز
فلكه الّذي في ثخنه الخارج غير مركز العالم ، ويسمى بالمدير ، وهو في ثخن فلكه
الكلي الّذي مركزه مركز العالم ، كالخارج في ثخنه على الرسم المذكور ، فله خارجان
، وأوجان ، وحضيضان ، وأربعة متممات ، وتسمى الأفلاك الكلية بالممثّلات ؛
لمماثلتها لمنطقة البروج في المركز والحركة والمنطقة والقطبين كما ستعرف ، وتسمى
الخوارج للمراكز كلّها سوى المدير بالحوامل ؛ لحملها التداوير ، والكواكب وتسمى
البعد الأبعد في التداوير بالدورة ، والأقرب بالحضيض.
ولنتكلم الآن في
جهات الحركات ومقاديرها ، وأقطابها ، ومناطقها ، على ما علم بالأرصاد.
واعلم أولا أن من
عادة الحسّاب إذا أرادوا تقدير الدوائر وأقطارها تجزئتها بثلاثمائة وستين جزء ،
وتجزئة القطر بمائة وعشرين جزء ، ثمّ تجزئة الأجزاء إلى دقائقها وثوانيها ، وما
يتلوها ، فيكون ربع من الدور تسعين جزء ، وكلّ قوس من أقل منه ، فتمامها ما يبقى
من الربع بعد نقصانها عنه.
إذا تمهّد هذا ،
فاسمع :
وصل
أما الفلك الأعظم
فحركته إلى المغرب ، وتتم في كلّ يوم بليلته دورا بالتقريب ، ويسير بمقدار ما يقول
أحد واحد ألفا وسبعمائة واثنين وثلاثين فرسخا من مقعّره ، والله
تعالى أعلم بما يسير من محدّبه ، وقطباه تسميان بقطبي العالم ، ومنطقته تسمى
بمعدّل النهار ، وهي تقطع العالم بنصفين : شمالي وجنوبي ، والصغار الموازية لها
المرتسمة من تحرّك النقاط عن جنبتيها تسمى بالمدارات اليومية.
وفلك الثوابت مع
الممثّلات تسير نحو الشرق ، وتتم في كلّ خمسة وعشرين ألفا ومائتي سنة دورا ، ويقطع
كلّ سنة عشرة فراسخ ، ومع ذلك لا ترى حركتها في قريب من خمسين سنة ، بل يرى في تلك
المدّة كأنّها ساكنة ، وقطباه يسميان بقطبي البروج ، ومنطقته تسمى بمنطقة البروج.
وفلك البروج وهي
تقطع المعدّل على نقطتين تسمّيان بالاعتدالين : الربيعي ، والخريفي ، وأبعد
أجزائها عنه بالانقلابين الصيفي والشتوي ، وغاية هذا البعد من الجانب الأقرب يسمى
بالميل الكلي ، وهو بالرصد الجديد ثلاثة وعشرون جزء ، وثلاثون دقيقة ، وسبع عشرة
ثانية.
وتنقسم منطقة
البروج بهذه النقاط الأربع أرباعا ، قطع الشمس الكلي منها أحد الفصول الأربعة ،
ولها صغار كالأولى تسمى بمدارات العرض.
وتظهر هذه الحركة
البطيئة في أوجات الكواكب السبعة ، وحضيضاتها ،
__________________
ولهذا تسمى بحركة
أوج الكوكب ، والحوامل تجري إلى المشرق كلّ يوم لزحل دقيقتان ، وللمشتري خمس دقائق
، وللمرّيخ إحدى وثلاثون دقيقة ، وللشمس تسع وخمسون دقيقة وثمان ثوان ، وللزهرة
مثل ذلك ، ومقدار حركة الأوج لعطارد بقدر ضعف ما للشمس ، وللقمر أربعة وعشرون جزء
، وثلاث وعشرون دقيقة.
ولكلّ قطبان
ومنطقة تخصّه ، إلّا أن منطقة حامل الشمس في سطح منطقة البروج ، كمنطقة ممثّله ،
ومنطقة سائر الحوامل مائلة عنها ، إمّا ميلا ثابتا ، كما في العلوية والقمر ، أو
غير ثابت ، كما في الزهرة وعطارد ، وذلك الميل لزحل جزءان ونصف ، وللمشتري جزء ونصف
، وللمرّيخ جزء واحد ، وللزهرة سدس جزء ، ولعطارد ثلاثة أرباع جزء ، وللقمر خمسة
أجزاء.
وموضعا تقاطع
منطقتي الممثّل والحامل تسمّيان بالعقدتين ، والجوزهرتين والرأس والذنب لذلك
الكوكب ، ويرتسم في الفلك الكلي عند توهّم قطع الحامل له دائرة عظيمة ، مركزها
مركز العالم ، تسمى بمائل ذلك الكوكب ، وبعد الرأس عن الأوج لزحل ثمانية وعشرون
جزء ، وللمشتري سبعون ، وللبواقي ربع الدور ، وهو في غير عطارد متقدّم على الأوج ،
وفيه متأخّر عنه.
وتظهر حركات
الحوامل في مراكز التداوير والشمس ، ولهذا تسمى بحركة مركز الكوكب ، والمركّبة من
حركة الأوج والمركز تسمّى بحركة الوسط ، وحركة أعالي التداوير في المتحيّرة نحو
المشرق والأسافل نحو المغرب ، وفي القمر بعكس ذلك ، وهي في العلوية بقدر فضل حركة
وسط الشمس على وسط كلّ واحد منها.
وفي الزهرة كلّ
يوم بليلته ، سبع وثلاثون دقيقة ، وفي عطارد ثلاثة أجزاء وستّ دقائق، وفي القمر
ثلاثة عشر جزء وأربع دقائق.
ومناطقها غير
ثابتة في سطح حواملها ، وإنما الثابتة فيها مراكزها ، وحركة مدير عطارد إلى المغرب
نصف حركة حامله إلى المشرق ، فهي مثل حركة مركز الشمس الوسطى على قطبين ومنطقة
مخصوصة به.
وتظهر هذه الحركة
في أوج الحامل وحضيضه ، ويتوهّم بسببها المركز الحامل مدار حول مركز المدير يسمّى
الفلك الحامل لمركز الحامل.
وحركة جوزهر القمر
إلى المغرب كلّ يوم بليلة ثلاث دقائق وكسر على قطبي البروج ، ومنطقة في سطح
منطقتها ، وبها تتحرك جميع أفلاك القمر ، فتنتقل بها العقدتان ، ولهذا تسمى بحركة
الجوزهرين ، ويسمى الفلك بفلك الجوزهر.
فهذه الحركة في
الحقيقة للفلك الكلي ؛ لما دريت أن التبعية في الحركة لا تستقيم إلّا بالجزئية ،
فالمسمى بالجوزهر إنّما هو بمنزلة المتمّم ، غير أنه متوازي السطحين ، وهذه الحركة
مركبة في الحقيقة ، أعني أنها فضل حركة الجوزهر على الحركة البطيئة الّتي له
بتبعية الثوابت ، إلّا أنها ترى حركة واحدة بسيطة ؛ لاتّحاد موضعيهما من جميع
الوجوه ، ولهذا لم يحصل الجزم بالحركة البطيئة لممثّل القمر ؛ لأنها غير محسوسة
فيه.
وحركة مائل القمر
نحو المغرب كلّ يوم إحدى عشر جزء وتسع دقائق ، ومنطقتها مع منطقة حامله في سطح
واحد ، وبها يتحرك الحامل أيضا ؛ ولهذا تسمى بحركة الأوج.
فصل
حركة كلّ فلك
متشابهة حول مركزه ، إلّا الحوامل في غير الشمس ، فحامل القمر يتشابه حول مركز
العالم ، وحامل عطارد حول نقطة في منتصف ما بين مركزي العالم ، والمدير الّذي هو
ستّة أجزاء وعشرون دقيقة ، على القطر المارّ بهما ، وحامل البواقي حول نقطة على
القطر المارّ بمراكزها.
ومركز العالم في
جانب الأوج على بعد مساو لما بين المركزين ، وذلك لزحل ثلاثة أجزاء وربع وسدس جزء
، وللمشتري جزءان وثلاثة أرباع جزء ، وللمرّيخ ستة أجزاء ، وللزهرة قريب من نصف ما
بين مركزي الشمس الّذي هو جزءان ، وخمس دقائق ، وجميع ذلك بحسب ما يكون نصف قطر
حامل ذلك الكوكب ستّين جزء ، عرف ذلك بالرصد ، وتسمى تلك النقطة مركز معدّل المسير
؛ لأنّه يتوهّم حولها دائرة بقدر منطقة الحامل ، وفي سطحها فلك معدّل المسير ،
فإنّ مركز التدوير مقطع من محيطه في أزمنة متساوية قسيّا متساوية ، كأنّ خطّا خرج
من مركز معدّل المسير إلى مركز التدوير ليديره حركة متشابهة حوله ، وهذا من
الإشكالات الّتي أشرنا إليها ، وإلى أنها لم تنحلّ على أصول القدماء.
وفي الكواكب الستّ
إشكال آخر ، وهو : أن القطر المار بالذروة والحضيض في تداويرها ليس في سطوح مناطق
حواملها إلّا عند كون مركز التدوير في العقدتين في العلوية ، وفي الأوج والحضيض في
السفليين ، والقمر إمّا غير ذلك الوقت ، فيحاذي نقطة أخرى ، مع أن الحامل إذا حرّك
التدوير حركة بسيطة متشابهة وجب كون قطر التدوير المذكور محاذيا لمركزه في جميع
الأحوال ، كما أنه
يجب تساوي أبعاد مركزه عن مركزه في جميع الأحوال ، وتساوي الزوايا الحادثة بحركته
حول مركز الحامل في الأزمنة المتساوية.
وفي السفليين
إشكالان آخران :
أحدهما : عدم ثبات
ميل منطقة حاملهما عن الممثّل ، بل يقرب منها تارة ، ويبعد عنها أخرى ، ويستلزم
ذلك عدم إتمام الدورة لهما ، ومثل هذا الإشكال وارد في منطقتي المعدل والبروج ؛
لأنهم وجدوا الميل الكلي في الأزمنة المختلفة مختلفا.
والثاني : عدم
ثبات قطر تدويرهما المار بالبعدين الأوسطين المقاطع للقطر الأوّل ، على قوائم في
سطح حاملهما ، مع وجوب ذلك.
وقد حلّ بعض هذه
الإشكالات جماعة من المتأخّرين ، شكر الله سعيهم ، بوجوه مبسوطة من أرادها فليطلب
من كتبهم المصنّفة في ذلك.
وللسبعة تعديلات
تقتضيها اختلافاتها الّتي توجبها حركات الحوامل والتداوير ، طوينا ذكرها اقتصارا
على المهمّات ، واكتفاء عما هو من قبيل المتفرّعات على الأصول الهاديات ، فسبحان
من أمسك السماوات من أن تمور في خرق الهواء بائدة ، وأمرها أن تقف مستسلمة لأمره ،
وجعل شمسها آية مبصرة لنهارها ، وقمرها آية ممحوّة من ليلها ، وأجراهما من مناقل
مجراهما ، وقدّر مسيرهما في مدارج درجهما ، ليميّز بين الليل والنهار بهما ،
وليعلم عدد السنين والحساب ، بمقاديرهما ، ثمّ علّق في جوّها فلكا ، وناط بها
زينتها من خفيّات دراريها ، ومصابيح كواكبها ، ورمى مسترقي الشمس بثواقب شهبها
وأجراها على إذلال تسخيرها من ثبات ثابتها ، وسير سائرها ، وهبوطها وصعودها ،
ونحوسها وسعودها.
وصل
ما قرّرناه في
بيان جهات حركات الأفلاك هو المشهور بين أصحاب هذا الفنّ ، والمذكور في كتبهم
المدونة في ذلك.
وأمّا إخوان الصفا
ـ قدّس الله أسرارهم ـ فقد ذكروا في رسائلهم ما حاصله : إنّ الأفلاك كلّها
إنّما تتحرك من المشرق إلى المغرب ؛ لأنّ طبيعة الأفلاك والكواكب كلّها طبيعة
واحدة في الحركة الدورية ، وقصدها قصد واحد ، وإنما اختلفت حركاتها في السرعة
والإبطاء ، من أجل أنها في أفلاك متحركات ، ومحرّكات ، فإنّ الفلك المحيط الّذي هو
المحرّك الأوّل عن الحركة الأولى الّتي هي من النفوس الكلية يدور حول الأرض في كلّ
أربعة وعشرين ساعة دورة واحدة ، والفلك المكوكب الّذي في جوفه مماسّا له من داخله
يدور معه نحو الجهة الّتي يدور إليها ، ولكن تقصر حركته عن سرعة حركة محرّكه بشيء
يسير ، فيتخلّف عن موازاة أجزائه في كلّ مائة سنة درجة واحدة ، ويتبعه فلك زحل
الذي في جوفه مماسّا له ، ولكن تقصر أيضا حركته عن سرعة محرّكه بشيء
__________________
يسير ، فيتخلّف في
كلّ يوم عن موازاة أجزاء المحيط دقيقتين.
وهكذا حكم كلّ فلك
فلك ، إلى أن ينتهي إلى فلك القمر الّذي هو أبطأ حركة من أجل بعده عن الحركة
الأولى الّتي هي لفلك المحيط ، لكثرة المتوسّطات بينهما ، وبهذا السبب صار دوران
الأكر حول الأرض مختلف الزمان.
فصل
البعد بين
الخافقين يسمى بالطول ، والعظيمة المنصفة له بدائرة نصف النهار ، والفصل المشترك
بينها وبين سطح الأرض بخطّه.
والبعد بين الشمال
والجنوب يسمى بالعرض ، والمنصّفة له بدائرة المشرق والمغرب ، والفصل المشترك بينها
وبين سطح الأرض بخطّهما.
والبعد بين سمتي
الرأس والقدم هو السمك ، والمنصّفة له دائرة الأفق ، وقطبا كلّ من الدوائر الثلاث
طرفا البعد المنتصف بها ، وتمر الأولى بقطبي المعدّل والثالثة ، وبالعكس ،
والثانية بقطبي الأولى والثالثة ، وبالعكس ، والعظيمة المارّة بقطبي المعدّل وجزء
من فلك البروج ، أو مركز كوكب يسمى بدائرة الميل ، وبها يعرف ميل منطقة البروج.
وبعد الكوكب عن
المعدّل والمارّة بقطبي البروج وجزء منها أو مركز كوكب تسمى بدائرة العرض ، وبها
يعرف عرض الكوكب عنها ، وميل الشمس عن المعدّل والأقسام الحاصلة في الفلك الأعظم
من تقاطع ستّ عرضيّات إحداها تمرّ بالأقطاب الأربعة ، والرابعة بالاعتدالين،
والبواقي بينها هي البروج
الاثنا عشر
المشهورة ، المشار إليها بقوله سبحانه : (وَالسَّماءِ ذاتِ
الْبُرُوجِ) .
وأسماؤها المشهورة
مأخوذة من صور توهّمت من كواكب وقعت وقت التسمية بحذائها من الثوابت ، كما أشرنا
إليه ، فإذا انتقل عن محاذاتها فللمسمّين أن يسمّوها بغيرها ، وأجزاؤها تسمى برجا
، وكلّ برج ثلاثون درجة في العرض ، وفي الطول من القطب إلى القطب ، والدائرتان
الحادثتان على سطح الأرض من تقاطع المعدّل والأفق على قوائم يقسمانها أرباعا ،
والمعمور أحد الربعين الشماليين كما عرف بالرصد ، وينقسم بسبعة من المدارات إلى
سبع قطاع مستطيلة متفاوتة في النهار ، الأطول بنصف ساعة ، وهو تفاوتها في العرض ،
وأطوالها ما بين الخافقين ، وهي الأقاليم ، وابتداؤها في العرض عند الجمهور حيث
النهار الأطول اثنتا عشرة ساعة ، وهو الفصل المشترك بين المعدّل وسطح الأرض ،
وتسمى بخط الاستواء ، وفي الطول عند قوم بداية العمارة في المغرب ، وكانت جزائر
منسوبة إلى الخالدات وهي الآن غير معمورة.
وعند آخرين ساحل
البحر الغربي ، وبينهما عشر درجات من دور المعدّل ، وعرض كلّ بلد عبارة عن أقصر
قوس من دائرة نصف نهاره ، بين المعدّل وقطب الأفق ، أو بالعكس ، وطوله ما وقع من
المعدّل بين نصف نهاره ونصف نهار جزائر الخالدات ، من فوق.
__________________
فصل
إن وقع قطبا دائرة
الأفق في المعدّل ماسّت قطبيه لا محالة ، ونصّفت كلّ مداراته على قوائم ، فيتساوى
الليل والنهار تقريبا ، أبدا إلّا نادرا ، ويسمى الدور دولابيّا ، وذلك إنّما يكون
في خطّ الاستواء ، ولكلّ نقطة فيه طلوع وغروب ، إلّا قطبي العالم.
والهواء هناك في
غاية الاعتدال ، والشمس تسامت رؤوس سكانه في الاعتدالين ، فيعدم الظلّ ، ويبعد
غاية البعد في الانقلابين ، فيكون جنوبيا تارة ، وشماليا أخرى.
وفصولهم ثمانية ،
وإن انطبق قطباها على قطبيه انطبقت عليه ، وكانت السنة يوما وليلة ، ويسمى الدور
دحويّا ؛ وذلك إنما يكون في عرض تسعين درجة ، وغاية ارتفاع الشمس هناك بقدر الميل
الكلي ، ولا طلوع ، ولا غروب ، إلّا بالحركة الخاصة ، وإن مال قطباها عنه شمالا
وجنوبا نصفته وحده ، وارتفع أحد قطبيه وانحطّ الآخر بقدر الميل ، ويسمى الدور
حمايليا ، وماسّت من المدارات اثنين ، فوقانيا ، وتحتانيا ، بعدهما عن القطبين
كبعدهما عنها منحطّا نصفها عن المتوسطة بين الفوقاني وقطبه ، فتكون أبدية الظهور ،
ومرتفعا عن نظائرها ، فتكون أبدية الخفاء ، قاطعة للبواقي بمختلفين يختلف بهما
الليل والنهار ، إلّا نادرا ، فإن نقص عرضهم عن الميل الكلي سامتتهم الشمس في
السنة مرتين عند نقطتين ، ميلهما عن المعدّل كعرضهم ، فيعدم ظلهم حينئذ.
وفصول الأقربين
منهم إلى خط الاستواء ثمانية أيضا ، وغيرهم أربعة ، وإن ساواه سامتتهم مرة في
الانقلاب الصيفي ، ويكون أحد قطبي البروج أبدي
الظهور ، والآخر
أبدي الخفاء ، ويماسّان الأفق في الدورة مرّة ، وإن زاد عليه ونقص عن تمامه كان
أعلى ارتفاعات الشمس بقدره وتمام عرض البلد وأسفلها بقدر نقصانه عنه ، وظلّهم
شماليا أبدا ، وإن ساوى تمامه كان غاية ارتفاع الشمس بقدر ضعفه ، وسامت قطب البروج
رؤوسهم في الدورة مرة ، فتنطبق منطقة البروج على أفقهم ، ثمّ يرتفع نصفها عنه دفعة
بميله عنه ، وينحط الآخر كذلك ، ثمّ يطلع الغارب ويغرب الطالع تدريجا ، ويتزايد
النهار إلى أن يساوي الدورة ، والليل كذلك ، وبهذا تنتهي العمارة ، وإن زاد عليه
ولم يبلغ تسعين فيميل قطب البروج إلى جنوب سمت الرأس بقدر تلك الزيادة ، ولا يغرب
من منطقة البروج ما يزيد ميله الشمالي على تمام العرض ، ولا يطلع ما يزيد ميله
الجنوبي عليه ، فتنقسم منطقة البروج أربعة أقسام ، فما منتصفه منقلب القطب الظاهري
أبدي الظهور ، وما منتصفه منقلب القطب الخفي أبدي الخفاء ، وما منتصفه الاعتدال
الربيعي يطلع منكوسا ، ويغرب مستويا ، وما منتصفه الاعتدال الخريفي بالعكس.
فصل
أنظر إلى عناية
الله سبحانه ، وجوده ، ورحمته ، في كيفية خلق السماوات والأرض ، وحركاتها ،
وأوضاعها ، حيث جعلها كما ترى وكما ينبغي ، فإنه لو كانت كلّها نيّرات لأفسدت
بإحراقها موادّ الكائنات ، ولم تكن محلّ سكنى الحيوانات ، كما أشار إليه بقوله
سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا
تُبْصِرُونَ) .
ولو كانت بالكلية
عرية عن النور لبقي ما دون الفلك في وحشة شديدة ، وليل مظلم، لا أوحش منه ، كما
نبّه عليه بقوله عزوجل : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ
إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ
إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ) ، قال : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ
جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
ولو ثبتت أنوار
السماوات ، أو لازمت دائرة واحدة ، لأثّرت بإفراط فيما قابلها ، وتفريط فيما وراء
ذلك ، ولو لم يكن لها حركة سريعة لفعلت ما يفعله السكون واللزوم ، ولو لم يجعل الأنوار
الكوكبية ذات حركتين : سريعة مشتركة ، وبطيئة مختصّة ، ولم يجعل دوائر الحركات
البطيئة مائلة عن دائرة الحركة السريعة ، لما مالت إلى النواحي شمالا وجنوبا.
ولو لا أنّ حركة
الشمس على هذا المنوال من تخالف سمتها لسمت الحركة السريعة لما حصلت الفصول
الأربعة الّتي بها يتم الكون والفساد ، وتنصلح أمزجة البقاع والبلاد.
ولمّا كان القمر
نائبا عن الشمس ، خليفة لها في التسخين والتحليل ؛ إذ كان قوي النور ، جعل مجراه
يخالف مجراها ، فالشمس تكون في الشتاء جنوبية ، والقمر شماليا ؛ لئلّا ينفقد
السببان ، وفي الصيف بعكس ذلك ؛ لئلّا يجتمع المسخّنان.
__________________
ولمّا كانت الشمس
شمالية الحركة صيفا ، جنوبيّتها شتاء جعل أوجها في الشمال ، وحضيضها في الجنوب ،
لينجبر قرب الميل ببعد المسافة ؛ لئلّا تشتدّ الإضاءة والتنوير ، وينكسر بعده
بقربها ؛ لئلّا تضعف القوّة المسخّنة عن التأثير.
فسبحان الله رب
السماوات السبع ، وربّ الأرضين السبع ، وما فيهنّ ، وما بينهنّ ، وربّ العرش
العظيم ، خلق السماوات موطدات بلا عمد ، وقائمات بلا سند ، دعاهنّ فأجبن طائعات ،
مذعنات ، غير متلكّئات ، ولا مبطئات.
ولو لا إقرارهنّ
له بالربوبية وإذعانهنّ بالطواعية لما جعلهنّ موضعا لعرشه ، ولا مسكنا لملائكته ،
ولا مصعدا للكلم الطيّب والعمل الصالح من خلقه ، فجعل نجومها أعلاما يستدل بها
الحيران في مختلف فجاج الأقطار ، لم تمنع ضوء نورها إدلهمام سجف الليل المظلم ،
ولا استطاعت جلابيب سواد الحنادس أن ترد ما شاع في السماوات من تلألأ نور القمر ،
فسبحانه سبحانه ، ما أعظم شأنه ، وأبهر برهانه.
فصل
روى في الكافي ،
بإسناده عن الأصبغ بن نباتة ، قال : قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «إن للشمس ثلاثمائة وستين برجا ، كلّ برج منها مثل جزيرة
من جزائر العرب ، فتنزل كلّ يوم على برج منها ، فإذا غابت انتهت إلى حد بطنان
العرش ، فلم تزل ساجدة إلى الغد ثمّ ترد إلى موضع مطلعها ومعها ملكان يهتفان معها
، وإن وجهها لأهل السماء ، وقفاها لأهل الأرض ، ولو كان وجهها لأهل الأرض لاحترقت
الأرض ومن عليها من شدة حرّها ، ومعنى سجودها ما قال تعالى : (أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
وَالنُّجُومُ
وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) » .
أقول : وسنذكر في
هذا الكتاب تفصيل معنى السجود لجميع الموجودات مشروحا إن شاء الله.
__________________
في مقادير الأجرام والأبعاد
(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ
خَلْقِ النَّاسِ
وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)
تمهيد :
لاستعلام مقادير
الأجرام والأبعاد ، بالفراسخ والذرعان ، طرق ومسالك ، وقد تصدّى له جماعة من
المتقدمين ، وطائفة من المتأخرين ، فحصّلوها وضبطوها بالقوانين المضبوطة الحسابية
، والبراهين القاطعة الهندسية ، مع دقة نظرهم ، وفرط إمعانهم ، وعلوّ منزلتهم ،
ومع ذلك لم يهتدوا إلّا إلى أمور تقريبية ، وأحكام تخمينية ، يلوح منها على
الإجمال جلال مبدعها ، وفاطرها ؛ وذلك لرفعة شأن الأجرام العظام السماوية ، وعلوّ
مكانها ، وعجز نوع البشر ، وضعف بنيتهم بالإضافة إليها ، ومن رام أمثال هذه الأمور
على ما عليه الحقيقة ، فقد طمع في غير مطمع ، وتكلف ما لا يعنيه ، وهل هو في ذلك
إلّا (كَباسِطِ كَفَّيْهِ
إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ) ، بل المرجع في الكلّ إلى الاعتراف بالعجز والقصور ، وكلمة
علمها إلى مبدعها الخبير.
__________________
ونحن نشير إلى طرف
من تلك الطرق إشارة إجمالية على وجه كلي ، لكي تعرف جملة كيفية السبيل الممكن إلى
ذلك ، ثمّ نذكر ما وجدوه وحصّلوه في كلّ فرد فرد على سبيل الحكاية ، من دون حسابات
جزئية ، لخصوص الأفراد ؛ لئلّا نخرج عن الغرض من وضع الكتاب ، وسياقته ، فإنّ كمال
النفس في معرفة الأصول والكليات ، دون تفريع الجزئيات ، وهكذا دأبنا ، وعليه عملنا
في هذه السياقة ، ولله الحمد.
وصل
إذا سار سائر على
خطّ نصف النهار على أرض مستوية ، لازما في مسيره للخطّ بأن ينصب علائم يكون النظر
من كلّ إلى ثانيها ، بحيث تستر ثالثها بقدر ما يزيد جزء واحد في عرض البلد ، أو
ينقص ، فالقدر الّذي قطعه يكون حصّة درجة واحدة من الدائرة العظيمة الّتي تقع على
الأرض ؛ وذلك لموازاة الدوائر العظام الأرضية للعظام الفلكية ، فإذا قدر ذلك
بالفراسخ وضرب عددها في ثلاثمائة وستين حصل مقدار محيط الدائرة العظمى من الأرض.
وقد تبيّن في
مساحة الدوائر والأكوان محيط كلّ دائرة ثلاثة أمثال قطرها ، وسبع قطرها ، بالتقريب
، فإذا قسّمت فراسخ المحيط على ثلاثة وسبع حصل مقدار قطرها ، فنصفه نصف القطر ،
وهو المقدار الّذي تقدر به الأبعاد ، كما أن جرم الأرض يقدر به الأجرام.
وقد تبيّن أن
السطح الّذي يحيط به قطر الكرة في محيط أعظم دائرة تقع فيها مساو للسطح المحيط
بالكرة ، فعلى ذلك التقدير إذا ضرب القطر في محيط الدائرة العظمى حصل تكسير كرة
الأرض ، ومن طريق آخر يؤخذ ذلك من
كسوف الشمس ،
فينظر كم ما بين مدينة ومدينة من الفراسخ ، وكم بينهما من ساعة ، فتقسم الفراسخ
على أجزاء الساعة ، فيعرف به المحيط ، وبالمحيط القطر ، والتكسير على القياس
المذكور.
فصل
إذا أخذ مقدار
ارتفاع كوكب ، له اختلاف منظر ، كالقمر ، بأن فرضت عظيمة تمرّ بمركزه وقطبي الأفق
، واستعلم مقدار القوس الّتي منها بين الأفق والكوكب بأجزاء تلك الدائرة بآلات
وضعت لذلك ، كالاسطرلاب وغيره ، وهو ارتفاعه المرئي ، ثمّ استعلم ارتفاعه الحقيقي
لذلك الوقت في تلك البقعة بتلك الأجزاء ، بالحساب ، وأخذ التفاوت ، حصل ـ لا محالة
ـ مثلّث إحدى زواياه اختلاف المنظر ، وهي الّتي عندها موضع القمر ، والثانية تمام
الارتفاع الحقيقي ، وهي الّتي عندها مركز الأرض ، والثالثة هي الّتي عندها موضع
الناظر.
والأوليان
معلومتان ؛ لمعلومية وتريهما ، فإذا فرض الضلع الّذي هو نصف قطر الأرض واحدا صارت
زاويتان ، وضلع معلومة ، وأمكن حينئذ معرفة الزاوية الباقية ، ومقدار الضلعين
الباقيين ، أي الخارجين من مركز العالم ، وموضع الناظر إلى مركز الكوكب ؛ لما ثبت
في الهندسة أنه إذا كانت مقادير زاويتين وضلع من مثلّث مستقيم الأضلاع معلومة ،
كانت مقادير أضلاعه الباقية وزواياه معلومة.
وبيانه هاهنا : أن
زوايا كلّ مثلث تساوي قائمتين ، ومقدار القائمتين على المركز نصف المحيط ؛ لأنّ
مجموعه موزّع على أربع قوائم ، فإذا جمع قوسا الزاويتين المعلومتين كان الباقي إلى
نصف الدور مقدار الزاوية الباقية ، ونسب
أضلاع المثلث بعضها
إلى بعض كنسب جيوب الزوايا الّتي موترها تلك الأضلاع على التناظر ، أي جيوب قسيها
، فهذه أربعة متناسبة ، جهل منها واحد ، فيمكن استعلامه على القاعدة ، الّتي بها
يستخرج ذلك.
وبعد الكواكب عن
مركز العالم بأجزاء دائرة مائلة ، الّتي يدور عليها ستّون جزء ؛ إذ هو نصف قطر تلك
الدائرة المقسومة بثلاثمائة وستين.
وإذا عرف مقدار
واحد بتقديرين أمكن أن يحوّل كلّ ما يقدر بواحد من ذينك التقديرين إلى التقدير
الآخر ؛ لكون الجميع على نسبتهما ، فبهذا يعرف بعد القمر عن الأرض.
فصل
إذا رصد خسوفان
جزئيان للقمر مختلفان في القدر ؛ لاختلاف العرض ، ويكون ازدياد الانخساف ـ لا
محالة ـ بحسب انتقاص العرض ، فإذا أخذ الفضل بين العرضين بالحساب ، عرف مقدار
التفاوت بين القدرين ، والقدران معلومان بالإضافة إلى تمام الجرم ، بإحدى النسب
الكسرية ، فبذلك يعرف قدر بقية الجرم.
وبمثل هذا يعرف
قطر دائرة الظلّ ، مع وجدان حفظ النسبة في الخسوفات المتعدّدة في الأبعاد المختلفة
؛ وذلك لأنّ دائرة الظلّ تابعة لصفحة القمر في القرب والبعد ، فيعرض لكلّ منهما
بحسب اختلاف الأبعاد ، مثل ما يعرض للآخر من الصغر والكبر ، فتبقى تلك النسبة
بحالها ، وبمعرفة بعد القمر الأبعد ، وقطره قطر دائرة الظل ، يتوصل إلى معرفة
مقدار بعد الشمس الأوسط ، وبعد رأس
مخروط ظل الأرض عن
مركز العالم ، ومقدار قطر القمر بما به نصف قطر الأرض واحد.
وبعضهم لما وجد
بآلة الرصد قطر الشمس في أكثر الأحوال مساويا في النظر لقطر القمر في البعد الأبعد
، حكم بأن قطرها في بعدها الأوسط مساو بحسب الحسّ لقطره في البعد الأبعد ، فلم
يثبت لجرمها في أبعادها تفاوتا يعتدّ به.
وآخرون لما وجدوا
كسوفات بقي فيها من الشمس حلقة نورانية ، وكسوفات تامة ، ماكثة زمانا صالحا ،
أثبتوا لجرمها التفاوت الحسّي ، بحسب أبعادها.
فصل
ثبت في علم
المناظر أن كلّ جرمين متساويين في الرؤية ، ومختلفين في البعد ، يكون نسبة أقربهما
إلى أبعدهما في مقدار قطر الجرم ، كنسبة بعد الأقرب إلى بعد الأبعد ، ولذلك تكون
نسبة نصف قطر القمر إلى نصف قطر الشمس كنسبة بعد القمر عن الأرض إلى بعد الشمس
عنها ، فيكون نصف قطر الشمس أيضا معلوما ، على أنّ نصف قطر الأرض واحد.
وقد تبيّن في
الهندسة أن نسبة الكرة إلى الكرة تكون كنسبة مكعّب القطر إلى مكعّب القطر ، فإذا
ضربت هذه المقادير في أنفسها مرّتين فتصير مكعّبة ، علم نسبة جرم الشمس إلى جرم
الأرض.
وصل
ويعرف من بعد
الشمس الأوسط بعداها الآخران ، فإنّ تباعدها عنه فيهما بقدر ما بين مركزيها ، ولما
لم يكن بين أفلاك الكواكب خلاء ، ولا جرم معلوم ، غير أفلاكها ، جعل البعد الأبعد
لكلّ كوكب البعد الأقرب للكوكب الّذي فوقه ، لتكون الأبعاد المأخوذة هي الّتي لا
يمكن أن تكون أقل منها ، فيكون البعد الأقرب للشمس البعد الأبعد للزهرة ، وبتفاوت
ما بين مركزيه يعرف بعداه الآخران.
وعلى هذا القياس
أبعاد عطارد ، مع أن بعده الأقرب بهذا الحساب موافق لبعد القمر الأبعد بالحساب
الأوّل ، ولما وجد بين فلكي النيّرين بعد ، حكم بأن فلكي السفليين بينهما؛ إذ لا
وجه لتعطيل البعد بين الأفلاك.
وبمثل هذا من أخذ
تفاوت ما بين المركزين بالحساب تعرف أبعاد الكواكب الأخر.
وأمّا أجرامها
فتؤخذ أقطارها الحسّية في أبعادها الأواسط بالرصد ، وتنسب إلى قطر الشمس في بعدها
الأوسط ، ونسبة البعد إلى البعد كنسبة القطر إلى القطر ، على القياس السابق ،
وبتكعيب القطر يعرف مقدار الجرم ، كما مرّ ، ولم يلتفتوا في معرفة الأبعاد إلى
أنصاف أقطار الكواكب ، ولا إلى ما ليس له قدر معلوم عندنا ، كثخن جوزهر القمر ،
إلى غير ذلك من المساهلات ؛ لخروج معرفة ذلك عن وسعهم ، وكون التدقيق في مثله
تطويلا من غير طائل ؛ ولهذا صار أكثر هذه الأحكام تقريبية.
ولنتكلم الآن في
تفاصيل المقادير ، على ما وجدوه بالفراسخ ، على أن كلّ فرسخ ثلاثة أميال ، كلّ ميل
أربعة آلاف ذراع ، كلّ ذراع أربعة وعشرون إصبعا ، كلّ إصبع مقدار ستّ شعيرات ، كلّ
شعيرة قدر ستّ شعرات من عرف الفرس ، فاسمع.
فصل
نصف قطر الأرض ألف
ومائتان وثلاثة وسبعون فرسخا ، بالتقريب ، وقس عليه دورها ، وتكسيرها ، والمعمور
منها.
ونصف قطر عالم
الكون والفساد ـ أعني من مركز الأرض إلى مقعّر فلك القمر ـ إثنان وأربعون ألفا
وسبعمائة وتسعة فراسخ.
ونصف قطر تدوير
القمر بخمسة أمثال نصف قطر الأرض ، وسدس مثله.
وأبعد بعد القمر
عن مركز العالم ، وهو عند كونه في الذروة والتدوير في الأوج ، أربعة وستّون مثلا
لنصف قطر الأرض ، وسدس مثله ، وأقرب بعده ، وهو كونه في حضيض التدوير ، والتدوير
في الحضيض ، ثلاثة وثلاثون مثلا ونصف مثل تقريبا ، ولوسط بعده الكائن بين هذين هو
نصف مجموعهما والأرض تسعة وثلاثون مثلا وربع مثل القمر.
ونصف قطر تدوير
عطارد اثنان وعشرون جزء ونصف جزء ، على أن يكون نصف قطر الحامل ستين جزء ، وبعده
الأبعد مائة وأربعة وسبعون مثلا لنصف قطر الأرض ، وهو البعد الأقرب للزهرة ، كما
أن البعد الأبعد للقمر هو البعد الأقرب لعطارد ، وبعد عطارد الأوسط الكائن بين
بعديه هو نصف مجموعهما ،
وأبعد بعد الزهرة
ألف ومائة وستون مثلا له ، وهو البعد الأقرب للشمس ، وبعدها الأبعد ألف ومائتان
وستون مثلا له بالتقريب. والأوسط يعرف بالقياس.
وبعد رأس مخروط
الظل مائتان وثمانية وستون مثلا له.
وجرم الأرض مثل
جرم عطارد اثنين وعشرين ألف مرّة ، ومثل جرم الزهرة ستة وثلاثين مرة بالتقريب ،
وجرم الشمس مساو لمائة وستة وستين مثلا ، وربع وثمن مثل جرم الأرض ، ونصف قطر
التدوير للزهرة ثلاثة وأربعون جزء وسدس جزء ، وللمرّيخ تسعة وثلاثون جزء ونصف جزء
، وللمشتري أحد عشر جزء ونصف جزء ، ولزحل ستة أجزاء ونصف جزء. كلّ ذلك بحسب ما
يكون نصف قطر الحامل ستّين جزء.
وبعد المرّيخ
الأبعد ثمانية آلاف وثمانية وعشرون مثلا لنصف قطر الأرض ، وبعده الأقرب هو الأبعد
للشمس ، والأوسط نصف مجموعهما ، وجرم المرّيخ مثل جرم الأرض مرة ونصف مرة تقريبا.
وثخن فلك المرّيخ
سبعة آلاف وخمسائة وستون مثلا لنصف قطر الأرض.
وقطر كرة الشمس
ألفان وخمسمائة وعشرون مثلا له ، فثخن فلك المرّيخ ثلاثة أمثال غلظ فلك الشمس ، مع
ما فيه من الأفلاك والعناصر.
وممّا يستغرب في
هذا المقام كون المرّيخ في مقابلته للشمس على بعد ستة بروج أقرب إليها منه في
الاحتراق مجتمعا معها في دقيقة واحدة ؛ وذلك لعظم تدويره ، وغلظ فلكه.
والبعد الأبعد
للمشتري أربعة عشر ألفا ومائتان وتسعة وخمسون مثلا لنصف قطر الأرض ، وبعده الأقرب
هو الأبعد للمريخ ، والأوسط بالقياس ، وجرم
المشتري مثل جرم
الأرض اثنين وثمانين مرة وربع بالتقريب.
وبعد الأبعد لزحل
تسعة عشر ألفا وتسعمائة وثلاثة وستون مثلا لنصف قطر الأر ، وبعده الأقرب هو الأبعد
للمشتري ، والأوسط بالقياس ، وجرم زحل مثل الأرض سبعا وسبعين مرة بالتقريب.
وأكبر الثوابت
ثمانية وتسعون مثلا وسدس مثل الأرض ، وأصغرها عشرة أمثالها وثلث مثلها ، فأعظم هذه
الأجرام الشمس ، ثمّ كواكب القدر الأوّل من الثوابت ، ثمّ المشتري ، ثمّ زحل ، ثمّ
باقي الكواكب الثابتة ، ثمّ المرّيخ ، ثمّ الأرض ، ثمّ الزهرة ، ثمّ القمر ، ثمّ
عطارد.
ومنتهى الأبعاد
المعلومة المقادير وهو بعد الثوابت عن مركز الأرض خمسة وعشرون ألف ألف ، وأربعمائة
واثنا عشر ألف ، وثمانمائة وتسعة وتسعون فرسخا.
وأمّا بعد محدّب
الفلك الأعظم فلا يعلم إلّا الله سبحانه ، فسبحان بديع السماوات والأرض ، ما أعظم
ما نرى من خلقك ، وما أصغر عظيمه في جنب قدرتك ، وما أهول ما نرى من ملكوتك ، وما
أحقر ذلك فيما غاب عنّا من سلطانك ، وما أسبغ نعمك في الدنيا ، وما أصغرها في نعم
الآخرة.
في لمّية حركات الأفلاك
(كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ
الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ
لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ)
فصل
قد دريت أن
للأفلاك نفوسا ناطقة ، ذوات إدراكات كلية ، وأن لها في حركاتها مرادا عقليا ، لا
حسّيا ، فالآن نفتّش عن ذلك ، أهو أمر حاصل ممكن ، أو غير ممكن؟
فنقول : لا جائز
أن تكون أغراضها بالحركة أمرا حاصلا ، وإلّا فما طلبته ؛ لاستحالة تحصيل الحاصل ،
ولا أمرا جزئيا دفعيا ، وإلّا فوقفت إن نالت ، أو يئست ، إن كان ممّا لا ينال ،
ولا أمرا مظنونا ، كطلب مدح ، أو ثناء ، أو صيت ؛ لأنّ المظنون غير دائم ، ولوجوب
حركاتها بإيجاب محرّكها ، واستيجابها لغاياتها ، ولا اهتماما بالعالم السفلي من
الأجسام العنصرية لإيصال نفع إليها ، أو شفيقة عليها ، وإن حصل ذلك على سبيل
التبعية رشحا للخيرات ؛ لما دريت أن المقصود يجب أن يكون أشرف من القاصد ، ولا
يكون لقاصد غرض صحيح في ما دونه ، وما هو أخسّ منه إلّا على وجه الغلط والخطأ ،
والأجسام العنصرية حقيرة
__________________
بالنسبة إلى
الأفلاك ؛ لأنها كائنة فاسدة ، مستحيلة.
ودريت أن جملة
الأرض ـ بما فيها ـ جزء يسير من جرم الشمس الّتي لا نسبة لجرمها إلى فلكها ، فكيف
إلى الفلك الأقصى ، وكلّ ما على الأرض ما دام على الأرض فهو خسيس ناقص.
أولا ترى أن
الإنسان الّذي هو أشرف ما في الأرض أكثره ناقص النفس ، فضلا عن البدن ، وكامل
النفس لا ينال قطّ تمام الكمال ، ولو نال فإنما يناله من حيث اتّصال نفسه بالعالم
الأعلى ، والموضع الشامخ العقلي ، والجواهر السماوية ، قد علمت أنها كاملة تامة ،
إلّا ما رجع إلى أخسّ أعراضها ، وهو الوضع ، فلا يقصد الأشرف الأخس لأجل الأخسّ في
نفسه ، على أن حصول الأوضاع ـ أيضا ـ ليس من كمالات أنفسها ، بل أجرامها ، وهي
كتوابع ورشحات حاصلة من غايات نفسانية ، من باب الكمالات اللائقة بها ؛ وذلك لأنّ
الحركة دائما إنّما تكون لأجل شيء آخر وسيلة إليه ، ولا تكون هي بما هي حركة
منظورا إليها بالقصد الأوّل ، وهذا ظاهر ، ولا ريب لأحد في أن العاقل لا يتردّد في
بيته لمجرّد إخراج الأوضاع من القوّة إلى الفعل.
ثم ما من ناقص
إلّا وفوقه مراتب من الكمال ، وبينه وبين المطلوب الكامل من كلّ الوجوه درجات
جوهرية لا تعدّ ولا تحصى ، فإذا كان له جوهر إدراكيّ متصوّر لما فوقه كيف أقصر
نظره وحصر مطلوبه في اكتساب أخس الأمور وأدونها؟
فليس غرضها ـ إذن
ـ إلّا تحصيل ما هو فوقها من المراتب العقلية ، سيّما وقد تبين أن كلّ سافل فله
عشق إلى العالي ، وفي جبلّته شوق إلى تحصيل ما هو أعلى وأشرف منه.
فكمال النفس إنّما
يتحقّق بصيرورتها جوهرا عقليا بالفعل ، أو أعلى منه ، فيجب أن تكون تصوّراتها
تصوّر أمر شريف من باب الجواهر العقلية ، أو ما هو أعلى منها ، وصورة الجوهر جوهر
أيضا.
فالحاصل لنفوس
السماوات في كلّ حين أمر صوري جوهري ، إمّا إفاضات متتالية متواردة عليها ، ممّا
هو فوقها ، أو تجلّيات وانكشافات لها منه ، بها تقع رجوعات واتّصالات لهذه النفوس
بما فوقها.
وبالجملة : يجب أن
يكون ذلك المطلوب ممّا يمكن أن ينال شيء منه في كلّ حين ، نيلا تدريجيا ، حتّى
تدوم الحركة الموصلة إلى المطلوب التدريجي ، نيلا تدريجيا ، فيكون تصوّر الجمال
سبب العشق ، والعشق سبب الطلب ، أي الإرادة ، والطلب سبب الحركة ، والحركة سبب
حصول المطلوب.
ويجب أن يكون أمرا
صوريا جوهريا ؛ إذ العرض مطلقا لا يكون كمالا لجوهر موجود بالفعل ؛ إذ كمال الشيء
وتمامه أشرف وجودا ، وأوكد حقيقة منه ، وكلّ عرض وجوده أضعف وأخسّ من كلّ جوهر.
فالعقول الّتي هي
فواعل الجواهر السماوية ومبادئها ، ينبغي أن تكون هي المعشوقات ، وغاية الحركات
لنفوس السماوات ؛ لأنّ التفات كلّ شيء في استكماله وطلبه الخير إلى ما هو علّته
ومفيض وجوده ، فيكون التفات كلّ واحدة من النفوس السماوية إلى حقيقتها العقلية
الّتي هي علّتها ، وربّ نوعها ؛ إذ يستحيل أن يكون معشوق الكلّ في حركتها واحدا ،
كما أن العلّة القريبة للكل ليست واحدة من جميع الجهات ، وإن كان مبدع الجميع
ومعشوق الكلّ ذاتا أحدية حقه بسبب كثرة الجهات العقلية والنفسية الّتي هي بالحقيقة
الحجب النورية ، الّتي لو كشفت لأحرقت شدّة ضياء سبحات وجهه ، وقوّة نور جلاله ،
كلّ
ما انتهى إليه
بصره.
فالمطلوب في
الجميع على الوجه الأشمل الأعم ذات واحدة إلهية ، ولهذا اشتركت في مطلق الحركة
الدورية ، والطلب المطلق الكمالي هو الّذي أدار رحاها (بِسْمِ اللهِ مَجْراها وَمُرْساها) .
ولكلّ واحدة معشوق
عقلي متوسّط يخصّها ، ومحرّك نفسي مباشر يحرّكها ، ولهذا اختلفت الحركات والجهات ،
فتكثّرت العقول حسب تكثّر الأجرام الحسّية ، وتحرّك الكرات ، فتكون النفوس هي
الملائكة العملية المحرّكة بطريق المزاولة والفعل ، كتحريك الروح للبدن.
وتلك العقول هي
الملائكة العملية المحرّكة بطريق العشق والشوق ، كتحريك المعلّم للمتعلّم من غير
التفات وتغيّر ؛ لبراءتها عن علائق المواد ، ومباشرة الأجسام ، وقربها في الصفات
من ربّ الأرباب ، جلّ جلاله ، فللأفلاك في كلّ شوق وحركة كمال وجوهر آخر ، ولها
بحسب كلّ كمال جوهري حدث شوق آخر ، وحركة أخرى ، فيكون لها في كلّ آن من الآنات
وصول إلى المفارق المحض ، ورجوع إلى العالم الأعلى ، وكذلك يفيض من ذلك العالم
المفارق في كلّ آن على موادّها صورة جوهرية أخرى.
فهكذا تتالي
الإشراقات ، وتوالي الاتّصالات ، وتنازل الإفاضات ، وتصاعد الكلمات الطيبات ، لا
يزال على الاتصال ، ففي كلّ آن لها بعث وخلق جديد ، ولها في جميع الدهر حدوث واحد
من الله ، وحشر واحد إليه ، وحدة جمعية ، كما قال سبحانه : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا
كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) ، وقال :
__________________
(وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ
الْأَمْرُ كُلُّهُ) .
هكذا حقّق هذا
البحث أستاذنا ـ أدام الله بركاته ـ وتمام الكلام فيه يأتي في مباحث حدوث العالم ، إن شاء
الله.
ولنتكلم الآن في
كيفية صدور جزئيات الحركات لتحصيل الكمالات على ما استفدناه منه ـ سلّمه الله ـ فاستمع
:
فصل
لما ثبت أن النفوس
الفلكية تشتاق إلى كمالات المبادىء العقلية ، وتلك الكمالات ممكنة الحصول لها ؛
لكونها ناطقة ، ذوات إدراكات كلية ، وقد تبيّن أن صور الكائنات على ترتيبها الّذي
هي عليه ثابتة في المبادىء العقلية ، وأنها محيطة بكلّ الموجودات على وجه كلي،
منزّه عن الزمان.
فإذا اشتاقت
النفوس إلى كمالاتها سرت علاقتها الشوقية بتوسّط التصورات الجزئية إلى نفوسها
الحيوانية الّتي هي بمنزلة الخيال فينا ، فانبعث شوق وهمي تابع لإدراك خيالي ،
فحرّك جرمها ، فحدث وضع تستعد به النفس لاستفاضة كمال ما من الكمالات العقلية ،
فإذا أفاض عليها كمال ، وأشرقت عليها هيئة نورية ، حاكت متخيّلتها بصورة جزئية ،
فانبعث شوق آخر جزئي ، فتحرّك حركة أخرى إلى ما لا يتناهى.
وكلما تشخصت
الصورة الكلية الفائضة على النفس الناطقة في متخيّلة
__________________
نفسها الحيوانية
أدركتها ، فإذا أدركتها أدركت ـ لا محالة ـ ما يلزمها من الحوادث أيضا ، وشأن
النفس أن يكون توجّهها إلى بعض العلويات ، واستحضارها إيّاها ، واشتغالها بها ،
يوجب ذهولها عن البعض الآخر ، فكلّ صورة لاحقة تذهلها عن الصورة السابقة ، وما
يلزمها ، فلا يلزم أن تكون صور الكائنات الغير المتناهية حاصلة في النفوس السماوية
دفعة.
فصل
الحق أن نسب
مقادير حركات الأفلاك بعضها إلى بعض ـ باعتبار أزمنة عوداتها ـ نسب عددية ، كما
يؤيده الرصد ، لا صمية ، كما ظنّ.
وعلى هذا فتتكرر
الأوضاع بعد مرور مبلغ من الآلاف الكثيرة ، كما أشير إليه بقوله سبحانه : (وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) ، فيكون بعد كلّ دورة من الأدوار كأنه قيامة عظمى ، وهي
بعد انقضاء يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، وذلك بعد سبع قيامات وسطوية ، كلّ منها
في انقضاء سبعة آلاف سنة ، مدّة أدوار الكواكب السبعة بالاختصاص والاشتراك ، فإنّ
نفوس الأفلاك خزائن الله الجسمانية ، وعقولها خزائنه الروحانية الّتي لا تنفد ،
ولا تبيد ، أزلا وأبدا ، وهي واصلة إلى الأرض على التدريج ، شيئا فشيئا ، يعني
أنها إنما تصل إلى العالم العنصري بواسطة التغيّرات الفلكية ، وتبدّل أوضاعها
واستحالاتها على ما سيأتي بيانه عن قريب. ولمّا استحال الجمع بين الأحوال المتجددة
والتشكّلات المتفاوتة ، قال
__________________
الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ
وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ) ، وقال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
ولا يلزم تكرر
الحوادث في العالم بتكرر الصور الجزئية عند تكرر الأوضاع المعينة على هذا التقدير
، كما توهّمه من ظنّ صمية تلك النسب ؛ هربا من ذلك ، وأخذا بما هو أدل على القدرة
؛ وذلك لأنّ كلّ وضع يقارنه من الأوضاع السفلية والعلوية ، واستعدادات المواد ،
والصور السابقة ، والأحوال اللاحقة ما ليس قبله ذلك ، واعتبر بإلقاء حبّات متساوية
في الماء متعاقبة حيث لم يلزم حركة الماء وتشكيله في النوبة الثانية كحركته
وتشكيله في النوبة الأولى ، مع تساوي الأسباب ؛ لامتزاج أثر السابق باللاحق ، فإذن
يجوز أن تقبل القوّة المتخيّلة الفلكية بسبب ذلك الوضع المماثل للوضع السابق صورة
جزئية غير الصورة الأولى الحاصلة في ذلك الوضع ، فافهم.
فصل
وممّا يشير إلى
تجدد السماويات وترقّياتها في أطوارها وأدوارها لحظة فلحظة إلى أن تفنى في ذات
الله سبحانه ، وتقوم قيامتها ، ويلوّح إلى أن حقائقها عند الله غير الّتي نراها
بأبصارنا.
منها على سبيل
الرمز : ما رواه الشيخ الصدوق محمّد بن علي بن بابويه القمي رحمهالله ، في كتاب التوحيد ، بإسناده عن أبي ذر الغفاري رضى الله
عنه ، قال : «كنت
__________________
آخذا بيد النبي صلىاللهعليهوآله ونحن نتماشى جميعا ، فما زلنا ننظر إلى الشمس حتّى غابت ،
فقلت : يا رسول الله ، أين تغيب؟ قال : في السماء ، ثمّ ترفع من سماء إلى سماء ،
حتّى ترفع إلى السماء السابعة العليا ، حتّى تكون تحت العرش ، فتخرّ ساجدة ، فتسجد
معها الملائكة الموكّلون بها ، ثمّ تقول : يا ربّ من أين تأمرني أن أطلع؟ أمن مغربي
، أم من مطلعي؟ فذلك قوله تعالى : (وَالشَّمْسُ تَجْرِي
لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) ، يعني بذلك صنع الرب العزيز في ملكه [العليم] بخلقه ، قال : فيأتيها جبرئيل بحلّة ضوء من نور العرش على
مقادير ساعات النهار في طوله في الصيف ، أو قصره في الشتاء ، أو ما بين ذلك في
الخريف والربيع ، قال : فتلبس تلك الحلّة كما يلبس أحدكم ثيابه ، ثمّ ينطلق بها في
جوّ السماء حتّى تطلع من مطلعها.
قال النبي صلىاللهعليهوآله : فكأنّي بها قد حبست مقدار ثلاث ليال ، ثمّ لا تكسى ضوء ،
وتؤمر أن تطلع من مغربها ، فذلك قوله عزوجل : (إِذَا الشَّمْسُ
كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) ، والقمر كذلك من مطلعه ومجراه في أفق السماء ، ومغربه ،
وارتفاعه إلى السماء السابعة ، ويسجد تحت العرش ، ثمّ يأتيه جبرئيل بالحلّة من نور
الكرسي ، فذلك قوله عزوجل : (جَعَلَ الشَّمْسَ
ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) » .
__________________
في خلق المركّبات
(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً
أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ)
فصل
إن الله سبحانه
سخّر السماوات والنجوم ونفوسها الناطقة المدبّرة لها ، والملائكة الموكّلين بها
بأمره ، فجعلها في حركاتها المتفنّنة ، وأوضاعها المختلفة ، وعباداتها المتنوعة ،
ذوات أفعال وتأثيرات في الأرضين ، والأجرام السفلية ، تأثيرا على سبيل الرشح ، كما
أشرنا إليه ، وجعل تلك الأجرام السفلية ذوات تأثّر وانفعال منها تشبه تأثّر
النسوان من الذكران من وجه ، لا بمعنى أن السماويات توجد شيئا من الأرضيات ، أو
تفيض عليها صورة ، هيهات ما للجسم المظلم الميت وللجسماني المفتقر إليه والإنارة ،
والإحياء ، والخلق ، والإبداء (ذلِكَ ظَنُّ
الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) ، بل بمعنى أنها تعدّ القوابل الأرضية والمواد السفلية
لفيضان الصور ، والأعراض عليها ، من واهبها الّذي هو الله سبحانه بتوسّط ملائكتة
العقلية ، فإنّ الله سبحانه جعل لكلّ شيء من خلقه
__________________
سببا ، ولسببه
سببا ، إلى أن ينتهي إليه تعالى ، وهو مسبب الأسباب كلّها ، جملتها وتفصيلها ،
فالأسباب مترتبة متوجّهة نحو المسببات بإذنه تعالى ، وهو الّذي أعطى كلّ شيء خلقه
ثمّ هدى.
فشرب السموم ـ مثلا
ـ سبب للهلاك بإذنه تعالى ، كما أن شرب الدواء سبب للشفاء بإذنه ، وكذلك الأسباب
الكلية الأصلية الثابتة المستقرة الّتي لا تزول ، ولا تحول ، كالأرض والسماوات
والنجوم بحركاتها المتناسبة الّتي لا تتغيّر ولا تنفد إلى أن يبلغ الكتاب أجله ،
وتوجّهها إلى المسبّبات الحادثة منها لحظة فلحظة.
ألا ترى إلى الشمس
كيف تؤثر بمحاذاتها الموضع من الأرض في إضاءة ذلك الموضع ، ثمّ بتوسّط الضوء في
سخونتها ، ثمّ بتوسط السخونة في خلخلة الجسم المتسخّن ، أو إصعاده ، ثمّ بسبب
التخلخل أو الصعود في إخراجه من موضعه الطبيعي ، ثمّ بسبب الخروج من موضعه في
امتزاجه بغيره ، ثمّ بسبب الامتزاج في فيضان صورة عليه غير صورته الأولى.
فانظر في إعدادها
ذلك الجسم لقبول تلك الهيئات والصور من الله سبحانه ، ثمّ انظر كيف توثر باختلاف
حركاتها الذاتية والعرضية المقتضي لحدوث الفصول الأربعة من الربيع والصيف والخريف
والشتاء ، في اختلاف أحوال المركّبات ، من المعادن ، والنباتات ، والحيوانات ،
واختلاف صورها ، وأعراضها ، ونفوسها ، في حياتها وموتها ، وحرارتها وبرودتها ،
ورطوبتها ويبوستها ، ونضارتها وجمودها ، إلى غير ذلك ممّا لا يحصى.
قال النبي صلىاللهعليهوآله : «اغتنموا برد الربيع فإنه يفعل بأبدانكم ما يفعل
بأشجاركم ،
واجتنبوا برد الخريف ، فإنه يفعل بأبدانكم ما يفعل بأشجاركم» .
وإلى القمر كيف
يؤثر في نضج الفواكه ، ومدّ المياه وجزرها ، وازدياد الرسل في الضروع ، ونشوء
الحرث والنسل ، والزروع ونقصانها وذبولها ، بحسب امتلائه وانجلائه ، وإشراقه
وانمحاقه ، وغير ذلك ، وكلّ ذلك مقدّر بقدر معلوم ؛ لأنها منوطة بحركات الشمس
والقمر (الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ
بِحُسْبانٍ) ، أي حركاتها بحساب معلوم (كُلٌّ يَجْرِي
لِأَجَلٍ مُسَمًّى) .
وإلى غيرهما من
الكواكب ، كيف تؤثر في السفليات بحسب أحوالها المختلفة ، كما فصّلت في علم النجوم
تفصيلا ، حار فيه أصحابه حيرة لا محيص لهم عنها.
ثم ألم تنظر إلى
الهيئات الفائضة على الطبائع والصور والنفوس الّتي تصدر عنها الأفعال في موادّها ،
ومواد غيرها ، وتصير محرّكة للأجسام ، مازجة بعضها ببعض ، كما يشاهد من القوى
الغاذية والنامية ، كيف تنبعث من السماويات ، فلها ـ لا محالة ـ تأثير في نفوسنا ،
ونفوس سائر السفليات ، وإنما لم تؤثّر نفوسنا فيها ؛ لأنها ضعيفة القوى بسبب كونها
منشعبة متفرّقة ، فيضعف تأثيرها ، ويصد بعضها بعضا عن فعلها بالتمام ، كما تشغل
القوّة الحسية الخيالية عن فعلها بالتمام ، وإذا لم تشغلها قوي فعلها ، كما في
النائم ، وإن لم يتم بعد لضعفها ، وقوى الكواكب غير منشعبة ، بل كأنها قوّة واحدة.
فالقوّة الباصرة
فيها هي القوّة السامعة ، وهي القوّة المصوّرة ، فكأنها
__________________
متوفّرة على قوّة
واحدة ، فيقوى تأثيرها ، ولا يصد بعضها بعضا ، فيصحّ صدور الفعل عنها بالتمام ،
فلهذا تؤثّر فينا ، ولا نؤثر فيها.
وصل
روى في الكافي
بإسناده عن الإمام الصادق عليهالسلام ، أنه سئل عن النجوم : أحقّ هي؟ فقال : نعم .
وإنه سئل أيضا عن
النجوم ، فقال : ما يعلمها إلّا أهل بيت من العرب ، وأهل بيت بالهند .
وقال في حديث آخر
ساقه في ذلك : إنه أصل الحساب حقّ ، لكن لا يعلم بذلك إلّا من علم مواليد الخلق
كلهم .
وقال له عبد
الرحمن بن سيابة : جعلت فداك ، الناس يقولون : إن النجوم لا يحلّ النظر فيها ، وهي
تعجبني ، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شيء يضرّ بديني ، وإن كانت لا تضرّ
بديني فو الله إني لأشتهيها وأشتهي النظر فيها ، فقال : ليس كما يقولون ، لا تضرّ بدينك ، ثمّ قال : إنّكم تنظرون
في شيء منها كثيره لا يدرك ، وقليله لا ينتفع به ، تحسبون على طالع القمر ، ثمّ
قال : أتدري كم بين المشتري والزهرة من دقيقة؟ قلت : لا ، والله ، قال : أفتدري كم
بين الزهرة والقمر من دقيقة؟ قلت : لا ، قال : أفتدري كم بين السنبلة والشمس من
دقيقة؟ قلت : لا ،
__________________
والله ما سمعته من
أحد من المنجمين قطّ ، قال : أفتدري كم بين السنبلة وبين اللوح المحفوظ من دقيقة؟
قلت : لا ، والله ما سمعته من منجّم قطّ ، قال : ما بين كلّ واحد منهما إلى صاحبه
ستّون أو تسعون دقيقة ، شكّ عبد الرحمن.
ثمّ قال : يا عبد
الرحمن ، هذا حساب إذا حسبه الرجل ووقع عليه عرف القصبة الّتي وسط الأجمة ، وعدد
ما عن يمينها ، وعدد ما عن يسارها ، وعدد ما خلفها ، وعدد ما عن أمامها ، حتّى لا
يخفى عليه من عدد الأجمة واحدة .
وصل
قال بعض العلماء :
الأحكام النجومية إمّا أن تكون جزئية ، وإما كلية ، أمّا الجزئية فأن يحكم ـ مثلا
ـ بأن هذا الإنسان يكون من حاله كذا وكذا ، وظاهر أنّ مثل هذا الحكم لا سبيل
للمنجّم إلى معرفته ؛ إذ العلم به إنّما هو من جهة أسبابه.
أما الفاعلية ،
فأن يعلم أن الدورة المعيّنة ، أو الاتصال المعيّن ، سبب لملك هذا الرجل البلد
المعيّن ـ مثلا ـ وأنه لا سبب فاعلي لذلك إلّا هو ، والأوّل باطل ؛ لجواز أن يكون
السبب غير ذلك الاتصال ، أو هو مع غيره.
أقصى ما في الباب
أن يقال : إنّما كانت هذه الدورة وهذا الاتصال سببا لهذا الكائن؛ لأنها كانت سببا
لمثله في الوقت الفلاني.
لكن هذا أيضا باطل
؛ لأنّ كونها سببا للكائن السابق لا يجب أن يكون لكونها مطلق دورة واتصال ، بل
لعله أن يكون لخصوصيّة كونها تلك المعيّنة الّتي لا تعود بعينها فيما بعد ، وحينئذ
لا يمكن الاستدلال بحصولها على كون هذا
__________________
الكائن ؛ لأنّ
المؤثرات المختلفة لا يجب تشابه آثارها.
والثاني ـ أيضا ـ باطل
؛ لأنّ العقل يجزم بأنه لا اطّلاع له ، على أنه لا مقتضى لذلك الكائن من الأسباب
الفاعلة إلّا الاتصال المعيّن ، وكيف وقد ثبت أن من الكائنات ما تفتقر إلى أكثر من
اتصال واحد ، ودورة واحدة ، أو أقل.
وأمّا القابلية
فأن يعلم أن المادّة قد استعدّت لقبول مثل هذا الكائن ، واستجمعت جميع شروط قبوله
الزمانية ، والمكانية ، والسماوية ، والأرضية ، وظاهر أن الإحاطة بذلك ممّا لا تفي
به القوّة البشرية.
وأمّا الصورية
والغائية ، فأن يعلم ما يقتضيه استعداد مادّة ذلك المعين وقبولها من الصورة ، وما
يستلزمه من الشكل والمقدار ، وأن يعلم ما غاية وجوده ، وما أعدته العناية له ،
وظاهر أن الإحاطة بذلك غير ممكنة للإنسان.
وأمّا أحكامهم
الكلية ، فكأن يقال : كلما حصلت الدورة الفلانية كان كذا ، والمنجّم إنّما يحكم
بذلك الحكم عن جزئيات من الدورات تشابهت آثارها ، فظنّها متكرّرة ، ولذلك يعدلون ـ
إذا حقّق القول عليهم ـ إلى دعوى التجربة ، وقد علمت أن التجربة تعود إلى تكرر
مشاهدات يضبطها الحس والعقل ، يحصّل منها حكما كليا ، كحكمه بأنّ كلّ نار محرقة ،
فإنه لما أمكن العقل استثبات الإحراق بواسطة الحس أمكنه الجزم الكلي بذلك.
فأما التشكّلات
الفلكية والاتصالات الكوكبية المقتضية لكون ما يكون ، فليس شيء منها يعود بعينه ،
كما علمت ، وإن جاز أن يكون تشكّلات وعودات متقاربة الأحوال ، ومتشابهة ، إلّا أنه
لا يمكن للإنسان ضبطها ، ولا الاطلاع على مقدار ما بينها من المشابهة والتفاوت ؛
وذلك أن حساب المنجّم مبنيّ على قسمة الزمان بالشهور ، والأيام ، والساعات، والدرج
، والدقائق وأجزائها ، وتقسيم
الحركة بإزائها
ورفعهم بينهما نسبة عددية ، وكلّ هذه أمور غير حقيقية ، وإنما تؤخذ على سبيل
التقريب ، أقصى ما في الباب أن التفاوت فيها لا يظهر في المدد المتقاربة ، لكنه
يشبه أن يظهر في المدد المتباعدة ، ومع ظهور التفاوت في الأسباب كيف يمكن دعوى
التجربة وحصول العلم الكلي الثابت الّذي لا يتغيّر استمرار أثرها على وتيرة واحدة.
ثم لو سلّمنا أنه
لا يظهر تفاوت أصلا ، إلّا أن العلم يعود مثل الدورة ، لا يقتضي بمجرّده العلم
بعود مثل الأثر السابق ؛ لتوقف العلم بذلك على عود أمثال الأسباب الباقية للأثر
السابق ، من الاستعداد وسائر أسبابه العلوية والسفلية ، وعلى ضبطها ، فإنّ العلم
التجربيّ إنّما يحصل بعد حصرها ليعلم عودها وتكرّرها ، وكلّ ذلك ممّا لا سبيل
للقوّة البشرية إلى ضبطه ، فكيف يمكن دعوى التجربة؟
فصل
قد ظهر ممّا ذكر :
أن حركات الأفلاك وأوضاعها تحصّل للمواد الاستعدادات ، وتجعلها قابلة لفيضان الصور
المتعيّنة من واهبها ، فيفيض عليها الصور بحسب قابليّاتها ، ولمّا كان القابل
المطلق الّذي هو المادّة غير متناهي قوّة الانفعال والتأثّر ، لكونها قوّة كلّ
ممكن بالإمكان الاستعدادي ، والممكنات الاستعدادية غير متناهية ، وكذلك الفاعل
المطلق الّذي هو الله سبحانه غير متناهي قوّة الفعل والتاثير ؛ لأنّ قدرته غير متناهية
، فلا جرم يستمرّ نزول
__________________
البركات ، وينفتح
باب الخيرات والإفاضات ، ويتعاقب خلق المخلوقات ، وتكوين المكوّنات من الله سبحانه
أبدا ، إلّا ما شاء الله ، (وَما كانَ عَطاءُ
رَبِّكَ مَحْظُوراً) ، (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) .
وصل
ولمّا استحال
إيجاد الجميع دفعة واحدة ؛ لتعصي المادّة عن قبول صورتين منها معا ، فضلا عن تلك
الكثرة ، فقدّر الله بلطيف حكمته حركة دورية ، وزمانا غير منبتّ إلى أن يبلغ
الكتاب أجله ، ومادّة مستحيلة من صورة إلى صورة ، على التعاقب ، ليوفي كلّ صورة
ممكنة حقّها من الوجود ؛ إذ ليس وجود أحد الضدين أولى من الآخر.
وأيضا لمّا كانت
المادّة مشتركة بينها ، فلكل منها حقّ عند الآخر ، ينبغي أن يصير إلى صاحبه ،
فالعدل أن يؤخذ من هذا مادّته فيعطى لذاك ، ومن ذلك مادّته فيعطى لهذا ، وتتعاقب
المادّة بينها ، فلأجل الحاجة إلى توفية العدل في هذه الموجودات لم يمكن أن يبقى
الشيء الواحد دائما بورود الأمثال ، بل لا بدّ أن يصير شيئا آخر يوما ما ، وأمّا
بقاؤها بعينه فليس بممكن لذاته لحظتين ؛ لما دريت من أن الطبيعة أمر سيّال متجدد
الذات ، متبدّد الحقيقة ، هذا في أشخاص الكائنات.
وأمّا الأنواع فلا
يجوز أن توجد عقيب الحركات والاستعدادات ، ولا أن
__________________
تكون غير متناهية
؛ وذلك لأنّ لها حقائق عقلية في علم الله سبحانه ، فهي هناك موجودة على سبيل
الاجتماع ، أزلا وأبدا ، وهي مترتبة في الصدور ، فيجري فيها براهين إبطال عدم
التناهي ، فهي محفوظة ثمّة ، لا تتغيّر ، ولا تتبدّل ، ولا تزيد ، ولا تنقص.
وأمّا في هذا
العالم فليس لشيء منها وجود أصلا ؛ إذ الوجود هاهنا ليس إلّا للأشخاص المحسوسة
خاصّة.
وصل
ثم من الكائنات ما
يكفي في تكوّنه دورة واحدة ، ومنها ما يحتاج إلى أدوار ، ومنها ما يحتاج إلى عودات
، وكلّ كائن فاسد البتّة ، وله مدّة يتكوّن فيها ، ومدّة يضمحلّ فيها ، وينتهي إلى
أجله ، فإنّ لكلّ أجلا متناهيا ، يستحقّه بقوّته المدبّرة لبدنه ، لا يحتمل
مجاوزته إن جرت أسبابه على ما ينبغي ، وهو الأجل الطبيعي ، وقد تعرض أسباب أخر من
حصول المفسد ، أو فقدان النافع المعين ، فيعرض لتلك القوّة أن يقصر فعلها عن الأمد
، فمن الآجال طبيعية ، ومنها اخترامية ، وكلّ بقدر.
وصل
وكما أن الأجسام
والجسمانيات الكائنة السفلية منوطة بالحركات السماوية ، فكذلك سائر أحوالها حتّى
الاختيارات ، والإرادات النفسانية ، فإنّها أمور تحدث بعدما لم يكن ، ولكلّ منها
بعد ما لم يكن علّة وسبب حادث ،
ومنتهى ذلك إلى
حركات الأفلاك ، وهي على اطّراد متّسق ، تكون دواعي إلى القصد ، وبواعث عليه ،
وهذا هو القدر الّذي أوجبه القضاء ، والقضاء هو الفعل الأوّل الإلهي الواحد ،
المستعلي على الكلّ ، الّذي تتشعّب منه المقدورات ، وكلّ مرهون بوقته ، وأجله ،
فما يتقدّم متقدّم ، ولا يتأخّر متأخّر ، إلّا بحقّ لازم ، وقضاء حتم.
فصل
قد أشرنا فيما سلف
إلى أن الكائنات الّتي توجد عندنا كلّها إنّما تتكون من العناصر الأربعة ،
وللعناصر كلّها مادّة واحدة مطيعة لأوامر الله تعالى ، ونواهيه ، في خلع بعض الصور
، ولبس بعضها ؛ وذلك لأنها ينقلب بعضها إلى بعض ، وينفسد ، ويتكوّن بدلالة
المشاهدة والتجربة ، فلو لم يشترك في المادّة لزم انقلاب الحقيقة.
ألا ترى إلى النار
كيف تنقلب هواء في شعل المصابيح ، فإنّها لو بقيت على النارية لتحرّكت إلى مكانها
الطبيعي على خطّ مستقيم ، قائم ، فأحرقت ما حاذاها ، وليس كذلك.
وإلى الهواء كيف
يستحيل نارا عند القدح ، وعند إلحاح النفخ على النفخ ، وسدّ الطرق الّتي يدخل فيها
الهواء الجديد.
ومن هذا القبيل
الهواء الحار الّذي منه السموم المحرق ، والهواء الصحو قد ينقلب ماء في قلل الجبال
بواسطة برد يصيبه ، فيتكاثف ثمّ يتقاطر دفعة من دون بخار هناك ، كما شاهده غير
واحد من الناس ، وقد يصير قطرات ماء على
السطوح الظاهرة من
الطاسات المكبوبة على الجمد ، أو المملوءة منه.
وقد يستحيل الماء
هواء عند تحلل الأبخرة الصاعدة منه ، ومن الثياب المبلولة حين تسخّنها ، كما هو
مشاهد ، معلوم لكلّ أحد.
وقد يتحجّر الماء
الجاري الصافي حجرا قريب الحجم من حجمه ، بعد ما يخرج من منبعه ، كما في قرية «سيهكوه»
من بلدة مراغة من جملة أذربيجان. وقد تنحل الأحجار بالحيل الاكسيرية مياها سيّالة.
إلى غير ذلك من
انقلابات بعضها ببعض.
ووجه تأثير بعض
هذه الأجسام في بعض ، وقبولها للاستحالة ، ما دريت سابقا من سخافة جوهرها ، ونقص
صورها ، فإنّ كيفياتها إذا اشتدّت تبطل الصورة ، وتعدّ المادّة لما يناسبها من
الصور ، فينقلب العنصر إلى عنصر آخر ، بل الحق أن الصور ـ أيضا ـ تشتدّ وتضعف ،
وتتصادّ بالتدريج ، على نعت الاتّصال ، والكيفيات تابعة لها في
التبدل من وجه ، وهي معدّة لتبدلها من وجه آخر ، وإن لم يكن تبدّلها محسوسا إلى
حدّ ما ، كما مرّ بيانه في مباحث الحركة.
وصل
وأمّا ما يتوهّم
من أن المسخّن فشت فيه أجزاء نارية داخلته ، والمبرّد فشت فيه أجزاء جمدية. فيدفعه
حال المحكوك ، والمخضخض ، والمخلخل ، حيث تحمى من غير نار غريبة ، وكذا القماقم
الصيّاحة الّتي يصير أكثر مائها نارا مع امتناع دخول النار فيها ، وخروج الماء
منها ، وكذا المصموم المفدوم الممتلىء
__________________
الممتنع خروج شيء
منه مع استحالة التداخل ، والموضوع فوق الجمد مع امتناع صعود الثقيل.
وأبعد من ذلك
توهّم الكمون والبروز ، وهل يسع لأحد أن يصدق بوجود جميع النارية المنفصلة عن خشبة
الغضاء فيها مخلفة لبقيّة منها ، فاشية في ظاهر الجمر وباطنه ، غير محرّقة إياها ،
ولو لم يكن فيها إلّا الباقي عند التجمّر ، لامتنع التصديق بكمونه كمونا لا يبرزه
الرضّ والسحق ، ولا يدرك باللمس والنظر ، وكذا الغاشية في الزجاج الذائب الغير
المدركة قبل ، مع كونه شفيفا.
وصل
إنما يؤثر بعض
الأجسام في بعض بوجه من التأثير ، إمّا بالتجاور والملاقاة ، كالتسخين بالنار ،
والإحراق بها ، والتبريد بالماء ، وما يجري مجرى ذلك من الأفعال الطبيعية الّتي
تحصل بالتدريج ، وإما بالمقابلة ، كإضاءة الشمس لما يقابلها ، والانعكاس ،
والمحاذاة ، وسائر الأمور الّتي لا تحصل إلّا دفعة ، لا على التدريج ، مع كمية ما
ومقدار ما ، وغير ذلك ، لا يمكن ؛ إذ لا مناسبة ، فلا تعلّق.
ومن جملة أسباب
الاستحالة الحرارة ، وهي إنّما توجد بعلل ثلاث : الحركة ، ومجاورة جسم حار ، والشعاع.
أما الحركة فكما
ترى من حال المحكوك ، والمخضخض ، والمخلخل ، وكون الماء الجاري أقل بردا من
الراكد.
وأمّا مجاورة
الحارّ ، فكتسخّن الماء بمجاورة النار.
وأمّا الشعاع ،
فكونه سببا للحرارة أمر معلوم بالحس ، فإنا نحس أن الّذي أشدّ ضوء هو أقل حرارة ،
وليعتبر في المرآة المحرقة الّتي لها مقعّر عند مقابلة الشمس ، فينعكس الشعاع من
سطحه المقعّر إلى نقطة هي موضع رأس المخروط الشعاعي الانعكاسي ، فتحرق ما يقع هناك
من قابل الاحتراق ، لأجل تراكم الأشعة عليه ، وكذا إذا توسّط البلور النافذ فيه
شعاع النيّر منعطفا إلى جانب السهم بين قابل الاحتراق ، وبين الشمس ، إذا وقع في
مستدق المخروط الانعطافي ، لأجل التراكم في الشعاع هناك.
وصل
ثم ما يتركب من
العناصر : إمّا تركيبه طبيعي ، أو غير طبيعي.
أما الغير الطبيعي
: فلا يدخل تحت الضبط ، وليس للعلم به كثير فائدة ، ولا هو معدود في العلوم
المعتدّ بها ، فلنعرض عنه.
والطبيعي : إمّا
مزاجي ، أو غير مزاجي. والمزاجي أصول أجناسه ترجع إلى ثلاثة ؛ لأنّه إن تحقّق فيه
مبدأ التغذية والتنمية ، فإما مع تحقّق مبدأ الحس والحركة الإرادية ، فهو الحيوان
، أو بدونه ، فهو النبات ، وإن لم يتحقّق ذلك فيه ، فالمعادن.
وهذه الثلاثة تسمى
بالمواليد ، كما تسمى العناصر بالأمهات ، والأفلاك بالآباء.
وتحت كلّ منها
أنواع لا تنحصر ، بعضها فوق بعض ، وكلّ نوع يشتمل على أصناف ، وكلّ صنف على أشخاص
لا تتناهى ، بحيث لا يتشابه اثنان من الأنواع ،
ولا من الأصناف ،
ولا من الأشخاص ، فسبحان بارئها ومنشئها عن التكثّر والاختلاف ، وإنما نشأ
الاختلاف النوعي بسبب الملائكة العقلية أرباب الأنواع ، والاختلاف الصنفي والشخصي
بحسب اختلاف أحوال العناصر في أنفسها ، وبقياس بعضها إلى بعض ، كمّا ، وكيفا ،
ووضعا ، في التركيب وبعد التركيب ، مع اختلاف أعداد السماويات لها بحركاتها
المختلفة ، وأوضاعها المتكثّرة ، ومبادىء التأثيرات في هذا المزج والتركيب بعد
الله سبحانه بإذنه تعالى ، تسمى ملائكة قريبا ، مزاولا كان ، أو بعيدا غير مزاول ،
فإنّ مبدأ كلّ أثر لا يدركه الحسّ يسمى في الشرع ملكا علويا ، أو سفليا.
وصل
فظهر أنّ الملائكة
السماوية والأرضية تمزج العناصر بإذن الله سبحانه ، وتؤثر فيها بعدما استعدّت هي
لذلك بسب أمور تحصل لها من أنحاء الأوضاع المختلفة ، من التجاور والملاقاة ،
فتستحيل هي في كيفياتها ، ويتقارب فيها بعضها من بعض ، إلى أن ينتهي بإذن الله
وأمره إلى كيفية وحدانية بسيطة ملموسة من جنس أوائل المحسوسات ، متوسطة توسّطا ما
في حدّ ما بين أطراف الكيفيات الأربع المتضادّة ، متشابهة في الأجزاء المقدارية
للممتزج ، بحيث يكون بالقياس إلى الحرارة برودة ، وبالقياس إلى البرودة حرارة ،
وبالقياس إلى الرطوبة يبوسة ، وبالقياس إلى اليبوسة رطوبة ، وهي المزاج ، ويستعدّ
المركّب بسبب حدوث هذه الكيفية المتوسطة الخارجة عن الأطراف المتضادة صورة كمالية
وحدانية ، فيستفيد حياة على قدر توسّطه وخلوّه عن المتضادات ، بل جمعه لها على وجه
أعلى وأشرف ، حيث حصلت لها طبيعة واحدة بسيطة متوسطة بين الطبائع
الأربع في حقيقتها
الجوهرية ، لما دريت أن الصور ـ أيضا ـ ممّا تشتدّ وتضعف ، كالكيفيات، بل الكيفيات
تابعة لها في ذلك ، فله حرارة النار ، وميعان الهواء ، وبرودة الماء، ويبوسة
الأرض.
والموجود خير من
العدم ، فما وجد فيه مع وحدته صفات الموجودات المتكثّرة ، فهو أفضل ممّا لم يوجد
فيه تلك الصفات جميعا ، فهو بهذا التوسّط يشبه الأجرام الحية الفلكية ، ولذا تكون
حياتها أشدّ وآكد ، بل يشبه المبدأ الأوّل من وجه ، ويقرب منه في الوحدانية ، تعالى
عن الشبه والمثل ، وكلما أمعن في التوسّط وهدم جانب التضاد يقبل من المبدأ الفيّاض
صورة كمالية فوق صورة ، وحياة فوق حياة ، فيصير أوّلا معدنا ، ثمّ نباتا ، ثمّ
حيوانا ، ثمّ إنسانا ، ثمّ ملكا مقرّبا ، ثمّ يفنى في ذات الله سبحانه ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، (أَلا إِلَى اللهِ
تَصِيرُ الْأُمُورُ) .
وهذا هو اللّم في
خلق المركبات ؛ إذ الغاية في فعله سبحانه ليست إلّا نفسه ، كما يأتي تحقيقه
مبسوطا.
فصل
الممتزج ما لم
يستوف درجات النوع الأنقص الأخسّ لم يتخطّ إلى درجة النوع الأكمل الأشرف ، لكن
النوع الأنقص إذا قوي بعض أفراده في باب وجوده وغلبت فعليته على قوّته واستعداده
لم يتجاوز إلى نوع ما هو أكمل
__________________
وأعلى ؛ لاستحكام
صورته ، وبقاء تركيب أكثر من سائر أفراده ، فيتعصّى من أن يتكون منه خلق آخر ،
فكأنه قد تمّ سلوكه ، وبلغ إلى كماله المتصور في حقه إذا سالك من حيث هو سالك لا
يقوم في المقامات والمنازل الّتي دونه بالفعل ، ولكن يتلبس بكلّ منها في الجملة؛
ولهذا قيل : إن السلوك توسّط ما بين صرافة القوّة ومحوضة الفعل.
مثال ذلك : الحجر
من المعدن ، والشجر من النبات ، وغير الإنسان من الحيوان.
ومثال غير قويّ
الوجود : المني من المعدن ، والجنين من النبات ، والطفل من الحيوان.
وليست هذه
التمامية والقوّة في الموجود ، والتوقّف فيه ، مانعة له عن الوصول إلى الله سبحانه
، هيهات ، كيف وكلّ موجود فلا بدّ وأن يصل إلى الله تعالى يوما ، وإلّا فيكون خلقه
عبثا وهباء ، وقد قال سبحانه : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، وقال : (كُلٌّ إِلَيْنا
راجِعُونَ) ، وقال : (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ
الْأَمْرُ كُلُّهُ) ، إلى غير ذلك.
بل التحقيق أن له
سبحانه صراطا مستقيما ، هو الصراط الإنساني الّذي يمرّ سالكه على سائر الموجودات ،
وهو المظهر لاسم الله الأعظم ، وإليه أشير بقوله سبحانه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً
فَاتَّبِعُوهُ) ، وصراطا أخرى ليست على
__________________
هذه الاستقامة ،
ولكن يوصل كلّ منها بسالكه إلى المطلوب ، وهي مظاهر لأسماء أخر ، وكلّ موجود فهو
على صراط غير صراط آخر ، ومصير الكلّ إلى الله ، كما قال : (وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) .
ومن هنا قيل :
الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق. وتمام تحقيق هذا الكلام يأتي في موضع آخر إن
شاء الله.
فصل
وليعلم أنه لا
يجوز أن يوجد في المركبات المزاجية ما يكون مزاجه معتدلا غاية الاعتدال، بأن تكون
المقادير من الكيفيات المتضادّة في الممتزج متساوية متقاربة ، ويكون المزاج كيفية
متوسّطة بينها بالتحقيق ، وإلّا لتداعى الأجزاء إلى الافتراق بسبب اختلاف الميول ؛
إذ لم يكن له مكان طبيعي ، وحيث لا طبع فلا قسر ، على أن القسر لا يكون دائميا ،
والأنواع لا تكون بحسب الاتفاقات.
ثمّ لكلّ جنس مزاج
جنسي ، له عرض بين حدّين ، لا يحتمل ذلك الجنس التجاوز عنهما ، وهو يشتمل على
الأمزجة النوعية بين الحدين ، وكذلك المزاج النوعي على الأمزجة الصنفية ، والصنفي
على الشخصية.
وأقرب الأنواع إلى
الاعتدال الحقيقي هو الإنسان ، وأقرب الأصناف إليه سكّان الإقليم الرابع
المتوسّطون بين الفجاجة الشمالية ، والاحتراق الجنوبي.
وسكّان خط
الاستواء وإن كانوا أقرب إلى الاعتدال من حيث تشابه
__________________
الأحوال ، إلّا
أنهم ليسوا أقرب إليه من حيث تكافؤها ؛ إذ الشمس هناك لا تبعد كثيرا عن المسامتة ،
فهي طول السنة في حكم المسامتة ، ومن ذلك سواد ألوانهم ، وشدّة جعودة شعورهم ،
بخلاف الإقليم الرابع ، على أن توفّر العمارات ، وكثرة التوالد والتناسل في
الأقاليم السبعة دون سائر المواضع المنكشفة من الأرض يدلّ على كونها أعدل من غيرها
، فما يقرب من وسطه يكون ـ لا محالة ـ أقرب إلى الاعتدال ممّا يكون على أطرافها.
وأقرب الأشخاص إلى
الاعتدال هو أعدل شخص من أعدل صنف من أعدل نوع ، في أعدل سنّ ، وهو السنّ الّذي
يبلغ فيه النشوء غاية النموّ.
فصل
أنظر كيف وصلت
رحمة الله وحكمته إلى كلّ شيء ، كما قال : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ) ، تشبيه لقوله تعالى حكاية عن الملائكة (رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً
وَعِلْماً) ، وكيف قدر الأشياء على حسب استعداداتها ، وهب لها ما
يلائمها من الكمالات ، كما قال : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ
بِقَدَرٍ) ، تثنية لقوله : (وَما نُنَزِّلُهُ
إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) .
ثم أنظر أن النبات
لما كان أخسّ من المتنفس كيف كان منكوس الرأس ، وهو أصله الّذي في الأرض إذا قطع
بطلت قواه ، والحيوان غير الناطق لما كان
__________________
أتم منه صار رأسه
من المنتكسين إلى الوسط ، ولكنه ما استقام ، والإنسان لما فضّل عليهما بالنفس
الناطقة صار رأسه إلى السماء ، وانتصبت قامته ، كما قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي
أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) ، تثنية لقوله : (وَصَوَّرَكُمْ
فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، أنشأه في ظلمات الأرحام ، وشغف الأستار ، نطفة دهاقا ،
وعلقة محاقا ، وجنينا ، وراضعا ، ووليدا ، ويافعا ، ثمّ منحه قلبا حافظا ، ولسانا
لافظا ، وبصرا لاحظا ، ليفهم معتبرا ، ويقصر مزدجرا ، فسبحانه سبحانه ، ما أبهر
برهانه ، وأعلى شأنه.
ولنفصّل القول في
أصول الأجناس تفصيلا ، ومن الله التأييد.
__________________
في كائنات الجوّ
(اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً
فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ
وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا
أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ
مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)
فصل
إن الله سبحانه
إذا أراد أن يلطف بقوم ، أو يغضب عليهم بإحداث حدث في الأرض ، وتكوين كائن من
إمطار مطر ، أو إرسال ريح ، أو ما أشبههما من أمر الملائكة السماوية ، وخصوصا
الموكّلين بالشمس ، أن يفعلوا في الأرض بتوسّط الملائكة الموكّلين بها أفاعيل ،
بأن يحرّكوا شيئا منها ، ويخلطوه حتّى يحصل من اختلاطه ما يشاء ، فإنّ كلّ ما
يتكوّن في الجوّ والأرض إنّما يحدث من اختلاط العناصر والأرضيات.
فأوّل ما يحدث من
ذلك قبل أن يمتزج امتزاجا تاما تحصل بسببه الكيفية الوحدانية المسماة بالمزاج ، هو
البخار والدخان ؛ وذلك لأنّ الملائكة إذا هيّجوا بإسخان السماويات الحرارة ،
بخّروا من الأجسام المائية ، ودخّنوا من الأجسام الأرضية ، وأثاروا أجزاء إمّا
هوائية ومائية مختلطين ، وهو البخار ، وإما نارية
__________________
وأرضية كذلك ، وهو
الدخان ، ثمّ حصل بتوسّطهما موجودات شتى غير تامّة المزاج ، من الغيم ، والمطر ،
والثلج ، والبرد ، والضباب ، والطل ، والصقيع ، والرعد ، والبرق ، والصاعقة ،
والقوس ، والهالات ، والشهب ، والرياح ، والزلازل ، وانفجارات العيون ، والقنوات ،
والآبار ، والنزوز ، كلّ ذلك بإذن الله سبحانه ، وتوسط ملائكته ، كما قال سبحانه
إشارة إلى بعض ذلك : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى
الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها
مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ
سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) .
والتأمل في بناء
الحمام وعوارضه ، نعم العون على إدراك ماهية الجوّ ، وكثير من حوادثه ، بل التدبّر
فيما يرتفع من أرض معدة الإنسان إلى زمهرير دماغه ، ثمّ ينزل منه في ثقب وجهه يعين
على ذلك كسائر الأمور الأنفسية على الأحكام الآفاقية.
وإن شئت أن تعرف
كيفية حدوث كلّ واحد واحد من المذكورات فاستمع لما قيل فيه ، ونوّرناه بإشراقات
أنوار الشرع ، والعلم عند الله.
فصل
أما السحاب والمطر
وما يتعلّق بهما ، فيشبه أن يكون السبب الأكثري فيها تكاثف أجزاء البخار الصاعد
بإذن الله ؛ لأنّ ما يجاور الماء من طبقات الهواء استفيد كيفية البرد من الماء.
__________________
ثمّ الزمهريرية ،
وهي الّتي ينقطع عنها تأثير الشعاع ، تبقى باردة ، فإذا أصعد الملائكة البخار
إليها يتكاثف بواسطة إصابة البرد ، فإن لم يكن البرد قويا اجتمع وتقاطر ، فالمجتمع
هو السحاب ، والمتقاطر هو المطر ، وإن كان البرد قويا ، فإما أن يصل إلى أجزاء
السحاب المائية الرشّية ، قبل اجتماعها ، فينزل السحاب ثلجا ، أو لا يصل إلّا بعد
اجتماعها ، فينزل بردا.
وإذا لم يصعد
البخار إلى الزمهريرية الباردة ؛ لقلّة حرارته ، فإن كان كثيرا فقد ينعقد سحابا
ماطرا ، كما حكي أنه شوهد البخار قد صعد من أسافل بعض الجبال صعودا يسيرا ، وتكاثف
حتّى كأنه تكيّة موضوعة على وهدة ، وكان المشاهد فوق تلك الغمامة في الشمس، وكان
من تحته من أهل القرية الّتي هناك يمطرون.
وقد لا ينعقد بل
يكون متبددا ويسمى ضبابا ، ولأجل لطافته يزول سريعا بوصول أدنى حرارة إليه.
وإن كان قليلا
فإذا ضربه البرد في الليل فينزل لثقله الحاصل بالبرودة ، نزولا في أجزاء صغار ، لا
يحسّ بها إلّا عند اجتماع شيء يعتدّ به ، فإن لم ينجمد فهو الطلّ ، وإن انجمد فهو
الصقيع. والنسبة بينهما كالنسبة بين المطر والثلج.
وصل
روى في الكافي ،
بإسناده عن الإمام الصادق عليهالسلام ، أنه قال : «إن تحت العرش بحرا فيه ماء ، ينبت أرزاق
الحيوانات ، فإذا أراد الله أن ينبت به ما يشاء لهم رحمة منه لهم أوحى الله إليه
فمطر ما شاء من سماء إلى سماء ، حتّى يصير
إلى سماء الدنيا ،
فيما أظن ، فيلقيه إلى السحاب ، والسحاب بمنزلة الغربال ، ثمّ يوحي الله إلى الريح
أن اطحنيه ، وأذيبيه ذوبان الماء ، ثمّ انطلقي به إلى موضع كذا وكذا ، فأمطري
عليهم ، ليكون كذا وكذا عبابا ، وغير ذلك ، فتقطر عليهم على النحو الّذي يأمرها به
، فليس من قطرة تقطر إلّا ومعها ملك حتّى يضعها موضعها ، ولم ينزل من السماء قطرة
من مطر إلّا بعدد معدود ، ووزن معلوم إلّا ما كان من يوم طوفان على عهد نوح ، فإنه
نزل بماء منهمر ، بلا وزن وعدد» .
وعنه عليهالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله تعالى جعل السحاب غرابيل للمطر ، حتى يذيب البرد حتّى يصير ماء لكيلا يضرّ شيئا يصيبه ، فالذي
ترون فيه من البرد والصواعق نقمة من الله تعالى يصيب بها من يشاء من عباده ، ثمّ
قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : لا تشيروا إلى المطر ، ولا إلى الهلال ، فإنّ الله يكره
ذلك» .
وهذا الكلام يحتمل
معنيين :
أحدهما : الإشارة
باليد.
والثاني : الإشارة
إلى كيفية حدوثهما ، فإنّ ذلك يضرّ باعتقاد العامة ، وهو أقرب ، ويشهد له قوله عزوجل : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ
الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِ) .
__________________
فصل
وأمّا الرعد
والبرق فيشبه أن يكون سببهما أن الدخان إذا احتبس فيما بين السحاب، فما أصعد منه
الملائكة إلى العلو لشدة لطافته ويبسه ، أو أهبطته إلى السفل لتكاثفه بالبرد
الشديد الواصل إليه ، مزّق السحاب صاعدا ، أو هابطا ، بقوّة الملك ، وزجره ،
تمزيقا عنيفا ، فيحصل صوت هائل ، وهو الرعد.
وإن اشتعل الدخان
بالتسخين القوي الحاصل من الحركة الشديدة ، والمصاكّة العنيفة ؛ لقرب مزاجه من
الدهنية ؛ إذ فيه مائية وأرضية ، عمل فيها الحرارة والحركة ، فإن كان لطيفا
وينطفىء بسرعة ، كان برقا ، ويرى قبل الرعد ؛ لأنّ الصوت لا بدّ له من حركة الهواء
، ولا حركة دفعية ، فيحتاج إلى زمان ، ولا كذلك الرؤية على ما تبيّن ، ولذلك ترى
حركة يد القصار قبل سماع الدق بزمان.
وإن كان كثيفا لا
ينطفىء بسرعة ، بل يصل إلى الأرض ، كان صاعقة ، فربّما صار لطيفا بحيث ينفذ في
المتخلخل ، ولا يحرقه ، ويذيب المندمج فيحرق الذهب في الكيس دونه ، إلّا ما احترق
من الذائب ، وربما كان كثيفا غليظا جدا ، فيحرق كلّ شيء أصابه ، وكثيرا ما يقع على
الجبل فيدكّه دكا.
وصل
روى في الكافي ،
بإسناده عن أمير المؤمنين عليهالسلام ، أنه سئل عن السحاب : أين يكون؟ قال : يكون على شجر ، على
كثيب ، على شاطىء البحر ، يأوي إليه ، فإذا أراد الله تعالى أن يرسله أرسل ريحا فأثارته
، ووكّل به ملائكة يضربونه
بالمخاريق ، وهو
البرق ، فيرتفع ، ثمّ قرأ هذه الآية : (وَاللهُ الَّذِي
أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) ، الآية ، والملك اسمه الرعد .
فصل
وأمّا القوس
والهالة فقد قيل ـ والعلم عند الله ـ : إنهما يحدثان من ارتسام ضوء النيّر في
أجزاء رشية صقيلة صغيرة متقاربة واقعة في الغمام المختلفة الوضع ، واختلاف
ألوانهما بسبب اختلاف ضوء النيّر ، وألوان الغمام المختلفة.
وهما إمّا أمران
موجودان ، ولونهما متخيّل ، أو هما محض خيال يحدث عن انعكاس القوّة الباصرة من
الغمام إلى النيّر.
ويؤيد الثاني كون
القوس معنا كيفما تحرّكنا ، ودنوها منا بمثل مقدار ما دنوّنا منها ، مثل أن يكون
بيننا وبينها ألف ذراع ، فيتحرك نحو مائة ذراع ، فيحصل بيننا وبينها ثمانمائة ذراع
، وهذا خاص بالأمور المتخيّلة الّتي تكون في المرايا.
ويشهد بهذا ـ أيضا
ـ القوس الحادثة حول السرج في أيام الشتاء ، إذا كان الهواء فيه نداوة ، فإنه يعرض
لمن بعينه رطوبة ، أو يضعف بصره ، أن يرى حول السراج دوائر ألوانها مفرجة ؛ وذلك
أن الدخان الّذي يرتفع من السراج يصير كالمرآة ، فيمنع البصر عن لحظ النيّر على
استقامة ، فينعكس من المرآة ، أعني البخار المتصاعد من السراج إلى النيّر من جميع
الجهات ، فيتخيّل كالدائرة فيها تفريج ، فإذا أحدق ، أو قرب من النيّر لم ير تلك
الدائرة.
__________________
وكذلك ـ أيضا ـ إذا
نظرنا إلى الشمس وحدّقنا إليها تحديقا شديدا ثمّ غمّضنا أعيننا رأينا ألوانا قوسية
، فإذا كان من الجائز أن يتخيل كهيئة القوس خيالا لا يستند إلى وجود شيء ، لم يمنع
مانع أن يكون هذا جائزا في القوس الحادث عن غمام.
فصل
وأمّا الشهب فيشبه
أن يكون سببها أن الدخان إذا بلغ إلى حيّز النار أو الطبقة القصوى من الهواء
الحارة بالفعل ؛ لبعدها عن مجاورة الماء والأرض ، ومخالطة أبخرتها وقربها من كرة
الأثير ، وكان لطيفا ، اشتعلت فيه النار بإذن الله ، فانقلب إلى النار ، ويلتهب
بسرعة ؛ لاستحالة الأجزاء الأرضية نارا صرفة ، فصارت شفّافة غير مرئية ، فيرى
كالمنطقي.
وأمّا مدّ
الاشتعال فيه فلأنه اشتعل طرفه العالي أولا ، ثمّ يذهب الاشتعال فيه إلى آخره ،
فيرى الاشتعال ممتدا على سمت الدخان إلى طرفه الآخر.
وإن كان الدخان
كثيفا لا في الغاية تعلّقت به النار تعلّقا ما ، فيحترق من غير اشتعال ، وثبت فيه
الاحتراق ، فرئيت العلامات الهائلة السود والحمر على حسب غلظ المادّة شدة وضعفا.
وإن كان تام
الكثافة وتعلّقت به النار تعلّقا قويا ، فيثبت فيه الاشتعال ودام متّصلا لا ينطفىء
أياما وشهورا ، بقدر كثافة المادة ، وكثرة الاستمداد ، فيكون على صورة ذؤابة ، أو
ذنب ، أو رمح ، أو قرن.
وربما وقف تحت
كوكب وكانت تدور به النار الدائرة بدوران الفلك ،
فيرى كأن لذلك
الكوكب ذؤابة ، أو ذنبا ، أو لحية ، أو غير ذلك.
وقد يصل شيء من
هذه إلى الأرض ، فيحرق ما عليها غضبا من الله الملك الجبار ، ويسمى الحريق ، وقد
لا ينقطع اتصاله عن الأرض في صعوده واشتعلت النار فيه نازلة فيرى كأنّ تنينا ينزل
من السماء إلى الأرض ، فإذا وصلت الأرض احترقت تلك المادّة بالكلية ، وما يقرب
منها ، وسبيل ذلك سبيل السراج المنطفىء إذا وضع تحت السراج المشتعل فاتّصل الدخان
من الأوّل إلى الثاني فانحدر اللهب إلى فتيلته.
وقد يوجد في بعض
نواحي الأرض قوّة كبريتية ينبعث منها دخان ، وفي الهواء رطوبة بخارية ، فيحصل من
اختلاط دخان الكبريت بالأجزاء الرطبة الهوائية مزاج دهني ، وربما اشتعل بأشعة
الكواكب وبغيرها ، فيرى بالليل شعلا مضيئة ، كما حكاه بعض المسافرين ، ولما كان
كلّ مضيء حصل في الجوّ العالي ، أو في السماء ، فهو مصباح لأهل الأرض ، قال الله
تعالى : (وَلَقَدْ زَيَّنَّا
السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ) ، فإنّ من تلك المصابيح ما هي باقية على طول الزمان ، وهي
الكواكب المركوزة في السماوات.
ومنها ما هي
متغيّرة ، وهي هذه الشهب الّتي يحدثها الله ، ويجعلها رجوما للشياطين ، ويصدق
عليها أنها زينة السماء أيضا ، بالنسبة إلى أوهامنا ، وأن الكلّ زينة للسماء
الدنيا ؛ لعدم حجبها ضوء الكواكب ، فتشاهد مزيّنة بها كلّها ، وإن كان بعضها في
غيرها.
__________________
فصل
وأمّا الرياح ،
فقد يكون السبب فيها ـ والعلم عند الله ـ أن البخار إذا ثقل بواسطة البرودة
المكتسبة من الزمهريرية واندفع إلى سفل فصار لتسخّنه بالحركة الموجبة لتلطيفه هواء
متحركا ، وهو الريح ، وقد يكون لاندفاع يعرض بسبب تراكم السحب الموجب لحركة ما
يليها من الهواء ؛ لامتناع الخلاء ، فيصير السحاب من جانب إلى جهة أخرى ، وقد يكون
لانبساط الهواء بالتخلخل في جهة ، واندفاعه من جهة أخرى ، وقد يكون بسبب برد
الدخان المتصاعد عند وصوله إلى الزمهرير ، ونزوله.
ومن الرياح ما
يكون سموما ؛ لاحتراقه في نفسه بالأشعة السماوية ، أو لحدوثه من بقية مادّة الشهب
، أو لمروره بالأرض الحارة جدا ، لأجل غلبة نارية عليها ، وقد يقع تقاوم فيما بين
ريحين متقابلتين قويّتين تلتقيان ، فتستديران ، أو فيما بين رياح مختلفة الجهة
حادثة فتدافع تلك الرياح الأجزاء الأرضية المشتملة عليها ، فتضغط تلك الأجزاء
بينها مرتفعة كأنها تلتوي على نفسها ، فيحصل الدوران المسمى بالزوبعة والإعصار ،
وربما اشتملت الزوابع العظام على قطعة من السحاب ، بل على بخار مشتعل ، فيرى نارا
تدور.
ومهاب الرياح اثنا
عشر ، وهي حدود للأفق ، حاصلة من تقاطعه مع كلّ من دائرة نصف النهار ، والموازيتين
لها ، المماستين للدائميتين الظهور والخفاء ، ودائرة المشرق والمغرب الاعتدالين ،
والموازيتين لها المارّتين برأسي السرطان والجدي.
ولكلّ ريح منها
اسم ، والمشهورات عند العرب أربعة : ريح الشمال ، وريح
الجنوب ، وريح
الصبا ، وهي الشرقية ، وريح الدبور ، وهي الغربية ، والبواقي تسمى نكباء.
فصل
وأمّا الزلزلة
فتشبه أن تكون بسبب أن البخار والأدخنة والرياح المحتبسة في الأرض إذا غلظت بحيث
لا ينفذ في مجاريها ؛ لشدة استحصافها وتكاثفها ، اجتمعت طالبة للخروج ، ولم يمكنها
النفوذ ، فزلزلت الأرض.
وربما اشتدّت
فخسفت الأرض فتخرج منها نار ؛ لشدة الحركة الموجبة لاشتعال البخار والدخان إذا
امتزجا امتزاجا مقرّبا إلى الدهنية ، وربما قويت المادّة على شق الأرض فتحدث أصوات
هائلة ، وعسى أن يكون من هذا القبيل ما أصاب بلدة قوم من الفجرة بإذن الله ، من
جعل عاليها سافلها.
وربما تحدث
الزلزلة من تساقط عوالي وهدات الأرض ، فيتموّج بها الهواء المحتقن ، فتزلزل به
الأرض ، وقليلا ما يتزلزل لسقوط قلل الجبال عليها لبعض الأسباب بإذن الله.
ولما كانت الأبخرة
والأدخنة المحتقنة في تجاويف الأرض بمنزلة عروقها ، وإنما تتحرك بقوى روحانية. ورد
في الحديث : «أن الله سبحانه إذا أراد أن يزلزل الأرض أمر الملك أن يحرّك عروقها ،
فتتحرك بأهلها» ، وما أشبه ذلك من العبارات على اختلافها ، والعلم عند
الله.
ومن منافع الزلازل
تفتيح مسام الأرض لانفجار العيون ، وإشعار قلوب فسقة العامة رعبا لله سبحانه.
__________________
فصل
وأمّا انفجار
العيون ؛ فلأن البخار إذا احتبس في داخل من الأرض لما فيها من ثقب وفرج يميل إلى
جهة ، فيبرد بها ، فينقلب مياها مختلطة بأجزاء بخارية ، فإذا كثر لوصول مدد متدافع
إليه بحيث لا تسعه الأرض أوجب انشقاق الأرض ، وانفجرت منه العيون بإذن الله.
أما الجارية على
الولاء فهي إمّا لدفع تاليها سابقها ، أو لانجذابه إليه ؛ لضرورة عدم الخلاء ، بأن
يكون البخار الّذي انقلب ماء وفاض إلى وجه الأرض ينجذب إلى مكانه ما يقوم مقامه ؛
لئلّا يكون خلاء ، فينقلب هو أيضا ماء ، ويفيض ، وهكذا استتبع كلّ جزء منه جزء
آخر.
وأمّا العيون
الراكدة فهي حادثة من أبخرة لم تبلغ من كثرة موادّها ، وقوّتها ، أن تحصل منها
مقاومة شديدة ، أو يدفع اللاحق السابق.
وأمّا مياه القنى
والآبار فهي متولدة من أبخرة ناقصة القوّة عن أن تشقّ الأرض ، فإذا أزيل ثقل الأرض
عن وجهها صادفت منفذا تندفع إليه بأدنى حركة ، بإذن الله ، فإن لم يجعل هناك مسيل
فهو البئر ، وإن جعل فهو القناة. ونسبة القنى إلى الآبار كنسبة العيون السيّالة
إلى الراكدة.
وإن كان اندفاعها
منتشرا وأرضها رخوة يتخلل عنها أكثر ما يتبخّر ، فهو النزّ ، وهو أردأ المياه ،
والذي يبقى ويحبس مدّة خالطته الأرض وتمنعه من سرعة البروز ، فيتعفّن ويتغيّر في
طريقه.
ويمكن أن تكون هذه
المياه متولّدة من أجزاء مائية متولدة من أجزاء
متفرقة في ثقب
أعماق الأرض ومنافذها إذا اجتمعت.
ويؤيد هذا ازدياد
هذه المياه بزيادة الثلوج والأمطار.
وقال في النجاة :
وهذه الأبخرة إذا نبعت عيونا أمدّت البحار بصبّ الأنهار إليها ، ثمّ ارتفعت من
البحار والبطائح والأنهار وبطون الجبال خاصّة أبخرة أخرى ، ثمّ قطرت ثانيا إليها ،
فقامت بدل ما تحلل منها على الدور دائما .
فسبحان من فجّر
العيون ، وأنزل من السماء ماء فأخرج به ثمرات مختلفا ألوانها.
__________________
في الجبال والأحجار المعدنية
(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ
أَلْوانُها
وَغَرابِيبُ سُودٌ)
فصل
أما الأحجار
والجبال فالسبب الأكثر فيها عمل الحرارة في الطين اللزج ، بحيث يستحكم انعقاد رطبه
بيابسه بإذن الله ، وقد ينعقد الماء السيال حجرا كما نبّهنا عليه فيما قبل ؛ إمّا
لقوّة معدنية محجّرة ، أو لأرضية غالبة على ذلك الماء بالقوة ، لا بالمقدار ، كما
في الملح ، فإذا صادف الحر العظيم طينا كثيرا لزجا ، إمّا دفعة ، وإما على مرور
الأيام ، تكوّن الحجر العظيم ، فإذا ارتفع بأن تجعل الزلزلة العظيمة طائفة من
الأرض تلّا من التلال ، أو يحصل من تراكم عمارات تخرّبت ثمّ تحجّرت ، أو يكون
الطين المتحجّر مختلف الأجزاء في الصلابة والرخاوة ، فتنحفر أجزاؤه الرخوة بالمياه
والرياح ، وتغور تلك الحفر بالتدريج غورا شديدا ، وتبقى الصلبة مرتفعة ، أو بغير
ذلك من الأسباب ، فهو الجبل.
وقد ترى بعض
الجبال منضودة ساقا فساقا ، كأنها ساقات الجدار ، فيشبه أن يكون حدوث مادّة
الفوقاني بعد تحجّر التحتاني ، وقد سال على كلّ ساق من
__________________
خلاف جوهره ما صار
حائلا بينه وبين الآخر.
وقد توجد في كثير
من الأحجار عند كسرها أجزاء الحيوانات المائية ، فتشبه أن تكون هذه المعمورة قد
كانت في سالف الدهر مغمورة في البحر ، فحصل الطين اللزج الكثير ، وتحجّر بعد
الانكشاف ، ولذلك كثرت الجبال ، ويكون انحفار ما بينها بأسباب تقتضيه ، كالسيول
والرياح.
ومنافع الجبال
كثيرة :
منها : كونها
أوتادا للأرض ، كما مضى.
ومنها : انبعاث
العيون والسحب المستلزمتان للخيرات الكثيرة منها أكثر من غيرها ، بل لا تنفجر
العيون إلّا من أرض صلبة ، أو في جوار أرض صلبة ، كما قال في الشفاء ، قال : وإذا تتبعت الأودية المعروفة في العالم وجدتها
كلّها منبعثة من عيون جبلية .
ومنها : تكوّن
الجواهر المعدنية النورية منها.
ومنها : إنباتها
النباتات الكثيرة المنافع.
إلى غير ذلك ،
فالحمد لبارئها ، وسبحان منشئها.
__________________
فصل
الأبخرة والأدخنة
المحتبسة في باطن الأرض إذا كثرت يتولد منها ما ذكر ، وإذا لم تكن كثيرة اختلطت
على ضروب من الاختلاطات المختلفة في الكم والكيف والمزج ، بحسب اختلاف الأمكنة
والأزمنة والإعدادات ، فتكون منها الأجسام المعدنية ، بإذن الله ، وهي أوّل ما
يحدث من المركبات العنصرية التامة المزاجية ، ولها ـ بعد حقائقها العقلية ـ نفوس
ملكوتية تحفظ أشخاصها ، وبها حياتها اللائقة بها بحسب وجوداتها أكثر من حياة ما
دونها من الكائنات الغير المزاجية ، مما حياتها شبيهة بالموت.
ثم إذا غلب البخار
على الدخان يتولد مثل اليشم ، والبلّور ، والزئبق ، وغيرها من الجواهر المشفّة ،
وإن غلب الدخان يتولّد الملح ، والزاج ، والكبريت ، والنوشادر ، ثمّ من اختلاط بعض
هذه مع بعض يتولد غيرها من المعادن ، ولنشرحها شرحا جمليا على وجه كلي، فاستمع :
وصل
أصناف المعادن
خمسة ؛ لأنها إمّا ذائبة ، أو غير ذائبة. والذائبة إمّا منطرقة ، أو غير منطرقة.
والغير المنطرقة إمّا مشتعلة أو غير مشتعلة. وغير الذائبة إمّا عدم ذوبانه لفرط
الرطوبة، أو لفرط اليبوسة.
فالذائب المنطرق
هو الجسم الّذي انجمد فيه الرطب واليابس ، بحيث لا تقدر النار على تفريقهما مع
بقاء دهنية قوية بسببها يقبل ذلك الجسم الانطراق.
والمشهور من
أنواعه سبعة : الذهب ، والفضة ، والرصاص ، والحديد ، والأسرب ، والخارصيني ،
والنحاس ، وكلها تتولد من الزئبق والكبريت ، فإن كانا صافيين وامتزجا امتزاجا
تامّا ، ونضج الكبريت نضجا كاملا ، تولّد الذهب إن كان الكبريت أحمر غير محترق ،
والفضة إن كان أبيض ، وإن لم يكمل الامتزاج بينهما تولّد الرصاص ، وإن كانا رديّين
، فالحديد إن قوي الاختلاط والتركيب ، والسرب إن لم يقو ، وإن كان الكبريت رديئا
والزئبق صافيا ، وصادفه قبل تمام النضج برد عاقد تولّد الخارصيني ، وإن أحرقه
الكبريت تولّد النحاس.
هذا ما قالوه في
بيان تولّدها بحسب الحدس والتخمين بعقدهم الزئبق بالكبريت عقدا محسوسا يحصل لهم
بذلك غلبة الظن ، ولا يرجى فيها اليقين ؛ لضعف الاستدلال بالأحوال الصناعية على
الأمور الطبيعية.
والذائب المشتعل
هو الجسم الّذي فيه رطوبة دهنية مع يبوسة غير مستحكم للامتزاج ؛ ولذلك تقوى النار
على تفريق رطبه عن يابسه ، وذلك كالكبريت المتولّد من مائية تحمّرت بالأرضية
والهوائية تحمّرا شديدا بالحرارة حتى صارت تلك المائية دهنية ، وانعقدت بالبرد ،
وكالزرنيخ ، وهو كذلك ، إلّا أن الدهنية فيه أقل.
والذائب الّذي لا
ينطرق ولا يشتعل ما ضعف امتزاج رطبه ويابسه ، وكثرت رطوبته المنعقدة بالحرّ واليبس
، كالزاجات ، وتولّدها من ملحية وكبريتية وحجارة ، وفيها قوّة بعض الأجساد الذائبة
، كالأملاح ، وتولّدها من ماء خالطه دخان حار لطيف كثير النارية ، وانعقد باليبس
مع غلبة الأرضية الدخانية ، ولذا يتخذ الملح من الرماد المحترق بالطبخ والتصفية.
والذي لا يذوب ولا
ينطرق لرطوبته استحكم الامتزاج بين أجزائه الرطبة
الغالبة ،
والأجزاء اليابسة ، بحيث لا تقوى النار على تفريقهما ، كالزئبق ، وتولده من مائية
خالطته جدا أرضية كبريتية بالغة في اللطافة ، والذي لا يذوب ولا ينطرق
ليبوسة ما ، اشتدّ الامتزاج بين أجزائه الرطبة والأجزاء اليابسة المستولية ، بحيث
لا تقدر النار على تفريقهما ، مع إحالة البرد للمائية إلى الأرضية ، بحيث لا تبقى
رطوبة حسّية دهنية ؛ ولهذا لا ينطرق ، ولما كان عقده باليبس لا يذوب إلّا بالحيلة
، بحيث لا يبقى ذلك الجوهر ، بخلاف الحديد المذاب ؛ وذلك كالياقوت واللعل والزبرجد
، ونحو ذلك من الأحجار.
ثم إن من المعادن
ما يتولد بالصنعة بتهيئة المواد ، وتكميل الاستعداد ، كالنوشادر ، والملح ، وإن
منها ما يعمل له شبيه ، يعسر التمييز في بادىء النظر ، كالذهب والفضة واللعل ،
وكثير من الأحجار المعدنية.
وهل يمكن أن تعمل
حقيقة هذه الجواهر بالصنعة؟ فيه خفاء.
ومن المعادن ما
يتكون في البحار ، كاللؤلؤ والمرجان ، قال الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ
لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها) .
__________________
في النبات
(وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ
أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى* كُلُوا
وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى) .
فصل
المركب العنصري
لما استوفى درجات التراكيب الناقصة من الآثار العلوية وغيرها ، ثمّ درجات المعادن
تخطّى خطوة أخرى إلى جانب القدس ، إن كان من أهل السلوك إلى الله سبحانه ، بأن
يكون ناقصا ضعيف الفعلية ، كالمني الصالح لأن يصير حيوانا ، أو يكون تاما ، ولكن
ترك صورته النوعية الّتي بها تمامه ، وفعليته ، وزهد في حياته الدنيا تلك ؛ طلبا
لصورة أعلى ، وفعلية أتم ، وتوجه إلى بارئه سبحانه توجّها طبيعيا ، كالبذر ـ مثلا
ـ إذا انفسد في الأرض فسادا ما ، وأنتن نتنا ما ، فحينئذ ينكسر قلبه ، ويضطرّ
اضطرارا جبلّيا ، ويتضرّع إلى الله سبحانه تضرّعا فطريا ، ويتقرب إلى الله تعالى
تقرّبا ما ، وقد جرت سنّة الله في من تقرّب إليه شبرا أن يقرب إليه ذراعا ، فيترحّم عليه ، ويجيب دعاءه ؛ إذ هو الّذي يجيب المضطر
إذا دعاه ، فيفيد له بدل صورته الفانية صورة
__________________
كمالية نباتية ،
ذات نفس ملكوتية ، فيحيى بها حياة ما فوق حياته الأولى الّتي كانت كلا حياة ،
فيصدر عنه ببساطة نفسه ما يصدر من المعدن من حفظ التركيب مع زيادة شيء آخر ، وهو
أن ينبت وينمو ويزيد في أقطاره الثلاثة بالتدريج ؛ وذلك لعدم حصول كماله الشخصي
أوّل مرة ؛ لكون مادته جزء مادّة شخص سابق ، ثمّ يضيف الله سبحانه إلى قوّته،
الّتي بها يستبقي شخصه ، قوّة أخرى يستبقي بها نوعه ؛ لعدم احتماله الديمومة
الشخصية ؛ لمكان لطافة مادّته فوق المعدن التام الفعلية ، فوفى قسطه من البقاء.
أما فيما لم
يتعذّر اجتماع أجزائه ؛ لبعده من الاعتدال ، ولسعة عرض مزاجه ، فعلى سبيل التولد ،
وأمّا فيما تعذّر ذلك ؛ لقربه من الاعتدال ، ولضيق عرض مزاجه ، فعلى سبيل التوالد
؛ استبقاء لنوع ما وجب فساد شخصه ، منّا منه سبحانه ، ولطفا ، وهذا هو النبات.
وصل
إنما يتم وجود هذا
الصنف من الموجود بتوسّط عدة ملائكة من الملكوتيين ؛ وذلك لاحتياجه في التمامية
إلى أفاعيل متخالفة تفعل فيه ، وكلّ فعل يفعل في هذا العالم فله مبدأ من الملكوت غير
مبدأ الآخر ، ولا يصدر فعلان عن مبدأ واحد ؛ وذلك لأنّ أهل هذا العالم ـ من حيث
إنه أهله ـ ميّت ظلماني ، لا يجوز أن يكون مبدأ لأمر ما ، كما عرفت فيما سبق ، فلا
بدّ من مبدأ ملكوتي ، وأهل الملكوت ليس واحد منهم إلّا وهو وحداني الصفة ، ليس فيه
خلط وتركيب ، فلا يكون لواحد منهم إلّا فعل واحد ، كما أشير إليه بقوله سبحانه: (وَما
مِنَّا
إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ) .
وليسوا كالإنسان
الواحد الّذي يتولى بنفسه ـ مثلا ـ الطحن أولا ، ثمّ تمييز النخالة عنه ، ودفع
الفضلة ثانيا ، وصب الماء عليه ثالثا ، والعجن رابعا ، وقطعه كرات مدوّرة خامسا ،
وترقيقها رغيفا سادسا ، وإلصاقها بالتنوّر سابعا ؛ وذلك لأن هذا نوع اعوجاج وعدول
عن السنّة الإلهية ، سببه اختلاف صفات الإنسان واختلاف دواعيه ، وانقسام قواه ؛
لضرورة وقوعه في عالم العدد والقسمة والتفرقة ؛ ولذلك يرى الإنسان الواحد يطيع
الله مرّة ، ويعصيه أخرى ؛ لاختلاف دواعيه ؛ وذلك غير ممكن في طباع الملائكة ، فلا
بد في النبات إذن من ملك يزيد في أقطاره الثلاثة على نسبة لائقة محفوظة إلى أن
يبلغ إلى كمال النشؤ ، ومن ملك يقطع فضلة من مادته ليكون مبدأ لشخص آخر ، ولمّا
توقّف فعل الأوّل على التغذّي ، فلا بد من سبعة أملاك أخر ، لا أقل يخدمونه في هذا
الأمر :
أوّلهم عملا ملك
لا بدّ منه لجذب الغذاء إلى جوار جسم المغتذي ؛ وذلك لأن الغذاء لا يمكن أن يصل
بنفسه إلى جميع الأطراف ؛ لأنّه ـ لا محالة ـ إمّا أن يكون ثقيلا ، فلا يصل إلى
الأطراف العالية ، أو خفيفا فلا يصل إلى الأطراف السافلة.
والثاني لا بدّ
منه لإمساك الغذاء في جواره ؛ وذلك لأنّ الغذاء بعيد المشابهة أوّلا ، فلا بد فيه
من الاستحالة حتّى يحصل الشبه ، والاستحالة حركة ، والحركة إنّما تكون في زمان،
فلا بدّ من زمان في مثله تحصل الاستحالة والتشبّه.
والثالث لا بدّ
منه لنزع الصورة عن الغذاء ، وخلعها ؛ وذلك لأنّ تشبيه
__________________
الغذاء بالعضو
إنّما يحصل إذا قرب استعداده لحصول الصورة العنصرية ، فلا بدّ من ملك يجعله قريب
الاستعداد لذلك.
والرابع لا بدّ
منه ليكسو الغذاء صورة العضو ، فإنّ إفادة الصورة غير نزعها ، وكونها غير فسادها.
والخامس لا بدّ
منه ليدفع ما لا يقبل المشابهة من الغذاء ، وإلّا لأدّى إلى السداد وثقل البدن ،
بل الفساد والإفساد ، سيّما في الحيوان.
والسادس لا بدّ
منه ليلصق ما اكتست بصورة العضو بالعضو حتّى لا يكون منفصلا.
والسابع لا بدّ
منه لراعي المقادير في الإلصاق.
ويسمى هؤلاء
الأملاك في عرف الجمهور بالقوى ، فالذي يزيد في الأقطار يسمى بالقوّة النامية ،
والقاطع للفضلة بالقوّة المولّدة ، والخوادم بالجاذبة ، والماسكة والهاضمة
والدافعة ، وكلها بالغاذية ، وسنذكر في هذا الباب حديثا عن أمير المؤمنين عليهالسلام إن شاء الله تعالى.
فصل
يشبه أن يكون مبدأ
كلّ فعل من هذه الأفاعيل ملكا قدسيا متمكّنا في سماء قدسه ، وله بإذن الله سبحانه
جهات ، ورقائق ، وخدم ، وروابط في هذا العالم متعددة ، حسب تعدد النفوس ، وتكون
النفوس متصلة بتلك الرقائق ، مربوطة بذلك الملك من تلك الجهة ، بل متّحدة معها ؛
إذ النفس هي الّتي تفعل هذه الأفاعيل في بدنها بتوسّط الفيض من تلك المبادىء ،
بإذن الله ، كما يظهر من
تحقيق معنى النفس
بما هي نفس.
فالنفس ذات جهات ،
وقوى ، استفادتها من جواهر عقلية ، بها تفعل الأفاعيل في بدنها ، وهي عين تلك
القوى والجهات من وجه ، ومستخدمة لها من وجه آخر ، وكلّ من تلك الجهات والقوى
حقيقة واحدة ، وإنما تتعدّد بتعدد النفوس ، نوعا وصنفا وشخصا ، فافهم.
فصل
وممّا يؤيد كون
النفس مبدأ لهذه الأفاعيل بذاتها ، وكون قوتها سارية في جميع أطراف البدن بوجوه
التصرّفات ، اعتناؤها بتعديل المزاج ، وحفظ الاتصال ، وتألّمها بتغيّر المزاج عند
أدنى مغيّر من حرّ ، أو برد ، أو حركة ، أو تعب ، أو هبوب ريح مشوّش ، إلى غير ذلك
من الأمور الغير النفسانية ، وكذلك تأذّيها من تفرق الاتصال والجراحات ، تأذّيا جزئيا
في الحال ، وعدم انحصار تألّمها بالمؤلمات الّتي هي من باب خوف العاقبة ، وخطر
المآل ، وكذلك وجدان ذاتها مقصّرة عن الأمور الإدراكية عند اشتداد حاجته إلى
الإحالة والهضم ، والدفع ، بسبب من الأسباب ، كما يكون للمريض عند بحرانه ، فإنّ
ذلك ليس إلّا لاشتغال النفس بهذه الأفعال ، واستغراقها فيها.
وصل
وأمّا عدم علم
النفس بصدور هذه الأفاعيل منها ، مع كونها فاعلة ، فإنما ذلك لعدم صلاحية الماديات
من حيث كونها ماديات ، أي من حيث ذاتها
للمعلومية والشعور
لغاية خسّتها ، وقصورها ، وكونها مناط الجهل ، فلا يمكن حضور ذاتها عند العالم ،
بل إنّما يمكن حضور صورتها ، فالصورة فيها أقوى من ذات المعلوم في باب العلم، بل
صورتها علم ، ومعلومها ليس بعلم ، فكما أن وجودها كلا وجود ، فكذلك العلم بها كلا
علم.
وهذا بخلاف
المفارقات عن المادة ، فإنّ ذات المعلوم هناك أقوى في باب العلم ، بل الصورة فيها
ليست علما بها ، بل بوجه من وجوهها ، كذا أفاد أستاذنا ـ دام ظله ـ ، وقد مضى تحقيق ذلك في الأصول.
فصل
قد احتاجت الصورة
النباتية إلى التغذّي من وجه آخر غير النموّ ؛ وذلك لأن الجسم النامي ، وسيّما
الحيوان منه ، أبدا في التحلل والذوبان ؛ لاستيلاء الحرارة الغريزية عليه ،
الحاصلة فيه من نار الطبيعة الكائنة في مركبات هذا العالم شأنها النضج والتحليل ،
كمثال نار الجحيم في قوله سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) .
وقد تستولي
الحرارة الغريبة ـ أيضا ـ عليه ، فتحلله ، والحركات البدنية والنفسانية أيضا محللة
جدا ، فلا بد إذن من أن يتخلّف بدل ما يتحلل عنه ، آنا فآنا ، ولحظة فلحظة، وما
ذلك إلّا بالتغذّي ، فالاحتياج إلى المتغذّي باق إلى آخر العمر.
وأما إلى النامي
فليس إلّا إلى البلوغ إلى كمال النشوء ، وشأن الأوّل أن
__________________
يأتي كلّ عضو من
الغذاء بقدر عظمه وصغره ، ويلصق به منه بمقدار يناسب له على السواء، وأمّا الثاني
فيسلب جانبا من البدن من الغذاء ما يحتاج إليه لزيادة في جهة أخرى ، فيلصقه بتلك
الجهة ليزيد تلك الجهة فوق زيادة جهة أخرى.
فصل
المتغذّي في أوّل
الأمر يقوى على تحصيل مقدار أكثر ممّا يتحلل ، لصغر الجثّة ، وكثرة الأجزاء الرطبة
فيها ، فيعمل النامي فيما فضل عن الغذاء ، ثمّ يعجز المتغذّي عن ذلك لكبر الجثّة ،
وزيادة الحاجة ، لنفاد أكثر الرطوبات الأصلية الصالحة لتغذية الحرارة الغريزية ،
فيصير ما يحصّله مساويا لما يتحلّل ، وحينئذ يقف النامي ، وعند القرب من تمام
النموّ تتفرّغ النفس للتوليد فيقوى المولّد حينا من الدهر.
ثمّ إذا عجز
المتغذّي عن إيراد بدل ما يتحلّل بحيث لم يفضل شيء يتصرّف المولد فيه ، أو انحرف
المزاج بسبب الانحطاط المفرط ، فصارت المادّة غير مستعدّة لذلك ، وقف المولد أيضا
، ويبقى المتغذّي عمّالا إلى أن يعجز ، فيحل الأجل لسرعة تحلل الأجزاء ، وانحراف
المزاج عن الاعتدال وانطفاء الحرارة الغريزية ؛ لعدم غذائها ، ووجود ما يضادّها.
وإنما لم يصل
المدد من الله سبحانه إلى هذه القوى بعد عجزها كما يصل إلى القوى الفلكية ؛ لعدم
احتياج النفس إلى البدن بعد ذلك ؛ لتجوهرها ، وفعليتها ، وتوجّهها إلى نشأة أخرى.
وهذا هو السبب
للموت الطبيعي في الحقيقة ، كما حقّقه أستاذنا ، ويأتي بيانه ، لا مجرّد عجز القوى ؛ لإمكان وصول المدد
إليها لو لا ذلك.
فصل
وهؤلاء الأملاك
دائما في شغلهم ، لا يمسكون عن أفعالهم طرفة عين ، فإنّ الشجر ـ مثلا ـ إذا سقي
الماء ، أو الحيوان أكل الغذاء ، فذلك ليس بغذاء ، ولا أكل على الحقيقة، وإنما
مثلهم كمثل الجابي الجامع للمال في خزانته ، وهي المعدة في الحيوان ، وما يجري
مجراها في النبات ، فإذا اختزن ما فيها وأمسكا عن السقي والأكل ، فحينئذ تتولاه
الملائكة بالتدبير، وتحيله من حال إلى حال ، ويغذيهما به في كلّ آن ، ونفس ، فهما
لا يزالان في غذاء دائم ، ولو لا ذلك لبطلت الحكمة في نشأة كلّ متغذّ ، والله
حكيم.
فإذا خلت الخزانة
حرّكت الملائكة الجابي إلى تحصيل ما يملؤها به ، فإذا لم يوجد غذاء يحلّلون المواد
والفضلات الّتي في البدن ، ولا يزال الأمر كذلك أبدا ، فهذه صورة الغذاء في كلّ
نفس ، فكلّ نفس أكلها دائم في هذه النشأة أيضا ، كما في الآخرة.
__________________
فصل
ويخدم المولّد
ملكان :
أحدهما : يجعل
فضلة الهضم الأخير منيّا ، أو ما يجري مجراه من بيضة ، أو بذور ، وهو إمّا في كلّ
البدن ، فتلك المادّة الّتي يفرزها متخالفة الحقيقة ، متشابهة الامتزاج ؛ لخروجه
من جميع الأعضاء ، وتولّده عندها جميعا ، فيحصل من العظم مثلا مثله ، ومن اللحم
مثله ، وهكذا.
وإما في موضع
مخصوص من البدن ، كالأنثيين في الحيوان ، فتكون المادّة المفروزة متشابهة الحقيقة
، وإنما تختلف أجزاؤه باختلاف أوضاعها بالنسبة إلى الرحم ، أو ما يجري مجراه ،
وغيره من الأسباب الخفية.
والملك الثاني :
يهيّىء كلّ جزء من أجزاء تلك المادّة لقبول صورة مخصوصة من واهب الصور ، أما على
تقدير تخالفها ، فبتمزيجها تمزيجات بحسب عضو عضو ، فيخصّ للعصب مزاجا ، وللعظم
مزاجا ، وللشريان مزاجا ، وهكذا.
وأمّا على تقدير
تشابهها ، فبأن يحيل كلّ جزء ويغيره إلى أن يجعل بعضها مستعدة للعصبية ، وبعضها
للعظمية ، وبعضها للشريانية ، إلى غير ذلك ، باختلاف الأسباب المقتضية لذلك.
وهذا الملك إنّما
يوجد في تلك المادّة المفروزة عند كونها في الرحم ، أو ما يجري مجراه خاصة.
وهذان الملكان
ربما اجتمعا في شخص واحد ، كما في أكثر النباتات ،
وربما افترقا في
شخصين ، ذكر وأنثى ، كما في أكثر الحيوانات ، وإذا اجتمعا حصل التوليد ، ويسمى
الأوّل عند الجمهور بالمغيّرة ، والثاني بالمصوّرة.
أما واهب الصور
فهو الله سبحانه ، بتوسّط الحقيقة العقلية ، الّتي هي ربّ نوع النفس النباتية
المخدومة لهذه الأملاك جميعا ، كما في سائر الأفاعيل.
قال تعالى : (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي
الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) .
وقال : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ* أَأَنْتُمْ
تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ) .
وعن النبي صلىاللهعليهوآله ، في وصف ملك الأرحام : إنه يدخل الرحم فيأخذ النطفة في
يده ، ثمّ يصوّرها جسدا ، فيقول : يا رب ، أذكر ، أم أنثى؟ أسويّ ، أم معوج؟ فيقول
الله ما شاء ، ويخلق الملك .
وفي لفظ آخر :
ويصوّر الملك ، ثمّ ينفخ فيها الروح بالسعادة ، أو بالشقاوة .
فصل
إن الأرض للنبات
بمنزلة الرحم ، والبذر وما يقوم مقامه من الأصول إذا انفسدت بالرطوبة بمنزلة المني
والبيضة ، فإذا نكح الجوّ الأرض ، وأنزل الماء ، ودبّرته في رحمها آثار الأنوار
الفلكية ، ضحكت الأرض بالأزهار ، وأنبتت من
__________________
كلّ زوج بهيج ،
فمنه ما يولد في الربيع ، ومنه ما يولد في الصيف ، كما يكون حمل الحيوان مختلفا
زمانه باختلاف طبيعته ، فإنه لا يقبل من تأثير الزمان فيه إلّا بقدر ما يعطيه
مزاجه وطبعه.
وإن من النبات ما
لا يتكون إلّا من البذر والثمر ، ومنه ما لا يتكون إلّا من الأصل ، ومنه ما يتكون
منهما ، وربما يتكون من بذر واحد في بلاد مختلفة نباتات مختلفة.
وأوّل ما يتكوّن
من النبات أوّليّة بالطبع طبقات ثلاثة يقوم جرمه بها ، منها اللب وما يتصل به ،
ومنها العود ، كالخشب وما يشبهه ويناسبه ، ومنها الّلحاء وما يتمّه وينتهي إليه.
والغرض الطبيعي في
النبات إمّا في عوده ، أو ساقه ، أو أصله ، أو ورقه ، أو قشره ، أو غصنه ، أو
ثمره.
ولمّا لم يجد
الجرم الصلب غذاء يتشبّه به دفعة بلا تدريج خلق في الأشجار الصلبة لب يشبه المخّ
في العظام ، عناية من الله تعالى في حقها.
وأمّا الأشجار
الضعيفة القوام ، المتخلخلة فهي بمعزل عن ذلك ؛ لعدم حاجتها إليه ، وما كان الغرض
الطبيعي فيه أن يعظم حجمه ويطول قده في مدّة قصيرة امتنع أن يكون صلبا ؛ لأنّ
الصلب يحتاج إلى مادّة عاصية ، وقوّة طابخة ، والتصرّف في مثلها يحتاج إلى مدّة
طويلة ، فسبحان من أنزل من السماء ماء فأخرج به نبات كلّ شيء ، فأخرج منه خضرا
يخرج منه حبا متراكبا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون
والرمان مشتبها وغير
متشابه ، انظروا
إلى ثمره إذا أثمر وينعه ، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ، (وَفِي الْأَرْضِ
قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ
وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي
الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .
__________________
في الحيوان
(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ)
فصل
المركّب العنصري
لما استوفى درجات النبات ، تخطّى خطوة أخرى إلى جانب القدس إن كان من أهل السلوك ،
على صراط الله ، بأن كان ناقصا ضعيف الفعلية جدا ، كأنه يتضرّع في فكاك رقبته من
النقصان ، كالأجنّة في بطون أمهاتها ، ممّا لها نفوس نباتية ، ولم تصر حيوانات بعد
، فإذا كان كذلك فيتقرّب إلى الله تعالى بالتوجّه إليه تقرّبا ما ، فيتقرّب الله
سبحانه إليه ضعف تقرّبه ، كما هي سنّته تعالى ، فيفيد له بذلك بدل صورته الناقصة
صورة كمالية حيوانية ، ذات نفس ملكوتية ، حسّاسة ، درّاكة ، متحرّكة بالإرادة ،
فيصدر عنها ببساطتها كلّ ما يصدر من النبات ، ويزيد عليه بأفعال مختصّة بها ،
فيوكّل الله تعالى بها ـ مع تلك الملائكة الّتي كانت له أولا ـ ملائكة أخرى أرفع
درجة منهم ، بها يدرك ، ويتحرّك بالإرادة ، وهذا هو الحيوان.
__________________
وصل
فإن كان كاملا في
الحيوانية ، بأن يقوى أثر النفس فيه ، ومن شأنه أن يدخل في نشأة الملكوت ويصير
حيّا بالذات ، مستقلا في تلك النشأة ، أفاض الله سبحانه عليه عشر حواسّ للإدراك ،
خمسة لنشأته الظاهرة ، وخمسة لنشأته الباطنة ، فيصير ذا قدمين ، تكون له قدم في
هذه النشأة ، وأخرى في تلك النشأة ، فيأخذ في تكميل النشأتين مبتدئا بالأولى
الفانية ، حتّى يبلغ في تكميلها إلى حد ما يمكن له أن يجعلها آلة لتكميل الأخرى ،
ثمّ يأخذ في تكميل الأخرى متوجّها إلى الله سبحانه ، وعالم الآخرة ، توجّها غريزيا
، وسلوكا ذاتيا ، كما أشير إليه في قوله تعالى ، مخاطبا لأشرف أنواعه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .
فتتكامل ذاته يوما
فيوما بالتدريج ، باستعدادات يكتسبها من النشأة الأولى ، وأخلاق وهيئات ، إمّا في
سعادة ، أو في شقاوة ، حتّى تستقل في النشأة الأخرى ، وتصير فيها بالفعل ، وتبطل
عنه القوّة الاستعدادية ، فيمسك عن تحريك البدن ، ويرفض هذه النشأة الفانية ؛
استغناء عنها ، ويرتحل إلى الآخرة ارتحالا طبيعيا ، وهذا هو الموت الطبيعي للحيوان
الكامل ، وهو بعينه ولادة وحياة في النشأة الأخرى ، ومبناه استقلال النفس بحياتها
الذاتية ، وترك استعمالها الآلات البدنية على التدريج ، حتّى تنفرد بذاتها ، وتخلع
البدن بالكلية ؛ لصيرورتها بالفعل ، وهذه الفعلية لا تنافي الشقاوة الأخروية ؛ إذ
ربما تصير شيطانا بالفعل ، أو على شاكلة ما غلبت عليه صفاته الرديّة ، كذا حقّقه
أستاذنا ـ سلّمه الله ـ.
__________________
وصل
وإن كان ناقصا في
الحيوانية ، بأن يضعف أثر النفس فيه ، ولم يكن من شأنه الدخول في الملكوت ،
والصيرورة من أهله ، أفاض الله سبحانه عليه بعض الحواسّ دون بعض ، إمّا قوية ، أو
ضعيفة ، على اختلاف مراتب الحيوانات ، أو كلها ، ولكن ضعيف الباطنية ، وخصوصا حسّ
الخيال ، فيعيش في هذه النشأة مدّة ما ، حياة عرضية بقوّة الملكوت ، حيث إن ملائكتها
وقواها من تلك النشأة ، ثمّ إذا مات فات ، كالنبات ؛ لعدم تعيّنه واستقلاله في تلك
النشأة ، فلم يبق منه إلّا ربّ نوعه الّذي به حياته وقوامه ، وفني هو فيه ، وحشر
إليه ، كما قال تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ
فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما
فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) .
فصل
إن الله سبحانه
خلق الحيوانات أنواعا مختلفة ، وأصنافا شتى ، اختلافا لا يدخل تحت الحصر والضبط ،
وربما يقال : إن عدد أنواعها ألف وأربعمائة ، ثمانمائة منها بحرية ، وستّمائة
برّية.
وفي الكافي ،
بإسناده عن ابن عباس ، قال : «سئل أمير المؤمنين عليهالسلام عن الخلق ، فقال : خلق الله ألفا ومائتين في البر ، وألفا
ومائتين في البحر ، وأجناس
__________________
بني آدم سبعون
جنسا ، والناس ولد آدم ، ما خلا يأجوج ومأجوج» .
والبرّي يتنفّس
ويتروّح للحرارة من الهواء ، والبحري إمّا مكانه وغذاؤه وتنشّقه في الماء، فينقل
الماء إلى بطنه ، ثمّ يرده بدل النسيم ، فلا يعيش إذا فارقه ، وإما مكانه وغذاؤه
في الماء ، ولكن يتنفّس من الهواء ، سواء كان معدنه في الماء ، ولا يبرز ، أو كان
له أن يبرز ، كالسلحفاة ، وإما مكانه وغذاؤه في الماء ولا يتنشّق أصلا ، كأصناف من
الصدف.
والمتنفّس ما
يتنفّس من طريق واحد ، كالفم والخيشوم ، أو من مسامه ، مثل الزنبور والنحل.
ومن الحيوان ما
يحتاج إلى طعم معيّن ، كالنحل ، فإنّ غذاءه زهري ، والعنكبوت ، فإنّ غذاءه ذباب.
ومنه منتن الطعم ،
ومنه ما يحتاج إلى مأوى معيّن ، ومنه ما يأوي كيف اتّفق ، إلّا أن يلد فيقيم
للحضانة ، ومنه ما هو إنس بالطبع ، كالإنسان ، أو بالمولد ، كالهرة والفرس ، أو
بالقسر ، كالفهد ، ومنه ما لا يأنس ، كالنمر ، ومنه ما لا يمكنه أن يعيش وحده ،
كالإنسان ، والنحل ، والنمل ، إلّا أن النحل يطيع رئيسا واحدا ، والنمل له اجتماع
، ولا رئيس له.
ومنه ما يحتاج إلى
رجل للمشي ، إمّا اثنتين ، أو أربع ، أو ثمانية ، أو أكثر ، ولا بدّ أن تكون زوجا
لتعادل الحمل والثقل ، ومنه ما لا يحتاج إلى ذلك ، بل يمشي ببطنه ، قال الله تعالى
: (وَاللهُ خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ
يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللهُ ما
__________________
يَشاءُ) .
ومنه ما يحتاج إلى
أجنحة اثنتين ، أو أربع ، يطير بهما ، بصفيف ، أو دفيف ، قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ) .
وقال : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ
مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) .
والمنتقل في الماء
منه ما يعتمد في غوصه على رأسه ، وفي السباحة على أجنحته ، كالسمك ، أو يعتمد في
السباحة على أرجله ، كالضفدع ، ومنه ما يمشي في قعر الماء ، كالسرطان ، ومنه ما
يزحف ، كضرب من السمك لا جناح له.
ومن الحيوان مصوّت
، وغير مصوّت ، وكلّ مصوّت فإنه عند الاغتلام وحركة شهوة الجماع أشد تصويتا ، إلّا
الإنسان ، ومنه ما هو شبق كالديك ، ومنه عقيف ، له وقت معيّن يهيج فيه ، ومنه ما
تناسله بأن تلد أنثاه حيوانا مثله ، ومنه ما تناسله بأن تبيض أنثاه بيضا ، ومنه ما
يبيض في بطنه ، ثمّ يصير بعد ذلك دودا ، مثل البحري المعروف ب «سلاسي» ، وربما كان
بيضا ، وصار قبل أن يباض حيوانا ، كأكثر الأفاعي ، إلى غير ذلك من الاختلافات
الكثيرة.
فأعدّ الله سبحانه
بلطيف صنعه وبلاغ حكمته لكلّ منها آلات وقوى لخاصّ أفاعيلها وحاجاتها ، يناسبها ،
فاختلفت الحيوانات بحسب الأعضاء والأدوات وأوضاعها وأحوالها وقواها ومشاعرها
ومداركها ، لحكم ومصالح
__________________
مختصة بها.
وكلّ حيوان شحيم
ذي ثرب ، فدماغه دسم ، وما لا شحم له فلا دسومة لدماغه ، وذو الأذن ولود غالبا ،
وما ليس له أذن ظاهر يتكوّن من الأبيضة.
ومن الحيوان ما لا
يغتذي مدّة ، ويكون مع ذلك في غاية السمن والقوّة ، كالدب في الشتاء ، والقنفذ ،
ومنه ما يغتذي من الحيوان فقط ، أو من النبات فقط ، أو منهما.
ومن الطير آكل لحم
، ولا قط حبّ ، وآكل عشب.
وكلّ طائر جناحه
ذو ريش ، فهو ذو دم ، وما جناحه جلد أو صفاق فقد يكون له دم ، كالخفّاش ، وقد لا
يكون ، كالنحل ، وما له جناح صفاقي ولا دم له ، فمنه ما له جناحان ، ومنه ما له
أربعة أجنحة ، ومنه ما له إبرة يلسع بها.
وذو الجناحين منه
صغير ، ومنه ما يلسع بخرطومه ، كالبعوض والذباب ، وربما كان للجناح الصفاقي غلاف ،
كما للجعلان.
والعديم الدم أصغر
من ذي الدم ، ما خلا أصناف الحيوان البحري.
فصل
وكما أنها مختلفة
في الأعضاء والآلات البدنية ، فكذلك مختلفة في الأخلاق والهيئات النفسانية ، فمنها
هاد بالطبع ، قليل الغضب ، والخرق ، كالنقرة ، وشديد الجهل والغضب ، كالخنزير
البرّي ، وحليم جزوع كالبعير ، ورديء الحركات يغتال ، كالحية ، وجري قوي شهيم، ومع
ذلك كبير النفس ، كريم ، كالأسد ، وقوي يغتال وحشي ، كالذئب ، ومختال مكّار رديء
الحركات ،
كالثعلب ، وغضوب
شديد الغضب ، سفيه إلّا أنه ملق متودّد ، كالكلب ، وشديد الكيس مستأنس ، كالفيل
والقرد ، وذو حياء وحفاظ ، كالأوز ، وحسود منافر ، مباه بجماله ، كالطاووس ، وشديد
الحفظ ، كالجمل والحمار ، إلى غير ذلك من الصفات والأخلاق.
ولكلّ منها هاد ،
وملهم ، يهديه إلى خصائص أفاعيله ، وأخلاقه ، من الملائكة الموكّلة بها ، بإذن
الله ، والله سبحانه وراء الكلّ هو الّذي أعطى كلّ شيء خلقه ثمّ هدى.
وفي كلام أمير
المؤمنين عليهالسلام : «ابتدعهم خلقا عجيبا ، من حيوان ، وموات ، وساكن ، وذي
حركات ، وأقام من شواهد البيّنات على لطيف صنعته ، وعظيم قدرته ما انقادت له
العقول ، معترفة به ، ومسلّمة له ، ونعقت في أسماعنا دلائله ، على وحدانيته ، وما
ذرأ من مختلف صور الأطيار الّتي أسكنها أخاديد الأرض ، وخروق فجاجها ، ورواسي
أعلامها ، من ذات أجنحة مختلفة ، وهيئات متباينة ، مصرفة في زمام التسخير ، مرفرفة
بأجنحتها في مخارق الجو المنفسح ، والفضاء المنفرج ، كوّنها بعد إذ لم تكن في
عجائب صور ظاهرة ، وركّبها في حقاق مفاصل محتجبة ، ومنع بعضها بعبالة خلقه أن يسمو
في الهواء خفوقا ، وجعله يذف دفيفا ، ونسقها على اختلافها في الأصابيع بلطيف قدرته
، ودقيق صنعته ، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه ، ومنها
مغموس في لون صبغ قد طوّق بخلاف ما صبغ به ، ومن أعجبها خلقا الطاووس الّذي أقامه في
أحكم تعديل ، ونضّد ألوانه في أحسن تنضيد». الحديث في نهج البلاغة .
__________________
فصل
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام في خطبة له ، يصف فيها عجيب خلق أصناف الحيوان : «ولو
فكّروا في عظيم القدرة ، وجسيم النعمة ، لرجعوا إلى الطريق ، وخافوا عذاب الحريق ،
ولكنّ القلوب عليلة ، والبصائر مدخولة ، ألا ينظرون إلى صغير ما خلق ، كيف أحكم
خلقه ، وأتقن تركيبه ، وفلق له السمع والبصر ، وسوّى له العظم والبشر.
أنظروا إلى النملة
في صغر جثّتها ، ولطافة تركيبها ، لا تكاد تنال بلحظ البصر ، ولا بمستدرك الفكر ، كيف دبّت
على أرضها ، وصبّت على رزقها ، تنقل الحبّة إلى جحرها ، وتعدّها في مستقرّها ،
تجمع في حرّها لبردها ، وفي وردها لصدرها ، مكفول برزقها ، مرزوقة بوفقها ، لا
يغفلها المنّان ، ولا يحرمها الديّان ، ولو في الصفا اليابس ، والحجر الجامس ، ولو
فكّرت في مجاري أكلها ، في علوها ، وسفلها ، وما في الجوف من شراسيف بطنها ، وما
في الرأس من عينها ، وأذنها ، لقضيت من خلقها عجبا ، ولقيت من وصفها تعبا ، فتعالى
الله الّذي أقامها على قوائمها ، وبناها على دعائمها ، لم يشركه في فطرتها فاطر ،
ولم يعنه على خلقها قادر ، ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته ما دلّتك الدلالة
إلّا على أنّ فاطر النملة هو فاطر النخلة ؛ لدقيق تفصيل كلّ شيء ، وغامض اختلاف
كلّ شيء ، وما الجليل واللطيف ، والثقيل والخفيف ، والقوي والضعيف في خلقه إلّا
سواء. وكذلك السماء والهواء والرياح والماء.
__________________
فانظر إلى الشمس
والقمر والنبات والشجر والماء والحجر ، واختلاف هذا الليل والنهار ، وتفجّر هذه
البحار ، وكثرة هذه الجبال ، وطول هذه القلال ، وتفرّق هذه اللغات والألسن
المختلفات ، فالويل لمن جحد المقدّر ، وأنكر المدبّر ، زعموا أنّهم كالنبات ما لهم زارع ، ولا لاختلاف صورهم
صانع ، ولم يلجأوا إلى حجّة فيها ادّعوا ، ولا تحقيق لما وعوا ، وهل يكون بناء من غير بان ، أو جناية من غير جان.
وإن شئت قلت في
الجرادة ؛ إذ خلق لها عينين حمراوين ، وأسرج لها حدقتين قمراوين ، وجعل لها السمع
الخفي ، وفتح لها الفم السوي ، وجعل لها الحسّ القوي ، ونابين بهما تقرض ، ومنجلين
بهما تقبض ، يرهبها الزّرّاع في زرعهم ، ولا يستطيعون ذبّها ولو أجلبوا بجمعهم
حتّى ترد الحرث في نزواتها ، وتقضي منه شهواتها ، وخلقها كلّه لا يكون إصبعا
مستدقّة ، فتبارك الله الّذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها ، ويعفّر
له خدّا ووجها ، ويلقي بالطاعة إليه سلما ، وضعفا ، ويعطي له القياد رهبة وخوفا.
فالطير مسخّرة
لأمره ، أحصى عدد الريش منها ، والنفس ، وأرسى قوائمها على الندى واليبس ، قدّر أقواتها
، وأحصى أجناسها ، فهذا غراب ، وهذا عقاب ، وهذا حمام ، وهذا نعام ، دعا كلّ طائر
باسمه ، وكفل له برزقه ، وأنشأ السحاب الثقال ، فأهطل ديمها ، وعدّد قسمها ، فبلّ
الأرض بعد جفوفها ، وأخرج نبتها بعد جدوبها» .
__________________
فصل
ومن لطف الله
سبحانه أن خلق هذه الحيوانات كلّها ، من عفونات الأرض ، ليصفو الهواء من تلك
العفونات الّتي لو خالطت الهواء الّذي أودع الله فيه حياة الإنسان ، وعافيته ،
لكان سقيما ، مريضا ، معلولا ، فصفّى له الجوّ بتكوين هذه المعفّنات حيوانا ؛ لطفا
منه ، لتقل الأسقام والعلل ، وله الحمد.
فصل
ومن عناية الله
سبحانه أن جعل في جبلّة الحيوانات الآلام والأوجاع ، والجوع والعطش ، حثّا لنفوسها
على حفظ أجسادها من الآفات العارضة لها ؛ إذ كانت الأجساد لا تقدر على جرّ منفعة ،
ودفع مضرّة ، فلو لا ذلك لتهاونت النفوس بالأجساد ، وأسلمتها إلى المهالك ، قبل
فناء أعمارها ، وتقارب آجالها ، ولما علم أنه لا يدوم بقاؤها أبد الآبدين جعل لكلّ
منها عمرا طبيعيا أكثر ما يمكن ، ثمّ يجيئه الموت الطبيعي ، شاء أم أبى ، وقد علم
الله أنه يموت كلّ يوم منها في البر والبحر والسهل والجبل ، عدد لا يحصيه إلّا هو
، فجعل بواجب حكمته جثث جيف موتاها غذاء لأحيائها ، ومادّة لبقائها ؛ لئلّا يضيع
شيء ممّا خلق بلا نفع ، وفائدة ، فكان في هذا منفعة للأحياء ، ولم يكن فيه ضرر على
الموتى ، وهذا أحد وجوه الحكمة في أكل بعض الحيوانات بعضا.
ومن جملة تلك
الوجوه أنه لو لم تكن الأحياء تأكل جثث الموتى لبقيت تلك الجثث ، واجتمع منها على
ممرّ الأيام والدهور ، حتّى كان يمتلىء بها وجه
الأرض ، وقعر
البحار ، وتفسد المياه ، وريحها ، فتصير تلك سببا وهلاكا للأحياء ، فالغرض الأصلي
من ذلك إنّما هو جلب المنفعة ، ودفع المضرّة ، وإن كان ينال بعضها الآلام والأوجاع
عند الذبح والقتل والقبض ، فإنّ ذلك إنّما هو بالعرض.
ولنقتصر في هذا
النمط من الكلام على ذلك ، فإنه بحر لا ساحل له ؛ إذ بدائع حكم الله سبحانه
وعناياته في خلقه أكثر من أن تصل إلى صفته عمايق الفطن ، أو تبلغه قرائح العقول ،
أو تستنظم وصفه أقوال الواصفين ، ولنشتغل بالبحث عن شيء ممّا دبّر الله سبحانه
بلطيف حكمته ، ودقيق صنعه في بدن الحيوان الكامل خاصة ، الّذي يبقى بعد خراب البدن
، سيّما أشرف أنواعه ، الّذي هو الإنسان ، وليقس عليه سائر الأنواع.
فصل
لما كانت النفس
الحيوانية من عالم الملكوت ، وهي نشأة لطيفة نورانية ، وبدنها من عالم الملك ، وهي
نشأة كثيفة ظلمانية ، والشيء إنّما يتصرّف في ما بينه وبينه مناسبة ، فلا بدّ من
متوسّط له مناسبة ما مع كلّ من الطرفين ، ليتمكّن من التصرّف فيه ، بل لا بدّ وأن
يكون فيما بين ألطف لطيفه وأكثف كثيفه وسائط متناسبة ، منضودة بعضها بالبعض ، كما
في طبقات الأجرام الكلية الفلكية ، والعنصرية ؛ إذ الموجودات مترتبة في اللطافة
والكثافة فيما يتّصف بهما ، كما أنها مترتبة في الشرف والخسّة ، كما دلّت عليه
قاعدة الإمكان الأشرف.
فخلق الله سبحانه
بلطيف صنعه جرما ، حارّا ، لطيفا ، نورانيا ، شفّافا ، يسمى ب «الروح البخاري» ،
وجعله مركبا للنفس وقواها ، وكرسيّا لملائكتها ، حيّا بحياتها ، باقيا بتعلّقها به
، فانيا برحلتها عنه ، لا كسائر الأجرام الّتي تزول عنها
الحياة ، وهي
باقية ، وبه حياة البدن من الواهب بواسطة النفس ، فكلّ موضع منه يفيض عليه من
سلطان نوره يحيى ، وإلّا فيموت.
واعتبر بالسدد ،
فلو لا أن قوّة الحس والحركة قائمة بهذا الجسم اللطيف لما كانت السدد تمنعهما ،
وقد يخدر العضو بالسدة بحيث لا يتألّم بجرح ، وضرب ، وربما تنقطع الروح فتبطل
الحياة منه ، ولو لا أنه شديد اللطافة لما نفذ في شباك العصب ، ومن أخذ بعض عروقه
يحسّ بجري جسم لطيف حارّ فيه ، وتراجعه عنه ، وهذا هو الروح ، ومنبعه القلب
الصنوبري ، ومنه تتوزّع على الأعضاء العالية والسافلة من البدن ، فما يصعد إلى
معدن الدماغ على أيدي خوادم الشرايين معتدلا بتبريده ، فائضا إلى الأعضاء المدركة
والمتحركة ، منبثّا في جميع البدن ، يسمى روحا نفسانيا ، وما يسفل منه إلى الكبد
بأيدي سفراء الأوردة الّذي هو مبدأ القوى النباتية منبثّا في أعمال البدن ، يسمى
روحا طبيعيا.
فصل
وهذا الروح إنّما
يحدث من لطائف الأمشاج الأربعة ، الّتي هي : الدم ، والبلغم ، والصفراء ، والسوداء
، كما أن الأعضاء حادثة عن كثافتها على نسبة محدودة مزاجية.
والأمشاج هي أوّل
ما يحدث من الغذاء ؛ وذلك لأنّ الغذاء له انهضام ما بالمضغ ؛ لاتصال سطح الفم بسطح
المعدة ، بل كأنهما سطح واحد ، وفيه منه قوّة هاضمة ؛ ولهذا لا يوجد في الممضوغ
الطعم الأوّل ، ولا الرائحة الأولى.
ثم إذا ورد على
المعدة انهضم الانهضام التام بحرارة المعدة ، وبحرارات
تطيف بها ، فصار
بذاته في كثير من الحيوان ، وبمعونة ما يخالطه من المشروب في أكثرها ، كيلوسا ،
وهو جوهر سيّال شبيه بماء الكشك الثخين.
ثمّ إنه بعد ذلك
ينجذب لطيفه من المعدة ، ومن الأمعاء ـ أيضا ـ فيندفع في طريق العروق المتصلة
بالأمعاء المسمّاة ماساريقا ، إلى العرق المسمى باب الكبد ، وينفذ في الكبد في
أجزاء وفروع للباب داخلة في الكبد ، متصغّرة متضائلة ، فإذا تفرّق في ليف هذه
العروق صار كأنّ الكبد بكليتها ملاقية لكلية هذا الكيلوس ، وكان لذلك فعلها فيه
أشدّ وأسرع ، وكأنّ الكبد يمتصّه من المعدة والأمعاء ، ويجذبه إلى نفسه ، فحينئذ
ينطبخ ، ويستفيد من الكبد الحرارة والحمرة ؛ لرقّة صفاقات تلك الشعب ، وفي كلّ
انطباخ لمثله شيء كالرغوة والطفاوة ، وشيء كالدردي والعكر ، وشيء يميل إلى الفجاجة
، كبياض البيض ، فالرغوة هي الصفراء ، والرسوب هو السوداء ، والفج هو البلغم ،
والمتصفّى من هذه الجملة نضيجا هو الدم ، وهو الغذاء الحقيقي للبدن.
فصل
إذا تمّت استحالة
الكيلوس إلى الدم تميّزت المائية ، وتنجذب من الجانب المحدّب في عرق نازل إلى
الكليتين ، وتحمل مع نفسها من الدم ما يكون بكميّته ، وكيفيته ، صالحا لغذاء
الكليتين ، فتغذو الكليتين الدسومة والدموية من تلك المائية ، ويندفع باقيها إلى
المثانة، وإلى الإحليل ، وتندفع الرغوة الصفراوية إلى المرارة من الجانب المقعّر
في منفذ لها فوق الباب، يتصل أحد طرفي المنفذ بالمرارة ، والآخر بالكبد ، فتقذفها
المرارة من منفذ آخر إلى الأمعاء ، فتحثّ بحدّتها الأمعاء على دفع الأثفال والفضول
، فيكون سببا للنقاء من الثفل ، ثمّ
تخرج ـ أيضا ـ مع
خروج الثفل وبلوغها الأمعاء وعضل المقعدة فيحسّ بالحاجة ، وينهض للتبرّز.
ويتوجّه الرسوب
السوداوي إلى الطحال من الجانب المقعّر ـ أيضا ـ في منفذ آخر ، فيحيلها الطحال
حتّى يكتسب قبضا وحموضة ، ثمّ يرسل منها في كلّ يوم شيئا إلى فم المعدة، فينبّه
بالجوع ، فيحرّك الشهوة بحموضته ، وقبضه ، ثمّ يخرج ـ أيضا ـ مع خروج الثفل
ويتوجّه الدم الصافي إلى الأعضاء ، ويتوزّع عليها في شعب العرق الأجوف العظيم
النابت من حدبة الكبد ، فيسلك في الأوردة المنشعبة منه ، ثمّ في جداول ، ثمّ في
سواقي الجداول ، ثمّ في رواضع السواقي ، ثمّ في العروق الليفية الشعرية ، ثمّ ترشح
في فوّهاتها في الأعضاء بتقدير العزيز الحكيم.
وأمّا البلغم
فلعدم استحكام انهضامه وتولده من الهضم الأوّل ، لم تحدث له الطبيعة وعاء تقبله ،
فما صار منه إلى الكبد مع عصارة الطعام والشراب ، انهضم في الكبد ، وجداولها ،
واستحال وصار دما ، وما بقي منه في الأمعاء ولم ينحدر منها إلى الكبد ، اندفع من
الأمعاء ، وانغسل بالمرّة الصفراء المنقّية للأمعاء الغاسلة لها بحدّتها وحرافتها
، ومنه ما لا يخرج من البدن لحاجة البدن إليه ؛ لأنّه يغذوه كالدم ، ولافتقاره
إليه لحركة المفاصل ، وترطيب الأمعاء.
وكلّ خلط يخرج من
الفم بالقيء أو البصاق ، أو ينحدر من الرأس ويخرج من الفم بالتنخّع ، ولا طعم له
في طبيعته ، يسمى بلغما.
وصل
ثم إنّ للدم وما
يجري معه من الأخلاط في العروق هضما ثالثا ، وإذا توزّع على الأعضاء فيصيب كلّ عضو
عنده هضم رابع.
فمراتب الهضم في
الحيوانات الكاملة ـ بالنظر إلى أعضاء الغذاء والعضو المغتذي ، وإلى ظهور
التغيّرات في الغاية ـ أربع ، وإن كان الغذاء من مبدأ المضغ إلى حين أن يصير جزء
من العضو يعرض له في كلّ آن تغيّر واستحالة ، من غير أن يكون ذلك محصورا في عدد ،
وينفصل في كلّ مرتبة من هذه المراتب الأربع فضلة ؛ لأنّ الهاضمة لا يمكنها إحالة
جميع ما يرد إليها من الغذاء ، إمّا لكثرته ، وإما لأنّ من أجزائه ما لا يصلح أن
يصير جزء من المغتذي.
فالفضلة الأولى
للهضم الأوّل الّذي يكون في المعدة ، وهي البراز ، ويندفع في طريق الأمعاء ،
والثانية للثاني الّذي يكون في الكبد ، ويندفع أكثرها بالبول ، والباقي من طريق
الطحال والمرارة ، والثالثة للثالث الّذي يكون في العروق ، والرابعة للرابع الّذي
يكون في الأعضاء ، واندفاعها قد يكون طبيعيا ، وقد يكون غير طبيعي ، والثاني قد
يكون باقيا على حاله ، من غير تصرّف للهضم الثالث فيه ، كدم البواسير ، والدم
الفاسد الخارج بالرعاف ، وغيره ، وقد يستحيل استحالة غير تامة ، كالصديد والقيح ،
أو تامة إمّا إلى حالة تصلح للتغذية ، كالثفل النضيج الخارج في البول في حالة
الصحة ، ممّا فات القوّة الغاذية ، أو لا ، كالمرّة الخارجة من الأورام المنفجرة ،
والأوّل وهو ما يكون اندفاعه طبيعيا قد يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى ، وقد
لا يجمع ، والأوّل إمّا أن تكون تلك المنفعة توليد جسم متصل بالبدن من جنس الأعضاء
، وهو مادّة الظفر ، أو لا ، وهو مادّة الشعر ،
أو غير متّصل ،
وهو مادّة الولد ، أعني المني ، أو يكون غير توليد جسم آخر.
وحينئذ فتلك
المنفعة قد تتعلّق بالمني ، كالوذي الحافظ لرطوبة المني المسهّل لخروجه ، وقد
تتعلّق بالجنين حال تكوّنه ، كالطمث لو حال خروجه ، كالرطوبات الكائنة حالة
الولادة، أو بعد ذلك ، كاللبن ، وقد لا تتعلّق بهما ؛ وذلك إمّا لدفع ضرر شيء يخرج
من البدن ، كالودي الكاسر بلعابيته لحدّة البول ، أو يدخل فيه ، كوسخ الأذن القاتل
بمرارته لما يدخل فيها من الذباب ونحوه ، وإما لا لدفع ضرر شيء ، كاللعاب المعين
على التكلم بترطيبه اللسان.
والثاني وهو ما لا
يجمع إلى منفعة الانتقاص منفعة أخرى ، إمّا أن يتكوّن عنه جسم آخر منفصل ، كمادّة
القمل ، أو غير منفصل ، كمادّة الحصاة ، وإما أن لا يتكوّن ، وهو إمّا أن لا يكون
محسوسا البتّة ، كالبخار المتحلل ، أو يكون محسوسا أحيانا ، كوسخ البدن الكائن من
فعل غذائه ، فإنه لا يحسّ به إلّا إذا جمع ، أو دائما ، واندفاعه إمّا من منفذ
محسوس ، كالمخاط ، أو غير محسوس ، كالعرق.
والأعضاء القوية
تدفع فضولها إلى جاراتها الضعيفة ، كدفع القلب إلى الإبطين ، والدماغ إلى ما خلف
الأذنين ، والكبد إلى الأريتين ، كذا أفاد بعض الفضلاء.
فلنشرح أعضاء
الحيوان الكامل أولا تشريحا يناسب وضع الكتاب ، مع ذكر منافعها على ما استفدناه من
علماء هذا الفن ، مع زوائد ذوات فوائد ، ثمّ نذكر الملائكة الموكّلين به ؛ توسيعا
لساحة ميدان التفكّر في عظمة الله ، وبالله التوفيق.
في تشريح أعضاء الحيوان الكامل ،
ومنافعها
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ
الْكَرِيمِ* الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ
فَعَدَلَكَ* فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ)
فصل
إن الله سبحانه
خلق أعضاء الحيوان مختلفة ؛ لحكم ومصالح ، فجعلها عظاما ، وأعصابا ، وعضلات ،
وأوتارا ، ورباطات ، وعروقا ، وأغشية ، ولحوما ، وشحوما ، ورطوبات ، وغضاريف ، وهي
البسائط.
ثمّ جعل منها
الأعضاء المركبة الآلية من القحف ، والدماغ ، والفكّين ، والعين ، والأذن ، والأنف
، والأسنان ، واللسان ، والحلق ، والعنق ، والصلب ، والنخاع ، والأضلاع ، والقصّ ،
والترقوة ، والعضد ، والساعد ، والرسغ ، والمشط ، والأصابع ، والأظفار ، والصدر ،
والريّة ، والقلب ، والمريء ، والمعدة ، والأمعاء ، والكبد ، والطحال ، والمرارة ،
والكلى ، والمثانة ، ومراق البطن ، والأنثيين ، والقضيب ، والثدي ، والرحم ،
والعانة ، والفخذ ، والساق ، والقدم ، والكعب ، والعقب ، وغير ذلك.
__________________
أربعة منها رئيس
شريف ، وهي : الدماغ ، والقلب ، والكبد ، والأنثيان ؛ إذ في الأوّل قوّة الحسّ
والحركة ، وفي الثاني قوّة الحياة ، وفي الثالث قوّة التغذية ، والثلاثة ضرورية
لبقاء الشخص ، وفي الرابع قوّة التوليد ، وحفظ النسل ، المحتاج إليه في بقاء النوع
، وبه تتم الهيئة ، والمزاج الذكوري ، والأنوثي ، اللذين هما من العوارض اللازمة
لأنواع الحيوان.
وكلّ من الثلاثة
الأول مشتبك بالآخر ، محتاج إليه ؛ إذ لو لا الكبد وإمداده لسائر الأعضاء بالغذاء
لا نحلّت وانفشت ، ولو لا ما يتّصل بالكبد من حرارة القلب لم يبق له جوهره الّذي
به يتمّ فعله ، ولو لا تسخّن الدماغ بالشرايين وإغذاء الكبد بالعروق الصاعدة إليه
لم يدم له طباعه الّذي يكون به فعله ، ولو لا تحريك الدماغ لمفصل الصدر لم يكن التنفس
، ولم يبق للقلب جوهره الّذي منه تنبعث الحرارة الغريزية في أبداننا ، ولكن الرئيس
المطلق هو القلب ، وهو أوّل ما يتكوّن في الحيوان ، ومنه يسري الروح الّذي هو محل
الحسّ والحركة إلى الدماغ ، ثمّ يسري منه إلى سائر الأعضاء ، ومنه ـ أيضا ـ يسري
الروح الّذي هو محلّ مبدأ التغذّي والنموّ إلى الكبد ، ثمّ يسري منه إلى سائر
الأعضاء (فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
فصل
العظام أنواع ، من
طويل ، وقصير ، وعريض ، ودقيق ، ومصمت ، ومجوّف ، على حسب اختلاف المصالح والحكم.
__________________
فمنها ما قياسه من
البدن قياس الأساس ، وعليه مبناه ، ومنها ما قياسه قياس المجن والوقاية ، ومنها ما
هو كالسلاح الّذي يدفع به المصادم ، ومنها ما هو حشو بين فرج المفاصل ، ومنها ما
هو متعلّق العضلات المحتاجة إلى علاقة.
وجملة العظام
دعامة وقوام للبدن ؛ ولهذا خلقت صلبة.
ثمّ ما لا منفعة
فيه ـ سوى هذه ـ خلق مصمتا ، وإن كان فيه المسام والخلل التي لا بدّ منها ، وما
يحتاج إليه لأجل الحركة أيضا ، فقد زيد في تجويفه ، وجعل تجويفه في الوس ، واحدا ،
ليكون جرمه غير محتاج إلى مواقف الغذاء المتفرقة ، فيصير رخوا ، بل صلّب جرمه وجمع
غذاؤه ، وهو المخ ، في حشوه.
ففائدة زيادة
التجويف أن يكون أخف ، وفائدة توحيد التجويف أن يبقى جرمه أصلب ، وفائدة صلابة
جرمه أن لا ينكسر عند الحركات العنيفة ، وفائدة المخ فيه ليغذوه ، وليرطبه دائما ،
فلا يتفتّت بتجفيف الحركة ، وليكون وهو مجوّف كالمصمت ، والتجويف يقلّ إذا كانت
الحاجة إلى الوثاقة أكثر ، ويكثر إذا كانت الحاجة إلى الخفّة أكثر.
وخلق بعضها مشاشية
لأمر الغذاء المذكور ، مع زيادة حاجة بسبب شيء يجب أن ينفذ فيها ، كالرائحة
المستنشقة مع الهواء في العظم الّتي تحت الدماغ ، ولفضول الدماغ المدفوعة فيها.
والعظام كلّها
متجاورة ، متلاقية ، ليس بين شيء منها وبين الّذي يليه مسافة كثيرة ، وإنما لم
يجعل كلّ ما في البدن منها عظما واحدا ؛ لئلّا يشمل البدن ما أصابته من آفة ، أو
كسر ، وليكون لأجزاء البدن حركات مختلفة ، متفنّنة ، ولهذا هيّأ كلّ واحد منها بالشكل
الموافق لما أريد به ، ووصل ما يحتاج منها إلى أن يتحرك في بعض الأحوال معا ، وفي
بعضها فرادى برباط أنبته من أحد طرفي
العظم ، ووصل
بالطرف الآخر ، وهو جسم أبيض عديم الحسّ ، فجعل لأحد طرفي العظمين زوائد ، وفي
الآخر قعرا موافقة لدخول هذه الزوائد وتمكّنها فيها ، والنابت بهذه الهيئة بين
العظام مفاصل ، وصار للأعضاء من أجل المفاصل أن يتحرّك منها بعض دون بعض ، ومن أجل
الرّبط المواصلة بين العظام أن يتحرّك معا ، كعظم واحد ، فتبارك الله من حكيم ما
أحكمه.
فصل
ومن أجل أن العظام
وسائر الأعضاء ، ليس لها أن تتحرك بذاتها ، بل بمحرّك ، وعلى سبيل جهة الانفعال ،
وصل بها من مبدأ الحسّ والحركة وينبوعهما الّذي هو الدماغ ، وصولا ، وهذه الوصول
هي العصب ، وهو جوهر لدن ، علك ، مستطيل ، مصمت عند الحسّ ، غير العصبة المجوّفة
الّتي في العين ، فائدته بالذات إفادة الدماغ بتوسّطه لسائر الأعضاء حسّا وحركة ،
وبالعرض تشديد اللحم وتقوية البدن.
وليس تتّصل بالعظم
مفردة ، ولكن بعد اختلاطها باللحم والرباط ؛ وذلك لأنّ الأعصاب لو اتّصلت مفردة
بعضو عظيم لكانت إمّا أن لا تقدر على أن تحرّكه البتّة ، وإما أن يكون تحريكها له
تحريكا ضعيفا ، وخصوصا عندما تتوزّع وتنقسم وتنشعب في الأعضاء ، وتصير حصّة العضو
الواحد أدقّ كثيرا من الأصل ، وعندما يتباعد عن مبدئه ومنبته ، ومن أجل ذلك ينقسم
العصب قبل بلوغه إلى العضو الّذي أريد تحريكه به ، وينسج فيما بين تلك الأقسام
اللحم وشظايا من الرباط ، فيتكوّن من جميع ذلك شيء يسمى عضلا ، ويكون عظمه ، وصغره
، وشكله ، بمقدار العضو الّذي أريد تحريكه ، وبحسب الحاجة إليه ،
ووضعه في الجهة
الّتي يراد أن يتحرّك إليها ذلك العضو.
ثمّ ينبت من الطرف
الّذي يلي العضو المتحرّك من طرفي العضلة شيء يسمى وترا ، وهو جسم مركّب من العصب
الآتي إلى ذلك العضو ، ومن الرباط النابت من العظام ، وقد خلص من اللحم فيمرّ حتّى
يتصل بالعضو الّذي يريد تحريكه بالطرف الأسفل ، فيلتئم بهذا التدبير أن يعرض قليل
تشنّج للعضلة نحو أصلها بجذب الوتر جذبا قويا ، وأن يتحرك العضو بكليته ؛ لأنّ
الوتر متّصل منه بطرفه الأسفل وقد تتعدد الأوتار لعضل واحد إذا كان كبيرا ، وربما
تعاونت عدة عضل على تحريك عضو واحد ، وربما لا يكون للعضل وتر ؛ لصغره جدا.
وكلّ عضو يتحرك
حركة إرادية فإنّ له عضلة بها تكون حركته ، فإن كان يتحرك إلى جهات متضادّة كانت
له عضلات متضادّة المواضع ، تجذبه كلّ واحدة منها إلى ناحيتها عند كون تلك الحركة
، وتمسك المضادة لها عن فعلها ، وإن عملت المتضادّتان في وقت واحد استوى العضو ،
وتمدد وقام ، مثلا الكف إذا مدّها العضل الموضوع في باطن الساعد انثنت ، وإن مدّها
العضل الموضوع في ظهره رجعت إلى خلف ، وإن مدّها جميعا استوت وقامت بينهما.
ثم إنّ مبدأ الحسّ
والحركة جميعا في الأعضاء قد يكون عصبة واحدة ، وقد يكون اثنتان ، ومبدئية العصب
للحسّ والحركة إنّما هو بسبب حمله للملك الحاس والمحرّك من جهة الروح النورية
المنبثّة فيه من الدماغ ، فالملك اللّامس ، المسمّى عند الجمهور بالقوّة اللّامسة
، منبثّ في جملة جلد البدن وأكثر اللحم والغشاء ، وغير ذلك ، بسبب انبثاث حامله
الّذي هو الروح ، إلّا ما يكون عدم الحس أنفع له ، كالكبد والطحال ، والكلية ،
والرئة ، والعظم.
ويدرك هذا الملك
الكيفيات الأربع الأول ، والخفّة ، والثقل ، والملاسة ،
والخشونة ، والصلابة
، واللين ، والهشاشة ، واللزوجة ، كلّها بالمماسّة.
وكذلك فاعل الحركة
منبثّ في جميع الأعضاء بواسطة الروح المنبعثة في العضلات ، وأمّا سائر الأملاك
فكلّ في محلّ خاصّ ، يفعلون فعلهم كما يأتي ، فتبارك الله من لطيف ، ما ألطفه.
فصل
لمّا كان أسافل
البدن ، وما بعد من الدماغ يحتاج أن ينال الحسّ والحركة ، وكان نزول العصب إليها
من الدماغ بعيد المسلك ، غير حريز ، ولا وثيق ، وأيضا لو نبتت الأعصاب كلّها من
الدماغ لاحتيج أن يكون الرأس أعظم ممّا هو عليه بكثير ، ولثقل على البدن حمله ،
فلذلك جعل الله عزّ اسمه في أسفل القحف ثقبا ، وأخرج منه شيئا من الدماغ ، وهو
النخاع ، وحصّنه لشرفه وعزّته بالعنق والصلب ، كما حصّن الدماغ بالقحف ، وأجراه في
طول البدن ، وهو محصن موقى ، وأنبت منه حين قارب وحاذى عضوا ما عصبا يخرج من ثقب
في خرز العنق والصلب ، ويتّصل بتلك الأعضاء الّتي يأتيها العصب من ذلك الموضع ،
فيعطيها الحسّ والحركة ، بقوّة مبدئهما الّذي فيه.
فإن حدثت على
الدماغ حادثة عظيمة فقد البدن كلّه الحسّ والحركة ، وإن حدثت على النخاع فقدتهما
الأعضاء الّتي يجيئها العصب من ذلك الموضع ، وما دونه فحسب ؛ لأنّ الدماغ بمنزلة
العين والينبوع لذلك ، والنخاع بمنزلة النهر العظيم الجاري منه ، والأعصاب بمنزلة
الجداول.
وأوّل مبادىء
الأعصاب الخارجة من الدماغ والنخاع تكون ليّنة شبيهة
بهما ، ثمّ إنها
تصلب متى تباعدت منها حتّى تصير عصبا تامّ النوع ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فصل
العضلات كلّها
مجلّلة بغشاء لطيف ، وكذلك جميع الأحشاء مجلّلة بأغشية ، والغشاء جسم لطيف رقيق
منتسج من العصب والرباط ؛ ليفيد العضو ـ الذي هو غشاء له ومحيط به ممّا لا حسّ له
ـ الحسّ والشعور العرضيين ، فيتبادر إلى دفع الألم في الجملة ، وليحفظ ـ أيضا ـ الأعضاء
على أشكالها وأوضاعها ، ويصونها عن التبدد والتفرّق ، وليربطها بواسطة العصب
والرباط الذي تشظّى إلى ليفه بعضو آخر.
وجميع الأحشاء
الملفوفة في الغشاء ممّا هو داخل الأضلاع فمنبت غشائها من أحد غشائي الصدر والبطن
المستبطنين.
والأعضاء اللحمية
إمّا ليفية ، كلحم العضل ، وإما ليس فيها ليف ، كالكبد ، ولا شيء من الحركات إلّا
بالليف ، أمّا الإرادية فبسبب ليف العضل ، وأمّا الطبيعية كحركة الرحم ، والعروق ،
والمركّبة كحركة الازدراد فبليف مخصوص بهيئة من وضع الطول والعرض ، والتورّب ،
فللجذب الليف المتطاول ، وللدفع الليف الذاهب عرضا ، العاصر ، وللإمساك الليف
المورّب ، فتبارك الله اللطيف الخبير.
فصل
وأمّا العروق
فنوعان :
أحدهما : النابضة
الضوارب ، ومنبتها القلب ، وتسمى بالشرايين ، ولها حركتان انقباضية وانبساطية ،
وشأنها أن تنفض البخار الدخاني من القلب بحركتها الانقباضية ، وتجذب بحركتها
الانبساطية نسيما طيبا صافيا يستريح به القلب ، ويستمد منه الحرارة الغريزية،
وبهذه الحركة تنتشر الروح والقوّة الحيوانية ، والحرارة الغريزية في جميع البدن.
وخلقت كلّها ذات
صفاقين ؛ احتياطا في وثاقة جسميّتها ؛ لئلّا تنشق بسبب قوّة حركتها بما فيها ،
ولئلّا يتحلل ما فيها إلّا واحد منها ، يسمى بالشريان الوريدي ، فإنه ذو صفاق واحد
؛ ليكون ألين ، وأطوع للانبساط ، والانقباض ، فإنّ الحاجة إلى السلاسة أمسّ فيه
إلى الوثاقة ؛ لأنّه كما أنه منفذ للنسيم ، كذلك منفذ لغذاء الرئة ، فإنّ غذاءه من
القلب ، وهو يغوص في الرئة ، ويصير شعبا.
ولحم الرئة ليّن
لطيف ، لا يخشى مصادمته عند النبض ، ويحتاج إلى ترشّح الغذاء إليه بسرعة وسهولة ،
وجعل الصفاق الداخلان من ذوات الصفاقين أصلب ؛ لأنّه كالبطانة الّتي تحمي
الظهارة ، وهو الملاقي لقوّة الحرارة الغريزية ، ولمصادمته حركة الروح ، فأوجبت
الحكمة تقوية منفذ الروح والحرارة الغريزية بهذه البطانة ، وإحرازها بها.
والنوع الثاني :
العروق الساكنة ، ومنبتها الكبد ، وتسمى الأوردة ، وشأنها
__________________
إمّا جذب الغذاء
إلى الكبد ، وإما إيصال الغذاء من الكبد إلى الأعضاء ، وكلها ذات صفاق واحد ، إلّا
واحد يسمى بالوريد الشرياني ، فإنه ذو غشائين صلبين ؛ لأنّه ينفذ في التجويف
الأيمن من القلب ، ويأتي بغذاء الرئة إلى القلب.
ولحم الرئة لطيف
خفيف ، لا يصلح له إلّا دم دقيق لطيف.
ومن الشرايين ما
يرافق الأوردة لترتبط الأوردة بالأغشية المجلّلة بها ، فيستقي فيما بينهما من
الأعضاء ، فيستقي كلّ واحد منهما عن الآخر ، وكلما ترافقا على الصلب في داخل امتطى
الشريان الوريد ليكون أخسّهما حاملا للأشرف ، وما ترافقا في الأعضاء الظاهرة غاص
الشريان تحت الوريد ليكون أستر ، وأكنّ له ، ويكون الوريد له كالجنّة ، فتبارك
الله العزيز الحكيم.
فصل
وأمّا الغضروف ،
فهو ألين من العظم ، وأصلب من سائر الأعضاء ، وفائدته أن يحسن به اتصال العظام
بالأعضاء الّليّنة ، فلا يكون الصلب والليّن قد تركّبا بلا متوسّط ، فيتأذّى
الليّن بالصلب ، وخصوصا عند الضربة والضغطة ، وليحسن به تجاور المفاصل المستحاكّة
، فلا تتراض لصلابتها ، وليستند به ، وتقوى بعض العضلات الممتدّة إلى عضو غير ذي
عظم ، وليعتمد عليه ما افتقر إلى الاعتماد على شيء قوي ليس بغاية الصلابة ، فتبارك
الله الرؤوف الرحيم.
فصل
فهذه هي الأعضاء
المتشابهة الأجزاء الّتي تتركّب منها الأعضاء الآلية ، لواهبها الحمد فوق ما حمده
الحامدون ، وكلها تتكون عن المني ، ما خلا اللحم
والشحم فإنهما
يتكوّنان عن الدم.
ومبدأ عقد الصورة
في مني الذكر ، ومبدأ انعقادها في مني الأنثى ، وهما بالنسبة إلى الجنين كالأنفحة
واللبن بالقياس إلى الجبن.
وقيل : إن لكلّ من
المنيين قوتان ، عاقدة وقابلة ، وإن كانت العاقدة في الذكوري أقوى ، والمنعقدة في
الأنوثي أقوى ، وهو الأظهر ، وإلّا لم يمكن أن يتّحدا شيئا واحدا ، ولم ينعقد مني
الذكر حتّى يصير جزء من الولد ، ولهذا إذا كان مزاج الأنثى قويا ذكوريا ، كما تكون
أمزجة النساء ، الشريفة النفس ، القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّا ، كان المني
المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيرا من الّذي ينفصل عن كليتها اليسرى.
فإذا اجتمعا في
الرحم ، وكان مزاج الرحم قويا في الإمساك والجذب قام المنفصل من الكلية اليمنى
مقام مني الرجل في شدّة قوّة العقد ، والمنفصل من اليسرى مقام مني الأنثى في قوّة
الانعقاد ، فينخلق الولد بإذن الله ، وخصوصا إذا كانت النفس متأيّدة بروح القدس ،
متقوّمة به ، بحيث يسري اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ، وتغيّر المزاج ، ويمدّ
جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني ، فتصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط
بالقياس ، كما وقع للصدّيقة مريم بنت عمران ، على نبيّنا وعلى ابنها وعليهاالسلام ، حيث تمثّل لها روح القدس بشرا سويا ، لخلق حسن الصورة ،
فتأثّرت نفسها به ، فتحرّكت على مقتضى الجبلّة ، وسرى الأثر من الخيال في الطبيعة
، فتحرّكت شهوتها ، فأنزلت كما يقع في المنام من الاحتلام. فتبارك الّذي خلق من
الماء بشرا ، فجعله نسبا وصهرا ، وكان ربّك قديرا.
فصل
ابتداء خلقة
الجنين هو حصول الماء في الرحم ، وشبّه بالعجين إذا ألصق بالتنور ، ثمّ يتغيّر عن
حاله قليلا ويشبه بالبذر إذا طرح في الأرض ، ويسمى نطفة ، ثمّ تحصل فيه نقط دموية
من دم الحيض ، ويسمى علقة ، ثمّ تظهر فيه حمرة ظاهرة منه ، فيصير شبيها بالدم
الجامد ، ويعظم قليلا ويهيج فيه ريح حارة ، ويسمى مضغة ، ثمّ يتمّ وتتميّز فيه
الأعضاء الثلاثة الرئيسة ، وتظهر لسائر الأعضاء رسوم خفية ، ويسمى جنينا ، ثمّ
تظهر فيه رسوم سائر الأعضاء ، ويقوى ويصلب وتجري فيه الروح ، وتتحرك ، ويسمى صبيا
، ثمّ تنفصل الرسوم ، وتظهر الصورة ، وينبت الشعر ، ثمّ ينفتح لسانه ، وتتم خلقته
، وتكمل خلقة الذكر قبل خلقة الأنثى ، وإذا كمل لم يكتف بما يجيئه من الغذاء من دم
الحيض ، فيتحرّك حركات صعبة قوية ، وانهتكت ربطه بالرحم ، فكانت الولادة.
وإلى هذه الأطوار
أشير بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ
مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً
فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ
أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) .
ولنشرح الآن
الأعضاء الآلية ، ذاكرين هيئاتها ، وهيئات البسائط على الترتيب ، من لدن القرن إلى
القدم ، وبالله الاستعانة.
__________________
فصل
أما قحف الرأس
الّذي خلق لحفظ الدماغ ووقايته عن الآفات ، فخلقه الله مستديرا إلى طول ؛ لأنّ
المستدير أعظم مساحة من الأشكال المستقيمة الخطوط ، إذا تساوت إحاطتها ؛ ولئلّا
تنفعل عن المصادمات ما ينفعل عنه ذو الزوايا.
وأمّا طوله فلأن
منابت الأعصاب الدماغية موضوعة في الطول ؛ لئلّا يزدحم ولا ينضغط ، وقد يفقد
النتوء المقدّم ، أو المؤخّر ، أو كلاهما.
والقحف مؤلف من
ستة أعظم ، اثنان منها بمنزلة السقف ، وأربعة بمنزلة الجدران ، ويتصل بعضها ببعض
بدروز تسمى بالشؤن ، وجعل الجدران أصلب من اليافوخ ؛ لأنّ السقطات والصدمات عليها
أكثر ؛ ولأن الحاجة إلى تخلخل اليافوخ أمسّ لينفذ فيه البخار المتحلل ، ولئلّا
يثقل على الدماغ. وجعل أصلب الجدران مؤخّرها ؛ لأنّه غائب عن حراسة الحواسّ.
وفي القحف ثقب
كثيرة لتخرج منها أعصاب كثيرة ، وتدخل فيها عروق وشرايين ، وتخرج منها الأبخرة
الغليظة الممتنعة عن النفوذ في العظم ، فينقى بتحللها الدماغ ، وليتشبث بها الحجاب
الغليظ الثقيل الآتي ذكره ، فيخفف عن الدماغ.
وأعظم ثقب فيه
الّذي من أسفل عند نقرة القفاء ، وهو مخرج النخاع ، ويتّصل بالقحف اللحى الأعلى ،
وهو الّذي فيه الخدّان ، والأذنان ، والأسنان العليا ، ويتركّب من أربعة عشر عظما
، يتصل بعضها ببعض بدروز ، ثمّ اللحى
الأسفل ، وهو
الّذي فيه الأسنان السفلى ، إلّا أنه لم يتّصل به اتصال التحام وركز ، بل اتصال
مفصل ؛ لاحتياجه إلى حركة ، ويسمى موضع اتصاله به «الزرفين» ، وهو مركّب ـ سوى
الأسنان ـ من عظمين بينهما شان في وسط الذقن ، وتحت القحف من ناحية الخلف فيما
بينه وبين اللحى الأعلى عظم مركوز قد ملىء به الخلل الحادث من تقسيم أشكال هذه
العظام ويسمى بالوتد.
فجميع عظام الرأس
إذا عدّت على ما ينبغي ـ خلا الأسنان ـ ثلاثة وعشرون عظما.
فصل
وأمّا الدماغ
فخلقه الله سبحانه ليّنا ، دسما ، لتنطبع المحسوسات فيه بسهولة ، ولتكون الأعصاب
النابتة منه لينة لا تنكسر ، ولا تنقطع ، وجعل مزاجه باردا رطبا ، لتنفعل القوى
المودعة فيه عن مدركاتها ، ولئلّا تشتعل بالحرارات المتولدة فيه من الحركات
الفكرية والخيالية ، ولتعتدل قوّة الروح والحرارة الصاعدة إليه من القلب.
وجعل مقدّمه الّذي
هو منبت الأعصاب الحسّية ألين من مؤخّره الّذي هو منبت الأعصاب الحركية ؛ لأنّ
الحركة لا تحصل إلّا بقوة ، والقوّة إنّما تحصل بصلابة.
وهو ذو قسمين ،
طولا وعرضا ، لئلّا تشمل الآفة جميع أجزائه ، وفي طوله تجاويف ثلاثة يفضي بعضها
إلى بعض ، تسمى بطون الدماغ ، وهي محل الروح النفساني ، ومواضع الحواس ، ومقدمها
أعظمها ، ويتدرّج إلى الصغر حتّى يعود
إلى قدر النخاع
وشكله ، وله زائدتان شبيهتان بحلمتي الثدي ، تبلغان إلى العظم الكثير الثقب ،
الشبيه بالمصفى في موضعه من القحف ، حيث ينتهي إليه أقصى الأنف ، فيهما حسّ الشمّ
، وبهما تندفع الفضول من هذا البطن المقدّم إلى العظم المذكور ، وينزل منه إلى
الخيشوم بالعطاس.
وأمّا فضول
البطنين الآخرين فيندفع إلى العظم المثقب الّذي تحت الحنك ، والبطن المقدّم هو
موضع انجذاب الهواء إلى الدماغ ، والهواء بعد مكثه في البطون وتغيّره إلى المزاج
الدماغي يصير روحا نفسانيا ، وكثيرا ما يريد على ما يسعه البطون ، فيصعد إلى غصون
الدماغ ، يسمى بالسراريد ، ويستحيل فيها إلى المزاج الدماغي ، وإلى صلوحه له ،
والسرد الموضوع من جانبي البطن الأوسط يتمدد تارة ، ويتقلص أخرى ، مثل الدودة ،
ويسمى بها ، كما يسمى هذا البطن أيضا ؛ لأنّ بتمدده يستطيل هو وينضمّ معه ،
وبتقلّصه يستعرض ويتفرج عنه ، والأوّل حركة الانقباض ، بها تندفع الفضلة ، والثاني
حركة الانبساط ، بها تتأدى صور المدركات إلى القوّة الحافظة بتقدير العزيز الحكيم
، فسبحانه سبحانه ، ما أسبغ نعمه ، وأعلى شأنه.
فصل
قد جلل الدماغ
بغشائين ، رقيق ليّن ، ملاصق له ، ومخالط في مواضع ، وغليظ صلب فوقه ، ملاصق للقحف
، وله في أمكنة منه ، وهو مثقب ثقبا كثيرة في موضعين عند العظم الشبيه بالمصفّى ،
والعظم الّذي في الحنك لاندفاع الفضول ، وتتشعّب منه شعب دقاق يصعد من دروز القحف
إلى ظاهره ، يتشبّث أولا الغشاء بالقحف بتلك الشعب ، فيتجافى بها عن الدماغ ،
ويرتفع ثقله عنه ، ثمّ
ينسج من تلك الشعب
على ظاهر القحف غشاء يجلله ، ويتوسّط أيضا بين جزئي الدماغ المقدم والمؤخّر حجاب
لطيف يحجب الجزء الألين عن مماسّة الأصلب.
وتحت الدماغ ـ بين
الغشاء الغليظ والعظم ـ نسيجة شبيهة بالشباك الكثيرة التي ألقيت بعضها على بعض ،
حصلت من الشرايين الصاعدة إلى الرأس من القلب والكبد ، ويخرج منها عرقان ، فيدخلان
الغشاء الصلب ، ويتصلان بالدماغ ، وإنما فرشت الشبكة تحت الدماغ ليبرد فيها الدم
الشرياني والروح ، فيتشبّه بالمزاج الدماغي بعد النضج ، ثمّ يتخلّص إلى الدماغ على
التدريج.
والفرج الّتي تقع
بين فروع هذه الشريانات محشو بلحم غددي لئلّا تبقى خالية ، ولتعتمد عليه تلك
الفروع ، وتبقى على أوضاعها ، فسبحان الخالق الكريم ، ما أبين كرمه ، وأسبغ نعمه.
فصل
وأمّا الأعصاب
النابتة من الدماغ فسبعة أزواج ، أوّلها ينشأ من مقدم الدماغ ويجيء إلى العين
فيعطيها حسّ البصر ، بقوّة الملك الباصر الموكّل به ، وهاتان العصبتان مجوّفتان ،
وإذا نشأتا من الدماغ وبعدتا عنه قليلا اتصلتا ، وأفضى ثقب كلّ واحد منهما إلى
صاحبه ، ثمّ يفترقان أيضا وهما بعد داخل القحف ، ثمّ يخرجان ، ويصير كلّ واحد
منهما إلى العين الّتي من جانبه.
والزوج الثاني
ينشأ من خلف منشأ الأوّل ، ويخرج من القحف في الثقب الذي في قعر العين ، ويتفرّق
في عضل العين ، فتكون به حركاتها.
والثالث منشؤه من
خلف الثاني من حيث ينتهي البطن المقدّم إلى البطن
الثاني ، ويخالط
الزوج الرابع ، الّذي بعده ، ثمّ يفارقه وينقسم أربعة أقسام ، أحدها ينزل إلى
البطن إلى ما دون الحجاب ، والباقي منها يتفرّق في أماكن من الوجه والأنف ، ومنها
ما يتّصل بالزوج الّذي بعده.
والرابع منشؤه من
خلف منشأ الثالث ، ويتفرّق في الحنك ، فيعطيه حسّا خاصا له.
والخامس يكون
ببعضه حسّ السمع ، وببعضه حركة العضل الّذي يحرّك الخد.
والسادس يصير بعضه
إلى الحلق واللسان ، وبعضه إلى العضل الّذي في ناحية الكتف ، وما حواليه ، وبعضه
ينحدر من العنق ، وينشعب منها في مرورها شعب تتّصل بعضل الحنجرة ، فإذا بلغت إلى
الصدر انقسمت أيضا ، فرجع منها بعضها مصعدا حتّى يتّصل بعضل الحنجرة ، ويتفرّق شيء
منها في غلاف القلب والرئة ، والمريء ، وما جاورهما ، ويمرّ الثاني وهو أكبره حتّى
ينفذ الحجاب ، ويتصل بفم المعدة منه أكثره ، ويتصل الباقي بغشاء الكبد ، والطحال ،
وسائر الأحشاء ، ويتصل به هناك بعض أقسام الزوج الثالث.
والسابع يبتدىء من
مؤخر الدماغ ، حيث منشأ الدماغ ، ويتفرّع في عضل اللسان والحنجرة ، والعضلات
المحرّكة لأعضاء البدن كلّها تنشأ من هذه الأعصاب ، والأعصاب النخاعية الآتي ذكرها
، ولما لم يمكن تصويرها بالكلام ما يمكن من تصوير الأعصاب والعظام ، بل لا بدّ في
ذلك من مشاهدة ودراية كثيرة بالغة أعرضنا عنه.
وعدد كلّ ما في
البدن من العضلات خمسمائة وتسع وعشرون عضلة ،
على رأي جالينوس ، ولواهبها الحمد أضعاف ما حمده الحامدون.
فصل
وأمّا العين فهي
مركّبة من سبع طبقات ، وثلاث رطوبات ، ما خلا الأعصاب والعضلات والعروق.
وبيان هيئاتها :
أن العصبة المجوّفة ـ الّتي هي أوّل العصب الخارج من الدماغ ـ تخرج من القحف إلى
حيث قعر العين ، وعليها غشاءان ، هما غشاء الدماغ ، فإذا برزت من القحف وصارت في
حومة عظم العين فارقها الغشاء الغليظ ، وصار لباسا وغشاء على عظم العين الأعلى كله
، ويسمى هذا الغشاء الطبقة الصلبة ، ويفارقها أيضا الغشاء الرقيق فيصير غشاء
ولباسا ، دون الطبقة الصلبة ، وتسمى الطبقة المشيمة ، لشبهها بالمشيمة ، وتعرض
العصبة نفسها ، ويصير
__________________
فيها غشاء دون
هذين ، وتسمى الطبقة الشبكية.
ثمّ يتكوّن في وسط
هذا الغشاء جسم ليّن رطب حمراء صافية غليظة مثل الزجاج الذائب ، يسمى الرطوبة الزجاجية ، ويتكون في
وسط هذا الجسم جسم آخر مستدير إلّا أن فيه أدنى تفرطح شبيه بالجليد في صفائه ،
وتسمى الرطوبة الجليدية.
ويحيط الزجاجية من
الجليدية بمقدار النصف ، ويعلو النصف الآخر جسم شبيه بنسج العنكبوت ، شديد الصفاء
والصقال ، يسمى الطبقة العنكبوتية ، ثمّ يعلو هذا جسم سائل في لون بياض البيض يسمى
الرطوبة البيضيّة ، ويعلو الرطوبة البيضية جسم رقيق مخمل الداخل ، حيث يلي البيضة
، أملس الخارج ، ويختلف لونه في الأبدان ، فربما كان شديد السواد ، وربما كان دون
ذلك ، في وسطه حيث يحاذي الجليدية ثقب يتّسع ويضيق في حال دون حال ، بمقدار حاجة
الجليدية إلى الضوء ، فيضيق في الضوء الشديد ، ويتّسع في الظلمة، وبانسداده يبطل
الإبصار ، وهو مثل ثقب حبّ عنب ، ينزع من العنقود ، وهو الحدقة ، وفيها رطوبة
لطيفة ، وروح ، ولهذا يبطل الناظر عند الموت ، ويسمى هذا الغشاء الطبقة العنبية.
ويعلو هذه الطبقة
ويغشاها جسم كثيف صاف صلب ، يشبه صفحة صلبة رقيقة من قرن أبيض ، ويسمى القرنية ،
غير أنها تتلوّن بلون الطبقة الّتي تحتها المسماة عنبية ، كما يلصق وراء جام من
زجاج شيئا ذا لون ، فيميل ذلك المكان من الزجاج إلى لون ذلك الشيء.
ويعلو هذا ويغشاه
، لكن لا كلّه ، بل إلى موضع سواد العين لحم أبيض ، دسم ، مشفّ ، مختلط بالعضلات
المحرّكة للعين ، غليظ ، ملتحم عليه ، يسمى
__________________
بالملتحمة ، وهو
بياض العين ، وينشأ من الغشاء الّذي على القحف من خارج ، كما تنشأ القرنية من
الطبقة الصلبة ، والعنبية من الطبقة المشيمية ، والعنكبوتية من الشبكية ، وكلّ
تجذب الغذاء من الّتي هي منشؤها ، فإنّها تتغذّى بنصيبها وتؤدي الباقي إليها ،
فتبارك الله اللطيف الخبير ، أحسن الخالقين.
فصل
ألوان العيون ـ باعتبار
اختلاف ألوان الطبقة العنبية ـ أربعة : كحلاء ، وزرقاء ، وشهلاء ، وشعلاء.
وسبب الكحل إمّا
قلة الروح وعدم إشراقها على جميع أجزاء العين ، أو كدورتها وقلة إشراقها على لون
العنبية ، أو صغر الجليدية أو غورها ، وكونها داخلة جدا ، فلا يظهر صفاؤها كما
ينبغي ، أو كثرة الرطوبة البيضية ، أو كدورتها ، فتستر بريق الجليدية ، أو شدّة
سواد العنبية ، فإذا اجتمعت هذه الأسباب كانت العين شديدة الكحل.
وأسباب الزرقة
أضداد ذلك ، وإذا اختلطت أسباب الكحل والزرقة وتكافأت كانت العين شهلاء ، وإذا
زادت أسباب الزرقة على أسباب الكحل كانت شعلاء.
وإنما خلقت هذه
الطبقة على هذا اللون ؛ لأنّه أوفق الألوان لنور البصر ؛ إذ الأبيض يفرق نوره ،
والأسود يجمعه ويكثفه ، والآسمانجوني لاعتداله يجمع النور جمعا معتدلا ، ويقويه،
وإنما خلقت غليظة لتمنع عن إشراق الشمس على نور البصر ، وليكون وسيطا قويا بين
الرطوبات ، وبين الطبقة الصلبة القرنية الّتي قدامها ، ولهذا جعل ظاهرها الّذي
يليها أصلب ، وفي صلابة ظاهرها فائدة
أخرى هي أن تبقى
الثقبة العنبية لصلابة ما تحفظ بها مفتوحة لا يتشوش من أطرافها تشوش الشيء الرخو
الليّن ، وفي الحقيقة هذه الطبقة طبقتان : داخلانية ذات خمل ، وأخرى صلبة.
وجعلت القرنية
شفيفة لئلّا تحجب نور البصر عن النفوذ فيها ، وصلبة لتكون وقاية للطبقات الأخرى ،
وللرطوبة عن الآفات ، ولتحفظها على أوضاعها وأشكالها ، وجعل الرطوبة البيضية قدام
الجليدية لتحجب عنها قوّة الأشعة ، والأضواء ، لكي لا تغلبها ، وجعل ظاهر الجليدية
مفرطحة لأن تقع الأشباح المدركة في جزء كبير منها ، فيكون الإبصار به أقوى ؛ إذ
المدوّر لا يحاذي الشيء إلّا بجزء صغير ، وجعلت الزجاجية غليظة لئلّا تسيل ، وجعلت
من وراء الجليدية ليكون إلى مبدأ الغذاء أقرب ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فصل
الرطوبة الجليدية
هي أشرف أجزاء العين ، وسائر الطبقات والرطوبات خادمة لها ، ووقاية ، وهي محل
المدركات البصرية من جهة الروح الآتي إليها من العصبتين المجوّفتين اللتين هما
محلّ الملك الباصر ، المدرك للأضواء والألوان والحركات والمقادير ، وغيرها ،
بتوسّط الروح الّتي فيهما.
وإنما جعلت
العصبتان مجوّفتين للاحتياج إلى كثرة الروح الحامل لهذا الملك ، بخلاف سائر
الحواسّ.
وإنما جعلتا
متلاقيتين ليجمع عند ملاقيهما الروح حتّى لو أصاب إحدى العينين آفة لا يضيع نورها
، بل يندفع الروح من هذا المجمع بالكلية إلى العين الصحيحة ، فيصير بسبب ذلك أشدّ
إبصارا ، ولهذا كلّ من غمض إحدى عينيه
تقوى عينه الأخرى
، وتتّسع ثقبتها العنبية ، ولأن يكون للعينين مؤدى واحد تؤدّيان إليه شبح المبصر ،
فتتحد هناك.
ويكون الإبصار
بالعينين إبصارا واحدا لتمثل الشبح في الحدّ المشترك ، ولذلك يعرض للحؤل أن يروا
الشيء الواحد شيئين عندما تزول إحدى الحدقتين إلى فوق ، أو إلى أسفل ، فتبطل به
استقامة نفوذ المجرى إلى التقاطع ، ويعرض قبل الحد المشترك حدّ مشترك آخر ؛
لانكسار العصبة ، وكذلك كلّ من استرخت أعصابه وتتمايل حدقتاه كالسكارى.
ومن هذا القبيل
الإحساس بشيئين عن شيء واحد لمن يلوي إصبعه الوسطى على السبابة ، وأدار بهما شيئا
مدوّرا ، فإنّ الوسطى تحس عن محاذاة الأعلى ، والسبابة عن محاذاة الأسفل ، ولأن
تستدعم كلّ عصبة بالأخرى وتستند إليها وتصير كأنها تنبت من قرب الحدقة ، فيكون اندفاع
النور إلى العين أقوى ، مثل مجمع الماء الّذي يتخذ للماء القليل ؛ ولأنه لو لا هذا
الالتقاء لكانت العصبتان عند كلّ نظرة وتحديق والتفات متمائلتان ، وتتزالل إحدى
الحدقتين عن محاذاة الأخرى ، فيكون أكثر الناس في أكثر الأحوال يرى الشيء الواحد
شيئين ، فتبارك الله اللطيف ما ألطفه ، وما أحكمه.
فصل
وأمّا الجفن
فمنشؤه من الجلد الّذي على ظاهر القحف ، وفائدته أن يمنع نكاية ما يلاقي الحدقة من
خارج ، ويمنع عند انطباقه وصول الغبار والدخان والشعاع ، ويصقل الحدقة دائمة ،
ويبعّد عنها ما أصابها من الهباء والقذاء.
وجعل الأسفل أصغر
من الأعلى ؛ لأنّ الأعلى يستر الحدقة مرّة ، ويكشفها أخرى ، بتحرّكه ، وأمّا
الأسفل فغير متحرّك ، فلو زيد على هذا القدر لستر شيئا من الحدقة دائما ، ولكان
يجتمع فيه الفضول ، ولا يسيل.
وأمّا الأهداب
فتمنع من الحدقة بعض الأشياء الّتي لا يمنعها الجفن ، مع انفتاح العين، كما يرى
عند هبوب الرياح الّتي تأتي بالقذاء ، فيفتح أدنى فتح ، وتتصل الأهداب الفوقانية
بالسفلانية ، فيحصل له شبه شباك ينظر من ورائه ، فتحصل الرؤية مع اندفاع القذاء ،
فتبارك الله المصوّر ، اللطيف ، ما ألطفه ، وما أحسن تصويره.
فصل
وأمّا الأذن ، فهي
مخلوقة من العصب واللحم والغضروف ، وخلقت مرتفعة كالشراع ؛ ليجتمع فيها الهواء
الّذي يتحرك من قوّة صوت الصائت ، ويطنّ فيها ، وينفذ في المنفذ الّذي في عظم صلب
يسمى الحجري ، ويحرك الهواء الّذي هو داخل الأذن ، ويموّجه ، كما يرى من دوائر
الماء لما وقع فيه ، فيقع هناك على جلدة مفروشة على عصبة مقعّرة ، كمدّ الجلد على
الطبل ، فيحصل طنين يشعر بهيئته الملك السامع للأصوات الواقع في تلك العصبة ،
بتوسّط ما هو وراءها من جوهر الروح.
وذاك المنفذ كثير
التعاويج والمنعطفات ، وعند نهايته تجويف يسمى بالجوفة ، والعصبة على حواليها ،
وإنما جعل كذلك ؛ لتطول به مسافة ما ينفذه من قوّة الصوت والرياح الحارة والباردة
، فينفذ فيه ، وهي مكسورة القوى ، فاترة.
وحال تلك العصبة
في السمع كحال الرطوبة الجليدية في الأبصار ،
ومحلّها مثل
محلّها ، وكما أن جميع أجزاء العين خلقت إمّا خادمة للجليدية ، وإما وقاية لها ،
كذلك جميع أجزاء الأذن خلقت خادمة لهذا العصب.
وفائدة الصماخ
فائدة الثقبة العنبية. والصداء إنّما هو لانعطاف الهواء المصادم لجبل أو غيره من
عالي أرض ، وهو كرمي حصاة في طاس مملوء ماء ، فتحصل منه دوائر متراجعة من المحيط
إلى المركز.
وقيل : إن لكلّ
صوت صداء ، وفي البيوت إنّما لم يقع الشعور لقرب المسافة ، فكأنهما يقعان في زمان
واحد ، ولهذا يسمع صوت المغنّي في البيوت أقوى ممّا في الصحراء ، فتبارك الله
اللطيف الخبير.
فصل
وأمّا الأنف فهو
مخلوق من العظم والغضروف ، ما خلا العضلات المحرّكة.
وبيان هيئته : أنّ
له عظمين هما كالمثلّثين ، تلتقي زاويتاهما من فوق ، وقاعدتاهما يتماسان عند زاوية
، ويتفارقان بزاويتين ، وعلى طرفيهما السافلين غضروفان ليّنان ، وفيما بينهما على
طول الدرز غضروف ، حدّه الأعلى أصلب من الأسفل ، ومجراه إذا علا انقسم قسمين ،
يفضي أحدهما إلى أقصى الفم ، وبه يكون استنشاق الهواء إلى الرئة ، والتنفّس الجاري
على العادة لا الكائن بالفم ، ويمرّ الآخر صاعدا حتّى ينتهي إلى العظم الشبيه
بالمصفّى الموضوع في وجه زائدتي الدماغ ، المشبّهتين بحلمتي الثدي ، وبه يكون نفض
الفضول من الدماغ ، واستنشاق الهواء إليه ، والتنفّس ، وبالزائدتين حسّ الشم ؛ إذ
هما المحل للملك الشامّ للروائح ، بتوسّط الهواء المنفعل بها ، ومحلّتيهما له من
جهة الروح المودعة فيهما.
وفي أقصى الأنف
مجريان إلى الماقين ؛ ولذلك قد يتأدّى طعم الكحل إلى اللسان ، وإنما خلق الأنف على
هذه الهيئة ليعين بالتجويف الّذي يشتمل عليه في الاستنشاق حتّى ينحصر فيه هواء
كثير ، وليعتدل فيه الهواء قبل النفوذ إلى الدماغ ، وليجمع الهواء الّذي يطلب منه
الشم أمام آلة التشمم ؛ ليكون الإدراك أكثر ، وليعين في تقطيع الحروف ، وتسهيل
إخراجها لئلّا يزدحم الهواء كله عند الموضع الّذي يحاول فيه تقطيع الحروف ، وليكون
للفضول المندفعة من الرأس سترا ووقاية عن الأبصار ، وآلة معيّنة على نفضها بالنفخ،
ومنفعة غضروفية الطرفين ـ بعد المنفعة المشتركة للغضاريف ـ أن تنفرج وتتوسّع إن
احتيج إلى فضل استنشاق ونفخ ، ولتعين في نفض البخار باهتزازهما عند النفخ ،
وانتفاضهما ، وارتعادهما.
ومنفعة الوسطاني
أن يفصل الأنف إلى المنخرين حتّى إذا نزل من الدماغ فضلة نازلة مالت في الأكثر إلى
أحدهما ، ولم يسدّ جميع طريق الاستنشاق ، فالحمد لله أحسن الخالقين.
فصل
وأمّا الأسنان
فستّة عشر سنّا ، في كلّ لحي منها ثنيتان ، ورباعيتان للقطع ، ونابان للكسر ،
وخمسة أضراس ـ يمنة ويسرة ـ للطحن ، ولأكثرها مدخل في تقطيع الحروف وتبيينها ،
وربما نقصت الأضراس ، فكانت أربعا بانعدام الأربعة الطرفانية المسماة بالنواجذ ،
وهي تنبت في الأكثر بعد البلوغ إلى قريب من ثلاثين سنة ، ولهذا تسمى أسنان الحلم.
وللأسنان أصول هي
رؤوس محددة ، ترتكز في ثقب العظام الحاصلة لها
من الفكّين ،
وتنبت على حافة كلّ ثقبة زائدة مستديرة عليها عظيمة ، تشتمل على السنّ ، وهناك
روابط قوية.
وأصول الأضراس
الّتي في الفكّ الأعلى ثلاثة ، وربما كانت ـ وخصوصا للناجذين ـ أربعا ، والّتي في
الفكّ الأسفل لها أصلان ، وربما كانت ـ وخصوصا للناجذين ـ ثلاثة ، وأمّا سائر
الأسنان فإنما لها أصل واحد.
وإنما كثرت رؤوس
الأضراس لكبرها ، وزيادة عملها ، وزيدت للعليا ؛ لأنها معلّقة ، والثقل يجعل ميلها
إلى خلاف جهة رؤوسها ، وأمّا السفلى فثقلها لا يضاد ركزها.
ومن عجيب الحكمة
في هيئة الأسنان أن الثنايا والرباعيات يتماسّ ويتلاقى بعضها بعضا ، في حالة
الحاجة إلى ذلك ، وهي عند العضّ على الأشياء ، ولو لم يكن كذلك لم يتم العضّ ؛
وذلك بجذب الفك إلى قدّام حتّى تلاقي هذه بعضها بعضا ، وعند المضغ والطحن يرجع
الفكّ إلى مكانه ، فتدخل الثنايا والرباعيات التحتانية إلى داخل ، وتحيد عن موازاة
العالية ، فيتم بذلك للأضراس وقوع بعضها إلى بعض ، وذلك لا يمكن مع تلاقي الثنايا
والرباعيات الفوقانية والتحتانية ، أن تتلاقى الأضراس ، ولعل الحكمة فيه أن لا
ينسحق أحدهما عند فعل الآخر ، من غير طائل.
وإنما جعل
المتحرّك من الفكّين ـ عند المضغ والتكلّم ـ الأسفل ، دون الأعلى ، إلّا نادرا ،
كما في التمساح ؛ لأنّه أصغر وأخفّ ؛ ولأنّ الأعلى مجمع الحواس ، والدماغ ، فلو
تحرّك لتأذّى الدماغ بحركته ، وتشوش الحواسّ ، ولكان أيضا مفصل الرأس مع العنق غير
وثيق، والواجب فيه الوثاقة.
وإنما جعل هذا
الفك من الإنسان أخفّ وأصغر من سائر الحيوانات ؛ لأنّ
أغذية الإنسان خبز
ولحم مطبوخ ، وفواكه نضيجة ، وأمثال ذلك ممّا لا يعسر مضغه ، وغيره من الحيوانات
أغذيتها إمّا حشائش وحبوب ، وأصول النباتات ، وأغصان الأشجار ، وإما لحوم نيّة ،
وعظام صلبة ، فأعطى كلّ عالف بقدر احتياجه ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فصل
وأمّا اللسان ،
فهو مخلوق من لحم أبيض ، ليّن ، رخو ، قد التفّت به عروق صغار كثيرة ، منها شرايين
، ومنها أوردة ، وبسببها يحمرّ لونه ، وعند مؤخّره لحم غددي يسمى مولد اللعاب ،
وتحته فوّهتان تفضيان إلى هذا اللحم ، تسميان بساكبي اللعاب ، بهما تنسكب الرطوبة
والرضاب من اللحم الغددي إلى اللسان والفم.
وتحته ـ أيضا ـ عرقان
كبيران أخضران ، يسمّيان الصردين. وهو ذو شقين طولا ، ولكنهما في غشاء واحد ،
يتّصل بغشاء الفم ، وللمريء والمعدة ، إلّا في بعض الحيوانات ، كالحية ، فإن شقّي
لسانها ليسا في غشاء واحد ، ولهذا يظهران.
وعلى جرم اللسان
عصبة منبثّة ، هي محلّ الملك الذائق للطعوم ، بتوسّط الأجسام المماسة ، المخالطة
للرطوبة اللعابية ، المستحيلة إلى طعم الوارد ، ومحلّيتها له من جهة ما هو وراءها
من جوهر الروح.
وعلى أصل اللسان
زائدتان نابتتان إلى فوق ، كأنهما أذنان صغيرتان ، تسميان باللوزتين ، وجوهرهما
لحم عصباني غليظ ، كالغدة ، ومنفعتهما مثل
منفعة اللهاة ،
ويأتي ذكرها.
وإنما خلق اللسان
ليكون آلة تقطيع الصوت ، وإخراج الحروف ، وتبيينها ، وآلة تقليب الممضوغ ،
كالمخرقة ، وآلة تمييز الذوق ، وأعدلها في الطول والعرض أقدر على الكلام من عظيمها
جدا ، ومن الصغير المتشنّج ، والحمد لله.
فصل
وأمّا الحلق
والحنجرة وسائر آلات الصوت ، فبيان هيئاتها : أن أقصى الفم يفضي إلى مجريين ،
أحدهما من قدام ، وهو الحلقوم ، ويسمّيه المشرحون قصبة الرئة ، فيها ومنها ينفذ
الريح الّتي تدخل وتخرج بالنفس ، والآخر موضوع من خلف ناحية الفقار ، على خرز
العنق ، ويسمى المريء ، وفيه ينفذ الطعام والشراب ، ويخرج القيء ، وسيأتي شرحهما.
والحنجرة مؤلفة من
ثلاثة غضاريف ، أحدهما من قدّام ، وهو الّذي يظهر تحت الذقن ، قدّام الحلق ، وهو
محدّب الظاهر ، مقعّر الباطن ، والثاني من خلف ، وبانضمامهما تضيق الحنجرة عند
السكوت ، ويتباعد أحدهما عن الآخر ، ويتّسع عند الكلام.
والثالث مثل مكبّة
، بينه وبين الّذي من خلف مفصل يلتئم بزائدتين من ذاك تتهندمان في نقرتين منه ،
ويرتبط هناك برباطات وهو يتحرّك بهذا المفصل ، وبانكبابه عليهما تنغلق الحنجرة ،
وبتجافيه عنهما تنفتح.
والحاجة إلى
انغلاق الحنجرة عند الأكل والشرب شديدة جدا ، لئلّا يقع أو ينقطر في قصبة الرئة
شيء من المأكول والمشروب ؛ وذلك لأنّ قصبة الرئة
والمريء متجاوران
، متلاصقان ، مربوط أحدهما بالآخر ، وعند انغلاق الحنجرة يمرّ الطعام والشراب على
ظهر الغضروف المكبي ، وينزل في المريء ، وإذا انفتحت الحنجرة على غفلة من الإنسان
، بأن يبتلع ويتصوّت ، أو يتنفّس في حالة واحدة ، ربما وقع شيء من المأكول أو المشروب
في قصبة الرئة ، فيحدث فيها دغدغة وحالة مؤذية ، شبيهة بما يحدث في الأنف عند
اختلاف العطاس بإدخال شيء فيه ، فتستقبله القوّة الدافعة لدفعه ، فيورث السعال إلى
أن يندفع ، قلّ أم كثر ؛ لأنّ القصبة إنّما تنتهي إلى الرئة ، وليس لها منفذ من
أسفلها يندفع فيه ما يقع فيها.
فأنعم الخالق
سبحانه بتأليف الحنجرة من هذه الغضاريف ، على هذا الشكل ؛ ليغلق بها عند الأكل
والشرب منفذ الصوت والتنفّس ، فيسلم الإنسان ويتخلّص من السعال المغلق، ولهذا لا
يجمع الازدراد والتنفّس معا في حالة واحدة ، فتبارك الله رب العالمين.
وفي داخل الحنجرة
رطوبة لزجة دهنية ، تملّسها وترطّبها دائما ؛ ليخرج الصوت صافيا حسنا ؛ ولهذا ما
تذهب أصوات المحمومين الّذين تحترق رطوبات حناجرهم بسبب حميّاتهم المحرقة ، وتذهب
أيضا ، أو تضعف ، أو تتغيّر أصوات المسافرين في الفيافي المحرقة ، وكذلك كلّ من
تكلم كثيرا تجف حنجرته ، فلا يقدر على التكلّم إلّا بعد أن يرطب حلقه ، أو يبلع
ريقه.
والفائدة في
دهنيتها أن لا تجف بالسرعة ، ولا تفنى ، وأن تسلس بها حركات الحنجرة.
وفي أعلى الحنجرة
عضو لحمي معلّق يسمى باللهاة ، تلتقي ما شأنه النفوذ في الحنجرة من خارج ، مثل برد
الهواء ، وحرّه ، وحدّة الدخان ، ومضرّته ، فيمنع نفوذها دفعة ليتدرّج وصولها إلى
الرئة ، ويلتقي أيضا ما شأنه الصعود من داخل ،
مثل قرع الصوت
الصاعد من الحنجرة.
وبالجملة : هي
كالباب الموصد على مخرج الصوت ، يقدّره ، فلا يندفع دفعة ، ولا ينقطع مدده جملة ،
فتزداد بذلك قوّة الصوت ، ويتصل بذلك مدده ، وكذلك اللوزتان المشار إليهما فيما
سبق ، فإنهما يعاونانها في ذلك ، وتحتها لحم صفاقي لاصق بالحنك ، يسمى بالقلصمة ،
يصفي ما قد يقرب الهواء من كدورة الغبار والدخان ، لئلّا يصل شيء منهما إلى
الحنجرة والرئة ، كالمفرغة لآلات الصوت ، والحنك كالقبّة يطن فيها الصوت ، فهذه
جملة آلات الصوت.
والصوت إنّما يكون
من النفس ، وأصله دويّ في قصبة الرئة ، وإنما يصير صوتا عند طرف القصبة المسمى رأس
المزمار ، وهو أشرف آلاته ، بل هو بالحقيقة آلته والباقي من المعينات ، والمتممات
، وإنما سمي بذلك ؛ لتضائقه ، ثمّ اتساعه عند الحنجرة ، فيبتدىء من سعة إلى ضيق ،
ثمّ إلى فضاء أوسع ، كما في المزمار ؛ إذ لا بدّ للصوت من ضيق ؛ ليحبس الدوي ،
ويقدّره ، ولا بدّ ـ أيضا ـ من الانضمام والانفتاح ليحصل بهما قرع الصوت.
واللها تقوم مقام
إصبع المزمار ، والقلصمة مثل الشيء الّذي يسد به رأس المزمار ، وعضلات آلات الصوت
كثيرة حسب حركاتها المحتاج إليها في هذا الموضع ، فيكون عن ضروب أشكالها ضروب
الأصوات.
وعند الحنجرة من
قدام عظم هو منشأ رباطات عضلاتها ، وللعظم نفسه ـ أيضا ـ عضلات تمسك بها غير عضلات
الحنجرة ، فتبارك الله العزيز الحكيم ، أحسن الخالقين.
فصل
لما لم يكن غذاء
الإنسان طبيعيا ، ولا لباسه طبيعيا ، بل يحتاج في ذلك وأمثاله إلى صنائع كثيرة ،
وآلات مختلفة ، قلّما يحصل بإلهام ، أو وحي ، بل لا يستحفظ وجوده البقائي إلّا
بتعليم وتعلّم مفتقر إلى طلب ونهي ، ووعد ووعيد ، وترغيب وتخويف ، وتعجيل وتأجيل ،
وغيرها من إعلان مكنونات الضمائر ، وإعلام مستور البواطن.
فلهذه الأسباب
وغيرها صار من بين الحيوانات أحوج إلى الاقتدار على أن يعلّم غيره من المتشاركين
في التعيش ، ونظام التمدّن ، ما في نفسه بعلامة وضعية ، ولا يصلح لذلك شيء أخف من
الصوت ، أو الإشارة ، والأوّل أولى ؛ لأنّه مع خفّة مؤنته لوجود النفس الضروري
المتشعب بالتقاطيع إلى حروف مهيأة بالتأليف لهيئات تركيبية غير محصورة ، بلا تجشّم
تحريكات كثيرة ، كما في الإشارة ، لا يختص إشعاره بالقريب والحاضر ، بل يشمل
هدايته لهما ولغيرهما من البعيد والغائب ، ويشمل ـ أيضا ـ الصور والمعاني ،
والمحسوس والمعقول ، فلذلك أنعم الله سبحانه عليه بذلك ، فتبارك الله اللطيف
الحكيم.
فصل
وأمّا العنق
والصلب فمخلوقتان من الفقرات ، والفقرة عظم مدور في وسطه ثقب ينفذ فيه النخاع ،
وإنما خلقت لتكون وقاية للنخاع ، ودعامة للبدن ، ونسبتها إلى النخاع كنسبة القحف
إلى الدماغ ، وهي ثلاثون عددا : سبع للعنق ،
واثنا عشر للظهر ،
وربما زادت أو نقصت واحدة منها في الندرة ، والزيادة أندر ، وخمس للقطن ، وثلاث
للعجز ، وهما كالقاعدة للصلب ، وثلاثة للعصعص.
وإنما خلقت صلبة
لتكون للإنسان استقلال وقوام ، وتمكن من الحركات إلى الجهات؛ ولذلك جعلت المفاصل
بينها لا سلسة فتوهن القوام ، ولا موثقة فتمنع الانعطاف.
ومنها ما لها
زوائد من فوق ومن أسفل ، بها ينتظم الاتصال بينها اتصالا مفصليا ، بنقر في بعضها ،
ورؤوس لقمية في بعض ، ولبعضها زوائد من نوع آخر عريضة صلبة موضوعة على طولها ؛
للوقاية والجنّة ، والمقاومة ، لما يصاك ؛ ولأن تنتسج عليها رباطات ، فما كان منها
موضوعا إلى خلف يسمى شوكا ، وسناسن ، وما كان يمنة ويسرة يسمى أجنحة ، ولكلّ جناح
ـ ممّا يلي الأضلاع ـ نقرتان ، ولكلّ ضلع زائدتان محدّبتان ، تتهندم الزائدة في
النقرة ، وترتبط برباطات قوية ، وللفقرات غير الثقبة المتوسطة ثقب آخر تخرج منها
الأعصاب ، وتدخل فيها العروق.
والعنق وفقراته
وقاية للمريء ، وقصبة الرئة ، ولما كانت فقراته محمولة على ما تحتها من الصلب وجب
أن يكون أصغر ، ولما كانت مسلكا لأصل النخاع وأوّله الّذي يجب أن يكون أغلظ وأعظم
مثل أوّل النهر ، وجب أن يكون الثقب الوسطاني منها أوسع ، والصغر وسعة التجويف
ممّا يرقق جرمها ، ويوهنه ، فالخالق سبحانه تدارك ذلك بأن خصّها بزيادة صلابة ،
وخرز ليس لما تحتها ، وجعل سناسنها أصغر ؛ ليكون أخف عليها ، ثمّ تدارك صغر
سناسنها بكبر أجنحتها ، وجعلها ذوات رأسين.
ولمّا كان أكثر
منافع العنق في حركاته جعل مفاصله سلسة ، ولم يجعل
زوائدها المفصلية
كبيرة ، كزوائد ما تحتها ؛ لتكون حركاته أسرع ، وتدارك تلك السلاسة بأعصاب وعضلات
كثيرة محيطة به ، وجعل ـ أيضا ـ مسالك الأعصاب التي تتفرّع عن النخاع مشتركة بين
فقرتين ؛ لئلّا تقع ثقبة تامة من فقرة واحدة فتوهنها.
والصلب وفقراته
وقاية وجنّة للأعضاء الشريفة الموضوعة قدّامه ، ولذلك خلق له شوك وسناسن ، وهو
مبنى لجملة عظام البدن ، مثل الخشبة الّتي تهيّأ في بحر السفينة أولا ، ثمّ يركز
فيها ويربط بها سائر الخشب ، ولذلك خلق صلبا ، وهو كشيء واحد مخصوص بأفضل الأشكال
، وهو المستدير ؛ إذ هذا الشكل أبعد الأشكال عن قبول آفات المصادمات.
ولما كان الصلب قد
يحتاج إلى حركة الانثناء والانحناء نحو الجانبين ؛ وذلك بأن يزول الوسط إلى ضد
الجهة ، ويميل ما فوقه وتحته نحو تلك الجهة ، وكان طرفي الصلب يميلان إلى الالتقاء
، لم يخلق للفقرة الّتي هي الواسطة في الطول ، وهي العاشرة ، لقم ، بل نقر ، ثمّ
جعلت اللقم السفلانية والفوقانية متّجهة إليها ، أمّا الفوقانية فنازلة ، وأمّا
السفلانية فصاعدة ؛ ليسهل زوالها إلى ضد جهة الميل ، ويكون للفوقانية أن تنجذب إلى
أسفل ، وللسفلانية أن تنجذب إلى فوق ، فتبارك الله أحسن الخالقين.
فصل
وأمّا النخاع فهو
جسم أبيض ، ليّن ، دسم ، دماغيّ ، منشؤه مؤخّر الدماغ ، كما أشرنا إليه ، وهو
خليفته ، لتتوزع منه الأعصاب والعضلات على الأعضاء ، ليفيدها الحس والحركة ، فجملة
ما ينشأ منه إحدى وثلاثون زوجا من العصب ،
وفرد لا مقابل له.
فالزوج الأوّل
يخرج من الثقب الّذي في الفقرة الأولى من فقار العنق ، ويصعد حتّى يتفرّق في عضل
الرأس ، والثاني يخرج ممّا بين الثقب الملتام فيما بين الفقرة الأولى والثانية ،
ويتّصل بجلدة الرأس ، فيعطيها حسّ اللمس ، وبعضل العنق ، وعضل الخدّ ، فيعطيهما
الحركة ، والزوج الثالث مخرجه من الثقب الملتام فيما بين الفقرة الثانية والثالثة
، وينقسم قسمين ، فبعضه يصير إلى العضل المحرّك للخدّ ، وبعضه يتفرّق في العضل
الّذي بين الكتفين ، والرابع منشؤه ما بين الفقرة الثالثة والرابعة ، وينقسم قسمين
: أحدهما في العضل الّذي في الظهر ، والآخر يأخذ إلى قدّام ، ويتفرّق في العضل
الموضوع بحذائه ، وفوقه ، والخامس يخرج فيما بين الفقرة الرابعة والخامسة ، وينقسم
أقساما ، بعضها يصير إلى الحجاب ، وبعضها إلى العضل الّتي تحرّك الرأس والرقبة ،
وبعضها إلى عضل الكتف ، والسادس والسابع والثامن يخرج ما بين الخامسة السادسة
السابعة والثامنة ، وينقسم بعضها في عضل الرأس والرقبة ، وبعضها في عضل الصلب ،
وفي الحجاب ، ما خلا الثامن فإنه لا يأتي الحجاب منه شيء ، وبعضها يصير إلى العضد
، وإلى الذراع ، وإلى الكتف ، فيتّصل من السادس بعضه بعضل الكتف ويحرّك العضد ،
وبعضه بعضل أعالي العضد وينيله الحس ، ومن السابع بعضه يصير إلى العضل الّذي من
العضد وبه حركة الذراع ، وبعضه يتفرّق في جلد العضد الباقي وينيله الحسّ، وبعض من
الثامن ينبثّ في جلدة الذراع فيعطيها الحسّ ، وبعضها يصير في عضل الذراع ، ويحرّك
الكفّ.
والزوج التاسع
يخرج ما بين الفقرة الثامنة والتاسعة ، وهما أوّل فقار الظهر ، وينقسم بعضه في
العضل الّذي فيما بين الأضلاع ، وبعضه في عضل الصلب ، وبعضه ينزل إلى الكفّ ،
وينبثّ فيه ، فينيله الحس ، وبعض الحركة.
والعاشر يخرج ما
بين الفقرة التاسعة والعاشرة ، ويصير منه جزء إلى جلد العضد ، فيعطيه الحس ،
وباقيه ينقسم ، فيأخذ منه قسم إلى قدّام فيتفرّق في عضل الظهر ، والكتف، وعلى نحو
هذا يكون خروج العصب وتفرّقه إلى الزوج التاسع عشر.
والزوج العشرون
يخرج ممّا بين الفقرة التاسعة عشرة ، والعشرين ، وهي أوّل فقرات القطن ، وعلى هذا
القياس إلى أن يخرج خمسة أزواج من بين هذه الفقار ، ويصير بعضها في القدّام ،
فيتفرّق في العضل الّذي على القطن ، وبعضه يتفرّق في العضل الّذي على المثانة ،
ويخالط الثلاثة الأزواج العليا منه عصب ينحدر من الدماغ ، والزوجان اللذان تحت هذه
الثلاثة الأزواج تنحدر منها شعب كبار إلى الساق ، حتّى تبلغ طرف القدم ، وثلاثة
أزواج تخرج من فقرات العجز وتخالط القطنية ، وتنحدر منها إلى الساق ، وتتفرّق في
العضلات الّتي هناك ، وثلاثة تخرج من نخاع العصعص مشتركة المخارج ، كالعنقية ،
وفرد من آخره ؛ إذ الفقرة الأخيرة منه لا ثقبة فيها غير الوسطانية ، وكلها تنبثّ
في القضيب ، وفي عضل المقعدة، والمثانة ، والرحم ، وفي غشاء البطن ، وفي العضل
الموضوع بقرب هذه المواضع ، ولله الحمد على نعمائه ، وله الشكر على آلائه.
فصل
وأمّا الأضلاع فهي
أربعة وعشرون عظما ، من كلّ جانب اثنا عشر ، كلّها محدّبة ، أطولها أوسطها ، سبع
منها يتّصل أحد طرفيها من خلف بفقار الظهر بزوائد منها ، ونقرات من الفقرات ،
وارتباط برباطات ، وحدوث مفاصل مضاعفة من قدام بعظام القصّ برؤوس غضروفية ، وتسمى
أضلاع الصدر ؛ لاتّصالها
بالقصّ ،
واشتمالها على أحشاء الصدر.
وخمس منها ينقطع
دون الاتصال بالقصّ ، متقاصرة ، ورؤوسها متصلة بغضاريف ، وتسمى ضلوع الخلف ، وإنما
خلقت لتكون وقاية لما يحيط به من آلات التنفس ، وأعالي آلات الغذاء ، ولهذا جعل ما
يحيط منها بالعضو الرئيس متّصلا بالقصّ ؛ ليكون متحصّنا به من جميع جهاته ، وما
يلي آلات الغذاء جعل كالمحرزة من خلف ؛ حيث لا يدركه حراسة البصر ، ولم يتّصل من
قدام ، بل درجت يسيرا يسيرا في الانقطاع ، وجعل أعلاها أقرب مسافة ما بين أطرافها
البارزة ، وأسفلها أبعد مسافة لتجمع إلى وقاية أعضاء الغذاء من الكبد والطحال ،
وغير ذلك ؛ توسيعا لمكان المعدة ، فلا تنضغط عند امتلائها من الأغذية ، ومن النفخ
، وهذا هو السبب في تعددها كلّها ، وكونها ذا فرج في الكلّ مع إعانة ذلك على جذب
الهواء الكثير ، وتخلل العضلات المعينة في أفعال التنفس ، وغير ذلك ، ولله الحمد.
فصل
وأمّا القصّ فهو
سبعة عظام على عدد أضلاع الصدر ، متصلة بها ، وهي عظام هشّة موثوقة ، وقد اتصل
بآخرها غضروف عريض يشبه الخنجر يسمى خنجريا.
وإنما جعلت هشة
لتكون أخف ، والحركات الخفيفة الّتي بها أسهل ، وليتحلل منها البخار ، ولا يحتقن
فيها.
ووثاقة مفاصلها ؛
لئلّا تنضغط عن ضاغط ، أو مصادم ، فينضغط القلب.
والخنجري جنّة لفم
المعدة ، ولخالقها الحمد.
فصل
وأمّا الترقوة
فعظم موضوع على كلّ واحد من جانبي أعلى القصّ ، فيه طول وانحداب إلى الجانب الوحشي
، وتقعير إلى الجانب الإنسي ، يتصل أحد رأسيه بالقص ، والآخر برأس الكتف ، فيرتبط
به الكتف ، وبهما جميعا العضد ، ورأسه الّذي هو مربوط بالقص أغلظ ومستدير ، ثمّ
يدقّ قليلا ، ورأسه الآخر عريض ، وتنفذ في مقعّره العروق الصاعدة إلى الدماغ ،
والعصب النازل منه ، وهو وقاية لهما.
فصل
وأمّا الكتف فعظم
، طرفه الوحشي إلى الاستدارة ، يستدقّ من ذلك الطرف ويغلظ ، فتحدث عليه نقرة غير
غائرة ، يدخل فيها طرف العضد المدوّر ، ولها زائدتان تمنعان العضد عن الانخلاع ،
إحداهما إلى فوق ، ومن خلف ، وتسمى منقار الغراب ، وبها رباط الكتف مع الترقوة ،
والأخرى إلى أسفل ومن داخل ، ثمّ لا تزال تستعرض كلما أمعنت في الجهة الإنسية
ليكون اشتمالها الواقي أكثر ، حتى تنتهي إلى غضروف مستدير الطرف ، يتصل بها ، وعلى
ظهره زائدة كالمثلث تسمى عين الكتف ، قاعدته إلى الجانب الوحشي ، وزاويته إلى
الإنسي حتى لا يختل سطح الظهر بإشالة الجلد ، وتألّمه عن المصادمات ، وهي بمنزلة
السنسنة للفقرات ، مخلوقة للوقاية.
وإنما خلق الكتف
لأن يتعلق به العضد ، فلا يكون ملتصقا بالصدر ؛ ولأن
تسلس به حركات
اليدين ، ولا يضيق مجالهما ، وأن يكون جنّة ووقاية ثانية للأعضاء المحصورة في
الصدر ، ويقوم بدل سناسن الفقرات وأجنحتها ، فتبارك الله.
فصل
وأمّا العضد فهو
عظم مستدير ، مثل أنبوبة قصب مدور ، مجوّف ، مملوء مخّا ، محدّب إلى الوحشي ،
مقعّر إلى الإنسي ؛ ليكنّ بذلك ما ينتضد عليه من العضل ، والعصب ، والعروق ؛
وليجرد تأبط ما يتأبّطه الإنسان ، وإقبال إحدى اليدين على الأخرى ، وطرفه الأعلى
المحدب يدخل في نقرة الكتف بمفصل رفق غير وثيق جدا ، تضمّه رباطات أربعة ، وبسبب
الرخاوة يعرض له الخلع كثيرا.
وإنما جعل رخوا
لتسلس الحركة في الجهات كلّها ، مع عدم الاحتياج إلى دوام هذه الحركة ، وكثرتها
ليخاف انتهاك الأربعة أو تخلّعها.
وأمّا طرفه السافل
فإنه قد ركّب عليه زائدتان متلاصقتان ، فالّتي تلي الجانب الإنسي منهما أطول وأدقّ
، ولا مفصل لها مع عظم آخر ، وليس يرتبط بها شيء ، لكنها وقاية للعروق ، والعصب
الّتي تأتي اليد ، والأخرى الّتي تلي الجانب الوحشي يتم بها مفصل المرفق ، وفيما
بين هاتين الزائدتين حزّ شبيه بحزّ البكرة عند نهايته نقرتان من قدام ، ومن خلف ،
تسميان عتبتين ، فالتي إلى قدام مسوّاة مملّسة لا حاجز عليها ، والأخرى وهي الكبرى
أنزل إلى تحت ، وغير مستديرة الحزّ ، لكنها كالجدار المستقيم إذا تحرّك فيها رأس
عظم الساعد إلى الجانب الوحشي ، ووصل إليه وقف.
فصل
وأمّا الساعد فهو
مؤلف من عظمين متلاصقين طولا ، ويسمّيان الزندين ، والفوقاني الّذي يلي الإبهام
منهما أدق ؛ لأنّه محمول ، ويسمى الزند الأعلى ، والسفلاني الّذي يلي الخنصر أغلظ
؛ لأنّه حامل ، ويسمى الزند الأسفل ، وجملتهما يسمى ذراعا.
وبالأعلى تكون
حركة الساعد على الالتواء ، والانبطاح ، ولهذا خلق معوجا ، كأنه يأخذ من الجهة
الإنسية ، وينحرف يسيرا إلى الوحشية ؛ ليحسن استعداده للحركة الالتوائية.
وبالأسفل تكون
حركة الساعد إلى الانقباض والانبساط ، ولهذا خلق مستقيما ؛ ليكون أصلح لهما ، ودقق
الوسط من كلّ منهما ؛ لاستغنائه بما يحفّه من العضل الغليظة عن الغلظ المثقل ،
وغلظ طرفاهما ؛ لحاجتهما إلى كثرة نبات الروابط عنهما ، لكثرة ما يلحقهما من
المصاكات والمصادمات العنيفة عند حركات المفاصل ، وتعرّيهما عن اللحم والعضل.
والزند الأعلى في
طرفه نقرة مهندمة ، فيها لقمة من الطرف الوحشي من العضد ، ويرتبط فيها برباطات ،
وبدورانها في تلك النقرة تحدث الحركة المنبطحة ، والملتوية.
وأمّا الزند
الأسفل فله زائدتان بينهما حزّ يتهندم في الحزّ الّذي على طرف العضد ، ومنها يلتئم
مفصل المرفق ، فإذا تحرّك الحزّ إلى خلف وتحت انبسطت اليد ، وإذا اعترض الحز
الجداري من النقرة الحابسة للّقمة حبسها ومنعها عن
زيادة انبساط ،
فوقف العضد والساعد على الاستقامة ، وإذا تحرّك أحد الحزّين على الآخر إلى قدّام
وفوق ، انقبضت اليد حتّى يماسّ الساعد العضد من الجانب الإنسي ، والقدام.
وطرفا الزندين من
أسفل يجتمعان معا كشيء واحد ، وتحدث فيهما نقرة واسعة مشتركة ، أكثرها في الزند
الأسفل ، وما يفضل عن الانتقار يبقى محدبا مملسا ؛ ليبعد عن منال الآفات ، فسبحان
خالقها.
فصل
وأمّا الرسغ
والمشط ؛ فالرسغ مؤلّف من ثمانية أعظم ممدودة ، ومنضودة في صفين ، وهي عظام صلبة ،
عديمة المخّ ، مقببة الشكل ، تقبيبا يلتئم من اجتماعها هيئة موافقة لما ينبغي أن
يكون الرسغ عليه.
والمشط مؤلف من
أربعة أعظم ، متصلة بأعظم الرسغ بأربطة موثقة ، والصف الأعلى من الرسغ وهو الّذي
يلي الساعد ثلاثة عظام موثوقة المفاصل ، وعظامه أدق ، ثمّ رؤوسها الّتي تلي الساعد
أدق وأشدّ تهندما واتصالا ، كأنها واحدة ، ورؤسها الّتي تلي الصف الأسفل أعرض ،
وأقل تهندما واتصالا ، والصف الأسفل أربعة عظام بعدد عظام المشط ؛ لاتصالها بها.
وأمّا العظم
الثامن فليس ممّا يقوّم صفّي الرسغ ، بل خلق لوقاية عصبة تلي الكفّ.
وعظام المشط
متقاربة من الجهة الّتي تلي الرسغ ، ليحسن اتصالها بعظام ، كالمتصلة المتلاصقة ،
وتنفرج يسيرا في جهة الأصابع ليحسن اتصالها بعظام
منفرجة متباينة.
وللرسغ مع الساعد
مفصلان ، أحدهما للانبساط والانقباض ، وهو أكبرهما ، يحدث من تهندم عظام الرسغ في
النقرة المشتركة بين طرفي الزندين ، والآخر للالتواء ، ويحدث من تهندم زائدة تنبت
على طرف الزند الأسفل على الخنصر في نقرة وقعت في طرف عظم الرسغ، محاذية لها ،
فتدور النقرة على الزائدة ، ويلتوي الرسغ وما يتصل بها ، ومفصل الرسغ مع المشط
يلتئم بنقر في أطراف عظام الرسغ تدخلها زوائد من عظام المشط قد ألبست غضاريف ، وهذه
العظام كلّها موثقة المفاصل ، مشدود بعضها ببعض ؛ لئلّا يتشتّت فيضعف عند ضبط الكف
لما يحويه ويحبسه حتّى لو كشفت جلدة الكف لوجدتها كأنها متصلة ، يبعد فصولها عن
الحسّ ، ومع وثاقتها مطاوعة لانقباض يسير.
وفي جميع عظام
الرسغ والمشط تقعير من جانب الكفّ ، يمكّن الكف بتلك المطاوعة ، وهذا التقعير من
قبض المستديرات وضبط السيّالات ، فسبحان بارئها ، وبحمده.
فصل
وأمّا الأصابع
فكلّ واحد منها مخلوقة من ثلاثة عظام ، تسمى بالسلاميات ، والسفلانية منها أعظم ،
والفوقانية أدقّ وأصغر على التدريج ؛ ليحسن نسبة ما بين الحامل والمحمول.
وعظامها مستديرة ؛
لتتوقى الآفات ، وجعلت صلبة عديمة التجويف والمخ ، مقعّرة الباطن ، محدبة الظاهر ؛
لتكون أقوى في القبض والضبط والجرّ ،
والوسطى أطول. ثمّ
البنصر ، ثمّ السبابة ، ثمّ الخنصر ؛ لتستوي أطرافها عند القبض ، ولا تبقى فرجة ،
وتتقعّر هي في الراحة ، وتشتمل على المستدير المقبوض عليه ، ووصلت سلامياتها كلّها
بحروف ونقر متداخلة ، بينها رطوبة لزجة ليدوم بها الابتلال ، ولا تجففها الحركة ،
وتشتمل على مفاصلها أربطة قوية ، وتتلاقى بأغشية غضروفية ، وتحشو الفرج في مفاصلها
لزيادة الاستيثاق عظام صغار تسمى سمسمانية ، وجعل باطنها لحميا ليتطامن تحت
الملاقيات المقبوضة ، ولم يجعل كذلك من خارج ؛ لئلّا يثقل ، وليكون حالة الجمع
سلاحا موجعا.
ووفرت لحومها
لتهندم جيّدا عند الالتقاء كالملاصق ، ولم تخلق في الأصل لحمية خالية من العظام ،
وإن كان قد يمكن مع ذلك اختلاف الحركات ، كما لكثير من الدود والسمك، إمكانا واهيا
؛ لئلّا تكون أفعالها واهية وأضعف ممّا يكون للمرتعشين ، ولم تخلق من عظم واحد ؛
لئلّا تكون أفعالها متعسّرة كما تعرض للمكزوزين.
واقتصر على عظام
ثلاثة ؛ لأنّه إن زيد في عددها وأفاد ذلك زيادة عدد حركات لها أورث ـ لا محالة ـ وهنا
وضعفا في ضبط ما يحتاج في ضبطه إلى زيادة وثاقة ، وكذلك لو خلقت من أقل من ثلاثة ،
مثل أن يخلق من عظمين ، كانت الوثاقة تزداد والحركات تنقص عن الكفاية ، والحاجة
إلى التصرفات المتفنّنة أمس منها إلى الوثاقة المجاوزة للحد ، ولم يجعل لبعضها عند
بعض تحديبا ، ولا تقعيرا لتكون كأنها شيء واحد ، إذا احتيج إلى أن تحصل منها منفعة
عظم واحد.
وجعل للإبهام
والخنصر تحديبا في الجانب الوحشي الّذي لا يلقاه إصبع ؛
ليكون بجملتها عند
الانضمام ، كالمستدير الّذي يقي من الآفات ، ولم يربط الإبهام بالمشط؛ لئلّا يضيق
البعد بينه وبين سائر الأصابع ، ويكون عدلا لجميع الأصابع الأربعة ، فإذا اشتملت
الأربعة من جهة على شيء وقاومها الإبهام من جانب آخر أمكن أن يشتمل الكفّ على شيء
عظيم.
وأيضا إذا اشتملت
الأربعة على شيء صغير وعاونها الإبهام بأن يحفظها على هيئة الاشتمال عادل قوّة
الإبهام في ضبط ذلك الشيء قوى الأربعة ، وليكون الإبهام من وجه آخر كالصمامة على
ما يقبضه الكف ، ولو وضع في غير موضعه لبطلت منفعته ، ولو وضع إلى جانب الخنصر لما
كانت اليدان كلّ واحدة منها مقبلة على الأخرى فيما يجتمعان على القبض عليه ، وأبعد
من هذا لو وضع من خلف ، أو على الراحة ، فتبارك الله العليم القدير ، الرؤوف ما
أرأفه ، وما أحكم صنعه.
فصل
وأمّا الظفر فهو
عظم ليّن ، دائم النشوء ؛ لأنّه ينسحق دائما ، كالسن ، وإنما خلق ليكون سندا
للأنامل ؛ لئلّا تنعطف ، ولا تنضغط عند الشد على الشيء ، فتوهن ، وليتمكّن به
الإصبع من لقط الأشياء الصغيرة ، ومن الحكّ والتنقية ، وليكون سلاحا في بعض
الأوقات ، وهذا في غير الإنسان أظهر.
وخلق مستدير الطرف
ليشق بعض الأشياء ، ويقطع به ما يهون قطعه ، وليّنا ليتطامن تحت ما يصاكه ، فلا
ينصدع ، فسبحان منشئه ، وبحمده.
فصل
وأمّا هيئة الصدر
، فبيانها : أن تجويف البطن كله ، من لدن الترقوة إلى عظم الخاصرة، ينقسم إلى
تجويفين عظيمين ، أحدهما فوق ، يحوي الرئة ، والقلب ، والثاني أسفل يحوي المعدة ،
والأمعاء ، والكبد ، والطحال ، والمرارة ، والكلى ، والمثانة ، والأرحام ، ويفصل
بين هذين التجويفين العضو المسمى بالحجاب ، وهذا الحجاب يأخذ من رأس القصّ ، ويمرّ
بتأريب إلى أسفل ، في كلّ واحد من الجانبين حتّى يتصل بفقار الظهر عند الفقرة
الثانية عشر ، ويصير حاجزا بين ما فوقه وما تحته.
ثمّ ينقسم هذا
التجويف الأرفع إلى قسمين يفصل بينهما حجاب آخر ، ويمر في الوسط حتّى يلصق ـ أيضا ـ
بفقار الظهر ، ويسمى هذا التجويف الأعلى كله صدرا ، وحدّه من فوق الترقوتين إلى
الحجاب القاسم للبطن عرضا.
وإنما خلق الصدر
من أجل التنفّس ؛ وذلك لأنّه إذا انبسط جذب الرئة وبسطها ، وإذا انبسطت الرئة
اجتذبت الهواء من خارج ، وكان ذلك أحد جزئي التنفس ، وهو تنشق الهواء ، ثمّ إنّ
الصدر ينقبض فيقبض الرئة ، ويكون بانقباضها إخراج النفس ، وهو الجزء الثاني.
وإنما احتيج إلى
تنشق الهواء الخارج ، ثمّ إخراجه ؛ لترويح القلب ، وتعديل حرارته ، وإمداد الروح
بجوهر ملائم له ، فإنّ الهواء يصير مركّبا للروح ، منفذا له ، مثل ما يصير الماء
المشروب مركّبا للغذاء ، فالهواء الّذي يستنشق يصل منه شيء إلى القلب في المنافذ
الّتي بينها وبين القلب ، فإذا سخن ذلك الهواء الّذي اجتذب احتيج إلى إخراجه
والاستبدال به ، فانقبض الصدر وقبض الرئة ، ثمّ عاد
فانبسط وبسط الرئة
، فدخلها هواء آخر على مثال الرقاق الّتي ينفخ بها النار ، فإنّها إذا انبسطت
امتلأت من الهواء ، ثمّ إذا قبضت انفرغت منه ، فسبحان واهب الحياة ، ما أتقن صنعه.
فصل
وأمّا الرئة فإنّ
قصبتها تنتهي من أقصى الفم ، على ما ذكرنا ، حتّى إذا ما جاءت إلى ما دون الترقوة
انقسمت قسمين ، وينقسم كلّ منها أقساما كثيرة ، وانتسج واحتشى حواليها لحم أبيض
رخو متخلخل هوائي ، غذاؤه دم في غاية اللطافة والرقة ، فيملأ القصبة والفرج الّتي
بين شعبها وشعب العروق الّتي هناك ، فصار من جملة القصبة المنقسمة ، والعروق الّتي
تحتها واللحم الّذي يحتشي حواليها بدن الرئة ونصفه في تجويف الصدر الأيمن ، والآخر
في الأيسر ، فهي ذات شقّين في جزئي الصدر ، لكي يكون التنفس اثنين ، فإن حدث على
واحد منهما حادثة قام الآخر بما يحتاج إليه ، كالحال في العينين.
وجللت بغشاء عصبي
ليحفظها على وضعها ، وليفيدها حسّا ما ، وإنما تخلخل لحمها لينفذ فيها الهواء
الكثير فوق المحتاج إليه القلب ؛ ليكون للحيوان ـ عندما يغوص في الماء ، وعندما
يصوّت صوتا طويلا متّصلا ، يشغله عن التنفّس ، وجذب الهواء ، وعندما يعاف الإنسان
بالاستنشاق هواء منتن ، أو هواء مخلوط بدخان ، أو غبار ـ هواء معدّ يأخذه القلب ،
وأن يكون معينا بالانقباض على دفع الهواء الدخاني ، وعلى النفث.
وسبب بياض لحمها
هو كثرة تردد الهواء فيه ، وغلبته على ما يغتذي به ، وإنما تشعّبت شعبا ؛ لئلّا
يتعطل التنفس ؛ لأنّه يصيب إحدى الشعب.
ولا رئة للسمك ،
وإنما يتنفس بالهواء من طريق الأذنين ، فسبحان الرؤوف الرحيم.
فصل
وأمّا قصبة الرئة
، فمؤلفة من غضاريف كثيرة ، منضودة بعضها فوق بعض ، مربوطة بعضها إلى بعض ،
برباطات بعضها داوئر تامة ، وهي الّتي في داخل الرئة ، وبعضها نصف دائرة ، وهي
الّتي تجاور المريء ، وتماسّه في فضاء الحلق ، وبين كلّ اثنين منها فرجة ، ويحللها
غشاءان يحويان عليها ، ويشملان الفرج الّتي بينها ، ويصلان بين طرفي أنصافها ،
داخلا وخارجا.
وإنما جعلت
غضروفية لتبقى مفتوحة ، ولا تنطبق ، ولتكون صلابتها سببا لحدوث الصوت ، أو معينا
فيه ، وإنما كثرت لئلّا تشملها الآفة ، وإنما ربطت بأغشية لتتسع تارة ، وتجتمع
أخرى عند الاستنشاق والتنفس ، فإنّ القابل للتمدد والاجتماع هو الغشاء ، دون
الغضروف ، وإنما لاقت المريء بجانبها الناقص ، وبالغشاء ، ليندفع الغشاء عند
الازدراد عن وجه اللقمة النافذة إذا احتاج المريء إلى التمدد ، والاتساع ، فينبسط
إلى الغشاء ، ويأخذ حظّا من فضاء القصبة ، فيتّسع ، وتنفذ اللقمة بسهولة ، فيكون
تجويف القصبة ـ حينئذ ـ معينا للمريء عند الازدراد.
وجعل الغشاء
الداخلاني أصلب وأشدّ ملاسة ؛ ليقاوم حدّة النوازل والنفوث الرديئة ، والدخان
المردود من القلب ؛ ولئلّا يسترخي عن وقوع الصوت ، وإنما انقسمت في داخل الرئة أقساما
كثيرة ؛ لينفذ فيها الهواء الكثير ، ويستعدّ فيها للقلب.
ومنفعتها في إعداد
الهواء للقلب مثل منفعة الكبد في إعداد الغذاء لجميع البدن ، وإنما ضيّقت فوهاتها
؛ لينفذ فيها النسيم إلى الشرايين المؤدية إلى القلب بالتدريج ، وأن لا ينفذ فيها
الدم ، فيحدث نفث الدم ، ولخالقها الحمد فوق ما حمده الحامدون.
فصل
وأمّا القلب ، فهو
مؤلف من : لحم ، وعصب ، وغضروف ، وأوردة ، وشرايين تنبت منه ، ورباطات يتعلق هو
بها ، وغشاء ثخين يغشى به للوقاية ، غير ملاصق له ، إلّا عند أصله ؛ لئلّا ينضغط
عند الانبساط.
أما لحمه فصلب ،
غليظ ، منتسج من ثلاثة أصناف : من الليف اللحمي الطويل الجاذب ، والعريض الدافع ،
والمؤرّب الماسك ، لتكون له أصناف الحركات والأفعال ، وصلابته ؛ لئلّا ينفعل
بالسرعة ، وليكون أبعد عن قبول الآفات.
وهو صنوبري الشكل
، قاعدته إلى فوق ، وفيها تنبت الشرايين ، ليكون في المنبت وقاء للنابت ، وغضروفه
أساس له وثيق ، وهو كالقاعدة له ، وله تجاويف ثلاثة ، تسمى بالبطون ، اثنان منها
كبيران ، والثالث في الوسط صغير ، يسمى بالدهليز ، والأيمن وعاء لدم متين مشاكل
لجوهره ، والأيسر وعاء للروح ، والدم الرقيق.
وخصّ بزيادة تصلّب
؛ لعدم الأمن من تخلل ما فيه ، وترشّحه للطافة أحدهما ، ورقّة الآخر ، بخلاف
الأيمن ، والأوسط منفذ بينهما ، له انضمام وانفراج ،
بحسب انبساط القلب
وانقباضه ، بهما ينفذ كلّ من صنفي الدم فيه ، ويختلط أحدهما بالآخر ، ويعتدلان فيه
، وقياسه من البطنين في المنفذية والتصرف قياس المبطن الأوسط من الدماغ بين
المقدّم والمؤخّر.
وللأيمن فوّهتان
تدخل من أحدهما العروق النابتة من الكبد ، ويصبّ منه الدم فيه ، والأخرى تتصل
بالرئة ، وهي الوريد الشرياني.
وللأيسر ـ أيضا ـ فوّهتان
إحداهما فوّهة الشريان العظيم الّذي منه تنبت شرايين البدن كلّها ، والثانية فوّهة
الشريان الّذي يتصل بالرئة ، وفيها يكون نفوذ الهواء من الرئة إلى القلب ، وهو
الشريان الوريدي ، وعليها زائدتان شبيهتان بالأذنين ، تقبلان الدم والنسيم من
المنافذ والعروق ، ويرسلان إلى القلب ، جرمهما أرق من لحم القلب ؛ ليحسن إجابتهما
إلى الحركات ، وفيهما مع رقّتهما صلابة ؛ لتكون أبعد عن قبول الآفات.
وإنما وضع القلب
في الصدر ؛ لأنّه أعدل موضع في البدن ، وأوفقه ، وأميل إلى اليسار قليلا ؛ لكي
يبعد عن الكبد ، فلا يجمع الحار كلّه في جانب واحد ، وأن يعدل الجانب الأيسر ؛
لأنّ الطحال في ذلك الجانب ، وليس هو بنفسه كامل الحرارة ، ولكي يكون للكبد والعرق
الأجوف النابت منه مكان واسع ، وتوسع المكان له أولى من توسّعه للطحال ؛ لأنّه
أشرف.
والرئة مجللة
للقلب لتمنع من أن تلقاه عظام الصدر من قدام ، وهو موضع صلابة جوهره ، لا يحمل
ألما ، ولا ورما ، لشرفه ، وعظمه وصغره يكون في الأكثر سببا للجرأة والجبن ، لقوّة
الحياة وضعفها ، وممّا يوجد بخلاف ذلك ، فالسبب فيه قلّة الحرارة بالنسبة إلى
جثّته ، أو كثرتها.
وقد يوجد في قلب
بعض الحيوانات الكبير الجثّة عظم ، وخصوصا في
الجمل والبقر ،
وهو مائل إلى الغضروفية ، وأصلب ما يوجد من ذلك ما يوجد في الفيل ، فتبارك الله رب
العالمين.
فصل
وأمّا الشرايين
فمنبتها التجويف الأيسر من القلب ، كما أشرنا إليه : وذلك لأن الأيمن أقرب إلى
الكبد ، فيشتغل بجذب الغذاء واستعماله.
ويخرج من هذا
التجويف شريانان ، أحدهما أصغر وهو الشريان الوريدي المتّصل بالرئة ، والآخر أكبر
كثيرا وهو حين يطلع تنشعب منه شعبتان ، تصير إحداهما إلى التجويف الأيمن من تجويفي
القلب ، وهي أصغر الشعبتين ، والأخرى تستدير حول القلب كما يدور ، ثمّ تدخل إليه ،
وتتفرّق فيه.
ثمّ إن الباقي من
العروق النابتة من تجويف القلب الأيسر بعد انشعاب هاتين الشعبتين منه تنقسم قسمين
، يأخذ أحدهما إلى أسافل البدن ، والآخر إلى أعاليه ، والثاني ينقسم في مصعده في
الجانبين إلى شعب تتصل بما يحاذيها من الأعضاء فتعطيها الحرارة الغريزية ، حتّى
إذا حاذى الإبط خرجت منه شعبة مع العرق الأبطي من عروق الكبد إلى اليد ، وينقسم
فيها كتقسيمه ، على ما سنذكره ، واتصلت منه شعب صغار بالعضل الظاهر والباطن من
العضد ، وهو مع ذلك غائر مندفن حتّى إذا صار عند المرفق صعد إلى فوق ، حتّى أن
نبضه يظهر في هذا الموضع في كثير من الأبدان ، ولم يزل تحت الابطي ملاصقا له حتّى
ينزل عن المرفق قليلا.
ثمّ إنه يغوص ـ أيضا
ـ في العمق وتنشعب منه شعب شعرية تتصل بعضل
الساعد إلى أن
يقطع من الساعد مسافة صالحة ، ثمّ ينقسم قسمين ، فيأخذ أحدهما إلى الرسغ مادّا
مارّا على الزند الأعلى وهو العرق الّذي يجسّه الأطباء ، ويأخذ الآخر إلى الرسغ
أيضا ، مارّا على الزند الأسفل ، وهو أصغرهما ، ويتفرّقان في الكفّ ، وربما ظهر
لهما نبض من ظاهر الكف.
وإذا بلغ هذا
القسم الأعلى موضع اللبّة انقسم قسمين ، وانقسم كلّ قسم إلى قسمين آخرين ، وجاوز
أحد هذين القسمين الوداج الغائر من عروق الكبد ، ومرّ مصعدا حتّى يدخل القحف ،
ويتّصل في مروره منه شعبة بالأعضاء الغائرة الّتي هناك ، وإذا دخل القحف انقسم
هناك انقساما عجيبا ، وصار منه الشيء المعروف بالشبكة المفروشة تحت الدماغ ، وقد
مرّ ذكرها ، وبعد انقسامه إلى هذه الشبكة يجتمع ويعود ـ أيضا ـ ليخرج من هذه
الشبكة عرقان متساويان في العظم ، كحاله قبل الانقسام إليها ، ويدخلان ـ حينئذ ـ جرم
الدماغ ، فينقسمان فيه.
وأمّا القسم الآخر
من هذين القسمين ، وهو أصغرهما ، فإنه يصعد إلى ظاهر الوجه والرأس ، ويتفرّق فيما
هناك من الأعضاء الظاهرة ، كتفرّق الوداج الظاهر الآتي ذكره ، وقد يظهر نبض هذا
القسم خلف الأذن ، وفي الصدغ.
فأما النبض الظاهر
عند الوداجين فإنه نبض القسم العظيم المجاور للوداج الغائر ، ويسمى هذان الشريانان
: شرياني السبات.
وأمّا القسم
النازل إلى أسافل البدن فإنه يركب فقرات الصلب ، مبتدأ من الفقرة الخامسة المحاذية
للقلب ، نازلا منه إلى أسفل ، وتنشعب منه عند كلّ فقرة شعب ، يمنة ويسرة ، ويتصل
بالأعضاء المحاذية لها ، وأوّل شعبة تنشعب منه شعبة تأتي الرئة ، ثمّ شعب تأتي
العضل الّتي بين الأضلاع ، ثمّ شعبتان تأتيان الحجاب ، ثمّ شعب تأتي المعدة ،
والكبد ، والطحال ، والثرب ، والأمعاء ، والكلى ،
والأرحام ، وشعب
تخرج حتّى تتصل بالعضل المحاذية لهذه المواضع ، حتّى إذا جاء إلى آخر الفقار انقسم
قسمين ، أخذ كلّ واحد منهما نحو إحدى الرجلين ، وانقسما فيهما كانقسام العروق
الكبدية ، إلّا أنهما غائران ، ويظهر نبضهما عند الاربيتين ، وعند العقب تحت
الكعبين الداخلتين ، وفي ظهر القدمين بالقرب من الوتر العظيم ، فتبارك الله الحكيم
العليم.
فصل
وأمّا المريء
والمعدة : فالمريء مؤلف من جوهر لحمي ، وطبقات غشائية ، تحيط بها شعب من الأوردة
والشرايين ، وشعب من الأعصاب ، أمّا اللحمية فظاهرة ، والطبقة الداخلانية مطاولة
الليف ، بها يجذب ، والخارجة مستعرضة الليف بها يدفع المزدرد إلى المعدة ، ويعصر ،
وبها وحدها يتم القيء ، ولذلك يعسر.
وموضعه خلف قصبة
الرئة ، كما مر ، على استقامة فقار العنق ، وينحدر معه زوج العصب النازل من الدماغ
ملتويا عليه ، فإذا جاوز الفقرة الرابعة من فقار الصلب ، المسماة بفقار الصدر ،
ينحرف يسيرا إلى الجانب الأيمن ليوسع المكان على العرق النابت من القلب ، ثمّ
ينحدر على استقامة الفقرات الباقية ، حتّى إذا وافى الحجاب انفتح له منفذ فيه ،
ويرتبط عند المنفذ برباطات تشمله وتحوطه لئلّا يزدحم العرق الكبير المارّ فيه ،
ولا يضغطه عند الازدراد ، فإذا جاوز الحجاب أخذ يتّسع ، ويسمى ـ حينئذ ـ فم المعدة
، ويتدرّج في الاتساع حتّى يتم المعدة مستديرا ، إلّا أن ما يلي الصلب منها منبطح
، ليحسن ملاقاتها به، وأسفلها واسع ؛ لأنّه مستقرّ الطعام ، وهي ذات طبقتين
داخلتهما طولانية الليف ؛ لأنّ أكثر
أفعالها الجذب ،
ويخالطها ليف مؤرّب ليعين على الإمساك ، وهي متصلة بغشاء المريء ، وغشاء داخل الفم
، بل كلّها غشاء واحد ، فيه قوّة هاضمة ، كما مرّ.
والخارجة مستعرضة
الليف ، لم يختلط به شيء من المؤرّب ؛ لأنّه آلة العصر والدفع فقط ، ويأتيها من
عصب الدماغ شعبة يفيدها الحسّ ؛ ولهذا ما يغثى الروائح الكريهة ، والمشاركة بين المعدة والدماغ بهذه
العصبة ، وبها يحسّ الإنسان ببرد الماء المشروب ، وبها تنتبه الشهوة ، ويحس
بالحاجة إلى الغذاء إذا خلا المعدة ، والبدن ، فيتحرّك لطلبه ، وإنما لم يحسّ جميع
الأعضاء بذلك مثل ما يحس فم المعدة ؛ لأنّه لو أحسّ الجميع لم يحمل الحيوان الجوع
ساعة البتّة ، ولكان يلذع جميع الأعضاء.
ويتصل بقدّام
المعدة عرق كبير يذهب في طولها ويرسل إليها شعبا كثيرة ، ويلازقه شريان ينشعب مثل
ذلك ، وجميع تلك الشعب تعتمد على الصفاق ، وينسج من جملته الثرب ، وتترشّح دائما
إليه رطوبة لزجة دهنية ، هي الشحم ، بها يتم الثرب ، وفائدته أن يعين بحرارته
المعدة في الهضم من قدّام ، كما يعينها في ذلك الكبد من يمينها من فوق ، والطحال
من يسارها من تحت ، ولحم الصلب من خلف ، وفوق الثرب الغشاء الصفاقي ، وفوقه المراق
، وفوقه عضلات البطن.
وبهذه المجاورات
تكتسب المعدة حرارة تامة هاضمة ، مع ما في لحمها من الحرارة الغريزية ؛ لأنها
خادمة لجميع البدن في طلب الغذاء وهضمه ، فلا بد أن يتم اقتدارها على تمام فعلها.
والغشاء الصفاقي
هو الغشاء الّذي يحوي جميع الأحشاء ، ويجتمع طرفاه
__________________
عند الصلب من
جانبيه ، ويتصل بالحجاب من فوقه ، ويتصل بأسفل المثانة والخاصرتين من أسفل ، وهناك
تثقب فيه ثقبتان عند الاربيتين ، هما مجريان تنفذ فيهما عروق ومعاليق ، وإذا
اتّسعا نزل فيهما المعاء ، ويسمى الفتق ، وفائدة هذا الغشاء أن يكون وقاية للأحشاء
، ويحفظها على أوضاعها ؛ لئلّا تتشوّش حركاتها وأفعالها ، ويربط بعضها بالبعض ،
وبالصلب ، ليكون اجتماعها وثيقا ، وليكون حاجزا بين الأمعاء وعضل المراق ، إلى غير
ذلك من المنافع ، فتبارك الله الحكيم الحليم ، أحسن الخالقين.
فصل
وأمّا الأمعاء
فكلّها طبقتان ، وعلى الداخلانية لزوجات قد لبستها بمنزلة الترصيص ، تسمى ـ مع
الشحم الّذي عليها ـ صهروج الأمعاء ؛ لوقايتهما لها ، وكلها مربوطة بالصلب برباطات
تشدها وتحفظها على أوضاعها ، إلّا واحدة تسمى بالأعور ، فإنه مخلّى غير مربوط،
وخلقت ستّ قبائل ، ثلاثة دقاق ، وهي أعلى ، وثلاثة غلاظ ، وهي أسفل ، فأول الدقاق
هو المعاء المتّصل بأسفل المعدة ، ويسمى الاثنا عشري ؛ لأنّ طوله في كلّ إنسان إثنا
عشر إصبعا من أصابعه ، مضمومة ، وفوّهته المتصلة بقعر المعدة تسمى البوّاب ؛ لأنها
تنضم عند امتلاء المعدة وتنغلق حتّى لا يخرج منه الطعام ولا الماء ، حتّى يتمّ
الهضم ، أو يفسد ، ثمّ ينفتح حتّى يصير ما في المعدة إلى الأمعاء.
وكما أن المريء
للجذب إلى المعدة من فوق ، كذلك هذا الأمعاء للدفع عنها من تحت ، وهو أضيق من
المريء ، وأقل سخونة ؛ لأنّ المريء منفذ الشيء الممضوغ ، وهذا منفذ الشيء المهضوم
، المختلط بالماء المشروب.
وأيضا فإنّ النافذ
في هذا المعاء يرافده الثفل الّذي يحصل في المعدة عند الامتلاء والحركات الّتي
تتفّق لبعض الناس ، فيسهل اندفاعه ، فأعين بالتضييق ليقوى على الانضمام والإمساك
إلى أن يتم النضج والهضم ، وهو ممتد من المعدة إلى أسفل على الاستقامة ، ليس فيه
ما في غيره من التلافيف ، ليكون اندفاع ما يندفع إليه عنه متيسّرا ليخلو بالسرعة ،
ولا يزاحم ما يجاوره من اليمين واليسار.
ويتلوه معاء يسمى
بالصائم ؛ لأنّه يوجد في الأكثر خاليا ، فارغا ؛ وذلك لأن الكيلوس الّذي ينحلب
إليه ينفصل به ، وينجذب منه إلى الكبد أكثر مما ينحلب إليه بالسرعة ، وأيضا فإنّ
المرّة الصفراء الّتي تنحلب من المرارة إلى الأمعاء لتغسلها إنّما تنحلب أولا إلى
هذا المعاء ، فتغسلها بقوّتها الغسالة ، وتهيج الدافعة بقوّتها اللاذعة ، فيبقى
خاليا.
ويتّصل بالصائم
معاء آخر طويل متلفّف مستدير استدارات كثيرة ، يسمى بالدقيق.
وفائدة طول
الأمعاء وتلافيفها أن لا ينفصل الغذاء منها سريعا ، فاحتاج الحيوان إلى أكل دائم ،
وقيام للحاجة دائما ، وليكون للكيلوس المنحدر من المعدة مكث صالح فيها لتتم القوّة
الهاضمة الّتي فيها هضمه ، ولتنجذب صفوته إلى الكبد في العروق الماساريقية المتصلة
بتلك التلافيف.
وسعة هذه الأمعاء
الثلاثة كلّها بقدر سعة البوّاب ، والهضم فيها أكثر منه في الغلاظ ، وإن كانت لا
تخلو تلك أيضا عن هضم ، كما لا تخلو عن عروق ماساريقية مصاصة ، يتّصل بها.
وأوّلها المعاء
الأعور ، ويتّصل بأسفل الدقاق ، سمّي به ؛ لأنّه مثل كيس ليس له إلّا ممرّ واحد ،
به يقبل ما يندفع إليه من فوق ، ومنه يندفع ما يدفعه إلى ما
هو أسفل منه ،
ووضعه إلى الخلف قليلا ، وميله إلى اليمين ، وفائدته أن يكون للثفل مكان يجتمع فيه
، فلا يحوج كلّ ساعة إلى القيام للتبرّز ، وليستفيد من حرارة الكبد بالمجاورة هضما
بعد هضم المعدة.
ونسبة هذا المعاء
إلى ما تحته من الأمعاء نسبة المعدة إلى الأمعاء الدقاق التي فوقه ، ولذلك أميل
إلى اليمين ، ليقرب من الكبد ، فيستوفي تمام الهضم ، ثمّ ينفصل عنه إلى معاء آخر ،
تمصّ منه الماساريقا ، وإنما يكفيه فم واحد ؛ لأنّ وضعه ليس وضع المعدة على طول
البدن ، لكنّه كالمضطجع.
ومن فوائد عوره
أنه مجمع الفضول الّتي لو تفرّق كلّها في سائر الأمعاء لتعذر اندفاعها ، وخيف حدوث
القولنج ، فإنّ المجتمع أيسر اندفاعا من المتفرّق ، وهو أيضا مسكن لما لا بدّ من
تولّده في الأمعاء من الديدان ، فإنه قلّما يخلو عنها بدن ، وفي تولّدها أيضا
منافع إذا كانت قليلة العدد ، صغيرة الحجم.
وفي هذا المعاء
يتعفّن الثفل ، وتتغيّر رائحته ، وهو أولى بأن ينحدر في الأربية ؛ لأنّه مخلّى عنه
، غير مربوط ، ولا متعلّق بما يأتي الأمعاء من الماساريقا ، فإنه ليس يأتيه منها
شيء.
ويتصل بهذا المعاء
من أسفل معاء يسمى قولون ، وهو غليظ ، صفيق ، وكلما يبعد عنه يميل إلى اليمين ميلا
جيدا ليقرب من الكبد ، ثمّ ينعطف إلى اليسار منحدرا ، فإذا حاذى جانب اليسار انعطف
ثانيا إلى اليمين ، وإلى الخلف ، حتى يحاذي فقرة القطن ، وهناك يتصل بمعاء آخر
يسمى بالمستقيم ، وهو عند مروره في الجانب الأيسر بالطحال يضيق ، ولذلك صار ورم
الطحال يمنع خروج الريح عليه.
وهذا المعاء يجتمع
فيه الثفل للتدرّج إلى الاندفاع لتستصفي الماساريقا ما
عسى يبقى فيها من
جوهر الغذاء ، وفيه يعرض القولنج في الأكثر ، ومنه اشتقّ اسمه.
والمعاء المستقيم
المتّصل بأسفله ينحدر على الاستقامة ليكون اندفاع الثفل عنه أسهل، وهو آخر الأمعاء
، وطرفه هو الدبر ، وعليه العضلة المانعة من خروج الثفل حتّى تطلقه الإرادة.
وخلق واسعا تقرب
سعته من سعة المعدة ليكون للثفل مكان يجتمع فيه ، كما يجتمع البول في المثانة ،
ولا يحوج كلّ ساعة إلى القيام.
وليس يتحرك شيء من
الأمعاء إلّا طرفاها ، وهما المريء والمقعدة ، وتأتي الأمعاء كلّها أوردة وشرايين
وعصب أكثر من عصب الكبد ؛ لحاجتها إلى حسّ كثير ، فسبحان خالقها ، والمنعم بها
علينا ، وبحمده.
فصل
وأمّا الكبد فهو
لحم أحمر مثل دم جامد ليس يحيطه عصب ، بل غشاء عصبي يجلّله ، يتولّد من عصب صغير ،
وهو يربط الكبد بغيرها من الأحشاء ، وبالغشاء المجلل للمعدة والمعاء ، ويربطها
أيضا بالحجاب برباط قوي ، وبأضلاع الخلف برباطات دقاق.
وهي موضوعة في
الجانب الأيمن تحت الضلوع العالية من ضلوع الخلف ، وشكلها هلاليّ ، حدبته تلي
الحجاب ؛ لئلّا يضيق عليه مجال حركته ، وتقعيره يلي المعدة ؛ لتتهندم على تحدّبها
، ويأتيها من هناك شريان صغير يتفرّق فيها ، تنفذ فيه الروح إليها ، ويحفظ حرارتها
ويعدّلها بالنبض ، وجعل مسلكه إلى
مقعّرها ؛ لأنّ
حدبتها تروّح بحركة الحجاب ، ولها زوائد أربعة ، أو خمسة ، تحتوي بها على المعدة ،
كما تحتوي الكف على المقبوض بالأصابع.
وشأنها أن تمتص
الكيلوس من المعدة والأمعاء ، وتجذبه إلى نفسها في العروق المسمّاة ماساريقا ،
وليس في داخلها فضاء يجتمع فيه الكيلوس ، لكنّه يتفرّق في الشعب الّتي فيها من
العرقين النابتين منها ، يسمى أحدهما الباب ، والآخر الأجوف.
وبيان ذلك : أن
الباب ينبت من تقعيرها ، وينقسم أقساما ، ثمّ تنقسم تلك الأقسام إلى أقسام كثيرة
جدا ، وتأتي منها أقسام يسيرة إلى قعر المعدة والاثني عشري ، وأقسام كثيرة إلى
المعاء الصائم ، ثمّ إلى سائر الأمعاء ، حتّى تبلغ المعاء المستقيم ، وفيها ينجذب
الغذاء إلى الكبد ، فلا يزال كلما انجذب يصير من الأضيق إلى الأوسع ، حتّى يجتمع
في الباب.
ثمّ الباب ينقسم ـ
أيضا ـ في داخل الكبد إلى أقسام في دقّة الشعر ، ويتفرّق ما انجذب من الغذاء فيها
ويطبخه لحم الكبد حتّى يصير دما.
والأجوف ينبت من
حدبتها ، وهو عرق عظيم منه ينبت جميع العروق الّتي في البدن ، وأصله ينقسم في
الكبد إلى أقسام في دقة الشعر ، تلتقي مع الأقسام المنقسمة فيها من الباب ، فيرتفع
الدم من تلك الأقسام إليها ، ثمّ يجتمع من أدقها إلى أوسعها ، حتّى يحصل جملة الدم
كله في الأجوف ، ثمّ يتفّرق منه في البدن في شعبه الخارجة ، وهو إذا طلع من الكبد
لم يمّر كثيرا حتّى ينقسم قسمين ، أحدهما ـ وهو الأعظم ـ يأخذ إلى أسفل البدن ،
يسقي جميع الأعضاء الّتي هناك ، والثاني يأخذ إلى الأعلى ليسقي الأعضاء العالية.
وهذا القسم يمرّ
حتّى يلاصق الحجاب ، وينقسم من هناك عرقان يتفرّقان
في الحجاب ليغذواه
، ثمّ ينفذان الحجاب ، فإذا نفذاه انقسمت منهما عروق دقيقة ، واتّصلت بالغشاء
الّذي يقسم الصدر بنصفين ، وبغلاف القلب ، وبالغدة الّتي تسمى التوثة، وتفرّقت
فيها ، ثمّ تنشعب منه شعبة عظيمة ، تتصل بالأذن اليمنى من أذني القلب ، وتنقسم
ثلاثة أقسام ، أحدها يدخل إلى التجويف الأيمن من تجويفي القلب ، وهو أعظم هذه
الأقسام ، وهو الوريد الشرياني ، والثاني يستدير حول القلب من ظاهره ، وينبثّ فيه
كله ، والثالث يتّصل بالناحية السفلى من الصدر ، ويغذو ما هناك من الأجسام.
وإذا جاوز القلب
مرّ على استقامة إلى أن يحاذي الترقوتين ، وتنقسم منه في مسلكه هذا شعب صغار من
كلّ جانب ، تسقي ما يحاذيها ، ويقرب منها ، وتخرج منها شعب إلى خارج ، فتسقي العضل
الخارج المحاذي لتلك الأعضاء الداخلة ، وعند محاذاته للأبط تخرج إلى خارج شعبة
عظيمة تأتي اليد من ناحية الابط ، وهو القسم الباسليق ، فإذا حاذى من الترقوة
الوسط منها موضع اللبة انقسم قسمين ، فصار أحدهما إلى ناحية اليمين ، والآخر إلى
ناحية الشمال ، وانقسم كلّ واحد من هذين القسمين إلى قسمين ، يسقي أحد القسمين
الكتف ، وجاء إلى اليد من الجانب الوحشي ، وهو العرق المسمى بالقيفال ، وانقسم
الباقي قسمين ، في كلّ جانب ، فمرّ أحدهما غائرا مصعدا في العنق حتّى يدخل القحف ،
ويسقي ما هناك من أعضاء الدماغ والأغشية ، وفي مروره في العنق إلى أن يدخل الدماغ
تنشعب منه شعب صغار تسقي ما في العنق من الأعضاء ، ويسمى هذا القسم الوداج الغائر.
وأمّا الثاني
فيمرّ مصعدا في الظاهر حتّى ينقسم في الوجه والرأس والعنق والأنف ، ويسقي جميع هذه
الأعضاء ، وهو الوداج الظاهر.
وتنشعب من العرق
الكتفي في مروره بالعضد شعب صغار تسقي ظاهر العضد ، وتنشعب من الأبطي شعب تسقي
باطنه ، وإذا قارب العرق الكتفي والعرق الابطي بعضل المرفق انقسما ، فأحد أقسام
العرق الكتفي يمازج قسما من العرق الابطي ، ويتحد به ، فيكون منهما عند المرفق
العرق المسمى بالأكحل.
والقسم الثاني من
أقسام العرق الكتفي يمتد في ظاهر الساعد ، ويركب بعد ذلك الزند الأعلى ، وهذا
القسم حبل الذراع.
وقسم من العرق
الابطي وهو الأصغر مكانا يمر في الجانب الداخل من الساعد حتّى يبلغ رأس الزند
الأسفل ، ويكون من بعض شعبه العرق الّذي بين الخنصر والبنصر ، المسمى الاسيلم.
وأمّا القسم الّذي
يأخذ إلى أسافل البدن فإنه يركب فقار الظهر آخذا إلى أسفل ، وتنشعب منه أولا شعب
تأتي لفائف الكلى وأغشيتها ، والأجسام الّتي يقرب منها ، فيسقيها ، ثمّ تنشعب منه
شعبتان عظيمتان تدخلان تجويف الكلى ، ثمّ شعبتان تصيران إلى الأنثيين ، ثمّ ينشعب
منه عند كلّ فقرة عرقان يمران في الجانبين ويسقيان الأعضاء القريبة منها ، ما كان
منها داخلا ، كالرحم والمثانة ، وما كان منها خارجا ، كمراق البطن والخاصرتين ، حتّى
إذا بلغ آخر الفقار انقسم قسمين ، وأخذ أحدهما إلى الرجل اليمنى ، والآخر إلى
اليسرى ، وتشعّبت منه شعب تسقي عضل الفخذين ، منها غائرة تسقي العضل الغائر ،
ومنها ظاهرة تسقي العضل الظاهر.
حتى إذا بلغ مشاش
مثنّى الركبة انقسم ثلاثة أقسام ، فمرّ قسم منها في الوسط ، ويسقي بشعب له جميع
عضل الساق الداخل والخارج ، ومرّ قسم في الجانب الداخل من الساق ، حتّى يظهر عند
الكعب الداخل ، وهو الصافن ،
والقسم الآخر يمر
في الجانب الظاهر من الساق ، وهو غائر إلى ناحية الكعب الخارج ، وهو عرق النّسا ،
وتنشعب من كلّ واحد من هذين عند بلوغه القدم شعب تتفرق في القدم فتكون الشعب الّتي
في القدم في ناحية الخنصر والبنصر من شعب عرق النّسا ، والّتي في الإبهام من شعب
الصافن ، فسبحان اللطيف الحكيم ، ما ألطف حكمته ، وأحكم صنعه.
فصل
وأمّا المرارة فهي
كيس عصباني ، معلّق من الكبد إلى ناحية المعدة ، موضوعة على أعظم زوائدها ، وهي
ذات طبقة واحدة ، منتسجة من أصناف الليف الثلاثة ، ولها منفذان ، أحدهما متّصل
بتقعير الكبد ، وبه تنجذب المرة الصفراء إليها ، والآخر ينشعب فيتصل بالأمعاء
العليا ، وبأسفل المعدة ، به تندفع أجزاء من الصفراء إليها ، لغسلها عن الفضول ،
وتنبيها على الحاجة والنهوض للتبرّز ، كما مرّ.
وليست المرارة
لبعض الحيوانات كالإبل ؛ لأنّ معاءه مرّ جدا ، كأنه مفرغة للمرة ، ولذلك لا يأكلها
الكلاب ، ما لم يضطرّ جوعا ، وكذلك الفرس والبغل.
فصل
وأمّا الطحال فهو
عضو لحمي مستطيل على شكل اللسان ، متصل بالمعدة من يسارها إلى خلف ، حيث الصلب
مهندما مقعره على محدب المعدة ، مرتبطا بها بعرق يصل بينهما ، وتوثقه شعب كثيرة
العدد ، صغيرة المقادير ، تنشعب من
الصفاق ، وتتصل به
، وتتفرّق فيه ، وحدبته تلي الأضلاع ، تستند بأغشيتها لأنه ليس متعلقا بها برباطات
كثيرة قوية ، بل بقليلة ليفية.
ومن هذا الجانب
تأتيه العروق الساكنة والضاربة الكثيرة ، لتسخّنه ، ويقاوم برد السوداء المندفعة
إليه ، ويهضمها ، ولحميّته تتخلخل ليسهل قبوله الفضول السوداوية ، وله عنق متصل
بمقعّر الكبد ، حيث يتصل عنق المرارة ، به يجذب السوداء من الكبد ، وعنق آخر ينبت
من باطنه متّصل بفم المعدة ، به يدفع السوداء إليها ، ويغشيه غشاء ينبت من الصفاق
، كما مرّ ، وشأنه أن يكون مفرغة للسوداء الطبيعي ، كما دريت ، وليس لبعض
الحيوانات ، والذي للجوارح منها صغير.
فصل
وأمّا الكليتان
فكلّ واحدة منهما مثل نصف دائرة ، محدبها يلي الصلب ؛ ليسهل الانحناء إلى قدام ،
ولحمها لحم ملزز ؛ ليكون قوي الجوهر ، غير سريع الانفعال ، عما ينجذب إليها من
المائية الحادة الّتي يصحبها خلط حاد ، وليقدر على إمساك المائية ، ريثما يتميّز
عنها الدم ، لتغتذي به ، وليقدر الإنسان بسبب قدرة الكلية على هذا الإمساك على
إمساك البول إلى وقت اختياره ، وليمنع عن نشف غير الرقيق وجذبه ، وليتدورك بتلززه
ما وجب من صغر حجمه.
وفي باطن كلّ واحد
منهما تجويف يجتمع فيه ما يتحلل إليها ؛ ليميز قوتها الغاذية الدموية من المائية ،
ويصرفها إلى غذائها ، ثمّ يرسل المائية إلى المثانة.
ولكلّ منهما عنق
يتّصل بالأجوف من الكبد ؛ ليجذب المائية ، وآخر يتصل
بالمثانة ليرسل
مائيته إليها.
ووضعت اليمنى أرفع
من اليسرى ؛ لتكون أقرب من الكبد ، وإنما جعلت زوجا ؛ لكثرة المائية ، ويضيق
المكان على الكبد ، والأعور ، أو الطحال ، والقولون ، إن جعلت واحدة في أحد
الجانبين ، وكان مع ذلك لا تستوي القامة ، بل تكون مائلة إلى جهتها ، أو على
المعدة ، والأمعاء ، إن جعلت في الوسط ، وكان مع ذلك يمنع الانحناء إلى قدام ، على
أن كلّ عضو من الحيوان خلق زوجا ، والذي لا يرى زوجا فهو ذو شقّين ، كما يظهر
بالتأمل فيما مرّ ، فسبحان من خلق من كلّ شيء زوجين لعلكم تذكرون.
فصل
وأمّا المثانة فهي
عصبانية ، مخلوقة من عصب الرباط ؛ لتكون أشد قوة ، ووثاقة ، ومع القوّة قابلة
للتمدد ، وهي ككيس بلوطي الشكل ، طرفاه أضيق ، ووسطه أوسع ، مبطن بغشاء منتسج من
الأصناف الثلاثة من الليف ؛ ليقوم بإتمام الأفعال الثلاثة ، فهي ذات طبقتين ،
والبطانة ضعف الظهارة ، عمقا وغلظا ؛ لأنها هي الملامسة للمائية الحادة ، وهي
القائمة بالأفعال الثلاثة ، والظهارة وقاية لها ؛ لئلّا تنفسخ عند ارتكازها ،
وتمددها.
وهي موضوعة بين
الدبر والعانة ، وشأنها أن تكون وعاء للبول ، ومقبضة له إلى أن يخرج دفعة واحدة
بالاختيار والإرادة ، فيستغني الإنسان بذلك عن مواصلة الإدرار ، كالمعاء للثفل ،
والبول يأتيها من منفذي الكليتين ، كما مرّ.
والمنفذان إذا
بلغا إليها خرقا إحدى طبقتيها ، ومرّا فيما بين الطبقتين في
طولها ، ثمّ
يغوصان في الطبقة الباطنة ، مفجّرين إياها إلى تجويف المثانة ، حتّى إذا امتلأت
وارتكزت انطبقت البطانة على الظهارة مندفعة إليها من الباطن ، كأنهما طبقة واحدة ،
لا منفذ بينهما.
ولها عنق دفاع
للماء إلى القضيب ، معوّج ، كثير التعاويج ، ولأجلها لا يندفع الماء بالتمام دفعة
، وخصوصا في الذكران ، فإنه فيهم ذو ثلاث تعاويج ، وفي الإناث ذو تعويج واحد ،
لقرب مثانتهنّ من أرحامهنّ ، وعلى فمه عضلة تضمه ، وتمنع خروج البول حتّى تطلقه
الإرادة المرخية لها ، فسبحان الخالق الكريم ، ما أكرمه ، وأسبغ نعمه.
فصل
وأمّا الثدي فركّب
من شرايين ، وعروق ، وعصب ، يحتشي ما بينها نوع من اللحم غددي ، أبيض ، طبيعته
طبيعة اللبن ، خلقه الله ليكون المحيل والمولد للّبن ، وهذه الشرايين والعروق
تنقسم في الثدي إلى أقسام دقاق ، وتستدير وتلتّف لفائف كثيرة ، ويحتوي عليها ذلك
اللحم الّذي هو مولّد اللبن ، فيحيل ما في تجويفها من الدم حتّى يصير لبنا ،
بتشبيهه إياه بطبيعته ، كما يحيل لحم الكبد ما يجتذب من المعدة والأمعاء ، حتّى
يصير ما بتشبيهه إياه بنفسه ، فسبحان من يسقينا من بين فرث ودم لبنا خالصا ، سائغا
للشاربين.
فصل
وأمّا الأنثيان
فجوهرهما لحم غددي أبيض ، مثل لحم الثدي ، يحيل الدم النضيج الأحمر اللطيف المنجذب
إليها ، كأنه فضلة الهضم الرابع في البدن ، كلّه
منيا أبيض ، بسبب
ما يتخضخض فيه هوائية الروح ، وانجذاب تلك المادّة إليهما في شعب عروق ساكنة
ونابضة ، كثيرة الفوهات ، كثيرة التعاويج ، والالتفافات ، ومجرى تلك العروق بالصفاق
، وينزل منه مجريان شبه البرنجين ، ثمّ يتشعّبان فتكون منهما الطبقة الداخلة من
كيس البيضتين ، ثمّ يصير من هناك فيها فيستحكم استحالته ، ويكمل نوعه ، ويصير
منيّا تامّا ، ويصير في مجريين يفضيان إلى القضيب.
وبسبب كثرة شعب
العروق الّتي تأتيها صار الإخصاء الّذي في صورة قطع عرق واحد، كأنه قطع من كلّ عضو
عرق ؛ لكثرة الفوّهات الّتي تظهر هناك ، ولهذا يوجد الخصيان ، تذهب قواهم ، وتسترخي مفاصلهم ، ويظهر ذلك في
مشيهم ، وجميع حركاتهم ، وفي عقولهم ، وأصواتهم ، فتبارك الله البارىء اللطيف.
فصل
وأمّا القضيب فهو
عضو ، مؤلف من رباطات ، وأعصاب وعضلات ، وعروق ضاربة، وغير ضاربة ، يتخللها لحم
قليل.
وأصله جسم رباطي ،
ينبت من عظم العانة ، كثير التجاويف ، واسعها ، تكون في الأكثر منطبقة ، وتحته
وفوقه شرايين كثيرة ، واسعة ، فوق ما يليق به ، وتأتيه أعصاب من فقار العجز ، وإن
كانت ليست غائصة في جوهره.
وله ثلاث مجاري :
للبول ، والمني ، والودي ، والانعاض يكون بامتلاء تجاويفه من ريح غليظة ، وامتلاء
عروقه من الدم ، والإنزال يكون عندما يتمدّد
__________________
وتنتصب الأوعية
الّتي فيها المني ، وتهيج لقذف ما فيها ؛ لكثرته ، أو للذعه ، وأحد الأسباب
الداعية إلى ذلك احتكاك الكمرة ، وتدغدغها من الجسم المصاك لها ، فإنّ ذلك يدعو
إلى تمدد أوعية المني ، وقذف ما فيها ، وقوّة الانتشار.
وريحه تنبعث من
القلب ، وكذا قوّة الشهوة تنبعث منه بمشاركة الكلية ، والأصل هو القلب ، فتبارك
الله الخالق البارىء ، أحسن الخالقين.
فصل
وأمّا الرحم فهو
للإناث بمنزلة القضيب للرجال ، فهو آلة توليدهنّ ، كما أن القضيب آلة تناسلهم ،
وفي الخلقة تشاكله ، إلّا أن إحداهما تامّة بارزة ، والأخرى ناقصة محتبسة في
الباطن ، وكأن الرحم مقلوب القضيب ، أو قالبه.
وفي داخله طوق
مستدير عصبي ، في وسطه وعليه زوائد ، وخلق ذا عروق كثيرة ؛ ليكون هناك عدة للجنين
، ويكون ـ أيضا ـ للعضل الطمثي منافذ كثيرة ، وهو موضوع فيما بين المثانة والمعاء
المستقيم ، إلّا أنه يفضل على المثانة إلى ناحية فوق ، كما تفضل هي عليه بعنقها من تحت.
وهو يشغل ما بين
قرب السرّة إلى آخر منفذ الفرج ، وهو رقبته ، وطوله ما بين ست أصابع إلى أحد عشر ،
ويقصر ويطول بالجماع ، وتركه ، وتشكّل مقداره بشكل مقدار من يعتاد مجامعتها ،
ويقرب من ذلك طول الرحم ، وربما مسّ المعاء العليا.
وهو مربوط بالصلب
برباطات كثيرة قوية إلى ناحية السرة ، والمثانة
__________________
والعظم العريض ،
لكنها سلسة ، وجعل من جوهر عصبي له أن يتمدد ويتّسع على الاشتمال ، وأن يتقلّص
ويجتمع عند الاستغناء ، ولن يستتم تجويفه إلّا مع استتمام النمو ، كالثدي لا يستتم
حجمها إلّا مع ذلك ؛ لأنّه يكون قبل ذلك معطّلا ، وهو يغلظ ويثخن كأنه يسمن في وقت
الطمث ، ثمّ إذا طهر ذبل.
وخلق ذا طبقتين ،
باطنتهما أقرب إلى أن تكون عرقية ، وخشونتها لذلك ، وفوّهات هذه العروق هي الّتي
تنقر في الرحم ، وتسمى نقر الرحم ، وبها تتصل أغشية الجنين ، ومنها يسيل الطمث ،
ومنها يعتدل الجنين ، وظاهرتهما أقرب إلى أن تكون عصبية ، وهي ساذجة واحدة ،
والداخلة كالمنقسم قسمين ، كمتجاورين ، لا كملتحمين.
ولرحم الإنسان
تجويفان ، ولغيره بعدد الأثداء ، وينتهيان إلى مجرى محاذ لفم الفرج الخارج ، فيه
يبلغ المني ، ويقذف الطمث ، ويلد الجنين ، ويكون في حال العلوق في غاية الضيق ، لا
يكاد يدخله طرف ميل ، ثمّ يتّسع بإذن الله ، فيخرج منه الجنين.
وقبل افتضاض البكر
يكون في رقبة الرحم أغشية تنسج من عروق ورباطات رقيقة جدّا ، يهتكها الافتضاض ،
ومن النساء من رقبة رحمها إلى اليمين ، ومنهنّ من هي منها إلى اليسار ، وهي عضلية
اللحم ، كأنها غضروفية ، وكأنها غصن على غصن ، يزيدها السمن والحمل صلابة.
وللرحم زائدتان
تسمّيان قرني الرحم ، وهما الأنثيان للنساء ، وهما كما في الرجال ، إلّا أنهما
باطنتان ، وأصغر ، وأشد تفرطحا ، يخص كلّ واحد منهما غشاء عصبي ، لا يجمعها كيس
واحد.
وكما أن أوعية
المني في الرجال بينهما وبين المستفرغ من أصل القضيب ،
كذلك للنساء
بينهما وبين المقذف إلى داخل الرحم ، إلّا أنها فيهنّ متصلة بهما ؛ لقربها بهما في
اللين ، لكونها في كنّ ، بخلافها فيهم ، فإنه جعل بينهما واسطة ؛ لئلّا يتأذى
بصلابتهما حال تواترهما ، فتبارك الله الرؤوف الكريم ، ما أرأفه ، وأبين كرمه.
فصل
وأمّا هيئة
الخاصرة ، والعانة ، والورك ، فبيانها :
أن عند العجز
عظمين كبيرين ، يمنة ويسرة ، يتّصلان في الوسطين قدّام بمفصل موثق ، وهما كالأساس
لجميع العظام الفوقانية ، والحامل الناقل للسفلانية ، وكلّ واحد منهما ينقسم إلى
أربعة أجزاء ، فالذي يلي الجانب الوحشي يسمى الحرقفة ، وعظم الخاصرة ، والذي يلي
القدام يسمى عظم العانة ، والذي يلي الخلف يسمى عظم الورك ، والذي يلي الأسفل
الإنسي يسمى حقّ الفخذ ؛ لأنّ فيه التقصير الّذي يدخل فيه رأس الفخذ المحدب ، وقد
وضعت عليه أعضاء شريفة ، مثل المثانة ، والرحم ، وأوعية المني من الذكران ،
والمقعدة ، والسرّة.
فصل
وأمّا الفخذ فله
عظم هو أعظم عظم في البدن ؛ لأنّه حامل لما فوقه ، وناقل لما تحته ، وقبّب طرفه
العالي ليتهندم في حقّ الورك ، وهو محدب إلى الوحشي ، وقدّام مقعّر إلى الإنسي ،
وخلف ، فإنه لو وضع على استقامته وموازاة للحق
لحدث نوع من الفحج
، كما يعرض لمن خلقته تلك ، ولم يحسن وقايته للعضل الكبار ، والعصب والعروق ،
ولم يحدث من الجملة شيء مستقيم ، ولم يحسن هيئة الجلوس.
ثمّ لو لم يردّ
ثانيا إلى الجهة الإنسية لعرض فحج من نوع آخر ، ولم يكن للقوام واسطة عنها وإليها الميل ،
فلم تعتدل ، وفي طرفه الأسفل زائدتان يتهندمان في نقرتين في رأس عظم الساق ، وقد
وثقتا برباط يلتفّ ، ورباط في الغور ، ورباطين من الجانبين قويين ، فهندم مقدمهما
بالرضفة ، وهي عين الركبة ، وهو عظم عريض في الاستدارة ، فيه غضروفية ، فائدته
مقاومة ما يتوقى عند الجثو وجلسة التعلّق من الانتهاك والانخلاع ، فهو دعامة
للمفصل ، ولله الحمد.
فصل
وأمّا الساق فهو
كالساعد ، مؤلف من عظمين ، أحدهما أكبر وأطول ، وهو الإنسي ، ويسمى القصبة الكبرى
، والثاني أصغر وأقصر ، لا يلاقي الفخذ ، بل يقصر دونه إلّا إنه من أسفل ينتهي إلى
حيث ينتهي إليه الأكبر ، ويسمى القصبة الصغرى ، وهي متبرئة عن الكبرى ، في الوسط
بينهما فرجة قليلة ، وللساق تحدب إلى الوحشي ، ثمّ عند الطرف الأسفل تحدب آخر إلى
الإنسي ، ليحسن به القوام ويعتدل ، فسبحان خالقها الكريم ، وبحمده.
__________________
فصل
وأمّا القدم
فمؤلفة من ستة وعشرين عظما ، كعب به يكمل المفصل مع الساق ، وعقب به عمدة الثبات ،
وهو أعظمها ، وزورقي به الأخمص ، وأربعة عظام للرسغ ، بها يتّصل بالمشط ، وواحد
منها عظم نردي ، كالمسدس ، موضوع إلى الجانب الوحشي ، وبه يحسن ثبات ذلك الجانب
على الأرض ، وخمسة عظام للمشط ، بعدد الأصابع في صف واحد ، وأربعة عشر سلاميات
الأصابع ، لكلّ منها ثلاثة سوى الإبهام ، فإنّ له اثنين.
أما الكعب فإنّ
الإنساني منه أشد تكعيبا من كعوب سائر الحيوانات ، وكأنه أشرف عظام القدم النافعة
في الحركة ، كما أن العقب أشرف عظام الرجل النافعة في الثبات ، وهو موضوع بين
الطرفين النابتين من قصبتي الساق ، يحتويان عليه بمقعّرهما من جوانبه ، ويدخل
طرفاه في العقب في نقرتين دخول ركز ، وهو واسطة بين الساق والعقب ، به يحسن
اتصالهما ، ويتوثق المفصل بينهما ، ويؤمن عليه الاضطراب ، وهو موضوع في الوسط
بالحقيقة ، ويرتبط به العظم الزورقي من قدام ، ارتباطا مفصليا ، وهذا الزورقي متصل
بالعقب من خلف ومن قدام ، بثلاثة من عظام الرسغ ، ومن الجانب الوحشي بالعظم
النردي.
وأمّا العقب فهو
موضوع تحت الكعب ، صلب مستدير إلى خلف ، ليقاوم المصاكات والآفات ، مملّس الأسفل ،
ليحسن استواء الوطىء وانطباق القدم على المستقر عند القيام ، وخلق مثلثا إلى
الاستطالة يدقّ يسيرا يسيرا حتّى ينتهي فيضمحلّ عند الأخمص إلى الوحشي ، ليكون تقعير
الأخمص متدرّجا من خلف إلى متوسطه.
وأمّا الرسغ
فيخالف رسغ الكف ، فإنه صفّ واحد ؛ وذاك صفّان ، وعظامه أقل عددا ؛ وذلك لأنّ
الحاجة في الكف إلى الحركة والاشتمال أكثر ، وفي القدم إلى الوثاقة أشد ، وخلق شكل
القدم مطاولا إلى قدّام ليعين على الانتصاب بالاعتماد عليه ، وخلق له أخمص من
الجانب الإنسي ؛ ليكون ميل القدم عند الانتصاب وخصوصا لدى المشي إلى الجهة
المضادّة لجهة الرجل المشيلة للنقل ، فيعتدل القوام ؛ وليكون الوطىء على الأشياء
المدوّرة والناتئة مهندما من غير ألم ، وليحسن اشتمال القدم على ما يشبه الدرج ؛ وليكون
بعض أجزائها متجافية عن الأرض ، فيكون المشي أخف ، والعدو أسهل ، ولمثل هذه
المنافع خلقت من عظام كثيرة ، فإنّها بذلك تحتوي على الموطوء عليه ، كالكف على
المقبوض.
وجملة عظام البدن
ـ على ما عدّه أهل هذا الفن ـ مائتان وثمانية وأربعون عظما ، سوى السمسمانية ، والعظم
الّذي في الحنجرة ، والذي في القلب.
وعن مولانا الصادق
عليهالسلام : «إن الله خلق الإنسان على اثني عشر وصلا ، وعلى مائتين
وستة وأربعين عظما ، وعلى ثلاثمائة وستين عرقا ، فالعروق هي التي تسقي الجسد كله ،
والعظام تمسكها ، واللحم يمسك العظام ، والعصب يمسك اللحم ، وجعل في يديه اثنين
وثمانين عظما ، في كلّ يد إحدى وأربعون عظما ، منها في كفّه خمسة وثلاثون عظما ،
وفي ساعده اثنان ، وفي عضده واحد ، وفي كفّه ثلاثة وأربعون عظما ، وكذلك في الأخرى
، وفي رجله ثلاثة وأربعون عظما ، منها في قدمه خمسة وثلاثون عظما ، وفي ساقه اثنان
، وفي ركبته ثلاثة ، وفي فخذه واحد ، وفي وركه اثنان ، وكذلك في الأخرى ، وفي صلبه
ثماني فقارة ،
__________________
وفي كلّ واحد من
جنبيه تسعة أضلاع ، وفي وقصته ثمانية ، وفي رأسه ستّة وثلاثون عظما ، وفي فيه ثمانية
وعشرون ، أو اثنان وثلاثون» . انتهى كلامه صلوات الله عليه وسلامه.
هذا ما يهتدي إليه
الإنسان من تشريح الأعضاء ، ومنافعها ، وما لا يهتدي إليه من المنافع أكثر ،
فتبارك الّذي أحسن كلّ شيء خلقه ، وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثمّ جعل نسله من
سلالة من ماء مهين ، ثمّ سوّاه ونفخ فيه من روحه ، وجعل لكم السمع والأبصار
والأفئدة قليلا ما تشكرون.
__________________
في الملائكة الموكّلين بالحيوان الكامل
(لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ
خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ)
فصل
إن الله سبحانه
وكلّ بالحيوان الكامل ـ سوى ربّ نوعه العقلي الّذي هو من العالم العلوي ـ أصنافا
من الملائكة السفلية الجزوية ، بهم أقام وجوده ، وأدام شخصه ، وحفظ حياته.
فمنهم من له مدخل
في نباتيّته ، أي نشوءه ونماءه ، ومنهم من له مدخل في حيوانيته، أي إحساسه وحركته
الإرادية ، ومنهم من له مدخل في كونه حيوانا خاصا ، له صفات كمالية زائدة على أصل
الحيوانية ، مثل النطق ، والتعجّب ، والتضجّر ، والخجل ، والخوف، والرجاء ، بحسب
العاقبة ، كالخوف والرجاء بحسب الحال ، إلى غير ذلك من خواصّ المسمى بالانسان من
أنواعه.
ومنهم من له مدخل
في كونه إنسانا خاصا ، له صفات كمالية زائدة على أصل البشرية ، مثل صيرورة تعقّل
الكليّات ملكة له ، وكثرة مراجعته إلى عالم القدس ، وتأيّده بروح القدس ، إلى غير
ذلك من خواصّ الإنسان بما هو إنسان ، الذي هو أشرف أنواع الحيوان ، بل هو في
الحقيقة جنس آخر ، نسبته إلى الحيوان
__________________
كنسبة الحيوان إلى
النبات ، بل التفاوت أكثر ، وإن اشتمل كلّ على ما تحته ؛ ولهذا عقدنا له بابا على
حدة ، كما يأتي.
فهذه أربعة أصناف
من الملائكة ، وقد يعبّر عنها كلّها ، أو الثلاثة الأول خاصة ، أو الأولين خاصّة ،
بالقوى ، وقد يعبّر عن الكلّ بالنفوس ، وقد يعبّر بالأرواح ، ودع عنك العبارات ،
فإنّ المعنى واحد ، وهو مبادىء الأفاعيل في الحيوان ، الّتي هي جهات النفس
الحيوانية ، واعتباراتها ، كما أشرنا إليه في النبات.
وإطلاق هذه
الألفاظ كلّها عليها وارد في الشرع ، كما ستقف عليه عند ذكرنا الأخبار في ذلك ،
وإن كان إطلاق الروح عليها فيه أكثر ، ولا سيّما على الصنف الرابع ، وقد مضى ذكر
الصنف الأوّل. وذكر الصنف الرابع ، بمباحث الإنسان ، بما هو إنسان ، أنسب ، فنحن الآن
بصدد ذكر الصنفين الآخرين ، ومن الله التأييد.
فصل
أما المتعلّق منهم
بالحيوان ، بما هو حيوان ، فمنهم محرّك ، ومنهم مدرك ، والمحرّك إمّا فاعل للحركة
، وإما باعث عليها.
أما الفاعل للحركة
فقد مرّ محلّه من البدن ، وكيفية فعله ، وآلته.
وأمّا الباعث
عليها ، فهو ملك شوقي ، مذعن لمدركات الخيال ، والوهم ، أو العقل العملي بتوسّطهما
، فيحمل الإدراك له على أن يبعث إلى طلب ، أو هرب ، بحسب السوانح ، وله جناحان ،
جناح شهوي باعث على جلب الضروري ، أو
النافع طلبا
للّذّة ، وجناح غضبي حامل على دفع وهرب من المضار ؛ طلبا للانتقام ، ومحلّه القلب
والدماغ بمعاونته ، ويخدمه الفاعل للحركة ، المنبثّ في الأعضاء ، كما يخدم هو
الملائكة المدركة.
فللحركات
الاختيارية مباد مترتبة ، أبعدها عن عالم الحركة ، والمادّة ، والخيال ، أو الوهم
، أو ما فوقهما من الملائكة ، ثمّ الملك الشوقي ، وبعده ، وقبل الفاعل ملك آخر ،
كأنه جزء للشوقي ، وتمام له ، أو متمم لفعله ، يسمى بالإرادة ، أو الكراهة ، وهذا
كالحركات الطبيعية ، فإنّ لها ـ أيضا كما دريت ـ مباد مترتبة ، بعضها من عالم
العقل والتأثير ، وبعضها من عالم الأمر والتدبير ، وأدناها من عالم الطبيعة والتسخير
، والكلّ بقضاء الله والتقدير.
والفارق بين
تحريكات الحيوان وبين غيرها ، أن في الحيوان إرادة متفننة حسب دواعيه ، وقواه
المختلفة ، لتركّبه من العناصر المتضادّة ، وإرادة غيره على نظام واحد ؛ لبساطته ،
وهكذا النبات ، وإن كان مركّبا ذا قوى وملائكة متعدّدة ، إلّا أن للجميع مذهبا
واحدا ، ولا حاجة لها كثيرا إلى أسباب خارجة عن ذاتها ، ودواع مختلفة عن قصدها.
فصل
وأمّا المدرك من
الملائكة ، فمنه ظاهر مشهور ، ومنه باطن مستور.
أما الظاهر فينحصر
في الحواسّ الخمس ، الّتي للإنسان ، بحكم الاستقراء ، وقد يستدل عليه بأنه قد ثبت
أن الطبيعة لا تنتقل إلى النوع الأكمل إلّا وقد استكملت جميع شرائط النوع الأنقص ،
وكمالاته ، فلو كان في الإمكان حسّ
آخر لكان حاصلا
للإنسان ؛ لأنّ طبيعته انتقلت من الحيوانية الصرفة إلى النطقية التي هي فوقها ،
فلمّا لم يحصل ، علمنا أنّ الحواس منحصرة في الخمس.
وأيضا قد ثبت أن
الكيفيات المحسوسة لا يمكن أن تكون فوق ستّة عشر المحسوسة بالذات ، والثلاثة
المحسوسة بالعرض ، أعني الحركة والسكون والشكل ، فلا جسم مكيّف بكيفيّة من
الكيفيات المحسوسة ما خلا هذه المحسوسات ، فلا حاسّة في الوجود ، ولا في الإمكان
غير الّتي تدرك هذه المحسوسات.
وقد بيّنا في
التشريح محل هذه الأملاك الحساسة من البدن ، وذكرنا مدركاتها ، وآلاتها ، وإنما
بقي علينا أن نبيّن كيفية إدراكاتها ، وتمييز الأهم منها ، والأشرف ، والألطف ،
وترتيبها في ذلك ، فنحن الآن بصدد ذلك.
فصل
قد دريت أنّ
المدرك لا بدّ وأن يستكمل بالمدرك ، بأن تكون نسبته إليه كنسبة القوّة إلى الفعل ،
والنقص إلى الكمال ؛ وذلك إنّما يتصور بأن يكون خاليا عنه ، أو يكون بمنزلة
الخالي.
وأيضا الشيء إنّما
ينفعل ويتأثّر عند ورود الضدّ ، لا الشبيه ، وبيّن أن مزاج الحيوان ـ بما هو حيوان
ـ من جنس الكيفيات الملموسة ، وقد مرّ أيضا أن الممتزج إذا اعتدل في كيفياته صار
ذا صورة وحدانية جامعة بوحدانيته لكمال تلك الصور الّتي تركب منها ، والصورة ليست
إلّا مبدأ تلك الكيفيات ، والاتحاد في ذي المبدأ يلزم الاتحاد في مبدئه.
ثم إنّ القوّة
اللامسة قد مرّ أنها سارية في جميع البدن والأعضاء ، على تخالف مزاجها ، ومزاج
الروح الحامل للقوة ، إلّا ما يكون عدم الحس أنفع له ، كالكبد ، والرئة ، والطحال
، والكلية ، والعظم ، فقوام هذه القوّة إنما هو بما به قوام الحيوان ، بما هو
حيوان ، أعني كيفية الصورة العنصرية المتوسطة بين الأربع ، فهذه القوّة أيضا من
جنس الكيفيات الأول الملموسة ، لكنها بتوسّطها المزاجي ناقصة الكيفية ، بمنزلة
الخالي عنها ، القابل لها بالقوة ، فهي إنّما تدرك الأطراف بهذا التوسّط الّذي هو
بمنزلة الخالي عن الأضداد ، ولهذا كلما كان مزاج الحيوان أقرب إلى الاعتدال كانت
هذه القوّة فيه أقوى ؛ وذلك لأنّ طبيعتها كطبيعة الحيوان ، ومادّتها كمادته ، فكان
صلاحها كصلاحه ، ببقاء الاعتدال ، وفسادها بفساده ، بزوال ذلك الاعتدال ، فيمتنع
بقاء الحيوان بدون هذه القوّة ، فهي أدنى درجات القوّة الحيوانية ، وأهم الحواس
للحيوان ، ولهذا لا يخلو حيوان ما عن هذه القوّة.
ولما كان شأنها أن
يحترز بها عن منافيات المزاج بالهرب والتنحّي ، وجب أن يكون كلّ لامس متحركا
بالإرادة ، حتّى أن الاسفنجات ـ الّتي يظنّ فيها خلاف ذلك ـ لها حركة انقباض
وانبساط ، ولولاها لما عرف حسّها.
وأمّا القوى
الأربع الأخر ، فحالها خالية عن كيفية مدركاتها ؛ لأنها ليست من جنس مدركاتها ، بل
هي من جنس الكيفيات الملموسة ، كقوّة اللمس ؛ لأنها أجزاء البدن الّذي هو كذلك ،
إلّا أنها لما لم تكن ملاقية لمحالها ، كما في اللمس ، وهذا معلوم في غير الذوق ،
وفي الذوق أيضا كذلك ، فإنّ العصبة المفروشة في جرم اللسان غائصة فيه ، والغذاء
لغلظته لا يتمكن من الغوص فيه ، فلذلك احتاجت هذه القوى في إدراكاتها إلى توسّط
جرم لطيف بين محالها وبين مدركاتها ، ليلاقي بطرفيه كليهما ، فتخالطه أجزاء من جسم
ذلك المدرك ،
ويغوص في جرم
المحلّ ، أو يتكيّف بكيفية المدرك ، ويوصلها إلى المحل.
لست أقول : بشخص
كيفية ؛ لامتناع انتقال الأعراض ، بل بكيفية من نوعها ، بإفاضة الله سبحانه عليه ،
بسبب الإعداد الحاصل من المخالطة ، على النحو الخاص ، أو يصير ذلك الجرم واسطة من
دون مخالطة ، ولا تكيّف ، بل على نحو آخر نذكره.
وعلى التقادير
الثلاث يكون له ـ لا محالة ـ اتصال ما بالبدن ؛ لاشتراكهما في المادة ، فإنّ مادّة
جميع العناصر والمركّبات واحدة ، والاتصال ضرب من الاتحاد ؛ لأنّ المتصلين موجودان
بوجود واحد ، ولها هوية واحدة ، فكما يكون للنفس أن تتنبه لما يحدث في البدن ،
فكذلك لها أن تتنبه لما يتصل بالبدن ، أو يرتبط به ارتباطا خاصا وضعيا ؛ لأنّ
الاتحاد في الوضع كالاتحاد في الوجود ، وهذا سبب تأثر النفس من عوارض ما يطيف
بالبدن ، ويتصل به ؛ إذ المجموع ، أعني المتصل والمتصل به ، كأنهما بدن واحد للنفس
، فيختبر عن حال أحدهما بالآخر ، فبهذا الاتصال تدرك النفس بواسطة هذه الأملاك
المسماة بالقوى الّتي هي بمنزلة جوارحها المجرّدة المعنوية ، ومراتبها المتنزلة ،
وجهاتها الاعتبارية ، وحيثيات تعلّقها بأجزاء البدن المحسوسات الأربع ، ما خلا
الملموسات.
وذلك الجرم اللطيف
المتوسط إمّا في الذوق ، فهو الرطوبة اللعابية الغائصة في جرم اللسان ، ويتوقّف
الإدراك فيه على المماسة الصرفة ، ولهذا أرجع بعضهم الكيفيات المذوقة إلى
الملموسات ، فالذوق لمس لطيف كمالي ، نسبته إليه نسبة الكمال إلى النقص ، فكلّ ذوق
لمس في الحقيقة ، ولا عكس كليا ، فهو أعم الحواس الخمسة ، وأهمها ، بعد اللمس ،
وأشبه القوى به.
وأمّا في الشم
والسمع فهو الهواء المنفعل ، والشم أعم ، وأهم ، بعد الأولين ،
وأشبه بهما من
الباقيين.
وأمّا في البصر
فهو جرم نوراني في الجليدية ، يرتسم منه بين العين والمرئي مخروط ، وهمي أو جوهري
، مجرّد عن المادة ، فائض وجوده عن سبب فاعلي ، بلا حركة وزمان ، ولا شيء من
الأسباب المادية إلّا الوضع المخصوص من النير ، وعدم الحجاب ، ويتعلّق إدراك النفس
بالمرئي من جهة زاوية هذا المخروط الّتي عند الجليدية ، ويحدث منها في المقابل
القابل أشعة وأضواء ، تكون قوتها في مسقط السهم ، ممّا يحاذي مركز العين الّذي هو
بمنزلة الزاوية للمخروط ، ولشدة استنارته يكون ما نرى منه أظهر ، وإدراكه أقوى ،
هكذا حقّق هذه المباحث أستاذنا ـ دام ظله ـ.
والآن فلنفتش عن
كيفية إدراك النفس في هذه الحواس ، هل المدرك فيها هو الأمر المادي العيني ، سواء
كان قائما بمادّة المحسوس نفسه ، أو بمادّة الجرم المتوسّط ، أو غير ذلك ، أم أمر
آخر مجرّد؟
وعلى أي نحو يجوز
أن يقع الإدراك؟ وعلى أي نحو لا يجوز أن يقع؟
فاسمع لما سنلقي
إليك من القول ، وإن كان بعضه ثقيلا.
فصل
ليس إدراك السمع
بأن يتشكّل الهواء بتقاطع الحروف ، كما ظن ؛ لأنّ الهواء لا يحفظ الشكل ، كيف وهو
سريع الالتئام ، ثمّ من تشوّش الهواء الّذي عند أذنه ينبغي أن لا يسمع شيئا ؛
لتشوّش التموّجات واختلافها.
ولا إدراك البصر
بأن تنطبع الصورة المرئية في الرطوبة الجليدية ، أو في
ملتقى العصبتين
المجوفتين ؛ لأنا نرى الأجسام العظيمة والأبعاد البعيدة ، فلو كانت الرؤية إنّما
هي بالصورة ، وللصورة ، ولها هذا المقدار العظيم ، فكيف تحصل في حدقة صغيرة ، وإن
لم يكن لها هذا المقدار فلم ير العظيم عظيما؟ هذا خلف.
ولا بأن تستدل
النفس بالصورة ، وإن كانت أصغر على أن ما مقدار صورته هذا كم يكون مقدار أصله؟ وذلك
لأنّ رؤية المقدار الكبير إنّما هي بالمشاهدة ، لا بالاستدلال.
ولا بأن تدرك
النفس تلك الصورة المقابلة للبصر بعين ذلك الشخص ، بالعلم الحضوري ؛ وذلك لأنّه
يلزم منه أن يتكون الجسم المادي الطبيعي فوق واحد دفعة واحدة عند رؤية جماعة من
الأحولين جسما واحدا ، ويلزم تداخل تلك الأجسام ، وكلاهما محال.
والقول بأن الصورة
الأولى في هذا العالم ، والأخرى في عالم آخر ، مستبعد جدا.
ولا بخروج جسم
شعاعي من العين يلاقي المبصرات ، إلّا إذا أريد به ما قلناه ، ولا بانعكاس الشعاع
، إلّا إذا أريد مثل ذلك ، ولا بغير ذلك ممّا قيل فيه ؛ للزوم مفاسد وإشكالات
عليها ، مشروحة في الكتب المفصّلة ، ولا طائل تحت إيرادها.
قال أستاذنا : ولا
يجوز ـ أيضا ـ أن يكون المدرك بالذات هو الأمر المادي في شيء من الحواسّ ؛ لأنّ
المادي ـ بما هو مادي ـ لا يحصل لشيء ما أصلا.
وأيضا إن المدرك
لا بدّ وأن يتحد بالمدرك نحوا من الاتحاد ، فكيف تتّحد النفس بما هو خارج عن ذاتها
، ولا يكفي في ذلك الاتصال المذكور ، يعني به ما
ذكر في الفصل
السابق ، وإلّا لأدرك كلّ ذي شعور كلّ ما في عالم الكون ، والفساد ، واتّحد به ،
بل إنّما ذلك من الشرائط والمعدّات.
وأيضا لو كان
المدرك الأمر المادي العيني ؛ للزم أن يدرك بجميع كيفياته التابعة لمادّته.
مثلا من لمس الأرض
، لزم أن يدرك ثقلها ، ولونها ، وسائر كيفياتها ؛ لأنها من لوازم الأرض المادية
العينية ، وهي ذات صورة واحدة بسيطة ، تتبعها سائر الكيفيات ، لا ينفصل بعضها عن
بعض إلّا في العقل ، وبضرب من التعمّل ، وإذ ليس فليس.
وأيضا فإنّ موادّ
هذه القوى خالية ، أو بمنزلة الخالي عن كلّ كيفية تدركها ، فلو كانت الكيفية
المدركة موجودة في الخارج وهي ضدّ الكيفية الموجودة في الحس ، أو مقابل لها ،
تقابل الملكة والعدم ، فيلزم على أي تقدير أن يبطل الحس ، فلم يبق الحسّ حسا ؛ إذ
الحس ما دام حسّا شيء بالقوّة في محسوساته كلّها.
وأيضا قد ثبت أن
حصول الشيء للشيء لا يكون إلّا إذا كانت بينهما علاقة علّية ومعلولية ، وعلى نحو
خاصّ ، وإلّا لكان جميع الأشياء حاصلة لكلّ أحد ، فما لا يكون فاعلا لشيء ، ولا
قابلا ، ولا مادة ، ولا صورة ، فحصول ذلك الشيء له ممتنع ، ولا علاقة كذلك بين
النفس وبين المحسوسات المادية بوجه ، وبيّن أن الاتّصال على النحو المذكور لا يكفي
في ذلك.
ثم ذكر ما هو رأيه
ـ سلّمه الله ـ في ذلك ، وهو ما نذكره.
فصل
كلّ إحساس فإنما
هو بإنشاء النفس الصورة المحسوسة في عالم الملكوت النفساني ، مجرّدة عن المادة ،
لا عن الإضافة إليها ، قائمة بالنفس قيام وجود الشيء بفاعله ، لا بقابله ، فالمدرك
بالذات في كلّ محسوس ما عند النفس من الصورة المخترعة في عالمها ، لا في مادتها ،
والهواء وغيره من الوسائط كالآلة والمعدّ من غير أن يكون ما فيه من الكيفية مدركة
، فحصول الصور في المواد علة معدّة لحدوثها في صقع النفس ، وحضرة المثول بين يديها
، فليست مماسة المواد والوسائط من جهة كونها موضوعا شرطا أصلا ، بل من جهة إعدادها
لفيضان الصور عن النفس.
فالنفس تدرك صورة
المسموع بواسطة الهواء المنفعل على هيئته وشكله ، ووضعه المخصوص ، المناسب لتلك
الحاسة المعينة ، وإعدادها الخاص ، لكن لا في المادة ، ليستلزم تشكّل الهواء
بأشكال الحروف ، بل في عالمها الخاصّ بها ، وتدرك صورة المرئي بواسطة الرطوبة
الجليدية ، لا بأن يحلّ في تلك الرطوبة ، ليلزم المفاسد ، بل بأن تتمثّل لها تلك
الصورة تمثّلا إدراكيا شهوديا بواسطة قوّة هيولانية في تلك الرطوبة ؛ إذ من شأن
كلّ قوّة هيولانية تعلّقت بها نفس أن تصير مرآة لإدراكها ، ومظهرا لملاحظتها أشياء
مناسبة لها.
ألا ترى أن الأحول
لما تعددت قوته البصرية بلا مجمع ، رأى الصورة الواحدة اثنتين ، ولو فرض لرجل واحد
عيون كثيرة فوق اثنتين بلا مجمع ، لرأى الصورة الواحدة صورا كثيرة ، دفعة واحدة ،
على حسب كثرة عيونه ، ولو لم يكن حصولها للنفس حصولا ذهنيا ، بل مادّيا ، لازدحمت
الصور الكثيرة على مادّة
واحدة جسمانية ،
وهو غير جائز.
وكذلك رؤية الشخص
بواسطة المرآة ، فإنّها ـ أيضا ـ عبارة عن إدراك صورة مقدارية مجردة عن المادة ،
موجودة بوجود إدراكي قائم لا بالمحل ، بل بذات المدرك ، أعني النفس ، قيام الموجود
بموجده ، ولكنها ليست موجودة بالذات ، بل بالعرض ، بتبعية وجود الشخص المقارن لجسم
مشفّ ، وسطح ثقيل ، على شرائط مخصوصة ، فوجودها في الخارج وجود الحكاية ، بما هي
حكاية.
فصل
الرؤية على أي
التقادير مشروطة بتحقّق المقابلة والمحاذاة بين آلة البصر وسطح الجسم المقابل ،
والنقطة إذا تحاذت بكلّ نقطة نقطة من سطح مقابل يتوهّم بينهما شكل مخروط ، ويكون
عظم السطح وصغره موجبا لعظم الزاوية المخروطية ، وصغرها ، ويؤثر أيضا قربه في عظم
الزاوية ، فيرى عظيما ، وبعده في صغرها ، فيرى صغيرا.
هذا إذا كان
المحاذي للبصر قابلا للرؤية ، بأن يكون ذا لون وضوء ، وأمّا إذا لم يكن قابلا
للرؤية ؛ لعدم ضوئه ، أو لونه ، لأجل صقالة سطحه ، فيكون مقابله الذي على نسبة
مخصوصة ، مخروطية ، في حكم مقابل الباصرة ، فالمحاذاة الّتي تتحقّق بين سطح ذلك
الصقيل والجسم المرئي الملوّن ، ممّا توجب أن يتوهّم بينهما مخروط ناقص عند استواء
ذلك السطح ، وكلما كان ذلك السطح أشدّ تحديبا كان المخروط أوسع قاعدة ، فيرى
المرئي أصغر ممّا كان ، وكلما كان أشدّ تقعيرا كان جانب القاعدة أضيق ، إلى أن
ينتهي إلى نقطة فيكون مخروطا تاما ، قاعدته سطح المرآة ، ورأسه عند المرئي ، فتبطل
الرؤية.
وبالجملة : استواء
سطح المرآة ، وتقعيره ، وتحديبه ، واستطالته ، وتعريضه ، ممّا يؤثر ويتفاوت به حال
المخروط المتوهّم بينهما ، سعة وضيقا ، واستقامة وانعطافا ، من الجانب المقابل إلى
جانب يليه ، يمنة أو يسرة ، أو انعكاسه منه إلى خلافه ، كما ثبت في علم المناظر ،
وهذه الأوضاع المخروطية مشتركة الاعتبار بين جميع الاحتمالات والشقوق ، من
الانطباع والشعاع ، والعلم الحضوري المادي ، وغير المادي.
والفرق بأن وجودها
متحقّق على تقدير وجود الشعاع ، متوهّم على التقادير الأخر ، ولا يرجّح بسببها بعض
هذه الاحتمالات على بعض ، فكلّ ما له وجه من التأييد على تقدير الشعاع ، فله وجه
على التقادير الأخر ، وذلك كرؤية البعيد صغيرا ، والقريب عظيما ، وكرؤية الواحد
اثنين للأحول ، ورؤية الجدر والأشخاص في الماء الواقف معكوسة ، والوجه في المرآة
مقلوبا ، يمينه يسارا ، ويساره يمينا ، ونقش الخاتم مستويا ، وكرؤية الإصبع إصبعين
عند تحديق النظر إلى شيء آخر أقرب منه إلى البصر ، أو أبعد ، ورؤية الأشياء يوم
الضباب عظيمة ، ورؤية الكواكب في الأفق أعظم منه في وسط السماء ، وكرؤية الناظر
وجهه في المرآة ـ الّتي في سطحها تقعير ـ عظيما إذا كان قريبا جدا ، ثمّ كلما بعدت
صار المرئي أعظم ، حتّى إذا بلغت في بعدها إلى أن تصير نقطة البصر بمنزلة مركز سطحها
المقعّر بطلت الرؤية ؛ إذ لم يوجد لزاوية مخروط الرؤية وتر حينئذ ، ثمّ إذا جاوز
ذلك الحدّ صار صغيرا متنكّسا ، وكلما بعد صار أصغر ، إلى غير ذلك من الأحكام ،
فإنّ جميعها ممّا له وجه في كلّ واحد من المذاهب.
فصل
إذا ثبت أن
المحسوس ـ بما هو محسوس ـ لا بدّ أن يكون له وجود وضعي بالنسبة إلى جوهر الحاسّ ،
والوجود الوضعي للشيء لا يكون إلّا بالنسبة إلى ما يباينه في الوضع ، داخلا فيه ،
أو محيطا به ، أو كونه منه في جهة.
فإذا أخذ العالم
الجسماني بجميع أجزائه شيئا واحدا لا يكون للمباين له بهذا المعنى وجود ، لا
بالفعل ، ولا بالقوة ، فالعالم كله غير محسوس ، بل وجوده متوسّط بين المعقول
والمحسوس ، ذو وجهين إليهما ، فافهم.
فصل
ألطف هذه الحواس ،
وأشرفها ، السمع والبصر ؛ لأنّ صورة مدركاتهما أرفع درجة من المادة ، وأكثر
انتزاعا منها ، مع أن كلّ إدراك إنّما يحصل بضرب من التجريد للصورة إلّا أن
مدركيهما أشد تجريدا من مدركات البواقي ؛ ولهذا لا لذّة لهما ، ولا ألم من
محسوسيهما ، من حيث هما محسوساهما ، بل النفس تلتذّ بذاك ، وتتألّم ، فإن تألّمت
الأذن من صوت شديد ، والعين من ضوء مفرط ، فليس تألّمهما من حيث يسمع ، أو يبصر ،
بل من حيث يلمس ؛ لأنّه يحدث فيه ألم لمسي ، وبزواله لذّة لمسية ؛ لتركّبهما أيضا
من الكيفيات الأول ، فلا جرم لهما لذّة وألم منها أيضا.
وهذا بخلاف
الثلاثة الأخر ، فإنّ الشم والذوق يتألّمان ، ويلتذّان إذا تكيّفا بكيفية منافرة ،
أو ملائمة ، من حيث إنها محسوستهما ، واللمس قد يتألّم بالكيفية
الملموسة ، ويلتذّ
بها ، وقد يتألّم ويلتذّ بغير توسّط كيفية من المحسوس الأوّل ، بل يتفرّق الاتصال
والتئامه كما في تأثره من الحرارة الشديدة ، هذا.
وإن كان المدرك
للكل هي النفس ، وهي في الحقيقة الشامّ والذائق ، واللامس ، كما أنها هي السميع البصير
، إلّا أن هاتين القوتين أقرب إلى أفق النفس من تلك ، ومدركاتها أبعد من مادّة
البدن.
والسر في ذلك ما
أفاد أستاذنا ـ دام ظله ـ وهو أنّ الحيوان بما هو حيوان تتقوّم مادّة حياتة من
مدركات قوّة اللمس ؛ لأنّه تتقوم بها مادّة بدنه ، ولهذا لا يخلو حيوان عن هذه
القوّة.
ثم مدركات الذائقة
في الحيوانات المرتفعة درجتها قليلا عن أدنى المراتب ، فيفتقر إلى أغذية مخصوصة ،
وتالي الكيفيتين في الملائمة والمنافرة مدركات الشامة حيث تتغذّى بها لطائف
الأعضاء ، كالأرواح البخارية ، ولكن ليس حاجة الحيوان بها كحاجته إلى الأولين ، فيمكن
بقاؤه بدونها.
وأمّا مدركات
السامعة والباصرة فليس يحتاج الحيوان ـ بما هو حيوان ـ إليها ؛ لأنّ بدنه ليس
متقوّما بالأصوات ، ولا من الأضواء والألوان ، ليكون ما كان من نوعها ، أو جنسها
ملائما ، أو مضادا له ، بما هو حيوان ، بل بما هو إنسان ، أو ذا نفس شريفة جاءت من
عالم الأنوار ، ومعدن النسب العددية الفاضلة ، كالنفس الإنسانية الفائضة على البدن
العنصري من عالم النور ، ومعدن السرور ، فتلتذّ من الأنوار الحسّية ، والأصوات
اللذيذة ، وتتألّم بضدّها ، أو عدمها .
ثم البصر أشرف من
السمع ، وألطف ، لكون ما يدركه كأنوار الكواكب
__________________
الثابتة أبعد من
قوّة مادّة هذه الآلة ، ممّا تدركه قوّة السمع ، كأصوات الرعد من آلتها ؛ إذ
المدرك كالمدرك في المنزلة والرتبة.
وأمّا فهم المعاني
من الألفاظ فهو من تصرّف العقل فيها.
والشم ألطف من الذوق
؛ لأنّ مدركاته أدق من مدركات الذائقة ، وآلته ألطف ؛ لأنها جرم بخاري هوائي ،
وآلة الذوق جرم لعابي مائي.
والذوق ألطف من
اللمس ؛ لأنّ مدركاته أدق ، وآلته ألطف ؛ إذ آلة اللمس في الأكثر أجرام كثيفة خشنة
، فنسبة الشم إلى الذوق في اللطافة كنسبة الذوق إلى اللمس ، واللمس أكثف الحواس ،
ولواهب الكلّ الحمد.
فصل
وأمّا المدارك
الباطنة فخمسة أيضا ؛ لأنها إمّا مدرك ، وإما حافظ ، وإما متصرف ، والأوّلان إمّا
للصور ، أو للمعاني.
فمدرك الصور هو
الحس المشترك ، وهو قوّة متعلّقة بمقدم التجويف الأوّل من الدماغ ، تجمع عندها صور
المحسوسات الظاهرة بأسرها بالتأدّي إليها من طرق الحواس ، من جهة الأعصاب الحاملة
للروح البخاري ، فهو كحوض ينصبّ إليه الماء من أنهار خمسة ، لو لاها ما يمكن لنا
الحكم بالمحسوسات المختلفة دفعة ، كهذا السكر أبيض حلو ، على سبيل المشاهدة ، ولا
أمكنت مشاهدة النقطة الجوّالة بسرعة دائرة ، والقطرة النازلة خطّا مستقيما ؛ لأنّ
المشاهدة بالبصر ليست إلّا للمقابل ، وما قابل منهما إلّا نقطة ، وقطرة.
وهذه القوّة إنّما
تجمع القوى الخمس ؛ لعلو نشأة الباطن ، فإنّ الوجود كلما
كان أشرف كان أجمع
للمعاني الكمالية ، وكلما كان أبسط كان أكثر أفعالا على ترتيب الأشرف فالأشرف ،
فالمعاني المترفقة في الحواس الخمس مجتمعة في الحس المشترك ؛ لكونها أشدّ نزولا في
عالم المواد منه ، فهي بمنزلة آلات له تورد مدركاتها إليه ، وهو يقبلها.
كما أن للنفس
أفاعليل مختلفة بواسطة تكثّر القوى ، والآلات ، وحامل هذه القوّة في اللين
واللطافة والبطون ، يناسبها في لطافتها ، وبطانتها ، وصفاء مدركاتها ، حيث لا
تحتاج إلى حضور المادّة الّتي تجرّدت هي منها.
كما أن مواضع
الحواسّ الظاهرة على اختلافها ـ لطافة ، وكثافة ـ تناسب قواها ومدركاتها ،
فللحيوان الكامل في ذاته سمع ، وبصر ، وشم ، وذوق ، ولمس ، يستعملها ، ويدرك بها
الأشياء ، وإن ركدت وتعطّلت هذه الحواس ، كما عند النوم.
والحواس
والمحسوسات في الظاهر والباطن ، وباطن الباطن ، ليست بحسب الماهية ، إلّا هذه
الخمس ومدركاتها ، إلّا أنها كلما قويت وعلت مالت إلى الوحدة والتجرّد ، وكلما
ضعفت ودنت مالت إلى التكثر والتجسّم.
وحافظ الصور هو
الخيال ، ويقال له المصوّرة ، وهو قوّة متعلّقة بآخر التجويف الأوّل من الدماغ ،
يجتمع عندها مثل المحسوسات ، ويبقى فيها ، وإن غابت موادّها عن الحواس ، فهي خزانة
للحس المشترك ، ولو لاها لما يمكن لنا الحكم على شيء شاهدناه ، ثمّ ذهلنا عنه ،
ثمّ شاهدناه مرة أخرى بأنه هو الّذي شاهدناه من قبل ؛ إذ لو لم يكن محفوظا لم يمكن
لنا هذا الحكم ، وهي أيضا جامعة للخمس الظاهرة بوجه آكد من الحسّ المشترك ؛ لأنّ
شأنه الفعل ، وشأن ذاك الانفعال ، بل هي في الحقيقة تمام ذاك وتأكّده ، ليس أمرا
مغايرا له.
ومدرك المعاني هو
الوهم ، وهو قوّة متعلّقة بكلّ الدماغ ؛ لأنّه الرئيس للقوى الإدراكية الّتي كلّها
في الدماغ ، كرئاسة الشوقية للتحريكية ، وأخصّ مواضعه آخر التجويف الأوسط منه ،
ويدرك المعاني الغير المحسوسة الموجودة في المحسوسات ، ويحكم أحكاما جزئية ،
كإدراك السنّور معنى في الفأر يحمله على الطلب ، وإدراك الفأر معنى في السنور يوجب
الهرب ، وهذا في الإنسان ينازع عقله ؛ لأنّه قوّة جرمانية لا يعترف بما يعترف به
العقل ، ولهذا ينفر الإنسان من البيات في بيت فيه ميت ، وهو في الحقيقة جهة رجوع
النفس إلى العالم العقلي ؛ لأنّ مدركاته أمور كلية تشخّصت بالإضافة إلى الأشخاص ،
والمضاف إليه خارج عن الإضافة ، فهي من حيث إنها أمور كلية فمدركها أمر عقلي ، وهو
رب نوع الحيوان ، وإنما تدركها النفس من حيث اتصالها بذلك الجوهر ، ومن حيث إنها
مضافة إلى الأشخاص يدركها الوهم ، فالوهم لا حقيقة له غير إضافة الجوهر العقلي إلى
البدن.
وحافظ المعاني هو
المسمى بالحافظة ، وهي قوّة متعلقة بالتجويف الأخير من الدماغ ، يحفظ ما تدركه
القوّة الوهمية ، وهي خزانة لها ، نسبتها إليها نسبة الخيال إلى الحسّ المشترك.
وأمّا المتصرف فهو
قوّة متعلّقة بمقدم التجويف الأوسط من الدماغ ، أي الدودة من شأنها تركيب بعض ما
في الخيال أو الحافظة من الصور والمعاني مع بعض ، وتفصيل بعضه عن بعض ، فتجمع
أجزاء أنواع مختلفة ، كجمعها حيوانا من رأس إنسان ، وعنق جمل ، وظهر نمر ، وتفرق
أجزاء نوع واحد ، كإنسان بلا رأس ، ولا تسكن عن فعلها ، لا نوما ، ولا يقظة ، وهي
المحاكية للمدركات والهيئات المزاجية ، وتنتقل من الشيء إلى ضدّه ، وشبيهه ، فما
في القوى الباطنة أشد شيطنة منها ، ليس من شأنها أن يكون عملها منتظما ، وتسمى ـ عند
استعمال
النفس إياها
بواسطة الوهم ـ المتخيّلة ، وعند استعمالها إياها بواسطة القوّة العقلية ،
المفكّرة ، بها تستنبط العلوم والصناعات ، وتقتنص الحدود الوسطى باستقراض ما في
الحافظة ، وربما تسمى الثلاث الأخيرة من هذه القوى بالمسترجعة ، وأولييها بالذاكرة
، والمتذكّرة ، وإنما عرف اختصاص كلّ منها بآلة باختلالها عند تطرّق الآفة إلى تلك
الآلة ، وعرف تغايرها وتعددها باختلال بعضها مع بقاء بعض ، وتتخالف أفاعيلها ،
كالفعل والانفعال ، والقوّة والملكة ، لا تتعدد الأفاعيل ؛ لعدم بساطتها من كلّ
الوجوه ، فإنّ ذلك مختص بالله سبحانه.
وأمّا كون كلّ من
الحس المشترك والخيال قوّة واحدة مع تخالف أفاعيل الحواس ، فقد دريت سرّه ، على أن
شأن الحس المشترك قبول الصور الّتي تؤتيها الحواس ، أي صورة كانت ، وشأن الخيال
حفظها كذلك ، وكلّ من الأمرين واحد ، وإن كان المأتي به من الصور أمورا متخالفة
المبادىء.
وأمّا وحدة
المتصرّفة فلأنّه لا يلزم أن يكون المتصرّف مدركا لما يتصرّف فيه ، كيف وهذه القوى
مرتبطة بعضها ببعض ، والنفس مبدأ الجميع ، ومستعملها ، وجامعها ، فالنفس كما أنها
تتصرّف باليد في أمور لا تدركها بها ، كذلك تتصرف بالمتخيلة فيما تدرك بقوّة أخرى
، فهي كأنها يد روحانية للنفس ، كما أن الوهم عين روحانية لها ، فسبحان خالق البشر
، والحمد لواهب القوى والقدر.
فصل
وأمّا الصنف
المتعلق بالإنسان من الملائكة ، فهم إمّا أصحاب لمم وخواطر ، وإما كرام كاتبون ،
يكتبون صحائف الأعمال ، وإما حفظة له عن الآفات ، وإما غير ذلك ، ممّا لا يعلمه
إلّا الله سبحانه.
وبيان ذلك على
الإجمال : أن الجوهر النطقي من الإنسان المسمى بالقلب الحقيقي مثاله مثال هدف تنصب
إليه السهام من الجوانب ، أو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور ، فتتراءى
فيها صورة بعد صورة ، ولا يخلو عنها دائما.
ومداخل هذه الآثار
المتجددة فيه إمّا من الظاهر ، كالحواس الخمس ، وإما من الباطن ، كالخيال ،
والشهوة ، والغضب ، والأخلاق ، والصفات ، فإنه مهما أدرك الإنسان بالحواس شيئا حصل
منها أثر في قلبه ، وكذلك إذا هاجت الشهوة ، أو الغضب حصل منها أثر في القلب ، وإن
كفّ عن الإحساس فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى ، وتنتقل المتخيّلة من شيء إلى
شيء ، وبحسب انتقالها ينتقل باطن الإنسان من حال إلى حال ، فباطنه ـ إذن ـ في
التغير دائما ، من هذه الأسباب.
وأحضر الأسباب
الحاصلة فيه هي الخواطر ، أي الأفكار والأذكار الّتي من أنواع الإدراكات والعلوم ،
إمّا على سبيل الورود التجددي ، وإما على سبيل التذكّر من المحفوظات في الحافظة ،
وهذه الخواطر هي المحرّكات للإرادات ، فإنّ النيّة والعزم والإرادة إنّما تكون بعد
حضور المنويّ بالبال ، فمبدأ الأحوال الخواطر ، ثمّ الخاطر يحرّك الرغبة ، والرغبة
تحرّك العزم والنية ، والنية تحرّك الأعضاء ، والخواطر المحرّكة للرغبة إمّا تدعو
إلى الخير ، أعني ما ينفع في الدار الآخرة ، وإما تدعو إلى الشر ، أعني ما يضرّ في
العاقبة ، فهما خاطران مختلفان ، لهما سببان مختلفان ؛ لأنهما حادثان ، وكلّ حادث
يفتقر إلى سبب.
والمعلولات
المختلفة تستدعي عللا مختلفة ، فيسمى السبب الداعي إلى الخير ملكا ، وفعله إلهاما
، والآخر شيطانا ، وفعله وسوسة ، وهما جوهران
مسخّران لقدرة
الله سبحانه ، في تقليب القلوب ، ولعلّهما المراد بقوله عليهالسلام : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن ، يقلّبه كيف
يشاء» .
والقلب لصفائه
ولطافته صالح بأصل الفطرة لقبول آثار الملكية والشيطانية صلاحا متساويا ، وإنما
يترجّح أحد الجانبين باتباع الهوى ، والإكباب على الشهوات ، أو الإعراض عنها ،
ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى شهوته وغضبه ، ظهر تسلط الشيطان بواسطة اتباع
الهوى والشهوات بالأوهام والخيالات الفاسدة الكاذبة ، وصار القلب عش الشيطان ،
ومعدنه ؛ لأنّ الهوى مرعى الشيطان ، ومرتعه ، لمناسبة ما بينهما ، ونحو من
الاتحاد.
وإن جاهد الشهوات
ولم يسلّطها على نفسه ، وعارض ـ بقوّة البرهان اليقيني لوجود النشأة الباقية أبدا
ـ الظنون والأوهام الكاذبة المستدعية للشهوات ، والركون إلى الدنيا والإخلاد إلى
الأرض ، والاقتصار على هذه النشأة الناقصة الفانية ، وتشبّه بأخلاق الملائكة ، صار
قلبه مستقرّ الملائكة ، ومهبطها ، فمن البواطن والصدور ما ينزل فيه لزيارته كلّ
يوم ألوف من الملائكة لغاية صفائه ، ومنها ما يقع فيه كلّ يوم ألف وسواس ، وكذب ،
وفحش ، وخصومة ، ومجادلة بين الناس ، فهو مرتع للشياطين.
فصل
ولما كان الإنسان
لا يخلو عن شهوة وغضب ، وحرص ، وطمع ، وطول أمل ، إلى غير ذلك من الصفات البشرية
المنشعبة عن الهوى المتبع للقوّة الوهمية ،
__________________
التي شأنها إدراك
الأمور على غير وجهها ، فلا جرم لم يخل باطنه من جولان الشيطان فيه بالوسوسة ،
إلّا من عصمه الله ، ولذلك قال النبي صلىاللهعليهوآله : «ما منكم إلّا وله شيطان ، قالوا : وأنت يا رسول الله!
قال : وأنا ، إلّا أن الله أعانني عليه ، فأسلم على يدي» .
فمهما غلب على
النفس ذكر الدنيا ومقتضيات الهوى والشهوات وجد الشيطان للتدرع بها مجالا ، فوسوس
لها ، ومهما انصرفت النفس إلى ذكر الله ارتحل الشيطان ، وضاق مجاله ، فأقبل الملك
والهم.
فالتطارد بين جندي
الملائكة والشياطين في معركة النفس الإنسانية دائم ؛ لهيولانية وجودها ، وقابليتها
للأمرين ، بتوسّط قوتيه ، العقلية والوهمية ، إلى أن ينفتح لأحدهما ، ويستوطن فيها
، ويكون اجتياز الثاني اختلاسا.
وكما أن الشهوات
ممتزجة بلحم الآدمي ودمه ، فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ، ومحيطة بقلبه
الّذي هو منبع الدم ، المركب للروح البخارية الحاملة للقوى الوهمية والشهوية
والغضبية.
ومن هنا قال النبي
صلىاللهعليهوآله : «إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم» .
وكما أن في
الملائكة الّذين يدبّرون أمور الإنسان كثرة لاستدعاء تعدد الأفعال والآثار نوعا
تعدد الفواعل والمؤثرات ، فكذلك الشياطين الموسوسين ،
__________________
الداعين له إلى
المعاصي ، جنود مجنّدة حسب تعدد المعاصي ، وهم فروع لشيطان واحد يخص بذلك الإنسان
، وهو المشار إليه بقوله عليهالسلام : «ما منكم إلّا وله شيطان» .
وقول الله سبحانه
، خطابا لإبليس اللعين في حديث جرى له ولآدم : لا يولد له ولد إلّا ولد لك ولد ،
كما ورد في الخبر .
وشيطان كلّ إنسان
في المكر والحيلة على قدر عقله وذكائه ، وكذلك الملائكة الذابّون عنه ، الحافظون
له بأمر الله.
وصل
روى أبو أمامة ،
عن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : «وكّل بالمؤمن مائة وستّون ملكا ، يذبّون عنه
ما لم يقدر عليه ، من ذلك سبعة أملاك يذبّون عنه كما يذب عن قصعة العسل الّذي في اليوم الصائف ما لو بدا لكم لرأيتموه على كلّ سهل وجبل
، كلّهم باسط يده ، فاغرفاه ، ولو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين»
.
وفي حديث آخر : «لو
لا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء» .
__________________
وعنه صلىاللهعليهوآله : «إنّ للشيطان لمّة بابن آدم ، وللملك لمّة ، فأما لمّة
الشيطان فإيعاد بالشر ، وتكذيب بالحق ، وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير ، وتصديق
بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله ، فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوّذ
بالله من الشيطان الرجيم ، ثمّ قرأ عليهالسلام (الشَّيْطانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ) الآية » .
وروى في الكافي ،
بسند حسن ، عن الإمام الصادق عليهالسلام ، أنه قال : «ما من قلب إلّا وله أذنان ، على إحداهما ملك
مرشد ، وعلى الأخرى شيطان مفتن ، هذا يأمره ، وهذا يزجره. الشيطان يأمره بالمعاصي
، والملك يزجره عنها ، وهو قول الله تعالى : (عَنِ الْيَمِينِ
وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ* ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ
عَتِيدٌ) » .
فصل
قال بعض العلماء :
إن إلهام الملك ووسوسة الشيطان تقع في النفوس على وجوه وعلامات :
أحدها : كالعلم
واليقين الحاصلين من جانب يمين النفس ، ويقابله الهوى والشهوة الحاصلين من جانب
الشمال.
__________________
وثانيها : كالنظر
إلى الآفاق والأنفس ، على سبيل النظام والإحكام المزيل للشكوك والأوهام ، والمحصّل
للمعرفة والحكمة في القوّة العاقلة الّتي هي على الجانب الأيمن من النفس ، ويقابله
النظر إليها على سبيل الاشتباه الغفلة ، والإعراض عنها ، الناشئة منها الشبه
والوسواس في الواهمة ، والمتخيّلة الّتي على الجانب الأيسر منها ، فإنّ الآيات
المحكمات بمنزلة الملائكة المقدسة من العقول والنفوس الكلية ؛ لأنها مبادىء العلوم
اليقينية ، والمتشابهات الوهميات بمنزلة الشياطين ، والنفوس الوهمانية ؛ لأنها
مبادىء المقدمات السفسطية.
وثالثها : كطاعة
الرسول المختار والأئمة الأطهار ، عليهم الصلاة والسلام ، في مقابلة متابعة أهل
الجحود والإنكار ، وأهل التعطيل والتشبيه ، فكلّ من سلك سبيل الهداية فهو بمنزلة
الملائكة الملهمين للخير ، ومن سلك سبيل الضلال فهو بمنزلة الشياطين المغوين
بالشرور.
ورابعها : كتحصيل
العلوم والإدراكات الّتي هي في الموضوعات العالية ، والأعيان الشريفة ، كالإيمان
بالله وملائكته العقلية ، وكتبه السماوية ، ورسله ، واليوم الآخر ، والبعث ، وقيام
الساعة ، ومثول الخلائق بين يدي الله ، وحضور الملائكة والنبيين والشهداء
والصالحين ، في مقابلة تحصيل العلوم والإدراكات التي هي من باب الحيل والخديعة
والسفسطة.
والتأمّل في
الأمور الدنياوية الغير الخارجة عن دار المحسوسات ، فإنّ الأوّل يشبه الملائكة
الروحانية ، وجنود الرحمن الّذين هم سكان عالم الملكوت السماوي ، والثاني يشبه
الأبالسة المطرودة عن باب الله ، الممنوعة من ولوج السماوات ، المحبوسة في الظلمات
المحرومة في الدنيا عن الارتقاء ، والمحجوبة في الآخرة عن دار النعيم.
فصل
إن الإنسان كما
ينتفع من إلهام الملك ، فكذلك ينتفع من وسوسة الشيطان بوجه ؛ وذلك لأنّ وجود
الشياطين من الله سبحانه لا محالة لحكمة ومصلحة ، وإلّا لم توجد ؛ لاستحالة العبث
والتعطيل عليه تعالى ؛ وذلك أن اتباع الشياطين كلهم تبعة الوهم والخيال ، ولو لم
يكن أوهام المعطّلين وخيالات المتفلسفين والدهريين ، وسائر أولياء الطاغوت ،
ومراتب جربزتهم ، وفنون اعوجاجاتهم ، لما انبعث أولياء الله في تحقيق الحقائق ،
وتعليم العلوم ، وطلب البراهين لبيان التوحيد ، وعلّة حدوث العالم ، بالكشف
واليقين ، وغير ذلك ، وكذلك في الأخلاق والأعمال.
مثلا : لو لم يكن
اغتياب المغتابين ، وتجسّس المتجسّسين لعيوب الناس لم يتجنب كلّ التجنب من العيوب
الخفية الّتي لا يراها أحبّاؤه ، وإنما يظهر له ثبوتها من تدقيقات أعدائه ،
وتجسّسهم عيوبه ، وإظهارهم إياها ، فكم من عدو خبيث الذات انتفع الإنسان من عداوته
أكثر ممّا انتفع من محبة صديقه ، فإنّ المحبّة ممّا تورث الجهل بعيوب المحبوب ،
والعمى والصمم عن معاينة معايبه ، وسماع مثالبه ، كما قيل : حبّك للشيء يعمي ،
ويصمّ.
فظهر أن لوجود
الأعمال الشيطانية منافع عظيمة للناس ، وما لا نعلمه أكثر ، وتمام الكلام في معرفة
الشيطان وحقيقته ، يأتي في محله إن شاء الله.
فصل
كلّ هيئة وصفة
ترسّخت في النفس ، وتأكّدت فيها من تكرر فاعليها ، وأعمالها ، تسمى في الشرع ملكا
إن كانت حسنة ، وشيطانا إن كانت سيئة ، وفي الحكمة كلتاهما ملكة ، وهي صورة جوهرية
نفسانية ، هي مبدأ آثار مختصة بها ، فيصدر بسببها الفعل المناسب لها بسهولة من غير
رويّة ، وتعمّل ، كالصناعات والمكاسب العلمية والعملية ، وإنما يحدث ذلك باشتداد
الكيفية النفسانية الّتي هي مبدأ الفعل والقول أولا ، واستحكامها بالتكرار ، كما
تحدث الصورة النارية المحرقة باشتداد الحرارة الضعيفة في الفحم ، ولو لم يكن
للنفوس الإنسانية هذا التأثر من الفعل أولا ، ثمّ اشتداد ذلك الأثر فيها يوما
فيوما ، لم يمكن لأحد من الناس اكتساب شيء من الصناعات ، ولم ينجع التأديب
والتعليم لأحد.
فهذه الآثار
الحاصلة من الأفعال والأقوال والعقائد في النفوس بمنزلة النقوش الكتابية في
الألواح ، كما قال الله سبحانه : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي
قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) ، وهذه الألواح النفسية يقال لها صحائف الأعمال.
وهذه النقوش
والصور كما تفتقر إلى قابل يقبلها ، تفتقر إلى ناقش ومصوّر ، فالمصورون والكتّاب هم
الكرام الكاتبون ، المشار إليهم بقوله سبحانه : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ
لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ* يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) ، وهم طائفتان : ملائكة اليمين ، وملائكة الشمال ، قال
تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ
__________________
وَعَنِ
الشِّمالِ قَعِيدٌ) .
وفي الخبر : كلّ
من عمل حسنة يخلق الله منها ملكا يثاب به ، ومن اقترف سيّئة يخلق الله منها شيطانا
يعذّب به (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ).
وفي مقابله (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ
الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) ، (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ
ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) .
فصل
روى في الكافي ،
بإسناده عن الإمام الكاظم عليهالسلام ، أنه قال : «إنّ الله أيّد المؤمن بروح تحضره في كلّ وقت
، يحسن فيه ، ويتّقي ، وتغيب عنه في كلّ وقت يذنب فيه ، ويعتدي ، فهي معه ، تهتزّ
سرورا عند إحسانه ، وتسيخ في الثرى عند إساءته» الحديث.
وفي الحديث النبوي
صلىاللهعليهوآله : «من قارف ذنبا فارقه عقل لم يعد إليه أبدا» .
وفيه أيضا : «إذا
زنا الرجل فارقه روح الإيمان ، قال الإمام الباقر عليهالسلام :
__________________
هو قوله تعالى : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) ، ذاك الّذي يفارقه» .
وروى محمّد بن
الحسن الصفّار ، في كتاب بصائر الدرجات ، بإسناده عن جابر ، قال : سألت أبا جعفر عليهالسلام عن الروح ، قال : «يا جابر إنّ الله خلق الخلق على ثلاث
طبقات ، وأنزلهم ثلاث منازل ، وبيّن ذلك في كتابه ، حيث قال : (فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ
الْمَيْمَنَةِ* وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ* وَالسَّابِقُونَ
السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) فأما ما ذكرت من السابقين فهم أنبياء مرسلون ، وغير مرسلين
، جعل الله فيهم خمسة أرواح ، روح القدس ، وروح الإيمان ، وروح القوّة ، وروح
الشهوة ، وروح البدن ، وبيّن ذلك في كتابه ، حيث قال : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ
عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا
عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ) ، ثمّ قال في جميعهم : (وَأَيَّدَهُمْ
بِرُوحٍ مِنْهُ) ، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين ، وغير مرسلين ، وبروح
القدس علموا جميع الأشياء ، وبروح الإيمان عبدوا الله ، ولم يشركوا به شيئا ،
وبروح القوّة جاهدوا عدوّهم ، وعالجوا معايشهم ، وبروح الشهوة أصابوا لذّة الطعام
، ونكحوا الحلال من النساء ، وبروح البدن يدبّ ويدرج.
وأمّا ما ذكرت من
أصحاب الميمنة فهم المؤمنون حقا ، جعل فيهم أربعة أرواح : روح الإيمان ، وروح
القوّة ، وروح الشهوة ، وروح البدن ، ولا يزال العبد
__________________
مستكملا هذه الأرواح الأربعة حتّى يهمّ بالخطيئة ، فإذا همّ بالخطيئة
زيّن له روح الشهوة ، وشجّعه روح القوّة ، وقاده روح البدن ، حتّى يوقعه في تلك
الخطيئة ، فإذا لامس الخطيئة انتقص روح الإيمان ، وانتقص الإيمان منه ، فإن تاب
تاب الله عليه ، وقد يأتي على العبد تارات ينتقص منه بعض هذه الأربعة ، وذلك قول
الله : (وَمِنْكُمْ مَنْ
يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) ، فينتقص منه روح القوّة ، ولا يستطيع مجاهدة العدو ، ولا
معالجة المعيشة ، وينتقص منه روح الشهوة ، فلو مرّت به أحسن بنات آدم لم يحنّ
إليها ، ويبقى فيه روح الإيمان ، وروح البدن ، فبروح الإيمان يعبد الله ، وبروح
البدن يدبّ ويدرج ، حتّى يأتيه ملك الموت.
وأمّا ما ذكرت من
أصحاب المشئمة ، فهم أهل الكتاب ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ
كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ
وَهُمْ يَعْلَمُونَ* الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) ، عرفوا رسول الله ، والوصي من بعده، وكتموا ما عرفوا من
الحق ، بغيا وحسدا ، فسلبهم الله روح الإيمان ، وجعل لهم ثلاثة أرواح: روح القوّة
، وروح الشهوة ، وروح البدن ، ثمّ أضافهم إلى الأنعام ، فقال : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ
هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) ، لأنّ الدابة ـ يا جابر ـ إنما تحمل بروح القوّة ، وتعتلف
بروح الشهوة ، وتسير بروح
__________________
البدن» .
وروى بإسناده عن
أمير المؤمنين عليهالسلام ، ما يقرب منه .
ورواه ـ أيضا ـ محمّد
بن يعقوب رحمهالله ، عنه عليهالسلام ، في الكافي .
وفي رواية أخرى ،
قال عليهالسلام في المقرّبين : «فبروح القدس يا جابر عرفوا ما تحت العرش
إلى ما تحت الثرى ، ثمّ قال : يا جابر ، إن هذه الأربعة أرواح يصيبها الحدثان ،
إلّا روح القدس ، فإنّها لا تلهو ، ولا تلعب» .
وعن الصادق عليهالسلام ، ما يقرب منه ، وفي آخره : «وروح الإيمان يلازم الجسد ما
لم يعمل بكبيرة ، فإذا عمل بكبيرة فارقه الروح ، وروح القدس من سكن فيه فإنه لا
يعمل بكبيرة أبدا» .
والروايات في هذا
الباب كثيرة ، ويأتي إطلاق النفس والقوّة على هذه الأرواح في كلام أمير المؤمنين عليهالسلام ، في المباحث الآتية ، إن شاء الله.
__________________
في تجرّد نفس الحيوان الكامل
(ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ
أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)
فصل
قد ذكرنا فيما سبق
أن النفس الحيوانية إن كانت متعلقة في نشأة الملكوت ، أي لها أن تبقى بعد بوار البدن ، فهو الحيوان
الكامل ، وإلّا فالناقص ، فكان من الواجب علينا أن نبيّن أن نفوس بعض الحيوانات
ممّا يجوز لها الاستقلال والبقاء من دون أبدانها العنصرية ، حتّى يثبت التقسيم
المذكور ، وما بنينا عليه ، وإن كنا قد نبّهنا على ذلك في مواضع ممّا ذكر، إلّا
أنه يحتاج بعد إلى بيان ، وبرهان ، فنحن الآن بصدد ذلك ، وإن لم يمكننا أن نعيّن
لذلك نوعا خاصا من الحيوان ، أو أفرادا خاصة ، فيمنع استقلال النفس فيما سوى ذلك ،
بل نحيل العلم فيه إلى الله سبحانه ، والراسخين في العلم ، فإنّ البراهين الّتي
قادتنا إلى ذلك منها ما يشمل غير الإنسان ، ومنها ما يختصّ به ، بل ببعض أفراده ،
والشرع دلّ على أن أفراده قاطبة كذلك ، حتّى السقط ، ولم يدلّ على الباقي دلالة
يصحّ الاعتماد عليها.
__________________
وعندنا براهين
تدلّ على أن من أفراده من له مع ذلك نفس جبروتية ، كلية ، من العالم العقلي ، لها
ملكة إدراكات الكليات إدراكا قويا نورانيا ، وهو الّذي سمّيناه الإنسان بما هو
إنسان ، أخذا من كلام أمير المؤمنين عليهالسلام ، كما يأتي.
فلنذكر البراهين
والشواهد على تجرّد النفس الحيوانية على الجملة ، ثمّ نذكر ما يختصّ بالإنسان ،
بما هو إنسان ، من الأحكام ، ومن الله التأييد.
فصل
قد دريت أن القوى
النفسانية متّحدة مع النفس ، وإنما هي جهاتها واعتباراتها ، وإن الخيال يشتمل
عليها كلّها على وجه أعلى ، وأشرف ، سوى الوهم الّذي هو جهة رجوع النفس إلى العالم
العقلي ، ولا ذات له سوى الإضافة ، وكذا الحافظة الّتي هي ترجع في الحقيقة إلى
الحقيقة العقلية ؛ إذ المعاني إنّما هي مخزونة في ذلك العالم ، وكذا المتصرفة
الّتي هي كالوهم في كونها إضافة إلى محسوسات ومعقولات.
فأما سائر القوى
ذوات الحقائق فهي منطوية في الخيال ، فتحدس من هذا أن النفس الحيوانية المخدومة
لهذه القوى ، أعني سلطان هذه البنية المحسوسة ، مع مشاعرها وقواها ، هي بعينها
النشأة الخيالية للحيوان ، ولكنها من حيث تعلّقها بالآلة المخصوصة من البدن قوّة
خيالية ، ومن حيث إنها ذات رجوع ما إلى عالم القدس وإن كان رجوعا ضعيفا ، حيث إنها
إنّما تدرك المعقولات مضافة إلى الحس ، ومتعلّقة به ، ولا تستطيع أن تدركها مجرّدة
عن الموادّ ، نفس حيوانية ، فهي كأنها خيال خارج من حدّ القوّة والضعف إلى حدّ
الفعلية والكمال.
ومن هذا يظهر
ويتبيّن وينكشف ويتحقّق أن في إهاب هذا الحيوان الطبيعي حيوانا آخر من عالم الغيب
، هو في الحقيقة يسمع ، ويرى ، ويشمّ ، ويذوق ، ويلمس ، ويبطش ، ويمشي ، ولهذا
يفعل هذه الأفاعيل ، وإن ركدت هذه القوى والحواس البدنية كما في النوم ، والإغماء
، والسكر ، فله في ذاته هذه المشاعر والقوى والآلات من غير عوز ، إلّا أنها ليست
ثابتة في عالم الحسّ والشهادة ، وهذه المشاعر الظاهرة بمنزلة ظلال لتلك ، وكذلك
هذا البدن الظاهر بمنزلة قشر وغلاف وقالب لذلك البدن ، وإنما حياة هذه كلّها بذاك
، وهو الحيوان بالذات ، وهو المحشور في الآخرة ، الّتي هي دار الحياة ، قال الله
سبحانه : (وَإِنَّ الدَّارَ
الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ) ، كذا أفاد أستاذنا ، سلمه الله .
قال : وممّا يدلّ
على ذلك أن النفس الحيوانية تشاهد في قوّة خيالها ووهمها ، أو بهما ، صورا ومعاني
مجرّدة عن المادّة وعوارضها ، ممّا ليس بقابل للإشارة الحسية ، فلا يخلو إما أن
تكون النفس قابلة لها ، أو فاعلة ، فإن كانت قابلة لها فعدم قبول الحال للإشارة
الحسية ، يستلزم عدم قبول المحلّ لها لا محالة ، وإن كانت فاعلة لها فالفاعل فيما
لا وضع له لا يجوز أن يكون من ذوات الاوضاع ؛ لما ثبت من أن الجسم وقواه لا يفعل
إلّا فيما له وضع بالقياس إلى مادّته ، وكما أن فاعل الأجسام الطبيعية ومقوّماتها
لا يمكن أن يكون متعلق الوجود بهذه الأجسام ، كما ثبت ، كذلك مبدأ صورها ، يجب أن
لا يكون مادّيا .
__________________
وأيضا إمّا أن
يكون تجرّد هذه الصور عن موادّ هذا العالم وعوارضها لذاتها ، أو لما أخذت هي منه ،
أو من جهة الأخذ ، والأوّل يوجب الاتفاق ، فما كان شيء منها تقترنه هذه اللواحق في
العين ؛ لأنّ ما بالذات لا يتخلف ، والثاني يكون تناقضا ، فبقي الأخير ، فلم يكن هذا
الوجود له وجود أمر في جسم ، أو جسماني .
فالقوّة الخيالية
ـ إذن ـ مجردة عن المواد ، وإن كان لها نوع تعلّق ببعض مواضع البدن ، بواسطة
تعلّقها بالروح النفساني ، الّذي يتكوّن منه الدماغ أولا ، ثمّ يسري بواسطة
الأعصاب والأوردة في جميع مواضع البدن ، عاليها وسافلها ، على حسب تفاوتها في
القبول.
وصل
وإلى هذا التجرد
للنفس أشار مولانا الصادق عليهالسلام ، فيما روي عنه في الكافي : «إنّ أرواح المؤمنين في الجنة
على هيئة أجسادهم» .
وفي رواية : «إنهم
على صور أبدانهم ، لو رأيته لقلت : فلان» .
وروى الشيخ
الطبرسي في كتاب الاحتجاج ، عنه عليهالسلام أيضا ، أنه قال : «الروح لا توصف بثقل ، ولا خفّة ، وهي
جسم رقيق قد ألبس قالبا كثيفا ، فهي
__________________
بمنزلة الريح في
الزق ، فإذا نفخت فيه امتلأ الزق منها ، فلا يزيد في وزن الزق ولوجها فيه ، ولا
ينقصه خروجها منه ، وكذلك الروح ليس لها وزن ، ولا ثقل ، قيل : أفيتلاشى الروح بعد
خروجه عن قالبه ، أم هو باق؟ قال : بل هو باق إلى وقت ينفخ في الصور ، فعند ذلك
تبطل الأشياء ، وتفنى ، ولا حسّ ، ولا محسوس ، ثمّ أعيدت الأشياء كما بدأها
مدبّرها ، وذلك أربعمائة سنة ، نسيت فيها الخلق ، وذلك بين النفختين» .
وقال أيضا : «إنّ
الروح مقيمة في مكانها ، روح المحسن في ضياء وفسحة ، وروح المسيء في ضيق وظلمة ،
والبدن يصير ترابا». الحديث .
وروي أنه قال : «وبها
يؤمر البدن وينهى ، ويثاب ، ويعاقب ، وقد تفارقه ، ويلبسها الله سبحانه غيره ، كما
تقتضيه حكمته» .
قوله عليهالسلام : «وقد تفارقه ويلبسها الله غيره» صريح في أنها مجردة عن
البدن ، مستقلّة ، وأن ليس المراد بها الروح البخارية ، وأمّا إطلاق الجسم عليه ؛
فلأن نشأة الملكوت أيضا جسمانية ، من حيث الصورة ، وإن لم تكن مادية ، كما دريت.
وروى محمّد بن
الحسن الصفّار ، في كتاب بصائر الدرجات ، بإسناده عن المفضل بن عمر ، عن مولانا
الصادق عليهالسلام ، أنه قال : «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق ، إذا
أخرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ، ولم يعبأ به. قال : إن
__________________
الأرواح لا تمازج
البدن ، ولا تداخلها ، إنّما هي كالكلّ للبدن ، محيطة به» .
وفي الآيات
القرآنية والأحاديث النبوية شواهد كثيرة ، وتنبيهات غير يسيرة على ذلك ، وكذلك في
كلمات الحكماء والعلماء من الأولين والآخرين ، وعسى أن نقف على بعض الآيات والأخبار
في ذلك عن قريب.
وصل
وممّا يدلّ على
ذلك دلالة واضحة أن بدن الحيوان وأعضاءه دائم الذوبان والسيلان ؛ لعكوف الحرارة
الغريزية على التحليل والتنقيص ، كما دريت ، وكذا غيرها من الأسباب ، كالأمراض
الحارة ، والمسهلات ، وذاته منذ أوّل الصبا باقية ، فهو هو ، لا ببدنه.
ومن هذا يظهر أن
هذية البدن من حيث هو بدن لهذه النفس إنّما هي بهذه النفس ، وإن تبدل تركيبه ،
وكذا هذية الأعضاء كهذه اليد ، وهذا الإصبع ؛ إذ كلّها منحفظة الهوية تبعا لهوية
النفس.
ويدلّ على هذا
أيضا ما أفاده أستاذنا ـ دام ظله ـ وأشرنا إليه في الأصول : أن تقوّم كلّ شيء
بصورته الكمالية ، ومبدأ فصله الأخير ، لا بأجناسه وفصوله العالية والمتوسطة ، إن
كانت ، وكذا تشخّصه بنحو وجوده الخاص ، لا الأعراض المتبدّلة من صنف إلى صنف ، ومن
نوع إلى نوع ، والشخص هو هو بعينه ، بل ذلك كله من اللوازم ، لا المقوّمات ، ويعتبر
فيه على سبيل الإبهام ، دون الخصوص ؛
__________________
لأنها تجري مجرى
المادّة الّتي إنما يحتاج إليها الشيء لأجل قصور وجوده عن التفرّد بذاته دون قوّة
تحمل حقيقته ، وإذا استكمل وصار بالفعل استغنى عنها.
فتشخّص كلّ حيوان
وتقوّمه إنّما هو ببقاء نفسه الّتي هي صورته الكمالية ، ونحو وجوده الخاص مع بدن
ما ، وإن تبدلت خصوصيّاته من المقدار والوضع وغيرهما ، حتّى إنك إذا رأيت إنسانا
في وقت ، ثمّ تراه بعد ذلك بمدّة كثيرة ، وقد تبدّلت أحوال جسمه جميعا بخصوصيّاتها
، أمكنك أن تحكم عليه بأنه ذاك الإنسان ، فلا عبرة بتبدل المادّة البدنية بعد
انحفاظ الصورة النفسانية ، بل الحال كذلك في تشخّص كلّ عضو منه ، ولو كان إصبعا
واحدا ، فإنّ له اعتبارين : اعتبار كونه آلة مخصوصة لزيد مثلا ، واعتبار كونه في
ذاته جسما متعيّنا من الأجسام ، واسم الإصبع واقع عليه بذلك الاعتبار ، لا بهذا ،
فتعيّنه بالاعتبار الأوّل باق ما دامت النفس تتصرّف فيه ، وتستعمله وتحفظ مزاجه ،
وتقلّبه كيف تشاء ، وبالاعتبار الثاني زائل لأجل الاستحالات الواقعة فيه.
فالشخص الخيالي
إذا استقلّ بذاته وتجرّد عن هذا القشر اللحمي يصح أن يقال : هو بعينه هذا الشخص
الحسي ؛ لأنّ النفس واحدة ، والبدن بما هو بدن إنّما يتعيّن ويمتاز بالنفس.
ويصح أيضا أن يقال
: ليس هو هو ؛ لأنّ أحدهما من الذهب ، والآخر من النحاس.
وإلى مثل هذا أشير
فيما روي عن مولانا الصادق عليهالسلام ، في قوله سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ
جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها) ، حيث سئل : ما ذنب الغير؟
__________________
قال : ويحك ، هي
هي ، وهي غيرها ، فافهم ، واغتنم ، فإنّ هذا من الأسرار الكثيرة المنافع
والفوائد ، اختصّ بتحقيقه أستاذنا ـ سلمه الله ـ وينفعك في كثير من الأمور الدينية
، إن شاء الله.
وصل
ومن البراهين على
تجرّد النفس عن البدن ، واستقلالها : أنا نغيب أحيانا عن أعضائنا ، كلا ، أو كلّ
واحد في وقت ، ولا نغيب عن ذاتنا ، فنحن وراء الجميع.
وأيضا إن إدراك
الشيء لما كان عبارة عن حصول صورته للمدرك ، فكلّ من أدرك ذاته يجب أن يكون مفارقا
عن المحل ؛ إذ لو كان في محل لكانت صورة ذاته غير حاصلة لذاته ، بل لمحلّه ، كما
مرّ بيانه مفصّلا في الأصول.
وأيضا إنا ندرك
ذاتنا بذاتنا ؛ لأنّا لا تعزب عنّا ذاتنا ، وأمّا شعورنا بشعور ذاتنا فقد وقد ؛ إذ
ليس هو نفس وجودنا ، فهو كإدراكنا سائر الأشياء المدركة من خارج ، وأمّا سبب الشك
في جوهرية النفس وسائر أحوالها مع حضور ذاتها ، فذلك لأنّ الجوهرية ونحوها ليست
بجزء لوجود النفس وإنّيتها ، بل لماهيتها الكلية ، والحاضر عندنا من أنفسنا إنّما
هي وجوداتنا المشار إليها بأنا ، لا ماهياتنا الكلية المذهولة عنها أحيانا.
وأيضا لو فرضنا
ذاتنا في أوّل الخلقة كامل العقل صحيح البدن في هواء طلق منفرج الأعضاء ، غير
متلامسها ، ولم نكن مستعملي الحسّ في شيء أصلا ، وجدنا ذاتنا فاقدة لكلّ شيء إلّا
نفسها فوجدناها لا من دليل ووسط ، فذاتنا غير ما لم يدرك بعد من جسم ، أو عرض.
__________________
وصل
ومن البراهين : أن
كلّ صورة أو صفة حصلت في الجسم بسبب ، فإذا زالت عنه وبقي فارغا عنها يحتاج في
استحصالها إلى استئناف سبب ، أو سببية ، من غير أن يكون مكتفيا بذاته ؛ إذ ليس هذا
من شأن الجسم ، ومن شأن النفس في الصور العلمية أن قد تصير بعد استحصالها من معلّم
، أو فكر ، مكتفية بذاتها في استرجاعها ، فتعالت عن أن تكون جرمية ، فهي روحانية.
وأيضا إن كلّ جوهر
مادي لا يمكن أن تجتمع فيه صور كثيرة فوق واحدة ، وأمّا النفس فتجتمع فيها علوم
شتى ، وصنائع تترى ، وأخلاق مختلفة ، وأغراض متفاوتة ، فهي ـ إذن ـ دفتر روحاني ،
ولوح ملكوتي.
وأيضا إنها تدرك
أشياء يمتنع وجودها في الجسم ، كالضدّين معا ، والعدم والملكة معا ، ولوجود مثل
هذه الأمور في النفس يمكننا أن نحكم بأن لا وجود لشيء منها في الأجسام ، ولنا أن
ندرك أيضا الوحدة المطلقة ، والمعنى البسيط العقلي ، ومعلوم أن كلّ ما في الجسم
فهو منقسم ، وكذلك ندرك الحركة والزمان ، واللانهاية ، ممّا استحال أن تكون له
صورة في الموادّ.
وصل
ومن الشواهد : أنك
مع شواغلك إذا فكّرت في آلاء الله ، أو سمعت آية تشير إلى الأمور الإلهية ، وأحوال
المآب ، أنظر كيف يقشعّر جلدك ، ويقف شعرك ، ويهون عليك ـ حينئذ ـ رفض البدن ،
وقواه ، وهوسه ، وهواه ؛ وذلك لأجل نور
قذف في قلبك من
الجنبة العالية ، وانعكس أثره إلى ظاهر جلدك من جهة الباطن ، على عكس ما ينفعل
الداخل من الخارج ، فباطنك غير ظاهرك.
وأيضا إذا أردت أن
تتوجّه إلى تكميل جوهرك ، وتفعل فعلك الخاص من تعقّل النظريات ، أو إخلاص نيّة في
التقرّب إلى الله سبحانه ، أو امتناع عن مخالطة الشهوات ، والوساوس المفسدة ، لم
يتيسّر لك ذلك إلّا بمجاهدة تامة ، ومغالبة عظيمة ، فالجوهر النطقي منك من عالم
آخر ، وقع غريبا في دار الجسد ، بيد الظلمة ، والفسقة ، والكفرة ، من القوى
الشهوية ، والغضبية ، والوهمية.
وأيضا النفس
والبدن ـ كما ترى ـ يتعاكسان في القوّة والضعف ، فبعد الأربعين تكمل النفس ، وتكلّ
الآلة ، فكلال البدن ليس منشؤه إلّا فعلية النفس ، وتفرّدها بذاتها.
وأمّا انحرافه عند
الهرم بسبب قلة الحرارة ؛ فذلك لأنّ حاجة النفس إلى مزيد التدبير تمنعها عن جودة
التعقّل.
بل نقول : لو كان
التعقّل بآلة بدنية لكان كلما عرضت لها آفة وكلال عرض فيه فتور، وإذ ليس هذا كلّيا
، فليس التعقّل بآلة.
وأيضا كلّ من له
أدنى رتبة في التحدس والتفطّن ورجع إلى ذاته وشاهد ما فعلته المتخيّلة الّتي هي
إحدى قواه في إنشاء ماهيات الأبعاد والأجرام ، والتصرّف في الجبال الشاهقة ،
والصحاري الواسعة ، والأفلاك المتحركة والساكنة ، والكواكب تارة بالتركيب والتفصيل
، وتارة بالتسكين والتحويل ، لتحدس يقينا أن نفسه العلّامة الفعّالة في عظائم
الأجرام ، ودقائق المعاني وكلّياتها ، ليست جسما ، ولا جسمانيا ، وليس الأمر كما
ظن أن الصور الّتي تدركها النفس إنّما هي في عالم خارج عنها ، منفصل ، ثابت بتأثير
مؤثر غيرها.
كيف ومن جملة ما
يحضره الإنسان في باطنه صور مستهجنة من قبيل الدعابات الشيطانية ، وأضغاث الأحلام
المخالفة لفعل الحكيم الّتي ليس منشؤها إلّا اعوجاج شيطان المتخيّلة ، والعوالي
منزّهة عن إنشاء تلك الهذيانات.
وأيضا إنها إنّما
تبقى بإبقاء النفس إيّاها واستخدامها المتخيّلة في تصويرها وثبتها ، فإذا أعرضت
عنها انعدمت وزالت ، لا أنها مستمرة الوجود ، وهذا ظاهر بحمد الله.
وصل
ومن الآيات
القرآنية قوله تعالى : (وَلا تَحْسَبَنَّ
الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ) .
وقوله سبحانه في
حق آدم : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) ، وفي حق عيسى : (وَكَلِمَتُهُ
أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) ، وهذه الإضافة تؤذن على شرف النفس ، وكونها عرية عن عالم
الأجرام.
وقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) ، وقوله تعالى : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) ، والرجوع يدلّ على السابقة ، إلى غير ذلك.
__________________
ومن الأحاديث
النبوية ، قوله صلىاللهعليهوآله : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه» ، وقوله: «أعرفكم بنفسه أعرفكم بربّه» ، وقوله : «أنا النذير العريان» ، وقوله : «أبيت عند ربّي يطعمي ويسقيني» ، إلى غير ذلك ، وهي كثيرة.
فصل
إنك بعد ما سمعت
هذه الدلائل والكلمات ، والتي أسلفناها من قبل ، لا أظنك إلّا متحدّسا ، ومتحقّقا
بأن النفس ليست مفارقة عن البدن كلّ المفارقة ، بحيث لا تكون لها جهة اتحاد معه
أصلا ، بل هذا التجرّد الّذي أثبتناه لها إنّما هو لمرتبة من مراتبها المسماة
بالقوّة المتخيّلة ، أو العاقلة ، إن كانت لها عاقلة ، وكلتاهما مرتبة غيبتها عن
البدن ، وقواه فإنّها ذات مراتب ودرجات ، ولها انتقالات ، وتنزّلات إلى درجة القوى
والآلات من غير نقص يلحقها ، فإنّ البدن كظل لنورها ، لا استقلال له في الوجود ،
كما لا استقلال له في الحركة الإرادية.
وأمّا ما يتحرك
بالحركة الطبيعية عند السقوط من السطح فهو بالحقيقة خارج عن البدن ، من حيث هو بدن
، فإنّ للبدن الحقيقي لطيفة جسمانية حارّة ، هي تتصرّف فيه أولا وبالذات ، وهذا
الكثيف كأنه قشر لذلك ، كما مرّ بيانه مفصلا.
فمن جسّم النفس
الإنسانية ـ كأتباع جالينوس ـ فما عرفها ، ومن
__________________
جرّدها بالكلية من
غير تجسيم أصلا ، فنظر إليها بالعين العوراء ـ كالرهابين المعطّلين لها عن عالم
التحريك والتدبير ـ فما رعوها حق رعايتها ، والكامل المحقّق من له عين صحيحة هي
مجمع النورين ، فلا يعطل بصيرته عن إدراك النشأتين ، فيعرف سرّ العالمين ، ويعلم
أنها مع كونها من الملكوت ، متحدة بالبدن اتحادا حقيقيا ، وأن لها وحدة جمعية هي
ظل الوحدة الإلهية ، فهي بذاتها قوّة حيوانية حساسة ، ومتخيّلة ، وذات رجوع ما إلى
القدس ، وهي بعينها ذات حركة إرادية ، وذات اغتذاء ، ونموّ ، وحافظة لصورته
النوعية ، وهي بعينها طبيعة سارية في الجسم ، وبنفسها تنزل إلى درجة الحواسّ عند
إدراكها المحسوسات واستعمالها آلة الحواس ، فتصير عند الإبصار عينا باصرة ، وعند
السماع أذنا واعية ، وكذلك في البواقي حتّى اللمس والقوى الّتي تباشر التحريك ،
فلها تقدّس عن المواد ، بحسب وجودها الخيالي ، الّذي هو مرتبة غيب غيوبها ، ولها
اتحاد بقواها وآلاتها ، فتصير تارة غائبة عن ذاتها ، وتارة راجعة إليها وإلى
بارئها ، وتارة مصروفة عن جهة القدس إلى جانب البدن ، وذلك كله للطافتها وقبولها
لآثار الجوانب ، كما قيل :
لقد صار قلبي
قابلا كلّ صورة
|
|
فمرعى لغزلان
وديرا لرهبان
|
كذا أفاد أستاذنا ـ مدّ ظلّه ـ.
__________________
فصل
روي عن كميل بن
زياد ، أنه قال : سألت مولانا أمير المؤمنين عليا عليه الصلاة والسلام ، فقلت : يا
أمير المؤمنين ، أريد أن تعرّفني نفسي ، قال : يا كميل ، وأي الأنفس تريد أن أعرفك؟
قلت : يا مولاي ، هل هي إلّا نفس واحدة ، قال : يا كميل ، إنّما هي أربعة :
النامية النباتية ، والحسّية الحيوانية ، والناطقة القدسية ، والكلية الإلهية ،
ولكلّ واحدة من هذه خمس قوى ، وخاصيتان.
فالنامية النباتية
لها خمس قوى : ماسكة ، وجاذبة ، وهاضمة ، ودافعة ، ومربّية ، ولها خاصيّتان :
الزيادة ، والنقصان ، وانبعاثها من الكبد.
والحسّية
الحيوانية لها خمس قوى : سمع ، وبصر ، وشم ، وذوق ، ولمس ، ولها خاصّيتان : الرضا
، والغضب ، وانبعاثها من القلب.
والناطقة القدسية
لها خمس قوى : فكر ، وذكر ، وعلم ، وحلم ، ونباهة ، وليس لها انبعاث ، وهي أشبه
الأشياء بالنفوس الملكيّة ، ولها خاصّيتان : النزاهة ، والحكمة.
والكلية الإلهية
لها خمس قوى : بقاء في فناء ، ونعيم في شقاء ، وعزّ في ذل ، وفقر في غناء ، وصبر
في بلاء ، ولها خاصّيتان : الرضا ، والتسليم ، وهذه الّتي مبدؤها من الله ، وإليه
تعود ، قال الله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) ، وقال تعالى : (يا أَيَّتُهَا
النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ،
__________________
والعقل وسط الكل .
وصل
النفسان الأوليان
ـ في كلامه عليهالسلام ـ مختصتان بالجهة الحيوانية ، الّتي في محل اللذّة والألم
، في الدنيا والآخرة ، والأخيرتان بالجهة الإنسانية ، الّتي سنذكرها ، وهما
سعيدتان في النشأة الأخروية ، وسيّما الأخيرة ، فإنّها لا حظّ لها من الشقاء
الأخروي ؛ لأنها ليست من عالم الشقاء ، بل هي منفوخة من روح الله ، فلا يتطرّق
إليها ألم هناك من وجه ، وليست هي موجودة في أكثر الناس ، بل ربما لم يبلغ من ألوف
كثيرة واحد إليها ، وكذلك الأعضاء والجوارح بمعزل عن اللذة والألم.
ألا ترى إلى
المريض إذا نام وهو حيّ ، والحسّ عنده موجود ، والجرح الذي يتألّم به في يقظته
موجود في العضو ، ومع هذا لا يجد ألما ؛ لأنّ الواجد للألم قد صرف وجهه عن عالم
الشهادة إلى البرزخ ، فما عنده خبر ، فإذا استيقظ المريض ، أي رجع إلى عالم
الشهادة ، ونزل منزل الحواس ، قامت به الأوجاع والآلام ، فإن كان في البرزخ في ألم
، كما في رؤيا مفزعة مؤلمة ، أو في لذّة ، كما في رؤيا حسنة ملذّة ، انتقل معه
الألم واللذّة حيث انتقل ، وكذلك حاله في الآخرة.
__________________
فصل
قد ظهر من تضاعيف
ما ذكر أن النفس ـ بما هي نفس ـ لها وجود في نفسها لنفسها ، وقد تمّ وجودها ذلك ،
ثمّ عرض لها أن تتصرف في جسم من الأجسام ، تدبّره ، وتحرّكه ، وتغذّيه ، كمن تصرف
في بناء ، أو غرس شجرة ، فيكمله ويستكمل به ، إكمالا واستكمالا عرضيين ، خارجين عن
هوية ذاته ، كما ظن ، بل إنها ما دامت هي نفس لها وجود ذاتي ، مفتقرة إلى إضافته
إلى البدن ، متقوّمة بحسب قواها الحسّية والطبيعية به.
وتصرفها فيه هو
بعينه نحو موجوديّتها من هذه الحيثية ، كما أن حلول العرض كالبياض في محله هو نحو
وجوده ، فزوال تصرّفها فيه هو بعينه زوال وجودها في نفسها ، من حيث هي نفس ، وإن
كانت باقية من حيث إنها جوهر آخر أرفع وأقوى ببقاء بارئها ، ومفيض وجودها ، كما
أنها قبل بلوغها إلى درجة النفسية كانت شيئا أضعف ، وأخسّ وجودا من النفس ،
فللنفوس نشآت سابقة ولاحقة ، واستكمالات جوهرية ، وتقلبات ، ولها جهة استمرار وجهة
تجدد ؛ لتعلّقها بالطرفين ـ العقل والمادّة العنصرية ـ وكلّ من رجع إلى وجدانه وجد
أنّ هذه الهوية الحالية منه غير هويّته الماضية ، لا بمجرد اختلاف العوارض ، بل
باختلاف أطوار لذات واحدة.
وإلى هذه
التقلّبات والأطوار أشير في القرآن المجيد بقوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) .
__________________
وقد شبّهوا مراتب
آثار العقل في النبات والحيوان والإنسان ، بنار تأثر عنه فحم بالحرارة وآخر
بالتحمّر ، وآخر بالإضاءة والإحراق ، فيفعل فعل النار ، وفعل الأولين ، وكلما وقع
له الاشتداد صدر عنه ما كان يصدر ممّا تقدّم عليه.
فصل
وممّا ذكر ظهر
بطلان التناسخ ، بمعنى انتقال نفس من بدن إلى بدن مباين له ، منفصل عنه في هذه
النشأة ، بأن يموت حيوان وتنتقل نفسه إلى حيوان آخر ، أو غير الحيوان ، سواء كان
من الأخسّ إلى الأشرف ، ويسمى بالنقل الصعودي ، أو بالعكس ، ويسمى بالنقل النزولي
؛ وذلك لأنّ النفس متى ترقّت شيئا فشيئا حسب استكمالات المادّة حتّى تجاوزت درجة
الطبيعة والنبات والحيوان ، وحصلت لها بإزاء كلّ استعداد فعلية خاصة ، فيستحيل أن
ترجع تارة أخرى إلى القوّة المحضة ، والاستعداد الأنزل ، فإنه من المحال أن تتعلق
نفس جاوزت درجة النبات والحيوان إلى مادّة المني ، أو الجنين ، وقد علمت أن المني
لم تتجاوز صورته حد الطبيعة الجرمية ، وأن الجنين ما دام في الرحم لم تتجاوز صورته
درجة النفس النباتية ، والتمنّي الّذي حكى الله سبحانه عن الأشقياء ، بقوله : (يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) ، تمنّي أمر مستحيل الوقوع ، وكذا قوله : (أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ) ، فقد حرّم الله الرجوع إلى الدنيا ، كما قال سبحانه :
__________________
(وَحَرامٌ عَلى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) ، على أن يكون «أنهم» استئنافا قائما مقام الرجوع ، كما دل
عليه كلام لأمير المؤمنين عليهالسلام .
ثم هذه
الاستكمالات والترقّيات للنفس الّتي يبطل بها التناسخ ، هي بعينها ضرب من التناسخ
حقّ ، وعليها يحمل النقل الصعودي المنقول عن الأقدمين ، كما يحمل النقل النزولي
على انتقال النفس من هذا البدن إلى بدن أخروي ، مناسب لصفاتها ، وأخلاقها المكتسبة
في الدنيا ، كما مرّت الإشارة إليه من أن النفس في الآخرة تظهر بصورة ما ، غلبت
عليها صفاته من الحيوانات ، والشياطين ، وعليه أيضا تحمل الآيات والأخبار الّتي
تشبّث بها أصحاب هذا الرأي السخيف.
قال في الفتوحات ـ
بعد ما ذكر أحوال الصور وشكل القرآن ـ : ومن هنا زلّ القائلون بالتناسخ ، لما رأوا
وسمعوا أن الأنبياء قد نبّهوا على انتقال الروح إلى هذه الصور البرزخية ، وتكون
فيها على صور أخلاقها ، ورأوا تلك الأرواح في الحيوانات ، تخيّلوا في قول الأنبياء
والرسل عليهمالسلام ، والعلماء ، أن ذلك راجع إلى هذه الحيوانات الّتي في دار
الدنيا ، وأنها ترجع إلى التخليص ، وذكروا ما علمت من مذهبهم فأخطأوا في النظر
والتأويل جميعا. انتهى .
وهذا الانتقال
يكون للنفس وهي في الدنيا بعد ، ويسمى مسخا ، وهو على قسمين:
أحدهما : مسخ
الباطن من غير أن تظهر صورته في الظاهر ، فترى الصور
__________________
أناسي ، وفي
الباطن غير تلك الصور ، بل صور أخرى على حسب نيّاتهم وأعمالهم المتكررة الموجبة
لحصول ملكات نفسانية ، تصدر عنهم بسببها الأفعال المناسبة لها بسهولة ، من صورة
ملك ، أو شيطان ، أو كلب ، أو خنزير ، أو غير ذلك من حيوان مناسب لما يكون الباطن
عليه.
وإليه أشار نبينا صلىاللهعليهوآله ، حيث قال في صفة قوم من أمته : «إخوان العلانية ، أعداء
السريرة ، ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم قلوب الذئاب ، يلبسون للناس جلود الضأن
، من اللين». الحديث .
وأصحاب البصائر
يرون تلك الصور في الدنيا أيضا ، يعرفون كلا بسيماهم ، ولقد كثر هذا في زماننا ،
فجلّهم ـ إذا فكّرت فيهم ـ حمير ، أو كلاب ، أو ذئاب.
وفي تفسير الإمام
أبي محمّد العسكري عليهالسلام : قال علي بن الحسين عليهماالسلام وهو واقف بعرفات للزهري : كم تقدر هاهنا من الناس؟ قال :
قدر أربعة ألف ألف وخمسمائة ألف ، كلهم حجّاج ، قصدوا الله بآمالهم ، ويدعونه
بضجيج أصواتهم ، فقال له : يا زهري ، أدن لي وجهك ، فأدناه إليه ، فمسح بيده وجهه
، ثمّ قال : أنظر ، فنظر إلى الناس ، قال الزهري : رأيت أولئك الخلق كلّهم قردة ،
لا أرى فيهم إنسانا إلّا في كلّ عشرة آلاف واحدا من الناس ، ثمّ قال : أدن يا زهري
، فدنوت منه ، فمسح بيده وجهي ، ثمّ قال : أنظر ، فنظرت إلى الناس ، قال الزهري :
فرأيت أولئك الخلق كلهم ذئبة ، إلّا تلك الخصائص من الناس نفرا يسيرا ، فقلت :
بأبي أنت وأمي يابن رسول الله ، قد دهشتني آياتك ، وحيّرتني عجائبك ، قال : يا
زهري ، وما الحجيج من هؤلاء إلّا النفر اليسير الّذين رأيتهم من هذا الخلق الجمّ
الغفير ،
__________________
ثمّ قال لي : امسح
يدك على وجهك ، ففعلت ، فعاد أولئك الخلق في عيني ناسا ، كما كانوا أولا ، ثمّ قال
: من حجّ ووالى موالينا ، وهجر معادينا ، ووطن نفسه على طاعتنا ، ثمّ حضر هذا
الموقف مسلما إلى الحجر الأسود ، وما قلّده الله من آياتنا ، ووافيا بما ألزمه من عهودنا ، فذلك هو الحاج ، والباقون
من رأيتهم ، يا زهري .
والقسم الثاني :
مسخ الباطن ، وانقلاب الظاهر من صورته الّتي كانت إلى صورة ما ينقلب إليه الباطن ؛
لغلبة القوّة النفسانية ، حتّى صار تغير المزاج والهيئة على شكل ما هو على صفته ،
من حيوان آخر ، وهذا إنما يقع في قوم غلبت نفوسهم ، وضعفت عقولهم.
وقد وقع في بني
إسرائيل ، كما قال سبحانه : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ
الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ) ، وقال : (كُونُوا قِرَدَةً
خاسِئِينَ) .
فقد ظهر أن التناسخ
باطل ، إلّا إذا أريد به أحد ثلاث معان : إمّا الاستكمالات الّتي للنفس في هذه
النشأة على مادّة واحدة ، وإما انتقالها من هذا البدن العنصري إلى بدن آخر أخروي
من غير مسخ لصورتها الظاهرة ، وإما انتقالها هذا مع مسخ صورتها الظاهرة أيضا.
ومن هنا قيل : ما
من مذهب إلّا وللتناسخ فيه قدم راسخ.
وقد تبين ممّا ذكر
أن النفوس الإنسانية بحسب أوّل حدوثها صورة نوع
__________________
واحد هو الإنسان ،
ثمّ إذا أخرجت من القوّة إلى الفعل تصير أنواعا كثيرة من أجناس الملائكة ،
والشياطين ، والسباع ، والبهائم ، بحسب نشأة ثانية ، أو ثالثة ، فلها بعد البدن
المادي اختلافات جنسية ، ونوعية ، وشخصية ، بحسب تجوهرها وفعليتها.
ومن هنا قال
مولانا الصادق عليهالسلام : «الإنس على ثلاثة أجزاء ، فجزء تحت ظلّ العرش ، يوم لا
ظلّ إلّا ظلّه ، وجزء عليهم الحساب والعذاب ، وجزء وجوههم وجوه الآدميين وقلوبهم
قلوب الشياطين» .
وتبيّن أيضا أن
النفوس آمنة من الفساد عند حادثة موت الأجساد ، ولا يتغيّر أصل الذات عند فقد
الآلات.
__________________
في الإنسان بما هو إنسان
(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى
رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ)
فصل
المركب العنصري
لما استوفى درجات المعدن والنبات والحيوان ـ بما هو حيوان ـ وصفى مزاجه ، وقرب من
الاعتدال جدا ، تخطّى خطوة أخرى إلى جانب القدس إن كان من أهل السلوك إلى الله ،
على صراط الله ، بأن يكون ناقصا ، ضعيف الفعلية ، كبعض الصبيان من أهل الذكاء ،
والاستقامة ، فمن تكون لهم نفوس حيوانية ضعيفة ، ولم يصيروا أناسا بعد فيتقرّب إلى
الله سبحانه بالتوجه إليه توجّها طبيعيا ، فيتقرّب الله إليه ضعف تقرّبه ، كما هو
سنّته تعالى ، فيفيد له صورة كمالية ناطقة ، بأن يبدّل صورته الناقصة بصورة كاملة
ذات نفس ملكوتية ناطقة ، مستخدمة لسائر القوى النباتية والحيوانية ، فيصدر عنها
ببساطتها كلّ ما يصدر من النبات والحيوان ، بما هو حيوان ، وتزيد عليه بأفعال
مختصّة بها ، فيوكّل الله تعالى بها ـ مع تلك الملائكة الّتي كانت له أولا ـ ملائكة
أخرى ، أرفع درجة منهم ، بها يدرك الكليات مجردة عن المواد أصلا ، إدراكا زائدا
على إدراك سائر الناس ، وتحصل له ملكة المراجعة إلى عالم القدس ، والتوصل إلى
__________________
معرفة حقائق
الأمور من هناك ، أو بالفكر والرويّة ، باقتناص المجهولات العقلية من المعلومات ،
وهذا هو الإنسان بما هو إنسان.
وإليه أشار مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام ، فيما يروى أن بعض اليهود اجتاز بهعليهالسلام وهو يتكلّم مع جماعة ، فقال له : يابن أبي طالب ، لو أنك
تعلّمت الفلسفة لكان يكون منك شأن من الشأن ، فقال عليهالسلام : وما تعني بالفلسفة؟ أليس من اعتدلت طباعه صفا مزاجه ،
ومن صفا مزاجه قوي أثر النفس فيه ، ومن قوي أثر النفس فيه سما إلى ما يرتقيه ، ومن
سما إلى ما يرتقيه فقد تخلّق بالأخلاق النفسانية ، ومن تخلّق بالأخلاق النفسانية
فقد صار موجودا بما هو إنسان دون أن يكون موجودا بما هو حيوان ، فقد دخل في الباب
الملكي الصوري ، وليس له عن هذه الغاية مغيّر ، فقال اليهودي : الله أكبر يابن أبي طالب ، لقد نطقت
بالفلسفة جميعها ، في هذه الكلمات ، رضي الله عنك .
فصل
ومن البراهين على
تجرّد نفسه الناطقة ـ سوى ما أسلفناه ـ إدراكه للكليات المحضة ، وتجريده المعاني
عن المواد بالكلية ، على نحو ما قرّرناه في تجرّد القوّة المتخيّلة ؛ لتجريدها
الصور عن المواد ، بل المعاني أشد تجرّدا ، وكلّ إدراك ونيل فبضرب من التجريد ،
إلّا أن الحس يجرّد الصور عن المادة ، بشرط حضور المادة ، والخيال يجرّدها عنها
وعن بعض غواشيها ، والوهم يجرّدها عن
__________________
الكلّ ، مع إضافة
ما إلى المادة ، والناطقة ينالها مطلقة فتفعل في المحسوس عملا تجعله معقولا.
فصل
ثم إن للإنسان
تصرّفا في أمور جزئية ، وتصرّفا في أمور كلية ، والثاني فيه اعتقاد فقط، من غير أن
يصير سببا لفعل دون فعل ، إلّا بضم آراء جزئية ، فإذا حصل الرأي الجزئي تتبع
القوّة المروّية قوى أخرى في أفعالها البدنية ، من الحركات الاختيارية ، أولها
الشوقية الباعثة ، وأخيرتها الفاعلة المحرّكة للعضلات بالمباشرة ، وكلّ هذه تستمدّ
في الابتداء من القوّة المتصرّفة في الكليات بإعطاء القوانين ، وكبريات القياس ،
فيما يروّي كما يستمد من الّتي بعدها في صغريات القياس ، والنتيجة الجزئية.
وصل
فللنفس الإنسانية
في ذاتها ـ باعتبار ما يخصّها من القبول عما فوقها والفعل فيما دونها ـ قوّتان :
علّامة ، وفعّالة.
فبالأولى يدرك
التصورات والتصديقات ، ويعتقد الحقّ والباطل ، فيما يعقل ويدرك ، ويسمى بالعقل
النظري.
وبالثانية يستنبط
الصناعات الإنسانية ، ويعتقد الجميل والقبيح ، فيما يفعل ويترك ، ويسمى بالعقل
العملي ، وهي الّتي تستعمل الفكر والرويّة في الأفعال والصنائع ، مختارة للخير ،
أو ما يظن خيرا ، ولها الجربزة والبلاهة والتوسط
بينهما ، المسمى
بالحكمة ، وهي من الأخلاق ، لا من العلوم المنقسمة إلى الحكمتين : العملية
والنظرية ؛ لأنها ـ وخصوصا الأخيرة منهما ـ كلما كانت أكثر كانت أفضل ، وهذه
القوّة خادمة للنظرية ، مستمدة بها في كثير من الأمور.
وصل
وعن صاحبة هاتين
القوّتين عبّر مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام في حديث كميل السابق : بالناطقة القدسية ، حيث جعل قواها الفكر ، والذكر ،
والعلم ، والحلم ، والنباهة ، وخاصّيّتها النزاهة ، والحكمة ، فإنّ بعض ذلك إشارة
إلى النظرية ، والبعض الآخر إلى العملية ، وكلّ ما ورد في الأخبار من مدح العقل
والعاقل فهو راجع إليهما ، وإلى صاحبهما ، كقول مولانا الصادق عليهالسلام : «العقل دليل المؤمن» .
وفي الحديث القدسي
: «ما خلقت خلقا أحسن منك ، إياك آمر ، وإياك أنهى ، وإياك أثيب ، وإياك أعاقب» .
وعن أمير المؤمنين
عليهالسلام : «بالعقل استخرج غور الحكمة ، وبالحكمة استخرج غور العقل
، وبحسن السياسة يكون الأدب الصالح» .
وكان عليهالسلام يقول : «التفكر حياة قلب البصير ، كما يمشي الماشي في
__________________
الظلمات بالنور
بحسن التخلّص ، وقلّة التربّص» .
إلى غير ذلك من
الروايات.
فصل
الرأي الكلي إنّما
يكون عند النظري ، والرأي الجزئي عند العملي المعدّ نحو المعمول ، ذاك للصدق
والكذب ، وهذا للخير والشرّ ، هو للواجب والممكن والممتنع ، وهذا للجميل والقبيح
والمباح ، فلهما شدّة وضعف في الفعليات ، ورأي وظن في العقليات ، والعمل يحتاج في
أفعاله كلّها إلى البدن في هذه النشأة إلّا نادرا ، كإصابة العين من بعض النفوس
الشريرة.
وأمّا الأفعال
الخارقة للعادات من المتجرّدين الكاملين ، فهي في مقام أخروي ، كما سيأتي بيانه.
وأمّا النظري فله
حاجة إلى البدن ، وإلى العملي ، ابتداء لا دائما ، بل قد يكتفي بذاته هاهنا ، كما
في النشأة الآخرة ، إن كان من صفّ الأعالي والمقرّبين ، وأمّا إن كان من أصحاب
اليمين ، فمبدأ أفاعيله وتصوراته العقل العملي ، وبه تكون سعادته في الآخرة.
ولكلّ منهما مراتب
أربع في الاستكمال ، نقصّها عليك ، فاستمع.
__________________
فصل
أما النظري فأولى
مراتبها ما يكون للنفس بحسب أصل الفطرة حين استعدادها لجميع المعقولات لخلوها عن
كلّ صورة ، وقبولها لأن تكون فيها ماهية كلّ موجود وصورته ، من غير تعسّر ، وتأبّي
، وامتناع من قبلها ، فإن عسر عليها شيء ، فإما لأنّه في نفسه ممتنع الوجود، أو
كان ضعيف الكون شبيها بالعدم ، أو شديد الوجود قويا يغلب عليها ويقهرها ، ويفعل
بها ما يفعل الضوء الشديد بعين الخفّاش ، ليس إلّا ، فهي في هذه المرتبة في قبولها
للصور العقلية كالمادّة الأولى في قبولها للصور الحسّية ، فهي إذن من حيث الكون
العقلي قوّة محضة ليس لها جوهرية ، ولا قوام بذاتها ، ولا لها إدراك لذاتها ، ولا
لغيرها ، إلّا بالقوّة ؛ إذ الإدراك ـ كما دريت ـ تابع للمدرك ، بل هو عينه من وجه
، وإن كانت هي من حيث الكون الحسّي والخيالي جوهرا قائما بذاته ، مدركا لها ،
وللمحسوسات ، والمتخيّلات ، والموهومات ، بل هي مجردة عن المواد أيضا ، من حيث
الخيال ، كما دريت ، فهي في هذه المرتبة نهاية عالم الجسمانيات ، بل الخياليات
أيضا ، في الكمال الحسّي ، والخيالي ، وبداية عالم الروحانيات في الكمال العقلي.
فإن نظرت إلى
ذاتها في عالمي الحسّ والخيال وجدتها مبدأ جميع القوى الجسمانية ، ومستخدم سائر
الصور الحيوانية ، والنباتية ، والجمادية ، فإنّها من آثارها ولوازمها في هذا
العالم.
وإذا نظرت إليها
في العالم العقلي وجدتها قوّة صرفة ، لا صورة لها عند
سكان ذلك العالم ،
كما قال : (يا أَهْلَ الْكِتابِ
لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ) .
فنسبتها إليه نسبة
البذر إلى الثمرة ، فإنّ البذر بذر بالفعل ، ثمرة بالقوة ، وتسمى النفس عند ذلك
عقلا هيولانيا ، ثمّ تحصل فيها ممّا فوقها بسبب مراجعتها إليه وإدراكها للمعاني
العلمية شعاع عقلي تكون منزلته منها منزلة ضوء الشمس من البصر الّذي هو بدونه باصر
بالقوة ، فيحدث فيها عن رسوم المحسوسات الّتي هي معقولات بالقوة ، وكانت محفوظة في
خزانة المتخيّلة أوائل المعقولات الّتي اشترك فيها جميع الناس من الأوليات ،
والتجربيات ، والمتواترات ، والمقبولات ، وغيرها.
وهذه الصور إذا
حصلت للإنسان يحدث له بالطبع تأمّل ورويّة فيها ، وتشوّق إلى استنباطات ، ونزوع
إلى بعض ما لم يكن تعقّله أولا ، وتسمى النفس عند ذلك عقلا بالملكة ، ثمّ يحصل فيها
ممّا فوقها بسبب كثرة مراجعتها إليها ، وتكرر مطالعتها المعقولات منه مرة بعد أخرى
، واتصالها به كرّة بعد أولى.
وتحصيل الحدود
الوسطى ، واستعمال القياسات والتعاريف ، وخصوصا البراهين والحدود ، نور عقلي ، به
تشاهد المعقولات المكتسبة متى شاءت ، من غير تجشّم ، وتسمى النفس عند ذلك من حيث
إن المعقولات حاصلة لها عقلا بالفعل ، ومن حيث إنها تشاهدها عقلا مستفادا ، وفعلها
الإرادي في هذا الباب ليس إلّا تحصيل الحدود واستعمال البراهين.
وأمّا فيضان النور
العقلي فليس بإرادته ، بل بتأييد من الحقّ سبحانه ، بتوسّط الملك العقلي ، الّذي
هو ربّ نوع الإنسان المسمى في الشرع ب «روح القدس» ، وحال حصول الكمالات النظرية
عند ذلك كحال حصول الأوائل على
__________________
سبيل اللزوم ، بلا
اكتساب ، وكما أن في الفطريات لو سأل سائل : لم كان هذا هكذا؟ لم يكن جواب ، كذلك
هاهنا إذا سأل سائل : لم كان البرهان الصحيح ، والحدّ الصريح ، يوجب علما؟ لم يكن
جواب. فالمقدّمات إنّما هي معدّات ، والواهب غيرها.
ومن هنا قيل : «عرفت
ربّي بربّي ، ولو لا ربّي ما عرفت ربّي».
وفي أدعية أبي عبد
الله الحسين عليهالسلام : «إلهي بك عرفتك ، وبك اهتديت إلى أمرك، ولو لا أنت لم
أدر ما أنت» .
فصل
روى محمّد بن
الحسن الصفّار ، في كتاب بصائر الدرجات ، بأسانيده المتّصلة عن مولانا الصادق عليهالسلام ، أنه سئل : تسألون عن الشيء فلا يكون عندكم علمه؟ قال :
ربما كان ذلك ، قيل : كيف تصنعون؟ قال : يتلقّانا به روح القدس .
وروى عن سيّد
العابدين ، وأبيه الحسين عليهمالسلام ، مثله .
وروى ـ أيضا ـ بسند
صحيح ، عن إبراهيم بن عمر ، قال : قلت لأبي عبد اللهعليهالسلام : أخبرني عن العلم الّذي تعلمونه ، أهو شيء تعلّمونه من
أفواه الرجال بعضكم من بعض ، أو شيء مكتوب عندكم من رسول الله؟ قال : فقال : الأمر
أعظم من ذلك ، أما سمعت قول الله عزوجل في كتابه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ
__________________
رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) ، قال : قلت : بلى ، قال : فلما أعطاه الله تلك الروح علم
بها ، وكذلك هي إذا انتهت إلى عبد علم بها العلم ، والفهم .
وروى الصدوق ،
محمّد بن علي بن بابويه ، في كتاب معاني الأخبار ، عن محمد بن مسلم ، قال : سألت
أبا جعفر عليهالسلام عن قول الله عزوجل : (وَنَفَخْتُ فِيهِ
مِنْ رُوحِي) ، قال : روح اختاره الله ، واصطفاه ، وخلقه ، وأضافه إلى
نفسه ، وفضّله على جميع الأرواح ، فنفخ منه في آدم .
فصل
قال أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ : يشبه أن يكون الإنسان لكونه ذا درجات متفاوتة بدنا ، ونفسا ، صورة ،
ومعنى ، بحسب كلّ وقت ومقام ، واقعا تحت تصرّف صاحب آخر ، وينتقل تخمير طينته
وتربية صورته من يد إلى يد أخرى ، لملائكة الله الموكّلين بأمره من أهل الجبروت ،
وعالم العقل ، ينقلونه بأيديهم إلى أن يتشرّف تخمير طينته بالوقوع في يدي الرحمن،
فالأنسب أن يكون ربّ نوعه المسمى بروح القدس ، أو جبرئيل ، أو روانبخش ، أو غير
ذلك ، مبدأ لجماعة كثيرة غير محصورة من العقول المترتبة الواقعة تحت حيطته
وقاهريته ، نسبته إليها كنسبة الجوهر النطقي من الإنسان إلى بدنه ، وقواه
الحيوانية والنباتية
__________________
والطبيعية ، ويكون
كلّ واحد من تلك العقول مربّيا لنوع من أنواع تلك القوى الكثيرة الغير المحصورة
للإنسان الكامل.
ثم لو فرض أن
إنسانا وقع له الارتقاء إلى مقام فوق مقامات هذه الملائكة ، الّذين كانوا يدبّرون
أمره ويعطونه الحياة والفضيلة ، فيقع عند ذلك في تصرّف ملك آخر فوق هذا المسمى
بالأسامي المذكورة ، وهكذا إلى أن لا تكون واسطة بينه وبين الحقّ ، كما وقع
لنبيّنا ـ صلوات الله عليه وآله ـ في معراجه.
وربما كان الإنسان
حال انسلاخ نفسه عن بدنه والأكوان وترقّيه في طبقات النفوس والعقول متصاعدا مارّا
على العوالم طبقة بعد طبقة ، متّحدا بكلّ عقل ونفس ، اتحادا يفيده الانسلاخ عن
جملة صفاته وأحواله الجزئية ، الّتي كان بكلّ منها تحت تربية عقل من العقول ،
وتصريف مدبّر من المدبّرات ، وهكذا ، حتى يتحدان ، كمل معراجه بالعقل الأوّل ،
فإذا كمل اتحاده بالعقل الأوّل تنسلخ منه جميع صفات الأكوان ، ونقائص الإمكان ،
وهناك يحصل القرب الحقيقي ، ويصحّ له ـ بصفته الوجودية النورية ـ الأخذ عن الله ،
والاستنارة من نوره ، بدون واسطة عقل ، أو نفس ، كما هو شأن نبيّنا ـ عليه وآله
السلام ـ وشأن العقل الأوّل مع الحق.
ثم إذا رجع إلى
مقام البشرية كان كما كان في بعض مقامات القربة قبل الفناء الأخير، مع زيادة سكينة
، ولذلك كان رسول الله صلىاللهعليهوآله يجمع بين الأخذ الأتم عن الله بواسطة العقل الأوّل ،
والنفوس بموجب خاصية حكم إمكانه الباقي منه ، ووجوب كلّ فرد من أفراد العقول
المترتبة طولا وعرضا ، وبين الأخذ عن الله بدون واسطة أصلا ، بحكم وجوبه.
وممّا يؤيّد ذلك
ما أخبره صلىاللهعليهوآله في تفاوت مقاماته ، ودرجات أخذه عن
الله العلوم
والكمالات ، فكان يخبر أحيانا أنه يأخذ عن جبرئيل ، وأن جبرئيل يأخذ عن ميكائيل ،
وميكائيل عن إسرافيل ، وإسرافيل يأخذ عن الله ، ويخبر أحيانا أنه كان يأخذ عن
ميكائيل ، بدون واسطة جبرئيل ، وأخبر أنه كان يلقي إليه أحيانا إسرافيل ، فيأخذ
عنه دون واسطتهما ، وأخذ أحيانا عن الله ، من غير واسطة لأحد من الملائكة ، كما
دلّ عليه قولهصلىاللهعليهوآله : «لي مع الله وقت ، لا يسعني فيه ملك مقرّب ، ولا نبيّ
مرسل» .
وإن شئت أن تعرف
معنى تأييد هذا الروح ، وفيضان هذا النور ، وكيفية تحصيل العقل بالفعل ، والرجوع
إلى العالم العقلي ، والاتّصال به ، بل بما فوقه ، حقّ المعرفة فاستمع لما
استفدناه من أستاذنا ـ سلّمه الله ـ وهو من تحقيقاته الشريفة.
فصل
قد دريت أن المدرك
قبل الإدراك مدرك بالقوة ، كما أن مدركه مدرك بالقوة ، وكلاهما إنّما يصيران
بالفعل بعد الإدراك ، والإدراك إنّما يكون باتّحاد ما بالمدرك ، بأن يصير المدرك
صورة ذات المدرك ، فمعنى صيرورة العقل الهيولاني عقلا بالملكة ، أو العقل بالملكة
عقلا بالفعل ، أنه حصلت في الذات العاقلة بالقوّة المعقولات الّتي انتزعتها عن
المواد صائرة معقولات بالفعل ، وقد كانت من قبل أن ينتزع معقولات بالقوة ، كما
كانت تلك الذات عاقلة بالقوة ، فهي الآن صارت صورا لتلك الذات الكاملة ، وتلك
الذات إنّما صارت عقلا بالفعل
__________________
بالتي هي معقولات
بالفعل.
وكلّ معقول بالفعل
هو عقل وعاقل بالفعل ؛ لأنّه موجود صوري لا تخالطه غواش مادية ، وعوارض ظلمانية
ساترة لوجهها ، حتّى تحتاج في معقوليّتها لذاتها إلى عمل عامل ، وإلى تعرية معرّ ،
وتجريد مجرّد إياها ، فلا يفارق كون الشيء معقولا بالفعل كونه عاقلا بالفعل، ولا
كونه هذا المعقول ؛ لأن نحو وجوده الخارجي نحو معقوليته وعاقليّته ، فمعنى كون
النفس عاقلة بالفعل ليس هو ، غير أن المعقولات صارت صورا لها ، على أنها صارت
بعينها تلك الصور ، والمعقولات الّتي كانت بالقوّة معقولات ، فهي من قبل أن تصير
معقولة بالفعل، ليس وجودها هذا الوجود العقلي ، بل كان وجودها وجودا حسيّا تابعا
لسائر ما يقترن بها ، فهي مرّة من باب الأين ، ومرة من باب الحركة والانتقال ، ومرة
من مقولة متى ، ومرة ذات وضع ، إلى غير ذلك من مقولات الأجناس المختلفة.
وإذا حصلت معقولات
بالفعل ارتفع عنها كثير من تلك المعاني ، وصار وجودها وجودا آخر ، ويفهم معانيها
على غير المفهوم منها أوّلا.
مثال ذلك : الأين
، فإنّ المعقول منه لم تجد فيه شيئا من لوازم الأين في الخارج ، من التزاحم وغيره
، وما من موجود من الموجودات الطبيعية العقلية إلّا ويمكن أن تحصل صورا لتلك الذات
العاقلة ، وكلما حصلت لها صورة تصير هي هو بعينها من غير تفاسد ، فعلى حسب كثرة
المعقولات للذات العاقلة بالفعل يكون وفور جمعيّتها وشمولها لتلك المعاني وحصولها
صورا لذاتها ، فبهذا الوجه يمكن القول بصيرورة الذات الأحدية العقلية كلّ الأشياء.
وأيضا فإنّ كلّ
بسيط الحقيقة يجب أن يكون كلّ الأشياء ، وإلّا لكان ذاته
متحصّل القوام من
هوية أمر ، ولا هوية أمر ، فيكون مركبا ولو في العقل ، فما به الشيء هو هو غير ما
به يصدق عليه أنه ليس هو ، فكلما كان الشيء أبسط فهو أحوط للوجود وأشمل ، وبالعكس
، وقد مضى بيان ذلك في مباحث مبدأ الوجود.
وقد ظهر من هذا أن
الوجود النفسي إذا بلغ إلى مقام العقل صار هو هو بعينه ؛ إذ لا تعدد في العقول
إلّا بحسب الأكمل والأنقص ؛ إذ لا تعدد في أفراد نوع واحد إلّا في المادّيات ، فلا
يمكن عقلان في رتبة واحدة من الكون.
وصل
ومن هذا يعلم أنه
إذا فرضت نفوس كثيرة بلغت إلى درجة عقل واحد من العقول ، صارت كلّها عقلا واحدا من
غير تفاسد ، ولا بطلان ، ولا تجدد حال في العقل.
وهذه الوحدة لا
تنافي امتيازها امتيازا عقليا ؛ لشعورها بذاتها ، وبأحوالها ، وهيئاتها المكتسبة
من التعلّق بالأبدان ، وغير ذلك ، وهذا كامتياز كون الإنسان حسّاسا ، ومتخيّلا ،
وعاقلا ، فإنّ هذه الأكوان الثلاثة أكوان إدراكية ، هي عين الشعور ، ويجدها
الإنسان من ذاته ، ويدرك هويّته هوية حسّاسة ، متخيّلة ، عاقلة ، كما يظهر لمن
راجع وجدانه.
وإذا جاز أن يكون
صورة واحدة عقلية في غاية التجرّد صورة مطابقة لأعداد كثيرة من صور جسمانية في
غاية التكثّف ، بحيث يتّحد بها ، فليجز كون صورة واحدة عقلية هي روح القدس ، صورة
مطابقة لنفوس كثيرة إنسية ، يكون
هو منها تمام تلك
الهويات.
ومن تأمّل في
إدراك الحواس وتقوّمها بإدراك الخيال ، والإدراك ضرب من الوجود ، لم يستبعد
اضمحلال الوجود الأضعف في الوجود الأقوى.
وكذا من نظر في
بداية وجود الإنسان ، وترقّياته في الأكوان الجوهرية ، من لدن وجوده الجمادي إلى
أن يبلغ إلى مرتبة العقل النظري ، لم ينكر هذا المطلوب ؛ حيث تحقّق له في كلّ
استكمال جوهري فناء وبقاء ، وخلع ولبس ، غير ما يوجد في المركّبات العنصرية من
الكون والفساد الّذي منشؤه التضاد والتعاند بين الصور المتفاسدة ، بل إنك قد عرفت
أن النفس في مقامها الطبيعي متحدة بالبدن اتحادا حقيقيا ، وفي مقامها الحسّي متحدة
بالحواس، وكذا في سائر مقاماتها ، وقد مضى عليها برهة لم يكن لها شيء من مبادىء
هذه الصفات ، أو أكثرها ، كما قال سبحانه : (هَلْ أَتى عَلَى
الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً) . وسيأتي عليه زمان تنفسخ عنه هذه أو أكثرها ، وهو هو ،
وينقلب إلى أهله مسرورا.
ولمّا جاز أن يكون
وقتا في مقام الحيوانية بحيث لا يعرف غير الأكل والجماع ، والحس والحركة ، ولا
يكون فيه شيء من آثار العقل أصلا ، إلّا قوّة بعيدة ، وقوّة الشيء ليس وجوده ، بل
إمكانه ، ووقتا بحيث يستكمل ويصير عاقلا ومعقولا ، فبالحقيقة صار الكائن حيوانا
كائنا ، ملكا عقليا ، لا بمجرّد المجاز والتشبيه ، أو بمجرّد صفة عارضة ، بل بحركة
ذاتية وانقلاب وجودي من نشأة إلى نشأة ، فليجز مثل ذلك فيما نحن بصدده ، أي فيما
فوق ذلك.
فقد ظهر أن النفس
عند تحصيلها لجميع المعقولات واستحضارها لها ،
__________________
ومشاهدتها إياها ،
تصير بعينها العقل ، ويفنى وجودها في وجود ربّ نوعه العقلي ، المسمى بروح القدس ،
والمعبّر عنه بالنور ، وتبقى ببقائه بعينه.
وسيأتي أن العقول
كلّها فانية في ذات الله سبحانه ، باقية ببقائه تعالى ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم
، فالنفوس الكاملة الفانية أيضا كذلك ، وهذا من الأسرار التي لا يمسّها إلّا
المطهرون ، وهو الفناء في التوحيد ، في اصطلاح الصوفية ، وكأنه المشار إليه بقوله
سبحانه في الحديث القدسي : «ومن قتلته فأنا ديته» ، وما في معناه.
وفي الحديث النبوي
: «لي مع الله وقت ، لا يسعني فيه ملك مقرّب ، ولا نبي مرسل» .
وفي كلام مولانا
أمير المؤمنين عليهالسلام ، في خطبة البيان ، المنسوبة إليه وغيرها ، ممّا ينبّه على مثل هذا المعنى
كثير ، وكذا في كلام سائر أئمتنا المعصومين من أهل البيتعليهمالسلام ، كما روي عنهم بأسانيد معتبرة ، وعسى أن تقف على طرف من
ذلك في مواضع من المباحث الآتية ، إن شاء الله.
وروي عن مولانا
الصادق عليهالسلام ، أنه كان يصلّي في بعض الأيام فخرّ مغشيّا عليه في أثناء
الصلاة ، فسئل بعدها عن سبب غشيته ، فقال : «ما زلت أردد هذه الآية حتّى سمعتها من
قائلها» ، وفي رواية : «من المتكلم بها» .
__________________
وممّا ينسب إلى
مولانا الصادق عليهالسلام ـ أيضا ـ وإن لم أره في كتاب معتمد عليه ، أنه قال : «لنا
حالات مع الله ، وهو فيها نحن ، ونحن فيها هو ، ومع ذلك هو هو ، ونحن نحن».
وفي كلام بعض
الحكماء : ثمّ ترقّيت بذهني من ذلك العالم إلى العوالم الإلهية
والحضرة الربوبية ، فصرت كأني موضوع فيها ، معلّق بها ، فأكون فوق العوالم العقلية.
وأمّا ما في كلمات
الصوفية من ذلك فأكثر من أن يحصى ، وأشهر من أن يخفى.
وصل
وكأنّ إلى مثل هذه
الوحدة أشير في حديث طوبى ، حيث قيل : يا رسول الله ، سألناك عنها ، فقلت : شجرة
أصلها في داري ، وفرعها على أهل الجنة ، ثمّ سألناك عنها ، فقلت : شجرة في الجنة ،
أصلها في دار عليّ ، وفرعها على أهل الجنة ، فقال النبيصلىاللهعليهوآله : إنّ داري ودار علي غدا واحدة ، في مكان واحد .
وروى في كتاب
بصائر الدرجات ، بسند صحيح ، عن سعد ، عن أبي جعفر عليهالسلام ، أنه قال ـ في حديث له ـ : ألا ومن خرج في شهر رمضان من
بيته في سبيل الله ، ونحن سبيل الله الّذي دخل عليه ، فلما طاف بالحصن ، والحصن هو
__________________
الإمام ، وكبّر
عند رؤيته كانت له يوم القيامة صخرة أثقل في ميزانه من السماوات السبع ، والأرضين
السبع ، وما بينهنّ ، وما تحتهن ، قلت : يا أبا جعفر ، وما الميزان؟ قال : إنك قد
ازددت قوّة وبصرا يا سعد ، رسول الله الصخرة ، ونحن الميزان ، وذلك قول الله في
الإمام: (لِيَقُومَ النَّاسُ
بِالْقِسْطِ) ، قال : ومن كبّر بين يدي الإمام قال : لا إله إلّا الله ،
وحده لا شريك له ، كتب الله له رضوانه ، ومن يكتب الله له رضوانه الأكبر يجمع بينه
وبين إبراهيم ، ومحمد ، والمرسلين ، في دار الجلال ، قال : فقلت : وما دار الجلال؟
فقال : نحن الدار ، وذلك قول الله : (تِلْكَ الدَّارُ
الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا
فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، فنحن العاقبة يا سعد ، وأمّا مودّتنا للمتّقين ، فقال
الله تبارك وتعالى : (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، فنحن جلال الله وكرامته الّتي أكرم الله تبارك وتعالى
العباد بطاعتنا .
وعن زيد الشحّام ،
عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : قلت له : أيما أفضل ، الحسن أم الحسين؟ فقال : إنّ
فضل أوّلنا يلحق بفضل آخرنا ، وفضل آخرنا يلحق بفضل أوّلنا ، فكلّ له فضل ، قال :
قلت له : جعلت فداك ، وسّع عليّ في الجواب ، فإني ما سألتك إلّا مرتادا ، فقال :
نحن من شجرة طيّبة ، برأنا الله من طينة واحدة ، فضلنا من الله ، وعلمنا من عند
الله ، ونحن أمناؤه على خلقه ، والدعاة إلى دينه ، والحجّاب فيما بينه وبين خلقه ،
أزيدك يا زيد؟ فقلت : نعم ، فقال : خلقنا واحد ، وعلمنا واحد ، وفضلنا واحد ،
وكلّنا واحد عند الله ، فقلت : أخبرني بعدتكم ، فقال :
__________________
نحن اثنا عشر ،
هكذا حول عرش ربّنا عزوجل ، في مبدأ خلقنا ، أوّلنا محمّد ، وأوسطنا محمّد، وآخرنا
محمّد .
وفي رواية أخرى ،
عنه عليهالسلام : علمنا واحد ، وفضلنا واحد ، ونحن شيء واحد .
وعن الأعمش ، عنه
، عن أبيه ، عن جدّه عليهمالسلام ، قال : قال النبي صلىاللهعليهوآله : ليلة أسري بي إلى السماء ، فبلغت السماء الخامسة ، نظرت
إلى صورة علي بن أبي طالب ، فقلت : حبيبي جبرئيل ، ما هذه الصورة؟ فقال جبرئيل :
يا محمّد ، اشتهت الملائكة أن ينظروا إلى صورة عليّ ، فقالوا : ربّنا إن بني آدم
في دنياهم يتمتعون غدوة وعشية بالنظر إلى علي بن أبي طالب ، أخي حبيبك محمّد ،
وخليفته ، ووصيه ، وأمينه ، فمتّعنا بصورته قدر ما يتمتّع أهل الدنيا به ، فصوّر
لهم صورته من نور قدسه عزوجل ، فعلي عليهالسلام بين أيديهم ليلا ونهارا ، يزورونه ، وينظرون إليه ، غدوة
وعشية.
قال الراوي :
فأخبرني الأعمش ، عن جعفر بن محمّد ، عن أبيه عليهمالسلام ، أنه قال : فلما ضربه اللعين ابن ملجم على رأسه صارت تلك
الضربة في صورته الّتي في السماء ، فالملائكة ينظرون إليه غدوة وعشية ، ويلعنون
قاتله ابن ملجم ، فلما قتل الحسين بن علي ـ صلوات الله عليه ـ هبطت الملائكة
وحملته حتّى أوقفته مع صورة علي في السماء الخامسة ، فكلما هبطت الملائكة من
السماوات من علا ، وصعدت ملائكة سماء الدنيا فمن فوقها إلى السماء الخامسة لزيارة
صورة علي ، والنظر إليه وإلى الحسين بن علي ، يتشحّط بدمه ، لعنوا يزيد ، وابن
زياد ،
__________________
وقاتلي الحسين بن
علي ـ صلوات الله عليه ـ إلى يوم القيامة.
قال الأعمش : قال
لي جعفر بن محمّد الصادق عليهالسلام : هذا من مكنون العلم ومخزونه، لا تخرجه إلّا إلى أهله .
وعن الفضل بن عمر
، قال : قلت لمولانا الصادق عليهالسلام : ما كنتم قبل أن يخلق الله السماوات والأرض؟ قال : كنّا
أنوارا ، نسبّح الله ونقدّسه ، حتّى خلق الله الملائكة ، فقال لهم الله عزوجل : سبّحوا ، فقالوا : أي ربّنا ، لا علم لنا ، فقال لنا : سبّحوا
، فسبّحنا ، فسبّحت الملائكة بتسبيحنا ، إلّا أنا خلقنا أنوارا ، وخلقت شيعتنا من
شعاع ذلك النور ، فلذلك سمّيت شيعة ، فإذا كان يوم القيامة التحقت السفلى بالعليا
، ثمّ قرب ما بين إصبعيه.
وروى الصدوق محمّد
بن علي بن بابويه ، بإسناده المتصل عن مولانا الرضا ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين
، عن رسول الله صلى الله عليهم ـ إلى أن قال : ـ أوّل ما خلق الله عزوجل أرواحنا ، فأنطقنا بتوحيده وتمجيده ، ثمّ خلق الملائكة ،
فلما شاهدوا أرواحنا نورا واحدا ، استعظموا نورنا ، فسبّحنا لنعلم الملائكة أنا
خلق مخلوقون ، وأنه منزّه عن صفاتنا ، فسبّحت الملائكة لتسبيحنا ، ونزّهته عن
صفاتنا ، فلما شاهدوا عظم شأننا ، هلّلنا لتعلم الملائكة أن لا إله إلّا الله .
وروى ابن المغازلي
الشافعي في كتاب المناقب ، عن سلمان ، قال : سمعت حبيبي المصطفى محمّدا صلىاللهعليهوآله ، يقول : كنت أنا وعلي نورا بين يدي الله عزوجل ،
__________________
مطيعا ، يسبّح الله ذلك النور ، ويقدّسه ، قبل أن يخلق آدم
بأربعة عشر ألف عام ، فلما خلق الله تعالى آدم ركّب ذلك النور في صلبه ، فلم نزل
في شيء واحد حتّى افترقنا في صلب عبد المطلب ، فجزء أنا ، وجزء علي .
ونحوه روى أحمد بن
حنبل في مسنده ، وابن أبي ليلى في كتاب الفردوس .
وروى في كتاب منهج
التحقيق إلى سواء الطريق ، عن ابن خالويه ، يرفعه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري
رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله ، يقول : إنّ الله عزوجل خلقني وخلق عليا وفاطمة والحسن والحسين من نور واحد ، فعصر
ذلك النور عصرة فخرج منه شيعتنا ، فسبّحنا فسبّحوا ، وقدّسنا فقدّسوا ، وهلّلنا
فهلّلوا ، ومجّدنا فمجّدوا ، ووحّدنا فوحّدوا ، ثمّ خلق الله السماوات والأرض ،
وخلق الملائكة فمكثت الملائكة مائة عام ، لا تعرف تسبيحا ، ولا تقديسا ، فسبّحنا ،
فسبّحت شيعتنا ، فسبّحت الملائكة ، وكذا في البواقي ، فنحن الموحّدون ، حيث لا
موحّد غيرنا ، وحقيق على الله عزوجل كما اختصّنا وشيعتنا أن يزلفنا وشيعتنا في أعلى علّيين ، إن الله اصطفانا واصطفى شيعتنا
من قبل أن نكون أجساما ، فدعانا ، فأجبناه ، فغفر لنا ولشيعتنا من قبل أن نستغفر
الله عزوجل . والأخبار في هذا المعنى كثيرة.
ولنعد إلى ما كنّا
فيه :
__________________
فصل
وهذه المراتب
الأربع للعقل النظري تعتبر بالقياس إلى كلّ نظري ، فيختلف الحال ؛ إذ قد يكون
بالقياس إلى بعض النظريات في مرتبة العقل الهيولاني ، وفي بعضها عقلا بالملكة ،
وفي بعضها عقلا بالفعل ، وفي بعضها عقلا مستفادا ، فإنّ وحدة النفس طور آخر من
الوحدة ، فكما لا تتأبّى عن الاتصال بأشياء متخالفة الحقائق بأن تكون مع كلّ منها
بحسبه ، ففي مرتبة عقل ، وفي مرتبة خيال ، وفي أخرى حسّ.
وكلّ قوّة درّاكة
فهي من جنس مدركه ، كما دريت ، فكذلك لا يمتنع أن تتصل بشيء من وجه ، ولا تتّصل به
من وجه آخر ، فإنّ ذاتها بمنزلة مرآة كرية ، كلّ قوس منها صارت مصيقلة حاذت بها
شطر الحقّ الّذي يكون فيه كلّ كمال وزينة ، فوقعت فيها صورة مناسبة لها ، يخرج
بحسبها ما بالقوّة من الصور والكمالات والاعتداد في كلّ من هذه الاتصالات بما
استقرّت النفس عليه في آخر الأمر ، والعبرة بما هو الغالب عليها ، والصائر ملكة
لها ، وبه يجري الحكم عليها في النشأة الآخرة ، فإن حصلت لها في الدنيا ملكة
الاتصال بالأمور الدنياوية ، فمآلها إلى الجحيم ، على حسب دركاتها ، وإن حصلت لها
في الدنيا ملكة الاتصال بالخيرات والعقليات ، فمآلها إلى النعيم ، على حسب
درجاتها.
ومنزلة كلّ امرىء
في العلو والسفل على قدر عقله وعلمه ، والناس أبناء ما يحسنون ، و «قيمة كلّ امرىء
ما يحسنه» .
__________________
فصل
وأمّا العقل
العملي فأولى مراتبه تهذيب الظاهر باستعمال الشرائع والتقيّد بقيودها ، والائتمار
بأوامرها ، والانتهاء عن نواهيها ، وفعل النوافل من القيام ، والصيام ، والصدقات ،
والقرابين ، والأعياد ، والجماعات ، وسائر الآداب والسنن.
ثم تهذيب الباطن
عن الملكات الرديئة ، والأخلاق الدنية ، الّتي تظهر في النفس بالتدريج ، بعد
تجاوزها عن أدنى مراتب الحيوانية ، من الشهوة والغضب والحرص والحسد والبخل والعجب
والغرور ، وغير ذلك من الصفات والهيئات التي هي نتائج الاحتجاب والبعد عن معدن
الوجود ، والصفات الكمالية ، وهي الساترة للحق سبحانه ، والزائفة عن صراطه
المستقيم ، فإنّ الإنسان كما أنه مركّب ـ من حيث المادّة البدنية ـ من أمزجة
مختلفة ، وكيفيات متضادّة ، كذلك مركّب من حيث الصورة النفسانية من قوى متخالفة ،
متضادّة ، كقوّة الشهوة ، والغضب ، والوهم ، والعقل ، والشهوة كالبهيمة ، والغضب
كالسبع ، والوهم كالشيطان ، والعقل كالملك ، والناظر بعين البصيرة يرى قوّة الشهوة
بهيمة بالحقيقة ، وكذا يشاهد قوّة الغضب إذا اشتدّت بعينها كلبا عقورا ، وسبعا
ضاريا ، وكذا قوّة الوهم ـ إذا لم تكن في طاعة العقل وتسخيره ـ شيطانا مغويا ؛ لما
دريت أن الحقائق للأشياء هي صورها المعنوية ، لا موادّها الحسية.
فإذا كان في باطن
الإنسان بهائم وسباع وشياطين ، وله حاجة في طريق سلوكه وسفره إلى الله إلى
استخدامها ، فإنّ في فقدها بالكلية خلافا لمصلحة السفر ، وأخذ الزاد ، فلا بد
للعقل أن يسخّرها ويستخدمها ويعامل معها معاملة السلطان العادل مع المردة من رؤساء
مملكته ، ويداريها مداراة الفسوني بالحية
التي يريد أن
ينتفع من ترياقها ، ولا يتضرّر من سمّها المهلك ، ليحصل له حسن الخلق ، وسلامة
القلب ، ليتهيّأ قلبه بذلك لنور المعرفة.
وتسمى هاتان
المرتبتان بالتجلية ـ بالجيم ـ والتخلية ـ بالخاء المعجمة ـ وإليهما أشير بقوله
سبحانه : (وَذَرُوا ظاهِرَ
الْإِثْمِ وَباطِنَهُ) .
وبقول النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ أدنى درجات الإيمان إماطة الأذى عن الطريق» .
ثم تصوير النفس
بالصور القدسية العلمية ، ونقشها بهيئة الوجود على ما هو عليه ، وتحلّيها بالصفات
الحميدة ، والأخلاق المرضية ، من التوبة ، والإنابة ، والصبر ، والشكر ، والرضا ،
والزهد ، الحقيقي ، والتوكّل ، والإنس ، والمحبة ، والتوجّه بالكلية إلى الحق ،
والمواظبة على الطهارة التامة ، والذكر ، والمراقبة ، والمحاسبة ، والوجد ، والسكر
، والوله ، والشوق ، والعشق ، والهيمان ، وغير ذلك من نتائج القرب ، والمعرفة
بالحق سبحانه ، وتسمى هذه المرتبة بالتحلية ، بالحاء المهملة.
ثم بعد ذلك مرتبة
فناء النفس عن ذاتها ، وقصر النظر على ملاحظة الحقّ سبحانه ، وكبريائه ، وآثار
قدرته ، وعلمه ، وإرادته ، وسمعه ، وبصره ، لتأكّد علاقتها معه ، واتصالها به ،
بحيث يصحّ أن يشير إلى مبدئها الحقيقي ، وجاعلها التام ، إشارة روحانية ب «أنا» ،
حين اضمحلال ذاتها ، وخرورها عند اندكاك جبل إنيتها ، وإلى صفاته الّتي هي عين
ذاته، من السمع والبصر والقدرة ، وغيرها ، بأنها سمعي ، وبصري ، وقدرتي ، فبه يبصر
الأشياء ، وبه يسمع ، وبه يقتدر ، كما ورد في
__________________
الحديث القدسي
بأسانيد صحيحة ، من طريقنا ، وطريق العامة : «ما تقرّب العبد إليّ بشيء أفضل ممّا
افترضت عليه ، ولا يزال يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه ، فإذا أحببته كنت سمعه
الّذي يسمع به ، وبصره الّذي يبصر به ، ويده الّتي يبطش بها ، ورجله الّتي يمشي
بها ، فبي يسمع ، وبي يبصر ، وبي يبطش ، وبي يمشي» .
فقد تحقّق لها ـ حينئذ
ـ التخلّق بأخلاق الله بالحقيقة ، لا بمعنى صيرورة صفات الله ـ الّتي هي عين ذاته
ـ أعراضا قائمة بذات النفس ، بل بمعنى علاقة أخرى شديدة ، أتم من علاقة النفس مع
البدن وصفاته الكونية المادية ؛ إذ تلك هي العلاقة الّتي تكون بين الفاعل الحقيقي
ومجعوله ، وهذه علاقة ضعيفة ستقطع بالموت الطبيعي ، أو الإرادي ، ومع هذا يصحّ
للنفس أن تقول مشيرة إلى ذاتها وجوهرها : أنا سمعت ، وبصرت ، واشتهيت ، وتحركت ،
وسكنت ، وغير ذلك من صفات بدنه ، وقواه بحسب الحقيقة ، من غير لزوم تجرم وتكثّف
يعتريها ، فما ظنّك بنفس تجرّدت بالكلية عن البدن ، وعن التعلّق بغير الله ،
واتّصلت به اتصالا معنويا ، لاهوتيا ، وقصرت النظر على ملاحظة جماله ، فتشاهده في
كلّ ما تسمع وترى ، وتلاحظ وجهه في كلّ ما يظهر ويخفى.
قال العلّامة
المحقّق نصير الدين الطوسي رحمهالله ، في شرح الإشارات :
__________________
العارف إذا انقطع
عن نفسه ، واتصل بالحق ، رأى كلّ قدرة مستغرقة في قدرته المتعلقة بجميع المقدورات
، وكلّ علم مستغرقا في علمه الّذي لا يعزب عنه شيء من الموجودات ، وكلّ إرادة مستغرقة
في إرادته الّتي لا يتأبّى عنها شيء من الممكنات ، بل كلّ وجود ، وكلّ كمال وجود،
فهو صادر عنه ، فائض من لدنه ، فصار الحقّ ـ حينئذ ـ بصره الّذي به يبصر ، وسمعه
الّذي به يسمع ، وقدرته الّتي
__________________
بها يفعل ، وعلمه
الّذي به يعلم ، ووجوده الّذي به يوجد ، فصار العارف ـ حينئذ ـ متخلّقا بأخلاق
الله بالحقيقة . هذا كلامه رحمهالله.
وهذه المرتبة هي
نهاية السير إلى الله ، على صراط النفس ، وبعد هذه المراتب الأربع منازل ومراحل
ليست أقلّ من درجات ما قبله ، لكن أؤثر فيها الاختصار ؛ لأنها ـ كما قيل ـ لا
يفهمها الحديث ، ولا تشرحها العبارة ، ولا يكشف المقال عنها ، غير الخيال ، ومن
أحبّ أن يتعرّفها فليتدرّج إلى أن يصير من أهل المشاهدة ، لا المشافهة ، ومن
الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر.
فصل
إذا بلغت النفس
إلى غاية كمالها العقلي ، والعملي ، واستغنت عن الحركات والأفكار تصير قوّتاها ـ النظرية
والعملية ـ قوّة واحدة ، فيصير علمها عملا ، وعملها علما ، كما أن العلم والقدرة
في المجرّدات بالنسبة إلى ما تحتها واحد ، وكذلك تصير كلّها السمع والبصر والقوى
والجوارح ، فتكون عين البدن ؛ لغاية قوّتها ونورانيّتها ، والبدن عين النفس ؛
لغاية صفائه ولطافته.
وإليه أشار من قال
:
رقّ الزجاج
ورقّت الخمر
|
|
فتشابها وتشاكل
الأمر
|
فكأنه خمر ولا
قدح
|
|
وكأنّها قدح ولا
خمر
|
__________________
وذلك لوحدتها
الجمعية الكاملة الّتي حصلت لها عند ذلك ، الّتي هي ظلّ للوحدة الإلهية ، بل هي هي
بعينها من وجه ؛ لفناء النفس ـ حينئذ ـ في الحق ، كذا أفاد أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.
فصل
الإنسان إذا بلغ
إلى هذا المقام يتصرّف في الملك والملكوت ، وتطيعه الموجودات كلّها ، بل تصير
كلّها أجزاء لذاته ، وتكون قوية سارية في الجميع ، كما أشار إليه مولانا الباقرعليهالسلام ، في حديث الأرواح ، بقوله : «فبروح القدس عرفوا ما تحت
العرش إلى ما تحت الثرى» ؛ وذلك لأنّه لم يوجد في الممكنات ما هو أشرف من العقل ،
ولا ما هو أخسّ من المادّة العنصرية ، وهما حاشيتا الوجود ، وقد وجدتا جميعا في
الإنسان الكامل.
ومراتب الوجود
متواصلة ، لا ثلمة فيها ، فالإنسان بوحدته كلّ العالم ، فهو كتاب مشتمل على معاني
كلّ ما في الموجود ، ومن هنا قيل :
ليس على الله
بمستنكر
|
|
أن يجمع العالم
في واحد
|
وقال مولانا أمير
المؤمنين عليهالسلام :
دواؤك فيك وما
تشعر
|
|
وداؤك منك وما
تبصر
|
__________________
وأنت الكتاب
المبين الّذي
|
|
بآياته يظهر
المضمر
|
وتزعم أنك جرم
صغير
|
|
وفيك انطوى
العالم الأكبر
|
وقال مولانا
الصادق عليهالسلام : «إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه ، وهي
الكتاب الّذي كتبه بيده ، وهي الهيكل الّذي بناه بحكمته ، وهي مجموع صور العالمين
، وهي المختصر من العلوم في اللوح المحفوظ ، وهي الشاهد على كلّ غائب ، وهي الحجة
على كلّ جاحد ، وهي الطريق المستقيم إلى كلّ خير ، وهي الصراط الممدود بين الجنة
والنار» .
__________________
في إطاعة الأكوان للإنسان ، لأجل خلافة الله عزوجل
وبيان الخليفة
(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي
الْأَرْضِ)
فصل
قد تبين ـ ممّا
سلف ـ أن الغاية القصوى في إيجاد هذا العالم الكوني ، ومكوناته الحسّية ، هي خلقة
الإنسان ، وغاية خلقة الإنسان ماهية العقل المستفاد ، أي مشاهدة المعقولات
والاتصال بالملأ الأعلى ، والعبودية الذاتية التي هي الفناء في الحقّ الأوّل ،
والخلافة الإلهية ، كما قال سبحانه : (وَما خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
وفي الحديث القدسي
: «خلقت الأشياء لأجلك ، وخلقتك لأجلي» .
وفي حديث آخر : «لولاك
لما خلقت الأفلاك» .
وعن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : «يا علي لو لا نحن ما خلق الله آدم ، ولا
حوّاء ،
__________________
ولا الجنة ، ولا
النار ، ولا السماء ، ولا الأرض» .
فلو لا الخليفة لم
توجد الخليقة ، ولا بدّ أن يكون وجوده مستمرا في جميع الأعصار والدهور ، حتّى يقوم
به الأمر ، ويدوم به النوع ، ويحفظ به البلاد ، ويهتدي به العباد ، ويمسك به
السماوات والأرضون ، وإلّا فيكون الكلّ هباء ، وعبثا ؛ إذ لا يرجع إلى غاية ، ولا
يؤول إلى عاقبة ، ففنيت ـ إذن ـ وخربت ، كما قال الرضا عليهالسلام : «لو خلت الأرض طرفة عين من حجة لساخت بأهلها» .
وقال الصادق عليهالسلام : «لو بقيت الأرض بغير إمام لساخت» .
وقال الباقر عليهالسلام : «لو أن الإمام رفع من الأرض لماجت بأهلها كما يموج البحر
بأهله» .
وقال أمير
المؤمنين عليهالسلام : «اللهم بلى ، لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة ، إمّا
ظاهرا مشهورا ، وإما خائفا مغمورا» .
وقال النبي صلىاللهعليهوآله : «في كلّ خلف من أمتي عدل من أهل بيتي ، ينفون عن الدين
تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين» .
وفي الحديث
المشهور ، المتّفق عليه بين الخاصّة والعامة : «من مات ولم
__________________
يعرف إمام زمانه
فقد مات ميتة جاهلية» .
وبالجملة : فالمقصود
من خلقة الإنسان إنّما هو وجود خليفة الله المشار إليه بقولهعزوجل: (إِنِّي جاعِلٌ فِي
الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، وخلقه سائر الأكوان من الجماد والنبات والحيوان إنّما هو
لضرورات تعيّش الإنسان ، واستخدامه إياها ، وانتفاعه بها ، ولئلّا تهمل فضالة
المواد الّتي قد صرف صفوها وزبدتها في تكوّن الإنسان ، فإنّ الحكمة الإلهية
والرحمة الرحمانية ، تقتضي أن لا يفوت حق من الحقوق ، بل يصيب كلّ مخلوق من
السعادة قدرا يليق به ، ويحتمله ، ويستعدّ له ؛ تفضلا منه سبحانه ، وكرما وجودا.
ألا ترى كيف يجري
حكم الإنسان في الأشياء بالتسخير ، فإنه ما من شيء إلّا وهو تحت تسخيره بالحقيقة ،
كما أفاده بقوله عزوجل : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) ، وقوله : (وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ
بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) .
والتسخير على
ضربين : حقيقي ، وغير حقيقي.
أما الحقيقي : فهو
على ثلاثة أقسام :
أدناها : الوضعي
العرضي : كتسخيره سبحانه له وجه الأرض وما فيها للحرث والزرع، وغير ذلك (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ
وَما فِي الْأَرْضِ
__________________
جَمِيعاً) .
ومن ذلك تسخير
الجبال والمعادن (جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا
خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ
سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) .
ومنه تسخير البحار
(وَهُوَ الَّذِي
سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ
حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ
فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) .
ومنه تسخير الفلك (وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) .
ومنه تسخير
الأشجار للغرس ، وأخذ الثمار ، وغيرها (كُلِي مِنْ كُلِّ
الثَّمَراتِ) ، (كُلُوا وَارْعَوْا
أَنْعامَكُمْ) ، (هُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ
تُسِيمُونَ) ، (يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ
الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ) ، (وَمِنْ ثَمَراتِ
النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً) ، (جَعَلَ لَكُمْ مِنَ
الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ
__________________
تُوقِدُونَ) .
ومنه تسخير الدواب
والأنعام للركوب ، والزينة ، وحمل الأثقال (أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ* وَذَلَّلْناها
لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ) ، (وَالْأَنْعامَ
خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ* وَلَكُمْ فِيها
جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ* وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى
بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ
لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) .
ومنه تسخير
النسوان والجواري للنسل ، والتوليد (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ
لَكُمْ) .
وأوسطها : التسخير
الطبيعي : وهو تسخير جنود القوى النباتية ، ومواضعها له ، للتغذية ، والتنمية ،
والتوليد ، والجذب ، والإمساك ، والهضم ، والدفع ، والتصوير ، والتشكيل.
وأعلاها : التسخير
النفساني : وهو تسخير الحواس ، وهو على صنفين : صنف من عالم الشهادة ، وصنف من
عالم الغيب.
أما الأوّل ، فلا
يستطيعون له خلافا ، ولا عليه تمرّدا ، فإذا أمر العين بالانفتاح انفتحت ، وإذا
أمر اللسان بالتكلّم وجزم الحكم به ، تكلّم ، وإذا أمر الرجل بالحركة تحرّكت، وكذا
سائر الأعضاء الظاهرة.
__________________
وأمّا الثاني ، فكذلك
، إلّا أن الوهم له شيطنة بحسب الفطرة ، يقبل إغواء الشيطان ، فيعارض العقل في
مقاصده البرهانية الإيمانية ، فيحتاج إلى تأييد جديد أخروي من جانب الله ، ليقهره
، ويغلب عليه ، ويطرد ظلماته.
وأمّا التسخير
الحقيقي : فهو عبارة عن تسخير الله المعاني العقلية الإلهية ،
للكامل من الناس ، وجعله بقوّته الباطنية إيّاها صورا روحانية ، أو أمثلة غيبية
موجودة في عالمه العقلي ، أو المثالي ، ونقله الأشياء من عالم الشهادة إلى عالم
الغيب ، بانتزاعه من الجزئيات ، وقبضه الأرواح من موادّ الأجسام والأشباح ، بإمداد
الله من اسمه القابض ، راجعا من عالم الدنيا إلى الآخرة ، ومتقلّبا من حالة
التفرقة والافتراق إلى حالة الجمع والتلاق.
فصل
قيل : لكلّ واحد
من أفراد البشر ـ ناقصا كان أو كاملا ـ نصيب من الخلافة بقدر حصّة إنسانيته ، كما
قال تعالى : (هُوَ الَّذِي
جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ) ، يشير إلى أن كلّ واحد من أفاضل البشر ، وأراذلهم ، خليفة
من خلفائه في أرض الدنيا.
فالأفاضل مظاهر
جمال صفاته في مرآة أخلاقهم الربانية ، فإنه سبحانه تجلّى بذاته وجميع صفاته لمرآة
قلوب الكاملين المتخلّقين بأخلاقه ؛ لتكون
__________________
مرآة قلوبهم لجلال
ذاته ، وجمال صفاته ، مظهرا ومظهرا .
والأراذل يظهرون
جمال صنائعه ، وكمال بدائعه في مرآة حرفهم وصنائعهم ، ومن خلافتهم أن الله
استخلفهم في خلق كثير من الأشياء ، كالخبز ، والخياطة ، والبناء ، ونحوها ، فإنه
تعالى يخلق بالاستقلال ، والإنسان يغزله وينسج منه الثوب بالخلافة ، وعلى هذا
القياس في سائر الصنائع والحرف .
ومن خلافتهم تدبير
كلّ منهم ما يتعلّق به من الأمور ، كتدبير السلطان لملكه ، وصاحب المنزل لمنزله ،
وأدناه تدبير الشخص لبدنه.
والخلافة العظمى
إنّما هي للإنسان الكامل المربّي لأفراد العالم كلّها ، بجهته الروحانية الآخذة عن
الله ما تطلبه الرعايا ، وبجهته العبودية المبلّغة إليهم ذلك ، فإنه بهاتين
الجهتين يتم أمر خلافته.
فصل
لما كان خلق هذا
العالم الجسماني إنّما هو لأجل الإنسان ، فالملائكة المدبّرون له كلهم خادمون له ،
مسخّرون لأجله ، مطيعون إياه ، سماويّين كانوا ، أم أرضيين ، موكّلين به ، أم
بسائر ما خلق لأجله ، وهذا هو المعني بالسجود المأمور به للملائكة المشار إليه
بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ، وهو
__________________
جوهر نطقي ، شرير
، واقع في عالم الملكوت النفساني ، شأنه الإغواء ، وسبيله الإضلال ، كما في قوله عزوجل ، حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وسيأتي ذكره وبيانه.
والذي بمنزلته في
جملة الملائكة الموكّلين بالإنسان خاصة ، هو الوهم ، القابل لإغوائه ، كما أشرنا
إليه.
فصل
أنظر إلى الكائنات
العنصرية ، كيف سلكت سبيل العالم الإنساني ، وتوجّهت شطر كعبة قلبه الّتي فيها
آيات الحقّ في صيرورة الأجسام الأسطقسية البعيدة الشبه له ، غذاء لطيفا بعد
تلطّفها يسيرا يسيرا ، وتحوّلها من حال إلى حال ، وطيّها درجات النبات والحيوان ،
وقطع مسالكها البعيدة ، ودخولها في بلد قالبه وعالمه طائعة ، مسلّمة له ، دخول
الناس في دين الله أفواجا ، وذلك لكونها مفطورة في خدمة الإنسان ، وسجدة آدم حركة
إليه ، طلبا وشوقا وتعبّدا لدين الله ، طوعا أو كرها.
فعلم أنّ جميع
الكائنات فداء للإنسان ، تتحوّل إليه ، وليس فيه تبديل إلى غيره (لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللهِ) ، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ
لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) .
__________________
فمعاد العالم هو
ذات الإنسان ، ومعاده إلى الهوية الإلهية ، وبمفاتيح عالمه ، ومقاليد مملكته ،
تنفتح مغالق أبواب السماء والأرض بالرحمة ، والمغفرة ، والحكمة ، والمعرفة.
فصل
كلّ ما في الوجود
فهو مترتّب ، مرتبط بعضه ببعض ، فمن كفر نعمة واحدة من نعم الله سبحانه ، كفتح
العين ـ مثلا ـ فقد كفر نعم الله في الوجود كلّه ، ممّا فوق الثريا إلى ما تحت
الثرى ؛ وذلك لأنّ الأجفان ـ مثلا ـ لا تقوم إلّا بالعين ، ولا العين إلّا بالرأس
، ولا الرأس إلّا بجميع البدن ، ولا البدن إلّا بالغذاء ، ولا الغذاء إلّا بالأرض
، والماء ، والنار ، والهواء ، والغيم ، والمطر ، والشمس ، والقمر ، ولا يقوم شيء
منها إلّا بالسماوات ، ولا السماوات إلّا بالمدبّرات من الملائكة العملية ، ولا
المدبّرات إلّا بالملائكة العقلية ، ولا الجميع إلّا بأمر الله ، وإرادته ، وقضائه
، وقدره ، فإنّ الكلّ كالشيء الواحد ، يرتبط البعض منه بالبعض ، ارتباط أعضاء
الإنسان ، فمن كفر نعمة واحدة ، فلم يبق ملك ، ولا فلك ، ولا حيوان ، ولا جماد ،
إلّا ويلعنه.
ولذلك ورد في
الخبر أنّ البقعة الّتي يجتمع فيها الناس إمّا أن تلعنهم إذا تفرّقوا ، أو لم
تستغفر لهم .
وكذلك ورد : أن
العالم يستغفر له كلّ شيء حتّى الحوت في البحر ، وإن
__________________
الملائكة يلعنون
العصاة ، في ألفاظ كثيرة .
وكلّ ذلك إشارة
إلى أن الجاهل العاصي بمعصية واحدة جنى على جميع ما في الملك والملكوت ، وقد أهلك
نفسه ، إلّا أن تتبع السيئة بحسنة تمحوها ، فيبدل اللعن بالاستغفار.
والعالم يعلم
الأشياء بحقائقها ، وأسبابها ، وغاياتها ، إلى أن ينتهي إلى مسبب الأسباب ، ويكون
علمه الّذي يطابق معلوماته زينة لذاته ، وكمالا لنفسه ، فكل واحد من الأسباب والمسببات
المعروفة عنده يكون له مدخل في تتميم ذاته ، وتكميل جوهره ، وهذا معنى استغفار كلّ
شيء للعالم ، فإنّ الإنسان إذا بلغ درجة العلم والإيمان ، وخرج من نوم الجهالة ،
ورقدة الطبيعة ، غفر الله له ما تقدّم من ذنوب الجهالة والظلمة ، وسيّئات العمى
والحرمان ، وطهره من دنس جرائم الإجرام ، وشهوات النفس والهوى ، وهذا معنى المغفرة
وتحقّقها من فضل الله ، كما وعدها عباده ، وما ورد في الآثار : أن من فعل حسنة
كتبت له حسنة ، ومحيت عنه سيئة ، ورفعت له درجة ، معناه ـ كما قيل ـ : من سمع كلمة وفهم معناها حصلت له
معرفة ، وزالت عنه جهالة ، وارتفعت منزلته بإزاء هذا القدر من العلم ؛ لأنّ العلم
بذاته شرف وكمال ، والجهل بذاته آفة وزوال ، وهكذا ، كلما ازداد الإنسان يقينا ،
ازداد في الملكوت منزلة.
__________________
فصل
ثم الإنسان الّذي
هو خليفة الله في أرضه ، والمقصود من خلقه ، إمّا نبي ، أو وليّ.
والنبي : إمّا
رسول ، أو غيره.
والولي : إمّا
إمام ، أو غيره.
وإنما ينقسم بهذه
الأقسام بسبب اختلاف طرق تحصيله للعلم ، فإنّ حصول العلوم ـ الّتي ليست بضرورية في
باطن الإنسان ـ إنّما يكون بوجوه مختلفة.
فتارة يكون
بالاكتساب والتعلّم ، ويسمى استبصارا واعتبارا ، وهو طريق أهل النظر من العلماء
والحكماء.
وتارة تهجم عليه
كأنه ألقي إليه من حيث لا يدري ، سواء كان عقيب طلب وشوق، أو لا ، وسواء كان مع
الاطلاع على السبب المفيد له ، أو لا ، فإنه قد يكون بمشاهدة الملك الملهم للحقائق
من قبل الله ، وسماع حديثه ، وقد يكون بمجرّد السماع من غير رؤية ، وقد يكون بنفثه
في الروع من غير سماع ، فينكت في القلب نكتا ، أو يلهم إلهاما ، وربما يكون الهجوم
في النوم ، كما يكون في اليقظة.
والمشاهدة ، يختصّ
بها الأنبياء والرسل ، صلوات الله عليهم. والحديث يكون لأوصيائهم أيضا.
ثم النبي يوحى
إليه بالعمل ، والرسول يوحى إليه بالعمل والتبليغ.
والولي يحدّثه
الملك ، أو يلهم إلهاما بالعمل ، والإمام يحدّثه الملك بالعمل
والتبليغ.
فكلّ رسول نبي ،
ولا عكس. وكلّ رسول أو نبي أو إمام فهو وليّ ، ومحدّث ، ولا عكس. وكلّ رسول إمام ،
ولا عكس. ولا نبيّ إلّا وولايته أقدم على نبوّته. ولا رسول إلّا ونبوّته أقدم على
رسالته. ولا إمام إلّا وولايته أقدم على إمامته.
والولاية باطن
النبوّة ، والإمامة والنبوّة باطن الرسالة ، وباطن كلّ شيء أشرف وأعظم من ظاهره ؛
لأنّ الظاهر محتاج إلى الباطن ، والباطن مستغن عن الظاهر ؛ ولأن الباطن أقرب إلى
الحق ، فكلّ مرتبة من المراتب المذكورة أعظم من لاحقتها ، وأشرف.
وأيضا فإنّ كلّا
من النبوّة والولاية صادرة عن الله ، ومتعلّقة بالله ، وكلا من الرسالة والإمامة
صادرة عن الله ، ومتعلّقة بعباد الله ، فيكون الأوليان أفضل.
وأيضا كلّ من
الرسالة والإمامة متعلّق بمصلحة الوقت ، والنبوّة والولاية لا تعلّق لهما بوقت دون
وقت ، ومع ذلك كله فليس يجب أن يكون الولي أعظم من النبي ، ولا من الرسول ، ولا من
الإمام ، ولا النبي أعظم من الرسول ، بل الأمر في الكلّ بالعكس في ولي يتبع نبيا ،
أو رسولا ، أو إماما ، أو نبيّ يتّبع رسولا ؛ لأنّ لكلّ من النبي والإمام مرتبتين
، وللرسول ثلاث مراتب ، وللولي الواحدة.
فمن قال : إن
الولي فوق النبي ، فإنما يعني بذلك في شخص واحد ، بمعنى أن النبي ، من حيث إنه ولي
، أشرف منه من حيث إنه نبي ورسول.
وكذا الإمام ، من
حيث إنه ولي ، أشرف منه من حيث إنه إمام ، كيف يكون الولي أفضل من النبي مطلقا ،
ولا ولي إلّا وهو تابع لنبي ، أو إمام ، والتابع لا يدرك المتبوع أبدا ، فيما هو
تابع له فيه ؛ إذ لو أدركه لم يكن تابعا؟
نعم ، قد يكون ولي
أفضل من نبي ، إذا لم يكن تابعا له ، كما كان أمير المؤمنين عليهالسلام أعظم من جميع الأنبياء والأولياء ، بعد نبيّنا صلىاللهعليهوآله ، وكذا أولاده المعصومون عليهمالسلام.
فصل
لكلّ من النبوّة
والولاية اعتباران : اعتبار الإطلاق ، واعتبار التقييد ، أي العام والخاص.
والنبوّة المطلقة
: هي النبوّة الحقيقية ، الحاصلة في الأزل ، الباقية إلى الأبد ، وهو اطلاع النبي
المخصوص بها على استعداد جميع الموجودات بحسب ذواتها ، وماهياتها ، وإعطاء كلّ ذي
حقّ حقّه الّذي يطلبه بلسان استعداده ، من حيث الإنباء الذاتي ، والتعليم الحقيقي
الأزلي.
وصاحب هذا المقام
هو الموسوم بالخليفة الأعظم ، وقطب الأقطاب ، والإنسان الكبير ، وآدم الحقيقي ،
المعبّر عنه ب «القلم الأعلى» ، و «العقل الأوّل» ، و «الروح الأعظم» ، وإليه
الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «أوّل ما خلق الله نوري» ، و «كنت نبيّا وآدم بين الماء والطين» ، ونحو ذلك. وإليه استندت كلّ العلوم والأعمال ، وإليه
تنتهي جميع المراتب والمقامات ، نبيا كان أو وليا ، رسولا كان أو وصيا.
وباطن هذه النبوّة
هي الولاية المطلقة ، وهي عبارة عن حصول مجموع هذه الكمالات بحسب الباطن في الأزل
، وإبقائها إلى الأبد ، ويرجع إلى فناء
__________________
العبد في الحق ، وبقائه
به ، وإليه الإشارة بقوله صلىاللهعليهوآله : «أنا وعلي من نور واحد ، وخلق الله روحي وروح علي بن أبي
طالب قبل أن يخلق الخلق بألفي عام ، وبعث عليا مع كلّ نبي سرا ، ومعي جهرا» .
وبقول أمير
المؤمنين عليهالسلام : «كنت وليا وآدم بين الماء والطين» .
وقوله : «أنا وجه
الله ، وأنا جنب الله ، وأنا يد الله ، وأنا القلم الأعلى ، وأنا اللوح المحفوظ» ، إلى آخر ما قال في خطبة البيان ، وغيرها.
وبقول الصادق عليهالسلام : «إنّ الصورة الإنسانية هي أكبر حجة الله على خلقه».
الحديث ، وقد مرّ تمامه .
والنبوّة المقيدة
: هي الإخبار عن الحقائق الإلهية ، أي معرفة ذات الحق ، وأسمائه ، وصفاته ،
وأحكامه ، فإن ضمّ معه تبليغ الأحكام والتأديب بالأخلاق ، والتعليم بالحكمة ،
والقيام بالسياسة ، فهي النبوّة التشريعية ، وتختص بالرسالة ، وقس عليها الولاية
المقيدة.
__________________
وصل
فكل من النبوّة
والولاية ، من حيث هي صفة إلهية ، مطلقة ، ومن حيث استنادها إلى الأنبياء
والأولياء ، مقيّدة ، والمقيّد مقوّم بالمطلق ، والمطلق ظاهر في المقيّد ، فنبوّة
الأنبياء كلهم جزئيات النبوّة المطلقة ، وكذلك ولاية الأولياء جزئيات الولاية
المطلقة.
ولكلّ من الأقسام
الأربعة ختم ، أي مرتبة ليس فوقها مرتبة أخرى ، ومقام لا نبيّ على ذلك المقام ،
ولا ولي ، إلّا الشخص المخصوص به ، بل الكلّ يكون راجعا إليه ، وإن تأخّر وجود
طينة صاحبه ، فإنه بحقيقته موجود قبله.
وخاتم النبوّة
المطلقة نبينا صلىاللهعليهوآله ، وخاتم الولاية المطلقة هو ومولانا أمير المؤمنين ـ صلوات
الله عليهما ـ فإنهما كنفس واحدة.
والنبوّة المقيدة
إنّما كملت وبلغت غايتها بالتدريج ، فأصلها تمهّد بآدم عليهالسلام ، ولم تزل تنمو وتكمل حتّى بلغ كمالها إلى نبينا صلىاللهعليهوآله ، ولهذا كان خاتم النبيين ، وإليه الإشارة بما روي عنه صلىاللهعليهوآله ، أنه قال : «مثل النبوّة مثل دار معمورة لم يبق فيها إلّا
موضع لبنة ، وكنت أنا تلك اللبنة» ، أو لفظ هذا معناه.
وكذلك الولاية
المقيدة إنّما تدرّجت إلى الكمال حتّى بلغت غايتها إلى المهدي الموعود ظهوره ،
الّذي هو صاحب الأمر في هذا العصر ، وبقيّة الله اليوم في بلاده وعباده ، صلوات
الله وسلامه عليه ، وعلى آبائه المعصومين.
ولنشر الآن إلى
بعض صفات النبي والولي ، وأصول المعجزات على الوجه الكلي ، وتفصيل ذلك يطلب من
كتاب علم اليقين.
__________________
فصل
قال أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ : قد عرفت أن الإنسان البالغ حدّ الكمال ملئتم من عوالم ثلاثة ، من جهة
مبادىء إدراكاته الثلاثة.
وثبت أن كلّ صورة
إدراكية فهو ضرب من الوجود ، ولكلّ منها قوّة واستعداد ، وكمال ، والكمال هو
صيرورة الشيء بالفعل ، فكمال التعقّل في الإنسان هو اتصاله بالملأ الأعلى ،
ومشاهدته ذوات الملائكة المقرّبين.
وكمال القوّة المصوّرة
يؤدي به إلى مشاهدة الأشباح المثالية ، وتلقّي المغيّبات والأخبار الجزئية منهم ،
والاطلاع على الحوادث الماضية والآتية ، وكمال القوّة الحسّاسة يوجب له شدة
التأثير في المواد الجسمانية بحسب الوضع ، فإنّ قوّة الحس تساوق قوّة التحريك
الموجبة لانفعال المواد ، وخضوع القوّة الجرمانية ، وطاعة الجنود البدنية ، وقلّ
من الإنسان من تكمل فيه جميع هذه القوى الثلاث.
فمن اتّفق فيه
مرتبة الجمعية في كمال هذه النشآت الثلاث فله رتبة الخلافة الإلهية ، واستحقاق
رئاسة الخلق ، فيكون رسولا بين الله يوحى إليه ، مؤيّدا بالمعجزات ، منصورا على
الأعداء ، فله خصائص ثلاث :
أولها : أن تصفو
نفسه في قوّتها النظرية ، صفاء تكون شديدة الشبه بالروح الأعظم ، فيتّصل به متى
أراد من غير كثير تعمّل وتفكّر ، حتّى يفيض عليه العلوم اللدنية ، من غير توسط
تعليم بشري ، بل يكاد زيت عقله المنفعل يضيء لغاية استعداده بنور العقل الفعّال
الّذي ليس هو بخارج عن حقيقة ذاته المقدسة ، وإن لم تمسسه نار التعليم البشري
بمقدحة الفكر ، وزند البحث والتكرار ، فإنّ النفوس
متفاوتة في درجات
الحدس والاتصال بعالم النور ، فمن محتاج إلى التعلّم في جلّ المقاصد ، بل كلّها ، ومن غبي لا يفلح
في فكره ، ولا يؤثر فيه التعليم أيضا ، حتّى خوطب النبي الهادي في حقّه : (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، (وَما أَنْتَ
بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ، و (لا تُسْمِعُ
الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ) ؛ وذلك لعدم وصولهم بعد إلى درجة استعداد الحياة العقلية ،
فلم يكن لهم سمع باطني يسمع به الكلام المعنوي ، والحديث الربّاني.
ومن شديد الحدس
كثيرة ، كمّا وكيفا ، سريع الاتصال بعالم الملكوت ، يدرك بحدسه أكثر المعلومات في
زمان قليل ، إدراكا شريفا نوريا ، سمّيت نفسه قدسية [وكما أن مراتب الناس تنتهي
بهم في طرف نقصان الفطرة وخمود نورها ، إلى عديم الحدس والفكر يعجز الأنبياء عن
إرشادهم ، فيجوز أن ينتهي في طرف الكمال وقوّة الحدس وشدة الإشراق إلى نفس قدسية] ، ينتهي بقوّة حدسه إلى آخر المعقولات في زمان قصير ، من
غير تعلّم ، فيدرك أمورا يقصر عن دركها غيره من الناس إلّا بتعب الفكر والرياضة ،
في مدّة كثيرة ، فيقال له : نبي ، أو ولي ، وإن ذلك منه أعلى ضروب المعجزة
والكرامة ، وهو من الممكنات الأقلّية.
والخاصية الثانية
: أن تكون قوّته المتخيلة قوية بحيث يشاهد في اليقظة عالم الغيب ، وتتمثّل له
الصور المثالية العينية ، ويسمع الأصوات الحسية من
__________________
الملكوت الأوسط ،
فيكون ما يراه ملكا حاملا للوحي ، وما يسمعه كلاما منظوما من قبل الله تعالى ، أو
كتابا في صحيفة ، وذلك لغاية قوته ، وشدة تمكّنه في الحدّ المشترك بين المعقول
والمحسوس ، فلا يستغرقه حسّه الباطن عن حسّه الظاهر ، وليست كالأرواح العامية الضعيفة
إذا مالت إلى جانب غابت عن الآخر ، وإذا ركنت إلى مشعر ذهلت عن غيره ، بل لا يشغله
شأن عن شأن ، ولا تصرفها نشأة عن أخرى ، فإذا توجّهت إلى الأفق الأعلى وتلقّت
أنوار المعلومات بلا تعليم بشري من الله يتعدّى تأثيرها إلى قومه ، وتتمثل صورة ما
يشاهده لروحه البشري ، ومنه إلى ظاهر الكون ، فتتمثل الحواس الظاهرة ، سيّما السمع
والبصر ، لكونهما أشرفها وألطفها.
وقيل : إن غلب على
الخيال جانب الحس شبّه كلّ معقول بمحسوس ، وإن غلب عليه العقل شبه كلّ محسوس
بمعقول ، فخيال الأنبياء عليهمالسلام يرى من المحسوس المعنى المعقول ، وهو ما كان صدوره منه ،
أو وروده عليه ، ومرجعه إليه ، فيرى شخصا في هذا العالم ، ويحكم عليه أنه تفاحة من
الجنة ، وشخصا قطعت يده في سبيل الله ، ثبت له جناحان يطير بهما في الجنة ، وشخصا
قتل في سبيل الله حيّا قائما يرزق ، فرحا مستبشرا بما آتاه الله من فضله.
وعلى العكس من ذلك
يرى من المعقول محسوسا ، ومن الروحاني جسمانيا ، «هذا جبرئيل جاءكم يعلّمكم أمر
دينكم» ، (فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) .
ثم من قوّة إشراق
نور خياله ونور روحه يشرق ـ أيضا ـ على من يناسبه
__________________
في تلك القوّة
والاستعداد ، فيراه كما رأى النبي.
فالتخيّل ـ إذن ـ فيصل
بين العالمين ، وحاجز بين البحرين ، ومفصل بين الحكمين ، ولو لاه لما بقي محسوس
ومعقول للإنسان ، ولا كانت الصورة والمعنى مدركين بمدرك الحس والبرهان. انتهى.
قال أستاذنا :
والخاصية الثالثة : أن تكون له قوّة في النفس من جهة جزئها العملي ، وقواها
التحريكية ، تؤثر في مادّة العالم بإزالة صورة ونزعها عن المادة ، أو تلبسها إياها
، فيؤثر في استحالة الهواء إلى الغيم ، وحدوث الأمطار ، وتكوّن الطوفانات والزلازل
، لاستهلاكه أمة فجرت وعتت عن أمر ربّها ورسله ، ويسمع دعاؤه في الملك والملكوت ؛
لعزيمة قوية ، فيستشفي المرضى ، ويستسقي العطشى ، وتخضع له الحيوانات ، وقد ثبت
إمكان ذلك ، وأن الأمزجة تتأثر عن الأوهام ، إمّا عن أوهام عامية ، أو عن أوهام
شديدة التأثير في بدء الفطرة ، أو بالتعويد والاكتساب ، فلا عجب من أن يكون لبعض
النفوس قوّة كمالية مؤيدة من المبادىء ، فصارت كأنها نفس العالم ، فتؤثر في غير
بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة العالم طاعة البدن للنفس ، فتؤثر في
إصلاحها وإهلاك ما يفسدها ، أو يضرّها ، كلّ ذلك لمزيد قوّة شوقية ، واهتزاز علوي
يوجب شفقة على خلق الله ، شفقة الوالد لولده.
وكيف لا يجوز ذلك
وقد جاز في جانب الشر من النفوس الشريرة الدنية ، كالعين ، فجوازه في جانب الخير
من النفوس العظيمة الشديدة البطش ، المستحقّة لمسجودية الملائكة تعليمهم الأسماء ،
أرجح وأولى.
ومثل هذا يعبّر
عنه بالكرامة والمعجزة عند الناس. هذا ملخّص كلامه .
__________________
قال : والجمهور
يعظمون هذه الخاصية أكثر من الأوليين ؛ لغلبة الجسمانية عليهم ، ثمّ يعظمون أمر
الإخبار عن الحوادث الجزئية أكثر من تعظيم الاطلاع على المعارف الحقيقية.
وأمّا أولو
الألباب ، فأفضل أجزاء النبوّة عندهم هو الضرب الأوّل ، ثمّ الثاني ، ثمّ الثالث ،
ومجموع الأمور الثلاثة على الوجه المذكور يختصّ بالأنبياء عليهمالسلام ، وكلّ جزء منها ربما يوجد في غيرهم.
والأوّل لا يكون
إلّا خيرا وفضيلة ، وهو قد يوجد في الأولياء على وجه التابعية للأنبياء ، وكلّ من
الأخيرين ينقسم إلى الخير والشر ، فإنّ ضربا من الإخبار ببعض المغيبات الجزئية من
الحوادث ربما يوجد في أهل الكهانة والمستنطقين ، وكذا قوّة التأثير للنفس المتعدي
من النفوس الشريرة ، كما يأتي ذكره .
أقول : أنظر الآن
إلى شرف الإنسان ، وبعد مراقيه ، كيف وصل إلى ما وصل ، وكيف فعل ما فعل؟
قال الشيخ
السهروردي ، صاحب الإشراق : لما رأيت الحديدة الحامية
__________________
تتشبّه بالنار
بمجاورتها ، وتفعل فعلها ، فلا تتعجّب من نفس استشرقت واستنارت واستضاءت بنور الله
، فأطاعها الأكوان.
في تقدّم خلق الأرواح على الأجساد ، وتأخّرها عنها ،
وهبوط آدم من الجنة
(كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ)
فصل
قد استبان من
المباحث السالفة أن النفوس الإنسانية حادثة بحدوث الأبدان ، من جهة نشأتها
الطبيعية ، وتصرّفها في الأبدان ، فإنّها منذ كانت نباتية ثمّ حيوانية ثمّ إنسانية
، كان وجودها متوقّفا على استعداد خاصّ ، وشرائط مخصوصة في أبدانها ، فليعلم الآن
أن لها تقدّما على أبدانها أيضا ، من جهة أخرى ؛ وذلك لأنّ لها أن تعود إلى مبدئها
ومنشئها بعد استكمالاتها الحاصلة لها من أبدانها ، ومفارقتها إياها ، كما دريت من
قبل ، فما نشأ منها من العالم العقلي الكلّي ، والخلق الأوّل ، والملكوت الأعلى ،
فأصله سابق على سائر الموجودات ، وهو موجود هناك بوجود أصله ، فهو ـ إذن ـ متقدّم
على الموجودات كلّها ، وهي المسماة بالنفوس الكلية الإلهية في كلام أمير المؤمنين
ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ كما مر ذكره ، وما نشأ منها من العالم النفساني القدري التفصيلي ،
__________________
والملكوت الأسفل ،
وعالم الذر ، ومحل أخذ الميثاق المعبّر عنه بالظلال والطين الذي تنشأ منه طينة
الجنة والنار الحسّيتين ، فأصله وإن كان متأخّرا عن الأوّل إلّا أنه متقدّم على
هذا العالم الأدنى المادي ، فله أيضا التقدم على بدنه العنصري من هذه الجهة ، وقد
مرّ التنبيه على ذلك في مباحث أصول النشآت.
وصل
وإلى هذه السابقية
واللاحقية للنفوس الكلية الإلهية ، أشير في الحديث النبوي بقولهصلىاللهعليهوآله : «نحن الآخرون السابقون» .
وفي لفظ آخر : «أنا
أوّل الأنبياء خلقا ، وآخرهم بعثا» .
وفي حديث آخر : «كنت
نبيا وآدم بين الماء والطين» .
وفي آخر : «خلق
الأرواح قبل الأجساد بألفي عام» .
وفي رواية : «بأربعمائة
عام» .
وفي حديث آخر : «أوّل
ما أبدع الله تعالى النفوس المقدسة المطهرة ، فأنطقها بتوحيده ، ثمّ خلق بعد ذلك
سائر خلقه» .
__________________
وفي بصائر الدرجات
، بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : «قال الله تبارك وتعالى : يا محمّد ، إني خلقتك
وعليا نورا يعني روحا بلا بدن ، قبل أن أخلق سمائي وأرضي وعرشي وبحري ، فلم تزل
تهلّلني وتمجّدني» .
وإلى تقدّم سائر
النفوس على أبدانهم العنصرية أشير فيما رواه في الكافي ، بإسناده عن الباقر عليهالسلام ، أنه سئل عن قول الله تعالى : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ
مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى) ، قال : «أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة ، فعرفهم ، وأراهم نفسه ، ولو لا ذلك لم يعرف أحد ربّه» .
وفي تفسير علي بن
إبراهيم : «عن ابن مسكان ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : قلت له : معاينة كان هذا؟ قال : نعم ، فثبتت
المعرفة ، ونسوا الموقف ، وسيذكرونه ، ولو لا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه ،
فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ، ولم يؤمن بقلبه ، فقال الله : (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما
كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) » .
وفي الكافي ، عنه عليهالسلام ، أنه سئل : كيف أجابوا وهم ذرّ؟ قال : جعل فيهم ما
__________________
إذا سألهم أجابوه .
وبإسناده عن
مولانا الباقر عليهالسلام ، قال : «إن الله خلق الخلق ، فخلق من أحبّ ممّا أحب ،
وكان ما أحبّ أن يخلقه من طينة الجنة ، وخلق من أبغض ممّا أبغض ، وكان ما أبغض أن
يخلقه من طينة النار ، ثمّ بعثهم في الظلال ، قال : قلت : وأيّ شيء الظلال؟ قال :
ألم تر ظلّك في الشمس ، شيئا وليس بشيء ، ثمّ بعث فيهم النبيين فدعوهم إلى الإقرار
بالله ، وهو قوله : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللهُ) ، ثمّ دعوهم إلى الإقرار بالنبيين ، فأقرّ بعضهم ، وأنكر
بعض ، ثمّ دعوهم إلى ولايتنا ، فأقرّ بها ـ والله ـ من أحب ، وأنكرها من أبغض ،
وهو قوله : (فَما كانُوا
لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) ، ثمّ قال أبو جعفر عليهالسلام : كان التكذيب ثمّ» .
وبإسناده الصحيح
عنه عليهالسلام ، أنه كان يقول : «إنّ الله أخذ ميثاق شيعتنا بالولاية لنا
وهم ذرّ ، يوم أخذ الميثاق على الذرّ بالإقرار له بالربوبية ، ولمحمد صلىاللهعليهوآله بالنبوّة ، وعرض الله عزوجل على محمّد صلىاللهعليهوآله أمته في الطين ، وهم أظلّة ، وخلقهم من الطينة الّتي خلق
منها آدم ، وخلق الله أرواح شيعتنا قبل أبدانهم بألفي عام ، وعرضهم عليه ، وعرضهم
علينا ، ونحن نعرفهم في لحن القول» .
وبإسناده عن
مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : «إنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله قال : إنّ الله مثل لي أمتي في الطين ، وعلّمني أسماءهم
كما علّم آدم الأسماء كلّها ، فمرّ بي
__________________
أصحاب الرايات ،
فاستغفرت لعلي وشيعته» .
وفي معناه أخبار
كثيرة في بصائر الدرجات . وفي بعضها قال قائل : يا رسول الله ، قد عرض عليك من خلق
، أرأيت من لم يخلق؟ قال : صوّر لي ـ والذي يحلف به رسول الله ـ في الطين حتّى
لأنا أعرف بهم من أخيكم بصاحبه .
وفيه بإسناده عن
الصادق عليهالسلام ، قال : قال رجل لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ صلوات
الله وسلامه عليه ـ : يا أمير المؤمنين أنا والله أحبك ، قال : فقال له : كذبت ، [قال
: بلى والله إني أحبك وأتولّاك ، فقال له أمير المؤمنين : كذبت] ، قال : سبحان الله يا أمير المؤمنين ، أحلف بالله أني
أحبّك ، فتقول كذبت! قال : وما علمت أنّ الله خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ،
فأسكنها الهواء ، ثمّ عرضها علينا أهل البيت ، فو الله ما منها روح
إلّا وقد عرفنا بدنه ، فو الله ما رأيتك فيها ، فأين كنت؟ قال أبو عبد اللهعليهالسلام : كان في النار .
وفي معنى هذه
الأخبار أخبار كثيرة ، وقد مضى طرف منها.
__________________
وصل
لعلّ تشبيه ماهيات
الأشخاص الجزئية القدرية الإنسانية ، وحقائقها العلمية الظلّية ، قبل إشراق نور
الوجود عليها بالذرّ ، أي النمل الصغار الحمر ، الصغيرة الجثّة ، إنّما هو لخفائها
مع حياتها ، وكونها محلّا للشعور والحركة.
ومعنى أخذ الميثاق
لهم وعليهم ، وإشهادهم عليه ، استنطاق حقائقهم بألسنة قابليات جواهرها ، وألسن
استعدادات ذواتها عند كون نفوسهم في أصلاب آبائهم العقلية ، ومعادنهم الأصلية ،
يعني شاهدهم وهم رقائق في تلك الحقائق.
وعبّر عن تلك
الآباء بالظهور ؛ لأنّ كلّ واحد منهم ظهر ، أو مظهر لطائفة من النفوس ، أو ظاهر
عنده ؛ لكونه صورة عقلية نورية ظاهرة بذاتها.
وأشهدهم على
أنفسهم ، أي أعطاهم في تلك النشأة الإدراكية العقلية شهود ذواتهم العقلية
وهويّاتهم النورية ، فكانوا بتلك القوى العقلية يسمعون خطاب : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) ، كما يسمعون الخطاب في دار الدنيا بهذه القوى البدنية ،
وقالوا بألسنة تلك العقول : بلى أنت ربّنا الّذي أعطيتنا وجودا قدسيا ربّانيا ،
سمعنا كلامك ، وأجبنا خطابك.
أو نقول : تصديقهم
به كان بلسان طباع الإمكان قبل نصب الدلائل لهم ، أو بعد نصب الدلائل وأنه نزل
تمكينهم من العلم به ، وتمكّنهم منه ، بمنزلة الإشهاد والاعتراف ، كما نبّه عليه
مولانا الصادق عليهالسلام بقوله : «جعل فيهم ما إذا سألهم
أجابوه» ، كما مرّ ذكره ، نظير ذلك قوله عزوجل : (إِنَّما قَوْلُنا
لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ، وقوله سبحانه : (فَقالَ لَها
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) ، ومعلوم أنه لا قول ثمة ، وإنما هو تمثيل وتصوير للمعنى.
أو نقول : إن ذلك
النطق إنّما كان باللسان الملكوتي الّذي به يسبّح كلّ شيء بحمد ربّه ؛ وذلك لأنهم
كانوا مفطورين بالفطرة الّتي فطر الناس عليها ، وهي المعرفة والتوحيد ؛ وذلك كما
نطق الحصى في كفّ النبي صلىاللهعليهوآله ، وبه تنطق الأرض يوم القيامة (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) ، وبه تنطق الجوارح (أَنْطَقَنَا اللهُ
الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ) .
وصل
قال بعض أهل
المعرفة : النفوس الإنسانية إنّما هبطت إلى هذا العالم من عالم آخر ، وهو مأواها
الطبيعي ، وموطنها الأصلي ، وهي كانت هناك حيّة ، مختارة ، لطيفة ، عالمة ، قادرة
بقوّة مبدعها ، سائحة في عالمها ، فرحانة ، مطمئنة عند بارئها (فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ) ، وهي الجنة الّتي كان فيها أبوها العقلي ، وأمّها
__________________
النفسية.
فإذا أهبطت من
هناك لخطيئة وقعت من أبيها وأمها ، وفرّت من سخط الله ، وانحطّت إلى السفل ،
وحوّلت إلى هذا العالم ، انقلبت حياتها موتا ، ونورها ظلمة ، وتبدّلت قدرتها عجزا
، واختيارها اضطرارا ، واستقرارها اضطرارا ، ولطافتها كثافة ، وزالت كرامتها
وشرفها وكمالها ، إلى المذلّة ، والخسّة ، والنقص ، وانجرّت جمعيتها ووحدتها إلى
التفرقة والكثرة ، فهي ما لم تصل ثانيا إلى معادها الأصلي ، ولم تزل الكثرة
والتفرقة عنها بالكلية ، كأنها لم تكن ، لم تسكن ولم تطمئن من انزعاجها
واستفزازها.
فإن قيل : إذا
كانت النفوس مبتهجة بكمالها العقلي اللائق بحال تلك النشأة ، فما العلة في فيضانها
وصدورها عن ذلك؟ وما الغاية في ذلك؟
قلنا : أمّا
العلّة الفاعلية فنفس ذات هويّتها العقلية بحسب القضاء الأزلي الربّاني ، اقتضت
نزولها إلى عالم الأبدان حكما إجماليا كليا ؛ لجملة النفوس ، وحكما قدريا تفصيليا
بحسب الأوقات والأزمنة ، وعللها الجزئية لآحاد النفوس ؛ وذلك بواسطة جهة نقص
وإمكان كانت لها ، يعبّر عنها بالخطيئة لأبينا آدم ، وعن صدور النفوس بالفرار من
سخط الله ، وليس ذلك إلّا ما يقتضيه ترتيب الوجود ، فإنّ النور الأنقص لا تمكّن له
في حضرة النور الأشدّ ، كما أفصح عنه الحديث المشهور : «أنّ لله سبعين حجابا من
نور» .
وأمّا العلة
الغائية ، فهي كمالها العقلي الحاصل لها من جهة تطوّراتها في الأطوار الكونية ،
والشؤون الأفعالية ، فإنّ الجمع بين الصفات الملكية والحيوانية والأسماء التنزيهية
والتشبيهية ، أدخل في الكمال الجمعي ، وأتمّ بالتشبّه بالإله
__________________
بقدر الوسع البشري
من الاكتفاء بالتجرّد والتنزّه فقط ، وإلّا فيلزم أن يبقى في كتم العدم كثير من
الخيرات والكمالات الكونية ، من غير أن يخرج من القوّة إلى الفعل ، مع إمكانها ؛
وذلك ينافي العناية.
وصل
روى الشيخ الصدوق
في كتاب التوحيد ، عن عبد الله بن الفضل الهاشمي ، أنه قال : قلت لأبي عبد الله عليهالسلام : لأي علّة جعل الله تبارك وتعالى الأرواح في الأبدان بعد
كونها في الملكوت الأعلى ، في أرفع محلّ؟ فقال عليهالسلام : إن الله تبارك وتعالى علم أنّ الأرواح في شرفها وعلوّها
متى تركت على حالها نزع أكثرها إلى دعوى الربوبية دونه عزوجل ، فجعلها بقدرته في الأبدان الّتي قدّرها لها في ابتداء
التقدير ؛ نظرا لها ، ورحمة بها ، وأحوج بعضها إلى بعض ، وعلّا بعضها على بعض ، ورفع بعضها فوق بعض درجات ، وكفى بعضها
ببعض ، وبعث إليهم رسله ، واتّخذ عليهم حججه ، مبشّرين ومنذرين ، يأمرونهم بتعاطي
العبودية ، والتواضع لمعبودهم ، بالأنواع الّتي تعبّدهم بها ، ونصب لهم عقوبات في
العاجل ، وعقوبات في الآجل ، ومثوبات في العاجل ، ومثوبات في الآجل ، ليرغّبهم
بذلك في الخير ، ويزهّدهم في الشر ، وليذلّهم بطلب المعايش والمكاسب ، فيعلموا
بذلك أنهم مربوبون ، وعباد مخلوقون ، ويقبلوا على عبادته ، فيستحقّوا بذلك نعيم
الأبد ، وجنّة الخلد ، ويأمنوا من النزوع إلى ما ليس لهم بحق.
ثمّ قال عليهالسلام : يا بن الفضل ، إن الله تبارك وتعالى أحسن نظرا لعباده
منهم
__________________
لأنفسهم ، ألا ترى
أنك لا ترى فيهم إلّا محبّا للعلو على غيره ، حتّى أن منهم من قد نزع إلى دعوى
الربوبية ، ومنهم من قد نزع إلى دعوى النبوّة ، بغير حقّها ، ومنهم من قد نزع إلى
دعوى الإمامة ، بغير حقّها ، مع ما يرون في أنفسهم من النقص ، والعجز ، والضعف ،
والمهانة ، والحاجة ، والفقر ، والآلام ، المتناوبة عليهم ، والموت الغالب لهم ،
والقاهر لجميعهم.
يا بن الفضل ، إن
الله تبارك وتعالى لا يفعل بعباده إلّا الأصلح لهم ، ولا يظلم الناس شيئا ، ولكن
الناس أنفسهم يظلمون .
تمثيل :
ما أشبه حال النفس
الإنسانية في تقلّبها في أطوار الخلقة ، ووقوعها من عالم الفطرة في مزابل الجهّال ،
ونسيانها عالمها عند الهبوط إلى منازل الأراذل ، إلى أن تصل إلى درجة العقل
الفعّال بحال البذر في تقاليب الأطوار ، إلى أن يبلغ مرتبة الثمار ، فيبتدىء أوّله
وهو بذر يفسد لبّه في الأرض ، ويفنى عن ذاته في الأماكن الغريبة ، ثمّ يستحيل
بقوّة نامية من حال إلى حال ، حتّى ينتهي إلى ما كان أوّلا ، ويصل إلى درجة اللبّ
الّذي كان عليها في بدء أمره ، مع عدد كثير من أفراد نوعه ، وفوائد وأرباح كثيرة
حاصلة من سفره من الأوراق والقشور والأشجار والأنوار ، فيخرج من بين تلك القشور
والحشائش لبّا صافيا ، بإذن الله ، ثمرة صالحة هي نتيجة تلك المقدّمات ، ونهاية
تلك الأشعّات تكون موجودة باقية ببقاء موجدها ، مع انفساخ تلك الأمور ، وزوالها.
__________________
في قصّة آدم والشجرة
فصل
في تفسير مولانا
الإمام العسكري عليهالسلام ، عن جدّه علي بن الحسين ، قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن
رسول الله صلىاللهعليهوآله ، قال : يا عباد الله ، إن آدم لما رأى النور ساطعا من
صلبه ؛ إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره ، رأى النور ولم تبن
الأشباح ، فقال : يا ربّ ، ما هذه الأنوار؟ فقال عزوجل : أنوار أشباح ، نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ،
ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك ؛ إذ كنت وعاء لتلك الأشباح ، فقال آدم: يا ربّ ،
لو بيّنتها لي ، فقال الله عزوجل : أنظر يا آدم إلى ذروة العرش ، فنظر آدمعليهالسلام ، ووقع نور أشباحنا من ظهر آدم إلى ذروة العرش ، فانطبع
فيه صور أنوار أشباحنا الّتي في ظهره ، كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية ،
فرأى أشباحنا ، فقال : ما هذه الأشباح يا ربّ؟
قال الله : يا آدم
، هذه أشباح أفضل خلقي وبريّاتي ، هذا محمّد ، وأنا الحميد المحمود في فعالي ،
شققت له اسما من اسمي ، وهذا عليّ ، وأنا العليّ العظيم ، شققت له اسما من اسمي ،
وهذه فاطمة ، وأنا فاطر السماوات والأرض ، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي ،
وفاطم أوليائي عمّا يعرهم ويشينهم ، فشققت لها اسما من اسمي ، وهذا الحسن وهذا
الحسين ، وأنا المحسن المجمل
شققت اسمهما من
اسمي ، هؤلاء خيار خليقتي ، وكرام بريّتي ، بهم آخذ ، وبهم أعطي ، وبهم أعاقب ،
وبهم أثيب ، فتوسّل بهم إليّ يا آدم ، وإذا دهتك داهية فاجعلهم إليّ شفعاءك ،
فإنّي آليت على نفسي قسما حقا ألّا أخيب بهم أملا ، ولا أردّ بهم سائلا ، فلذلك
حين زلّت منه الخطيئة ، ودعا الله عزوجل بهم ، فتيب عليه ، وغفرت له.
وقال الإمام عليهالسلام : إن الله عزوجل لمّا لعن إبليس بإبائه ، وأكرم الملائكة بسجودها لآدم ،
وطاعتهم لله عزوجل ، أمر آدم وحوّاء إلى الجنة ، وقال : (يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ
الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها) ، من الجنة رغدا واسعا ، حيث شئتما ، بلا تعب ، ولا تقربا
هذه الشجرة ، شجرة علم محمّد وآل محمّد ، الّذي آثرهم الله به دون سائر خلقه ،
فقال الله عزوجل : (لا تَقْرَبا هذِهِ
الشَّجَرَةَ) شجرة العلم ، فإنّها لمحمد وآله خاصّة ، دون غيرهم ، لا
يتناول منها بأمر الله إلّا هم ، ومنها ما كان يتناوله النبي وعلي وفاطمة والحسن
والحسين ـ صلى الله عليهم ـ بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير ، حتّى لا يحسّوا
بعد بجوع ، ولا عطش ، ولا تعب ، ولا نصب.
وهي شجرة تميّزت
من بين أشجار الجنة بأنّ سائر أشجار الجنة كان كلّ نوع منها يحمل نوعا من الثمار
والمأكول ، وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البرّ والعنب والتين والعنّاب ، وسائر
أنواع الأثمار والفواكه والأطعمة ، فلذلك اختلف الحاكون لذكر الشجرة.
فقال بعضهم : هي
برّة ، وقال آخرون : هي عنبة ، وقال آخرون : هي تينة ، وقال آخرون : هي عنّابة.
__________________
قال الله تعالى : (وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) تلتمسان بذلك درجة محمّد وآل محمد في فضلهم ، فإنّ الله
خصّهم بهذه الدرجة دون غيرهم ، وهي الشجرة الّتي من تناول منها بإذن الله ألهم علم
الأوّلين والآخرين ، بغير تعليم ، ومن تناول منها بغير إذن خاب من مراده، وعصى
ربّه ، (فَتَكُونا مِنَ
الظَّالِمِينَ) بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما ؛ إذ رمتما بغير حكم الله ، قال الله تعالى : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها) عن الجنة بوسوسته ، وخديعته ، وإيهامه ، وغروره ، بأن بدأ بآدم
فقال : (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ) إن تناولتما منها ، تعلمان الغيب ، وتقدران على ما يقدر
عليه من خصّه الله تعالى بالقدرة (أَوْ تَكُونا مِنَ
الْخالِدِينَ) لا تموتان أبدا ، (وَقاسَمَهُما إِنِّي
لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ) .
وكان إبليس بين
لحيي الحيّة ، أدخلته الجنّة ، وكان آدم يظنّ أن الحيّة هي التي تخاطبه ، ولم يعلم
أن إبليس قد اختبأ بين لحييها ، فرد آدم على الحيّة : أيّتها الحيّة ، هذا من غرور
إبليس ، كيف يخوننا ربّنا ، أم كيف تعظّمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى
الخيانة وسوء النظر ، وهو أكرم الأكرمين؟ أم كيف أروم التوصّل إلى ما منعني منه
ربّي عزوجل ، وأتعاطاه بغير حكمه؟
فلما آيس إبليس من
قبول آدم منه ، عاد ثانية بين لحيي الحيّة فخاطب حوّاء من حيث وهمها أن الحية هي
الّتي تخاطبها ، وقال : يا حوّاء ، أرأيت هذه الشجرة الّتي كان اللهعزوجل حرّمها عليكما ، قد أحلّها لكما بعد تحريمها ؛ لما
__________________
عرف من حسن
طاعتكما له ، وتوقيركما إياه ، وذلك أن الملائكة الموكّلين بالشجرة الّتي معها
الحراب يدفعون عنها سائر حيوان الجنّة ، لا تدفعك عنها إن رمتها ، فاعلمي بذلك أنه
قد أحلّ لك ، والبشرى لك ، إن تناولتها قبل آدم كنت أنت المسلّطة عليه ، الآمرة
الناهية فوقه.
فقالت حوّاء : سوف
أجرّب هذا ، فرامت الشجرة ، فأرادت الملائكة أن تدفعها بحرابها ، فأوحى إليها
إنّما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره ، فأما من جعلته ممكّنا مميّزا مختارا
فكلوه إلى عقله الّذي جعلته حجّة عليه ، فإن أطاع استحقّ ثوابي ، وإن عصى وخالف
أمري استحقّ عقابي وجزائي ، فتركوها ، ولم يتعرّضوا لها بعد ما همّوا منعها
بحرابهم ، فظنّت أن الله تعالى نهاهم عن منعها ، وأنه قد أحلّها بعد ما حرّمها ،
فقالت : صدقت الحيّة ، فظنّت أنّ المخاطب لها هي الحيّة ، فتناولت منها ، ولم تنكر
من نفسها شيئا.
فقالت لآدم : ألم
تعلم أن الشجرة المحرّمة علينا قد أبيحت لنا ، تناولت منها ، فلم تمنعني أملاكها ،
ولم أنكر شيئا من ذلك ، فذلك حين اغترّ آدم وغلط فتناول ، فأصابهما الله ما قال في
كتابه : (فَأَزَلَّهُمَا
الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما) بوسوسته وغروره (مِمَّا كانا فِيهِ) من النعيم (وَقُلْنَا) يا آدم ويا حوّاء ، ويا أيّتها الحيّة ، ويا إبليس (اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ) ، فآدم وحوّاء وولدهما عدوّ الحيّة وإبليس ، وإبليس والحية
وأولادهما أعداؤكم (وَلَكُمْ فِي
الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ) منزل ومقرّ للمعاش (وَمَتاعٌ) منفعة (إِلى حِينٍ) حين الموت ، قال الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) يقولها ، فقالها (فَتابَ) بها (عَلَيْهِ
__________________
إِنَّهُ
هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، القابل للتوبات ، الرحيم بالتائبين.
فلما زلّت من آدم
الخطيئة فاعتذر إلى ربّه عزوجل فقال : يا ربّ تب عليّ واقبل معذرتي ، وأعدني إلى مرتبتي ،
وارفع لديك درجتي ، فلقد تبيّن نقص الخطيئة وذلّها بأعضائي وسائر بدني ، قال الله
تعالى : يا آدم أما تذكر أمري إياك أن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ،
ودواهيك ، وفي النوازل تبهظك ، قال آدم : يا ربّ ، بلى ، قال الله عزوجل : فبهم بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم
، خصوصا ، فادعني أجبك إلى ملتمسك ، وأزدك فوق مرادك.
فقال آدم : يا ربّ
وإلهي ، قد بلغ عندك من محلّهم أنك بالتوسّل بهم تقبل توبتي ، وتغفر خطيئتي ، وأنا
الّذي أسجدت له ملائكتك ، وأبحته جنّتك ، وزوّجته حوّاء أمتك ، وأخدمته كرام
ملائكتك.
قال الله : يا آدم
، إنّما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود ؛ إذ كنت وعاء لهذه الأنوار ، ولو كنت
سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها ، أو أن أفطنك لدواعي عدوّك إبليس حتّى تحترز
منها ، لكنت قد فعلت ذلك ، ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي ، والآن
فبهم فادعني لأجيبك ، فعند ذلك قال آدم : اللهم بجاه محمّد وآل محمّد الطيبين ،
بجاه محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ، والطيّبين من آلهم ، لمّا تفضّلت بقبول
توبتي ، وغفران زلّتي ، وإعادتي من كراماتك إلى مرتبتي.
ثمّ قال الله عزوجل : قد قبلت توبتك ، وأقبلت برضواني عليك ، وصرفت آلائي
ونعمائي إليك ، وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي ، ووفرت نصيبك من
__________________
رحماتي ، فذلك قول
الله عزوجل : (فَتَلَقَّى آدَمُ
مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) . انتهى كلامه صلوات الله عليه .
وليعلم أن الجنة
الّتي خرج منها أبونا آدم ـ على نبيّنا وعليهالسلام ـ غير الجنة الّتي وعد المتّقون من وجه ، كما أشرنا إليه
فيما سلف ، ولهذا ورد في الأخبار أنها كانت بستانا من بساتين الدنيا ، ولو كانت
تلك الجنة لما خرج منها أبدا.
فصل
قال بعض أهل
الحكمة : إن الإنسان من أوّل زمان إفاضة القوّة العاقلة عليه إلى حين استرجاعها ما
دام مراعيا لأوامر الحقّ سبحانه ، غير منحرف عن فطرته الأصلية ، ولا معرض عن
عبادته ، ولا ملتفت إلى غيره ، فإنه في الجنّة ، وإن كانت الجنة على مراتب ، كما
قال تعالى : (لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ
فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) .
ولذلك قال صلىاللهعليهوآله : «كلّ مولود يولد فعلى الفطرة ، وإنما أبواه هما اللذان
يهوّدانه ، وينصّرانه» ؛ إذ كانت نفسه قبل الجواذب الخارجية عن القبلة
__________________
الحقيقية غير
مدنّسة بشيء من الاعتقادات الفاسدة ، والهيئات الرديئة ، وإن كانت المرتبة السامية
والغرفة العالية إنّما تنال بعد المفارقة ، واستصحاب النفس لأكمل زاد .
وقال في بيان
حقيقة وسوسة الشيطان : إن الفعل إنّما يصدر من الإنسان بواسطة أمور مترتبة ترتيبا
طبيعيا ، أوّلها تصور كون الفعل ملائما ، وهو المسمى بالداعي ، ثمّ إنّ ذلك الشعور
يترتب عليه ميل النفس إلى الفعل المسمى ذلك الميل إرادة ، فيترتب على ذلك الميل
حركة القوّة النزوعية المحركة للقوّة المسماة قدرة ، المحركة للعضل إلى الفعل.
إذا عرفت ذلك ،
فنقول : صدور الفعل عن مجموع القدرة والإرادة أمر واجب ، فليس للشيطان فيه مدخل ،
ووجود الميل عن تصوّر كونه نافعا وخيرا أمر لازم ، فلا مدخل للشيطان أيضا فيه ،
فلم يبق له مدخل إلّا في إلقاء ما يتوهّم كونه نافعا أو لذيذا إلى النفس ، ممّا
يخالف أمر الله سبحانه ، فذلك الإلقاء في الحقيقة هو الوسوسة ، وهو عين ما حكى
الله سبحانه عنه بقوله : (وَما كانَ لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي).
إذا عرفت ذلك
فاعلم أن متابعة إبليس تعود إلى انقياد النفس لجذب الوهم والقوى البدنية الّتي هي
الشياطين عن الوجهة المقصودة ، والقبلة الحقيقية وهي عبادة الحقّ سبحانه ، وفتنتها
لها بتزيين ما حرّم الله عليها.
فأما ما يقال : إن
إبليس لم يكن له تمكّن من دخول الجنة ، وإنما توسّل بالحيّة ودخل في فمها إلى
الجنّة ، حتّى تمكّن من الوسوسة لآدم عليهالسلام ، واغتراره ،
__________________
فالمراد بالحيّة هي القوّة المتخيّلة ؛ وذلك إن الوهم إنما تمكّن
من التصرّف وبعث القوى المحرّكة كالشهوة والغضب الّتي هي جنوده وشياطينه على طلب
الملاذ البدنية ، والشهوات الحسية الدنية ، وجذب النفس إليها بتصوير كونها لذيذة
نافعة ، بواسطة القوّة المتخيّلة.
ووجه تشبيهها
بالحيّة ، أن الحيّة لما كانت لطيفة ، سريعة الحركة ، تتمكّن من الدخول في المنافذ
الضيّقة ، وتقدر على التصرّف الكثير ، وهي مع ذلك سبب من أسباب الهلاك ، بما تحمله
من السم ، وكانت المتخيّلة في سرعة حركاتها وقدرتها على التصرّف السريع ، والإدراك
ألطف من سائر القوى ، وهي الواسطة بين النفس والوهم ، وكانت بما اشتملت عليه من
تحمل كيد إبليس ، وإلقاء الوسوسة بواسطتها إلى النفس ، سببا قويّا للهلاك السرمد ،
والعذاب المؤبد ، لا جرم كان أشبه ما تشبّه به الحيّة لما بينهما من المناسبة ،
فحسن إطلاق لفظ الحية عليها.
كذا ذكره كمال
الدين ابن ميثم البحراني ، في شرح نهج
__________________
البلاغة ، ناقلا عن المأوّلين لهذه القصّة ، وتمام الكلام في حقيقة
الشياطين ، سنذكره فيما بعد ، إن شاء الله.
__________________
في الآيات الإنسانية من العجائب والغرائب
(سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي
أَنْفُسِهِمْ)
(وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ* وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلا تُبْصِرُونَ)
فصل
إن في النفس
الإنسانية لآيات ، وأسرارا ، وحكما ، وعجائب ، وغرائب ، لا تحصى ، وقد مضت الإشارة
إلى شطر منها ، كاشتمالها على كلّ الوجود ، وجميع النشآت ، وهي من أعظم آياتها ،
وبهذا الاعتبار مظهر لاسم الله الأعظم.
وكتقدّمها على
الموجود البدني النفسي ، وتأخّرها عنه باعتبارين ، وهي أيضا عجيب جدا ، وكإحاطتها
بالبدن كلّه ، مع تنزّهها عن المكان والتحيّز ، وكاتّصافها بالعلم والقدرة ،
والسمع ، والبصر ، والحياة ، والإرادة ، وسائر صفات الكمال ، تخلق في مملكتها ما
تشاء ، وتحكم ما تريد ، وتتصرف بقوّتها الخيالية والعقلية في الملك والملكوت ، ومع
ذلك فهي عاجزة عن معرفة ذاتها ، وكنه حقيقتها ، وهي من أعجب العجائب.
وكتطوراتها في
الأطوار ، وترقّياتها بحسب درجاتها ومقاماتها من لدن
__________________
كونها جنينا ، بل
نطفة قذرة ، إلى أن تصير عالما ربّانيا ، ملاقيا لله سبحانه ، كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ
إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ، أو تصير ملكا من الملوك ، شديد البطش ، والهمة ، يملك
جميع الأرض (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ) .
وكإطاعة جميع
الموجودات إياها ، وتوجّهها شطر كعبة قلبها ، ودخولها في دينها أفواجا ، وتسخرها
لها ، إنّ في ذلك لآيات ، وما يعقلها إلّا العالمون.
وكخسّتها وشرفها ،
وبعد مراقيها في معارجها ، وانحطاط درجاتها في تسفّلها ، فإما إلى أسفل سافلين ،
أو لها أجر غير ممنون.
وكصيرورة الحقّ
سبحانه سمعها وبصرها ويدها (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) .
وككونها في أوّل
الحدوث ، وبحسب الظاهر صورة نوع واحد ، ويصير آخرا ، وبحسب الباطن صور أنواع كثيرة
حتّى قد يسري ذلك في الظاهر ـ أيضا ـ كما عرفت (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) .
__________________
فصل
ومن العجائب
الواقعة في النشأة الإنسانية : الطبع الموزون ، وتناسب البحور ، والصوت الحسن ،
ونحو ذلك.
مثلا : بحر الهزج
هو أربع مفاعلين ، وإن ابتدأت بعلين ، وختمت بمفا ، صار بحر الرجز الّذي هو أربع
مستفعلن ، وإن ابتدأت بلن ، وختمت بمفاعي صار بحر الرمل الّذي هو أربع فاعلاتن ،
وعلى هذا القياس تتناسب البحور.
ومن هذا القبيل
الأصول الايقاعية ، فإنّ كلّ دور بمثابة مصراع ، والأزمنة المتخللة بين النقرات
بمثابة الحروف.
وأعجب من ذلك أن
حركة النبض على وفق النسب الموسيقية.
قال في القانون :
ينبغي أن يعلم أن للنبض طبيعة موسيقارية ، وكما أن صناعة الموسيقى تتم بتأليف
النغم على نسبة بينها في الحدة والثقل ، وبأدوار إيقاع مقدر للأزمنة الّتي تتخلل
نقراتها ، كذلك حال النبض ، فإنّ نسبة أزمنته في السرعة والتواتر نسبة إيقاعية ،
ونسبة أحواله في القوّة والضعف ، وفي المقدار نسبة كالتأليفية.
وكما أن أزمنة
الإيقاع ومقادير النغم قد تكون متّفقة ، وقد تكون غير متّفقة ، كذلك الاختلافات قد
تكون منتظمة ، وقد تكون غير منتظمة .
__________________
فصل
ومن العجائب
الواقعة في العالم الإنساني : الأحلام.
روى في الكافي ،
بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، أنه قال : «إنّ رأي المؤمن ، ورؤياه ، في آخر الزمان على
سبعين جزء من أجزاء النبوّة» .
وبإسناده عن
مولانا الرضا عليهالسلام : «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآله كان إذا أصبح قال
لأصحابه : هل من مبشّرات ، يعني به الرؤيا» .
وروى العامة
بأسانيدهم ما يقرب من الحديثين .
وسبب الرؤيا
انحباس الروح البخاري من الظاهر إلى الباطن ، بأسباب شتى ، مثل طلب الاستراحة عن
كثرة الحركة ، ومثل الاشتغال بتأثيره في الباطن لينفتح السد ، ولهذا يغلب النوم
عند امتلاء المعدة.
ومثل أن يكون
الروح قليلا ناقصا ، فلا يفي بالظاهر والباطن جميعا ، ولزيادته ونقصانه أسباب
طبّية مذكورة في كتب الأطبّاء.
فإذا انحبس الروح
إلى الباطن ، وركدت الحواس بسبب من الأسباب ، بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس ؛
لأنها لا تزال مشغولة بالتفكّر فيما تورده الحواس عليها ، فإذا وجدت فرصة الفراغ
وارتفعت عنها الموانع ، فإن كانت عالية معتادة بالصدق ، أو مائلة إلى العالم
الروحاني العقلي ، متوجّهة إلى الحق ،
__________________
مطهرة من النقائص
، معرضة عن الشواغل البدنية ، متّصفة بالمحامد ، أو غير ذلك ممّا يوجب تنويرها
ونقويتها وقدرتها على خرق العالم الحسي ، من الإتيان بالطاعات والعبادات ،
واستعمال القوى ، والآلات بموجب الأوامر الإلهية ، وحفظ الاعتدال بين طرفي الإفراط
والتفريط فيها ، ودوام الوضوء ، والذكر ، وخصوصا من أوّل الليل إلى وقت النوم ،
وصحة البدن ، واعتدال مزاجه الشخصي ، والدماغي ، اتّصلت بالجواهر الروحانية
الشريفة ، الّتي فيها نقوش جميع الموجودات ، كلية وجزئية ، المسماة بالكتاب المبين
، وأمّ الكتاب ، على ما مرّ تفصيله ، فانتقشت بما فيها من صور الأشياء ، لا سيّما
ما ناسب أغراضها ، ويكون مهمّا لها.
فإنّ النفس بمنزلة
مرآة ينطبع فيها كلّ ما قابلها من مرآة أخرى عند حصول الأسباب، وارتفاع الحجاب
بينهما ، والحجاب هاهنا اشتغال النفس بما تورده الحواس ، فإذا ارتفع ظهر فيها من
تلك المرائي ما يناسبها ويحاذيها.
فإن كانت تلك
الصور جزئية ، وبقيت في النفس تحفظ الحافظة إياها على وجهها ، ولم تتصرف فيه
القوّة المتخيّلة الحاكية للأشياء بتمثّلها ، فتصدق هذه الرؤيا ، ولا تحتاج إلى
التعبير.
وإن كانت
المتخيّلة غالبة ، أو إدراك النفس للصورة ضعيفا ، صارت المتخيّلة بطبعها إلى تبديل
ما رأته النفس بمثال ، كتبديل العلم باللبن ، وتبديل العدوّ بالحيّة ، وتبديل
الملك بالبحر ، أو الجبل ، إلى غير ذلك ؛ وذلك لما دريت أن لكلّ معنى صورة في نشأة
غير صورته في النشأة الأخرى ، وأن النشآت متطابقة.
نقل أن رجلا جاء
إلى ابن سيرين وقال : رأيت كأن في يدي خاتما أختم
به أفواه الرجال ،
وفروج النساء ، فقال : إنك مؤذّن تؤذّن في شهر رمضان ، قبل الفجر ، فقال : صدقت.
وجاء آخر فقال :
كأنّي أصببت الزيت في الزيتون ، فقال : إن كانت تحتك جارية اشتريتها ففتّش عن
حالها ، فإنّها أمّك ؛ لأنّ الزيتون أصل الزيت ، فهو ردّ إلى الأصل ، فنظر ، فإذا
جاريته كانت أمّه ، وقد سبيت في صغره.
وقال آخر له :
كأني أعلق الدرّ في أعناق الخنازير ، فقال : كأنّك تعلّم الحكمة غير أهلها ، وكان
كما قال.
وربما تبدل
المتخيّلة الأشياء المرئية في النوم بما يشابهها ، ويناسبها مناسبة ما ، أو ما
يضادّها ، كما من رأى أنه ولد له ابن فتولد له بنت ، وبالعكس ، وهذه الرؤيا تحتاج
إلى مزيد تصرّف في تعبيره ، بأن يحلل بالعكس ، أي يرجع من الصور الخيالية الجزئية
إلى المعاني النفسانية الكلية ، وربما لم تكن انتقالات المتخيلة مضبوطة بنوع مخصوص
، فانشعبت وجوه التعبير ، فصار مختلفا بالأشخاص والأحوال والصناعات ، وفصول السنة
، وصحة النائم ومرضه.
وصاحب التعبير لا
ينال إلّا بضرب من الحدس ، ويغلط فيه كثيرا للالتباس.
وإن كانت النفس
سفلية متعلقة بالدنيا ، منهمكة في الشهوات ، حريصة على المخالفات ، مستعملة
للمتخيّلة في التخيلات الفاسدة ، وغير ذلك ، ممّا يوجب الظلمة ، وازدياد الحجب ،
أو سوء مزاج الدماغ ، فلا تتصل بالجواهر الروحانية بمجرد ذلك ، فتفعل باختراعها
بقوّتها المتخيّلة في مملكتها وعالمها الباطني ، صورا وأشخاصا جسمانية ، بعضها
مطابقة لما يوجد في الخارج ، وبعضها جزافات لا أصل لها في شيء من العوالم ، بل هو
من دعابات المتخيّلة ،
واضطرابها الّتي
لا تفتر عنها في أكثر الأحوال ، ثمّ انتقلت منها وحاكتها بأمور أخرى في النوم ،
فبقيت مشغولة بمحاكاتها ، كما تبقى مشغولة بالحواسّ في اليقظة ، وخصوصا إذا كانت
ضعيفة منفعلة عن آثار القوى ، وهي أضغاث الأحلام.
ولمحاكاتها أسباب
من أحوال البدن ومزاجه ، فإن غلب على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر ، وإن
كان فيه الحرارة حاكاها بالنار والحمّام الحار ، وإن غلبت البرودة حاكاها بالثلج
والشتاء ، ونظائرهما ، وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة.
قال بعض العلماء :
وإنما حصلت صورة النار ـ مثلا ـ في التخيل عند غلبة الحرارة ؛ لأنّ الحرارة الّتي
في موضع تتعدى إلى المجاور لها كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه سيكون
سببا لحدوثه ؛ إذ خلقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره ، والقوّة
المتخيّلة منطبعة في الجسم الحارّ فتتأثّر به تأثّرا يليق بطبعها ؛ لأنّ كلّ شيء
قابل يتأثّر من شيء ، فإنما يتأثّر منه بشيء يناسب جوهر هذا القابل وطبعه ،
فالمتخيلة ليست بجسم حتّى تقبل نفس الحرارة ، فتقبل من الحرارة ما في طبعها القبول
له ، وهو صورة الحار ، فهذا هو السبب فيه .
__________________
وصل
سئل مولانا الصادق
عليهالسلام : الرجل يرى الرؤيا ، فتكون كما رآها ، وربما رأى الرؤيا
فلا تكون شيئا ، قال : إن المؤمن إذا نام خرجت من روحه حركة ممدودة صاعدة إلى
السماء ، وكلّ ما رآه روح المؤمن في ملكوت السماء في موضع التقدير والتدبير فهو
الحق ، وكلّ ما رآه في الأرض فهو أضغاث أحلام ، فقيل له : ويصعد روح المؤمن إلى
السماء؟ قال : نعم ، قيل : كيلا يبقى منه شيء في بدنه؟ فقال : لا ، لو خرجت كلّها
من الإنسان حتّى لا يبقى منه إذا لماتت ، قيل : وكيف يخرج؟ فقال : إنّما ترى الشمس
في السماء في موضعها ، وضوؤها وشعاعها في الأرض ، فكذلك الروح ، أصلها في البدن ،
وحركتها ممدودة .
وعن مولانا الباقر
عليهالسلام ما يقرب من صدر الحديث ، إلّا أنه قال : «وما رأت في
الهواء فهو أضغاث» .
ويقرب منه ما رواه
أمير المؤمنين عليهالسلام ، عن النبي صلىاللهعليهوآله ، إلّا أنه قال : «فما رأى عند رب العالمين فهو حق» .
وفي الصحيح ، عن
مولانا الرضا عليهالسلام : أن «الرؤيا على ما تعبّر» .
وفي الموثّق ، عنه
، أو عن أبيه عليهماالسلام : «أنّ امرأة رأت على عهد رسول اللهصلىاللهعليهوآله أن جذع بيتها قد انكسر ، فأتت النبي صلىاللهعليهوآله فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها
__________________
النبي صلىاللهعليهوآله : يقدم زوجك ويأتي وهو صالح ، وقد كان زوجها غائبا ، فقدم
كما قال النبيصلىاللهعليهوآله ، ثمّ غاب زوجها غيبة أخرى ، فرأت في المنام كأن جذع بيتها
قد انكسر ، فأتت النبي صلىاللهعليهوآله فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها : يقدم زوجك ، ويأتي صالحا ،
فقدم على ما قال، ثمّ غاب زوجها ثالثة ، فرأت في منامها أن جذع بيتها قد انكسر ،
فلقيت رجلا أعسر فقصّت عليه الرؤيا ، فقال لها الرجل السوء : يموت زوجك ، قال :
فبلغ ذلك النبيصلىاللهعليهوآله ، فقال : ألا كان عبّر لها خيرا» .
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «الرؤيا لا تقصّ إلّا على مؤمن ، خلا من الحسد والبغي» .
فصل
الاتصال بالجواهر
الروحانية كما يكون في المنام ، فكذلك قد يكون في اليقظة أيضا ، كما أن الاختراعات
الخالية تكون في الحالتين ؛ وذلك لأنّ رفع الحجاب بين مرآة النفس وذلك العالم كما
يكون بالمنام ، فكذلك قد يكون بأسباب أخر ، مثل صفاء النفس ، بحسب أصل الفطرة ،
ومثل انزعاج النفس وانضجارها عن هذا العالم ، بسبب ما يكدرها ، وينغص عيشها
الدنياوي ، من المؤلمات ، والمنفّرات ، فيتوجّه إلى عالمها هربا من هذه الأمور
الموحشة ، فيرتفع الحجاب بينها وبين عالمها.
ومثل الرياضات
العلمية والعملية الّتي توجب المكاشفات الصورية
__________________
والمعنوية ، أي
ظهور الحوادث والحقائق ، ومثل الموت الإرادي الّذي يكون للأولياء ، ومثل الموت
الطبيعي الّذي يوجب كشف الغطاء للجميع ، سواء كانوا سعداء ، أو أشقياء ، ومثل ما
لو غلب على المزاج اليبوسة والحرارة ، وقلّ الروح البخاري حتّى صرفت النفس لغلبة
السوداء ، وقلّة الروح عن موارد الحواس ، فيكون مع فتح العين وسائر أبواب الحواس
كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع ؛ وذلك لضعف خروج الروح إلى الظاهر ، فهذا
أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شيء من الغيب ، فيحدّث به ،
ويجري على لسانه ، فكأنّه أيضا غافل عما يحدّث به ، وهذا يوجد في بعض المجانين
والمصروعين ، وبعض الكهنة ، فيحدّثون بما يكون موافقا لما سيكون.
وصل
فما تتلقّاه النفس
في اليقظة فعلى وجهين : فإن كانت النفس قوية وافية بضبط الجوانب ، لا تشغلها
المشاعر السفلية عن المدارك العالية ، وتكون سحيّلتها قوية على استخلاص الحس
المشترك عن مشاهدة الظواهر إلى مشاهدة ما تراها في الباطن فلا يبعد أن يقع لها ما
يقع للنائم من غير تفاوت ، فمنه ما هو وحي صريح لا يفتقر إلى التأويل ، ومنه ما
ليس كذلك ، فيفتقر إليه ، أو يكون شبيها بالمنامات الّتي هي أضغاث أحلام ، إن
أمعنت المتخيّلة في الانتقال والمحاكاة ، وإن لم تكن كذلك فلا تخلو إمّا أن تستعين
بما يقع للحس دهشة ، وللخيال حيرة ، أو لا ، بل كانت لضعف طبيعي في الحواس ، أو مرض
طارىء ، فالأول كفعل المستنطقين المشغلين للصبيان والنساء ذوات المدارك الضعيفة
بأمور مترقرقة ، أو بأشياء ملطّخة سود مدهشة ، محيّرة للحس ، مرعشة للبصر ،
برجرجتها ، أو
شفيفها ، وكاستعانة بعض المتصوّفة والمتكهّنة برقص ، وتصفيق ، وتطريب ، فكلّ هذه
موهنة للحواس ، مخلّة بها.
وربّما يستعينون
أيضا بالإيهام بالعزائم ، وبأدعية غير مفهومة الألفاظ ، توجب الترهيب بالجنّ ، إذا
استنطقوا غيرهم ، والثاني كما للمصروعين والممرورين ، ومن في قواه ضعف ، وفي دماغه
رطوبة قابلة.
وقد يجتمع الشيئان
ضعف العائق ، وقوّة النفس ، بتطريب وغيره ، كما لكثير من المرتاضين من أولي الكد
وهذا حسن ، وما للكهنة والممرورين نقص أو ضلال ، وتعطيل للقوى عما خلقت لأجله.
وأمّا الفضلاء
فرياضاتهم وعلومهم مرموزة مكتومة عن المحجوبين.
فصل
قال بعض العلماء :
اعلم أن أكثر ما تظهر قوّة الكهانة ونحوها من قوى النفوس في أوقات الأنبياء ،
وقبيل ظهورهم ؛ وذلك أن الفلك إذا أخذ في التشكل بشكل يتمّ به في العالم حدث عظيم
، عرض من ابتداء ذلك الشكل ، وغايته أحداث في الأرض شبيهة بما يريد أن يتمّ ،
ولكنها تكون غير تامّة ؛ لأنّ سببها غير تام .
__________________
فإذا استكمل ذلك
الشكل في الفلك وتمّ ، وجد به في العالم ما يقتضيه في أسرع زمان؛ لسرعة تبدّل
أشكال الفلك ، فتظهر تلك القوّة الّتي يوجبها ذلك الشكل في شخص واحد ، أو شخصين ،
أو أكثر ، على حسب ما تقتضيه العناية الإلهية ، وتستوعب ذلك الشخص تلك القوّة على
الكمال ، فأما من قرب من ذلك الشكل ولم يستوفه فإنه يكون ناقص القوّة بحسب بعده من
الشكل.
ويظهر ذلك النقصان
بظهور النبوّة المقصودة من ذلك الشكل ، فيتبيّن قصور القوى المتقدمة على النبي ،
والمتأخرة عنه ، ونقصانها عن ذلك التمام.
قال : فأما صفة
الكاهن من أصحاب تلك القوى فهو أن صاحب قوّة الكهانة إذا أحسّ بها من نفسه تحرّك
إليها بالإرادة ليكملها ، فيبرزها في أمور حسّية ، ويثيرها في علامات تجري مجرى
الفال ، والزجر ، وطرق الحصى ، وربما استعان بالكلام الّذي فيه سجع وموازنة ، أو
بحركة عنيفة من عدو حثيث ، كما حكي عن كاهن من الترك ، أو تحريك رأس ، كما نقل إليّ من شاهد كاهنا كان في زماننا.
[إلى أن قال :]
والغرض من ذلك اشتغال النفس عن المحسوسات ، فتداخل نفسه ، ويقوى فيها ذلك الأثر ،
ويهجس في نفسه عن تلك الحركة ما يقذفه على لسانه ، وربما صدق الكاهن ، وربما كذب ؛
وذلك أنه يتمم نقصه بأمر مباين لكماله ، غير داخل فيه ، فيعرض له الكذب ، ويكون
غير موثوق به ، وربّما تعمّد الكذب خوفا من كساد بضاعته ، فيستعمل الزرق ويخبر بما
لا أثر له في نفسه ، ويضطرّ إلى التخمين.
ودرجات هؤلاء
متفاوتة بحسب قربهم من الأفق الإنساني ، وبعدهم منه ،
__________________
وبقدر قبولهم
للأثر العلوي.
ويتميّزون عن
الأنبياء بالكذب ، وما يدّعونه من المحالات ، وإن اتّفق أن يلزم أحدهم الصدق ،
فإنه لا يتجاوز قدره في قوّته ، ويبادر إلى التصديق بأول أمر يلوح من النبي ،
ويعرف فضله ، كما روي عن طليحة ، وسواد بن قارب ، ونحوهما من الكهنة في زمان الرسول صلىاللهعليهوآله .
__________________
فصل
ومن الآيات
الغريبة الإنسانية غير ما ذكر من الإخبار بالمغيبات ، تأثيره في مادّة العالم
بإزالة صورة ، ونزعها عن المادة ، أو تلبيسها إياها ، فيؤثّر في استحالة الهواء
إلى الغيم ، ونزول الأمطار ، أو في إزالة المرض عن مريض ، أو في إهلاك ، أو
إنجائهم ، أو خشوع سبع له ، أو عدم تنفّر طائر منه ، أو غير ذلك ممّا يجري مجراها
، سواء كان بدعاء ، أو برقية ، أو غيرهما ؛ ولذلك كله أسباب ذاتية ووجوه عقلية ،
ليس بمستبعد في قدرة الله ، ولا بمستنكر على الله ، وربما يتأتى لنا أن نذكر بعضها
، كما استفدناه من أهلها ، فاسمع :
وصل
قد علمت أن
الأجسام مطيعة للنفوس ، متأثّرة عنها ، وأن صور الكائنات تتعاقب على المواد
العنصرية بتأثيرات النفوس الفلكية ، والنفس الإنسانية إذا قويت يمكن أن تتشبّه بها
تشبّه الأولاد بالآباء ، فتؤثر في مادّة العناصر تأثيرها.
وأمّا إذا لم تقو
فلم يتعدّ تأثيرها إلى غير بدنها وعالمها الخاص ، وما من نفس إلّا ولها تأثيرات في
عالمها الخاص ، حتّى أن وهم الماشي على جذع معروض فوق فضاء يفعل في إزلاقه ما لا
يفعله وهم مثله ، والجذع على قرار أيضا ، فإنّ النفس إذا توهّمت صورة مكروهة
استحال مزاج بدنها ، وحدثت رطوبة العرق والرعشة ، وإذا حدثت فيها صورة الغلبة
تسخّن البدن واحمرّ الوجه ، وإذا وقعت فيها صورة النكاح حدثت حرارة مسخّنة منفخة
للريح ، حتّى
تمتلىء به عروق
آلة الوقاع ، فتنهض له ، وهذه الحوادث في البدن إنما تكوّنت بمجرد التصورات.
ويظهر من هذا أنه
ليس من شرط كلّ مسخّن أن يكون حارّا ، وكذا مثله ، فإذا صارت الأمزجة تتأثر عن
الأوهام ، فلا عجب من أن تكون لبعض النفوس قوّة كمالية صارت كأنها نفس العالم ،
فيؤثر في غير بدنها تأثيرها في بدنها ، فتطيعها مادّة العالم طاعة البدن للنفس ،
أو تنفعل عنها قوى نفوس أخرى تفعل فيها ، لا سيّما إذا كانت شحذت ملكتها بقهر
قواها البدنية الّتي لها ، فتقهر شهوة ، أو غضبا ، أو خوفا من غيرها.
فصل
إن هذه القوّة
للنفس ربما كانت بحسب المزاج الأصلي ؛ لما يفيده من هيئة نفسانية تشخّصها ، وربّما
يحصل بمزاج طارىء ، وربما يحصل بضرب من الكسب والتعويد ، يجعل النفس وهي في البدن
كالمجردة ؛ لشدة الذكاء ، كما يحصل لأولياء الله الأبرار.
فالذي يقع له هذا
في جبلّة النفس ، ثمّ يكون خيّرا رشيدا ، مزكّيا فيه فهو ذو معجزة من الأنبياء ،
أو كرامة من الأولياء ، وتزيده تزكية لنفسه في هذا المعنى زيادة على مقتضى جبلّته
، فيبلغ المبلغ الأقصى.
والذي يقع له هذا
ثمّ يكون شرّيرا ، ويستعمله في الشرّ ، فهو الساحر الخبيث ، وقد يكسر قدر نفسه من
غلوائه في هذا المعنى ، فلا يلحق شأو الأذكياء فيه.
وكأنّ الإصابة
بالعين من هذا القبيل ، والمبدأ فيها حالة نفسانية معجبة ، تؤثر نهكا في المتعجّب
منه بخاصّيته ، قال النبي صلىاللهعليهوآله : «العين حقّ» ، وقال أيضا : «العين تدخل الرجل القبر ، والجمل القدر» ، ومعناه : أنه يستحسن الجمل ـ مثلا ـ ويتعجّب منه ،
فيتوهّم لرداءة نفسه الخبيثة سقوط الجمل ، فينفعل جسم الجمل عن توهّمه ، ويسقط في
الحال.
فصل
إن الأمور الغريبة
تنبعث في هذا العالم من مبادىء ثلاثة :
أحدها : الهيئة
النفسانية المذكورة.
وثانيها : خواصّ
الأجسام العنصرية ، مثل جذب المغناطيس للحديد بقوّة تخصّه.
وثالثها : قوى
سماوية بينها وبين أمزجة أجسام أرضية مخصوصة بهيئة وضعيّة ، أو بينها وبين قوى
نفوس أرضية مخصوصة بأحوال فعلية وانفعالية مناسبة ، تستتبع حدوث آثار غريبة.
والسحر من قبيل
القسم الأوّل ، بل المعجزات والكرامات أيضا. والنيّر نجات من قبيل القسم الثاني ،
وكذا الحيل. والطلسمات من قبيل القسم الثالث ، وكذا دعوة الكواكب ، بل العزائم
أيضا.
__________________
فصل
ومن الغرائب
الإنسانية إطاقته بقوّته فعلا ، أو تحريكا ، أو حركة تخرج عن وسع مثله ، والسرّ
فيه أن مبدأ القوّة البدنية هو الروح الحيواني ، ثمّ هو قد ينقبض إلى داخل فتنحط
القوّة كما تعرض عند خوف ، أو حزن ، وقد تنبسط إلى خارج ، فتتضاعف القوّة ، كما
يعرض عند الغضب والمنافسة ، وكما يعرض عند الفرح المطرب ، أو الانتشاء المعتدل ،
فيمكن أن يعرض لعبد من عباد الله ارتياح ، كما يعرض عند الفرح ، فأعطي القوّة
الّتي لها سلاطة وقهر ، أو تغشيه غرّة كما تغشى عند المنافسة ، فاشتعلت قواه حمية
، وكان ذلك أعظم وأجسم ممّا يكون عند طرب ، أو غضب ، ولا سيّما إذا كان ذلك ببهجة
الحق ، والاغترار الرباني ، والحمية الإلهية ، من لدن مبدأ الحق ، وأصل الرحمة ،
كما يكون لأولياء الله ، وإليه أشار مولانا أمير المؤمنين عليهالسلام : «والله ما قلعت باب خيبر بقوّة جسدانية ، ولكن قلعته
بقوّة ربّانية» .
فصل
ومن ذلك الإمساك
عن القوت مدّة غير معتادة ، والسر فيه توجّه النفس بالكلية إلى أمر ما ، وسيّما
إذا كان من الأمور القدسية ، والنشأة العليا ، فإن ذلك مستلزم لتشييع القوى
الجسمانية ، وانجذابها خلفها ، وهو مستلزم لترك تلك القوى أفاعيلها الّتي منها
الهضم والشهوة والتغذية ، وما يتعلق بها ، وهو موجب
__________________
لعدم الاحتياج إلى
الغذاء ، ولا سيّما ويقترن معه السكون البدني الّذي تقتضيه ترك القوى أفاعيلها ،
فإنّ ذلك نعم المعين ؛ لاستلزامه قلة التحليل الموجب للاحتياج إلى الغذاء.
قال في الإشارات :
وكيف تنكر ذلك ، وأنت ترى ما يعتري مستشعر الخوف من سقوط الشهوة ، وفساد الهضم ،
والعجز عن أفعال طبيعية ، كانت متواتية .
وترى مثل ذلك في
الأمراض الحادّة ، فإنّ الطبيعة إذا شغلت عن تحريك الموادّ المحمودة بهضم المواد
الرديّة ، انحفظت المواد المحمودة قليلة التحلل ، غنية عن البدن ، فربما انقطع عن
صاحبها الغذاء مدّة طويلة ، لو انقطع مثله في غير حالته ، بل عشر مدّته ، هلك ،
وهو مع ذلك محفوظ الحياة ، هذا.
مع أن المرض الحاد
لا يعرى عن التحليل للحرارة الغريزية المسماة بسوء المزاج ، وعن المضاد المسقط
للقوّة المحوج إلى الرطوبات الحافظة لها ، بخلاف ما نحن فيه.
فصل
ومن الغرائب
الإنسانية : الفراسة ، قال النبي صلىاللهعليهوآله : «اتقوا فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور الله» .
وقال صلىاللهعليهوآله : «الدجال مكتوب على ناصيته : ك ف ر ، ولا يقرأه إلّا
__________________
مؤمن» .
والسرّ فيه أن
الصور المحسوسة ظلال للصور المثالية ، فالعارف بالمناسبات يعرف ذلك.
روى في بصائر
الدرجات ، بإسناده عن سليمان الجعفري ، قال : كنت عند أبي الحسن عليهالسلام فقال : يا سليمان ، اتّق فراسة المؤمن ، فإنه ينظر بنور
الله ، فسكتّ حتى أصبت خلوة ، فقلت : جعلت فداك ، سمعتك تقول : اتّق فراسة المؤمن
فإنه ينظر بنور الله ، قال : نعم يا سليمان ، إنّ الله خلق المؤمن من نوره في
رحمته ، وأخذ ميثاقهم لنا بالولاية ، والمؤمن أخو المؤمن لأبيه وأمّه ، أبوه النور
، وأمّه الرحمة ، وإنما ينظر بذلك النور الّذي خلق منه .
وبإسناده عن
مولانا الباقر عليهالسلام ، قال : «ليس مخلوق إلّا وبين عينيه مكتوب : مؤمن ، أو
كافر ، وذلك محجوب عليكم ، وليس بمحجوب عن الأئمة من آل محمّدصلىاللهعليهوآله ، ثمّ ليس يدخل عليهم أحد إلّا عرفوه ، مؤمن أو كافر ، ثمّ
تلا هذه الآية : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ) » .
وبإسناده عن
الأصبغ بن نباتة ، أن أمير المؤمنين عليهالسلام صعد المنبر ، فحمد الله ، وأثنى عليه ، ثمّ قال : يا أيها
الناس ، إن شيعتنا من طينة مخزونة قبل أن يخلق الله آدم بألفي عام ، لا يشذّ منها
شاذّ ، ولا يدخل فيها داخل ، وإني لأعرفهم حين
__________________
أنظر إليهم ؛ لأنّ
رسول الله صلىاللهعليهوآله لما تفل في عيني وأنا أرمد ، قال : اللهم أذهب عنه الحرّ
والبرد ، وبصّره صديقه من عدوّه ، فلم يصبني رمد بعد ، ولا حرّ ، ولا برد ، وإني
لأعرف صديقي من عدوي.
فقام رجل من الملأ
، فسلّم ، ثمّ قال : والله يا أمير المؤمنين إني لأدين الله بولايتك ، وإني لأحبّك
في السر ، كما أظهر لك في العلانية ، فقال له علي عليهالسلام : كذبت ، فو الله ما أعرف اسمك في الأسماء ، ولا وجهك في
الوجوه ، وإنّ طينتك لمن غير تلك الطينة ، قال : فجلس الرجل قد فضحه الله ، وأظهر
عليه ، ثمّ قام آخر فقال : يا أمير المؤمنين ، إني لأدين الله بولايتك ، وإني
لأحبك في السر ، كما أحبّك في العلانية ، فقال له : صدقت ، طينتك من تلك الطينة ،
وعلى ولايتنا أخذ ميثاقك ، وإن روحك من أرواح المؤمنين ، فاتّخذ الفقر جلبابا ،
فوالذي نفسي بيده لقد سمعت رسول الله صلىاللهعليهوآله يقول : إن الفقر أسرع إلى محبّينا من السيل من أعلى الوادي
إلى أسفله .
فصل
ومن الغرائب إظهار
السالكين أبدانهم المثالية في مواضع مختلفة ، في وقت واحد ، وفي أوقات ، وإظهار ما
يريدون من المطاعم والملابس ، وكذا المبرزون من السحرة والكهنة ، يظهرون العجائب
في هذا العالم ، كإراءة الجن ، وغيرها ، ولا يلزم أن يكون لظهور ذلك عندنا مظهر
صقيل ، كالمرآة ؛ إذ قد يرى مثل هذه الأشباح في محلّ مظلم غير صقيل ، وكثيرا ما
يقع الاشتباه بين ما يراه
__________________
الإنسان بعين
الحسّ ، وبين ما يراه بعين الخيال ، مع أنهما مختلفتا الأحكام ، فربّ قليل في عين
الحسّ هو كثير في عين الخيال ، وبالعكس ، كما قال تعالى : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ
الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) .
وقال عزوجل : (يَرَوْنَهُمْ
مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ) ، وما كانوا مثليهم في عين الحسّ ، فما ذاك إلّا بعين
الخيال ، فهو حقّ في الخيال ، وليس بحق في الحسّ ؛ لاختلاف النشأتين ، وهذا كما
ترى في المنام اللبن تشربه ولم يكن ذلك سوى عين العلم ، فما رأيته لبنا وهو علم
ليس إلّا بعين الخيال.
ومن هذا يظهر أن
الرؤية ليس من شرطها أن تكون بالعين ، ولا المرئي إنّما يسمى مرئيا لكونه يحصل
بالعين ، بل لأنّه غاية انكشاف الشيء ، فلو وقعت غاية الانكشاف بقوّة أخرى كانت
حقيقته الرؤية بحالها ، كالصور الّتي يراها النائم في عموم أوقاته ، فالنفوس إذا
كانت قوية كان اقتدارها على الاختراع أقوى ، فتكون متصوراتها موجودات خارجية حاضرة
عندها بذواتها ، وعند من تكون درجته في القوّة والنورية هذه الدرجة ، كما مرّ في
مباحث النشآت ، نقلا عن صاحب الفتوحات.
روى عباية الأسدي
قال : دخلت على أمير المؤمنين عليهالسلام ، وعنده رجل رثّ الهيئة ، وأمير المؤمنين عليهالسلام مقبل عليه يكلّمه قال : فلما قام الرجل ، قلت : يا أمير
المؤمنين ، من هذا الّذي أشغلك عنّا؟ قال : هذا وصي موسى عليهالسلام .
__________________
فصل
ومن الغرائب
تشكّلهم بأشكال غير أشكالهم المحسوسة ، وهم في دار الدنيا ؛ لقوّة انسلاخهم من
أبدانهم ، وبعد انتقالهم أيضا إلى الآخرة ؛ لازدياد تلك القوّة بارتفاع المانع
البدني ؛ وذلك لأنّ لكلّ من الأرواح والنفوس صورا كثيرة مثالية مختلفة على حسب
اختلاف الصفات النفسانية ، وأغراضها ، واختلاف المظاهر والمواضع والأزمنة ،
وغيرها.
روى في الكافي ،
بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : إن أبي كان قاعدا في الحجر ، ومعه رجل يحدثه ،
فإذا هو بوزغ يولول بلسانه ، فقال أبي للرجل : أتدري ما يقول هذا الوزغ؟ قال : لا
علم لي بما يقول ، قال : فإنه يقول : والله لئن ذكرتم عثمان بشتمة لأشتمنّ عليا
حتّى يقوم من هاهنا ، قال : وقال أبي : ليس يموت من بني أمية ميّت إلّا ومسخ وزغا
، قال : وقال : إنّ عبد الملك بن مروان لما نزل به الموت مسخ وزغا ، فذهب من بين
يدي من كان عنده ، وكان عنده ولده ، فلما أن فقدوه عظم ذلك عليهم ، فلم يدروا كيف
يصنعون ، ثمّ اجتمع أمرهم على أن يأخذوا جذعا فيصنعوه كهيئة الرجل ، قال : ففعلوا
ذلك ، وألبسوا الجذع درع حديد ، ثمّ ألقوه في الأكفان ، فلم يطّلع عليه أحد من الناس ، إلّا أنا
وولده .
أقول : إنّ هذا من
أغرب الغرائب.
__________________
فصل
ومن الغرائب
الإنسانية : دخولهم في العوالم الملكوتية كلّها ، كدخول الملائكة في هذا العالم ،
وتشكّلهم بأشكال أهله ، وظهورهم في خيالات المكاشفين ، كظهور الملائكة والجن.
قال القيصري : وهؤلاء هم المسمّون بالبدلاء ، وقد يفرّق بينهم وبين
الملائكة أصحاب الأذواق بموازينهم الخاصة بهم ، وقد يلهمهم الحقّ سبحانه ما يحصل
به العلم بهم ، وقد يحصل بإخبارهم عن أنفسهم .
فصل
ومن الغرائب
الإنسانية مصاحبتهم مع الملائكة ، ومجالستهم معهم ، وأخذهم العلوم منهم ، كما مضى
في مباحث النبوّة.
قال مولانا الكاظم
عليهالسلام : «ما من ملك يهبطه الله في أمر ، ما يهبطه إلّا بدأ بالإمام
، فعرض ذلك عليه ، وإن مختلف الملائكة من عند الله تبارك وتعالى إلى
__________________
صاحب هذا الأمر» .
وفي الصحيح ، عن
أبي حمزة الثمالي ، قال : دخلت على علي بن الحسين عليهماالسلام ، فاحتبست في الدار ساعة ، ثمّ دخلت البيت ، وهو يلتقط
شيئا ، وأدخل يده من وراء الستر ، فناوله من كان في البيت ، قلت : جعلت فداك ، هذا
الذي أراك تلتقطه أي شيء هو؟ فقال : فضلة من زغب الملائكة ، نجمعه إذا خلونا
ونجعله سنحابا لأولادنا ، فقلت : جعلت فداك ، وإنهم ليأتونكم؟ فقال : يا
با حمزة ، إنهم ليزاحمونا على تكائنا .
أقول : الزغب :
الشعيرات الصغار من ريش الفراخ ، وسنحاب : ككتاب ، قلادة.
وتصديق هذا الحديث
قوله عزوجل ، حكاية عن السامري : (بَصُرْتُ بِما لَمْ
يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ) .
وفي معناه روايات
مستفيضة عن أهل البيت عليهمالسلام ، رويت في الكافي ، والبصائر ، وغيرهما ، قال الله تعالى : (الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ
اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ
__________________
عَلَيْهِمُ
الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا) الآية .
قال في الفتوحات :
ومن نفّس الرحمن عنه بمجالسة الملائكة ، ونعم الجلساء ، هم أنوار خالصة ، لا فضول
عندهم ، وعندهم العلم الإلهي ، الّذي لا مرية فيه ، فيرى جليسهم في مزيد علم بالله
دائما مع الأنفاس ، فمن ادّعى مجالسة الملأ الأعلى ولم يستفد في نفسه علما بربّه ،
فليس بصحيح الدعوى ، وإنما هو صاحب خيال فاسد .
فصل
ومن الغرائب مصاحبتهم
الجنّ ، ومجالستهم معهم ، واستفادة بعض العلوم الجزئية ، وخبر بعض الحوادث منهم ،
أو إفادة المعالم الدينية والشرائع لهم ، أو استخدامهم في الحوائج، أو غير ذلك.
قالت حكيمة بنت
موسى : رأيت الرضا عليهالسلام واقفا على باب بيت الحطب ، وهو يناجي ، ولست أرى أحدا ،
فقلت : يا سيدي ، لمن تناجي؟ فقال : هذا عامر الزهرائي أتاني يسألني ، ويشكو إليّ
، فقلت : سيدي أحبّ أن أسمع كلامه ، فقال لي : إنّك إن سمعت به حممت سنة ، فقلت :
سيدي أحب أن أسمعه ، فقال لي : اسمعي ، فاستمعت ، فسمعت شبه الصفير ، وركبتني
الحمّى ، فحممت سنة .
وقال سدير الصيرفي
: أوصاني أبو جعفر عليهالسلام بحوائج له بالمدينة ،
__________________
فخرجت ، فبينا أنا
بين فج الروحاء على راحلتي إذا إنسان يلوي بثوبه ، قال : فملت إليه ، وظننت أنه
عطشان ، فناولته الإداوة ، فقال : لا حاجة لي بها ، وناولني كتابا طينه رطب ، قال
: فلما نظرت إلى الخاتم إذا خاتم أبي جعفر عليهالسلام ، فقلت : متى عهدك بصاحب الكتاب؟ قال : الساعة ، وإذا في
الكتاب أشياء يأمرني بها ، ثمّ التفتّ فإذا ليس عندي أحد ، قال : فقدم أبو جعفر عليهالسلام ، فلقيته ، فقلت : جعلت فداك ، رجل أتاني بكتابك ، وطينه
رطب ، فقال لي : يا سدير ، إنّ لنا خدما من الجن ، فإذا أردنا السرعة بعثناهم .
وقال سعد الإسكافي
: أتيت أبا جعفر عليهالسلام أريد الإذن عليه ، فإذا رحال إبل على الباب مصفوفة ، وإذا
الأصوات قد ارتفعت ، ثمّ خرج قوم معتمّين بالعمائم ، يشبهون الزطّ ، قال : فدخلت
على أبي جعفر عليهالسلام ، فقلت : جعلت فداك أبطأ إذنك عليّ اليوم ، ورأيت قوما
خرجوا عليّ معتمّين بالعمائم ، فأنكرتهم ، فقال : وتدري من أولئك يا سعد؟ قال :
قلت : لا ، قال : فقال : أولئك إخوانك من الجنّ ، يأتونا فيسألونا عن حلالهم
وحرامهم ، ومعالم دينهم .
وفي معنى هذه
الأحاديث ، وما يقرب منها روايات مستفيضة عن أهل البيت عليهمالسلام ، رويت في الكافي ، والبصائر ، وغيرهما .
قال في الفتوحات :
إنّ الجان هم أجهل العالم الطبيعي ، ويتخيل جليسهم بما يخبرونه من حوادث الأكوان ، وما يجري
في العالم أنها تحصل لهم ،
__________________
من استراق السمع
بالملأ الأعلى ، فيظنّ جليسهم أن ذلك من كرامة ، هيهات لما ظنّوا ، ولهذا ما ترى
قطّ أحدا جالسهم فحصل عنده علم بالله جملة ، غايته أن يمنحوه من علم خواصّ النبات
والأحجار ، والأسماء ، والحروف ، فهو علم السيميا ، فلم يكتسب منهم إلّا العلم
الّذي ذمّته الشرائع ، ومن ادّعى صحبتهم وهو صادق في دعواه فاسأله عن مسألة في
العلم الإلهي ، ما تجد عنده أصلا ، فرجال الله يفرّون من صحبتهم أشدّ فرارا منهم
من الناس، فإنه لا بدّ أن تورث صحبتهم في النفس تكبّرا على الغير بالطبع ، وازدراء
بمن ليس له في صحبتهم قدم ، وقد رأينا جماعة ممن صحبوهم حقيقة وظهرت لهم براهين
على صحّة ما ادّعوه من صحبتهم ، وكانوا أهل اجتهاد وعبادة ، ولكن لم يكن عندهم من
جهتهم شمّة من العلم بالله ، ورأينا فيهم غرة ، وتكّبرا.
قال : فمجالستهم
رديّة جدا ؛ لأنّ أصلهم نار ، والنار كثيرة الحركة ، ومن كثرت حركته كان الفضول
أسرع إليه ، فهم أشدّ فتنة على جليسهم من الناس .
فصل
ومن الغرائب
سماعهم للأصوات الملكوتية ، كسماع الأنبياء عليهمالسلام الوحي النازل عليهم كلاما منظوما ، كما مضى بيانه ، أو مثل
صلصلة الجرس ، ودوي النحل ، كما جاء في الحديث عن النبي صلىاللهعليهوآله ، أنه كان يسمع ذلك ، ويفهم المراد منه ، وكسماعهم وسماع الأولياء أيضا بنورهم أصوات عذاب الأموات
في
__________________
قبورهم ، وهذا
يشاركهم فيه جميع الموجودات ما عدا الثقلين ، الجنّ والإنس.
روي أنّ رسول الله
صلىاللهعليهوآله كان على بغلة إذ حادت به ، وكادت تلقيه ، وإذا أقبر خمسة ،
أو ستة ، فسأل عن أصحابها فقيل : ماتوا في الشرك ، فقال : إنّ هذه الأمة تبتلى في
قبورها ، فلو لا أن تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع منه .
وعن مولانا الباقر
عليهالسلام ، قال : قال النبي صلىاللهعليهوآله : إني كنت لأنظر إلى الإبل والغنم وأنا أرعاها ، وليس من
نبي إلّا وقد رعى الغنم ، فكنت أنظر إليها قبل النبوّة وهي ممتلية من المكينة ما حولها شيء يهيّجها ، حتّى تذعر وتطير ، فأقول : ما هذا
، وأعجب حتّى حدّثني جبرئيل عليهالسلام أن الكافر يضرب بضربة ما خلق الله شيئا إلّا سمعها ، ويذعر
لها إلّا الثقلين .
وكسماعهم التسليم
والتسبيح من الأحجار ، فعن أمير المؤمنين عليهالسلام : «خرجنا مع رسول الله صلىاللهعليهوآله من مكة ، فما لقينا شجر ولا حجر إلّا وقال : السلام عليك
يا رسول الله» .
قال في الفتوحات :
إن المسمى بالجماد والنبات لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إياها ، في
العادة ، فلا يحسّ بها مثل ما يحسّ من الحيوان ، فالكلّ عند أهل الكشف حيوان ناطق
، بل حيّ ناطق ، غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير ، ونحن زدنا مع
الإيمان بالأخبار الكشف ،
__________________
فقد سمعنا الأحجار
تذكر الله رؤية عين ، بلسان تسمعه آذاننا ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ،
ممّا ليس يدركه كلّ إنسان.
وقال في موضع آخر
: وليس هذا التسبيح بلسان الحال ، كما يقوله أهل النظر ممن لا كشف له ، قيل : إنّ
الإنسان إذا أراد أن يبلغ إلى هذا المقام يجب أن يصير حيوانا مطلقا ، لئلّا يزاحمه
العقل ؛ ولهذا من يبلغ إليه يصير أبكم.
قال صاحب الفتوحات
: لما أقامني الله تعالى في هذا المقام ، تحقّقت بحيوانيّتي تحقّقا كليا ، وكنت
أرى وأريد أن أنطق بما أشاهده ، فلا أستطيع .
فصل
ما ذكرناه أنموذج
من عجائب النشأة الإنسانية ، وغرائبها ، ولها عجائب أخرى ، وغرائب لا تحصى ، بعضها
مذكور في الكتب الّتي صنّفت في هذا ، ككتاب «عجائب المخلوقات» ، وكتاب «عجائب الحيوان» ، وغير ذلك.
__________________
وليعلم أن العادة
متعلّقة بالتقدير الأزلي الواقع في علم الله سبحانه ، الجاري على سنّة الله تعالى
، وخرق العادة يتعلق بذلك لا على السنّة ، بل إظهارا للقدرة ، وهو إن صدر عن
الأنبياء يسمى معجزة ، وإن صدر عن الأولياء والصلحاء والمؤمنين يسمى كرامة ، وإن
صدر من غيرهم يسمى سحرا وكهانة ، وغير ذلك.
وقد يصدر من بعض
الملوك شديد الهمة والبأس ، بعض الخوارق ، ولكن لا يدلّ ذلك على كرامة.
ثمّ إنّ هؤلاء
جميعا إن ساعدتهم الأسباب الخارجية استولوا على أهل العالم ، وصار كلّ منهم صاحب
قرنه وزمانه ، بحسب الدولة الظاهرة ، وإن لم تساعدهم الأسباب لم يحصل لهم ذلك ،
إلّا أنهم بأيّ أمر اشتغلوا كانوا فيه بالكمال ، لا كمال إلّا لله وحده.
__________________
في الجنّة والشياطين
(وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ
السَّمُومِ)
فصل
إنّ في الوجود
نفوسا أرضية قوية ، لا في غلظ النفوس السبعية والبهيمية ، وكثافتها وقلّة إدراكها
، ولا على هيئات النفوس الإنسانية واستعداداتها ، ليلزم تعلّقها بالأجرام الكثيفة
الغالبة عليها الأرضية ، ولا في صفاء النفوس المجرّدة ولطافتها ؛ لتتصل بالعالم
العلوي ، وتتجرّد بالكلية ، فهي إذن متعلّقة بأجرام عنصرية ، غلبت عليها الهوائية
، والنارية ، أو الدخانية ، على اختلاف أحوالها ، ومنازلها ، وهي الجنّة
والشياطين.
قال الله تعالى : (وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ
نارٍ) ، والمرج الاختلاط ، فإنّ النار فيه مختلطة بالهواء ،
والمارج لهذين العنصرين كالطين للآخرين .
والجنّ من
الاجتنان ، بمعنى الاختفاء ، سمّيت به ؛ لاستتارهم عن الأبصار ؛ ولهذا سميت به
الملائكة أيضا في قوله سبحانه : (وَجَعَلُوا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ الْجِنَّةِ
__________________
نَسَباً) . والشياطين في قوله تعالى : (كانَ مِنَ الْجِنِ) .
فهي أجسام لطيفة ،
حيّة ، ذوات نفوس قوية ، غالبة على أجسادها ، قادرة على التمدّد والانقباض ، وعلى
تشكيل أنفسها بأشكال مختلفة ، بعضها ممّا يوجب لها سهولة النفوذ في المنافذ ، وعلى
الأعمال الشاقّة ، قال الله عزوجل ، في قصّة سليمان ، على نبيّناوعليهالسلام : (وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ
يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ) ، إلى أن قال : (يَعْمَلُونَ لَهُ ما
يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ) .
ولعل الوجه في
ظهور صورها في بعض الأوقات دون بعض ، أنّ أبدانها لطيفة ، مقتصدة في اللطافة ،
قابلة للتخلخل والتكاثف ، فإذا صارت متكاثفة غلظ قوامها ، فرؤيت ، وإذا صارت
متخلخلة دقّ قوامها ولطف جسمها ، فغابت عن الأبصار ، كالهواء إذا صار غيما
بالتكاثف رؤي ، وإذا عاد إلى لطافته لم ير ، فإنّ الغيم ربّما يكون بتكاثف الهواء
نفسه من دون مدد من بخار البحار ، كما مضى ذكره.
ولها علوم
وإدراكات من جنس علومنا ، وإدراكاتنا الوهمية ، وأوائل العقليات.
قال الله جل جلاله
: (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ
نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا
__________________
حَضَرُوهُ
قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ، فمنهم مؤمن صالح ، ومنهم كافر مارد ، قال الله تعالى ،
حكاية عنهم : (وَأَنَّا مِنَّا
الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ) ، وقال سبحانه أيضا عنهم : (إِنَّا سَمِعْنا
قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ
بِرَبِّنا أَحَداً) ـ إلى قوله : ـ (وَأَنَّهُ كانَ
يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللهِ شَطَطاً) .
قال مولانا الصادق
عليهالسلام : «الجن على ثلاثة أجزاء : فجزء مع الملائكة ، وجزء يطيرون
في الهواء ، وجزء كلاب وحيّات» .
فصل
قيل : لما كان
لنفوسها ضرب من الفعلية والكمال في أوّل الفطرة ؛ لغلبة النارية على أبدانها ،
فليس لها إمكان الترقّي إلى الكمالات العقلية ، كما للإنسان الذي خلق ضعيفا تهيّأ
لذلك ، وفعلية صورها تضاد لفعلية صور الأنوار السماوية ، ولهذا صارت مزجورة عنها ،
مرجومة من ملائكتها ، كلّما دنت وقربت إليها لاستراق السمع صارت مدحورة مرجومة من
معدن النور والرحمة ، كما قال سبحانه : (فَمَنْ يَسْتَمِعِ
الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً) ، وهو من الأنوار الملكية ، أو الفلكية المضادّة لها نفسا
وبدنا.
__________________
وقال عزوجل : (لا يَسَّمَّعُونَ
إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ* دُحُوراً وَلَهُمْ
عَذابٌ واصِبٌ* إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ) .
وروي أنّ الشياطين
كانت تصعد إلى السماء ، ثمّ تجاوز سماء الدنيا إلى غيرها ، فلما ولد عيسى عليهالسلام منعوا من مجاوزة سماء الدنيا ، وصاروا يسترقون منها السمع
، فيستمع الجني الكلمة يتكلم بها الملك من أمر الله ، فيلقيها لوليه من الإنس ،
فيخلط فيها الكذب ، حتّى ولد نبيّنا محمّد صلىاللهعليهوآله ، فمنعوا من التردد إلى السماء ، إلّا قليلا ، حتّى بعث
النبي صلىاللهعليهوآله فمنعوا أصلا.
قال تعالى ، حكاية
عنهم : (وَأَنَّا لَمَسْنَا
السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً* وَأَنَّا كُنَّا
نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ
شِهاباً رَصَداً) الآيات.
وفي الاحتجاج عن
مولانا الصادق عليهالسلام ، في حديث يذكر فيه أخبار الكاهن ، قال: «وأمّا أخبار
السماء فإنّ الشياطين كانت تقعد مقاعد استراق السمع إذ ذاك وهي لا تحجب ، ولا ترجم
بالنجوم ، وإنما منعت من استراق السمع لئلّا يقع في الأرض سبب يشاكل الوحي من خبر
السماء ، فيلبس على أهل الأرض ما جاءهم عن الله لإثبات الحجة، ونفي الشبهة ، وكان
الشيطان يسترق الكلمة الواحدة من خبر السماء بما يحدث من الله في خلقه ، فيختطفها
، ثمّ يهبط بها إلى الأرض فيقذفها إلى الكاهن ، فإذا قد زاد كلمات من عنده فيخلط
الحقّ بالباطل ، فما أصاب الكاهن من خبر ـ ممّا كان يخبر به ـ فهو ما أدّاه إليه
شيطانه ممّا سمعه ، وما أخطأ فيه فهو من باطل ما زاد فيه ، فمذ منعت الشياطين عن
__________________
استراق السمع
انقطعت الكهانة» .
فصل
لا تستبعدنّ حصول
الحياة في النار ، فإنّك قد دريت أن المتعلّق للنفس أولاهما القلب والروح ، وهما
في غاية السخونة ، بل الحق أنّ الحياة لا تحصل إلّا بسبب الحرارة الغريزية.
ومن هنا قد يقال :
إن كرة النار مملوءة من الروحانيات.
ولا تستنكرنّ أيضا
أن تشتعل الأجرام الدخانية ـ الجنّية والشيطانية ـ بأشعّة الكواكب ، فتحترق وتهلك
، أو تنزجر من الارتقاء إلى الأفق السماوي ، فإنّها ليست بخارجة عن حدّ الجواز
والإمكان ، وقد نطق بها القرآن الصادع به سيّد الإنس والجان ، صلوات الله عليه
وآله.
فصل
للجنّ غذاء ،
وتوالد ، قال رسول الله صلىاللهعليهوآله في العظم : «إنه زاد إخوانكم من الجنّ».
وفي التهذيب عن
الصادق عليهالسلام ، أنه سئل عن الاستنجاء بالعظم والروث والعود ، فقال : «أمّا
العظم والروث فطعام الجن ، وذلك مما اشترطوا على رسول
__________________
الله صلىاللهعليهوآله ، فقال : لا يصلح
بشيء من ذلك» .
وفي كتاب من لا
يحضره الفقيه : إنّ وفد الجان جاؤوا إلى رسول الله صلىاللهعليهوآله ، فقالوا : يا رسول الله ، متعنا ، فأعطاهم الروث والعظم . قيل : إنهم يغتذون بريحها.
قال صاحب الفتوحات
: لما غلب على الجان عنصر الهواء والنار ، لذلك كان غذاؤهم ما يحمله الهواء ممّا
في العظام من الدسم ، فإنّ الله جاعل لهم فيها رزقا .
قال : وأخبرني بعض
المكاشفين أنه رآهم يجيؤون إلى العظام حتّى يقربوا منها ، كما تقرب النحلة من
الزهرة ، ثمّ ترجع ، وقد أخذت رزقها وغذاءها ، في ذلك القدر ، فسبحان اللطيف
الخبير.
قال : وكما وقع
التناسل في البشر ، بإلقاء الماء في الرحم ، كذلك وقع في الجان ، بإلقاء الهواء في
رحم الأنثى منهم.
وأمّا اجتماع
بعضهم ببعض عند النكاح فالتواء ، مثل ما تبصر الدخان الخارج من الأتون ، أو من فرن الفخار ، يدخل بعضه في بعض ، فليتذّ كلّ واحد
من الشخصين بذلك التداخل ، ويكون ما يلقونه كلقاح النخلة ، بمجرّد الرائحة كغذائهم
سواء .
__________________
فصل
وأمّا الشياطين
فليس فيهم نتاج ، إنّما تبيض وتفرخ ، وأولادهم ذكور ، ليس فيهم أناث ، كذا في
الخصال عن الصادق عليهالسلام .
وفي تفسير علي بن
إبراهيم : أن الشياطين من ولد إبليس ، وليس فيهم مؤمنون إلّا واحد اسمه هام بن حيم
بن لاقيس بن إبليس ، ثمّ ذكر قصّته مع رسول الله صلىاللهعليهوآله .
ويشبه أن يكون
توالدهم معنويا تابعا لتوالد بني آدم ، كما أشير إليه بقوله سبحانه في حكاية جرت
لآدم وإبليس خطابا للّعين : لا يولد له ولد إلّا ولد لك ولد .
وفي القرآن المجيد
: (أَفَتَتَّخِذُونَهُ
وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ) . فذرّيته هي أولاده المعنوية.
قال في الفتوحات :
إن شيطان الإنس ، أو الجن ، إذا ألقى في قلب العبد أمرا ما يبعده عن الله به ، فقد
يلقي أمرا خاصا ، وهو خصوص مسألة بعينها ، وقد يلقي أمرا عاما ، فتح له في ذلك
طريقا إلى أمور لا يفطن لها الشيطان الجنّي ، ولا الإنسي ، تتفقه فيه النفس ،
وتستنبط من تلك الشبه أمورا إذا تكلّم بها تعلّم منه
__________________
إبليس الغواية ،
فتلك الوجوه الّتي تنفتح له في ذلك الأسلوب العام الّذي ألقاه إليه أوّلا شيطان
الإنس ، أو الجنّ ، تسمى شياطين معنوية ؛ لأنّ كلّ واحد من شياطين الإنس والجن
يجهلون ذلك ، وما قصدوه على التعيين ، وإنما أرادوا بالقصد الأوّل فتح هذا الباب
عليه ، فإنهم علموا أن في قوّته وفطنته أن يدقّق النظر فيه ، فينقدح له من المعاني
المهلكة لا يقدر على ردّها بعد ذلك ، وسببه ذلك الأصل الأوّل ، فإنّه اتّخذه أصلا
صحيحا ، ودلّ عليه ، فلا يزال التفقه فيه يسرقه حتّى خرج به عن ذلك الأصل.
وعلى هذا جرى أهل
البدع والأهواء ، فإنّ الشياطين ألقت إليهم أصلا صحيحا ، يشكون فيه ، ثمّ طرأت
عليهم التلبيسات من عدم الفهم ، حتّى ضلّوا ، فينسب ذلك إلى الشيطان بحكم الأصل ،
ولو علموا ذلك علموا أنّ الشيطان ـ في تلك المسائل ـ تلميذ لهم، يتعلّم منهم .
فصل
لما كان لكلّ ما
له وجود في عالم الحسّ ، كذلك له وجود في عالم الغيب والتمثّل ، فالجنّة والشياطين
كما أن لهما وجودا في هذا العالم ـ عالم الحس ـ كذلك لهما وجود في ذلك العالم ،
وكأنه إليه أشير في حديث مولانا الصادق عليهالسلام : «فجزء مع الملائكة» .
ولهما في ذلك
العالم صور مختلفة ، حسب اختلاف الصفات النفسانية
__________________
وأغراضها ، كما
مرّت الإشارة إليه في الغرائب الإنسانية.
وربما يتمثّلان
لأهل هذا العلم ببعض صورهما ، ويلتبس على الرائي بالصور الحسية الظاهرة ، كما
يتمثّلان بصورهما الموجودة في هذا العالم ، وقد ذكرنا فيما سلف بيان هذا الالتباس.
وأكثر ما يكون هذا
في المواضع المظلمة ، والغارات ، والحمّامات الخالية ، والبوادي القفرة ، حيث يكون
اشتغال النفس بالحواسّ الظاهرة قليلا ، وسلطنة الخيال قوية ، ولا سيّما النفوس
الناقصة الواهنة الكاهنة.
ويشبه أن يكون
تمثّلها لأمثال هذه النفوس ، كتمثّل الملائكة للنفوس الكاملة ، ووجودهما في عالم
الغيب على أصناف ، خلقت ثمّة على سبيل الإبداع ، وصنف انتقلت إليه من هذا العالم
بعد قطع تعلّقها عن الأبدان الطبيعية الجنّية ، أو الإنسية ؛ وذلك لأنّ الناقصة من
النفوس الإنسانية تلتحق هناك بالجنّ ، والشريرة منها تلتحق بالشياطين ، كما أن
الكاملة منها تلتحق بالملائكة.
يرشد إلى ذلك قول
الله عزوجل : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ) .
قال بعض الحكماء :
إن النفوس المتجسدة الخيرة ملائكة بالقوة ، فإذا خرجت قوّتها إلى الفعل ، وفارقت
أجسادها ، صارت ملائكة بالفعل ، وكذلك النفوس المتجسّدة الشريرة هي شياطين بالقوة
، فإذا فارقت أجسادها كانت شياطين بالفعل.
فهذه النفوس
الشيطانية توسوس أهل الشيطنة بالقوّة لتخرجها من القوّة
__________________
إلى الفعل ، كما
قال تعالى : (شَياطِينَ الْإِنْسِ
وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً) .
أو شياطين الإنس
هي النفوس المتجسّدة الشريرة ، آنست بالأجساد ، وشياطين الجن هي النفوس الشريرة
المفارقة للأجساد المستحجبة عن الأبصار.
ومثل وسوسة هذه
النفوس المفارقة لهذه النفوس المتجسّدة كمثل من قويت شهوته للطعام والشراب ، وضعفت
حرارته الهاضمة عن نضجها ، فهو يشتهي ولا يستمرىء ، فعند ذلك تكون همّته أن يرى
الطعام والشراب ، والآكلين لهما ، لينظر إليهم فيستروح من ألم شهواته الممنوع عنها
؛ لضعف الآلة ، وبطلان فعل القوّة ، فهكذا حكم تلك النفوس المفارقة ، كما أشير
إليه بقوله تعالى : (مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ
الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ) .
فصل
ولما كانت
الجنسيّة علة الضمّ ، فالنفوس البشرية الطاهرة النورانية تنضمّ إليها الأرواح
الطاهرة النورانية من النفوس الكاملة المفارقة للأبدان الواقعين في عالم الملكوت
مع الملائكة المبتدعة هنالك ، فيعينونها على أعمالها الّتي هي من باب الخيرات
والمبرات.
__________________
والنفوس الشريرة
الخبيثة تنضم إليها الأرواح الخبيثة من النفوس الشريرة المفارقة عن الأبدان
الواقعين هنالك مع الشياطين ، فيعينونها على أعمالها الّتي هي من باب الشرور
والآثام ، والظلم والعدوان ، ويسمى الأوّل إلهاما ، والثاني وسوسة ، كما مضى بيانه
في مباحث الملائكة الموكّلين بالحيوان الكامل ، وقد أسمعناك كلاما آخر في وسوسة
الشيطان ، وإخراجه آدم من الجنة بسبب الحيّة في مباحث تقدّم خلق الأرواح على
الأجساد ، وتأخّرها عنه ، وهبوط آدم من الجنّة.
فصل
قال بعض العلماء :
إن أصل الضلالة والعمى والجهل من الشيطان ، وأصل الهدى والبصيرة واليقين من الملك.
واسم إبليس كشجرة
خبيثة ، والشياطين بمنزلة أغصان هذه الشجرة الملعونة ، وأوراقها وأثمارها هي
الأفكار الجزئية المتعلّقة بالشهوات العاجلة الحيوانية ، واللذّات الدنياوية ،
وإليه أشير في قوله تعالى : (إِنَّها شَجَرَةٌ
تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ* طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ*
فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ) .
واسم الملك والعقل
كاسم شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها ، كما
أشير إليه في القرآن ، وثمارها الحاصلة منها هي العلوم الكلية ، والمعارف الإلهية
، وهي أيضا شجرة طوبى الّتي غرستها يد
__________________
الرحمن ، وهي أيضا
شجرة مباركة ، لا شرقية ولا غربية ، لتجرّدها عن شرق العالم وغربه ، وعدم اختصاصها
بمكان أو زمان ، فلا توجد في جانب دون جانب ، كما لا توجد في وقت دون وقت.
فصل
وقال بعضهم : إنّ
أوّل من سلك سبيل الغواية والضلالة ، وطرده الحقّ عن عالم رحمته، ووقع عليه اسم
إبليس ، هو جوهر نطقي شرّير ، يتولّد من طبقة دخانية نارية ، لها نفس ملكوتية ،
صدرت بجهة ظلمانية ردية ، شأنه الإغواء ، وسبيله الإضلال ، كما في قوله تعالى ،
حكاية عن اللعين : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ* إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وقوله : (فَبِما أَغْوَيْتَنِي
لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ) ؛ وذلك لأنّ له سلطنة ـ بحسب الطبع ـ على الأجسام الدخانية
والبخارية ، ونفوسها الجزئية ، والطبائع الوهمانية ، وتطيعها تلك النفوس والقوى
الوهمانية لمناسبة النقص والشرارة ، وكونه مجبولا على الإغواء والإفساد والاستكبار
، وادّعاؤه العلو ، كما في قوله سبحانه : (أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ
كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) ، إنّما هو بمقتضى طبعه ، الغالب عليه النارية الموجبة
للإهلاك والعلو.
ووجه تأثيره في
نفوس الآدميين : إمّا من جانب المؤثّر ، فللطافته ، وسرعة نفوذه في عروقهم ،
ولطائف أعضائهم ، وأخلاطهم الّتي هي محال الشعور
__________________
والاعتقاد ،
واقتداره على إغوائهم بالوسوسة والإضلال ، كما ورد في الحديث : «إنّ الشيطان ليجري
من ابن آدم مجرى الدم» .
وفي القرآن المجيد
: (إِنَّهُ يَراكُمْ
هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) .
وإما من جانب
القابل ؛ فلقصور القوى الإدراكية لأكثر الإنسان ، وضعفها عن المعارضة والمجاهدة مع
جنوده ، وإغوائهم من القوى الشهوية والغضبية ، وغيرهما ، لا سيّما الوهمية ، إلّا
من عصمه الله من عباده المخلصين ، والذين أيّدهم الله بالعقل ، وهداهم إلى الصراط
المستقيم (أُولئِكَ حِزْبُ
اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) .
وصل
وكأنّ عن هذا
الملعون عبّر بالجهل ، في ما رواه في الكافي ، بإسناده عن مولانا الصادق عليهالسلام ، قال : إنّ الله خلق العقل وهو أوّل خلق من الروحانيين عن
يمين العرش من نوره ، فقال له : أدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فأقبل ، فقال الله
تعالى : خلقتك خلقا عظيما ، وكرّمتك على جميع خلقي ، قال : ثمّ خلق الجهل من البحر
الأجاج ، ظلمانيا ، فقال له : أدبر ، فأدبر ، ثمّ قال له : أقبل ، فلم يقبل ، فقال
له : استكبرت ، فلعنه ، ثمّ جعل للعقل خمسة وسبعين جندا ، فلما رأى الجهل ما أكرم
الله به العقل ، وما أعطاه ، أضمر له العداوة، فقال الجهل : يا ربّ ، هذا خلق مثلي
،
__________________
خلقته وكرّمته ،
وقوّيته ، وأنا ضدّه ، ولا قوّة لي به ، فأعطني من الجند مثل ما أعطيته ، فقال :
نعم ، فإن عصيت بعد ذلك أخرجتك وجندك من رحمتي ، قال : قد رضيت ، فأعطاه خمسة
وسبعين جندا. الحديث بطوله .
فصل
يشبه أن يكون
الإنسان إذا غلبت عليه الشيطنة من الحيلة والمكر والتمرّد عن طاعة الله ، وطلب
الأنانية والافتخار ، وزالت عنه السكينة والطمأنينة ، وانقطع عن قلبه إلهام
الملائكة ، وإفاضة الحقّ عليه بالعلوم الحقّة الإيمانية ، أن تتّحد نفسه بذلك
الجوهر النطقي الملكوتي ، الّذي هو بمنزلة ربّ نوع الشياطين ، وهو مظهر اسم المضلّ
، فيكون مآله إلى دار البوار ، ومنزل الأشرار.
كما أنه إذا غلب
عليه طلب المعرفة ، وطهر أرض نفسه من خبائث الصفات الرذيلة، والشرور النفسانية ،
من طلب الشهوات والمعاصي والسفسطة في العقائد ، والوسواس في العبادات ، والحيلة في
المعاملات ، وتنوّر قلبه بالإيمان بالله واليوم الآخر ، والاعتقادات الحقّة ، وكمل
في ذلك ، تتّحد نفسه بالعقل الّذي هو ربّ نوع الإنسان ، ومظهر اسم الهادي ، فتكون
عاقبته إلى جوار الله ، في مقعد صدق.
ومن هنا قيل :
إبليس كلّ إنسان هو نفسه عند متابعة الهوى ، وسلوك طريق الوسواس ، والجحود والعتوّ
والاستكبار ، فافهم ، فإنّه من الأسرار الغامضة ، أعاذنا الله من شرّ إبليس
وجنوده.
__________________
في حدوث العالم
(إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ
اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً
وَالشَّمْسَ
وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ
وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ
الْعالَمِينَ)
فصل
إن للعالم ربّا
مبدعا ، محدثا ، صانعا ، قيّوما ، مدبّرا ، أزليّا ، واجبا لذاته ، عالما به قبل
كونه ، كان في الأزل وليس في الوجود رسم ، ولا طلل ، كما في الحديث المشهور : «كان
الله ولم يكن معه شيء» ، وإنما أحدث العالم عن العدم البحت ، والليس الصرف ،
والنفي المحض ، إلى فضاء الوجود ، وعرصة الشهود ، لا من شيء كان ، ولا مثال سبق ،
وكان لم يزل بلا زمان ، ولا مكان ، وهو الآن كما كان ليس بينه وبين شيء من
المكانيّات امتداد مكاني ، ولا طرف امتداد مكاني ، ولا بينه وبين شيء من الزمانيات
امتداد زماني ، ولا طرف امتداد زماني ، وهو بكلّ شيء محيط.
__________________
فصل
حدوث العالم ـ بمعنى
افتقاره إلى الصانع ، ومسبوقيته بالعدم في الجملة ، أي الأعم من العدم في الزمان ـ
من ضروريات الدين ، وعليه إجماع المسلمين ، بل العقلاء كافّة ، والحكماء أجمعين ،
وله وجوه من البراهين ، وقد خلت منّا إشارات وتنبيهات على طرف من ذلك.
والآن نريد أن
نذكر نبذا ممّا ورد فيه عن الأئمة المعصومين عليهمالسلام ، ممّا هو جامع بين نوري العقل والشرع ، وشيئا ممّا ذكر
فيه بعض قدماء أصحابنا ـ رحمهمالله ـ والحكماء الأقدمين، ثمّ نذكر البرهان على الحدوث الزماني
للعالم ، بمعنى كونه مسبوقا بالعدم الزماني على حسب ما يليق به ، ويكشف عن معنى
العدم السابق عليه ، وكيفية تأخّره عن الحقّ ، وتقدّم الحقّ عليه ، من غير أن يكون
الله سبحانه في طرف الزمان ، أو في شيء منه ، على ما فهمه أكابر العرفاء ، وحقّقه
آحاد العلماء ، قدّس الله أسرارهم ، وهو معنى غامض ، لا تناله أيدي الأكثرين ،
وليس اعتقاده من ضروريات الدين ، ولا اعتقاد الحدوث الزماني بأي معنى أريد ، كما
يظهر من التتبع لكلمات السلف من علماء الدين ، فإنّها صريحة في أن الواجب اعتقاده
إنّما هو افتقار العالم إلى الصانع ، ومسبوقيّته بالعدم في الجملة ، خاصّة وأن إطلاق
حدوث العالم راجع إليه ، وأن الغرض من إثباته الردّ على الدهرية ، والطبيعيين ،
المنكرين للصانع ، الزاعمين لقدم العالم ، ووجوب وجوده ، خذلهم الله ؛ ولذلك كلما
سئل العلماء عن البرهان على ذلك أخذوا يستدلون على إثبات الصانع ، وليس في كلامهم
عن الزمان حرف أصلا ، إلّا إشارات إلى الحدوث الزماني ، بالمعنى الغامض الّذي
نثبته ، وترميزات إليه ،
كما هو دأبهم في
سائر المكنونات من العلم ؛ تنبيها على أنه من العلم المكنون.
ولو لا مخافة
التطويل لنقلنا عباراتهم حتّى يتبيّن صدق ما ذكرناه ، ولكن فيما نذكره من كلام
أئمّتنا عليهمالسلام ، وشيعتهم المتقدّمين ، كفاية ، إن شاء الله ، فاستمع لما
يتلى عليك من ذلك ، ومن الله التأييد.
فصل
روى الشيخ الصدوق
محمّد بن علي بن بابويه القمّي رحمهالله ، في كتاب التوحيد ، بإسناده : أنه سأل عبد الكريم بن أبي
العوجاء مولانا الإمام الصادق عليهالسلام ، فقال : ما الدليل على حدث الأجسام؟ فقال : إني ما وجدت
شيئا صغيرا ، ولا كبيرا ، إلّا إذا ضمّ إليه مثله صار أكبر ، وفي ذلك زوال وانتقال
عن الحالة الأولى ، ولو كان قديما ما زال ، ولا حال ؛ لأنّ الّذي يزول ويحول يجوز
أن يوجد ، ويبطل ، فكون وجوده بعد عدمه دخول في الحدث ، وفي كونه في الأزل دخوله
في العدم ، ولن تجتمع صفة الأزل والعدم في شيء واحد ، فقال عبد الكريم : علمت في
جري الحالتين والزمانين على ما ذكرت ، واستدللت على حدوثها ، فلو بقيت الأشياء على
صغرها من أين كان لك أن تستدلّ على حدوثها؟ فقال العالم عليهالسلام : إنّما نتكلّم على هذا العالم الموضوع ، فلو رفعناه
ووضعنا عالما آخر كان لا شيء أدلّ على الحدث من رفعنا إيّاه ، ووضعنا غيره ، ولكن
أجبتك من حيث قدّرت أن تلزمنا ، ونقول : إنّ الأشياء لو دامت على صغرها لكان في
الوهم أنه متى ضمّ شيء منه إلى مثله كان أكبر ، وفي جواز تغيّره عليه خروجه من
القدم ، كما بان في تغييره دخوله في الحدث ، ليس لك
وراءه شيء يا عبد
الكريم ، فانقطع وخزي .
وبإسناده : أنه
سأله أبو شاكر الديصاني : ما الدليل على حدوث العالم؟ فقال الصادق عليهالسلام : نستدل عليه بأقرب الأشياء ، قال : وما هو؟ فدعا عليهالسلام ببيضة ، فوضعها على راحته ، فقال : هذا حصن ملموم ، داخله
غرقىء رقيق ، تطيف به فضّة سائلة ، وذهبة مائعة ، ثمّ تنفلق عن مثل الطاووس ،
أدخلها شيء؟ قال : لا ، قال : فهذا الدليل على حدث العالم ، قال : أخبرت فأوجزت ،
وقلت فأحسنت ، وقد علمت أنا لا نقبل إلّا ما أدركناه بأبصارنا ، أو سمعناه بآذاننا
، أو شممناه بمناخرنا ، أو ذقناه بأفواهنا ، أو لسمناه بأكفّنا ، أو تصور في
القلوب بيانا ، أو استنبطته الروايات إيقانا ، قال عليهالسلام : ذكرت الحواسّ الخمس ، وهي لا تنفع شيئا بغير دليل ، كما
لا تقطع الظلمة بغير مصباح .
وبإسناده : أنه
دخل على مولانا الرضا عليهالسلام رجل ، فقال له : يابن رسول الله ، ما الدليل على حدث
العالم؟ قال : أنت لم تكن ، ثمّ كنت ، وقد علمت أنك لم تكوّن نفسك، ولا كوّنك من
هو مثلك .
فصل
قال الشيخ الصدوق
محمّد بن علي بن بابويه القمّي رحمهالله : من الدليل على حدوث العالم : أنا وجدنا أنفسنا وسائر
أجسام العالم لا تنفكّ ممّا يحدث فيها من الزيادة ، والنقص ، ويجري عليها من
الصنعة والتدبير ، ويعتورها من الصور
__________________
والهيئات ، وقد
علمنا ضرورة أنا لم نصنعها ، ولا من هو من جنسنا ، وفي مثل حالنا صنعها ، وليس
يجوز في عقل ، ولا يتصور في وهم أن يكون ما لم ينفكّ من الحوادث ولم يسبقها قديما
، ولا أن توجد هذه الأشياء على ما نشاهدها عليه من التدبير ، ونعاينه فيها من
اختلاف التقدير ، لا من صانع ، أو تحدث لا بمدبّر.
ولو جاز أن يكون
العالم بما فيه من اتقان الصنعة ، وتعلّق بعضه ببعض ، وحاجة بعضه إلى بعض ، لا
بصانع صنعه ، ويحدث لا بموجد أوجده ، لكان ما هو دونه في الإحكام والإتقان أحق
بالجواز ، وأولى بالتصوّر والإمكان ، وكان يجوز على هذا الوضع وجود كتابة لا كاتب
لها ، ودار مبنية لا باني لها ، وصورة محكمة لا مصوّر لها ، ولا يمكن في القياس أن
تأتلف سفينة على أحكم نظم ، وتجتمع على أتقن صنع ، لا بصانع صنعها ، أو جامع
جمعها.
فلما كان ركوب هذا
وإجازته خروجا عن النهاية ، والعقول ، كان الأوّل مثله ، بل غير ما ذكرناه من
العالم ، أو ما فيه من ذكر أفلاكه ، واختلاف أوقاته ، وشمسه ، وقمره ، وطلوعهما ،
وغروبهما ، ومجيء برده ، وقيظه ، في أوقاتهما ، واختلاف ثماره ، وتنوّع أشجاره،
ومجيء ما يحتاج إليه منها في إبّانه ، ووقته ، أشدّ مكابرة ، وأوضح معاندة ، وهذا
واضح بحمد الله.
قال : وسألت بعض
أهل التوحيد والمعرفة عن الدليل على حدث الأجسام ، فقال : الدليل على حدث الأجسام
أنها لا تخلو في وجودها من كون وجودها مضمّن بوجوده ، والكون هو المحاذاة في مكان
دون مكان ، ومتى وجد الجسم في محاذاة دون محاذاة مع جواز وجوده في محاذاة أخرى ،
علم أنه لم يكن في تلك المحاذاة المخصوصة إلّا لمعنى ، وذلك المعنى محدث ،
فالجسم ـ إذن ـ محدث
؛ إذ لا ينفك من المحدث ، ولا يتقدّمه .
فصل
قال تالس الملطي ـ وهو أوّل من تفلسف بالملطيّة ، بعدما قدم إليها من مصر ـ
: إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته ، وإنما يدرك من جهة آثاره
وإبداعه ، وتكوينه الأشياء.
ثم قال : إن القول
الّذي لا مردّ له هو أن المبدع كان ولا شيء مبدع ، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له
عنده في الذات ؛ لأنّ قبل الإبداع إنّما هو فقط ، وإذا كان هو فقط فليس يقال ـ حينئذ
ـ جهة وجهة ، حتّى يكون هو وصورة ، أو حيث وحيث ، حتّى يكون هو ذو صورة ، والوحدة
الخالصة تنافي هذين الوجهين ، والإبداع هو تأييس ما ليس بشيء ، وإذا كان هو مؤيّس
الآيسات فالتأييس لا من شيء يتقادم ، فمؤيّس الأشياء لا يحتاج أن تكون عنده صورة
الأيس بالأيسية.
قال : لكنه عنده
العنصر الّذي فيه صور الموجودات ، والمعلومات كلّها ، فانبعثت منه كلّ صورة موجودة
في العالم ، على المثال الّذي في العنصر الأوّل ،
__________________
وهو محل الصور ،
ومنبع الموجودات ، وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلّا وفي ذات
العنصر صورة ومثال عنه .
أقول : ويشهد
لقوله هذا ما نقلناه فيما سبق عن مولانا زين العابدين عليهالسلام : أن في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر والبحر ،
وإنه تأويل قوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ، هذا إن أريد بالعرش العلم ، أو الملك ، دون الجسم ، وإن
صحّ ذلك أيضا من وجه.
وقال أفلاطون الإلهي المعروف بالتوحيد والحكمة من اليونانيين : إنّ
__________________
للعالم صانعا ،
مبدعا ، محدثا ، أزليا ، واجبا بذاته ، عالما بجميع معلوماته على نعت الأسباب
الكلية ، كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل الأمثال عند الباري جل اسمه
، وربما يعبّر عنه بالعنصر الأوّل .
ونقل عنه أنه كان
يحيل وجود حوادث لا أوّل لها ؛ لأنّك إذا قلت : حادث ، فقد أثبتّ الأولية لكلّ
واحد ، وما يثبت لكلّ واحد يجب أن يثبت للكل.
ولعل غرضه أن
الحدوث لما كان هو المسبوقية بالعدم ، فإذا كان الكلّ مسبوقا بالجزء، والجزء
مسبوقا بالعدم ، فكان الكلّ مسبوقا بالعدم ؛ إذ المسبوق بالمسبوق بالشيء مسبوق
بذلك الشيء لا محالة.
وقال الفيلسوف
الأعظم ، والمعلّم الأقدم ، أرسطاطاليس : الأشياء المحمولة ، يعني بها الصور الجسمانية ، فليس كون
أحدها من صاحبه ، بل يجب أن يكون بعد صاحبه ، فيتعاقبان على المادة ، فقد بان أنّ
الصورة تبطل وتدثر ، وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدو ، ولأنّ الدثور غاية ، وهو
إحدى الحاشيتين ، ما دلّ على أن جائيا جاء به فقد صحّ أن المكوّن حادث لا من شيء ،
وأن الحامل لها غير ممتنع الذات عن قبولها ، وحمله إياها وهي ذات بدو وغاية ، يدلّ
على أن حامله ذو بدو وغاية ، وأنه حادث لا من شيء ، ويدلّ على محدث
__________________
لا بدو له ، ولا
غاية ؛ لأنّ الدثور آخر ، والآخر ما كان له أول ، فلو كانت الجواهر والصور لم
تزالا فغير جائز ؛ لأنّ الاستحالة دثور الصورة الّتي بها كان الشيء ، وخروج الشيء
من حد إلى حدّ ، ومن حال إلى حال ، يوجب دثور الكيفية ، وتردّد المستحيل في الكون
، والفساد ، يدلّ على دثوره ، وحدوث أحواله يدلّ على ابتدائه ، وابتداء جزئه يدلّ
على بدو كلّه ، وأوجب إن قيل بعض ما في هذا العالم للكون والفساد ، أن يكون كلّ
العالم قابلا له ، وكان له بدو لا يقبل الفساد ، وآخر يستحيل إلى كون ، فالبدو
والغاية يدلّان على مبدع.
ونقل أنه قد سأله
بعض الدهرية ، وقال : إذا كان الباري لم يزل ولا شيء غيره ، ثمّ أحدث العالم فلم
أحدثه؟
فقال له : «لم»
غير جائزة عليه لأن «لم» تقتضي علّية ، والعلّة محمولة فيما هي علة له من معلّ
فوقه ، ولا علّة فوقه ، وليس بمركّب فتحيل ذاته العلل ، ف «لم» عنه منتفية ، وإنما فعل ما فعل ؛
لأنّه جواد.
فقيل : فيجب أن
يكون فاعلا لم يزل ؛ لأنّه جواد لم يزل؟
قال : معنى «لم
يزل» : لا أوّل له ، وفعل يقتضي أولا ، واجتماع ما لا أوّل له ، وذو أوّل في القول
والذات ، محال متناقض.
فقيل له : فهل
يبطل هذا العالم؟
قال : نعم.
قيل : فإذا أبطله
بطل الجود.
قال : يبطله
ليصوغه الصيغة الّتي لا تحتمل الفساد ، فإنّ هذه الصيغة تحتمل
__________________
الفساد. انتهى .
ولنتكلم الآن في
بيان الحدوث الزماني الموعود ، المأثور عن أهل الله ، ونبدأ بما استفدناه من
أستاذنا ـ دام ظلّه ـ في ذلك ، فإنه ما اتّفق بيانه وبرهانه لأحد من المتقدمين
والمتأخّرين ، على ما وصل إلينا ، كما اتّفق له دام تأييده ، وذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء ، فاستمع ، وعه :
فصل
قد دريت سابقا
بالبرهان الّذي أقامه ـ دام ظلّه ـ : أنّ الطبيعة السارية في الجسم ، الّذي هي
مقوّمة مادته وصورة ذاته ، أمر متبدل الذات الشخصية ، تدريجي الكون ، لا يبقى
وجوده الشخصي زمانين ، فضلا عن أن يكون قديما بشخصه ، وما من جسم فلكي ، أو عنصري
، إلّا وله صورة طبيعية مقوّمة له ، هي مبدأ صفاته اللازمة ، وآثاره المخصوصة.
وثبت أيضا أن
المادّة لكلّ جسم حقيقتها القوّة والإمكان ، وليست واحدة بالعدد ، بل وحدتها جنسية
مبهمة ، كما أن وحدة الطبيعة المحصّلة لكلّ جسم وحدة عددية ، متكرّرة ، على نعت
الاتّصال.
وثبت أن الموجود
من كلّ شيء هو وجوده ، وليست للماهيات وجود أصلا ، لا في العين ، ولا في الذهن ،
بأن يصير الوجود صفة لها ، متقرّرة فيها ، بل حالها كحال الأشباح والأظلال
المتراءى في المرايا ، وهي كما قال سبحانه :
(كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ
اللهَ
__________________
عِنْدَهُ) ، فهي غير مرتبطة بالعلة المقتضية للوجودات ، فهي ليست
قديمة ، ولا حادثة ، ولا متقدّمة ، ولا متأخّرة.
وقد ثبت أن النفوس
بما هي نفوس وما دامت نفوسا حكمها حكم الطبيعة الجرمية ، وإذا صارت مجرّدة بالكلية
انخرطت في سلك العقول ، واتّصلت بالملأ الأعلى ، وأمّا العقول فذواتهم مستغرقة في
بحر اللاهوتية ، مطموسة أنوارها في نور الأحدية ، ليست لواحد منها كينونة لنفسه ،
ولا له مع نفسه ، إذا قطع عن جاعله الحق ، إلّا البطلان المحض ، والليس الصرف ، لا
كحال الماهيات ؛ حيث يكون لها في أنفسها الإمكان ؛ إذ لا ماهية للأمر المفارق إلّا
الهوية المتعلّقة بهوية الحق الأوّل ، ليثبت لها حالة إمكانية ، مع قطع النظر عن
وجودها وجاعلها ، فهي أبدا ملتحقة بفاعلها ، ملاحظة لجمال بارئها ومبدعها ، لم
ترجع إلى ذواتها طرفة عين ؛ لأنّ إمكانها لا يفارق فعليتها ، وقصورها لا يباين
تمامها ، وفقرها مستهلك في غناها ، فهي ـ إذن ـ بمنزلة الأشعة والأضواء للذات
الإلهية ، كأشعّة الشمس بالنسبة إليها (وَلِلَّهِ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) ، فهي بمنزلة لوازم الذات الغير المجعولة ؛ لأنها صور علمه
التفصيلي بما عداه ، ولذلك قال : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) ، فالعالم كله جوده ورحمته ، وخزائن جوده ورحمته يجب أن
تكون قبل الجود والرحمة ، فلو كانت تلك الخزائن من جملة جوده ، أي من مخلوقاته ومقدوراته
، فلا بدّ لها ـ أيضا ـ خزائن سابقة عليها ، فهي ليست من جملة المصنوعات
والأفاعيل.
__________________
فقد ظهر أن العالم
بجميع جواهره المادية والصورية والنفسية والجرمية ، وأعراضها ، حادثة حدوثا زمانيا
، متجدّدة تجدّدا سيلانيا ، ولا يوجد في شيء ممّا سوى الله تعالى وأشعّته ،
وأنواره الّتي هي من لوازم ذاته ، ولا تباين لها معه في الحقيقة ، قديم بشخصه ،
واحد بالعدد ، بل يوجد منه في كلّ آن شخص آخر.
فهذه السماوات
والأرضون الموجودة في هذا الزمان لم تكن موجودة أشخاصها قبل هذا الزمان ، وليست
هذه هي الّتي كانت عند الطوفان ، ولا قبله ، ولا الّتي تكون من بعد.
وكذلك أشخاص كلّ
نوع متكرّر الأفراد متكثّر الآحاد ، سواء كانت أشخاصه منتشرة ، أو متصلة ، فكما لم
يكن في أفراد الإنسان شخص جسماني أزلي الوجود ، فكذلك في النوع الّذي قيل إنه
منحصر في واحد ، كالشمس ـ مثلا ـ فإنّها وإن لم تكن لها أفراد متميّزة متفرّقة
بالفعل ، إلّا أن لها تشخّصات لا تنحصر ، متبدّلة ، متجدّدة ، متّصلة ، زائلة ،
غير باقية ، ذاتا ووجودا ، فلا يوجد فيها هوية جسمانية مستمرة الوجود إلى يوم
القيامة ، بل حال الجواهر الجسمانية في وجودها ودوامها كحال الزمان والحركة في
وجودهما ودوامهما ، من حيث إن هويّاتها الاتّصاليّة متجدّدة متصرّمة.
فكما أن الزمان
والحركة لا يتّصف أحدهما ، لا كلّه ، ولا جزءه ، ولا كلّيه ، ولا جزئيّه ، بالاستمرار
والبقاء ، والقدم والأزلية ، فكذلك الجواهر الجسمانية وما يتبعها ، والحمل ،
والثور ، والنسر ، والسرطان ، في عالم السماء ، كالحمل ، والثور ، والنسر ،
والسرطان ، في عالم الأرض ، من حيث إن أشخاص كلّ من القبيلين متجدّدة في كلّ حين ،
وحقائقها عند الله باقية ، كما قال تعالى : (ما عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ
وَما
عِنْدَ اللهِ باقٍ) ، وقال سبحانه : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) ؛ وذلك لنقصان الديمومة الحسّية ؛ لتضاعف جهات الكثرة
والنقصان ، وتراكم حيثيّات القوّة والإمكان في كلّ ما له قوّة مادّية ، كالفلكيات
، والعنصريات المشهودة بهذه الحواسّ المادية ، فإنّها كلّها من الدنيا ، والدنيا
دار زوال وانتقال وتبدّل وارتحال ، والآخرة دار بقاء وقرار ، وفيها موطن المقرّبين
والأخيار.
ولقصور الوجود
الطبيعي يكون أوّل كلّ موجود بهذا الوجود غير آخره ، وظاهره غير باطنه ، فيه يجتمع
الوجود مع العدم ، والحدوث مع القدم ، ويتشابك الخير والشرّ ، ويتعانق النفع
والضرر ، ولضيق وجود هذا الوعاء الزماني وقع التضادّ بين الأنداد والتفاسد لنوع
واحد بين الأفراد ، فسبحان من قديم جمع بين الأضداد مع التماثل ، ووصل الآحاد مع
التقابل.
فصل
قال ـ دام ظلّه ـ :
وما يقال : من أن الأنواع المادية ـ أي الكليات الطبيعية ـ باقية بتعاقب الأشخاص ،
إن أريد به أنه يوجد هناك أمر واحد بالعدد من الماهية ، باق في كلّ حين ، ومع
وحدته العددية موجود في كلّ فرد من أفراده ، فهو باطل ؛ لأنّ الكلي ـ بما هو كلّي
ـ لا يجوز أن يوجد في الحس ، كما ثبت في محلّه.
__________________
وإن أريد به أنه
عند تبدّل الأفراد وتجدد الآحاد المتوافقة في النوع لا تتبدّل حدودها النوعية ،
فذلك مسلّم ، ولا يضرّنا ؛ لأنّ الحدود أمور ذهنية انتزاعية ، مركّبة من أجناس
وفصول غير موجودة في الخارج على وصف الوحدة والتعيّن ، وليس وحدة الطبيعة الجنسية
، أو الفصلية ، أو الحدّية ، أو النوعية ، أو غير ذلك ، وحدة بالعدد ، والقدم
والحدوث وصفان يوصف بشيء منهما الموجود الواحد الشخصي ، إمّا في العين ، أو في
العقل.
والمفهومات
والمعاني الكلية إذا أخذت من حيث هي هي فهي ليست بواحدة ، ولا كثيرة ، ولا قديمة ،
ولا حادثة ، بل ولا موجودة ، ولا معدومة ، وإنما توصف بشيء من هذه الأوصاف تبعا
لأشخاصها.
فقد ثبت أن الكلي
الطبيعي ، والماهية المطلقة ، ليس موجودا واحدا مستمر الوجود بوحدته ، بواسطة
تعاقب الأفراد ، وتوارد الآحاد ، حتّى يصحّ القول بقدم النوع لأجل تعاقب أفراده
وأعداده لا إلى نهاية.
فصل
وليعلم أنّ الله
سبحانه إنّما يصبّ سجال الفيض ، ورشح الجود ، في فضاء الوجود ، وعرصة الشهود أبدا
، صبّة واحدة ، فلا يزال يبدع ويصنع ، ويفعل ويجعل ، لا على السيلان ، ولا على
الاستئناف ، بل على القرار والثبات ، لا في زمان ، ولا في آن ، ولا في حيّز ، ولا
مكان ، ولا عن مادّة ، ولا من شيء أصلا ، وإنما التقدّم والتأخّر ، والتجدد والتصرّم
، والاستعدادات المادية تقع في حدوثها الزماني وظهورها في ظرف الزمان فحسب ،
والباري سبحانه اخترع المادّة وذا المادّة ـ جميعا ـ في ظرف أوسع من الزمان ، يقال
له : الدهر ، لا من شيء ، بل بعد
العدم الصريح ،
والليس الصرف.
فكما أن ذاته
سبحانه ، وصفاته الحقيقية ، وشؤونه الذاتية ، وأسماءه الحسنى ، متقدّسة عن التغيّر
، كذلك تعالى قوله ، وفعله ، وأمره عن التغيّر ، كما قال : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ
الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) .
لكن بعض الموجودات
، كالزمان الّذي هو ظرف المتغيّرات ، والحركة التي ماهيتها الحدوث بعد الحدوث
لذاته تتغيّر لا بتغيّر عارض لنفسه.
فالزمان والحركة
بهويّتها الامتداديتين ، الغير القارّتين ، صدرا من الحقّ الفيّاض فيضة واحدة ،
بلا زمان ، بل من كتم العدم الصريح إلى الوجود في نفس الواقع ، وظرف الدهر ، مرة
واحدة دهرية ، لا دفعة واحدة آنية ، فإنّ الآن طرف الزمان ، وحصوله بعد حصول
الزمان ، فكيف يكون جعله فيه؟ وحصول الزمان أيضا بعد حصول أصول الموجودات وعظائمها
ودعائمها ، فكيف يكون جعل الموجودات كلّها في زمان ، أو آن؟
فوجود المبدعات
إنّما هو في أصل الواقع ، وحصول الكائنات في أوقاتها الخاصة الّتي هي أجزاء الزمان
الموجود ، وكلّه بامتداده في نفس الدهر دفعة واحدة ، فالتغيّرات والتعاقبات بين
الزمانيات بسبب امتداد الزمان الّذي هو بذاته متجدد ، وبحسب مقايسة بعضها إلى بعض
، لا بالنسبة إلى من يتعاظم عن الوقوع في تغير.
فجاف القلم
بالنسبة إلى الواقع ، وظرف الدهر ، وتجدّد الشؤون في أجزاء الزمان ، وبمقايسة بعض
الزمانيات إلى بعض ، لا أنّ الصنع والتكوين في حدّ من
__________________
امتداد موجود ، أو
مفروض ، والفراغ والتعطيل في سائر الحدود منه ، بل الإفاضة واحدة من الحق ،
ومتعدّدة بالإضافة إلى الخلق.
نقل عن عبد الله
بن طاهر ، أنه دعا الحسين بن الفضل ، وقال له : أشكلت عليّ ثلاث آيات ، دعوتك
لتكشفها لي ، منهنّ قوله تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) ، وصحّ أن القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة.
فقال الحسين :
أمّا قوله : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ
فِي شَأْنٍ) ، فإنّها شؤون يبديها ، لا شؤون يبتديها .
وقال بعض أهل
المعرفة : اعلم أنّ إمداد الحقّ وتجلّياته واصل إلى العالم في كلّ نفس ، وفي التحقيق
الأتمّ ليس إلّا تجلّ واحد ، يظهر له بحسب القوابل ومراتبها واستعداداتها تعيّنات
، فيلحقه لذلك التعدّد والنعوت المختلفة ، والأسماء والصفات ، لا أنّ الأمر في
نفسه متعدّد ، أو وروده طار ومتجدد ، وإنما التقدّم والتأخّر وغيرهما من أحوال
الممكنات توهم التجدّد والطريان ، والتقيّد والتغيّر ، ونحو ذلك ، كالحال في
التعدّد ، وإلّا فالأمر أجلّ من أن ينحصر في إطلاق ، أو تقييد ، أو اسم ، أو صفة ،
أو نقصان ، أو مزيد.
وهذا التجلّي
الأحدي ـ المشار إليه ـ ليس غير النور الوجودي ، ولا يصل من الحقّ إلى الممكنات
بعد الاتّصاف بالوجود وقبله غير ذلك ، وما سواه فإنما هو أحكام الممكنات وآثارها
يتصل من بعضها بالبعض حال الظهور بالتجلّي الوجودي الوحداني المذكور.
ولما لم يكن
الوجود ذاتيا لسوى الحقّ ـ بل مستفاد من تجلّيه ـ افتقر
__________________
العالم في بقائه
إلى الإمداد الوجودي الأحدي ، مع الآنات ، من دون فترة ، ولا انقطاع ؛ إذ لو انقطع
الإمداد المذكور طرفة عين لفني العالم دفعة واحدة ، فإنّ الحكم العدمي لازم للممكن
، والوجود عارض له من موجده .
وقال أيضا : العالم
بمجموعه متغيّر أبدا ، وكلّ متغيّر يتبدّل تعيّنه مع الآنات ، فيوجد في كلّ آن
متعيّن غير المتعيّن الّذي هو في الآن الآخر ، مع أن العين الواحدة الّتي تطرأ
عليها هذه التغيّرات بحالها ، فالعين الواحدة هي حقيقة الحقّ المتعيّنة بالتعيّن
الأوّل اللازم لعلمه بذاته ، وهي عين الجوهر المعقول الّذي قبل هذه الصورة
المسمّاة عالما ، ومجموع الصور أعراض طارئة ، متبدّلة في كلّ آن ، والمحجوبون لا
يعرفون ذلك ، فهم في ليس من هذا التجدّد الدائم في الكلّ.
وأمّا أهل الكشف
فإنهم يرون أنّ الله يتجلّى في كلّ نفس ، ولا يتكرّر التجلّي ، فإنّ ما يوجب
البقاء غير ما يوجب الفناء ، وفي كلّ آن يحصل الفناء ، والبقاء ، والتجلّي غير مكرّر.
ويرون ـ أيضا ـ أن
كلّ تجلّ يعطي خلقا جديدا ، ويذهب بخلق ، فذهابه هو الفناء عند التجلّي ، الموجب
للفناء والبقاء لما يعطيه التجلّي الآخر الموجب للبقاء بالخلق الجديد ، ولمّا كان
هذا الخلق من جنس ما كان أوّلا ، التبس على المحجوبين ، ولم يشعروا التجدّد ،
وذهاب ما كان حاصلا بالفناء في الحقّ ؛ لأنّ كلّ تجلّ يعطي خلقا جديدا ، ويفنى في
الوجود الحقيقي ما كان حاصلا.
ويظهر هذا المعنى
في النار المشتعلة من الدهن والفتيلة ، فإنه في كلّ آن يدخل منهما شيء في تلك
النارية ، ويتّصف بالصفة النورية ، ثمّ تذهب تلك
__________________
الصورة بصيرورتها
هواء ، هكذا شأن العالم بأسره ، فإنه يستمدّ دائما من الخزائن الإلهية ، فيفيض منها
، ويرجع إليها. انتهى .
وقال كمال الدين
عبد الرزّاق الكاشي ـ قدّس الله سرّه ـ : إنّ الممكن مفتقر في ذاته إلى الموجد ؛ لأنّه ـ في حدّ
ذاته ـ معدوم ، هالك ، فهو في كلّ آن معدوم في ذاته ، موجود بموجده ، وتمام الكلام
في هذا المعنى قد مضى في مباحث كيفية إفاضة الله الوجود. والحمد لله.
فصل
إذا ثبت حدوث
العالم بالمعنى المذكور ، وهو الحدوث الزماني ، وبمعنى افتقاره إلى الصانع ، ثبت ـ
أيضا ـ حدوثه الذاتي ، بمعنى كونه مسبوقا بالعدم الذاتي ، بالطريق الأولى ، على
أنّه قد تبيّن ـ من الأصول السالفة ـ أنّ كلّ ما وجوده من غيره فهو مسبوق بالعدم
البتّة ، وأنّ عدم الممكن متقدّم على وجوده تقدّما ما ، فالحدوث للعالم بهذا
المعنى ـ أيضا ـ حق وصدق ، ببرهان ويقين ، بل هو أظهر وأجلى وأحق بالتصديق من
الأوّلين ، ولكنّه ليس أيضا بالذي اعتقاده من الضروريات ، من حيث معنى الحدوث والمسبوقية
بالعدم الذاتي؛ لغموض
__________________
فهمه من هذه
الحيثية ، وإن كان هو هو من حيث الافتقار إلى الفاعل والمحدث ، فإنه من هذه
الحيثية يرجع إلى المعنى الأوّل.
فصل
قد تصدّى بعض
سادات أفاضل زماننا لإثبات حدوث العالم ، وجعل له معنى آخر سمّاه حدوثا دهريا ،
وسمّى تأخّره عن الحقّ تأخّرا انفكاكيا دهريا ، آخذا من قول الأوائل أنّ نسبة
المتغيّر إلى المتغيّر ، الزمان ، ونسبة المتغيّر إلى الثابت ، الدهر ، ونسبة
الثابت إلى الثابت ، السرمد.
واستدلّ عليه :
بأن تقدّم ذات العلّة ـ ولا سيما العلة الجاعلة الفاعلة ـ على ذات المجعول المعلول
تقدّما بالذات ، بحسب المرتبة العقلية ، من فطريّات العقول الصريحة ، والأذهان
المستوية ، وعليه إجماع الحكماء والعقلاء كافّة ، والمعلول لا يكون موجودا في
مرتبة ذات العلة الفاعلة الجاعلة ؛ إذ الوجود يصل إلى ذات المعلول من ذات العلة ،
وإنما يكون بين العلّة والمعلول معيّة في الوجود بحسب مرتبة ذات المعلول ، وبحسب
متن الأعيان ، لا بحسب مرتبة ذات العالم ، فالعالم الأكبر بجميع أجزاء نظامه
الجملي؟ متأخّر عن مرتبة ذات الباري الفعّال جلّ ذكره بتّة.
وإذ تبيّن أن
الوجود الأصيل في متن الأعيان عين ماهية الباري الحق ، ونفس حقيقته، فالمرتبة
العقلية وحاق الوجود العيني هناك واحد ، وموجوديّته سبحانه في حاق كبد الأعيان ،
ومتن خارج الأذهان ، هي بعينها المرتبة العقلية لذاته الحقّ من كلّ جهة ،
فالموجودية المتأصّلة في حاق الأعيان ومتن الخارج في العالم الربوبي بمنزلة مرتبة
ذات الإنسان ، أو ماهية العقل ـ مثلا ـ من حيث
هي هي في عالم
الإمكان.
فإذن تأخّر العالم
عن المرتبة العقلية لذاته الحقّة ـ جلّ سلطانه ـ تأخّر بالمعلولية ، وهو بعينه
التأخّر الانفكاكي عنه سبحانه بحسب وجوده سبحانه في حاقّ الأعيان ، وتقدّمه سبحانه
على العالم تقدّما بالعلّية ، بحسب مرتبة الذات هو بعينه التقدّم الانفرادي في متن
الأعيان.
وكذلك القول هنالك
في التقدّم بالماهية ، بل التقدّم بالذات مطلقا ، فإذن التأخّر بالذات عن الباري
الحقّ الأوّل سبحانه مطلقا ، سواء عليه أكان تأخّرا بالمعلولية ، أم تأخّرا
بالماهية ، أم تأخّرا بالطبع ، يرجع إلى التأخّر الانفكاكي الدهري ، وتقدّمه جلّ
ذكره بالذات مطلقا ، سواء كان تقدّما بالعلّية ، أو تقدّما بالماهية ، أو تقدّما
بالطبع ، يرجع إلى التقدّم الانفرادي السرمدي.
قال : وليس يصحّ
أن يقاس ما هنالك بالشمس وشعاعها ، وما بينهما من التقدّم والتأخّر بالذات ، بحسب
المرتبة العقلية والمعيّة في الوجود ، بحسب متن الأعيان ، كما تمور به الألسن مورا
، وتفور به فورا ؛ لما قد دريت أن المرتبة العقلية لذات الشمس ـ بما هي هي ـ ليست
بعينها هي الوجود في متن الأعيان ، كما هو سبيل الأمر في العالم الربوبي.
وكذلك الأمر في
حركة اليد ، وحركة المفتاح ـ مثلا ـ فاخفض جناح عقلك للحق ، ولا تكوننّ من
الجاهلين .
ثم قال : وبعبارة
أخرى وسوق آخر : لو كان الصادر الأوّل سرمدي الوجود في متن الأعيان مع جاعله
التامّ الواجب بالذات ، الّذي الوجود في متن
__________________
الأعيان عين مرتبة
ذاته ، ونفس سنخ ماهيته ، لزم أن يكون المجعول في مرتبة ذات الجاعل ومعه في متن
الأعيان معيّة ذاتية ، بحسب مرتبة ذاته ، وباعتبار نفس ماهيته ، ولا يتصور لنفس
ذات الجاعل ـ بما هي هي ـ مرتبة عقلية متقدّمة تقدما بالذات على ذات المجعول
ووجوده أصلا ، أليس وجود الجاعل في متن الأعيان الّذي بحسبه المعية على هذا
التقدير هو بعينه نفس مرتبة ذات الجاعل ، وصرف سنخ ماهيته ، وقوام بحت حقيقته بما
هي هي ، فكيف يتصور ـ إذن ـ لذات الجاعل ونفس ماهيته مرتبة عقلية وراء مرتبة
الحصول في متن الأعيان الذي هو ما يحسبه المعية؟
فإذن يلزم أن تكون
مرتبته نفس ماهية الجاعل من حيث هي هي بعينها هي ما فيه ، وبحسبه معية الجاعل
والمجعول بالسرمدية في حاق متن الأعيان ، كما مرتبة حصول الوجود في حاق متن
الأعيان لذات المجعول مع مرتبة نفس ذات الجاعل الّتي هي بعينها مرتبة حصول الوجود
لذات الجاعل في حاق متن الأعيان معية بالمرتبة الذاتية ، غير متأخّر عنها تأخّرا
بالذات ، وتأخّرا بالمعلولية.
وأيضا يكون الممكن
الذات الباطل في حدّ ذاته موجودا ثابتا في مرتبة ذات الواجب الحقّ من كلّ جهة ،
وتسويغ ذلك كله إن هو إلّا الخروج عن فطرة العقل الصريح ، والحيود عن سمت سبيله ،
وخرق إجماع كافة العقلاء ، وشقّ عصاهم ، وبالجملة إلّا التخلّع من الضريبة
العقلانية ، والانسلاخ عن القريحة الإنسانية.
قال : فإذن قد
استبان أن تقدّم الجاعل الواجب السرمدية بالذات على مجعوله الأوّل، وعلى العالم
الكبير ، الّذي هو جملة مجعولاته بحسب الوجود في
متن الأعيان ،
تقدّما سرمديا انفكاكيا ، من اللوازم المقتضاة لخصوصيّة الحقيقة الوجوبية الذاتية
، الّتي هي بعينها الوجود المتأصّل في حاق متن الأعيان ، فاتّبع الحق ولا تكن من
المعتدين.
هذا كلامه ـ سلّمه
الله ـ في كتاب مبسوط ، ألّفه لهذا المطلب في نحو من عشرين ألف بيت ، وقد أبقرته
بقرا حتّى أخرجت هذا من خاصرته ، وهو عماد ما ذكره فيه ، وسناده في الباب ، ولا
أفهم منه بطوله ، بعد تسليم مقدّماته ، زيادة على الحدوث الذاتي والتأخّر المعلولي
للعالم ، ما يشفي به العليل ، ويروي به الغليل ، ولعل غيري يفهم منه ذلك، والله
المستعان.
فصل
إنّ ما توهّمه
طائفة من الغاغة أنّ بين الباري الحقّ سبحانه ، وبين أوّل العالم ، عدما موهوما
سيّالا أزليّا ، ممتدّا بتماديه الوهمي في جهة الأزل إلى لا نهاية ، ومنتهيا في
جهة الأبد عند حدوث أوّل العالم ، فمن تكاذيب أوهامهم الظلمانية ، وتلاعيبها ؛ إذ
لا يتصوّر في العدم الصريح الساذج ، والليس الصرف الباتّ ، حدّ وحدّ ، وتصرّم
وتجدّد ، وفوات ولحوق ، وامتداد وانقضاء ، وتماد وسيلان ، ونهاية ولا نهاية.
على أنّه لو صحّ
ذلك لكان هو الزمان بعينه ، أو الحركة بعينها ؛ إذ كان متكمّما سيّالا كلّه أزيد ـ
لا محالة ـ من بعضه ، وأبعاضه متعاقبة غير مجتمعة ، وللزم أن يكون الباري سبحانه
واقعا في حدّ بعينه من ذلك الامتداد العدمي ، تعالى عن ذلك. والعالم في حدّ آخر
بخصوصه ، حتّى يصحّ تخلّل ذلك الامتداد الموهوم بينه سبحانه وبين العالم ، ويتصحّح
تأخّر العالم وتخلّفه عنه في الوجود ،
فإذا كان غير
متناهي التمادي ، كما فرضوه ، لزم ـ أيضا ـ أن يكون غير المتناهي محصورا بين
حاصرين هما : حاشيتاه ، وطرفاه.
وأيضا فإنّ حدود
ذلك الامتداد سواسية متشابهة ؛ إذ لا اختلاف في العدم ، ولا مخصّص من استعداد ، أو
حركة ، أو غير ذلك ، فلم اختصّ العالم بهذا الحد ، ولم يكن حدوثه في حدّ آخر قبله؟
وأيضا فإنّ
المتقدّس عن الغواشي والعلائق يكون له مع أي امتداد فرض ، ومع كلّ جزء من أجزائه ،
وكلّ حدّ من حدوده ، معيّة غير متقدّرة على سبيل واحد ، ويكون محيطا بجميع أجزائه
وحدوده على نسبة واحدة ، موجودا كان ذلك الامتداد ، أو موهوما ، كما ثبت في محلّه.
فإذن اختصاص
العالم بحدّ من حدود ذلك الامتداد الموهوم لا يثمر تأخّره وتخلّفه عن الباري الحقّ
سبحانه أصلا ، فإنّه إذا كان امتداد الزمان الموجود بالقياس إليه سبحانه على هذا
السبيل ، فالزمان الموهوم أجدر بذلك.
فصل
إن قول القائل :
إن العالم يسبقه عدم زماني ، إن أراد به ما ذكرناه في معنى الحدوث الزماني في
الطبائع والنفوس ، فله وجه وجيه ، كما دريت ، وإلّا لم يمكنه الاعتراف به ؛ لأنّ
العالم جملة ما سوى الله ، فالزمان من العالم ، فكيف يتقدّم عليه حتّى يكون تقدّم
العدم عليه تقدّما زمانيا؟
وإن قال : إنه كان
وقت لم يكن فيه العالم ، فهو مخالف لمدّعاه ؛ إذ ليس قبل العالم وقت.
وإن قال : إنه ليس
بأزليّ يستفسر الأزلي ، وعاد الترديد والمحذور المذكور.
وإن قال : الّذي
في الذهن متناه ، يسلّم له أن القدر الّذي في ذهنه من أعداد الحركات متناه ، ولكن
لا يلزم من ذلك توقّف وجود العالم على غير ذات الباري.
ثم إذا فرض له
مجموع السبق الزماني ، فهو مع كونه تناقضا يخالف مدّعاه ؛ لاستدعائه وجود الزمان
قبل العالم ، وهو من جملة العالم.
وإن أراد به السبق
الذاتي ، فهو الحدوث الذاتي.
وإن قال : إن
الباري تعالى مقدّم على العالم بحيث بينه وبين العالم زمان ، فليس هذا مذهبه ؛ إذ
ليس قبل العالم شيء غير ذات الباري سبحانه.
فلم يبق له إلّا
أن يقول : توقّف العالم على غير ذات الله ، ولم يكف في وجوده ذاته وصفاته ، وهو
كما ترى شرك محض ، لا يتفوّه به مؤمن ، تعالى الله عما يشركون.
فصل
قال بعض الحكماء :
ربما يقال لمن طلب مدّة العدم قبل وجود الحادث على سبيل التبصرة والتنبيه ، هل هذه
المدّة محدودة مقدّرة بتقدير لا بدّ منه ، مثل يوم ، أو شهر ، أو سنة معينة ، أو
يكفي فيها أي مدّة كانت؟ فإنه نقول ـ حينئذ ـ : بل يكفي في حدوث الحادث سبق أي
مدّة كانت يتقدّم فيها العدم ، ويتبعه الوجود.
فيقال : وهل يكفي
التصور والعقل في ذلك بسنة واحدة يتقدّم فيها العدم ،
ثمّ يتبعه الوجود؟
فيقول : نعم.
فيقال : إن كان
بدل السنة شهر واحد ، فهل يكفي ، أم لا؟ فهو ـ لا محالة ـ يكتفى بالشهر ، كما
اكتفى بالسنة ، ثمّ ينتقل في السؤال إلى يوم ، وإلى ساعة ، ودرجة من ساعة ، ودقيقة
من درجة ، فيتنبّه بذلك ـ حينئذ ـ على أن الزمان لا تأثير له في الحدث ؛ لأنّ
المؤثّر لا يكون كثيره في التأثير مثل قليله ، وإنما يكون كلّ التأثير لكلّ الأثر
، فإذا ارتفع بعض الزمان المفروض للحدوث ولم يرتفع شيء من معنى الحدث ، فرفع جميع
الزمان لا يرفع الحدث ، وإنما يؤثّر في ضعف التصوّر ، حتّى إن كان تقدّم الزمان ـ لا
محالة ـ تحقّق الحدث، وإن ارتفع لم يرتفع.
فصل
قال بعض علماء
الشريعة : إنّ أشرف المبدعات هو العقل ، أبدعه الله بالأمر من غير سبق مادّة وزمان
، وما هو إلّا مسبوق بالأمر فقط ، ولا يقال في الأمر إنه مسبوق بالباري تعالى ،
ولا لا مسبوق ، بل التقدم والتأخّر إنّما يعتوران على الموجودات الّتي هي تحت
التضاد ، والباري تعالى هو المقدّم المؤخّر ، لا المتقدّم المتأخّر ، وما دون
العقل هو النفس ، وهو مسبوق بالعقل ، والعقل متقدّم عليه بالذات ، لا بالزمان
والمكان والمادّة ، فالسبق بالذات إنّما ابتدأ من العقل فقط ، والسبق بالزمان
إنّما ابتدأ من النفس ، والسبق بالمكان إنّما ابتدأ من الطبيعة.
فالطبيعة ـ إذن ـ سابقة
على المكان والمكانيّات ، ولا يعتورها المكان ، بل
يبتدىء المكان من
تحريكها ، أو حركتها في الجسم ، والنفس سابقة على الزمان والزمانيات ، ولا يعتورها
الزمان ، بل الزمان والدهر يبتدىء منها ، أعني من شوقها إلى كمال العقل ، والعقل
سابق على الذوات والذاتيات ، ولا تعتوره الذات ، والجوهرية إنّما تبتدىء منه ، أعني
هو مبدأ الجوهر ، والأمر سابق على الذوات والجواهر ، والدهر ، والزمان ، والمكان ،
والجسم ، والمادّة ، والصورة ، لا توصف بشيء ممّا تحته إلّا بالمجاز ، ومن له
الخلق والأمر فله الملك والملك ، وهو الأوّل والآخر حتّى يعلم أنه ليس بزماني ،
وهو الظاهر والباطن حتّى يعلم أنه ليس بمكاني ، جلّ جلاله ، وتقدّست أسماؤه.
ونعني بالأمر :
القوّة الإلهية.
فصل
قد ظهر ممّا ذكرنا
أنه لا مدخل لتناهي سلسلة الزمان ، ولا تناهيها في حدوث العالم أصلا.
وممّا يدلّ على
ذلك ـ أيضا ـ ما أشرنا إليه ، وتقرّر في مقرّه : أن تقدّم الباري سبحانه على
العالم ليس تقدّما زمانيا ، ولا هو سبحانه واقع في طرف هذه السلسلة أصلا ، بل هو
خارج عنها ، نسبته إلى جميع أجزائها نسبة واحدة ، وأن مجموع العالم ـ بما هو مجموع
ـ لا زمان له ، كما أنه لا مكان له ، فإنه إذا كان كذلك فلا معنى للحدوث الزماني
للعالم بمجموعه ، بل إنّما تتّصف بالحدوث الزماني أجزاء العالم من الأجسام
والجسمانيات المقيّدة بهذه السلسلة ، والزمان تابع لها ؛ لأنّه عرض قائم بمحلّ
جرمي ، كما دريت.
وقد دريت أن
الموجود منه في الخارج ليس إلّا الأمر المتّصل المستمر الذي يقال له : الآن
السيّال ، فلا حقيقة للزمان سوى هذا الوجود الضعيف التدريجي الّذي يحدث آنا فآنا ،
فليس لأجزائه اجتماع واتّصال أصلا ، لا في العين ، ولا في الذهن.
أما الأوّل ،
فلأنّه ليس فيه إلّا هذا الأمر المتّصل الشخصي.
وأمّا الثاني ،
فلاستحالة استحضار الذهن أزمنة وزمانيات متكثّرة غير متناهية ، وعلى تقدير
استحضاره لا يكون مطابقا لما في العين ، فيكون ذهنا كاذبا.
وبهذا يظهر ضعف ما
يقال في إثبات تناهي سلسلة الزمان ليثبت به حدوث العالم ، من جريان براهين التطبيق
، والتضايف ، ونظائرهما فيه ، قياسا له على المكان.
كيف ، والمكان
مجتمع الأجزاء في الواقع ، وثابتها معا في نفس الأمر ، وأمّا الزمان فامتداده
موهوم محض ، لا يصلح لأن يحكم عليه بالتناهي واللاتناهي ، أو بالحدوث والقدم أصلا؟
ومن هنا قال بعض
العرفاء : إن أهل النظر إذا فحصوا عن هذا العالم فلم يجز لهم أن يطلبوا له بدوا
زمانيا ، وإلّا لتأدّى بهم الطلب إلى الوسواس ، بل يجب لهم أن يأخذوا الزمان جزء
من أجزاء العالم ، كما فعله الإلهيون ، حيث أخذوا العالم بما فيه ومعه جملة واحدة
، كأنها شخص واحد ، فبحثوا عن علّة بدوه.
ولصاحب الفتوحات
في هذا المقام كلام متين ، لا بأس بإيراده ، قال في الباب الثاني من الفتوحات :
إنّ الحقائق أعطت لمن وقف عليها أن لا يتقيّد وجود الحقّ مع وجود العالم ، بقبلية
، ولا معية ، ولا بعدية ، فإنّ التقدّم الزماني
والمكاني في حقّ
الحقّ ـ تقدّس وتعالى ـ قد رمت به الحقائق في وجه القائل به على التحديد. اللهم
إلّا أن يقوله من باب التوصيل ، كما قاله الرسول صلىاللهعليهوآله ، ونطق به الكتاب؛ إذ ليس كلّ أحد يقدر على كشف هذه
الحقائق ، فلم يبق لنا أن نقول إلّا أن الحقّ تعالى موجود بذاته لذاته ، مطلق
الوجود ، غير مقيّد بغيره ، ولا معلول ، ولا علّة لشيء ، بل هو خالق المعلولات
والعلل ، والملك القدّوس الّذي لم يزل ، وأنّ العالم موجود بالله سبحانه ، لا
بذاته ، مقيّد بوجود الحقّ ذاته ، فلا يصحّ وجود العالم البتّة إلّا بوجود الحقّ
تعالى.
وإذا انتفى الزمان
عن وجود الحقّ تعالى ، وعن وجود بدو العالم ، فقد وجد العالم في غير زمان ، فلا
نقول من جهة الحقائق : إنّ الله موجود قبل العالم ؛ إذ قد ثبت أنّ القبلية من صيغ
الزمان ، ولا زمان ، ولا أنّ العالم موجود بعد وجود الحق ؛ إذ لا بعدية ، ولا مع
وجود الحق ، فإنّ الحقّ هو الّذي أوجده ، وهو فاعله ، ومخترعه ، ولم يكن شيئا ،
ولكن كما قلنا : الحقّ موجود بذاته ، والعالم موجود به.
فإن سأل سائل
متوهّم : متى كان وجود العالم من وجود الحقّ؟
قلنا : «متى» :
سؤال عن زمان ، والزمان من عالم النسب ، وهو مخلوق لله تعالى ، فهذا السؤال باطل.
فانظر كيف تسأل ،
فإيّاك أن تحجبك أدوات التوصيل عن تحقيق هذه المعاني في نفسك ، وتحصيلها ، فلم يبق
إلّا وجود صرف ، خالص ، لا عن عدم ، وهو وجود الحقّ تعالى ، ووجود عن عدم عين
الموجود نفسه ، وهو وجود العالم ، ولا بينية بين الوجودين ، ولا امتداد إلّا
التوهّم المقدّر الّذي يحيله العلم ، ولا يبقى منه شيئا ، ولكن وجود مطلق ومقيّد ،
وجود فاعل ووجود مفعول ،
هكذا أعطت الحقائق
.
وله كلام آخر دقيق
في سرّ الأزل ، وسرّ الأبد ، نرى أن نذكره هاهنا بألفاظه ، لعلّك تستفيد منه معنى
حدوث العالم ، كما هو ، وإن كان الموضع الأنسب به مباحث المبدأ ، لكن لمّا كان له
كثير فائدة فيما نحن فيه أخّرناه إلى هاهنا ، فاسمع ، وتدبّره ، إن كنت من أهله ،
وبالله التوفيق.
فصل
قال قدسسره في الباب السادس والعشرين من الفتوحات : فأمّا علم سرّ
الأزل ، فاعلم أن الأزل عبارة عن نفي الأولية ، لمن يوصف به وهو وصف الله تعالى ، من حيث كونه إلها ، فهو
المسمى بكلّ اسم سمّى به نفسه أزلا ، فهو العالم ، الحيّ ، المريد ، القادر ،
السميع ، البصير ، الخالق ، البارىء ، المصوّر ، الملك ، لم يزل مسمى بهذه الأسماء
، وانتفت عنه أوّلية التقيّد ، فسمع المسموع ، وأبصر المبصر ، إلى غير ذلك.
وأعيان المسموعات
منّا ، والمبصرات ، معدومة غير موجودة ، وهو يراها أزلا ، كما يعلمها أزلا ، ولا
عين لها في الوجود النفسي العيني ، بل هي أعيان ثابتة في رتبة الإمكان ،
والإمكانية لها أزلا ، كما هي لها حالا وأبدا ، لم تكن واجبة لنفسها ، ثمّ عادت
ممكنة ، ولا محالا ، ثمّ عادت ممكنة ، بل كما كان وجوب الوجود الذاتي لله تعالى
أزلا ، كذلك وجوب الإمكان للعالم أزلا ، فالله في مرتبته بأسمائه الحسنى يسمى
معرّفا ، موصوفا بها ، فمعنى نسبة الأوّل له نسبة الآخر ،
__________________
والظاهر ، والباطن
، ولا يقال : هو أوّل بنسبة كذا ، ولا آخر بنسبة كذا ، فإنّ الممكن مرتبط بواجب
الوجود ـ في وجوده وعدمه ـ ارتباط افتقار إليه في وجوده ، فإن أوجده لم يزل في
إمكانه ، وإن عدم لم يزل عن إمكانه ، فكما لم تدخل على الممكن في وجود عينه بعد أن
كان معدوما صفة تزيله عن إمكانه ، كذلك لم يدخل على الخالق الواجب الوجود في
إيجاده العالم وصف يزيله عن وجوب وجوده لنفسه ، فلا يعقل الحقّ إلّا هكذا ، ولا
يعقل الممكن إلّا هكذا.
فإن فهمت علمت
معنى الحدوث ، ومعنى القدم ، فقل بعد ذلك ما شئت.
فأوّلية العالم
وآخريته أمر إضافي. فالأول من العالم بالنسبة إلى ما يخلق بعده ، والآخر من العالم
بالنسبة إلى ما خلق قبله ، وليس كذلك معقولية اسم الله بالأول والآخر ، والظاهر
والباطن ، فإنّ العالم يتعدّد ، والحقّ واحد لا يتعدد ، ولا يصحّ أن يكون أوّلا
لنا ، فإنّ رتبته لا تناسب رتبتنا ، ولا تقبل رتبتنا أوّليته ، ولو قبلت رتبتنا
أوّليته لاستحال علينا اسم الأوّلية ، بل كان يطلق علينا اسم الآخرية لأوليته ،
ولسنا بثان له ، تعالى عن ذلك ، فليس هو بأول لنا.
فلهذا كان عين
أوّليته عين آخريته ، وهذا المدرك عزيز المنال ، يتعذّر تصوّره على من لا أنسة له
بالعلوم الإلهية الّتي يعطيها التجلّي والنظر الصحيح ، وإليه كان يشير أبو سعيد
الخرّاز بقوله : عرفت الله بجمعه بين الضدّين ، ثمّ يتلو
__________________
(هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) ، فقد أبنت لك عن سرّ الأزل ، وأنه نعت سلبي.
وأمّا سرّ الأبد
فهو نفي الآخرية ، كما أن الممكن انتفت عنه الآخرية شرعا ، من حيث الحملة ؛ إذ
الجنّة والإقامة فيها إلى غير نهاية ، كذلك الأولية بالنسبة إلى ترتيب الموجودات
الزمانية معقولة موجودة.
فالعالم بذلك
الاعتبار الإلهي لا يقال فيه أول ، ولا آخر ، وبالاعتبار الثاني هو أوّل وآخر
بنسبتين مختلفتين ، بخلاف ذلك في إطلاقها على الحقّ عند العلماء بالله .
فصل
روى الشيخ الصدوق
، بإسناده عن مولانا الباقر عليهالسلام ، أنه قال : «لعلك ترى أن الله عزوجل إنّما خلق هذا العالم الواحد ، وترى أن الله عزوجل لم يخلق بشرا غيركم ، والله لقد خلق الله تبارك وتعالى ألف
ألف عالم ، وألف ألف آدم ، أنت في آخر تلك العوالم ، وأولئك الآدميين» .
وسأل رجل أمير
المؤمنين عليهالسلام ، فقال : كم بين المشرق والمغرب؟ قال علي : مسافة الهواء ،
قال : وما مسافة الهواء؟ قال علي : دوران الفلك ، قال الرجل : وما قدر دوران الفلك؟
قال : مسيرة يوم الشمس ، قال الرجل : صدقت ، فمتى القيامة؟ قال علي : قدر قصور
المنية ، وبلوغ الأجل ، قال الرجل : صدقت ، فكم
__________________
عمر الدنيا؟ قال
علي عليهالسلام : يقال سبعة آلاف ، ثمّ لا تحديد ، قال الرجل : صدقت ، إلى
أن قال : وأين كان الله قبل أن يخلق عرشه؟ قال عليّ عليهالسلام : سبحان من لا تدرك كنه صفته حملة العرش على قرب زمراتهم
من كراسي كرامته ، ولا الملائكة المقرّبون من أنوار سبحات جلاله ، ويحك لا يقال
أين ، ولا ثمّ ، ولا فيم ، ولا لم ، ولا أنّى ، ولا حيث ، ولا كيف ، قال الرجل :
صدقت ، فكم مقدار ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض والسماء؟ فقال :
أتحسن أن تحسب؟ قال : نعم ، قال : لعلّك لا تحسن ، قال : بلى ، إني لأحسن أن أحسب
، قال علي عليهالسلام : أفرأيت لو كان صبيب خردل في الأرض حتّى سدّ الهواء ، وما
بين الأرض والسماء ، ثمّ أذن لمثلك على ضعفك أن تنقله حبّة حبّة من مقدار المشرق
إلى المغرب ، ثمّ مدّ في عمرك ، وأعطيت القوّة على ذلك حتّى تنقله ، وأحصيته ،
لكان ذلك أيسر من إحصاء عدد أعوام ما لبث عرشه على الماء من قبل أن يخلق الأرض
والسماء ، وإنما وصفت لك ببعض عشر عشر العشير من جزء من مائة ألف جزء ، واستغفر
الله من القليل من التحديد ، فحرّك الرجل رأسه ، وشهد أن لا إله إلّا الله ، وأنّ
محمّدا رسول الله صلىاللهعليهوآله .
__________________
في أنّ العالم مخلوق على أجود
النظامات الممكنة
(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ
كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ
فُرُوجٍ* وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ
وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ
زَوْجٍ بَهِيجٍ* تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ)
فصل
قد مضى ما ينبّه
على هذا المطلب فيما سلف ، بل تبيّن ببيانات إنّية أنه لا يتصور فوق هذا النظام
الموجود نظام في الجودة والفضل ، كما يظهر من ملاحظة أمور العالم ، وأوضاعها ،
وكيفية ترتيبها ، ونضدها ، وارتباط العلويّات بالسفليات ، على الوجه المخصوص ،
والتدبّر في منافع حركات الأفلاك ، ونسب الكواكب ، وغير ذلك.
والآن نريد أن
نبيّن ذلك ببيانات لمّية ، وبراهين حكمية ، ونتمّم الكلام فيه ، فنقول :
__________________
أما أنّ مراتب
البدو على أشرف أنحاء يتصوّر في حقّها ؛ فذلك لأنّ كلّ ما وقع في مرتبة من تلك
المراتب لا يتصوّر ما هو أشرف من شخصه ، ولا ما هو أشرف من نوعه في تلك المرتبة من
الجهة الّتي صدر بها من مبدعه.
أما الأوّل فلوجوب
انحصار نوع كلّ منها في شخصه ؛ لعدم الامتياز هناك بالعوارض المفارقة قبل
الاتفاقات والحركات ، فاختصاص بعض الأفراد بلحوق بعض العوارض مع استواء الاستحقاق
في الكلّ ترجيح من دون مرجّح ، وامتياز الشيء بنوعه ، أو بلازم نوعه ، يوجب
الانحصار في شخص واحد.
وأمّا الثاني فلما
دلّت عليه قاعدة الإمكان الأشرف ، وهي أنّ الجواد الحقّ ، والفيّاض المطلق ، لا
يوجد الأخسّ ، ويترك الممكن الأشرف ، بل يلزم من فيض وجوده الأشرف فالأشرف ، وقد
مضى برهانه.
وأمّا أن الوجودات
الواقعة في مراتب الصعود ، وفي عالم التركيب في غاية الجودة ، وأفضل النظام ، فذلك
لأنّ الأمور الواقعة في هذا العالم لمّا كان نظامها متعلّق بحركات الأفلاك ،
وأوضاعها ، ونظام الأفلاك ظلّ نظام ما في القضاء الإلهي ، وذلك النظام محض الخير
والكمال لبراءة المبدأ الأعلى عن النقص والشين ، فهذا النظام الّذي على وفقه يجب
أن يكون أتمّ النظامات الممكنة ، وأكملها.
وعلى هذا يجب أن
لا يكون في الوجود أمر جزافي ، أو أمر اتفاقي ، بل كلّه غريزي ، فطري ، بالقياس
إلى طبيعة الكلّ ، سواء كان طبيعيا بحسب ذاته ، كحركة الحجر إلى السفل ، أو قسريّا
، كحركته إلى فوق ، أو إراديا ، كفعل الحيوان من حيث هو حيوان ؛ إذ كلّ ما يحدث
فهو عن سبب ، ويرتقي في سلسلة الأسباب إلى مبدأ واحد ، وسبب فرد تتسبّب عنه
الأشياء على ترتيب علمه بها ،
فليس في الوجود
شيء مناف لطبيعة علله ، وأسبابه ؛ إذ المعلول لا ينافي العلّة ، والحركات
المتنافرة الغير المنتظمة بالقياس إلى طبيعة جزئية متلائمة منتظمة بالقياس إلى
طبيعة الكلّ ، وكذا النغمات الغير المؤتلفة ، والأشعار الغير الموزونة مؤتلفة
موزونة بالقياس إلى النظام الكلّي.
ووجود الأصابع
الزائدة على خلقة الإنسان طبيعي في جبلّة العالم ، وكذا كلّ عمر فهو بالقياس إلى
الكلّ طبيعي ، وإن لم يكن طبيعيا على الإطلاق.
فصل
وبمثل ذلك نبيّن
أن مجموع العالم من حيث المجموع أيضا على أكمل خلقة ، وأتمّ نظام ، ولو تيسّر لك
أن تعلم كلّ شيء بأسبابه وعلله ، بأن تخرج من هذه الهاوية المظلمة مهاجرا إلى الله
، وترتقي إلى السماوات وما فوقها ، إلى أن تعرف المبدأ الأوّل حقّ معرفته ، ثمّ ما
يتلوه من الملائكة العلميّة ، ثمّ ما يتلوها من الملائكة العمّالة بإذن ربّها ،
ممن يباشر تحريك الأفلاك ، ثمّ الأجسام الفلكية مع لوازم حركاتها من الكائنات ،
لرأيت جميع الأشياء حسنا عندك ، ملائما لديك ، وعرفت هذا المعنى بالوجدان ، كا
عرفته الآن بالبرهان.
ولنا أن نبيّن هذا
أيضا بمثل البيان الّذي ذكرناه في سلسلة البدو ، بأن نقول : لو أمكن نظام جملي آخر
، أشرف من هذا ، أو مثله ، لكان إمكانه مستدعيا لمبدأ أوّل هو أشرف من الله سبحانه
، أو مكافئا له ، وكلاهما ممتنع.
وأيضا فإنّ العلة
الغائية في وجود العالم هي ذات المبدأ الأعلى ، وعلة بدوه بعينها علّة تمامه ،
وكلّ ما هو غايته أجلّ الأشياء ، فهو في غاية الشرف المتصوّر في حقّه ، لا محالة.
فصل
قد دريت في الأصول
: أنّ الوجود ـ بما هو وجود ـ خير محض ، وأنّ الشرور كلّها راجعة إلى الأعدام ،
فليس للشرّ مبدأ بالذات ، ولا هو داخل في القضاء الإلهي إلّا بالعرض؛ وذلك لأنّ من
الشرّ ما هو من لوازم الماهيات الّتي لا علّة لها ، وهو عدم ، ليس ذلك العدم هو
عدم مقتضى طباع الشيء ، ولا ما يمكن حصوله من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن
الوجود الواجبي ، والوجوب الذاتي ، وكذا قصور كلّ تال من العقول الفعّالة عن سابقه
، وقصور النفوس عن العقول ، والأجسام عن النفوس ، والهيولى عن الجميع ، وبالجملة
على تفاوت إمكاناتهم ، بحسب تفاوت مراتبهم في البعد عن ينبوع الوجود ، فهذا الشرّ
منبعه الإمكان الذاتي ، وظاهر أنه ليس له لمّية ؛ إذ من المعلوم أنه ليس للماهيات
في كونها ممكنة ، ولا في حاجتها إلى علّة سبب ، ولا لقصور الممكن عن درجة الواجب
بذاته ، ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة ، بل إنّما ذلك لاختلاف
الماهيات في حدود ذواتها ، لا لأمر خارج عنها ، كما أشرنا إليه مرارا ، ولو كان
النقصان في الجميع متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة ، فهذا القسم من الشرّ ليس
بشرّ حقيقة.
ومنه ما لا يكون
من هذا القبيل ، بل يلحق الماهية لا من ذاتها ، وهو عدم مقتضى الشيء ، أو ما يمكن
حصوله له من الكمالات الثانية وغيرها ، كالجهل ـ مثلا ـ للإنسان المستعدّ للعلم ،
المشتاق إليه ، لا من حيث إنه إنسان ، بل من حيث إنه وجد هذا الاستحقاق والاشتياق
الّذي لا صلاح في أن يعمّ.
ولا يتصوّر هذا في
غير المادّيات ؛ لأنّ غير المادي على أكمل ما يتصوّر
في حقّه ، فليس
لها شرّية بهذا المعنى ، والمادّيات لا تخلو منها على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية
بحسب تفاوت مراتبها في التعلّق بالمادّة ، فهذا الشرّ منبعه المادة ، ومنبع
المادّة هو الإمكان ؛ لأنها صدرت من المبدأ لأجل جهة الإمكان فيها ، فمنبع الشرّ
مطلقا هو الإمكان.
وأمّا إطلاق الشرّ
على الأمور الوجودية الّتي تتبعها أعدام فعلمت أنه على سبيل المجاز، ثمّ علمت أن
الشرور كلّها أمور إضافية مقيسة إلى أفراد أشخاص معيّنة ، وأمّا في نفسها فليست
بشرور أصلا.
وعلمت أنّ هذا
النظام شريف ، فاضل ، وجميع ما وقع طبيعي بالقياس إليه ، وبيّن أنّ الطبيعي للشيء
لا يكون شرّا له ، فلا شرّ بالقياس إلى الكلّ أيضا ، على أن جميع أسباب الشرّ إنّما
توجد تحت كرة القمر ، وفي عالم الكون والفساد ، وهو قليل بالقياس إلى الكلّ.
ووقوع التقاوم
المقتضي لصيرورة البعض ممنوعا عن كمالاته أيضا فيها قليل ، فإنّه لا يقع إلّا في
أجزاء العناصر وبعض المركّبات ، وفي بعض الأوقات ، ولبعض الأشخاص ، وفي بعض جوانب
الأرض الّتي هي حقيرة بالنسبة إلى الأفلاك المقهورة تحت أيدي النفوس المطموسة تحت
أشعة العقول الأسيرة في قبضة الرحمن ، ولا نسبة لها إلى جناب الكبرياء الباهر
برهانه على الضياء.
وصل
فكلّ ما وجد فهو
خير ، إمّا محض ، أو خيره غالب على شرّه.
وأمّا ما يكون
شرّا محضا ، أو مستولي الشرّية ، أو متساوي الطرفين ، فمما
لا وجود له أصلا ؛
لأنّ الموجودات الحقيقية والإضافية في الوجود ـ لا محالة ـ أكثر من الأعدام
الإضافية ، الحاصلة على الوجه الّذي ذكرناه.
وظاهر أنّ ما يغلب
خيره من أفراد الخير فيجب صدوره عن الواجب بالذات ، الّذي هو فاعل الخيرات ، ولا
يسوغ عن عنايته عزوجل ورحمته وجوده إهماله ، وإلّا لزم ترك خير كثير لشرّ قليل ،
وذلك شرّ كثير ، فصدور الشرّ وقضاؤه إنّما هو بالعرض ، لا بالذات ، فليس الشرّ ـ من
حيث هو ـ مستندا إلى مبدأ.
ومن هنا ورد في
آية الملك (بِيَدِكَ الْخَيْرُ
إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، من دون تعرّض لذكر الشرّ ؛ لعدم استناده إلى وجود موجود
، وكونه إضافيا ، وكونه بالعرض.
ومثله ما ورد في
بعض الأدعية «والخير في يديك ، والشرّ ليس إليك» .
وصل
ولو لم يخلق هذا
النوع من الخيرات المستلزمة لبعض الشرور لخلق سربال الوجود ، وقصر رداء الجود ،
وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ، ونفائس جمّة غفيرة ، فمن هذه الحيثية يكون الشرّ
مقتضيا بالذات ، كيف ولو لم يكن في عالم العناصر تضاد فمن أين يحصل الفعل
والانفعال ، والكسر والانكسار؟ ومتى تنتقل المادّة من صورة إلى صورة ، ومن حالة
إلى حالة ، حتّى يبلغ إلى
__________________
غاية تقبل العقل
المستفاد الّذي يضاهي الملكوت الأعلى في الشرف والكمال؟
فقد ظهر أن كلّ ما
تقتضيه حكمته تعالى وفيضه كان حسنا وخيرا ، ومن ظنّ أنه شرّ كان ذلك لخلل في عقله
، وقصور في فهمه ، فلا شرّ في النظر إلّا وهو خير من جهات أخرى ، لا يعلمها إلّا
منشؤها وموجدها.
فإذن تصور ذرّة
الشرّ في أشعة شمس الخير لا يضرّها ، بل يزيدها بهاء ، وجمالا ، وضياء ، وكمالا ،
كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء ، تزيدها حسنا وملاحة ، وإشراقا ،
وصباحة ، فسبحان من تقدّست كبرياؤه عن تقصير الأفعال ، وجلّ جنابه عن أمثال هذا
الخيال المحال.
سؤال : إنّ أكثر
أفراد الإنسان الّذي هو أشرف أنواع القسم الأخير ، يغلب عليهم الشرور ، فإنّ مناط
تحصيل السعادة والشقاوة الآجلتين اللتين تستحقر بالقياس إليهما السعادة والشقاوة
العاجلتان للنفس ، إنّما هو باستعمال قواها الثلاثة : النطقية ، والشهوية ،
والغضبية ، لاكتساب ما ينبغي أن يكون بحسبها من الحكمة ، والعفّة ، والشجاعة.
والغالب على
أكثرهم على ما يرى أضداد هذه الأمور ، أعني الجهل وطاعة الشهوة والغضب ، فيلزم
كونهم من الأشقياء والأشرار في الآجل.
جواب : الجهل
الّذي لا نجاة معه في الآخرة هو الجهل المركّب ، الراسخ ، المضادّ للعلم اليقيني ،
وهو نادر ، كوجود اليقين الّذي يوجب قسطا وافرا من السعادة.
وأمّا الجهل
البسيط الّذي هو عام ، فاش ، فلا يضرّ في المعاد ، وكذلك حال القوّتين الآخرتين.
فالبالغ في فضيلة
العقل والخلق وإن كان نادرا ، كالشديد النزول فيهما ،
لكن المتوسّطين
على مراتبهم أغلب وأوفر ، وإذا ضمّ إليهم الطرف الأعلى صار لأهل النجاة غلبة عظيمة
، فإنّ حال النفوس في انقسامها إلى هذه الأقسام كحال الأبدان في انقسامها إلى
البالغ في الجمال والصحّة ، والمتوسّط ، وهو الأكثر ، والقبيح السقيم ، وهو أقل من
المتوسّط ، فضلا عن مجموع القسمين.
سؤال : كلّ ما
يجوز صدوره عن الباري عزوجل يجب وقوعه ؛ لعدم البخل والمنع هناك ، فقد كان جائزا أن
يصدر عنه تعالى خير محض ، مبرء عن الشرّ أصلا.
جواب : هذا واجب
في مطلق الوجود ، لا في كلّ وجود ، فقد أوجد ما أمكن أن يوجد على الوجه المذكور ،
فلو لم يوجد ما لا يخلو عن شرّ ما لكان الشرّ ـ حينئذ ـ أعظم.
سؤال : لم لم يوجد
القسم الثاني بلا قصور وآفة؟
جواب : فلم يكن
هوهو ، ورجع إلى القسم الأوّل ، وقد فرغ عن وجوده.
ولو كانت الماهيات
كلّها بريئة عن الشرور الّتي هي لوازم لها ، لكانت الماهيات واحدة ، ومن المحال أن
تكون النار نارا ولا يوجد لها لازم النارية ، من إحراق ثوب لاقته ، إلّا أن لا
يكون الثوب ثوبا ، بل شيئا آخر لا تحرقه النار.
وقد مرّ الكلام في
أمثال هذه المباحث في مباحث كيفية إفاضة الوجود.
في سريان العشق والشوق والعبادة
والذكر في جميع الموجودات
(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ
وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ)
فصل
إنّ الباري ـ جلّ
ذكره ـ غاية كلّ شيء ، كما أنه فاعل كلّ شيء ؛ لأنّه خير محض، لا شرّية فيه أصلا ،
وكلّ ما هو خير محض يطلبه كلّ شيء طبعا ، وإرادة ، وهذا مركوز في جبلّة العالم ،
جزئياته وكلّياته ، محسوساته ومعقولاته ، ما من شيء إلّا وله عشق وشوق غريزي إلى
ما فوقه ، وإلى ما هو أشرف منه ، وهو في بعض الأشياء شاهد معلوم بالضرورة ، وفي
بعضها يعلم بالاستقراء ، وفي الكلّ يعلم بالحدس الصائب وبضرب من البرهان ، وهو أن
الوجود لذيذ ؛ لأنّه خير محض ، وكمال الوجود ألذّ وآثر ، فكلّ موجود سافل إذا
تصوّر الموجود العالي فلا محالة يشتاقه ويطلبه ، طبعا واختيارا ؛ إذ كلّ شيء تحقّق
له أنّ شيئا من الأشياء يفيده الخير والكمال ، ويوجب الاقتراب إليه زيادة في
الفضيلة
__________________
والشرف ، فإنّه ـ لا
محالة ـ يعشقه بغريزته ، ويطلبه بطبعه ، لا سيّما إذا كان ذلك الشيء يفيده خاصّ
الوجود ، ويخرجه من القوّة إلى الفعل ، مثل عشق الحيوان لما يغذوه ، ويتقوّت به ،
ويفيده تجسّما وتعظّما مقداريا ، وعشق الإنسان لما يفيده صورا عقلية يتقوى به جوهره
الناطق ، ويحيط بالحقائق ، ويصير ملكا من المقرّبين بعد ما كان ناقصا في مرتبة
السافلين ، ولو لا أنّ الخيرية بذاتها معشوقة لما اقتصرت الهمم على إيثار الخير في
جميع التصرّفات.
ولنفصّل هذا
الإجمال ، ونبيّن كيفية سريان العشق والشوق في كلّ واحد واحد من الموجودات ، فاسمع
:
فصل
قد دريت أن الوجود
حقيقة واحدة ، وأنه عين الشعور والحياة في كلّ شيء ، وأن كلّ موجود سوى الله عزوجل فهو ناقص من وجه ، وفيه قوّة ، وفقد ، كما أن له كمالا
وفعلية ؛ إذ كلّ ممكن فهو زوج تركيبي ، فكلّ موجود فهو لأجل شعوره بالوجود الناقص
طالب للوجود المطلق الكامل الّذي هو مطلوب ومؤثّر بالذات أولا وبالذات ، ولكلّ ما
يتوسّط بينه وبين ذلك الوجود ممّا هو أعلى منه وأقرب إلى ذلك الوجود من الخيرات
ثانيا وبالعرض ؛ لأنّ الوصول إليه لا يمكن له إلّا بوصوله إليها ومروره عليها ؛ إذ
سلوك طريقه منحصر في ذلك ؛ لما دريت أن الموجودات مترتبة في الصدور بدء وعودا ، ما
تقدّم متقدّم ، ولا تأخّر متأخّر ، إلّا بالحق.
فكل موجود فهو
طالب لما هو فوقه ، فإذا وصل إليه فيطلب ما هو أعلى منه ، وهكذا إلى أن يصل إلى
معشوقه الحقيقي الّذي لا أكمل منه ، وهو الله
سبحانه ، وعند ذلك
يطمئن قلبه ، ويسكن شوقه ، ويشتدّ عشقه وابتهاجه ؛ وذلك أن الشوق هو الحركة إلى
تتميم الابتهاج ، فإنّ كلّ مشتاق إلى مرغوب فإنه قد نال شيئا منه ، وفاته شيء ،
وفي هذا سرّ عظيم لأرباب الذوق والعرفان ، نبوح بلمعة منه ، فاستمع :
وصل
إن كلّ مشتاق ـ من
حيث كونه مشتاقا ـ فهو من جملة المشتاق إليه ، فإنّ الظمآن يتصور أولا الريّ ،
فيحصل له ذلك حصولا ضعيفا ، فهو يوجب طلبه على أتمّ وجه ، فالريّان يشتاق الرّيان
ويطلبه ، وهكذا كلّ ذي طلب لا يطلب إلّا ما هو تمام حقيقته ، وكمال ذاته ، فافهم
ذلك إن كنت من أهله.
وصل
وبالجملة : فالشوق
يصحبه قصور ، وأمّا العشق فقد يتقدّس ويتعالى عن الشوائب ، بل هو يزداد بازدياد
الخيريّة ، واشتداد الوجود ، واستحقاق المعشوقية من المعشوق ، وقوّة الشعور
والإدراك من العاشق.
والشوق أيضا ، وإن
كان يزداد ويقوى بحسب قوّة الشعور من المشتاق ، والقرب من المشتاق إليه ، لكنه
يقوى أيضا بحسب نقصان الوجود ، وضعف الشعور من المشتاق ، وقوّة الوجود وشدّته
وعدّته في المشتاق إليه.
فكما أن كلّ ما هو
أكمل وجودا ، وأتمّ شعورا ، فهو أشدّ شوقا بالاعتبار الأوّل ، فكلّ ما هو أنقص
وجودا ، وأضعف شعورا ، فهو أشدّ شوقا بالاعتبار الثاني. وهذا بخلاف العشق.
وصل
إذا ثبت هذا ،
فنقول : المادّة الأولى في غاية الشوق ؛ لأنها بإزاء ما يقوى عليه من الصور
والخيرات الغير المتناهية ، الّتي هي باعتبار ما غايات لوجودها ، وخيرات لاحقة بها
، ومكملات لنقصاناتها ، وإن حصلت لا دفعة ، بل في أزمنة غير متناهية.
وتلك الكمالات من
سنخ ما حصل لها شيء قليل ضعيف ، وإن كان مجرّد قوّة تلك الخيرات واستعدادها مع قطع
النظر عن اتصال صورة بها ، واتّحادها معها ؛ لأنّ فقد ما يمكن حصوله من الأمر
الكمالي بشيء ما له شعور ضعيف يوجب شوقا ما إلى ذلك الأمر ، فهي دائمة النزاع إلى
الصورة مفقودة ، والتنوّع بها موجودة ، ولذلك تلقاها متى عريت عن صورة بادرت إلى
الاستبدال عنها بصورة أخرى ؛ إشفاقا عن ملازمة العدم المطلق ؛ إذ كلّ موجود فهو
نافر بطبعه عن العدم ، فالمادّة تنفر عن العدم ، فمهما كانت ذات صورة لم يقم فيها
سوى العدم الإضافي ، ولو لاها للابسها العدم المطلق ، فهي ـ إذن ـ كالمرأة الدميمة
المشفقة عن استعلان قبحها ، فمهما انكشف قناعها غطت دمامتها بالكم.
فقد تقرّر أنّ
فيها عشقا وشوقا غريزيا ، بمعنى أنّ لها قوّة العشق والشوق ، وقبولهما ، كما أن
لها قوّة الوجود والشعور ، وقبولهما ، لا أنها مشتاقة ، أو عاشقة بالفعل إلى شيء ،
وإلّا لكانت وجودا بالفعل ، وصورة ، لا قوّة للوجود ، وهيولى ، فافهم.
فصل
وأمّا الصورة
الجسمية ، فهي أيضا لها شوق وعشق بالنسبة إلى الخير المطلق ، وبتوسّطه إلى الطبائع
بقدر شعورها وحيويتها ووجودها ، وقد دريت أن نسبتها إلى الطبائع كنسبة المادّة
الأولى إليها بعينها ، فكذلك حكمها في العشق والشوق بعينه حكمها ، بل عشقها أشدّ
من عشق المادّة وشوقها أيضا ، باعتبار دون اعتبار.
وكذلك حال الطبائع
والقوى بالنسبة إلى النفوس ، والطبيعة لما كانت تحسّن بالفناء والاضمحلال ، صارت
جذّابة للنفس إليها ، حائلة بينها وبين معالي الأمور ، مخافة أن تبطل وتضمحلّ ،
وهذا أيضا لحكمة ومصلحة من الله سبحانه في اشتغال النفس برهة من الزمان لتدبير
عالم الطبيعة إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
سؤال : بم يعرف
وجود العشق ، فيما ذكرت؟ وهل لذلك من علامة يعرف بها؟
جواب : نعم ، إنّ
له علامة ، وهي انقياد السافل للعالي ، وخضوعه له خضوعا جبلّيا ، وطاعته إياه ،
وعبادته عبادة ذاتية من غير تمرّد ، ولا عصيان ، مع كونه ذا شعور ما.
ألا ترى إلى
المادّة الأولى كيف هي تحت سلطنة الصورة ، تقلّبها كيف تشاء ، وهي مطيعة إيّاها ،
ذليلة عندها ، وكذا الصورة بالنسبة إلى الطبيعة ، وكذا الطبائع والقوى بالنسبة إلى
النفس ، فإنّها خادمة لها ، لا يستنكفون عن عبادتها ،
ولكلّ خدمة موكولة
إليه أينما وجد لزمته تلك الخدمة ، مع شعف تامّ.
ألا ترى إلى الحجر
إذا أخرج عن مكانه الطبيعي كيف يميل إليه بشوق تام ، وشعف كامل ، وهذا بعينه إطاعة
طبيعية لنفسه ، وخدمة لها ، وهي متسببة عن عشقها إيّاها ، وابتهاجها بها ، وكذلك
سائر الطبائع والقوى ، من النباتية والحيوانية ، من الغاذية ، والنامية ،
والمولّدة ، والمحرّكة ، والمدركة ، إلى غير ذلك ، فإنّ كلّها مجبولة في طاعة
النفس ، والانقياد لها ، كما مرّ بيان ذلك مفصّلا في مباحث النفس ، فلا نعيدها ،
وما ذلك إلّا لعشقها لها ، وشوقها إلى الوصول لديها ، وما عشقتها إلّا لأنّها عشقت
الخير المطلق ، فهي في الحقيقة إنّما تعشق خالقها وبارئها.
وأمّا الأعراض
فعشقها ظاهر بالجدّ في ملازمة الموضوع.
فصل
وأمّا النفوس
المنطقية فهي لما كانت ذات جهتين ، من جهة ذاتها جوهر عقلي ثابت بالقوة ، ومن جهة
تعلّقها بالطبيعة وفعلها وتدبيرها جوهر متجدّد غير ثابت.
وهاتان الجهتان
ممّا يشبه أن تكون إحداهما مقوّمة لها ، داخلة في قوامها ، والأخرى لاحقة لذاتها ،
لكونها إضافة لها إلى الطبيعة ، فإذا سقطت عنها هذه الإضافات رجعت إلى منبعها
الأصلي ، وحيّزها العقلي.
وإنما تخاف النفس
من ذلك ، ولا تأنس إلى الخروج من هذا الحبس ؛
__________________
لأنها استوحشت
مخافة أن تنقل إلى ما هو شرّ منه ، وإنما يطلب الموت الموقنون الذين تيقّنوا أنهم
ملاقو ربّهم ، وإنهم إليه راجعون ، فيتمنّون الموت تشوقا إلى لقاء الله في الدار
الآخرة ؛ لكونهم يتولّون الله ، ويحبّونه ، كما في قوله تعالى : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ
لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ، وأولئك هم النفوس الإنسانية الّتي وصلت في حياتها
الدنياوية إلى الغبطة العظمى ، فأشرف أحوالها أن تكون عاشقة مشتاقة ، فشوقها يؤدي
إلى الطلب السريع ، والسير الحثيث إلى الحقّ ، حتّى إذا أدّت الحركة إلى النيل بطل
الطلب ، وصفت البهجة ، وحقّت ، وهو الفناء الّذي يسمى بالولاية ، وإليهم الإشارة
بقولهعزوجل : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ) .
فصل
وأمّا النفوس
الحيوانية ، سواء كانت من نوع الإنسان ، أو أنواع أخرى حيوانية ، طالبة لكمالات
وهمية ، وخيرات خيالية ، فهي صنفان : سعيدة ، وشقيّة.
فالسعيدة نفوس
بشرية ، تتصوّر الحقّ الأوّل تصوّرا مثاليا ، وتتمثل لها الوسائط العقلية بالأمثلة
المأخوذة عن المبادىء الجسمانية ، والأفعال الباطنية المقرّبة إليه ، والنيّات
الصالحة المزلفة لديه بنظائرها من الأفعال الصادرة من خدّام السلاطين ، وعبيد
الملوك ، وتتخيل الغايات الحقيقية ، كالغايات الحسّية ، فكأنهم يعبدون حكاية الحقّ
الأوّل ، ويعشقون ذلك، لا ذاته تعالى ، فلهذا صارت
__________________
عباداتهم وحركاتهم
أمثلة لعبادات أهل الحق ، وأشباحا لنسك العارفين.
والشقية نفوس
منغمسة في عالم الطبيعة ، متنكّسة رؤوسها لانكبابها على الشهوات واللذّات الحسّية
، والتغلّبات الحيوانية ، فهي الّتي كفرت بأنعم الله ، وصرفت قواها الشهوية
والغضبية في غير ما خلقت لأجله ، وضلّت ضلالا بعيدا ، وخسرت خسرانا مبينا.
وهي مع هذه
الشقاوة والفاحشة غير خالية عن عشق وشوق إلى طلب الخير الأقصى، والحق الأعلى ،
بحسب غريزتها وطبيعتها الفطرية الّتي فطر الناس عليها ؛ وذلك لأنها إنّما طلبت ما
طلبت ، وعشقت ما عشقت من المشتهيات الدنية والحظّ الأدنى ؛ لأنها تصوّرت فيها
الخيرية.
وقد دريت أن
الوجود كله خير ، وأن الشرور إنّما هي بالإضافة ، فما هو شرّ بالنسبة إلى أمر ،
فهو خير في نفسه ، أو بالإضافة إلى أمر آخر ، فالنفوس إنّما عشقت مستلذّاتها من
جهة خيريّتها ، ولكنها لجهلها وعماها ذاهلة عن استلزام ذلك فوات الخيرات الكثيرة
الّتي لا نسبة لها إلى هذه ، فرجع عشقها ـ إذن ـ إلى الخير ليس إلّا ، وبيّن أنّ
الخير كله من عند الله عزوجل ، وبيده ، ومنه ، وبه ، بل إنّما سائر الخيرات رشح من خيره
، كما أن الوجودات كلّها رشح من وجوده ، فهي ـ إذن ـ ليس عشقها إلّا لله سبحانه
بالحقيقة ، سواء كان بحسب الظاهر للمال والجاه ، أو الحسن والجمال ، أو غير ذلك.
من هنا قال صاحب
الفتوحات : ما أحبّ أحد غير خالقه ، ولكن احتجب عنه تعالى ، بحب زينب ، وسعاد ، وهند ، وليلى ، والدرهم ، والدينار ،
والجاه ، وكلّ ما في العالم ، فأفنت الشعراء كلامها في الموجودات ، وهم لا يشعرون
،
__________________
والعارفون بالله
لم يسمعوا شعرا ، ولا لغزا ، ولا غزلا ، إلّا فيه من خلف حجاب العبودية ، فإنّ
الحب سببه الجمال ، وهو له ؛ لأنّ الجمال محبوب لذاته ، والله جميل ، يحبّ الجمال
، فيحبّ نفسه.
وسببه الآخر
الإحسان ، وما ثمّ إحسان إلّا من الله ، ولا محسن إلّا الله ، فإن أحببت للجمال
فما أحببت إلّا الله ؛ لأنّه الجميل ، وإن أحببت للإحسان ، فما أحببت إلّا الله ؛
لأنّه المحسن ، فعلى كلّ وجه ما متعلّق المحبّة إلّا الله .
فصل
وليعلم أن النفس
النطقية ، والحيوانية أيضا بجوار النطقية ، أبدا تعشقان كلّ شيء حسن النظم
والتأليف والاعتدال ، مثل المسموعات الموزونة وزنا متناسبا ، والمذوقات المركّبة
من أطعمة مختلفة بحسب التناسب ، وما شابه ذلك.
أما النفس
الحيوانية فبنوع تقليد طبيعي ، وأمّا النفس الناطقة فإنّها إذا سعدت بتصوّر
المعاني الغالبة على الطبيعة ، وعرفت أن كلّ ما قرب من المعشوق الأوّل فهو أقوم
نظاما ، وأحسن اعتدالا ، وبالعكس ، إذ ما يليه أفوز بالوحدة وتوابعها ، كالاعتدال
والاتفاق ، وما يبعد عنه أقرب إلى الكثرة وتوابعها ، كالتفاوت والاختلاف ، على ما
أوضحه الإلهيّون.
فمهما ظفر بشيء
حسن التركيب لاحظه بعين المقة ويلتذّ به ، ولمّا كانت لذّته رشحا للذّة أمر عقلي
ذاتا ، أو صفة ، أعني ربّ نوعه الّذي هو من عالم العقل ، كما أن وجوده تابع لوجوده
، وكانت آثار الجواهر العقلية في هوية
__________________
الإنسان الطبيعي
لكونه تامّ الخلقة أكثر ، كان الالتذاذ به أكثر من سائر المركّبات والبسائط
الطبيعية.
فصل
والعلّة في كون
حدث السنّ من أهل الزينة والجمال مرغوبا مشتهى ، دون الممعن في السنّ منهم ، أن
الإنسان متقلّب الهوية في درجات الوجود ؛ لأنّ وجوده في أوّل الأمر بالقوة، ثمّ في
مقام الطبيعة ، ثمّ في مقام الحسّ ، ثمّ في مقام النفس ، على مراتبها ، ثمّ في
مقام العقل على درجاته.
وهذه اللّذات
الشهوية أكثرها حسّية محضة ، أو نفسانية ممزوجة بآثار الطبع ، ولهذا يتعلّق الميل
الشهوي بأوائل وجود الإنسان الجميل ، دون ثوانيه ، وأواخره ، سيّما وقد يحدث فيها
من ذمائم الصفات ما يحدث في مقام النفس ، ويسري حكمها من الباطن إلى الظاهر.
وقد تجتمع هذه
النشآت في شخص واحد ، طالب ، أو مطلوب ، فيلتذّ رجل واحد من صحبة الأحداث والنسوان
، وأهل الطرب ، والرقص ، والغناء ، بحصة طبيعته وحسّه ، ومن صحبة الظرفاء والشعراء
، وأهل الصناعات والعلوم الجزئية ، بحصّة نفسه وخياله ، ومن صحبة الحكماء الكاملين
، وأهل التقوى والزهادة ، بحصّة عقله وروحه.
فصل
وأمّا الحكمة في
ذلك ، فهي أن الأطفال والصبيان لمّا استغنوا عن تربية الآباء والأمّهات ، فهم بعد
محتاجون إلى تعليم الاستاذ من المعلّمين لهم العلوم
والصنائع ،
ليبلغهم إلى التمام والكمال ، فمن أجل ذلك يوجد في الرجال البالغين رغبة في
الصبيان ، ومحبّة للغلمان ، ليكون ذلك داعيا لهم إلى تأديبهم ، وتهذيبهم ،
وتكميلهم إلى البلوغ إلى الغايات المقصودة بهم ، وهذا موجود في جبلّة أكثر الأمم
الّتي لها تعليم العلم ، والصنائع ، والآداب ، والرياضات ، مثل أهل فارس ، وأهل
العراق ، وأهل الشام ، والروم ، دون غيرهم من الأمم الّتي لا تتعاطى العلوم
والصنائع والآداب ، مثل الأكراد ، والأعراب ، والزنج ، والترك ، فإنّه قلّما يوجد
فيهم ، وفي طبائعهم ، محبّة الغلمان ، وعشق المردان.
وهكذا الحكمة في
سائر أنواع المحبّة من محبّة من محبّة الرجال للنساء ، وبالعكس ، ومحبّة الوالدين
للولد ، والرؤساء للرئاسات ، وأهل الصنائع لصنائعهم ، إلى غير ذلك ، فإنّ ذلك كله
إنّما ركزت في جبلّتهم لحفظ نظام العالم.
فصل
ثم إنّ الإنسان
إذا أحبّ الصور المستحسنة لأجل لذّة حيوانية ، فهو مستحقّ للذم ، بل هو من اللئام
، مثل الفرقة الزانية ، والمتلوّطة ، وبالجملة الأمّة الفاسقة.
وعلامة ذلك أن
يكون أكثر إعجابه بصورة المعشوق ، وخلقته ، ولونه ، وتخاطيط أعضائه ؛ لأنها أمور
بدنية ، وهذا ممّا يقتضيه استيلاء النفس الأمّارة ، وهو معين لها على استخدامها
القوّة العاقلة ، ويكون في الأكثر مقارنا للفجور ، والحرص عليه.
ومهما أحبّ الصورة
المليحة باعتبار عقلي على ما أوضحناه ، عدّ ذلك
وسيلة إلى الرفعة
، والزيادة في الخيرية ، لولهه لما هو أقرب في التأثير من المؤثر الأوّل ،
والمعشوق المحض ، وأشبه بالأمور العالية الشريفة ، وذلك ممّا يؤهّله لأن يكون
ظريفا ، وفتى لطيفا ؛ ولذلك لا يكاد أهل الفطنة من الظرفاء والحكماء ، ممّن لا
يسلك طريقة المتعفّفين ، يوجد خاليا عن شغل قلب بصور حسنة إنسانية ؛ وذلك أن
الإنسان مع ما فيه من زيادة فضيلة الإنسانية إذا وجد فائزا بفضيلة اعتدال الصورة
الّتي هي مستفادة من تقويم الطبيعة ، واعتدالها ، بظهور أثر إلهي فيه جدّا ،
استحقّ لأن ينحل من ثمرة الفؤاد مخزونها ، ومن صفر صفاء الوداد طيبه.
ومبدأ هذا العشق
مشاكلة نفس العاشق لنفس المعشوق في الجوهر ، وعلامته أن يكون أكثر إعجابه بشمائل
المعشوق ، وجودة تركيبه ، واعتدال مزاجه ، وحسن أخلاقه ، وتناسب حركاته ، وأفعاله
، وغنجه ، ودلاله ؛ لأنها آثار صادرة عن نفسه ، وهو يجعل نفس العاشق ليّنة شيّقة ،
ذات وجد ورقّة ، منقطعة عن الشواغل الدنياوية ، معرضة عمّا سوى معشوقه ، جاعلة
جميع الهموم همّا واحدا ، ولذلك يكون الإقبال على المعشوق الحقيقي أسهل على صاحبه
من غيره ، فإنه لا يحتاج إلى الإعراض عن أشياء كثيرة ، وإليه أشار من قال : من عشق
وعفّ ، وكتم ، ومات ، مات شهيدا .
وقيل : العشق
العفيف أدنى سبب في تلطيف النفس ، وتنوير القلب ، إلّا أن ذلك أيضا إنّما يكون
للمتوسّطين من الناس الّذين لم يشتغلوا بعد بالله سبحانه ، فإنّ من اشتغل بالله لم
يشغله شيء عنه ، جلّ ذكره ، ولذلك لما سئل مولانا الصادق عليهالسلام عن العشق ، فقال : «قلوب خلت من ذكر الله ، فأذاقها الله
حبّ
__________________
غيره» .
وقال أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ : إن هذا العشق وإن كان معدودا من جملة الفضائل ، إلّا أنه من الفضائل
الّتي يتوسّط الموصوف بها بين العقل المفارق المحض ، وبين النفس الحيوانية ، ومثل
هذه الفضائل لا تكون محمودة شريفة على الإطلاق في كلّ وقت ، وعلى كلّ حال من
الأحوال ، وفي كلّ أحد من الناس ، بل ينبغي استعمال هذه المحبّة في أواسط السلوك
العرفاني ، وفي حال ترقيق النفس وتنبيهها عن نوم الغفلة ، ورقدة الطبيعة ،
وإخراجها عن بحر الشهوات الحيوانية.
وأمّا عند استكمال
النفس بالعلوم الإلهية ، وصيرورتها عقلا بالفعل ، محيطا بالعلوم الكلية ، ذا ملكة
الاتّصال بعالم القدس ، فلا ينبغي لها عند ذلك الاشتغال بعشق هذه الصورة المحسنة
اللخمية ، والشمائل اللطيفة البشرية ؛ لأنّ مقامها صار أرفع من هذا المقام ، ولهذا
قيل : المجاز قنطرة الحقيقة ، وإذا وقع العبور من القنطرة إلى عالم الحقيقة ،
فالرجوع إلى ما وقع العبور عنه تارة أخرى يكون قبيحا ، معدودا من الرذائل.
ولا يبعد أن يكون
اختلاف الأوائل في مدح العشق وذمّه ، من هذا السبب الذي ذكرناه ، أو من جهة أنه
يشتبه العشق العفيف النفساني الّذي منشؤه لطافة النفس ، واستحسانها ، لتناسب
الأعضاء ، واعتدال المزاج ، وحسن الأشكال ، وجودة التركيب بالشهوة البهيمية الّتي
منشؤها إفراط القوّة الشهوانية.
وأمّا الّذين
ذهبوا إلى أن هذا العشق من فعل البطّالين الفارغي الهمم ، فلأنّهم لا خبرة لهم
بالأمور الخفيّة ، والأسرار اللطيفة ، ولا يعرفون من الأمور إلّا
__________________
ما تجلّى للحواس [وظهر
للمشاعر الظاهرة] ، ولم يعلموا أن
الله لم يخلق شيئا في جبلّة النفوس إلّا لحكمة جليلة ، وغاية عظيمة .
فصل
ثم إنّ عشق الصور
الحسّية من الإنسان قد تتبعه أمور ثلاثة :
أحدها : حبّ
معانقته.
والثاني : حبّ
تقبيله.
والثالث : حبّ
مباضعته.
فأما حبّ المباضعة
، فمهما تأمّل فيما سبق تيقّن عنده أن هذا العشق ليس إلّا خاصّا بالنفس الحيوانية
، وإن حصّتها فيه أنها فيه على مقام الشريك ، بل المستخدم لا على مقام الآلة ،
وذلك قبيح جدا ، بل أنّى تخلص العشق النطقي ما لم تنقمع القوّة الحيوانية ، غاية
الانقماع ، ولذلك بالحري أن يتّهم العاشق إذا راود معشوقه بهذه الحاجة. اللهمّ
إلّا أن تكون هذه الحاجة منه بضرب نطقي ، يعني إن قصد به توليد المثل ، وذلك في
الذكر من الناس محال ، وفي الأنثى المحرمة في الشرع قبيح ، بل لا ينساغ هذا القصد
، ولا يستحسن إلّا للرجل في امرأته ، أو مملوكته.
وأمّا المعانقة
والتقبيل ، فإذا كان الغرض فيهما هو التقارب والاتّحاد ؛ وذلك لأنّ النفس تودّ أن
تنال معشوقها بحسّها اللمسي ، نيلها بحسّها البصري ،
__________________
فتشتاق إلى
معانقته ، وتنزع إلى أن يختلط سهم مبدأ الأفاعيل النفسانية ، وهو القلب ، بسهم
مثله من المعشوق ، فتشتاق إلى تقبيله ، فليسا بمنكرين في ذاتيهما ، لكن استتباعهما
بالعرض أمورا شهوانية فاحشة توجب التوقي عنهما ، إلّا إذا تيقّن من ميولهما خمود
الشهوة والبراءة من البهيمية ، ولذلك لم يستنكر تقبيل الأولاد ، وإن كان مبدؤه
مزعجا لتلك ؛ إذ كان الغرض فيه التداني والاتحاد ، لا الهمّ على فحش ، أو فساد.
فصل
إنّ مبدأ العشق
وأوّله نظرة ، أو التفات نحو شخص من الأشخاص ، فيكون مثلها كمثل حبّة زرعت ، أو
غصن غرس ، أو نطفة سقطت في الرحم ، ثمّ يكون ما باقي النظرات واللحظات بمنزلة ماء
ينصبّ إلى هناك ، ويزيد وينشأ وينمو على ممرّ الأيام ، إلى أن يصير شجرة ، أو جسما
، وذلك أنّ أوّل همّة العاشق ومناه هو الدنوّ منه ، والقرب من ذلك الشخص ، فإذا
اتّفق ذلك سهل تمنّي الخلوة والمحاورة ، فإذا سهل ذلك تمنّى المعانقة والقبلة ،
فإن سهل ذلك تمنّى الدخول في ثوب واحد ، والالتزام بجميع الجوارح أكثر ما يمكن،
ومع هذه كلّها الشوق بحاله لم ينقص شيئا ، بل ازداد ، كما قال قائلها :
أعانقها والنفس
بعد مشوقة
|
|
إليها وهل بعد
العناق تداني
|
وألثم فاها كي
تزول حرارتي
|
|
فيزداد ما ألقى
من الهيجان
|
فإنّ فؤادي ليس
يشفي غليله
|
|
سوى أن يرى
الروحين يتّحدان
|
فصل
قيل : إذا تعانق
العاشق والمعشوق جميعا ، وامتص كلّ واحد منهما ريق صاحبه ، وبلعه ، وصلت تلك
الرطوبة إلى معدة كلّ واحد منهما ، وامتزجت هناك مع رطوبات المعدة، ووصلت إلى جرم
الكبد ، واختلطت بأجزاء الدم هناك ، وانتشر في العروق الواردة إلى سائر أطراف
الجسد ، فاختلط بجميع أجزاء البدن ، فصار لحما ، ودما ، وعروقا ، وعصبا ، وما شاكل
ذلك.
وهكذا أيضا إذا
تنفّس كلّ واحد منهما في وجه صاحبه ، خرج مع تلك الأنفاس شيء من نسيم روح كلّ واحد
منهما ، واختلط بأجزاء الهواء ، فإذا استنشقا من ذلك الهواء دخل إلى خياشيمهما من
أجزاء ذلك النسيم مع الهواء المستنشق ، ووصل بعضه إلى مقدّم الدماغ ، وسرى فيه
كسريان النور في جرم البلور ، فاستلذّ كلّ واحد منهما ذلك النسيم.
ووصل أيضا أجزاء
ذلك الهواء المستنشق إلى جرم الرئة في الحلقوم ، وما شاكل ذلك من أجزاء الجسد ،
وانعقد في بدن هذا ما تحلّل من جسد هذا ، وفي جسد هذا ما تحلّل من بدن هذا ، فيكون
من ذلك ضروبا من الامتزاجات ، ومن تلك الأمزجة ضروب الأخلاط ، كلّ ذلك بحسب أمزجة
أبدانهما.
ومن شأن النفس أن
تتبع مزاج الجسد في إظهار أفعالها وأخلاقها ؛ لأنّ مزاج الجسد وأعضاء البدن
ومفاصله للنفس بمنزلة الآلات والأدوات للصانع الحكيم ، يظهر بها ، ومنها أفعاله ،
فلهذه الأسباب والعلل الّتي ذكرناها يتولد العشق والمحبّة على ممرّ الأيام بين
المتحابّين، وينشأ وينمو.
فأما الّذي يتغيّر
من المحبة وينفد بعد التأكيد فلأسباب يطول شرحها.
وكلّ محبّ لشيء من
الأشياء مشتاق إليه ، هائم به ، متى وصل إليه ونال ما يهواه منه ، وبلغ حاجته من
الاستمتاع والتلذّذ بقربه ، فإنّه لا بدّ يوما أن يفارقه ، أو يمله ، أو يتغيّر
عليه ، وتذهب تلك الحلاوة ، وتتلاشى تلك البشاشة ، ويخمد لهب ذلك الاشتياق
والهيمان ، إلّا المحبّين لله تعالى من المؤمنين والمشتاقين إليه من عباده
وأوليائه الصالحين ، فإنّ لهم في كلّ يوم من محبوبهم قربة ومزيدا أبد الآبدين ،
بلا نهاية ، ولا غاية.
أقول : وإلى هذا
أشير بقوله عزوجل : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ
بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) .
وقال مولانا
الصادق عليهالسلام : «ألا كلّ خلّة كانت في الدنيا في غير الله ، فإنّها تصير
عداوة يوم القيامة» .
فصل
وأمّا النفوس
الفلكية ، فقد مرّ أنهم عشّاق لله ، مشتاقون إليه ، دائرون حول جنابه ، قد نالوا
نيلا من حيث التفاتهم لفتة ، وعشقهم بما لديه ، وحجبوا عنه حجابا من حيث هواهم إلى
عالم الطبع ، فيكون لهم ضرب من الشقاوة الضرورية ، إلّا أنه تنجبر في كلّ دهرهم
لأجل استكمالهم التدريجي ، وخروجهم من القوّة إلى الفعل ، فيما ليس لهم من الكمال
اللائق بحالهم ، فعند حصوله يحصل
__________________
لهم القرب
والمنزلة عند الله ، وتكون لهم بهجة جديدة بحسبها ، وبقدر ما يكون بالقوّة لها شوق
، والشوق لا يخلو عن أذى ، إلّا أن الأذى إذا كان من جهة معشوق نيل منه شيء عظيم ،
وبقي شيء يسير ، يكون لذيذا.
وقد مثّلوا ذلك
بالدغدغة ؛ لأنها مركّبة من لذّة وألم ، فهم واجدون في عين الحرمان ، واصلون حين
الفرقان ، فلا محالة يغشاهم نوع دهشة وحيرة ، ويتأذّون أذى لذيذا ، لكونه من قبل
أرحم الراحمين ، ومعشوق العالمين.
وهاتان الجهتان
فيهم بإزاء الرجاء والخوف في الإنسان العالم الصالح.
فصل
وأمّا العقول
المقدّسة فهم العشّاق بالحقيقة ؛ لأنّ ابتهاجهم به سبحانه لا غير ، وأمّا ابتهاجهم
بذواتهم فليس من حيث هم هم ، بل من حيث كونهم مبتهجين به ؛ لأنهم إنّما يعرفون
أنفسهم بالله سبحانه ، وكونهم عبيدا وخدما له ، مسخّرين ، فلذّتهم أيضا بذاته ،
فهم على الدوام في مطالعة ذلك الجمال ، لا يرتدّ إلى أنفسهم طرفهم طرفة عين ؛
لاستهلاكهم في ذات الحبيب الأوّل.
ونحن نلتذّ بإدراك
روائح الحقّ في أوقات متفرّقة من أيام دهرنا ، ما لا تقدر الألسن وصفها ، ونحن
مصروفون عنه ، مردودون في قضاء حاجات ، منغمسون في تدبير الطبيعة البدنية ، إذا
تعرّضنا على سبيل الاختلاس لنفحات الله في زمان قليل جدّا تكون كسعادة عجيبة.
وهذه الحالة
للمقرّبين أبدا من غير مشوّش ، فكيف بهجتهم وسعادتهم؟ وكيف من بهّجهم وأسعدهم ،
تعالى شأنه؟
فصل
ولمّا كانت
العبادة متسبّبة عن العشق ، كما أشرنا إليه ، فإنّ العاشق عابد لمعشوقه لا محالة ؛
إذ العبادة ليست إلّا الإطاعة والانقياد ، وصرف الهمّة نحو الشيء ، وذلك إنّما
يكون بالعشق ، أو يرجع إليه ، بل ورد في الحديث : «من أصغى إلى ناطق فقد عبده ،
فإن كان ينطق عن الله فقد عبد الله ، وإن كان ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان» .
وكذلك الذكر
متسبّب عن الشعور البسيط ، وقد تبيّن لك أنّ جميع الموجودات ذوات عشق وشعور
ينتهيان إلى الله سبحانه ، فكلّهم عابدون له ، جلّ جلاله ، مطيعون إيّاه ، كما
أنّهم عاشقون له ، شائقون إليه ، ولهم دين فطريّ ، جبلّية له لا يتصوّر فيها عصيان
أصلا ، فلكلّ وجهة هو مولّيها ، يحنّ إليها ويقتبس بنار الشوق نور الوصول لديها ،
وإليه أشير له بقوله عزوجل : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ
إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) .
قال صاحب الفتوحات
: خلق الله الخلق ليسبّحوه ، فنطقهم بالتسبيح له ، والثناء عليه ، والسجود له ،
فقال : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ
اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ) .
وقال أيضا : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ
مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ
__________________
وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ
النَّاسِ) .
وخاطب بهاتين
الآيتين نبيّه الّذي أشهده ذلك ، ورآه ، فقال : «ألم تر» ، ولم يقل: «ألم تروا» ،
فإنّا ما رأيناه ، فهو لنا إيمان ، ولمحمّد عيان ، فأشهده سجود كلّ شيء ، وتواضعه
لله ، وكلّ من أشهده الله ذلك ورآه دخل تحت هذا الخطاب ، وهذا تسبيح فطري، وسجود
ذاتي ، عن تجلّ تجلّى لهم ، فأحبّوه ، فانبعثوا إلى الثناء عليه من غير تكليف ، بل
اقتضاء ذاتي.
وهذه هي العبادة
الذاتية الّتي أقامهم الله فيها بحكم الاستحقاق الّذي يستحقّه.
وقال في أهل الكشف
وعامّة الإنس وكلّ عاقل : (أَوَلَمْ يَرَوْا
إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ
وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ) ، أخبرهم أنّ ذلك التفيّؤ يمينا وشمالا سجود لله ، وعبودية
، وصغار ، وذلّة لجلاله ، فقال : (سُجَّداً لِلَّهِ
وَهُمْ داخِرُونَ) ، فوصفهم بتعبّدهم أنفسهم ، حتّى سجدوا لله داخرين.
ثم أخبر فقال
متمّما : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ
ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ) ، أي من يدبّ عليها ، ثمّ قال : (وَهُمْ) يعني أهل السماوات ، والملائكة ، يعني الّتي ليست في سماء
، ولا أرض (لا يَسْتَكْبِرُونَ) يعني عن عبادتهم ربّهم ، ثمّ وصفهم بالخوف ليعلمنا أنهم
عالمون بمن سجدوا له ، ثمّ وصف
__________________
المأمورين منهم
أنهم (يَفْعَلُونَ ما
يُؤْمَرُونَ) .
ثمّ قال في الّذين
هم عند ربهم : (يُسَبِّحُونَ لَهُ
بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ) أي لا يملّون ، ولا يفترون ، كلّ ذلك يدلّ على أن العالم
كلّه في مقام الشهود والعبادة ، ألا كلّ مخلوق له قوّة التفكّر وليس إلّا النفوس
الناطقة الإنسانية ، والحيوانية خاصّة ، من حيث أعيان أنفسهم ، لا من حيث هياكلهم
، فإنّ هياكلهم كسائر العالم في التسبيح له والسجود، فأعضاء البدن كلّها مسبّحة
ناطقة ، ألا تراها تشهد على النفوس المسخّرة لها يوم القيامة ، من الجلود ،
والأيدي ، والأرجل ، والألسنة ، والسّمع ، والبصر ، وجميع القوى ، فالحكم لله
العلي الكبير .
وقال في موضع آخر
: إنّ المسمّى بالجماد والنبات ، لهم أرواح بطنت عن إدراك غير أهل الكشف إيّاها في
العادة ، فلا يحسّ بها مثل ما يحسّها من الحيوان ، فالكلّ عند أهل الكشف حيوان
ناطق ، بل حيّ ناطق ، غير أنّ هذا المزاج الخاصّ يسمّى إنسانا ، لا غير ، ونحن
زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف ، فقد سمعنا الأحجار تذكر الله ، رؤية عين ، بلسان
تسمعه آذاننا منها ، وتخاطبنا مخاطبة العارفين بجلال الله ، ممّا ليس يدركه كلّ
إنسان .
وقال في موضع آخر
: وليس هذا التسبيح بلسان الحال ، كما يقوله أهل النظر ممّن لا كشف له.
__________________
فصل
قد ظهر من تضاعيف
ما ذكرناه : أنّ القوى الأرضية كلّها كالنفوس الفلكية في أنّ الغاية في أفاعيلها
ما فوقها ؛ إذ هي لا تحرك المادّة لتحصيل ما تحتها من المزاج وغيره ، وإن كانت هذه
تحصل بالتبع اللازم ، بل الغاية في تحريكاتها كونها على أفضل ما يمكن لها ، ليحصل
لها التشبّه بما فوقها ، كما في تحريكات نفوس الأفلاك أجرامها بلا تفاوت إلى أن
تنتهي سلسلة التشبّهات والاستكمالات إلى الغاية الأخيرة ، والخير الأقصى ، الّذي
يسكن عنده السّلّاك ، وتطمئنّ به القلوب ، وهو الله جلّ جلاله.
ومن هنا قيل : لو
لا عشق العالي لانطمس السافل ، فالكائنات البائدات ، كالسابقات الباديات.
وفاعل التسكين
كالطبيعة الأرضية ، كفاعل التحريك كالقوى السماوية ، في أنّ مطلوبه ليس ما تحته في
الوجود ، بل كونه على أحسن ما يمكن في حقّه.
وما أحسن ما قيل :
صلّت السماء بدوراتها ، والأرض برجحانها ، والماء بسيلانه ، والمطر بهطلانه ، وقد
يصلّى له ، ولا يشعر ، ولذكر الله أكبر.
فالسماوات بسرعة
وجدها ، والأرض بفرط سكونها ، لسيّان في هذا الشأن ، ولعمر إلهك لقد اتّصل بالسماء
والأرض من لذيذ الخطاب في قوله عز سبحانه : (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ
كَرْهاً) ، من مشاهدة جمال القهر ما طربت السماء طربا رقّصها ، فهي
بعد في ذلك الرقص والنشاط ، وغشي به على الأرض لقوّة
__________________
الوارد ، فألقيت
مطروحة على البساط ، فسريان لذّة القهر هو الّذي عبدهما ، ومشاهدة لطف الجلال هي
الّتي سلبت أفئدتهما ، حتّى قالا قول الوامق ذي الحنين : (أَتَيْنا طائِعِينَ).
فذلك من عميم
اللطف شكر
|
|
وهذا من رحيق
الشوق سكر
|
وظهر بما ذكرنا
أيضا أنّ جميع الناس إنّما يعبدون الله بوجه ، حتّى عبدة الأصنام ، فإنهم يعبدونها
لظنهم الإلهية فيها ، فهم أيضا يعبدون ما تصوّروه إله العالم بالحق ، إلّا أن
كفرهم لأجل تصديقهم غير الله أنه هو الله ، فقد أصابوا في التصوّر ، وأخطأوا في
التصديق ، فلا فرق بينهم وبين كثير من الإسلاميين من هذا الوجه.
ومن هنا قال الله
جلّ جلاله : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) .
وقال عزوجل : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) .
وقال : (قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ
عَذابُ اللهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ
صادِقِينَ* بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ
وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ) .
ومع هذا فأكثر
الناس يعبدون غير الله ، كما قال سبحانه : (وَما يُؤْمِنُ
__________________
أَكْثَرُهُمْ
بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) ، وقال : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا) ، وآيات كثيرة في هذا المعنى ، فإنّ جميعهم ـ غير العارف
الربّاني ـ لا يعبدون الله ، فإنّ آلهتهم هي بالحقيقة صور أصنام ينحتونها بآلات
أوهامهم ، فلا فرق كثيرا بينهم وبين عبّاد الأوثان ، إلّا بالألفاظ ، فإنّ المعبود
لكلّ أحد ما تخيّله في وهمه ، وتصوّره في خياله ، إلّا الإلهيين الّذين وصلوا إلى
معرفة الله بنور هدايته ، وهو وليّهم ، ومتولّي أمورهم.
كما أن وليّ
العاكفين على عبادة صور الأجسام ، وأصنام الأوهام ، هو الهوى والشيطان ، كما قال عزوجل : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ) ، وإليه أشار أيضا بقوله جل وعز : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ، وكانوا يعتقدون أنهم يعبدون عيسى عليهالسلام ، فجادلوا الرسول صلىاللهعليهوآله في هذه الآية ، فقال : معبودكم الطاغوت ، أشار عليهالسلام إلى ما تصوّروه في أوهامهم الفاسدة.
__________________
في أنّ مصير كلّ شيء إلى الله سبحانه
(أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ)
فصل
ولعلّك لا تحتاج
إلى مزيد بيان لذلك بعد وقوفك على تضاعيف ما سردنا ذكره ، ولكنّا نشير الآن إلى
ذلك بوجه آخر تفصيلي ، فإنّه مطلب عال ، ومقصد غال ، قد نبّه الله سبحانه عليه في
مواضع كثيرة من كتابه.
قال عزوجل : (يا أَيُّهَا
الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) ، وقال : (وَإِلَى اللهِ
الْمَصِيرُ) ، (إِنَّا لِلَّهِ
وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) ، (وَإِنَّا إِلى
رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) ، (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) ، و (إِلَيْنا راجِعُونَ) ، و (إِلى رَبِّكَ
__________________
يَوْمَئِذٍ
الْمُسْتَقَرُّ) ، و (إِلى رَبِّكَ
يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) ، و (إِلى رَبِّكَ
الرُّجْعى) ، و (إِلى رَبِّكَ
الْمُنْتَهى) ، (ارْجِعِي إِلى
رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) ، و (كُلٌّ إِلَيْنا
راجِعُونَ) ، (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً) ، (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ
يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً) . إلى غير ذلك من الآيات ، فاسمع لما يتلى عليك ، وهو من
إفادات أستاذنا ـ دام ظلّه ـ.
فصل
إنّ هذا الشوق
والطلب الّذي أثبتناهما للموجودات لو لم يكن لهما فائدة وغاية طبيعية ، لكان
ارتكازه في الجبلّة والغريزة عبثا ، وهباء معطّلا ، ولا تعطيل في الوجود ، ولا عبث
في فعل الله سبحانه ، كما قال عزوجل : (أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) ، تعالى الله عن ذلك ، وتقدّس.
فلكلّ سافل إمكان
الوصول إلى ما هو أعلى منه ، ولا يجوز أن يكون المطلوب نيل النسبة إليه ، والتشبّه
به ، أو القرب منه دون الوصلة ؛ وذلك لأنّ هذه
__________________
الأمور إن أريد
بها نفس المعاني الإضافية ، فمعلوم بالضرورة أنّ مجرّد الإضافة ليس من المطالب
الصحيحة ؛ إذ لا وجود لها بالذات ، سيّما في الذوات العالية .
وكذا إن أريد به
معنى عرضي ؛ لأنّ العرض أخسّ رتبة من أن يكون غاية ذاتية لأمر جوهري ، فإنّ غاية
الشيء ومطلوبه يجب أن تكون أشرف وأعلى منه ، والجوهر أشرف من العرض ، فلو كان كذلك
لزم كون شيء واحد شريفا وخسيسا معا ، بالقياس إلى أمر واحد، وهو محال.
ثم لو تكلّف أحد
وقال : يجوز أن تكون الغاية المطلوبة كون ذلك الجوهر مجامعا لتلك الصفة العرضية
الكمالية.
قلنا : ذلك ـ على
تقدير صحّته ـ لا يضرّنا ؛ لأنّ الكلام عائد في أنه مع كونه على تلك الصفة إمّا
على غاية الخير والتمام الّذي لا أتمّ منه ، أم يكون فوقه كمال أتمّ ، وخيرية
أعلى.
فعلى الأوّل يلزم
المطلوب ، وعلى الثاني تتحقّق له غاية أخرى يقتضي الوصول إليها ؛ إذ ما من موجود
سوى الله سبحانه إلّا وله غاية مطلوبة فوقه ، كما مرّ بيانه ، والكلام جار في غاية
غايته ، وهكذا إلى أن يتسلسل ، أو يدور ، وهما مستحيلان ، أو ينتهي إلى غاية أصلية
لا غاية فوقها ، وهو البارىء للكل ، جلّ اسمه.
__________________
وصل
ثم هذا الإمكان
إمّا ذاتي فقط ، وذلك إذا كان في المبدعات ، وإما استعداديّ ، وذلك إذا كان في
المكوّنات.
ففي الإبداعيات
إذا ثبت الإمكان ووجد المقتضي ، ورفع المانع ، حصل المقصود والغاية ، والمانع
والقاسر لا يوجد ولا يتصوّر في المفارقات ؛ لعدم الاتفاقات والمزاحمات هناك، كما
في عالم الحركات.
وأمّا في هذا
العالم فالقواسر وإن كانت موجودة إلّا أنها ليست دائمية ، ولا أكثرية ؛ لأنها من
العلل الاتّفاقية ، وليست من الأسباب الذاتية للأشياء ، وقد برهن أنّ العلل
الاتّفاقية أقلّية الوجود ، ومع قلّتها لا توجد إلّا في غير الفلكيّات من هذا
العالم ، وأمّا فيها فالطبائع الأثيرية على مقتضى حالها من الفوز بمقاماتها
اللائقة ، فلها الوصول إلى غاياتها ، وقد بيّنا كيفية وصولها ، وحشرها إلى بارئها.
ثم الغاية للطبيعة
الجزئية أولا وبالذات طبيعة جزئية أخرى ، وهكذا إلى ما شاء الله ، والغاية في
الطبيعة الكلّية العقلية طبيعة عقلية أخرى فوقها ، بالعلّية والشرف.
وقد دريت أنّ لكلّ
طبيعة حسّية ـ فلكية كانت ، أو عنصرية ـ طبيعة أخرى عقلية في العالم الإلهي ، وهي
أصول هذه الأشباح الكائنة المتجدّدة ؛ لأنها فاعلها ، وغايتها ، وصورتها أيضا ؛
لأنّ تلك الأصول هي عقليات بالفعل ، وهذه لا تخلو عن القوّة والإمكان ، وهذه بحسب
وجودها الكوني التجدّدي سالكة مشتاقة إليها ، فهي من حيث جزئيّتها وتشخّصها
الزماني الاتّصالي تنال منها
شيئا فشيئا ، على
التتالي ، وتصل إليها وصولا بعد وصول ، وتحصل لذاتها منها حصولا بعد حصول على
التدريج ؛ إذ لكلّ صورة عقلية شؤون وجهات ، ووجوه ، وحيثيّات ، لا يحيط به إلّا
الله عزوجل.
وأمّا بحسب وجودها
العقلي فهي واصلة إليها ، متّحدة بها اتّحاد ذي الغاية بغايتها عند الوصول.
وأمّا تلك الصور
العقليات والعلوم الإلهيات ، فهي أبدا ملتحقة بفاعلها ، وغايتها ملاحظة لجمال
بارئها ومبدعها ، لم ترجع عنه إلى ذواتها طرفة عين ؛ لأن الإمكان هنالك لا يفارق
الفعلية ، والقصور لا يباين التمام ، فهي أبدا مستهلكة الذوات في ذات الحبيب
الأوّل ، لا فرق بينهم وبين حبيبهم ، كما ورد في الخبر ، فلا مجال لهم في الأنانية
، والغيرية.
وقد دريت التركيب
الاتّحادي بين المادّة والصورة الجسمية ، وكذا بينهما وبين الطبيعة ، فالكلّ واصلة
إلى مبدئها ، وكذا النفوس ؛ لأنّ النفس إمّا عقل ، وإمّا طبيعة ، وكلّ نفس وقعت
على الصراط المستقيم الإنساني ، فإنّها تمرّ على جميع الكائنات ، وتصادف سائر
الموجودات ، حتّى تصل إلى الله سبحانه ؛ إذ لها قوّة الانتقال من حال إلى حال
أعلى.
فالعناصر تنقلب
جمادا ، والجماد ينقلب نباتا ، والنبات يسلك حيوانا ، والحيوان يصير إنسانا ،
والإنسان يصير ملكا (وَيَنْقَلِبُ إِلى
أَهْلِهِ مَسْرُوراً) ، كما مضى بيانه مفصّلا.
__________________
فصل
وما لم يقع على
الصراط المستقيم من النفوس ، فإن كانت نطقية ناقصة غير مشتاقة إلى الكمال العقلي ،
سواء كان عدم اشتياقها بحسب الفطرة ، أو لعارض ، فهي تحشر إلى العالم المتوسّط
المثالي الّذي هو قالب وحكاية وظلّ للعالم العقلي ، وبه قوامه ، ودوامه.
وكذا النفوس
البهيمية ، والسبعية ، البالغة حدّ الخيال بالفعل ، فكلّ منها يحشر في صورة مناسبة
لهيئته النفسانية.
وأشخاص كلّ نوع
منها مع كثرتها وتميّزها وتشكّلها بأشكالها ، وأعضائها المناسبة لها ، المتّفقة
بحسب نوعها ، المختلفة بشخصيّاتها ، واصلة إلى مبدأ نوعها ، وربّه ، من العقول
الّتي هي فاعلها وغايتها ، وتلك العقول محشورة إلى الله تعالى ، كما دريت.
والمحشور إلى المحشور
إلى شيء ، محشور إلى ذلك الشيء لا محالة.
وصل
وأمّا النفوس
المشتاقة إلى العقليات الغير البالغة إلى كمالها العقلي ، فهي متردّدة في الجحيم ،
معذّبة دهرا طويلا ، أو قصيرا ، بالعذاب الأليم ، ثمّ يزول عنها الشوق إلى
العقليات ، إمّا بالوصول إليها إن تداركته العناية الإلهية بجذبة ربّانية ، أو
شفاعة ملكيّة ، أو إنسانية ؛ لقوّة الشوق ، وضعف العائق ، أو بطول المكث في
البرازخ السفلية ، والاستيناس إليها ، فيزول عنها العذاب ، ويسكن عند المآب ، إمّا
إلى الدرجة العليا
، وإمّا إلى المهبط الأدنى ، فيحشر إلى الله من جهة أخرى ، من غير تناسخ.
وسنتكلّم في
عذابها عن قريب ، إن شاء الله.
وصل
وأمّا النفوس
الحيوانية الّتي هي حسّاسة فقط ، وليست ذات تخيّل وحفظ بالفعل ، فهي عند موتها
وفساد أجسادها ترجع إلى مدبّرها العقلي ، لكن لا يبقى امتيازها الشخصي، وكثرة
هويّاتها المتعدّدة بتعدّد أجسادها ، بل صارت كلّها موجودة بوجود واحد ، متّصلة
بعقلها ؛ لأنها بمنزلة أشعّة نيّر واحد ، انقسمت وتعدّدت بتعدّد الروازن الداخلة
هي فيها ، فإذا بطلت الروازن زال التعدّد بينها ، ورجعت إلى وحدتها الّتي كانت عند
المبدأ ، كرجوع الحواسّ الخمسة المتفرّقة في أعضاء البدن إلى الحسّ المشترك ،
واتحادها به.
وكسائر القوى
الحسّاسة وغيرها المتفرّقة في مواضع البدن ، المجتمعة عند النفس ، فإنّ اتحاد
الفاعل يوجب اتّحاد الفعل ، وإنما يتعدّد الفعل بتعدّد القابل بالعرض ، فإذا فسدت
القوابل رجع الفعل إلى وحدته الأصلية الّتي له من جهة الفاعل ، فكما أنّ الباقية
بذاتها متميّزة في القيمة ، إنّما هي النفس ، وأمّا سائر قواها فهي باقية ببقائها
؛ لاتّصالها بها ، واتّحادها بوحدتها ، فكذلك النفوس الحيوانية الغير المستقلّة
بذاتها ، ولا الشاعرة لذاتها ترجع عند ارتفاع تكثّرها ، الّذي لأجل تكثّر أجسادها
إلى مبدئها وأصلها ، متّحدة به ، باقية ببقائه.
فصل
وأمّا النفوس
النباتية الّتي ليس لها الترقّي إلى المرتبة الإنسانية ، ولا الحيوانية ، ممّا
اقتصر في حركاته ومساعيه على تحصيل الكمال النباتي ، فمعادها عند فساد أجسادها إلى
مقام أنزل ، وحشرها إلى مدبّر عقلي أدنى ، بالقياس إلى المدبّرات العقلية لأنواع
الحيوانات.
قال أرسطا طاليس في كتاب الربوبية : فإن قال قائل : إن كانت قوّة النفس
تفارق الشجرة بعد قطع أصلها ، فأين تذهب تلك القوّة ، أو تلك النفس؟
قلنا : تصير إلى
المكان الّذي لم تفارقه ، وهو العالم العقلي ، وكذا إذا فسد الجزء البهيمي تسلك
النفس الّتي فيه إلى أن تأتي العالم العقلي ، وإنما تأتي ذلك العالم ؛ لأنّ ذلك
العالم هو مكان النفس ، وهو العقل ، والعقل ليس في مكان ، فالنفس ـ إذن ـ ليست في
مكان .
فإن لم تكن في
مكان فهي ـ لا محالة ـ فوق وأسفل ، وفي الكلّ ، من غير أن تنقسم وتتجزّأ تجزّأ
الكلّ ، فالنفس في كلّ مكان ، وليست في مكان.
أراد في كلّ مكان
الجسم الّذي هو فيه ، دون سائر الأجسام الّتي لا تعلّق لها بها.
قال أستاذنا ـ مدّ
ظلّه ـ : إنّ النبات إذا قطع من أصله ، أو جفّ ، يسلك
__________________
أولا إلى عالم
الصور المقدارية الّتي بلا هيولى ، وينتهي منه إلى العالم العقلي ، كما ذكره
المعلّم الأوّل ، فإذا انتهت إلى ذلك العالم الصوري ، فتصير إمّا من أشجار الجنّة
إن كانت ذات طعم جيّد ، كالحلاوة ونحوها ، طيّبة الرائحة ، أو من أشجار الجحيم إن
كانت رديئة الطعم ، مرّة المذاق ، كريهة الرائحة ، كشجرة الزقّوم ، طعام الأثيم.
وأصول هذه الأشجار
تنتهي إلى سدرة المنتهى ، (عِنْدَها جَنَّةُ
الْمَأْوى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى) ، كما أنّ جميع النفوس تنتهي أولا إلى النفس الكلية الّتي
فوقها العقل الكلّي ، وهو مأوى النفوس الكلّية ، كما أنها منتهى النفوس الجزئية .
وصل
وأمّا الجماد
والعناصر ، فقد دريت أن لها ـ أيضا ـ نفوسا ملكوتية في عالم المثال ، غير العقول
الّتي لها في العالم الأعلى ، من أرباب الأنواع ، وأنها متقوّمة بتلك النفوس ، كما
أنّ تلك النفوس متقوّمة بتلك العقول ، فحشرها إنّما يكون إلى تلك الصور النفسانية
لا محالة، ثمّ إلى ما فوقها.
قال أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ : ومن الشواهد العرشية الدالّة على أنّ لهذه الصور الطبيعية صورا نفسانية ،
هي معادها وباطنها ، وأخرى عقلية ، هي معاد معادها ، وباطن باطنها : أنّا متى
أحسسنا بشيء خارجي ، وقعت له صورة غير صورتها الخارجية في قوانا الحسّاسة الّتي هي
من جنس الحيوانات المقتصرة على
__________________
النفس الحسّاسة
فقط ، فإذا وقعت تلك الصورة في حسّنا ، واستكمل بها الحسّ ، حصلت من تلك الصورة
صورة أخرى ، ألطف وأشرف منها ، فتصوّرت بها قوّة خيالنا الّتي دلّت البراهين ـ الّتي
أقمناها ـ على تجرّدها ، وتجرّد ما ارتسم فيها ، وتمثّل لها ، وكذلك انتقلت من
الصورة الّتي في قوّة خيالنا صورة أخرى عقلية إلى قوّة عقلنا ، فلو لا أنّ بين
محسوس كلّ طبيعة ومتخيّله ومعقوله علاقة ذاتية ، كما بين حسّنا وخيالنا وعقلنا من
الرابطة الاتّحادية ، لما كان كذلك.
وكذلك الأمر ـ على
عكس ذلك الصعود ـ في سلسلة النزول ، فإنّا متى تعقّلنا صورة عقلية وقعت منّا حكاية
مثالية مطابقة لها في خيالنا ، وإذا اشتدّ وجود الصورة في عالم الخيال انتقلت منه
في قوّة الحسّ ، وتمثّلت بين يدي الحسّ صورة في الخارج ، كما قال تعالى :
(فَتَمَثَّلَ لَها
بَشَراً سَوِيًّا) ، ومن هذا القبيل رؤية النبي صلىاللهعليهوآله جبرئيل والملائكةعليهمالسلام في هذا العالم.
فقد ثبت أن لكلّ
صورة طبيعية في عالم الشهادة صورة نفسانية في عالم الغيب ، هي معادها ، ومرجعها
الّذي تحشر إليه بعد زوال المادّة ودثورها ، وهي الآن أيضا متّصلة بها ، متقوّمة
بقوامها ، راجعة إليها ، لكنها لمّا كانت مغمورة في غمرات الظلمات والأعدام ،
غريقة في بحر الهيولى والأجسام ، لا يستبين حشرها إلى تلك الصورة النفسانية
المقيمة لها ، إلّا لأهل المعرفة والشهود ، فإذا انفسخت هذه الصورة بدثور مادّتها
، وتجرّدت عن غواشيها الجسمانية الّتي هي مقبرة ما في علم الله ، برزت صورتها من
هذه المكامن والمقابر إلى ذلك العالم ،
__________________
عالم المعرفة
والكشف واليقين ، وحشرت إليه .
وصل
ثم إذا رجعت هذه
الأشياء إلى مقارّها الأصلية بعد خروجها عن عالم الحركات والاستحالات والشرور
والآلام ، بالموت والفساد للأجسام ، والفزع والصعق للنفوس ، كما قال تعالى : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ
فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) ، تعطف عليها الرحمة الإلهية تارة أخرى بالحياة الّتي لا
موت فيها ، والبقاء الّذي لا انقطاع له ، كما قال : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ
أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) ، قال : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) ، وتلك الأرض الأخروية هي صورة نفسانية ذات حياة وقبول
للإشراقات العقلية الفائضة منه تعالى ، وهي هذه الأرض ، ولكن بعد أن تقبض ، فإنّها
إذا صارت مقبوضة بأيدي سدنة الملائكة الجاذبة تصير صورة نفسانية قابلة لأن تجذبها
وتقبضها أيدي الرحمن ، كما قال عزوجل : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) .
والفرق بين القبض
والطيّ ، أن القبض يستدعي أن يكون للمقبوض وجود عند القابض ، أشرف من وجوده الّذي
كان في تلك المرتبة ، كمادّة الغذاء إذا
__________________
جذبته وقبضته
القوّة الغاذية ، فإنّها تتبدّل صورتها بصورة شبيهة بالمغتذي ، وهي أشرف.
وأمّا الطيّ
فيستدعي أن لا يبقى للمطوي وجود وأنانية ، فقبض الأرض إشارة إلى تبدّل صورتها
الطبيعية بصورة نفسانية أخروية ، كما قال : (يَوْمَ تُبَدَّلُ
الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ) .
وطيّ السماء إشارة
إلى فنائها بنفسها ، واتحادها بالعقل ، وهو المشار إليه بيمينه تعالى ، والعقل
الصرف ممّا قد دريت أنه فان عن نفسه ، وباق بالحقّ عزوجل.
وصل
قال بعض العلماء :
إنّ قابض روح الأرض هي النفس النباتية الّتي هي كلمة فعّالة ، وقوّة من قوى ملائكة
موكّلة على أديم الأرض ، شأنها إحالة الأرض ، فتسلّخ عنها الصور الأرضية ، ليعوّض
عنها بأحسن صورة وأطهر كسوة.
وكذلك قابض روح
النبات ومتوفّيه ، ورافعه إلى سماء الحيوانية هي النفس المختصّة بالحيوان ، وهي من
أعوان الملائكة الموكّلة بإذن الله لهذا الفعل ، باستخدام القوى الحسّاسة
والمحرّكة.
وكذلك قابض روح
الحيوان ومتوفّيه ، ورافعه إلى سماء الدرجة الإنسانية ، هي النفس المختصّة
بالإنسان ، وهي كلمة الله المسمى بالروح القدسي ، الّذي
__________________
شأنه إخراج النفوس
من القوّة الهيولانية إلى العقل المستفاد بأمر الله ، وإيصال الأرواح إلى جوار
الله ، وعالم الملكوت الأخروي ، وهم المرادون بالملائكة والرسل في قوله عزوجل : (الَّذِينَ
تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) ، (وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) ، (حَتَّى إِذا جاءَ
أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) .
وأمّا الإنسان ـ بما
هو إنسان ـ فقابض روحه ملك الموت (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ
مَلَكُ الْمَوْتِ) .
أما المرتبة
العقلية فقابضها هو الله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى
الْأَنْفُسَ) ، (يا عِيسى إِنِّي
مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، (يَرْفَعِ اللهُ
الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ) ، ففي هذه التحويلات كانت كلّ مرتبة لاحقة أشرف من سابقتها
، ولم تكن للمنتقل من الحالة السابقة إلى اللاحقة حسرة وندامة على زوال النشأة
الأولى ، بل إن كانت ففي أمر آخر.
والقابض للروح هو
بعينه القابض لأجزاء البدن ، ولهذا اختلفت الروايات في ذلك أيضا.
ففي بعضها أنّ
الجامع لأجزاء بدن آدم هم الملائكة ، وفي بعضها أنّ الآخذ لتراب قالبه هم رسل الله
، لتكون لهم الرسالة إلى عباده ، وفي بعضها أنّ ملك
__________________
الموت أخذ قبضة من
التراب ، وفي بعضها أنّ الله سبحانه قبض بيده قبضة من أديم الأرض. فهذه الروايات
محمولة على المراتب المذكورة .
وصل
قد ظهر من هذه
البيانات ، وممّا أسلفنا من الأصول ، أنّ للموجودات في كلّ نفس موتا جديدا ، وبعثا
منه ، وحشرا إلى ما بعده ، وأنّ عدد الموت والبعث والحشر كثير ، لا يحصى ، بل هي
بعدد الأنفاس ، كما قيل.
وظهر ـ أيضا ـ أنّ
الموت عبارة إمّا عن النقل من الدنيا إلى الآخرة ، وإما عن الانتقال من صورة إلى
أخرى.
وعند التحقيق هو
إسقاط إضافة الوجود الخاصّ إلى ماهيته ، وإذا أسقطت إضافة جميع الوجودات الخاصة
إلى ماهياتها ، وشوهد الوجود الحقّ على صرافة وحدته ، قامت القيامة الكبرى ، وجاءت
الطامّة العظمى (وَبَرَزُوا لِلَّهِ
الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، و (الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ
لِلَّهِ) ، (لِمَنِ الْمُلْكُ
الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ) ، إذ (كُلُّ مَنْ عَلَيْها
فانٍ* وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) ، فإنّ القهّار هو الّذي يقهر كلّ موجود غيره ، ويبقى هو
وحده ، ولا شكّ أنه تعالى إذا ظهر من حيث هو هو لا يبقى للغير وجود ، ولا أثر ، (لَهُ الْحُكْمُ
__________________
وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ) .
قال أمير المؤمنين
عليهالسلام : «وإنه سبحانه يعود بعد فناء الدنيا وحده ، لا شيء معه ،
كما كان قبل ابتدائها ، كذلك يكون بعد فنائها ، بلا وقت ، ولا مكان ، ولا حيّز ،
ولا زمان ، عدمت عند ذلك الآجال والأوقات ، وزالت السنون والساعات ، فلا شيء إلّا
الواحد القهّار ، الّذي إليه مصير جميع الأمور» .
وصل
وأمّا الصور
الجسمانية ، والهيولى ، والحركة ، والزمان ، ونحوها ممّا لا حظّ له من الوجود ،
إلّا كونه استعداد وإمكانا لشيء آخر هو الصورة والكمال ، وممّا شأنه الانقسام
والسيلان والاضمحلال لو لا النفوس والطبائع الممسكة إيّاه عن التفرّق والانفصال ،
المعطية له الوحدة والاتّصال ، فلا حشر لها إلى النشأة الآخرة ، ودار القرار ؛
لعدم إمكان انتقالها من هذا العالم ، وإلّا لكان للّاقرار قرار ، وللعدم وجود ،
وللتجدّد ثبات ، وللموت حياة ، فمآلها ـ لا محالة ـ إلى العدم والبطلان ، ومعادها
إلى البوار والهلاك والفقدان.
وكذا الجسم
المستحيل الكائن الفاسد ، من حيث هو هو ، فكما أن مبدأ هذه الأشياء أمور عدمية من
باب الإمكان والقصور ، فكذا معادها ومرجعها إلى الزوال والبطلان ، فإنّ الغايات
على نحو المبادىء ، وكما علمت هذا في الجسمانيات ، فقس عليه نظائره في النفسانيات
، فإنّ غاية الجبن والجهل
__________________
والبلادة وأشباهها
، إلى الهلاك والبطلان ، من غير تعذيب وإيلام ، إن كانت بسيطة ، غير ممزوجة بشرّ
وجودي ، وإن كانت ممزوجة بعناد واستكبار ونفاق كانت مع عذاب شديد ، وعقاب أليم ،
إلى أن تتخلّص منه.
وصل
وليعلم أنّ العذاب
الأليم إنّما يكون للجاحدين للحق ، والمنكرين للعلوم ، والكاسبين لأنفسهم شوقا إلى
الكمالات العقلية في الدنيا ، ثمّ التاركين الجهد في كسبها ، ففقدت منهم القوّة
الهيولانية ، وحصلت لهم فعلية الشيطنة ، ورسخت في أوهامهم العقائد الباطلة ، دون
الناقصين بحسب الغريزة عن إدراك المراتب العالية ، فإنّ شقاوة هؤلاء غير مؤلمة ؛
لعدم معرفتهم بالكمال ، ولا شوقهم إليه ، فهي بمنزلة الموت ، أو الزمانة في
الأعضاء ، من غير شعور بمؤلم ، وكلاهما مشتركان في عدم الانجبار في الآخرة ، إلّا
أنّ البلاهة أدنى إلى الخلاص من فطانة تبرأ ، فعذاب الناقصين بالذوات عظيم من دون
ألم.
وإلى أمثالهم
الإشارة بقوله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ
كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا
يُؤْمِنُونَ* خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى
أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) .
وعذاب الجاحدين
والمنافقين أليم ، وإليهم الإشارة بقوله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ*
يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما
يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ
__________________
مَرَضاً
وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ) .
وهذا الألم العقلي
الكائن عن المضادات للحق ، هو بإزاء اللّذة والراحة الكائنة عن مقابلاتها ، وكما
أنّ تلك أجلّ من كلّ إحساس بأمر ملائم ، فكذلك هذا أشدّ من كلّ إحساس ، بمناف حسّي
، من تفريق اتّصال بالنار ، أو تجميد بالزمهرير ، أو قطع بالمناشير ، أو غير ذلك ،
أعاذنا الله وإخواننا منه.
فصل
ثم ليعلم أنّ
الألم ، عقليا كان أو حسّيا ، لا بدّ وأن يزول يوما ، ويؤول إلى النعيم ، ولو بعد
أحقاب ؛ لأنّ القسر لا يدوم ، والهيئات المضادة للحق غريبة عن جوهر النفس ، فكذا
ما يلزمها.
قال الشيخ
الأعرابي في فصوص الحكم : أمّا أهل النار فمآلهم إلى
__________________
النعيم ، لكن في
النار ، إذ لا بدّ لصورة النار بعد انتهاء مدّة العقاب أن تكون بردا وسلاما على من
فيها ، وهذا نعيمهم .
وقال في موضع آخر
منه : الثناء بصدق الوعد ، لا بصدق الوعيد ، والحضرة الإلهية تطلب الثناء المحمود
بالذات ، فيثنى عليها بصدق الوعد ، لا بصدق الوعيد ، بل بالتجاوز (فَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ مُخْلِفَ
وَعْدِهِ رُسُلَهُ) ، ولم يقل «ووعيده» ، بل قال : (وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ) ، مع أنه توعد على ذلك. انتهى .
ويصدّقه ما رواه
شيخنا الصدوق في كتاب التوحيد ، عن مولانا الصادق عليهالسلام ، عن آبائه ، قال : «قال رسول الله صلىاللهعليهوآله : من وعده الله على عمل ثوابا فهو منجزه له ، ومن أوعده
على عمل عقابا فهو فيه بالخيار» .
وقال في الفتوحات
: يدخل أهل الدارين فيهما ، السعداء بفضل الله ، وأهل النار بعدل الله ، وينزلون
فيهما بالأعمال ، ويخلّدون فيهما بالنيّات ، فيأخذ الألم جزاء العقوبة موازيا لمدة
العمر في التنزّل في الدنيا ، فإذا فرغ الأمد جعل لهم نعيم في الدار الّتي يخلّدون فيها ، بحيث إنهم لو دخلوا الجنّة تألّموا ؛
لعدم موافقة الطبع الّذي جبلوا عليه ، فهم يتلذّذون بما هم فيه من نار وزمهرير ،
وما فيها من لدغ الحيّات والعقارب ، كما يلتذّ أهل الجنّة بالظلال والنور ، ولثم
__________________
الحسان ، من الحور
؛ لأنّ طبائعهم تقتضي ذلك.
ألا ترى الجعل على
طبيعة يتضرّر بريح الورد ، ويلتذّ بالنتن ، والمحرور من الإنسان يتألّم بريح المسك
، فالّلذات تابعة للملائم ، والآلام تابعة لعدمه .
وقال أيضا : إنّ
النار قد تتّخذ دواء لبعض الأمراض ، وهو الداء الّذي لا يشفى إلّا بالكي من النار
، كقوله : (فَتُكْوى بِها
جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ) ، فقد جعل الله النار وقاية في هذا الموطن من داء هو أشد
من النار في حقّ المبتلي به ، وأيّ داء أكبر من الكبائر ، فقد جعل الله لهم النار
يوم القيامة دواء ، كالكي بالنار ، فدفع بدخولهم النار يوم القيامة داء عظيما ،
أعظم من النار ، وهو غضب الله ؛ ولذلك يخرجون بعد ذلك من النار إلى الجنّة ، كما
جعل الله في الحدود الدنياوية وقاية من عذاب الآخرة .
وقال المحقّق كمال
الدين عبد الرزاق الكاشي في شرحه للفصوص : إنّ أهل النار إذا دخلوها ، وتسلّط
العذاب على ظواهرهم وبواطنهم ، ملكهم الجزع والاضطراب ، فيكفر بعضهم ببعض ، ويلعن
بعضهم بعضا ، متخاصمين ، متقاولين ، كما نطق به كلام الله في مواضع ، وقد أحاط بهم
سرادقها ، فطلبوا أن يخفّف عنهم العذاب ، أو أن يقضى عليهم ، كما حكى الله عنهم
بقوله : (يا مالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ) ، أو أن يرجعوا إلى الدنيا ، فلم يجابوا إلى طلباتهم ، بل
__________________
أخبروا بقوله : (لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا
هُمْ يُنْظَرُونَ) ، وخوطبوا بمثل قوله : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) ، (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) .
فلما يئسوا
ووطّنوا أنفسهم على العذاب والمكث على مرّ السنين والأحقاب ، وتعلّلوا بالأعذار ،
ومالوا إلى الاصطبار ، وقالوا : (سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا
أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ) ، فعند ذلك رفع الله العذاب عن بواطنهم ، وخبت نار الله
الموقدة الّتي تطّلع على الأفئدة ، ثمّ إذا تعودوا بالعذاب بعد مضي الأحقاب ألفوه
، ولم يتعذّبوا بشدّته ، بعد طول مدّته ، ولم يتألّموا به ، وإن عظم ، ثمّ آل
أمرهم إلى أن يتلذّذوا به ، ويستعذبوه ، حتّى لو هبّ عليهم نسيم من الجنّة
استكرهوه وتعذّبوا به ، كالجعل وتأذّيه برائحة الورد ، لتألّفه بنتن الأرواث ،
والقاذورات .
وصل
قال أستاذنا ـ سلّمه
الله ـ : إنّ الأصول الحكمية دالّة على أن القسر لا يدوم على طبيعة ، وإنّ لكلّ
موجود غاية يصل إليها يوما ، وإنّ الرحمة الإلهية وسعت كلّ شيء ، كما قال جلّ
ثناؤه : (عَذابِي أُصِيبُ بِهِ
مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَ
__________________
شَيْءٍ) .
وعندنا ـ أيضا ـ أصول
دالّة على أن الجحيم وآلامها وشرورها دائمة بأهلها ، كما أنّ الجنة ونعيمها
وخيراتها دائمة بأهلها ، إلّا أن الدوام لكلّ منهما على معنى آخر .
وأشار ـ دام ظلّه
ـ بذلك إلى عدم المنافاة بين عدم انقطاع العذاب عن أهل النار ، وبين انقطاعه عن
كلّ واحد من أهلها في وقت ، فافهم.
ثم قال : وأنت
تعلم أن نظام الدنيا لا ينصلح إلّا بنفوس غليظة ، وقلوب قاسية ، فلو كان الناس
كلّهم سعداء بنفوس خائفة من عذاب الله ، خاشعة ، لا ختلّ النظام بعدم القائمين
بعمارة هذه الدار من النفوس الغلاظ ، كالفراعنة ، والدجاجلة ، والنفوس المكّارة ،
كشياطين الإنس ، والنفوس البهيمية ، كجهلة الكفّار.
وفي الحديث
الربّاني : إنّي جعلت معصية ابن آدم سببا لعمارة العالم .
وقال سبحانه : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ
هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ
وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، فكونها على طبقة واحدة ينافي الحكمة ، وفيه إهمال سائر
الطبقات الممكنة من غير أن يخرج من جهة القوّة إلى الفعل ، وخلو أكثر مراتب هذا
العالم عن أربابها ، فلا يتمشى النظام إلّا بوجود الأمور الخسيسة والدنية المحتاج
إليها في هذه الدار الّتي يقوم بها أهل الظلمة
__________________
والحجاب ، ويتنعّم
بها أهل الذلّة والقسوة المبعّدين عن دار الكرامة والمحبّة والنور ، فوجب في
الحكمة الحقّة التفاوت في الاستعدادات لمراتب الدرجات في القوّة والضعف ، والصفاء
والكدورة ، وثبت بموجب قضائه اللازم النافذ في قدره بوجود السعداء والأشقياء
جميعا.
فإذا كان وجود كلّ
طائفة بحسب قضاء إلهيّ ، ومقتضى ظهور اسم ربّاني ، فتكون لها غايات طبيعية ،
ومنازل ذاتية ، والأمور الذاتية الّتي جبلت عليها الأشياء إذا وقع الرجوع إليها
تكون ملائمة لذيذة ، وإن وقعت المفارقة عنها أمدا بعيدا ، والحيلولة عن السكون
إليها ، والاستقرار لها زمانا مديدا ، كما قال تعالى : (وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما
يَشْتَهُونَ) .
والله تعالى
يتجلّى بجميع الأسماء في جميع المقامات والمراتب ، فهو الرحمن الرحيم ، وهو العزيز
القهّار.
وفي الحديث : لو
لا أنّكم تذنبون لذهب بكم وجاء بقوم يذنبون ، فيستغفرون ، فيغفر الله لهم .
وقال : والآلام
دالّة على وجود جوهر أصليّ ، مقاوم لها ، والتقاوم بين المتضادّين لا يكون دائميا
، ولا أكثريا ، لما حقّق في مقامه ، فلا محالة يؤول إمّا إلى بطلان أحدهما ، أو
إلى الخلاص ، لكن الجوهر النفساني من الإنساني لا يقبل الفساد ، ولو فسد لاستراح
من العذاب.
وقوله تعالى : (لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) ، أي لا يموت موت البهائم
__________________
والحشرات ، ولا
يحيى حياة السعداء والعقلاء ، يعني يكون حيّا بحياة أخرى نازلة دنيّة .
وصل
وممّا استدل به
على ذلك في الفتوحات ، قوله تعالى : (أُولئِكَ أَصْحابُ
النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) ، وما ورد في الحديث النبوي : «لم يبق في النار إلّا أهلها»
الّذين هم أهلها ؛ وذلك لأنّ أشدّ العذاب على أحد مفارقة وطنه الّذي ألفه ،
فلو فارق النار أهلها لتعذّبوا باغترابهم عما أهلّوا له ، وأنّ الله قد خلقهم على
نشأة تألف ذلك الموطن .
واستدلّ أستاذنا ،
بقوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا
لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) الآية ، فإنّ المخلوق الّذي غاية وجوده أن يدخل في جهنّم بحسب
الوضع الإلهي ، والقضاء الربّاني لا بدّ أن يكون ذلك الدخول موافقا لطبعه ، وكمالا
لوجوده ؛ إذ الغايات ـ كما مرّ ـ كمالات للوجود ، وكمال الشيء موافق له ، لا يكون
عذابا في حقّه ، وإنما يكون عذابا في حقّ غيره ممّن خلق للدرجات العالية .
__________________
وصل
وليعلم أنّ بين
نعيم أهل الجنّة ، ونعيم أهل النار ، عند إفاضة الرحمة عليهم ، بونا بعيدا ، فإنّ
نعيم أهل النار من رحمة أرحم الراحمين ، لحدوثه بعد الغضب والعذاب ، ونعيم أهل
الجنّة من حضرة الرحمن الرحيم ، والامتنان الجسيم.
والأوّل كالقشر
للثاني ؛ لكثافة ذلك ، ولطافة هذا ، كالتبن والنخالة للحمار والبقر ، ولباب البرّ
للإنسان ، والبشر ، والقشر إنّما هو لصيانة اللبّ وحفظه ، فكذا أهل النار محامل
يتحملون المشاق لعمارة العالم ، وأهل الجنة مظاهر يحقّقون المعارف والحقائق لعمارة
الآخرة ، فيحفظونهم عن الشدائد ، ويفرغونهم لملازمة المعابد ، فعمرت الداران ،
وسبقت الرحمة الغضب ، ووسعت كلّ شيء جهنم ، ومن فيها.
وصل
قال القيصري : اعلم أنّ من اكتحلت عينه بنور الحقّ يعلم أن العالم
بأسره عباد الله ، وليس لهم وجود وصفة ، وفعل ، إلّا بالله ، وحوله وقوّته ،
وكلّهم محتاجون إلى رحمته ، وهو الرحمن الرحيم.
ومن شأن من هو
موصوف بهذه الصفات أن لا يعذّب أحدا عذابا أبديا ، وليس ذلك المقدار من العذاب
إلّا لأجل إيصالهم إلى كمالاتهم المقدّرة ، كما
__________________
يذاب الذهب والفضة
بالنار لأجل الخلاص ممّا يكدّره ، وينقص عياره ، فهو متضمّن لعين اللطف والرحمة ،
كما قيل ، وتعذيبكم عذب ، وسخطكم رضى ، وقطعكم وصل ، وجوركم عدل .
وقال صاحب
الفتوحات : وقد وجدنا في نفوسنا ممّن جبل على رحمة لو حكّمه الله في خلقه لأزال
صفة العذاب عن العالم ، والله قد أعطاه هذه الصفة ، ومعطي الكمال أحقّ به ، وصاحب
هذه أنا وأمثالي ، ونحن عباد مخلوقون ، أصحاب أهواء وأغراض ، ولا شكّ أنه أرحم
بخلقه منّا ، وقد قال عن نفسه جلّ علاؤه : (وَهُوَ أَرْحَمُ
الرَّاحِمِينَ) ، ونحن عرفنا من نفوسنا هذه المبالغة في الرحمة .
وقال أستاذنا ـ دام
ظلّه ـ : قد قام الدليل العقلي على أنّ الباري لا تنفعه الطاعات ، ولا تضرّه
المخالفات ، وإنّ كلّ شيء جار بقضائه ، وقدره ، وإنّ الخلق مجبورون في اختيارهم ،
فكيف يسرمد العذاب عليهم؟
وجاء في الحديث : «وآخر
من يشفع هو أرحم الراحمين» .
فالآيات الواردة
في حقّهم ، بالتعذيب ، كلّها حقّ وصدق ، وكلام هؤلاء الأكابر لا ينافيها ؛ لأنّ
كون الشيء عذابا من وجه ، لا ينافي كونه رحمة من وجه آخر. انتهى .
__________________
وعن النبي صلىاللهعليهوآله : «إنّ الله خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة ، فجعل
في الأرض منها رحمة ، منها تعطف الوالدة على ولدها ، والبهائم بعضها على بعض ،
والطير ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة ، أكملها بهذه الرحمة مائة» .
فصل
قيل : إنّ أصل
اللذّات والأنوار والروائح البهيّة ، والأشياء الفاضلة كلّها ، الموجودة في
الطبيعة ، إنّما هي من إفاضة النفس عليها بإذن الله ، غير أن الطبيعة قد شوّشتها ،
وكدّرتها لممازجتها ، واختلطت بها ؛ إذ كانت دونها في الرتبة ، وغير لاحقة بها من
جهة دثورها ، وفنائها ، فسمّيت تلك الشوائب المكدّرة شرّا ، ووبالا ؛ لمّا كانت
معوّقة للخيرات ، وحصلت من ذلك الأشياء المتضادّة المتخالفة من المحن والبلايا ،
والأمور العارضة المنغّصة للعيش ، المكدّرة للحياة ، ممّا هو موجود في عالم الكون
والفساد ، وكلّ كمال ولذّة في هذا العالم ففي عالم آخر على وجه أعلى ، وأتمّ ،
وأبهى ، وألذّ ، وأصفى.
ولمّا ثبت أن كلّ
شيء يعود إلى أصله ، وكلّ ناقص يتوجّه إلى كماله ، فكلّ سعيد ينقلب إلى أهله
مسرورا ، وكلّ شقي يتعذّب مدّة بشقائه ، ويتعب محترقا بناره ، وتتبدّل عليه جلوده
نضجا بعد نضج ، حتّى يصل إلى النعيم ، أو يصل إلى مقرّه في الجحيم ، (فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ
الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ
__________________
الْمَأْوى
* وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ
الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) .
جعلنا الله
وإخواننا ممّن خاف ربّه ، ونهى النفس عن الهوى ، وجعل الجنّة لنا المأوى.
فصل
قد ظهر ممّا
بيّنّاه وأوضحناه : أنّ لكلّ حركة غاية ، ولغايته غاية أخرى ، وهكذا إلى أن ينتهي
إلى غاية عقلية. ولكلّ ناقص عشق ومعشوق غريزيّان ، إلى ما فوقه ، أودعهما الله في
ذاته ليحفظ بالأوّل كماله الأوّل ، ويطلب بالثاني كماله الثاني ، لينتظم العالم
بطلب السافل للعالي ، ورشح العالي على السافل ، كما قال عزوجل : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ
شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) .
فالحركات كلّها
منتهية إلى الخير الأقصى ، والربّ الأعلى ، غاية الأرض والسماء ، الّذي بيده ملكوت
الأشياء ، ما من دابّة إلّا هو آخذ بناصيتها ، إنّ ربّي على صراط مستقيم.
وظهر أيضا من ذلك
أنّ الغرض الأقصى في بناء العالم ، وإدارة الأفلاك ، وتسيير الكواكب ، وبعث
الأنبياء والرسل ، وإنزال الملائكة من السماء ، بالوحي والإنباء ، هو أن يصير
العالم كله خيرا ، فيزول منه الشرّ والنقص ، ويعود إلى ما بدأ منه ، فيصير لاحقا
به ، فتتمّ الحكمة ، وتكمل الخلقة ، ويرتفع عالم الكون والفساد ،
__________________
وتبطل الدنيا ،
وتقوم القيامة الكبرى ، ويمحق الشرّ وأهله ، وينقرض الكفر وحزبه ، ويبطل الباطل ،
ويحقّ الحقّ بكلماته وآياته.
وهذا من العلم
المخزون ، والسرّ المكنون ، الّذي لا يمسّه إلّا المطهّرون.
ختام
ربّنا عليك
توكّلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير ، سبحانك اللهمّ وبحمدك ، يا رحيم ، يا ودود
، يا ذا العرش المجيد ، يا مبدأ ، يا معاد ، يا مبدىء ، يا معيد ، ما الذي نرى من
خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونصفه من عظيم سلطانك ، وما تغيب عنّا منه ، وقصرت
أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بينها وبينه أعظم ، فمن
فرغ قلبه ، وأعمل فكره ، ليعلم كيف أقمت عرشك ، وكيف ذرأت خلقك ، وكيف علّقت في
الهواء سماواتك ، وكيف مددت على حور الماء أرضك ، رجع طرفه حسيرا ، وعقله مبهورا ،
وسمعه والها ، وذكره حائرا.
هذا آخر الكلام في
العلم بالسماوات والأرض ، وما بينهما ، وبه تمّ ، وختم كتاب عين اليقين ، الملقّب
بالأنوار والأسرار ، واتّفق لتاريخه كمل أنوار الحكم وأسرار الكلم.
والحمد لله أوّلا
وآخرا ، وظاهرا وباطنا.
المصادر
١ ـ القرآن
الكريم.
٢ ـ الاحتجاج ،
أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي ، نشر المرتضى ، مشهد ـ إيران / ١٤٠٣ ه.
٣ ـ إحياء علوم
الدين ، أبو حامد محمّد بن محمّد الغزالي (ت ٥٠٥ ه) ، نشر الكتاب العربي ، بيروت
ـ لبنان.
٤ ـ إرشاد القلوب
، الحسن بن أبي الحسن الديلمي (ت ٨٤١ ه) ، دار الشريف الرضي ، قم ـ إيران / ١٤١٢
ه.
٥ ـ أسرار الآيات
، صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (ت ١٠٥٠ ه) ، تحقيق : محمّد خواجوي ،
المنتدى الإسلامي للحكمة والفلسفة في إيران ، طهران ـ إيران / ١٤٠٢ ه.
٦ ـ الأسفار
الأربعة (الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة) ، صدر الدين محمد بن
إبراهيم الشيرازي (ت ١٠٥٠ ه) ، مكتبة المصطفوي ط ٢ ، قم ـ
إيران / ١٤٠٩ ه.
٧ ـ الأصول
الأصيلة ، الفيض الكاشاني (ت ١٠٩١ ه) ، سازمان چاب دانشگاه ، إيران / ١٣٩٠ ه.
٨ ـ الأعلام /
قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، خير الدين
الزركلي (ت ١٤١٠ ه) ، دار العلم للملايين ، بيروت ـ لبنان / ١٩٨٠ م.
٩ ـ إعلام الورى ،
أمين الإسلام الطبرسي (ت ٥٤٨ ه) ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ـ إيران.
١٠ ـ الأمالي ،
الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ،
المكتبة الإسلامية ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
١١ ـ الأمالي ،
الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (ت ه) ، قم ـ إيران / ١٤١٣ ه.
١٢ ـ بحار الأنوار
، العلّامة المجلسي (ت ١١١١ ه) ، مؤسّسة الوفاء ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠٤ ه.
١٣ ـ البداية
والنهاية ، الحافظ أبو الفداء إسماعيل بن كثير الدمشقي (ت ٧٧٤ ه) ، تحقيق : علي
شيري ، دار إحياء التراث العربي ط ١ ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠٨ ه ـ ١٩٨٨ م.
١٤ ـ بصائر
الدرجات ، محمّد بن الحسن بن فروخ الصفّار (ت ٢٩٠ ه) ، مكتبة آية الله المرعشي
النجفي ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
١٥ ـ تاريخ بغداد
، أو مدينة السلام ، أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت ٤٦٣ ه) ، تحقيق : مصطفى
عبد القادر عطا ، دار الكتب العلمية ط ١ ، بيروت ـ لبنان / ١٤١٧ ه.
١٦ ـ تاريخ
الفلسفة ، حنّا أسعد فهمي ، دار ومكتبة بيبليون ، جبيل ـ بيبلوس ، لبنان / ٢٠٠٥ م.
١٧ ـ تاريخ
الفلسفة ، محمّد علي مصطفى ، وأحمد عبده خير الدين ، دار ومكتبة بيبليون ط ١ ،
لبنان / ١٣٥١ ه ـ ١٩٣٣ م.
١٨ ـ تاريخ مدينة
دمشق ، علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت ٥٧١ ه) ، تحقيق : علي
شيري ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان / ١٤١٥ ه.
١٩ ـ تأويل الآيات
الظاهرة ، السيد شرف الدين الحسيني (ت ٩٤٠ ه) ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ـ إيران
/ ١٤٠٩ ه.
٢٠ ـ تحف العقول ،
الحسن بن شعبة الحرّاني ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
٢١ ـ تذكرة
الموضوعات ، محمّد طاهر بن علي الهندي الفتني (ت ٩٨٦ ه).
٢٢ ـ تصحيح
الاعتقاد ، الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (ت ٤١٣ ه) ، المؤتمر للشيخ المفيد
، قم ـ إيران / ١٤١٣ ه.
٢٣ ـ تفسير الإمام
العسكري عليهالسلام ، منسوب إلى الإمام العسكري عليهالسلام ، مدرسة الإمام المهدي (عج) ، قم ـ إيران / ١٤٠٩ ه.
٢٤ ـ تفسير الصافي
، المولى محسن الفيض الكاشاني (ت ١٠٩١ ه) ، تحقيق : الشيخ حسين الأعلمي ، مكتبة
الصدر ط ٢ ، طهران ـ إيران / ١٤١٦ ه.
٢٥ ـ تفسير
العيّاشي ، محمّد بن مسعود العيّاشي (ت ٣٢٠ ه) ، المطبعة العلمية، طهران ـ إيران
/ ١٣٨٠ ه.
٢٦ ـ تفسير القمّي
، علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي (ت ه) ، مؤسّسة دار الكتاب ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
٢٧ ـ التوحيد ،
الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ، مؤسّسة النشر
الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٣٩٨ ه.
٢٨ ـ تهذيب
الأحكام ، الشيخ الطوسي أبو جعفر محمّد بن الحسن (ت ٤٦٠ ه) ، دار الكتب الإسلامية
، طهران ـ إيران / ١٣٦٥ ه. ش.
٢٩ ـ جامع الأخبار
، تاج الدين الشعيري ، دار الرضي للنشر ، قم ـ إيران / ١٤٠٥ ه.
٣٠ ـ جامع الأسرار
ومنبع الأنوار ، سيّد حيدر بن علي آملي ، انتشارات علمي وفرهنگي وزارت فرهنگ
وآموزش ط ١ ، إيران / ١٣٦٨ ه ش
٣١ ـ جامع الرواة
، محمّد بن علي الأردبيلي الغروي الحائري (ت ١١٠١ ه) ، مكتبة المحمدي ، قم ـ إيران.
٣٢ ـ الجامع
لأحكام القرآن ، أبو عبد الله محمّد بن أحمد الأنصاري القرطبي ، دار إحياء التراث
العربي ط ٢ ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠٥ ه ـ ١٩٨٥ م.
٣٣ ـ الحكايات ،
الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (ت ٤١٣ ه) ، المؤتمر للشيخ المفيد ، قم ـ
إيران / ١٤١٣ ه.
٣٤ ـ الخرائج
والجرائح ، قطب الدين الراوندي (ت ٥٧٣ ه) ، مؤسّسة الإمام المهدي (عج) ، قم ـ إيران
/ ١٤٠٩ ه.
٣٥ ـ الخصال ،
الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ، مؤسّسة النشر
الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٤٠٣ ه.
٣٦ ـ الدر المنثور
، جلال الدين السيوطي (ت ٩١١ ه) ، دار المعرفة ط ١ ، مطبعة الفتح ، جدة ـ السعودية
/ ١٣٦٥ ه.
٣٧ ـ رسائل الشهيد
الثاني ، زين الدين علي الجبعي العاملي (ت ٩٦٥ ه) ، مكتبة بصيرتي ، قم ـ إيران.
٣٨ ـ رسائل الكركي
، المحقّق الكركي (ت ٩٤٠ ه) ، تحقيق : الشيخ محمّد الحسون ، ج ١ و ٢ ، مكتبة
السيد المرعشي ط ١ ، قم ـ إيران / ١٤٠٩ ه ، وج ٣ ، جماعة المدرسين ، قم ـ إيران /
١٤١٢ ه.
٣٩ ـ رسائل
المرتضى ، الشريف المرتضى (ت ٤٣٦ ه) ، تحقيق : السيّد مهدي رجائي ، دار القرآن ،
قم ـ إيران / ١٤٠٥ ه.
٤٠ ـ الرواشح
السماوية في شرح أحاديث الإمامية ، المير محمّد باقر الحسيني المرعشي الداماد (ت
١٠٤١ ه) ، مكتبة آية الله السيد المرعشي النجفي ، قم ـ إيران / ١٤٠٥ ه.
٤١ ـ روضة
الواعظين ، محمّد بن الحسن الفتّال (ت ٥٠٨ ه) ، دار الرضي ، قم ـ إيران.
٤٢ ـ سلافة العصر
، صدر الدين السيد علي خان المدني الشيرازي الحسيني (ت ١١٢٠ ه) ، القاهرة ـ مصر.
٤٣ ـ سنن الترمذي
، محمّد بن عيسى بن سورة الترمذي (ت ٢٧٩ ه) ، حقّقه وصححه : عبد الوهاب عبد
اللطيف ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠٣ ه
٤٤ ـ سير أعلام
النبلاء ، شمس الدين محمّد بن أحمد بن عثمان الذهبي (ت ٧٤٨ ه) ، مؤسّسة الرسالة ط
٩ ، بيروت ـ لبنان / ١٤١٣ ه ـ ١٩٩٣ م.
٤٥ ـ شرح الأسماء
الحسنى ، ملّا هادي السبزواري (ت ١٣٠٠ ه) ، مكتبة بصيرتي ، قم ـ إيران.
٤٦ ـ شرح الإشارات
، الشيخ الرئيس ابن سينا / الخواجه نصير الدين الطوسي ، مكتب نشر الكتاب ط ٢ / ١٤٠٣
ه.
٤٧ ـ شرح المنظومة
، المولى هادي السبزواري (ت ١٢٨٩ ه) ، تحقيق : العلّامة حسن حسن زادة الآملي ،
منشورات ناب ط ١ / ١٤١٠ ه.
٤٨ ـ شرح فصوص
الحكم ، داود بن محمود القيصري (ت ٧٥١ ه) ، انتشارات علمي وفرهنگي ط ١ ، إيران /
١٣٧٥ ه ش.
٤٩ ـ شرح فصوص
الحكم ، كمال الدين عبد الرّزاق الكاشاني (ت ٧٣٠ ه) ، انتشارات بيدار ط ٤ ، قم ـ إيران
/ ١٣٧٠ ه ش.
٥٠ ـ شرح نهج
البلاغة ، ابن أبي الحديد المعتزلي (ت ٦٥٦ ه) ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي ،
قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
٥١ ـ شرح نهج
البلاغة ، كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت ٦٧٩ ه) ، منشورات دفتر نشر
الكتاب ط ٢ / ١٤٠٤ ه.
٥٢ ـ الشفاء /
الإلهيات ، الشيخ الرئيس ابن سينا ، تحقيق : سعيد زايد ـ الأب قنواتي ، مكتبة آية
الله المرعشي النجفي ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
٥٣ ـ الشواهد
الربوبية ، صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (ت ١٠٥٠ ه) ،
تحقيق : السيد
جلال الدين الآشتياني ، المركز الجامعي للطباعة والنشر ، ط ٢ ، / ١٤٠١ ه.
٥٤ ـ صحيح البخاري
، محمّد بن إسماعيل البخاري (ت ٢٥٦ ه) ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠١ ه.
٥٥ ـ الصحيفة
السجّادية ، الإمام علي بن الحسين عليهالسلام ، نشر الهادي ، قم ـ إيران / ١٣٧٦ ه ش.
٥٦ ـ الصراط
المستقيم ، علي بن يونس النباطي البياضي (ت ٨٧٧ ه) ، المكتبة الحيدرية ، النجف ـ العراق
/ ١٣٨٤ ه.
٥٧ ـ عدّة الداعي
ونجاح الساعي ، أحمد بن فهد الحلّي (ت ٨٤١ ه) ، دار الكتاب الإسلامي ، قم ـ إيران
/ ١٤٠٧ ه.
٥٨ ـ العقد
الحسيني ، عزّ الدين الشيخ حسين بن عبد الصّمد العاملي (ت ٩٨٤ ه) ، تصحيح ونشر :
السيد جواد المدرّسي اليزدي.
٥٩ ـ علل الشرائع
، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ، مكتبة
الداوري ، قم ـ إيران.
٦٠ ـ العمدة ، ابن
البطريق الحلّي (ت ٦٠٠ ه) ، مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٤٠٧ ه.
٦١ ـ عوالي
اللئالي ، ابن أبي جمهور الأحسائي (ت القرن ١٠ ه) ، دار سيّد الشهداء عليهالسلام ، قم ـ إيران / ١٤٠٥ ه.
٦٢ ـ غرر الحكم
ودرر الكلم ، عبد الواحد بن محمّد التميمي (ت ٥٥٠ ه) ، تحقيق : السيد أحمد
الحسيني ، مكتبة الأندلس ، بغداد ـ العراق /
١٤٠٤ ه.
٦٣ ـ الغيبة ،
محمّد بن إبراهيم النعماني (ت القرن ٤ ه) ، مكتبة الصدوق ، طهران ـ إيران / ١٣٩٧
ه.
٦٤ ـ فتح المعين
لشرح قرّة العين بمهمّات الدين ، زين الدين بن عبد العزيز المليباري الفناني (ت
٩٨٧ ه) ، دار الفكر ط ١ ، بيروت ـ لبنان / ١٤١٨ ه ـ ١٩٩٧ م.
٦٥ ـ الفتوحات
المكّية ، محيي الدين ابن عربي (ت ٦٣٨ ه) ، دار صادر ، بيروت ـ لبنان.
٦٦ ـ فصوص الحكم ،
محيي الدين ابن عربي (ت ٦٣٨ ه) ، انتشارات الزهراءعليهاالسلام ط ٢ ، إيران / ١٣٧٠ ه ش.
٦٧ ـ الفضائل ،
أبو الفضل شاذان بن جبرائيل القمّي (ت ٦٦٠ ه) ، منشورات المطبعة الحيدرية ، النجف
ـ العراق / ١٣٨١ ه ـ ١٩٦٢ م.
٦٨ ـ الفهرست
للنديم ، أبو الفرج محمّد بن أبي يعقوب إسحاق المعروف بالورّاق (ت ٤٣٨ ه) ، تحقيق
: رضا تجدد.
٦٩ ـ في سبيل
موسوعة فلسفية ، الدكتور مصطفى غالب ، دار ومكتبة الهلال ، بيروت ـ لبنان / ١٩٨٧
م.
٧٠ ـ قرب الاسناد
، عبد الله بن جعفر الحميري (ت ه) ، مكتبة نينوى ، طهران ـ إيران.
٧١ ـ قصص الأنبياء
عليهمالسلام ، السيد نعمة الله الجزائري (ت ١١١٢ ه) ، مكتبة آية الله
المرعشي النجفي ، قم ـ إيران / ١٤٠٤ ه.
٧٢ ـ الكافي ، ثقة
الإسلام محمّد بن يعقوب الكليني (ت ٣٢٩ ه) ، دار الكتب الإسلامية ، طهران ـ إيران
/ ١٣٦٥ ه. ش.
٧٣ ـ كامل
الزيارات ، ابن قولويه القمّي (ت ٣٦٧ ه) ، دار المرتضوية ، النجف ـ العراق / ١٣٥٦
ه.
٧٤ ـ كشف الظنون
عن أسامي الكتب والفنون ، مصطفى بن عبد الله الشهير ب «حاجي خليفة» (ت ١٠٦٧ ه) ،
دار إحياء التراث العربي.
٧٥ ـ كشف الغمّة ،
علي بن عيسى الإربلي (ت ٦٩٣ ه) ، مكتبة بني هاشمي ، تبريز ـ إيران / ١٣٨١ ه.
٧٦ ـ كشف اليقين ،
العلّامة الحلّي (ت ٧٢٦ ه) ، مؤسّسة الطبع والنشر / ١٤١١ ه.
٧٧ ـ كمال الدين
وتمام النعمة ، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ،
دار الكتب الإسلامية ، قم ـ إيران / ١٣٩٥ ه.
٧٨ ـ كنز العمّال
في سنن الأقوال والأفعال ، علاء الدين علي المتّقي بن حسام الدين الهندي (ت ٩٧٥ ه)
، تحقيق : الشيخ بكري حياني ـ الشيخ صفوة السفا ، مؤسّسة الرسالة ، بيروت ـ لبنان
/ ١٤٠٩ ه ـ ١٩٨٩ م.
٧٩ ـ الكنى
والألقاب ، الشيخ عباس القمّي (ت ١٣٥٩ ه).
٨٠ ـ لسان العرب ،
أبو الفضل جمال الدين محمّد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري (ت ٧١١ ه) ، نشر
أدب الحوزة / ١٤٠٥ ه.
٨١ ـ المبدأ
والمعاد ، صدر الدين محمّد بن إبراهيم الشيرازي (ت ١٠٥٠ ه) ، تحقيق : جلال الدين
الآشتياني ، منتدى الحكمة والفلسفة في إيران ،
طهران ـ إيران /
١٣٩٥ ه.
٨٢ ـ متشابه
القرآن ، ابن شهرآشوب المازندراني (ت ٥٨٨ ه) ، دار بيدار للنشر / ١٣٦٩ ه.
٨٣ ـ المجموع في
شرح المهذب ، محي الدين بن شرف النووي (ت ٦٧٦ ه) ، دار الفكر.
٨٤ ـ المحاسن ،
أحمد بن محمّد بن خالد البرقي (ت ٢٧٤ ه) ، دار الكتب الإسلامية ، قم ـ إيران /
١٣٧١ ه.
٨٥ ـ المحتضر ،
الشيخ حسن بن سليمان الحلّي ، منشورات المطبعة الحيدرية ط ١ ، النجف ـ العراق / ١٣٧٠
ه ـ ١٩٥١ م.
٨٦ ـ المحجّة
البيضاء في تهذيب الأحياء ، محسن الفيض الكاشاني (ت ١٠٩١ ه) ، تصحيح وتعليق : علي
أكبر غفّاري ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ط ٤ ، قم ـ إيران /
١٤١٧ ه.
٨٧ ـ مستدرك
الوسائل ومستنبط المسائل ، خاتمة المحدّثين الحاج ميرزا حسين نوري الهمداني (ت
١٣٢٠ ه) ، مؤسّسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ط ١ ، قم ـ إيران / ١٤٠٨ ه.
٨٨ ـ مسند أحمد ،
أحمد بن حنبل (ت ٢٤١ ه) ، دار صادر ، بيروت ـ لبنان.
٨٩ ـ مسند زيد بن
علي ، الشهيد زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالبعليهمالسلام (ت ١٢٢ ه) ، دار
الحياة ، بيروت ـ لبنان.
٩٠ ـ مشكاة
الأنوار ، علي بن الحسن الطبرسي (ت حدود ٦٠٠ ه) ، المكتبة الحيدرية ، النجف ـ العراق
/ ١٣٨٥ ه.
٩١ ـ المصباح ،
إبراهيم بن علي الكفعمي (ت ٩٠٥ ه) ، دار الرضي ، قم ـ إيران / ١٤٠٥ ه.
٩٢ ـ معاني الأخبار
، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ، مؤسّسة النشر
الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٤٠٣ ه.
٩٣ ـ المعجم
الكبير ، سليمان بن أحمد بن أيوب اللخمي الطبراني (ت ٣٦٠ ه) ، تحقيق : حمدي عبد
المجيد السلفي ، مكتبة ابن تيمية ط ٢ ، القاهرة ـ مصر.
٩٤ ـ معجم
المؤلّفين / تراجم مصنّفي الكتب العربية ، عمر رضا كحالة ، دار إحياء التراث
العربي ، بيروت ـ لبنان.
٩٥ ـ مفتاح الغيب
، صدر الدين محمّد بن إسحاق القونوي (ت ٦٧٣ ه) ، تصحيح : محمّد خواجوي ، انتشارات
مولى ط ١ ، طهران ـ إيران / ١٣٧٤ ه ش.
٩٦ ـ مفتاح الفلاح
، الشيخ البهائي (ت ١٠٣٠ ه) ، دار الأضواء ، بيروت ـ لبنان / ١٤٠٥ ه.
٩٧ ـ مكارم
الأخلاق ، الحسن بن الفضل الطبرسي (ت القرن السادس ه) ، دار الشريف الرضي ، قم ـ إيران
/ ١٤١٢ ه.
٩٨ ـ المناقب ،
الموفّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي (٥٦٨ ه) ، تحقيق : الشيخ مالك
المحمودي ، مؤسّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرّسين ط ٢ ، قم ـ إيران /
١٤١١ ه.
٩٩ ـ مناقب آل أبي
طالب عليهمالسلام ، محمّد بن شهرآشوب المازندراني (ت ٥٨٨ ه) ، مؤسّسة
العلامة للنشر ، قم ـ إيران / ١٣٧٩ ه.
١٠٠ ـ من لا يحضره
الفقيه ، الشيخ الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه القمّي (ت ٣٨١ ه) ،
مؤسّسة النشر الإسلامي ، قم ـ إيران / ١٤١٣ ه.
١٠١ ـ منية المريد
في أدب المفيد والمستفيد ، زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (ت
٩٦٥ ه) ، تحقيق : رضا المختاري ، مكتب الإعلام الإسلامي ط ١ ، إيران / ١٤٠٩ ه ق
ـ ١٣٦٨ ه ش.
١٠٢ ـ مهج الدعوات
، السيد علي بن طاووس الحلّي (ت ٦٦٤ ه) ، دار الذخائر ، قم ـ إيران / ١٤١١ ه.
١٠٣ ـ الموضوعات ،
أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي القرشي (ت ٥٩٧ ه) ، تحقيق : عبد الرحمن
محمّد عثمان ، المكتبة السلفية بالمدينة المنوّرة ط ١ / ١٣٨٦ ه ـ ١٩٦٦ م.
١٠٤ ـ نقد النصوص
في شرح نقش الفصوص ، عبد الرحمن الجامي ، وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامية ط ٢ ،
طهران ـ إيران / ١٣٧٠ ه ش.
١٠٥ ـ نهج البلاغة
، الإمام علي بن أبي طالب عليهالسلام ، دار الهجرة للنشر ، قم ـ إيران.
١٠٦ ـ هدية
العارفين / أسماء المؤلّفين وآثار المصنّفين ، إسماعيل باشا البغدادي (ت ١٣٣٩ ه)
، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان.
١٠٧ ـ وسائل
الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ، الفقيه المحدّث الشيخ محمّد بن الحسن الحر
العاملي (ت ١١٠٤ ه) ، مؤسّسة آل البيت عليهمالسلام لإحياء التراث ، قم ـ إيران / ١٤٠٩ ه.
١٠٨ ـ ينابيع
المودّة ، الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي الحنفي (ت ١٢٩٤ ه) ، تحقيق : سيد علي
جمال أشرف الحسيني ، دار الأسوة للطباعة والنشر ط ١ ، قم ـ إيران / ١٤١٦ ه.
المحتويات
المقصد
الثاني
في
العلم بالسماوات والأرض وما بينهما
في
هيئة العالم وأجرامه البسيطة..................................................... ٧
في كيفية حركات الأفلاك ، وما يتبع ذلك.......................................... ٤٣
في مقادير الأجرام والأبعاد....................................................... ٦٠
في لمّية حركات الأفلاك.......................................................... ٦٩
في خلق المركّبات................................................................ ٧٧
في كائنات الجوّ................................................................. ٩٦
في الجبال والأحجار المعدنية.................................................... ١٠٨
في النبات.................................................................... ١١٣
في الحيوان.................................................................... ١٢٥
في تشريح أعضاء الحيوان الكامل ،
ومنافعها...................................... ١٤١
في الملائكة الموكّلين بالحيوان الكامل.............................................. ٢١١
في تجرّد نفس الحيوان الكامل.................................................... ٢٤١
في الإنسان بما هو إنسان...................................................... ٢٦٢
في إطاعة الأكوان للإنسان ، لأجل خلافة
الله عزوجل وبيان الخليفة................. ٢٩٠
في تقدّم خلق
الأرواح على الأجساد ، وتأخّرها عنها ، وهبوط آدم من الجنة........... ٣١١
في
قصّة آدم والشجرة...................................................... ٣٢١
في الآيات
الإنسانية من العجائب والغرائب....................................... ٣٣٠
في الجنّة
والشياطين............................................................ ٣٦٠
في حدوث العالم.............................................................. ٣٧٤
في أنّ العالم
مخلوق على أجود النظامات الممكنة................................... ٤٠٦
في سريان العشق
والشوق والعبادة والذكر في جميع الموجودات........................ ٤١٤
في أنّ مصير كلّ
شيء إلى الله سبحانه........................................... ٤٣٨
|