محتويات الكتاب

مقدمة المترجم....................................................................... ٩

مقدمة المؤلف...................................................................... ١٥

الفصل الأول : كيفية نشوء الشيعة وتطورهم.

بداية نشوء الشيعة................................................................. ٢١

سبب انفصال الأقليّة الشيعية عن اكثرية السنّة ، وظهور الاختلافات................. ٢٤

موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة.................................................... ٢٧

الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية ، ومخالفتها للفكر الشيعي...................... ٢٩

انتهاء الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) وسيرته.......................................... ٣٥

ما حصلت عليه الشيعة طوال خلافة الامام عليّ (ع) في خمس سنوات.............. ٣٨

انتقال الخلافة إلى معاوية وتحولها إلى ملوكية موروثة................................... ٤١

الأيام العصيبة التي مرّت بالشيعة................................................... ٤٤

استقرار ملوكية بني اميّة............................................................ ٤٦

الشيعة في القرن الثاني للهجرة....................................................... ٥٠

الشيعة في القرن الثالث للهجرة..................................................... ٥٢

الشيعة في القرن الرابع للهجرة....................................................... ٥٣

الشيعة في القرن الخامس وحتى القرن التاسع الهجري................................. ٥٤

الشيعة في القرن العاشر والحادي عشر للهجرة....................................... ٥٦

الشيعة في القرن الثاني عشر وحتى القرن الرابع عشر للهجرة.......................... ٥٧

انقسام بعض الفرق وانقراضها..................................................... ٥٧

الزيديّة............................................................................. ٥٩

الاسماعيلية وانشعاباتها............................................................. ٦٠

النزارية والمستعلية والدروزية والمقنعة.................................................. ٦٤

الشيعة الاثنا عشرية ، واختلافها مع الزيدية والاسماعيلية............................. ٦٦

موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية............................................... ٦٧

الفصل الثاني : الفكر الديني لدى الشيعة

معنى الفكر الديني.................................................................. ٧٢

المصادر الرئيسية للفكر الديني في الاسلام........................................... ٧٢

الطرق التي يعرضها الاسلام للفكر الديني........................................... ٧٣

الاختلاف بين هذه الطرق الثلاثة................................................... ٧٦

الطريق الأول : الظواهر الدينية وأقسامها

حديث الصحابة................................................................... ٧٨

بحث آخر في الكتاب والسنة....................................................... ٧٨

ظاهر القرآن وباطنه................................................................ ٨١

تأويل القرآن....................................................................... ٨٤

تتمة البحث عن الحديث........................................................... ٨٧

الشيعة والعمل بالحديث............................................................ ٨٩

التعلّم والتعليم العام في الاسلام.................................................... ٩٠

الشيعة والعلوم النقلية.............................................................. ٩٢

الطريق الثاني : المباحث العقلية :

التفكر العقلي والفلسفي والكلامي................................................. ٩٤

مدى تقدم الشيعة في التفكر الفلسفي والكلامي في الاسلام........................ ٩٥

الشيعة يسعون دائما بحقل الفلسفة وسائر العلوم العقلية............................. ٩٨

لما ذا استقرت الفلسفة عند الشيعة؟................................................ ٩٨

خمس من نوابغ علماء الشيعة....................................................... ٩٩

الطريق الثالث : الكشف

الانسان وإدراكه للعرفان.......................................................... ١٠٢

ظهور العرفان في الاسلام......................................................... ١٠٣

ارشاد الكتاب والسنة إلى معرفة النفس ، ومناهجها................................ ١٠٦

الفصل الثالث : المعتقدات الاسلامية من وجهة نظر الشيعة الامامية معرفة الله :

النظر إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيات ـ ضرورة وجود الله تعالى........... ١١١

نظرة أخرى عن طريق ارتباط الانسان بالعالم ـ خاتمة الفصل وحدانية الله تعالى....... ١١٢

الذات والصفات................................................................. ١١٧

معاني صفات الله تعالى........................................................... ١١٨

مزيد من التوضيح في معاني الصفات.............................................. ١١٩

صفات الفعل.................................................................... ١٢٠

القضاء والقدر................................................................... ١٢٢

الانسان والاختيار................................................................ ١٢٤

معرفة النّبي :

نحو الهدف ـ الهداية العامة........................................................ ١٢٧

الهداية الخاصة.................................................................... ١٢٩

العقل والقانون................................................................... ١٣١

الشعور المرموز ، أو ما يسمى ب (الوحي)........................................ ١٣٢

الأنبياء وعصمة النبوة............................................................ ١٣٣

الأنبياء والشرائع السماوية........................................................ ١٣٤

الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوة..................................................... ١٣٧

عدد الأنبياء..................................................................... ١٣٩

الأنبياء أولو العزم ، حملة الشرائع السماوية........................................ ١٣٩

نبوّة محمد (ص).................................................................. ١٤٠

النّبي الأكرم (ص) والقرآن........................................................ ١٤٥

معرفة المعاد :

الانسان روح وجسم.............................................................. ١٤٩

مبحث في حقيقة الروح من منظار آخر........................................... ١٥١

الموت من وجهة نظر الاسلام..................................................... ١٥٢

عالم البرزخ....................................................................... ١٥٢

يوم القيامة ـ المعاد................................................................ ١٥٤

بيان آخر........................................................................ ١٥٧

استمرار الخلقة وتعاقبها........................................................... ١٦٢

معرفة الامام :

معنى الامام...................................................................... ١٦٣

الامامة وخلافة النبي الأكرم (ص) في الحكومة الاسلامية........................... ١٦٤

تأييد للأقوال السابقة............................................................. ١٧١

الامامة في العلوم التشريعية....................................................... ١٧٤

الفرق بين النّبي والامام........................................................... ١٧٥

الامامة في باطن الأعمال......................................................... ١٧٧

أئمة الاسلام وقادته.............................................................. ١٨١

موجز عن حياة الأئمة الاثني عشر................................................ ١٨٢

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر العامة................................. ٢١٥

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر الخاصة................................ ٢١٦

مقدمة المترجم

تعريف بالكتاب

قد يتساءل البعض ، من هم الشيعة؟ وما هو التشيّع؟ متى وجد؟ وكيف نشأ؟.

فقال البعض ، إنهم فرقة استحدثت وتشعبت من الإسلام ، وقال آخرون ، إنهم غلاة ليسوا بمسلمين ، وذهب جماعة إلى أنهم فرقة ضالة مضلّة ، لا يربطهم بالإسلام رابط ، وما إلى ذلك من الأقوال ...

كتاب «الشّيعة في الإسلام» تحقيق جادّ في تعريف الشيعة من جميع جوانبهم ، لمن لم يتعرف على الفكر الشيعي ، فهو يجيب على جميع تلك التساؤلات ، ويردّ على الشبهات التي طالما تمسك بها الأعداء ، فجعلوها ذريعة ، للحطّ من شأن الشيعة ومقامهم.

لقد عالج المؤلف هذا الهدف دون تعرّض لأهل السنّة ، في حين يقف مدافعا عن أصالة الشيعة ، ويبيّن علل نشوئهم ، وقد حاول المؤلف أن يعرض التشيّع ، وهو جانب من الإسلام الأصيل ، بعيدا عن التفرقة والانشقاق في صفوف المسلمين.

جاء الكتاب مبسطا وبلغة يفهمها الجميع ، لا يستغني عنه الشيعة ذاتهم وخاصة الشباب.

لقد قسّم المؤلف ـ قدّس سره ـ بحثه القيّم هذا إلى ثلاثة فصول ، استعرض خلالها تاريخ الشيعة ومعتقداتهم وعلومهم.

فبحث في الفصل الأوّل ، كيفية نشوء الشيعة وانقساماتها ، وموجزا عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية. واستعرض في الفصل الثاني ، الفكر الشيعي ، والطرق التي ينتهجها في الاحتجاج ، من ظواهر دينية أو بحوث عقلية وتناول في الفصل الثالث ، أصول الدين وفروعه من وجهة نظر الشيعة ، في الله سبحانه وصفاته ، وفي معرفة النبي (ص) والوحي ، في المعاد ، وفي الإمامة ، والفرق بين النبي والإمام. وموجز عن تاريخ الأئمة الاثني عشر ، ومبحث في ظهور المهدي ـ عليه‌السلام ـ.

تعريف بالكاتب

ولد المؤلف العلّامة السيد محمد حسين الطباطبائي في بيت علم وفضل ، في بيت له تاريخ طويل في خدمة شريعة الإسلام ، ومنهج الرسول وأهل بيته ، إذ أن أربعة عشر من أجداد المؤلف كانوا من العلماء البارزين في مدينة تبريز الإيرانية.

ولد سنة ١٣٢١ للهجرة ، فتابع دراسته الأوليّة هناك ، ثم رحل إلى النجف الأشرف سنة ١٣٤٤ ه‍ ، ومكث هناك ، مدة لا تقل عن عشر سنوات ، اكتسب خلالها مختلف العلوم الإسلامية ، فدرس الفقه والأصول ، والفلسفة والرياضيات والأخلاق ، ثم رجع إلى موطنه سنة ١٣٥٤ ه‍.

لم يكتف بدراسة الفقه والأصول بشكلها المبسّط ، وإنما تعمّق

في دراسة هذين العلمين ، وتناول دراسة علم النحو والصرف أيضا ، ودراسة الأدب العربي ، وتطرّق إلى دراسة علم الرياضيات القديم ك «أصول» أقليدس و «المجسطي» لبطليموس ، والفلسفة وعلم الكلام والعرفان والتفسير أيضا.

ذاعت شهرته في إيران ، بعد أن هاجر من مسقط رأسه إلى مدينة قم ، إثر الحوادث السياسية للحرب العالمية الثانية ، فأقام فيها سنة ١٣٦٥ ه‍ ، وشرع بتدريس التفسير والحكمة والمعارف الإسلامية ، ولم يتوان في البحث مع المخالفين ، فأرشد العديد منهم إلى طريق الحقّ والصواب.

كان لمحاضراته في الحوزة العلمية ، أثر بليغ في طلابها ، بل شملت المثقفين أيضا. فكانت لقاءاته مع الأستاذ «هنري كربن» مستمرة في كل خريف ، يحضرها جمع من الفضلاء والعلماء ، تطرح فيها المسائل الدينية والفلسفية ، فكانت لها نتائجها المثمرة.

ومن الجدير بالذكر أنّ تلك اللقاءات والمباحثات لم يكن لها نظير في العالم الإسلامي ، منذ القرون الوسطى حين كان التلاقح الفكري بين المسلمين والمسيحيين.

أحيى العلّامة الطباطبائي ، العلوم العقلية وتفسير القرآن ، فاهتمّ بتدريس الحكمة ، وشرع بتدريس كتاب «الشفاء» و «الأسفار».

كان يمتاز بدماثة الخلق ، فكان عاملا رئيسيا في جذب الطلاب إلى محاضراته القيّمة ، إذ كان يحضرها المئات ، فنال الكثير منهم درجة الاجتهاد في الحكمة ، وأصبحوا أساتذة قادرين على تدريسها.

كان العلّامة يحرص على الأخلاق وتزكية النفس فضلا عن اهتمامه بالحكمة والعرفان ، ويمكن القول بأنه أسّس مدرسة جديدة في التربية وعلم الأخلاق ، فقدم للمجتمع نماذج تتصف بأخلاق إسلامية عالية ، وكان يؤكد كثيرا على ضرورة تلازم التعاليم الإسلامية مع التربية المدرسية ، ويعتبرها من المسائل الأساسية في المعارف الإسلامية ، إلا أنه من المؤسف لم يراع هذا الأمر في المدارس الحديثة ببلاد المسلمين.

مؤلفاته :

(١) تفسير الميزان في (٢٠) جزءا باللغة العربية ، وترجم إلى الفارسية والإنكليزية.

(٢) مبادي الفلسفة وطريقة المثالية ، مع شرح وهوامش للعلامة الفيلسوف الشهيد مرتضى مطهري.

(٣) شرح الأسفار لصدر الدين الشيرازي ، في ستة مجلدات.

(٤) حوار مع الأستاذ «هنري كربن» في مجلدين.

(٥) رسالة في الحكومة الإسلامية ، طبعت بالعربية والفارسية والألمانية.

(٦) حاشية الكفاية.

(٧) رسالة في القوة والفعل.

(٨) رسالة في إثبات الذات.

(٩) رسالة في الصفات.

(١٠) رسالة في الأفعال.

(١١) رسالة في الوسائط.

(١٢) الإنسان قبل الدنيا.

(١٣) الإنسان في الدنيا.

(١٤) الإنسان بعد الدنيا.

(١٥) رسالة في النبوة.

(١٦) رسالة في الولاية.

(١٧) رسالة في المشتقات.

(١٨) رسالة في البرهان.

(١٩) رسالة في المغالطة.

(٢٠) رسالة في التحليل.

(٢١) رسالة في التركيب.

(٢٢) رسالة في الاعتبارات.

(٢٣) رسالة في النبوة والمنامات.

(٢٤) منظومة في رسم خط النستعليق.

(٢٥) علي والفلسفة الإلهية.

(٢٦) القرآن في الإسلام.

(٢٧) الشيعة في الإسلام. (هذا الكتاب).

هذا فضلا عن المقالات المتعددة التي كانت تنشر في المجلات العلمية آنذاك.

لعلّ من أهم آثار العلّامة ومؤلفاته كتابه «الميزان في تفسير القرآن» ويعتبر من التفاسير القيّمة لهذا العصر ، فقد خدم هذا التفسير المجتمع الإسلامي ، كما خدمت التفاسير القيّمة

القديمة المسلمين ، بتناسبها وتلازمها مع العلوم والفلسفة حينئذ ، لفهم معاني القرآن في العصور السالفة.

لقد اتخذ العلّامة نهجا خاصا في تفسيره هذا ، إذ يبتني على نصّ الحديث ، وهو تفسير القرآن بالقرآن.

لقد قضى العلّامة عمرا في خدمة الدين الحنيف ، والمجتمع الإسلامي ، فكان ـ ولا يزال ـ منارا لروّاد الفضيلة والعلم ، فقد أنار الطريق للعديد ممن قرءوا مصنفاته ، وحضروا مجلسه ، فمنحهم روحا علميّة خالصة واتجاها فكريا سليما ، قدس الله سره الشريف وحشره مع آبائه وأجداده محمد وآله ونفع المسلمين بآثاره وعلومه.

جعفر بهاء الدين

مقدمة المؤلف

الكتاب الذي بين أيدينا «الشّيعة في الإسلام» يتحدث عن حقيقة مذهب التشيّع وماهيته ، وهو أحد المذهبين الرئيسيين الإسلاميين «الشيعي والسني».

يستعرض الكتاب ، كيفية نشوء المذهب الشيعي ، وأسلوب التفكير الديني لدى الشيعة ، والمعارف الإسلامية من وجهة نظرهم.

الدّين : لا شك في أن أيّ إنسان يميل في حياته إلى أبناء جنسه ، ولا تخلوا أعماله التي يقوم بها في بيئته ، من صلة بعضها بالبعض الآخر ، كالأكل والشرب ، والسكون والحركة ، والنوم واليقظة ... في الوقت الذي تنفصل كل من هذه الأفعال والحركات عن الأخرى ، تكون مرتبطة بعضها بالبعض ارتباطا وثيقا.

على هذا الأساس ، فإن الأعمال التي يقوم بها الإنسان في حياته ، تتحقق في حدود نظام لا يتعداه ، وتنبع من نظرة معيّنة ، ألا وهي أن الإنسان يريد أن يحيا حياة سعيدة ، يظفر بآماله وأمنياته. وبعبارة أخرى ، يطمح الإنسان قدر استطاعته إلى تحقيق متطلباته بصورة أكمل ، وما ذلك إلّا للحفاظ على وجوده وبقائه.

وانطلاقا من هذه النظرة ، بات الإنسان ينظم أعماله وفق قوانين وأحكام وضعها بميله ، أو اقتبسها من آخرين. وبالتالي نجده يتخذ أسلوبا خاصا في حياته.

فهو يكدّ ويسعى من أجل تأمين متطلبات حياته ، لأنه يعتبرها من الأسس والمقوّمات لها.

فهو يبادر إلى تناول الماء والطعام ، ليسدّ بهما عطشه وجوعه ، لأن الأكل والشرب ، حاجتان ضروريّتان لاستمرار الحياة.

إن هذه القوانين التي تحكم حياة الإنسان ، تبتني على اعتقاد أساسي ، والإنسان يعتمد عليها في بناء علاقاته ، وهو تصوره عن الحياة والكون ، والذي هو جزء منه ، وتأملاته عن حقيقتها ، ويتضح هذا الموضوع بالتأمل في الآراء المختلفة التي يرتئيها الناس في حقيقة العالم.

فالذين يحصرون الوجود في هذا العالم المادّي المحسوس ، ويعدّون الإنسان كائنا ماديا محضا (يحيا بتدفق الحياة في جسمه ، ويفنى بالموت) فإن نظرتهم هذه إلى الحياة نظرة مادية بحتة ، فهم يسعون إلى تحقيق متطلباتهم الماديّة ، ويبذلون في هذا السبيل قصارى جهودهم لتذليل الظروف والعوامل الطبيعية لأغراضهم ومصالحهم الخاصة.

وأما الذين يعتقدون بأن عالم الطبيعة من صنع خالق أعلى شأنا من الطبيعة ، مثل عبدة الأوثان ، فإنهم يذهبون إلى أن العالم مخلوق ، وخاصة الإنسان ، وقد أسبغ الخالق نعمه عليه ، كي ينعم بخيراتها ، فهم ينسقون برامج حياتهم وفقا لرضى الخالق ، مبتعدين عن سخطه وغضبه ، فإذا ما استطاعوا جلب رضاه ، فنعمه موفورة ، مغدقة عليهم ، وإذا زالت النعم فدليل سخطه عليهم.

وهناك من يعتقد بالله سبحانه وحده ، ويرى بأن حياة الإنسان خالدة ، وهو مسئول عن أعماله خيرها وشرها ، ويقرّ بيوم الجزاء (القيامة) كاليهود والنصارى والمسلمين ، فهم يسلكون طريقا في حياتهم ، مراعين فيه هذا الأصل الاعتقادي ، كي يحصلوا على سعادة الدارين ، الدنيا والآخرة.

إن مجموع هذه المعتقدات والأسس (الاعتقاد بحقيقة الإنسان والكون) وما يلازمها من أحكام ، وأنظمة متناسقة ، والتي تدخل في نطاق عملهم في الحياة تسمى ب «المذهب» مثل مذهب التسنن والتشيع في الإسلام ، أو مذهب الملكاني والنسطوري في المسيحية.

وبناء على ما تقدم ، يستحيل على الإنسان ـ وإن كان منكرا لوجود الله تعالى ـ أن يكون في غنى عن الدين (دستور الحياة الذي بني على أصل اعتقادي). فالدين إذن طريقة الحياة التي لا تنفك عنها.

والقرآن الكريم ، يشير إلى أن الإنسان لا بدّ أن ينتهج الدين طريقا له ومسلكا ، وهذا الطريق قد جعله الله تعالى لكافة البشر ، وبانتهاجه يصل إلى الله جلّ وعلا.

ولكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الأفراد ، فأما الذين سلكوا الدين الحقّ وهو الإسلام ، فقد سلكوا طريق الصواب ، وأما الذين مالوا عن هذا الطريق ، فقد ضلوا ضلالا مبينا (١).

__________________

(١) (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً) الآية ٤٤ ، سورة الأعراف.

الإسلام : الإسلام لغة ، هو الانقياد لأمر الآمر ونهيه بلا اعتراض ، وقد أطلق القرآن الكريم ، كلمة الإسلام على هذه الدعوة ، وإطاره العام هو تسليم الإنسان أمام ربّ العالمين (١). وألا يعبد إلا الله الواحد الأحد ، وألّا يتبع إلّا أوامره.

والقرآن الكريم يخبرنا أن إبراهيم الخليل ـ عليه‌السلام ـ هو أوّل من سمّى هذا الدين بالإسلام ، ومتبعيه بالمسلمين (٢).

الشيعة : يراد بها الأتباع ، وتطلق على الذين يرون أن الخلافة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منحصرة في أهل بيته. والمراد منها في المعارف الإسلامية ، التابعون لأهل البيت ـ عليهم‌السلام (٣) ـ.

__________________

(١) (وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) الآية ١٢٥ ، سورة النساء. (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ ، فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) الآية ٦٤ ، سورة آل عمران. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً») الآية ٢٠٨ ، سورة البقرة.

(٢) (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ) الآية ١٢٨ ، سورة البقرة. (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) الآية ٧٨ ، سورة الحج.

(٣) تطلق كلمة الشيعة على طائفة من الزيدية ، التي تقرّ بخلافة الخليفتين الأول والثاني ، قبل الإمام علي عليه‌السلام ، وتتبع فقه أبي حنيفة في الفروع ، والسبب في هذه التسمية ، هو أنهم كانوا يسرون الخلافة لعلي عليه‌السلام وأولاده ، قبال خلافة بني أميّة وبني العباس.

الفصل الأول :

كيفية نشوء

الشيعة وتطورهم

بداية نشوء الشيعة

يجب أن نعلم أن بداية نشوء الشيعة ، والتي سميت لأول مرة بشيعة علي «أول إمام من أئمة أهل البيت (عليهم‌السلام)» وعرفت بهذا الاسم ، كان في زمن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فظهور الدعوة الإسلامية وتقدمها وانتشارها خلال ثلاث وعشرين سنة ، زمن البعثة النبويّة ، أدت إلى ظهور مثل هذه الطائفة بين صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) :

أ ـ في الأيام الأولى من بعثته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر الرسول بنص من القرآن الكريم ، (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢) ، وصرّح في جمعهم أن أوّل من يبايعني على هذا الأمر سيكون خليفتي ووصيي من بعدي ، فكان علي عليه‌السلام أول من تقدم ، وقبل الإسلام ، والنبي قبل إيمانه ،

__________________

(١) أول اسم ظهر في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اسم الشيعة ، واشتهر كل من سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار بهذا اللقب. حاضر العالم الإسلامي ١ : ١٨٨.

(٢) سورة الشعراء الآية ٢١٤.

وتعهّد بكلّ ما وعده به (١) ، ويستحيل عادة على قائد نهضة ، وفي أيامها الأولى أن يعيّن أحد أصحابه وزيرا وخليفة له على الآخرين ، ولا يعرّفه للخلّص من أصحابه وأعوانه ، أو أن يكتفي بهذا الامتياز ليعرفه وليعرّفه ، ولا يطلعه على مهمته طوال حياته ودعوته أو أن يجعله بعيدا عن مسئوليات الوزارة والخلافة ـ بغضّ النظر عن مقام الخلافة ـ وما يجب أن يبدي لها من احترام وتقدير ، ولا يفرّق بينه وبين الآخرين.

ب ـ إن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفقا للروايات المستفيضة والمتواترة عن طريق أهل السنة والشيعة ، والتي يصرّح فيها أن عليا عليه‌السلام مصون من الخطأ والمعصية في أقواله وأفعاله (٢) ، وكل ما يقوم به فهو مطابق للدعوة وللرسالة ، وهو أعلم الناس بالعلوم الإسلامية وشريعة السماء (٣).

__________________

(١) جاء في الحديث عن علي عليه‌السلام : وقلت : ولأني لأحدثهم سنا ، أنا يا نبي الله ، أكون وزيرك عليه ، فأخذ برقبتي ، ثم قال : إن هذا أخي ووصيّ وخليفتي فيكم ، فاسمعوا له وأطيعوا ، قال فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب : قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع. تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٦٣ ـ تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٦ ـ البداية والنهاية ج ٣ : ٣٩ ـ غاية المرام ٣٢٠.

(٢) عن أم سلمة قالت : لقد سمعت رسول الله (ص) يقول : عليّ مع الحق والقرآن ، والحق والقرآن مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. ونقل هذا الحديث ، عن ١٥ طريقا من العامة و ١١ طريقا من الخاصة ورواته أم سلمة ، وابن عباس ، وأبو بكر ، وعائشة ، وعليّ ، وأبو سعيد الخدري ، وأبو ليلى ، وأبو أيوب الأنصاري. غاية المرام ٥٣٩ ـ ٥٤٠. قال رسول الله (ص) : رحم الله عليا دار الحق معه حيث دار. البداية والنهاية ج ٧ : ٣٦٠.

(٣) عن علقمة قال : كنت عند رسول الله (ص) ، فسئل عن عليّ فقال : قسمت الجنة عشرة أجزاء ، أعطى عليّ تسعة والناس جزءا واحدا.

ج ـ قام الإمام علي عليه‌السلام بخدمات جمة للرسالة وتضحيات مدهشة (١) ، كمنامه في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة الهجرة. فلو لم يكن الإمام علي عليه‌السلام مشاركا في إحدى غزوات بدر وأحد والخندق وخيبر ، لما حقق الإسلام ولا المسلمون انتصاراتهم المظفرة. ولكان القتل والفشل حليفهم (٢).

د ـ موضوع غدير خم ، والذي أعلن فيه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الولاية العامة لعلي عليه‌السلام فجعل لعلي على المسلمين ما كان له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم (٣).

من الطبيعي ، أن هذه الخصائص والفضائل التي انفرد بها الإمام علي عليه‌السلام ، والتي هي مورد اتفاق الجميع (٤). والمودّة الخاصة (٥) ، التي كان يبديها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. جعلت له مؤيدين ومحبّين مخلصين ، من صحابة النبي وأنصاره ، كما أثارت لدى البعض الآخر الحقد والحسد.

__________________

(١) عند ما قرر كفار مكة قتل محمد (ص) وحاصروا بيته ، صمّم النبي (ص) أن يهاجر إلى المدينة ، فقال لعلي : هل أنت مستعد أن تبيت في فراشي حتى يظنوا بأنني نائم ، فأكن في مأمن منهم ، وافق علي (ع) على الاقتراح بكل سرور.

(٢) راجع كتب التاريخ والحديث.

(٣) حديث الغدير من الأحاديث المتفق عليه سنة وشيعة ، وقد نقل هذا الحديث أكثر من مائة صحابي بأسانيد وعبارات مختلفة ، وهي مدونة في كتب العامة والخاصة ، لمزيد من التفصيل يراجع كتاب غاية المرام صفحة ٧٩ وكتاب العبقات مجلد الغدير. وكذا كتاب الغدير.

(٤) تاريخ اليعقوبي طبع النجف الأشرف ، المجلد الثاني صفحة ١٣٧ ـ ١٤٠ / تاريخ أبي الفداء المجلد الأول ص ١٥٦ / صحيح البخاري ج ٤ : ١٠٧ / مروج المذهب ج ٢ : ٤٣٧ ابن أبي الحديد ج ١ : ١٢٧ و ١٦١.

(٥) صحيح مسلم ج ٥ : ١٧٦ / صحيح البخاري ج ٤ : ٢٠٧ / مروج الذهب ج ٢ : ٤٣٧ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٢٧ و ١٨١.

وفضلا عن هذا كلّه ، فإن كلمة «شيعة علي» و «شيعة أهل البيت» قد جاءت في كثير من أقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌(١).

سبب انفصال الأقليّة الشيعية عن أكثرية السّنة ، وظهور الاختلافات

كان شيعة علي عليه‌السلام وأصحابه يعتقدون اعتقادا راسخا أن الخلافة ستكون لعلي عليه‌السلام بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لما كان يتسم به عليه‌السلام من مقام ومنزلة لدى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والصحابة والمسلمين ، وظواهر الأمور والحوادث تؤيد ذلك ، باستثناء ما حدث في أيام مرضه الأخير صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

__________________

(١) عن جابر بن عبد الله قال ، كنا عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأقبل علي بن أبي طالب ، فقال النبي قد أتاكم أخي ، ثم التفت إلى الكعبة فضربها بيده ثم قال والذي نفسي بيده ، إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة. عن ابن عباس ، قال : لما نزلت هذه الآية (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) قال النبي : هم أنت وشيعتك تأتي أنت وشيعتك يوم القيامة راضين مرضيين. وقد ورد هذان الحديثان وأحاديث أخرى في كتاب الدرّ المنثور ج ١ : ٣٧٩ وغاية المرام صفحة ٣٢٦.

(٢) لما مرض رسول الله (ص ؛ مرض الموت ، دعا أسامة بن زيد بن حارثة ، فقال : سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل ، فقد وليتك على هذا الجيش وإن ظفرك الله بالعدوّ ، فاقلل اللبث ، وبثّ العيون وقدم الطلائع ، فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين والأنصار إلّا كان في ذلك الجيش ، منهم أبو بكر وعمر ، فتكلم قوم وقالوا : يستعمل هذا الغلام على جلّة المهاجرين والأنصار ، فغضب رسول الله (ص) لما سمع ذلك وخرج عاصبا رأسه ، فصعد المنبر وعليه قطيفة ، فقال : أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة ، لئن طعنتم في تأميري أسامة ، فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله ، وايم الله إن كان لخليفا بالإمارة ، وابنه من بعده لخليق بها وإنهما لمن أحبّ الناس إليّ ، فاستوصوا خيرا ... شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ١٥٩.

قال رسول الله (ص) لما حضرته الوفاة : «ائتوني باللوح والدواة ، أو بالكتف والدواة ، أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده» فقالوا : «إن رسول الله ليهجر». ـ

ولكن الذي حدث هو غير ما كانوا يتوقعونه ، ففي الوقت الذي التحق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالرفيق الأعلى ، ولم يغسل جسده الطاهر ، ولم يدفن بعد ، وحينما كان أهل البيت وعدد من الصحابة منصرفين إلى العزاء ، وإجراء المقدمات اللازمة له ، إذ وصلهم نبأ انصراف جماعة قليلة لتعيين الخليفة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذه القلة التي غلبت الكثرة ، قد بادرت بهذا الأمر عجالة ، دون استشارة أهل البيت ، وأقرباء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعشيرته وصحابته الذين وجدوا أنفسهم أمام أمر واقع (١) ، وبعد أن فرغ الإمام علي عليه‌السلام ، ومن معه من الصحابة (كابن عباس والزبير وسلمان وأبي ذر والمقداد وعمّار) من دفن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعلموا بالذي حدث ، فرفعوا علم المعارضة ، وانتقدوا القائمين بهذا الأمر ، وأبدوا اعتراضهم للخلافة الانتخابية ، بإقامتهم جلسات متعددة ، والجواب الذي سمعوه هو أن صلاح المسلمين كان في الذي حدث (٢).

فهذا الانتقاد والاعتراض أدّى إلى انفصال الأقلية عن الأكثريّة ، واشتهر أصحاب الإمام علي عليه‌السلام باسم «شيعة علي»! فالقائمون

__________________

ـ تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٣٦ / صحيح البخاري ج ٣ / صحيح مسلم ج ٥.

البداية والنهاية ج ٥ : ٢٢٧ / ابن أبي الحديد ج ١ : ١٣٣.

وقد تكررت مثل هذه الحادثة في مرض موت الخليفة الأول ، وقد أوصى بخلافة عمر ، وأغمي عليه في أثناء وصيته ، فلم يعترض عمر على الأمر ، وثم ينسب إليه الهذيان ، في حين أنه أغمي عليه في أثناء الوصية ، علما بأن النبي (ص) معصوم ، ولم يفقد وعيه حتى آخر لحظة من لحظات حياته. روضة الصفا ج ٢ : ٢٦٠.

(١) شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ٥٨ و ١٢٣ ـ ١٣٥ ـ تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠٢ ـ تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٤٥ ـ ٤٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠ ـ ١٠٦ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥٦ و ١٦٦.

مروج الذهب ج ٢ : ٣٠٧ و ٣٥٢ / ابن أبي الحديد ج ١ : ١٧ و ١٣٤.

بأمور الخلافة ، كانوا يسعون ـ وفقا للسياسة آنذاك ـ ألّا يشتهر هؤلاء الأقلية بهذا الاسم ، وألّا ينقسم المجتمع إلى أقلية وأكثرية ، فكانوا يعتبرون الخلافة إجماعا ، ويطلق على المعارض لها ، متخلفا عن البيعة ، ومتخلفا عن جماعة المسلمين ، وأحيانا كان يوصف بصفات بذيئة أخرى (١).

وفي الحقيقة ، أن الشيعة قد حكم عليها بالتخلف عن الجماعة منذ الأيام الأولى ، ولم تستطع أن تكسب شيئا منذ أن أبدت معارضتها ، والإمام علي عليه‌السلام لم يعلنها ثورة وحربا ، رعاية لمصلحة الإسلام والمسلمين ، ولفقدانه للأنصار بالقدر المطلوب ، إلا أن هؤلاء المعارضين لم يستسلموا للأكثرية من حيث العقيدة ، وكانوا يرون أن الخلافة والمرجعية العلمية هي حق مطلق للإمام علي عليه‌السلام (٢) فكان رجوعهم في القضايا العلمية والمعنوية إليه وحده ، وكانوا يدعون إلى هذا الأمر (٣).

__________________

(١) قال عمر بن حريث لسعد بن زيد ... قال : فخالف عليه أحد؟ قال : لا ، إلّا مرتد أو من قد كاد أن يرتدّ. تاريخ الطبري ج ٢ : ٤٤٧.

(٢) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني قد تركت فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي ، أحدهما أكبر من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، إلا أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض. وقد روى هذا الحديث أكثر من ١٠٠ طريق عن ٣٥ شخصا من صحابة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. يراجع العبقات مجلد الثقلين ـ غاية المرام صفحة ٢١١.

قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنا مدينة العلم وعليّ بابها ، فمن أراد العلم فليأتها من قبل بابها. البداية والنهاية ج ٧ : ٣٥٩.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٠٥ ـ ١٥٠.

موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة

كان الشيعة يعتقدون أن ما يهمّ المجتمع أولا وقبل كل شيء هو تبيان وتوضيح التعاليم الإسلامية (١). ومن ثم نشرها في المجتمع ، وبعبارة أخرى هي نظرة المجتمع إلى العالم والإنسان نظرة واقعية ، والوقوف على الواجبات والوظائف الإنسانية (بالشكل الذي يكون فيه الصلاح الحقيقي) والقيام بها ، وإن كانت مخالفة لإهوائهم وميولهم.

هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قيام حكومة دينية ليس إلا لتنفيذ الأحكام الإسلامية في المجتمع ، والحفاظ عليها ، بحيث لا يعبد الناس إلا الله جلّ وعلا. وأن يحظوا بحرّية تامة وعدالة فردية واجتماعية ، وهاتان المهمتان يجب أن تناطا إلى شخص يتسم بالعصمة والرعاية الإلهية ، إذ من المحتمل أن يتعهد هذه المسئولية أناس لم يسلموا من الانحراف الفكري والعقائدي ، ولم ينزّهوا من الخيانة. وتتحول العدالة التي تمنح الحرية الإسلامية إلى ملوكية موروثة مستبدة ، كملوكية كسرى وقيصر ، وتتعرض التعاليم الإسلامية المنزهة إلى تحريف ، كتعاليم الأديان السماوية الأخرى ، ولا تكون بمأمن من العلماء الذين قد ركبوا أهواءهم. فالشخص الوحيد الذي قد نهج نهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أعماله

__________________

(١) كتاب الله والسنة النبوية وأئمة أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ خير دليل على تحريضهم لاكتساب العلم وقول النبي (ص) خير شاهد إذ يقول : «طلب العلم فريضة على كل مسلم) البحار ج ١ : ٥٥.

وأفعاله ، وكان سديدا في سيرته ، متبعا لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اتباعا كاملا هو الإمام علي عليه‌السلام (١).

وإذا كانوا يحتجون بأن قريشا كانت تعارض حكومة علي عليه‌السلام الحقة وخلافته ، كان لزاما عليهم أن يوجّهوا المخالفين التوجيه الحسن ، وأن يرشدوهم إلى طريق الحقّ والصواب ، كما فعلوا مع ممتنعي الزكاة ، فحاربوهم ، ولم يتوانوا عن أخذ الزكاة منهم ، لا أن يدحضوا الحقّ خوفا من مخالفة قريش.

نعم ، ان السبب الذي دفع الشيعة لمعارضة الخلافة الانتخابية ، هو الخوف من عواقبها الوخيمة ألا وهي فساد وسقم الطريقة التي ستتخذها الحكومة الإسلامية ، وما يلازمها من انهدام الأسس العالية للدين. وقد أوضحت الحوادث المتتالية صحة هذه العقيدة بمرور الزمان والأيام ، أكثر فأكثر ، مما أدّى بالشيعة إلى أن تكون ثابتة في عقيدتها ، مؤمنة بأهدافها. علما بأنها كانت أقلية. إلا أن هذه الأقلية قد ذابت في الأكثرية ظاهرا ، ولكنها بقيت تستلهم التعاليم الإسلامية من أهل البيت باطنا ، وكانت متفانية في نهجها وطريقها. وفي الوقت ذاته كانت تسعى في التقدم والرقيّ ، والحفاظ على قدرة الإسلام وعظمته ، فلم تبد مخالفتها علنا وجهارا. وكانت الشيعة تذهب إلى الجهاد سيرا مع الأكثرية ، ولا تتدخل في الأمور العامة ، وكان الإمام علي عليه‌السلام يرشد الأكثرية لما فيه نفع الإسلام (٢) ، ومصلحة المسلمين.

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٧ : ٣٦٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي صفحة ١١١ و ١٢٦ و ١٢٩.

الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية ، ومخالفتها للفكر الشيعي

كان الشيعة يعتقدون أن شريعة الإسلام السماوية التي تعيّنت مضامينها في كتاب الله وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستبقى خالدة إلى يوم القيامة دون أن يصيبها تغيير أو تحريف (١).

والحكومة الإسلامية لا يحقّ لها بأيّ عذر أن تتهاون في إجراء الأحكام إجراء كاملا. فواجب الحكومة الإسلامية هو أن تتخذ الشورى في نطاق الشريعة ووفقا للمصلحة ، ولكن ما حدث من واقعة البيعة السياسية ، وكذا حادثة الدواة والقرطاس ، والذي حدث في أخريات أيام مرض النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لدليل واضح على أن المدافعين عن الخلافة الانتخابية كانوا يعتقدون أن كتاب الله وحده يجب أن يحفظ ويحتفظ به كقانون. أما السنة وأقوال النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليس لها ذلك الاعتبار ، وهم على اعتقاد أن الحكومة الإسلامية تستطيع أن تضع السنة جانبا إذا اقتضت المصلحة ذلك.

وهذه العقيدة تؤيدها روايات نقلت في خصوص الصحابة تقول بأن (الصحابة ذوو اجتهاد ، فإذا ما أصابوا في اجتهادهم فإنهم مأجورون وإذا ما أخطئوا فهم معذورون) ، وخير دليل على ذلك ، ما حدث لخالد بن الوليد ، وهو أحد القادة عند الخليفة ، إذ دخل

__________________

(١) قوله تعالى في كتابه العزيز : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) ، (سورة فصلت الآية ٤١ ، ٤٢).

ويقول في سورة يوسف (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) أي أن الشريعة هي شريعة الله والتي تصل إلى الناس عن طريق النبوة ، إذ يقول (وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) الأحزاب الآية ٤٠. وهو القائل أيضا (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) سورة المائدة الآية ٤٤.

ضيفا على أحد مشاهير المسلمين (مالك بن نويرة) ليلا. وتربّص له فقتله ، ووضع رأسه في التنور وأحرقه ، وفي الليلة ذاتها واقع زوجة مالك ، وبعد هذه الجناية التي يندى لها الجبين ، لم يجر الخليفة الحدّ عليه ، متذرعا بعذر : ألا وهو أن حكومته بحاجة إليه (١).

وكذا الامتناع من إعطاء الخمس لأهل البيت وأقرباء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ومنع كتابة أحاديث النبي الكريم منعا باتا ، وإذا ما عثر على حديث مكتوب عند شخص كان يحرق (٣) وكانت هذه السنة قائمة طوال خلافة الخلفاء الراشدين ، وحتى زمن خلافة عمر بن عبد العزيز (٤) الخليفة الأموي (٩٩ ـ ١٠٢) وقد تجلت هذه السياسة في خلافة الخليفة الثاني (١٣ ـ ٢٥) للهجرة.

إذ ألغى بعض أحكام الشريعة مثل : حج التمتع ونكاح المتعة ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١٠ ـ تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥٨.

(٢) الدرّ المنثور ج ٣ : ١٨٦ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ٤٨ وفضلا عن هذا كله فإن وجوب الخمس صريح في القرآن الكريم (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى) سورة الأنفال ، الآية ٤١.

(٣) جمع أبو بكر في زمن خلافته خمسمائة حديثا ، تقول عائشة وجدت أبي مضطربا ذات ليلة حتى الصباح فقال لي في الصباح آتيني الأحاديث ، فأحرقها جميعا.

كنز العمال ج ٥ : ٢٣٧ كتب عمر إلى البلدان.

كنز العمال ج ٥ : ٢٣٧. يقول محمد بن أبي بكر : إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بحرقها. طبقات ابن سعد ج ٥ : ١٤٠.

(٤) تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٥١ وغيره.

وذكر (حيّ على خير العمل) (١) في الأذان ، وجعل الطلاق ثلاثا نافذ الحكم ، وغيرها (٢) ، وفي زمن خلافته كان بيت المال يوزع بين الناس مع تباين (٣) والذي أدّى إلى ظهور طبقات مختلفة بين المسلمين ، تثير الدهشة والقلق ، وكان من نتائجها وقوع حوادث دامية مفزعة ، وفي زمنه كان معاوية في الشام يتمتع بسلطان لا يختلف عن سلطنة كسرى وقيصر ، وقد سماه الخليفة بكسرى العرب ، ولم يتعرض له بقول ، ولم يردعه عن أعماله.

وبعد أن قتل الخليفة الثاني على يد غلام فارسي ، ووفقا لأكثرية آراء الشورى البالغ عددهم ستة أعضاء والذي تم تشكيله بأمر من الخليفة عيّن الخليفة الثالث ، فعيّن أقرباءه الأمويين ولاة وأمراء ، فجعل منهم الولاة في كلّ من الحجاز والعراق ومصر وسائر البلدان الإسلامية ، فكانوا جائرين في حكمهم ، عرفوا بشقاوتهم وظلمهم وفسقهم وفجورهم ، نقضوا القوانين الإسلامية الجارية. فالشكاوى كانت تنهال على دار الخلافة ، ولكن الخليفة

__________________

(١) شرع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجة الوداع فعمل الحج للحجاج القادمين من مكان بعيد وفقا للآية (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ ...) بشكل خاص ، فمنع ذلك عمر في زمن خلافته ، وكذلك المتعة كانت قائمة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمنعها عمر في أيام خلافته ، وأمر بإقامة الحدّ على المخالفين ، وأما ذكر (حيّ على خير العمل) فكان يذكر في عهد الرسول العظيم ، في أذان الصلاة ، ولكن عمر في خلافته قال إن هذه العبارة تقعد الناس عن الجهاد ، فأبدلها بأخرى ، وكذا موضوع الطلاق فما كان على عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الطلاق إذا تعدد في مجلس واحد ، فليس له اعتبار ، ويعد طلاقا واحدا. ولكن عمر أجاز الطلاق الثلاث في مجلس واحد. فالمسائل هذه ونظائرها قد وردت في كتب الحديث والفقه والكلام لدى الفريقين السنة والشيعة.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٣١ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٠.

(٣) أسد الغابة ج ٤ : ٣٨٦ / الإصابة ، المجلد الثالث. ـ

الثالث كان متأثرا لما تربطه بهم من صلة القربى ، وخاصة مروان بن الحكم (٣) ولم يهتم بشكاوى الناس ، وكان أحيانا يعاقب الشكاة (٤) فثار الناس عليه سنة ٣٥ للهجرة ، وبعد محاصرة منزله ، وصراع شديد قتلوه.

كان الخليفة الثالث يؤيد وإليه على الشام تأييدا مطلقا وهو أحد أقاربه الأمويين (معاوية) وكان يدعم موقفه بتأييده المستمر

__________________

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٠ / تاريخ الطبري ج ٣ : ١٩٧ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٦٨.

(٤) ثار جماعة من أهل مصر على عثمان ، فأحس عثمان بالخطر ، فندم ، وطلب من علي بن أبي طالب العون والمساعدة. فقال عليّ : لأهل مصر أن معارضتكم هذه لم تكن إلا لإحياء الحق ، وقد ندم عثمان وتاب وهو القائل إنني تائب مما مضى ، وسأنجز لهم ما طلبوه خلال مدة أقصاها ثلاثة أيام ، من عزل الولاة الجائرين ، فكتب الإمام علي عليه‌السلام معاهدة من جانب عثمان ، فعاد الجمع إلى بلادهم. وفي أثناء الطريق ، شاهدوا غلام عثمان ، وهو راكب جمل عثمان متجها إلى مصر فأساءوا الظنّ به ، ففتشوه ، فوجدوا لديه رسالة من عثمان لواليه على مصر ، وقد حررت فيها ما مضمونه : عند وصول عبد الرحمن بن عديس إليك. وهو أحد المعارضين لعثمان ـ اجلده مائة جلدة ، واحلق شعر رأسه ولحيته ، واحكم عليه بالسجن لمدة مديدة ، واعمل مثل هذا مع كل من عمرو بن حمق وسودان بن حمران وعروة بن نباع.

أخذوا الرسالة من الغلام ، وعادوا إلى عثمان ساخطين ، فقالوا له : أنت أبطنت لنا الخيانة ، فعرضت عليه الرسالة ، فأنكرها عثمان ، قالوا له : إن غلامك كان يحملها ، أجاب ، قد قام بهذا العمل دون إذن مني ، قالوا له : كان راكبا جملك ، قال عثمان : قد سرق جملي. قالوا له : الرسالة بخط كاتبك ، أجاب ، كتبت دون علمي ، قالوا ، فعلى أية حال ، الخلافة لا تليق بك : ويجب أن تستقيل من مقامك ، لأن الأمر هذا لو كان على علم منك ، فإنك خائن ، وإن لم يكن على علم منك ، فلست جديرا بالخلافة وبهذا يثبت عدم صلاحيتك لهذه المهمة ، فإما أن تتخلى عن الخلافة وتستقيل ، وإما أن تعزل الولاة الظالمين ، فأجاب عثمان : لو أردتم أن أكون كما تريدون ، إذن فمن الخليفة وصاحب الأمر؟! أنا أم أنتم؟! فنهضوا من مجلسه ساخطين عليه.

جاءت هذه الواقعة في كتاب تاريخ الطبري المجلد الثالث في صفحة ٤٠٢ وحتى ٤٠٩ ، ووردت ملخصة هنا من قبل المؤلف. كلمة المترجم.

له. وفي الحقيقة كان ثقل الخلافة في الشام ، ولم تكن المدينة (مركز الخلافة) إلا شكلا ظاهرا (١).

فخلافة الخليفة الأول قد استقرت بعد بيعة أكثرية الصحابة له ، والخليفة الثاني عيّن من قبل الخليفة الأول ، والخليفة الثالث انتخب من الأعضاء الستة للشورى الذين عيّنهم الخليفة الثاني.

فكانت سياسة هؤلاء الخلفاء الثلاثة في الأمور وشئون الناس أن ينفذوا القوانين الإسلامية في المجتمع وفقا للاجتهاد والمصلحة آنذاك ، ووفقا لما يرتئيه مقام الخلافة ، فالقرآن يقرأ دون تفسير أو تدبّر وأقوال الرسول الأكرم العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (الحديث) تروى دون أن تكتب على قرطاس ، ولا تتجاوز حدّ الأذن واللسان فكانت الكتابة مختصة بالقرآن الكريم ، والحديث لا يكتب على الإطلاق (٢).

وبعد معركة اليمامة والتي انتهت في سنة ١٢ للهجرة بمقتل جمع من الصحابة كانوا من حفظة القرآن ، اقترح عمر بن الخطاب على الخليفة الأول أن يجمع القرآن في مصحف ، ويبين الهدف والغرض من اقتراحه بقوله : إذا ما حدثت معركة أخرى ، واشترك فيها بقية حملة القرآن وحفظته ، فسوف يذهب القرآن من بين أظهرنا ، إذن ينبغي جمع آيات القرآن في مصحف ، تكتب آياته (٣) ، فنفذوا هذا الاقتراح بالنسبة للقرآن الكريم.

__________________

(١) تاريخ الطبري ج ٣ : ٣٧٧.

(٢) صحيح البخاري ج ٦ : ٩٨ / تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١٣.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١١١ / الطبري ج ٣ : ١٢٩ ـ ١٣٢.

ومع أن الأحاديث النبوية هي التالية للقرآن ، وكانت تواجه نفس الخطر ، ولم تكن بمأمن من خطر نقل معنى الحديث ، دون الالتفات إلى النص ، وكذا الزيادة والنقصان ، والتحريف والنسيان ، وما إلى ذلك من الأخطار التي كان يواجهها الحديث ، فلم توجه عناية أو رعاية لحفظه وصيانته ، بل كانت كتابة الحديث ممنوعة ، وإذا ما حصلوا على شيء منه فكان يلقى في النار.

ولم تمض فترة من الزمن حتى ظهر الاختلاف في المسائل الإسلامية الضرورية كالصلاة ، ولم يطرأ تقدم في بقية الفروع العلمية في هذه الفترة ، في حين نرى القرآن الكريم يشجع المشتغلين بالعلم ، وأحاديث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تؤيد ذلك ، فلم ير لتلك الآيات والأحاديث مصداقا في الخارج ، وانصرف أكثر الناس إلى الفتوحات المتعاقبة ، وفرحوا بالغنائم المتزايدة ، والتي كانت تتدفق إلى الجزيرة العربية من كل حدب وصوب ، ولم يكن هناك اهتمام بعلوم سلالة الرسالة ومعدن الوحي ، وفي مقدمتهم علي عليه‌السلام. والنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد صرح معلنا أن عليا أعرف الناس بالعلوم الإسلامية ، والمفاهيم القرآنية ، ولم يسمحوا له بالمشاركة في جمع القرآن (وهم على علم من أن عليا بعد وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان جليس داره يجمع القرآن) ولم يذكر اسمه في أنديتهم واجتماعاتهم (١).

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ابن أبي الحديد ج ١ : ٩.

وقد ورد في روايات كثيرة أنه أرسل على عليّ عليه‌السلام بعد انعقاد البيعة لأبي بكر ، وطلب منه البيعة ، فأجابه بأنني عاهدت نفسي ألا أخرج من داري سوى وقت الصلاة حتى أكمل جمع القرآن ، ويروى أيضا ، أن عليا بايع أبا بكر بعد ستة أشهر ، وهذا دليل على ـ

إن هذه الأمور ونظائرها ، أدّت بشيعة عليّ إلى أن يقفوا موقفا أكثر وعيا وأرسخ عقيدة ، وأشد نشاطا ، ولما كان علي عليه‌السلام بعيدا عن ذلك المقام الذي يجعله مشرفا على التربية العامة للناس ، انصرف إلى تربية الخاصة من شيعته وأنصاره.

انتهاء الخلافة إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام وسيرته

بدأت خلافة علي عليه‌السلام في أواخر سنة خمس وثلاثين للهجرة ، واستمرت حوالى أربع سنوات وتسعة أشهر ، وكان في سيرته مماثلا لسيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، أعاد معظم المسائل التي حدثت في زمن الخلفاء السابقين إلى حالتها الأولى ، وعزل الولاة غير الكفوءين (٢). وفي الحقيقة ، أحدث انتفاضة ثورية ، كانت تنطوي على مشاكل متعددة.

والإمام علي عليه‌السلام في الأيام الأولى من خلافته وقف مخاطبا الناس قائلا : «ألا وإنّ بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والذي بعثه بالحقّ لتبلبلنّ بلبلة ، ولتغربلنّ غربلة ولتساطنّ سوط القدر ، حتى يعود أسفلكم أعلاكم ، وليسبقنّ سابقون كانوا قصروا ، وليقصرنّ سبّاقون كانوا سبقوا» (٣).

__________________

ـ جمعه للقرآن ، ويروى أيضا أن عليا بعد انتهائه من جمع القرآن ، حمل القرآن على ناقة وجاء به إلى الناس ويروى أيضا ، أن معركة اليمامة كانت في السنة الثانية من خلافة أبي بكر ، وبعد انتهاء المعركة جمع القرآن ، كل هذه تشير إليها كتب التاريخ والحديث التي تعرضت لموضوع جمع القرآن.

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٤.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٥ / مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٤.

(٣) نهج البلاغة خطبة رقم ١٥.

استمر الإمام علي عليه‌السلام في حكومته الثورية ، فرفعت أعلام المعارضة من قبل المخالفين ، كما هي طبيعة الحال في كل ثورة ، إذ لا بدّ من مناوئين ، يرون مصالحهم في خطر ، فأحدثوا حربا داخلية دامية ، بحجة الأخذ بثأر دم عثمان والتي استمرت طوال خلافة الإمام علي عليه‌السلام تقريبا. ويعتقد الشيعة أن المسببين لهذه الحروب لم يريدوا سوى منافعهم الخاصة ، ولم يكن الثأر بدم عثمان إلا ذريعة يتمسكون بها ، ليحرّضوا عوام الناس للمعارضة والنهوض ضد إمام الأمة وخليفتها ، إذ أن هذه المعارضة لم تحدث عن سوء تفاهم (١).

وما الأسباب والدوافع التي خلقت معركة الجمل إلّا غائلة الاختلاف الطبقي ، والتي وجدت في زمن الخليفة الثاني أثر توزيع الأموال من بيت المال بطرق متباينة ، وبعد خلافة علي عليه‌السلام كانت

__________________

(١) بعد وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم امتنع جمع قليل من شيعة علي من البيعة وكان في مقدمتهم من الصحابة سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار ، وفي أوائل خلافة علي عليه‌السلام امتنع من البيعة جماعة ، مثل سعيد بن العاص والوليد بن عقبة ومروان بن الحكم وعمرو بن العاص وبسر بن أرطاة وسمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة وغيرهم.

وعند دراسة حياة هذين الفريقين ، والتأمل في أعمالهم طوال حياتهم ، وما احتفظ به التاريخ من قصص ، يتضح جليا كنه شخصيتهم وأهدافهم ، فالفريق الأول كان من أصحاب النبي الأكرم (CS (المقربين ، واشتهروا بزهدهم وعبادتهم وتضحيتهم للإسلام ، قال رسول الله (ص) : إن الله أمرني بحبّ أربعة وأخبرني أنه يحبّهم ، قيل يا رسول الله من هم ، قال : عليّ منهم (قال ذلك ثلاثا) وأبو ذر وسلمان والمقداد.

سنن ابن ماجه ج ١ : ٥٣.

عن عائشة قالت : قال رسول الله (ص) : ما عرض على عمار أمران إلا اختار الأرشد منهما. سنن ابن ماجة ج ١ : ٥٢.

الأموال توزع بين الناس بالسويّة (١) ، كما كان يفعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حياته ، والطريقة هذه أثارت غضب «الزبير» و «طلحة» فتمردا ، وخرجا من المدينة إلى مكة بحجّة الحجّ ، فاتفقا مع أمّ المؤمنين (عائشة) التي كانت في مكة ، ولم يكن بينها وبين عليّ صفاء ومودة ، أن يطالبوا بدم عثمان ، فأضرموا نار الحرب (٢).

علما بأن «طلحة» و «الزبير» كانا في المدينة عند ما حوصرت دار الخليفة الثالث ، فلم يدافعا عنه ، ولم ينصراه (٣) ، وبعد مقتله ، كانا من الأوائل الذين بايعوا عليا أصالة عن أنفسهم ونيابة عن المهاجرين (٤).

وأما أمّ المؤمنين «عائشة» فقد كانت ممن حرّضوا الناس على قتل الخليفة الثالث (٥) ، وعند ما سمعت نبأ مقتله لأول مرة ، قالت : بعدا وسحقا ، وفي الحقيقة أن المسببين الأصليين لمقتل الخليفة كانوا من الصحابة ، وذلك بإرسال الرسائل إلى البلدان لغرض إثارة الناس على الخليفة.

وأما السبب الذي أحدث حرب صفين ، والتي استمرت سنة ونصف السنة ، فهو طمع معاوية في الخلافة ، فأجّج نارها متذرعا بدم عثمان ، فأريقت الدماء ، وقتل ما يقارب من مائة ألف ، وكان موقف معاوية من هذه الحرب موقف المهاجم ، وليس موقف المدافع ، لأن الثأر لا يكون دفاعا.

__________________

(١) مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٢ / نهج البلاغة ، خطبة رقم ١٢٢ / اليعقوبي ٢ : ١٦٠. ابن أبي الحديد ج ١ : ١٨٠.

(٢) اليعقوبي ج ٢ / أبي الفداء ج ١ : ١٧٢ / مروج الذهب ج ٢ : ٣٦٦.

(٣) اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢.

(٤) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٤ / تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٧١.

(٥) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢.

وكان شعار هذه الحرب ، المطالبة بدم عثمان ، علما بأن الخليفة الثالث قد طلب المساعدة والعون من معاوية لردّ الهجوم ، وتحرك جيش معاوية من الشام متجها إلى المدينة ، ولكنه تباطأ في سيره حتى قتل عثمان ، وعندئذ رجع إلى الشام يطالب بدم عثمان (١).

وبعد أن استشهد الإمام علي عليه‌السلام ، تناسى معاوية قتلة الخليفة ؛ ولم يعاقبهم. وبعد حرب «صفين» اندلعت نار حرب «النهروان» فثار جمع من الناس وفيهم بعض الصحابة بإيعاز من معاوية فثاروا على عليّ عليه‌السلام ، فرحلوا إلى البلدان الإسلامية ، وقتلوا كل من كان يدافع عن علي عليه‌السلام ففتكوا بالنساء الحوامل ، مثلوا بهنّ وبأجنتهن (٢).

والإمام علي عليه‌السلام قد أخمد هذه الغائلة ، ولكن بعد فترة استشهد في مسجد الكوفة أثناء الصلاة ، على يد الخوارج.

ما حصل عليه الشيعة طوال خلافة الإمام عليّ عليه‌السلام

الإمام علي عليه‌السلام طوال خلافته لأربع سنوات وتسعة أشهر ، وإن

__________________

(١) ... فكتب إلى معاوية يسأل تعجيل القدوم عليه ، فتوجه إليه في اثني عشر ألفا ، ثم قال : كونوا بمكانكم في أوائل الشام ، حتى آتي أمير المؤمنين لأعرف صحة أمره ، فآتى عثمان ، فسأله عن المدة فقال : قد قدمت لأعرف رأيك وأعود إليهم فأجيئك بهم. وقال : لا والله ، ولكنك أردت أن أقتل فتقول : أنا وليّ الثأر ، ارجع ، فجئني بالناس! فرجع ، فلم يعد إليه حتى قتل. تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٥٢ / مروج الذهب ج ٣ : ٢٥ / الطبري ص ٤٠٢.

(٢) مروج الذهب ج ٢ : ٤١٥.

لم يوفق لإعادة الأوضاع المضطربة إلى حالتها الطبيعية ، إلا أنه قد وفق في ثلاث مسائل أساسية :

أ ـ استطاع أن يظهر شخصية النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المضيئة بسيرته العادلة للناس ، وخاصة الشباب ، فقد كان يواسي أفقر الناس في عيشه ، أمام تلك الأبهة التي كان يتصف بها معاوية ، إذ كان لا يقل عن كسرى وقيصر ، فالإمام علي عليه‌السلام لم يقدّم أحدا من أصدقائه وأقربائه وعشيرته على الآخرين ، ولم يرجع الغني على الفقير ، ولا القوي على الضعيف.

ب ـ مع كثرة المشاكل المنهكة للقوى ، فقد استطاع أن يضع في متناول أيدي المسلمين الذخائر القيّمة من المعارف الإلهية والعلوم الإسلامية الحقّة.

وأما ما يقوله المخالفون لعلي عليه‌السلام : إنه كان رجلا شجاعا ، ولكن ليس له علم بالسياسة ، إذ كان يستطيع في بداية خلافته أن يرضي مخالفيه مؤقتا عن طريق المداهنة ، وبعد أن يستتب له الأمر كان باستطاعته أن يحاربهم ويقضي عليهم :

فهؤلاء قد غفلوا عن ملاحظة هامة وهي أن خلافة عليّ كانت نهضة ثورية ، وجدير بالنهضات ، الثورية ، أن تكون بعيدة كل البعد عن المداهنة والرياء ، وقد حدث مثيلها في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوائل بعثته ، فطلب الكفار والمشركون منه الصلح عدة مرات وطلبوا منه ألا يتعرض لآلهتهم ، وهم ملزمون بعدم التعرض لدعوته أيضا ، ولكن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رفض هذا الاقتراح ، في حين أنه كان يستطيع أن يقيم معهم الصلح ، ويحكم موقفه ، ثم ينهض بوجه

أعدائه ، وفي الحقيقة أن الدعوة الإسلامية لن تسمح بإضاعة حق لإقامة حق آخر ، أو أن تزيل باطلا بباطل آخر. وفي القرآن آيات كثيرة في هذا الخصوص (١).

علما بأن أعداء علي عليه‌السلام ومخالفيه ، لم يرتدعوا عن القيام بأيّ جرم وجناية ونقض للقوانين الإسلامية الصريحة (دون استثناء) بغية الوصول إلى أهدافهم ، فكانوا يبررون مواقفهم وأعمالهم بأنهم من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن مجتهدي الأمة ، ولكن الإمام علي عليه‌السلام كان ملتزما بالأحكام الإسلامية.

ويروى عن عليّ عليه‌السلام ما يقارب من إحدى عشرة ألف كلمة قصيرة في المسائل العقلية والاجتماعية والدينية (٢) وخطبه وكلماته البليغة (٣) مليئة بالمعارف الإسلامية (٤) ، وهو الذي أسس قواعد اللغة العربية ، ووضع الأسس والمقومات للأدب العربي ، وهو أول من تبحّر في الفلسفة الإلهية (٥) ، وتكلّم وفقا لطريقة الاستدلال الحرّ والبرهان المنطقي ، وتعرّض لمسائل فلسفية لم يتعرض لها فلاسفة

__________________

(١) شأن نزول الآية (وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) سورة ص الآية ٦. والآية (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) سورة الإسرار الآية ٧٤. والآية (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) سورة القلم الآية التاسعة ، ويراجع المباحث الروائية في التفاسير.

(٢) كتاب الغرر والدرر للآمدي ، وكتب الحديث.

(٣) مروج الذهب ج ٢ : ٤٣١ ابن أبي الحديد ج ١ : ١٨١.

(٤) الأشباه والنظائر للسيوطي في النحو ج ٢ : ابن أبي الحديد ج ١ : ٦.

(٥) يراجع نهج البلاغة.

العالم حتى ذلك الوقت ، فاهتم بهذا الشأن اهتماما بالغا ، حتى في أحرج ساعات الحرب (١).

ج ـ هذّب وربّي العديد من رجال الدين وعلماء الإسلام (٢) وكان من بينهم جمع من الزهاد وأهل المعرفة مثل : «أويس القرني» و «كميل بن زياد» و «ميثم التمّار» و «رشيد الهجري» ويعتبر بعض هؤلاء من المنابع الأصيلة للعرفان من بين العرفاء الإسلاميين ، ويعتبر البعض الآخر منهم من المصادر الرئيسية والأولية لعلم الفقه والكلام والتفسير وقراءة القرآن وغيرها.

انتقال الخلافة إلى معاوية وتحولها إلى ملكية موروثة

بعد استشهاد أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، تصدّى لمنصب الإمامة الحسن بن علي عليه‌السلام وذلك وفقا لوصية الإمام علي عليه‌السلام ومبايعة الناس له ، ويعتبر الإمام الثاني للشيعة الاثني عشرية ،

__________________

(١) يروى أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام فقال : يا أمير المؤمنين! أتقول أن الله واحد ، فحمل الناس عليه وقالوا يا أعرابي أما ترى ما في أمير المؤمنين من تقسّم القلب ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد ، فهذا لا يجوز لأن ما لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس فهذا ما لا يجوز ، لأنه تشبيه وجلّ ربنا وتعالى عن ذلك ، وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه ، فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل.

بحار الأنوار ٢ : ٦٥ (كمباني).

(٢) ابن أبي الحديد ج ١ : ٦ ـ ٩.

ولكن معاوية لم يستقر ويهدأ لهذا الأمر ، فجهّز جيشه واتّجه به إلى العراق مقرّ الخلافة ، معلنا الحرب على الحسن بن علي عليه‌السلام.

أفسد معاوية رأي أصحاب الحسن عليه‌السلام بمختلف الطرق والدسائس ، ومنح الأموال الطائلة لهم وأجبر الإمام الحسن عليه‌السلام على الصلح معه ، وصيّر الخلافة إليه ، بشرط أن تكون للإمام الحسن عليه‌السلام بعد وفاته ، وألّا يتعرض إلى شيعته (١).

استولى معاوية على الخلافة (سنة ٤٠ للهجرة) ، فاتجه إلى العراق ، فخطب فيهم قائلا : «يا أهل الكوفة. أترونني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج!. وقد علمت أنكم تصلون وتزكّون وتحجّون ، ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أتاني الله ذلك ، وأنتم كارهون» (٢).

وقال أيضا : «ألا أنّ كلّ دم أصيب في هذه مطلول ، وكل شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين» (٣).

ومعاوية بكلماته هذه يشير إلى أنه يريد أن يفصل السياسة عن الدين ، فهو لا يريد إلزام أحد بأحكام الدين ، وإنما كان اهتمامه بالحكومة فحسب ، واستحكام مقوماتها ، وبديهي أن مثل هذه الحكومة ملكية وليست خلافة واستخلافا لمنصب الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد حضر البعض مجلسه ، فسلموا عليه بسلام

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٩٠ وسائر كتب التاريخ.

(٢) ابن أبي الحديد ج ٤ : ١٦٠ / الطبري ج ٤ : ١٢٤ / ابن الأثير. ج ٣ : ٢٠٣.

(٣) المصادر السابقة.

الملوك (١) ، وكان يعبّر في بعض مجالسه الخاصة ، عن حكومته بالملكية (٢) ، علما بأنه كان يعرّف نفسه بالخليفة في خطبه.

والملكية التي تقام على القوة تتبعها الوراثة ، وفي النتيجة كان الأمر كما أراد ونوى ، فاستخلف ابنه يزيد ، وجعله خليفة له من بعده ، وكان شابا لا يتّصف بشخصية دينية ، إذ قام بأعمال وجرائم يندى لها الجبين (٣).

ومعاوية لم يكن يرغب في أن يصل الإمام الحسن عليه‌السلام إلى الخلافة من بعده ، فدسّ له السم (٤) وبهذا الأمر ، مهّد السبيل إلى استخلاف ابنه يزيد. وكان يهدف من إلغائه معاهدة الصلح ، إلى اضطهاد الشيعة ، وعدم السماح لهم بالحياة المطمئنة ، أو أن يستمروا كما في السابق في نشاطهم الديني ، ولقد وفّق في هذا المضمار أيضا (٥).

وصرح معاوية في خصوص مناقب أهل البيت ، بأن كل ناقل لحديث في هذا الشأن لن يكون بمأمن على حياته وماله وعرضه (٦) ،

__________________

(١) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٩٣.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢٠١.

(٣) كان يزيد صاحب طرب وجوار وكلاب وقرود ومنادمة على الشراب وكان له قرد يكنّى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته ويطرح له متكأ ، فجاء في بعض الأيام مسابقا فتناول القصبة ودخل الحجرة قبل الخيل وعلى أبي قيس قباء من الحرير الأحمر ... مروج الذهب ج ٣ : ٦٧.

(٤) مروج الذهب ج ٣ : ٥ / أبي الفداء ج ١ : ١٨٣.

(٥) النصائح الكافية ص ٧٢ نقلا عن كتاب الأحداث.

(٦) روى أبو الحسن المدائني في كتاب الأحداث قال : كتب معاوية نسخة واحدة إلى عماله بعد عام الجماعة جاء فيها : أنه برئت الذمة ممن روى شيئا في فضل أبي تراب وأهل بيته. كتاب النصائح الكافية تأليف محمد بن عقيل طبع النجف سنة ١٣٨٦ ه‍. ص ٧٧ ، وأيضا النصائح الكافية ص ١٩٤.

وأمر أن تعطى الهدايا والجوائز لكل من يأتي بحديث في مناقب سائر الصحابة والخلفاء ، وكانت النتيجة أن توضع أخبار كثيرة في مناقب الصحابة (١) ، وأمر أن يسبّ الإمام علي عليه‌السلام في جميع الأقطار الإسلامية من على المنابر (وهذا الأمر كان ساريا حتى زمن عمر بن عبد العزيز الخليفة الأموي سنة ٩٩ ـ ١١٠ ه‍).

وقتل جماعة من خاصة شيعة علي عليه‌السلام بواسطة عماله ، وكان بعضهم من الصحابة ، ورفعت رءوسهم على الرماح ، تنقل من بلد لآخر ، وأمر عامة الشيعة بسبّ علي عليه‌السلام ، والتبري منه ، فكان القتل حليف من خالف وأبى (٢).

الأيام العصيبة التي مرّت على الشيعة

كان زمن حكومة معاوية بن أبي سفيان ، من أشدّ الأيام التي مرت على الشيعة والتي استمرت زهاء عشرين عاما ، ولم يكن الشيعة فيها بمأمن ، وكان أغلب رجال الشيعة يشار إليهم بالبنان. ولم تكن لدى الحسن والحسين عليهما‌السلام ، اللذان عاصرا معاوية ، أدنى الوسائل تمكنهم من القيام ، وإنهاء الأوضاع المؤلمة. والإمام الحسين عليه‌السلام عند ما نهض في الأشهر الأولى من حكومة يزيد ، استشهد هو ومن كان معه من الأولاد والأصحاب.

وبعض إخواننا أهل السنة يذهبون إلى التبرير والتأويل في سفك هذه الدماء الطاهرة ، وما شابهها من أعمال إجرامية ،

__________________

(١) النصائح الكافية ص ٧٢ ـ ٧٣.

(٢) النصائح الكافية ص ٥٨ ، ٦٤ ، ٧٧ ، ٧٨.

معللين ذلك ، بأنهم من صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووفقا للأحاديث المروية عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن الصحابة مجتهدون ومعذورون ، وأن الله جلّ وعلا راض عنهم ، لكن الشيعة ترفض هذا بأدلة :

أولا : يستحيل على قائد كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي نهض لإحياء الحقّ والحرية والعدالة الاجتماعية ، واتّبعه جمع من الناس ، فضحّوا بما لديهم في سبيل تحقيق هذه الأهداف ، وعند تحققها ، يترك لهم العنان ، وتمنح لهم الحرية المطلقة ، أمام الأحكام المقدسة ، كي يقوموا بما شاءوا ، وهذا يعني أن ينهار البناء الشامخ الذي ساهمت في إقامته وتشييده تلك الأيادي الطاهرة.

ثانيا : إن الروايات التي تقدس الصحابة وتنزههم ، وتبرر أعمالهم غير المشروعة ، وتعتبرهم من الذين قد كفّر الله عنهم سيئاتهم ، وأنهم مصونون وما إلى ذلك ، هذه الروايات قد وضعت من قبل هؤلاء الصحابة أنفسهم ، والتاريخ يشهد أن بعض الصحابة ، لم يكن أحدهم ليحترم الآخر ، ولم يكن الواحد منهم يغض النظر عن أعمال الآخرين القبيحة ، وإنما كان يشهّر به ويعرّفه للملإ. فقد قام بعضهم بالقتل الجماعي واللعن والسب وفضح الآخرين ، ولم تكن هناك أية مسامحة أو صفح فيما بينهم.

ووفقا لما ذكرنا فإن الصحابة يشهدون أن هذه الروايات غير صحيحة ، وإذا ما علم صحت البعض منها ، فإن المراد منها معنى آخر ، غير التنزيه والتقديس الشرعي للصحابة.

ولو قدر أن الله سبحانه وتعالى قد مدحهم ورفع شأنهم في

بعض آياته (١) ، فإن هذا يدلّ على ما قدموه من خدمات في سابق حياتهم ، وتنفيذهم لأوامر الله تعالى ، فطبيعي يرضى الله تعالى عنهم في هذه الحال ، ولكن لا يكون المراد من أنهم يستطيعون أن يقوموا بكل ما تراودهم أنفسهم في المستقبل ، وإن كان خلافا لأحكام الله تعالى.

استقرار ملوكية بني أمية

توفي معاوية (سنة ٦٠ للهجرة) ، واستولى على عرش الخلافة ابنه يزيد وفقا للبيعة التي أخذها أبوه من الناس ، وأصبح زعيما للحكومة الإسلامية.

والتأريخ يشهد بأن يزيد لم يكن يتصف بأية شخصية إسلامية ، فقد كان شابا لا يبالي بأحكام الإسلام حتى في زمن أبيه ، كان فاسقا فاجرا ، لا يتناهى عن شرب الخمر ، متّبعا لإهوائه وشهواته ، قام بأعمال إجرامية طوال السنوات الثلاث التي حكم فيها ، لم يسبق لها مثيل منذ ظهور الإسلام ، مع ما انطوت عليه من أحدث وفتن.

ففي السنة الأولى ، قتل الحسين بن علي عليه‌السلام سبط النبي المرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومن كان معه من أولاده وأقربائه وأصحابه ، بشكل مفجع ، وطاف بالنساء والأطفال من أهل بيت العصمة والطهارة مع رءوس الشهداء في البلدان (٢).

__________________

(١) سورة التوبة الآية ١٠٠.

(٢) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢١٦ / أبي الفداء ج ١ : ١٩٠ / مروج الذهب ج ٣ : ٦٤ وكتب التاريخ الأخرى.

وفي السنة الثانية ، أمر جيشه بالإبادة الجماعية للناس في مدينة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأباح دماءهم وأموالهم وأعراضهم لثلاثة أيام (١).

وفي السنة الثالثة ؛ أمر بهدم الكعبة المقدّسة وإحراقها (٢) ، وبعد وفاة يزيد ، تسلّط على رقاب الناس ، آل مروان من بني أمية ، وهذا ما تناقلته كتب التاريخ ، وكانت لحكومة هذه الزمرة والتي شملت أحد عشر شخصا ، واستمرت مدة سبعين عاما ، أيام عصيبة على الإسلام والمسلمين ، فلم تكن سوى أمبراطورية عربية مستبدة في مجتمع إسلامي ، وكانت تدعى الخلافة الإسلامية ، حتى آل الأمر بالخليفة آنذاك ، والذي يعتبر المدافع الوحيد عن الدين ، أن يقرر بناء غرفة على الكعبة ، كي يتسنّى له الجلوس فيها للتنزه ، خاصة في أيام الحجّ (٣).

والخليفة آنذاك قد رمى القرآن بالسهام ، وقال في شعر له مخاطبا القرآن :

أتوعد كل جبار عنيد

فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ما جئت ربك يوم حشر

فقل يا ربّ مزّقني الوليد (٤)

__________________

(١) اليعقوبي ج ٢ : ٢٤٣ / أبي الفداء ج ١ : ١٩٢ / مروج الذهب ج ٣ : ٧٨.

(٢) اليعقوبي ج ٢ : ٢٢٤ / أبي الفداء ج ١ : ١٩٢ / مروج الذهب ج ٣ : ٨١.

(٣) الوليد بن يزيد ، اليعقوبي ج ٣ : ٧٣.

(٤) الوليد بن يزيد ، مروج الذهب ج ٣ : ٢٢٨.

من الطبيعي أن الشيعة كانوا يختلفون اختلافا أساسيا مع أكثرية أهل السنة حول مسألتين ، الخلافة الإسلامية ، والمرجعيّة الدينية ، وهم عانوا أياما قاسية في تلك المرحلة المظلمة. فكان الظلم والجور من قبل الحكام ، والمظلومية والتقوى والورع الذي كان يتصف به أئمة أهل البيت عليه‌السلام يجعلهم أكثر رسوخا في عقائدهم ، وخاصة بعد استشهاد الحسين عليه‌السلام الإمام الثالث للشيعة ، مما ساعد على انتشار الفكر الشيعي في المناطق البعيدة عن مركز الخلافة مثل العراق واليمن وإيران.

ومما يشهد على صحة هذا الادعاء ، ما حدث في زمن الإمام الخامس للشيعة ، والقرن الأول الهجري لمّا يكتمل بعد ، حيث توجّه الشيعة من جميع الأقطار الإسلامية إلى الإمام الخامس واهتموا بأخذ الحديث والمعارف الإسلامية منه (١).

وفي أواخر القرن الأول الهجري ، قام جماعة من الأمراء ، بإنشاء مدينة قم في إيران (٢) ، وأسكنوا فيها الشيعة ، ولكن الشيعة حسب أوامر أئمتهم لم يظهروا عقيدتهم ، التزاما بمبدإ التقيّة ، ولطالما نهض رجال من السادة العلويين إثر كثرة الضغوط التي كانت تظهر من قبل الحكام الجائرين ، ولكن قيامهم هذا كان عاقبته الفشل والقتل. وقدموا في سبيل عقيدتهم ونهضتهم هذه المزيد من النفوس ولم تبال الحكومة بإبادتهم والقضاء عليهم.

__________________

(١) يراجع مبحث معرفة الإمام في هذا الكتاب.

(٢) معجم البلدان كلمة (قم).

فهم أخرجوا جثمان «زيد» زعيم الشيعة الزيدية من قبره ، وصلبوه لمدة ثلاث سنين ، ومن ثم أحرقوه ، وذرّوا رماده في الهواء (١) ، حتى أن أكثرية الشيعة تعتقد أن مقتل الإمام الرابع والخامس قد تمّ على أيدي بني أميّة (٢) ، وذلك بدسّ السمّ إليهما ، وكذا شهادة الإمام الثاني والثالث كانت على أيديهم.

إن الفجائع التي ارتكبها الأمويون كانت إلى حد جعلت أكثرية أهل السنة ـ مع اعتقادها بالخلفاء عامة وأنهم مفروضو الطاعة ـ يقسموا الخلفاء إلى قسمين : الخلفاء الراشدين ، وهم الخلفاء الأربعة الأوائل بعد وفاة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهم (أبو بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام والخلفاء غير الراشدين أولهم معاوية.

والأمويون طوال حكومتهم ، وعلى أثر ظلمهم وجورهم ، أثاروا سخط الأمة وغضبها إلى أبعد الحدود ، وبعد سقوط دولتهم ومقتل آخر خليفة لهم ، فرّ ولدا الخليفة مع جمع من العائلة الأموية من دار الخلافة ولم يجدوا في أي مكان ملجأ يتجهون إليه ، فتاهوا في صحاري «النوبة» و «الحبشة» و «بجاوة» ومات الكثير منهم من جراء الظمأ والجوع ، توجهوا إلى جنوب (اليمن) فمكثوا هناك زمنا ، كانوا يحصلون على المال من الناس عن طريق الاستجداء والصدقة والعطف عليهم. ومن ثم انتقلوا إلى مكة مرتدين زيّ الحمّالين وانصهروا في ذلك المجتمع (٣).

__________________

(١) مروج الذهب ج ٣ : ٢١٧ ـ ٢١٩ / اليعقوبي ج ٣ : ٦٦.

(٢) كتاب البحار ج ١٢ وسائر المصادر الشيعية.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ٨٤.

الشيعة في القرن الثاني للهجرة

ظهرت دعوة باسم أهل بيت النبوة في خراسان ، يتزعمها «أبو مسلم المروزي» وذلك في أواخر الثلث الأول من القرن الثاني للهجرة ، اثر النهضات والحروب الدامية التي ظهرت في جميع البلدان الإسلامية ، كرد فعل للظلم والجور والمعاملة السيئة التي كان يقوم بها بنو أمية ، وأبو مسلم هذا قائد فارسي ، قام ضد الحكومة الأموية ، وحاز على دعم حتى أطاح بالدولة الأموية (١).

هذه الثورة وإن كانت تستلهم من الدعايات الشيعية ، وكانت تتصف أيضا ـ إلى حد ما ـ بثار شهداء أهل البيت! إلّا أنها لم تكن بإيعاز من أئمة الشيعة ، والدليل على ذلك أن أبا مسلم لما عرض البيعة للخلافة على الإمام السادس في المدينة ، كان ردّ الإمام عنيفا إذ أحرق الكتاب المرسل إليه ، وقال للرسول «عرّف صاحبك بما رأيت» (٢).

وكانت النتيجة أن قبض «بنو العباس» على الخلافة باسم أهل البيت (٣) ، وفي البداية أبدوا عنايتهم ورعايتهم للعلويين. وقضوا على الأمويين وأبادوهم إبادة كاملة ، وذلك انتقاما لشهداء العلويين ، ونبشوا قبور خلفاء بني أمية ، وأخرجوا منها الأجساد ، وأحرقوها

__________________

(١) اليعقوبي ج ٣ : ٧٩ / أبي الفداء ج ١ : ٢٠٨ وكتب التاريخ الأخرى.

(٢) اليعقوبي ج ٣ : ٨٦ / مروج الذهب ج ٣ : ٢٦٨.

(٣) اليعقوبي ج ٣ : ٨٦ / مروج الذهب ج ٣ : ٢٧٠.

بالنيران (١) ، ولم تمض فترة حتى اتخذوا سيرة بني أمية نهجا لهم ، فلم يتوانوا عن القيام بالأعمال المشينة والمنافية للشريعة ، فظلموا وجاروا على الناس.

سجن «أبو حنيفة» وهو أحد رؤساء المذاهب الأربعة ، في زمن المنصور (٢) ، ولاقى أنواع التعذيب ، وضرب «ابن حنبل» أحد رؤساء المذاهب الأربعة ، بالسياط (٣) ، وقضي على الإمام السادس للشيعة الإمامية بالسم (٤) ، بعد الأذى والتعذيب. وكان يقدم العلويون جماعات لضرب أعناقهم ، أو يدفنوا وهم أحياء ، أو يوضعوا أحياء في الجدران ، وأسس الأبنية الحكومية.

وأما هارون الرشيد الخليفة العباسي ، فقد توسعت في زمنه الإمبراطورية الإسلامية ، وكان ينظر أحيانا الشمس مخاطبا إياها بقوله : أشرقي في أيّ مكان شئت فإنك لن تشرقي خارج ملكي.

فمن جهة كان جيش الخليفة يحارب ويتقدم في أقصى الشرق والغرب في العالم ، ومن جهة أخرى يشاهد على جسر بغداد والذي لا يبعد عن قصره سوى خطوات ، الجباة يأخذون من المارّة حق العبور دون علم الخليفة وإذنه ، ويذكر أن الخليفة نفسه ، عند ما أراد عبور الجسر ذات يوم ، طولب بحقّ العبور (٥).

__________________

(١) اليعقوبي ج ٣ : ٩١ ـ ٩٦ / أبي الفداء ج ١ : ٢١٢.

(٢) تاريخ أبي الفداء ج ٢ : ٦.

(٣) اليعقوبي ج ٣ : ١٩٨ / أبي الفداء ج ٢ : ٣٣.

(٤) كتاب البحار ج ٢١٢ حياة الإمام الصادق (ع).

(٥) قصة جسر بغداد.

ومما يذكر عن الأمين الخليفة العباسي ، أنه وهب إلى مطرب ثلاثة ملايين درهم فضة إزاء ما غناه لبيتين غزل ، فرمى المطرب نفسه على قدمي الخليفة قائلا : تمنحني هذه الأموال الطائلة يا أمير المؤمنين؟! فأجابه الخليفة ليس الأمر بمهم نستعيضها من ناحية من نواحي البلاد (١).

كانت الأموال الطائلة تتدفق إلى بيت مال المسلمين من جميع الأقطار الإسلامية ، وتصرف للهو الخليفة ولعبه ، وكانت الجواري والفتيات الحسناوات والغلمان في بلاط الخلفاء تعد بالآلاف.

لم يتغيّر وضع الشيعة بعد زوال حكومة بني أمية ، ومجيء دولة بني العباس ، سوى تغيير اسم الأعداء الظلمة والجائرين.

الشيعة في القرن الثالث للهجرة

استطاع الشيعة أن يتنفسوا الصعداء ، في أوائل القرن الثالث الهجري ، والسبب في ذلك يعود إلى :

أولا : ترجمة الكثير من الكتب الفلسفية والعلمية من اليونانية والسريانية وغيرهما إلى العربية ، فتسابق الناس على تحصيل العلوم العقلية والاستدلالية ، علما بأن المأمون الخليفة العباسي (١٩٥ ـ ٢١٨) المعتزلي كان يرغب في الاستدلال العقلي ، ويبدي اهتمامه له ، وكانت النتيجة أن انتشر البحث الاستدلالي في الأديان ، وتعطى الحرية الكاملة لأصحاب المذاهب ، فانتهز علماء

__________________

(١) كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (قصة الأمين).

الشيعة ومتكلموهم هذه الحرية الفكرية ، فلم يتوانوا في النشاط العلمي ، ونشر مذهب أهل البيت عليهم‌السلام.

ثانيا : منح المأمون الإمام الثامن ولاية عهده بمقتضى سياسته ، فأصبح الشيعة ومحبو أهل البيت ، بعيدين عن التعرض إلى حدّ ما من قبل الولاة ـ وأصحاب المناصب ، وأصبحوا يتمتعون بشيء من الحرية ، إلا أن الفترة هذه لم تدم كثيرا ، فتعرّض الشيعة بعدها للملاحقة الشديدة ، والقتل والتشريد ، وعادت السنّة التي كانت سائدة ، وخاصة في زمن المتوكّل العباسي (٢٣٢ ـ ٢٤٧ للهجرة) ، إذ كان يعادي عليا وشيعته عداء خاصا ، وهو الذي أمر بهدم مرقد الإمام الحسين عليه‌السلام ثالث أئمة الشيعة في كربلاء (١).

الشيعة في القرن الرابع للهجرة

ظهرت عوامل في القرن الرابع الهجري ، ساعدت على انتشار مذهب التشيع وتقويته ، منها ضعف الخلافة العباسية ، وظهور ملوك آل بويه.

كان لملوك آل بويه ، وهم شيعة ، التأثير البالغ في مركز الخلافة ببغداد ، وكذا في الخليفة (٢) ، وهذه القدرة جعلت الشيعة يقفون أمام المخالفين ، الذين طالما حاربوا الشيعة ، وتمكن الشيعة أن ينشروا عقائدهم بكل حرية.

والمؤرخون متفقون على أن الجزيرة العربية ، أو معظمها ، كانت

__________________

(١) تاريخ أبي الفداء ، وكتب التاريخ الأخرى.

(٢) يراجع كتب التاريخ.

تعتنق مذهب الشيعة في ذلك الوقت ، سوى المدن الكبيرة منها ، علما بأن بعض المدن مثل ، هجر وعمان وصعدة ، كانت شيعية ، ومدينة البصرة كانت تعتبر مركزا لأهل السنة ، وكانت في صراع ديني مع الكوفة مركز التشيع وكان يسكن فيها بعض الشيعة ، وكذا في كل من مدينة طرابلس ونابلس وطبرية وحلب وهرات ، كان فيها من الشيعة ، وكذلك في مدينة الأهواز وسواحل الخليج الفارسي من إيران (١).

وفي أوائل هذا القرن ، استولى ناصر الأطروش على شمال إيران ، بعد كفاح دام سنوات ، فاستقر في ناحية طبرستان وأسس دولته ، واستمرت لأولاده من بعده ، وكان الحسن بن زيد العلوي قد حكم هذه المنطقة قبل الأطروش (٢).

وفي هذا القرن استولى الفاطميون وهم من الفرقة الإسماعيلية على مصر ، وأسسوا حكومتهم واستمرت أكثر من قرنين (٢٩٦ ـ ٥٢٧).

الشيعة في القرن الخامس وحتى القرن التاسع الهجري

توسعت الشيعة خلال القرن الخامس حتى أواخر القرن التاسع بتلك النسبة التي كانت عليها في القرن الرابع وظهر ملوك اعتنقوا مذهب التشيع ، فصاروا يدعون له.

ترسخت الدعوة الإسماعيلية في «قلاع الموت» ، واستقلت في

__________________

(١) الحضارة الإسلامية ج ١ : ٩٧.

(٢) مروج الذهب ج ٤ : ٣٧٣ / الملل والنحل ج ١ : ٢٥٤.

دعوتها قرنا ونصف قرن وسط إيران (١). وحكم السادة المرعشيون سنين متمادية في مازندران (٢).

اختار الملك «خدا بنده» وهو أحد ملوك المغول مذهب الشيعة ، وخلّفه في الحكم ملوك من هذه الطائفة لأعوام متعاقبة ، وساهموا في نشر وترويج هذه العقيدة ، وكذا سلاطين «آق قويونلو» و «قره قوينلو» ، إذ كانت مدينة تبريز (٣) مركز حكومتهم ، وكانت تنبسط سيطرتهم حتى فارس وكرمان ، وحكمت الدولة الفاطمية في مصر لسنوات متعاقبة.

من الطبيعي أن القدرة الدينية لأهل السنة مع الملوك كانت متغيرة ومتفاوتة ، وبعد سقوط الدولة الفاطمية ومجيء دولة الأيوبيين ، تغيرت الظروف ، وفقد الشيعة في مصر والشام الحرية الفكرية على الإطلاق ، وقتل الكثير منهم (٤).

من بينهم الشهيد الأول «محمد بن محمد المكي» أحد نوابغ الفقه الشيعي الذي قتل سنة ٧٨٦ للهجرة في دمشق بتهمة التشيّع (٥).

وقتل أيضا الشيخ «شهاب الدين السهروردي» في حلب بتهمة الفلسفة (٦).

__________________

(١) يراجع كتاب الكامل وروضة الصفا وحبيب السير.

(٢) الكامل وأبي الفداء ج ٣.

(٣) تاريخ حبيب السير.

(٤) تاريخ حبيب السير وأبي الفداء وغيرهما.

(٥) روضات الجنات ورياض العلماء نقلا عن ريحانة الأدب ج ٢ : ٣٦٥.

(٦) الروضات وكتاب المجالس ووفيات الأعيان.

فالشيعة خلال هذه القرون الخمسة ، كانوا في ازدياد من حيث النفوس والعدد ، وكانت الزيادة تابعة لموافقة ومخالفة السلاطين من حيث القدرة والحرية الفكرية. ولم يعلن في هذه الفترة في أية دولة إسلامية مذهب التشيّع ، مذهبا رسميا لها.

الشيعة في القرن العاشر والحادي عشر للهجرة

نهض شاب في سنة ٩٠٦ للهجرة ، وهو في الثالثة عشرة من عمره ، من عائلة «الشيخ صفي الدين الأردبيلي» المتوفي سنة ٧٣٥ ه‍. وكان من أحد مشايخ الطريقة في الشيعة ، نهض مع ثلاثمائة من الدراويش الذين كانوا من مريدي آبائه ، وذلك لإيجاد دولة شيعية مستقلة ومقتدرة ، فسار من مدينة «أردبيل» وشرع بفتح البقاع وإزالة نظام ملوك الطوائف في إيران ، وبعد حروب دامية مع الملوك المحليّين وخاصة مع ملوك «آل عثمان» الذين كانوا ينوبون عن الإمبراطورية العثمانية ، استطاع أن يجعل من إيران دولة موحّدة بعد أن كانت ممزقة ، يحكم كل بقعة منها فئة خاصة ، وجعل المذهب الشيعي ، مذهبا رسميا لها (١).

وبعد وفاة الملك «إسماعيل الصفوي» أعقبه ملوك آخرون من السلالة ذاتها ، حتى منتصف القرن الثاني عشر الهجري ، وكل من هؤلاء الملوك كان يؤيد المذهب الشيعي ، ففي زمن «الشاه عباس الكبير» والذي يعتبر ذروة القدرة لهذه السلالة ، استطاع أن يوسّع

__________________

(١) روضة الصفا وحبيب السير وغيرهما.

بقعتهم ، فازداد عدد السكان ، فبلغ ضعف (١) ما هو عليه الآن في إيران (سنة ١٣٨٤ ه‍). والطائفة الشيعية ، في القرنين ونصف القرن الأخير تقريبا ، بقيت على حالتها في سائر البقاع الإسلامية مع بقاء الازدياد الطبيعي لها.

الشيعة في القرن الثاني عشر وحتى القرن الرابع عشر للهجرة

إن التقدم في المذهب الشيعي خلال القرون الثلاثة الأخيرة كان بشكله الطبيعي كما في السابق ، وفي وقتنا الحاضر ، يعتبر التشيع مذهبا رسميا في إيران ، ومعظم شعوب اليمن والعراق من الشيعة ، وتتواجد الشيعة في كل الدول الإسلامية في العالم ، قلت أم كثرت ، ويعد الشيعة في مختلف الأقطار في العالم ، بما يقارب المائة مليون.

انقسام بعض الفرق وانقراضها

يشتمل كل مذهب على مسائل وأمور تعتبر الأسس الأولية لذلك المذهب ، وهناك مسائل ثانوية. وأما اختلاف أهل المذاهب في كيفية المسائل الأصلية ونوعيتها مع الاحتفاظ بالأصول المشتركة بينها ، يسمى انشعابا.

توجد الانشعابات في جميع الأديان ، وخاصة في الأديان السماوية ، اليهودية والمسيحية والإسلام. أما المذهب الشيعي فلم يطرأ عليه ، ولم يظهر فيه أيّ انشعاب في زمن أئمته الثلاثة (الإمام

__________________

(١) روضة الصفا وحبيب السير.

علي والحسن والحسين عليهم‌السلام) ، ولكن بعد استشهاد الإمام الحسين عليه‌السلام ، اعترفت أكثرية الشيعة بإمامة عليّ بن الحسين السجاد عليه‌السلام ، وذهب الأقلية منهم والذين عرفوا بالكيسانيّة ، إلى الاعتقاد بإمامة محمد بن الحنفية إماما رابعا لهم ، وهو المهدي الموعود عندهم ، وأنه غاب في جبل رضوى ، وسيظهر يوما.

وبعد وفاة الإمام السجاد عليه‌السلام اعتقد أكثرية الشيعة بإمامة ابنه محمد الباقر عليه‌السلام ، وذهب الأقلية منهم إلى التمسك بمذهب زيد الشهيد وهو الولد الآخر للإمام السجاد عليه‌السلام ، واشتهروا بالزيدية.

وبعد وفاة محمد الباقر عليه‌السلام آمن شيعته بولده الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وبعد وفاته ، ذهب الأكثرية إلى أن الإمام السابع هو ولده الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، واعتقد فريق أن اسماعيل ابن الإمام الأكبر هو الإمام السابع ، والذي وافاه الأجل في زمن أبيه الصادق ، وانفصل هؤلاء عن الأكثرية الشيعية ، وعرفوا بالاسماعيلية ، وذهب البعض إلى إمامة عبد الله الأفطح ابنه الآخر ، وذهب آخرون إلى إمامة محمد وتوقف بعض في إمامته ، واعتبروه آخر الأئمة.

وبعد استشهاد الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، ذهبت الأكثرية إلى إمامة ابنه الرضا عليه‌السلام ، إماما ثامنا ، وتوقف جماعة في إمامة الإمام السابع ، واشتهروا ب (الواقفية).

ولم يظهر انشعاب بعد الإمام الثامن وحتى الإمام الثاني عشر ، وهو المهدي الموعود ، وإذا ما كانت هناك حوادث أو وقائع فإنها لم تكن سوى أيام معدودة ولم يحدث انشعابا ، وعلى فرض حدوث

انشعاب ، لم يدم كثيرا ، وانتهى إلى الانصهار ، كما حدث بعد وفاة الإمام العاشر ، إذا ادّعى ولده جعفر الإمامة وتبعه جمع ، إلا أنهم تفرّقوا وتشتتوا بعد فترة قصيرة ، ولم يتابع جعفر دعوته هذه ، وهناك بعض اختلاف في الآراء بين رجال الشيعة في المسائل العلمية والكلامية والفقهية ، إلا أن ذلك لا يعتبر انشعابا في المذهب.

انقرضت الفرق المذكورة التي انشعبت أمام الأكثرية الشيعية ، في زمن قصير ، عدا الفرقة «الزيدية» و «الإسماعيلية» اللتان استمرتا ، ولا يزال معتنقو هذين المذهبين يعيشون في مناطق مختلفة من العالم ، كاليمن والهند ولبنان ومناطق أخرى ، فعلى هذا نكتفي بذكر هاتين الطائفتين مع الأكثرية الشيعية وهم الاثنا عشرية.

الزيديّة

تعتبر «الزيدية» من تابعي زيد الشهيد ابن الإمام السجاد عليه‌السلام.

ثار زيد سنة ١٢١ للهجرة بوجه الخليفة الأموي «هشام بن عبد الملك» وبايعه جماعة وقتل في حرب وقعت في مدينة الكوفة بينه وبين مؤيدي الخليفة.

يعدّ زيد لدى أصحابه ، الإمام الخامس من أئمة أهل البيت عليه‌السلام ، وخلفه بعده ابنه «يحيى بن زيد» الذي ثار على الخليفة الأموي «الوليد بن يزيد» وجاء بعده «محمد بن عبد الله» و «إبراهيم بن عبد الله» اللذان قاما وثارا على الخليفة العباسي «منصور الدوانيقي» وقتلا ، فهؤلاء هم من أئمة الزيديّة.

ومنذ ذلك الوقت ، كانت أمور «الزيديّة» غير منتظمة ، حتى ظهور

«ناصر الأطروش» وهو من نسل أخي زيد ، في خراسان ، وعلى أثر المطاردات التي قامت بها الدولة آنذاك ، اضطرّ أن يفرّ إلى مازندران ، ولم يكن أهالي هذه المنطقة قد اعتنقوا الإسلام ، وبعد دعوة دامت ثلاث عشرة سنة ، استطاع أن يدخل جمعا كثيرا في الإسلام ، فاعتنقوا مذهب «الزيديّة» ، واستطاع بعدها وبمساعدة هؤلاء أن يسيطر على ناحية طبرستان وصار فيهم إماما وقائدا ، واستخلفه من بعده أولاده ، يسوسون الناس في تلك الديار.

وتعتقد «الزيديّة» أن كل فاطمي ، وعالم ، وزاهد ، وشجاع ، وسخيّ ، يثور لإحقاق الحقّ يستطيع أن يكون إماما.

كانت الزيديّة في الابتداء مثل زيد ، تعتبر الخليفتين الأولين «أبو بكر وعمر» من الأئمة ، ولكن بعدها أسقط جماعة منهم اسم هذين الخليفتين من أسماء أئمتهم ، وابتدءوا بالإمام عليّ عليه‌السلام.

وحسب ما يقال أن «الزيديّة» تتبع المعتزلة في الأصول ، وتوافق فقه «أبي حنيفة» في الفروع. وهناك اختلاف يسير بينهم في بعض المسائل.

الإسماعيلية وانشعاباتها

الباطنية : كان للإمام جعفر الصادق عليه‌السلام وهو الإمام السادس للشيعة ولد يدعى «اسماعيل» وهو أكبر ولده ، توفي في زمن أبيه ، وشهد الأب وفاة ابنه ، وطلب الشهادة من حاكم المدينة أيضا على وفاة ولده ، إلا أن هناك فريق يعتقد بعدم وفاة اسماعيل ، وأنه اختار الغيبة ، وسوف يظهر ثانية وهو المهدي الموعود ، ويتضح

أن إشهاد الإمام السادس على وفاة ولده كان على علم وعمد ، وذلك خوفا من المنصور الخليفة العباسي. واعتقدت جماعة أن الإمامة الحقّة هي لاسماعيل ، ومع موته ، انتقلت إلى محمد ، واعتقد آخرون أن إسماعيل وإن أدركه الموت في زمن أبيه ، إلا أنه إمام ، ومحمد بن اسماعيل ومن جاء بعده من هذه السلالة أئمة أيضا.

انقرضت الفرقتان الأولتان بعد زمن وجيز ، وبقيت الفرقة الثالثة حتى وقتنا الحاضر ، وقد تفرعت لفرق عديدة.

لدى «الإسماعيلية» فلسفة تشبه فلسفة عبدة النجوم ، وفيها شيء من التصوّف الهندي ، ويذهبون إلى أن المعارف والأحكام الإسلامية ، لها ظاهر وباطن ، فلكل ظاهر باطن ولكل تنزيل تأويل ، وتعتقد أن الأرض لا تخلو من حجة ، وحجة الله عندهم على نوعين : ناطق وصامت فالناطق هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والصامت هو الولي أو الإمام ، وهو وصيّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعلى أيّة حال ، فإن الحجّة هي المظهر الكامل للربوبيّة.

أساس الحجة عندهم يدور دائما على العدد (٧) ، وبهذا الترتيب ، أن كل نبي عند ما يبعث يختصّ بالنبوّة ـ أي الشريعة ـ والولاية ، ويأتي بعده سبعة أوصياء ، لكل منهم الوصاية ، وكلهم يعتبرون في نفس المنزلة والشأن ، سوى الوصي السابع الذي يختص بالنبوّة أيضا ، ويتصف بثلاثة مناصب ، النبوّة والوصاية والولاية ، وبعده سبعة أوصياء ، وللسابع منهم ثلاثة مناصب وهكذا.

فهم يقولون ، أن آدم عليه‌السلام بعث بالنبوّة والولاية ، وكان له سبعة أوصياء ، وسابعهم نوح النبي ، وكان يختصّ بالنبوة الوصاية

والولاية ، والنبي إبراهيم هو الوصيّ السابع لنوح ، والنبي موسى سابع الأوصياء لإبراهيم ، والنبي عيسى سابع الأوصياء لموسى ، ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سابع الأوصياء لعيسى ، ومحمد بن اسماعيل الوصي السابع لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بهذا الترتيب : محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي والحسين وعلي بن الحسين والسجاد ومحمد الباقر وجعفر الصادق واسماعيل ومحمد بن اسماعيل (الإمام الثاني الحسن بن علي لا يعدونه من الأئمة) ، وبعد محمد بن اسماعيل سبعة من نسله وولده ، أسماؤهم مخفيّة مستورة وبعدهم سبعة من ملوك الفاطميين لمصر ، أولهم عبيد الله المهدي مؤسس حكومة الفاطميين بمصر.

تعتقد الإسماعيليّة ، بأن هناك اثني عشر نقيبا موجودين دائما على الأرض ، فضلا عن وجود حجة الله ، فهم حواريو الحجة وخاصته ، ولكن البعض منهم وهي فرقة الدروز الباطنية ، تعتبر ستة من الأئمة نقباء ، والستة الآخرين من غيرهم.

وقد ظهر شخص مجهول الهوية سنة ٢٧٨ ه‍ ، في مدينة الكوفة ، (قبل ظهور عبيد الله المهدي بسنوات) خوزستاني الأصل ، وكان يقضي نهاره صائما ، وليله قائما عابدا ، ويسدّ رمقه من كسبه وعمله ، كان يدعو لمذهب «الإسماعيلية». فاستطاع أن يكسب جماعة ، ليكونوا له أنصارا وأعوانا ، فانتخب منهم اثني عشر شخصا ، على أنهم النقباء ، ثم خرج من الكوفة متجها إلى الشام ، وما عرف عنه شيء بعدها.

استخلف هذا الرجل المجهول في العراق ، رجلا كان يدعى أحمد ويعرف ب «القرمط» ، فبثّ تعاليم الباطنيّة ، وكما يشير

المؤرخون بأنه ابتدع صلاة جديدة ، بدلا من الصلوات الخمس في الإسلام ، وألغى غسل الجنابة ، وأباح شرب الخمر. وفي نفس العصر ، ظهر زعماء آخرون يدعون إلى الباطنية ، جذبوا جماعة من الناس من حولهم.

كان هؤلاء يتعرضون لأنفس وأموال من لا يعتنق مذهب الباطنية ، واستمروا في حركتهم هذه في العراق والبحرين واليمن والشام ، قتلوا الأبرياء ، ونهبوا الأموال ، وسلبوا قوافل الحجيج ، سفكوا دماء الآلاف منهم ، ونهبوا أمتعتهم وراحلتهم.

استولى «أبو طاهر القرمطي» أحد زعماء الباطنية على البصرة سنة ٣٣١ ه‍ فقتل الناس ، ونهب الأموال ، ثم اتجه إلى مكة مع جمع من الباطنية سنة ٣١٧ ه‍ ، وبعد صراع مع أفراد الشرطة ، دخل مكة ، فقتل أهلها ، والحجاج الواردين إليها ، فسالت الدماء في بيت الله الحرام والكعبة ، فقسّم ستار الكعبة بين أنصاره ، وقلع باب الكعبة ، واقتلع الحجر الأسود من مكانه ، ثم نقله إلى اليمن وبقي عندهم مدة اثنين وعشرين عاما.

على أثر هذه الأعمال ، أبدى عامة المسلمين تذمرهم وتنفرهم من «الباطنية» ، واعتبروهم خارجين عن دين الإسلام ، حتى أن «عبيد الله المهدي» وهو أحد ملوك الفاطميين ، الذي ظهر في إفريقيّة ، وادّعى لنفسه المهدويّة ، وأنه المهدي الموعود ، وإمام الإسماعيلية ، قد تبرأ أيضا من القرامطة آنذاك.

وحسب ما يقرّه المؤرخون أن المعيار الديني للباطنية هو تأويل الأحكام الظاهرة للإسلام إلى مراحل باطنية صوفية ، ويعتبرون

ظاهر الشريعة خاصا للأميين من الناس ، الذين لم يتدرجوا في طريق الكمال ، ومع هذا كله ، فقد كانت تصدر قوانين وأحكام معيّنة من أئمتهم وزعمائهم بين حين وآخر.

النزارية والمستعلية والدروزية والمقنعة

ظهر «عبيد الله المهدي» سنة ٢٩٦ للهجرة في إفريقيا ، وادّعى الإمامة على طريقة الإسماعيلية ، وأسس الدولة الفاطمية ، واختار خلفاؤه مصر دار خلافتهم ، فحكم سبعة منهم على التوالي طبق مذهب «الإسماعيلية» دون أن يحدث خلاف أو انقسام بينهم.

وبعد الخليفة السابع وهو (المستنصر بالله سعد بن علي) تنازع ولداه «نزار» و «المستعلي» على الخلافة والإمامة ، وبعد صراع وحروب دامية ، كانت الغلبة للمستعلي ، فألقى القبض على أخيه نزار ، وسجنه وبقي في السجن حتى توفي فيه.

وعلى أثر هذه المنازعة ، انقسم اتباع الفاطميين إلى قسمين : نزارية ومستعلية.

النزاريّة : هم من أتباع الحسن بن الصبّاح ، وكان من المقربين للمستنصر ، وبعد المستنصر ، أخرج من مصر بأمر من المستعلي ، بسبب دفاعه عن نزار ، فجاء إلى إيران وبعد فترة ظهر في قلعة الموت من نواحي قزوين. فاستولى على هذه القلعة وقلاع أخرى مجاورة ، فصار سلطانا عليها ، ودعا إلى نزار في البداية ، وبعد وفاة «حسن» سنة ٥١٨ ه‍. جاء «بزرك أميد رودباري» ، وبعده ابنه «كيا محمد» حكما على طريقة «الحسن الصبّاح» ، وجاء بعده ابنه

«حسن على ذكره السلام» رابع ملوك قلعة الموت ، فغيّر طريقة الحسن الصبّاح وكانت نزاريّة ، وانتمى إلى الباطنية.

فتح هولاكو خان بعد حملته على إيران قلاع الإسماعيلية وقتل جميع الإسماعيليين ، وهدم قلاعهم ، وبعد سنة ١٢٥٥ ه‍. ثار آقا خان المحلاتي وكان من النزاريّة على محمد شاه القاجار ، وفشل في نهضته التي قام بها في مدينة كرمان وهرب إلى بمبئي ، فنشر الدعوة الباطنية النزارية بإمامته وزعامته هناك ، ولا تزال دعوتهم باقية حتى الآن ، وتدعى النزارية الآن بال (آقاخانية).

المستعلية : استقرت الإمامة لأتباع المستعلي الفاطمي من خلفاء الفاطميين بمصر إلى أن انقرضت سنة ٥٥٧ ه‍. وظهرت بعد فترة فرقة (البهرة) في الهند على الطريقة نفسها ، ولا تزال موجودة.

الدروزية : الطائفة الدروزية التي تقطن الآن جبل الدروز في الشام ، كانت في بداية الأمر تابعة للخلفاء الفاطميين ، حتى أيام الخليفة السادس الفاطمي ، بدأت تدعو إلى «نشتجين الدروزي» والتحقت بالباطنية.

تقف الدروزية عند الخليفة «الحاكم بالله» وتدّعي أنه غاب عن الأنظار ، وعرج إلى السماء ، وسوف يعود ثانية بين الناس.

المقنّعة : كانت من أتباع «عطاء المروي» المعروف بالمقنّع في بادئ الأمر ، وحسب ما يذكر المؤرخون أنه كان من أتباع أبي مسلم الخراساني ، وبعد وفاة أبي مسلم ، ادّعى أن روح أبي مسلم قد حلّت فيه ، وادّعى النبوّة بعد ذلك ، وبعدها ادّعى الألوهية ، وحوصر سنة ١٦٢ في قلعة كيش في بلاد ما وراء النهر ، وعند ما تيقّن أنه

مقتول لا محالة ، أشعل نارا ، ورمى بنفسه فيها مع عدة من أصحابه واحترق ، بعد فترة اختار أصحاب عطاء مذهب الإسماعيلية ، والتحقوا بالفرقة الباطنية.

الشيعة الاثنا عشرية واختلافها مع الزيدية والإسماعيلية

إن الأقلية الشيعية التي مرّ ذكرها تنشعب عن الأكثريّة الشيعية الإمامية ، وتسمى بالاثنى عشرية أيضا ، وكما ذكرنا آنفا ، كان بداية نشوئهم هو الاعتراض والانتقاد لمسألتين أساسيتين من المسائل الإسلامية ، علما بأنهم لم يعارضوا القوانين التي كانت موجودة وفقا لتعاليم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومنتشرة بين المسلمين. والمسألتان هما : «الحكومة الإسلامية والمرجعية العلميّة». وتعتقد الشيعة بأن تلك المسألتين من حق أهل البيت عليهم‌السلام خاصة.

تؤمن الشيعة الاثنا عشرية ، إن الخلافة الإسلامية بما فيها من ولاية باطنية وقيادة معنوية ـ وهما جزءان لا ينفكان عنها ـ من حقّ عليّ وأولاده عليهم‌السلام ، بموجب تصريح النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وهم اثنا عشر إماما ، وتؤمن أيضا أن التعاليم الظاهرية للقرآن والتي تعتبر من أحكام الشريعة ، تشتمل على الحياة المعنوية الكاملة ولها أصالتها واعتبارها ، ولا يعتريها أيّ نسخ حتى قيام الساعة ويجب أن تؤخذ هذه الأحكام والقوانين عن طريق أهل البيت ، لا غير ، ومن هنا يتضح :

إن الاختلاف الأصلي بين الشيعة الإمامية والشيعة الزيدية ، هو أن الشيعة الزيدية لا تحصر الإمامة في أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا

تقتصر في عدد الأئمة على الاثني عشر ، ولا تتبع فقه أهل البيت ، على خلاف الشيعة الإمامية. والفارق الأساسي بين الشيعة الإمامية والشيعة الإسماعيلية هو أن الإسماعيلية تعتقد بأن الإمامة تدور على (سبع) ولم تختم النبوة بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا مانع لديهم من تبديل أحكام الشريعة ، وحتى ارتفاع أصل التكليف عنهم ، خاصة على قول الباطنية. على خلاف مذهب الشيعة الإماميّة الذي يعتقد بخاتمية النبوة في محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنه خاتم الأنبياء ، وله اثنا عشر وصيا ، وتعتبر ظاهر الشريعة غير قابل للنسخ ، ويثبتون للقرآن ظاهرا وباطنا.

أما طائفتا الشيخية والكريمخانية ، اللتان ظهرتا بين الشيعة الإمامية في القرنين الأخيرين ، فلم نعدهما انشعابا ، لأن اختلافهما معا يدور حول توجيه وتفسير بعض المسائل النظرية ، وليس في إثبات أو نفي أصل المسائل.

وكذا فرقة «علي اللهيّة» بالنسبة للشيعة الإمامية ، ويسمّون ب «الغلاة» أيضا ، فهم يعتقدون بالباطن فقط مثل الباطنية للشيعة الإسماعيلية ، وبما أنهم يفتقرون إلى منطق دقيق ، فلم نحسبهم من عداد الشيعة.

موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية

كما أشرنا في الفصول المتقدمة ، أن أكثرية الشيعة هم الاثنا عشرية ، وهم أصحاب علي وأنصاره ، الذين رفعوا راية المعارضة والانتقاد في ما يخص الخلافة والمرجعية العلمية بعد وفاة

الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك لإحياء حقوق أهل البيت عليهم‌السلام ، وبهذا انفصلوا عن أكثرية الناس.

كانت الشيعة مضطهدة في زمن الخلفاء الراشدين (سنة ١١. ٣٥ ه‍) ، ولم يكن عندهم احترام أو حماية لأنفسهم وأموالهم طوال حكومة بني أمية وخلافتهم (٤٠ ـ ١٣٢ ه‍) ، وكلما كان يزداد عليهم الضغط والاضطهاد ، كانوا يشتدون عزما ، ورسوخا في عقيدتهم ، وكانوا يستفيدون من مظلوميتهم في سبيل المحافظة على عقيدتهم وتقدمها ونشرها.

وفي الفترة ما بين الدولتين الأموية والعباسية ، حيث تسلّم خلفاء بني العباس الحكم ، والتي كانت فترة ضعف وانهيار ، استطاع الشيعة أن يتنفسوا الصعداء ، وذلك في أواسط القرن الثاني للهجرة ، ولكن سرعان ما عاد التضييق والاضطهاد عليهم ، وازداد شيئا فشيئا حتى أواخر القرن الثالث الهجري.

وفي أوائل القرن الرابع الهجري ، استعاد الشيعة قوّتهم بمجيء سلاطين آل بويه ، وكانوا من الشيعة ، فحصلوا على حريّة فكريّة ، وشرعوا بنضالهم ، واستمرت حتى نهاية القرن الخامس الهجري ، وفي أوائل القرن السادس الهجري ، الذي يقترن مع حملة المغول ، وعلى أثر المشاكل العامة ، واستمرار الحروب الصليبية ، رفعت الحكومات الإسلامية الاضطهاد والضغوط عن الشيعة ، وخاصة بعد اعتناق بعض سلاطين المغول في إيران دين الإسلام ، وساهمت حكومة سلاطين مرعش في مازندران في دعم الشيعة وتقويتهم ، مما جعل عددهم يزداد في كل بقعة من بقاع الممالك الإسلامية

وخاصة في إيران ، حيث كان الشيعة بالملايين. واستمرت هذه الحالة حتى أواخر القرن التاسع الهجري ، وفي بداية القرن العاشر الهجري ، إثر ظهور الدولة الصفوية في إيران المتسعة الأرجاء آنذاك ، اعترف رسميا بمذهب الشيعة ، ولا يزال حتى الآن ، يعتبر مذهبا رسميا للبلاد وفضلا عن هذا كله فإن عشرات الملايين من الشيعة تعيش حاليا في جميع بقاع العالم.

الفصل الثاني :

الفكر الديني

لدى الشيعة

معنى الفكر الديني

يطلق هذا الاصطلاح على التحقيق والبحث في موضوع من المواضيع الدينية للحصول على نتيجة معينة.

كما أن المراد من الفكر الرياضي مثلا ، هو الفكر الذي يعطي النتيجة لنظرية رياضية معينة ، أو يحلّ مسألة رياضية.

المصادر الرئيسية للفكر الديني في الإسلام

من الطبيعي أن الفكر الديني كسائر الأفكار ، يعتمد على مصادر ، كي يستلهم منها مواده وأسسه ، كما هو الحال في الفكر الرياضي لحل مسألة ما ، فإنه لا بدّ من الاستعانة بمجموعة من النظريات والفرضيات ، وبالنتيجة ينتهي إلى المعلومات الخاصة به ، والمصدر الوحيد الذي يعتمد عليه الإسلام ، (من جهة ارتباطه بالوحي السماوي) هو القرآن الكريم ، فهو المصدر الرئيسي للنبوة الشاملة للنبي الأكرم ، وما يحتويه من الدعوة إلى الإسلام ،

والقرآن لا ينفي المصادر الأخرى للفكر الصحيح والحجج الواضحة كما سنبين.

الطرق التي يعرضها الإسلام للفكر الديني

يضع القرآن الكريم ثلاثة طرق أمام أتباعه للوصول إلى المفاهيم الدينيّة والمعارف الإسلامية ، ويوضّح لهم ، أن الظواهر الدينية والحجج العقلية ، والإدراك المعنوي لا يتأتّى إلّا من الخلوص في العبادة.

إن الله سبحانه يخاطب الناس عامة في القرآن ، ويعرض أمورا دون إقامة حجة أو دليل ، انطلاقا من قدرة هيمنته كخالق ، ويطالب بقبول الأصول والأسس الاعتقادية ، كالتوحيد والنبوة والمعاد ، والأحكام العملية ، كالصلاة والصوم وغيرها ، كما يأمر بالنهي والامتناع أحيانا. وإذا لم تكن الآيات لتعطي الحجيّة ، لم يكن ليطالب الناس بقبولها واتّباعها ، إذن لا بدّ من القول بأن هذه الآيات الواضحة الدلالة طريق لفهم المفاهيم الدينية والمعارف الإسلامية وإدراكها ، ونسمي هذا البيان اللفظي بالظواهر الدينية مثل «آمنوا بالله ورسوله» و «وأقيموا الصلاة» ...

ونرى القرآن من جهة أخرى في كثير من الآيات يدعو إلى الحجيّة العقلية ، وذلك بدعوة الناس إلى التفكر والتدبّر في الآفاق والأنفس ، وهو يسلك الاستدلال العقلي في بيان الحقائق.

وحقا أن القرآن هو الوحيد من بين الكتب السماوية الذي يعرّف للإنسان العلم والمعرفة بطريقة استدلالية. ويعتبر أن الحجة العقلية

والاستدلال المنطقي من الأمور المسلّمة. فهو يطالب أولا بتقبل المعارف الإسلامية ثم الانتقال إلى الاحتجاج العقلي ، واستنتاج المعارف الإسلامية منها ، انطلاقا من الاعتماد الكامل على واقعيته بل يقول ، محصوا في الاحتجاج العقلي ، واستنبطوا منه صحة المعارف ، ومن ثم يكون القبول والرضا.

وما يسمع من كلام عن الدعوة الإسلامية ، يمكن التأمل فيه ، والاستفسار عنه ، والإصغاء إلى قول الخالق. وبالتالي ، فإن التصديق والإيمان يجب أن يحصل عليه الإنسان بدليل أو حجة ، لا أن يكون الإيمان مسبقا ، ثم إقامة الأدلّة وفقا له. فالفكر الفلسفي طريق يدعمه القرآن الكريم ويصادق عليه ، ومن جهة أخرى نرى القرآن الكريم وبأسلوبه الرائع ، يوضّح لنا أن جميع المعارف الحقيقة تنبع من التوحيد ومعرفة الله حقيقة ، وما كمال معرفة الله جلّ وعلا ، إلّا لأولئك الذين جعلهم الله من خيرة عباده ، وخصصهم لنفسه ، وهم الذين قد قطعوا تعلقهم القلبي بهذه الدنيا ، وإثر الإخلاص والعبوديّة ، وجّهوا قواهم إلى العالم العلوي ، ونوّروا قلوبهم بنور الله سبحانه ، ونظروا ببصيرتهم إلى حقائق الأشياء ، وملكوت السماوات والأرض ، وهم قد وصلوا إلى مرحلة اليقين ، إثر إخلاصهم وعبوديتهم ، وبوصولهم هذه المنزلة (اليقين) انكشف لهم ملكوت السماوات والأرض ، والحياة الخالدة في العالم الخالد.

ويتضح هذا الادعاء مع الالتفات إلى الآيات الكريمة التالية :

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (١).

وقوله تعالى : (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) (٢).

ويقول الله تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٣).

ويقول سبحانه : (وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) (٤).

وقوله : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) (٥).

وقوله : (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ* وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ* كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) (٦).

__________________

(١) سورة الأنبياء الآية ٢٥. ويفهم من الآية أن العبادة في الدين ، فرح للتوحيد ، وعليه يبنى.

(٢) سورة الصافات الآيتان (١٥٩ ـ ١٦٠) إن الوصف فرع من المعرفة والإدراك ، ويفهم من الآية أن المخلصين فحسب يعرفون الله حق معرفته ، والله منزه عن وصف الآخرين له.

(٣) سورة الكهف الآية ١١٠. يستنبط من الآية أن الطريق للقاء الله هو التوحيد والعمل الصالح ، ولا طريق سواه.

(٤) سورة الحجر الآية ٩٩. ويستفاد من الآية أن عبادة الله تؤدي إلى اليقين.

(٥) سورة الأنعام الآية ٧٥. يفهم من الآية إن إحدى لوازم اليقين مشاهدة ملكوت السماوات والأرض.

(٦) سورة المطففين الآيات (١٨ ـ ٢١). يستفاد من الآيات أن عاقبة (الأبرار) في كتاب يدعى (علّيين) المرتفع جدا ، ويشاهده المقربون لله تعالى ، علما أن لفظ (يشهده) صريح بأن المراد ليس الكتاب المخطوط ، بل عالم تقرب وارتقاء.

وقوله تعالى أيضا : (كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ* لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) (١).

إذا إحدى طرق استيعاب المعارف الإلهية وإدراكها هي تهذيب النفس والإخلاص في العبودية.

الاختلاف بين هذه الطرق الثلاثة

اتّضح مما سبق ، إن القرآن الكريم يعرض ثلاثة طرق لفهم المعارف الدينيّة : الظواهر الدينية والعقل. والإخلاص في العبودية ، والذي مؤدّاه انكشاف الحقائق. والمشاهدة الباطنية لها ، ولكن يجب أن نعلم أن هذه الطرق الثلاثة ، تتفاوت فيما بينها من جهات عدة :

الأولى : إن الظواهر الدينية بيانات لفظية ، تستفاد من أبسط الألفاظ ، وهي في متناول أيدي الناس ، وكلّ يستفيد (٢) منها حسب قدرته وفهمه واستيعابه ، على خلاف الطريقين الآخرين ، إذ يختصان بجماعة خاصة ، ولم يكونا لعامة الناس.

الثانية : إن العقل هو الطريق الموصل إلى أصول المعارف الإسلامية وفروعها ، ومنه يمكن الحصول على المسائل الاعتقادية والأخلاقية ، وكذا الكليّات للمسائل العملية (فروع الدين) ، ولكن جزئيات الأحكام ومصالحها الخاصة بها لم تكن في متناول

__________________

(١) سورة التكاثر الآيتان (٥ ـ ٦) يستفاد من الآية أن علم اليقين موروث لمشاهدة عاقبة حالة الأشقياء وهو الجحيم (جهنم).

(٢) ومن هنا يتضح لنا قول النبي الأكرم (ص) في رواية ينقلها العامة والخاصة : «إنّا معاشر الأنبياء نكلّم الناس على قدر عقولهم» البحار ج ١ : ٣٦.

العقل ، وخارجة عن نطاقه ، وهكذا طريق تهذيب النفس ، لأن نتيجتها انكشاف الحقائق ، وهو علم لدني (من قبل الله تعالى) ، ولا يسعنا هنا أن نحدّد نتائجها والحقائق التي تنكشف عن هذه الموهبة والعطية الإلهية ، وهؤلاء لما انفصلوا عن كل شيء سوى الله تعالى وأعرضوا عنه ، كانوا تحت رعاية الله بصورة مباشرة ، فانكشف لهم كل ما يريده الله تعالى لا كل ما يريدونه.

الطريق الأول :

الظواهر الدينية وأقسامها

وكما سبقت الإشارة ، فإن القرآن الكريم والذي يعتبر مصدرا أساسيا للفكر الديني الإسلامي ، قد أعطى للسامعين حجية واعتبار ظواهر الألفاظ ، وهذه الظواهر للآيات قد جعلت أقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المرحلة الثانية بعد القرآن مباشرة ، وتعتبر حجة كالآيات القرآنية ، ويؤيده قوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (١).

وقوله جلّ شأنه : (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (٢).

__________________

(١) سورة النحل ، الآية ٤٤.

(٢) سورة الجمعة الآية ٢.

وقوله تعالى أيضا : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) (١).

فإذا لم تكن أقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأفعاله وحتى صمته وإقراره ، حجة كالقرآن الكريم ، لم نجد مفهوما صحيحا للآيات المذكورة ، لذا فإن أقواله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حجة لازمة الاتّباع ، للذين قد سمعوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو قد نقل إليهم عن طريق رواة ثقات ، وكذلك ينقل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طرق متواترة قطعية أن أقوال أهل بيته عليهم‌السلام كأقواله ، وبموجب هذا الحديث والأحاديث النبوية القطعية الأخرى ، تصبح أقوال أهل البيت تالية لأقوال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وواجبة الاتّباع ، وأن أهل البيت لهم المرجعية العلمية في الإسلام ولم يخطئوا في تبيان المعارف والأحكام الإسلامية فأقوالهم حجة يعتمد عليها سواء كان مشافهة أو نقلا.

يتضح من هذا التفصيل أن الظواهر الدينيّة والتي تعتبر مصدرا من مصادر الفكر الإسلامي على قسمين : الكتاب والسنّة ، والمراد بالكتاب ، ظواهر الآيات القرآنية الكريمة ، والمقصود بالسنة ، الأحاديث المرويّة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام.

حديث الصحابة

أما الأحاديث التي تنقل عن الصحابة ، فإذا كانت متضمنة أقوال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أفعاله ، ولم تخالف أحاديث أهل البيت ، تؤخذ بنظر الاعتبار ، وإذا كانت متضمنة لرأي الصحابي

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٢١.

فحسب فليست لها حجيّة ، ويعتبر الصحابي كسائر المسلمين ، علما بأن الصحابة أنفسهم كانوا يعتبرون الصحابي كبقية المسلمين ، ويعاملونه معاملتهم.

بحث آخر في الكتاب والسنة

يعتبر كتاب الله (القرآن الكريم) هو المصدر الأساسي للفكر الإسلامي ، وهو الذي يعطي الاعتبار والحجيّة للمصادر الدينية الأخرى ، لذا يجب أن يكون قابلا للفهم لعامة الناس.

وفضلا عن هذا فإن القرآن الكريم يعلن أنه نور موضّح لكل شيء ، وفي مقام التحدي ، يطالب بتدبّر آياته ، إذ ليس فيه أي اختلاف أو تناقض ، وإذا كان بامكانهم معارضته ، والإتيان بمثله فليفعلوا ذلك إن استطاعوا.

ومن الواضح أن القرآن لو لم يكن مفهوما لدى العامة فإن مثل هذه الآيات لا اعتبار لها.

وليس هناك مجال للظن في أن هذا الموضوع (القرآن يفهمه عامة الناس) يتنافى مع الموضوع السابق (إن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته ، هم مراجع علمية للمعارف الإسلامية ، والتي هي حقيقة يدل عليها القرآن الكريم).

يشير القرآن الكريم إلى كليات بعض المعارف الإسلامية وهي الأحكام والقوانين التشريعية ، كالصلاة والصوم والمعاملات وسائر العبادات ، ويتوقّف تفصيلها بالرجوع إلى السنة (حديث الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام).

والبعض الآخر كالاعتقادات والأخلاق ، وإن كانت مضامينها وتفاصيلها يفهمها العامة ، لكن إدراك وفهم معانيها ، يستلزم اتخاذ نهج أهل البيت عليهم‌السلام مع الاستعانة بالآيات ، فإنها تفسّر بعضها بعضا ، ولا يمكن الاستعانة برأي خاص ، والذي أصبح من العادات والتقاليد ، وباتت النفس تستأنس به.

يقول الإمام علي عليه‌السلام : «كتاب الله تبصرون به ، وتنطقون به ، وتسمعون به وينطق بعضه ببعضه ، ويشهد بعضه على بعض» (١).

يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «القرآن يصدق بعضه بعضا» (٢) وكذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» (٣).

هناك أمثلة بسيطة لتفسير القرآن بعضه ببعض ، وذلك في قوله تعالى في قصة لوط (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) (٤).

وفي آية أخرى جاءت كلمة «ساء» بكلمة «حجارة» كما في الآية الكريمة (... وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ) (٥).

يتّضح من الآية الثانية أن المراد من الآية الأولى «فساء مطر» هو «حجارة سجّيل» ، والذي يتابع أحاديث أهل البيت بدقة وكذا الروايات المنقولة عن مفسّري الصحابة والتابعين ، لا يتردّد بأن طريقة تفسير القرآن بالقرآن تنحصر في طريقة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.

__________________

(١) نهج البلاغة خطبة رقم ١٣٣.

(٢) الدرّ المنثور : ج ٢ : ٦.

(٣) تفسير الصافي ص ٨ / البحار ج ١٩ : ٢٨.

(٤) سورة الشعراء الآية ١٧٣.

(٥) سورة الحجر الآية ٧٤.

ظاهر القرآن وباطنه

اتّضح أن القرآن الكريم بألفاظه وبيانه ، يوضّح الأغراض الدينية ، ويعطي الأحكام اللازمة للناس في الاعتقادات والعمل بها ، ولكن لا تنحصر أغراض القرآن بهذه المرحلة ، فإن في كنه هذه الألفاظ وهذه الأغراض ، تستقرّ مرحلة معنوية ، وأغراض أكثر عمقا ، والذي يدركه الخواص بقلوبهم الطاهرة المنزّهة.

فالنبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو المعلّم الإلهي للقرآن يقول : «ظاهره أنيق وباطنه عميق» (١) ويقول أيضا «للقرآن بطن وظهر ولبطنه بطن ، إلى سبعة بطون» (٢) ، وقد ورد الكثير عن باطن القرآن ، في أقوال أهل البيت عليهم‌السلام (٣).

فالأصل في هذه الروايات ، هو التشبيه الذي قد ذكره الله تعالى في سورة الرعد الآية ١٧. والذي يشبّه فيه الإفاضات السماوية بالمطر الذي يهطل من السماء يقول سبحانه وتعالى :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ* كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ* فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) (٤).

__________________

(١) تفسير الصافي ص ٤.

(٢) سفينة البحار / تفسير الصافي ص ١٥ / الكافي / تفسير العياشي / معاني الأخبار / وروايات أخرى.

(٣) البحار ج ١ : ١١٧.

(٤) سورة الرعد الآية ١٧.

وتشير هذه الآية إلى أن استيعاب الناس وقدرتهم على اكتساب المعارف السماوية والتي تنير النفوس ، وتمنحها الحياة متفاوتة.

فهناك من لا يعطي الأصالة لهذا العالم ـ الذي سرعان ما يزول ـ إلّا للمادة والحياة الماديّة ، ولا يرجو سوى ما تشتهيه نفسه من الحياة الماديّة ، ولا يخشى إلا الحرمان منها ، وهؤلاء على اختلاف في مراتبهم.

والحد الأدنى الذي يمكن قبوله من المعارف السماوية ، هو الاعتقاد بشكل مجمل وأداء أحكام الإسلام العلمية ظاهرا ، وعبادة الله جلّ شأنه أملا في الثواب وخوفا من العقاب.

وهناك أناس اثر صفاء فطرتهم لا يرون السعادة بالركون إلى لذائذ هذه الحياة بأيامها القليلة الزائلة ، وما الفائدة والضرر ، والبهجة والبؤس في هذه الحياة إلّا ظن مغر ، وما أولئك الذين كانوا بالأمس سعداء ، وأصبحوا اليوم قصصا تروى ، سوى دروس وعبر لهم ، تلقى في أذهانهم باستمرار وعلى الدوام.

وهؤلاء بالطبع يتجهون بقلوبهم المنزهة إلى العالم الأبدي وينظرون إلى هذا العالم بما فيه من مظاهر مختلفة ، بأنها دلالات وإشارات لا غير ، وليست فيها أية أصالة أو استقلال.

وعند ما تفتح لهم أبواب من المعرفة والإدراك المعنوي للآيات والظواهر الأرضية والسماوية ، وتشرق في نفوسهم أنوار غير متناهية من عظمة وجلال الخالق سبحانه ، وتعجب نفوسهم وقلوبهم الطاهرة برموز الخليقة إعجابا ، فتعرج أرواحهم في الفضاء غير المتناهي للعالم الأبدي بدلا من انغماسها في مصالحها المادية الخاصة.

وعند ما يستمعون عن طريق الوحي الإلهي ، أن الله تعالى قد نهى عن عبادة الأوثان ، وظاهر الآية مثلا تجنب تقديس الأصنام ، فإنهم يدركون أن العبادة تختص بالله سبحانه ، وليست لأحد سواه ، لأن حقيقة العبادة هي العبودية المطلقة ، وأكثر من هذا فهم يدركون أن الخوف والرجاء لا يكون إلّا من الله ولله وحده ، ويجب ألّا يستسلموا لأهواء النفس ، ولا يجوز التوجه إلّا لله تعالى.

وعند ما يتلى عليهم حكم وجوب الصلاة ، وظاهر الحكم إقامة هذه العبادة الخاصة ، لكن بحسب الباطن يدركون أن هذه الصلاة يجب أن تتحقق بقلوبهم وبكلّ وجودهم ، وأكثر من هذا يجب عليهم أن ينسوا أنفسهم ويتفانوا في عبادة الله وحده ، فهم لا شيء تجاه الخالق.

وكما هو واضح أن المعنى الباطني المستفاد من المثالين السابقين ، لم يكن مدلولا لفظيا للأمر أو النهي بذاته بل ـ للذي جعل مجال فكره متسعا ـ يرجّع النظر إلى العالم والكون على النظر في نفسه ، وما تنطوي عليه من أنانية وحب للذات.

ومع هذا البيان ، يتبين معنى ظاهر القرآن وباطنه ، وكذلك يتضح أن باطن القرآن لا يلغي ولا يبطل ظاهره ، بل إنه بمنزلة الروح التي تمنح الجسم الحياة ، وبما أن الإسلام دين عام ، شامل وأبدي ، فهو يهتم أولا وقبل كل شيء بإصلاح المجتمع البشري ، ولا يتخلّى عن الأحكام الظاهرية والتي مؤدّاها إصلاح المجتمع ، وكذا لا يتخلّى عن الاعتقادات البسيطة والتي تعتبر حارسة للأحكام المشار إليها.

فكيف يمكن لمجتمع أن ينال السعادة بالاقتناع أن الإنسان يكفيه

أن يكون منزها ، وليس هناك ثمة اعتبار للعمل ، فيعيش في حياة محاطة بعدم التنظيم والاستقرار؟

وكيف يمكن لفكر سقيم وأقوال سقيمة أن تخلق قلوبا طاهرة زكية ، أو أن يظهر من قلب زكي ، أقوالا سقيمة؟

ويقول تعالى في كتابه العزيز : (الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ) (١).

ويقول أيضا : (وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً ...) (٢).

ويستفاد مما ذكرنا أن للقرآن الكريم ظاهرا وباطنا ، وباطنه أيضا ذو مراتب مختلفة ، وأما الحديث فهو المبين لمفاهيم القرآن الكريم.

تأويل القرآن

ومما كان مشهورا عند إخواننا أهل السنة في صدر الإسلام ، إمكان الرجوع عن ظاهر القرآن الكريم ، إذا وجد دليل ، وأن تحمل الآية على خلاف الظاهر ، هذا ما يسمّى ب «التأويل» فكلمة التأويل في القرآن الكريم ، كانت تفسّر بهذا المعنى.

ومما يشاهد في كتب أهل السنة ، أن المناظرات الدينية المختلفة ، كانت تؤيّد بإجماع علماء المذاهب ، أو بدليل آخر ، فإذا ما خالفت ـ أدلتهم ـ ظاهر آية من آيات القرآنية ، كانوا يلجئون إلى

__________________

(١) سورة النور ، ٢٦.

(٢) سورة الأعراف الآية ٥٨.

تأويل الآية ، حملا لخلاف ظاهرها ، وأحيانا كان يلجأ كل من الطرفين المتخاصمين ، إلى الآيات القرآنية ، والاحتجاج بها ، وكل منها كان يؤوّل آية الطرف المتخاصم.

وقلما تسرّب هذا النوع من الاحتجاج إلى الشيعة ، وقد ذكر في بعض كتبهم في علم الكلام ... ومما يستفاد من الآيات القرآنية وأحاديث أهل البيت بعد تدبّرها أن القرآن الكريم مع صراحته ووضوح بيانه ، لا يريد أن تكون الآيات مبهمة وتبقى لغزا دون حل ، وكل ما جاء إلى الناس من أحكام ومسائل ، فهي بألفاظ تناسب ذلك الموضوع.

وما يذكره القرآن بكلمة «تأويل» لم يكن مدلولا للفظ بل حقائق وواقعيات أعلى شأنا من فهم عامة الناس ، وهي الأساس للمسائل الاعتقادية والأحكام العلمية للقرآن.

نعم أن لكل آيات القرآن تأويلا ، ولا يدرك تأويله عن طريق التفكّر مباشرة ، ولا يتّضح ذلك من ألفاظه ، وينحصر فهمه وإدراكه بالأنبياء والصالحين من عباد الله ، الذين نزّهوا أنفسهم من كل رجس ، فإنهم يستطيعون إدراكه عن طريق المشاهدة ، نعم إن تأويل القرآن سوف ينكشف يوم تقوم الساعة.

نحن نعلم جيدا أن تلبية حاجات المجتمع المادي ، دفعت الإنسان إلى الكلام ، ووضع الكلمات وكذا كيفية الاستفادة من الألفاظ. فالإنسان مضطر في حياته الاجتماعية لكي يفصح عما في ضميره من مفاهيم إلى أبناء نوعه ، أن يستمدّ العون عن طريق الصوت والأذن ، وقلما استفاد من الإشارة أو حركة العين ، ومن هنا نجد أنّ

التفاهم لا يحصل بين أفراد صمّ وعمي ، لأن ما يقوله الأعمى لا يسمعه الأصم ، وما يقوم به الأصمّ من الإشارات لا يراها الأعمى.

فعلى هذا فإن وضع الكلمات ، وتسمية الأشياء ما هو إلّا لرفع الاحتياجات المادية ، وقد اصطنعت الكلمات للأشياء والأوضاع والأحوال المادية التي تقع في متناول الحسّ ، أو على مقربة من المحسوس.

وكما نشاهد ففي بعض الموارد ، التي يكون فيها المخاطب فاقدا لإحدى الحواسّ ، وأردنا التكلّم معه عن طريق ذلك الحسّ المفقود ، نلجأ إلى نوع من التمثيل والتشبيه ، إذا أردنا أن نصف لشخص أعمى منذ الولادة ، النور والضياء ، أو أن نصف لطفل لم يبلغ سن البلوغ ، لذة العمل الجنسي ، فإننا نقوم بنوع من المقارنة والتشبيه المناسب.

وعليه إذا افترضنا أن هناك في الكون واقعيات ليست بمادة (وواقع الأمر هكذا) ، فهناك من البشر ـ لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد ـ في كل عصر ، من لهم القدرة على إدراكها ومشاهدتها ، وهذه الأمور لا يمكن توضيحها للآخرين عن طريق البيان اللفظي والفكر الاعتيادي ، ولا يسعنا الإشارة إليه إلا بالتمثيل والتشبيه.

فالله تعالى يقول في كتابه العزيز (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) (١) أي لا يتوصل إليه الفهم الاعتيادي ، ولا يبلغه.

__________________

(١) سورة الزخرف الآية ٣ ـ ٤.

ويقول أيضا : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ* لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ) (١).

ويقول أيضا في شأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٢).

وفقا لدلالات هذه الآيات ، فإن القرآن الكريم يصدر من ناحية تعجز أفهام الناس عن الوصول إليها ، والتوغّل فيها ، فلا يدركها إلّا من كان من المخلصين وعباده المقربين ، وأوليائه الصالحين ، وأهل بيت النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير مصداق لذلك.

ويقول عزّ من قائل : (بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) (٣). أي ترى الأشياء بالعيان يوم القيامة.

ويقول أيضا في آية أخرى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (٤).

تتمة البحث عن الحديث

إن اعتبار أصالة الحديث ، والذي يؤيده القرآن الكريم ، تقرّه

__________________

(١) سورة الواقعة الآية ٧٧ ـ ٧٩.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٣٣.

(٣) سورة يونس الآية ٣٩.

(٤) سورة الأعراف الآية ٥٣.

الشيعة وسائر المذاهب الإسلامية ، ولكن أثر التفريط في حفظه والذي حصل من قبل الولاة والحكام في صدر الإسلام وأثر الإفراط الذي حدث من الصحابة والتابعين في نشر الأحاديث ، كانت عاقبة الحديث مؤسفة مؤلمة.

فمن جهة منع خلفاء ذلك الزمان من كتابة الحديث وتدوينه ، فكانوا يحرقون الأوراق التي دونت عليها الأحاديث ، ما وسعهم ذلك ، وأحيانا كانوا يمنعون من نقل الأحاديث ، فأدى هذا إلى أن الكثير من الأحاديث أصابها التغيير والتحريف والنسيان ونقلت الأحاديث بمضامينها.

ومن جهة أخرى ، قام صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذين حضروا مجلسه ، واستمعوا إلى حديثه ، وكانوا مورد احترام هؤلاء الخلفاء وعامة المسلمين ، بنشر الأحاديث حتى آل الأمر إلى أن يصبح الحديث ذا أهمية أكثر من القرآن ، وأحيانا كان الحديث ينسخ الآية (١).

وكان يتفق أن نقلة الأحاديث ، كانوا يتحمّلون مصاعب الطريق والسفر لاستماع حديث واحد.

وقد تزيّا البعض من غير المسلمين بزيّ الإسلام ، وتلبّس به ، وبدءوا بوضع الأحاديث وتغييرها ، فأسقطوا الحديث من الاعتبار ، ومن الوثوق به (٢).

__________________

(١) موضوع نسخ القرآن بالحديث أحد مواضيع علم الأصول ، ويؤيده جمع من علماء أهل السنة ، ويتضح من قضية (فدك) أن الخليفة الأول يؤيد ذلك أيضا.

(٢) ما يؤيد هذا القول مصنفات كثيرة وضعها العلماء في الأحاديث الموضوعة ، وكذا في كتب الرجال اشتهر جماعة من الرواة بأنهم كذابون وضاعون.

ولهذا السبب فكّر علماء الإسلام ومفكروه بوضع حلّ لهذه المعضلة ، فوضعوا علمين : علم الرجال وعلم الدراية ، ليميّزوا الحديث الصحيح من السقيم.

والشيعة فضلا عن أنهم يسعون لتنقيح سند الحديث ، يرون وجوب مطابقة الحديث للقرآن الكريم في صحة اعتباره.

وقد ورد في أخبار كثيرة (١) وبأسانيد قطعية عن طريق الشيعة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، إن الحديث الذي يخالف القرآن لا اعتبار له ، والحديث المعتبر هو ما وافق القرآن. لذا ، لا يعمل الشيعة بالأحاديث التي تخالف القرآن ، أما الأخبار التي (٢) لا يعلم مدى مخالفتها أو موافقتها ، فإنها توضع جانبا ، دون ردّ أو قبول ، ويعتبر مسكوتا عنه ، ويستدل على هذا الأمر بأحاديث أخرى لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولا يخفى أن هناك فئة من الشيعة ، مثل ما هو موجود عند أهل السنة ، يعملون بأيّ حديث يقع في متناول أيديهم.

الشيعة والعمل بالحديث

الأحاديث التي سمعت من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو أئمة أهل البيت عليهم‌السلام دون واسطة ، حكمها حكم القرآن الكريم ، أما الأحاديث التي وصلت إلينا بواسطة ، فإن الشيعة تعمل بها كالآتي :

فيما يتعلق بالمسائل الاعتقادية ، والذي يصرّح به القرآن ،

__________________

(١) البحار ج ١ : ١٣٩.

(٢) البحار ج ١ : ١٧١.

يستلزم العلم والقطع بالخبر المتواتر ، أو الخبر الذي تتوفر في صحته الشواهد القطعية ، فإنه يعمل به ، وعدا هذين النوعين والذي يسمى الخبر الواحد ، فلا اعتبار له.

ولكن في استنباط (١) الأحكام الشرعية ، نظرا للأدلة القائمة ، فضلا عن الخبر المتواتر والخبر القطعي ، فإنه يعمل أيضا بالخبر الواحد الذي يكون موثّقا.

إذن فالخبر المتواتر والخبر القطعي مطلقا عند الشيعة ، يكون حجة ولازم الاتّباع ، أما الخبر غير القطعي كالخبر الواحد فإنه حجة بشرط أن يكون موثّقا في نوعه ، وينحصر ذلك في الأحكام الشرعية.

التعلّم والتعليم العام في الإسلام

إن تحصيل العلم من الوظائف الدينية في الإسلام ، وخير دليل على ذلك ، قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة» ووفقا للأخبار التي تؤيّد بالشواهد القطعية ، يكون المراد من العلم ، هو معرفة أصول الدين الثلاثة : «التوحيد ، النبوّة ـ المعاد» مع ما يلازمها ، من معرفة الأحكام والقوانين الإسلامية بصورة مفصلة ، كل حسب احتياجه.

ومن الواضح أن تحصيل العلم في أصول الدين ، وإن كان مع دليل مجمل ، فهو ميسور للجميع ، ولكن تحصيل العلم مع تفاصيل

__________________

(١) مبحث حجية الخبر الواحد في علم الأصول.

الأحكام والقوانين الدينية ، لا يتحقق إلّا بالاستنباط الفقهي من المصادر الأصليّة ، وهي الكتاب والسنة (الفقه الاستدلالي) وهذا ما لا يتيسر للجميع.

والإسلام لا يشرّع حكما فيه حرج ، لذا فإن تحصيل العلم بالأحكام والشرائع الدينية عن طريق الدليل يعتبر واجبا كفائيا ، يختص بالبعض الذي له الكفاءة والقدرة ، أمّا عامة الناس ، فيجب عليهم الرجوع إلى هؤلاء البعض. وفقا للقاعدة العامة ، وهي وجوب رجوع الجاهل إلى العالم ، (قاعدة الرجوع إلى أهل الخبرة) ، وهو مراجعة من يسمّون ب «المجتهدين الفقهاء» ويطلق على هذه المراجعة كلمة (التقليد) ولكن هذا الرجوع والتقليد ليس في أصول الدين (١).

ومما تجدر الإشارة إليه ، أن الشيعة ، لا تجيز التقليد الابتدائي من المجتهد الميّت ، والشخص الذي لا يعلم مسألة ما عن طريق الاجتهاد ، فإنه وفقا لوظيفته الدينية يجب أن يقلّد المجتهد ، ولا يستطيع الرجوع إلى فتوى المجتهد المتوفي ، ما لم يكن قد قلّد في هذه المسألة مجتهدا حيّا ، وبعد وفاة المرجع والمقلّد بقي على تقليده ، وهذه المسألة هي إحدى العوامل المهمة التي تجعل الفقه الإسلامي الشيعي يمتاز بالحيوية ، لهذا السبب يسعى جماعة للحصول على درجة الاجتهاد ، والتحقيق في المسائل الفقهيّة.

ولكن إخواننا أهل السنة إثر الإجماع الذي حصل في القرن

__________________

(١) يراجع في هذا الموضوع مبحث الاجتهاد والتقليد من علم الأصول.

الخامس الهجري ، الداعي بلزوم اتّباع مذهب من الفقهاء الأربعة وهم : أبو حنيفة والمالكي والشافعي وأحمد بن حنبل ، فهم لا يجيزون الاجتهاد الحرّ ، وكذا التقليد من غير هؤلاء الأربعة ، وفي النتيجة بقي فقههم كما كان عليه قبل حوالي ألف ومائتي سنة ، وأخيرا انعزل جماعة من المنفردين عن الإجماع المذكور ، واتجهوا نحو الاجتهاد الحرّ.

الشيعة والعلوم النقلية

العلوم الإسلامية التي دوّنها علماء الإسلام ، تنقسم إلى قسمين : عقلية ونقلية ، فالعلوم النقلية ، هي التي يعتمد عليها في النقل ، مثل اللغة والحديث والتأريخ وما شابهها ، والعلوم العقلية مثل الفلسفة والرياضيات.

ولا شك أن الدافع الأصلي لظهور العلوم النقلية في الإسلام ، هو القرآن الكريم ، عدا علمي التأريخ والأنساب وعلم العروض. أما سائر العلوم فهي وليدة هذا الكتاب الإلهي.

دوّن المسلمون هذه العلوم بتتبعهم الديني ، وأهم ما فيها هو ، الأدب العربي وعلم النحو والصرف ، وعلم البلاغة ، وعلم اللغة ، وما يتعلق بالظواهر الدينية ، مثل علم فن القراءة والتفسير والحديث والرجال والدراية والأصول والفقه.

والشيعة لهم دورهم ومشاركتهم المهمة في تأسيس وتنقيح هذه العلوم ، ويمكن القول بأن المؤسس والمبتكر لكثير منها ، هم الشيعة. كما نجد ذلك في علم النحو ، فقد صنفه «أبو الأسود

الدؤلي» وهو أحد صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام بعد أن أملاه عليه الإمام علي عليه‌السلام. ويعتبر الصاحب بن عباد الشيعي من كبار مؤسسي (١) علم الفصاحة والبلاغة ، وكان من وزراء آل بويه. وأوّل كتاب صنف في علم اللغة هو «كتاب العين» (٢) ، لمؤلفه العالم المعروف «الخليل بن أحمد البصري الشيعي» ، وهو واضع علم العروض ، وأستاذ «سيبويه النحوي» في علم النحو.

وتنتهي قراءة «عاصم» للقرآن إلى عليّ عليه‌السلام بواسطة ، وأما عبد الله بن عباس والذي يعتبر من أفضل الصحابة في التفسير ، فهو تلميذ الإمام عليّ عليه‌السلام ، ولا ينكر أحد ما بذله أهل البيت عليهم‌السلام وشيعتهم من جهد في علم الحديث والفقه ، كما أن اتصال الفقهاء الأربعة وغيرهم بالإمام الخامس والسادس (الباقر والصادق عليهما‌السلام) للشيعة فمعروف ، وما حصل عليه الشيعة من تقدم في أصول الفقه في زمن «الوحيد البهبهاني» (المتوفي سنة ١٢٠٥ ه‍ ـ ق) وبالأخص على يد «الشيخ مرتضى الأنصاري» ، (المتوفي سنة ١٢٨١ ه‍ ـ ق.) يثير الإعجاب. ولا يقارن بأصول الفقه لدى إخواننا أهل السنة.

__________________

(١) الوفيات لابن خلكان ص ٧٨ ـ أعيان الشيعة ج ١١ : ٢٣١.

(٢) الوفيات ص ١٩٠ ـ وأعيان الشيعة وسائر الكتب والتراجم.

الطريق الثاني :

المباحث العقلية

التفكر العقلي والفلسفي والكلامي

قد أشرنا سابقا (١) ، أن القرآن الكريم يؤيد التفكر العقلي ، ويعتبره جزء من التفكّر الديني. والتفكّر العقلي بعد أن يصادق على صدق نبوّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يجعل الظواهر القرآنية بما فيها الوحي السماوي ، وأقوال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل البيت عليهم‌السلام من موارد الحجج العقلية. والحجج العقلية التي يثبت بها الإنسان نظرياته ، مع ما لديه من فطرة إلهيّة تنقسم إلى قسمين : البرهان والجدل.

والبرهان : حجة ، ومقدماته واقعية ، وإن لم تكن مشهودة أو مسلّمة ، وبعبارة أخرى ، هي أمور يدركها الإنسان بداهة مع ما عنده من فطرة إلهية ، ويصادق عليها ، كما نعلم أن عدد الثلاثة أصغر من عدد الأربعة ، فهذا النوع من التفكّر ، يدعى التفكّر العقلي ، وإذا تحقق هذا التفكر وحصل في كليات العالم والكون ، كالتفكر في بدء الخلقة ، وعاقبة العالم ، فهو ما يسمى بالتفكر الفلسفي.

والجدل : حجة ، إذا حصلت مقدماته من المشهودات والمسلّمات ،

__________________

(١) الفصل الأول من الكتاب.

كما هو متعارف بين معتنقي الأديان والمذاهب ، فهم يثبتون آراء ونظريات مذهب ما مع الأصول المسلّمة لذلك المذهب.

والقرآن الكريم يستفيد من الطريقتين ، وهناك آيات كثيرة في هذا الكتاب السماوي لكل من هاتين الطريقتين.

فهو أولا : يأمر بالتدبّر والتفكّر المطلق في كليات عالم الطبيعة وفي النظام العام للعالم ، وكذا في النظام الخاص مثل ، نظام السماء والنجوم والليل والنهار والأرض والنبات والحيوان والإنسان وغيرها ، ويثني على التتبعات العقلية الحرّة ثناء كثيرا.

وثانيا : يأمر بالتفكر العقلي الجدلي ، ويسمّى عادة بالمباحث الكلامية ، بشرط أن يتم ذلك بأحسن وجه ممكن «وذلك لإظهار الحق بدون لجاجة وأن يكون مقرونا بالأخلاق الحسنة». كما في قوله تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١).

مدى تقدم الشيعة في التفكر الفلسفي والكلامي في الإسلام

منذ اليوم الذي انفصلت فيه الأقلية الشيعية عن الأكثرية السنية ، كانت الشيعة تقيم الاحتجاجات مع مخالفيها ، في النظريات والخاصة بها التي كانت تتبناها.

صحيح أن الاحتجاج ذو طرفين ، وأن المتخاصمين شريكان في دعواهم ، ولكن الشيعة كانت تقف موقف الهجوم ، والآخرون كانوا

__________________

(١) سورة النحل الآية ١٢٥.

في موقف الدفاع ، فالذي يقف موقف الهجوم يجب أن يكون قد هيّأ الوسائل الكافية للمخاصمة ، ومن ثم الحملة والهجوم.

وكذا في التقدم الذي حظيت به المباحث الكلامية بصورة تدريجية ، في القرن الثاني وأوائل القرن الثالث ، فقد وصل في رقّية إلى القمة مع انتشار مذهب الاعتزال ، فعلماء الشيعة ومحققوهم ، والذين هم تلاميذ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، كانوا في مقدمة المتكلمين.

فضلا عن أن متكلمي أهل السنة (١) ، من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم ، يصلون في تدرجهم هذا إلى الإمام الأول للشيعة ، وهو الإمام علي عليه‌السلام ، وأما أولئك الذين عرفوا آثار الصحابة ، واطّلعوا عليها ، يعلمون جيدا أن من بين جميع هذه الآثار التي تنسب إلى الصحابة (وقد دوّنت أسماء اثني عشر ألفا) لم نجد أثرا واحدا يشتمل على التفكر الفلسفي. بل ينفرد الإمام علي عليه‌السلام بخطابه وبيانه المبهر في معرفة الله تعالى ، بأنه يتّصف بالتفكيرات الفلسفية الشديدة العمق.

لم تكن للصحابة ولا التابعين الذين جاءوا بعدهم ، أو العرب بصورة عامة في تلك الأيام أيّة معرفة بالتفكر الفلسفي الحرّ ، ولم نجد في أقوال العلماء في القرنين الأولين للهجرة ، نماذج من التدقيق والتتبع ، بينما نجد الأقوال الرصينة لأئمة الشيعة عليهم‌السلام ، وخاصة الإمام الأول (الإمام علي عليه‌السلام) والثامن

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد ، أوائل المجلد الأول.

(الإمام علي الرضا عليه‌السلام) ، تحتوي على كنوز من الأفكار الفلسفية ، وهم بدورهم ربوا تلاميذهم على هذا اللون من التفكير.

نعم كان العرب بعيدين عن التفكّر الفلسفي ، حتى ظهرت نماذج من هذا التفكير عبر ترجمة بعض الكتب الفلسفية اليونانية ، إلى اللغة العربية في أوائل القرن الثاني للهجرة ، وبعدها ترجمت كتب متعددة من اليونانية والسريانية وغيرها إلى اللغة العربية ، وحينها أصبحت طريقة التفكر الفلسفي في متناول أيدي العموم ، ومع هذا ، فإن الكثير من الفقهاء والمتكلمين ، لم يبدوا اهتماما بالفلسفة وسائر العلوم العقلية ، التي وردت إليهم حديثا ، رغم الاهتمام الخاص الذي كانت تبديه السلطة الحاكمة آنذاك لمثل هذه العلوم.

ولكن بعد فترة من الزمن تغيّرت الأوضاع والأحوال ، فمنعت دراسة هذه العلوم ، وألقيت بعض الكتب الفلسفية في البحر ، وما كتاب رسائل «إخوان الصفا» وهو نتاج فكري لعدد من المؤلفين ، إلّا مذكّر بتلك الفترة ، فهو خير دليل على الأوضاع المضطربة في ذلك الزمن. وبعد هذه الفترة ، أي في أوائل القرن الرابع الهجري ، ظهرت الفلسفة ونمت ، على يد «أبي نصر الفارابي». وفي أوائل القرن الخامس للهجرة ، وأثر مساعي الفيلسوف المشهور «أبي علي سينا» اتّسعت الفلسفة اتساعا بالغا ، وفي القرن السادس أيضا ، نقّح الشيخ «السهروردي» فلسفة الإشراق ، وقد قتل بهذه التهمة ، وبأمر من الحاكم «صلاح الدين الأيوبي» ، وبعدها ضعفت الفلسفة عند الكثيرين ، ولم ينبغ فيلسوف شهير ، حتى جاء القرن

السابع الهجري ، فظهر في «الأندلس» «ابن رشد الأندلسي» وسعى في تنقيح الفلسفة.

الشيعة يسعون دائما بحقل الفلسفة وسائر العلوم العقلية

الشيعة ـ كما أشرنا ـ كانوا عاملا مؤثرا في إيجاد الفكر الفلسفي ، وهم يعتبرون عاملا مهما في تقديم هذا الفكر ، وكانوا يسعون دوما في نشر العلوم العقلية ، ومع وفاة «ابن رشد» ذهبت الفلسفة من بين الأكثرية من أهل السنة ، ولكنها لم تذهب من بين الشيعة ، فبعدها اشتهر فلاسفة كبار مثل «خواجه نصير الدين الطوسي» و «ميرداماد» و «صدر المتألهين» وسعى كل من هؤلاء ، الواحد بعد الآخر في تحصيل العلوم الفلسفية وتدوينها.

وكذلك في سائر العلوم العقلية ظهر كل من «الخواجه الطوسي» و «البيرجندي» وغيرهم. كل هذه العلوم وخاصة الفلسفة الإلهية ، تقدمت تقدما باهرا اثر المساعي الدءوبة لعلماء الشيعة ومفكريهم ، ويتّضح ذلك ، بمقارنة آثار كل من «الخواجه الطوسي» و «شمس الدين تركه» و «الميرداماد» و «صدر المتألهين» مع مؤلفات القدماء.

لما ذا استقرت الفلسفة عند الشيعة؟

فكما أن العامل المؤثر في وجود ونشأة الفكر الفلسفي والعقلي بين الشيعة هو آثار أئمة الشيعة وعلمائهم ، فإن بقاء واستقرار هذا اللون من الفكر ، يرجع إلى وجود تلك الذخائر العلمية ، التي

يهتم بها الشيعة ويبدون لها احتراما وتقديسا ، ولكي يتضح الأمر ، يكفينا مقارنة الذخائر العلمية لأهل البيت عليهم‌السلام مع الكتب الفلسفية التي صنّفت مع مرور الزمن ، فإننا سنرى بوضوح ، أن الفلسفة كانت تقترب من هذه الكنوز العلمية في أكثر الموارد ، وحتى بداية القرن الحادي عشر ، فإنها كانت متقاربة جدا ، بل منطبقة ، ولم يكن هناك من فارق سوى الاختلاف في المصطلحات.

خمسة من نوابغ علماء الشيعة

١ ـ ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ، المتوفي سنة ٣٢٩ للهجرة.

هو أول عالم شيعي ، استخرج ورتّب الموضوعات الفقهية والاعتقادية من الروايات الشيعية التي كانت مدونة في الأصول ، (الأصل هو ما جمعه المحدّث من روايات أهل البيت عليهم‌السلام في مصنّف خاص) فسمى كتابه ب «الكافي» وينقسم إلى أقسام ثلاثة :

الأصول والفروع والروضة (المتفرقات) ، ويشتمل على ١٦١٩٩ حديثا ، ويعتبر هذا الكتاب من أشهر كتب الحديث التي عرفت في عالم التشيّع ، وهناك ثلاثة كتب ، تأتي بعد «الكافي» من حيث الأهمية وهي :

كتاب «من لا يحضره الفقيه» للشيخ «الصدوق محمد بن بابويه القمي» المتوفي سنة ٣٨١ للهجرة. وكتاب «التهذيب» وكتاب «الاستبصار» لمؤلفهما «الشيخ الطوسي» المتوفي سنة ٤٦٠ للهجرة.

٢ ـ أبو القاسم جعفر بن حسن بن يحيى الحلّي المعروف بالمحقق المتوفي سنة ٦٧٦ للهجرة.

يعتبر من نوابغ علم الفقه ، ومن أشهر مشاهير فقهاء الشيعة ، ويعتبر كتاب «المختصر النافع» وكتاب «الشرائع» من أروع ما حرّره في الفقه ، ومنذ ٧٠٠ سنة وحتى الآن لا يزال مورد إعجاب وتقدير الفقهاء.

ومن الكتب التي تأتي بعد الكافي هو كتاب «اللمعة الدمشقية» لمؤلفه المحقق الشهيد الأول «شمس الدين محمد بن مكي» استشهد في دمشق سنة ٧٨٦ للهجرة ، بتهمة التشيع ، وقد دوّن كتابه هذا بمستوى رفيع ، في السجن ، خلال سبعة أيام.

ويعتبر كتاب «كشف الغطاء» للشيخ «جعفر كاشف الغطاء النجفي» من أجود مؤلفات هذا العالم.

٣ ـ الشيخ مرتضى الأنصاري التستري المتوفي سنة ١٢٨١ للهجرة.

نقّح علم أصول الفقه ، وحرّر طرق الأصول العلميّة ، والتي تعتبر من أهم أقسام هذا الفن ، ولا تزال مدرسته قائمة ، وموضع تقدير العلماء منذ ١٠٠ عام.

٤ ـ الخواجه نصير الدين الطوسي ، المتوفى سنة ٦٧٦ للهجرة.

وهو أول من أظهر علم الكلام ، بصيغته الفنية الكاملة ، ومن أشهر مؤلفاته وأجودها كتاب «تجريد الاعتقاد» ولا يزال ومنذ أكثر من ٧٠٠ سنة ، معتبرا وذا قيمة بين روّاد هذا الفن ، وقد طبع الكتاب مع شروح وحواش عديدة من قبل العامة والخاصة.

وهو فضلا عن نبوغه في علم الكلام ، يعتبر من نوابغ عصره في علم الفلسفة والرياضيات أيضا ، وخير شاهد على ذلك ، هو الكثير من مؤلفاته المهمة في مختلف العلوم العقلية ، وقد قام بإنشاء مرصد فلكي أيضا.

٥ ـ صدر الدين محمد الشيرازي ، المولود سنة ٩٧٩ ، والمتوفي سنة ١٠٥٠ للهجرة.

هو أول فيلسوف قام بتصنيف وترتيب المسائل الفلسفية كالمسائل الرياضية (بعد سيرها قرونا متمادية في العصر الإسلامي) بعد أن كانت مبعثرة ، فحصلت النتائج التالية :

أولا : فسح المجال للفلسفة بأن تطرح ويحل فيها مئات من المسائل الفلسفية ، والتي لم يكن لها المجال لأن تطرح في السابق.

ثانيا : أتيح المجال لعرض مجموعة من المسائل العرفانية ، (والتي كانت حتى ذلك الوقت تعتبر مواضيع خارجة عن نطاق العقل ، وفوق مستوى الفكر الإنساني) وثم بحثها وتمحيصها بأيسر السبل.

ثالثا : اتضحت كثير من الظواهر الدينية ، والعبارات الفلسفية العميقة لأئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، والتي بقيت لقرون متتالية تتصف باللغز الذي لا يحلّ ، وكانت تعتبر من المتشابهات غالبا ، وبهذا اتصلت الظواهر الدينية بالعرفان والفلسفة في أكثر الموارد ، وسلكت سويا ، طريقا واحدا.

وهناك من قام بهذه المهمة قبل «صدر المتألهين» أيضا ، مثل الشيخ «السهروردي» مؤلف كتاب «حكمة الإشراق» وهو من

فلاسفة القرن السادس ، و «شمس الدين محمد تركه» من فلاسفة القرن السادس الهجري ، حيث قاما بدراسات مثمرة ، إلا أنهما لم يوفقا توفيقا كاملا ، كالذي حظي به «صدر المتألهين».

وقد وفّق صدر المتألهين اثر اتخاذ هذه الطريقة إلى إثبات نظرية الحركة الجوهرية ، واكتشف البعد الرابع والنظرية النسبيّة (خارج عن نطاق الذهن والفكر) ، وصنّف ما يزيد عن خمسين كتابا ورسالة. ومن أهم كتبه في الفلسفة ، كتاب (الأسفار) في تسعة مجلدات.

الطريق الثالث :

الكشف

الإنسان وإدراكه للعرفان

في الوقت الذي تسعى الأكثرية من الناس في أمور معاشهم ، ورفع احتياجاتهم اليومية للحياة ، غير مبالين بالمعنويات ، فإن هناك غريزة في وجودهم ، تدعى غريزة حبّ الذات ، نراها تنمو عندهم ، تجبرهم على إدراك مجموعة من القضايا المعنوية.

كل إنسان (على الرغم من أن السوفسطائيين والشكاكين يسمّون كل حقيقة وواقعية خرافة) يؤمن بواقعيات ثابتة ، ونراه ، ينظر بفطرته وضميره المنزّه إلى هذه الواقعيات الثابتة في الكون ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، يشعر الإنسان بفناء أجزاء هذا العالم ، فيرى العالم وظواهره كالمرآة التي تعكس الواقعيات

الثابتة الخلابة ، وعند إحساس لذاتها ، تصبح اللذائذ الأخرى حقيرة في نظره ، وبالتالي تجعله ينصرف عن الحياة الفاتنة الفانية.

هذا هو مدى جاذبية العرفان ، التي تسلك بالمؤمن إلى العالم العلوي ، وتقرّ في قلبه عظمة الله وجلاله ، فينسى كل شيء ، ويغفل عن كل شيء ، فتحرضه هذه الجاذبية على أن ينبذ كل ما يتمناه ويرجوه في هذه الحياة ، وتدعوه إلى عبادة الله الذي لا يرى ، وهو أوضح من كل ما يرى ويسمع.

وفي الحقيقة أن هذه الجاذبية الباطنية ، هي التي قد أوجدت في الإنسان ، سبل عبادة الله تعالى. والعارف هو الذي يعبد الله سبحانه عن حبّ وإخلاص ، لا عن طلب للثواب ولا عن خوف ورهبة من العذاب. من هنا يتضح أن العرفان ليس مذهبا في قبال المذاهب الأخرى ، بل أن العرفان طريق من طرق العبادة (عبادة الحب والإخلاص ، لا للخوف والرجاء) وهو طريق لإدراك وفهم حقائق الدين ، في قبال طريق الظواهر الدينية وطريق التفكر العقلي.

ظهور العرفان في الإسلام

من بين صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وقد جاء ذكر ما يقارب من اثني عشر ألفا منهم في كتب الرجال) ينفرد الإمام علي عليه‌السلام ببيانه البليغ عن حقائق العرفان ، ومراحل الحياة المعنوية ، إذ يحتوي على الذخائر الجمّة ، ما لم نجد مثليه في الآثار التي بين

أيدينا عند بقية الصحابة ، وأشهر أصحاب الإمام علي عليه‌السلام وتلاميذه «سلمان الفارسي» و «أويس القرني» و «كميل بن زياد» و «رشيد الهجري» و «ميثم التمّار» والعرفاء عامة في الإسلام يجعلون هؤلاء أئمة وهداة لهم.

وهناك طائفة أخرى تأتي في الدرجة الثانية ، وهم «طاوس اليماني» و «مالك بن دينار» و «إبراهيم الأدهم» و «شقيق البلخي» الذين ظهروا في القرن الثاني الهجري ، وكانوا يعرفون بالزهاد وأولياء الله الصالحين ، دون أن يتظاهروا بالعرفان والتّصوف ، وعلى أية حال ، فإنهم لم ينكروا ارتباطهم ومدى تأثرهم بالطائفة الأولى.

وهناك طائفة ثالثة ظهرت في أواخر القرن الثاني وأوائل القرن الثالث للهجرة مثل «أبا يزيد البسطامي» و «المعروف الكرخي» و «جنيد البغدادي» وغيرهم ، من الذين سلكوا طريق العرفان ، وتظاهروا بالعرفان والتصوف ، ولهم أقوال تدل على مدى المكاشفة والمشاهدة لديهم ، ولما كانت هذه الأقوال تتصف بظاهرها اللاذع ، فإنها قد أثارت عليهم الفقهاء والمتكلمين في ذلك العصر ، وسببت المشاكل والفتن فأدّت إلى أن يزجّ بعضهم في السجون ، والبعض الآخر يقدّم إلى أعواد المشانق.

وأمام هذا الوضع فقد أبدوا التعصب لطريقتهم مقابل المخالفين ، وهكذا كانت طريقتهم تتسع وتنتشر يوما بعد يوم ، ونجدها قد وصلت إلى ذروتها في القدرة والانتشار ، في القرنين السابع والثامن الهجريين ، حيث كانت تتسم بالرفعة والعلوّ تارة ،

والسقوط والانحطاط تارة أخرى ، ولا تزال تمارس حياتها حتى اليوم (١).

والظاهر أن أكثر مشايخ العرفان الذين جاء ذكرهم في كتب العرفان ، كانوا على مذهب أهل التسنن ، والطريقة التي نشاهدها اليوم (والتي تشتمل على مجموعة من عادات وتقاليد ، لم نجد في الكتاب والسنة أساسا لها) تذكّرنا بتلك الأيام ، وإن كان البعض من تلك العادات والتقاليد انتقلت إلى الشيعة.

وكما يقال ، إن هؤلاء كانوا يعتقدون أن الإسلام يعوزه منهج للسير والسلوك ، والمسلمون استطاعوا أن يصلوا إلى طريقة معرفة النفس ، وهي مقبولة لدى الباري عزوجل ، مثل ما في الرهبانية عند المسيحيين ، إذ لم يوجد أساس له في الدعوة المسيحية ، فأوجدها النصارى وحبّذها جمع فانتهجها (٢).

ويستنتج مما ذكر ، أن كلا من مشايخ الطريقة ، جعل ما رآه صلاحا من عادات وتقاليد ، في منهج سيره وسلوكه. وأمر متبعيه بذلك ، وبمرور الزمن أصبح منهاجا وسعيا مستقلا ، مثل مراسم الخضوع والخشوع ، وتلقين الذكر والخرقة والاستفادة من الموسيقى والغناء عند إقامة مراسم الذكر ، حتى آل الأمر في بعض الفرق منها أن تجعل الشريعة في جانب ، والطريقة في جانب آخر ، والتحق متبعو هذه الطريقة بنهج الباطنية. أما معايير النظرية الشيعية ،

__________________

(١) يراجع كتب التراجم وتذكرة الأولياء والطرائق وغيرها.

(٢) قوله تعالى في سورة الحديد الآية ٢٧ : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللهِ ....)

فاستنادا إلى المصادر الأساسية للإسلام (الكتاب والسنة) تقرّ خلاف ذلك ، ومن المستحيل أن النصوص الدينية قد تغافلت عن هذه الحقيقة أو أنها أهملت جانبا من جوانب هذا النهج والطريق (معرفة النفس والسير والسلوك) ، ويستحيل عليها أيضا أن تغض النظر عن شخص (أيّ كان) في الواجبات أو المحرمات.

إرشاد الكتاب والسنة إلى معرفة النفس ، ومناهجها

إن الله تعالى جلّ شأنه ، يأمر الناس في آيات متعددة في كتابه المجيد ، أن يتدبّروا القرآن ، ويعملوا به ، ولا يقنعوا لأنفسهم بالفهم والإدراك السطحي للقرآن ، وبيّن في كثير من آياته أن في عالم الطبيعة آيات ودلالات له جلّ جلاله.

فلو تأملنا وتدبرنا معنى الآية والدلالة ، يتضح أن الآية والدلالة هي التي تشير إلى شيء آخر لا إلى نفسها ، فعلى سبيل المثال ، إن الذي يرى الضوء الأحمر ، المشعر بالخطر.

فإنه مع مشاهدته للضوء ، يتبادر إلى ذهنه الخطر ذاته ، ولا يلتفت إلى الضوء نفسه ، وإذا ما فكر في الضوء نفسه ، أو ماهية الزجاج أو لونه ، فذهنه يصوّر له الضوء أو الزجاج أو اللون ، ولا يصور له مفهوم الخطر.

فإذا ، كان العالم وظواهره ، آيات ودلالات لخالق العالم ، فإن وجودهما ليس مستقلا ، ولو شوهدت بأيّ شكل أو أيّة صورة ، فإنما ترشد إلى وجوده سبحانه.

والذي ينظر إلى العالم بهذا المنظار ، ووفقا لتعاليم القرآن

الكريم وهدايته ، لا يرى إلّا الله سبحانه ، وبدلا من أن يرى جمال العالم ، فإنه يرى جمالا أزليا غير متناه ، وهذا العالم تجلّ لهذا الجمال الأزلي عندئذ يهب حياته ، وينسى ذاته ، ويفنى في حبّ الله جلّ شأنه.

وهذا الإدراك ـ كما يتّضح ـ لا يحصل عن طريق الحواس ، كالعين والأذن ، ولا عن طريق الخيال والعقل ، لأن هذه لم تكن سوى آيات ودلالات ، فهي في غفلة عن هذه الدلالة والهداية.

وهذا الطريق ، الذي لا بدّ لسالكه أن ينسى كل شيء سوى الله تعالى ، عند ما يستمع إلى قوله في كتابه المجيد : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١).

سيعلم أن الطريق الرئيسي الذي ينتهي به إلى الهداية الواقعية والكاملة ، هو طريق النفس الإنسانية ، والمرشد الحقيقي له ، هو الله تعالى ، فقد كلّفه بمعرفة نفسه ، وأن يسير في هذا السبيل ، بتركه للسبل الأخرى ليرى الله من هذه الطريق ، فإنه سيدرك مطلوبه الحقيقي.

والنبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ويقول أيضا : «اعرفكم بنفسه ، أعرفكم بربه».

وأما طريقة السير والسلوك ، وهي طريقة الكثير من الآيات القرآنية التي تأمر بذكر الله تعالى ، كقوله : (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) (٢)

__________________

(١) سورة المائدة الآية ١٠٥.

(٢) سورة البقرة الآية ١٥٢.

وغيرها من الآيات في الكتاب ، والأقوال في السنة ، فقد جاءت مفصّلة ، ويختتمها بقوله : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) (١).

فهل يمكن أن يتصوّر ، أن الإسلام ، يعرّف لنا الطريق إلى الله تعالى ، ولا يحثّ الناس على تتبعه ، أو يعرّفه ويغفل عن تبيان نهجه ، في حين نجده يقول عزّ من قائل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (٢).

__________________

(١) سورة الأحزاب الآية ٢١.

(٢) سورة النحل الآية ٨٩.

الفصل الثالث :

المعتقدات الإسلامية

من وجهة نظر

الشيعة الإمامية

معرفة الله

ضرورة وجود الله تعالى

النظر إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيات.

إن أول خطوة يخطوها الإدراك والشعور لدى الإنسان ـ واللذان وجدا منذ وجوده ـ تبين له حقيقة وجود الخالق والمخلوق ، باستثناء أولئك الذين يشكّون في وجودهم وفي كل شيء ، ويعتبرون العالم ظنا وخيالا ، إن الإنسان منذ وجوده يلازمه الإدراك والشعور ، يرى نفسه والعالم أجمع ، فلا يشك بوجوده ولا يشك بأشياء أخرى غيره وهذا الإدراك والشعور يمكن فيه ، وليس هناك مجال للشك والتردد.

هذه الواقعية والوجود الذي يثبته الإنسان أمام السوفسطائيين والمشككين ، أمر ثابت لا يعتريه البطلان ، وفي الحقيقة أن كلام السوفسطائيين والمشككين الذي ينفي الواقعية القائمة بحدّ ذاتها ، هو كلام باطل ، لا يحمل على الصحة اطلاقا ، بل إن العالم والكون ينطوي على واقعية ثابتة.

ولكن كل هذه الظواهر التي تنطوي على واقعية ، والتي نشاهدها عيانا ، تفقد واقعيتها وتصير إلى الفناء ، خلال أدوار حياتها.

ومن هنا يتّضح أن العالم المشهود وأجزاءه ، لم تكن عين الواقعية (والتي لا يمكن إنكارها) ، بل تعتمد وتستند إلى واقعية

ثابتة ، وبتلك الواقعية ، تتصف بالواقعية ، وتتصف بالوجود ، وما دامت مرتبطة ومتصلة بها ، فهي موجودة وباقية ، وما إن تنقطع عنها حتى تزول وتفنى (١) ، ونحن نسمّى هذه الواقعية الثابتة التي لا يعتريها البطلان ب (واجب الوجود) أو الله سبحانه.

. نظرة أخرى عن طريق ارتباط الإنسان بالعالم.

إن الأسلوب الذي اتبع في الفصل السابق ، لإثبات وجود الله تعالى أسلوب بسيط ، يستطيع الإنسان أن ينتهج هذا الأسلوب بفطرته التي أودعه الله إياها ، وليس هناك أيّ رادع أو مانع يمنعه من ذلك ، ولكن معظم الناس ، نتيجة ارتباطهم المستمر بالماديات ، وتفانيهم في اللذائذ المحسوسة ، يصعب عليهم الرجوع إلى الفطرة ، وهي الفطرة الإلهية البيّنة.

فعلى هذا يعلن الإسلام أن شريعته عامة ، والكل سواسية أمام الدين ومقاصده ، فهو يثبت وجود الله تعالى لهؤلاء الناس من طريق وأسلوب آخر ، وهو الفطرة الواضحة ، والتي غفل عنها البشر ، فيخاطب البشر بها ، ويعرّف الله جلّ شأنه عن طريقها.

فالقرآن الكريم ، يتخذ طرقا لإيصال البشر كافة إلى معرفة الله ، فهو يلفت الأنظار ، ويوجه الأفكار غالبا إلى خلقة العالم ، والنظام والتنسيق القائم فيه ، ويدعو إلى ملاحظة ودراسة الآفاق والأنفس ، ذلك لأن الإنسان في حياته المحدودة ، لا يتخلف ولا

__________________

(١) وفي كتابه العزيز إشارة إلى هذا البرهان بقوله تعالى (قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) سورة إبراهيم الآية ١٠.

يخرج عن الطبيعة والنظام الحاكم فيها مهما سلك من سبل ، ولن يغض النظر ـ بما أوتي من شعور وإدراك ـ عن المشاهد الخلابة ، سواء في الأرض أو في السماء.

إن عالم الوجود (١) بما يتصف من سعة فإن كل جزء منه ، بل وجميع أجزائه معرّضة للتغيير والتبديل المستمرين ، وتظهر في كل لحظة بشكل جديد غير سابقتها

ووفقا للقوانين التي لا تقبل الاستثناء ، فإن هذا العالم بأسره ، ينطوي على نظام واضح بيّن ، يجري وفقا لقوانين مدهشة ومحيّرة للعقول ، تسيّر عمله من أدنى حالة إلى أكملها ، كي توصله إلى الهدف الاسمي وهو الكمال.

وفوق الأنظمة الخاصة ، توجد أنظمة أعمّ ، وهي النظام العام للكون ، الذي يربط أجزاءه العديدة التي لا تحصى بعضها ببعض ، ويوفق بين الأنظمة الجزئية ، ويربط بعضها بالبعض الآخر ، فهي في سيرها المستمر لن تتصف بالاستثناء أو الاختلال.

فنظام الخلقة مثلا عند ما أوجد الإنسان على سطح الأرض ، فقد جعل خلقته تتناسب مع المحيط الذي يعيش فيه ، وجعل المحيط بشكل يتناسب وذلك المخلوق ، كالمربّية العطوف التي تربي النشأ بكل عطف وحنان ، فالعالم بما فيه من شمس وقمر ونجوم وماء وتراب وليل ونهار ، والفصول السنويّة ، والسحب والرياح

__________________

(١) يقول جلّ ثناؤه (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ* وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ* وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ، وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ* تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ) سورة الجاثية الآية (٣ ـ ٦).

والأمطار ، والكنوز التي تحت الأرض وفوقها ، وبالتالي كل ما تملك من قوة ، سخّرت لراحة الإنسان وسعادته ، وإننا نلاحظ هذا الارتباط والتعاون في كل مظهر من مظاهر الطبيعة ، وفي كل ما يجاورنا من قريب أو بعيد ، وحتى في البيت الذي نعيش فيه.

ومثل هذا الاتصال والارتباط قائم في جميع أجزاء الأجهزة الداخلية لكل مظهر من مظاهر هذا العالم ، فالطبيعة لمّا منحت الإنسان الخبز مثلا ، منحته الرجلين للسعي إليه ، واليدين لتناوله ، والفم لأكله ، والأسنان لمضغه ، وربطته بسلسلة من الوسائل المرتبطة بعضها بالبعض الآخر كالسلاسل ، والتي ترتبط بالهدف الغائي وهو البقاء والكمال لهذا المخلوق.

ولم يشك أحد من علماء العالم أن الارتباطات اللامتناهية ، والتي توصلوا إليها اثر الدراسات العلمية لآلاف السنين ، ما هي إلا طليعة وبداية مختصرة لأسرار الخلقة ، وكل كشف جديد ، بمثابة إنذار للبشرية عن مجهولات لا حصر لها.

وهل يمكن القول بأن هذا الكون الرحب ، مع استقلال أجزائه ، يمتاز بوحدة واتصال ومع ما فيه من اتقان مدهش ، لا يدلّ على علم وقدرة غير متناهية. وهل يمكن القول بأنه وجد دون خالق ، ولم يكن هناك سبب أو هدف من إيجاده؟

وهل يمكن التصديق بأن كل هذه الأنظمة سواء الجزئية منها أو الكلية ، وكذا النظام العام القائم في الكون ، مع ما يتصف به من ارتباط محكم غير متناه.

والذي يسير وفق نظام دقيق خاص ، لا يقبل التغيير

والاستثناء ، كل هذا قد جاء دون حساب ، وإنما مجرد المصادفة هي التي لعبت دورها في خلقه وإيجاده؟ أم أنّ كلا من هذه الظواهر سواء الصغيرة منها أو الكبيرة في العالم ، قد اتخذت لها نهجا قبل حدوثها وخلقتها ، وبعد أن وجدت سلكت ذلك السبيل والنهج؟

أم أن هذا الكون مع وحدته الكاملة الشاملة ، والاتصال والارتباط القائم فيما بينها ، فهو لا يعدو مجموعة واحدة متكاملة ، قد أنشئت وخلقت نتيجة لعوامل متعددة مختلفة ، ويسير وفقا لقوانين متباينة؟

من الطبيعي أن الشخص الذي يرجع كل ظاهرة لمسبب وكل معلول لعلة ، فإنه عند مشاهدة عدة أحجار بصورة منتظمة ومنسقة ، ينسبها مباشرة إلى علم وقدرة قامت بصنعها ، وبذلك ينفي المصادفة مطلقا ، ويحكم بوجود تخطيط هادف ، ولا يدّعي أن المصادفة هي التي أوجدت هذا النظام والتنسيق.

لذا فإن الكون ، بما فيه من أنظمة مهيمنة ، مخلوقة لخالق عظيم ، هو الذي أوجدها بعلمه وقدرته غير المتناهية ، ويسيّرها إلى الغاية. وما العوامل البسيطة التي تنشئ الحوادث البسيطة ، في العالم إلّا منتهية إليه ، فهي تحت قدرته وهيمنته وتسخيره ، وكل ما في الكون محتاج إليه ، وهو غير محتاج لأحد أو لشيء ، ولم يكن معلولا لعلة ، ولا سببا لمسبب.

وحدانية الله تعالى

كل واقعية من واقعيات العالم ، تعتبر واقعية محدودة ، أي أنها تتمتع بالوجود على «فرض وجود السبب والشرط» ، وتعتبر أيضا وفقا لغرض عدم السبب والشرط» عدما ، ولحقيقة وجودها حدّ محدود ، إذ لا توجد خارج ذلك الحدّ ، فالله جلّ شأنه هو المنزّه عن الحدّ والمحدودية لأن واقعيته مطلقة ، فهو موجود بأيّ تقدير ، ولم يكن محتاجا لأيّ سبب وشرط ولا مرتبطا بأيّة علة.

ولا يسعنا أن نفترض عددا لأمر غير محدود وغير متناه ، فإذا ما افترض ثان ، فإنه غير الأول ، وفي النتيجة ، الاثنان محدودان متناهيان.

وسيضع كل منهما حدا فاصلا للآخر ، فلو افترضنا على سبيل المثال حجما غير محدود وغير متناه ، لا يسعنا افتراض حجم آخر إزاءه ، ولو قدّر أن افترضنا هذا فإن الثاني هو الأول ، فعلى هذا ، فإن الله تعالى أحد لا شريك له (١) ...

__________________

(١) يروى أن أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين أتقول إن الله واحد ، فحمل الناس عليه وقالوا : أما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسّم القلب ، فقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم ، ثم قال : يا أعرابي إن القول في أن الله واحد على أربعة أقسام ، فوجهان منها لا يجوزان على الله عزوجل ، ووجهان يثبتان فيه ، فأما اللذان لا يجوزان عليه ، فقول القائل واحد يقصد به باب الأعداد فهذا ما لا يجوز ، لأن ما لا ثاني له يدخل في باب الأعداد ، أما ترى أنه كفر من قال إنه ثالث ثلاثة ، وقول القائل هو واحد من الناس يريد به النوع والجنس فهذا ما لا يجوز ، ـ

الذات والصفات

لو نظرنا إلى الإنسان مثلا من زاوية العقل ، سنرى له ذاتا ، وهذه الذّات هي عين إنسانيته الخاصة به ، ويمتاز بصفات أيضا ، وهذه الصفات التي تعرّف كنه ذاته ، فمثلا أنه ابن لفلان ، عالم قادر ، طويل ، جميل ، أو صفات أخرى مغايرة.

فبعض هذه الصفات ، كالأولى ، لا تنفصل عن الذّات ، وبعضها الآخر ، كالعلم مثلا ، يمكن أن تنفصل عن الذّات أو تتغير ، وعلى أية حال ، فإن كلا من هذه الصفات ، ليست بالذّات ، كما أن كلّ واحدة منها غير الأخرى.

وهذا الموضوع (الذّات مغايرة للصّفات ، والصّفات تختلف فيما بينها) خير دليل على أن الذّات التي تتصف بصفة ، والصفة التي تعيّن وتعرّف الذّات ، كلاهما محدودتان ومتناهيتان ، لأن الذّات إذا كانت غير محدودة وغير متناهية ، لكانت تشمل الصفات وكذا الصفات كانت كل واحدة منها تشتمل على الأخرى ، فتصبح في النتيجة كلها شيئا واحدا ، فمثلا لو كانت الذّات الإنسانية هذه

__________________

ـ لأنه تشبيه وجلّ ربنا تعالى عن ذلك. وأما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل هو واحد ليس له في الأشياء شبه ، كذلك ربنا ، وقول القائل إنه عزوجل أحديّ المعنى يعني به أنه لا ينقسم في وجود ولا عقل ولا وهم كذلك ربنا عزوجل. بحار الأنوار ج ٢ : ٦٥.

ويقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : معرفته (الله) عين ذاته ، أي أن إثبات وجود الله تعالى ، وهو وجود غير متناه وغير محدود ، كاف في إثبات وحدانية ، لأن الثاني لا يتصور لغير المتناهي.

تنحصر في القدرة ، وكانت القدرة والعلم وكذا طول القامة ، والجمال كل واحدة منها عين الأخرى ، لكانت كل هذه المفاهيم لا تعدو المفهوم الواحد.

فيتّضح مما سبق بأنه لا يمكن إثبات صفة (بالمعنى السابق) لذات الله عزوجل ، لأن الصفة لا تتحقق من غير تحديد لها ، وذاته المقدسة منزّهة من أيّ تحديد (حتى من هذا التنزيه الذي يعتبر في الحقيقة اثبات صفة له).

معاني صفات الله تعالى

نعلم أنّ في العالم الكثير من الكمالات التي تظهر بشكل صفات ، فهذه الصفات المثبتة متى ما ظهرت في شيء ، تسعى في تكامل المتّصف ، وتمنحه قيمة أكثر ، كما يتّضح ذلك من مقارنة جسم حيّ كالإنسان مع جسم غير حيّ كالحجر.

مما لا شك فيه أن هذه الكمالات قد منحها الله تعالى ، ولو كان مفتقدا لها لما منحها لأن فاقد الشيء لا يعطيه ، ولما جعلها تتدرج في طريق الكمال ، فعلى هذا يجب أن يقال ، ووفقا لحكم العقل السليم ، أن الخالق ، يتّصف بالعلم والقدرة وكل كمال حقيقي.

وفضلا عن هذا ، فإن آثار العلم والقدرة وبالتالي آثار الحياة واضحة في نظام الخلقة.

وبما أن ذات الله غير محدودة وغير متناهية ، فالكمالات هذه أن اعتبرت صفات له ، فإنها في الحقيقة عين ذاته ، وكذا كل

واحدة منها هي عين الأخرى (١) ، وأما الاختلاف الذي يشاهد بين الذّات والصّفات ، وبين الصّفات نفسها فتنحصر في المفهوم ، وفي الحقيقة ليس هناك سوى مبدأ واحد غير قابل للانقسام.

فالإسلام يلزم متبعيه كي لا يقعوا في مثل هذا الاشتباه (المحدودية بالتوصيف ، أو نفي أصل الكمال) ويضعهم بين النفي والإثبات (٢) ويأمرهم بهذا الاعتقاد ، فالله عالم لا كعلم غيره ، وله القدرة ، وليست كقدرة الآخرين ، فهو يسمع لا بإذن ، ويرى لا بعين ، وهكذا ...

مزيد من التوضيح في معاني الصفات

الصفات نوعان : صفات كمال وصفات نقص. فالصفات الكمالية ـ كما أشرنا إليها ـ معان إثباتية ، تمنح المتصف بها قيمة وجودية أكثر ، وآثارا وجوديّة أوسع ، ويتّضح ذلك من مقارنة موجود حيّ عالم قادر ، مع موجود آخر غير حيّ ، غير عالم وغير قادر ، وأما صفات النّقص ، فهي صفات تغايرها.

__________________

(١) عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنه قال : لم يزل الله جلّ وعزّ ربنا والعلم ذاته ولا معلوم والسمع ذاته ولا مسموع والبصر ذاته ولا مبصر والقدرة ذاته ولا مقدور. البحار ج ٢ : ١٥٢.

(٢) عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : إن الله نور لا ظلمة فيه وعلم لا جهل فيه ، وحياة لا موت فيه. البحار ج ٢ : ١٢٩.

وقد سئل الإمام الرضا عليه‌السلام عن التوحيد فقال : ... إن للناس في التوحيد ثلاثة مراتب ، إثبات بتشبيه ومذهب النفي ومذهب إثبات بلا تشبيه ، فمذهب الإثبات بتشبيه لا يجوز ، ومذهب النفي. لا يجوز ، والطريق في المذهب الثالث إثبات بلا تشبيه. البحار ج ٢ : ٩٤.

عند ما نمعن النظر في صفات النقص ، نجدها بحسب المعنى منفية. تفتقر إلى الكمال ، وإلى نوع من قيم الوجود ، مثل : الجهل والعجز والقبح والسّقم وأمثالها.

وحسب ما تقدم أن نفي صفات النقص تعني صفات الكمال ، كما أن نفي الجهل يعني العلم ، ونفي العجز يعني القدرة ، ومن هنا نجد القرآن الكريم يثبت كل صفة كمالية لله تعالى بشكل مباشر ، وينفي كل صفة نقص عنه ،

كما في قوله تعالى : (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ؛) و (هُوَ الْحَيُّ ؛ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ؛ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ).

ومما تجدر ملاحظته أن الله تعالى واقعيّة مطلقة ، فليس له حدّ ونهاية ، فعلى هذا (١) فإن أيّة صفة كمالية تطلق عليه ، لا تعني المحدودية ، فإنه ليس بمادة وجسم ولا يحدّد بزمان أو مكان ، ومنزه من كل صفة حالية حادثة ، وكل صفة تثبت له حقيقة فهي بعيدة عن المحدودية وهو القائل : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٢).

صفات الفعل

فالصّفات (فضلا عما سبق) تنقسم انقساما آخر ، وهي صفات الذّات وصفات الفعل.

__________________

(١) يقول الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : لا يوصل الله تعالى بزمان أو مكان ولا حركة ولا انتقال ولا سكون ، بل هو خالق الزمان والمكان والحركة والسكون والانتقال. البحار ج ٢ : ٩٦.

(٢) سورة الشورى الآية ١١.

فالصفة أحيانا تكون قائمة بالموصوف ، مثل الحياة والعلم والقدرة ، فتتحقق هذه في الإنسان الحيّ القادر ، ونرى تارة أنه لا يتحقق بالموصوف فحسب ، فإذا أراد الموصوف أن يتصف بصفة لا بد من تحقق شيء آخر ، مثل الكتابة ، الخطابة ، الطلب ، ونظائرها ، لأن الإنسان إنما يستطيع الكتابة عند ما يتوفر لديه القلم والدواة والورق مثلا ، ويستطيع أن يكون خطيبا عند حضور المستمع ، ويستطيع أن يكون طالبا عند ما يتوفر المطلوب ، ولا يكفي أن نفترض للإنسان تحقق هذه الصفات.

من هنا يتضح أن الصفات الحقيقية لله تعالى (كما سبقت الإشارة إليها عين الذات) هي من النوع الأول وأما النوع الثاني ، والذي يستلزم تحققه لشيء آخر ، فإن كل شيء غيره مخلوق له ، ويأتي بعده في مرحلة الوجود ، وكل صفة يوجدها مع وجوده ، لا يمكن أن تعتبر صفة لذاته أو عين ذاته تعالى.

فالصّفات التي يتصف بها تعالى عند تحقق الخلقة ، هي الخالقية ، الربانية ، والإحياء ، والإماتة ، والرازقية ، وأمثالها ، لم تكن عين ذاته ، بل زائدة على الذات وصفات للفعل.

والمقصود من صفات الفعل هو أن تتخذ معنى الصفة من الفعل لا من الذات ، مثل الخالقية ، أي يتصف بهذه الصفة بعد تحقق الخلقة للمخلوقات ، فهو قائم منذ قيامها (أي موجود منذ وجودها) ، ولا علاقة لها بذاته تعالى ، كي تتغير من حال إلى حال عند تحقق الصفة.

تعتبر الشيعة صفتي الإرادة والكلام ، (الإرادة بمعنى الطلب ،

والكلام بمعنى الكشف اللفظي عن المعنى) من صفات الفعل (١) والغالبية من أهل السنة يعتبرونها بمعنى العلم ، وصفات لذاته تعالى.

القضاء والقدر

إن قانون العلية سار في الكون ، ومهيمن ، بحيث أنه لا يقبل الاستثناء ، ووفقا لهذا القانون كل مظهر من مظاهر هذا العالم ، يرتبط بعلل عند وجودها ، وهي الأسباب والشروط اللازمة لتحققها ، ومع توفر كل تلك الشروط (والتي تدعى بالعلة التامة) يتحتم وجود تلك الظاهرة (المعلول المفروض). ولو فرضنا عدم تحقق تلك الأسباب كلها أو بعضها ، فإنه يستحيل تحقق وجود تلك الظاهرة.

عند الإمعان في هذه النظرية ، يتّضح لنا موضوعان :

الأول : لو قدّر أن نقارن بين ظاهرة «المعلول» مع العلة تامة بأجمعها ، وكذلك مع الأجزاء لتلك العلة التامة ، تكون النسبة بينها وبين العلة التامة ، نسبة الضرورة (الجبر) ولكانت النسبة بينها وبين كل من أجزاء العلة التامة (والتي تعتبر علّة ناقصة) نسبة الإمكان ، لأن جزء العلة بالنسبة إلى المعلول يعطي إمكان التحقق والوجود ، ولا يعطي ضرورة الوجود.

__________________

(١) قال أبو عبد الله عليه‌السلام : لم يزل الله جل اسمه عالما بذاته ولا معلول ولم يزل قادرا بذاته ولا مقدور ، قلت جعلت فداك ، فلم يزل متكلما ، قال الكلام محدث كان الله عزوجل وليس بمتكلم ثم أحدث الكلام». البحار ج ٢ : ١٤٧.

قال الرضا عليه‌السلام : «الإرادة من المخلوق الضمير وما يبدو له بعد ذلك من الفعل وأما من الله عزوجل فإرادته أحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي ولا يهمّ ولا يتفكر». البحار ج ٢ : ١٤٤.

على هذا فالكون وجزء من أجزائه يستلزم علة تامة في تحقق وجوده ، والضرورة مهيمنة عليها بأسرها ، وقد نظّم هيكلها من مجموعة حوادث ضرورية وقطعية ، فمع هذا الوضع ، فإن صفة الإمكان في أجزائها (الظواهر التي ترتبط مع غير العلة التامة لها) محفوظة.

فالقرآن الكريم في بيانه يسمي هذا الحكم الضروري بالقضاء الإلهي ، لأن الضرورة هذه تتبع من وجود الخالق ، ولهذا يكون حكما وقضاء عادلا حتميا غير قابل للتخلف ، إذ لا يقبل الاستثناء أو التبعيض.

يقول جلّ شأنه : (أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ) (١).

ويقول سبحانه وتعالى : (وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

ويقول سبحانه وتعالى : (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) (٣).

الثاني : إن كلا من أجزاء العلة ، لها مقدارها الخاص تمنحه إلى المعلول ، وتحقق المعلول وظهوره يطابق مجموع المقادير التي تعيّنها العلة التامة ، فمثلا العلل التي تحقق التنفس للإنسان ، لا تحقق التنفس المطلق ، بل يتنفس الإنسان مقدارا معينا من الهواء المجاور لفمه وأنفه وفي زمان ومكان معينين ، ووفق طريقة معينة ، ويتم ذلك عن طريق مجرى التنفس ، حيث يصل الهواء إلى الرئتين ، وهكذا

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٤.

(٢) سورة البقرة الآية ١١٧.

(٣) سورة الرعد الآية ٤١.

الرؤية والإبصار ، فإن العلل الموجودة لها في الإنسان (والذي هو جزء منها) لم تحقق إبصارا من دون قيد أو شرط ، بل تحقق إبصارا معينا من كل جهة ، بواسطة الوسائل اللازمة له ، وهذه الحقيقة سارية في كل ظواهر الطبيعة ، والحوادث التي تتفق فيها لا تتخلف.

والقرآن الكريم يسمّي هذه الحقيقة ب «القدر» وينسبها إلى خالق الكون ومصدر الوجود ، بقوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١).

ويقول : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) (٢).

وكما أن كل ظاهرة وحادثة في نظم الخلقة تعتبر ضرورية الوجود وفقا للقضاء الإلهي ، ويتحتم وجودها ، فكذلك وفقا للقدر فإن كل ظاهرة أو حادثة عند تحققها لا تتخلف عن المقدار المعيّن لها من قبل الله تعالى.

الإنسان والاختيار

كل ما يقوم به الإنسان من فعل ، يعتبر ظاهرة من ظواهر عالم الخلقة ، ويرتبط تحققه كسائر الظواهر بالعلة ارتباطا كاملا ، وبما أن الإنسان هو جزء من عالم الخلقة ، ويرتبط مع سائر الأجزاء الأخرى من العالم ، فإنها بدورها تؤثر في أفعال الإنسان.

__________________

(١) سورة القمر الآية ٤٩.

(٢) سورة الحجر الآية ٢١ ، قال أبو عبد الله عليه‌السلام : إن الله إذا أراد شيئا قدّره وإذا قضاه أمضاه. البحار ج ٣ : ٣٥.

وعلى سبيل المثال ، فإن قطعة الخبز التي يريد الإنسان تناولها ، فإنه يستلزم وجود الوسائل كاليد والفم والعلم والقدرة والإرادة ، وأيضا وجود الخبز في الخارج ، وعدم وجود أي مانع يمنع من الوصول إليه ، وشروط أخرى من زمان أو مكان. ومع فقدان إحداها يتعذّر تحقق الفعل ، ومع تحقق كل تلك العوامل (تحقق العلة التامة) فإن تحقّق الفعل ضروري.

وكما أشرنا آنفا ، فإن ضرورة الفعل بالنسبة إلى مجموع أجزاء العلة التامة تعتبر نسبة إمكان ، ولا يتنافى مع نسبة الفعل إلى الإنسان الذي هو أحد أجزاء العلة التامة.

إن الإنسان له اختيار الفعل ، وضرورة نسبة الفعل إلى مجموع أجزاء العلة ، لا يستلزم الضرورة بالنسبة إلى فعل بعض من أجزائها وهو الإنسان.

والإدراك البسيط للإنسان يؤيد هذا القول ، فإننا نراه يميّز بحكم الفطرة الإلهية المودّعة لديه ، يميّز بين الأكل والشرب ، والذهاب والإياب ، وبين الصحة والسقم ، والكبير والصغير ، والقسم الأول الذي يرتبط بإرادة الإنسان ارتباطا مباشرا ، يعتبر من إرادة الشخص ، فيحاسب في مواضع الأمر والنهي والمدح والذم ، خلافا للقسم الثاني ، الذي يترتب فيه تكليف على الإنسان.

وقد وجد في صدر الإسلام ، بين أهل السنة ، مذهبان معروفان بالنسبة إلى أفعال الإنسان ، ففريق كان يرى أن أفعال الإنسان متعلقة بإرادة الله تعالى لا تخلّف فيها ، فكان يدّعي أن الإنسان مجبور في أفعاله ، ولا أثر لما يمتاز به من اختيار وإرادة ، والفريق

الآخر ، كان يدّعي أن الإنسان مستقل في أفعاله ، وليس له ارتباط بإرادة الله سبحانه ، ويعتبرونه خارجا عن حكم القدر.

ومما يروى عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو مطابق مع ظاهر تعاليم القرآن ، إن الإنسان مختار في أفعاله ، ليس بمستقل ، إذ أن الله تعالى قد أراد الفعل عن طريق الاختيار ، وهذا ما عبرنا عنه سابقا ، بأن الله سبحانه ، أراد الفعل عن طريق مجموع أجزاء العلة التامة ، والتي إحداها إرادة الإنسان ، وأصبحت ضرورة ، وفي النتيجة ، أن مثل هذا الفعل الذي يرتبط بإرادة الله تعالى ضروري ، والإنسان أيضا مختار فيه ، أي أن الفعل يعتبر ضروريا بالنسبة إلى مجموع أجزاء علته ، ولكنه اختيار وممكن بالنسبة إلى أحد أجزائه وهو الإنسان.

والإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين أمرين» (١).

__________________

(١) عن أبي جعفر أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : إن الله عزوجل أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذّبهم عليها ، والله أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون. البحار ج ٣ : ١٥.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : الله أكرم من أن يكلّف الناس ما لا يطيقون والله أعزّ من أن يكون في سلطانه ما لا يريد. البحار ج ٣ : ١٥.

معرفة النبيّ

نحو الهدف الهداية العامة

تبدأ حبة الحنطة بالنمو عند توفر العوامل المساعدة لها ، فبعد أن توضع في التربة ، وبمرور الزمن تتحول من حالة إلى أخرى ، وفي كل لحظة تتخذ حالة وشكلا غير ما كانت عليها قبل لحظات ، وتسلك طريقا وفقا لنظام خاص ، حتى تزداد نموا ، فتصبح سنبلة ، وإذا ما سقطت حبة قمح على الأرض ، سلكت الطريق ذاته ، وإذا ما سقطت بذرة فاكهة على الأرض ، تبتدئ بالحركة والنمو فيخترق الغشاء نتوء أخضر ، ويسلك طريقا خاصا منتظما ، حتى يزداد في نموه ويصبح شجرة مثمرة.

وإذا ما استقرت نطفة حيوان في بيضة أو في رحم أمّ ، تشرع بالنمو والتكامل ، وتسلك سلوكا ، تختصّ به تلك النطفة ، حتى تصل إلى فرد كامل من ذلك النوع.

إنّ هذا السلوك الخاص والمنتظم يشاهد في كل من أنواع الكائنات الحيّة في العالم ، ويعتبر من مميزاتها وفطرتها الخاصة ، ولن تجد في الحياة نقيضا لهذه السنّة ، أي يستحيل أن تتبدل حبة قمح إلى حيوان ، ونطفة حيوان إلى شجرة. وإذا ما حدث تغيير في تكوين حيوان أو نبات بأن نقص منها عضو أو جزء فإن السبب في ذلك يعود إلى مرض أو ما شابه.

إن النظام القائم والمستمر في الكون ، وخلقة الأجسام المتنوعة ،

واختصاص كل نوع منها في سلوك خاص ، نحو التطور والتكامل ، يحتاج إلى نظام خاصّ به ، لا ينكره أيّ محقق متتبع ، ومن هذه النظرية البيّنة نستنتج موضوعين :

١ ـ أنه في جميع المراحل التي يطويها نوع من أنواع الكائنات الحية في العالم ، هناك اتصال وارتباط قائم بينها ، وكأنّ هناك قوة تسيّرها هذا المسير الخاص في كل مراحلها التطورية.

٢ ـ إن هذا الاتصال والارتباط يهدف في مرحلته الأخيرة إلى تكوين بني نوعه ، فكما أن البذرة عند ما توضع في التربة تهدف في طريقها منذ مراحلها الأولى إلى أن تنشأ شجرة ، وكذا النطفة في رحم الأمّ ، تهدف من مراحلها الأولية إلى أن تكون حيوانا متكاملا ، وللوصول إلى التكامل نراها تسلك نهجا خاصا في حياتها.

والقرآن العظيم في تعليماته يؤيد هذه الحركة وهذا الاندفاع ، كما أن أنواع الكائنات الحية في العالم تهتدي بهدى الله تعالى في طريق تكاملها وكمالها ، ويستدل بآيات من الذكر الحكيم في هذا الشأن كما في قوله تعالى :

(قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

وفي سورة الأعلى ، الآية ٢ و ٣ يقول جلّ ذكره : (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى* وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى).

وكذا يشير إلى النتائج التي ذكرت آنفا في سورة البقرة الآية ١٤٨ : يقول جلّ شأنه :

(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها).

__________________

(١) سورة طه الآية ٥٠.

ويقول جلّ من قائل في سورة الدخان الآية ٣٨ و ٣٩ : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

الهداية الخاصة

بديهي أن النوع الإنساني لا يستثنى عن هذه الهداية التكوينية التي تهيمن على جميع الكائنات في العالم ، فهي تسيطر على الإنسان أيضا ، وبما أن كلّ كائن يطوي في طريقه نحو التكامل بما لديه من قدرة وقابلية ، فكذلك الإنسان يساق نحو الكمال الواقعي بواسطة الهداية التكوينية.

قد يشترك الإنسان في كثير من صفاته ومميزاته مع سائر أنواع الكائنات الحيّة من حيوان أو نبات ، لكنه يتميّز بخصائص خاصة به ، تجعله يمتاز عن غيره ، وأهمها العقل.

فالعقل يدعو الإنسان إلى التفكّر والتدبّر ، والانتفاع من كل وسيلة ممكنة ، لتحقيق أهدافه وأغراضه ، فهو يعرج إلى السماء حينا ، فيسير في الفضاء اللامتناهي ، ويغوص في أعماق البحار أحيانا ، ويدأب في الاستفادة من أنواع الحيوان والنبات والجماد على ظهر البسيطة ، وقد يتجاوز هذا الحدّ بأن يتجه إلى استغلال بني نوعه.

والإنسان حسب طبعه الأولي ، يرى حريته المطلقة في سعادته وكماله ، وبما أن وجوده وجود اجتماعي ، ومتطلباته في الحياة متعددة ، بحيث لا يمكن أن ينالها لوحده ، بل بالتعاون مع أبناء

نوعه الذين يتصفون بالغرائز ذاتها ، بما فيها حبّ الذّات والحرية. فتفرض عليه طبيعة المجتمع أن يضحّي بقسط من حريته في هذا السبيل مقابل المنافع التي يحصل عليها من الآخرين ، فهو يقدم خدمة ، وينتفع بما يقدمه الآخرون من خدمات ، أي أنه يتقبل ، رغما عنه ، الحياة الاجتماعية التي تتصف بالتعاون.

وهذه الحقيقة تظهر جليّة لدى الأطفال والفتيان ، إذ هم في البداية ، يحققون ما تصبو إليه نفوسهم بالرفض تارة والبكاء تارة أخرى. فيرفضون كل قانون أو عادة أو ما شاكل ذلك ، ولكن مع مرور الوقت ، وحسب تطورهم الفكري يدركون أن الحياة لا تتلاءم مع الرفض والطغيان ، فيمارسون ما يمارسه الفرد في المجتمع بشكل تدريجي ، حتى يصلوا إلى ما يصل إليه الفرد في مجتمعه ، من اتّباع العادات والسنن والقانون ، فهم بعد نضوجهم يألفون المجتمع.

والإنسان بعد تقبله الحياة الاجتماعية التي قوامها التعاون ، يرى ضرورة القانون الحاكم على الحياة ، وهو الذي يعيّن واجبات كل فرد من أفراد المجتمع ، ويضع الجزاء لكل من يخالف القانون ، فإذا عمّ القانون وساد المجتمع ، عندئذ ينال كل فرد من أفراد المجتمع السعادة المطلوبة ، التي طالما تمناها.

هذا القانون هو القانون العملي الذي ما برح البشر منذ نشأتهم وإلى يومنا هذا يرجونه ويرغبون في الوصول إليه ، وطالما كانوا يستلهمون منه أهدافهم وأغراضهم ، ويسعون لتحقيقها ،

ومن الطبيعي أنه إذا كان الأمر يستحيل تحققه على البشرية ، ولم يكن مفروضا عليها ، لما كانت تهدف إليه دوما (١).

والله جل شأنه يشير إلى حقيقة المجتمع البشري بقوله : (نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا) (٢).

وقد أشار الذكر الحكيم إلى حبّ النفس والأنانيّة بقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً* إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً* وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) (٣).

العقل والقانون

لو تأملنا جيدا ، لرأينا أن القانون الذي ما برح البشر ينتظرونه ، ويطلبونه مع ما لديهم من إدراك فطري إلهي ، وإدراك للزوم إجرائه كي يضمن لهم سعادتهم ، هو القانون الذي يستطيع أن يسيّر البشرية إلى السعادة دون انحياز أو تبعيض وأن ينشر بينها الكمال ، ويرسي قواعده. ومن البديهي بأن البشرية لم تدرك حتى الآن طوال أجيال متعاقبة مضت من حياة البشرية ، مثل هذا

__________________

(١) ترغب البشرية عادة وحتى الشعوب البدائية ، حسب طبعها في أن يعيش الجميع في جو ملؤه الصلح والراحة والاطمئنان. ومن الوجهة الفلسفية ، فإن الطلب والميل والرغبة ما هي إلا أوصاف وارتباطات قائمة على طرفين ، كالطالب والمطلوب ، والمحبّ والمحبوب و.... وواضح أن لم يكن هناك محبوب ، فالكلام عن المحبّ عبث.

وصفوة القول إن الأمور هذه ترجع إلى إدراك نقص في الوجود الإنسانى ، فإذا تعذر الكمال ، لم يكن هناك معنى للنقص.

(٢) سورة الزخرف الآية ٣٢.

(٣) سورة المعارج الآية ١٩ ـ ٢١.

القانون الذي قوامه العقل ، والذي لو قدّر له أن يخرج إلى حيّز الوجود لفهمته البشرية في حياتها الطويلة بما تمتاز به من تعقّل وتدبّر ، ولكانت التزمت به في مجتمعاتها.

وبعبارة أوضح ، لو كان هناك قانون كامل عام ، بحيث يستجيب لما تصبوا إليه البشرية من سعادة ، ويرشدها إليه من حيث الفطرة والتكوين ، لأدركه كل إنسان بما لديه من إمكانات عقلية ، كما يدرك ما ينفعه أو يضرّه ، ولكن مثل هذا القانون لم يتحقق بعد.

والقوانين التي توضع من قبل شخص حاكم أو أشخاص ، أو جوامع بشرية ، نجدها مورد احترام وتصديق لدى فئة ، ومورد رفض واعتراض لدى آخرين وهناك من اطلع عليها وعرفها ، وآخرون لم يطّلعوا. ولن تجد وجه اشتراك في المجتمعات البشرية ـ بما أنهم يشتركون في كونهم بشر ، ويتصفون بالفطرة الإلهيّة ـ في إدراك هذه القوانين.

الشعور المرموز ، أو ما يسمى. (الوحي)

ومما تقدم يتّضح ، أن القانون الذي يضمن السعادة للبشرية ، لا يدركه العقل ، وبمقتضى نظرية الهداية العامة ، التي ترى ضرورة هذا الإدراك في النوع البشري ، لا بدّ من وجود جهاز آخر في النوع الإنساني يدرك ذلك ، كي يرشده إلى الواجبات الواقعية للحياة ، وتكون في متناول يد الجميع ، وهذا الشعور والإدراك هو غير العقل والحسّ ، إنه ما يسمى ب «الوحي» ومن الطبيعي أن وجود مثل هذه القوة في البشر لا يتحتّم أن يكون في جميع أفراد

البشر ، كما هو في القوة المودعة في الإنسان للتناسل ، في حين أن إدراك لذة الزواج ، والتأهب له ، يتحقق في الأفراد عند بلوغهم ، وشعور «الوحي» الذي لا يظهر لدى الأفراد ، هو شعور مرموز ، كما هو الحال في إدراك وشعور اللذّة في الزواج عند من لم يصل إلى سنّ البلوغ ، فيبقى هذا الإدراك غير معروف لديه.

والله تعالى يشير في خطابه عن (الوحي) بالنسبة إلى الشريعة وعجز العقل ، بقوله : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) (١) (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٢).

الأنبياء وعصمة النبوة

إنّ ظهور الأنبياء يؤيد نظرية (الوحي) الذي سبق ذكره. إنّ أنبياء الله تعالى كانوا ممن ادّعوا «الوحي» والنبوة ، وفي ادعائهم هذا أقاموا الحجج والبراهين ، وبلّغوا الناس ما تحتويه شريعة الله سبحانه ، ألا وهو القانون الذي يمنحهم السعادة وجعلوها في متناول أيدي الجميع ، ولما كان الأنبياء يمتازون ب «الوحي» والنبوة ، فعند ظهورهم في كل زمن كانوا قلة ، فجعل الله هداية الناس على عاتق هؤلاء ، بما أمروا من دعوة وإبلاغ ، وما ذلك إلا لتعمّ وتتم وتكتمل تلك الدعوة.

ومن هنا يتضح وجوب عصمة الأنبياء ، فهم مصونون من الخطأ

__________________

(١) سورة النساء آية ١٦٣.

(٢) سورة النساء آية ١٦٥.

في تلقي «الوحي» من جانب الله تعالى ، وفي حفظه ، وإيصاله إلى الناس ، فإنهم بعيدون كل البعد عن المعصية والخطأ ؛ لأن تلقي الوحي ـ كما ذكر ـ وحفظه وإبلاغه ، يشتمل على الأركان الثلاثة للهداية التكوينية ، ولا معنى بأن يكون هناك خطأ في التكوين.

فضلا عن أن المعصية والتخلّف عن أداء الدعوة والإبلاغ ، عمل يخالف الدعوة ، ويوجب سلب ثقة الناس واطمئنانهم ، بصحة الدعوة وصدقها ، ونتيجة لذلك ينتفي الغرض والهدف الأساسي للدعوة.

والخالق جلّ شأنه يشير إلى عصمة الأنبياء في كتابه المجيد بقوله : (وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١).

وهو القائل أيضا : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) (٢).

الأنبياء والشرائع السماوية

إن ما حصل عليه الأنبياء عن طريق (الوحي) وإبلاغه للناس على سبيل الخبر والأحكام الإلهيّة هو الدين ، واتخاذهم إياه نهجا لهم في سبيل الحياة والوظائف والواجبات الإنسانية ، يضمن لهم السعادة (٣).

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٨٧.

(٢) سورة الجن الآية (٢٦ ـ ٢٨).

(٣) يراجع مقدمة الكتاب.

يشتمل التشريع الإلهي بشكل عام على جانبين : الاعتقادي والعملي : فالجانب الاعتقادي يحتوي على مجموعة معتقدات أساسية ، تفرض على الإنسان أن يتخذها أساسا لحياته ، وهي الأسس العامة الثلاثة ، التوحيد والنبوة والمعاد ، وإذا أهملت إحداها لم يتحقق اتّباع الدّين.

والجانب العملي ، يتألف من مجموعة وظائف أخلاقية عملية تحتوي على وظائف معيّنة يتقيد بها الإنسان أمام الله تعالى وأمام المجتمعات البشرية.

ومن هنا تنقسم الواجبات الفرعية في الشرائع السماوية ، إلى قسمين : الأخلاق والأعمال ، وكل من هاتين ، تنقسم إلى قسمين أيضا.

فأما الأخلاق والأعمال التي ترتبط بالله الخالق فهي ، الخلق وصفة الإيمان والإخلاص والتسليم والرضى ، والخشوع ، وكذا الصلاة والصوم والفدية وغيرها ، وهذه المجموعة من الأعمال تسمّى العبادات ، وتعبّر عن خشوع الإنسان وعبوديته لربه.

وأما ما يتعلق بالمجتمع من الأخلاق والأعمال ، فهي الصّفات الحسنة ، كحبّ النوع ، والمساعدة ، والعدالة ، والسخاء وما يرتبط بآداب المعاشرة ، والمعاملة وغيرها ، وهذه الأعمال الخاصة هي ما تسمّى ب «المعاملات».

ومن جهة أخرى فإن النوع الإنساني يتّجه نحو الكمال بصورة تدريجية ، والمجتمع البشري يتكامل بمرور الزمان ، وأن ظهور هذا الشكل من التكامل ضروري في الشرائع السماوية ، ويؤيد القرآن

الكريم هذا التكامل التدريجي (ويمكن الوصول إليه عن طريق العقل) ، ومما يستفاد من آياته ، أن الشرائع اللاحقة أكمل من الشرائع السابقة ، بقوله تعالى : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (١).

ومما تبيّنه النظريات العلميّة ، ويصرّح به القرآن الكريم ، إن حياة المجتمعات البشرية في هذا العالم ليست أبديّة ، ومن الطبيعي أن التكامل لبني نوعها لم يكن غير متناه ، فمن هذه الجهة ، ستتوقف جميع الوظائف الإنسانية من حيث الاعتقاد والعمل في مرحلة معينة ، وتبعا لهذه الحقيقة ، فإن النبوة والشريعة أيضا يوما ما ستصل إلى آخر مرحلة من مراحل الكمال والاعتقاد ، وبثّ القوانين العلمية ، وبذلك تكون النهاية والخاتمة لها.

ومن هنا نرى القرآن الكريم يوضّح هذه الحقيقة ويصرّح بأن الإسلام ، هو الدين الذي اختاره لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو آخر الأديان السماوية وأكملها ، وبأن الكتاب العزيز لا ينسخ ، وأن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو خاتم الأنبياء ، والإسلام يحتوي على كافة الوظائف والواجبات ، كما في قوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) (٢).

ويقول أيضا : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) (٣).

وقوله تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٤).

__________________

(١) سورة المائدة الآية ٤٨.

(٢) سورة فصلت الآية ٤١ ـ ٤٢.

(٣) سورة الأحزاب الآية ٤٠.

(٤) سورة النحل الآية ٨٩.

الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوة

إنّ الكثير من علماء اليوم الذين حققوا في موضوع (الوحي) والنبوة ، قد فسّروا موضوع (الوحي) والنبوة والأمور المرتبطة بهما ، على الأسس التي يقوم عليها علم النفس وعلم الاجتماع ، بقولهم أن الأنبياء كانوا أناسا أطهارا ، ذوي همم عالية ، محبّي البشرية ، ولغرض تقدمها وتطورها من الناحية المادية والمعنوية ، وكذا تزكية المجتمعات المنحطة خلقيا ، نظّموا ووضعوا قوانين خاصة ، ودعوا الناس إليها ، ولما كان الناس في ذلك الوقت لم يخضعوا بعد للمنطق والعقل ، فما كان من الأنبياء إلا أن ينسبوا أفكارهم وأنظمتهم إلى العالم العلوي كي يستطيعوا بذلك أن يجلبوا رضى الناس ، ويخضعوهم لقيادتهم. وكان اعتقاد البعض منهم أن روحهم هي روح القدس وما الفكر الذي يتجلى إلا «الوحي والنبوة» ، وما الوظائف والواجبات التي تستنتج من ذلك إلّا (الشريعة السماويّة) ، والكلام الذي يتضمن ذلك كان يسمى «الكتاب السماويّ».

فالذي ينظر بتأمل وإنصاف إلى الكتب السماوية ، وخاصة القرآن الكريم ، وكذا إلى الشرائع التي جاء بها الأنبياء ، لا يشك في بطلان هذه النظرية ، وذلك أن الأنبياء لم يكونوا رجال سياسة ، بل كانوا رجالا يتصفون بالصدق والصفاء والخلوص ، وكل ما كانوا يدركونه كانوا يتفوهون به ، وكل ما كانوا يقولون به كانوا يعملون به ، وما كانوا يزعمونه هو أن هناك شعورا مرموزا ، وإمدادا غيبيا ، يفيض عليهم ، وأنهم في هذا الطريق يتلقون الوظائف الاعتقادية والعلمية من جانب الله تعالى ، لإبلاغ الناس وإرشادهم.

ومن هنا يتضح أن ادعاء النبوة يحتاج إلى حجة ودليل ، ولا يكفي أن تكون الشريعة التي جاء بها النّبي توافق العقل ، فإن صحة الشريعة لها طريق آخر للإثبات ، وهو أنه على اتصال بالعلم العلوي (الوحي) والنبوة ، وقد أنيطت به هذه المسئولية من قبل الله تعالى ، وهذا الادعاء يحتاج إلى دليل عند إقامته.

لذا نجد أن البسطاء وذوي الفطرة السليمة من الناس (كما يخبرنا به القرآن الكريم) كانوا يطالبون الأنبياء بالمعجزة لصدق دعواهم.

ويستنتج من هذا المنطق أن الوحي الذي يدعيه المرسل ، لم يكن ليحصل عند سائر الناس ، بل لا بدّ من قوة غيبيّة يودعها الله تعالى في نبيّه بنحو يخرق به العادة.

ويتّضح أن مطالبة الناس الأنبياء بالمعجزة أمر يوافق المنطق الصحيح ، وعلى الأنبياء لإثبات نبوتهم أن يأتوا بالمعجزة إما ابتداءً أو وفقا لما يطالب به المجتمع.

والقرآن الكريم يؤيد هذا المنطق ، ويشير إلى معاجز الأنبياء إما ابتداءً أو بعد مطالبة الناس إياهم.

وتجدر الإشارة إلى أن علل وأسباب الحوادث التي حصلنا عليها حتى الآن كانت بالتجربة والفحص ، وليس لدينا أي دليل أنها دائمية ، ولن تتحقق أية حادثة أو ظاهرة إلّا بعللها وأسبابها ، وأما المعاجز التي تنسب إلى الأنبياء لم تكن مخالفة للعقل أو يستحيل إقامتها ، لكنها خرق للعادة في حين أن موضوع خرق العادة يرى ويسمع من أصحاب الرياضيات الروحية أيضا.

عدد الأنبياء

مما ينقل في تاريخ الماضين ، أن أنبياء كثر أرسلوا وبعثوا ، ويؤيد القرآن الكريم كثرة الأنبياء ، ويذكر أسماء بعضهم ، إلّا أنه لم يصرح بعددهم.

ولم نحصل على عددهم من الروايات بصورة قطعية ، إلا أن الرواية المعروفة والتي تنقل عن «أبي ذر الغفاري» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يبين فيها أن عدد الأنبياء مائة وأربعة وعشرون ألف نبي.

الأنبياء أولو العزم ، حملة الشرائع السماوية

ومما يستفاد من القرآن الكريم ، أن الأنبياء كلّهم لم يأتوا بشرائع ، بل أن خمسة منهم قد جاءوا بشرائع سماوية ، وهم نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهؤلاء هم أولو العزم ، وأما سائر الأنبياء فإنهم يتبعون أولي العزم في شرائعهم.

وقوله تعالى :

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى ...) (١).

ويقول تعالى :

(وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) (٢).

__________________

(١) سورة الشورى الآية ١٣. ولو كان هناك غيرهم. لذكرهم تعالى في الآية.

(٢) سورة الأحزاب الآية ٧.

نبوّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

يعتبر نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخر الأنبياء الذين كانوا يمتازون بالكتب والشرائع ، وقد آمن به المسلمون.

ولد النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بدء التاريخ الهجري القمري بثلاث وخمسين سنة ، في مدينة «مكة» ، في قبيلة «بني هاشم» من قريش ، وهي من أشرف القبائل العربية.

أبوه «عبد الله» وأمّه «آمنة» وقد فقد أبويه منذ أوائل طفولته ، وتكفّله جده لأبيه «عبد المطلب» وسرعان ما وافاه الأجل ، حتّى تعهد تربيته عمه «أبو طالب» وأسكنه معه في داره.

ترعرع ونشأ في بيت عمّه ، وقد صحب عمّه في سفرة تجارية إلى الشام وذلك قبل سنّ البلوغ. كان النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أميّا ، ولكنه بعد البلوغ والرشد ، اشتهر بعقله وأدبه وأمانته ، ونتيجة لذلك ، جعلته (خديجة) والتي كانت من أثرى القريشيات ، مشرفا على أموالها ، وإدارة أمورها التجارية.

سافر محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمرة الثانية إلى الشام لغرض التجارة ، وبسبب نبوغه فقد نال أرباحا جمّة ، ولم تمض فترة ، حتى اقترحت خديجة عليه موضوع الزواج ، فوافق محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اقتراحها ، وبعد الزواج حيث كان في سن الخامسة والعشرين وحتى بلوغه سنّ الأربعين ، كان يمارس عمله ، فحصل على شهرة في تدبيره وأمانته ولم يكن يعبد صنما ، (علما بأن الدين السائد في ذلك الوقت هو عبادة الأصنام) وأحيانا كان يعتكف للعبادة.

فاختاره الله للنبوة في الأربعين من عمره عند ما كان متفرغا

للعبادة في غار «حراء» (١) وأمر أن يبلّغ ، ونزلت عليه أول سورة من سور القرآن (٢) ، ورجع إلى بيته في اليوم نفسه ، فرأى ابن عمه «عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» في الطريق ، فعرض عليه الإسلام فآمن به ، وبعد دخوله البيت ، أسلمت زوجته خديجة.

والنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند بدء دعوته ، واجه من الناس مواجهة عنيفة مؤلمة ، حتى اضطر إلى كتمان دعوته وجعلها سرية ، ثم أمر ثانية أن يبلّغ دعوته إلى عشيرته الأقربين ، ولكنها لم تجد ، إذ لم يؤمن به سوى «عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام» (٣).

وبعد ذلك ، أعلن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دعوته بأمر من الله تعالى ، وما إن أعلن النبي الدعوة حتى شاهد ردود الفعل من أهل مكة مقرونة بالأذى والتعذيب بالنسبة له وللمسلمين الذين أسلموا حديثا ، مما اضطر بعض المسلمين ترك ديارهم اثر حملات الاضطهاد التي كانت تقوم بها قريش ، فهاجروا إلى الحبشة ، وتحصّن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع عمه «أبو طالب» وأفراد من قبيلته بني هاشم في «شعب أبي طالب» (٤) لمدة ثلاث سنين ، في غاية من الضغط والشدّة ، فلم يتعامل معهم ، ولم يعاشرهم أحد ، ولم يستطيعوا في تلك الفترة الخروج من الشعب.

__________________

(١) غار في جبال (تهامة) على مقربة من مكة.

(٢) سورة العلق.

(٣) وفقا لروايات أهل البيت عليه‌السلام ولأشعار قالها أبو طالب ، تعتقد الشيعة أن أبا طالب أسلم ، وبما أنه كان المدافع الوحيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يكتم إسلامه ، كي يحتفظ بقدرته الظاهرية أمام قريش.

(٤) حصار كان في إحدى وديان «مكة».

ولم يكتف كفار مكة وعبدة أصنامها ، بالإيذاء والإهانة والاستهزاء بل كانوا يلجئون أحيانا إلى الاستمالة ، والوعد بالأموال الطائلة كي يصرفوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن دعوته ، فقد اقترحوا عليه الرئاسة والسلطان ، ولكن وعدهم ووعيدهم كان سيّان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان مما يزيد في عزمه وإرادته.

وقد اقترحوا عليه مرة المال الكثير والرئاسة ، فأجابهم النبي قائلا : «والله لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله ، أو أهلك فيه».

خرج النبي من «شعب أبي طالب» حوالى السنة العاشرة من بعثته ولم يمض زمن حتى توفي عمه أبو طالب ، وتوفيت زوجته الوفية أيضا.

فلم يكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ملجأ ، مما دعا كفار مكة إلى أن يخططوا لقتله ، فحاصروا داره من كل جانب ، كي يحملوا عليه في آخر الليل ، ويقطّعوه إربا إربا في مضجعه.

ولكن الله جلّ شأنه أطلعه بالأمر ، وأمره بالهجرة إلى «يثرب» (١) فاستخلف عليا عليه‌السلام في فراشه ، وخرج ليلا برعاية الله وعنايته من داره واجتاز الأعداء ، واختفى في غار يبعد عدة فراسخ عن مكة المكرمة ، وخرج من الغار بعد ثلاثة أيام ، بعد أن يئس الأعداء من الوصول إليه ، عادوا أدراجهم ، إلى مكة ، وعندها أكمل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقه إلى يثرب.

__________________

(١) منطقة تقرب من «المدينة».

أما أهل «يثرب» فقد آمنوا به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كبارهم وأسيادهم ، فبايعوه ، واستقبلوه بحفاوة بالغة ، وقدموا له أموالهم وأنفسهم.

فأسس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأوّل مرة ؛ أول مجتمع إسلامي صغير ، في مدينة (يثرب) وعقد مع الطوائف اليهودية التي كانت تستقر في المدينة وأطرافها معاهدات ، وكذا مع القبائل العربيّة القويّة المتواجدة في تلك المنطقة ، وقام بنشر دعوته الإسلامية ، وعرفت مدينة «يثرب» ب «مدينة الرسول».

وعلى مرّ الأيام ، قويت شوكة الإسلام ، واستطاع المسلمون الذين عانوا من اضطهاد القرشيين أن يتركوا دورهم ومساكنهم في مكة ، فبدءوا بالهجرة إلى المدينة شيئا فشيئا ، والتفوا حول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسمّوا ب «المهاجرين» كما اشتهر أصحابه وأعوانه في يثرب ب «الأنصار».

نال الإسلام تقدما سريعا ، لكن عبدة الأصنام من قريش ، والطوائف اليهودية المستقرة في الحجاز ، كانت ما تزال حجرة عثرة أمام هذه الحركة ، فحاولوا القيام بأعمال تخريبية لصدّ النبي والمسلمين ، بمساعدة المنافقين ، الذين كانوا في صفوف المسلمين ، ولم يعرفوا بأيّ شكل من الأشكال ، فكانوا يخلقون المشاكل ، ويسبّبون المصائب ، والحوادث المستحدثة ، حتى آل الأمر إلى الحرب ، فنشبت الحروب المتعددة بين الإسلام وعبدة الأصنام واليهود ، فكانت الغلبة غالبا لجيش الإسلام ، ويقرب إحصاء تلك الحروب من ثمانين ونيف معركة بما فيها المعارك الدامية الكبرى ، والصغيرة منها ، وفي كل هذه المعارك ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشارك المسلمين في قتالهم ، كمعركة

بدر وأحد والخندق وخيبر وغيرها ، وكانت الغلبة في معظمها تتم على يد «علي عليه‌السلام». فهو الوحيد الذي ما تراجع ولا فشل في أي معركة ، وطوال هذه المعارك التي دامت عشر سنوات بعد الهجرة النبوية ، قتل من المسلمين أقلّ من مائتين ، ومن الكفار ما يقرب الألف. ونتيجة المثابرة والتضحية والفداء الذي عرف به المهاجرون والأنصار خلال السنوات العشر بعد الهجرة ، عمّ الإسلام (شبه الجزيرة العربية) وبعثت الرسائل إلى ملوك الدول الأخرى مثل (إيران) و (الروم) و (مصر) و (الحبشة) تدعوهم إلى الإسلام.

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يواسي الفقراء في معيشتهم ، فلا تختلف حياته عن حياتهم ، وكان يفتخر بالفقر (١) ، وكان يستغلّ أوقاته ، فلا تمر عليه لحظة إلا وهو دائب في عمل ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقسّم أوقاته إلى ثلاثة أقسام : الأول للعبادة وذكر الله تعالى ، الثاني : له ولعياله وبيته ، الثالث : للناس ، فكان يسعى في نشر المعارف الإسلامية وتعليمها ، وتصحيح الأهداف والسبل التي تؤدي إلى إصلاح المجتمع الإسلامي ، وكذا السعي في رفع حوائج المسلمين ، وتحكيم العلاقات الداخلية والخارجية ، وسائر الأمور المرتبطة بها.

وبعد إقامته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر سنوات في المدينة ، فارق الدنيا على اثر سم دسّ في طعامه على يد امرأة يهودية ، طرحه في الفراش أياما ، ومما جاء في الروايات أن آخر ما تكلم به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وصيته في العبيد والنساء.

__________________

(١) وفي رواية مشهورة يقول (ص) «الفقر فخري». ولمزيد الاطلاع في هذا الفصل يراجع كتاب سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وكتاب البحار ج ٦ وغيرها.

النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والقرآن

كان الناس يطالبون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجزة ، كما كانوا يطالبون سائر الأنبياء فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤيد المعاجز التي كانت لدى الأنبياء ، والقرآن الكريم يصرح بذلك.

وتذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معاجز كثيرة ، إلّا أن البعض منها لا تتصف بالقطعية في روايتها ، ولم تكن مورد قبول واعتماد ، ولكن المعجزة الباقية له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والتي لا تزال حيّة هي «القرآن الكريم» كتابه السماوي. فالقرآن الكريم كتاب سماوي يشتمل على ستة آلاف ونيف آية ، وينقسم إلى مائة وأربع عشرة سورة بما فيها الطويلة والقصيرة.

نزلت الآيات القرآنية الكريمة بصورة تدريجية خلال أيام بعثته ودعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال ثلاث وعشرين سنة ، وكانت (توحى) إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصور مختلفة ، من سورة أو آية أو أقل من آية ، وفي أوقات متفاوتة ، في ليل أو نهار ، في سفر أو حضر ، في الحرب أو السلم ، وفي أيام الشدّة أو الرخاء.

والقرآن الكريم بنفسه ، يصرّح أنه معجزة وقد تحدّى العرب في ذلك اليوم ، فكان في القمة من الفصاحة والبلاغة ، هذا ما يشهد به التأريخ ، وكان في المقدمة من حيث البيان والتعبير ، يقول تعالى في كتابه العزيز :

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (١).

__________________

(١) سورة الطور الآية ٣٤.

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١).

(أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

فتحداهم القرآن بهذه الآيات ، قائلا إذا كنتم تظنون أنه من كلام البشر ، أو من عند محمد ، أو أنه قد أخذه من أحد ، فأتوا بمثله. أو بعشر سور منه أو بسورة واحدة من سوره ، واستعينوا بأيّة وسيلة شئتم لتحقيق هذا الأمر ، وما كان جواب الفصحاء والبلغاء من العرب إلا أن قالوا إنه لسحر ويعجز من مثلنا أن يأتي به (٣).

إن القرآن الكريم لم يتحدّ العلماء من جهة الفصاحة والبلاغة فحسب ، بل تحداهم من جهة المعنى أيضا ، وتحدّى الجن والإنس بما يمتلكون من قدرات فكريّة خلّاقة ، لأنه يشتمل على البرنامج الكامل للحياة الإنسانية ، ولو محص تمحيصا دقيقا ، لوجد أنه الأساس والأصل في مجالات الحياة الإنسانية كلها ، بما فيها الاعتقادات والأخلاق والأعمال التي ترتبط بالإنسان فإنه يعالج كل جانب من جوانبها بدقة تامة ، فهو من الله الحقّ ، ودينه دين الحق أيضا.

الإسلام دين يستلهم أحكامه ومواده من الله الحقّ وليس من رغبة أكثرية الناس أو من فكر شخص حاكم قدير.

__________________

(١) سورة هود الآية ١٣.

(٢) سورة يونس الآية ٣٨.

(٣) ومما نقل عن أشهر مشاهير العرب في القرآن في قوله تعالى (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ* إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ). سورة المدثر الآية ٢٤ ـ ٢٥.

إن الركن الأساسي لهذا القانون الشامل هو الكلمة الحقة وهو الإيمان بالله الأحد ، وأن جميع العلوم تنبثق من التوحيد ، ومن ثمّ تستنبط الأخلاق الإنسانية المثلى من هذه الأصول ، وتصبح جزء من هذا القانون ، ثمّ تنظّم وتنسّق الكليات والجزئيات والتي هي خارجة عن نطاق إحصاء البشر ، وتدرس الوظائف التي ترتبط بها ، والتي تنبع من التوحيد ، وتصدر منه.

في الدين الإسلامي ارتباط وثيق بين الأصول والفروع على نحو يرجع كل حكم فرعي من أيّ باب ـ إذا ما محص ـ إلى كلمة التوحيد وينتهي إليه.

وطبيعي أن التنظيم والتنسيق النهائي لمثل هذا القانون الواسع الشامل ، مع ما يمتاز به من وحدة وارتباط ، خارج عن قدرة شخص ضليع في علم الحقوق والقانون ، وإن كان من أشهر مشاهيرهم ، فضلا من أن الفهرست الابتدائي له ليس بالأمر اليسير ، فكيف برجل يعيش في زمن يتصف بالحياة البدائية ، في خضم الآلاف من المشاكل والمصائب التي تهدّد الأموال والأرواح والفتن الداخلية والخارجية ، وفي النهاية يبقى منفردا أمام العالم أجمع.

هذا فضلا من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلم ، لقد قضى ثلثي عمره وحياته قبل دعوته (١) في بيئة تفتقر

__________________

(١) وفي القرآن الكريم عن النبي (ص) (فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ). سورة يونس الآية ١٦ ، ويقول أيضا : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) سورة العنكبوت الآية ٤٨.

ويقول أيضا : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ). سورة البقرة الآية ٢٣.

إلى حضارة ، ولم تسمع بمدنية أو حضارة ، كانوا يعيشون في أرض صحراء قاحلة ، وجو مهلك ، مع أتعس الظروف الحياتية ، علما بأنها كانت تستعمر من قبل الدول المجاورة بين آونة وأخرى ، ومع كل هذه الظروف والأحوال نجد القرآن الكريم يتحدّى من طريق آخر ، وهو أنه أنزل بصورة تدريجية مع ظروف متفاوتة مختلفة ، في أيام الفتن والأيام الاعتيادية ، في الحرب والصلح ، وفي أيام القدرة وأيام الضعف وغيرها ، خلال ثلاث وعشرين سنة.

ولو لم يكن من كلام الله تعالى ، وكان من صنع البشر ، لوجد فيه تناقضا وتضادا كثيرا ، فلا بدّ أن يأتي آخره أجود وأحسن من أوله ، وأكثر تطورا ، وهذا مما يؤيده التكامل التدريجي للبشر ، في حين نرى أن الآيات المكيّة والمدنية على نمط واحد ، لم يختلف آخرها عن أوّلها ، كتاب متشابه الأجزاء ، يحيّر العقول في قدرة بيانه ووحدة تنسيقه (١).

__________________

(١) في قوله تعالى شأنه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) سورة النساء الآية ٨٢.

معرفة المعاد

الإنسان روح وجسم

إن كلمة الروح والجسم والنفس قد كثر استعمالها في القرآن والسنة ، علما بأن تصوّر الجسم والبدن الذي يتم عن طريق الحس قد يكون أمرا بسيطا ، إلّا أن تصور الروح والنفس لا يخلو من إبهام وغموض.

إن الباحثين والمتكلمين والفلاسفة سواء من الشيعة أو من السنة ، لهم نظريات متفاوتة في حقيقة الروح ، ولكن الروح والبدن من وجهة نظر الإسلام هما حقيقتان متضادتان ، فالبدن يفقد خواصه الحياتية بالموت ، ويضمحل بصورة تدريجية ، ولكن الروح ليست هكذا ، فإن الحياة أصالة للروح ، وما دامت الروح في الجسم ، فإن الجسم يستمد حياته منها ، وعند ما تفارق الروح البدن ، وتقطع علاقتها به ، لا يقوى البدن على القيام بأي عمل ، إلا أن الروح تستمر في حياتها.

ومما يستنبط من تدبر الآيات القرآنية ، وكلام أهل بيت العصمة عليه‌السلام أن الروح الإنسانية غير مادية ، ولكنها تؤلف نوعا من العلاقة والوحدة مع الجسم ، إذ يقول الله تعالى في كتابه المبين :

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ* ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ* ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً

فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١).

ويتّضح من سياق الآيات ، أن أوائلها تصف الخلقة المادية بشكلها التدريجي ، وأواخرها تشير إلى خلقة الروح أو الشعور والإرادة ؛ وتصفها بأنها خلقة أخرى ، تختلف عن خلقتها الأولى.

وفي آية أخرى في الردّ على من يستبعد «المعاد» أو ينكره يشرح القرآن الكريم كيف أن الإنسان تستعاد خلقته بعد موته وتفتت أجزائه ، وتمازجها مع أجزاء التربة ، ويرجع كما كان إنسانا كاملا ، يقول الله سبحانه وتعالى : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) (٢). أي أن الأرواح تقبض على يد ملك الموت من أبدانكم ، وتحفظ عندنا.

ويعرّف القرآن الكريم الروح بصورتها المطلقة غير المادية ، بقوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) (٣). وفي آية أخرى من الذكر الحكيم ، يتطرق إلى موضوع الأمر بقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤). وبمقتضى هذه الآيات أن أمر الله تعالى في خلقته للأشياء لم يكن تدريجا ، ولم يكن محددا بزمان أو مكان ، ولما كانت الروح أمرا من الله إذن فهي ليست بمادة ، ولم يكن في كنهها خاصة المادة التي تتصف بالتدرّج والزمان والمكان.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ١٢ ـ ١٤.

(٢) سورة السجدة الآية ١١.

(٣) سورة الإسراء الآية ٨٥.

(٤) سورة يس الآية ٨٢.

مبحث في حقيقة الروح من منظار آخر

إن الاستدلالات العقليّة تؤيد القرآن الكريم أيضا في موضوع الروح. كلّ واحد منا يدرك حقيقة من وجوده ، والتي نعبّر عنها بال «أنا» وهذا الإدراك موجود في الإنسان بصورة مستمرة ، وأحيانا ينسى بعض أعضاء جسمه من رأس أو يد أو سائر الأعضاء ، وحتى جسمه كليا ، ولكن يدرك ال «أنا» عند ما يكون هو موجودا. وهذا «المشهود» كما هو مشهود ، غير قابل للانقسام والتجزئة ، مع أن جسم الإنسان في تغيّر وتحوّل دائم ، ويتخذ أمكنة مختلفة ، وتمرّ عليه أزمنة مختلفة إلّا أنّ الحقيقة المذكورة وهي ال (أنا) ثابتة في حقيقتها لا تقبل التغيير أو التبديل ، وواضح بأنها لو كانت مادة ، لتقبلت المادة ، بما فيها الانقسام وتغيّر الزمان والمكان.

نعم إن الجسم يتقبل كل هذه الخواص ، وبما أن هذه الخواص لها ارتباط روحي ، فتنسب إلى الروح. ولكن مع تأمل وتدبر يتجلى للإنسان ، إن هذا المكان وذلك المكان ، وهذا الشكل وذلك الشكل ، وكلها من خواص البدن ، والروح منزهة عنها ، وكل من هذه الصفات إنما تنتقل إلى الروح عن طريق البدن.

يسري هذا البيان في خاصية الإدراك والشعور على (العلم) والذي هو من مميزات الروح. وبديهي أن العلم إذا كان يتصف بما تتصف به المادة ، لكان تباعا يتقبل الانقسام والتجزئة والزمان والمكان.

إن هذا البحث العقلي واسع مطوّل ، تتبعه أسئلة وأجوبة ، ولا يسعه كتابنا هذا ، وهذا المقدار من البحث إنما أدرج هنا على

سبيل الإشارة ، ولغرض استقصائه واستقرائه يستلزم الرجوع إلى الكتب الفلسفية الإسلامية.

الموت من وجهة نظر الإسلام

إن النظرة العابرة تفترض أن موت الإنسان فناؤه وعدمه ، وتحديد حياة الإنسان بالأيام التي يعيشها فيما بين ولادته ووفاته ، في حين نرى أن الإسلام يعتبر الموت انتقالا من مرحلة حياتية إلى مرحلة حياتية أخرى ، فللإنسان حياة أبديّة لا نهاية لها ، وما الموت الذي يفصل بين الروح والجسم إلا ليورده المرحلة الأخرى من حياته ، وأن السعادة والشقاء فيها يعتمدان على الأعمال الحسنة أو السيئة في مرحلة حياته قبل الموت ، ويروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ما مضمونه ، تظنون أنكم تفنون بالموت ، ولكنكم تنتقلون من بيت لآخر (١).

عالم البرزخ

ومما يستفاد من القرآن الكريم والسنة ، إن الإنسان يتمتع بحياة مؤقتة ومحدودة في الحدّ الفاصل بين الموت ويوم القيامة ، والتي تعتبر رابطة بين الحياة الدنيا والحياة الأخرى (٢).

والإنسان بعد موته ، يحاسب محاسبة خاصة من حيث الاعتقاد ، والأعمال الحسنة والسيئة التي كان عليها في الدنيا ،

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٣ : ١٦١. الاعتقادات للصدوق.

(٢) البحار ج ٢ باب عالم البرزخ.

وبعد هذه المحاسبة المختصرة ، ووفقا للنتيجة التي يحصل عليها ، يحكم عليه بحياة سعيدة أو شقيّة ، ويكون عليها إلى يوم القيامة (١).

وحالة الإنسان في عالم البرزخ تشابه كثيرا حالة الشخص الذي يراد التحقيق معه لما قام به من أعمال ، فيجلب إلى دائرة قضائية كي تتم مراحل الاستجواب والاستنطاق منه ، لغرض تنظيم ملفّ له وبعدها يقضي فترة ينتظر خلالها وقت محاكمته.

روح الإنسان في عالم البرزخ ، تعيش بالشكل الذي كانت عليه في الدنيا ، فإذا كانت صالحة ، تتمتع بالسعادة والنعمة وجوار الصلحاء والمقرّبين لله تعالى ، وإذا كانت شقية ، فإنها تقضي هذه الفترة في النقمة والعذاب ، ومصاحبة الأشرار ، وأهل الضلال.

فالله جلّ شأنه يصف حالة بعض السعداء بقوله :

(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ* فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (٢).

وفي وصف حالة مجموعة أخرى ، من الذين كانوا ينفقون أموالهم وثرواتهم في مشاريع غير مشروعة في الحياة الدنيا ، يصفهم بقوله تعالى :

(حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ* لَعَلِّي أَعْمَلُ)

__________________

(١) البحار ج ٢ باب عالم البرزخ.

(٢) سورة آل عمران الآية ١٦٩ ـ ١٧١.

(صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (١).

يوم القيامة. المعاد

ينفرد القرآن الكريم بين الكتب السماوية ، بالتحدث عن المعاد والحشر تفصيلا ، في حين أن «التوراة» لم يشر إلى هذا اليوم وهذا الموقف ، وكتاب «الإنجيل» يشير إليه إشارة مختصرة ، فإن القرآن يذكره ويذكّر به في مئات الموارد ، وبأسماء شتّى ، ويشرح العاقبة التي تنتظر العالم والبشرية ، تارة باختصار وأخرى بإسهاب.

ويذكّر مرارا أنّ الاعتقاد بيوم الجزاء (يوم القيامة) يعادل الاعتقاد بالله تعالى ، ويعتبر أحد الأصول الثلاثة للإسلام ومنكره (منكر المعاد) ، خارج عن شريعة الإسلام وما عاقبته إلّا الهلاك والخسران.

وحقيقة الأمر هكذا ، بأنه إذا لم تكن هناك محاسبة وجزاء وعقاب ، فإن الدعوة الدينية بما تحتوي من أوامر الله ونواهيه ، لم يكن لها أدنى فائدة أو أثر ، وأن وجود النبوة والإبلاغ وعدمه سواء ، بل يرجّح عدمه على وجوده ، لأن تقبل الدين واتباع موازين الشرع ، لا يخلو من تكلّف وسلب للحريّة ، وإذا لم يكن اتباع الدين له أثر أو نتيجة ، لن يتحمّل الناس هذا العبء وهذه المسئولية ، ولن يتخلوا عن الحرية الطبيعيّة.

__________________

(١) سورة المؤمنون الآية ٩٩ ـ ١٠٠.

ومن هنا يتّضح أن أهميّة ذكر يوم الحشر وتذكّره يعادل أهمية أصل الدعوة الدينية.

ويتضح أيضا أن الاعتقاد بيوم الجزاء من أهم العوامل التي تجبر الإنسان على أن ينتهج الورع والتقوى ، وأن يتجنب الأخلاق الرذيلة ، والمعاصي والذنوب ، كما أن نسيانه ، أو عدم الاعتقاد به ، سوف يكون أساسا وأصلا لكل معصية أو ذنب ، ويقول جلّ من قائل :

(إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (١).

ومما يلاحظ في الآية ، أن منشأ كل ضلال هو نسيان يوم الحساب.

وبالتدبّر في خلقة الإنسان والعالم ، وكذا في الهدف من الشرائع السماوية ، يتّضح الغرض من اليوم الذي سيلاقيه الإنسان «يوم الجزاء».

ونحن عند ما نتدبر الأعمال والأفعال في الطبيعة ، نرى أن كل عمل (والذي يحتوي على نوع من الحركة بالضرورة) لا يتم إلّا لغاية وهدف ، وليس العمل نفسه بالأصالة هو المقصود ، بل أنه مقدمة لهدف وغاية فيكون مطلوبا لذلك الهدف أو لتلك الغاية ، حتى في الأعمال التي تعتبر سطحيّة مثل الأفعال الطبيعية والأعمال الصبيانية ونظائرها ، لو دققنا فيها لوجدنا فيها غايات

__________________

(١) سورة ص الآية ٢٦.

وأغراضا تناسب نوع الفعل ، كما في الأعمال الطبيعية التي تتصف بالحركة غالبا ، فإن الغاية التي تسعى إليها هذه الحركة تعتبر الغاية والهدف لها ، وأما في لعب الأطفال وما يتناسب مع نوع اللعبة ، فإن هناك غاية خيالية وهميّة ، والهدف من اللعبة هو الوصول إليها.

وفي الحقيقة أن خلقة الإنسان والعالم ، من أعمال الله تعالى وهو منزّه عن أن يقوم بأعمال عبث دون هدف أو غرض ، فهو الذي يخلق ، ويرزق ويميت ، وهكذا يخلق ويهلك فهل يتصور أن يكون خلقه هذا دون هدف معيّن ، وغرض محكم يتابعه.

إذن لا بد لخلق الكون والإنسان ، من هدف وغاية ثابتة ، والفائدة منه لا تعود إلى الله الغني المتعال ، فكل ما فيه يعود للمخلوق نفسه. إذن يجب الاعتراف بأن الكون بما فيه الإنسان يتجه ويسير نحو خلقة معيّنة خاصة ، ووجود أكمل ، لا يتصفان بالفناء والزوال.

وإذا أمعنا النظر في حالة الناس ووضعهم ، ومدى تأثرهم بالتربية الدينيّة ، فإننا نرى أن الناس نتيجة الارشادات الإلهيّة ، والتربية الدينيّة ، ينقسمون إلى قسمين ، وهم الأخيار والأشرار ، ومع هذا فإننا لا نجد أيّ امتياز أو فارق في هذه الحياة ، بل على العكس ، غالبا ما تكون الموفقية للأشرار والظالمين ، أما الأخيار فإنهم مبتلون بالفتن والمشاكل والحياة السيئة والحرمان وتحمّل الظلم.

والحال هذه تقتضي العدالة الإلهية أن تكون هناك نشأة

أخرى ، حتى يجد فيها كل من الفريقين المذكورين ، جزاء أعمالهم ، ويحيون حياة تناسب حالهم ، ويشير الله تعالى في كتابه العزيز إلى هاتين الحالتين بقوله :

(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ* ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (١).

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ* أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢).

ويذكر سبحانه وتعالى في آية أخرى ، جمع فيها الدليلين بقوله جلّ شأنه :

(أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ* وَخَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٣).

بيان آخر

قد أشرنا في الفصل الثاني من الكتاب في مبحث الظاهر والباطن القرآني ، إنّ المعارف الإسلامية في القرآن الكريم ، مبيّنة بطرق مختلفة ، والطرق المذكورة بشكل تنقسم إلى قسمين ، الظاهر والباطن.

__________________

(١) سورة الدخان الآية ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) سورة ص الآية ٢٧ ـ ٢٨.

(٣) سورة الجاثية الآية ٢١ ـ ٢٢.

والمراد من طريق الظاهر ، هو البيان الذي يتناسب مع مستوى أفكار العامة ، على خلاف الطريق الباطن الذي يختصّ بالخاصة منهم ، ويدرك مع روح الحياة المعنويّة.

والبيان الذي يؤخذ عن طريق الظاهر مؤداه أن الله تعالى الحاكم المطلق لعالم الخلقة ، فكل ما في هذا الكون ملكه ، فهو الذي خلق الملائكة التي لا يعلم إحصاؤها كي تكون مطيعة ومنفّذة لأوامره ، يرسلهم إلى حيث شاء من الكون ، ولكل بقعة من عالم الطبيعة وما يلازمها من نظم ترتبط بمجموعة خاصة من الملائكة موكّلين عليها.

والنوع الإنساني من مخلوقاته وعباده الذين يجب عليهم اتباع أوامره ونواهيه ، والطاعة له ، وما الأنبياء إلّا حملة شرائعه وقوانينه ، يبعثهم إلى الناس ، لبيان وإجراء تلك الشرائع والقوانين.

فالله جلّ ثناؤه ، لما جعل الثواب والأجر لمن آمن وأطاع ، جعل العقاب والعذاب لمن كفر وعصى ، وهو القائل ، (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) ، ولما كان عادلا ، فعدالته تقتضي أن يفصل بين الفريقين في النشأة الأخرى ، وهما الأخيار والأشرار ، وأن يمتّع الأخيار بالنعيم ، وللأشرار الشقاء.

وقد وعد الله تعالى بمقتضى عدله ، أن يحشر الناس الذين مروا في الحياة الدنيا دون استثناء ، ويحاسبهم حسابا دقيقا في معتقداتهم وأعمالهم ، من صغيرة أو كبيرة ، ويقضي بينهم بالحق والعدل ، وفي النهاية ، سيوصل لكل ذي حق حقه ، ويأخذ لكل مظلوم نصيبه ممن ظلمه ، ويعطي أجر عمل كل عامل ، ويصدر الحكم لفريق في الجنة وفريق في السعير.

هذا هو البيان الظاهري للقرآن الكريم ، وقد جاء مطابقا لفكر الإنسان الاجتماعي ، لتكون فائدته أعمّ ، ونطاقه أشمل.

أما الذين تعمّقوا في الحقائق ، ولهم القدرة على فهم المعنى الباطني للقرآن الكريم ، فهم يدركون الآيات القرآنية على مستوى أرفع من العامة. والقرآن الكريم ، يلمح خلال تعابيره البسيطة أحيانا بالمعنى الباطني تلميحا.

فالقرآن الكريم بتعابيره المختلفة ، يذكر إجمالا أنّ الطبيعة بجميع أجزائها ، والإنسان أحدها ، في سيرها التكويني (نحو الكمال) تصير إلى الله تعالى ، وسيأتي اليوم الذي تنتهي حركتها وسيرها ، وتفقد إنيّتها واستقلالها كليا.

والإنسان هو جزء من أجزاء هذا الكون ، فإن طريق كماله الخاص يتم عن طريق الشعور والعلم ، مسرعا في طريقه إلى الله تعالى ، واليوم الذي يختتم به هذا المسير ، سيشاهد عيانا حقانية الله الأحد ، وسيرى أن القدرة والملك وكل صفة من صفات الكمال تنحصر في ذاته القدسية ، ومن هذا الطريق ، ستتجلّى له حقيقة الأشياء كلها.

وهذا هو أول منزل وموقف من العالم الأبدي ، فإذا كان الإنسان في هذه الدنيا ، بإيمانه وعمله الصالح ، أوجد ارتباطا واتصالا بالله تعالى واستأنس به ، وبالمقربين من عباده ، سيحظى بسعادة لا توصف ، وسيكون في جوار الله سبحانه ، ويكون قرين الصالحين في العالم العلوي ، وإذا ما كان ممن تربطهم علاقة وثيقة بهذه الدنيا الدنيئة ، ولذائذها الزائلة ، فقد قطع اتصاله بالعالم العلوي ،

ولم تقم بينه وبين خالقه رابطة أو اتصال ولا مع المقربين من عباده ، فإنه سيحاط بعذاب دائم ، وخزي أبدي.

صحيح أن الأعمال الحسنة والسيئة للإنسان في هذه الدنيا تزول وتذهب ، لكن صور الأعمال هذه تستقر في باطنه ، وأينما رحل فهي معه ، وتكون مصدر حياته الآتية سواء في السعادة أو الشقاء.

وكل ما ذكر يمكن استنتاجه من الآيات التالية :

يقول جلّ من قائل : (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) (١).

ويقول : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٢).

ويقول : (وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) (٣) :

ويقول : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً* فَادْخُلِي فِي عِبادِي* وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٤).

ويخاطب الله سبحانه يوم القيامة بعض أفراد البشر ، بقوله :

(لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٥).

وفي تأويل القرآن الكريم ، والحقائق التي تنبع منه الآيات ، يقول جلّ اسمه :

(هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ

__________________

(١) سورة العلق الآية ٨.

(٢) سورة الشورى الآية ٥٣.

(٣) سورة الانفطار الآية ١٩.

(٤) سورة الفجر الآية ٢٧ ـ ٣٠.

(٥) سورة ق الآية ٢٢.

قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ) (١).

ويقول تعالى :

(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢).

ويقول تعالى شأنه :

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) (٣).

ويقول تعالى ذكره :

(مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (٤).

ويقول تعالى اسمه :

(فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ. فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (٥).

ويقول سبحانه :

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٦).

__________________

(١) سورة الأعراف الآية ٥٣.

(٢) سورة النور الآية ٢٥.

(٣) سورة الانشقاق الآية ٦.

(٤) سورة العنكبوت الآية ٥.

(٥) سورة الكهف الآية ١١٠.

(٦) سورة الفجر الآية ٢٧ ـ ٣٠.

ويقول سبحانه وتعالى :

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى * فَأَمَّا مَنْ طَغى * وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا* فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى * وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (١).

ويتعرض القرآن الكريم لحقيقة جزاء الأعمال قائلا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٢).

استمرار الخلقة وتعاقبها

إن عالم الخلقة الذي نشاهده ، له عمر محدود ، وسيأتي اليوم الذي يفنى فيه ويزول ، كما يؤيد القرآن الكريم هذا المعنى بقوله تعالى : (ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى) (٣).

وهل خلق عالم ، وهل كان هناك إنسان ، قبل ظهور عالمنا هذا والبشر الذي يعيش فيه حاليا؟ وهل بعد زوال وفناء هذا العالم بما فيه ، والذي يخبر به القرآن الكريم سينشأ عالم آخر وسيخلق بشر ، فهذه أسئلة لا نجد جوابها في القرآن الكريم إلّا تلميحا ، لكن الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، تجيب بإيجاب عن هذه الأسئلة (٤).

__________________

(١) سورة النازعات الآية ٣٤ ـ ٤١.

(٢) سورة التحريم الآية ٧.

(٣) سورة الأحقاف الآية ٣.

(٤) البحار ج ١٤ : ٧٩.

معرفة الإمام

معنى الإمام

تطلق كلمة الإمام أو القائد على شخص يقود جماعة أو فئة ، ويتحمل عبء هذه المسئولية ، في المسائل الاجتماعية أو السياسية أو الدينية ، ويرتبط عمله بالمحيط الذي يعيش فيه ، ومدى سعة المجال للعمل فيه أو ضيقه.

إن الشريعة الإسلامية المقدسة (كما اتضح في الفصول السابقة) تنظر إلى الحياة العامة للبشر من كل الجهات ، فهي تصدّر أوامرها لإرشاد الإنسان في الحياة المعنوية ، وكذا في الحياة الصوريّة من الناحية الفردية ، وتتدخل في إدارة شئونه ، كما تتدخل في حياته الاجتماعية والقيادية (الحكومة) أيضا.

وعلى ما مرّ ذكره ، فإن الإمام أو القائد الديني في الإسلام ، يمكن أن يكون مورد نظر من جهات ثلاث :

الأولى : من جهة الحكومة الإسلامية.

الثانية : من جهة بيان المعارف والأحكام الإسلامية المعنويّة.

تعتقد الشيعة بأن المجتمع الإسلامي يحتاج إلى الجهات الثلاث التي سبق ذكرها ، احتياجا مبرما ، والشخص الذي يتصدّى لقيادة الجهات الثلاث ، بما فيها قيادة المجتمع ، يجب أن يعيّن من قبل الله والرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، علما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا يعيّن الإمام بأمر من الله تعالى.

الإمامة وخلافة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحكومة الإسلامية

إن الإنسان بما يمتاز به من مواهب إلهية ، يدرك جيدا ومن دون تردّد ، إن أي مجتمع متآلف ، في أيّة بقعة أو مملكة أو مدينة أو قرية أو قبيلة ، وحتى في بيت واحد يتألف من عدة أفراد ، لن يستطيع أن يعيش ويستمرّ في حياته دون قائد أو ناظر عليه ، فهو الذي يجعل الحياة نابضة ، يحرّك عجلات اقتصادها ، يحفّز كل فرد من أفراد المجتمع لإنجاز وظيفته الاجتماعية. فالمجتمع الفاقد لقائد ، لا يستطيع أن يستمر في حياته ، وفي أقل فترة ينهار قوامه ، ويسير نحو الهمجية والتحلل الخلقي.

فعلى هذا ، الشخص الذي يتولى قيادة مجتمع (سواء أكان كبيرا أم صغيرا) ويعير اهتماما لمنصبه ومقامه ، ويبدي عنايته لبقاء ذلك المجتمع ، نجده يعيّن خلفا له فيما لو أراد أن يغيب عن محل عمله (سواء أكانت الغيبة مؤقتة أم دائمة) ولا يتخلى عن مقامه ما لم يعين أحدا ، ولا يترك بلاده ، أو بقعته دون ناظر أو حارس عليها أو قائد لها ، لأنه يعلم جيدا ، أنّ غضّ النظر عن هذه المهمة وعدم استخلاف أحد ، يؤدّي بمجتمعه إلى الزوال والاضمحلال ، كما لو أراد ربّ البيت أن يسافر عدة أيام أو أشهر ، فإنه يختار أحد أفراد أسرته (أو غيرهم) مكانه ، ويلقي إليه مقاليد الإدارة في البيت ، وهكذا الرئيس لمؤسسة أو المدير لمدرسة ، أو التاجر لمحله ، وهو يشرف على موظفين أو صنّاع يعملون تحت أمرته ، فلو قدر أن يترك محل عمله لساعات قليلة فإنه يختار أحدهم ويعيّنه مكانه ، كي يتسنّى للآخرين الرجوع إليه ، في المشكلات أو المعضلات ، وقس على هذا ...

الإسلام دين قوامه الفطرة ، وذلك بنصّ القرآن الحكيم والسنة النبويّة ، وهو نظام اجتماعي ، يدركه كل من له إلمام بهذا الدين ، ومن ليس له صلة به. والعناية الخاصة التي قد بذلها الله جلّ وعلا ، ونبيّه الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لهذا الدين الجامع ، لا ينكرها أحد ، ولا يسعنا مقارنتها مع أي أمر آخر.

فالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان لا يترك المجتمع الذي يدخل في الإسلام ، أو المجتمع الذي قد سيطر عليه الإسلام ، وكذا كل بلدة أو قرية كانت تقع تحت أمرة المسلمين ، دون أن يرسل إليها واليا أو عاملا ، مباشرة ، كي يدير شئون تلك المجتمعات أو البقاع ، وكان هذا دأب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الجهاد ، فعند ما كان يرسل كتيبة إلى مكان ما ، كان يعين قائدا لها ، وكان يعين أكثر من قائد أحيانا ، كما حدث ذلك في حرب (مؤتة) إذ عيّن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أربعة ، فإذا ما قتل الأول ، خلفه الثاني من بعده ، وإذا ما قتل الثاني ، خلفه الثالث ... وهكذا.

وقد أبدى الإسلام بموضوع الخلافة والاستخلاف عناية تامة ، فلم يتغافل عن هذا الموضوع ، ومتى ما أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يترك المدينة ، كان يستخلف أحدا. وفي الوقت الذي أراد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهجرة من مكة إلى المدينة ، عيّن عليا خليفة له في مكة ، للقيام بالأعمال الخاصة به لفترة قصيرة ، كأداء الأمانات إلى أهلها ، وقد أوصى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي عليه‌السلام أن يقوم بأداء الديون وما يتعلق بشئونه الخاصة ، بعد وفاته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ووفقا لهذه القاعدة ، فإن الشيعة تدّعي أنه لا يتصوّر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبيل وفاته لم يوص لأحد يستخلفه في شئون الأمة من

بعده ، أو أنه لم يعين شخصا يقوم بإدارة الدولة الإسلامية.

وليس هناك من شك ، والفطرة الإنسانية تقرّ ، بأن نشوء مجتمع ما يرتبط بمجموعة من عادات وتقاليد مشتركة تقرّها أكثرية ساحقة لذلك المجتمع ، وكذا يرتبط بقاؤها ودوامها بحكومة عادلة تتبنّى إجراء تلك العادات والتقاليد إجراء كاملا ، وهذا الأمر لا يخفى على الشخص اللبيب أو يغفل عنه ، في حين أنه ليس هناك مجال للشك في الشريعة الإسلامية ، بما فيها من دقة ونظام ، ولما كان يبديه النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من احترام وتقدير لتلك الشريعة ، إذ كان يضحّي بما في وسعه في سبيلها ، أن يهمل الموضوع أو يتركه. علما بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كان نابغة زمانه ، في قوة تفكره ، وفراسته وتدبيره ، (فضلا عن مستلزمات الوحي والنبوة وما تتبعها من تأييدات).

وكما نجد في الأخبار المتواترة عن طريق العامة والخاصة ، في كتب الأحاديث والروايات (باب الفتن وغيرها) ، إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان ينبئ بالفتن والمحن التي ستلاقيها الأمة الإسلامية بعده ، وما يشوب الإسلام من فساد ، كحكومة آل مروان وغيرهم ، الذين غيّروا وحرّفوا الشريعة السمحاء ، فكيف يعقل أن من يهتم بأمور تحدث بعد سنوات عديدة متأخرة عن وفاته ، وما تنطوي عليها من فتن ومصائب ، أن يتغافل عن موضوع يحدث بعيد وفاته ، وفي الأيام الأوّل بعد رحيله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ولا يبدي اهتماما لموضوع خطير من جهة ، وبسيط من جهة أخرى ، في حين كان يبدي اهتمامه لأبسط الأمور الاعتيادية ، كالأكل والشرب والنوم وما شاكل ، فنجده يصدّر

الأوامر اللازمة لهذه المسائل الطبيعية ، فكيف لا يبدي اهتماما لمسائل أساسية هامة أو أن يختار الصمت إزاءها ، ولا يعيّن أحدا مكانه؟

وعلى فرض المحال ، لو كان تعيين القائد لمجتمع إسلامي في الشريعة الإسلامية ، منوطا بالمجتمع نفسه ، لكان لزاما على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أن يصرّح في هذا الخصوص ويشير إليه إشارة وافية ، ويعطي الأمّة الإرشادات اللازمة ، كي تصبح واعية أمام موضوع يضمن لها تقدمها وتكاملها ، وتتوقف عليه شعائر دينها.

في حين أننا لم نجد مثل هذا التصريح ، ولو كان هناك نصّ صريح لما خالفه من جاء من بعده ، وذلك ما حدث من الخليفة الأوّل ، وانتقال الخلافة إلى الثاني بوصية منه ، والرابع أوصى لابنه ، أما الخليفة الثاني فقد دفع الثالث إلى منصة الخلافة بحجّة أنه أحال الأمر من بعده إلى شورى تتضمن ستة أعضاء ، وقد عين هؤلاء الأعضاء ، وكذا كيفية انتخابهم.

أما معاوية فقد استعمل الشدّة حتى صالح الإمام الحسن عليه‌السلام ، واستتب له الأمر ، وبعدها صارت الخلافة وراثية ، وتغيّرت الشعائر الدينية ، من جهاد وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر وإقامة الحدود وغيرها. كل هذه قد زالت عن المجتمع الإسلامي ، فاضحت جهود الشارع هباء (١).

__________________

(١) فيما يتعلق بموضوع الإمامة وخلافة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والحكومة الإسلامية ، تراجع المصادر التالية : تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢٦ ـ ٦١ ـ السيرة لابن هشام ج ٢ : ٢٢٣ ـ ٢٧١.

تاريخ أبي الفداء ج ١ : ١٢٦ / غاية المرام صفحة ٦٦٤ نقلا عن مسند أحمد وغيره.

أما الشيعة فقد حصلت على هذه النتيجة خلال البحث والدراسة في الوعي الفطري للإنسان ، والسيرة المستمرة للعقلاء ، وبالتعمّق والفحص في الأسس الأساسية للشريعة الإسلامية والتي تهدف إلى إحياء هذه الفطرة الإنسانية ، وبالتأمل في الحياة الاجتماعية التي كان ينهجها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكذا بدراسة الحوادث المؤسفة التي حدثت بعد فاته ، والتي عانت الأمة الإسلامية منها عناء بالغا ، ودراسة وضع الحكومات الإسلامية في القرن الأول ، وما لازمها من قصور عن أداء وظائفها ، فإننا نصل إلى هذه النتيجة.

ثم إن هناك نصوصا كافية قد صرّحت من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خصوص تعيين إمام وخليفة من بعده ، وأن الآيات والأخبار المتواترة القطعية تشير إلى هذا المعنى ، كآية الولاية وحديث غدير خم (١) وحديث السفينة وحديث الثقلين ، وحديث الحقّ وحديث

__________________

(١) ويستدل آيات من الذكر الحكيم لإثبات خلافة علي بن أبي طالب (ع) منها الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) الآية ٥٥ من سورة المائدة.

اتفق المفسرون شيعة وسنة ، إن الآية المذكورة ، نزلت في شأن علي بن أبي طالب (ع) ، وتؤيد ذلك المزيد من الروايات عن طريق العامة والخاصة.

ومما ينقل عن أبي ذر الغفاري أنه قال : «صلّيت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوما من الأيام صلاة الظهر ، فسأل سائل في المسجد ، فلم يعطه أحد فرفع السائل يده إلى السماء وقال : اللهم اشهد إني سألت في مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعطني أحد شيئا ، وكان علي راكعا وأومى إليه بخنصره اليمنى ، وكان يتختم فيها ، فأقبل السائل حتى أخذ الخاتم من خنصره ، وذلك بعين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلما فرغ من صلاته ، رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم ، سألك موسى ، فقال : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي* وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي* يَفْقَهُوا قَوْلِي وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي* وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي). فانزلت عليه قرآنا ناطقا : (سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ ، وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ) ـ

المنزلة وحديث دعوة العشيرة الأقربين وغيرها ، ولكن المراد من الآيات والأحاديث الآنفة الذكر قد أوّل وحرّف لأسباب ودواع.

__________________

ـ اللهم وأنا محمد نبيك وصفيك ، اللهم واشرح لي صدري ، ويسّر لي أمري واجعل لي وزيرا من أهلي عليا ، اشدد به ظهري.

قال أبو ذر : فما أنهى الكلمة ، حتى نزل عليه جبرئيل (ع) من عند الله تعالى ، فقال : يا محمد اقرأ ، قال النبي (ص) : وما اقرأ؟ قال جبرئيل (ع) : اقرأ : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

ومن الآيات التي يستدل بها على خلافة علي بن أبي طالب (ع) هي الآية : (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). المائدة الآية (٣).

فظاهر الآية يدل على أن الكفار كانوا يأملون في انتهاء الدعوة الإسلامية وزوال معالمها ، ولكن الله سبحانه وتعالى قد أبدل أمنياتهم إلى يأس بالآية المذكورة ، لقد أكمل دينه وقوّم بنيانه ، وربما لم يكن الأمر هذا من الأحكام الجزئية في الإسلام ، بل أمر ينطوي على أهمية خاصة ، يعتمد عليه بقاء الإسلام واستمراره. لعلّ ظاهر الآية هذه يرتبط بالآية الأخيرة من السورة ذاتها ، (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) الآية ٦٧ من سورة المائدة.

تدل هذه الآية على أن هناك أمرا خطيرا ، انذر به الرسول الأعظم (ص) لا بد من تحققه ، فإذا ما أهمل فيه ، فإن رسالة الإسلام وأهدافه ستتعرض للخطر ، والأمر بما ينطوي عليه من أهمية خاصة ، فإن الرسول (ص) كان يخشى المعارضة من قبل المخالفين ، وكان ينتظر الفرصة المناسبة لبيانه وإظهاره ، لذا كان يؤجل إعلان الأمر للأمة الإسلامية ، حتى نزل الوحي من السماء ، يطلب فيها ربّ العالمين من الرسول الكريم (ص) أن يبادر في إعلانه دون تأمل وتهاون ، وألا يخشى أحدا سوى الله جلّ وعلا.

فالموضوع هذا لم يكن من نسخ الأحكام ، لأن عدم تبليغ الأحكام الإسلامية أو إعلان بعضها منه ، لا يعني تزلزل الكيان الإسلامي بأسره ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن النبي الأكرم (ص) كان يخشى من تبيان الأحكام الإسلامية للأمة الإسلامية.

فهذه الشواهد والقرائن ، تؤيد الأخبار أن الآيات التي ذكرت ، قد نزلت في غدير خم ، في شأن علي بن أبي طالب (ع) وأيّده الكثير من المفسرين من إخواننا أهل السنة.

ومما يروى عن أبي سعيد الخدري أنه قال : إن رسول الله (ص) دعا الناس إلى علي (ع) في غدير خم ، فأخذ بضبعيه فرفعهما ، حتى نظر الناس إلى بياض ابطي رسول ـ

__________________

ـ الله (ص) ثم لم يفترقوا حتى نزلت هذه الآية : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً). فقال رسول الله (ص) : الله أكبر على إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب برسالتي ، والولاية لعلي من بعدي ، ثم قال : من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله) غاية المرام البحراني صفحة ٣٣٦.

وقد ذكرت ستة أحاديث عن طرق العامة ، وخمسة عشر حديثا عن طرق الخاصة في شأن نزول الآية المذكورة. وصفوة القول ، أن أعداء الإسلام الذين طالما حاولوا الإطاحة بالإسلام وقيمة ، وتناولوا شتى الوسائل لهذا الغرض ، باءت محاولاتهم هذه بالفشل ، وقد خيّم اليأس عليهم ، فأصبحوا متربصين للأمر ، وبعد وفاة الرسول (ص) الذي كان يعتبر حافظا للإسلام وحارسا له ، وبوفاته يتزلزل قوام الإسلام ، وتنهدم أركانه. إلا أن هذه الأمنيات ، فندت في يوم غدير خم ، إذ أعلن نبيّ الإسلام أن عليا خليفته ووصيه الذي سيستخلفه للحفاظ على كيان الإسلام فعرّفه للأمة ، وبعد علي ، أنيطت هذه المسئولية الخطيرة لآل علي. ولمزيد من الاطلاع يراجع تفسير الميزان ، الجزء الخامس صفحة ١٧٧ ـ ٢١٤ والجزء السادس صفحة ٥٠ ـ ٦٤ ، من مصنفات مؤلف هذا الكتاب.

حديث الغدير : عند عودة الرسول (ص) من حجّة الوداع ، مكث في مكان يدعى (غدير خم) ، فأمر أن يجمع المسلمون العائدون من الحجّ ، فاجتمعوا ، فخطب فيهم ، ونصب عليا قائدا للأمة الإسلامية من بعده ، فأعطاه الولاية ، وجعله خليفة للمسلمين من بعده.

عن البراء ، قال : كنّا مع رسوله الله (ص) في حجة الوداع ، فلما أتينا على غدير خم ، كشح لرسول الله (ص) تحت شجرتين ونودي في الناس ، الصلاة جامعة ، ودعا رسول الله (ص) عليا ، وأخذ بيده فأقامه عن يمينه ، فقال : ألست أولى بكل امرئ من نفسه ، قالوا : بلى ، قال : «فإن هذا مولى من أنا مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه» ، فلقيه عمر بن الخطاب ، فقال : «هنيئا لك أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة». البداية والنهاية ج ٥ : ٢٠٨ وج ٧ : ٣٤٦ ـ ذخائر العقبي للطبري طبع القاهرة ١٣٥٦ صفحة ٦٧ ـ الفصول المهمة لابن الصباغ ج ٢ : ٢٣ وقد جاء هذا الحديث في كل من الخصائص للنسائي طبع النجف ١٣٦٩ صفحة ٣١ ـ وغاية المرام للبحراني صفحة ٧٩ ، عن ٨٩ طريقا من العامة ، و ٤٣ طريقا من الخاصة.

حديث السفينة : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله (ص) «مثل أهل بيتي كسفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تعلق بها فاز ، ومن تخلّف عنها غرق». ذخائر العقبى صفحة ٢٠ ـ الصواعق المحرقة لابن حجر طبع القاهرة صفحة ٨٤ و ١٥٠ ـ تاريخ الخلفاء للسيوطي صفحة ٣٠٧ ـ كتاب نور الأبصار للشبلنجي طبع مصر صفحة ١١٤ ـ غاية المرام للبحراني صفحة ٢٣٧ ـ وقد جاء الحديث المذكور في هذه الكتب ، ـ

تأييد للأقوال السابقة

في أواخر أيام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والتي قد مرض فيها ، بحضور جمع من الصحابة عنده ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

«هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا».

__________________

ـ بأحد عشر طريقا من العامة ، وسبعة طرق من الخاصة.

حديث الثقلين : عن زيد بن أرقم قال : قال رسول الله (ص) : «كأنّي قد دعيت فأجبت ، إنّي قد تركت فيكم الثقلين ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض». البداية والنهاية ج ٥ : ٢٠٩ ـ ذخائر العقبى صفحة ١٦ ـ الفصول المهمة صفحة ٢٢ ـ الخصائص صفحة ٣٠ ـ الصواعق المحرقة صفحة ١٤٧ ـ وقد نقل هذا الحديث في غاية المرام عن العامة والخاصة ، ٣٩ طريقا عن العامة ، و ٨٢ طريقا عن الخاصة.

وحديث الثقلين هذا يعتبر من الأحاديث القطعية ، وروي بأسانيد كثيرة وبعبارات مختلفة وأنه متّفق على صحته ، سنة وشيعة ، ويستفاد من الحديث المذكور ونظائره ، أمور منها :

١ ـ لو بقي القرآن بين الناس حتى قيام الساعة ، فالعترة باقية أيضا ، أي لا يخلو زمن من وجود إمام وقائد حقيقي للأمة.

٢ ـ لقد قدّم النبي (ص) عن طريق هاتين الأمانتين كل ما يحتاج إليه المسلمون من الناحية العلمية والدينية ، وعرّف أهل بيته مرجعا علميا ودينيا للأمة الإسلامية ، وأيّد أقوالهم وأعمالهم تأييدا مطلقا.

٣ ـ لا يفترق القرآن عن أهل البيت ، ولا يحق لمسلم أن يبتعد عنهم ، تاركا نهجهم وإرشادهم.

٤ ـ لو أطاع الناس أهل البيت ، وتمسّكوا بأقوالهم ، لن يضلّوا ، وسوف يكون الحقّ حليفا لهم.

٥ ـ كل ما يحتاج إليه الناس من علوم ومسائل دينية ، فهي موجودة لدى أهل البيت ، وكل من يتابع طريقهم ، لن يضل ولن يهلك ، وينال السعادة الحقيقة ، أي أن أهل البيت مصونون من الاشتباه والخطأ ، وبهذه القرينة ، يتّضح أن المراد من أهل البيت والعترة ، ليس كل أقرباء النبي (ص) وأولاده ، بل المراد عدة معدودة منهم ، وهم الذين قد نالوا المقام الاسمي من العلوم الدينيّة ، ولم يعتريهم الخطأ والنسيان ، كي تتوفر لديهم صلاحية القيادة للأمة ، وهم علي بن أبي طالب والأحد عشر من ولده ، فإن مقام الإمامة لهم ، الواحد بعد الآخر ، كما تشير الروايات إلى هذا المعنى.

قال بعضهم ، إن رسول الله قد غلبه الوجع وعندكم القرآن ، حسبنا كتاب الله ، فاختلف الحضور بالبيت واختصموا ، فمنهم من يقول ، قرّبوا يكتب لكم كتابا لن تضلّوا بعده ، ومنهم من يقول غير ذلك ، فلما أكثروا اللغو والاختلاف ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قوموا (١).

مع ما تقدم من البحث ، ومع الالتفات إلى أنّ الذين مانعوا أمر تدوين كلمة الرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هم أنفسهم قد حظوا في اليوم التالي بالخلافة الانتخابية ، وكان الانتخاب دون علم علي عليه‌السلام وأصحابه ، فجعلوهم أمام أمر واقع ، فهل هناك من شك في أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يريد تعيين علي ، ليجعله خليفة له من بعده.

وما كان الهدف من المعارضة (لتدوين أمر الرسول) إلّا جعل الجو مضطربا. كي ينصرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الأمر ، ولم يكن الغرض وصف النبي بالهذيان ، وغلبة المرض عليه ، وذلك لأسباب :

أولا : فضلا من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال فترة مرضه ، لم يسمع منه كلام لا يليق بمقامه ، ولم ينقل أحد هذا المعنى ، فإنه لا يحقّ لمسلم وفقا للموازين الدينية أن ينسب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهذيان والكلام العبث ، علما بأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مصون ومعصوم من قبل الله تعالى.

ثانيا : لو كان المراد من الكلام ، المعنى الحقيقي له ، فلا حاجة إلى ذكر العبارة التي تلتها ، «كفانا كتاب الله» إذ لو كان المراد نسبة الهذيان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لكفى ذكر مرضه ، لا أن يؤيد القرآن ، وينفي قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا الأمر لا يخفى على صحابي ، من

__________________

(١) البداية والنهاية ج ٥ : ٢٢٧ ـ شرح ابن أبي الحديد ج ١ : ١٣٣ ـ الكامل في التاريخ ج ٢ : ٢١٧ ـ تاريخ الرسل والملوك للطبري ج ٢ : ٤٣٦.

أن القرآن الكريم قد فرض على الأمة الإسلامية اتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنه مفروض الطاعة ، وكلامه عدل للقرآن. والناس ليس لهم أيّ اجتهاد أو اختيار أمام حكم الله ورسول.

ثالثا : إن ما حدث في مرض الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد حدث أيضا في مرض الخليفة الأول ، عند ما كان يوصي إلى الخليفة الثاني من بعده ، وعثمان حاضر يحرّر ما يملي عليه الخليفة الأول ، إذ أغمي على الخليفة ، والخليفة الثاني لم يعترض عليه كما اعترض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

وفضلا عن هذا كله ، فإن الخليفة الثاني قد اعترف في حديث له لابن عباس قائلا (٢). إنني أدركت أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يريد أن يوصي لعلي ، إلا أن مصلحة المسلمين كانت تستدعي ذلك ، ويقول أيضا ، أن الخلافة كانت لعلي (٣) ، فإذا ما كانت الخلافة صائرة إليه ، لفرض على الناس اتّباع الحق ، ولم ترضخ قريش لهذا الأمر ، فرأيت من المصلحة ألا ينالها ، ونحيّته عنها.

علما بأن الموازين الدينيّة تصرّح أن المتخلف عن الحقّ يجب أن يعود إليه ، لا أن يترك الحق لصالح المتخلف.

ومما تتناقله كتب التاريخ ، إن الخليفة الأول أمر بمحاربة القبائل المسلمة التي امتنعت عن إعطاء الزكاة ، قال : «والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدّونه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأقاتلنهم على منعه» (٤).

__________________

(١) الكامل لابن الأثير ج ٢ : ٢٩٢.

(٢) شرح ابن أبي الحديد ج ٢ : ١٣٤.

(٣) تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ١٣٧.

(٤) البداية والنهاية ج ٦ : ٣١١.

والمراد من هذا القول ، هو أن إقامة الحقّ وإحيائه واجب مهما بلغ الثمن ، وبديهي أن موضوع الخلافة حقّ أيضا إلا أنه أغلى من العقال وأثمن.

الإمامة في العلوم التشريعية

أشرنا في الفصول المتقدمة ، في معرفة النبي «الرّسول» وقلنا ، وفقا للقانون الثابت والضروري للهداية العامة ، إن أيّ نوع من أنواع الكائنات يسير نحو الكمال والسعادة المناسبة له وذلك عن طريق الفطرة والتكوين.

والإنسان أيضا أحد أنواع هذه الكائنات لا يستثنى من القانون العام. ويجب أن يرشد إلى طريق خاص في حياته ، تضمن له سعادته في الدنيا والآخرة ، وذلك عن طريق الغريزة المتّصفة بالنظرة الواقعية للحياة ، والتأمل في حياته الاجتماعية ، وبعبارة أخرى ، يجب أن يدرك مجموعة من المعتقدات والوظائف العملية ، كي يجعلها أساسا له في حياته ليصل بها إلى السعادة والكمال المنشود ، وقلنا أن المنهاج للحياة وهو ما يسمى بالدين لا يتأتّى عن طريق العقل ، بل هو طريق آخر ويدعى الوحي والنبوّة ، والتي تظهر في بعض من أولياء الله الصالحين وهم الأنبياء ، ورسل السماء.

فالأنبياء قد أنيطت بهم مسئولية هداية النّاس عن طريق الوحي من الله تعالى فإذا ما التزموا بتلك الأوامر والنواهي ، ضمنوا السعادة لهم.

يتّضح إن هذا الدليل ، فضلا عن أنه يثبت لزوم مثل هذا

الإدراك بين أبناء البشر ، يثبت أيضا ، لزوم وضرورة وجود أفراد حفظة على هذا البرنامج ، وإيصاله إلى الناس إذا اقتضت الضرورة ذلك.

وكذا يستلزم وجود أشخاص قد أدركوا الواجبات الإنسانية ، وذلك عن طريق الوحي ، وهم بدورهم ينهضون لتعليم المجتمع ، كما يجب أن تبقى هذه الواجبات السماوية ، ما دام الإنسان حيا ، وتعرض عليه عند الضرورة.

فالذي يتحمل عبء هذه المسئولية ، يعتبر حاميا للدين الإلهي ، ويعيّن من قبل الله تعالى ، وهو من يسمّى ب «الإمام» كما يدعى حامل الوحي الإلهي والشرائع السماويّة ب «النبي» وهو من قبل الله تعالى أيضا.

يتفق أن تكون النبوة والإمامة في شخص واحد ، وقد لا يتحقق ذلك ، فكما أن الدليل المتقدم يثبت عصمة الأنبياء ، فإنه يثبت عصمة الأئمة أيضا.

إذ تقتضي رحمة الله وعطفه أن يضع الدين الحقيقي وغير المحرّف في متناول أيدي البشر دوما. ولا يتحقق هذا الأمر دون أن تكون هناك عصمة.

الفرق بين النّبي والإمام

إن تسلم الأحكام والشرائع السماوية ، والتي تتم بواسطة الأنبياء ، إنما يثبت لنا موضوع «الوحي» وهذا ما مرّ علينا في الفصل المتقدم. وليس فيه ما يؤيد استمراره وبقاءه على خلاف

الحافظ والحامي الذي يعتبر أمرا مستمرا ، ومن هنا نصل إلى نتيجة أن ليس هناك ضرورة أن يكون نبي بين الناس بصورة مستمرة ، لكن يستلزم أن يكون إمام بينهم ، ويستحيل على مجتمع بشري أن يخلو من وجود إمام سواء عرفوه أم لم يعرفوه ، وقد أشار الله سبحانه وتعالى في كتابه : (فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ) (١).

فكما أشرنا ، يتفق أن تجتمع النبوّة والإمامة في شخص واحد ، فيمتاز بالمقامين النبوة والإمامة ، (تسلم الشريعة والحفاظ عليها والسعي في نشرها) وقد لا تجتمع في واحد ، وهناك أدوار من الزمن خلت من وجود الأنبياء ، إلا أن هناك إمام حق في كل عصر ، ومن البديهي أن عدد الأنبياء محدود ، ولم يظهروا في جميع الأدوار التي مرّت بها البشرية.

يشير الله سبحانه وتعالى في كتابه المبين إلى بعض الأنبياء الذين امتازوا بصفة الإمامة أيضا ، كما في ابراهيم عليه‌السلام إذ يقول : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (٢).

وكذا قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (٣).

__________________

(١) سورة الأنعام الآية ٨٩.

(٢) سورة البقرة الآية ١٢٤.

(٣) سورة الأنبياء الآية ٧٣.

الإمامة في باطن الأعمال

كما أن الإمام قائد وزعيم للأمة بالنسبة للظاهر من الأعمال ، فهو قائد وزعيم بالنسبة للباطن من الاعتقادات والأعمال أيضا ، فهو الهادي والقائد للإنسانية من الناحية المعنويّة نحو خالق الكون وموجده.

لكي تتضح هذه الحقيقة لا بدّ من مراعاة المقدمتين التاليتين :

أولا : ليس هناك من شك أو تردد في أن الإسلام وسائر الأديان السماوية ، تصرّح بأن الطريق الوحيد لسعادة الإنسان أو شقائه هو ما يقوم به من أعمال حسنة أو سيئة ، فالدّين يرشده ، كما أن فطرته وهي الفطرة الإلهية تهديه إلى إدراك الحسن والقبيح.

فالله سبحانه يبيّن هذه الأعمال عن طريق الوحي والنبوة ، ووفقا لسعة فكرنا نحن البشر ، وبلغة نفهمها ونعيها ، بصورة الأمر والنهي والتحسين والتقبيح في قبال الطاعة أو التمرد والعصيان ، يبشر الصالحين والمطيعين بحياة سعيدة خالدة ، وقد احتوت على كل ما تصبو إليه البشرية من حيث الكمال والسعادة ، وينذر المسيئين والظالمين بحياة شقيّة خالدة ، وقد انطوت على البؤس والحرمان.

وليس هناك أدنى شكّ من أن الله تعالى يفوق تصورنا وما يجول في أذهاننا ولكنه لا يتصف بصفة البشر من حيث التفكير.

وليس لهذه الاتفاقية أن يكون هناك سيّد ومسود وقائد ومقود ، وأمر ونهي وثواب وعقاب واقع خارجي سوى في حياتنا

الاجتماعية. أما الجهاز الإلهي فهو الجهاز الكوني الذي يربط حياة كل مخلوق وكائن بالله الخالق ربطا وثيقا.

ومما يستفاد من القرآن الكريم (١) وأقوال النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن الدين يشتمل على حقائق ومعارف تفوق فهمنا وإدراكنا الاعتيادي ، وأن الله جلّ شأنه قد أنزلها إلينا بتعبير بسيط يلائم تفكيرنا ، كي يتسنى لنا فهمها وإدراكها.

يستنتج مما تقدم أن هناك ارتباطا بين الأعمال الحسنة والسيئة من جهة ، والحياة الأخرى بما تمتاز به من خصائص وصفات من جهة أخرى ارتباطا واقعيا ، تكشف عن سعادة أو شقاء.

وبعبارة أوضح ، أن كل عمل من الأعمال الحسنة والسيئة تولد في الإنسان حقيقة ، والحياة الأخروية ترتبط بهذه الحقيقة ارتباطا وثيقا.

إن الإنسان في حياته يشبه الطفل ، سواء أشعر بهذا الأمر أم لم يشعر ، حيث تلازمه شئون تربويّة ، فهو يدرك ما يملي عليه مربيّه بألفاظ الأمر والنهي ، لكنه كلما تقدم في العمر استطاع أن يدرك ما قاله مربيه ، فينال بذلك الحياة السعيدة ، وما ذلك إلا بما اتّصف به من ملكات ، وإذا ما رفض وعصى معلمه الذي كان يسعى له بالصلاح ، نجد حياته مليئة بالمآسي والآلام.

فالإنسان يشبه المريض الذي دأب على تطبيق أوامر الطبيب في الدواء والغذاء ، أو رياضة خاصة ، فهو إذا لم يبال إلّا بما أملاه

__________________

(١) (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ* إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ* وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ) سورة الزخرف الآية ٢ ـ ٤.

عليه طبيبه ، فعندئذ يجد الراحة والصحة ، ويشعر بتحسن صحته.

وخلاصة القول ، إن الإنسان يتصف بحياة باطنية غير الحياة الظاهرية التي يعيشها ، والتي تنبع من أعماله ، وترتبط حياته الأخروية بهذه الأعمال والأفعال التي يمارسها في حياته هنا.

إن القرآن الكريم يثبت هذا البيان العقلي ، ويثبت في الكثير من آياته (١) بأن هناك حياة أسمى وروحا أرفع من هذه الحياة للصالحين والمؤمنين ، ويؤكد على أن نتائج الأعمال الباطنية تلازم الإنسان دوما ، والنبي العظيم قد أشار إلى هذا المعنى أيضا في الكثير من أقواله (٢).

__________________

(١) مثل هذه الآية : («وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ* لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) سورة ق الآية ٢١ ـ ٢٢.

والآية : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) (سورة النحل الآية ٩٧).

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) سورة الأنفال ، الآية ٢٤.

وفي سورة آل عمران الآية ٣٠ : (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ ...).

والآية : (إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) سورة يس الآية ١٢.

(٢) على سبيل المثال : يقول تعالى في حديث المعراج لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن عمل برضائي أمنحه ثلاث خصال : اعرضه شكرا لا يخالطه الجهل وذكرا لا يخالطه النسيان ومحبّة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين ، فإذا أحبّني ، أحببته وافتح عين قلبه إلى جلالي ولا أخفي عليه خاصة خلقي وأناجيه في ظلم الليل ونور النهار حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين ومجالسته معهم واسمعه كلامي وكلام ملائكتي وأعرّفه السرّ الذي سترته عن خلقي وألبسه الحياء حتى يستحي منه الخلق ويمشي على الأرض مغفورا له واجعل قلبه واعيا وبصيرا ولا أخفي عليه شيئا من جنة ولا نار وأعرّفه ما يمرّ على الناس في القيامة من الهول والشدة. بحار الأنوار ج ١٧ : ٩.

عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : استقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له : كيف أنت يا حارثة بن مالك؟ فقال : يا رسول الله مؤمن حقا. فقال ـ

ثانيا : كثيرا ما يحدث أن يرشد شخص أحدا بعمل حسن دون أن يلتزم هو بذلك العمل ، في حين أن الأنبياء والأئمة الأطهار ترتبط هدايتهم للبشر بالله جلّ وعلا ، ويستحيل أن يشاهد عندهم هذه الحالة ، وهو عدم الالتزام بالقول أو العمل به ، فهم العاملون بمبادىء الدين الذي هم قادته وأئمته وهم متّصفون بروح معنوية سامية ، يرشدون بها النّاس ، ويهدونهم إلى الطريق القويم.

فإذا أراد الله سبحانه أن يجعل هداية أمّة على يد فرد من أفرادها ، يربّي ذلك الفرد تربية صالحة تؤهّله للقيادة والإمامة ، ولن تجد لسنة الله تبديلا.

مما تقدم نستطيع أن نحصل على النتائج التالية :

١ ـ إن النبي أو الإمام لكل أمّة ، يمتاز بسموّ روحي وحياة معنويّة رفيعة ، وهو يريد هداية الناس إلى هذه الحياة.

٢ ـ بما أنهم قادة وأئمة لجميع أفراد ذلك المجتمع ، فهم أفضل من سواهم.

٣ ـ إن الذي يصبح قائدا للأمة بأمر من الله تعالى ، فهو قائد للحياة الظاهرية والحياة المعنوية معا ، وما يتعلّق بهما من أعمال ، تسير مع سيره ونهجه (١).

__________________

ـ له رسول الله ، لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي وأظمأت هواجري فكأني أنظر إلى عرش ربّي وقد وضع للحساب وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة وكأني أسمع عواء أهل النار في النار ، فقال رسول الله عبد نوّر الله قلبه الوافي الجزء الثالث صفحة ٣٣.

(١) (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ...) سورة الأنبياء الآية ٧٣.

(وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا) سورة السجدة الآية ٢٤.

ويستفاد من الآيات المتقدمة وما شابهها ، أن الإمام فضلا عن الإرشاد والهداية ـ

أئمة الإسلام وقادته

ومما تقدم يستنتج أنه بعد وفاة الرسول العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما زال ولا يزال إمام معيّن من قبل الله تعالى في الأمة الإسلامية.

وهناك المزيد من الأحاديث النبوية (١) في وصف الأئمة وعددهم ، وأنهم من قريش ومن أهل بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأن منهم الإمام المهدي وهو آخرهم.

وهناك نصوص صريحة (٢) أيضا من الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إمامة علي عليه‌السلام ، وأنه الإمام الأوّل وهكذا روايات وأحاديث أخرى عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن الإمام علي عليه‌السلام بشأن الإمام الثاني ، وهكذا كل إمام ينبئ بالإمام الذي يليه ويأتي بعده.

__________________

ـ الظاهرية يختص بنوع من الهداية المعنوية ، ويعتبر من سنخ عالم الأمر والتجرد ، فهو بواسطة الحقيقة والنور الباطني الذي يتصف به ، يستطيع أن يؤثر في القلوب المهيأة ، وأن يتصرف بها كيفما شاء ، ويسيّرها نحو مراتب الكمال والغاية المتوخاة ، فتأمّل.

(١) على سبيل المثال عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله يقول : لا يزال هذا الدين عزيزا إلى اثني عشر خليفة ، قال : فكبّر الناس وضجّوا ثم قال كلمة خفيّة. قلت لأبي : يا ابه ، ما قال : قال : قال كلهم من قريش ... صحيح أبي داود ج ٢ : ٢٠٧ ، مسند أحمد ج ٥ : ٩٢ وأحاديث أخرى بهذا المضمون.

عن سلمان الفارسي قال : دخلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإذا الحسين على فخذيه وهو يقبّل عينه ويقبّل فاهه ويقول : أنت سيّد ابن سيد ، وأنت إمام ابن إمام ، وأنت حجة ابن حجة ، وأنت أبو حجج تسعة ، تاسعهم قائمهم. ينابيع المودة الطبعة السابعة صفحة ٣٠٨.

(٢) يراجع كتاب الغدير تأليف العلامة الأميني ، وكتاب غاية المرام تأليف السيد هاشم البحراني ، وكتاب الهداة تأليف محمد بن حسن الحر العاملي وكتاب ذخائر العقبى تأليف محبّ الدين أحمد بن عبد الله الطبري. وكتاب المناقب للخوارزمي. وكتاب تذكرة الخواص لابن الجوزي. وكتاب ينابيع المودة لسليمان بن ابراهيم الحنفي. وكتاب الفصول المهمة لابن الصباغ وكتاب دلائل الإمامة لمحمد بن جرير الطبري. وكتاب النص والاجتهاد لشرف الدين الموسوي. وكتاب أصول الكافي الجزء الأول لمؤلفه محمد بن يعقوب الكليني. وكتاب الإرشاد للشيخ المفيد.

وبمقتضى هذه النصوص ، فإن أئمة الإسلام اثنا عشر بالترتيب التالي :

١ ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

٢ ـ الحسن بن علي عليه‌السلام.

٣ ـ الحسين بن علي عليه‌السلام.

٤ ـ علي بن الحسين عليه‌السلام.

٥ ـ محمد بن علي عليه‌السلام.

٦ ـ جعفر بن محمد عليه‌السلام.

٧ ـ موسى بن جعفر عليه‌السلام.

٨ ـ علي بن موسى عليه‌السلام.

٩ ـ محمد بن علي عليه‌السلام.

١٠ ـ علي بن محمد عليه‌السلام.

١١ ـ الحسن بن علي عليه‌السلام.

١٢ ـ محمد بن الحسن المهدي عليه‌السلام.

موجز عن حياة الأئمة الاثني عشر

الإمام الأول :

هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ، وأبو طالب شيخ بني إبراهيم وعمّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد ربّى محمدا في حجره ، وبعد أن بعث بالرسالة ، كان مدافعا عنه ، يحميه من شرّ المشركين وخاصة قريش.

ولد علي ـ على أشهر الروايات ـ قبل البعثة النبوية بعشر

سنوات ، وعند ما أصاب مكة وأطرافها الجدب ، كان عمره آنذاك ست سنوات ، فاقترح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينتقل من بيت أبيه «أبي طالب» إلى بيته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصبح في كنفه وتحت رعايته (١).

نال محمد بعد سنوات عدة مقام النبوة ، وقد أوحي إليه لأول مرة وهو في غار «حراء» فرجع إلى بيته ، وأخبر عليا بما جرى عليه ، فآمن عليّ عليه‌السلام به (٢).

وقد دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشيرته الأقربين إلى دينه الجديد ، قائلا : «من يؤازرني على هذا الأمر ، يكن وصيّ ووزيري ووارثي وخليفتي من بعدي».

فلم يستجب أحد لهذه الدعوة إلّا عليّ ، حيث قام وقال : أنا يا رسول الله ، فقبل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيمانه ، وأقرّ بما وعده إيّاه (٣) ، فهو أول من أسلم وقبل الإسلام من الرجال وآمن به ، وهو لم يعبد إلّا الله سبحانه.

كان عليّ يرافق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دوما ، إلى أن هاجر من مكة إلى المدينة ، وفي ليلة الهجرة ، عند ما حوصر بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان الكفار والمشركون قد جهّزوا الحملة للهجوم على بيت النبوة والرسالة ، وقتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في فراشه ، نام عليّ في فراش الرسول ، وخرج الرسول مهاجرا إلى يثرب (٤) ، فردّ عليّ الأمانات إلى أهلها

__________________

(١) الفصول المهمة الطبعة الثانية صفحة ١٤ / المناقب للخوارزمي صفحة ١٧.

(٢) ذخائر العقبى طبعة القاهرة سنة ١٣٥٦ صفحة ٥٨ / المناقب للخوارزمي طبعة النجف سنة ١٣٨٥ ، صفحة ١٦ ـ ٢٢ / ينابيع المودة الطبعة السابعة.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد طبع طهران ١٣٧٧ صفحة ٤ / ينابيع المودة صفحة ١٢٢.

(٤) الفصول المهمة صفحة ٢٨ ـ ٣٠ / تذكرة الخواص طبع النجف ١٣٨٣ صفحة ٣٤ / ينابيع المودة ص ١٠٥ / المناقب للخوارزمي ص ٧٣ ـ ٧٤.

حسب ما وصى به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتوجّه إلى يثرب مع أمّه ، وزوجتي الرسول وابنته (١).

كان علي بن أبي طالب ملازما للرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يفارقه ، وزوّجه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابنته فاطمة سلام الله عليها.

لما أقام النبي عقد الأخوة وأنشأها بين أصحابه ، جعل عليا أخا له (٢).

كان علي عليه‌السلام يشارك في جميع غزوات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدا غزوة تبوك ، إذ استخلفه الرسول في المدينة (٣) ، فلم يتراجع في جميع تلك الغزوات عن مواجهة الخصم ، ولم يخالف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أمر. وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّه عليه‌السلام : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع علي» (٤).

كان عمره الشريف يوم توفي الرسول العظيم ثلاثا وثلاثين سنة ، فنحّي عن منصب الخلافة ، علما بأنه كان منارا لجميع المثل الإنسانية ، مميزا عن أقرانه وعن كل صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌.

وقد تمسك المخالفون بأعذار منها ، أنه شاب لا تجربة له في الحياة ، وأنه قد قتل صناديد العرب عند محاربة الكفار وهو في ركاب الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاستطاعوا بهذه الحجج الواهية أن يجعلوه بمنأى وبمعزل عن الخلافة وقيادة شئون المسلمين

__________________

(١) الفصول المهمة صفحة ٣٤.

(٢) الفصول المهمة صفحة ٢٠ / تذكرة الخواص صفحة ٢٠ ـ ٢٤ / ينابيع المودة ص ٦٣ ـ ٦٥.

(٣) تذكرة الخواص صفحة ١٨ / الفصول المهمة صفحة ٢١ / المناقب للخوارزمي صفحة ٧٤.

(٤) مناقب آل أبي طالب تأليف محمد بن علي بن شهرآشوب طبع قم ج ٣ : ٦٢ ، ٢١٨.

غاية المرام صفحة ٥٣٩ / ينابيع المودة صفحة ١٠٤.

العامة ، فانعزل عن المجتمع ، وأصبح جليس داره ، وشرع بتربية الخاصة من أصحابه ، وبعد مضي خمس وعشرين سنة ، وهي الفترة التي حكم فيها الخلفاء الثلاثة بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعد مقتل الخليفة الثالث ، اتجهت الأمة الإسلامية إلى علي عليه‌السلام وبايعته بالخلافة.

كان علي عليه‌السلام طوال حكومته ، والتي لم تدم أكثر من أربع سنوات وتسعة أشهر يسير على نهج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتصفت خلافته بلون من الثوريّة إذ قام بإصلاحات أدّت بالإضرار إلى بعض المنتفعين ، فنجد أعلام المعارضة ترتفع ، وسيوف المعارضين تشهر ، يتقدمهم طلحة والزبير ومعاوية وعائشة فجعلوا مقتل عثمان ذريعة لنواياهم السيئة ، وقاموا بالأعمال المضللة.

والإمام علي عليه‌السلام استعدّ للحرب للقضاء على هذه الفتنة ، وقد جهزت أم المؤمنين جيشا وكان طلحة والزبير خير من يعينها وينهض معها بالأمر. فوقع القتال بين الطرفين على مقربة من البصرة ، واشتهرت الواقعة بحرب الجمل.

وقام الإمام أيضا بحرب مع معاوية في الحدود العراقية الشامية ، عرفت بحرب صفّين ، واستغرقت سنة ونصف السنة ، وشغل بحرب مع الخوارج في النهروان ، اشتهرت بحرب النهروان.

ويمكن القول بأن معظم تلك الفترة التي حكم فيها الإمام علي عليه‌السلام قد صرفت لرفع الاختلافات الداخلية ، وبعدها أصيب بضربة على يد أحد الخوارج في مسجد الكوفة ، وذلك صبيحة

يوم التاسع عشر من رمضان المبارك لسنة ٤٠ للهجرة ، واستشهد في اليوم الواحد والعشرين من الشهر نفسه (١).

والتاريخ يشهد أن عليا أمير المؤمنين عليه‌السلام لم تكن تنقصه صفة من الكمالات الإنسانية ، ويؤيد هذا الادعاء كل عدو وصديق. فكان مثلا رائعا في الفضائل والمثل الإسلامية ، ونموذجا حيا كامل لتربية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الكتب التي تناولت هذه الشخصية الفذّة سواء لدى الشيعة أو السنة وغيرهم من المحققين ، لم تتناول أية شخصية أخرى بهذا القدر في الحياة البشرية.

كان علي ـ عليه‌السلام ـ أعلم الصحابة ، بل أعلم المسلمين ، وهو أول من فتح باب الاستدلال الحرّ في المسائل العلمية ، واستعان بالبحوث الفلسفيّة في المعارف الإلهية ، وتكلم عن باطن القرآن ، ووضع قواعد اللغة العربية حفاظا على ألفاظ القرآن الحكيم ، وكان أفصح العرب بيانا ، وأبلغهم خطابا (كما أشرنا في الفصل الأول من الكتاب) وكان يضرب به المثل في شجاعته ، ولم يدع للقلق أو الخوف طريقا إلى قلبه ، في تلك الغزوات والحروب التي مارسها واشترك فيها.

والتاريخ الإسلامي لا يزال يحمل في طياته خبر الصحابة والمقاتلين في الغزوات ، وقد انتابهم الفزع والخوف ، وقد تكررت هذه الحالة في أكثر من واقعة ، كحرب «حنين» و «خيبر» و

__________________

(١) مناقب آل أبي طالب ج ٣ : ٣١٢ / الفصول المهمة ص ١١٣. تذكرة الخواص ص ١٧٢ ـ ١٨٣.

«الخندق». إذ انهزم الجيش أمام الأعداء ، ولكن الإمام كان يتصدى لحملات العدوّ ، ولم يسلم كل من نازل الإمام من أبطال العرب ومحاربيهم ، وكان على العاجز عطوفا ، فيترك قتله ، ولم يعقّب على الفارّ من ساحة الحرب ، ولم يغافل العدوّ ساعة الهجوم عليه ، ولم يقطع الماء على الأعداء.

ومما اتفقت عليه كتب التأريخ أنه عليه‌السلام ، في معركة خيبر ، تناول حلقة الباب ، واقتلع الباب وهزه هزة ثم رمى به جانبا (١).

ومما ينقل أيضا ، إنه في يوم فتح مكة ، عند ما أمر الرسول العظيم تحطيم الأصنام ، كان هناك صنم يدعى (هبل) وهو أكبر الأصنام وزنا ، وأشدّها ضخامة ، وكان قد وضع فوق الكعبة ، صعد عليّ على أكتاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمر منه ، ورمى ب «هبل» إلى الأرض (٢).

لم يكن له شبيه في تقواه وعبادته ، وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يردّ على الذين يحاولون النيل منه بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا عليا فإنّه ممسوس في ذات الله» (٣).

وذات يوم ، رأى الصحابي الجليل أبو الدرداء عليا عليه‌السلام في إحدى ضيعات المدينة فظنّ أنه ميّت لما رأى من عدم الحركة وسكون الجسم ، فرجع مسرعا إلى دار فاطمة ، أنبأها بالحدث ، وعزّاها بوفاة زوجها ، فأجابته فاطمة عليه‌السلام أنه لم يمت ، بل أنه

__________________

(١) تذكرة الخواص صفحة ٢٧.

(٢) تذكرة الخواص ٢٧ / المناقب للخوارزمي ٧١.

(٣) مناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب ج ٣ : ٢٢١.

مغشيّ عليه من شدة خوفه من الله سبحانه في عبادته وطاعته ، وما أكثر ما كانت تنتابه هذه الحالة.

وما أكثر القصص والروايات التي تشير إلى رأفته وعطفه بالفقراء والمساكين والمستضعفين ، فكان ينفق مما يحصل على المحتاجين في سبيل الله تعالى ، وهو يعيش عيشة خشنة.

كان يهوى الزراعة ، وغالبا ما كان يهتم بحفر الآبار ، وعمران الأراضي الموات بتشجيرها ، فكان يجعلها وقفا للفقراء والبائسين.

وكانت تطلق على كل هذه الموقوفات ، (صدقات علي) وكانت لها عائدات جمة ، وكانت تقدر هذه الموقوفات ب (أربعة وعشرين رطلا ذهبا) في السنوات الأخيرة من عهده عليه‌السلام (١).

الإمام الثاني :

هو الإمام الحسن المجتبى وأخوه الحسين عليهم‌السلام ، ولدا أمير المؤمنين علي عليه‌السلام من فاطمة الزهراء سلام الله عليها ، بنت الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرارا أن الحسن والحسين ولداي ، واحتراما لهذا القول كان علي عليه‌السلام يقول لباقي أولاده : أنتم أولادي ، والحسن والحسين ولدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

ولد الحسن عليه‌السلام في المدينة السنة الثالثة من الهجرة ، عاصر جده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مدة تزيد على سبع سنوات ، كان يتمتع برعاية

__________________

(١) نهج البلاغة الجزء الثالث الكتاب ٢٤.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٢١ ، ٢٥ / ذخائر العقبى صفحة ٦٧ ، ١٢١.

جده وعطوفته ، وقد توفيت أمه فاطمة سيدة النساء بعد وفاة جده ، بثلاثة أو ستة أشهر ، فتعهده والده بالتربية.

وبعد استشهاد أبيه علي عليه‌السلام نال مقام الإمامة الشامخ ، وما ذلك إلا بأمر من الله العلي العليم ، وعملا بوصية الإمام علي عليه‌السلام ، فاحتلّ مقام الخلافة ظاهرا ، وعمل في إرادة المسلمين ، طوال ستة أشهر.

جهّز معاوية الجيش لمحاربة الحسن عليه‌السلام ، بعد أن قضى فترة في الحرب ضد أبيه الإمام علي عليه‌السلام ، وكان معاوية من ألدّ أعداء آل علي بعد استشهاد الإمام عليّ ، (فحارب بحجة الثأر لدم عثمان ابتداء وبعد ذلك صرّح بطلبه للخلافة) ، فوجّه الجيش إلى الكوفة ، حيث كان مقرّ الخلافة للإمام الحسن عليه‌السلام ، واستطاع أن يكسب قادة جيش الإمام بالتطميع بالمال ، أو الوعد بالمقام والجاه ، فأغوى بهذا عددا من رؤساء وقادة الجيش ، الذين تخاذلوا تاركين خلفهم أمامهم ، متجهين نحو معاوية وثرواته.

وفي نهاية الأمر أجبر الإمام الحسن عليه‌السلام على الصلح (١) ، وأحال الخلافة الظاهرية بالشروط التي اشترطها إلى معاوية ، منها أن تكون الخلافة للحسن بعد وفاة معاوية ، وأن يصان شيعته وعشيرته من أيّ تعرض أو اعتداء وبهذا استطاع معاوية أن يأخذ بزمام الأمور في الشام ، ثم دخل العراق ، وأعلن إلغاءه لشروط الصلح التي أبرمها بالأمس مع الإمام الحسن ، وذلك في اجتماع

__________________

(١) إرشاد المفيد ١٧٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ١٣٣. الإمامة والسياسة تأليف عبد الله بن مسلم بن قتيبة ج ١ : ١٦٣ الفصول المهمة ١٤٥ / تذكرة الخواص ١٩٧.

عام للمسلمين ، ومارس أقسى أنواع الاضطهاد والشدة على أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والشيعة خاصة.

عاش الإمام الحسن طوال مدة إمامته (عشر سنوات) حياة محاطة بالقمع ، ولم يكن بمأمن حتى في بيته مع عائله وأهل بيته ، فاستشهد على يد زوجته إذ دست إليه السمّ بإيعاز من معاوية ، وذلك سنة ٥٠ للهجرة النبوية.

كان الحسن مثالا فذا لجدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونموذجا كاملا للخلق الأبيّة لأبيه ، فكان وأخوه الحسين ملازمين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكان يحملهما على كتفه أحيانا.

ومما يروى عن العامة والخاصة ، أن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ، والروايات عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي عليه‌السلام متوافرة بإمامة الحسن بعد أبيه عليهما‌السلام.

الإمام الثالث :

هو الإمام الحسين (سيّد الشهداء) ثاني ولد علي عليه‌السلام من فاطمة بنت النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ولد في السنة الرابعة الهجرية ، وبعد استشهاد أخيه الحسن المجتبى ، وصلت إليه الإمامة بأمر من الله جلّ شأنه ، ووفقا للوصية (١).

تعتبر مدة إمامة الإمام الحسين عليه‌السلام عشر سنوات ، عاشها

__________________

(١) إرشاد المفيد ١٧٩ / إثبات الهداة ج ٥ : ١٦٨ ـ ٢١٢. إثبات الوصية للمسعودي طبعة طهران ١٣٢٠ صفحة ١٢٥.

مضطهدا. فمعاوية قد استخدم شتى الطرق والوسائل لتصفية أهل البيت ، وكان يستعين بأعوان وأنصار له في تحقق هذا الأمر. فحاول طمس اسم علي وآل علي. ومهّد السبل لخلافة ابنه يزيد ، فهيّأ المقدمات اللازمة التي لا بدّ من اتخاذها لتشريع حكمه ، وإن كانت هناك فئة معارضة لما شاهدوه من فجور يزيد وفسقه. إلا أنهم لم يسلموا من غضب معاوية وسخطه ، فوجّه إليهم الضربات قاصمة.

فالحسين عاصر هذه الظروف الحالكة ، وتحمّل كلّ الأذى من قبل معاوية وأتباعه ، حتى جاء منتصف سنة ستين للهجرة ، التي مات فيها معاوية ، مخلفا ابنه يزيد (١).

كانت البيعة سنّة عربية تجري في الأمور الهامة كالملوكية والإمارة وما شابه ، فيتقدم السادة وكبار القوم بمدّ يد البيعة والطاعة للملك أو الأمير ، وكان يعتبر التخلّف عن البيعة عارا ، وتخلّفا عن معاهدة رسمية ، والبيعة كانت معتبرة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وسيرته تؤيد ذلك ، هذا إذا كانت تتصف بصفة الاختيار دون الإجبار والإكراه.

لقد أخذ معاوية البيعة من شرفاء القوم ورؤسائهم ، إلا أنه لم يتعرض للحسين عليه‌السلام ، ولم يحمّله بيعة يزيد ، وقد أوصى يزيد بعدم التعرض للحسين بن علي ، إذا امتنع من البيعة له ، فكان معاوية أكثر حنكا في الأمور ، وكان يرى العقبات التي تترتب على هذا الأمر

__________________

(١) إرشاد المفيد ١٨٢ / تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢٢٦ ـ ٢٢٨ / الفصول المهمة ١٦٣.

ولكن يزيد لما كان يتّصف به من أنانية ، نسي وصية أبيه ، فأمر والي المدينة بعد وفاة أبيه معاوية أن يأخذ البيعة من الحسين ، أو يرسل برأسه إليه (١).

وبعد أن أبلغ والي المدينة بأمر يزيد ، ونقله إلى الإمام الحسين عليه‌السلام طلب الحسين عليه‌السلام مهلة لدراسة الموضوع ، فخرج من المدينة في تلك الليلة ، متّجها إلى مكة ، والتجأ بالكعبة التي هي مأمن للمسلمين.

هذا ما حدث أواخر شهر رجب ، وأوائل شهر شعبان من سنة ستين للهجرة ، فالحسين لما قضى ما يقارب الأربعة أشهر في مكة ، في حالة اللجوء انتشر هذا النبأ شيئا فشيئا ، حتى عمّ جميع البلدان الإسلامية ، فأيّد الحسين جمع من الأمة الإسلامية ، لما شاهدوه من ظلم وتعسّف في زمن معاوية وابنه يزيد.

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فقد انهالت الرسائل الواردة من العراق ، وخاصة من الكوفة إلى الحسين بن علي ، تطلب منه أن يتّجه إلى العراق ، ليصبح قائدا لهم ، وتتم على يده إزالة معالم الظلم والجور ، فكان من الطبيعي أن يشعر يزيد بخطورة الموقف.

مكث الحسين عليه‌السلام في مكة حتى موسم الحجّ ، فكانت تفد جماعات من المسلمين لأداء فريضة الحج.

وعلم الحسين عليه‌السلام بأن هناك من أعوان يزيد وعملائه من قد وصل إلى مكة وهم يرتدون رداء الإحرام ، وقد أخفوا تحته

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج : ٨٨ / إرشاد المفيد صفحة ١٨٢ الإمامة والسياسة ج ١ : ٢٠٣ / تاريخ اليعقوبي ج ٢ : ٢٢٩ / الفصول المهمة ١٦٣ / تذكرة الخواص صفحة ٢٣٥.

السلاح ، لقتله حين قيامه بأداء فريضة الحج (١).

قرّر الحسين مغادرة مكة متجها إلى العراق ، فوقف خطيبا (٢) بين جمع غفير من المسلمين ، فأوجز في خطبته وأعلمهم بسفره إلى العراق ، وأشار باستشهاده في هذا الطريق ، وطلب العون منهم ، في سبيل أهدافه المقدّسة ، وألا يتوانوا عن نصرته ونصرة الإسلام ، دين الله الحنيف ، وغداة ذاك اليوم ، سلك طريق العراق ومعه أهله وعياله ، ونفر من شيعته وأصحابه.

لقد صمّم الحسين عليه‌السلام على عدم البيعة ليزيد ، وهو على علم بأن الطريق هذا سينتهي به إلى الاستشهاد وكان يعلم أن الجيش الأموي يتصف بالعدة والعدد ، وأنه مؤيّد من قبل عامة الناس وخاصة أهل العراق.

وقد جاء إليه جماعة ممن لهم صلة به ، فذكروا له خطورة الموقف والسفر الذي هو عازم عليه ، والنهضة التي هو قائدها ، فأجابهم الحسين عليه‌السلام بما مضمونه ، إنني لن أبايع يزيدا ، ولا أقرّ بحكومة جائرة ، وإني على علم بأنهم يريدون قتلي أينما أقمت ، وما تركي لهذه البقعة المكرّمة إلا لحرمة هذا المكان المقدّس (بيت الله الحرام) ، وألا تهتك حرم الله تعالى ، بإهراق دمي (٣).

سار الحسين عليه‌السلام إلى العراق ، وفي طريقه ، وصله نبأ بواسطة أحد شيعته ، عن مقتل رسوله ومبعوثه إلى الكوفة ، على يد والي

__________________

(١) إرشاد المفيد ٢٠١.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٨٩.

(٣) إرشاد المفيد ٢٠١ / الفصول المهمة ١٦٨.

يزيد ، وقد أمر الوالي بعد قتلهم ، أن تربط أرجلهم بالحبال ، ويدار بها في شوارع الكوفة وأزقتها (١).

فكانت الكوفة وضواحيها ، تحت مراقبة شديدة من قبل الأعداء ، تنتظر قدوم الحسين ، والإشارات دالة على قتله لا محالة. وهنا أعلن الحسين عليه‌السلام مصرحا بنبإ قتله دون تردد ، واستمر في سيره (٢).

حوصر الحسين عليه‌السلام ومن معه من قبل الجيش الأموي ، على مسافة سبعين كيلومترا من مدينة الكوفة ، في منطقة تسمى (كربلاء). فكانت تضيّق دائرة الحصار على هؤلاء ، ويزداد الجيش الأموي عددا وعدة ، وآل الأمر إلى أن استقر الإمام مع القلة من أصحابه تحت الحصار من قبل ثلاثين ألفا من الأعداء (٣).

حاول الإمام في هذه الأيام ، أن يثبت أنصاره ، فأخرج من جنده من أخرج ، وأمر بأن يجتمع الأصحاب ، فاجتمعوا ، فقال الإمام عليه‌السلام في خطاب بهم ، أن القوم لم يريدوا إلا قتلي ، وأنا رافع بيعتي عنكم ، فمن أراد منكم الفرار ، فليتخذ الليل له سترا ، وينجي بنفسه من الفاجعة الموحشة التي تتربص بنا.

فأمر بإطفاء الأنوار ، وتفرق جمع كثير ممن كان معه ، من الذين لم تكن أهدافهم سوى المادة والقضايا المادية ، ولم يبق معه إلا روّاد الحقّ ومتبعو الحقيقة ، وهم ما يقارب من أربعين شخصا ، وعدد

__________________

(١) إرشاد المفيد ٢٠٤ / الفصول المهمة ١٧٠ / مقاتل الطالبيين الطبعة الثانية ص ٧٣.

(٢) إرشاد المفيد ٢٠٥ / الفصول المهمة ١٧١ / مقاتل الطالبين ص ٧٣.

(٣) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٩٨.

من بني هاشم ، وللمرة الثانية ، جمع الإمام الحسين عليه‌السلام أصحابه ، فخطب فيهم قائلا :

«اللهم إني أحمدك على أن كرمتنا بالنبوة وعلمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين ، وجعلت لنا أسماعا وأبصارا وأفئدة فاجعلنا من الشاكرين.

أما بعد ، فإني لا أعلم أصحابا أوفى ولا خيرا من أصحابي ، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي ، فجزاكم الله عني خيرا ، ألا وإني لا أظن يوما لنا من هؤلاء ، ألا وإني قد أذنت لكم فانطلقوا جميعا في حلّ ليس عليكم مني زمام ، هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملا»

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وابنا عبد الله بن جعفر ، لم نفعل ذلك لنبقى بعدك!؟

قال بعضهم : ما نفعل ذلك ، ولكن نفديك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا ، ونقاتل معك حتى نرد موردك ، فقبّح الله العيش بعدك.

فقام مسلم بن عوسجة خطيبا ، قال : أنحن نخلّي عنك وبما نعتذر إلى الله في أداء حقّك ، أما والله حتى أطعن في صدورهم برمحي واضربهم بسيفي ما ثبت قائمة في يدي ، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به ، لقذفتهم بالحجارة ، والله لا نخليك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك.

أما والله ، لو قد علمت أني أقتل ثم أحيى ثم أحرق ثم أحيى ، ثم أذرى ، يفعل ذلك بي سبعين مرة ، ما فارقتك حتى ألقى حمامي (الموت) دونك ، وكيف لا أفعل ذلك ، وإنما هي قتلة واحدة ، ثم هي

الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا (١).

وصل الإنذار إلى الإمام في عصر يوم التاسع من محرم (أمّا البيعة أو القتال) من جانب العدو فطلب الإمام المهلة لتلك الليلة لغرض العبادة ، وتأجيل القتال لليوم التالي (٢).

وفي يوم العاشر من المحرم سنة ٦١ ه‍. ق استعد الإمام مع جمعه القليل (لا يتجاوز عددهم تسعين شخصا ، أربعون ممن جاءوا معه ، ونيف وثلاثون التحقوا بالإمام في ليلة الحرب ونهارها من جيش الأعداء ، والبقية كانوا من الهاشميين ، بما فيه ولده وأخوته وأبناء أخوته وأبناء أخواته وأبناء عمومته) استعدوا في معسكر واحد أمام العدد الغفير من جيش الأعداء ، فاشتعلت نار الحرب.

حارب هؤلاء من الصباح الباكر حتى الظهيرة ، واستشهد الإمام مع سائر الفتية الهاشميين ، فلم يبق منهم أحد ، (وكان بين القتلى طفلان للإمام الحسن وطفل ورضيع للإمام الحسين عليه‌السلام).

أغار الجيش بعد انتهاء الحرب على حرم الإمام ، وأشعلوا النيران في مخيّماتهم وحزّوا رءوس الشهداء وسلبوا ما على أبدانهم من رداء وملابس ، وتركوا الأجساد عارية على الأرض ، دون أن يواروهم في التراب ، ثم ساروا بأهل بيت الإمام (حرمه) زوجاته وبناته اللواتي لم يكن لهنّ مأوى مع رءوس الشهداء إلى جانب الكوفة (ولم يكن في الأسرى من الرجال سوى القليل ، منهم

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٩٩ / إرشاد المفيد ص ٢١٤.

(٢) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٩٨ / إرشاد المفيد ص ٢١٤.

ابن الإمام وهو السجاد شاب في سن الثانية والعشرين ، وقد اشتدّ عليه المرض ، وولده في سن الرابعة (محمد بن علي) الإمام الباقر عليه‌السلام ، وكان ممن بقي أيضا الحسن المثنى ابن الإمام الحسن ، والذي كان صهرا للإمام الحسين عليه‌السلام وكان قد أصيب بجراح كثيفة في جسمه ، وكان طريحا بين القتلى وقد عثروا عليه وهو في آخر رمق من حياته ، ولم يقتل بسبب تشفّع أحد الأمراء ، وكان من جملة الأسرى الذين جاءوا بهم إلى الكوفة) ، ونقلوهم من الكوفة إلى دمشق التي كانت مركز حكم يزيد.

وقد فضحت «واقعة كربلاء» وكذا ما قام به هؤلاء الأسرى من خطب ، وهم ينقلون من بلد إلى بلد ، في الكوفة والشام ومنهم زينب بنت الإمام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام والإمام السجاد اللذان كانا من جملة الأسرى ، فضحت نوايا بني أمية ، وكشفت النقاب عما كان يقوم به معاوية طوال سنوات عدة ، حتى أدى الأمر بيزيد أن يوبّخ عماله وأعوانه في الملأ على هذه الواقعة المفجعة.

كانت واقعة كربلاء عاملا مؤثرا عجّل في إبادة حكومة بني أمية ، وساعدت على ترسيخ مبادي الشيعة وكان من نتائجها الحروب الدامية طوال اثني عشر عاما! وما لازمها من ثورات وانتفاضات ، ولم يخلص أحد ممن ساهم وشارك في مقتل الحسين وأصحابه من الانتقام والأخذ بالثأر.

وليس هناك أدنى شك لمن يطالع تأريخ حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ويزيد ، والأوضاع في ذلك الوقت ، ويدقّق النظر فيها بأنه لم يكن هناك سوى طريق واحد ، وهو مقتل الحسين عليه‌السلام وما كانت

نتيجة البيعة ليزيد إلا هتكا لحرمات الإسلام ، وهذا ما لم يرض به الإمام ، لأن يزيد لا يحترم الإسلام ، ولا يتصف بصفات تجعله يتقيد أو يراعي شيئا منه ، ولا يأبى من سحق وإبادة جميع المقدسات والقوانين الإسلامية. بعد أن كان أسلافه يحترمون الشعائر الدينية ، فلم يخالفوها في الظاهر ، وما كانوا يقومون به من أعمال كانت تصطبغ بصبغة دينية ، وكانوا يحافظون على المظاهر الدينية ، ويفتخرون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسائر القادة والزعماء الدينيين الذين كانت لهم منزلة لدى الناس.

ومن هنا يتّضح ما يعتقده بعض مفسري الحوادث والوقائع التاريخية بأن الحسن والحسين كانا يتّصفان بصفات متباينة ، فالحسن عليه‌السلام يحبّذ الصلح على خلاف الحسين عليه‌السلام الذي كان يرجّح الحرب والقتال ، حيث أن الأول اتخذ جانب الصلح مع معاوية مع أن جيشه كان مقدرا بأربعين ألفا ، والثاني «الحسين عليه‌السلام» نهض بجيشه الذي يتراوح عدده الأربعين في القتال ضد يزيد ، ومن هنا يتّضح سقم هذا التفسير ، لأننا نرى الحسين عليه‌السلام الذي لم يرضخ لحكم يزيد يوما واحدا ، كان يعيش مع أخيه الحسن عليه‌السلام (في حدود العشر سنوات من حكم معاوية) ولم يعلن الحرب على معاوية.

ومما لا شك فيه ، أن الحسن أو الحسين عليهما‌السلام إذا كانا يريدان الحرب ضد معاوية لكان القتل نصيبهما ، فضلا عن أن هذا القتل لا ينفع الإسلام والمسلمين بشيء ، ولا يجد أيّ نفع أمام سياسة معاوية ، الذي كان يصف نفسه بالصحابيّ وكاتب الوحي

وخال المؤمنين ، وما شابه ذلك مما اتخذه كوسيلة وذريعة.

هذا وكان بإمكانه أن يقتلهم بأيادي مقربيهم ، ويبدي حزنه ، والانتقام ممن قام بهذا العمل كما فعل مع الخليفة الثالث.

الإمام الرابع :

هو الإمام السجاد (علي بن الحسين الملقب بزين العابدين والسجّاد عليه‌السلام).

ولد الإمام الرابع ، من شاه زنان بنت «يزدجرد ملك إيران» ، وهو الولد الوحيد الذي بقي للإمام الحسين عليه‌السلام بعد واقعة كربلاء ، إذ أن أخوته الثلاثة استشهدوا فيها. وقد شهد الواقعة ، ولكنه لم يشارك فيها لمرضه ، ولم يكن قادرا على حمل السلاح ، فحمل مع الأسرى إلى الشام.

وبعد أن قضى فترة الأسر ، ارجع مع سائر الأسرى إلى المدينة ، وما ذلك إلا لجلب رضى عامة الناس. فعند ما رجع الإمام الرابع إلى المدينة ، اعتزل عن الناس في بيته ، وتفرّغ للعبادة ، ولم يتصل بأحد سوى الخواص من الصحابة مثل (أبي حمزة الثمالي) و (أبي خالد الكابلي) وأمثالهم ، ولا يخفى أن هؤلاء الخاصة كانوا يوصلون ما يصلهم من الإمام من معارف إسلامية إلى الشيعة واتسع نطاق ثقافة الشيعة عن هذا الطريق ، فنرى ثماره في زمن الإمام الخامس (الإمام الباقر عليه‌السلام).

ومما ألّفه وصنّفه الإمام السجّاد عليه‌السلام كتاب يحتوي على أدعية تعرف به (الصحيفة السجادية) وتشتمل على سبعة وخمسين

دعاء ، والتي تتضمن أدق المعارف الإلهية ويقال عنها «زبور آل محمد».

كانت مدة إمامته عليه‌السلام خمسا وثلاثين سنة حسب بعض الروايات الشيعية ، ودسّ إليه السم (١) على يد «الوليد بن عبد الملك» وذلك بتحريض من هشام ، الخليفة الأموي ، سنة ٩٥ للهجرة.

الإمام الخامس :

هو الإمام محمد بن علي (الباقر) ولفظ الباقر يدل على تبحره في العلم ، وقد منحه هذا اللقب ، النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).

هو ابن الإمام السجّاد ، ولد سنة ٥٧ للهجرة ، وكان عمره في واقعة كربلاء أربع سنوات ، وكان ممن حضرها ، نال مقام الإمامة بعد والده ، بأمر من الله تعالى ، ووصية أجداده.

وفي سنة ١١٤ أو ١١٧ للهجرة (حسب بعض الروايات الشيعية) دس إليه السم بواسطة إبراهيم بن الوليد بن عبد الملك ، ابن أخ هشام الخليفة الأموي ، فقضت هذه الحادثة على حياته ، ومضى شهيدا.

في عهد الإمام الباقر ، وعلى إثر استفحال ظلم بني أمية ، كانت تبرز ثورات متعاقبة في كل قطر من الأقطار الإسلامية ، وتحدث الحروب.

وكان الاختلاف في حكومة بني أمية ظاهرا ، هذا ما كان

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ١٧٦ / دلائل الإمامة ص ٨٠ / الفصول المهمة ص ١٩٠.

(٢) الإرشاد للشيخ المفيد ص ٢٤٦ / الفصول المهمة ص ١٩٣ / مناقب ابن شهرآشوب.

يشغل الحكومة آنذاك ، فكانت نتيجتها أن يخفّ من التعرض لأهل البيت ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى ، ما حدث من واقعة كربلاء ، وما أبرزت من مظلومية أهل البيت ، متمثلة في الإمام الباقر عليه‌السلام ، جعل المسلمين يتجهون إلى أهل البيت ، ويبدون حبّهم لهم ، وإخلاصهم وتعاطفهم معهم.

وهذه العوامل مجتمعة ساعدت على أن ينصرف ذهن العامّة نحو أهل البيت ، فصاروا يتجهون إلى المدينة حيث الإمام الخامس ، وكانت العوامل مساعدة في انتشار الحقائق الإسلامية ، علوم أهل البيت على يد الإمام الباقر ، إذ لم يتحقق هذا لأحد من أجداده ، ومما يؤيد هذا الادعاء هو كثرة الأحاديث التي نقلت عن الإمام الخامس ، وكذا رجال الشيعة الذين تخصصوا في شتّى العلوم الإسلامية على يد إمامهم ، ولا تزال أسماؤهم في كتب الرجال مدرجة (١).

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٢٤٥ ـ ٢٥٣ / يراجع كتاب رجال الكشي ، تأليف محمد بن عمر بن عبد العزيز الكشي ، وكتاب رجال الطوسي ، تأليف محمد بن حسن الطوسي ، وكتاب الفهرست للطوسي وسائر كتب الرجال.

الإمام السادس :

هو الإمام جعفر بن محمد (الصادق عليه‌السلام) ابن الإمام الخامس ، ولد سنة ٨٣ للهجرة ، واستشهد بعد أن دسّ إليه السمّ ، سنة ١٤٨ للهجرة ، وذلك بتحريض من المنصور الخليفة العباسي (وفق الروايات الشيعية) (١).

وفي عهد الإمام السادس ، وعلى اثر الانتفاضات التي حدثت في الدول الإسلامية ، وخاصة قيام «ثورة العباسيين» ضد دولة بني أمية للإطاحة بها ، والحروب المدمرة التي أدّت إلى سقوط الدولة الأموية وانقراضها ، وعلى اثر كل هذا كانت الظروف مؤاتية ومساعدة لنشر حقائق الإسلام وعلوم أهل البيت التي طالما ساهم في نشرها الإمام الخامس طوال عشرين سنة من زمن إمامته ، وقد تابع الإمام السادس عمله في ظروف أكثر ملاءمة ، وتفهما.

فاستطاع الإمام الصادق حتى أواخر زمن إمامته ، والتي كانت معاصرة لآخر زمن خلافة بني أمية وأوائل خلافة بني العباس ، أن ينتهز هذه الفرصة ، لنشر التعاليم الدينية وتربية العديد من الشخصيات العلمية الفذّة في مختلف العلوم والفنون سواء في العلوم العقلية أو العلوم النقلية.

ومن أشهر أولئك الذين تتلمذوا عند الإمام : زرارة ، ومحمد بن مسلم ، ومؤمن الطّاق ، وهشام بن الحكم ، وأبان بن تغلب ، وهشام بن سالم ، وحريز ، وهشاك الكلبي النسابة ، وجابر بن حيان

__________________

(١) الأصول الكافي ١ : ٤٧٢ / دلائل الإمامة ١١١ / إرشاد المفيد ص ٢٥٤ ، تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١١٩ / الفصول المهمة ٢١٢ / تذكرة الخواص ٣٤٦ مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٢٨٠.

الصوفي ، الكيميائي وغيرهم. وقد حضر درسه رجال من علماء إخواننا السنة ، مثل سفيان الثوري وأبو حنيفة ، مؤسس المذهب الحنفي ، والقاضي المسكوني والقاضي أبو البختري وغيرهم.

والمعروف أن عدد الذين حضروا مجلس الإمام وانتفعوا بما كان يمليه عليهم الإمام أربعة آلاف محدث وعالم (١).

وتعتبر الأحاديث المتواترة عن الإمامين الباقر والصادق ، أكثر مما روي عن النبي الأكرم والعشرة من الأئمة الهداة.

لكن الأمر قد تغير في أخريات حياته ، حيث بدأ الضغط والتشديد من قبل المنصور الخليفة العباسي ، فقد قام بإيذاء السادة العلويين وعرّضهم لأعنف أنواع التعذيب وأقساها وقتل بعضهم ، مما لم يشاهد نظيره في زمن الأمويين مع ما كانوا يتصفون به من قساوة وتهوّر. مارس العباسيون القتل الجماعي للعلويين وذلك بسجنهم في سجون مظلمة ، وتعذيبهم حتى الموت.

كما أنهم قاموا بدفنهم وهم أحياء ، في أسس الأبنية والجدران (٢).

أصدر المنصور أمرا طلب فيه إحضار الإمام الصادق من المدينة (وكان الإمام قد أحضر إلى العراق مرة بأمر من السفاح الخليفة العباسي ، وقبل ذلك قد أحضر إلى دمشق بأمر من هشام الخليفة الأموي ، مع أبيه الإمام الباقر عليه‌السلام).

بقي الإمام مدة من الزمن تحت المراقبة ، وقد عزموا على قتله عدة مرات ، وعذبوه ، وفي نهاية الأمر سمحوا له بالعودة إلى

__________________

(١) إرشاد المفيد ص ٢٥٤ / الفصول المهمة ص ٢٠٤. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٢٤٧.

(٢) الفصول المهمة ص ٢١٢ / دلائل الإمامة ص ١١١ / إثبات الوصية ص ١٤٢.

المدينة ، فرجع ، وقضى بقية عمره هناك ، مراعيا التقية ، منعزلا في داره ، حتى استشهد على يد المنصور الذي دسّ السلم إليه.

وبعد وصول نبأ استشهاد الإمام إلى المنصور ، أمر وإليه في المدينة أن يذهب إلى دار الإمام بحجّة تفقده لأهل بيته ، طالبا وصية الإمام ليطلع على ما وصى الإمام ومن هو خليفته من بعده ، ليقضي عليه ويقتله في الحال أيضا.

وكان المنصور يهدف من وراء ذلك القضاء تماما على موضوع ومسألة الإمامة والتشيع معا.

ولكن الأمر كان خلافا لتآمر المنصور ، وعند ما حضر الوالي وفقا للأوامر المرسلة إليه ، قرأ الوصية ، رأى أن الإمام قد أوصى لخمس ، الخليفة نفسه ، ووالي المدينة وعبد الله الأفطح ابن الإمام الأكبر وموسى ولده الأصغر وحميدة ابنته ، وبهذا باءت مؤامرة المنصور بالفشل (١).

الإمام السابع :

هو الإمام موسى بن جعفر (الكاظم) ابن الإمام الصادق عليهم‌السلام ولد سنة ١٢٨ للهجرة ، وتوفي سنة ١٨٣ اثر تسميمه في السجن (٢) ، تولّى منصب الإمامة بعد أبيه بأمر من الله ووصية أجداده.

عاصر الإمام الكاظم عليه‌السلام من الخلفاء العباسيين المنصور

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ : ٣٢٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٧٦ / إرشاد المفيد ٢٧٠. الفصول المهمة ٢١٤ ـ ٢٢٣ / دلائل الإمامة ١٤٦ ـ ١٤٨. تذكرة الخواص ٣٤٨ ـ ٣٥٠ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٢٤. تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٥٠.

والهادي والمهدي وهارون ، عاش عليه‌السلام في عهد مظلم مقرون بالصعوبات ، التي كان يواجهها بالتقية ، وحين سافر هارون إلى الحج ، وتوجه إلى المدينة ، فألقي القبض على الإمام في الوقت الذي كان مشغولا بالصلاة في مسجد جدّه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نقل إلى السجن بعد أن قيّد بالأغلال ، ثم نقل إلى البصرة ومنها إلى بغداد وظل ينقل به من سجن إلى سجن لعدة سنوات ، وفي نهاية الأمر قضي عليه بالسم في سجن سندي بن شاهك (١) ، ودفن في مقابر قريش ، والتي تسمى اليوم بمدينة الكاظمية.

الإمام الثامن :

هو الإمام علي بن موسى (الرضا) ابن الإمام الكاظم عليهم‌السلام ولد سنة ١٤٨ للهجرة (على أشهر التواريخ) وتوفي سنة ٢٠٣ ه‍.

نال منصب الإمامة بعد أبيه الإمام الكاظم بأمر من الله ونص أجداده ، وقد عاصر هارون الرشيد الخليفة العباسي وبعده ابنه الأمين ثم المأمون.

بعد وفاة هارون الرشيد ، حدث خلاف بين المأمون والأمين ، أدّى إلى حروب بينهما ، وكان نتيجتها مقتل الأمين واستيلاء المأمون على عرش الخلافة (٢).

__________________

(١) إرشاد المفيد ٢٧٩ ـ ٢٨٣ / دلائل الإمامة ١٤٨ ـ ١٥٤. الفصول المهمة ٢٢٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٢٣ ـ ٣٢٧ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٥٠.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٨٦ / إرشاد المفيد ٢٨٤ ـ ٢٩٦. دلائل الإمامة ١٧٥ ـ ١٧٧ / الفصول المهمة ٢٢٥ ـ ٢٤٦. تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ١٨٨.

وحتى ذلك الوقت كانت سياسة بني العباس بالنسبة إلى السادة العلويين سياسة قاسية ، يلازمها القتل والإبادة ، وكانت تزداد شدة وعنفا ، وبين فترة وأخرى كان يثور ثائر من العلويين ، ويقوم بالحروب الدامية ، وهذا ما كان يحدث اضطرابا ومشاكل للدولة والخلافة آنذاك.

ومع أن أئمة الشيعة من أهل البيت ، لم يكونوا على اتصال بالثائرين ، لكن الشيعة مع قلة عددهم في ذلك اليوم كانوا يعتبرون الأئمة هم الهداة إلى الدّين ومفترضي الطاعة والخلفاء الحقيقيين للنبي الأكرم عليه‌السلام ، وكانوا ينظرون إلى الدولة والخلافة العباسية أنها تمتاز بما كان يمتاز به كسرى وقيصر وأنها تساس بيد فئة لا صلة لها بالإسلام. وأن هذه الأجهزة التي تسوس البلاد بعيدة كل البعد عما يتصف به زعماؤهم الدينيون ، هذا ما كان يشكل خطرا على الخلافة ، ويهدّدها بالسقوط والزوال.

فكر المأمون في هذه المشاكل والفتن ، ورأى أن يبدي سياسة جديدة ، بعد أن كانت سياسة أسلافه طوال سبعين سنة سياسة عقيمة لا جدوى منها. فأظهر سياسته الخادعة بأن يجعل الإمام الثامن ولي عهد له ، وبهذه الطريقة سوف يقضي على كل فتنة ومشكلة ، والسادة من العلويين إذا وجدوا أن لهم مقاما في الدولة فإنهم لن يحاولوا الثورة أو القيام ضدّه ، والشيعة أيضا عند ما يشاهدون تقرّب إمامهم من الخلافة التي طالما كانوا يعتبرونها رجسا ويعتبرون القائمين بأمور الخلافة فاسقين ، عندئذ سيتركون ذلك التقدير والاحترام المعنوي لأئمتهم الذين هم من

أهل البيت ، وسرعان ما يسقط حزبهم الديني ، ولا يواجه الخلفاء خطرا من هذه الجهة (١).

ومن البديهي بعد أن يحصل المأمون على ما كان يهدف إليه ، فإن قتل الإمام لم يكن بالأمر الصعب. ولغرض تحقق هذه المؤامرة أحضر الإمام من المدينة إلى مرو ، اقترح عليه الخلافة أولا ثم ولاية العهد ثانيا ، فاعتذر الإمام ، ولكنه استخدم شتّى الوسائل لإقناع الإمام ، وافق الإمام بشرط ألا يتدخل في شئون الدولة وكذا في عزل أو نصب أحد من المسئولين (٢).

هذا ما حدث سنة ٢٠٠ للهجرة. ولم تمض فترة حتى شاهد المأمون التقدم السريع للشيعة ، وتزايد ارتباطهم وعلاقتهم بالنسبة للإمام ، وحتى العامة من الناس ، والجيش ومسئولي شئون الدولة. عندئذ التفت المأمون إلى خطورة اشتباهه ، وحاول أن يقف أمام هذا التيار ، فقتل الإمام بعد أن دسّ إليه السم.

دفن الإمام الثامن بعد استشهاده في مدينة (طوس) في إيران ، وتعرف اليوم بمدينة مشهد.

كان المأمون يبدي عنايته ورعايته لترجمة العلوم العقلية إلى اللغة العربية ، وكان يقيم المجالس العلمية ، التي يحضرها علماء الأديان والمذاهب ، وتجري فيها المناظرات العلمية ، وكان الإمام

__________________

(١) دلائل الإمامة ١٩٧ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٦٣.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٤٨٩ / إرشاد المفيد ٢٩٠ / الفصول المهمة ٢٣٧. تذكرة الخواص ٣٥٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٦٣.

أيضا يشارك في هذه المجالس ويشترك في مناظرة علماء الأديان والمذاهب ، وقد دون العديد منها في كتب أحاديث الشيعة (١).

الإمام التاسع :

هو الإمام محمد بن علي (التقي ، ويلقّب بالإمام الجواد أو ابن الرضا أحيانا) ابن الإمام الرضا عليهم‌السلام ، ولد في المدينة سنة ١٩٥ ه‍. واستشهد (سنة ٢٢٠) بتحريض من المعتصم الخليفة العباسي على يد زوجته بنت المأمون ، ودفن إلى جوار جده الإمام السابع في مدينة الكاظمية.

حاز درجة الإمامة الرفيعة بأمر من الله ووصية أجداده ، وكان الإمام في المدينة عند ما توفي أبوه الإمام الرضا ، أحضره المأمون إلى بغداد عاصمة خلافته آنذاك ، والظاهر أن المأمون أبدى احترامه وعطفه للجواد ، وزوجه ابنته ، وأبقاه عنده في بغداد ، وفي الحقيقة أراد أن يراقب الإمام من الخارج والداخل مراقبة كاملة.

مكث الإمام التاسع زمنا في بغداد ، ثم طلب من المأمون الرحيل إلى المدينة ، وبقي فيها (المدينة) حتى أواخر عهد المأمون ، وفي زمن المعتصم الذي استخلف المأمون ، أحضر الإمام الجواد إلى بغداد مرتين ، وكان تحت المراقبة الشديدة ، وفي النهاية ـ كما ذكر ـ استشهد بدس السمّ إليه بتحريض من المعتصم على يد زوجة الإمام (٢).

__________________

(١) مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٥١ / كتاب الاحتجاج لأحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي طبع النجف سنة ١٣٨٥ ه‍. ج ٢ : ١٧٠ ـ ٢٣٠.

(٢) إرشاد المفيد ٢٩٧ / أصل الكافي ج ١ : ٤٩٢ ـ ٤٩٧ / دلائل الإمامة ٢٠١ ـ ٢٠٩. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٣٧٧ ـ ٣٩٩ / الفصول المهمة ٢٤٧ ـ ٢٥٨ تذكرة الخواص ٣٥٨.

الإمام العاشر :

هو الإمام علي بن محمد (النقي ويلقّب بالهادي أيضا) ابن الإمام الجواد عليهم‌السلام ، ولد سنة ٢١٢ ه‍. في المدينة ، واستشهد سنة ٢٥٤ ه‍. (وفقا للروايات الشيعية) بأمر المعتزّ الخليفة العباسي (١).

عاصر الإمام سبعا من خلفاء بني العباس : المأمون والمعتصم والواثق والمتوكّل والمنتصر والمستعين والمعتزّ.

وفي عهد المعتصم سنة ٢٢٠ ه‍. عند ما استشهد أبوه في بغداد بالسم الذي دسّ إليه ، كان الإمام الهادي في المدينة ، نال منصب الإمامة بأمر من الله تعالى ووصية أجداده ، فقام بنشر التعاليم الإسلامية حتى زمن المتوكّل.

أرسل المتوكل أحد الأمراء إلى المدينة لإحضار الإمام من هناك إلى سامراء حاضرة حكومته وذلك سنة ٢٤٣ اثر وشاية بعض الأعداء. وكتب إلى الإمام رسالة يظهر فيها احترامه وتقديره له ، مطالبا إياه فيها بالتوجه إلى العاصمة (٢).

وبعد وصول الإمام إلى سامراء لم يكن هناك ما يلفت النظر من تضييق على الإمام في بداية الأمر. إلا أن الخليفة سعى في

__________________

(١) أصول الكافي ج ١ : ٤٩٧ ـ ٥٠٢ / إرشاد المفيد ٣٠٧ / دلائل الإمامة ٢١٦ ـ ٢٢٢ / الفصول المهمة ٢٥٩ ـ ٢٦٥ / تذكرة الخواص ٣٦٢ مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٠١. ٤٢٠.

(٢) إرشاد المفيد ٣٠٧ ـ ٣١٣ / أصول الكافي ج ١ : ٥٠١ / الفصول المهمة ٣٦١ / تذكرة الخواص ٣٥٩ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤١٧ / إثبات الوصية ص ١٧٦ / تاريخ اليعقوبي ج ٣ : ٢١٧.

اتخاذ شتى الطرق والوسائل لإيذاء الإمام ، وهتك حرمته ، فقام رجال الشرطة بتفتيش دار الإمام بأمر من الخليفة.

كان المتوكل أشدّ عداء لأهل البيت من سائر خلفاء بني العباس ، وخاصة بالنسبة للإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكان يعلن عداءه وتنفره منه ، فضلا عن الكلام البذيء الذي كان يتفوه به أحيانا وكان قد عين شخصا يقلد أعمال الإمام علي عليه‌السلام في مجالسه ومحافله ، ويستهزىء وينال من تلك الشخصية العظيمة.

وأمر بتخريب قبة الإمام الحسين وضريحه والكثير من الدور المجاورة له ، وأمر بفتح المياه على حرم الإمام وقبره ، وأبدلت أرضها إلى أرض زراعية كي يقضوا على جميع معالم هذا المرقد الشريف (١).

وفي زمن المتوكل أصبحت حالة السادة العلويين في الحجاز متدهورة ويرثى لها ، حتى أن نساؤهم كانت تفتقر إلى ما يسترها ، والأغلبية منهن كانت تحتفظ بعباءة بالية ، يتبادلنها في أوقات الصلاة لأجل إقامتها (٢) وكان الوضع لا يقلّ عن هذا في مصر بالنسبة إلى السادة العلويين.

كان الإمام الهادي صابرا متحملا لكل أنواع هذا الاضطهاد والأذى وبعد وفاة المتوكل جاء كل من المنتصر والمستعين والمعتزّ إلى منصة الخلافة ، وقتل الإمام بأمر من المعتزّ الخليفة العباسي.

__________________

(١) مقاتل الطالبيين ٣٩٥.

(٢) مقاتل الطالبيين ٣٩٥ ـ ٣٩٦.

الإمام الحادي عشر :

هو الإمام الحسن بن علي (العسكري) ابن الإمام الهادي ولد سنة ٢٣٢ ه‍. وفي سنة ٢٦٠ ه‍. (وفقا لبعض الروايات الشيعية) دسّ إليه السم بإيعاز من المعتمد الخليفة العباسي ، وقضى نحبه مسموما (١).

الإمام العسكري جاء إلى مقام الإمامة بعد أبيه بأمر من الله تعالى وحسب ما أوصى به أجداده الكرام. وطوال مدة خلافته التي لا تتجاوز السبع سنين كان ملتزما بالتقية ، ومنعزلا عن الناس حتى الشيعة ، ولم يسمح إلا للخواص من أصحابه بالاتصال به ، ومع كل هذا فقد قضى زمنا طويلا في السجون (٢).

والسبب في كل هذا الاضطهاد :

أولا : كان قد وصل عدد الشيعة إلى حدّ يلفت الأنظار ، وصار هذا الأمر واضحا جليا للعيان ، وأيضا صار أئمة الشيعة معروفين أكثر ، فعلى هذا كانت الحكومة آنذاك تتعرض للأئمة أكثر من ذي قبل وتراقبهم ، وكانت تسعى للإطاحة بهم وإبادتهم بكل الوسائل الخفية.

ثانيا : قد اطلعت الدولة العباسية أن الخواص من الشيعة تعتقد أن هناك ولد للإمام الحادي عشر ، وطبقا للروايات التي تنقل عن

__________________

(١) إرشاد المفيد ٣١٥ / دلائل الإمامة ٢٢٣ / الفصول المهمة ٢٦٦ ـ ٢٧٢. مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٢٢ / أصول الكافي ج ١ : ٥٠٣.

(٢) إرشاد المفيد ٣٢٤ / أصول الكافي ج ١ : ٥١٢ / مناقب ابن شهرآشوب ج ٤ : ٤٢٩ و ٤٣٠.

الإمام الهادي ، وكذا من أجداده ، يعرفوه ب (المهدي الموعود) وقد أخبر عنه النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) بموجب الروايات المتواترة عن الطريقين عند العامة والخاصة ، ويعتبرونه الإمام الثاني عشر لهم.

ولهذا السبب كان الإمام الحادي عشر أكثر مراقبة من سائر الأئمة ، فصمّم خليفة ذلك الزمان أن يقضي على موضوع الإمامة عند الشيعة بكل وسيلة تقتضي بها الضرورة ، وبهذا يغلق هذا البحث الذي طالما كان مثارا لإزعاجهم.

ولما سمع المعتمد الخليفة العباسي بمرض الإمام العسكري أرسل إليه الأطباء مع عدد من القضاة ومن يعتمد عليهم كي يراقبوا الإمام عن كثب وما يجري في داره ، وبعد استشهاد الإمام ووفاته ، فتشوا البيت بدقة ، وفحصوا الجاريات اللواتي كن يخدمن في بيت الإمام بواسطة الممرضات (القابلات) ، وبقوا يبحثون عن خلف للإمام لمدة سنتين حتى استولى عليهم اليأس (٢).

__________________

(١) يراجع صحيح الترمذي ج ٩ باب ما جاء في المهدي / صحيح أبي داود ج ٢ كتاب المهدي / صحيح ابن ماجه ج ٢ باب خروج المهدي. كتاب ينابيع المودة / كتاب البيان في أخبار صاحب الزمان لمؤلفه محمد بن يوسف الشافعي / كتاب نور الأبصار لمؤلفه الشبلنجي / كتاب مشكاة المصابيح لمؤلفه محمد بن عبد الله الخطيب / كتاب الصواعق المحرقة تأليف ابن حجر / كتاب إسعاف الراغبين لمؤلفه محمد الصبان / كتاب الفصول المهمة / صحيح مسلم / كتاب الغيبة تأليف محمد بن إبراهيم النعماني / كمال الدين تأليف الشيخ الصدوق / إثبات الهداة لمؤلفه محمد بن حسن الحرّ العاملي / بحار الأنوار لمؤلفه العلامة المجلسي ج ٥١ ، ٥٢.

(٢) أصول الكافي ج ١ : ٥٠٥ / إرشاد المفيد ٣١٩.

دفن الإمام الحادي عشر بعد وفاته في داره في مدينة سامراء بجوار مدفن أبيه.

ولا يخفى أن أئمة أهل البيت طوال حياتهم علّموا وربّوا العديد من العلماء والمحدثين ، إذ يصل عددهم المئات ، ومراعاة للاختصار لم نستعرض فهرست أسماء هؤلاء ومؤلفاتهم والآثار العلمية التي تركوها ، وشرحا لأحوالهم (١).

الإمام الثاني عشر :

هو الإمام المهدي الموعود (ويذكر بإمام العصر والزّمان غالبا) ابن الإمام الحادي عشر العسكري ، اسمه يطابق اسم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولد في سامراء سنة ٢٥٥ أو ٢٥٦ ه‍.

وكان يعيش تحت رعاية والده حتى سنة ٢٦٠ ه‍. حين استشهاد والده ، وكان مختفيا عن أنظار العامة ، ولم ينجح أحد بلقائه والاتصال به إلا الخواصّ من الشيعة.

وبعد استشهاد والده ، أنيطت به مهمة الإمامة ، وبأمر من الله تعالى ، اختار الغيبة ، ولم يظهر للعيان إلّا لنوابه الخواص وفي موارد استثنائية (٢).

__________________

(١) يراجع كتاب رجال الكشي ورجال الطوسي وفهرست الطوسي وسائر كتب الرجال.

(٢) بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ٢ ـ ٣٤ ـ ٣٣٦. كتاب الغيبة تأليف محمد بن حسن الطوسي الطبعة الثانية صفحة ٢١٤ ـ ٢٤٣. كتاب إثبات الهداة ج ٦ و ٧.

السفراء

عيّن الإمام المهدي عليه‌السلام عثمان بن سعيد العمري نائبا خاصا له والذي كان من أصحاب جدّه وأبيه وكان ثقة أمينا ، وكان الإمام يجيب على أسئلة الشيعة عن طريق هذا النائب الخاص.

وبعد عثمان بن سعيد استخلف ابنه محمد بن عثمان ، وبعد وفاة محمد بن عثمان العمري ، استناب أبو القاسم حسين بن روح النوبختي.

وبعد وفاة حسين بن روح النوبختي أصبح علي بن محمد السمري نائبا خاصا للإمام المهدي عليه‌السلام. وفي أواخر حياة علي بن محمد السمري إذ لم يبق من حياته سوى أيام قلائل (سنة ٣٢٩ ه‍) صدر توقيع من الناحية المقدسة ، فيه إبلاغ لعلي بن محمد السمري بأنه سيموت ويودّع هذه الحياة بعد ستة أيام ، وبعدها تنتهي النيابة الخاصة ، وتقع الغيبة الكبرى ، وستستمر حتى يأذن الله تعالى بالظهور (١) وحسب هذا التوقيع تنقسم غيبة الإمام إلى قسمين : الأول : الغيبة الصغرى ، بدأت سنة ٢٦٠ ه‍. وانتهت في سنة ٣٢٩ ، واستمرت حوالى سبعين عاما. الثاني : الغيبة الكبرى ، والتي بدأت سنة ٣٢٩ ، وستستمر حتى يأذن الله تعالى. ويروى عن النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث متفق عليه (لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث فيه رجلا من أمتي ومن أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما) (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ج ٥١ ص ٣٦٠ ـ ٣٦١ / الغيبة تأليف الشيخ الطوسي ص ٢٤٢.

(٢) الفصول المهمة صفحة ٢٧١.

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر العامة

وكما أشرنا في بحث النبوة والإمامة ، وفقا لقانون الهداية العامة الجارية في جميع أنواع الكائنات ، فالنوع الإنساني مجهّز بحكم الضرورة بقوة (قوة الوحي والنبوة) ترشده إلى الكمال الإنساني والسعادة النوعية ، وبديهي أن الكمال والسعادة لو لم يكونا أمرين ممكنين للإنسان الذي تعتبر حياته حياة اجتماعية ، لكان أصل التجهيز لغوا وباطلا ، ولا يوجد لغو في الخلقة مطلقا.

وبعبارة أخرى ، أن الإنسان منذ أن وجد على ظهر البسيطة كان يهدف إلى حياة اجتماعية مقرونة بالسعادة وكان يعيش لغرض الوصول إلى هذه المرحلة ، ولو لم تتحقق هذه الأمنية في الخارج ، لما وعد الإنسان نفسه بهذه الأمنية. فلو لم يكن هناك غذاء لم يكن هناك جوع ، ولو لم يكن هناك ماء ، لم يكن عطش وإذا لم يكن تناسل ، لم تكن علاقة جنسية.

فعلى هذا وبحكم الضرورة فإن مستقبل العالم سيكشف عن يوم ، يهيمن فيه العدل والقسط على المجتمع البشري ، ويتعايش أبناء العالم في صلح وصفاء ومودّة ومحبّة ، تسودهم الفضيلة والكمال.

وطبيعي أن استقرار مثل هذه الحالة بيد الإنسان نفسه ، والقائد لمثل هذا المجتمع سيكون منجي العالم البشري ، وعلى حد تعبير الروايات سيكون (المهدي).

ونجد الأديان والمذاهب المختلفة القائمة في العالم مثل الوثنية ، واليهودية والمسيحية والمجوسية ، والإسلام تبشّر بمصلح ومنج

للبشرية ، وإن اختلفت في تصوره. وما حديث النبي الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، المتفق عليه (المهدي من ولدي) إلّا إشارة إلى هذا المعنى.

بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر الخاصة

فضلا عن الروايات المتزايدة عن الطريق العامة والخاصة ، والتي تروى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأئمة أهل البيت عليه‌السلام في ظهور المهدي عليه‌السلام وأنه من سلالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع ظهوره ، سيؤدّي بالمجتمع البشري إلى كماله الواقعي والحقيقي ، وسيمنحها الحياة المعنوية (١) ، فإن هناك روايات متضافرة أخرى تشير إلى أن المهدي هو ابن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام (الإمام الحادي عشر) بلا فصل (٢) وبعد الغيبة الكبرى سيظهر ، ويملأ الأرض قسطا وعدلا بعد ما ملئت ظلما وجورا.

__________________

(١) وعلى سبيل المثال قال أبو جعفر (ع) : إذا قام قائمنا ، وضع الله يده على رءوس العباد فجمع به عقولهم وكملت به أحلامهم ، بحار الأنوار ج ٥٢ صفحة ٣٢٨ و ٣٢٦. قال أبو عبد الله (ع) : «العلم سبعة وعشرون حرفا فجميع ما جاءت به الرسل حرفان فلم يعرف الناس حتى اليوم غير الحرفين ، فإذا قام قائمنا أخرج الخمسة والعشرين حرفا فبثّها في الناس ، وضمّ إليها الحرفين حتى يبثّها سبعة وعشرين حرفا» بحار الأنوار ج ٥٢ صفحة ٣٣٦.

(٢) وعلى سبيل المثال أيضا : قال علي بن موسى الرضا (ع) في حديث : إلى أن قال ، الإمام بعدي محمد ابني وبعد محمد ابنه علي وبعد علي ابنه الحسن وبعد الحسن ابنه الحجة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل الله ذلك اليوم حتى يخرج فيملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا ، وأما متى فقد حدثني أبي عن أبيه عن آبائه عن علي أنه قيل يا رسول الله متى يخرج القائم من ذريتك فقال : مثله مثل الساعة لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السموات والأرض لا يأتيكم إلّا بغتة. بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٥٤. صفر بن أبي دلف قال سمعت أبا جعفر محمد بن الرضا (ع) يقول (الإمام بعدي ابني علي ، أمره أمري وقوله قولي ـ

ردّ على الشبهات

يعترض مخالفو الشيعة بأنه وفقا لاعتقاد هذه الطائفة ، يجب أن يكون عمر الإمام الغائب ما يقرب من اثني عشر قرنا ، في حين أن الإنسان لا يستطيع أن يعمّر هكذا عمر.

الجواب : الاعتراض هذا مبني على الاستبعاد ، وأن العمر الطويل كهذا يستبعد ، لكن الذي يطالع الأخبار الواردة عن الرسول الأعظم في خصوص الإمام الغائب ، وكذا عن سائر أئمة أهل البيت (ع) سيلاحظ أن نوع الحياة للإمام الغائب تتصف بالمعجزة خرقا للعادة ، وطبيعي أن خرق العادة ليس بالأمر المستحيل ولا يمكن نفي خرق العادة عن طريق العلم مطلقا.

لذا لا تنحصر العوامل والأسباب التي تعمل في الكون في حدود مشاهدتنا والتي تعرّفنا عليها ، ولا نستطيع نفي عوامل أخرى وهي بعيدة كل البعد عنا ولا علم لنا بها ، أو أننا لا نرى آثارها وأعمالها ، أو نجهلها. من هذا يتضح إمكان إيجاد عوامل

__________________

ـ وطاعته طاعتي ، والإمام بعده ابنه الحسن ، أمره أمر أبيه وقوله قول أبيه وطاعته طاعة أبيه ، ثم سكت ، فقلت له يا ابن رسول الله فمن الإمام بعد الحسن؟ فبكى بكاء شديدا ثم قال : إن من بعد الحسن ابنه القائم بالحقّ المنتظر ـ بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٥٨.

قال موسى بن جعفر البغدادي سمعت أبا محمد الحسن بن علي يقول : كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف مني أما أن المقرّ بالأئمة بعد رسول الله والمنكر لولدي كمن أقر بجميع أنبياء الله ورسله ثم أنكر نبوّة محمد رسول الله والمنكر لرسول الله كمن أنكر جميع الأنبياء لأن طاعة آخرنا كطاعة أولنا والمنكر لآخرنا كالمنكر لأولنا أما أن لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلا من عصمة الله ـ بحار الأنوار ج ٥١ صفحة ١٦٠.

في فرد أو أفراد من البشر بحيث تستطيع تلك العوامل أن تجعل الإنسان يتمتع بعمر طويل جدا قد يصل إلى الألف أو آلاف من السنوات ، فعلى هذا فإن عالم الطب لم ييأس حتى الآن من كشف طرق لإطالة عمر الإنسان.

وهذا الاعتراض ، من الذين يعتقدون بالكتب السماوية كاليهودية والمسيحية والإسلام وفقا لكتبهم السماوية. ويقرّون المعجزات وخرق العادات التي كانت تتحقق بواسطة أنبياء الله تعالى ، يثير الإعجاب والاستغراب.

ويعترض مخالفو الشيعة من أن الشيعة تعتبر لزوم وجود الإمام لبيان أحكام الدين وحقائقه ، وإرشاد الناس وهدايتهم ، فإن غيبة الإمام تناقض هذا الغرض ، لأن الإمام الذي قد غاب عن الأنظار ولا توجد أية وسيلة للوصول إليه ، لا يترتب على وجوده أي نفع أو فائدة ، وإذا كان الله سبحانه يريد إصلاح البشرية بواسطة شخص ، فإنه قادر على خلقه عند اقتضاء الضرورة لذلك ، ولا حاجة إلى خلقه قبل وقته وقبل الاحتياج إليه بآلاف السنوات.

الجواب : إن مثل هؤلاء لم يدركوا حقيقة معنى الإمامة ، واتضح في مبحث الإمامة ، أن وظيفة الإمام ومسئوليته لم تنحصر في بيان المعارف الإلهية بشكلها الصوري ، ولم يقتصر على إرشاد الناس من الناحية الظاهرية ، فالإمام فضلا عن توليه إرشاد الناس الظاهري ، يتّصف بالولاية والإرشاد الباطني للأعمال أيضا وهو الذي ينظّم الحياة المعنوية للناس ، ويتقدّم بحقائق الأعمال إلى الله جلّ شأنه.

بديهي أن حضور أو غيبة الإمام الجسمانية في هذا المضمار ليس له أي تأثير ، والإمام عن طريق الباطن يتصل بالنفوس ويشرف عليها ، وإن بعد عن الأنظار وخفي عن الأبصار ، فإن وجوده لازم دائما ، وإن تأخر وقت ظهوره وإصلاحه للعالم.

الخاتمة :

البلاغ المعنوي للشيعة

البلاغ المعنوي للشيعة الموجه للناس كافة ، يتلخص عن كلمة واحدة وهي «اعرفوا الله» وبتعبير آخر ، اسلكوا طريق معرفة الله كي تسعدوا وتفلحوا ، وهذه هي العبارة التي قالها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بداية دعوته : «قولوا لا إله إلا الله تفلحوا».

كي يتضح هذا البلاغ نقول مجملا :

نحن البشر بحسب الطبع ، نهوى الكثير من شئون الحياة ، ولذائذها المادية ، كالأكل والشرب والألبسة الفاخرة ، والصور والمناظر الخلابة والزوجات الحسناوات والأصدقاء المخلصين ، والثروات الطائلة ، أما عن طريق القدرة والسياسة ، والمقام واتساع السلطة والحكومة ، أو القضاء على كل ما يخالف مأربنا.

ولكننا ندرك جيدا مع ما أوتينا من فطرة إلهية ، إن هذه الأمور واللذائذ كلها خلقت لأجل الإنسان ، لا أن الإنسان خلق لها ، ويجب أن تكون هذه في طلب الإنسان ، لا الإنسان يسعى في طلبها ، وإذا ما كان الهدف الغائي والنهائي هو الغريزة والشهوات فهذا هو منطق الحيوانات والأنعام ، وما القتل والفتك والإطاحة بسعادة

الآخرين إلا منطق الذئاب ، وأما منطق الإنسان فيبتني على العقل والعلم فحسب.

إن منطق العقل ، والالتفات إلى حقيقتنا ، يدعونا إلى اتّباع الحق ، لا اتباع هوى النفس ، إن أنواع الشهوات وحبّ الذات والأنانية ، تعتبر حسب منطق العقل الإنساني جزء من عالم الطبيعة وليس لها أيّ استقلال ، وعلى خلاف ما يتصوره الإنسان من أنه هو الحاكم للطبيعة والكون ، ويظن أن الطبيعة الطاغية يجب أن تكون أداه طيّعة له.

إن منطق العقل يدعو الإنسان إلى التفكر والتعلق في هذه الحياة الغابرة كي يتضح أن الوجود وما فيه لم يكن ليوجد من تلقاء نفسه ، بل أن الكون وما فيه يستلهم وجوده من منبع ومصدر غير متناه.

ولكي يظهر جليا فإن الجمال والقبح والكائنات الأرضية والسماوية والتي تظهر بصورها الواقعية المستقلة في نظر الإنسان ، ما هي إلا حقائق ظهرت تلك إلى الوجود بوجود حقائق أخري ، وما ظهورها إلا ظهور تلك الحقائق وليست حقائقها من أنفسها ، وكما أن الواقعيات والقدرات العظيمة التي كانت تتمتع بالوجود أمس لم تصبح إلا أسطورة ، فكذلك الواقعيات اليوم أيضا ، والنتيجة أن كل شيء في حدوده وعند نفسه لا يتجاوز الأسطورة؟

إن الله جلّ وعلا هو الحقيقة التي لا تزول ، وكل ما في الوجود يستمد وجوده منه ، ولو لا وجود الله لما ظهر إلى الوجود.

الشيعة في الإسلام

المؤلف: آية الله السيد محمد حسين الطباطبائي
الصفحات: 220
  • مقدمة المترجم 9
  • مقدمة المؤلف 15
  • الفصل الأول : كيفية نشوء الشيعة وتطورهم
  • بداية نشوء الشيعة 21
  • سبب انفصال الأقليّة الشيعية عن اكثرية السنّة ، وظهور الاختلافات 24
  • موضوعا الخلافة والمرجعيّة العلميّة 27
  • الطريقة السياسية للخلافة الانتخابية ، ومخالفتها للفكر الشيعي 29
  • انتهاء الخلافة إلى أمير المؤمنين (ع) وسيرته 35
  • ما حصلت عليه الشيعة طوال خلافة الامام عليّ (ع) في خمس سنوات 38
  • انتقال الخلافة إلى معاوية وتحولها إلى ملوكية موروثة 41
  • الأيام العصيبة التي مرّت بالشيعة 44
  • استقرار ملوكية بني اميّة 46
  • الشيعة في القرن الثاني للهجرة 50
  • الشيعة في القرن الثالث للهجرة 52
  • الشيعة في القرن الرابع للهجرة 53
  • الشيعة في القرن الخامس وحتى القرن التاسع الهجري 54
  • الشيعة في القرن العاشر والحادي عشر للهجرة 56
  • الشيعة في القرن الثاني عشر وحتى القرن الرابع عشر للهجرة 57
  • انقسام بعض الفرق وانقراضها 57
  • الزيديّة 59
  • الاسماعيلية وانشعاباتها 60
  • النزارية والمستعلية والدروزية والمقنعة 64
  • الشيعة الاثنا عشرية ، واختلافها مع الزيدية والاسماعيلية 66
  • موجز عن تاريخ الشيعة الاثني عشرية 67
  • الفصل الثاني : الفكر الديني لدى الشيعة
  • معنى الفكر الديني 72
  • المصادر الرئيسية للفكر الديني في الاسلام 72
  • الطرق التي يعرضها الاسلام للفكر الديني 73
  • الاختلاف بين هذه الطرق الثلاثة 76
  • الطريق الأول : الظواهر الدينية وأقسامها
  • حديث الصحابة 78
  • بحث آخر في الكتاب والسنة 78
  • ظاهر القرآن وباطنه 81
  • تأويل القرآن 84
  • تتمة البحث عن الحديث 87
  • الشيعة والعمل بالحديث 89
  • التعلّم والتعليم العام في الاسلام 90
  • الشيعة والعلوم النقلية 92
  • الطريق الثاني : المباحث العقلية :
  • التفكر العقلي والفلسفي والكلامي 94
  • مدى تقدم الشيعة في التفكر الفلسفي والكلامي في الاسلام 95
  • الشيعة يسعون دائما بحقل الفلسفة وسائر العلوم العقلية 98
  • لما ذا استقرت الفلسفة عند الشيعة؟ 98
  • خمس من نوابغ علماء الشيعة 99
  • الطريق الثالث : الكشف
  • الانسان وإدراكه للعرفان 102
  • ظهور العرفان في الاسلام 103
  • ارشاد الكتاب والسنة إلى معرفة النفس ، ومناهجها 106
  • الفصل الثالث : المعتقدات الاسلامية من وجهة نظر الشيعة الامامية معرفة الله :
  • النظر إلى الكون عن طريق المخلوقات والواقعيات ـ ضرورة وجود الله تعالى 111
  • نظرة أخرى عن طريق ارتباط الانسان بالعالم ـ خاتمة الفصل وحدانية الله تعالى 112
  • الذات والصفات 117
  • معاني صفات الله تعالى 118
  • مزيد من التوضيح في معاني الصفات 119
  • صفات الفعل 120
  • القضاء والقدر 122
  • الانسان والاختيار 124
  • معرفة النّبي :
  • نحو الهدف ـ الهداية العامة 127
  • الهداية الخاصة 129
  • العقل والقانون 131
  • الشعور المرموز ، أو ما يسمى ب (الوحي) 132
  • الأنبياء وعصمة النبوة 133
  • الأنبياء والشرائع السماوية 134
  • الأنبياء ودليل (الوحي) والنبوة 137
  • عدد الأنبياء 139
  • الأنبياء أولو العزم ، حملة الشرائع السماوية 139
  • نبوّة محمد (ص) 140
  • النّبي الأكرم (ص) والقرآن 145
  • معرفة المعاد :
  • الانسان روح وجسم 149
  • مبحث في حقيقة الروح من منظار آخر 151
  • الموت من وجهة نظر الاسلام 152
  • عالم البرزخ 152
  • يوم القيامة ـ المعاد 154
  • بيان آخر 157
  • استمرار الخلقة وتعاقبها 162
  • معرفة الامام :
  • معنى الامام 163
  • الامامة وخلافة النبي الأكرم (ص) في الحكومة الاسلامية 164
  • تأييد للأقوال السابقة 171
  • الامامة في العلوم التشريعية 174
  • الفرق بين النّبي والامام 175
  • الامامة في باطن الأعمال 177
  • أئمة الاسلام وقادته 181
  • موجز عن حياة الأئمة الاثني عشر 182
  • بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر العامة 215
  • بحث في ظهور المهدي (عج) من وجهة نظر الخاصة 216