الباب الأول

أهل الأهواء والنحل

من الصابئة (١) ، والفلاسفة ، وآراء العرب في الجاهلية ، وآراء الهند ، وهؤلاء يقابلون أرباب الديانات تقابل التضادّ كما ذكرنا. واعتمادهم على الفطر السليمة ، والعقل الكامل والذهن الصافي.

فمن معطّل بطّال ؛ لا يردّ عليه فكره برادّ ، ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ، ولا يرشده فكره وذهنه إلى معاد. قد ألف المحسوس وركن إليه ، وظنّ أنه لا عالم سوى ما هو فيه من مطعم شهيّ ، ومنظر بهيّ ، ولا عالم وراء هذا المحسوس. وهؤلاء هم الطبيعيون الدهريون(٢) لا يثبتون معقولا.

ومن محصل نوع تحصيل ، قد ترقى عن المحسوس ، وأثبت المعقول ، لكنه لا يقول بحدود ، وأحكام ، وشريعة ، وإسلام. ويظن أنه إذا حصّل المعقول ، وأثبت للعالم مبدأ ومعادا ، وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه. فتكون سعادته على قدر

__________________

(١) الصابئة : من عبدة الكواكب والنجوم ، وهم قلة كانوا يعيشون في حرّان ما بين النهرين. والناظر في ديانتهم يرى مزيجا غريبا من التوحيد ومن عناصر خرافية فيها تنجيم وسحر ، وتعظيم للجن والشياطين والكواكب ، يوسطونها بينهم وبين الله ، وقد زعموا أنهم المعنيون باسم الصابئة الوارد في القرآن الكريم.

(٢) الدهريون : وهم فرقة كانت منتشرة في زمن النظّام المعتزلي لا تؤمن بدين ولا تقر بإله ، ولا تؤمن إلا بالمحسوس ، ولا تعتقد أن وراء هذا العالم المادي عالما ، فلا معاد ولا ثواب ولا عقاب ، ونسبتهم إلى الدهر أخذا من حكاية الله عنهم قولهم : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (سورة الجاثية : الآية ٢٤).

إحاطته وعلمه. وشقاوته بقدر سفاهته وجهله. وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة ، ووضعه هو المستعد لقبول تلك الشقاوة. وهؤلاء هم الفلاسفة الإلهيون. قالوا : الشرائع وأصحابها أمور مصلحية عامية. والحدود ، والأحكام ، والحلال ، والحرام أمور وضعية. وأصحاب الشرائع رجال لهم حكم عملية ، وربما يؤيدون من عند واهب الصور بإثبات أحكام ، ووضع حلال وحرام مصلحة للعباد ، وعمارة للبلاد. وما يخبرون عنه من الأمور الكائنة في حال من أحوال عالم الروحانيين من الملائكة والعرش ، والكرسي ، واللوح ، والقلم فإنما هي أمور معقولة لهم ؛ قد عبّروا عنها بصور خيالية جسمانية. وكذلك ما يخبرون به من أحوال المعاد ؛ من الجنة والنار مثل : قصور ، وأنهار ، وطيور ، وثمار في الجنة ، فترغيبات للعوام بما تميل إليه طباعهم. وسلاسل وأغلال ، وخزي ونكال في النار ، فترهيبات للعوام بما تنزجر عنه طباعهم. وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية ، وصور جرمانية.

وهذا أحسن ما يعتقدونه في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لست أعني بهم الذين أخذوا علومهم من مشكاة (١) النبوة ، وإنما أعني بهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وحشيشية ، وطبيعية (٢) ، وإلهية ، قد اغتروا بحكمهم ، واستقلوا بأهوائهم وبدعهم.

ثم يتلوهم ويقرب منهم قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، وربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيّد بالوحي ، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم ، وما نفذوا إلى الآخر. وهؤلاء هم الصابئة الأولى ؛ الذين قالوا بعاذيمون ، وهرمس ، وهما : شيث وإدريس عليهما‌السلام ، ولم يقولوا بغير هما من الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

__________________

(١) المشكاة : كل كوّة ليست بنافذة ، وقوله تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال الزجاج : هي الكوّة.

(لسان العرب مادة شكا).

(٢) الطبيعية : نسبة إلى الطبيعيين ، وهم ينكرون الألوهية ، ويقولون بإثبات الطبائع للأجسام.

والتقسيم الضابط أن نقول :

١ ـ من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول ، وهم السوفسطائية (١).

٢ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس ، ولا يقول بالمعقول ، وهم الطبيعية.

٣ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ، ولا يقول بحدود ، وأحكام ؛ وهم الفلاسفة الدهرية.

٤ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس ، والمعقول ، والحدود ، والأحكام. ولا يقول بالشريعة والإسلام ، وهم الصابئة.

٥ ـ ومنهم من يقول بهذه كلها ، وبشريعة ما ، وإسلام. ولا يقول بشريعة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المجوس ، واليهود ، والنصارى.

٦ ـ ومنهم من يقول بهذه كلها ، وهم المسلمون.

* * *

ونحن قد فرغنا عمن يقول بالشرائع والأديان. فنتكلم الآن فيمن لا يقول بها ، ويستبد برأيه وهواه ، في مقابلتهم.

الفصل الأول

الصابئة والحنفاء

قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبوة في مقابلة الحنيفية (٢) : وفي اللغة : صبأ الرجل : إذا مال وزاغ ، فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق ، وزيغهم عن نهج الأنبياء ، قيل لهم الصابئة.

__________________

(١) السوفسطائية : وهي نزعة تنكر قيمة التفكير البشري وتجعل القيمة للأساليب الخطابية بعكس النزعة الماورائية التي تعنى بالرياضيات والعلوم الفلكية والطبيعية.

(٢) الحنيفيّة : وجماعتها من المفكرين الموحدين أبوا أن يقبلوا اليهودية والنصرانية كما هما ، واكتفوا بعبادة الله لا شريك له مع اتباع عادات قومهم ، واتخذوا لهم إماما هو إبراهيم الخليل كليم الله ، وكانوا يكثرون من الأسفار إلى ديار النصرانية والاتصال بعلمائها «وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشام ، وأعالي العراق ، أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان». (انظر تاريخ العرب قبل الإسلام ٥ : ٣٩٩).

وقد يقال : صبأ الرجل إذا عشق وهوى.

وهم يقولون : الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال.

وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ؛ كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين.

والصابئة تدّعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة.

فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة.

الفصل الثاني

أصحاب الروحانيات

وفي العبارة لغتان :

روحاني ، بالضم ، من الرّوح. وروحاني ، بالفتح ، من الرّوح.

والرّوح والرّوح متقاربان ، فكأن الرّوح جوهر ، والروح : حالته الخاصة به.

١ ـ مذهب أصحاب الروحانيات

ومذهب هؤلاء : أن للعالم صانعا ، فاطرا ، حكيما ، مقدسا عن سمات الحدثان.

والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله. وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقرّبين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا ، وفعلا ، وحالة.

* أما الجوهر : فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، المبرّءون عن القوى الجسدية ، المنزّهون عن الحركات المكانية ، والتغيرات الزمانية ، قد جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول عاذيمون ، وهرمس (٢) ، فنحن نتقرب

__________________

(١) سورة التحريم : الآية ٦ ، وتمامها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

(٢) هرمس : نسبت إليه عدة كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها وتعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. والمظنون أنها ألّفت في مدينة الإسكندرية. وتعكس في مجموعها جوّا من التلفيق والتوفيق بين ـ

إليهم ، ونتوكل عليهم. وهم أربابنا وآلهتنا ، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب ، وإله الآلهة ، رب كل شيء ومليكه.

فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية ، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، حتى تحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات ، فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ، ونعرض أحوالنا عليهم ، ونصبو في جميع أمورنا إليهم ، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا ، وفطامنا أنفسنا عن دنيّات الشهوات باستمداد من جهة الروحانيات. والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات ، وإقامة الصلوات ، وبذل الزكوات ، والصيام عن المطعومات والمشروبات ، وتقريب القرابين والذبائح ، وتبخير البخورات ، وتعزيم العزائم. فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة ، بل يكون حكمنا وحكم من يدّعي الوحي على وتيرة واحدة.

قالوا : والأنبياء أمثالنا في النوع ، وأشكالنا في الصورة ، يشاركوننا في المادة ، يأكلون مما نأكل ، ويشربون مما نشرب ، ويساهموننا في الصورة. أناس بشر مثلنا ، فمن أين لنا طاعتهم؟ وبأية مزية لهم لزمت متابعتهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (١) مقالتهم.

* * *

__________________

ـ المذاهب الفلسفية والدينية ، اليونانية والشرقية المختلفة. وهي معاصرة لمجموعة أخرى من الكتابات تسمى «الوحي الكلداني» وبينهما عناصر كونية مشتركة عديدة.

وقد بقيت لنا في مجموعة «الكتابات الهرمسية» ١٧ رسالة عنوان الأولى منها هوpoimandres راعي الناس. وقد امتد هذا العنوان إلى مجموعة هذه الرسائل كلها بسبب خطأ وقع فيه مرسليو فتشيينو الذي ترجمها في سنة ١٤٧١.

ومن بين الكتابات الهرمسية أيضا رسالة موجزة بعنوان «لوح الزمرد» tabula smaragdina بقيت لنا منها ترجمة عربية ولاتينية. (انظر موسوعة الفلسفة ٢ : ٥٣٨).

(١) سورة المؤمنون : الآية ٣٤.

* وأما الفعل : فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع ، والإيجاد ، وتصريف الأمور من حال إلى حال ، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال ، يستمدون القوة من الحضرة القدسية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية.

فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها ، وهي هياكلها. فلكل روحاني هيكل. ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به ، نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره ومديره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء. والعناصر : أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات. فيتبعها قوى جسمانية ، وتركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات ، وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي. وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي. فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك.

ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو :

مما يصعد من الأرض فينزل مثل : الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والرياح.

ومما ينزل من السماء مثل الصواعق ، والشهب.

ومما يحدث في الجو : من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة (١) ، والمجرة (٢).

ومما يحدث في الأرض مثل الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك.

ومنها متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات ، ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات ، حتى لا نرى موجودا ما خاليا عن قوة وهداية إذا كان قابلا لهما.

* * *

__________________

(١) الهالة : دارة القمر.

(٢) المجرّة : شرج السماء ، يقال هي بابها وهي كهيئة القبة. وفي حديث ابن عباس : المجرّة باب السماء وهي البياض المعترض في السماء والنّسران من جانبيها. (اللسان مادة جرر).

قالوا :

* وأما الحالة : فأحوال الروحانيات من الروح ، والريحان ، والنعمة ، واللذة ، والراحة ، والبهجة ، والسرور في جوار ربّ الأرباب : كيف يخفى؟.

ثم طعامهم وشرابهم : التسبيح ، والتقديس ، والتهليل ، والتمجيد ، والتحميد. وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته ، فمن قائم ، ومن راكع ، ومن ساجد ، ومن قاعد لا يزيد تبديل حالته لما هو فيه من البهجة واللذة ، ومن خاشع بصره لا يرفع ، ومن ناظر لا يغم ، ومن ساكن لا يتحرك ، ومن متحرك لا يسكن ، ومن كروبي (١) في عالم القبض ، ومن روحاني في عالم البسط : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢).

٢ ـ مناظرات بين الصابئة ، والحنفاء

وقد جرت مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض ، وبين البشرية النبوية.

ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب ، وفيها فوائد لا تحصى :

قالت الصابئة :

الروحانيات أبدعت إبداعا لا من شيء. لا مادة ، ولا هيولى. وهي كلها جوهر (٣) واحد على سنخ (٤) واحد. وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها ، وهي من شدة ضيائها لا يدركها الحس ، ولا ينالها البصر ، ومن غاية لطافتها يحار فيها العقل ، ولا يجول فيها الخيال.

ونوع الإنسان مركب من العناصر الأربعة ، مؤلف من مادة ، وصورة ، والعناصر

__________________

(١) كروبي ، من كرب الأمر : دنا وقرب.

(٢) سورة التحريم : الآية ٦ ، وقد أوردنا الآية بكاملها ص ٣٠٨ ح ١.

(٣) الجوهر : كل جوهر مؤلف من مادة ـ ويسميها أرسطو هيولى ـ وصورة ؛ هي والصورة هي التي تكيّف الجوهر. والصورة لما دونها ، ومادة لما فوقها ؛ فاللوح صورة بالنسبة إلى الخشب ومادة بالنسبة إلى السرير.

(٤) السنخ : الأصل من كل شيء.

متضادة ومزدوجة بطباعها ، اثنان منها مزدوجان ، واثنان منها متضادان ، ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج (١) ، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج (٢). فما هو مبدع لا من شيء ، لا يكون كمخترع من شيء.

والمادة والهيولى سنخ الشر ومنبع الفساد ، فالمركب منها ومن الصورة : كيف يكون كمحض الصورة؟ والظلام كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج ، والمضطر في هوة الاختلاف ، كيف يرقى إلى درجة المستغني عنهما؟.

أجابت الحنفاء :

بأن قالت : بم عرفتم معاشر الصابئة وجود هذه الروحانيات؟ والحس ما دلكم عليه ، والدليل ما أرشدكم إليه؟ قالوا : عرفنا وجودها ، وتعرفنا أحوالها من عاذيمون ، وهرمس : شيث ، وإدريس عليهما‌السلام.

قالت الحنفاء : لقد ناقضتم وضع مذهبكم ، فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني : نفي المتوسط البشري ، فصار نفيكم إثباتا ، وعاد إنكاركم إقرارا.

ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء أشرف من المخترع من شيء؟ بل وجانب الروحاني أمر واحد ، وجانب الجسماني أمران :

أحدهما : نفسه وروحه.

والثاني : حسه وجسده. فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى. ومن حيث الجسد مخترع بخلقه. ففيه أثران : أمري ، وخلقي : قولي ، وفعلي. فساوى الروحاني بجهة ، وفضله بجهة ، خصوصا إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى ، بل كملت وطهرت.

__________________

(١) الهرج : الاختلاط. وفي حديث أشراط الساعة : يكون كذا وكذا ويكثر الهرج ، قيل : وما الهرج يا رسول الله؟ قال : «القتل».

(٢) المرج : القلق ؛ وفي التنزيل : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ؛ أي في ضلال. والمرج : الفتنة والفساد. وفي الحديث : كيف أنتم إذا مرج الدين؟ أي فسد وقلقت أسبابه.

وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين :

أحدهما : أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد ، والجسماني المجرد. فحكمتم بأن الفضل للروحاني ، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد ، والجسماني والروحاني المجتمع. ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد ، فإنه بطرف ساواه ، وبطرف سبقه. والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها ، ولم تؤثر فيه أحكام التضادّ والازدواج ؛ بل كان مستخدما لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه ، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله حصل التركيب ، وعطلت الوحدة والبساطة ، وذلك تخليص النفوس التي تدنّست بالمادة ولوازمها وصارت العلائق عوائق.

وليت شعري : ما ذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟ وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل (١) :

إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميل

وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثّناء سبيل

هذا كمن خاير بين اللفظ المجرّد والمعنى المجرّد : فاختار المعنى ، قيل له : لا بل خاير بين المعنى المجرّد ، والعبارة والمعنى حتى لا يشكل ، إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة أشرف من المعنى المجرّد.

والوجه الثاني : أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالا وتماما فحسب. ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمّل غيره ، ففاضلتم بين كمالين مطلقا ، وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني! ونحن نقول : ما قولكم في كمالين؟ أحدهما كامل ، والثاني كامل ومكمل عالما ، أيهما أفضل؟.

__________________

(١) قائل هذين البيتين هو السموأل بن عادياء الأزدي ، وهو شاعر جاهلي حكيم من سكان خيبر ، كان ينتقل بينها وبين حصن له «الأبلق». وهو الذي تنسب إليه قصة الوفاء مع امرئ القيس الشاعر. متوفى نحو ٦٥ ق ه / نحو ٥٦٠ م. (الأعلام ٣ : ١٤٠ وانظر معاهد التنصيص ١ : ٣٨٨ وياقوت في معجم البلدان ١ : ٨٦) ..

قالت الصابئة :

نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب ، وهما ينزعان إلى البهيمية والسبعية ، وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها. فيثور من الشهوية : الحرص والأمل. ومن الغضبية : الكبر والحسد ، إلى غير هما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما؟! صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها ، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها ، لم يحملهم الغضب على حب الجاه ، ولا حملتهم الشهوة على حب المال ، بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة ، وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد.

أجابت الحنفاء :

بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل (١) ، فإن في طرف البشرية نفسين : نفس حيوانية لها قوتان : قوة الغضب ، وقوة الشهوة. ونفس إنسانية لها قوتان : قوة علمية ، وقوة عملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع ، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال. ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له ، من العقائد : الحق دون الباطل. ومن الأقوال : الصدق دون الكذب. ومن الأفعال : الخير دون الشر ، ويختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية : الشدة ، والشجاعة ، والحمية ؛ دون الذلة والجبن والنذالة. ويختار بها أيضا من لوازم القوة الشهوية : التآلف ، والتودّد ، والبذاذة (٢) دون الشره ، والمهانة ، والخساسة. فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه ، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليّه وصديقه. وإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوتين ، واستعملهما في جانب الخير. ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق ، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب ، وإبلاغها إلى حد الكمال.

__________________

(١) الحذو : التقدير والقطع ، وفي الحديث : لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر الأخرى. (انظر لسان العرب مادة حذا).

(٢) البذاذة : رثاثة الهيئة ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البذاذة من الإيمان ؛ قال الكسائي : البذاذة هو أن يكون الرجل متقهّلا رثّ الهيئة.

ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها ، لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها ، وحكم العنين (١) العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة ، لا يكون كحكم المتصون الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر (٢) مع القدرة عليه. فإن الأول مضطر عاجز ، والثاني مختار قادر ، حسن الاختيار ، جميل التصرف. وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين ، وإنما الكمال كله في استخدام القوتين.

فنفس النبي عليه الصلاة والسلام كنفوس الروحانيين : فطرة ، ووضعا. وبذلك الوجه وقعت الشركة. وفضلها وتقدمها باستخدام القوتين اللتين دونها ، فلم تستخدمه. واستعمالها في جانب الخير والنظام ، فلم تستعمله ، وهو الكمال.

قالت الصابئة :

الروحانيات صور مجردة عن المواد ، وإن قدّر لها أشخاص تتعلق بها تصرفا وتدبيرا ، لا ممازجة ولا مخالطة ، فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا. والفرض أنها إذا كانت صورا مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة : كاملة لا ناقصة : والمتوسط يجب أن يكون كاملا حتى يكمل غيره ، وأما الموجودات البشرية فصور في مواد ، وإن قدّر لها نفوس ، فنفوسها إما مزاجية ، وإما خارجة عن المزاج. والفرض أنها إذا كانت صورا لفي مواد ، كانت موجودات بالقوة لا بالفعل ، ناقصة لا كاملة ، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمرا بالفعل (٣) ، ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج ، فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل ، بل بغيره ، والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل ، والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج؟.

__________________

(١) العنين : المعترض بالفضول.

(٢) الوطر : الحاجة والأرب. قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً). قال الخليل : الوطر كل حاجة يكون لك فيها همة ، فإذا بلغها البالغ قيل : قضى وطره وإربه.

(٣) لأن الفعل متقدّم على القوة منطقيا وزمانيا ، كما أن الصورة متقدّمة على المادة. والبرهان على ذلك أن الأزلي متقدّم بالطبع على ما هو زائل. ولا يكون شيء أزليا بفضل القوة لأن ما له قوة الكون له أيضا قوة العدم.

أجابت الحنفاء :

هذا الحكم الذي ذكرتموه ، وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل ، غير مسلم على الإطلاق ، لأن من الروحانيات ، ما يكون وجوده بالقوة ، أو ما هو فيه وجود بالقوة. ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل ، حتى يخرجه من القوة إلى الفعل ، فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم ، والعقل له إعداد لكل شيء ، وفيض على كل شيء ، وأحدهما بالقوة ، والآخر بالفعل ، وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية ، فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمش له قاعدة عقلية أصلا ، وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب ، فليس كل روحاني كاملا من كل وجه ، ولا كل جسماني ناقصا من كل وجه. فمن الجسمانيات أيضا ما وجوده كامل بالفعل ، وسائر النفوس أيضا محتاجة إليه ، وذلك أيضا لضرورة الترتب في الموجودات السفلية ، وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلا. وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب. فليس كل جسماني ناقصا من كل وجه.

قالت : وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحاني ، وإنما يختلفان من حيث إن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم ، وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم ، والعالمان متقابلان كالشخص والظل ، وإذا أثبتم في ذلك العالم موجودا ما بالفعل كاملا تاما ، حتى تصدر عنه سائر الموجودات : وجودا ، ووصولا إلى الكمال. فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضا موجودا ما بالفعل كاملا تاما ؛ حتى تصدر عنه سائر الموجودات : تعلما ووصولا إلى الكمال.

قالوا : وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية ، طريقكم في إثبات الأرباب عندكم وهي الروحانيات السماوية ، وذلك احتياج كل مربوب (١) إلى رب يدبره ، ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب.

__________________

(١) المربوب : من ربّ يرب الأمر إذا ساسه وقام بتدبيره ، والرب يطلق على الله تبارك وتعالى ، ويطلق على مالك الشيء ، فيقال : رب الدين ورب المال ، ويستعمل بمعنى السيد والمدبّر والقيّم والمنعم ، ومنه ـ

ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة ، وإنما الفاعل الكامل واحد ، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث وقد أخبر التنزيل عنهم بذلك (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢).

وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحدا ، فما سواه قابل محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل ، فكذلك نقول في الموجودات السفلية : النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل ، فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل. والمخرج هو النبي والرسول ، وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمرا بالقوة محتاجا ، فإن ما لم يتحقق بالفعل وجودا ، لا يخرج غيره من القوة إلى الفعل ، فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير ، بل الطير يخرج البيض.

وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه ، وفيه فائدة أخرى من وجه آخر ، وهي : أن عند الحنفاء المعقول لا يكون معقولا حتى يثبت له مثال في المحسوس وإلا كان متخيلا موهوما ، والمحسوس لا يكون محسوسا حتى يثبت له مثال في المعقول وإلا كان سرابا معدوما ، وإذا ثبتت هذه القاعدة ، فمن أثبت عالما روحانيا ، وأثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، فيلزمه ضرورة أن يثبت عالما جسمانيا ، ويثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، ويسمى المدبر في ذلك العالم «الروح الأول» على مذهب الصابئة والمدبر في هذا العالم «الرسول» على مذهب الحنفاء ، ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقلية ، فيكون الروح الأول مصدرا ، والرسول مظهرا ، ويكون بين الرسول وسائر البشر مناسبة وملاقاة حسية ، فيكون الرسول مؤديا ، والبشر قابلا.

__________________

ـ ما جاء في حديث أشراط الساعة : وأن تلد الأمة ربّها.

(٢) سورة الزخرف : الآية ١٩ وتمامها قوله عزوجل : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).

قالت الصابئة :

الجسمانيات مركبة من مادة وصورة ، والمادة لها طبيعة عدمية ، وإذا بحثنا عن أسباب الشر والفساد ، والسفه والجهل ، لم نجد لها سببا سوى المادة والعدم ، وهما منبعا للشر.

والروحانيات غير مركّبة من المادة والصورة ، بل هي صورة مجرّدة ، والصورة لها طبيعة وجودية ، وإذا بحثنا عن أسباب الخير ، والصلاح ، والحكمة ، والعلم لم نجد لها سببا سوى الصورة ، وهي منبع الخير ، فنقول : ما فيه أصل الخير ، أو ما هو أصل الخير ، كيف يماثل ما فيه أصل الشرّ؟!

أجابت الحنفاء :

بأن ما ذكرتم في المادة أنها سبب الشر فغير مسلم ، فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم ، وذلك هو الهيولى الأولى ، والعنصر الأول ، حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها قبل وجود العقل. ثم إن سلم فالمركب من المادة والصورة كالمركب من الوجوب والجواز عندكم ، فإن الجواز له طبيعة عدمية ، وما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده جائز بذاته ، واجب بغيره ، فيجب أن يلازمه أصل الشر.

قالوا : وإن سلم لكم أيضا تلك المقدمة ، فعندنا صور النفوس البشرية ، وخصوصا صور النفوس النبوية ، كانت موجودة قبل وجود المواد ، وهي المبادي الأولى ، حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس سرمديين (١) ، وهي الصورة المجردة التي كانت موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٢) وكانت هي أصل الخير ومبدأ الوجود ، ولكن لما ألبست الصور البشرية لباس

__________________

(١) السرمد : الدائم الذي لا ينقطع ، والسرمدي ما لا أول له ولا آخر.

(٢) سورة الزمر : الآية ٧٥ ، وتمامها قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

المادة ؛ تشبثت بالطبيعة ، وصارت المادة شبكة لها ، فساح عليها الواهب الأول ، فبعث إليها واحدا من عالمه ، وألبسه لباس المادة ليخلص الصور عن الشبكة ، لا ليكون هو المتشبث بها ، المنغمس فيها ، المتوسخ بأوضارها (١) ، المتدنس بآثارها ، وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزا بالحمامة المطوقة ، والحمامات الواقعة في الشبكة (٢).

ثم قالوا : معاشر الصابئة! أبدا تشنعون علينا بالمادة ولوازمها ، وما لم نفصل القول فيها لم ننج من تشنيعكم.

فنقول : النفوس البشرية وخصوصا النبوية من حيث إنها نفوس فهي مفارقة للمادة ، مشاركة لتلك النفوس الروحانية : إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية ، وإما مشاركة في الجنس بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية ، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة. والجسد لم ينتقص منها ، بل كملت هي لوازم الجسد ، وكملت بها ، حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم من العلوم الجزئية ، والأعمال الخلقية. والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران ، فكان الاقتران خيرا لا شرّ فيه ، وصلاحا لا فساد معه ، ونظاما لا ثبج (٣) له ، فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟.

قالت الصابئة :

الروحانيات : نورانية علوية لطيفة. والجسمانيات : ظلمانية ، سفلية ، كثيفة. فكيف يتساويان؟ والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها ، ومراكزها ومحالها. فعالم الروحانيات : العلو لغاية النور واللطافة (٤). وعالم الجسمانيات : السفل

__________________

(١) الأوضار ، الواحد وضر : وهو وسخ الدسم واللبن وغسالة السقاء.

(٢) وهي في كتاب كليلة ودمنة ، وهي مثل عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض والعاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه.

(٣) الثبج : الاضطراب والنتوء ، ورجل ثبج : أي مضطرب الخلق.

(٤) فالعقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة ، والعلوي خير من السفلي ، واللطيف أكمل من الكثيف.

هذا كله إشارة إلى المادة ، وسبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين ، ففي قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ ـ

لغاية الكثافة والظلمة ، والعالمان متقابلان ، والكمال للعلويّ لا للسفليّ ، والصفتان متقابلتان ، والفضيلة للنور لا للظلمة.

أجابت الحنفاء :

قالوا : لسنا نوافقكم أولا على أن الروحانيات كلها نورانية ، ولا نساعدكم ثانيا أن الشرف للعلو ، ولا نساهلكم أصلا أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.

وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث ، فإن فيها فوائد كثيرة.

أما الأولى فقالوا : حكمتم على الروحانيات حكم التساوي ، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب. وإذا كانت الموجودات كلها ، روحانيها وجسمانيها ، على قضية التضاد والترتب ، فلم أغفلتم الحكمين هاهنا؟ وذلك أن من قال : الروحاني هو ما ليس بجسماني ؛ فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة (١) في جملة الروحانيات ، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية. ثم من الجن من هو مسلم ، ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحا ، فمن الأرواح ما هو خيّر ، ومنها ما هو شرير ، والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة ، فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين ، وتنافر بين الطرفين فلم تسلم دعواكم أنها كلها نورانية.

بلى : وعندنا ، معاشر الحنفاء ، الروح هو الحاصل بأمر الباري تعالى ، الباقي على مقتضى أمره. فمن كان لأمره تعالى أطوع ، وبرسالات رسله أصدق : كانت الروحانية فيه أكثر والروح عليه أغلب. ومن كان لأمره تعالى أنكر ، وبشرائعه أكذب : كانت الشيطنة عليه أغلب.

__________________

ـ أَمْرِ رَبِّي) أي هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله تعالى ، ترك تفصيله ليعرف الإنسان عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها ، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا ، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. (انظر الرازي ١ : ٣٠٨ ومجمع البيان ٣ : ٤٣٧).

(١) الأراكنة ، جمع أركون : وهو العظيم من الدهاقين.

هذه قاعدتنا في الروحانيات. فلا روحاني أبلغ في الروحانية من ذوات الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.

وأما قولكم : إن الشرف للعلو ، إن عنيتم به علو الجهة فلا شرف فيه. فكم من عال جهة : سافل رتبة ، وعلما ، وذاتا ، وطبيعة. وكم من سافل جهة : عال على الأشياء كلها رتبة ، وفضيلة ، وذاتا ، وطبيعة.

وأما قولكم : إن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء وصفاتها ومحالها ومراكزها ، فليس بحق ، وهو مذهب اللعين الأول (١) حيث نظر إلى ذاته وذات آدم عليه‌السلام ففضل ذاته ، إذ هي مخلوقة من النار وهي علوية نورانية ، على ذات آدم وهو مخلوق من الطين ، وهو سفلي ظلماني.

بل عندنا الاعتبار في الشرف بالأمر وقبوله ، فمن كان أقبل لأمره ، وأطوع لحكمه وأرضى بقدره ، فهو أشرف ، ومن كان على خلاف ذلك فهو أبعد وأخس ، وأخبث ، فأمر الباري تعالى هو الذي يعطي الروح (قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٢) وبالروح يحيا الإنسان الحياة الحقيقية ، وبالحياة يستعد للعقل الغريزي ، وبالعقل يكتسب الفضائل ويجتنب الرذائل ، ومن لم يقبل أمر الباري تعالى فلا روح له ، ولا حياة ، ولا عقل له ، ولا فضيلة له ، ولا شرف عنده.

قالت الصابئة :

الروحانيات فضلت الجسمانيات بقوتي العلم والعمل (٣).

__________________

(١) واللعين الأول هو إبليس ، وكان فضل النار على الطين ، وإلى ذلك أشار بشار بن برد ، وكان يدين بالرجعة ، فقال :

الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبودة مذ كانت النار

(الأغاني ٣ : ١٤٥).

(٢) سورة الإسراء : الآية ٨٥.

(٣) أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور ، وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائما يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، لا يلحقهم نوم العيون ـ

أما العلم فلا ينكر إحاطتهم بمغيبات الأمور عنا ، واطلاعهم على مستقبل الأحوال الجارية علينا ، ولأن علومهم كلية ، وعلوم الجسمانيات جزئية ، وعلومهم فعلية ، وعلوم الجسمانيات انفعالية. وعلومهم فطرية ، وعلوم الجسمانيات كسبية. فمن هذه الوجوه تحقق لها الشرف على الجسمانيات.

وأما العمل فلا ينكر أيضا عكوفهم على العبادة ، ودوامهم على الطاعة (يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ) (١) لا يلحقهم كلال ولا سآمة ، ولا يرهقهم ملال ولا ندامة.

فتحقق لها الشرف أيضا بهذا الطرف. وكان أمر الجسمانيات بالخلاف من ذلك.

أجابت الحنفاء عن هذا بجوابين :

أحدهما : التسوية بين الطرفين ، وإثبات زيادة في جانب الأنبياء عليهم‌السلام.

والثاني : بيان ثبوت الشرف في غير العلم والعمل.

أما الأول : فإنهم قالوا : علوم الأنبياء عليهم‌السلام كلية وجزئية ، وفعلية وانفعالية ، وفطرية وكسبية. فمن حيث تلاحظ عقولهم عالم الغيب منصرفة عن عالم الشهادة تحصل لهم العلوم الكلية فطرة ودفعة واحدة. ثم إذا لاحظوا عالم الشهادة حصلت لهم العلوم الجزئية اكتسابا بالحواس على ترتيب وتدريج. فكما أن للإنسان علوما نظرية هي المعقولات ، وعلوما حاصلة بالحواس عن المحسوسات ؛ فعالم المعقولات بالنسبة إلى الأنبياء كعالم المحسوسات بالنسبة إلى سائر الناس. فنظرياتنا فطرية لهم ، ونظرياتهم لا نصل إليها قط. بل ومحسوساتنا مكتسبة لهم ، ولنا بكواسب

__________________

ـ ولا سهو العقول ، ولا غفلة الأبدان ، طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتمجيد ، فهم متجردون من العلائق البدنية ، غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآخر.

والاعتراض هو أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلي بالجوع أياما. والملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر ، الذين يكونون محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية ، فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ، ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى في سورة الأحزاب : الآية ٧٢ : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ). (الرازي ١ : ٣٠٨).

(١) سورة الأنبياء : الآية ٢٠.

الجوارح : جوارح الحواس. فأمزجة الأنبياء عليهم‌السلام أمزجة نفسانية ، ونفوسهم نفوس عقلية. وعقولهم عقول أمرية فطرية. ولو وقع حجاب في بعض الأوقات فذاك لموافقتنا ومشاركتنا كي تزكى هذه العقول وتصفى هذه الأذهان والنفوس ، وإلا فدرجاتهم وراء ما يقدر.

وأما الثاني : فإنهم قالوا : من العجب أنهم لا يعجبون بهذه العلوم ، بل ويؤثرون التسليم على البصيرة ، والعجز على القدرة ، والتبرؤ من الحول والقوة على الاستقلال ، والفطرة على الاكتساب (وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ) (١) على (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) (٢).

ويعلمون أن الملائكة والروحانيات بأسرها ، وإن علمت إلى غاية قوة نظرها وإدراكها ، ما أحاطت بما أحاط به علم الباري تعالى ، بل لكل منهم مطرح نظر ، ومسرح فكر ، ومجال عقل ، ومنتهى أمل ، ومطار وهم وخيال. وأنهم إلى الحد الذي انتهى نظرهم إليه مستبصرون ، ومن ذلك الحد إلى ما وراءه مما لا يتناهى ، مسلمون مصدقون. وإنما كمالهم في التسليم لما لا يعلمون ، والتصديق لما يجهلون (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ) (٣) ليس كمال حالهم بل (سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا) (٤) هو الكمال.

فمن أين لكم معاشر الصابئة أن الكمال والشرف في العلم والعمل لا في التسليم والتوكل؟.

وإذا كانت غاية العلوم هذه الدرجة فجعلت نهاية أقدام الملائكة والروحانيين بداية أقدام السالكين من الأنبياء والمرسلين (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) (٥) فعالم الروحانيات بالنسبة إليهم شهادة ، وبالنسبة إلينا غيب. وعالم

__________________

(١) سورة الأحقاف : الآية ٩.

(٢) سورة القصص : الآية ٧٨.

(٣) (٤) سورة البقرة : الآية ٣٠ و ٣٢.

(٥) سورة النمل : الآية ٦٥.

البشر الجسمانيات بالنسبة إلينا شهادة ، وبالنسبة إليهم غيب. والله تعالى هو الذي (يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى) (١).

قالت الحنفاء : من علم أنه لا يعلم فقد أحاط بكل العلم ، ومن اعترف بالعجز عن أداء الشكر فقد أدى كل الشكر.

قالت الصابئة :

الروحانيات لهم قوة تصريف الأجسام ، وتقليب الأجرام (٢). والقوة التي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب (٣) فتنحسر ، ولكن القوى الروحانية بالخواص الجسمانية أشبه. وإنك لترى الخامة اللطيفة (٤) من النبات في بدء نموها تفتق الحجر ، وتشق الصخر. وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من القوى السماوية. ولو كانت هي قوى مزاجية لما بلغت إلى هذا المنتهى. فالروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام تقليبا وتصريفا. لا يثقلهم حمل الثقيل ، ولا يستخفهم تحريك الخفيف ، فالرياح تهب بتحريكها ، والسحاب يعرض ويزول بتصريفها ، وكذلك الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها ، وكل هذه وإن استندت إلى أسباب جزئية فإنها تستند في الآخرة إلى أسباب من جهتها.

ومثل هذه القوة عديم الوجود في الجسمانيات.

أجابت الحنفاء :

وقالوا : منا يقتبس تفصيل القوى ، وتجنيسها.

__________________

(١) سورة طه : الآية ٧.

(٢) وهذه القوة ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب ، ألا ترى أن الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر ، وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية ، فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليبا وتصريفا.

(٣) اللغوب : التعب والإعياء.

(٤) الخامة اللطيفة : الغضة الرطبة من النبات ، وفي الحديث : «مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع تميلها الريح مرة هكذا ومرة هكذا».

فإن القوى تنقسم إلى : قوى معدنية ، وقوى نباتية ، وقوى حيوانية ، وقوى إنسانية ، وقوى ملكية ، وقوى روحانية ، وقوى نبوية ربانية. والإنسان مجمع القوى بجملتها ، والإنسانية النبوية تفضلها بقوى ربانية ، ومعان إلهية.

فنذكر أولا ، وجه تركيب الإنسان ، ووجه ترتيب القوى فيه. ثم نذكر تركيب البشرية النبوية ، وترتيب القوى فيها ، ثم نخاير بين الوضعين : الروحاني منهما ، والجسماني ، وإليك الاختيار.

أما شخص الإنسان فمركب من الأركان الأربعة : التراب ، والماء ، والهواء ، والنار ، التي لها الطبائع الأربعة : اليبوسة ، والرطوبة ، والحرارة ، والبرودة. ثم مركب فيه نفوس ثلاث (١) ، إحداها : نفس نباتية تنمو وتتغذى وتولد المثل. والثانية : نفس حيوانية تحس ، وتتحرك بالإرادة. والثالثة : نفس إنسانية بها يميز ، ويفكر ، ويعبر عما يفكر.

ووجود النفس الأولى من الأركان وطبائعها ، وبقاؤها بها واستمدادها منها. ووجود النفس الثانية من الأفلاك وحركاتها ، وبقاؤها بها ، واستمدادها منها. ووجود النفس الثالثة من العقول البحتة والروحانيات الصرفة ، وبقاؤها بها ، واستمدادها منها.

ثم إن النباتية تطلب الغذاء طبعا ، والحيوانية تطلب الغذاء حسا ، والإنسانية تطلب الغذاء اختيارا وعقلا. ولكل نفس منها محل.

فمحل النباتية الكبد ، ومنه مبدأ النمو والنشوء ، وعن هذا جعل فيه عروق دقاق ينفذ فيها الغذاء إلى الأطراف.

__________________

(١) النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام : النباتية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي ، والحيوانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.

والإنسانية وهي كمال أول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.

وللنفس النباتية قوى ثلاث : غاذية ومنمية ومولدة. والنفس الحيوانية لها قوتان محركة ومدركة ، ولها شعبتان : شهوانية وغضبية. وأما النفس الإنسانية فهي عاملة وعالمة.

ومحل الحيوانية : القلب ، ومنه مبدأ تدبير الحس والحركة ، وعن هذا فتح منه عروق إلى الدماغ. فيصعد إلى الدماغ من حرارته ما يعدل تلك البرودة ، وينزل منه من آثاره ما يدبر به الحركة.

ومحل الإنسانية تصريفا وتدبيرا : الدماغ ، ومنه مبدأ الفكر ، والتعبير عن الفكر وعن هذا فتحت إليه أبواب الحواس مما يلي هذا العالم ، وفتحت إليه أبواب المشاعر مما يلي ذلك العالم وهاهنا ثلاثة أعضاء ممدات لا بد منها : المعدة التي تمد الكبد بالغذاء والرئة التي تمد القلب بترويح الهواء. والعروق التي تمد الدماغ بالحرارة.

فإذن التركيب الإنساني أشرف التراكيب ، فإن فيه جميع آثار العالم الجسماني والروحاني. وتركيب القوى فيه أكمل التراتيب : فهو مجمع آثار الكونين والعالمين. فكل ما هو في العالم منتشر ففيه مجتمع. وكل ما هو فيه من خواص الاجتماع ، فليس للعالم البتة ، لأن للاجتماع والتركيب خاصية لا توجد في حال الافتراق والانحلال واعتبر فيه حال السكر والخل ، وحال السكنجبين (١) ، وكذلك الحكم في كل مزاج.

هذا وجه تركيب البدن. وترتيب القوى الخاصة به.

وأما وجه اتصال النفس به ، وترتيب القوى الخاصة بها مما يلي هذا العالم ، ومما يلي ذلك العالم ؛ فاعلم أن النفس الإنسانية جوهر (٢) هو أصل القوى المحركة ، والمدركة ، والحافظة للمزاج : تحرك الشخص بالإرادة ، لا في جهات ميله الطبيعي. وتتصرف في أجزائه ، ثم في جملته. وتحفظ مزاجه عن الانحلال ، وتدرك بالمشاعر

__________________

(١) السكنجبيون ، معرب عن سركه انگبين انكبين الفارسي ومعناه : خل وعسل.

(٢) أخذ في بيان القوى النفسية ، وإنها تنقسم إلى مدركة ومحركة. وقدم المدركة ، لأن الحركة الاختيارية لا توجد إلا عند الشعور بمطلوب أو مهروب عنه. فيكون التحريك متفرعا عن الإدراك متأخرا عن الشعور. والإدراك أشرف من الحركة لأنه قد يكون مطلوبا لذاته كما في الإنسان والحركة لا تكون البتة مطلوبة إلا لغيرها ، وإدراك الشيء هو أن تكون حقيقة متمثلة عند المدرك ينشأ عنها ما به يدرك ، سواء أكانت تلك الحقيقة لا وجود لها في الأعيان الخارجة ، مثل كثير من الأشكال الهندسية ، بل كثير من المفروضات ، وإما أن تكون حقيقة مرتسمة في ذات المدرك ، غير مباين له ، وهذا ما رآه ابن سينا في إشاراته.

المركوزة فيه ، وهي الحواس الخمس. فبالقوة الباصرة تدرك الألوان والأشكال. وبالقوة السامعة تدرك الأصوات والكلمات. وبالقوة الشامة تدرك الروائح. وبالقوة الذائقة تدرك المطعومات. وبالقوة اللامسة تدرك الملموسات. وله فروع من قوى منبثة في أعضاء البدن ، حتى إذا أحس بشيء من أعضائه ، أو تخيل ، أو توهم ، أو اشتهى ، أو غضب ، ألفى العلاقة التي بينه وبين تلك الفروع هيئة فيه حتى يفعل ، وله إدراك وقوة تحريك.

أما الإدراك فهو أن يكون مثال حقيقة المدرك : متمثلا مرتسما في ذات المدرك ، غير مباين له. ثم المثال قد يكون مثال صورة الشيء ، وقد يكون مثال حقيقته. ومثال صورة الشيء هو ما يكون محسوسا ، فيرتسم في القوة الباصرة وقد غشيته غواش (١) غريبة عن ماهيته ، لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنه ماهية ، مثل : أين ، وكيف ، ووضع ، وكم معينة ، لو توهم بدلها غيرها لم يؤثر في ماهية ذلك المدرك ، والحس يناله من حيث هو مغمور في هذه العوارض التي تلحقه بسبب المادة ، لا يجردها عنه ، ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته.

ثم الخيال الباطن يتخيله مع تلك العوارض التي لا يقدر على تجريده المطلق عنها ، لكنه يجرده عن تلك العلائق الوضعية التي تعلق بها الحس فهو يتمثل صورة مع غيبوبة حاملها. وعنده مثال العوارض ، لا نفس العوارض. ثم الفكر العقلي يجرده عن تلك العوارض. فيعرض ماهيته وحقيقته على العقل ، فيرتسم فيه مثال حقيقته حتى كأنه عمل بالمحسوس عملا جعله معقولا (٢). وأما ما هو بريء في ذاته عن الشوائب (٣)

__________________

(١) الغواشي ، الواحدة غاشية : وهي الغطاء ، ومنه قوله تعالى في سورة يس : الآية ٩ : (فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ).

(٢) بعد ما فرغ من بيان معنى الإدراك أراد أن ينبه على أنواعه ، وأنواع الإدراك أربعة : إحساس وتخيل وتوهم وتعقل. (إشارات ابن سينا).

(٣) فزيد لا يباين عمرا في إنسانيته ، وإنما يباينه في شخصه المادي وما تلتزمه المادة من الأحوال : كالأين والكيف وغيرهما ... ـ

المادية ، منزه عن العوارض الغريبة ، فهو معقول لذاته ، ليس يحتاج إلى عمل يعمل به بعده فيعقله ما من شأنه أن يعقله (١) فلا مثال له يتمثل في العقل ، ولا ماهية له فيجرد له ، ولا وصول إليه بالإحاطة والفكرة ، إلا أن البرهان يدلنا عليه ويرشدنا إليه.

وكثيرا ما يلاحظ العقل الإنساني عالم العقل الفعال فيرتسم فيه من الصور المجردة المعقولة ارتساما بريئا عن العلائق المادية والعوارض الغريبة ، فيبتدر الخيال إلى تمثله ، فيمثله في صورة خيالية مما يناسب عالم الحس ، فينحدر إلى الحس المشترك ذلك المثال ، فيبصره كأنه يراه معاينا مشاهدا يناجيه ويشاهده حتى كأن العقل عمل بالمعقول عملا جعله محسوسا ، وذلك إنما يكون عند اشتغال الحواس كلها عن أشغالها ، وسكون المشاعر عن حركاتها في النوم للجماعة ، وفي اليقظة للأبرار.

يا عجبا كل العجب من تركيب على هذا النمط!! فمن أين لغيره مثله؟؟.

ونعود إلى ترتيب القوى ، وتعيين محالها.

أما القوى المتعلقة بالبدن التي ذكرناها آلات ومشاعر للجوهر الإنساني :

فالأولى منها : الحس المشترك المعروف ببنطاسيا (٢) الذي هو مجمع الحواس ، ومورد المحسوسات ، وآلتها الروح (٣) المصبوب في مبادي عصب الحس ، لا سيما في مقدم الدماغ.

__________________

ـ ولأن الصورة المحسوسة منتزعة نزعا ناقصا مشروطا بحضور المادة ، والخيالية منتزعة نزعا أكثر لكنه غير تام والعقلية منتزعة نزعا تاما. والغواشي الغريبة عن الماهية ، هي جميع العوارض المفارقة ، ولوازم الوجود والماهية ولوازم الماهية كالزوجية للإثنين لا تكون غريبة عن الماهية. ولا تكون مثل هذه الغواشي عند ما يكون الشيء محسوسا فقط بل وعند ما يكون معقولا أيضا. (شرح الإشارات ١ : ١٣٨).

(١) متى ثبت بأن التعقل هو نفس حصول المعقول للعاقل فالمانع من كون الشيء معقولا هو المادة وعلائقها ، فإذا كانت الماهية مادية احتاجت إلى العقل في تصيرها معقولة إلى أن يجردها عن المادة وأما إذا كانت مجردة لذاتها عن المادة وعن علائقها لم تكن محتاجة إلى أن يعمل ما يصيره معقولا والمعقول بأن المانع من المعقولات هو المادة. (شرح الإشارات ١ : ١٣٩).

(٢) بنطاسيا : أي الحس المشترك ، وهي قوة مرتبة في أول التجويف المقدم من الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس.

(٣) قال الشيخ : آلة المشترك هو الروح المصبوب في مبادي عصب الحس ، لأن الحس المشترك كرأس عين ـ

والثانية : الخيال (١) والمصوّرة ، وآلتها الروح المصبوب في البطن المقدم من الدماغ ، لا سيما في الجانب الآخر.

والثالثة : الوهم (٢) الذي هو لكثير من الحيوان وهو ما به تدرك الشاة معنى في الذئب فتفر منه ، وبه تدرك معنى في النوع فتنفر إليه وتزدوج به. وآلته الدماغ كله ، لكن الأخص منه به هو التجويف الأوسط.

والرابعة : المفكرة (٣) ، وهي قوة لها أن تركب وتفصل ما يليها من الصور المأخوذة عن الحس المشترك ، والمعاني الوهمية المدركة بالوهم. فتارة تجمع ، وتارة تفصل ، وتارة تلاحظ العقل فتعرض عليه ، وتارة تلاحظ الحس فتأخذ منه. وسلطانها في الجزء الأول من وسط الدماغ ، وكأنها قوة ما للوهم ، وتتوسط بين الوهم والعقل.

والخامسة (٤) : القوة الحافظة ، وهي التي كالخزانة لهذه المدركات الحسية والوهمية والخيالية دون العقلية الصرفة. فإن المعقول البحت لا يرتسم في جسم ولا في قوة جسم ، والحافظة قوة في جسم ، وآلتها الروح المصبوب في أول البطن المؤخر من الدماغ.

__________________

ـ تتشعب منه خمسة أنهار وكان الروح المصبوب في البطن المقدم هو آلة للحس المشترك والخيال ، وإنما تتأدى الإدراكات الحسية من الحواس ، بواسطة الأرواح التي في الأعصاب إلى التي في مباديها المتصلة بالروح المصبوب في البطن المقدم. (شرح الإشارات ١ : ١٤٥).

(١) وهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار. (النجاة ص ٢٦٦).

(٢) الوهم : وآلته الدماغ ، لكن الأخص به هو التجويف الأوسط. وهذه القوة المسماة بالوهم هي الرئيسة الحاكمة في الحيوان حكما ليس فصلا كالحكم العقلي ، ولكن حكما تخيليا مقرونا بالجزئية وبالصورة الحسية ، وعنه تصدر أكثر الأفعال الحيوانية. (شرح الإشارات ١ : ١٤٥).

(٣) وهي قوة ، لها أن تركب وتفصل وما يليها من الصور المأخوذة عن الحس ، والمعاني المدركة بالوهم ، وتركب أيضا الصور بالمعاني وتفصلها عنها. وتسمى عند استعمال العقل مفكرة ، وعند استعمال الوهم متخيلة. وسلطانها في الجزء الأول من التجويف الأوسط.

(٤) وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية.

والسادسة : القوة الذاكرة (١) ؛ وهي التي تستعرض ما في الخزانة على جانب العقل أو على الخيال والوهم. وآلتها الروح المصبوب في آخر البطن المؤخر من الدماغ.

وأما المعقول الصرف المبرأ عن الشوائب المادية ، فلا يحل في قوة جسمانية وآلة جسدانية ، حتى يقال ينقسم بانقسامها ، ويتحقق لها وضع ومثال ، ولهذا لم يكن القوة الحافظة خزانة لها ، بل المصدر الأول الذي أفاض عليها تلك الصورة صار خازنا لها ، فحيثما طالعته النفس الإنسانية بقوتها العقلية المناسبة لواهب الصور نوعا من المناسبة فاضت منه عليها تلك الصور المستحفظة له ، حتى كأنه ذكرها بعد ما نسيت ، ووجدها بعد ما ضلت عنه.

وغريزة النفس الصافية تنزع إلى جانب القدس في تذكار الأمور الغائبة عن حضرة العقل نزاعا طبيعيا ، فتستحضر ما غاب عنها ، ولهذا السر أخبر الكتاب الإلهي (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً) (٢) حتى صار كثير من الحكماء إلى أن العلوم كلها تذكار ، وذلك أن النفوس كانت في البدء الأول في عالم الذكر ، ثم هبطت إلى عالم النسيان ، فاحتاجت إلى مذكرات لما قد نسيت ، معيدات إلى ما كانت قد ابتدأت (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٣) * وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (٤).

__________________

(١) الذاكرة. وسلطانها في حيز الروح الذي في التجويف الأخير وهو آلتها. وهي حافظة للمعاني ومعينة للوهم بالحفظ ، ويسميها قوم ذاكرة لأن الذكر لا يتم إلا بها ، وحفظ المعاني مغاير لاسترجاعها بعد زوالها.

والاسترجاع هو طلب تلك الملاحظة بالفكر ، فالذاكرة إذا ليست قوة بسيطة بل مبدأ ، هي فعل يتركب من أفعال قوتين مدركة وحافظة ، والمسترجعة مبدأ فعل يتركب من أفعال ثلاث قوى : متصرفة ومدركة وحافظة. (شرح الإشارات ص ١٤٥).

(٢) سورة الكهف : الآية ٢٤.

(٣) سورة الذاريات : الآية ٥٥.

(٤) سورة إبراهيم : الآية ٥.

ثم للنفس الإنسانية قوى عقلية لا جسمانية (١) ، وكمالات نفسانية روحانية لا جسدانية. فمن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن ، وهي القوة التي تختص باسم العقل العملي ، وذلك أن تستنبط الواجب فيما يجب أن يفعل ولا يفعل. ومن قواها ما لها بحسب حاجتها إلى تكميل جوهرها عقلا بالفعل ، وإنما يخرج من القوة إلى الفعل بمخرج غير ذاتها لا محالة ، فيجب أن يكون لها قوة استعدادية تسمى عقلا هيولانيا ، حتى يقبل من غيرها ما به يخرجها من الاستعداد إلى الكمال. فأول خروج لها إلى الفعل حصول قوة أخرى من واهب الصور يحصل لها عند استحضارها المعقولات الأول ، فيتهيأ بها لاكتساب الثواني : إما بالفكر ، وإما بالحدس ، فيتدرج قليلا قليلا إلى أن يحصل لها ما قدر لها من المعقولات ، ولكل نفس استعداد إلى حد ما لا يتعداه ، ولكل عقل حدّ ما لا يتخطاه ، فيبلغ إلى كماله المقدر له ، ويقتصر على قوته المركوزة فيه ، ولا يتبين هاهنا وجود التضادّ بين النفوس والعقول ، ووجوب الترتب فيها.

وإنما يعرف مقادير العقول ومراتب النفوس : الأنبياء والمرسلون الذين اطلعوا على الموجودات كلها : روحانياتها وجسمانياتها ، معقولاتها ومحسوساتها ، كلياتها وجزئياتها ، علوياتها وسفلياتها ، فعرفوا مقاديرها ، وعينوا موازينها ومعاييرها.

وكل ما ذكرناه من القوى الإنسانية فهي حاصلة لهم ، مركبة فيهم ، منصرفة كلها عن جانب الغرور إلى جانب القدس ، مستديمة الشروق بنور الحق فيها ، حتى كأن كل قوة من القوى الجسدانية والنفسانية ملك روحاني موكل بحفظ ما وجه إليه ، واستتمام

__________________

(١) والقوة العقلية لو كانت تعقل بالآلة الجسدانية حتى يكون فعلها الخاص إنما يتم باستعمال تلك الآلة الجسدانية لكان يجب أن لا تعقل ذاتها وأن لا تعقل الآلة ولا أن تعقل أنها عقلت ، فإنه ليس بينها وبين ذاتها آلة ، وليس بينها وبين آلتها ولا بينها وبين أنها عقلت آلة لكنها تعقل ذاتها وآلتها التي تدعى آلتها وأنها عقلت فإذا إنما تعقل بذاتها لا بالآلة ... الخ.

ثم أنه أخذ بعد هذا في إيراد براهين على أن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية. (النجاة ص ٢٩٢).

ما رشح له. بل ومجموع جسده ونفسه : مجمع آثار العالمين من الروحانيات والجسمانيات. وزيادة أمرين ، أحدهما : ما حصل له من فائدة التركيب والترتيب ، كما بينا من مثال السكر والخل. والثاني : ما أشرق عليه من الأنوار القدسية : وحيا وإلهاما ، ومناجاة ، وإكراما.

فأين للروحاني هذه الدرجة الرفيعة ، والمقام المحمود ، والكمال الموجود؟

بل ومن أين للروحانيات كلها هذا التركيب الذي خص نوع الإنسان به؟.

وما تعلقوا به من القوة البالغة على تحريك الأجسام ، وتصريف الأجرام ، فليس يقتضي شرفا. فإن ما يثبت لشيء ويثبت لضده مثله لم يتضمن شرفا. ومن المعلوم أن الجن والشياطين قد ثبت لهم من القوة البالغة والقدرة الشاملة ما يعجز كثير من الموجودات عن ذلك. وليس ذلك مما يوجب شرفا وكمالا ، وإنما الشرف في استعمال كل قوة فيما خلقت له ، وأمرت به ، وقدرت عليه.

قالت الصابئة :

الروحانيات لها اختيارات صادرة من الأمر ، متوجهة إلى الخير ، مقصورة على نظام العالم ، وقوام الكل. لا يشوبها البتة شائبة الشر ، وشائبة الفساد ، بخلاف اختيار البشر فإنه متردد بين طرفي الخير والشر (١) لو لا رحمة الله في حق البعض ، وإلا فوضع اختيارهم كان ينزع إلى جانب الشر والفساد ، إذ كانت الشهوة والغضب المركوزتان فيهم يجرانهم إلى جانبهما ، وأما الروحانيات فلا ينازع اختيارهم إلا التوجه إلى وجه الله تعالى ، وطلب رضاه ، وامتثال أمره ، فلا جرم كل اختيار هذا حاله لا يتعذر عليه ما يختاره. فكما أراد واختار ، وجد المراد وحصل المختار ، وكل اختيار ذلك حاله تعذر عليه ما يختاره ، فلا يوجد المراد ، ولا يحصل المختار.

__________________

(١) هذا الأمر يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعتهم والأنبياء مترددة بين الطرفين ، والمختار أفضل من المجبور ، وهذا ضعيف ، لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب ، فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل ، أما الملائكة فهم خيرات بالفعل ، فأين هذا من ذاك. (الرازي ١ : ٣٠٩).

أجابت الحنفاء بجوابين :

أحدهما : نيابة عن جنس البشر. والثاني : نيابة عن الأنبياء عليهم‌السلام.

أما الأول فنقول : اختيار الروحانيات إذا كان مقصورا على أحد الطرفين محصورا : كان في وضعه مجبورا ، ولا شرف في الجبر. واختيار البشر تردد بين طرفي الخير والشر. فمن جانب يرى آيات الرحمن ، ومن طرف يسمع وساوس الشيطان ، فتميل به تارة دعوة الحق إلى امتثال الأمر ، وتميل به طورا داعية الشهوة إلى اتباع الهوى. فإذا أقر طوعا وطبعا بوحدانية الله تعالى ، واختار من غير جبر وإكراه طاعته ، وصير اختياره المتردد بين الطرفين مجبورا تحت أمره تعالى باختيار من جهته من غير إجبار : صار هذا الاختيار أفضل وأشرف من الاختيار المجبور فطرة ، كالمكره فعله : كسبا ، الممنوع عما لا يجب جبرا. ومن لا شهوة له فلا يميل إلى المشتهى ، كيف يمدح عليه؟ وإنما المدح كل المدح لمن زين له المشتهى فنهى النفس عن الهوى (١) ، فتبين أن اختيار البشر أفضل من اختيار الروحانيات.

وأما الثاني : فنقول : إن اختيار الأنبياء عليهم‌السلام مع ما أنه ليس من جنس اختيار البشر من وجه ، فهو متوجه إلى الخير ، مقصور على الصلاح الذي به نظام العالم وقوام الكل ، صادر عن الأمر ، صائر إلى الأمر ، لا يتطرق إلى اختيارهم ميل إلى الفساد ، بل ودرجتهم فوق ما يبتدر إلى الأوهام ، فإن العالي لا يريد أمرا لأجل السافل ، من حيث هو سافل ، بل إنما يختار ما يختار لنظام كلي ، وأمر أعلى من الجزئي ، ثم يتضمن ذلك حصول نظام في الجزئي تبعا لا مقصودا ، وهذا الاختيار والإرادة على جهة سنّة الله تعالى في اختياره ومشيئته للكائنات ، لأن مشيئته تعالى كلية متعلقة بنظام الكل ، غير معللة بعلة ، حتى لا يقال إنما اختار هذا لكذا ، وإنما فعل هذا لكذا. فلكل شيء علة ، ولا علة لصنعه تعالى ، بل لا يريد إلا كما علم ، وذلك أيضا ليس بتعليل ، لكنه بيان أن إرادته أعلى من أن تتعلق بشيء لعلة دونها ، وإلا لكان ذلك الشيء حاملا

__________________

(١) نهى النفس عن الهوى : زجرها وكفّها عن الميل والشهوات ، وضبطها بالصبر على إيثار الخيرات ، ولم يعتد بمتاع الدنيا ، ولم يغتر بزخارفها وزينتها.

له على ما يريد. وخالق العلل والمعلولات لا يكون محمولا على شيء ، فاختياره لا يكون معللا بشيء ، واختيار الرسول المبعوث من جهته ينوب عن اختياره. كما أن أمره ينوب عن أمره ، فيسلك سبل ربه ذللا ، ثم يخرج من قضية اختياره نظام حال وقوام أمر مختلف ألوانه ، فيه شفاء للناس. فمن أين للروحانيات هذه المنزلة؟ وكيف يصلون إلى هذه الدرجة؟.

كيف! وكل ما يذكرونه فموهوم ، وكل ما يذكره النبي فمحقق مشاهدة وعيانا ، بل وكل ما يحكى عن الروحانيات من كمال علمهم وقدرتهم ، ونفوذ اختيارهم واستطاعتهم ، فإنما أخبرنا بذلك الأنبياء والمرسلون عليهم‌السلام ، وإلا فأي دليل أرشدنا إلى ذلك ونحن لم نشاهدهم ، ولم نستدل بفعل من أفعالهم على صفاتهم وأحوالهم؟.

قالت الصابئة :

الروحانيون متخصصون بالهياكل العلوية (١) مثل زحل ، والمشتري ، والمريخ ، والشمس، والزهرة ، وعطارد ، والقمر (٢) ، .............................

__________________

(١) فالروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبع ، وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان ، والكواكب كالقلوب ، والملائكة كالأرواح ، فنسبة الأرواح إلى الأرواح كنسبة الأبدان إلى الأبدان. ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادي لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم ، فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث .. وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض. وذاك هو الرتق ، فحينئذ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض ، فتنقل العمارة من جانب من هذا العالم إلى جانب آخر. فإذا رأينا أن هياكل العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي ، فكذا أرواح العالم العلوي يجب أن تكون مستولية على أرواح العالم السفلي ، لا سيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ... الخ. (انظر الرازي ١ : ٣٠٩).

(٢) زحل : كوكب يرى كغيره من الكواكب نقطة لامعة ، ويمتاز عن سائر نجوم السماء بحلقة عريضة رقيقة ملتفة حوله ، والمعروف حتى الآن أن له عشرة أقمار ، فهو أكثر السيارات أقمارا ، وتظهر الشمس منه صغيرة جدا ، ويصل إليه من نورها وحرارتها ما يماثل جزءا من تسعين مما يصل إلى الأرض ، وهو أبعد الكواكب التي عرفها الأقدمون. (بسائط علم الفلك ص ٦٢). ـ

وهذه السيارات (١) كالأبدان والأشخاص بالنسبة إليها ، وكل ما يحدث من الموجودات ، ويعرض من الحوادث ، فكلها مسببات هذه الأسباب ، وآثار هذه العلويات ، فيفيض على هذه العلويات من الروحانيات تصريفات وتحريكات إلى جهات الخير والنظام ، ويحصل من حركاتها واتصالاتها تركيبات وتأليفات في هذا العالم ، ويحدث في المركبات أحوال ومناسبات ، فهم الأسباب الأول ، والكل مسبباتها ، والمسبب لا يساوي السبب ، والجسمانيون متشخصون بالأشخاص السفلية ، والمتشخص كيف يماثل غير المتشخص؟.

وإنما يجب على الأشخاص في أفعالهم وحركاتهم اقتفاء آثار الروحانيات في

__________________

ـ أما المشتري فهو أكبر السيارات التابعة للنظام الشمسي ، وسمي بذلك لأنه اشترى الحسن لنفسه ، ويسميه الغربيون جوبتر وهو اسم كبير آلهة الرومان ، وحجمه ١٢٥٠ ضعف حجم الأرض. ومتوسط بعده عن الشمس ٤٧٨ مليون ميل. وهو يدور على محوره في نصف المدة التي تدور فيها الأرض على محورها. (انظر المصدر السابق ص ٥٤).

والشمس مصدر النور والحرارة وركن الحياة والقوة ، وهي على عظم بهائها وسنائها ليست إلا كوكبا من الكواكب العظمى وتظهر لنا أعظم شأنا مما هي حقيقة بسبب قربها منا ، وقد ثبت أن الشمس تدور على نفسها وتبلغ العناصر التي ثبت وجودها فيها ٤٥ عنصرا وكلها من العناصر الأرضية. (المصدر السابق ص ٣٢).

وأما الزهرة ففلكها داخل فلك الأرض كعطارد ، فإذا كانت إلى الجهة الشرقية من الشمس فهي نجمة السماء وتغرب بعد الشمس وإذا كانت في الجهة الغربية من الشمس فهي نجمة الصباح وتطلع قبل الشمس ، وإذا كانت في الاقتران الأسفل فقد ترى شامة سوداء على وجه الشمس. وهي تدور على نفسها كالأرض وسرعتها مثل سرعة الأرض. (المصدر السابق ص ٥٢).

وأما عطارد فهو أقرب السيارات المعروفة إلى الشمس وهو أحمر اللون وهو أصغر السيارات ما عدا النجمات ، وقطره نحو ثلث قطر الأرض. ومدة دورانه على نفسه وحول الشمس نحو ٨٨ يوما. (المصدر السابق ص ٤٩).

والقمر جسم مظلم ، أي غير منير لذاته وهو تابع للأرض يدور حولها ، ويدور على نفسه في المدة التي يدور فيها حول الأرض ، فلا نرى إلا وجها واحدا من وجهيه. وهو يدور دورة كاملة حول الأرض كل ٢٧ يوما وثلث اليوم. (المصدر السابق ص ٣٨).

(١) وقد جمع الشيخ ناصيف اليازجي أسماء هذه السيارات حسب ترتيبها من الأبعد إلى الأقرب في قوله :

تلك الدراري زحل فالمشتري

وبعده مريخها في الأثر

شمس فزهرة عطارد

قمر وكلها سائرة على قدر

أفعالها وحركاتها حتى يراعي أحوال الهياكل ، وحركات أفلاكها زمانا ومكانا ، وجوهرا وهيئة ، ولباسا ، وبخورا ، وتعزيما ، وتنجيما ، ودعاء ، وحاجة خاصة بكل هيكل فيكون تقربا إلى الهيكل : تقربا إلى الروحاني الخاص به ، فيكون تقربا إلى رب الأرباب ، ومسبب الأسباب حتى يقضي حاجته ، ويتم مسألته.

وسيأتي تفصيل ما أجملوه من أمر الهياكل عند ذكر أصحابها إن شاء الله تعالى.

أجابت الحنفاء :

بأن قالوا : الآن نزلتم عن نيابة الروحانيات الصرفة إلى نيابة هياكلها ، وتركتم مذهب الصبوة الصرفة. فإن الهياكل أشخاص الروحانيين ، والأشخاص هياكل الربانيين غير أنكم أثبتم لكل روحاني هيكلا خاصا ، له فعل خاص لا يشاركه فيه غيره.

ونحن نثبت أشخاصا رسلا كراما ، تقع أوضاعهم وأشخاصهم في مقابلة كل الكون : الروحاني منهم في مقابلة الروحاني منها ، والأشخاص منهم في مقابلة الهياكل منها ، وحركاتهم في مقابلة حركات جميع الكواكب والأفلاك ، وشرائعهم مراعاة حركات استندت إلى تأييد إلهي ، ووحي سماوي ، موزونة بميزان العدل ، مقدرة على مقادير الكتاب الأول (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (١) ليست مستخرجة بالآراء المظلمة ، ولا مستنبطة بالظنون الكاذبة ، إن طابقتها على المعقولات تطابقتا ، وإن وافقتها بالمحسوسات توفقتا.

كيف ونحن ندعي أن الدين الإلهي هو الموجود الأول ، والكائنات تقدرت عليه ، وأن المناهج التقديرية هي الأقدم. ثم المسالك الخلقية والسنن الطبيعية توجهت إلينا ولله تعالى سنتان في خلقه وأمره. والسنّة الأمرية أقدم وأسبق من السنّة الخلقية ، وقد أطلع خواصّ عباده من البشر على السنّتين (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (٢) هذا من جهة الخلق (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٣) هذا من جهة الأمر.

__________________

(١) سورة الحديد : الآية ٢٥.

(٢) (٣) سورة فاطر : الآية ٤٣ ، وتلاوتها : (فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً* وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً).

فالأنبياء عليهم‌السلام متوسطون في تقرير سنّة الأمر. والملائكة متوسطون في تقرير سنّة الخلق والأمر أشرف من الخلق. فمتوسط الأمر أشرف من متوسط الخلق ، فالأنبياء عليهم‌السلام أفضل من الملائكة.

وهذا عجب حيث صارت الروحانيات الأمرية متوسطات في الخلق ، وصارت الأشخاص الخلقية متوسطين في الأمر ، ليعلم أن الشرف والكمال في التركيب لا في البساطة ، واليد للجسماني لا للروحاني ، والتوجه إلى التراب أولى من التوجه إلى السماء ، والسجود لآدم عليه‌السلام أفضل من التسبيح والتهليل والتقديس.

وليعلم أن الكمال في إثبات الرجال ، لا في تعيين الهياكل والظلال ، وأنهم هم الآخرون وجودا ، السابقون فضلا ، وأن آخر العمل أول الفكرة ، وأن الفطرة لمن له الحجة ، وأن المخلوق بيديه لا يكون كالمكون بحرفيه ، قال عزوجل : (فو عزّتي وجلالي لا أجعل من خلقته بيدي كمن قلت له كن فكان) (١).

قالت الصابئة :

الروحانيات مبادي الموجودات (٢) ، وعالمها معاد الأرواح ، والمبادي أشرف ذاتا وأسبق وجودا ، وأعلى رتبة ودرجة من سائر الموجودات التي حصلت بتوسطها. وكذلك عالمها عالم المعاد والمعاد كمال ، فعالمها عالم الكمال.

فالمبدأ منها ، والمعاد إليها ، والمصدر عنها ، والمرجع إليها بخلاف الجسمانيات ، وأيضا فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان ، فتوسخت بأوضار الأجسام ، ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية ، والأعمال المرضية ،

__________________

(١) من الأحاديث القدسية.

(٢) قالوا : الروحانيات الفلكية مبادي لروحانيات هذا العالم ، والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالا من الواهب ، وأيضا فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوشحت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها فصعدت إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى ، فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية.

حتى انفصلت عنها ، فصعدت إلى عالمها الأول ، والنزول هو النشأة الأولى ، والصعود هو النشأة الأخرى ، فعرف أنهم أصحاب الكمال ، لا أشخاص الرجال.

أجابت الحنفاء :

قالوا : من أين سلمتم هذا التسليم : أن المبادي هي الروحانيات؟ وأيّ برهان أقمتم؟ وقد نقل عن كثير من قدماء الحكماء أن المبادي هي الجسمانيات على اختلاف منهم في الأول. منها أنه نار ، أو هواء ، أو ماء ، أو أرض؟ واختلاف آخر : أنه مركب أو بسيط ، واختلاف آخر : أنه إنسان أو غيره؟ حتى صارت جماعة إلى إثبات أناس سرمديين.

ثم منهم من يقول إنهم كانوا كالظلال حول العرش ، ومنهم من يقول : إن الآخر وجودا من حيث الشخص في هذا العالم : هو الأول وجودا من حيث الروح في ذلك العالم وعليه خرج أن أول الموجودات نور محمد عليه الصلاة والسلام ، فإذا كان شخصه هو الآخر من جملة الأشخاص النبوية ؛ فروحه هو الأول من جملة الأرواح الربانية ، وإنما حضر هذا العالم ليخلص الأرواح المدنسة بالأوضار الطبيعية فيعيدها إلى مبدئها. وإذا كان هو المبدأ فهو المعاد أيضا ، فهو النعمة والنعيم ، وهو الرحمة وهو الرحيم.

قالوا : ونحن إذا أثبتنا أن الكمال في التركيب لا في البساطة والتحليل ، فيجب أن يكون المعاد بالأشخاص والأجساد ، لا بالنفوس والأرواح (١). والمعاد كمال لا محالة ، غير أن الفرق بين المبدأ والمعاد هو أن الأرواح في المبدأ مستورة بالأجساد ، وأحكام الأجساد غالبة ، وأحوالها ظاهرة للحس ، والأجساد في المعاد مغمورة بالأرواح ،

__________________

(١) لقد اختلفوا في مسألة ما يعاد من الأجساد والأرواح ، فقال المسلمون واليهود والسامرة بإعادة الأجساد والأرواح ، ورد الأجساد إلى الأرواح على التعيين برجوع كل روح إلى الجسد الذي كان فيه. وأنكرت الحلولية وأكثر النصارى إعادة الأجساد وزعموا أن الثواب والعقاب إنما يكون للأرواح. وزعم أهل التناسخ أن الإعادة إنما تكون بكرور الأرواح في أجساد مختلفة وذلك كله في الدنيا ، وإن كل روح أحسنت في قالبها أعيدت في قالب يتنعم فيه ، وكل روح أساءت إلى قالبها أعيدت في قالب يؤذيها. (انظر أصول الدين ص ٢٣٥).

وأحكام النفوس غالبة ، وأحوالها ظاهرة للعقل ، وإلا فلو كانت الأجساد تبطل رأسا وتضمحل أصلا ، وتعود الأرواح إلى مبدئها الأول ، ما كان للاتصال بالأبدان ، والعمل بالمشاركة فائدة ولبطل تقدير الثواب والعقاب على فعل العباد ، ومن الدليل القاطع على ذلك أن النفوس الإنسانية في حال اتصالها بالبدن اكتسبت أخلاقا نفسانية صارت هيئات متمكنة فيها تمكن الملكات ، حتى قيل إنها نزلت منزلة الفصول اللازمة التي تميزها عن غيرها ، ولولاها لبطل التمييز ، وتلك الهيئات إنما حصلت بمشاركات من القوى الجسمانية ، بحيث لن يتصور وجودها إلا مع تلك المشاركة ، وتلك القوى لن تتصور إلا في أجسام مزاجية فإذا كانت النفوس لن تتصور إلا معها وهي المعينة المخصصة ، وتلك لن تتصور إلا مع الأجسام ، فلا بد من حشر الأجسام ، والمعاد بالأجسام (١).

قالت الصابئة :

طريقنا في التوسل إلى حضرة القدس ظاهر ، وشرعنا معقول ، فإن قدماءنا من الزمان الأول لما أرادوا الوسيلة عملوا أشخاصا في مقابلة الهياكل العلوية على نسب وإضافات راعوا فيها جوهرا وصورة ، وعلى أوقات وأحوال وهيئات أوجبوا على من يتقرب بها إلى ما يقابلها من العلويات : تختما ولباسا ، وتبخرا ودعاء وتعزيما ، فتقربوا إلى الروحانيات ، فتقربوا إلى رب الأرباب ، ومسبب الأسباب. وهو طريق مهيع (٢) وشرع مهيد (٣) ، لا يختلف بالأمصار والمدن ، ولا يتسخ بالأدوار والأكوار ، ونحن تلقينا

__________________

(١) القول في المعاد ، إما أن يكون هو المعاد الجسماني ، وهو قول أكثر المتكلمين ، وإما أن يكون هو المعاد الروحاني وهو قول أكثر الفلاسفة الإلهيين. أو كل منهما حق وصدق ، وهو قول أكثر المحققين أو الحق بطلانهما معا ، وهو قول القدماء من الفلاسفة الطبيعيين. والحق التوقف وهو المنقول عن جالينوس ، واعلم أن المعاد الجسماني أنكره أكثر الفلاسفة ، وجملة أهل الإسلام متفقون على إثباته ، إذ هو يتفق وما جاء في القرآن الكريم. (انظر الأربعين في أصول الدين للرازي ص ٢٨٧).

(٢) المهيع : الواضح الواسع البيّن ، وجمعه : مهايع ؛ وأنشد ابن بري :

إن الصنيعة لا تكون صنيعة

حتى يصاب بها طريق مهيع

(لسان العرب مادة هيع).

(٣) المهيد ، من هاده يهيده هيدا ، أي حرّكه وأصلحه. (لسان العرب مادة هيد).

مبدأه من عاذيمون وهرمس العظيمين ، فعكفنا على ذلك دائمين.

وأنتم معاشر الحنفاء تعصبتم للرجال ، وقلتم بأن الوحي والرسالة ينزل عليهم من عند الله تعالى بواسطة ، أو بغير واسطة. فما الوحي (١) أولا؟ وهل يجوز أن يكلم الله بشرا؟ وهل يكون كلامه من جنس كلامنا؟ وكيف ينزل ملك من السماء وهو ليس بجسماني؟ أبصورته؟ أو بصورة البشر؟ وما معنى تصوره بصورة الغير؟ أفيخلع صورته ويلبس لباسا آخر؟ أم يتبدل وضعه وحقيقته؟ ثم ما البرهان أولا على جواز انبعاث الرسل في صورة البشر؟ وما دليل كل مدع منهم؟ أفنأخذ بمجرد دعواه؟ أم لا بد من دليل خارق للعادة؟ وإن أظهر ذلك. أفهو من خواص النفوس؟ أم من خواص الأجسام؟ أم من فعل الباري تعالى؟ ثم ما الكتاب الذي جاء به؟ أفهو كلام الباري تعالى؟ وكيف يتصور في حقه كلام؟ أم هو كلام الروحاني؟ ثم هذه الحدود والأحكام أكثرها غير معقولة ، فكيف يسمح عقل الإنسان بقبول أمر لا يعقله؟ وكيف تطاوعه نفسه بتقليد شخص هو مثله؟ أبأن يريد أن يتفضل عليه؟ (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) (٢).

أجابت الحنفاء :

بأن المتكلمين منا يكفوننا جواب هذا الفصل بطريقين : أحدهما : الإلزام ، تعرضا لإبطال مذهبكم. والثاني : الحجة ، تعرضا لإثبات مذهبنا.

أما الإلزام فقالوا : إنكم ناقضتم مذهبكم حيث قلتم بتوسط عاذيمون وهرمس ، وأخذتم طريقتكم منهما. ومن أثبت المتوسط في إنكار المتوسط فقد ناقض كلامه ، وتخلف مرامه.

__________________

(١) الوحي : الإشارة والكتابة والرّسالة والإلهام والكلام الخفي. والوحي : المكتوب والكتاب أيضا. وفي حديث الحرث الأعور : قال علقمة قرأت القرآن في سنتين ، فقال الحرث : القرآن هيّن ، والوحي أشدّ منه ، أراد بالقرآن القراءة وبالوحي الكتابة والخط. (اللسان مادة وحي).

(٢) سورة المؤمنون : الآية ٢٤.

وزادوا هذا تقريرا بأنكم معاشر الصابئة أيضا متوسطون ، يحتاج إليكم في التزام مذهبكم ، إذ من المعلوم أن كل من دب ودرج منكم ليس يعرف طريقتكم ، ولا يقف على صنعتكم من علم وعمل ، أما العلم فالإحاطة بحركات الكواكب والأفلاك ، وكيفية تصرف الروحانيات فيها ، وأما العمل فصنعة الأشخاص في مقابلة الهياكل على النسب ، بل قوم مخصوصون أو واحد في كل زمان يحيط بذلك علما ، ويتيسر له عملا ، فقد أثبتم متوسطا عالما من جنس البشر. وقد ناقض آخر كلامكم أوله.

وزادوا هذا تقريرا آخر بإلزام الشرك عليهم إما الشرك في أفعال الباري تعالى ، وإما الشرك في أوامره.

أما الشرك في الأفعال فهو إثبات تأثيرات الهياكل والأفلاك. فإن عندهم الإبداع الخاص بالرب تعالى هو اختراع الروحانيات ، ثم تفويض أمور العالم العلوي إليها ، والفعل الخاص بالروحانيات هو تحريك الهياكل ، ثم تفويض أمور العالم السفلي إليها ؛ كمن يبني معملة ، وينصب أركانا للعمل من : الفاعل ، والمادة ، والآلة ، والصورة ، ويفوض العمل إلى التلامذة ، فهؤلاء اعتقدوا أن الروحانيات آلهة ، والهياكل أرباب ، والأصنام في مقابلة الهياكل باتخاذ وتصنع من كسبهم وفعلهم. فألزم أصحاب الأصنام : أنكم تكلفتم كل التكلف حتى توقعوا حجرا جمادا في مقابلة هيكل ، وما بلغت صنعتكم إلى إحداث : حياة فيه ، وسمع ، وبصر ، ونطق ، وكلام (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ* أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (١). أو ليست أوضاعكم الفطرية ، وأشخاصكم الخلقية أفضل منها وأشرف؟ أو ليست النسب والإضافات النجومية المرعية في خلقتكم أشرف وأكمل مما راعيتموها في صنعتكم؟ (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢) أو لستم تحتاجون إلى المتوسط المعمول لقضاء حاجة : إما جلب نفع ، أو دفع ضر. فهذا العامل

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآيتان ٦٦ و ٦٧.

(٢) سورة الصافات : الآيتان ٩٥ و ٩٦.

الصانع أقدر ، إذ فيه من القوة العلمية والعملية ما يستعمل به الهياكل العلوية ، ويستخدم الأشخاص الروحانية. فهلا ادعى لنفسه ما يثبت بفعله في جماد؟؟.

ولهذا الإلزام تفطن اللعين فرعون حيث ادعى الإلهية والربوبية لنفسه ، وكان في الأصل على مذهب الصابئة فصبا عن ذلك ودعا إلى نفسه فقال : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) (١) (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) (٢) إذ رأى في نفسه قوة الاستعمال والاستخدام ، واستظهر بوزيره «هامان» وكان صاحب الصنعة. فقال : (يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ* أَسْبابَ السَّماواتِ* فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى) (٣) وكان يريد أن يبني صرحا مثل الرصد فيبلغ به إلى حركات الأفلاك والكواكب ، وكيفية تركيبها ، وهيئاتها ، وكمية أدوارها وأكوارها ، فلربما يطلع على سر التقدير في الصنعة ، ومآل الأمر في الخلقة والفطرة ، ومن أين له هذه القوة والبصيرة؟ ولكن اعتزاز بنوع فطنة وكياسة في جبلته ، واغترار بضرب إهمال في مهلته. فما تمت لهم الصنعة حتى (أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً) (٤).

* * *

فحدث بعده السامري وقد نسج على منواله في الصنعة حتى أخذ قبضة من أثر الروحاني وأراد أن يرقى الشخص الجمادي عن درجته إلى درجة الحيواني (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ) (٥) وما أمكنه أن يحدث فيه ما هو أخص أوصاف المتوسط من الكلام والهداية (أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (٦) فانحسر في الطريق حتى كان من الأمر ما كان ، وقيل : (لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً) (٧).

ويا عجبا من هذا السر!.

__________________

(١) سورة النازعات : الآية ٢٤.

(٢) سورة القصص : الآية ٣٨.

(٣) سورة غافر : الآيتان ٣٦ و ٣٧.

(٤) سورة نوح : الآية ٢٥.

(٥) سورة طه : الآية ٨٨.

(٦) سورة الأعراف : الآية ١٤٨.

(٧) سورة طه : الآية ٩٧.

حيث أغرق فرعون فأدخل النار مكافأة على دعوى الإلهية لنفسه ، وأحرق العجل ، ثم نسف في اليم مكافأة على إثبات الإلهية له ، وما كان للنار والماء على الحنفاء يد الاستيلاء (قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (١). (فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ) (٢).

هذه مراتب الشرك في الفعل والخلق.

ويشبه أن يكون دعوى اللعينين : نمرود ، وفرعون أنهما إلهان أرضيان كالآلهة السماوية الروحانية. دعوى الإلهية من حيث الأمر ، لا من حيث الفعل والخلق ، وإلا ففي زمان كل واحد منهما من هو أكبر منه سنا ، وأقدم في الوجود عليه ، فلما ظهر من دعواهما أن الأمر كله لهما ، فقد ادعيا الإلهية لنفسهما.

وهذا هو الشرك الذي ألزمه المتكلم على الصابئ. فإنه لما ادعى أنه أثبت في الأشخاص ما يقضي به حاجة الخلق ، فقد عاد بالتقدير إلى صنعته ، ووقف بالتدبير إلى معاملته ، فكان الأمر بأن هذا الفعل واجب الإقدام عليه ، وهذا واجب الإحجام عنه ، أمرا في مقابلة أمر الباري تعالى. والمتوسط فيه متوسط الأمر ، وكان شركا إذ لم ينزل الله به سلطانا ، ولا أقام عليه حجة وبرهانا.

كيف وما يتمسك به من الأحكام مرتبة على هيئات فلكية لم تبلغ قوة البشر قط إلى مراعاتها؟ ولا يشك أن الفلك كله يتغير لحظة فلحظة بتغير جزء من أجزائه تغير الوضع والهيئة ، بحيث لم يكن على تلك الهيئة فيما سبق ، ولا يرجع إلى تلك الحالة فيما يستقبل ، ومتى يقف الحاكم على تغيرات الأوضاع حتى تكون صنعته في الأشخاص والأصنام مستقيمة ، وإذا لم تستقم الصنعة فكيف تكون الحاجة مقضية ، ومن رفع الحاجة إلى من لا ترفع الحوائج (٣) إليه فقد أشرك كل الشرك.

__________________

(١) سورة الأنبياء : الآية ٦٩.

(٢) سورة القصص : الآية ٧.

(٣) وفي درّة الغواص ، ويقولون في جمع حاجة حوائج فيوهمون فيه كما وهم بعض المحدثين في قوله :

فسيان بيت العنكبوت وجوسق

رفيع إذا لم تقض فيه الحوائج

والصواب أن يجمع على حاجات في أقل العدد ، وفي أكثره على حاج مثل هام وواحدته هامة.

وأما الطريق الثاني : فإقامة الحجة على إثبات المذهب ، ولمتكلمي الحنفاء فيه مسلكان :

أحدهما : أن يسلك الطريق نزولا من أمر الباري تعالى إلى سد حاجات الخلق.

والثاني : أن يسلك الطريق صعودا من حاجات الخلق إلى إثبات أمر الباري تعالى ، ثم يخرج الإشكالات عليهما.

أما الأول فقال المتكلم الحنيف : قد قامت الحجة على أن الباري تعالى خالق الخلائق ورازق العباد ، وأنه المالك الذي له الملك والملك. والمالك هو أن يكون له على عباده أمر وتصريف ، وذلك أن حركات العباد قد انقسمت إلى اختيارية ، وغير اختيارية. فما كان منها باختيار من جهتهم فيجب أن يكون للمالك فيها حكم وأمر. وما كان منها بلا اختيار فيجب أن يكون له فيها تصريف وتقدير. ومن المعلوم أن ليس كل أحد يعرف حكم الباري تعالى وأمره. فلا بد إذن من واحد يستأثره بتعريف حكمه وأمره في عباده (١). وذلك الواحد يجب أن يكون من جنس البشر حتى يعرّفهم أحكامه وأوامره. ويجب أن يكون مخصوصا من عند الله عزوجل بآيات خلقية هي حركات تصريفية وتقديرية ، يجريها الله على يده عند التحدي بما يدعيه ، تدل تلك الآيات على صدقه ، نازلة منزلة التصديق بالقول ثم إذا ثبت صدقه وجب اتباعه في جميع ما يقول ويفعل ، وليس يجب الوقوف على كل ما يأمر به وينهى عنه ، إذ ليس كل علم إليه تبلغ قوة البشر.

__________________

(١) لا بدّ المعاملة من سنّة وعدل ، ولا بدّ للسنّة والعدل من سان وعادل ولا بدّ أن يكون هذا بحيث يجوز أن يخاطب الناس ويلزمهم السنّة ، ولا بدّ من أن يكون هذا إنسانا ، ولا يجوز أن تترك الناس وآراؤهم في ذلك فيختلفون ويرى كل منهم ما له عدلا وما عليه ظلما ، فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقي نوع الناس ويتحصل وجوده ، ووجود الإنسان الصالح لأن يسن ويعدل ممكن ، ووجوده ضروري لتمهيد نظام الخير ، وواجب أن يكون إنسانا ، وواجب أن يكون له خصوصية ليست لسائر الناس ، حتى يستشعر الناس فيه أمرا لا يوجد لهم فيتميز به عنهم ، فتكون له المعجزات ، وإذا وجد وجب أن يسن للناس في أمورهم سننا بأمر الله تعالى وإذنه ووحيه وإنزاله الروح القدس عليه فيكون الأصل فيما يشبه تعريفه إياهم أن لهم صانعا واحدا قادرا ، وأنه عالم بالسر والعلانية وأنه من حقه أن يطاع أمره .. (انظر النجاة ص ٤٩٩).

ثم الوحي من عند الله العزيز يمد حركاته الفكرية والقولية والعملية بالحق في الأفكار والصدق في الأقوال ، والخير في الأفعال. فبطرف يماثل البشر ، وهو طرف الصورة ، وبطرف يوحى إليه ؛ وهو طرف المعنى والحقيقة (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) (١) فبطرف يشابه نوع الإنسان ، وبطرف يماثل نوع الملائكة ، وبمجموعهما يفضل النوعين حتى تكون بشريته فوق بشرية النوع مزاجا واستعدادا ، وملكيته فوق ملكية النوع الآخر قبولا وأداء ، فلا يضل ولا يغوى بطرف البشرية ، ولا يزيغ ولا يطغى بطرف الروحانية. فيقرر أن أمر الباري تعالى واحد لا كثرة فيه ، ولا انقسام له (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ) (٢) غير أنه يلبس تارة عبارة العربية ، وتارة عبارة العبرية ، والمصدر يكون واحدا ، والمظهر متعددا.

* * *

والوحي إلقاء الشيء إلى الشيء بسرعة. فيلقى الروح الأمر إليه دفعة واحدة بلا زمان (كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٣) فيتصور في نفسه الصافية صورة الملقى ، كما يتمثل في المرآة المجلوة صورة المقابل فيعبر عنه إما بعبارة قد اقترنت بنفس التصور ، وذلك هو (آياتُ الْكِتابِ) (٤) أو بعبارة نفسه وذلك هو أخبار النبوة ، وهذا كله بطرفه الروحاني.

وقد يتمثل الملك الروحاني له بمثال صورة البشر تمثل المعنى الواحد بالعبارات المختلفة ، أو تمثل الصورة الواحدة في المرايا المتعددة ، أو الظلال المتكثرة للشخص الواحد ، فيكالمه مكالمة حسية. ويشاهده مشاهدة عينية ؛ ويكون ذلك بطرفه الجسماني. وإن انقطع الوحي عنه لم ينقطع عنه التأييد والعصمة حتى يقوّمه في أفكاره ، ويسدده في أقواله ، ويوفقه في أفعاله.

__________________

(١) سورة الإسراء : الآية ٩٤.

(٢) سورة القمر : الآية ٥٠.

(٣) سورة القمر : الآية ٥٠ : وتلاوتها : (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ)

(٤) سورة يونس : الآية ١.

ولا تستبعدوا معاشر الصابئة تلقي الوحي على الوجه المذكور (١) ، ونزول الملك على النسق المعقود. وعندكم أن هرمس العظيم صعد إلى العالم الروحاني فانخرط في سلكهم. فإذا تصور صعود البشر ، فلم لا يتصور نزول الملك؟ وإذا تحقق أنه خلع لباس البشرية ، فلم لا يجوز أن يلبس الملك لباس البشرية؟ فالحنيفية إثبات الكمال في هذا اللباس ؛ أعني لباس الناس. والصبوة إثبات الكمال في خلع كل لباس. ثم لا يتطرق ذلك لهم حتى يثبتوا لباس الهياكل أولا ، ثم لباس الأشخاص والأوثان ثانيا. ولقد قال لهم رأس الحنفاء متبرئا عن الهياكل والأشخاص (إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٢).

* * *

وأما الثاني : فهو الصعود من حاجة الناس إلى إثبات أمر الباري تعالى. قال المتكلم الحنيف : لما كان نوع الإنسان محتاجا إلى اجتماع على نظام ، وذلك الاجتماع لن يتحقق إلا بحدود وأحكام في حركاته ومعاملاته ، يقف كل منهم عند حده المقدر له لا يتعداه ، وجب أن يكون بين الناس شرع يفرضه شارع يبين فيه أحكام الله تعالى في الحركات ، وحدوده في المعاملات. فيرتفع به الاختلاف والفرقة ، ويحصل به الاجتماع والألفة. وهذا الاحتياج لما كان لازما لنوع الإنسان ضرورة ؛ يجب أن يكون المحتاج إليه قائما ضرورة ، بحيث تكون نسبته إليه نسبة الغني والفقير ، والمعطي والسائل ، والملك والرعية. فإن الناس لو كانوا كلهم ملوكا لم يكن ملك أصلا ؛ كما لو كانوا كلهم رعايا لم تكن رعية أصلا. ثم لا يبقى ذلك الشخص ببقاء الزمان ، وعمره لا يساوي عمر العالم ، فينوب منابه علماء أمته ، ويرث علمه أمناء شريعته ، فتبقى سنته

__________________

(١) من المسلم به أن من النفوس البشرية ما يكون لها من نقا الجوهر بأصل الفطرة ما تستعد به من محض الفيض الإلهي لأن تتصل بالأفق الأعلى وتنتهي من الإنسانية إلى الذروة العليا ، وتشهد من أمر الله شهود العيان ما لم يصل غيرها إلى تعقله أو تحسسه بعصا الدليل والبرهان ، وتتلقى عن العليم الحكيم ما يعلو وضوحا على ما يتلقاه أحدنا عن أساتذة التعاليم ، ثم تصدر عن ذلك العلم إلى تعليم ما علمت ودعوة الناس إلى ما حملت على إبلاغه إليهم ، وأن يكون ذلك سنّة لله في كل أمة وفي كل زمان.

(٢) سورة الأنعام : الآيتان ٧٨ و ٧٩.

ومنهاجه ، ويضيء على البرية مدى الدهر سراجه. والعلم بالتوارث ، وليست النبوة بالتوارث، والشريعة تركة الأنبياء ، والعلماء ورثة الأنبياء (١).

قالت الصابئة :

الناس متماثلة في حقيقة الإنسانية والبشرية ، ويشملهم حد واحد ، وهو الحيوان الناطق المائت. والنفوس والعقول متساوية في الجوهرية ؛ فحد النفس بالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والحيوان والنبات أنه كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة. وبالمعنى الذي يشترك فيه الإنسان والملك أنه جوهر غير جسم ، هو كمال الجسم ، محرك له بالاختيار عن مبدأ نطقي ، أي عقلي ، بالفعل أو بالقوة. فالذي بالفعل هو خاصة النفس الملكية. والذي بالقوة هو فضل النفس الإنسانية.

وأما العقل (٢) فقوة أو هيئة لهذه النفس ، مستعدة لقبول ماهيات الأشياء مجردة عن المواد والناس في ذلك على استواء من القدم. وإنما الاختلاف يرجع إلى أحد أمرين.

__________________

(١) وهذا من حديث مطول ، عن أبي الدرداء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : من سلك طريقا يطلب فيه علما سهل الله له طريقا إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا بطالب العلم ، وإن العالم ليستغفر من في السموات ومن في الأرض. وفضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. وشاهد وراثة العلماء في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة فاطر : الآية ٣٢ : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا).

(٢) والعقل الذي يذكره أرسطو في كتاب البرهان فإنه إنما يعني به قوة النفس التي بها يحصل للإنسان اليقين ، لا عن قياس ولا عن فكر ، بل بالفطرة والطبع.

وأما العقل الذي يذكره في المقالة السادسة من كتاب الأخلاق ، فإنه يريد به جزء النفس.

وأما العقل الذي يذكره في كتاب «النفس» فإنه جعله على أربعة أنحاء : عقل بالقوة ، وعقل بالفعل ، وعقل مستفاد ، وعقل فعال.

وأما العقل الفعال الذي ذكره في «المقالة الثالثة» من «كتاب النفس» هو صورة مفارقة لم تكن في مادة ولا تكون أصلا وهو بنوع ما عقل بالفعل قريب الشبه من العقل المستفاد ، بل هو نوع من العقل المستفاد وصور الموجودات هي فيه لم تزل ولا تزال ، إلا أن وجودها فيه على غير الترتيب الذي هي موجودة عليه في العقل الذي هو بالفعل. (من مقالة للفارابي في العقل).

أحدهما : اضطراري ، وذلك من حيث المزاج المستمد لقبول النفس.

والثاني : اختياري ، وذلك من حيث الاجتهاد المؤثر في رفع الحجب المادية. وتصقيل النفس عن الصدأة المانعة لارتسام الصور المعقولة ، حتى لو بلغ الاجتهاد إلى غاية الكمال : تساوت الأقدام ، وتشابهت الأحكام. فلا يتفضل بشر على بشر بالنبوة ، ولا يتحكم أحد على أحد بالاستتباع.

أجابت الحنفاء :

بأن التماثل والتشابه في الصور البشرية والإنسانية مسلم لا مرية فيه. وإنما التنازع بيننا في النفس ، والعقل قائم. فإن عندنا النفوس والعقول على التضاد والترتب. وعلينا بيان ذلك على مساق حدودكم ، ومساق أصولنا.

فقولكم إن النفس جوهر غير جسم هو كمال الجسم ، محرك له بالاختيار. وذلك إذا أطلق النفس على الإنسان والملك ، وهو كمال جسم طبيعي آلي ذي حياة بالقوة. وإذا أطلق على الإنسان والحيوان ، فقد جعلتم لفظ النفس من الأسماء المشتركة. وميزتم بين النفس الحيواني ، والنفس الإنساني ، والنفس الملكي. فهلا زدتم فيه قسما ثالثا وهو النفس النبوي حتى يتميز عن الملكي ، كما تميز الملكي عن الإنساني؟ فإن عندكم المبدأ النطقي للإنسان بالقوة ، والمبدأ العقلي للملك بالفعل. فقد تغايرا من هذا الوجه. ومن حيث إن الموت الطبيعي يطرأ على الإنسان ، ولا يطرأ على الملك ، وذلك تمييز آخر ، فليكن في النفس النبوي مثل هذا الترتيب.

وأما الكمال الذي تعرّضتم له فإنما يكون كمالا للجسم إذا كان اختيار المحرك محمودا. فأما إذا كان اختياره مذموما من كل وجه صار الكمال نقصانا. وحينئذ يقع التضاد بين النفس الخيرة والنفس الشريرة ، حتى تكون إحداهما في جانب الملكية ، والثانية في جانب الشيطانية ، فيحصل التضاد المذكور ، كما حصل الترتب المذكور. فإن الاختلاف بالقوة والفعل اختلاف بالترتب. والاختلاف بالكمال والنقص والخير والشر اختلاف بالتضاد ، فبطل التماثل.

ولا تظنّن أن الاختلاف بين النفسين الخيرة والشريرة اختلاف بالعوارض ، فإن

الاختلاف بين النفس الملكية والشيطانية بالنوع ، كما أن الاختلاف بين النفس الإنسانية والملكية بالنوع ، وكيف لا يكون كذلك؟ والاختلاف هاهنا بالقوة والفعل والاختلاف ، ثم بالخير والشر وهذا لسر ، وهو أن الخير غريزة هي هيئة متمكنة في النفس بأصل الفطرة. وكذلك الشر طبيعة غريزية. لست أقول فعل الخير ، وفعل الشر ، فإن الغريزة غير الفعل المترتب عليها. فتحقق أن هاهنا نفسا محركة للبدن اختيارا نحو الخير عن مبدإ عقلي ؛ إما بالقوة أو بالفعل ، وهو كمال للجسم وليس بجسم. وهاهنا نفس محركة للبدن اختيارا نحو الشر عن مبدإ نطقي ، إما بالقوة ، أو بالفعل ، وهو نقص للجسم وليس بجسم.

ولا ينبونّ طبعك عن أمثال ما يورد عليك المتكلم الحنيف ، فإنما يغترفه من بحر ، وليس ينحته من صخر ، فلربما لا يساعدك على أن الإنسان نوع الأنواع ، وأن الاختلاف فيه يقع في العوارض واللوازم ، بل يثبت في النفوس الإنسانية اختلافا جوهريا ، فيفصل بعضها على بعض بالفصول الذاتية ، لا باللوازم العرضية. فكما أن الاختلاف بالقوة والفعل في النفس الإنسانية والملكية اختلاف جوهري أوجب اختلاف النوع والنوع ، وإن شملهما اسم النفس الناطقة. والفصل الذاتي هو القوة والفعل ؛ كذلك نقول في نفس لها قوة علم خاص ، وقوة عمل خاص ، وقوة خير ، وقوة شر ، وكمال مطلق هو أصل الخير ، ونقص مطلق هو أصل الشر.

وأما ما ذكره المتكلم الصابي من حد العقل : أنه قوة أو هيئة للنفس مستعدة لقبول ماهيات الأشياء المجردة عن المواد ، فغير شامل لجميع العقول عنده ، ولا عند الحنيف ، بل هو تعرض للعقل الهيولاني فقط. فأين العقل النظري؟ وحدّه : أنه قوة للنفس تقبل ماهيات الأمور الكلية من جهة ما هي كلية. وأين العقل العملي؟ وحدّه : أنه قوة للنفس هي مبدأ التحريك للقوة الشوقية إلى ما يختار من الجزئيات لأجل غاية مظنونة.

وأين العقل بالملكة؟ وهو استكمال القوة الهيولانية (١) حتى تصير قريبة من الفعل. وأين

__________________

(١) لما كانت صيرورة النفس عالمة بالأشياء بعد ما لم تكن كذلك لأجل اتصالها بالعقل الفعال ، وهذا الاتصال أمر حادث. ولا بدّ له من علة ، فهو هنا يكشف عن علة ذلك الاتصال. والمراد من هذا ـ

العقل بالفعل؟ وهو استكمال النفس بصورة ما أو صورة معقولة ، حتى متى شاء عقلها وأحضرها بالفعل. وأين العقل المستفاد؟ وهو ماهية مجردة عن المادة ، مرتسمة في النفس على سبيل الحصول من خارج. وأين العقول المفارقة؟ فإنها ماهيات مجردة عن المادة. وأين العقل الفعال؟ فإنه من جهة ما هو عقل ، فإنه جوهر صوري ، ذاته ماهية مجردة في ذاتها ؛ لا بتجريدها غيرها ؛ عن المادة ، وعن علائق المادة ، وهي ماهية كل موجود ، ومن جهة ما هو فعال ، فإنه جوهر بالصفة المذكورة ؛ من شأنه أن يخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل بإشراقه عليه؟.

فقد تعرض لنوع واحد من العقول ، ولا خلاف أن هذه العقول قد اختلفت حدودها وتباينت فصولها كما سمعت.

فأخبرني أيها المتكلم الحكيم ، من أي عقل تعدّ عقلك أولا؟ وهل ترضى أن يقال لك : تساوت الأقدام في العقول؟ حتى يكون عقلك بالفعل والإفادة كعقل غيرك بالقوة والاستعداد ، بل واستعداد عقلك لقبول المعقولات كاستعداد عقل غبي غوي لا يرد عليه الفكر برادة ، ولا ينفك الخيال عن عقله ، كما لا ينفك الحس عن خياله ، وإذا كانت الأقدام متساوية فما هذا الترتب في الأقسام؟ وإذا أثبت ترتبا في العقول ، فبالضرورة أن ترتقي في الصعود إلى درجة الاستقلال والإفادة ، وتنزل في الهبوط إلى درجة الاستعداد والاستفادة. ثم هل في نوعه ما هو عديم الاستعداد أصلا حتى يشبه أن يكون عقلا ، وليس عقلا؟ وما النوع الذي تثبته الشياطين؟ أهو من عداد ما ذكرنا؟ أم خارج عن ذلك؟ فإنك إذا ذكرت حد الملك ، وأنه جوهر بسيط ذو حياة ونطق عقلي غير مائت ، هو واسطة بين الباري تعالى والأجسام السماوية والأرضية ، وعددت أقسامه :

__________________

ـ الاتصال صيرورة النفس مستعدة استعدادا تاما لقبول تلك العلوم وهذا الاستعداد له علة قابلية وهي العقل الهيولاني وعلة كاسبة وهي العقل بالملكة والمعنى بكونها كاسبة أن حدوث ذلك الاستعداد في جوهر النفس لأجل حصول تلك العلوم البديهية فيه ، وأما كمال الاستعداد فإنه يحصل للنفس إذا صارت بحيث متى شاءت استحضار تلك العلوم فإنها تحضر ، وكونها كذلك إنما يكون بملكة متمكنة عن جوهرها وهي المسماة بالعقل بالفعل ، فالعقل بالملكة متوسط بين العقل الهيولاني والعقل بالفعل لا بين الحدس والقوة القدسية. (شرح الإشارات ١ : ١٦٠).

أن منه ما هو عقلي ، وما هو نفسي ، ومنه ما هو حسي ، فيلزمك من حيث التضاد أن تذكر حد الشيطان على الضدّ مما ذكرته من حد الملك ، وتعد أقسامه وأنواعه أيضا ، ويلزمك من حيث الترتب أن تذكر حد الإنسان على التضاد مما ذكرته من حد الملك ، وتعد أقسامه وأنواعه كذلك حتى يكون من الإنسان ما هو محسوس فقط ، ومنه ما هو ـ مع كونه محسوسا ـ روحاني نفساني عقلي ، وذلك هو درجة النبوة ، فمن عقل عمل من حس ، ومن حس عمل من عقل ، ومن نفس مزاجي ، ومن مزاج نفسي ، ومن روح جسماني ، ومن جسم روحاني. دع عنك كلام العامة ولا تظنن هذه الطامة.

قالت الصابئة :

لقد حصرتمونا بإبطال تساوي العقول والنفوس ، وإثبات الترتب والتضاد فيهما. ولا شك أن من سلم الترتب فقد لزمه الاتباع. فأخبرونا ما رتبة الأنبياء بالنسبة إلى نوع الإنسان؟ وما رتبتهم بالإضافة إلى الملك والجن (١) وسائر الموجودات؟ ثم ما مرتبة النبي عند الباري تعالى؟ فإن عندنا الروحانيات أعلى مرتبة من جميع الموجودات ، وهم المقربون في الحضرة الإلهية ، والمكرمون لديه ، ونراكم تارة تقولون : إن النبي يتعلم من الروحاني (٢) ، ونراكم تارة تقولون : إن الروحاني يتعلم من النبي.

__________________

(١) الملائكة والجن أجسام لطيفة قادرة على التشكل ، وقد امتازت الملائكة بأن أجسامهم نورانية دأبهم الطاعات لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، هم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وأنهم لا يغتذون ويتشكلون بأشكال الخير وحدها.

أما الجن فهم أجسام نارية مستعدون للخير والشر معا ، وهم يغتذون ونفوس هؤلاء وسائر الناس دون نفوس الأنبياء التي قد تميزت نفوسهم بعقل هاد مهدي هو فوق العقول كلها بالنفحة الربانية المدبرة لها المالكة عليها المتصرفة فيها.

(٢) اتفقت كلمة الأنبياء على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي ، فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم ، وقد كان جبريل معلما لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بدليل قوله تعالى في سورة النجم : الآية ٥ : (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) والمعلم أعلم من المتعلم ، لا نسلم بذلك فقد اعترفت الملائكة بأن آدم أكثر علما منهم بدليل قوله تعالى في سورة البقرة : الآية ٣٣ : (يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) بعد أن بيّن لهم من فضل آدم عليه‌السلام ما لم يكن ذلك معلوما لهم ، وذلك بأن علم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كمال فضله وقصورهم في العلم عنه ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أفضل من آدم عليه‌السلام وأعلم منه ، على أنا لو سلمنا مزيد علم الملائكة لكن ذلك لا يقتضي الأفضلية وكثرة الثواب ، فإنا نرى الرجل المبتدع محيطا ـ

أجابت الحنفاء :

بأن الكلام في المراتب صعب ، ومن لم يصل إلى رتبة من المراتب كيف يمكنه أن يستوفي بيانها؟.

لكنا نعرف أن رتبته بالنسبة إلينا : رتبتنا بالنسبة إلى من هو دوننا في الجنس من الحيوان. فكما أنا نعرف أننا في الموجودات ولا يعرفها الحيوان ، كذلك هم يعرفون خواص الأشياء وحقائقها ، ومنافعها ومضارها ، ووجوه المصالح في الحركات ، وحدودها وأقسامها ونحن لا نعرفها.

وكما أن نوع الإنسان ملك الحيوان بالتسخير ، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ملوك الناس بالتدبير ، وكما أن حركات الناس معجزات الحيوان ، كذلك حركات الأنبياء معجزات الناس ، لأن الحيوانات لا يمكنها أن تبلغ إلى الحركات الفكرية حتى تميز الحق من الباطل ولا أن تبلغ إلى الحركات القولية حتى تميز الصدق من الكذب. ولا أن تبلغ إلى الحركات الفعلية حتى تميز الخير من الشر. فلا التمييز العقلي لها بالوجود ، ولا مثل هذه الحركات لها بالفعل. وكذلك حركات الأنبياء ، لأن منتهى فكرهم لا غاية له ، وحركات أفكارهم في مجال القدس مما تعجز عنها قوة البشر حتى يسلم لهم : «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ، ولا نبي مرسل» ، وكذلك حركاتهم القولية والفعلية لا تبلغ إلى غاية انتظامها وجريانها على سنن الفطرة حركة كل البشر ، وهم في الرتبة العليا ، والدرجة الأولى من درجات الموجودات كلها. فقد أحاطوا علما بما أطلعهم الرب تعالى على ذلك دون غيرهم من الملائكة والروحانيين. ففي الأول تكون حاله حال التعلم (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) (١) وفي الأخير حاله حال

__________________

ـ بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئا من الثواب فضلا عن أن يكون ثوابه أكثر وفضله أكبر ، فإن كثرة الثواب وعظيم الفضل إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ، ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر. (الرازي ١ : ٣٠٧ ـ ٣١٠).

(١) سورة النجم : الآية ٥.

التعليم ، وذلك في حق آدم عليه‌السلام (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ) (١) حين كان الأمر على بدء الظهور والكشف فانظر كيف تكون الحال في نهاية الظهور.

وأما إضافتهم إلى جناب القدس فالعبودية الخاصة (قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ) (٢) قولوا إنا عباد مربوبون ، وقولوا في فضلنا ما شئتم : أحق الأسماء لهم وأخص الأحوال بهم (عبده ورسوله) لا جرم كان أخص التعريفات لجلاله تعالى بأشخاصهم : إله إبراهيم ، إله إسماعيل وإسحاق : إله موسى وهارون : إله عيسى : إله محمد ، عليهم الصلاة والسلام. فكما أن من العبودية ما هو عام الإضافة ، ومنها ما هو خاص بالإضافة ، كذلك التعريف إلى الخلق بالإلهية والربوبية ، والتجلي للعباد بالخصوصية منه ما له عموم ـ رب العالمين ـ ومنه ما له خصوص ـ رب موسى وهارون.

فهذه نهاية مذهبي الصابئة والحنفاء ، وفي الفصول التي جرت بين الفريقين فوائد لا تحصى.

وكان في الخاطر بعض زوايا نريد نمليها ، وفي القلب خفايا أكاد أخفيها ، فعدلت عنها إلى ذكر حكم هرمس العظيم ، لا على أنه من جملة فرق الصابئة ، حاشاه ، بل على أن حكمه مما تدل على تقرير مذهب الحنفاء في إثبات الكمال في الأشخاص البشرية ، وإيجاب القول باتباع النواميس الإلهية ، على خلاف مذاهب الصابئة.

حكم هرمس العظيم (٣)

المحمودة آثاره ، المرضية أقواله وأفعاله ، الذي يعد من الأنبياء الكبار ، ويقال هو إدريس النبي عليه‌السلام. وهو الذي وضع أسماء البروج والكواكب السيارة

__________________

(١) سورة البقرة : الآية ٣٣.

(٢) سورة الزخرف : الآية ٨١.

(٣) انظر ص ٣٠٨ ج ٢ ، وفيها حديث مطول عن هرمس والكتابات التي نسبت إليه.

ورتبها في بيوتها ، وأثبت لها الشرف والوبال ، والأوج والحضيض ، والمناظر بالتثليث والتسديس والتربيع ، والمقابلة والمقارنة ، والرجعة والاستقامة. وبين تعديل الكواكب وتقويمها. وأما الأحكام المنسوبة إلى هذه الاتصالات فغير مبرهن عليها عند الجميع.

وللهند والعرب طريقة أخرى في الأحكام أخذوها من خواص الكواكب ، لا من طبائعها ، ورتبوها على الثوابت ، لا على السيارات.

ويقال إن عاذيمون وهرمس هما شيث ، وإدريس عليهما‌السلام ، ونقلت الفلاسفة عن عاذيمون أنه قال : المبادي الأول خمسة : الباري تعالى ، والعقل ، والنفس ، والمكان ، والخلاء ، وبعدها وجود المركبات. ولم ينقل هذا عن هرمس.

قال هرمس : أول ما يجب على المرء الفاضل بطباعه ، المحمود بسنخه ، المرضي في عادته ، المرجو في عاقبته : تعظيم الله عزوجل ، وشكره على معرفته ، وبعد ذلك فللناموس عليه حق الطاعة له ، والاعتراف بمنزلته ، وللسلطان عليه حق المناصحة والانقياد ، ولنفسه عليه حق الاجتهاد ، والدأب في فتح باب السعادة ، ولخلصائه عليه حق التحلي لهم بالود ، والتسارع إليهم بالبذل ، فإذا أحكم هذه الأسس لم يبق عليه إلا كف الأذى عن العامة ، وحسن المعاشرة ، وسهولة الخلق.

انظروا معاشر الصابئة كيف عظم أمر الرسالة ، حتى قرن طاعة الرسول الذي عبر عنه بالناموس بمعرفة الله تعالى. ولم يذكر هاهنا تعظيم الروحانيات ، ولا تعرض لها وإن كانت هي من الواجبات.

وسئل : بما ذا يحسن رأي الناس في الإنسان؟ قال : بأن يكون لقاؤه لهم لقاء جميلا ، ومعاملته إياهم معاملة حسنة.

وقال : مودة الإخوان أن لا تكون لرجاء منفعة ، أو لدفع مضرة ، ولكن لصلاح فيه، وطاع له.

وقال : أفضل ما في الإنسان من الخير العقل. وأجدر الأشياء أن لا يندم عليه صاحبه العمل الصالح. وأفضل ما يحتاج إليه في تدبير الأمور الاجتهاد ، وأظلم الظلمات الجهل وأوثق الإسار الحرص.

وقال : من أفضل البر ثلاثة : الصدق في الغضب ، والجود في العسرة ، والعفو عند المقدرة.

وقال : من لم يعرف عيب نفسه ، فلا قدر لنفسه عنده.

وقال : الفصل بين العاقل والجاهل ، أن العاقل منطقه له ، والجاهل منطقه عليه.

وقال : لا ينبغي للعاقل أن يستخف بثلاثة أقوام : السلطان ، والعلماء ، والإخوان ، فإن من استخفّ بالسلطان أفسد عليه عيشه ، ومن استخف بالعلماء أفسد عليه دينه ، ومن استخف بالإخوان أفسد عليه مروءته.

وقال : الاستخفاف بالموت أحد فضائل النفس.

وقال : المرء حقيق له أن يطلب الحكمة ويثبتها في نفسه أولا ، بأن لا يجزع من المصائب التي تعم الأخيار ، ولا يأخذه الكبر فيما يبلغه من الشرف ، ولا يعير أحدا بما هو فيه ، ولا يغيره الغنى والسلطان ، وأن يعدل بين نيته وقوله حتى لا يتفاوت ، وتكون سنته ما لا عيب فيه ، ودينه ما لا يختلف فيه ، وحجته ما لا ينتقض.

وقال : أنفع الأمور للناس القناعة والرضى. وأضرها الشره والسخط. وإنما يكون كل السرور بالقناعة والرضى ، وكل الحزن بالشره والسخط.

ويحكى عنه فيما كتبه : أن أصل الضلال والهلكة ، لأهله ، أن يعد ما في العالم من الخير من عطية الله عزوجل ومواهبه. ولا يعد ما فيه من الشر والفساد من عمل الشيطان ومكايده. ومن افترى على أخيه فرية لم يخلص من تبعتها حتى يجازى بها. فكيف يخلص من أعظم الفرية على الله عزوجل أن يجعله سببا للشرور وهو معدن الخير؟

وقال : الخير والشر واصلان إلى أهلهما لا محالة. فطوبى لمن جرى وصول الخير إليه وعلى يديه ، والويل لمن جرى وصول الشر إليه وعلى يديه.

وقال : الإخاء الدائم الذي لا يقطعه شيء اثنان : أحدهما : محبة المرء نفسه في أمر معاده ، وتهذيبه إياها في العلم الصحيح والعمل الصالح. والآخر : مودته لأخيه في دين الحق ، فإن ذلك مصاحب أخاه في الدنيا بجسده ، وفي الآخرة بروحه.

وقال : الغضب سلطان الفظاظة (١) ، والحرص سلطان الفاقة ، وهما منشئا كل سيئة ، ومفسدا كل جسد ، ومهلكا كل روح.

وقال : كل شيء يطاق تغييره إلا الطباع ، وكل شيء يقدر على إصلاحه غير الخلق السوء ، وكل شيء يستطاع دفعه إلا القضاء.

وقال : الجهل والحمق للنفس بمنزلة الجوع والعطش للبدن ، لأن هذين خلاء النفس ، وهذين خلاء البدن.

وقال : أحمد الأشياء عند أهل السماء والأرض : لسان صادق ناطق بالعدل والحكمة والحق في الجماعة.

وقال : أدحض الناس حجة من شهد على نفسه بدحوض (٢) حجته.

وقال : من كان دينه السلامة والرحمة والكف عن الأذى فدينه دين الله عزوجل وخصمه شاهد له بفلج (٣) حجته ، ومن كان دينه الإهلاك والفظاظة والأذى ، فدينه دين الشيطان ، وهو يدحض حجته شاهد على نفسه.

وقال : الملوك تحتمل الأشياء كلها إلا ثلاثة : قدح في الملك ، وإفشاء للسر ، وتعرض للحرمة.

__________________

(١) الفظاظة : الخشونة والغلظة.

(٢) الدحوض ، من دحضت حجته دحوضا : أي بطلت ، ومنه قوله تعالى في سورة الشورى : الآية ٤٢ : (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

(٣) الفلج : الفوز ، وأفلجه على خصمه غلبه وفضله ، وأفلج الله حجته أظهرها وقوّمها. (لسان العرب مادة فلج).

وقال : لا تكن أيها الإنسان كالصبي إذا جاع ضغا (١) ، ولا كالعبد إذا شبع طغى ولا كالجاهل إذا ملك بغى (٢).

وقال : لا تشيرن على عدو ولا صديق إلا بالنصيحة. فأما الصديق فتقضي بذلك من واجبه ، وأما العدو فإنه إذا عرف نصيحتك إياه هابك وحسدك. وإن صح عقله استحى منك وراجعك.

وقال : يدل على غريزة الجود السماحة عند العسرة ، وعلى غريزة الورع الصدق عند الشره ، وعلى غريزة الحلم العفو عند الغضب.

وقال : من سره مودة الناس له ، ومعونتهم إياه ، وحسن القول منهم فيه حقيق بأن يكون على مثل ذلك لهم.

وقال : لا يستطيع أحد أن يحوز الخير والحكمة ، ولا أن يخلص نفسه من المعايب إلا أن يكون له ثلاثة أشياء : وزير ، وولي ، وصديق. فوزيره عقله ، ووليه عفته ، وصديقه عمله الصالح.

وقال : كل إنسان موكل بإصلاح قدر باع (٣) من الأرض ، فإنه إذا أصلح قدر ذلك الباع صلحت له أموره كلها ، وإذا أضاعه أضاع الجميع ، وقدر ذلك نفسه.

وقال : لا يمدح بكمال العقل من لا تكمل عفته ، ولا بكمال العلم من لا يكمل عقله.

__________________

(١) ضغا : صوّت وصاح ، وفي حديث حذيفة في قصة قوم لوط : فألوى بها حتى سمع أهل السماء ضغاء كلابهم ، وفي رواية : حتى سمعت الملائكة ضواغي كلابهم ، أي صياحها. (اللسان مادة ضغا).

(٢) البغي : الظلم والفساد والتعدي ، وبغى الرجل علينا إذا عدل عن الحق واستطال ، وفلان يبغي على الناس أي يظلمهم ويطلب أذاهم ويأتي معهم الجور.

(٣) الباع : مسافة ما بين الكفين إذا بسطتهما. وفي الحديث : إذا تقرّب العبد مني بوعا أتيته هرولة ؛ والبوع والباع سواء ، وهو قدر مدّ اليدين وما بينهما من البدن ، وهو هاهنا مثل لقرب ألطاف الله من العبد إذا تقرّب إليه بالإخلاص والطاعة. (لسان العرب مادة بوع).

وقال : من أفضل أعمال العلماء ثلاثة أشياء : أن يبدلوا العدو صديقا ، والجاهل عالما ، والفاجر برا.

وقال : الصالح من خيره خير لكل أحد ، ومن يعدّ خير كل أحد لنفسه خيرا.

وقال : ليس بحكيم ما لم يعاد الجهل. ولا بنور ما لم يمحق الظلمة. ولا بطيب ما لم يدفع النتن ، ولا بصدق ما لم يدحض الكذب ، ولا بصالح ما لم يخالف الطالح.

الفصل الثالث

أصحاب الهياكل والأشخاص

وهؤلاء من فرق الصابئة. وقد أدرجنا مقالتهم في المناظرات جملة. ونذكرها هاهنا تفصيلا.

١ ـ أصحاب الهياكل

اعلم أن أصحاب الروحانيات لما عرفوا أن لا بدّ للإنسان من متوسط ، ولا بد للمتوسط من أن يرى فيتوجّه إليه ، ويتقرب به ، ويستفاد منه ؛ فزعوا (١) إلى الهياكل التي هي السيارات السبع ، فتعرفوا أولا : بيوتها ومنازلها.

وثانيا : مطالعها ومغاربها.

وثالثا : اتصالاتها على أشكال الموافقة والمخالفة مرتبة على طبائعها.

ورابعا : تقسيم الأيام والليالي والساعات عليها.

وخامسا : تقدير الصور والأشخاص والأقاليم والأمصار عليها.

فعملوا الخواتيم ، وتعلموا العزائم والدعوات ، وعينوا ليوم زحل مثلا يوم

__________________

(١) فزعوا إلى الهياكل : لجئوا إليها ؛ وفي حديث الكسوف : فافزعوا إلى الصلاة ، أي استعينوا بها على دفع الأمر الحادث.

السبب ، وراعوا فيه ساعته الاولى ، وتختموا بخاتمه المعمول على صورته وهيئته وصنعته ، ولبسوا اللباس الخاص به ، وتبخروا ببخوره الخاص ، ودعوا بدعواته الخاصة به ، وسألوا حاجتهم منه : الحاجة التي تستدعي من زحل ، من أفعاله وآثاره الخاصة به ، فكان يقضي حاجتهم ويحصل في الأكثر مرامهم ، وكذلك رفع الحاجة التي تختص بالمشتري في يومه وساعته ، وجميع الإضافات التي ذكرنا إليه ، وكذلك سائر الحاجات إلى الكواكب ، وكانوا يسمونها أربابا آلهة ، والله تعالى هو رب الأرباب ، وإله الآلهة. ومنهم من جعل الشمس إله الآلهة ، ورب الأرباب.

وكانوا يتقربون إلى الهياكل تقربا إلى الروحانيات ، ويتقربون إلى الروحانيات تقربا إلى الباري تعالى ، لاعتقادهم بأن الهياكل أبدان الروحانيات ، ونسبتها إلى الروحانيات نسبة أجسادنا إلى أرواحنا ، فهم الأحياء الناطقون بحياة الروحانيات ، وهي تتصرف في أبدانها تدبيرا ، وتصريفا ، وتحريكا كما نتصرف في أبداننا ، ولا شك أن من تقرب إلى شخص فقد تقرب إلى روحه.

ثم استخرجوا من عجائب الحيل المرتبة على عمل الكواكب ما كان يقضي منهم العجب ، وهذه الطلسمات (١) المذكورة في الكتب والسحر ، والكهانة ، والتنجيم ، والتعزيم والخواتيم ، والصور (٢) كلها من علومهم.

__________________

(١) الطلسمات : علم بأحوال تمزيج القوى الفعالة السماوية بالقوى المنفعلة الأرضية لأجل التمكن من إظهار ما يخالف العادة أو المنع مما يوافقها. وهو قريب المأخذ بالنسبة إلى السحر لكون مباديه وأسبابه معلومة ، وأما منفعته فظاهرة ، لكن طرق تحصيله شديدة العناء.

(٢) السحر : هو علم يستفاد منه حصول ملكة نفسانية يقتدر بها على أفعال غريبة بأسباب خفية ، وهو علم خفي سببه ، صعب استنباطه لأكثر العقول ، وحقيقته كل ما انقادت النفوس إليه بخدعة فتميل إلى إصغاء الأقوال والأفعال الصادرة عن الساحر ، فعلى هذا التقدير هو علم يبحث عن معرفة الأحوال الفلكية وأوضاع الكواكب وعن ارتباط كل منها مع الأمور الأرضية.

أما الكهانة فهي علم مناسبة الأرواح البشرية مع الأرواح المجردة أي الجن والشياطين والاستعلام بهم عن أحوال الجزئية الحادثة في عالم الكون والفساد المخصوصة بالمستقبل. وقد كان في العرب كهنة كشقّ وسطيح وغيرهما ، فمنهم من كان يزعم أن له تابعا من الجن ورئيّا يلقي إليه الأخبار ، ومنهم من كان يزعم أنه يعرف الأمور بمقدمات أسباب يستدل بها على مواقعها من كلام من ـ

٢ ـ أصحاب الأشخاص

وأما أصحاب الأشخاص فقالوا : إذا كان لا بدّ من متوسط يتوسل به ، وشفيع يتشفع إليه ؛ والروحانيات وإن كانت هي الوسائل ، لكنا إذا لم نرها بالأبصار ، ولم نخاطبها بالألسن ، لم يتحقق التقرب إليها إلا بهياكلها. ولكن الهياكل قد ترى في وقت ، ولا ترى في وقت ، لأن لها طلوعا وأفولا ، وظهورا بالليل ، وخفاء بالنهار ، فلم يصف لنا التقرب بها والتوجه إليها. فلا بد لنا من صور وأشخاص موجودة قائمة منصوبة نصب أعيننا ، نعكف عليها ، ونتوسل بها إلى الهياكل ، فنتقرب بها إلى الروحانيات ، ونتقرب بالروحانيات إلى الله سبحانه وتعالى ، فنعبدهم (لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١).

__________________

ـ يسأله أو فعله أو حاله. وفي الحديث : من أتى كاهنا أو عرّافا فقد كفر بما أنزل على محمد. (انظر لسان العرب مادة كهن ففيه معلومات تفي بالغرض المطلوب).

وأما التنجيم فهو علم يعرف به الاستدلال على حوادث عالم الكون والفساد وبالتشكيلات الفلكية وهي أوضاع الأفلاك والكواكب ، وهو عند الاطلاق ينقسم إلى ثلاثة أقسام : حسابيات وطبيعيات ووهميات ، أما الحسابيات فيقينية ، وأما الطبيعيات فليست بمردودة شرعا ، وأما الوهميات فلا استناد لها إلى أصل شرعي كما قال عليه الصلاة والسلام : «من آمن بالنجوم فقد كفر». (مفتاح السعادة ١ : ٢٨٦ وكشف الظنون ٢ : ١٩٣١).

أما التعزيم فمأخوذ من العزم وتصميم الرأي والانطواء على الأمر والنية فيه ، وفي الاصطلاح : الإيجاب والتشديد والتغليط على الجن والشياطين ما يبدو للحائم حوله المتعرض لهم به ، وكلما تلفظ بقوله عزمت عليكم فقد أوجب عليهم الطاعة والإذعان والتسخير وذلك من الممكن الجائز عقلا وشرعا ، ومن أنكرهما لم يعبأ به لأنه يفضي إلى إنكار قدرة الله سبحانه وتعالى لأن التسخير والتذليل إليه وانقيادهم للأنس من بديع صنعه ، وسئل آصف بن برخيا : هل يطيع الجن والشياطين الإنس بعد سليمان؟ فقال : يطيعونهم ما دام العالم باقيا.

أما الخواتيم ، وهو علم الخواص أيضا : وهو علم باحث عن الخواص المترتبة على قراءة أسماء الله تعالى وكتبه المنزلة وعلى قراءة الأدعية.

وأما علم الصور فبواسطته ضبطوا من الكواكب الثوابت ألفا واثنين وعشرين كوكبا وعرفوا مواضعها في الطول والعرض وجعلوا كل جملة منها متساوية المقدار تقريبا ورتبوها في ست مراتب أولاها أعظمها وعلى هذا القياس. (مفتاح السعادة ١ : ٣١٩).

(١) سورة الزمر : الآية ٣.

فاتخذوا أصناما أشخاصا على مثال الهياكل السبعة ، كل شخص في مقابلة هيكل وراعوا في ذلك جوهر الهيكل ، أعني الجوهر الخاص به من الحديد وغيره. وصوّروه بصورته على الهيئة التي تصدر أفعاله عنه ، وراعوا في ذلك الزمان والوقت والساعة والدرجة والدقيقة ، وجميع الإضافات النجومية من اتصال محمود يؤثر في نجاح المطالب التي تستدعى منه فتقربوا إليه في يومه وساعته ، وتبخروا بالبخور الخاص به ، وتختموا بخاتمه. ولبسوا لباسه ، وتضرعوا بدعائه ، وعزموا بعزائمه ، وسألوا حاجتهم منه. فيقولون : إنه كان يقضي حوائجهم بعد رعاية هذه الإضافات كلها. وذلك هو الذي أخبر التنزيل عنهم أنهم عبدة الكواكب والأوثان.

فأصحاب الهياكل هم عبدة الكواكب (١) ، إذ قالوا بإلهيتها كما شرحنا. وأصحاب الأشخاص هم عبدة الأوثان (٢) ، إذ سموها آلهة في مقابلة الآلهة السماوية ، وقالوا (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٣).

__________________

(١) وهؤلاء اشتغلوا بعبادة الكواكب وتعظيمها ، ثم أنهم لما رأوا هذه الكواكب قد تغيب عن الأبصار في أكثر الأوقات اتخذوا لكل كوكب صنما من الجوهر المنسوب إليه فاتخذوا صنم الشمس من الذهب وزينوه بالأحجار المنسوبة إلى الشمس ، وهي الياقوت والألماس ، واتخذوا صنم القمر من الفضة ، وعلى هذا القياس سائر الكواكب ، ثم أقبلوا على عبادة هذه الأصنام وغرضهم من عبادتها هو عبادة تلك الكواكب.

(٢) والذين اتخذوا الأوثان آلهة ، كان مبدأ أمرهم متى مات منهم رجل كبير يعتقد أنه مجاب الدعوة مقبول الشفاعة عند الله تعالى اتخذوا صنما على صورته يعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله تعالى.

ويحكى أن إسماعيل بن إبراهيم لما سكن مكة وولد له بها أولاد كثير حتى ملئوا مكة ونفوا من كان بها من العماليق ، ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب والعداوات وأخرج بعضهم بعضا ، فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش.

وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعن إلا احتمل معه حجرا من حجارة الحرم ، تعظيما للحرم وصبابة بمكة. فحيثما حلوا وضعوه وطافوا به كطوافهم بالكعبة تيمنا منهم بها وصبابة بالحرم وحبا له. وهم بعد يعظمون الكعبة ومكة ، ويحجون ويعتمرون على إرث إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام. ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه ، واستبدلوا بدين إبراهيم وإسماعيل غيره. فعبدوا الأوثان ، وصاروا إلى ما كانت عليه الأمم من قبلهم. (كتاب الأصنام ص ٦).

(٣) سورة يونس : الآية ١٨.

٣ ـ مناظرات إبراهيم الخليل للفريقين

وقد ناظر الخليل عليه‌السلام هؤلاء الفريقين.

فابتدأ بكسر مذاهب أصحاب الأشخاص. وذلك قوله تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (١) وتلك الحجة أن كسرهم قولا بقوله : (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٢).

ولما كان أبوه آزر (٣) هو أعلم القوم بعمل الأشخاص والأصنام ، ورعاية الإضافات النجومية فيها حق الرعاية ، ولهذا كانوا يشترون منه الأصنام لا من غيره ، كان أكثر الحجج معه ، وأقوى الإلزامات عليه ؛ إذ قال عليه‌السلام لأبيه آزر (أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٤). وقال : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) (٥) لأنك جهدت كل الجهد ، واستعملت كل العلم حتى عملت أصناما في مقابلة الأجرام السماوية ، فما بلغت قوتك العلمية والعملية إلى أن تحدث فيها سمعا وبصرا ، وأن تغني عنك ، وتضر وتنفع. فأنت بفطرتك وخلقتك أشرف درجة منها ، لأنك خلقت سميعا بصيرا ، نافعا ، ضارا. والآثار السماوية فيك أظهر منها في هذا المتخذ تكلفا والمعمول تصنعا. فيا لها من حيرة! إذ صار المصنوع بيديك معبودا لك ، والصانع أشرف من المصنوع! (يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا* يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ) (٦).

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٨٣.

(٢) سورة الصافات : الآيتان ٩٥ و ٩٦.

(٣) آزر : هو أبو إبراهيم ويدل عليه ظاهر الآية (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً) ومنهم من قال اسمه ثارخ. قال الزجاج لا خلاف بين النسابين على أن اسمه تارخ ، من الملاحدة من جعل هذا طعنا في القرآن الكريم.

(٤) سورة الأنعام : الآية ٧٤.

(٥) سورة مريم : الآية ٤٢.

(٦) سورة مريم : الآيتان ٤٤ و ٤٥.

ثم دعاه إلى الحنيفية الحقة. قال : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) (١). (قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ) (٢) فلم تقبل حجته القولية. فعدل عليه‌السلام عن القول إلى الكسر للأصنام بالفعل (فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ) (٣) (قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا) (٤) * (قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) (٥) * فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (٦) * ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (٧) فأفحمهم بالفعل حيث أحال الفعل على كبيرهم كما أفحمهم حيث أحال الفعل منهم. وكل ذلك على طريق الإلزام عليهم ، وإلا فما كان الخليل كاذبا قط.

ثم عدل إلى كسر مذاهب أصحاب الهياكل ، وكما أراه الله تعالى الحجة على قومه قال : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٨). فأطلعه على ملكوت الكونين والعالمين : تشريفا له على الروحانيات وهياكلها ، وترجيحا لمذهب الحنفاء على مذهب الصابئة ، وتقريرا أن الكمال في الرجال. فأقبل على إبطال مذهب أصحاب الهياكل (فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) (٩) على ميزان إلزامه على أصحاب الأصنام (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (١٠) وإلا فما كان الخليل عليه‌السلام كاذبا في هذا القول ، ولا مشركا في تلك الإشارة.

__________________

(١) سورة مريم : الآية ٤٣.

(٢) سورة مريم : الآية ٤٦.

(٣) سورة الأنبياء : الآية ٥٨.

(٤) سورة الأنبياء : الآية ٥٩.

(٥) سورة الأنبياء : الآية ٦٣.

(٦) سورة الأنبياء : الآية ٦٤.

(٧) سورة الأنبياء : الآية ٦٥.

(٨) سورة الأنعام : الآية ٧٥.

(٩) سورة الأنعام : الآية ٧٦.

(١٠) سورة الأنبياء : الآية ٦٣.

ثم استدل بالأفول : الزوال ، والتغير والانتقال ؛ على أنه لا يصلح أن يكون ربا إلها. فإن الإله القديم لا يتغير ، وإذا تغير احتاج إلى مغير ، هذا لو اعتقدتموه ربا قديما ، وإلها أزليا. ولو اعتقدتموه واسطة ، وقبلة ، وشفيعا ، ووسيلة. فإن الأفول ، الزوال ، يخرجه أيضا عن حدّ الكمال. وعن هذا ما استدل عليهم بالطلوع ، وإن كان الطلوع أقرب إلى الحدوث من الأفول. فإنهم إنما انتقلوا إلى عمل الأشخاص لما عراهم من التحير بالأفول. فأتاهم الخليل عليه‌السلام من حيث تحيرهم ، فاستدل عليهم بما اعترفوا بصحته ، وذلك أبلغ في الاحتجاج.

ثم لما (رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي* فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (١) فيا عجبا ممن لا يعرف ربا. كيف يقول : (لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) رؤية الهداية من الرب تعالى غاية التوحيد ، ونهاية المعرفة. والواصل إلى الغاية والنهاية ، كيف يكون في مدارج البداية؟!.

دع هذا كله خلف قاف (٢) ، وارجع بنا إلى ما هو شاف كاف. فإن الموافقة في العبارة على طريق الإلزام على الخصم من أبلغ الحجج ، وأوضح المناهج ، وعن هذا قال (فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي* هذا أَكْبَرُ) (٣) لاعتقاد القوم أن الشمس ملك الفلك ، وهو رب الأرباب ، الذي يقتبسون منه الأنوار ، ويقبلون منه الآثار (فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ* إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٤).

__________________

(١) سورة الأنعام : الآية ٧٧.

(٢) قاف مذكور في القرآن في قوله تعالى : (ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) وقد ذهب المفسرون إلى أنه الجبل المحيط بالأرض. قالوا : وهو من زبرجدة خضراء وإن خضرة السماء من خضرته. (انظر معجم البلدان ٧ : ١٥).

(٣) سورة الأنعام : الآية ٧٨.

(٤) سورة الأنعام : الآيتان ٧٨ و ٧٩.

قرر مذهب الحنفاء ، وأبطل مذاهب الصابئة ، وبيّن أن الفطرة هي الحنيفية ، وأن الطهارة فيها ، وأن الشهادة بالتوحيد مقصورة عليها ، وأن النجاة والخلاص متعلقة بها ، وأن الشرائع والأحكام مشارع ومناهج إليها. وأن الأنبياء والرسل مبعوثون لتقريرها وتقديرها ، وأن الفاتحة والخاتمة ، والمبدأ والكمال منوطة بتحصيلها وتحريرها (ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) (١) والصراط المستقيم ، والمنهج الواضح ، والمسلك اللائح. قال الله تعالى لنبيه المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها* لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ* ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ* مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ* مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)(٢).

الفصل الرابع

الحرنانيّة (٣) ومقالاتهم

وهم جماعة من الصابئة ، قالوا : إن الصانع المعبود واحد وكثير. أما واحد ففي الذات ، والأول ، والأصل ، والأزل. وأما كثير فلأنه يتكسر بالأشخاص في رأي العين ، وهي المدبرات السبعة والأشخاص الأرضية الخيرة ، العالمة ، الفاضلة. فإنه يظهر بها ، ويتشخص بأشخاصها. ولا تبطل وحدته في ذاته.

وقالوا : هو أبدع الفلك وجميع ما فيه من الأجرام والكواكب ، وجعلها

__________________

(١) سورة الروم : الآية ٣٠.

(٢) سورة الروم : الآيات ٣٠ و ٣١ و ٣٢.

(٣) وهم جماعة من صابئة الكلدانيين أجمعوا على أن للعالم علة لم يزل واحدا لا يتكثر ، لا يلحقه صفة شيء من المعلومات ، كلف أهل التمييز من خلقه الإقرار بربوبيته وأوضح لهم السبيل وبعث رسلا للدلالة وتثبيتا للحجة أمرهم أن يدعوا إلى رضوانه ويحذروا من غضبه ، ووعدوا من أطاع نعيما لا يزول ، وأوعدوا من عصى عذابا واقتصاصا بقدر استحقاقه. ومن مشهوريهم عاذيمون وهرمس ، وذكر بعضهم سولون. وافترضوا من الصلاة ثلاثا كل يوم ، ولا صلاة إلا على طهور ، وصيامهم ثلاثون يوما ، ولهم قربان يتقربون به.

مدبرات هذا العالم ، وهم الآباء. والعناصر أمهات. والمركبات مواليد. والآباء أحياء ناطقون ، يؤدون الآثار إلى العناصر. فتقبلها العناصر في أرحامها ، فيحصل من ذلك المواليد. ثم من المواليد قد يتفق شخص مركب من صفوها دون كدرها. ويحصل له مزاج كامل الاستعداد ، فيتشخص الإله به في العالم.

ثم إن طبيعة الكل تحدث في كل إقليم من الأقاليم المسكونة على رأس كل ستة وثلاثين ألف سنة وأربعمائة وخمس وعشرين سنة : زوجين من كل نوع من أجناس الحيوانات ذكرا وأنثى ؛ من الإنسان وغيره. فيبقى ذلك النوع تلك المدة ثم إذا انقضى الدور بتمامه انقطعت الأنواع : نسلها ، وتوالدها ، فيبتدئ دور آخر ، ويحدث قرن آخر من الإنسان ، والحيوان ، والنبات ، وكذلك أبد الدهر. قالوا : وهذه هي القيامة الموعودة على لسان الأنبياءعليهم‌السلام ، وإلا فلا دار سوى هذه الدار (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (١) ولا يتصور إحياء الموتى وبعث من في القبور (أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ؟ هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ) (٢).

وهم الذين أخبر التنزيل عنهم بهذه المقالة.

١ ـ القول بالتناسخ والحلول

وإنما نشأ أصل التناسخ والحلول من هؤلاء القوم.

فإن التناسخ هو أن تتكرر الأكوار والأدوار إلى ما لا نهاية له. ويحدث في كل دور مثل ما حدث في الأول. والثواب والعقاب في هذه الدار ؛ لا في دار أخرى لا عمل فيها.

والأعمال التي نحن فيها إنما هي أجزية على أعمال سلفت منا في الأدوار الماضية. فالراحة والسرور ، والفرح والدعة التي نجدها هي مرتبة على أعمال البر

__________________

(١) سورة الجاثية : الآية ٢٤.

(٢) سورة المؤمنون : الآيتان ٣٥ و ٣٦.

التي سلفت منا في الأدوار الماضية. والغم والحزن ، والضنك (١) والكلفة التي نجدها هي مرتبة على أعمال الفجور التي سبقت منا.

وكذا كان في الأول ، وكذا يكون في الآخر. والانصرام من كل وجه غير متصور من الحكيم.

وأما الحلول فهو التشخص الذي ذكرناه ، وربما يكون ذلك بحلول ذاته ، وربما يكون بحلول جزء من ذاته ؛ على قدر استعداد مزاج الشخص.

وربما قالوا إنما تشخص بالهياكل السماوية كلها ، وهو واحد ، وإنما يظهر فعله في واحد واحد بقدر آثاره فيه ، وتشخصه به.

فكأن الهياكل السبعة أعضاؤها السبعة. وكأن أعضاءنا السبعة هياكله السبعة فيها يظهر فينطق بلساننا ، ويبصر بأعيننا ، ويسمع بآذاننا ، ويقبض ويبسط بأيدينا ، ويجيء ويذهب بأرجلنا ، ويفعل بجوارحنا.

٢ ـ مزاعم الحرنانية

وزعموا أن الله تعالى أجلّ من أن يخلق الشرور والقبائح والأقذار والخنافس والحيات والعقارب. بل هي كلها واقعة ضرورة عن اتصالات الكواكب سعادة ونحوسة ، واجتماعات العناصر صفوة وكدورة. فما كان من سعد وخير وصفو ، فهو المقصود من الفطرة ، فينسب إلى الباري تعالى. وما كان من نحوسة ، وشر ، وكدر ، فهو الواقع ضرورة فلا ينسب إليه ، بل هي إما اتفاقيات وضروريات. وإما مستندة إلى أصل الشرور والاتصال المذموم.

والحرنانية ينسبون مقالتهم إلى عاذيمون ، وهرمس ، وأعيانا ، وأواذي (٢) ، أربعة أنبياء.

__________________

(١) الضنك : الضيق من كل شيء. وفي التنزيل العزيز : (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً) أي غير حلال ، قال أبو إسحاق : الضنك أصله في اللغة الضيق والشدة ، ومعناه أن هذه المعيشة الضنك في نار جهنم قال : وأكثر ما جاء في التفسير أنه عذاب القبر. (لسان العرب مادة ضنك).

(٢) أواذي : وفي نسخة «أواري» ، وفي القفطي «أورين» ، وفي الفهرست «أراني».

ومنهم من ينتسب إلى سولون (١) جد أفلاطون لأمه. ويزعم أنه كان نبيا. وزعموا أن أواذي حرم عليهم البصل والكراث والباقلا.

* * *

والصابئون كلهم يصلون ثلاث صلوات ، ويغتسلون من الجنابة ، ومن مس الميت. وحرّموا أكل الجزور ، والخنزير (٢) والكلب. ومن الطير كل ما له مخلب ، والحمام.

ونهوا عن السكر في الشراب ، وعن الاختتان. وأمروا بالتزويج بولي وشهود. ولا يجوّزون الطلاق (٣) إلا بحكم حاكم ، ولا يجمعون بين امرأتين.

* * *

وأما الهياكل التي بناها الصابئة على أسماء الجواهر العقلية الروحانية وأشكال الكواكب السماوية فمنها :

هيكل العلة الأولى ، ودونها هيكل العقل ، وهيكل السياسة ، وهيكل الصورة ، وهيكل النفس ، مدوّرات الشكل.

وهيكل زحل مسدس ، وهيكل المشتري مثلث ، وهيكل المريخ مربع مستطيل ، وهيكل الشمس مربع ، وهيكل الزهرة مثلث في جوف مربع ، وهيكل عطارد مثلث في جوفه مربع مستطيل. وهيكل القمر مثمن.

__________________

(١) سولون : هو جد أفلاطون لأمه ، ومن مشترعي أثينا وأحد حكماء اليونان السبعة. خفّف وطأة الضرائب على الفقراء ، وسن لبلاده قوانين تحررية ، متوفى نحو ٥٥٠ ق. م.

(٢) كان لهم في كل سنة يوم يضحون فيه بالخنازير ويقربونها لآلهتهم وكانوا يأكلون في ذلك اليوم كل ما وقع في أيديهم من لحوم الخنازير. (الفهرست ص ٤٥٤).

(٣) وفي المصدر السابق : لا طلاق إلا بحجة بينة عن فاحشة ظاهرة ، ولا يراجع المطلقة ولا يجمع بين امرأتين ولا يطأهن إلا لطلب الولد.

الباب الثاني

الفلاسفة

الفلسفة (١) باليونانية : محبة الحكمة. والفيلسوف هو : فيلا وسوفا. وفيلا هو المحب ، وسوفا : الحكمة ، أي هو محب الحكمة.

والحكمة قولية وفعلية.

أما الحكمة القولية ، وهي العقلية أيضا ، فهي كل ما يعقله العاقل بالحد ، وما يجري مجراه مثل الرسم ، والبرهان وما يجري مجراه مثل الاستقراء ، فيعبر عنه بهما.

__________________

(١) كلمة فلسفة مكونة من مقطعين «فيلوس» ومعناها في اليونانية محب «وسوفيا» ومعناها الحكمة ، فمعنى فيلسوف محب الحكمة ، ومعنى فيلسوفي حب الحكمة وقد عربها العرب بفلسفة وفيلسوف.

والفلسفة وليدة نظرة العقل البشري إلى الوجود في أصله وجوهره ومصيره ، وتطلع العقل إلى إدراك المبادي الأولى فيه.

بدأت الفلسفة فطرية ساذجة تستند إلى الحس والظاهر القريب ثم راحت تحكّم العقل والمنطق لتصبح محاولات متجددة باستمرار.

قال إخوان الصفاء : «الفلسفة أولها محبة العلوم ، وأوسطها معرفة حقائق الموجودات بحسب الطاقة الإنسانية ، وآخرها القول والعمل بما يوافق العلم».

هكذا يتجلى لنا أن الفلسفة علم بأصول نتعرف به إلى الوجود ونستخلص من معرفتنا خطة نسير عليها نحو الهدف الأعلى. أما العلم فهو معرفة الكائن بما هو كائن والوصول إلى المبادي الأولى والغايات الأخيرة ، وأما الهدف الأعلى فهو السعادة الناتجة عن الكمال.

وللفلسفة غايتان أساسيتان لا يستطيع العلم تحقيقهما : غاية نظرية ، تهدف إلى معرفة ما في الكون وتفسيره ، وغاية عملية تهدف إلى معرفة الخير وتحديد السلوك الإنساني وفقا لمقتضياته.

وأما الحكمة الفعلية فكل ما يفعله الحكيم لغاية كمالية.

فالأول الأزلي لما كان هو الغاية والكمال ، فلا يفعل فعلا لغاية دون ذاته ، وإلا فيكون الغاية والكمال هو الحامل ، والأول محمول ، وذلك محال.

فالحكمة في فعله وقعت تبعا لكمال ذاته ، وذلك هو الكمال المطلق في الحكمة ، وفي فعل غيره من المتوسطات وقعت مقصودا للكمال المطلوب ، وكذلك في أفعالنا.

ثم إن الفلاسفة اختلفوا في الحكمة القولية العقلية اختلافا لا يحصى كثرة. والمتأخرون منهم خالفوا الأوائل في أكثر المسائل (١) ، وكانت مسائل الأولين محصورة في الطبيعيات ، والإلهيات. وذلك هو الكلام في الباري تعالى والعالم. ثم زادوا فيها الرياضيات.

وقالوا : العلم ينقسم إلى ثلاثة أقسام : علم ما ، وعلم كيف ، وعلم كم. فالعلم الذي يطلب فيه ماهيات الأشياء هو العلم الإلهي. والعلم الذي يطلب فيه كيفيات الأشياء هو العلم الطبيعي. والعلم الذي يطلب فيه كميات الأشياء هو العلم الرياضي ، سواء كانت الكميات مجردة عن المادة ، أو كانت مخالطة بعد ؛ فأحدث بعدهم أرسطوطاليس (٢) الحكيم علم المنطق وسماه تعليمات ، وإنما هو جرده من

__________________

(١) مرت الفلسفة اليونانية بأربع مراحل :

ـ المرحلة الأولى : من طاليس إلى سقراط وهي مرحلة العمل الكوسمولوجي الذي اهتم فيه الحكماء لنشأة العالم وتكوينه وعناصره.

ـ المرحلة الثانية : سقراط أفلاطون ، أرسطو وهي مرحلة العمل الطبيعي السيكولوجي الذي لا يخلو من نظرات ماورائية.

ـ المرحلة الثالثة : من وفاة أرسطو إلى نشأة الأفلاطونية الحديثة وهي مرحلة العمل الخلقي الأدبي.

ـ المرحلة الرابعة : الأفلاطونية الحديثة ، وهي مرحلة العمل الديني الصوفي.

(٢) أرسطوطاليس : هو أعظم فيلسوف جامع لكل فروع المعرفة الإنسانية في تاريخ البشرية كلها. يمتاز على أستاذه أفلاطون بدقة المنهج واستقامة البراهين والاستناد إلى التجربة الواقعية. وهو واضع علم المنطق كله تقريبا. من هنا لقب ب «المعلم الأول» و «صاحب المنطق».

كلام القدماء. وإلا فلم تخل الحكمة عن قوانين المنطق قط. وربما عدها آلة العلوم ، لا من جملة العلوم ، فقال :

الموضوع في العلم الإلهي : هو الوجود المطلق. ومسائله : البحث عن أحوال الوجود من حيث هو وجود.

والموضوع في العلم الطبيعي : هو الجسم. ومسائله : البحث عن أحوال الجسم من حيث هو جسم.

والموضوع في العلم الرياضي ، هو الأبعاد والمقادير. وبالجملة : الكمية من حيث إنها مجردة عن المادة. ومسائله : البحث عن أحوال الكمية من حيث هي كمية.

والموضوع في العلم المنطقي : هو المعاني التي في ذهن الإنسان من حيث يتأدى بها إلى غيرها من العلوم. ومسائله : البحث عن أحوال تلك المعاني من حيث هي كذلك.

قالت الفلاسفة : ولما كانت السعادة هي المطلوبة لذاتها ، وإنما يكدح الإنسان لنيلها والوصول إليها ، وهي لا تنال إلا بالحكمة. فالحكمة تطلب إما ليعمل بها ، وإما لتعلم فقط. فانقسمت الحكمة إلى قسمين : عملي ، وعلمي.

ثم منهم من قدم العملي على العلمي. ومنهم من أخر كما سيأتي. فالقسم العملي هو عمل الخير ، والقسم العلمي هو علم الحق. قالوا : وهذان القسمان مما يوصل إليه بالعقل الكامل ، والرأي الراجح ؛ غير أن الاستعانة في القسم العملي منه بغيره أكثر ، والأنبياءعليهم‌السلام أيدوا بأمداد روحانية تقريرا للقسم

__________________

ومؤلفات أرسطو عديدة بحيث تؤلف دائرة معارف عصرها ، وقد ذكر لنا بطليموس الغريب ٨٢ منها تتألف من ٥٥٠ مقالة. وهذه المؤلفات تقسم إلى قسمين : كتب منشورة يقصد بها إلى عامة الجمهور ، وكتب مستورة ويقصد بها إلى خاصة التلاميذ والمختصين ، وفيها الغرض الشامل لمذهبه. وقد ضاع قسم كبير منها وهو في معظمه ينتسب إلى النوع الأول. وقد توفي أرسطوطاليس سنة ٣٢٢ ق. م. (انظر موسوعة الفلسفة ١ : ٩٩).

العملي ، ولطرف ما من القسم العلمي. والحكماء تعرضوا لأمداد عقلية تقريرا للقسم العلمي، ولطرف ما من القسم العملي. فغاية الحكيم هو أن يتجلى لعقله كل الكون ويتشبه بالإله الحق تعالى وتقدس بغاية الإمكان وغاية النبي أن يتجلى له نظام الكون ، فيقدر على ذلك مصالح العامة حتى يبقى نظام العالم وتنتظم مصالح العباد ؛ وذلك لا يتأتى إلا بترغيب وترهيب ، وتشكيل وتخييل.

فكل ما ورد به أصحاب الشرائع والملل مقدر على ما ذكرناه عند الفلاسفة إلا من أخذ علمه من مشكاة النبوة ؛ فإنه ربما بلغ إلى حد التعظيم لهم ، وحسن الاعتقاد في كمال درجتهم (١).

* * *

فمن الفلاسفة :

حكماء الهند من البراهمة لا يقولون بالنبوات أصلا.

ومنهم : حكماء العرب وهم شرذمة قليلون ، لأن أكثر حكمهم فلتات الطبع ، وخطرات الفكر ، وربما قالوا بالنبوات.

ومنهم حكماء الروم ، وهم منقسمون إلى القدماء الذين هم أساطين الحكمة ، وإلى المتأخرين وهم المشاءون (٢) ...

__________________

(١) بذلك يكشف الشهرستاني الصلة بين الدين والفلسفة ، وما من تشابه بين غاية الذين وغاية الفلسفة ، فكلاهما يرمي إلى تحقيق السعادة عن طريق الاعتقاد الحق وعمل الخير ، وقد أشار الفارابي في كتابه «تحصيل السعادة» إلى تقارب موضوعات الفلسفة لموضوعات الدين. وإنها تكاد تكون واحدة فقال : «الملة محاكية للفلسفة عندهم ، وهما تشتملان على موضوعات بأعيانها ، وكلاهما تعطي المبادي القصوى للموجودات ، فإنهما يعطيان علم المبدأ الأول والسبب الأول للموجودات ، وتعطيان الغاية القصوى التي لأجلها كون الإنسان وهي السعادة القصوى والغاية القصوى في كل واحد من الموجودات الأخر ، وكل ما تعطي الفلسفة فيه البراهين اليقينية فإن الملة تعطي فيه الإقناعات. والفلسفة تتقدم بالزمان الملة».

(٢) المشاءون : هم أتباع أرسطوطاليس لما عاد إلى أثينا في أواخر سنة ٣٣٥ ق. م. واستقر بها وفتح مدرسة بالقرب من معبد أبو لون اللوقيوني ، ومن هنا سميت هذه المدرسة باسم «اللوقيون». وكان من عادته أن يلقي الدروس على تلامذته وهو يتمشى وهم يسيرون حوله فلقب هو وأتباعه «بالمشائين» وراحت هذه المدرسة تنافس أكاديمية أفلاطون التي صار على رأسها آنذاك زميله القديم أكسينوقراط وظل أرسطو يدرس في مدرسته هذه مدة اثنتي عشرة سنة ، ويقوم بالأبحاث الفلكية والتشريحية والجوية والبيولوجية. (انظر موسوعة الفلسفة ١ : ٩٩ وتاريخ الفلسفة اليونانية ص ١١٣).

وأصحاب الرواق (١) ، وأصحاب أرسطوطاليس ، وإلى فلاسفة الإسلام الذين هم حكماء العجم ، وإلّا فلم ينقل عن العجم قبل الإسلام مقالة في الفلسفة ، إذ حكمهم كلها كانت متلقاة من النبوات ، إما من الملة القديمة ، وإما من سائر الملل.

غير أن الصابئة كانوا يخلطون الحكمة بالصبوة.

* * *

فنحن نذكر مذاهب الحكماء القدماء من الروم ، واليونانيين على الترتيب الذي نقل في كتبهم ، نعقب ذلك بذكر سائر الحكماء إن شاء الله تعالى.

فإن الأصل في الفلسفة والمبدإ في الحكمة للروم ، وغيرهم كالعيال لهم.

الفصل الأول

الحكماء السبعة

الذين هم أساطين الحكمة من الملطية (٢) وساميا (٣) ، وأثينة ، وهي بلادهم.

__________________

(١) الرواق : نسبة إلى الرواقية الواضحة التأثر بالنزعات الشرقية ، خصوصا إذا لاحظنا أن رؤساء هذا المذهب قد صدروا عن بلدان تقع في آسيا الصغرى أو في الجزر الشرقية من الأرخبيل أو في بلاد موجودة على الحدود مباشرة بين بلاد فارس وبين البلاد اليونانية ، فكأنهم قد نشئوا جميعا في بيئة كان التأثر فيها بالعناصر الشرقية واضحا كل الوضوح. وإذا كانت أثينا قد استمرت مع ذلك مدة طويلة المركز الرئيسي للحركة الفكرية في بلاد اليونان ، فإنه يلاحظ كذلك أن رؤساء هذه المدرسة ، وإن علموا في أثينا ، فإن بلادهم الأصلية كانت أقرب ما تكون إلى الشرق ، والذين كانوا أثينيين حقا كانوا أتباعا وفي مركز ثانوي بالنسبة إلى رؤساء المدرسة.

والرواقية لها أتباع يونانيون وآخرون رومانيون ، ولهذا انقسمت إلى دورين كبيرين : دور الرواقية اليونانية ويمثلها مؤسس مذهب الرواقية زينون الرواقي ، ثم تلميذه كليانتس ، وأخيرا كريسيفوس. ودور الرواقية الرومانية ويمثلها شخصيات رومانية ثلاث هي : أپكتاتوس ثم سينكا ثم ماركس أورليوس. (موسوعة الفلسفة ١ : ٥٢٨).

(٢) الملطية : وهي بلدة من بلاد الروم تتاخم الشام وهي من بناء الإسكندر ، وقد فتحها الدمستق وهدم سورها وقصورها. (معجم البلدان ٥ : ١٩٢ و ١٩٣).

(٣) ساميا : هي جزيرة ساموس أو سيسام موقعها إلى الغرب من آسيا الصغرى ، وهي من أجمل مدن البلاد اليونانية وكانت أولا ملوكية ثم صارت جمهورية إلى أن استولى عليها بوليكرانس سنة ٥٣٥ ق. م. (دائرة المعارف للبستاني ٩ : ٤١١).

وأما أسماؤهم فهي : تاليس الملطي ، وأنكساغورس ، وأنكسيمانس ؛ وأنباذقليس ، وفيثاغورس ، وسقراط ، وأفلاطون.

وتبعهم جماعة من الحكماء مثل فلوطرخيس ، وبقراط ، وديمقريطيس ، والشعراء (١) ، والنساك.

وإنما يدور كلامهم في الفلسفة على ذكر وحدانية الباري تعالى ، وإحاطته علما بالكائنات ، كيف هي؟ وفي الإبداع ، وتكوين العالم. وأن المبادي الأول : ما هي؟ وكم هي؟ وأن المعاد : ما هو؟ ومتى هو؟ وربما تكلموا في الباري تعالى بنوع حركة وسكون.

وقد أغفل المتأخرون من فلاسفة الإسلام ذكرهم ، وذكر مقالاتهم رأسا ، إلا نكتة شاذة نادرة ، ربما اعترت على أبصارهم وأفكارهم ، وأشاروا إليها تزييفا.

ونحن تتبعناها وتعقبناها نقدا. وألقينا زمام الاختيار إليك في المطالعة والمناظرة بين كلام الأوائل والأواخر.

١ ـ رأي تاليس (٢)

وهو أول من تفلسف في ملطية. قال : إن للعالم مبدعا لا تدرك صفته العقول من جهة هويته. وإنما يدرك من جهة آثاره ، وهو الذي لا يعرف اسمه فضلا عن هويته ، إلا من نحو أفاعيله وإبداعه وتكوينه الأشياء. فلسنا ندرك له اسما من نحو ذاته ، بل من نحو ذاتنا.

__________________

(١) ومن أشهرهم هو ميروس ، وقصائده الهوميرية أقدم ما وصل إلينا من شواهد الفكر اليوناني وهي تؤلف قصتين كبيرتين هما : الإلياذة والأوذيسي ، وتنظم القصتان أفكارا في الطبيعة والآلهة والإنسان والأخلاق. والشاعر هزيود وكان يجهر في شعره بأحكام الضمير الإنساني المقدسة ، ويتكلم عن الدين والأخلاق. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٣).

(٢) تاليس : لمع اسمه في النصف الثاني من القرن السادس ، وهو أقدم من وصلت إلينا أسماؤهم من حكماء اليونان ، وأول من اهتم للبحث النظري المجرد. قيل إنه ارتحل إلى مصر وعنها أخذ علم الهندسة الذي جعل منه علما نظريا ، وقد ذهب إلى أن الماء هو العنصر الأساسي ومصدر سائر العناصر ، متوفى نحو ٥٥٠ ق. م.

ثم قال : إن القول الذي لا مرد له هو أن المبدع كان ولا شيء مبدع ، فأبدع الذي أبدع ولا صورة له عنده في الذات ، لأن قبل الإبداع إنما هو فقط. وإذا كان هو فقط فليس يقال حينئذ جهة ، وجهة حتى يكون هو وصورة ، أو حيث وحيث حتى يكون هو ، وذو صورة. والوحدة الخالصة تنافي هذين الوجهين.

والإبداع هو تأييس ما ليس بأيس (١) ، وإذا كان هو مؤيس الأيسيات ، والتأييس لا من شيء متقادم ، فمؤيس الأشياء لا يحتاج إلى أن يكون عنده صورة الأيس بالأيسية وإلا فقد لزمه إن كانت الصورة عنده أن يكون منفردا عن الصورة التي عنده فيكون هو وصورة ، وقد بينا أنه قبل الإبداع إنما هو فقط.

وأيضا : فلو كانت الصورة عنده أكانت مطابقة للموجود الخارج؟ أم غير مطابقة؟ فإن كانت مطابقة فلتتعدد الصور بعدد الموجودات ، ولتكن كلياتها مطابقة للكليات ، وجزئياتها مطابقة للجزئيات. ولتتغير بتغيرها كما تكثرت بتكثرها. وكل ذلك محال. لأنه ينافي الوحدة الخالصة. وإن لم تطابق الموجود الخارج فليست إذن صورة عنه ، بل إنما هي شيء آخر.

وقال : لكنه أبدع العنصر الذي فيه صور الموجودات والمعلومات كلها. فانبعث من كل صورة موجود في العالم على المثال الذي في العنصر الأول. فمحل الصور ومنبع الموجودات كلها هو ذات العنصر.

وما من موجود في العالم العقلي والعالم الحسي إلا وفي ذات العنصر صورة له ، ومثال عنه.

قال : ومن كمال ذات الأول الحق أنه أبدع مثل هذا العنصر ، فما يتصوره العامة في ذاته تعالى أن فيها الصور ، يعني صور المعلومات ، فهو في مبدعه ،

__________________

(١) تأييس ما ليس بأيس : إيجاد ما ليس بموجود. قال الخليل : إن العرب تقول جيء به من حيث أيس وليس ، ولم تستعمل أيس إلا في هذه الكلمة ، وإنما معناها كمعنى حيث هو ، في حال الكينونة والوجد.

ويتعالى الأول الحق بوحدانيته وهويته عن أن يوصف بما يوصف به مبدعه ، ومن العجب أنه نقل عنه أن المبدع الأول هو الماء (١). قال : الماء قابل لكل صوره ، ومنه أبدع الجواهر كلها من السماء والأرض ، وما بينهما ، وهو علة كل مبدع ، وعلة كل مركب من العنصر الجسماني. فذكر أن من جمود الماء تكونت الأرض ، ومن انحلاله تكون الهواء ، ومن صفوة الهواء تكونت النار ، ومن الدخان والأبخرة تكونت السماء ، ومن الاشتعال الحاصل من الأثير تكونت الكواكب ، فدارت حول المركز دوران المسبب على سببه بالشوق الحاصل إليه، قال : والماء ذكر ، والأرض أنثى ، وهما يكونان سفلا ، والنار ذكر ، والهواء أنثى وهما يكونان علوا.

وكان يقول : إن هذا العنصر الذي هو أول وهو آخر ـ أي هو المبدأ وهو الكمال هو عنصر الجسمانيات والجرميات ، لا أنه عنصر الروحانيات البسيطة ، ثم إن هذا العنصر له صفو وكدر ، فما كان من صفوه فإنه يكون جسما ، وما كان من كدره فإنه يكون جرما فالجرم يدثر ، والجسم لا يدثر ، والجرم كثيف ظاهر ، والجسم لطيف باطن ، وفي النشأة الثانية يظهر الجسم ويدثر الجرم ، ويكون الجسم اللطيف ظاهرا والجرم الكثيف داثرا.

وكان يقول : إن فوق السماء عوالم مبدعة لا يقدر المنطق أن يصف تلك الأنوار ، ولا يقدر العقل أن يقف على إدراك ذلك الحس والبهاء ، وهي مبدعة من عنصر لا يدرك غوره ، ولا يبصر نوره ، والمنطق والنفس والطبيعة تحته ودونه ،

__________________

(١) الماء عند طاليس هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكون منه الأشياء ، وعنه صدرت الكائنات وإليه تعود ، وقد ملأ عليه الماء شعاب فكره حتى خيل إليه أن الأرض قرص متجمد يسبح فوق لجج مائية ، ليس لأبعادها نهاية. وقد دعم رأيه بالدليل فقال : إن النبات والحيوان يغتذي بالرطوبة ، ومبدأ الرطوبة الماء ، فما منه يغتذي الشيء فهو يتكون منه بالضرورة ، ثم إن النبات والحيوان يولد من الرطوبة ، فإن الجراثيم الحية رطبة ، وما منه يولد الشيء فهو مكون منه. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٢١ وانظر الرازي ٦ : ١١٥).

وهو الدهر المحض من نحو آخره لا من نحو أوله ، وإليه تشتاق العقول والأنفس ، وهو الذي سميناه الديمومة والسرمد ، والبقاء في حد النشأة الثانية (١).

فظهر بهذه الإشارات أنه إنما أراد بقوله : الماء هو المبدع الأول ، أي هو مبدأ التركيبات الجسمانية لا المبدأ الأول في الموجودات العلوية ، لكنه لما اعتقد أن العنصر الأول هو قابل كل صورة ، أي منبع الصور كلها ، فأثبت في العالم الجسماني له مثالا يوازيه في قبول الصور كلها ، ولم يجد عنصرا على هذا النهج مثل الماء ، فجعله المبدع الأول في المركبات ، وأنشأ منه الأجسام والأجرام السماوية والأرضية.

وقال في التوراة في السفر الأول منها أن مبدأ الخلق هو جوهر خلقه الله تعالى ، ثم نظر إليه نظرة الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ، ثم ثار من الماء بخار مثل الدخان ، فخلق منه السموات ، وظهر على وجه الماء زبد مثل زبد البحر فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال ، وكأن تاليس الملطي إنما تلقى مذهبه من هذه المشكاة النبوية.

والذي أثبته من العنصر الأول الذي هو منبع الصور شديد الشبه باللوح المحفوظ المذكور في الكتب الإلهية ، إذ فيه جميع أحكام المعلومات ، وصور جميع الموجودات ، والخبر عن الكائنات.

والماء على القول الثاني شديد الشبه بالماء الذي عليه العرش (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (٢).

__________________

(١) وكان أول من قال من الروم أن الأرواح غير فانية بل هي أزلية باقية. وقد دخل عليه رجل من أهل مليطية وسأله : هل يمكن أن تخفى أسرارنا على الآلهة؟ فقال له طاليس : لا تظن هذا أبدا لأن جميع الأسرار الخفية لا تخفى على الإله الحكيم. وكان يزعم أن الموت والحياة مستويان دائما فسئل : لأي سبب لم تقتل نفسك؟ فأجاب بقوله : حيث كان الموت والحياة مستويين فما يحملني على إيثار الموت على الحياة. وكان يقول : إن الذي يسلينا عند حلول المصيبة من أحد علمنا بأن الذي أذانا بها هو أشقى منا وأسوأ حالا منا. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ٥).

(٢) سورة هود : الآية ٧.

٢ ـ رأي أنكساغورس (١)

وهو أيضا من أهل ملطية ، رأى في الوحدانية مثل ما رأى تاليس ، وخالفه في المبدأ الأول .. قال إن مبدأ الموجودات هو جسم أول متشابه الأجزاء ، وهي أجزاء لطيفة لا يدركها الحس ، ولا ينالها العقل. منها كون الكون كله العلوي منه والسفلي ، لأن المركبات مسبوقة بالبسائط ، والمختلفات أيضا مسبوقة بالمشابهات ، أليست المركبات كلها إنما امتزجت وتركبت من العناصر ، وهي بسائط متشابهة الأجزاء؟ وأ ليس الحيوان والنبات وكل ما يغتذي فإنما يغتذي من أجزاء متشابهة أو غير متشابهة ، فتجتمع في المعدة فتصير متشابهة ، ثم تجري في العروق والشرايين فتستحيل أجزاء مختلفة مثل الدم ، واللحم والعظم (٢)؟.

وحكى عنه أيضا أنه وافق سائر الحكماء في المبدأ الأول أنه العقل الفعال ، غير أنه خالفهم في قوله إن الأول الحق تعالى ساكن غير متحرك. وسنشرح القول في السكون والحركة له تعالى ، ونبين اصطلاحهم في ذلك.

وحكى فرفوريوس (٣) عنه أنه قال : إن أصل الأشياء جسم واحد موضوع

__________________

(١) أنكساغورس : كان تلميذا لطاليس ، وكان أول من أدخل الفلسفة إلى أثينا لكنه خالف أستاذه في كون الماء أصل الوجود. فمهما بلغ الماء من المرونة وقابلية التشكل فهو ذو صفات معروفة معينة تستطيع أن تميزه بها عن المواد الأخرى. ومعنى ذلك أن ثمت صفات تناقض صفات الماء ، لأنك لا تدرك الصفة إلا إذا أدركت نقيضها. فلا تفهم الحرارة إلا إذا اقترنت في ذهنك بالبرودة. فإذا انعدم هذا التقابل انعدمت كذلك الخصائص والصفات. وما دام الأمر كذلك فلا يعقل أن تكون المخلوقات جميعا على تناقض صفاتها مشتقة من أصل واحد ذي صفة معينة معروفة. وإنما أصل الكون مادة لا شكل لها ولا نهاية ولا حدود.

(٢) وفي اعتقاده أن الأشياء متباينة في الحقيقة كما تبدو لنا وأن قسمة الأجسام بالغة ما بلغت تنتهي دائما إلى أجزاء مجانسة للكل ، تنتهي إلى لحم في اللحم وعظم في العظم ، وهو يزعم أن كل جسم مركب من أجزاء صغيرة متجانسة ، فالدم مثلا مركب من أجزاء صغيرة من الدم ، والماء من أجزاء صغيرة من الماء. وهكذا سائر الأشياء. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٤١).

(٣) فرفريوس : هو ملخوس السوري الملقب بفرفريوس أظهر تلاميذ أفلوطين ومن أتباع الأفلاطونية الجديدة. وقد شرح محاورات أفلاطون الكبرى ، وشرح من كتب أرسطو المقولات والأخلاق والطبيعة والإلهيات ، وبعد وفاة أفلوطين جمع رسائله وكانت أربعا وخمسين وقدم لها ترجمة لحياة أفلوطين ووزعها ـ

الكل ، لا نهاية له. ولم نبين ما ذلك الجسم ، أهو من العناصر؟ أم خارج عن ذلك؟ قال : ومنه تخرج جميع الأجسام والقوة الجسمانية والأنواع والأصناف.

وهو أول من قال بالكمون والظهور ، حيث قدر الأشياء كلها كامنة في الجسم الأول وإنما الوجود ظهورها من ذلك الجسم نوعا وصنفا ومقدارا وشكلا وتكاثفا وتخلخلا ، كما تظهر السنبلة من الحبة الواحدة ، والنخلة الباسقة من النواة الصغيرة ، والإنسان الكامل الصورة من النطفة المهينة ، والطير من البيض ، فكل ذلك ظهور عن كمون ، وفعل عن قوة ، وصورة عن استعداد مادة ، وإنما الإبداع واحد ، ولم يكن بشيء آخر سوى ذلك الجسم الأول.

وحكي عنه أنه قال : كانت الأشياء ساكنة ، ثم إن العقل رتبها ترتيبا على أحسن نظام ، فوضعها مواضعها من عال ، ومن سافل ، ومن متوسط. ثم من متحرك ، ومن ساكن ، ومن مستقيم في الحركة ، ومن دائر. ومن أفلاك متحركة على الدوران ، ومن عناصر متحركة على الاستقامة ، وهذه كلها بهذا الترتيب مظهرات لما في الجسم الأول من الموجودات.

ويحكى عنه أن المرتّب هو الطبيعة ، وربما يقول : المرتّب هو الباري تعالى ، وإذا كان المبدأ الأول عنده ذلك الجسم ، فمقتضى مذهبه أن يكون المعاد إلى ذلك الجسم. وإذا كانت النشأة الأولى هي الظهور ، فيقتضي أن تكون النشأة الثانية هي الكمون ، وذلك قريب من مذهب من يقول بالهيولى الأولى التي حدثت فيها الصور ، إلا أنه أثبت جسما غير متناه بالفعل هو متشابه الأجزاء ، وأصحاب الهيولى لا يثبتون جسما بالفعل وقد رد عليه الحكماء المتأخرون في إثباته جسما مطلقا لم يعين له صورة سماوية أو عنصرية ، وفي نفيه النهاية عنه ، وفي قوله بالكمون

__________________

ـ على ستة أقسام في كل قسم تسع رسائل فسميت ب «التاسوعات» وكتب أيضا ضد النصرانية ودافع عن السحر والعرافة والتنجيم ، وكانت الكنيسة تحاربها. متوفى نحو ٣٠٥ ق. م. (الفهرست لابن النديم ص ٣٥٤).

والظهور ، وفي بيانه سبب الترتيب وتعيينه المرتب. وإنما عقب مذهبه برأي تاليس ، لأنهما من أهل ملطية ، ومتقاربان في إثبات العنصر الأول ، والصور فيه متمثلة ، والجسم الأول والموجودات فيه كامنة.

وحكى أرسطوطاليس عنه : أن الجسم الذي تكون منه الأشياء غير قابل للكثرة. قال: وأومأ إلى أن الكثرة جاءت من قبل الباري تعالى وتقدس.

٣ ـ رأي أنكسيمانس (١)

وهو من الملطيين المعروف بالحكمة ، المذكور بالخير عندهم. قال : إن الباري تعالى أزلي لا أول له ولا آخر.

هو مبدأ الأشياء ولا بدء له. هو المدرك من خلقه أنه هو فقط ، وأنه لا هوية تشبهه ، وكل هوية فمبدعة منه ، هو الواحد ليس كواحد الأعداد ، لأن واحد الأعداد يتكثر وهو لا يتكثر ، وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علمه الأول ، والصور عنده بلا نهاية.

قال : ولا يجوز في الباري تعالى إلا أحد قولين : إما أن نقول إنه أبدع ما في علمه ، وإما أن نقول إنما أبدع أشياء لا يعلمها ، وهذا من القول المستشنع. وإن قلنا أبدع ما في علمه فالصورة أزلية بأزليته ، وليس تتكثر ذاته بتكثر المعلومات ، ولا تتغير بتغيرها. قال : أبدع بوحدانيته صورة العنصر ، ثم صورة العقل انبعث عنها ببدعة الباري تعالى. فرتب العنصر في العقل ألوان الصور على قدر ما فيها من طبقات الأنوار وأصناف الآثار ، وصارت تلك الطبقات صورا كثيرة دفعة واحدة ، كما تحدث الصور في المرآة الصقيلة بلا زمان ، ولا ترتيب بعض على بعض. غير أن

__________________

(١) أنكسيمانس : وقد ظهر قبل العالم ٤٩٤ ق. م. ورأى أن الهواء هو العنصر الأساسي لأنه أكثر قابلية من الماء للتغير واتخاذ الأشكال المختلفة بل ويتغلغل في الأشياء والأحياء مهما دقت. أليست الحياة في صميمها أنفاسا من الهواء تتردد في الصدر شهيقا وزفيرا ، إذن فهو الجوهر الأول الذي صدرت عنه جميع الكائنات. توفي سنة ٥٢٤ ق. م. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٢٦).

الهيولى لا تحمل القبول دفعة واحدة إلا بترتيب وزمان فحدثت تلك الصور فيها على الترتيب. ولم يزل الأمر كذلك في العالم بعد العالم على قدر طبقات تلك العوالم ؛ حتى قلت أنوار الصور في الهيولى ، وقلت الهيولى ، وصارت منها هذه الصورة الرذلة الكثيفة التي لم تقبل نفسا روحانية ، ولا نفسا حيوانية ، ولا نباتية.

وكل ما هو على قبول حياة وحس فهو يعد في آثار تلك الأنوار.

وكان يقول : إن هذا العالم يدثر ويدخله الفساد والعدم من أجل أنه سفل تلك العوالم وثقلها. ونسبتها إليه نسبة اللب إلى القشر ، والقشر يرمى. قال : وإنما ثبات هذا العالم بقدر ما فيه من قليل نور ذلك العالم ، وإلا لما ثبت طرفة عين. ويبقى ثباته إلى أن يصفي العقل جزأه الممتزج به ، وإلى أن تصفي النفس جزأها المختلط فيه. فإذا صفى الجزءان عنه دثرت أجزاء هذا العالم وفسدت وبقيت مظلمة قد عدمت ذلك القليل من النور فيها ، وبقيت الأنفس الدنسة الخبثة في هذه الظلمة بلا نور ولا سرور ، ولا روح ولا راحة ، ولا سكون ولا سلوة.

ونقل عنه أيضا أن أول الأوائل من المبدعات هو الهواء (١) ، ومنه تكون جميع ما تكون في العالم من الأجرام العلوية والسفلية.

قال : ما كون من صفو الهواء المحض لطيف روحاني لا يدثر ولا يدخل عليه الفساد ، ولا يقبل الدنس والخبث ، وما كون من كدر الهواء كثيف جسماني يدثر ويدخله الفساد ويقبل الدنس والخبث. فما فوق الهواء من العوالم فهو من صفوه ، وذلك عالم الروحانيات. وما دون الهواء من العوالم فهو من كدره ، وذلك عالم

__________________

(١) إذا كان الماء الذي فرضه طاليس أصلا للكون لم يصادف من العقل اطمئنانا لأنه ليس من الشمول بحيث يسع الكون بأسره ، وإذا كانت مادة أنكسيماندريس التي ليس لها شكل ولا حدود لم تسلم من النقد. فقد نهض أنكسيمانس واختار مادة ثالثة فيها الشمول الذي ينقص الماء وفيها الصفات التي تعوز مادة أنكسيمادريس ، ألا وهي الهواء فهو ذو صفات معروفة لا تنكر ، وهو في نفس الوقت يشيع في كل أنحاء الوجود يغلف الأرض ويملأ في نظره جوانب السماء.

الجسمانيات ، وهو كثير الأوساخ والأوضار ، يتشبث به من سكن إليه فيمنعه من أن يرتفع علوا. ويتخلص منه من لم يسكن إليه ، فيصعد إلى عالم كثير اللطافة ، دائم السرور ، ولعله جعل الهواء أول الأوائل لموجودات العالم الجسماني ، كما جعل العنصر أول الأوائل لموجودات العالم الروحاني.

وهو على مثال مذهب تاليس إذا أثبت العنصر والماء في مقابلته ، وهو قد أثبت العنصر والهواء في مقابلته ، ونزل العنصر منزلة القلم الأول ، والعقل منزلة اللوح القابل لنقش الصور. ورتب الموجودات على ذلك الترتيب ، وهو أيضا من مشكاة النبوة اقتبس ، وبعبارات القوم التبس.

٤ ـ رأي أنباذقليس (١)

وهو من الكبار عند الجماعة ، دقيق النظر في العلوم ، رقيق الحال في الأعمال ، وكان في زمن داود النبي عليه‌السلام ، مضى إليه وتلقى منه العلم ، واختلف إلى لقمان الحكيم ، واقتبس منه الحكمة ، ثم عاد إلى يونان وأفاد. قال : إن الباري تعالى لم تزل هويته فقط ، وهو العلم المحض ، وهو الإرادة المحضة ، وهو الجود والعزة ، والقدرة ، والعدل والخير والحق ، لا أن هناك قوى مسماة بهذه الأسماء ، بل هي : هو ، وهو : هذه كلها. مبدع فقط لا أنه أبدع من شيء ، ولا أن شيئا كان معه ، فأبدع الشيء البسيط الذي هو أول البسائط المعقول ، وهو العنصر الأول ، ثم كسر

__________________

(١) أنباذقليس : نشأ في مدينة أكراجاس أو أجريجنتم في جزيرة صقلية واشترك في سياستها ، ويقال إنه كان زعيما للحزب الديمقراطي فيها. ويروى الكثير من الأخبار عن قيامه بأعمال السحر والمعجزات. من ذلك ما رواه ذيوجانس اللائرسي من أنه حدث يوما أن هبت الريح الأتيزية هبوبا شديدا جدا لدرجة أنها انتزعت الثمار من الأشجار. فجاء أنباذقليس بحمير وسلخ جلودها ونشرها على الروابي وقمم الجبال لوقف هبوب الرياح. فتوقفت الرياح فعلا ، ولهذا سمي «واقف الرياح».

أما عن موته فهناك حكايات طريقة غريبة ، من أشهرها أنه ألقى نفسه في فوهة بركا (etna (ليظن الناس أنه مضىء إلى السماء فيعبدوه بوصفه إلها. لكن لسوء حظه ترك إحدى نعليه على حافة الفوهة ، ولما كان قد اعتاد لبس نعال من البرونز ، فقد أمكن التعرف على فردة نعله بسهولة. توفي انبادقليس سنة ٣١٩ ق. م. (موسوعة الفلسفة ١ : ١٢٦).

الأشياء المبسوطة من ذلك المبدع البسيط الواحد الأول ، ثم كون المركبات من المبسوطات.

وهو مبدع الشيء واللاشيء : العقلي ، والفكري ، والوهمي ، أي مبدع المتضادات والمتقابلات : المعقولة والخيالية والحسية. وقال : إن الباري تعالى أبدع الصور لا بنوع إرادة مستأنفة ، بل بنوع أنه علة فقط ، وهو العلم والإرادة. فإذا كان المبدع إنما أبدع الصور بنوع أنه علة لها. فالعلة ولا معلول. وإلا فالمعلول مع العلة معية بالذات. فإن جاز أن يقال إن معلولا مع العلة ؛ فالمعلول حينئذ ليس هو غير العلة ، وأن يكون المعلول ليس أولى بكونه معلولا من العلة ، ولا العلة بكونها علة أولى من المعلول. ه فالمعلول إذن تحت العلة وبعدها. والعلة علة العلل كلها ، أي علة كل معلول تحتها ، فلا محالة أن المعلول لم يكن مع العلة بجهة من الجهات البتة ، وإلا فقد بطل اسم العلة والمعلول. فالمعلول الأول هو العنصر ، والمعلول الثاني هو بتوسطه العقل. والثالث بتوسطهما النفس ، وهذه بسائط ومتوسطات ، وما بعدها مركبات.

وذكر أن المنطق لا يعبر عما عند العقل ، لأن العقل أكبر من المنطق من أجل أنه بسيط ، والمنطق مركب. والمنطق يتجزأ والعقل يتحد ويحد فيجمع المتجزئات. فليس للمنطق إذن أن يصف الباري تعالى إلا صفة واحدة ، وذلك أنه هو ولا شيء من هذه العوالم بسيط ولا مركب ، فإذا كان هو ولا شيء ، فقد كان الشيء واللاشيء مبدعين.

ثم قال أنباذقليس : العنصر الأول بسيط من نحو ذات العقل الذي هو دونه. وليس هو بسيطا مطلقا ، أي واحدا بحتا من نحو ذات العلة ، فلا معلول إلا وهو مركب تركيبا عقليا أو حسيا. فالعنصر في ذاته مركب من المحبة والغلبة (١)

__________________

(١) قرئ على أبي سليمان محمد بن طاهر السجستاني من كلام انبادقليس : إذا استولت المحبة على الأجسام التي منها تركيب العالم كان منها العالم الكري ، وإذا استولت الغلبة كان منها الاستقصات والعالم الكائن الفاسد ، فقال مفسرا إنه أراد باستيلاء المحبة على العالم استيلاء القوة العقلية فإنها هي التي تحيط بجميع الموجودات إحاطة كلية وتؤلف بينها تأليفا نظاميا موفقا بين جميع أجزائها ، وهذا الفعل منها شبيه بتأليف الأكر بعضها مع بعض وإحاطة بعضها ببعض حتى لا يتخللها شيء آخر. قال ـ

وعنهما أبدعت الجواهر البسيطة الروحانية ، والجواهر المركبة الجسمانية ، فصارت المحبة والغلبة صفتين أو صورتين للعنصر ، مبدأين لجميع الموجودات ، فانطبعت الروحانيات كلها على المحبة الخالصة ، والجسمانيات كلها على الغلبة والمركبات منهما على طبيعتي المحبة والغلبة والازدواج والتضاد ، وبمقدارهما في المركبات تعرف مقادير الروحانيات في الجسمانيات. قال : ولهذا المعنى ائتلفت المزدوجات بعضها ببعض نوعا بنوع ، وصنفا بصنف. واختلفت المتضادات فتنافر بعضها عن بعض نوعا عن نوع ، وصنفا عن صنف.

فما كان فيها من الائتلاف والمحبة فمن الروحانيات ، وما كان فيها من الاختلاف والغلبة فمن الجسمانيات ، وقد يجتمعان في نفس واحدة بإضافتين مختلفتين.

وربما أضاف المحبة إلى المشتري والزهرة والغلبة إلى زحل والمريخ ، فكأنهما تشخصتا بالسعدين والنحسين.

ولكلام أنباذقليس مساق آخر ، قال : إن النفس النامية قشر للنفس البهيمية الحيوانية ، والنفس الحيوانية قشر للنفس المنطقية ، والمنطقية قشر للعقلية. وكل ما هو أسفل فهو قشر لما هو أعلى ، والأعلى لبه. وربما يعبر عن القشر واللب بالجسد والروح ، فيجعل النفس النامية جسدا للنفس الحيوانية ، وهذه روحا لها ، وعلى ذلك حتى ينتهي إلى العقل.

قال : لما صور العنصر الأول في العقل ما عنده من الصور المعقولة الروحانية ، وصور العقل في النفس ما استفاد من العنصر ، صورت النفس الكلية في

__________________

ـ ومعنى قوله إذا استولت الغلبة حدث منها الاستقصات المتباعدة الأقطار المتميز بعضها من بعض المباين كل واحد منها غيرها ، وهذا تشبيه بالقوى الحسية المتشذبة المفارق بعضها بعضا فيما يخصها من الإكدادات مع ما يقع فيها من الخطأ والغلط والزيادة والنقصان ، وهذه صفة الأشياء المتغالبة والمتنافرة. (المقابسات ص ٢٨٢).

الطبيعة الكلية ما استفادت من العقل. فحصلت قشور في الطبيعة لا تشبهها ، ولا هي شبيهة بالعقل الروحاني اللطيف. فلما نظر العقل إليها وأبصر الأرواح واللبوب في الأجسام والقشور : ساح عليها من الصور الحسنة الشريفة البهية ؛ وهي صور النفوس المشاكلة للصور العقلية اللطيفة الروحانية ، حتى يدبرها ويتصرف فيها بالتمييز بين القشور واللبوب ، فيصعد باللبوب إلى عالمها ، فكانت النفوس الجزئية أجزاء للنفس الكلية كأجزاء الشمس المشرقة على منافذ البيت ، والطبيعة الكلية معلولة للنفس. وفرق بين الجزء وبين الطبيعة ، فالجزء غير المعلول.

ثم قال : وخاصية النفس الكلية : المحبة ، لأنها لما نظرت إلى العقل وحسنه وبهائه أحبته حب وامق (١) عاشق لمعشوقه ، فطلبت الاتحاد به وتحركت نحوه.

وخاصية الطبيعة الكلية : الغلبة ، لأنها لما توحدت لم يكن لها نظر وبصر تدرك بهما النفس والعقل وتعشقهما ، بل انبجست منهما قوى متضادة ، أما في بسائطها فمتضادات الأركان ؛ وأما في مركباتها فمتضادات القوى المزاجية والطبيعية ، والنباتية ، والحيوانية. والطبيعية تمردت عليها لبعدها من العلة بكونها معلولة عن كلياتها ، وطاوعتها الأجزاء النفسانية مغترة بعالمها الغرار الغدار ، فركنت إلى لذات حسية : من مطعم مري ، ومشرب هني ، وملبس طري ، ومنكح شهي ، ونسيت ما قد طبعت عليه من ذلك البهاء والحسن والكمال الروحاني النفساني العقلي فلما رأت النفس الكلية تمردها واغترارها أهبطت إليها جزءا من أجزائها ، هو أزكى وألطف وأشرف من هاتين النفسين البهيمية والنباتية. ومن تلك النفوس المغترة بهما. فيكسر النفسين عن تمردهما ، ويحبب إلى النفوس المغترة عالمها ، ويذكرها بما نسيت ، ويعلمها ما جهلت ، ويطهرها مما تدنست فيه ، ويزكيها عما تنجست به. وذلك الجزء الشريف هو النبي المبعوث في كل دور من الأدوار ،

__________________

(١) الوامق : المحب ، والتومّق : التودّد ، وفي الحديث : أنه اطلع من وافد قوم على كذبة فقال : لو لا سخاء فيك ومقك الله عليه لشرّدت بك ، أي أحبك الله عليه.

فيجري على سنن العقل والعنصر الأول من رعاية المحبة والغلبة (١) ، فيتألف بعض النفوس بالحكمة والموعظة الحسنة ، ويشدد على بعضها بالقهر والغلبة.

فتارة يدعو باللسان من جهة المحبة لطفا ، وتارة يدعو بالسيف من جهة الغلبة عنفا. فيخلص النفوس الجزئية الشريفة التي اغترت بتمويهات النفسين المزاجيتين عن التمويه الباطل ، والتسويل الزائل القائل. وربما يكسو النفسين السافلتين كسوة النفس الشريفة ، فتنقلب الصفة الشهوية إلى المحبة ، فتغلب محبة الخير والحق والصدق ، وتنقلب الصفة الغضبية إلى الغلبة فتغلب الشر والباطل والكذب ، فتصعد النفس الجزئية الشريفة إلى عالم الروحانيين بهما جميعا ، فكانتا جسدا لها في ذلك العالم ، كما كانتا جسدا لها في هذا العالم. وقد قيل : إذا كانت الدولة والجد لأحد أحبه أشكاله ، فيغلب بمحبتهم له أضداده.

ومما نقل عن أنباذقليس أنه قال : العالم مركب من الأسطقسات الأربعة (٢) ، فإنه ليس وراءها شيء أبسط منها. وأن الأشياء كامنة بعضها في بعض.

__________________

(١) أما فيما يتصل بنشأة العالم ، فيلاحظ أن أنباذقليس قال بأن مبدأي الحركة والتغير في الوجود هما أزليان أبديان ، يتناوبان السيادة في الكون : فتارة تكون السيادة للمحبة وتارة تكون السيادة للكراهية ، وطورا تأتي حالة بين بين ، يكون فيها هذان المبدءان سائدين معا أو متنازعين. وعلى هذا الأساس توجد في العالم دورات. وكل دورة من هذه الدورات منقسمة إلى أربعة أقسام : ففي القسم الأول تكون ثمت سيادة مطلقة لمبدإ المحبة ، وفي القسم الثاني يكون هناك انتقال من سيادة مبدأ المحبة إلى سيادة مبدأ الكراهية ، ويأتي بعد هذا القسم الثالث وفيه تكون السيادة المطلقة لمبدإ الكراهية ، ويلي ذلك القسم الرابع والأخير وفيه يكون الانتقال من سيادة مبدأ الكراهية إلى سيادة مبدأ المحبة من جديد. وتتوالى الأقسام على هذا النحو باستمرار. (موسوعة الفلسفة ١ : ٢٢٨).

(٢) الأسطقس في اليونانية كالعنصر في العربية ، وهو الأصل الذي تتألف منه الأجسام المختلفة الطبائع. والأسطقسات أربعة وهي : النار والهواء والماء والتراب ، وهي تسمى بأربعة أسماء : العناصر والأسطقسات والأركان وأصول الكون والفساد. فهي من حيث تتركب منها المركبات تسمى أسطقسات ، ومن حيث أنها تنحل إليه المركبات تسمى عناصر. وقد لوحظ في إطلاق لفظ الأسطقس معنى الكون ، وفي إطلاق العنصر معنى الفساد. ومن حيث أنها أجزاء المركبات تسمى أركانا ، ومن حيث أنه ينقلب كل منهما إلى الآخر تسمى أصول الكون والفساد ، والعنصر خفيف وثقيل ، فالخفيف مطلق وهو النار ، وإلا فخفيف بالإضافة وهو الهواء ، والثقيل ، ما كانت حركته إلى الأسفل ، فإن كان جميع حركته إليه فثقيل مطلق وهو التراب ، وإلا فثقيل بالإضافة وهو الماء.

وأبطل الكون والاستحالة والنمو ، وقال : الهواء لا يستحيل نارا ، ولا الماء هواء ولكن ذلك بتكاثف وتخلخل ، وبكمون وظهور ، وتركب وتحلل. وإنما التركب في المركبات بالمحبة يكون والتحلل في المتحللات بالغلبة يكون (١).

ومما نقل عنه أيضا : أنه تكلم في الباري تعالى بنوع حركة وسكون ، فقال : إنه متحرك بنوع سكون ، لأن العقل والعنصر متحركان بنوع سكون ، وهو مبدعهما ، ولا محالة أن المبدع أكبر ، لأنه علة كل متحرك وساكن ، وشايعه على هذا الرأي فيثاغورس ومن بعده من الحكماء إلى أفلاطون. وأما زينون الأكبر ، وديمقريط ، والشاعريون فصاروا إلى أنه تعالى متحرك. وقد سبق النقل عن أنكساغورس أنه قال : هو ساكن لا يتحرك لأن الحركة لا تكون إلا محدثة. ثم قال : إلا أن تقولوا إن تلك الحركة فوق هذه الحركة كما إن ذلك السكون فوق هذا السكون.

وهؤلاء ما عنوا بالحركة والسكون النقلة عن مكان واللبث في مكان ، ولا بالحركة التغير والاستحالة ، ولا بالسكون ثبات الجوهر والدوام على حالة واحدة ، فإن الأزلية والقدم تنافي هذه المعاني كلها.

ومن يحترز ذلك الاحتراز عن التكثر ، فكيف يجازف هذه المجازفة في التغير؟ فأما الحركة والسكون في العقل والنفس ، فإنما عنوا بهما الفعل والانفعال ، وذلك أن العقل لما كان موجودا كاملا بالفعل قالوا : هو ساكن واحد مستغن عن حركة يصير بها فاعلا والنفس لما كانت ناقصة متوجهة إلى الكمال ، قالوا : هي

__________________

(١) العالم عند أمبادقليس سائر في حلقة متصلة يبدأ من حيث ينتهي وينتهي من حيث يبدأ ، وهو يصوره لنا في صورة الكرة ، لأنه في الكرة لا يوجد تنازع بل كلها استواء في استواء. وعن هذا الخليط ينشأ الوجود ، وذلك بدخول مبدأ الكراهية في هذا الخليط السائدة فيه المحبة وحدها ، وذلك لأنه لكي يتم الوجود لا بدّ أن يأتي زمان ينتقل فيه الكون ، الذي هو المحبة إلى الحركة التي توجد فيها الكراهية أو تتم عن طريقها الكراهية. وأول ما يتم ذلك بأن يأتي مبدأ الكراهية ويدخل في هذا الخليط الأول ويحدث انفصالا تاما بين جميع الجزئيات ، ثم يأتي جزء من مبدأ المحبة أو مبدأ المحبة نفسه فيدخل جزءا من الخليط المشتت وبدخوله يحدث تجمعا بين الجزئيات المنفصلة ويتم هذا التجمع على شكل دوامة ، وبعد هذا ينشأ الوجود من هذه الدوامة الأولى. (موسوعة الفلسفة ١ : ٢٢٨).

متحركة طالبة درجة العقل. ثم قالوا : العقل ساكن بنوع حركة ، أي هو في ذاته كامل بالفعل، فاعل يخرج النفس من القوة إلى الفعل ، والفعل نوع حركة في سكون ، والكمال نوع سكون في حركة ، أي هو كامل ومكمل غيره ، فعلى هذا المعنى يجوز على قضية مذهبهم إضافة الحركة والسكون إلى الباري تعالى.

ومن العجب أن مثل هذا الاختلاف قد وجد في أرباب الملل حتى صار بعض إلى أنه تعالى مستقر في مكان ، ومستو على مكان ، وذلك إشارة إلى السكون. وصار بعض إلى أنه يجيء ويذهب ، وينزل ويصعد ، وذلك عبارة عن الحركة. إلا أن يحمل على معنى صحيح لائق بجناب القدس ، حقيق بجلال الحق.

ومما نقل عن أنباذقليس في أمر المعاد أنه قال : يبقى هذا العالم على الوجه الذي عهدناه من النفوس التي تشبثت بالطبائع ، والأرواح التي تعلقت بالشباك حتى تستغيث في آخر الأمر إلى النفس الكلية التي هي كلها ، فتتضرع النفس إلى العقل ، ويتضرع العقل إلى الباري تعالى ، فيسيح الباري تعالى على العقل ، ويسيح العقل على النفس وتسيح النفس على هذا العالم بكل نورها فتستضيء الأنفس الجزئية ، وتشرق الأرض بنور ربها حتى تعاين الجزئيات كلياتها ، فتتخلص من الشبكة فتتصل بكلياتها ، وتستقر في عالمها مسرورة محبورة (وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ) (١).

٥ ـ رأي فيثاغورس (٢)

ابن منسارخس من أهل ساميا (٣). وكان في زمان سليمان النبي ابن داود عليهما‌السلام ، قد أخذ الحكمة من معدن النبوة ، وهو الحكيم الفاضل ذو الرأي

__________________

(١) سورة النور : الآية ٤٠.

(٢) روى بعض المؤرخين أن فيثاغورس من أصل فينيقي ومن مواليد صور ، إلا أن أكثر الروايات تجعل مولده في جزيرة ساموس ، وتثبت أنه هجر وطنه حوالي سنة ٥٣٢ ق. م. واستوطن صقلية حيث تحلق حوله طلاب الحكمة يذهبون مذهبه في الامتناع عن أكل اللحوم وبعض الحبوب ، وعن اتخاذ الألبسة من جلد الحيوان ، وما إلى ذلك مما يعود إلى اعتقادهم بالتناسخ وقد توفي فيثاغورس سنة ٤٩٧ ق. م.

(٣) انظر ص ٦١ ج ٢.

المتين ، والعقل الرصين ، يدّعي أنه شاهد العوالم العلوية بحسه وحدسه ، وبلغ في الرياضة إلى أن سمع حفيف الفلك ، ووصل إلى مقام الملك وقال : ما سمعت شيئا قط ألذ من حركاتها ، ولا رأيت أبهى من صورها وهيئاتها.

قوله في الإلهيات :

قال : إن الباري تعالى واحد لا كالآحاد (١) ، ولا يدخل في العدد ، ولا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس ، فلا الفكر العقلي يدركه ، ولا المنطق النفسي يصفه ، فهو فوق الصفات الروحانية ، غير مدرك من نحو ذاته ، وإنما يدرك بآثاره وصنائعه وأفعاله وكل عالم من العوالم يدركه بقدر الآثار التي تظهر فيه صنعته ، فينعته ويصفه بذلك القدر الذي يخصه من صنعته ، فالموجودات في العالم الروحاني قد خصت بآثار خاصة روحانية فتنعته من حيث تلك الآثار ، والموجودات في العالم الجسماني قد خصّت بآثار خاصة جسمانية فتنعته من حيث تلك الآثار ، ولا نشك أن هداية الحيوان مقدرة على الآثار التي جبل الحيوان عليها وهداية الإنسان مقدرة على الآثار التي فطر الإنسان عليها. فكل يصفه من نحو ذاته ، ويقدسه عن خصائص صفاته.

ثم قال : الوحدة تنقسم إلى وحدة غير مستفادة من الغير ، وهي وحدة الباري تعالى وحدة الإحاطة بكل شيء وحدة الحكم على كل شيء ، وحدة تصدر عنها الآحاد في الموجودات والكثرة فيها ، وإلى وحدة مستفادة من الغير ، وذلك وحدة المخلوقات.

__________________

(١) وقد جاء في تاريخ الفلسفة اليونانية : «لم تصل إلينا نصوص صريحة عن عقيدة الفيثاغوريين ، في الألوهية ، أما ما يذكر من أنهم كانوا يضعون الواحد فوق الأعداد والموجودات ويجعلونه مصدرها جميعا فتأويل أفلاطوني. وكل ما يمكن أن يقال أنهم طهروا الشرك من أدرانه. ونزهوا الآلهة عما ألحقت بهم المخيلة العامة من نقائص ، وذلك بتأويل الأساطير تأويلا مجازيا ، وفي ترجمة مشاهير الفلاسفة ، أن فيثاغورس كان يحث تلامذته على التمسك بطاعة الإله وعبادته كما ينبغي». (انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٤).

وربما يقول : الوحدة على الإطلاق تنقسم إلى وحدة قبل الدهر ، ووحدة مع الدهر ، ووحدة بعد الدهر وقبل الزمان ، ووحدة مع الزمان. فالوحدة التي هي قبل الدهر هي وحدة الباري تعالى. والوحدة التي هي مع الدهر هي وحدة العقل الأول. والوحدة التي هي بعد الدهر وقبل الزمان هي وحدة النفس. والوحدة التي هي مع الزمان هي وحدة العناصر والمركبات.

وربما يقسم الوحدة قسمة أخرى فيقول : الوحدة تنقسم إلى وحدة بالذات ، وإلى وحدة بالعرض. فالوحدة بالذات ليست إلا للمبدع للكل الذي منه تصدر الوحدانيات في العدد والمعدود والوحدة بالعرض تنقسم إلى ما هو مبدأ العدد وليس داخلا في العدد وإلى ما هو مبدأ للعدد وهو داخل فيه ، فالأول كالواحدية للعقل الفعال ، لأنه لا يدخل في العدد والمعدود. والثاني ينقسم إلى ما يدخل فيه كالجزء له ، فإن الاثنين إنما هو مركب من واحدين ، وكذلك كل عدد فهو مركب من آحاد لا محالة ، وحيثما ارتقى العدد إلى أكثر نزلت نسبة الوحدة إليه إلى أقل ، وإلى ما يدخل فيه كاللازم له لا كالجزء فيه ، وذلك لأن كل عدد أو معدود لن يخلو قط عن وحدة تلازمه ، فإن الاثنين والثلاثة في كونهما اثنين وثلاثة واحدة وكذلك المعدودات من المركبات والبسائط واحدة ، إما في الجنس ، أو في النوع ، أو في الشخص ، كالجوهر في أنه جوهر على الإطلاق. والإنسان في أنه إنسان ، والشخص المعين مثل زيد في أنه ذلك الشخص بعينه واحد. فلم تنفك الوحدة من الموجودات قط. وهذه وحدة مستفادة من وحدة الباري تعالى تلزم الموجودات كلها ، وإن كانت في ذواتها متكثرة. وإنما شرف كل موجود بغلبة الوحدة فيه. فكل ما هو أبعد من الكثرة فهو أشرف وأكمل.

رأيه في العدد والمعدود :

ثم إن لفيثاغورس رأيا في العدد والمعدود قد خالف فيه جميع الحكماء قبله ، وخالفه فيه من بعده ، وهو أنه جرد العدد عن المعدود تجريد الصورة عن المادة ، وتصوره موجودا محققا ، وجرد الصورة وتحققها ، وقال : مبدأ الموجودات

هو العدد (١) ، وهو أول مبدع أبدعه الباري تعالى ؛ فأول العدد هو الواحد ، وله اختلاف رأي في أنه هل يدخل في العدد أم لا كما سبق ، وميله الأكثر إلى أنه لا يدخل في العدد ، فيبتدئ العدد من اثنين.

ويقول هو منقسم إلى زوج وفرد ، فالعدد البسيط الأول اثنان ، والزوج البسيط الأول أربعة ، وهو المنقسم بمتساويين ، ولم يجعل الاثنين زوجا ، فإنه لو انقسم لكان إلى واحدين ، وكان الواحد داخلا في العدد ، ونحن ابتدأنا في العدد من اثنين ، والزوج قسم من أقسامه. فكيف يكون نفسه؟ والفرد البسيط الأول ثلاثة. قال : وتتم القسمة بذلك ، وما وراءه فهو قسمة القسمة ، فالأربعة هي نهاية العدد ، وهي الكمال ، وعن هذا كان يقسم بالرباعية «لا ، وحق الرباعية التي هي تدبر أنفسنا ، التي هي أصل الكمال» وما وراء ذلك فهو زوج الفرد ، وزوج الزوج ، وزوج الزوج والفرد.

ويسمي الخمسة عددا دائرا ؛ فإنها إذا ضربتها في نفسها أبدا عادت الخمسة من الرأس.

ويسمي الستة عددا تاما ؛ فإن أجزاءها مساوية لجملتها.

والسبعة عددا كاملا ، فإنها مجموع الزوج والفرد ، وهي نهاية أخرى.

والثمانية مبتدؤه ، مركبة من زوجين.

والتسعة من ثلاثة أفراد ، وهي نهاية أخرى.

__________________

(١) رأى فيثاغورس أن الحقيقة التي لا حقيقة بعدها قائمة في العدد مبدأ جميع الموجودات ، فهو جوهر الوجود تزول الأشياء وهو لا يزول ، والكائنات متفرعة كالعدد من الواحد إلى الكثرة العددية ، والكثرة العددية عائدة إلى الواحد الذي هو مبدؤها ونقطة تفرعها. وقد حاول الفيثاغوريون أن يطبّقوا فلسفتهم العددية على الجماليات والسياسة والأخلاق والتربية ، ووجدوا علاقات خفية بين الأعداد العشرة الأولى وجميع الكائنات المادية والروحية ؛ وهكذا فالثلاثة تطابق المكان بأبعاده الثلاثة ، والخمسة تطابق الصفة ، والستة الرطوبة ، والسبعة العقل والنور والصحة ، والثمانية الحب والصداقة ، والتسعة الروية ؛ أما العشرة ـ وهي عدد يحتوي على هذه الأعداد كلها ـ فإنها ذات طبيعة إلهية ، وتطابق تركيب الكون الذي يحتوي جميع الأشياء.

والعشرة من مجموع العدد من الواحد إلى الأربعة ، وهي نهاية أخرى.

فللعدد أربع نهايات : أربعة ، وسبعة ، وتسعة ، وعشرة ، ثم يعود إلى الواحد فيقول : أحد عشر ... ويعد ، والتركيبات فيما وراء الأربعة على أنحاء ست :

فالخمسة على مذهب من لا يرى الواحد داخلا في العدد فهي مركبة من عدد وفرد. وعلى مذهب من يرى ذلك فهي مركبة من فرد وزوجين.

وكذلك الستة على الأول فمركبة من فردين ، أو عدد وزوج ، وعلى الثاني فمركبة من ثلاثة أزواج.

والسبعة على الأول فمركبة من فرد وزوج. وعلى الثاني فمركبة من فرد وثلاثة أزواج.

والثمانية على الأول فمركبة من زوجين. وعلى الثاني فمركبة من أربعة أزواج.

والتسعة على الأول فمركبة من ثلاثة أفراد. وعلى الثاني فمركبة من فرد وأربعة أزواج.

والعشرة على الأول فمركبة من عدد وزوجين ، أو زوج وفردين ، وعلى الثاني فما يحسب من الواحد إلى الأربعة ، وهو النهاية والكمال. ثم الأعداد الأخرى فقياسها هذا القياس. قال : وهذه هي أصول الموجودات.

ثم إنه ركب العدد على المعدود ، والمقدار على المقدور ، فقال : المعدود الذي فيه اثنينية وهو أصل المعدودات ومبدؤها هو العقل باعتبار أن فيه اعتبارين : اعتبارا من حيث ذاته ، وأنه ممكن الوجود بذاته ، واعتبارا من حيث مبدعه ، وأنه واجب الوجود به ، فقابله الاثنان ، والمعدود الذي فيه ثلاثية هو النفس ، إذ زاد على الاعتبارين اعتبارا ثالثا والمعدود الذي فيه أربعية هو الطبيعة إذ زاد على الثلاثة رابعا ، وثم النهاية ، أعني نهاية المبادي ، وما بعدها المركبات. فما من موجود مركب إلا وفيه من العناصر والنفس والعقل شيء ، إما عين أو أثر حتى ينتهي إلى السبعة فيقدر المعدودات على ذلك وينتهي إلى العشرة ، ويعد العقل والنفوس

التسعة بأفلاكها التي هي أبدانها وعقولها المفارقة كالجوهر وتسعة أعراض. وبالجملة إنما يتعرف حال الموجودات من العدد والمقادير الأول ويقول : الباري تعالى عالم بجميع المعلومات على طريق الإحاطة بالأسباب التي هي الأعداد والمقادير ، وهي لا تختلف ، فعلمه لا يختلف.

وربما يقول : المقابل للواحد هو العنصر الأول كما قال أنكسيمانس ، ويسميه الهيولى (١) الأولى ، وذلك هو الواحد المستفاد ، لا الواحد الذي هو كالآحاد ، وهو واحد ، كل تصدر عنه كل كثرة ، وتستفيد الكثرة منه الوحدة التي تلازم الموجودات ولا تفارقها البتة كما قررنا. وذكر أن العنصر انفرد بوحدته ثم أفاضها على الموجودات ، فلا يوجد موجود إلا وفيه من وحدته حظ على قدر استعداده. ثم من هداية العقل حظ على قدر قبوله. ثم من قوة النفس حظ على قدر تهيئه ، وعلى ذلك آثار المبادي في المركبات ، فإن كل مركب لا يخلو عن مزاج ما. وكل مزاج لا يعرى عن اعتدال ما ، وكل اعتدال عن كمال أو قوة كمال : إما طبيعي آلي وهو مبدأ الحركة. وإما عن كمال نفساني هو مبدأ الحس ، فإذا بلغ المزاج الإنساني إلى حد قبول هذا الكمال أفاض عليه العنصر وحدته ، والعقل هدايته ، والنفس نطقه وحكمته.

قال : ولما كانت التأليفات الهندسية مرتبة على المعادلات العددية عددناها أيضا من المبادي. فصارت طائفة من الفيثاغوريين إلى أن المبادي هي التأليفات الهندسية على مناسبات عددية ، ولهذا صارت المتحركات السماوية ذات حركات

__________________

(١) الهيولى في عرف الحكماء هي الجوهر القابل للاتصال والانفصال ، وهي محل للصورتين أي الجسمية والنوعية وهي الهيولى الأولى وأما الهيولى الثانية فهي جسم تركب منه جسم آخر. والهيولى لفظ يوناني معناه الأصل والمادة. وفي المقابسات ، ما الهيولى؟ والجواب : هي قوة موضوعة تجعل الصور منفعلة. وقال ابن سينا في الرسالة الرابعة : «أما الهيولى المطلقة فهي جوهر ووجوده بالفعل إنما يحصل بقبول الصورة الجسمية لقوة فيه قابلة للصور ، وليس له في ذاته صورة تخصه ، إلا معنى القوة ...».

متناسبة لحنية (١) هي أشرف الحركات ، وألطف التأليفات. ثم تعدوا من ذلك إلى الأقوال حتى صارت طائفة منهم إلى أن المبادي هي الحروف والحدود المجردة عن المادة ، وأوقعوا الألف في مقابلة الواحد ، والباء في مقابلة الاثنين ، إلى غير ذلك من المقابلات.

ولست أدري : على أي لسان ولغة قدروها؟ فإن الألسن تختلف باختلاف الأمصار والمدن ، أو على أي وجه من التركيب؟ فإن التركيبات أيضا مختلفة ، فالبسائط من الحروف مختلف فيها ، والمركبات كذلك. ولا كذلك العدد فإنه لا يختلف أصلا.

وصارت جماعة منهم إلى أن مبدأ الجسم هو الأبعاد الثلاثة ، والجسم مركب عنها. وأوقعوا النقطة في مقابلة الواحد ، والخط في مقابلة الاثنين ، والسطح في مقابلة الثلاثة ، والجسم في مقابلة الأربعة. وراعوا هذه المقابلات في تراكيب الأجسام ، وتضاعيف الأعداد.

ومما ينقل عن فيثاغورس أن الطبائع أربعة ، والنفوس التي فينا أيضا أربعة : العقل والعلم ، والرأي ، والحواس. ثم ركب فيه العدد على المعدود ، والروحاني على الجسماني.

قال الرئيس أبو علي الحسين بن سينا (٢) : وأمثل ما يحمل عليه هذا القول أن

__________________

(١) من المأثور عن الفيثاغوريين قولهم إن لحركات الأفلاك نغمات ، وحجتهم في ذلك أن الجسم إذا تحرك بسرعة أحدث صوتا هو صوت اهتزاز الهواء أو الأثير ، فلا بدّ أن يكون لحركات الأفلاك في الأثير العلوي أصوات ، ولا بدّ أن يكون في السماء ألحان ، وإن كنا لا نشعر بها ، ولا يبعد أنهم كانوا يخرجون من هذا القول إلى مثل ما خرج إليه إخوان الصفاء حيث قالوا : اعلم يا أخي أنه لو لم يكن لحركات أشخاص الأفلاك أصوات ولا نغمات لم يكن لأهلها فائدة من القوة السامعة الموجودة فيهم. (انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٦ ورسائل إخوان الصفا ١ : ١٥٢ ، ١٦٨ وموسوعة الفلسفة ٢ : ١٨٠ ـ ١٨٣).

(٢) ظهر ابن سينا في عصر اضطربت فيه أحوال الدولة العباسية وأنهار سلطانها وكان مولده في سنة ٣٧٠ ه‍ / ٩٨٠ م بحسب رواية القفطي وابن خلكان ، أما ابن أبي أصيبعة فيجعل سنة ٣٧٥ ه‍ مولد الشيخ الرئيس. ـ

يقال : كون الشيء واحدا غير كونه موجودا أو إنسانا. وهو في ذاته أقدم منهما ، فالحيوان الواحد لا يحصل واحدا إلا وقد تقدمه معنى الوحدة الذي صار به واحدا ، ولولاه لم يصح وجوده. فإذن هو الأشرف الأبسط الأول ، وهذه صورة العقل ، فالعقل يجب أن يكون الواحد من هذه الجهة. والعلم دون ذلك في الرتبة ، لأنه بالعقل ومن العقل. فهو كالاثنين الذي يفتقر إلى الواحد ويصدر منه. وكذلك العلم يؤول إلى العقل. ومعنى الظن والرأي عدد السطح ، والحس عدد الصمت : أن السطح لكونه ذا ثلاث جهات هو طبيعة الظن الذي هو أعلم من العلم مرتبة ، وذلك لأن العلم يتعلق بمعلوم معين ، والظن والرأي ينجذب إلى الشيء ونقيضه ، والحس أعم من الظن ، فهو المصمت أي الجسم له أربع جهات.

ومما نقل عن فيثاغورس أن العالم إنما ألف من اللحون البسيطة الروحانية. ويذكر أن الأعداد الروحانية غير منقطعة ، بل أعداد متحدة تتجزأ من نحو العقل ، ولا تتجزأ من نحو الحواس. وعدّ عوالم كثيرة. فمنه عالم هو سرور محض في أصل الإبداع ، وابتهاج وروح في وضع الفطرة ، ومنه عالم هو دونه ، ومنطقها ليس مثل منطق العوالم العالية ، فإن المنطق قد يكون باللحون الروحانية البسيطة ، وقد يكون باللحون الروحانية المركبة.

والأول يكون سرورها دائما غير منقطع ، ومن اللحون ما هو بعد ناقص في التركيب لأن المنطق بعد لم يخرج إلى الفعل ، فلا يكون السرور بغاية الكمال ؛ لأن اللحن ليس بغاية الاتفاق.

__________________

ـ بدأ حياة الإنتاج في سن مبكرة فترك لنا التصانيف في الطب والمنطق والطبيعيات والإلهيات. وقد تكلم في أشياء من الإلهيات والنبويات والمعاد والشرائع لم يتكلم بها سلفه ، ولا وصلت إليها عقولهم ، ولا بلغتها علومهم ؛ فإنه استفادها من المسلمين. صنف ابن سينا نحو مائة كتاب ونظم الشعر الفلسفي ، ودرس اللغة حتى بار كبار المنشئين. توفي سنة ٤٢٨ ه‍ / ١٠٣٧ م. وأشهر كتبه «القانون» في الطب ، ويسميه علماء الفرنج (Canonmedicina (، وقد ترجم إلى عدة لغات وبقي يعمل به مدة ستة قرون. ومن تصانيفه أيضا «المعاد» و «الشفاء» و «السياسة» و «أسرار الحكمة المشرقية». (تاريخ حكماء الإسلام ص ٢٧ ـ ٧٢ وانظر وفيات الأعيان ١ : ١٥٢ ودائرة المعارف الإسلامية ١ : ٢٠٣).

وكل عالم فهو دون الأول بالرتبة ، وتتفاضل العوالم بالحسن والبهاء والرتبة ، والأخير نقل العوالم وثفلها وسفلها ، ولذلك لم يجتمع كل الاجتماع ، ولم تتحد الصورة بالمادة كل الاتحاد ، وجاز على كل جزء منه الانفكاك عن الجزء الآخر ، إلا أن فيه نورا قليلا من النور الأول ، فلذلك النور وجد فيه نوع ثبات ، ولو لا ذلك لم يثبت طرفة عين. وذلك النور القليل : جسم النفس والعقل ، الحامل لهما في هذا العالم.

وذكر أن الإنسان بحكم الفطرة واقع في مقابلة العالم كله ، وهو عالم صغير ، والعالم إنسان كبير ، ولذلك صار حظه من النفس والعقل أوفر ، فمن أحسن تقويم نفسه وتهذيب أخلاقه وتزكية أحواله أمكنه أن يصل إلى معرفة العالم وكيفية تأليفه ، ومن ضيع نفسه ولم يقم بمصالحها من التهذيب والتقويم خرج من عداد العدد والمعدود ، وانحلّ عن رباط القدر والمقدور ، وصار ضياعا هملا.

وربما يقول : النفس الإنسانية (١) تأليفات عددية أو لحنية ، ولهذا ناسبت النفس مناسبات الألحان ، والتذت بسماعها وطاشت ، وتواجدت باستماعها وجاشت ، ولقد كانت قبل اتصالها بالأبدان قد أبدعت من تلك التأليفات العددية الأولى ثم اتصلت بالأبدان ، فإن كانت التهذيبات الخلقية على تناسب الفطرة ، وتجردت النفوس عن المناسبات الخارجة اتصلت بعالمها ، وانخرطت في سلكها

__________________

(١) وصل إلينا أقوال متباينة عن النفس عند الفيثاغوريين ، فنحن نجد عند أفلاطون رأيا لبعضهم يقول : إن النفس نوع من النغم ، والنغم توافق الأضداد وتناسبها بحيث تدوم الحياة ما دام هذا النغم وتنعدم بانعدامه.

فإذا كانت النفس نغما لزم من جهة أن ليس لها وجود ذاتي. والفيثاغورية تؤمن بالخلود ، ولزم من جهة أخرى أن ليس لها وجود سابق على عناصر البدن ، والفيثاغورية تؤمن بالتناسخ. على أن أرسطو إذ يذكر هذه النظرية لا يعزوها للفيثاغوريين ولكنه يضيف إليهم قولين : الأول ، أن النفس هي هذه الذرات المتطايرة في الهواء ، والتي تدق عن إدراك الحواس. ويذهب الآخر إلى أن النفس هي المبدأ الذي تتحرك به هذه الذرات ، وهو قول يخيل إلينا أن رأيهم الحق بحيث تكون النفس عندهم مبدأ أو علة توافق الأضداد في البدن وعلة حركته جميعا. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٣).

على هيئة أجمل وأكمل من الأول ، فإن التأليفات الأولى قد كانت ناقصة من وجه حيث كانت بالقوة ، وبالرياضة والمجاهدة في هذا العالم بلغت إلى حد الكمال خارجة من حد القوة إلى حد الفعل ، قال : والشرائع التي وردت بمقادير الصلوات والزكوات وسائر العبادات ، هي لإيقاع هذه المناسبات في مقابلة تلك التأليفات الروحانية ، وربما يبالغ في تقرير التأليف حتى يكاد يقول : ليس في العالم سوى التأليف ، والأجسام والأعراض تأليفات ، والنفوس والعقول تأليفات.

ويعسر كل العسر تقرير ذلك! نعم! تقدير التأليف على المؤلف ، والتقدير على المقدر أمر يهتدى إليه ، ويعول عليه.

وكان خرينوس وزينون (١) الشاعر متابعين لفيثاغورس على رأيه في المبدع والمبدع إلا أنهما قالا : الباري تعالى أبدع النفس والعقل دفعة واحدة ، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما ، وفي بدء ما أبدعهما أبدعهما لا يموتان ، ولا يجوز عليهما الدثور والفناء ، وذكرا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية من كل دنس صارت في العالم الأعلى إلى مسكنها الذي يشاكلها ويجانسها ، وكان الجسم الذي هو من النار والهواء جسمها في ذلك العالم مهذبا من كل ثقل وكدر.

فأما الجرم الذي من الماء والأرض فإن ذلك يدثر ويفنى ، لأنه غير مشاكل للجسم السماوي ، لأن الجسم السماوي لطيف لا وزن له ولا يلمس ، فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم لأنه أشد روحانية. وهذا العالم لا يشاكل الجسم بل الجرم يشاكله.

فكل ما هو مركب والأجزاء النارية والهوائية عليه أغلب ، كانت الجسمية أغلب. وكل ما هو مركب والأجزاء المائية والأرضية عليه أغلب كانت الجرمية

__________________

(١) زينون : فيلسوف يوناني : ولد في قبرص ، وهو مؤسس المذهب ال رواقي ، وعلى الرغم من المؤلفات التي كتبها ، لم يبق لنا من آثاره شيء ، اللهم إلا شذرات ضئيلة ، وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية الرواقيين اليونانيين وإلى زينون ينسبون القول المأثور : إنما العيش هو العيش مع الطبيعة متوفى حوالي ٢٦٤ ق. م.

أغلب ، وهذا العالم عالم الجرم ، وذلك العالم عالم الجسم ، فالنفس في ذلك العالم تحشر في بدن جسماني (١) لا جرماني دائما ، لا يجوز عليه الفناء والدثور ، ولذته تكون دائمة لا تملها الطباع والنفوس.

وقيل لفيثاغورس : لم قلت بإبطال العالم؟ قال : لأنه يبلغ العلة التي من أجلها كان فإذا بلغها سكنت حركته ، وأكثر اللذات العلوية هي التأليفات اللحنية وذلك كما يقال : التسبيح والتقديس غذاء الروحانيين وغذاء كل موجود هو مما خلق منه ذلك الموجود.

وأما هيراقليطس (٢) وأباسيس فقد كانا من الفيثاغوريين وقالا : إن مبدأ الموجودات هو النار ، فما تكاثف منها وتحجر فهو الأرض ، وما تحلل من الأرض بالنار صار ماء ، وما تخلخل من الماء بالنار صار هواء ، وما تخلخل من الهواء بحرارة النار صار نارا ، فالنار مبدأ ، وبعدها الأرض ، وبعدها الماء ، وبعدها الهواء ، وبعدها النار ، والنار هي المبدأ (٣) وإليها المنتهى ، فمنها التكون ، وإليها الفساد.

وأما أبيقورس الذي تفلسف في أيام ديمقريطيس فكان يرى أن مبادي

__________________

(١) الفيثاغورية ، كما أوردنا ، تؤمن بالتناسخ. وهذا ما علّمه فيثاغورس وكان يقول بأن الأرواح لا تفنى وهي تنتقل في عالم الكائنات الحية من حي إلى آخر ، وأن كل كائن يظهر ويتلاشى يعود إلى الظهور في دورة معلومة مدتها ثلاثة آلاف سنة. وهكذا فلا جديد تحت الشمس ، وهكذا فكل مولود حي حلقة من سلسلة الأسرة الواحدة الشاملة. (تاريخ الفلسفة اليونانية ، بتصرف).

(٢) ظهر هيراقليس في أفسس ، ورأى أن السلطان في الكون للصيرورة الدائمة التحول ، فكل شيء يسيل ويتغير ، ورأى أن النار هي العنصر الأساسي لأنها أخف العناصر وأسرعها حركة ؛ وفي النار قوة دائمة النشاط ، واضطرام ينتج عنه العراك المستمر الذي نشهده في الوجود. وقال أيضا بمذهب امتزاج الأضداد ، وإن الواحد متألف من جميع الأشياء ، وجميع الأشياء صادرة عن الواحد ، وقد توفي سنة ٤٧٥ ق. م. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٥٦).

(٣) كان هيراقليطس يزعم أن النار هي الأصل الأول لجميع الأشياء ، وكان يقول إن عنصر النار يتغير بالتكاثف حتى يصير هواء ، وهذا الهواء يتغير أيضا بالتكاثف حتى يصير ماء ، وكذلك عنصر الماء يصير بالتكاثف ترابا ، ثم ينعكس التغير .. وكان يقول إن هذا العالم نشأ وتركب من النار ، فليست هذه الحياة التي تدب في الأحياء وهذا النشاط العقلي الذي يميز الإنسان إلا قبسا من تلك النار ، فكلما كثرت النار في جسم ازدادت حيويته واشتد نشاطه ، وكلما أظلم الشيء أي قلّ ما فيه من نار ، كان أقرب إلى الموت وأدخل في عالم اللاوجود. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ٦٣).

الموجودات (١) أجسام تدرك عقلا ، وهي كانت تتحرك من الخلاء في الخلاء. وزعم أن الخلاء لا نهاية له ، وكذلك الأجسام لا نهاية لها ، إلا أن لها ثلاثة أشياء : الشكل ، والعظم ، والثقل.

وديمقريطيس (٢) كان يرى أن لها شيئين : الشكل والعظم فقط. وذكر أن تلك الأجسام لا تتجزأ ، أي لا تنفعل ولا تتكثر ، وهي معقولة أو متوهمة غير محسوسة ، فاصطكت تلك الأجزاء في حركاتها اضطرارا واتفاقا ، فحصل من اصطكاكها صور هذا العالم وأشكالها ، وتحركت على أنحاء من جهات التحرك ، وذلك هو الذي يحكى عنهم أنهم قالوا بالاتفاق ، فلم يثبتوا لها صانعا أوجب الاصطكاك ، وأوجد هذه الصور وهؤلاء قد أثبتوا الصانع ، وأثبتوا سبب حركات تلك الجواهر ، وأما اصطكاكها فقد قالوا فيها بالاتفاق ، فلزمهم حصول العالم بالاتفاق والخبط (٣).

__________________

(١) اتفق الفلاسفة على أنه لا يصدر موجود عن معدوم ولا يؤول موجود إلى العدم لما قد صحّ بالتجربة أن الأجسام يتكون بعضها من آثار بعض ، فينتج من هذا أن لها سببا ، وهذا السبب هو الذي يسمونه مادة أولية ، واختلفوا في بيان هذه المادة الأولية فزعم أبيقورس أنها الذرات ، وزعم أن سائر الأجسام تتركب منها ، وذهب أيضا إلى أصل ثان ، وهو الفراغ ، ولكن لم يجعله أصلا لتركيب الأجسام ، وإنما كان يقول إنه أصل لحركاتها.

(٢) ولد يمقريطس في أبديرا نحو ٤٦٠ ق. م. ويقال إنه عاش قرنا كاملا وإنه كان تلميذا للوكيبوس المالطي. وقد جمعت مؤلفات المفكرين ، بعد وفاة ديمقريطس ، في مجموعة تعد موسوعة للمعارف الإنسانية في ذلك العصر ، وتدل على عمق في التفكير وسعة في المعارف قلّ نظيرهما.

ويعد لوكيبوس وديمقريطس واضعي أسس المذهب الذري ، وخلاصة آرائهما أن الكائن مركب من عدد لا نهاية له من العناصر البسيطة الثابتة الصلبة ، وأن تلك العناصر والذرات ذات صفات أساسية ثلاث هي : الشكل والتركيب والوضع. والذرات الأزلية منتشرة في الفراغ اللامتناهي انتشارا يتعادل وذلك الفراغ. والتركيبات التي تحصل عن اتحاد الذرات عارضة ، والعوالم غير المتناهية تنشأ وتزول إلى ما لا نهاية له.

(٣) كان أبيقورس يزعم أن هلاك الدنيا وزوالها يحصل بسبب من أسباب عديدة ، إما بواسطة نار كما إذا دنت الشمس جدا من الأرض فأحرقتها ، وإما بهزة مهولة تقلب جميع الأشياء ... ولكن من آثار هلاكها تتركب دنيا أخرى ، والدنيا التي نحن بها الآن هي اجتماع آثار ما بقي من حوادث مهولة وقعت في سالف الأزمان ويشهد لذلك ما يشاهد في البحار من المهاوي التي لا قاع لها وسلاسل الجبال الشامخة ، والأنهر التي تحت الأرض والبحيرات الكامنة فيها ، والمغارات والكهوف ... الخ. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ١٧٢).

وكان لفيثاغورس تلميذان رشيدان :

يدعى أحدهما : فلنكس ، ويعرف بمرزنوش ؛ قد دخل فارس ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس ، وأضاف حكمته إلى مجوسية القوم ، ويدعى الآخر قلانوس ، دخل الهند ، ودعا الناس إلى حكمة فيثاغورس أيضا ، وأضاف حكمته إلى برهمية القوم ، إلا أن المجوس كما يقال أخذوا جسمانية قوله ، والهند أخذوا روحانية قوله.

ومما أخبر عنه فيثاغورس وأوصى به :

قال : إني عاينت هذه العوالم العلوية بالحسّ بعد الرياضة البالغة (١) ، وارتفعت عن عالم الطبائع إلى عالم النفس وعالم العقل ، فنظرت إلى ما فيها من الصور المجردة ، وما لها من الحسن والبهاء والنور ، وسمعت ما لها من اللحون الشريفة ، والأصوات الشجية الروحانية.

وقال : إن ما في هذا العالم يشتمل على مقدار يسير من الحسن ، لكونه معلول الطبيعة وما فوقه من العوالم أبهى وأشرف وأحسن ، إلى أن يصل الوصف إلى عالم النفس والعقل فيقف ، فلا يمكن المنطق وصف ما فيها من الشرف والكرم والحسن والبهاء ، فليكن حرصكم واجتهادكم على الاتصال بذلك العالم ، حتى يكون بقاؤكم ودوامكم طويلا بعد ما نالكم من الفساد والدثور ، وتصيرون إلى عالم هو حسن كله ، وبهاء كله ، وسرور كله وعز وحق كله ، ويكون سروركم ولذتكم دائمة غير منقطعة.

وقال : من كانت الوسائط بينه وبين مولاه أكثر فهو في رتبة العبودية أنقص. وإذا كان البدن مفتقرا في مصالحه إلى تدبير الطبيعة ، وكانت الطبيعة مفتقرة في تأدية أفعالها إلى تدبير النفس ، وكانت النفس مفتقرة في اختيارها الأفضل إلى إرشاد

__________________

(١) نصح الفيثاغوريون بالرياضة للحصول على مأربهم ، وكان فيثاغورس يذهب في فلسفته ، إلى أن يحول الناس عن الامتلاء إلى التقليل لأنه الأولى بهم والأحسن لما يترتب عليه من الصحة وعدم شغل البال والفكر فيتفرغ العقل لوظائفه ، وضرب المثل بنفسه فكان لا يشرب إلا القراح. ولا يتجاوز في غذائه العيش والعسل والفاكهة والخضر.

العقل ، ولم يكن فوق العقل فاتح إلا الهداية الإلهية ، فبالحري أن يكون المستعين بصريح العقل في كافة المصارف مشهودا له بفطنة الاكتفاء بمولاه ، ؛ وأن يكون التابع لشهوة البدن، المنقاد لدواعي الطبيعة ، المواتي لهوى النفس بعيدا من مولاه ، ناقصا في رتبته.

٦ ـ رأي سقراط (١)

سقراط بن سفرنيسقوس الحكيم الفاضل الزاهد من أهل أثينية ، وكان قد اقتبس الحكمة من فيثاغورس (٢) وأرسالاوس ، واقتصر من أصنافها على الإلهيات والأخلاقيات ، واشتغل بالزهد ورياضة النفس ، وتهذيب الأخلاق ، وأعرض عن ملذات الدنيا ، واعتزل إلى الجبل وأقام في غاربه.

ونهى الرؤساء الذين كانوا في زمانه عن الشرك وعبادة الأوثان ، فثوروا عليه الغاغة (٣) ، وألجئوا ملكهم إلى قتله. فحبسه الملك ثم سقاه السم ؛ وقضيته معروفة.

__________________

(١) ولد سقراط في أثينا نحو سنة ٤٦٩ ق. م. وتوفي نحو ٣٩٩ ق. م. ونحن نكاد لا نعرف عن حياته شيئا لو لا بعض ما رواه خصومه والمعجبون به. وقد اشتهر بنزاهته ورسوخ عقيدته. كما اشتهر بتجرعه السمّ في سبيل تلك العقيدة. وهو يعد من المثل الإنسانية العليا ، ومن النفوس السامية التي قلما يجود التاريخ بمثلها.

ليس لدينا من آثاره شيء لأنه لم ينصرف إلى التدوين بل قضى حياته ناثر أفكار ، وباذر آراء ، ومبشرا استحق اللقب الشهير «أبو الفلسفة».

(٢) ما ذهب إليه الشهرستاني ، من أن سقراط اقتبس الحكمة من فيثاغورس ، وما ذهب إليه القفطي من أنه كان من تلاميذ فيثاغورس ، يظهر منه أنه عاصر فيثاغورس ، وأخذ منه ، ولكن الواقع أن فيثاغورس توفي نحو ٤٩٧ ق. م. وسقراط ولد نحو ٤٦٩ ق. م.

والظاهر أنه لما كان لسقراط وصايا شريفة وآداب فاضلة ، وحكم مشهورة ومذاهب في الصفات قريبة من مذاهب فيثاغورس ، فقد ذهب الشهرستاني إلى أن حكمته مقتبسة منه ، كما ذهب القفطي أنه من تلاميذه.

(٣) الغاغة : الغوغاء. وأصل الغوغاء الجراد حين يخف للطيران ثم استعير للسفلة من الناس والمتسرعين إلى الشر.

قال سقراط : إن الباري تعالى لم يزل هوية فقط ، وهو جوهر فقط. وإذا رجعنا إلى حقيقة الوصف والقول فيه وجدنا المنطق والعقل قاصرين عن اكتناه وصفه (١) ، وحقيقته ، وتسميته ، وإدراكه ، لأن الحقائق كلها من تلقاء جوهره. فهو المدرك حقا ، والواصف لكل شيء وصفا ، والمسمّي لكل موجود اسما. فكيف يقدر المسمى أن يسميه اسما؟ وكيف يقدر المحاط أن يحيط به وصفا؟ فنرجع فنصفه من جهة آثاره وأفعاله. وهي أسماء وصفات ، إلا أنها ليست من الأسماء الواقعة على الجوهر ، المخبرة عن حقيقته. وذلك مثل قولنا إله ، أي واضع كل شيء. وخالق أي مقدر كل شيء. وعزيز أي ممتنع أن يضام. وحكيم أي محكم أفعاله على النظام ، وكذلك سائر الصفات.

وقال : إن علمه ، وقدرته ، وجوده ، وحكمته بلا نهاية. ولا يبلغ العقل أن يصفها. ولو وصفها لكانت متناهية. فألزم عليه : إنك تقول إنها بلا نهاية ولا غاية ، وقد نرى الموجودات متناهية! فقال : إنما تناهيها بحسب احتمال القوابل ، لا بحسب القدرة ، والحكمة ، والجود. ولما كانت المادة لم تحتمل صورا بلا نهاية ، فتناهت الصور لا من جهة بخل في الواهب ؛ بل لقصور في المادة. وعن هذا اقتضت الحكمة الإلهية أنها وإن تناهت ذاتا وصورة ، وحيزا ومكانا ، إلا أنها لا تتناهى زمانا في آخرها إلا من نحو أولها ، وإن لم يتصور بقاء شخص ؛ فاقتضت الحكمة استبقاء الأشخاص ببقاء الأنواع. وذلك بتجدد أمثالها ، ليستحفظ الشخص ببقاء النوع ، ويستبقي النوع بتجدد الأشخاص ، فلا تبلغ القدرة إلى حد النهاية ، ولا الحكمة تقف على غاية.

ثم إن من مذهب سقراط أن أخص ما يوصف به الباري تعالى هو كونه حيا قيوما ، لأن العلم والقدرة ، والجود ، والحكمة تندرج تحت كونه حيا. والحياة

__________________

(١) يؤمن سقراط بأن للعالم إلها واحدا ، لا يمكن للعقل أن يدركه ، ولا تنطبق المعرفة اليقينية عليه ، فهو أزلي أبدي ، وتطبيق الزمان والمكان عليه يجعله حادثا ، فعرفاننا به إنما يكون بآثاره وأفعاله. كما أنه يعتقد أن هناك حياة ثانية ، وهذه العقيدة وجد فيها شفاء من القلق ونجاة من الشك وصيانة من الظلم.

صفة جامعة للكل. والبقاء ، والسرمد ، والدوام ، وحفظ النظام في العالم تندرج تحت كونه قيوما. والقيومية صفة جامعة للكل. وربما يقول : هو حي ناطق من جوهره ، أي من ذاته ، وحياتنا ونطقنا لا من جوهرنا ، ولهذا يتطرق إلى حياتنا ونطقنا العدم والدثور والفساد ، ولا يتطرق إلى حياته ونطقه تعالى وتقدس.

وحكى فلوطرخيس (١) في المبادي أنه قال : أصول الأشياء ثلاثة وهي : العلة الفاعلة ، والعنصر ، والصورة ، فالله تعالى هو الفاعل ، والعنصر هو الموضوع الأول للكون والفساد. والصورة جوهر لا جسم. وقال : الطبيعة أمة للنفس ، والنفس أمة للعقل ، والعقل أمة للمبدع الأول ، من أجل أن أول مبدع أبدعه المبدع الأول صورة العقل. وقال : المبدع لا غاية له ولا نهاية. وما ليس له نهاية ليس له شخص وصورة. وقال : اللانهاية في سائر الموجودات لو تحققت لكان لها صورة واقعة. ووضع وترتيب. وما تحقق له صورة ووضع وترتيب صار متناهيا. فالموجودات ليست بلا نهاية. والمبدع الأول ليس بذي نهاية ، ليس على أنه ذاهب في الجهات بلا نهاية كما يتخيله الخيال والوهم ، بل لا يرتقي إليه الخيال حتى يصفه بنهاية ولا نهاية. فلا نهاية له من جهة العقل ، إذ ليس يحده. ولا من جهة الحس ، فليس يحده. فهو ليس له نهاية ، فليس له شخص وصورة خيالية أو وجودية حسية أو عقلية، تعالى وتقدس (٢).

ومن مذهب سقراط أن النفوس الإنسانية كانت موجودة قبل وجود الأبدان على

__________________

(١) كان فيلسوفا مذكورا في عصره. وله تصانيف مذكورة بين فرق الحكماء منها كتاب «الآراء الطبيعية» ويحتوي على آراء الفلاسفة في الأمور الطبيعية وكتاب «الرياضة» وكتاب في علم النفس. (القفطي ص ١٧٠).

(٢) كان سقراط يؤمن بالقدر. فلم يكن يرى أنه مخير فيما يفعل ، بل كان يعتقد أنه مسير بوحي يملي عليه ما يقول ، ويرسم له طريق المسير ، ويطلعه على نتائج الأعمال قبل حدوثها ، وهو إنما يؤدي رسالة فرضتها عليه الآلهة ليس له عن أدائها من محيص. وقد روى أفلاطون في أحد فصوله حديثا عما حدث لسقراط من وحي. أيقن سقراط من خلاله أنه أحكم أهل زمانه حقا ، وأيقن أنه مسير لا مخير. (انظر الحديث بتوسع في قصة الفلسفة اليونانية ص ١١٢).

نحو من أنحاء الوجود ، إما متصلة بكلها. وإما متمايزة بذواتها وخواصها. فاتصلت بالأبدان استكمالا واستدامة ، والأبدان قوالبها وآلاتها. فتبطل الأبدان ، وترجع النفوس إلى كليتها. وعن هذا وكان يخوف بالملك الذي حبسه أنه يريد قتله ، قال : إن سقراط في حب (١) ، والملك لا يقدر إلا على كسر الحب. فالحب يكسر ويرجع الماء إلى البحر.

ولسقراط أقاويل في مسائل الحكمة العلمية والعملية.

ومما اختلف فيه فيثاغورس وسقراط : أن الحكمة قبل الحق ، أم الحق قبل الحكمة؟ وأوضح القول فيه بأن الحق أعم من الحكمة ، إلا أنه قد يكون جليا ، وقد يكون خفيا. وأما الحكمة فهي أخص من الحق؟ إلا أنها لا تكون إلا جلية. فإذن : الحق مبسوط في العالم ، مشتمل على الحكمة المستفيضة في العالم والحكمة موضحة للحق المبسوط في العالم ، والحق ما به الشيء ، والحكمة ما لأجله الشيء.

ولسقراط أيضا ألغاز ورموز ألقاها إلى تلميذه أرسجانس. وجلها في كتاب «فاذن» ونحن نوردها مرسلة معقودة :

منها قوله : عند ما فتشت عن علة الحياة ألفيت الموت ، وعند ما وجدت الموت ألفيت الحياة الدائمة.

ومنها : اسكت عن الضوضاء التي في الهواء ، وتكلم بالليالي حيث لا تكون أعشاش الخفافيش. واسدد الخمس الكوى ليضيء مسكن العلة. واملأ الوعاء طيبا ، وافرغ الحوض المثلث من القلال الفارغة ، واحبس على باب الكلام ، وامسك مع الحضرة اللجام الرخو لئلا تغضب ، فترى نظام الكواكب. ولا تؤكل

__________________

(١) الحب : الجرة الضخمة والخابية والدن.

الأسود الذئب. ولا تجاوز الميزان ، ولا تسوطنّ (١) النار بالسكين ، ولا تجلس على المكيال ، ولا تشم التفاحة ، وأمت الحي تحيا بموته. وكن قاتله بالسّكين (٢) ، المزينة لوالديه واحذر الأسود ذا الأربع ومن جهة العلة كن أرنبا ، وعند الموت لا تكن نملة ، وعند ما تذكر دوران الحياة أمت الميت لتكون ذاكرا ، وكن صديقا مفضضا ، ولا تكن صديق شرطي ، ولا تكن مع أصدقائك قوسا ، ولا تنعس على أبواب أعدائك ، واثبت على ينبوع واحد متكئا على يمينك. وينبغي أن تعلم أنه ليس زمان من الأزمنة يفقد فيه زمان الربيع. وافحص عن ثلاث سبل ، فإذا لم تجدها فارض بأن تنام لها نوم المستغرق ، واضرب الأترجة (٣) بالرمانة ، واقتل العقرب بالصوم ، وإن أحببت أن تكون ملكا فكن حمار وحش ، وليست السبعة بأكمل من الواحد ، وبالاثني عشر اقتن اثني عشر ، وازرع بالأسود ، واحصد بالأبيض ، ولا تسلبن الإكليل ولا تهتكه ، ولا تقفن راضيا بعدمك للخير وأنت موجود ؛ ذلك لك في أربعة وعشرين مكانا. وإن سألك سائل أن تعطيه من هذا الغذاء فميزه ، وإن كان مستحقا للغذاء المريء فأعطه. وإن احتاج إلى غذاء يمينك فاصنعه ، لأن اللون الذي يطلب كذلك من كمال الغذاء ، فهو للبالغين.

وقال : يكفي من تأجج النار نورها.

وقال له رجل : من أين لك أن هذا المشار إليه واحد؟ فقال : إني لأعلم أن الواحد بالإطلاق غير محتاج إلى الثاني ، فمتى فرضته قرينا للواحد كنت كواضع ما لا يحتاج إليه البتة إلى جانب ما لا بد منه البتة.

__________________

(١) تسوطن : من سوط ؛ والسّوط : خلط الشيء بعضه ببعض ، ومنه سمي المسواط. وفي حديث سودة : أنه نظر إليها وهي تنظر في ركوة فيها ماء فنهاها وقال : إني أخاف عليكم منه المسوط ، يعني الشيطان. (انظر لسان العرب مادة سوط).

(٢) السّكين : هو الحمار الخفيف السريع ، والأتان إذا كانت كذلك سكينة ، وبه سميت الجارية الخفيفة الروح سكينة ، (لسان العرب مادة سكن).

(٣) الأترجة : لعله وعاء الطيب. وفي الحديث : نهى عن لبس القسي المترّج ، وهو المصبوغ بالحمرة صبغا مشبعا.

وقال : الإنسان له مرتبة واحدة من جهة حده ، وثلاث مراتب من جهة هيئته.

وقال : للقلب آفتان : الغم والهم. فالغم يعرض منه النوم ، والهم يعرض منه السهر.

وقال : الحكمة إذا أقبلت خدمت الشهوات والعقول. وإذا أدبرت خدمت العقول الشهوات.

وقال : لا تكرهوا أولادكم على آثاركم ، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم.

وقال : ينبغي أن تغتم بالحياة ، وتفرح بالموت ، لأنا نحيا لنموت ، ونموت لنحيا.

وقال : قلوب المغرقين في المعرفة بالحقائق منابر الملائكة ، وبطون المتلذذين بالشهوات قبور الحيوانات الهالكة.

وقال : للحياة حدان : أحدهما الأمل ، والثاني : الأجل. فبالأول بقاؤها ، وبالآخر فناؤها.

وقال : النفس الناطقة جوهر بسيط ذو سبع قوى يتحرك بها حركة مفردة ، وحركات مختلفة.

فأما حركتها المفردة فإذا تحركت نحو ذاتها ونحو العقل. وأما حركاتها المختلفة فإذا تحركت نحو الحواس الخمس.

واليونانيون بنوا ثلاثة أبيات على طوالع مقبولة.

أحدها : بيت بأنطاكية على جبلها ، وكانوا يعظمونه ويقربون القرابين فيه ، وقد خرب.

والثاني : من جملة الأهرام التي بمصر ، بيت كانت فيه أصنام تعبد ، وهي التي نهاهم سقراط عن عبادتها.

والثالث : بيت المقدس الذي بناه داود وأتمه سليمان عليهما‌السلام. ويقال إن سليمان هو الذي بناه ، والمجوس يقولون إن الضحاك بناه. وقد عظمه اليونانيون تعظيم أهل الكتاب إياه.

٧ ـ رأي أفلاطون الإلهي (١)

أفلاطون بن أرسطن بن أرسطوقليس من أثينية ، وهو آخر المتقدمين الأوائل الأساطين، معروف بالتوحيد والحكمة. ولد في زمان أردشير بن دارا في سنة ست عشرة من ملكه. وفي سنة ست وعشرين من ملكه كان حدثا متعلما يتلمذ لسقراط. ولما اغتيل سقراط بالسم ومات قام مقامه ، وجلس على كرسيه.

وقد أخذ العلم من سقراط ، وطيماوس ، والغريبين : غريب أثينية ، وغريب الناطس وضم إليه العلوم الطبيعية والرياضية (٢).

وحكى عنه قوم ممن شاهده وتلمذ له مثل أرسطوطاليس ، وطيماوس ، وثاوفرسطيس(٣) أنه قال : إن للعالم محدثا مبدعا ، أزليا (٤) ، واجبا بذاته. عالما

__________________

(١) ولد أفلاطون في أثينا عام ٤٢٧ ق. م. وثقف ثقافة تنسجم وأصله الكريم. وعند ما بلغ العشرين من عمره اتصل بسقراط ولزمه مدة ثماني عشرة سنة. وعند ما أدرك سقراط الأجل راح أفلاطون يضرب في الآفاق من كريت إلى جنوبي إيطاليا إلى صقلية فمصر. وفي عام ٣٨٧ ق. م. عاد إلى أثينا ، وأنشأ على أبوابها أكاديميته الشهيرة التي أمّها طلاب المعرفة من كل صوب ، وراح يعلم الحكمة ويعدّ رجالا يستطيعون أن يديروا شئون المدينة وفاقا لمقتضيات العقل.

وقد ترك أفلاطون التعليم مرتين وسافر إلى سيراكوزا عله يطبق فيها آراءه السياسية وينشئ دولة تخضع لسلطان الفلسفة. ولكنه عاد في كل مرة بالإخفاق والفشل. وتوفي سنة ٣٤٨ ق. م.

(٢) لقد أخذ أفلاطون عن فلاسفة عديدين ، وخاصة بعد موت سقراط وقد رحل إلى القيروان وتعلم فيها العلوم الهندسية على تيودورس ، وتوجه إلى إيطاليا ليسمع الفيثاغوريين ، وأزمع الرحيل إلى مصر ليتلقى عن علمائها وحكمائها ، وكان معتزما الذهاب إلى الهند ليأخذ عن حكمائها ، لو لا حروب في آسيا. (انظر ترجمة مشاهير الفلاسفة ص ٩٦).

(٣) ثاوفرسطيس : هو ابن أخ أرسطوطاليس ، وفي الفهرست لابن النديم أنه ابن أخته ، وفي تاريخ الفلسفة أنه صديقه ، هذا وقد كان أحد تلاميذه الآخذين الحكمة عنه ، وله تصانيف جليلة منها : كتاب الآثار العلوية ، وكتاب النفس ، وكتاب الأدب. (أخبار العلماء ص ٧٥ وانظر الفهرست لابن النديم ص ٣٥٣).

(٤) فإله أفلاطون هو الصانع الذي أبدع نظام هذا الكون ، فقد كانت المادة تتحرك حركة مشوهة مضطربة على غير نظام ، فنظمها الصانع ورتبها. وأبدع العالم من لا نظام إلى نظام فوق هذا العالم المحسوس عالم آخر هو عالم الصور المجردة. وإن الإنسانية مثلا هي إحدى هذه الصور ، وهي خالدة لا تتبدل ولا تتغير ، أما الإنسان الذي نراه ونشير إليه فهو في كل يوم على حال.

بجميع معلوماته على نعت الأسباب الكلية. كان في الأزل ولم يكن في الوجود رسم ولا طلل إلا مثالا عند الباري تعالى ، ربما يعبر عنه بالهيولى ، وربما يعبر عنه بالعنصر. ولعله يشير إلى صور المعلومات في علمه تعالى ، قال : فأبدع العقل الأول ، وبتوسطه النفس الكلية ، وقد انبعث عن العقل انبعاث الصورة في المرآة ، وبتوسطهما العنصر.

ويحكى عنه : أن الهيولى التي هي موضوع الصور الحسية غير ذلك العنصر.

ويحكى عنه : أنه أدرج الزمان في المبادي ، وهو الدهر ، وأثبت لكل موجود مشخص في العالم الحسي مثالا غير مشخص في العالم العقلي ، ويسمي ذلك : المثل الأفلاطونية (١). فالمبادئ الأول بسائط. والمثل مبسوطات. والأشخاص مركبات. فالإنسان المركب المحسوس جزئي ذلك الإنسان المبسوط المعقول ، وكذلك كل نوع من الحيوان والنبات والمعادن.

قال : والموجودات في هذا العالم آثار الموجودات في ذلك العالم ، ولا بدّ لكل أثر من مؤثر يشابهه نوعا من المشابهة. قال : ولما كان العقل الإنساني من ذلك العالم أدرك من المحسوس مثالا منتزعا من المادة معقولا ، يطابق المثال الذي في عالم العقل بكليته ، ويطابق الموجود الذي في عالم الحس بجزئيته ، ولو لا ذلك لما

__________________

(١) إن نظرية المثل الأفلاطونية تكون نقطة الانطلاق وحجر الزاوية لفلسفة أفلاطون بجملتها. وهي ناتجة عن استخدام الاستقراء السقراطي والجدل الأفلاطوني.

تحل هذه النظرية في الجمهورية المكان الأول إلى جنب الآراء السياسية بل تعدّ أشهر أجزاء الجمهورية وأبعدها أثرا.

والمثل عنده هي الحقائق الخالدة ، والصور المجردة في عالم الإله ، وهي لا تدثر ولا تفسد ولكنها أزلية أبدية ، والذي يفسد ويدثر إنما هو هذا الكائن المحسوس.

والمثال هو الموضوع الحقيقي للمعرفة ، فمعرفة الفرس مثلا لا تقوم على معرفة ما يختص به أفراد جنسه من سن وحجم ولون ، إذ أن هذه صفات تختلف باختلاف الأفراد ، بل على المفهوم المشترك بين جميع أفراد الجنس ، والذي لا يولد مع ولادة الفرد ولا يفنى بفنائه ، بل هو شيء أبدي ، تشاركه جميع الأفراد في طبيعته.

كان لما يدركه العقل مطابقا مقابلا من خارج. فما يكون مدركا لشيء يوافق إدراكه حقيقة المدرك.

قال : والعالم عالمان : عالم العقل وفيه المثل العقلية والصور الروحانية وعالم الحس وفيه الأشخاص الحسية والصور الجسمانية ، كالمرآة المجلوة التي تنطبع فيها صور المحسوسات ، فإن الصور فيها مثل الأشخاص ، وكذلك العنصر في ذلك العالم مرآة لجميع صور هذا العالم يتمثل فيه جميع الصور كلها ، غير أن الفرق المنطبع في المرآة الحسية صور خيالية يرى أنها موجودة تتحرك بحركة الشخص وليس في الحقيقة كذلك ، وأن المتمثل في المرآة العقلية صور حقيقية روحانية هي موجودة بالفعل تحرك الأشخاص ولا تتحرك ، فنسبة الأشخاص إليها كنسبة الصور في المرآة إلى الأشخاص ، فلها الوجود الدائم ، ولها الثبات القائم ، وهي تتمايز في حقائقها تمايز الأشخاص في ذواتها. قال : وإنما كانت هذه الصور موجودة كلية دائمة باقية ، لأن كل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته في علم الأول الحق ، والصور عنده بلا نهاية ، ولو لم تكن الصور معه في أزليته ، في علمه لم تكن لتبقى ، ولو لم تكن دائمة بدوامها لكانت تدثر بدثور الهيولى ، ولو كانت تدثر مع دثور الهيولى لما كانت على رجاء ولا خوف ، ولكن لما صارت الصور الحسية على رجاء وخوف استدل به على بقائها ، وإنما تبقى إذا كانت لها صور عقلية في ذلك العالم (١) ترجو اللحوق بها ، وتخاف التخلف عنها.

__________________

(١) ذلك أن أفلاطون في كثير من أقاويله يومئ إلى أن للموجودات صورا مجردة في عالم الإله ، وربما يسميها المثل الإلهية.

ويوضح أفلاطون ذلك بقوله : إننا حيث نجد عددا من الأفراد يشتركون في الاسم ، فإن لهم مثالا مشتركا أيضا. فإننا ندرك عددا كبيرا من الأسرّة ، وليس لها كلها إلا مثال واحد. وكما أن انعكاس السرير في المرآة هو مظهر فقط ، وليس «بالحقيقي» فكذلك الأسرة الكثيرة الجزئية ليست بالحقيقة ، وما هي سوى نسخ عن «المثال» الذي هو السرير الحقيقي الوحيد.

وتصوّر هذا المثال هو «المعرفة» وأما الإدراك الحسي للأسرة فهو مجرد «الرأي».

قال : وإذا اتفقت العقلاء على أن هناك حسا ومحسوسا ، وعقلا ومعقولا ، وشاهدنا بالحس جميع المحسوسات ، وهي محدودة ومحصورة بالزمان والمكان ، فيجب أن نشاهد بالعقل جميع المعقولات ، وهي غير محدودة ومحصورة بالزمان والمكان ، فتكون مثلا عقلية.

ومما يثبته أفلاطون موجودات محققة بهذا التقسيم! قال : إنا نجد النفس تدرك أمور البسائط والمركبات ، ومن المركبات أنواعها وأشخاصها ، ومن البسائط ما هي هيولانية ، وهي التي تعرى عن الموضوع ، وهي رسوم الجزئيات ، مثل : النقطة ، والخط ، والسطح ، والجسم التعليمي.

قال : وهذه الأشياء أشياء موجودة بذواتها ، وكذلك توابع الجسم مفردة مثل : الحركة، والزمان ، والمكان ، والأشكال ؛ فإنا نلحظها بأذهاننا بسائط مرة ، ومركبة مرة أخرى ، ولها حقائق في ذواتها من غير حوامل ولا موضوعات. ومن البسائط ما ليست هي هيولانية مثل : الوجود ، والوحدة ، والجوهر. والعقل يدرك القسمين جميعا متطابقين عالمين متقابلين : عالم العقل وفيه المثل العقلية التي تطابقها الأشخاص الحسية. وعالم الحس وفيه المتمثلات الحسية التي تطابقها المثل العقلية : فأعيان ذلك العالم آثار في هذا العالم ، وأعيان هذا العالم آثار في ذلك العالم ، وعليه وضع الفطرة والتقدير ، ولهذا الفصل شرح وتقرير.

وجماعة المشائين وأرسطوطاليس لا يخالفونه في إثبات هذا المعنى الكلي ، إلا أنهم يقولون : هو معنى في العقل موجود في الذهن والكلي من حيث هو كلي لا وجود له في الخارج عن الذهن ، إذا لا يتصور أن يكون شيء واحد ينطبق على زيد وعلى عمرو ، وهو في نفسه واحد.

وأفلاطون يقول ذلك المعنى الذي أثبته في العقل يجب أن يكون له شيء يطابقه في الخارج فينطبق عليه. وذلك هو المثال الذي في العقل ، وهو جوهر لا عرض ، إذ تصور وجوده لا في موضوع ، وهو متقدم على الأشخاص الجزئية تقدم العقل على الحس ، وهو تقدم ذاتي وشرفي معا.

وتلك المثل هي مبادي الموجودات الحسية ، منها بدأت ، وإليها تعود.

ويتفرع على ذلك أن النفوس الإنسانية التي هي متصلة بالأبدان اتصال تدبير وتصرف، كانت موجودة قبل وجود الأبدان. وكان لها نحو من أنحاء الوجود العقلي ، وتمايز بعضها عن بعض تمايز الصور المجردة عن المادة بعضها عن بعض ، وخالفه في ذلك تلميذه أرسطوطاليس ومن بعده من الحكماء ، وقالوا : إن النفوس حدثت مع حدوث الأبدان.

وقد رأيت في كلام أرسطوطاليس كما سيأتي في حكايته أنه ربما يميل إلى مذهب أفلاطون في كون النفس موجودة قبل وجود الأبدان (١) ، إلا أن نقل المتأخرين ما قدمنا ذكره.

وخالفه أيضا في حدوث العالم : إن أفلاطون يحيل وجود حوادث لا أول لها ، لأنك إذا قلت حادث فقد أثبتّ سبق الأزلية لكل واحد ، وما ثبت لكل واحد يجب أن يثبت للكل. قال : وإن صورها لا بد وأن تكون حادثة ، لكن الكلام في هيولاها وعنصرها. فأثبت عنصرا قبل وجودها. فظن بعض العقلاء أنه حكم عليه بالأزلية والقدم. وهو إذ أثبت واجب الوجود لذاته ، وأطلق لفظ الإبداع على العنصر ، فقد أخرجه عن الأزلية بذاته ، بل يكون وجوده بوجود واجب الوجود كسائر المبادي التي ليست زمانية ولا وجودها ولا حدوثها حدوث زماني. فالبسائط حدوثها إبداعي غير زماني. والمركبات حدوثها بوسائط البسائط حدوث زماني.

وقال : إن العالم لا يفسد فسادا كليا. ويحكى عنه في سؤاله عن طيماوس :

ما الشيء الذي لا حدوث له؟ وما الشيء الحادث وليس بباق؟ وما الشيء الموجود بالفعل وهو أبدا بحال واحدة؟ وإنما يعني بالأول : وجود الباري تعالى.

__________________

(١) وقد أخذ أفلاطون عن فيثاغورس فكرة وجود النفس قبل الجسد ، ولا نستطيع التأكيد هل آمن بهذه الحقيقة أم لا. أما ما لا يقبل الشك فهو اعتقاده بخلود هذه النفس ، وله على هذا الخلود براهين متعددة نجد أهمها في حوار «فيدون» الذي وصف فيه سقراط قبيل تجرعه السم القاتل.

وبالثاني : وجود الكائنات الفاسدات التي لا تثبت على حالة واحدة. وبالثالث : وجود المبادي والبسائط التي لا تتغير. ومن أسئلته : ما الشيء الكائن ولا وجود له؟ وما الشيء الموجود ولا كون له؟.

وإنما يعني بالأول الحركة المكانية والزمان ، لأنه لم يؤهله لاسم الوجود. ويعني بالثاني الجواهر العقلية التي هي فوق الزمان والحركة والطبيعة وحق لها اسم الوجود ، إذ لها السرمد والبقاء والدهر.

ويحكى عنه أنه قال : إن الأسطقسات (١) لم تزل تتحرك حركة مشوهة مضطربة غير ذات نظام ، وأن الباري تعالى نظمها ورتبها فكان هذا العالم. وربما عبر عن الأسطقسات بالأجزاء اللطيفة ، وقيل إنه عنى بها الهيولى الأزلية العارية عن الصور حتى اتصلت الصور والأشكال بها فترتبت وانتظمت.

ورأيت في راموز (٢) له أنه قال : إن النفوس كانت في عالم الذكر مغتبطة مبتهجة بعالمها وما فيه من الروح والبهجة والسرور ، فأهبطت إلى هذا العالم حتى تدرك الجزئيات وتستفيد ما ليس لها بذاتها بواسطة القوى الحسية. فسقطت رياشها قبل الهبوط ، فهبطت حتى يستوي ريشها وتطير إلى عالمها بأجنحة مستفادة من هذا العالم.

وحكى أرسطوطاليس عنه أنه أثبت المبادي خمسة أجناس : الجوهر ، والاتفاق ، والاختلاف ، والحركة ، والسكون. ثم فسر كلامه فقال : أما الجوهر فنعني به الوجود. وأما الاتفاق فلأن الأشياء متفقة بأنها من الله تعالى. وأما الاختلاف فلأنها مختلفة في صورها. وأما الحركة فلأن لكل شيء من الأشياء فعلا خاصا.

__________________

(١) الأسطقسات ، الواحد أسطقس : وهو الجسم الأول ، الذي باجتماعه إلى أجسام أولى مخالفة له في النوع يقال له أسطقس لها ، فلذلك قيل إنه آخر ما ينتهي إليه تحليل الأجسام فلا توجد فيه قسمة إلا إلى أجزاء متناهية.

وفي التعريفات للجرجاني : هو لفظ يوناني بمعنى الأصل ، وتسمى العناصر الأربعة (الماء والأرض والهواء والنار) أسطقسات.

(٢) الراموز : البحر العظيم لتموجه ، وقد استعمله المولدون في الأصل والنموذج.

وذلك نوع من الحركة ، لا حركة النقلة ؛ وإذا تحرك نحو الفعل وفعل فله سكون بعد ذلك لا محالة. قال : وأثبت البخت أيضا مبدأ سادسا وهو نطق عقلي ، وناموس لطبيعة الكل ، وقال جرجيس (١) : إنه قوة روحانية مدبرة للكل ، وبعض الناس يسميه جدا. وزعم الرواقيون أنه نظام لعلل الأشياء ، وللأشياء المعلولة.

وزعم بعضهم أن علل الأشياء ثلاثة : المشتري ، والطبيعة ، والبخت.

وقال أفلاطون : إن في العالم طبيعة عامة تجمع الكل ، وفي كل واحد من المركبات طبيعة خاصة ، وحد الطبيعة بأنها مبدأ الحركة والسكون في الأشياء ، أي مبدأ التغير ، وهي قوة سارية في الموجودات كلها تكون السكنات والحركات بها ، فطبيعة الكل محركة للكل ، والمحرك الأول يجب أن يكون ساكنا ، وإلا تسلسل القول فيه إلى ما لا نهاية له.

وحكى أرسطوطاليس في مقالة الألف الكبرى من كتاب «ما بعد الطبيعة» أن أفلاطون كان يختلف في حداثته إلى أقراطيلوس (٢) ، فكتب عنه ما روى عن هرقليطس (٣) : أن جميع الأشياء المحسوسة فاسدة ، وأن العلم لا يحيط بها. ثم اختلف بعده إلى سقراط ، وكان من مذهبه طلب الحدود دون النظر في طبائع المحسوسات وغيرها ، فظن أفلاطون أن نظر سقراط في غير الأشياء المحسوسة ، لأن الحدود ليست للمحسوسات ، لأنها إنما تقع على أشياء دائمة كلية ، أعني الأجناس ، والأنواع ، فعند ذلك سمى أفلاطون الأشياء الكلية صورا ، لأنها واحدة ، ورأى أن المحسوسات لا تكون إلا بمشاركة الصور. إذن كانت الصور رسوما

__________________

(١) جرجيس : هو جورجياس الفيلسوف السوفسطائي ، الذي كان يعلم البلاغة وعلم السياسة ، وكان يستعير منهج زينون من قبله في الجدل ، ويعتمد على برمنيدز في آرائه في أصل الكون. وقد وضع كتابا عنوانه «الطبيعة» أو اللاوجود.

(٢) أقراطيلوس : فيلسوف تتلمذ لهرقليطس ، وكان أحد أتباعه ، وقد أخذ عنه أفلاطون ، وقد انتهى أقراطيلوس إلى تحريم الكلام ، وكان يقتصر على تحريك اصبعه.

(٣) هيرقليطس : ولد نحو ٥٤٠ ق. م. وتوفي سنة ٤٧٥ ق. م. (انظر ص ٣٩٨ ج ٢ من هذا الكتاب).

ومثالات لها ، متقدمة عليها ، وإنما وضع سقراط الحدود مطلقا ، لا باعتبار المحسوس وغير المحسوس ، وأفلاطون ظن أنه وضعها لغير المحسوسات ، فأثبتها مثلا عامة.

وقال أفلاطون في كتاب «النواميس» : إن الأشياء التي لا ينبغي للإنسان أن يجهلها ، منها : أن له صانعا ، وأن صانعه يعلم أفعاله ، وذكر أن الله تعالى إنما يعرف بالسلب ، أي لا شبيه له ولا مثال ، وأنه أبدع العالم من لا نظام إلى نظام ، وأن كل مركب فهو إلى الانحلال ، وأنه لم يسبق العالم زمان ، ولم يبدع عن شيء.

اختلاف الأوائل في الإبداع ، والمبدع ، والإرادة

ثم إن الأوائل اختلفوا في الإبداع ، والمبدع : هل هما عبارتان عن معبر واحد؟ أم للإبداع نسبة إلى المبدع؟ وكذلك الإرادة : إنها المراد ، أم المريد؟ على حسب اختلاف متكلمي الإسلام في الخلق ، والمخلوق ، والإرادة : إنها خلق أم مخلوقة؟ أم صفة في الخالق؟.

قال أنكساغورس بمذهب فلوطرخيس : إن الإرادة ليست هي غير المراد ، ولا غير المريد ، وكذلك الفعل لأنهما لا صورة لهما ذاتية ، وإنما يقومان بغيرهما ، فالإرادة مرة تكون مستبطنة في المريد ، ومرة ظاهرة في المراد ، وكذلك الفعل.

وأما أفلاطون وأرسطوطاليس فلا يقبلان هذا القول ، وقالا : إن صورة الإرادة وصورة الفعل قائمتان ، وهما أبسط من صورة المراد كالقاطع للشيء هو المؤثر ، وأثره في الشيء ، والمقطوع هو المؤثر فيه القابل للأثر.

فالأثر ليس هو المؤثر ولا المؤثر فيه ، وإلا انعكس حتى يكون المؤثر هو الأثر ، والمؤثر فيه هو الأثر ، وهو محال. فصورة المبدع فاعلة ، وصورة المبدع مفعولة ، وصورة الإبداع متوسطة بين الفاعل والمفعول.

فللفعل صورة ، وأثر. فصورته من جهة المبدع ، وأثره من جهة المبدع. والصورة من جهة المبدع في حق الباري تعالى ليست زائدة على ذاته حتى يقال صورة إرادة ، وصورة باري مفترقتان ، بل هي حقيقة واحدة.

وأما برمنيدس الأصغر (١) فإنه أجاز قولهم في الإرادة ولم يجزه في الفعل وقال : إن الإرادة تكون بلا توسط من الباري تعالى ، فجائز ما وصفوه. وأما الفعل فيكون بتوسط منه ، وليس ما هو بلا توسط كالذي يكون بتوسط ، بل الفعل قط لن يتحقق إلا بتوسط الإرادة ، ولا ينعكس.

وأما الأولون مثل تاليس ، وأنبدقليس فقد قالوا : الإرادة من جهة المبدع هي المبدع ومن جهة المبدع هي المبدع. وفسروا هذا بأن الإرادة من جهة الصورة هي المبدع ، ومن جهة الأثر هي المبدع. ولا يجوز أن يقال إنها من جهة الصورة هي المبدع ، لأن صورة الإرادة عند المبدع قبل أن يبدع ، فغير جائز أن تكون ذات صورة الشيء الفاعل هي المفعول ، بل من جهة أثر ذات الصورة هي المفعول. ومذهب أفلاطون وأرسطوطاليس هذا بعينه ، وفي الفصل انغلاق.

الفصل الثاني

حكماء الأصول

حكماء الأصول الذين هم من القدماء إلا أنا لم نجد لهم رأيا في المسائل المذكورة غير حكم مرسلة عملية أوردناها لئلا تشذ مذاهبهم عن القسمة ، ولا يخلو الكتاب عن تلك الفوائد.

فمنهم الشعراء : الذين يستدلون بشعرهم ، وليس شعرهم على وزن وقافية ، ولا الوزن والقافية ركن في الشعر عندهم ، بل الركن في الشعر عندهم إيراد المقدمات المخيلة فحسب. ثم قد يكون الوزن والقافية معينين في التخيل. فإن كانت

__________________

(١) برمنيدس الأصغر : كان تلميذا لسقراط الصغير ، وقد سأل أستاذه ، هل هناك مثل للشعر والأقذار؟ فأنكر سقراط في جوابه أن يكون لمثل هذه الأشياء الوضيعة مثل. وقد ذهب في فلسفته إلى أن الحقيقة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلا بطريق العقل وحده ، لأن الحواس غاشة خادعة. (قصة الفلسفة اليونانية ص ١٦٦ و ٢١٣).

المقدمة التي توردها في القياس الشعري مخيلة فقط تمحض القياس شعريا ، وإن انضم إليها قول إقناعي تركبت المقدمة من معنيين : شعري وإقناعي. وإن كان الضميم إليه قولا يقينيا تركبت المقدمة من شعري وبرهاني.

ومنهم النّساك : ونسكهم وعبادتهم عقلية لا شرعية ، ويقتصر ذلك على تهذيب النفس عن الأخلاق الذميمة ، وسياسة المدينة الفاضلة التي هي الجنة الإنسانية.

وربما وجدنا لبعضهم رأيا في بعض المسائل المذكورة ، أعني المبدع والإبداع ، وأنه عالم ، وأن أول ما أبدعه ما ذا؟ وأن المبادي كم هي؟ وأن المعاد كيف يكون؟ وصاحب الرأي الموافق للأوائل المذكورين أوردنا اسمه ، وذكرنا مقالته ، وإن كانت كالمكررة ، نبتدئ بهم ، ونجعل فلوطرخيس مبدأ آخر.

١ ـ رأي فلوطرخيس (١)

قيل إنه أول من شهر بالفلسفة ، ونسبت إليه الحكمة ، تفلسف بمصر ، ثم سار إلى ملطية وأقام بها ، وقد يعد من الأساطين.

__________________

(١) فلوطرخيس : مفكر ومؤرخ فلسفة ومؤرخ سياسي يوناني ، ولد في خيرونية حوالي سنة ٤٦ م وتوفي نحو ١٢٧ م.

تعلم الفلسفة على يد أمونيوس في أثينا وصار من أتباع الأفلاطونية. وفي الإسكندرية أتقن مناهج الفيلولوجيا ، وزار روما مرتين على الأقل ، لكنه أمضى معظم حياته في مسقط رأسه ، حيث تولى بعض الوظائف المحلية ، وحوالي سنة ٩٥ م صار كاهنا مدى الحياة في معبد «دلف».

والمؤلفات المنسوبة إليه تربو على مائتي كتاب أو رسالة ، وتأتي أهميتها من كونها حفظت مواد مأخوذة عن مؤلفات مفقودة لكتاب قدماء.

أما من الناحية الفلسفية والدينية ، فقد كان فلوطرخيس خصما للخرافات والأساطير وتولى الدفاع عن العبادات الوثنية بتأويلها تأويلا فلسفيا ، وكان خصما للرواقية والأبيقورية على السواء. والنزعة الغالبة عليه هي الأفلاطونية ، لكنه مع ذلك تأثر ببعض آراء أرسطو والفيثاغوريين. واهتم بمشكلة الشر ، فوجد الأصل فيه راجعا إلى المادة. وأقرّ بوجود الجن وبتدخلهم في شئون العالم والناس. وأهم مؤلفاته هي : جني سقراط (Degenio Socrate (و «الآراء الطبيعية التي يرضى بها الفلاسفة» وقد ترجمه إلى العربية قسطا بن لوقا. (انظر موسوعة الفلسفة ٢ : ١٩٥).

قال : إن الباري تعالى لم يزل بالأزلية التي هي أزلية الأزليات ، وهو مبدع فقط. وكل مبدع ظهرت صورته في حد الإبداع فقد كانت صورته عنده ، أي كانت معلومة له فالصور عنده بلا نهاية ، أي المعلومات بلا نهاية. قال : ولو لم تكن الصور عنده ومعه لما كان إبداع، ولا بقاء للمبدع. ولو لم تكن باقية دائمة لكانت تدثر بدثور الهيولى ، ولو كان ذلك كذلك لارتفع الرجاء والخوف. ولكن لما كانت الصور باقية دائمة ، ولها الرجاء والخوف : كان ذلك دليلا على أنها لا تدثر ، ولما عدل عنها الدثور ولم يكن له قوة عليها كان ذلك دليلا على أن الصورة أزلية في علمه تعالى ، قال : ولا وجه إلّا القول بأحد الأقوال : إما أن يقال الباري تعالى لا يعلم شيئا البتة ، وهذا من المحال الشنيع. وإما أن يقال يعلم بعض الصور دون بعض ، وهذا من النقص الذي لا يليق بكمال الجلال ، وإما أن يقال : يعلم جميع الصور والمعلومات ، وهذا هو الرأي الصحيح.

ثم قال : إن أصل المركبات هو الماء ، فإنه إذا تخلخل صافيا وجد نارا ، وإذا تخلخل وفيه بعض الثقل صار هواء ، وإذا تكاثف تكاثفا مبسوطا بالغا صار أرضا.

وحكى فلوطرخيس أن هرقليطس زعم أن الأشياء إنما انتظمت بالبخت ، وجوهر البخت هو نطق عقلي ينفذ في الجوهر الكلي ، والله سبحانه وتعالى أعلم.

٢ ـ رأي أكسنوفانس (١)

كان يقول : إن المبدع الأول هو آنية أزلية دائمة ديمومة القدم ، لا تدرك بنوع

__________________

(١) أكسنوفانس : ولد سنة ٥٧٠ ق. م. في قولون بالقرب من أفسوس. ويرجح أن غزو الفرس لبلاده حمله على مغادرتها فضرب في مناكب الأرض يطوف في أنحاء العالم اليوناني ينشد الشعر في المحافل والأعياد ، ولم يزل يجول ويطوف حتى أوفى على التسعين.

كان أكسنوفانس شريف النفس ، حر الفكر ، مرّ النقد ، قال ساخرا من تكريم الناس للمصارعين : إن حكمتنا خير وأبقى من قوة الرجال والخيل. وقال متهكما من فيثاغورس لاعتقاده بالتناسخ : أنه مرّ ذات يوم برجل يضرب كلبا فأخذته الشفقة فصاح وهو ينتحب : أمسك عن ضربه يا هذا! إنها نفس صديق لي ، لقد عرفته من صوته. ـ

صفة منطقية ولا عقلية مبدع صور كل صفة ، وكل نعت منطقي وعقلي ، فإذا كان هذا هكذا ، فقولنا إن صور ما في هذه العوالم المبدعة لم تكن عنده أو كانت ، أو كيف أبدع ولم أبدع؟ محال ، لأن العقل مبدع ، والمبدع مسبوق بالمبدع ، والمسبوق لا يدرك السابق أبدا ، فلا يجوز أن يصف المسبوق السابق. بل نقول : إن المبدع أبدع كيفما أحب. وكيفما شاء ، فهو هو ولا شيء معه. قال : وهذه الكلمة أعني هو ولا شيء بسيطا ولا مركبا معه ، وهو مجمع كل ما نطلبه من العلم ، لأنك إذا قلت ولا شيء معه ، فقد نفيت عنه أزلية الصورة والهيولى ، وكل مبدع من صورة وهيولى ، وكل مبدع من صورة فقط.

ومن قال إن الصور أزلية مع آنيته فليس هو فقط ، بل هو وأشياء كثيرة. فليس هو مبدع للصور ؛ بل كل صورة إنما أظهرت ذاتها. فعند إظهارها ذاتها ظهرت هذه العوالم وهذا أشنع ما يكون من القول.

وكان هرمس وعاذيمون يقولان : ليست أوائل البتة ، ولا معقول قبل المحسوس بحال ، بل مثل بدعة الأشياء مثل الذي يفرخ من ذاته بلا حدث ولا فعل ظهر ، فلا يزال يخرجه من القوة إلى الفعل حتى يوجد ، فيكمل ، فيحسه ويدركه. وليس شيء بمعقول البتة والعالم دائم لا يزول ، ولا يفنى ، فإن المبدع لا يجوز أن يفعل فعلا يدثر إلا هو داثر مع دثور فعله ، وذلك محال.

٣ ـ رأي زينون الأكبر (١)

زينون الأكبر ابن ماوس من أهل قنطس ، كان يقول : إن المبدع الأول كان في

__________________

ـ وقد بثّ في ثنايا أشعاره آراءه في الدين والفلسفة ، وهو بالإصلاح الديني أشد صلة منه بالفلسفة. فقد هاجم اليونان في دينهم هجوما عنيفا زعزع العقائد وزلزل الآلهة التي اتخذها اليونان. والتي صدروها في الأساطير والأشعار القديمة في صورة الشر ، فهي تمكر وتخدع وتسرق ... وقد سخر أكسنوفانس من هؤلاء الذين استباحت عقولهم أن تسيخ آلهة تولد وتموت وتضطرب مع البشر ، وهو ينحو باللائمة المرة على هومر ، وهزيود ، اللذين ساقا في شعرهما تلك الصور الشائنة للآلهة. توفي أكسنوفانس نحو ٤٨٠ ق. م. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٧ وقصة الفلسفة ص ٤٠).

(١) زينون الأكبر : ولد في إيليا سنة ٤٨٩ ق. م. وهو تلميذ برمنيدس وكان رجلا منطقيا ذا قدرة عظيمة على ـ

علمه صورة إبداع كل جوهر ، وصورة دثور كل جوهر. فإن علمه غير متناه ، والصور التي فيه من حيث الإبداع غير متناهية ، وكذلك صور الدثور غير متناهية ، فالعوالم تتجدد في كل حين وفي كل دهر ، فما كان منها مشاكلا لنا أدركنا حدود وجوده ودثوره بالحواس والعقل ، وما كان غير مشاكل لنا لم ندركه. إلا أنه ذكر وجه التجدد فقال : إن الموجودات باقية داثرة. أما بقاؤها فبتجدد صورها ، وأما دثورها فبدثور الصورة الأولى عند تجدد الأخرى ، وذكر أن الدثور قد يلزم الصورة والهيولى معا.

وقال أيضا : إن الشمس والقمر والكواكب تستمد القوة من جوهر السماء. فإذا تغيرت السماء تغيرت النجوم أيضا ، ثم هذه الصور كلها بقاؤها ، ودثورها في علم الباري تعالى ، والعلم يقتضي بقاءها دائما وكذلك الحكمة تقتضي ذلك ؛ لأن بقاءها على هذه الحال أفضل ، والباري تعالى قادر على أن يفني العوالم يوما ما إن أراد ، وهذا الرأي قد مال إليه الحكماء المنطقيون الجدليون دون الإلهيين (١).

__________________

ـ الحجاج ، فبرع كل البراعة في الدفاع عن مذهب أستاذه ، حتى أنه لم يخالفه في شيء ، وحتى في الجزء الخاص بالطبيعيات.

أراد زينون أن يدافع عن مذهب الوجود الواحد الثابت فلجأ إلى طريقة غير مباشرة ، فبينما كان أستاذه يستخرج خصائص الوجود من ماهية الوجود نفسه استخلاصا استدلاليا ، نرى زينون على العكس يحاول الدفاع عن مذهب برمنيدس مستعملا طريقة غير مباشرة ، وذلك بأن يقول إن المذاهب المضادة لمذهب الوجود عند برمنيدس تفضي قطعا إلى تناقض ، ومعنى إفضائها إلى تناقض أنها غير صحيحة ، وما دامت غير صحيحة فالمذاهب المضادة لها صحيحة. توفي زينون سنة ٤٣٠ ق. م. (انظر موسوعة الفلسفة ١ : ٣٧١ ـ ٣٧٣).

(١) ذهب مذهب أستاذه برمنيدس ، في أنه لم يلتمس علة الكون في ماء ولا هواء مما يرى بالعين ويحس باليد ، ولم يلتمسه في العدد الذي يتصل بالأشياء المحسوسة صلة وثيقة ، بل أنكر الأشياء جميعا واعتبرها في حكم العدم ، واغترف بحقيقة واحدة لم نصل إليها بطريق الحواس ، بل بالعقل الحر الخالص ، أعني بها الكينونة إلى الوجود ، إذ أنه نظر إلى الأشياء فأدرك أنه إنما يحسّ منها صفاتها ، وهذه الصفات متغيرة فانية إلا شيئا واحدا هو الوجود.

ومذهب برمنيدس في الوجود يقوم على أصلين رئيسيين هما الوحدة والثبات ، لذا كان على زينون أن يدافع عن هذا المذهب فيما يتصل بهذين الأصلين. ومن أجل هذا تنقسم حججه إلى قسمين رئيسيين : قسم خاص بالتعدد وقسم خاص بالحركة. وفي كل من هذين القسمين توجد حجج أربع تصل إلى غاية واحدة هي : وحدانية الوجود وعدم تعدده. (انظر موسوعة الفلسفة ١ : ٢٧٢ و ٢٧٣).

وحكى فلوطرخيس أن زينون كان يزعم أن الأصول هي الله عزوجل ، والعنصر فقط. فالله هو العلة الفاعلة ، والعنصر هو المنفعل.

وصاياه وحكمه

قال : أكثروا من الإخوان ؛ فإن بقاء النفوس ببقاء الإخوان ، كما أن شفاء الأبدان بالأدوية.

وقيل : رأى زينون فتى على شاطئ البحر محزونا يتلهف على الدنيا فقال له : يا فتى! ما يلهفك على الدنيا؟ لو كنت في غاية الغنى وأنت راكب لجة البحر قد انكسرت السفينة وأشرفت على الغرق ، كانت غاية مطلوبك النجاة وتفوت كل ما في يديك؟ قال : نعم ، قال : لو كنت ملكا على الدنيا وأحاط بك من يريد قتلك ، كان مرادك النجاه من يده وتفوت كل ملكك؟ قال : نعم ، قال : فأنت الغني ، وأنت الملك الآن ، فتسلى الفتى.

وقال لتلميذه : كن بما تأتي من الخير مسرورا ، وبما تجتنب من الشر محبورا.

وقيل له : أي الملوك أفضل؟ ملك اليونانيين أم ملك الفرس؟ قال : من ملك غضبه وشهوته.

وسئل بعد أن هرم : ما حالك؟ قال : هوذا أموت قليلا قليلا على مهل. وقيل له : إذا مت ، من يدفنك؟ قال : من يؤذيه نتن جيفتي.

وسئل : ما الذي يهرم؟ قال : الغضب والحسد ، وأبلغ منهما الغم. وقال : الفلك تحت تدبيري.

ونعي إليه ابنه فقال : ما ذهب ذلك عليّ ، إنما ولدت ولدا يموت ، وما ولدت ولدا لا يموت.

وقال : لا تخف موت البدن ، ولكن يجب عليك أن تخاف موت النفس. فقيل

له : لم قلت خف موت النفس ، والنفس الناطقة عندك لا تموت؟ فقال : إذا انتقلت النفس الناطقة من حد النطق إلى حد البهيمية ـ وإن كان جوهرها لا يبطل ـ فقد ماتت من العيش العقلي.

وقال : أعط الحق من نفسك ، فإن الحق يخصمك إن لم تعطه حقه.

وقال : محبة المال وتد الشر ، لأن سائر الآفات تتعلق بها. ومحبة الشهوات وتد العيوب ، لأن سائر العيوب متعلقة بها.

وقال : أحسن مجاورة النعم فتنعم بها ، ولا تسيء بها فتسيء بك.

وقال : إذا أدركت الدنيا الهارب منها جرحته ، وإذا أدركها الطالب لها قتلته.

وقيل له ، وكان لا يقتني إلا قوت يومه : إن الملك يبغضك ، فقال : وهل يحب الملك من هو أغنى منه؟.

وسئل : بأي شيء يخالف الناس في هذا الزمان البهائم؟ قال : بالشرور.

قال : وما رأينا العقل قط إلا خادما للجهل. وفي رواية للسجزي : إلا خادما للجدّ ، والفرق بينهما ظاهر. ـ فإن الطبيعة ولوازمها إذا كانت مستولية على العقل استخدمه الجهل ، وإذا كان ما قسم للإنسان من الخير والشر فوق تدبيره العقلي : كان الجد مستخدما للعقل ، ويعظم جد الإنسان ما يعقل ، وليس يعظم العقل ما يجد ، ولهذا خيف على صاحب الجد ما لم يخف على صاحب العقل. والجد أصم أخرس ، لا يفقه ، ولا ينقه. وإنما هو ريح تهب وبرق يلمع ، ونار تلوح ، وصحو يعرض ، وحلم يمتع ، وهذا اللفظ أولى فإنه عمم الحكم فقال : ما رأينا العقل قط ، وقد يعرض للعقل أن يرى ولا يستخدمه الجهل ، وذلك هو الأكثر.

وقال زينون : في الجرادة خلقة سبعة جبابرة : رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحاها جناحا نسر ، ورجلاها رجلا جمل ، وبطنها بطن عقرب ، وذنبها ذنب حية. هكذا ذكره زينون.

٤ ـ رأي ديمقريطيس (١) وشيعته

كان يقول في المبدع الأول : إنه ليس هو العنصر فقط ، ولا العقل فقط ، بل الأخلاط الأربعة وهي الأسطقسات (٢) : أوائل الموجودات كلها ، ومنها أبدعت الأشياء البسيطة كلها دفعة واحدة. وأما المركبة فإنها كونت دائمة داثرة ، إلا أن ديمومتها بنوع ، ودثورها بنوع. ثم إن العالم بجملته باق غير داثر ، لأنه ذكر أن هذا العالم متصل بذلك العالم الأعلى ، كما أن عناصر هذه الأشياء متصلة بلطيف أرواحها الساكنة فيها. والعناصر وإن كانت تدثر في الظاهر فإن صفوها من الروح البسيط الذي فيها ، فإذا كان كذلك فليس يدثر إلا من جهة الحواس. فأما من نحو العقل فإنه ليس يدثر ، فلا يدثر هذا العالم إذا كان صفوها فيه ، وصفوه متصل بالعوالم البسيطة ، وإنما شنع عليه الحكماء من جهة قوله : إن أول مبدع هو العناصر ، وبعدها أبدعت البسائط الروحانية ، فهو يرتقي من الأسفل إلى الأعلى ، ومن الأكدر إلى الأصفى (٣).

ومن شيعته : فليوخوس ، إلا أنه خالفه في المبدع الأول ، وقال بقول سائر الحكماء غير أنه قال : إن المبدع الأول هو مبدع الصورة فقط دون الهيولى ، فإنها لم تزل مع المبدع.

__________________

(١) انظر ص ٣٩٩ ح ٢ من هذا الكتاب فقد أوردنا فيها ترجمة كافية لديمقريطس.

(٢) انظر أيضا ص ٤١٢ ح ١.

(٣) الحركة عند ديمقريطس أزلية أبدية وهي نوعان : نوع خاص بحركة الذرات في الخلاء ، ونوع آخر خاص بحركة الذرات من أجل تكوين العالم. أما الحركة الأولى فهي أفقية ، فيها اصطدمت الذرات بعضها ببعض فتكونت عنها حركة ثانية دائرية أو على شكل دوامة. وهذه الحركة الدائرية هي التي نشأ عنها الوجود. ذلك أرجح الآراء فيما يتصل بحركات الذرات ، وهنا رأي آخر يقول إن الذرات كانت متحركة أولا في الخلاء اللامتناهي ثم سقطت عن طريق ثقلها إلى أسفل فلما سقطت اختلفت أوضاعها من حيث ان بعض الذرات أثقل من بعض ، كما أن البعض منها اجتمع مع البعض الآخر ، وتكوّن من هذا مركب ، وعن هذا المركب نشأت حركة الدوامة ، وعن هذا كله بدأ الوجود. وهذا الرأي الأخير هو رأي أتسلر. ولكن الرأي الأول لا يزال حتى اليوم أرجح الآراء. (انظر موسوعة الفلسفة ١ : ٥٠٨ و ٥٠٩ ففيها فكرة وافية عن مذهب الذريين ونظرتهم إلى نشأة الوجود).

فأنكروا عليه وقالوا : إن الهيولى لو كانت أزلية قديمة لما قبلت الصور ولما تغيرت من حال إلى حال ، ولما قبلت فعل غيرها ، إذا الأزلي لا يتغير ، وهذا الرأي مما كان يعزى إلى أفلاطون الإلهي ، والرأي في نفسه مزيف ، والعزوة إليه غير صحيحة. ومما نقل عن ديمقريطيس وزينون الأكبر ، وفيثاغورس أنهم كانوا يقولون : إن الباري تعالى متحرك بحركة فوق هذه الحركة الزمانية وقد أشرنا إلى المذهبين ، وبينا المراد بإضافة الحركة والسكون إلى الله تعالى ، ونزيده شرحا من احتجاج كل فريق على صاحبه.

قال أصحاب السكون : إن الحركة لا تكون أبدا إلا ضد السكون ، والحركة لا تكون إلا بنوع زمان إما ماض ، وإما مستقبل ، والحركة لا تكون إلا مكانية ، إما منتقلة وإما مستوية. ومن المستوية تكون الحركة المستقيمة ، والحركة المعوجة. والمكانية تكون مع الزمان ، فلو كان الباري تعالى متحركا لكان داخلا في الدهر والزمان.

قال أصحاب الحركة : إن حركته أعلى من جميع ما ذكرتموه ، وهو مبدع الدهر والمكان ، وإبداعه ذلك هو الذي يعني بالحركة ، والله أعلم.

٥ ـ رأي فلاسفة أقاديما (١)

كانوا يقولون : إن كل مركب ينحل ، ولا يجوز أن يكون مركبا من جوهرين متفقين في جميع الجهات ، وإلا فليس بمركب ، فإذا كان هذا هكذا ، فلا محالة أنه إذا انحل المركب رحل كل جوهر فاتصل بالأصل الذي كان منه ، فما كان منها بسيطا روحانيا لحق بعالمه الروحاني البسيط ، والعالم الروحاني باق غير داثر ،

__________________

(١) أقاديما : أو أكاديمية أفلاطون وقد أنشأها عام ٣٨٧ ق. م. عند ما عاد إلى أثينا ، وأنشأ على أبوابها ، مقابل بستان أكاديموس ، أكاديميته الشهيرة التي أمها طلاب المعرفة من كل صوب ، وراح يعلّم الحكمة ويعدّ رجالا يستطيعون أن يديروا شئون المدينة وفاقا لمقتضيات العقل.

وما كان منها جاسيا (١) غليظا لحق بعالمه أيضا ، وكل جاس إذا انحل فإنما يرجع حتى يصل إلى ألطف من كل لطيف فإذا لم يبق من اللطافة شيء اتحد باللطيف الأول المتّحد به ، فيكونان متحدين إلى الأبد ، وإذا اتحدت الأواخر بالأوائل ، وكان الأول هو أول مبدع ليس بينه وبين مبدعه جوهر آخر متوسط ، فلا محالة أن ذلك المبدع الأول متعلق بنور مبدعه ، فيبقى خالدا دهر الدهور. وهذا الفصل أيضا قد نقل عنهم وهو يتعلق بالمعاد لا بالمبدإ ، وهؤلاء يسمون مشائي أقاديما. وأما المشاءون المطلق فهم أهل لوقيون ، وكان أفلاطون يلقن الحكمة ماشيا تعظيما لها. وتابعه على ذلك أرسطوطاليس ، ويسمى هو وأصحابه المشائين. وأصحاب الرواق (٢) هم أهل المظال. وكان لأفلاطون تعليمان : تعليم كليس (٣) ؛ وهو الروحاني الذي لا يدرك بالبصر ولكن بالفكرة اللطيفة ، وتعليم طاليس ، وهو الهيولانيات.

٦ ـ رأي هرقل الحكيم (٤)

كان يقول : إن الباري تعالى هو النور الحق الذي لا يدرك من جهة عقولنا ؛ لأنها أبدعت من ذلك النور الأول الحق ، وهو اسم الله حقا وهو اسم الله باليونانية حقا.

إنها تدل عليه ، إنه مبدع للكل ، وهذا الاسم عندهم شريف جدا.

وكان يقول : إن بدء الخلق ، وأول شيء أبدع ، والذي هو أول لهذه العوالم ، هو المحبة والمنازعة ، ووافق في هذا الرأي أنباذقليس حيث قال : الأول الذي أبدع هو المحبة والغلبة.

__________________

(١) الجاسي : اللطيف ، ويد جاسية : يابسة العظام قليلة اللحم. (اللسان مادة جسا).

(٢) المشاءون وأصحاب الرواق. (انظر ص ٦٠ ج ٢ و ٣ من الكتاب).

(٣) لأفلاطون كتب كثيرة جعلها أقوالا يحكيها عن قوم ، ويسمي كل كتاب منها باسم المصنف له ، ويظهر أن كليس ، محرفة عن تااجيس ، وهو كتاب في الفلسفة. (الفهرست لابن النديم ص ٣٤٤).

(٤) هرقل ، أو إيرقليس الهادي : من حكماء اليونان ، وممن عني في نفع الناس واجتهد في ذلك. (عيون الأنباء ١ : ١٨).

وقال هرقل : السماء كرة متحركة من ذاتها. والأرض مستديرة ساكنة جامدة بذاتها. والشمس حللت كل ما فيها من الرطوبة فاجتمعت فيها ، فصار البحر ، والذي حجرت الشمس ونفذت فيه حتى لم تذر فيه شيئا من الرطوبة صار منه : الحصى ، والحجارة ، والجبل، وما لم تنفذ فيه الشمس أكثر ، ولم تنزع عنه الرطوبة كلها ، فهو التراب.

وكان يقول : إن السماء في النشأة الأخرى تصير بلا كواكب ، لأن الكواكب تهبط سفلا حتى تحيط بالأرض وتلتهب ، فيصير متصلا بعضها ببعض ، حتى تكون كالدائرة حول الأرض ، وإنما يهبط منها ما كان من أجزائها نارا محضة ، ويصعد منها ما كان نورا محضا ، فتبقى النفوس الشريرة الدنسة الخبيثة في هذا العالم الذي أحاط به النار إلى الأبد في عقاب السرمد. وتصعد النفوس الشريفة الخالصة الطيبة إلى العالم الذي تمحض نورا وبهاء وحسنا في ثواب السرمد ، وهناك : الصور الحسان لذات للبصر ، والألحان الشجية لذات للسمع ، ولأنها أبدعت بلا توسط مادة وتركب أسطقسات فهي جواهر شريفة روحانية نورانية ، وقال : إن الباري تعالى يمسح تلك الأنفس في كل دهر مسحة فيتجلى لها حتى تنظر إلى نوره المحض الخارج من جوهره الحق ، فحينئذ يشتد عشقها وشوقها ونورها ومجدها ، فلا تزال كذلك دائما أبد الأبد.

٧ ـ رأي أبيقورس (١)

خالف الأوائل في الأوائل. قال : المبادي اثنان (٢) : الخلاء ، والصورة. أما

__________________

(١) ولد أبيقور في شامس سنة ٣٤١ ـ ٣٤٢ ق. م. وتربى تربية ذاتية ـ وهو يفخر بهذا كثيرا ، ولو اننا لا نستطيع أن نصدق هذا القول على علاته ، ولكنه استطاع أن يتثقف بنفسه ، ويعرف كثيرا من المذاهب السابقة بالقدر الذي يقضي به منطق فلسفته ، والغاية من الفلسفة عنده. ثم انتقل إلى أثينا ، وهناك أقام مدرسة في حديقته المشهورة باسم «حديقة أبيقور» وظل يدرس فيها حوالي ست وثلاثين سنة وتوفي سنة ٢٧٠ ق. م. أما أتباعه فليسوا مشهورين لأنهم جميعا لم يفعلوا شيئا يعتد به في إقامة الفلسفة الأبيقورية. والشخصية التي تستحق الذكر من بين هؤلاء الأبيقوريين هو الشاعر اللاتيني المشهور لوكريتوس. (موسوعة الفلسفة ١ : ٨١ ـ ٨٢).

(٢) رأى أبيقور أن المبادي أو المادة الأولية هي الذرات التي تتركب منها سائر الأجسام ، وأصل ثان ـ

الخلاء فمكان فارغ. وأما الصورة فهي فوق المكان والخلاء ، ومنها أبدعت الموجودات وكل ما كوّن منها فإنه ينحل إليها ، فمنها المبدأ ، وإليها المعاد.

وربما يقول : الكل يفسد ، وليس بعد الفراق حساب ولا قضاء ولا مكافأة ولا جزاء، بل كلها تضمحل وتدثر ، والإنسان كالحيوان مرسل مهمل في هذا العالم.

والحالات التي ترد على الأنفس في هذا العالم كلها من تلقائها على قدر حركاتها وأفاعيلها ، فإن فعلت خيرا وحسنا فيرد عليها سرور وفرح ، وإن فعلت شرا وقبيحا فيرد عليها حزن وترح ، وإنما سرور كل نفس بالأنفس الأخرى ، وكذا حزنها مع الأنفس الأخرى بقدر ما يظهر لها من أفاعيلها.

وتبعه جماعة من التناسخية على هذا الرأي.

٨ ـ حكم سولون الشاعر (١)

وكان عند الفلاسفة من الأنبياء العظام بعد هرمس وقبل سقراط ، وأجمعوا على تقديمه والقول بفضائله.

قال سولون لتلميذه : تزود من الخير وأنت مقبل ، خير لك من أن تتزود منه وأنت مدبر.

__________________

ـ هو الفراغ أو الخلاء. لكن لم يجعله أصلا لتركيب الأجسام ، وإنما يقول إنه أصل لحركاتها لأنه لو لم يكن للفراغ أو الخلاء انتشار في جميع الأجسام لم يمكن تحرك شيء ، بل كانت أجرام المادة متلاصقة بعضها ببعض كالصخرة الواحدة فلا يتولد عنها شيء.

(١) ولد سولون في أثينا سنة ٦٤٠ ق. م. سافر في صباه إلى مصر ، وكانت ميدانا للعلم ، فتعلم عن حكمائها ، وألم بما يلزم من الشرائع ، ثم عاد إلى أثينا فأصبح من أصحاب العز والجاه وتسنّم أرفع المناصب ، وكان شاعرا ماهرا وخطيبا مفوّها ، وفقيها ملما بالقوانين. وقد أمضى حياته في الدفاع عن وطنه وحريته ، لما سمع بطاليس رحل إليه وأخذ عنه. وقد رحل إلى مدينة تيليقيا وبنى مدينة عظيمة سمّاها باسمه. وقد أدركه الموت بجزيرة قبرص سنة ٥٦٢ ق. م. وأقام له الأثينيون تمثالا من الذهب وهو يمسك بيده كتاب القانون الذي وضعه ، وأقام له أهل سلامينا تمثال خطيب. (انظر ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ٩).

وقال : من فعل خيرا فليجتنب ما خالفه ، وإلا دعي شريرا.

وقال : إن أمور الدنيا : حق ، وقضاء. فمن أسلف فليقض ، ومن قضى فقد وفى.

وقال : إذا عرضت لك فكرة سوء فادفعها عن نفسك ، ولا ترجع باللائمة على غيرك ؛ لكن لم رأيك بما أحدث عليك.

وقال : إن فعل الجاهل في خطابه أن يذم غيره ، وفعل طالب الأدب أن يذم نفسه ، وفعل الأديب أن لا يذم نفسه ولا غيره.

وقال : إذا انكب الدّن ، وأريق الشراب ، وانكسر الإناء ، فلا تغتم ، بل قل : كما أن الأرباح لا تكون إلا فيما يباع ويشترى ، وكذلك الخسرانات لا تكون إلا في الموجودات ، فانف الغم والخسارة عنك ، فإن لكل ثمنا ، وليس يجيء بالمجان.

وسئل : أيما أحمد في الصّبا : الحياء أم الخوف؟ قال : الحياء ، لأن الحياء يدل على العقل ، والخوف يدل على المقة والشهوة.

وقال لابنه : دع المزاح فإن المزاح لقاح الضغائن.

وسأله رجل فقال : هل ترى أن أتزوج أم أدع؟ قال : أي الأمرين فعلت ندمت عليه.

وسئل : أي شيء أصعب على الإنسان؟ قال : أن يعرف عيب نفسه ، وأن يمسك عما لا ينبغي أن يتكلم به.

ورأى رجلا عثر فقال له : لأن تعثر برجلك خير من أن تعثر بلسانك.

وسئل : ما الكرم؟ فقال : النزاهة عن المساوئ.

وسئل : ما الحياة؟ فقال : التمسك بأمر الله تعالى.

وسئل : ما النوم؟ فقال : النوم موتة خفيفة ، والموت نومة طويلة.

وقال : ليكن اختيارك من الأشياء حديثها ، ومن الإخوان أقدمهم.

وقال : أنفع العلم ما أصابته الفكرة ، وأقله نفعا ما قلته بلسانك.

وقال : ينبغي أن يكون المرء حسن الشكل في صغره ، وعفيفا عند إدراكه ، وعدلا في شبابه ، وذا رأي في كهولته ، وحافظا للستر عند الفناء ، حتى لا تلحقه الندامة.

وقال : ينبغي للشاب أن يستعد لشيخوخته مثل ما يستعد الإنسان للشتاء من البرد الذي يهجم عليه.

وقال : يا بني : احفظ الأمانة تحفظك ، وصنها حتى تصان.

وقال : جوعوا إلى الحكمة ، واعطشوا إلى عبادة الله تعالى قبل أن يأتيكم المانع منهما.

وقال لتلامذته : لا تكرموا الجاهل فيستخف بكم ، ولا تتصلوا بالأشرار فتعدوا فيهم ، ولا تعتمدوا الغنى إن كنتم تلامذة الصدق ، ولا تهملوا أمر أنفسكم في أيامكم ولياليكم ، ولا تستخفوا بالمساكين في جميع أوقاتكم.

وكتب إليه بعض الحكماء يستوصفه أمر عالمي العقل والحس ، فقال : أما عالم العقل فدار ثبات وثواب. وأما عالم الحس فدار بوار وغرور.

وسئل : ما فضل علمك على علم غيرك؟ فقال : معرفتي بأن علمي قليل.

وقال : أخلاق محمودة وجدتها في الناس ؛ إلا أنها إنما توجد في قليل : صديق يحب صديقه غائبا كمحبته حاضرا (١) ، وكريم يكرم الفقراء كما يكرم الأغنياء ، ومقر بعيوبه إذا ذكرت ، وذاكر يوم نعيمه في يوم بؤسه ، ويوم بؤسه في يوم نعيمه ، وحافظ لسانه عند غضبه ، وآمر بالمعروف دائما.

٩ ـ حكم أوميروس الشاعر (٢)

وهو من كبار القدماء ، الذي يجريه أفلاطون ، وأرسطوطاليس في أعلى

__________________

(١) قيل لسولون : كيف تتخذ الأصدقاء؟ فقال : أن يكرموا إذا حضروا ، ويحسن ذكرهم إذا غابوا.

(٢) هوميروس : هو الشاعر الملحمي اليوناني الكبير. ولد في آسيا الصغرى وعاش ما بين القرنين العاشر والحادي عشر قبل الميلاد ، قيل إنه كان أعمى. نسب إليه المؤلفون اليونان أشعار «الإلياذة» ـ

المراتب ويستدل بشعره لما كان يجمع فيه من إتقان المعرفة ، ومتانة الحكمة ، وجودة الرأي ، وجزالة اللفظ. فمن ذلك قوله : لا خير في كثرة الرؤساء. وهذه كلمة وجيزة تحتها معان شريفة ، لما في كثرة الرؤساء من الاختلاف الذي يأتي على حكمة الرئاسة بالإبطال ، ويستدل بها أيضا في التوحيد لما في كثرة الآلهة من المخالفات التي تعكر على حقيقة الإلهية بالإفساد. وفي الحكمة : لو كان أهل بلد كلهم رؤساء لما كان رئيس البتة. ولو كان أهل بلد كلهم رعية لما كانت رعية البتة.

ومن حكمه : قال : إني لأعجب من الناس! إذ كان يمكنهم الاقتداء بالله تعالى فيدعون ذلك إلى الاقتداء بالبهائم (١)! قال له تلميذه : لعل هذا إنما يكون لأنهم قد رأوا أنهم يموتون كما تموت البهائم. فقال له : بهذا السبب يكثر تعجبي منهم! من قبل أنهم يحسون بأنهم لابسون بدنا ميتا ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفسا غير ميتة.

وقال : من يعلم أن الحياة لنا مستعبدة والموت معتق مطلق ؛ آثر الموت على الحياة.

وقال : العقل نحوان : طبيعي وتجريبي. وهما مثل الماء والأرض. وكما أن النار تذيب كل صامت وتخلصه وتمكن من العمل فيه ، كذلك العقل يذيب الأمور ويخلصها ويفصلها ويعدها للعمل. ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر.

وقال : إن الإنسان الخير أفضل من جميع ما على الأرض. والإنسان الشرير أخس وأوضع من جميع ما على الأرض.

__________________

ـ و «الأوذيسة» و «الأغاني الهوميرية» التي أثرت تأثيرا عميقا على مستقبل الشعر اليوناني. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢).

(١) وفي «الكلم الروحانية» وقال : إني لأعجب من الناس أن مكنهم الله من الاقتداء بالملائكة فيدعون ذلك ويميلون للاقتداء بالبهائم.

وقال : لن تنبل ، واحلم تعز ، ولا تكن معجبا فتمتهن (١) ، واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته.

وقال : الدنيا دار تجارة ، والويل لمن تزوّد عنها بالخسارة.

وقال : الأمراض ثلاثة أشياء : الزيادة ، والنقصان في الطبائع الأربع ، وما تهيجه الأحزان. فشفاء الزائد والناقص في الطبائع : الأدوية ، وشفاء ما تهيجه الأحزان : كلام الحكماء والإخوان.

وقال : العمى خير من الجهل ، لأن أصعب ما يخاف من العمى التهور في بئر ينهد منه الجسد ، والجهل يتوقع منه هلاك الأبد.

وقال : مقدمة المحمودات الحياء ، ومقدمة المذمومات القحة.

وقال إيراقليطس : إن أوميروس الشاعر لما رأى تضاد الموجودات دون فلك القمر قا : يا ليته هلك التضاد من هذا العالم ومن الناس والسادة ، يعني النجوم واختلاف طبائعها ، وأراد بذلك أن يبطل التضاد والاختلاف حتى يكون هذا العالم المتحرك المنتقل داخلا في العالم الساكن الدائم الباقي.

ومن مذهبه : أن بهرام ، يعني الريح ، واقع الزهرة فتولدت من بينهما طبيعة هذا العالم.

وقال : إن الزهرة علة التوحيد والاجتماع ، وبهرام علة التفرق والاختلاف ، والتوحد ضد التفرق. فلذلك صارت الطبيعة ضدا : تركب وتنقص ، وتوحد وتفرق.

وقال : الحظ شيء أظهره العقل بوساطة العلم ، فلما قابل النفس عشقته بالعنصر ، هذه حكمه.

وأما مقطعات أشعاره فمنها : قال : ينبغي للإنسان أن يفهم الأمور الإنسانية. إن الأدب للإنسان ذخر لا يسلب. ارفع من عمرك ما يحزنك ، إن أمور العالم

__________________

(١) وفي «لباب الآداب» : لن تنل ، واحلم تنبل ، ولا تكن معجبا فتمتهن.

تعلمك العلم ، إن كنت ميتا فلا تحقر عداوة من لا يموت ، كل ما يمتار في وقته يفرح به. إن الزمان يبين الحق وينيره. اذكر نفسك أبدا أنك إنسان. إن كنت إنسانا فافهم كيف تضبط غضبك ، إذا نالتك مضرة فاعلم أنك كنت أهلها ، اطلب رضاء كل أحد ، لا رضاء نفسك فقط. إن الضحك في غير وقته هو ابن عم البكاء ، إن الأرض تلد كل شيء ثم تسترده ، إن الرأي من الجبان جبان ، انتقم من الأعداء نقمة لا تضرك ، كن حسن الجرأة ولا تكن متهورا ، إن كنت ميتا فلا تذهب مذهب من لا يموت ، إن أردت أن تحيا فلا تعمل عملا يوجب الموت ، إن الطبيعة كونت الأشياء بإرادة الرب تعالى. من لا يفعل شيئا من الشر فهو إلهي ، آمن بالله فإنه يوفقك في أمورك ، إن مساعدة الأشرار على أفعالهم كفر بالله ، إن المغلوب من قاتل الله والبخت ، اعرف الله ، واعقل الأمور الإنسانية ، إذا أراد الله خلاصك عبرت البحر على البادية ، إن العقل الذي يناطق الله لشريف ، إن قوام السنة بالرئيس ، إن لفيف الناس وإن كانت لهم قوة فليس لهم عقل. إن السنة توجب كرامة الوالدين مثل كرامة الإله ، رأيي أن والديك آلهة لك ، إن الأدب هو من ربّى لا من ولد ، إن الكلام في غير وقته يفسد العمر كله ، إذا حضر البخت تمت الأمور ، إن سنن الطبيعة لا تتعلم ، إن اليد تغسل اليد ، والأصبع الأصبع ، ليكن فرحك بما تدخره لنفسك دون ما تدخره لغيرك ، يعني بالمدخر لنفسه : العلم والحكمة ، وبالمدخر لغيره : المال.

وقال : الكرم يحمل ثلاثة عناقيد : عنقود الالتذاذ ، وعنقود الشكر ، وعنقود الشيم ، خير أمور العالم الحسي أوساطها ، وخير أمور العالم العقلي أفضلها.

وقيل : إن وجود الشعر في أمة يونان كان قبل الفلسفة ، وإنما أبدعه أوميروس ، وتاليس كان بعده بثلاثمائة واثنتين وثمانين سنة ، وأول فيلسوف كان منهم في سنة تسعمائة وإحدى وخمسين من وفاة موسى عليه‌السلام ، وهذا ما أخبر به كورفس في كتابه ، وذكر فورفوريوس أن تاليس ظهر في سنة ثلاث وعشرين ومائة من ملك بختنصر.

١٠ ـ حكم بقراط (١)

بقراط واضع الطب الذي قال بفضله الأوائل والأواخر ، وكان أكثر حكمته في الطب وشهرته به ، فبلغ خبره إلى بهمن بن اسفنديار بن كشتاسب ، فكتب إلى فيلاطس ملك قوه، وهو بلد من بلاد اليونانيين ؛ يأمر بتوجيه بقراط إليه ، وأمر له بقناطير من الذهب فأبى ذلك ، وتأبى عن الخروج إليه ضنا بوطنه وقومه ، وكان لا يأخذ على المعالجة أجرة من الفقراء وأوساط الناس ، وقد شرط أن يأخذ من الأغنياء أحد ثلاثة أشياء : طوقا ، أو إكليلا ، أو سوارا من ذهب.

فمن حكمه أن قال : استهينوا بالموت فإن مرارته في خوفه.

وقيل له : أي العيش خير؟ قال : الأمن مع الفقر خير من الغنى مع الخوف.

وقال : الحيطان والبروج لا تحفظ المدن ، ولكن تحفظها آراء الرجال وتدبير الحكماء.

وقال : يداوى كل عليل بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة متطلعة إلى هوائها ، ونازعة إلى غذائها (٢).

ولما حضرته الوفاة قال : خذوا جامع العلم مني : من كثر نومه ، ولانت طبيعته ، ونديت جلدته طال عمره.

وقال : الإقلال من الضار خير من الإكثار من النافع.

وقال : لو خلق الإنسان من طبيعة واحدة لما مرض ، لأنه لم يكن هناك شيء يضادها فيمرض.

__________________

(١) بقراط : ولد في جزيرة كوس اليونانية نحو ٤٦٠ ق. م. وهو أشهر الأطباء الأقدمين ، جعل للأمراض مصدرين : الهواء والغذاء. دعاه أرتحششتا لمعالجة الوباء المتفشي في بلاده فأبى أن يخدم أعداء وطنه. نقلت بعض مصنفاته إلى العربية ومنها : «تقدمة المعرفة» و «طبيعة الإنسان» ومن كتبه أيضا «كتاب الأجنة» و «كتاب الأهوية والمياه والبلدان» وقد توفي سنة ٣٧٧ ق. م. (عيون الأنباء ص ٢٤).

(٢) وفي «الكلم الروحانية» : ليداو كل مريض بعقاقير أرضه ، فإن الطبيعة تتطلع لهوائها. وتنزع إلى غذائها ، وقال : غذاء الطبيعة من أنجع أدويتها.

ودخل على عليل فقال له : أنا ، والعلة ، وأنت ؛ فإن أعنتني عليها بالقبول لما تسمع مني صرنا اثنين ، وانفردت العلة فقوينا عليها ، والاثنان إذا اجتمعا على واحد غلباه.

وسئل : ما بال الإنسان أثور ما يكون بدنه إذا شرب الدواء (١)؟ قال : مثل ذلك مثل البيت أكثر ما يكون غبارا إذا كنس.

وحديث ابن الملك : أنه عشق جارية من حظايا أبيه فنهك بدنه ؛ واشتدت علته ، فأحضر بقراط فجس نبضه ، ونظر إلى تفسرته فلم ير أثر علة. فذاكره حديث العشق فرآه يهشّ لذلك ويطرب. فاستخبر الحال من حاضنته فلم يكن عندها خبر ، وقالت : ما خرج قط من الدار فقال بقراط للملك : مر رئيس الخصيان بطاعتي ، فأمره بذلك ، فقال : أخرج عليّ النساء ، فخرجن وبقراط واضع إصبعه على نبض الفتى ، فلما خرجت الحظية اضطرب عرقه ، وطار قلبه ، وحارّ طبعه. فعلم بقراط أنها المعينة لهواه ، فصار بقراط إلى الملك وقال له : ابن الملك قد عشق من الوصول إليها صعب. قال الملك : ومن ذاك؟ قال : هو يحب حليلتي. قال : أنزل عنها ولك عنها بدل. فتخازن بقراط ووجم ، وقال : هل رأيت أحدا كلف أحدا طلاق امرأته ولا سيما الملك في عدله ونصفته يأمرني بمفارقة حليلتي ، ومفارقتها مفارقة روحي؟ قال الملك : إني أوثر ولدي عليك ، وأعوضك من هو أحسن منها ، فامتنع حتى بلغ الأمر إلى التهديد بالسيف. قال بقراط : إن الملك لا يسمى عدلا حتى ينتصف من نفسه ما ينتصف من غيره ، أرأيت لو كانت العشيقة حظية الملك؟.

قال : يا بقراط! عقلك أتم من معرفتك! ونزل عنها لابنه ، وبرئ الفتى من مرضه ذلك.

وقال بقراط : إياك أن تأكل إلا ما تستمرىء. وأما ما لا تستمرىء فإنه يأكلك.

__________________

(١) أثور : أهيج.

وقيل لبقراط : لم يثقل الميّت؟ قال : لأنه كان اثنين : أحدهما خفيف رافع ، والآخر ثقيل واضع. فلما انصرف أحدهما وهو الخفيف الرافع ثقل الثقيل الواضع.

وقال : الجسد يعالج جملة على خمسة أضرب : ما في الرأس بالغرغرة ، وما في المعدة بالقيء ، وما في البدن بإسهال البطن. وما بين الجلدين بالعرق ، وما في العمق وداخل العروق بإرسال الدم.

وقال : الصفراء بيتها المرارة وسلطانها في الكبد. والبلغم بيته المعدة ، وسلطانه في الصدر. والسوداء بيتها في الطحال ، وسلطانها في القلب. والدم بيته القلب ، وسلطانه في الرأس.

وقال لتلميذ له : ليكن أفضل وسيلتك إلى الناس محبتك لهم ، والتفقد لأمورهم ومعرفة حالهم ، واصطناع المعروف إليهم.

ويحكى عن بقراط قوله المعروف : العمر قصير ، والصناعة طويلة ، والوقت ضيق ، والزمان جديد ، والتجربة خطر ، والقضاء عسر (١).

وقال لتلاميذه : أقسموا الليل والنهار ثلاثة أقسام : فاطلبوا في القسم الأول العقل الفاضل ، واعملوا في القسم الثاني بما أحرزتم من ذلك العقل ، ثم عاملوا في القسم الثالث من لا عقل له ، وانهزموا من الشر ما استطعتم (٢).

وكان له ابن لا يقبل الأدب ، فقالت له امرأته : إن ابنك هو منك فأدبه ، فقال لها : هو مني طبعا ، ومن غيري نفسا ، فما أصنع به؟.

__________________

(١) وجاء في «الكلم الروحانية» ص ٩٩ : العمر قصير والصناعة طويلة والوقت ضيق والتجربة خطر ، والقضاء عسر.

(٢) ومن حكمه أيضا : من صحب السلطان فلا يجزع من قسوته كما لا يجزع الغواص من ملوحة البحر ، من كثر أدبه شرف وإن كان وضيعا ، وساد وإن كان غريبا ، وكثرت الحاجة إليه وإن كان فقيرا. (انظر لباب الآداب).

وقال : ما كان كثيرا فهو مضاد للطبيعة ، فلتكن الأطعمة والأشربة والنوم والجماع والتعب قصدا.

وقال : إن صحة البدن إذا كانت في الغاية كان أشد خطرا.

وقال : إن الطب هو حفظ الصحة بما يوافق الأصحاء ، ودفع المرض بما يضاده.

وقال : من سقى السم من الأطباء ، وألقى الجنين ، ومنع الحبل ، واجترأ على المريض فليس من شيعتي. وله أيمان معروفة على هذه الشرائط ، وكتب معروفة كثيرة في الطب.

وقال في الطبيعة : إنها القوة التي تدبر الجسم من الإنسان ، فتصوره من النطفة إلى تمام الخلقة ، خدمة للنفس في إتمام هيكلها. ولا تزال هي المدبرة له غذاء من الثدي وبعده مما به قوامه من الأغذية. ولها ثلاث قوى : المولدة ، والمربية ، والحافظة. ويخدم الثلاث أربع قوى: الجاذبة ، والماسكة ، والهاضمة ، والدافعة.

١١ ـ حكم ديمقريطيس

وهو من الحكماء المعتبرين في زمان بهمن بن اسفنديار وهو وبقراط كانا في زمان واحد قبل أفلاطون. وله آراء في الفلسفة وخصوصا في مبادي الكون والفساد. وكان أرسطوطاليس يؤثر قوله على قول أستاذه أفلاطون الإلهي ، وما أنصف.

قال ديمقريطيس : إن الجمال الظاهر يشبه به المصورون بالأصباغ ، ولكن الجمال الباطن لا يشبه به إلا من هو له بالحقيقة ، وهو مخترعه ومنشئه.

وقال : ليس ينبغي أن تعدّ نفسك من الناس ما دام الغيظ يفسد رأيك ويتبع شهوتك.

وقال : ليس ينبغي أن يمتحن الناس في وقت ذلتهم ، بل في وقت عزتهم وملكهم. وكما أن الكير يمتحن به الذهب ، كذلك الملك يمتحن به الإنسان فيتبين خيره وشره.

وقال : ينبغي أن تأخذ في العلوم بعد أن تنفي عن نفسك العيوب وتعوّدها الفضائل ، فإنك إن لم تفعل هذا لم تنتفع بشيء من العلوم.

وقال : من أعطى أخاه المال فقد أعطاه خزائنه ، ومن أعطاه علمه ونصيحته فقد وهب له نفسه.

وقال : لا ينبغي أن تعدّ النفع الذي فيه الضرر العظيم نفعا ، ولا الضرر الذي فيه النفع العظيم ضررا ، ولا الحياة التي لا تحمد أن تعدّ حياة.

وقال : مثل من قنع بالاسم كمثل من قنع عن الطعام بالرائحة.

وقال : عالم معاند خير من جاهل منصف.

وقال : ثمرة الغرة التواني ، وثمرة التواني الشقاء ، وثمرة الشقاء ظهور البطالة ، وثمرة البطالة السفه والعبث والندامة والحزن.

وقال : يجب على الإنسان أن يطهر قلبه من المكر والخديعة ، كما يطهر بدنه من أنواع الخبث.

وقال : لا تطمع أحدا أن يطأ عقبك اليوم فيطأك غدا.

وقال : لا تكن حلوا جدا لئلا تبلع ، ولا مرا جدا لئلا تلفظ.

وقال : ذنب الكلب يكسب له الطعام ، وفمه يكسب له الضرب (١).

__________________

(١) وقيل لديموقريطس : لم اخترت امرأة دميمة ، قبيحة الوجه وأنت وسيم جسيم؟ قال : اخترت من الشر أقله. (الكلم الروحانية ص ١١٦).

وكان بأثينية نقاش غير حاذق فأتى ديمقريطيس وقال : جصص بيتك فأصوّره. قال : صوّره أولا حتى أجصصه.

وقال : مثل العلم مع من لا يقبل وإن قبل لا يعمل ؛ كمثل دواء مع سقيم وهو لا يداوى به.

وقيل له : لا تنظر ، فغمض عينيه. قيل له : لا تسمع ، فسد أذنيه. قيل له لا تتكلم، فوضع يده على شفتيه ، قيل له : لا تعلم ، قال : لا أقدر ، وإنما أراد به أن البواطن لا تندرج تحت الاختيار ، فأشار إلى ضرورة السر ، واختيار الظاهر.

ولما كان الإنسان مضطر الحدوث كان معزول الولاية عن قلبه ، وهو بقلبه أكبر منه بسائر جوارحه ، فلهذا لم يستطع أن يتصرف في أصله ، لاستحالة أن يكون فاعل أصله ، ولهذا الكلام شرح آخر ، وهو أنه أراد التمييز بين العقل والحسن ، فإن الإدراك العقلي لا يتصور الانفكاك عنه ، وإذا حصل لن يتصور نسيانه بالاختيار والإعراض عنه ، بخلاف الإدراك الحسي ، وهذا يدل على أن العقل ليس من جنس الحس ، ولا النفس من حيز البدن.

وقد قيل : إن الاختيار في الإنسان مركب من انفعالين : أحدهما : انفعال نقيصة ، والثاني : انفعال تكامل ، وهو إلى الانفعال الأول أميل بحكم الطبيعة والمزاج ، والآخر ضعيف فيه إلا إذا وصل إليه مدد من جهة العقل والتمييز والنطق ، فينشئ الرأي الثاقب ، ويحدث الحزم الصائب ، فيحب الحق ، ويكره الباطل ، فمتى وقف هذا المدد من القوة الاختيارية كانت الغلبة للانفعال الآخر ، ولو لا تركب الاختيار عن هذين الانفعالين ، أو انقسامه إلى هذين الوجهين لتأتى للإنسان جميع ما يقصده بالاختيار ، بلا مهلة ولا ترجح ، ولا هنية ولا تريح ، ولا استشارة ولا استخارة.

وهذا الرأي الذي رآه هذا الحكيم لم أجد أحدا أبه له ، ولا عثر عليه ، أو حكم به ، أو أومأ إليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.

١٢ ـ حكم أوقليدس (١)

وهو أول من تكلم في الرياضيات وأفرده علما نافعا في العلوم ، منقحا للخاطر ، ملقّحا للفكر ، وكتابه معروف باسمه ، وكذلك حكمته.

وقد وجدنا له حكما متفرقة فأوردناها على سوق مرامنا ، وطرد كلامنا. فمن ذلك قوله : الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية.

وقال له رجل يتهدده : إني لا آلو جهدا في أن أفقدك حياتك ، قال أوقليدس : وأنا لا آلو جهدا في أن أفقدك غضبك.

وقال : كل أمر تصرفنا فيه وكانت النفس الناطقة هي المقدرة له فهو داخل في الأفعال الإنسانية ، وما لم تقدره النفس الناطقة فهو داخل في الأفعال البهيمية.

وقال : من أراد أن يكون محبوبه محبوبك وافقك على ما تحب. فإذا اتفقتما على محبوب واحد صرتما إلى الاتفاق.

وقال : افزع إلى ما يشبه الرأي العام التدبيري العقلي ، واتهم ما سواه.

وقال : كل ما استطيع خلعه ولم يضطر إلى لزومه المرء فلم الإقامة على مكروهه؟.

وقال : الأمور جنسان : أحدهما يستطاع خلعه والمصير إلى غيره ، والآخر توجبه الضرورة فلا يستطاع الانتقال عنه ، والاغتمام والأسف على كل واحد منهما غير سائغ في الرأي.

__________________

(١) أوقليدس : حكيم يوناني قديم العهد ، شامي الدار ، قيل إنه ولد في الإسكندرية وأن أباه دمشقي الوطن. ويبدو من أخباره أنه استوطن إغريقية قبل الميلاد بثلاثمائة سنة. فتح في الإسكندرية مدرسة لتعليم الرياضيات ، فصارت في وقت قصير أول مدرسة في مصر.

وكان أوقليدس لطيف العشرة ، حسن القيام على عمله. ألف في الرياضيات تآليف عدة ، ضاع أكثرها ، ومن أشهرها : كتابه المعروف بأصول أوقليدس ، وكتاب المفروضات ، وكتاب تأليف اللحون وغيرها. (معارف البستاني ٤ : ٩١).

وقال : إن كانت الكائنات من المضطرة فما الاهتمام بالمضطر إذ لا بد منه؟ وإن كانت غير مضطرة فلم الهم فيما يجوز انتقال عنه؟.

وقال : الصواب إذا كان عاما كان أفضل ، لأن الخاص يقع بالتحري وتلقاء أمر ما.

وقال : العمل على الإنصاف ترك الإقامة على المكروه.

وقال : إذا لم يضطرك إلى الإقامة عليه شيء فإن أقمت رجعت باللائمة عليك.

وقال : الحزم هو العمل على أن لا تثق بالأمور التي في الإمكان عسرها ويسرها.

وقال : كل فائت وجدت في الأمور منه عوضا أو أمكنك اكتساب مثله ، فما الأسف على فوته؟ وإن لم يكن منه عوض ولا يصاب له مثل ، فما الأسف على ما لا سبيل إلى مثله ولا إمكان في دفعه.

وقال : لما علم العاقل أنه لا ثقة بشيء من أمر الدنيا ألقى منها ما منه بد ، واقتصر على ما لا بد منه ، وعمل فيما يوثق به بأبلغ ما قدر عليه.

وقال : إذا كان الأمر ممكنا فيه التصرف فوقع بحال ما تحب فاعتده ربحا ، وإن وقع بحال ما تكره فلا تحزن ، فإنك قد كنت عجلت فيه على غير ثقة بوقوعه على ما تحب.

وقال : لم أر أحدا إلا ذاما للدنيا وأمورها ، إذ هي على ما هي من التغير والتنقل. فالمستكثر منها يلحقه أن يكون أشد اتصالا بما يذم ، وإنما يذم الإنسان ما يكره. والمستقل منها مستقل مما يكره ، وإذا استقل مما يكره كان ذلك أقرب إلى ما يحب.

وقال : أسوأ الناس حالا من لا يثق بأحد لسوء ظنه ، ولا يثق به أحد لسوء فعله.

وقال : الجشع بين شرين ، فالإعدام يخرجه إلى السفه ، والجدة تخرجه إلى الأشر.

وقال : لا تعن أخاك على أخيك في خصومة ، فإنهما يصطلحان عن قليل ، وتكتسب المذمة.

١٣ ـ حكم بطليموس (١)

وهو صاحب المجسطي الذي تكلم في هيئات الفلك ، وأخرج علم الهندسة من القوة إلى الفعل.

فمن حكمه أنه قال : ما أحسن الإنسان أن يصبر عما يشتهي ، وأحسن منه أن لا يشتهي إلا ما ينبغي.

وقال : الحليم الذي إذا صدق صبر ، لا الذي إذا قذف كظم.

وقال : لمن يغني الناس ويسأل أشبه بالملوك ممن يستغني بغيره ويسأل.

وقال : لأن يستغني الإنسان عن الملك أكرم له من أن يستغني به.

وقال : موضع الحكمة من قلوب الجهال ، كموقع الذهب والجوهر من ظهر الحمار.

وسمع جماعة من أصحابه وهم حول سرادقة يقعون فيه ويثلبونه ، فهز رمحا كان بين يديه ليعلموا أنهم بمسمع منه ، وأن يتباعدوا عنه قيد رمح ، ثم يقولوا ما أحبوا.

__________________

(١) بطليموس : من مشاهير علماء اليونان ، ولد في بيلوسيوم ونشأ في الإسكندرية ، وقد انتهى عليه علم حركات النجوم ومعرفة أسرار الفلك ، وعنده اجتمع ما كان متفرقا من هذه الصناعة بأيدي اليونانيين والروم وغيرهم ، وهو صاحب كتاب «المجسطي» الذي تناوله كثيرون بالشرح والتبيين كالفضل بن أبي حاتم التبريزي ، ومحمد بن جابر التباني ، والبيروني.

وبطليموس أول من عمل الأسطرلاب والآلات النجومية والمقاييس والأرصاد. ومن كتبه : كتاب المواليد ، وكتاب الحرب والقتال ، وكتاب استخراج السهام وغيرها. وقد اشتهر أيضا بفن الموسيقى وبالآليات والتاريخ والتنجيم. (الفهرست ابن النديم ص ٣٧٤).

وقال : العلم في موطنه كالذهب في معدنه ، لا يستنبط إلا بالدءوب والتعب ، والكد والنصب ، ثم يجب تخليصه بالفكر كما يخلص الذهب بالنار.

وقال بطليموس : دلالة القمر في الأيام أقوى ، ودلالة الشمس والزهرة في الشهور أقوى ، ودلالة المشتري وزحل في السنين أقوى.

ومما نقل عنه أنه قال : نحن كائنون في الزمن الذي يأتي بعد ، وهذا رمز إلى المعاد ، إذ الكون والوجود الحقيقي : ذلك الكون والوجود في ذلك العالم.

١٤ ـ حكم أهل المظالّ (١)

ومنهم : خروسيبس وزينون ، وقولهما الخالص : إن الباري تعالى المبدع الأول واحد محض ، هو هو إن فقط ، أبدع العقل والنفس دفعة واحدة ، ثم أبدع جميع ما تحتهما بتوسطهما. وفي بدء ما أبدعهما ، أبدعهما جوهرين لا يجوز عليهما الدثور والفناء.

وذكروا أن للنفس جرمين : جرم من النار والهواء ، وجرم من الماء والأرض ، فالنفس متحدة بالجرم الذي من النار والهواء ، والجرم الذي من النار والهواء متحد بالجرم الذي من الماء والأرض ، والنفس تظهر أفاعيلها في ذلك الجرم ، وذلك الجرم ليس له طول ولا عرض ، ولا قدر مكاني ، وباصطلاحنا سميناه جسما ، وأفاعيل النفس فيه نيرة بهية ، ومن الجسم إلى الجرم ينحدر النور ، والحسن ، والبهاء ، ولما ظهرت أفاعيل النفس عندنا بمتوسطين كانت أظلم ، ولم يكن لها نور شديد.

وذكروا أن النفس إذا كانت طاهرة زكية استخصت الأجزاء النارية والهوائية ، وهي جسمها ، واستصحبت في ذلك العالم جسما روحانيا ، نورانيا علويا ، طاهرا ،

__________________

(١) يظهر أن الشهرستاني وغيره لم يذكروا عن أهل المظال إلا القليل لأن التاريخ لم يحفظ لنا مما كتبه الفلاسفة الرواقيون في القرون الثلاثة الأولى من حياة مدرستهم سوى أجزاء قليلة متناثرة ، على كثرة ما سطرت أقلامهم ، حتى قيل عن أحدهم كريسبس أنه ألّف وحده نحو سبعمائة كتاب مناقضة لفلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطو مما نأى بالكتاب الإسلاميين عن العناية بهم وبفلسفتهم. (الفلسفة الرواقية ص ٣٠).

مهذبا من كل ثقل وكدر ، وأما الجرم الذي من الماء والأرض فيدثر ويفنى ، لأنه غير مشاكل للجسم السماوي ، لأن ذلك الجسم خفيف لطيف لا وزن له ، ولا يلمس ، وإنما يدرك من البصر فقط ، كما تدرك الأشياء الروحانية من العقل ، فألطف ما يدرك الحس البصري من الجواهر هي النفسانية ، وألطف ما يدرك من إبداع الباري تعالى الآثار التي عند العقل.

وذكروا أن النفس إنما هي مستطيعة ما خلّاها الباري تعالى أن تفعل ، وإذا ربطها فليست بمستطيعة كالحيوان الذي إذا خلّاه مدبره ؛ أعني الإنسان ، كان مستطيعا في كل ما دعى إليه ، وتحرك إليه ، وإذا ربطه لم يقدر حينئذ أن يكون مستطيعا.

وذكروا أن دنس النفس وأوساخ الجسد إنما تكون لازمة للإنسان من جهة الأجزاء وأما التطهير والتهذيب فمن جهة الكل ، لأنه إذا انفصلت النفس الكلية إلى النفس الجزئية ، والعقل الجزئي من العقل الكلي غلظت وصارت من حيز الجرم ، لأنها كلما سفلت اتحدت بالجرم ، والجرم من حيز الماء والأرض ، وهما ثقيلان يذهبان سفلا ، وكلما اتصلت النفس الجزئية بالنفس الكلية ، والعقل الجزئي بالعقل الكلي ذهبت علوا ، لأنها تتحد بالجسم ، والجسم من حيز النار والهواء ، وكلاهما لطيفان يذهبان علوا ، وهذان الجرمان مركبان ، وكل واحد منهما من جوهرين ، واجتماع هذين الجرمين يوجب الاتحاد شيئا واحدا عند الحس البصري ، فأما عند الحواس الباطنة ، وعند العقل فليست شيئا واحدا ، فالجسم في هذا العالم مستبطن في الجرم ، لأنه أشد روحانية ، ولأن هذا العالم ليس مشاكلا له ، ولا مجانسا له ، والجرم مشاكل ومجانس لهذا العالم ، فصار الجرم أظهر من الجسم لمجانسة هذا العالم وتركيبه ، وصار الجسم مستبطنا في الجرم ، لأن هذا العالم غير مشاكل له ، وغير مجانس له ، فأما في ذلك العالم فالجسم ظاهر على الجرم لأن ذلك العالم عالم الجسم لأنه مجانس ومشاكل له ، ويكون لطيف الجرم الذي هو من لطيف الماء والأرض المشاكل لجوهر النار والهواء ، مستنبطا في الجسم ، كما كان الجسم

مستبطنا في هذا العالم في الجرم ، فإذا كان هذا فيما ذكروا هكذا كان ذلك الجسم باقيا دائما لا يجوز عليه الدثور ولا الفناء ، ولذته دائمة لا تملها النفوس ولا العقول ، ولا ينفد ذلك السرور والحبور.

ونقلوا عن أفلاطون أستاذهم : لما كان الواحد لا بدء له ، صار نهاية كل متناه ، وإنما صار الواحد لا نهاية له ، لأنه لا بدء له ، لا أنه لا بدء له ، لأنه لا نهاية له.

وقال : ينبغي للمرء أن ينظر كل يوم إلى وجهه في المرآة ، فإن كان قبيحا لم يفعل قبيحا فيجمع بين قبيحين وإن كان حسنا ، لم يشنه بقبيح.

وقال : إنك لن تجد الناس إلا أحد رجلين : إما مؤخرا في نفسه قدّمه حظه ، أو مقدما في نفسه أخره دهره ، فارض بما أنت فيه اختيارا ، وإلا رضيت اضطرارا.

الفصل الثالث

متأخّر وحكماء اليونان

وهم الحكماء الذين تلوهم في الزمان ، وخالفوهم في الرأي مثل أرسطوطاليس ومن تابعه على رأيه مثل : الإسكندر الرومي ، والشيخ اليوناني ، وديوجانس الكلبي وغيرهم وكلهم على رأي أرسطوطاليس في المسائل التي تفرد بها عن القدماء.

ونحن نذكر من آرائه ما يتعلق بغرضنا من المسائل التي شرع فيها الأوائل وخالفهم المتأخرون ، ونحصرها في ست عشرة مسألة ، وبالله التوفيق.

١ ـ رأي أرسطوطاليس (١) بن نيقوماخوس

من أهل أسطاغيرا ، وهو المقدم المشهور ، والمعلم الأول ، والحكيم المطلق

__________________

(١) أرسطوطاليس : ولد أرسطوطاليس سنة ٣٨٤ ق. م. في مدينة أسطاغيرا ، وهي مدينة أيونية ومرفأ من بلاد مقدونيا على بحر إيجة وكان أبوه نيقوماخوس طبيبا للملك المقدوني أمنتاس الثاني جد الإسكندر ، وقد مات أبوه وهو فتى ، التحق بأكاديمية أفلاطون في الثامنة عشرة من عمره فلزمها عشرين سنة إلى أن توفي مؤسسها ، وقد اتهمه بعضهم بكفران نعمة أستاذه. كان يقول : أحب الحق وأحب أفلاطون وأوثر ـ

عندهم. وكان مولده في أول سنة من ملك أردشير بن دارا. فلما أتت عليه سبع عشرة سنة أسلمه أبوه إلى المؤدب أفلاطون فمكث عنده نيفا وعشرين سنة. وإنما سموه المعلم الأول ؛ لأنه واضع التعاليم المنطقية ومخرجها من القوة إلى الفعل ، وحكمه حكم واضع النحو ، وواضع العروض ، فإن نسبة المنطق إلى المعاني التي في الذهن كنسبة النحو إلى الكلام ، والعروض إلى الشعر ، وهو واضع لا بمعنى أنه لم تكن المعاني مقومة بالمنطق قبله فقومها ، بل بمعنى أنه جرد آلته عن المادة فقومها تقريبا إلى أذهان المتعلمين حتى يكون كالميزان عندهم يرجعون إليه عند اشتباه الصواب بالخطإ ، والحق بالباطل ، إلا أنه أجمل القول فيه إجمال الممهدين ، وفصله المتأخرون تفصيل الشارحين. وله حق السبق وفضيلة التمهيد. وكتبه في الطبيعيات ، والإلهيات ، والأخلاق معروفة ، ولها شروح كثيرة.

ونحن اخترنا في نقل مذهبه شرح «ثامسطيوس» الذي اعتمده مقدم المتأخرين ورئيسهم : أبو علي بن سينا ، وأردنا نكتا من كلامه في الإلهيات ، وأحلنا باقي مقالاته في المسائل على نقل المتأخرين ، إذ لم يخالفوه في رأي ، ولا نازعوه في حكم ، بل هم كالمقلدين له ، المتهالكين عليه ، وليس الأمر على ما مالت ظنونهم إليه.

المسألة الأولى :

في إثبات واجب الوجود الذي هو المحرك الأول (١) ، قال في كتاب «أثولوجيا» من حرف اللام :

__________________

ـ الحق على أفلاطون. وقد روي أنه ألف قرابة أربعمائة كتاب ، وقد فقد معظمها ، ومن حسن الحظ أن ما بقي منها هو أهم ما كتب. (انظر تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢١١).

(١) وقد قرر أن المحرك الأول واهب الوجود ، وهو غير متحرك أصلا بالذات ، ولا بالعرض ، فيرى أن الله محيط بالعالم ولكن التماس غير ضروري ليحرك الله العالم كعلة فاعلية ، والله غير جسمي ، إذ أنه ليس له مكان ، وقد ذهب إلى أنه إذا كان الفاعل يماس المنفعل دائما ، فالعكس لا يصدق على الفاعل غير المادي ، بحيث يكفي أن يماس الله العالم دون أن يماسه العالم ، فكيف يماس اللامادي المادي ، فالله علة غائية لحركة العالم ، والله منزه عن الحركة ، لأنه إذا كان متحركا وجب أن يفتقر إلى محرك ، وهذا المحرك هو بدوره مفتقر إلى محرك ، فيستقر الأمر بأن لحركة العالم علة أولى ثابتة غير متحركة.

إن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب : اثنان طبيعيان ، وواحد غير متحرك. قال : إنا وجدنا المتحركات على اختلاف جهاتها وأوضاعها ، ولا بد لكل متحرك من محرك ، فإما أن يكون المحرك متحركا ؛ فيتسلسل القول فيه ولا يتحصل ، وإلا فيستند إلى محرك غير متحرك ، ولا يجوز أن يكون فيه معنى ما بالقوة فإنه يحتاج إلى شيء آخر يخرجه من القوة إلى الفعل ؛ إذ هو لا يتحرك من ذاته من القوة إلى الفعل ، فالفعل إذن أقدم من القوة ، وما بالفعل أقدم على ما بالقوة ، وكل جائز وجوده ففي طبيعته معنى ما بالقوة ، وهو الإمكان والجواز فيحتاج إلى واجب به يجب ، وكذلك كل متحرك فيحتاج إلى محرك ، فواجب الوجود بذاته : ذات وجودها غير مستفاد من وجود غيره ، وكل موجود فوجوده مستفاد عنه بالفعل. وجائز الوجود له في نفسه وذاته الإمكان ، وذلك إذا أخذته بلا شرط ، وإذا أخذته بشرط علته فله الوجوب ، وإذا أخذته بشرط لا علية فله الامتناع.

المسألة الثانية :

في أن واجب الوجود واحد (١) ، أخذ أرسطوطاليس يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث أن العالم واحد ، ويقول : إن الكثرة بعد الاتفاق في الحد ليست إلا في كثرة العنصر ، وأما ما هو بالآنية الأولى فليس له عنصر ، لأنه تمام ، قائم بالفعل ، لا يخالط القوة فإذن المحرك الأول واحد بالكلمة والعدد ، أي بالاسم والذات ، قال : فمحرك العالم واحد ، لأن العالم واحد ، هذا نقل ثامسطيوس ، وأخذ من نصر مذهبه يوضح أن المبدأ الأول واحد من حيث إنه واجب الوجود لذاته ، قال : ولو كان كثيرا لحمل واجب الوجود عليه وعلى غيره بالتواطؤ فيشملها جنسا ، وينفصل أحدهما عن الآخر نوعا ، فتتركب ذاته من جنس وفصل. فتسبق أجزاء

__________________

(١) فأرسطو يكشف في مذهبه عن وجود إله واحد يدبر هذا الكون ، وقد ذكر الفارابي في كتابه «الجمع بين رأيي الحكيمين» بأن أرسطو بيّن في كتاب «أوثولوجيا» أن الواحد موجود في كل كثرة ، لأن كل كثرة لا يوجد فيها الواحد لا تتناهى أبدا ، وبرهن على ذلك ببراهين جلية واضحة.

المركب على المركب سبقا بالذات ، فلا يكون واجبا بذاته ، ولأنه لو لم يكن هو بعينه واجب الوجود لذاته لا لشيء عنه ، بل لأمر خارج عنه واجب بذاته لكان واجب الوجود بذلك الأمر الخارج ، فلم يكن واجبا بذاته ، هذا خلف.

المسألة الثالثة :

في أن واجب الوجود لذاته : عقل لذاته ، وعاقل ومعقول لذاته (١) ، عقل من غيره ، أو لم يعقل.

أما أنه عقل فلأنه مجرد عن المادة ، منزه عن اللوازم المادية ، فلا تحتجب ذاته عن ذاته.

وأما أنه عاقل لذاته ، فلأنه مجرد لذاته.

وأما أنه معقول لذاته ، فلأنه غير محجوب عن ذاته بذاته أو بغيره.

قال : الأول يعقل ذاته ، ثم من ذاته يعقل كل شيء ، فهو يعقل العالم العقلي دفعة واحدة من غير احتياج إلى انتقال وتردد من معقول إلى معقول ، وأنه ليس يعقل الأشياء على أنها أمور خارجة عنه فيعقلها منها كحالنا عند المحسوسات ، بل يعقلها من ذاته ، وليس كونه عاقلا وعقلا بسبب وجود الأشياء المعقولة حتى يكون وجودها قد جعله عقلا ، بل الأمر بالعكس ، أي عقله للأشياء جعلها موجودة ، وليس للأول شيء يكمله ، فهو الكامل لذاته ، المكمل لغيره ، فلا يستفيد وجوده من وجود كمالا ، وأيضا فإنه لو كان يعقل الأشياء من الأشياء ، لكان وجودها متقدما على

__________________

(١) يقول : وإذ قد ثبت واجب الوجود ، فنقول إنه بذاته عقل وعاقل ومعقول ، أما إنه معقول الماهية فلأنك تعرف أن طبيعة الوجود بما هي طبيعة أقسام الوجود بما هي كذلك ، غير ممتنع عليها أن تعقل إنما يعرض لها أن لا تعقل إذا كانت في المادة ، أو مكنوفة بعوارض المادة ، فإنها من حيث هي كذلك محسوسة أو متخيلة ، والوجود إذا جرد عن هذا العائق ، كان وجودا وماهيته معقولة. وكل ما هو بذاته مجرد عن المادة والعوارض ، فهو بذاته معقول. والأول الواجب الوجود مجرد عن المادة وعوارض المادة ، فهو بما هو هوية مجردة عقل وبما يعتبر له أن هوية المجردة لذاته فهو معقول لذاته. وبما يعتبر له أن ذاته لها هوية مجردة هو عاقل ذاته ، ومن فكر قليلا علم أن العاقل يقتضي شيئا معقولا ، وهذا الاقتضاء لا يتضمن أن ذلك الشيء آخر ، أو هو هو. (انظر النجاة ص ٣٩٨).

وجوده ، ويكون جوهره في نفسه وفي قوامه ، وفي طباعه أن يقبل معقولات الأشياء من الأشياء ، فيكون في طباعه ما هو بالقوة من حيث يكمل بما هو خارج عنه ، حتى يقال : لو لا ما هو خارج عنه لم يكن له ذلك المعنى ، وكان فيه عدمها ، فيكون الذي له في طباع نفسه ، وباعتبار نفسه من غير إضافة إلى غيره أن يكون عادما للمعقولات ، ومن شأنه أن يكون له ذلك ، فيكون باعتبار نفسه مخالطا للإمكان والقوة ، وإذا فرضنا أنه لم يزل ولا يزال موجودا بالفعل ، فيجب أن يكون له من ذاته الأمر الأكمل الأفضل لا من غيره.

قال : وإذا عقل ذاته عقل ما يلزمها لذاتها بالفعل ، وعقل كونه مبدأ ، وعقل كل ما يصدر عنه على ترتيب الصدور عنه ، وإلا فلم يعقل ذاته بكنهها. قال : وإن كان ليس يعقل بالفعل. فما الشيء الكريم الذي له وهو الكون الناقص كماله؟ فيكون حاله كحال النائم ، وإن كان يعقل الأشياء من الأشياء فتكون الأشياء متقدمة عليه بتقدم ما يقبله ذاته ، وإن كان يعقل الأشياء من ذاته فهو المرام والمطلب ، وقد يعبر عن هذا الغرض بعبارة أخرى تؤدي قريبا من هذا المعنى ، فيقول : إن كان جوهره العقل وأن يعقل ، فإما أن يعقل ذاته ، أو غيره ، فإن كان يعقل شيئا آخر فما هو في حد ذاته غير مضاف إلى ما يعقله؟ وهل لهذا المعتبر بنفسه فضل وجلال مناسب لأن يعقل ، بأن يكون بعض الأحوال أن يعقل له أفضل من أن لا يعقل؟ أو بأن لا يعقل يكون له أفضل من أن يعقل؟ فإنه لا يمكن القسم الآخر : وهو أن يكون يعقل الشيء الآخر أفضل من الذي له في ذاته ، من حيث هو في ذاته ، شيء يلزمه أن يعقل ، فيكون فضله وكماله بغيره. وهذا محال.

المسألة الرابعة :

في أن واجب الوجود لا يعتريه تغير وتأثر من غيره ، بأن يبدع أو يعقل ، قال : الباري تعالى عظيم الرتبة (١) جدا غير محتاج إلى غيره ، ولا متغير بسبب من غيره ،

__________________

(١) انظر كتاب الإنصاف شرح كتاب اللام لابن سينا.

سواء كان التغير زمانيا ، أو كان تغيرا بأن ذاته تقبل من غيره أثرا وإن كان دائما في الزمان ، وإنما لا يجوز له أن يتغير كيفما كان ، لأن انتقاله إنما يكون إلى الشر لا إلى الخير ، لأن كل رتبة غير رتبته فهي دون رتبته ، وكل شيء يناله ويوصف به فهو دون نفسه. ولا يكون أيضا مناسبا للحركة ، خصوصا إن كانت بعدية زمانية. وهذا معنى قوله : إن التغير إلى الشيء الذي هو شر.

وقد ألزم على كلامه : أنه إذا كان الأول يعقل أبدا ذاته ، فإنه يتعب ويكل ويتغير ويتأثر. وأجاب ثامسطيوس عن هذا بأنه إنما لا يتعب لأنه يعقل ذاته ، وكما لا يتعب من أن يحب ذاته فإنه لا يتعب من أن يعقل ذاته.

قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا : ليست العلة أنه لذاته يعقل ، أو لذاته يحب بل لأنه ليس مضادا لشيء في الجوهر العاقل. فإن التعب هو أذى يعرض لسبب خروج عن الطبيعة ، وإنما يكون ذلك إذا كانت الحركات التي تتوالى مضادة لمطلوب الطبيعة. فأما الشيء الملائم واللذيذ المحض الذي ليس فيه منافاة بوجه ، فلم يجب أن يكون تكرره متعبا.

المسألة الخامسة :

في أن واجب الوجود حي بذاته ، باق بذاته (١). أي كامل في أن يكون بالفعل مدركا لكل شيء ، نافذ الأمر في كل شيء.

وقال : إن الحياة التي عندنا يقترن بها من إدراك خسيس ، وتحريك خسيس ، وأما هناك فالمشار إليه بلفظ الحياة هو كون العقل التام بالفعل الذي يتعقل من ذاته

__________________

(١) يقول أرسطو : وهي حياة ، أي حي بذاته ، أي كامل في أن يكون بالفعل مدركا لكل شيء نافذ الأمر في كل شيء ، فإن الحياة التي عندنا إنما تسمى حياة لما يقترن بها من إدراك خسيس وتحريك خسيس ، وأما هناك فالمشار إليه لفظ الحياة هو كون العقل التام بالفعل وذلك هو العقل ، وخصوصا العقل الذي من ذاته يتعقل كل شيء من ذاته ، ثم قال : فإذن هو حياة وبصر متصل أزلي ، أي حي بذاته ، باق بذاته ، فإن هذا هو الإله. (المصدر السابق).

كل شيء ، وهو باق الدهر أزلي ، فهو حي بذاته ، باق بذاته ، عالم بذاته. وإنما ترجع جميع صفاته إلى ما ذكرنا من غير تكثر ولا تغير في ذاته.

المسألة السادسة :

في أنه لا يصدر عن الواحد إلا واحد (١)

قال : الصادر الأول هو العقل الفعال ، لأن الحركات إذا كانت كثيرة ، ولكل متحرك محرك ، فيجب أن يكون عدد المحركات بحسب عدد المتحركات ، فلو كانت المحركات والمتحركات تنسب إليه لا على ترتيب أول وثان ، بل جملة واحدة ، لتكثرت جهات ذاته بالنسبة إلى محرك محرك ، ومتحرك متحرك ، فتتكثر ذاته ، وقد أقمنا البرهان على أنه واحد من كل وجه ، فلن يصدر عن الواحد من كل وجه إلا واحد وهو العقل الفعال. وله في ذاته ، وباعتبار ذاته ، إمكان الوجود.

وباعتبار علته وجوب الوجود ، فتكثر ذاته لا من جهة علته ، فيصدر عنه شيئان. ثم يزيد التكثر في الأسباب فتتكثر المسببات ، والكل ينسب إليه.

المسألة السابعة :

في عدد المفارقات (٢).

قال : إذا كان عدد المتحركات مترتبا على عدد المحركات ، فتكون الجواهر المفارقة كثيرة على ترتيب أول وثان. فلكل كرة متحركة محرك مفارق غير متناهي

__________________

(١) المبدأ الأول واحد وإنه يحرك الحركة الأولى الدائمة الأزلية ، وبعد ذلك المبدأ جواهر كثيرة حالها هذه الحال ، والقياس يوجب ذلك والحس شهد عليه ، وكل متحرك فحركته من محرك ، فالعلة الأولى يجب أن تكون ضرورة واحدة غير متحركة ، وأما الجواهر المحركة للأجسام التي بعدها فيجب ضرورة أن تكون كثيرة بحسب الأجسام المتحركة ، وأن تكون في ذاتها غير متحركة لكن تتحرك بالعرض كما أوجبه القول في أمر النفس وأن تكون أزلية ، إلا أن الوقوف على كثرة القوى يقصد إلى تعرفه من علم النجوم ، ويجب أن يكون عدد القوى المحركة بحسب عدد الأجسام المتحركة.

(٢) ثم إن أرسطو أخذ يبحث ، هل المحرك المفارق الذي ليس بجسم واحدا أو أكثر من واحد ، فيقول : إذا كانت الحركات كثيرة ، والمتحرك الواحد محركه واحد ، فيجب أن يكون عدد الحركات المفارقة كثيرة ، بحسب عدد المحركات الأزلية. (انظر ذلك في كتاب الإنصاف شرح كتاب اللام لابن سينا).

القوة يحرك كما يحرك المشتهي والمعشوق. ومحرك آخر مزاول للحركة ، فيكون صورة للجرم السماوي ، فالأول عقل مفارق ، والثاني نفس مزاول. فالمحركات المفارقة تحرك على أنها مشتهاة معشوقة. والمحركات المزاولة تحرك على أنها مشتهية عاشقة. ثم يطلب عدد المحركات من عدد حركات الأكر. وذلك شيء لم يكن ظاهرا في زمانه ، وإنما ظهر بعد.

والأكر تسع ، لما دل الرصد عليها. فالعقول المفارقة عشرة : تسعة منها مدبرات النفوس التسعة المزاولة ، وواحد هو العقل الفعال.

المسألة الثامنة :

في أن الأول مبتهج بذاته (١).

قال أرسطوطاليس : اللذة في المحسوسات هو الشعور بالملائم ، وفي المعقولات الشعور بالكمال الواصل إليه من حيث يشعر به. فالأول مغتبط بذاته ، ملتذ بها ، لأنه يعقل ذاته على كمال حقيقتها وشرفها وإن جل عن أن ينسب إليه لذة انفعالية ، بل يجب أن يسمى ذلك بهجة ، وعلاء ، وبهاء. كيف ونحن نلتذ بإدراك الحق ، ونحن مصروفون عنه ، مردودون في قضاء حاجات خارجة عما يناسب حقيقتنا التي نحن بها ناس ، وذلك لضعف عقولنا ، وقصورنا في المعقولات ،

__________________

(١) قال أرسطو : والطبيعة لنا كحال صالحة ، وما بعده يشير بهذا إلى أنه مثل هذا المبدأ الذي يعقل ذاته ويعقل كمال حقيقته وشرفها ، فهو مغتبط بذاته ، ملتذ بها ، وإن جل عن أن تنسب إليه اللذة الانفعالية ، بل يجب أن تسمى بهجة أو شيئا آخر ، فإنه لا محالة له بهاء ذاته ، وعلاء ذاته ، وهو مدرك لها وليس المعنى الذي يسمى في المحسوسات لذة الأنفس الشعور بالملائم والكمال الواصل من حيث يشعر به ، ومن حيث هو كذلك ، فكيف الإدراك الأول ، للكمال الخفي بالغاية وكيف ونحن نلتذ بإدراك الحق ونحن مصروفون عنه مرددون في قضاء حاجات خارجية عما يناسب حقيقتنا التي بها نحن ناس. فنقول إنا مع ضعف تصورنا للمعقولات القوية وانغماسنا في الطبيعة البدنية قد نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول فتكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جدا ، وهذا الحال له أبدا ، وهو لنا غير ممكن لأننا بدنيون ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفة وخلسة. (انظر المصدر السابق).

وانغماسنا في الطبيعة البدنية ، لكنا نتوصل على سبيل الاختلاس فيظهر لنا اتصال بالحق الأول ، فيكون كسعادة عجيبة في زمان قليل جدا ، وهذه الحال له أبدا ، وهو لنا غير ممكن لأنا مذنبون ، ولا يمكننا أن نشيم تلك البارقة الإلهية إلا خطفة وخلسة.

المسألة التاسعة :

في صدور نظام الكل ، وترتيبه عنه (١).

قال : قد بينا أن الجوهر يقال على ثلاثة أضرب : اثنان طبيعيان ، وواحد غير متحرك وقد بينا القول في الواحد غير المتحرك ؛ وأما الاثنان الطبيعيان فهما : الهيولى ، والصورة أو العنصر والصورة ، وهما مبدأ الأجسام الطبيعية ، وأما العدم فيعد من المبادي بالعرض لا بالذات ، فالهيولى جوهر قابل للصورة ، والصورة معنى ما يقترن بالجوهر فيصير به نوعا كالجزء المقوم له لا كالعرض الحال فيه ، والعدم ما يقابل الصورة ، فإنا متى توهمنا أن الصورة لم تكن فيجب أن يكون في الهيولى عدم الصورة ، والعدم المطلق مقابل للصورة المطلقة ، والعدم الخاص مقابل للصورة الخاصة.

قال : وأول الصورة التي تسبق إلى الهيولى هي الأبعاد الثلاثة فتصير جرما ذا طول ، وعرض ، وعمق ، وهي الهيولى الثانية ، وليست بذات كيفية. ثم تلحقها الكيفيات الأربع التي هي الحرارة والبرودة الفاعلتان ، والرطوبة واليبوسة المنفعلتان ، فتصير الأركان والأسطقسات الأربعة التي هي النار والهواء والماء والأرض ، وهي الهيولى الثالثة. ثم تتكون منها المركبات التي تلحقها الأعراض والكون والفساد ، ويكون بعضها هيولى بعض.

__________________

(١) وقد أخذ أرسطو يوضح الحال في ترتيب الكل من حيث الأفضل والأحسن ، ومن حيث النظام والعدل.

لمزيد من الاطلاع يجب النظر في كتاب الإنصاف شرح كتاب اللام لابن سينا.

قال : وإنما رتبنا هذا الترتيب في العقل والوهم خاصة دون الحس ، وذلك أن الهيولى عندنا لم تكن معراة عن الصورة قط. فلم نقدر في الوجود جوهرا مطلقا قابلا للأبعاد ثم لحقته الأبعاد ، ولا جسما عاريا عن هذه الكيفيات ، ثم عرض له ذلك ، وإنما هو عند نظرنا فيما هو أقدم بالطبع ، وأبسط في الوهم والعقل.

ثم أثبت طبيعة خامسة وراء هذه الطبائع لا تقبل الكون والفساد ، ولا يطرأ عليها الاستحالة والتغير ، وهي طبيعة السماء ، وليس يعني بالخامسة طبيعة من جنس هذه الطبائع بل معنى ذلك أن طبائعها خارجة عن هذه. ثم هي كلها على تركيبات يختص كل تركيب خاص بطبيعة خاصة ، ويتحرك بحركة خاصة ، ولكل متحرك محرك مزاول ، ومحرك مفارق ، والمتحركات أحياء ناطقون ، والحيوانية والناطقية لها بمعنى آخر. وإنما يحمل ذلك عليها وعلى الإنسان بالاشتراك ، فترتيب العالم كله علويه وسفليه على نظام واحد ، وصار النظام في الكل محفوظا بعناية المبدأ الأول على أحسن ترتيب وأحكم قوام ، متوجها إلى الخير ، وترتيب الموجودات كلها في طباع الكل على نوع نوع ليس على ترتيب المساواة ، فليس حال السباع كحال الطير ، ولا حالها كحال النبات ، ولا حال النبات كحال الحيوان.

قال : وليس مع هذا التفاوت منقطعا بعضها عن بعض بحيث لا ينسب بعضها إلى بعض ، بل هناك مع الاختلاف اتصال وإضافة جامعة للكل ، تجمع الكل إلى الأصل الأول الذي هو المبدأ لفيض الجود والنظام في الوجود على ما يمكن في طباع الكل أن يترتب عنه. قال : وترتيب الطباع في الكل كترتيب المنزل الواحد من الأرباب ، والأحرار ، والعبيد ، والبهائم ، والسباع. فقد جمعهم صاحب المنزل ، ورتب لكل واحد منهم مكانا خاصا ، وقدر له عملا خاصا. ليس قد أطلق لهم أن يعملوا ما شاءوا وأحبوا ، فإن ذلك يؤدي إلى تشويش النظام. فهم وإن اختلفوا في مراتبهم ، وانفصل بعضهم عن بعض بأشكالهم وصورهم، منتسبون إلى مبدأ واحد ، صادرون عن رأيه وأمره ، مصرفون تحت حكمه وقدره ، فكذلك تجري الحال في العالم ، بأن يكون هناك أجزاء أول مفردة متقدمة لها أفعال مخصوصة، مثل

السماوات ، ومحركاتها ، ومدبراتها ، وما قبلها من العقل الفعال. وأجزاء مركبة متأخرة تجري أكثر أمورها على الاتفاق المخلوط بالطبع والإرادة والجبر الممزوج بالاختيار. ثم ينسب الكل إلى عناية الباري جلت عظمته.

المسألة العاشرة :

في أن النظام في الكل متوجه إلى الخير (١) ، والشر واقع في القدر بالعرض.

قال : لما اقتضت الحكمة الإلهية نظام العالم على أحسن إحكام وإتقان ، لا لإرادة وقصد إلى أمر في السافل حتى يقال : إنما أبدع العقل مثلا لغرض في السافل ، حتى يفيض مثلا على السافل فيضا ، لأمر أعلى من ذلك ، وهو أن ذاته أبدع ما أبدع لذاته لا لعلة ولا لغرض ، فوجدت الموجودات كاللوازم واللواحق ، ثم توجهت إلى الخير ، لأنها صادرة عن أصل الخير ، وكان المصير في كل حال إلى رأس واحد.

ثم ربما يقع شر وفساد من مصادمات في الأسباب السافلة دون العالية التي كلها خير مثل المطر الذي لم يخلق إلا خيرا ونظاما للعالم ، فيتفق أن يخرب به بيت عجوز ، فإن وقع كان ذلك واقعا بالعرض لا بالذات. أو بأن لا يقع شر جزئي في العالم لا تقتضي الحكمة أن لا يوجد خير كلي ، فإن فقدان المطر أصلا شر كلي ،

__________________

(١) قال ابن سينا في كتاب النجاة : وكل واجب الوجود بذاته فإنه خير محض ، وكمال محض ، والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده ، والشر لا ذات له ، بل هو إما عدم جوهر أو عدم صلاح حال الجوهر ، فالوجود خيرية وكمال الوجود خيرية الوجود ، والوجود الذي لا يقارنه عدم ، لا عدم جوهر ولا عدم شيء للجوهر ، بل هو دائم بالفعل ، فهو خير محض ، والممكن الوجود بذاته ليس خيرا محضا ، لأن ذاته بذاته لا يجب له الوجود فذاته بذاته تحتمل العدم ، وما احتمل العدم بوجه ما فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص. فإذن ليس الخير المحض إلا الواجب الوجود بذاته ، والواجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا لكل وجود ، ولكل كمال وجود ، فهو من هذه الجهة خير أيضا لا يدخله نقص ولا شر ، والشرور أمور إضافية مقيسة إلى أفراد شخصية معينة ، وأما في نفسها وبالنسبة إلى ما يجب أن يكون عليه الكل من النظام فلا شر أصلا ، وفي النجاة : «فالخير مقتضى بالذات ، والشر مقتضى بالعرض ، وكل بقدر». (النجاة ص ٣٧٣ و ٤٧٤).

وتخريب بيت عجوز شر جزئي والعالم للنظام الكلي لا للجزئي ، فالشر إذن واقع في القدر بالعرض.

وقال : إن الهيولى قد لبست الصور على درجات ومراتب ، وإنما يكون لكل درجة ما تحتمله في نفسها دون أن يكون في الفيض الأعلى إمساك عن بعض وإفاضة على بعض. فالدرجة الأولى احتمالها على نحو أفضل ، دون ذلك. والذي عندنا من العناصر دون الجميع ، لأن كل ماهية من ماهيات هذه الأشياء إنما تحتمل ما تستطيع أن تلبس من الفيض على النحو الذي هيئت له ، ولذلك تقع العاهات والتشويهات في الأبدان. لما يلزم من ضرورة المادة الناقصة التي لا تقبل الصورة على كمالها الأول والثاني. قال : إن لم نجر الأمور على هذا المنهاج ألجأتنا الضرورة إلى أن نقع في محالات وقع فيها من قبلنا كالثنوية وغيرهم.

المسألة الحادية عشرة :

في كون الحركات سرمدية ، وأن الحوادث لم تزل (١).

قال : إن صدور الفعل عن الحق الأول إنما يتأخر لا بزمان ، بل بحسب الذات ، والفعل ليس مسبوقا بعدم ، بل هو مسبوق بذات الفاعل فقط. ولكن القدماء لما أرادوا أن يعبروا عن العلية افتقروا إلى ذكر القبلية. وكانت القبلية في اللفظ تتناول الزمان وكذلك في المعنى عند من لم يتدرب. فأوهمت عباراتهم أن فعل الأول الحق فعل زماني ، وأنّ تقدمه تقدم زماني. قال : ونحن أثبتنا أن الحركات تحتاج إلى محرك غير متحرك.

__________________

(١) ويذهب في هذا أن الحركة أو الصيرورة التي هي ظاهرة وجوده هي سرمدية قديمة مثله ، إلا أنه يعتقد أن هذه الحركة لا تحمل في ثنيتها علة وجودها ، لأن المشاهد أن هذه الحركة أثر لتلك العلة ، فلا يمكن أن ينتظم الأثر المؤثر ، ويحمله في ثنيته ، ولا يمكن أن يكون المؤثر جزءا من أثره ، فيجب إذن أن نبحث عن العلة الأولى لجميع المعلولات والحركات وهي العلة التي تؤثر ولا تتأثر وتخضع الحركات لناموسها ، ولا تخضع هي لتلك الحركات ، وهو المحرك الأول الذي لا يتغير ، ولا يتحرك والذي تنزه عن الزمان والمكان والصيرورة. والمحرك الأول هو واجب الوجود وهو الله عزوجل.

ثم نقول : الحركات لا تخلو إما أن تكون لم تزل ، أو تكون قد حدثت بعد أن لم تكن، وقد كان المحرك لها موجودا بالفعل قادرا ، ليس يمانعه مانع من أن تكون عنه ، ولا حدث حادث في حال ما أحدثها فرغبه وحمله على الفعل. إذن كان جميع ما يحدث إنما يحدث عنه ، وليس شيء غيره يعوقه أو يرغبه ، ولا يمكن أن يقال : قد كان لا يقدر أن يكون عنه مقدور فقدر ، أو لم يرد فأراد ، أو لم يعلم فعلم. فإن ذلك كله يوجب الاستحالة، ويوجب أن يكون شيء آخر غيره هو الذي أحاله. وإن قلنا إنه منعه مانع يلزم أن يكون السبب المانع أقوى ، والاستحالة والتغير عن المانع حركة أخرى استدعت محركا ، وبالجملة : كل سبب ينسب إليه الحادث في زمان حدوثه بعد جوازه في زمان قبله وبعده. فإن ذلك السبب جزئي خاص أوجب حدوث تلك الحادثة التي لم تكن قبل ذلك ، وإلا فالإرادة الكلية ، والقدرة الشاملة ، والعلم الواسع العام ليس يختص بزمان دون زمان ، بل نسبته إلى الأزمان كلها نسبة واحدة ، فلا بد لكل حادث من سبب حادث ، ويتعالى عنه الواحد الحق الذي لا يجوز عليه التغيير والاستحالة.

قال : وإذا كان لا بد من محرك للمحركات ، ومن حامل للحركات ، تبين أن المحرك سرمدي ، والحركات سرمدية ، فالمتحركات سرمدية. فإن قيل : إن حامل الحركة ؛ وهو الجسم ، لم يحدث ، لكنه تحرك عن سكون ، وجب أن يعثر على السبب الذي يغير من السكون إلى الحركة ، فإن قلنا إن ذلك الجسم حدث ، فقد تقدم حدوث الجسم حدوث الحركة ، فقد بان أن الحركة ، والمتحرك ، والزمان الذي هو عادّ للحركة : أزلية سرمدية.

والحركات إما مستقيمة وإما مستديرة ، والاتصال لا يكون إلا للمستديرة ، لأن المستقيم ينقطع ، والاتصال أمر ضروري للأشياء الأزلية. فإن الذي يسكن ليس بأزلي. والزمان متصل ، لأنه لا يمكن أن يكون قطعا مبتورة ، فيجب من ذلك أن تكون الحركة متصلة. وإذا كانت المستديرة هي وحدها متصلة ، فيجب أن تكون هي أزلية ، فيجب أن يكون محرك هذه الحركة المستديرة أيضا أزليا ، إذ لا يكون

ما هو أخس علة لما هو أفضل ، ولا فائدة في محركات ساكنة غير متحركة كالصور الأفلاطونية ، فلا ينبغي أن يضع هذه الطبيعة بلا فعل فتكون متعطلة غير قادرة أن تحيل وتحرك.

المسألة الثانية عشرة :

في كيفية تركب العناصر (١).

حكى فرفريوس عنه أنه قال : كل موجود ففعله مثل طبيعته. فما كانت طبيعته بسيطة ففعله بسيط. والله تعالى واحد بسيط ، ففعل الله تعالى واحد بسيط ، وكذلك فعله الاجتلاب إلى الوجود ، فإنه موجود ، لكن الجوهر لما كان وجوده بالحركة كان بقاؤه أيضا بالحركة. وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون موجودا من ذاته بمنزلة الوجود الأول الحق ، لكن من التشبه بذلك الأول الحق ، وكل حركة تكون إما أن تكون مستقيمة أو مستديرة ، فالحركة المستقيمة يجب أن تكون متناهية. والجوهر يتحرك في الأقطار الثلاثة التي هي : الطول ، والعرض والعمق على خطوط مستقيمة حركة متناهية فيصير بذلك جسما. وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها حركة بلا نهاية ، ولا يسكن في وقت من الأوقات ، إلا أنه ليس يمكن أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة وذلك أن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه كالنقطة. فانقسم الجوهر ، فتحرك بعضه على الاستدارة وهو الفلك ، وسكن بعضه في الوسط.

قال : وكل جسم يتحرك فيماسّ جسما ساكنا وفي طبيعته قبول التأثير منه ، أحدث سخونة فيه ، وإذا سخن لطف وانحل وخف ، فكانت طبيعة النار تلي تلك الفلك المتحرك ، والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار ،

__________________

(١) وقد ورد في ذلك آراء كثيرة ، فمن الفلاسفة من يزعم أن جميع العناصر من مادة واحدة ، ومنهم من يرى أنه يوجد أكثر من عنصر واحد ، وقد ذهب أرسطو إلى أنه يوجد مادة ما للأجسام المحسة منها يأتي ما يسمى بالعناصر. (انظر ذلك بتوسع في كتاب الكون والفساد ص ٢٠٢).

فتكون حركته أقل ، فلا يتحرك بأجمعه لكن جزء منه ، فيسخن دون سخونة النار وهو الهواء، والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك له ، فهو بارد لسكونه ، ورطب لمجاورة الهواء الحار الرطب ، ولذلك انحل قليلا ، وهو الماء. والجسم الذي في الوسط فإنه بعد في الغاية عن الفلك ، ولم يستفد من حركته شيئا ، ولا قبل منه تأثيرا ، فيبس ، وبرد ، وهو الأرض.

وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض ، وتختلط. يتولد عنها أجسام مركبة ، وهي المركبات المحسوسات التي هي المعادن والنبات والحيوان والإنسان. ثم يختص بكل نوع طبيعة خاصة تقبل فيضا خاصا على ما قدره الباري جلت قدرته.

المسألة الثالثة عشرة :

في الآثار العلوية (١).

قال أرسطوطاليس : الذي يتصاعد من الأجسام السفلية إلى الجو ينقسم قسمين : أحدهما : أدخنة نارية بإسخان الشمس وغيرها. والثاني : أبخرة مائية فتصعد إلى الجو وقد صحبتها أجزاء أرضية ، فتتكاثف وتجتمع بسبب ريح أو غيرها ، فتصير ضبابا أو سحابا ، فتصادفها برودة فتعصر ماء وثلجا وبردا ، فتنزل إلى مركز الماء وذلك لاستحالة الأركان بعضها إلى بعض ، فكما أن الماء يستحيل هواء فيصعد ، كذلك الهواء يستحيل ماء فينزل ، ثم الرياح والأدخنة إذا احتقنت في خلال السحاب واندفعت مرة سمع لها صوت وهو الرعد ، ويلمع من اصطكاكها وشدة صدمتها ضياء وهو البرق. وقد يكون من الأدخنة ما تكون الدهنية على مادتها أغلب فيشتعل فيصير شهابا ثاقبا ، وهي الشهب ، ومنها ما يحترق في الهواء فيتحجر

__________________

(١) ينقسم العالم ، عند أرسطو ، بالنسبة لفلك القمر إلى قسمين :

١ ـ ما تحت فلك القمر ، وهو الأرض وما حولها ، ويسوده الكون والفساد.

٢ ـ ما فوق فلك القمر ، أو العالم الأعلى ، وهو عالم الكواكب ، ويمتاز بأن لا يوجد فيه كون وفساد. (أرسطو ص ٢٢١).

فينزل حديدا أو حجرا ، ومنها ما يحترق نارا فيدفعها دافع فينزل صاعقة ، ومن المشتعلات ما يبقى فيه الاشتعال ، ووقف تحت كوكب ، ودارت به النار الدائرة بدوران الفلك ، فكان ذنبا له. وربما كان عريضا فرئي كأنه لحية كوكب. وربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع على المرئي والجدران الصقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة، بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها ، وصفائها وكدورتها. فيرى هالة وقوس قزح ، وشموس، وشهب ، والمجرة. وذكر أسباب كل واحد من هذه في كتابه المعروف بالآثار العلوية، والسماء والعالم ، وغيرهما.

المسألة الرابعة عشرة :

في النفس الإنسانية الناطقة ، واتصالها بالبدن (١).

قال : النفس الإنسانية ليست بجسم ولا قوة في جسم ، وله في إثباتها مآخذ : منها الاستدلال على وجودها بالحركات الاختيارية ، ومنها الاستدلال عليها بالتصورات العلمية.

أما الأول فقال : لا نشك أن الحيوان يتحرك إلى جهات مختلفة حركة اختيارية ، إذ لو كانت حركاته طبيعية أو قسرية ، لتحرك إلى جهة واحدة لا تختلف البتة ، فلما تحركت إلى جهات متضادة علم أن حركاته اختيارية ، والإنسان مع أنه مختار في حركاته كالحيوان ، إلا أنه يتحرك لمصالح عقلية يراها في عاقبة كل أمر ، فلا تصدر عنه حركاته إلا إلى غرض وكمال، وهو في معرفته في عاقبة كل حال ،

__________________

(١) يرى أرسطو أن النفس هي الصورة الأولى للجسم الطبيعي المركب الذي يمنحه الحياة والقدرة ، فالنفس في رأيه هي العلة التصويرية والغائية للجسم ، وهي بعيدة عن أن تكون ناتجة عنه ، لأن علة وجود الشيء ليست بعضه. ومع ذلك ، فمن حيث أن الصورة عند أرسطو لا يمكن أن تستقل بنفسها في الخارج. فحياة النفس بعيدة عن الجسم في نظره. وهو لهذا يقول : إن الروح لا تعرف لها وجودا بغير الجسم ، فهي وإن لم تكن جسما إلا أنها صورة للجسم.

والحيوان ليست حركاته بطبعه على هذا النهج ، فيجب أن يتميز الإنسان بنفس خاص ، كما تميز الحيوان على سائر الموجودات بنفس خاص.

وأما الثاني : وهو المعول عليه ، قال : إنا لا نشك أن نعقل ونتصور أمرا معقولا صرفا ، مثل المتصور من الإنسان أنه إنسان كلي يعم جميع أشخاص النوع ، ومحل هذا المعقول جوهر ليس بجسم ولا قوة في جسم أو صورة لجسم ، فإنه إن كان جسما فإما أن يكون محل الصورة المعقولة منه طرفا منه لا ينقسم ، أو جملته المنقسمة. وبطل أن يكون طرفا منه غير منقسم ؛ فإنه لو كان كذلك لكان المحل كالنقطة التي لا تميز لها في الوضع عن الخط ، فإن الطرف نهاية الخط ، والنهاية لا يكون لها نهاية أخرى ، وإلا تسلسل القول فيه ، فتكون النقط متشافعة ولكل نهاية ، وذلك محال ، وإن كان محل المعقول من الجسم شيئا ينقسم ، فيجب أن ينقسم المعقول بانقسام محله ، ومن المعقولات ما لا ينقسم البتة ، فإن ما ينقسم يجب أن يكون شيئا كالشكل والمقدار. والإنسانية الكلية المتصورة في الذهن ليست كشكل قابل للقطع ، ولا كمقدار قابل للفصل. فتبين أن النفس ليست بجسم ، ولا قوة في جسم ، ولا صورة في جسم.

المسألة الخامسة عشرة :

في وقت اتصالها بالبدن ، ووجه اتصالها (١).

قال : إذا تحقق أنها ليست بجسم لم تتصل بالبدن اتصال انطباع فيه ، ولا حلول فيه ، بل اتصلت به اتصال تدبير وتصرف. وإنما حدثت مع حدوث البدن لا قبله ولا بعده. قال : لأنها لو كانت موجودة قبل وجود الأبدان لكانت إما متكثرة بذواتها ، وإما متحدة. وبطل الأول ؛ فإن المتكثر إما أن يكون بالماهية والصورة ، وقد فرضناها متفقة في النوع لا اختلاف فيها ، فلا تكثر ولا تحايز ، وإما أن تكون

__________________

(١) فالنفس شيء عقلي مجرد الذات عن المادة ، وقد صارت له صورة شوق إلى العالم الحسي فيما صارت له هذه الصورة ـ وبها تتصل بالعالم الحسي ـ تكون نفسا. وإنها إنما هي نفس لأنها كمال نفس طبيعي آلي.

متكثرة من جهة النسبة إلى العنصر والمادة المتكثرة بالأمكنة والأزمنة ، وهذا محال أيضا. فإنا إذا فرضناها قبل البدن ماهية مجردة لا نسبة لها إلى مادة دون مادة ، وهي من حيث إنها ماهية لا اختلاف فيها ، وأن الأشياء التي ذواتها معان تتكثر تنوعاتها بالحوامل والقوابل والمنفعلات عنها وإذا كانت مجردة فمحال أن يكون بينها مغايرة ومكاثرة.

ولعمري إنها تبقى بعد البدن متكثرة ، فإن الأنفس قد وجد كل منها ذاتا منفردة باختلاف موادّها التي كانت ، وباختلاف أزمنة حدوثها ، وباختلاف هيئات وملكات حصلت عند الاتصال بالبدن ، فهي حادثة مع حدوث البدن ، تصيره نوعا كسائر الفصول الذاتية ، وباقية بعد مفارقة البدن بعوارض معينة له لم توجد تلك العوارض قبل اتصالها بالبدن ، وبهذا الدليل فارق أستاذه ، وفارق قدماءه.

وجد في أثناء كلامه ما يدل على أنه يعتقد أن النفس كانت موجودة قبل وجود الأبدان. فحمل بعض مفسري كلامه قوله ذلك على أنه أراد به الفيض والصور الموجودة بالقوة في واهب الصور ؛ كما يقال إن النار موجودة في الحجر والشجر ، أو الإنسان موجود في النطفة ، والنخلة موجودة في النواة ، والضياء موجود في الشمس. ومنهم من أجراه على ظاهره وحكم بالتمييز بين النفوس بالخواص التي لها ، وقال : اختصت كل نفس إنسانية بخاصية لم يشاركها فيها غيرها (١). فليست متفقة بالنوع ، أعني النوع الأخير ، ومنهم من حكم بالتمييز بالعوارض التي هي مهيأة نحوها ، وكما أنها تتمايز بعد الاتصال بالبدن بأنها كانت متمايزة في المادة ، كذلك تتمايز بأنها ستكون متمايزة بالأبدان والصنائع والأفعال ، واستعداد كل نفس لصنعة خاصة ، وعلم خاص فتنهض هذه فصولا ذاتية ، أو عوارض لازمة لوجودها.

المسألة السادسة عشرة :

في بقائها بعد البدن ، وسعادتها في العالم العقلي.

__________________

(١) فالنفس النقية الطاهرة لم تتدنس ولم تتسخ بأوساخ البدن ، فإنها إذا فارقت البدن رجعت إلى عالمها ـ

قال : إن النفوس الإنسانية إذا استكملت قوتي العلم والعمل تشبهت بالإله سبحانه وتعالى ، ووصلت إلى كمالها ، وإنما هذا التشبه بقدر الطاقة يكون إما بحسب الاستعداد ، وإما بحسب الاجتهاد. فإذا فارق البدن اتصل بالروحانيين ، وانخرط في سلك الملائكة المقربين، ويتم له الالتذاذ والابتهاج. وليس كل لذة فهي جسمانية ، فإن تلك اللذات لذات نفسانية عقلية ، وهذه اللذة الجسمانية تنتهي إلى حد ، ويعرض للمتلذ سآمة وكلال وضعف وقصور إن تعدى عن الحد المحدود ، بخلاف اللذات العقلية فإنها حيثما ازدادت ازداد الشوق والحرص والعشق إليها.

وكذلك القول في الآلام النفسانية ، فإنها تقع بالضد مما ذكرنا. ولم يحقق المعاد إلا للأنفس ، ولم يثبت حشرا ، ولا نشرا ، ولا انحلالا لهذا الرباط المحسوس من العالم ، ولا إبطالا لنظامه كما ذكره القدماء.

* * *

فهذه نكت كلامه استخرجناها من مواضع مختلفة. وأكثرها من شرح ثامسطيوس وكلام الشيخ أبي عليّ بن سينا الذي يتعصب له ، وينصر مذهبه ، ولا يقول من القدماء ، إلا به.

وسنذكر طريقة ابن سينا عند ذكر فلاسفة الإسلام إن شاء الله تعالى.

ونحن الآن ننقل كلمات حكمية لأصحاب أرسطوطاليس ومن نسج على منواله بعده دون الآراء العلمية ، إذا لا خلاف بينهم في الآراء والعقائد.

* * *

ووجدت كلمات وفصولا للحكيم أرسطوطاليس من كتب متفرقة ، فنقلتها على الوجه الذي وجدت ، وإن كان في بعضها ما يدل على أن رأيه على خلاف ما نقله ثامسطيوس واعتمده ابن سينا.

__________________

ـ بأهون سعي ، وسبيلها أن تجعل البدن والآلات البدنية مكاسب يكتسب بواسطتها الكمال الخاص بها.

(انظر تفسير كتاب أثولوجيا الإنصاف لابن سينا).

منها في حدوث العالم ، قال : الأشياء المحمولة أعني الصور المتضادة فليس يكون أحدهما من صاحبه. بل يجب أن يكون بعد صاحبه فيتعاقبان على المادة ، فقد بان أن الصورة تدثر وتبطل. وإذا دثر معنى وجب أن يكون له بدء ، لأن الدثور غاية. وهو أحد الجانبين يدل على أن جائيا جاء به فقد صح أن الكون حادث لا من شيء ، وأن الحامل لها غير ممتنع الذات من قبولها وحمله إياها ، وهي ذات بدء وغاية ، يدل على أن حاملها ذو بدء وغاية ، وأنه حادث لا من شيء. ويدل على محدث لا بدء له ولا غاية ، لأن الدثور آخر ، والآخر ما كان له أول. فلو كانت الجواهر والصور لم يزالا فغير جائز استحالتهما ، لأن الاستحالة دثور الصورة التي بها كان الشيء.

وخروج الشيء من حد إلى حد ، ومن حال إلى حال يوجب دثور الكيفية وتردد المستحيل في الكون والفساد يدل على دثوره ، وحدوث أحواله يدل على ابتدائه ، وابتداء جزئه يدل على بدء كله. وواجب إن قبل بعض ما في العالم الكون والفساد أن يكون كل العالم قابلا له ، وكان له بدء يقبل الفساد ، وآخر يستحيل إلى كون ، فالبدء والغاية يدلان على مبدع.

وقد سأل بعض الدهرية أرسطوطاليس وقال : إذا كان لم يزل ولا شيء غيره ثم أحدث العالم فلم أحدثه؟ فقال له : «لم» غير جائزة عليه ، لأن «لم» تقتضي علة ، والعلة محمولة فيما هي علة له من معل فوقه ، ولا علة فوقه ، وليس بمركب فتحمل ذاته العلل. فلم عنه منتفية ، فإنما فعل ما فعل ، لأنه جواد. فقيل : فيجب أن يكون فاعلا لم يزل لأنه جواد لم يزل. قال : معنى «لم يزل» أن لا أول. وفعل يقتضي أولا. واجتماع ما لا أول له ، وذو أول في القول والذات محال متناقض. قيل له : فهل يبطل هذا العالم؟ قال : نعم. قيل : فإذا أبطله بطل الجود؟ قال : سيبطله ليصوغه الصيغة التي لا تحتمل الفساد ، لأن هذه الصيغة تحتمل الفساد ، تم كلامه.

ويعزى هذا الفصل إلى سقراطيس ، قاله لبقراطيس ، وهو بكلام القدماء أشبه.

ومما نقل عن أرسطوطاليس تحديده العناصر الأربعة ، قال : الحار ما خلط بعض ذوات الجنس ببعض. وفرق بين بعض ذوات الجنس من بعض.

وقال : البارد ما جمع بين ذوات الجنس وغير ذوات الجنس ، لأن البرودة إذا جمدت الماء حتى يصير جليدا اشتملت على الأجناس المختلفة من الماء والنبات وغيرهما.

قال : والرطب العسير الانحصار من ذاته ، اليسير الانحصار من ذات غيره. واليابس : اليسير الانحصار من ذاته ، والعسير الانحصار من ذات غيره. والحدّان الأولان يدلان على الفعل ، والآخران يدلان على الانفعال. ونقل أرسطوطاليس عن جماعة من الفلاسفة أن مبادي الأشياء هي العناصر الأربعة. وعن بعضهم : أن المبدأ الأول هو ظلمة وهاوية. وفسره بفضاء وخلاء وعماية. وقد أثبت قوم من النصارى تلك الظلمة وسموها : الظلمة الخارجة.

ومما خالف أرسطوطاليس أستاذه أفلاطون : أن أفلاطون قال : من الناس من يكون طبعه مهيأ لشيء لا يتعداه ، فخالفه وقال : إذا كان الطبع سليما صلح لكل شيء. وكان أفلاطون يعتقد أن النفوس الإنسانية أنواع يتهيأ كل نوع لشيء ما لا يتعداه. وأرسطوطاليس يعتقد أن النفوس الإنسانية نوع واحد ، وإذا تهيأ صنف لشيء تهيأ له كل النوع ، والله الموفق.

٢ ـ حكم الإسكندر الرومي (١)

وهو ذو القرنين الملك ، وليس هو المذكور في القرآن ، بل هو ابن فيلبوس الملك. وكان مولده في السنة الثالثة عشرة من ملك دارا الأكبر. سلمه أبوه إلى

__________________

(١) هو ابن فيلبس المقدوني ، ولد سنة ٣٥٦ ق. م. تعهد بتربيته ليسماخوس اليوناني ، ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره ، قرأ على أرسطوطاليس ولما بلغ العشرين جلس على عرش أبيه. وقد بنى الإسكندرية وتزوج بابنة ملك همذان. مات سنة ٣٢٣ ق. م. ولم يعين خلفا له. وقد انتشرت الآداب اليونانية في كافة البلدان التي أخضعها لسلطانه. (دائرة المعارف للبستاني ٣ : ٥٤٥).

أرسطوطاليس الحكيم المقيم بمدينة إينياس ، فأقام عنده خمس سنين يتعلم منه الحكمة والأدب حتى بلغ أحسن المبالغ ، ونال من الفلسفة ما لم ينله سائر تلاميذه ، فاسترده والده حين استشعر من نفسه علة خاف منها. فلما وصل إليه جدد العهد له ، وأقبل عليه ، واستولت عليه العلة فتوفي ، واستقل الإسكندر بأعباء الملك.

فمن حكمه : أنه سأله معلمه وهو في المكتب : إن أفضى إليك هذا الأمر يوما ما فأين تضعني؟ قال : بحيث تضعك طاعتك في ذلك الوقت.

وقيل له : إنك تعظم مؤدبك أكثر من تعظيمك والدك! قال : لأن أبي كان سبب حياتي الفانية ، ومؤدبي هو سبب حياتي الباقية. وفي رواية : لأن أبي كان سبب حياتي ، ومؤدبي سبب تجويد حياتي. وفي رواية : لأن أبي كان سبب كوني ، ومؤدبي كان سبب نطقي.

وقال أبو زكريا الصيمري : لو قيل لي هذا لقلت : لأن أبي كان قضى وطرا بالطبيعة التي اختلفت بالكون والفساد ، ومؤدبي أفادني العقل الذي به انطلقت إلى ما ليس فيه كون ولا فساد.

وجلس الإسكندر يوما فلم يسأله أحد حاجة ، فقال لأصحابه : والله ما أعدّ هذا اليوم من أيام عمري في ملكي. قيل : ولم أيها الملك؟ قال : لأن الملك لا يوجد التلذذ به إلا بالجود على السائل ، وإغاثة الملهوف ، ومكافأة المحسن ، وإلا بإنالة الراغب ، وإسعاف الطالب.

وكتب إليه أرسطوطاليس في كلام طويل (١) : اجمع في سياستك بين بدار

__________________

(١) ومما كتبه إلى الإسكندر : أن أملك الرعية بالإحسان إليها تظفر بالمحبة منها ، فإن طلبك ذلك منها بإحسانك هو أدوم بقاء منه باعتسافك ، واعلم أنك إنما تملك الأبدان ، فاجمع لها القلوب بالمحبة ، واعلم أن الرعية إذا قدرت على أن تقول قدرت على أن تفعل ، فاجتهد ألا تقول تسلم من أن تفعل. (العقد الفريد ١ : ٢٨ و ١٤٥).

لا حدّة فيه ، وريث لا غفلة معه. وامزج كل شكل بشكله حتى يزداد قوة وعزة عن ضده حتى يتميز لك بصورته. وصن وعدك عن الخلف فإنه شين ، وشب وعيدك بالعفو فإنه زين. وكن عبدا للحق ، فإن عبد الحق حر. وليكن وكدك الإحسان إلى جميع الخلق ، ومن الإحسان وضع الإساءة في موضعها.

وأظهر لأهلك أنك منهم ، ولأصحابك أنك بهم ، ولرعيتك أنك لهم.

وتشاور الحكماء في أن يسجدوا له إجلالا وتعظيما ، فقال : لا سجود لغير بارئ الكل ، بل يحق له السجود على من كساه بهجة الفضائل.

وأغلظ له رجل من أهل أثينية فقام إليه بعض قواده ليقابله بالواجب ، فقال له الإسكندر : دعه ، لا تنحط إلى دناءته ، ولكن ارفعه إلى شرفك.

وقال الإسكندر : من كنت تحب الحياة لأجله فلا تستعظم الموت بسببه.

وقيل له : إن «روشنك» امرأتك بنت دارا الملك ، وهي من أجمل النساء ، فلو قربتها إلى نفسك! قال : أكره أن يقال : غلب الإسكندر دارا ، وغلبت روشنك الإسكندر (١).

وقال : من الواجب على أهل الحكمة أن يسرعوا إلى قبول اعتذار المذنبين ، وأن يبطئوا عن العقوبة.

وقال : سلطان العقل على باطن العاقل ، أشد تحكما من سلطان السيف على ظاهر الأحمق.

__________________

(١) لما استولى الإسكندر على ملك دارا ، ملك الفرس ، وصفت له بناته ، فرغب أن يراهن ثم قال : يقبح أن نغلب رجالا مقاتلة ، فتغلبنا نساء في حالة أسر.

ودخل عليه بطارقته فقالوا : قد بسط الله ملكك ، فأكثر من النساء ليكثر ولدك. فقال : لا يحسن بمن غلب الرجال أن تغلب عليه النساء. وحاصر بعض المدن. فتأهب النساء لمحاربته ، فكفّ عن الحرب وقال : هذا جيش إن غلبناه لم يكن لنا فيه فخر ، وإن غلبنا كانت الفضيحة إلى آخر الدهر. (الكلم الروحانية ص ٩١).

وقال : ليس الموت بألم للنفس ، بل للجسد.

وقال : الذي يريد أن ينظر إلى أفعال الله عزوجل مجردة ، فليعفّ عن الشهوات.

وقال : إن نظم جميع ما في الأرض شبيهة بالنظم السماوي ، لأنها أمثال له بحق.

وقال : العقل لا يألم في طلب معرفة الأشياء ، بل الجسد يألم ويسأم.

وقال : النظر في المرآة يرى رسم الوجه ، وفي أقاويل الحكماء يرى رسم النفس.

ووجدت في عضده صحيفة فيها : قلة الاسترسال إلى الدنيا أسلم ، والاتكال على القدر أروح. وعند حسن الظن تقر العين ، ولا ينفع مما هو واقع التوقي.

وقال بعضهم عنه : إنه أخذ يوما تفاحة فقال : ما ألطف قبول هذه الهيولى الشخصية لصورتها ، وانفعالها لما تؤثر الطبيعة فيها من الأوضاع الروحانية : من تركيب بسيط ، وبسط مركب ، حسب تمثيل النفس لها. كل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل وإله الكل. ولو قيل : وألطف منها قبول هذه النفس الإنسانية لصورتها العقلية ، وانفعالها لما تؤثر النفس الكلية فيها من العلوم الروحانية : من تركيب بسيط ، وبسط مركب حسب تمثيل العقل لها. وكل ذلك دليل على إبداع مبدع الكل ، وإله الكل.

وسأله أطوسايس الكلبي أن يعطيه ثلاث حبات. فقال الإسكندر : ليست هذه عطية ملك. فقال الكلبي : أعطني مائة رطل من الذهب. فقال : ولا هذه مسألة كلبي.

وقال بعضهم : كنا عند شبر المنجم إذ وصل إلينا الإسكندر الملك فأقامنا في جوف الليل ، وأدخلنا بستانا له ليرينا النجوم. فجعل شبر يشير إليها بيده ويسير حتى سقط في بئر فقال : من تعاطى علم ما فوقه بلي بجهل ما تحته.

وقال : السعيد من لا يعرفنا ولا نعرفه ، لأنا إذا عرفناه أطلنا يومه ، وأطرنا نومه.

وقال : استقلل كثير ما تعطي ، واستكثر قليل ما تأخذ ، فإن قرة عين الكريم فيما يعطي ، ومسرة اللئيم فيما يأخذ. ولا تجعل الشحيح أمينا ، ولا الكذاب صفيا ، فإنه لا عفة مع شح ، ولا أمانة مع كذب.

وقال : الظفر بالحزم ، والحزم بإجالة الرأي ، وإجالة الرأي بتحصين الأسرار (١).

ولما توفي الإسكندر برومية المدائن وضعوه في تابوت من ذهب وحملوه إلى الإسكندرية وكان قد عاش اثنتين وثلاثين سنة ، وملك اثنتي عشرة سنة ، وندب جماعة من الحكماء لندبته.

فقال بليموس : هذا يوم عظيم العبرة ، أقبل من شره ما كان مدبرا ، وأدبر من خيره ما كان مقبلا ، فمن كان باكيا على من قد زال ملكه فليبكه.

وقال ميلاطوس : خرجنا إلى الدنيا جاهلين ، وأقمنا فيها غافلين ، وفارقناها كارهين.

وقال زينون الأصغر : يا عظيم الشأن! ما كنت إلا ظل سحاب اضمحلّ لما أظلّ ، فما تحس لملكك أثرا ، ولا تعرف له خبرا.

وقال أفلاطن الثاني : أيها الساعي المغتصب ، جمعت ما خذلك ، وتوليت ما تولى عنك ، فلزمتك أوزاره ، وعاد على غيرك مهنؤه وثماره.

وقال فوطس : ألا تتعجبون ممن لم يعظنا اختيارا حتى وعظنا بنفسه اضطرارا.

وقال مسطورس : قد كنا بالأمس نقدر على الاستماع ولا نقدر على القول ، واليوم نقدر على القول ، فهل نقدر على الاستماع؟.

__________________

(١) ويروى أنه أتاه جاسوس له فأخبره بوفرة العسكر الذين جهزوا إليه فقال : إن الذئب وإن كان واحدا لا تهوله الأغنام الكثيرة. وقيل له : إن الجيش الذي عبّأه دارا فيه ثلاثون ألف مقاتل ، فقال : القصاب وإن كان واحدا لا تهوله الأغنام وإن كانت كثيرة.

وقال ثاون : انظروا إلى حلم النائم كيف انقضى؟ وإلى ظل الغمام كيف انجلى.

وقال سوس : كم قد أمات هذا الشخص لئلا يموت فمات ، فكيف لم يدفع الموت عن نفسه بالموت؟.

وقال حكيم : طوى الأرض العريضة فلم يقنع حتى طوي منها في ذراعين.

وقال آخر : ما سافر الإسكندر سفرا بلا أعوان ، ولا آلة ولا عدة غير سفره هذا.

وقال آخر : ما أرغبنا فيما فارقت ، وأغفلنا عما عاينت.

وقال آخر : لم يؤدبنا بكلامه كما أدبنا بسكوته.

وقال آخر : من ير هذا الشخص فليتق ، وليعلم أن الديون هكذا قضاؤها.

وقال آخر : قد كان بالأمس طلعته علينا حياة ، واليوم النظر إليهم سقم.

وقال آخر : قد كان يسأل عما قبله ، ولا يسأل عما بعده.

وقال آخر : من شدة حرصه على الارتفاع انحط كله.

وقال آخر : الآن تضطرب الأقاليم لأن مسكّنها قد سكن.

وقال آخر : الآن وقت الانصراف ، لأن الأشخاص يتوجهون من دار إلى دار ، والله تعالى يبقى ولا يفنى.

٣ ـ حكم ديوجانس الكلبي (١)

وكان حكيما فاضلا ، متقشفا لا يقتني شيئا ، ولا يأوي إلى منزل. وكأنه من قدرية الفلاسفة لما يوجد في مدارج كلامه من الميل إلى القدر. قال : ليس الله

__________________

(١) ديوجانس الكلبي : ولد بمدينة سينوب سنة ٤١٣ ق. م. وكان يلقب بالكلبي. كان أبوه صيرفيا ، وقد اتهم بصناعة الدراهم الخارجية فقبض عليه إلى أن مات في سجنه. أما الابن فقد فرّ إلى أثينا حيث تتلمذ لأتيثينوس.

وقد أولع بعلوم الأدب وزهد بالعلوم الأخرى ، وكان يذم أرباب الموسيقى والألحان وأرباب الرياضة على تسليهم برصد الشمس والقمر والكواكب. وقد أضيفت إليه أقاصيص وحكايات تكشف عن شخصيتين متمايزتين : إحداهما لشخص ملحد مستهتر ، والثانية لفاضل جليل. وقد مات بمدينة قورنتة سنة ٣٢٨ ق. م. (ترجمة مشاهير قدماء الفلاسفة ص ١٢٣).

تعالى علة الشرور ، بل الله تعالى علة الخيرات والفضائل والجود والعقل. جعلها بين خلقه ، فمن كسبها وتمسك بها نالها ، لأنه لا يدرك الخيرات إلا بها.

وسأله الإسكندر يوما فقال : بأي شيء يكتسب الثواب؟ قال : بأفعال الخيرات. وإنك لتقدر أيها الملك أن تكتسب في يوم واحد ما لا تقدر الرعية أن تكسبه في دهرها.

وسأله عصبة من أهل الجهل : ما غذاؤك؟ قال : ما عفتم ، يعني الحكمة.

قالوا : فما عفت؟ قال : ما استطبتم ، يعني : الجهل. قالوا : كم عبدا لك؟

قال : أربابكم ، يعني : الغضب ، والشهوة ، والأخلاق الرديئة الناشئة منهما.

وقالوا له يوما : ما أقبح صورتك! قال : لم أملك الخلقة الذميمة فألام عليها ، ولا ملكتم الخلقة الحسنة فتحمدوا عليها. وأما ما صار في ملكي وأتى عليه تدبيري فقد استكملت تزيينه وتحسينه بغاية الطوق ، وقاصية الجهد. واستكملتم شين ما في ملككم. قالوا : فما الذي في الملك من التزيين والتهجين؟ قال : أما التزيين فعمارة الذهن بالحكمة ، وجلاء العقل بالأدب ، وقمع الشهوة بالعفاف ، وردع الغضب بالحلم ، وقطع الحرص بالقنوع وإماتة الحسد بالزهد ، وتذليل المرح بالسكون ، ورياضة النفس حتى تصير مطية قد ارتاضت فتصرفت حيث صرفها فارسها في طلب العليات ، وهجر الدنيات. ومن التهجين : تعطيل الذهن من الحكمة ، وتوسيخ العقل بضياع الأدب ، وإثارة الشهوة باتباع الهوى ، وإضرام الغضب بالانتقام ، وإمداد الحرص بالطلب.

وقدم إليه رجل طعاما وقال له : استكثر منه ، فقال : عليك بتقديم الأكل ، وعلينا باستعمال العدل.

وقال : زمام العافية بيد البلاء ، ورأس السلامة تحت جناح العطب. وباب الأمن مستور بالخوف ، فلا تكونن في حال من هذه الثلاث غير متوقع لضدها.

وقيل له : ما لك لا تغضب؟ قال : أما غضب الإنسانية فقد أغضبه ، وأما غضب البهيمية فقد تركته لترك الشهوة البهيمية.

واستدعاه الملك الإسكندر يوما إلى مجلسه ، فقال للرسول : قل له إن الذي منعك من المصير إلينا هو الذي منعنا من المصير إليك. منعك استغناؤك عني بسلطانك ، ومنعني استغنائي عنك بقناعتي.

وعابته امرأة يونانية بقبح الوجه ودمامة الصورة ، فقال : منظر الرجال بعد المخبر ، ومخبر النساء بعد المنظر ، فخجلت وتابت.

ووقف عليه الإسكندر يوما فقال له : ما تخافني؟ قال : أنت خيّر أم شرير؟ قال : بل خير ، قال : فما لخوفي من الخيّر معنى ، بل يجب عليّ رجاؤه.

وكان لأهل مدينة من بلاد يونان صاحب جيش جبان ، وطبيب لم يعالج أحدا إلا قتله ، فظهر عليهم عدو ، ففزعوا إليه فقال : اجعلوا طبيبكم صاحب لقاء العدو ، واجعلوا صاحب جيشكم طبيبكم.

وقال : اعلم أنك ميت لا محالة ، فاجتهد أن تكون حيا بعد موتك ، لئلا تكون لميتتك ميتة ثانية.

وقال : كما أن الأجسام تعظم في العين في اليوم الضباب ، كذلك تعظم الذنوب عند الإنسان في حال الغضب.

وسئل عن العشق ، فقال : هو اختيار صادف نفسا فارغة.

ورأى غلاما معه سراج فقال له : تعلم من أين تجيء هذه النار؟ فقال له الغلام : إن أخبرتني إلى أين تذهب ، أخبرتك من أين تجيء ، فأعياه وأفحمه بعد أن لم يكن يقوى عليه أحد.

ورأى امرأة قد حملها الماء فقال : على هذا المعنى جرى المثل ، دع الشر يغسله الشر.

ورأى امرأة تحمل نارا فقال : نار على نار ، وحامل شرّ من محمول.

ورأى امرأة متزينة في ملعب فقال : لم تخرج لترى ولكن لترى.

ورأى نساء يتشاورن فقال : على هذا جرى المثل ، هوذا الثعبان يستفرض من الأفاعي سما.

ورأى جارية تتعلم الكتابة فقال : يسقى هذا السّهم سما ليرمى به يوما ما.

ورأى امرأة ضاحكة فقال : لو كنت تدرين الموت لما كنت ضاحكة أبدا.

وقال للإسكندر يوما ، وكان يقربه ويدنيه ويأنس بكلامه : أيها الملك قد أمنت الفقر ، فليكن غناك اقتناء الحمد ، وابتغاء المجد.

٤ ـ حكم الشيخ اليوناني (١)

وله رموز وأمثال. منها قوله : إن أمك رءوم لكنها فقيرة رعناء. وإن أباك لحدث لكنه جواد مقدر. يعني بالأم الهيولى ، وبالأب الصورة ، وبالرءوم انقيادها ، وبالفقر احتياجها إلى الصورة. وبالرعونة قلة ثباتها على ما تحصل عليه ، وأما حداثة الصورة أي هي مشرقة لك بملابسة الهيولى.

وأما وجودها : أي النقص لا يعتريها من قبل ذاتها ، فإنها جواد ، لكن من قبل قبول الهيولى ، فإنها إنما تقبل على تقديرها ، وهذا ما فسر به رمزه ولغزه.

وحمل الأم على الهيولى صحيح مطابق للمعنى ، وليس حمل الأب على

__________________

(١) الشيخ اليوناني : هو أفلوطين ، وأول المعلمين الإسكندريين الذين حاولوا التوفيق بين تعاليم أرسطو وأفلاطون ، ولد سنة ٢٠٥ م في أسيوط تثقف على أستاذ كان يعلم القراءة والكتابة والحساب ويشرح شعر الشعراء. وفي الثامنة والعشرين قصد إلى الإسكندرية وأخذ يختلف إلى أساتذتها ، وقد لزم أحدهم (أمونيوس) طيلة إحدى عشرة سنة ، ثم سافر مع الحملة التي أخرجها الامبراطور جورديان لمحاربة الفرس رجاء أن يتعلم الفلسفة الفارسية والهندية من أصولهما ، ولكن هزيمة الجيش ألجأته إلى أنطاكية ، ثم رحل إلى روما حيث استقر بها وأسس مدرسته التي قام عليها حتى وفاته سنة ٢٧٠ م. (قصة الفلسفة اليونانية ص ٣٣٢).

الصورة بذلك الوضوح ، بل حمله على العقل الفعال الجواد ، الواهب للصور على قدر استعدادات القوابل أظهر.

وقال : لك نسبان : نسب إلى أبيك ، ونسب إلى أمك. أنت بأحدهما أشرف ، وبالآخر أوضع ، فانتسب في ظاهرك وباطنك إلى من أنت به أشرف ، وتبرأ في باطنك وظاهرك ممن أنت به أوضع ، فإن الولد الفسل يحب أمه أكثر مما يحب أباه ، وذلك دليل على دخل العرق وفساد المحتد. قيل : أراد بذلك الهيولى والصورة ، أو البدن والنفس ، أو الهيولى والعقل الفعال.

وقال : قد ارتفع إليك خصمان منك يتنازعان فيك ، أحدهما محق ، والآخر مبطل ، فاحذر أن تقضي بينهما بغير الحق فتهلك أنت.

والخصمان أحدهما : العقل ، والثاني الطبيعة.

وقال : كما أن البدن الخالي من النفس يفوح منه نتن الجيفة ، كذلك النفس الخالية من الأدب يحس نقصها بالكلام والأفعال.

وقال : الغائب المطلوب في طي الشاهد الحاضر.

وقال أبو سليمان السجزي (١) : مفهوم هذا الإطلاق أن كل ما هو عندنا بالحس هاهنا ، فهو بالعقل لنا هناك ، إلا أن الذي عندنا ظل ذاك ؛ ولأن من شأن الظل أنه كما يريك الشيء الذي هو ظله مرة فاضلا عما هو عليه ، ومرة قالصا عما هو به ، ومرة على قدره ، عرض الحسبان والتوهم وصارا مزاحمين لليقين والتحقيق ، فينبغي

__________________

(١) هو محمد بن طاهر بن بهرام أبو سليمان السجزي المنطقي ، نزيل بغداد. قرأ على متى بن يونس وأمثاله ، قصد الرؤساء والأجلاء ، وكان منزله مقيلا لأهل العلوم القديمة ، وله أخبار وحكايات ، وكان عضد الدولة فناخسرو شاهنشاه يكرمه ويفخمه ، وله كتب منها : رسالة في مراتب قوى الإنسان ، ورسائل عدة إلى عضد الدولة في فنون مختلفة من الحكمة وشرح كتاب أرسطوطاليس. وترجح وفاته حوالي سنة ٣٨٠ ه‍. (أخبار العلماء ص ١٨٥).

أن تكون عنايتنا بطلب البقاء الأبدي ، والوجود السرمدي أتم وأظهر وأبقى وأبلغ. فبالحق ما كان الغائب طي الشاهد ، وبتصفح هذا الشاهد يصح ذلك الغائب.

وقال الشيخ اليوناني : النفس جوهر كريم شريف (١) ، يشبه دائرة قد دارت على مركزها ، غير أنها دائرة لا بعد لها ، ومركزها هو العقل ، وكذلك العقل هو كدائرة وقد استدارت على مركزها ، وهو الخير الأول المحض (٢) ، غير أن النفس والعقل وإن كانا دائرتين ، لكل دائرة العقل لا تتحرك أبدا ، بل هي ساكنة ذاتية ، شبيهة بمركزها ، وأما دائرة النفس فإنها تتحرك على مركزها وهو العقل حركة الاستكمال ، على أن دائرة العقل وإن كانت دائرة شبيهة بمركزها لكنها تتحرك حركة الاشتياق ، لأنها تشتاق إلى مركزها وهو الخير الأول. وأما دائرة العالم السفلي فإنها تدور حول النفس ، وإليها تشتاق. وإنما تتحرك بهذه الحركة الذاتية شوقا إلى النفس كشوق النفس إلى العقل ، وشوق العقل إلى الخير المحض الأول ، ولأن دائرة هذا العالم جرم ، والجرم يشتاق إلى الشيء الخارج منه ويحرص على أن يصير إليه فيعانقه. فلذلك يتحرك الجرم الأقصى الشريف حركة مستديرة لأنه يطلب النفس من جميع النواحي لينالها فيستريح إليها ويسكن عندها.

وقال : ليس للمبدع الأول تعالى صورة ولا حلية (٣) مثل صور الأشياء العالية ،

__________________

(١) ويرى أفلوطين أن النفس جوهر شريف يختلف عن الجسم ، وهو من عنصر أسمى من عنصر الجسم ، هبط إليه من العالم الأعلى ليتخذه مقرا له ردحا من الزمن ثم يغادره إلى عالمه الآخر ، وهو بهذا يخالف أرسطو الذي يرى أن النفس ليست إلا صورة بسيطة للجسم بدون عقل ولا إرادة ولا حساسية إلا وهي فيه ، ويخالف كذلك الاستونيسيين الذين يقولون بأن النفس مكونة من عنصر النار الذي تتكون منه كل العناصر الأخرى.

(٢) يرى أفلوطين أن أول شيء انبثق من الواحد هو العقل ، والعقل له وظيفتان : وظيفة التفكير في الله ، ووظيفة التفكير في نفسه. وقد خلع أفلوطين على هذا العقل شيئا من خصائص المثال الذي شرحه أفلاطون. (انظر قصة الفلسفة اليونانية ص ٣٣٦).

(٣) فهو قد رفع الإله المبدع الأول عن عدم استحداثه للعالم ، وعن جهله به ، ونزهه عن مرادفته الطبيعية وحلولية الجزئية ، وأحاطه بسياج من التعظيم والتقديس ، فقال : هو الوحدة المطلقة ، وهو الإله الذي يستحيل وصفه كما يستحيل حده.

ولا مثل صور الأشياء السافلة. ولا له قوة مثل قواها ، لكنه فوق كل صورة وحلية وقوة ، لأنه مبدعها بتوسط العقل.

وقال : المبدع الحق ليس شيئا من الأشياء ، وهو جميع الأشياء ، لأن الأشياء منه. وقد صدق الأفاضل الأوائل في قولهم : مالك الأشياء كلها ، هو الأشياء كلها ، إذ هو علة كونها بآنيته فقط ، وعلة شوقها إليه ، وهو خلاف الأشياء كلها ، وليس فيه شيء مما أبدعه ، ولا يشبه شيئا منه. ولو كان كذلك لما كان علة الأشياء كلها ، وإذا كان العقل واحدا من الأشياء فليس فيه عقل ، ولا صورة ، ولا حلية.

أبدع الأشياء بآنيته فقط ، وبآنيته يعلمها ويحفظها ، ويدبرها ، لا بصفة من الصفات ، وإنما وصفناه بالحسنات والفضائل لأنه علتها ، وأنه الذي جعلها في الصور ، فهو مبدعها.

قال : وإنما تفاضلت الجواهر العالية العقلية ، لاختلاف قبولها من النور الأول جل وعز ؛ فلذلك صارت ذوات مراتب شتى. فمنها ما هو أول في المرتبة ، ومنها ما هو ثان ، ومنها ما هو ثالث. فاختلفت الأشياء بالمراتب والفصول ، لا بالمواضع والأماكن ، وكذلك الحواس تختلف بأماكنها على أنها القوى الحاسة ، فإنها مما لا يفترق بمفارقة الآلة.

وقال : المبدع ليس بمتناه ، لا كأنه جثة بسيطة ، وإنما عظم جوهره بالقوة والقدرة ، لا بالكمية والمقدار ؛ فليس للأول صورة ولا حلية ولا شكل ؛ فلذلك صار محبوبا معشوقا تشتاقه الصور العالية والسافلة ؛ وإنما اشتاقت إليه صور جميع الأشياء ، لأنه أبدعها وكساها من وجوده حلية الوجود.

وهو قديم دائم على حاله لا يتغير ، والعاشق يحرص على أن يصير إليه ، ويكون معه. وللمعشوق الأول عشاق كثيرون ، وقد يفيض عليهم كلهم من نوره من غير أن ينقص منه شيء ، لأنه ثابت ، قائم بذاته لا يتحرك.

وأما المنطق الجزئي : فإنه لا يعرف الشيء إلا معرفة جزئية. وشوق العقل

الأول إلى المبدع الأول أشد من شوق سائر الأشياء ، لأن الأشياء كلها تحته ، وإذا اشتاق إليه العقل لم يقل للعقل لم صرت مشتاقا إلى الأول؟ إذ العشق لا علة له.

وأما المنطق الذي يختص بالنفس فيفحص عن ذلك ويقول : إن الأول هو المبدع الحق، وهو الذي لا صورة له ، وهو مبدع الصور ، فالصور كلها تحتاج إليه ، وتشتاق إليه وذلك أن كل صورة تطلب مصورها وتحن إليه.

وقال : إن الفاعل الأول أبدع الأشياء كلها بغاية الحكمة ، لا يقدر أحد أن ينال علل كونها ، ولم كانت على الحال التي هي الآن عليها؟ ولا أن يعرفها كنه معرفتها ، ولم صارت الأرض في الوسط؟ ولم كانت مستديرة ولم تكن مستطيلة ولا منحرفة؟ إلا أن يقول : إن الباري صيرها كذلك ، وإنما كانت بغاية الحكمة الواسعة لكل حكمة.

وكل فاعل يفعل بروية وفكرة ، لا بآنيته فقط بل يفصل فيه ، فلذلك يكون فعله لا بغاية الثقافة والإحكام. والفاعل الأول لا يحتاج في إبداع الأشياء إلى روية وفكر ، وذلك أنه ينال العلل بلا قياس ، بل يبدع الأشياء ويعلم عللها قبل الروية والفكر. والعلل والبرهان والعلم والقنوع ، وسائر ما أشبه ذلك ، إنما كانت أجزاء ، وهو الذي أبدعها ، وكيف يستعين بها وهي لم تكن بعد؟!

٥ ـ حكم ثاوفرسطيس (١)

كان هذا الرجل من كبار تلامذة أرسطوطاليس وكبار أصحابه ، واستخلفه على كرسي حكمته بعد وفاته. وكانت المتفلسفة في عهده تختلف إليه وتقتبس منه. وله كتب الشروح الكثيرة والتصانيف المعتبرة ، وبالخصوص في الموسيقات.

__________________

(١) ثاوفرسطيس : فيلسوف يوناني ، ولد في أفسس حوالي سنة ٣٧٢ ق. م. أخذ العلم في أثينا عن أفلاطون وأرسطو. ظل يعلم تلاميذه إلى أن وضع سوفكلس قانونا يمنع الفلاسفة من تعليم الفلسفة دون أمر من الحكومة ، ومن خالف فعقابه الموت. ولما ألغي هذا القانون عاد إلى سيرته الأولى. وقد ألف في السياسة والشريعة والقضاء والخطابة. وتوفي سنة ٢٨٧ ق. م. (دائرة المعارف للبستاني ٦ : ٣٤٤).

فمما يؤثر عنه أنه قال : الإلهية لا تتحرك ، ومعناه لا تتغير ولا تتبدل لا في الذات ، ولا في سنة الأفعال.

وقال : السماء مسكن الكواكب ، والأرض مسكن الناس على أنهم مثل وشبه لما في السماء ، فهم الآباء والمدبرون ، ولهم نفوس وعقول مميزة ليس لها أنفس نباتية ، فلذلك لا تقبل الزيادة ولا النقصان.

وقال : الغناء فضيلة في المنطق أشكلت على النفس وقصرت عن تبيين كنهها فأبرزتها لحونا ، وأثارت بها شجونا ، وأضمرت في عرضها فنونا وفتونا.

وقال : الغناء شيء يخص النفس دون الجسد فيشغلها عن مصالحها ، كما أن لذة المأكول والمشروب شيء يخص الجسم دون النفس.

وقال : إن النفوس إلى اللحون ، إذا كانت محجبة ، أشد إصغاء منها إلى ما قد تبين لها ، وظهر معناه عندها.

وقال : إن العقل نحوان : أحدهما مطبوع ، والآخر مسموع. فالمطبوع منه كالأرض والمسموع منه كالبذر والماء ، فلا يخلص للعقل المطبوع عمل دون أن يرد عليه العقل المسموع فينبهه من نومه ، ويطلقه من وثاقه ، ويقلقله من مكانه ، كما يستخرج البذر والماء ما في قعر الأرض.

وقال : الحكمة غنى النفس ، والمال غنى البدن ، وطلب غنى النفس أولى ، لأنها إذا غنيت بقيت. والبدن إذا غني فني ، وغنى النفس ممدود ، وغنى البدن محدود.

وقال : ينبغي للعاقل أن يداري الزمان مداراة رجل لا يسبح في الماء الجاري إذا وقع.

وقال : لا يغبطن بسلطان من غير عدل ، ولا بغنى من غير حسن تدبير ، ولا ببلاغة من غير صدق منطق ، ولا بجود في غير إصابة موضع ، ولا بأدب من غير أصالة رأي ولا بحسن عمل في غير حينه.

٦ ـ شبه برقلس (١) في قدم العالم

إن القول في قدم العالم وأزلية الحركات بعد إثبات الصانع ، والقول بالعلة الأولى إنما شهر بعد أرسطوطاليس ، لأنه خالف القدماء صريحا ، وأبدع هذه المقالة على قياسات ظنها حجة وبرهانا ، فنسج على منواله من كان من تلامذته وصرحوا القول فيه مثل الإسكندر الأفروديسي ، وثامسطيوس ، وفورفوريوس.

وصنف برقلس المنتسب إلى أفلاطون في هذه المسألة كتابا وأورد فيه هذه الشبه (٢) ، وإلا فالقدماء إنما أبدوا فيه ما نقلناه سالفا.

الشبهة الأولى : قال : إن الباري تعالى جواد بذاته ، وعلة وجود العالم جوده ، وجوده قديم لم يزل ، فيلزم أن يكون وجود العالم قديما لم يزل.

قال : ولا يجوز أن يكون مرة جوادا ، ومرة غير جواد ، فإنه يوجب التغير في ذاته ، فهو جواد لذاته ، لم يزل. قال : ولا مانع من فيض جوده ، إذ لو كان مانع لما كان من ذاته بل من غيره ، وليس لواجب الوجود لذاته حامل على شيء ، ولا مانع من شيء.

الشبهة الثانية : قال : ليس يخلو الصانع من أن يكون لم يزل صانعا بالفعل ، أو لم يزل صانعا بالقوة ، أي يقدر أن يفعل ولا يفعل. فإن كان الأول فالمصنوع معلول لم يزل ، وإن كان الثاني فما بالقوة لا يخرج إلى الفعل إلا بمخرج ، ومخرج

__________________

(١) برقلس أو بروكلوس فيلسوف يوناني أفلاطوني. ولد في القسطنطينية سنة ٤١٢ م. أقام في الإسكندرية يأخذ العلم عن أشهر المدرسين ، ثم رحل إلى أثينا وخلف سريانوس في مدرستها بعد وفاته وتمسك بمذهب التزهد الذي كان شائعا في المدرسة الأفلاطونية وامتنع عن الأطعمة الحيوانية ، ورفض الزواج ، وصرف أمواله في الأعمال الخيرية، كان مشهورا في الرياضيات والعلوم اللغوية ، وتآليفه الباقية أكثرها شروح وبخاصة شروحه على كتب أفلاطون ، ومن تآليفه كتاب بعنوان «اثنين وعشرين برهانا ضد المسيحية» حاول فيه أن يثبت أبدية الكون. توفي بأثينا سنة ٤٨٥ م. (دائرة المعارف للبستاني ٥ : ٣٩٣).

(٢) يضاف إلى هذا الكتاب كتاب آخر في العناية وفي الغدر ، وكتاب في الشرور وقيامها بأنفسها ، وهذه الكتب الثلاثة ضاعت أصولها اليونانية ، ولم يبق سوى ترجمتها اللاتينية. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٢٩٩).

الشيء من القوة إلى الفعل غير ذات الشيء ، فيجب أن يكون له مخرج من خارج يؤثر فيه ، وذلك ينافي كونه صانعا مطلقا لا يتغير ولا يتأثر.

الشبهة الثالثة : قال : كل علة لا يجوز عليها التحرك والاستحالة فإنما تكون علة من جهة ذاتها لا من جهة الانتقال من غير فعل إلى فعل ، وكل علة من جهة ذاتها فمعلولها من جهة ذاتها ، وإذا كانت ذاتها لم تزل فمعلولها لم يزل.

الشبهة الرابعة : قال إن الزمان لا يكون موجودا إلا مع الفلك ، ولا الفلك إلا مع الزمان ، لأن الزمان هو العادّ لحركات الفلك ، ثم لا يجوز أن يقال متى وقبل إلا حين يكون الزمان ، ومتى وقبل أبديّ فالزمان أبديّ ، فحركات الفلك أبدية ، فالفلك أبديّ.

الشبهة الخامسة : قال : إن العالم حسن النظام ، كامل القوّام ، وصانعه جواد خير ، ولا ينقض الجيد الحسن إلا شرير. وصانعه ليس بشرير ، وليس يقدر على نقضه غيره ، فليس ينتقض أبدا ، وما لا ينتقض أبدا كان سرمدا.

الشبهة السادسة : قال : لما كان الكائن لا يفسد إلا بشيء غريب يعرض له ، ولم يكن شيء غريب عن العالم خارجا منه يجوز أن يعرض فيفسد : ثبت أنه لا يفسد ، وما لا يتطرق إليه الفساد لا يتطرق إليه الكون والحدوث ، فإن كل كائن فاسد.

الشبهة السابعة : قال : إن الأشياء التي هي في المكان الطبيعي لا تتغير ، ولا تتكون ، ولا تفسد ، وإنما تتغير وتتكون وتفسد إذا كانت في أماكن غريبة فتتجاذب إلى أماكنها كالنار التي في أجسادنا تحاول الانفصال إلى مركزها ، فينحل الرباط فيفسد إذ الكون والفساد إنما يتطرق إلى المركبات ، لا إلى البسائط التي هي أركان في أماكنها ، ولكنها هي بحالة واحدة ، وما هو بحال واحدة فهو أزلي.

الشبهة الثامنة : قال : العقل والنفس والأفلاك تتحرك على الاستدارة ، والطبائع تتحرك إما عن الوسط ، وإما إلى الوسط على الاستقامة ، وإذا كان كذلك

كان التفاسد في العناصر إنما هو لتضاد حركاتها. والحركة الدورية لا ضد لها ، فلم يقع فيها فساد. قال : وكليات العناصر إنما تتحرك على استدارة وإن كانت الأجزاء منها تتحرك على الاستقامة. فالفلك وكليات العناصر لا تفسد ، وإذا لم يجز أن يفسد العالم لم يجز أن يتكون.

وهذه الشبهات هي التي يمكن أن يقال عنها فتنقض ، وفي كل واحدة منها نوع مغالطة وأكثرها تحكمات. وقد أفردت لها كتابا أوردت فيه شبهات أرسطوطاليس ، وهذه ، وتقريرات أبي عليّ بن سينا ، ونقضتها على قوانين منطقية ، فليطلب ذلك.

ومن المتعصبين لبرقلس من مهد له عذرا في ذكر هذه الشبهات (١) وقال : إنه كان يناطق الناس منطقين أحدهما : روحاني بسيط ، والآخر : جسماني مركب. وكان أهل زمانه الذين يناطقونه جسمانيين. وإنما دعاه إلى ذكر هذه الأقوال مقاومتهم إياه ، فخرج من طريق الحكمة والفلسفة من هذه الجهة ، لأن من الواجب على الحكيم أن يظهر العلم على طرق كثيرة ، يتصرف فيها كل ناظر بحسب نظره ، ويستفيد منها بحسب فكره واستعداده ، فلا يجدوا على قوله مسلخا ، ولا يصيبوا مقالا ولا مطعنا ، لأن برقلس لما كان يقول بدهر هذا العالم ، وأنه باق لا يدثر ، وضع كتابا في هذا المعنى ، فطالعه من لم يعرف طريقته ، ففهموا منه جسمانية قوله دون روحانيته ، فنقضوه على مذهب الدهرية وفي هذا الكتاب يقول : «لما اتصلت العوالم بعضها ببعض ، وحدثت القوى الواصلة فيها ، وحدثت المركبات من العناصر ، حدثت قشور ، واستبطنت لبوب فالقشور دائرة ، واللبوب قائمة دائمة لا يجوز الفساد عليها ، لأنها بسيطة وحيدة القوى. فانقسم العالم الى عالمين : عالم الصفوة

__________________

(١) فهو بشبهاته يذهب بما يذكره فيها من أدلة إلى قدم العالم ، ويدلل عليه بما يذكره مازجا أدلته بعقيدة وجود الخالق عزوجل ، وهذا ما تأباه طبيعة الدين ، وما ينطبق به القرآن الكريم من الآيات التي تثبت الاختيار لله سبحانه وتعالى.

واللب ، وعالم الكدورة والقشر. فاتصل بعضه ببعض ، وكان آخر هذا العالم من بدء ذلك العالم. فمن وجه لم يكن بينهما فرق ، فلم يكن هذا العالم داثرا ، إذ كان متصلا بما ليس يدثر. ومن وجه : دثرت القشور ، وزالت الكدرة. وكيف تكون القشور غير داثرة ولا مضمحلة؟ وما لم تزل القشور باقية كانت اللبوب خافية ، وأيضا فإن هذا العالم مركب ، والعالم الأعلى بسيط ، وكل مركب ينحل حتى يرجع إلى البسيط الذي تركب منه ، وكل بسيط باق دائما غير مضمحل ولا متغير».

قال الذي يذبّ عن برقلس : هذا الذي نقل عنه هو المنقول عن مثله ، بل الذي أضاف إليه هذا القول الأول لا يخلو من أحد أمرين : إما أنه لم يقف على مرامه للعلة التي ذكرنا فيما سلف ، وإما لأنه كان محسودا عند أهل زمانه ، لكونه بسيط الفكر ، واسع النظر ، ساير القوى. وكانوا أولئك أصحاب أوهام وخيالات. فإنه يقول في موضع من كتابه : إن الأوائل منها تكونت العوالم ، وهي باقية لا تدثر ولا تضمحل ، وهي لازمة الدهر ، ماسكة له ، إلا أنها من أول واحد ، لا يوصف بصفة ، ولا يدرك بنعت ونطق ، لأن صور الأشياء كلها منه وتحته. وهي الغاية والمنتهى التي ليس فوقها جوهر هو أعظم منها إلا الأول الواحد ، وهو الأحد الذي قوته أخرجت هذه الأوائل ، وقدرته أبدعت هذه المبادي.

وقال أيضا : إن الحق لا يحتاج إلى أن يعرف ذاته ، لأنه حق حقا بلا حق ، وكل حق حقا فهو تحته ؛ إنما هو حق حقا إذ حققه الموجب له الحق. فالحق هو الجوهر الممد للطباع الحياة والبقاء ، وهو أفاد هذا العالم بداء وبقاء بعد دثور قشوره. وزكى البسيط الباطن من الدنس الذي كان فيه قد علق به.

وقال : إن هذا العالم إذا اضمحلت قشوره وذهب دنسه ، وصار بسيطا روحانيا بقي بما فيه من الجواهر الصافية النورانية في حد المراتب الروحانية ، مثل العوالم

العلوية التي بلا نهاية ، وكان هذا واحدا منها (١). وبقي جوهر كل قشر ودنس وخبث ويكون له أهل يلبسه ، لأنه غير جائز أن تكون الأنفس الطاهرة التي لا تلبس الأدناس والقشور ، مع الأنفس الكثيرة القشور في عالم واحد ، وإنما يذهب من هذا العالم ما ليس من جهة المتوسطات الروحانية ، وما كان القشر والدنس عليه أغلب. فأما ما كان من الباري تعالى بلا متوسط ، أو كان من متوسط بلا قشر ، فإنه لا يضمحل قال : وإنما يدخل القشر على الشيء من غير المتوسطات فيدخل عليه بالعرض لا بالذات ، وذلك إذا كثرت المتوسطات ، وبعد الشيء عن الإبداع الأول ، لأنه حيثما قلت المتوسطات في الشيء كان أنور ، وأقل قشورا ودنسا ، وكلما قلت القشور والدنس كانت الجواهر أصفى ، والأشياء أبقى.

ومما ينقل عن برقلس أنه قال : إن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها : أجناسها ، وأنواعها ، وأشخاصها. وخالف بذلك أرسطوطاليس ، فإنه قال يعلم أجناسها وأنواعها دون أشخاصها الكائنة الفاسدة ، فإن علمه يتعلق بالكليات دون الجزئيات ، كما ذكرنا.

ومما ينقل عنه في قدم العالم قوله : لن يتوهم حدوث العالم إلا بعد أن يتوهم أنه لم يكن ، فأبدعه الباري تعالى في الحالة التي لم يكن. وفي الحالة التي لم يكن لا يخلو من حالات ثلاث :

١ ـ إما أن الباري لم يكن قادرا فصار قادرا ، وذلك محال لأنه قادر لم يزل.

٢ ـ وإما أنه لم يرد فأراد ، وذلك محال أيضا لأنه مريد لم يزل.

__________________

(١) فهو يرى أن هذا العالم مآله وآخر أمره إلى الصفاء والخيرية شبيها بالعالم الروحاني ، فالشر ليس أبديا ، بل هو عارض ، فبرأ الأول وهو البسيط الباطن من دنس العالم المنتشر فيه والعالق به ، إذ أن العالم إذا ما تغيرت قشوره وذهب دنسه ورجسه لحق بعالمه وصار بسيطا روحانيا تشع فيه الجواهر الصافية النورانية ، إذا ما تسنم المنزلة الروحية كعالمه الأعلى الذي هو بلا نهاية ، وكان هذا العالم واحدا منها ، وفي هذا ما يطمئن النفوس على مستقبل هذا العالم ، لأن نهايته إلى صفاء وخير.

٣ ـ وإما أنه لم تقتض الحكمة وجوده ، وذلك محال أيضا ، لأن الوجود أشرف من العدم على الإطلاق.

فإذا بطلت هذه الجهات الثلاث تشابها في الصفة الخاصة ؛ وهي القدم على أصل المتكلم. وكان القدم بالذات له دون غيره ، وإن كانا معا في الوجود ، والله الموفق.

٧ ـ رأي ثامسطيوس (١)

وهو الشارح لكلام الحكيم أرسطوطاليس ، وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشاراته ورموزه. وهو على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذكرنا من إثبات العلة الأولى ، واختار من المذاهب في المبادي قول من قال : إن المبادي ثلاثة : الصورة ، والهيولى ، والعدم، وفرق بين العدم المطلق ، والعدم الخاص ، فإن عدم صورة بعينها عن مادة تقبلها مثل عدم السيفية عن الحديد ليس كعدم السيفية عن الصوف ، فإن هذه المادة لا تقبل هذه الصورة أصلا.

وقال : إن الأفلاك حصلت من العناصر الأربعة ، لا أن العناصر حصلت من الأفلاك ففيها نارية ؛ وهوائية ، ومائية ، وأرضية ، إلا أن الغالب على الأفلاك هو النارية ، كما أن الغالب على المركبات السفلية هو الأرضية ، والكواكب نيران مشتعلة حصلت تراكيبها على وجه لا يتطرق إليها الانحلال ، لأنها لا تقبل الكون والفساد والتغير والاستحالة ، وإلا فالطبائع واحدة ، والفرق يرجع إلى ما ذكرنا.

ونقل ثامسطيوس عن أرسطوطاليس ، وثاون ، وأفلاطون ، وثاوفرسطيس ، وفرفوريوس ، وفلوطرخيس ، وهو رأيه : إن في العالم أجمع طبيعة واحدة عامة ،

__________________

(١) ولد تامسطيوس سنة ٣١٧ م. وقد تثقف بالقسطنطينية فأصاب شهرة واسعة ، ونال حظوة كبيرة لدى الأباطرة المسيحيين ، وخاصة عند قسطنطين وتيودوس.

أما مؤلفاته فقد ضاع الكثير منها ، وقد فسر وشرح مؤلفات لأرسطو ، ولم يبق من هذه الشروح سوى التحليلات الثانية والسماع الطبيعي. (الفهرست لابن النديم ص ٣٥٥).

وكل نوع من أنواع النبات والحيوان مختص بطبيعة خاصة ، وحدّوا الطبيعة العامة بأنها مبدأ الحركات في الأشياء والسكون فيها على الأمر الأول من ذواتها ، وهي علة الحركة في المتحركات ، وعلة السكون في الساكنات ، وزعموا أن الطبيعة هي التي تدبر الأشياء كلها في العالم : حيوانه ونباته ومواته ، تدبيرا طبيعيا ، وليست هي حية ولا قادرة ، ولا مختارة ، ولكن لا تفعل إلا حكمة وصوابا ، وعلى نظم صحيح وترتيب محكم.

قال ثامسطيوس : قال أرسطوطاليس في مقالة اللام «إن الطبيعة تفعل ما تفعل من الحكمة والصواب ، وإن لم تكن حيوانا ، لأنها ألهمت من سبب هو أكرم منها» وأومأ إلى أن السبب هو الله عزوجل ، وقال أيضا : إن الطبيعة طبيعتان : طبيعة هي مستعلية على الكون والفساد بكليتها وجزئيتها ، يعني الفلك والنهيرات وطبيعة يلحق جزئياتها الكون والفساد لا كلياتها ، يريد بالجزئيات الأشخاص ، وبالكليات الأسطقسات.

٨ ـ رأي الإسكندر الأفروديسي (١)

وهو من كبار الحكماء رأيا وعلما ، وكلامه أمتن ، ومقالته أرصن ، وافق أرسطوطاليس في جميع آرائه ، وزاد عليه في الاحتجاج على أن الباري تعالى عالم بالأشياء كلها كلياتها وجزئياتها (٢) على نسق واحد ، وهو عالم بما كان وبما سيكون ، ولا يتغير علمه بتغير المعلوم ، ولا يتكثر بتكثره.

__________________

(١) ولد في أفردوسيا من أعمال آسيا الصغرى ، وتفقه في الفلسفة على أساتذة أرسطوطاليين أشهرهم أرسطوقليس ، وكان أشهر شراح أرسطو حتى لقبه خلفاؤه بأرسطو الثاني ، فقصد في شروحه إلى تفسير آراء أرسطو وتبريرها أمام المدارس الأخرى وبخاصة الرواقية. ومن مصنفاته كتاب السماع الطبيعي والكون والفساد والآثار العلوية ، وله كتاب النفس والعناية في الفرق بين الهيولى والجنس وغيرها. (تاريخ الفلسفة اليونانية ص ٣٠٢).

(٢) ويتفق رأيه هذا وما جاء به الدين من أن الله يعلم الجزئيات المتغيرة علمه بالأمور الكلية. فالعلم بالجزئيات جاء علم الله بها صراحة في القرآن الكريم (وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ).

ومما انفرد به أن قال : كل كوكب ذو نفس وطبع وحركة من جهة نفسه وطبعه ، ولا يقبل التحريك من غيره أصلا ، بل إنما يتحرك بطبعه واختياره ، إلا أن حركاته لا تختلف أبدا ، لأنها دورية.

وقال : لما كان الفلك محيطا بما دونه ، وكان الزمان جاريا عليه ؛ لأن الزمان هو العادّ للحركات ، أو هو عدد الحركات ، ولما لم يكن يحيط بالفلك شيء آخر ، ولا كان الزمان جاريا عليه ، لم يجز أن يفسد الفلك ويكون ، فلم يكن قابلا للكون والفساد ، وما لم يقبل الكون والفساد كان قديما أزليا.

وقال في كتابه «في النفس» : إن الصناعة تتقبل الطبيعة ، وإن الطبيعة لا تتقبل الصناعة.

وقال : للطبيعة لطف وقوة ، وإن أفعالها تفوق في البراعة واللطف كل أعجوبة يتلطف فيها بصناعة من الصناعات.

وقال في ذلك الكتاب : لا فعل للنفس دون مشاركة البدن حتى التصور بالعقل فإنه مشترك بينهما. وأومأ إلى أنه لا يبقى للنفس بعد مفارقتها قوة أصلا حتى القوى العقلية وخالف بذلك أستاذه أرسطوطاليس ، فإنه قال : الذي يبقى مع النفس من جميع ما لها من القوى هي القوة العقلية فقط. ولذاتها في ذلك العالم مقصورة على اللذات العقلية فقط ، إذ لا قوة لها دون ذلك فتحس وتلتذ بها. والمتأخرون يثبتون بقاءها على هيئات أخلاقية ، استفادتها من مشاركة البدن ، لتستعد بها لقبول هيئات ملكية في ذلك العالم.

٩ ـ رأي فرفريوس

وهو أيضا على رأي أرسطوطاليس في جميع ما ذهب إليه ، وهو الشارح لكلام أرسطوطاليس أيضا ، وإنما يعتمد شرحه إذ كان أهدى القوم إلى إشارته وجميع ما ذهب إليه.

ويدعي أن الذي يحكى عن أفلاطون من القول بحدوث العالم غير

صحيح (١) ، قال في رسالته إلى أبانوا : وأما ما قذف به أفلاطون عندكم من أنه يضع للعالم ابتداء زمانيا فدعوى كاذبة ، وذلك أن أفلاطون ليس يرى أن للعالم ابتداء زمانيا ، لكن ابتداء على جهة العلة ، ويزعم أن علة كونه ابتداؤه.

وقد أرى أن المتوهم عليه في قوله : إن العالم مخلوق ، وإنه حدث من لا شيء ، وإنه خرج من لا نظام إلى نظام ، فقد أخطأ وغلط ، وذلك أنه لا يصح دائما أن كل عدم أقدم من الوجود فيما علة وجود شيء آخر غيره ، ولا كل سوء نظام أقدم من النظام. وإنما يعني أفلاطون أن الخالق أظهر العالم من العدم إلى الوجود ، وإن وجد أنه لم يكن من ذاته ، لكن سبب وجوده من الخالق. قال : وقال في الهيولى : إنها أمر قابل للصور وهي كبيرة وصغيرة. وهما في الموضوع والحد واحد. ولم يبين العدم كما ذكره أرسطوطاليس إلا أنه قال : الهيولى لا صورة لها ، فقد علم أن عدم الصورة في الهيولى. وقال : إن المركبات كلها إنما تتكون بالصور على سبيل التغير ، وتفسد بخلو الصور عنها.

وزعم فرفريوس أن من الأصول الثلاثة التي هي الهيولى والصورة والعدم : أن كل جسم إما ساكن وإما متحرك ، وهاهنا شيء يكون ما يتكون ، ويحرك الأجسام ، وكل ما كان واحدا بسيطا ففعله واحد بسيط. وكل ما كان كثيرا مركبا فأفعاله كثيرة مركبة. وكل موجود ففعله مثل طبيعته. ففعل الله بذاته فعل واحد بسيط ، وباقي أفعاله يفعلها بمتوسط مركب. قال : وكل ما كان موجودا فله فعل من الأفعال مطابق لطبيعته. ولما كان الباري تعالى موجودا ففعله الخاص هو الاجتلاب إلى الوجود ، ففعل فعلا واحدا وحرك حركة واحدة ، وهو الاجتلاب إلى شبهه ، يعني الوجود. ثم إما أن يقال : كان المفعول معدوما يمكن أن يوجد ، وذلك هو طبيعة الهيولى بعينها ،

__________________

(١) ففرفريوس يدافع عن فكرة قدم العالم وأن ليس له بداية زمنية ، كما كافح بشدة نقد فلوطرخيس لهذه الفكرة ، وبهذا الكفاح انضم إلى أكزنيوقراطيس مع آخرين فيما نقلوه من فهم لأفلاطون في كتابه طيماوس حول العالم. أقديم هو أم حادث. وقد اختلف الشراح في فهم غاية أفلاطون أيبغي القدم أم الحدوث للعالم ، وقد أشرنا آنفا إلى رأي الفارابي في أن أفلاطون لا يعتقد قدم العالم وما جاء في قوله كان على سبيل التمثيل لا العقيدة.

فيجب أن يسبق الوجود طبيعة ما قابلة للوجود. وإما أن يقال : لم يكن معدوما يمكن أن يوجد بل أوجده عن لا شيء ، وأبدع وجوده ، من غير توهم شيء سبقه ، وهو ما يقوله الموحدون.

قال : فأول فعل فعله هو الجوهر ، إلا أن كونه جوهرا وقع بالحركة فوجب أن يكون بقاؤه جوهرا بالحركة ، وذلك أنه ليس للجوهر أن يكون بذاته بمنزلة الوجود الأول لكن من التشبه بذلك الأول ، وكل حركة تكون فإما أن تكون على خط مستقيم وإما على الاستدارة ، فتحرك الجوهر بهاتين الحركتين. ولما كان وجود الجوهر بالحركة وجب أن يتحرك الجوهر في جميع الجهات التي يمكن فيها الحركة ، فيتحرك جميع الجوهر في جميع الجهات حركة مستقيمة على جميع الخطوط وهي ثلاثة : الطول ، والعرض ، والعمق ، إلا أنه لم يكن له أن يتحرك على هذه الخطوط بلا نهاية ، إذ ليس يمكن فيما هو بالفعل أن يكون بلا نهاية ، فتحرك الجوهر في هذه الأقطار الثلاثة حركة متناهية على خطوط مستقيمة ، وصار بذلك جسما ، وبقي عليه أن يتحرك بالاستدارة على الجهة التي يمكن فيها أن يتحرك بأجمعه حركة على الاستدارة ، لأن الدائر يحتاج إلى شيء ساكن في وسط منه. فعند ذلك انقسم الجوهر فتحرك بعضه على الاستدارة وسكن بعضه في الوسط. قال : وكل جسم يتحرك فيماسّ جسما ساكنا في طبيعته قبول التأثير منه حركه معه. وإذا حركه سخن ، وإذا سخن لطف وانحل وخف ، فكانت النار تلي الفلك. والجسم الذي يلي النار يبعد عن الفلك ويتحرك بحركة النار فتكون حركته أقل ، فلا يتحرك لذلك بأجمعه لكن جزء منه ، فيسخن دون سخونة النار ، وهو الهواء ، والجسم الذي يلي الهواء لا يتحرك لبعده عن المحرك ، فهو بارد لسكونه ، وحار حرارة يسيرة بمجاورته الهواء ، ولذلك انحل قليلا ، وهو الماء. وأما الجسم الذي يلي الماء في الوسط فلأنه بعد في الغاية عن الفلك ، ولم يستفد من حركته شيئا ، ولا قبل منه تأثيرا : سكن وبرد ، وهذه هي الأرض. وإذا كانت هذه الأجسام تقبل التأثير بعضها من بعض اختلطت ، وتولد عنها أجسام مركبة ، وهذه هي الأجسام المحسوسة.

وقال : الطبيعة تفعل بغير فكر ولا عقل ولا إرادة ، ولكنها ليست تفعل بالبخت والاتفاق والخبط ، بل لا تفعل إلا ما له نظم وترتيب وحكمة. وقد تفعل شيئا من أجل شيء ، كما تفعل البرّ لغذاء الإنسان ، وتهيئ أعضاءه لما يصلح له.

وقد قسم فرفريوس مقالة أرسطوطاليس في الطبيعة خمسة أقسام ، أحدها : العنصر. والثاني : الصورة. والثالث : المجتمع منها كالإنسان. والرابع : الحركة الجاذبة في الشيء بمنزلة حركة النار الكائنة الموجودة فيها إلى فوق. والخامس : الطبيعة العامة للكل ، لأن الجزئيات لا يتحقق وجودها إلا عن كل يشملها. ثم اختلفوا في مركزها : فمن الحكماء من صار إلى أنها فوق الكل وقال آخرون : إنها دون الفلك ، قالوا : والدليل على وجودها أفعالها وقواها المنبثة في العالم الموجبة للحركات والأفعال ؛ كذهاب النار والهواء إلى فوق ، وذهاب الماء والأرض إلى تحت ؛ فعلم يقينا أنه لو لا قوى فيها أوجبت تلك الحركات ، وكانت مبدأ لها لم توجد فيها. وكذلك ما يوجد في النبات والحيوان من قوة الغذاء ، وقوة النمو والنشوء.

الفصل الرابع

المتأخرون من فلاسفة الإسلام

مثل يعقوب بن إسحاق الكندي (١) ، وحنين بن إسحاق (٢) ، ويحيى

__________________

(١) أبو يوسف يعقوب بن إسحاق بن الصباح الكندي ، فيلسوف العرب والإسلام في عصره ، وأحد أبناء الملوك من كندة ، نشأ في البصرة وانتقل إلى بغداد فتعلم واشتهر بالطب والفلسفة والموسيقى والهندسة والفلك ، وألف وترجم وشرح كتبا كثيرة يزيد عددها على ثلاثمائة ومنها : رسالة في التنجيم واختيارات الأيام وإلهيات أرسطو ورسالة في الموسيقى. متوفى نحو ٢٦٠ ه‍ / ٨٧٣ م. (طبقات الأطباء ١ : ٢٠٦ ـ ٢١٤ وتاريخ أطباء الإسلام للبيهقي ص ٤١ ولسان الميزان ٦ : ٣٠٥).

(٢) أبو زيد حنين بن إسحاق العبادي طبيب مؤرخ ومترجم من أهل الحيرة. سافر إلى البصرة وأخذ العربية عن الخليل بن أحمد ، وانتقل إلى بغداد فأخذ الطب عن يوحنا بن ماسويه وغيره ، وتمكن من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية. اتصل بالمأمون فجعله رئيسا لديوان الترجمة ، ولخص كثيرا من كتب ـ

النحوي (١) ، وأبي الفرج المفسر (٢) ، وأبي سليمان السجزي (٣) ، وأبي سليمان محمد بن معشر المقدسي (٤) ، وأبي بكر ثابت بن قرة الحراني (٥) ، وأبي تمام يوسف بن محمد النيسابوري (٦) ، وأبي زيد أحمد بن سهل

__________________

ـ أبقراط وجالينوس وأوضح معانيها. له كتب ومترجمات كثيرة ، ومنها : تاريخ العالم والمبدأ وغيرها كثير. متوفى سنة ٢٦٠ ه‍ / ٨٧٣ م. (ابن خلكان ١ : ١٦٧ وفهرست ابن النديم : الفن الثالث من المقالة السابعة وطبقات الأطباء ١ : ١٨٤).

(١) يحيى النحوي ، الملقب بالبطريق ، والمنسوب إلى الديلم المصري الإسكندري من قدماء الحكماء. كان أسقفا في كنيسة الإسكندرية بمصر ، ويعتقد مذهب النصارى اليعقوبية. ثم رجع عما يعتقده النصارى في التثليث لما قرأ كتب الحكمة. حضر فتح عمرو بن العاص مصر والإسكندرية. ودخل على عمر فأكرمه ورأى له موضعا وسمع كلامه في إبطال التثليث. صنف في شرح كتب أرسطوطاليس شروحا. وشرح كتاب الكلام على أنولوطيقا الثاني وهو البرهان ، وفسّر بارمينياس وهو العبارة وأنولوطيقا الأول وهو تحليل القياس والسماع الطبيعي. (انظر أخبار العلماء ص ٢٣٢ وعيون الأنباء ١ : ١٠٤).

(٢) أبو الفرج عبد الله بن الطيب ، طبيب عراقي ، واسع العلم ، خبير بالفلسفة ، كان كاتب «الجاثليق» وعلم الطب في البيمارستان العضدي وعالج المرضى فيه. وكان معاصرا للرئيس ابن سينا. له تصانيف كثيرة منها : مقالات أرسطو وشرح أربع رسائل من كتب جالينوس وهي : الفرق والصناعة الصغيرة وكتاب النبض الصغير وكتاب جالينوس إلى أغلوقن ، متوفى سنة ٤٢٥ ه‍ / ١٠٤٣ م. (انظر طبقات الأطباء ١ : ٢٣٩ وابن العبري ص ٣٣٠ و ٣٣١).

(٣) أبو سليمان محمد بن طاهر بن بهرام السجستاني عالم بالحكمة والفلسفة والمنطق. سكن بغداد وأقبل العلماء والحكماء عليه. وكان عضد الدولة فناخسرو شاهنشاه يكرمه ويفخمه. له تصانيف منها : رسالة في مراتب قوى الإنسان ورسالة في المحرك الأول وكتاب صوان الحكمة. متوفى نحو ٣٨٠ ه‍ / ٩٩٠ م. (تاريخ حكماء الإسلام للبيهقي ص ١٥ و ٨٢ وأخبار الحكماء للقفطي ص ١٨٥).

(٤) أبو سليمان محمد بن معشر البيستي ، ويعرف بالمقدسي ، واحد من حكماء إخوان الصفا ، الذين اجتمعوا وصنفوا رسائل إخوان الصفا. وقد عاش المقدسي في القرن الرابع الهجري. (انظر الإمتاع والمؤانسة ٢ : ٤ ـ ١٥).

(٥) أبو الجن ثابت بن قرة بن زهرون الحراني طبيب وفيلسوف ولد ونشأ بحرّان حدثت له مع أهل مذهبه الصابئة أشياء أنكروها عليه فحرم عليه رئيسهم دخول الهيكل ، فخرج من حران وقصد بغداد فاشتغل بالفلسفة والطب فبرع واتصل بالمعتضد فكانت له منزلة رفيعة عنده وصنف عددا كبيرا من الكتب منها : الذخيرة في علم الطب والمباني الهندسية وتركيب الأفلاك وطبائع الكواكب وغيرها. متوفى سنة ٢٨٨ ه‍ / ٩٠١ م. (انظر طبقات الأطباء ١ : ٢١٥ ـ ٢٢٠ وحكماء الإسلام ص ٢٠).

(٦) أبو تمام يوسف بن محمد النيسابوري ، من فلاسفة القرن الرابع ، وهو ممن حاول الكيد للشريعة بذهابه إلى أن الفلسفة مقاودة للشريعة ، والشريعة مشاكلة للفلسفة ، وكان له تأويلات لآيات القرآن. (انظر الإمتاع والمؤانسة ٢ : ١٥).

البلخي (١) ؛ وأبي محارب الحسن بن سهل (٢) ، وابن محارب القمي (٣) ، وأحمد بن الطيب السرخسي (٤) ، وطلحة بن محمد النسفي ، وأبي حامد أحمد بن محمد الاسفزاري (٥) ، وعيسى بن علي بن عيسى الوزير (٦) ، وأبي علي أحمد بن محمد بن مسكويه (٧) ، وأبي زكريا يحيى بن عدي

__________________

(١) أبو زيد أحمد بن سهل البلخي أحد الكبار الأفذاذ من علماء الإسلام جمع بين الشريعة والفلسفة والأدب والفنون. ولد في إحدى قرى بلخ وقد علت شهرته فعرض عليه حاكم تخوم بلخ وزارته فأباها وذكر له الكتابة فرضيها ، فكان يعيش منها إلى أن مات. ومن تصانيفه كتاب صور الأقاليم الإسلامية وأقسام العلوم وشرائع الأديان وكتاب السياسة الكبير وغيرها. متوفى سنة ٣٢٢ ه‍ / ٩٣٤ م. (الأعلام ١ : ١٣٤ ومعجم الأدباء ٣ : ٦٥ ـ ٨٦ وحكماء الإسلام ص ٢٢ ولسان الميزان ١ : ١٨٣).

(٢) أبو محارب الحسن بن سهل ، فيلسوف حكيم من فلاسفة القرن الرابع. وقد ذكر أبو حيان من حكمه في كتاب الإمتاع والمؤانسة قوله : أشياء تذهب هباء : دين بلا عقل ، ومال بلا بذل ، وعشق بلا وصل.

(٣) ابن محارب القمي ، فيلسوف حكيم. وكان مع حكمته وفلسفته شاعرا أديبا. (المقابسات ص ٢٩٧).

(٤) أحمد بن محمد بن مروان بن الطيب السرخسي ، أحد العلماء الفهماء الفصحاء البلغاء. له في علم الأثر الباع الواسع ، وفي علوم الحكماء الذهن الثاقب ، وهو أحد فلاسفة الإسلام. تتلمذ ليعقوب بن إسحاق الكندي وكان أحد المتفننين في علوم الفلسفة وله تآليف جليلة في الموسيقى والمنطق ومن تصانيفه كتاب مختصر قاطيغورياس وكتاب الأعشاب وصناعة الحسبة الكبيرة وكتاب اللهو والملاهي في الغناء والمغنيين وغيرها. متوفى سنة ٢٨٦ ه‍ / ٩٠٠ م. (انظر معجم الأدباء ١ : ١٥٨ وأخبار الحكماء ص ٥٥ وعيون الأنباء ١ : ٢١٤ والفهرست ص ٣٦٥).

(٥) أبو حامد أحمد بن إسحاق الأسفزاري ، أحد الحكماء الأتقياء والفلاسفة المبرزين. له تصانيف في الرياضيات والمعقولات ، ومن كلماته : أحق ما صبر عليه المرء ما ليس إلى تغييره سبيل. (معجم البلدان ١ : ٢٢٩).

(٦) أبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن داود بن الجراح ، كان أوحد أهل زمانه في المنطق والعلوم القديمة. سمع الحديث ورواه وحضر مجلس روايته أجلاء الناس وكان قيما بعلم الأوائل. قرأ المنطق على يحيى بن عدي وأكثر الأخذ عنه. قال أبو حيان في الإمتاع والمؤانسة : وأما عيسى بن علي فله الذرع الواسع والصدر الرحيب في العبارة، حجة في النقل والترجمة. توفي ببغداد سنة ٣٩١ ه‍ / ١٠٠١ م. (انظر أخبار الحكماء ص ١٦٣ والإمتاع والمؤانسة ١ : ٣٦ وتاريخ بغداد ١١ : ١٧٩).

(٧) أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب مسكويه ، مؤرخ بحاث ، أصله من الري ، اشتغل بالفلسفة والكيمياء والمنطق ثم أولع بالتاريخ والأدب والإنشاء ، وكان قيما على خزانة كتب ابن العميد ، ثم كتب عضد الدولة بن بويه ، فلقب بالخازن. ألف كتبا نافعة منها : تجارب الأمم وتعاقب الهمم وله تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق وطهارة النفس وغيرها. متوفى سنة ٤٢١ ه‍ / ١٠٣٠ م. ـ (انظر إرشاد الأريب ٢ : ٤٩ والإمتاع والمؤانسة ١ : ٣٢ و ١٣٦).

الصيمري (١) ، وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري (٢) ، وأبي نصر محمد بن محمد بن طرخان الفارابي (٣) وغيرهم.

وإنما علّامة القوم : أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا (٤). قد سلكوا كلهم طريقة أرسطوطاليس (٥) في جميع ما ذهب إليه وانفرد به ، سوى كلمات يسيرة ربما رأوا فيها رأي أفلاطون والمتقدمين ولما كانت طريقة ابن سينا أدق عند الجماعة ، ونظره في الحقائق أغوص ؛ اخترت نقل طريقته من كتبه على إيجاز واختصار ، كأنها عيون كلامه ، ومتون مرامه ، وأعرضت عن نقل طرق الباقين ، و «كلّ الصيد في جوف الفرا».

١ ـ ابن سينا : كلامه في المنطق

قال أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا : العلم إما تصور ، وإما تصديق أما التصور فهو العلم الأول ، وهو أن تدرك أمرا ساذجا من غير أن تحكم عليه بنفي

__________________

(١) أبو زكريا يحيى بن عدي بن حميد بن زكريا فيلسوف حكيم ، انتهت إليه الرئاسة في علم المنطق في عصره. انتقل إلى بغداد وقرأ على الفارابي وترجم عن السريانية كثيرا إلى العربية. من كتبه : تهذيب الأخلاق وشرح مقالة الإسكندر ومقالة في الموجودات. توفي في بغداد سنة ٣٦٤ ه‍ / ٩٧٥ م. (أخبار الحكماء للقفطي ص ٢٣٦ ـ ٢٣٨ وحكماء الإسلام ص ٩٧ والإمتاع والمؤانسة ١ : ٣٧).

(٢) أبو الحسن محمد بن يوسف العامري النيسابوري عالم بالمنطق والفلسفة اليونانية ، من أهل خراسان ، أقام بالري خمس سنين واتصل بابن العميد. له شروح على كتب أرسطو ومجموعة تشتمل على : إنقاذ البشر من الجبر والقدر والتقرير لأوجه التقدير والنسك العقلي وغيرها. متوفى سنة ٣٨١ ه‍ / ٩٩١ م. (إرشاد الأريب ١ : ٤١١ والإمتاع والمؤانسة ١ : ٣٦).

(٣) أبو نصر الفارابي ، محمد بن محمد بن طرخان بن أوزلغ ، ويعرف بالمعلم الثاني أكبر فلاسفة المسلمين ، ولد في فاراب وانتقل إلى بغداد فنشأ فيها ، وألف بها أكثر كتبه ، رحل إلى مصر والشام واتصل بسيف الدولة وكان يحسن اليونانية وأكثر اللغات الشرقية المعروفة في عصره. وعرف بالمعلم الثاني لشرحه مؤلفات أرسطو (المعلم الأول). له كتب كثيرة منها : الفصوص وإحصاء العلوم والتعريف بأغراضها وآراء أهل المدينة الفاضلة. متوفى سنة ٣٣٩ ه‍ / ٩٥٠ م. (وفيات الأعيان ٢ : ٧٦ وطبقات الأطباء ٢ : ١٣٤ ـ ١٤٠).

(٤) انظر الترجمة الكاملة ص ٣٩٤ ح ٢ من الكتاب.

(٥) انظر ترجمته ص ٣٧٠ ح ٢.

أو إثبات ، مثل تصورنا ماهية الإنسان. وأما التصديق فهو أن تدرك أمرا وأمكنك أن تحكم عليه بنفي أو إثبات مثل تصديقنا بأن للكل مبدأ. وكل واحد من القسمين منه ما هو أوّلي. ومنه ما هو مكتسب. فالتصور المكتسب إنما يستحصل بالحد وما يجري مجراه ، والتصديق المكتسب إنما يستحصل بالقياس وما يجري مجراه. فالحد والقياس آلتان بهما تحصل المعلومات التي لم تكن حاصلة فتصير معلومة بالروية (١) ، وكل واحد منهما منه ما هو حقيقي ، ومنه ما هو دون الحقيقي ، ولكنه نافع منفعته بحسبه. ومنه ما هو باطل مشتبه بالحقيقي. والفطرة الإنسانية غير كافية في التمييز بين هذه الأصناف إلا أن تكون مؤيدة من عند الله عزوجل ، فلا بد إذن للناظر من آلة قانونية تعصمه مراعاتها عن أن يضل في فكره. وذلك هو الغرض من المنطق.

ثم إن كل واحد من الحد والقياس فمؤلف من معان معقولة بتأليف محدود. فيكون لها مادة منها ألفت ، وصورة بها التأليف. والفساد قد يعرض من إحدى الجهتين ، وقد يعرض من جهتيهما معا. فالمنطق هو الذي نعرف به : من أي المواد والصور يكون الحد الصحيح والقياس السديد الذي يوقع يقينا. ومن أيها ما يوقع عقدا شبيها باليقين. ومن أيها ما يوقع ظنا غالبا. ومن أيها ما يوقع مغالطة وجهلا ، وهذه فائدة المنطق. ثم لما كانت المخاطبات النظرية بألفاظ مسموعة ، والأفكار العقلية بأقوال عقلية ؛ فتلك المعاني التي في الذهن من حيث يتأدى بها إلى غيرها كانت موضوعات المنطق ، ومعرفة أحوال تلك المعاني مسائل علم المنطق وكان المنطق بالنسبة إلى المعقولات على مثال النحو بالنسبة إلى الكلام ، والعروض إلى الشعر (٢) ، فوجب على المنطقي أن يتكلم في الألفاظ أيضا من حيث تدل على المعاني.

__________________

(١) يفهم من قوله بالروية أن من المعلومات بالطبع لا بالطلب والاكتساب كعلمنا بأوائل المعقولات والمحسوسات وكعلم الأوليات وسائر المعاني المعلومة.

(٢) لكن الفطرة السليمة والذوق السليم ربما استغنيا عن تعلم النحو والعروض ، وليس شيء من الفطرة الإنسانية بمستغن في استعمال الروية عن التقدم باعداد هذه الآلة إلا أن يكون مؤيدا من عند الله.

واللفظ يدل على المعنى من ثلاثة أوجه ، أحدها : بالمطابقة. والثاني : بالتضمن ، والثالث بالالتزام. وهو ينقسم إلى : مفرد ، ومركب. فالمفرد ما يدل على معنى وجزء من أجزائه لا يدل على جزء من أجزاء ذلك المعنى بالذات ، أي حين هو جزء له (١) والمركب هو الذي يدل على معنى وله أجزاء منها يلتئم مسموعه ، ومن معانيها يلتئم معنى الجملة (٢).

والمفرد ينقسم إلى كلي وجزئي. والكلي هو الذي يدل على كثيرين (٣) بمعنى واحد متفق ، ولا يمنع نفس مفهومه عن الشركة فيه. والجزئي هو ما يمنع نفس مفهومه (٤) من ذلك ثم الكلي ينقسم إلى ذاتي ، وعرضي. والذاتي هو الذي يقوم ماهية ما يقال عليه. والعرضي هو الذي لا يقوم ماهيته سواء كان غير مفارق في الوجود والوهم ، أو مفارقا بين الوجود ، أو غير بين الوجود له. ثم الذاتي ينقسم إلى ما هو مقول في جواب : ما هو؟ وهو اللفظ المفرد الذي يتضمن جميع المعاني الذاتية (٥) التي يقوم الشيء بها. وفرق بين المقول في جواب ما هو ، وبين الداخل في جواب ما هو. وإلى ما هو مقول في جواب أي شيء هو؟ وهو الذي يدل على معنى يتميز به الشيء عن أشياء مشتركة في معنى واحد تميزا ذاتيا ، وأما العرضي

__________________

(١) فقولنا «إنسان» يدل على معنى لا محالة ، وجزءاه «إن وسان» إما أن لا يدل بهما على معنى لا محالة ، أو أن يدلا على معنيين ليس جزأي معنى الإنسان.

(٢) والمركب ، إما تام ، وهو الذي يصح السكوت عليه (الطفل نائم) وغير تام وهو ما لا يصح السكوت عليه، وهو المركب الناقص كقولك (الطفل النائم ...) أو (سافرت إلى ...).

(٣) الكلي هو اللفظ الذي لا يمنع مفهومه أن يشترك في معناه كثيرون : إما في الوجود كالإنسان ، وإما في جواز التوهم كالشمس.

(٤) كقولنا (زيد المشار إليه) فإن معنى زيد إذا أخذ معنى واحدا هو ذات زيد الواحدة فهو لا في الوجود ولا في التوهم يمكن أن يكون لغير ذات زيد الواحدة إذ الإشارة تمنع من ذلك ، فإنك إذا قلت (هذه الشمس أو هذا الإنسان) تمنع من أن يشترك فيه غيره ، فالإشارة هذا والجزئي لا تعينه إلا الإشارة الحسية وأما عند العقل فلا يتعين الجزئي.

(٥) وذلك مثل قولنا (الإنسان لزيد ، وعمرو) فإنه يشتمل على كل معنى مفرد ذاتي له مثل : الجوهرية والتجسم والتغذي والنمو والتوليد ... وغير ذلك فلا يشذ عنه مما هو ذاتي لزيد شيء.

فقد يكون ملازما في الوجود والوهم ، وبه يقع تمييز أيضا لا ذاتيا ، وقد يكون مفارقا وفرق بين العرضي والعرض الذي هو قسيم الجوهر.

وأما رسوم الألفاظ الكلية الخمسة (١) التي هي : الجنس ، والنوع ، والفصل ، والخاصة، والعرض العام : فالجنس يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالصور والحقائق الذاتية في جواب : ما هو؟ والنوع يرسم بأنه المقول على كثيرين مختلفين بالعدد في جواب : ما هو؟ إذا كان نوع الأنواع ؛ وإذا كان نوعا متوسطا فهو المقول على كثيرين مختلفين في جواب : ما هو؟ ويقال عليه قول آخر في جواب ما هو بالشركة. وينتهي الارتقاء إلى جنس لا جنس فوقه. وإن قدر فوق الجنس أمر أعم منه ، فيكون العموم بالتشكيك والنزول إلى نوع لا نوع تحته ، وإن قدر دون النوع صنف أخص فيكون الخصوص بالعوارض (٢) ، ويرسم الفصل بأنه الكلي الذاتي الذي يقال به على نوع تحت جنسه ، بأنه أي شيء (٣) هو منه؟ ويرسم الخاصة بأنه هو الكلي الذاتي الدال على نوع واحد في جواب أي شيء هو ، لا بالذات بل بالعرض (٤). ويرسم العرض العام بأنه الكلي المفرد الغير الذاتي ، ويشترك في معناه كثيرون (٥). ووقوع العرض على هذا وعلى الذي هو قسيم الجوهر ، وقوع بمعنيين مختلفين.

__________________

(١) العلة في كون الكليات خمسا أن كل ما يدل عليه باللفظ إما موصوف وإما صفة ، والصفات إما علل ومباد وإما عوارض ولوازم ، فالأول الذاتي والثاني العرضي ، والذاتيات إما مشتركة وإما مميزة ، والمشتركة الأجناس والمميزة الفصول والعرضيات إما أن تعم الموصوف وإما أن تخصه ، فالأول العرض العام والثاني الخاصة ، وأما الموصوف فهو النوع.

(٢) وقد يكون الشيء نوعا لجنس مثل الحيوان للجسم ذي النفس ، وقد يكون الشيء جنسا لا نوع مثل الحيوان للإنسان والفرس. وينتهي الارتقاء إلى جنس لا جنس فوقه ويسمى (جنس الأجناس) والانحطاط إلى نوع لا نوع تحته ويسمى (نوع الأنواع).

(٣) كالناطق للإنسان ، فيه يجاب حين يسأل أي حيوان هو ، والفرق بين الناطق والإنسان أن الإنسان حيوان له نطق ، والناطق شيء ما لم يعلم أي شيء هو ، له نطق ، والنطق فصل مفرد والناطق فصل مركب ، وهو الفصل المنطقي.

(٤) وهو إما نوع هو جنس كتساوي الزوايا من المثلث ، وإما نوع ليس هو بجنس مثل الضاحك للإنسان.

(٥) كالسواد لليل والغراب.

في المركبات :

الشيء إما عين موجودة ، وإما صورة مأخوذة عنه في الذهن ، ولا يختلفان في النواحي والأمم. وإما لفظة تدل على الصورة التي في الذهن معبرة ، وإما كتابة دالة على اللفظ ، ويختلفان في الأمم ، فالكتابة دالة على اللفظ ، واللفظ دالّ على الصورة في الذهن ، وتلك الصورة دالة على الأعيان الموجودة. ومبادئ القول والكلام : إما اسم ، وإما كلمة ، وإما أداة. فالاسم لفظ مفرد يدل على معنى من غير أن يدل على زمان وجود ذلك المعنى (١). والكلمة لفظ مفرد يدل على معنى وعلى الزمان الذي فيه ذلك المعنى لموضوع ما غير معين (٢) ، والأداة لفظ مفرد إنما يدل على معنى يصح أن يوضع أو يحمل بعد أن يقرن باسم أو كلمة ، وإذا ركبت اللفظ تركيبا يؤدي إلى معنى فحينئذ يسمى قولا ، ووجوه التركيبات مختلفة ، وإنما يحتاج المنطقي إلى تركيب خاص ، وهو أن يكون بحيث يتطرق إليه التصديق أو التكذيب ، فالقضية هي : كل قول فيه نسبة بين شيئين بحيث يتبعه حكم صدق أو كذب ، والحملية منها : كل قضية فيها النسبة المذكورة بين شيئين ليس في كل منهما هذه النسبة إلا بحيث يمكن أن يدل على كل واحد منها بلفظ مفرد (٣).

والشرطية منها : كل قضية فيها هذه النسبة بين شيئين فيهما هذه النسبة من حيث هي منفصلة (٤) ، والمتصلة من الشرطية : هي التي توجب أو تسلب لزوم قضية لأخرى من القضايا الشرطية.

__________________

(١) فمنه محصل كقولنا زيد ، ومنه غير محصل قرن فيه لفظ السلف كقولنا لا إنسان ، إنما اللاإنسان لفظ مفرد من جهته دلالة بالمطابقة على عين واحدة وأما من جزأي المفهوم فإنما هو مؤلف.

(٢) كقولنا (ركض) فإنه يدل على ركض الراكض غير معين في زمان قد مضى.

(٣) كقولنا : الإنسان حيوان ، أو قولنا : الحيوان الضاحك ينتقل من مكان إلى مكان يوضع قدم ورفع أخرى ، فكأنك قلت : الإنسان يمشي.

(٤) كقولنا : إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود ، فإن فصلت هذه النسبة أصبح كل واحد منهما قضية وهذه تسمى المتصلة الموجبة ، ومنها المتصلة السالبة كقولنا : ليس إن كانت الشمس طالعة فالليل موجود ، أما الشرطية المتصلة كقولنا : هذا العدد إما أن يكون زوجا ، وإما أن يكون فردا.

والمنفصلة منها : ما توجب أو تسلب عناد قضية لأخرى من القضايا الشرطية.

والإيجاب هو إيقاع هذه النسبة وإيجادها ، وفي الحملية هو الحكم بوجود محمول لموضوع ، والسلب هو رفع هذه النسبة الوجودية بين شيئين ، وفي الحملية هو الحكم بلا وجود محمول لموضوع ، والمحمول هو المحكوم به ، والموضوع هو المحكوم عليه (١) ، والمخصوصة قضية حملية موضوعها شيء جزئي ، والمهملة قضية حملية موضوعها كلي ، ولكن لم يبين أن الحكم في كله أو في بعضه ، ولا بد أنه في البعض ، وشك أنه في الكل فحكمه حكم الجزئي.

والمحصورة هي التي حكمها كلي ، والحكم عليه مبين أنه في كله أو بعضه ، وقد تكون موجبة وسالبة (٢).

والسور هو اللفظ الذي يدل على مقدار الحصر ، ككل ، ولا واحد ، وبعض ، ولا كل. والقضيتان المتقابلتان هما اللتان تختلفان بالسلب والإيجاب ، وموضوعهما ومحمولهما واحد في المعنى ، والإضافة ، والقوة والفعل ، والجزء ، والكل ، والمكان ، والزمان ، والشرط. والتناقض هو التقابل بين قضيتين في الإيجاب والسلب تقابلا يجب عنه لذاته أن يقتسما الصدق والكذب ، ويجب أن يراعى فيه الشرائط المذكورة.

والقضية البسيطة هي التي موضوعها ومحمولها اسم محصل ؛ والمعدولة هي التي موضوعها أو محمولها غير محصل ، كقولنا زيد هو غير بصير.

والعدمية هي التي محمولها أخس المتقابلين ، أي دل على عدم شيء من شأنه أن يكون للشيء ، أو لنوعه أو لجنسه ، مثل قولنا : زيد جائر.

__________________

(١) بأن شيئا آخر موجود له أو ليس بموجود له مثال الموضوع قولنا زيد من قولنا زيد كاتب ، ومثال المحمول قولنا كاتب من قولنا زيد كاتب.

(٢) والموجبة الكلية كقولنا : كل إنسان حيوان. والسالبة الكلية كقولنا : ليس ولا واحد من الناس بحجر.

والموجبة الجزئية كقولنا : بعض الناس كاتب. والسالبة الجزئية كقولنا : ليس بعض الناس بكاتب.

ومادة القضايا هي حالة للمحمول بالقياس إلى الموضوع يجب بها لا محالة أن يكون له دائما في كل وقت في إيجاب (١) أو سلب ، أو غير دائم له في إيجاب ولا سلب (٢). وجهات القضايا ثلاث : واجب ويدل على دوام الوجود ، وممتنع ويدل على دوام العدم ، وممكن ويدل على لا دوام وجود ولا عدم.

والفرق بين الجهة والمادة : أن الجهة لفظ مصرح بها تدل على أحد هذه المعاني. والمادة حالة للقضية في ذاتها غير مصرح بها. وربما تخالفا كقولك زيد يمكن أن يكون حيوانا. فالمادة واجبة ، والجهة ممكنة.

والممكن يطلق على معنيين. أحدهما : ما ليس بممتنع وعلى هذا الشيء إما ممكن وإما ممتنع وهو الممكن العامي (٣). والثاني ما ليس بضروري في الحالتين ، أعني الوجود والعدم. وعلى هذا : الشيء إما واجب ، وإما ممتنع ، وإما ممكن ، وهو الممكن الخاصي(٤).

ثم إن الواجب والممتنع بينهما غاية الخلاف ، مع اتفاقهما في معنى الضرورة. فإن الواجب هو ضروري الوجود بحيث لو قدر عدمه لزم منه محال ، والممتنع ضروري العدم بحيث لو قدر وجوده لزم منه محال ، والممكن الخاصي هو ما ليس بضروري الوجود والعدم. والحمل الضروري على أوجه ستة تشترك كلها في الدوام.

__________________

(١) والمادة لا تكون إلا صادقة الحكم لأنها من الوجود ، وأما الجهة فقد تكون كاذبة وصادقة لأنها حكم إخباري ، فالجهة تدل على ما للأمر في نفسه. والمادة حالة للأمر في نفسه.

(٢) وهذا في المادة الممكنة ، كحالة الكاتب عند الإنسان وقيل : إن ، الممكن هو الذي حكمه غير موجود في وقت ما أي في الحال ، ثم له حكم في المستقبل يفرد به عما له حكم في الحال بالضرورة.

(٣) أما العامة فيعنون بقولهم ممكن ، ما ليس بممتنع من غير أن يشترطوا فيه أنه واجب أو لا واجب ، ويكون معنى قولهم ليس بممكن أنه ليس ليس بممتنع ، فيكون معناه الممتنع ، فإذن الممكن العامي ما ليس بممتنع ، وغير الممكن ما هو ممتنع.

(٤) وهو ما تفهمه الخاصة فإنهم وجدوا معنى ليس بواجب ولا ممتنع ، ولم يكن عند العامة لهذا المعنى اسم.

الأول : أن يكون الحمل دائما لم يزل ولا يزال (١).

والثاني : أن يكون الحمل دائما ما دامت ذات الموضوع موجودة لم تفسد (٢) ، وهذان هما المستعملان والمرادان إذا قيل إيجاب أو سلب ضروري.

والثالث : أن يكون الحمل دائما ما دامت ذات الموضوع موصوفة بالصفة التي جعلت موضوعة معها (٣).

والرابع : أن يكون الحمل موجودا ، وليس له ضرورة بلا هذا الشرط.

والخامس : أن تكون الضرورة وقتا ما معينا لا بد منه (٤).

والسادس : أن تكون الضرورة وقتا ما غير معين (٥).

ثم إن ذوات الجهة قد تتلازم طردا وعكسا ، وقد لا تتلازم ، فواجب أن يوجد ، يلزمه ممتنع أن لا يوجد ، وليس يمكن بالمعنى العامي أن لا يوجد ، ونقائض هذه متعاكسة ، وقس عليه سائر الطبقات ، وكل قضية فإما ضرورية ، وإما ممكنة ، وإما مطلقة.

فالضرورية مثل قولنا : كل ب ا بالضرورة ؛ أي كل واحد وأحد مما يوصف بأنه ب ، دائما ، أو غير دائم فذلك الشيء دائما ما دامت عين ذاته موجودة يوصف بأنه ا.

والممكنة : فهي التي حكمها من إيجاب أو سلب غير ضروري.

والمطلقة فيها رأيان ، أحدهما : أنها التي لم يذكر فيها جهة ضرورة للحكم

__________________

(١) كقولنا : الله تعالى حي.

(٢) كقولنا : كل إنسان بالضرورة حيوان.

(٣) كقولنا : إن زيدا بالضرورة ماش ما دام ماشيا ، إذ ليس بممكن أن لا يكون ماشيا وهو يمشي.

(٤) كقولنا : إن القمر ينكسف بالضرورة ، ولكن ليس دائما بل وقتا بعينه معنيا.

(٥) كقولنا : كل إنسان فإنه بالضرورة يتنفس أي وقتا وليس دائما ولا وقتا بعينه.

أو إمكان للحكم ، بل أطلق إطلاقا. والثاني : ما يكون الحكم فيها موجودا لا دائما بل وقتا ما ، وذلك الوقت إما ما دام الموضوع موصوفا بما وصف به ، أو ما دام المحمول محكوما به ، أو في وقت معين ضروري (١) ، أو في وقت ضروري غير معين (٢) ، وأما العكس فهو تصيير الموضوع محمولا ، والمحمول موضوعا مع بقاء السلب والإيجاب بحاله ، والصدق والكذب بحاله.

والسالبة الكلية تنعكس مثل نفسها ، وأما السالبة الجزئية فلا تنعكس (٣).

والموجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية ، والموجبة الجزئية تنعكس مثل نفسها (٤).

* * *

في القياس ومباديه وأشكاله ونتائجه :

المقدمة قول يوجب شيئا لشيء ، أو يسلب شيئا عن شيء : جعلت جزء قياس. والحد ما تنحل إليه المقدمة من جهة ما هي مقدمة. والقياس : هو قول مؤلف من أقوال إذا وضعت لزم عنها بذاتها قول آخر غيرها اضطرارا ، وإذا كان بينا لزومه يسمى قياسا كاملا ، وإذا احتاج إلى بيان فهو غير كامل ، والقياس ينقسم إلى اقتراني ، واستثنائي ، والاقتراني أن يكون ما يلزمه ليس هو ولا نقيضه مقولا فيه بالفعل بوجه ما ، والاستثنائي أن يكون ما يلزمه هو أو نقيضه مقولا فيه بالفعل (٥).

__________________

(١) كالكسوف للقمر ، والكون في الرحم لكل إنسان.

(٢) كالتنفس للحيوان.

(٣) سواء أكانت سالبة جزئية مطلقة ، فليس إذا صح قولنا ليس كل إنسان كاتبا وصدق ، يجب أن يصدق ليس بعض الكاتب بإنسان ، أم سالبة جزئية ضرورية لأنك تقول بالضرورة ليس كل حيوان إنسانا ولا تقول بالضرورة ليس كل إنسان بحيوان.

(٤) وبيانها الحقيقي على مثال بيان الموجبة الكلية ، كقولنا : بعض الناس كاتب ، وبعض الكاتب إنسان.

(٥) فالاقتراني كقولنا : كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، فكل جسم محدث. والاستثنائي كقولنا : إن كانت النفس لها فعل بذاتها فهي قائمة بذاتها.

والاقتراني إنما يكون عن مقدمتين يشتركان في حد ، ويفترقان في حدين ، فتكون الحدود ثلاثة ، ومن شأن المشترك فيه أن يزول عن الوسط ويربط ما بين الحدين الآخرين ، فيكون ذلك هو اللازم (١) ويسمى نتيجة. فالمكرر يسمى حدا أوسط ، والباقيان طرفين ، والذي يريد أن يصير محمول اللازم يسمى الطرف الأكبر ، والذي يريد أن يكون موضوع اللازم يسمى الطرف الأصغر. والمقدمة التي فيها الطرف الأكبر تسمى الكبرى ، والتي فيها الطرف الأصغر تسمى الصغرى ، وتأليف الصغرى والكبرى يسمى قرينة. وهيئة الاقتران تسمى شكلا ، والقرينة التي يلزم عنها لذاتها قول آخر تسمى قياسا. واللازم ما دام لم يلزم بعد بل يساق إليه القياس يسمى مطلوبا. وإذا لزم يسمى نتيجة. والحد الأوسط إن كان محمولا في مقدمة ، وموضوعا في الأخرى يسمى ذلك الاقتران شكلا أولا. وإن كان محمولا فيهما يسمى شكلا ثانيا. وإن كان موضوعا فيهما يسمى شكلا ثالثا. وتشترك الأشكال كلها في أنه لا قياس عن جزئيتين. وتشترك ما خلا الكائنة عن الممكنات في أنه لا قياس عن سالبتين ، ولا عن صغرى سالبة كبراها جزئية ، والنتيجة تتبع أخس المقدمتين في الكم والكيف ، وشريطة الشكل الأول أن تكون كبراه كلية ، وصغراه موجبة (٢). وشريطة الشكل الثاني أن تكون الكبرى فيه كلية ، وإحدى المقدمتين مخالفة للأخرى في الكيف ، ولا ينتج إذا كانت المقدمتان ممكنتين أو مطلقتين الإطلاق الذي لا ينعكس على نفسه كلتيهما ، وشريطة الشكل الثالث أن تكون الصغرى

__________________

(١) كقولنا : كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، فكل جسم محدث. والحدود الثلاثة : جسم ومؤلف ومحدث. والمؤلف مكرر متوسط ، والجسم والحدث لم يتكررا ، واللازم هو مجتمع منهما.

(٢) وقرائنه أربع. النوع الأول من كليتين موجبتين ينتج كلية موجبة مثال : كل جسم مؤلف ، وكل مؤلف محدث ، فكل جسم محدث. والنوع الثاني من كلية موجبة صغرى وكلية موجبة كبرى ، وينتج كلية سالبة ومثاله : كل جسم مؤلف ، ولا شيء مما هو مؤلف بقديم ، ينتج أنه لا شيء من الأجسام بقديم ، والنوع الثالث من موجبتين وصغرى جزئية ينتج جزئية موجبة ومثاله : بعض الفصول الأبعاد ، وكل بعدكم فبعض الفصول كم. والنوع الرابع من جزئية موجبة صغرى وكلية سالبة صغرى ينتج سالبة جزئية ومثاله : بعض الفصول الكم ، ولا شيء مما هو كم بكيف ، فلا كل فصل بكيف.

موجبة ، ثم لا بد من كلية في كل شكل (١). وليرجع في المختلطات إلى تصانيفه.

وأما القياسات الشرطية بقضاياها ، فاعلم أن الإيجاب والسلب ليس يختص بالحمليات ، بل وفي الاتصال والانفصال ، فإنه كما أن الدلالة على وجود الحمل إيجاب في الحمل ، كذلك الدلالة على وجود الاتصال إيجاب في المتصل ، والدلالة على وجود الانفصال إيجاب في المنفصل وكذلك السلب (٢) ، وكل سلب فهو إبطال الإيجاب ورفعه ، وكذلك يجري فيهما الحصر والإهمال ، وقد تكون القضايا كثيرة والمقدمة واحدة (٣) ، والاقتران من المتصلات أن يجعل مقدم أحدهما تالي الآخر ، فيشتركان في التالي ، أو يشتركان في المقدم ، وذلك على قياس الأشكال الحملية ، والشرائط فيها واحدة ، والنتيجة شرطية تحصل من اجتماع المقدم والتالي اللذين هما كالطرفين ، والاقترانيات من المنفصلات فلا تكون في جزء تام بل تكون في جزء غير تام ، وهو جزء تال أو مقدم ، والاستثنائية مؤلفة من مقدمتين ، إحداهما : شرطية ، والأخرى وضع أو رفع لأحد جزأيها ، ويجوز أن تكون حملية. وشرطية (٤) ، وتسمى المستثناة. والمستثناة من قياس فيه شرطية متصلة إن كان الاستثناء من المقدم فيجب أن يكون عين المقدم لينتج عين التالي (٥). وإن كان من التالي فيجب أن يكون نقيضه لينتج نقيض المقدم (٦) ،

__________________

(١) وقرائنه ست (١) من كليتين موجبتين ينتج جزئية موجبة (٢) من كليتين والكبرى سالبة ينتج سالبة جزئية (٣) من جزئية موجبة صغرى وكلية موجبة كبرى ينتج موجبة (٤) من صغرى موجبة كلية وكبرى موجبة جزئية ، ينتج جزئية موجبة (٥) من كلية موجبة صغرى وجزئية سالبة كبرى ينتج جزئية سالبة (٦) من صغرى جزئية موجبة وكبرى كلية سالبة يتبين بعكس الصغرى والنتيجة جزئية سالبة.

(٢) ففي الإيجاب ، كقولنا : إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا ، وفي السلب كقولنا : ليس إما أن يكون كذا وإما أن يكون كذا.

(٣) ومثاله : إذا كان هذا الإنسان به حمى لازمة وسعال يابس وضيق نفس فيه ذات الجنب. فهذه مقدمة واحدة ، فإن قلنا إن كان هذا الإنسان به ذات الجنب فبه كذا وكذا صارت مقدمات كثيرة.

(٤) ومثاله : إن كان متى طلعت الشمس وجد النهار ، فوجود النهار تابع لطلوع الشمس لكن متى طلعت الشمس وجد النهار فوجود النهار إذن تابع لطلوع الشمس.

(٥) كقولنا : إن كان فلان يعدو ، فهو يحرك قدميه ، ولكنه يعدو فهو إذن يحرك قدميه.

(٦) كقولنا : لكنه ليس يحرك قدميه ينتج فإذن ليس يعدو.

واستثناء نقيض المقدم وعين التالي لا ينتج شيئا ، وأما إذا كانت الشرطية منفصلة فإن كانت ذات جزءين فقط موجبتين فأيهما استثنيت عينه أنتج نقيض الباقي ، وأيهما استثنيت نقيضه أنتج عين الباقي (١).

وأما القياسات المركبة فهي ما إذا حللت إلى أفرادها كان ما ينتج كل واحد منها شيئا آخر ، إلا أن نتائج بعضها مقدمات لبعض. وكل نتيجة فإنها تستتبع عكسها ، وعكس نقيضها ، وجزأها وعكس جزئها ، إن كان لها عكس. والمقدمات الصادقة تنتج نتيجة صادقة ولا ينعكس. فقد تنتج المقدمات الكاذبة نتيجة صادقة (٢). والدور أن تأخذ النتيجة وعكس إحدى المقدمتين فتنتج المقدمة الثانية ، وإنما يمكن إذا كانت الحدود في المقدمات متعاكسة متساوية (٣). وعكس القياس هو أن تأخذ مقابل النتيجة بالضد أو النقيض وتضيفه إلى إحدى المقدمتين فينتج مقابل النتيجة الأخرى احتيالا في الجدل وقياس الخلف هو الذي يبين فيه المطلوب من جهة تكذيب نقيضه ، فيكون هو بالحقيقة مركبا من قياس اقتراني ، وقياس استثنائي ، والمصادرة على المطلوب الأول هو أن يجعل المطلوب نفسه مقدمة في قياس يراد فيه إنتاجه (٤) ، وربما تكون في قياس واحد ، وربما تبين في قياسات ، وحيثما كان أبعد كان من القبول أقرب. والاستقراء هو حكم على كلي لوجود ذلك الحكم في جزئيات ذلك الكلي ، إما كلها ، وإما أكثرها. والتمثيل هو الحكم على

__________________

(١) ومثاله : هذا العدد إما زوج وإما فرد ، ولكنه زوج فليس بفرد ، ولكنه فرد فليس بزوج. ولكنه ليس بزوج فهو فرد ، ولكنه ليس بفرد فهو زوج.

(٢) فإذا قلت : كل سرير خشب ، وكل خشب شجر ، أنتج كل سرير شجر.

(٣) ومثاله أن نقول : كل إنسان متفكر وكل متفكر ضحاك ، فكل إنسان ضحاك. ثم نقول : كل إنسان ضحاك ، وكل ضحاك متفكر ، فكل إنسان متفكر ، وكل متفكر ضحاك ، وكل ضحاك إنسان فكل متفكر إنسان. وكل متفكر إنسان وكل إنسان ضحاك فكل متفكر ضحاك. وكل ضحاك إنسان وكل إنسان متفكر ، فكل ضحاك متفكر. وكل ضحاك متفكر وكل متفكر إنسان ، فكل ضحاك إنسان.

(٤) كمن يقول : إن كل إنسان بشر ، وكل بشر ميت ، فكل إنسان ميت ، والكبرى هاهنا ، والنتيجة شيء واحد ، ولكن أبدل الاسم احتيالا ليوهم المخالفة.

شيء معين لوجود ذلك الحكم في شيء آخر معين أو أشياء على أن ذلك الحكم كلي على المتشابه فيه. فيكون المحكوم عليه هو المطلوب ، والمنقول منه الحكم هو المثال ، والمعنى المتشابه فيه هو الجامع. وحكم الرأي مقدمة محمودة كلية في أن كذا كائن أو غير كائن ، وصواب أم خطأ. والدليل : قياس إضماري حده الأوسط شيء إذا وجد للأصغر تبعه وجود شيء آخر للأصغر دائما كيف كان ذلك التبع. والقياس الفراسي شبيه بالدليل من وجه ، وبالتمثيل من وجه.

في مقدمات القياس من جهة ذواتها ، وشرائط البرهان :

المحسوسات : هي أمور أوقع التصديق بها الحس. والمجربات : هي أمور أوقع التصديق بها الحس بشركة من القياس ، والمقبولات آراء أوقع التصديق بها قول من يوثق بصدقه فيما يقول ، إما لأمر سماوي يختص به ، أو لرأي وفكر قوي تميز به (١) ، والوهميات (٢) آراء أوجب اعتقادها قوة الوهم التابعة للحس والذائعات : آراء مشهورة محمودة أوجب التصديق بها شهادة الكل (٣) ، والمظنونات آراء يقع التصديق بها لا على الثبات ، بل يخطر إمكان نقيضها بالبال ، ولكن الذهن يكون إليها أميل (٤) ، والمتخيلات هي مقدمات ليست تقال ليصدق بها ، بل لتخيل شيئا على أنه شيء آخر على سبيل المحاكاة (٥). والأوليات هي قضايا تحدث في الإنسان من جهة قوته العقلية من غير سبب أوجب التصديق بها. والبرهان : قياس مؤلف من يقينيات لإنتاج يقيني.

__________________

(١) كاعتقادنا بأمور قبلناها عن أئمة الشرائع كالرسل والأنبياء عليهم‌السلام.

(٢) الوهميات : قضايا كاذبة يحكم بها الوهم في أمور غير محسوسة.

(٣) إما شهادة الكل مثل : إن العدل جميل ، وإما شهادة الأكثر وإما شهادة العلماء أو شهادة أكثرهم أو الأفاضل منهم فيما لا يخالف فيه الجمهور.

(٤) كقولنا : نور القمر مستفاد من نور الشمس ، فإن لم يخطر إمكان نقيضها بالبال ، وكان إذا عرض نقيضه على الذهن لم يقبله الذهن ولم يمكنه فليس بمظنون صرف بل هو معتقد.

(٥) ويتبعه في الأكثرية تنفير للنفس عن شيء أو ترغيبها فيه ، وبالجملة قبض أو بسط مثل تشبيهنا العسل بالمرة فينفر عنه الطبع وكتشبيهنا التهور بالشجاعة أو الجبن بالاحتياط فيرغب فيه الطبع.

واليقينيات : إما أوليات وما جمع منها ، وإما تجربيات ، وإما محسوسات ، وبرهان اللمّ : هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة في الوجود والذهن جميعا وبرهان الإنّ : هو الذي يعطيك علة اجتماع طرفي النتيجة عند الذهن والتصديق به (١). والمطالب أربعة : هل مطلقا ، هو تعرّف حال الشيء في الوجود أو العدم مطلقا. وهل مقيدا ، وهو تعرف وجود الشيء على حال ما ، أو ليس ما : يعرف التصور ، وهو إما بحسب الاسم ، أي ما المراد باسم كذا؟ وهذا يتقدم كل مطلب ، وإما بحسب الذات ، أي ما الشيء في وجوده؟ وهو يعرف حقيقة الذات ويتقدمه «الهل المطلق» لم : يعرف العلة بجواب. هل : وهو إما علة التصديق فقط ، وإما علة نفس الوجود. وأما أي ، فهو بالقوة داخل في «الهل المقيد» وإنما يطلب التمييز إما بالصفات الذاتية ، وإما بالخواص.

والأمور التي يلتئم منها أمر البراهين ثلاثة : موضوعات ، ومسائل ، ومقدمات ، فالموضوعات يبرهن فيها والمسائل يبرهن عليها. والمقدمات يبرهن بها ، ويجب أن تكون صادقة يقينية ذاتية ، وتنتهي إلى مقدمات أولية مقولة على الكل ، كلية ، وقد تكون ضرورية إلا على الأمور المتغيرة التي هي في الأكثر على حكم ما ، فتكون أكثرية وتكون عللا لوجود النتيجة ، فتكون مناسبة.

الحمل الذاتي يقال على وجهين ، أحدهما : أن يكون المحمول مأخوذا في حد الموضوع.

والثاني : أن يكون الموضوع مأخوذا في حد المحمول (٢).

والمقدمة الأولية على وجهين ، أحدهما : أن التصديق بها حاصل في أول

__________________

(١) كقولنا : زيد محموم ، وكل محموم متعفن الأخلاط ، ينتج زيد متعفن الأخلاط ، فإن الحمى ليست علة لثبوت تعفن الأخلاط في الخارج بل الواقع العكس.

(٢) فمثال ما إذا كان المحمول مأخوذا في حد الموضوع : الحيوان في حد الإنسان. ومثال ما إذا كان المحمول مأخوذا في حده الموضوع أو جنسه مثل الفطوسة التي يؤخذ في حدها الأنف.

العقل. والثاني : من جهة أن الإيجاب والسلب لا يقال على ما هو أعم من الموضوع قولا كليا.

والمناسب للعلم هو أن لا تكون المقدمات فيه من علم غريب (١).

والموضوعات : هي التي توضع في العلوم فيبرهن على أعراضها الذاتية.

والمسائل : هي القضايا الخاصة بعلم علم ، المشكوك فيها ، المطلوب برهانها وموضوعاتها (٢). والبرهان يعطي حكم اليقين الدائم ، وليس في شيء من الفاسدات عقد دائم ، فلا برهان عليها ، ولا برهان أيضا على الحد لأنه لا بد حينئذ من حد أوسط مساو للطرفين ، لأن الحد والمحدود متساويان ، وذلك الأوسط لا يخلو : إما أن يكون حدا آخر ، أو يكون رسما ، أو خاصة. فأما الحد الآخر فإن السؤال في اكتسابه ثابت. فإن اكتسب بحد ثالث فالأمر ذاهب إلى غير نهاية. وإن اكتسب بالحد الأول فذلك دور. وإن اكتسب بوجه آخر غير البرهان فلم لا يكتسب به هذا الحد؟ على أنه لا يجوز أن يكون لشيء واحد حدّان تامان على ما سنوضح بعد ، وإن كانت الواسطة غير حد ، فكيف صار ما ليس بحد أعرف وجودا للمحدود من الأمر الذاتي المقوم له وهو الحد؟ وأيضا فإن الحد لا يكتسب بالقسمة ، فإن القسمة تضع أقساما ، ولا تحمل من الأقسام شيئا بعينه إلا أن يوضع وضعا من غير أن يكون للقسمة فيه مدخل. وأما استثناء نقيض قسم ليبقى القسم الداخل في الحد، فهو إبانة الشيء بما هو مثله أو أخفى منه. فإنك إذا قلت : لكن ليس الإنسان غير

__________________

(١) كمن يستعمل مقدمات الهندسة في الطب ، بل يكون من ذلك العلم بعينه ، أو من علم يناسبه. فإذا قال الطبيب : إن الجرح المستدير لا يندمل إلا أبطأ من المستقيم لأن الدائرة أوسع الأشكال لم يكن برهن من الطب.

(٢) أما موضوع العلم نفسه كقولنا : كل مقدار إما مشارك وإما مباين ، وأما موضوعه مع عرض ذاتي له كقولنا : كل مقدار وسط في النسبة فهو ضلع ما يحيط به الطرفان ، وأما نوع من موضوعه مع عرض. كقولنا : كل خط قام على خط فإن الزاويتين كذا.

ناطق ، فهو إذن ناطق : لم تكن أخذت في الاستثناء شيئا أعرف من النتيجة وأيضا فإن الحد لا يكتسب من حد الضد ، فليس لكل محدود ضد ، ولا أيضا حد أحد الضدين أولى بذلك من حد الضد الآخر. والاستقراء لا يفيد علما كليا ، فكيف يفيد الحد ، لكن الحد يقتنص بالتركيب ، وذلك بأن تعمد إلى الأشخاص التي لا تنقسم ، وتنظر من أي جنس هي من العشرة ، فتأخذ جميع المحمولات المقومة لها التي في ذلك الجنس ، وتجمع العدة منها بعد أن تعرف أيها الأول ، وأيها الثاني. فإذا جمعنا هذه المحمولات ووجدنا منها شيئا مساويا للمحدود من وجهين فهو الحد ؛ أحدهما : المساواة في الحمل (١) ، والثاني : المساواة في المعنى (٢) ، وهو أن يكون دالا على كمال حقيقة ذاته لا يشذ منه شيء ، فإن كثيرا مما يميز الذات يكون قد أخل ببعض الأجناس أو ببعض الفصول ، فيكون مساويا في الحمل ولا يكون مساويا في المعنى ، وبالعكس. ولا يلتفت في الحد إلى أن يكون وجيزا بل ينبغي أن تضع الجنس القريب فيه باسمه أو بحده ، ثم تأتي بجميع الفصول الذاتية. فإنك إذا تركت بعض الفصول فقد تركت بعض الذات.

والحد عنوان للذات وبيان لها. فيجب أن يقوم في النفس صورة معقولة مساوية للصورة الموجودة بتمامها. فحينئذ يعرض أن يتميز أيضا المحدود ، ولا حد في الحقيقة لما لا وجود له ، وإنما ذلك قول يشرح الاسم. فالحد إذن قول دال على الماهية ، والقسمة معينة في الحد خصوصا إذا كانت بالذاتيات. ولا يجوز تعريف الشيء بما هو أخفى منه ، ولا بما هو مثله في الجلاء والخفاء ، ولا بما لا يعرف الشيء إلا به.

__________________

(١) المقصود أن يكون كل ما يحمل عليه المحدود يحمل عليه هذا القول ، وكل ما يحمل عليه هذا القول يحمل عليه المحدود.

(٢) كقولنا في حد الإنسان : إنه جسم ناطق ميت مثلا. فإن هذا ليس بحد حقيقي بل هو ناقص. لأن الجنس القريب غير موضوع فيه ، وكقولنا في حد الحيوان إنه جسم ذو نفس حساس من غير أن نقول «ومتحرك بالإرادة» فإن هذا مساو في الحمل وناقص في المعنى.

في الأجناس العشرة (١) :

الجوهر : هو كل ما وجود في ذاته ليس في موضوع ، أي في محل قريب ، قد قام بنفسه دونه بالفعل لا بتقويمه.

الكم : هو الذي يقبل لذاته المساواة واللامساواة ، والتجزؤ. وهو إما أن يكون متصلا إذ يوجد لأجزائه بالقوة حد مشترك تتلاقى عنده وتتحد به ، كالنقطة للخط. وإما أن يكون منفصلا لا يوجد لأجزائه ذلك بالقوة ولا بالفعل كالعدد. والمتصل قد يكون ذا وضع ، وقد يكون عديم الوضع. وذو الوضع هو الذي يوجد لأجزائه اتصال وثبات وإمكان أن يشار إلى كل واحد منها : أنه أين هو من الآخر؟ فمن ذلك ما يقبل القسمة في جهة واحدة ، وهو الخط. ومنه ما يقبل في جهتين متقاطعتين على قوائم وهو السطح. ومنه ما يقبل في ثلاث جهات قائم بعضها على بعض ، وهو الجسم. والمكان أيضا ذو وضع ، لأنه السطح الباطن من الحاوي. وأما الزمان فهو مقدار للحركة إلا أنه ليس له وضع ، إذ لا توجد أجزاؤه معا وإن كان له اتصال ، إذ ماضيه ومستقبله يتحدان بطرف الآن وأما العدد فهو بالحقيقة الكم المنفصل.

ومن المقولات العشر :

الإضافة. وهي المعنى الذي وجوده بالقياس إلى شيء آخر ، وليس له وجود غيره. مثل الأبوة بالقياس إلى البنوة. لا كالأب فإن له وجودا يخصه كالإنسانية.

وأما الكيف ، فهو كل هيئة قارة في جسم لا يوجب اعتبار وجودها فيه نسبة للجسم إلى خارج ، ولا نسبة واقعة في أجزائه ، ولا لجملته اعتبارا يكون به ذا جزء. مثل البياض والسواد. وهو إما أن يكون مختصا بالكم من جهة ما هو كم ، كالتربيع بالسطح ، والاستقامة بالخط ، والفردية بالعدد. وإما أن لا يكون مختصا به.

__________________

(١) وهي التي يعبر عنها ب «المقولات العشر» وينتظمها هذان البيتان :

عد المقولات في عشر سأنظمها

في بيت شعر علا في رتبة فعلا

الجوهر الكم كيف والمضاف متى

أين ووضع له أن ينفعل فعلا

وغير المختص به : إما أن يكون محسوسا تنفعل عنه الحواس ويوجد بانفعال الممتزجات فالراسخ منه مثل صفرة الذهب ، وحلاوة العسل يسمى كيفيات انفعاليات. وسريع الزوال منه وإن كان كيفية بالحقيقة فلا يسمى كيفية (١) ، بل انفعالات لسرعة استبدالها ، مثل حمرة الخجل ، وصفرة الوجل. ومنه ما لا يكون محسوسا. فإما أن يكون استعدادات إنما تتصور في النفس بالقياس إلى كمالات ، فإن كان استعدادا للمقاومة ، وإباء للانفعال سمي قوة طبيعية كالمصحاحية والصلابة. وإن كان استعدادا لسرعة الإذعان والانفعال سمي : لا قوة طبيعية مثل الممراضية واللين وإما أن تكون في أنفسها كمالات لا يتصور أنها استعدادات لكمالات أخرى ، وتكون مع ذلك غير محسوسة بذاتها. فما كان ثابتا منها يسمى ملكة ، مثل العلم ، والصحة. وما كان سريع الزوال سمي حالا مثل غضب الحليم ومرض المصحاح. وفرق بين الصحة والمصحاحية ، فإن المصحاح قد لا يكون صحيحا ، والممراض قد يكون صحيحا.

ومن جملة العشرة :

الأين ، وهو كون الجوهر في مكانه الذي يكون فيه : ككون زيد في السوق. و «متى» وهو كون الجوهر في زمانه الذي يكون فيه ، مثل كون هذا الأمر أمس.

و «الوضع» وهو كون الجسم بحيث يكون لأجزائه بعضها إلى بعض نسبة في الانحراف والمؤازرة بالقياس إلى الجهات وأجزاء المكان إن كان في مكان ؛ مثل القيام والقعود، وهو في المعنى غير الوضع المذكور في باب الكم.

و «الملك» ولست أحصله ، ويشبه أن يكون : كون الجوهر في جوهر يشمله وينتقل بانتقاله ، مثل التلبس والتسلح.

و «الفعل» وهو نسبة الجوهر إلى أمر موجود منه في غيره ، غير قارّ الذات ، بل لا يزال يتجدد وينصرم ، كالتسخين والتبريد.

__________________

(١) أما قولنا : فلا تسمى كيفية ... الخ ففيه تأويل ، ولعله يريد أنه لا يكاد ألا يكون كيفية وأن يكون وسطا بين الكيف والانفعال وإن كان عند التحقيق الدقيق كيفا إلا أنه من أضعف أقسام الكيفيات.

و «الانفعال» وهو نسبة الجوهر إلى حالة فيه بهذه الصفة مثل التقطع والتسخن.

والعلل أربع : يقال علة للفاعل ومبدأ الحركة مثل النجار للكرسي. ويقال علة للمادة وما يحتاج أن يكون حتى تكون ماهية الشيء مثل الخشب ، ويقال علة للصورة في كل شيء يكون فإنه ما لم تقترن الصورة بالمادة لم يتكون ، ويقال علة للغاية والشيء الذي نحوه ولأجله الشيء ، مثل الكن للبيت. وكل واحدة من هذه إما قريبة ، وإما بعيدة (١) وإما بالقوة ، وإما بالفعل. وإما بالذات ، وإما بالعرض. وإما خاصة ، وإما عامة (٢). والعلل الأربع قد تقع حدودا وسطى في البراهين ، لإنتاج قضايا محمولاتها أعراض ذاتية. وأما العلتان الفاعلية والقابلية فلا يجب من وضعهما وضع المعلول وإنتاجه ما لم يقترن بذلك ما يدل على صيرورتهما علة بالفعل (٣).

في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي :

الظن : الحق أنه رأى في شيء أنه كذا ويمكن أن لا يكون كذا.

والعلم : اعتقاد بأن الشيء كذا ، وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا بواسطة توجيه. والشيء كذلك في ذاته. وقد يقال : «علم» لتصور الماهية بتحديد.

والعقل : اعتقاد بأن الشيء كذا ، وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا طبعا بلا واسطة ، كاعتقاد المبادي الأولى للبراهين. وقد يقال «عقل» لتصور الماهية بذاتها بلا تحديدها ، كتصور المبادي الأولى للحد.

__________________

(١) وأما القريبة كالعفونة للحمى ، والبعيدة كالسدة.

(٢) وأما الخاصة كالبناء للبيت ، وأما العامة كالصانع له.

(٣) مثل اقتران انفعال الأفيون عن الحرارة الغريزية التي في الأبدان بالقوة المبردة التي فيه ، فإنه حينئذ يجب عن قوته التبريد وذلك في كثير من المواد ، ولكن كثيرا من الأمور الطبيعية يلزم عن اقتران موادها بفواعلها أن يوجد المعلول ضرورة بل هذا في كلها وفي كثير منها لا يوجد مادتها على الطباع التي يجب ألا يوجد الكائن كنطفة الإنسان.

والذهن : قوة للنفس معدة نحو اكتساب العلم.

والذكاء : قوة استعداد للحدس.

والحدس : حركة النفس إلى إصابة الحد الأوسط إذا وضع المطلوب ، أو إصابة الحد الأكبر إذا أصيب الأوسط. وبالجملة سرعة انتقال الذهن من معلوم إلى مجهول (١).

والحس : إنما يدرك الجزئيات الشخصية.

والذكر والخيال : يحفظان ما يؤديه الحس على شخصيته. أما الخيال فيحفظ الصورة وأما الذكر فيحفظ المعنى المأخوذ. وإذا تكرر الحس صار ذكرا وإذا تكرر الذكر كان تجربة.

والفكر : حركة ذهن الإنسان نحو المبادي ليصير منها إلى المطالب.

والصناعة : ملكة نفسانية تصدر عنها أفعال إرادية بغير روية.

والحكمة : خروج النفس الإنساني إلى كماله الممكن في جزأي العلم والعمل. أما في جانب العلم فأن يكون متصورا للموجودات كما هي ، ومصدقا للقضايا كما هي. وأما في جانب العمل فأن يكون قد حصل له الخلق الذي يسمى العدالة والملكة الفاضلة. والفكر العقلي ينال الكليات مجردة ، والحس والخيال والذكر تنال الجزئيات. فالحس يعرض على الخيال أمورا مختلطة ، والخيال على العقل. ثم العقل يفعل التمييز ، ولكل واحد من هذه المعاني معونة في صواحبها ، في قسمي التصور والتصديق.

__________________

(١) وذلك كمن يرى تشكل استنارة القمر عند أحوال قربه وبعده عن الشمس ، فيحدس أنه يستنير من الشمس.

٢ ـ في الإلهيّات

يجب أن نحصر المسائل التي تختص بهذا العلم في عشر مسائل :

المسألة الأولى منها : في موضوع هذا العلم ، وجملة ما ينظر فيه ، والتنبيه على الوجود وأقسامه.

إن لكل علم موضوعا ينظر فيه فيبحث عن أحواله ، وموضوع العلم الإلهي هو الوجود المطلق ولواحقه التي له بذاته ومباديه (١) ، وينتهي في التفصيل إلى حيث تبتدئ منه سائر العلوم ، وفيه بيان مبادئها ، وجملة ما ينظر فيه هذا العلم هو أقسام وهي : الواحد ، والكثير ولواحقهما (٢) ، والعلة والمعلول ، والقديم والحادث ، والتام والناقص ، والفعل والقوة ، وتحقيق المقولات العشر ، ويشبه أن يكون انقسام الوجود إلى المقولات انقساما بالفصول ، وانقسامه إلى الوحدة والكثرة وأخواتها انقساما بالأعراض ، والوجود يشمل الكل شمولا بالتشكيك لا بالتواطؤ. ولهذا لم يصلح أن يكون جنسا ، فإنه في بعضها أولى وأول ، وفي بعضها لا أولى ولا أول ، وهو أشهر من أن يحد أو يرسم. ولا يمكن أن يشرح بغير الاسم ، لأنه مبدأ وأول لكل شيء ، فلا شرح له ، بل صورته تقوم في النفس بلا توسط شيء ، وينقسم نوعا من القسمة إلى واجب بذاته ، وممكن بذاته. والواجب بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقد وجب وجوده. والممكن بذاته ما إذا اعتبر لذاته لم يجب وجوده ، والممكن بذاته ما إذا اعتبر ذاته فقد وجب وجوده وإذا فرض غير موجود لم يلزم منه بحال ، ثم إذا عرض على القسمين عرضا حمليا الواحد والكثير كان الواحد أولى بالواجب ، والكثير أولى بالجائز ، وكذلك العلة والمعلول ، والقديم والحادث ، والتام والناقص ، والفعل والقوة ، والغنى والفقر ، كان أحسن الأسماء أولى بالواجب بذاته ، ولما لم تتطرق

__________________

(١) إنه لا مبدأ للموجود المطلق أصلا ، وإلا كان مبدأ نفسه ، وبخاصة أن الوجوب كالإمكان نسبة من نسب الحق الأقدس.

(٢) لواحق الواحد : المساواة والمشابهة والمطابقة والمجانسة والمشاكلة ، والهو هو. ولواحق الكثير : الغيرية والمقابلة واللامشابهة واللامساواة واللامجانسة واللامشاكلة.

إليه الكثرة بوجه لم يتطرق إليه التقسيم ، بل توجه إلى الممكن بذاته فانقسم إلى جوهر وعرض. وقد عرفناهما برسميهما ، وأما نسبة أحدهما إلى الآخر فهو أن الجوهر محل مستغن في قوامه عن الحال فيه ، والعرض حال فيه غير مستغن في قوامه عنه. فكل ذات لم تكن في موضوع ولا قوامها به فهو جوهر ، وكل ذات قوامها في موضوع فهو عرض. وقد يكون الشيء في المحل ويكون مع ذلك جوهرا لا في موضوع إذا كان المحل القريب الذي هو فيه متقوما به وليس متقوما بذاته ثم مقوما له ونسميه صورة ، وهذا هو الفرق بينهما وبين العرض. وكل جوهر ليس في موضوع فلا يخلو : إما أن يكون في محل أصلا ، أو يكون في محل لا يستغنى في القوام عنه ذلك المحل. فإن كان في محل بهذه الصفة ، فإنا نسميه صورة مادية. وإن لم يكن في محل أصلا فإما أن يكون محلا بنفسه لا تركيب فيه ، أو لا يكون. فإن كان محلا بنفسه لا تركيب فيه فإنا نسميه الهيولي المطلقة. وإن لم يكن فإما أن يكون مركبا مثل أجسامنا المركبة من مادة وصورة جسمية ، وإما أن لا يكون (١) وما ليس بمركب فلا يخلو : إما أن يكون له تعلق ما بالأجسام ، أو لم يكن له تعلق. فما له تعلق نسميه نفسا. وما ليس له تعلق فنسميه عقلا وأما أقسام العرض فقد ذكرناها ، وحصرها بالقسمة الضرورية متعذر.

المسألة الثانية : في تحقيق الجوهر الجسماني وما يتركب منه ، وأن المادة الجسمانية لا تتعرى عن الصورة ، وأن الصورة متقدمة على المادة في مرتبة الوجود.

اعلم أن الجسم الموجود ليس جسما بأن فيه أبعادا ثلاثة بالفعل ، فإنه ليس يجب أن يكون في كل جسم نقط أو خطوط بالفعل ، وأنت تعلم أن الكرة لا قطع

__________________

(١) أي أن لا يكون مركبا ، ونسميه صورة مفارقة كالعقل والنفس ، وأما إذا كان الشيء في محل هو موضوع نسميه عرضا ومادة الصورة الجسمية لا تخلو عن الصورة الجسمية ، ولو كانت خلوا عن الأقطار لكانت حينئذ غيركم البتة ، وكانت غير متجزئة الذات متأبية عليه ، أي ولم يكن في قوته أن يتجزأ ذاته حتى يكون جوهرا مفارقا فما كان يمكن أن يحلها مقدار لأن غير المتجزئ لا يطابق التجزؤ وهذا مبدأ للطبيعيات.

فيها بالفعل. والنقط والخطوط قطوع. بل الجسم إنما هو جسم لأنه بحيث يصلح أن يفرض فيه أبعاد ثلاثة كل واحد منها قائم على الآخر ، ولا يمكن أن تكون فوق ثلاثة ؛ فالذي يفرض فيه أولا هو الطول ، والقائم عليه العرض ، والقائم عليهما في الحد المشترك هو العمق، وهذا المعنى منه صورة الجسمية. وأما الأبعاد المحدودة التي تقع فيه فليست صورة له بل هي من باب الكم ، وهي لواحق لا مقومات ، ولا يجب أن يثبت شيء منها له ، بل مع كل تشكيل يتجدد عليه يبطل كل بعد متحدد كان فيه ، وربما اتفق في بعض الأجسام أن تكون هذه الأبعاد لازمة له لا تفارق ملازمة أشكالها ، وكما أن الشكل لاحق فكذلك ما يتحدد بالشكل. وكما أن الشكل لا يدخل في تحديد جسميته فكذلك الأبعاد المتحددة ، فالصورة الجسمية موضوعة لصناعة الطبيعيين أو داخلة فيها. والأبعاد المتحددة موضوعة لصناعة التعاليميين أو داخلة فيها ثم الصورة الجسمية طبيعية وراء الاتصال يلزمها الاتصال ، وهي بعينها قابلة للانفصال ، ومن المعلوم أن قابل الاتصال والانفصال أمر وراء الاتصال والانفصال فإن القابل يبقى بطريان أحدهما ، والاتصال لا يبقى بعد طريان الانفصال ، وظاهر أن هاهنا جوهرا غير الصورة الجسمية هو الهيولى التي يعرض لها الانفصال والاتصال معا. وهي تقارن الصورة الجسمية ، فهي التي تقبل الاتحاد بالصورة الجسمية فتصير جسما واحدا بما يقومها ، وذلك هو الهيولى أو المادة (١).

والمادة لا يجوز أن تفارق الصورة الجسمية وتقوم موجودة بالفعل ، والدليل عليه من وجهين :

أحدهما : أن لو قدرناها مجردة لا وضع لها ولا حيز ، ولا أنها تقبل الانقسام ، فإن هذه كلها صور. ثم قدرنا أن الصورة صادفتها ، فإما أن تكون صادفتها دفعة ،

__________________

(١) لأنها إن فارقتها فإما أن يكون لها وضع وحيّز في الوجود الذي لها حينئذ أو لا يكون. فإن كان لها وضع وحيز ، وكان يمكن أن تنقسم فهي لا محالة ذات مقدار وقد فرضت لا مقدار لها ، وإن لم يمكن. أن تنقسم ولها وضع فهي لا محالة نقطة ويمكن أن ينتهي إليها خط.

أعني المقدار المحصل يحل فيها دفعة لا على تدرج ، أو تحرك إليها المقدار والاتصال على تدرج. فإن حل فيها دفعة ففي انضياف المقدار إليها يكون قد صادفها حيث انضاف إليها ، فيكون لا محالة صادفها وهو في الحيز الذي هو فيه ، فيكون ذلك الجوهر متحيزا ، وقد فرض غير متحيز البتة ، وهذا خلف. ولا يجوز أن يكون التحيز قد حصل له دفعة واحدة مع قبول المقدار ، لأن المقدار يوافيه في حيز مخصوص ، وإن حل فيها المقدار والاتصال على انبساط وتدريج وكل ما من شأنه أن ينبسط فله جهات. وكل ما له جهات فهو ذو وضع. فيكون ذلك الجوهر ذا وضع وقد فرض غير ذي وضع البتة. وهذا خلف. فتعين أن المادة لن تتعرى عن الصورة قط ، وأن الفصل بينهما فصل بالعقل فقط.

والدليل الثاني : أنا لو قدرنا للمادة وجودا خاصا متقوما غير ذي كم ولا جزء باعتبار نفسه ، ثم يعرض عليه الكم فيكون ما هو متقوم بأنه لا جزء له ولا كم ، يعرض أن يبطل عنه ما يتقوم به بالفعل لورود عارض عليه. فيكون حينئذ للمادة صورة عارضة بها تكون واحدة بالقوة والفعل ، وصورة أخرى بها تكون غير واحدة بالفعل فيكون بين الأمرين شيء مشترك هو القابل للأمرين من شأنه أن يصير مرة ليس في قوته أن ينقسم ، ومرة في قوته أن ينقسم. ولنفرض الآن أن هذا الجوهر قد صار بالفعل اثنين ، ثم صارا شيئا واحدا بأن خلعا صورة الاثنينية ، فلا يخلو : إما إن اتحدا وكل واحد منهما موجود فهما اثنان لا واحد. وإن اتحدا وأحدهما معدوم والآخر موجود ؛ فالمعدوم كيف يتحد بالموجود؟ وإن عدما جميعا بالاتحاد وحدث شيء واحد ثالث فهما غير متحدين بل فاسدين ، وبينهما وبين الثالث مادة مشتركة. وكلامنا في نفس المادة لا في شيء ذي مادة. فالمادة (١) الجسمية لا توجد مفارقة

__________________

(١) أخذ ابن سينا بهذا يثبت التخلخل والتكاثف ، إذ أن هذا الجوهر صار كما بمقدار حله فليس بكم ذاته ، فليس يجب أن يختص ذاته بقبول قطر بعينه دون قطر ، وقدر دون قدر ، ونسبة ما هو غير متجزئ في ذاته بل هو إنما يتجزأ بغيره إلى أي مقدار يجوز وجوده له نسبة واحدة وإلا فله مقدار في ذواته يطابق ما يساويه دون ما يفعل عليه وهو في الكل والجزء واحد ، لأنه محال أن يكون جزءا منه يطابق جزءا من المقدار وليس له في ذاته جزء ، فبين من هذا أنه يمكن أن تصغر المادة بالتكاثف وتكبر بالتخلخل.

للصورة. وإنها إنما تقوم بالفعل بالصورة. ولا يجوز أن يقال : إن الصورة بنفسها موجودة بالقوة ، وإنما تصير بالفعل بالمادة. لأن جوهر الصورة هو الفعل ، وما بالقوة محله المادة. والصورة وإن كانت لا تفارق الهيولى فليست تتقوم بالهيولى ، بل بالعلة المفيدة إياها للهيولى. وكيف يتصور أن تقوم الصورة بالهيولى وقد أثبت أنها علتها والعلة لا تتقوم بالمعلول. وفرق بين الذي يتقوم به الشيء وبين الذي لا يفارقه. فإن المعلول لا يفارق العلة وليس علة لها ، فما يقوم الصورة أمر مباين لها مفيد الوجود ، وما يقوم الهيولى أمر ملاق لها وهو الصورة. وأول الموجودات (١) في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم الذي يعطي صورة الجسم ، وصورة كل موجود ، ثم الصورة ، ثم الجسم ، ثم الهيولى ، وهي وإن كانت سببا للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود ، بل سبب يقبل الوجود ، فإنه محل لنيل الوجود. وللجسم وجودها ، وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها. ثم العرض أولى بالوجود. فإن أولى الأشياء بالوجود هو الجوهر ، ثم الأعراض ، وفي الأعراض ترتيب في الوجود أيضا.

المسألة الثالثة : في أقسام العلل ، وأحوالها ، وفي القوة والفعل ، وفي إثبات الكيفيات في الكمية ، وأن الكيفيات أعراض لا جواهر.

قد بينا في المنطق أن العلل أربع. وتحقيق وجودها هاهنا أن نقول : المبدأ والعلة يقال لكل ما يكون قد استتم له وجوده في نفسه ، ثم حصل منه وجود شيء آخر يتقوم به. ثم لا يخلو ذلك : إما أن يكون كالجزء لما هو معلول له ، وهذا على

__________________

(١) أخذ ابن سينا في ترتيب الموجودات ، فأولى الأشياء بالوجود هي الجواهر ثم الأعراض ، والجواهر التي ليست بأجسام أولى الجواهر بالوجود إلا الهيولى ، لأن هذه الجواهر ثلاث : هيولى وصورة ومفارق لا جسم ولا جزء جسم، ولا بد من وجوده ، لأن الجسم وأجزاءه معلولة وينتهي إلى جوهر هو علة غير مقارنة بل مفارقة البتة. فأول الموجودات في استحقاق الوجود الجوهر المفارق الغير المجسم ، ثم الصورة ، ثم الجسم ، ثم الهيولى ، وهي وإن كانت سببا للجسم فإنها ليست بسبب يعطي الوجود ، بل هي محل لنيل الوجود وللجسم وجودها وزيادة وجود الصورة فيه التي هي أكمل منها ثم العرض وفي كل طبقة من هذه الطبقات جملة موجودات تتفاوت في الوجود.

وجهين : إما أن يكون جزءا ليس يجب عن حصوله بالفعل أن يكون ما هو معلول له موجودا بالفعل ، وهذا هو العنصر ، ومثاله الخشب للسرير ، فإنك تتوهم الخشب موجودا ولا يلزم من وجوده وحده أن يحصل السرير بالفعل ، بل المعلول موجود فيه بالقوة. وإما أن يكون جزءا يجب عن حصوله بالفعل وجود المعلول له بالفعل ، وهذا هو الصورة ، ومثاله الشكل والتأليف للسرير. وإن لم يكن كالجزء لما هو معلول له ؛ فإما أن يكون مباينا أو ملاقيا لذات المعلول ؛ والملاقي ؛ فإما أن ينعت به المعلول ، وإما أن ينعت بالمعلول ، وهذان هما في حكم الصورة والهيولى (١). وإن كان مباينا : فإما أن يكون الذي منه الوجود وليس الوجود لأجله وهو الفاعل. وإما أن لا يكون منه الوجود بل لأجله الوجود وهو الغاية. والغاية تتأخر في حصول الموجود عن المعلول وتتقدم سائر العلل في السببية. وفرق بين السببية والوجود في الأعيان ، فإن المعنى له وجود في الأعيان ، ووجود في النفس ، وأمر مشترك ، وذلك الأمر المشترك هو السببية ، والغاية بما هي سبب فإنها تتقدم سائر العلل ، وهي علة العلل في أنها علل ، وبما هي موجودة في الأعيان قد تتأخر ، وإذا لم تكن العلة الفاعلية هي بعينها الغاية كان الفاعل متأخرا في السببية عن الغاية (٢). ويشبه أن يكون الحاصل عند التمييز هو أن الفاعل الأول والمحرك الأول في كل شيء هو الغاية (٣) ، وإن كانت العلة الفاعلية هي الغاية بعينها استغنى عن تحريك الغاية ، فكان نفس ما هو فاعل نفس ما هو محرك من غير توسط.

وأما سائر العلل ، فإن الفاعل والقابل قد يتقدمان المعلول بالزمان ، وأما الصورة فلا تتقدم بالزمان البتة بل بالرتبة والشرف ، لأن القابل أبدا مستفيد ، والفاعل

__________________

(١) فإن كان ملاقيا ، ونعت المعلول به ، فهو كالصورة للهيولى ، وإن نعت بالمعلول فهو كالموضوع للعرض.

(٢) وذلك لأن سائر العلل ، إنما تصير عللا بالفعل لأجل الغاية ، وليست هي لأجل شيء آخر ، وهي توجد أولا نوعا من الوجود فتصير عللا عللا بالفعل.

(٣) فإن الطبيب يفعل لأجل البرء ، وصورة البرء هي الصناعة الطبية التي في النفس ، وهي المحركة لإرادته إلى العمل.

مفيد ، وقد تكون العلة علة للشيء بالذات ، وقد تكون بالعرض (١) ، وقد تكون علة قريبة وقد تكون علة بعيدة ، وقد تكون علة لوجود الشيء فقط ، وقد تكون علة لوجوده ، ولدوام وجوده. فإنه إنما يحتاج إلى الفاعل لوجوده وفي حال وجوده ، لا لعدمه السابق وفي حال عدمه. فيكون الموجد الذي هو موجد للوجود والموجود هو الذي يوصف بأنه موجد ؛ فكما أنه في حال ما هو موجود يوصف بأنه موجد كذلك الحال في كل حال ، فكل موجد محتاج إلى موجد مقيم لوجوده لولاه لعدم.

وأما القوة والفعل ، فالقوة (٢) تقال لمبدإ التغير في آخر من حيث إنه آخر ، وهو إما في المنفعل وهي القوة الانفعالية ، وإما في الفاعل وهي القوة الفعلية ، وقوة المنفعل قد تكون محدودة نحو شيء ، واحد كقوة الماء على قبول الشكل دون قوة الحفظ. وفي الشمع قوة عليهما جميعا ، وفي الهيولى الأولى قوة الجميع ، ولكن بتوسط شيء دون شيء ، وقوة الفاعل قد تكون محدودة نحو شيء واحد كقوة النار على الإحراق فقط ، وقد تكون على أشياء كثيرة كقوة المختارين. وقد يكون في الشيء قوة على كل شيء ولكن بتوسط شيء دون شيء ، والقوة الفعلية المحدودة إذا لاقت القوة المنفعلة حصل منها الفعل ضرورة وليس كذلك في غيرها مما يستوي

__________________

(١) والعلة تكون علة الشيء بالذات ، مثل الطبيب للعلاج. وقد تكون علة بالعرض. إما لأنه لمعنى غير الذي وضع صار علة ، كما يقال إن الكاتب يعالج ، وذلك لأنه يعالج لا من حيث هو كاتب بل لمعنى آخر غيره وهو أنه طبيب ، وأما لأنه بالذات يفعل فعلا لكنه قد يتبع فعله فعل آخر. مثل مزيل الدعامة عن الحائط ، فإنه علة لسقوط الحائط بالعرض. لأنه لما أزال المانع لزم فعله الفعل الطبيعي وهو انحدار الثقل بالطبع.

(٢) القوة هي استعداد وجود الشيء الحاصل مع عدم حصوله. والفعل كون الشيء حاصلا ، ويبطل هذه القوة عند الفعل ، وقد يقال القوة ويعنى بها شيء آخر ، وقد عرف بأن ما به يصير الشيء بحيث يصح أن يصدر عنه فعل أو يصدر عنه انفعال ، وهذه القوة تجتمع مع الفعل والانفعال وتعم الصور الجوهرية التي يثبتها المشاءون والأعراض أيضا. فإن صدور الحرق من الحديدة الحامية إنما كان باعتبار الحرارة ، وقبول الماء بسهولة التشكل والترك للميعان لا للصورة المائية فإنها حاصلة عند الجمود بل على قاعدة القوم : مقتضى صورة المائية الجمود. والماء يبرد الأشياء بمعاونة برودته فإن الماء الحار يسخن ولا يبرد.

فيه الأضداد ، وهذه القوة ليست هي التي يقابلها لما بالفعل ، فإن هذه تبقى موجودة عند ما يفعل. والثانية إنما تكون موجودة مع عدم الفعل ، وكل جسم صدر عنه فعل ليس بالعرض ولا بالقسر فإنه يفعل بقوة ما فيه. أما الذي بالإرادة والاختيار فظاهر ، وأما الذي ليس بالإرادة والاختيار فلا يخلو : إما أن يصدر عن ذاته بما هو ذاته ، أو عن قوة في ذاته ، أو عن شيء مباين ، فإن صدر عن ذاته بما هو جسم فيجب أن تشاركه سائر الأجسام ، وإذا تميز عنها بصدور ذلك الفعل عنه فلمعنى في ذاته زائد عن الجسمية ، وإن صدر عن شيء مباين فلا يخلو إما أن يكون جسما أو غير جسم. فإن كان جسما فالفعل عنه يقسر لا محالة وقد فرض بلا قسر ، هذا خلف. وإن لم يكن جسما ، فتأثر الجسم عن ذلك المفارق إما أن يكون لكونه جسما أو لقوة فيه ، ولا يجوز أن يكون بكونه جسما وقد أبطلناه. فتعين أنه لقوة فيه هي مبدأ صدور ذلك الفعل عنه ، وذلك هو الذي نسميه القوة الطبيعية ، وهي التي تصدر عنه الأفاعيل الجسمانية. من التحيزات الطبيعية إلى أماكنها والتشكيلات الطبيعية وإذا خليت وطباعها لم يجز أن يحدث منها زوايا مختلفة بل لا زاوية ، فيجب أن تكون كرة ، وإذا صح وجود الكرة صح وجود الدائرة.

المسألة الرابعة : في المتقدم ، والمتأخر ، والقديم ، والحادث. وإثبات (١) المادة لكل متكون.

التقدم قد يقال بالطبع ، وهو أن يوجد الشيء وليس الآخر بموجود ، ولا يوجد الآخر إلا وهو موجود كالواحد والاثنين. وقد يقال بالزمان كتقدم الأب على الابن. ويقال بالرتبة وهو الأقرب إلى المبدإ الذي هو عين كالمتقدم في الصف الأول أن

__________________

(١) والموجود ينقسم إلى متقدم ومتأخر ، فمن المتقدم ما بحسب الزمان ومنه ما بالشرف والفضيلة ومنه بالرتبة. ومن خاصية كل ترتيب أن ينقلب متقدمه متأخرا لا في نفسه بل بحسب أخذ الآخذ. وقسموه إلى رتبي طبيعي ورتبي وضعي ، وأما الوضعي فهو بحسب الأحياز كتقدم الإمام على المأموم بالنسبة إلى الآخذ قبل المحراب. وأما الطبيعي فهو كل ترتيب في سلاسل بحسب طبائعها لا بحسب الأوضاع كالعلل والمعلولات والصفات والموصوفات. (انظر الحكمة الإلهية ص ٣٠٢).

يكون أقرب إلى الإمام. ويقال بالكمال والشرف كتقدم العالم على الجاهل. ويقال بالعلية لأن للعلية استحقاقا للوجود قبل المعلول ، وهما بما هما ذاتان ليس يلزم فيهما خاصية التقدم والتأخر ، ولا خاصية المعية ، ولكن بما هما متضايفان وعلة ومعلول ، وأن أحدهما لم يستفد الوجود من الآخر ، والآخر استفاد الوجود منه ، فلا محالة كان المفيد متقدما والمستفيد متأخرا بالذات وإذا رفعت العلة ارتفع المعلول لا محالة ، وليس إذا ارتفع المعلول ارتفعت بارتفاعه العلة ، بل إن صح فقد كانت العلة ارتفعت أولا بعلة أخرى حتى ارتفع المعلول. واعلم بأن الشيء كما يكون محدثا (١) بحسب الزمان ، كذلك قد يكون محدثا بحسب الذات. فإن الشيء إذا كان له في ذاته أن لا يجب له وجود ، بل هو باعتبار ذاته ممكن الوجود ، مستحق للعدم لو لا علته ، والذي بالذات يجب وجوده قبل الذي من غير الذات ، فيكون لكل معلول في ذاته أولا أنه ليس تم عن العلة. وثانيا : أنه أيس ، فيكون كل معلول محدثا أي مستفيد الوجود من غيره. وإن كان مثلا في جميع الزمان موجودا مستفيدا لذلك الوجود عن موجد فهو محدث ، لأن وجوده من بعد لا وجوده بعدية بالذات. وليس حدوثه إنما هو في آن من الزمان فقط ، بل هو محدث في الدهر كله ، ولا يمكن أن يكون حادثا بعد ما لم يكن في زمان إلا وقد تقدمته المادة. فإنه قبل وجوده ممكن الوجود. وإمكان الوجود إما أن يكون معنى معدوما ، أو معنى موجودا. ومحال أن يكون معدوما فإن المعدوم قبل والمعدوم مع : واحد ، وهو قد سبقه الإمكان. والقبل المعدوم موجود مع وجوده ، فهو إذن معنى موجود ، وكل

__________________

(١) والموجود إما حادث وإما غير حادث. قال بعض المتأخرين : الحادث إذا قيل أن له أول ، يعنون أن لزمان وجوده أول. والقديم هو الذي ليس لزمان وجوده أول ، وهو غير متين ، فإن من القديم ما ليس لوجوده زمان. بل الحقيقة أن القديم ليس وجوده زمانيا ، وأما القديم العرفي فإنه في الحقيقة حادث ولزمان وجوده أول ، والقديم إذا عني به واجب الوجود فلا قديم إلا واحد وما سواه حادث ، وهو كل ممكن ، وإن عنى به ما يسبقه العدم الزماني فمقابله الدائم الوجود ، ومن الأشياء التي هي غير واجب الوجود ما ليس بحادث هذا الحدوث ، وعلى الاصطلاحات كلها لا يخرج الشيء من القدم والحدث. (الحكمة الإلهية ص ٣٢٤).

معنى موجود فإما قائم لا في موضوع ، أو قائم في موضوع. وكل ما هو قائم لا في موضوع فله وجود خاص لا يجب أن يكون به مضافا وإمكان الوجود إنما هو ما هو بالإضافة إلى ما هو إمكان وجود له ، فهو إذن معنى في موضوع وعارض لموضوع. ونحن نسميه قوة الوجود ، ونسمي حامل قوة الوجود الذي فيه قوة وجود الشيء موضوعا وهيولى ومادة وغير ذلك فإذن كل حادث فقد تقدمته المادة ، كما تقدمه الزمان.

المسألة الخامسة : في الكلي والواحد ، ولواحقهما.

قال : المعنى الكلي بما هو طبيعة ومعنى كالإنسان بما هو إنسان شيء ، وبما هو واحد أو كثير فيه ، وبما هو خاص أو عام شيء آخر. بل هذه المعاني عوارض تلزمه لا من حيث هو إنسان ، بل من حيث هو في الذهن أو في الخارج. وإذ قد عرفت ذلك ، فقد يقال كلي للإنسانية بلا شرط ، وهو بهذا الاعتبار موجود بالفعل في الأشياء ، وهو محمول على كل واحد ، لا على أنه واحد بالذات ، ولا على أنه كثير. وقد يقال كلي للإنسانية بشرط أنها مقولة على كثيرين ، وهو بهذا الاعتبار ليس موجودا بالفعل في الأشياء. فبين ظاهر أن الإنسان إذا اكتنفته الأعراض المشخصة لم تكتنفه أعراض شخص آخر حتى يكون ذلك بعينه في شخص زيد وعمرو ، فلا كلي عام في الوجود ، بل الكلي العام بالفعل إنما هو في العقل ، وهو الصورة التي في العقل كنقش واحد تنطبق عليه صورة وصورة. ثم الواحد يقال لما هو غير منقسم من الجهة التي قيل له منها إنه واحد. ومنه ما لا ينقسم في الجنس. ومنه ما لا ينقسم في النوع ، ومنه ما لا ينقسم بالعرض العام كالغراب والقار في السواد. ومنه ما لا ينقسم بالمناسبة كنسبة العقل إلى النفس. ومنه ما لا ينقسم في العدد. ومنه ما لا ينقسم في الحد (١). والواحد بالعدد ؛ إما أن يكون فيه كثرة

__________________

(١) أي حده ليس لغيره وليس له في كمال حقيقة ذاته نظير فهو واحد بالكلمة ، ولهذا يقال إن الشمس واحدة.

بالفعل فيكون واحدا بالتركيب والاجتماع. وإما أن لا يكون ولكن فيه كثرة بالقوة ، فيكون واحدا بالاتصال ، وإن لم يكن فيه ذلك فهو الواحد بالعدد على الإطلاق ، والكثير يكون على الإطلاق وهو العدد الذي بإزاء الواحد كما ذكرنا والكثير (١) بالإضافة هو الذي يترتب بإزائه القليل ، فأقل العدد اثنان. وأما لواحق الواحد : فالمشابهة وهي اتحاد في الكيفية والمساواة هي اتحاد في الكمية.

والمجانسة اتحاد في الجنس. والمشاكلة اتحاد في النوع. والموازاة اتحاد في وضع الأجزاء ، والمطابقة اتحاد في الأطراف ، والهو هو : حال بين اثنين ، جعلا اثنين في الوضع يصير بها بينهما اتحاد بنوع ما ، ويقابل كل واحد منها من باب الكثير الخلاف والتقابل والتضاد.

المسألة السادسة : في تعريف واجب الوجود بذاته ، وأنه لا يكون بذاته وبغيره معا ، وأنه لا كثرة في ذاته بوجه. وأنه خير محض. وحق محض. وأنه واحد من وجوه شتى ، ولا يجوز أن يكون اثنان ، واجبي الوجود ، وفي إثبات واجب الوجود بذاته.

قال : واجب (٢) الوجود معناه أنه ضروري الوجود ، وممكن الوجود معناه أنه

__________________

(١) أما الكثير على الإطلاق فهو العدد المقابل للواحد وهو ما وجد فيه واحد وليس بالواحد ، في الحد من جهة ما هو فيه ، أي يوجد واحد ليس هو وحده فيه ، وهذا مبدأ ، عنه نأخذ الحساب في البحث.

(٢) يرى من هذا تجانف ابن سينا مما ذهب إليه أرسطو في إثبات المحرك الأول أو الله إذ أن عمله مقتصر على التحريك كغاية ومعشوق لما رأى من تعاليم الدين من أن الله تعالى هو الخالق لكل شيء وأن ما في العالم من خلق إنما هو من صنعته وأثر من آثار قدرته. فذهب إلى أنه مما لا ريب فيه أن ثمت موجودا ، وهذا الموجود إما أن يكون وجوده من ذاته فيكون واجب الوجود أو من غيره ، فلا يكون واجبا بالضرورة ، وهو مع ذلك غير ممتنع ، لأن الممتنع لا يوجد فبقي أنه ممكن أي إنه مما لا يستحيل وجوده وعدمه. فالطرفان على سواء بالنسبة إليه ، وما استوى طرفاه لا يخرج إلى الوجود إلا بمرجح ، وهذا المرجح إما أن يكون وجوده من ذاته فيكون واجب الوجود ، أو من غيره فيكون ممكن الوجود وحينئذ يعود الكلام فيه ، فإما أن ينتهي إلى مرجح وهو واجب الوجود أو يتسلسل الأمر أو يدور ، والتسلسل والدوران كلاهما باطل ، فلم يبق إلا الانتهاء إلى مرجح واجب الوجود. فقد وجبت العقيدة بأنه من معنى الموجود اعتقاد وجود واجب الوجود وهو الله سبحانه وتعالى.

ليس فيه ضرورة لا في وجوده ، ولا في عدمه. ثم إن واجب الوجود قد يكون بذاته ، وقد لا يكون بذاته. والقسم الأول هو الذي وجوده لذاته لا لشيء آخر. والثاني : هو الذي وجوده لشيء آخر أي شيء كان ، ولوضع ذلك الشيء صار واجب الوجود ، مثل الأربعة واجبة الوجود لا بذاتها ، ولكن عند وضع اثنين واثنين (١). ولا يجوز أن يكون شيء واحد واجب الوجود بذاته وبغيره معا ، فإنه إن رفع ذلك الغير لم يخل : إما أن يبقى وجوب وجوده ، أو لم يبق. فإن بقي فلا يكون واجبا بغيره ، وإن لم يبق فلا يكون واجبا بذاته. فكل ما هو واجب الوجود بغيره فهو ممكن الوجود بذاته ، فإن وجوب وجوده تابع لنسبة ما ، وهي اعتبار غير اعتبار نفس ذات الشيء. فاعتبار الذات وحدها : إما أن يكون مقتضيا لوجوب الوجود وقد أبطلناه (٢). وإما أن يكون مقتضيا لامتناع الوجود وما امتنع بذاته لم يوجد بغيره. وإما أن يكون مقتضيا لإمكان الوجود وهو الباقي ، وذلك إنما يجب وجوده بغيره ، لأنه إن لم يجب كان بعد ممكن الوجود لم يترجح وجوده على عدمه. ولا يكون بين هذه الحالة والأولى فرق. فإن قيل : تجددت حالة ، فالسؤال عنها كذلك. ثم واجب الوجود بذاته لا يجوز أن يكون لذاته مبادي تجتمع ، فيتقوم منها واجب الوجود : لا أجزاء كمية ، ولا أجزاء حد ، سواء كانت كالمادة والصورة ، أو كانت على وجه آخر بأن تكون أجزاء القول الشارح لمعنى اسمه : يدل كل واحد منها على شيء هو في الوجود غير الآخر بذاته : وذلك لأن كل ما هذا صفته فذات كل جزء منه ليس

__________________

(١) والاحتراق واجب الوجود لا بذاته ولكن عند فرض التقاء القوة الفاعلة بالطبع والقوة المنفعلة بالطبع ، أي المحرقة والمحترقة.

(٢) إذ أن ما وجب وجوده بذاته استحال وجوب وجوده بغيره فبقي أن يكون باعتبار ذاته ممكن الوجود باعتبار إيقاع النسبة إلى ذلك الغير واجب الوجود باعتبار قطع النسبة التي إلى ذلك الغير ممتنع الوجود ، وذاته بذاته بلا شرط ممكنة الوجود.

هو ذات الآخر ، ولا ذات المجتمع (١). وقد وضح أن الأجزاء بالذات أقدم من الكل ، فتكون العلة الموجبة للوجود علة للأجزاء ثم للكل. ولا يكون شيء منها بواجب الوجود. وليس يمكننا أن نقول إن الكل أقدم بالذات من الأجزاء فهو إما متأخر وإما معا. فقد اتضح أن واجب الوجود ليس بجسم ، ولا مادة في جسم ، ولا صورة في جسم ، ولا مادة معقولة لقبول صورة معقولة ، ولا صورة معقولة في مادة معقولة ، ولا قسمة له : لا في الكم، ولا في المبادي ، ولا في القول ، فهو واجب الوجود من جميع جهاته ، إذ هو واحد من كل وجه فلا جهة ولا جهة (٢). وأيضا فإن قدر أن يكون واجبا من جهة ممكنا من جهة كان إمكانه متعلقا بواجب ، فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقا ، فينبغي أن يتفطن من هذا لأن واجب الوجود لا يتأخر عن وجوده وجود له منتظر ، بل كل ما هو ممكن له فهو واجب له ، فلا له إرادة منتظرة ، ولا علم منتظر ، ولا طبيعة ، ولا صفة من الصفات التي تكون لذاته منتظرة ، وهو خير محض ، وكمال محض. والخير بالجملة هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجود كل شيء. والشر لا ذات له ، بل هو إما عدم جوهر ، أو عدم صلاح حال للجوهر ، فالوجود خيرية ، وكمال الوجود كمال الخيرية. والوجود الذي لا يقارنه عدم ، لا عدم جوهر ، ولا عدم حال للجوهر ، بل هو دائم بالفعل ، فهو خير محض. والممكن بذاته ليس خيرا محضا لأن ذاته تحتمل العدم (٣). وواجب

__________________

(١) فإما أن يصح لكل واحد من جزئيه مثلا وجود منفرد لكنه لا يصح للمجتمع وجود دونها فلا يكون المجتمع واجب الوجود أو يصح ذلك لبعضها ، ولكنه لا يصح للمجتمع وجود دونه فما لم يصح له من المجتمع والأجزاء الأخرى وجود منفرد فليس واجب الوجود ، ولم يكن واجب الوجود إلا الذي يصح له ، وإن كان لا يصح لتلك الأجزاء مفارقة الجملة في الوجود ، ولا للجملة مفارقة الأجزاء وتعلق وجود كل بالآخر ، وليس واحد أقدم بالذات فليس شيء منها بواجب الوجود.

(٢) فإن كان من جهة واجب الوجود ، ومن جهة ممكن الوجود ، فكانت تلك الجهة تكون له ولا تكون له ولا تخلو عن ذلك ، وكل منهما بعلة يتعلق الأمر بها ضرورة ، فكانت ذاته متعلقة الوجود بعلتي أمرين لا يخلو منهما فلم يكن واجب الوجود بذاته مطلقا بل مع العلتين سواء كان أحدهما وجودا ، والآخر عدما ، أو كان كلاهما وجوديين.

(٣) فإن ما احتمل العدم بوجه ما ، فليس من جميع جهاته بريئا من الشر والنقص ، فإذن ليس الخير المحض

الوجود هو حق محض ، لأن حقيقة كل شيء خصوصية وجوده الذي يثبت له ، فلا أحق إذن من واجب الوجود.

وقد يقال حق أيضا لما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا ، فلا أحق بهذه الصفة مما يكون الاعتقاد بوجوده صادقا ، ومع صدقه دائما ، ومع دوامه لذاته لا لغيره ، وهو واحد محض ، لأنه لا يجوز أن يكون نوع واجب الوجود لغير ذاته ، لأن وجود نوعه له بعينه ، إما أن تقتضيه ذات نوعه ، أو لا تقتضيه ذات نوعه بل تقتضيه علة ، فإن كان وجود نوعه مقتضى ذات نوعه لم يوجد إلا له ، وإن كان لعلة فهو معلول (١) ، فهو إذن تام في وحدانيته وواحد من جهة تمامية وجوده ، وواحد من جهة أن حده له ، وواحد من جهة أنه لا ينقسم لا بالكم ولا بالمبادئ المقومة له ، ولا بأجزاء الحد ، وواحد من جهة أن لكل شيء وحدة محضة وبها كمال حقيقته الذاتية ، وواحد من جهة أن مرتبته من الوجود وهو وجوب الوجود ليس إلا له ، فلا يجوز إذن أن يكون اثنان كل واحد منهما واجب الوجود بذاته ، فيكون وجوب الوجود مشتركا فيه على أن يكون جنسا أو عارضا ويقع الفصل بشيء آخر ، إذ يلزم التركيب في ذات كل واحد منهما. بل ولا تظن أنه موجود وله ماهية وراء الوجود كطبيعة الحيوان واللون مثلا الجنسين اللذين يحتاجان إلى فصل وفصل حتى يتقررا في وجودهما ، لأن تلك الطبائع معلولة ، وإنما يحتاجان لا في نفس الحيوانية واللونية المشتركة بل في الوجود. وهاهنا : فوجوب الوجود هو الماهية ، وهو مكان الحيوانية التي لا تحتاج إلى فصل في أن يكون حيوانا بل في أن يكون موجودا.

__________________

إلا الواجب الوجود بذاته وقد يقال أيضا لما كان نافعا ومفيدا لكمالات الأشياء ، وواجب الوجود يجب أن يكون لذاته مفيدا لكل وجود ولكل كمال وجود ، فهو من هذه الجهة خير أيضا لا يدخله نقص ولا شر.

(١) فواجب الوجود ولذاته لا ندّ له ولا مثل ولا ضد ، لأن الضد يطلق على مساو في القوة ممانع ، وكل ما سوى الأول فمعلول فلا مساواة والأضداد متفاسدة متشاركة في الموضوع ، وواجب الوجود بريء عن المادة.

ولا تظن أن واجبي الوجود لا يشتركان في شيء ما ، كيف وهما يشتركان في وجوب الوجود ، ويشتركان في البراءة عن الموضوع. فإن كان واجب الوجود يقال عليهما بالاشتراك ، فكلامنا ليس في معنى منع كثرة اللفظ والاسم ، بل في معنى واحد من معاني ذلك الاسم ؛ وإن كان بالتواطؤ فقد حصل معنى عام عموم لازم أو عموم جنس ، وقد بينا استحالة هذا. وكيف يكون عموم وجوب الوجود لشيئين على سبيل اللوازم التي تعرض من خارج ، واللوازم معلولة؟.

وأما إثبات واجب الوجود فليس يمكن إلا ببرهان «إن» وهو الاستدلال بالممكن على الواجب ، فنقول : كل جملة من حيث إنها جملة سواء كانت متناهية أو غير متناهية إذ كانت مركبة من ممكنات فإنها لا تخلو : إما أن تكون واجبة بذاتها ، أو ممكنة بذاتها. فإن كانت واجبة الوجود بذاتها ، وكل واحد منها ممكن الوجود يكون واجب الوجود يتقوم بممكنات الوجود ، هذا خلف. وإن كانت ممكنة الوجود بذاتها. فالجملة محتاجة في الوجود إلى مفيد للوجود ، فإما أن يكون المفيد خارجا عنها أو داخلا فيها ، فإن كان داخلا فيها فيكون واحد منها واجب الوجود ، وكان كل واحد منهما ممكن الوجود ، هذا خلف. فتعين أن المفيد يجب أن يكون خارجا عنها ، وذلك هو المطلوب.

المسألة السابعة : في أن واجب الوجود عقل ، وعاقل ، ومعقول. وأنه يعقل ذاته والأشياء ، وصفاته الإيجابية والسلبية لا توجب كثرة في ذاته ، وكيفية صدور الأفعال عنه.

قال : العقل يقال على كل مجرد عن المادة. وإذا كان مجردا بذاته عن المادة فهو عقل لذاته ، وواجب الوجود مجرد بذاته عن المادة ، فهو عقل لذاته. وبما يعتبر له أن هويته المجردة لذاته فهو معقول لذاته. وبما يعتبر له أن ذاته له هوية مجردة ، فهو عاقل لذاته. وكونه عاقلا ومعقولا لا يوجب أن يكون اثنين في الذات ، ولا اثنين في الاعتبار. فإنه ليس تحصيل الأمرين إلا أنه له ماهية مجردة ، وأنه ماهية مجردة

ذاته له. وهاهنا تقديم وتأخير في ترتيب المعاني في عقولنا. والغرض المحصل هو شيء واحد. وكذلك عقلنا لذاتنا هو نفس الذات. وإذا عقلنا شيئا فلسنا نعقل أن نعقل بعقل آخر ، لأن ذلك يؤدي إلى التسلسل. ثم لما لم يكن جمال وبهاء فوق جمال وبهاء لماهية عقلية صرفة وخيرية محضة بريئة عن المواد ، وأنحاء النقص واحدة من كل جهة ولم يسلم ذلك بكنهه إلا لواجب الوجود ، فهو الجمال المحض ، والبهاء المحض ، وكل جمال وبهاء وملائم وخير فهو محبوب معشوق. وكلما كان الإدراك أشد اكتناها والمدرك أجمل ذاتا فحب القوة المدركة له وعشقها له والتذاذها به كان أشد وأكثر ، فهو أفضل مدرك بأفضل إدراك لأفضل مدرك ، وهو عاشق لذاته ومعشوق لذاته ، عشق من غيره أو لم يعشق. وأنت تعلم أن إدراك العقل للمعقول أقوى من إدراك الحس للمحسوس ، لأن العقل إنما يدرك الأمر الباقي ويتحد به ويصير هو هو (١) ويدركه بكنهه لا بظاهره ، ولا كذلك الحس فاللذة التي لنا بأن نعقل فوق اللذة التي لنا بأن نحس ، لكنه قد يعرض أن تكون القوة الداركة لا تستلذ بالملائم لعوارض كالمرور يستمرئ العسل ويكرهه لعارض (٢).

واعلم أن واجب الوجود ليس يجوز أن يعقل الأشياء من الأشياء ، وإلا فذاته إما متقومة بما يعقل أو عارض لها أن يعقل ، وذلك محال بل كما أنه مبدأ كل وجود فيعقل من ذاته ما هو مبدأ له ، وهو مبدأ للموجودات التامة بأعيانها. والموجودات الكائنة الفاسدة بأنواعها أولا وبتوسط ذلك بأشخاصها. ولا يجوز أن يكون عاقلا لهذه المتغيرات مع تغيرها حتى يكون تارة يعقل منها أنها موجودة غير معدومة ،

__________________

(١) لقد أنكر في كتابه «التنبيه والإشارات» معنى الاتحاد وأقرّه في هذه الصفحات.

(٢) ويجب أن تعلم أنّا لا نجد إذا حصل لقوتنا العقلية كمالها بالعقل من اللذة ما يجب للشيء في نفسه ، وذلك لعائق البدن. فلو انفردنا عن البدن لكنا بمطالعتنا ذاتنا وقد صارت عالما عقليا مطالعا للموجود الحقيقة والجمالات الحقيقة والملذات الحقيقة متصلة بها اتصال معقول بمعقول تجد من اللذة والبهاء ما لا نهاية له. واعلم أن لذة كل قوة حصول كمالها ، فللحس المحسوسات الملائمة ، وللغضب الانتقام وللرجاء الظفر ولكل شيء ما يخصه ، وللنفس الناطقة مصيرها عالما عقليا بالفعل. فالواجب الوجود معقول عقل أو لم يعقل ، معشوق عشق أم لم يعشق، لزيد شعر بذلك أم لم يشعر.

وتارة يعقل منها أنها معدومة غير موجودة. ولكل واحد من الأمرين صورة عقلية على حدة ، ولا واحد من الصورتين يبقى مع الثانية ، فيكون واجب الوجود متغير الذات ، بل واجب الوجود إنما يعقل كل شيء على نحو فعلي كلي ، ومع ذلك فلا يعزب عنه شيء شخصي ، ف (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) (٣).

وأما كيفية ذلك ، فلأنه إذا عقل ذاته ، وعقل أنه مبدأ كل موجود عقل أوائل الموجودات وما يتولد عنها ، ولا شيء من الأشياء يوجد إلا وقد صار من جهة ما واجبا بسببه ، فتكون الأسباب بمصادماتها تتأدى إلى أن يوجد عنها الأمور الجزئية. فالأول يعلم الأسباب ومطابقاتها ، فيعلم ضرورة ما تتأدى إليه ، وما بينها من الأزمنة ، وما لها من العودات ، فيكون مدركا للأمور الجزئية من حيث هي كلية ، أعني من حيث لها صفات وإن تخصصت بها شخصا فبالإضافة إلى زمان متشخص ، أو حالة متشخصة ، وكونه يعقل ذاته ونظام الخير الموجود في الكل ونفس مدركة من الكل هو سبب لوجود الكل ومبدأ له ، وإبداع وإيجاد ، ولا يستبعد هذا. فإن الصورة المعقولة التي تحدث فينا تصير سببا للصورة الموجودة الصناعية. ولو كانت بنفس وجودها كافية لأن تتكون منها الصورة الصناعية دون آلات وأسباب لكان المعقول عندنا هو بعينه الإرادة والقدرة ، وهو العقل المقتضى لوجوده فواجب الوجود ليست إرادته وقدرته مغايرة لعلمه ، لكن القدرة التي له هي كون ذاته عاقلة للكل عقلا هو مبدأ الكل ، لا مأخوذا عن الكل ، ومبدأ بذاته لا متوقفا على غرض وذلك هو الإرادة ، وهو جواد بذاته ، وذلك هو بعينه قدرته وإرادته وعلمه ، فالصفات منها ما هو بهذه الصفة أي أنه موجود مع هذه الإضافة. ومنها ما له هذا الوجود مع سلب ، فمن لم يتحاش عن إطلاق لفظ الجوهر لم يعن به إلا هذا الوجود مع سلب الكون في موضوع. وهو واحد ، أي مسلوب عنه القسمة بالكم أو القول ، أو مسلوب عنه الشريك.

__________________

(٣) سورة سبأ : الآية ٣.

وهو عقل وعاقل ومعقول ، أي مسلوب عنه جواز مخالطة المادة وعلائقها مع اعتبار إضافة ما.

وهو أول ، أي مسلوب عنه الحدوث مع إضافة وجوده إلى الكل. وهو مريد ، أي واجب الوجود مع عقليته أي سلب المادة عنه مبدأ لنظام الخير كله.

وهو جواد ، أي هو بهذه الصفة بزيادة سلب أي لا ينحو غرضا لذاته. فصفاته إما إضافية محضة ، وإما سلبية محضة. وإما مؤلفة من إضافة وسلب ، وذلك لا يوجب تكثرا في ذاته (١).

قال : وإذا عرفت أنه واجب الوجود ، وأنه مبدأ لكل موجود فما يجوز عنه يجب أن يوجد ، وذلك لأن الجائز أن يوجد ، وأن لا يوجد إذا تخصص بالوجود منه احتاج إلى مرجح لجانب الوجود. والمرجح إذا كان على الحال التي كان عليها قبل الترجيح ، ولم يعرض البتة شيء فيه ، ولا مباين عنه يقتضي الترجيح في هذا الوقت دون وقت قبله أو بعده ، وكان الأمر على ما كان عليه لم يكن مرجحا ، إذ كان التعطل عن الفعل والفعل عنده بمثابة واحدة. فلا بد وأن يعرض له شيء ، وذلك لا يخلو : إما أن يعرض في ذاته وذلك يوجب التغير ، وقد قدمنا أن واجب الوجود لا يتغير ولا يتكثر. وإما أن يعرض مباينا عن ذاته والكلام في ذلك المباين كالكلام في سائر الأفعال. قال : والعقل الصريح الذي لم يكذب يشهد أن الذات الواحدة إذا كانت من جميع جهاتها واحدة ، وهي كما كانت ، وكان لا يوجد عنها شيء فيما

__________________

(١) ذهب ابن سينا في الصفات إلى أنه أحال أولا أن تكون صفات المعاني وجودية زائدة على الذات ، وقد ذهب إلى ذلك الصفاتية ، إذ أنها لو كانت زائدة على الذات ، فإما أن يكون وجودها من ذاتها أو من غيرها ، وكلاهما محال فوجودها من ذاتها يستلزم كونها واجبة الوجود ، وهذا يؤدي إلى التعدد في الواجب ، وهو باطل ، أو من الغير وهو الواجب أو غيره ، لا جائز أن يكون غيره ، وإلا كان محتاجا لغيره في ثبوت شيء له وهو باطل وإن كان الواجب هو العلة في وجودها فغير جائزة ، إذ أنه بهذا الوصف يكون فاعلا لها ، وبوصف كونها صفات له يكون قابلا لها فيكون الواجب قابلا وفاعلا وهو واحد ويتنافى هذا مع واحدية وعلى هذا سار ابن سينا فيما أورده ، فهو يرى أن صفات المعاني التي ردها إلى العلم هي مركبة من علم وإضافة ، أو من سلب وإضافة.

قبل ، وهي الآن كذلك ، فالآن لا يوجد عنها شيء فإذا صار الآن يوجد عنها شيء فقد حدث أمر لا محالة : من قصد ، أو إرادة ، أو طبع ، أو قدرة ، أو تمكن ، أو غرض. ولأن الممكن أن يوجد وأن لا يوجد لا يخرج إلى الفعل ولا يترجح له أن يوجد إلا بسلب. وإذا كانت هذه الذات موجودة ولا ترجح ولا يجب عنها الترجح ، ثم رجح فلا بد من حادث موجب الترجيح في هذه الذات! وإلا كانت نسبتها إلى ذلك الممكن على ما كانت قبل ، ولم تحدث لها نسبة أخرى ، فيكون الأمر بحاله ، ويكون الإمكان إمكانا صرفا بحاله. وإذا حدثت لها نسبة فقد حدث أمر ولا بد من أن يحدث في ذاته ، أو مباينا عن ذاته ، وقد بينا استحالة ذلك. وبالجملة فإنا نطلب النسبة الموقعة لوجود كل حادث في ذاته أو مباين عن ذاته ولا نسبة أصلا. فيلزم أن لا يحدث شيء أصلا وقد حدث. فعلم أنه إنما حدث بإيجاب من ذاته وأنه سبقه لا بزمان ووقت ، ولا تقدير زمان ، بل سبقا ذاتيا من حيث إنه هو الواجب لذاته ، وكل ممكن بذاته فهو محتاج إلى الواجب لذاته. فالممكن مسبوق بالواجب فقط ، والمبدع مسبوق بالمبدع فقط ، لا بالزمان.

المسألة الثامنة : في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد (١) ، وفي ترتيب وجود العقول والنفوس والأجرام العلوية. وأن المحرك القريب للسماويات نفس ، والمبدأ الأعلى عقل ، وحال تكون الأسطقسات عن العلل.

إذا صح أن واجب الوجود بذاته واحد من جميع جهاته ، فلا يجوز أن يصدر عنه إلا واحد. ولو لزم عنه شيئان متباينان بالذات والحقيقة لزوما معا ، فإنما يلزمان عن جهتين مختلفتين في ذاته. ولو كانت الجهتان لازمتين لذاته ، فالسؤال في لزومهما ثابت حتى يكونا من ذاته ، فتكون ذاته منقسمة بالمعنى. وقد منعناه وبينا فساده ؛ فتبين أن أول الموجودات عن الأول واحد بالعدد. وذاته وماهيته وحدة ؛

__________________

(١) هذا مبدأ من المبادي الثلاثة التي تستند إليها نظرية الفيض عند ابن سينا أو صدور الموجودات عن الخالق ، ونظرية الفيض تكشف لنا كيفية صدور الموجودات عن الأول ، فتزعم أن هذا الصدور فعل ضروري ناشئ عن طبيعة المبدأ الأول ، فالوجود يصدر عنه كما يصدر النور عن الشمس ، وكما تصدر الحرارة عن النور.

لا في مادة. وقد بينا أن كل ذات لا في مادة فهي عقل وأنت تعلم أن في الموجودات أجساما ، وكل جسم ممكن الوجود في حيز نفسه ، وأنه يجب بغيره وعلمت أنه لا سبيل إلى أن يكون عن الأول بغير واسطة وعلمت أن الواسطة واحدة ، فبالحرى أن تكون عنها المبدعات الثانية والثالثة وغيرها ، بسبب اثنينية فيها ضرورة. فالمعلول الأول ممكن الوجود بذاته ، وواجب الوجود بالأول. ووجوب وجوده بأنه عقل وهو يعقل ذاته ويعقل الأول ضرورة. وليست هذه الكثرة له من الأول ، فإن إمكان وجوده له بذاته لا بسبب الأول ، بل له من الأول وجوب وجوده ، ثم كثرة أنه يعقل الأول ويعقل ذاته كثرة لازمة لوجوب وجوده عن الأول. وهذه كثرة إضافية ليست في أول وجوده وداخلة في مبدأ قوامه. ولو لا هذه الكثرة لكان لا يمكن أن يوجد منها إلا وحدة ، ولكان يتسلسل الوجود من وحدات فقط ، فما كان يوجد جسم. فالعقل الأول يلزم عنه بما يعقل الأول وجود عقل تحته وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك وكماله وهي النفس ، وبطبيعة إمكان الوجود الخاصية له المندرجة فيما يعقله لذاته وجود جرمية الفلك الأعلى المندرجة في جملة ذات الفلك الأعلى بنوعه ، وهو الأمر المشارك للقوة. فيما يعقل الأول يلزم عنه عقل ، وبما يختص بذاته على جهتيه الكثرة الأولى بجزءيها أعني المادة والصورة ، والمادة بتوسط الصورة أو بمشاركتها. كما أن إمكان الوجود يخرج إلى الفعل بالعقل الذي يحاذي صورة الفلك. وكذلك الحال في عقل عقل ، وفلك فلك ، إلى أن ينتهي إلى العقل الفعال الذي يدبر أنفسنا. وليس يجب أن يذهب هذا المعنى إلى غير النهاية حتى يكون تحت كل مفارق مفارق. فإنه إن لزم كثرة عن العقول فبسبب المعاني التي فيها من الكثرة. وقولنا هذا ليس ينعكس حتى يكون كل عقل فيه هذه الكثرة ، فتلزم كثرته هذه المعلومات ، ولا هذه العقول متفقة الأنواع حتى يكون مقتضى معانيها متفقا. ومن المعلوم أن الأفلاك كثيرة (١) فوق العدد الذي في المعلول الأول. فليس

__________________

(١) لقد جمع ابن سينا في آرائه بنظرية الفيض بين آراء أفلاطون وآراء أرسطو ومزجهما ببعض ، فقد أخذ من أرسطو قوله : إن فوق العالم إلها وإن هناك أفلاكا ذات حركات مستديرة وإنها تتحرك تحت تأثير ـ

يجوز أن يكون مبدؤها واحدا هو المعلول الأول. ولا أيضا يجوز أن يكون كل جرم متقدم منها علة للمتأخر ؛ لأن الجرم بما هو جرم مركب من مادة وصورة. فلو كان علة لجرم لكان بمشاركة المادة. والمادة لها طبيعة عدمية ، والعدم ليس مبدأ للوجود ، فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ للوجود ، فلا يجوز أن يكون جرم مبدأ لجرم ، ولا يجوز أن يكون مبدؤها قوة نفسانية هي صورة الجرم وكماله ، إذ كل نفس لكل فلك فهي كماله وصورته ليس جوهرا مفارقا ، وإلا كان عقلا. وأنفس الأفلاك إنما تصدر عنها أفعالها في أجسام أخرى بوساطة أجسامها ومشاركتهما. وقد بينا أن الجسم من حيث هو جسم لا يكون مبدأ لجسم ، ولا يكون متوسطا بين نفس ونفس ، ولو أن نفسا كانت مبدأ لنفس بغير توسط الجسم فلها انفراد قوام من دون الجسم ، وليست النفس الفلكية كذلك ، فلا تفعل شيئا ولا تفعل جسما ، فإن النفس متقدمة على الجسم في المرتبة والكمال. فتعين أن للأفلاك مبادي غير جرمانية وغير صور للأجرام والجميع مشترك في مبدأ واحد ، وهو الذي نسميه المعلول الأول والعقل المجرد ويختص كل فلك بمبدإ خاص فيه ، ويلزم دائما عقل من عقل حتى تتكون الأفلاك بأجرامها ونفوسها وعقولها ، وينتهي بالفلك الأخير ، ويقف حيث يمكن أن تحدث الجواهر العقلية منقسمة متكثرة بالعدد ، لتكثر الأسباب ، فكل عقل هو أعلى في المرتبة ، فإنه لمعنى فيه ، وهو إنه بما يعقل الأول يجب عنه وجود عقل آخر دونه ، وبما يعقل ذاته يجب عنه فلك بنفسه ، فأما جرم الفلك فمن حيث إنه يعقل بذاته الممكن لذاته. وأما نفس الفلك فمن حيث إنه يعقل ذاته الواجب بغيره ، ويستبقي الجرم بتوسط النفس الفلكية ، فإن كل صورة فهي علة لكون مادتها بالفعل. والمادة بنفسها لا قوام لها ، كما أن الإمكان نفسه لا وجود له ، وإذا استوفت

__________________

ـ العقول. وأخذ عن أفلاطون أن الكثير يصدر عن الواحد ، وأن الإله يعقل ذاته ويعقل الأشياء على الوجه الكلي ، وأن عقله لذاته يولد العقل الأول وأن العقل يتأمل الواحد ويعود إليه ، ثم إن هذه الآراء قد مزجت عند ابن سينا بآراء المنجمين وتعاليمهم ، وقد كان الطبيعيون والمنجمون في ذلك العصر يجدون للأجرام السماوية أفعالا وآثارا في هذا العالم مختلفة تدل على اختلاف طبائعها.

الكرات السماوية عددها لزم بعدها وجود الأسطقسات. ولما كانت الأجسام الأسطقسية كائنة فاسدة ، وجب أن تكون مباديها متغيرة ، فلا يكون ما هو عقل محض وحده سببا لوجودها.

ولما كانت لها مادة مشتركة وصور مختلفة فيها وجب أن يكون اختلاف صورها مما تعين فيه اختلاف في أحوال الأفلاك ، واتفاق مادتها مما تعين فيه اتفاق في أحوال الأفلاك فالأفلاك لما اتفقت في طبيعة اقتضاء الحركة المستديرة كما تبين كان مقتضاها وجود المادة. ولما اختلفت في أنواع الحركات كان مقتضاها تهيؤ المادة للصور المختلفة ثم إن العقول المفارقة بل آخرها الذي يلينا هو الذي يفيض عنه بمشاركة الحركات السماوية شيء فيه رسم صور العالم الأسفل من جهة الانفعال ، كما أن في ذلك العقل رسم الصور على جهة الفعل ، ثم يفيض منه الصور فيها بالتخصيص بمشاركة الأجرام السماوية ، فيكون إذا خصص هذا الشيء تأثير من التأثيرات السماوية بلا واسطة جسم عنصري أو بواسطة تجعله على استعداد خاص بعد العام الذي كان في جوهره : فاض عن هذا المفارق صورة خاصة ، وارتسمت في تلك المادة. وأنت تعلم أن الواحد لا يخصص الواحد من حيث كل واحد منهما واحد بأمر دون أمر يكون له إلا أن يكون هناك مخصصات مختلفة ، وهي معدات المادة. والمعد هو الذي يحدث منه في المستعد أمر ما تصير مناسبته لشيء بعينه أولى من مناسبته لشيء آخر. ويكون هذا الإعداد مرجحا لوجود ما هو أولى منه من الأوائل الواهبة للصور. ولو كانت المادة على التهيؤ الأول تشابهت نسبتها إلى الضدين ، فلا يجب أن يختص بصورة دون صورة.

قال : والأشبه أن يقال إن المادة التي تحدث بالشركة يفيض عليها من الأجرام السماوية إما عن أربعة أجرام ، أو عن عدة منحصرة في أربع ، أو عن جرم واحد تكون له نسب مختلفة انقساما من الأسباب منحصرة في أربع ، فتحدث منها العناصر الأربعة ، وانقسمت بالخفة والثقل ، فما هو الخفيف المطلق فميله إلى الفوق وما هو الثقيل المطلق فميله إلى الأسفل ، وما هو الخفيف والثقيل بالإضافة

فبينهما. وأما وجود المركبات من العناصر فبتوسط الحركات السماوية وسنذكر أقسامها وتوابعها.

وأما وجود الأنفس الإنسانية التي تحدث مع حدوث الأبدان ولا تفسد ، فإنها كثيرة مع وحدة النوع ، والمعلول الأول الواحد بالذات فيه معان متكثرة بها تصدر عنه العقول والنفوس كما ذكرنا. ولا يجوز أن تكون تلك المعاني كثيرة متفقة النوع والحقائق ، حتى تصدر عنها كثرة متفقة النوع ، فإنه يلزم أن تكون فيه مادة يشترك فيها ، وصور تتخالف وتتكثر ، بل فيه معان مختلفة الحقائق يقتضي كل معنى شيئا غير ما يقتضيه الآخر في النوع. فلم يلزم كل واحد منهما ما يلزم الآخر. فالنفوس الأرضية كائنة عن المعلول الأول بتوسط علة أو علل أخرى وأسباب من الأمزجة والمواد ، وهي غاية ما ينتهي إليها في الإبداع.

* * *

ونبتدئ القول في الحركات ، وأسبابها ، ولوازمها.

اعلم أن الحركة لا تكون طبيعية للجسم (١) على حالته الطبيعية ، وكل حركة بالطبع فلحالة مفارقة للطبع غير طبيعية ؛ إذ لو كان شيء من الحركات مقتضى طبيعة الشيء لما كان باطل الذات مع بقاء الطبيعة ، بل الحركة إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية ، إما في الكيف ، وإما في الكم ، وإما في المكان (٢) ، وإما في الوضع ، وإما في مقولة أخرى. والعلة في تجدد حركة بعد حركة تجدد الحال الغير الطبيعية ، وتقدير البعد عن الغاية.

فإذا كان الأمر كذلك لم تكن حركة مستديرة عن طبيعة ، وإلا كانت عن حال

__________________

(١) أخذ ابن سينا في بيانه أن الفاعل القريب للحركة الأولى نفس ، وأنه يجب أن نعلم العلة القريبة للحركة الأولى نفس لا عقل ، وأن السماء حيوان مطيع لله عزوجل.

(٢) فالحركات إنما تقتضيها الطبيعة لوجود حال غير طبيعية ، إما في الكيف كما إذا استحر الماء بالقسر ، وإما بالكم كما يذبل البدن الصحيح فيها ذبولا مرضيا ، وإما في المكان كما إذا انتقلت المدرة إلى حيّز الهواء.

غير طبيعية إلى حال طبيعية إذا وصلت إليها سكنت ، ولم يجز أن يكون فيها بعينها قصد إلى تلك الحالة الغير الطبيعية. لأن الطبيعية ليست تفعل باختيار ، بل على سبيل التسخير. فإن كانت الطبيعية تحرك على الاستدارة فهي تحرك لا محالة ، إما عن أين طبيعي أو وضع غير طبيعي هربا طبيعيا عنه. وكل هرب طبيعي عن شيء فمحال أن يكون هو بعينه قصدا طبيعيا إليه. والحركة المستديرة ليست تهرب عن شيء إلا وتقصده فليست إذن طبيعية ، إلا أنها قد تكون بالطبع ، وإن لم تكن قوة طبيعية كانت شيئا بالطبع ، وإنما تحرك بتوسط الميل الذي إليه. ونقول إن الحركة معنى متجدد السبب. وكل شطر منه مختص بسبب فإنه لا ثبات له. ولا يجوز أن يكون عن معنى ثابت البتة وحده ، ولو كان فيجب أن يلحقه ضرب من تبدل الأحوال. فالثابت من جهة ما هو ثابت لا يكون عنه إلا ثابت. فالإرادة العقلية الواحدة لا توجب البتة حركة ، فإنها مجردة عن جميع أصناف التغير ، والقوة العقلية حاضرة المعقول دائما ، ولا يفرض فيها الانتقال من معقول إلى معقول إلا مشاركا للتخيل والحس ، فلا بد للحركة من مبدأ قريب ، والحركة المستديرة مبدؤها القريب نفس في الفلك تتجدد تصوراتها وإرادتها ، وهي كمال جسم الفلك وصورته ، ولو كانت قائمة بنفسها من كل وجه لكانت عقلا محضا لا يتغير ولا ينتقل ، ولا يخالط ما بالقوة ، بل نسبتها إلى الفلك نسبة النفس الحيوانية التي لنا إليها ، إلا أن لها أن تعقل بوجه ما تعقلا مشوبا بالمادة وبالجملة أوهامها أو ما يشبه الأوهام صادقة ، وتخيلاتها أو ما يشبه التخيلات حقيقية ، كالفعل العقلي فينا ، والمحرك الأول لها غير مادي أصلا ، وإنما تتحرك عن قوة غير متناهية.

والقوة التي للنفس متناهية لكنها بما تعقل الأول فيسيح عليها نوره دائما صارت قوتها غير متناهية ، فكانت الحركات المستديرة أيضا غير متناهية. والأجرام السماوية لما لم يبق في جوهرها أمر ما بالقوة أعني في كمها وكيفها تركبت صورتها في مادتها على وجه لا يقبل التحليل ، ولكن عرض لها في وضعها وأينها ما بالقوة ، إذ ليس شيء من أجزاء مدار فلك أو كوكب أولى بأن يكون ملاقيا له أو لجزئه من جزء

آخر. فمتى كان في جزء بالفعل فهو في جزء آخر بالقوة. والتشبه بالخير الأقصى يوجب البقاء على أكمل كمال ، ولم يكن هذا ممكنا للجرم السماوي بالعدد ، فحفظ بالنوع والتعاقب ، فصارت الحركة حافظة لما يكون من هذا الكمال ، ومبدؤها الشوق إلى التشبه بالخير الأقصى في البقاء على الكمال ، ومبدأ الشوق هو ما يعقل منه. فنفس الشوق إلى التشبه بالأول من حيث هو بالفعل تصدر عنه الحركات الفلكية صدور الشيء عن التصور الموجب له ، وإن كان غير مقصود في ذاته بالقصد الأول ، لأن ذلك تصور لما بالفعل ، فيحدث عنه طلب لما بالفعل ولا يمكن لما بالشخص فيكون بالتعاقب ، ثم يتبع ذلك التصور تصورات جزئية على سبيل الانبعاث إلى المقصود الأول ، وتتبع تلك التصورات والحركات المنتقل بها في الأوضاع ، وهي كأنها عبادة ملكية أو فلكية. وليس من شرط الحركة الإرادية أن تكون مقصودة في نفسها ، بل إذا كانت القوة الشوقية تشتاق نحو أمر يسيح منها تأثير تتحرك له الأعضاء ، فتارة تتحرك على النحو الذي يوصل به إلى الغرض ، وتارة على نحو آخر متشابه.

وإذا بلغ الالتذاذ بتعقل المبدأ الأول وبما يدرك منه على نحو عقلي أو نفساني شغل ذلك عن كل شيء ، ولكن ينبعث منه ما هو أدون منه في المرتبة وهو الشوق إلى الأشبه به بقدر الإمكان. فقد عرفت أن الفلك متحرك بطبعه ، ومتحرك بالنفس ، ومتحرك بقوة عقلية غير متناهية ، وتميزت عندك كل حركة عن صاحبتها ، وعرفت أن المحرك الأول (١) لجملة السماء واحد ، ولكل كرة من كرات

__________________

(١) أخذ في بيان أن لكل فلك جزئي محركا أولا مفارقا قبل نفسه يحرك على أنه معشوق ، فإن المحرك الأول للكل مبدأ لجميع ذلك ، وأنت تعلم أن جوهر هذا المحرك واحد ، ولا يمكن أن يكون هذا المحرك الأول الذي لجملة السماء فوق واحد وإن كان لكل كرة من كرات السماء محرك قريب يخصه ومتشوق ومعشوق يخصه على ما يراه المعلم الأول ومن بعده من محصلي الحكمة المشائية ، فإنهم إنما ينفون الكثرة عن محرك الكل ويثبتون الكثرة للمحركات المفارقة وغير المفارقة التي تخص واحدا منها ، فيجعلون أول المفارقات الخاصية محرك الكرة الأولى ، وهي عند من تقدم بطليموس كرة الثوابت وعند من يعلم بالعلوم التي ظهرت لبطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها غير مكوكبة ، وبعد ذلك فمحرك الكرة التي تلبي الأولى بحسب اختلاف الرأيين وكذلك ما بعدهم وهلم جرا.

السماء محرك قريب يخصه ، ومتشوق معشوق يخصه فأول المفارقات الخاصة محرك الكرة الأولى ، وهي على قول من تقدم بطليموس كرة الثوابت. وعلى قول بطليموس كرة خارجة عنها محيطة بها غير مكوكبة. وبعد ذلك محرك الكرة التي تلي الأولى ؛ ولكل واحدة مبدأ خاص ، وللكل مبدأ. فلذلك تشترك الأفلاك في دوام الحركة وفي الاستدارة. ولا يجوز أن يكون شيء منها لأجل الكائنات السافلة (١) لا قصد حركة ، ولا قصد جهة حركة ، ولا تقدير سرعة وبطء ، بل ولا قصد فعل البتة لأجلها ، وذلك أن كل قصد فيكون من أجل المقصود ، ويكون أنقص وجودا من المقصود ؛ لأن كل ما لأجله شيء آخر فهو أتم وجودا من الآخر. ولا يجوز أن يستفاد الوجود الأكمل من الشيء الأخس ، فلا يكون البتة إلى معلول قصد صادق وإلا كان القصد معطيا ومفيدا لوجود ما هو أكمل. إنما يقصد بالواجب شيء يكون القصد مهيئا له ، ومفيد وجوده شيء آخر. وكل قصد ليس عبثا فإنه يفيد كمالا ما لقاصد ؛ لو لم يقصد لم يكن ذلك الكمال. ومحال أن يكون المعلول المستكمل وجوده بالعلة يفيد العلة كمالا لم يكن. فالعالي إذن لا يريد أمرا لأجل السافل. وإنما يريده لما هو أعلى منه ، وهو التشبه بالأول بقدر الإمكان.

ولا يجوز أن يكون الغرض تشبها بجسم من الأجسام السماوية وإن كان تشبه السافل بالعالي ، إذ لو كان كذلك لكانت الحركة من نوع حركة ذلك الجسم ، ولم يكن مخالفا له وأسرع في كثير من المواضع. ولا يجوز أن يكون الغرض شيئا يوصل إليه بالحركة ، بل شيئا مباينا غير جواهر الأفلاك من موادها وأنفسها. وبقي أن يكون لكل واحد من الأفلاك شوق تشبه بجوهر عقلي مفارق يخصه وتختلف

__________________

(١) فإن قوما لما سمعوا ظاهر قول فاضل المتقدمين إذ يقول : إن الاختلاف في هذه الحركات وجهاتها يشبه أن يكون للعناية بالأمور الكائنة الفاسدة التي تحت كرة القمر ، وكانوا سمعوه أيضا وعلموا بالقياس أن الحركات السماوية لا يجوز أن تكون لأجل شيء غير ذواتها ولا يجوز أن تكون لأجل معلولاتها ، وقد أرادوا أن يجمعوا بين هذين المذهبين فقالوا إن نفس الحركة ليس لأجل ما تحت القمر ولكن للتشبه بالخير المحض والتشوق إليه ، فأما اختلاف الحركات فليختلف ما يكون من كل واحد منها في عالم الكون والفساد اختلافا ينتظم به بقاء الأنواع.

الحركات وأفعالها وأحوالها اختلافها الذي لها لأجل ذلك ، وإن كنا لا نعرف كيفيتها وكميتها. وتكون العلة الأولى متشوق الجميع بالاشتراك. وهذا معنى قول القدماء : إن للكل محركا واحدا معشوقا ، ولكل كرة محركا يخصها ومعشوقا يخصها ، فيكون إذن لكل فلك نفس محركة تعقل الخير ، ولها بسبب الجسم تخيل ، أي تصور للجزئيات وإرادة لها ، ثم يلزمها حركات ما دونها لزوما بالقصد الأول حتى تنتهي إلى حركات الفلك الذي يلينا ، ومدبرها العقل الفعال. ويلزم الحركات السماوية حركات العناصر على مثال تناسب حركات الأفلاك. وتعد تلك الحركات موادها لقبول الفيض من العقل الفعال فيعطيها صورها على قدر استعداداتها كما قررنا. فقد تبين لك أسباب الحركات ولوازمها ، وستعلم بواقيها في الطبيعيات.

المسألة التاسعة : في العناية الأزلية ، وبيان دخول الشر في القضاء (١).

قال : العناية هي كون الأول عالما لذاته بما عليه الوجود من نظام ، وعلة لذاته للخير والكمال بحسب الإمكان ، وراضيا به على النحو المذكور ، فيعقل نظام الخير على الوجه الأبلغ في الإمكان ، فيفيض منه ما يعقله نظاما وخيرا على الوجه الأبلغ الذي يعقله فيضانا على أتم تأدية إلى النظام بحسب الإمكان ، فهذا هو معنى العناية. والخير يدخل في القضاء الإلهي دخولا بالذات لا بالعرض ، والشر بالعكس منه وهو على وجوه : فيقال شر لمثل الألم والغم. ويقال شر لمثل الشرك والظلم والرياء. وبالجملة الشر بالذات هو العدم ، ولا كل عدم ، بل عدم مقتضى طباع الشيء من الكمالات الثابتة لنوعه وطبيعته. والشر بالعرض هو المعدم والحابس للكمال عن مستحقه. والشر بالذات ليس بأمر حاصل إلا أن يخبر عن لفظه ، ولو كان له حصول ما لكان الشر العام. وهذا الشر يقابله الوجود على كماله الأقصى بأن يكون بالفعل ، وليس فيه ما بالقوة أصلا فلا يلحقه شر. وأما الشر بالعرض فله

__________________

(١) يرى ابن سينا ، أن القضاء هو علم الله المتعلق بالكل على حساب النظام الأكمل الذي يكون في الوجود وقدره هو عبارة عن إفاضة الكائنات على حسب ما في عمله ، فالكل صادر عن الله ومعلول له ، وكل ذلك بقضاء وقدر لا محيص عنه ولا مخلص منه.

وجود ما ، وإنما يلحق ما في طباعه أمر ما بالقوة ، وذلك لأجل المادة ، فيلحقها لأمر يعرض لها في نفسها ، وأول وجودها : هيئة من الهيئات المانعة لاستعدادها الخاص للكمال الذي توجهت إليه. فتجعلها أردأ مزاجا وأعصى جوهرا لقبول التخطيط والتشكيل والتقويم. فتشوهت الخلقة وانتقصت البنية ، لا لأن الفاعل قد حرم ، بل لأن المنفعل لم يقبل ، وأما الأمر الطارئ من خارج فأحد شيئين : إما مانع للمكمل ، وإما مضاد ما حق للكمال. مثال الأول : وقوع سحب كثيرة وتراكمها ، وإظلال جبال شاهقة تمنع تأثير الشمس في الثمار على الكمال ، ومثال الثاني : حبس البرد للنبات المسبب لكماله في وقته حتى يفسد الاستعداد الخاص ، ويقال شر لمبادئها من الأخلاق ؛ مثال الأول : الظلم والرياء. ومثال الثاني : الحقد والحسد ، ويقال شر للآلام والغموم ، ويقال شر لنقصان كل شيء عن كماله ، والضابط لكله إما عدم وجود ، وإما عدم كمال.

فنقول : الأمور إذا توهمت موجودة ؛ فإما تمتنع أن تكون إلا خيرا على الإطلاق ، أو شرا على الإطلاق ، أو خيرا من وجه وشرا من وجه ، وهذا القسم إما أن يتساوى فيه الخير والشر ، أو الغالب فيه أحدهما ، أما الخير المطلق الذي لا شر فيه فقد وجد في الطباع والخلقة ، وأما الشر المطلق الذي لا خير فيه أو الغالب فيه أو المساوي فلا وجود له أصلا. فبقي ما الغالب في وجوده الخير وليس يخلو عن الشر ، والأحرى به أن يوجد ، فإن لا كونه أعظم شرا من كونه ، فواجب أن يفيض وجوده من حيث يفيض منه الوجود ، لئلا يفوت الخير الكلي لوجود الشر الجزئي ، وأيضا فلو امتنع وجود ذلك القدر من الشر امتنع وجود أسبابه التي تؤدي إلى الشر بالعرض ، وكان فيه أعظم خلل في نظام الخير الكلي ، بل وإن لم نلتفت إلى ذلك وصيرنا التفاتنا إلى ما ينقسم إليه الإمكان في الوجود من أصناف الموجودات المختلفة في أحوالها ، فكان الوجود المبرأ من الشر من كل وجه قد حصل. وبقي نمط من الوجود ، إنما يكون على سبيل أن لا يوجد إلا ويتبعه ضرر وشر مثل النار فإن الكون إنما يتم بأن يكون فيه نار ، ولن يتصور حصولها إلا على وجه تحرق

وتسخن ، ولم يكن بد من المصادمات الحادثة أن تصادف النار ثوب فقير ناسك فيحترق. والأمر الدائم والأكثري حصول الخير من النار. فأما الدائم فلأن أنواعا كثيرة لا تستحفظ على الدوام إلا بوجود النار. وأما الأكثر فلأن أكثر الأشخاص والأنواع في كنف السلامة من الاحتراق ؛ فما كان يحسن أن تترك المنافع الأكثرية والدائمة لأعراض شرية أقلية ، فأريدت الخيرات الكائنة عن مثل هذه الأشياء إرادة أولية على الوجه الذي يصلح أن يقال : إن الله تعالى يريد الأشياء ، ويريد الشر أيضا على الوجه الذي بالعرض. فالخير مقتضى بالذات ، والشر مقتضى بالعرض ، وكل بقدر. والحاصل أن الكل إنما رتبت فيه القوى الفعالة والمنفعلة : السماوية والأرضية ، الطبيعية والنفسانية ، بحيث يؤدي إلى النظام الكلي مع استحالة أن تكون هي على ما هي عليه ولا تؤدي إلى شرور. فيلزم من أحوال العالم بعضها بالقياس إلى بعض أن يحدث في نفس : صورة اعتقاد رديء أو كفر أو شر آخر ، ويحدث في بدن : صورة قبيحة مشوهة ، ولو لم يكن كذلك لم يكن النظام الكلي يثبت. فلم يعبأ ولم يلتفت إلى اللوازم الفاسدة التي تعرض بالضرورة. وقيل : خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وخلقت هؤلاء للنار ولا أبالي ، وكل ميسر لما خلق له.

المسألة العاشرة : في المعاد ، وإثبات سعادات دائمة للنفوس ، وإشارة إلى النبوة وكيفية الوحي والإلهام.

ولنقدم على الخوض فيها أصولا ثلاثة :

الأصل الأول : أن لكل قوة نفسانية لذة وخيرا يخصها (١) ، وأذى وشرا

__________________

(١) مثاله أن لذة الشهوة وخيرها أن يتأدى إليها كيفية محسوسة ملائمة من الخمسة ولذة الغضب الظفر ولذة الوهم الرجاء ولذة الحفظ تذكر الأمور الموافقة الماضية ، وأذى كل واحد منها ما يضاده ، وتشترك كلها نوعا من الشركة في أن الشعور بموافقها وملائمها هو الخير واللذة الخاصة بها ، والموافق بكل واحد منها بالذات والحقيقة هو حصول الكمال الذي هو بالقياس إليه كمال بالفعل ، فهذا أصل ، وأيضا فإن هذه القوى وإن اشتركت في هذه المعاني فإن مراتبها في الحقيقة مختلفة. فالذي كماله أتم وأفضل ، والذي كماله أكثر ... الخ.

يخصها ، وحيثما كان المدرك أشد إدراكا وأفضل ذاتا ، والمدرك أكمل وجودا وأشرف ذاتا وأدوم ثباتا ، فاللذة أبلغ وأوفر.

الأصل الثاني : أنه قد يكون الخروج إلى الفعل في كمال ما ، بحيث يعلم أن المدرك لذيذ ، ولكن لا يتصور كيفيته ولا يشعر به فلم يشتق إليه ، ولم يفزع نحوه فيكون حال المدرك حال الأصم والأعمى الملتذين برطوبة اللحن وملاحة الوجه من غير شعور وتصور وإدراك.

الأصل الثالث : أن الكمال والأمر الملائم قد يتيسر للقوة الدرّاكة. وهناك مانع أو شاغل للنفس فتكرهه وتؤثر ضده. أو تكون القوة ممنوعة بضد ما هو كمالها فلا تحس به كالمريض والمحرور. فإذا زال العائق عاد إلى واجبه في طبعه ، فصدقت شهوته ، واشتهت طبيعته ، وحصل له كمال اللذة.

فنقول بعد تمهيد الأصول : إن النفس الناطقة كمالها الخاص بها أن تصير عالما عقليا مرتسما فيها صورة الكل. والنظام المعقول في الكل ، والخير الفائض من واهب الصور على الكل ، مبتدئا من المبدأ ، وسالكا إلى الجواهر الشريفة الروحانية المطلقة ، ثم الروحانية المتعلقة نوعا ما بالأبدان ، ثم الأجسام العلوية بهيئاتها وقواها ، ثم تستمر كذلك حتى تستوفي في نفسها هيئة الوجود كله ، فتصير عالما معقولا موازيا للعالم الموجود كله مشاهدا لما هو الحسن المطلق والخير والبهاء والحق ، ومتحدا به (١) ، ومنتقشا بمثاله ، ومنخرطا في سلكه ، وصائرا من جوهره ؛ وهذا الكمال لا يقاس بسائر الكمالات وجودا ودواما ولذة وسعادة ، بل هذه اللذة أعلى من اللذات الحسية ، وأعلى من الكمالات الجسمانية. بل لا مناسبة بينهما في الشرف والكمال. وهذه السعادة لا تتم له إلا بإصلاح الجزء العملي من النفس ، وتهذيب الأخلاق.

__________________

(١) وهذا موضع آخر أقر فيه ابن سينا بمعنى الاتحاد.

والخلق ملكة تصدر بها عن النفس أفعال ما بسهولة من غير تقدم روية. وذلك باستعمال التوسط بين الخلقتين المتضادتين ، لا بأن يفعل أفعال التوسط بل بأن يحصل ملكة التوسط بين الخلقتين المتضادتين ، فيحصل في القوى الحيوانية هيئة الإذعان. وفي القوى الناطقة هيئة الاستعلاء. ومعلوم أن ملكتي الإفراط والتفريط هما من مقتضيات القوى الحيوانية ، فإذا قويت حدثت في النفس الناطقة هيئة إذعانية قد رسخت فيها من شأنها أن تجعلها قوية العلاقة مع البدن ، سديدة الانصراف إليه وأما ملكة التوسط (١) فهي من مقتضيات الناطقة. فإذا قويت قطعت العلاقة من البدن ، فسعدت السعادة الكبرى. ثم للنفوس مراتب في اكتساب هاتين القوتين ، أعني العلمية والعملية والتقصير فيهما. فكم ينبغي أن يحصل عند نفس الإنسان من تصور المعقولات ، والتخلق بالأخلاق الحسنة حتى يجاوز الحد الذي في مثله يقع في الشقاوة الأبدية. وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤبد؟ وأي تصور وخلق يوجب له الشقاء المؤقت؟ قال : فليس يمكنني أن أنص عليه إلا بالتقريب ، وليته سكت عنه ، وقد قيل :

فدع عنك الكتابة لست منها

ولو سوّدت وجهك بالمداد

قال : وأظن أن ذلك أن يتصور نفس الإنسان المبادي المفارقة تصورا حقيقيا ، ويصدق بها تصديقا يقينيا لوجودها عنده بالبرهان ، ويعرف العلل الغائية للأمور الواقعة في الحركات الكلية دون الجزئية التي لا تتناهى ، ويتقرر عنده هيئة الكل ونسب أجزائه بعضها إلى بعض ، والنظام الآخذ من المبدأ الأول إلى أقصى الموجودات الواقعة في ترتيبه ، ويتصور العناية وكيفيتها ، ويتحقق أن الذات المتقدمة للكل أي وجود يخصها ، وأية وحدة تخصها ، وأنها كيف تعرف حتى لا يلحقها تكثر وتغير بوجه. وكيف ترتيب نسب الموجودات إليها. وكلما ازداد استبصارا ازداد

__________________

(١) والمراد بملكة التوسط التبرئة عن الهيئات الانقيادية ، وتبقية النفس الناطقة على جبلتها مع إفادة هيئة الاستعلاء والتنزه ، وذلك غير مضاد لجوهرها ولا مائل بها إلى جهة البدن ، بل عن جهة ، فإن المتوسط يسلب عنها الطرفين دائما.

للسعادة استعدادا ، وكأنه ليس يتبرأ الإنسان عن هذا العالم وعلائقه إلا أن يكون قد أكد العلاقة مع ذلك العالم ، فصار له شوق وعشق إلى ما هناك يصده عن الالتفات إلى ما خلفه جملة.

ثم إن النفوس والقوى الساذجة التي لم تكتسب هذا الشوق (١) ولا تصورت هذه التصورات ، فإن كانت بقيت على ساذجيتها واستقرت فيها هيئات صحيحة إقناعية وملكات حسنة خلقية سعدت بحسب ما اكتسبت. أما إذا كان الأمر بالضد من ذلك أو حصلت أوائل الملكة العلمية وحصل لها شوق قد تبع رأيا مكتسبا إلى كمال حالها فصدها عن ذلك عائق مضاد فقد يبقى الشقاء الأبدي. وهؤلاء إما مقصرون في السعي لتحصيل الكمال الإنساني ، وإما معاندون متعصبون لآراء فاسدة مضادة للآراء الحقيقية. والجاحدون أسوأ حالا.

والنفوس البله (٢) أدنى من الخلاص من فطانة بتراء ، لكن النفوس إذا فارقت وقد رسخ فيها نحو من الاعتقاد في العاقبة على مثل ما يخاطب به العامة ، ولم يكن لهم معنى جاذب إلى الجهة التي فوقهم لا كمال فتسعد تلك السعادة ، ولا عدم كمال فتشقى تلك الشقاوة ، بل جميع هيئاتهم النفسانية متوجهة نحو الأسفل ، منجذبة إلى الأجسام ، ولا بد لها من تخيل ، ولا بد للتخيل من أجسام. قال : فلا بد لها من أجرام سماوية تقوم بها القوة المتخيلة. فتشاهد ما قيل لها في الدنيا من أحوال القبر والبعث والخيرات الأخروية ، وتكون الأنفس الرديئة أيضا تشاهد العقاب المصور لهم في الدنيا وتقاسيه. فإن الصور الخيالية ليست تضعف عن الحسية ، بل

__________________

(١) لأن هذا الشوق إنما يحدث حدوثا وينطبع في جوهر النفس إذا تبرهن للقوى النفسانية أن هاهنا أمورا تكتسب العلم بها بالحدود الوسطى ، وأما ما قبل ذلك فلا يكون ، لأن الشوق يتبع رأيا وليس هذا الرأي للنفس أوليا بل رأيا مكتسبا.

(٢) وأما النفوس البله التي لم تكتسب الشوق ، فإنها إذا فارقت البدن وكانت غير مكتسبة للهيئات البدنية الردية صارت إلى سعة من رحمة الله ونوع من الراحة ، وإن كانت مكتسبة للهيئات البدنية الردية ، وليس عندها هيئة غير ذلك ، ولا معنى يضاده وينافيه فتكون لا محالة ممنوعة بشوقها إلى مقتضاها ، فتعذب عذابا شديدا بفقد البدن ومقتضياته.

تزداد تأثيرا كما تشاهد في المنام. وهذه هي السعادة والشقاوة بالقياس إلى الأنفس الخسيسة ، وأما الأنفس المقدسة فإنها تبعد عن مثل هذه الأحوال وتتصل لكمالها بالذات وتنغمس في اللذة الحقيقية ، ولو كان بقي فيها أثر من ذلك اعتقادي أو خلقي تأذت به وتخلفت عن درجة عليين إلى أن ينفسخ عنها (١).

قال : والدرجة الأعلى فيما ذكرناه لمن له النبوة ، إذ في قواه النفسانية خصائص ثلاث نذكرها في الطبيعيات ، فبها يسمع كلام الله تعالى ، ويرى ملائكته المقربين ، وقد تحوّلت على صور يراها ، وكما أنّ الكائنات ابتدأت من الأشرف فالأشرف حتى ترقت في الصعود إلى العقل الأول ، ونزلت في الانحطاط إلى المادة وهي الأخس. كذلك النفوس ابتدأت من الأخس حتى بلغت النفس الناطقة وترقت إلى درجة النبوة.

ومن المعلوم (٢) أن نوع الإنسان محتاج إلى اجتماع ومشاركة في ضروريات حاجاته مكتفيا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الآخر أيضا مكتفيا به. ولا تتم تلك الشركة إلا بمعاملة ومعاوضة يجريان بينهما ، يفرغ كل واحد منهما عن مهم لو تولاه بنفسه لا ازدحم على الواحد كثير. ولا بد في المعاملة من سنة وعدل ،

__________________

(١) لقد تكشف رأي ابن سينا في مسألة البعث والنشور ، فهو يقول بالبعث الروحي ، ولا يقول بالمعاد الجسماني. أما في كتابه «الإشارات» فقد سكت عنه ، وإنه في سكوته لحجة عليه ، أما رأيه في استحالة أن يكون معاد جسماني فيستلزم متعا حسية في جنة عرضها السموات والأرض. وهو يرى أن السعادة والشقاء إنما يلحقان النفس دون الجسد. وقد أجمع المسلمون وأهل الكتاب والبراهمة على إعادة الخلق وجوازها بعد الفناء وإن اختلفوا في التفصيل ، وخالفهم في هذه بعض الفرق ومنها : الدهرية وقوم من الفلاسفة وفرقة من عبدة الأصنام وغيرهم.

(٢) وقد شرع ابن سينا ، في الكلام على إثبات النبوة ، وكيفية دعوة النبي إلى الله تعالى ، والمعاد لما تبين من أن الإنسان يفارق سائر الحيوانات بأنه لا يحسن معيشته لو انفرد وحده شخصا واحدا يتولى تدبير أمره من غير شريك يعاونه على ضرورات حاجاته ، وأنه لا بدّ أن يكون الإنسان مكفيا بآخر من نوعه ، يكون ذلك الآخر أيضا مكفيا به وبنظيره ، فيكون مثلا هذا ينقل إلى ذاك ، وذاك يخبز لهذا ، وهذا يخيط للآخر ، والآخر يتخذ الإبرة لهذا حتى إذا اجتمعوا كان أمرهم مكفيا.

ولا بد من سانّ ومعدل. ولا بد من أن يكون بحيث يخاطب الناس ويلزمهم السنة. فلا بد من أن يكون إنسانا. ولا يجوز أن يترك الناس وآراءهم في ذلك فيختلفون ، ويرى كل واحد منهم ما له عدلا ، وما عليه ظلما. فالحاجة إلى هذا الإنسان في أن يبقى نوع الإنسان أشد من الحاجات إلى إنبات الشعر على الأشفار والحاجبين. فلا يجوز أن تكون العناية الأولى تقتضي أمثال تلك المنافع ، ولا تقتضي هذه التي هي أسها. ولا يجوز أن يكون المبدأ الأول والملائكة بعده يعلم تلك ولا يعلم هذا. ولا أن يكون ما يعلمه في نظام الأمر الممكن وجوده. الضروري حصوله لتمهيد نظام الخير لا يوجد. بل كيف يجوز أن لا يوجد وما هو متعلق بوجوده ومبني على وجوده موجود؟ فلا بد إذن من نبي هو إنسان متميز من بين سائر الناس بآيات تدل على أنها من عند ربه تعالى. يدعوهم إلى التوحيد ، ويمنعهم من الشرك ، ويسن لهم الشرائع والأحكام ، ويحثهم على مكارم الأخلاق ، وينهاهم عن التباغض والتحاسد ، ويرغبهم في الآخرة وثوابها. ويضرب لهم للسعادة والشقاوة أمثالا تسكن إليها نفوسهم. وأما الحق فلا يلوح لهم منه إلا أمرا مجملا ، وهو أن ذلك شيء لا عين رأته ، ولا أذن سمعته. ثم تكريره عليهم العبادات ليحصل لهم بعده تذكر المعبود بالتكرير. والمذكرات إما حركات ، وإما إعدام حركات تفضي إلى حركات. فالحركات كالصلوات وما في معناها. وإعدام الحركات كالصيام ونحوه. وإن لم يكن لهم هذه المذكرات تناسوا جميع ما دعاهم إليه مع انقراض قرن أو قرنين. وينفعهم ذلك أيضا في المعاد منفعة عظيمة. فإن السعادة في الآخرة بتنزيه النفس عن الأخلاق الرديئة والملكات الفاسدة فيتقرر لها بذلك هيئة الانزعاج عن البدن ، وتحصل لها ملكة التسلط عليه فلا تنفعل عنه. وتستفيد منه ملكة الالتفات إلى جهة الحق والإعراض عن الباطل. وتصير شديدة الاستعداد للتخلص إلى السعادة بعد المفارقة البدنية. وهذه الأفعال لو فعلها فاعل ولم يعتقد أنها فريضة من عند الله تعالى ، وكان مع اعتقاده ذلك يلزمه في كل فعل أن يتذكر الله ، ويعرض عن غيره لكان جديرا بأن يفوز من هذا الذكاء بحظ. فكيف إذا استعملها من يعلم أن النبي

من عند الله تعالى ، وبإرسال الله تعالى وواجب في الحكمة الإلهية إرساله وأن جميع ما سنّه فإنما هو ما وجب من عند الله أن يسنّه ، وأنه متميز عن سائر الناس بخصائص بالغة. وواجب الطاعة بآيات ومعجزات دلت على صدقه؟!.

وسيأتي شرح ذلك في الطبيعيات. لكنك تحدس مما سلف آنفا أن الله تعالى كيف رتب النظام في الموجودات؟ وكيف سخّر الهيولى مطيعة للنفوس بإزالة صورة وإثبات صورة وحيثما كانت النفوس الإنسانية أشد مناسبة للنفوس الفلكية بل وللعقل الفعال كان تأثيرها في الهيولى أشد وأغرب. وقد تصفو النفس صفاء شديدا لاستعداد ما للاتصال بالعقول المفارقة فيفيض عليها من العلوم ما لا يصل إليه من هو في نوعه بالفكر والقياس. فبالقوة الأولى يتصرف في الأجرام بالتقليب والإحالة من حال إلى حال. وبالقوة الثانية يخبر عن غيب ، ويكلمه ملك. فيكون ما للأنبياء عليهم‌السلام وحيا. وما للأولياء إلهاما.

وها نحن نبتدئ القول في الطبيعيات المنقولة عن الشيخ الرئيس أبي علي بن سينا.

٣ ـ في الطّبيعيات

قال أبو علي بن سينا : إن للعلم الطبيعي موضوعا ينظر فيه وفي لواحقه كسائر العلوم ، وموضوعه : الأجسام الموجودة بما هي واقعة في التغير ؛ وبما هي موصوفة بأنحاء الحركات والسكونات (١). وأما مبادي هذا العلم كمثل تركب الأجسام عن

__________________

(١) فبعض موضوعات العلوم لها مبادي وأوائل بها توجد ، وموضوع العلم الطبيعي من تلك الجملة ، وللعلوم أيضا مبادي وأوائل من جهة ما يبرهن عليها وهي المقدمات التي تبرهن ذلك العلم ولا تتبرهن فيه إما لبيانها وإما لعلوها عن أن تتبرهن في ذلك العلم بل إنما تتبرهن في علم آخر ، والعلم الطبيعي من تلك الجملة وليس ولا على واحد من أصحاب العلوم الجزئية إثبات مبادي علمه ولا إثبات صحة المقدمات التي بها يبرهن ذلك العلم بل بيان مبادي العلوم الجزئية على صاحب العلم الكلي ، وهو العلم الإلهي ، والعلم الناظر فيما بعد الطبيعة وموضوعه الوجود المطلق والمطلوب فيه المبادي العامة واللواحق العامة.

المادة والصورة ؛ والقول في حقيقتهما ، ونسبة كل واحد منهما إلى الثاني ؛ فقد ذكرناها في العلم الإلهي (١).

والذي يختص من ذلك التركب بالعلم الطبيعي هو أن تعلم أن الأجسام الطبيعية منها أجسام مركبة من أجسام إما متشابهة الصور كالسرير ، وإما مختلفتها كبدن الإنسان ، ومنها أجسام مفردة والأجسام المركبة لها أجزاء موجودة بالفعل متناهية ؛ وهي تلك الأجسام المفردة التي منها تركبت.

وأما الأجسام المفردة فليس لها في الحال جزء بالفعل وفي قوتها أن تتجزأ أجزاء غير متناهية كل منها أصغر من الآخر. والتجزؤ إما بتفريق الاتصال ، وإما باختصاص العرض ببعض منه ، وإما بالتوهم. وإذا لم يكن أحد هذه الثلاثة فالجسم المفرد لا جزء له بالفعل.

قال : ومن أثبت الجسم مركبا من أجزاء لا تتجزأ بالفعل ؛ فبطلانه بأن كل جزء مس جزءا فقد شغله بالمس ، وكل ما شغل شيئا بالمس فإما أن يدع فراغا عن شغله لجهة أو لا يدع. فإن ترك فراغا فقد تجزأ الممسوس ، وإن لم يترك فراغا فلا يتأتى أن يماسه آخر غير المماس الأول وقد ماسه آخر ؛ هذا خلف. وكذلك في كل جزء موضوع على جزءين متصل وغيره من تركيب المربعات منها لمساواة الأقطار والأضلاع ، ومن جهة مسامتات الظل والشمس ؛ دلائل على أن الجزء الذي لا يتجزأ البتة محال وجوده.

فنتكلم بعد هذه المقدمة في مسائل هذا العلم. ونحصرها في ست مقالات :

المقالة الأولى :

في لواحق الأجسام الطبيعية.

مثل الحركة ، والسكون ، والزمان ، والمكان ، والخلاء ، والتناهي ، والجهات ، والتماس ، والالتحام ، والاتصال ، والتتالي.

__________________

(١) الأجسام الطبيعية مركبة من مادة هي محل وصورة هي حالة فيه ، ونسبة المادة إلى الصورة نسبة النحاس إلى التمثال.

أما الحركة فتقال على تبدل حال قارة في الجسم يسيرا يسيرا على سبيل الاتجاه نحو شيء والوصول إليه هو بالقوة أو بالفعل. فيجب أن تكون الحركة مفارقة الحال ويجب أن يقبل الحال التنقص والتزيد ويكون باقيا غير متشابه الحال في نفسه ، وذلك مثل السواد والبياض ، والحرارة والبرودة ، والرطوبة واليبوسة ، والطول والقصر ، والقرب والبعد ، وكبر الحجم وصغره. فالجسم إذا كان في مكان فتحرك فقد حصل فيه كمال وفعل أول يتوصل به إلى كمال وفعل ثان هو الوصول ، فهو في المكان الأول بالفعل ، وفي المكان الثاني بالقوة. فالحركة كمال أول لما بالقوة من جهة ما هو بالقوة. ولا يكون وجودها إلا في زمان بين القوة المحضة ، والفعل المحض. وليست من الأمور التي تحصل بالفعل حصولا قارا مستكملا. وقد ظهر أنها في كل أمر يقبل التنقص والتزيد وليس شيء من الجواهر كذلك. فإذن لا شيء من الحركات في الجوهر. وكون الجوهر وفساده ليس بحركة بل هو أمر يكون دفعة. وأما الكمية فلأنها تقبل التزيد والتنقص ، فخليق أن يكون فيها حركة ؛ كالنمو والذبول والتخلخل والتكاثف. وأما الكيفية فما يقبل منها التنقص والتزيد والاشتداد كالتبيض والتسود ، فيوجد فيه الحركة. وأما المضاف فأبدا عارض لمقولة من البواقي في قبول التنقص والتزيد. فإذا أضيفت إليه حركة فذلك بالحقيقة لتلك المقولة. وأما الأين فإن وجود الحركة فيه ظاهر وهو النقلة. وأما متى فإن وجوده للجسم بتوسط الحركة ؛ فكيف يكون فيه الحركة؟ ولو كان ذلك لكان لمتى متى آخر. وأما الوضع فإن فيه حركة على رأينا خاصة كحركة الجسم المستدير على نفسه ؛ إذ لو توهم المكان المطيف به معدوما لما امتنع كونه متحركا. ولو قدر ذلك في الحركة المكانية لامتنع. ومثاله في الموجودات : الجرم الأقصى الذي وراءه جسم (١). والوضع يقبل التنقص والاشتداد ، فيقال : أنصب ، وأنكس. وأما الملك

__________________

(١) وأكثر الناس لا يرون وراءه جسما يطيف به وذلك هو الحق ، ولا يعوقهم ذلك عن توهمه متحركا ، وكيف وهو متحرك أبدا ، لأن الجسم المتحرك بالاستدارة على نفسه إذا فرض في مكان فإما أن يباين كليته كلية المكان ، أو تلزم كليته المكان ويباين أجزاؤه أجزاء مكانه ، لكن ليس تتحرك كليته عن المكان ، لأن كليته ـ

فإن تبدل الحال فيه تبدل أولا في الأين ، فإذن الحركة فيه بالعرض. وأما أن يفعل ؛ فتبدل الحال فيه بالقوة أو العزيمة أو الآلة. فكانت الحركة في قوة الفاعل أو عزيمته أو آلته أولا ، وفي الفعل بالعرض. على أن الحركة إن كانت خروجا عن هيئة فهي عن هيئة قارة وليس شيء من الأفعال كذلك. فإذن لا حركة بالذات إلا في الكم ، والكيف ، والأين ، والوضع (١) ، وهو كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه ، وكمه ، وكيفه ، ووضعه قبل ذلك ولا بعده.

والسكون هو عدم هذه الصورة في ما من شأنه أن توجد فيه وهذا العدم له معنى ما ، ويمكن أن يرسم. وفرق بين عدم القرنين في الإنسان وهو السلب المطلق عقدا وقولا ، وبين عدم المشي له ، فهو في حالة مقابلة للمشي توجد عند ارتفاع علة المشي ، وله وجود ما بنحو من الأنحاء وله علة بنحو والمشي علة بالعرض لذلك العدم ، فالعدم معلول بالعرض موجود بالعرض.

ثم اعلم أن كل حركة توجد في الجسم فإنما توجد لعلة محركة ، إذ لو تحرك بذاته وبما هو جسم لكان كل جسم متحركا فيجب أن يكون المحرك معنى زائدا على هيولى الجسمية وصورتها ولا يخلو إما أن يكون ذلك المعنى في الجسم ، وإما أن لا يكون. فإن كان المحرك مفارقا فلا بد لتحريكه من معنى في الجسم قابل لجهة التحريك والتغيير. ثم المتحرك لمعنى في ذاته يسمى متحركا بذاته ، وذلك إما أن تكون العلة الموجودة فيه يصح عنها أن تحرك تارة ولا تحرك أخرى ، فيسمى متحركا بالاختيار. وإما أن لا يصح فيسمى متحركا بالطبع. والمتحرك بالطبع

__________________

ـ لا تباين المكان ، وما لم يباين مكانه فليس بمتحرك في المكان ، فإذن كليته تلزم المكان وتباين أجزاؤه أجزاء المكان ، وكل جسم باين أجزاؤه أجزاء مكانه فقد اختلفت نسب أجزائه إلى أجزاء مكانه ، وكل ما اختلفت أجزاء مكانه فقد تبدل وضعه ، بهذا الجسم قد تبدل وضعه بحركته المستديرة وليس هاهنا تبدل حال غير هذا فليس هنا تبدل غير الوضع.

(١) الحركة هي ما يتصور من حال الجسم لخروجه عن هيئة قارة يسيرا ، وهو خروج عن القوة إلى الفعل ممتدا لا دفعة ، بل الحركة كون الشيء بحيث لا يجوز أن يكون على ما هو عليه من أينه وكمه وكيفه ووضعه قبل ذلك ولا بعده.

لا يجوز أن يتحرك وهو على حالته الطبيعية ، لأن كل ما اقتضاه طبيعة الشيء لذاته ليس يمكن أن يفارقه إلا والطبيعة قد فسدت ، وكل حركة تتعين في الجسم فإنها يمكن أن تفارق والطبيعة لم تبطل ، لكن الطبيعة إنما تقتضي الحركة للعود إلى حالتها الطبيعية ، فإذا عادت ارتفع الموجب للحركة وامتنع أن يتحرك ، فيكون مقدار الحركة على مقدار البعد من الحالة الطبيعية. وهذه الحركة ينبغي أن تكون مستقيمة إن كانت في المكان ، لأنها لا تكون إلا لميل طبيعي ، وكل ميل طبيعي فعلى أقرب المسافة ، وكل ما هو على أقرب المسافة فهو على خط مستقيم ، فالحركة المكانية المستديرة ليست طبيعية ، ولا الحركة الوضعية ، فإن كل حركة طبيعية فإنها لهرب عن حالة غير طبيعية ، ولا يجوز أن يكون فيه قصد طبيعي بالعود إلى ما فارقه بالهرب إذ لا اختيار لها. وقد تحقق العود ، فهي إذن غير طبيعية ، فهي إذن عن اختيار وإرادة ، ولو كانت عن قسر فلا بدّ أن ترجع إلى الطبع والاختيار. وأما الحركات في أنفسها فيتطرق إليها الشدة والضعف ، فيتطرق إليها السرعة والبطء لا بتخلل سكنات ، وهي قد تكون واحدة بالجنس إذا وقعت في مقولة واحدة ، أو في جنس واحد من الأجناس التي تحت تلك المقولة (١). وقد تكون واحدة بالنوع وذلك إذا كانت ذات جهة مفروضة عن جهة واحدة إلى جهة واحدة في نوع واحد ، وفي زمان مساو ، مثل تبييض ما يتبيض (٢) ، وقد تكون واحدة بالشخص وذلك إذا كانت عن متحرك واحد بالشخص في زمان واحد ، ووحدتها بوجود الاتصال فيها. والحركات المتفقة في النوع لا تتضاد. وأما تطابق الحركات فيعني بها التي يجوز أن يقال لبعضها أسرع من بعض ، أو أبطأ أو مساو ، والأسرع هو الذي يقطع شيئا مساويا لما يقطعه الآخر في زمان أقصر وضده الأبطأ ، والمساوي معلوم. وقد يكون التطابق بالقوة. وقد يكون بالفعل ، وقد يكون بالتخيل. وأما تضاد الحركات فإن

__________________

(١) ومثال ذلك النمو والذبول فإنهما واحد بالجنس ، أي في الكم مثل التسخن والتبييض فإنهما واحد بالجنس ، أي في الكيف والتسخين والتبريد واحد بالجنس الأقرب لأنهما في الكيفية الانفعالية.

(٢) ومثاله أيضا تسخين ما يتسخن وكذلك الصعود للمتصعد ، والتسفل للمتسفل.

الضدين هما اللذان موضوعهما واحد ، وهما ذاتان يستحيل أن يجتمعا فيه وبينهما غاية الاختلاف. فتضاد الحركات ليس بتضاد المتحركين (١) ، ولا بالزمان (٢) ، ولا بتضاد ما يتحرك فيه ، بل تضادهما هو بتضاد الأطراف والجهات. فعلى هذا لا تضاد بين الحركة المستقيمة والحركة المستديرة المكانية ، لأنهما لا يتضادان في الجهات ، بل المستديرة لا جهة فيها بالفعل ، لأنها متصل واحد. فالتضاد في الحركات المكانية المستقيمة يتصور. فالهابطة ضد الصاعدة. والمتيامنة ضد المتياسرة. وأما التقابل بين الحركة والسكون فهو تقابل العدم والملكة. وقد بينا أن ليس كل عدم هو السكون ، بل هو عدم ما من شأنه أن يتحرك. ويختص ذلك بالمكان الذي تتأتى فيه الحركة. والسكون في المكان المقابل إنما يقابل الحركة عنه ، لا الحركة إليه ، بل ربما كان هذا السكون استكمالا لها.

وإذا عرفت ما ذكرناه سهل عليك معرفة الزمان بأن تقول :

كل حركة تفرض في مسافة على مقدار من السرعة وأخرى معها على مقدارها وابتدأتا معا ، فإنهما يقطعان المسافة معا ، وإن ابتدأت إحداهما ولم تبتدئ الأخرى ولكن تركتا الحركة معا ، فإن إحداهما تقطع دون ما تقطعه الأولى. وإن ابتدأ معه بطيء واتفقا في الأخذ والترك وجد البطيء قد قطع أقل والسريع أكثر ، وكان بين أخذ السريع الأول وتركه إمكان قطع مسافة معينة بسرعة معينة ، وأقل منها ببطء معين ، وبين أخذ السريع الثاني. وتركه إمكان أقل من ذلك بتلك السرعة المعينة ،

__________________

(١) إذ لو كان تضاد الحركات لأنها عن متحركات متضادة لما كان ولا شيء من الأضداد يتحرك حركة واحدة ، وأيضا لو كان تضاد الحركتين لأجل تضاد المتحركين بأن يكون حقيقة تضادهما هو تضاد المتحركين لكان كل حركتين متضادتين عن ضدين ، وذلك كذب لأن بعض الأشياء يوجد هو بعينه متحركا حركتين متضادتين لوجود حد التضاد لهما وذلك كشيء واحد يبيض مرة ويسود أخرى ويعلو تارة ويسفل أخرى ، فليس إذن تعلق حقيقة التضاد بالحركات المتضادة بتضاد المتحركات.

(٢) لأن الحركات كلها تتفق في نوع الزمان فإذا قلنا ليس شيء من زماني حركتين مختلفتين بمختلفين وكلما تتضاد به الحركات مختلفان لزم أن الزمان لا تتضاد به الحركات فتبين أن الزمان لا يوجب البتة تضادا في الحركات ولا يكون به التضاد في الحركات.

يكون هذا الإمكان طابق جزءا من الأول ولم يطابق جزءا مقتضيا وكان من شأن هذا الإمكان التقضي ، لأنه لو ثبت للحركات بحال واحدة لكانت تقطع المتفقات في السرعة ، أي وقت ابتدأت وتركت ، مسافة واحدة بعينها. ولما كان إمكان أقل من إمكان. فوجد في هذا الإمكان زيادة ونقصان يتعينان ، فكان ذا مقدار مطابق للحركة. فإذن هاهنا مقدار للحركات مطابق لها. وكل ما طابق الحركات فهو متصل ، ويقتضي الاتصال تجدده ، وهو الذي نسميه «الزمان» ثم هو لا بد وأن يكون في مادة ، ومادته الحركة ، فهو مقدار الحركة ، وإذا قدرت وقوع حركتين مختلفتين في العدم كان هناك إمكانان مختلفان ، بل مقداران مختلفان. وقد سبق أن الإمكان والمقدار لا يتصور إلا في موضوع ، فليس الزمان محدثا حدوثا زمانيا بحيث يسبقه زمان ، لأن كلامنا في ذلك الزمان بعينه ، وإنما حدوثه حدوث إبداع لا يسبقه إلا مبدعه. وكذلك ما يتعلق به الزمان ويطابقه. فالزمان متصل يتهيأ أن ينقسم بالتوهم. فإذا قسم ثبتت منه آنات ، وانقسم إلى الماضي والمستقبل. وكونهما فيه ككون أقسام العدد في العدد. وكون الآن فيه كالوحدة في العدد. وكون المتحركات فيه ككون المعدودات في العدد. و «الدهر» هو المحيط بالزمان. وأقسام الزمان ما فصل منه بالتوهم كالساعات ، والأيام ، والشهور والأعوام.

* * *

وأما المكان فيقال مكان لشيء يكون محيطا بالجسم ، ويقال لشيء يعتمد عليه الجسم والأول هو الذي يتكلم فيه الطبيعي ، وهو حاو للمتمكن ، مفارق له عند الحركة ومساو له ، وليس هو شيئا في المتمكن وكل هيولى وصورة فهو في المتمكن ، فليس المكان إذن بهيولى ولا صورة ، ولا الأبعاد التي يدّعي أنها مجردة عن المادة ، قائمة بمكان الجسم المتمكن ، لا مع امتناع خلوها كما يراه قوم ، ولا مع جواز خلوها كما يظنه مثبتو الخلاء ، ونقول في نفي الخلاء : إن فرض خلاء خال فليس هو لا شيئا محضا ، بل هو ذات ما له «كم» لأن كل خلاء يفرض فقد يوجد خلاء آخر أقل منه أو أكثر ، ويقبل التجزؤ في ذاته. والمعدوم واللاشيء ليس يوجد هكذا ،

فليس إخلاء لا شيء ، فهو ذو «كم» وكل «كم» فإما متصل وإما منفصل ، والمنفصل لذاته عديم الحد المشترك بين أجزائه ؛ وقد تقرر في الخلاء حد مشترك ، فهو إذن متصل الأجزاء منحازها في جهات ، فهو إذن «كم» ذو وضع قابل للأبعاد الثلاثة ، كالجسم الذي يطابقه ، وكأنه جسم تعليمي مفارق للمادة فنقول : الخلاء يقدر إما أن يكون موضوعا لذلك المقدار ، أو يكون الوضع ومقدار جزءين من الخلاء ، والأول باطل ، فإنه إذا رفع المقدار في التوهم كان الخلاء وحده بلا مقدار ، وقد فرض أنه ذو مقدار ، فهو خلف. وإن بقي متقدرا في نفسه فهو مقدار بنفسه لا لمقدار حله ، وإن كان الخلاء مجموع مادة ومقدار فالخلاء إذن جسم فهو ملاء.

وأيضا فإن كل شيء يقبل الاتصال والانفصال فهو ذو مادة مشتركة قابلة لهما كما بينا ، والخلاء لا مادة له ، فلا يجوز عليه الانفصال والاتصال ، ونقول : إن التمانع محسوس بين الجسمين ، وليس التمانع من حيث المادة ، لأن المادة من حيث أنها مادة لا انحياز لها عن الأجزاء ؛ وإنما ينحاز الجسم عن الجسم لأجل صورة البعد ، فطباع الأبعاد تأبى التداخل ، وتوجب المقاومة والتنحي. وأيضا فإن بعدا لو دخل بعدا فإما أن يكونا جميعا موجودين أو معدومين ، أو أحدهما موجودا والآخر معدوما ، فإن وجدا جميعا ، فهما أزيد من الواحد ، وكل ما هو عظيم وهو أزيد فهو أعظم ، وإن عدما جميعا ، أو وجد أحدهما وعدم الآخر ، فليس مداخلة. فإذا قيل جسم في خلاء ، فيكون بعدا في بعد ، وهو محال.

ونقول في نفي اللانهاية عن الجسم : إن كل موجود الذات ذا وضع وترتيب فهو متناه ، إذ لو كان غير متناه فإما أن يكون غير متناه من الأطراف كلها أو غير متناه من طرف. فإن كان غير متناه من طرف أمكن أن يفصل منه من الطرف المتناهي جزء بالتوهم ، فيوجد ذلك المقدار مع ذلك الجزء شيئا على حدة ، وبانفراده شيئا على حدة. ثم يطبق بين الطرفين المتناهيين في التوهم ، فلا يخلو إما أن يكون بحيث يمتدان معا متطابقين في الامتداد فيكون الزائد والناقص متساويين وهذا محال. وإما أن لا يمتد بل يقصر عنه فيكون متناهيا والفصل أيضا كان متناهيا فيكون

المجموع متناهيا فالأصل متناه. وأما إذا كان غير متناه من جميع الأطراف فلا يبعد أن يفرض ذا مقطع تتلاقى عليه الأجزاء ويكون طرقا ونهاية ، ويكون الكلام في الأجزاء والجزءين كالكلام في الأول. وبهذا يتأتى البرهان على أن العدد المترتب الذات الموجود بالفعل متناه ، وأن ما لا يتناهى بهذا الوجه هو الذي إذا وجد فرض أنه يحتمل زيادة ونقصانا وجب أن يلزم ذلك محال. وأما إذا كانت أجزاؤه لا تتناهى وليست معا وكانت في الماضي والمستقبل فغير ممتنع وجودها واحدا قبل آخر أو بعده لاحقا. أو كانت ذات عدد غير مرتب في الوضع ولا الطبع فلا مانع عن وجوده معا. وذلك أن ما لا ترتيب له في الوضع أو الطبع فلن يحتمل الانطباق. وما لا وجود له معا فهو فيه أبعد. ونقول في إثبات التناهي في القوى الجسمانية ونفي التناهي عن القوى غير الجسمانية. قال : الأشياء التي يمتنع فيها وجود غير المتناهي بالفعل فليس يمتنع فيها من جميع الوجوه ؛ فإن العدد لا يتناهى أي بالقوة ، وكذلك الحركات لا تتناهى بالقوة لا القوة التي تخرج إلى الفعل ؛ بل بمعنى أن الأعداد يتأتى أن تتزايد فلا تقف عند نهاية أخيرة. واعلم أن القوى تختلف في الزيادة والنقصان بالنسبة إلى شدة ظهور الفعل عنها ، أو إلى عدة ما يظهر عنها ، أو إلى مدة بقاء الفعل. وبينها فرقان بعيدان ، فإن جل ما يكون زائدا بنوع الشدة يكون ناقصا بنوع المدة. وكل قوة حركت أشد فمدة حركتها أقصر وعدة حركتها أكثر. ولا يجوز أن تكون قوة غير متناهية بحسب اعتبار الشدة ، لأن ما يظهر من الأحوال القابلة لها لا يخلو : إما أن يقبل الزيادة على ما ظهر فيكون متناهيا يجوز عليه زيادة في آخره ، وإما أن لا يقبل فهو النهاية في الشدة فكل قوة جسمانية متجزئة ومتناهية.

* * *

وأما الكلام في الجهات ، فمن المعلوم أنا لو فرضنا خلاء فقط أو أبعادا أو جسما غير متناه. فلا يمكن أن يكون للجهات المختلفة بالنوع وجود البتة ، فلا يكون فوق وسفل ويمين ويسار ، وقدام وخلف. فالجهات إنما تتصور في أجسام

متناهية ، فتكون الجهات أيضا متناهية. ولذلك يتحقق إليها إشارة ، ولذاتها اختصاص وانفراد من جهة أخرى. وإذا كانت الأجسام كرية فيكون تحدد الجهات على سبيل المحيط والمحاط ، والتضاد فيها على سبيل المركز والمحيط. وإذا كان الجسم المحدد محيطا كفى لتحديد الطرفين ، لأن الإحاطة تثبت المركز ، فتثبت غاية البعد منه وغاية القرب من غير حاجة إلى جسم آخر. وأما إن فرض محاطا لم تتحدد به وحده الجهات ، لأن القرب يتحدد به ، والبعد منه يتحدد بجسم آخر ، إذ لا خلاء. وذلك ينتهي لا محالة إلى محيط. ويجب أن تكون الأجسام المستقيمة الحركة لا يتأخر عنها وجود الجهات لأمكنتها وحركاتها. بل الجهات تحصل بحركاتها ، فيجب أن يكون الجسم الذي تتحدد الجهات إليه جسما متقدما عليه ، وتكون إحدى الجهات بالطبع غاية القرب منه وهو الفرق. ويقابله غاية البعد منه وهو السفل ؛ وهذان بالطبع وسائر الجهات لا تكون واجبة في الأجسام بما هي أجسام ، بل بما هي حيوانات ، فتتميز فيها جهة القدام الذي إليه الحركة الاختيارية ، واليمين الذي منه مبدأ القوة ، والفوق إما بقياس فوق العالم ، وإما الذي إليه أول حركة النشوء ، ومقابلاتها الخلف واليسار والسفل. والفوق والسفل محدودان بطرفي البعد الذي الأولى أن يسمى طولا ، واليمين واليسار بما الأولى أن يسمى عرضا ، والقدام والخلف بما الأولى أن يسمى عمقا.

المقالة الثانية :

في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام.

من المعلوم أن الأجسام تنقسم إلى بسيطة ومركبة (١) وأن لكل جسم حيزا ما ضرورة فلا يخلو إما أن يكون كل حيز له طبيعيا ، أو منافيا لطبيعته ، أو لا طبيعيا

__________________

(١) أما المركبة فتثبت بالمشاهدة ، وأما البسيطة فتثبت بتوسط المركبة لأن كل مركب فإنما يتركب عن بسائط ، وللأجسام كلها أحياز ضرورية وهي التي تتباين بها الأجسام في الجهات بأوضاعها ولبعضها أمكنة وهي الأجسام التي تحيط بها أجسام أخر.

ولا منافيا ، أو بعضه طبيعيا وبعضه منافيا ، وبطل أن يكون كل حيز له طبيعيا ، لأنه يلزم منه أن يكون مفارقة كل مكان له خارجا عن طبعه أو التوجه إلى كل مكان له ملائما لطبعه. وليس الأمر كذلك ، فهو خلف. وبطل أن يكون كل حيز منافيا لطبعه ، لأنه يلزم منه أن لا يسكن جسم البتة بالطبع ولا يتحرك أيضا ، وكيف يسكن أو يتحرك بالطبع وكل مكان مناف لطبعه ، وبطل أن يكون كل مكان لا طبيعيا ولا منافيا ؛ لأنا إذا اعتبرنا الجسم على حالته وقد ارتفع عنه القواسر والعوارض فحينئذ لا بد له من حيز يختص به ويتحيز إليه وذلك هو حيزه الطبيعي ، فلا يزول عنه إلا بقسر قاسر. وتعين القسم الرابع أن بعض الأحياز له طبيعي ، وبعضها غير طبيعي. وكذلك نقول في الشكل : إن لكل جسم شكلا ما بالضرورة لتناهي حدوده. وكل شكل فإما طبيعي له أو بقسر قاسر. وإذا ارتفعت القواسر في التوهم واعتبرت الجسم من حيث هو جسم وكان في نفسه متشابه الأجزاء فلا بد أن يكون شكله كريا ، لأن فعل الطبيعة في المادة واحد متشابه ، فلا يمكن أن يفعل في جزء زاوية وفي جزء خطا مستقيما أو منحنيا ، فينبغي أن يتشابه الأجزاء ، فيجب أن يكون الشكل كريا. وأما المركبات فقد تكون أشكالها غير كرية لاختلاف أجزائها. فالأجسام السماوية كلها كرية. وإذا تشابهت أجزاؤها وقواها كان حيزها الطبيعي وجهتها واحدة ، فلا يتصور أرضان في وسطين في عالمين ، ولا ناران في أفقين ، بل لا يتصور عالمان ، لأنه قد ثبت أن العالم بأسره كري الشكل. فلو قدر كريان أحدهما بجنب الآخر كان بينهما خلاء ولا يتصلان إلا بجزء واحد لا ينقسم ، وقد تقدم استحالة الخلاء ، وأما الحركة فمن المعلوم أن كل جسم اعتبر ذاته من غير عارض ، بل من حيث هو جسم في حيز ؛ فهو إما أن يكون متحركا وإما أن يكون ساكنا. وذلك ما نعنيه بالحركة الطبيعية والسكون الطبيعي ، فنقول : إن كان الجسم بسيطا كانت أجزاؤه متشابهة. وأجزاء ما يلاقيه وأجزاء مكانه كذلك. فلم يكن بعض الأجزاء أولى بأن يختص ببعض أجزاء المكان من بعض ؛ فلم يجب أن يكون شيء منها له طبيعيا ، فلا يمتنع أن يكون على غير ذلك الوضع ، بل في طباعه أن يزول

عن ذلك الوضع أو الأين بالقوة. وكل جسم لا ميل له في طبعه فلا يقبل الحركة عن سبب خارج. فبالضرورة في طباعه حركة ما ، إما لكله وإما لأجزائه حتى يكون متحركا في الوضع بحركة الأجزاء ، وإذن صح أن كل قابل تحريك ففيه مبدأ ميل ، ثم لا يخلو إما أن يكون على الاستقامة أو على الاستدارة والأجسام السماوية لا تقبل الحركة المستقيمة كما سبق ، فهي متحركة على الاستدارة وقد بينا استناد حركاتها إلى مبادئها.

وأما الكيف فنقول أولا : إن الأجسام السماوية ليست موادها مشتركة ، بل هي مختلفة بالطبع ، كما أن صورها مختلفة ، ومادة الواحدة منها لا يصلح أن تتصور بصورة الأخرى. ولو أمكن ذلك كذلك لقلبت الحركة المستقيمة ، وهو محال. فلها طبيعة خامسة مختلفة بالنوع ، بخلاف طبائع العناصر ، فإن مادتها مشتركة وصورها مختلفة. وهي تنقسم إلى حار يابس كالنار ، وإلى حار رطب كالهواء ، وإلى بارد رطب كالماء ، وإلى بارد يابس كالأرض. وهذه أعراض فيها لا صور ، ويقبل الاستحالة بعضها إلى بعض ، ويقبل النمو والذبول ، ويقبل الآثار من الأجسام السماوية. وأما الكيفيات ، فالحرارة والبرودة فاعلتان ، فالحار هو الذي يغير جسما آخر بالتحليل والخلخلة بحيث يألم الحاس منه ، والبارد هو الذي يغير جسما بالتعقيد والتكثيف بحيث يألم الحاس منه ، وأما الرطوبة واليبوسة فمنفعلتان. فالرطب هو سهل القبول للتفريق والجمع ، والتشكيل والدفع. واليابس هو عسر القبول لذلك. فبسائط الأجسام المركبة تختلف وتتمايز بهذه القوى الأربع ، ولا يوجد شيء منها عديما لواحدة من هذه (١). وليست هذه صورا مقومة للأجسام ، لكنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع من خارج ظهر منها في أجرامها حر

__________________

(١) أي الواحدة من القوتين الفاعلتين ، وواحدة من القوتين المنفعلتين لأن هذه الأجسام من شأنها أن تفترق وتجتمع وإلا لما اتصلت منها أجزاء فحصلت منها المركبات ، ومن شأنها أن تختلف عليها الأشكال والهيئات فتقبلها وتحفظها ، والتفريق والجمع لا يتم إلا بقوة جامعة وأخرى مفرقة والتشكيل وحفظه لا يتم إلا بقوة سهلة القبول وأخرى عسرة الترك ، فإذن الأسطقسات أربع : جسم حار يابس ، وآخر حار رطب ، وآخر بارد رطب ، وآخر بارد يابس.

أو برد ، ورطوبة أو يبس. كما أنها إذا تركت وطباعها ولم يمنعها مانع ظهر منها إما سكون أو ميل وحركة فلذلك قيل قوة طبيعية ، وقيل النار حارة بالطبع ، والسماء متحركة بالطبع. فعرفت الأحياز الطبيعية ، والأشكال الطبيعية ، والحركات الطبيعية ، والكيفيات الطبيعية ، وعرفت أن إطلاق الطبيعية عليها بأي وجه ، فنقول بعد ذلك : إن العناصر قابلة للاستحالة والتغير وبينها مادة مشتركة ، والاعتبار في ذلك بالمشاهدة ، فإنا نرى الماء العذب انعقد حجرا جلمدا ، والحجر يكلس فيعود رمادا ، ويرام بالحيلة حتى يصير ماء ، فالمادة مشتركة بين الماء والأرض ، ونشاهد هواء صحوا يغلظ دفعة فيستحيل أكثره أو كله ماء وبردا وثلجا ، ونضع الجمد في كوز صفر فنجد من الماء المجتمع على سطحه كالقطر ، ولا يمكن أن يكون ذلك بالرشح ، لأنه ربما كان ذلك حيث لا يماسه الجمد وكان فوق مكانه ثم لا نجد مثله إذا كان حارا والكوز مملوءا ، ويجتمع مثل ذلك داخل الكوز حيث لا يماسه الجمد ، وقد يدفن القدح في جمد محفور حفرا مهندما ويسد رأسه عليه فيجتمع فيه ماء كثير ، وإن وضع في الماء الحار الذي يغلي مدة واستد رأسه لم يجتمع شيء ، وليس ذلك إلا لأن الهواء الخارج أو الداخل قد استحال ماء ، فبين الماء والهواء مادة مشتركة وقد يستحيل الهواء نارا ، وهو ما نشاهد من آلات حاقنة مع تحريك شديد على صورة المنافخ ، فيكون ذلك الهواء بحيث يشتعل في الخشب وغيره ، وليس ذلك على طريق الانجذاب ، لأن النار لا تتحرك إلا على سبيل الاستقامة إلى العلو ، ولا على طريق الكمون ، إذ من المستحيل أن يكون في ذلك الخشب من النار الكامنة ما له ذلك القدر الذي في الجمرة ولا يحترق ، والكمون أجمع لها ، والمنتشر أضعف تأثيرا من المجتمع ، فتعين أنه هواء اشتعل نارا ، فبين النار والهواء مادة مشتركة ، ونقول : إن العناصر قابلة للكبر والصغر ، والتكاثف والتخلخل ، فيصير جسم أكبر من جسم من غير زيادة من خارج ، ويصير أصغر من غير نقصان ، فبين الكبير والصغير مادة مشتركة ، إذ قد تحقق أن المقدار عرض في الهيولى والكبر والصغر أعراض في الكميات. وقد نشاهد ذلك إذا أغلى الماء انتفخ

وتخلخل والخمر ينتفخ في الدن حتى يتصعد عند الغليان ، وكذلك القمقمة الصياحة وهي إذا كانت مسدودة الرأس مملوءة بالماء وأوقدت النار تحتها انكسرت وتصدعت ، ولا سبب له إلا أن الماء صار أكثر مما كان ، ولا جائزا أن يقال : إنه كبر بدخول أجزاء النار فيها ؛ فإنه كيف دخلت وما خرج جزء من الماء ولا خلاء فيه؟ ولا جائز أن يقال إن النار طلبت جهة الفوق بطبعها ، فإنه كان ينبغي أن ترفع الإناء وتطيره لا أن تكسره. وإذا كان الإناء صلبا خفيفا كان رفعه أسهل من كسره ، فتعين أن السبب انبساط الماء في جميع الجوانب ودفعه سطح الإناء إلى الجوانب فيتفتق الموضع الذي كان أضعف. وله أمثلة أخرى تدل على أن المقدار يزيد وينقص ، ونقول : إن العناصر قابلة للتأثيرات السماوية ، إما آثار محسوسة مثل نضج الفواكه ومد البحار وأظهرها الضوء والحرارة بواسطة الضوء والتحريك إلى فوق بتوسط الحرارة ، والشمس ليست بحارة ولا متحركة إلى فوق. وإنما تأثيراتها معدات للمادة في قبول الصورة من واهب الصور ، وقد يكون للقوى الفلكية تأثيرات خارجة من العنصريات ، وإلا فكيف يبرد الأفيون أقوى مما يبرد الماء ، والجزء البارد فيه مغلوب بالتركيب مع الأضداد؟ وكيف يفعل ضوء الشمس في عيون العشي والنبات بأدنى تسخين ما لا تفعله النار بتسخين يكون فوقه؟ فتبين أن العناصر كيف قبلت الاستحالة والتغير والتأثير. وتبين ما لها بالعنصر والجوهر.

المقالة الثالثة :

في المركبات والآثار العلوية.

قال ابن سينا : إن العناصر الأربعة عساها أن لا توجد كلياتها صرفة ، بل يكون فيها

اختلاط ، ويشبه أن تكون النار أبسطها في موضعها ثم الأرض. أما النار فلأن ما يخالطها يستحيل إليها لقوتها. وأما الأرض فلأن نفوذ قوى ما يحيط بها في كليتها بأسرها كالقليل ، وعسى أن يكون باطنها القريب من المركز يقرب من البساطة (١).

__________________

(١) لكن ذلك دون بساطة النار ، لأن نفوذ القوى الفلكية المسخنة في الأرض جائز ، وذلك مما يحدث فيها إحالة ما ، ومع ذلك فإن الأرض لا تقوى على إحالة كل ما يخالطها من الجوهر القريب إلى الأرضية قوة النار على إحالة ما يخالطها.

ثم الأرض على طبقات : الطبقة الأولى القريبة من المركز ، والثانية الطين ، والثالثة بعضها ماء وبعضها طين جففته الشمس وهو البر (١). والسبب في أن الماء غير محيط بالأرض أن الأرض تنقلب ماء فتحصل وهدة ، والماء يستحيل أرضا فتحصل ربوة ، والأرض صلب وليس بسيال كالماء والهواء حتى ينصب بعض أجزائه إلى بعض ويتشكل بالاستدارة. وأما الهواء فهو أربع طبقات : طبقة تلي الأرض فيها مائية من البخارات وحرارة ، لأن الأرض تقبل الضوء من الشمس ، فتحمى فتتعدى الحرارة إلى ما يجاورها. وطبقة لا تخلو عن رطوبة بخارية ولكن أقل حرارة. وطبقة هي هواء صرف صاف. وطبقة دخانية لأن الأدخنة ترتفع إلى الهواء وتقصد مركز النار فتكون كالمنتشر في السطح الأعلى من الهواء إلى أن تتصعد فتحترق. وأما النار فإنها طبقة واحدة ولا ضوء لها ، بل هي كالهواء المشفّ الذي لا لون له. وإن رئي لون للنار فهي بما يخالطها من الدخان صارت ذات لون ، ثم فوق النار الأجرام العالية الفلكية ، والعناصر بطبقاتها طوعها ، والكائنات الفاسدات تتولد من تأثيراتها ، والفلك وإن لم يكن حارا ولا باردا فإنه ينبعث منه في الأجرام السفلية حرارة وبرودة بقوى تفيض منه إليها ، ونشاهد هذا من إحراق شعاعه المنعكس على المرائي ، ولو كان سبب الإحراق حرارة الشمس دون شعاعه لكان كل ما هو أقرب إلى العلو أسخن ، بل سبب الإحراق التفاف الشعاع الشمسي المسخن لما يلتف به فيسخن الهواء ، فالفلك إذا هيج بإسخانه الحرارة بخر من الأجسام المائية ودخن من الأجسام الأرضية ، وأثار شيئا بين الغبار والدخان من الأجسام المائية الأرضية (٢). والبخار أقل

__________________

(١) ثم يحيط بالبر والبحر الهواء البخاري إلا أنه ذو طبقتين إحداهما تصاقب كرة الأرض فتسخن من شعاع الشمس المسخن للأرض المسخنة لما تجاورها وبعضه يبعد عنه فتستولي عليه الطبيعة التي في جوهر المائية وهو البرد. ولهذا تكون أعالي الجبال ومواضع انعقاد السحاب أبرد ، ثم فوق هاتين الطبقتين طبقة الهواء الذي هو أقرب إلى البساطة ثم فوقه طبقة الهواء الدخاني ، وذلك أن الدخان أيبس وأسرع حركة وأشبه كيفية بالنار فهو يعلو البخار.

(٢) ولأن الأرض والماء يوجدان في أكثر الأحوال متمازجين فليس يوجد بخار بسيط ولا دخان بسيط إلا ندرة وشذوذا وإنما يسمى التأثير باسم الأغلب.

مسافة في صعوده من الدخان ، لأن الماء إذا سخن كان حارا رطبا ، والأجزاء الأرضية إذا سخنت ولطفت كانت حارة يابسة. والحار الرطب أقرب إلى طبيعة الهواء والحار اليابس أقرب إلى طبيعة النار. والبخار لا يجاوز مركز الهواء بل إذا وافى منقطع تأثير الشعاع برد وكثف. والدخان يتعدى حيز الهواء حتى يوافي تخوم النار ، وإذا احتبسا فيهما حدثت كائنات أخر. فالدخان إذا وافى حيز النار اشتعل ، وإذا اشتعل فربما سعى فيه الاشتعال فرئي كأنه كوكب يقذف به ، وربما احترق وثبت فيه الاحتراق فرئيت العلامات الهائلة الحمر والسود. وربما كان غليظا ممتدا وثبت فيه الاشتعال ووقف تحت كوكب ، ودارت به النار بدوران الفلك وكان ذنبا له. وربما كان عريضا فرئي كأنه لحية كوكب وربما حميت الأدخنة في برد الهواء للتعاقب المذكور فانضغطت مشتعلة ، وإن بقي شيء من الدخان في تضاعيف الغيم وبرد صار ريحا وسط الغيم يتحرك عنه بشدة يحصل منه صوت يسمى الرعد ، وإن قويت حركته وتحريكه اشتعل من حرارة الحركة والهواء والدخان فصار نارا مضيئة تسمى البرق ، وإن كان المشتعل كثيفا ثقيلا محرقا اندفع بمصادمات الغيم إلى جهة الأرض فيسمى صاعقة ، ولكنها نار لطيفة تنفذ في الثياب والأشياء الرخوة ، وتنصدم بالأشياء الصلبة كالذهب والحديد فيذيبه حتى يذيب الذهب في الكيس ولا يحرق الكيس. ويذيب ذهب المراكب ولا يحرق السير. ولا يخلو برق عن رعد لأنهما جميعا عن الحركة ، ولكن البصر أحد ، فقد يرى البرق ولا ينتهي صوت الرعد إلى السمع ، وقد يرى متقدما ويسمع متأخرا.

وأما البخار الصاعد فمنه ما يلطف ويرتفع جدا ويتراكم ويكثر مدده في أقصى الهواء عند منقطع الشعاع فيبرد فيكثف فيقطر فيكون المتكاثف منه سحابا ، والقاطر مطرا. ومنه ما يقصر لثقله عن الارتفاع بل يبرد سريعا وينزل كما لو يوافيه برد الليل سريعا قبل أن يتراكم سحابا ، وهذا هو الطل. وربما جمد البخار المتراكم في الأعالي أعني السحاب فنزل وكان ثلجا. وربما جمد البخار غير المتراكم في الأعالي أعني مادة الطل فنزل وكان صقيعا ، وربما جمد البخار بعد ما استحال

قطرات ماء فكان بردا. وإنما يكون جموده في الشتاء وقد فارق السحاب. وفي الربيع وهو داخل السحاب. وذلك إذا سخن خارجه فبطنت البرودة إلى داخلة فتكاثف داخله واستحال ماء وأجمده شدة البرودة. وربما تكاثف في الهواء نفسه لشدة البرد ، فاستحال سحابا واستحال مطرا ، ثم ربما وقع على صقيل الظاهر من السحاب صور النيرات وأضواؤها كما يقع في المرائي والجدران الثقيلة فيرى ذلك على أحوال مختلفة بحسب اختلاف بعدها من النير وقربها ، وبعدها من المرئي وصفائها وكدورتها ، واستوائها ورعشتها ، وكثرتها وقلتها. فيرى هالة وقوس قزح ، وشموس وشهب.

فالهالة تحدث عن انعكاس البصر عن الرش المطيف بالنير إلى النير حيث يكون الغمام المتوسط لا يخفي النير. فيرى دائرة كأنها منطقة محورها الخط الواصل بين الناظر وبين النير وما في داخلها ينفذ عنه البصر إلى النير. ونوره الغالب على أجزاء الرش يجعله كأنه غير موجود ، وكأن الغيم هناك هواء شفّاف. وأما القوس فإن الغمام يكون في خلاف جهة النير ، فتنعكس الزوايا عن الرش إلى النير لا بين الناظر والنير ، بل الناظر أقرب إلى النير منه إلى المرآة فتقع الدائرة التي هي كالمنطقة أبعد من الناظر إلى النير : فإن كانت الشمس على الأفق كان الخط المار بالناظر والنير على بسيط الأفق وهو المحور ، فيجب أن يكون سطح الأفق يقسم المنطقة بنصفين ، فيرى القوس نصف دائرة ، فإن ارتفعت الشمس انخفض الخط المذكور فصار الظاهر من المنطقة الموهومة أقل من نصف دائرة. وأما تحصيل الألوان على الجهة الشافية فإنه لم يستبن بعد. والسحب ربما تفرقت وذابت فصارت ضبابا. وربما اندفعت بعد التلطف إلى أسفل فصارت رياحا ، وربما هاجت الرياح لاندفاع بعضها من جانب إلى جهة ، وربما هاجت لانبساط الهواء بالتخلخل عند جهة واندفاعه إلى أخرى. وأكثر ما يهيج لبرد الدخان المتصعد المجتمع الكثير ونزوله فإن مبادي الرياح فوقانية ، وربما عطفها مقاومة الحركة الدورية التي تتبع الهواء العالي فانعطفت رياحا. والسموم ما كان منها محترقا. وأما الأبخرة داخل

الأرض فتميل إلى جهة فتبرد فتستحيل ماء فيصعد بالمد فيخرج عيونا ، وإن لم تدعها السخونة تبرد وكثرت وغلظت فلم تنفذ في مجاري مستحصفة فاجتمعت واندفعت مرة فزلزلت الأرض فخسفت. وقد تحدث الزلزلة من تساقط أعالي وهدة في باطن الأرض فيموج بها الهواء المحتقن. وإذا احتبست الأبخرة في باطن الجبال والكهوف فيتولد منها الجواهر (١) إذا وصل إليها من سخونة الشمس وتأثير الكواكب خط ؛ وذلك بحسب اختلاف المواضع والأزمان والمواد. فمن الجواهر ما هو قابل للإذابة والطرق كالذهب والفضة ويكون قبل أن يصلب زئبقا ونفطا. وانطراقها لحياة رطوبتها ولعصيانها الجمود التام. ومنها ما لا يقبل ذلك. وقد تتكون من العناصر أكوان أيضا بسبب القوى الفلكية إذا امتزجت العناصر امتزاجا أكثر اعتدالا من المعادن ، فيحصل في المركب قوة غاذية ، وقوة نامية ، وقوة مولدة. وهذه القوى متمايزة بخصائصها.

المقالة الرابعة :

في النفوس وقواها.

اعلم أن النفس كجنس واحد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

أحدها : النباتية ، وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يتولد ويربو ويغتذي. والغذاء جسم من شأنه أن يتشبه بطبيعة الجسم الذي قيل إنه غذاؤه ؛ ويزيد فيه مقدار ما يتحلل أو أكثر أو أقل.

والثاني : النفس الحيوانية ؛ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يدرك الجزئيات ويتحرك بالإرادة.

__________________

(١) وقد تحتبس في باطن الجبال والكهوف ، فتتولد منها الجواهر الغير قابلة للذوبان ، وتحتقن الأدخنة أيضا في البحار فتملح مياهها لأن الأشياء الأرضية ذات الهوة ، أي التي عملت فيها الحرارة وما بلغت في الإحالة تكون مرة ، فإذا خالطت المائية ملحت ، وقد يتخذ من الرماد والكلس وغيرهما ملح بأن يطبخ في الماء ويصفى ويطبخ حتى ينعقد ملحا ، أو يترك فيصير ملحا.

والثالث : النفس الإنسانية ؛ وهي الكمال الأول لجسم طبيعي آلي من جهة ما يفعل الأفعال الكائنة بالاختيار الفكري والاستنباط بالرأي ، ومن جهة ما يدرك الأمور الكلية.

وللنفس النباتية قوى ثلاث وهي :

١ ـ القوة الغاذية ، وهي القوة التي تحيل جسما آخر إلى مشاكلة الجسم الذي هي فيه فتلصقه به بدل ما يتحلل عنه.

٢ ـ والقوة المنمية ؛ وهي قوة تزيد في الجسم الذي هي فيه بالجسم المتشبه به زيادة في أقطاره طولا وعرضا وعمقا بقدر الواجب ليبلغ به كماله في النشوء.

٣ ـ والقوة المولدة ؛ وهي التي تأخذ من الجسم الذي هي فيه جزءا هو شبيه له بالقوة فتفعل فيه باستمداد أجسام أخرى تتشابه به من التخليق والتمزيج ما يصير شبيها به بالفعل فللنفس النباتية ثلاث قوى.

وللنفس الحيوانية قوتان : محركة ، ومدركة. والمحركة على قسمين : إما محركة بأنها باعثة ، وإما محركة بأنها فاعلة والباعثة هي القوة النزوعية ، الشوقية ، وهي القوة التي إذا ارتسمت في التخيل بعد صورة مطلوبة أو مهروب عنها حملت القوة التي تدركها على التحريك ، ولها شعبتان : شعبة تسمى شهوانية ، وهي قوة تبعث على تحريك يقرب من الأشياء المتخيلة ضرورة أو نافعة طلبا للذة. وشعبة تسمى غضبية وهي قوة تبعث على تحريك تدفع به الشيء المتخيل ضارا أو مفسدا طلبا للغلبة وأما القوة المحركة على أنها فاعلة فهي قوة تنبعث في الأعصاب والعضلات من شأنها أن تشنج العضلات فتجذب الأوتار والرباطات إلى جهة المبدأ ، أو ترخيها أو تمدها طولا فتصير الأوتار والرباطات إلى خلاف جهة المبدأ.

وأما القوة المدركة فتنقسم قسمين :

أحدهما : قوة تدرك من خارج وهي الحواس الخمس ، أو الثمانية.

فمنها البصر ؛ وهي قوة مرتبة في العصبة المجوفة تدرك صورة ما ينطبع في الرطوبة الجليدية من أشباح الأجسام ذوات اللون المتأدية في الأجسام الشفافة بالفعل إلى سطوح الأجسام الصقيلة.

ومنها السمع وهي قوة مرتبة في العصب المتفرق في سطح الصماخ تدرك صورة ما يتأدى إليه بتموّج الهواء المنضغط بين قارع ومقروع مقاوم له انضغاطا بعنف يحدث منه تموج فاعل للصوت يتأدى إلى الهواء المحصور الراكد في تجويف الصماخ ، ويموجه بشكل نفسه ، وتماس أمواج تلك الحركة العصبة فيسمع.

ومنها الشم وهي قوة مرتبة في زائدتي مقدم الدماغ الشبيهتين بحلمتي الثدي تدرك ما يؤدي إليه الهواء المستنشق من الرائحة المخالطة لبخار الريح ، والمنطبع بالاستحالة من جرم ذي رائحة.

ومنها الذوق وهي قوة مرتبة في العصب المفروش على جرم اللسان تدرك الطعوم المتحللة من الأجسام المماسة المخالطة للرطوبة اللعابية التي فيه فتحيله.

ومنها اللمس وهي قوة منبثة في جلد البدن كله ولحمه فاشية فيه. والأعصاب تدرك ما تماسه وتؤثر فيه بالمضادة وتغيره في المزاج أو الهيئة. ويشبه أن تكون هذه القوة لا نوعا بل جنسا لأربع قوى منبثة معا في الجلد كله ، الواحدة حاكمة في التضاد الذي بين الحار والبارد. والثانية حاكمة في التضاد الذي بين الصلب واللين. والثالثة حاكمة في التضاد الذي بين الرطب واليابس والرابعة حاكمة في التضاد الذي بين الخشن والأملس ، إلا أن اجتماعهما معا في آلة واحدة يوهم تأحدها في الذات ، والمحسوسات كلها تتأدى إلى آلات الحس فتنطبع فيها فتدركها القوة الحاسة.

والقسم الثاني : قوى تدرك من باطن ، فمنها ما يدرك صور المحسوسات ، ومنها ما يدرك معاني المحسوسات والفرق بين القسمين هو أن الصورة هي الشيء الذي تدركه النفس الناطقة والحس الظاهر معا. ولكن الحس يدركه أولا ويؤديه إلى النفس ، مثل إدراك الشاة صورة الذئب. وأما المعنى فهو الشيء الذي تدركه النفس

من المحسوس من غير أن يدركه الحس أولا ، مثل إدراك الشاة المعنى المضادّ في الذئب الموجب لخوفها إياه وهربها عنه (١). ومن المدركات الباطنة ما يدرك ويفعل ، ومنها ما يدرك ولا يفعل. والفرق بين القسمين : أن الفعل فيها هو أن تركت الصور والمعاني المدركة بعضها مع بعض ، وتفصل بعضها عن بعض ، فيكون إدراك وفعل أيضا فيما أدرك ، والإدراك لا مع الفعل هو أن تكون الصورة أو المعنى ترتسم في القوة فقط من غير أن يكون لها فعل وتصرّف فيه. ومن المدركات الباطنة ما يدرك أولا ، ومنها ما يدرك ثانيا. والفرق بين القسمين : أن الإدراك الأول هو أن يكون حصول الصورة على نحو ما من الحصول قد وقع للشيء من نفسه ، والإدراك الثاني هو أن يكون حصولها من جهة شيء آخر أدى إليها.

ثم من القوى الباطنة المدركة الحيوانية قوة «بنطاسيا» وهو الحس المشترك ، وهي قوة مرتبة في التجويف الأول من مقدم الدماغ تقبل بذاتها جميع الصور المنطبعة في الحواس الخمس متأدية إليه. ثم الخيال والمصورة ، وهي قوة مرتبة في آخر التجويف المقدم من الدماغ تحفظ ما قبله الحس المشترك من الحواس. ويبقى فيها بعد غيبة المحسوسات (٢) والقوة التي تسمى متخيلة بالقياس إلى النفس الحيوانية ، وتسمى مفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية ، فهي قوة مرتبة في التجويف الأوسط من الدماغ عند الدودة من شأنها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض ، وتفصل بعضه عن بعض بحسب الاختيار. ثم القوة الوهمية ، وهي قوة مرتبة في نهاية التجويف الأوسط من الدماغ تدرك المعاني غير المحسوسة الموجودة في المحسوسات الجزئية ، كالقوة الحاكمة بأن الذئب مهروب عنه ، وأن الولد معطوف عليه. ثم القوة الحافظة الذاكرة ، وهي قوة مرتبة في التجويف المؤخر من الدماغ

__________________

(١) فالذي يدرك من الذئب أولا بالحس ، ثم القوى الباطنة هو الصورة ، والذي تدركه القوى الباطنة دون الحس فهو المعنى.

(٢) والقوة التي بها القبول غير القوة التي بها الحفظ.

تحفظ ما تدركه القوة الوهمية من المعاني غير المحسوسة في المحسوسات. ونسبة الحافظة إلى الوهمية كنسبة الخيال إلى الحس المشترك ، إلا أن ذلك في المعاني وهذا في الصورة فهذه خمس قوى الحيوانية (١).

وأما النفس الناطقة للإنسان فتنقسم قواها أيضا إلى قوة عالمة ، وقوة عاملة. وكل واحد من القوتين يسمى عقلا باشتراك الاسم. فالعاملة قوة هي مبدأ محرك لبدن الإنسان إلى الأفاعيل الجزئية الخاصة بالروية على مقتضى آراء تخصها إصلاحية. ولا اعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية النزوعية. واعتبار بالقياس إلى القوة الحيوانية المتخيلة والمتوهمة ، واعتبار بالقياس إلى نفسها. وقياسها إلى النزوعية أن تحدث عنها فيها هيئات تخص الإنسان تتهيأ بها لسرعة فعل وانفعال ، مثل الخجل ، والحياء ، والضحك ، والبكاء. وقياسها إلى المتخيلة والمتوهمة هو أن تستعملها في استنباط التدابير في الأمور الكائنة والفاسدة. واستنباط الصناعات الإنسانية. وقياسها إلى نفسها أن فيما بينها وبين العقل النظري تتولد الآراء الذائعة المشهورة ، مثل : إن الكذب قبيح ، والصدق حسن. وهذه القوة هي التي يجب أن تتسلط على سائر قوى البدن على حسب ما توجبه أحكام القوة العاقلة حتى لا تنفعل عنه البتة بل ينفعل عنها ، فلا يحدث فيها عن البدن هيئات انقيادية مستفادة من الأمور الطبيعية ، وهي التي تسمى أخلاقا رذيلة ، بل تحدث في القوى البدنية هيئات انقيادية لها ، وتكون متسلطة عليها (٢).

وأما القوة العالمة النظرية. فهي قوة من شأنها أن تنطبع بالصور الكلية المجردة عن المادة، فإن كانت مجردة بذاتها فذاك. وإن لم تكن فإنها تصيرها

__________________

(١) ومن الحيوان ما يكون له الحواس الخمس كلها ، ومنه ما له بعضها دون بعض. أما الذوق واللمس فضروري ان يخلق في كل حيوان ، ولكن من الحيوان ما لا يشم ، ومنه ما لا يسمع ، ومنه ما لا يبصر.

(٢) فيكون لها أخلاق فضيلية ، ويجوز أن تنسب الأخلاق إلى القوى البدنية ، ولكن إن كانت هي الغالبة تكون لها هيئة فعلية ولهذه هيئة انفعالية فيكون شيء واحد يحدث منه خلق في هذا وخلق في ذلك ، وإن كانت هي المغلوبة يكون لها هيئة انفعالية ولهذه هيئة فعلية غير غريبة ، أو يكون الخلق واحدا وله نسبتان.

مجردة بتجريدها إياها حتى لا يبقى فيها من علائق المادة شيء. ثم لها إلى هذه الصورة نسب وذلك أن الشيء الذي من شأنه أن يقبل شيئا قد يكون بالقوة قابلا له ، وقد يكون بالفعل.

والقوة على ثلاثة أوجه : قوة مطلقة هيولانية ، وهو الاستعداد المطلق من غير فعل ما كقوة الطفل على الكتابة : وقوة ممكنة وهو استعداد مع فعل ما كقوة الطفل بعد ما تعلم بسائط الحروف. وقوة تسمى ملكة ، وهي قوة لهذا الاستعداد إذا تم بالآلة ويكون له أن يفعل متى شاء بلا حاجة إلى اكتساب. فالقوة النظرية قد تكون نسبتها إلى الصور نسبة الاستعداد المطلق ، وتسمى عقلا هيولانيا (١) ؛ وإذا حصل فيها من المعقولات الأولى (٢) التي يتوصل بها إلى المعقولات الثانية تسمى عقلا بالفعل. وإذا حصلت فيها المعقولات الثانية المكتسبة وصارت مخزونة له بالفعل متى شاء طالعها ، فإن كانت حاضرة عنده بالفعل تسمى عقلا مستفادا. وإذا كانت مخزونة تسمى عقلا بالملكة. وهاهنا ينتهي النوع الإنساني ، ويتشبه بالمبادئ الأولى للوجود كله. وللناس مراتب في هذا الاستعداد ، فقد يكون عقل شديد الاستعداد حتى لا يحتاج في أن يتصل بالعقل الفعال إلى كثير شيء من تخريج وتعليم ، حتى كأنه يعرف كل شيء من نفسه لا تقليدا بل بترتيب يشتمل على حدود وسطى فيه ، إما دفعة في زمان واحد ، وإما دفعات في أزمنة شتى ، وهي القوة القدسية التي تناسب روح القدس فيفيض عليها منه جميع المعقولات ، أو ما يحتاج إليه في تكميل القوة العملية. فالدرجة العليا منها النبوة ، فربما يفيض عليها وعلى المتخيلة من روح القدس معقول تحاكيه المتخيلة بأمثلة محسوسة أو كلمات مسموعة ، فيعبر عن الصورة بملك في صورة رجل ، وعن الكلام بوحي في صورة عبارة.

__________________

(١) وهذه القوة التي تسمى عقلا هيولانيا موجودة لكل شخص بالنوع ، وإنما سميت هيولانية تشبيها بالهيولى الأولى التي ليست هي بذاتها ذات صورة من الصور وهي موضوعة لكل صورة.

(٢) ويعني بالمعقولات الأولى المقدمات التي يقع بها التصديق لا باكتساب ولا بأن يشعر المصدق بها أنه كان يجوز له أن يخلو عن التصديق بها وقتا.

المقالة الخامسة :

في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم. وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات وأنها واحدة وقواها كثير ، وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن.

أما البرهان على أن النفس ليست بجسم هو أنا نحس من ذواتنا إدراكا معقولا مجردا عن المواد وعوارضها ، أعني الكم والأين والوضع ، إما لأن المدرك لذاته مجرد كالعلم بالوحدة والعلم بالوجود مطلقا ، وإما لأن العقل جرده عن العوارض كالإنسان مطلقا. فيجب أن ينظر في ذات هذه الصورة المجردة كيف هي في تجردها؟ أبالقياس إلى الشيء المأخوذ عنه؟ أم بالقياس إلى مجرد الآخذ؟ ولا يشك أنها بالقياس إلى المأخوذ عنه ليست مجردة ، فبقي أنها مجردة من الوضع والأين عند وجودها في العقل. والجسم ذو وضع وأين ، وما لا وضع له لا يحل ما له وضع وأين. وهذه الطريقة أقوى الطرق ، فإن الشيء المعقول الواحد الذات المتجرد عن المادة لا يخلو ، إما أن يكون له نسبة إلى بعض الأجزاء دون البعض فيحل في جهة دون جهة حتى يكون متيامنا أو متياسرا بالنسبة إلى المحل. أو تكون نسبته إلى الكل نسبة واحدة، أو لا يكون لها نسبة إليه ولا له إلى جميع الأجزاء فإن ارتفعت النسبة من كل وجه ارتفع الحلول في جملة الجسم أو في جزء من أجزائه. وإن تحققت النسبة صار الشيء المعقول ذا وضع وقد وضع غير ذي وضع ، هذا خلف. وبه يتبين أن الصورة المنطبعة في المادة لا تكون إلا أشباحا لأمور جزئية منقسمة ، ولكل جزء منها نسبة بالفعل أو بالقوة إلى جزء منها. وأيضا فإن الشيء المتكثر في أجزاء الحد له من جهة التمام وحدة هو بها لا ينقسم. فتلك الوحدة بما هي وحدة كيف ترتسم في منقسم؟ وأيضا من شأن القوة الناطقة أن تعقل بالفعل واحدا واحدا من المعقولات غير متناهية بالقوة وليس واحد أولى من الآخر. وقد صح لنا أن الشيء الذي يقوى على أمور غير متناهية بالقوة لا يجوز أن يكون محله جسما ولا قوة في جسم.

ومن الدليل القاطع على أن محل المعقولات ليس بجسم أن الجسم منقسم بالقوة بالضرورة وما لا ينقسم لا يحل المنقسم. والمعقول غير منقسم ، فلا يحل المنقسم. أما أن الجسم منقسم فقد دللنا عليه ، وأما أن المعقول المجرد لا ينقسم فقد فرغنا عنه ، وأما أن ما لا ينقسم لا يحل منقسما ؛ فإنا لو قسمنا المحل فلا يخلو : إما أن يبطل الحال فيه وهذا كذب ، أو لا يبطل ولا يخلو إما أن يبقى حالا في بعضه كما كان حالا في كله ، وهذا محال فإنه يجب أن يكون حكم البعض حكم الكل. وإما أن ينقسم بانقسام محله ، وقد فرض غير منقسم. ثم فرض انقسام الحال فيه فلا يخلو : إما أن تكون أجزاؤه متشابهة كالشكل المعقول أو العدد ، وليس كل صورة معقولة بشكل ، أو تكون الصورة المعقولة خيالية لا عقلية صرفة. وأظهر من ذلك أنه ليس يمكن أن يقال : إن كل واحد من الجزءين هو بعينه الكل في المعنى (١) وإن كانا غير متشابهين مثل أجزاء الحد من الجنس والفصل فيلزم منه محالات ، منها أن كل جزء من الجسم يقبل القسمة أيضا ، فيجب أن تكون الأجناس والفصول غير متناهية ، وهذا باطل (٢) وأيضا فإنه إن وقع الجنس في جانب والفصل في جانب. ثم لو قسمنا الجسم لكان يجب أن يقع نصف الجنس في جانب ونصف الفصل في جانب وهو محال. ثم ليس أحد الجزءين أولى بقبول الجنس منه بقبول الفصل. وأيضا ليس كل معقول يمكن أن يقسم إلى معقولات أبسط. فإن هاهنا معقولات هي أبسط المعقولات ، ومبادي للتركيب في سائر المعقولات وليس لها أجناس ولا فصول ولا انقسام في الكم ولا في المعنى ، فلا يتوهم فيها أجزاء متشابهة.

فتبين بهذه الجملة أن محل المعقولات ليس بجسم ، ولا قوة في جسم ، فهو

__________________

(١) لأن الثاني إن كان غير داخل في معنى الكل فيجب أن نضع في الابتداء معنى الكل لهذا الواحد لا لكليهما ، وإن كان داخلا في معناه فمن البين الواضح أن الواحد منهما وحده ليس يدل عليه على التمام.

(٢) وقد صح أن الأجناس والفصول وأجزاء الحد للشيء الواحد متناهية من كل وجه ، ولو كانت غير متناهية بالفعل لما كان يجوز أن يجتمع في الجسم اجتماعا على هذه الصورة ، فإن ذلك يوجب أن يكون الجسم الواحد انفصل بأجزاء غير متناهية.

إذن جوهر معقول ، علاقته مع البدن لا علاقة حلول ولا علاقة انطباع بل علاقة التدبير والتصرف. وعلاقته من جهة العلم الحواس الباطنة المذكورة ، وعلاقته من جهة العمل القوى الحيوانية المذكورة فيتصرف في البدن. وله فعل خاص يستغني به عن البدن وقواه ، فإن من شأن هذا الجوهر أن يعقل ذاته ، ويعقل أنه عقل ذاته. وليس بينه وبين ذاته آلة ، ولا بينه وبين آلته آلة ، فإن إدراك الشيء لا يكون إلا بحصول صورته فيه. وما يقدر آلة من قلب أو دماغ لا يخلو إما أن تكون صورته بعينها حاصلة للعقل حاضرة. وإما أن تكون صورة غيرها بالعدد حاصلة ، وباطل أن تكون صورة الآلة حاضرة بعينها ، فإنها في نفسها حاصلة أبدا ، فيجب أن يكون إدراك النقل لها حاصلا أبدا ، وليس الأمر كذلك ، فإنه تارة يعقل ، وتارة يعرض عن الإدراك ، والإعراض عن الحاضر محال. وباطل أن تكون الصور غير الآلة بالعدد ، فإنها إما أن تحل في نفس القوة من غير مشاركة الجسم فيدل ذلك على أنها قائمة بنفسها وليست في الجسم. وإما بمشاركة الجسم حتى لا تكون هذه الصورة المغايرة في نفس القوة العقلية وفي الجسم الذي هو الآلة. فيؤدي إلى اجتماع صورتين متماثلتين في جسم واحد ، وهو محال. والمغايرة بين أشياء تدخل في حد واحد ، إما لاختلاف المواد أو لاختلاف ما بين الكلي والجزئي وليس هذان الوجهان ، فثبت أنه لا يحرز أن يدرك المدرك آلة هي آلته في الإدراك.

ولا يختص ذلك بالعقل ، فإن الحس إنما يحس شيئا خارجا ولا يحس ذاته ولا آلته ولا إحساسه ، وكذلك الخيال لا يتخيل ذاته ولا فعله ولا آلته ، ولهذا (١) فإن القوى الدراكة بانطباع الصور في الآلات يعرض لها الكلال من إدامة العمل والأمور القوية والشاقة الإدراك توهنها وربما تفسدها ، كالضوء الشديد للبصر ، والرعد القوي للسمع. وكذلك عند إدراك القوى لا يقوى على إدراك الضعيف (٢). والأمر في القوة

__________________

(١) وهذا برهان آخر على أن تعقل القوة العقلية ليس بالآلة الجسدية.

(٢) فالمبصر للنور العظيم لا يبصر معه ولا بعده نورا ضعيفا ، والسامع للصوت القوي لا يسمع معه أو بعده صوتا ضعيفا ...

العقلية بالعكس ؛ فإن إدامتها للتعقل وتصورها الأمور الأقوى يكسبها قوة وسهولة قبول ، وإن عرض لها كلال وملال فلاستعانة العقل بالخيال.

على أن القوى الحيوانية ربما تعين النفس الناطقة في أشياء منها أن يورد عليها الحس جزئيات الأمور فيحدث لها أمور أربعة :

أحدها : انتزاع النفس الكليات المفردة عن الجزئيات على سبيل تجريد لمعانيها عن المادة وعلائقها ولواحقها ، ومراعاة المشترك فيه والمتباين به والذاتي وجوده والعرضي ، فيحدث للنفس من ذلك مبادي التصور ، وذلك بمعاونة استعمال الخيال والوهم.

والثاني : إيقاع النفس مناسبات بين هذه الكليات المفردة على مثل سلب وإيجاب. فما كان التأليف منها بسلب وإيجاب ذاتيا بينا بنفسه أخذته ، وما كان ليس كذلك تركته إلى أن يصادف الواسطة.

والثالث : تحصيل المقدمات التجريبية بأن يوجد بالحس محمول لازم الحكم لموضوع أو تال لازم لمقدم ، فيحصل له اعتقاد مستفاد من حس وقياس ما (١).

والرابع : الأخبار التي يقع بها التصديق لشدة التواتر. فالنفس الإنسانية تستعين بالبدن لتحصيل هذه المبادي للتصور والتصديق. وأما إذا استكملت النفس وقويت فإنها تنفرد بأفاعيلها على الإطلاق ، وتكون القوى الحسية والخيالية وغيرها صارفة لها عن فعلها (٢) ، وربما تصير الوسائط والأسباب عوائق.

قال : والدليل على أن النفس الإنسانية حادثة مع حدوث البدن أنها متفقة في النوع والمعنى. فإن وجدت قبل البدن ، فإما أن تكون متكثرة الذوات أو تكون ذاتا واحدة. ومحال أن تكون متكثرة الذوات ، إن تكثرها إما أن يكون من جهة

__________________

(١) أما الحس فلأجل مشاهدة ذلك ، وأما القياس فلأنه لو كان اتفاقيا لما وجد دائما أو في أكثر الأحيان.

(٢) ومثال هذا أن الإنسان قد يحتاج إلى ذاته وإلى آلات يتوصل بها إلى مقصد ما. فإذا وصل إليه ثم عرض من الأسباب ما يحمله على مفارقتها صار السبب الموصل بعينه عائقا.

الماهية والصورة. وإما أن يكون من جهة النسبة إلى العنصر والمادة ، وبطل الأول لأن صورتها واحدة ، وهي متفقة في النوع ، والماهية لا تقبل اختلافا ذاتيا ، وبطل الثاني لأن البدن والعنصر فرض غير موجود. قال : ومحال أن تكون واحدة بالذات ، لأنه إذا حصل بدنان حصلت فيهما نفسان. فإما أن يكونا قسمي تلك النفس الواحدة ، وهو محال لأن ما ليس له عظم وحجم لا يكون منقسما ، وإما أن تكون النفس الواحدة بالعدد في بدنين ، وهذا لا يحتاج إلى كثير تكلف في إبطاله. فقد صح أن النفس تحدث كلما حدث البدن الصالح لاستعمالها إياه ، ويكون البدن الحادث مملكتها وآلتها ، ويكون في هيئة جوهر النفس الحادثة مع بدن ما ، ذلك البدن الذي استحقه نزاع طبيعي إلى الاشتغال به واستعماله والاهتمام بأحواله. والانجذاب إليه يخصها ويصرفها عن كل الأجسام غيره بالطبع إلا بواسطته. وأما بعد مفارقة البدن فإن الأنفس قد وجد كل واحد منها ذاتا منفردة باختلاف موادها التي كانت وباختلاف أزمنة حدوثها ، واختلاف هيئاتها التي بحسب أبدانها المختلفة لا محالة بأحوالها. وأنها لا تموت بموت البدن ، لأن كل شيء يفسد بفساد شيء آخر فهو متعلق به نوعا من التعلق. فإما أن يكون تعلقه به تعلق المكافئ في الوجود ، وكل واحد منهما جوهر قائم بنفسه فلا تؤثر المكافأة في الوجود في فساد أحدهما بفساد الثاني ، لأنه أمر إضافي ، وفساد أحدهما يبطل الإضافة لا الذات. وإما أن يكون تعلقه به تعلق المتأخر في الوجود. فالبدن علة للنفس (١) ، والعلل أربع (٢) ، فلا يجوز أن يكون علة فاعلية ، فإن الجسم بما هو جسم لا يفعل شيئا إلا بقواه (٣). والقوى الجسمانية إما أعراض أو صور مادية، فمحال أن يفيد أمر قائم

__________________

(١) إن النفس عند ابن سينا حادثة. وهو يوافق أرسطو في هذا الرأي ويخالف أفلاطون على رأي بعضهم من أنه يقول بقدمها.

(٢) وهي : علة فاعلية للنفس معطية لها الوجود ، وعلة قابلية لها بسبيل التركيب كالعناصر للأبدان ، أو بسبيل البساطة كالنحاس للصنم ، وعلة صورية ، وعلة كمالية.

(٣) فلو كان يفعل بذاته لا بقواه لكان كل جسم يفعل ذلك الفعل.

بالمادة وجود ذات قائمة بنفسها لا في مادة. ولا يجوز أن تكون علة قابلية. فقد بينا أن النفس ليست منطبعة في البدن. ولا يجوز أن يكون علة صورية أو كمالية. فإن الأولى أن يكون الأمر بالعكس. فإذن تعلق النفس بالبدن ليس تعلقا على أنه علة ذاتية لها.

نعم البدن والمزاج علة بالعرض للنفس ، فإنه إذا حدث بدن يصلح أن يكون آلة للنفس ومملكة لها أحدثت العلل المفارقة النفس الجزئية ، فإن إحداثها بلا سبب يخصص إحداث واحد دون واحد يمنع عن وقوع الكثرة فيها بالعدد ، ولأن كل كائن بعد ما لم يكن يستدعي أن يتقدمه مادة يكون فيها تهيؤ قبوله ، أو تهيؤ نسبته إليه كما تبين. ولأنه لو كان يجوز أن تكون النفس الجزئية تحدث ولم تحدث لها آلة بها تستكمل وتفعل لكانت معطلة الوجود ولا شيء معطل في الطبيعة ، ولكن إذا حدث التهيؤ والاستعداد في الآلة حدث من العلل المفارقة شيء هو النفس. وليس إذا وجب حدوث شيء من حدوث شيء وجب أن يبطل مع بطلانه.

وأما القسم الثالث مما ذكرنا ، وهو أن تعلق النفس بالجسم تعلق المتقدم ، فالمتقدم ، إن كان بالزمان فيستحيل أن يتعلق وجوده به وقد تقدمه في الزمان. وإن كان بالذات فليس فرض عدم المتأخر يوجب عدم المتقدم ، على أن فساد البدن بأمر يخصه من تغير المزاج والتركيب. وليس ذلك مما يتعلق بالنفس ، فبطلان البدن لا يقتضي بطلان النفس.

ويقول : إن سببا آخر لا يفسد النفس أيضا ، بل هي في ذاتها لا تقبل الفساد ؛ لأن كل شيء من شأنه أن يفسد بأمر ما ، ففيه قوة أن يفسد ، وقبل الفساد فيه فعل أن يبقى ، ومحال أن يكون من جهة واحدة في شيء واحد قوة أن يفسد وفعل أن يبقى ، فإن تهيؤه للفساد شيء ، وفعله للبقاء شيء آخر ؛ فالأشياء المركبة يجوز أن يجتمع فيها الأمران لوجهين (١) ؛ أما البسيطة فلا يجوز أن يجتمعا فيها. ومن الدليل على

__________________

(١) وهما : فعل أن يبقى ، وقوة أن يفسد.

ذلك أيضا أن كل شيء يبقى وله قوة أن يفسد فله قوة أن يبقى أيضا ؛ ، لأن بقاءه ليس بواجب ضروري ، وإذا لم يكن واجبا كان ممكنا. والإمكان هو طبيعة القوة. فإذن يكون له في جوهره قوة أن يبقى وفعل أن يبقى ؛ فيكون فعل أن يبقى منه أمرا يعرض للشيء الذي له قوة أن يبقى ، فذلك الشيء الذي له القوة على البقاء وفعل البقاء أمر مشترك البقاء له كالصورة ، وقوة البقاء له كالمادة ، فيكون مركبا من مادة وصورة ، وقد فرضناه واحدا فردا ، هذا خلف. فقد بان أن كل أمر بسيط فغير مركب فيه قوة أن يبقى وفعل أن يبقى بل ليس فيه قوة أن يعدم باعتبار ذاته. والفساد لا يتطرق إلا إلى المركبات. وإذا تقرر أن البدن إذا تهيأ واستعد استحق من واهب الصور نفسا تدبره ، ولا يختص هذا ببدن دون بدن ، بل كل بدن حكمه كذلك. فإذا استحق النفس وقارنته في الوجود فلا يجوز أن تتعلق به نفس أخرى ، لأنه يؤدي إلى أن يكون لبدن واحد نفسان وهو محال ، فالتناسخ إذن بطل.

المقالة السادسة :

في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل ، وأحوال خاصة بالنفس الإنسانية من الرؤيا الصادقة والكاذبة ، وإدراكها علم الغيب ، ومشاهدتها صورا لا وجود لها من خارج تلك الوجوه ، ومعنى النبوة والمعجزات وخصائصها التي تتميز بها عن المخاريق.

أما الأول : فقد بينا أن النفس الإنسانية لها قوة هيولانية (١) ، أي استعداد لقبول المعقولات بالفعل ، وكل ما خرج من القوة إلى الفعل فلا بد له من سبب يخرجه إلى الفعل ، وذلك السبب يجب أن يكون موجودا بالفعل ، فإنه لو كان موجودا بالقوة لاحتاج إلى مخرج آخر. فإما أن يتسلسل أو ينتهي إلى مخرج هو موجود بالفعل لا قوة فيه ، فلا يجوز أن يكون ذلك جسما لأن الجسم مركب من

__________________

(١) إن في الإنسان قوة تباين به سائر الحيوان وغيره ، وهي المسماة بالنفس الناطقة ، أو النفس الإنسانية ، وهي موجودة في جميع الناس على الإطلاق.

مادة وصورة. والمادة أمر بالقوة ، فهو إذن جوهر مجرد من المادة وهو العقل الفعال. وإنما سمي فعالا بإزاء كون العقول الهيولانية منفعلة. وقد سبق إثباته في الإلهيات من وجه آخر. وليس يختص فعله بالعقول والنفوس بل وكل صورة تحدث في العالم فإنما هي من فيضه العام ، فيعطي كل قابل ما استعد له من الصور. واعلم أن الجسم وقوة في جسم لا يوجد شيئا ، فإن الجسم مركب من مادة وصورة ، والمادة طبيعتها عدمية. فلو أثر الجسم لأثر بمشاركة المادة وهي عدم ، والعدم لا يؤثر في الوجود. فالعقل الفعال هو المجرد عن المادة وعن كل قوة ، فهو بالفعل من كل وجه.

وأما الثاني : من الأحوال الخاصة بالنفس ، فالنوم والرؤيا والنوم غئور القوى الظاهرة في أعماق البدن وانحباس الأرواح من الظاهر إلى الباطن. ونعني بالأرواح (١) هاهنا أجساما لطيفة مركبة من بخار الأخلاط التي منبعها القلب ، وهي مراكب القوى النفسانية والحيوانية ، ولهذا إذا وقعت سدة في مجاريها من الأعصاب المؤدية للحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة. فإذا ركدت الحواس ورقدت بسبب من الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس ، لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورد الحواس عليها. فإذا وجدت فرصة الفراغ وارتفع عنها المانع ، واستعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التي فيها نقشت الموجودات كلها ، فانطبع في النفس ما في تلك الجواهر من صور الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض الرائي ، ويكون انطباع تلك الصور في النفس كانطباع صورة في مرآة من مرآة. فإن كانت الصور جزئية ووقعت من النفس في المصورة وحفظتها الحافظة على وجهها من غير تصرف المتخيلة صدقت الرؤيا ، ولا تحتاج إلى تعبير ، وإن وقعت في

__________________

(١) والروح إنسانية وقدسية. فالروح الإنسانية هي التي تتمكن من تصور المعنى بحده وحقيقته. والروح القدسية لا تشغلها جهة ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن ، ويتعدى تأثيرها إلى بدنها بلا أجسام العالم وما فيه ، وتقبل المعقولات من الروح الملكية بلا تعليم من الناس. (رسائل الحكمة والطبيعيات ص ٤٥).

المتخيلة حاكت ما يناسبها من الصور المحسوسة ، وهذه تحتاج إلى تعبير وتأويل. ولما لم تكن تصرفات الخيال مضبوطة واختلفت باختلاف الأشخاص والأحوال اختلف التعبير. وإذا تحركت المتخيلة منصرفة عن عالم العقل إلى عالم الحس واختلطت تصرفاتها كانت الرؤيا أضغاث أحلام لا تعبير لها ، وكذلك لو غلبت على المزاج إحدى الكيفيات الأربع رأى في المنام أحوالا مختلطة.

وأما الثالث : في إدراك علم الغيب في اليقظة. إن بعض النفوس يقوى قوة لا تشتغله الحواس ولا تمنعه ، بل يتسع بقوته للنظر إلى عالم العقل والحس جميعا. فيطلع إلى عالم الغيب فيظهر له بعض الأمور مثل البرق الخاطف ، وبقي المتصور المدرك في الحافظة بعينه وكان ذلك وحيا صريحا ، وإن وقع في المخيلة ، واشتغلت بطبيعة المحاكاة كان ذلك مفتقرا إلى التأويل.

وأما الرابع في مشاهدة النفس صورا محسوسة لا وجود لها ، وذلك أن النفس تدرك الأمور الغائبة إدراكا قويا. فيبقى عين ما أدركته في الحفظ. وقد تقبله قبولا ضعيفا فتستولي عليه المتخيلة وتحاكيه بصورة محسوسة واستتبعت الحس المشترك ، وانطبعت الصورة في الحس المشترك سراية إليه من المتصورة والمتخيلة. والإبصار هو وقوع صورة في الحس المشترك ، فسواء وقع فيه من خارج بواسطة البصر ، أو وقع فيه أمر من داخل بواسطة الخيال كان ذلك محسوسا. فمنه ما يكون من قوة النفس وقوة آلات الإدراك. ومنه ما يكون من ضعف النفس والآلات.

وأما الخامس : فالمعجزات والكرامات.

قال : خصائص المعجزات والكرامات ثلاث :

خاصية في قوة النفس وجوهرها ليؤثر في هيولى العالم بإزالة صورة وإبعاد صورة ؛ وذلك أن الهيولى منقادة لتأثير النفوس الشريفة المفارقة ، مطيعة لقواها السارية في العالم. وقد تبلغ نفس إنسانية في الشرف إلى حد يناسب تلك النفوس فتفعل فعلها ، وتقوى على ما قويت هي ، فتزيل جبلا عن مكانه وتذيب جوهرا

فيستحيل ماء وتجمد جسما سائلا فيستحيل حجرا. ونسبة هذه النفس إلى تلك النفوس كنسبة السراج إلى الشمس. فكما أن الشمس تؤثر في الأشياء تسخينا بالإضاءة ، كذلك السراج يؤثر بقدره. وأنت تعلم أن للنفس تأثيرات جزئية في البدن ، فإنه إذا حدث في النفس صورة الغلبة والغضب حمي المزاج واحمر الوجه. وإذا حدثت صورة مشتهاة فيها حدثت في أوعية المنيّ حرارة مبخرة مهيجة للريح ، حتى تمتلئ به عروق آلة الوقاع فتستعد له ، والمؤثر هاهنا مجرد التصور لا غير.

والخاصية الثانية : أن تصفو النفس صفاء يكون شديد الاستعداد للاتصال بالعقل الفعال حتى يفيض عليها العلوم ، فإنا قد ذكرنا حال القوة القدسية التي تحصل لبعض النفوس حتى تستغني في أكثر أحوالها عن التفكر والتعلم. فالشريف البالغ منها : (يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ* نُورٌ عَلى نُورٍ) (١).

والخاصية الثالثة للقوة المتخيلة : بأن تقوى النفس ، وتتصل في اليقظة بعالم الغيب كما سبق ، وتحاكي المتخيلة ما أدركته النفس بصورة جميلة وأصوات منظومة فترى في اليقظة وتسمع ، فتكون الصورة المحاكية للجوهر الشريف صورة عجيبة في غاية الحسن وهو الملك الذي يراه النبي (٢) ، وتكون المعارف التي تتصل بالنفس من اتصالها بالجواهر الشريفة تتمثل بالكلام الحسن المنظوم الواقع في الحس المشترك ، فيكون مسموعا.

قال : والنفوس وإن اتفقت في النوع إلا أنها تتمايز بخواص ، وتختلف أفاعيلها اختلافات عجيبة.

__________________

(١) سورة النور : الآية ٣٥.

(٢) الملك : هو واحد الملائكة ، يقول ابن سينا في رسائله : الملائكة ذواتها حقيقية ولها ذوات بحسب القياس إلى الناس ، فأما ذواتها الحقيقية فأمرية ، وإنما يلاقيها من القوى البشرية الروح القدسية الإنسانية ، فإذا تخاطبا انجذب الحس الباطن والظاهر إلى نوره فيتمثل لها من الملك بحسب ما يحتملها فرأى ذلك على غير صورته ويسمع كلامه صوتا بعد ما هو وحي ، والوحي لوح من مراد الملك للروح الإنساني بلا واسطة وذلك هو الكلام الحقيقي.

وفي الطبيعة أسرار ، ولاتصالات العلويات بالسفليات عجائب.

وجلّ جناب الحق عن أن يكون شريعة لكل وارد ، وأن يرد عليه إلا واحد بعد واحد.

وبعد ، فإن ما يشتمل عليه هذا الفن ضحكة للمغفل ، عبرة للمحصل ، فمن سمعه فاشمأز عنه فليتهم نفسه ، فإنها لا تناسبه. وكل ميسر لما خلق له.

تمت الطبيعيات بحمد الله

الباب الثالث

آراء العرب في الجاهلية

قد ذكرنا في صدر هذا الكتاب أن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد ، وأجملنا القول فيه حيث كانت المقارنة بين الفريقين والمقاربة بين الأمتين مقصورة على اعتبار خواص الأشياء والحكم بأحكام الماهيات. والغالب عليهم الفطرة والطبع. وأن الروم والعجم يتقاربان على مذهب واحد ، حيث كانت المقاربة مقصورة على اعتبار كيفيات الأشياء والحكم بأحكام الطبائع ، والغالب عليهم الاكتساب والجهد.

والآن نذكر أقاويل العرب في الجاهلية ، ونعقبها بذكر أقاويل الهند وبها نختم الكتاب.

* * *

حكم البيت العتيق (١) :

وقبل أن نشرع في ذكر مذاهبهم نريد أن نذكر حكم البيت العتيق حرسه الله ، ونصل بذلك حكم البيوت المبنية في العالم فإن منها ما بني على الدين الحق قبلة للناس ، ومنها ما بني على الرأي الباطل فتنة للناس. وقد ورد في التنزيل : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) (٢).

__________________

(١) البيت العتيق : هو الكعبة ، وقيل هو اسم من أسماء مكة. سمي بذلك لعتقه من الجبارين أي لا يتجبرون عنده بل يتذللون ، وقد يكون العتيق بمعنى القديم ، وقد يكون معنى العتيق الكريم. وكل شيء كرم وحسن قيل له عتيق. (معجم البلدان ١ : ٥٢١).

(٢) سورة آل عمران : الآية ٩٦.

وقد اختلفت الروايات في أول من بناه.

قيل : إن آدم عليه‌السلام لما أهبط إلى الأرض وقع إلى سرنديب (١) من أرض الهند. وكان يتردد في الأرض متحيرا بين فقدان زوجته ووجدان توبته ، حتى وافى حواء بجبل الرحمة (٢) من عرفات وعرفها ، وصار إلى أرض مكة ودعا وتضرع إلى الله تعالى حتى يأذن له في بناء بيت يكون قبلة لصلاته ومطافا لعبادته كما كان قد عهد في السماء من البيت المعمور (٣) الذي هو مطاف الملائكة ومزار الروحانيين ، فأنزل الله تعالى عليه مثال ذلك البيت على شكل سرادق من نور ، فوضعه مكان البيت فكان يتوجه إليه ويطوف به.

ثم لما توفي تولى وصيه شيث عليه‌السلام بناء البيت من الحجر والطين على الشكل المذكور حذو القذة بالقذة. ثم لما خرب ذلك بطوفان نوح عليه‌السلام ، وامتدّ الزمان حتى غيض (٤) الماء وقضي الأمر ، وانتهت النبوة إلى إبراهيم الخليل عليه‌السلام وحمله هاجرا إلى الموضع المبارك ، وولادة إسماعيل عليه‌السلام هناك ونشوؤه وتربيته ثمة ، وعود إبراهيم إليه واجتماعه به في بناء البيت ، وذلك قوله تعالى : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ) (٥) فرفعا قواعد البيت على مقتضى إشارة الوحي مرعيا فيها جميع المناسبات التي بينها وبين البيت المعمور ، وشرعا المناسك والمشاعر محفوظا فيها جميع المناسبات التي بينها وبين

__________________

(١) سرنديب : هي جزيرة عظيمة في بحر هركند بأقصى بلاد الهند ، وفي سرنديب الجبل الذي هبط عليه آدم (عليه‌السلام) يقال له الرهون ، وهو ذاهب في السماء يراه البحريون من مسافة أيام كثيرة وفيه أثر قدم آدم. (معجم البلدان ٣ : ٢١٦).

(٢) جبل الرحمة : لم نعثر على ذكر لهذا الجبل في المراجع التي بين أيدينا ، ولعله جزء من عرفات.

(٣) البيت المعمور : هو البيت الذي في السماء يقال له الضراح ، بناؤه كبناء البيت الحرام ، وهو بحيال الكعبة ، في السماء السادسة أو السابعة. وسمي بالمعمور لأنه يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك.

(تاريخ مكة للأزرقي ١ : ١٨).

(٤) غيض الماء : نقص أو غار أو نضب من سورة هود : الآية ٤٤.

(٥) سورة البقرة : الآية ١٢٧.

الشرع الأخير ، وتقبل الله تعالى ذلك منهما ، وبقي الشرف والتعظيم إلى زماننا وإلى يوم القيامة دلالة على حسن القبول فاختلفت آراء العرب في ذلك.

وأول من وضع فيه الأصنام عمرو (١) بن لحيّ بن غالوثة بن عمرو بن عامر ؛ لما ساد قومه بمكة ، واستولى على أمر البيت. ثم صار إلى مدينة البلقاء (٢) بالشام فرأى هناك قوما يعبدون الأصنام فسألهم عنها ، فقالوا : هذه أرباب اتخذناها على شكل الهياكل العلوية والأشخاص البشرية ، نستنصر بها فننصر ، ونستسقي بها فنسقى ، ونستشفي بها فنشفى فأعجبه ذلك وطلب منهم صنما من أصنامهم فدفعوا إليه «هبل» (٣) فسار به إلى مكة ووضعه في الكعبة وكان معه إساف ونائلة (٤) على شكل زوجين. فدعا الناس إلى تعظيمها والتقرب إليها ، والتوسل بها إلى الله تعالى. وكان ذلك في أول ملك شابور ذي الأكتاف ، إلى أن أظهر الله تعالى الإسلام فأخرجت وأبطلت. وبهذا يعرف كذب من قال : إن بيت الله الحرام إنما هو بيت زحل ؛ بناه الباني الأول على طوالع معلومة واتصالات مقبولة ، وسماه بيت زحل ؛ ولهذا المعنى اقترن الدوام به بقاء ، والتعظيم له لقاء ؛ لأن زحل يدل على البقاء وطول العمر أكثر مما يدل عليه سائر الكواكب. وهذا خطأ لأن الباني الأول كان مستندا إلى الوحي على يدي أصحاب الوحي.

__________________

(١) عمرو بن لحي : هو عمرو بن لحي بن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي من قحطان : أول من غيّر دين إسماعيل ودعا العرب إلى عبادة الأوثان. كنيته أبو ثمامة. وفي نسبه خلاف شديد. وفي العلماء من يجزم بأنه مضري من عدنان لحديث انفرد به أبو هريرة. وهو جد (خزاعة) عند كثير من النسابين ورئيسها عند بعضهم. وكان قد أعجب بأصنام (مآب) فأخذ عددا منها فنصبها بمكة ودعا الناس إلى تعظيمها والاستشفاء بها ، فكان أول من فعل ذلك من العرب. (الأصنام لابن الكلبي ص ٨ والبداية والنهاية ٢ : ١٨٧).

(٢) البلقاء : كورة من أعمال دمشق بين الشام ووادي القرى ، قصبتها عمان. (معجم البلدان ١ : ٤٨٩).

(٣) هبل : اسم صنم كان في الكعبة لقريش.

(٤) إساف ونائلة : هو إساف بن يعلي ، وكان من جرهم ، ونائلة بنت زيد من جرهم ، وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجا فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة في البيت ، ففجر بها في البيت فمسخا ، فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما عند الكعبة ليتعظ الناس بهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حجّ البيت بعد من العرب. (الأصنام ص ٢٩).

البيوت المتخذة للعبادة :

ثم اعلم أن البيوت تنقسم إلى بيوت الأصنام ، وإلى بيوت النيران. وقد ذكرنا المواضع التي كانت بيوت النيران ثمة في مقالات المجوس. فأما بيوت الأصنام التي كانت للعرب والهند فهي البيوت السبعة المعروفة المشهورة ، المبنية على السبع الكواكب. فمنها ما كانت فيها أصنام فحولت إلى النيران ، ومنها ما لم تحول.

ولقد كان بين أصحاب الأصنام وبين أصحاب النيران مخالفات كثيرة ، والأمر دول فيما بينهم ، وكان كل من استولى وقهر غيّر البيت إلى مشاعر مذهبه ودينه. فمنها بيت فارس على رأس جبل بأصفهان على ثلاثة فراسخ ؛ كانت فيه أصنام إلى أن أخرجها كشتاسب الملك لما تمجس وجعلها بيت نار. ومنها البيت الذي بمولتان (١) من أرض الهند ؛ فيه أصنام لم تغير ولم تبدل. ومنها بيت سدوسان من أرض الهند أيضا ، وفيه أصنام كبيرة كثيرة العجب. والهند يأتون البيتين في وأقات من السنة حجا وقصدا إليهما. ومنها النوبهار الذي بناه منوجهر بمدينة بلخ (٢) على اسم القمر. فلما ظهر الإسلام خربه أهل بلخ. ومنها بيت غمدان (٣) الذي بمدينة صنعاء اليمن ، بناه الضحاك على اسم الزهرة ، وخربه عثمان بن عفان رضي الله عنه. ومنها بيت كاوسان ، بناه كاووس الملك بناء عجيبا على اسم الشمس بمدينة فرغانة (٤) وخربه المعتصم.

__________________

(١) مولتان : بلد في بلاد الهند على سمت غزنة ، قال الاصطخري : وأما المولتان فهي مدينة نحو نصف المنصورة ، وبها صنم تعظمه الهند وتحج إليه ، ويتقرب إليه في كل عام بمال عظيم ينفق على بيت الصنم. (معجم البلدان ٥ : ٢٢٧).

(٢) بلخ : مدينة مشهورة بخراسان ، قيل إن أول من بناها لهراسف الملك لما خرّب بختنصر بيت المقدس ، وقيل بل الإسكندر بناها وكانت تسمى الإسكندرية قديما ، وهي قريبة من ترمذ. (معجم البلدان ١ : ٤٨١).

(٣) وفي معجم البلدان ٤ : ٢١٠ «أن الذي بنى غمدان هو سليمان بن داود (عليه‌السلام) أمر الشياطين فبنوا لبلقيس ثلاثة قصور بصنعاء : غمدان وسلحين وبينون. وفيها يقول الشاعر :

هل بعد غمدان أو سلحين من أثر

أو بعد بينون يبني الناس أبياتا؟.

(٤) فرغانة : مدينة وكورة واسعة بما وراء النهر متاخمة لبلاد تركستان. (معجم البلدان ٤ : ٢٥٣).

واعلم أن العرب أصناف شتى ، فمنهم معطلة ، ومنهم محصلة نوع تحصيل.

الفصل الأول

معطلة (١) العرب

وهم أصناف :

١ ـ منكر والخالق ، والبعث ، والإعادة :

فصنف منهم أنكروا الخالق والبعث والإعادة. وقالوا بالطبع المحيي ، والدهر المفني ، وهم الذين أخبر عنهم القرآن المجيد : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا) (٢) إشارة إلى الطبائع المحسوسة في العالم السفلي ، وقصرا للحياة والموت على تركبها وتحللها. فالجامع هو الطبع ، والمهلك هو الدهر (وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (٣) فاستدل عليهم بضرورات فكرية وآيات قرآنية فطرية في كم آية وكم سورة، فقال تعالى : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٤) ، وقال : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ) (٥) وقال : (أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) (٦) وقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ) (٧) فأثبت الدلالة الضرورية من الخلق على الخالق ، وأنه قادر على الكمال ابتداء وإعادة.

* * *

__________________

(١) معطلة العرب : وهم الدهريون ، وهم الذين عطلوا المصنوعات عن صانعها وقالوا ما حكاه الله عنهم : «وما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر».

(٢) سورة الجاثية : الآية ٢٤.

(٣) سورة الجاثية : الآية ٢٤.

(٤) سورة الأعراف : الآيتان ١٨٤ و ١٨٥.

(٥) والآية كما وردت في القرآن الكريم هي : (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ). (سورة النحل : الآية ٤٨).

(٦) سورة فصلت : الآية ٩ ، وتمامها : (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ).

(٧) سورة البقرة : الآية ٢١.

٢ ـ منكر والبعث والإعادة :

وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق والإبداع ، وأنكروا البعث والإعادة ، وهم الذين أخبر عنهم القرآن : (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (١) فاستدل عليهم بالنشأة الأولى ، إذ اعترفوا بالخلق الأول فقال عزوجل : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ) (٢) وقال : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ* بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ)(٣).

٣ ـ منكر والرسل : عباد الأصنام :

وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء الخلق ونوع من الإعادة. وأنكروا الرسل وعبدوا الأصنام ، وزعموا أنهم شفعاؤهم عند الله في الدار الآخرة ، وحجوا إليها ونحروا لها الهدايا ، وقربوا القرابين ، وتقربوا إليها بالمناسك والمشاعر ، وأحلوا وحرموا ، وهم الدهماء من العرب ، إلا شرذمة منهم نذكرهم ، وهم الذين أخبر عنهم التنزيل : (وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ) ـ إلى قوله ـ (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلاً مَسْحُوراً) (٤) فاستدل عليهم بأن المرسلين كلهم كانوا كذلك. قال الله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ) (٥).

شبهات العرب

وشبهات العرب كانت مقصورة على هاتين الشبهتين :

إحداهما : إنكار البعث ، بعث الأجسام.

والثانية : جحد البعث ، بعث الرسل.

__________________

(١) سورة يس : الآية ٧٨.

(٢) سورة يس : الآية ٧٩.

(٣) سورة ق : الآية ١٥.

(٤) سورة الفرقان : الآيتان ٧ و ٨.

(٥) سورة الفرقان : الآية ٢٠.

فعلى الأولى قالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ* أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ) (١) إلى أمثالها من الآيات ، وعبروا عن ذلك في أشعارهم فقال بعضهم :

حياة ثمّ موت ثمّ نشر

حديث خرافة يا أمّ عمرو (٢)

ولبعضهم (٣) في مرثية أهل بدر من المشركين :

فما ذا بالقليب ، قليب بدر

من الشيزى (٤) تكلّل بالسّنام

يخبّرنا الرّسول بأن سنحيا

وكيف حياة أصداء وهام (٥)؟

ومن العرب من يعتقد التناسخ فيقول : إذا مات الإنسان أو قتل اجتمع دم الدماغ وأجزاء بنيته فانتصب طيرا هامة ، فيرجع إلى رأس القبر كل مائة سنة. وعن هذا أنكر عليهم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال : «لا هامة ولا عدوى ، ولا صفر».

وأما على الشبهة الثانية فكان إنكارهم لبعث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الصورة البشرية أشد ، وإصرارهم على ذلك أبلغ ، وأخبر التنزيل عنهم بقوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً (٦) * أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) (٧) فمن كان يعترف بالملائكة كان يريد أن يأتي ملك من السماء (وَقالُوا

__________________

(١) سورة الصافات : الآيتان ١٦ و ١٧.

(٢) وقيل إنه لعبد الله بن الزبعرى ، قبل أن يسلم ، والنشر إحياء الميت.

(٣) وقائلها هو أبو بكر بن الأسود الليثي ، وهو شداد بن الأسود ، وهي من قصيدة قالها في رثاء قتلى بدر.

(٤) الشيزى : شجر تتخذ منه الجفان ، وهي القصاع.

(٥) الصدى : كانت العرب تقول إن عظام الموتى تصير هامة فتطير ، وكان أبو عبيدة يقول : إنهم كانوا يسمون ذلك الطائر الذي يخرج من هامة الميت إذا بلي الصدى ، وكانت العرب تقول : إذا قتل قتيل فلم يدرك به الثأر خرج من رأسه طائر كالبومة وهي الهامة ، والذكر الصدى ، فيصيح على قبره : اسقوني اسقوني! فإن قتل قاتله كفّ عن الصياح. (لسان العرب مادة صدي).

(٦) سورة الإسراء : الآية ٩٤.

(٧) سورة التغابن : من الآية ٦ وتمامها : (ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللهُ وَاللهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ).

لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ) (١) ومن كان لا يعترف بهم كان يقول : الشفيع والوسيلة لنا إلى الله تعالى هم الأصنام المنصوبة. أما الأمر والشريعة من الله إلينا فهو المنكر.

أصنام العرب وميولهم

فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل ودا ، وسواعا ، ويغوث ، ويعوق ، ونسرا (٢). وكان ود لكلب وهو بدومة الجندل. وسواع لهذيل ، وكانوا يحجون إليه وينحرون له. ويغوث لمذحج ولقبائل من اليمن. ويعوق لهمدان. ونسر لذي الكلاع بأرض حمير. وكانت اللات لثقيف بالطائف. والعزى لقريش وجميع بني كنانة وقوم من بني سليم. ومناة (٣) للأوس والخزرج وغسان. وهبل أعظم الأصنام عندهم ، وكان على ظهر الكعبة. وإساف ونائلة على الصفا والمروة (٤) وضعهما عمرو بن لحي ، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة. وزعموا أنهما كانا من جرهم ، إساف بن عمرو ، ونائلة بنت سهل تعاشقا ففجرا في الكعبة فمسخا حجرين. وقيل لا ، بل كانا صنمين جاء بهما عمرو بن لحي فوضعهما على الصفا.

وكان لبني ملكان من كنانة صنم يقال له سعد وهو الذي يقول فيه قائلهم :

أتينا إلى سعد ليجمع شملنا

فشتتنا سعد ، فلا نحن من سعد

وهل سعد إلّا صخرة بتنوفة (٥)

من الأرض لا يدعو لغيّ ولا رشد

وكانت العرب إذا لبت وهللت قالت :

لبّيك اللهمّ لبّيك

لبّيك لا شريك لك

إلّا شريك هو لك

تملكه وما ملك

__________________

(١) سورة الفرقان : من الآية ٧.

(٢) وقد ورد ذكر هذه الأصنام في سورة نوح : الآية ٢٣.

(٣) اللات والعزى ومناة : ورد ذكرها أيضا في القرآن الكريم ، في سورة النجم : الآية ١٩.

(٤) الصفا والمروة : وهما جبلان بين بطحاء مكة والمسجد. أما الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس بينه وبين المسجد الحرام عرض الوادي الذي هو طريق وسوق. ومن وقف على الصفا كان بحذاء الحجر الأسود والمشعر الحرام بين الصفا والمروة. (معجم البلدان ٣ : ٤١١).

(٥) التنوفة : المفازة ، القفر من الأرض.

ومن العرب من كان يميل إلى اليهودية (١) ، ومنهم من كان يميل إلى النصرانية (٢) ، ومنهم من كان يصبو إلى الصابئة ، ويعتقد في الأنواء (٣) اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلا بنوء من الأنواء ، ويقول مطرنا بنوء كذا. ومنهم من كان يصبو إلى الملائكة فيعبدهم ، بل كانوا يعبدون الجن ، ويعتقدون فيهم أنهم بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

الفصل الثاني

المحصلة من العرب

١ ـ علومهم

اعلم أن العرب في الجاهلية كانت على ثلاث أنواع من العلوم :

أحدها : علم الأنساب والتواريخ والأديان ، ويعدونه نوعا شريفا ، خصوصا معرفة أنساب أجداد النبي عليه الصلاة والسلام ، والاطلاع على ذلك النور الوارد من صلب إبراهيم إلى إسماعيل عليهما‌السلام ، وتواصله في ذريته إلى أن ظهر بعض الظهور في أسارير عبد المطلب : سيد الوادي ، شيبة الحمد ، وسجد له الفيل الأعظم ، وعليه قصة أصحاب الفيل.

وببركة ذلك النور دفع الله تعالى شر أبرهة (٤) ، (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) (٥).

__________________

(١) وكانت في حمير.

(٢) وكانت في ربيعة وغسان وبعض قضاعة.

(٣) النوء : نجم يستدل به على المطر.

(٤) أبرهة : هو أبرهة الأشرم صاحب الفيل ، وكان بنى القليس بصنعاء فخرج أحد بني فقيم فأحدث فيها ، فغضب أبرهة وحلف ليسيرن إلى البيت حتى يهدمه ، ثم أمر الحبشة فتهيأت وتجهزت ، ثم سار وخرج معه الفيل ، وحديثه طويل. (انظر السيرة لابن هشام ١ : ٤٣).

(٥) سورة الفيل : الآية ٣.

وببركة ذلك النور رأى تلك الرؤيا في تعريف موضع زمزم (١) ، ووجدان الغزالة والسيوف التي دفنتها جرهم.

وببركة ذلك النور ألهم عبد المطلب النذر الذي نذر في ذبح العاشر من أولاده ، وبه افتخر النبي عليه الصلاة والسلام حين قال : «أنا ابن الذّبيحين» أراد بالذبيح الأول إسماعيل عليه‌السلام ، وهو أول من انحدر إليه النور فاختفى. وبالذبيح الثاني عبد الله بن عبد المطلب ، وهو آخر من انحدر إليه النور فظهر كل الظهور.

وببركة ذلك النور كان عبد المطلب يأمر أولاده بترك الظلم والبغي ، ويحثهم على مكارم الأخلاق وينهاهم عن دنيات الأمور.

وببركة ذلك النور كان قد سلم إليه النظر في حكومات العرب والحكم بين المتخاصمين ، فكان يوضع له وسادة عند الملتزم فيستند إلى الكعبة ، وينظر في حكومات القوم.

وببركة ذلك النور قال لأبرهة : «إن لهذا البيت ربا يحفظه ويذب عنه» وفيه قال وقد صعد إلى جبل أبي قبيس (٢) :

لا همّ إنّ المرء يم

نع حلّه فامنع حلالك

لا يغلبنّ صليبهم

ومحالهم غدرا محالك (٣)

إن كنت تاركهم وكع

بتنا فأمر ما بدا لك

وببركة ذلك النور كان يقول في وصاياه : «إنه لن يخرج من الدنيا ظلوم حتى

__________________

(١) زمزم : هي البئر المباركة المشهورة. قيل سميت زمزم لكثرة مائها. وقيل سميت بذلك لأن سابور الملك لما حج البيت أشرف عليها وزمزم فيها. والزمزمة : كلام المجوس وقراءتهم على صلاتهم وعلى طعامهم ، وقيل غير ذلك. (انظر معجم البلدان ٣ : ١٤٧).

(٢) جبل أبي قبيس ، وهو مشرف على مسجد مكة. (معجم البلدان ٤ : ٣٠٩).

(٣) المحال : التدبير.

ينتقم الله منه وتصيبه عقوبة» إلى أن هلك رجل ظلوم حتف أنفه لم تصبه عقوبة ، فقيل لعبد المطلب في ذلك ، ففكر وقال : والله إن وراء هذه الدار دارا يجزى فيها المحسن بإحسان، ويعاقب فيها المسيء بإساءته.

ومما يدل على إثباته المبدإ والمعاد أنه كان يضرب بالقداح (١) على ابنه عبد الله ويقول:

يا ربّ أنت المليك المحمود

وأنت ربّي المبدئ والمعيد

من عندك الطّارف والتّليد (٢)

ومما يدل على معرفته بحال الرسالة وشرف النبوة أن أهل مكة لما أصابهم ذلك الجدب العظيم وأمسك السحاب عنهم سنتين أمر أبو طالب ابنه أن يحضر المصطفى محمداصلى‌الله‌عليه‌وسلم. فأحضره وهو رضيع في قماط فوضعه على يديه ، واستقبل الكعبة ورماه إلى السماء وقال : «يا رب : بحق هذا الغلام» ورماه ثانيا وثالثا. وكان يقول بحق هذا الغلام أسقنا غيثا مغيثا دائما هطلا. فلم يلبث ساعة أن طبق السحاب وجه السماء وأمطر حتى خافوا على المسجد. وأنشد أبو طالب ذلك الشعر اللامي الذي منه :

وأبيض يستسقى الغمام بوجهه

ثمال (٣) اليتامى عصمة للأرامل

يطيف به الهلّاك من آل هاشم

فهم عنده في نعمة وفواضل

كذبتم وربّ البيت نبزي محمدا (٤)

ولمّا نطاعن دونه ونناضل

__________________

(١) فقد روي أن عبد المطلب لما أمر بحفر زمزم نذر لله أن سهل الأمر بها أن ينحر بعض ولده ، كما قيل إنه نذر لئن أتاه الله عشرة من الذكور ليجعلن أحدهم لله ، فلما صاروا عشرة وحفر زمزم أمر في النوم بالوفاء بنذره فضرب القداح على أولاده بعد أن جمعهم وأخبرهم بنذره ودعاهم إلى الوفاء وأطاعوه ، فكتب اسم كل واحد على قدح ، ودفعت تلك القداح للسادن والقائم بخدمة هبل ، وضرب بها فخرجت على عبد الله وكان أصغر ولده.

(٢) الطارف والتليد : المال المكتسب حديثا وقديما.

(٣) الثمال : الذي يعين قومه ويغيثهم.

(٤) وفي نسخة : «كذبتم وبيت الله يبري محمدا» وفي نسخة «نبزي». ـ

ونسلمه حتّى نصرّع حوله

ونذهل عن أبنائنا والحلائل (١)

وقال العباس بن عبد المطلب في النبي عليه الصلاة والسلام قصيدة منها :

من قبلها طبت في الظّلال وفي

مستودع حين يخصف الورق

ثمّ هبطت البلاد لا بشر

أنت ولا مضغة ولا علق

بل نطفة تركب السّفين وقد

ألجم نسرا وأهله الغرق

تنقّل من صلب إلى رحم

إذا مضى عالم بدا طبق

حتّى احتوى بيتك المهيمن في

خندف علياء تحتها النّطق

وأنت لمّا ظهرت أشرقت الأر

ض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضّياء وفي النّ

ور وسبل الرّشاد نخترق

* * *

وأما النوع الثاني من العلوم فهو علم الرؤيا (٢) وكان أبو بكر رضي الله عنه ممن يعبر الرؤيا في الجاهلية ويصيب ، فيرجعون إليه ويستخبرون عنه.

وأما النوع الثالث فهو علم الأنواء (٣) ، وذلك مما يتولاه الكهنة (٤) والقافة (٥) منهم ، وعن هذا قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قال مطرنا بنوء كذا فقد كفر بما أنزل على محمّد».

__________________

ـ وروايته في اللسان (مادة بزا) :

كذبتم وحق الله يبزى محمد

ولما نطاعن دونه ونناظل

وقال شمر : معناه يقهر ويستذل.

(١) الحلائل ، الواحدة حليلة : وهي الزوج.

(٢) علم الرؤيا : قال الأصفهاني في الذريعة : ومن الفراسة علم الرؤيا وقد عظم الله تعالى أمرها في جميع الكتب المنزلة ، وقال لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ).

(٣) علم الأنواء : النوء نجم يستدل به على المطر ، والعرب تجعل النوء للغارب لأنه ينهض للغروب متثاقلا ، والمبرد يقول : النوء على الحقيقة للطالع لا للغارب.

(٤) الكهنة ، من الكهانة : وهي ادعاء علم الغيب.

(٥) القافة ، من القيافة : وهو علم يبحث عن تتبع آثار الأقدام والأخفاف والحوافر في المقابلة للأثر.

٢ ـ معتقداتهم

ومن العرب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، وينتظر النبوة. وكانت لهم سنن وشرائع قد ذكرناها لأنها نوع تحصيل.

فممن كان يعرف النور الظاهر ، والنسب الطاهر ، ويعتقد الدين الحنيفيّ وينتظر المقدم النبوي : زيد (١) بن عمرو بن نفيل ، كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : أيها الناس هلموا إليّ فإنه لم يبق على دين إبراهيم أحد غيري. وسمع أمية (٢) بن أبي الصلت يوما ينشد :

كلّ دين يوم القيامة عند

الله إلّا دين الحنيفة زور

فقال له : صدقت. وقال زيد أيضا :

فلن تكون لنفس منك واقية

يوم الحساب إذا ما يجمع البشر

وممن كان يعتقد التوحيد ويؤمن بيوم الحساب قس (٣) بن ساعدة الإيادي ، قال في مواعظه : كلا ورب الكعبة : ليعودنّ ما باد ، ولئن ذهب ليعودن يوما. وقال أيضا :

كلّا بل هو الله إله واحد

ليس بمولود ولا والد

أعاد (٤) وأبدى

وإليه المآب غدا

__________________

(١) زيد بن عمرو بن نفيل : هو أحد حكماء الجاهلية وابن عم عمر بن الخطاب لم يدرك الإسلام وكان يكره عبادة الأوثان ووأد البنات. رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة وسئل عنه بعدها فقال : يبعث يوم القيامة أمة وحده. توفي قبل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بخمس سنوات وذلك ١٧ ق. ه / ٦٠٦ م. (طبقات ابن سعد وخزانة البغدادي ٣ : ٩٩).

(٢) أمية بن أبي الصلت : هو شاعر جاهلي حكيم من أهل الطائف. قدم دمشق قبل الإسلام وكان مطلعا على الكتب القديمة يلبس المسوح تعبدا. وهو ممن حرموا الخمر على أنفسهم ونبذوا عبادة الأوثان في الجاهلية. متوفى سنة ٥ ه‍ / ٦٢٦ م. (خزانة البغدادي ١ : ١١٩ والشعر والشعراء).

(٣) قس بن ساعدة الإيادي : هو أحد حكماء العرب ومن كبار خطبائها في الجاهلية. كان أسقف نجران ، ويعد من المعمرين ، وقد طالت حياته وأدركه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل النبوة في عكاظ ، وسئل عنه بعد ذلك فقال : يحشر أمة وحده. متوفى نحو ٢٣ ق. ه / ٦٠٠ م. (البيان والتبيين ١ : ٢٧ وخزانة البغدادي ١ : ٢٦٧).

(٤) هذا البيت مكسور ، ولعلّ صوابه : أعاد الخلق وأبدى.

وأنشد في معنى الإعادة :

يا باكي الموت والأموات في جدث

عليهم من بقايا بزّهم خرق (١)

دعهم فإنّ لهم يوما يصاح بهم

كما ينبّه من نوماته الصّعق

حتّى يجيئوا بحال غير حالهم

خلق مضى ثمّ هذا بعد ذا خلقوا

منهم عراة ومنهم (٢) في ثيابهم

منها الجديد ومنها الأزرق الخلق (٣)

ومنهم عامر (٤) بن الظرب العدواني ، وكان من شعراء العرب وخطبائهم ، وله وصية طويلة يقول في آخرها «إني ما رأيت شيئا قط خلق نفسه ، ولا رأيت موضوعا إلا مصنوعا ، ولا جائيا إلا ذاهبا. ولو كان يميت الناس الداء لأحياهم الدّواء. ثم قال : إني أرى أمورا شتى وحتى ، قيل له : وما حتى؟ قال : حتى يرجع الميت حيا ، ويعود لا شيء شيئا ، ولذلك خلقت السموات والأرض» فتولوا عنه ذاهبين ، وقال : ويل إنها نصيحة ، لو كان من يقبلها».

وكان عامر قد حرم الخمر على نفسه فيمن حرمها وقال فيها :

إن أشرب الخمر أشربها للذّتها

وإن أدعها فإنّي ماقت قال (٥)

لو لا اللّذاذة والقينات لم أرها

ولا رأتني إلّا من مدى عالي

سآلة للفتى ما ليس في يده

ذهّابة بعقول القوم والمال

مورثة القوم أضغانا بلا إحن

مزرية بالفتى ذي النّجدة الحالي

أقسمت بالله أسقيها وأشربها

حتّى تمزّق ترب الأرض أوصالي

__________________

(١) البز : ضرب من الحرير ، والخرق : البالي من الثياب.

(٢) وفي نسخة : «منهم عراة وموتى في ثيابهم».

(٣) الخلق : البالي من الثياب وغيرها.

(٤) عامر بن الظرب العدواني : هو إمام مضر وحكيمها وفارسها وخطيبها ورئيسها في الجاهلية ، وهو ممن حرم الخمر في الجاهلية ، وأول من قرعت له العصا ، وكان يقال له «ذو الحلم» وفيه قال الشاعر :

إن العصا قرعت لذي الحلم

(انظر الإصابة ت ٦٥٥٠ والمحبر ص ٢٣٤).

(٥) القالي : المبغض والكاره.

وممن كان قد حرم الخمر في الجاهلية : قيس (١) بن عاصم التميمي ، وصفوان بن أمية بن محرث الكناني ، وعفيف (٢) بن معدي كرب الكندي ، وقالوا فيها أشعارا ، وقال الأسلوم اليالي وقد حرم الخمر والزنا على نفسه :

سالمت قومي بعد طول مضاضة

والسّلم أبقى في الأمور وأعرف

وتركت شرب الرّاح وهي أثيرة

والمومسات ، وترك ذلك أشرف

وعففت عنه يا أميم تكرّما

وكذاك يفعل ذو الحجى المتعفّف

وممن كان يؤمن بالخالق تعالى ، وبخلق آدم عليه‌السلام : عبد لطابخة بن ثعلب بن وبرة من قضاعة ، وقال فيه :

وأدعوك يا ربّي بما أنت أهله

دعاء غريق قد تشبّث بالعصم

لأنك أهل الحمد والخير كلّه

وذو الطّول (٣) لم تعجل بسخط ولم تلم

وأنت الذي لم يحيه الدّهر ثانيا

ولم ير عبد منك في صالح وجم (٤)

وأنت القديم الأوّل الماجد الّذي

تبدّأت خلق النّاس في أكثم العدم

وأنت الذي أحللتني غيب ظلمة

إلى ظلمة من صلب آدم في ظلم

ومن هؤلاء : النابغة الذبياني ، آمن بيوم الحساب فقال :

فعلتهم (٥) ذات الإله ودينهم

قويم فما يرجون غير العواقب

وأراد بذلك الجزاء بالأعمال.

__________________

(١) قيس بن عاصم التميمي : هو أحد أمراء العرب وعقلائهم والموصوفين بالحلم والشجاعة. كان شاعرا اشتهر وساد في الجاهلية ، وهو ممن حرم على نفسه الخمر. وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في وفد تميم سنة ٩ ه‍. فأسلم وقال النبي لما رآه : هذا سيد أهل الوبر ، وقد استعمله على صدقات قومه. توفي في البصرة نحو ٢٠ ه‍ / ٦٤٠ م. (انظر الإصابة ت ٧١٩٤ وخزانة البغدادي ٣ : ٤٢٨).

(٢) هو شرحبيل بن معدي كرب ابن عم الأشعث بن قيس ، يعرف بعفيف. وفد على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكان في ألفين وخمسمائة من العطاء ، وهو ممن حرم الخمر على نفسه في الجاهلية. (أسد الغابة ٣ : ٢٣٩).

(٣) ذو الطول : ذو القدرة والغنى.

(٤) الوجم : البخيل.

(٥) وفي الديوان ص ٣٢ ـ دار الكتب العلمية «مجلتهم».

ومن هؤلاء : زهير بن أبي سلمى المزني ، وكان يمر بالعضاة (١) وقد أورقت بعد يبس فيقول : لو لا أن تسبني العرب لآمنت أن الذي أحياك بعد يبس سيحيي العظام وهي رميم، ثم آمن بعد ذلك ، وقال في قصيدته التي أولها :

أمن أمّ أوفى دمنة لم تكلّم (٢) ... وهي من السبعيات.

يؤخّر فيوضع في كتاب فيدّخر

ليوم حساب ، أو يعجّل فينقم

ومنهم : علاف بن شهاب التميمي ، كان يؤمن بالله تعالى وبيوم الحساب ، وفيه قال:

ولقد شهدت الخصم يوم رفاعة

فأخذت منه خطّة المقتال

وعلمت أنّ الله جاز عبده

يوم الحساب بأحسن الأعمال

وكان بعض العرب إذا حضره الموت يقول لولده : ادفنوا معي راحلتي حتى أحشر عليها ، فإن لم تفعلوا حشرت على رجلي. قال جريبة (٣) بن الأشيم الأسدي في الجاهلية وقد حضره الموت يوصي ابنه سعدا :

يا سعد إمّا أهلكنّ فإنّني

أوصيك إنّ أخا الوصاة الأقرب

لا تتركنّ أباك يعثر راجلا

في الحشر يصرع لليدين وينكب

واحمل أباك على بعير صالح

وابغ المطيّة إنّه هو أصوب (٤)

ولعلّ لي ممّا تركت مطيّة

في الحشر أركبها إذا قيل اركبوا

وقال عمرو بن زيد بن المتمني يوصي ابنه عند موته :

أبنيّ! زوّدني إذا فارقتني

في القبر راحلة برحل قاتر (٥)

__________________

(١) العضاة ، الواحدة عضاهة : وهي نوع من الشجر الشوكي ينبت في الصحراء.

(٢) وعجزه : «بحومانة الدراج فالمتثلم».

(٣) جريبة بن الأشيم الأسدي : ويقال الفقعسي ، وهو أحد بني فقعس بن طريف ، وهو أخو مطير بن الأشيم أحد شياطين بني أسد ، وهو شاعر مقل. (شرح الحماسة ٢ : ١٣٩ ومعجم الشعراء ص ٧٧).

(٤) وفي نسخة : «وتق الخطيئة إنه هو أقرب».

(٥) الرحل : ما يجعل على ظهر البعير كالسرج ، والرحل القاتر : الجيد منه.

للبعث أركبها إذا قيل اظعنوا

متساوقين (١) معا ؛ لحشر الحاشر

من لا يوافيه على عشرائه (٢)

فالخلق بين مدفّع أو عاثر

وكانوا يربطون الناقة معكوسة الرأس إلى مؤخرها مما يلي ظهرها ، أو مما يلي كلكلها(٣) وبطنها ، ويأخذون ولية (٤) فيشدون وسطها ويقلدونها عنق الناقة ويتركونها حتى تموت عند القبر ، ويسمون الناقة بلية ، والخيط الذي تشد به ولية ، وقال بعضهم يشبه رجالا في بلية : «كالبلايا في أعناقها الولايا».

٣ ـ تقاليد العرب التي أقرها الإسلام ، وبعض عاداتهم

قال محمد (٥) بن السائب الكلبي : كانت العرب في جاهليتها تحرم أشياء نزل القرآن بتحريمها ، كانوا لا ينكحون الأمهات ، ولا البنات ، ولا الخالات ، ولا العمات.

وكان أقبح ما يصنعون أن يجمع الرجل بين الأختين ، أو يختلف على امرأة أبيه ، وكانوا يسمون من فعل ذلك الضيزن. قال أوس (٦) بن حجر التميمي يعير قوما من بني قيس بن ثعلبة تناوبوا على امرأة أبيهم ثلاثة ؛ واحدا بعد الآخر :

__________________

(١) وفي نسخة «مستوسقين» وفي رواية أخرى «مستوثقين».

(٢) وفي نسخة «عثراته». والعشراء : الناقة.

(٣) الكلكل : الصدر.

(٤) الولية : الخيط الذي تشد به الناقة.

(٥) محمد بن السائب الكلبي : نسابة راوية عالم بالتفسير والأخبار وأيام العرب ، وهو من أهل الكوفة. قيل : كان سبئيا من أصحاب عبد الله بن سبأ الذي كان يقول : إن علي بن أبي طالب لم يمت وسيرجع ويملأ الدنيا عدلا كما ملئت جورا. وهو صاحب كتاب الأصنام ، توفي في الكوفة سنة ١٤٦ ه‍ / ٧٦٣ م. (راجع تهذيب التهذيب ٩ : ١٧٨ ووفيات الأعيان ١ : ٤٩٣).

(٦) أوس بن حجر التميمي : هو شاعر جاهلي ، وهو زوج أم زهير بن أبي سلمى ، كان كثير الأسفار وأكثر إقامته عند عمرو بن هند ملك الحيرة. عمّر طويلا ولم يدرك الإسلام ، وهو صاحب الأبيات المشهورة التي أولها :

أيتها النفس اجملي جزعا

توفي نحو ٢ ق. ه / ٦٢٠ م. (راجع خزانة البغدادي ٢ : ٢٣٥ وشعراء النصرانية ص ٤٩٢).

والفارسيّة فيكم غير منكرة

وكلّكم لأبيه ضيزن سلف

نيكوا فكيهة وامشوا حول قبّتها

مشي الزّرافة في آباطها الحجف (١)

وكان أول من جمع بين الأختين من قريش : أبو أحيحة (٢) سعيد بن العاص ، جمع بين هند وصفية ابنتي المغيرة (٣) بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم.

قال : وكان الرجل من العرب إذا مات عن المرأة أو طلقها قام أكبر بنيه ، فإن كان له فيها حاجة طرح ثوبه عليها ، وإن لم يكن له فيها حاجة تزوجها بعض إخوته بمهر جديد.

قال وكانوا يخطبون المرأة إلى أبيها أو إلى أخيها أو عمها أو بعض بني عمها ، وكان له يخطب الكفء إلى الكفء ، فإن كان أحدهما أشرف من الآخر في النسب رغب له في المال ، وإن كان هجينا (٤) خطب إلى هجين فزوّجه هجينة مثله ، ويقول الخاطب إذا أتاهم : أنعموا صباحا. ثم يقول : نحن أكفاؤكم ونظراؤكم ، فإن زوّجتمونا فقد أصبنا رغبة وأصبتمونا ؛ وكنا لصهركم حامدين ، وإن رددتمونا لعلة نعرفها رجعنا عاذرين ، فإن كان قريب القرابة من قومه قال لها أبوها وأخوها : إذا حملت إليه أيسرت وأذكرت ، ولا أنثت ، جعل الله منك عددا وعزا وخلدا ، أحسني خلقك ، وأكرمي زوجك ، وليكن طيبك الماء.

__________________

(١) الحجف : ضرب من الترسة ، الواحدة حجفة ، وقيل : هي من الجلود خاصة. (لسان العرب مادة حجف).

(٢) سعيد بن العاص : أبو أحيحة ، وهو من سادات أمية في الجاهلية وهو والد عمرو بن سعيد الأشدق وجد سعيد بن العاص المتوفى سنة ٥٩ ه‍. وقد حبسه عمرو بن جفنة فقال في ذلك شعرا وصل إلى بني عبد شمس فجمعوا مالا كثيرا وافتدوه. وقد عاش إلى ما بعد ظهور الإسلام ومات على دين الجاهلية نحو ٣ ه‍ / ٦٢٤ م. (انظر الإصابة ت ٣٧٥٩ وتهذيب ابن عساكر ٦ : ١٣١).

(٣) المغيرة بن عمرو بن مخزوم : هو من سادات قريش في الجاهلية ، من سكان مكة ، كان معاصرا لعبد المطلب بن هاشم ، وعارضه في ذبح ابنه عبد الله ، وقال : والله لا تذبحه حتى تعذر فيه ، ومن نسله مشاهير من الصحابة. متوفى نحو ٥٠ ق. ه / ٥٧٥ م. (انظر نسب قريش ص ٢٩٩ وما بعدها والإصابة ٤ : ١٣٩).

(٤) الهجين : الذي أبوه عربي وأمه أمة غير محصنة ، والجمع هجن وهجناء. (لسان العرب مادة هجن).

وإذا زوّجت في غربة قال لها لا أيسرت ولا أذكرت ، فإنك تدنين البعداء ، وتلدين الأعداء ، أحسني خلقك ، وتحببي إلى أحمائك ، فإن لهم عينا ناظرة إليك ، وأذنا سامعة ، وليكن طيبك الماء.

وكانوا يطلقون ثلاثا على التفرقة. قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما : أول من طلق ثلاثا على التفرقة إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام ، وكان العرب يفعلون ذلك ، فتطلقها واحدة وهو أحق الناس بها ، حتى إذا استوفى الثلاث انقطع السبيل عنها ، ومنه قول الأعشى (١) ميمون بن قيس حين تزوج امرأة فرغب قومها عنه ، فأتاه قومها فهددوه بالضرب أو يطلقها :

أيا جارتي بيني (٢) فإنّك طالقه

كذاك أمور الناس غاد وطارقه

قالوا : ثنّه ، فقال :

وبيني فإنّ البين خير من العصا

وأن لا ترى لي فوق رأسك بارقه

قالوا : ثلّث ، فقال :

وبيني حصان الفرج غير ذميمة

وموموقة (٣) قد كنت فينا ووامقه

قال : وكان أمر الجاهلية في نكاح النساء على أربع : رجل يخطب فيتزوج ، وامرأة يكون لها خليل يختلف إليها ، فإن ولدت قالت هو لفلان فيتزوجها بعد هذا ، وامرأة يختلف إليها النفر وكلهم يواقعها (٤) في طهر واحد ، فإذا ولدت ألزمت الولد

__________________

(١) الأعشى : هو ميمون بن قيس بن جندل أبو بصير المعروف بأعشى قيس ويقال له أعشى بكر بن وائل والأعشى الكبير ، وهو من شعراء الطبقة الأولى في الجاهلية وأحد أصحاب المعلقات. كان كثير الوفود على الملوك من العرب والفرس ، وكان يغني بشعره فسمي «صناجة العرب» متوفى سنة ٧ ه‍ / ٦٢٩ م. (الشعر والشعراء ص ٧٩ وشعراء النصرانية ١ : ٣٥٧).

(٢) بيني : فارقي.

(٣) الموموقة : المحبوبة ، وفعلها ومق ، والوامق : المحب.

(٤) يواقعها : يجامعها.

أحدهم ، وهذه تدعى القسمة ، وامرأة ذات راية يختلف إليها الكثير وكلهم يواقعها ، فإذا ولدت جمعوا لها القافة فيلحقون الولد بشبيهه.

قال : وكانوا يحجون البيت ويعتمرون ويحرمون قال زهير :

وكم بالقيان من محلّ ومحرم

ويطوفون بالبيت سبعا. ويمسحون بالحجر ، ويسعون بين الصفا والمروة. قال أبو طالب :

وأشواط بين المروتين إلى الصّفا

وما فيهما من صورة وتخايل

وكانوا يلبون ، إلا أن بعضهم كان يشرك في تلبيته في قوله :

إلّا شريك هو لك

تملكه وما ملك

ويقفون المواقف كلها ، قال العدوي :

فأقسم بالذي حجّت قريش

وموقف ذي الحجيج على اللآلي

وكانوا يهدون الهدايا ، ويرمون الجمار ، ويحرّمون الأشهر الحرم ، فلا يغزون ولا يقاتلون فيها إلا طيئ ، وخثعم ، وبعض بني الحارث بن كعب ، فإنهم كانوا لا يحجون ولا يعتمرون ، ولا يحرّمون الأشهر الحرم ، ولا البلد الحرام.

وإنما سمت قريش الحرب التي كانت بينها وبين غيرها «عام الفجار» لأنها كانت في أشهر الحرم حيث لا تقاتل. فلما قاتلوا فيها قالوا : قد فجرنا ، فلذلك سموها : حرب الفجار.

وكانوا يكرهون الظلم في الحرم. وقالت امرأة منهم تنهى ابنها عن الظلم :

أبنيّ لا تظلم بمكّ

ة لا الصّغير ولا الكبير

أبنيّ من يظلم بمك

ة يلق أطراف الشّرور

أبنيّ قد جرّبتها

فوجدت ظالمها يبور (١)

__________________

(١) يبور : يهلك.

أبنيّ أمّن طيرها

والوحش تأمن في ثبير (١)

ومنهم من كان ينسئ (٢) الشهور ، وكانوا يكبسون في كل عامين شهرا ، وفي كل ثلاثة أعوام شهرا ، وكانوا إذا حجوا في شهر من السنة لم يخطئوا أن يجعلوا يوم التروية (٣) ويوم عرفة (٤) ، ويوم النحر (٥) كهيئة ذلك في شهر ذي الحجة ، حتى يكون يوم النحر اليوم العاشر من ذلك الشهر ، ويقيمون بمنى ، فلا يبيعون في يوم عرفة ، ولا في أيام منى ، وفيهم أنزلت (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) (٦).

وكانوا إذا ذبحوا للأصنام لطخوها بدماء الهدايا ، يلتمسون بذلك الزيادة في أموالهم.

وكان قصي (٧) بن كلاب ينهى عن عبادة غير الله من الأصنام ، وهو القائل :

أربّا واحدا أم ألف ربّ

أدين إذا تقسّمت الأمور

تركت اللّات والعزّى جميعا

كذلك يفعل الرّجل البصير

فلا العزّى أدين ولا ابنتيها

ولا صنمي بني غنم أزور

وقيل هي لزيد بن عمرو بن نفيل ، فلقي في ذلك من قريش شرا حتى أخرجوه عن الحرم فكان لا يدخله إلا ليلا.

__________________

(١) ثبير : من أعظم جبال مكة بينها وبين عرفة. سمي ثبيرا برجل من هذيل مات في ذلك الجبل فعرف به.

(معجم البلدان ٢ : ٧٣).

(٢) النسء : تأخير حرمة شهر إلى آخر ، من نسأت الشيء إذا أخرته.

(٣) يوم التروية : يوم قبل يوم عرفة ، وهو الثامن من ذي الحجة ، سمي به لأن الحجاج يتروون فيه من الماء وينهضون إلى منى ولا ماء بها فيتزودون ريهم من الماء ، أي يسقون ويستقون. (اللسان مادة روي).

(٤) يوم عرفة : سمي بذلك لأن الناس يتعارفون به ، وقيل غير ذلك. (اللسان مادة عرف).

(٥) يوم النحر : عاشر ذي الحجة ، وهو يوم الأضحى لأن البدن تنحر فيه. (اللسان مادة نحر).

(٦) سورة التوبة : الآية ٣٧.

(٧) قصي بن كلاب : عالم قريش ، وأقومها للحق. كان يجمع قومه يوم العروبة ويذكرهم ويأمرهم بتعظيم الحرم ، ويخبرهم بأنه سيبعث فيه نبي. وكان ينهى عن عبادة الأصنام ، وقد خلعت له الرئاسة في مكة ، بعد أن أجلى خزاعة عنها.

وقال القلمس (١) بن أمية الكناني يخطب العرب بفناء مكة : أطيعوني ترشدوا. قالوا : وما ذاك؟ قال : إنكم قد تفرقتم بآلهة شتى ، وإني لأعلم ما الله راض به ، وإن الله رب هذه الآلهة ، وإنه ليحب أن يعبد وحده.

قال : فتفرقت عنه العرب حين قال ذلك ، وتجنبت عنه طائفة أخرى ، وزعمت أنه على دين بني تميم.

قال : وكانوا يغتسلون من الجنابة ويغسلون موتاهم. قال الأفوه (٢) الأودي :

ألا عللاني واعلما أنّني غرر (٣)

فما قلت ينجيني الشّقاق ولا الحذر

وما قلت يجديني ثيابي إذا بدت

مفاصل أوصالي وقد شخص البصر

وجاءوا بماء بارد يغسلونني

فيا لك من غسل سيتبعه كبر (٤)

قال : وكانوا يكفنون موتاهم ويصلون عليهم ، وكانت صلاتهم إذا مات الرجل حمل على سريره ، ثم يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها ، ويثني عليه ثم يدفن ؛ ثم يقول : عليك رحمة الله وبركاته.

__________________

(١) القلمس بن أمية الكناني : هو آخر من نسأ الشهور في الجاهلية والنسء في اللغة التأخير. وكانت العرب تؤخر أياما من كل سنة ليكون حجها في وقت واحد ، ثم اعتادت أن تنسأ بعض الشهور ليحل لها القتال في الأشهر الحرم. وكان النسء يعلن أيام اجتماع الحجيج في (منى) ، وقد تولى إعلانه القلمس وراثة عن أبيه ، وأبوه عن جده ، واستمر نحو أربعين سنة. وظهر الإسلام فأبطل ذلك ، ويقال : كان اسمه (جنادة) والقلمس لقبه ، ومعناه السيد أو الداهية البعيد الغور يلقب به كل من تولى نسء الشهور. وهو من الخطباء الوعاظ قبل الإسلام. كان يخطب بفناء الكعبة وكانت العرب لا تصدر عن مواسمها حتى يعظها ويوصيها. (راجع تفسير القرطبي ٨ : ١٣٧ والتاج في مادتي نسأ وقلس).

(٢) الأفوه الأودي : هو صلاءة بن عمرو بن مالك من بني أود من مذحج ، شاعر يماني جاهلي ، يكنى أبا ربيعة ، وهو أحد الحكماء والشعراء في عصره. أشهر شعره أبياته التي منها :

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم

ولا سراة إذا جهالهم سادوا

متوفى نحو ٥٠ ق. ه / ٥٧٠ م. (راجع الشعر والشعراء ٥٩ وشعراء النصرانية ص ٧٠).

(٣) الغرر : الهالك.

(٤) وفي نسخة «ستتبعه غير» وفي نسخة أخرى «سيتبعه غبر».

وقال رجل من كلب في الجاهلية لابن ابن له :

أعمرو إن هلكت وكنت حيّا

فإني مكثر لك في صلاتي

واجعل نصف مالي لابن سام

حياتي إن حييت وفي مماتي

قال : وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم عليه‌السلام : وهي الكلمات العشر ، فإنهن خمس في الرأس ، وخمس في الجسد.

فأما اللواتي في الرأس : فالمضمضة ، والاستنشاق ، وقص الشارب. والفرق ، والسواك(١).

وأما اللواتي في الجسد : فالاستنجاء ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبط ، وحلق العانة ، والختان. فلما جاء الإسلام قررها سنّة من السّنن.

وكانوا يقطعون يد السارق اليمنى إذا سرق.

وكانت ملوك اليمن ، وملوك الحيرة يصلبون الرجل إذا قطع الطريق.

وكانوا يوفون بالعهود ، ويكرمون الجار ، ويكرمون الضيف. قال حاتم الطائي :

إلههم ربّي ، وربّي إلههم

فأقسمت لا أرسو (٢) ولا أتعذّر

وقال أيضا :

لقد كان في البرايا النّاس أسوة

كأن لم يسق حجش بعيرا ولا حمر (٣)

وكانوا أناسا موقنين بربّهم

بكلّ مكان فيهم عابد بكر

__________________

(١) السواك : العود الذي تنظف به الأسنان.

(٢) أرسو : أتوقف.

(٣) وهذا البيت غير موزون ، ولعل صوابه القول :

لقد كان ما في البر للناس أسوة

كأن لم يسق جحش بعيرا ولا حمر

الباب الرابع

آراء الهند

قد ذكرنا أن الهند أمة كبيرة ، وملة عظيمة ، وآراؤهم مختلفة. فمنهم البراهمة وهم المنكرون للنبوات أصلا. ومنهم من يميل إلى الدهر. ومنهم من يميل إلى مذهب الثنوية ويقول بملة إبراهيم عليه‌السلام ، وأكثرهم على مذهب الصابئة ومناهجها ، فمن قائل بالروحانيات ، ومن قائل بالهياكل ، ومن قائل بالأصنام ، إلا أنهم مختلفون في شكل الهياكل التي ابتدعوها ، وكيفية أشكال وضعوها ، ومنهم حكماء على طريق اليونانيين علما وعملا.

فمن كانت طريقته على منهاج الدهرية والثنوية والصابئة فقد أغنانا حكاية مذاهبهم قبل عن حكاية مذهبه. ومن انفرد عنهم بمقالة ورأي فهم خمس فرق : البراهمة وأصحاب الروحانيات ، وأصحاب الهياكل ، وعبدة الأصنام ، والحكماء ونحن نذكر مقالات هؤلاء كما وجدنا في كتبهم المشهورة.

الفصل الأول

البراهمة

من الناس من يظن أنهم سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليه‌السلام ، وذلك خطأ ، فإن هؤلاء هم المخصوصون بنفي النبوات أصلا ورأسا. فكيف يقولون بإبراهيم عليه‌السلام؟ والقوم الذين اعتقدوا نبوة إبراهيم عليه‌السلام من أهل الهند فهم الثنوية منهم القائلون بالنور والظلمة على رأي أصحاب الاثنين ، وقد ذكرنا

مذاهبهم ، وهؤلاء البراهمة إنما انتسبوا إلى رجل منهم يقال له براهم ، وقد مهد لهم نفي النبوات أصلا ، وقرر استحالة ذلك في العقول بوجوده :

منها أن قال إن الذي يأتي به الرسول لم يخل من أحد أمرين : إما أن يكون معقولا وإما أن لا يكون معقولا. فإن كان معقولا فقد كفانا العقل التام بإدراكه والوصول إليه ، فأي حاجة لنا إلى الرسول؟ وإن لم يكن معقولا فلا يكون مقبولا ، إذ قبول ما ليس بمعقول خروج عن حد الإنسانية ، ودخول في حريم البهيمية.

ومنها أن قال : قد دل العقل على أن الله تعالى حكيم ، والحكيم لا يتعبد الخلق إلا بما تدل عليه عقولهم. وقد دلت الدلائل العقلية على أن للعالم صانعا عالما قادرا حكيما ، وأنه أنعم على عباده نعما توجب الشكر ، فننظر في آيات خلقه بعقولنا ونشكره بآلائه علينا. وإذا عرفناه وشكرنا له استوجبنا ثوابه. وإذا أنكرناه وكفرنا به استوجبنا عقابه. فما بالنا نتبع بشرا مثلنا؟ فإنه إن كان يأمرنا بما يخالف ذلك كان قوله دليلا ظاهرا على كذبه.

ومنها أن قال : قد دل العقل على أن للعالم صانعا حكيما والحكيم لا يتعبد الخلق بما يقبح في عقولهم ، وقد وردت أصحاب الشرائع بمستقبحات من حيث العقل ، من التوجه إلى بيت مخصوص في العبادة والطواف حوله ، والسعي ورمي الجمار ، والإحرام ، والتلبية ، وتقبيل الحجر الأصم ، وكذلك ذبح الحيوان ، وتحريم ما يمكن أن يكون غذاء للإنسان وتحليل ما ينقص من بنيته ، وغير ذلك ، وكل هذه الأمور مخالفة لقضايا العقول.

ومنها أنه قال : إن أكبر الكبائر في الرسالة اتباع رجل هو مثلك في الصورة والنفس والعقل ، يأكل مما تأكل ، ويشرب مما تشرب ؛ حتى تكون بالنسبة إليه كجماد يتصرف فيك رفعا ووضعا ، أو كحيوان يصرفك أماما وخلفا ، أو كعبد يتقدم إليك أمرا ونهيا ؛ فأي تميز له عليك؟ وأية فضيلة أوجبت استخدامك؟ وما دليله على صدق دعواه؟ فإن اغتررتم بمجرد قوله : فلا تمييز لقول على قول ، وإن انحسرتم

بحجته ومعجزته فعندنا من خصائص الجواهر والأجسام ما لا يحصى كثرة ، ومن المخبرين عن مغيبات الأمور من ساوى خبره (١) (قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) (٢) فإذا اعترفتم بأن للعالم صانعا وخالقا وحكيما ؛ فاعترفوا بأنه آمر وناه ، حاكم على خلقه ، وله في جميع ما نأتي ونذر ، ونعمل ونفكر ، حكم وأمر ، وليس كل عقل إنساني على استعداد ما يعقل عنه أمره ، ولا كل نفس بشري بمثابة من يقبل عنه حكمه ، بل أوجبت منّته ترتيبا في العقول والنفوس ، واقتضت قسمته أن يرفع ، (بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا* وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) (٣) ، فرحمة الله الكبرى هي النبوة والرسالة ، وذلك خير مما يجمعون بعقولهم المختالة.

ثم إن البراهمة تفرقوا أصنافا ، فمنهم أصحاب البددة ، ومنهم أصحاب الفكرة ، ومنهم أصحاب التناسخ.

١ ـ أصحاب البددة

ومعنى «البد» عندهم شخص في هذا العالم لا يولد ، ولا ينكح ، ولا يطعم ، ولا يشرب ، ولا يهرم ، ولا يموت. وأول «بد» ظهر في العالم اسمه «شاكمين» (٤) وتفسيره : السيد الشريف ، ومن وقت ظهوره إلى وقت الهجرة خمسة آلاف سنة. قالوا : ودون مرتبة البد مرتبة «البوديسعية» (٥) ومعناه الإنسان الطالب سبيل الحق ، وإنما يصل إلى تلك المرتبة بالصبر والعطية ، وبالرغبة فيما يجب أن يرغب فيه ، وبالامتناع والتخلي عن الدنيا ، والعزوف عن شهواتها ولذاتها ، والعفّة عن محارمها ، والرحمة على جميع الخلق ، وبالاجتناب عن الذنوب العشرة : قتل كل ذي روح ،

__________________

(١) وفي نسخة «من لا يساويه خبره» وفي نسخة ثانية «من لا يساوي خبره».

(٢) سورة إبراهيم : الآية ١١.

(٣) سورة الزخرف : الآية ٣٢.

(٤) وفي نسخة «شاكين» وفي رواية ثانية «شاكيموني».

(٥) وفي نسخة «البرديسعية».

واستحلال أموال الناس ، والزنا والكذب ، والنميمة ، والبذاء ، والشتم ، وشناعة الألقاب ، والسفه ، والجحد لجزاء الآخرة ، وباستكمال عشر خصال : إحداها : الجود والكرم ، والثانية : العفو عن المسيء ، ودفع الغضب بالحلم ، والثالثة : التعفف عن الشهوات الدنيوية، والرابعة : الفكرة في التخلص إلى ذلك العالم الدائم الوجود من هذا العالم الفاني ، والخامسة : رياضة العقل بالعلم والأدب ، وكثرة النظر إلى عواقب الأمور ، والسادسة : القوة على تصريف النفس في طلب العليات ، والسابعة : لين القلب وطيب الكلام مع كل أحد ، والثامنة : حسن المعاشرة مع الإخوان بإيثار اختيارهم على اختيار نفسه ، والتاسعة : الإعراض عن الخلق بالكلية والتوجه إلى الحق بالكلية ، والعاشرة : بذل الروح شوقا إلى الحق، ووصولا إلى جناب الحق.

وزعموا أن البددة أتوهم على عدد الهياكل من نهر الكنك ، وأعطوهم العلوم وظهروا لهم في أجناس وأشخاص شتى ، ولم يكونوا يظهرون إلا في بيوت الملوك لشرف جواهرهم ، وقالوا : ولم يكن بينهم اختلاف فيما ذكر عنهم من أزلية العالم ، وقولهم في الجزاء على ما ذكرنا ، وإنما اختص ظهور البددة بأرض الهند لكثرة ما فيها من خصائص التربة والإقليم ، ومن فيها من أهل الرياضة والاجتهاد ، وليس يشبه البد على ما وصفوه إن صدقوا في ذلك إلا بالخضر الذي يثبته أهل الإسلام.

٢ ـ أصحاب الفكرة والوهم

وهؤلاء أعلم منهم بالفلك والنجوم وأحكامها المنسوبة إليهم ، وللهند طريقة تخالف طريقة منجمي الروم والعجم ؛ وذلك أنهم يحكمون أكثر الأحكام باتصالات الثوابت دون السيارات ، وينشئون الأحكام عن خصائص الكواكب دون طبائعها ، ويعدون زحل السعد الأكبر ، وذلك لرفعة مكانه ، وعظم جرمه ، وهو الذي يعطي العطايا الكلية من السعادة ، والجزئية من النحوسة ، وكذلك سائر الكواكب لها طبائع وخواص ، فالروم يحكمون من الطبائع ، والهند يحكمون من الخواص ، وكذلك طبهم ، فإنهم يعتبرون خواص الأدوية دون طبائعها ، والروم تخالفهم في ذلك.

وهؤلاء أصحاب الفكرة يعظمون الفكر ، ويقولون هو المتوسط بين المحسوس والمعقول ، فالصور من المحسوسات ترد عليه ، والحقائق من المعقولات ترد عليه أيضا. فهو مورد العلمين من العالمين ، فيجتهدون كل الجهد حتى يصرفوا الوهم والفكر عن المحسوسات بالرياضات البليغة ، والاجتهادات المجهدة حتى إذا تجرد الفكر عن هذا العالم تجلى له ذلك العالم ، فربما يخبر عن مغيبات الأحوال ، وربما يقوى على حبس الأمطار ، وربما يوقع الوهم على رجل حي فيقتله في الحال ، ولا يستبعد ذلك فإن للوهم أثرا عجيبا في تصريف الأجسام والتصرف في النفوس.

أليس الاحتلام في النوم تصرف الوهم في الجسم؟ أليست إصابة العين تصرف الوهم في الشخص؟ أليس الرجل يمشي على جدار مرتفع فيسقط في الحال ولا يأخذ من عرض المسافة في خطواته سوى ما أخذه على الأرض المستوية؟.

والوهم إذا تجرد عمل أعمالا عجيبة ، ولهذا كانت الهند تغمض عينها أياما لئلا يشتغل الفكر والوهم بالمحسوسات ومع التجرد إذا اقترن به وهم آخر اشتركا في العمل خصوصا إذا كانا متفقين غاية الاتفاق.

ولهذا كانت عادتهم إذا دهمهم أمر أن يجتمع أربعون رجلا من المهذبين المخلصين المتفقين على رأي واحد في الإصابة ، فيتجلى لهم المهم الذي يهضمهم حمله ، ويندفع عنهم البلاء الملم الذي يكادهم ثقله ، ومنهم البكرنتينية ، يعني المصفدين بالحديد ، وسنتهم حلق الرءوس واللحى ، وتعرية الأجسام ما خلا العورة ، وتصفيد البدن من أوساطهم إلى صدورهم لئلا تنشق بطونهم من كثرة العلم وشدة الوهم وغلبة الفكر. ولعلهم رأوا في الحديد خاصية تناسب الأوهام ؛ وإلا فالحديد كيف يمنع انشقاق البطن؟ وكثرة العلم كيف توجب ذلك(١)؟

__________________

(١) وليس من سننهم أن يعلموا أحد ولا يكلموه دون أن يدخل في دينهم. ويأمرون من يدخل في دينهم بالصدقة للتواضع بها ومن دخل في دينهم لم يصفد بالحديد حتى يبلغ المرتبة التي يستحق بها ذلك ، وتصفيدهم أنفسهم من أوساطهم إلى صدورهم لئلا تنشق بطونهم زعموا من كثرة العلم وغلبة الفكر. (الفهرست لابن النديم ص ٤٨٩).

٣ ـ أصحاب التناسخ

وقد ذكرنا مذاهب التناسخية. وما من ملة من الملل إلا وللتناسخ فيها قدم راسخ ، وإنما تختلف طرقهم في تقرير ذلك. فأما تناسخية الهند فأشد اعتقادا لذلك ؛ لما عاينوا من طير يظهر في وقت معلوم ، فيقع على شجرة معلومة فيبيض ويفرخ. ثم إذا تم نوعه بفراخه حك بمنقاره ومخالبه ، فتبرق منه نار تلتهب فيحترق الطير ، ويسيل منه دهن يجتمع في أصل الشجرة في مغارة. ثم إذا حال الحول وحان وقت ظهوره انخلق من هذا الدهن مثله طير فيطير ويقع على الشجرة وهو أبدا كذلك. قالوا : فما مثل الدنيا وأهلها في الأدوار والأكوار إلا كذلك.

قالوا : وإذا كانت حركات الأفلاك دورية فلا محالة يصل رأس الفرجار (١) إلى ما بدأ ودار دورة ثانية على الخط الأول ، أفاد لا محالة ما أفاد الدور الأول ، إذ لا اختلاف بين الدورين حتى يتصور اختلاف بين الأثرين ، فإن المؤثرات عادت كما بدأت ، والنجوم والأفلاك دارت على المركز الأول وما اختلفت أبعادها واتصالاتها ومناظراتها ومناسباتها بوجه ، فيجب أن لا تختلف المتأثرات الباديات منها بوجه ، وهذا هو تناسخ الأدوار والأكوار ، ولهم اختلافات في الدورة الكبرى ؛ كم هي من السنين؟ وأكثرهم على أنها ثلاثون ألف سنة، وبعضهم على أنها ثلاثمائة ألف سنة وستين ألف سنة. وإنما يعتبرون في تلك الأدوار سير الثوابت لا السيارات ، وعند الهند أكثرهم : أن الفلك مركب من الماء والنار والريح ، وأن الكواكب فيه نارية هوائية. فلم تعدم الموجودات العلوية إلا العنصر الأرضي فحسب.

__________________

(١) الفرجار : البركار ، يقال خط فرجاري أي مستدير.

الفصل الثاني

أصحاب الروحانيات

ومن أهل الهند جماعة أثبتوا متوسطات روحانية يأتونهم بالرسالة من عند الله عزوجل في صورة البشر من غير كتاب ، فيأمرهم بأشياء ، وينهاهم عن أشياء ، ويسن لهم الشرائع ، ويبين لهم الحدود.

وإنما يعرفون صدقه بتنزهه عن حطام الدنيا واستغنائه عن الأكل والشرب والبعال (١).

١ ـ الباسنوية

زعموا أن رسولهم ملك روحاني نزل من السماء على صورة بشر ، فأمرهم بتعظيم النار وأن يتقربوا إليها بالعطر والطيب والأدهان والذبائح. ونهاهم عن القتل والذبح إلا ما كان للنار ، وسن لهم أن يتوشحوا بخيط يعقدونه من مناكبهم الأيامن إلى تحت شمائلهم ، ونهاهم أيضا عن الكذب وشرب الخمر ، وأن لا يأكلوا من أطعمة غير ملتهم ولا من ذبائحهم ، وأباح لهم الزنا لئلا ينقطع النسل.

وأمرهم أن يتخذوا على مثاله صنما يتقربون إليه ويعبدونه ويطوفون حوله كل يوم ثلاث مرات بالمعازف (٢) والتبخير والغناء والرقص ، وأمرهم بتعظيم البقرة (٣) والسجود لها حيث رأوها ، وأن يفزعوا في التوبة إلى التمسح بها ، وأمرهم أن لا يجوزوا نهر كنك.

__________________

(١) البعال : النكاح ، ومنه الحديث في أيام التشريق : إنها أيام أكل وشرب وبعال. والمباعلة : المباشرة.

(اللسان مادة بعل).

(٢) المعازف الواحد معزف : وهو آلة طرف كالطنبور والعود والقيثارة.

(٣) فالهندوس يقدسون البقر ، ويتركونه طليقا يجوب أمهات الطرق في غير حصر ، لإجلاله وتقديسه في نفوسهم، وهم يعدون قتل البقرة بل ضربها جرما شنيعا لا يغتفر.

٢ ـ الباهوديّة

زعموا أن رسولهم ملك روحاني على صورة بشر اسمه باهود ، أتاهم وهو راكب على ثور ، على رأسه إكليل مكلل بعظام الموتى من عظام الرءوس ، ومتقلد من ذلك بقلادة ، وبإحدى يديه قحف (١) إنسان ، وبالأخرى مزراق (٢) ذو ثلاث شعب.

يأمرهم بعبادة الخالق عزوجل وبعبادته معه ، وأن يتخذوا على مثاله صنما يعبدونه ، وأن لا يعافوا شيئا ، وأن تكون الأشياء كلها في طريقة واحدة ؛ لأنها جميعا صنع الخالق عزوجل ، وأن يتخذوا من عظام الناس قلائد يتقلدونها وأكاليل يضعونها على رءوسهم ، وأن يمسحوا أجسادهم ورءوسهم بالرماد ، وحرم عليهم الذبائح والنكاح وجمع الأموال ، وأمرهم برفض الدنيا ، ولا معاش لهم فيها إلا من الصدقة.

٣ ـ الكابلية (٣)

زعموا أن رسولهم ملك روحاني يقال له شب (٤) ، أتاهم في صورة بشر متمسح بالرماد على رأسه قلنسوة من لبود أحمر طولها ثلاثة أشبار ، مخيط عليها صفائح من قحف الناس ، متقلد قلادة من أعظم ما يكون ، متمنطق من ذلك بمنطقه ، متسوّر منها بسوار ، متخلخل منها بخلخال ، وهو عريان ، فأمرهم أن يتزينوا بزينته ، ويتزيوا بزيه ، وسن لهم شرائع وحدودا.

__________________

(١) القحف : العظم الذي فوق الدماغ.

(٢) المزراق من الرماح : رمح قصير وهو أخف من العنزة ، وقد زرقه بالمزراق زرقا إذا طعنه أو رماه به.

(٣) الكابلية : نسبة إلى كابيلا ، مؤسس مذهب ساميكهيا ، وقد عاش في القرن السادس قبل الميلاد. ومعنى كلمة ساميكهيا التعدد لقول كابيلا بالتعدد الذي لا يتناهى في النفوس ، وهو مذهب إلحادي ، لا يعترف بإله مسيطر متصرف في الكون ، وإنما يرى أن هناك روحا عاما أو عالما من الأرواح غير محدد ولا متناه.

(٤) وفي نسخة «شيوا» وهو إله الإبادة ، وإن شئت فقل إله التحول وهو إله الحياة والموت.

٤ ـ البهادونيّة

قالوا : إن بهادون كان ملكا عظيما أتانا في صورة إنسان عظيم. وكان له أخوان قتلاه وعملا من جلدته الأرض ، ومن عظامه الجبال ، ومن دمه البحار. وقيل : هذا رمز ، وإلا فحال صورة الإنسان لا تبلغ إلى هذه الدرجة ، وصورة «بهادون» راكب على دابة ، كثير شعر الرأس ، قد أسبله على وجهه. وقد قسم الشعر على جوانب رأسه قسمة مستوية ، وأسبله كذلك على نواحي الرأس قفا ووجها ، وأمرهم أن يفعلوا كذلك ، وسن لهم أن لا يشربوا الخمر ، وإذا رأوا امرأة هربوا منها ، وأن يحجوا إلى جبل يدعى جورعن ، وعليه بيت عظيم فيه صورة بهادون. ولذلك البيت سدنة (١) لا يكون المفتاح إلا بأيديهم فلا يدخلون إلا بإذنهم ، وإذا فتحوا الباب سدوا أفواههم حتى لا تصل أنفاسهم إلى الصنم. ويذبحون له الذبائح ويقربون له القرابين ، ويهدون له الهدايا ، وإذا انصرفوا من حجهم لم يدخلوا العمران في طريقهم ، ولم ينظروا إلى محرم ، ولم يصلوا إلى أحد بسوء وضرر من قول وفعل.

الفصل الثالث

عبدة الكواكب

ولم ينقل للهند مذهب في عبادة الكواكب إلا فرقتان توجهتا إلى النيرين الشمس والقمر. ومذهبهم في ذلك مذهب الصابئة في توجههم إلى الهياكل السماوية دون قصر الربوبية والإلهية عليها.

١ ـ عبدة الشمس

زعموا أن الشمس ملك من الملائكة ، ولها نفس وعقل ، ومنها نور الكواكب وضياء العالم ، وتكون الموجودات السفلية ، وهي ملك الفلك ، فتستحق التعظيم

__________________

(١) السدنة ، الواحد سادن : وهو خادم الكعبة وبيت الأصنام.

والسجود والتبخير والدعاء ، وهؤلاء يسمون الدينيكيتية (١) ، أي عباد الشمس ، ومن سنتهم أن اتخذوا لها صنما بيده جوهر على لون النار ، وله بيت خاص قد بنوه باسمه ، ووقفوا عليه ضياعا وقربانا ، وله سدنة وقوّام ، فيأتون البيت ويصلون ثلاث كرات ، ويأتيه أصحاب العلل والأمراض فيصومون له ويصلون ، ويدعون ويستشفون به.

٢ ـ عبدة القمر

زعموا أن القمر ملك من الملائكة يستحق التعظيم والعبادة ، وإليه تدبير هذا العالم السفلي والأمور الجزئية فيه ، ومنه نضج الأشياء المكتوبة وإيصالها إلى كمالها ، وبزيادته ونقصانه تعرف الأزمان والساعات ، وهو تلو الشمس وقرينها ، ومنها نوره. وبالنظر إليها تكون زيادته ونقصانه ، وهؤلاء يسمون الجندريكينية ؛ أي عباد القمر ، ومن سنتهم أن اتخذوا له صنما على شكل عجل يجره أربعة ، وبيد الصنم جوهر ، ومن دينهم أن يسجدوا له ويعبدوه ، وأن يصوموا النصف من كل شهر ولا يفطروا حتى يطلع القمر ، ثم يأتون صنمه بالطعام والشراب واللبن ، ثم يرغبون إليه وينظرون إلى القمر ويسألونه حوائجهم ، فإذا استهل الشهر علوا السطوح وأوقدوا الدخن ودعوا عند رؤيته ورغبوا إليه ، ثم نزلوا عن السطوح إلى الطعام والشراب والفرح والسرور ، ولم ينظروا إليه إلا على وجوه حسنة ؛ وفي نصف الشهر إذا فرغوا من الإفطار ، أخذوا في الرقص واللعب بالمعازف بين يدي الصنم والقمر.

__________________

(١) وملة الدينكيتية وهم عبدة الشمس ، وقد اتخذوا لها صنما على عجل ، وقوائم العجلة أربعة أفراس ، وبيد الصنم جوهر على لون النار ، ويزعمون أن الشمس ملك الملائكة يستحق العبادة والسجود ، فهم يسجدون لهذا الصنم ويطوفون حوله بالدخن والمزاهر والمعازف. (انظر الفهرست لابن النديم ص ٤٨٨).

الفصل الرابع

عبدة الأصنام

اعلم أن الأصناف التي ذكرنا مذاهبهم يرجعون آخر الأمر إلى عبادة الأصنام ، إذ كان لا يستمر لهم طريقة إلا بشخص حاضر ، ينظرون إليه ويعكفون عليه ، وعن هذا اتخذت أصحاب الروحانيات والكواكب أصناما زعموا أنها على صورتها ؛ وبالجملة وضع الأصنام حيث ما قدروه إنما هو على معبود غائب حتى يكون الصنم المعمول على صورته وشكله وهيأته نائبا منابه وقائما مقامه ، وإلا فنعلم قطعا أن عاقلا ما لا ينحت جسما بيده ويصوره صورة ثم يعتقد أنه إلهه وخالقه ، وإله الكل وخالق الكل ؛ إذ كان وجوده مسبوقا بوجود صانعه ، وشكله يحدث بصنعة ناحته.

لكن القوم لما عكفوا على التوجه إليها ، كان عكوفهم ذلك عبادة ، وطلبهم الحوائج منها إثبات إلهية لها ، وعن هذا كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) فلو كانوا مقتصرين على صورها في اعتقاد الربوبية والإلهية لما تعدوا عنها إلى رب الأرباب.

١ ـ المهاكاليّة (٢)

لهم صنم يدعى مهاكال له أربع أيد ، كثير شعر الرأس سبطها ، وبإحدى يديه ثعبان عظيم فاغر فاه ، وبالأخرى عصا ، وبالثالثة رأس إنسان ، وباليد الرابعة قد دفعها وفي أذنيه حيتان كالقرطين ، وعلى جسده ثعبانان عظيمان قد التفّا عليه ، وعلى رأسه إكليل من عظام القحف ، وعليه من ذلك قلادة ، يزعمون أنه عفريت يستحق العبادة لعظمة قدره ، واستجماعه الخصال المحمودة المحبوبة والمذمومة من الإعطاء والمنع والإحسان والإساءة. وأنه المفزع لهم في حاجاتهم ، وله بيوت عظام بأرض الهند ينتابها أهل ملته في كل يوم ثلاث مرات، يسجدون له ويطوفون به ، ولهم

__________________

(١) سورة الزمر : الآية ٣.

(٢) لمزيد من الاطلاع راجع الفهرست لابن النديم ص ٤٨٨.

موضع يقال له اختر ؛ فيه صنم عظيم على صورة هذا الصنم ، يأتونه من كل موضع ويسجدون له هناك ، ويطلبون حاجات الدنيا ، حتى إن الرجل يقول له فيما يسأل : زوّجني فلانة ، وأعطني كذا ، ومنهم من يأتيه فيقيم عنده الأيام والليالي لا يذوق شيئا ؛ يتضرع إليه، ويسأله الحاجة حتى إنه ربما ينفق.

٢ ـ البركسهيكيّة

ومن ذلك البركسهيكية ؛ من سننهم أن يتخذوا لأنفسهم صنما يعبدونه ويقربون له الهدايا ، وموضع متعبدهم له أن ينظروا إلى باسق الشجر وملتفه مثل الشجر الذي يكون في الجبال فيلتمسون منها أحسنها وأطولها ، فيجعلون ذلك الموضع موضع متعبدهم ، ثم يأخذون ذلك الصنم فيأتون شجرة عظيمة من ذلك الشجر فينقبون فيها موضعا فيركبونه فيها فيكون سجودهم وطوافهم نحو تلك الشجرة.

٣ ـ الدّهكينية

ومن ذلك الدهكينية ، من سننهم أن يتخذوا صنما على صورة امرأة ، وفوق رأسه تاج ، وله أيد كثيرة ، ولهم عيد في يوم من أيام السنة ، عند استواء الليل والنهار ودخول الشمس الميزان ، فيتخذون في ذلك اليوم عريشا عظيما بين يدي ذلك الصنم ، ويقربون إليه القرابين من الغنم وغيرها ، ولا يذبحونها ، ولكن يضربون أعناقها بين يديه بالسيوف ويقتلون من أصابوا من الناس قربانا بالغيلة حتى ينقضي عيدهم ، وهم مسيئون عند عامة الهند بسبب الغيلة.

٤ ـ الجلهكيّة ، أي عباد الماء

ومن ذلك الجلهكية (١) أي عباد الماء ، يزعمون أن الماء ملك ومعه ملائكة ،

__________________

(١) والهندوس يقدسون الماء وقد جعلوا لكل معبد حوضا مقدسا ، يغطس فيه الرجال والنساء والأولاد. وماء نهر الكنج نفسه هو الماء المقدس في المدن القائمة على ضفافه ، وينزل إلى هذا النهر من درج عال على الدوام لما يطرأ على مستواه من التحول. وتغص تلك الضفاف بالحجيج في الأعياد الدينية ، وتبدو رائعة في الليل بساحر الأنوار. (حضارات الهند ص ٦٧٢).

وأنه أصل كل شيء ، وبه كل ولادة ونموّ ، ونشوء وبقاء ، وطهارة وعمارة ، وما من عمل في الدنيا إلا وهو محتاج إلى الماء.

فإذا أراد الرجل عبادته تجرد وستر عورته ثم دخل الماء إلى وسطه ، فيقيم ساعة أو ساعتين أو أكثر ، ويأخذ ما أمكنه من الرياحين فيقطعها صغارا ويلقي فيه بعضها بعد بعض وهو يسبح ويقرأ ، وإذا أراد الانصراف حرك الماء بيده ، ثم أخذ منه فنقط به رأسه ووجهه وسائر جسده خارجا ، ثم سجد وانصرف.

٥ ـ الأكنواطريّة ، أي عبّاد النار

ومن ذلك الأكنواطرية (١) : أي عباد النار : زعموا أن النار أعظم العناصر جرما ، وأوسعها حيزا ، وأعلاها مكانا ، وأشرفها جوهرا ، وأنورها ضياء وإشراقا ، وألطفها جسما وكيانا. والاحتياج إليها أكثر من الاحتياج إلى سائر الطبائع ، ولا كون في العالم إلا بها ولا حياة ولا نمو ، ولا انعقاد إلا بممازجتها.

وإنما عبادتهم لها أن يحفروا أخدودا مربعا في الأرض ، ويؤججوا النار فيه ؛ ثم لا يدعون طعاما لذيذا ، ولا شرابا لطيفا ، ولا ثوبا فاخرا ، ولا عطرا فائحا ، ولا جوهرا نقيا إلا طرحوه فيها تقربا إليها وتبركا بها ، وحرموا إلقاء النفوس فيها ، وإحراق الأبدان بها خلافا لجماعة أخرى من زهاد الهند.

وعلى هذا المذهب أكثر ملوك الهند وعظمائها ، يعظمون النار لجوهرها تعظيما بالغا ويقدمونها على الموجودات كلها.

ومنهم زهاد وعباد يجلسون حول النار صائمين يسدون منافسهم حتى لا يصل إليها من أنفاسهم نفس صدر عن صدر محرم.

وسنتهم : الحث على الأخلاق الحسنة ، والمنع من أضدادها ، وهي الكذب ، والحسد والحقد ، واللجاج ، والبغي ، والحرص والبطر ، فإذا تجرد الإنسان عنها قرب من النار ، وتقرب إليها.

__________________

(١) ويقال لهم (مك) أي المجوس. (تحقيق ما للهند من مقولة ص ٥٨).

الفصل الخامس

حكماء الهند

كان لفيثاغورس الحكيم اليوناني تلميذ يدعى قلانوس ، قد تلقى الحكمة منه ، وتلمذ له. ثم صار إلى مدينة من مدائن الهند ، وأشاع فيها مذهب فيثاغورس.

وكان برخمنين رجلا جيد الذهن ، نافذ البصيرة ، صائب الفكر ، راغبا في معرفة العوالم العلوية ، قد أخذ من قلانوس الحكيم حكمته ، واستفاد منه علمه وصنعته. فلما توفي قلانوس ترأس برخمنين على الهند كلهم ، فرغب الناس في تلطيف الأبدان ، وتهذيب الأنفس ، وكان يقول : أيّ امرئ هذب نفسه وأسرع الخروج عن هذا العالم الدنس ، وطهّر بدنه من أوساخه ، ظهر له كل شيء ، وعاين كل غائب ، وقدر على كل متعذر. وكان محبورا مسرورا ، ملتذا عاشقا ، لا يمل ولا يكل ، ولا يمسه نصب ولا لغوب (١) ، فلما نهج لهم الطريق واحتج عليهم بالحجج المقنعة ؛ اجتهدوا اجتهادا شديدا ، وكان يقول أيضا : إن ترك لذات هذا العالم هو الذي يلحقكم بذلك العالم حتى تتصلوا به وتنخرطوا في سلكه ، وتخلدوا في لذاته ونعيمه ، فدرس أهل الهند هذا القول ورسخ في عقولهم.

١ ـ اختلاف الهنود بعد وفاة برخمنين

ثم توفي عنهم برخمنين وقد تجسم القول في عقولهم لشدة الحرص والعجلة في اللحاق بذلك العالم ، فافترقوا فرقتين :

فرقة قالت : إن التناسل في هذا العالم هو الخطأ الذي لا خطأ أبين منه ، إذ هو نتيجة اللذة الجسدانية ، وثمرة النطفة الشهوانية فهو حرام ، وما يؤدي إليه من الطعام اللذيذ، والشراب الصافي ، وكل ما يهيج الشهوة واللذة الحيوانية ، وينشط القوة البهيمية فهو حرام أيضا ، فاكتفوا بالقليل من الغذاء على قدر ما تثبت به

__________________

(١) النصب واللغوب : التعب والإعياء.

أبدانهم ، ومنهم من كان لا يرى ذلك القليل أيضا ليكون لحاقه بالعالم الأعلى أسرع ؛ ومنهم من إذا رأى عمره قد تنفس ألقى بنفسه في النار ، تزكية لنفسه ، وتطهيرا لبدنه ، وتخليصا لروحه ، ومنهم من يجمع ملاذ الدنيا من الطعام والشراب والكسوة فيمثلها نصب عينيه لكي يراها البصر وتتحرك نفسه البهيمية إليها فتشتاقها وتشتهيها ، فيمنع نفسه عنها بقوة النفس المنطقية حتى يذبل البدن ، وتضعف النفس ، وتفارق البدن لضعف الرباط الذي كان يربطها به.

وأما الفريق الآخر : فإنهم كانوا يرون التناسل والطعام والشراب وسائر اللذات بالقدر الذي هو طريق الحق حلالا.

وقليل منهم من يتعدى عن الطريق ويطلب الزيادة.

وكان قوم من الفريقين سلكوا مذهب فيثاغورس من الحكمة والعلم فتلطفوا حتى صاروا يظهرون على ما في أنفس أصحابهم من الخير والشر ، ويخبرون بذلك فيزيدهم ذلك حرصا على رياضة الفكر ، وقهر النفس الأمارة بالسوء ، واللحوق بما لحق به أصحابهم.

ومذهبهم في الباري تعالى أنه نور محض ؛ إلا أنه لابس جسدا ما يستتر به لئلا يراه إلا من استأهل رؤيته واستحقها كالذي يلبس في هذا العالم جلد حيوان ، فإذا خلعه نظر إليه من وقع بصره عليه ، وإذا لم يلبسه لم يقدر أحد من النظر إليه ، ويزعمون أنهم كالسبايا في هذا العالم ، فإن من حارب النفس الشهوية حتى منعها عن ملاذها فهو الناجي من دنيات العالم السفلي ، ومن لم يمنعها بقي أسيرا في بدنها ؛ والذي يريد أن يحارب هذا أجمع فإنما يقدر على محاربتها بنفي التجبر والعجب ، وتسكين الشهوة ، والحرص ، والبعد عما يدل عليها ويوصل إليها.

٢ ـ الإسكندر في الهند

ولمّا وصل الإسكندر إلى تلك الديار وأراد محاربتهم صعب عليه افتتاح مدينة أحد الفريقين ، وهم الذين كانوا يرون استعمال اللذات في هذا العالم بقدر القصد

الذي لا يخرج إلى فساد البدن ، فجهد حتى فتحها ، وقتل منهم جماعة من أهل الحكمة ، فكانوا يرون جثث قتلاهم مطروحة كأنها جثث السمك الصافية النقية التي في الماء الصافي ، فلما رأوا ذلك ندموا على فعلهم ذلك بهم ، وأمسكوا عن الباقين.

والفريق الثاني وهم الذين زعموا أن لا خير في اتخاذ النساء والرغبة في النسل ولا في شيء من الشهوات الجسدانية كتبوا إلى الإسكندر كتابا مدحوه فيه على حب الحكمة وملابسة العلم ، وتعظيم أهل الرأي والعقل ، والتمسوا منه حكيما يناظرهم فنفذ إليهم واحدا من الحكماء فنضلوه (١) بالنظر ، وفضلوه بالعمل ، فانصرف الإسكندر عنهم ووصلهم بجوائز سنيّة وهدايا كريمة ، فقالوا إذا كانت الحكمة تفعل بالملوك هذا الفعل في هذا العالم ، فكيف إذا لبسناها على ما يجب لباسها ، واتصلت بنا غاية الاتصال؟ ومناظراتهم مذكورة في كتب أرسطوطاليس.

* * *

ومن سنتهم إذا نظروا إلى الشمس قد أشرقت سجدوا لها وقالوا : ما أحسنك من نور وما أبهاك وما أنورك ، لا تقدر الأبصار أن تلتذ بالنظر إليك ، فإن كنت أنت النور الأول الذي لا نور فوقك فلك المجد والتسبيح ، وإياك نطلب وإليك نسعى لندرك السكن بقربك وننظر إلى إبداعك الأعلى ، وإن كان فوقك وأعلى منك نور آخر أنت معلول له ، فهذا التسبيح وهذا المجد له ، وإنما سعينا وتركنا جميع لذات هذا العالم لنصير مثلك ، ونلحق بعالمك ، ونتصل بساكنك. وإذا كان المعلول بهذا البهاء والجلال ؛ فكيف يكون بهاء العلة وجلالها ومجدها وكمالها؟ فحق لكل طالب أن يهجر جميع الملذات فيظفر بالجوار بقربه ، ويدخل في غمار جنده وحزبه.

* * *

__________________

(١) نضله : سبقه وغلبه في النضال.

هذا ما وجدته من مقالات أهل العالم ، ونقلته على ما وجدته ، فمن صادف فيه خللا في النقل فأصلحه ؛ أصلح الله عزوجل بفضله حاله ، وسدد أقواله وأفعاله ، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيد المرسلين محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين ، وصحابته الأكرمين ، وسلّم تسليما كثيرا.

الفهارس

(١) فهرس الأعلام........................................................... ٦٢١

(٢) فهرس الأحاديث النبوية................................................... ٦٣٥

(٣) فهرس الآيات القرآنية..................................................... ٦٣٧

(٤) فهرس الملل والنحل....................................................... ٦٤٥

(٥) فهرس المصادر والمراجع.................................................... ٦٥٢

(٦) فهرس الموضوعات........................................................ ٦٥٤

فهرس الأعلام

(أ)

آدم : ٢٣ ، ٢٤ ، ٢٥ ، ٢٧ ، ٤٨ ، ٥١ ، ٥٢ ، ١٤١ ، ١٧٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٧٨ ، ٢٩٤ ، ٣٣٧ ، ٣٥٣ ، ٥٧٩ ، ٥٩٢

الآدمي : ٤٢ ، ٦٧

آزر (والد النبي إبراهيم) : ٢٧٦ ، ٣٦٢

أبا سيس : ٣٩٨

أبا نواة : ٤٨٥

إبراهيم عليه‌السلام : ١٧ ، ٢٦ ، ٥١ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٣ ، ٢٦٤ ، ٢٧٣ ، ٢٧٤ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٣٠٢ ، ٣٥٣ ، ٣٦٢ ، ٣٦٤ ، ٥٧٩ ، ٥٨٦ ، ٥٩٠ ، ٦٠٠ ، ٦٠١

إبراهيم (رأس البراهمة) : ٦٠٢

إبراهيم بن الحسن بن الحسن : ١٨٠ ، ١٨٢

إبراهيم بن سعيد : ٢٢٣

إبراهيم بن السندي : ٨٣

إبراهيم بن سيار النظام : ٤٢ ، ٦٧ ، ٧٥

إبراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ٣٨

إبراهيم بن محمد الإمام : ١٧٨ ، ٢٢٣

أبرهة الأشرم (صاحب الفيل) : ٥٨٦ ، ٥٨٧

ابن جرموز : ٣٥

ابن الراوندي : ٨٥ ، ٨٩ ، ١٦٧ ، ٢١٦

ابن سماعة (محمد بن سماعة التميمي) : ٢٤٥

ابن النعمان : ٢١٩

أبو إبراهيم بن يحيى المزني : ٢٤٤

أبو إسحاق الأسفرائيني : ٤٤ ، ١١٣

أبو إسحاق السبيعي : ٢٢٤

أبو بكر الأصم : ٤٢ ، ٤٣ ، ٨٦ ، ٨٩

أبو بكر بن فورك : ٤٤

أبو بكر ثابت بن مرّة الحراني : ٤٨٨

أبو بكر (الصديق) : ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٧١ ، ١١٨ ، ١٣٧ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٩٠ ، ١٩٢ ، ١٩٤ ، ٢٠٨ ، ٥٨٩

أبو بكر محمد بن عبد الله بن شبيب البصري :

١٦٠

أبو بيهس الهيصم بن جابر : ١٤٤ ، ١٤٥ ، ١٤٨

أبو تمام يوسف بن محمد النيسابوري : ٤٨٨

أبو ثوبان المرجئ : ١٦٤ ، ١٦٥

أبو ثور (إبراهيم بن خالد الكلبي) : ٢٤٤

أبو الجارود زياد بن أبي زياد بن المنذر العبدي : ١٨٣ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ١٨٩

أبو جعفر الإسكافي (محمد بن عبد الله) : ٤٢ ، ٧٢ ، ٨٣

أبو جعفر الطوسي : ٢٢٦

أبو جعفر محمد بن علي : ٢٠٩

أبو حامد أحمد بن محمد الأسفزاري : ٤٨٩

أبو حامد الزوزني : ١٩٥ ، ٢٨١

أبو الحسن البصري : ٦٠ ، ٦٤

أبو الحسن بن أبي الحسن البصري : ٦٤

أبو الحسن علي بن إسماعيل الأشعري : ٤٤ ، ٨٧ ، ٩٣ ، ١٠٠ ، ١٠٦ ، ١٠٧ ، ١٠٨ ، ١٠٩ ، ١١٣ ، ١٢٠ ، ١٢٨ ، ١٤٩

أبو الحسن العنبري : ٢٤٠

أبو الحسن محمد بن يوسف العامري : ٤٩٠

أبو الحسين البصري : ٤٣ ، ٩٣ ، ٩٦

أبو الحسين الخياط : ٤٣ ، ٨٩

أبو الحسين علي بن زيد الأباض : ١٦٠

أبو الحسين كلثوم بن حبيب المهلبي : ١٦٠

أبو الحسين محمد بن مسلم الصالحي : ١٦٠

أبو حنيفة (النعمان بن ثابت) : ١٠٢ ، ١٦٤ ، ١٦٩ ، ١٨٤ ، ١٨٩ ، ٢٢٣ ، ٢٤٢ ، ٢٤٥ ، ٢٤٦

أبو خالد الواسطي : ١٨٥ ، ٢٢٢

أبو الخطاب الأسدي (محمد بن أبي زينب الأجدع) : ٢٠٠ ، ٢١٠ ، ٢١١ ، ٢١٢

أبو ذر الغفاري : ٣٤ ، ٧١

أبو زفر : ٤٢ ، ٨٣

أبو زكريا يحيى بن أصفح : ١٦٠

أبو زكريا يحيى بن عدي الصميري : ٤٦٤ ، ٤٨٩

أبو زيد أحمد بن سهل البلخي : ٤٨٨

أبو سعيد المانوي : ٢٩٤

أبو سليمان السجزي : ٤٢١ ، ٤٧٢ ، ٤٨٨

أبو سليمان محمد بن معشر المقدسي : ٤٨٨

أبو سهل النوبختي : ٢٢٥

أبو الشعثاء : ١٦٠

أبو شكر : ١٦٧

أبو شمر : ٤٢ ، ٧٣ ، ١٦٥ ، ١٦٧

أبو طالب (عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ١٩٠ ، ٥٩٧

أبو العباس السفاح : ١٧٩ ، ١٨٢

أبو العباس القلانسي : ٤٤ ، ١٠٥

أبو عبد الرحمن بن مسلمة : ١٦٠

أبو عبد الله الجدلي : ٢٢٤

أبو عبد الله بن مسلمة : ١٦٠

أبو عبد الله محمد بن إسماعيل النجاري : ٣٠

أبو عبد الله محمد بن كرّام : ٤٤ ، ١٢٤ ، ١٦٠

أبو عبيدة بن الجراح : ١٩٢

أبو عثمان (عمرو بن بحر الجاحظ) : ٤٣

أبو عقوب البويطي : ٢٤٤

أبو علي أحمد بن محمد بن مسكويه : ٤٨٩

أبو علي الجبائي : ٤٣ ، ٤٤ ، ٦٠ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ٩٣ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦

أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا : ٣٩٤ ، ٤٤٤ ، ٤٤٨ ، ٤٦١ ، ٤٧٩ ، ٤٩٠ ، ٥٤٤ ، ٥٥٧

أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني :

٢٥٧

أبو عيسى الوراق (محمد بن هارون) : ٢١٦ ، ٢٢٠ ، ٢٩٠ ، ٢٩٥

أبو الفرج المفسر : ٤٨٨

أبو فديك : ١٤١ ، ١٤٣

أبو كامل : ٢٠٥ ، ٢٠٦

أبو لهب : ٧٢

أبو مجالد : ٤٣

أبو محارب (الحسن بن سهل) : ٤٨٩

أبو محارب القمي : ٤٨٩

أبو محمد عبد الله بن محمد بن الحسن الخالدي : ١٦٠

أبو مروان (غيلان بن مسلم) : ١٦٠

أبو مسلم : ٢٨٤

أبو مسلم الخراساني : ١٥٤ ، ١٧٨ ، ١٧٩

أبو مطيع البلخي : ٢٤٥

أبو معاذ التومني : ١٦٦

أبو المعالي الجويني : ١١١ ، ١١٣

أبو المقدام : ٢٢٤

أبو منصور العجلي : ٢٠٩ ، ٢١٠

أبو موسى الأشعري : ٣٥ ، ١٠٦ ، ١٣٣

أبو موسى المردار : ٤٢

أبو نصر (محمد بن محمد بن طرخان الفارابي) : ٤٩٠

أبو هارون العبدي : ١٦٠

أبو هاشم بن محمد بن الحنفية : ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٩

أبو هاشم (عبد السلام بن أبي علي الجبائي) :

٤٣ ، ٩٠ ، ٩٢ ، ٩٤ ، ٩٥ ، ٩٦ ، ١٠٨ ، ٢٦٩

أبو هاشم (عبد الله بن علي بن أبي طالب) :

٣٧ ، ٦٤

أبو الهذيل (حمدان بن الهذيل العلاف) : ٤١ ، ٤٢ ، ٦٤ ، ٦٥ ، ٦٧ ، ١٥٧ ، ٢١٦

أبو هشام (ابن الجبائي عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب) : ٦٠

أبو يعقوب الشحام : ٤٢ ، ٦٧

أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي : ١٦٩ ، ٢٤٥

أبي بن كعب : ١٠٣ ، ١٩١

أبيقورس : ٣٩٨ ، ٤٢٥

أحمد الهجيمي : ١٢٠

أحمد بن الطيب السرخسي : ٤٨٩

أحمد بن الكيال : ٢١٢ ، ٢١٣ ، ٢١٤

أحمد بن أيوب بن مانوس : ٧٥

أحمد بن حنبل : ١٠٥ ، ١١٨ ، ٢٤٣

أحمد بن خابط : ٤٢ ، ٧٣ ، ٧٤ ، ٧٥

أحمد بن علي الشطوي : ٤٣

أحمد بن موسى بن جعفر : ١٩٩

أحمد بن يحيى الراوندي : ٢٢٥

الأحنف : ١٣٦

أخنس بن قيس : ١٥٣

إدريس (عليه‌السلام) : ٥١ ، ٣٥٣

إدريس بن عبد الله الحسني : ٦٠

أردشير بن دارا : ٤٠٧ ، ٤٤٤

أرديبهشت : ٢٨٥ ، ٢٨٧

أرسالاوس : ٤٠١

أرسجانس (تلميذ سقراط) : ٤٠٤

أرسطوطاليس : ٣٧ ، ٣٨٠ ، ٤٠٧ ، ٤١٠ ، ٤١١ ، ٤١٢ ، ٤١٣ ، ٤١٤ ، ٤١٥ ، ٤٢٤ ، ٤٢٨ ، ٤٣٥ ، ٤٤٣ ، ٤٤٤ ، ٤٥٠ ، ٤٥٧ ، ٤٦١ ، ٤٦٢ ، ٤٦٣ ، ٤٦٤ ، ٤٧٥ ، ٤٧٧ ، ٤٧٩ ، ٤٨١ ، ٤٨٢ ، ٤٨٣ ، ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٤٨٧ ، ٤٩٠ ، ٦١٦

أرنوس : ٢٥٩

أريوس : ٢٦٧ ، ٢٧٢

أساف بن عمرو : ٥٨٥

أساف بن يعلي : ٥٨٠

أسامة بن زيد بن حارثة الكلبي : ٣٠ ، ١٦٠ ، ١٦١ ، ١٩٠

إسحاق بن جعفر الصادق : ١٩٣

إسحاق بن زيد الحارث الأنصاري : ١٧٦

إسفندارمز : ٢٨٥ ، ٢٨٧

الإسكندر الأفروديسي : ٤٧٧ ، ٤٨٣

الإسكندر المقدوني : ٤٤٣ ، ٤٦٣ ، ٤٦٤ ، ٤٦٦ ، ٤٦٧ ، ٤٦٨ ، ٤٦٩ ، ٤٧٠ ، ٤٧١ ، ٤٧٣ ، ٦١٥ ، ٦١٦

الأسلوم اليالي : ٥٩٢

إسماعيل (عليه‌السلام) : ٢٤٨ ، ٢٥٣ ، ٣٥٣ ، ٥٧٩ ، ٥٨٦ ، ٥٨٧ ، ٥٩٦

إسماعيل بن جعفر الصادق : ٣٩ ، ١٩٣ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧

إسماعيل بن سميع : ١٦٠

الأسواري (عمرو بن فائد) : ٤٢ ، ٧٢

الأشعث بن عميرة الهمداني : ١٤٧

الأشعث بن قيس الكندي : ٣٦ ، ١٣٦

أشيزريكا : ٢٨٤

أطوسايس الكلبي : ٤٦٦

الأعشى (ميمون بن قيس) : ٥٩٦

الأعمش (سليمان بن مهران الأسدي) : ٢٢٤

أعيانا : ٣٦٧

أفراسيات (ملك تركي) : ٣٠١

أفريدون (محا آثار ثمود) : ٢٨٦ ، ٣٠٠

أفلاطون : ٣٦٨ ، ٣٧٤ ، ٣٨٧ ، ٤٠٧ ، ٤١٠ ، ٤١١ ، ٤١٣ ، ٤١٤ ، ٤١٥ ، ٤٢٣ ، ٤٢٤ ، ٤٢٨ ، ٤٣٥ ، ٤٤٣ ، ٤٤٤ ، ٤٦٣ ، ٤٧٧ ، ٤٨٢ ، ٤٨٥ ، ٤٩٤

أفلاطون الثاني : ٤٦٧

أفلوطين (الشيخ اليوناني) : ٤٤٣ ، ٤٧١

الأفوه الأودي : ٥٩٩

أقراطيلوس : ٤١٣

أكسنوفانس : ٤١٧

الألفان (رجل ادعى النبوة) : ٢٦١

إلياس : ٢٠٢

أم عمرو : ٥٨٤

أمية بن أبي الصلت : ٥٩٠

أنباذقليس (حكيم يوناني) : ٣٧٤ ، ٣٨٢ ، ٣٨٣ ، ٣٨٤ ، ٣٨٦ ، ٣٨٨ ، ٤١٥ ، ٤٢٤

أنكساغورس (حكيم يوناني) : ٣٧٤ ، ٣٧٨ ، ٣٨٧ ، ٤١٤

أنكسيمانس (حكيم يوناني) : ٣٧٤ ، ٣٨٠

أنوشروان : ٢٩٤ ، ٣٠١

أهريمن (إله الظلمة عند الفرس) : ٢٧٩ ، ٢٨٣

أواذي : ٣٦٧ ، ٣٦٨

أورمزد (إله النور عند الفرس) : ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٢٨٨

أوس بن حجر التميمي : ٥٩٤

أوشهنك بن فراوك : ٢٨٢

أوقليدس (حكيم يوناني) : ٤٣٨

أوميروس (شاعر يوناني صاحب الملاحم اليونانية) : ٤٢٨ ، ٤٣٠ ، ٤٣١

أبراقليطس (حكيم يوناني) : ٤٣٠.

(ب) الباقلاني (أبو بكر محمد بن الطيب) : ١٠٧ ، ١١٠

باهود (رأس الباهودية) : ٦٠٨

بختنصر : ٤٣١

برخمنين : ٦١٤

برقليس : ٤٧٧ ، ٤٧٩ ، ٤٨٠ ، ٤٨١

برمنيدس الأصغر (تلميذ سقراط) : ٤١٥

بري ديوانياخ (اسم شيطان) : ٢٨٦

بزيغ بن موسى الحائك : ٢١١

بشر بن المعتمر : ٤٢ ، ٧٨ ، ٨٢

بشر بن غياث المريسي : ١٠١ ، ١٦٦ ، ١٦٧ ، ٢٤٥

بشر بن مروان : ١٤٧

بطليموس : ٤٤٠ ، ٤٤١ ، ٥٣٥

بقراط (واضع الطب) : ٣٧٤ ، ٤٣٢ ، ٤٣٥

بليارس : ٢٧٢

بليموس : ٤٦٧

بنيامين النهاوندي : ٢٥٩

بهادون (رأس البهادونية) : ٦٠٩

بهرام بن هرمز بن سابور : ٢٩٠

بهمن : ٢٨٥ ، ٢٨٧

بهمن بن اسفنديار بن كشتاسب : ٤٣٢ ، ٤٣٥

بوران (بنت كسرى) : ٣٠١

بوطينوس : ٢٧٠

بولس الرسول : ٢٩٣

بولس الشمشاطي : ٢٧٠

بيان بن سمعان التميمي : ١٧٦ ، ١٧٧

بيان بن سمعان النهدي : ٣٧

بيودست : ٢٨٧

(ت)

تاليس الملطي : ٣٧٤ ، ٣٨٠ ، ٣٨٢ ، ٤١٥ ، ٤٣١

(ث)

ثامسطيوش : ٤٤٤ ، ٤٤٥ ، ٤٤٨ ، ٤٦١ ، ٤٧٧ ، ٤٨٢ ، ٤٨٣

ثاوفرسطيس (ابن أخ أرسطوطاليس) : ٤٠٧ ، ٤٧٥ ، ٤٨٢

ثاون (حكيم) : ٤٦٨ ، ٤٨٢

ثعلبة بن عامر : ١٥٢ ، ١٥٣

ثمامة بن أشرس النميري : ٤٣ ، ٨٤ ، ٨٨

ثوير بن أبي فاختة : ٢٢٤

(ج)

جابر الجعفي : ٢٢٤

جرجيس (فيلسوف سوفسطائي) : ٤١٣

جريبة بن الأشيم الأسدي : ٥٩٣

جعفر العسكري : ٤٠

جعفر بن حرب : ٤٢ ، ٧٣ ، ٨٢ ، ٨٣ ، ١٨٦

جعفر بن علي : ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠١

جعفر بن مبشر : ٤٢ ، ٧٣ ، ٨٣ ، ١٨٦

جعفر بن محمد الصادق : ٣٩ ، ١٧٩ ، ١٨٢ ، ١٨٩ ، ١٩٣ ، ١٩٥ ، ١٩٦ ، ١٩٧ ، ١٩٨ ، ٢٠٣ ، ٢١٠ ، ٢١٢ ، ٢٢٦ ، ٢٢٧

جم (أخ طمهورث) : ٢٨٢ ، ٢٨٦

جهم بن صفوان : ٤٤ ، ٦٥ ، ٩٧ ، ١٥٤ ، ١٦٠

الجيهاني : ٢٨٥

(ح)

حاتم الطائي : ٦٠٠

الحارث الأباضي : ١٥٨

حارث الأعور : ٢٢٥

الحارث بن أسد المحاسبي : ٤٤ ، ١٠٦

الحارث بن عمير : ١٤٧

الحارث بن كعب : ٥٩٧

حارثة بن بدر الغداني : ١٣٩

حازم بن علي : ١٥١

حبة العرني : ٢٢٥

حبيب بن أبي ثابت : ٢٢٤

حبيب بن مرة : ١٦٠

الحجاج بن عبيد الله (البرك) : ١٣٦

الحجاج بن يوسف الثقفي : ١٣٩ ، ١٤٥ ، ١٤٧ ، ١٤٨

حرقوس بن زهير البجلي : ١٣٤

حرملة بن يحيى النجيبي : ٢٢٤

الحسن البصري : ٤٠ ، ٥٩ ، ٦١ ، ٦٢

الحسن العسكري : ٤٠ ، ١٩٩ ، ٢٠٠ ، ٢٠٣

الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب :

٣٨

الحسن بن زياد اللؤلؤي : ٢٤٥

الحسن بن زيد بن محمد : ١٨٩

الحسن بن صالح بن حي : ١٨٧ ، ١٨٩

الحسن بن علي : ١٩٩ ، ٢٠١ ، ٢٠٢

الحسن بن علي بن أبي طالب : ٣٨ ، ٤١ ، ٧١ ، ١٧١ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ١٨٨ ، ١٩٢ ، ٢٠٣ ، ٢٠٧

الحسن بن علي بن الحسين بن زيد بن عمر بن الحسين بن علي بن أبي طالب : ١٨٩

الحسن بن علي بن فضال : ٢٠٠

الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية : ١٧٥

الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا : ٣٩

الحسن بن محمد بن الصباح : ٢٢٩ ، ٢٤٤

الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب :

١٦٦ ، ١٦٨

الحسين الكرابيسي : ١٤٩

الحسين النجار : ٤٤ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢

الحسين بن إشكاب : ٢٢٥

الحسين بن الرقاد : ١٥٠ ، ١٥١

الحسين بن علي بن أبي طالب : ٣٨ ، ٧١ ، ١٧١ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ، ١٨٨ ، ١٩٢ ، ٢٠٣ ، ٢٠٧

حفص الفرد : ١٠٢

حفص بن أبي المقدام : ١٥٨

الحكم بن أمية : ٣٤ ، ٧١

حماد بن أبي سليمان : ١٦٩

حمزة بن أدرك : ١٥٠

حنين بن إسحاق : ٤٨٧

حواء : ٥٧٩

(خ)

خالد بن عبد الله القسري : ١٧٧ ، ٢٠٧

خديجة بنت خويلد : ٢٢٦

خرداد : ٢٨٥ ، ٢٨٧

خروسيبس : ٤٤١

خسرو (ملك فارسي) : ٢٩٥ ، ٢٩٦

الخضر (عليه‌السلام) : ٢٠٢ ، ٦٠٤

خلف الخارجي : ١٥٠

خيبر (يهودي اشتهر بحصنه) : ١٧٧ ، ٢٢١

(د)

داود (عليه‌السلام) : ٢٦١ ، ٣٨٢ ، ٤٠٦

داود الجواربي : ١٢٠ ، ٢١٩

داود بن علي الأصفهاني : ١٠٥ ، ١١٨ ، ٢٤٢

دغدوية (أم زردشت) : ٢٨١

دويهمان زوش (اسم شيطان) : ٢٨٦

ديصان : ٢٩٦ ، ٢٩٨

ديمقريطيس : ٣٧٤ ، ٣٨٧ ، ٣٩٨ ، ٣٩٩ ، ٤٢٢ ، ٤٢٣ ، ٤٣٥ ، ٤٣٧

ديوجانس الكلبي : ٤٤٣ ، ٤٦٨

(ذ)

ذر بن عبد الله بن زرارة : ١٦٨

ذو الثدية : ١٣٤

ذو الخويصرة التميمي : ٢٨ ، ١٣٤

(ر)

الراوندي : ٧٣

الربيع بن سليمان الجيزي : ٢٤٤

الربيع بن سليمان المرادي : ٢٤٤

رزّام بن رزم : ١٧٨

رشيد الطوسي : ١٥٣ ، ١٥٤

روشنك (زوجة الإسكندر) : ٤٦٥

(ز)

الزبير بن العوام : ٣٥ ، ٦٣ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٨٦ ، ١٩٢

الزبير بن الماحوز : ١٣٨

زردشت بن يورش : ٢٧٨ ، ٢٨١ ، ٢٨٥ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٢٨٩ ، ٢٩٣ ، ٢٩٨ ، ٣٠١

زرارة بن أعين : ١٩٨ ، ٢١٨

زروان : ٢٧٩ ، ٢٨٠

زفر بن الهذيل : ٢٤٥

زهير بن أبي سلمى : ٥٩٣ ، ٥٩٧

زياد بن أبيه : ١٣٧

زياد بن الأصفر : ١٥٩

زياد بن عبد الرحمن الشيباني : ١٥٣ ، ١٥٤

زيد بن ثابت الضحاك : ١٩١

زيد بن حصين الطائي : ٣٦ ، ١٣٢ ، ١٣٦

زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : ٣٨ ، ٤١ ، ١٧٩ ، ١٨٠ ، ١٨١ ، ١٨٢ ، ١٨٣ ، ١٨٤

زيد بن عمرو بن نفيل : ٥٩٠ ، ٥٩٨

زينون الأصغر : ٤٦٧

زينون الأكبر (ابن ماوس) : ٣٨٧ ، ٤١٨ ، ٤٢٠ ، ٤٢١ ، ٤٢٣ ، ٤٤١

(س)

سابور بن أردشير : ٢٩٠ ، ٣٠١

سالم بن أبي الجعد : ٢٢٣

سالم بن أبي حفصة : ٢٢٣

سالم بن أحوز المازني : ٤٤

سباليوس : ٢٧٢

سروس : ٢٨٨

سعد بن أبي وقاص : ٣٥ ، ١٦١ ، ١٩٢

سعد بن زيد بن مناة بن تميم : ١٣٦

سعد بن ضبيعة : ١٤٤

سعد بن عبادة الأنصاري : ٣٢

سعيد بن العاص : ٣٥ ، ٥٩٥

سعيد بن جبير : ١٦٨

سعيد بن زيد : ١٩٢

سفرونيسقوس (والد سقراط) : ٤٠١

سفيان الثوري : ١٠٥ ، ٢٤٣

سقراط : ٣٧٤ ، ٤٠١ ، ٤٠٢ ، ٤٠٣ ، ٤٠٤ ، ٤٠٦ ، ٤٠٧ ، ٤١٣ ، ٤١٤ ، ٤٢٦ ، ٤٦٢

سلم بن أحوز المازني : ٩٧

سلمة بن كهيل : ٢٢٤

سليمان بن جرير : ١٨٦

سليمان بن داود (عليه‌السلام) : ٣٨٨ ، ٤٠٦

السندي بن شاهك : ١٩٨

سولون (جد أفلاطون) : ٣٦٨ ، ٤٢٦

سياوش : ٣٠١

السيد الحميري : ١٧٣ ، ١٧٤

سيسان : ٢٨٤

(ش)

شابور ذو الأكتاف : ٥٨٠

الشافعي : ١٨٩ ، ٢٤٢ ، ٢٤٤

شب (رأس الكابلية) : ٦٠٨

شبر (ابن هارون أخ موسى النبي) : ٢٥١

شبر المنجم : ٤٦٦

(ط)

طابخة بن ثعلب بن وبرة : ٥٩٢

طاوس بن كيسان اليماني : ٢٢٤

طلحة : ٣٥ ، ٦٣ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٨٦ ، ١٩٢

طلحة بن محمد النسفي : ٤٨٩

طلق بن حبيب : ١٦٨

طمهورث (أول ملوك بابل) : ٢٨٢

طيماوس : ٤٠٧ ، ٤١١

(ع)

عائشة (أم المؤمنين) : ٣٥ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٨٦

عاذيمون (ثيث) : ٣٠٦ ، ٣٠٨ ، ٣١٢ ، ٣٤٠ ، ٣٥٤ ، ٣٦٧ ، ٤١٨

عافية القاضي (ابن يزيد بن قيس الأودي) :

٢٤٥

عامر بن الظرب العدواني : ٥٩١

عباد بن عوام : ٨٧ ، ٢٢٣

العباس بن عبد المطلب : ٥٨٩

عبد الجبار القاضي : ٤٣ ، ٩٦

عبد الرحمن بن عوف : ١٩٢

عبد الرحمن بن ملجم : ١٤٠

عبد الكريم بن عجرد : ١٤٣ ، ١٤٨ ، ١٥٢

عبد الله السديوري : ١٥١

عبد الله بن أباض : ١٥٦

عبد الله بن الحارث بن نوفل النوفلي

(ط)

طابخة بن ثعلب بن وبرة : ٥٩٢

طاوس بن كيسان اليماني : ٢٢٤

طلحة : ٣٥ ، ٦٣ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٨٦ ، ١٩٢

طلحة بن محمد النسفي : ٤٨٩

طلق بن حبيب : ١٦٨

طمهورث (أول ملوك بابل) : ٢٨٢

طيماوس : ٤٠٧ ، ٤١١

(ع)

عائشة (أم المؤمنين) : ٣٥ ، ١١٨ ، ١٤٠ ، ١٨٦

عاذيمون (ثيث) : ٣٠٦ ، ٣٠٨ ، ٣١٢ ، ٣٤٠ ، ٣٥٤ ، ٣٦٧ ، ٤١٨

عافية القاضي (ابن يزيد بن قيس الأودي) :

٢٤٥

عامر بن الظرب العدواني : ٥٩١

عباد بن عوام : ٨٧ ، ٢٢٣

العباس بن عبد المطلب : ٥٨٩

عبد الجبار القاضي : ٤٣ ، ٩٦

عبد الرحمن بن عوف : ١٩٢

عبد الرحمن بن ملجم : ١٤٠

عبد الكريم بن عجرد : ١٤٣ ، ١٤٨ ، ١٥٢

عبد الله السديوري : ١٥١

عبد الله بن أباض : ١٥٦

عبد الله بن الحارث بن نوفل النوفلي : ١٣٩

عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ٣٨

عبد الله بن الزبير : ١٣٧ ، ١٤٤

عبد الله بن الكواء : ١٣٣ ، ١٣٦

عبد الله بن الماحوز : ١٣٨

عبد الله بن جعفر الصادق (الأفطح) : ٣٩ ، ١٩٣ ، ١٩٥ ، ٢١٨

عبد الله بن حرب الكندي : ٣٧

عبد الله بن سبأ : ٣٦ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥

عبد الله بن سعد بن أبي سرح : ٣٥

عبد الله بن سعيد الكلابي : ٤٤ ، ١٠٥

عبد الله بن عامر : ٣٥ ، ٧١

عبد الله بن عباس : ٣٠ ، ١٣٢ ، ١٤٠ ، ٥٩٦

عبد الله بن عبد المطلب : ٥٨٧ ، ٥٨٨

عبد الله بن عمر : ١٦١

عبد الله بن عمرو الكندي : ١٧٥

عبد الله بن محمد بن عطية : ١٥٦

عبد الله بن مسعود : ٧١ ، ٧٢ ، ١٠٣

عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب : ٣٧ ، ١٧٥ ، ١٧٦

عبد الله بن وهب الراسبي : ١٣٣ ، ١٣٦

عبد الله بن زيد : ١٦٠

عبد المطلب (جد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ٥٨٦ ، ٥٨٧ ، ٥٨٨

عبد الملك بن مروان : ٥٩ ، ٦١ ، ١٤٣

عبد ربه الصغير : ١٣٨

عبد ربه الكبير : ١٣٨

عبيد المكتئب : ١٦٣

عبيد الله بن موسى : ٢٢٢

عبيدة بن هلال اليشكري : ١٣٨

عتّاب بن الأعور : ١٣٣

العتابي : ١٦٥

عثمان بن أبي الصلت : ١٤٩

عثمان بن الماحوز : ١٣٨

عثمان بن حيان المري : ١٤٥

عثمان بن خالد الطويل : ٦٤

عثمان بن عبيد الله بن معمر التميمي : ١٣٩

عثمان بن عفان : ٣٤ ، ٦٣ ، ٧١ ، ١١٨ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٣٥ ، ١٣٧ ، ١٤٠ ، ١٨٦ ، ١٨٧ ، ١٩٢ ، ٥٨١

العدوي (شاعر) : ٥٩٧

عروة بن جرير : ١٣٣ ، ١٣٦

عروة بن جدير : ١٣٦ ، ١٣٧

عزير (عليه‌السلام) : ٢٥٢

عطية الجرجاني : ١٥٥

عطية بن الأسود الحنفي : ١٣٧ ، ١٤١ ، ١٤٣

عفيف بن معدي كرب الكندي : ٥٩٢

العلاء بن راشد : ٢٢٣

علاف بن شهاب التميمي : ٥٩٣

العلباء بن ذراع الدوسي : ٢٠٦

علقمة بن قيس النخعي : ٢٢٥

علي بن أبي طالب : ٣٢ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٣٧ ، ٤٢ ، ٦٣ ، ٨٦ ، ١١٨ ، ١٣٠ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٣٥ ، ١٣٦ ، ١٣٧ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٥٢ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٩ ، ١٧٠ ، ١٧١ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٥ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٦ ، ١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٥ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٠٥ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢١٠ ، ٢٢١ ، ٢٢٦ ، ٢٣٨

علي بن إسماعيل : ١٩٨

علي بن الحسين (زين العابدين) : ٣٨ ، ١٨٤ ، ١٩٢ ، ١٩٣ ، ٢٠٣

علي بن الكرماني : ١٥٤

علي بن جعفر الصادق : ٣٩ ، ١٩٣ ، ٢٠٠

علي بن حرملة : ١٦٠

علي بن صالح : ٢٢٣

علي بن عبد الله بن عباس : ٣٧ ، ١٧٨

علي بن فلات الطاحن : ١٩٩

علي بن محمد بن الحنفية : ١٧٥

علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا : ٣٩ ، ١٩٩ ، ٢٠٣

علي بن منصور : ٢٢٥

علي بن موسى الرضا : ٣٩ ، ١٩٩ ، ٢٠٢ ، ٢٠٣

عمار الساباطي : ١٩٨

عمران بن حطان : ١٤٠ ، ١٦٠

عمر بن أبي عفيف : ١٧٧

عمر بن الخطاب : ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٧١ ، ١١٨ ، ١٣٧ ، ١٨٠ ، ١٨٦ ، ١٩٠ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ٢٠٥ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩

عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي : ١٤٣

عمرو بن الحي بن غالوثة بن عمرو بن عامر :

٥٨٠

عمرو بن العاص : ٣٥ ، ١٠٦ ، ١١٨ ، ١٩٠

عمرو بن بحر (الجاحظ) : ٨٧ ، ٨٩

عمرو بن ذر : ١٦٩

عمرو بن زيد بن المتمني : ٥٩٣

عمرو بن عبيد : ٤١ ، ٦٣

عمرو بن عمير العنبري : ١٣٨

عمرو بن مرة : ١٦٨

عمير بن بيان العجلي : ٢١٢

العوام بن حوشب : ٢٢٣

عيسى (عليه‌السلام) : ٢٦ ، ٣١ ، ٥٢ ، ٧٤ ، ٢١٠ ، ٢٢١ ، ٢٤٩ ، ٢٥٤ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٦٣ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧١ ، ٢٧٢ ، ٢٩٠ ، ٢٩٣ ، ٣٤٢ ، ٣٥٣

عيسى الصوفي : ٤٣

عيسى بن الهيثم : ٤٢ ، ٨٣

عيسى بن جعفر : ١٩٨

عيسى بن صبيح (المردار) : ٨٢

عيسى بن علي بن عيسى الوزير : ٤٨٩

عيسى بن ماهان : ١٨٢

عيسى بن موسى : ٢١١

(غ)

غالب بن شاذك : ١٥١

غسان الكوفي : ١٦٣ ، ١٦٤

غيلان الدمشقي : ٤٠ ، ٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٥ ، ١٦٧ ، ١٦٨

(ف)

فارس بن حاتم بن ماهوية : ١٩٩

فاطمة الزهراء : ٣٣ ، ٧١ ، ١٧٩ ، ٢٠٧ ، ٢٢٦

فاطمة بنت الحسين بن الحسين بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ١٩٦

فاطمة بنت علي : ٢٠٠

فرعون مصر : ٢٤٨ ، ٣٤٢ ، ٣٤٣

فرفوريوس : ٣٧٨ ، ٤٣١ ، ٤٥٦ ، ٤٧٧ ، ٤٨٢ ، ٤٨٤ ، ٤٨٥ ، ٤٨٧

الفضل الحدثي : ٤٢ ، ٧٣ ، ٧٤

فضل الرسان : ١٨٥

الفضل بن دكين : ٢٢٣

الفضل بن شاذان : ٢٢٥

الفضل بن عيسى الرقاشي : ١٦٠ ، ١٦٥

فلنكس (أحد تلامذة فيثاغورس) : ٤٠٠

فلوطرخيس : ٣٧٤ ، ٤٠٣ ، ٤١٤ ، ٤١٦ ، ٤١٧ ، ٤٢٠ ، ٤٨٢

فليوخوس : ٤٢٢

فوربماراي : ٢٨٧

فوطس : ٤٦٧

الفوطي (هشام بن عمرو) : ٨٧

فيثاغورس : ٣٧٤ ، ٣٨٧ ، ٣٨٨ ، ٣٩٠ ، ٣٩٤ ، ٣٩٥ ، ٣٩٧ ، ٣٩٨ ، ٤٠٠ ، ٤٠١ ، ٤٠٤ ، ٦١٤ ، ٦١٥

فيلاطس (ملك فوه) : ٢٦٨ ، ٤٣٢

فيليبس المقدوني : ٤٦٣

(ق)

قباذ بن فيروز (والد أنوشروان) : ٢٩٤

قديد بن جعفر : ١٦٩

قس بن ساعدة الأيادي : ٥٩٠

قس بن عاصم التميمي : ٥٩٢

قصي بن كلاب : ٥٩٨

قطري بن الفجاءة المازني : ١٣٨ ، ١٣٩

قلانوس (أحد تلامذة فيثاغورس) : ٤٠٠ ، ٦١٤

قلمس بن أمية الكناني : ٥٩٩

قيس بن أبي حازم : ١٦١

قيس بن ثعلبة : ٥٩٤

(ك)

كاووس : ٥٨١

كثير النوى : ١٨٦ ، ١٨٧

كثير عزة : ١٧٣

كشتاسب بن لهراسب : ٢٨١ ، ٢٨٣ ، ٢٨٦ ، ٢٨٧ ، ٣٠١

الكعبي (أبو القاسم بن محمد) : ٨٩ ، ٩٠ ، ٢١٦

الكعبي (عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي) : ٤٣ ، ٦٧ ، ٦٩ ، ٧٤ ، ٧٨ ، ٨١ ، ٨٣ ، ٨٨ ، ١٠١ ، ١٢٠ ، ١٤٣ ، ١٤٩ ، ١٥٧

كهمس : ١٢٠

كيسان : ١٧٠

كيقباد : ٢٨٦

كيكاوس : ٢٨٦

كيومرث (أول من ملك العالم) : ٢٧٨ ، ٢٧٩ ، ٢٨٢ ، ٢٨٦ ، ٢٨٨

(ل)

لقمان الحكيم : ٣٨٢

لوط (عليه‌السلام) : ٢٦

لوقا (من تلامذة المسيح) : ٢٣ ، ٢٦٥

(م)

المأمون (خليفة عباسي) : ٤١ ، ٤٣ ، ٨٥ ، ٢٦٨

مار إسحاق : ٢٦٨

مارقوس : ٢٣

مالك بن الأشتر : ١٣٢

مالك بن أنس : ١٠٥ ، ١١٩ ، ٢٤٣

ماني بن فاتك الحكيم : ٢٩٠ ، ٢٩٣ ، ٢٩٨

متّى (من تلامذة المسيح) : ٢٣ ، ٢٦٤

المتوكل (خليفة عباسي) : ٤٣ ، ٦٧ ، ٨٨

المجسطي (عالم فلكي) : ٤٤٠

محارب بن زياد : ١٦٨

محرز بن هلال اليشكري : ١٣٨

محمد (رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم) : ١٧ ، ٢٦ ، ٢٨ ، ٣٠ ، ٣١ ، ٣٢ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٥٠ ، ٥٢ ، ٥٣ ، ٥٦ ، ٧٤ ، ٧٧ ، ٨٨ ، ٨٩ ، ١٠١ ، ١٠٣ ، ١١٥ ، ١١٨ ، ١٢١ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ١٣٤ ، ١٤٤ ، ١٤٥ ، ١٥٥ ، ١٥٧ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦٦ ، ١٦٧ ، ١٧٥ ، ١٨٠ ، ١٨٤ ، ١٨٥ ،

١٨٨ ، ١٨٩ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ٢٠١ ، ٢٠٦ ، ٢٠٧ ، ٢٢١ ، ٢٢٦ ، ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، ٢٣٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥٣ ، ٢٥٤ ، ٣٠٧ ، ٣٥٣ ، ٣٦٥ ، ٥٨٤ ، ٥٨٦ ، ٥٨٧ ، ٥٨٨ ، ٥٨٩ ، ٦١٧

محمد الإمام : ٢٢٣

محمد النفس الزكية : ٢٠٧ ، ٢٠٨ ، ٢٠٩

محمد بن إدريس الشافعي : ٢٤٣

محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق : ١٩٧ ، ٢٢٧

محمد بن الحسن : ١٦٩

محمد بن الحسن (القائم المنتظر) : ١٩٩ ، ٢٠١ ، ٢٠٣ ، ٢٢٨

محمد بن الحسن الشيباني : ٢٤٥

محمد بن الحسن بن الحسن : ١٨٠ ، ١٨٢

محمد بن الحسن بن علي بن محمد بن علي بن موسى الرضا : ٣٩

محمد ابن الحنفية : ٣٧ ، ٣٨ ، ١٧٠ ، ١٧٢ ، ١٧٣ ، ١٧٤ ، ١٧٥ ، ١٧٨

محمد بن السائب الكلبي : ٥٩٤

محمد بن القاسم بن علي : ١٨٤

محمد بن النعمان (أبو جعفر الأحول) :

٢١٨ ، ٢٢٠

محمد بن الهيصم : ٤٥ ، ١٢٤ ، ١٢٦ ، ١٢٨ ، ١٢٩

محمد بن جعفر الصادق : ٣٩ ، ١٩٣ ، ١٩٦

محمد بن حرب : ١٦٠

محمد بن رزق : ١٥١

محمد بن سويد : ٤٢ ، ٨٣

محمد بن شبيب : ٤٢ ، ٧٣ ، ١٦٢ ، ١٦٥ ، ١٦٧

محمد بن شبيل : ٢٩٨

محمد بن صدقة : ١٦٠

محمد بن عبد الرحمن بن قبة : ٢٢٥

محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب : ٣٨ ، ١٨٤

محمد بن عبد الله بن طاهر : ١٨٥

محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري : ٢٤٤

محمد بن عجلان : ٢٢٣

محمد بن علي (الباقر) : ٣٩ ، ١٧٦ ، ١٧٧ ، ١٧٨ ، ١٨١ ، ١٨٥ ، ١٩٣ ، ٢٠٣ ، ٢٠٩ ، ٢٢٩

محمد بن علي بن الحسين : ٢٠٧ ، ٢١٩

محمد بن علي بن عبد الله بن عباس : ١٧٥ ، ١٧٩ ، ١٨٢

محمد بن علي بن موسى الرضا : ٣٩ ، ١٩٩ ، ٢٠٣

محمد بن عيسى : ١٠١ ، ١٢٠ ، ١٦٠

محمد بن مسلمة الأنصاري : ١٦١

محمد بن نصر : ١٨٩

محمود بن سبكتكين : ٤٥

المختار بن أبي عبيد الثقفي : ١٧١ ، ١٧٢

مرداد : ٢٨٥ ، ٢٨٧

مرقص (من تلامذة المسيح) : ٢٦٥

مرقيون : ٢٩٨

مروان بن الحكم : ٣٤ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٧١

مروان بن محمد (الحمار) : ١٥٦ ، ٢٥٧

مريم بنت عمران : ١٢٣ ، ٢٦٦ ، ٢٦٧ ، ٢٧٠ ، ٢٧١ ، ٢٧٢

مزدك (أبو علي سعيد المانوي) : ٢٩٤ ، ٢٩٥

المستعين : ١٨٥

مستلم بن سعيد الثقفي : ٢٢٣

مسطورس : ٤٦٧

مسعر بن فدك التميمي : ١٣٢

مسعود بن فدكي : ٣٦

مسلم بن عبيس بن كريز بن حبيب : ١٣٩

معاذ بن جبل : ١٩١ ، ٢٣٨

معاوية بن أبي سفيان : ٣٥ ، ٣٦ ، ٧١ ، ١١٨ ، ١٣٠ ، ١٣٦ ، ١٣٧

معبد الجهني : ٤٠ ، ٦١

معبد بن عبد الرحمن : ١٥٣

المعتصم (خليفة عباسي) : ٤٢ ، ٤٣ ، ٨٨ ، ٥٨١

معروف بن سعيد : ١٧٧

معمر بن خيثم (أبو بشار الشعيري) : ٢١١

معمر بن عباد السلمي : ٤٣ ، ٧٩ ، ٨١ ، ٨٢

المغيرة بن سعيد البجلي : ٢٠٧ ، ٢٠٩ ، ٢٢٤

مفضل الصيرفي : ٢١٢

المفضل بن عمر : ١٩٨

مقاتل بن سليمان : ١١٩ ، ١٦٥ ، ١٦٨ ، ١٨٩ ، ٢١٩

مقدانيوس (بطريرك القسطنطينية) : ٢٧٢

مكرم بن عبد الله العجلي : ١٥٥

ملكا (داعية رومي) : ٢٦٦

ملكيز داق (ملك السلام) : ٢٦٤

منسارخس : ٣٨٨

المنصور (خليفة عباسي) : ٣٨ ، ٤١ ، ٦٠ ، ١٨٥ ، ١٩٦ ، ٢١١ ، ٢٢٧ ، ٢٥٧

منصور بن الأسود : ٢٢٢

منوجهر (ملك بابلي) : ٢٨٢

المهدي (خليفة عباسي) : ٢٢٨ ، ٣٠١

المهلب بن أبي سفرة : ١٣٩

موسى (عليه‌السلام) : ٢٦ ، ٤٢ ، ٥٢ ، ٧٣ ، ١٢٢ ، ١٢٣ ، ٢٠٤ ، ٢٢٦ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٥

موسى بن جعفر الصادق : ٣٩ ، ١٩٣ ، ١٩٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦١ ، ٢٦٢ ، ٢٨٢ ، ٣٤٢ ، ٣٥٣ ، ٤٣١

موسى بن محمد : ١٩٩

موشكان : ٢٥٨

مويس بن عران البصري : ١٦٠ ، ١٦٥

ميشانة : ٢٧٩

ميشه : ٢٧٩

ميلاطوس : ٤٦٧

ميمون بن خالد : ١٤٩ ، ١٥١

ميمون بن عمران : ١٤٥

(ن)

نائلة بنت زيد : ٥٨٠

نائلة بنت سهل : ٥٨٥

النابغة الذبياني : ٥٩٢

ناصر الأطروش : ١٨٣

نافع بن الأزرق : ١٣٩ ، ١٤١ ، ١٤٤

ناووس : ١٩٥

نجدة بن عامر الحنفي : ١٤١ ، ١٤٢ ، ١٤٣ ، ١٤٤

نسطور الحكيم : ٢٦٨ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠

نصر بن الحجاج : ٧١

نصر بن سيّار : ٤٤ ، ١٥٤

نعيم بن جمال المصري : ٢١٩

نمرود : ٣٤٣

نوح (عليه‌السلام) : ٢٦ ، ٥١ ، ٥٢ ، ١٢١ ، ٢٥٩ ، ٢٩٤ ، ٥٧٩

نومر بفنارديو (اسم شيطان) : ٢٨٦

(ه)

هاجر (زوجة إبراهيم النبي) : ٥٧٩

هارون (أخ النبي موسى) : ٢٢٦ ، ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٦١

هارون الرشيد : ٤٣ ، ١٩٨

هارون بن سعد العجلي : ٢٢٢

هاشم بن محمد ابن الحنفية : ١٧٨

هامان : ٢٤٨ ، ٣٤٢

هبيرة بن بريم : ٢٢٥

هرقل الحكيم : ٤٢٤ ، ٤٢٥

هرمز : ٢٧٩

هرمس (إدريس) : ٣٠٦ ، ٣٠٨ ، ٣١٢ ، ٣٤٠ ، ٣٤٦ ، ٣٥٣ ، ٣٦٧ ، ٤١٨ ، ٤٢٦

هشام بن الحكم : ٤٢ ، ٧٠ ، ٩٦ ، ٩٨ ، ٢١٦ ، ٢١٧ ، ٢١٩ ، ٢٢٥

هشام بن سالم الجواليقي : ٢١٦ ، ٢٢٠

هشام بن عبد الملك : ٥٩ ، ١٨٢ ، ٢٠٩

هشام بن عمرو الفوطي : ٤٢ ، ٤٣ ، ٨٥

هشيم بن بشير : ٢٢٣

هند (بنت المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم) : ٥٩٥

هود : ٢٦

هيراقليطس : ٣٩٨ ، ٤١٣ ، ٤١٧

(و)

الواثق : ٤٣

واصل بن عطاء (الغزّال) : ٤٠ ، ٤١ ، ٥٩ ، ٦٠ ، ٦١ ، ٦٢ ، ١٨٠ ، ١٨١

وكيع بن الجراح : ٢٢٢

الوليد بن عبد الملك : ١٤٥

الوليد بن عقبة : ٣٥ ، ٧١

(ي)

يحيى النحوي : ٤٨٧

يحيى بن آدم : ٢٢٢

يحيى بن أبي شميط : ١٩٦

يحيى بن أصدم : ١٥٦

يحيى بن خالد بن برمك : ١٩٨

يحيى بن زيد : ١٨١ ، ١٨٢

يحيى بن عمر : ١٨٥

يحيى بن كامل : ١٦٠

يزدان : ٢٨٣

يزيد بن أبي عاصم المحاربي : ١٣٤ ، ١٣٦

يزيد بن أنيسة : ١٥٨ ، ١٥٩

يزيد بن عمر بن هبيرة : ٢١٢

يزيد بن هارون : ٢٢٣

يعقوب البرذعاني : ٢٧٠

يعقوب بن إسحاق الكندي : ٤٨٧

اليمان بن الرباب : ١٤٨ ، ١٦٠ ، ١٦٣

يوحنا (من تلامذة المسيح) : ٢٣ ، ٢٦٥

يوذعان : ٢٥٨

يوسف (عليه‌السلام) : ١٤٨ ، ١٤٩

يوسف بن عمر الثقفي : ٢٠٩

يوشع بن نون : ٢٠٤ ، ٢٥١ ، ٢٦١

يونان : ٣٨٢

يونس الأسواري : ٤٠

يونس بن عبد الرحمن القمي : ٢٢٠ ، ٢٢٥

يونس بن عون النميري : ١٦٢

* * *

(٢)

فهرس الأحاديث النبوية

(أ)

ائتوني بدواة وقرطاس : ٣٠

أعطوا الأجير أجره : ٧٦

الأنبياء يدفنون حيث يموتون : ٣١

الحمد لله الذي وفق رسول الله : ٢٣٨

القدرية خصماء الله في القدر : ٥٦

القدرية مجوس هذه الأمة : ٢٨ ، ٥٦

اللهم أهد قلبه وثبت لسانه : ٢٣٨

المشبهة يهود هذه الأمة : ٢٨

أنا ابن الذبيحين : ٥٨٧

أنا أحكم بالظاهر : ٢٢١

أن تشهد أن لا إله إلا الله : ٥٣

أن تعبد الله كأنك تراه : ٥٣

أن تؤمن بالله وملائكته : ٥٣

إن لم أعدل فمن يعدل : ٢٨

إنّ الله تعالى خلق آدم بيده : ٢٥٠

إن الله تعالى كتب التوراة : ١٢٣

إن الله خلق آدم : ٧٤ ، ١٢١

إن الله خلق آدم على صورة الرحمن : ١٦٣ ، ٢١٩

إن الله خلق آدم على صورته : ٢١٩

إنكم سترون ربكم : ٧٦

أول ما خلق الله تعالى : ٧٧

(ب)

بشّر قاتل ابن صفية : ٣٥

(ت)

تحضر صلاة أحدكم في جنبي : ١٣٤

(ج)

جهزوا جيش أسامة : ٣٠

(ح)

حتى وجدت برد أنامله : ١٢١

(خ)

خمّر طينة آدم بيده : ١٢١

(ر)

رأيت ربي في أحسن صورة : ١٢٣

(س)

ستفترق أمتي على ثلاث : ٢٠

سيخرج من ضئضئ هذا الرجل : ٢٩

(ش)

شفاعتي لأهل الكبائر : ١١٥

(ع)

عشرة من أصحابي في الجنة : ١٩٢

(ف)

فإن لم تجد : ٢٣٨

فيكم من يقاتل على تأويله : ٢٢١

(ق)

قلب المؤمن بين إصبعين : ١١٩ ، ١٢١

قوموا عني لا ينبغي : ٣٠

(ك)

كلام الله غير مخلوق : ١٠١

(ل)

لا تجتمع أمتي على ضلالة : ٢٠ ، ٢٣٦

لا تزال طائفة من أمتي : ٢٠

لا هامة ولا عدوى ولا صفر : ٥٨٤

لا يزني الزاني حين يزني : ١٥٥

لتسلكن سبل الأمم : ٢٨

لو لا أن يقول الناس فيك : ٢٢١

(م)

ما المسئول عنه بأعلم : ٥٣

ما أنا عليه اليوم وأصحابي : ٢٠

ما شقي امرؤ : ٥٠

من قال مطرنا بنوء كذا : ٥٨٩

من كنت مولاه فعلي مولاه : ١٩١

من لا يؤمن بي فليس بمؤمن : ١٦٧

(ن)

نحن معاشر الأنبياء : ٣٣

(ه)

هذا جبريل جاءكم : ٥٣

هو أن تعفو عمّن ظلمك : ٢٥٥

(و)

وضع يده أو كفه : ١٢١

(ي)

يا معاذ بم تحكم : ٢٣٨

يضع الجبار قدمه في النار : ٧٤ ، ١٢١

ينادي الله تعالى يوم القيامة : ١٢٢

يهلك فيه اثنان : ٣٦

* * *

(٣)

فهرس الآيات القرآنية

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً)

(الصافات : ١٦ ، ١٧)

٥٨٤

(لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ)

(الحجر : ٣٣)

٢٧

(أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً)

(الإسراء : ٦٠)

٢٦

(أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي)

(فصلت : ٩)

٥٨٢

(آياتُ الْكِتابِ)

(يونس : ١)

٣٤٥

(أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ)

(البقرة : ٣٤)

١٦٣

(أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا)

(التغابن : ٦)

٢٦

(أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً)

(الأنعام : ٧٤)

٣٦٢

(أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ)

(الصافات : ٩٥ ، ٩٦)

٣٤١ ، ٣٦٢

(إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ)

(النساء : ٧٧)

١٤٤

(إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ)

(المائدة : ١١٠)

٧٤

(إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ)

(البقرة : ١٣١)

٥٤

(اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ)

(الكهف : ٢٤)

٣٣٠

(أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)

(النساء : ٥٩)

١٩١

(أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً)

(نوح : ٢٥)

٣٤٢

(أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ)

(الأنبياء : ٦٦ ، ٧٦)

٣٤١

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ)

(ق : ١٥)

٥٨٣

(الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ)

(الشعراء : ٧٨)

٢٧٣

(الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى)

(طه : ٥)

١٠٤

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ)

(آل عمران : ٢٨)

١٤٤

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ)

(الزخرف : ٨٦)

٥٠

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ)

(المائدة : ٣)

٥٢

(أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي)

(الزخرف : ٥٢)

٢٦

(أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى)

(النازعات : ٢٤)

٣٤٢

(أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ)

(البقرة : ٣٣)

٣٥٣

(أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ)

(يس : ٤٧)

٢٩

(أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)

(الأعراف : ١٣)

٢٥

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)

(القدر : ١)

١٢٣

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ)

(آل عمران : ١٩)

٥٠ ، ٥٤

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ)

(آل عمران : ٩٦)

٥٧٨

(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ)

(التوبة : ٣٧)

٥٩٨

(إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي)

(القصص : ٧٨)

٣٢٣

(إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا)

(يس : ٨٢)

١٢٦

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى)

(الأعلى : ١٨ ، ١٩)

٢٧٤

(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)

(الواقعة : ٧٧ ، ٨٠)

١٢٣

(إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ)

(الأعراف : ١٤٤)

١٢٢

(إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ)

(الأنعام : ٧٨)

٣٤٦

(إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي)

(الأنعام : ٧٩)

٣٦٤

(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ)

(الأعراف : ١٨٤ ، ١٨٥)

٥٨٢

(أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ)

(النحل : ٤٨)

٥٨٢

(أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ)

(المؤمنون : ٣٥ ، ٣٦)

٣٦٦

(ب)

(بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ)

(الزخرف : ٣٢)

٦٠٣

(بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ)

(البقرة : ١١٢)

٥٤

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها)

(النساء : ١٥٥)

٨٦

(بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ)

(الأنبياء : ٦٣)

٢٧٧ ، ٣٦٣

(ت)

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها)

(القدر : ٤)

٢٨٩

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(ح)

(حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ)

(الحجرات : ٧)

٨٦

(حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ)

(الحج : ٣١)

٢٧٧

(حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ)

(آل عمران : ٦٧)

٢٧٧

(خ)

(خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ)

(هود : ١٠٨)

٩٩

(خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)

(البقرة : ٧)

٨٦

(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ)

(الأعراف : ١٩٩)

٢٥٥

(خَلَقْتُ بِيَدَيَ)

(ص : ٧٥)

١٠٥ ، ١١٩

(ذ)

(ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ)

(التوبة : ٣٦ ، والروم : ٣٠)

٥١ ، ٣٦٥

(ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ)

(يس : ٣٨)

١٤٨

(ر)

(رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً)

(الأنعام : ٧٧)

٣٦٤

(س)

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)

(الأعلى : ١ ، ٢)

٢٠٨ ، ٢٧٣

(سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا)

(البقرة : ٣٢)

٣٢٣

(سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍ)

(يس : ٥٨)

١٢٢

(ش)

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ)

(الشورى : ١٣)

٥١

(شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي)

(البقرة : ١٨٤)

١٢٣

(ض)

(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ)

(البقرة : ٦١)

٢٥٠

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(ع)

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى)

(النجم : ٥)

٣٥٢

(ف)

(فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً)

(نوح : ٢٥)

٣٤٢

(فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ)

(الأعراف : ٣٤)

٧٦

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً)

(الروم : ٣٠ ، ٣٢)

٣٦٥

(فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي)

(القصص : ٧)

٣٤٣

(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ)

(آل عمران : ٧)

١١٩

(فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ)

(الحجر : ٣٧ ، ٣٨)

٢٥

(فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا)

(مريم : ١٧)

٢٧٠

(فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ)

(الأنبياء : ٥٨)

٢٧٦ ، ٣٦٣

(قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا)

(الأنبياء : ٥٩ ، ٦٥)

٣٦٣

(فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ)

(البقرة : ١٣٢)

٥٤

(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ)

(النساء : ٦٥)

٢٣٥

(فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ)

(الأنعام : ٧٦)

٣٦٣

(فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً)

(الأنعام : ٧٨)

٣٦٤

(فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا)

(يونس : ٧٤)

٢٦

(فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا)

(الأنبياء : ٩١)

٢٦٠

(فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا)

(التحريم : ١٢)

٢٦٠

(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ)

(عبس : ١٣ ، ١٦)

١٢٩

(ق)

(قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي)

(مريم : ٤٦)

٣٦٣

(قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا)

(الحجرات : ١٤)

٥٣

(قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ)

(إبراهيم : ١١)

٦٠٣

(قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ)

(الأعراف : ١١١)

١٦١

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى)

(الأعلى : ١٤ ، ١٧)

٢٧٤

(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)

(الإسراء : ٨٥)

٣٢١

(قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ)

(الزخرف : ٨١)

٣٥٣

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)

(الكهف : ١١٠)

٢٧٥

(قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ)

(الإسراء : ٩٣)

٢٧٧ ، ٣٤٥

(قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ)

(الأنعام : ١٤٥)

١٤٦

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ)

(النمل : ٦٥)

٣٢٣

(قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً)

(الأنبياء : ٦٩)

٣٤٣

(قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها)

(يس : ٧٩)

٥٨٣

(ك)

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ)

(البقرة : ١٧٨)

٢٥٤

(كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)

(البقرة : ١١٨)

٢٦

(كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ)

(القصص : ٨٨)

١٧٧

(كَلَمْحِ الْبَصَرِ)

(القمر : ٥٠)

٣٤٥

(كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ)

(الحشر : ١٦)

٢٠٩

(ل)

(لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ)

(الأنبياء : ٢٣)

١١٥

(لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ)

(سبأ : ٣)

٥٢٦

(لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ)

(التحريم : ٦)

٣٠٨ ، ٣١١

(لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا)

(البقرة : ٦٨)

٢٥٠

(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ)

(النساء : ٨٣)

٥٠

(لَقَدْ تابَ اللهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ)

(التوبة : ١١٧)

١٩٢

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)

(الفتح : ١٨)

١٩٢

(لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ)

(المائدة : ٧٢)

٢٧٠

(لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً)

(المائدة : ٤٨)

٥١

(لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ)

(الأعراف : ١٤٨)

٣٤٢

(لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ)

(طه : ٩٧)

٣٤٢

(لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا)

(النحل : ٣٥)

٢٩

(لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ)

(آل عمران : ٥٤)

٢٩

(لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا)

(آل عمران : ١٥٦)

٢٩

(لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ)

(البقرة : ١١٣)

٢٥٠

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ)

(البقرة : ١١٣)

٢٥٠

(لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ)

(المائدة : ٩٣)

١٧٦

(لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى)

(الزمر : ٣)

٣٦٠

(لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)

(الحديد : ٢٥)

٣٣٦

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ)

(الأنفال : ٤٢)

٥٨

(م)

(ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ)

(الأنفال : ٦٣)

٨٥

(ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي)

(القصص : ٣٨)

٣٤٨

(ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ)

(الأعراف : ١١)

٢٦

(ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا)

(الزمر : ٣)

٦١١

(مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ)

(الحج : ٧٨)

٥١

(ه)

(هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ)

(يونس : ١٨)

٣٦١

(هذا رَبِّي)

(الأنعام : ٧٦)

٢٧٧

(هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ)

(آل عمران : ١٥٤)

٢٩

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ)

(البقرة : ٢١٠)

١٧٧

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى)

(التوبة : ٣٣)

٢٣٤

(و)

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ)

(البقرة : ١٢٧)

٥٧٩

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ)

(الفيل : ٣)

٥٨٦

(وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي)

(طه : ٣٢)

٢٥١

(وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ)

(التوبة : ١٠٠)

١٩٢

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)

(التوبة : ٦)

١٢٣

(وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)

(البقرة : ٢٣٧)

٢٥٤ ، ٢٥٥

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا)

(فاطر : ٢٤)

٧٧

(وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى)

(النجم : ٤٢)

٢٢٠

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ)

(النحل : ٦٨)

٢١١

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ)

(الأنعام : ٨٣)

٢٧٦ ، ٣٦٢

(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا)

(الفجر : ٢٢)

٧٤ ، ١٠٥

(وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا)

(يس : ٩)

٨٦

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ)

(الزخرف : ١٩)

٣١٧

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ)

(القيامة : ٢٢ ، ٢٣)

١١٣

(وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً)

(الأحزاب : ٧٢)

٢٠٨

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)

(الذاريات : ٥٥)

٣٣٠

(وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ)

(إبراهيم : ٥)

٣٣٠

(وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً)

(المائدة : ٣)

٥١ ، ٥٤

(وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ)

(يس : ٧٨)

٥٨٣

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ)

(النور : ٥٥)

١٩٢

(وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجاهِدِينَ)

(النساء : ٩٥)

١٤٤

(وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ)

(غافر : ٢٨)

١٤٤

(لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ)

(الفرقان : ٧)

٥٨٥

(وَقالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ)

(الفرقان : ٧ ، ٨)

٥٨٣

(وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا)

(الجاثية : ٢٤)

٥٨٢

(وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللهَ)

(التوبة : ٩٠)

١٤٤

(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ)

(التوبة : ١٠٥)

٢٠٣

(وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ)

(هود : ٧)

٣٧٧

(وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ)

(البقرة : ٨٩)

٢٤٩

(وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ)

(الأعراف : ١٤٥)

١٢٣ ، ٢٥١

(وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ)

(الأنعام : ٧٥)

٢٧٦ ، ٣٦٣

(وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى)

(النساء : ١٦٤)

١٢٢

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ)

(البقرة : ١٦٨)

٢٧

(وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ)

(المؤمنون : ٣٤)

٢٧٥ ، ٣٠٩

(وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ)

(البقرة : ١٧٩)

٢٥٥

(وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً)

(فاطر : ٤٣)

٣٣٦

(وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ)

(المؤمنون : ٢٤)

٣٤٠

(وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي)

(الأحقاف : ٩)

٣٢٣

(وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ)

(الفرقان : ٢٠)

٥٨٣

الآية

السورة ورقم الآية

رقم الصفحة

(وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ)

(القمر : ٥٠)

٣٤٥

(وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ)

(يونس : ١٠٠)

٢١١

(وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ)

(الإسراء : ١٥)

١١٥

(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ)

(آل عمران : ١٤٤)

٣١

(وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ)

(الأنعام : ٣٨)

٧٧

(وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا)

(الإسراء : ٩٤)

٢٦ ، ٥٨٤

(وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ)

(الجاثية : ٢٤)

٣٦٦ ، ٥٨٢

(وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ)

(الأعراف : ١٨١)

٢٠

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ)

(البقرة : ٢٠٧)

١٤٠

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ)

(البقرة : ٢٠٤)

١٣٩

(وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُوراً)

(النور : ٤٠)

٣٨٨

(وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ)

(البقرة : ٣٠)

٣٢٣

(وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ)

(الرعد : ١٣)

٢٩

(ي)

(يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي)

(مريم : ٤٣)

٣٦٣

(يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ)

(مريم : ٤٤ ، ٤٥)

٣٦٢

(يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ)

(مريم : ٤٢)

٢٧٦ ، ٣٦٢

(يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ)

(المائدة : ٦٧)

١٩٠

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)

(البقرة : ٢١)

٥٨٢

(يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ)

(القصص : ٣٠)

١٢٢

(يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً)

(غافر : ٣٦ ، ٣٧)

٣٤٢

(يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ)

(الأنبياء : ٢٠)

٣٢٢

(يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ)

(الزمر : ٧٥)

٣١٨

(يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى)

(طه : ٧)

٣٢٤

(يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ)

(المائدة : ٥٤)

١٤٤

(يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ)

(النور : ٣٥)

٥٧٦

(٤)

فهرس الملل والنحل

(أ)

الإباحية : ٢٨١

الإباضية : ١٣٣ ، ١٥٦ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ١٦٠

الاثنا عشرية : ٣٩ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٢٦

الإخبارية : ١٩٣ ، ٢٠٣

الأخنسية : ١٥٣

الأزارقة : ١٣٣ ، ١٣٧ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤١ ، ١٥٨ ، ١٥٩

الأسبيد خامكية : ٢٩٦

الإسحاقية : ١٢٤ ، ٢٢٠ ، ٢٢٢

الإسكافية : ٤٢

الإسماعيلية : ٣٩ ، ١٧٠ ، ١٩٧ ، ٢٢٦

الإسماعيلية الواقفة : ١٩٦

الأشعرية : ٢١ ، ٩٧ ، ١٠٦ ، ١٢٢

أصحاب الاثنين : ٢٧٤ ، ٦٠١

أصحاب أرسطوطاليس : ٣٧٣

أصحاب الأشخاص : ٣٥٨ ، ٣٦٠ ، ٣٦١

أصحاب البددة : ٦٠٣

أصحاب التثليث : ٢٧١

أصحاب التفسير : ١٤٦

أصحاب التناسخ : ٦٠٣ ، ٦٠٦

أصحاب الحركة : ٤٢٣

أصحاب الروحانيات : ٣٠٨ ، ٣١٠ ، ٣١١ ، ٣١٢ ، ٣١٧ ، ٦٠١ ، ٦٠٧ ، ٦١١

أصحاب السكون : ٤٢٣

أصحاب السؤال : ١٤٦

أصحاب الشرائع : ٣٠٦

أصحاب الفكرة : ٦٠٣

أصحاب الفكرة والوهم : ٦٠٤

أصحاب الهياكل : ٣٥٨ ، ٣٦١ ، ٣٦٣ ، ٦٠١

الأطرافية : ١٥٠

الأفصحية : ١٩٥

الأفلاطونية : ٤٠٨ ، ٤٥٦

الأكنواطرية (عبدة النار) : ٦١٣

الإليانية : ٢٦٥ ، ٢٧٢

الإمامية : ٣٩ ، ١٧٠ ، ١٨٣ ، ١٨٩ ، ١٩١ ، ١٩٢ ، ١٩٣ ، ٢٠٢ ، ٢٠٣ ، ٢٢٣ ، ٢٢٨

أهل الحكمة : ٤٦٥

أهل السنة : ٢٠

أهل الفروع : ٢٣٥ ، ٢٤٠

أهل الكتاب : ٢٤٧

أهل المظال : ٤٤١

(ب)

الباسونية : ٦٠٧

الباطنية : ١٩٧ ، ٢٢٢ ، ٢٢٨ ، ٢٢٩

الباقرية : ١٩٣

الباهودية : ٦٠٨

البترية : ١٨٣ ، ١٨٧ ، ٢٢٣

البدعية : ١٥٦

البراهمة : ١٩ ، ٤٩ ، ٥٠ ، ٣٧٢ ، ٤٠٠ ، ٦٠١ ، ٦٠٢ ، ٦٠٣

البرغوثية : ١٠٠

البركسهيكية : ٦١٢

البرهمية : ٢٠٦

البزيغية : ٢١١

البشرية : ٧٨

البكرنتينية : ٦٠٥

البهادونية : ٦٠٩

البه آفريدية : ٢٨٤

البهشمية : ٩٠

البوطينوسية : ٢٦٦

البولية : ٢٦٦

البيانية : ١٧٦

البيهسية : ١٣٣ ، ١٤٤ ، ١٤٦ ، ١٤٧ ، ١٤٨

(ت)

التفضيلية : ١٩٣ ، ٢٠٣

التناسخية : ٢٧ ، ٧٧ ، ٢٠٣ ، ٢٢٩ ، ٤٢٦

التومنية : ١٢٤ ، ١٦٦

(ث)

الثعالبة : ١٣٣ ، ١٥٢ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٥٥ ، ١٥٧

الثعلبية : ١٤٦

الثمامية : ٨٤

الثنوية : ٢٩٠ ، ٢٩٩ ، ٣٠٠ ، ٦٠١

الثوبانية : ١٦٤

(ج)

الجاحظية : ٨٧

الجارودية : ١٨٣ ، ١٨٤ ، ٢٢٢

الجبائية : ٩٠

الجبرية : ٢١ ، ٢٧ ، ٤١ ، ٥٦ ، ٩٧

الجبرية الخالصة : ٩٧

الجبرية المتوسطة : ٩٧

الجعفرية : ٤٢

الجعفرية الواقفة : ١٩٣

الجلهكية (عباد الماء) : ٦١٢

الجهمية : ٩٧

(ح)

الحارثية : ١٥٨ ، ١٧٦

الحازمية : ١٥١ ، ١٥٥ ، ١٥٦

الحدثية : ٧٤

الحرنانية : ٣٦٥ ، ٣٦٧

الحشوية : ٩٧ ، ١٠٩ ، ١٢٠

الحشيشية : ٣٠٦

الحفصية : ١٥٨

حكماء الأصول : ٤١٥

حكماء العجم : ٣٧٣

الحلولية : ٢٦ ، ١٢٣ ، ٢٠٣

الحمارية : ٢٠٠

الحمزية : ١٥٠

الحنفاء : ٣٠٧ ، ٣٠٨ ، ٣١١ ، ٣١٢ ، ٣١٤ ، ٣١٦ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣٢٠ ، ٣٢٢ ،

٣٢٤ ، ٣٣٣ ، ٣٣٦ ، ٣٣٨ ، ٣٤٠ ، ٣٤٣ ، ٣٤٧ ، ٣٤٨ ، ٣٥٢ ، ٣٥٣ ، ٣٦٣ ، ٣٦٥

الحنيفية : ٢٤٧ ، ٢٧٤ ، ٢٧٥ ، ٢٧٦ ، ٢٧٧ ، ٣٠٧ ، ٣٤٦ ، ٣٦٣ ، ٣٦٥ ، ٥٩٠

الحواريون : ٢٥٦ ، ٢٦٣ ، ٢٦٤ ، ٢٦٧

(خ)

الخابطية : ٧٤

الخرّمية : ١٧٦ ، ٢٠٤ ، ٢١٠

الخرمدينية : ٢٨١

الخزامية : ١٧٩

الخطابية : ٢١٠ ، ٢١١

الخلفية : ١٥٠

الخليلية : ٢٧٤

الخوارج : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٧ ، ٣٥ ، ٣٦ ، ٤١ ، ٤٥ ، ٥٦ ، ٩٦ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٣٣ ، ١٣٧ ، ١٣٩ ، ١٤٠ ، ١٤٣ ، ١٤٤ ، ١٤٧ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥١ ، ١٥٣ ، ١٥٤ ، ١٦٠ ، ١٦٤ ، ١٦٩ ، ٢١٩

خوارج كرمان : ١٥٠

(د)

الدقولية : ٢٠٤

الدهرية : ١٩ ، ٤٩ ، ٨٤ ، ٦٠١

الدهريون : ٤٦٢ ، ٤٧٩

الدهكينية : ٦١٢

الدوستانية (الألفانية) : ٢٦١

الديالمة : ٤٣

الديصانية : ٢٩٦ ، ٢٩٨

الدينيكيتية : ٦١٠

(ذ)

الذميمة : ٢٠٦

(ر)

الربانيون : ٢٥٢

الرزامية : ١٧٨

الرشيدية : ١٥٣

الروافض : ٢١٩

الرواقيون : ٣٧٣ ، ٤١٣ ، ٤٢٤

الروحانيون : ٣٠٦ ، ٣٠٨ ، ٣٢٣ ، ٣٩٨ ، ٤٦١ ، ٥٧٩

(ز)

الزرارية : ٢١٨

الزردشتية : ٢٨١ ، ٢٨٣ ، ٢٨٤

الزروانية : ٢٧٩ ، ٢٨٠

الزرينية : ١٢٤

الزعفرانية : ١٠٠

الزنادقة : ٨٣ ، ٨٤ ، ٢٨١

الزيدية : ٣٨ ، ٤١ ، ١٦٩ ، ١٧٠ ، ١٧٩ ، ١٨٣ ، ١٨٩ ، ٢٢٢

(س)

السامرة : ٢٦٠

السبائية : ٢٠٤

السبالية : ٢٦٦

السلفية : ١٩٣

السليمانية : ١٨٦

السنباذية : ٢٠٤

السوفسطائية : ٣٠٧

السيسانية : ٢٨٤

(ش)

الشاعريون : ٣٨٧

شبهات الإسلام : ٥٨٣ ، ٥٩٤

الشبيبيّة : ١٤٨

الشراة : ٣٦ ، ١١٨

الشعيبية : ١٥١

الشمطية : ١٩٦

الشيبانية : ١٥٤ ، ١٥٥

الشيطانية : ٢١٨

الشيعة : ٢١ ، ٢٢ ، ٥٦ ، ١٠٥ ، ١٢٠ ، ١٦٩ ، ١٨٩ ، ١٩٣ ، ١٩٤ ، ١٩٧ ، ١٩٨ ، ١٩٩ ، ٢٠٢ ، ٢٠٤ ، ٢١٦ ، ٢١٩ ، ٢٢٠ ، ٢٢٣ ، ٢٣٣

شيعة الكوفة : ١٨١

(ص)

الصابئة : ١٩ ، ٥٠ ، ١٥٨ ، ١٥٩ ، ٢٠٦ ، ٢٧٥ ، ٢٨٢ ، ٢٨٩ ، ٣٠٥ ، ٣٠٧ ، ٣٠٨ ، ٣١١ ، ٣١٢ ، ٣١٤ ، ٣١٥ ، ٣١٧ ، ٣١٨ ، ٣١٩ ، ٣٢١ ، ٣٢٣ ، ٣٢٤ ، ٣٣٤ ، ٣٣٧ ، ٣٣٩ ، ٣٤١ ، ٣٤٦ ، ٣٥١ ، ٣٥٣ ، ٣٥٤ ، ٣٥٨ ، ٣٦٣ ، ٣٦٥ ، ٣٦٨ ، ٣٧٣ ، ٥٨٥ ، ٦٠١ ، ٦٠٩

الصابئة الأولى : ٣٠٦

صابئة النبط : ٢٧٦

صابئة الهند : ٢٧٦

الصالحية : ١٦٧ ، ١٨٣ ، ١٨٧

الصفاتية : ٢٢ ، ٤٤ ، ٥٥ ، ٥٦ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ١٠٤ ، ١٠٦ ، ١٢٤

الصفرية : ١٣٣

الصفرية الزيادية : ١٥٩

الصلتية : ١٤٩

الصيامية : ٢٩٩

(ض)

الضرارية : ٩٧ ، ١٠٢

(ط)

الطبيعيون الدهريون : ٣٠٥ ، ٣٠٦

(ع)

العابدية : ١٢٤

عبدة الأصنام : ٦٠١ ، ٦١١

عبدة الشمس : ٦٠٩

عبدة القمر : ٦١٠

عبدة الكواكب : ٦٠٩

عبدة الكواكب والأوثان : ٤٩ ، ٣٦١

العبيدية : ١٦٣ ، ١٦٦

العجاردة : ١٣٣ ، ١٤٣ ، ١٤٨ ، ١٤٩ ، ١٥١ ، ١٥٢ ، ١٥٧

العجلية : ٢١٢

العدلية : ٥٦ ، ٢٠٢

العشرية : ١٥٣

العطوية : ١٤٣

العلبائية : ٢٠٦

العلوية : ١٨٥

العمارية : ٣٩

العميرية : ٢١٢

العنانية : ٢٥٦

العونية : ١٤٦ ، ١٤٧

العيسوية : ٢٥٧

العينية : ٢٠٧

(غ)

الغالية : ٢٠٣

الغسانية : ١٦٣

الغيلانية : ١٦٢

(ف)

الفديكية : ١٤٣

الفلاسفة : ٢٠٦ ، ٢٨٩ ، ٣٥٤ ، ٣٦٩ ، ٣٧٠ ، ٣٧١ ، ٤٢٦ ، ٤٦٣ ، ٤٦٨

فلاسفة الإسلام : ٤٦١ ، ٤٨٧

فلاسفة أقاديما : ٤٢٣

الفلاسفة الإلهيون : ٣٠٦

الفلاسفة الأولى : ٤٩

الفلاسفة الدهريون : ٣٠٧

الفيثاغوريون : ٣٩٣ ، ٣٩٨

(ق)

القدرية : ٢١ ، ٢٢ ، ٢٧ ، ٤١ ، ٥٦ ، ٦١ ، ٧٩ ، ١٤٧ ، ١٥١ ، ١٦٤ ، ١٦٩ ، ٢١٩ ، ٢٤٠ ، ٢٧٠

القراءون : ٢٥٢

القرامطة : ٢٢٩ ، ٢٨١

القطعية : ٣٩ ، ١٩٨ ، ١٩٩

(ك)

الكابلية : ٦٠٨

الكاملية : ٢٠٥

الكرامية : ٢١ ، ١٠٦ ، ١٢٤ ، ١٢٩

الكلابية : ٩٧

الكلامية : ٢٠٣

الكوستانية : ٢٦١

الكوذكيّة : ٢٩٦ ، ٢٠٤

الكيالية : ٢١٢

الكيسانية : ٣٧ ، ١٧٠ ، ١٧٤ ، ١٧٩

الكينوية : ٢٩٩

الكيومارثية : ٢٧٨

(م)

المانوية : ٤٩ ، ٢٤٧ ، ٢٧٤ ، ٢٨٩ ، ٢٩٢ ، ٢٩٥ ، ٢٩٨

الماهانية : ٢٩٦

المباركية : ٣٩ ، ١٩٧

المبيضة : ٢٠٤

المجبرة : ٢٥٢

المجسمة : ٢١ ، ٢٧ ، ١٢٥ ، ١٢٩

المجهولية : ١٥٥ ، ١٥٦

المجوس : ١٩ ، ٤٩ ، ٧٣ ، ٨٤ ، ٢٠٦ ، ٢٤٧ ، ٢٧٤ ، ٢٧٧ ، ٢٧٨ ، ٢٨٠ ، ٢٨٤ ، ٢٩٠ ، ٣٠٠ ، ٣٠١ ، ٣٠٢ ، ٣٠٧ ، ٤٠٦ ، ٥٨١

المجوسية : ٤٠٠

المحكمة : ١٣٣

المحكمة الأولى : ١٣٣ ، ١٥٨

المحمدية : ١٥١

المختارية : ١٧١

المرجئة : ٢١ ، ٤١ ، ٥٦ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٦١ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٦٧ ، ١٦٨

مرجئة الجبرية : ١٦٢

المرجئة الخالصة : ١٦٢ ، ١٦٧

مرجئة الخوارج : ١٤٨ ، ١٦٢

مرجئة القدرية : ١٦٢ ، ١٦٨

المرجئة اليونسية : ١٦٦

المردارية : ٨٢

المرقيونية : ٢٩٨

المزدكية : ١٧٦ ، ٢٠٤ ، ٢٠٦ ، ٢٢٩ ، ٢٨١ ، ٢٩٤ ، ٢٩٥

المستدركة : ١٠٠

المسخية : ٢٨١

المسلمون : ١٩ ، ٣٤ ، ٥٤ ، ٣٠٧ ، ٣٢٣

المشّاءون : ٣٧٢ ، ٤١٠

المشبهة : ٢٧ ، ١٠٦ ، ١١٨ ، ١٢١ ، ١٢٣ ، ١٢٩ ، ١٩٣ ، ٢٠٢ ، ٢٤٠ ، ٢٥٢

مشبهة الحشوية : ١٢٠

مشبهة الشيعة : ١٢٠ ، ٢٢٠

المعبدية : ١٥٣

المعتزلة : ٢١ ، ٢٧ ، ٤١ ، ٤٢ ، ٤٤ ، ٥٦ ، ٦١ ، ٦٢ ، ٦٣ ، ٦٤ ، ٦٧ ، ٧٢ ، ٧٥ ، ٧٧ ، ٧٨ ، ٨٢ ، ٨٦ ، ٨٧ ، ٨٨ ، ٩٣ ، ٩٦ ، ٩٧ ، ٩٩ ، ١٠٠ ، ١٠١ ، ١٠٢ ، ١٠٤ ، ١٠٥ ، ١٠٩ ، ١١٠ ، ١١١ ، ١١٤ ، ١١٥ ، ١١٨ ، ١٢٢ ، ١٣٠ ، ١٥٨ ، ١٦٤ ، ١٨٠ ، ١٨٦ ، ١٨٩ ، ١٩٣ ، ٢١٨ ، ٢٤٠ ، ٢٥٢ ، ٢٦٨ ، ٢٦٩

معتزلة البصرة : ٩٠

معتزلة بغداد : ٨٩ ، ٩٥

معتزلة الري : ١٠٠

معطلة العرب : ٥٨٢

المعلومية : ١٥٥

المعمرية : ٧٩ ، ٢١١

المغيرية : ٢٠٧

المفضلية : ١٩٧

المقاربة : ٢٥٨

المقدانوسية : ٢٦٥

المكرمية : ١٥٥

الملكانية : ٢٦٥ ، ٢٦٦ ، ٢٦٩ ، ٢٧١

الممطورة : ٣٩ ، ١٩٨

المنصورية : ٢٠٩

المهاكالية : ٦١١

الموسوية : ١٨٣ ، ١٩٧ ، ١٩٨ ، ٢٢٦

الموشكانية : ٢٥٨ ، ٢٥٩

الميمونية : ١٤٩ ، ١٥٠

الميمية : ٢٠٧

(ن)

الناووسية : ١٩٥

النجارية : ٢١ ، ٩٧ ، ١٠٠

النجدات العاذرية : ١٣٣ ، ١٤١ ، ١٤٣ ، ١٤٨ ، ١٥٩

النسطورية : ٢٦٥ ، ٢٦٨ ، ٢٧٠

النصارى : ١٩ ، ٤٩ ، ٦٤ ، ٧٤ ، ٨٤ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٤٠ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٥٠ ، ٢٦٢ ، ٢٦٨ ، ٢٩٠ ، ٣٠٧ ، ٤٦٣

النصرانية : ٥٨٥

النصيرية : ٢٢٠ ، ٢٢٢

النظامية : ٦٧

النعمانية : ٢١٨

(ه)

الهاشمية : ١٧٤

الهذيلية : ٦٤

الهشامية : ٨٥ ، ١٢٠ ، ٢١٦

الهيصمية : ١٢٤

(و)

الواحدية : ١٢٤

الواصلية : ٥٩ ، ٦٠٠

الواقفة : ١٩٨ ، ٢٠٢

الواقفية : ١٤٥

الوعيدية : ٢١ ، ٤١ ، ٥٦ ، ١٣١ ، ١٣٢ ، ١٦٢ ، ١٦٤ ، ١٩٣ ، ٢٠٣

وعيدية الخوارج : ٦١

(ي)

اليزيدية : ١٥٨

اليعقوبية : ٢٦٥ ، ٢٦٩ ، ٢٧٠ ، ٢٧١

اليهود : ١٩ ، ٤٩ ، ٨٤ ، ١٠٥ ، ١٢١ ، ٢٠٣ ، ٢٠٤ ، ٢٤٠ ، ٢٤٧ ، ٢٤٨ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠ ، ٢٥١ ، ٢٥٢ ، ٢٥٣ ، ٢٥٥ ، ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، ٢٥٨ ، ٢٥٩ ، ٢٦١ ، ٢٦٣ ، ٣٠٧ ، ٥٨٥

اليهودية : ٥٨٥

اليوذعانية : ٢٥٨

اليونسية : ١٦٢ ، ٢٢٠

* * *

(٥)

أهم المصادر والمراجع

١ ـ الاتقان في علوم القرآن ، للسيوطي.

٢ ـ الأحكام السلطانية ، لابن أبي يعلى الفرّاء.

٣ ـ أخبار الحكماء والعلماء ، للقفطي.

٤ ـ أسد الغابة ، لابن كثير.

٥ ـ الأسماء والصفات ، للبيهقي.

٦ ـ الإشارات ، لابن سينا.

٧ ـ الإصابة ، لابن حجر العسقلاني.

٨ ـ الأصنام ، لابن الكلبي.

٩ ـ أصول الدين ، لعبد القاهر البغدادي.

١٠ ـ الأعلام ، للزركلي.

١١ ـ أعلام الموقعين ، لابن القيّم الجوزية.

١٢ ـ أعيان الشيعة ، للسيد محسن الأمين.

١٣ ـ الأغاني ، لأبي الفرج الأصبهاني.

١٤ ـ الإمتاع والمؤانسة ، لأبي حيّان التوحيدي.

١٥ ـ الانتصار ، لابن دقماق.

١٦ ـ الأنساب ، للسمعاني.

١٧ ـ البدء والتاريخ ، لأحمد بن سهل البلخي ، وهو لمطهر بن طاهر المقدسي.

١٨ ـ البداية والنهاية ، لابن كثير.

١٩ ـ البيان والتبيين ، للجاحظ.

٢٠ ـ تاج اللغة ، للجوهري.

٢١ ـ تاريخ أطباء الإسلام ، للبيهقي.

٢٢ ـ تاريخ بغداد ، لأحمد بن علي الخطيب.

٢٣ ـ تاريخ الخلفاء ، للسيوطي.

٢٤ ـ تاريخ الرسل والملوك ، للطبري.

٢٥ ـ تاريخ العرب قبل الإسلام ، لجواد علي.

٢٦ ـ تاريخ الفلسفة اليونانية ، لأحمد أمين.

٢٧ ـ تاريخ مكة ، للأزرقي.

٢٨ ـ تأويل مختلف الحديث ، لابن قتيبة.

٢٩ ـ التبصير ، للأسفراييني.

٣٠ ـ تحقيق ما للهند من مقولة ، للبيروني.

٣١ ـ التعريفات ، للجرجاني.

٣٢ ـ تفسير الرازي.

٣٣ ـ تفسير القرطبي.

٣٤ ـ تقريب التهذيب ، لابن حجر العسقلاني.

٣٥ ـ تهذيب ابن عساكر.

٣٦ ـ الجواهر المضية ، للقرشي.

٣٧ ـ الحور العين ، لنشوان الحميري.

٣٨ ـ خزانة البغدادي.

٣٩ ـ خطط المقريزي.

٤٠ ـ دائرة المعارف الإسلامية.

٤١ ـ دائرة المعارف ، للبستاني.

٤٢ ـ دلائل النبوة ، للبيهقي.

٤٣ ـ الديباج المذهب ، لابن فرحون.

٤٤ ـ رسائل الجاحظ.

٤٥ ـ رغبة الآمل للمرصفي.

٤٦ ـ سيرة ابن هشام.

٤٧ ـ شذرات الذهب ، لابن العماد الحنبلي.

٤٨ ـ شرح نهج البلاغة ، لابن أبي حديد.

٤٩ ـ الشعر والشعراء ، لابن قتيبة.

٥٠ ـ شعراء النصرانية ، للويس شيخو.

٥١ ـ طبقات الأطباء ، لابن جلجل.

٥٢ ـ طبقات ابن سعد.

٥٣ ـ طبقات الشافعية ، لتاج الدين السبكي.

٥٤ ـ العبر ، للإمام الذهبي.

٥٥ ـ العقد الفريد ، لابن عبد ربّه.

٥٦ ـ عيون الأنباء في طبقات الأطباء ، لابن أبي أصيبعة.

٥٧ ـ عيون الأخبار ، لابن قتيبة.

٥٨ ـ غاية النهاية ، لابن الجوزي.

٥٩ ـ الفرق بين الفرق ، لعبد القاهر البغدادي.

٦٠ ـ الفصل في الملل والأهواء والنحل ، لابن حزم الظاهري.

٦١ ـ فهرست ابن النديم.

٦٢ ـ فهرست الطوسي.

٦٣ ـ فرق الشيعة ، للنوبختي.

٦٤ ـ الكامل ، للمبرد.

٦٥ ـ الكامل في التاريخ ، لابن الأثير.

٦٦ ـ كشف الظنون ، لحاجي خليفة.

٦٧ ـ اللباب ، لابن الأثير.

٦٨ ـ لباب الآداب ، لأسامة بن منقذ.

٦٩ ـ لسان العرب ، لابن منظور.

٧٠ ـ لسان الميزان ، لابن حجر العسقلاني.

٧١ ـ معجم البيان ، للطبرسي.

٧٢ ـ المحاسن والمساوئ ، للبيهقي.

٧٣ ـ المحبر ، لابن حبيب البغدادي.

٧٤ ـ المختصر ، للرسعني.

٧٥ ـ مروج الذهب ، للمسعودي.

٧٦ ـ مشاهير علماء الأمصار ، لابن حبان البستي.

٧٧ ـ معاهد التنصيص ، لعبد الرحيم بن أحمد العباسي.

٧٨ ـ معجم الأدباء ، لياقوت الحموي.

٧٩ ـ معجم البلدان ، لياقوت الحموي.

٨٠ ـ المعجم المفهرس لألفاظ القرآن ، لمحمد فؤاد عبد الباقي.

٨١ ـ مفتاح السعادة ، لطاش كبريزاده.

٨٢ ـ المقابسات ، لأبي حيان التوحيدي.

٨٣ ـ مقاتل الطالبيين ، لأبي الفرج الأصبهاني.

٨٤ ـ مقالات الإسلاميين ، للأشعري.

٨٥ ـ منهج المقال ، للأسترآبادي.

٨٦ ـ موسوعة الفلسفة ، لعبد الرحمن بدوي.

٨٧ ـ ميزان الاعتدال ، للذهبي.

٨٨ ـ النجوم الزاهرة ، لابن تغري بردي.

٨٩ ـ نسب قريش ، للزبيري.

٩٠ ـ نهاية الأرب ، للنويري.

٩١ ـ الوزراء والكتاب ، للجهشياري.

٩٢ ـ وقعة صفين ، لنصر بن مزاحم.

٩٣ ـ وفيات الأعيان ، لابن خلكان.

فهرس المجلد الثاني

من كتاب الملل والنحل ، للشهرستاني

الباب الأول : أهل الأهواء والنحل........................................... ٣٠٥

الفصل الأول : الصابئة والحنفاء........................................... ٣٠٧

الفصل الثاني : أصحاب الروحانيات....................................... ٣٠٨

١ ـ مذهب أصحاب الروحانيات.......................................... ٣٠٨

٢ ـ مناظرات بين الصابئة والحنفاء.......................................... ٣١١

حكم هرمس العظيم........................................................ ٣٥٣

الفصل الثالث : أصحاب الهياكل والأشخاص............................... ٣٥٨

١ ـ أصحاب الهياكل..................................................... ٣٥٨

٢ ـ أصحاب الأشخاص.................................................. ٣٦٠

٣ ـ مناظرات إبراهيم الخليل للفريقين........................................ ٣٦٢

الفصل الرابع : الحرنانية ومقالاتهم.......................................... ٣٦٥

١ ـ القول بالتناسخ والحلول............................................... ٣٦٦

٢ ـ مزاعم الحرنانية....................................................... ٣٦٧

الباب الثاني : الفلاسفة..................................................... ٣٦٩

الفصل الأول : الحكماء السبعة........................................... ٣٧٣

١ ـ رأي تاليس.......................................................... ٣٧٤

٢ ـ رأي أنكساغورس.................................................... ٣٧٨

٣ ـ رأي أنكسيمانس.................................................... ٣٨٠

٤ ـ رأي أبناذقليس....................................................... ٣٨٢

٥ ـ رأي فيثاغورس....................................................... ٣٨٨

٦ ـ رأي سقراط......................................................... ٤٠١

٧ ـ رأي أفلاطون الإلهي.................................................. ٤٠٧

إختلاف الأوائل في الإبداع والمبدع والإرادة..................................... ٤١٤

الفصل الثاني : حكماء الأصول........................................... ٤١٥

١ ـ رأي فلوطرخيس...................................................... ٤١٦

٢ ـ رأي أكسنوفانس..................................................... ٤١٧

٣ ـ رأي زينون الأكبر.................................................... ٤١٨

وصايا زينون وحكمه........................................................ ٤٢٠

٤ ـ رأي ديموقريطس وشيعته............................................... ٤٢٢

٥ ـ رأي فلاسفة أقاديما................................................... ٤٢٣

٦ ـ رأي هرقل الحكيم.................................................... ٤٢٤

٧ ـ رأي أبيقورس........................................................ ٤٢٥

٨ ـ حكم سولون الشاعر................................................. ٤٢٦

٩ ـ حكم أوميروس الشاعر............................................... ٤٢٨

١٠ ـ حكم بقراط....................................................... ٤٣٢

١١ ـ حكم ديمقريطيس................................................... ٤٣٥

١٢ ـ حكم أوقليدس..................................................... ٤٣٨

١٣ ـ حكم بطليموس.................................................... ٤٤٠

١٤ ـ حكم أهل المظال................................................... ٤٤١

الفصل الثالث : متأخر وحكماء اليونان.................................... ٤٤٣

١ ـ رأي أرسطوطاليس بن نيقوماخوس...................................... ٤٤٣

٢ ـ حكم الإسكندر الرومي............................................... ٤٦٣

٣ ـ حكم ديوجانس الكلبي............................................... ٤٦٨

٤ ـ حكم الشيخ اليوناني.................................................. ٤٧١

٥ ـ حكم تاوفرسطيس.................................................... ٤٧٥

٦ ـ شبه برقلس في قدم العالم.............................................. ٤٧٧

٧ ـ رأي ثامسطيوس..................................................... ٤٨٢

٨ ـ رأي الإسكندر الأفروديسي........................................... ٤٨٣

٩ ـ رأي فرفريوس........................................................ ٤٨٤

الفصل الرابع : المتأخرون من فلاسفة الإسلام.................................. ٤٨٧

١ ـ ابن سينا : كلامه في المنطق............................................ ٤٩٠

في المركبات................................................................ ٤٩٤

في القياس ومباديه وأشكاله ونتائجه........................................... ٤٩٨

في مقدمات القياس من جهة ذواتها وشرائط البرهان............................. ٥٠٢

في الأجناس العشرة......................................................... ٥٠٦

من المقولات العشر......................................................... ٥٠٦

من جملة العشرة............................................................ ٥٠٧

في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي........................................... ٥٠٨

٢ ـ في الإلهيات.......................................................... ٥١٠

المسألة الأولى : في تحقيق هذا العلم........................................... ٥١٠

المسألة الثانية : في تحقيق الجوهر الجسماني..................................... ٥١١

المسألة الثالثة : في أقسام العلل............................................... ٥١٤

المسألة الرابعة : في المتقدم والمتأخر............................................ ٥١٧

المسألة الخامسة : في الكلي والواحد ولواحقهما................................. ٥١٩

المسألة السادسة : في تعريف واجب الوجود بذاته............................... ٥٢٠

المسألة السابعة : في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول...................... ٥٢٤

المسألة الثامنة : في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وفي ترتيب وجود العقول والنفوس

والأجرام العلوية............................................................ ٥٢٨

المسألة التاسعة : في العناية الأزلية وبيان دخول الشر في القضاء.................. ٥٣٦

المسألة العاشرة : في المعاد وإثبات معادات دائمة للنفوس........................ ٥٣٨

٣ ـ في الطبيعيات........................................................ ٥٤٤

المقالة الأولى : في لواحق الأجسام الطبيعية..................................... ٥٤٥

المقالة الثانية : في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام........................ ٥٥٣

المقالة الثالثة : في المركبات والآثار العلوية...................................... ٥٥٧

المقالة الرابعة : في النفوس وقواها............................................. ٥٦١

المقالة الخامسة : في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم....................... ٥٦٧

المقالة السادسة : في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل................. ٥٧٣

الباب الثالث : آراء العرب في الجاهلية........................................ ٥٧٨

حكم البيت العتيق......................................................... ٥٧٨

البيوت المتخذة للعبادة...................................................... ٥٨١

الفصل الأول : معطلة العرب.............................................. ٥٨٢

١ ـ منكرو الخالق والبعث والإعادة......................................... ٥٨٢

٢ ـ منكرو البعث والإعادة................................................ ٥٨٣

٣ ـ منكرو الرسل : عباد الأصنام.......................................... ٥٨٣

شبهات العرب............................................................. ٥٨٣

أصنام العرب وميولهم....................................................... ٥٨٥

الفصل الثاني : المحصلة من العرب.......................................... ٥٨٦

١ ـ علومهم............................................................. ٥٨٦

٢ ـ معتقداتهم........................................................... ٥٩٠

٣ ـ تقاليد العرب التي أقرها الإسلام وبعض عاداتهم.......................... ٥٩٤

الباب الرابع : آراء الهند..................................................... ٦٠١

الفصل الأول : البراهمة................................................... ٦٠١

١ ـ أصحاب البددة...................................................... ٦٠٣

٢ ـ أصحاب الفكرة والوهم............................................... ٦٠٤

٣ ـ أصحاب التناسخ.................................................... ٦٠٦

الفصل الثاني : أصحاب الروحانيات....................................... ٦٠٧

١ ـ الباسنوية............................................................ ٦٠٧

٢ ـ الباهودية............................................................ ٦٠٨

٣ ـ الكابلية............................................................. ٦٠٨

٤ ـ البهادونية........................................................... ٦٠٩

الفصل الثالث : عبدة الكواكب........................................... ٦٠٩

١ ـ عبدة الشمس....................................................... ٦٠٩

٢ ـ عبدة القمر.......................................................... ٦١٠

الفصل الرابع : عبدة الأصنام.............................................. ٦١١

١ ـ المهاكالية............................................................ ٦١١

٢ ـ البركسهيكية......................................................... ٦١٢

٣ ـ الدهكينية........................................................... ٦١٢

٤ ـ الجلهكية : أي عباد الماء.............................................. ٦١٢

٥ ـ الأكنواطرية : أي عباد النار........................................... ٦١٣

الفصل الخامس : حكماء الهند............................................ ٦١٤

١ ـ اختلاف الهنود بعد وفاة برخمنين........................................ ٦١٤

٢ ـ الإسكندر في الهند................................................... ٦١٥

الفهارس................................................................ ٦١٩

أعدّ فهارس الكتاب وساعد في التصحيح

كامل عبدو الرحيل وعلي نعيم خريس في

المكتب الثقافي لتحقيق الكتب ومساعدة دور النشر

الملل والنّحل - ٢

المؤلف: أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني
الصفحات: 358
  • (1) فهرس الأعلام 621
  • (2) فهرس الأحاديث النبوية 635
  • (3) فهرس الآيات القرآنية 637
  • (4) فهرس الملل والنحل 645
  • (5) فهرس المصادر والمراجع 652
  • (6) فهرس الموضوعات 654
  • الباب الأول : أهل الأهواء والنحل 305
  • الفصل الأول : الصابئة والحنفاء 307
  • الفصل الثاني : أصحاب الروحانيات 308
  • 1 ـ مذهب أصحاب الروحانيات 308
  • 2 ـ مناظرات بين الصابئة والحنفاء 311
  • حكم هرمس العظيم 353
  • الفصل الثالث : أصحاب الهياكل والأشخاص 358
  • 1 ـ أصحاب الهياكل 358
  • 2 ـ أصحاب الأشخاص 360
  • 3 ـ مناظرات إبراهيم الخليل للفريقين 362
  • الفصل الرابع : الحرنانية ومقالاتهم 365
  • 1 ـ القول بالتناسخ والحلول 366
  • 2 ـ مزاعم الحرنانية 367
  • الباب الثاني : الفلاسفة 369
  • الفصل الأول : الحكماء السبعة 373
  • 1 ـ رأي تاليس 374
  • 2 ـ رأي أنكساغورس 378
  • 3 ـ رأي أنكسيمانس 380
  • 4 ـ رأي أبناذقليس 382
  • 5 ـ رأي فيثاغورس 388
  • 6 ـ رأي سقراط 401
  • 7 ـ رأي أفلاطون الإلهي 407
  • إختلاف الأوائل في الإبداع والمبدع والإرادة 414
  • الفصل الثاني : حكماء الأصول 415
  • 1 ـ رأي فلوطرخيس 416
  • 2 ـ رأي أكسنوفانس 417
  • 3 ـ رأي زينون الأكبر 418
  • وصايا زينون وحكمه 420
  • 4 ـ رأي ديموقريطس وشيعته 422
  • 5 ـ رأي فلاسفة أقاديما 423
  • 6 ـ رأي هرقل الحكيم 424
  • 7 ـ رأي أبيقورس 425
  • 8 ـ حكم سولون الشاعر 426
  • 9 ـ حكم أوميروس الشاعر 428
  • 10 ـ حكم بقراط 432
  • 11 ـ حكم ديمقريطيس 435
  • 12 ـ حكم أوقليدس 438
  • 13 ـ حكم بطليموس 440
  • 14 ـ حكم أهل المظال 441
  • الفصل الثالث : متأخر وحكماء اليونان 443
  • 1 ـ رأي أرسطوطاليس بن نيقوماخوس 443
  • 2 ـ حكم الإسكندر الرومي 463
  • 3 ـ حكم ديوجانس الكلبي 468
  • 4 ـ حكم الشيخ اليوناني 471
  • 5 ـ حكم تاوفرسطيس 475
  • 6 ـ شبه برقلس في قدم العالم 477
  • 7 ـ رأي ثامسطيوس 482
  • 8 ـ رأي الإسكندر الأفروديسي 483
  • 9 ـ رأي فرفريوس 484
  • الفصل الرابع : المتأخرون من فلاسفة الإسلام 487
  • 1 ـ ابن سينا : كلامه في المنطق 490
  • في المركبات 494
  • في القياس ومباديه وأشكاله ونتائجه 498
  • في مقدمات القياس من جهة ذواتها وشرائط البرهان 502
  • في الأجناس العشرة 506
  • من المقولات العشر 506
  • من جملة العشرة 507
  • في تفسير ألفاظ يحتاج إليها المنطقي 508
  • 2 ـ في الإلهيات 510
  • المسألة الأولى : في تحقيق هذا العلم 510
  • المسألة الثانية : في تحقيق الجوهر الجسماني 511
  • المسألة الثالثة : في أقسام العلل 514
  • المسألة الرابعة : في المتقدم والمتأخر 517
  • المسألة الخامسة : في الكلي والواحد ولواحقهما 519
  • المسألة السادسة : في تعريف واجب الوجود بذاته 520
  • المسألة السابعة : في أن واجب الوجود عقل وعاقل ومعقول 524
  • المسألة الثامنة : في أن الواحد لا يصدر عنه إلا واحد وفي ترتيب وجود العقول والنفوس
  • والأجرام العلوية 528
  • المسألة التاسعة : في العناية الأزلية وبيان دخول الشر في القضاء 536
  • المسألة العاشرة : في المعاد وإثبات معادات دائمة للنفوس 538
  • 3 ـ في الطبيعيات 544
  • المقالة الأولى : في لواحق الأجسام الطبيعية 545
  • المقالة الثانية : في الأمور الطبيعية وغير الطبيعية للأجسام 553
  • المقالة الثالثة : في المركبات والآثار العلوية 557
  • المقالة الرابعة : في النفوس وقواها 561
  • المقالة الخامسة : في أن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم 567
  • المقالة السادسة : في وجه خروج العقل النظري من القوة إلى الفعل 573
  • الباب الثالث : آراء العرب في الجاهلية 578
  • حكم البيت العتيق 578
  • البيوت المتخذة للعبادة 581
  • الفصل الأول : معطلة العرب 582
  • 1 ـ منكرو الخالق والبعث والإعادة 582
  • 2 ـ منكرو البعث والإعادة 583
  • 3 ـ منكرو الرسل : عباد الأصنام 583
  • شبهات العرب 583
  • أصنام العرب وميولهم 585
  • الفصل الثاني : المحصلة من العرب 586
  • 1 ـ علومهم 586
  • 2 ـ معتقداتهم 590
  • 3 ـ تقاليد العرب التي أقرها الإسلام وبعض عاداتهم 594
  • الباب الرابع : آراء الهند 601
  • الفصل الأول : البراهمة 601
  • 1 ـ أصحاب البددة 603
  • 2 ـ أصحاب الفكرة والوهم 604
  • 3 ـ أصحاب التناسخ 606
  • الفصل الثاني : أصحاب الروحانيات 607
  • 1 ـ الباسنوية 607
  • 2 ـ الباهودية 608
  • 3 ـ الكابلية 608
  • 4 ـ البهادونية 609
  • الفصل الثالث : عبدة الكواكب 609
  • 1 ـ عبدة الشمس 609
  • 2 ـ عبدة القمر 610
  • الفصل الرابع : عبدة الأصنام 611
  • 1 ـ المهاكالية 611
  • 2 ـ البركسهيكية 612
  • 3 ـ الدهكينية 612
  • 4 ـ الجلهكية : أي عباد الماء 612
  • 5 ـ الأكنواطرية : أي عباد النار 613
  • الفصل الخامس : حكماء الهند 614
  • 1 ـ اختلاف الهنود بعد وفاة برخمنين 614
  • 2 ـ الإسكندر في الهند 615
  • الفهارس 619