

المقدمة
إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، ومن سيئات أعمالنا ، من
يهده الله فلا فضل له ، ومن يضلل فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. نشهد
بأنه قد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى
آتاه اليقين.
أما بعد ...
لقد كانت دعوة
الرسول منصبة أساسا على توحيد الله وإثبات الصفات اللائقة به ، في مجتمع يؤمن
بوجود الله ولكن وجودا لا فعل له ولا قدرة لديه ـ سبحانه ـ فبعث الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ليجلى عن وجه الحقيقة الغبار ، ويظهر للبشرية جمعاء صفات
الله عزوجل. بما أجلاه الإمام ابن القيم فى هذا الكتاب بخير بيان ،
وحارب خلاله فرق الزيغ والضلال ، والتحريف والتعطيل في صفات الله وأسماءه.
ومن ذلك أنه أظهر
فى اعتقاد السلف الإيمان بما وصف به نفسه سبحانه ووصفه به رسوله ، وإجراؤها على
ظاهرها اللائق بجلال الله تعالى من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل
فإن الله تعالى أعلم بنفسه من كل أحد ، ورسوله صلىاللهعليهوسلم أعلم الخلق ... إلخ ما بينه وسيظهر لك خلال الكتاب.
ونسأل الله عزوجل أن ينفع به كل من قرأه وعمل به ، وأن يجزى خيرا كل من ساهم
في إخراجه بهذه الصورة.
إهداء
إلى من هدانى إلى
أن صحيح المنقول يوافق صريح المعقول ، وإلى أن ما نضطرب فيه في عصرنا الحديث قد
نبه إليه وإلى الخروج منه الرسول صلىاللهعليهوسلم ، ووضع لى النقاط فوق الحروف.
أهدى هذا العمل
المتواضع لأستاذى الكريم الأستاذ / عبد الملك أبو محمد البغدادى جزاه الله كل خير.
أخرك الصغير رضوان جامع
* * *
مقدمة المحقق
إن الحمد لله
نحمده ونستعينه ، ونستغفره ونستهديه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات
أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا.
وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له إقرارا بوحدانيته (هُوَ اللهُ الَّذِي
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ.
هُوَ اللهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ
الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللهِ
عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ ، لَهُ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ، وَهُوَ
الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ، وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله اعترافا بنبوته ، أرسله المولى عزوجل بشيرا ونذيرا بين يدى الساعة ، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة
ونصح الأمة وكشف الغمة وجاهد في الله ولله حق جهاده حتى أتاه اليقين صلى اللهم
عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد :
فإن توحيد الله
أساس دين الإسلام ، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام : توحيد الربوبية ، وتوحيد الألوهية
، وتوحيد الأسماء والصفات ، ولا يكمل إيمان العبد ولا يأتي بشرط التوحيد والقيام
بحق الشهادة على وجهها الأكمل حتى يتم له الاعتقاد بهذه الأقسام الثلاثة من غير
تحريف ولا إلحاد.
خاصة القسم الأخير
وهو توحيد الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى وهو لب التوحيد وأساس العقيدة وهو
القسم الخاص بذات الله العلية وصفاته السنية ، وهو جسر العبادة والحب والوئام بين
الله تعالى وبين الأنام.
فإن كان توحيد
الربوبية هو اعتقاد العبد أن الله هو الرب المتفرد بالخلق والرزق
والتدبير ، وكان
توحيد الألوهية هو العلم والاعتراف بأن الله ذو الألوهية والعبودية على خلقه
أجمعين وإفراده وحده بالعبادة كلها ، وإخلاص الدين لله وحده ، ويسمى هذا النوع
أيضا : توحيد العبادة.
فإن توحيد الأسماء
والصفات هو الذي به يتم القسمان الأولان ، فبأسمائه الحسنى نتذلل له ونعبده ،
وبصفاته العليا ندرك حكمته وقدرته ، وقد قال تعالى : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها).
ولقد ضل في معرفة
الله تعالى ، وفي تأويل أسمائه وصفاته أقوام ، كما ضل في مسائل القضاء والقدر ،
وأفعال العباد ومدى إرادة الإنسان ومسئوليته عما يفعله مع أنه شيء مقدر عليه ، ضل
في ذلك أقوام.
فضد توحيد الأسماء
والصفات : التعطيل لها ونفيها ، أو تشبيهها بصفات خلقه وجوارحهم.
وعن ذلك يقول
الإمام عبد القاهر البغدادى : اعلموا أسعدكم الله أن المشبهة صنفان : صنف شبهوا
ذات الباري بذات غيره ، وصنف آخرون شبهوا صفاته بصفات غيره ، وكل صنف من هذين
الصنفين مفترقون على أصناف شتى ... ثم سرد فرقهم وأحوالهم وأقوالهم ... ثم قال :
فأما المشبهة لصفاته بصفات المخلوقين
فأصناف :
منهم : الذين
شبهوا إرادة الله تعالى بإرادة خلقه ، وهذا قول المعتزلة البصرية الذين زعموا أن
الله تعالى عزوجل يريد مراده بإرادة حادثة وزعموا أن إرادته من جنس إرادتنا
، ثم ناقضوا هذه الدعوى بأن قالوا : يجوز حدوث إرادة الله عزوجل لا في محل ، ولا يصح حدوث إرادتنا إلا في محل ، وهذا ينقض
قولهم : إن إرادته من جنس إرادتنا ؛ لأن الشيئين إذا كانا متماثلين ومن جنس واحد
جاز على كل واحد منهما ما يجوز على الآخر ، واستحال من كل واحد منهما ما يستحيل
على الآخر.
وزادت الكرامية
على المعتزلة البصرية في تشبيه إرادة الله تعالى بإرادات عباده ،
وزعموا أن إرادته
من جنس إرادتنا ، وأنها حادثة فيه كما تحدث إرادتنا فينا ، وزعموا ـ لأجل ذلك ـ أن
الله تعالى محل للحوادث ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ومنهم : الذين
شبهوا كلام الله عزوجل بكلام خلقه ، فزعموا أن كلام الله تعالى أصوات وحروف من
جنس الأصوات والحروف المنسوبة إلى العباد ، وقالوا بحدوث كلامه ، وأحال جمهورهم ـ
سوى الجبّائى ـ بقاء كلام الله تعالى ، وقال النظّام منهم : ليس في نظم كلام الله
سبحانه إعجاز ، كما ليس في نظم كلام العباد إعجاز ، وزعم أكثر المعتزلة أن الزنج ،
والترك ، والخزر قادرون على الإتيان بمثل نظم القرآن وبما هو أفصح منه ، وإنما
عدموا العلم بتأليف نظمه ، وذلك العلم مما يصح أن يكون مقدورا لهم.
وشاركت الكرامية
المعتزلة في دعواها حدوث قول الله عزوجل ، مع فرقها بين القول والكلام في دعواها أن قول الله
سبحانه من جنس أصوات العباد وحروفهم ، وأن كلامه قدرته على إحداث القول. وزادت على
المعتزلة قولها بحدوث قول الله عزوجل في ذاته ، بناء على أصلهم في جواز كون الإله محلا للحوادث.
قلت : والكرامية
أتباع محمد بن كرّام السجستاني الزاهد الضال المضل وكان من عباد المرجئة وكان
مطرودا من سجستان إلى غرجستان ، وتبعه على بدعته خلق كثير.
قال صاحب «الفرق»
فيهم : وضلالات أتباعه اليوم متنوعة أنواعا لا نعدها أرباعا ولا أسباعا لكنها تزيد
على الآلاف آلافا ، ونذكر منها المشهور ، الّذي هو بالقبح مذكور.
فمنها : أن ابن
كرّام دعا أتباعه إلى تجسيم معبوده ، وزعم أنه جسم له حد ونهاية من تحته والجهة
التي منها يلاقي عرشه ، وهذا شبيه بقول الثنوية : إن معبودهم الذي سموه نورا
يتناهى من الجهة التى تلاقى الظلام وإن لم يتناه من خمس جهات. وقد وصف ابن كرام
معبوده في بعض كتبه بأنه جوهر كما
زعمت النصارى أن
الله تعالى جوهر ، وذلك أنه قال في خطبة كتابه المعروف بكتاب «عذاب القبر» : «إن
الله تعالى أحدىّ الذات أحدىّ الجوهر».
وأتباعه اليوم لا
يبوحون بإطلاق لفظ الجوهر على الله تعالى عند العامة خوفا من الشناعة عند الإشاعة
، وإطلاقهم عليه اسم الجسم أشنع من اسم الجوهر ، وامتناعهم من تسميته جوهرا مع
قولهم بأنه جسم كامتناع شيطان الطاق من الروافض من تسمية الإله جسما مع قوله بأنه
على صورة الإنسان ، وليس على الخذلان في سوء الاختيار قياس.
وقد ذكر ابن كرام
في كتابه أن الله تعالى مماس لعرشه ، وأن العرش مكان له ، وأبدل أصحابه لفظ
المماسة بلفظ الملاقاة منه للعرش ، وقالوا : لا يصح وجود جسم بينه وبين العرش إلا
بأن يحيط العرش إلى أسفل ، وهذا معنى المماسة التى امتنعوا من لفظها.
واختلف أصحابه في
معنى الاستواء المذكور في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى).
فمنهم : من زعم أن
كل العرش مكان له ، وأنه لو خلق بإزاء العرش عروشا موازية لعرشه لصارت العروش كلها
مكانا له ؛ لأنه أكبر منها كلها وهذا القول يوجب عليهم أن يكون عرشه اليوم كبعضه
في عرضه.
ومنهم : من قال :
إنه لا يزيد على عرشه في جهة المماسة ، ولا يفضل منه شيء على العرش ، وهذا يقتضي
أن يكون عرضه كعرض العرش.
وكان من الكرامية
بنيسابور رجل يعرف بإبراهيم بن مهاجر ينصر هذا القول ويناصر عليه.
وزعم ابن كرام
وأتباعه أن معبودهم محل للحوادث وزعموا أن أقواله ، وإرادته ، وإدراكاته للمرئيات
، وإدراكاته للمسموعات ، وملاقاته للصفحة العليا من العالم ، أعراض حادثة فيه ،
وهو محل لتلك الحوادث الحادثة فيه.
وسموا قوله للشيء
: «كن» خلقا للمخلوق ، وإحداثا للمحدث ، وإعلاما
للذى يعدم بعد
وجوده ، ومنعوا من وصف الأعراض الحادثة فيه بأنها مخلوقة أو مفعولة أو محدثة.
وزعموا أيضا أنه
لا يحدث في العالم جسم ولا عرض إلا بعد حدوث أعراض كثيرة في ذات معبودهم : منها
إرادته لحدوث ذلك الحادث ، ومنها قوله لذلك الحادث «كن» على الوجه الّذي علم حدوثه
عليه ، وذلك القول في نفسه حروف كثيرة كل حرف منها عرض حادث فيه ، ومنها رؤية تحدث
فيه يرى بها ذلك الحادث ، ولو لم تحدث فيه الرؤية لم ير ذلك الحادث ، ومنها
استماعه لذلك الحادث إن كان مسموعا.
إلى آخر ضلالاتهم
وهى كثيرة فراجع «الفرق بين الفرق» (٢١٥ : ٢٢٥).
ومنهم «النجارية»
أتباع الحسين بن محمد النجار وقد وافقوا القدرية في نفس علم الله تعالى وقدرته ،
وحياته ، وسائر صفاته الأزلية ، وإحالة رؤيته بالأبصار ، والقول بحدوث كلام الله
تعالى.
ومنهم «الجهمية»
أتباع جهم بن صفوان الّذي قال بالإجبار والاضطرار إلى الأعمال ، وأنكر الاستطاعات
كلها ، وزعم أن الجنة والنار تبيدان وتفنيان ، وزعم أيضا أن الإيمان هو المعرفة
بالله تعالى فقط ، وأن الكفر هو الجهل به فقط ، وقال : لا فعل ولا عمل لأحد غير
الله تعالى ، وإنما تنسب الأعمال إلى المخلوقين على المجاز ، وزعم أيضا أن علم
الله تعالى حادث ، وامتنع من وصف الله تعالى بأنه شيء أو حي أو عالم ، أو مريد ،
وقال : لا أصفه بوصف يجوز إطلاقه على غيره كشىء وموجود ، وحي ، وعالم ، ومريد ونحو
ذلك ... إلى آخر ضلالاته ، راجعها في «الفرق بين الفرق» (ص ٢١١ : ٢١٢) وغيرها.
وإنما لبس عليهم
الشيطان من اعتمادهم على ما استحسنه العقل فأولوا به ما اتفق عليه من النقل ، وفي
ذلك يقول الإمام ابن الجوزى في «تلبيس إبليس» :
دخل إبليس على هذه
الأمة في عقائدها من طريقين : أحدهما : التقليد للآباء
والأسلاف ،
والثاني : الخوض فيما لا يدرك غوره ، ويعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه ، فأوقع
أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الطريق الأول
: فإن إبليس زين للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه والصواب قد يخفى والتقليد سليم ، وقد
ضل في هذا التقليد خلق كثير ، وبه هلاك عامة الناس ، فإن اليهود والنصارى قلدوا
آباءهم وعلماءهم ، فضلوا ، وكذلك أهل الجاهلية ... ثم ذكر الكلام في ذم التقليد ـ
ثم قال وأما الطريق الثاني : فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورطهم في التقليد ،
وساقهم سوق البهائم ، ثم رأى خلقا فيهم نوع ذكاء وفطنة ، فاستغواهم على قدر تمكنه
منهم ، فمنهم من قبح عنده الجمود على التقليد ، وأمره بالنظر ، ثم استغوى كلا من
هؤلاء بفن ، فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز فساقهم إلى مذهب
الفلاسفة ، ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام ، وقد سبق ذكرهم في الرد على
الفلاسفة ، ومن هؤلاء من حسن له ألا يعتقد إلا ما أدركته حواسه ، فيقال لهؤلاء
بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا : نعم ، كابروا ، لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا
، إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف ، وإن قالوا بغير الحواس ، ناقضوا قولهم.
ومنهم من نفره
إبليس على التقليد ، وحسن له الخوض في علم الكلام ، والنظر في أوضاع الفلاسفة
ليخرج بزعمه من غمار العوام ، وقد تنزعت أحوال المتكلمين ، وأفضى الكلام بأكثرهم
إلى الشكوك ، وببعضهم إلى الإلحاد.
ولم تسكت القدماء
من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزا ، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلا ، ثم يرد
الصحيح عليلا ، فأمسكوا عنه ، ونهوا عن الخوض فيه حتى قال الشافعي رحمهالله : لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ، ما عدا الشرك ،
خير له من أن ينظر في الكلام ، قال : وإذا سمعت الرجل يقول : الاسم هو المسمى ، أو
غير المسمى ، فاشهد أنه من أهل الكلام ، ولا دين له ، قال : وحكمي في علماء الكلام
أن يضربوا بالجريد ، ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال هذا جزاء من ترك الكتاب
والسنة ، وأخذ في الكلام.
وقال أحمد بن حنبل
: لا يفلح صاحب كلام أبدا ، علماء الكلام زنادقة.
قلت : وكيف لا يذم
الكلام ، وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا : إن الله عزوجل يعلم جمل الأشياء ، ولا يعلم تفاصيلها.
وقال جهم بن صفوان
: علم الله وقدرته وحياته محدثة ، وقال أبو محمد النوبختي عن جهم : إنه قال : إن
الله عزوجل ليس بشيء.
وقال أبو علي
الجبائي ، وأبو هاشم ، ومن تابعهما من البصريين : المعدوم شيء وذات ، ونفس ، وجوهر
، وبياض ، وصفرة ، وحمرة ، وإن الباري سبحانه وتعالى لا يقدر على جعل الذات ذاتا ،
ولا العرض عرضا ، ولا الجوهر جوهرا ، وإنما هو قادر على إخراج الذات من العدم إلى
الوجود.
وحكى القاضي أبو
يعلي في كتاب «المقتبس» قال : قال لى العلاف المعتزلى : لنعيم أهل الجنة ، وعذاب
أهل النار ، أمر لا يوصف الله بالقدرة على دفعه ، ولا تصح الرغبة حينئذ إليه ، ولا
الرهبة منه ، لأنه لا يقدر إذ ذاك على خير ولا شر ولا نفع ولا ضر. قال ويبقى أهل
الجنة جمودا سكوتا لا يفضون بكلمة ، ولا يتحركون ولا يقدرون هم ولا ربهم على فعل
شيء من ذلك لأن الحوادث كلها لا بد لها من آخر ينتهى إليه ، لا يكون بعده شيء ،
تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
قال ابن الجوزي
وذكر أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمد البلخي في كتاب «المقالات» : إن أبا
الهذيل العلاف ، وهو من أهل البصرة من عبد القيس مولى لهم ، وانفرد بأن قال : أهل
الجنة تنقضي حركاتهم ، فيصيرون إلى سكون دائم وأن لما يقدر الله عليه نهاية لو خرج
إلى الفعل ، ولن يخرج استحال أن يوصف الله عزوجل بالقدرة على غيره.
وذكر بإسناده عن
أحمد بن سنان ، قال : كان الوليد بن أبان الكرابيسي خالي ، فلما حضرته الوفاة قال
لبنيه : تعلمون أحدا أعلم بالكلام مني؟ قالوا : لا ، قال : فتتهمونني؟ قالوا : لا
، قال : فإني أوصيكم ، أتقبلون؟ قالوا : نعم ، قال : عليكم بما عليه أصحاب الحديث
، فإني رأيت الحق معهم.
وكان أبو المعالي
الجويني يقول : لقد جلت أهل الإسلام جولة وعلومهم ، وركبت البحر الأعظم ، وغصت في
الذي نهوا عنه ، كل ذلك في طلب الحق ، وهربا من التقليد ، والآن فقد رجعت عن الكل
إلى كلمة الحق : عليكم بدين العجائز ، فإن لم يدركني الحق بلطف بره ، فأموت على
دين العجائز ، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص ، فالويل لابن الجويني ،
وكان يقول لأصحابه : يا أصحابنا لا تشتغلوا بالكلام ، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي
ما بلغ ، ما تشاغلت به.
وقال أبو الوفاء
بن عقيل لبعض أصحابه : أنا أقطع أن الصحابة ماتوا وما عرفوا الجوهر والعرض ، فإن
رضيت أن تكون مثلهم فكن ، وإن رأيت أن طريقة المتكلمين أولى من طريق أبي بكر وعمر
فبئس ما رأيت.
قال : وقد أفضى
الكلام بأهله إلى الشكوك ، وكثير منهم إلى الإلحاد ، تشم روائح الإلحاد من فلتات
كلام المتكلمين ، وأصل ذلك أنهم ما قنعوا بما قنعت به الشرائع ، وطلبوا الحقائق
وليس في قوة العقل إدراك ما عند الله من الحكمة التي انفرد بها ، ولا أخرج البارئ
من علمه لخلقه ما علمه هو من حقائق الأمور.
قال : وقد بالغت
في الأول طول عمرى ، ثم عدت القهقري إلى مذهب الكتب وإنما قالوا : إن مذهب العجائز
أسلم ، لأنهم لما انتهوا إلى غاية التدقيق في النظر لم يشهدوا ما ينفي العقل من
التعليلات والتأويلات ، فوقفوا مع مراسيم الشرع وجنحوا عن القول بالتعليل ، وأذعن
العقل بأن فوقه حكمة إلهية فسلم.
ثم قال : فإن قال
قائل : قد عبت طريق المقلدين في الأصول ، وطريق المتكلمين ، فما الطريق السليم من
تلبيس إبليس.
فالجواب : أنه ما
كان عليه رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وأصحابه ، وتابعوهم بإحسان ، من إثبات الخالق سبحانه ،
وإثبات صفاته على ما وردت به الآيات والأخبار ، من غير تفسير ، ولا بحث. عما ليس
في قوة البشر إدراكه ، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق ، قال علي كرم الله وجهه :
والله ما حكمت
مخلوقا ، إنما
حكمت القرآن ، وأنه المسموع ، لقوله عزوجل : (حَتَّى يَسْمَعَ
كَلامَ اللهِ) [التوبة : ٦].
وأنه في المصاحف ، لقوله عزوجل : (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) [الطور : ٣] ولا
نتعدى مضمون الآيات.
ولا نتكلم في ذلك
برأينا وقد كان أحمد بن حنبل ينهي أن يقول الرجل : لفظي بالقرآن مخلوق ، أو غير
مخلوق ، لئلا يخرج عن الاتباع للسلف إلى حدث. والعجب ممن يدعي اتباع هذا الإمام ،
ثم يتكلم في المسائل المحدثة.
وللمزيد انظر كتاب
«الفرق بين الفرق» لعبد القاهر البغدادي وخاصة الفصل الثالث في بيان الأصول التى
اجتمع عليها أهل السنة ، وكتاب «الملل والنحل» للشهرستاني ، وابن حزم وغيرهم.
وفي الحديث : «إن
الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ... الحديث» ، وفي الحديث الآخر في «الصحيحين»
عن أبي هريرة يرفعه : «إن الشيطان يأتي أحدكم فيقول له ... الحديث».
وقال عبد الله بن
عباس : ما رأيت قوما خيرا من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض صلىاللهعليهوسلم كلهن في القرآن ... يسألونك عن المحيض ، يسألونك عن الشهر
الحرام ... ويسألونك عن اليتامى ...
وقال شيخ الإسلام
ابن تيمية رحمهالله : وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من
الحديث ، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من
مائة تفسير ؛ فلم أجد إلى ساعتى هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئا من آيات
الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المعروف اه. (مجموع الفتاوى : ٦ / ٣٩٤).
ثم جاء تلميذه
النجيب ابن قيم الجوزية فصنف هذا الكتاب القيم في مادته ، شديد الوقع على
المبتدعين ، وجاء كمسماه : صواعق مرسلة على الجهمية والمعطلة ، وقسم الكتاب إلى
ثلاثة أقسام ، أو ثلاثة طواغيت كما أسماها.
فبدأ «بالتأويل» ،
ثم الطاغوت الثاني وهو «العقل» ، ثم ختمه بالطاغوت الثالث وهو «المجاز» فأجاد
وأفاد ولم يترك فرصة لمستزاد.
ثم قام الشيخ محمد
ابن الموصلى رحمهالله فاختصر هذا الكتاب فجاء أيضا اختصارا مفيدا لما أسهب فيه
الشيخ الإمام في سرد الأدلة والرد على المبتدعة فجاء اختصارا قيما غير مخل وأسماه «استعجال
الصواعق المرسلة» وهو كتابنا هذا.
وإني وإن كان
مقامى لا يتناسب مع موضوع الكتاب ولا مع مكانة مؤلفه. أرجو بعملى فيه أن أحشر مع
زمرة الموحدين ؛ الذابين عن دين الله وعن ذاته سبحانه وتعالى ، وأدعوه وأرجوه سبحانه
أن يغفر لي ولوالدي ولوالد والدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب.
تنبيه :
وضح من استعراض
آراء فرق الضلالة ضياع الحق في جانب أسماء الله تعالى وصفاته : بين تعطيل أو نفى
أو تشبيه أو تأويل ، وتاهت بين ذلك عقول واختلط الحابل بالنابل حتى على بعض الأئمة
حتى إنه لم يصب عين الحقيقة في آرائه في هذا الباب ، وقريب من ذلك ما يحكيه أحيانا
الإمام النووى فى «شرح مسلم» وغيره ومن ذلك ما حكاه عن الإمام الخطابى في تفسير
اسمه سبحانه «النور» إذ قال : ومعناه الّذي بنوره يبصر ذو العماية ، وبهدايته يرشد
ذو الغواية ، قال : ومنه (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أى منه نورهما ، قال : ويحتمل أن يكون معناه ذو النور ،
ولا يصح أن يكون «النور» صفة ذات الله تعالى ، وإنما هو صفة فعل ، أي : هو خالقه
أ. ه كلامه ، وانظر في الرد على ذلك : الفصل السادس من الجزء الثانى من كتابنا هذا
فى «المثال السادس» في تحريف اسمه تعالى «النور» وانظر أيضا «اجتماع الجيوش» (ص /
١٩) طبعة نزار الباز بتحقيقى ، ومن ذلك ما حكاه أيضا الحافظ ابن حجر على جلالة
قدره فى الفقه ومكانته العليا في استنباط الأحكام فمن ذلك ما يحكيه في «الفتح»
فأحيانا يميل إلى قول الأشاعرة وأحيانا يحيل إلى التفويض أو التأويل.
وانظر في ذلك مثلا
في مسألة نداء الله عباده بصوت.
إذ قال الحافظ في (الفتح
، كتاب العلم ـ باب الخروج في طلب العلم) قال : أن لفظ الصوت مما يتوقف في إطلاق
نسبته إلى الرب ويحتاج إلى تأويل فلا يكفى فيه مجىء الحديث من طريق فيها ولو اعتضدت
أه مختصرا (الفتح ١ / ٢١٠ ـ السلفية).
ثم عاد وقرر صفة
الصوت لله عزوجل في كتاب «التوحيد» ولكن قال : وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه
الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به ثم إما التفويض وإما التأويل وبالله التوفيق. أه.
(فتح الباري : ١٣ / ٤٦٦ ـ ريان).
وهناك فرق بين التفويض
وما كان عليه السلف ، وفي ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وذلك تعقيبا على قول
مكحول والزهرى لما سئلا عن تفسير أحاديث الصفات فقالا : أمرّوها كما جاءت ، وروى
أيضا عن الوليد بن مسلم قال : سألت مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث
والأوزاعي عن الأخبار التى جاءت في الصفات؟ فقالوا : أمروها كما جاءت بلا كيف.
قال شيخ الإسلام :
قولهم : أمروها كما جاءت يقتضي إبقاء دلالتها على ما هى عليه ، فإنها جاءت بألفاظ
دالة على معان ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال : أمروا لفظها مع
اعتقاد أن المفهوم غير مراد ، أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت
عليه حقيقة ، وحينئذ فلا تكون قد أمرّت كما جاءت ، ولا يقال حينئذ بلا كيف إذ نفي
الكيف عما ليس بثابت لغو من القول. أه. (الفتوى الحموية ص ٢٨).
وقال في «العقيدة
الواسطية» : ومن الإيمان بالله ، الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه ، وبما وصفه به
رسوله من غير تحريف ولا تعطيل ، ومن غير تكييف ولا تمثيل. أه مختصرا.
قال الأستاذ /
محمد خليل هراس في «الشرح» : وقوله (من غير تحريف) متعلق بالإيمان قبله ، يعنى
أنهم يؤمنون بالصفات الإلهية على هذا الوجه الخالي من كل هذه المعاني الباطلة
إثباتا بلا تمثيل ، وتنزيها بلا تعطيل.
وتحريف الكلام
إمالته عن المعنى المتبادر منه إلى معنى آخر لا يدل عليه اللفظ إلا باحتمال مرجوح
، فلا بد فيه من قرينة تبين أنه المراد.
وأما
التعطيل : فالمراد منه هنا
نفى الصفات الإلهية ، وإنكار قيامها بذاته تعالى ، فالفرق بين التحريف والتعطيل أن
التعطيل نفى للمعنى الحق الّذي دل عليه الكتاب والسنة ، وأما التحريف فهو تفسير
النصوص بالمعانى الباطلة التي لا تدل عليها.
والنسبة بينهما
العموم والخصوص المطلق ، فإن التعطيل أعم مطلقا من التحريف ؛ بمعنى أنه كلما وجد
التحريف وجد التعطيل دون العكس ، وبذلك يوجدان معا فيمن أثبت المعنى الباطل ونفى
المعنى الحق ، ويوجد التعطيل بدون التحريف فيمن نفى الصفات الواردة في الكتاب
والسنة وزعم أن ظاهرها غير مراد ولكنه يعين لها معنى آخر وهو ما يسمونه بالتفويض.
ومن الخطأ القول
بأن هذا ـ يعنى التفويض ـ هو مذهب السلف ، كما نسب ذلك إليهم المتأخرون من
الأشاعرة وغيرهم ، فإن السلف لم يكونوا يفوضون في علم المعنى ، ولا كانوا يقرءون
كلاما لا يفهمون معناه ، بل كانوا يفهمون معانى النصوص من الكتاب والسنة ،
ويثبتونها لله عزوجل ، ثم يفوضون فيما وراء ذلك من كنه الصفات أو كيفياتها ،
كما قال مالك حين سئل عن كيفية استوائه تعالى على العرش : «الاستواء معلوم والكيف
مجهول».
وأما قوله : (من
غير تكييف ولا تمثيل) فالفرق بينهما أن التكييف أن يعتقد أن صفاته تعالى على كيفية
كذا ، أو يسأل عنها بكيف.
وأما
التمثيل : فهو اعتقاد أنها
مثل صفات المخلوقين ، وليس المراد من قوله من غير تكييف أنهم ينفون الكيف مطلقا ،
فإن كل شيء لا بد أن يكون على كيفية ما ، ولكن المراد أنهم ينفون علمهم بالكيف إذ
لا يعلم كيفية ذاته وصفاته إلا هو سبحانه أه. بتصرف.
ثم وجدت ما يؤيد
كلامي هذا ـ والحمد لله من قبل ومن بعد ـ ، فمن ذلك
كلام الشيخ حمد بن
عتيق رحمهالله في رسالته للشيخ العلامة صديق حسن خان رحمهالله وفيها قال : .... واعلم أرشدك الله أن الّذي جرينا عليه
أنه إذا وصل إلينا شيء من المصنفات في التفسير أو شرح حديث اختبرناه واعتبرنا
معتقده في «العلو» و «الصفات» ، و «الأفعال» ، فوجدنا الغالب على كثير من
المتأخرين أو أكثرهم : مذهب الأشاعرة الذي حاصله نفى العلو وتأويل الآيات في هذا
الباب بالتأويلات الموروثة عن بشر المريسي وأضرابه من أهل البدع والضلال ، ومن نظر
في شروح البخارى ومسلم ونحوها وجد ذلك فيها ، وأما ما صنف في الأصول والعقائد
فالأمر فيه ظاهر لذوي الألباب ، فمن رزقه الله بصيرة ونورا ، وأمعن النظر فيما
قالوه وعرضه على ما جاء عن الله ورسوله وما عليه أهل السنة المحضة تبين له
المنافاة بينهما وعرف ذلك كما يعرف الفرق بين الليل والنهار ... إلى آخر كلامه ثم
قال : ومن ذلك أنكم قلتم في سورة يونس أيضا : استوى على العرش استواء يليق بجلاله
وهذه طريقة السلف المفوضين وقد تقدس الديان عن المكان والمعبود عن الحدود انتهى.
فإن كان المراد بالتفويض ما يقوله بعض النفاة وينسبونه إلى السلف. وهو أنهم يمرون
الألفاظ ويؤمنون بها من غير أن يعتقدوا لها معان تليق بالله أو أنهم لا يعرفون
معانيها فهذا أكذب على السلف من النفاة وإذا قال السلف كما جاءت بلا كيف فإنما
ينفون علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة. ولو كانوا قد آمنوا باللفظ المجرد من
غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول
وأمروها كما جاءت بلا كيف فالاستواء لا يكون حينئذ معلوما بل مجهولا بمنزلة حروف
الجر. وأيضا فإنه لا يحتاج إلى نفس علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنى. وإنما
يحتاج إلى نفس علم الكيفية إذا ثبتت الصفات ؛ هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمهالله تعالى ولا نشك أن هذا اعتقادك ولكن المراد أنه دخل عليك
بعض الألفاظ من كلام أهل البدع لم تتصور مرادهم فتنبه لمثل ذلك.
وأما قول القائل (يتقدس
الديان عن المكان) فهذا لم ينطق السلف فيه بنفي ولا إثبات وهو من عبارات المتكلمين
ومرادهم به نفي علو الله على خلقه لأن
لفظ المكان فيه
إجمال يحتمل الحق والباطل كلفظ الجهة والعلو والكلام في ذلك معروف في كتب شيخ
الإسلام وابن القيم فارجع إلى ذلك تجده ولا نطيل به وحسب الاقتصار في هذا الباب
على ما ورد في الكتاب والسنة ، كما قال الإمام أحمد : لا يوصف الله إلا بما وصف به
نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث ا. ه.
عملنا في الكتاب :
(١)
ضبط نص الكتاب ،
وذلك عن طريق معارضة نسخه ، وعلى النسخ الأصل والذي اختصر منه المصنف هذا الكتاب ،
ولا نبالغ إذا قلنا بأن كثيرا من النسخ الموجودة بالسوق بها أخطاء ، وتصحيفات
شنيعة ، ولا أدرى كيف يتساهل في وجود مثل هذه الأخطاء في كتب لها أهميتها وخطورتها
مثل كتابنا هذا والذي يعالج قضية عقائدية خطيرة يحكم على المنازع فيها لاعتقاد
السلف الصالح بالضلال ، ومفارقة ملة الإسلام ، إذ أنها تخص ذات الله سبحانه كما
أشرنا إلى ذلك في المقدمة.
نقول : فإن أقل
تصحيف وخطأ في الكلام ومضمونه يؤدى إلى عواقب وخيمة في المفاهيم.
ولأهمية معارضة
الكتاب يقول الأخفش : «إذا نسخ الكتاب ولم يعارض ، ثم نسخ ولم يعارض ، خرج أعجميا»
(علوم الحديث ، لابن الصلاح).
ويقول الشيخ أحمد
شاكر رحمهالله : ألوف من النسخ من كل كتاب ، تنشر في الأسواق ، تتناولها
أيدي الناس ، ليس فيها صحيح إلا قليلا ، يقرؤها العالم المتمكن ، والمتعلم
المستفيد ، والعامى الجاهل ، وفيها أغلاط واضحة وأغلاط مشكلة ، ونقص وتحريف.
ثم قال : ويشتبه
الأمر على المتعلم الناشئ في الواضح والمشكل وقد يثق بالكتاب بين يديه فيحفظ الخطأ
ويطمئن إليه ، ثم يكون إقناعه بغيره عسيرا ، وتصور أنت حال العامي بعد ذلك ا ه.
ونحن لا ندعى
الكمال في ذلك ، إذا أن القصور من طبع البشر ، فننبه القارئ الفطن إلى أن يتوق
الحرص إذا اشتبه عليه أمر في قراءته لبعض الجمل وليراجع الشيوخ في مسائل العقيدة
بصفة خاصة ولا يعتمد أساسا على القراءة والصحف ، إذا أن التصحيف ملازم للصحف ، أو
أن يفهم من الكلام على غير مراد المصنف.
(٢)
تخريج الأحاديث
وعزوها إلى مصادر السنة الأصلية ، ونقل أقوال أئمة الحديث النقاد في الحكم على
الحديث.
وإذا كان الحديث
في «الصحيحين» أو أحدهما اكتفيت بعزوه إليهما أو لأحدهما دون ذكر من شاركهما أو
شارك أحدهما لإفادته الصحة.
(٣)
الشرح والتعليق
على بعض الفقرات العقائدية وغيرها لزيادة إيضاح للمعنى الرامى إليه المصنف.
(٤)
الترجمة لبعض
الأعلام الذين ورد ذكرهم بالكتاب.
(٥)
وضع بعض العناوين
للفصول ولبعض الفقرات ، وكذا زيادة كلمة أو كلمتين لتوضيح المعنى المراد ، أو
تصحيح كلمة مع التنويه على لفظها التى كانت عليه في الأصل ، والتنويه على ذلك في
الهامش وتم وضع الزيادات والعناوين التى اخترناها في المتن بين هلالين هكذا (***).
والله الموفق
والهادى إلى الصواب
وكتبه
رضوان جامع رضوان
القاهرة في يوم
الجمعة الموافق سبعة عشر من شهر ربيع الآخر ١٤١٥ ه
الموافق للثالث
والعشرين من سبتمبر ١٩٩٤ م
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الشيخ محمد ابن الموصلى (مختصر الكتاب)
الحمد لله رب العالمين
، وبه نستعين ، ولا حول ولا قوة إلا بالله. الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه
ونستغفره ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا. ومن يهد الله فهو المهتد. ومن
يضلل ؛ فلا هادى له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا
عبده ورسوله. بعثه الله تعالى بين يدى الساعة بشيرا ونذيرا. وداعيا إلى الله بإذنه
وسراجا منيرا. فتح به أعينا عميا. وآذانا صما. وقلوبا غلفا. وأقام به الملة
العوجاء. بأن قالوا لا إله إلا الله. صلوات الله وسلامه عليه ، وعلى آله وصحبه
وسلم تسليما كثيرا.
(أما
بعد) فهذا استعجال الصواعق
المرسلة على الجهمية والمعطلة. انتخبته من كلام شيخ الإسلام ، وقدوة الأنام ، ناصر
السنة (شمس الدين أبي عبد الله محمد ابن قيم الجوزية) رحمهالله تعالى.
(اعلم)
أن الله بعث رسوله
محمدا صلىاللهعليهوسلم وأهل الأرض أحوج إلى رسالته من غيث السماء ، ومن نور الشمس
الذي يذهب عنهم حنادس الظلماء فضرورتهم إليها أعظم الضرورات ، وحاجاتهم إليها مقدمة على
جميع الحاجات فإنه لا حياة للقلوب ولا سرور ولا لذة ولا نعيم ولا أمان إلا بأن
تعرف ربها ومعبودها وفاطرها بأسمائه وصفاته وأفعاله ، ويكون ذلك أحب إليها مما
سواه ، ويكون سعيها فيما يقربها إليه ، ومن المحال أن تستقل العقول البشرية
__________________
بإدراك ذلك على
التفصيل ، فاقتضت حكمة العزيز العليم ، بأن بعث الرسل به معرفين ،
وإليه داعين ، ولمن أجابهم مبشرين ، ولمن خالفهم منذرين ، وجعل مفتاح دعوتهم وزبدة
رسالتهم معرفة المعبود سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله. وعلى هذه المعرفة تنبنى
مطال الرسالة جميعها ، فإن الخوف والرجاء والمحبة والطاعة والعبودية تابعة لمعرفة
المرجو المخوف المحبوب المطاع المعبود.
ولما كان مفتاح
الدعوة الإلهية معرفة الرب تعالى قال أفضل الداعين إليه صلىاللهعليهوسلم
__________________
لمعاذ بن جبل :
وقد أرسله إلى اليمن «إنك
تأتي قوما أهل كتاب ؛ فليكن
أول ما تدعوهم إليه شهادة أن
لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؛ فإذا
__________________
عرفوا
الله فأخبرهم
أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ـ الحديث» وهو في «الصحيحين»
؛ واللفظ لمسلم .
وقد نزه سبحانه
نفسه عن غير ما يصفه المرسلون فقال : (سُبْحانَ رَبِّكَ
رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ* وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ* وَالْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (الصافات : ١٨٠ ـ
١٨٣) فنزه نفسه عما يصفه به الخلق ثم سلم على المرسلين
__________________
لسلامة ما وصفوه
به من النقائص والعيوب. ثم حمد نفسه على تفرده بالأوصاف التى يستحق عليها كمال
الحمد.
(ومن هنا) أخذ إمام السنة محمد بن إدريس الشافعي رحمهالله خطبة كتابه حيث قال «الحمد لله الذي هو كما وصف نفسه وفوق
ما يصفه خلقه» فأثبت بهذه الكلمة أن صفاته إنما تتلقى بالسمع لا بآراء الخلق وأن
أوصافه فوق ما يصفه به الخلق ، وقد شهد الله سبحانه بالعلم بمن يرى أن ما جاء به
الرسول من عند الله هو الحق ، لا آراء الرجال فقال تعالى : (وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ
الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (سبأ : ٦). وقال
تعالى : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ
أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى) (الرعد : ١٩) فمن
تعارض عنده ما جاء به الرسول وآراء الرجال فقدمها عليه أو توقف فيه أو قدحت في
كمال معرفته فهو أعمى عن الحق.
وقد أخبر الله
تعالى عن رسوله صلىاللهعليهوسلم أنه قال : (قُلْ هذِهِ سَبِيلِي
أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي) (يوسف : ١٠٨)
وأخبر تعالى عنه أنه سراج منير ، وأنه هاد إلى صراط مستقيم ، وبأن من اتبع النور الذي أنزل معه هو المفلح لا غيره ؛ وأن من لم يحكمه في كل ما تنازع فيه المتنازعون وينقاد
لحكمه ؛ ولا يكون عنده حرج منه فليس بمؤمن .
__________________
فكيف يجوز على من
أخبر الله تعالى عنه بما ذكر أن يكون قد أخبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله بما
الهدي في خلاف ظاهره والحق في إخراجه عن حقائقه وحمله على وحشى اللغات ومستكرهات
التأويلات ، وأن حقائقه ضلال وتشبيه وإلحاد ، وأن الهدى والعلم في مجازه وإخراجه
عن حقائقه؟ وأحال الأمة فيه على آراء الرجال المتحيرين وعقول المتهوكين ، فيقول :
إذا أخبرتكم عن الله وصفاته العلى بشيء فلا تعتقدوا حقيقته ؛ وخذوا مرادي به من
آراء الرجال ومعقولها ، فإن الهدى والعلم فيه؟
معاذ الله ، فإنه
لو خرج عن ظاهره بتأويل المتأولين انتقضت عرى الإيمان كلها ، وكان لا تشاء طائفة
من طوائف أهل الضلال أن تتأول النصوص على مذهبها إلا وجدت السبيل إليه.
(والمقصود)
أن الله تعالى
أكمل للرسول ولأمته به دينهم وأتم عليهم به نعمته ومحال مع هذا أن يدع ما خلق له
الخلق وأرسلت به الرسل ، وأنزلت به الكتب ؛ ونصبت عليه القبلة ، وأسست عليه الملة
، وهو باب الإيمان به ومعرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وأفعاله ، ملتبسا مشتبها حقه
بباطله ، لم يتكلم فيه بما هو الحق ، بل تكلم بما هو الباطل ، والحق في إخراجه عن
ظاهره ، فكيف يكون أفضل الرسل وأجل الكتب غير واف بتعريف ذلك على أتم الوجود ،
مبيّن له بأكمل البيان ، موضح له غاية الإيضاح ، مع شدة حاجة النفوس إلى معرفته ،
وهو أفضل ما اكتسبته النفوس وأجل ما حصلته القلوب.
ومن المحال أن
يكون صلىاللهعليهوسلم قد علمهم آداب الغائط ، قبله وبعده ومعه ، وآداب الوطء
والطعام والشراب ، ويترك أن يعلمهم ما يقولونه بألسنتهم ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم
ومعبودهم الذي معرفته غاية المعارف ، والوصول إليه أتم المطالب ، وعبادته وحده لا
شريك له أقرب الوسائل ، ويخبرهم بما ظاهره ضلال وإلحاد ، ويحيلهم في فهم ما أخبره
به عن الله تعالى وأسمائه وصفاته
وأفعاله على
مستكرهات التأويل وما تحكم به عقولهم. هذا هو القائل «تركتكم على المحجة
البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك» وهو القائل «ما بعث الله من نبى إلا كان حقا عليه أن
يدل أمته على خير ما يعلمه لهم» وقال أبو ذر : «لقد توفى رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما
طائر يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علما» وقال عمر بن الخطاب «قام فينا رسول الله صلىاللهعليهوسلم مقاما
فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ، وأهل النار منازلهم ، حفظ ذلك من حفظه
ونسيه من نسيه» ذكره البخاري .
فكيف يتوهم من لله
ورسوله في قلبه وقار أن يعتقد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد أمسك عن بيان هذا الأمر العظيم ولم يتكلم فيه بالصواب؟
معاذ الله ، بل لا يتم الإيمان إلا بأن يعتقد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد بيّن ذلك أتم البيان وأوضحه غاية الإيضاح ، ولم يدع
بعده لقائل مقالا ولا لمتأول تأويلا.
__________________
ثم من المحال أن
يكون خير الأمة وأفضلها وأسبقها إلى كل خير قصروا في هذا الباب فجفوا عنه. أو
تجاوزوا فغلوا فيه. وإنما ابتلى من خرج عن منهاجهم بهذين الداءين.
وقال شيخنا قدس
الله روحه : والحال في هؤلاء المبتدعة الذين فضلوا طريقة الخلف على طريقة السلف
حيث ظنوا أن طريق السلف هى مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ولا فهم
لمراد الله ورسوله منها واعتقدوا أنهم بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ
الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ) (البقرة : ٧٨) وأن
طريقة المتأخرين هى استخراج معاني النصوص. وصرفها عن حقائقها بأنواع المجازات
وغرائب اللغات ، ومستكرهات التأويلات. فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التى
مضمونها نبذ الكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة والتابعين وراء ظهورهم. فجمعوا بين الجهل
بطريقة السلف والكذب عليهم. وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف.
وسبب ذلك اعتقادهم
أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص فلما اعتقدوا التعطيل وانتفاء
الصفات في نفس الأمر ، ورأوا أنه لا بد للنصوص من معنى بقوا مترديين بين الإيمان
باللفظ وتفويض المعنى. وهذا الّذي هو طريقة السلف عندهم. وبين صرف اللفظ عن حقيقته
وما وضع له إلى ما لم يوضع له ولا دل عليه بأنواع من المجازات ، وبالتكلفات التي
هى بالألغاز والأحاجى أشبه منها بالبيان والهدى ، فصار هذا الباطل مركبا من فساد
العقل والجهل بالسمع ، فلا عقل ولا سمع ، فإن النفي والتعطيل إنما اعتمدوا فيهما
على شبهات فاسدة ظنوها معقولات ، وحرفوا لهما النصوص السمعية عن مواضعها.
فلما ابتنى أمرهم
على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الذين هم أعلم الأمة
بالله وصفاته. واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين البله الذين لم يتبحروا
في حقائق العلم بالله وأن الخلف هم العلماء الذين أحرزوا قصبات السبق ، واستولوا
على الغاية وظفروا من الغنيمة بما فات السابقين الأولين ، فكيف يتوهم من له أدنى
مسكة من عقل وإيمان ، أن هؤلاء
المتحيرين الذين
كثر في باب العلم بالله اضطرابهم ، وغلظ عن معرفة الله حجابهم ، وأخبر الواقف على
نهايات إقدامهم بما انتهى إليه من مرامهم ، وأنه الشك والحيرة حيث يقول :
لعمري لقد طفت
المعاهد كلها
|
|
وسيّرت طرفي بين
تلك المعالم
|
فلم أر إلا
واضعا كفّ حائر
|
|
على ذقنه أو
قارعا سن نادم
|
ويقول الآخر :
نهاية إقدام
العقول عقال
|
|
وأكثر سعى
العالمين ضلال
|
وأرواحنا في
وحشة من جسومنا
|
|
وغاية دنيانا
أذى ووبال
|
ولم نستفد من
بحثنا طول دهرنا
|
|
سوى أن جمعنا
فيه قيل وقالوا
|
وقال الآخر : «لقد خضت البحر الخضم وتركت أهل الإسلام وعلومهم
__________________
__________________
وخضت في الذي
نهوني عنه ، والآن إن لم يتداركني ربي برحمته فالويل لي. وها أنا ذا أموت على
عقيدة أمى».
وقال الآخر «أكثر
الناس شكا عند الموت أرباب الكلام».
وقال آخر منهم «اشهدوا
على أني أموت وما عرفت شيئا إلا أن الممكن مفتقر إلى واجب» ثم قال «الافتقار أمر
عدمي فلم أعرف شيئا» وقال آخر وقد نزلت به نازلة من سلطانه فاستغاث برب الفلاسفة
فلم يغث ، قال : فاستغثت برب الجهمية فلم يغثني. ثم استغثت برب القدرية فلم يغثني
، ثم استغثت برب المعتزلة فلم يغثني ، قال : فاستغثت برب العامة فأغاثني .
__________________
__________________
__________________
(كسر الطاغوت الأول وهو : «التأويل»)
فصل
(في بيان حقيقة «التأويل» لغة واصطلاحا)
(١ ـ معنى التأويل
لغة)
وهو تفعيل من آل
يؤول إلى كذا إذا صار إليه ، فالتأويل : التصيير ، وأولته تأويلا إذ صيرته إليه ،
قال وتأول وهو مطاع أولته ، وقال الجوهرى : التأويل : تفسير ما يؤول إليه الشيء ،
وقد أولته تأويلا وتأولته بمعنى. قال الأعشى :
على أنها كانت
تأول حبها
|
|
تأول ربعى
السقاب فأصحبا
|
قال أبو عبيدة :
تأول حبها ، أى تفسيره ومرجعه ، أى أن حبها كان صغيرا في قلبه فلم يزل يشب حتى
أصحب فصار قديما كهذا السقب الصغير لم يزل يشب حتى صار كبيرا مثل أمه ، وصار له
ابن يصحبه. و «السقب» ولد الناقة ، أو ساعة يولد ، أو خاص بالذكر.
__________________
(٢ ـ معنى التأويل في
كلام الله ورسوله)
ثم تسمى العاقبة
تأويلا لأن الأمر يصير إليها. قال الله تعالى : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ
فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ
بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : ٥٩).
وتسمى حقيقة الشيء المخبر به تأويلا لأن الأمر ينتهي إليه ، ومنه قوله تعالى
: (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) (الأعراف : ٥٣)
فمجىء تأويله مجىء نفس ما أخبرت به الرسل من اليوم الآخر والمعاد وتفاصيله والجنة
والنار.
ويسمى تعبير الرؤيا تأويلها بالاعتبارين ، فإنه تفسير لها وهو عاقبتها وما تؤول
إليه ، وقال يوسف لأبيه : (يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ) (يوسف : ١٠٠) أى
حقيقتها ومصيرها إلى هاهنا. انتهى.
وتسمى العلة الغائية والحكمة المطلوبة بالفعل تأويلا لأنها بيان لمقصود الفاعل
وغرضه من الفعل الذي لم يعرف الرائي له غرضه به. ومنه قول الخضر لموسى بعد أن ذكر
له الحكمة المقصودة بما فعله من تخريق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار بلا عوض (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ
تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف : ٧٨) فلما
أخبره بالعلة الغائية التي انتهى إليها فعله قال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ ما
لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (الكهف : ٨٢).
فالتأويل في كتاب
الله تعالى المراد منه حقيقة المعنى الّذي يؤول اللفظ إليه وهى الحقيقة الموجودة
في الخارج. فإن الكلام نوعان : خبر وطلب. فتأويل الخبر هو الحقيقة.
وتأويل الوعد والوعيد هو نفس الموعود والمتوعد به وتأويل ما أخبر الله به من
صفاته العلى وأفعاله نفس ما هو عليه سبحانه ، وما هو موصوف به من الصفات العلى.
وتأويل الأمر هو نفس الأفعال المأمور بها. قالت عائشة رضى الله
عنها : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول
في ركوعه وسجوده : سبحانك اللهم ربنا وبحمدك» يتأول القرآن . فهذا التأويل هو فعل نفس المأمور به.
فهذا هو التأويل
في كلام الله ورسوله.
(٣ ـ معنى التأويل
اصطلاحا)
وأما التأويل في
اصطلاح أهل التفسير والسلف من أهل الفقه والحديث فمرادهم به معنى التفسير والبيان.
ومنه قول ابن جرير وغيره : القول في تأويل قوله تعالى كذا وكذا. ومنه قول الإمام
أحمد في «الرد على الجهمية» فيما تأولته من القرآن على غير تأويله ، فأبطل تلك
التأويلات التى ذكرها وهو تفسيرها المراد بها. وهو تأويلها عنده ، فهذا التأويل
يرجع إلى فهم المؤمن ويحصل في الذهن ، والأول يعود إلى وقوع حقيقته في الخارج.
وأما المعتزلة
والجهمية وغيرهم من المتكلمين فمرادهم بالتأويل صرف اللفظ عن ظاهره ، وهذا هو
الشائع في عرف المتأخرين من أهل الأصول والفقه.
ولهذا يقولون :
التأويل على خلاف الأصل ؛ والتأويل يحتاج إلى دليل. وهذا التأويل هو الّذي صنف في
تسويغه وإبطاله من الجانبين. فممن صنف في إبطال التأويل على رأى المتكلمين القاضى
أبو يعلى والشيخ موفق الدين ابن قدامة ، وقد حكى غير واحد إجماع السلف على عدم
القول به.
ومن التأويل
الباطل تأويل أهل الشام قوله صلىاللهعليهوسلم لعمار : «تقتلك الفئة الباغية» فقالوا : نحن لم نقتله ، إنما قتله من جاء به حتى أوقعه
بين رماحنا. وهذا التأويل مخالف لحقيقة اللفظ وظاهره ؛ فإن الّذي قتله هو الذي
باشر قتله لا من استنصر به. ولهذا رد عليهم من هو أولى بالحق والحقيقة منهم فقالوا
:
__________________
أفيكون رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه هم الذين قتلوا حمزة والشهداء معه ، لأنهم أتوا
بهم حتى أوقعوهم تحت سيوف المشركين؟
ومن هذا قول عروة
بن الزبير لما روى حديث عائشة «فرضت
الصلاة ركعتين ركعتين ، فزيد في صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر» فقيل له : فما بال عائشة أتمت في السفر؟ قال : تأولت كما
تأول عثمان ، وليس مراده أن عائشة وعثمان تأولا آية القصر على خلاف ظاهرها. وإنما
مراده أنهما تأولا دليلا قام عندهما اقتضى جواز الإتمام فعملا به ، فكان عملهما به
هو تأويله ؛ فإن العمل بدليل الأمر هو تأويله كما كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يتأول قوله تعالى : (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ
رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ) (النصر : ٣)
بامتثاله بقوله «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي» فكأن عائشة وعثمان تأولا قوله تعالى : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا
الصَّلاةَ) (النساء : ١٠٣)
فإن إتمامها من إقامتها. وقيل : تأولت عائشة أنها أم المؤمنين وأن أمهم حيث كانت
فكأنها مقيمة بينهم ، وإن عثمان كان إمام المسلمين فحيث كان فهو منزله ، أو أنه
كان قد عزم على الاستيطان بمنى ، أو أنه كان قد تأهل بها ؛ ومن تأهل ببلد لم يثبت
له حكم المسافر ، أو أن الأعراب كانوا قد كثروا في ذلك الموسم فأحب أن يعلمهم فرض
الصلاة وأنها أربع ، أو غير ذلك من التأويلات التى ظناها أدلة مقيدة لمطلق القصر ،
أو مخصصة لعمومه ؛ وإن كانت كلها ضعيفة. والصواب هدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنه كان إمام المسلمين ؛ وعائشة أم المؤمنين في حياته
ومماته وقد قصرت معه ؛ ولم يكن عثمان ليقيم بمكة وقد بلغه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما رخص في الإقامة بها للمهاجرين بعد قضاء نسكهم ثلاثا ،
والمسافر إذا تزوج في طريقه لم يثبت به حكم الإقامة بمجرد التزوج ما لم يزمع
الإقامة.
وبالجملة فالتأويل
الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الصحيح وغيره هو الفاسد.
__________________
(٤ ـ أنواع التأويل
الباطل)
والتأويل
الباطل أنواع :
(أحدها)
ما لم يحتمله
اللفظ بوضعه الأول مثل تأويل قوله صلىاللهعليهوسلم : «حتى
يضع رب العزة فيها رجله» ـ بأن الرّجل
جماعة من الناس ، فإن هذا الشيء لا يعرف في شيء من لغة العرب البتة.
(الثاني)
ما لم يحتمله
اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع ، وان احتمله مفردا كتأويل قوله : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) بالقدرة.
(الثالث)
ما لم يحتمله
سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق كتأويل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ
الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨) ،
بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته التي هي أمره ، وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه
يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والتنويع والترديد.
وكتأويل قوله : «إنكم ترون ربكم عيانا
كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ، ليس دونه سحاب ؛ وكما ترون الشمس في الظهيرة ليس
دونها سحاب» فتأويل الرؤية في هذا السياق بما يخالف حقيقتها وظاهرها في
غاية الامتناع : وهو رد وتكذيب يستتر صاحبه بالتأويل.
(الرابع)
ما لم يؤلف
استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث ، وهذا موضع
زلت فيه أقدام كثير من الناس حيث تأولوا كثيرا من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف
استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة ؛
__________________
وإن كان معهودا في
اصطلاح المتأخرين. وهذا مما ينبغى التنبه له ؛ فإنه حصل بسببه من الكذب على الله
ورسوله ما حصل ، كما تأولت طائفة قوله تعالى (فَلَمَّا أَفَلَ) بالحركة. وقالوا : استدل بحركته على بطلان ربوبيته ، ولا
يعرف في لغة العرب التي نزل بها القرآن أن الأفول هو الحركة في موضع واحد البتة. وكذلك
تأويل الأحد بأنه الذي لا يتميز منه عن شيء البتة. ثم قالوا : لو كان فوق العرش لم
يكن أحدا ؛ فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحد من العرب ولا أهل اللغة ؛
إنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن رافقهم.
وكتأويل قوله : (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤)
بأن المعنى أقبل على خلق العرش ؛ فإن هذا لا يعرف في لغة العرب ولا غيرها من الأمم
، لا يقال لمن أقبل على الرحل استوى عليه ، ولا لمن أقبل على عمل من الأعمال من
قراءة أو دراسة أو كتابة أو صناعة قد استوى عليها ، وهذا التأويل باطل من وجوه
كثيرة سنذكرها بعد إن شاء الله تعالى ، لو لم يكن منها إلا تكذيب رسول الله صلىاللهعليهوسلم لصاحب هذا التأويل لكفاه. فإنه ثبت في «الصحيح» «إن الله قدّر مقادير
الخلائق قبل السموات والأرض بخمسين ألف سنة ، وعرشه على الماء» فكان العرش موجودا قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
فكيف يقال إنه خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم أقبل على خلق العرش؟ والتأويل
إذا تضمن تكذيب الرسول صلىاللهعليهوسلم فحسبه ذلك بطلانا.
(الخامس)
ما ألف استعماله
في غير ذلك المعني لكن في غير التركيب الذي ورد النص ؛ فيحمله المتأول في هذا
التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر كتأويل اليدين في قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥). بالنعمة
، ولا ريب أن العرب تقول : لفلان عندي يد. وقال
__________________
عروة بن مسعود
للصديق رضي الله عنه : لو لا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك.
ولكن وقوع اليد في
هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء
التى هى نظير كتبت بالقلم ، وجعل ذلك خاصة خص بها صفية آدم دون البشر كما خص
المسيح. بأنه نفخ فيه من روحه وخص موسى بأنه كلمه بلا واسطة.
فهذا مما يحيل
تأويل اليد في النص بالنعمة وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك ، فلا يلزم من صلاحية
اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب.
كذلك قوله تعالى :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ
ناضِرَةٌ* إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (القيامة : ٢٢ ـ
٢٣) يستحيل فيها تأويل النظر بانتظار الثواب فإنه أضاف النظر إلى الوجوه بالنظرة
__________________
التى لا تحصل إلا
مع حضور ما يتنعم به لا مع التنغيص بانتظاره ، ويستحيل مع هذا التركيب تأويل النظر
بغير الرؤيا وإن كان النظر بمعنى الانتظار في قوله تعالى : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) (الحديد : ١٣)
وقوله (فَناظِرَةٌ بِمَ
يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) (النمل : ٣٥).
ومثل هذا قول
الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) فقل له :
العرش له عدة معان والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا
يدري ما يقول :
فيقال لهذا الجاهل
: ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت وأصحابك مشبها؟ وقد قال لك نفس ما قال الله
تعالى. فو الله لو كان كما تزعم لكان أولى الله ورسوله منك لأنه لم يتعد النص.
(وأما
قولك) العرش له سبعة
معان ونحوها ، والاستواء له خمسة معان ، فتلبيس منك على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه
ليس لعرش الرحمن الّذي استوى عليه إلا معنى واحد ؛ وإن كان للعرش من حيث الجملة
عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معينا وهو عرش الرب تعالى الذي هو سرير
ملكه الذي اتفقت عليه الرسل ؛ وأقرت به الأمم إلا من نابذ الرسل.
وقولك الاستواء له
عدة معان تلبيس آخر منك ، فإن الاستواء المعدّى بأداة «على» ليس له إلا معنى واحد.
وأما الاستواء المطلق فله عدة معان فإن العرب تقول : استوى كذا : انتهى وكمل ،
ومنه قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) (القصص : ١٤)
وتقول : استوى إلى كذا ، إذا ساواه ؛ نحو قولهم : استوى الماء والخشبة ، واستوى
الليل والنهار. وتقول : استوى إلى كذا إذا قصد إليه علوا وارتفاعا نحو استوى إلى
السطح والجبل ؛ واستوى على كذا أي ارتفع عليه وعلا عليه. ولا تعرف العرب غير هذا.
فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه كما هو نص في قوله تعالى : (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في
معناه ولا يحتمل غيره.
(السادس)
اللفظ الذي اطرد
استعماله في معنى هو ظاهر فيه ولم يعهد استعماله في المعنى المؤول أو عهد استعماله
فيه نادرا ، فحمله على خلاف المعهود من استعماله باطل ، فإنه يكون تلبيسا يناقض
البيان والهداية ، بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفوا به من
القرائن ما يبين للسامع مرادهم به لئلا يسبق فهمه إلى معناه المألوف. ومن تأمل
كمال هذه اللغة وحكمة واضعها تبين له صحه ذلك.
(السابع)
كل تأويل يعود على
أصل النص بالإبطال فهو باطل كتأويل قوله صلىاللهعليهوسلم «أيما امرأة أنكحت
نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل» فيحمله على الأمة ؛ فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر
النص يرجع على أصل النص بالإبطال وهو قوله : «فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من
فرجها» ومهر الأمة إنما
هو للسيد ، فقالوا : نحمله على المكاتبة ، وهذا يرجع على النص بالإبطال من وجه آخر
، فإنه أتى فيه ب «أى» الشرطية التى هي من أدوات العموم ، وأتى بالنكرة في سياق الشرط
وهى تقتضى العموم ؛ وعلق بطلان النكاح بالوصف المناسب له المقتضى لوجود الحكم
بوجوده ؛ وهو إنكاحها نفسها فرتبه على العلة المقتضية للبطلان وهو افتئاتها على
وليها. وأكد الحكم بالبطلان مرة بعد مرة ؛ ثلاث مرات ؛ فحمله على صورة لا تقع في
العالم إلا نادرا يرجع إلى مقصود النص بالإبطال ؛ وأنت إن تأملت عامة تأويلات
الجهمية رأيتها من هذا الجنس بل أشنع.
(الثامن)
تأويل اللفظ الذي
له ظاهر لا يفهم منه عند إطلاقه سواه إلا بالمعنى الخفي الذي لا يطلع عليه إلا
فرادى من أهل النظر والكلام ؛ كتأويل لفظ الأحد الذي يفهمه الخاصة والعامة بالذات
المجردة عن الصفات التى لا يكون فيها معنيان
__________________
بوجه ، فإن هذا لو
أمكن ثبوته في الخارج لم يعرف إلا بعد مقدمات طويلة صعبة جدا ؛ فكيف وهو محال في
الخارج وإنما يفرضه الذهن فرضا ؛ ثم استدل على وجوده الخارجي ؛ فيستحيل وضع اللفظ
المشهور عند كل أحد لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء.
(التاسع)
التأويل الذي يوجب
تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ؛ ويحطه إلى معنى دونه بمراتب ؛ مثاله
تأويل الجهمية (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) (الأنعام : ١٨)
ونظائره بأنها فوقية الشرف ، كقولهم الدراهم فوق المفلس. فعطلوا حقيقة الفوقية
المطلقة التى هي من خصائص الربوبية المستلزمة لعظمة الرب تعالى ، وحطوها إلى كون
قدره فوق قدر بنى آدم ؛ وكذلك تأويلهم استواءه على عرشه بقدرته عليه وأنه غالب
عليه.
فيا لله العجب ،
هل شك عاقل في كونه غالبا لعرشه ؛ قادرا عليه ؛ حتى يخبر به سبحانه في سبعة مواضع
من كتابه مطّردة بلفظ احد ؛ ليس فيها موضع واحد يراد به المعنى الذي أبداه
المتأولون؟ وهذا التمدح والتعظيم كله لأجل أن يعرفنا أنه غلب على عرشه وقدر عليه
بعد خلق السموات والأرض؟ أفترى لم يكن غالبا لعرش قادرا عليه في مدة تزيد عن خمسين
ألف سنة ثم تجدد له ذلك بعد خلق هذا العالم؟
(العاشر)
تأويل اللفظ بمعنى
لم يدل عليه دليل من السياق ولا قرينة تقتضيه. فإن هذا لا يقصده المبين الهادي
بكلامه ، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع
السامع في اللبس ، فإن الله تعالى أنزل كلامه بيانا وهدى ، فإذا أراد به خلاف
ظاهره ولم يحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى كل أحد لم يكن بيانا
ولا هدى.
* * *
فصل
(عدم تنازع الصحابة في آيات الصفات)
تنازع الناس في
كثير من الأحكام ، ولم يتنازعوا في آيات الصفات وأخبارها في موضع واحد ، بل اتفق
الصحابة والتابعون على إقرارها وإمرارها مع فهم معانيها وإثبات حقائقها ، وهذا يدل
على أنها أعظم النوعين بيانا وأن العناية ببيانها أهم ، لأنها من تمام تحقيق
الشهادتين ، وإثباتها من لوازم التوحيد. فبيّنها الله سبحانه وتعالى ورسوله بيانا
شافيا لا يقع فيه لبس يوقع الراسخين في العلم.
وآيات الأحكام لا
يكاد يفهم معانيها إلا الخاصة من الناس. وأما آيات الصفات فيشترك في فهم معناها
الخاص والعام ، أعنى فهم أصل المعنى لا فهم الكنه والكيفية. ولهذا أشكل على بعض
الصحابة قوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ) (البقرة : ١٧٨).
حتى يبين لهم بقوله (مِنَ الْفَجْرِ) ولم يشكل عليه ولا على غيره قوله (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ ...) الآية (البقرة : ١٨٦) وغيرها من آيات الصفات.
وأيضا فإن آيات
الأحكام مجملة عرف بيانها بالسنة كقوله تعالى : (فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ
أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) (البقرة : ١٩٦)
فهذا مجمل في قدر الصيام والإطعام ، فبينته السنة بأنه صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام
ستة مساكين ، أو ذبح شاة . ونظائره كثيرة كآية السرقة وآية الصلاة والزكاة والحج.
وليس في آيات الصفات وأحاديثها مجمل يحتاج إلى بيان من خارج ، بل بيانها فيها وإن
جاءت السنة بزيادة في البيان والتفصيل.
__________________
فصل
في تعجيز المتأولين عن تحقيق الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات
الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ
لا ريب أن الله
وصف نفسه بصفات ، وسمى نفسه بأسماء ، أخبر عن نفسه بأفعال ، وأخبر أنه يحب ويكره ،
ويمقت ويرضى ، ويغضب ، ويسخط ، ويجيء ويأتى ، وينزل إلى السماء الدنيا ، وأنه
استوى على عرشه ، وأن له علما ، وحياة ، وقدرة ، وإرادة ، وسمعا ، وبصرا ، ووجها ،
وأن له يدين ، وأنه فوق عباده ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل بالأمر من عنده ،
وأنه قريب ، وأنه مع المحسنين ، ومع الصابرين ، ومع المتقين ، وأن السموات مطويات
بيمينه. ووصفه رسوله بأنه يفرح ويضحك ، وأن قلوب العباد بين أصابعه وغير ذلك.
فيقال للمتأول :
تتأول هذا كله على خلاف ظاهره ، أم تفسر الجميع على ظاهره وحقيقته ، أم تفرق بين
بعض ذلك وبعضه؟ فإن تأولت الجميع وحملته على خلاف حقيقته كان ذلك عنادا ظاهرا
وكفرا صراحا ، وجحدا لربوبيته. وهذا مذهب الدهرية الذين لا يثبتون للعالم صانعا (فإن
قلت) أثبت للعالم صانعا ولكن لا أصفه بصفة تقع على خلقه. وحيث وصف بما يقع على
المخلوق تأولته (قيل له) فهذه الأسماء الحسنى والصفات التي وصف بها نفسه ، هل تدل
على معانى ثابتة هي حق في نفسها أو لا تدل؟ فإن نفيت دلالتها على معنى ثابت كان
ذلك غاية التعطيل. وإن أثبت دلالتها على معنى هي حق في نفسها ثابت ، قيل لك : فما
الذي سوغ لك تأويل بعضها دون بعض؟ وما الفرق بين ما أثبتها ونفيتها من جهة السمع
أو العقل ، ودلالة النصوص على أن له سمعا وبصرا وعلما وقدرة وإرادة وحياة وكلاما
كدلالتها على أن له محبة ورحمة وغضبا ورضا وفرحا وضحكا ووجها ويدين. فدلالة النصوص
على ذلك سواء ، فلم نفيت حقيقة رحمته ومحبته ورضاه وغضبه وفرحه وضحكه ، وأوّلتها
نفس الإرادة؟.
فإن قلت : إن
إثبات الإرادة والمشيئة لا يستلزم تشبيها وتجسيما ، وإثبات حقائق هذه الصفات
يستلزم الشبيه والتجسيم ، فإنها لا تعقل إلا في الأجسام ، فإن الرحمة رقة تعتري
طبيعة الحيوان ، والمحبة ميل النفس لجلب ما ينفعها ، والغضب غليان دم القلب لورود
ما يرد عليه.
قيل لك : وكذلك
الإرادة هي ميل النفس إلى جلب له ينفعها ودفع ما يضرها ، وكذلك جميع ما أثبته من
الصفات إنما هي أعراض قائمة بالأجسام في الشاهد. فإن العلم انطباع صورة المعلوم في
نفس العالم ، أو صفة عرضية قائمة به. وكذلك السمع والبصر والحياة أعراض قائمة
بالموصوف. فكيف لزم التشبيه والتجسيم من إثبات تلك الصفات ولم يلزم من إثبات هذه؟
فإن قلت : أنا
أثبتها على وجه لا يماثل صفاتنا ولا يشبهها.
قيل لك : فهلا
أثبت الجميع على وجه لا يماثل صفات المخلوقين؟
فإن قلت : هذا لا
يعقل. قيل لك فكيف عقلت سمعا وبصرا وحياة وإرادة ومشيئة ليست من جنس صفات
المخلوقين؟ فإن قلت : أنا أفرق بين ما يتأول وما لا يتأول بأن ما دل العقل على
ثبوته يمتنع تأويله كالعلم والحياة والقدرة والسمع والبصر ، وما لا يدل عليه العقل
يجب أو يسوغ تأويله كاليد والوجه والضحك والفرح والغضب والرضى ، فإن الفعل المحكم
دل على الإرادة فيمتنع مخالفة ما دل عليه صريح العقل.
قيل لك : وكذلك
الإنعام والإحسان وكشف الضر وتفريج الكربات دل على الرحمة كدلالة التخصيص على
الإرادة سواء. والتخصيص بالكرامة والاصطفاء والاختيار دل على المحبة كدلالة ما
ذكرت على الإرادة ، والإهانة والطرد والإبعاد والحرمان دال على المقت والبغض
كدلالة ضده على الرضى والحب. والعقوبة والبطش والانتقام دال على الغضب كدلالة ضده
على الرضى.
(ونقول ثانيا) هب
أن العقل لا يدل على إثبات هذه الصفات التي نفيتها فإنه
لا ينفيها ،
والسمع دليل مستقل بنفسه ، بل الطمأنينة إليه في هذا الباب أعظم من الطمأنينة إلى
مجرد العقل ، فما الذي يسوغ لك نفي مدلوله؟
(ويقال ثالثا) إن
كان ظاهر النصوص يقتضي تشبيها وتجسيما فهو يقتضيه في الجميع ، فأول الجميع ، وإن
كان لا يقتضي ذلك لم يجز تأويل شيء منه ، وإن زعمت أن بعضها يقتضيه وبعضها لا
يقتضيه طولبت بالفرق بين الأمرين.
ولما تفطن بعضهم
لتعذر الفرق قال : ما دل عليه الإجماع كصفات السمع لا يتأول وما لم يدل عليه
الإجماع فإنه يتأول. وهذا كما تراه من أفسد الفروق ، فإن مضمونه أن الإجماع أثبت
ما يدل عليه رأي التجسيم والتشبيه ، وهذا قدح في الإجماع ، فإنه لا ينعقد على
باطل.
(ثم يقال) إن كان
الإجماع دل على هذه الصفات وظاهرها يقتضي التشبيه والتجسيم بطل نفيكم لذلك ، وإن
لم ينعقد عليه بطل التفريق به.
(ثم يقال) خصومكم
من المعتزلة لم تجمع على ثبوت هذه الصفات ، فإن قلتم : انعقد الإجماع قبلهم قيل :
صدقتم والله ، والذين أجمعوا قبلهم على إثبات هذه الصفات أجمعوا على إثبات سائر
الصفات ولم يخصوها بسبع ، بل تخصيصها بالسبع خلاف قول السلف ، وقول الجهمية
والمعتزلة. فالناس كانوا طائفتين : سلفية وجهمية ، فحدثت الطائفة السبعية واشتقت قولا بين قولين فلا للسلف
اتبعوا ولا مع الجهمية بقوا.
__________________
وقالت طائفة أخرى
: ما لم يكن ظاهره جوارح وأبعاضا ، كالعلم والحياة والقدرة والإرادة والكلام ، ولا
يتأول ، وما كان ظاهره جوارح وأبعاضا كالوجه واليدين والقدم فإنه يتعين تأويله
لاستلزام إثباته التركيب والتجسيم.
قال المثبتون :
جوابنا لكم هو عين الذي تجيبون به خصومكم من الجهمية والمعتزلة نفاة الصفات ، فهم
قالوا لكم : لو قام به سبحانه صفة وجودية كالسمع والبصر والعلم والقدرة الحياة
لكان محلا للأعراض ، ولزم التركيب والتجسيم والانقسام ، كما قلتم : لو كان له وجه
ويد وإصبع لزم التركيب والانقسام وحينئذ فما هو جوابكم لهؤلاء نجيبكم به.
فإن قلتم : نحن
نثبت هذه الصفات على وجه لا تكون أعراضا ولا نسميها أعراضا فلا يستلزم تركيبا ولا
تجسيما.
قيل لكم : ونحن
نثبت الصفات التى أثبتها الله لنفسه ونفيتموها أنتم عنه على وجه لا يستلزم الأبعاض
والجوارح ، ولا يسمى المتصف بها مركبا ولا جسما ولا منقسما.
فإن قلتم : هذه لا
يعقل منها إلا الأجزاء والأبعاض. قلنا لكم : وتلك لا يعقل منها إلا الأعراض.
فإن قلتم : العرض
لا يبقى زمانين ، وصفات الرب تعالى باقية دائمة أبدية فليست أعراضا. قلنا : وكذلك
الأبعاض هى ما جاز مفارقتها وانفصالها وذلك
__________________
في حق الرب تعالى
محال فليست أبعاضا ولا جوارح ، فمفارقة الصفات الإلهية للموصوف بها مستحيل مطلقا
في نوعين ، والمخلوق يجوز أن تفارقه أبعاضه وأعراضه.
فإن قلتم : إن كان
الوجه عين اليد وعين الساق والأصبع فهو محال ، وإن كان غيره يلزم التميز ويلزم
التركيب قلنا لكم : وإن كان السمع هو عين البصر وهما نفس العلم وهى نفس الحياة
والقدرة فهو محال وإن تميز لزم التركيب. فما هو جوابكم فالجواب مشترك.
فإن قلتم : نحن
نعقل صفات ليست أعراضا تقوم بغير جسم وإن لم يكن له في الشاهد نظير. ونحن لا ننكر
الفرق بين النوعين في الجملة ، ولكن فرق غير نافع لكم في التفريق بين النوعين وإن
أحدهما يستلزم التجسيم والتركيب والآخر لا يستلزمه.
ولما أخذ هذا
الإلزام بخناق الجهمية قالوا : الباب كله عندنا واحد ونحن ننفي الجميع.
فتبين أنه لا بد
لكم من واحد من أمرين : إما هذا النفي والتعطيل ، وإما أن تصفوا الله بما وصف به
نفسه وبما وصفه به رسوله ، وتتبعوا في ذلك سبيل السلف الذين هم أعلم الأمة بهذا
الشأن نفيا وإثباتا ، وأشد تعظيما لله وتنزيها له عما لا يليق بجلاله ، فإن
المعاني المفهومة من الكتاب والسنة لا ترد بالشبهات فيكون ردها من باب تحريف الكلم
عن مواضعه ، ولا يترك تدبرها ومعرفتها فيكون ذلك مشابهة للذين لا يعلمون الكتاب
إلا أمانى ، بل هي آيات بينات دالة على أشرف المعاني وأجلها ، قائمة حقائقها في
صدور الذين أوتوا العلم والإيمان إثباتا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل ؛ كما قامت
حقائق سائر صفات الكمال في قلوبهم كذلك. فكان الباب عندهم بابا واحدا ، وعلموا أن
الصفات حكمها حكم الذات ، فكما ذاته لا تشبه الذوات ، فكذا صفاته لا تشبه الصفات.
قال الإمام أحمد :
التشبيه أن تقول يد كيد أو وجه كوجه ، فأما إثبات يد ليست كالأيدى ووجه ليس
كالوجوه فهو إثبات ذات ليست كالذوات وحياة ليست
كغيرها من الحياة
وسمع وبصر ليسا كالأسماع والأبصار ، وليس إلا هذا المسلك ، ومسلك التعطيل المحض
والتناقض الذي لا يثبت لصاحبه قدم في النفي ولا في الإثبات وبالله التوفيق ،
وحقيقة الأمر أن كل طائفة تتأول كل ما يخالف نحلتها وأصلها ، فالعيار عندهم فيما
يتأول وما لا يتأول هو المذهب الذي ذهبت إليه ، ما وافقها أقروه ولم يتأولوه وما
خالفها تأولوه.
* * *
فصل
في إلزامهم في المعنى الذي جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه
وهو فصل بديع يعلم
منه أن المتأولين لم يستفيدوا بتأويلهم إلا بتعطيل حقائق النصوص ، وأنهم لم
يتخلصوا مما ظنوه محذورا بل هو لازم لهم فيما فروا إليه كلزومه فيما فروا منه ، بل
قد ينفون ما هو أعظم محذورا كحال الذين تأولوا نصوص العلو والفوقية والاستواء
فرارا من التحيز والحصر. ثم قالوا : هو في كل مكان بذاته. فنزهوه عن استوائه على
عرشه ومباينته لخلقه وجعلوه في أجواف البيوت والآبار والأواني والأماكن التي يرغب
عن ذكرها.
ولما علم متأخرو
الجهمية فساد ذلك قالوا : ليس وراء العالم ولا فوق العرش إلا العدم المحض ، وليس
هناك رب يعبد ولا إله يصلّى له ويسجد ، ولا هو أيضا في العالم. فجعلوا نسبته إلى العرش
كنسبته إلى أخس مكان.
فإذا تأول المتأول
المحبة والرحمة والرضى والغضب بالإرادة ، وقيل له : يلزمك في الإرادة ما لزمك في
هذه الصفات كما تقدم تقريره. وإذا تأول الوجه بالذات لزمه في الذات ما يلزمه في
الوجه ، فإن لفظ الذات يقع على القديم والمحدث. وإذا تأول لفظ اليد بالقدرة ، يوصف
بها الخالق والمخلوق ، وإذا تأول السمع والبصر بالعلم : لزمه ما فر منه في العلم.
وإذا تأول الفوقية بفوقية القهر ، لزمه فيها ما فر منه من فوقية الذات. فإن القاهر
من اتصف بالقوة
والغلبة ، ولا
يعقل هذا إلا جسما ، فإن أثبته العقل غير جسم لم يعجز عن إثبات فوقية الذات لغير
جسم. وكذلك من تأول الأصبع بالقدرة فإن القدرة أيضا صفة قائمة بالموصوف عرض من
أعراضه ، ففر من صفة إلى صفة. وكذلك من تأول الضحك بالرضى بالإرادة ، إنما فر من
صفة إلى صفة ، فهلا أقر النصوص على ما هى عليه ولم ينتهك حرمتها؟ فإن المتأول إما
أن يذكر معنى ثبوتيا أو يتأول اللفظ بما هو عدم محض ، فإن تأوله بمعنى ثبوتى كائن
لزمه فيه نظير ما فر منه (والله أعلم).
* * *
فصل
(هل لله يد واحدة أم أياد وعين واحدة أم أعين ..)
قال الجهمي : ورد
في القرآن ذكر الوجه والأعين والعين الواحدة. فلو أخذنا بالظاهر لزمنا إثبات شخص
له وجه ؛ وعلى ذلك الوجه أعين كثيرة وله جنب واحد ، وعليه أيد كثيرة ، وله ساق
واحد ولا نرى في الدنيا شخصا أقبح من هذه الصورة المتخيلة.
قال السني المعظم
حرمات الله تعالى : قد ادعيت أيها الجهمي أن ظاهر القرآن الذي هو حجة الله على
عباده ، والذي هو خير الكلام وأصدقه وأحسنه وأفصحه وهو الذي هدى الله به عباده
وجعله شفاء لما في الصدور ، وهدى ورحمة للمؤمنين ، ولم ينزل كتابا من السماء أهدى
منه ولا أحسن ولا أكمل. فانتهكت حرمته وعظمته ونسبته إلى أقبح النقص والعيب ،
وادعيت أن ظاهره ومدلوله إثبات شخص له وجه وله أعين كثيرة ، وله ساق واحد ، وادعيت
أن ظاهر ما وصف الله به نفسه في كتابه يدل على هذه الصفة الشنيعة ، فيكون سبحانه
قد وصف نفسه بأقبح الصفات في ظاهر كلامه. فأي طعن في القرائن أعظم من طعن من يجعل
هذا ظاهره؟ ولم يدّع أحد من أعداء الرسول الذين ظاهروه بالمحاربة أن ظاهر كلامه
أبطل الباطل ، فلو كان ذلك ظاهر القرآن لكان
ذلك من أقرب الطرق
لهم إلى الطعن فيه. وقالوا : كيف تدعونا إلى عبادة رب صورته هذه الصورة الشنيعة؟
وهم يوردون عليه ما هو أقل من هذا بكثير. كما أوردوا عليه المسيح لما قال : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) ؛ فتعلقوا بظاهر ما لم يدل عليه ما أورده ، وهو دخول
المسيح فيما عبد من دون الله إما بعموم لفظ (ما) وإما بعموم المعنى. وأورد أهل
الكتاب على قوله : (يا أُخْتَ هارُونَ ما
كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ) (سورة مريم : ٢٨)
أن بين هارون وعيسى ما بينهما وليس ظاهر القرآن أنه هارون بن عمران بوجه ، وكانوا
يتعنتون فيما يوردونه على القرآن بهذا ودونه. فكيف يجدون ظاهره إثبات رب شأنه هذا
ولا ينكرونه؟
والجواب أن قوله
تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) [سورة القمر]
ودعوى الجهمي أن ظاهر هذه إثبات أعين كثيرة كذب ظاهر. فإنه إن دل ظاهره على أعين
كثيرة وأيد كثيرة ، دل على خلقين كثيرين ، فإن لفظ الأيدي مضاف إلى ضمير الجمع ،
فادّع أيها الجهمي أن ظاهره إثبات أيد كثيرة لآلهة متعددة ، وإلا فدعواك أن ظاهره
أيد كثيرة لذات واحدة خلاف الظاهر ، وكذلك قوله تعالى : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (سورة القمر : ١٤)
إنما ظاهره بزعمك أعين كثيرة على ذوات متعددة لا على ذات واحدة.
(الثاني)
أن دعواك أن ظاهر
القرآن إثبات أيد كثيرة في جنب واحد كذب آخر. فأين في ظاهر القرآن أن الأيدي في
الجنب؟ وكذلك إنما أخذت هذا من القياس على بني آدم فشبهت أولا ، وعطلت ثانيا ،
وكذلك جعلك الأعين الكثيرة في الوجه الواحد ليس في ظاهر القرآن ما يدل على هذا ،
وإنما أخذته من التشبيه بالآدمي. ولهذا قال بعض أهل العلم : إن كل معطل مشبه ، ولا
يستقيم لك التعطيل إلا بعد التشبيه.
(الثالث)
أين في القرآن إثبات
ساق واحدة لله تعالى وجنب واحد؟ فإنه سبحانه وتعالى قال : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) (القلم : ٤٢) وقال
: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ
يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦) فعلى
تقدير أن يكون الساق والجنب من الصفات فليس في ظاهر القرآن ما يوجب ألا يكون له
إلا جنب واحد وساق واحد. ولو دل على ما ذكرت لم يدل على نفي ما زاد على ذلك لا
بمنطوقه ولا بمفهومه ، حتى القائلين بمفهوم اللقب لا يدل ذلك
عندهم على نفي ما
عدا المذكور ، لأنه متى كان للتخصيص بالذكر سبب غير الاختصاص بالحكم لم يكن
المفهوم مرادا بالاتفاق ، وليس المراد بالآيتين إثبات الصفة حتى يكون تخصيص أحد
الأمرين بالذكر مرادا ، بل المقصود حكم آخر وهو إثبات تفريط العبد في حق الله
تعالى ، وبيان سجود الخلائق إذا كشف عن ساق. وهذا حكم قد يختص بالمذكور دون غيره
فلا يكون له مفهوم.
(الرابع)
هب أنه سبحانه
أخبر أنه يكشف عن ساق واحدة هى صفة ، فمن أين في ظاهر القرآن أنه ليس له سبحانه
إلا تلك الصفة الواحدة ، وأنت لو سمعت قائلا يقول : كشفت عنى عيني وأبديت عن ركبتي
وعن ساقي ، هل يفهم منه أنه ليس له إلا ذلك الواحد فقط ، فلو قال لك أحد لم يكن
هذا ظاهر كلامه فكيف يكون ظاهر أفصح الكلام وأبينه ذلك.
(الخامس)
إن المفرد المضاف
يراد به أكثر من واحد ، كقوله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوها) [سورة إبراهيم :
٣٤] وقوله : (وَصَدَّقَتْ
بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ) (سورة التحريم :
١٢) وقوله (أُحِلَّ لَكُمْ
لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ) (سورة البقرة : ١)
فلو كان الجنب والساق صفة لكان بمنزلة قوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (سورة الملك : ١) و
(بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦) و
(وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) (سورة طه : ٣٩).
(السادس)
أن يقال : من أين
في ظاهر القرآن إثبات جنب واحد هو صفة لله؟ ومن المعلوم أن هذا لا يثبته أحد من
بنى آدم ، وأعظم الناس إثباتا للصفات هم أهل السنة والحديث ، لا يثبتون أن الله
تعالى جنبا واحدا ، ولا ساقا واحدا.
قال عثمان بن سعيد
الدارمي في نقضه على المريسي :
__________________
وادعاء المعارض
زورا على قوم أنهم يقولون في تفسير قوله تعالى : (يا حَسْرَتى عَلى ما
فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) (سورة الزمر : ٥٦)
أنهم يعنون بذلك الجنب الذي هو العضو ، وليس ذلك على ما يتوهمونه. قال الدارمي :
فيقال لهذا المعارض : ما أرخص الكذب عندك وأخفه على لسانك فإن كنت صادقا في دعواك
فأشر بها إلى أحد من بنى آدم. قال : وإلا فلم تشنع بالكذب على قوم هم أعلم بهذا
التفسير منك ، إنما تفسيرها عندهم : تحسر الكفار على ما فرطوا في الإيمان والفضائل
التي تدعو إلى ذات الله واختاروا عليها الكفر والسخرية. فمن أنبأك أنهم قالوا :
جنب من الجنوب؟ فإنه لا يجهل هذا المعنى كثير من عوام المسلمين فضلا عن علمائهم.
وقد قال أبو بكر الصديق رضى الله عنه : «الكذب مجانب للإيمان» وقال ابن مسعود رضي الله عنه «لا يجوز الكذب جدا ولا هزلا»
وقال الشعبي «من كان كذابا فهو منافق» . والتفريط فعل أو ترك فعل ، وهذا لا يكون قائما بذات الله
لا بجنب ولا غيره ، بل لا يكون منفصلا عن الله تعالى ، وهو معلوم بالحس والمشاهدة.
__________________
(السابع)
هب أن القرآن دل
على إثبات جنب هو صفة ، فمن أين لك ظاهره أو باطنه على أنه جنب واحد وشق واحد؟
ومعلوم أن إطلاق مثل هذا لا يدل على أنه شق واحد ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم لعمران بن حصين : «صل قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم
تستطع فعلى جنب» وهذا لا يدل على أنه ليس للمرء إلا جنب واحد.
فإن قيل : المراد
على جنب من جنبيك. قلنا فقد علم أن ذكر الجنب مفردا لا يدل على نفى أن يكون له جنب
آخر. ونظير هذا القدم إذا ذكر مفردا لا يدل على نفي قدم آخر ، كما في الحديث
الصحيح : «حتى يضع رب العزة عليها قدمه» .
(الثامن)
من أين في ظاهر
القرآن أن لله ساقا وليس معك إلا قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ
ساقٍ) (القلم : ٤٢)
والصحابة متنازعون في تفسير الآية على المراد بها : إن الرب تعالى يكشف عن ساقه ،
ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا
الموضع؟ وليس في ظاهر القرآن ما يدل على أن ذلك صفة لله تعالى ، لأنه سبحانه لم
يضف الساق إليه وإنما ذكره مجردا عن الإضافة منكرا ، والذين أثبتوا ذلك صفة
كاليدين لم يأخذوا ذلك من ظاهر القرآن ، إنما أثبتوه بحديث أبي سعيد الخدري المتفق
على صحته ، وهو حديث الشفاعة الطويل. وفيه «فيكشف الرب عن ساقه» الحديث ومن حمل الآية على ذلك قال قوله تعالى : (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ) :
__________________
مطابقا لقوله صلىاللهعليهوسلم «يكشف عن ساقه» وتنكيره للتعظيم والتفخيم كأنه قال يكشف عن ساق عظيمة.
قالوا : وحمل
الآية على الشدة لا يصح بوجه ، فإن لغة القوم أن يقال : كشفت الشدة عن القوم لا
كشفت عنها ، كقوله تعالى : (فَلَمَّا كَشَفْنا
عَنْهُمُ الْعَذابَ) (الزخرف : ٥٠)
فالعذاب هو المكشوف لا المكشوف عنه وأيضا فهناك تحدث شدة لا تزول إلا بدخول الجنة
وهنا لا يدعون إلى السجود ، وإنما يدعون إليه أشد ما كانت الشدة.
(التاسع)
أن يقال : ذكر
العين المفردة مضافة إلى الضمير المفرد والأعين مجموعة مضافة إلى ضمير الجمع. وذكر
العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا كقولك : أفعل هذا على عينى. وأحبك
على عيني ؛ ولا يريد أن له عينا واحدة. وإنما إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرا
ومضمرا فالأحسن جمعها مشاكلة للفظ ، كقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤)
وقوله : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ
بِأَعْيُنِنا) (هود : ٣٧) وهذا
نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك : ١) و (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦)
وإن أضيفت إلى ضمير جمع جمعت ، كقوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) وكذلك
إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر كقوله : (بِما كَسَبَتْ
أَيْدِي النَّاسِ) (الروم : ٤١)
وقوله : (فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ
النَّاسِ) (الأنبياء : ٦١).
وقد نطق الكتاب
والسنة بذكر اليد مضافة إليه بلفظ مفردة ، مجموعة ومثناة ، وبلفظ العين مضافة إليه
مفردة ومجموعة. ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة ، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوسلم «إن العبد إذا قام في
الصلاة قام بين عيني الرحمن. فإذا التفت قال له ربه : إلى من تلتفت ، إلى خير لك
منى» وقول
__________________
النبي صلىاللهعليهوسلم «إن ربكم ليس بأعور» صريح بأنه ليس المراد إثبات عين واحدة فإن ذلك عور ظاهر
تعالى الله عنه ، وهل يفهم من قول الداعى «اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام» أنها
عين واحدة ليس إلا ـ إلا ذهن أقلف وقلب أغلف.
قال ابن تميم :
حدثنا عبد الجبار بن كثير قال : قيل لإبراهيم بن أدهم : هذا السبع ؛ فنادى : يا
قسورة ، إن كنت أمرت فينا بشيء ، وإلا بعيني فاذهب ، فضرب بذنبه ، وولى مدبرا ،
فنظر إبراهيم إلى أصحابه وقال : قولوا اللهم احرسنا بعينك التي لا تنام. واكنفنا
بكنفك الّذي لا يرام ، وارحمنا بقدرتك علينا ، لا نهلك وأنت الرجاء. وقال عثمان
الدارمي : الأعور ضد البصير بالعينين.
وقد استدل السلف
على إثبات العينين له تعالى بقوله : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (القمر : ١٤) وممن
صرح بذلك إثباتا واستدلالا أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها فقال في كتاب «المقالات»
و «الإبانة» و «الموجز» وهذا لفظه فيها :
وأن له عينين بلا
كيف كما قال : (تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) فهذا الأشعرى وغيره لم يفهموا من الأعين أعينا كثيرة ، ولا
من الأيدي أيادي كثيرة على شق واحد.
ولما رد أهل السنة
تأويل الجاهلين لم يقدر الجهمية على أخذ الثأر منهم إلا بأن سموهم مشبهة ، ممثلة ،
مجسمة ، حشوية ، ولو كان لهؤلاء عقول لعلموا أن التلقيب بهذه الألقاب ليس لهم ،
وإنما هو لمن جاء بهذه النصوص وتكلم بها ، ودعا الأمة إلى الإيمان بها ، ونهاهم عن
تحريفها وتبديلها ، ولو كان خصومكم كما زعمتم وحاشاهم مشبهة ممثلة مجسمة لكانوا
أقل تنقصا لرب العالمين منكم وكتابه وأسمائه وصفاته بكثير ، لو كان قولهم يقتضي
التنقيص فكيف وهو لا يقتضيه لو صرحوا به؟ فإنهم يقولون : نحن أثبتنا لله غاية
الكمال ونعوت الجلال ؛ ووصفناه بكل صفة كمال ، فإن لزم من هذا تجسيم وتشبيه لم يكن
هذا
__________________
نقصا ولا عيبا
بوجه من الوجوه فإن لازم الحق حق ، وما لزم من إثبات كمال الرب ليس بنقص.
وأما أنتم فنفيتم
عنه صفات الكمال. ولا ريب أن لازم هذا النفي وصفه بأضدادها من العيوب والنقائص.
فما سوى الله ولا رسوله ولا عقلاء عباده بين من نفى كماله المقدس حذرا من التجسيم
، وبين من أثبت كماله الأعظم وصفاته العلى بلوازم ذلك ، كائنة ما كانت.
فلو فرضنا في هذه
الأمة من يقول : له سمع كسمع المخلوق وبصر كبصره ويد كيده ، لكان أدنى إلى الحق
ممن يقول لا سمع ولا بصر ولا يد ولو فرضنا قائلا يقول : إنه متحيز على عرشه ، تحيط
به الحدود والجهات ، لكن أقرب إلى الصواب من قول من يقول : ليس فوق العرش إله يعبد
، ولا ترفع إليه الأيدى ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا هو فوق خلقه ، ولا محايثهم ،
ولا مباينهم. فإن هذا معطل مكذب لله ، راد على الله ورسوله ، وذلك المشبه غالط
مخطئ في فهمه. فالمشبه على زعمكم الكاذب لم يشبهه تنقيصا له وجحدا لكماله ، بل ظنا
أن إثبات الكمال لا يمكن إلا بذلك ، فقابلتموه بتعطيل كماله ، وذلك غاية التنقيص.
(العاشر)
أن لغة العرب
متنوعة في إفراد المضاف وتثنيته وجمعه بحسب أحوال المضاف إليه ، فإن أضافوا الواحد
المتصل إلى مفرد أفردوه ، وإن أضافوا إلى اسم جمع ظاهرا أو مضمرا جمعوه. وإن
أضافوا إلى اسم مثنى فالأفصح في لغتهم جمعه كقوله : (فَقَدْ صَغَتْ
قُلُوبُكُما) (التحريم : ٢٤)
وإنما هما قلبان. وكقوله : (وَالسَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨)
وتقول العرب : اضرب أعناقها ، وهذا أفصح استعمالهم ، وتارة يفردون المضاف فيقولون
: لسانهما وقلبهما ، وتارة يثنون كقوله صلىاللهعليهوسلم «ظهراهما مثل ظهور
الترسين» القرآن إنما نزل بلغة العرب لا بلغة العجم والطماطم
والأنباط الذين أفسدوا الدين وتلاعبوا بالنصوص فجعلوها عرضة لتأويل
الجاهلين.
__________________
وإذا كان من لغتهم
وضع الجمع موضع التثنية لئلا يجمعوا في لفظ واحد بين تثنيتين ، فلأن يوضع الجمع
موضع التثنية فيما إذا كان المضاف إليه تثنية أولى بالجواز. يدل عليه أنك لا تكاد
تجد في كلامهم : عينان ويدان ونحو ذلك ، ولا يلتبس على السامع قول المتكلم : نراك
بأعيننا ونأخذك بأيدينا. ولا يفهم منه بشر على وجه الأرض عيونا كثيرة على وجه
واحد.
(الحادي
عشر) أن لفظ اليد جاء
في القرآن على ثلاثة أنواع : مفردا ، ومثنى ، ومجموعا.
فالمفرد كقوله : (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) [الملك : ١]
والمثنى كقوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) [ص : ٧٥] ،
والمجموع (عَمِلَتْ أَيْدِينا) [يس : ٧١] فحيث
ذكر اليد مثناة أضاف الفعل إلى نفسه بضمير الإفراد وعدى الفعل بالباء إليها فقال :
(خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وحيث ذكرها مجموعة أضاف العمل إليها ولم يعد الفعل بالباء.
فهذه ثلاثة فروق ؛ فلا يحتمل (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) من المجاز ما يحتمله (عَمِلَتْ أَيْدِينا) فإن كل أحد يفهم من قوله : (عَمِلَتْ أَيْدِينا) ما يفهمه من قوله : عملنا وخلقنا ، كما يفهم ذلك من قوله :
(فَبِما كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ) [الشورى : ٣٠]
وأما قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلو كان المراد منه مجرد الفعل لم يكن لذكر اليد بعد نسبة
الفعل إلى الفاعل معنى ، فكيف وقد دخلت عليها الباء؟ فكيف إذا ثنيت؟
وسر الفرق أن
الفعل قد يضاف إلى يد ذي اليد المراد الإضافة إليه كقوله : (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (الحج : ٧١) ، (فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) ، وأما إذا أضيف إليه الفعل ثم عدى بالباء إلى يده مفردة
أو مثناة فهو مما باشرته يده. ولهذا قال عبد الله بن عمرو «إن الله لم يخلق بيده
إلا ثلاثا : خلق آدم بيده ، وغرس جنة الفردوس بيده ، وكتب التوراة بيده» ، فلو
كانت اليد هي القدرة لم يكن لها اختصاص بذلك ؛ ولا كانت لآدم فضيلة بذلك على كل
شيء مما خلق بالقدر.
__________________
وقد أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم أن أهل الموقف يأتونه يوم القيامة فيقولون «يا آدم أنت أبو البشر
خلقك الله بيده» وكذلك قال آدم لموسى في محاجته له «اصطفاك الله بكلامه وخط لك الألواح بيده» وفي لفظ آخر «كتب لك التوراة بيده» وهو من أصح الأحاديث ، وكذلك الحديث المشهور «إن الملائكة قالوا :
يا رب خلقت بني آدم يأكلون ويشربون وينكحون ويركبون فاجعل لهم الدنيا ولنا الآخرة.
فقال الله تعالى : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له
كن فكان» وهذا التخصيص إنما فهم من قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) فلو كان مثل قوله : (مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا) لكان هو والأنعام في ذلك سواء.
فلما فهم المسلمون
أن قوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) يوجب له
تخصيصا وتفضيلا بكونه مخلوقا باليدين على من أمر أن يسجد له ، وفهم ذلك أهل الموقف
حين جعلوه من خصائصه ، كانت التسوية بينه وبين قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) خطأ
محضا كذلك قوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح : «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد
الأخرى» وقوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح «يمين الله ملأى
__________________
لا
يغيضها نفقة ؛ سحاء الليل أرأيتم ما أنفق منذ خلق الخلق؟ فإنه لم يغض ما في يمينه
وبيده الأخرى القسط يخفض ويرفع» وقال تعالى : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤)
وفي الحديث الذي رواه مسلم في «صحيحه» ، في أعلى أهل الجنة منزلة «أولئك الذين غرست
كرامهم بيدي وختمت عليها» .
وقال أنس بن مالك
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «خلق
الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده ؛ فقال لها : تكلمي ، فقالت قد أفلح المؤمنون» ، وقال عبد الله ابن الحارث قال رسول صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله خلق ثلاثة أشياء بيده : خلق آدم بيده ، وكتب التوراة بيده ، وغرس الفردوس
بيده ، ثم قال : وعزتي لا يدخلها مدمن خمر ولا ديوث» وفي «الصحيح» عنه صلىاللهعليهوسلم : تكون
الأرض يوم القيامة
__________________
خبزة
واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم خبزته في السفر نزلا لأهل الجنة .
وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول في استفتاح الصلاة «لبيك وسعديك والخير كله بيدك» ، وفي «الصحيح» أيضا عنه صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل» ، وقال عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الأيدي
ثلاثة : فيد الله العليا ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى» ، وفي «الصحيح» عنه صلىاللهعليهوسلم قال : «المقسطون
عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين» .
وفي «المسند»
وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «لما
خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال : الحمد لله ، فحمد الله بإذن الله ، فقال
له ربه : يرحمك ربك يا آدم. وقال له : اذهب إلى أولئك الملائكة ـ إلى نفر جلوس ـ
فقل : السلام عليكم ، فذهب فقالوا : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ثم رجع إلى
ربه ، فقال : هذه تحيتك وتحية بنيك بينهم. فقال الله تعالى : ويداه مقبوضتان :
__________________
اختر
أيهما شئت ، فقال : اخترت يمين ربي ، وكلتا يدي ربي يمين مباركة ، ثم بسطها فإذا
فيها آدم وذريته ...» الحديث ، وقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «خلق
الله آدم ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل
أهل الجنة يعملون ؛ ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للنار
وبعمل أهل النار يعملون» .
وقال هشام بن حكيم
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله أخذ ذرية بني آدم من ظهورهم وأشهدهم على أنفسهم ، ثم فاض بهم في كفيه ، ثم
قال : هؤلاء للجنة وهؤلاء للنار» وقال عبد الله بن عمرو : «لما خلق الله آدم نفضه نفض المزود فقبض
قبضتين ، فقال لما في اليمين : في الجنة ، وقال لما في الأخرى في النار» ،
__________________
وقال أبو موسى
الأشعري عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله خلق آدم من قبضة قبضها من
__________________
جميع
الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فمنهم الأحمر والأبيض والأسود ، وبين ذلك ،
والسهل والحزن والطيب والخبيث» .
وقال سلمان
الفارسي : «إن الله خمّر طينة آدم أربعين ليلة وأربعين يوما ثم ضرب بيديه فيها
فخرج كل طيب بيمينه وخرج كل خبيث بيده الأخرى».
وقال أبو هريرة :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ما
تصدق أحد بصدقة من طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، إلا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن
كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» متفق عليه .
وقال أنس : قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الله وعدني أن
يدخل من أمتى أربعمائة ألف» فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله قال : «وهكذا» وجمع
يديه. قال : زدنا يا رسول الله قال : «وهكذا» قال : زدنا يا رسول الله. فقال عمر :
حسبك ، فقال أبو بكر دعني يا عمر ، وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا؟ فقال عمر
: إن شاء الله أدخل خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «صدق
عمر» .
وقال نافع عن ابن
عمر : سألت ابن أبي مليكة عن يد الله واحدة أو اثنتان؟ فقال : لا ، بل اثنتان.
وقال ابن عباس رضي الله عنها : «ما السموات السبع والأرضون السبع وما فيهما في كف
الرحمن إلا كخردلة في كف أحدكم» ، وقال ابن عمر وابن عباس «أول شيء خلقه الله
القلم ، فأخذه بيمينه وكلتا يديه يمين فكتب الدنيا وما فيها من عامل ومعمول في بر
وبحر ورطب ويابس فأحصاه عنده».
__________________
وقال ابن عباس في
قوله تعالى : (وَالسَّماواتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (الزمر : ٦٧) «يقبض
الله عليهما فما يرى طرفها في يده» ، وقال ابن عمر رضي الله عنهما «رأيت رسول الله
صلىاللهعليهوسلم قائما على المنبر فقال : «إن الله تعالى إذ كان يوم
القيامة جمع السموات والأرض في قبضته ثم قال هكذا : ومد يده وبسطها ، ثم يقول :
أنا الله الرحمن ـ الحديث» ، قال وهب عن أسامة عن نافع عن ابن عمر : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قرأ على المنبر : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) ، وقال : «مطوية بيمينه يرمى بها كما يرمى الغلام بالكرة
وقال عبيد الله بن مقسم : نظرت إلى عبد الله بن عمر كيف صنع يحكي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قال «يأخذ
الله سماواته وأراضيه بيده ، فيقول : «أنا الله» ويقبض أصابعه ويبسطها «ويقول أنا
الرحمن أنا الملك» حتى أني أنظر إلى المنبر يتحرك من أسفل منه حتى أني أقول أساقط
هو برسول الله صلىاللهعليهوسلم ؟ وقال زيد بن أسلم : لما كتب الله التوراة بيده قال «بسم
الله ، هذا كتاب الله بيده لعبده موسى يسبحني ويقدسني ولا يحلف باسمي آثما ، فإني
لا أزكى من حلف باسمي آثما».
وإنما ذكرنا هذه
النصوص التي هي غيض من فيض ليعلم الواقف عليها أنها لا يفهم أحد من عقلاء بني آدم
منها شخصا له شق واحد وعليه أيد كثيرة ، وله ساق واحدة ، وله أعين كثيرة.
* * *
__________________
فصل
(في الوظائف الواجبة على المتأول)
لما كان الأصل في
اللفظ هو الحقيقة والظاهر : كان العدول به عن حقيقته مخرجا له عن الأصل ، فاحتاج
مدعى ذلك إلى دليل يسوغ له إخراجه عن أصله ، فعليه أربعة أمور لا تتم دعواه إلا
بها :
(الأمر الأول)
بيان احتمال اللفظ للمعنى الذي تأوله في ذلك التركيب الذي وقع فيه ، وإلا كان
كاذبا على اللغة ، فإن اللفظ قد لا يحتمل ذلك المعنى لغة ، وإن احتمله فقد لا يحتمله
في ذلك التركيب الخاص. وكثير من المتأولين لا يبالي إذا تهيأ له حمل اللفظ على ذلك
المعنى بأي طريق أمكنه إلى مقصوده دفع الصائل ، فبأي طريق تهيأ له دفعه دفعه. فإن
النصوص قد صالت على قواعده الباطلة ، وليس لأحد أن يحمل كلام الله ورسوله على كل
ما ساغ في اللغة والاصطلاح لبعض الشعراء أو الخطباء والكتّاب والعامة إلا إذا كان
ذلك غير مخالف لما علم من وصف الرب سبحانه وأسمائه ؛ وما تضافرت به صفاته لنفسه
وصفات رسوله ؛ وكانت إرادة ذلك المعنى بذلك اللفظ مما يجوز ويصلح لنسبتها إلى الله
تعالى ؛ لا سيما والمتأول يخبر عن مراد الله ورسوله ، فإن تأويل كلام المتكلم بما
يوافق ظاهره أو يخالفه إنما هو بيان لمراده.
فإذا علم المتكلم
لم يرد هذا المعنى ، وأنه يمتنع أن يريده ؛ وأن في صفات كماله ونعوت جلاله ما يمنع
من إرادته ، استحال الحكم عليه إرادته.
فهذا أصل عظيم يجب
معرفته ؛ ومن أحاط به فعرفه تبين له أن كثيرا مما يدعيه المحرفون للتأويلات مما
يعلم قطعا أن المتكلم لم يرده.
وإنما كان ذلك مما
يسوغ لبعض الشعراء أو الكتّاب القاصدين التعمية ، لغرض من الأغراض ، فلا بد أن
يكون المعنى الذي تأوله المتأول مما يسوغ استعمال اللفظ فيه في تلك اللغة التي وقع
بها التخاطب ، وأن يكون ذلك مما يجوز نسبته
إلى الله تعالى ،
وألا يعود على شيء من صفات كماله بالإبطال والتعطيل ، وأن يكون معه قرائن تحتف به
تبين أنه مراد باللفظ ، وإلا كانت دعوى إرادته كذبا على المتكلم ، ونحن نذكر لك
أمثلة :
* * *
[أمثلة ما اختلفوا فيه في التأويل]
(المثال الأول : في الاستواء)
(تأويل الاستواء : بالإقبال)
المثال
الأول : تأول قوله تعالى :
(خَلَقَ السَّماواتِ
وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الفرقان : ٥٩)
بأنه أقبل على خلقه ، فهذا إنشاء منهم لوضع لفظ (اسْتَوى) على (أقبل) وهذا لم يقله أحد من أهل اللغة ؛ فإنهم ذكروا
معاني (اسْتَوى) ، ولم يذكر أحد منهم في معانيه الإقبال على الخلق. فهذه
كتب اللغة طبقت الأرض لا تجد أحدا منهم يحكى ذلك عن اللغة. وأيضا فإن استواء الشيء
والاستواء إليه والاستواء عليه يستلزم وجوده ووجود ما نسب إليه الاستواء بإلى أو
بعلى ، فلا يقال : استوى إلى أمر معدوم ولا استوى عليه. فهذا التأويل إنشاء محض لا
إخبار صادق عن استعمال أهل اللغة.
* * *
(تأويل الاستواء : بالاستيلاء)
وكذلك تأويلهم
الاستواء بالاستيلاء ؛ فإن هذا لا تعرفه العرب من لغتها ؛ ولم يقله أحد من أئمة
اللغة. وقد صرح أئمة اللغة كابن الأعرابي وغيره بأنه لا يعرف في اللغة. ولو احتمل
ذلك لم يحتمله هذا التركيب ، فإن استيلاءه سبحانه وغلبته للعرش لم يتأخر عن خلق
السموات والأرض ، فالعرش مخلوق قبل خلقهما بأكثر من خمسين ألف سنة ، كما أخبر بذلك
الصادق المصدوق صلىاللهعليهوسلم فيما صح عنه. وبطلان هذا التأويل من أربعين وجها سنذكرها
إن شاء الله في موضعها من هذا الكتاب .
__________________
فعلى المتأول أن
يبين احتمال اللفظ للمعنى الذي ذكره أولا ويبين تعيين ذلك المعنى ثانيا فإنه إذا
خرجت عن حقيقته قد يكون له عدة معانى ، فتعيين ذلك المعنى يحتاج إلى دليل.
الثاني
: إقامة الدليل
الصارف للفظ عن حقيقته وظاهره. فإن دليل المدعى للحقيقة والظاهر قائم ، فلا يجوز
العدول عنه إلا بدليل صارف يكون أقوى منه.
__________________
الثالث
: الجواب عن المعارض
، فإن مدعى الحقيقة قد قام الدليل العقلي والسمعى عنده على إرادة الحقيقة : أما
السمعى فلا يمكنك المكابرة أنه معه. وأما العقلي فمن وجهين : عام ، وخاص ، فالعام
الدليل الدال على كمال علم المتكلم ، وكمال بيانه ، وكمال نصحه. والدليل العقلي
على ذلك أقوى من الشبه الخيالية التي يستدل بها النفاة بكثير. فإن جاز مخالفة هذا
الدليل القاطع فمخالفة تلك الشبه الخيالية أولى بالجواز ، وإن لم يجز مخالفة تلك
الشبه فامتناع مخالفة الدليل القاطع أولى ، وأما الخاص فكل صفة وصف الله تعالى بها
نفسه ووصفه بها رسوله صلىاللهعليهوسلم فهى صفة كمال قطعا. فلا يجوز تعطيل صفات كماله وتأويلها
بما يبطل حقائقها.
فالدليل العقلي
الذي دل على ثبوت الحياة والقدرة والعلم والإرادة والسمع والبصر ، دل نظيره على
ثبوت الحكمة والرضى والرحمة والغضب والفرح والضحك. والذي دل على أنه فاعل بمشيئته
واختياره دل على قيام أفعاله به. ذلك عين الكمال. وكل صفة دل عليها الكتاب والسنة
فهي صفة كمال. والعقل جازم بإثبات صفات الكمال لله تعالى ، ويمتنع أن يصف نفسه أو
يصفه رسوله بصفة توهم نقصا. وهذا دليل أيضا أقوي من كل شبهة للنفاة.
يوضحه : أن أدلة
مباينة الرب لخلقه وعلوه على جميع مخلوقاته أدلة عقلية فطرية توجب العلم الضروري
بمدلولها.
وأما السمعية
فتقارب ألف دليل. فعلى المتأول أن يجيب عن ذلك كله. وهيهات له بجواب صحيح عن بعض
ذلك. فنحن نطالبه بجواب صحيح عن دليل واحد وهو :
أن الرب تعالى إما
أن يكون له وجود خارج عن الذهن ثابت في الأعيان ، أو لا؟ فإن لم يكن له وجود خارجى
كان خيالا قائما بالذهن لا حقيقة له ؛ وهذا حقيقة قول المعطلة ؛ وإن تستروا بزخرف
من القول ، وإن كانت وجوده خارج الذهن فهو مباين له ، أو هو منفصل عنه ، إذا لو
كان قائما به لكان عرضا من أعراضه. وحينئذ فإما أن يكون هو هذا العالم ، أو غيره.
فإن كان هذا العالم ،
فهذا تصريح بقول
أصحاب وحدة الوجود ، وأنه ليس لهذا العالم إله مباين له ، منفصل عنه. وهذا أكفر
أقوال أهل الأرض. فإن كان غيره فإما أن يكون قائما بنفسه ، أو قائما بالعالم؟ فإن
كان قائما بالعالم ، فهو جزء من أجزائه أو صفة من صفاته. وليس هذا بقيوم السماوات
والأرض. وإن كان قائما بنفسه. وقد علم أن العالم قائم بنفسه فذاتان قائمتان
بأنفسهما ليست إحداهما داخلة في الأخرى ، ولا خارجة عنها ؛ ولا متصلة بها ، ولا
منفصلة عنها ، ولا محايثة ولا مباينة ، ولا فوقها ؛ ولا تحتها ؛ ولا خلفها ، ولا
أمامها ؛ ولا عن يمينها ، ولا عن شمالها ، كلام له خبىء لا يخفي على عاقل منصف.
والبديهة الضرورية حاكمة باستحالة هذا ؛ بل باستحالة تصوره فضلا عن التصديق به.
قالوا : فنحن
نطالبكم بجواب صحيح عن هذا الدليل الواحد من جملة ألف دليل ونعلم قبل المطالبة أن
كل الجهميين على وجه الأرض لو اجتمعوا لما أجابوا عنه بغير المكابرة والتشنيع على
أهل الإثبات بالتجسيم والسب ، هذه وظيفة كل مبطل قامت عليه حجة الله تعالى.
* * *
فصل
في بيان أن التأويل شر من التعطيل
فإنه يتضمن
التشبيه والتعطيل والتلاعب بالنصوص ، وإساءة الظن بها ، فإن المعطل والمؤول قد
اشتركا في نفي حقائق الأسماء والصفات ، وامتاز المؤول بتلاعبه بالنصوص وإساءة الظن
بها ونسبة قائلها إلى التكلم بما ظاهره الضلال والإضلال فجمعوا بين أربعة محاذير
اعتقادهم أن ظاهر كلام الله ورسوله محال باطل ؛ فعرفوا التشبيه أولا. ثم انتقلوا
منه إلى المحذور الثاني وهو التعطيل ، فعطلوا حقائقها بناء منهم على ذلك الفهم
الذي لا يليق بهم ولا يليق بالرب سبحانه ، المحذور الثالث : نسبة المتكلم الكامل
العلم ، الكامل البيان ، التام
النصح ، إلى ضد
البيان والهدى والإرشاد ، وأن المتحيرين المتهوكين أجادوا العبارة في هذا الباب ،
وعبروا بعبارة لا توهم من الباطل ما أوهمته عبارة المتكلم بتلك النصوص. ولا ريب عند
كل عاقل أن ذلك يتضمن أنهم كانوا أعلم منه أو أفصح أو أنصح للناس. المحذور الرابع
: تلاعبهم بالنصوص وانتهاك حرماتها ... فلو رأيتها وهم يلوكونها بأفواههم وقد حلت
بها المثلات ، وتلاعبت بها أمواج التأويلات ، ونادى عليها أهل التأويل في سوق من
يزيد ، فبذل كل واحد في ثمنها من التأويل ما يريد. فلو رأيتها وقد عزلت عن سلطنة
اليقين ، وجعلت تحت تحكم تأويل الجاهلين. وهذا وقد قعد النفاة على صراطها المستقيم
بالدفع في صدورها والأعجاز ؛ وقالوا لا طريق لك علينا ، وإن كان ولا بد فعلى سبيل
المجاز ، فنحن أهل المعقولات وأصحاب البراهين. وأنت أدلة لفظية ، وظواهر سمعية. لا
تفيد العلم ولا اليقين ؛ فسندك آحاد ؛ وهو عرضة للطعن في الناقلين. وإن صح وتواتر
ففهم مراد المتكلم منها موقوف على انتفاء عشرة أشياء لا سبيل إلى العلم بانتفائها
عند الناظرين والباحثين.
فلا إله إلا الله
والله أكبر!! كم هدمت هذه المعاول من معاقل الإيمان ، وتثلمت بها حصون حقائق السنة
والقرآن. فكشف عورات هؤلاء وبيان فضائحهم من أفضل الجهاد في سبيل الله. وقد قال
النبي صلىاللهعليهوسلم لحسان بن ثابت : «إن روح القدس معك ما دمت تنافح عن رسوله» .
واعلم أنه لا
يستقر للعبد قدم في الإسلام حتى يعقد قلبه على أن الدين كله لله ، وأن الهدى هدى ،
وأن الحق دائر مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وجودا وعدما ، وأنه لا مطاع سواه ولا متبوع غيره ، وأن
كلام غيره يعرض على كلامه فإن وافقه قبلناه ، لا لأنه قاله ، بل لأنه أخبر به عن
الله تعالى ورسوله ، وإن خالفه رددناه. ولا يعرض كلامه صلىاللهعليهوسلم على آراء القياسيين ؛ ولا على عقول الفلاسفة والمتكلمين
ولا أذواق المتزهدين ، بل تعرض هذه كلها على ما جاء به ، عرض
__________________
الدراهم المجهولة
على أخبر الناقدين فما حكم بصحته فهو منها المقبول ، وما حكم برده فهو المردود.
فصل
في أن قصد المتكلم من المخاطب حمل كلامه على خلاف ظاهره
وحقيقته ينافي قصد البيان والإرشاد. وأن القصدين يتنافيان. وإن تركه
بدون ذلك الخطاب خير له وأقرب إلى السداد
لما كان المقصود
بالخطاب دلالة السامع وإفهامه مراد المتكلم من كلامه وأن يبين له ما في نفسه من
المعاني وأن يدله على ذلك بأقرب الطرق ؛ كان ذاك موقوفا على أمرين : بيان المتكلم
؛ وتمكن السامع من الفهم. فإن لم يحصل البيان من المتكلم ، أو حصل ولم يتمكن
السامع من الفهم ، لم يحصل مراد المتكلم ، فإذا بين المتكلم مراده بالألفاظ الدالة
على مراده ولم يعلم السامع معاني تلك الألفاظ ، لم يحصل له البيان ، فلا بد من
تمكن السامع من الفهم وحصول الإفهام من المتكلم. وحينئذ فلو أراد الله ورسوله من
كلامه خلاف حقيقته وظاهره الذي يفهمه المخاطب لكان قد كلفه أن يفهم مراده بما لا
يدل عليه ، بل بما يدل على نقيض مراده وأراد منه فهم النفي لما يدل على غاية
الإثبات ، وفهم الشيء بما يدل على ضده ، وأراد منه أن يفهم أنه ليس فوق العرش إله
يعبد ، وأنه لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا فوقه ؛ ولا تحته ، ولا خلفه ، ولا
أمامه ؛ بقوله : (قُلْ هُوَ اللهُ) (الإخلاص : ٢١)
وقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (الشورى : ١١)
وأراد النبي صلىاللهعليهوسلم إفهام أمته هذا المعنى بقوله : «لا تفضلوني على يونس بن
متى» وأراد إفهام كونه خلق آدم بقدرته ومشيئته بقوله :
__________________
(ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) وأراد
إفهام تخريب السماوات والأرض وإعادتهما إلى العدم بقوله : «يقبض الله السماوات
بيده اليمنى والأرض باليد الأخرى ، ثم يهزهن ، ثم يقول : أنا الملك» وأراد إفهام معنى : من ربك ومن تعبد ، بقوله «أين الله» وأشار بإصبعه إلى السماء مستشهدا بربه ، وليس هناك رب وإله
: وإنما أراد إفهام السامعين أن الله قد سمع قوله وقولهم. فأراد بالإشارة بإصبعه
بيان كونه قد سمع قولهم. وأمثال ذلك من التأويلات الباطلة التي يعلم السامع قطعا
أنها لم ترد بالخطاب. ولا تجامع قصد البيان.
قال شيخ الإسلام :
إن كان الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة الذين لا يجدون ما يقولونه في الكتاب والسنة
وكلام السلف والأئمة بل يجدونها على خلاف الحق عندهم إما نصا وإما ظاهرا ، بل دلت
عندهم على الكفر والضلال ، لزم من ذلك لوازم باطلة ، منها : أن يكون الله سبحانه قد أنزل في كتابه وسنة نبيه صلىاللهعليهوسلم من هذه الألفاظ ما يضلهم ظاهره ويوقعهم في التشبيه
والتمثيل ، ومنها
: أن يكون قد ترك
بيان الحق والصواب ولم يفصح به ، بل رمز إليه رمزا وألغزه إلغازا لا يفهم منه إلا
بعد الجهد الجهيد ، ومنها
: أن يكون قد كلف
عباده ألا يفهموا من تلك الألفاظ حقائقها وظواهرها ، وكلفهم أن يفهموا منها ما لا
تدل عليه. ولم يجعل معها قرينة تفهم ذلك ، ومنها : أن يكون دائما متكلما في هذا الباب بما ظاهره خلاف الحق
بأنواع متنوعة من الخطاب ، تارة بأنه استوى على عرشه ، وتارة بأنه فوق عباده ،
وتارة بأنه العلى الأعلى ، وتارة بأن الملائكة تعرج إليه ، وتارة بأن الأعمال
الصالحة ترفع إليه ، وتارة بأن الملائكة في نزولها من العلو إلى أسفل تنزل من عنده
، وتارة بأنه رفيع الدرجات ، وتارة بأنه في السماء ، وتارة بأنه الظاهر الذي ليس
فوقه شيء. وتارة بأنه فوق سماواته على عرشه ، وتارة بأن الكتاب نزل من عنده ،
وتارة بأنه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وتارة بأنه
__________________
يرى بالأبصار
عيانا يراه المؤمنون فوق رءوسهم ، إلى غير ذلك من تنوع الدلالات على ذلك ولا يتكلم
فيه بكلمة واحدة يوافق ما يقوله النفاة ولا يقول في مقام واحد ما هو الصواب فيه لا
نصا ولا ظاهرا ولا بينة.
ومنها
: أن يكون أفضل
الأمة وخير القرون قد أمسكوا من أولهم إلى آخرهم عن قول الحق في هذا النبأ العظيم
الذي هو من أهم أصول الإيمان. وذلك إما جهل ينافي العلم ، وإما كتمان ، ولقد أساء
الظن بخيار الأمة من نسبهم إلى ذلك ومعلوم أنه إذا ازدوج التكلم بالباطل والسكوت
عن بيان الحق تولد بينهما جهل الحق وإضلال الخلق. ولهذا لما اعتقد النفاة التعطيل
صاروا يأتون من العبارت بما يدل على التعطيل والنفي نصا وظاهرا ولا يتكلمون بما
يدل على حقيقة الإثبات لا نصا ولا ظاهرا. وإذا ورد عليهم من النصوص ما هو صريح أو
ظاهر في الإثبات حرفوه أنواع التحريفات ، وطلبوا له مستكره التأويلات ومنها : أنهم
التزموا لذلك تجهيل السلف وأنهم كانوا أميين مقبلين على الزهد والعبادة والورع
والتسبيح وقيام الليل ، ولم تكن الحقائق من شأنهم ومنها أن ترك الناس من إنزال هذه
النصوص كان أنفع لهم وأقرب إلى الصواب فإنهم ما استفادوا بنزولها غير التعرض
للضلال ، ولم يستفيدوا منها يقينا ولا علما لما يجب لله ويمتنع عليه ، إذ ذاك أنما
يستفاد من عقول الرجال. فإن قيل : استفدنا منها الثواب على ، تلاوتها وانعقاد
الصلاة بها. قيل : هذا تابع للمقصود بها بالقصد الأول وهو الهدى والإرشاد والدلالة
على إثبات حقائقها ومعانيها والإيمان بها ، فإن القرآن لم ينزل لمجرد التلاوة
وانعقاد الصلاة بل أنزل ليتدبر ويعقل ويهتدي به علما وعملا ، ويبصر من العمى ويرشد
من الغى ، ويعلم من الجهل ويشفى من العى ، ويهدي إلى صراط مستقيم ، وهذا القصد
ينافي قصد تحريفه وتأويله بالتأويلات الباطلة المستكرهة التي هي من جنس الألغاز
والأحاجى ؛ فلا يجتمع قصد الهدى والبيان وقصد ما يضاده أبدا.
ومما يبين ذلك أن
الله تعالى وصف كتابه بأوضح البيان وأحسن التفسير فقال تعالى : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ
تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] فأين
بيان المختلف فيه والهدى والرحمة في ألفاظ
ظاهرها باطل ،
والمراد منها تطلب أنواع التأويلات المستكرهة المستنكرة لها التى لا يفهم منها بل
يفهم منها ضدها؟ وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) فأين
بيّن الرسول صلىاللهعليهوسلم ما يقوله النفاة والمتأولون؟ وقال تعالى : (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب : ٤)
وعند النفاة إنما حصلت الهداية بأبكار أفكارهم ونتائج آرائهم ، وقال تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) (المرسلات : ٥٠)
وعند النفاة المخرجين لنصوص الوحى عن إفادة اليقين ، إنما حصل اليقين بالحديث الذي
أسسه الفلاسفة والجهمية والمعتزلة ونحوهم ، فبه اهتدوا ، وبه آمنوا ، وبه عرفوا
الحق من الباطل ، وبه صحت عقولهم ومعارفهم ، وقال تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢)
وأنت لا تجد الخلاف في شيء أكثر منه في آراء المتأولين التى يسمونها قواطع عقلية ،
وهى عند التحقيق خيالات وهمية نبذوا بها القرآن والسنة وراء ظهورهم كأنهم لا
يعلمون واتبعوا ما (يُوحِي بَعْضُهُمْ
إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ
فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ* وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا
يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ*
أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ
مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ
رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ* وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ* وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ
اللهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ* إِنَّ
رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام : ١١٢ :
١١٧).
* * *
فصل
في بيان أنه مع كمال علم المتكلم وفصاحته وبيانه ونصحه
يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته
ويكتفى من هذا
الفصل بذكر مناظرة جرت بين جهمي وسني حدثني بمضمونها شيخنا ابن تيمية أنه جمعه
وبعض الجهمية مجلس فقال الشيخ :
قد تطابقت نصوص
الكتاب والسنة والآثار على إثبات الصفات لله ، وتنوعت دلالتها أنواعا توجب العلم
الضروري بثبوتها وإرادة المتكلم اعتقاده ما دلت عليه. والقرآن مملوء من ذكر الصفات
، والسنة ناطقة بما نطق به القرآن ، مقررة له ، مصدقة له ، مشتملة على زيادة في
الإثبات ، فتارة يذكر الاسم الدال على الصفة كالسميع البصير العليم القدير العزيز
الحكيم ، وتارة يذكر المصدر وهو الوصف الذي اشتقت منه تلك الصفة كقوله : (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء : ١٦٦)
وقوله : (إِنَّ اللهَ هُوَ
الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات) وقوله
: (إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ
عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي) وقوله : (فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (الأعراف : ١٤٤)
وقوله صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه
ما انتهى إليه بصره من خلقه» ، وقوله في دعاء
الاستخارة «اللهم إني استخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك» ، وقوله : «أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على الخلق» وقول عائشة رضي الله عنها : «سبحان الذي وسع سمعه الأصوات»
ونحوه. وتارة يذكر تلك الصفة كقوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ) (المجادلة : ١) (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : ٤٦) وقوله :
(فَقَدَرْنا فَنِعْمَ
الْقادِرُونَ) (المرسلات : ٢٣)
وقوله : (عَلِمَ اللهُ
أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ) (البقرة : ١٨٧)
ونظائر ذلك كثيرة.
__________________
__________________
ويصرح في الفوقية
بلفظها الخاص ، وبلفظ العلو والاستواء ، وأنه (في السماء) وأنه (ذو المعارج) وأنه (رفيع
الدرجات) وأنه (تعرج إليه الملائكة) وتنزل من عنده ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا ، وأن المؤمنين يرونه بأبصارهم عيانا من فوقهم ، إلى أضعاف ذلك مما لو جمعت النصوص والآثار فيه لم تنقص
عن نصوص الأحكام وآثارها. ومن أبين المحال وأوضح الضلال حمل ذلك كله على خلاف
حقيقته وظاهره ، ودعوى المجاز فيه والاستعارة ، وأن الحق في أقوال النفاة المعطلين
، وأن تأويلاتهم هي المرادة من هذه النصوص ، إذ يلزم من ذلك محاذير ثلاثة لا بد
منها ، وهى القدح في علم المتكلم بها ، أو في بيانه ، أو في نصحه.
وتقرير ذلك أن
يقال : إما أن يكون المتكلم بهذه النصوص عالما أن الحق في تأويلات النفاة المعطلين
، أو لا يعلم ذلك؟ فإن لم يعلم ذلك كان ذلك قدحا في علمه. وإن كان عالما أن الحق
فيها ؛ فلا يخلوا إما أن يكون قادرا على التعبير بعبارتهم التي هي تنزيه لله
بزعمهم عن التشبيه والتمثيل والتجسيم ، وأنه لا يعرف الله من لم ينزه الله بها ،
أو لا يكون قادرا على تلك العبارة؟ فإن لم يكن قادرا على التعبير بذلك لزم القدح
في فصاحته. وكان ورثة الصابئة وأفراخ الفلاسفة ، وأوقاح المعتزلة والجهمية ،
وتلامذة الملاحدة أفصح منه وأحسن بيانا وتعبيرا عن الحق وهذا مما يعلم بطلانه
بالضرورة أولياؤه وأعداؤه وموافقوه ومخالفوه. فإن مخالفيه لم يشكوا أنه أفصح الخلق
، وأقدرهم على حسن التعبير بما يطابق المعنى ، ويخلصه من اللبس والإشكال ؛ وإن كان
قادرا على ذلك ولم يتكلم به وتكلم دائما بخلافه ، كان ذلك قدحا في نصحه ، وقد وصف
الله رسله بأنهم أنصح الخلق لأممهم ، فمع النصح والبيان والمعرفة التامة
__________________
كيف يكون مذهب
النفاة المعطلة أصحاب التحريف هو الصواب ، وقول أهل الإثبات أتباع القرآن والسنة
باطلا؟
(لمحة عن مناظرة للمصنف مع أهل الكتاب)
قال المصنف :
وقريب من هذه المناظرة ما جرى لي مع بعض علماء أهل الكتاب. وأفضى بنا الكلام إلى
مسبة النصارى لرب العالمين مسبة ما سبه إياها أحد من البشر ، فقلت له : وأنتم
بإنكاركم نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم قد سببتم الرب تعالى أعظم مسبة ، قال : وكيف ذلك؟ قلت :
لأنكم تزعمون أن محمدا ملك ظالم ليس برسول صادق ، وأنه خرج يستعرض الناس بسيفه
فيستبيح أموالهم ونساءهم وذراريهم ، ولا يقتصر على ذلك حتى يكذب على الله ويقول :
الله أمرني بهذا وأباحه لي ، ولم يأمره الله ولا أباح له ذلك ، ويقول أوحى إلى ولم
يوح إليه شيء ، وينسخ شرائع الأنبياء من عنده ، ويبطل منها ما شاء ويبقى منها ما شاء
، وينسب ذلك كله إلى الله ، ويقتل أولياءه وأتباع رسله ، ويسترق نساءهم وذريتهم ،
فإما أن يكون الله تعالى رائيا لذلك كله عالما به ، أو لا؟ فإن قلتم : إن ذلك بغير
علمه واطلاعه نسبتموه إلى الجهل والغباوة.
وذلك من أقبح
السب. وإن كان عالما به ، فإما أن يقدر على الأخذ على يديه ومنعه من ذلك ؛ أو لا؟
فإن قلتم : إنه غير قادر على منعه نسبتموه إلى العجز فإن قلتم : بل هو قادر على
منعه ولم يفعل ، نسبتموه إلى السفه والظلم ، هذا هو من حين ظهر إلى أن توفاه ربه
يجيب دعاءه ويقضي حوائجه ، ولا يقوم له عدو إلا أظفره به ، وأمره من حين ظهر إلى
أن توفاه الله تعالى يزداد على الليالي والأيام ظهورا وعلوا ورفعة ، وأمر مخالفيه
لا يزداد إلا سفولا واضمحلالا ، ومحبته في قلوب الخلق تزيد على ممر الأوقات ، وربه
تعالى يؤيده بأنواع التأييدات ، هذا هو عندكم من أعظم أعدائه وأشدهم ضررا على
الناس ، فأى
__________________
قدح في رب
العالمين ، وأى مسبة أعظم من ذلك؟ فأخذ الكلام منه ما أخذ ، وقال حاشا لله أن تقول
فيه هذه المقالة ؛ بل هو نبي صادق. كل من اتبعه فهو سعيد وكل منصف منا يقر بذلك
ويقول : أتباعه سعداء في الدارين. قلت : فما يمنعك من الظفر بهذه السعادة؟ فقال :
وأتباع كل نبى من الأنبياء. فأتباع موسى أيضا سعداء قلت : فإذا أقررت أنه نبي صادق
، وقد كفر من لم يتبعه. فإن صدقته في هذا وجب عليك اتباعه ، وإن كذبته فيه لم يكن
نبيا ، فكيف يكون أتباعه سعداء؟ فلم يحر جوابا ، وقال حدثنا في غير هذا .
فصل
في بيان أن تيسير القرآن للذكر ينافي حمله على التأويل
المخالف لحقيقته وظاهره
أنزل الله الكتاب
شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين ، ولذلك كانت معانيه أشرف المعاني ،
وألفاظه أفصح الألفاظ وأبينها ، وأعظمها مطابقة لمعانيها المرادة منها ، كما وصفه
الله تعالى بقوله (وَلا يَأْتُونَكَ
بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً) (الفرقان : ٣٣)
فالحق هو المعنى والمدلول الذي تضمنه
__________________
الكتاب ؛ والتفسير
الأحسن هو الألفاظ الدالة على ذلك الحق ، فهو تفسيره وبيانه ، والتفسير أصله من
البيان والظهور ، ويلاقيه في الاشتقاق الأكبر الإسفار ومنه «أسفر الفجر» إذا أضاء
ووضح. ومنه السفر لبروز المسافر من البيوت ، ومنه السفر الذي يتضمن إظهار ما فيه
من العلم. فلا بد أن يكون التفسير مطابقا للمفسر مفهما له.
ولا تجد كلاما
أحسن تفسيرا ولا أتم بيانا من كلام الله سبحانه. ولهذا سماه الله بيانا وأخبر أنه
يسره للذكر ويسر ألفاظه للحفظ ؛ ومعانيه للفهم ، وأوامره ونواهيه للامتثال.
ومعلوم أنه لو كان
بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسرا له بل كان معسرا عليه ، وإذا أريد من
المخاطب أن يفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعانى أو يدل على خلافه فهذا من
أشد التعسير ، فإنه لا شيء أعسر على الأمة من أن يراد منهم أن يفهموا كونه سبحانه
لا داخلا في العالم ولا خارجه ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ولا مباينا له ،
ولا محايثا له ، ولا يرى بالأبصار عيانا ، ولا له يد ؛ ولا وجه من قوله : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) ومن قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لا تفضلوني على يونس بن متى» ومن قوله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ
حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) (سورة غافر : ٧)
وأن يجهدوا أنفسهم ويكابدوا أعظم المشقة في تطلب أنواع الاستعارات وضروب المجازات
ووحشى اللغات ، ليحملوا عليها آيات الصفات وأخبارها ؛ ويقول يا عبادي اعلموا أني
أردت منكم أن تعلموا أني لست فوق العالم ، ولا تحته ، ولا فوق العرش ؛ ولا ترفع
الأيدي إلي ، ولا يعرج إلي شيء ولا ينزل من عندي شيء من قولى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، ومن
قولي : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) ومن
قولي : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (المعارج : ٤) ومن
قولي : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ
إِلَيْهِ) (النساء : ١٥٨)
ومن قولى : (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ
ذُو الْعَرْشِ) (غافر : ١٥) ومن
قولي : (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) (الشورى : ٤) وأن
تفهموا أنه ليس لي يدان من قولي : (لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) ، ولا
عين من قولي (وَلِتُصْنَعَ عَلى
عَيْنِي) (طه : ٣٩) فإنكم
متى فهمتم من هذه الألفاظ حقائقها وظواهرها فهمتم خلاف مرادي منكم أن تفهموا منها
ما يدل على خلاف حقائقها وظواهرها.
فأي تيسير يكون
هناك ، وأي تعقيد وتعسير لم يحصل بذلك؟ ومعلوم أن خطاب الرجل بما لا يفهمه إلا
بترجمة أيسر عليه من خطابه بما كلف أن يفهم منه خلاف موضوعه. فتيسير القرآن مناف
لطريقة النفاة المحرفين أعظم منافاة. ولهذا عسر عليهم أن يفهموا منه النفي عولوا
فيه على الشبه الخيالية.
* * *
فصل
اشتمال الكتب الإلهية على الأسماء والصفات
أكثر من اشتمالها على ما عداه
وذلك لشرف متعلقها
وعظمته ، وشدة الحاجة إلى معرفته. فكانت الطرق إلى تحصيل معرفته أكثر وأسهل وأبين
من غيره. وهذا من كمال حكمة الرب تبارك وتعالى وتمام نعمته وإحسانه ؛ أنه كلما
كانت حاجة العباد إلى الشيء أقوى كان بذله لهم أكثر وأسهل. وهذا في الخلق والأمر.
فإن حاجتهم لما كانت إلى الهواء أكثر من الماء في القوت كان موجودا معهم في كل
مكان وزمان ، وهو أكثر من غيره وكذلك لما كانت حاجتهم إلى الماء شديدة ، إذ هو
مادة أقواتهم وفواكههم وشرابهم كان مبذولا لهم أكثر من غيره. وهكذا الأمر في مراتب
الحاجات. ومعلوم أن حاجتهم إلى معرفة ربهم وفاطرهم فوق مراتب هذه الحاجات كلها ،
فإنه لا سعادة لهم ولا فلاح ولا صلاح ولا نعيم إلا بأن يعرفوه ويعتقدوه ، ويكون هو
وحده غاية مطلوبهم ، والتقريب إليه قرة عيونهم. فمتى فقدوا ذلك كانوا أسوأ حالا من
الأنعام ، وكانت الأنعام أطيب عيشا منهم في العاجل وأسلم عاقبة في الآجل.
وإذا علم أن ضرورة
العبد إلى معرفة ربه فوق كل ضرورة كانت العناية ببيانها أيسر الطرق وأهداها
وأبينها ، وإذا سلط التأويل على النصوص المشتملة عليها فتسليطه على النصوص التى
ذكرت فيها الملائكة أقرب بكثير ، فإن الله تعالى لم يذكر لعباده من صفة ملائكته
وشأنهم وأفعالهم عشر معشار ما ذكر لهم من نعوت جلاله وصفات كماله. فإذا كانت هذه
قابلة للتأويل فالآيات التي ذكر فيها الملائكة أولى بذلك. ولذلك تأولها الملاحدة
كما تأولوا نصوص المعاد واليوم الآخر ، وأبدوا لها تأويلات ليست بدون تأويلات
الجهمية لنصوص الصفات. وأولت هذه الطائفة عامة نصوص الأخبار الماضية والآتية.
وقالوا للجهمية :
بيننا وبينكم حاكم
العقل. فإن القرآن ، بل الكتب المنزلة ، مملوءة بذكر الفوقية وعلو الله على عرشه ،
وأنه تكلم ، ويتكلم وأنه موصوف بالصفات وأن له أفعالا تقوم به ؛ هو بها فاعل ،
وأنه يرى بالأبصار ، إلى غير ذلك من نصوص آيات الصفات وأخبارها التي إذا قيس إليها
نصوص حشر هذه الأجساد وخراب هذا العالم وإعدامه وإنشاء عالم آخر ، وجدت نصوص الصفات
أضعاف أضعافها ، حتى قيل : إن الآيات والأخبار الدالة على علو الرب على خلقه
واستوائه على عرشه تقارب الألوف ، وقد أجمعت عليها الرسل من أولهم إلى آخرهم ، فما
الذي سوغ لكم تأويلها : وحرم علينا تأويل نصوص حشر الأجساد وخراب العالم؟
فإن قلتم : الرسل
أجمعوا على المجىء به ، فلا يمكن تأويله ، قيل : وقد أجمعوا أنه استوى فوق عرشه ،
وأنه تكلم ومتكلم ، وأنه فاعل حقيقة موصوف بالصفات ، فإن منع إجماعهم هناك من
التأويل وجب أن يمنع هنا.
فإن قلتم : أوجب
تأويل نصوص آيات الصفات ولم يوجب تأويل نصوص المعاد. قلنا : هاتوا أدلة العقول
التي تأولتم بها الصفات ، ونحضر أدلة العقول التي تأولنا بها المعاد وحشر الأجساد
، ونوازن بينها ليتبين أيها أقوى.
فإن قلتم : إنكار
المعاد تكذيب لما علم من الإسلام بالضرورة. قلنا : أيضا إنكار صفات الرب وأنه
يتكلم. وأنه فوق سماواته ، وأن الأمر ينزل من عنده تكذيب لما علم أنهم جاءوا به
ضرورة.
فإن قلتم :
تأويلنا للنصوص التي جاءوا بها لا يستلزم تكذيبهم. قلنا : فمن أين صار تأويلنا
للنصوص التي جاءوا بها في الميعاد يستلزم تكذيبهم دون تأويلكم : المجرد التشهي؟
فصاحت القرامطة
والملاحدة والباطنية وقالوا : ما الّذي سوغ لكم تأويل
__________________
__________________
الأخبار وحرم
علينا تأويل الأمر والنهي والتحريم والإيجاب ، ومورد الجميع عن مشكاة واحدة؟ قالوا
: وأين تقع نصوص الأمر والنهي من نصوص الخبر؟ قالوا : وكثير منكم قد فتحوا لنا باب
التأويل في الأمر ، فأولوا أوامر ونواهي كثيرة وصريحة الدلالة أو ظاهرة الدلالة في
معناها بما يخرجها عن حقائقها. فهلم نضعها في كفة ونضع تأويلاتنا في كفة ونوازن
بينها ، ونحن لا ننكر أنّا أكثر تأويلا منهم ، ولكنا وجدنا بابا مفتوحا فدخلناه.
فهذا من شؤم جناية
التأويل على الإيمان والإسلام.
* * *
فصل
(إبليس أول من جاء بالتأويل الفاسد)
وقد قيل : إن طرد
إبليس ولعنه إنما كان بسبب التأويل ، فإنه عارض النص بالقياس وقدمه عليه ، وتأول
لنفسه أن هذا القياس العقلي مقدم على نص الأمر بالسجود ، فإنه قال (أنا خير منه)
وهذا دليل قد حذفت إحدى مقدمتيه ، وهى : إن الفاضل لا يخضع للمفضول ، وطوى ذكر هذه
المقدمة كأنها صورة معلومة. وقرر المقدمة الأولى بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ
مِنْ طِينٍ) (الأعراف : ١٢)
فكان نتيجة المقدمتين امتناعه من السجود. وظن أن هذه الشبهة العقلية تنفعه بتأويله
؛ فجرى عليه ما جرى. وصار إماما لكل من عارض نصوص الوحي بتأويله إلى يوم القيامة .
__________________
__________________
وكذلك خروج آدم من
الجنة إنما كان بالتأويل ، وإلا فهو صلىاللهعليهوسلم لم يقصد بالأكل معصية الرب . ثم اختلف الناس في وجه تأويله فقالت طائفة : تأول بحمله
النهي المطلق على الشجرة المعينة. وغره عدو الله بأن جنس تلك الشجرة هي شجرة الخلد
وأطمعه في أنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة. وفي هذا نظر ظاهر. فإن الله تعالى
أخبر أن إبليس قال له (ما نَهاكُما
رَبُّكُما عَنْ هذِهِ
__________________
الشَّجَرَةِ
إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ) (الأعراف : ٢٠)
فذكر لهما عدو الله الشجرة التي نهيا عنها ، إما بعينها أو بجنسها ، وصرح لهما
بأنها هي المنهي عنها. لو كان عند آدم أن المنهي عنه تلك الشجرة المعينة دون سائر
النوع لم يكن عاصيا بأكله من غيرها ، ولا أخرجه الله من الجنة ونزع عنه لباسه.
وقالت فرقة أخرى
تأول آدم أن النهي نهي تنزيه لا نهي تحريم فأقدم ، وأيضا فحيث نهي الله تعالى عن
فعل الشيء بقربانه لم يكن أصلا لتحريم كقوله : (وَلا تَقْرَبُوهُنَّ
حَتَّى يَطْهُرْنَ) (البقرة : ٢٢٢) (وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى) (الإسراء : ٣٢) (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ) (الإسراء : ٣٤) ،
وأيضا لو كان للتنزيه لما أخرجه الله من الجنة ، وأخبر أنه عصى ربه .
وقالت طائفة : بل
كان تأويله أن النهي إنما كان عن قربانهما وأكلهما معا ، لا عن أكل كل منهما على
انفراده ، لأن قوله : (وَلا تَقْرَبا) نهي لهما عن الجمع ، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع
حصوله حال الانفراد ، وهذا التأويل ذكره ابن الخطيب في «تفسيره» وهو كما ترى في البطلان والفساد. ونحن نقطع أن
هذا التأويل لم يخطر بقلب آدم وحواء البتة ، وهما
__________________
كانا أعلم بالله
من ذلك وأصح أفهاما ، أفترى فهم أحد من قول الله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ وَلا
تَقْرَبُوا الزِّنى) ونظائره ، أي إنما نهيتكم عن اجتماعكم على ذلك دون انفراد
كل واحد منكم به ، فيا للعجب من أوراق وقلوب تسود على هذه الهذيانات .
والصواب أن يقول :
إن آدم لما قاسمه عدو الله أنه ناصح له ، وأخرج الكلام على أنواع متعددة من التأكد
؛ أحدها
: القسم ، الثاني : الإتيان بجملة اسمية لا فعلية ، والثالث : تصديرها بأداة التأكد أحدها القسم ، الرابع : الإتيان بلام التأكيد في الخبر ؛ الخامس : الإتيان به اسم فاعل لا فعلا دالا على الحديث ؛ والسادس : تقديم المعمول فيه. ولم يكن آدم يظن أن أحدا يقسم بالله
كاذبا غموسا يتجرأ فيها هذه الجرأة ، فغره عدو الله بهذا التأكد ، فظن آدم صدقه ،
وأنه إن أكل منها لم يخرج من الجنة ؛ ورأى أن الأكل وإن كان فيه مفسدة فمصلحة
الخلود أرجح ، ولعله يتهيأ له استدراك مفسده النهي في أثناء ذلك ، إما باعتذار
وإما بتوبة ، كما تجد هذا التأويل قائما في نفس كل مؤمن أقدم على المعصية .
__________________
فصل
في بيان ما يقبل التأويل من الكلام وما لا يقبله
لما كان وضع
الكلام للدلالة على مراد المتكلم ؛ وكان مراده لا يعلم إلا بكلامه ، انقسم كلامه
ثلاثة أقسام ؛ أحدها ما هو نص في مراده لا يقبل محتملا غيره والثاني : ما هو ظاهر
في مراده وإن احتمل أن يريد غيره ، الثالث : ما ليس بنص ولا ظاهر في المراد بل هو
محتمل محتاج إلى البيان.
فالأول
: يستحيل دخول
التأويل فيه ، إذ تأويله كذب ظاهر على المتكلم ، وهذا شأن عامة نصوص القرآن
الصريحة في معناها ، خصوصا آيات الصفات والتوحيد. وأن الله مكلم ، متكلم. آمر ،
ناه ؛ قائل ، مخبر ، موجد ، حاكم ، واعد ، موعد ، مبين ، هاد ، داع إلى دار السلام
، وأنه تعالى فوق عباده ، عال على كل شيء ، مستوى على عرشه ، ينزل الأمر من عنده
ويعرج إليه ، وأنه فعال حقيقة ، وأنه كل يوم في شأن فعال لما يريد ، وأنه ليس
للخلق من دونه وليّ ولا شفيع يطاع ولا ظهير ، وأنه المتفرد بالربوبية والتدبير
والقيومية (فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفى وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها) وأنه يسمع الكلام الخفي كما يسمع الجهر ، ويرى ما في
السماوات والأرض ، ولا تخفي عليه منها ذرة واحدة. وأنه على كل شيء قدير ، ولا يخرج
مقدور واحد عن قدرته البته ، كما لا يخرج عن علمه وتكوينه ، وأن له ملائكة مدبرة
بأمره للعالم تصعد وتنزل وتتحرك وتنتقل من مكان إلى مكان ، وأنه يذهب بالدنيا
ويخرب هذا العالم ويأتي بالآخرة ، ويبعث من في القبور ، إلى أمثال ذلك من النصوص
التي هي في الدلالة على مرادها كدلالة لفظ العشرة والثلاثة على مدلولها ، وكدلالة
لفظ الشمس والقمر والليل والنهار والبر والبحر والخيل والبغال والإبل والبقر
والذكر والأنثى على مدلولها ، لا فرق بين ذلك البتة.
__________________
فهذا القسم إن سلط
التأويل عليه عاد الشرع كله مؤولا ، لأنه أظهر أقسام القرآن ثبوتا وأكثرها ورودا
ودلالة. ودلالة القرآن عليه متنوعة غاية التنوع ، فقبول ما سواه للتأويل أقرب من
قبوله بكثير.
القسم
الثاني : ما هو ظاهر في
مراد المتكلم ولكنه يقبل التأويل ، فهذا ينظر في وروده ، فإن أطرد استعماله على
وجه واحد استحال تأويله بما يخالف ظاهره لأن التأويل إنما يكون لموضع جاء خارجا عن
نظائره متفردا عنها فيؤول حتى يرد إلى نظائره وتأويل هذا غير ممتنع إذا عرف من
عادة المتكلم باطراد كلامه في توارد استعماله معني ألفه المخاطب ، فإذا جاء موضع
يخالفه رده السامع إلى ما عهد من عرف المخاطب إلى عادته المطردة.
وهذا هو المعقول
في الأذهان والفطر وعند كافة العقلاء.
وقد صرح أئمة
العربية بأن الشيء إنما يجوز حذفه إذا كان الموضع الذي ادعى فيه حذفه قد استعمل
فيه ثبوته أكثر من حذفه ؛ فلا بد أن يكون موضع ادعاء الحذف قد استعمل فيه ثبوته
أكثر من حذفه ، حتى إذا جاء ذلك محذوفا في موضع علم بكثرة ذكره في نظائره أنه قد
أزيل في هذا الموضع فحمل عليه. فهذا شأن من يقصد البيان ، وأما من يقصد التلبيس
والتعمية فله شأن آخر.
* * *
(قاعدة فيما يجوز تأويله)
مثال ذلك قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤) في
جميع موارده من أولها إلى آخرها على هذا اللفظ ، فتأويله باستولى باطل ، وإنما كان
يصح أن لو كان أكثر مجيئه بلفظ استولى ، ثم يخرج موضع عن نظائره ويرد بلفظ استوى ،
فهذا كان يصح تأويله باستولى ، فتفطن لهذا الموضع واجعله قاعدة فيما يمتنع تأويله من
كلام المتكلم ويجوز تأويله :
ونظير هذا اطراد
النصوص بالنظر إلى الله تعالى هكذا «ترون ربكم» ،
و «تنظرون إلى
ربكم» (إِلى رَبِّها
ناظِرَةٌ) ولم يجيء في موضع واحد ترون ثواب ربكم ، فيحمل عليه ما خرج
عن نظائره.
ونظير ذلك اطراد
قوله : (وَنادَيْناهُ) (مريم : ٥٢) (يُنادِيهِمْ) (القصص : ٦٢) (وَناداهُما رَبُّهُما وَما كُنْتَ
بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) (القصص : ٤٦) ، (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) (النازعات : ١٦)
ونظائرها. ولم يجيء في موضع واحد أمرنا من يناديهم ، ولا ناداه ملك ، فتأويله بذلك
عين المحال.
ونظير ذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول» في نحو ثلاثين حديثا . كلها مصرحة بإضافة النزول في الرب تعالى ، ولم يجيء موضع
واحد بقوله : ينزل ملك ربنا ، حتى يحمل ما خرج عن نظائره عليه.
وإذا تأملت نصوص
الصفات التي لا تسمح الجهمية بتسميتها نصوصا ، وإذا احترموها قالوا : ظواهر سمعية
، وقد عارضها القواطع العقلية ، وجدتها كلها من هذا الباب.
ومما يقتضي منه
العجب أن كلام شيوخهم وتصنيفهم عندهم نص في مرادهم لا يحتمل التأويل ، وكلام
الموافقين عندهم نص لا يجوز تأويله ، حتى إذا جاءوا إلى كلام الله ورسوله وقفوه
على التأويل.
القسم
الثالث : الخطاب بالمجمل
الذي أحيل بيانه على خطاب آخر ، فهذا أيضا لا يجوز تأويله إلا بالخطاب الذي يبينه
، وقد يكون بيانه معه ، وقد يكون بيانه منفصلا عنه.
والمقصود أن
الكلام الذي هو عرضة التأويل أن يكون له عدة معان وليس معه ما يبين مراد المتكلم ،
فهذا التأويل فيه مجال واسع ، وليس في كلام الله ورسوله منه شيء من الجمل المركبة
، وإن وقع في الحروف المفتتح بها لسور بل إذا تأمل من بصره الله تعالى طريقة
القرآن والسنة وجدها متضمنه لدفع ما يوهمه الكلام من خلاف ظاهره ، وهذا موضع لطيف جدا
في فهم القرآن نشير إلى بعضه.
__________________
فمن ذلك قوله
تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ٦٤) رفع
سبحانه توهم المجاز في تكليمه لكليمه بالمصدر المؤكد الذي لا يشك عربي القلب
واللسان أن المراد به إثبات تلك الحقيقة كما تقول العرب : مات موتا ونزل نزولا ،
ونظائره.
ونظيره التأكيد
بالنفس والعين وكل وأجمع ، والتأكيد بقوله حقا ونظائره ومن ذلك قوله تعالى : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : ١)
فلا يشك صحيح الفهم البته في هذا الخطاب أنه نص صريح لا يحتمل التأويل بوجه في
إثبات صفة السمع للرب تعالى حقيقة وأنه بنفسه يسمع.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ
الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (الأعراف : ٤٢)
فرفع توهم السامع أن المكلف به عمل جميع الصالحات المقدورة والتجوز عنها يجوزه
أصحاب تكليف ما لا يطاق رفع هذا التوهم بجملة اعترض بها بين المبتدأ وخبره تزيل
الأشكال.
ونظيره (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ
بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (الأنعام : ١٥٢)
ومن ذلك قوله تعالى : (فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ
اللهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) (النساء : ٨٤).
فلما أمره بالقتال وأخبره أنه لا يكلف بغيره ، بل إنما يكلف بنفسه أتبعه بقوله (وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) لئلا يتوهم سامع أنه وإن لم يكلف بهم فإنه يهملهم ويتركهم.
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُوا
وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما
أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور : ٢١)
فتأمل كم في هذا الكلام من رفع إيهام ، منها قوله : (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ
بِإِيمانٍ) لئلا يتوهم أن الاتباع في نسب أو تربية أو حرية أو رق أو
غير ذلك ، ومنها قوله : (وَما أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ) لرفع توهم أن الآباء تحط إلى درجة الأبناء ليحصل الإلحاق
والتبعية. فأزال هذا الوهم بقوله : (وَما
أَلَتْناهُمْ
مِنْ عَمَلِهِمْ) أي ما نقصنا الآباء بهذا الاتباع شيئا من عملهم ، بل رفعنا
الذرية إليهم قرة لعيونهم وإن لم يكن لهم أعمال يستحقون بها تلك الدرجة.
منها قوله : (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) فلا يتوهم متوهم أن هذا الاتباع حاصل في أهل الجنة وأهل
النار ، بل هو للمؤمنين دون الكفار ، فإن الله سبحانه لا يعذب أحدا إلا بكسبه وقد
يثيبه من غير كسبه.
ومنها قوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ
كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ
فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (الأحزاب : ٣٢)
فلما أمرهن بالتقوى التى شأنها التواضع ولين الكلام نهاهن عن الخضوع بالقول لئلا
يطمع فيهن ذو القلوب المرضى ثم أمرهن بعد ذلك بالقول المعروف دفعا لتوهم الإذن في
الكلام المنكر. لما نهين عن الخضوع بالقول.
ومنه قوله تعالى :
(كُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ
الْفَجْرِ) (البقرة : ١٨٧)
فرفع توهم فهم الخيطين من الخيوط بقوله (مِنَ الْفَجْرِ).
ومن ذلك قوله
تعالى : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ
أَنْ يَسْتَقِيمَ) (التكوير : ٢٨)
فلما أثبت لهم مشيئة فلعل متوهما يتوهم استقلالهم بها فأزال سبحانه ذلك بقوله (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) ونظير ذلك قوله تعالى : (كَلَّا إِنَّهُ
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ وَما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ هُوَ
أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ) (المدثر : ٥٤ ـ ٦٥).
ومن ذلك قوله
تعالى : (وَعْداً عَلَيْهِ
حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ) (التوبة : ١١١)
فلعل متوهما أن يتوهما أن الله يجوز عليه ترك الوفاء بما وعد به فأزال ذلك بقوله :
(وَمَنْ أَوْفى
بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ) (التوبة : ١١١).
ومن ذلك قوله
تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨)
فلما ذكر إتيانه سبحانه ربما توهم أن المراد إتيان بعض آياته أزال هذا الوهم ودفعه
بقوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آياتِ رَبِّكَ) فصار الكلام مع هذا التقسيم والتنويع نصا صريحا في معناه
لا يحتمل غيره.
وإذا تأملت أحاديث
الصفات رأيت هذا لائحا على صفحاتها باديا على ألفاظها ، كقوله صلىاللهعليهوسلم : «إنكم
ترون ربكم عيانا كما ترى الشمس في الظهيرة صحوا ليس دونها سحاب ، وكما نرى القمر
ليلة البدر ليس دونه سحاب» وقوله صلىاللهعليهوسلم «ما منكم من أحد إلا
سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان يترجم له ولا حاجب يحجبه» فلما كان كلام الملوك قد يقع بواسطة الترجمان ومن وراء
الحجاب أزال هذا الوهم من الأفهام.
وكذلك لما قرأ صلىاللهعليهوسلم : «وكان
الله سميعا بصيرا» وضع
إبهامه على أذنه وعينه رفعا لتوهم متوهم أن السمع والبصر غير العينين المعلومتين ، وأمثال ذلك كثير
في الكتاب والسنة ، كما في الحديث الصحيح أنه قال : «يقبض الله سماواته بيده والأرض بيده الأخرى
، ثم جعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقبض
يده ويبسطها» تحقيقا لإثبات اليد وإثبات صفة القبض.
__________________
ومن هذا إشارته
إلى السماء حين استشهد ربه تبارك وتعالى على الصحابة أنه بلغهم تحقيقا لإثبات صفة
العلو ، وأن الرب الذي استشهده فوق العالم مستو على عرشه.
* * *
فصل
في بيان أنه لا يأتي المعطل للتوحيد العلمي الخبري بتأويل ،
إلا أمكن المشرك المعطل للتوحيد العملي أن يأتي بتأويل من جنسه.
وقد اعترف حذاق
الفلاسفة وفضلاؤهم فقال أبو الوليد ابن رشد في كتاب «الكشف عن مناهج الأدلة» القول
في الجهة. وأما هذه الصفة فلم يزل أهل الشريعة يثبتونها لله سبحانه وتعالى حتى
نفتها المعتزلة ؛ ثم اتبعهم على نفيها متأخروا الأشعرية كأبي المعالي ومن اقتدى
بقوله وظواهر الشرع كلها تقتضى إثبات الجهة ، مثل قوله تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، ومثل
قوله : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (البقرة : ٢٢٥) ،
ومثل قوله تعالى : (وَيَحْمِلُ عَرْشَ
رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ) (الحاقة : ١٧)
ومثل قوله : (تَعْرُجُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ) (المعارج : ٤) مثل
قوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ) (الملك : ١٦) إلى
غير ذلك من الآيات التى إن سلط التأويل عاد الشرع كله متأولا ، وإن قيل فيها إنها
من المتشابهات ، عاد الشرع كله متشابها ، لأن الشرائع كلها مبينه أن الله في
السماء ، ومنه تنزل الملائكة إلى النبيين بالوحي ، وأن من السماء نزلت الكتب ،
وإليها كان الإسراء بالنبى صلىاللهعليهوسلم حتى قرب من سدرة المنتهى ، وجميع الحكماء قد اتفقوا على أن
الله والملائكة في السماء كما اتفقت جميع الشرائع على ذلك.
والشبهة التي قادت
نفاة الجهة إلى نفيها هي أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان ، وإثبات
المكان يوجب إثبات الجهة. ونحن نقول : إن إثبات هذا كله غير لازم ، فالجهة غير
المكان ، وذلك أن الجهة : إما سطوح الجسم نفسه المحيط به وهي ستة وبهذا نقول : إن
للحيوان فوقا ، وأسفل ،
ويمينا ، وشمالا ،
وأماما ، وخلفا ، وإما سطوح جسم آخر يحيط بالجسم ذي الجهات الست. فأما الجهات التى
هى سطوح الجسم نفسه فليست بمكان للجسم نفسه أصلا وأما سطوح الأجسام المحيطة فهي له
مكان مثل سطوح الهواء المحيط بالإنسان ، وسطوح الفلك المحيط بسطوح الهواء هي أيضا
مكان هواء. وهكذا الأفلاك بعضها محيطة ببعض ومكان له ، وأما سطح الفلك الخارج فقد
تبرهن أنه ليس خارجه جسم ، لأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون خارج ذلك الجسم جسم آخر
، ويمر إلى غير نهاية. فإذن سطح آخر أجسام العالم ليس مكانا أصلا إذ ليس يمكن أن
يوجد فيه جسم ، فإذن إن قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة فواجب أن يكون
غير جسم. والذي يمنع وجوده هناك هو عكس ما ظنه القوم ، وهو موجود هو جسم لا موجود
ليس بجسم.
وليس لهم أن
يقولوا : إن خارج العالم خلاء ، وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه
، لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم ، أعني طولا
وعرضا وعمقا ، لأنه إن رفعت الأبصار عنه عاد عدما. وإن فرضت الخلاء موجودا لزم أن
يكون اعراضا موجودة في غير جسم ، وذلك أن الأبعاد هي أعراض في باب الكمية ولا بدّ
، ولكنه قيل في الآراء السالفة القديمة والشرائع الغابرة : إن ذلك الموضع ليس
بمكان ولا يحويه زمان ، وكذلك إن كان كل ما يحويه المكان والزمان فاسدا فقد يلزم
أن يكون ما هنالك غير فاسد ولا كائن. وقد بين هذا المعنى ما أقوله. وذلك أنه لما
لم يكن هاهنا شيء إلا هذا الموجود المحسوس أو العدم ، وكان من المعروف بنفسه أن
الموجود شيء أنما ينسب إلى الوجود. أعنى أنه يقال : موجودا أي في الوجود ، إذ لا
يمكن أن يقال : إنه موجود في العدم ، فإن كان موجود هو أشرف الموجودات فواجب أن
ينتسب من الموجود المحسوس إلى الحيز الأشرف وهي السماوات ، ولشرف هذا الحيز قال
تعالى : (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) (غافر : ٥٧) وهذا
كله يظهر على التمام للعلماء الراسخين في العلم.
فقد ظهر لك من هذا
إثبات الجهة واجب بالشرع والعقل ، وأنه الذي جاء به الشرع وابتنى عليه. فإن إبطال
هذه القاعدة إبطال للشرائع ، وإن وجه العسر في تفهم هذا المعنى مع نفي الجسمية هو
أنه ليس في المشاهد مثال له ، فهو بعينه السبب في أنه لم يصرح الشرع بنفي الجسم عن
الخالق سبحانه وتعالى ، لأن الجمهور إنما يقع لهم التصديق بحكم الغائب متى كان ذلك
معلوم الوجود في الشاهد ، مثل العلم بالصانع ، فإنه لما كان في الشاهد شرطا في
وجوده كان شرطا في وجود الصانع الغائب ، وأما متى كان الحكم الذي في الغائب غير
معلوم الوجود في الشاهد عند الأكثر ، ولا يعلمه إلا العلماء الراسخون كان الشرع
يزجر عن طلب معرفته إن لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته. مثل العلم بالنفس لم يضرب
له مثال في الشاهد ، إذ لم يكن بالجمهور حاجة إلى معرفته في سعادتهم.
والشبهة الواقعة
في نفي الجهة عند الذين نفوها ليس يتفطن الجمهور إليها. لا سيما إذا لم يصرح لهم
بأنه ليس بجسم ، فيجب أن يتمثل في هذا كله فعل الشرع ، وأن لا يتأول ما لم يصرح
الشرع بتأويله.
والناس في هذه
الأشياء في الشرع على ثلاث مراتب : صنف لا يشعرون بالشكوك العارضة في هذا المعنى
خاصة ، متى تركت هذه الأشياء على ظاهرها في الشرع. وهؤلاء هم الأكثرون وهم الجمهور
، وصنف عرفوا حقيقة الأشياء وهم العلماء الراسخون في العلم ، وهؤلاء هم الأقل من
الناس. وصنف عرضت لهم في هذه الأشياء شكوك ولم يقدروا على حلها ، وهؤلاء فوق
العامة دون العلماء. وهذا الصنف هم الذين يوجد في حقهم التشابه في الشرع ، وهم
الذين ذمهم الله. وأما عند العلماء والجمهور فليس في الشرع تشابه. فعلى هذا المعني
ينبغي أن يفهم التشابه.
ومثال ما عرض لهذا
الصنف مع الشرع ما يعرض في خبز البر مثلا الذي هو الغذاء النافع لأكثر الأبدان أن
يكون لأقل الأبدان ضارا وهو نافع للأكثر. وكذلك التعليم الشرعي هو نافع للأكثر ،
وربما ضرر للأقل. وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ
إِلَّا الْفاسِقِينَ) (البقرة : ٢٦).
لكن هذا إنما يعرض
في آيات الكتاب العزيز في الأقل منه وللأقل من الناس ، وأكثر ذلك هي الآيات التي
تتضمن الأعلام في أنه الغائب ليس لها مثال في الشاهد : فيعبر عنه بالشاهد الذي هو
أقرب الموجودات إليها وأكثرها شبها بها ، فيعرض لبعض الناس أن يأخذ الممثل به هو
المثال نفسه ، فيلزمه الحيرة والشك ، وهو الذي سمى متشابها في الشرع. وهذا ليس
يعرض للعلماء ولا للجمهور ، وهم صنفا الناس في الحقيقة ، لأن هؤلاء هم الأصحاء
وأما أولئك فمرضى ، والمرضى هم الأقل ، ولذلك قال الله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ
زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) (البقرة : ٢٦)
وهؤلاء أهل الكلام.
وأشد ما عرض على
الشريعة من هذا الصنف أنهم يؤولون كثيرا مما ظنوه ليس على ظاهره ، فقالوا أن هذا
التأويل هو المقصود به إنما أتى الله به في صورة المتشابه ابتلاء لعباده واختبارا
لهم ، فنعوذ بالله من هذا الظن بالله. بل نقول : إن كتاب الله العزيز إنما جاء
معجزا من جهة الوضوح والبيان ، فإذا ما أبعده عن مقصد الشرع من قال فيما ليس
بمتشابه أنه متشابه ، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه ، وقال لجميع الناس : إن فرضكم
اعتقاد هذا التأويل من مثل ما قالوه في آيات الاستواء على العرش وغير ذلك ، مما
قالوا ان ظاهره متشابه.
وبالجملة فأكثر
التأويلات التي زعم القائلون بها أنها المقصود من الشرع إذا تؤملت وجدت ليس يقوم
عليها برهان ، ولا يعقل فعل الظاهر في قبول الجمهور لها وعملهم بها فإن المقصود
الأول بالعلم في حق الجمهور إنما هو العمل ، فما كان أنفع في العمل كان أجدر ،
وأما المقصود بالعلم في حق العلماء فهو الأمران جميعا ، أعنى العلم والعمل.
مثال من أول شيئا
من الشرع وزعم أن الذي أوله هو الذي قصده الشرع وصرح بذلك التأويل للجمهور مثال من
أتى إلى دواء قد ركبه طبيب ماهر ليحفظ صحة جميع الناس أو الأكثر ، فجاء رجل فلم
يلائمه ذلك الدواء المركب الأعظم ، لرداءة مزاج كان به ليس يعرض إلا للأقل من
الناس ، فزعم أن بعض الأدوية الذي صرح باسمه الطبيب الأول في ذلك الدواء العام
المنفعة المركب ، لم يرد به ذلك الدواء الذي جرت العادة في اللسان أن يدل ذلك
الاسم عليه.
وإنما أراد به
دواء آخر مما يمكن أن يدل عليه ذلك باستعارة بعيدة. فأزال الدواء الأول من ذلك
المركب الأعظم وجعل بدله الدواء الّذي ظن أنه قصده الطبيب ، وقال للناس : هذا هو
الذي قصده الطبيب الأول فاستعمل الناس ذلك الدواء المركب على الوجه الذي تأوله
عليه ذلك المتأول ، ففسدت به أمزجة كثيرة من الناس ، فجاء آخرون فشعروا بإفساد
أمزجة الناس من ذلك الدواء المركب فراموا إصلاحه بأن أبدلوا بعض أدويته بدواء آخر
غير الدواء الأول ، فعرض للناس نوع من المرض غير النوع الأول. فجاء ثالث فتأول في
أدوية ذلك المركب غير التأويل الأول والثاني ، فعرض للناس نوع ثالث من المرض غير
النوعين المتقدمين. فجاء متأول رابع فتأول دواء آخر غير الأدوية المتقدمة فعرض
للناس نوع رابع من الأمراض غير الأمراض المتقدمة ، فلما طال الزمان بهذا الدواء
المركب الأعظم وسلط الناس التأويل على أدويته وغيرها وبدلوها ، عرض للناس أمراض
شتى حتى فسدت المنفعة المقصودة بذلك الدواء المركب في حق أكثر الناس.
وهذه هى حال
الفرقة الحادثة في الشريعة مع الشريعة. وذلك أن كل فرقة منهم تأولت في الشريعة
تأويلا غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى ، وزعمت أنه الذي قصده صاحب الشرع ،
حتّى تمزق الشرع كل ممزق وبعد عن موضوعه الأول.
ولما علم صاحب
الشرع صلىاللهعليهوسلم أن هذا سيعرض في شريعته قال : «ستفترق أمتى على ثلاث
وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة» .
__________________
سلكت ظاهر الشرع
ولم تؤوله ، وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد العارض
فيها قبل تبينت أن هذا المثال صحيح.
وأول من غير هذا
الدواء الأعظم الخوارج ، ثم المعتزلة بعدهم ثم الأشعرية ثم الصوفية ، ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى ، وذكر كلاما بعد
متعلقا يكتب ليس لنا غرض في حكايته ـ أه.
__________________
فصل
في انقسام الناس في نصوص الوحي إلى : أصحاب تأويل ،
وأصحاب تخييل ، وأصحاب تمثيل ، وأصحاب تجهيل ، وأصحاب
سواء السبيل
الصنف
الأول : أصحاب التأويل ،
وهم أشد الناس اضطرابا إذ لم يثبت لهم قدم في الفرق بين ما يتأول وما لا يتأول ولا
ضابط مطرد منعكس يجب مراعاته
__________________
وتمتنع مخالفته ،
بخلاف سائر الفرق فإنهم جروا على ضابط واحد ، وإن كان فيهم من هو أشد من أصحاب
التأويل.
الصنف
الثاني : أصحاب التخييل ،
وهم الذين اعتقدوا أن الرسل لم يفصحوا للخلق بالحقائق ، إذ ليس في قواهم إدراكها ،
وإنما أبرزوا لهم المقصود في صورة المحسوس ، قالوا : ولو دعت الرسل أممهم إلى
الإقرار برب لا داخل العالم ، ولا خارجه ، ولا محايثه ، ولا مباينا له ، ولا متصلا
به ، ولا منفصلا عنه ، ولا فوقه ، ولا تحته ، ولا عن يمينه ولا عن يساره ، لنفرت
عقولهم من ذلك ، ولم تصدق بامكان هذا الوجود ، فضلا عن وجوب وجوده ، وكذلك لو
أخبرهم بحقيقة كلامه ، وأنه فيض فاض من المبدأ الأول على العقل الفعال ؛ ثم فاض من
ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدة لم يفهموا ذلك ولو أخبروهم عن المعاد
الروحاني بما هو عليه لم يفهموه ، فقربوا لهم الحقائق المعقولة بإبرازها ذي الصور
المحسوسة ، وضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض والنشور
ومصيرها إلى جنة فيها أكل وشرب ولحم وخمر وجوار حسان ، أو نار فيها أنواع العذاب ،
تفهيما للذات الروحانية بهذه الصورة وللألم الروحانى بهذه الصورة.
وهكذا فعلوا في
وجود الرب تعالى وصفاته وأفعاله ، ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جدا أكبر من كل
موجود ، وله سرير عظيم وهو مستو على سريره ، يسمع ويبصر ويتكلم ويأمر وينهي ويرضى
ويغضب ، ويأتي ويجيء ، وينزل ، وله يدان ووجه ويفعل بمشيئة ، وإذا تكلم العباد سمع
كلامهم ، وإذا تحركوا رأى حركاتهم ، وإذا هجس في قلب أحد منهم هاجس علمه. وأنه ينزل كل ليلة
إليهم إلى سمائهم هذه فيقول : «من يسألنى فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له» إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية ، قالوا : ولا يحل
لأحد أن يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور لأنه يفسد ما وضعت له الشرائع والكتب
الإلهية. وأما الخاصة فإنهم يعلمون أن هذه أمثال مضروبة
__________________
لأمور عقلية تعجز
عن إدراكها عقول الجمهور ، فتأويلها جناية على الشريعة والحكمة.
وحقيقة الأمر عند
هذه الطائفة أن الذي أخبرت به الرسل عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعن اليوم
الآخر لا حقيقة له تطابق ما أخبروا به ، ولكنه أمثال وتخييل وتفهيم بضرب الأمثال.
وقد ساعدهم أرباب التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله وأسمائه وصفاته ،
وصرحوا في ذلك بمعنى ما صرح به هؤلاء في باب المعاد وحشر الأجساد بل نقلوا كلماتهم
بعينها إلى نصوص الاستواء والفوقية ، ونصوص الصفات الخبرية ، لكن هؤلاء أوجبوا أو
سوغوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها وظواهرها ، وظنوا أن الرسل قصدت ذلك من
المخاطبين تعريضا لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها واستخراج معاني
تليق بها ، وأولئك حرموا التأويل ورأوه عائدا على الشريعة بالإبطال والطائفتان
متفقتان على إبطال حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر.
والصنف
الثالث : أصحاب التجهيل الذين
قالوا : نصوص الصفات ألفاظ لا تعقل معانيها ولا يدرى ما أراد الله ورسوله منها ،
ولكن نقرؤها ألفاظا لا معاني لها ونعلم أن لها تأويلا لا يعلمه إلا الله ، وهي
عندنا بمنزلة (كهيعص) (وحم ـ عسق) و (المص). فلو ورد علينا منها ما ورد لم نعتقد
فيه تمثيلا ولا تشبيها. ولم نعرف معناه ، وننكر على من تأوله ، ونكل علمه إلى الله
تعالى. وظن هؤلاء أن هذه طريقة السلف وأنهم لم يكونوا يعرفون حقائق الأسماء
والصفات ، ولا يفهمون معنى قوله : (لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَ) ، وقوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧) ،
وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) وأمثال
ذلك من نصوص الصفات.
وبنوا هذا المذهب
على أصلين (أحدهما) أن هذه النصوص من المتشابه.
(الثاني) أن للمتشابه تأويلا
لا يعلمه إلا الله ، فنتج من هذين الأصلين استجهال السابقين الأولين من المهاجرين
والأنصار وسائر الصحابة والتابعين لهم بإحسان وأنهم كانوا يقرءون هذه الآيات
المتعلقة بالصفات ولا يعرفون معنى ذلك ولا ما
أريد به. ولازم
قولهم : أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان يتكلم بذلك ولا يعلم معناه ثم تناقضوا أقبح تناقض
فقالوا : تجري على ظواهرها. وتأويلها بما يخالف الظواهر باطل. ومع ذلك فلها تأويل
لا يعلمه إلا الله. فكيف يثبتون لها تأويلا ويقولون تجري على ظواهرها ، ويقولون
الظاهر منها مراد ، والرب منفرد بعلم تأويلها ، وهل في التناقض أقبح من هذا؟
وهؤلاء غلطوا في
المتشابه وفي جعل هذه النصوص من المتشابه. وفي كون المتشابه لا يعلم معناه إلا
الله. فأخطئوا في المقدمات الثلاث واضطرهم إلى هذا : التخلص من تأويلات المبطلين
وتحريفات المعطلين وسدوا على نفوسهم الباب. وقالوا لا نرضى بالخطإ ، ولا وصول لنا
إلى الصواب. فتركوا التدبير المأمور به والتعقل لمعانى النصوص. وتعبدوا بالألفاظ
المجردة التي أنزلت في ذلك ، وظنوا أنها أنزلت للتلاوة والتعبد بها دون تعقل
معانيها وتدبرها والتفكر فيها وأولئك جعلوها عرضة للتأويل والتحريف كما جعلها
أصحاب التخييل أمثالا لا حقيقة لها.
وقابلهم الصنف
الرابع وهم صنف التشبيه والتمثيل. ففهموا منها مثل ما للمخلوقين وظنوا أن لا حقيقة
لها إلا ذلك. وقالوا : محال أن يخاطبنا الله بما لا نعقله. ثم يقول : (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، (لَعَلَّكُمْ
تَتَفَكَّرُونَ) ، (لِيَدَّبَّرُوا
آياتِهِ) فهذه الفرق لا يزال يبدع بعضهم بعضا ويضلله ويجهله ، وقد
تصادمت كما ترى. فهم كزمرة من العميان تلاقوا فتصادموا ، كما قال أعمى البصيرة
منهم :
ونظيري في العلم
مثل اعمى
|
|
فكلانا في حندس
نتصادم
|
وهدى الله أصحاب
سواء السبيل للطريقة المثلى ، فأثبتوا حقائق الأسماء والصفات ، ونفوا عنها مماثلة
المخلوقات ، فكان مذهبهم مذهبا بين مذهبين ، وهدى بين ضلالتين ، يثبتون له الأسماء
الحسنى والصفات العليا بحقائقها ، ولا يكيفون شيئا منها ، فإن الله تعالى أثبتها
لنفسه. وإن كان لا سبيل لنا إلى معرفة كنهها وكيفيتها. فإن الله تعالى لم يكلف كل
عباده بذلك ولا أراده منها ولا جعل
لهم إليه سبيلا.
بل كثير من مخلوقاته أو أكثرها لم يجعل لهم سبيلا إلى معرفة كنهه وكيفيته. وهذه
أرواحهم التي هي أدنى إليهم من كل دان ، قد حجبت عنهم معرفة كنهها وكيفيتها.
وقد أخبرنا سبحانه
عن تفاصيل يوم القيامة وما في الجنة والنار ، فقامت حقائق ذلك في قلوب أهل الإيمان
وشاهدته عقولهم ، ولم يعرفوا كنهه. فلا يشك المسلمون أن في الجنة أنهارا من خمر
وأنهارا من عسل ، وأنهارا من لبن ، ولكن لا يعرفون كنه ذلك ومادته وكيفيته ، إذ
كانوا لا يعرفون في الدنيا الخمر إلا ما اعتصر من الأعناب ، والعسل إلا ما قذفت به
النحل في بيوتها ، واللبن إلا ما خرج من الضروع ، والحرير إلا ما خرج من دود القز
، وقد فهموا معاني ذلك في الجنة من غير أن يكون مماثلا لما في الدنيا ، كما قال
ابن عباس «ليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء والصفات» ولم يمنعهم عدم النظير في الدنيا من فهم ما أخبروا به من
ذلك.
فهكذا الأسماء
والصفات لم يمنعهم انتفاء نظيرها ومثالها من فهم حقائقها ومعانيها ، بل قام
بقلوبهم معرفة حقائقها. وانتفاء التمثيل والتشبيه عنها وهذا هو المثل الأعلى الذي
أثبته الله تعالى لنفسه في ثلاثة مواضع من القرآن ، أحدها قوله تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ ، وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠)
الثاني قوله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) ،
الثالث قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فنفي سبحانه وتعالى المثل عن هذا المثل الأعلى ، وهو ما في
قلوب أهل سماواته وأرضه من معرفته والإقرار بربوبيته وأسمائه وصفاته وذاته.
فهذا المثل الأعلى
هو الذي آمن به المؤمنون ، وأنس به العارفون : وقامت
__________________
شواهده في قلوبهم
بالتعريفات الفطرية المكملة الإلهية المضبوطة بالبراهين العقلية ، فاتفق على
الشهادة بثبوته العقل والسمع والفطرة. فإذا قال المثبت : يا الله ، قام بقلبه رب
قيوم قائم بنفسه. مستو على عرشه. مكلم. متكلم. سامع. قدير. مريد. فعال لما يريد.
يسمع دعاء الداعين ، ويقضي حاجات السائلين ، ويفرج عن المكروبين ، ترضيه الطاعات ،
وتغضبه المعاصى. تعرج الملائكة بالأمر إليه ، وتنزل بالأمر من عنده.
وإذا شئت زيادة
تعريف بهذا المثل الأعلى فعد قوى جميع المخلوقات اجتمعت لواحد منهم ، ثم كان
جميعهم على قوة ذلك الواحد ، فإذا نسبت قوتهم إلى قوة الرب تعالى لم تجد نسبة
إليها البتة ؛ كما لا تجد نسبة بين قوة البعوضة وقوة الأسد ، وإذا قدرت علوم
الخلائق واجتمعت لواحد ثم قدرت بهذه المثابة كانت علومهم بالنسبة إلى علمه تعالى
كنقرة عصفور في بحر وكذا في حكمته وكماله. وقد نبهنا سبحانه وتعالى على هذا المعنى
بقوله (وَلَوْ أَنَّ ما فِي
الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ
أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان : ٢٧) فقدر
البحر المحيط بالعالم مدادا ووراءه سبعة أبحر تحيط به كلها مدادا يكتب به كلمات
الله ، نفذت البحار ونفذت الأقلام التى لو قدرت جميع أشجار الأرض من حين خلقت إلى
أخر الدنيا ولم تنفذ كلمات الله.
وقد أخبر النبي صلىاللهعليهوسلم : «أن
السموات السبع في الكرسي كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش كحلقة ملقاة في
أرض فلاة ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله» وهو سبحانه فوق عرشه يعلم ويري ما عباده عليه.
فهذا هو الذي قام
بقلوب المؤمنين المصدقين العارفين به سبحانه المثل الأعلى
__________________
فعرفوه به وعبدوه
به وسألوه به ، فأحبوه وخافوه ورجوه ، وتوكلوا عليه وأنابوا إليه ؛ واطمأنوا بذكره
وأنسوا بحبه بواسطة هذا التعريف. فلم يصعب عليهم بعد ذلك معنى استوائه على عرشه ؛
وسائر ما وصف به نفسه من صفات كماله. إذ قد أحاط علمهم بأنه لا نظير لذلك ولا مثيل
له ولم يخطر بقلوبهم مماثلة شيء من المخلوقين وقد أعلمهم الله سبحانه علي لسان
رسوله «أنه
يقبض سماواته بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزهن» «وأن السماوات السبع
والأرضين السبع في كفه كخردلة في كف أحدكم» «وأنه يضع السموات على
إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال على إصبع ، والشجر على إصبع ، وسائر المخلوقات
على إصبع» فأى يد للخلق وأى إصبع تشبه هذه اليد وهذه الإصبع حتى يكون
إثباتها تشبيها وتمثيلا؟
فقاتل الله أصحاب
التحريف والتبديل ، ما ذا حرموه من الحقائق الإيمانية والمعارف الإلهية ، وما ذا
تعرضوا به من زبالة الأذهان ؛ ونخالة الأفكار؟ وما أشبههم بمن كان غذاؤهم المن
والسلوى بلا تعب فآثروا عليه الفوم والعدس والبصل. وقد جرت عادة الله سبحانه أن
يذل من آثر الأدنى على الأعلى ، ويجعله عبرة للعقلاء.
فأول هذا الصنف
إبليس لعنه الله ، ترك السجود لآدم كبرا فابتلاه الله تعالى بالقيادة لفساق ذريته ، وعباد الأصنام لم يقروا بنبي من البشر ورضوا بآلهة
__________________
من الحجر ،
والجهمية نزهوا الله عن عرشه لئلا يحويه مكان ، ثم قالوا : هو في الآبار والأنجاس
وفي كل مكان ، وهكذا طوائف الباطل لم يرضوا بنصوص الوحي فابتلوا بزبالة أذهان
المتحيرين ، وورثة الصابئين وأفراخ الفلاسفة الملحدين.
__________________
فصل
(أسباب قبول التأويل الباطل)
قبول التأويل له أسباب : منها أن يأتي به صاحبه مموها بزخرف من القول ، مكسوا حلة
الفصاحة والعبارة الرشيقة فتسرع العقول الضعيفة إلى قبوله واستحسانه قال الله
تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَما يَفْتَرُونَ) (الأنعام : ١١٢)
فذكر سبحانه أنهم يستعينون على مخالفة أمر الأنبياء بما يزخرفه بعضهم لبعض من
القول ، ويفتريه الأغمار وضعفاء العقول. فذكر السبب الفاعل وهو ما يغر السامع من
زخرف القول فلما أصغت إليه ورضيته اقترفت ما تدعو إليه من الباطل قولا وعملا.
فتأمل هذه الآيات
وما تحتها من هذا المعنى العظيم القدر الذي فيه بيان أصول الباطل والتنبيه على
مواقع الحذر منها ؛ وإذا تأملت مقالات أهل الباطل رأيتهم قد كسوها من العبارات
المستحسنة ما يسرع إلى قبوله كل من ليس له بصيرة نافذة ؛ فيسمون أم الخبائث أم
الأفراح ، ويسمون اللقمة الملعونة التي هي الحشيشة : لقيمة الذكر والفكر التي تثير
الغرام الساكن إلى أشرف الأماكن ، ويسمون مجالس الفجور : المجالس الطيبة حتى إن
بعضهم لما عدل عن شيء من ذلك قالوا له ؛ ترك المعاصى والتخوف منها إساءة ظن برحمة
الله وجراءة على سعة عفوه ومغفرته ، وفانظر ما تفعل هذه الكلمة في قلب ممتلئ
بالشهوات ، ضعيف العلم والبصيرة.
__________________
(السبب
الثاني) أن يخرج المعنى
الذي يريد إبطاله في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب ، وتنبوا عنها الأسماع ، فيسمى
عدم الانبساط إلى الفساق : سوء خلق ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فتنة وشرا
وفضولا ، ويسمون إثبات الصفات لكمال الله تعالى تجسيما وتشبيها وتمثيلا ويسمون العرش
حيزا وجهة ويسمون الصفات أعراضا ، والأفعال حوادث ، والوجه واليدين أبعاضا ،
والحكم والغايات التي يفعل لأجلها أعراضا ، فلما وضعوا لهذه المعاني الصحيحة ، تلك
الألفاظ المستكرهة تم لهم تعطيلها ونفيها على ما أرادوا.
فقالوا لضعفاء
العقول : اعلموا أن ربكم منزه عن الأعراض ، والأغراض ، والأبعاض ، والجهات
والتركيب ، والتجسيم ، والتشبيه ، ولم يشك أحد لله في قلبه وقار وعظمة في تنزيه
الرب تعالى عن ذلك. وقد اصطلحوا على تسمية سمعه وبصره وعلمه وقدرته وإرادته وحياته
أعراضا. وعلى تسمية وجهه الكريم ويديه المبسوطتين أبعاضا. وعلى تسمية استوائه على
عرشه وعلوه على خلقه تحيزا. وعلى تسمية نزوله إلى سماء الدنيا وتكليمه بقدرته
ومشيئته إذا شاء ، وغضبه بعد رضاه ، ورضاه بعد غضبه : حوادث. وعلى تسمية الغاية
التي يتكلم ويفعل لأجلها : غرضا. واستقر ذلك في قلوب المبلغين عنهم ، فلما صرحوا لهم
بنفي ذلك بقى السامع متحيرا أعظم حيرة بين نفي هذه الحقائق التي أثبتها الله لنفسه
وأثبتها له جميع رسله وسلف الأمة بعدهم ، وبين إثباتها. وقد قام معه شاهد نفيها
بما تلقاه عنهم.
فأهل السنة هم
الذين كشفوا زيف هذه الألفاظ وبينوا زخرفها وزغلها ، وأنها ألفاظ مموهة بمنزلة
طعام طيب الرائحة في إناء حسن اللون والشكل ، ولكن الطعام مسموم ، فقالوا ما قاله
أمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمهالله «لا نزيل عن الله
صفة من صفاته لا جل شناعة المشنعين».
ولما أراد
المتأولون المعطلون تمام هذا الغرض اخترعوا لأهل السنة ألقابا قبيحة ، وسموهم
حشوية ، ومحيزة ؛ ومجسمة ، ومشبهة. ونحو ذلك. فتولد من
تسميتهم لصفات
الرب ؛ وأفعاله ، ووجهه ؛ ويديه بتلك الأسماء ، وتلقيب من أثبتها له بهذه الألقاب
، ولعن أهل الإثبات من أهل السنة ، وتبديعهم ، وتضليلهم ، وتكفيرهم ، وعقوبتهم.
ولقوا منهم ما لقى الأنبياء وأتباعهم من أعدائهم. وهذا الأمر لا يزال حتى يرث الله
الأرض ومن عليها.
(السبب
الثالث) أن يعزو المتأول
تأويله إلى جليل القدر نبيل الذكر من العقلاء أو من آل بيت النبي صلىاللهعليهوسلم ، أو من حصل له في الأمة ثناء جميل ولسان صدق ؛ ليحليه
بذلك في قلوب الجهال. فإنه من شأن الناس تعظيم كلام من يعظم قدره في نفوسهم ، حتى
أنهم ليقدمون كلامه على كلام الله ورسوله. ويقولون هو أعلم بالله منا ، وبهذا
الطريق توصل الرافضة والباطنية
__________________
والإسماعيلية والنصيرية إلى ترويج باطلهم وتأويلاتهم حين أضافوها إلى
أهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم ؛ لما علموا أن المسلمين متفقون علي محبتهم وتعظيمهم
فانتموا إليهم وأظهروا من محبتهم وإجلالهم وذكر مناقبهم ما خيل إلى السامع أنهم
أولياؤهم ثم نفقوا باطلهم بنسبته إليهم. فلا إله إلا الله ؛ كم من زندقة وإلحاد
وبدعة قد نفقت في الوجود بسبب ذلك ، وهم براء منها.
وإذا تأملت هذا
السبب رأيته هو الغالب على أكثر النفوس. فليس معهم سوى إحسان الظن بالقائل بلا
برهان من الله قادهم إلى ذلك. وهذا ميراث بالتعصيب من الذين عارضوا دين الرسل بما
كان عليه الآباء والأسلاف. وهذا شأن كل مقلد لمن يعظمه فيما خالف فيه الحق إلى يوم
القيامة.
* * *
__________________
فصل
في بيان أن أهل التأويل لا يمكنهم إقامة الدليل السمعى
على مبطل أبدا وهذا من أعظم آفات التأويل
(وفي هذا كسر الطاغوت الأول)
من المعلوم أن كل
مبطل أنكر على خصمه شيئا من الباطل قد شاركه في بعضه أو نظيره فإنه لا يتمكن من
دحض حجته لأن خصمه تسلط عليه بمثل ما تسلط هو به عليه.
مثاله : أن يحتج
من يتأول الصفات الخبرية وآيات الفوقية والعلو على من ينكر ثبوت صفة السمع والبصر
والعلم بالآيات والأحاديث الدالة على ثبوتها ، فيقول له خصمه : هذه عندي مؤولة كما
أولت نصوص الاستواء والفوقية ، الوجه ، واليدين ، والنزول ، والضحك ، والفرح ،
والغضب ، والرضى ، ونحوها. فما الذي جعلك أولى بالصواب في تأويلك منى؟ فلا يذكر
سببا على التأويل إلا أتاه خصمه بسبب من جنسه أو أقوى منه أو دونه.
وإذا استدل
المتأول على منكري المعاد وحشر الأجسام بنصوص الوحى ، أبدوا لها تأويلات تخالف
ظاهرها وحقائقها. وقالوا لمن استدل بها عليهم : تأويلنا لهذه الظواهر كتأويلك
لنصوص الصفات ، ولا سيما فإنها أكثر وأصرح ؛ فإذا تطرق التأويل إليها فهو إلى ما
دونها أقرب تطرقا.
وإذا استدل
بالنصوص الدالة على فضل الشيخين وسائر الصحابة وتأولوها بما هو من جنس تأويلات
الجهمى.
__________________
وإذا احتج الجهمى
على الخارجي بالنصوص الدالة على إيمان مرتكب الكبائر ، وأنه لا يكفر ؛ ولا يخلد في
النار ، واحتج بها على الوعيديين القائلين بنفوذ الوعيد والتخليد ، قالوا : هذه
متأولة ، وتأويلها أقرب من تأويل نصوص الصفات. وإذا احتج على المرجئة بالنصوص
الدالة على أن الإيمان قول وعمل ونية ، يزيد وينقص. قالوا هذه النصوص قابلة
للتأويل كما قبلته نصوص الاستواء والفوقية ، والصفات الخبرية ، فنعمل فيها ما
عملتم أنتم في تلك النصوص.
فقد بان أنه لا
يمكن أهل التأويل أن يقيموا على مبطل حجة من كتاب ولا سنة. ولم يبق لهم إلا نتائج
الأفكار وتصادم الآراء. لا سيما وقد أعطى الجهمى من نفسه أن أكثر اللغة مجاز ، وأن
الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ؛ وأن العقل إذا عارض السمع وجب تقديم العقل. بل
نقول إنه لا يمكن أرباب التأويل أن يقيموا على مبطل حجة عقلية أبدا.
وهذا أعجب من
الأول. وبيانه : أن الحجج السمعية مطابقة للمعقول والسمع الصحيح لا ينفك عن العقل
الصريح بل هما أخوان وصل الله تعالى بينهما فقال تعالى : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ
مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما
أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ
إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ
يَسْتَهْزِؤُنَ) (الأحقاف : ٢٦)
فذكر ما يتناول به العلوم وهي السمع والبصر والفؤاد الذي هو محل العقل ، وقال
تعالى : (وَقالُوا لَوْ كُنَّا
نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (الملك : ١٠)
فأخبروا أنهم خرجوا عن موجب السمع والعقل ، وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَسْمَعُونَ) (يونس : ٦٧) (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ) (الرعد : ١٤) وقال
تعالى : (أَفَلا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (محمد : ٢٤)
فدعاهم إلى استماعه بأسماعهم وتدبره بعقولهم ومثله قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) (المؤمنون : ٦٨)
وقال تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ
لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق : ٣٧) فجمع بين
السمع والعقل
وأقام بهما حجته
على عباده ، فلا ينفك أحدهما عن صاحبه أصلا ، فالكتاب المنزل والعقل المدرك حجة
الله على خلقه. وكتابه هو الحجة العظمى ، فهو الذي عرفناه لم يكن لعقولنا سبيل إلى
استقلالها بإدراكه أبدا ، وليس لأحد عنه مذهب ولا إلى غيره مفزع في مجهول يعلمه
ومشكل يستبينه. فمن ذهب عنه فإليه يرجع ، ومن دفع حكمه فيه يحاج خصمه إذ كان
بالحقيقة هو المرشد إلى الطرق العقلية ، والمعارف اليقينية. فمن رد من مدعي البحث
والنظر حكومته ، ودفع قضيته ، فقد كابر وعاند ولم يكن لأحد سبيل إلى إفهامه.
(حجج القرآن ظاهرة واضحة على إثبات التوحيد)
وليس لأحد أن يقول
: إني غير راض بحكمه بل بحكم العقل ، فإنه متى رد حكمه فقد رد حكم العقل الصريح
وعاند الكتاب والعقل ، والذين زعموا من قصارى العقل والسمع أن العقل يجب تقديمه
على السمع عند تعارضها إنما أتوا من جهلهم بحكم العقل ، ومقتضى السمع ، فظنوا ما
ليس بمعقول معقولا ، فهو في الحقيقة شبهات توهم أنه عقل صريح وليست كذلك ؛ أو من
جهلهم بالسمع إما بنسبهم إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ما لم يقله ، أو نسبتهم إليه ما لم يرده بقوله ، وإما لعدم
تفريقهم بين ما لا يدرك بالعقول ، فهذه أربعة أمور أوجبت لهم ظن التعارض بين السمع
والعقل ، والله سبحانه حاج عباده على ألسن رسله فيما أراد تقريرهم به وإلزامهم
إياه بأقرب الطرق إلى العقل وأسهلها تناولا ، وأقلها تكلفا وأعظمها غنى ونفعا.
فحججه سبحانه
العقلية التي في كتابه جمعت بين كونها عقلية سمعية ظاهرة واضحة قليلة المقدمات ،
مثل قوله تعالى فيما حاج به عباده من إقامة التوحيد وبطلان الشرك وقطع أسبابه وحسم
مواده كلها (قُلِ ادْعُوا
الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ ، لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي
السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ ، وَما لَهُ
مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ، وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ
لَهُ) (سبأ : ٢٢ ـ ٢٣)
فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين مجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسد
بها عليهم أبلغ سد وأحكمه ، فإن العابد إنما يتعلق
بالمعبود لما
يرجوا من نفعه ، وإلا فلو كان لا يرجو منفعة لم يتعلق قلبه به ، وحينئذ فلا بد أن
يكون المعبود مالكا للأسباب التي ينفع بها عابده ، أو شريكا لمالكها ـ أو ظهيرا أو
وزيرا ، أو معاونا له ، أو وجيها ذا حرمة وقدر يشفع عنده ، فإذا انتفت هذه الأمور
الأربعة من كل وجه انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده ، فنفي سبحانه عن آلهتهم أن
تملك مثقال ذرة في السماوات والأرض ، فقد يقول المشرك : هى شريكة المالك الحق ،
فنفى شركها له ، فيقول المشرك : قد يكون ظهيرا أو وزيرا أو معاونا فقال : (وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) ولم يبق إلا الشفاعة فنفاها عن آلهتهم ، وأخبر أنه لا يشفع
أحد عنده إلا بإذنه ، فإن لم يأذن للشافع لم يتقدم بالشفاعة بين يديه كما يكون في
حق المخلوقين فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له ، فيقبل شفاعته وإن
لم يأذن له فيها ، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته ، فهو الغنى بذاته عن كل ما
سواه ، فكيف يشفع عنده أحد بغير إذنه؟
وكذلك قوله سبحانه
مقررا برهان التوحيد أحسن التقرير وأبلغه وأوجزه (قُلْ لَوْ كانَ
مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً) (الإسراء : ٤٢)
فإن الآلهة التي كانوا يثبتونها معه كانوا يعترفون بأنها عبيده ومماليكه ومحتاجة
إليه ، فلو كانوا آلهة كما يقولون لعبدوه وتقربوا إليه وحده دون غيره ؛ فكيف
يعبدونهم دونه؟
وقد أفصح سبحانه
بهذا بعينه في قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ
وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) (الإسراء : ٥٧) أي
هؤلاء الذين تعبدونهم من دوني هم عبيدي كما أنتم عبيدي ، يرجون رحمتي ويخافون
عذابي ؛ فلما ذا تعبدون من دوني؟
وقال تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللهُ مِنْ وَلَدٍ وَما
كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ ، إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا
بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (المؤمنون : ٩١).
فتأمل هذا البرهان
الباهر بهذا اللفظ الوجيز البين ؛ فإن الإله الحق لا بد أن يكون خالقا فاعلا يوصل
إلى عباده النفع ويدفع عنه الضر ، فلو كان معه سبحانه إله لكان له خلق وفعل ،
وحينئذ فلا يرضى شركة الإله الأخر معه. بل إن قدر
على قهره وتفرده
بالإلهية دونه فعل ، وإن لم يقدر على ذلك انفرد بخلقه وذهب به كما ينفرد ملوك
الدنيا بعضهم عن بعض بمماليكهم إذا لم يقدر المنفرد على قهر الآخر والعلو عليه.
فلا بد من أحد
أمور ثلاثة : إما أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه ، وإما أن يعلو بعضهم على بعض ،
واما أن يكونوا كلهم تحت قهر إله واحد يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه ـ ويمتنع من
حكمهم ولا يمتنعون من حكمه ؛ فيكون وحده هو الإله وهم العبيد المربوبون المقهورون.
وانتظام أمر العالم العلوي والسفلي وارتباط بعضه ببعض ؛ وجريانه على نظام محكم لا
يختلف ولا يفسد من أدل دليل على أن مدبره واحد. لا إله غيره. كما دل دليل التمانع
على أن خالقه واحد لا رب غيره. فذاك تمانع في الفعل والإيجاد. وهذا تمانع في
الغاية والألوهية. فكما يستحيل أن يكون للعالم ربان خالقان متكافئان. يستحيل أن
يكون له إلهان معبودان.
ومن ذلك قوله
تعالى : (هذا خَلْقُ اللهِ
فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ) (لقمان : ١١)
فالله ما أحلى هذا اللفظ وأوجزه وأدله على بطلان الشرك : فإنهم ان زعموا أن آلهتهم
خلقن شيئا مع الله ؛ طولبوا بأن يروه اياه. وان اعترفت أنها أعجز وأضعف وأقل من
ذلك كانت آلهتها باطلا ومحالا.
ومن ذلك قوله
تعالى : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ
شِرْكٌ فِي السَّماواتِ؟ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ
عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (الأحقاف : ٤)
فطالبهم بالدليل السمعي والعقلي.
وقال تعالى : (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ؟ قُلِ اللهُ ـ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا
يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا؟ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى
وَالْبَصِيرُ؟ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ؟ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ
شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ؟ قُلِ اللهُ خالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الرعد : ١٦)
فاحتج على تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق ، وعلى بطلان إلهية ما سواه بعجزهم عن
الخلق ، وعلى أنه واحد بأنه قهار ، والقهر التام يستلزم الوحدة ، فإن الشركة تنافي
تمام القهر.
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ ـ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ
مِنْهُ ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ، ٧٤)
فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه ، فمن لم يسمعه فقد عصى أمره ، كيف
تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأوضح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وسجل على
جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد ، وعاون بعضهم بعضا بأبلغ
المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد ، ثم بين عجزهم وضعفهم على استنقاذ ما يسلبهم
الذباب إياه حين يسقط عليهم ، فأي شيء أضعف من هذا الإله المطلوب ، ومن عابده
الطالب نفعه وحده؟ فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها.
فأقام سبحانه حجة
التوحيد وبين ذلك بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يشبها غموض. ولم يشنها تطويل ، ولم يعبها
تقصير ، ولم يزد بها زيادة ولا نقص. بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز
ما لا يتوهمه متوهم ، ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها ؛ وتحتها من المعنى
الجليل القدر ، العظيم الشأن ، البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ.
ومن ذلك احتجاجه
سبحانه على نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم وصحة ما جاء به من الكتاب ، وأنه من عنده وكلامه الذي تكلم
به ، وأنه ليس من صنع البشر بقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي
رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا
...) الآية (البقرة : ٢٣) فأمر من ارتاب في هذا القرآن الذي
أنزله على عبده : وأنه كلام الله : أن يأتي بسورة واحدة مثله ، وهذا يتناول أقصر
سورة من سوره ، ثم سمح له إن عجز عن ذلك أن يستعين بمن أمكنه الاستعانة به من
المخلوقين.
وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ
فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ
كُنْتُمْ صادِقِينَ) (يونس : ٣٨) وقال
تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ
افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) ـ الآية (هود : ١٣)
، وقال تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ
تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا
صادِقِينَ) (الطور : ٣٣ ـ ٣٤)
ثم سجل عليهم تسجيلا عاما في كل مكان وزمان بعجزهم
ولو تظاهر عليه
الثقلان فقال تعالى : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء : ٨٨).
فانظر إلى أى موقع
يقع من الأسماع والقلوب هذا الحجاج الجليل القاطع الواضح الذي لا يجد طالب الحق
ومؤثره ومريده عنه محيدا ، ولا فوقه مزيدا ، ولا وراءه غاية ، ولا أظهر منه آية ،
ولا أوضح منه برهانا ، ولا أبلغ منه بيانا.
وقال في إثبات
نبوة رسوله باعتبار المتأمل لأحواله ودعوته وما جاء به (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ ، أَمْ
جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا
رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ ، أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ ، بَلْ
جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ) (المؤمنون : ٦٨ ـ
٧٠).
فدعا سبحانه إلى
تدبر القول وتأمل حال القائل ، فإن (كان) القول كذبا وزورا يعرف من نفس القول تارة
، وتارة من تناقضه واضطرابه بظهور شواهد الكذب عليه ، ويعرف من حال القائل تارة ،
فإن المعروف بالكذب والفجور والمنكر والخداع والمكر ، لا تكون أقواله إلا مناسبة
لأفعاله ، ولا يأتي منه من القول والفعل ما يتأتى من البار الصادق من كل فاحشة
وغدر وفجر وكذب ، بل قلب هذا وقصده وعمله وقوله يشبه بعضه بعضا ، وقلب ذلك وعمله
وقصده يشبه بعضه بعضا. فدعاهم سبحانه إلى تدبر القول وتأمل سيرة القائل وأحواله ،
وحينئذ يتحقق لهم ويتبين حقيقة الأمر وأن ما جاء به أعلى مراتب الصدق.
قال تعالى : (قُلْ لَوْ شاءَ اللهُ ما تَلَوْتُهُ
عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا
تَعْقِلُونَ) (يونس : ١٦) فتأمل
هاتين الحجتين القاطعتين بهذا اللفظ الوجيز : أحدهما أن هذا من الله لا من قبلي ،
ولا هو مقدور لي ، ولا من جنس مقدور البشر ؛ وأن الله لو شاء لأمسك عنه قلبي
ولساني وأسماعكم وأفهامكم فلم أتمكن من تلاوته عليكم ، ولم تتمكنوا من درايته
وفهمه.
الحجة
الثانية : أنى قد لبثت فيكم
عمري إلى حين أتيتكم به ، وأنتم تشاهدوني وتعرفوني وتصحبوني حضرا وسفرا ، وتعرفون
دقيق أمري وجليله وتحققون سيرتي ، هل كانت سيرة ممن جاهر ربه بالكذب والفرية عليه
، وطلب إفساد العالم وظلم النفوس والبغي في الأرض بغير الحق.
هذا وأنتم تعلمون
أني لم أكن أحفظ كتابا ولا أخطه بيميني ، ولا صاحبت من أتعلم منه ، بل صاحبتم أنتم
في أسفاركم من تتعلمون منه وتسألونه عن أخبار الأمم والملوك وغيرها ما لم أشارككم
فيه بوجه ، ثم جئتكم بهذا النبأ العظيم الذي فيه علم الأولين والآخرين ، وعلم ما
كان وما سيكون على التفصيل ، فأي برهان أوضح من هذا ، وأى عبارة أفصح وأوجز من هذه
العبارة المتضمنة له.
وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ
أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ
جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ) (سبأ : ٤٦) ولما
كان للإنسان الذي يطلب معرفة الحق حالتان : إحداهما أن يكون مناظرا مع نفسه ،
والثانية أن يكون مناظرا مع غيره ؛ فأمرهم بخصلة واحدة وهى أن يقوموا لله اثنين
اثنين ، فيتناظران ويتساءلان بينهما واحدا واحدا ، يقوم كل واحد مع نفسه ، فيتفكر
في أمر هذا الداعي وما يدعوا إليه ويستدعى أدلة الصدق والكذب ، ويعرض ما جاء به
عليها ليتبين له حقيقة الحال. فهذا هو الحجاج الجليل والإنصاف البين ، والنصح
التام.
وقال سبحانه في
تثبيت أمر البعث (وَضَرَبَ لَنا
مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ، قُلْ
يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) (يس : ٧٨ ـ ٧٩)
إلى آخر السورة. فلو رام أفصح البشر وأعلمهم وأقدرهم على البيان أن يأتي بأحسن من
هذه الحجة أو مثلها ، في ألفاظ تشابه هذه الألفاظ في الإيجاز والاختصار ، ووصف
حينئذ الدلالة وصحة البرهان ، لألفى نفسه ظاهر العجز عن ذلك. فإنه سبحانه افتتح
هذه الحجة بسؤال أورده الملحد اقتضى جوابا ، وكان في قوله سبحانه : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) ما وفي بالجواب وأقام الحجة وأزال الشبهة لو لا ما أراد
الله تعالى من تأكيد حجته وزيادة تقريرها ، وذلك أنه تعالى أخبر أن هذا السائل
الملحد لو تبين خلق نفسه وبدء
كونه لكانت فكرته
فيه كافية. ثم أوضح سبحانه ما تضمنه قوله : (وَنَسِيَ خَلْقَهُ) وصرح جوابا له عن مسألته بقوله : (قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها
أَوَّلَ مَرَّةٍ) فاحتج بالإبداء على الإعادة ، وبالنشأة الأولى على النشأة
الأخرى ، إذ كل عاقل يعلم علما ضروريا أن من قدر على هذه ، قدر على هذه ، وأنه لو
كان عاجزا عن الثانية عجز عن الأولى ، بل كان أعجز وأعجز.
ولما كان الخلق
يستلزم قدرة الخالق على مخلوقه ، وعلمه بتفاصيل خلقه أتبع ذلك بقوله (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ) فهو عليم بالخلق الأول وتفاصيله وموارده وصورته ، وكذلك هو
عليم بالخلق الثاني. فإذا كان تام العلم كامل القدرة. كيف يتعذر عليه أن يحيى
العظام وهي رميم؟ أكد الأمر بحجة تتضمن جوابا عن سؤال ملحد آخر يقول : العظام إذا
صارت رميما عادت طبيعتها باردة يابسة ، والحياة في الأبدان تكون مادتها طبيعة حارة
، فقال : (الَّذِي جَعَلَ
لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ) فأخبر سبحانه بإخراج هذا العنصر الذي هو في غاية الحرارة
واليبوسة من الشجر الأخضر الممتلئ بالرطوبة والبرودة. فالذي يخرج الشيء من ضده هو
الذي يفعل ما أنكره الملحد من إحياء العظام وهي رميم.
ثم أكد الدلالة
بالتنبيه على أن من قدر على الشيء الأعظم الأكبر فهو على ما دونه أقدر فقال تعالى
: (أَوَلَيْسَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ؟).
فأخبر سبحانه أن
الذي أبدع السموات والأرض على جلالتهما وعظم شأنهما ، وكبر أجسامهما وسعتهما وعجيب
خلقهما ، أقدر على أن يخلق عظاما صارت رميما فيردها إلى حالتها الأولى ، كما قال
تعالى : في موضع آخر (لَخَلْقُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَعْلَمُونَ) (غافر : ٥٧) وقال
تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ
بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى؟ بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الأحقاف : ٣٣).
ثم بين ذلك بيانا
آخر يتضمن مع إقامة الحجة دفع شبه كل ملحد وجاحد ، وهو أنه سبحانه ليس في فعله
بمنزلة غيره يفعل بالآلات والكلفة والتعب والمشقة ولا يمكنه الاستقلال بالفعل ، بل
لا بد معه من آلة ومشارك ومعين ، بل يكفي في خلق ما يريد خلقه (كُنْ فَيَكُونُ) فأخبر أن نفوذ إرادته ومشيئته ، وسرعة تكوينه وانقياد
الكون له. ثم ختم هذه الحجة باخباره أن ملكوت كل شيء بيده فيتصرف فيه بفعله وقوله
: (وَإِلَيْهِ
تُرْجَعُونَ).
فسبحان المتكلم
بهذا الكلام الذي جمع ـ مع وجازته وفصاحته وصحة برهانه ، كل ما تدعوا إليه الحاجة
من تقرير الدليل وجواب الشبهة بألفاظ لا أعذب منها للسمع ، ولا أحلى من معانيها
للقلب. ولا أنفع من ثمراتها للعبد.
ومن هذا قوله
تعالى : (أَإِذا كُنَّا
عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً؟ قُلْ كُونُوا
حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ
فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا؟ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ
فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ؟ قُلْ عَسى أَنْ
يَكُونَ قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ
إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً) (الإسراء : ٤٩ ـ
٥٢) فتأمل ما أجيبوا به عن كل سؤال على التفصيل : فإنهم قالوا : (أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا
لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً) فقيل له في جواب هذا السؤال : إن كنتم تزعمون أن لا خالق
لكم ولا رب ، فهلا كنتم خلقا لا يصيبه التعب كالحجارة والحديد وما هو أكبر في
صدوركم من ذلك؟ فإن قلتم : لنا رب خالق خلقنا على هذه الصفة وأنشأنا هذه النشأة
التي لا تقبل البقاء ، ولم يجعلنا حجارة ولا حديدا ، فقد قامت عليكم الحجة
بإقراركم. فما الذي يحول بين خالقكم ومنشئكم وإعادتكم خلقا جديدا؟.
وللحجة تقرير آخر
وهو إنكم لو كنتم من حجارة أو من حديد أو خلق أكبر منهما لكان قادرا على أن يفنيكم
ويحيل ذواتكم وينقلها من حال إلى حال ؛ ومن قدر على التصرف في هذه الأجسام مع
صلابتها وشدتها بالإفناء والإحالة ، فما يعجزه عن التصرف فيما هو دونها بإفنائه
وإحالته ونقله من حال إلى حال؟
فأخبر سبحانه أنهم
يسألون سؤالا آخر بقولهم : من يعيدنا إذا استحالت أجسامنا وفنيت؟ فأجابهم بقوله : (قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ
مَرَّةٍ) وهذا الجواب نظير جواب قول السائل (مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) فلما اخذتهم الحجة ولزمهم حكمها ، انتقلوا إلى سؤال آخر
يتعللون به كما يتعلق المقطوع بالحجاج بذلك وهو قولهم (مَتى هُوَ؟) فأجيبوا بقوله : (عَسى أَنْ يَكُونَ
قَرِيباً. يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ
لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلاً).
ومن هذا قوله
تعالى : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً؟ أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ
كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى. فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ
وَالْأُنْثى ، أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى) (القيامة : ٣٦ ـ
٤٠).
فاحتج سبحانه على
أنه لا يترك الإنسان مهملا معطلا عن الأمر والنهي ، والثواب والعقاب ؛ وإن حكمته
وقدرته تأبى ذلك ، فإن من نقله من نطفة منى ومن المنى إلى العلقة ، ثم إلى المضغة
، ثم خلقه ، وشق سمعه وبصره ، وركب فيه الحواس والقوى والعظام والمنافع ، والأعصاب
والرباطات التي هي أشد ، وأتقن خلقه وأحكمه غاية الإحكام ، وأخرجه على هذا الشكل
والصورة التي هي أتم الصور وأحسن الأشكال ، كيف يعجز عن إعادته وإنشائه مرة ثانية؟
أم كيف تقتضي حكمته وعنايته أن يتركه سدى؟ فلا يليق ذلك بحكمته ولا تعجز عنه
قدرته.
فانظر إلى هذا
الحجاج العجيب بالقول الوجيز ، والبيان الجليل الذي لا يتوهم أوضح منه ، ومأخذه
القريب الذي لا تقطع الظنون على أقرب منه.
وكذلك ما احتج به
سبحانه على النصارى مبطلا لدعوى إلهية المسيح كقوله (لَوْ أَرَدْنا أَنْ
نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ) (الأنبياء : ١٧)
فأخبر تعالى أن هذا الذي أضافه من نسب الولد إلى الله من مشركى العرب والنصارى غير
سائغ في العقول إذا تأمله المتأمل. ولو أراد الله أن يفعل هذا لكان يصطفي لنفسه ،
ويجعل هذا الولد المتخذ من الجوهر الأعلى السماوى
الموصوف بالخلوص
والنقاء من عوارض البشر ، والمجبول على الثبات والبقاء ، لا من جواهر هذا العالم
الفاني الكثير الأدناس والأوساخ والأقذار.
ولما كان هذا
الحجاج كما ترى في هذه القوة والجلالة أتبعه بقوله (بَلْ نَقْذِفُ
بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ) (الأنبياء : ١٨).
ونظير هذا قوله
تعالى (لَوْ أَرادَ اللهُ
أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ
اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (الزمر : ٤) وقال
تعالى : (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ
صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ ، انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ
ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (المائدة : ٧٥) :
وقد تضمنت هذه الحجة دليلين يبطلان إلهية المسيح وأمه.
(أحدهما)
حاجتهما إلى
الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما ، بل هي محتاجة فيما يعينهما إلى
الغذاء والشراب ، والمحتاج إلى غيره لا يكون إلها إذ من لوازم الإله أن يكون غنيا.
(الثاني)
أن الذي يأكل
الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحى من التصريح
بذكرها. ولهذا ـ والله أعلم ـ عبر الله سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي
ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة ، فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ
صاحبة وولدا من هذا الجنس ، ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون
من جنس لا يأكل ولا شرب ، ولا يكون منه الفضلات المستقذرة.
من ذلك قوله تعالى
: (وَإِذا بُشِّرَ
أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ
كَظِيمٌ. أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ
مُبِينٍ) (الزخرف : ١٧ ـ ١٨)
احتج سبحانه على هؤلاء الذين جعلوا له البنات بأن أحدهم لا يرضى بالبنات ، وإذا
بشر أحدهم بالأنثى حصل له من الحزن والكآبة ما ظهر منه السواد على وجهه ، فإذا كان
أحدكم لا يرضى بالإناث بناتا فكيف تجعلونها لي كما قال تعالى : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ) (النحل : ٦٢).
ثم ذكر سبحانه ضعف
هذا الجنس الذي جعلوه لله ، وأنه انقص الجنسين ، ولهذا يحتاج في كماله إلى الحلية
وهو أضعف الجنسين بيانا فقال تعالى : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا
فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) فأشار بنشأتهن في الحلية إلى أنهن ناقصات فيحتجن إلى
الحلية يكملن بها. وأنهن عييات فلا يبن حجتهن وقت الخصومة مع أنه في قوله : (أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ) تعريضا بما وضعت له الحلية من التزين لمن يفترشهن ويطأهن ،
وتعريضا بأنهن لا يثبتن في الحرب ، فذكر الحلية التي هي علامة الضعف والعجز.
ومن هذا ما حكاه
سبحانه من محاجة إبراهيم عليهالسلام قومه بقوله : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ
قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ؟ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ
إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا
تَتَذَكَّرُونَ؟ وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ
أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً؟ فَأَيُّ
الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (الأنعام : ٨٠ ـ
٨٢) فهذا الكلام لم يخرج في ظاهره مخرج كلام البشر الذي يتكلفه أهل النظر والجدال
والمقايسة والمعارضة. بل خرج في صورة كلام خبري يشتمل على مبادي الحجاج ، ويشير
إلى مقدمات الدليل ونتائجه بأوضح عبارة وأفصحها. والغرض منه أن إبراهيم قال لقومه
متعجبا مما دعوه إليه من الشرك (أَتُحاجُّونِّي فِي
اللهِ) وتطمعون أن تستزلوني عن توحيده بعد أن هداني ، وتأكدت
بصيرتي واستحكمت معرفتي بتوحيده بالهداية التي رزقنيها ، وقد علمتم أن من كانت هذه
حاله في اعتقاده أمرا من الأمور عن بصيرة لا يعارضه فيها ريب فلا سبيل إلى
استزلاله عنها.
وأيضا فإن المحاجة
بعد وضوح الشيء وظهوره نوع من العبث بمنزلة المحاجة في طلوع الشمس وقد رآها من
يحاجه بعينه. فكيف يؤثر حجاجكم له أنها لم تطلع ، ثم قال (وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا
أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً) فكأنه صلوات الله وسلامه عليه يذكر أنهم خوفوه آلهتهم أن
يناله منها معرة كما قاله قوم هود (إِنْ نَقُولُ إِلَّا
اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ) (هود : ٥٤) فقال
إبراهيم : إن
أصابني مكروه فليس
ذلك من قبل هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله ، وهي أقل من ذلك فإنها ليست
ممن يرجى أو يخاف ، بل يكون ذلك الذي أصابني من قبل الحي الفعال الذي يفعل ما يشاء
بيده الضر والنفع ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم ذكر سعة علمه
سبحانه في هذا المقام ، منها على موقع احتراز لطيف وهو أن لله تعالى علما فيّ
وفيكم وفي هذه الآلهة لا يصل إليه علمي ، فإذا شاء أمرا من الأمور فهو أعلم بما
يشاؤه ، فإنه وسع كل شيء علما. فإن أراد أن يصيبني بمكروه لا علم لي من أي جهة
آتاني فعلمه محيط بما لا أعلمه وهذا غاية التفويض والتبري من الحول والقوة وأسباب
النجاة ، وأنها بيد الله لا بيدي.
وهكذا قول شعيب صلىاللهعليهوسلم لقومه (قَدِ افْتَرَيْنا
عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ
مِنْها ، وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا.
وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً. عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ، رَبَّنَا افْتَحْ
بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) (الأعراف : ٨٩)
فردت الرسل بما يفعله الله وأنه إذا شاء شيئا فهو أعلم بما يشاؤه ولا علم لنا
بامتناعه.
ثم رجع الخليل
إليهم ، مقررا للحجة فقال : (وَكَيْفَ أَخافُ ما
أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللهِ) يعني في إلهيته (ما لَمْ يُنَزِّلْ
بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ، فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ
كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ
أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) يقول لقومه : كيف يسوغ في عقل أن أخاف ما جعلتموه لله
شريكا في الإلهية وهي ليست موضع نفع ولا ضر ، وأنتم لا تخافون إنكم أشركتم بالله
في الإلهية أشياء لم ينزل بها حجة عليكم ، والذي أشرك بخالقه وفاطره ـ فاطر
السموات والأرض ورب كل شيء ومليكه ـ آلهة لا تخلق شيئا وهي مخلوقة ، ولا تملك
لأنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، وجعلها ندا له
ومثلا في الإلهية ؛ أحق بالخوف ممن لا يجعل مع الله إله آخر وحده وأفرده بالإلهية
والربوبية والقهر والسلطان والحب والخوف. والرجاء ؛ فأي الفريقين أحق بالأمن إن
كنتم تعلمون؟ فحكم الله
تعالى بينهما
بأحسن حكم خضعت له القلوب وأقرت به الفطر فقال تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ).
فتأمل هذا الكلام
وعجيب موقعه في قطع الخصوم ، وإحاطته بكل ما وجب في العقل أن يرد به ما دعوه إليه
، بحيث لم يبق لطاعن مطعن ولا سؤال ، ولما كانت بهذه المثابة عظمها بإضافتها إلى
نفسه الكريمة فقال تعالى : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا
آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) (الأنعام : ٨٣)
وكفى بحجة أن يكون الله تعالى ملقيها لخليله أن تكون قاطعة لموارد العناد ، وقامعة
لأهل الشرك والإلحاد.
وشبيه بهذه القصة
قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ
إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ. قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ.
قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها
مِنَ الْمَغْرِبِ. فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ) (البقرة : ٢٥٨)
لما أجاب إبراهيم صلىاللهعليهوسلم المحاج له في الله بأن الذي يحيى ويميت هو الله ، أخذ عدو
الله في المغالطة والمعارضة بأنه يحيي ويميت ، بأنه يقتل من يريد ، ويستبقي من
يريد ، فقد أحيا هذا وأمات هذا ، فألزمه إبراهيم على طرد هذه المعارضة أن يتصرف في
حركة الشمس من غير الجهة التي يأتي الله بها منها بزعمه ، فإذا ادعى أنه يساوي
الله في الإحياء والإماتة ، فإن كان صادقا فليتصرف في الشمس تصرفا تصح به دعواه ،
وليس هذا انتقالا من حجة إلى حجة أوضح منها كما زعم بعض النظار ، وإنما هو إلزام
للمدعي في طرد حجته إن كانت صحيحة.
ومن ذلك احتجاجه
سبحانه على إثبات علمه بالجهات كلها بأحسن دليل وأوضحه وأصحه ، حيث يقول : (وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا
بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (الملك : ١٣) ثم
قرر علمه بذلك بقوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟). وهذا أبلغ من التقرير. فإن الخالق لا بدّ أن يعلم مخلوقه
،
وإذا كنتم مقرين
بأنه خالقكم وخالق صدوركم وما تضمنته ، فكيف تختفي عليه وهى خلقه؟
وهذا التقرير مما
يصعب على القدرية فهمه ، فإنه لم يخلق عندهم ما في الصدور. فلم يكن في الآية
على أصولهم دليل على علمه بها ، ولهذا طرد غلاة القوم ذلك ونفوا علمه ، فكفرهم
السلف قاطبة. وهذا التقرير من الآية صحيح على التقديرين ، أعني تقدير أن يكون (من)
في محل رفع على الفاعلية أو في محل نصب على المفعولية : فعلى التقدير الأول ألا
يعلم الرب مخلوقه ومصنوعه؟ ثم ختم الحجة باسمين مقتضيين لثبوتها وهما «اللطيف»
الذي لطف صنعه وحكمته ودق حتى عجزت عنه الأفهام «والخبير» الذي انتهى علمه إلى
الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها كما أحاط بظواهرها ، فكيف يخفي على «اللطيف
الخبير» ما تخفيه الضمائر وتجنه الصدور .
__________________
ومن هذا احتجاجه
سبحانه على المشركين بقوله تعالى : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ
غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ؟ أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ
بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور : ٣٥ ـ ٣٦)
فتأمل هذا الترديد والحصر المتضمن لإقامة الحجة بأقرب طريق وأوضح عبارة.
يقول تعالى :
هؤلاء مخلوقون بعد أن لم يكونوا ، فهل خلقوا من غير خالق خلقهم؟ فهذا من المحال
الممتنع عند كل عاقل. ثم قال تعالى : (أَمْ هُمُ
الْخالِقُونَ) وهذا أيضا من المستحيل أن يكون العبد خالقا لنفسه ، فإن من
لا يقدر أن يزيد في حياته بعد وجوده وتعاطيه أسباب الحياة ساعة واحدة ، كيف يكون
خالقا لنفسه؟ وإذا بطل القسمان تبين أن لهم خالقا خلقهم فهو الإله الحق الذي يستحق
عليهم العبادة والشكر ، فكيف يشركون إلها غيره وهو وحده الخالق لهم؟
فإن قيل : فما
موقع قوله تعالى : (أَمْ خَلَقُوا
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) من هذه الحجة؟ قيل أحسن موقع ، فإنه بين بالقسمين الأولين
أن لهم خالقا فاطرا وبين بالقسم الثالث أنهم بعد أن وجدوا وخلقوا فهم عاجزون غير
خالقين فإنهم لم يخلقوا نفوسهم ولم يخلقوا السموات والأرض وإن الواحد القهار الذي
لا إله غيره ولا رب سواه هو الذي خلقهم وخلق السموات والأرض ، فهو المتفرد بخلق
المسكن والساكن.
__________________
ومن هذا ما حكاه
الله سبحانه من محاجة صاحب يس لقومه ، بقوله : (يا قَوْمِ اتَّبِعُوا
الْمُرْسَلِينَ ، اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (يس : ٢٠ ـ ٢١)
فنبه على وجوب الاتباع ، وهو كون المتبوع رسولا لمن ينبغي أن لا يخالف ولا يعصى ،
وأنه على هداية. ونبه على انتقاء المانع ، وهو عدم سؤال الأجر فلا يريد منكم دنيا
ولا رئاسة فموجب الاتباع كونه مهتديا والمانع منه منتف ، وهو طلب العلو والفساد
وطلب الأجر ، ثم قال : (وَما لِيَ لا
أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) أخرج الحجة عليهم في معرض المخاطبة لنفسه تأليفا لهم ،
ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول ، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه
عليه ، وأنعامه كلها تابعة لايجاده وخلقه. وقد جبل الله العقول والفطر والشرائع
على شكر المنعم ومحبة المحسن.
ولا يلتفت إلى ما
يقوله نفاة التحسين والتقبيح في ذلك ، فإنه من أفسد الأقوال وأبطلها في العقول
والفطر والشرائع ، ثم أقبل عليهم مخوفا الناصح فقال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ثم أخبر عن الآلهة التي تعبد من دون الله أنها باطلة فقال
: (أَأَتَّخِذُ مِنْ
دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ
شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ) فإن العبد يريد من معبوده أن ينفعه وقت حاجته إليه ، وأنه
إذا أرادني الرحمن الذي فطرني بضر لم يكن لهذه الآلهة من القدرة ما ينقذوني بها من
ذلك الضر ، ولا من الجاه والمكانة عنده ما يشفع لي إليه ، ولا يخلص من ذلك الضر
فبأى وجهة تستحق العبادة؟ (إِنِّي إِذاً لَفِي
ضَلالٍ مُبِينٍ) إن عبدت من دون الله من هذا شأنه.
وهذا الذي ذكرناه
من حجاج القرآن يسير من كثير.
والمقصود أنه يتضمن
الأدلة العقلية والبراهين القطعية التي لا مطمع في التشكيك فيها وإيراد الأسئلة
عليها إلا لمعاند مكابر ، والمتأول لا يمكنه أن يقيم على مبطل حجة نقلية ولا عقلية
أما النقل فإنه عنده قابل للتأويل ، وهو لا يفيد اليقين. وأما العقل فلأنه قد خرج
عن صريحه وموجبه بالقواعد التي قادته إلى تأويل النصوص وإخراجها عن ظواهرها
وحقائقها ، فصارت تلك القواعد
الباطلة حجابا
بينه وبين العقل والسمع. فإذا احتج على خصمه بحجة عقلية نازعه خصمه في مقدماتها
بما سلم له من القواعد التي تخالفها.
فالمقصود الصريح
هو ما دلت عليه النصوص ، فإذا أبطله بالتأويل فلم يبق معه صحيح يحتج به على خصمه
كما لم يبق معه منقول صريح ، فإنه قد عرض المنقول للتأويل ، والمعقول الصريح خرج
عنه بالذي ظن أنه معقول.
ومثال هذا أن
العقل الصحيح الذي لا يكذب ولا يغلط قد حكم حكما لا يقبل الغلط أن كل ذاتين
قائمتين بأنفسهما إما أن تكون كل منهما مباينة للأخرى أو محايثة لها ، وأنه يمتنع
أن تكون هذه الذات قائمة بنفسها وهذه قائمة بنفسها ، وإحداهما ليست فوق الأخرى ،
ولا تحتها ، ولا عن يمينها ، ولا عن يسارها ، ولا محايثة ، ولا داخلة فيها ، ولا
خارجة عنها ، فإذا خولف مقتضى هذا المعقول الصريح ودفع موجبه ، فأى دليل عقلي احتج
به المخالف بعد هذا على مبطل أمكنه دفعه هو به حكم هذا العقل.
الوجه
الأربعون : إن الأدلة القاطعة قد قامت على صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما يخبر به ، ودلالتها على صدقه أبين وأظهر من دلالة
الشبه العقلية على نقيض ما أخبر به عند كافة العقلاء. ولا يستريب في ذلك إلا مصاب
في عقله وفطرته ، فأين الشبه النافية لعلو الله على خلقه ، وتكلمه بمشيئته ،
وتكليمه لخلقه. ولصفات كماله ، ولرؤيته بالأبصار في الآخرة ولقيام أفعاله به ، إلى
براهين نبوته التي زادت على الألف وتنوعت كل التنوع ، فكيف يقدح في البراهين
العقلية الضرورية بالشبه الخيالية المتناقضة؟ وهل ذلك إلا من جنس الشبه التي
أوردها في التشكيك في الحسيات والبديهات. فإنها وإن عجز كثير من الناس
__________________
عن حلها فهم
يعلمون أنها قدح فيما علموه بالحس والاضطراب. فمن قدر على حلها وإلا لم يتوقف حزمه
بما علمه بحسه واضطراره على حلها.
وكذلك الحال في
الشبه التي عارضت ما أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم سواء ؛ فإن المصدق به وبما جاء به يعلم أنها لا تقدح في
صدقه ولا في الإيمان به ، فإن عجز عن حلها فإن تصديقه بما جاء به الرسول ضروري.
وهذه الشبهة عنده لا تزيل ما علمه بالضرورة ، فكيف إذا تبين بطلانها على التفصيل؟
يوضحه.
(موافقة صريح العقل لصحيح النقل)
الوجه
الحادي والأربعون وهو : أن الرسول صلىاللهعليهوسلم بين مراده. وقد تبين أكثر مما تبين لنا كثير من دقائق
المعقولات الصحيحة ، ومعرفتنا بمراد الرسول صلىاللهعليهوسلم من كلامه فوق معرفتنا بتلك الدقائق إذا كانت صحيحة
المقدمات في نفسها صادقة النتيجة غير كاذبة فكيف إذا كان الأمر فيها بخلاف ذلك؟
فتلك التي تسمى معقولات قد تكون خطأ ولكن لم يتفطن لخطئها. وأما كلام المعصوم صلىاللهعليهوسلم فقد قام البرهان القاطع على صدقه ، ولكن قد يحصل الغلط في
فهمه فيفهم منه ما يخالف صريح العقل فيقع التعارض بين ما فهم من النقل وبين ما
اقتضاه صريح العقل فهذا لا يدفع. ولكن إذا تأمله من وهبه الله حسن القصد وصحة
التصور تبين له أن المعارضة واقعة بين ما فهمه النفاة من النصوص وبين العقل الصريح
، وأنها غير واقعة بين ما دل عليه النقل وبين العقل.
ومن أراد معرفة
هذا فليوازن بين مدلول النصوص وبين العقل الصريح ليتبين له مطابقة أحدهما للآخر ،
ثم يوازن بين أقوال النفاة وبين العقل الصريح ، فإنه يتبين له حينئذ أن النفاة
أخطئوا خطأين ، خطأ على السمع ، فإنهم فهموا منه خلاف مراد المتكلم ، وخطأ على
العقل بخروجهم عن حكمه.
الثاني
والأربعون : أن المعارضين بين
العقل والنقل الذي أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم قد اعترفوا بأن العلم بانتفاء المعارض مطلقا لا سبيل إليه
، إذ ما من معارض نفسه إلا ويحتمل أن يكون له معارض آخر. وهذا مما اعتمد صاحب «نهاية
العقول» وجعل السمعيات لا يحتج بها على العالم بحال.
وحاصل هذا : أنا
لا أعلم ثبوت ما أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم حتى نعلم انتفاء ما يعارضه. ولا سبيل إلى العلم بانتفاء
المعارض مطبقا لما تقدم ، وأيضا فلا يلزم من انتفاء العلم بالمعارض. ولا ريب أن
هذا القول أفسد أقوال العالم ، وهو من أعظم أصول أهل الإلحاد والزندقة ، وليس في
عزل الوحي عن رتبته أبلغ من هذا.
الثالث
والأربعون : إن الله سبحانه قد
أخبر في كتابه أن ما على الرسول إلا البلاغ المبين فقال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨)
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) ،
وقال تعالى : (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ) (النحل : ٤٤) وقد
شهد الله له وكفى بالله شهيدا بالبلاغ الذي أمر به ، فقال : (فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ
بِمَلُومٍ) (الذاريات : ٥٤) ،
وشهد له أعقل الخلق وأعلمهم وأفضلهم بأنه قد بلغ. فأشهد الله عليهم بذلك في أعظم
مجمع وأفضله ، فقال في خطبته في عرفات في حجة الوداع «إنكم مسئولون عني فما
أنتم قائلون؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت : فرفع إصبعه إلى السماء
مستشهدا بربه الذي فوق سماواته ، وقال : «اللهم اشهد» فلو لم يكن عرف المسلمون وتيقنوا ما أرسل به وحصل لهم منه
العلم واليقين ، لم يكن قد حصل منه البلاغ المبين ، ولما رفع عنه اللوم وغاية ما
عند النفاة أنه يضمهم ألفاظا لا تفيدهم علما ولا يقينا. وأحالهم في طلب العلم
واليقين على عقولهم وفطرهم وآرائهم ، لا على ما أوحى إليه ؛ وهذا معلوم البطلان
بالضرورة.
الرابع
والأربعون : أن عقل رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكمل عقول أهل الأرض على الإطلاق فلو وزن عقله بعقولهم
لرجحها وقد أخبر الله أنه قبل الوحى لم يكن يدري ما الإيمان ، كما لم يكن يدري ما
الكتاب ، فقال الله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ
وَلكِنْ جَعَلْناهُ
__________________
نُوراً
نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (الشورى : ٥٢)
وقال تعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى ، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى ، وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) (الضحى : ٦ ـ ٨)
وتفسير هذه الآية بالآية التي في آخر سورة الشورى. إذا كان أعقل الخلق على الإطلاق
إنما حصل له الهدى بالوحى كما قال تعالى : (قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ
فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي
إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) (سبأ : ٥٠) فكيف
يحصل لسفهاء العقول واخفاء الأحلام ، الاهتداء إلى حقائق الإيمان بمجرد عقولهم دون
نصوص الوحي ، حتى اهتدوا بتلك الهداية إلى المعارضة بين العقل ونصوص الأنبياء (لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ
السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ
هَدًّا) (مريم : ٨٩ ـ ٩٠).
الوجه
الخامس والأربعون : إن الله سبحانه إنما أقام الحجة على خلقه بكتابه ورسله فقال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ
عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (الفرقان : ١)
وقال تعالى : (وَأُوحِيَ إِلَيَّ
هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) (الأنعام : ١٩)
فكل من بلغه هذا القرآن فقد أنذر به وقامت عليه حجة الله وقال تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : ١٦٥) ،
وقال تعالى : (وَما كُنَّا
مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (الإسراء : ١٥) ،
وقال تعالى : (كُلَّما أُلْقِيَ
فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا بَلى قَدْ
جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ
إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ. وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما
كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ. فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ
السَّعِيرِ) (الملك : ٨ ـ ١١)
فلو كان كلام الله ورسوله لا يفيد اليقين والعلم ، والعقل معارض له ، فأى حجة تكون
قد قامت على المكلفين بالكتاب والرسل؟ وهل هذا القول إلا مناقض لإقامة حجة الله
بكتابه من كل وجه؟.
الوجه
السادس والأربعون : أنه سبحانه بين لعباده بأنه يبين لهم غاية البيان ، وأمر رسوله بالبيان. وأخبر
أنه أنزل عليه كتابه ليبين للناس ولهذا قال الزهري : «من الله البيان وعلي الرسول
البلاغ ، وعلينا التسليم» ؛ فهذا البيان الذي تكفل به سبحانه وأمر به رسوله إما أن
يكون المراد به بيان اللفظ وحده ، أو المعنى وحده ، أو اللفظ المعنى جميعا. ولا
يجوز أن يكون المراد بيان اللفظ دون المعنى ، فإن هذا لا فائدة فيه ، ولا يحصل به
مقصود الرسالة.
وبيان المعنى وحده
بدون دليله ، وهو اللفظ الدال عليه ، ممتنع ، فعلم قطعا أن المراد بيان اللفظ
والمعنى ، فكما نقطع ونعلم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم بين اللفظ فكذلك نتيقن أنه بين المعنى ، بل كانت عنايته
ببيان المعنى أشد من عنايته ببيان اللفظ وهذا هو الذي ينبغي ، فإن المعنى هو
المقصود ، وأما اللفظ فوسيلة إليه ، فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهم من عنايته
بالمقصود؟ وكيف يتيقن بيانه للوسيلة ولا يتيقن بيانه للمقصود؟ وهل هذا إلا من أبين
المحال فإن جاز عليه أن لا يبين المراد من ألفاظ القرآن ، جاز أن لا يبين بعض
ألفاظه. فلو كان المراد منها خلاف حقائقها وظواهرها دون مدلولاتها ـ وقد كتمه عن
الأمة ولم يبينه لها. كان ذلك قدحا في رسالته وعصمته ، وفتحا للزنادقة من الرافضة
وغيرهم باب كتمان بعض ما أنزل الله ، وهذا مناف للإيمان به وبرسالته ، يوضحه :
(الرد على من قال : أن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين)
الوجه
السابع والأربعون : إن القائل بأن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين ، إما أن يقول : إنها تفيد ظنا
أو لا تفيد علما ولا ظنا. فإن قال : لا تفيد علما ولا ظنا فهو مع مكابرته للعقل
والسمع والفطرة الإنسانية من أعظم الناس كفرا وإلحادا.
وإن قال : بل تفيد
ظنا غالبا وإن لم تفد يقينا ، قيل له : فالله تعالى قد ذم الظن المجرد وأهله ،
فقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) فأخبر أن الظن لا يوافق الحق ولا يطابقه ، وقال تعالي : (إِنْ
يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) ، وقال أهل النار (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) ، فلو كان ما أخبر الله به عن أسمائه وصفاته واليوم الآخر
، وأحوال الأمم وعقوباتهم ، لا تفيد إلا ظنا ، لكان المؤمنون أن يظنون ظنا وما هم
بمستيقنين ، ولكان قوله تعالى : (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ
يُوقِنُونَ) خبرا غير مطابق ، فإن علمهم بالآخرة إنما استفادوه من
الأدلة اللفظية ، ولا سيما وجمهور المتكلمين يصرحون بأن المعاد إنما علم بالنقل ،
فإذا كان النقل لا يفيد يقينا لم يكن في الأمة من يوقن بالآخرة ، إذا الأدلة العقلية
لا مدخل لها فيها ، وكفى بهذا بطلانا وفسادا.
والله تعالى لم
يكتف من عباده بالظن بل أمرهم بالعلم كقوله (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا
إِلهَ إِلَّا اللهُ) (محمد : ١٩) ،
وقوله : (اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة : ٩٨)
وقوله : (وَاتَّقُوا اللهَ
وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ) (البقرة : ٢٢٣)
ونظائر ذلك.
وإنما يجوز اتباع
الظن في بعض المواضع للحاجة ، كحادثة يخفي على المجتهد حكمها ، أو في الأمور
الجزئية كتقويم السلع ونحوه. وأما ما بينه الله في كتابه على لسان رسوله فمن لم
يتيقنه بل ظنه ظنا ، فهو من أهل الوعيد ليس من أهل الإيمان ، فلو كانت الأدلة
اللفظية لا تفيد اليقين لكان ما بينه الله ورسوله بالكتاب والسنة لم يتيقنه أحد من
الأمة.
الثامن
والأربعون : قوله إن العلم
بمدلول الأدلة اللفظية موقوف على نقل اللغة : كلام ظاهر البطلان ، فإن دلالة
القرآن والسنة على معانيها من جنس دلالة لغة كل قوم على ما يعرفونه ويعتادونه من
تلك اللغة ، وهذا لا يختص بالعرب ، بل هو أمر ضروري لجميع بنى آدم ، إنما يتوقف
العلم بمدلول ألفاظهم على كونهم من أهل تلك اللغة التي وقع بينهم بها التخاطب ،
ولهذا لم يرسل الله رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ، فتقوم عليهم الحجة بما فهموه
من خطابه لهم فدلالة اللفظ هي العلم بقصد المتكلم به.
ويراد بالدلالة
أمران : فعل الدال. وكون اللفظ بحيث يفهم معنى. ولهذا
يقول دله بكلامه
دلالة. ودل الكلام على هذا دلالة ، فالمتكلم دال بكلامه ؛ وكلامه دال بنظامه ،
وذلك يعرف من عادة المتكلم في ألفاظه. فإذا كانت عادته أنه يعني بهذا اللفظ هذا
المعنى ، علمنا متى خاطبنا به أنه أراده من وجهين : أحدهما أن دلالة اللفظ مبناها
على عادة المتكلم التي يقصدها بألفاظه ، وكذا على مراده بلغته التي عادته أن يتكلم
بها. فإذا عرف السامع ذلك المعنى وعرف أن عادة المتكلم إذا تكلم بذلك اللفظ أن
يقصده ، علم أنه مراده قطعا ، وإلا لم يعلم مراد متكلم أبدا ، وهو محال.
الثاني : أن
المتكلم إذا كان قصده إفهام المخاطبين كلامه وعلم المخاطب السامع من طريقته وصفته
أن ذلك قصده ، لا أن قصده التلبيس ، أفاده مجموع العلمين اليقين بمراده ؛ ولم يشك
فيه ، ولو تخلف عنه العلم لكان ذلك قادحا في أحد العلمين ؛ إما قادحا في علمه في
موضع ذلك اللفظ. وإما في علمه بعبارة المتكلم به وصفاته وقصده ، فمتى عرف موضوعه
وعرف عادة المتكلم به أفاده ذلك القطع ، يوضحه :
التاسع
والأربعون : إن السامع متى سمع
المتكلم يقول لبست ثوبا ، وركبت فرسا ، وأكلت لحما ، وهو عالم بمدلول هذه الألفاظ
من عرف المتكلم ، وعالم أن المتكلم لا يقصد بقوله لبست ثوبا معنى ذبحت شاة ، ولا
من قوله ركبت فرسا معني لبست ثوبا ، علم مراده قطعا ؛ فإنه يعلم أن قصد خلاف ذلك
عد ملبسا مدلسا لا مبينا مفهما. وهذا مستحيل على الله ورسوله أعظم استحالة وإن جاز
على أهل التخاطب فيما بينهم.
فإذا إفادة كلام
الله ورسوله اليقين فوق استفاده ذلك من كلام كل متكلم. وهذا أدل على كلام الله
ورسوله من دلالة كلام غيره على مراده ، وكلما كان السامع أعرف بالمتكلم وقصده
وبيانه وعادته ؛ كانت استفادته للعلم بمراده أكمل وأتم.
الخمسون
: أن قوله : إن فهم
الدلالة اللفظية موقوف على نقل النحو والتصريف» جوابه : أن القرآن قد نقل إعرابه
كما نقلت ألفاظه ومعانيه ، ولا فرق في ذلك كله. فألفاظه متوافرة وإعرابه متواتر ؛
ونقل معانيه أظهر من نقل ألفاظه وإعرابه كما تقدم بيانه. ونقل جميع ذلك بالتواتر
أصح من نقل كل لغة
نقلها ناقل على
وجه الأرض وقواعد الأعراب والتصريف الصحيحة مستفادة منه ، مأخوذة من إعرابه
وتصريفه ، وهو الشاهد على صحة غيرها مما يحتج له بها. فهو الحجة لها والشاهد ،
وشواهد الإعراب والمعاني منه أقوى وأصح من الشواهد من غيره. حتى أن فيه من قواعد
الإعراب وقواعد المعاني والبيان ما لم يشتمل عليه ضوابط النحاة وأهل علم المعاني.
فبطل قول هؤلاء : إن الأدلة اللفظية تتوقف دلالتها على عصمة رواة مفردات تلك
الألفاظ. يوضحه :
الحادي
والخمسون : هب أنه يحتاج إلى
نقل ذلك ، لكن عامة ألفاظ القرآن منقول معناه وإعرابها بالتواتر ، لا يحتاج الناس
فيه إلى نقل عن عدول أهل العربية كالخليل ، وسيبويه ، والأصمعى ، وأبي عبيدة
والكسائي ، والفراء ، حتى الألفاظ الغريبة في القرآن مثل (ابتلوا) و (قسمة ضيزى) (وعسعس) ونحوها ، معانيها منقولة في اللغة بالتواتر لا يختص بنقلها
الواحد والاثنان ، فلم تتوقف دلالتها على عصمة رواه معانيها. فكيف في الألفاظ
الشهيرة كالشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، والبر ، والبحر ، والجبل. فهذه
الدعوى باطلة في الألفاظ الغريبة والشهيرة. يوضحه :
الوجه
الثاني والخمسون : إن أصحاب هذا القانون قالوا : أظهر الألفاظ لفظ (الله) ، وقد اختلف الناس فيه
أعظم اختلاف. هل هو مشتق أم لا؟ وهل هو مشتق من التأله أو من الوله أو من لاه إذا
احتجب.
وكذلك اسم «الصلاة»
، وفيه من الاختلاف ما فيه ، هل مشتق من الدعاء
__________________
أو من الاتباع ،
أو من تحريك الصلوين فإذا كان هذا في أظهر الأسماء ، فما الظن بغيره.
فتأمل هذا الوهم
والإيهام ، واللبس والتلبيس ، فإن جميع أهل الأرض علمائهم وجهلائهم ، ومن يعرف
الاشتقاق ومن لا يعرفه ، وعربهم وعجمهم يعلمون أن (الله) اسم لرب العالمين خالق
السموات والأرض الذي يحيى ، وهو رب كل شيء ومليكه. فهم لا يختلفون في أن هذا الاسم
يراد به هذا المسمى ، وهو أظهر عندهم وأعرف وأشهر من كل اسم وضع لكل مسمى ، وإن
كان الناس متنازعين في اشتقاقه فليس ذلك بنزاع منهم في معناه.
وكذلك الصلاة لم
يتنازعوا في معناها الذي أراده الله ورسوله وإن اختلفوا في اشتقاقها ؛ وليس هذا
نزاعا في وجه الدلالة عليه. وكذلك قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ
لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (النساء : ١٧٦)
يقدره البصريون كراهة أن تضلوا ، والكوفيون لئلا تضلوا.
وكذلك اختلافهم في
التنازع وأمثال ذلك ، إنما هو نزاع في وجه دلالة اللفظ على ذات المعنى ، مع
اتفاقهم على أن المعنى واحد ؛ وهذا اللفظ لا يخرج اللفظ عن إفادته السامع اليقين
بمسماه.
الثالث
والخمسون : أن يقول هذه
الوجوه العشرة مدارها عل حرف واحد ، وهو : أن الدليل اللفظي يحتمل أزيد من معنى
واحد فلا يقطع بإرادة المعنى الواحد.
فنقول : من
المعلوم أن أهل اللغة لم يشرعوا للمتكلم أن يتكلم بما يريد به خلاف ظاهره إلا مع
قرينة تبين المراد ؛ والمجاز إنما يدل على القرينة بخلاف الحقيقة ، فإنها تدل مع
التجرد. وكذلك الحذف والإضمار لا يجوز إلا إذا كان في الكلام ما يدل عليه. وكذلك
التخصيص ليس لأحد أن يدعيه إلا مع قرينة تدل عليه ، فلا يسوّغ العقلاء لأحد أن
يقول : جاءني زيد ، وهو يريد ابن زيد إلا مع قرينة ، كما في قوله تعالى : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ). «وسئل العير» عند من يقول إنه من هذا الباب ، فإنه يقول :
القرية والعير لا يسألان فعلم أنه أراد
أهلهما. ومن جعل
القرية للسكان والمسكن ، والعير اسما للركبان والمركوب ، ولم يحتج إلى هذا
التقدير.
وإذا كانت هذه
الأنواع لا تجوز مع تجريد الكلام عن القرائن المبينة للمراد ، فحيث تجرد علمنا
قطعا أنه لم يرد بها ذلك ؛ وليس لقائل أن يقول : قد تكون القرائن موجودة ولا علم
لنا بها ، لأن من القرائن ما يجب أن يكون لفظيا كمخصصات الأعداد وغيرها. ومنها ما
يكون معنويا كالقرائن الحالية والعقلية. والنوعان لا بد أن يكونا ظاهرين للمخاطب
ليفهم مع تلك القرائن مراد المتكلم ، فإذا تجرد الكلام عن القرائن فإن معناه
المراد عند التجرد ، وإذا اقترنا بتلك القرائن فهم معناه المراد عند الاقتران ،
فلم يقع لبس في الكلام المجرد ولا في الكلام المقيد ؛ إذ كل من النوعين مفهم
لمعناه المختص به. وقد اتفقت اللغة والشرع أن اللفظ المجرد إنما يراد به ما ظهر
منه ، وإنما يقدر من احتمال مجاز أو اشتراك أو حذف أو إضمار ونحوه وإنما يقع مع
القرينة ، أما مع عدمها فلا والمراد معلوم على التقديرين. يوضحه :
الرابع
والخمسون : أن غاية ما يقال
إن في القرآن ألفاظ استعملت في معان لم تكن العرب تعرفها ، وهي الأسماء الشرعية
كالصلاة والزكاة والاعتكاف ونحوها ، والأسماء الدينية كالإيمان والإسلام والكفر
والنفاق ونحوها. وأسماء مجملة لم يرد ظاهرها كالسارق والسارقة والزاني والزانية
ونحوها ؛ وأسماء مشتركة كالقرء وعسعس ونحوهما ، فهذه الأسماء لا تفيد اليقين
بالمراد منها.
فيقال : هذه
الأسماء جارية في القرآن على ثلاثة أنواع : نوع بيانه معه ، فهو مع بيانه يفيد
اليقين بالمراد منه ، ونوع بيانه في آيات أخرى ، فيستفاد اليقين من مجموع الآيتين
، ونوع بيانه موكول إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فيستفاد اليقين من المراد منه ببيان الرسول صلىاللهعليهوسلم ولم نقل نحن ولا أحد من العقلاء : إن كل لفظ هو مفيد
اليقين بالمراد منه بمجرده من غيره احتياج إلى لفظ آخر متصلا به أو منفصلا عنه ،
بل نقول : إن مراد المتكلم يعلم من لفظه المجرد منه والمقرون تارة ، ومنه ومن لفظ
آخر يفيدان اليقين بمراده تارة. ومنه ومن بيان آخر بالفعل أو القول يحيل
المتكلم عليه تارة
، وليس في القرآن خطاب أريد منه العلم بمدلوله إلا وهو داخل في هذه الأقسام.
فالبيان المقترن كقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) (البقرة : ٨٧) ،
وكقوله تعالى (لا يَسْتَوِي
الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي
سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) (النساء : ٩٥).
وقوله (فَلَبِثَ فِيهِمْ
أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً) (العنكبوت : ١٤)
ونظائر ذلك. والبيان المنفصل كقوله (وَالْوالِداتُ
يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ) (البقرة : ٢٣٣)
وقوله (وَفِصالُهُ فِي
عامَيْنِ) (لقمان : ١٤) ، مع
قوله : (وَحَمْلُهُ
وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً) (الأحقاف : ١٥) ؛
فأفاد مجموع اللفظين البيان بأن مدة أقل الحمل ستة أشهر.
وكذلك قوله : (وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً
أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) (النساء : ١٢) ، ومع
قوله : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ
اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) (النساء : ١٧٦) ،
وأنه من لا ولد له وإن سفل ولا والد له وإن علا. وكذلك قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ) (الطلاق : ٦) ، مع
قوله : (فَإِذا بَلَغْنَ
أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ) (الطلاق : ٢) ،
أفاد مجموع الخطابين في الرجعيات دون البوائن ، ومنه قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ وَالصُّبْحِ
إِذا تَنَفَّسَ) (التكوير : ١٧ :
١٨) ، مع قوله : (كَلَّا وَالْقَمَرِ
وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ) (المدثر : ٣٢ ـ ٣٤)
، فإن مجموع الخطابين يفيد أن العلم بأن الرب سبحانه أقسم بإدبار هذا وإقبال هذا
أو إقبال كل منهما على قول من فسر أدبر النهار أي جاء في دبره وعسعس بأقبل. فعلى
هذا القول يكون القسم بإقبال الليل وإقبال النهار ، وقد يقال : وقع الأقسام في
الآيتين بالنوعين.
وأما البيان الذي
يحيل المتكلم عليه ، فكلما أحال الله سبحانه على رسوله في بيان ما أمرهم به من
الصلاة والزكاة والحج ، وفرائض الإسلام التي إنما علمت مقاديرها وصفاتها وهيئاتها
من بيان الرسول صلىاللهعليهوسلم. فلا يخرج خطاب القرآن عن
هذه الوجوه
الأربعة. فصار الخطاب مع بيانه مفيدا لليقين بالمراد منه ، وإن لم يكن بيانه متصلا
به.
الخامس
والخمسون : إن هذا القول الذي
قاله أصحاب هذا القانون لم يعرف عن طائفة من طوائف بنى آدم ، ولا طوائف المسلمين ،
ولا طوائف اليهود والنصارى ، ولا عن أحد من أهل الملل قبل هؤلاء ، وذلك لظهور
العلم بفساده. فإنه يقدح فيما هو أظهر العلوم الضرورية لجميع الخلق. فإن بنى آدم
يتكلمون ويخاطب بعضهم بعضا مخاطبة ومكاتبة ، وقد أنطق الله تعالى بعض الجمادات
وبعض الحيوانات بمثل ما أنطق بنى آدم ، فلم يسترب سامع النطق في حصول العلم
واليقين به ، بل كان ذلك عنده من أعظم العلوم الضرورية ، فقالت النملة لأمة النمل (يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا
مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل : ١٨) فلم
يشك النمل ولا سليمان فى مرادها وفهموها يقينا. ولما علم سليمان مرادها يقينا تبسم
ضاحكا من قولها. وخاطبه الهدهد ، فحصل للهدهد العلم واليقين بمراد سليمان من
كلامه.
وأرسل سليمان
الهدية والكتاب ـ وفعل ما حكى الله لما حصل له اليقين بمراد الهدهد من كلامه.
وأنطق سبحانه الجبال مع داود بالتسبيح ، وعلّم سليمان منطق الطير ، وأسمع الصحابة
تسبيح الطعام مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وأسمع رسوله تسليم الحجر عليه . أفيقول مؤمن أو عاقل إن اليقين لم يحصل للسامع بشيء من
مدلول هذا الكلام.
السادس
والخمسون : أن أرباب هذا
القانون الذين منعوا استفادة اليقين من كلام الله ورسوله مضطرين في العقل الّذي
يعارض النقل أشد الاضطراب. فالفلاسفة مع شدة اعتنائهم بالمعقولات أشد الناس
اضطرابا في هذا الباب من طوائف أهل
__________________
الملل ، ومن أراد
معرفة ذلك فليقف على مقالاتهم في كتب أهل المقالات ، «كالمقالات الكبرى» للأشعرى ،
«والآراء والديانات» للنوبختى ، وغير ذلك. وأما المتكلمون فاضطرابهم في هذا الباب
من أشد اضطراب.
فتأمل اضطراب فرق
الشيعة والخوارج والمعتزلة وطوائف أهل الكلام ، وكل منهم يدعي أن صريح العقل معه ،
وأن مخالفه قد خرج عن صريح العقل ، ونحن نصدق جميعهم ، ونبطل عقل كل فرقهم بعقل
الأخرى ثم نقول للجميع : بعقل من منكم يوزن كلام الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم؟ فما وافقه قبل وأقر عليه ، وما خالفه أول أو فوّض إلى
عقولكم : أعقل أرسطو وشيعته : أم عقل أفلاطون أم فيثاغورس ، أم بقراط ، أم
الفارابي ، أم ابن سينا ، أم محمد بن زكريا ، أم ثابت بن قرة ، أم جهم بن صفوان ، أم النظام ، أم العلاف ، أم الجبائي ، أم بشر المريسي ، أم الإسكافي؟
__________________
أم توصون بعقول
المتأخرين الذين هذبوا العقليات ، ومخضوا زبدتها واختاروا لأنفسهم ، ولم توصوا
بعقول سائر من تقدم؟ فهذا أفضلهم عندكم محمد ابن عمر الرازي ، فبأى معقولاته تزنون
نصوص الوحي وأنتم ترون اضطرابه فيها في كتبه أشد اضطراب ولا يثبت على قول؟ .
أم ترضون عقول
القرامطة والباطنية والإسماعيلية ، أم عقول الاتحادية؟ فكل هؤلاء وأضعاف أضعافهم
يدعى أن العقل الصريح معه. وأن مخالفيه خرجوا عن صحيح المعقول ، وهذه عقولهم تنادي
عليهم ، ولو لا الإطالة لعرضناها على السامع عقلا ، وقد عرضها المعتنون بذكر
المقالات. وهذه العقول إنما تفيد الريب والشك والحيرة والجهل المركب.
__________________
فإذا تعارض النقل
وهذه العقول أخذ بالنقل الصحيح ، ورمى بهذه العقول تحت الأقدام ، وحطت حيث حطها
الله وأصحابها.
السابع
والخمسون : إن أدلة القرآن
والسنة نوعان : أحدهما يدل بمجرد الخبر. والثاني يدل بطريق التنبيه على الدليل
العقلي. والقرآن مملوء من ذكر الأدلة العقلية التي هي آيات الله الدالة على
ربوبيته ووحدانيته ، وعلمه وقدرته وحكمته ورحمته ، فآياته العيانية المشهورة في
خلقه تدل على صدق النوع الأول وهو مجرد الخبر ، ولم تتجرد أخباره سبحانه عن آية
تدل على صدقها ، بل قد بين لعباده في كتابه من البراهين الدالة على صدقه وصدق
رسوله ما فيه هدى وشفاء.
فقول القائل : أن
تلك الأدلة لا يفيد اليقين ، إن أراد به النوع المتضمن لذكر الأدلة العقلية. فهذا
من أعظم البهت والوقاحة ، فإن آيات الله التي جعلها أدلة وحججا على وجوده
ووحدانيته وصفات كماله إن لم تفد يقينين بمدلول واحد أبدا ، وإن أراد به النوع
الأول بمجرد الخبر فقد أقام الله سبحانه الأدلة القطعية على ثبوته فلم يحل عباده
فيه على خبر مجرد لا يستفيدون ثبوته إلا من الخبر المجرد نفسه دون الدليل والدال
على صدق الخبر ، وهذا غير الدليل العام الدال على صدقه فيما أخبر به ، بل هو
الأدلة على التوحيد وإثبات الصفات والنبوات والمعاد وأصول الإيمان ، فلا تجد كتابا
قد تضمن من البراهين والأدلة العقلية على هذه المطالب ما تضمنه القرآن. فأدلته
القطعية عقلية وإن لم تفد اليقين (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ
بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ؟) (الجاثية : ٦).
ففي هذا كسر
الطاغوت الأول ، وهو قولهم : إن الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين.
* * *
كسر الطاغوت الثاني
(وهو قولهم : إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل)
لأنه لا يمكن
الجمع بينهما ، ولا إبطالهما ، ولا يقدم النقل ، لأن العقل أصل النقل ، فلو قدمنا
عليه النقل لبطل العقل ، وهو أصل النقل ، فلزم بطلان النقل ، فيلزم من تقديم النقل
بطلان العقل والنقل ، فتعين القسم الرابع وهو تقديم العقل.
فهذا الطاغوت أخو
ذلك القانون ، فهو مبني على ثلاث مقدمات :
الأولى
: ثبوت التعارض بين
العقل والنقل.
الثانية : انحصار التقسيم في
الأقسام الأربعة التي ذكرت فيه.
الثالثة : بطلان الأقسام
الثلاثة ليتعين ثبوت الرابع.
وقد أشفى شيخ
الإسلام في هذا الباب بما لا مزيد عليه ، وبين بطلان هذه الشبهة وكسر هذا الطاغوت
في كتابه الكبير فنحن نشير إلى كلمات يسيرة هي قطرة من بحره تتضمن كسره ،
وذلك يظهر من وجوه.
الوجه
الأول : أن هذا التقسيم
باطل من أصله ، والتقسيم الصحيح أن يقال إذا تعارض دليلان سمعيان أو عقليان ، أو
سمعي وعقلي ، فأما يكونا قطعيين ، وإما أن يكونا ظنيين ، وإما أن يكون أحدهما
قطعيا والآخر ظنيا. فأما القطعيان فلا يمكن تعارضهما في الأقسام الثلاثة ، لأن
الدليل القطعي هو الذي يستلزم مدلوله قطعيا ولو تعارضا لزم الجمع بين النقيضين.
وهذا لا يشك فيه أحد من العقلاء. وإن كان أحدهما قطعيا والآخر ظنيا تعين تقديم
القطعي سواء كان عقليا أو سمعيا ، وإن كانا ظنيين صرنا إلى الترجيح ووجب تقديم
الراجح منهما. وهذا تقسيم راجح (متفق) على مضمونه بين العقلاء. فأما إثبات التعارض
بين الدليل العقلي والسمعي والجزم بتقديم العقلي مطلقا فخطأ واضح معلوم الفساد.
__________________
الوجه
الثاني : إن قوله إذا تعارض
العقل والنقل ، فإما أن يريد به القطعيين فلا نسلم إمكان التعارض ، وإما أن يريد
به الظنيين فالتقديم الراجح مطلقا ، وإذا قدر أن العقلي هو القطعي كان تقديمه لأنه
قطعي لا لأنه عقلي. فعلم أن تقديم العقلي مطلقا خطأ وأن جعل جهة الترجيح كونه
عقليا خطأ ، وأن جعل سبب التأخير والاطراد كونه نقليا خطأ.
الوجه
الثالث : قوله إن قدمنا
النقل لزم الطعن في أصله ـ ممنوع ـ فإن قوله : العقل أصل النقل ، إما أن يريد به
أنه أصل في ثبوته في نفس الأمر ، وأصل في علمنا بصحته ؛ فالأول لا يقوله عاقل ،
فإنما هو ثابت في نفس الأمر ، ليس موقوفا على علمنا به ، فعدم علمنا بالحقائق لا
ينافي ثبوتها في نفس الأمر ، فما أخبر به الصادق المصدوق هو ثابت في نفسه سواء
علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، وسواء صدقه الناس أو لم يصدقوه ، كما أنه رسول الله
حقا وإن كذبه من كذبه ، كما أن وجود الرب تعالى وثبوت أسمائه وصفاته حق ، سواء
علمناه بعقولنا أم لم نعلمه ، فلا يتوقف ذلك على وجودنا فضلا عن علومنا وعقولنا
فالشرع المنزل من عند الله مستغن في علمنا وعقلنا. ولكن نحن محتاجون إليه وإلى أن نعلمه.
فإذا علم العقل ذلك حصل له كمال لم يكن له قبل ذلك ، وإذا فقده كان ناقصا جاهلا.
وأما إن أراد أن
العقل أصل في معرفتنا بالسمع ودليل على صحته وهذا هو مراده ، فيقال له : أتعني
بالعقل القوة الغريزية التي فينا ، أم العلوم المستفادة بتلك الغريزة؟ فالأول لم
يرده ، ويمتنع إرادته. لأن تلك الغريزة ليست علما يمكن معارضته للنقل ، وإن كانت
شرطا في كل علم عقلي أو سمعي ، وما كان شرطا في الشيء امتنع أن يكون منافيا له.
وإن أردت العلم والمعرفة الحاصلة بالعقل ، قيل لك : ليس كل ما يعرف بالعقل يكون
أصلا للسمع ودليلا على صحته. فإن المعارف العقلية أكثر من أن تحصر. والعلم بصحة
السمع غايته يتوقف على ما به يعلم صدق الرسول من العقليات ، وليس كل العلوم
العقلية
يعلم بها صدق
الرسول ، بل ذلك بالآيات والبراهين الدالة على صدقه ، فعلم أن جميع المعقولات ليست
أصلا للنقل لا بمعنى توقف العلم بالسمع عليها ؛ لا سيما وأكثر متكلمي أهل الإثبات
كالأشعري في أحد قوليه ، وأكثر أصحابه يقولون : إن العلم بصدق الرسول صلىاللهعليهوسلم عند ظهور المعجزات الحادثة ضروري فما يتوقف عليه العلم
بصدق الرسول من العلم العقلي سهل يسير ، مع أن العلم بصدقه له طرق كثيرة متنوعة
وحينئذ فإن كان المعارض للسمع من المعقولات ما لا يتوقف العلم بصحة السمع عليه ،
لم يكن القدح فيه قدحا في أصل السمع ، وهذا بحمد الله بين واضح. وليس القدح في بعض
العقليات قدحا في جميعها ، كما أنه ليس القدح في بعض السمعيات قدحا في جميعها. فلا
يلزم من صحة المنقولات التي تبني عليها معرفتنا بالسمع صحة غيرها من المعقولات ،
ولا من فساد هذه فساد تلك. فلا يلزم من تقديم السمع على ما يقال إنه معقول في
الجملة القدح في أصله.
الرابع
: أن يقال : إما أن
يكون عالما بصدق الرسول وثبوت ما أخبر به في نفس الأمر وإما ألّا يكون عالما بذلك
؛ فإن لم يكن عالما امتنع التعارض عنده ، لأن المعقول إن كان معلوما لم يتعارض
معلوم ومجهول ، وإن لم يكن معلوما لم يتعارض مجهولان ، وإن كان عالما بصدق الرسول صلىاللهعليهوسلم امتنع ألا يعلم بثبوت ما أخبر به في نفس الأمر ، وإذا علم
أنه أخبر به وهو عالم بصدقه لزم ضرورة أن يكون عالما بثبوت مخبره. وإذا كان كذلك
استحال أن يقع عنده دليل يعارض ما أخبر به ويكون ذلك المعارض واجب التقديم ؛ إذ
مضمون ذلك أن يقال : لا تعتقد ثبوت ما علمت أنه أخبر به. لأن هذا الاعتقاد ينافي
ما علمت من أن المخبر صادق ؛ وحقيقة ذلك ، لا تصدقه في هذا الخبر ، لأن تصديقه
يستلزم عدم تصديقه ، فيقول : وعدم تصديقي له فيه هو عين اللازم المحذور ، فإذا قيل
لي لا تصدقه لئلا يلزم عدم تصديقه ، كان كما لو قيل كذبه لئلا يلزم تكذيبه. فهكذا
حال من أمر الناس أن لا يصدقوا الرسول فيما علمه لأنه أخبر به بعد علمهم أنه رسول
لئلا يفضي تصديقهم إلى عدم تصديقه. يوضحه :
الوجه
الخامس : وهو أن المنهي عنه
من قبول هذا الخبر وتصديقه فيه هو عين المحذور ، فيكون واقعا في المنهي عنه سواء
أطاع أو عصى ، ويكون تاركا للمأمورية سواء أطاع أو عصى ، ويكون وقوعه في المحذور على
تقدير الطاعة أعجل وأسبق منه على تقدير المعصية ، المنهى عنه على هذا التقدير هو
التصديق ، المأمور به هو التكذيب ، وحينئذ فلا يجوز النهى عنه سواء كان محذورا أو
لم يكن ، فإن لم يكن محذورا لم يجز أن ينهي عنه ، وإذا كان محذورا فلا بد منه على
التقديرين.
الوجه
السادس : أنه إذا قيل له :
لا تصدقه في هذا كان آمرا له بما يناقض ما علم به صدقه ، فكان آمرا بما يوجب أن لا
يثق بشيء من غيره ، فإنه متى جوز كذبه أو غلطه في خبر جوز ذلك في غيره. ولهذا أفضي
الأمر بمن سلك هذا الطريق إلى أنهم لا يستفيدون من جهة الرسول صلىاللهعليهوسلم شيئا من الأمور الخبرية المتعلقة بصفات الرب سبحانه وتعالى
وأفعاله : بل ولا باليوم الآخر عند بعضهم. لاعتقادهم أن هذه الأخبار على ثلاثة
أنواع : نوع يجب رده وتكذيبه ، ونوع يجب تأويله وإخراجه عن حقيقته ، ونوع يقر ،
وليس لهم في ذلك أصل يرجعون إليه ، بل يقول : ما أثبته عقلك فاثبته ؛ وما نفاه
عقلك فانفه ، وهذا يقول : ما أثبته كشفك فاثبته وما لا فلا. ووجود الرسول عندهم
كعدمه في المطالب الإلهية ومعرفة الربوبية ، بل على قولهم وأصولهم : وجوده أضر من
عدمه ، لأنهم لا يستفيدون من جهته علما بهذا الشأن ، واحتاجوا إلى دفع ما جاء به ،
إما بتكذيب ، وإما بتأويل ، وأما بإعراض وتفويض.
فإذا قيل : لا
يمكن أنه يعلم أنه أخبر بما ينافي العقل فإنه منزه عن ذلك وممتنع عليه ذلك.
قيل : فهذا إقرار
باستحالة معارضة العقل للسمع واستحالة المسألة ، وعلم أن جميع أخباره لا تناقض
العقل.
قعد النقل سالما
من مناف
|
|
واسترحنا من
الصداع جميعا
|
فإن قيل : بل
المعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يفهمه ظاهر اللفظ ، وليست ثابتة بين العقل وبين
نفس ما أخبر به الرسول صلىاللهعليهوسلم فالمعارضة ثابتة بين العقل وبين ما يظن أنه دليل وليس
بدليل ، أو يكون دليلا ظنيا لتطرق الظن إلى بعض مقدمات إسناده أو امتناعا؟
قيل : وهذا رفع
صورة المسألة ويجليها بالكلية ، ويصير صورتها هكذا : إذا تعارض الدليل القولي وما
ليس بدليل صحيح وجب تقديم العقل ، وهو كلام لا فائدة فيه ولا حاصل له ، وكل عاقل
يعلم أن الدليل لا يترك لما ليس بدليل.
ثم يقال : إذا
فسرتم الدليل السمعي بما ليس بدليل في نفس الأمر بل اعتقاد دلالته جهل ، أو بما
يظن أنه دليل وليس بدليل ، فإن كان السمع في نفس الأمر كذلك لكونه خبرا مكذوبا أو
صحيحا. ولكن ليس فيه ما يدل على معارضته العقل بوجه ، وأبيتم التعارض والتقديم بين
هذين النوعين فساعدناكم عليه وكنا أسعد بذلك منكم ، فأنا أشد منكم نفيا للأحاديث
المكذوبة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأشد إبطالا لما تحمله من المعاني الباطلة ، وإن كان
الدليل السمعي صحيحا في نفسه ظاهر الدلالة بنفسه على المراد ، لم يكن ما عارضه من
العقليات إلا خياليات فاسدة.
السابع
: أن يقال : لو قد
عارض العقل للشرع لوجب تقديم الشرع ، لأن العقل قد صدق الشرع ، ومن ضرورة تصديقه
له قبول خبره ، والشرع لم يصدق العقل في كل ما أخبر به ، ولا العلم بصدق الشرع
موقوف على كل ما يخبر به العقل. ومعلوم أن هذا المسلك إذا سلك أصح من مسلكهم كما
قال بعض أهل الإيمان ، يكفيك من العقل أن يعرفك صدق الرسول ومعاني كلامه ثم يخلي
بينك وبينه ، وقال آخر : العقل سلطان ولي الرسول ثم عزل نفسه ، ولأن العقل دل على
أن الرسول يجب تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر ، ولأن العقل يدل على صدق الرسول
دلالة عامة مطلقة ، ولا يدل على صدق
قضايا نفسه دلالة
عامة ، ولأن العقل يغلط كما يغلط الحس. وأكثر من غلطه بكثير ، فإذا كان حكم الحس
من أقوى الأحكام ويعرض فيه من الغلط ما يعرض ، فما الظن بالعقل.
الثامن
: إن الدليل الدال
على صحة الشيء أو ثبوته أو عدالته أو قبول قوله لا يحب أن يكون أصلا له ، بحيث إذا
قدم قول المشهود له والمدلول عليه على قوله يلزم إبطاله. وهذا لا يقوله من يدري ما
يقول. غايته أن العلم بالدليل أصل العلم بالمدلول ، فإذا حصل العلم بالمدلول لم
يلزم من ذلك تقديم الدليل عليه في كل شيء. فإذا شهد الناس لرجل بأنه خبير بالطب أو
التقويم أو القيافة دونهم ، ثم تنازع الشهود المشهود له في ذلك وجب تقديم قول
المشهود له. فلو قالوا : نحن شهدنا لك وزكيناك وبشهادتنا ثبتت أهليتك فتقديم قولك
علينا والرجوع إليك دوننا يقدح في أصل الذي ثبت به قولك؟ قال لهم : أنتم شهدتم بما
علمتم إني أهل لذلك دونكم وأن قولي فيه مقبول دونكم. فلو قدمت أقوالكم على قولي
فيما اختلفنا فيه لكان ذلك قدحا في شهادتكم وعلمكم بأني أعلم منكم.
وحينئذ فهذا (وجه تاسع) مستقل بكسر هذا الطاغوت. وهو أن تقديم العقل على الشرع
يتضمن القدح في العقل والشرع ، لأن العقل قد شهد الشرع والوحي بأنه أعلم منه ،
وأنه لا نسبة له إليه ، وأن نسبة علومه ومعارفه إلى الوحي أقل من خردلة بالإضافة
إلى جبل ، فلو قدم حكم العقل عليه لكان ذلك قدحا في شهادته ، وإذا بطلت شهادته بطل
قبول قوله فتقديم العقل على الوحي يتضمن القدح فيه وفي الشرع ، وهذا ظاهر لا خفاء
به.
يوضحه : الوجه العاشر : وهو أن الشرع مأخوذ عن الله بواسطة الرسولين الملك والبشر
بينه وبين عباده ، مؤيدا بشهادة الآيات وظهور البراهين على ما يوجبه العقل ويقتضيه
تارة ويستحسنه تارة ، ويجوز تارة ويضعف عن دركه تارة ، فلا سبيل له إلى الإحاطة به
، ولا بد له من التسليم له والانقياد لحكمه والإذعان والقبول ـ وهناك يسقط (لم)
ويبطل (كيف) وتزول (هلا) وتذهب
(لو ، وليت) في
الريح ، لأن اعتراض المعترض عليه مردود ، واقتراح المقترح ما ظن أنه أولى منه سفه
، وجملة الشريعة مشتملة على أنواع الحكمة علما وعملا ، حتى لو جمعت حكم جميع الأمم
ونسبت إليها لم تكن لها إليها نسبة ، وهي متضمنة لأعلى المطالب بأقرب الطرق وأتم
البيان ـ فهي متكفلة بتعريف الخليقة ربها وفاطرهم المحسن إليهم بأنواع الإحسان
بأسمائه وصفاته وأفعاله ، وتعريف الطريق الموصل إلى رضاه.
ويقابل ذلك تعريف
حال الداعي إلى الباطل والطرق الموصلة إليه ، وحال السالكين تلك الطريق وإلى أين
تنتهي بهم ، ولهذا تقبلها العقول الكاملة أحسن تقبل بالتسليم والإذعان ، وتستدير
حولها بحماية حوزتها والذب عن سلطانها ، فمن ناصر باللغة الشائعة ، حام بالعقل
الصريح ، ذاب عنه بالبرهان ، ومجاهد بالسيف والرمح والسنان ـ ومتفقة في الحلال
والحرام. ومعتن بتفسير القرآن ـ وحافظ المتون والسنة وأسانيدها ـ ومفتش عن أحوال
رواتها ـ وناقد لصحيحها من سقيمها ـ ومعلولها من سليمها.
فهذه الشريعة
ابتداؤها من الله وانتهاؤها إليه ـ ليس فيها حديث المنجم في تأثيرات الكواكب
وحركات الأفلاك وهيئاتها ومقادير الأجرام ـ ولا حديث التربيع والتثليث والتسديس
والمقارنة ، ولا حديث صاحب الطبيعة الناظر في آثارها ، واشتباك الاستفاضات
وامتزاجها وقوامها ، وما يتعلق بالحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة. وما الفاعل منها
وما المنفعل ، ولا فيها حديث لمهندس ولا لباحث عن مقادير الأشياء ونقطها وخطوطها.
وسطوحها وأجسامها وأضلاعها وزواياها ومعاطفها ، وما الكرة وما الدائرة والخط
المستقيم والمنحنى ولا فيها هذيان المنطقيين ونحوهم في النوع والجنس والفصل
والخاصة والعرض العام ، والمقولات العشر والمختلطات والموجهات : الصادر عن رجل
مشرك من يونان كان يعبد الأوثان ولا يعرف الرحمن ، ولا يصدق بمعاد الأبدان ، ولا
أن الله يرسل رسولا بكلامه إلى نوع الإنسان.
فجعل هؤلاء
المعارضون بين العقل والنقل ، عقل هذا الرجل معيارا على
كتب الله المنزلة
وما أرسل به رسله. فما زكاه منطقه وآليه وقانون الذي وضعه بعقله قبلوه ، وما لم
يزكه تركوه.
ولو كانت هذه
الأدلة التي أفسدت عقول هؤلاء صحيحة لكان صاحب الشريعة يقوم شريعته بها ويكملها
باستعمالها ، وكان الله تعالى ينبه عليها ويحض على التمسك بها.
فيا للعقول أين
الدين من الفلسفة؟ وأين كلام رب العالمين من آراء اليونان والمجوس وعباد الأصنام
والصابئين؟ والوحى حاكم والعقل محكوم عليه. فإن قالوا : إنما نقدم العقل الصريح
الذي لم يختلف فيه اثنان على نصوص الأنبياء ، فقد رموا الأنبياء بما هم أبعد الخلق
منه. وهو أنهم جاءوا بما يخالف العقل الصريح. هذا وقد شهد الله وكفى بالله شهيدا ،
وشهد بشهادته الملائكة وأولو العلم أن طريقة الرسول صلىاللهعليهوسلم هى الطريقة البرهانية للحكمة كما قال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ
بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ) (النساء : ١٧٤) ،
وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ) (النساء : ١٣)
فالطريقة البرهانية هي الواردة بالوحي الناظمة للرشد ، الداعية إلى الخير ،
الواعدة لحسن المآب المبينة لحقائق الأنباء ، المعرفة بصفات رب الأرض والسماء. وأن
الطريقة التقليدية التخمينية هي المأخوذة من المقدمتين والنتيجة والدعوى التي ليس
مع أصحابها إلا الرجوع إلى رجل من يونان وضع بعقله قانونا يصحح زعمه علوم الخلائق
وعقولهم ، فلم يستفد به عاقل تصحيح مسألة واحدة في شيء من علوم بني آدم ؛ بل ما
وزن به علم إلا أفسده ، وما برع فيه أحد إلا انسلخ من حقائق الإيمان كانسلاخ
القميص عن الإنسان.
الحادي
عشر : إن الله تعالى قد
تمم الدين بنبيه صلىاللهعليهوسلم وكمله به ، ولم يحوجه هو لا أمته إلى عقل ولا نقل سواه.
ولا رأى ولا منام. ولا كشف ؛ قال الله
__________________
تعالى : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) (المائدة : ٣)
وأنكر على من لم يكتف بالوحي فقال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت : ١٥)
ذكر هذا جوابا لطلبهم آية تدل على صدقه ، فأخبر أنه يكفيهم من كل آية. فلو كان ما
تضمنه من الأخبار عنه وعن صفاته وأفعاله واليوم الآخر يناقض العقل لم يكن دليلا على
صدقه ؛ فضلا عن أن يكون كافيا. وسيأتى في الوجه الذي بعد هذا بيان أن تقديم العقل
على النقل يبطل كون القرآن آية وبرهانا على صحة النبوة.
والمقصود أن الله
سبحانه تمم الدين وأكمله بنبيه صلىاللهعليهوسلم وما بعثه به ؛ فلم يحوج أمته إلى سواه.
فلو عارضه العقل
وكان أولى بالتقديم منه لم يكن كافيا للأمة ولا تاما في نفسه. وفي «مراسيل» أبي
داود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأى بيد عمر ورقة فيها شيء من التوراة فقال : «كفى بقوم
ضلالة ان تبعوا كتابا غير كتابهم ، أنزل على نبي غير نبيهم» فأنزل الله تعالى (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ
أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ؟ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) ، وقال تعالى (فَلا وَرَبِّكَ
__________________
لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).
فأقسم سبحانه أنا
لا نؤمن حتى نحكم رسوله في جميع ما شجر بيننا وتتسع صدورنا لحكمه فلا يبقى فيها
حرج ، ونسلم لحكمه تسليما ؛ فلا نعارضه بعقل ولا رأى ، فقد أقسم الله سبحانه بنفسه
على نفي الإيمان عن هؤلاء الذين يقدمون العقل على ما جاء به الرسول ، وقد شهدوا هم
على أنفسهم بأنهم غير مؤمنين بمعناه وإن آمنوا بلفظه.
وقال تعالى : (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ
فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى : ١٠)
وهذا نص صريح في أن حكمة جميع ما تنازعنا فيه مردود إلى الله وحده ، فهو الحاكم
فيه على لسان رسوله ، فلو قدم حكم العقل على حكمه لم يكن هو الحاكم بكتابه. وقال
تعالى : (اتَّبِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ
قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (الأعراف : ٣)
فأمر باتباع الوحي المنزل وحده ونهي عما خالفه ، وأخبر أن كتابه بينه وهدى وشفاء
ورحمة ونور مفصلا وبرهانا ؛ وحجة وبيانا. فلو كان في العقل ما يعارضه ويجب تقديمه
على القرآن لم يكن فيه شيء من ذلك ، بل كانت هذه الصفات للعقل دونه.
__________________
(صريح العقل موافق لصحيح النقل)
الثاني
عشر : إن ما علم بصريح
العقل الذي لا يختلف فيه العقلاء لا يتصور أن يعارضه الشرع البتة. ومن تأمل ذلك
فيما تنازع العقلاء فيه من المسائل الكبار وجد ما خلف النصوص الصريحة الصحيحة
شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها ، بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها. فتأمل ذلك في
مسائل التوحيد والصفات ومسائل القدر والنبوات والمعاد ، تجد ما يدل عليه صريح
النقل لم يخالفه لما دل عليه العقل. ونحن نعلم قطعا أن الرسل لا يخبرون بمحالات
العقول وإن أخبروا بمجازات العقول ، فلا يخبرون بما يحيله العقل.
الثالث
عشر : إن الشبهات
القادحة في نبوات الأنبياء ووجود الرب ومعاد الأبدان : التي يسميها أربابها حججا
عقلية في كل معارضة للنقل ، وهى أقوى من الشبه التي يدعي النفاة للصفات أنها
معقولات خالفت النقل ومن جنسها أو قريب منها كما قيل :
دع الخمر يشربها
الغواة فإني
|
|
رأيت أخاه مغنيا
عن مكانها
|
فإن لم يكنها أو
تكنه فإنه
|
|
أخوها غذته أمه
بلبانها
|
قد أورد على القدح
في النبوات ثمانين شبهة أو أكثر ، وهي كلها عقلية ؛ وأورد على إثبات وجود الصانع
سبحانه نحو أربعين شبهة ، وأورد على المعاد مثل ذلك ، والله يعلم أن هذه الشبهة من
جنس شبه نفاة الصفات وعلو الله على خلقه وتكليمه وتكلمه ؛ ورؤيته بالأبصار عيانا
في الآخرة ، لكن نفقت هذه الشبهة بجاه نسبة أربابها إلى الإسلام ؛ وأن القوم يذبون
على دين الله وينزهون الرب عما لا يليق به : وإلا فعند التحقيق القاع عرفج ولا فرق
بين الشبه المعارضة لأصل نبوة الرسول صلىاللهعليهوسلم وبين الشبه المعارضة لما أخبر به. ومن تأمل هذا وهذا تبين
له حقيقة الحال ، وربما وجد الشبه القادحة في أصل النبوة أكثر من الشبه المعارضة
لما أخبرت به الرسل.
فنقول لمن قدم
المعقول على ما أخبر به الرسول : هل تقدم المعقول المعارض
لأصل الرسالة
والنبوة وأنت قد أوردته وأجبت عنه بما تعلم أن صدرك لم ينثلج له ، فإن تلك الأجوبة
مبنية على قواعد قد اضطرب فيها قولك ، فمرة تثبتها ، ومرة تنفيها ، ومرة تقف فيها؟
أن تطرح تلك المقولات وتشهد بفسادها؟ فهلا سلكت في المعقولات المعارضة لخبر الرسول
ما سلكت في تلك ، فكانت السبيل واحدة؟ يوضحه.
الوجه
الرابع عشر : وهو أن أرباب تلك الشبه إنما استطالوا على النفاة الجهمية بما ساعدوا عليه من
تلك الشبه ، وقالوا : كيف يكون رسولا صادقا من يخبر بما يخالف صريح العقل ، ولا
يتكلم ؛ ولا يرى ؛ ولا يشار إليه ، ولا ينتقل من مكان إلى مكان ، ولا تحله الحوادث
، ولا له وجه ، ولا يد ولا إصبع ، ولا سمع ولا بصر ؛ ولا علم ولا حياة ؛ ولا قدرة
زائدة على مجرد ذاته. ومن أصولنا وأصولكم إنه لم يقم بذاته فعل ولا وصف ؛ ولا حركة
، ولا استواء ، ولا نزول ، ولا غضب ولا رضى ، فضلا عن الفرح والضحك. ونحن وأنتم
متفقون في نفس الأمر أنه لم يتكلم بهذا القرآن ولا بالتوراة ولا بالإنجيل وإنما
ذلك كلام شيء عنه بإذنه عندكم وبواسطة العقل الفعال عندنا. ونحن وأنتم متفقون على
أنه لم يراه أحد ، ولا رآه ، ولا يسمع كلامه أحد ، وأن هذا محال ، فهو عندنا
وعندكم بمنزلة كونه يأكل ويشرب وينام. فعند التحقيق نحن وأنتم متفقون على الأصول
والقواعد التى نفت هذه الأمور وهى بعينها تنفى صحة نبوة من أخبر بها فكيف يمكن أن
يصدق من جاء بها. وقد اعترفتم معنا بأن العقل يدفع خبره ويرده؟ فما للحرب بيننا
وبينكم وجه. فكما تساعدنا نحن وإياكم على إبطال هذه الأخبار التي عارضت صريح
العقل. فساعدونا على إبطال الأصل بنفس ما اتفقنا جميعا على إبطال الأدلة النقلية
به.
فانظر هذا الإخاء.
ما ألصقه. والنسب ما أقربه. وإذا أردت أن تعرف حقيقة الحال فانظر حالهم مع هؤلاء
الزنادقة في ردهم عليهم وبحوثهم معهم وخضوعهم لهم فيها.
الخامس
عشر : إن الرجل إما أن
يكون مقرا بالرسل أو لا ، فإن كان منكرا فالكلام معه في إثبات النبوة. فلا وجه
للكلام معه في تعارض العقل والنقل.
فإن تعارضهما فرع
الإقرار بصحة كل واحد منهما لو تجرد عن المعارض. وإن كان مقرا بالرسالة فالكلام
معه في مقامات : أحدها صدق الرسول صلىاللهعليهوسلم فيما أخبر به ، فإن أنكر ذلك أنكر الرسالة والنبوة ، وإن
زعم أنه مقر بها ، وإن الرسل خاطبوا الجمهور بخلاف الحق تقريبا لأفهامهم ، ومضمون
هذا أنهم كذبوا للمصلحة. وهذه حقيقة قول هؤلاء. وهو عندهم كذب حسن. وإن أقر بأنه
صادق فيما أخبر به ، فالكلام معه في المقام الثاني : وهو أنه هل يقر بأنه أخبر به
أو لا يقر به. فإن لم يقر به جهلا عرف ذلك بما يعرف به أنه دعا إلى الله وحارب
أعداءه ، فإن أصر على إنكار ذلك فقد أنكر الأمور الضرورية كوجود بغداد ومكة.
وإن أقر أنه أخبر
بذلك فالكلام معه في المقام الثالث : وهو أنه هل أراد ما دل عليه كلامه ولفظه أو
أراد خلافه؟ فإن ادعى أنه أراده فالكلام معه في المقام الرابع. وهو أن هذا المراد
هل هو حقيقة في نفسه أو باطل ؛ فإن كان حقا لا يتصور أن يعارضه دليل عقلي البتة ؛
وإن كان باطلا انتقلنا معه إلى مقام خامس ، وهو أنه هل يعلم الحق في نفس الأمر أو (لا)
يعلمه؟ فإن قال : لم يكن عالما به فقد نسبه إلى جهل ، وإن قال كان عالما به ،
انتقلنا معه إلى مقام سادس : وهو أنه هل يمكنه التعبير والإفصاح عن الحق كما فعلتم
أنتم بزعمكم ، أم لم يكن ذلك ممكنا له؟ فإن لم يكن ذلك ممكنا له كان تعجيزا له عن
أمر قدر عليه أفراخ الفلاسفة وتلامذة اليهود ، وأوقاح المعتزلة والجهمية. وإن كان
ممكنا له ولم يفعل ذلك غشا لأمته ، وتوريطا لهم في الجهل بالله وأسمائه وصفاته :
واعتقاد ما لا يليق بعظمته فيه ؛ وأن الجهمية وأفراخ الصابئة واليونان نزهوا الله
عما لا يليق به ، وتكلموا بالحق الذي كتمه الرسول. وهذا أمر لا محيد لكم عنه. فاختاروا
أي قسم شئتم من هذه الأقسام. والظاهر أنكم متنازعون في الاختيار ، وأن عقلاءكم
يختارون أن الرسول صلىاللهعليهوسلم كان يعرف الحق في خلاف ما أخبر به ، وأنه كان قادرا على
التعبير عنه ولكن ترك ذلك خشية التنفير. فخاطب الناس خطابا جمهوريا بما يناسب
عقولهم بما الأمر بخلافه. وهذا أحسن أقوالكم إذا آمنتم بالرسول وأقررتم بما جاء
به.
السادس
عشر : أن طرق العلم
ثلاثة : الحس ، والعقل ، والمركب منهما ، فالمعلومات ثلاثة أقسام : أحدها : ما
يعلم بالعقل ، والثاني : ما يعلم بالسمع ، والثالث : ما يعلم بالعقل والسمع. وكل
منهما ينقسم إلى ضروري ونظري. وإلى معلوم ومظنون وموهوم. فليس كل ما يحكم به العقل
يكون علما. بل قد يكون ظنا أو وهما كاذبا. كما أن ما يدركه السمع والبصر كذلك.
فلا بد من حاكم
يفصل بين هذه الأنواع. فإذا اتفق العقل والسمع أو العقل والحس على قضية كانت
معلومة يقينية. وإذا انفرد بها الحس عن العقل كانت وهمية ، كما ذكر من أغلاط الحس
في رؤية المتحرك أشد الحركة وأسرعها ساكنا ، والساكن متحركا ، والواحد اثنين ،
والاثنين واحدا ، والعظيم الجرم صغيرا ، والصغير كبيرا ، والنقطة دائرة وأمثال ذلك
وهذه الأمور يجزم بغلطها لمتفرد الحس بها عن العقل.
وكذلك حكم السمع
قد يكون كاذبا ، وقد يكون صادقا ، ضرورة ونظرا. وقد يكون ظنيا ، فإذا قارنه العقل
كان حكمه علما ضروريا كالعلم بمخبر الأخبار المتواترة. فإنه حصل بواسطة السمع
والعقل فإن السمع أدى إلى العقل ما سمعه من ذلك ، والعقل حكم بأن المخبرين لا يمكن
تواطؤهم على الكذب فأفاده علما ضروريا أو نظريا على الاختلاف في ذلك بوجود المخبر
به ، والنزاع في كونه ضروريا أو نظريا لا فائدة فيه. وكذلك الوهم يدرك أمورا لا
يدرى صحيحة هي أم باطلة ، فيردها إلى العقل الصريح ، فما صححه منها قبله ، ما حكم
ببطلانه رده. فهذا أصل يجب الاعتبار به ، وبه يعرف الصحيح من الفاسد.
إذا عرف هذا
فمعلوم أن السمع الذي دل العقل على صحته أصبح من السمع الذي لم يشهد له عقل. ولهذا
كان الخبر المتواتر أعرف عند العقل من الآحاد ، وما ذلك إلا لأن دلالة العقل قد
قامت على أن المخبرين لا يتواطئون على الكذب ، وإن كان الذي أخبروا به مخالف لما
اعتاده المخبر وألفه وعرفه ، فلا نجد محيدا عن تصديقهم ، والدلالة العقلية
البرهانية على صدق الرسل أضعاف
الأدلة الدالة على
صدق المخبرين خبر التواتر فإن أولئك لم يقم على صدق كل واحد منهم دليل ، ولكن
اجتماعهم على الخبر دليل على صدقهم ، والرسل عليهم الصلاة والسلام قد قامت
البراهين اليقينية على صدق كل فرد منهم ، فقد اتفقت كلمتهم وتواطأت أخبارهم على
إثبات العلو والفوقية لله تعالى ، وأنه تعالى فوق عرشه ، فوق سماواته بائن من خلقه
، وأنه مكلم متكلم آمر ناه يرضى ويغضب ، ويثيب ويعاقب ، ويحب ويبغض ، فأفاد خبرهم
العلم بالمخبر عنه أعظم من الأخبار المتواترة لمخبرها. فإن الأخبار المتواترة
مستندة إلى حس قد يغلط ، وأخبار الأنبياء مستندة إلى وحي لا يغلط فالقدح فيها
بالعقل من جنس شبه السوفسطائية القادحة في الحس والعقل ولو التفتنا إلى كل شبهة يعارض بها الدليل القطعي لم يبق
لنا وثوق بشيء نعلمه بحس أو عقل أو بهما. يوضحه :
الوجه
السابع عشر : أن المعلومات المعاينة التي لا تدرك إلا بالخبر أضعاف أضعاف المعلومات التي
تدرك بالحس والعقل ، بل لا نسبة بينهما بوجه من الوجوه ، ولهذا كان إدراك السمع
أعم وأشمل من إدراك البصر ، فإنه يدرك الأمور المعدومة والموجودة والحاضرة
والغائبة ، والمعلومات التي تدرك بالحس. وهذا حجة من فضل السمع على البصر. ورجح
آخرون البصر لقوة إدراكه وجزم بأنه يدركه ، وبعده من الغلط ؛ وفصل النزاع بينهما
أن ما يدرك بالسمع أعم وأشمل ، وما يدرك بالبصر أتم وأكمل.
والمقصود أن
الأمور الغائبة عن الحس (نسبة) المحسوس إليها كقطرة من بحر ، ولا سبيل إلى العلم
بها إلا الخبر الصادق ، وقد اصطفى الله من خلقه أنبياء
__________________
أنبأهم من أنباء
الغيب بما يشاء ، وأطلعهم منها على ما لم يطلع عليه غيرهم كما قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ
اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ
مَنْ يَشاءُ) (آل عمران : ١٧٩)
وقال تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ
فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ
يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) (الجن : ٢٦ ـ ٢٧)
، وقال تعالى (اللهُ يَصْطَفِي مِنَ
الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (الحج : ٧٥) فهو
سبحانه يصطفى من يطلعه من أنباء الغيب على ما لم يطلع عليه غيره.
ولذلك سمى (نبيا)
من الإنباء ، وهو الإخبار ، ولأنه مخبر من جهة الله ومخبر عنه فهو منبأ ، ومنبئ.
وليس كل ما أخبر به الأنبياء يمكن معرفته بدون خبرهم بل ولا أكثره. ولهذا كان أكمل
الأمم علما أتباع الرسل ، وإن كان غيرهم أحذق منهم في علم النجوم والهندسة ، وعلم
الكم المتصل والمنفصل ، وعلم النبض والقارورة والأبوال ومعرفة قوامها ، ونحوها من
العلوم التي لما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم بها وآثروها على
علوم الرسل ، وهي كما قال الواقف على نهايتها : «ظنون كاذبة ، وإن بعض الظن إثم»
وهي علوم غير نافعة ، فنعوذ بالله من علم لا ينفع ؛ وإن نفعت فنفعها بالنسبة إلى
علوم الأنبياء كنفع العيش العاجل بالنسبة إلى الآخرة ودوامها.
(العلم النافع هو ما أخبرت به الرسل)
فليس العلم في
الحقيقة إلا ما أخبرت به الرسل عن الله عزوجل طلبا وخبرا فهو العلم المزكي للنفوس المكمل للفطر ، المصحح
للعقول الذي خصه [الله] باسم العلم ، وسمى ما عارضه ظنا لا يغني من الحق شيئا
وخرصا وكذبا فقال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) (آل عمران : ٦١)
وشهد لأهله أنهم أولو العلم فقال سبحانه وتعالى : (وَقالَ الَّذِينَ
أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ
الْبَعْثِ) (الروم : ٥٦) ،
وقال تعالى :
(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ
لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا
إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (آل عمران : ١٨) ،
والمراد بهم أولو العلم بما أنزله على رسله ليس المراد بهم أولى العلم بالمنطق
والفلسفة وفروعها ، وقال تعالى : (وَلا تَعْجَلْ
بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي
عِلْماً) (طه : ١١٤) ، فالعلم
الذي أمره باستزادته هو علم الوحي لا علم الكلام والفلسفة ، وقال تعالى : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ
إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (النساء : ١٦٦) ،
أي أنزله وفيه علمه الذي لا يعلمه البشر ، فالباء للمصاحبة مثل قوله (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (هود : ١٤) أي
أنزل وفيه علم الله ، وذلك من أعظم البراهين علي صدق نبوة من جاء به.
ولم يصنع شيئا من
قال : ان المعنى أنزله وهو يعلمه. وهذا إن كان حقا فإن الله يعلم كل شيء فليس في
ذلك دليل وبرهان على صحة الدعوى ، فإن الله يعلم الحق والباطل بخلاف ما إذا كان
المعنى أنزله متضمنا لعلمه الذي لا يعلمه غيره إلا من أطلعه الله وأعلمه به ؛ فإن
هذا من أعظم أعلام النبوة والرسالة. وقال فيما عارضه من الشبه الفاسدة التي يسميها
أربابها قواطع عقلية (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : ٢٨) ،
وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ) (الأنعام : ١١٦) ،
وقال لمن أنكر المعاد بعقله : (وَقالُوا ما هِيَ
إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ
وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) (الجاثية : ٢٤) ،
والظن الذي أثبته سبحانه للمعارضين نصوص الوحي بعقولهم ليس هو الاعتقاد الراجح بل
هو أكذب الحديث وقال : (قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ) (الذاريات : ١٠ ،
١١).
وأنت إذا تأملت ما
عند هؤلاء المعارضين لنصوص الأنبياء بعقولهم رأيته كله خرصا ، وعلمت أنهم هم
الخراصون ، وأن العلم في الحقيقة ما نزل به الوحى على الأنبياء والمرسلين ؛ وهو
الذي أقام الله به حجته ، وهدى به أنبياءه ورسله وأتباعهم وأثني عليهم فقال : (كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً
مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا
وَيُزَكِّيكُمْ
وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا
تَعْلَمُونَ) (البقرة : ١٥١)
وقال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ
فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) (النساء : ١١٣) ،
وقال تعالى : (لَقَدْ مَنَّ اللهُ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا
عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (آل عمران : ١٦٤)
الآية ، فهذه النعمة والتزكية إنما هي لمن عرف زعم إن ذلك مخالف لصريح العقل ، وإن
العقول مقدمة عليه ، والله المستعان.
الثامن
عشر : إن العقل تحت حجر
الشرع فيما يطلبه ويأمر به وفيما يحكم به ويخبر عنه فهو محجور عليه في الطلب
والخبر ، كما أن من عارض أمر الرسل بعقله لم يؤمن بهم وبما جاءوا به ؛ فكذلك من
عارض خبرهم بعقله ، ولا فرق بين الأمرين أصلا. يوضحه :
إن الله سبحانه
حكى عن الكفار معارضة أمره بعقولهم كما حكى عنهم معارضة خبره بعقولهم. أما الأول
ففي قوله : (الَّذِينَ
يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ
الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ
الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) (البقرة : ٢٧٥) ،
فعارضوا تحريمه للربا بعقولهم التي سوت بين الربا والبيع. فهذا معارضة النص بالرأى
، ونظير ذلك ما عارضوا به تحريم الميتة من قياسها على المذكاة وقالوا. تأكلون ما
قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله ، وفي ذلك أنزل الله : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام : ١٢١).
وعارضوا أمره
بتحويل القبلة وقالوا : إن كانت القبلة الأولى حقا فقد تركت الحق ، وإن كانت باطلا
فقد كنت على باطل ، وإمام هؤلاء شيخ الطريقة إبليس عدو الله ، فإنه من عارض أمر
الله بعقله ، وزعم أن العقل يقتضي خلافه .
__________________
وأما الثاني وهو
معارضة خبره بالعقل فكما حكى الله سبحانه عن منكري المعاد (وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ
خَلْقَهُ ، قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) (يس : ٧٨) وأخبر
سبحانه أنهم عارضوا ما أخبر به من التوحيد بعقولهم ، وعارضوا أخبار عن النبوات
بعقولهم ؛ وعارضوا بعض الأمثال التي ضربها بعقولهم ، وعارضوا أدلة نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم بعقولهم فقالوا : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا
الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ؟) (الزخرف : ٣١) ،
وأنت إذا صغت هذه المعارضة صوغا مزخرفا وجدتها من جنس معارضة المعقول للمنقول.
وكذلك قولهم في
قوله تعالى (ما لِهذَا الرَّسُولِ
يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ : لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ
فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً ، أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ
جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها) (الفرقان : ٧ ، ٨).
أي لو كان رسولا لخالق السموات والأرض لما أحوجه أن يمشي بيننا في الأسواق في
المعيشة ؛ ولأغناه عن أكل الطعام ؛ ولأرسل معه ملكا من الملائكة أو ألقي إليه كنزا
يغنيه عن طلب الكسب.
وعارضوا شرعه
ودينه الذي شرعه لهم على لسان رسوله وتوحيده بمعارضة عقلية ، واستندوا فيها إلى
القدر. فقال تعالى : (سَيَقُولُ الَّذِينَ
أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ
شَيْءٍ : كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا. قُلْ
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا؟ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا
الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ
الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام : ١٤٨ ـ
١٤٩) وحكى مثل هذه المعارضة في سورة النحل ، وفي سورة الزخرف ، وإذا تأملتها حق
التأمل رأيتها أقوى بكثير من معارضة آيات الصفات بعقولهم ، فإن إخوانهم عارضوا
بمشيئة الله للكائنات والمشيئة ثابتة في نفس الأمر ، والنفاة عارضوا بأصول فاسدة
هم وضعوها من تلقاء أنفسهم ، أو تلقوها عن أعداء الرسل من الصابئة والمجوس
والفلاسفة ، وهي خيالات فاسدة.
وبالجملة فمعارضة
أمر الرسل أو خبرهم بالمعقولات إنما هي طريقة الكفار. فهم سلف الخلق بعدهم ، فبئس
السلف الخلف ، ومن تأمل معارضة المشركين
للرسل بالعقول
وجدها أقوى من معارضة الجهمية والنفاة لخبرهم عن الله وصفاته وعلوه على خلقه ،
وتكليمه لملائكته ورسله بعقولهم. فإن كانت تلك المعارضة باطلة فهذه أبطل وأبطل ،
وإن صحت هذه المعارضة فتلك أولى بالصحة منها ، وهذا لا محيد لهم عنه. يوضحه :
التاسع
عشر : أن القرآن مملوء
من ذكر الصفات والعلو على الخلق والاستواء على العرش وتكلم الله وتكليمه للرسل ؛
وإثبات الوجه واليدين والسمع والبصر ، والحياة والمحبة والغضب والرضا للرب سبحانه
، وهذا عند النفاة مثل وصفه بالأكل والشرب والجوع والعطش والنوم ، كل ذلك مستحيل
عليه تعالى من أعظم المنفرات عنه ، ومعارضته فيه أسهل من معارضته فيما عداه ؛ ولم
يعارضه أعداؤه في حرف واحد من هذا الباب مع حرصهم على معارضته بكل ما يقدرون عليه.
فهلا عارضوه بما عارضته به الجهمية والنفاة ، وقالوا قد أخبرتنا بما يخالف العقل
الصريح ، فكيف يمكننا تصديقك؟ بل كان القوم على شركهم وضلالهم أعرف بالله وبصفاته
من النفاة والجهمية ، وأقرب إلى إثبات الأسماء والصفات والقدر والمشيئة والفعل من
شيوخ هؤلاء الفلاسفة وأتباعهم من السناوية والفارابية والطوسية .
العشرون
: إن دلالة السمع
على مدلوله متفق عليها بين العقلاء وإن اختلفوا في جهتها هل هي ظنية أو قطعية؟
وأرادت الرسل إفهام مدلولها واعتقاد ثبوته ؛ أم أرادت الرسل إفهام غيره وتأويل تلك
الأدلة وصرفها عن ظاهرها؟ فلا نزاع بين العقلاء في دلالتها على مدلولها. ثم قال
أتباع الرسل : مدلولها ثابت في الأمر وفي الإرادة ، وقال النفاة أصحاب التأويل :
مدلولها منتف في الأمر وفي بعض الإرادة ، وقال أصحاب التخييل : مدلولها ثابت في
الإرادة منتف في الأمر.
وأما دلالة ما
عارضها من العقليات على مدلوله فلم يتفق أربابها على دليل واحد منها ، بل كل طائفة
منهم تقول في أدلة خصومها : إن العقل يدل على فسادها لا على صحتها ، وأهل السمع مع
كل طائفة في دلالة العقل على فساد
__________________
قول تلك الطائفة
الأخرى المخالفة للسمع ، فكل طائفة تدعى فساد قول خصومها بالعقل ، يصدقهم أهل
السمع على ذلك ، ولكن يكذبونهم في دعواهم صحة قولهم بالعقل.
وقد تضمنت دعوى
الطوائف فساد ما يفهم العقل بشهادة بعضهم على بعض ، وشهادة أهل الوحي والسمع معهم
، ولا يقال : هذا ينقلب عليكم باتفاق شهادة الفرق كلها على بطلان ما دل عليه السمع
وإن اختلفوا في أنفسهم ، لأن المطلوب أنهم كلهم متفقون على أن السمع دل على
الإثبات ، ولم يتفقوا على أن العقل دل على نقيضه ، فيمتنع تقديم الدلالة التي لم
يتفق عليها على الدلالة المتفق عليها ، وهو المطلوب.
الحادي
والعشرون : أن الأمور السمعية
التي يقال إن العقل عارضها كإثبات علو الله على خلقه ، واستوائه على عرشه ، وتكلمه
، ورؤية العباد له في الآخرة ؛ وإثبات الصفات له ، هي مما علم بالاضطرار أن الرسول
جاء بها ، وعلم بالاضطرار صحة نبوته ورسالته ، وما علم بالاضطرار امتنع أن يقوم
على بطلانه دليل وامتنع أن يكون له معارض صحيح. لأنه لو قام على بطلانه دليل لم
يبق لنا وثوق بمعلوم أصلا لا حسي ولا عقلي. وهذا يبطل حقيقة الإنسانية ؛ بل حقيقة
الحيوانية المشتركة بين الحيوانات. فإن لها تمييزا وإدراكا للحقائق بحسبها. وهذا
الوجه في غاية الظهور ، غنى بنفسه عن التأمل ، وهو مبني على مقدمتين قطعيتين :
إحداهما أن الرسول أخبر عن الله بذلك. والثانية أنه صادق ؛ ففي أي المقدمتين يقدح
المعارض بين العقل والنقل؟!
الثاني
والعشرون : أن دليل العقل هو
إخباره عن الذي خلقه وفطره أنه وضع فيه ذلك وعلمه إياه وأرشده إليه ، وذلك السمع
هو الخبر عن الله أنه قال ذلك وتكلم به وأوحاه وعرف به الرسول ، فأمره أن يعرف
الأمر ويخبرهم به ، ولا يكون أحدهما صحيحا حتى يكون الآخر مطابقا لمخبره ، وأن
الأمر ما أخبر به ، وحينئذ فقد شهد العقل لخبر الرسول بأنه صدق وحق ، فعلمنا
مطابقته لمخبره بمجموع الأمرين ، بخبر الرسول به وشهادة العقل الصريح بأنه لا يكذب
في
خبره ؛ وأما خبر
العقل عن الله بما يضاد ذلك بأن الله وضع فيه ذلك وعلمه إياه فلم يشهد له الرسول
بصحة هذا الخبر ، بل شهد ببطلانه فليس معه إلا شهادته لنفسه بأنه صادق فيما أخبره
به ، فكيف تقبل شهادته لنفسه مع عدم شهادة الرسول ، فكيف مع تكذيبه إياه؟ فكيف مع
تكذيب العقل الصريح المؤيد بنور الوحي؟ فكيف مع اختلاف سائر أصحابه وتكاذبهم
وتناقضهم؟ يزيده إيضاحا.
الثالث
والعشرون : وهو أن الأدلة السمعية
نوعان : نوع دل بطريق التنبيه والإرشاد على الدليل العقلي ، فهو عقلي سمعي. فمن
هذا غالب أدلة النبوة والمعاد والصفات والتوحيد وما لا يقوم التنبيه على الدليل
العقلي منه فهو يسير جدا. وإذا تدبرت القرآن رأيت هذا أغلب النوعين عليه وهذا
النوع يمتنع أن يقوم دليل صحيح على معارضته لاستلزامه مدلوله ، وانتقال الذهن فيه
من الدليل إلى المدلول ضرورة. وهو أصل النوع الثاني الدال بمجرد الخبر ، والقدح في
النوعين بالعقل ممتنع بالضرورة : أما الأول فلما تقدم ، وأما الثاني فلاستلزام
القدح فيه : القدح في العقل الذي أثبته ؛ وإذا بطل العقل الذي أثبت السمع ؛ بطل ما
عارضه من العقليات كما تقدم تقريره. يوضحه :
الوجه
الرابع والعشرون : أنه ليس في القرآن صفة إلا وقد دل العقل الصريح على إثباتها لله تعالى ؛ فقد
تواطأ عليها دليل العقل والسمع. فلا يمكن أن يعارض ثبوتها دليل صحيح البتة ، لا عقلي
ولا سمعي. بل إن كان المعارض سمعيا كان كذبا مفترى أو مما أخطأ المعارض به في
فهمه. وإن كان عقليا فهي شبهة خيالية.
واعلم أن هذه دعوى
عظيمة ينكرها كل جهمي وناف وفيلسوف ، ويعرفها من نور الله قلبه بالإيمان وباشر
قلبه معرفة الذي دعت إليه الرسل ؛ وأقرت به الفطر ، وشهدت به العقول الصحيحة
المستقيمة لا المنكوسة المركوسة. وقد نبه سبحانه في كتابه على ذلك في غير موضع ،
وبين أن ما وصف به نفسه هو الكمال الذي لا يستحقه سواه ، فجاحده جاحد لكمال الرب
تعالى. فإنه تمدح بكل صفة وصف بها نفسه وأثنى بها على نفسه ، ومجد بها نفسه ، وحمد
بها نفسه ، فذكرها سبحانه على وجه المدحة له والتعظيم والتمجيد ، وتعرف بها إلى
عباده
ليعرفوا كماله
ومجده وعظمته وجماله. وكثيرا ما يذكرها عند ذكر آلهتهم التي عبدوها من دونه.
فذكر سبحانه من
صفات كماله وعلوه على عرشه وتكلمه وتكليمه وإحاطة علمه ونفوذ مشيئته ما هو منتف عن
آلهتهم. فيكون ذلك من أدل دليل علي بطلان إلهيتها وفساد عبادتها. ويذكر ذلك عند
دعوته عباده إلى ذكره وشكره وعبادته ، فيذكر لهم من أوصاف كماله ونعوت جلاله ما
يجدون قلوبهم إلى المبادرة إلى دعوته والمسارعة إلى طاعته ، ويذكر صفاته لهم عن
ترغيبهم وترهيبهم لتعرف القلوب من تخافه وترجوه. ويذكر صفاته أيضا عند أحكامه
وأوامره ونواهيه. فقل أن تجد آية حكم من أحكام المكلفين إلا وهي مختتمة بصفة من
صفاته أو صفتين. وقد يذكر الصفة في أول الآية ووسطها وآخرها كقوله : (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما
إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : ١)
ويذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله صلىاللهعليهوسلم عنه. ويذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه ، حتى إن الصلاة لا
تنعقد إلا بذكر أسمائه. وصفاته ، فذكر أسمائه وصفاته روحها وسرها ، يصحبها من
أولها إلى آخرها وإنما أمر بإقامتها ليذكر بأسمائه وصفاته ، وأمر عباده أن يسألوه
بأسمائه وصفاته ، ففتح لهم باب الدعاء رغبا ورهبا ليذكره الداعي بأسمائه وصفاته
فيتوسل إليه بها. ولهذا كان أفضل الدعاء ما توسل فيه الداعي إليه بأسمائه وصفاته .
__________________
قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى
فَادْعُوهُ بِها) (الأعراف : ١٨٠)
وكان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين : : آية الكرسي ، وفاتحة آل عمران لاشتمالهما على صفة الحياة
المصححة لجميع الصفات ، وصفة القيومية المتضمنة لجميع الأفعال. ولهذا كانت سيدة آي
القرآن وأفضلها . ولهذا كانت سورة
__________________
الإخلاص تعدل ثلث
القرآن لأنها أخلصت الأخبار عن الرب تعالي
__________________
وصفاته دون خلقه
وأحكامه وثوابه وعقابه. وسمع النبي صلىاللهعليهوسلم رجلا يدعوه «اللهم إنى أسألك بأنك أنت الله الذي لا
إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم» وسمع آخر يقول «اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله
الذي لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» فقال لأحدهما : «لقد سأل الله باسمه الأعظم الذي إذا دعي
به
__________________
أجاب
وإذا سئل به أعطى» وقال للآخر : «سل تعطه» وذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الرب وصفاته.
وفي الحديث الصحيح
عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما أصاب عبد قط هم ولا حزن ؛ فقال :
اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك. ناصيتي بيدك ماض في حكمتك ، عدل في قضاؤك ،
أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، وأنزلته في كتابك ، أو علمته أحد من خلقك ، أو
استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ،
وجلاء حزني وذهاب همي وغمي ؛ إلا أذهب الله همه وأبدله مكانه فرحا» قالوا أفلا
نتعلمهن يا رسول الله؟ قال «بلى ، ينبغي لمن سمعهن أن يتعلمهن» .
وقد نبه سبحانه
على إثبات صفاته وأفعاله بطريق المعقول. فاستيقظت لتنبيه العقول الحية ، واستمرت
على رقادها العقول الميتة ؛ فقال في صفة العلم (أَلا يَعْلَمُ مَنْ
خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك : ١٤) فتأمل
صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه باختصار ، وقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النحل : ١٧) فما
أصح هذا الدليل وما أوجزه.
وقال تعالى في صفة
الكلام : (وَاتَّخَذَ قَوْمُ
مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا
أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً) (الأعراف : ١٤٨)
نبه بهذا الدليل على أن من لا يكلم ولا يهدي لا يصلح أن يكون إلها ، وكذلك قوله في
الآية الأخرى عن العجل (أَفَلا يَرَوْنَ
أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً) (طه : ٨٩) فجعل
امتناع صفة الكلام والتكليم وعدم ملك الضر والنفع دليلا على عدم الإلهية. وهذا
دليل عقلي سمعي على أن الإله لا بدّ أن يكلم ويتكلم ويملك لعباده الضر والنفع وإلا
لم يكن إلها.
__________________
وقال تعالى : (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ
وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ ، وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (البلد : ٨ ـ ١٠)
نبه بهذا الدليل العقلي القاطع أن الذي جعلك تتصرف وتتكلم وتعلم أولى أن يكون
بصيرا متكلما عالما. وأي دليل عقلي قطعي أقوى من هذا وأبين وأقرب إلى العقول؟ .
وقال تعالى في
آلهة المشركين المعطلين (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ
يَمْشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ
يُبْصِرُونَ بِها ، أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها) (الأعراف : ١٩٥)
فجعل سبحانه عدم البطش والسمع والمشى والبصر لهم ، دليلا على عدم إلهية من عدمت
منه هذه الصفات. وقد وصف الله سبحانه نفسه بضد صفة أوثانهم وبضد ما وصفه به
المعطلة والجهمية. فوصف نفسه بالسمع
__________________
والبصر والفعل
باليدين والمجىء والإتيان . وذكر ضد صفات الأصنام التي جعل امتناع هذه الصفات فيها
دليلا على عدم إلهيتها.
فتأمل آيات
التوحيد والصفات في القرآن على كثرتها وتفننها واتساعها وتنوعها تجدها كلها قد
أثبتت الكمال للموصوف بها وأنه المنفرد بذلك الكمال ، فليس له فيه شبيه ولا مثيل ،
وأي دليل في العقل أوضح من إثبات الكمال المطلق لخالق هذا العالم ومدبره وملك
السموات والأرض وقيومهما؟ فإذا لم يكن في العقل إثبات جمع الكمال له فأي قضية تصح
في العقل بعد هذا؟ ومن شك في أن صفة السمع والبصر والكلام والحياة والإرادة
والقدرة والغضب والرضى والفرح والرحمة كمال فهو ممن سلب خاصة الإنسانية وانسلخ من
العقل. بل من شك أن إثبات الوجه واليدين وما أثبته لنفسه معهما كمال فهو مصاب في
عقله.
ومن شك أن كونه
يفعل باختياره ما شاء ويتكلم إذا شاء ، وينزل إلى حيث يشاء ، ويجيء إلى حيث شاء
غير كمال فهو جاهل بالكمال ، والجماد عنده أكمل من الحي الذي تقوم به الأفعال
الاختيارية ؛ كما أن عند الجهمي أن الفاقد لصفات الكمال أكمل من الموصوف بهما ،
كما أن عند أستاذهما وشيخهما الفيلسوف أن من لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم ولا له
حياة ولا قدرة ولا إرادة ؛ ولا فعل ولا كلام ، ولا يرسل رسولا ، ولا ينزل كتابا ،
ولا يتصرف في هذا العالم بتحويل وتغيير وإزالة ونقل وإماتة وإحياء ، أكمل ممن يتصف
بذلك.
__________________
فهؤلاء كلهم قد
خالفوا صريح المعقول ، وسلبوا الكمال عمن هو أحق بالكمال من كل ما سواه ، ولم
يكفهم ذلك حتى جعلوا الكمال نقصا.
فتأمل نسبتهم
الباطلة التي عارضوا بها الوحي هل تصادم هذا الدليل الدال على إثبات الصفات
والأفعال للرب سبحانه ثم اختر لنفسك بعد ما شئت. وهذا قطرة من بحر نبهنا عليه
تنبيها يعلم به اللبيب ما وراءه ، وإلا فلو أعطينا هذا الموضع حقه ، وهيهات أن نصل
إلى ذلك ، لكتبنا عدة أسفار ، وكذا كل وجه من هذه الوجوه فإنه لو بسط وفصل لاحتمل
سفرا وأكثر. والله المستعان وبه التوفيق.
الخامس
والعشرون : أن غاية ما ينتهي
إليه من ادعي معارضة العقل للوحي أحد أمور أربعة لا بد له منها : إما تكذيبها
وجحدها ، وإما اعتقاد أن الرسل خاطبوا الخلق خطابا جمهوريا لا حقيقة له ، وإنما
أرادوا منهم التخييل وضرب الأمثال ، وإما اعتقاد أن المراد تأويلها وصرفها عن
حقائقها بالمجازات والاستعارات ، وإما الإعراض عنها وعن فهمها وتدبرها ، واعتقاد
أنه لا يعلم ما أريد بها إلا الله. فهذه أربع مقامات ، وقد ذهب إلى كل مقام منها
طوائف من بنى آدم.
المقام
الأول : مقام التكذيب ، وهؤلاء استراحوا من كلفة النصوص والوقوع في التشبيه والتجسيم : وخلعوا ربقة
الإسلام من أعناقهم.
المقام
الثاني : مقام أهل التخييل. قالوا : إن الرسل لم يمكنهم مخاطبة الخلق بالحق في نفس
الأمر ، فخاطبوهم بما يخيل إليهم ، وضربوا لهم الأمثال ، وعبروا عن المعاني
المعقولة بالأمور القريبة من الحس ، وسلكوا ذلك في باب الإخبار عن الله وأسمائه
وصفاته واليوم الآخر ، وأقروا باب الطلب على حقيقته. ومنهم من سلك هذا المسلك في
الطلب أيضا وجعل الأمر والنهي إشارات وأمثالا. فهم ثلاث فرق ، هذه إحداها ،
والثانية سلكت ذلك في الخبر دون الأمر ، والثالثة سلكت ذلك في الخبر عن الله وعن
صفاته دون المعاد والجنة. وذلك كله إلحاد في أسماء الرب وصفاته ودينه واليوم الآخر.
والملحد لا يتمكن من الرد على الملحد وقد وافقه في الأصل وإن خالفه في فروعه.
ولهذا
استطال على هؤلاء
الملاحدة ابن سيناء وأتباعه غاية الاستطالة ، وقالوا : القول في نصوص المعاد
كالقول في نصوص الصفات ، قالوا : بل الأمر فيها أسهل من نصوص الصفات ، لكثرتها
وتنوعها وتعدد طرقها ، وإثباتها على وجه يتعذر معه التأويل. فإذا كان الخطاب
جمهوريا فنصوص المعاد أولى .
قال : فإن قلتم :
نصوص الصفات قد عارضها ما يدل على انتفائها من العقل. قلنا : ونصوص المعاد قد
عارضها من العقل ما يدل على انتفائها. ثم ذكر العقليات المعارضة للمعاد ما يعلم به
العاقل أن العقليات المعارضة للصفات من جنسها أو أضعف منها.
المقام
الثالث : مقام أهل التأويل ، قالوا : لم يرد منا اعتقاد حقائقها ، وإنما أريد منا
تأويلها بما يخرجها عن ظاهرها وحقائقها ، فتكلفوا لها وجوه التأويلات المستكرهة ،
والمجازات المستنكرة التي يعلم العقلاء أنها أبعد شيء عن احتمال ألفاظ النصوص لها
، وأنها بالتحريف أشبه منها بالتفسير.
والطائفتان اتفقتا
على أن الرسول صلىاللهعليهوسلم لم يبين الحق للأمة في خطابه لهم ولا أوضحه ، بل خاطبهم
بما ظاهره باطل ومحال ، ثم اختلفوا ، فقال أصحاب
__________________
التخييل : أراد
منهم اعتقاد خلاف الحق والصواب ، وإن كان في ذلك مفسدة فالمصلحة المترتبة عليه
أعظم من المفسدة التي فيه. فقال أصحاب التأويل : بل أراد منا أن نعتقد خلاف ظاهره
وحقيقته ، ولم يبين لنا المراد تعويضا إلى حصول الثواب بالاجتهاد والبحث والنظر
وإعمال الفكرة في معرفة الحق بعقولنا ، وصرف تلك الألفاظ عن حقائقها وظواهرها
لننال ثواب الاجتهاد والسعي في ذلك. فالطائفتان متفقتان أن ظاهر خطاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ضلال وباطل ، وأنه لم يبين الحق ، ولا هدى إليه الخلق.
المقام
الرابع : مقام اللاأدرية الذين يقولون : لا ندري معاني هذه الألفاظ ، وينسبون طريقهم إلى السلف ، وهي
التي يقول المتأولون إنها أسلم ، ويحتجون بقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ) (آل عمران : ٧)
ويقولون : هذا هو الوقف التام عند جمهور السلف ، وهو قول أبي بن كعب وعبد الله بن
مسعود وعبد الله بن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وغيرهم من السلف والخلف وعلى قول
هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص
ولا أصحابهم ولا التابعون لهم بإحسان ، بل يقرءون كلاما لا يعقلون معناه.
ثم هم متناقضون
أفحش تناقض فإنهم يقولون : تجري على ظاهرها ، وتأويلها باطل ثم يقولون : لها تأويل
لا يعلمه إلا الله. وقول هؤلاء باطل ، فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه
وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور وحاكم بين الناس فيما اختلفوا
فيه ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا
يعلم ما أراد به المتكلم لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان.
وهؤلاء طرقوا لأهل
الإلحاد والزندقة والبدع أن يستنبطوا الحق من عقولهم فإن النفوس طالبة لمعرفة هذا
الأمر أعظم طلب ، والمقتضى التام لذلك فيها موجود فإذا قيل لها : إن ألفاظ القرآن
والسنة في ذلك لها تأويل لا يعلمه إلا الله ، ولا
يعلم أحد معناها
فرت إليه عقولهم وفطرهم وآراؤهم ، فسد هؤلاء باب الهدى والرشاد ، وفتح أولئك باب
الزندقة والبدعة والإلحاد وقالوا : قد أقررتم بأن ما جاءت به الرسل في هذا الباب
لا يحصل منه علم بالحق ولا يهدي إليه ، فهو في طريقتنا لا في طريقة الأنبياء ،
فإنا نحن نعلم ما نقول ونثبته بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلموا تأويل ما
قالوه ولا بينوا مراد المتكلم به. وأصاب هؤلاء من الغلط على السمع ما أصاب أولئك
من الخطأ في العقل.
وهؤلاء لم يفهموا
مراد السلف بقولهم : لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فالتأويل في مثل قوله
تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا تَأْوِيلَهُ ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ) (الأعراف : ٥٣) ،
وقوله تعالى : (ذلِكَ خَيْرٌ
وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (النساء : ٥٩) ،
وقول يوسف : (يا أَبَتِ هذا
تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا) (يوسف : ١٠٠) وقول
يعقوب : (وَيُعَلِّمُكَ مِنْ
تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ) (يوسف : ٦٠) ،
وقال تعالى : (وَقالَ الَّذِي نَجا
مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ
فَأَرْسِلُونِ) (يوسف : ٤٥) ،
وقال يوسف : (لا يَأْتِيكُما
طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما) (يوسف : ٣٧)
فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به وترك المنهي عنه كما قال ابن عيينة «السنة
تأويل الأمر والنهي ، وقالت عائشة رضى الله عنها : «كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول
في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي ، يتأول القرآن» .
وأما تأويل ما
أخبر به الله تعالى عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها.
وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ولهذا قال مالك وربيعة «الاستواء
معلوم والكيف مجهول» وكذلك قال ابن الماجشون والإمام أحمد وغيرهم من السلف «إنا لا
نعلم كيفية ما أخبر الله به عن نفسه وإن كنا نعلم تفسيره ومعناه».
__________________
وقد فسر الإمام
أحمد الآيات التي احتج بها الجهمية من المتشابه وقال : «إنهم تأولوها على غير
تأويلها» وبين معناها. وكذلك الصحابة والتابعون فسروا القرآن وعلموا المراد بآيات
الصفات كما علموا المراد من آيات الأمر والنهى ، وإن لم يعلموا الكيفية ، كما
علموا معاني ما أخبر الله به في الجنة والنار وإن لم يعلموا حقيقة كنهه وكيفيته.
فمن قال من السلف
: إن تأويل المتشابه لا يعلمه إلا الله بهذا المعنى فهو أحق وأما من قال : إن
التأويل الذي هو تفسيره وبيان المراد منه لا يعلمه إلا الله فهو غلط ، والصحابة
والتابعون وجمهور الأمة على خلافه. قال مجاهد : عرضت المصحف على ابن عباس من
فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وقال عبد الله بن مسعود : ما في
كتاب الله آية إلا وأنا أعلم فيما أنزلت ، وقال الحسن البصري : ما أنزل الله آية
إلا وهو يحب أن يعلم ما أراد بها ، وقال مسروق : ما نسأل أصحاب محمد صلىاللهعليهوسلم عن شيء إلا وعلمه في القرآن ، ولكن علمنا قصر عنه ، وقال
الشعبي : ما ابتدع قوم بدعة إلا وفي كتاب الله بيانها.
والمقصود أن
معارضة العقل للسمع لا بدّ لصاحبها أن يسلك أحد هذه المسالك الأربعة الباطلة ،
وأسلمها هذا المسلك الرابع ، وقد علمت بطلانه ، وإنما كان أقلها (بطلانا) لأنه
يتضمن الخبر الكاذب على الله ورسوله ، فإن صاحبه يقول : لا أفهم من هذه النصوص
شيئا ولا أعرف المراد بها. وأصحاب تلك المسالك تتضمن أقوالهم تكذيب الله ورسوله
والاخبار عن النصوص بالكذب.
السادس
والعشرون : إن هؤلاء
المعارضين للكتاب والسنة بعقلياتهم التي هي في الحقيقة جهليات إنما (يبنون) أمرهم
في ذلك على أقوال متشابهة مجملة تحتمل معاني متعددة ؛ ويكون ما فيها من الاشتباه
في المعنى ، والإجمال في اللفظ يوجب تأويلها بحق وباطل فيما فيها من الحق يقبل من
لم يحط بها علما بما فيها من الباطل لأجل الالتباس والاشتباه ، ثم يعارضون بما
فيها من الباطل نصوص الأنبياء.
وهذا منشأ ضلال من
ضل من الأمم قبلنا وهو منشأ البدع كلها ، فإن البدع لو كانت باطلا محضا لما قبلت ،
ولبادر كل أحد إلى ردها وإنكارها. ولو كانت حقا محضا لم تكن بدعة وكانت موافقة
للسنة. ولكنها تشتمل على الحق والباطل ويلتبس فيها الحق والباطل كما قال الله
تعالى : (لِمَ تَلْبِسُونَ
الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (آل عمران : ٧١)
فنهي عن لبس الحق بالباطل ، ولبسه به هو خلطه به حتى يلتبس أحدهما بالآخر. ومنه
التلبيس ، وهو التدليس والغش الذي باطنه خلاف ظاهره ، فكذلك الحق إذا لبس بالباطل
يكون فاعله قد أظهر الباطل في صورة الحق وتكلم بلفظ له معنيان ، معنى صحيح ومعنى
باطل فيتوهم السامع أنه أراد المعنى الصحيح ، ومراده الباطل. فهذا من الإجمال في
اللفظ.
وأما الاشتباه في
المعنى فيكون له وجهان ، وهو حق من أحدهما ، وباطل من الآخر. فيوهم إرادة الوجه
الصحيح ، ويكون غرضه الباطل ، فأضل ضلال بني آدم من الألفاظ المجملة والمعاني
المشبهة. ولا سيما إذا صادفت أذهانا سقيمة. فكيف إذا انضاف إلى ذلك هوى وتعصب؟
فنسأل الله مثبت القلوب أن يثبت قلوبنا على دينه.
قال الإمام أحمد
في خطبة كتابه «الرد على الجهمية» : الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل
، بقايا من أهل العلم ، يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون
بكتاب الله الموتى ، ويبصرون بكتاب الله أهل العمى. فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ،
وكم من تائه ضال قد هدوه فما أحسن أثرهم على الناس ، وما أقبح أثر الناس عليهم ،
ينفون عن كتاب الله تحريف الغالبين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، الذين
عقدوا ألوية البدعة ، وأطلقوا عنان الفتنة ، فهم مختلفون في الكتاب ، مخالفون
للكتاب متفقون على مخالفة الكتاب ، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير
علم ، يتكلمون
بالمتشابه من الكلام ، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم. فنعوذ بالله من فتن
المضلين».
وهذه الخطبة
تلقاها الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقد ذكرها محمد بن وضاح في أول
كتابه في «الحوادث والبدع». فقال : حدثنا أسد حدثنا رجل يقال له يوسف ثقة. عن أبي
عبد الله الواسطي رفعه إلى عمر ابن الخطاب أنه قال : «الحمد لله الذي امتن على
العباد بأن جعل في كل زمان فترة من الرسل ، بقايا من أهل العلم يدعون من ضل إلى
الهدى ، ويصبرون منهم على الأذى ، يحيون بكتاب الله الموتى ويبصرون بكتاب الله أهل
العمى. وكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، وتائه ضال قد هدوه بذلوا دمائهم وأموالهم
دون هلكة العباد. فما أحسن أثرهم على الناس عليهم ، وما نسيهم ربك ، ولا كان ربك
نسيا ، جعل قصصهم هدى ، وأخبر عن حسن مقالاتهم. فلا تقتصر عنهم ، فإنهم في منزلة
رفيعة وإن أصابتهم الوضيعة».
فالمتشابه ما كان
له وجهان يخدعون به جهال الناس ، فيا لله كم قد ضل بذلك طوائف من بني آدم. واعتبر
ذلك بأظهر الألفاظ والمعاني في القرآن والسنة وهو التوحيد الذي حقيقته إثبات صفات
الكمال لله وتنزيهه عن أضدادها. فاصطلح أهل الباطل على وضعه ، ثم دعوا الناس إلى
التوحيد فخدعوا به من لم يعرف معناه في اصطلاحهم ، وظن أن ذلك التوحيد هو الذي دعت
إليه الرسل.
(أنواع التوحيد والتحريف في معناه)
والتوحيد اسم لستة
معان : توحيد الفلاسفة ، وتوحيد الجهمية ، وتوحيد القدرية الجبرية ، وتوحيد
الاتحادية ، فهذه الأربعة أنواع من التوحيد جاءت الرسل بإبطالها ودل على بطلانها
العقل والنقل.
فأما
توحيد الفلاسفة : فهو إنكار ماهية
الرب الزائدة على وجوده ، وإنكار صفات كماله وأنه لا سمع له ولا بصر ولا قدرة ولا
حياة ولا إرادة ولا كلام
__________________
ولا وجه ولا يدين.
وليس فيه معنيان يتميز أحدها عن الأخر البتة. قالوا : لأنه لو كان كذلك لكان مركبا
وكان جسيما مؤلفا ، ولم يكن واحدا من كل وجه ، فجعلوه من جنس الجوهر الفرد الذي لا
يحس ولا يرى ولا يتميز منه جانب عن جانب ، بل الجوهر الفرد يمكن وجوده ، وهذا
الواحد الذي جعلوه حقيقة رب العالمين يستحيل وجوده.
فلما اصطلحوا على
هذا المعنى في التوحيد وسمعوا قوله (وَإِلهُكُمْ إِلهٌ
واحِدٌ) (البقرة : ١٦٣)
وقوله : (وَما مِنْ إِلهٍ
إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) (المائدة : ٧٣)
نزلوا لفظ القرآن على هذا المعنى الاصطلاحى وقالوا لو كان له صفة أو كلام أو مشيئة
، أو علم ، أو حياة وقدرة ، أو سمع ، أو بصر ، لم يكن واحدا ، وكان مركبا مؤلفا
فسموا أعظم التعطيل بأحسن الأسماء وهو التوحيد. وسموا أصح الأشياء وأحقها
بالثبوت وهو صفات الرب بأقبح الأسماء ؛ وهو التركيب والتأليف ، فتولد من بين هذه
التسمية الصحيحة للمعنى الباطل : جحد حقائق أسماء الرب وصفاته ، بل وجحد ماهيته
وذاته وتكذيب رسله ، ونشأ من نشأ على اصطلاحه مع إعراضه عن استفادة الهدى والحق من
الوحى ، فلم يعرف سوى الباطل الذي اصطلحوا عليه فجعلوه أصلا لدينه فلما رأى أن ما
جاءت به الرسل يعارضه قال : إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل.
__________________
والتوحيد الثاني :
توحيد
الجهمية : وهو مشتق من
توحيد الفلاسفة. وهو نفي صفات الرب كعلمه ، وكلامه ، وسمعه ، وبصره وحياته ، وعلوه
على عرشه ونفي وجهه ، ويديه ، (وقطب رحى) هذا التوحيد جحد حقائق أسمائه وصفاته.
التوحيد الثالث : توحيد القدرية
والجبرية : وهو إخراج
أفعال العباد أن تكون فعلا لهم ، وأن تكون واقعة بإرادتهم وكسبهم ، بل هي نفس فعل
الله تعالى. فهو الفاعل لها دونهم ، ونسبتها إليهم فعلها ينافي التوحيد عندهم.
الرابع : توحيد القائلين بوحدة
الوجود : وأن الوجود
عندهم واحد ، ليس عندهم وجودان : قديم وحادث ، وخالق ومخلوق ، وواجب وممكن. بل
الوجود عندهم واحد بالعين ، والذي يقال له الخلق المنزه والكل من عين واحدة ، بل
هو العين الواحدة.
فهذه الأنواع
الأربعة سماها أهل الباطل توحيدا واعتصموا بالاسم من إنكار المسلمين عليهم وقالوا
: نحن الموحدون ؛ وسموا التوحيد الذي بعث الله به رسله : تركيبا وتجسيما وتشبيها ،
وجعلوا هذه الألقاب لهم سهاما وسلاحا يقاتلون بها أهله ، فتترسوا بما عند أهل الحق
من الأسماء الصحيحة وقابلوهم بالأسماء الباطلة وقد قال جابر في الحديث الصحيح في
حجة الوداع : فأهل رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالتوحيد : «لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك لبيك
إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» فهذا توحيد الرسول صلىاللهعليهوسلم المتضمن لإثبات صفات الكمال التي يستحق عليها الحمد ،
ولإثبات الأفعال التي يستحق بها أن يكون منعما ، ولإثبات القدرة والمشيئة والإرادة
والتصرف والغضب والرضى والغنى والجود الذي هو حقيقة ملكه ، وعند الجهمية والمعطلة
والفلاسفة لا حمد له في الحقيقة ولا نعمة ولا ملك ، والله يعلم (أنه) لا نجازف في
نسبة
__________________
ذلك إليهم ، بل هو
حقيقة قولهم ، فأي حمد لمن يسمع ولا يبصر ، ولا يعلم ولا يتكلم ولا يفعل ، ولا هو
في العالم ولا خارج عنه ولا متصل به ولا منفصل عنه ، ولا فوقه ولا تحته ولا عن
يمينه ولا عن يساره؟ وأي نعمة لمن لا يقوم به فعل البتة؟ وأي مالك لمن لا وصف له
ولا فعل؟ فانظر إلى توحيد الرسل وتوحيد من خالفهم.
ومن العجب أنهم
سموا توحيد الرسل شركا وتجسيما وتشبيها مع أنه غاية الكمال ، سموا تعطيلهم
وإلحادهم وبغيهم توحيدا ، وهو غاية النقص ؛ ونسبوا أتباع الرسل إلى تنقيص الرب وقد
سلبوه كل كمال ، وزعموا أنهم أثبتوا له الكمال قد نزهوه عنه ، فهذا توحيد الجهمية
والمعطلة.
وأما توحيد الرسل فهو إثبات صفات الكمال له وإثبات كونه فاعلا بمشيئته وقدرته
واختياره ، وإن له فعلا حقيقة. وأنه وحده الذي يستحق أن يعبد ويخاف ويرجى ويتوكل
عليه ؛ فهو المستحق لغاية الحب بغاية الذل ، وليس لخلقه من دونه وكيل ، ولا ولي ،
ولا شفيع ، ولا واسطة بينه وبينهم في رفع حوائجهم إليه ، وفي تفريج كرباتهم وإجابة
دعواتهم.
بينه وبينهم واسطة
في تبليغ أمره ونهيه وأخباره ؛ فلا يعرفون ما يحبه ويرضاه ويبغضه ويسخطه ؛ ولا
حقائق أسمائه وتفصيل ما يحب له ويمتنع عليه ويوصف به إلا من جهة هذه الواسطة ،
فجاء هؤلاء الملاحدة فعكسوا الأمر وقلبوا الحقائق ؛ فنفوا كون الرسل وسائط في ذلك
وقالوا : يكفي توسط العقل ، ونفوا حقائق أسمائه وصفاته وقالوا : هذا التوحيد ،
ويقولون : نحن ننزه الله عن الأعراض والأبعاض والحدود والجهات ، وحلول الحوادث ،
فيسمع الغر المخدوع هذه الألفاظ فيتوهم منها أنهم ينزهون الله عما يفهم من معانيها
عند الإطلاق والنقائص والحاجة ، فلا يشك أنهم يمجدونه ويعظمونه ، ويكشف النافذ
البصير ما تحت هذه الألفاظ فيرى تحتها الإلحاد وتكذيب الرسل ، وتعطيل الرب تعالى
عما يستحقه من كماله.
(معنى قولهم : الأعراض ، والأغراض ، والأبعاض)
فتنزيههم عن الأعراض : هو من أحد صفاته كسمعه وبصره وحياته ، وعلمه ، وكماله ،
وإرادته ، فأن هذه أعراض لا تقوم إلا بجسم ، فلو كان متصفا بها لكان جسما وكانت
أعرضا له وهو منزه عن الأعراض.
وأما
الأغراض : فهي الغاية
والحكمة التي لأجلها يخلق ويفعل ، ويأمر وينهي ويثيب ويعاقب ، وهي الغايات
المحمودة المطلوبة له من أمره ونهيه وفعله ؛ فيسمونها أغراضا وعللا ينزهونه عنها.
وأما
الأبعاض : فمرادهم بتنزيهه
عنها أنه ليس له وجه ولا يدان ؛ ولا يمسك السماوات على إصبع ، والأرض على إصبع ، (والشجر
على إصبع) ، والماء على إصبع ، (فإن) ذلك كله أبعاض ، والله منزه عن الأبعاض.
وأما
الحدود والجهات : فمرادهم بتنزيهه عنها أنه ليس فوق السماوات رب ولا على العرش إله ، ولا يشار
إليه بالأصابع إلى فوق كما أشار إليه أعلم الخلق به ، ولا ينزل منه شيء ، ولا يصعد
إليه شيء ، ولا تعرج الملائكة والروح إليه ، ولا رفع المسيح إليه ، ولا عرج برسول
الله محمد صلىاللهعليهوسلم إليه ، إذ لو كان كذلك لزم إثبات الحدود والجهات له وهو
منزه عن ذلك.
وأما
حلول الحوادث : فيريدون به أنه لا يتكلم بقدرته ومشيئته ، ولا ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ،
ولا يأتي يوم القيامة ولا يجيء ، ولا يغضب بعد أن كان راضيا ، ولا يرضى بعد أن كان
غضبان ، ولا يقوم به فعل البتة ، ولا أمر مجدد بعد أن لم يكن ، ولا يريد شيئا بعد
أن لم يكن مريدا له. فلا يقول له كن حقيقة ، ولا استوى على عرشه بعد أن لم يكن
مستويا ، ولا يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، ولا
ينادي عباده يوم القيامة بعد أن لم يكن مناديا ، ولا يقول للمصلي إذا قال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ)
حمدني عبدي ؛ فإن
قال : (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) قال أثنى على عبدي ، فإذا قال : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) قال مجدني عبدي فإن قال هذه كلها حوادث ، وهو منزه عن حلول الحوادث.
وقالت الجهمية :
نحن نثبت قديما واحدا ، ومثبتوا الصفات يثبتون عدة قدماء. قال : والنصارى أثبتوا
ثلاثة قدماء مع الله تعالى. فكفرهم ، فكيف من أثبت سبعة قدماء أو أكثر؟
فانظر إلى هذا
التدليس والتلبيس الذي يوهم السامع أنهم أثبتوا قدماء مع الله تعالى وإنما أثبتوا
قديما واحدا بصفاته ، وصفاته داخلة في مسمى اسمه كما أنهم إنما أثبتوا إلها واحدا
ولم يجعلوا كل صفة من صفاته إلها بل هو الإله الواحد بجميع أسمائه وصفاته ، وهذا
بعينه متلقي من عباد الأصنام المشركين بالله تعالى المكذبين لرسوله حيث قالوا :
يدعو محمد إلى إله واحد ثم يقول يا الله يا سميع يا بصير ، فيدعوا آلهة متعددة
فأنزل الله (قُلِ ادْعُوا اللهَ
أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى) فأي اسم دعوتموه به فإنما دعوتم المسمى بذلك الاسم ، فأخبر
سبحانه أنه إله واحد وإن تعددت أسماؤه الحسنى المشتقة من صفاته ، ولهذا كانت حسنى
، وإلا فلو كانت كما يقول الجاحدون لكماله اسماء محضة فارغة من المعاني ليس لها
حقائق لم تكن حسنى ، ولو كانت اسماء الموصوفين بالصفات والأفعال أحسن منها. فدلت
الآية على توحيد الذات وكثرة النعوت والصفات.
__________________
ومن ذلك قول هؤلاء
: أخص صفات الإله ؛ القديم. فإذا أثبتم له صفات قديمة لزم أن تكون آلهة قديمة ، ولا
يكون الإله واحدا.
فيقال هؤلاء
المدلسين الملبسين على أمثالهم من أشباه الأنعام : المحذور الذي نفاه العقل والشرع
والفطرة ، وأجمعت الأنبياء على بطلانه ؛ أن يكون مع الله آلهة أخرى ؛ إلا أن يكون
إله العالمين الواحد القهار حيا قيوما سميعا بصيرا متكلما آمرا ناهيا فوق عرشه ،
له الأسماء الحسنى والصفات والعلى. فلم ينف العقل والشرع والفطرة أن يكون للإله
الواحد صفات كمال يختص بها لذاته.
(لفظ الجسم لم يأت به الوحى ولا أثبته أهل السنة)
واعلم أن لفظ
الجسم لم ينطق به الوحي إثباتا فيكون له الإثبات ، ولا نفيا فيكون له النفي. فمن
أطلقه نفيا أو إثباتا سئل عما أراد به ، فإن قال : أردت بالجسم معناه في لغة العرب
وهو البدن الكثيف الذي لا يسمى في اللغة جسم سواه فلا يقال للهوى جسم لغة ولا
للنار ولا للماء. فهذه اللغة وكتبها بين أظهرنا ، فهذا المعنى منفي عن الله عقلا
وسمعا. وإن أردتم به المركب من المادة والصورة ، والمركب من الجواهر الفردة ، فهذا
منفي عن الله قطعا ، والصواب نفيه عن الممكنات أيضا. فليس الجسم المخلوق مركبا من
هذا ولا من هذا ، وإن اردتم بالجسم ما يوصف بالصفات ويرى بالأبصار ويتكلم ويكلم
ويسمع ويبصر ويرضى ويغضب ، فهذه المعاني ثابتة لله تعالى وهو موصوف بها ، فلا
ننفيها عنه بتسميتكم للموصوف بها جسما ، كما إنا لا نسب الصحابة لأجل تسمية
الروافض لمن يحبهم ويواليهم نواصبا ، ولا ننفي قدر الرب ونكذب به لأجل تسمية
القدرية لمن أثبته جبريا ، ولا نرد ما أخبر به الصادق عن الله وأسمائه وصفاته
وأفعاله لتسمية أعداء الحديث لنا حشوية ، ولا نجحد صفات خالقنا وعلوه على خلقه
واستواءه على عرشه لتسمية الفرعونية المعطلة لمن أثبت ذلك مجسما مشبها :
فإن كان تجسيما
ثبوت استوائه
|
|
على عرشه إني
إذا لمجسم
|
وإن كان تشبيها
ثبوت صفاته
|
|
فمن ذلك التشبيه
لا أتكتم
|
وإن كان تنزيها
جحود استوائه
|
|
وأوصافه أو كونه
يتكلم
|
فعن ذلك التنزيه
نزهت ربنا
|
|
بتوفيقه والله
أعلى وأعظم
|
ورحمة الله على
الشافعي حيث فتح للناس هذا الباب في قوله :
يا راكبا قف
بالمحصب من منى
|
|
واهتف بقاعد
خيفها والناهض
|
إن كان رفضا حب
آل محمد
|
|
فليشهد الثقلان
أني رافضي
|
وهذا كله كأنه
مأخوذ من قول الشاعر الأول :
وعيرني الواشون
أني أحبها
|
|
وذلك ذنب لست
منه أتوب
|
وإن أردتم بالجسم
ما يشار إليه إشارة حسية فقد أشار أعرف الخلق به ـ بإصبعه ـ رافعا بها إلى السماء
بمشتد الجمع الأعظم مستشهدا له ؛ لا للقبلة ، وإن أردتم بالجسم ما يقال : أين هو؟
فقد سأل أعلم الخلق به بأين ، منبها على علوه على عرشه. وسمع السؤال بأين ، وأجاب
عنه ، ولم يقل : هذا السؤال إنما يكون عن الجسم. وإن أردتم بالجسم ما يلحقه من ،
وإلى ، فقد نزل جبريل من عنده ، وعرج برسوله إليه ، وإليه يصعد الكلم الطيب. وعبده
المسيح رفع إليه.
وإن أردتم بالجسم
ما يتميز منه أمر غير أمر. فهو سبحانه موصوف بصفات الكمال جميعا ، من السمع والبصر
والعلم والقدرة والحياة ، وهذه صفات متميزة متغايرة ومن قال إنها صفة واحدة فهو
بالمجانين أشبه منه بالعقلاء. وقد قال أعلم الخلق به : «أعوذ برضاك من سخطك ،
وأعوذ بعفوك من عقوبتك وأعوذ بك منك» والمستعاذ به غير المستعاذ منه. وأما استعاذته صلىاللهعليهوسلم به منه فباعتبارين
__________________
مختلفين ، فإن
الصفة المستعاذ بها والصفة المستعاذ منها صفتان لموصوف واحد ورب واحد فالمستعيذ
بإحدى الصفتين من الأخرى مستعيذا بالموصوف بهما منه.
وإن أردتم بالجسم
ماله وجه ويدان وسمع وبصر : فنحن نؤمن بوجه ربنا الأعلى وبيديه وبسمعه وبصره ،
وغير ذلك من صفاته التي أطلقها على نفسه.
وإن أردتم بالجسم
ما يكون فوق غيره ومستويا على غيره ، فهو سبحانه فوق عباده مستو على عرشه. وكذلك
إن أردتم من التشبيه والتركيب هذه المعاني التي دل عليها الوحى والعقل ؛ فنفيكم
لها بهذه الألقاب المنكرة خطأ في اللفظ والمعنى ، وجناية على ألفاظ الوحي. أما
الخطأ اللفظي فتسميتكم الموصوف بذلك جسما مركبا مؤلفا مشبها بغيره ؛ وتسميتكم هذه
الصفات تركيبا وتجسيما وتشبيها ؛ فكذبتم على القرآن وعلى الرسول وعلى اللغة ،
ووضعتم لصفاته ألفاظا منكم بدئت وإليكم تعود.
وأما خطؤكم في
المعنى في نفيكم وتعطيلكم لصفات كماله بواسطة هذه التسمية والألقاب ، فنفيتم
المعنى الحق وسميتموه بالاسم المنكر ، وكنتم في ذلك بمنزلة من سمع أن العسل شفاء
ولم يره فسأل عنه. فقيل له : مائع رقيق أصفر يشبه العذرة ، تتقيؤه الزنابير ، ومن
لم يعرف العسل ينفر عنه بهذا التعريف ، ومن عرفه وذاقه لم يزده هذا التعريف عنده
إلا محبة له ورغبة فيه. ولله در القائل :
تقول هذا جناء
النحل تمدحه
|
|
وإن تشأ قلت ذا
قيء الزنابير
|
مدحا وذما وما
جاوزت وصفهما
|
|
والحق قد يعتريه
سوء تعبير
|
وأشد ما جادل
أعداء الرسول في التنفير عنه سوء التعبير عما جاء به ، وضرب الأمثال القبيحة له ،
والتعبير عن تلك المعاني التي أحسن منها بألفاظ منكرة ألقوها في مسامع المغترين
المخدوعين ، فوصلت إلى قلوبهم فنفرت عنه. وأكثر العقول كما عهدت يقبل القول بعبارة
، ويرده بعبارة أخرى.
وكذلك إذا قال
الفرعوني : لو كان فوق السموات رب أو على العرش إله
لكان مركبا. قيل
له : لفظ المركب في اللغة هو الذي ركبه غيره في محله كقوله تعالي : (فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) آية وقولهم : ركبت الخشبة والباب وما يركب من أخلاط وأجزاء
بحيث كانت أجزاؤه مفرقة فاجتمعت وركب حتى صار شيئا واحدا ، كقولهم ركبت الدواء من
كذا وكذا.
وإن أردتم بقولكم
: لو كان فوق العرش كان مركبا هذا التركيب المعهود ، أو أنه كان متفرقا ، فاجتمع ،
فهو كذب وفرية وبهت على الله وعلى الشرع وعلى العقل.
وإن أردتم أنه لو
كان فوق العرش لكان عاليا على خلقه بائنا منهم مستويا على عرشه ليس فوقه شيء ،
فهذا المعنى حق ، فكأنك قلت : لو كان فوق العرش لكان فوق العرش ، فنفيت الشيء
بتغيير العبارة وقلبها إلى عبارة أخري ، وهذا شأنكم في أكثر مطالبكم.
وإن أردت بقولك
كان مركبا أنه يتميز منه شيء عن شيء فقد وصفته أنت بصفات يتميز بعضها من بعض ، فهل
كان عندك هذا تركيبا.
فإن قلت : هذا
يقال لي وإنما يقال لمن أثبت شيئا من الصفات ، فأما أنا فلا أثبت له به صفة واحدة
فرارا من التركيب. قيل لك : العقل لم يدل على نفي المعنى الذي سميته أنت مركبا وقد
دل الوحي والعقل والفطرة على ثبوته ، أفتنفيه لمجرد تسميتك الباطلة؟ فإن التركيب
يطلق ويراد به خمسة معان (تركيب) الذات من الوجود والماهية عند من يجعل وجودها
زائدا على ماهيتها ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته وجودا مطلقا ، إنما هو في
الأذهان لا وجود له في الأعيان.
(الثاني)
تركيب الماهية من
الذات والصفات ، فإذا نفيت هذا التركيب جعلته ذاتا مجردة عن كل وصف ، لا يبصر ولا
يسمع (ولا يعلم) ولا يقدر ولا يريد ولا حياة له ولا مشيئة ولا صفة أصلا. فكل ذات
في المخلوقات خير من هذه الذات فاستفدت بهذا التركيب كفرك بالله وجحدك لذاته
ولصفاته وأفعاله.
(الثالث)
تركيب الماهية
الجسمية من الهيولي والصورة كما يقوله الفلاسفة.
(الرابع)
التركيب من
الجواهر الفردة كما يقوله كثير من أهل الكلام.
(الخامس)
تركيب الماهية من
اجزاء كانت متفرقة فاجتمعت وتركبت.
فإن أردت بقولك لو
كان فوق العرش لكان مركبا كما يدعيه الفلاسفة والمتكلمون (قيل لك) جمهور العقلاء
عندهم أن الأجساد المحدثة المخلوقة ليست مركبة لا من هذا ولا من هذا. فلو كان فوق
العرش جسم مخلوق أو محدث لم يلزم أن يكون مركبا بهذا الاعتبار ، فكيف يلزم ذلك في
حق خالق الفرد والمركب ، الذي يجمع المتفرق ويفرق المجتمع ، ويؤلف بين الأشياء فيركبها
كما يشاء ، والعقل لما دل على إثبات إله واحد ورب واحد لا شريك له ولا شبيه له لم
يلد ولم يولد ، لم يدل على أن ذلك الرب الواحد لا اسم له ولا صفة ، ولا وجه ، ولا
يدين ، ولا هو فوق خلقه ، ولا يصعد إليه شيء ، ولا ينزل منه شيء.
فدعوى ذلك على
العقل كذب صريح على الوحى.
وكذلك قولهم ننزهه
على الجهة ، إن أردتم أنه منزه عن جهة وجودية تحيط به وتحويه وتحصره إحاطة الظرف
بالمظروف ، فنعم ، هو أعظم من ذلك وأكثر وأعلى ، ولكن لا يلزم من كونه فوق عرشه
هذا المعنى ، وإن أردتم بالجهة أمرا يوجب مباينة الخالق للمخلوق وعلوه على خلقه
استواءه على عرشه فنفيكم لهذا المعنى باطل ، وتسميته جهة اصطلاح منكم توسلتم به
إلى نفي ما دل عليه العقل والنقل والفطرة ، وسميتم ما فوق العالم جهة وقلتم منزه
عن الجهات ، وسميتم العرش حيزا وقلتم ليس بمتحيز.
وسميتم الصفات
أعراضا وقلتم الرب منزه عن قيام الأعراض به ، وسميتم حكمته غرضا وقلتم منزه عن
الأغراض ، وسميتم كلامه بمشيئته ، ونزوله إلى سماء الدنيا ومجيئه يوم القيامة فصل
القضاء ومشيئته وإرادته المقارنة لمرادها وإدراكه المقارنة لوجود المدرك ، وغضبه
إذا عصي ، ورضاه إذا أطيع ، وفرحه إذا
تاب إليه العباد ،
ونداؤه لموسى حين أتى الشجرة ، ونداؤه للأبوين حين أكلا من الشجرة ، ونداؤه لعباده
يوم القيامة ، ومحبته لمن كان يبغضه حال كفره ثم صار يحبه بعد إيمانه وربوبيته
التي هو بها كل يوم في شأن ـ حوادث ، وقلتم هو منزه عن حلول الحوادث ، وحقيقة هذا
التنزيه أنه منزه عن الوجود وعن الربوبية وعن الملك وعن كونه فعالا لما يريد ، بل
عن الحياة والقيومية.
فانظر ما ذا تحت
تنزيه المعطلة المنفاة بقولهم : ليس بجسم ولا جوهر ولا مركب ، ولا تقوم به الأعراض
، ولا يوصف بالأبعاض ، ولا يفعل بالأغراض ، ولا تحله الحوادث ، ولا تحيط به الجهات
، ولا يقال في حقه أين ، وليس بمتحيز ، كيف كسوا حقائق أسمائه وصفاته ، وعلوه على
خلقه ، واستواءه على عرشه ، وتكليمه لخلقه ، ورؤيتهم له بالأبصار في دار كرامته ،
هذه الألفاظ ، ثم توسلوا إلى نفيها بواستطها. وكفروا وضللوا من أثبتها ، واستحلوا
منه ما لم يستحلوه من أعداء الله من اليهود والنصارى. فإلى الله الموعد وإليه
الملتجأ ، وإليه التحاكم ، وبين يديه التخاصم.
نحن وإياهم نموت
ولا
|
|
أفلح يوم الحساب
من ندما
|
* * *
(فصل)
(في تحريف اسمه تعالى : العدل)
ومن ذلك لفظ «العدل»
، جعلته القدرية اسما لإنكار قدرة الرب على أفعال العباد وخلقه لها ومشيئته ،
فجعلوا إخراجها عن قدرته ومشيئته هو العدل ، وجعل سلفهم إخراجها عن تقدم علمه
وكتابته من العدل ، وسموا أنفسهم بالعدلية ، وعمدوا إلى إثبات عموم قدرته على كل
شيء من الأعيان والأفعال وخلقه لكل شيء وشمول مشيئته ، فسموه جبرا ، ثم نفوا هذا
المعنى الصحيح وعبروا عنه بهذا الاسم ثم سموا أنفسهم أهل العدل وسموا من أثبت صفات
الرب وأثبت قدره وقضاءه أهل التشبيه والحيز.
كذلك قول الرافضة
سموا موالاة الصحابة «نصبا» ، ومعاداتهم موالاة لأهل بيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم. وكذلك المرجئة سموا من قال في الإيمان بقول الصحابة
والتابعين واستثنى فيه فقال : أنا مؤمن إن شاء الله : «شاكا».
وهذا شأن كل مبطل
ومبتدع ، ويلقب الحق وأهله بالألقاب الشنيعة المنفردة. فإذا أطلقوا لفظ الجسم
صوروا في ذهن السامع خشبة من الخشب الكثيف ، أو بدنا له حامل يحمله. وإذا قالوا
مركب صوروا في ذهنه أجزاء متفرقة فركبها ، وهذا حقيقة المركب لغة وعرفا ، وإذا
قالوا : يلزم أن تحله الحوادث صوروا في ذهنه ذاتا تنزل به الأعراض النازلة
بالمخلوقين كما مثل النبي صلىاللهعليهوسلم لابن آدم امله وأجله والأعراض إلى جانبه إن أخطأه هذا
أصابه هذا . وإذا قالوا : يقولون بالحيز والجهة : صوروا فى الذهن
موجودا محسورا بالأحياز وإذا قالوا لزم الحيز : صوروا في الذهن قادرا ظالما يجبر
الخلق على ما لا يريدون ويعاقبهم على ما لا يفعلون.
__________________
وإذا قالوا «حشوية»
: صوروا في ذهن السامع إنهم حشوا في الدين ما ليس منه ؛ فتنفر القلوب من هذه
الألقاب. ولو ذكروا حقيقة قولهم لما قبلت القلوب السليمة والفطر المستقيمة سواه.
فكيف يترك الحق لأسماء سموها هم وأسلافهم ما أنزل الله بها من سلطان ، وألقاب
وضعوها من تلقاء أنفسهم لم يأت بها سنة ولا قرآن. وشبهات قذفت بها قلوب ما استنارت
بنور الوحي (ولا) خالطها بشاشة الإيمان. وخيالات هي بتخيلات الممردين وأصحاب الهوس
أشبه منها بقضايا العقل والبرهان. ووهميات نسبتها إلى العقل الصحيح كنسبة السراب
في الأبصار في القيعان. وألفاظ مجملة ومعان مشتبه قد لبس فيها الحق بالباطل فصارت
ذا خفاء وكتمان.
فدعونا من هذه
الدعاوى الباطلة التي لا تفيد (إلا) إتعاب الإنسان. وكثرة الهذيان. وحاكمونا إلى
الوحى والقرآن. لا إلى منطق يونان. ولا إلى قول فلان ورأى فلان فهذا كتاب الله ليس
فوق بيانه مرتبة في البيان ، وهذه سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم مطابقة له أعظم من مطابقة البيان للسان. وهذه أقوال أعقل
الأمم بعده والتابعين لهم بإحسان لا يختلف منهم في هذا الباب اثنان ولا يوجد عنهم
فيه قولان متنافيان ، بل قد تتابعوا كلهم على إثبات الصفات وعلو الله على خلقه
واستوائه على عرشه ، وإثبات تكلمه وتكليمه وسائر ما وصف به نفسه ، ووصفه به رسوله صلىاللهعليهوسلم كتتابع الأسنان. وقالوا للأمة هذا عهد نبينا إلينا وعهدنا
إليكم وإلى من بعدكم إلى آخر الزمان وهذا هو الذي نادى به المنادي وأذن على رءوس
الملأ في السر والإعلان. فحي على الصلاة وراء هذا الإمام يا أهل الإيمان وحي على
الفلاح بمتابعته يا أهل القرآن. والصلاة خير من النوم في ظلمة ليل الشرك والإفك
والكفران فلا تصح القدوة بمن أقر على نفسه وصدقه المؤمنون بأنه تائه في بيداء
الآراء والمذاهب حيران ، وأنه لم يصل إلى اليقين بشيء منها لا وهو ولا من قبله على
تطاول الزمان. وإن غاية ما وصلوا إليه الشك والتشكيك ولقلقة اللسان.
فالحمد لله وسلام
على عباده الذين اصطفى وخصهم بكمال العقول وصحة الفطرة ونور البرهان. وجعلهم هداة
مهتدين مستبصرين مبصرين أئمة للمتقين يهدون بأمره ، ويبصرون بنوره ويدعون إلى داره
؛ ويجادلون كل مفتن فتان.
فحى على خير العمل
بمتابعة المبعوث بالفرقان. وتحكيمه وتلقي حكمه بالتسليم والقبول والإذعان ،
ومقابلة ما خالف حكمه بالإنكار والرد والهوان. ومطاعنة المعارضين له بقولهم بالسيف
والسنان. وإلا بالعلم واللسان ، فالعقول السليمة والفطر المستقيمة لنصوص الوحي
يسجدان. ويصدقان بما شهدت به ولا يكذبان ، ويقران أن لها عليهما أعظم سلطان.
وأنهما إن خرجا عنها غلبا ولا ينتصران والله المتسعان وعليه التكلان.
السابع
والعشرون : أن المعارضة بين
العقل ونصوص الوحي لا تتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا. ولا على
أصول أحد من أهل الملل المصدقين بحقيقة النبوة ، ليست هذه المعارضة من الإيمان
بالنبوة في شيء ، وإنما تتأتى هذه المعارضة ممن يقر بالنبوة على قواعد الفلسفة
ويجريها على أوضاعهم ، وأن الإيمان بالنبوة عندهم ، والاعتراف بموجود حليم له طالع
مخصوص يقتضي طالعه أن يكون متبوعا ، فإذا أخبرهم بما لا تدركه (عقولهم) عارضوا
خبره (بعقولهم وقدموها على خبره).
فهؤلاء الذين
عارضوا بين العقل ونصوص الأنبياء ، فعارضوا نصوص الأنبياء في باب الإيمان بالله
وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر في هذه الأصول الخمسة بعقولهم ، فلم يصدقوا
بشيء منها على طريقة الرسل. ثم سرت معارضتهم في المنتسبين إلى الرسل ، فتقاسموها
تقاسم الوارث لتركه مورثهم ؛ فكل طائفة كانت نصوص الوحي على خلاف مذهبهم لجئوا إلى
هذه المعارضة ومعلوم أن هذا يناقض الإيمان بالنبوة ، وإن تناقض القائل به فغلبته
أن يثبت كون النبي رسولا في العمليات ولا في العلميات ، أو في بعض العلميات التي
أخبر بها دون البعض. وهذا أسوأ حالا ممن جعله رسولا إلى بعض الناس دون بعض. فإن
القائل بهذا يجعله رسولا في العمليات والعلميات ، ولا يعارض بين خبره وبين العقل ،
وإن تناقض جحده عموم رسالته بالنسبة إلى كل مكلف فهذا أحد عموم رسالته إلى
المدعوين وذاك جحد عموم رسالته في المدعو إليه المخبر به ، ولم يؤمن في الحقيقة
برسالته لا هذا ولا هذا. فإنه يقال لهذا : إن كان رسول صلىاللهعليهوسلم إلى هؤلاء حقا فهو رسوله إلى آخرين قطعا ؛ لأنه أخبر بذلك
ومن
ضرورة تصديقه
الإيمان بعموم رسالته. ويقال للآخر : إن كان رسول الله في العمليات وأنها حق من
عند الله ، فهو رسوله في العلميات ؛ فإنه أخبر عنه بهذا وهذا.
الثامن
والعشرون : وهو إنك إذا جعلت
العقل ميزانا ، ووضعت في إحدى كفتيه كثيرا من الأمور المشاهدة المحسوسة التي
ينالها العيان ، ووضعت في الكفة الأخرى الأمور التي أخبرت بها الرسل عن الله تعالى
وأسمائه وصفاته وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر. وجدت ترجيحه لهذه الكفة فوق
ترجيحه للتي قبلها وتصديقه بها أقوى ، ولو لا الحس والمشاهدة يمنعه من إنكار ذلك
لأنكره ؛ هذه دعوى نعلم أنك تتعجب ممن يدعيها وتنسبه إلى المجازفة وقلة التحصيل. ولعمر
الله أن مدعيها ليعجب من إنكارك لها وتوقفك فيها بعد البيان.
فنقول ، وبالله
التوفيق : أنسب إلى العقل ، حيوان يرى ويسمع ويحس ويتكلم ويعمل ، فغشيه أمر ألفاه
كأنه خشبة لا روح فيها وزال إحساسه وإدراكه ، وتوارى عنه سمعه وبصره وعقله ، بحيث
لا يعلم شيئا ، فأدرك في هذه الحالة من العلوم العجيبة والأمور الغائبة ما لم
يدركه حال حضور ذهنه ، واجتماع حواسه ووفور عقله ، وعلم من أمور الغيب المستقبلة
ما لم يكن له دليل ولا طريق إلى العلم به.
وانسب إليه أيضا
حيوان خرج من إحليله مجة ماء مستحيلة عن حصول الطعام والشراب كالمخطة ؛ فامتزجت
بمثلها في مكان ضيق فأقامت هناك برهة من الدهر فانقلبت دما قد تغير لونها وشكلها
وصفاتها ، فأقامت كذلك مدة ، ثم انقلبت بعد ذلك قطعة لحم ؛ فأقامت كذلك مدة ، ثم
انقلبت عظاما وأعصابا وعروقا وأظفارا مختلفة الأشكال والأوضاع ، وهي جماد لا إحساس
بها ، ثم عادت حيوانا يتحرك ويتغذى وينقلب. ثم أقام ذلك الحيوان في مكانه لا يجد
فيه منفسا وهو داخل أوعية بعضها فوق بعض ، ثم انفتح له باب يضيق عنه مسلك الذكر لا
يسلكه إلا بضغطة ، فوسع له ذلك الباب حتى خرج منه.
وانسب إليه أيضا :
بقدر الحبة ترسله في مدينة عظيمة من أعظم المدن فيأكل المدينة وكل من فيها ثم يقبل
على نفسه فيأكلها ؛ وهو النار.
وانسب إليه شيئا
بقدر بذر الخشخاش يحمله الإنسان بين ثيابه مدة فينقلب حيوانا يتغذى بورق الشجر برهة
، ثم إنه يبني على نفسه قبابا مختلفة الألوان من أبيض وأصفر وأحمر بناء محكما
متقنا ، فيقيم في ذلك البناء مدة من الزمان لا يتغذى بشيء البتة. فينقلب في القبة
طائرا له أجنحة يطير بها بعد أن كان دودا يمشى على بطنه فيفتح عن نفسه باب القبة ،
وذلك دود القز.
إلى أضعاف أضعاف
ما ذكرناه ، مما يشاهد بالعيان ؛ مما لو حكى لمن لم يره لعجب من عقل من حكاه له
وقال : وهل يصدق بهذا عاقل ؛ وضرورة العقل تدفع هذا ، وأقام الأدلة العقلية على
استحالته فقال في النائم مثلا : القوى الحساسة سبب الإدراك للأمور الوجودية وآلة
لها ، فمن لم يدرك الأشياء مع وجودها واستجماعها ووفورها ؛ فلأن يتعذر عليه عدم
إدراكها مع عدمها وبطلان أفعالها أولى وأحرى. وهذا قياس أنت تجده أقوى من الأقيسة
التي يعارض بها خبر الأنبياء ، والحس والعيان يدفعه ، ومن له خبرة بمواد الأدلة
وترتيب مقدماتها ؛ وله أدنى بيان يمكنه أن ينظم أدلة عقلية على استحالة كثير من
الأمور المشاهدة المحسوسة ، وتكون مقدمات تلك الأدلة من جنس مقدمات الأدلة التي
تعارض بها النصوص أو أصح منها.
وانسب إلى العقل :
وجود ما أخبرت به الرسل عن الله وصفاته وأفعاله وملائكته واليوم الآخر ؛ وثبوت هذه
الأمور التي ذكرنا اليسير منها ؛ وما لم تذكره ولم يخطر لنا ببال أعجب من ذلك
بكثير ؛ تجد تصديق العقل بما أخبرت به الرسل أقرب إليه من تصديقه بهذه الأمور ؛
ولو لا المشاهدة لكذب بها فيا لله العجب ، كيف يستجيز العقل تكذيب ما أخبرت به
الرسل بعد أن سمع ورأى وعاين ما لو لا الحس لأنكره غاية الإنكار؟ ومن هاهنا قال من
صح عقله وإيمانه : أن نسبة العقل إلى الوحى أقل وأدق بكثير من نسبة مبادي التمييز
إلى العقل.
التاسع
والعشرون : أن هؤلاء
المعارضين بين العقل والوحي لا يمكنهم إثبات الصانع ، بل يلزم من قولهم نفيه
بالكلية لزوما بينا ؛ ولأن العالم مخلوق له ؛ ولا يمكنهم إقامة دليل على استحالة
إلهين ، ولا إقامة دليل واحد على استحالة
كون الصانع جسما ،
ولا اثبات كونه عالما ولا قادرا ولا ربا. ونقتصر من هذه الجملة على بيان عجزهم عن
إثبات وجوده سبحانه وتعالى ، فضلا عن تنزيهه عن صفات كماله فنقول :
المعارض بين العقل
والنقل في الأصل هم الزنادقة المنكرون للنبوة وحدوث العالم والمعاد ؛ ووافقهم في
هذا الأصل الجهمية المعطلة لصفات الرب تعالى وأفعاله ، والطائفتان لم تثبت للعالم
صانعا البته. فإن الصانع الذي أثبتوه وجوده مستحيل فضلا عن كونه واجب الوجود قديما.
أما الزنادقة الفلاسفة فإنهم أثبتوا للعالم صانعا لفظا لا معنى ، ثم لبسوا على
الناس وقالوا إن العالم صنعه وفعله وخلقه ثم وهو في الحقيقة عندهم غير مصنوع ولا
مخلوق ولا مفعول ، ولا يمكن على أصلهم أن يكون العالم مخلوقا ولا مفعولا.
قال أبو حامد :
وذلك لثلاثة أوجه ، وجه في الفاعل ، ووجه في الفعل ، ووجه في نسبة مشتركة بين
الفعل والفاعل. أما الذي في الفاعل فهو أنه لا بد أن يكون مريدا مختارا عالما بما
يريده حين يكون فاعلا لما يريده ، والله تعالى عندهم ليس مريدا ، بل لا صنعة له
أصلا ، وما يصدر عنه فيلزم لزوما ضروريا. والثاني أن العالم قديم عندهم والفعل هو
الحادث. والثالث أن الله تعالى واحد من كل وجه ، والواحد عندهم لا يصدر عنه إلا
واحدا ، والعالم مركب من خلفات ، فكيف يصدر عنه؟
قال : ولنحقق وجه
كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة مع حالهم في دفعة فنقول الفاعل عبارة عما يصدر عنه
الفعل مع الإرادة للفعل على سبيل الاختيار ، مع العلم بالمراد ، وعندهم أن العالم
مع الله كالمعلول مع العلة ، يلزم لزوما ضروريا لا يتصور مع الله تعالى دفعه ،
لزوم الظل للشخص والنور للشمس ، وليس هذا من الفعل في شيء. بل من قال إن السراج
يفعل الضوء ، والشخص يفعل الظل ، فقد جاوز وتوسع في التجاوز توسعا خارجا عن الحد ،
واستعار اللفظ واكتفى بوقوع المشاركة بين المستعار منه في صف واحد ، وهو أن الفاعل
سبب على الجملة والسراج سبب للضوء والشمس سبب للنور ، والفاعل
لم يسم فاعلا
صانعا بمجرد كونه سببا ، بل لكونه سببا على وجه الإرادة والاختيار ، حتى لو قال
قائل : الجدار ليس بفاعل ، والحجر ليس بفاعل ، والجماد ليس بفاعل ، وإنما الفعل
للحيوان ، لم ينكر ذلك عليه ولم يكن قوله كذبا. وللحجر فعل عندهم ، وهو الهوي إلى
أسفل والميل إلى المركز ، كما أن للنار فعلا ، وهو التسخين ، وللحائط فعلا وهو
الميل إلى المركز ووقوع الظل ، لأن ذلك صادر عنه ، وهذا محال.
قال ، فإن قيل :
كل موجود ليس بواجب الوجود لذاته بل هو موجود لغيره فإنا نسمى ذلك الشيء مفعولا ،
ونسمى سببه فعلا ولا نبالي ، كان المسبب فاعلا بالطبع أو بالإرادة ، كما أنكم لا
تبالون إن كان فاعلا بآلة أو بغير آلة ، بل الفعل جنس ينقسم إلى ما يقع بآلة وإلى
ما يقع بغير آلة ، وكذلك هو جنس ينقسم إلى ما يقع بالطبع وإلى ما يقع بالاختيار ،
بدليل أنا لو قلنا فعل بالطبع لم يكن قولنا فعل بالطبع ضدا لقولنا فعلا ، ولا رفعا
له ، ولا نقضا له ، بل بيانا لنوع الفعل ، كما إذا قلنا : فعل مباشر بغير آلة لم
يكن نقضا ، بل كان تنويعا وبيانا ، وإذا قلنا فعل بالاختيار لم يكن تكرارا بل كان
بيانا لنوع الفعل. كقولنا فعل بآلة ، ولو كان قولنا فعل يتضمن الإرادة وكانت
الإرادة ثابتة للفعل من حيث أنه فعل لكان قولنا فعل وما فعل.
قلنا هذه التسمية
فاسدة ، فلا يجوز أن يسمى كل سبب بأي فعل كان فاعلا ولا كل سبب مفعولا. ولو كان
ذلك ما صح أن يقال : الجماد لا فعل له وإنما الفعل للحيوان. وهذه من الكلمات
المشهورة الصادقة. فإن سمي (الجماد) فاعلا فبالاستعارة كما يسمى طالبا مريدا على
سبيل المجاز. ويقال : الحجر يهوي. لأنه يريد المركز ويطلبه ، والطلب والإرادة هنا
حقيقة ، لأنه لا يتصور إلا مع العلم المراد المطلوب ، فلا يتصور إلا من الحيوان.
وأما قولكم : إن قولنا فعل عام وينقسم إلى ما هو بالطبع وإلى ما هو بالإرادة غير
مسلّم. وهو كقول القائل : قولنا أراد عام. وينقسم إلى من يريد مع العلم بالمراد.
وإلى من يريد
ولا يعلم ما يريد.
وهو فاسد. إذ الإرادة تتضمن العلم بالضرورة. وكذلك الفعل يتضمن الإرادة بالضرورة.
وأما قولكم : إن
قولنا فعل بالطبع ليس بنقض للأول فليس كذلك فإنه نقض له من حيث الحقيقة. ولكنه لا
يسبق إلي الفهم التناقض ولا يشتد نفور الطبع عنه فإنه لما أن كان سببا موجبا
والفاعل أيضا سببا سمى فعلا مجازا. وإذا قال فعل بالاختيار فهو تكوين على التحقيق.
كقوله : أراد. وهو عالم بما أراد إلا أنه لما تصور أن يقال : فعل وهو مجاز ، ويقال
: فعل وهو حقيقة لن تنفر النفس عن قوله : فعل بالاختيار. وكان معناه فعل حقيقيا لا
مجازيا. كقول القائل : تكلم بلسانه ، ونظر بعينه ، فإنه لما جاز أن يستعمل النظر
في القلب مجازا ، والكلام في تحريك الرأس واليد مجازا ، لم يستقبح أن يقال : قال
بلسانه ونظر بعينه ، ويكون معناه نفي احتمال المجاز. فهذه مزلة القدم.
(فإن قيل) فتسمية
الفاعل فاعلا إنما يعرف من اللغة ، وإلا فقد ظهر في العقل أن ما يكون سببا للشيء
ينقسم إلى ما يكون مريدا وإلى ما لا يكون ، فوقع النزاع في أن اسم الفاعل يقع على
كل من القسمين حقيقة أم لا ، إذ العرب تقول : النار تحرق ، والثلج يبرد ، والسيف
يقطع ، والخبز يشبع ، والماء يروي وقولنا يقطع معناه يفعل القطع ، وقولنا يحرق
معناه يفعل الإحراق. فإن قلتم ، إن ذلك مجاز ، فأنتم متحكمون (قال : والجواب) إن
ذلك طريق ، إنما الفعل الحقيقي ما يكون بالإرادة ، والدليل عليه أنا لو فرضنا حادثا
توقف حصوله على أمرين أحدهما إرادي والآخر غير إرادي ، أضاف العقل الفعل إلى
الإرادي ، فكذا اللغة فإن من ألقى إنسانا في نار فمات يقال هو القاتل دون النار
حتى إذا قيل ما قتله إلا فلان كان صدقا ، وإذا كان اسم الفاعل المريد وغير المريد
على وجه واحد لا بطريق كون أحدهما أصلا والآخر مستعارا ، فلم يضف القتل إلى المريد
لغة وعرفا وعقلا مع أن النار هي العلة القريبة في العقل ، وكان الملقي لم يتعاط
إلا الجمع بينه وبين النار ولكن لما كان الجمع بالإرادة وتأثير النار بغير إرادة
سمى قاتلا ولم تسم النار قاتلة إلا بمعنى الاستعارة ، فعلم أن الفاعل من يصدر
الفعل عن إرادته. وإذا لم يكن الله مريدا عندهم ولا مختارا للفعل لم يكن صانعا ولا
فاعلا إلا مجازا.
(فإن قيل) نحن
نعني بكون الله فاعلا أنه سبب لوجود كل موجود سواه وإن العالم قوامه به ، ولو لا
وجود الباري لما تصور وجود العالم ، ولو قدر عدم الباري لانعدم العالم كما لو قدر
عدم الشمس لانعدم الضوء. فهذا ما نعنيه بكونه فاعلا فإن كان الخصم يأبى أن يسمى
هذا المعنى فعلا فلا مشاحة في الأسامي بعد ظهور المعنى.
(قلنا) غرضنا أن
نبين أن هذا المعنى لا يسمى فعلا وصنعا ، وإنما المعنى بالفعل والصنع ما يصدر عن
الإرادة حقيقة. وقد نفيتم حقيقة معنى الفعل ، ونطقتم بلفظه تجملا بالإسلام ، ولا
يتم الدين بإطلاق الألفاظ دون المعاني ، فصرحوا بأن الله لا فعل له حتّى يتضح أن
معتقدكم مخالف لمذهب المسلمين ، ولا تلبسوا بقولكم إن الله صانع العالم ، فإن هذه
لفظه أطلقتموها ونفيتم حقيقتها ، ومقصود هذه المسألة الكشف عن هذا التلبيس فقط ثم
ساق الكلام ـ إلى أن قال : إن أصولهم التي عارضوا بها الوحى تنفي وجود الصانع فضلا
عن كونه صانعا للعالم بل تجعله ممتنع الوجود فضلا عن كونه واجبا لأن الصفات التي
وصفوه بها (صفات) معدومة ممتنعة في العقل والخارج ، فالعقل لا يتصوره إلا على سبيل
الفرض الممتنع كما تفرض المستحيلات ، ولا يمكن في الخارج وجوده فإن ذاتا هي وجود
مطلق لا ماهية لها سوى الوجود المطلق المجرد عن كل ماهية ولا صفة لها البتة ، ولا
فيها معنيان متغايران في المفهوم ولا هي هذا العالم ، ولا صفة من صفاته ، ولا
داخلة فيه ولا خارجة عنه ، ولا متصلة به ، ولا منفصلة عنه ، ولا محايثة له ، ولا
مباينة ولا فوقه ، ولا تحته. ولا عن يمينه ، ولا يساره ، ولا ترى ، ولا يمكن أن
ترى ولا تدرك شيئا. ولا تدرك هي بشيء من الحواس. ولا متحركة. ولا ساكنة. ولا توصف
بغير السلوب والإضافات العدمية ، ولا تنعت بشيء من الأمور الثبوتية. هي بامتناع
الوجود أحق منها بإمكان الوجود ، فضلا عن وجوبه ، وتكليف العقل الاعتراف بوجود هذه
الذات ووجوبها كتكليفه الجمع بين النقيضين.
ومعلوم أن مثل هذه
الذات لا تصلح لفعل ولا ربوبية ولا إلهية. فأي ذات فرضت في الوجود فهي أكمل منها
فالذي جعلوه واجب الوجود هو أعظم استحالة من كل ما يقدر مستحيلا. فلا يكثر بعد هذا
عليهم إنكارهم لصفاته
كعلمه وقدرته
وحياته وسمعه وبصره ، ولا إنكارهم لكلامه وتكليمه. فضلا عن استوائه على عرشه
ونزوله إلى سماء الدنيا ، ومجيئه ، وإتيانه ، وفرحه ؛ وحبه ، وغضبه ، ورضاه ، فمن
هدم قواعد البيت من أصلها ، كان عليهم هدم السقف والجدران أهون.
ولهذا كان حقيقة
قول هؤلاء القوم بالدهر وإنكار الخالق بالكلية وقولهم (ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا
نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية : ٢٤]
وإنما صانعوا المسلمين ألفاظا لا حقيقة لها ؛ واشتق إخوانهم الجهمية النفي
والتعطيل من أصولهم ، فسدّوا على أنفسهم طريق العلم بإثبات الخالق وتوحيده
بمشاركتهم لهم في الأصل المذكور ، وإن باينوهم في بعض لوازمهم ، كإثباتهم كون الرب
تعالى قادرا مريدا فاعلا بالاختيار وإثباتهم معاد الأبدان ، والنبوة ولكن لم
يثبتوا ذلك على الوجه الذي جاءت به الرسل ، ولا نفوه نفي إخوانهم الملاحدة ؛ بل
اشتقوا مذهبا بين المذهبين ، وسلكوا طريقا بين الطريقين ، لا للملاحدة فيه وافقوا
، ولا للرسل اتبعوا.
ولهذا عظمت بهم
البلية على الإسلام وأهله بانتسابهم إليه ، وظهورهم في مظهر ينصرون به الإسلام.
فلا للإسلام نصروا ولا لأعدائه كسروا ، فمرة يقولون : هي أدلة لفظية معزولة عن
إفادة العلم واليقين ، ومرة يقولون هي مجازات واستعارات لا حقيقة لها عند العارفين
، ومرة يقولون لا سبيل إلى تحكيمها ، ولا التفات إليها. وقد عارضها العقل وقواطع
البراهين ومرة يقولون أخبار آحاد فلا يحتج بها في المسائل القطعية التي يطلب منها
اليقين. فأرضيتم بذلك اخوانكم من الملاحدة أعداء الدين. فهذه ثمرة عقولكم وحاصل
معقولكم.
فعلى عقولكم
العفاء فإنكم
|
|
عاديتم المعقول
والمنقولا
|
وطلبتم أمرا
محالا ، وهو إد
|
|
راك الهدى لا
تتبعون رسولا
|
وزعمتم أن
العقول كفيلة
|
|
بالحق ، أين
العقل كان كفيلا
|
وهو الذي يقضي
فينقض حكمه
|
|
عقل ، ترون
كليهما معلولا
|
وتراه يحزم
بالقضاء وبعد ذا
|
|
يلقي لديه باطلا
معقولا
|
لا يستقل العقل
دون هداية
|
|
بالوحي تأصيلا
ولا تفصيلا
|
كالطرف دون
النور ليس بمدرك
|
|
حتّى تراه بكرة
وأصيلا
|
فإذا الظلام
تلاطمت أمواجه
|
|
وطمعت بالإبصار
كنت محيلا
|
وإذا النبوة لم
ينلك ضياؤها
|
|
فالعقل لا يهديك
قط سبيلا
|
نور النبوة مثل
نور الشمس لل
|
|
عين البصيرة
فاتخذه دليلا
|
طرق الهدي
مسدودة إلا على
|
|
من أم هذا الوحي
والتنزيلا
|
فإذا عدلت عن
الطريق
|
|
فاعلم بأنك ما
أردت وصولا
|
تعمدا
|
|
ن النقل ، لن
تلقى لذاك دليلا
|
يا طالبا درك
الهدى بالعقل دو
|
|
حيران عاش مدى
الزمان جهولا
|
كم رام قبلك ذاك
من متلدد
|
|
حتى تشحط بينهن
قتيلا
|
ما زالت الشبهات
تغزو قلبه
|
|
ذاتي طول زمانه
مشغولا
|
فتراه بالكلي
والجزئي وال
|
|
ويقوم بين يدي
عداه مثيلا
|
فإذا أتاه الوحي
لن يأبه له
|
|
معزولة عن أن
تكون دليلا
|
ويقول تلك أدلة
لفظية
|
|
نحو المجسم أو
خذي التأويلا
|
وإذا تمر عليه
قال لها اذهبي
|
|
ن لها القرى
التحريف والتبديلا
|
وإذا أبت إلا
النزول عليه كا
|
|
كيد يكون لحقها
تعطيلا
|
فيحل بالأعداء
ما تلقاه من
|
|
في ظلمة لا
يهتدون سبيلا
|
واضرب لهم مثلا
بعميان خلوا
|
|
ضربا يدير رحى
القتال طويلا
|
فتصادموا بأكفهم
وعصيهم
|
|
مشجوج أو مبعوج
أو مقتولا
|
__________________
وتسامع العميان
حتى أقبلوا
|
|
للصلح فازداد
الصياح عويلا
|
يوضحه
: الوجه الثلاثون ، وهو أن الطرق التى سلكها هؤلاء المعارضون بين الوحي والعقل في إثبات الصانع
هي بعينها تنفي وجوده لزوما ، فإن المعارضين صنفان ؛ الفلاسفة والجهمية ، أما
الفلاسفة فأثبتوا الصانع بطريق التركيب وهو أن الأجسام مركبة ، والمركب يفتقر إلى
أجزائه وكل مفتقر ممكن ، والممكن لا بد له من وجود واجب. ويستحيل الكثرة في ذات
الواجب بوجه من الوجوه. إذ يلزم تركيبه وافتقاره. وذلك ينافي وجوبه. وهذا هو غاية
توحيدهم. وبه أثبتوا الخالق على زعمهم.
ومعلوم أن هذا من
أعظم الأدلة على نفي الخالق ، فإنه ينفي قدرته ومشيئته وعلمه وحياته ، إذا لو ثبت
له هذه الصفات بزعمهم لكان مركبا ، والمركب مفتقر إلى غيره ، فلا يكون واجبا
بنفسه. وفي هذه الشبهة من التلبيس والتدليس والألفاظ المجملة والمعاني المشتبهة ما
يطول وصفه. وقد انتدب لإفسادها (جنود الإسلام) على اختلاف مذاهبهم ، فإن المركب
لفظ مجمل يراد به ما ركبه غيره ، وما كان متفرقا فاجتمعت أجزاؤه ، وما يمكن تفريق
بعضه عن بعض. والله تعالى منزه عن هذه التراكيب ، ويراد به في اصطلاح هؤلاء ما له
ماهية خاصة يتميز بها عن سائر الماهيات. وما له ذات وصفات بحيث يتميز بعض صفاته عن
بعض ، وهذا ثابت للرب تعالى. وإنما سماه هؤلاء تركيبا على ما تقدم. وكذلك لفظ
الافتقار لفظ مجمل يراد به فقر الماهية إلى موجود غيرها يتحقق وجودها به ، وأنه
سبحانه غني عن هذا الافتقار. ويراد به أن الماهية مفتقرة في ذاتها ولا قوام لذاتها
إلا بذاتها. وأن الصفة لا تقوم وإنما تقوم بالموصوف وهذا المعنى حق إن سماه هؤلاء
الملبسون فقرا وكذلك لفظ الغير فيه إجمال. ويراد بالغيرين ما جاز العلم بأحدهما
دون الآخر. وهذا المعنى حق في ذاته سبحانه وصفاته وإن سماه هؤلاء أغيارا. فإن
المخلوق يعلم من الخالق صفة دون صفة
__________________
قد قال أعلم الخلق
به «لا
أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» وهذا لكثرة أسمائه وصفات كماله ونعوت جلاله. وقال : «أعوذ برضاك من سخطك
وأعوذ بعفوك من عقوبتك» والمستعاذ به غير المستعاذ منه والمقصود أن تسمية هذا تركيبا وافتقارا وغيرا
وضع وضعه هؤلاء وليس الشأن في الألفاظ إنما الشأن في المعاني.
وقولهم : أنه
مفتقر إلى جزئه ؛ تلبيس. فإن القديم الموصوف بالصفات اللازمة له يمتنع أن تفارقه
صفاته. وليست له حقيقة غير الذات الموصوفة حتى يقال أن تلك الحقيقة مفتقرة إلى
غيرها. وإن سميت تلك الصفة غيرا ، فالذات والصفات متلازمان لا يوجد أحدهما إلا مع
الآخر. وهذا الالتزام يقتضي حاجة الذات والصفات إلى موجود أوجدها وفاعل فعلها ،
والواجب بنفسه يمتنع أن يكون مفتقرا إلى ما هو خارج عن نفسه فأما أن لا يكون له
صفة ولا ذات ولا يتميز منه أمر عن أمر فلا يلزم من وجوبه وكونه غنيا بنفسه عن كل
ما سواه. فقول الملبس إنه مفتقر إلى ذلك كقوله لو كان له ماهية لكان مفتقرا إلى
ماهيته. والله تعالى اسم للذات المتصفة بكمال العلم والقدرة والحياة والمشيئة
وسائر صفات الكمال ، ليس اسما لذات مجردة عن الأوصاف والنعوت. فكل ذات أكمل من هذه
الذات. تعالى الله عن قول الملحدين في أسمائه وصفاته علوا كبيرا.
والمقصود أن
الطريق التي سلكها هؤلاء في إثبات الصانع هي أعظم الطرق في نفيه وإنكار وجوده.
ولذلك كان سالكوها لا يؤمنون بالله ولا ملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا باليوم
الآخر وأن صانع من صانع منهم أهل الملل بألفاظ لا حاصل لها.
__________________
(فصل)
وأما المتكلمون
فلما رأوا بطلان هذه الطريق عدلوا عنها إلى طريق الحركة والسكون والاجتماع
والافتراق وتماثل الأجسام وتركبها من الجواهر المفردة. وأنها قابلة للحوادث. وما
يقبل الحوادث فهو حادث فالأجسام كلها حادثة. فإذن يجب أن يكون لها محدث ليس بجسم ،
فبنوا العلم بإثبات الصانع على حدوث الأجسام واستدلوا على حدوثها بأنها مستلزمة
للحركة والسكون والاجتماع والافتراق. ثم قالوا : إن تلك أعراض. والأعراض حادثة.
وما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث. واحتاجوا في هذه الطريق إلى إثبات الأعراض أولا.
ثم إثبات لزومها للجسم ثانيا. ثم إبطال حوادث لا أول لها ثالثا. ثم إلزام بطلان
حوادث لا نهاية لها رابعا عند فريق منهم. وإلزام الفرق عند فريق آخر. ثم إثبات
الجوهر الفرد خامسا. ثم الزام كون العرض لا يبقى زمانين سادسا. فيلزم حدوثه والجسم
لا يخلو منه وما لا يخلو من الحوادث فهو حادث ، ثم إثبات الخالق سبحانه مبني على
هذه الأمور السبعة فلزمهم من سلوك هذه الطريق إنكار كون الرب فاعلا في الحقيقة ،
وإن سموه فاعلا بألسنتهم ، فإنه لا يقوم به عندهم فعل. وفاعل بلا فعل كقائم بلا
قيام. وضارب بلا ضرب. وعالم بلا علم.
وضم الجهمية إلى
ذلك أنه لو كان به صفة لكان جسما ولو كان جسما لكان حادثا فيلزم من إثبات صفاته
إنكار ذاته فعطلوا صفاته وأفعاله بالطريق التي أثبتوا بها وجوده فكانت أبلغ الطرق
في تعطيل صفاته وأفعاله وعن هذه الطريق أنكروا علوه على عرشه وتكلمه بالقرآن
وتكليمه لموسى. ورؤيته بالأبصار في الآخرة ونزوله إلى سماء الدنيا كل ليلة. ومجيئه
لفصل القضاء بين الخلائق ، وغضبه ذلك اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب مثله
بعده. وجميع ما وصف به نفسه من وصف ذاتي أو معنوي أو فعلي. فأنكروا وجهه الأعلى.
وأنكروا أن له يدين وأن له سمعا وبصرا وحياة. وأنه يفعل ما يشاء حقيقة ، وإن سمي
فاعلا فلم يستحق ذلك لفعل قام به. بل فعله هو عين مفعوله.
وكذلك الطريق التي
سلكوها في إثبات النبوة لم يثبتوا أنها نبوة في الحقيقة فإنهم بنوها على مجرد طريق
العادة وهو مشترك بين النبي وغيره ، وحاروا في الفرق فلم يأتوا فيه بما تثلج له
الصدور. مع أن النبوة التي أثبتوها لا ترجع إلى وصف وجودي بل هي تعلق الخطاب
الأزلي بالنبي ، والتعلق عندهم أمر عدمي.
فعادت النبوة
عندهم إلى أمر عدمي. وقد صرحوا بأنها لا ترجع إلى صفة ثبوتية قائمة بالنبي صلىاللهعليهوسلم.
وأيضا فحقيقة
النبوة والرسالة إنباء الله لرسوله وأمره تبليغ كلامه إلى عباده. وعندهم أن الله
يتكلم ولا يقوم به كلام.
أما اليوم الآخر
فإن جمهورهم بنوه على إثبات الجوهر الفرد قالوا : لا ينافي التصديق بالمعاد إلا
بإثباته ، وهو في الحقيقة باطل لا أصل له. والمثبتون له يعترفون أن القول به في
غاية الإشكال وأدلته متعارضة ، وكثير منهم له قولان في إثباته ونفيه. وسلكوا في
تقرير المعاد ما خالفوا فيه جمهور العقلاء ، ولم يوافقوا ما جاءت به الأنبياء ،
فقالوا ، لو أن الله تعالى يعدم أجزاء العالم كلها حتى تصير عدما محضا ثم يعيد
المعدوم ويقلبه موجودا حتى أنه يعيد زمنه بعينه وينشئه لا من مادة كما قالوا في المبدأ
، فجنوا على العقل والشرع وأغروا أعداء الشرع به ، وحالوا بينهم وبين تصديق الرسل.
وأما المبدأ فإنهم
قالوا : إن الله تعالى كان معطلا في الأزل ، والفعل غير ممكن ، مع قولهم كان قادرا
عليه ، ثم صار فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا من غير تجدد أمر أصلا ، وانقلب الفعل من
الامتناع الذاتي إلى الإمكان الذاتي ، وذات الفاعل قبل الفعل ومع الفعل وبعد الفعل
واحدة.
فهذا غاية عقولهم
التي عارضوا بها الوحي. وهذه طرقهم العقلية التي لم يثبتوا بها ربا ولا رسالة ولا
مبدأ ولا معادا.
الوجه
الحادي والثلاثون : إن معارضة الوحي بالعقل ميراث عن الشيخ أبي مرة ؛ فهو أول من عارض السمع بالعقل وقدمه عليه ، فإن سبحانه
لما أمره
__________________
بالسجود لآدم عارض
أمره بقياس عقلي مركب من مقدمتين جملتين ، إحداهما قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) فهذه هى الصغرى ، والكبرى محذوفة تقديرها : والفاضل لا
يسجد للمفضول. وذلك سند المقدمة الأولى ، وهو أيضا قياس حملي حذف إحدى مقدمتيه
فقال : (خَلَقْتَنِي مِنْ
نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (الأعراف : ١٢)
المقدمة الثانية كلها معلومة ، أي ومن خلق من نار خير ممن خلق من طين. فهما قياسان
متداخلان ، وهذه يسميها المنطقيون الأقيسة المتداخلة ، فالقياس الأول هكذا : أنا
خير منه ، وخير المخلوقين لا يسجد لمن هو دونه. وهذا من الشكل الأول. والقياس
الثاني هكذا : خلقتني من نار وخلقته من طين والمخلوق من النار خير من المخلوق من
الطين. فنتيجة هذا القياس العقلي : أنا خير منه. ونتيجة الأول : فلا ينبغي أن أسجد
له. وأنت إذا تأملت مادة هذا القياس وصورته رأيته أقوى من كثير من قياساتهم التي
عارضوا بها الوحى والكل باطل.
وقد اعتذر أتباع
الشيخ أبي مرة بأعذار (منها) أنه لما تعارض عنده العقل والنقل قدم العقل. (ومنها)
أن الخطاب بصيغة الضمير في قوله : (اسْجُدُوا) ولا عموم له فإن الضمائر ليست من صيغ العموم. (ومنها) أنه
وإن كان اللفظ عاما فإنه خصه بالقياس المذكور. (ومنها) أنه لم يعتقد أن الأمر
للوجوب بل حمله على الاستحباب لأنه المتيقن ، أو على الرجحان دفعا للاشتراك
والمجاز (ومنها) أنه حمله على التراخي ولم يحمله على الفور. (ومنها) أنه صان جناب
الرب أن يسجد لغيره ورأى أنه لا يليق به السجود لسواه.
وبالله تأمل هذه
التأويلات. وقابل بينها وبين كثير من التأويلات التي يذكرها كثير من الناس. وفي
بني آدم من يصوب رأي إبليس وقياسه ، ولهم في ذلك تصانيف ، وكان بشار بن برد الشاعر
الأعمى على هذا المذهب ، ولهذا يقول في قصيدته :
الأرض مظلمة
سوداء معتمة
|
|
والنار معبودة
مذ كانت النار
|
ولما علم الشيخ
أنه قد أصيب من معارضة الوحي بالعقل ، وعلم أنه لا شيء
أبلغ في مناقضة
الوحي والشرع وإبطاله من معارضاته بالمعقول أوحى إلى تلاميذه وإخوانه من الشبهات
الخيالية ما يعارضون بها الوحي ، وأوهم أصحابه أنها قواطع عقلية ، وقال : إن قدمتم
النقل عليها فسدت عقولكم (وَإِنَّ الشَّياطِينَ
لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ
لَمُشْرِكُونَ) (الأنعام : ١٢١)
وقال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا
لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى
بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً. وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ
وَما يَفْتَرُونَ. وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ
بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ. أَفَغَيْرَ
اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً
وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنْ
يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ
أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (الأنعام : ١١٢ ـ
١١٧).
الوجه
الثاني والثلاثون : في بيان فساد معقول الشيخ الذي عارض به الوحي وذلك من وجود (أحدها) أنه قياس في مقابلة النص ، والقياس إذا صادم النص وقابله
كان قياسا باطلا ، ويسمى قياسا إبليسيا ، فإنه (يتضمن) معارضة الحق بالباطل ،
ولهذا كانت عقوبته أن أفسد عليه عقله ودنياه وآخرته. وقد بينا فيما تقدم أنه ما
عارض أحد الوحى بعقله إلا أفسد الله عليه عقله حتى يقول ما يضحك العقلاء.
(الثاني)
أن قوله (أنا خير
منه) كذب ، ومستنده في ذلك باطل ، فإنه لا يلزم من تفضيل مادة على مادة تفضيل
المخلوق منها على المخلوق من الأخرى ، فإن الله سبحانه يخلق من المادة المفضولة ما
هو أفضل من المخلوق من غيرها ، وهذا من كمال قدرته فإن محمدا صلىاللهعليهوسلم وإبراهيم وموسى وعيسى ونوحا ، والرسل صلوات الله وسلامه
عليهم أجمعين أفضل من الملائكة. ومذهب أهل السنة أن صالحي البشر أفضل من الملائكة
، وإن كانت مادتهم نورا ومادة البشر ترابا. فالتفضيل ليس بالمواد والأصول. ولهذا كان
العبيد والموالي الذين آمنوا بالله ورسوله خير وأفضل عند الله ممن ليس مثلهم من (أشراف)
قريش وبني هاشم ،
وهذه المعارضة
الإبليسية صارت ميراثا في أتباعه في التقديم بالأصول والأنساب على الإيمان والتقوى
، وهي التي أبطلها الله تعالى بقوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ
لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ) (الحجرات : ١٣)
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم «إن الله وضع عنكم
عبية الجاهلية وفخرها بالآباء. الناس مؤمن تقي ، وفاجر شقي» .
وقال صلىاللهعليهوسلم : «لا
فضل لعربي على عجمي ، ولا لعجمي على عربي ، ولا لأبيض على أسود ، ولا لأسود على
أبيض إلا بالتقوى. الناس من آدم وآدم من تراب» فانظر إلى سريان هذه النكتة الإبليسية في نفوس أكثر الناس
، من تفضيلهم بمجرد الأنساب والأصول.
(الثالث)
أن ظنه أن النار
خير من التراب باطل ، مستنده ما فيها من الإضاءة والخفة ، وما في التراب من الثقل
والظلمة ، ونسي الشيخ ما في النار من الطيش والخفة ، وطلب العلو والإفساد بالطبع
حتى لو وقع منها شواظ بقدر الحبة في مدينة عظيمة لأفسدها كلها ومن فيها ، بل
التراب خير من النار وأفضل من وجوه متعددة : منها أن طبعه السكون والرزانة ،
والنار بخلافه. ومنها : أنه مادة الحيوان والنبات والأقوات ، والنار بخلافه. ومنها
: أنه لا يمكن لأحد أن يعيش بدونه ودون ما خلق منه البتة ، ويمكنه أن يعيش برهة
بلا نار. قالت عائشة «كان
يمر بنا الشهر والشهران ما يوقد في بيوتنا نار ولا نرى نارا» قال لها عروة : فما
عيشكم؟! قالت «الأسودان : التمر والماء» .
ومنها : أن الأرض
تؤدي إليك بما فيها من البركة أضعاف أضعاف ما تودعه من الحب والنوى وتربية لك
وتغذيه وتنميه ، والنار تفسده عليك وتمحق بركته. ومنها أن الأرض مهبط وحي الله
ومسكن رسله وأنبيائه وأوليائه وكفاتهم أحياء وأمواتا.
__________________
والنار مسكن
أعدائه ومأواهم. ومنها أن في الأرض بيته الذي جعله إماما للناس وقياما لهم وجعل
حجه محطا لأوزارهم ، ومكفرا لسيئاتهم ، وجالبا لهم مصالح معاشهم ومعادهم ، ومنها :
أن النار طبعها العلو والفساد. والله لا يحب المستكبرين ولا يحب المفسدين ، والأرض
طبعها الخشوع والإخبات ، والله يحب المخبتين الخاشعين.
وقد ظهر خلق
إبراهيم ومحمد وموسى وعيسى والرسل من المادة الأرضية ، وخلق إبليس وجنوده من
المادة النارية ، نعم وخلق من المادة الأرضية الكفار والمشركين ، ومن المادة
النارية صالحوا الجن ، ولكن ليس في هؤلاء مثل إبليس وليس في أولئك مثل الرسل.
فمعلم الخير من المادة الأرضية ، ومعلم الشر من المادة النارية.
ومنها : أن النار
لا تقوم بنفسها بل لا بد لها من محل تقوم به لا تستغني عنه ، وهي محتاجة إلى
المادة الترابية في قوامها وتأثيرها ، والأرض قائمة بنفسها لا تحتاج إلى محل تقوم
به ولا تفتقر في قوامها ونفعها إلى النار ؛ ومنها أن التراب يفسد صورة النار
ويبطلها ويقهرها وإن علت عليه ؛ ومنها أن الرحمة تنزل على الأرض فتقبلها وتحيا بها
وتخرج زينتها وأقواتها وتشكر ربها ، وتنزل على النار فتأباها وتطفئها وتمحوها
وتذهب بها ، فبينها وبين الرحمة معاداة ، وبين الأرض وبين الرحمة موالاة ، ومنها
أن النار تطفأ عند التكبير وتضمحل عند ذكر كبرياء الرب ولهذا يهرب المخلوق منها
عند الأذان حتى لا يسمعه ؛ والأرض تبتهج بذلك وتفرح به وتشهد به لصاحبه يوم
القيامة. ويكفي في فضل المخلوق من الأرض أن الله تعالى خلقه بيده ونفخ فيه من روحه
، وأسجد له ملائكته وعلمه أسماء كل شيء ، فهل حصل للمخلوق من النار واحدة من هذه؟
فقد تبين لك حال
هذه المعارضة العقلية للسمع وفسادها من هذه الوجوه وأكثر منها. وهي من شيخ القوم
ورئيسهم ومعلمهم الأول. فما الظن بمعارضة التلامذة؟
ونحن نقول قولا
نقدم بين يديه مشيئة الله وحوله والاعتراف بمنته علينا وفضله
لدينا. وإنه محض
منته وجوده وفضله. فهو المحمود أولا وآخرا على توفيقنا له وتعليمنا إياه :
إن كل شبهة من شبه
أرباب المعقولات عارضوا به الوحي فعندنا ما يبطلها بأكثر من الوجوه التي أبطلنا
بها معارضة شيخ القوم. وإن مد الله في الأجل أفردنا في ذلك كتابا كبيرا ؛ ولو نعلم
أن في الأرض من يقول ذلك ويقوم به تبلغ إليه أكباد الإبل اقتدينا في السير إليه
بموسى عليهالسلام في سفره إلى الخضر ، وبجابر بن عبد الله في سفره إلى عبد
الله بن أنيس لسماع حديث واحد ، ولكن زهد الناس في عالم قومه ؛ وقد قام قبلنا بهذا
الأمر من برز على أهل الأرض في عصره وفي أعصار قبله فأدرك من قبله وحيدا ؛ وسبق من
بعده سبقا بعيدا.
الوجه
الثالث والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأنه ليس كمثله شيء وأنه لا سمي له ولا كفء له. وهذا
يستلزم وصفه بصفات الكمال التي فات بها شبه المخلوقين ، واستحق بقيامها أن يكون (ليس
كمثله شيء) وهكذا كونه ليس له سمي أي مثيل يساميه في صفاته وأفعاله ، ولا من
يكافيه فيها. ولو كان مسلوب الصفات والأفعال والكلام والاستواء والوجه واليدين ،
ومنفيا عنه مباينة العالم ومحايثته واتصاله به وانفصاله عنه وعلوه عليه ، وكونه
يمنته أو يسرته أو أمامه أو وراءه ، لكان كل عدم مثلا له في ذلك ، فيكون قد نفى عن
نفسه مماثلة الموجودات ، وأثبت لها مماثلة المعدومات ، فهذا النفي واقع على أكمل
الموجودات وعلى العدم المحض ، فإن المحض لا مثل له ولا كفؤ ولا سمي ، فلو كان
المراد نفي صفاته وأفعاله واستوائه على عرشه وتكلمه بالوحي وتكليمه لمن يشاء من
خلقه ، لكان ذلك وصفا له بغاية العدم. فهذا النفي واقع على العدم المحض وعلى من
كثرت أوصاف كماله حتى تفرد بذلك الكمال فلم يكن له شبيه في كماله ولا سمي ولا كفء.
فإذا أبطلتم هذا
لمعنى الصحيح تعين ذلك المعنى الباطل قطعا ، وصار المعنى أنه لا يوصف بصفة أصلا ،
فلا يفعل فعلا ، ولا وجه له ، ولا يد ، ولا
يسمع ، ولا يبصر ،
ولا يعلم ، ولا يقدر ، تحقيقا لمعنى (ليس كمثله شيء) وقال إخوانكم من الملاحدة :
ليس له ذات أصلا ، تحقيقا لهذا النفي. وقال غلاتهم : لا وجود له. تحقيقا لهذا
النفي. وأما الرسل وأتباعهم فإنهم قالوا : إن الله حي وله حياة ، وليس كمثله شيء
في حياته وهو قوي ، وله القوة وليس كمثله شيء في قوته (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) يسمع ويبصر. وليس كمثله شيء في سمعه وبصره. ومتكلم. وله
يدان. ومستو على عرشه. وليس له في هذه الصفات مثل. فهذا النفي لا يتحقق إلا بإثبات
صفات الكمال فإنه مدح له وثناء أثنى به على نفسه. والعدم المحض لا يمدح به أحد ولا
يكون كمالا له ، بل هو أنقص النقص. وإنما يكون كمالا إذا تضمن الإثبات كقوله تعالى
: (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ
وَلا نَوْمٌ) (جزء من آية
الكرسي / سورة البقرة : ٢٢٥) لكمال حياته وقيوميه ، وقوله (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ
إِلَّا بِإِذْنِهِ) لكمال غناه وملكه وربوبيته. وقوله (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لكمال غناه وعدله ورحمته ، وقوله (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) لكمال قدرته ، وقوله (وَما يَعْزُبُ عَنْ
رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) لكمال علمه وقوله (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) لعظمته وإحاطته بما سواه ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه
واسع ؛ وفيرى ولكن لا يحاط به إدراكا ؛ كما يعلم ولا يحاط به علما فيرى ولا يحاط
به رؤية ، وهكذا ليس كمثله شيء هو متضمن لإثبات جميع صفات الكمال على وجه الإجماع.
وهذا القول هو
المعقول في فطر الناس. فإذا قالوا فلان عديم المثل أو قد أصبح ولا مثل له في
الناس. أو ماله شبيه ولا من يكافيه ، فإنما يريدون بذلك أنه تفرد من الصفات
والأفعال والمجد بما لا يلحقه فيه غيره. فصار واحدا في الجنس لا مثيل له. ولو
أطلقوا ذلك عليه باعتبار نفي صفاته وأفعاله ومجده لكان ذلك عندهم غاية الذم والنقص
له. فإذا أطلقوا ذلك في سياق المدح والثناء لم يشك عاقل في أنه إنما أراد كثرة
أوصافه وأفعاله وأسمائه التي لها حقائق تحمل عليها. فهل يقول عاقل لمن لا قدرة له
ولا علم ولا بصر ولا
يتصرف بنفسه ، ولا
يفعل شيئا ولا يتكلم ، ولا له وجه ولا يد ولا قوة ، ولا فضيلة من الفضائل. أنه لا
شبه له ولا مثل له ؛ وأنه وحيد دهره ، وفريد عصره ، ونسيج وحده؟ هل فطر الله الأمم
وأطلق ألسنتهم ولغاتهم إلا على ضد ذلك؟ وهل كان رب العالمين أهل الثناء والمجد إلا
بأوصاف كماله ونعوت جلاله وأفعاله وأسمائه الحسنى؟ وإلا فلما ذا يثني عليه المثنون
؛ ولأى شيء يقول أعرف الخلق به «لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ومعلوم
أن هذا الثناء الّذي أخبر أنه لا يحصيه لو كان بالنفي لكان هؤلاء أعلم به منه وأشد
إحصاء له ؛ فإنهم نفوا عنه حقائق الأسماء والصفات نفيا مفصلا. وذلك يحصيه المحصي
بلا كلفة ولا تعب. وقد فصله النفاة وأحصوه وحصروه. يوضحه :
الوجه
الرابع والثلاثون : إن الله سبحانه لما نفى عن نفسه ما يناقض الإثبات ويضاد ثبوت الصفات والأفعال
؛ فلم يبق الأمر عدميا أو ما المستلزم العدم ؛ كنفي السّنة والنوم المستلزم لعدم
كمال الحياة والقيومية ، ونفي العزوب والخفاء المستلزم لنفي كمال القدرة. ونفي
الظلم المستلزم لعدم كمال الغنى والعدل ، ونفي الشريك والظهير والشفيع المتقدم
بالشفاعة المستزلم لعدم كمال الغنى والقهر والملك ؛ ونفي الشبيه والمثيل والكف
المستلزم لعدم الكمال المطلق ونفي إدراك الأبصار له وإحاطة العلم به المستلزمين
لعدم كمال عظمته وكبريائه وسعته وإحاطته. وكذلك نفي الحاجة والأكل والشرب عنه
سبحانه ؛ لاستلزام ذلك عدم كمال غناه ؛ وإذا كان نفى عن نفسه العدم أو ما يستلزم
العدم ؛ علم أنه أحق بكل وجود وثبوت لا يستلزم عدما ولا نقصا.
وهذا هو الذي دل
عليه صريح العقل ؛ فإنه سبحانه له الوجود الدائم القديم الواجب بنفسه الذي لم
يستفده من غيره ؛ ووجود كل موجود مفتقر إليه ؛ ومتوقف في تحقيقه عليه ، والكمال
وجود كله ؛ والعدم نقص كله. فإن العدم كاسمه لا شيء ؛ فعاد النفي الصحيح إلى نفي
المماثلة في الكمال وعاد الأمران إلى نفي النقص. وحقيقة ذلك نفي العدم وما يستلزم
نفي العدم. فتأمل هل نفى القرآن والسنة عنه سبحانه سوى ذلك؟ وتأمل ؛ هل ينفي العقل
الصحيح غير ذلك.
(الله الصمد)
وهو سبحانه قد وصف
نفسه بأنه لم يكن له كفوا أحد بعد وصفه نفسه بأنه الصمد ، والصمد السيد الذي كمل
في سؤدده. ولهذا كانت العرب تسمي أشرافها بهذا الاسم لكثرة الأوصاف المحمودة
للمسمى به. قال شاعرهم :
ألا بكر الناعي
بخير بني أسد
|
|
بعمرو بن مسعود
وبالسيد الصمد
|
فإن الصمد من تصمد
نحوه القلوب بالرغبة والرهبة ، وذلك لكثرة خصال الخير فيه لهذا قال جمهور السلف ،
منهم ابن عباس : الصمد الذي كمل سؤدده وهو العالم الذي كمل علمه ، القادر الذي
كملت قدرته ، الحليم الذي كمل حلمه ، الرحيم الذي كملت رحمته ، الجواد الذي كمل
وجوده ، ومن قال إنه الذي لا جوف له فقوله لا يناقض هذا التفسير ، فإن ما لم يكن
أحد كفوا له لما كان صمدا كاملا فى صمدانيته ، فلو لم يكن له صفات كمال ونعوت جلال
، ولم يكن له علم ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا يقوم به فعل ، ولا يفعل شيئا البتة
، ولا حياة له ولا إرادة ولا كلام ولا وجه ولا يد ، ولا هو فوق عرشه ولا يرضى ولا
يغضب ولا يحب ولا يبغض ، ولا هو فاعل لما يريد ولا يرى ولا يمكن ان يرى ولا يشار
إليه ولا يمكن ان يشار إليه ، لكان العدم المحض كفوا له ؛ فإن هذه الصفة منطبقة
على المعدوم ، فلو كان ما يقوله المعطلون هو الحق لم يكن صمدا وكان العدم كفوا له.
وكذلك قوله : (رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما
بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) (مريم : ٦٥ ـ ٦٦)
فأخبر أنه لا سمي له عقب قول العارفين به (وَما نَتَنَزَّلُ
إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ
ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما
فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا).
فهذا الرب الذي له
هذا الجند العظيم ولا يتنزلون إلا بأمره. وهو المالك ما بين أيديهم وما خلفهم وما
بين ذلك ، وهو الذي كملت قدرته وسلطانه وملكه وكمل علمه. فلا ينسى شيئا أبدا ، وهو
القائم بتدبير السماوات والأرض وما بينهما كما هو الخالق لذلك كله ، وهو ربه
ومليكه. فهذا الرب هو الذي لا
سمي له لتفرده
بكمال هذه الصفات والأفعال. فأما من لا صفة له ولا فعل ولا حقائق لأسمائه ، إن هي
إلا ألفاظ فارغة من المعاني ، فالعدم سمي له.
وكذلك قوله سبحانه
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) فإنه سبحانه ذكر ذلك عقب ذكر نعوت كماله وأوصافه فقال (حم عسق. كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ
وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. لَهُ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ. تَكادُ السَّماواتُ
يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ
وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ
الرَّحِيمُ. وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللهُ حَفِيظٌ
عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) ـ إلى قوله ـ (فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ
فِيهِ. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : ١ ـ ١١).
فهذا الموصوف بهذه
الصفات والأفعال والعلو والعظمة والحفظ والعزة والحكمة والملك والحمد والمغفرة
والرحمة والكلام والمشيئة والولاية ، وإحياء الموتى والقدرة التامة الشاملة ،
والحكم بين عباده ، وكونه فاطر السموات والأرض وهو السميع البصير ، فهذا هو الذي
ليس كمثله شيء لكثرة نعوته وأوصافه وأسمائه وأفعاله ، وثبوتها على وجه الكمال لا
يماثله فيه شيء. فالمثبت لصفات كماله هو الذي يصفه أنه ليس كمثله شيء. وأما المعطل
النافي لصفاته وحقائق أسمائه فإن وصفه بأنه ليس كمثله شيء مجاز لا حقيقة له ، كما
يقول في سائر أوصافه وأسمائه.
(تأويل المثل الأعلى)
والوجه
الخامس والثلاثون : أنه سبحانه وصف نفسه بأن له المثل الأعلى فقال تعالى : (لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (النحل : ٦٠) ،
وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (الروم : ٢٧) فجعل
مثل السوء المتضمن للعيوب والنقائص وسلب الكمال للمشركين ، وأخبر أن المثل الأعلى
المتضمن لإثبات الكمالات كلها له وحده. وبهذا كان المثل الأعلى ، وهو أفعل تفضيل ،
أي أعلى من غيره. فكيف يكون
أعلى عدم محض منفي
صرف ، وأي مثل أدنى من هذا؟ تعالى الله عن قول المعطلين علوا كبيرا. السوء العادم
صفات الكمال. ولهذا جعله مثل الجاحدين لتوحيده وكلامه وحكمته ، لأنهم فقدوا الصفات
التى من اتصف بها كان كاملا ، وهي الإيمان والعلم والمعرفة واليقين والإخلاص
والعبادة لله والتوكل عليه والإنابة إليه والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة ،
والصبر والرضى والشكر ، وغير ذلك من الصفات التي من اتصف بها كان ممن آمن بالآخرة
، فلما سلبت تلك الصفات عنهم وهي صفات كماله صار لهم مثل السوء ، فمن سلب صفات
الكمال عن الله تعالى وعلوه على خلقه وكلامه وعلمه وقدرته و (كل ما) وصف به نفسه ،
فقد جعل الله تعالى مثل السوء ونزهه عن المثل الأعلى ، وأن مثل السوء هو ال ...
وما ؟ يستلزمه ، وضده المثل الأعلى وهو الكمال المطلق المتضمن للأمور الوجودية
والمعاني الثبوتية التى كلما كانت أكثر في الموصوف وأكمل كان أعلى من غيره.
ولما كان الرب هو
الأعلى ، ووجهه الأعلى ، وكلامه الأعلى ، وسمعه الأعلى ، وسائر صفاته عليا ، كان
له المثل الأعلى وهو أحق به من كل ما سواه ، بل يستحيل أن يشترك في المثل الأعلى
اثنان ، لأنهما إن تكافئا لم يكن أحدهما أعلى من الآخر وإن لم يتكافئا فالموصوف
بالمثل الأعلى أحدهما وحده ، فيستحيل أن يكون لمن له المثل الأعلى مثل أو نظير.
وهذا برهان قاطع من إثبات صفات الكمال على استحالة التمثيل والتشبيه ، فتأمله فإنه
في غاية الظهور والقوة.
ونظير هذا القهر
المطلق مع الوحدة فإنهما متلازمان ، فلا يكون القهار إلا واحدا ، إذ لو كان معه
كفء ، فإن لم يقهره لم يكن قهارا على الإطلاق ، وإن قهره لم يكن له كفأ وكان
القهار واحدا فتأمل كيف كان قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) وقوله (وَلَهُ الْمَثَلُ
الْأَعْلى) من أعظم الأدلة على ثبوت صفات كماله سبحانه وتعالى.
(فإن قلت) فما
حقيقة المثل الأعلى (قلت) قد أشكل هذا على جماعة من
__________________
المفسرين ؛
واستشكلوا أقوال السلف فيه ؛ فإن ابن عباس وغيره قالوا مثل السوء العذاب والنار.
ولله المثل الأعلى : شهادة (أن لا إله إلا الله) قال قتادة : هو الإخلاص والتوحيد.
وقال الواحدي هذا قول المفسرين في هذه الآية ولا أدري لم قيل العذاب مثل السوء
والإخلاص المثل الأعلى؟ قال وقال قوم : المثل السوء الصفة السوء من احتياجهم للولد
وكراهتهم للإناث خوف العيلة والعار. ولله المثل الأعلى الصفة العليا وتنزهه
وبراءته من الولد ، قال : وهذا قول صحيح والمثل كثيرا يرد بمعنى الصفة وقاله جماعة
من المتقدمين.
وقال ابن كيسان :
مثل السوء ما ضرب الله الأصنام وعبدتها من الأمثال ، والمثل الأعلى نحو قوله (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ـ الآية وقال ابن
جرير : وله المثل الأعلى ، هو الأطيب والأفضل والأحسن والأجمل ، وذلك التوحيد
والإذعان له بأنه لا إله إلا هو.
قلت : المثل
الأعلى يتضمن الصفة العليا ، وعلم العالمين بها ، ووجودها العلمي ، والخبر عنها
وذكرها ، وعبادة الرب سبحانه بواسطة العلم والمعرفة القائمة بقلوب عابديه وذاكريه
، فها هنا أربعة أمور : ثبوت الصفات العليا لله سبحانه في نفس الأمر. علمها العباد
أو جهلوها. وهذا قول من فسره بالصفة. (الثاني) وجودها في العلم والتصور ، وهذا معنى قول من قال من السلف
والخلف : إنه ما في قلوب عابديه وذاكريه من معرفته وذكره ومحبته وإجلاله وتعظيمه ،
وهذا الذي في قلوبهم من المثل الأعلى لا يشترك فيه غيره معه ، بل يختص به في قلوبهم
كما اختص به في ذاته ، وهذا معني قول من قال من المفسرين : أهل السماء يحبونه
ويعظمونه وأهل الأرض يجلونه ويعظمونه ، وإن أشرك به من أشرك وعصاه من عصاه وجحد
صفاته من جحدها ، فكل أهل الأرض معظمون له مجلون له خاضعون لعظمته. قال تعالى : (وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) (الروم : ٢٦) فلست
تجد أحدا من أوليائه وأعدائه إلا والله أكبر في صدره وأعظم من كل ما سواه. (الثالث) ذكر صفاته والخبر عنها وتنزيهها عن النقائص والعيوب والمثيل
(الرابع)
محبة الموصوف بها
وتوحيده والإخلاص له والتوكل عليه ، وكلما كان الإيمان بالصفات أكمل كان هذا الحب
والإخلاص أقوى.
فعبارة السلف تدور
حول هذه المعاني الأربعة لا تتجاوزها. وقد ضرب الله مثل السوء للأصنام بأنها لا
تخلق شيئا وهي مخلوقة ، ولا تملك لنفسها ولا لعابديها ضرا ولا نفعا ولا موتا ولا
حياة ولا نشورا.
وقال الله تعالى :
(ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً
حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ؟ الْحَمْدُ
لِلَّهِ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ. وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ
أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما
يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ؟) (الحج : ٧٥ ـ ٧٦)
فهذان مثلان ضربهما الله لنفسه وللأصنام : للأصنام مثل السوء وله المثل الأعلى.
وقال تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ
فَاسْتَمِعُوا لَهُ. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا
ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ. ما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ـ ٧٤)
فهذا المثل الأعلى الذي له سبحانه والأول مثل السوء للصنم وعابديه.
وقد ضرب الله
سبحانه للمعارضين بين الوحى وعقولهم بمثل السوء بالكلب تارة ، وبالخمر تارة
وبالأنعام تارة ، وبأهل القبور تارة ؛ وبالعمي الصم وغير ذلك من أمثال السوء التي
ضربها لهم ولأوثانهم ، وأخبر عن مثله الأعلى بما ذكره من أسمائه وصفاته وأفعاله ،
وضرب لأوليائه وعابديه أحسن الأمثال ، ومن تدبر القرآن فهم المراد بالمثل الأعلى ومثل
السوء.
السادس
والثلاثون : قوله تعالى : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً
وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) (الأنعام : ١١٤)
فهذا يبين أن الحكم بين الناس هو الله وحده بما أنزل من الكتاب المفصل ، كما قال
في الآية الأخرى (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ
فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ) (الشورى : ١٠)
وقال تعالى : (كانَ النَّاسُ
أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ) (البقرة : ٢١٣)
وقال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (النساء : ١٠٥)
وقال تعالى :
(فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ
حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).
فقوله (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً) استفهام إنكار ، يقول كيف أبتغي حكما غير الله وقد أنزل
كتابا مفصلا ، فإن قوله (وَهُوَ الَّذِي
أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) جملة في موضع
الحال. وقوله (مُفَصَّلاً) يبين أن الكتاب الحاكم مفصل مبين ضد ما يصفه به من يزعم أن
عقول الرجال تعارض بعض نصوصه أو أن نصوصه خليت أو أفهمت خلاف الحق لمصلحة المخاطب
، أو أن لها معان لا تفهم ولا يعلم المراد منها ، أو أن لها تأويلات باطلة ، خلاف
ما دلت عليه ظواهرها ، فهؤلاء كلهم ليس الكتاب عندهم مفصلا ، بل مجمل مؤول ، ولا
يعلم المراد منه ، والمراد منه خلاف ظاهره أو إفهام خلاف الحق ، ثم قال (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ
يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ) (الأنعام : ١١٤)
وذلك أن الكتاب الأول مصدق للقرآن ، فمن نظر فيه علم علما يقينا أن هذا وهذا من
مشكاة واحدة ؛ لا سيما في باب التوحيد والأسماء والصفات ؛ فإن التوراة من ذلك ليس
هو المبدل المحرف الذي أنكره الله عليهم ، بل هو من الحق الذي شهد له القرآن وصدقه
ولهذا لم ينكر النبي صلىاللهعليهوسلم عليهم ما في التوراة من الصفات ؛ ولا عابهم به ؛ ولا جعله
تشبيها وتجسيما وتمثيلا ، كما فعل كثير من النفاة وقال : اليهود أئمة التشبيه
والتجسيم ، ولا ذنب لهم في ذلك ؛ فإنهم قرءوا ما في التوراة ، فالذي عابهم الله به
من تأويل التحريف والتبديل لم يعبهم به المعطلة بل شاركوهم فيه ، والذي استشهد
الله على نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم به من موافقة ما عندهم من التوحيد والصفات عابوهم ونسبوهم
إلى التشبيه والتجسيم. وهذا ضد ما عليه الرسول وأصحابه ، فإنهم كانوا إذا ذكروا له
شيئا من هذا الذي تسميه المعطلة تجسيما وتشبيها صدقهم عليه وأقرهم ولم ينكره ، كما
صدقهم في خبر الحبر الذي ثبت من حديث ابن مسعود وضحك تعجبا وتصديقا له وفي غير ذلك. ثم قال (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ
رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الأنعام : ١١٥)
فما أخبر به فهو صدق ، وما أمر به فهو عدل.
__________________
وهذا يبين أن ما
في النصوص من الخبر فهو صدق ، علينا أن نصدق به لا نعارضه ولا نعرض عنه. ومن عارضه
بعقله لم يصدق به ، ولو صدقه تصديقا مجملا ولم يصدقه تصديقا مفصلا في أعيان ما
أخبر به لم يكن مؤمنا. ولو أقر بلفظه مع جحد معناه أو صرفه إلى معان أخر غير ما
أريد به لم يكن مصدقا ، بل هو إلى التكذيب أقرب.
(كيف كان الصحابة يعارضون بعض النصوص)
السابع
والثلاثون : إن الصحابة كانوا
يستشكلون بعض النصوص ويوردون استشكالاتهم على النبي صلىاللهعليهوسلم فيجيبهم عنها وكانوا يسألونه عن الجمع بين النصوص ويوردون
التي يوهم ظاهرها التعارض ، ولم يكن أحد منهم يورد عليه
__________________
معقولا يعارض النص
البتة ؛ ولا عرف فيهم أحد ، وهم أكمل الأمة عقولا ؛ عارض نصا بعقله ؛ وإنما حكى
الله تعالى ذلك عن الكفار كما تقدم.
وثبت في «الصحيحين»
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال «من
نوقش الحساب عذب» فقالت عائشة : يا رسول الله ، أليس الله يقول (فَأَمَّا مَنْ
أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) (الانشقاق : ٧)
فقال «بلى
، ولكن ذلك العرض. ومن نوقش الحساب عذب» فأشكل عليها الجمع بين النصين حتى بين لها النبي صلىاللهعليهوسلم أنه لا تعارض بينهما ، وأن الحساب اليسير هو العرض الذي لا
بد أن يبين الله فيه لكل عامل عمله ، كما قال تعالى : (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى
مِنْكُمْ خافِيَةٌ) (الحاقة : ١٨) حتى
إذا ظن أنه لا ينجو نجاه الله بعفوه ومغفرته ورحمته ، فإذا ناقشه الحساب عذبه ولا
بد.
ولما قال «لا يدخل النار أحد
بايع تحت الشجرة» قالت له حفصة : أليس الله تعالى يقول (وَإِنْ مِنْكُمْ
إِلَّا وارِدُها) قال : أو لم تسمعي قوله (ثُمَّ نُنَجِّي
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) فأشكل عليها الجمع بين النصين ، وظنت الورود هو دخولها ،
كما يقال : ورد المدينة إذا دخلها فأجابها النبي صلىاللهعليهوسلم بأن ورود المتقين غير ورود الظالمين ، فإن المتقين
يردونهما ورودا ينجون به من عذابها ؛ والظالمين يردونهما ورودا يصيرون جثيا فيها
به.
وقال له عمر : ألم
تكن تحدثنا أنا نأتى البيت ونطوف به؟ فقال «هل قلت إنك تدخله العام؟» قال لا. قال «فإنك
آتيه ومطوف به» فأشكل على عمر رجوعهم عام الحديبية ولم يدخلوا المسجد الحرام ، ولا طافوا
بالبيت ، فبين لهم أن اللفظ مطلق لا دليل فيه على ذلك العام بعينه ، فتنزيله على
ذلك العام غلط ، فرجع عمر وعلم أنه غلط في فهمه.
__________________
ولما نزل قوله
تعالى : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ
وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ) (النساء : ١٢٣)
قال أبو بكر : يا رسول الله ، جاءت قاصمة الظهر ، فأينا لم يعمل سوءا؟ فقال «يا
أبا بكر ، ألست تنصب؟ ألست يصيبك الأذى؟ قال : بلى ، قال «فذلك مما تجزون به» فأشكل على الصديق أمر النجاة مع هذه الآية وظن أن الجزاء
في الآخرة ولا بد فأخبره النبي صلىاللهعليهوسلم أن جزاءه وجزاء المؤمنين بما يعملونه من السوء في الدنيا
ما يصيبهم من النصب والحزن والمشقة ،
__________________
فيكون ذلك كفارة
لسيئاتهم فلا يعاقبون عليها في الآخرة هذا مثل قوله (وَما أَصابَكُمْ مِنْ
مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠).
ولما نزل قوله
تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ
مُهْتَدُونَ) قال الصحابة رضي الله عنهم : يا رسول الله ، وأينا لم يلبس
إيمانه بظلم؟ قال «ذاك الشرك ، ألم تسمعوا قول العبد الصالح (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ؟) فلما أشكل عليهم المراد بالظلم وظنوا أن ظلم النفس داخل
فيه ، وأن من ظلم نفسه أي ظلم كان ، لم يكن أمنا ولا مهتديا ، أجابهم صلىاللهعليهوسلم : إن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك.
وهذا والله هو
الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل ، فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو
وضع العبادة في غير موضعها ، والأمن والهدى المطلق هو الأمن في الدنيا والآخرة ،
والهدى إلى الصراط المستقيم.
ولما نزل قوله
تعالى : (لِلَّهِ ما فِي
السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ
تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) (البقرة : ٢٨٤)
أشكل ذلك على بعض الصحابة وظنوا أن ذلك من تكليفهم بما لا يطيقونه ، فأمرهم صلىاللهعليهوسلم أن يقابلوا النص بالقبول. فبين الله سبحانه بعد ذلك أنه لا
يكلف نفسا إلا وسعها ، وأنه لا يؤاخذهم بما نسوا أو أخطئوا فيه ، وأنه لا يحمل
عليهم إصرا كما حمله على الذين من قبلهم ؛ وأنه لا يحملهم ما لا طاقة لهم به ،
وأنهم إن قصروا في بعض ما أمروا به أو نهوا عنه ثم استغفروا عفا الله عنهم وغفر
لهم ورحمهم. فانظر ما ذا أعطاهم الله تعالى لما قابلوا خبره بالرضى والتسليم
والقبول ، والانقياد دون المعارضة والرد.
ومن ذلك أن عائشة
لما سمعت قوله صلىاللهعليهوسلم «إن الميت يعذب
ببكاء أهله عليه» عارضته بقوله تعالى : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) (الإسراء : ١٥)
ولم تعارضه بالعقل ؛ بل غلّطت الرواة. والصواب عدم المعارضة وتصويب الرواة ،
__________________
فإنهم ممن لا يتهم
، وهم عمر وابنه ، والمغيرة بن شعبة وغيرهم ، والعذاب الحاصل للميت بسبب بكاء أهله
تألمه وتأذيه ببكائهم عليه ؛ والوزر المنفي حمل غير صاحبه له هو عقوبة البريء
وأخذه بجريرة غيره. وهذا لا ينافي تأذى البريء السليم بمصيبة غيره. فالقوم لم
يكونوا يعارضون النصوص بعقولهم وآرائهم ، وإن كانوا يطلبون الجمع بين النصين يوهم
ظاهرهما التعارض.
ولهذا لما عارض
بلال بن عبد الله قوله صلىاللهعليهوسلم «لا تمنعوا إماء
الله مساجد الله» برأيه وعقله وقال : والله لنمنعهن ، وأقبل عليه أبوه عبد الله
فسبه سبا ما سبه مثله ، وقال : أحدثك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وتقول : والله لنمنعهن؟
ولما حدث عمران بن
حصين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقوله «إن
الحياء خير كله» فعارضه معارض بقوله إن منه وقارا ومنه ضعفا ، فاشتد غضب عمران بن حصين وقال :
أحدثك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول : إن منه كذا ومنه كذا؟ وظن أن المعارض زنديق. فقيل
له : يا أبا نجيد ، إنه لا بأس به.
ولما حدث عباده بن
الصامت بقول النبي صلىاللهعليهوسلم «الفضة بالفضة ربا إلا
هاء وهاء ـ الحديث» قال معاوية : ما أرى بهذا بأسا ، يعني بيع آنية الفضة بالفضة متفاضلا ، غضب
عباده وقال : أقول قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول ما أرى بهذا بأسا؟ وقال : لا أساكنك بأرض أنت بها
أبدا. ومعاوية لم يعارض النص بالرأي وكان أتقى لله من ذلك ، وإنما خص عمومه وقيد
مطلقه بهذه الصورة وما يشابهها ، ورأى أن التفاضل في مقابلة أثر الصنعة فلم يدخل
في الحديث وهذا مما
__________________
يسوغ : فيه
الاجتهاد ، وإنما أنكر عليه عبادة مقابلته لما رواه بهذا الرأي. ولو قال له : نعم
حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم على الرأس والعين ولا يجوز مخالفته ، ولكن هذه الصورة لا
تدخل في لفظه ، فإنه إنما قال «الفضة بالفضة مثلا بمثل وزنا بوزن» وهذه الزيادة
ليست في مقابلة الفضة ، وإنما هي في مقابلة الصنعة ، ولا تذهب الصنعة هدرا ، لما
أنكر عليه عبادة ، فإن هذا من تمام فهم النصوص وبيان ما أريد بها.
كما أنه هو ومعاذ
بن جبل وغيرهما من الصحابة لما ورثوا المسلم من الكافر ولم يورثوا الكافر من
المسلم لم يعارضوا قوله صلىاللهعليهوسلم «لا يرث المسلم الكافر
، ولا الكافر المسلم» بعقولهم وآرائهم بل قيدوا مطلق هذا اللفظ وخصصوا عمومه وظنوا أن المراد به
الحربي ، كما فعل ذلك بعض الفقهاء في قوله صلىاللهعليهوسلم «لا يقتل مسلم بكافر» حيث حملوه على الحربي دون الذمي والمعاهد. والصحابة في هذا
التقييد والتخصيص أعذر من هؤلاء من وجوه كثيرة ، ليس هذا موضعها.
وقد كان السلف
يشتد عليهم معارضة النصوص بآراء الرجال ، ولا يقرون على ذلك وكان ابن عباس يحتج في
متعة الحج بسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمره لأصحابه بها ، فيقولون له : إن أبا بكر وعمر أفردا
الحج ولم يتمتعا ، فلما أكثروا عليه قال «يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقولون
قال أبو بكر وعمر؟» .
__________________
فرحم الله ابن
عباس ، كيف لو رأى قوما يعارضون قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقول أرسطو وأفلاطون وابن سينا والفارابي وجهم بن صفوان
وبشر المريسي وأبي الهذيل العلاف وأضرابهم؟.
ولقد سئل عبد الله
بن عمر عن متعة الحج فأمر بها ، فقيل له : إن أباك نهي عنها ، فقال : إن أبي لم
يرد ما تقولون ، فلما أكثروا عليه قال : أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أحق أن تتبعوا أم أمر عمر.
ولما حدّث حميد بن
ثابت عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم في تفسير قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) قال : «وضع
إصبعه على طرف خنصره فساخ الجبل» أنكر عليه بعض الحاضرين وقال : أتحدّث بهذا؟ فضرب حميد في
صدره وقال : أحدثك عن ثابت عن أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم وتقول : أتحدث بهذا؟ فكانت نصوص رسول الله صلىاللهعليهوسلم أجلّ في صدورهم وأعظم في قلوبهم من أن يعارضوها بقول أحد
من الناس ، ولا تثبت قدم أحد على الإيمان إلا على ذلك.
الثامن
والثلاثون : إن المعقولات ليس
لها ضابط ولا هي محصورة في نوع معين ؛ فإنه ما من أمة من الأمم إلا ولها عقليات
يختصمون إليها ويختصمون بها. فللفرس عقليات ، وللهند عقليات وللمجوس عقليات ،
وللصابئة عقليات. وكل طائفة من هذه الطوائف ليسوا متفقين على العقليات ، بل فيها
من الاختلاف ما هو معروف عند المعتنين به ونحن نعفيكم من هذه المعقولات واضطرابها
ونحاكمكم إلى المعقولات التي في هذه الأمة فإنه ما من مدة من المدد إلا وقد ابتدعت
فيها بدع يزعم أربابها أن العقل دل عليها. ونحن نسوق إليكم الأمر من أوله إلى أن
يصل إليك بعون الله فنقول :
__________________
لما أظلمت الأرض
وبعد عهدها بنور الوحي فكانوا كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إنى خلقت عبادي حنفاء ، وإنهم أتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطانا وأن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل
الكتاب» فكان أهل العقل كلهم في مقته إلا بقايا متمسكون بالوحي. فلم
يستفيدوا بعقولهم حين فقدوا نور الوحي إلا عبادة الأوثان والصلبان والنيران
والكواكب والشمس والقمر والحيرة والشك. أو السحر أو تعطيل الصانع والكفر به ،
فأطلع الله شمس الرسالة في تلك الظلمة سراجا منيرا ، وأنعم بها على أهل الأرض في
عقولهم وقلوبهم ومعاشهم ومعادهم نعمة لا يستطيعون لها شكورا ، فأبصروا بنور الوحي
ما لم يكونوا بعقولهم يبصرونه ، ورأوا في ضوء الرسالة ما لم يكونوا يرونه ، فكانوا
كما قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (البقرة : ٢٥٧).
وقال تعالى : (الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ
لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى
صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (إبراهيم : ١).
وقال تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً
مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ
جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (الشورى : ٥٢)
وقال (أَوَمَنْ كانَ
مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ
مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها) (الأنعام : ١٢٢)
فمضى الرعيل الأول وضوء ذلك النور لم تطفئه عواصف الأهواء ؛ وليس يلتبس بظلم
الآراء ، وأوصوا من بعدهم ألا يفارقوا ذلك النور الذي اقتبسوه منهم ، فلما كان في
أواخر عصرهم حدثت الشيعة والخوارج والقدرية والمرجئة ، فبعدوا عن النور الذي كان
عليه أوائل الأمة ومع هذا فلم يفارقوه بالكلية ، بل كانوا للنصوص معظمين وبها
مستدلين ؛ ولها
__________________
على الآراء
والعقول مقدمين. ولم يدع أحد منهم أن عنده عقليات تعارض الوحي والنصوص ، وإنما
أتوا من سوء الفهم فيها ، فصاح بهم من أدركهم من الصحابة وكبار التابعين من كل قطر
، ورموهم بالعظائم ، وتبرءوا منهم وحذروا من سبيلهم أشد التحذير ، وكانوا لا يرون
السلام عليهم ومجالستهم.
(الجهمية أول من عارض النصوص بآراء الرجال)
ولما كثرت الجهمية
في آخر عصر التابعين كانوا هم أول من عارض الوحي بالرأي ، ومع هذا فكانوا قليلين
أذلاء مذمومين. وأولهم شيخهم الجعد بن درهم ، وإنما نفق عند الناس لأنه كان معلم
مروان بن محمد وشيخه ؛ ولهذا يسمى مروان الجعد. وعلى رأسه سلب الله بني أمية الملك
والخلافة وشتتهم في البلاد ومزقهم كل ممزق ببركة شيخ المعطلة النفاة.
ولما اشتهر أمره
في المسلمين طلبه خالد بن عبد الله القسري ـ وكان أميرا على العراق ـ حتى ظفر به
فخطب الناس في يوم الأضحى. وكان آخر ما قال في خطبته «أيها الناس ضحوا ؛ فإني مضح
بالجعد بن درهم ، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليما ولم يتخذ إبراهيم خليلا.
تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا» ثم نزل فذبحه في أصل المنبر ، وكان ضحيته. ثم طفئت تلك
البدعة والناس إذ ذاك عنق واحد أن الله فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه موصوف
بصفات الكمال ونعوت الجلال ، وأنه كلم عبده ورسوله موسى تكليما
__________________
وتجلى للجبل فجعله
دكا هشيما. إلى أن جاء أول المائة الثالثة وولى على الناس عبد الله المأمور. وكان
يحب أنواع العلوم ، وكان مجلسه عامرا بأنواع المتكلمين في العلوم ، فغلب عليه حب
المعقولات ، فأمر بتعبير كتب يونان ، وأقدم لها المترجمين من البلاد ، فترجمت له وعبرت ،
فاشتغل بها الناس. والملك سوق ما ينفق فيه جلب إليه ، فغلب على مجلسه جماعة من
الجهمية ممن كان أخوه الأمين قد أقصاهم وتتبعهم بالحبس والقتل ؛ فحشوا بدعة التجهم
في أذنه وقلبه فقبلها استحسنها ودعا الناس إليها عاقبهم عليها. فلم تطل مدته. فصار
الأمر بعده إلى المعتصم ، وهو الذي ضرب أحمد بن حنبل ، فقام بالدعوة بعده ،
والجهمية تصوب فعله وتدعو إليه وتخبره أن ذلك هو تنزيه الرب عن التشبيه والتجسيم.
وهم الذين غلبوا على مجلسه وقربه ، والقضاة والولاة منهم. فإنهم تبع لملوكهم ومع
هذا فلم يكونوا يتجاسرون على إلغاء النصوص وتقديم العقول والآراء عليها. فإن
الإسلام كان في ظهور وقوة ، وسوق الحديث نافقة ، وأعلام السنة على ظهر الأرض ولكن
كانوا على ذلك يحومون وحوله يدندنون ، وأخذوا الناس بالرغبة والرهبة ؛ فمن بين
أعمى مستجيب ؛ ومن بين مكره مفتد بنفسه منهم بإعطاء ما سألوه. وقلبه مطمئن
بالإيمان. وثبت الله أقواما جعل قلوبهم في نصر دينه أقوى من الصخر وأشد من الحديد.
فأقامهم لنصرة دينه ، وجعلهم أئمة يقتدي بهم المؤمنون لما صبروا وكانوا بآياته
يوقنون : فإنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. قال تعالى : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً
يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (السجدة : ٢٤)
فصبروا من الجهمية على الأذى الشديد ، ولم يتركوا سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما رغبوهم به من الوعد ولا لما أرعبوهم به من الوعيد. ثم
أطفأ الله برحمته تلك الفتنة وأخمد تلك الكلمة ، ونصر السنة نصرا عزيزا ، وفتح
لأهلها فتحا مبينا ، حتى صرخ بها على رءوس المنابر ، ودعى إليها في كل باد وحاضر ،
وصنف في ذلك الزمان في السنة ما لا يحصيه إلا الله.
ثم انقرض ذلك العصر
وأهله ، وقام بعدهم ذريتهم يدعون إلى كتاب الله
__________________
وسنة رسوله على
بصيرة إلى أن جاء ما لا قبل لأحد به وهم جنود إبليس حقا ، المعارضون لما جاءت به
الرسل بعقولهم وآرائهم. وهم القرامطة والباطنية والملاحدة ، ودعوهم إلى العقل
المجرد ، وأن أمور الرسل تعارض العقول ، فهم القائمون بهذه الطريقة حق القيام
بالقول والفعل فجرى على الإسلام وأهله منهم ما جرى ، وكسروا عسكر الخليفة مرارا
عديدة ، وقتلوا الحاج قتلا ذريعا ، وانتهوا إلى مكة فقتلوا بها من وصل من الحاج
إليها وقلعوا الحجر الأسود من مكانه ، وقويت شوكتهم واستفحل أمرهم وعظمت بهم
الرزية واشتدت بهم البلية.
وأصل طريقهم أن
الذي أخبرت به الرسل قد عارضه العقل ، وإذا تعارض العقل والنقل قدمنا العقل. وفي
زمانهم استولى الكفار على كثير من بلاد الإسلام بالمشرق والمغرب ، وكاد الإسلام أن
ينهدم ركنه لو لا دفاع الذي ضمن حفظه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. ثم خمدت
دعوة هؤلاء في المشرق وظهرت بالمغرب قليلا ، حتى استفحلت وتمكنت واستولى أهلها على
كثير من بلاد المغرب. ثم أخذوا يطئون البلاد حتى وصلوا إلى بلاد مصر فملكوها وبنوا
بها القاهرة ؛ وأقاموا على هذه الدعوة مصرحين بها هم وولاتهم وقضاتهم ، وفي زمانهم
صنفت رسائل «إخوان الصفا» و «الإرشادات» و «الشفا» وكتب ابن سينا ، فإنه قال : كان
أبي من أهل الدعوة الحاكمية وعطلت في زمانهم السنة وكتبها والآثار جملة إلا في
الخفية ، وشعار هذه الدعوة تقديم العقل علي الوحي ، واستولوا على بلاد الغرب ومصر
والشام والحجاز ، واستولوا على العراق سنة وأهل السنة فيهم كأهل الذمة بين
المسلمين ، بل كان لأهل الذمة من الأمان والجاه والعز عندهم ما ليس لأهل السنة.
فكم أغمد من سيوفهم في أعناق العلماء ، وكم مات في سجونهم من ورثة الأنبياء ؛ حتى
استنقذ الله الإسلام والمسلمين من أيديهم في أيام نور الدين وابن أخيه صلاح الدين
فأبلّ الاسلام من علته ، بعد ما وطن نفسه على العزاء ، وانتعش بعد طول الخمول حتى
استبشر أهل الأرض والسماء. وأبدر هلاله بعد أن دخل في المحاق.
وثابت إليه روحه
بعد أن بلغت التراق. وقيل من راق. واستنقذ الله بعبده وجنوده بيت المقدس من أيدي
عبدة الصليب. وأخذ كل من أنصار الله ورسوله من نصرة دينه بنصيب. وعلت كلمة السنة
وأذن بها على رءوس الأشهاد ، ونادى المنادي يا أنصار الله لا تنكلوا عن الجهاد ،
فأنه أبلغ الزاد ليوم المعاد.
فعاش الناس في ذلك
النور مدة حتى استولت الظلمة على بلاد الشرق ، فقدموا الآراء والعقول والسياسة
والأذواق على الوحي ، وظهرت فيهم الفلسفة والمنطق وتوابعهما. فبعث الله عليهم
عبادا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وعاثوا في القرى والأمصار وكاد الإسلام أن
يذهب اسمه وينمحي رسمه. وكان مشار هذه الفئة وعالمها الذي يرجع إليه وزعيمها
المعول فيها عليه ، شيخ شيوخ المعارضين بين الوحي والعقل ؛ وإمامهم في وقته نصير
الشرك والكفر (الطوسى) فلم يعلم في عصرة أحد عارض بين العقل والنقل معارضة رام بها
إبطال النقل بالكلية مثله ، فإنه أقام الدعوة الفلسفية ، واتخذ الإشارات عوضا عن
السور والآيات. وقال :
هذه عقليات قطعية
برهانية قد قابلت تلك النقليات الخطابية ؛ واستعرض أهل الاسلام وعلماء أهل الإيمان
والقرآن والسنة على السيف ؛ فلم يبق منهم إلا من قد أعجزه ، قصدا لإبطال الدعوة
الإسلامية ، وجعل مدارس المسلمين وأوقافهم للنجسية السحرة والمنجمين والفلاسفة
والملاحدة والمنطقيين ، ورأى ابطال الأذان وتحويل الصلاة إلى القطب الشمالى ، فحال
بينه وبين ذلك من تكفل بحفظ الإسلام ونصره ، وهذا كله من ثمرة المعارضين بين الوحي
والعقل.
ولتكن قصة شيخ
هؤلاء القديم منك على ذكر كل وقت ، فإنه أول من عارض بين العقل والنقل ، وقدم العقل ، فكان
من أمره ما قص الله ، وورث الشيخ تلامذته هذه المعارضة. فلم يزل يجري على الأنبياء
وأتباعهم منها كل
__________________
منحة وبلية وأصل
كل بلية في العالم كما قال محمد الشهرستاني : من معارضة النص بالرأي وتقديم الهوى
على الشرع. والناس إلى اليوم في شرور هذه المعارضة. ثم ظهر مع هذا الشيخ المتأخر
المعارض أشياء لم تكن تعرف قلبه : حسيات العميدي ، وحقائق ابن عربي ، وتشكيكات
الرازي وقام سوق الفلسفة والمنطق وعلوم أعداء الرسل.
ثم نظر الله إلى
عباده وانتصر لكتابه ودينه ، وأقام جندا يغزو ملوك هؤلاء بالسيف والسنان ، وجندا
يغزو علماءهم بالحجة والبرهان. ثم نبغت نابغة منهم في رأس القرن السابع فأقام الله
لدينه شيخ الإسلام أبا العباس أحمد بن تيمية قدس الله روحه ، فأقام على غزوهم مدة
حياته باليد والقلب واللسان ؛ وكشف للناس باطلهم وبين تلبيسهم وتدليسهم وقابلهم
بصريح المعقول وصحيح المنقول ، وشفي واشتفى ، وبيّن تناقضهم ومفارقتهم لحكم العقل
الذي به يدلون وإليه يدعون ، وإنهم أترك الناس لأحكامه ومفارقتهم لحكم العقل الذي
به يدلون وإليه يدعون ، وإنهم أترك الناس لأحكامه وقضاياه ، فلا وحي ولا عقل ،
فأرادهم في حفرهم ، ورشقهم بسهامهم ، وبين أن صحيح معقولاتهم خدم لنصوص الأنبياء ،
فجزاه الله عن الإسلام وأهله خيرا.
الوجه
التاسع والثلاثون : إنه قد ثبت بالعقل الصريح والنقل الصحيح ثبوت صفات الكمال للرب سبحانه. وإنه
أحق بالكمال من كل ما سواه. وأنه يجب أن تكون القوة كلها لله ، وكذا العزة والعلم
والقدرة والكلام ، وسائر صفات الكمال التام اثنان ، وأن الكمال التام لا يكون إلا لواحد
، وهاتان مقدمتان يقينيتان معلومتان بصريح العقل ، وجاءت نصوص الأنبياء مفصلة بما
في صريح العقل إدراكه قطعا. فاتفق على ذلك العقل والنقل ، قال الله تعالى : (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ
يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (البقرة : ١٦٥)
وقد اختلف في تعلق قوله (أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) بما ذا؟ فقالت طائفة : هو مفعول يرى أي فلو يرون أن القوة
لله جميعا لما عصوه ولما كذبوا رسله وقدموا عقولهم على وحيه ، وقالت طائفة : بل
المعنى لأن القوة لله جميعا ، وجواب لو
محذوف على التقدير.
أى ولو يرى هؤلاء حالهم وما أعد الله لهم إذ يرون العذاب لرأوا أمرا عظيما. ثم قال
: (أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) وقال (إِنَّ الْأَمْرَ
كُلَّهُ لِلَّهِ) وقال النبي صلىاللهعليهوسلم في دعاء الاستفتاح «لبيك وسعديك والخير كله في يديك» وفي الأثر الآخر «اللهم لك الحمد كله ولك الملك كله ،
وبيدك الخير كله ، وإليك يرجع الأمر كله» .
فلله سبحانه كل
صفة كمال وهو موصوف بتلك الصفات كلها. ونذكر من ذلك صفة واحدة يعتبر بها في سائر
الصفات : وهو أنك لو فرضت جمال الخلق كلهم من أولهم إلى آخرهم لشخص واحد منهم ، ثم
كان الخلق كلهم على جمال ذلك الشخص لكان نسبته إلى جمال الرب تبارك وتعالى دون
نسبة سراج ضعيف إلى جرم الشمس ، وكذلك قوته سبحانه وعلمه وسمعه وبصره وكلامه وقدرته
ورحمته وحكمته ووجوده وسائر صفاته وهذا مما دلت عليه آياته الكونية والسمعية ،
وأخبرت به رسله عنه كما في «الصحيح» عنه صلىاللهعليهوسلم «إن الله لا ينام ولا
ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه عمل الليل قبل النهار
__________________
وعمل
النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره
من خلقه» .
فإذا كانت سبحات
وجهه الأعلى لا يقوم لها شيء من خلقه ، ولو كشف حجاب النور عن تلك السبحات لأحرق
العالم العلوي والسفلي ، فما الظن بجلال ذلك الوجه الكريم وعظمته وكبريائه وكماله
وجلاله وجماله؟.
وإذا كانت
السماوات مع سعتها وعظمتها يجعلها على إصبع من أصابعه والأرض على إصبع والبحار على
إصبع والجبال على إصبع ، فما الظن باليد الكريمة التي هي صفة من صفات ذاته ، وإذا كان يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن
الحاجات بأقطار الأرض والسماوات فلا تشتبه عليه ولا تختلط عليه ولا يغلطه سمع عن
سمع ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء تحت أطباق الأرض في الليلة
الظلماء.
ويعلم ما تسره
القلوب وأخفى منه. وهو ما لم يخطر لها إنه سيخطر لها. ولو كان البحر المحيط
بالعالم مدادا ويحيط به من بعده سبعة أبحر كلها مداد وجميع أشجار الأرض. وهو كل
نبت قام على ساقه مما يحصد ومما لا يحصد ، أقلام يكتب بها ، نفدت الأقلام والبحار
ولم ينفد كلامه .
وهذا وغيره بعض ما
تعرف به إلى عباده من كماله ، وإلا فلا يمكن لأحد قط أن يحصى ثناء عليه ، بل هو
كما أثنى على نفسه ، فكل الثناء وكل الحمد وكل المجد ، وكل الكمال له سبحانه. هو
الذي وصلت إليه عقول أهل الإثبات
__________________
وتلقوه عن الرسل
ولا يحتاجون في ثبوت علمهم وجزمهم بذلك إلى الجواب عن الشبه القادحة في ذلك ، وإذا
وردت عليهم لم تقدح فيما علموه وعرفوه ضرورة من كون ربهم تبارك وتعالى كذلك وفوق
ذلك.
فلو قال قائل :
هذا الذي علمتموه لا يثبت إلا بالجواب عما عارضه من العقليات. قالوا ، لقائل هذه
المقالة : هذا كذب وبهت : فإن الأمور الحسية والعقلية واليقينية قد وقع فيها شبهات
كثيرة تعارض ما علم بالحس والعقل ، فلو توقف علمنا بذلك على الجواب عنها وحلها لم
يثبت لنا ولا لأحد علم بشيء من الأشياء ، ولا نهاية لما تقذف به النفوس من الشبه
الخيالية وهي من جنس الوساوس والخطرات والخيالات التي لا تزال تحدث في النفوس شيئا
فشيئا ، بل إذا جزمنا بثبوت الشيء جزمنا ببطلان ما يناقض ثبوته. ولم يكن ما يقدر
من الشبه الخيالية على نقيضه مانعا من جزمنا به ، ولو كانت الشبهة ما كانت ، فما
من موجود يدركه الحس إلا ويمكن كثير من الناس أن يقيم على عدمه شبها كثيرة ويعجز
السامع عن حلها. ولو شئنا لذكرنا لك طرفا منها تعلم أنه أقوى من شبه الجهمية
النفاة لعلو الرب على خلقه وكلامه وصفاته.
وقد رأيت أو سمعت
ما أقامه كثير من المتكلمين من الشبه على أن الإنسان تتبدل نفسه الناطقة في الساعة
الواحدة أكثر من ألف مرة ، وكل لحظة تذهب روحه وتفارقه وتحدث له روح أخرى غيرها
أبدا ، وما أقاموا من الشبه على أن السماوات والأرض والجبال والبحار تتبدل كل لحظة
ويخلفها غيرها ، وما أقاموا من الشبه على أن روح الإنسان ليست فيه ولا خارجة عنه ،
وزعموا أن هذا أصح المذاهب في الروح ، وما أقاموا من الشبه أن الإنسان إذا انتقل
من مكان إلى مكان لم يمر على تلك الأمكنة الأخرى التي من مبدأ حركته ونهايتها ولا
قطعها ولا حاذاها ، وهي مسألة طفرة النظام ؛ وأضعاف أضعاف ذلك.
وهؤلاء طائفة
الملاحدة من الاتحادية كلهم يقولون إن ذات الخالق هي عين ذات المخلوق ولا فرق
بينهما البتة ، وإن الاثنين واحد ، وإنما الحس والوهم يغلط في التعدد ويقيمون على
ذلك شبها كثيرة قد نظمها ابن الفارض في «قصيدته» ،
وذكرها صاحب «الفتوحات»
في فصوصه وغيرها ، وهذه الشبه كلها من واد واحد ، وهي خزنة الوساوس ولو لم نجزم
بما علمناه إلا بعد العلم برد تلك الشبهات لم يثبت لنا علم أبدا ، فالعاقل إذا علم
أن هذا الخبر صادق علم أن كل ما عارضه فهو كذب ، ولم يحتج لأن يعرف أعيان الأخبار
المعارضة له ولا وجوها ، والله المستعان.
الوجه
الأربعون : إن الطريق التي
سلكها نفاة الصفات والعلو والتكلم من معارضة النصوص الإلهية بآرائهم هي بعينها
الطريق التي سلكها إخوانهم من الملاحدة في معارضة نصوص المعاد بآرائهم وعقولهم
ومقدماتهم ؛ ثم نقلوها بعينها إلى ما أمروا به من الأعمال كالصلوات الخمس والزكاة
والحج والصيام ، فجعلوها للعامة دون الخاصة ، فآل الأمر بهم إلى أن ألحدوا في
الأصول الثلاثة التي اتفق عليها جميع الملل وجاءت بها جميع الرسل ؛ وهي الإيمان
بالله واليوم الآخر ، والأعمال الصالحة قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ
آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ
وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (البقرة : ٦٢)
الآية.
فهؤلاء الملاحدة
يحتجون على نفاة الصفات بما وافقهم عليه من الإعراض عن نصوص الوحي ونفي الصفات ؛
كما ذكر ابن سينا في رسالته الأضحوية ، فإنه قال فيها ، لما ذكر حجة من أثبت معاد
البدن ؛ وأن الداعي لهم إلى ذلك ما ورد به الشرع من بعث الأموات. فقال : وأما أمر
الشرع فينبغي أن يعلم فيه قانون واحد ، وهو أن الملة الآتية على لسان نبي من
الأنبياء يرام بها خطاب الجمهور كافة. ثم من المعلوم الواضح أن التحقيق الذي ينبغي
أن يرجع إليه في صحة التوحيد من الإقرار بالصانع موحدا مقدس عن الكم والكيف والأين
ومتى والوضع والتغيير ؛ حتى يصير الاعتقاد به أنه ذات واحدة لا يمكن أن يكون لها
شريك في النوع ، أو يكون جزء وجودي كمي أو معنوي ، ولا يمكن أن تكون خارجة عن
العالم ولا داخلة فيه ، ولا حيث تصح الإشارة إليها بأنها هنا أو هناك ، وهذا ممتنع
إلقاؤه إلى الجمهور. ولو ألقى هذا على هذه الصورة إلى
العرب العاربة
والعبرانيين الأجلاف لسارعوا إلى العناد ، واتفقوا على أن الإيمان المدعو إليه
إيمان بمعدوم لا وجود له أصلا ، ولهذا [كل ما ورد] في «التوراة» تشبيها كله ، ثم
أنه لم يرد في «الفرقان» من الإشارات إلى هذا الأمر الاهم شيء ، ولا إلى تصريح ما
يحتاج إليه في التوحيد بيان مفصل ، بل أتى بعضه على سبيل التشبيه في الظاهر ،
وبعضه جاء تنزيها مطلقا عاما جدا لا تخصيص ولا تفسير له. وأما الآحاد التشبيهية
فأكثر من أن تحصى ولكن أبى القوم إلا أن يقبلوها.
فإذا كان الأمر في
التوحيد هذا ؛ فكيف بما بعده من الأمور الاعتقادية؟
ولبعض الناس أن
يقول : إن للعرب توسعا في الكلام ومجازا ، وإن الألفاظ التشبيهية مثل الوجه واليد
والإتيان في ظل الغمام ، والمجيء والذهاب والضحك والحياء صحيحة ولكن مستعملة
استعارة ومجازا. قال : ويدل على استعمالها غير مجازية ولا مستعارة أن المواضع التي
يوردونها حجة في أن العرب تستعمل هذه المعاني بالاستعارات والمجاز على غير معانيها
الظاهرة مواضع مثلها يصلح أن تستعمل على غير هذا الوجه ولا يقع فيه تلبيس.
وأما قوله في (فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) ، وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨)
على القسمة المذكورة وما جرى مجراه ـ فليس تذهب الأوهام فيه البتة إلى أن العبارة
مستعارة أو مجازية ، فإن كان أريد فيها ذلك إضمارا فقد رضي بوقوع الغلط والتشبيه
والاعتقاد المعوج بالإيمان بظاهرها تصريحا.
وقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح : ١٠)
وقوله : (ما فَرَّطْتُ فِي
جَنْبِ اللهِ) (الزمر : ٥٦) فهو
موضع الاستعارة والمجاز والتوسع في الكلام ، ولا يشك في ذلك اثنان من فصحاء العرب
، ولا تلبيس على ذي معرفة في لغتهم ، كما تلتبس في تلك الأمثلة ، فإن هذه الأمثلة
لا يقع شبهة أنها مستعارة مجازية ، كذلك في تلك لا يقع شبهة في أنها ليست استعارية
ولا مجازية ، ولا يراد فيها شيء غير الظاهر.
ثم هب أن هذه كلها
موجودة على الاستعارة ، فأين التوكيد والعبارة المشيرة
بالتصريح إلى
التوحيد المحض الذي يدعو إليه حقيقة هذا الدين المعترف بجلالته على لسان حكماء
العالم قاطبة؟
ثم قال في ضمن
كلامه : إن الشريعة الجائية على لسان نبينا جاءت أفضل ما يمكن أن تجيء بمثله
الشرائع وأكمله. ولهذا صلحت أن تكون خاتمة الشرائع وآخر الملل. قال : وأين الإشارة
إلى الدقيق من المعاني الميسرة إلى علم التوحيد ، مثل إنه عالم بالذات ، أو عالم
بعلم ، قادر بالذات ، أو قادر بقدرة ، واحد بالذات على كثرة الأوصاف أو قابل للكثرة
، تعالى عنها بوجه من الوجوه ، متحيز الذات أو منزه عن الجهات ، فإنه لا يخلو إما
أن تكون هذه المعاني واجبا تحققها وإتقان المذهب الحق فيها ، أو يسع الصدوف عنها
وإغفال البحث والروية فيها ، فإن كان البحث فيها معفوا عنه وغلط الاعتقاد الواقع
فيها غير مأخوذ به ، فجل مذهب هؤلاء القوم المخاطبين بهذه الجملة تكلف وعنه غنية ،
وإن كان فرضا محكما فواجب أن يكون بما صرح به في الشريعة ، وليس التصريح المعمى أو
الملبس أو المقتصر بالإشارة والإيماء ، بل التصريح المستقصي فيه والمنبه عليه
والموفي حق البيان والإيضاح والتعريف على المعانى ، فإن المبرزين المنفقين أيامهم
ولياليهم وساعات عمرهم على تمرين أذهانهم وتذكية أفهامهم وترشيح نفوسهم لسرعة
الوقوف على المعانى الغامضة يحتاجون في تفهم هذه المعاني إلى فضل وشرح عبادة فكيف
غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟ لعمري لو كلف الله رسولا من الرسل أن يلقي
حقائق هذه الأمور إلى الجمهور من العامة الغليظة طباعهم ، والمنغلقة بالمحسوسات
الصرفة أوهامهم ، ثم سامه أن يستنجز منهم الإيمان والإجابة غير متمهل فيه ، وسامه
أن يتولى رياضة نفوس الناس قاطبة حتى تستعد للوقوف عليها ، لكلفه شططا ، وأن يفعل
ما ليس في قوة البشر. اللهم إلا أن تدركهم حالة إلهية ، وقوة علوية ، وإلهام سماوي
، فتكون حينئذ وساطة الرسول مستغني عنها وتبليغه غير محتاج إليه.
وهب أن الكتاب
العزيز جاء على لغة العرب وعادة لسانهم في الاستعارة والمجاز ، فما قولهم في
الكتاب العبراني ، كله من أوله إلى آخره تشبيه صرف؟
وليس لقائل أن
يقول ذلك الكتاب محرف ، وأنى يحرف كلية كتاب منتشر في الأمم لا يطاق تعدادهم؟
وبلادهم متباينة وأوهامهم متباينة ، منهم يهودي ونصراني ، وهم أمتان متعاديتان
فظاهر من هذا كله أن الشرائع واردة بخطاب الجمهور بما يفهمون ، مقربة ما لا يفهمون
بالتمثيل والتشبيه ، ولو كان غير ذلك لما أغنت الشرائع البتة ، قال : فكيف يكون
ظاهر الشرائع حجة في هذا الباب ، يعني أمر المعاد؟ لو فرضنا الأمور الأخروية
روحانية غير مجسمة كان بعيدا عن إدراك بداهة الأذهان تحقيقها ، ولم يكن سبيل
للشرائع إلى الدعوة إليها والتحذير عنها إلا بالتعبير عنها بوجوه من التمثيلات
المقربة إلى الأفهام ، فكيف يكون وجود شيء آخر لو لم يكن الشيء الآخر على الحالة
المفروضة لكان الشيء الأول على حالته؟ فهذا هو الكلام على تعريف من طلب أن يكون
خاصا من الناس لا عاما أن ظاهر الشرائع غير محتج به في مثل هذه الأبواب.
فتأمل هذا الملحد
، بل رأس ملاحدة الملة ، ودخوله في الإلحاد من باب نفي الصفات ، وتسلطه في إلحاده
على المعطلة النفاة بما وافقوا عليه من النفي ، وإلزامه لهم أن يكون الخطاب
بالمعاد جمهوريا أو مجازا أو استعارة ، كما قالوا في نصوص الصفات التي اشترك هو
وهم في تسميتها تشبيها وتجسيما ، مع أنها أكثر تنوعا وأظهر معنى وأبين دلالة من
نصوص المعاد فإذا ساغ لكم أن تصرفوها عن ظاهرها بما لا تحتمله اللغة فصرف هذه عن
ظواهرها أسهل.
ثم زاد هذا الملحد
عليهم باعترافه بأن نصوص الصفات لا يمكن حملها كلها على الاستعارة والمجاز ، وأن
يقال إن ظاهرها غير مراد ، وأن لذلك الاستعمال مواضع تليق به حيث يكون دعوى ذلك في
غيرها غلطا محضا كما في مثل قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ٥٨)
فمع هذا التقسيم والتنويع يمتنع المجاز ؛ فإنما أريد ما دل اللفظ عليه ظاهرا. ومع
هذا فقد ساعدتم على امتناعه لقيام الدليل العقلي عليه. فهكذا نفعل نحن في نصوص
المعاد سواء. فهذا حاصل كلامه وإلزامه ودخوله
إلى الإلحاد من
باب نفي الصفات والتجهم.
وطريق الرد
المستقيم في إبطال قوله وقول المعطلة جميعا أن يقال : لا يخلو إما يكون الرسول
يعرف ما دل عليه العقل بزعمكم من إنكار علو الله على خلقه واستوائه على عرشه.
وتكليمه لرسله وملائكته. أو لم يعرف ذلك؟ فإن قلتم لم يكن يعرفه. كانت الجهمية
المعطلة والملاحدة والمعتزلة والقرامطة والباطنية والنصيرية والإسماعيلية وأمثالهم
أعلم بالله وأسمائه وصفاته. وما يجب له ويمتنع عليه من رسله وأتباعهم ، وإن
كان يعرفه امتنع أن لا يتكلم به يوما من الدهر مع أحد من خاصته وأهل سره.
ومن المعلوم قطعا
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يتكلم مع أحد بما يناقض ما أظهر للناس. ولا كان خواص
أصحابه يعتقدون فيه نقيض ما أظهر للناس. بل كل من كان به أخص وبحاله أعرف كان أعظم
موافقة له وتصديقا له على ما أظهره وبينه وأخبر به. فلو كان الحق في الباطن خلاف
ما أظهره لزم أحد الأمرين : إما أن يكون جاهلا به. أو كاتما له عن الخاصة والعامة
ومظهرا خلافه للخاصة والعامة. وهذا من أعظم الأمور امتناعا. ومدعيه في غاية
الوقاحة والبهت. ولهذا لما علم هؤلاء أنه يستحيل كتمان ذلك عن خواصه وضعوا أحاديث
بينوا فيها أنه كان له خطاب مع خاصته غير الخطاب العامي. مثل الحديث المختلق
المفترى عن عمر أنه قال «كان رسول صلىاللهعليهوسلم يتحدث مع أبي بكر وكنت كالزنجي بينهما» ومثل ما يدعيه الرافضة أنه كان عند علي علم خاص يخالف هذا
الظاهر.
ولما علم الله
تعالى أن ذلك يدعي في على وفق من سأله : هل عندكم من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شيء خصكم به دون الناس؟ فقال «لا. والذي فلق الحبة وبرأ
__________________
النسمة ما أسر
النبي صلىاللهعليهوسلم إلينا شيئا كتمه عن غيرنا إلا فهما يؤتيه الله عبدا في
كتابه وما في هذه الصحيفة ، وكان فيها العقول والديات وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل
مسلم بكافر ، وهذا الحديث في «الصحيحين».
وما ذكره ابن سينا
من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيده شيء ، فكلام غير صحيح. وهذا دليل
على أنه باطل لا حقيقة له ، وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال. وكذلك ما ذكره من أن
من المواضع التي ذكرت فيها الصفات ما لا يحتمل اللفظ فيه إلا معنى واحدا كما ذكره
في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) فهو حجة على من نفى حقيقة ذلك ومدلوله من المعطلة نفاة
الصفات وهو حجة عليه وعليهم جميعا ، وموافقتهم له على التعطيل لا تنفعه ، فإن ذلك (حجة)
جدلية لا علمية ، إذ تسليمهم له (ذلك) لا يوجب على غيرهم أن يسلم ذلك له. فإذا
تبين بالعقل الصريح ما يوافق النقل الصحيح دل ذلك على فساد قوله وقولهم جميعا.
(توحيد الملاحدة)
وكذلك قوله : هب
أن هذه كلها موجودة على الاستعارة فأين التوحيد ، والدلالة والتصريح على التوحيد
المحض الذي تدعو إليه حقيقة هذا الدين القيم المعترف بجلالته على لسان حكماء
العالم قاطبة؟ كلام صحيح لو كان ما قاله النفاة حقا ، فإنه على قولهم لا يكون هذا
الدين القيم قد بين التوحيد الحق أصلا. وحينئذ فنقول : إن التوحيد الذي دعا إليه
هؤلاء الملاحدة هو من أعظم الإلحاد في أسماء الرب وصفاته وأفعاله ، وهو حقيقة
الكفر وتعطيل العالم عن صانعه. وتعطيل الصانع الذي أثبتوه عن صفات كماله. فشرك
عباد الأصنام والأوثان والشمس والقمر والكواكب خير من توحيد هؤلاء بكثير ، فإنه
شرك في الإلهية مع إثبات صانع العالم وصفاته وأفعاله وقدرته ومشيئته وعلمه
بالكليات
__________________
والجزئيات ،
وتوحيد هؤلاء تعطيل لربوبيته وإلهيته وسائر صفاته ، وهذا التوحيد ملازم لأعظم
أنواع الشرك ، ولهذا كلما كان الرجل أعظم تعطيلا كان أعظم شركا.
وتوحيد الجهمية
والفلاسفة مناقض لتوحيد الرسل من كل وجه ، فإن مضمونه إنكار حياة الرب وعلمه وقدرته
وسمعه وبصره وكلامه واستوائه على عرشه ، ورؤية المؤمنين له بأبصارهم عيانا من
فوقهم يوم القيامة ، وإنكار وجهه الأعلى ، ويديه ومجيئه وإتيانه ومحبته ورضاه
وغضبه وضحكه. وسائر ما أخبر به الرسول عنه. ومعلوم أن هذا التوحيد هو نفس تكذيب
الرسول بما أخبر به عن الله ، فاستعار له أصحابه اسم التوحيد .
ثم يقال : لو كان
الحق فيما يقوله هؤلاء النفاة المعطلون لكان قبول الفطر له أعظم من قبولها للإثبات
الذي هو ضلال وباطل عندهم ، فإن الله تعالى نصب على الحق الأدلة والأعلام الفارقة
بين الحق والباطل ، وجعل فطر عباده مستعدة لإدراك الحقائق. ولو لا ما في القلوب من
الاستعداد لمعرفة الحقائق لم يمكن النظر والاستدلال والخطاب والكلام والفهم
والإفهام. كما أنه سبحانه جعل الأبدان مستعدة للاغتذاء بالطعام والشراب ولو لا ذلك
لما أمكن تغذيتها وتربيتها ، فكما أن في الأبدان قوة تفرق بين الغذاء الملائم
والمنافي ، ففي القلوب قوة تفرق بين الحق والباطل أعظم من ذلك ، وخاصية العقل
التفريق بين الحق والباطل ، كما أن خاصة السمع التفريق بين الأصوات حسنها وقبيحها
، وخاصة البصر التمييز بين المرئيات وأشكالها وألوانها ومقاديرها فإذا ادعيتم على
العقول أنها لا تقبل الحق ، وأنها لو صرح لها به لأنكرت ولم تذعن إلى الإيمان. فقد
سلبتم العقول خاصتها وقلبتم الحقيقة التي خلقها الله وفطرها عليها ، وكان نفس ما
ذكرتم أن الرسل لو خاطبت به الناس لنفروا عن الإيمان من أعظم الحجج عليكم : وأنه
مخالف للعقل والفطرة ، كما هو مخالف للسمع والوحي.
__________________
فتأمل هذا الوجه
فإنه كاف في إبطال قولهم. ولهذا إذا أراد أهله أن يدعوا الناس إليه ويقبلوه منهم
وطئوا إليه توطيئات ، وقدموا له مقدمات يثبتوها في القلب درجة بعد درجة ، ولا
يصرحون به أولا ؛ حتى إذا أحكموا ذلك البناء استعاروا له ألفاظا مزخرفة ،
واستعاروا المخالفة ألفاظا شنيعة ، فتجمع تلك تلك المقدمات التي قدموها ، وتلك
الألفاظ التي زخرفوها : وتلك الشناعات التي على من خالفهم شنعوها. فهنالك إن لم
يمسك الإيمان من يمسك السماوات والأرض أن تزولا. وألا ترحل عن القلب ترحل الغيث
استدبرته الريح.
الوجه
الحادي والأربعون : إن لوازم هذا القول معلومة البطلان بالضرورة من دين الإسلام ؛ وهي من أعظم
الكفر ؛ وبطلان الإلزام يستلزم بطلان ملزومه ؛ فإن من لوازمه أنه لا يستفاد من خبر
الرسول عن الله في هذا الباب علم ولا هدى ، ولا بيان الحق في نفسه ، ومن لوازمه أن
يكون كلامه متضمنا لضد ذلك في ظهره وحقيقته. ومن لوازمه القدح في معرفته وعلمه ،
أو في فصاحته وبيانه أو في فصحه وإرادته كما تقدم تقريره مرارا. ومن لوازمه أن
يكون المعطلة النفاة أعلم بالله منه أو أنصح. ومن لوازمه أن يكون أشرف الكتب وأشرف
الرسل قد قصر في هذا الباب غاية التقصير ؛ وأفرط في التجسيم والتشبيه غاية
الإفراط. وتنوع في غاية التنوع. فمرة يقول «أين الله؟» ومرة يقر عليها من سأله ولا
ينكرها ، ومرة يشير بإصبعه ومرة يضع يده على عينه وأذنه حين يخبر عن سمع الرب
وبصره. ومرة يصفه بالمجيء والنزول والإتيان والانطلاق والمشي والهرولة. ومرة يثبت.
له الوجه والعين واليد والأصبع والقدم والرجل والضحك والفرح والرضا والغضب والكلام
والتكليم والنداء بالصوت والمناجاة ورؤيته مواجهة عيانا بالأبصار من فوقهم
ومحاضراته لهم محاضرة ورفع الحجاب بينه وبينهم. وتجليه لهم واستدعاءهم لزيارته
وسلامه عليهم سلاما حقيقيا (قَوْلاً مِنْ رَبٍّ
رَحِيمٍ) (يس : ٥٨)
واستماعه وأذنه لحسن الصوت إذا تلا كلامه. وخلقه ما يشاء بيده. وكتابته كلامه
بيده. ويصفه بالإرادة والمشيئة والقدرة والقوة والحياء. وقبض السماوات وطيها بيده
والأرض بيده الأخرى. ووضعه السماوات على إصبع والأرض
على إصبع والجبال
على إصبع والشجر على إصبع. إلى أضعاف ذلك مما إذا سمعه المعطلة سبحوا الله ونزهوه
جحودا وإنكارا ، لا إيمانا وتصديقا ، كما ضحك منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم تعجبا وتصديقا لقائله وما شهد لقائله بالإيمان شهد له
هؤلاء بالكفر والضلال ، وما أوصى بتبليغه إلى الأمة وإظهاره ، يوصى هؤلاء بكتمانه
وإخفائه ، وما أطلقه على ربه لئلا يطلق عليه ضده ونقيضه ، يطلق عليه هؤلاء ضده
ونقيضه ، وما نزه ربه عنه من العيوب والنقائص ، يمسكون عن تنزيهه عنه. وإن اعتقدوا
أنه منزه عنه ، ويبالغون في تنزيهه عما وصف به نفسه. فتراهم يبالغون أعظم المبالغة
في تنزيهه عن استوائه على عرشه وعلوه على خلقه ، وتكلمه بالقرآن حقيقة ؛ وإثبات
الوجه واليد والعين له ، ما لا يبالغون مثله ولا قريبا منه في تنزيهه عن الظلم
والعبث ؛ والفعل لا لحكمة ، والتكلم بما ظاهره ضلال ومحال. وتراهم إذا أثبتوا ؛
أثبتوا مجملا لا تعرفه القلوب ولا تميز بينه وبين العدم ؛ وإذا نفوا نفوا نفيا
مفصلا يتضمن تعطيل ما أثبته الرسول حقيقة.
فهذا وأضعاف
أضعافه من لوازم قول المعطلة. ومن لوازمه أن القلوب لا تحبه ولا تريده ولا تبتهج
له ولا تشتاق إليه ، ولا تلتذ بالنظر إلى وجهه الكريم في دار النعيم ، صرحوا بذلك
كله. وقالوا. هذا كله إنما يصح تعلقه بالمحدث لا بالقديم. قالوا : وإرادته ومحبته
محال. لأن الإرادة إنما تتعلق بالمعدوم لا بالموجود ، والمحبة إنما تكون لمناسبة
بين المحب والمحبوب ؛ ولا مناسبة بين القديم والمحدث.
ومن لوازمه أعظم
العقوق لأبيهم آدم ، فإن من خصائصه أن الله يخلقه بيده ، فقالوا إنما خلقه بقدرته
، فلم يجعلوا له مزية على إبليس في خلقه.
ومن لوازمه ـ بل
صرحوا به ـ جحدهم خلة إبراهيم الخليل ، وقالوا : هي حاجته وفقره وفاقته إلى الله ،
فلم يثبتوا له بذلك مزية على أحد من الخلق ، إذ كل أحد فقير إلى الله بالذات وإن
غاب شعوره بفقره عن قلبه أحيانا ، فهو يعلم أنه فقير إليه في كل نفس وطرفة عين.
ومن لوازمه ـ بل
صرحوا به ـ أن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما ، وإنما
خلق كلاما في الهواء
أسمعه إياه فكلمه في الريح لا أنه أسمعه كلامه الذي هو صفة من صفاته قائم بذاته ،
لا يصدق الجهمي بهذا أبدا.
ومن لوازمه ـ بل
صرحوا به ـ أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يعرج به إلى الله حقيقة ولم يدن من ربه حتى كان منه قاب
قوسين أو أدنى ، ولم يرفع من عند موسى إلى عند ربه مرارا يسأله التخفيف لأمته. فإن
من ، وإلى ، عندهم في حق الله تعالى محال ، فإنها تستلزم المكان ابتداء وانتهاء.
ومن لوازمه أن
الله تعالى لم يفعل شيئا (ولا يفعل شيئا) فإن الفعل عندهم عين المفعول ، هو غير
قائم بالرب ، فلم يقم به عندهم فعل أصلا ، وسموه فاعلا من غير فعل يقوم به ؛ كما
سموه مريدا من غير إرادة تقوم به ، وسموه متكلما من غير كلام يقوم به ، وسماه
زعيمهم المتأخر عند الله وعند عباده عالما من غير علم يقول به حيث قال : العلم هو
المعلوم كما قالوا الفعل هو المفعول.
ومن لوازمه أنه لا
يسمع ولا يبصر ، ولا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب ولا يبغض ؛ فإذا ذلك من مقولة : أن
ينفك ، وهذه المقولة لا تتعلق به وهي في حقه محال ؛ كما نفوا علوه على خلقه
واستواءه على عرشه بكون ذلك من مقولة الأين وهي ممتنعة عليه ، كما نفوا استواءه
على عرشه. لأن ذلك من مقولة الوضع المستحيل ثبوتها له. ولوازم قولهم اضعاف اضعاف
ما ذكرناه.
الوجه
الثاني والأربعون : إن هؤلاء المعارضين للوحي بآرائهم جعلوا كلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة
المزيفة التي لا يتمسك بها في العلم واليقين.
قال الرازي في «نهايته»
: الفصل السابع في تزييف الطرق الضعيفة وهي أربع : نذكر نفي الشيء انتفاء دليله ،
وذكر القياس ، وذكر الإلزامات. ثم قال : الرابع هو التمسك بالسمعيات. وهذا تصريح
بأن التمسك بكلام الله ورسوله من الطرق الضعيفة المزيفة ، وأخذ في تقرير ذلك فقال
: المطالب على أقسام ثلاثة : منها ما يستحيل العلم بها بواسطة السمع ومنها ما
يستحيل العلم بها إلا السمع ومنها ما يصح حصول العلم بها من السمع تارة ومن العقل
أخرى.
قال : أما القسم
الأول فكل ما يتوقف العلم بصحة السمع على العلم بصحته استحال تصحيحه بالسمع من قبل
العلم بوجود الصانع ، وكونه مختارا وعالما بكل المعلومات وصدق الرسول. قال : وأما
القسم الثاني فهو ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر إذا لم يجده الإنسان من نفسه
ولا يدركه بشيء من حواسه ، وفإن حصول غراب على قلة جبل قاف إذا كان جائز الوجود
والعدم مطلقا ، وليس هناك ما [يقتضي] وجوب أحد طرفيه أصلا وهو غائب عن الحس والنفس
استحال العلم بوجوده إلا من قول الصادق.
وأما القسم الثالث
: فهو معرفة وجوب الواجبات وإمكان الممكنات واستحالة المستحيلات الذي يتوقف العلم
بصحة السمع على العلم بوجوبها وإمكانها واستحالتها مثل مسئلة الرؤية والصفات ،
والوحدانية وغيرها. ثم عدد أمثلة.
ثم قال : إذا عرفت
ذلك فنقول. أما إن الأدلة السمعية لا يجوز استعمالها في الأصول في القسم الأول فهو
ظاهر ، وإلا وقع الدور ، وإما أنه يجب استعمالها في القسم الثاني فهو ظاهر كما
سلف. وأما الثالث فنفي جواز استعمال الأدلة السمعية فيه إشكال ، وذلك لأنا لو
قدرنا قيام الدليل القاطع العقلي على خلاف ما أشعر به ظهر الدليل السمعي فلا خلاف
بين أهل التحقيق بأنه يجب تأويل الدليل السمعي لأنه إذا لم يمكن الجمع بين ظاهر
النقل وبين مقتضى الدليل العقلي ، فإما أن يؤول النقل ، فإن كذبنا العقل مع أن
النقل مع أن لا يمكن إثباته إلا بالعقل فإن الطريق إلى إثبات الصانع ومعرفة النبوة
ليس إلا العقل ، فحينئذ تكون صحة النقل متفرقة على ما يجوز فساده وبطلانه ، فإذا
لا يكون العقل مقطوع الصحة ، فإذا تصحيح النقل يرد العقل ويتضمن القدح في النقل.
وما أدى ثبوته إلى انتفائه كان باطلا ، وتعين تأويل النقل ، فإذا الدليل السمعي لا
يفيد اليقين بوجود مدلوله إلا بشرط أم لا يوجد دليل عقلي على خلاف ظاهره. فحينئذ
لا يكون الدليل النقلي مفيدا للمطلوب إلا إذا تبين انه ليس في العقل ما يقتضي خلاف
ظاهره ، ولا سبيل لنا إلى إثبات ذلك إلا من وجهين : إما أن نقيم دلالة عقلية على صحة
ما أشعر به ظاهر الدليل النقلي
وحينئذ يصير
الاستدلال بالنقل فضله غير محتاج إليه ، وإما بأن نتزيف أدلة المنكرين لما دل عليه
ظاهر النقل ، وذلك ضعيف ، لما بينا من أنه لا يلزم من فساد ما ذكروه إلا أن يكون
هنالك معارض أصلا ، إلا أن نقول أنه لا دليل على هذه المعارضات ، فوجب نفيه لكنا
زيفنا هذه الطريقة ، يعني انتفاء الشيء لانتفاء دليله أو نقيم دلالة قاطعة على أن
المقدمة الفلانية غير معارضة لهذا النص ولا المقدمة الأخرى ، وحينئذ يحتاج إلى
إقامة الدلالة على أن كل واحدة من هذه المقدمات التي لا نهاية لها غير معارضة لهذا
الظاهر.
فثبت أنه لا يمكن
حصول اليقين بعدم ما يقتضي خلاف الدليل النقلي ، وثبت أن الدليل النقلي تتوقف
إفادته لليقين على مقدمة غير يقينية : وهي عدم دليل عقلي. وكل ما تنبئ صحته على ما
لا يكون يقينا لا يكون هو أيضا يقينيا ، فثبت أن الدليل النقلي من هذا القسم لا
يكون مفيدا لليقين.
قال : وهذا بخلاف
الأدلة العقلية فإنها مركبة من مقدمات لا يكتفي منها بأن لا يعلم فسادها ، بل لا
بد وأن يعلم بالبديهة صحتها إذ يعلم بالبديهة لزومها مما علم صحته بالبديهة ، ومتى
كان ذلك استحال أن يوجد ما يعارضه لاستحالة التعارض في العلوم البديهية. ثم قال :
فإن قيل : إن الله سبحانه لما أسمع المكلف الكلام الذي يشعر ظاهره بشيء. فلو كان
في العقل ما يدل على بطلان ذلك الشيء وجب عليه سبحانه أن يخطر ببال المكلف ذلك
الدليل. وإلا كان ذلك تلبيسا من الله تعالى وأنه غير جائز.
قلنا : هذا بناء
على قاعدة الحسن والقبح ، وإنه يجب على الله سبحانه شيء ، ونحن لا نقول بذلك سلمنا
ذلك ، فلم قلتم إنه يجب على الله أن يخطر ببال المكلف ذلك الدليل العقلي؟ وبيانه :
إن الله تعالى إنما يكون ملبسا على المكلف لو اسمعه كلاما يمتنع عقلا أن يريد به
إلا ما أشعر به ظاهره وليس الأمر كذلك ، لأن المكلف إذا سمع ذلك الظاهر فتقدير أن
يكون الأمر كذلك ، لم
يكن مراد الله من
ذلك الكلام ما أشعر به الظاهر ، فعلى هذا إذا أسمع الله المكلف ذلك الكلام فلو قطع
المكلف بحمله على ظاهره مع قيام الاحتمال الذي ذكرناه كان ذلك التقصير واقعا من
المكلف. لا من قبل الله تعالى. حيث قطع لا في موضع القطع ، فثبت أنه لا يلزم من
عدم إخطار الله تعالى ببال المكلف ذلك الدليل العقلي المعارض للدليل السمعي أن
يكون مكلفا ملبسا. قال فخرج بما ذكرنا أن الدلالة النقلية لا يجوز التمسك بها في
باب المسائل العقلية ، نعم يجوز التمسك بها في المسائل النقلية تارة لإفادة اليقين
كما في مسئلة الإجماع وخبر الواحد وتارة لإفادة الظن كما في الأحكام الشرعية ـ
انتهى كلامه.
فليتدبر المؤمن
هذا الكلام أوله على آخره وآخره على أوله ليتبين له ما ذكرناه عنهم من العزل التام
للقرآن والسنة من أن يستفاد منهما علم أو يقين في باب معرفة الله وما يجب له وما
يمتنع عليه. وأنه لا يجوز أن يحتج بكلام الله ورسوله في شيء من هذه المسائل. وإن
الله تعالى يجوز عليه التدليس والتلبيس على الخلق وتوريطهم في طرق الضلال.
وتعريضهم لاعتقاد الباطل والمحال ، وإن العباد مقصرون غاية التقصير إذا حملوا كلام
الله ورسوله على حقيقته ، ونطقوا بمضمون ما أخبر به حيث لم يشكوا في ذلك ، أو قد
يكون في العقل ما يعارضه ويناقضه ، وإن غاية ما يمكن بكلام الله ورسوله عليه من
الجزئيات ما كان مثل الإخبار بأن على قمة جبل قاف غربا صفته كيت وكيت ؛ أو على
مسألة الإجماع وخبر الواحد ، وإن مقدمات أدلة القرآن والسنة غير معلومة ولا متيقنة
الصحة ، ومقدمات أدلة أرسطو صاحب المنطق والفارابي وابن سينا وإخوانهم قطعية
معلومة ولا متيقنة الصحة ، وإنه لا طريق لنا إلى العلم بصحة الأدلة في باب الإيمان
بالله وأسمائه وصفاته البتة ؛ لتوقفها على انتفاء ما لا طريق لنا إلى العلم
بانتفائه. وأن الاستدلال بكلام الله ورسوله في ذلك فضله لا يحتاج إليها ، بل هى
مستغنى عنها إذا كان موافقا للعقل.
فتأمل على البناء
الذي بنوه ، هل في قواعد الإلحاد أعظم هدما منه لقواعد الدين ، وأشد مناقضة منه
لوحي رب العالمين؟ وبطلان هذا الأصل معلوم بالاضطرار من دين جميع الرسل ؛ وعند
جميع أهل الملل.
وهذه الوجوه
المتقدمة التي ذكرناها هى قليل من كثير مما يدل على بطلانه ، ومقصودنا من ذكره
اعترافهم به بألسنتهم لا بإلزامنا لهم به وتمام إبطاله أن نبين فساد كل مقدمة من
مقدمات الدليل الذي عارضوا به النقل أنها مخالفة للعقل كما هي مناقضة للوحي.
والوجه
الثالث والأربعون : إن السمع حجة الله على خلقه ؛ وكذلك العقل ، فهو سبحانه أقام عليهم حجته بما
ركبه فيهم من العقل ؛ وإن ما أنزل إليهم من السمع ما لا يدفعه العقل فإن العقل
الصريح لا يتناقض في نفسه ، كما أن السمع الصحيح لا يتناقض في نفسه. وكذلك العقل
مع السمع ، فحجج الله وبيناته لا تتناقض ولا تتعارض ؛ ولكن تتوافق وتتعاضد ، وأنت
لا تجد سمعا صحيحا عارضه معقول مقبول عند كافة العقلاء أو أكثرهم ، بل العقل
الصريح يدفع المعقول المعارض للسمع الصحيح ؛ وهذا يظهر بالامتحان في كل مسألة عورض
فيها السمع بالمعقول. ونحن نذكر من ذلك مثالا واحدا يعلم به ما عداه فنقول.
قال الفرقة
الجامعة بين التجهم ونفي القدر ، معطلة الصفات : صدق الرسول موقوف على قيام
المعجزة الدالة على صدقه ، وقيام المعجزة الدالة على صدقه ؛ موقوف على العلم بأن
الله لا يؤيد الكذاب بالمعجزة الدالة على صدقه. والعلم بذلك موقوف على العلم بقبحه
وعلى أن الله تعالى لا يفعل القبيح ؛ وتنزيهه عن فعل القبيح موقوف على العلم بأنه
غني عنه عالم بقبحه ، والغني عن القبيح العالم بقبحه لا يفعله ؛ وغناه عنه موقوف
على أنه ليس بجسم ؛ وكونه ليس بجسم موقوف على عدم قيام الأعراض والحوادث به ؛ وهي
الصفات والأفعال ، نفي ذلك موقوف على ما دل عليه حدوث الأجسام ؛ والذي دلنا على
حدوث الأجسام أنها لا تخلو عن الحوادث ، وما لا تخلو عن الحوادث لا يسبقها ، وما
لا يسبق الحوادث فهو حادث. وأيضا فإنها لا تخلو عن الأعراض ، والأعراض لا تبقى
زمانين ، فهي حادثة ، فإذا لم تخل الأجسام عنها لزم حدوثها. وأيضا فإن الأجسام
مركبة من الجواهر الفردة ؛ والمركب مفتقر إلى جزئه وجزؤه غيره ، وما افتقر إلى
غيره لم يكن إلا حادثا مخلوقا ، فالأجسام متماثلة ، كل ما صح
على بعضها صح على
جميعها وقد صح على بعضها التحليل والتركيب والاجتماع والافتراق فيجب ان يصح على
جميعها.
قالوا : وبهذا
الطريق أثبتنا حدوث العالم ونفي كون الصانع جسما وإمكان المعاد. فلو بطل الدليل
الدال على حدوث الجسم بطل الدليل الدال على ثبوت الصانع وصدق الرسول. فصار العلم
بثبوت الصانع وصدق الرسول وحدوث العالم وإمكان المعاد موقوفا على نفي الصفات ،
فإذا جاء السمع ما يدل على إثبات الصفات والأفعال لم يكن القول بموجبه ؛ ويعلم أن
الرسول لم يرد إثبات ذلك. لأن إرادته للإثبات تنافي تصديقه. ثم إما إن كان يكذب
الناقل ، وإما أن يتأول المنقول. وإما أن يعرض عن ذلك جملة ويقول لا يعلم المراد.
فهذا أصل ما بنى
عليه القوم دينهم وإيمانهم. ولم يقيض لهم من يبين لهم فساد هذا الأصل ومخالفته
لصريح العقل ، بل قيض لهم من المنتسبين إلى السنه من وافقهم عليه. ثم أخذ يشنع
عليهم القول بنفي الصفات والأفعال وتكليم الرب لخلقه ورؤيتهم له في الدار الآخرة
وعلوه على خلقه واستوائه على عرشه ونزوله إلى سماء الدنيا. فأضحكهم عليه وأغراهم
به. ونسبوه إلى ضعف العقل والحشو والبله. والمصيبة مركبة من عدوان هؤلاء ونفيهم.
وتقصير أولئك وموافقتهم لهم في الأصل ثم تكفيرهم وتبديعهم.
وهذا الطريق. من
الناس من يظنها من لوازم الإيمان وأن الإيمان لا يتم إلا بها. ومن لم يعرف ربه
بهذه الطريق لم يكن مؤمنا به ولا بما جاء به رسوله. وهذا يقوله الجهمية والمعتزلة
متأخر والأشعرية بل أكثرهم وكثير من المنتسبين إلى الأئمة الأربعة وكثير من أهل
الحديث والصوفية. ومن الناس من يقول : ليس الإيمان موقوفا عليها ولا هي من لوازمه.
وليست طريق الرسل. ويحرم سلوكها لما فيها من الخطر والتطويل وإن لم يعتقد بطلانها.
وهذا قول أبي الحسن الأشعري نفسه. فإنه صرح بذلك في رسالته إلى أهل الثغر ، وبين
أنها طريق خطرة مذمومة محرمة وإن كانت غير باطلة ، ووافقه على هذا جماعة من أصحابه
من أتباع الأئمة.
وقالت طائفة أخرى
، بل هي طريق في نفسها متناقضة مستلزمة لتكذيب الرسول لا يتم سلوكها إلا بنفي ما
أثبته ؛ وهي مستلزمة لنفي الصانع بالكلية ، كما هي مستلزمة لنفي صفاته ونفي أفعاله
، وهي مستلزمة لنفي المبدأ والمعاد ، فإن هذه الطريق لا تتم إلا بنفي سمع الرب
وبصره وقدرته وحياته وإرادته وكلامه فضلا عن نفي علوه على خلقه ، ونفي الصفات
الخبرية من أولها إلى آخرها ، ولا تتم إلا بنفي أفعاله جملة وأنه لا يفعل شيئا
البتة ، إذ لم يقم به فعل فاعل ، وفاعل بلا فعل محال في بداءة العقول. فلو صحت هذه
الطريق نفت الصانع وأفعاله وصفاته وكلامه وخلقه للعالم وتدبيره له. وما يثبته
أصحاب هذه الطريق من ذلك لا حقيقة له ، بل هو لفظ لا معنى له. فأنتم تثبتون ذلك
وتصرحون بنفي لوازمه البينة التي لا عيب فيها وفي لزومها وتثبتون ما لا حقيقة له ،
بل يخالف العقول كما تنفون ما يدل العقل الصريح على إثباته ولوازمه الباطلة أكثر
من مائة لازم ، بل لا يحصى بكلفه.
فأول لوازم هذه
الطريقة نفي الصفات والأفعال ، ونفي العلو والكلام ، ونفي الرؤية ومن لوازمها
القول بخلق القرآن. وبهذا الطريق استجازوا ضرب الإمام أحمد لما قال بما يخالفها من
إثبات الصفات وتكلم الله بالقرآن ورؤيته في الدار الآخرة ، وكان أرباب هذه الطريق
هم المستولين على الخليفة فقالوا له : اضرب عنقه ، فإنه كافر مشبه مجسم ، فقيل له
إنك إن قتلته ثارت عليك العامة. فأمسك عن قتله بعد الضرب الشديد.
ومن لوازمه أن
الرب كان معطلا عن الفعل من الأزل والفعل ممتنع عليه ثم انقلب من الامتناع [الذاتي]
إلى الإمكان الذاتي بدون موجب في ذلك الوقت دون ما قبله ، وهذا مما أغرى الفلاسفة
بالقول بقدم العالم ورأوا أنه خير من القول بذلك ، بل حقيقة هذا القول : إن الفعل
لم يزل ممتنعا منه أزلا وابدا ، إذ يستحيل قيامه به ، وعن هذه الطريق قال جهم ومن
وافقه : بفناء الجنة وفناء أهلها وعدمهم عدما محضا ، وعنها قال أبو الهذيل العلاف
: بفناء حركاتهم دون ذواتهم ، فإذا رفع اللقمة إلى فيه وفنيت الحركات بقيت يده
ممدودة لا تتحرك
ويبقى كذلك أبد
الآبدين ، وعن هذه الطريق قالت الجهمية : إن الله في كل مكان بذاته ، وقال إخوانهم
، إنه ليس في العالم ، ولا خارج العالم ، ولا متصلا به ، ولا منفصلا عنه ولا
مباينا له ولا محايثا له ، ولا فوقه ولا خلفه ، ولا أمامه ، ولا وراءه ، وعنها قال
من قال إن ما نشاهده عن الأعراض الثابتة كالألوان والمقادير والأشكال تتبدل في كل
نفس ولحظة ويخلفها غيرها حتى قال من قال : إن الروح عرض وإن الإنسان يستحدث في كل
ساعة عدة أرواح تذهب له روح ويجيء غيرها. عنها قال من قال : إن جسم انتن الرجيع
وأخبثه مماثل لجسم أطيب في الحد والحقيقة ، لا فرق بينها إلا بأمر عرضي. وأن جسم
النار مساو لجسم الماء في الحد والحقيقة. وعنها قالوا : إن الروائح والأصوات
والمعارف والعلوم. تؤكل وتشرب وترى وتسمع وتلمس ، وأن الحواس الخمس تتعلق بك
موجود. وعنها نفوا عنه تعالى الرضى والغضب والمحبة والرحمة ، والرأفة والضحك
والفرح ، بل ذلك كله إرادة محضة او ثواب منفصل مخلوق. وعنها قالوا : أن الكلام
معنى واحد بالعين ، لا ينقسم ولا يتبعض ، ولا له جزء ولا كل وهو الأمر بكل شيء
مأمور ، والنهي عن كل مخبر عنه. وكذلك قالوا في العلم : إنه أمر واحد فالعلم بوجود
الشيء هو عين العلم بعدمه لا فرق بينها البتة بالتعلق. وكذلك قالوا : إن إرادة
إيجاد الشيء هي نفس إرادة إعدامه ليس هنا إرادة ، كذلك رؤية زيد هي نفس رؤية عمرو.
ومعلوم أن هذا لا يعقل ، بل هو مخالف لصريح العقل.
ومن العجب أنهم لم
يثبتوا بها في الحقيقة صانعا ولا صفة من صفاته ولا فعلا من أفعاله ولا نبوة ولا
مبدأ ولا معادا ولا حكمة ، بل هي مستلزمة لنفي ذلك كله صريحا ولزوما بينا.
وجاء آخرون فرموا
إثبات الصفات والأفعال وموافقتهم في هذه الطريق ، فتجشموا أمرا ممتنعا واشتقوا
طريقة لم يمكنهم الوفاء بها ، فجاءوا بطريق بين النفي والإثبات لم يوافقهم فيها
المعطلة النفاة لم يسلكوا فيها مسلك أهل الإثبات. وظنوا أنهم بذلك يجمعون بين
المعقول والمنقول ، ويصلون في هذه الطريق إلى
تصديق الرسول وصار
كثير من الناس يحب النظر والبحث والمعقول ، وهو مع ذلك يريد أن لا يخرج عما جاء به
الرسول ، ثم أصلوا تأصيلا مستلزما لبطلان التفصيل ، ثم فصلوا تفصيلا على بطلان
الأصل فصاروا حائرين بين التأصيل والتفصيل ، وصار من طرد منهم هذا الأصل خارجا عن
العقل والسمع بالكلية ، ومن لم يطرده متناقضا مضطرب الأقوال. وقد سلك الناس في
إثبات الصانع وحدوث العالم طرقا متعددة سهلة قريبة موصلة إلى المقصود ، لم يتعرضوا
فيها لطريق هؤلاء بوجه.
قال الخطابي :
وإنما سلك المتكلمون هذه الطريقة في الاستدلال بالأعراض مذهب الفلاسفة وأخذوه عنهم
، وفي الأعراض اختلاف كثير ؛ منهم من ينكرها ولا يثبتها رأسا ، ومنهم من لا يفرق
بينها وبين الجواهر في أنها قائمة بنفسها كالجواهر (قلت) ومنهم من يقول بكمونها
وظهورها ومنهم من يقول بعدم بقائها ، ثم سلك طرقا في إثبات الصانع منها الاستدلال
بأحوال الإنسان من مبدئه إلى غايته ، والاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والأجرام
العلوية وغير ذلك ثم قال : والاستدلال بطريق الأعراض لا يصح إلا بعد استبراء هذه
الشبهة ، وطريقنا الذي سلكناه بريء من هذه الآفات سليم من هذه الريب.
(أقوى الطرق لإثبات الصانع سبحانه)
قال : وقد سلك بعض
مشايخنا في هذه الطرق الاستدلال بمقدماتها كإثبات النبوة معجزات الرسالة التي
دلائلها مأخوذ من طريق الحس لمن شاهدها ، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها.
فلما ثبتت النبوة صارت أصلا في وجوب قبول ما دعا الرسول صلىاللهعليهوسلم قال : وهذا النوع مقنع في الاستدلال لمن لم يتسع فهمه
لإدراك وجوه الأدلة ولم يتبين معاني تعلق الأدلة بمدلولاتها ، ولا يكلف الله نفسا
إلا وسعها.
(قلت) وهذه الطريق
من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله وارتباط أدلة هذه الطريق
بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها فإنها جمعت بين
دلالة الحس والعقل. ودلالتها ضرورية
بنفسها ولهذا
يسميها الله تعالى آيات بينات ، وليس في طرق الأدلة أوثق ولا أقوى منها. فإن
انقلاب عصا تقلها اليد ثعبانا عظيما يبتلع ما يمر به ثم يعود عصا كما كانت ، من
أدل دليل على وجود الصانع ، وحياته وقدرته ومشيئته. إرادته وعلمه بالكليات
الجزئيات ؛ وعلى رسالة الرسول ، وعلى المبدأ والمعاد ، فكل قواعد الدين في هذه
العصا وكذلك اليد ؛ وفلق البحر طرقا ، والماء قائم بينهما كالمحيطان ، ونتق الجبل
من موضعه ورفعه على قدر العسكر العظيم فوق رءوسهم ، وضرب حجر مربع بعصا فتسيل منه
اثنتا عشرة عينا تكفي أمة عظيمة.
وكذلك سائر آيات
الأنبياء كإخراج ناقة عظيمة من صخرة تمخضت بها ثم انصدعت عنها والناس حولها
ينظرون. وكذلك تصوير طائر من طين ثم ينفخ فيه النبي فينقلب طائرا ذا لحم ودم وريش
وأجنحة يطير بمشهد من الناس. وكذلك إيماء الرسول إلى القمر فينشق نصفين بحيث يراه
الحاضر والغائب ويخبر به كما رآه الحاضرين. وأمثال ذلك مما هو أعظم الأدلة على
الصانع وصفاته وأفعاله وصدق رسله واليوم الآخر. وهذه من طرق القرآن التي أرشد
إليها عباده ودلهم بها ، كما دلهم بما يشاهدونه من أحوال الحيوان والنبات والمطر
والسحاب الحوادث التي في الجو وأحوال العلويات من السماء والشمس والقمر والنجوم ،
وأحوال النطفة وتقبلها طبقا بعد طبق ، حتى صارت إنسانا سميعا بصيرا حيا متكلما
عالما قادرا يفعل الأفعال العجيبة ويعلم العلوم العظيمة. وكل طريق من هذه الطرق
أصح وأقرب وأوصل من طرق المتكلمين التي لو صحت لكان فيها من التطويل والتعقيد
والتعسير ما يمنع الحكمة الإلهية والرحمة الربانية ، أن يدل بها عباده عليه وعلى
صدق رسله وعلى اليوم الآخر. فأين هذه الطريق العسرة الباطلة المستلزمة لتعطيل الرب
عن صفاته وأفعاله وكلامه وعلوه على خلقه وسائر ما أخبر به عن نفسه ، وأخبر به عنه
رسوله صلىاللهعليهوسلم إلى طرق القرآن التي هى ضد هذه الطريق من كل وجه ، وكل
طريق منها كافية شافية هادية.
هذا ؛ إن القرآن
وحده لمن جعل الله نورا أعظم آية ودليل على هذه المطالب ،
وليس في الأدلة
أقوى ولا أظهر ولا أصح دلالة منه من وجوه متعددة. فأدلته مثل ضوء الشمس للبصر ، لا
يلحقها إشكال ، ولا يغير في وجه دلالتها إجمال ، ولا يعارضها تجويز واحتمال ، تلج
الأسماع بلا استئذان ، وتحل من المعقول محل الماء الزلال من الصادي الظمآن ، لا
يمكن أحد أن يقدح فيها قدحا يوقع في اللبس ، إلا إن أمكنه أن يقدح بالظهيرة صحوا
في طلوع الشمس. ومن عجيب شأنها أنها تستلزم المدلول استلزاما بينا وتنبه على جواب
المعترض تنبيها لطيفا. وهذا الأمر إنما هو لمن نور الله بصيرته وفتح عين قلبه
لأدلة القرآن فلا تعجب من منكر أو معترض أو معارض.
وقل للعيون
العمى للشمس أعين
|
|
سواك تراها في
مغيب ومطلع
|
وسامح نفوسا
أطفأ الله نورها
|
|
بأهوائها لا
تستفيق ولا تعي
|
فأي دليل على الله
أصح من الأدلة التي تضمنها كتابه؟ كقوله تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ
فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (إبراهيم : ١٠)
وقوله : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ
بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ
ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (البقرة : ٢٨)
وقوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي
تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ
مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ
دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ
وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) (البقرة : ١٦٤)
وما لا يحصى من الآيات الكريمات.
الوجه
الرابع والأربعون : أنك إذا أخذت لوازم المشترك المطلق والمقيد والمميز ، وميزت هذا من هذا صح
نظرك ومناظرتك. ذلك أن الصفة تلزمها لوازم من حيث هي ، فهذه اللوازم يجب إثباتها
ولا يصح نفيها ، إذ نفيها ملزوم لنفي الصفة. مثاله : الفعل والإدراك للحياة ، فإن
كل حي فاعل مدرك ، وإدراك المسموعات بصفة السمع ، وإدراك المبصرات بصفة البصر وكشف
المعلومات بصفة العلم والتمييز لهذه الصفات. فهذه اللوازم يمتنع رفعها عن الصفة ،
فإنها ذاتية لها ، ولا ترتفع إلا برفع الصفة ، ويلزمها لوازم من حيث كونها صفة
القديم ،
مثل كونها واجبة قديمة
عامة التعلق ، فإن صفة العلم واجبة لله قديمة غير حادثة ، متعلقة بكل معلوم على
التفصيل. وهذه اللوازم منتفية عن العلم الذي هو صفة للمخلوقين ، ويلزمها لوازم من
حيث كونها ممكنة حادثة بعد أن لم تكن مخلوقة غير صالحة للعموم مفارقة له. فهذه
اللوازم يستحيل إضافتها إلى القديم. واجعل هذا التفضيل ميزانا لك في جميع الصفات
والأفعال ، واعتصم به في التشبيه والتمثيل ، وفي بطلان النفي والتعطيل. واعتبره في
العلو والاستواء تجد الصفة يلزمها كون العالي فوق السافل في القديم والحديث ، فهذا
الإلزام حق لا يجوز نفيه ، ويلزمها كون السافل حاويا للأعلى محيطا به حاملا له ،
والأعلى مفتقرا إليه ، وهذا في بعض المخلوقات ، لا في كلها ، بل بعضها لا يفتقر
فيه الأعلى إلى أسفل ، ولا يحويه الأسفل ولا يحيط به ولا يحمله. كالسماء مع الأرض
فالرب تعالى أجل شأنا وأعظم أن يلزم من علوه من خصائصه ، وهي حمله السافل وفقر
السافل إليه! وغناه سبحانه عنه وإحاطته عزوجل به ؛ فهو فوق العرش ، وعدم إحاطة العرش به ؛ وحصره للعرش ،
وعدم حصر العرش له. وهذه اللوازم منتفية عن المخلوقين ، ولو ميز أهل التعطيل هذا
التمييز لهدوا إلى سواء السبيل ، ولما فارقوا الدليل.
(منشأ الضلال الّذي قاد إلى التعطيل)
الوجه
الخامس والأربعون : إن الأصل الذي قادهم إلى التعطيل ، واعتقاد المعارضة بين الوحي والعقل أصل
واحد ، وهو منشأ ضلال بني آدم ، وهو الفرار من تعدد صفات الواحد وتكثر أسمائه
الدالة على صفاته وقيام الأمور المتجددة به ، وهذا لا محذور فيه ، بل هو الحق لا
يثبت كونه سبحانه ربا وإلها وخالقا إلا به ، ونفيه جحد للصانع بالكلية. وهذا القدر
اللازم لجميع طوائف أهل الأرض على اختلاف مللهم وعلومهم ، حتى لمن أنكر الصانع
بالكلية وأنكره رأسا ، فإنه يضطر إلى الإقرار بذلك وإن قام عنده ألف شبهة أو أكثر
على خلافه. وأما من أقر بالصانع فهو مضطرا إلى أن يقر بكونه حيا عالما قادرا مريدا
حكيما فعالا ، ومع
إقراره بذلك فقد اضطر إلى القول بتعدد صفات الواحد ، وتكثر أسمائه وأفعاله ، فلو
تكثرت لم يلزم من تكثرها وتعددها محذور بوجه من الوجوه.
(وإن قال) أنا
أنفيها بالجملة ولا أثبت تعددها بوجه (قيل له) فهو هذه الموجودات أو غيرها (فإن
قال) غيرها (قيل) هو خالقها أم لا؟ (فإن قال) هو خالقها (قيل له) هو قادر عليها
عالم بها مريد لها أم لا؟ (فإن قال نعم هو كذلك ، اضطر إلى تعدد صفاته وتكثرها ،
إن نفي ذلك كان جاحدا للصانع بالكلية. ويستدل عليه بما يستدل على الزنادقة الدهرية
، ويقال لهم ما قالت الرسل لأممهم : أفي الله شك؟ وهل يستدل عليه بدليل هو أظهر
للعقول من إقرارها به وبربوبيته).
وليس يصح في
الأذهان شيء
|
|
إذا احتاج
النهار إلى دليل
|
(فإن قال) أنا أثبته موجودا واجب
الوجود لا صفة له (قيل له) فكل موجود على قولك أكمل منه ، وضلال اليهود والنصارى
وعباد الأصنام أعرف به منك ، وأقرب إلى الحق والصواب منك وإما فرارك من قيام
الأمور المتجددة به ففررت من أمر لا يثبت كونه إلها وربا وخالقا إلا به ولا يقتدر
كونه صانعا لهذا العالم مع نفيه أبدا ؛ وهو لازم لجميع طوائف أهل الأرض ، حتى
الفلاسفة الذين هم أبعد الخلق من إثبات الصفات. ولهذا قال بعض عقلاء الفلاسفة :
إنه لا يتقرر كونه رب العالمين إلا بإثبات ذلك ، قال : والإجلال من هذا الإجلال
واجب والتنزيه من هذا التنزيه متعين. قال بعض العلماء : وهذه المسألة يقوم عليها
قريب من ألف دليل عقلي وسمعى والكتب الإلهية والنصوص النبوية ناطقة بذلك ، وإنكار
لما علم بالضرورة من دين الرسل أنهم جاءوا به.
(ونحن نقول) إن كل
سورة من القرآن تتضمن إثبات هذه المسألة ، وفيها أنواع من الأدلة عليها فأدلتها
تزيد على عشرة آلاف دليل فأول سورة في القرآن تدل عليها من وجوه كثيرة ، وهي سورة
أم الكتاب ، فإن قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يدل عليها ، فإنه سبحانه يحمد على أفعاله كما حمد نفسه في
كتابه ، وحمده
عليها رسله
وملائكته والمؤمنون من عباده ، فمن لا فعل له البتة كيف يحمد على ذلك؟ فالأفعال هي
المقتضية للحمد ، ولهذا تجده مقرونا بها كقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (الإنعام : ١) ، (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) (الأعراف : ٤٣) (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ) (الكهف : ١).
الثاني قوله : (رَبِّ الْعالَمِينَ) وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له وإنفاذ أمر كل
وقت فيه ، وكونه معه كل ساعة في شأن : يخلق ويرزق ويحيي ويميت ويخفض ويرفع ويعطي
ويمنع ويعز ويذل ، ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته ، وإنكار ذلك إنكار لربوبيته
وإلهيته وملكه.
الثالث (الرَّحْمنِ
الرَّحِيمِ) وهو الذي يرحم بقدرته ومشيئته من لم يكن له راحما قبل ذلك.
الرابع ، قوله : (مالِكِ يَوْمِ
الدِّينِ) والملك هو المتصرف فيما هو ملك عليه ومالك له. ومن لا تصرف
له ولا يقوم به فعل البتة لا يعقل له ثبوت ملك.
الخامس قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ
الْمُسْتَقِيمَ) فهذا سؤال الفعل يفعله لهم لم يكن موجودا قبل ذلك ، وهي
الهداية التي هي فعله.
السادس قوله : (صِراطَ الَّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) وفعله القائم به وهو الإنعام فلو لم يقم به فعل الأنعام لم
يكن للنعمة وجود البتة.
السابع قوله : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ
عَلَيْهِمْ) وهم الذين غضب الله عليهم بعد ما أوجدهم وقام بهم سبب
الغضب. إذ الغضب على المعدوم محال. وقد ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم «أن العبد إذا قال :
الحمد لله رب العالمين يقول الله تعالى : حمدني عبدي ، وإذا قال الرحمن الرحيم. قال
الله تعالى : أثنى علي عبدي ، فإذا قال : مالك يوم الدين ، قال الله تعالى : مجدني
عبدي ، وإذا قال : إياك نعبد وإياك نستعين ، قال الله تعالى : هذا بيني وبين عبدي
نصفين ، نصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل» فهذه أدلة من الفاتحة وحدها.
__________________
فتأمل أدلة الكتاب
العزيز على هذا الأصل تجدها فوق عد العادين ، حتى إنك تجد في الآية الواحدة على
اختصار لفظها عدة أدلة كقوله تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) ففي هذه الآية عدة أدلة :
(أحدهما) قوله : «إنما
أمره» ؛ وهذا أمر التكوين الذي لا يتأخر عنه أمر المكون بل يعقبه (الثاني) «إذا أراد شيئا». (وإذا) تخلص الفعل للاستقبال
(الثالث)
«أن يقول له كن فيكون» (وإن) تخلص المضارع للاستقبال (الربع) «أن يقول» فعل
مضارع إما للحال وإما للاستقبال (الخامس) قوله : «كن» وهما حرفان يسبق أحدهما الآخر يعقبه الثاني (السادس) قوله : «فيكون». والفاء للتعقيب يدل على أنه يكون عقب قوله
: «كن» سواء لا يتأخر عنه.
وقوله تعالى : (وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا
وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ) (الأعراف : ١٤٣)
فهو سبحانه إنما كلمه ذلك الوقت. وقوله تعالى : (وَنادَيْناهُ) (الصافات : ١٠٤) (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ) (القصص : ٦٢) ،
وقوله : (وَناداهُما رَبُّهُما
: أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ؟) (الأعراف : ٢٢)
فالنداء إنما حصل ذلك الوقت.
وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ) (البقرة : ٢١٠) (وَجاءَ رَبُّكَ) ، (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى
الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤) (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) (الإسراء : ١٦) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (البروج : ١٦) (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا
يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (النساء : ٢٧) (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ) (النساء : ٢٨) (وَاللهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ
عَلَيْكُمْ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ
وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي
الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا
يَحْذَرُونَ) (القصص : ٥ ، ٦) (وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ
يَهْدِي السَّبِيلَ) (الأحزاب : ٤) (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي
زَوْجِها
وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) (المجادلة : ١) (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (الرحمن : ٢٩)
وهذا عند النفاة لا حقيقة له. بل الشئون للمفعولات. وأما هو فله شأن واحد قديم.
فهذه الأدلة السمعية وأضعاف أضعافها مما يشهد به صريح العقل ؛ فإنكار ذلك وإنكار
تكثر الصفات وتعدد الأسماء هو أفسد للعقل والنقل وأفتح باب المعارضة.
الوجه
السادس والأربعون : أن يقال لهؤلاء المعارضين للوحي بعقولهم : إن من أئمتكم من يقول : إنه ليس في
العقل ما يوجب تنزيه الرب سبحانه عن النقائص ، ولم يقم على ذلك دليل عقلي أصلا ،
صرح به الرازي ؛ وتلقاه عن الجوني وأمثاله ، قالوا : وإنما نسيا عنه النقائص
بالإجماع ؛ وقد قدح الرازي وغيره من النفاة في دلالة الإجماع ، وبينوا أنها ظنية
لا قطعية ، فالقوم ليسوا قاطعين بتنزيه الله عن النقائص بل غاية ما عندهم في ذلك
الظن.
فيا أولى الألباب
؛ كيف تقوم الأدلة القطعية على نفي صفات الله ونعوت جلاله وعلوه على خلقه واستوائه
على عرشه ؛ وتكلمه بالقرآن حقيقة وتكلمه لموسى ، حتى يدعى ان الأدلة السمعية على
ذلك قد عارضها صريح العقل ، وأما تنزيهه عن العيوب والنقائص فلم يقم عليه دليل
عقلي ولكن علمناه بالإجماع ، وقلتم إن دلالته ظنية؟ ويكفيك في فساد عقل معارض
الوحي إنه لم يقم عنده دليل عقلي على تنزيه ربه عن العيوب والنقائص.
الوجه
السابع والأربعون : إن الله تعالى جعل بعض مخلوقاته عاليا على بعض ولم يلزم من ذلك مماثلة العالي
للسافل ومشابهته له ، فهذا الماء فوق الأرض ، والهواء فوق الماء ، والنار فوق
الهواء ، والأفلاك فوق ذلك. وليس عاليها مماثلا لسافلها. والتفاوت الذي بين الخالق
والمخلوق أعظم من التفاوت الذي بين المخلوقات ، فكيف يلزم من علوه تشبيهه بخلقه.
(فإن قلتم) وإن لم
يلزم التشبيه لكن يلزم التجسيم (قيل) انفصلوا أولا عن قول المعطلة للصفات : لو كان
له سمع أو بصر أو حياة أو علم أو قدرة أو كلام لزم التجسيم. فإذا انفصلتم منهم ؛
فإن أبيتم إلا الجواب قيل لكم ، ما تعنون بالتجسيم؟ أتعنون به العلو على العالم
والاستواء على العرش ، وهذا حاصل قولكم؟ وحينئذ فما زدتم على إبطال ذلك بمجرد
الدعوى التي اتحد فيها اللازم والملزوم بتقرير العبارة : وكأنكم قلتم : لو كان فوق
العالم مستويا على عرشه لكان فوق العالم ، ولكنكم لبستم وأوهمتم.
وإن عنيتم بالجسم
المركب من الجواهر الفردة. فجمهور العقلاء ينازعونكم في إثبات الجواهر الفردة فضلا
عن تركيب الأجسام من ذلك ، فأنتم أبطلتم هذا التركيب الذي تدعيه الفلاسفة ، وهم
أبطلوا التركيب الذي تدعونه من الجواهر الفردة ، وجمهور العقلاء ابطلوا هذا وهذا.
فإن كان هذا غير لازم في الأجسام المحسوسة المشاهدة ؛ بل هو باطل فكيف يدعى لزومه
فيمن ليس كمثله شيء. وإن منيتم بالتجسيم تميز شيء منه عن شيء قيل لكم انفصلوا أولا
عن قول نفاة الصفات : لو كان له سمع وبصر وحياة وقدرة لزم أن يتميز منه شيء عن شيء
وذلك عين التجسيم ؛ فإذا انفصلتم عنه أجبناكم بما تجيبونهم به ؛ فإن أبيتم إلا
الجواب منا ؛ قلنا لكم : إنما قام الدليل على إثبات إله قديم عنى بنفسه عن كل ما سواه
، وكل ما سواه فقير إليه. وكل أحد محتاج إليه. وليس محتاجا إلى أحد ؛ ووجود كل أحد
يستفاد منه ، ووجوده ليس مستفادا من غيره ؛ ولم يقم الدليل على استحالة تكثر أوصاف
كماله وتعدد أسمائه الدالة على صفاته وأفعاله ، بل هو إله واحد ورب واحد. وإن
تكثرت أوصافه وتعددت أسماؤه.
* * *
(فصل)
(اتفاق الفلاسفة والحكماء على علو الله عزوجل)
أخبر الناس
بمقالات الفلاسفة قد حكى اتفاق الحكماء على أن الله والملائكة في السماء كما اتفقت
على ذلك الشرائع ، وورد ذلك بطريق عقلي من جنس تقرير ابن كلاب. الحارث الحاسبي.
وأبي العباس القلانسي وأبي الحسن الأشعري. والقاضى أبي بكر الباقلانى. وأبي الحسن
بن الزاغوني. وغيرهم ممن يقول إن الله فوق العرش وليس مجسم. قال هؤلاء : إثبات صفة
العلو والفوقية له سبحانه لا يوجب الجسمية. بل ولا إثبات المكان ـ وبنى الفلاسفة
ذلك على ما ذكره ابن رشد : أن المكان هو السطح الباطن من الجسم الحاوي الملاقي
للسطح الظاهر من الجسم المحوى فكان الإنسان عندهم هو باطن الهواء المحيط به وكل
سطح باطن فهو مكان للسطح الظاهر مما يلاقيه. ومعلوم أنه ليس وراء الأجسام سطح جسم
باطن يحوي شيئا ؛ فلا مكان هناك إذ لو كان هناك مكان حاوى لسطح الجسم لكان الحاوي
جسما ، ولهذا قال فإذا قام البرهان على وجود موجود في هذه الجهة ، فواجب أن يكون
غير جسم فالذى يمتنع وجوده هناك هو وجود جسم لا وجود ما ليس بجسم ؛ وقرر إمكان ذلك
كما قرر إثباته بما ذكر من أنه لا بد من نسبة بينه وبين العالم المحسوس فيجب أن يكون
في جهة العلو والذي يمكن منازعوه من الفلاسفة والجهمية والمعتزلة أن يقولوا : لا
يمكن أن يوجد هناك شيء لا جسم ولا غير جسم أما غير الجسم فلما ذكر وأما الجسم فلأن
كونه مشارا إليه بأنه هناك يستلزم أن يكون جسما وحينئذ فيقول هؤلاء المثبتون لمن
ينازعهم في ذلك : وجود موجود قائم بنفسه ليس وراء أجسام العالم ولا داخلا في
العالم إما أن يكون ممكنا أو لا يكون ، فإن لم يكن ممكنا بطل قولكم ، وإن كان
ممكنا فوجود وراء أجسام للعالم وليس بجسم أولى بالجواز. ثم إذا عرضنا على العقل
وجود موجود قائم بنفسه لا فى العالم ولا خارجا عنه ولا يشار إليه وعرضنا عليه وجود
موجود يشار إليه فوق العالم ليس بجسم كان
إنكار العقل للأول
القبول وجب قبول الثاني وإن كان الثاني مردودا وجب رد الأول ولا يمكن العقل الصريح
أن يقبل الأول ويرد الثاني أبدا.
(فصل) ثم أنه
سبحانه لو لم تقبل الإشارة الحسية إليه كما أشار إليه النبي صلىاللهعليهوسلم حسا بإصبعه بمشهد الجمع الأعظم وقبل ممن شهد لها بالإيمان الإشارة الحسية إليه فإما أن يقال : إنه يقبل الإشارة المعنوية فقط أو لا
يقبلها أيضا كما لا يقبل الحسية. فإن لم يقبل لا هذه ولا هذه ، فهو عدم محض ، بل
العدم المقيد المضاف يقبل الإشارة المعنوية دون الحسية ، وإن قبل الإشارة الحسية
لزم أن يكون معني المعاني ، لا ذاتا خارجية. وهذا مما لا حيلة في دفعه. فمن أنكر
جواز الإشارة الحسية إليه فلا بد له من أحد أمرين : إما أن يجعله معدوما أو معنى
من المعانى. لا ذاتا قائمة بنفسها.
الوجه
الثامن والأربعون : إن من أعجب العجب أن هؤلاء الذين فروا من القول بعلو الله واستوائه على عرشه
خشية التشبيه والتجسيم قد اعترفوا بأنه لا يمكنهم إثبات الصانع إلا بنوع من
التشبيه والتمثيل ، كما قال الآمدي في مسألة حدوث الأجسام ، لما ذكر شبه القائلين
بالقدم ، قال : الوجه العاشر : لو كان حدثا ، فمحدثه إما أن يكون مساويا له من كل
وجه ؛ أو مخالفا له من كل وجه ، أو مماثلا له من وجه مخالفا له من وجه ، فإن كان
الأول فهو حادث ، والكلام فيه كالكلام في الأول ، ويلزم التسلسل الممتنع. وإن كان
الثاني ، فالمحدث له ليس بموجود ، وإلا لما كان مخالفا له من كل وجه ، وهو خلاف
الفرض ، وإذا لم يكن موجودا امتنع أن يكون مفيدا للوجود ، وإن كان الثالث ، فمن
جهة ما هو مماثل للحادث يجب أن يكون حادثا. والكلام فيه كالأول ، وهو التسلسل
المحال ، وهذه المحالات إنما نشأت من القول بكونه محدثا للعالم.
__________________
قال : والجواب عن
هذه الشبهة أن المختار من أقسامها إنما هو القسم الثالث ، ولا يلزم من كون القديم
مماثلا للحادث من وجه أن يكون مماثلا للحادث من جهة كونه حادثا بل لا مانع من
الاختلاف بينهما صفة القدم والحدوث. وإنما تماثلا بأمر آخر وهذا كالسواد والبياض
يختلفان من وجه دون وجه لاستحالة اختلافهما من كل وجه ، وإلا لما اشتركا في
العرضية والكونية والحدوث ، ولاستحالة تماثلهما من كل وجه ؛ وإلا كان السواد بياضا
؛ ومع ذلك فما لزم من مماثلة السواد للبياض من وجه أن يكون مماثلا له في صفة
البياضية.
فيقال : يا لله
العجب : هلا قبلتم هذا الجواب في إثبات علو الله على خلقه واستوائه على عرشه
وإثبات صفات كماله كلها ، وأجبتم بهذا الجواب من قال لكم من المعطلة والنفاة : لو
كان له صفات لزم مماثلته للمخلوقات؟ ولم لا تقنعون من أهل السنة المثبتين لصفات
كماله بمثل هذا الجواب الذي أجبتم به من أنكر حدوث العالم؟ بل إذا أجابوكم به
قلبتم لهم ظهر المجن وصرحتم بتكفيرهم وتبديعهم ، وإذا أجبتم أنتم به بعينه كنتم
موحدين.
يقال : هل للرب
ماهية متميزة عن سائر الماهيات يختص بها لذاته ، أم تقولون لا ماهية له؟ فإن قلتم
بالثاني كان هذا إنكارا له وجحودا ؛ أو جعله وجودا مطلقا لا ماهية له. وإن قلت :
بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائر الذوات والماهيات. قيل لكم : فماهيته
وذاته غير متناهية بل ذاهبة في الإبعاد إلى غير نهاية ، أم متناهية؟ فإن قلتم
بالأول ؛ لزم منه محالات غير واحدة. وإن قلتم بالثاني ، بطل قولكم ، ولزم إثبات
المباينة والجهة ، وهذا لا محيد عنه. وإن قلتم : لا نقول له ماهية ولا ليست له
ماهية ، قيل : لا يليق بالعقول المخالفة لما جاءت به الرسل إلا هذا المحال والباطل
، وإن قلتم بل له ذات مخصوصة وماهية متميزة عن سائرت الماهيات ، ولا نقول : إنها
متناهية ولا غير متناهية ، لأنها لا تقبل واحدا من الأمرين. قيل : التناهي وعدم
التناهي يتقابلان تقابل السلب والإيجاب ، فلا واسطة بينهما ، كما لا واسطة بين
الوجود والعدم ، والقدم والحدوث ، والسبق والمقارنة ، والقيام بالنفس والقيام
بالغير ، وتقدير قسم آخر لا يقبل واحدا من الأمرين تقدير ذهني يفرضه الذهن كما
يفرض
سائر المحالات ولا
يدل ذلك على وجوده في الخارج ولا إمكانه ، ألا ترى أن قائلا لو قال : التقسيم
يقتضي أن المعلوم إما قديم وإما حادث وإما قديم حادث وإما لا قديم ولا حادث كان
التقسيم ذهنيا لا خارجيا وإن سلب النقيضين في ذلك كله في الإحالة كإثبات النقيضين؟
(فصل) يقال : ذاته
سبحانه ؛ إما أن تكون قابلة العلو على العالم ، أو لا تكون قابلة فإن كانت قابلة
وجب وجود المقبول لأنه صفة كمال ، وإلا لم تقبله ، لأن قبولها لذلك هو من لوازمها
كقبول الذات للعالم والحياة والقدرة والسمع والبصر فوجدوا هذا إلزاما للذات ضرورة
، ولأنها إذ قبلته فلو لم تتصف به لاتصفت بضده ، وهو نقص يتعالى الله ويتقدس عنه.
إن لم تكن قابلة للعلو لزم أن يكون قابل لعلو أكمل منها ؛ لأن ما يقبل أن يكون
عاليا ، وإن لم يكن عاليا أكمل ممن لا يقبل العلو وما قبله وكان عاليا أكمل ممن
قبله لم يكن عاليا. فالمراتب ثلاثة : أدناها ما لا يقبل العلو وأعلاها ما قبله
واتصف به. والذي يوضح ذلك : أن ما لا يقبل أن يكون فوق غيره ولا عاليا عليه ؛ إما
أن يكون عرضا من الأعراض لا يقوم بنفسه ، ولا يقبل أن يكون عاليا على غيره وإما أن
يكون أمرا عدميا لا يقبل ذلك ، وأما إثبات ذات قائمة بنفسها متصفة بالسمع والبصر
والقدرة والحياة والإرادة والعلم والفعل. ومع ذلك لا تقبل أن تكون عالية على غيرها
، فهذا بإمكان تصوره قبل التصديق بوجوده وليس مع من ادعى إمكانه إلا الكليات ،
وكلاهما وجوده
ذهني لا وجود له
في الخارج وإلا فما له وجود خارجي ، وهو قائم بنفسه له ذات يختص بها عن سائر
الذوات موصوف بصفات الحى الفعال لا يمكن إلحاقه بالكليات والمجردات التي هي خيالات
ذهنية لا أمور خارجية ، وقد اعترف المتكلمون بأن وجود الكليات والمجردات إنما هو
في الأذهان لا في الأعيان.
* * *
فصل
الجهمية المعطلة
معترفون بوصفه تعالى بعلو القهر وعلو القدر ، وأن ذلك كمالا لا نقص ، وأنه من
لوازم ذاته ، فيقال : ما أثبتم به هذين النوعين من
العلو والفوقية هو
بعينه حجة خصومكم عليكم في إثبات علو الذات له سبحانه ، وما نقيم به علو الذات
يلزمكم أن تنفوا به ذينك الوجهين من العلو ، فأحد الأمرين لازم لكم ولا بد ، إما
أن تثبتوا له سبحانه العلو المطلق من كل وجه ذاتا وقهرا وقدرا ، وإما أن تنفوا ذلك
كله ، فإنكم إنما نفيتم علو ذاته سبحانه بناء على لزوم التجسيم ، وهو لازم فيما
أثبتموه من وجهي العلو ، فإن الذات القاهرة لغيرها التي هي أعلى قدرا من غيرها. إن
لم يعقل كونها غير جسم لزمكم التجسيم وإن عقل كونها غير جسم فكيف لا يعقل أن تكون
الذات العالية على سائر الذوات غير جسم؟ وكيف لزم التجسيم من هذا العلو ولم يلزم
من ذلك العلو؟
(فإن قلتم) لأن
هذا العلو يستلزم تميز شيء عن شيء منه (قيل لكم) في الذهن أو في الخارج؟ فإن قلتم
: في الخارج ، كذبتم وافتريتم وأضحكتم عليكم العقلاء ، وإن قلتم في الذهن ، فهو
للإلزام لكل من أثبت للعالم ربا خالقا. ولا خلاص من ذلك إلا بإنكار وجوده رأسا.
يوضحه : أن
الفلاسفة لما أوردوا عليكم هذه الحجة بعينها في نفس الصفات أجبتم عنها بأن قلتم :
واللفظ للرازي في نهايته ، فقال : قوله : يلزم من إثبات الصفات وقوع الكثرة في
الحقيقة الإلهية ، فتكون تلك الحقيقة ممكنة ـ قلنا إن عنيتم به احتياج تلك الحقيقة
إلى سبب خارجي فلا يلزم احتياج تلك الصفات إلى الذات الواجبة لذاتها ، وإن عنيتم
به توقف الصفات في ثبوتها على تلك الذات المخصوصة بذلك مما يلزمه : فأين المحال؟
قال : وأيضا فعندكم الإضافات صفات وجودية في الخارج ، فيلزمكم ما ألزمتمونا في
الصفات في الصور المرتسمة في ذاته من المعقولات. قال : ومما يحقق فساد قول
الفلاسفة أنهم قالوا : إن الله عالم بالكليات وقالوا : إن العلم بالشيء عبارة عن
حصول صورة مساوية للمعلوم في العالم ، وقالوا : إن صورة المعلومات موجودة في ذات
الله ؛ حتى ابن سينا قال : إن تلك الصفة إذا كانت غير داخلة في الذات كانت من
لوازم الذات من كان هذا مذهبا له ، كيف يمكنه أن ينكر الصفات؟ قال :
وفي الجملة فلا
فرق بين الصفاتية وبين الفلاسفة ، لأن الصفاتية يقولون : إن الصفات قائمة بالذات
والفلاسفة يقولون : هذه الصفات صور عقلية عوارض متقومة بالذات ، والذي يسميه الصفاتي
صفة يسميه الفلسفي عارضا ، والذي يسميه الصفاتي قياما يسميه الفيلسوف قواما ومقوما
ولا فرق إلا في العبارات ، إلا فلا فرق في المعنى. هذا لفظه.
فيقول له مثبتوا
العلو : هلا قنعت منا بهذا الجواب بعينه حتى قلت يلزم من علوه أن يتميز منه شيء عن
شيء ، ويلزم وقوع الكثيرة في الحقيقة الإلهية ، وتكون قد وافقت السمع ونصوص
الأنبياء وكتب الله كلها وأدلة العقول والفطر الصحيحة وإجماع أهل السنة قاطبة؟
هذه الحجة العقلية
القطعية وهي الاحتجاج بكون الرب قائما بنفسه على كونه مباينا للعلم ، وذلك ملزوم
لكونه فوقه عاليا عليه بالذات ، لما كانت حجة صحيحة لا يمكن مدافعتها ، وكانت مما
ناظر بها الكرامية أبا إسحاق الأسفرائيني فر أبو إسحاق إلى كون الرب قائما بنفسه بالمعنى المعقول ،
وقال : لا نسلم أنه قائم بنفسه إلا بمعنى أنه عنى عن المحل ، فجعل قيامه بنفسه
وصفا عدميا لا ثبوتيا ، وهذا لازم لسائر المعطلة النفاة لعلوه ، ومن المعلوم أن
كون الشيء قائما بنفسه أبلغ من كونه قائما بغيره. وإذا كان القيام العرض بغيره
__________________
يمتنع أن يكون
عدميا ، بل وجوديا ، فقيام الشيء بنفسه أحق ألا يكون أمرا عدميا بل وجوديا وإذا
كان قيام المخلوق بنفسه صفة كمال وهو مفتقر بالذات إلى غيره فقيام الغنى بذاته
بنفسه أحق وأولى.
(فصل) القيام
بالنفس صفة كمال ، فالقائم بنفسه أكمل ممن لا يقوم بنفسه ، ومن كان غناه من لوازم
ذاته فقيامه بنفسه من لوازم ذاته ، وهذه حقيقة قيوميته سبحانه وهو الحى القيوم ،
والقيوم : القيوم بنفسه المقيم لغيره ، فمن أنكر قيامه بنفسه بالمعنى المعقول فقد
أنكر قيوميته وأثبت له قياما بالنفس يشاركه فيه العدم المحض ، بل جعل قيوميته أمرا
عدميا لا وصفا ثبوتيا ، وهي عدم الحاجة إلى المحل ، ومعلوم أن المحل لا يحتاج إلى
محل.
وأيضا فإنه يقال
له : ما تعنى بعدم الحاجة إلى المحل : أتعني به الأمر المعقول من قيام الشيء بنفسه
الذي يفارق به العرض القائم بغيره أم تعنى به أمرا آخر؟ فإن عنيت به الأول فهو
المعنى المعقول ، والدليل قائم والإلزام صحيح ؛ وإن عنيت به أمرا آخر فإما أن يكون
وجوديا ؛ وإما أن يكون عدميا فإن كان عدميا والعدم لا شيء كاسمه ؛ فتعود قيومته
سبحانه إلى لا شيء؟ وإن عنيت به أمرا وجوديا غير المعنى المعقول الذي تعلقه الخاصة
والعامة فلا بد من بيانه لينظر فيه ، هل يستلزم المباينة أم لا؟
(فصل) كل من أقر
بوجود رب للعالم مدبر له ، لزمه الإقرار بمباينته لخلقه وعلوه عليهم ، وكل من أنكر
مباينته وعلوه لزمه إنكاره وتعطيله ، فهاتان دعوتان في جانب النفي والإثبات ؛ أما
الدعوى الأولى فإنه أولا أقر بالرب ؛ فإما أن يقر بأن له ذاتا وماهية مخصوصة أولا؟
فإن لم يقر بذلك لم يقر بالرب ، فإن ربا لا ذات له ولا ماهية له هو والعدم سواء ،
إن أقر بأن له ذاتا مخصوصة وماهية ، فإما أن يقر بتعيينها أو يقول إنها غير معينة؟
فإن قال : إنها غير معينة كانت خيالا في الذهن لا في الخارج ، فإنه لا يوجد في
الخارج إلا معين ، لا سيما وتلك الذات أولى من تعيين كل معين ، فإنه يستحيل وقوع
الشركة فيها وأن يوجد لها نظير ، فتعين ذاته سبحانه واجب ، وإذا أقر بأنها معينة
لا كلية ،
والعالم المشهود
معين لا كلي. لزم قطعا مباينة أحد المتعينين للآخر ، فإنه إذا لم يباينه لم يعقل
تميزه عنه وتعينه.
فإن قيل : هو
يتعين بكونه لا داخلا فيه ولا خارجا عنه ، قيل : هذا ـ والله ـ حقيقة. قولكم ؛ وهو
عين المحال ، وهو تصريح منكم بأنه لا ذات له ولا ماهية تخصه فإنه لو كان له ماهية
يختص بها لكان تعينها لماهيته وذاته المخصوصة ، وأنتم إنما جعلتم تعينه بأمر عدمي
محض ونفي صرف ، وهو كونه لا داخل العالم ولا خارجا عنه ، وهذا التعيين لا يقتضي
وجوده مما به يصح على العدم المحض ، وأيضا فالعدم المحض لا يعين المتعين ، فإنه لا
شيء وإما يعينه ذاته المخصوصة وصفاته ، فلزم قطعا من إثبات ذاته تعين تلك الذات ؛
ومن تعينها مباينتها للمخلوقات ، ومن المباينة العلو عليها لما تقدم من تقريره وصح
بمقتضى العقل والنقل والفطرة ، ولزم من صحة هذه الدعوى صحة الدعوى الثانية ، وهي
أن من أمكن مباينته للعالم وعلوه عليه لزمه إمكان ربوبيته وكونه إلها للعالم.
(فصل) ثبت بالفعل
إمكان رؤيته تعالى ، وبالشرع وقوعها في الآخرة ؛ فاتفق الشرع والعقل على امكان
الرؤية ووقوعها ، فإن الرؤية أمر وجودي لا يتعلق إلا بموجود ، وما كان أكمل وجودا
كان أحق أن يرى ، فالبارى سبحانه أحق أن يرى من كل ما سواه ، لأن وجوده أكمل من كل
موجود سواه.
يوضحه : أن تعذر
الرؤية إما لخفاء المرئي ، وإما لآفة وضعف في الرائي ، والرب سبحانه أظهر من كل
موجود ، وإنما تعذرت رؤيته في الدنيا لضعف القوة الباصرة عن النظر إليه ، فإذا كان
الرائي في دار البقاء كانت قوة البصر في غاية القوة لأنها دائمة ، فقويت على رؤيته
تعالى ، وإذا جاز أن يرى ، فالرؤية المعقولة له عند جميع بني آدم ، عربهم وعجمهم
وتركهم وسائر طوائفهم ، أن يكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له بائنا عنه ، لا
تعقل الأمم رؤية غير ذلك. وإذا كانت الرؤية مستلزمة لمواجهة الرائي ومباينة المرئي
لزم ضرورة أن يكون مرئيا
له من فوقه أو من
تحته أو عن يمينه أو عن شماله أو خلفه أو أمامه ، وقد دل النقل الصريح على أنهم
إنما يرونه سبحانه من فوقهم ، لا من تحتهم ، كما قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «بينا أهل الجنة
في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فاذا الجبار جل جلاله قد أشرف عليهم من
فوقهم ، وقال : يا أهل الجنة سلام عليكم ـ ثم قرأ : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم» . فلا يجتمع للإقرار بالرؤية بالإنكار الفوقية والمباينة ،
ولهذا فإن الجهمية المغول تنكر علوه على خلقه ورؤية المؤمنين له في الآخرة ؛
ومخانيثهم يقرون بالرؤية وينكرون العلو وقد ضحك جمهور العقلاء من القائلين بأن
الرؤية تحصل من غير مواجهة المرئي ومباينته ، وهذا رد لما هو مركوز في الفطر
والعقول.
قال المنكرون : الإنسان يرى صورته في المرآة وليست صورته في جهة منها.
قال العقلاء : هذا هو التلبيس ؛ فإنه إنما يرى خيال صورته ، وهو عرض منطبع
في الجسم الصقيل ، هو في جهة منها ؛ ولا يرى حقيقة صورته القائمة به ، والذين
قالوا يرى من غير مقابله ولا يرى حقيقة صورته القائمة به ، والذين قالوا : يرى من
غير مقابلة ولا مباينة قالوا : الصحيح الرؤية في الوجود ؛ وكل موجود يصح أن يرى ،
فالتزموا روية الأصوات والروائح والعلوم والإرادات والمعاني كلها وجواز أكلها
وشربها وشمسها ولمسها ، فهذا منتهى عقولهم.
الوجه
التاسع والأربعون : إن من ادعى معارضة الوحى بعقله لم يقدر الله حق قدره ، وقد ذم الله سبحانه
وتعالى من لم يقدر الله حق قدره في ثلاثة مواضع من كتابة : أحدهما قوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ
إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى
__________________
بَشَرٍ
مِنْ شَيْءٍ) (الأنعام : ٩١)
الثاني قوله تعالى (يا أَيُّهَا النَّاسُ
ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ : إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ
لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ
شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ، ما
قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ ، إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج : ٧٣ ـ ٧٤)
الثالث قوله تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧)
فأخبر أنه لم يقدره حق قدره من أنكر إرساله للرسل ، وإنزاله الكتب عليهم ؛ فهذا
حقيقة قوله من قال : إنه لا يتكلم ولا ينزل منه إلى الأرض كلام. ومعلوم أن هذا
إنكار لكمال ربوبيته وحقيقة إلهيته وحكمته ولم يقدره حق قدره من عبد إلها غيره ،
ولم يقدره من جحد صفات كماله.
وقد وصف نفسه
سبحانه بأنه العلى العظيم ، فحقيقة قول النفاة المعطلة إنه ليس بعلي ولا عظيم ؛
فإنهم يردون علوه وعظمته إلى مجرد أمر معنوى. كما يقال : الذهب أعلى وأعظم من
الفضة. وقد صرحوا بذلك وقالوا : معناه عليّ القدر عظيم القدر.
قال شيخنا : فيقال
لهم : أتريدون أنه في نفسه عليّ الذات عظيم القدر ، وأن له في نفسه قدرا عظيما. أم
تريدون أن عظمته وقدره في النفوس فقط؟ فإن أردتم الأول ، فهو الحق الذي دل عليه
الكتاب والسنة والعقل. وإذا كان في نفسه عظيم القدر. فهو في قلوب الخلق كذلك. فلا
يحصى أحد ثناء عليه بل هو كما أثنى على نفسه ولا يقدر أحد قدره ولا يعلم عظم قدره
إلا هو. وتلك صفة يمتاز بها ويختص بها عن خلقه ، كما قال الإمام أحمد ، لما قالت
الجهمية : إنه في المخلوقات نحن نعم مخلوقات كثيرة ليس فيها من عظم الرب شيء وإن
اضفتم ذلك إلى مجرد تعظيم القلوب له من غير أن يكون هناك صفات ثبوتية وقدر عظيم
يختص به ؛ فذاك اعتقاد لا حقيقة له. وصاحبه قد عظمه بأن اعتقد فيه عظمته لا حقيقة
لها وذلك اعتقاد يضاهى اعتقاد المشركين في آلهتهم. وإن قالوا : بل نريد معنى ثالثا
لا هذا ولا هذا. وهو أن له في نفسه قدرا يستحقه. لكنه قدر معنوي. قيل لهم : أتريدون
أن له حقيقة عظيمة يختص بها عن غيره
وصفات عظيمة يتميز
بها. وذاتا عظيمة يمتاز بها عن الذوات ، وماهية أعظم من كل ماهية ونحو ذلك من
المعانى المعقولة؟ فذلك أمر وجودى محقق. وإذا أضيف ذلك إلى الرب كان بحسب ما يليق
به ولا يشركه فيه المخلوق. فهو في حق الخالق قدر يليق بعظمته وجلاله. وفي حق
المخلوق قدر يناسبه كما قال تعالى : (قَدْ جَعَلَ اللهُ
لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (الطلاق : ٣) فما
من مخلوق إلا وقد جعل الله له قدرا يخصه والقدر يكون علميا ويكون عينيا. فالأول هو
التقدير العلمي. وهو تقدير الشيء في العلم واللفظ والكتاب. كما يقدر العبد في نفسه
ما يريد أن يقوله ويكتبه ويفعله فيجعل له قدرا. ومن هذا تقدير الله سبحانه وتعالى
لمقادير الخلق في عمله وكتابه قبل تكوينها. ثم كونها على ذلك القدر الّذي علمه
وكتبه ؛ والقدر الإلهي نوعان : أحدهما في العلم والكتابة ، والثاني خلقها وبرأها ،
وتصويرها بقدرته التى يخلق بها الأشياء ، والخلق يتضمن الإبداع والتقدير جميعا ،
والعباد لا يقدرون الخالق قدره ، والكفار منهم لا يقدرونه حق قدره ، ولهذا لم يذكر
ذلك سبحانه إلا في حقهم كما قال تعالى (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) وهذا إنما وصف به الذين لا يؤمنون بجميع كتبه المنزلة ، من
المشركين واليهود وغيرهم.
وقال تعالى : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ولم يقل قدروا الله قدره ؛ فإن حق قدره هو الحق الذي لقدره
؛ فهو حق عليهم لقدره سبحانه وتعالى ، فجحدوا ذلك الحق وأنكروه ؛ وما قاموا بذلك
الحق معرفة ولا إقرارا ولا عبودية ، وذلك إنكار لبعض قدره من صفات كماله وأفعاله
كجحودهم أنه يتكلم أو يعلم الجزئيات أو يقدر على إحداث فعل ، فشبهات منكرى الرسالة
ترجع إلى ذلك. فمن أقر بما أرسل به رسله ، وأنه عالم متكلم بكتبه التي أنزلها
عليهم ، قادر على الإرسال فقد قدره حق قدره من هذا الوجه ؛ وإن لم يقدره حق قدره
مطلقا.
ولما كان أهل
العلم والإيمان قد قاموا في ذلك بحسب قدرتهم وطاقتهم التى أعانهم بها ، ووفقهم بها
لمعرفته وعبادته وتعظيمه. ولم يتناولهم هذا الوصف ،
فإن التعظيم له
سبحانه بالمعرفة والعبادة ، ووصفه بما وصف به نفسه قد أمر به عباده وأعانهم عليه ورضى
منهم بما قدروه من ذلك ؛ وإن كانوا لا يقدرونه حق قدره ، ولا يقدر أحد من العباد
قدره ، فإنه إذا كانت السماوات السبع في يده كالخردلة في يد أحدنا ، والأرضون
السبع فى يده الأخرى كذلك ، فكيف يقدره حق قدرة من عبد معه وغيره وجعل له ندا ،
وأنكر صفاته وأفعاله؟ بل كيف يقدره حق قدره من أنكر أن يكون له يدان ؛ فضلا عن أن
يقبض بهما شيئا؟ فلا يد عند المعطلة ولا قبض في الحقيقة ، وإنما ذلك مجاز.
وقد شرح تعالى
لعباده ذكر هذين الاسمين : العلى ، العظيم ، في الركوع والسجود كما ثبت فى «الصحيح»
، لما نزلت (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ
الْعَظِيمِ) قال النبي صلىاللهعليهوسلم «اجعلوها فى
ركوعكم» فلما نزلت (سَبِّحِ اسْمَ
رَبِّكَ الْأَعْلَى) قال «اجعلوها في سجودكم» ، فهو سبحانه كثيرا ما يقرن في وصفه بين هذين الاسمين ،
كقوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْعَظِيمُ) (البقرة : ٢٥٥)
وقوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ
الْكَبِيرُ) (سبأ : ٢٣) ،
وقوله : (عالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ) (الرعد : ٩) ثبت
بذلك علوه على المخلوقات وعظمته ، والعلو رفعته ، والعظمة قدره ذاتا ووصفا.
__________________
(نفى التشبيه والتمثيل لا يغنى عن إثبات الصفات اللائقة بالله سبحانه)
الخمسون
: إن هؤلاء
المعارضين بين الوحي والعقل إنما يدللون بنفي التشبيه والتمثيل ويجعلونه حنة
لتعطيلهم ، فأنكروا علوه وكلامه وتكليمه وغير ذلك مما أخبر الله به عن نفسه ،
وأخبر به رسوله صلىاللهعليهوسلم حتى آل ذلك ببعضهم إلى نفي ذاته وماهيته ، خشية التشبيه ،
وقالوا : يلزم في الوجود ما يلزم مثبتى الصفات ، والكلام. والعلو. فنحن نسد الباب
بالكلية.
فينبغى أن يعلم في
هذا قاعدة عظيمة نافعة جدا هى : إن نفى الشبيه والمثل والنظير ليس في نفسه صفة مدح
ولا كمال. ولا يمدح به المنفى عنه ذلك بمجرده فإن العدم المحض الذي هو أخس
المعلومات وأنقصها ينفي عن الشبيه ، والمثل ، والنظير ، ولا يكون ذلك كمالا ولا
مدحا إلا إذا تضمن كون من نفى عنه ذلك قد اختص من صفات الكمال بصفات باين بها
غيره. وخرج بها عن أن يكون له فيها نظير أو مثل. فهو لتفرده بها عن غيره صح أن
ينفي عنه الشبه والمثيل.
ولا يقال لمن لا
سمع له ولا بصر ولا حياة ولا علم ولا كلام ولا فعل : ليس له مثل ولا شبه ولا نظير.
إلا في باب الذم والعيب. هذا الذي عليه فطر الناس وعقولهم واستعمالهم في المدح
والذم كما قيل :
ليس كمثل الفتى
زهير
|
|
خلق يساويه في
الفضائل
|
وقال الفرزدق :
فما مثله في
الناس إلا مملكا
|
|
أبو أمه حي أخوه
يقار
|
أى فما مثله في
الناس حي يقاربه إلا مملكا هو أخوه فعكس المعطلة المعنى فجعلوا (ليس كمثله شيء)
جنة يتترسون بها لنفى علو الله سبحانه على عرشه وتكليمه لرسله وإثبات صفات كماله.
ومما ينبغى أن
يعلم أن كل سلب ونفى لا يتضمن إثباتا ؛ فإن الله لا يوصف به لأنه عدم محض ونفي صرف
لا يقتضي مدحا ولا كمالا. ولهذا كان تسبيحه وتقديسه مستلزمين لعظمته ومتضمنين
لصفات كماله ، وإلا فالمدح بالعدم المحض كلا مدح ، ولهذا كان عدم السنة والنوم
مدحا وكمالا فى حقه لتضمنه أو استلزامه
كمال حياته
وقيوميته ونفى اللغوب عنه كمالا لاستلزامه كمال قدرته وقوته ونفى النسيان عنه كمال لتضمنه كمال علمه . وكذلك نفي عزوب شيء عنه ونفى الصاحبة والولد كمال لتضمنه كمال غناه وتفرده بالربوبية
وأن من فى السماوات والأرض عبيد له ؛ وكذلك نفى الكفء المسمى والمثل عنه كمال
لأنه مستلزم ثبوت جميع أوصاف الكمال له على أكمل الوجوه واستحالة مشارك له فيها.
فالذين يصفونه
بالسلوب من الجهمية والفلاسفة لم يعرفوه من الوجه الذي عرفته به الرسل وعرفوه به
الى الخلق ؛ وهو الوجه الّذي يحمد به ويعرف به عظمته وجلاله ، وإنما عرفوه من
الوجه الّذي يقودهم إلى تعطيل العلم والمعرفة والإيمان به لعدم اعتقادهم الحق.
وحقيقة أمرهم أنهم لم يثبتوا لله عظمة إلا ما تخيلوه فى نفوسهم من السلوب والنفى
الّذي لا عظمة فيه ولا مدح فضلا عن أن يكون كمالا. بل ما أثبتوه مستلزم لنفى ذاته
رأسا.
وأما الصفاتية
الذين يؤمنون ببعض ويجحدون بعضا ؛ فإذا أثبتوا علما ، وقدرة وإرادة ؛ وغيرها تضمن
ذلك إثبات ذات تقوم بهذه الصفات ؛ وتتميز بحقيقتها وماهيتها ؛ سواء سموه قدرا أو
لم يسموه فإن لم يثبتوا ذاتا متميزة بحقيقتها وماهيتها كانوا قد أثبتوا صفات بلا
ذات كما أثبت إخوانهم ذاتا بغير صفات ،
__________________
وأثبتوا أسماء بلا
معان ، وذلك كله مخالف لصريح العقول فلا بد من إثبات ذات محققه لها الأسماء الحسنى
وإلا فأسماء فارغة لا معنى لها توصف بحسن فضلا عن كونها أحسن من غيرها ، يوضحه.
الوجه
الحادى والخمسون : أن الله سبحانه قرن بين هذين الاسمين الدالين على علوه وعظمته في آخر آية
الكرسي ، وفي سورة الشورى ، وفي سورة الرعد ، وفي سورة سبأ في قوله : (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَّ
وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) (سبأ : ٢٣) ففى
آية الكرسى ذكر الحياة التى هى أصل جميع الصفات وذكر معها قيوميته المقتضية لدوامه
وبقائه ، وانتفاء الآفات جميعها عنه ومن النوم والسنة العجز وغيرها. ثم ذكر كمال
ملكه ، ثم عقبه بذكر وحدانيته فى ملكه وأنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه. ثم ذكر
سعة علمه وإحاطته. ثم عقبه بأنه لا سبيل للخلق إلى علم شيء من الأشياء إلا بعد
مشيئته لهم أن يعلموه. ثم ذكر سعة كرسيه منبها به على سعته سبحانه وعظمته وعلوه.
وبذلك توطئة بين يدى علوه وعظمته ثم أخبر عن كمال اقتداره وحفظه للعالم العلوي
والسفلى ، من غير اكتراث ولا مشقة (وتعب) ، ثم ختم الآية بهذين الاسمين الجليلين
الدالين على علو ذاته وعظمته في نفسه.
وقال فى سورة طه (يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما
خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه : ١١٠) وقد
اختلف فى مفسر الضمير في (به) فقيل هو الله سبحانه ، أي ولا يحيطون بالله علما ،
وقيل هو (ما بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فعلى الثانى يرجع إلى المعلوم ، وهذا القول يستلزم الأول
من غير عكس ، لأنهم إذا لم يحيطون ببعض معلوماته المتعلقة بهم ، فإن لا يحيطون
علما به سبحانه من باب أولى.
كذلك الضمير في
قوله : (وَلا يُحِيطُونَ
بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) يجوز أن يرجع إلى الله. ويجوز أن يرجع إلى (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) ولا يحيطون بشيء من علم ذلك إلا ما شاء ، فعلى الأول يكون
المصدر مضافا إلى الفاعل ، وعلى الثانى يكون مضافا إلى المفعول.
والمقصود أنه لو
كان العلى العظيم إنما يريد به اتصافه بالعلم والقدرة والملك ؛ ومواضع ذلك كان
تكريرا ؛ فإن ذكر ذلك مفصلا أبلغ من الدلالة عليه بما لا يفهم إلا بكلفة. وكذلك
إذا قيل أن علوه مجرد كونه أعظم من مخلوقاته وأفضل منها ، فهذا هضم عظيم لهاتين
الصفتين العظيمتين. وهذا لا يليق ولا يحسن أن يذكر ويخبر به عنه إلا في معرض الرد
لمن ساوى بينه وبين غيره فى العبادة والتأله ، كقوله تعالى : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ؟) (النمل : ٥٩) ،
وقول يوسف الصديق (أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) ،
فهذا السياق يقال في مثله : أن الله خير مما سواه. وأما بعد أن يذكر مالك الكائنات
ويقال مع ذلك إنه أفضل من مخلوقاته ، وأعظم من مصنوعاته ؛ فهذا ينزه عنه كلامه ،
وإنما يليق بهؤلاء الذين يجعلون لله مثل السوء في كلامه ، ويجعلون ظاهره كفرا تارة
، وضلالة أخرى ، وتارة تجسيما وتشبيها ويقولون فيه ما لا يرضى أحدنا أن يقوله فى
كلامه.
* * *
فصل
(فى ذكر حجة الجهمى على أنه سبحانه لا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب
ولا يسخط ولا يفرح ، والجواب عنها)
احتج الجهمى على
امتناع ذلك عليه بأن هذا انفعال وتأثير عن العبد والمخلوق لا يؤثر في الخالق. فلو
أغضبه أو فعل ما يفرح به لكان المحدث قد أثر فى القديم تلك الكيفيات وهذا محال هذه
الشبهة من جنس شبههم التي تدهش السامع أول ما تطرق سمعه ، وتأخذ منه تروعه ،
كالسحر الّذي يدهش الناظر أول ما يراه.
الجواب من وجوده (أحدها) أن الله تعالى خالق كل شيء ، وربه ومليكه ، وكل ما في الكون
من أعيان وأفعال وحوادث فهى بمشيئته وتكوينه ، فما شاء كان ، وما لم يشأ لم يكن ،
فصفتان لا تخصيص فيهما بوجه من الوجوه ، وكل ما يشاء إنما يشاءه لحكمة اقتضاها
حمده ، ومجده ، فحكمته البالغة أوجبت كل ما في الكون من الأسباب والمسببات ، فهو
سبحانه خالق الأسباب التى ترضيه ،
وتغضبه ، وتسخطه ،
وتفرحه ، والأشياء التى يحبها ويكرهها ، الله سبحانه خالق ذلك كله ، فالمخلوق أضعف
وأعجز أن يؤثر فيه ، بل هو الذي خلق ذلك كله على علمه ، فإنه يحب هذا ويرضى هذا ،
يبغض هذا ، ويسخط هذا ، ويفرح بهذا فما أثر فيه غيره بوجه من الوجوه.
(الثاني) أن التأثير لفظ فيه اشتباه واجمال ، أتريد به أن غيره لا
يعطيه كمالا لم يكن له ، ويوجد فيه صفة كان فاقدها؟ فهذا معلوم بالضرورة ـ أم تريد
أن غيره لا يسخطه ولا يغضبه ، ولا يفعل ما يفرح به أو يحبه أو يكرهه ونحو ذلك ،
فهذا غير ممتنع وهو أول المسألة. وليس معك في نفيه إلا مجرد الدعوى بتسمية ذلك
تأثيرا فى لخالق. وليس الشأن في الأسماء : إنما الشأن فى المعاني والحقائق. وقد
قال تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمُ
اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ) (محمد : ٢٨) وقال
النبي صلىاللهعليهوسلم لأبي بكر في أهل الصفة «لأن كنت اغضبتهم لقد اغضبت ربك» .
(الثالث) أن هذا يبطل محبته لطاعة المؤمنين ، وبغضه لمعاصى المخالفين ،
فهذا وهذا معلوم البطلان بالضرورة والعقل والفطر الإنسانية واتفاق أهل الأديان
كلهم بل هذا حقيقة دعوة الرسل بعد التوحيد.
(الرابع) أن هذا ينتقض بإجابة دعواتهم وسماع أصواتهم ؛ ورؤية أفعالهم
وحركاتهم فإن هذه كلها أمور متعلقة بأفعالهم ، فما كان جوابك عنها فهو جوابنا وذلك
فى محل الإلزام.
(الخامس) أنه سبحانه إذا كان يحب أمورا ، وتلك الأمور محبوبة لها لوازم
يمتنع وجودها بدونها ، كان وجود تلك الأمور مستلزما للوازمها التى لا توجد بدونها.
مثاله محبته للعفو والمغفرة والتوبة ، فهذه المحبوبات تستلزم وجود ما يعفو عنه
ويغفره ويتوب إليه العبد منه ، ووجود الملزوم بدون لازمه محال ، فلا يمكن حصول
محبوباته سبحانه من التوبة والعفو والمغفرة بدون الّذي يتاب منه
__________________
ويغفره ويعفو عنه
، ولهذا قال النبي صلىاللهعليهوسلم «لو لم تذنبوا لذهب
الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم» وهذا هو الذي وردت الأحاديث الصحيحة بالفرح به. وهذا
المفروح به يمتنع وجوده قبل الذنب فضلا من أن يكون ، فهذا المفروح به يحب تأخره
قطعا ، ومثل هذا ما روي «أن
آدم لما رأى بنيه ورأى تفاوتهم ، قال : يا رب ، هلا سويت بين عبادك؟ قال : إنى أحب
أن أشكر» ومعلوم أن محبته
للشكر علي ما فضل به بعضهم على بعض ، ولا يحصل ذلك بالتسوية بينهم. فإن الجمع بين
التسوية والتفضيل جمع بين النقيضين ، وذلك محال.
الوجه
الثاني والخمسون : إن هذه المعارضة بين العقل والنقل هى أصل كل فساد في العالم وهي ضد دعوة الرسل
من كل وجه فإنهم دعوا إلى تقديم الوحى على الآراء والعقول ، وصار خصومهم إلى ذلك.
فأتباع الرسل قدموا الوحى على الرأى والمعقول ، واتباع إبليس أو نائب من نوابه
قدموا العقل على النقل.
(شبهات إبليسية)
قال محمد بن عبد
الكريم الشهرستاني ، في كتابه «الملل والنحل» : اعلم أن أول شبهة وقعت في الخلق
شبهة إبليس ؛ ومصدرها استبداده بالرأي فى مقابلة النص ، واختياره الهوى في معارضة
الرأى ، واستكباره بالمادة التي خلق منها ، وهى النار على مادة آدم ، وهي الطين
وتشبعت
عن هذه الشبهة سبع
شبهات صارت هى مذاهب بدعة وضلالة وتلك الشبهات مسطورة في شرح الأناجيل الأربعة
ومذكورة في التوراة متفرقة على شكل مناظرة بينه وبين الملائكة بعد الأمر بالسجود
والامتناع منه ، قال : كما نقل عنه : إني
__________________
سلمت إن الباري
إلهى وإله الخلق عالم قادر. ولا يسأل عن قدرته ومشيئته ، وإذا أراد شيئا قال له (كُنْ فَيَكُونُ) وهو حكيم ، إله أنه يتوجه على مساق حكمته أسئلة سبعة (أولها) قد علم قبل خلقى أى شيء يصدر عنى ويحصل ، فلم خلقنى أولا؟
وما الحكمة فى خلقه إياى؟
(الثاني) إذ خلقني على مقتضى إرادته ومشيئته ، فلم كلفنى بمعرفته وطاعته؟
وما الحكمة في
التكليف بعد (معرفته) ألا ينتفع بطاعته ولا يتضرر بمعصيته؟
(الثالث) إذ خلقنى وكلفنى فالتزمت تكليفه بالمعرفة والطاعة فعرفت وأطعت
، فلم كلفنى بطاعة آدم والسجود له ، وما الحكمة فى هذا التكليف على الخصوص ، بعد
أن لا يزيد ذلك في طاعتى ومعرفتى؟
(الرابع) إذ خلقني وكلفني على الإطلاق ، وكلفنى هذا التكليف على الخصوص ،
فإذا لم اسجد لعننى وأخرجني من الجنة ما الحكمة في ذلك بعد إذ لم أرتكب قبيحا إلا
قولي لا أسجد إلا لك؟
(الخامس) إذ خلقني وكلفني مطلقا وخصوصا ولم اطلع فلعنني وطردني فلم
طرقني إلى آدم حتى دخلت الجنة ثانيا وغررته بوسوستى فأكل من الشجرة المنهي عنها ،
وأخرجه من الجنة معي ، وما الحكمة فى ذلك ، بعد أن لو منعني من دخول الجنة لاستراح
مني وبقى خالدا في الجنة؟
(السادس) إذ خلقني كلفني عموما وخصوصا ولعنني ثم طرقني إلى الجنة وكانت
الخصومة بيني وبين آدم ، فلم سلطني على أولاده حتى أراهم من حيث لا يرونى ، وتؤثر
فيهم وسوستي ولا يؤثر في حولهم وقوتهم وقدرتهم واستطاعتهم ، وما الحكمة فى ذلك بعد
أن لو خلقهم على الفطرة دون من يجتالهم عنها فيعيشوا طاهرين سامعين مطيعين. كان
أحرى وأليق بالحكمة؟
(السابع) سلمت هذا كله ، خلقني وكلفنى مطلقا ومقيدا ، وحيث لم أطع لعننى
وطردنى ، ومكنني من دخول وطرقنى وإذا عملت عملا أخرجنى ،
__________________
ثم سلطنى على بنى
آدم ، فلما استمهلته امهلنى فقلت «أنظرنى إلي يوم يبعثون» فقال «إنك
من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» (ص : ٧٩ ـ ٨١) وما الحكمة فى ذلك؟ بعد أن لو أهلكني فى
الحال استراح الخلق مني ، وما بقي شر في العالم ، أليس بقاء العالم على نظام الخير
خير من امتزاجه بالشر؟ قال فهذه حجتى على ما ادعيته فى كل مسأله.
قال قال شارح الإنجيل : فأوحى الله تعالى إلى الملائكة ، قالوا له : إنك فى مسألتك
الأولى : إني إلهك وإله الخلق غير صادق ولا مخلص ؛ إذ لو صدقت إني رب العالمين ما
احتكمت عليّ بلم ، فأنا الله الّذي لا إله إلا أنا لا أسأل عما أفعل ، والخلق
مسئولون قال : هذا مذكور فى التوراة والزبور مسطور في الإنجيل على الوجه الّذي
ذكرته. وكنت برهة من الزمان أتفكر وأقول : من المعلوم الذي لا مرية فيه أن كل شبهة
وقعت لبني آدم فإنما وقعت من إضلال الشيطان ووساوسه ، ونشأت من شبهاته. وإذا كانت
الشبهات محصورة في سبع عادت كبار البدع والضلال إلى سبع ، ولا يجوز أن تعدوها شبهة
أهل الزيغ والكفر ، وان اختلفت العبارات وتباينت الطرق فإنها بالنسبة إلى أنواع
الضلالات كالبذر ترجع جملتها إلى إنكار الأمر بعد الاعتراف بالخلق ، وإلى الجنوح
إلى الهوي والرأي فى مقابلة النص. والذين جادلوا هودا ؛ ونوحا ، وصالحا ، وابراهيم
، ولوطا. وشعيبا ، وموسى ، وعيسى ، ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. كلهم نسجوا على
منوال اللعين الأول في إظهار شبهاتهم. وحاصلها يرجع إلى رفع التكليف عن أنفسهم
وجحد أصحاب التكاليف والشرائع عن هذه الشبهة نشأ ، فأنه لا فرق بين قولهم (أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا) (التغابن : ٦) ،
وبين قوله (أَأَسْجُدُ لِمَنْ
خَلَقْتَ طِيناً) (الإسراء : ٦١) ،
ومن هذا قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ
أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً
رَسُولاً) (الإسراء : ٩٤).
فبين أن المانع من
الإيمان هو هذا المعنى كما قال المتقدم (أَمْ أَنَا خَيْرٌ
مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ) (الزخرف : ٥٢)
وكذلك لو تعقبنا أقوال المتأخرين منهم وجدناها مطابقة لأقوال المتقدمين (كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ
مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) (البقرة : ١١٨). (فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) (الأعراف : ١٠١)
فاللعين الأول لما حكم العقل على من لا يحتكم عليه العقل أجرى حكم الخالق فى خلق
وحكم الخلق ، والأول غلو ، والثانى تقصير ، فثار من الشبهة الأولى مذهب الحلولية
والتناسخية والمشبهة والغلاة من الرافضة من حيث غلوا في حق شخص من الأشخاص حتى
وصفوه بأوصاف الجلال. وثار من الشبه الثانية مذاهب القدرية والجبرية والمجسمة حيث
قصروا فى وصفه تعالى بصفات المخلوقين والمعتزلة مشبهة الأفعال ومشبهة الصفات وكل
منها أعور ، فأن من قال : يحسن منه ما يحسن منا ويقبح منه ما يقبح منا ، فقد شبه
الخالق بالخلق ، ومن قال : يوصف الباري بما يوصف به الخلق أو يوصف الخلق بما يوصف
به البارى ، فقد اعتزل عن الحق : وشيخ القدرية طلب العلة فى كل شيء وذلك الشيخ
اللعين الأول ، إذ طلب العلة فى الخلق أولا. والحكمة في التكليف ثانيا ، والمعاندة
فى تكليف السجود لآدم ثالثا.
ثم ذكر الخوارج
والمعتزلة والروافض وقال رأيت شبهاتهم كلها نشأت من شبهات اللعين الأول. وإليه
أشار التنزيل بقوله : (وَلا تَتَّبِعُوا
خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة : ١٦٨)
وقال صلىاللهعليهوسلم «لتسلكن سبل الأمم
قبلكم حذو القذة بالقذة والنعل بالنعل حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» .
__________________
فهذه القصة في
المناظرة هى نقل أهل الكتاب ، ونحن لا نصدقها ولا نكذبها ، وكأنها والله أعلم
مناظرة وضعت على لسان إبليس. على كل حال فلا بر من الجواب عنها سواء صدرت عنه أو
قيلت على لسانه فلا ريب أنها من كيده. وقد أخبر تعالى (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً) (النساء : ٧٦).
فهذه الأسئلة
والشبهات من أضعف الأسئلة عند أهل العلم والإيمان وإن صعب موقعها عند من أصل أصولا
فاسدة كانت سدا بينه وبين ردها. وقد اختلف طرق الناس في الأجوبة عنها فقال
المنجمون وزنادقة الطبائعيين والفلاسفة : لا حقيقة لآدم ولا لإبليس ولا لشيء من
ذلك ، بل لم يزل الوجود هكذا ولا يزال نسلا بعد نسل وأمة بعد أمة وإنما أمثال
مضروبة لانفعال القوى النفسانية الصالحة لهذا البشر ، وهذه القوى هي المسماة فى
الشرائع بالملائكة واستعصت القوى الغضبية والشهوانية : وهي المسماة بالشياطين.
فعبروا عن خضوع القوى الخيرية الفاضلة بالسجود ، وعبر عن إباء القوى الشريرة
بالإباء والاستكبار وترك السجود. قالوا : والحكمة الإلهية اقتضت تركيب الإنسان على
هذا الوجه ، واسكان هذه القوى فيه وانقياد بعضها له وإباء بعضها. فهذا شأن
الإنسان. ولو كان على غير هذا التركيب لم يكن إنسانا قالوا : وبهذا تندفع الأسئلة
كلها ، وإنها بمنزلة أن يقال : لم أحوج الإنسان إلى الأكل والشرب واللباس. ولما
أحوجه إليها ، فلم جعله يبول ويتغوط ويمخط؟ ولم جعله يهرم ويمرض ويموت؟ فإن هذه
الأمور من لوازم النشأة الإنسانية. فهذه الطائفة رفعت القواعد من أصلها وأبطلت آدم
وإبليس والملائكة ، وردت الأمر إلى مجرد قوى نفسانية وأمور معنوية.
وقالت الجبرية ،
ومنكروا العلل والحكم : هذه الأسئلة إنما ترد على من يفعل لعلة أو غرض أو لغاية.
فأما من لا علة لفعله ولا غاية ولا غرض ، بل يفعل بلا سبب فإنما مصدر مفعولاته محض
مشيئته وغايتها مطابقتها بعلمه وإرادته ، فيجىء فعله عن وفق إرادته وعلمه. وعلى
هذا فهذه الأسئلة كلها. إذ مبناها على أصل واحد ، وهو تعليل أفعال من لا تعلل
أفعاله ولا يوصف تحسن ولا قبح
عقليين ، بل الحسن
ما فعله أو ما يفعله فكله حسن (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣)
قالوا : والقبح والظلم هو تصرف الإنسان فى غير ملكه ، فأما تصرف الملك الحق في
ملكه من غير أن يكون تحت حجر حاجر أو أمر آمر أو نهى ناه ، فإنه لا يكون ظلما ولا
قبيحا. فرفع هؤلاء الأسئلة من أصلها والتزموا لوازم هذا الأصل بأنه لا يجب على
الله شيء ، ولا يحرم عليه شيء ، ولا يقبح منه ممكن.
وقالت
القدرية : هذا لا يرد على
أصولنا ، وإنما يرد على أصول الجبرية القائلين بأن الله تعالى خالق أفعال العباد ،
وطاعتهم ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم ، وأنه قدر ذلك عليهم قبل أن يخلقهم وعلمه منهم
وخلقهم له ، فخلق أهل الكفر للكفر ، وأهل الفسوق للفسوق قدر ذلك عليهم وشاءه منهم
وخلقه فيهم. فهذه الأسئلة واردة عليهم. وأما نحن فعندنا أن الله تعالى عرضهم
للطاعة والإيمان وأقدرهم عليه ومكنهم منه ورضية لهم وأحبه ، ولكنهم اختاروا
لأنفسهم الكفر والعصيان ، والله تعالى لم يكرههم على ذلك. ولم يجبلهم عليه ولا
شاءه منهم ولا كتبه عليهم ولا قدره ولا خلقهم له ولا خلقه فيهم ، ولكنها أعمال هم
لها عاملون وشرورهم لها فاعلون. فإنما خلق إبليس لطاعته وعبادته ؛ ولم يخلق
لمعصيته والكفر به. وصرح قدماء هذه الفرقة بأن الله سبحانه لم يكن يعلم من إبليس
حين خلقه أنه يصدر منه ما صدر ، ولو علم ذلك منه لم يخلقه. وأبى متأخرون ذلك.
وقالوا : بل كان سبحانه عالما به وخلقه امتحانا لعباده ليظهر المطيع له من العاصي
، والمؤمن من الكافر ، وليثبت عباده على معاداته ومحاربته ومعصيته أفضل الثواب.
قالوا : وهذه الحكمة اقتضت بقاءه حتّى تنقضي الدنيا وأهلها ، قالوا : وأمره
بالسجود ليطيعه فيثيبه ، فاختار لنفسه المعصية والكفر من غير إكراه من الرب ولا
إلجاء له إلى ذلك. ولا حال بينه وبين السجود ، ولا سلطه على آدم وذريته قهرا ، وقد
اعترف عدو الله بذلك حيث يقول (وَما كانَ
لِي
عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ) (إبراهيم : ٢٢) ،
وقال تعالى : (وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ) (سبأ : ٢١) ،
قالوا فاندفعت تلك الأسئلة وظهر أنها ترد على أصول الجبرية لا على أصولنا.
وقالت
الفرقة الناجية حزب الله ورسوله : كيف يطمع فى الرد على عدو الله من قد شاركه فى أصله وفى بعض
شبهه فإن عدو الله أصل معارضة النص بالرأى ، فيترتب على تأصيله هذه الأسئلة
وأمثالها ، فمن عارض النقل بالعقل فهو شريكه من هذا الوجه فلا يمكن من الرد التام
عليه ، ولهذا لما شاركه زنادقة الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين في هذا الأصل
أنكروا وجوده ووجود آم والملائكة ، فضلا عن قصة أمره بالسجود وإبائه وما ترتب
عليه. ولما أنكرت الجبرية الحكم والتعليل والأسباب عجزوا عن جواب أسئلة وسدوا على
نفوسهم باب استماعها والجواب عنها ، وفتحوا باب مكابرة العقول الصحيحة فى إنكار
تحسين العقل وتقبيحه ، وإنكار الأسباب والقوى والطبائع والحكم والغايات المحمودة
التى لأجلها يفعل الرب ما يفعله ، وجوزوا عليه أن يفعل كل شيء وأن يأمر بجميع ما
نهى عنه وينهى عن كل كل ما أمر به ، ولا فرق عندهم البتة بين المأمور والمحظور
والكل سواء في نفس الأمر ، ولكن هذا صار حسنا بأمره لأنه في نفسه وذاته حسن ، وهذا
صار قبيحا بنهيه لأنه في نفسه وذاته قبيح.
ولما وصلت القدرية
إنكار عموم قدرة الرب سبحانه ومشيئته لجميع الكائنات. وأخرجت أفعال عبده خيرها
وشرها عن قدرته ومشيئته لخلقه ، وأثبتت لله تعالى شريعة بعقولهم حكمت عليه بها
واستحسنت منه ما استحسنت من أنفسها ، واستقبحت منه ما استقبحته من أنفسها وعارضت
بين الأدلة السمعية الدالة على خلاف ما أصلوه وبين العقل ، ثم راموا الرد على عدو
الله فعجزوا عن الرد التام عليه ، وإنما يتمكن من الرد عليه كل الرد من تلقى أصوله
عن مشكاة الوحى ونور النبوة ، ولم يؤصل أصلا برأيه.
فأول ذلك أنه علم
أن هذه الأسئلة ليست من كلام الله الذي أنزله على موسى وعيسى مخبرا بها عن عدوه
كما أخبر عنه في القرآن بكثير من أقوله وأفعاله ،
وإدخال بعض أهل
الكتاب لها في تفسير التوراة والإنجيل كما نجد بالمسلمين من يدخل في تفسير القرآن
كثيرا من الأحاديث والأخبار والقصص التي لا أصل لها. وإذا كان هذا في هذه الأمة
التي هي أكمل الأمم علوما وعقولا ، فما الظن بأهل الكتاب؟
الوجه
الثاني : أن يقال لعدو الله
: قد ناقضت فى أسئلتك ما اعترفت به غاية المناقضة ، وجعلت ما اسلفت من التسليم
والاعتراف مبطلا لجميع اسئلتك متضمنا للجواب عنها قبل ذكرها وذلك أنك قلت (رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي
لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا
عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (الحجر : ٣٩ ـ ٤٠).
فاعترفت بأنه ربك وخالفك ومالكك ، وأنك مخلوق له مربوب تحت أوامره ونواهيه ، وإنما
شأنك أن تتصرف فى نفسك تصرف العبد المأمور المنهي المستعد لأوامر سيده ونواهيه.
وهذه الغاية التي خلقت لها ، وهي غاية الخلق وكمال سعاتهم. وهذا الاعتراف منك
بربوبيته وقدرته وعزته ويتضمن إقرارك بكمال علمه وحكمته وغناه ، وأنه في كل ما أقر
عليم حكيم لم يأمر عبده لحاجة منه إلى ما أمر به عبده ، ولا نهاه بخلا عليه بما
نهاه بل أمره رحمة منه به وإحسانا إليه بما فيه صلاحه في معاشه ومعاده وما لا صلاح
له إلا به ، ونهاه عما في ارتكابه فساده في معاشه ومعاه ، فكانت نعمته عليه بأمره
ونهيه أعظم من نعمته عليه بمأكله ومشربه ولباسه وصحة بدنه بما لا نسبة بينهما ،
كما قال سبحانه ؛ في آخر فصل مع الأبوين (يا بَنِي آدَمَ قَدْ
أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى
ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (الأعراف : ٢٦)
فأخبر سبحانه أن لباس التقوى وزينتها خير من المال والريش والجمال الظاهر.
فالله تعالى خلق
عباده وجمل ظواهرهم بأحسن تقويم ، وجمل بواطنهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم.
ولهذا كانت صورتك قبل معصية ربك من أحسن الصور ، وأنت مع ملائكته الأكبرين فلما
وقع ما وقع جعل صورتك وشناعة منظرك مثلا يضرب لكل قبيح كما قال تعالى : (طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ) (الصافات : ٦٥)
فهذه أول نقدة تعجلتها من معصيته ولا ريب أنك تعلم أنه
أحكم الحاكمين
وأعلم العالمين وأغنى الأغنياء وأرحم الراحمين ، وأنه لم يأمر العباد إلا بما فعله
خير لهم وأصلح وأنفع لهم من تركه فأمرهم بما أمرهم لمصلحة عائدة عليهم ، كما رزقهم
الطعام والشراب وغيرهما من النعم ، فالسعداء استعملوا أمره وشرعه لحفظ صحة قلوبهم
وكماله وصلاحها بمنزلة استعمالهم رزقه لحفظ صحة أجسامهم وصلاحها ، وتيقنوا أنه كما
لا بقاء للبدن ولا صحة ولا صلاح إلا بتناول غذائه الّذي جعل له ، فكذلك لا صلاح
للقلب والروح ، ولا فلاح ولا نعيم إلا بتناول غذائه الذي جعل له.
وهذا وإن ألقيت
إلى طائفة من الناس أنه لا مصلحة للمكلفين فيما أمروا به ، نهوا عنه ولا منفعة لهم
فيه ولا خير ، ولا فرق في نفس الأمر بين فعل هذا وترك هذا ، ولكن أمروا ونهوا
لمجرد الامتحان والاختبار ولا فرق ، فلم يؤمروا بحسن ولم ينهوا عن قبيح ، بل ليس
في نفس الأمر لا حسن ولا قبيح ومن عجيب أمرك وأمرهم أنك أوحيت إليهم هذا فردوا به
عليك فجعلوا جواب أسئلتك فدفعوها كلها ، وقالوا : إنما تتوجه هذه الأسئلة في حق من
يفعل لعلة أو غرض ، وأما من فعله بديء من العلل والأغراض فلا يتوجه عليه سؤال واحد
من هذه الأسئلة ، فإن ، كانت هذه القاعدة حقا فقد اندفعت أسئلتك كلها ، وإن كانت
باطلا والحق فى خلافها فقد بطلت أسئلتكم أيضا كما تقدم ، يوضحه.
الوجه
الثالث : أن نقول لعدو الله
: إما أن تسلم حكم الله في خلقه وأمره ، وإما أن تجحده وتنكره ، فإن سلمتها وأنه
سبحانه حكيم في خلقك حكيم في أمرك بالسجود ، بطلت الأسئلة وكنت معترفا بأنك
أوردتها على من تبهر حكمته العقول ، فبتسليمك هذه الحكمة التي لا سبيل للمخلوقين
إلى المشاركة فيها يعود على أسئلتك الفاسدة بالنقض ، وإن رجعت عن الإقرار له
بالحكمة ، وقلت لا يفعل لحكمة البتة بل (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣)
فما وجه إيراد هذه الأسئلة على من لم يفعل لحكمة؟ فقد أوردت الأسئلة على من لا
يسأل عما يفعل ؛ وطعنت في حكمة من كل أفعاله حكمة ومصلحة وعدل وخير بمعقولك
الفاسد.
الوجه
الرابع : إن الله فطر عباده
حتّى الحيوان علي استحسان وضع الشيء في موضعه والإتيان به في وقته وحصوله على
الوجه المطلوب منه ، وعلى استقباح ضد ربك وخلافه وأن الأول دال على كمال فاعله
علمه وقدرته ، وضده دال على نقصه ، وهذه فطرة لا يمكنهم الخروج عن موجبها ، فهو
سبحانه يضع الأشياء في مواضعها التي لا يليق بها سواها ، ويخصها من الصفات
والأشكال والهيئات والمقادير بما هو أنسب لها من غيره ؛ وأبرزها في أوقاتها
المناسبة لها ، ومن له نظر صحيح وأعطى التأمل حقه شهد ذلك فيما رآه وعلمه ، واستدل
بما شاهده على ما خفى عنه ، وقد ندب سبحانه عباده إلى ذلك فقال (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) (الذاريات : ٢١).
(النظر في ملكوت السماوات والأرض يدل على عظمة الصانع)
من نظر في هذا
العالم وتأمله حق تأمل وجده كالبيت المبني المعد فيه جميع عتاده ، فالسماء مرفوعة
كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والمنافع مخزونة
كالذخائر ، كل شيء منها لأمر يصلح له ، والإنسان المخلول فيه ، وضروب النبات
مهيئات لمآربه ؛ وصنوف الحيوان مصرفة في مصالحه ، فمنها ما هو للدر والنسل والغذاء
فقط. ومنها ما هو للركوب والحملة فقط. ومنها ما هو للجمال والزينة ، ومنهار ما
يجمع ذلك كله بالإبل ، وجعل أجوافها خزائن لما هو شراب وغذاء ودواء وشفاء ؛ ففيها
عبرة للناظرين وآيات للمتوسمين ؛ وفي الطير واختلاف أنواعها وأشكالها وألوانها
ومقاديرها ومنافعها وأصواتها صافات وقابضات ؛ وغاديات ورائحات ، ومقيمات وظاعنات ،
أعظم عبرة وأعظم دلالة على حكمة الخلاف العليم ، وكل ما أخذه الناس وأدركوه
بالأفكار الطويلة والتجارب المتعددة من أصناف الآلات والمصانع وغيرها إذا فكر فيها
المتفكر وجدها مشتقة من الخلقة ، ومستنبطة من الصنع الإلهي .. مثال ذلك أن القبان مستنبط من خلقه البعير ، فإنهم لما رأوه ينهض بحمله وينوء
به ويمد عنقه ويوازن حمله برأسه استنبطوا القبان من ذلك ، وجعلوا طول
__________________
حديدته فى مقابلة
طول العنق ، ورمان القبان فى مقابلة رأس البعير فتم لهم ما استنبطوه كذلك استنبطوا
بناء الأقبية من ظهره فإنهم وجدوه يحمل ما لا يحمل غيره فتأملوا ظهره فإذا هو
كالقبو ، فعلموا أن القبو يحمل ما لا يحمل السطح.
وكذلك ما استنبطه
الحداق لكل من كل بصره أن يديم النظر إلى إجانة خضراء مملوءة ماء استنباطا من حكمة الخلاف العليم في لون
السماء ؛ فإن لونها أشد الألوان موافقة للبصر ، فجعل أديمها بهذا اللون ليمسك
الأبصار ولا ينكأ فيها بطول مباشرته لها ؛
وإذا فكرت في طلوع
الشمس وغروبها لإقامة دولتى الليل والنهار ، ولو لا طلوعها لبطل أمر هذا العالم ،
فكم في طلوعها من الحكم والمصالح. وكيف يكون حال الحيوان لو أمسكت عنه جعل الليل
عليه سرمدا والدنيا مظلمة عليه؟ فبأى نور كانوا يتصرفون؟ وكيف كانت تنضج ثمارهم.
وتكمل أقواتهم وتعتدل صورهم فالحكم في طلوعها أعظم من أن تختفى أو تحصى. ولكن تأمل
الحكمة في غروبها فلو لا غروبها لم يكن للحيوان هدوء ولا قرار مع شدة حاجتهم إلى
الهدوء والراحة. وأيضا لو دامت الأرض لاشتد حرها بدوام طلوعها عليها. فاحترق كل ما
عليها من حيوان ونبات. فاقتضت حكمة الخلاق العليم والعزيز الحكيم ان جعلها تطلع
عليهم في وقت دون وقت بمنزلة سراج يرفع لأهل الدار مليا ليقضوا مآربهم ثم يغيب
عنهم مثل ذلك ليقروا ويهدءوا. وصار ضياء النهار وحرارته ، وظلام الليل وبرده على
تضادهما وما فيهما متظاهرين متعاونين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.
ثم اقتضت حكمته أن
جعل للشمس ارتفاعا وانحطاطا لإقامة هذه الفصول الأربعة من السنة وما فيها من قيام
الحيوان والنبات. ففي زمن الشتاء تفور
__________________
الحرارة في الشجر
والنبات. فيتولد فيها مواد النار ويغلظ الهواء بسبب الرد فيصير مادة للسحاب ،
فيرسل العزيز الحكيم الريح المثيرة فتنشره قزعا ثم يرسل عليه المؤلفة فتؤلف بينه حتّى يصير طبقا واحدا ،
ثم يرسل عليه الريح اللاحقة التي فيها مادة الماء فتلقحه كما يلقح الذكر الأنثى
فيحمل الماء من وقته ، فإذا كان بروز الحمل وانفصاله أرسل عليه الريح الذارئة
فتذروه وتفرقه في الهواء لئلا يقع صبة واحدة فيهلك ما على الأرض وما أصابه ويقل
الانتفاع به ، فإذا أسقى ما أمر بسقيه وفرغت حاجتهم منه أرسل عليه الرياح السائقة
فتسوقه وتزجيه إلى قوم آخرين ، وأرض أخرى محتاجة إليه ، فإذا جاء الربيع تحركت
الطبائع وظهرت المواد الكامنة في الشتاء فخرج النبات ، وأخذت الأرض زخرفها وازينت
وأنبتت من كل زوج كريم ، فإذا جاء الصيف سخن الهواء وتحللت فضلات الأبدان ، فإذا
جاء الخريف كسر ذلك السموم والحرور ، وبرد الهواء واعتدل وأخذت الأرض والشجر في
الراحة والجموم والاستعداد للحمل الآخر.
واقتضت حكمته
سبحانه أن أنزل الشمس والقمر في البروج وقدر لهما المنازل ليعلم العباد عدد السنين
والحساب من الشهور والأعوام ؛ فتتم بذلك مصالحهم ، وتعلم بذلك آجال معاملاتهم
ومواقيت حجهم وعباداتهم ومدد أعمارهم ، وغير ذلك من مصالح حسابهم ، فالزم مقدار
الحركة ألا ترى أن السنة الشمسية مسير الشمس من الحمل إلي الحمل واليوم مقدار
مسيرها من المشرق إلى المغرب ؛ وتحركه الشمس والقمر لكمال الزمان من يوم خلقها إلى
أن يجمع الله بينها ويعزلهما عن سلطانهما ، ويرى عابديهما أنهم عبدوا الباطل من
دونه ، قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ
الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ وَالْحِسابَ ، ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ
الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (يونس : ٥) ، وقال
تعالى : (وَجَعَلْنَا
اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ
__________________
وَجَعَلْنا
آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا
عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً) (الإسراء : ١٢).
واقتضت حكمته
سبحانه في تدبيره أن فاوت بين مقادير الليل والنهار ولم يجعلهما دائما على حد سواء
ولا أطول مما هما عليه وأقصر ، بل جاء استواؤهما وأخذ أحدهما من الآخر على وفق
الحكمة ، حتى أن المكان الّذي يقصر أحدهما فيه جدا لا يتكون فيه حيوان ونبات ،
كالمكان الذي لا تطلع عليه الشمس أو لا تغرب عنه ، فلو كان النهار مقدار مائة ساعة
أو أكثر أو كان الليل كذلك لتعطلت المصالح التي نظمها الله بهذا المقدار في الليل.
ثم تأمل الحكمة في إنارة القمر والكواكب في ظلمة الليل ، فإنه مع الحاجة إلى
الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء لم تقتض المصلحة أن يكون الليل ظلمة داجية ولا
ضياء فيها ، فلا يمكن فيها شيء من العمل ، وربما احتاج الناس إلى العمل بالليل
لضيق الوقت عليهم في النهار ولإفراط الحر فيه ، فاحتاجوا إلى العمل في الليل في
نور القمر من حرث الأرض وقطع الزرع وغير ذلك ، فجعل ضوء القمر في الليل معونة
للناس على هذه الأعمال وجعل في الكواكب جزءا يسيرا من النور ليسد مسد القمر إذا لم
يكن ، وجعلت زينة السماء ومعالم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر ، ودلالات واضحات
على الخلاق العليم ، وغير ذلك من الحكم التي بها انتظام هذا العالم ، وجعلت الشمس
على حالة واحدة لا تقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة منها ، وجعل
القمر يقبل الزيادة والنقصان لئلا تتعطل الحكم المقصودة من جعله كذلك ، وإن كان
نوره من التبريد والتصلب ما يقابل ما في ضوء الشمس من التسخين والتحليل ، فتنضم
المصلحة وتتم الحكمة من هذا في هذا التسخين والتبريد.
ثم تأمل اللطف
والحكمة الإلهية في جعل الكواكب السيارات ومنازلها تظهر في بعض السنة وتحتجب في
بعضها ، لأنها لو ظهرت دائما أو اختفت دائما
لفاتت الحكمة
المطلوبة منها ، كما اقتضت الحكمة أن يظهر بعضها ويحتجب بعضها ، فلا تظهر كلها
دفعة واحدة ، ولا تحتجب دفعة واحدة ، بل ينوب ظاهرها عن خفيها في الدلالة ، وجعل
بعضها ظاهرا لا يحتجب أصلا بمنزلة الأعلام المنصوبة التي يهتدي بها الناس في الطرق
المجهولة في البر والبحر ؛ فهم ينظرون إليها متى أرادوا ويهتدون بها حيث شاءوا.
ثم تأمل حال
النجوم واختلاف مسيرها ، ففرقة منها لا تريم مراكزها من الفلك ولا تسير إلا مجتمعة
كالجيش الواحد ، وفرقة منها مطلقة تنتقل في البروج وتتفرق في مسيرها ، وكل واحد
منها يسير سيرين مختلفين. أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب ، والآخر خاص لنفسه نحو
المشرق ، وذلك من أعظم الدلالات على الفاعل المختار العليم الحكيم وعلى كمال علمه
وحكمته.
وتأمل كيف صار هذا
الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه يدور على هذا العالم هذا الدوران العظيم السريع
المستمر بتقدير محكم لا يزيد ولا ينقص ولا يختل نظامه ، بل هو تقدير العزيز العليم
، كما أشار تعالى إلى أن ذلك التقدير صادر عن كمال عزته وعلمه ، قال تعالى : (فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ
سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (الأنعام : ٩٦).
وتأمل الحكمة في
تعاقب الحر والبرد على هذا العالم وتعاورهما عليهما في الزيادة والنقصان والاعتدال
، وما فيهما من المصالح والحكم للأبدان والشجر والحيوان والنبات ولو لا تعاقبهما
لفسدت الأبدان والأشجار وانتكست.
ثم تأمل دخول
أحدهما على الآخر بهذا التدريج والترسل ، فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء ،
والآخر يزيد مثل ذلك ؛ حتى ينتهي كل واحد منتهاه في الزيادة والنقصان ولو دخل
أحدهما على الآخر فجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها ؛ كما لو خرج الرجل من مكان شديد
الحر إلى مكان مفرط في البرد وهلة ؛ فإن ذلك يضر به جدا ، ولو لا الحر لما نضجت
هذه الثمار المرة العفة القاسية ، ولا كانت تلين وتطيب وتحسن وتصلح لأن يتفكه بها
الناس رطبة ويابسة.
وتأمل الحكمة في
خلق النار على ما هى عليه ، فإنها لو كانت ظاهرة كالماء والهواء لكانت محرقة
للعالم وما فيه ؛ ولو كانت كامنة لا سبيل إلى ظهورها لفاتت المصلحة المطلوبة منها
، فاقتضت الحكمة أن جعلت كامنة قابلة للظهور عند الحاجة إليها ولبطلانها عند
الاستغناء عنها ، فجعلت مخزونة في محلها تخرج عند الحاجة وتمسك بالمادة من الحطب
وغيره ما احتيج إلى بقائها ، تخبأ إذا استغنى عنها ، وخلقت على وضع وتقدير اجتمع
فيه الانتفاع بها والسلامة من ضررها ، قال الله تعالى : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي
تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ، نَحْنُ
جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ) (الواقعة : ٧١ ـ
٧٣).
الوجه
الخامس : إن الرب سبحانه له
الكمال المطلق الذي يستحق عليه الحمد سبحانه ، لا يصدر منه إلا ما يحمد عليه ،
وحمد الله على نوعين ، حمدا يستحقه لذاته وصفاته وأسمائه الحسنى ، وحمدا يستحقه
على أفعاله التى مدارها على الحكمة والمصلحة والعدل والإحسان والرحمة ؛ فإذا كان
محمودا على أفعاله كلها لم يكن فيها مناف للحكمة ؛ إذ لو كان فيها ما هو كذلك لم
يكن محمودا عليه ، وهو سبحانه له الملك وله الحمد ، فحمده شامل لما شمله ملكه. ولا
يخرج شيء عن حمده كما لا يخرج شيء عن ملكه ؛ يوضحه :
الوجه
السادس : إن أدلة حكمته
وحمده وأدلة ملكه وقدرته متلازمان لا ينفك أحدها عن الآخر وكل ما دل على عموم
قدرته ومشيئته وملكه وتصرفه المطلق ؛ فهو دال على عموم حمده وحكمته. إذ إثبات قدرة
وملك بلا حكمة ولا حمد ليس كمالا ؛ وكل ما دل على عموم حكمته وحمده فهو دال على
ملكه وقدرته ، فإن الحمد والحكمة إن لم يستلزما كمال القدرة لم يكن فيهما كمال
مطلق. وهذا برهان قطعى.
ثم يقال : إن جاز
القدح في حكمته وحمده جاز القدح في ملكه وربوبيته بل هو عين القدح في الملك
والربوبية. كما أن القدح في ملكه وربوبيته قدح في
حمده وحكمته. وهذا
ظاهر جدا وهذا شأن كل مثلين حين لا ينفك أحدهما عن الآخر.
الوجه
السابع : إن هذه الأسئلة لا
يتوجه إيرادها على العلم ولا على القدرة. وغاية ما تورد على العدل والحكمة. وأنها
كيف تجامع عدله وحكمته فنقول : قد اتفق أهل الأرض والسماوات على أن الله تعالى عدل
لا يظلم أحدا ، حتى أعداءه المشركين الجاحدين لصفات كماله ؛ فإنهم مقرون له بالعدل
ومنزهون له عن الظلم ، حتى إنهم ليدخلون النار وهم معترفون بعدله كما قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ) (الملك : ١١) ،
وقال تعالى : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا؟ قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا ،
وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا
كافِرِينَ) (الأنعام : ١٣٠) ،
فهو سبحانه قد حرم الظلم على نفسه ؛ وأخبر أنه لا يهلك القرى بظلم وأهلها غافلون
فلا يصح إيراد هذه الأسئلة مع اعترافهم بعدله ؛ يوضحه :
(تنزيه الله سبحانه عن الظلم في قضاءه)
الوجه
الثامن : إن طرق الناس
اختلفت في حقيقة الظلم الذي ينزه عنه الرب سبحانه وتعالى ؛ فقالت الجبرية هو
المحال الممتنع لذاته ، كالجمع بين الضدين ، وكون الشيء موجودا معدوما. قالوا لأن
الظلم إما التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، وإما مخالفة الأمر ؛ وكلاهما في حق
الله تعالى محال ، فإن الله مالك كل شيء ، وليس فوقه آمر تجب طاعته ، قالوا : وأما
تصور وجوده وقدر وجوده فهو عدل كائنا ما كان ، وهذا قول جهم ومن اتبعه ، وهو قول
كثير من الفقهاء أصحاب الأئمة والأربعة وغيرهم من المتكلمين.
وقالت
القدرية : الظلم إضرار غير
مستحق ، أو عقوبة العبد على ما ليس من فعله ، أو عقوبته على ما هو مفعول منه ونحو
ذلك. قالوا فلو كان سبحانه
خالقا لأفعال
العبيد مريدا لها قد شاءها وقدرها عليهم ، ثم عاقبهم عليها كان ظالما ، ولا يمكن
إثبات كونه سبحانه عدلا لا يظلم إلا بالقول فإنه لم يرد وجود الكفر والفسوق
والعصيان ، ولا شاءها بل العباد فعلوا ذلك بغير مشيئته وإرادته ، كما فعلوه بغير
إذنه وأمره ، وهو سبحانه لم يخلق شيئا من أفعال العباد لا خيرها ولا شرها ، بل هم
أحدثوا أعمالهم بأنفسهم ولذلك استحقوا العقوبة عليها ، فإذا عاقبهم لم يكن ظالما
لهم ، وعندهم أنه يكون ما لا يشاء ويشاء ما لا يكون فإن المشيئة عندهم بمعنى الأمر
، وهاتان الطائفتان متقابلتان غاية التقابل ، وكل منها تذم الأخرى ، وقد تكفرها
وتسميها قدرية.
وقال
أهل السنة والحديث ومن وافقهم : الظلم وضع الشيء في غير موضعه وهو سبحانه حكم عدل ، لا يضع
الشيء إلا في موضعه الذي يناسبه ويقتضيه العدل والحكمة والمصلحة وهو سبحانه لا
يفرق بين متماثلين ولا يساوى بين مختلفين ، ولا يعاقب إلا من يستحق العقوبة ،
ويضعها موضعها في ذلك من الحكمة ، ولا يعاقب أهل البر والتقوى ، وهذا قول أهل
اللغة قاطبة ، وتفسير الظلم بذينك التفسيرين اصطلاح حادث ووضع جديد.
وقال ابن الأنباري
: الظلم وضع الشيء في غير موضعه ، يقال ظلم الرجل سقاءه إذا سقى منه قبل أن يخرج
منه زبده. وقال الشاعر :
وصاحب صدق لم
ينلني شكاية
|
|
ظلمت وفي ظلمتي
له عامدا أجر
|
أراد بالصاحب :
وطب اللبن ، وظلمه إياه أن يستقيه قبل أن يخرج زبده ، قال والعرب تقول : هو أظلم
من حية ؛ لأنها تأتي الحفر الذي لم تحفره فتسكنه ، ويقال : قد ظلم الماء الوادي ،
إذا وصل منه إلى مكان لم يكن يصل إليه فيما مضى ، وقال الحسن بن مسعود والفراء :
أصل الظلم وضع الشيء في غير موضعه. قال ومنه قولهم : من أشبه أباه فما ظلم. وقوله
: من استرعى الذئب فقد ظلم. يعنون من أشبه أباه فما وضع لشبه في غير موضعه. وهذا
القول هو الصواب المعروف في لغة العرب والقرآن والسنة. وإنما تحمل ألفاظهما على
لغة القوم لا على الاصطلاحات الحادثة. فإن هذا أصل كل فسا وتحريف
وبدعة. وهذا شأن
أهل البدع دائما يصطلحون على معان يضعون لها ألفاظا من ألفاظ العرب ثم يحملون
ألفاظ القرآن والسنة على تلك الاصطلاحات الحادثة .
فأما الجبرية فعندهم : لا حقيقة للظلم الذي نزه الرب نفسه عنه البتة. بل هو المجال
لذاته الذي لا يتصور وجوده. وكل ممكن عندهم فليس بظلم حتى إنه لو عذب رسله
وأنبياءه وأولياءه أبد الآبدين. وأبطل جميع حسناتهم وحملهم أوزار غيرهم وعاقبهم
عليها. وأثاب أولئك على طاعات غيرهم وحرم ثوابها فاعلها. لكان ذلك عدلا محضا. فإن
الظلم من الأمور الممتنعة لذاتها في حقه وهو غير مقدور له. بل هو كقلب المحدث
قديما والقديم محدثا ، واحتج هؤلاء بأن الظلم التصرف في غير الملك أو مخالفة الآمر
قالوا : ويدل على هذا الحديث الّذي رواه الإمام أحمد في «مسنده» عن عبد الله بن
مسعود قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ما أصاب العبد قط هم
ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك عدل
في قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من
خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري
وجلاء حزني وذهاب همي وغمي إلا أذهب الله همه وغمه وأبدله مكانا. فرحا ، قالوا يا
رسول الله أفلا نتعلمهن؟ قال بلى : ينبغى لمن سمعهن أن يتعلمهن» فأخبر أن جميع أقضيته في عبده عدل منه ، وهذا يعم قضاء
المصائب وقضاء المعايب وقضاء العقوبات على الجرائم ، ولهذا قال العارفون بالله «كل
نعمة منه فضل ، وكل نقمة منه عدل».
وقال عمران بن
حصين لأبي الأسود الدؤلي : «أرأيت ما يكدح الناس اليوم
__________________
ويعلمون فيه؟ أشيء
قضى عليهم ، ومضى من قدر قد سبق ؛ أو فيما يستقبلون فيما أتاهم به نبيهم فأخذت
عليهم به الحجة؟ قال : فهلا يكون ذلك ظلما؟ قال : ففزعت من ذلك فزعا شديدا ، وقلت
إنه ليس شيء إلا وهو خلق لله وملك يده ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون. فقال :
سددك الله ؛ إني والله ما سألتك إلا لأحرز عقلك» قالوا : ويكفي في هذا قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ
يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢٣)
وقالوا ونحن نرى في الشاهد أن السيد إذا أمكن عبيده من الفساد وهو قادر على منعهم
وكفهم عن ذلك فلم يفعل ، بل خلى بينهم وبين ذلك ومكنهم منه وأعانهم عليه ، وأعطاهم
أسبابه ثم عاقبهم على ذلك كان ظالما لهم ، والله تعالى قد فعل ذلك بعبيده هو أعدل
العادلين وليس بظلام للعبيد ؛ فعلمنا أن الظلم المنزه عنه هو المحال بذاته وأنه
غير مقدور.
وأصحاب هذا القول
إنما نزهوا الله عن المستحيل لذاته الّذي لا يتصور وجوده ، ومعلوم أن هذا التنزيه
يشترك فيه كل أحد ، ولا يمدح به أحد أصلا فإنه لا مدح في كون الممدوح منزها عن
الجمع بين النقيضين ، والله تعالى قد تمدح بعدم الظلم ، وأنه لا يريده ومحال أن
يتمدح بكونه لا يريد الجمع بين النقيضين ، وأنه لا يريد قلب الحادث قديما ، ولا
قلب القديم حادثا ، ولا جعل الشيء موجودا معدوما في آن واحد.
وأيضا فإنه سبحانه
قال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ
الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً) (طه : ١١٢) قال
المفسرون من السلف والخلف قاطبة : الظلم أن يحمل عليه سيئات غيره ، والهضم أن ينقص
من حسنات ما عمل ، وعند الجبرية أن هذا لو وقع لم يكن ظلما ، ومن المعلوم أن الآية
لم ترفع عنه خوف المحال لذاته ، وأنه لا يخاف الجمع بين النقيضين ، فإنه لا يخاف
ذلك ، ولو أتى بكل كفر وإساءة ، فلا يجوز تحريف كلام الله بحمله على هذا. فإن
الخوف من الشيء يستلزم تصور وجوده وإمكانه ، وما لا يمكن وجوده يستحيل خوفه. وأيضا
فإنه لا يحسن أن ينفى الجمع بين الضدين في السياق الّذي نفي
__________________
الله فيه الظلم
كقوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً
فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (فصلت : ٤٦) فلا
يحسن بوجه أن يقال عقيب هذه الجملة : وما ربك بجامع للعبيد بين الوجود والعدم في
آن واحد ، وإنما الظلم المنفى هو خلاف ما اقتضاه قوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَساءَ فَعَلَيْها) ، وكذلك قوله : (وَلا تُظْلَمُونَ
فَتِيلاً) (النساء : ٧٧) ، (وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء : ١٢٤) (وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً) (مريم : ٦٠) ؛ أي
لا يترك من أعمالهم ما هو بقدر الفتيل والنقير ، فيكون ظلما ، وعند الجبرية تجوز
أن يترك ثواب جميع أعمالهم من أولها إلى آخرها بغير سبب يقتضي تركها إلا مجرد
المشيئة والقدرة ، ولا يكون ذلك ظلما. وكذلك قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ) (الزخرف : ٧٦) ، (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ) (هود : ١٠١) بين
أنه لم يعاقبهم بغير جرم فيكون ظالما لهم بل عاقبهم بظلمهم أنفسهم .
والمعنى عند الجبرية : إنا تصرفنا فيهم بقدرتنا ومشيئتنا وملكنا فلم نظلمهم وإن كانوا
مؤمنين محسنين ، وليست الأعمال والسيئات والكفر عندهم
__________________
أسبابا للهلاك ولا
مقتضية له ، وإنما هو محض المشيئة ، والقرآن يكذب هذا القول ويرده كقوله : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا
حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) (النساء : ١٦٠) ،
وقوله : (فَبِما نَقْضِهِمْ
مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ
حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ
فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء : ١٥٥) ،
وقوله : (فَأَخَذَهُمُ اللهُ
بِذُنُوبِهِمْ) (آل عمران : ١١) (فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ) (الأنعام : ٦) ، (مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا
فَأُدْخِلُوا ناراً) (نوح : ٢٥) (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما
ظَلَمُوا) (النمل : ٨٥) ، (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى : ٣٠) ،
والقرآن مملوء من هذا.
فالظلم الذي أثبت
الله لهم وجعله نفس فعلهم وسبب هلاكهم نفوه ، وقالوا ليس من فعلهم ولا سبب
إهلاكهم. والظلم الذي نفاه عن نفسه وهو عقوبتهم بلا سبب أثبتوه له وقالوا ليس بظلم
، فإنه مقدور ممكن ، فنزهوه عما عابهم به ووصفوه بما نزه نفسه عنه ، واعتقدوا بذلك
أنهم به عارفون ولأهل السنة ناصرون ، ولا يليق به سبحانه أن ينفى عنه الجمع بين
النقيضين ، فإن ما لا يمكن تعلق القدرة به لا يمدح الممدوح بعدم إرادته ، وإنما
يكون المدح بترك ما يقدر الممدوح على فعله وتركه تنزيها عما فعله ، وإلا فكيف يمدح
الموتى بترك الأفعال
__________________
القبيحة؟ وكيف يمدح
الزمن بترك طيرانه إلى السماء؟ وأيضا فإنه سبحانه يمدح نفسه بتحريمه الظلم على نفسه
كما في الحديث الإلهي «يا
عبادي إني حرمت الظلم على نفسى» أن أخلق مثلي ، أو أجمع بين النقيضين ، أو أقلب القديم
حادثا الحادث قديما ونحو ذلك من الممتنع لذاته. وهذا لا يجوز أن ينسب التكلم به
إلى آحاد العقلاء فضلا عن رب العالمين.
وغاية ما يقال في
تأويل ذلك على هذا القول بعد تحسين العبارة وزخرفتها إني أخبرت عن نفسي أن ما لا
يكون مقدورا أو يكون مستحيلا لا يقع منى. وهذا مما يقطع من له فهم عن الله ورسوله
أنه غير مراد وأنه يجب تنزيه الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم عن إرادة هذا المعنى الّذي لا يليق التمدح والتعرف إلى
عباده بمثله.
فإن قيل : حاصل
هذا أنه لا يعقل التمدح بترك ما يستحيل وقوعه ، وهذا فاسد ، فقد حمد سبحانه نفسه
وتمدح بعدم اتخاذ الولد وعدم الشريك والولي من الذل ، وهذه الأشياء مستحيلة في حقه
، فهكذا حمد نفسه على تنزهه من الظلم وإن كان مستحيلا غير مقدور.
قيل : الفرق بين
ما هو محال لذاته في نفس الأمر وبين ما هو ممكن أو واقع لكن يستحيل وصف الرب به
ونسبته إليه. فالأول لا يتمدح به ، بل العبد لا يرضى أن يمدح به نفسه ، فلا يتمدح
عاقل بأنه لا يجمع بين النقيضين ولا يجعل الشيء متحركا ساكنا. وأما الثاني فإنه
ممكن واقع لكن يستحيل اتصاف من له الكمال المطلق به كالولد والصاحبة والشريك. فإن
نفى هذا من خصائص الربوبية ؛ فنفى سبحانه عن نفسه ما هو ثابت لخلقه ، وهم متصفون
به لمنافاته لكماله ، كما نزه نفسه عن السنة والنوم واللغوب والنسيان والعجز
والأكل والموت ، وغير ذلك مما هو مستحيل عليه ممتنع في حقه. ولكنه واقع من العباد
فكان في تنزيهه عنه ما يبين انفراده بالكمال وعدم مشابهته لخلقه ، بخلاف ما لا
يتصور وقوعه في نفس الأمر وهو مستحيل في نفسه ، كجعل المخلوق خالقا ؛
__________________
وجعل الخالق
مخلوقا. فإن هذا لا يتمدح سبحانه بنفيه. ولهذا لا يتمدح به مخلوق عن الخالق.
يوضحه : أن ما
تمدح به سبحانه فهو من خصائصه التى لا يشركه فيها أحد وسلب فعله المستحيل الّذي لا
يدخل تحت القدرة ولا يتصور وقوعه ليس من خصائصه ولا هو كمال في نفسه ولا يستلزم
كمالا ، فإذا مدح نفسه بكونه لا يجمع بين النقيضين كان كل أحد مشاركا له في هذا
المدح ؛ بخلاف ما إذا مدح نفسه بكونه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام ولا يموت ولا ينسى
ولا تخفى عليه شيء ولا يظلم أحدا ، وهو سبحانه يثنى على نفسه بفعل ما لو ترك كان
تركه نقصا ، وبترك ما لو فعله كان فعله نقصا ، وهذا لا حقيقة له عند الجبرية ،
والاعتبار عندهم بكون المفعول والمتروك ممكنا فقابلتهم القدرية فجعلوا الظلم الذي
تنزه سبحانه عنه مثل الظلم الّذي يكون من العباد ، وشبهوا فعله بفعل عبيده فتسلط
عليهم الجبرية بأنواع المناقضات والمعارضات وكان غاية ما عند كل واحد من الفريقين
مناقضة الآخر وإفساد قوله ، فكفوا أهل السنة مئونتهم.
* * *
فصل
أما ما احتج به
الجبرية من قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا
يَفْعَلُ) فدليل حق استدل به على باطل ، فإن الآية إنما سيقت لبيان
توحيده سبحانه وبطلان إلهية ما سواه ، وأن كل من عداه مربوب مأمور منهي مسئول عن
فعله ، وهو سبحانه ليس فوقه من يسأله عما يفعله قال تعالى : (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ
هُمْ يُنْشِرُونَ. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتا ،
فَسُبْحانَ اللهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ
وَهُمْ يُسْئَلُونَ) (الأنبياء : ٢١ ـ
٢٣) فلم تكن الآية مسوقة لبيان أنه لا يفعل بحكمة ولا لغاية محموة مطلوبة بالفعل ،
وأنه يفعل ما يفعله بلا حكمة ولا سبب ولا غاية ، بل الآية دلت على نقيض ذلك ، وأنه
لا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده وأن أفعاله صادرة عن تمام الحكمة والرحمة
والمصلحة ، فكمال علمه وحكمته وربوبيته ينافى اعتراض المعترضين عليه وسؤال
السائلين له. وهم حملوا الآية على أنه لا يسأل عما يفعله لقهره وسلطانه.
ومعلوم أن هذا ليس
بمدح من كل وجه وإن تضمن مدحا من جهة القدرة والسلطان ، وإنما المدح التام أن
يتضمن ذلك حكمته وحمده ووقوع أفعاله على أتم المصالح ، ومطابقته للحكمة والغايات
المحمودة. فلا يسأل عما يفعله لكمال ملكه وكمال حمده ، فله الملك وله الحمد وهو
على كل شيء قدير. فاستدلال نفاة الحكمة بهذه الآية كاستدلال نفاة الصفات بقوله
تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (الشورى : ١١)
والآيتان دالتان على ضد قول الطائفتين ؛ فليس كمثله شيء لكمال صفاته التى بكمالها
وقيامها به لم يكن كمثله شيء ولا يسأل عما يفعل لكمال حكمته وحمده.
* * *
فصل
(قضاء الله كله عدل)
وأما قوله في حديث
ابن مسعود «ماض في حكمك ، عدل في قضاؤك»
__________________
__________________
__________________
فعند أهل السنة
الجميع قضاؤه والجميع عدل منه في عبده ، لا بمعنى كونه متصرفا فيه بمجرد القدرة
والمشيئة ، بل بوضع القضاء في موضعه وإصابة محله ،
__________________
فكل ما قضاه على
عبده فقد وضعه موضعه اللائق به وأصاب به محله الذي هو أولى به من غيره فلم يظلمه
به .
أما العقوبات والمصائب فالأمر فيها ظاهر ، إذ هى عدل محض كما قال تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠).
وأما الآلام التى تصيب العبد بغير ذنب :
كالآلام التى تنال غير
المكلفين كالأطفال والمجانين والبهائم ، فقد خاض الناس في أسبابها وحكمها قديما
وحديثا وتباينت طرقهم فيها بعد اتفاقهم على أنها عدل ، وإن اختلفوا في وجه كونها
عدلا.
فالجبرية : تثبت ذلك على أصولها في أن كل واقع أو ممكن عدل.
والقدرية : جعلت وجه كونه عدلا وقوعها بسبب جرم سابق أو عوض لاحق ؛ ثم منهم
من يعتبر مع ذلك أن يشتمل على غيره قالوا فوقوعها على وجه العقوبة بالجرم والتعويض
بخروجها عن كونها ظلما. وبقصد العبرة تخرج كونها سفها.
__________________
وأما الفلاسفة : فإنهم جعلوا ذلك من لازم الخلقة فيه ومقتضيات النشأة
الحيوانية. وقالوا ليس في الإمكان إلا ذلك. ولو فرض غير ذلك لكان غير هذا العالم ،
فإن تركيب الحيوان الّذي يكون ويفسد يقتضي أن تعرض له الآلام كما يعرض له الجوع
والعطش والضجر ونحوها. وقالوا رفع هذا بالكلية إنما يكون برفع أسبابه ، والخير الّذي
في أسبابه أضعاف أضعاف الشر الحاصل بها ، فاحتمال الشر القليل الجزئي في جنب
المصلحة العامة الكلية أولى من تعطيل الخير الكثير لما يستلزمه من المفسدة اليسيرة
الجزئية. قالوا ومن تأمل أسباب الآلام وجد ما في ضمنها من الملذات والخيرات
والمصالح أضعاف أضعاف ما في ضمنها من الشرور كالحر والبرد والمطر والثلج والريح
وتناول الأغذية والفواكه وأنواع الأطعمة. وصنوف المناكح ، وأنواع الأعمال والحركات
، فإن الآلام إنما تتولد غالبها عن هذه الأمور مصالحها ولذتها وخيراتها أكثر من
مفاسدها وشرورها وآلامها.
وهذه الطرق
الثلاثة سلكها طوائف من المسلمين ، وفي كل طريق منها حق وباطل ، فإذا أخذت من طريق
حقها ورميت باطلها كنت أسعد الناس بالحق ، وأصحاب المشيئة المحضة أصابوا في إثبات
عموم المشيئة والقدرة ، وأنه لا يقع في الكون شيء إلا بمشيئته ، فخذ من قولهم هذا
القدر وألق منه إبطال الأسباب والحكم والتعليل ومراعاة مصالح الخلق.
والقدرية أصابوا
في إثبات ذلك وأخطئوا في مواضع ، أحدها : إخراج أفعال عباده عن ملكه وقدرته
ومشيئته.
الثاني : تعطيلهم
عود الحكمة والغاية المطلوبة إلى الفاعل ، وإنما أثبتوا أنواع حكمة تعود إلى
المفعول لا إلى الفاعل ، والثالث : أنهم شبهوا الله بخلقه فيما يحسن منهم وما يقبح
فقاسوه في أفعاله على خلقه ، واعتبروا حكمته بالحكمة التي لعباده ، فخذ من قولهم
إنه حكيم لا يفعل إلا لمصلحة وحكمة ، وأنه لا يفعل الظلم مع قدرته عليه ، بل تنزه
عنه لغناه وكماله ، وأنه لا يعاقب أحدا بغير ذنب ولا يعاقبه بما لا يفعله. فضلا عن
أن يعاقبه بفعل هو فعله فيه أو فعل
غيره فيه وأنه جعل
الأسباب مقتضيات لغاياتها ، وألق من قولهم إنكارهم خلقه لأفعال عباده وإنكار عود
الحكمة إليه وقياس أفعاله على أفعال عباده.
والفلاسفة فيما
أصّلوه من أن تعطيل أسباب الخيرات والمصالح العظيمة لما في ضمنها من الشرور
والآلام الجزئية مناف للحكمة ، فهذا أصل في غاية الصحة لكن أخطئوا في ذلك أعظم خطأ
، وهو جعلهم ذلك من لوازم الطبيعة المجردة من غير أن تكون متعلقة بفاعل مختار قدر
ذلك بمشيئته وقدرته واختياره ، ولو شاء لكان الأمر على خلاف ذلك كما يكون في الجنة
، فإنها مشتملة على الخيرات المحضة البريئة من هذه العوارض من كل وجه ، فاقتضت
حكمته أن تكون هذه الدار على ما هى عليه ؛ ممزوجا خيرها بشرها ، ولذاتها بآلامها ،
وأن تكون دار القرار خالصة من شوائب الآلام والشرور خلاصا تاما ، وأن تكون دار
الشقاء خالصة للآلام والشرور ، وإذا جمعت حق هذه الطائفة وأثبت لله تعالى صفات
الكمال ، وأنه يحب ويحب ، ويفرح بتوبة عباده وطاعتهم ويرضى بها ، ويضحك ، ويثنى
عليهم بها ويحب أن يثنى عليه ويحمد ويشكر ، ويفعل ما له في فعله غاية وحكمة يحبها
ويرضاها ، فيفعل لأجلها ، كنت أسعد بالحق من هؤلاء.
* * *
(فصل)
ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة والآلام أربعة أصناف : الإنس ، والجن
والبهائم ، والملائكة ، عند من يقول أن فيهم من يعصى ويعاقب.
فأما الإنس والجن
: فالمكلفون منهم يحصل لهم بالطاعات والمعاصى لذات وآلام تناسبها. وأما الأطفال
والمجانين فنوعان : نوع يدخلون الجنة إما بطريق التبعية أو بعد التكليف يوم
القيامة. كما جاءت به الآثار ، فهؤلاء إذا حصل لهم آلام يسيرة منقطعة كانت مصلحة
لهم ورحمة ونعمة في جنب ما ينالهم من
السعادة العظيمة
والنعيم المقيم. فما ينالهم من الآلام يجرى مجرى إيلام الأب الشفيق لولده الطفل ،
بكى أو بط أو قطع سلعة يعقبه كمال عافية وانتفاعه بنفسه وحياته ، فهذا الإيلام محض
الإحسان إليه وما يقدر من حصول النعيم واللذة في الجنة بدون هذه الآلام فهو نوع
آخر غير النوع الحاصل بعد الآلام ، ولهذا كانت اللذة الحاصلة بالأكل والشرب بعد
شدة الجوع والظمأ أضعاف اللذة الحاصلة بدون ذلك ، وكذلك لذة الوصل بعد الهجران
والبعاد المؤلم والشوق الشديد أعظم من اللذة الحاصلة بدونه. ووجود الملزوم بدون
لازمه محال. ولا ريب أن لذة آدم بعوده إلى الجنة بعد أن خرج منها إلى دار التعب
أعظم من اللذة التي كانت حاصلة له أولا.
وأما غير المكلفين
من الحيوانات فقد يقال إنه ما من حيوان إلا ويحصل له من اللذة والخير والنعيم ما
هو أعظم مما يحصل له من الألم بأضعاف مضاعفة فإنه يلتذ بأكله وشربه ونومه وحركته
وراحته وجماعه الأنثى وغير ذلك. فنعيمه ولذته أضعاف أضعاف ألمه ، وحينئذ فالأقسام
أربعة : إما أن يعطل الجميع بترك خلق الحيوان لئلا يحصل له الألم ، أو يخلق على
ونشأة لا يلحقه بها ألم ، أو على صفة لا ينال بها لذة ، أو على هذه الصفة والنشأة
التى هو عليها.
فالقسم
الأول : ممتنع لمنافاته
للحكمة ، فإنه يستلزم تعطيل الكثير والنفع العظيم لما يستلزمه من مفسدة قليلة ،
كتعطيل الأمطار والثلوج والرياح والحر والبرد لما يتضمنه من الآلام ولا ريب أن
الحكمة والرحمة والمصلحة تأبى ذلك ، فترك الخير الكثير لأجل ما فيه من الشر القليل
شر كثير.
وأما
القسم الثاني : فكما أنه ممتنع في نفسه إذ من لوازم إنشائه في هذا العالم أن يكون عرضة للحر
والبرد والجوع والعطش والكلال والتعب وغيرها. فإنه منشأ من هذا العالم الّذي مزج
خيره بشره. والمنشأ خير منه كذلك ، فالحكمة تأبى إنشاءه لذلك في هذا العالم الّذي
مزج رخاؤه بشدته. وبلاؤه بعافيته ،
وألمه بلذته ،
وسروره بغمه وهمه ، فلو اقتضت الحكمة تخليص نوع الحيوان من ألمه لكان الإنسان
الّذي هو خلاصته وأفضله أولى بذلك ، ولو فعل ذلك سبحانه لفاته مصلحة العبرة
والدلالة على الآلام العظيمة الدائمة في الدار الآخرة. فإن الله تعالى أشهد عباده
بما أعد لهم من أنواع اللذات والآلام في الدار الآخرة بما أذاقهم إياه فى هذه
الدار فاستدلوا بالشاهد على الغائب واشتاقوا بما باشروه من اللذات إلى ما وصف لهم
هناك منها واحتموا بما ذاقوا من الآلام هاهنا عما وصف لهم منها هناك. ولا ريب أن
هذه المصلحة العظيمة أرجح من تفويتها بما فيها من المفسدة اليسيرة.
أما
القسم الثالث : فلا ريب أنه مفسدة خالصة أو راجحة فلا تقتضيه حكمة الرب سبحانه ، ولا يكون
إيجاده مصلحة فلم يبق إلا القسم الرابع : وهو خلقه على هذه النشأة.
فإن قيل : فقد
ظهرت الحكمة في إيلام غير المكلفين ، فتعذيب المكلفين على ذنوبهم كيف تستقيم
الحكمة فيه على قولكم بأن الله تعالى خلقها فيهم؟ فأين العدل في تعذيبهم على ما هو
فاعله وخالقه فيهم؟ وإنما يستقيم ذلك على قول القدرية وأصولهم ، فإن العدل في ذلك
ظاهر ، فإنه إنما يعذبهم على ما أحدثوه وكان بمشيئتهم وقدرته.
قيل : هذا السؤال
لم يزل مطرقا بين العالم ، واختلف الناس فيه ، فطائفة أخرجت أفعالهم عن ملك الرب
وقدرته. وطائفة أنكرت الحكمة والتعليل وسدت باب السؤال ، وطائفة أثبتت كسبا لا
يعقل ، وجعلت الثواب والعقاب عليه ، وطائفة التزمت لأجله وقوع مقدور بين قادرين ،
ومفعول بين فاعلين وطائفة التزمت الجبر وأن الله يعذبهم على ما لا يقدرون عليه.
والجواب الصحيح
عنه أن يقال : إن ما يبتلى به العبد من الذنوب والوجودية وإن كانت خلقا لله تعالى
فهى عقوبة له على ذنوب قبلها ، فالذنب
يكسب الذنب ، ومن
عقاب السيئة السيئة بعدها ، فالذنوب والأمراض يورث بعضها بعضا. يبقى أن يقال في
الكلام ، فالذنب الأول الجالب لما بعده من الذنوب؟ فيقال : هو عقوبة أيضا على عدم
ما خلق له وفطر عليه ؛ فإن الله سبحانه خلقه لعبادته وحده لا شريك له ، وفطره على
محبته وتألهه والإنابة إليه كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم «ما من مولود يولد
إلا على الفطرة» وقال : «يقول الله تعالى : «إني خلقت عبادي حنفاء فأتتهم
الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم
أنزل به سلطانا» .
وقد قال تعالى : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) (الروم : ٣٠) فلما
لم يفعل ما خلق له وفطر عليه من محبة الله وعبوديته والإنابة إليه عوقب على ذلك
بأن زين له الشيطان ما يفعله من الشرك والمعاصي ، فلأنه صادف قلبا فارغا خاليا
قابلا للخير والشر ولو كان فيه الخير الذي يمنع ضده لم يتمكن منه الشر كما قال تعالى : (كَذلِكَ لِنَصْرِفَ
عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف : ٢٤) ،
وقال إبليس لعنه الله (قالَ فَبِعِزَّتِكَ
لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (ص : ٨٢ ـ ٨٣) ،
وقال تعالى : (هذا صِراطٌ عَلَيَّ
مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ) (الحجر : ٤٠ ـ ٤١).
__________________
والإخلاص : خلوص
القلب من تأله من سوى الله وإرادته ومحبته ، فخلص الله قلبه ، فلم يتمكن الشيطان
من إغوائه. وأما إذا صادفه فارغا من ذلك تمكن منه بحسب فراغه وخلوه ، فيكون جعله
مذنبا مسيئا في هذه الحال عقوبة على عدم هذا الإخلاص ؛ وهذا محض العدل.
فإن قلت : فذلك
العدم من خلقه فيه قلت : هذا سؤال فاسد ، فإن العدم كاسمه لا يفتقر إلى تعلق
التكوين والإحداث به. فإن عدم الفعل ليس أمرا وجوديا حتى يضاف إلى الفاعل ، بل هو
شر محض والشر ليس إلى الرب تبارك وتعالى ، كما قال النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث الاستفتاح : «لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس
إليك» وكذلك يقول النبي صلىاللهعليهوسلم في حديث الشفاعة يوم القيامة : «يقول الله تعالى : يا
محمد فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك ، والشر ليس إليك» وقد أخبر تعالى أن تسليط الشيطان إنما هو على الذين
يتولونه والذين هم به مشركون فلما تولوه دون الله وأشركوه معه عوقبوا على
__________________
ذلك بتسليطه عليهم
، وكانت هذه الأولوية والإشراك عقوبة خلو القلب وفراغه من الإخلاص والإنابة
العاصمة من ضدها. فقد بين أن إخلاص الدين يمنع من سلطان الشيطان ، لأن فعل السيئات
التى توجب العذاب. فإخلاص القلب لله مانع له من فعل ما يضاده ؛ وإلهامه البر
والتقوى ثمرة هذا الإخلاص ونتيجته ، وإلهام الفجور عقوبة خلوّه من الإخلاص.
فإن قلت : هذا
الترك إن كان أمرا وجوديا عاد السؤال ؛ وإن كان أمرا عدميا فكيف يعاقب على العدم؟
قلت : ليس هنا ترك هو كف النفس ومنعها عما تريده وتحبه فهذا قد يقال إنه أمر وجودي
، وإنما هنا عدم خلو عن أسباب الخير وهذا العدم ليس بكف للنفس ومنع لها عما تريده
وتحبه بل هو محض خلوها مما هو أنفع شيء لها. والعقوبة على الأمر العدمي هى بفعل
السيئات لا بالعقوبات التى تناله بعد إقامة الحجة عليه بالرسل.
فلله سبحانه
عقوبتان. إحداهما جعله خاطئا مذنبا لا يحس بألمها ومضرتها لموافقتها شهوته وإرادته
، وهى في الحقيقة من أعظم العقوبات ، والثانية العقوبات المؤلمة بعد فعله السيئات.
وقد قرن الله تعالى بين هاتين العقوبتين في قوله : (فَلَمَّا نَسُوا ما
ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ٤٤) ،
فهذه العقوبة الأولى. ثم قال : (حَتَّى إِذا فَرِحُوا
بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً) فهذه العقوبة الثانية.
واعط هذا الموضع
حقه من التأمل ؛ وانظر كيف ترتبت هاتان العقوبتان إحداهما على الأخرى ، لكن
العقوبة (الأولى) عقوبة موافقته لهواه وإرادته ، والثانية مخالفته لما يحبه ويتلذذ
به. وتأمل عدل الرب تعالى في هذه وهذه ؛ وأنه سبحانه إنما وضع العقوبة في محلها
الأولى بها الّذي لا يليق بها غيره ، وهذا أمر لو لم تشهده القلوب وتعرفه لما جاز
أن ينسب إلا إلى الله تعالى ، ولا يظن به غيره ، فإنه من ظن السوء بمن يتعالى
ويتقدس عن كل سوء وعيب.
فإن قلت : هل كان
يمكنهم أن يأتوا بالإخلاص والإنابة والمحبة له وحده من
غير أن يخلق ذلك
في قلوبهم ويجعلهم مخلصين له أو ذلك محض جعله في قلوبهم؟ قلت : لا ، بل هو محض
منته وفعله وهو من أعظم الخير الّذي هو في يده ، فالخير كله في يديه ولا يقدر
أحدنا أن يأخذ من الخير إلا ما أعطاه ولا يتقي من الشر إلا ما وقاه.
فإن قلت : فإذا لم
يخلق ذلك في قلوبهم ولم يوفقوا له ولا سبيل لهم إليه بأنفسهم عاد السؤال : وكان
منعهم منه ظلما ولزمك القول بأن العدل هو تصرف المالك في ملكه؟ قيل : لا يكون
بمنعه سبحانه لهم من ذلك ظالما ، وإنما يكون المانع ظالما إذا منع غيره حقا لذلك
الغير عليه ؛ وهذا هو الذي حرمه الرب على نفسه ، وأما منع غيره ما ليس حقا محض
فضله ومنته عليه لم يكن ظالما بمنعه.
فإن قلت : فإذا
كان العطاء والبذل والتوفيق إحسانا (ورحمة) وفضلا ؛ فهلا كانت الغلبة له كما أن «رحمته
تغلب غضبه؟» قيل : المقصود من هذا المقام بيان أن هذه العقوبة المترتبة
على هذا المنع ، والمنع المستلزم للعقوبة ليس بظلم. وهذا سؤال عن الحكمة التى
أوجبت تقديم العدل على الفضل في بعض المحال ، وهلا ساوى بين العباد في الفضل ،
وهذا السؤال حاصله : لم تفضل على هذا ولم يتفضل على هذا؟ وقد تولى سبحانه الجواب
عنه بقوله : (ذلِكَ فَضْلُ اللهِ
يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢١) ،
وقوله : (لِئَلَّا يَعْلَمَ
أَهْلُ الْكِتابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَأَنَّ
الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد : ٢٩) ،
وليس في الحكمة اطلاع فرد من أفراد الناس على كمال حكمته في عطائه ومنعه ؛ بل إذا
كشف الله عن بصيرة العبد حتى أبصر طرفا يسيرا من حكمته في خلقه وأمره وثوابه
وعقابه ؛
__________________
وتأمل أحوال محال
ذلك ، واستدل بما علمه على ما لم يعلمه وتيقن أن مصدر ما علم وما لم يعلمه لحكمة
بالغة لا توزن بعقول المخلوقين ، فقد وفق للصواب.
ولما استشكل
المشركون هذا التخصيص قالوا (أهؤلاء من الله عليهم من بيننا) فقال لهم الله مجيبا
لهم : (أَلَيْسَ اللهُ
بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ) (الأنعام : ٥٣)
وهذا جواب شاف كاف ؛ وفي ضمنه أنه سبحانه أعلم بالمحل الذي يصلح لغرس شجرة النعمة
فتثمر بالشكر من المحل الّذي لا يصلح لغرسها ، فلو غرست فيه لم تثمر ، فكان غرسها
هناك ضائعا لا يليق بالحكمة كما قال تعالى : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (الأنعام : ١٢٤).
* * *
فصل
فلنرجع إلى تمام
المقصود فنقول : اختلف الناس في العقوبة على الأمور العدمية فمنكرو الحكم والتعليل
لا ضابط للعقوبة عندهم إلا محض المشيئة. وأما مثبتوا الحكم والتعليل فالأكثرون
منهم يقولون لا يعاقب على عدم المأمور لأنه عدم محض ، وإنما يعاقب على تركه ،
والترك أمر وجودي ، وطائفة منهم أبو هاشم وغيره يقولون يعاقب على الأمور الوجودية
، فيكون عقابه بالآلام. وهذا القول الذي ذكرناه قول وسط بين القولين ، وهو أن
العقوبة نوعان : فيعاقب على هذا العدم بفعل السيئات لا بالعقوبة المؤلمة ، ثم
يعاقب على فعل السيئات بالآلام ، ولا يعاقب عليها حتى تقوم الحجة عليه بالرسالة ،
فإذا عصى الرسول استحق العقوبة التامة ، وهو أولا إنما عوقب بما يمكن أن ينجو من
شره بعد قيام الحجة عليه ، أو التوبة بعد قيام الحجة عليه فإذا لم تقم عليه الحجة
كان الصبى الذي يشتغل بما لا ينفعه ، بل بما هو من أسباب ضرره ، ولا يكتب عليه قلم
الإثم حتى يبلغ ، فإذا بلغ عوقب ، ثم يكون ما اعتاده من فعل القبائح قبل البلوغ
وإن لم يعاقب عليها سبب لمعصيته بعد البلوغ ، فتكون تلك المعاصى الحادثة منه قبل
البلوغ ، فلم يعاقب العقوبة المؤلمة على معصية. وأما العقوبة الأولى فلا يلزم أن
تكون على ذنب بل
هي جارية مجرى توله الآلام عما يأكله ويشربه ويتمتع به ، فتولدت تلك الذنوب بعد
البلوغ عن تلك الأسباب المتقدمة قبله ، وهذا القول الوسط في العقوبة على العدم ،
وهو الذي دل عليه القرآن ، قال الله تعالى : (وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ
وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام : ١١٠)
فأخبر سبحانه عن عقوبتهم على عدم الإيمان بتقليب أفئدتهم وأبصارهم.
فإن قلت : هذه
عقوبة على أمر وجودى وهو تركهم الإيمان بعد إرسال الرسول ودعائه لهم ، قلت :
الموجب لهذه العقوبة الخاصة هو عدم الإيمان ، ولكن إرسال الرسول وترك طاعته شرط في
وقوع العذاب ، فالمقتضى قائم هو عدم الإيمان لكنه مشروط وقوعه بشرط وهو إرسال
الرسول ، ففرق بين انتفاء الشيء لانتفاء موجبه ومقتضيه ، وانتفائه لانتفاء شرطه
بعد قيام المقتضى.
* * *
فصل
وكذلك قوله في
الحديث الذي رواه أبو داود ، والحاكم في «مستدركه» من حديث ابن عباس عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت
رحمته خيرا لهم من أعمالهم» . وهو ما يحتج به الجبرية ، وأسعد الناس به أهل السنة الذين قابلوه بالتصديق
وتلقوه بالقبول ، وعلموا من عظمة الله وجلاله وقدر نعمه على خلقه عدم قيام الخلق
بحقوق نعمه عليهم ، إما عجزا وإما جهلا وإما تفريطا وإما إضاعة وإما تقصيرا في
المقدور من الشكر ولو من بعض الوجوه ، فإن حقه على أهل السماوات والأرض أن يطاع
فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى ، ويشكر فلا
__________________
يكفر. وتكون قوة
القلب كلها ، وقوة الإنابة والتوكل ، والخشية والمراقبة والخوف والرجاء ، جميعها
متوجهة إليه ومتعلقة به ، بحيث يكون القلب عاكفا على محبته وتألهه ، بل على إفراده
بذلك ، واللسان محبوسا على ذكره ، والجوارح وقفا على طاعته. وقد استسلمت له القلوب
أتم استسلام ، وذلت له أكمل ذل ، وخضعت له أعظم (خضوع) ، وقد فنيت بمراده ومحابه
عن مرادها ومحابها ، فلم يكن لها مراد محبوب غير مراده ومحبوبه البتة.
ولا ريب أن هذا
مقدور في الجملة ولكن النفوس تشح به ؛ وهى في الشح على مراتب لا يحصيها إلا الله
تعالى ، وأكثر المطيعين يشح به من وجه وإن أتى به من وجه ولعل ما لا تسمح به نفسه
أكثر مما تسمح به مع فضل زهده وعبادته وعلمه وورعه. فأين الّذي لا يقع منه إرادة
تزاحم إرادة الله وما يحبه منه ، فلا يعتريه غفلة واسترسال مع حكم الطبيعة والميل
إلى داعيها ، وتقصير في حق الله تعالى معرفة ومراعاة وقياما به؟ ومن الذي ينظر في
كل نعمة من النعم دقيقها وجليلها إلى أنها منة ربه وفضله وإحسانه ، فيذكره بها
ويحبه عليها ، يشكره عليها ، ويستعين بها على طاعته ، ويعترف مع ذلك بقصوره ، وأن
حق الله تعالى عليه أعظم مما أتى به ، ومن الّذي يوفى حقا واحدا من الحقوق وعبودية
واحدة حقها من الإجلال والتعظيم والنصح لله تعالى فيها ، وبذل الجهد في وقوعها على
ما ينبغى لوجهه الكريم مما يدخله على قدرة العبد ظاهرا وباطنا؟ ومع هذا فيراها محض
منة الله عليه وفضله عليه ، وأن ربه هو المستحق عليها الحمد ، وأنه لا وسيلة توسل
بها إلى ربه حتى نالها ؛ وأنه يقابلها بما تستحق أن تقابل به من كمال الذل والخضوع
والمحبة ، والبراءة من حوله وقوته ، وبمحو نفسه من البين ؛ وأن يكون فيها بالله لا
بنفسه ولله لا لنفسه؟ ومن الذي لم يصدر منه خلاف ما خلق له ولو في وقت من الأوقات
من حركة نفسه وجوارحه ، أو يترك بعض ما خلق ؛ أو يؤثر بعض حظوظه ومراده على مراد
الله ومرضاته ويزاحمه به.
ومن المعلوم عقلا
وشرعا وفطرة أن الله تعالى يستحق على عبده غاية التعظيم
والإجلال
والعبودية التي تصل إليها قدرته ، وكل ما ينافى التعظيم والإجلال يستحق عليه من
العقوبة ما يناسبه. والشرك والمعصية والغفلة واتباع الهوى وترك بذل الجهد والنصيحة
في القيام بحق الله باطنا وظاهرا ؛ وتعلق القلب بغيره ، والتفاته إلى ما سواه ،
ومنازعة ما هو من خصائص ربوبيته ؛ ورؤية النفس والمشاركة في الحول والقوة ، ورؤية
الملكة في شيء من الأشياء فلا ينسلخ منها بالكلية ، كل ذلك ينافي التعظيم
والإجلال. فلو وضع سبحانه العدل على العباد لعذبهم بعدله فيهم ولم يكن ظالما ،
وغاية ما يقدر توبة العبد من ذلك واعترافه به ، وقبول التوبة ومحض فضله وإحسانه ؛
وإلا فلو عذب عبده على جنايته لم يكن ظالما ولو قدر أنه تاب منها ، لكن أوجب على
نفسه بمقتضى فضله ورحمته ألا يعذب من تاب من ذنبه واعترف به رحمة وإحسانا ، وقد
كتب سبحانه على نفسه الرحمة ، فلا يسع الخلائق إلا رحمته وعفوه ، ولا يبلغ عمل أحد
منهم أن ينجوا به من النار أو يدخل به الجنة كما قال أطوع الخلق لربه ؛ وأفضلهم عملا
وأشدهم تعظيما له «لن
ينجى أحدا منكم عمله» قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال ولا أنا ، إلا أن يتغمدني
الله برحمة منه وفضل» .
وكان صلىاللهعليهوسلم أكمل الخلق استغفارا ، وكانوا يعدون عليه في المجلس الواحد
مائة مرة «رب
اغفر لي وتب على إنك أنت التواب الرحيم» وكان يقول «يا أيها الناس توبوا إلى ربكم ، فو
الله إني لأتوب إليه ـ وفي لفظ ـ إني لأستغفر الله في اليوم والليلة أكثر من سبعين
مرة» وكان
إذا سلم في صلاته استغفر ثلاثا.
__________________
وكان يقول بين
السجدتين «رب اغفر لي» وكان يقول في سجوده «اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي ، وإسرافي
في أمري وما أنت أعلم به مني. اللهم اغفر لي جدي وهزلي ، وخطئي وعمدى ، وكل ذلك
عندي اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت ، وما أسررت وما أعلنت ، وما أنت أعلم به مني
أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا
__________________
أنت» وكان يستغفر في استفتاح الصلاة وفي خاتمة الصلاة. وعلم
أفضل الأمة أن يستغفر في صلاته ويعترف على نفسه بظلم كثير.
وقد قال تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) (محمد : ١٩) وقال
: (لِيَغْفِرَ لَكَ
اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) (الفتح : ٢) فأهل
السموات والأرض محتاجون إلى مغفرته كما هم محتاجون إلى رحمته. ومن ظن أنه يستغنى
عن مغفرة الله فهو كمن ظن أنه مستغنى عن رحمته فلا يستغنى أحد عن مغفرته ورحمته ،
كما لا يستغنى عن نعمته ومنته. فلو أمسك عنهم فضله ومنته ورحمته لهلكوا وعذبوا ،
ولم يكن ظالما ؛ وحينئذ فتصيبهم النقمات بإمساك فضله ، وكل نقمة منه عدل.
ومما يوضح هذا أن الظلم
الذي يقدس عنه : أن يعاقبهم لما لم يعملوا ويمنعهم ثواب ما يستحقون ثوابه ، وهو
سبحانه لا يعذب إلا بسبب كما إذا أراد تعذيب الأطفال والمجانين ومن لم تقم عليه
حجته في الدنيا امتحنهم في الآخرة ؛ فعذب من عصاه منهم بأسباب أظهرها بالامتحان ،
كما أظهر امتحان إبليس سبب عقوبته. فلو أراد تعذيب أهل سماواته وأرضه كلهم
لامتحنهم امتحانا يظهر أسباب تعذيبهم فيكون عدلا منه ، فإنه يعلم من العبد ما لا
يعلمه العبد من نفسه.
قال الحسن البصرى
: «لقد دخلوا النار وإن حمده لفي قلوبهم ما وجدوا عليه سبيلا» ومما يوضح ذلك أن
مذهب أهل السنة أن الأنبياء والمرسلين أفضل من الملائكة. وقد طلبوا كلهم من
المغفرة والرحمة. فقال أول الأنبياء وأبو البشر (رَبَّنا ظَلَمْنا
أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ
الْخاسِرِينَ) (الأعراف : ٢٣)
فهو صلىاللهعليهوسلم خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته
__________________
وأسكنه جنته وعلمه
أسماء كل شيء ، وإنما انتفع في المحنة باعترافه وإقراره على نفسه بالظلم وسؤاله
المغفرة والرحمة.
وهذا نوح أول رسول
بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض يسأله المغفرة ويقول (وَإِلَّا تَغْفِرْ
لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ) (هود : ٤٧) ، وهذا
يونس يقول (لا إِلهَ إِلَّا
أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (الأنبياء : ٨٧) ،
وإبراهيم الخليل يقول (وَالَّذِي أَطْمَعُ
أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ) (الشعراء : ٨٢) ،
ويقول (رَبَّنا وَاجْعَلْنا
مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (البقرة : ١٢٨)
الآية. وكليم الرحمن موسى يقول (رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي) (القصص : ١٦) ، ويقول
(أَنْتَ وَلِيُّنا
فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (الأعراف : ١٥٥) ،
ومحمد صلىاللهعليهوسلم أفضلهم وأكملهم وقد تقدم بعض ما كان يستغفر به ربه. وسأله
الصديق أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته فقال : «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا
يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمنى إنك أنت الغفور الرحيم» وإذا كان هذا حال الصديق الّذي هو أفضل الخلق بعد الأنبياء
والمرسلين ، وأفضل من الملائكة عند أهل السنة وهو يخبر بما هو صادق فيه من ظلم
نفسه ظلما كثيرا ؛ فما الظن بسواه؟ بل إنما صار صديقا بتوفيته هذا المقام حقه الذي
يتضمن معرفة ربه وحقه وعظمته وجلاله ؛ وما ينبغى له وما يستحقه على عبده ، ومعرفة
تقصيره في ذلك ، وأنه لم يقم به كما ينبغى ، فأقر على نفسه إقرارا هو صادق فيه أنه
ظلم نفسه ظلما وسأل ربه أن يغفر له ويرحمه.
سحقا وبعدا لمن
زعم أن المخلوق يستغنى عن مغفرة ربه ولا يكون به حاجة إليها ؛ وليس وراء هذا الجهل
بالله وعظمته وحقه غاية.
__________________
فصل
فإن كثف علمك عن
هذا ولم يتسع له عقلك ؛ فاذكر النعم وما عليها من الحقوق ووازن بين شكرها وكفرها ، فحينئذ تعلم أنه لو عذب أهل السماوات
__________________
__________________
__________________
والأرض لعذبهم وهو
غير ظالم لهم. قال أنس بن مالك «ينشر للعبد يوم القيامة ثلاثة دواوين : ديوان فيه
ذنوبه ، وديوان فيه النعم ، ديوان فيه العمل الصالح فيأمر الله تعالى أصغر نعمة من
نعمه فتقوم تستوعب عمله فيه ثم تقول : أي ربي ، وعزتك وجلالك ما استوعبت ثمنى وقد
بقيت الذنوب والنعم ؛ فإذا
__________________
أراد الله بعبده
خيرا قال : ابن آدم ضعفت حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتي فيما بيني وبينك»
.
ومما يوضح الأمر
أن من حق الله على عبده أن يرضى به ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا ، وهذا الرضى
يقتضي رضاه بربوبيته له في كل ما يقضيه ويقدره عليه في عطائه له ومنعه ، وفي قبضه
وبسطه ، ورضاه بالإسلام دينا يوجب عليه رضاه به وعنه في كل ما يأمره به وينهاه عنه
ويحبه منه ويكرهه له ، فلا يكون في صدره من ذلك حرج بوجه ما. ورضاه بمحمد رسولا
يوجب أن يرضى بحكمه له وعليه ؛ وأن يسلم لذلك وينقاد له ولا يقدم عليه غيره ، وهذا
يوجب أن يكون حبه كله لله ، وبغضه كله الله ، وعطاؤه لله ومنعه لله ، وفعله لله
وتركه لله وإذا قام بذلك كانت نعم الله عليه أكثر من عمله. بل فعله ذلك من أعظم
نعم الله عليه ، وحيث وفقه له ويسره له وأعانه عليه وجعله من أهله وخصه به ، فهو
يستوجب شكر آخر عليه ، فلا سبيل له إلى القيام فيما يجب لله تعالى عليه من الشكر
أبدا. فنعم الله تطالبه بالشكر ، وأعماله لا يقبلها وذنوبه وغفلته وتقصيره
__________________
قد يستنفد عمله ؛
فديوان النعم وديوان الذنوب يستنفدان طاعاته كلها ، هذا وأعمال العبد مستحقة عليه
بمقتضى كونه عبدا مملوكا مستعملا فيما يأمر به سيده فنفسه مملوكة وأعماله مستحقة
عليه بموجب العبودية فلا يستحق ثوابا ولا جزاء ؛ فلو أمسك الثواب والجزاء الّذي
يتنعم به لم يكن ظالما ؛ فإنه يكون قد فعل ما وجب عليه بحق كونه عبدا ، ومن لم
يحكم هذا الموضع فإنه عند الذنوب وعقوباتها يصدر منه من الأقوال ما يكون فيها أو
في بعضها خصما لله متظلما منه شاكيا له ، وقد وقع في هذا من شاء الله من الناس ،
ولو حركت النفوس لرأيت العجب.
ومما يوضح ذلك أنه
سبحانه عادل ، لو عم أهل السماوات والأرض بالعذاب لكان عادلا ، فهو إنما ينزل
العذاب بسبب من يستحقه منهم ثم يعم العذاب من لا يستحقه كما أهلك سبحانه الأمم
المكذبين بعذاب الاستئصال وأصاب العذاب الأطفال والبهائم ومن لم يذنب ، وكذلك إذا
عصاه أهل الأرض أمسك عنهم قطر السماء ، فيصيب ذلك العذاب البهائم والوحوش في
الفلوات ، فتموت الحبارى في وكورها هزالا بخطايا بنى آدم ، ويموت الضب في جحره
جوعا. وقد أغرق الله أهل الأرض كلهم بخطايا قوم نوح وفيهم الأطفال والبهائم ، ولو
يكن ذلك ظلما منه سبحانه ، فالعقوبة الإلهية التى اشترك الناس في أسبابها تأتى
عامة ، وقد كسر الصحابة رضي الله عنهم يوم أحد بذنوب أولئك الذين عصوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخلوا مراكزهم ، وانهزموا يوم حنين لما حصل لبعضهم من
الإعجاب بكثرتهم ، فعمت عقوبة ذلك الإعجاب ، وهذا عين العدل والحكمة لما في ذلك من
المصالح التي لا يعلمها إلا الله تعالى.
وغاية ما يقال :
فهلا خصت العقوبة صاحب الجريمة؟ فيقال : العقوبة العامة التي تبقى آية وعبرة
وموعظة ؛ لو وقعت خاصة لارتفعت الحكمة المقصودة منها ، وفاتت العبرة ولم يظهر
للناس أنها بذلك السبيل ، بل لعل قائلا يقول : قدرا اتفق. وإذا أصاب العذاب من لا
يستحقه. فمن يثاب في الآخرة معجل له
الراحة في الدنيا
بالموت الّذي لا بد منه ، ويتداخل الثواب في الآخرة ، ومن لا يثاب كالبهائم التى
لا بد من موتها فإنها لا تتعجل الراحة وما يصيبها من ألم الجوع والعطش ، فهو من
لوازم العدل والحكمة مثل الّذي يصيبها من ألم الحر والبرد والحبس في بيوتها التى
مصلحتها أرجح من مفسدة ما ينالها ، وهكذا مصلحة هذه العقوبة العامة وجعلها عبرة
للأمم أرجح من مفسدة تألم تلك الحيوانات.
* * *
فصل (حكمة الرب تعالى في خلق الضدين)
اعلم أن من أعظم
حكمة الرب وكمال قدرته ومشيئته خلق الضدين إذ بذلك تعرف ربوبيته وقدرته وملكه ،
كالليل والنهار ، والحر والبرد ؛ والعلو والسفل ، والسماء والأرض ، والطيب والخبيث
، والداء والدواء ، والألم واللذة ، والحسن والقبيح ، فمن كمال قدرته وحكمته خلق
جبريل وخلقك ، فخلق أطيب الأرواح وأزكاها وأطهرها وأفضلها ، وأجرى على يديه كل خير
، وخلق أنجس الأرواح وأخبثها وأرداها وأجرى على يديه كل شر وكفر وفسوق ومعصية وجعل
الطيب منحازا إلى تلك الروح ، والخبيث منحازا إلى هذه الروح فتلك مغناطيس كل طيب
وهذه مغناطيس كل خبيث وأى حكمة أبلغ من هذا؟
يوضحه : أن المادة
الأرضية مشتملة على الطيب والخبيث ، وقد اقتضت الحكمة أن خلق منها آدم وذريته فلا
بد أن يأتى بنو آدم كذلك مشاكلتهم لمادتهم. والمادة النارية فيها الخير والشر ؛
فلا بد أن يأتى المخلوق منها كذلك. والله تعالى يريد تخليص الطيب من المادة
الأرضية من الخبيث ليجعل الطيب مجاورا له في دار كرامته مختصا برؤيته والقرب منه.
ويجعل الخبيث في دار الخبث ، حظه البعد منه والهوان والطرد والإبعاد ، إذ لا يليق
بحمده وحكمته
وكماله أن يكون
مجاورا له في داره مع الطيبين. فأخرج من المادة النارية من جعله محركا للنفوس
داعيا لها إلى محل الخبث لتنجذب إليه النفوس الخبيثة بالطبع ، وتميل إليه
بالمناسبة ، فتتحيز إلى ما يناسبها وما هو أولى بها حكمة ومصلحة وعدلا ، لا يظلمها
في ذلك بارئها وخالقها ، بل أقام داعيا يظهر بدعوته إياها واستجابتها له ما كان
معلوما لبارئها وخالقها من أحوالها ، وكان خفيا على العباد فلما استجابت لأمره ؛
ولبت دعوته ، وآثرت طاعته على طاعة ربها ووليها الحق الّذي تتقلب في نعمه وإحسانه
ظهر لملائكته ورسله وأوليائه حكمته وعدله في تعذيب هذه النفوس وطردها عنه وإبعادها
عن رحمته ؛ وأقام للنفوس الطيبة داعيا يدعوها إليه إلى مرضاته وكرامته ، فظهر لهم
حمده التام وحكمته البالغة في الأمرين ، وعلموا أن خلق عدو الله إبليس وجنوده
وحزبه ، وخلق وليه وعبده جبريل وجنوده وحزبه ، هو عين الحكمة والمصلحة ، وأن تعطيل
ذلك مناف لمقتضى حكمته وحمده.
يوضحه : أن من
لوازم ربوبيته تعالى وإلهيته إخراج الخبأ في السماوات والأرض من النبات والأقوات
والحيوان والمعادن وغيرها ، وخبأ في السماوات ما أودعها من أمره الّذي يخرجه كل
وقت بفعله وأمره وهذا من تدبيره لملائكته وتصرفه في العالم العلوي والسفلى ،
فبإخراج هذا الخبأ تظهر قدرته ومشيئته وعلمه وحكمته. وكذلك النفوس فيها خبأ كامن
يعلمه سبحانه منها ، فلا بد أن يقيم أسبابا يظهر بها خبأ النفوس الذي كان كامنا
فيها ، فإذا صار ظاهرا عيانا ترتب عليه أثره. إذ لم يكن يترتب على نفس العلم به
دون أن يكون معلوما واقعا في الوجود.
* * *
(حكمة الابتلاء)
قال تعالى : (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ
عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران : ١٧٩)
، وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى
الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً)
(هود : ٧) فأخبر
أنه خلق العالم العلوى والسفلى ليبلو عباده ، فيظهر من يطيعه ويحبه ويجله ويعظمه
ممن يعصيه ويخالفه ، وهذا الابتلاء والامتحان يستلزم أسبابا يحصل بها ؛ فلا بد من
خلق أسبابه خلق الشهوات وما يدعو إليها وتزيينها فعل ذلك وقال تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ
زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (الكهف : ٧) فهذه
ثلاث مواضع في القرآن تبين حكمته في خلق أسباب الابتلاء والاختبار ، فظهر أن من
بعض الحكم في خلق عدو الله إخراج خبأ النفوس الخبيثة التي شرها وخبيثها كامن فيها
فأخرج خبأها بزناد دعوته ، كما يخرج خبأ النار بقدح الزناد ، وكما يخرج خبأ الأرض
بإنزال الماء عليها ، وكما يخرج خبأ الأنثى بلقاح الذكر لها ، وكما يخرج خبأ
القلوب الذاكية بإنزال وحيه وكلامه عليها.
فكم له سبحانه من
حكمة بالغة ، وآية ظاهرة في خلق عدوه إبليس؟ فإن من كمال الحكمة والقدرة إظهار شرف
الأشياء الفاضلة بأضدادها ، فلو لا الليل لم يظهر فضل النهار ونوره وقدره ، ولو لا
الألم لم يعرف فضل اللذة وشرفها وقدرها ، ولو لا المرض لم يعرف فضل العافية ، ولو
لا وجود قبح الصورة لم يظهر فضل الحسن وجمالها. ولهذا كان خلق النار وعذاب أهلها
فيها أعظم لنعيم أهل الجنة وأبلغ في معرفة قدرها وخطرها فكان خلق هذا القبيح
الشنيع المنظر الذي صورته أشنع من باطنه ؛ وباطنه أقبح من صورته ، مكملا لحسن تلك
الروح الزكية الفاضلة ، التى كمل الله تعالى بصورتها جمال الظاهر والباطن ؛ فلو
كان الخلق كلهم على حسن يوسف مثلا ، فأى فضيلة وتمييز يكون له؟ ولو كانت الكواكب
كلها شموسا وأقمارا فأى مزية كانت تكون للنيرين .
* * *
فصل
(كمال العبودية يظهر عند الاختبار)
إن كمال العبودية
والمحبة والطاعة إنما يظهر عند المعارضة والدواعى إلى الشهوات والإرادات المخالفة
للعبودية ، وكذلك الإيمان إنما تتبين حقيقته عند
__________________
المعارضة
والامتحان وحينئذ يتبين الصادق من الكاذب. قال تعالى : (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا
أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
الْكاذِبِينَ) (العنكبوت : ١ ـ ٣)
، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ
وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (آل عمران : ١٤٢)
، وقال تعالى : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ
تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ
مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) (البقرة : ٢١٤) ،
فالجنة لا ينالها المكلفون إلا بالجهاد والصبر ، فخلق الشياطين وأوليائهم وجندهم
من أعظم النعم في حق المؤمنين. فإنهم بسبب وجودهم صاروا مجاهدين في سبيل الله
ويحبون لله ويبغضون لله ، يوالون فيه ويعادون فيه ، ولا تكمل نفس العبد ولا يصلح
لها الزكاة والفلاح إلا بذلك. وفي التوراة : إن الله تعالى قال لموسى «اذهب إلى
فرعون فإني سأقسى قلبه لتظهر آياتى وعجائبي ويتحدث بها جيلا بعد جيل».
وتكذيب المشركين
لمحمد صلىاللهعليهوسلم (وسعيهم) في إبطال
دعوته ومحاربته كانت من أعظم النعم عليه وعلى أمته ، وإن كان من أعظم النقم على
الكافرين ، فكم حصل في ضمن هذه المعاداة والمحاربة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ولأصحابه ولأمته من نعمة ، وكم رفعت بها درجة؟ وكم قامت
بها لدعوته من حجة وكم أعقب ذلك من نعيم مقيم وسرور دائم ، ولله كم من فرحة وقرة
عين في مغايظة العدو وكبته؟ فما طاب العيش إلا بذلك ، فمعظم اللذة في غيظ عدوك ،
فمن أعظم نعم الله على عباده المؤمنين أن خلق لهم مثل هذا العدو ، وأن القلوب
المشرقة بنور الإيمان والمعرفة لتعلم أن النعمة بخلق هذا العدو ليست بدون النعمة
بخلق أسباب اللذة والنعمة ، فليست بأدنى النعمتين عليهم ، وإن كانت مقصودة لغيرها.
فإن الّذي يترتب (على ذلك) من الخير المقصود لذاته أنفع وأفضل وأجل من فواته.
فإن قيل : إذا كان
خلق إبليس وجنوده من أعظم النعم على المؤمنين ؛ فأى حكمة ومصلحة حصلت لهؤلاء بخلقهم؟
فكيف اقتضت الحكمة أن خلقهم
لضررهم المحض لأجل
منفعة أولئك؟ وإذا أثبتم اقتضاء الحكمة لذلك طولبتم بأمر هو أشكل عليكم من هذا ؛
وهو ما جعل من المضار وسيلة إلى حصول غيره إن لم تكن الغاية حاصلة منه ؛ وإلا كان
تفويته أولى لما في تفويته من عدم الشر والفساد ، وهذه الوسيلة قد ترتب عليها دخول
واحد من الألف إلى الجنة وتسعمائة وتسعة وتسعين إلى النار. فأين الحكمة والمصلحة
التى حصلت للمكلفين في خلق الشياطين؟ فهذان سؤالان فى هذا المقام لا يتم مقصودكم
إلا بالجواب عنهما.
قيل : حاصل
السؤالين أنه أي مصلحة في خلق الشياطين والكفرة لأنفسهم ، وأن مفسدة من خلقوا
لمصلحته بهم أضعاف ما حصل لهم من المصلحة والجواب عنها من عدة مسالك.
المسلك الأول : إنا وإن عللنا أفعال الرب بالحكم فإنا لا نوجب عليه حكمة رعاية
المصالح بل نقول : إن له في كل خلقه (من الحكمة ما) تعجز العقول عن الإحاطة بها.
وحكمته أعلى وأعظم أن توزن بعقولنا. وقد بينا بعض الحكم في خلقهم وما يترتب عليها
مما هو أحب إليه من فواته ، وهذا المحبوب له إن استلزم وجوده مفسدة في حق ذلك
المخلوق ، فالحكمة الحاصلة بخلقه أعظم من تلك المفسدة وهذا كما أن المصلحة
والمفسدة الحاصلة من ذبح القرابين والهدي والأنساك والضحايا وغيرها أعظم من
المفسدة الحاصلة للحيوان بالذبح ، والكفار قرابين أهل الإيمان.
المسلك الثاني : إنا نعلل أفعاله سبحانه بالمصالح ، لكن لا على الوجه الذي سلكه
أهل القدر والاعتزال من رعاية المصالح التى اقترحتها عقولهم وحكمت بأنه هو أصلح.
وهذا مسلك باطل يقابل في البطلان مسلك خصومهم من الجبرية الذين ينكرون أن يفعل
لغاية أو أن يكون لفعله علة البتة. فنقول : نعم في خلقهم أعظم المصالح التى هي فعل
من ليس كمثله شيء ، في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله. بل هو منزه عن مشابهة
خلقه في شيء من ذلك. ثم لنا في هذا المسلك طريقان : أحدهما أن نقول خلقوا لمصلحتهم
، من معرفته سبحانه
وعبادته وطاعته ؛
وفطروا على ذلك وهيئوا له ومكنوا منه ، وجعل فيهم الاستعداد والقبول وبهذا قامت
حجة الله عليهم وظهر عدله فيهم ، فلما أبوا واستكبروا أن ينقادوا لطاعته وتوحيده ومحبته
كانوا هم الظالمين المعتدين المستحقين للعذاب ؛ فجعل تعذيبهم من تمام نعيم أوليائه
، ومصلحة محضة في حقهم ، فإنهم لما فوتوا المصالح التي خلقوا لأجلها واستحقوا
عليها العقوبة صارت تلك العقوبة مصالح لأوليائه. وهذا بمنزلة ملك له عبيد ، هيأ كل
واحد منهم لخدمته والقرب منه والحظوة بكرامته ، فأبى بعضهم ذلك ولم يرضى به ، فسلط
الملك عبيده المطيعين له عليهم ، وقال أبحت لكم دماءهم وأموالهم ونسائهم ومساكنهم
شكرا لكم على طاعتى ، وعقوبة لهم على استكبارهم عنها ، وأريتكم عظيم نعمتى عليكم
بما أنزلت بهم من نقمتى. فإنكم لو عملتم مثل عملهم جعلتكم بمنزلتهم ، فكلما شاهدوا
عقوبتهم ازدادوا محبة ورغبة وذكرا وشكرا للملك واجتهادا في طاعته وبلوغ مرضاته ؛
وتلك العقوبة التي نالتهم إنما هى بسبب أعمالهم ، لم يظلمهم الملك شيئا ، ولله
المثل الأعلى والنعمة السابغة والحجة البالغة ، قال الله تعالى : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ
شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ، وَكانَ اللهُ شاكِراً عَلِيماً) (النساء : ١٤٧).
فتأمل ما تحت هذا
الخطاب من العدل واللطف والرحمة ، وأنه سبحانه ليس له غرض في تعذيبكم ، ولا يعذبكم
تشفيا ولا لحاجة به إلى ذلك ، ولا هو ممن يعذب سدى باطلا بلا موجب ولا سبب ، ولكن
لما تركتم الشكر والإيمان واستبدلتم به الكفر والشرك وجحود حقه عليكم وإنكار كماله
، وأبدلتم نعمته كفرا ؛ أحللتم بأنفسكم جزاء ذلك وعقوبته وسعيتم بجهدكم إلى دار
العقوبة ساعين في أسبابها ، بل دعاته ورسله تمسك بأيديكم ، وحجزكم عن الطريق
الموصلة إلى محل عذابه ؛ وأنتم تجاذبونهم أشد المجاذبة وتتهافتون فيها. ولم يكفكم
ذلك حتى بغيتم طريق رضاه ورحمته عوجا ؛ وصددتهم وعنها ونفرتم عباده عنها بجهدكم ،
وآثرتم موالاة عدوه على موالاته وطاعته ، فتحيزتم إلى
أعدائه متظاهرين
عليه ، ساعين في إبطال دعوته الحق ، فما يفعل سبحانه بعذابكم لو لا أنكم أوقعتم
أنفسكم فيه بما ارتكبتم.
وهذا المسلك ظاهر
المصلحة والحكمة والعدل في حقهم وإن كانوا هم الذين فوتوا على أنفسهم المصلحة ،
قال الله تعالى : (وَما ظَلَمْناهُمْ
وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (النحل : ١١٨) ،
وهذا الأمر لا بد أن يشهدوه إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور ، ويقروا به
ولا يبقى عندهم ريب ولا شك ، وتأمل قوله الحق (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧) ،
وقوله : (وَلا تَكُونُوا
كَالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ،
كيف عدل فيهم كل العدل بأن نسيهم كما نسوه وأنساهم حظوظ أنفسهم ونعيمها وكمالها ،
وأسباب لذاتها وفرحها ، عقوبة لهم على نسيان المحسن إليهم بصنوف النعم ، المتحبب
إليهم بآلائه ، فقابلوا ذلك بنسيان ذكره والإعراض عن شكره ، فعدل فيهم بأن أنساهم
مصالح أنفسهم فعطلوها ، وليس بعد تعليل مصلحة النفس إلا الوقوع فيما تفسد به
وتتألم بفوته غاية الألم.
ونحن فى هذا
المسلك في غنية عن أن نقول إن تعذيبهم غير مصلحتهم كما قاله غير واحد من أرباب
المقالات ، وكما حكاه عنهم الأشعرى وغيره ، فإن هؤلاء لم يثبتوا وجه المصلحة لهم
في تعذيبهم. بل أرسلوا القول بذلك إرسالا ، وكأنهم حاموا حول أمر لم يمكنهم وروده
، وهو أن هؤلاء وإن كانوا به مشركين ولحقه جاحدين ، فإنهم إنما خلقوا على الفطرة
السليمة التى هى دين الله ، ولكن عرض لهم ما نقلهم عنها حتى فسدت وبطل حكمها ،
وصار الناقل لهم عنها هو الحاكم العامل فيهم. وهذا أمر خارج عن مقتضى الخلقة وأصل
الفطرة ، كما أخبر به النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث الّذي رواه مسلم فى «صحيحه» عن عياض ابن حمار
المجاشعى عن النبي صلىاللهعليهوسلم فيما يرويه عن ربه عزوجل أنه قال : «إني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم
أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ؛ وأمرتهم أن يشركوا
بي ما لم أنزل به سلطانا» .
__________________
وفي «الصحيحين» من
حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «ما من مولود يولد ألا على الفطرة فأبواه
يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» فأخبر أن أصل ولادتهم ونشأتهم على الفطرة ، وأن التهويد
والتنصير والتمجيس طارئ طرأ على الفطرة وعارض عرض لها واقتضى هذا العارض الّذي عرض
للفطرة أمورا استلزمت ترتيب آثارها عليها بحسب قوتها وضعفها فالآلام والعقوبات
المترتبة على ذلك من جنس الآلام والعقوبات المترتبة على خروج البدن عن صحته ، وهو
إنما خلق على الصحة والاعتدال فإذا استمر على ذلك لم يعرض له ألم ، وكذلك القلب
فطر على الفطرة الصحيحة ، فلما عرض له الفساد ترتب على ذلك العارض أثره من الآلام
والعقوبات ولا ريب أن ذلك العارض ليس في أصل الفطرة بحيث يستحيل زواله ، بل هو
ممكن الزوال ، والناس في زواله فحين عاد إلى موجب الفطرة أجاب الداعى من غير توقف
، ومنهم من توقف لقوة العارض فاحتاج مع الدعوة إلى موعظة تتضمن ترهيبه وترغيبه ،
ومنهم من غلبت عليه المادة الفاسدة فاحتاج مع ذلك إلى المجادلة. ومنهم من كان
العارض أشد من ذلك فعدل معه إلى الجلاد والمحاربة ونوع من العقوبة ، فأزال ذلك تلك
المادة وأعاد الفطر إلى صحتها. ومنهم من كان فساد فطرته قد استحكم وتمكن ، فصار له
بمنزلة الصفة الثابتة. ولم يكن بد من أن يحتمى عنه ليزول ذلك الخبث ويتخلص منه ،
ويعود على ما خلق عليه أولا.
ولهذا لما خرج خبث
الموحدين من أهل الكبائر بسرعة تعجل خروجهم من النار وعاد إلى ما خلقوا عليه أولا
من كمال النشأة وزوال موجب هذا العذاب ، فلم يبق لهم مصلحة في التعذيب بعد ذلك.
وأما المشركون : فلما كان العارض استحكم فيهم وصار كالهيئة والصفة استمروا في
النار تحمي عليهم أشد الحمو لقوة ذلك الخبث ولزومه لهم. ومعلوم أنه لو فارقهم في
الدنيا وانسلخوا منه لهم
__________________
يعذبوا ؛ فإذا
فارقهم في النار وانسلخوا منه زال موجب العذاب ؛ فعمل مقتضى الفطرة عمله ، وأبدلوا
ذلك بوجوه ، وهذا أحدها.
الوجه الثاني : أن
الله تعالى لم يخلق شيئا يكون شرا محضا من كل وجه ، لا خير فيه بوجه من الوجوه ،
فإن هذا ليس في الحكمة بل ذلك لا يكون إلا عدما محضا ، والعدم ليس بشيء والوجود
إما خير محض ، وإما أن يكون فيه خير من وجه وشر من وجه ، فأما أن يكون شرا من كل
وجه ، فهذا ممتنع ؛ ولكن قد يظهر ما فيه من الشر ويخفي ما في خلقه من الخير. ولهذا
قال تعالى للملائكة ؛ وقد سألوا عن خلق هذا القسم فقالوا : (أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها
وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قالَ
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠).
فإذا كانت
الملائكة مع قربهم من الله وعلمهم بأسمائه وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه لم
يعلموا حكمته سبحانه في خلق من يفسد كما يعلمها الله ، بل هو سبحانه متفرد بالعلم
الذي لا يعلمونه ، فالبشر أولى بأن لا يعلموا ذلك ، فالخير كله في يدى الرب والشر
ليس إليه ، فلا يدخل في أسمائه ولا في صفاته ولا في أفعاله ، وإن دخل في مفعولاته
بالعرض لا بالذات. وبالقصد الثاني لا الأول دخولا إضافيا. وأما الخير فهو داخل في
أسمائه وصفاته وأفعاله ومفعولاته بالذات والقصد الأول ، فالشر إنما يضاف له مفعول
لا فعله ، وفعله خير محض. وهذا من معانى أسمائه المقدسة ، كالقدوس والسلام
والمتكبر ، فالقدوس الّذي تقدس عن كل عيب ، وكذلك السلام ، وكذلك المتكبر ، قال
ميمون بن مهران : تكبر عن السوء والسيئات ، فلا يصدر منه إلا الخيرات ، والخيرات
كلها منه فهو الذي يأتي بالحسنات ويذهب بالسيئات ، ويصلح الفاسد ولا يفسد الصالح ،
بل ما أفسد إلا فاسدا ، وإن كان الظاهر الّذي يبدو للناس صالحا فهو يعلم منه ما لا
يعلم عباده.
والمقصود إن هي
الإعدام ولوازمها ؛ فالشر ليس إلا الذنوب وموجباتها وسيئات الأعمال وسيئات الجزاء
وهى مترتبة على عدم الإيمان والطاعة وموجباتها فإذا أراد
الله بعبده الخير
أراد من نفسه سبحانه أن يوفقه له ويعينه عليه فيوجد منه ؛ فيترتب عليه من الأمور
الوجودية ما فيه صلاحه وسعادته ، فإذا لم يرد به خيرا لم يرد من نفسه أن يعينه
ويوفقه فيبقى مستمرا على عدم الخير والّذي هو الأصل ، فيترتب على هذا العدم فقد
الخير وأسبابه وذلك هو الشر والألم ، فإذا بقيت النفس على عدم كمالها الأصلي وهى
متحركة بالذات لم تخلق ساكنة تحركت في أسباب مضارتها وألمها ، فتعاقب بخلق أمور
وجودية ، يريد الله سبحانه تكوينها عدلا منه في هذه النفس وعقوبة لها. وذلك خير من
جهة كونه وعدلا وحكمة وعبرة ، وإن كان بالإضافة إلى المعذب والمعاقب فلم يخلق الله
سبحانه شرا مطلقا بل الذي خلقه من ذلك خير في نفسه وحكمة وعدلا. وهو شر نسبى إضافى
في حق من أصابه ، كما إذا أنزل المطر والثلج والرياح وأطلع الشمس كانت هذه خيرات
في نفسها وحكم ومصالح وإن كانت شرا نسبيا إضافيا في حق من تضرر بها.
وبالجملة فالكلمة
الجامعة لهذا هى الكلمة التي أثنى بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم على ربه حيث يقول : «والشر ليس إليك» فالشر لا يضاف إلى من
الخير بيديه ، وإنما ينسب إلى المخلوق كقوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ) (الفلق : ١ ، ٢)
فأمره أن يستعيذ به من الشر الّذي في المخلوق ، فهو الذي يعيذ منه وينجى منه وإذا
أخلى العبد قلبه من محبته والإنابة إليه وطلب مرضاته ، وأخلى لسانه من ذكره والثناء
عليه ، وجوارحه من شكره وطاعته فلم يرد من نفسه ذلك ونسى ربه ، لم يرد الله سبحانه
ان يعيذه من ذلك ، ونسيه كما نسيه وقطع الإمداد الواصل إليه منه كما قطع العبد
العبودية والشكر والتقوى التي تناله من عباده قال تعالى (لَنْ يَنالَ اللهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها
وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ) (الحج : ٣٧) فإذا
أمسك العبد عما ينال ربه منه أمسك الرب عما ينال العبد من توفيقه. وقد صرح سبحانه
بهذا المعنى بعينه في قوله تعالى : (وَنَذَرُهُمْ فِي
طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (الأنعام : ١١٠)
أي نخلي بينهم وبين نفوسهم التي ليس لهم منها إلا الظلم والجهل. وقال تعالى : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا
اللهَ
فَأَنْساهُمْ
أَنْفُسَهُمْ) (الحشر : ١٩) ،
قال تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ
لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) (المائدة : ٤١)
فعدم إرادته تطهيرهم وتخليته بينهم وبين نفوسهم أوجب لهم من الشر ما أوجبه ، فالذى
إلى الرب وبيديه ومنه هو الخير ، والشر كان منهم مصدره وإليهم كان منتهاه ؛ فمنهم
ابتدأت أسبابه بخذلان الله تعالى لهم تارة وبعقوبته لهم به تارة ؛ وإليهم انتهت
غايته ووقوعه ، فتأمل هذا الموضع كما ينبغى ، فإنه يحل عنك إشكالات حار فيها أكثر
الناس ولم يهتدوا إلى الجمع بين الملك والحمد والعدل والحكمة.
* * *
المسلك
الثالث : مسلك الرحمة فإنها
هى المسئولية الشاملة العامة للموجودات كلها وبها قامت الموجودات ، فهي التي وسعت
كل شيء والرب وسع كل شيء رحمة وعلما فوصلت رحمته إلى حيث وصل علمه ، فليس موجود
سوى الله تعالى إلا وقد وسعته رحمته وشملته وناله منها حظ ونصيب. ولكن المؤمنون
اكتسبوا أسبابا استوجبوا بها تكميل الرحمة ودوامها ، والكفار اكتسبوا أسبابا
استوجبوا بها صرف الرحمة إلى غيرهم ، فأسباب الرحمة متصلة دائمة لا انقطاع لها
لأنها من صفة الرحمة ، والأسباب التي عارضتها مضمحلة زائلة لأنها عارضة على أسباب
الرحمة طارئة عليها ، وإذا كان كل مخلوق قد انتهت إليه الرحمة ووسعته فلا بد أن
يظهر أثرها فيه آخرا كما ظهر أثرها فيه أولا. فإن أثر الرحمة ظهر فيه أول النشأة
ثم اكتسب ما يقتضي آثار الغضب ، فإذا ترتب على الغضب أثره عادت الرحمة فاقتضت
أثرها آخرها كما اقتضته أولا لزوال المانع وحصول المقتضي في الموضعين.
ومما يوضح هذا
المعنى أن الجنة مقتضى رحمته ومغفرته ، والنار من عذابه ، وهو مخلوق منفصل عنه ،
ولهذا قال تعالى (نَبِّئْ عِبادِي
أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ) (الحجر : ٣٩ ، ١٨٧)
، وقال : (اعْلَمُوا أَنَّ
اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المائدة : ٩٨) ،
قال تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) (الأعراف : ١٨٧).
فالنعم موجب
أسمائه وصفاته ، وأما العذاب فإنه من مخلوقاته المقصودة لغيرها بالقصد الثاني ،
فهو سبحانه إذا ذكر الرحمة والإحسان والعفو نسبه إلى ذاته ، وأخبر أنه من صفاته.
وإذا ذكر العقاب نسبه إلى أفعاله ولم يتصف به. فرحمته من لوازم ذاته ، وليس غضبه
وعقابه من لوازم ذاته ، فهو سبحانه لا يكون إلا رحيما ، كما أنه لا يكون إلا حيا ،
عليما قديرا سميعا ؛ وأما كونه لا يكون إلا غضبانا معذبا ، فليس ذلك من كماله
المقدس ؛ ولا هو مما أثنى به على نفسه وتمدح به.
يوضح هذا المعنى
أنه كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب عليها الغضب وسبقت رحمته غضبه وغلبته ، ولم
يسبقها الغضب ولا غلبها ، ووسعت رحمته كل شيء ، ولم يسع غضبه وعقابه كل شيء ، وخلق
الخلق ليرحمهم لا ليعاقبهم ، والعفو أحب إليه من الانتقام ، والفضل أحب إليه من
العدل ، والرحمة آثر عنده من العقوبة ، لهذا لا يخلد في النار من في قلبه أدني
مثقال ذرة من خير ، وجعل جانب الفضل الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى
أضعاف كثيرة وجانب العدل : السيئة فيه بمثلها وهي معرضة للزوال بأيسر شيء ، وكل
هذا ينفي أن يخلق خلقا لمجرد عذابه السرمدي الذي لا انتهاء له ولا انقضاء ؛ لا
لحكمة مطلوبة إلا لمجرد التعذيب والألم الزائد على الحد فما قدر الله حق قدره من
نسب إليه ذلك ، بخلاف ما إذا خلقهم ليرحمهم ويحسن إليهم وينعم عليهم ، فاكتسبوا ما
أغضبه وأسخطه فأصابهم من عذابه وعقوبته بحسب ذلك العارض الذي اكتسبوا ثم اضمحل سبب
العقوبة وزال وعاد مقتضى الرحمة. فهذا هو الذي يليق برحمة أرحم الراحمين وحكمة
أحكم الحاكمين.
ومما يبين هذا أن
الجنة لا يدخلها من لم يعمل خيرا قط ؛ ويدخلها من ينشئه الله تعالى فيها ؛ ويدخلها
من دخل النار أولا ويدخلها الأبناء بعمل الآباء ، وأما النار فذلك كله منتف فيها ،
ولا يدخلها من لم يعمل شرا قط ، ولا يثنى الله تعالى فيها خلقا يعذبهم من غير جرم
، ولا يدخلها من يدخل الجنة أولا ولا يدخلها الذرية بكفر الآباء وعملهم ، وهذا يدل
على أنها خلقت لمصلحة من
دخلها الذيب فضلاته وأوساخه وأدرانه ، وتطهره من خبثة ونجاسته ؛ كالكير
الذي يخرج خبث الجواهر المنتفع بها ، ولمصلحة من يدخلها ليردعه ذكرها والخبر عنها
عن ظلمه وغيه ، فليست الداران عند الله سواء في الأسباب والغايات والحكم والمصالح.
يوضح ذلك أن الله
تعالى لا يعذب أحدا إلا لحكمة ، ولا يضع عذابه إلا في المحل الذي يليق به ، كما
اقتضى شرعه العقوبات الدنيوية بالحدود التى أمر بإقامتها لما فيها من المصالح
والحكم في حق صاحبها وغيره ، وكذلك ما يقدره من المصائب والآلام ؛ فيها من الحكم
ما لا يحصيه إلا الله ، من تزكية النفوس وتطهيرها ، والردع والزجر ، وتعريف قدر
العاقبة ، وامتحان الخلق ، ليظهر من يعبده على السراء والضراء ممن يعبده على حرف
إلى أضعاف ذلك من الحكم وكيف يخلو أعظم العقوبات عن حكمة ومصلحة ورحمة ، إن مصدرها
عن تقدير أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين والجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب. ولهذا يدخل
النار من أهل التوحيد من فيه خبث وشر حتى يتطهر فيها ويطيب ، ومن كان فيه دون ذلك
حبس على قنطرة بين الجنة والنار ؛ حتى إذا هذب ونقى أذن له بالدخول ، ومعلوم أن
النفوس الشريرة الظالمة المظلمة الأثيمة لا تصلح لتلك الدار التي هي دار الطيبين.
ولو ردت إلى الدنيا قبل العذاب لعادت لما نهيت عنه فلا تصلح لدار السلام التى سلمت
من كل عيب وآفة ، فاقتضت الحكمة تعذيب هذه النفوس عذابا يطهر نفوسهم من ذلك الشر
والخبث ؛ ويكون مصلحة لهم ، ورحمة بهم ذلك العذاب وهذا معقول في الحكمة. أما خلق
النفوس لمجرد العذاب السرمدي لا لحكمة ولا لمصلحة فتأباه حكمة أحكم الحاكمين وأرحم
الراحمين.
__________________
(من دخل الجنة لا يخرج منها بعكس النار)
يوضحه : أن الله
تعالى قيد دار العذاب ووقتها بما لم يقيد به دار النعيم وبوقتها ؛ فقال تعالى في
دار العذاب : (لابِثِينَ فِيها
أَحْقاباً) (النبأ : ٢٣) وقال
: (النَّارُ مَثْواكُمْ
خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨) ،
فقيدها بالمشيئة وأخبر أن ذلك صادر عن حكمته وعلمه وقال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي
النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ
وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ ، إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٦ ـ ١٠٧)
وأما الجنة فأنه أخبر ببقاء نعيهما ودوامه وأنه لا نفاد له ولا انقطاع ؛ فقال : (أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها) (الرعد : ٣٥) ،
وقال : (إِنَّ هذا لَرِزْقُنا
ما لَهُ مِنْ نَفادٍ) (ص : ٥٤) ، وأما
النار فغاية ما أخبر به عنها أن أهلها لا يخرجون منها ، وأنهم خالدين فيها ما هم
منها بمخرجين ، وهذا مجمع عليه بين أئمة الإسلام ، وهو معلوم بالضرورة أن الرسول
جاء به ، ولكن الكلام في مقام آخر أن النار أبدية لا تفنى أصلا ، كما أن الجنة
كذلك ؛ فهذا الذي تكلم فيه الصحابة والتابعون ومن بعدهم.
قال حرب في «مسائله»
: سألت إسحاق عن قول الله تعالى : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : أتت هذه الآية على كل وعيد في القرآن. قال إسحاق :
حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا معتمر بن سليمان قال : قال أبي : حدثني أبو نضرة عن
جابر وأبي سعيد أو بعض أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ
فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٧٠) قال
المعتمر قال أبى : كل وعيد في القرآن. وقال ابن جرير في «تفسيره» : حدثنا الحسن بن
يحيى حدثنا عبد الرزاق حدثنا ابن التميمي عن أبيه عن أبي نضرة عن جابر وأبي سعيد.
وعن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (إِلَّا ما شاءَ
رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) قال : هذه الآية تأتي على القرآن كله حيث يقول في القرآن (خالِدِينَ فِيها) تأتى عليه.
قال ابن جرير حدثت
عن ابن المسيب عمن ذكره عن ابن عباس قال : (خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) قال : أمر النار تأكلهم ، قال : وقال ابن مسعود : «ليأتين
على جهنم زمان تخفق أبوابها ، ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا».
وقال أحمد : حدثنا
ابن حميد حدثنا جرير عن إسحاق عن الشعبي قال : جهنم أسرع الدارين عمرانا وأسرعها
خرابا. وقال حرب عن إسحاق بن راهويه : حدثنا عبد الله بن معاذ حدثنا أبى ، حدثنا
شعبة عن أبي بلج : سمع عمرو بن ميمون يحدث عن عبد الله بن عمرو قال : «ليأتين على
جهنم يوم تصفق فيه أبوابها ليس فيها أحد ، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابا» ، وقال
إسحاق : حدثنا عبيد الله بن معاذ ؛ حدثنا أبي ؛ حدثنا شعبة عن يحيى بن أيوب عن أبي
زرعة عن أبي هريرة قال : «ما أنا بالذى أقول إنه سيأتى على جهنم يوم لا يبقى فيها
أحد وقرأ : (فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ).
* * *
فصل
ومن عدله سبحانه
أنه لا يزيد أحدا في العذاب على القدر الّذي يستحقه ، وهذا يشهده أهل النار في
النار ؛ ومدة الكفر والشرك منقطعة ، فكيف يكون العذاب على المنقطع سرمدا أبدا
الآبدين لا انقطاع له البتة؟ بخلاف النعمة ، فإنه محض فضله ؛ فدوامه لا ينافي
الحكمة.
فإن قيل : لما كان
من نيته أن يستمر على الشرك والكفر ، ولو عاش أبدا كان عقابه موافقا لهذه النية
والإصرار ، فالجواب : إن العقوبة الدائمة إما أن تكون مصالحة للمعاقب ؛ أو للمعاقب
أو لهما ، أو غيرهما ، أو لا مصلحة فيها البتة. والأقسام كلها باطلة. أما المعاقب
فإنه إنما تكون العقوبة مصلحة في حقه إذا كان محتاجا إليها لشفاء غيظه وإطفاء نار
غضبه التي يتأذى ببقائها. والله تعالى منزه
عن ذلك كله ؛ فلم
يبلغ العباد ضره فيضروه ، ولا نفعه فينفعوه ، ولو أن أول خلقه وآخرهم ، وإنسهم
وجنهم ، كانوا على أفجر قلب رجل منهم ما ضره ذلك شيئا ولا نقصه من ملكه شيئا . وأما أنه لا مصلحة للمعاقب ولا لغيره في ذلك فظاهر. فتعين
القسم الأخير وهو أنه مصلحة فيها ، ودون ذلك فهو عبث يتعالى الله عنه ، سبحانه أن
يخلق باطلا أو سدى أو عبثا أو خاليا عن مصلحة وحكمة ؛ وهذا بخلاف ما إذا قيل :
وضعت العقوبة لمصلحة ، وتقدرت بقدرها ، فإذا حصلت الحكمة والغاية المطلوبة منها
وترتب المصلحة التى قصدت بها عاد الأمر إلى الرحمة والجود.
ثم إن هذه النفوس
الظالمة الكافرة لها بداية وتوسط ونهاية فهي في بدايتها قابلة للحق والعدل ، ولهذا
لم يعذبها الله في هذه الحال وإن علم منها أنها إنما تختار الكفر ، وأما في حال
توسطها من حيث عقلت وقامت عليها الحجة فإنها استحقت العذاب حينئذ لأن العقوبة مع
الجناية ؛ فاقتضت الحكمة تأخيرها إلى دار الجزاء لعلها أن تراجع الحق فضرب لها مدة
الحياة أجلا وأمدا تتمكن فيه الرجوع إلى الحق واستدراك الفارض فلما لم تفعل ذلك
ختم عليها العقوبة ،
__________________
ومعلوم أنها إنما
استمرت في مدة الحياة على غيها وكفرها لقيام الأسباب التي زينت لها ذلك لو لا تلك
الأسباب لآثرت رشدها فإنه مقتضى فطرتها ، ولا ريب أن تلك الأسباب تبطل وتضمحل في
الآخرة ولا سيما في دار العذاب ، بل إنما وضعت تلك الدار لإزالة تلك الشرور وكيف
تدوم تلك الأسباب وقد ذاقوا عقوبتها وألمها الشديد ، وتيقنوا أنها كانت أضر شيء
عليهم وندموا عليها أعظم الندم ، وليس في الطبيعة الإنسانية الإصرار على تلك
الأسباب وإيثارها بعد طول التألم الشديد بها ؛ نعم العذاب باق ما بقيت فإذا قدر
زوالها وتبدلها وإقرار أصحابها على أنفسهم أنهم كانوا ظالمين وأن الله تعالى إنما
عذبهم بعدله ، وشهدوا على أنفسهم أنهم لا يصلح لهم غير ما هم فيه من العقوبة وأن
حمده سبحانه أنزلهم تلك الدار ؛ فقام بقلوبهم حمده وشكره والثناء عليه بموجب
أسمائه وصفاته التي كانت في فطرهم أولا وحمدوه حمد محب معترف بالجناية وآثروا رضاه
على كل شيء فلو قام هذا بقلوبهم حقيقة وعلمه الله منهم لصارت النار بردا وسلاما
عليهم ، كما في الأثر المرفوع الّذي ذكره ابن أبي الدنيا في كتاب «حسن الظن بالله»
: «أن
رجلين ممن دخلا النار اشتد صياحهما. فقال تعالى : اخرجوهما فأخرجا ؛ فقال : لأى
شيء اشتد صياحكما؟ قالا : فعلنا ذلك لترحمنا. فقال رحمتى بكما أن تنطلقا فتلقيا
أنفسكما حيث كنتما من النار. قال : فينطلقان فيلقى أحدهما نفسه فيه فيجعلها الله
بردا وسلاما عليه ، ويقوم الآخر فلا يلقى نفسه فيقول له الرب : ما منعك أن تلقى
نفسك كما ألقى صاحبك؟ فيقول : رب إن أرجو ألا تعيدني فيها بعد ما أخرجتني. فيقول
الرب : لك رجاؤك. فيدخلان جميعا الجنة» وذكر ابن أبي الدنيا أيضا حديثا آخر مرفوعا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يؤمر
بإخراج رجلين من النار ، فإذا أخرجا وقفا. قال الله لهما : كيف وجدتما من مقيلكما
وسوء مصيركما؟ فيقولان شر مقيل وأسوأ
__________________
مصير
سار إليه العباد. فيقول لهما : بما قدمت أيديكم وما أنا بظلام للعبيد ، قال فيأمر
بصرفهما إلى النار ؛ قال : فأما أحدهما فيعدو في أغلاله وسلاسله حتى يقتحمها وأما
الآخر فتلكأ فيؤمر بردهما ، فيقول للذي عدا في أغلاله وسلاسله حتى اقتحمها : ما
حملك على ما صنعت وقد خبرتها؟ فيقول إني (قد) خبرت من وبال المعصية ما لم أكن
لأتعرض لسخطك ثانية ، فيقول الله للثاني : ما حملك على ما صنعت؟ قال : حسن ظني بك
حين أخرجتني ألا تردني إليها ، فرحمهماالله تعالى
وأمر بهما إلى الجنة» وفي رواية «إنه يقول للأول : لو حذرتني مثل حذرك في الآخرة
لم أدخلك النار ، ويقول للآخر : لو أحسنت ظنك بي في الدنيا مثل حسن ظنك بي اليوم
ما أدخلتك الجنة» .
وفي «المسند»
وغيره من حديث الذين يدلون على الله بالحجة يوم القيامة : المعتوه ، والأصم
والمتوفى في الفترة. وأن الله تعالى يؤجج لهم نارا ويقول : اقتحموها ، فمن دخلها
كانت عليه بردا وسلاما ، ومن امتنع جر إليها .
فهؤلاء لما آثروا
مرضاته بالعذاب على مرضاة أنفسهم وقام بقلوبهم أن رضاه في تعذيبهم أحب إليه من
رضاهم في خلافه استحالت النار في حقهم وانقلبت بردا وسلاما وهذا أمر مشاهد في
الواقع بين الناس ، وهو في اقتضاء التوبة بدفعها فإن المذنب لو بلغت ذنوبه عنان
السماء إذا ألقي نفسه بفناء من أساء إليه ، وتوسد عتبة بابه ؛ فوضع خده عليها ،
مستسلما مسلما نفسه إليه ليقضى فيها ما أراد ، راضيا بما يقضيه فيه ، حامدا له
عليه ، عالما أن الحق له ، وقد سلم إليه محل الحق يستوفيه منه فإنه متى فعل ذلك
أذهب ما في قلب من أساء إليه من الحنق والغيظ ، وعاد مكان الغضب عليه رقة ورحمة ،
هذا مع حاجته وبلوغ آذاه ووصوله إليه وقلة صبره وضعف احتماله فكيف بالغني الحميد
الذي لن يبلغ العباد ضره ولا نفعه ، فلا تزيد عقوبتهم في ملكه شيئا وهو أرحم
الراحمين.
__________________
فهذا القدر من
وجده في قلبه في الدنيا لم يدخل دار الشقاء إلا تحلة القسم ، ومن لم يظهر له هذا
في الدنيا فإنه سيعلمه في الآخرة كما قال تعالى : (فَاعْتَرَفُوا
بِذَنْبِهِمْ) (الملك : ١١) ،
وقال : (فَعَلِمُوا أَنَّ
الْحَقَّ لِلَّهِ) (القصص : ٧٥) ،
وقال تعالى : (قالُوا رَبَّنا
أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا
فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ) (غافر : ١١) فلا
شيء أنفع لهم في عذابه من حمده والثناء عليه ، ومحبته على كمال عدله فيهم ، وقولهم
: إن كان هذا رضاك فلا نطلب غيره ، ويشتد غضبهم على نفوسهم ، ومقتهم لها ، موافقة
لغضب ربهم ومولاهم ، ولكن هذا القدر لا تسمح به النفوس اللئيمة الجاهلة الظالمة
اختيارا فإذا عوقبت بما تستحق وبلغ منها العذاب مبلغه وكسرها وأذلها ، فإن أراد
بها خيرا أشهدها ذلك وجعله حاضرا عندها ، فالرحمة حينئذ أدنى إليها من العقوبة ،
والعفو أقرب إليها من الانتقام ، فإذا أراد بها بارئها وفاطرها أن يرحمها ألهمها
ذلك فانتقلت به من حال إلى حال فإن شاء أنشأها بعد ذلك نشأة أخرى ؛ وطبعها على غير
طبيعتها الأولى ، فهو على كل شيء قدير ؛ وهو الحكيم العليم ؛ فلا يظن به من ساء
فهمه أن هذا يناقض ما أخبر الله ورسوله به ، واتفق عليه سلف الأمة أنهم مخلدون في
النار ؛ وما هم منها بمخرجين : وكلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، فمن رد
كذلك وكذبه فهو كافر جاحد لما علم بالاضطرار أن الرسول صلىاللهعليهوسلم أخبر به ؛ فليس في هذا نظر ولا شك ، وإنما الشأن في كون
النار أبدية كالجنة لا تفنى أبدا وإلا فمتى دامت نارا فهم فيها خالدون.
* * *
فصل
ولنرجع إلى
المقصود ، وهو أن الذين قالوا : عذب الكفار مصلحة لهم ورحمة لهم حاموا حول هذا
المعنى ، ولم يقتحموا لجته ، وإلا فأى مصلحة لهم في عذاب لا ينقطع ، وهو دائم بدون
الرب تعالى ، فتأمل هذا الوجه حق التأمل واعطه حقه من النظر ، واجمع بين ذلك وبين
معانى أسمائه وصفاته ؛ وما
دل عليه كلام الله
وكلام رسوله ؛ وما قاله الصحابة ومن بعدهم ، ولا تبادر إلى القول بلا علم ولا إلى
الإنكار ؛ فإن أسفر لك صبح الصواب ؛ وإلا فرد الحكم إلى ما رده الله إليه بقول : (إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (هود : ١٠٧) وتمسك
بقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد ذكر دخول أهل الجنة وأهل النار النار ،
وصف حالهم ثم قال «ويفعل الله بعد ذلك ما يشاء».
الوجه
الرابع : إن الذي يخلقه
الله سبحانه ويقدره من الأمور نوعان : غايات ووسائل وقد اقتضت حكمته أن الوسائل
تضمحل وتبطل إذا حصلت غايتها كما يبطل السفر عند بلوغ المنزل ، ويزول الأكل والشرب
عند حصول الشبع والري ، والخيرات والمنافع هي الغايات المقصودة لنفسها ، والشرور
والآلام إنما تقصد قصد الوسائل ؛ لإفضائها إلى الخيرات والمنافع. وما كان مقصودا
لنفسه فإن بقاءه ودوامه هو مقتضى الحكمة ، وأما إذا كان مقصودا لغيره ؛ فإذا حصل
ذلك المقصود به لم يكن في دوامه وبقائه حكمة ولا مصلحة ، والله تعالى خلق النار
سوطا يسوق بها عباده إلى رحمته وجنته ، ويخوفهم بها من معصيته ويطهر بها من اكتسب
من عباده خبثا ونجاسة ، ولا يصلح إلا بها لمساكنته في جنته وعقوبته يعاقب بها
أعداءه على مقادير جرائمهم ، وهذه كلها أمور مقصودة لغيرها مفضية إلى مصالح مقصودة
لنفسها.
يوضحه
الوجه الخامس : أن الله سبحانه جعل الشدائد والآلام والشرور في هذه الدار بتراء لا دوام لها
جعل الشدة بين فرجين : فرج قبلها وفرج بعدها ، والعسر بين يسرين ، والبلاء بين
عافيتين ، فليس عنده شدة دائمة ولا بلاء دائم ولا كرب دائم في هذه الدار التي هي
دار ظلم وبلاء وخيراتها ممزوجة بشرورها ، وذلك أن الآلام والشدائد شرور ، والشرور
ليس إلى الله بخلاف الخيرات والنعم ، فإنها من مقتضى صفاته ، فهى دائمة بدوامه
ومعلوم أن الدار التي هي حق من كل وجه أولى أن يكون الدوام لخيراتها ولذاتها
ومسراتها ، وأن تكون شرورها إلى اضمحلال وزوال.
ويوضحه
الوجه السادس : أن القضاء الإلهي خير كله ، فإن مصدره علم الله وحكمته وكماله المقدس ، فهو
خير كله ومصلحة وحكمة وعدل ورحمة ، ودخول الشر فيه بالعرض لا بالذات كالشر العارض
في الحر والبرد والمطر ، والأكل والشرب والأعمال النافعة ، وأما العرض لا يقصد
لذاته فلا يجب دوامه كدوام ما يقصد لذاته من الخيرات والمنافع.
* * *
الوجه
السابع : إنك إذا اعتبرت
هذه الآلام والشدائد ، والنعمة والرحمة حشوها فظاهرها نقمة وباطنها نعمة فكم نقمة
جلبت نعمة ، وكم من بلاء جلب عافية ، وكم من ذل جلب عزا ، وكسر جلب جبرا ، إذا
اعتبرت أكثر الخيرات والمسرات واللذات وجدتها إنما ترتبت على الآلام والمشاق ،
وأعظم اللذة وأجلها ما كان سببه أعظمه ألما ومشقة. وهذه مشاهد في هذه الدار
بالعيان ، لما كانت أعلى الدرجات درجة أهل الجهاد كان أشق شيء على النفوس وأكرهه
إليها. قال الله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ
الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ، وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ : وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ ، وَاللهُ يَعْلَمُ
وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٢١٦)
ولهذا قيل :
وربما كان مكروه
النفوس إلى
|
|
محبوبها سببا ما
مثله سبب
|
فلا يوصل إلى
الراحة واللذة إلا على جسر التعب والألم ، وهذا يريك أن المصائب والآلام حشوها نعم
ولذات ومسرات ، وهذا لأن الرحمة لها سبق والغلبة فما في طى النقم والعقوبات من
الرحمة أسبق من العقوبة وهى الغاية للغضب ، فلا بد أن يغلب أثرها أثر الغضب. كما
غلبت الصفة للصفة.
ويوضحه
الوجه الثامن : أن الرحمة سبقت إلى هذا المعاقب وظهر أثرها فيه فوجد بها وعاش وسمع وأبصر بها
، وبطش بها ومشى وتحرك بها ، وإلا لو لا أنها سبقت إليه لم يكن له قيام ولا حياة ،
بل إنما استظهر على معاصى الرب ومخالفته بالرحمة التي سبقت إليه ووسعته فغلبت
أسبابا هلاكه وتلفه فلما تمكنت
أسباب التلف
والهلاك واقتضت الرحمة أن جعل لها أسبابا في مقابلتها من موجبها ومقتضاها تزيلها
ومحو أثرها ليخلص موجب الرحمة فيظهر أثره ، ودوام العذاب بدوام تلك الأسباب فلو
زالت لزال العذاب.
يوضحه
الوجه التاسع : إن هذه النفوس فيها ما يقتضي الرحمة من إقرارها بفاطرها وربوبيته. وعلمه
وقدرته ، وسمعه وبصره ومحبته ، وتعظيمه وإجلاله وسؤاله وفيها ما يقتضي الغضب
والعقوبة كالشرك به وإيثار هواها على طاعته ومرضاته ولما كان مقتضى العقوبة فيها
أقوى كان الحكم له ، ومعلوم أن العقوبة إن لم تذهب الأسباب المقتضية لها ولم تزلها
بالكلية فإنها تخففها وتضعفها. فإما أن تقاوم أسباب وإما أن تترجح عليها وعلى
التقديرين يبطل أثرها. قال الله تعالى : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) (لقمان : ٢٥) وقال
تعالى : (قُلْ لِمَنِ
الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ؟ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ) (المؤمنون : ٨٤ ،
٨٥) إلى آخر الآيات فهم يعلمون أن الأرض ومن فيها له وأنه رب السموات والأرض ورب
العرش العظيم ، وأن بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وإذا مسهم الضر في
البر والبحر تضرعوا إليه وفزعوا إليه وقالوا : إنما نعبد من دونه هذه الآلهة
لتقربنا إليه وتشفع لنا عنده وهو يملكها ونواصيها بيده ، ويحبونه ويقصدون التقرب
إليه ، وهذا مما وضعه فيهم برحمته ونعمه ، فعلم فيهم ما يقتضي رحمته ونعمته ولكن
لمت غلبت أسباب النقمة كان الحكم للغالب ، ذلك لا يمنع اقتضاء المغلوب أثره وترتبه
عليه.
وقد ثبت في «الصحيح»
إن
الله يقول للملائكة : أخرجوا من النار من في قلبه من الخير ما يزن ذرة أو برة وأنها
تخرج منها من في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان» ، فانظر هذا الجزء اللطيف جدا كيف غلب تلك الأسباب
الكثيرة القوية وأبطلها وعاد الحكم له. وثبت في «الصحيحين» «أنه يخرج منها من لم
يعمل خيرا قط» ولكن هذا إخراج منها وهى باقية على حقيقتها وناريتها ،
فأخرج منها
__________________
بهذا الجزء
اليسير. ومعلوم أن أعداءه المشركين لن تخلوا قلوبهم من الإيمان به. قال الله تعالى
: (وَما يُؤْمِنُ
أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (يوسف : ١٠٦)
فأثبت لهم إيمانا مع الشرك ، وهذا الإيمان وإن لم يؤثر في إخراجهم من النار ، كما
أثر إيمان أهل التوحيد ، بل كانوا معه خالدين فيها بشركهم وكفرهم فإن النار إنما
سعرها عليهم الشرك والظلم فلا يمتنع في الرحمة والحكمة والعدل أن يطفئها ويذهبها
بعد أخذ الحق منهم ، فيجتمع ضعف أسباب تسعيرها وقوة أسباب زوالها. فهذا غير ممتنع
في الحكمة الإلهية ، ولم يخبر الرسول بامتناعه ، وأنه لا يكون في موضع واحد ، ولا
دل على ذلك نقل ولا عقل. بل الّذي دل عليه النقل والإجماع أنهم خالدون فيها أبدا.
وأنهم ليسوا بخارجين منها. ولا يموتون فيها ولا يحيون وهذا متفق عليه بين
المسلمين. وإنما الشأن في أمر آخر.
والوجه
العاشر : أن أسباب العذاب
من النفس وغاياتها اتباع أهوائها. وأما أسباب الخير فمن ربها وفاطرها ، وهو الغاية
والمقصود بها ، فهى به وله. قال الله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ
حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء : ٧٩) ،
فالحسنات مصدرها من الله غايتها منتهية إليه. والسيئات من النفس وهى غايتها. قال
الله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل : ٥٣) ،
فليس للحسنات سبب إلا مجرد فضل الله ومنته ، والأعمال الصالحة وإن كانت أسباب
النعم والخيرات فمن وفقه لها وأعانه عليها وشاءها له سواه؟ فالنعم وأسبابها من
الله ؛ وأما السيئات التي أسلفها العبد فمن نفسه ، وسببها جهله وظلمه ؛ فإذا ترتبت
عليها سيئات الجزاء كان السبب والمسبب من نفسه ، فليس للجزاء السيئ في الدنيا
والآخرة سبب إلا ذنوب العبد التي من نفسه ، فالشر كله من نفسه والخير كله من ربه ،
فإن أكثره ليس للعبد فيه مدخل. فإن الله هو الذي أنعم عليه به ، ولهذا قال بعض
السلف «لا يرجون عبد إلا ربه ولا يخافن إلا ذنبه» ولهذا قال تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ
وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) (النساء : ٧٩) فخص
بالخطاب تنبيها على الأدنى ، ولم يخرجه في صورة العموم لئلا يتوهم متوهم أنه عام
مخصوص. فكان ذكر
الخاص أبلغ في العموم وقصده من ذكر العام فتأوله فإنه أسلوب عجيب في القرآن.
والمقصود أن سبب
الحسنات كلها هو الحى القيوم الذي لم يزل ولا يزال ، وهو الغاية المقصودة من فعلها
فتدوم بدوام سببها ، وأما السيئات فسببها وغايتها منقطع هالك فلا يجب دوامها ،
فتأمل هذا الوجه فإنه من ألطف الوجوه ، فإن الأسباب تضمحل باضمحلال غاياتها وتبطل
ببطلانها. ولهذا كان كل عمل باطلا إلا ما أريد به وجه الله. فإن جزاءه وثوابه يدوم
بدوامه ، ما لم يرد به وجه الله وأريد به ما يضمحل ويفنى فإنه يفنى بفنائه ؛ قال
الله تعالى : (وَقَدِمْنا إِلى ما
عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً) (الفرقان : ٢٣)
وهذه هي الأعمال التي كانت لغيره ، فكما أن ما لا يكون به لا يكون ، فما كان لغيره
لا يدوم ، ولهذا كان لبعض حكم الله تعالى في تخريب هذا العالم أن تشهد من عبد شيئا
غيره أنه لا يصلح للعبادة والألوهية ويشهد العابد حال معبوده. والمقصود أن النعم
تدوم بدوام سببها وغايتها ، وأن الشرور والآلام تبطل وتضمحل باضمحلال سببها.
فهذه الوجوه
وغيرها تبين أن الحكمة والمصلحة في خلق النار تقتضى بقاءها ببقاء السبب والحكمة
التي خلقت له ؛ فإذا زال السبب وحصلت الحكمة عاد الأمر إلى الرحمة السابقة الغالبة
الواسعة.
يزيده وضوحا الوجه الحادي عشر : أن الرب يستحيل أن يكون إلا رحيما ، فرحمته من لوازم ذاته ،
ولهذا كتب على نفسه الرحمة ، ولم يكتب على نفسه الغضب ، فهو لم يزل ولا يزال رحيما
، ولا يجوز أن يقال إنه لم يزل ولا يزال غضبان ، ولا أن غضبه من لوازم ذاته ، ولا
أنه كتب على نفسه العقوبة والغضب ولا أن غضبه يغلب رحمته ويسبقها .
__________________
وتأمل قوله صلىاللهعليهوسلم في حديث الشفاعة «إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله
مثله ولن يغضب بعده مثله» ، فإذا كان ذات الغضب الشديد لا يدوم ولا يستمر بل يزول ، وهو الذي سعر النار
؛ فإنها إنما سعرت بغضب الجبار تبارك وتعالى فإذا زال السبب الذي سعرها ، فكيف لا
تطفأ ؛ وقد طفئ غضب الرب وزال ، وهذا بخلاف رضاه فإنه من لوازم ذاته دائما بدوامها
؛ ولهذا دام نعيم أهل الجنة والرضى ، كما يقول لهم في الجنة «إني أحل عليكم رضوانى
فلا أسخط عليكم أبدا» فكيف يساوي بين موجب رضاه وموجب سخطه في الدوام ولم يستو الموجبان.
الوجه
الثاني عشر : إنه كما قيد الغضب الشديد بذلك اليوم قيد العذاب المرتب عليه به كما في قوله :
(فَاخْتَلَفَ
الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ
أَلِيمٍ) (الزخرف : ٦٥)
وقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ
كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) (مريم : ٣٧) فجعل
العذاب والمشهد واقعين في ذلك اليوم العظيم ، بل جعل العذاب يوم العذاب أبدا ، ولا
يقال في الشيء الأبدى الذي لا يفنى ولا يبيد إنه عمل يوم وطعام يوم وعذاب يوم ، ولم
ينتقض هذا بقوله سبحانه : (وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ
بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ) (القمر : ٣٨) ،
ولا بقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا
عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ) (القمر : ١٩) ،
فإن استقراره واستمراره لا يقتضي أبديته لغة ولا عرفا ولا عقلا ، وقد أخبر سبحانه
عن بطن الأم أنه مستقر الجنين بقوله (وَنُقِرُّ فِي
الْأَرْحامِ ما نَشاءُ) (الحج : ٥) ، وقال
تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ) (الأنعام : ٩٨)
سواء كان المستقر صلب الأب والمستودع بطن الأم أو عكس ذلك. أو دار الدنيا ودار
البرزخ كما هي أقوال المفسرين في الآية. فالمستقر لا يدل على أنه أبدي ؛ وكذلك
المستمر لا يدل على الأبدية ، فاستقرار كل شيء واستمراره
__________________
ودوامه وخلوده
وثباته بحسب ما يليق به من البقاء والإقامة قال تعالى : (لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً) (النبأ : ٢٣) وهذا
لا يقال في لبث لا انتهاء له ، وتأويل الآية عند من تأولها أنهم يلبثون فيها
أحقابا لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا ، أي لا يذوقون في تلك الأحقاب بردا ولا
شرابا : لا يفيدهم شيئا ، فإنه يلزم على تأويله أنهم يذوقون البرد والشراب بعد مضى
تلك الأحقاب : ومتى ذاقوا البرد والشراب انقطع عنهم العذاب.
الوجه
الثالث عشر : أنه سبحانه وتعالى يذكر نعيم أهل الجنة فيصفه بأنه غير منقطع ، وأنه ما من
نفاد. ويذكر عقاب أهل النار ثم يخبر معه أنه فعال لما يريد أن يطلقه فالأول كقوله
: (فَأَمَّا الَّذِينَ
شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ
السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما
يُرِيدُ ، وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما
دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) (هود : ١٠٦ ـ ١٠٨)
وأما القول الثاني فكقوله : (هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ
لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ. جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ
مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ وَعِنْدَهُمْ
قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ ، هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ ، إِنَّ هذا
لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ ، هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ، جَهَنَّمَ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ) إلى قوله : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ
تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) (ص : ٤٩ ـ ٥٦) ولم
يقل فيه ما قاله في النعيم.
وقريب من هذا
سبحانه وتعالى يذكر خلود أهل النعيم فيه ، فيقيده بالتأبيد ويذكر معه خلود أهل
العذاب ، فلا يقيده بالتأبيد ؛ بل يطلقه ، وهذا كقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ
الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ
شَرُّ الْبَرِيَّةِ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ
هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ، جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ
وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (البينة : ٦ ـ ٨)
ولا ينتقض هذا بقوله : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ
وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) (الجن : ٢٣) فإن
تأبيد الخلود فيها لا يستلزم أبديتها ودوام بقائها ؛ بل يدل على أنهم خالدون
فيها أبدا ما دامت
كذلك فالأبد استمرارهم فيها ما دامت موجودة وهو سبحانه لم يقل أنها باقية أبدا.
وفرق بين الأمرين فتأمله. على أن التأبيد قد جاء في القرآن فيما هو منقطع كقوله عن
اليهود (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ
أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) (البقرة : ٩٥)
وهذا إنما هو أبد مدة حياتهم في الدنيا ؛ وإلا فهم في النار يتمنون الموت حين
يقولون (يا مالِكُ لِيَقْضِ
عَلَيْنا رَبُّكَ) (الزخرف : ٧٧)
وقول العرب : لا أفعل هذا ابدا ، ولا أتزوج أبدا ، أشهر من أن تذكر شواهده وإنما
يريدون مدة منقطعة. وهي أبد الحياة ومدة عمرهم فهكذا الأبد في العذاب وهو أبد مدة
بقاء النار ودوامها.
الوجه
الرابع عشر : أنه لو كانت دار الشقاء دائمة دوام دار النعيم وعذاب أهلها فيها مساويا لنعيم
أهل الجنة بدوامه لم تكن الرحمة غالبة للغضب بل يكون الغضب قد غلب الرحمة ،
وانتفاء اللازم يدل على انتفاء ملزومه. والشأن في بيان الملازمة ، وأما انتفاء
اللازم فظاهر. وقد دل عليه الحديث المتفق علي صحته من حديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما
قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبى» وبيان الملازمة أن المعذبين في دار الشقاء أضعاف أضعاف أهل
النعيم ، كما ثبت في «الصحيحين» «إن الله تعالى يقول : يا آدم ، فيقول :
لبيك وسعديك والخير في يديك ، فيقول : إن الله يأمرك أن تبعث من ذريتك بعث النار ،
فيقول : ربي ، وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار
وواحد في الجنة ، فقال الصحابة : يا رسول الله وأينا ذلك الواحد؟ فقال : «إن معكم
خليقتين ما كانتا مع شيء إلا كثرتاه : يأجوج ومأجوج» فعلى هذا أهل الجنة عشر عشر أهل النار وإنما دخلوها بالغضب
؛ فلو دام هذا العذاب دوام النعيم وساواه في وجوده لكانت الغلبة للغضب. وهذا بخلاف
ما إذا كانت الرحمة هي الغالبة فإن غلبتها تقتضى نقصان عدد المعذبين أو مدتهم.
__________________
يوضحه الوجه الخامس عشر : إن الله تعالى جعل الدنيا مثالا وأنموذجا وعبرة لما أخبر به
في الآخرة ، فجعل آلامها ولذاتها وما فيها من النعيم والعذاب وما فيها من الثمار
والحرير ، والذهب والفضة والنار تذكرة ومثالا وعبرة ؛ ليستدل العباد بما شاهدوه
على ما أخبروا به ، وقد أنزل في هذه الدار رحمته وغضبه ؛ وأجرى عليهم آثار الرحمة
والغضب ، ويسر لأهل الرحمة أسباب الرحمة ، ولأهل الغضب أسباب الغضب ، ثم جعل
سبحانه الغلبة والعافية لما كان عن رحمته ، وجعل الاضمحلال والزوال لما كان عن غضبه
فلا بد من حين قامت الدنيا إلى أن يرثها الله ومن عليها أن تغلب آثار غضبه ولو في
العاقبة فلا بد أن يغلب الرخاء الشدة ؛ والعافية البلاء ؛ والخير وأهله والشر
وأهله ، وإن أبدلوا أحيانا فإن الغلبة المستقرة الثابتة للحق وأهله ، وآخر أمر
المبطلين الظالمين إلى زوال وهلاك ، فما أقام الشر والباطل جيش إلا أقام الله
سبحانه للحق جيشا يظفر به ويكون له العلو والغلبة. قال تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا
لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنا
لَهُمُ الْغالِبُونَ) (الصافات :
١٧١ ـ ١٧٣) فكما
غلبت الرحمة غلبت جنودنا ، وإذا كان هذا مقتضى حمده وحكمته فى هذه الدار ، فهكذا
في دار الحق المحض تكون الغلبة لما خلق بالرحمة والبقاء لها. وسر هذا الوجه وما
يتصل به أن الخير هو الغالب للشر ، وهو المهيمن عليه الذي لو دخل جحر ضب لدخل خلفه
حتى يخرجه ويغيره ، وإذا كانت للشر دولة وصولة لحكمة مقصودة لغيرها قصد الوسائل ،
فالخير مقصود مطلوب لنفسه قصد الغايات.
الوجه
السادس عشر : إنه قد ثبت في «الصحيح» إن الجنة يبقى فيها فضل ، فينشئ الله لها خلقا يسكنهم
إياها بغير عمل كان منهم ، محبة للوجود والإحسان والرحمة ، فإذا كان وجوده ورحمته
قد اقتضيا أن يدخل هؤلاء الجنة
__________________
بغير تقدم عمل
منهم ولا معرفة ولا إقرار ، فما المانع أن تدرك رحمته من قد أقر (به) في دار
الدنيا ، واعترف بالله ربه ومالكه ، واكتسب ما أوجب غضبه عليه ، فعاقبه بما اكتسبه
، وعرفه حقيقة ما اجترحه وأشهده أنه كان كاذبا مبطلا ، وأن رسله هم الصادقون
المحقون ؛ فشهد ذلك وأقر على نفسه وتقطعت نفسه حسرة وندما ؛ وأخرجت النار منه خبثه
كما يخرج الكير خبث الحديد. ولا يقال الخبث لا يفارقهم والإصرار لا يزول عنهم ؛
كما قال تعالى : (وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) (الأنعام : ٢٨)
فإن هذا ليس في حكم الطبيعة الحيوانية. ولهذا في الدنيا لما يمسهم العذاب تجد عقدة
الإصرار قد انحلت عنهم وانكسرت نخوة الباطل ولكن لم تطهر قلوبهم بذلك وحده.
وأما قوله تعالى :
(وَلَوْ رُدُّوا
لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ) فذلك قبل دخول النار فقالوا (يا لَيْتَنا نُرَدُّ
وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ، بَلْ بَدا لَهُمْ
ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ ، وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ
وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (الأنعام : ٢٧ ـ
٢٨) وهذا إخبار عن حالهم قبل أن يدخلوا النار ، وقبل أن تذيب لحومهم ونفوسهم التي
نشأت على الكفر ؛ فالخبث بعد كامن فيها ؛ فلو ردوا والحالة هذه لعادوا لما نهوا
عنه ، والحكمة والرحمة تقتضى أن النار تأكل تلك اللحوم التي نشأت من أكل الحرام ،
وتنضج تلك الجلود التي باشرت محارم الله تعالى ، وتطلع على الأفئدة التي أشركت به
وعبدت معه غيره. فتسليط النار على هذه القلوب والأبدان من غاية الحكمة ؛ حتى إذا
أخذت المسألة حقها وأخذت العقوبة منهم مأخذها وعادوا إلى ما فطروا عليه ، وزال ذلك
الخبث والشر الطارئ على الفطرة ، والعزيز الحكيم حينئذ حكم هو أعلم به ، وهو
الفعال لما يريد.
والوجه
السابع عشر : إن أبدية النار كأبدية الجنة ، إما أن يتلقى القول بذلك من القرآن أو من السنة
أو من إجماع الأمة ، أو من أدلة العقول أو من القياس على الجنة. والجميع منتف. أما
القرآن فإنما يدل على أنهم غير خارجين منها ؛ فمن أين يدل على دوامها وبقاء
أبديتها؟ فهذا كتاب الله وسنة رسوله أرونا ذلك منهما
وهذا بخلاف الجنة
، فإن القرآن والسنة قد دلا على أنها لا تبيد ولا تفنى.
وأما الإجماع فلا
إجماع في المسألة وإن كان قد حكاه غير واحد ، وجعلوا القول بفنائها من أقوال أهل
البدع ، فقد رأيت بعض ما في هذا الباب عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم. وأما من
حكى الإجماع فإما أن يكون قد حكاه بموجب علمه كما يحكى الإجماع كثيرا على ما
الخلاف فيه مشهور غير خفى وأبلغ من هذه حكاية الإجماع كثير على ما الإجماع القديم
على خلافه. وهذا كثير جدا وإنما يعلمه أهل العلم ، ولو تتبعناه لزاد على مائتى
موضع. وأما أن يكون من حكى الإجماع أراد أن الأمة اجتمعت على بطلان قول الجهمية
بفناء الجنة والنار ؛ وأنهما يشتركان في ذلك ، فنعم اجتمعت الأمة على خلاف هذا
القول. فلما قال السلف أن الأمة مجتمعة على خلاف ذلك ظن من تلقى منهم ذلك أن
الإجماع على خلافه في الموضعين. وأيضا فإن الأمة مجتمعة على خلاف قولهم في الدارين
؛ فإنهم يقولون إن الله تعالى لا يقدر على إبقائهما أبدا ، إذ يلزم من ذلك وجود
حوادث لا نهاية لها قالوا وهذا ممتنع كما أن وجود حوادث لا بداية لها ممتنع ،
فيفنيان بأنفسهما من غير أن يفنيهما الله تعالى. وهذا قول لم يقل به أحد من أهل
الإسلام سوى هذه الفرقة الضالة : أو يكون حكايتهم الإجماع ، على أن أهل النار لا
يخرجوا منها أبدا ، فهو ما أجمع عليه سلف الأمة ، فهذه ثلاث محال للإجماع ، ولكن
أين الإجماع على أن النار باقية ببقاء الجنة؟ وأن كليهما في البقاء سواء؟ وأما
أدلة العقول فلا مدخل لها في ذلك ، وإن كان لا بد من دخولها فهي في هذا الجانب كما
ذكرناه ؛ وأما قياس النار على الجنة فقد تقدم الفرق بينهما من وجوه عديدة وكيف
يقاس الغضب على الرحمة ، والعدل على الفضل ، والمقصود لغيره على المقصود لنفسه.
الوجه
الثامن عشر : أنه لو لم يكن من الأدلة على عدم أبدية النار إلا استثناؤه سبحانه بمشيئته في
موضعين من كتابه ، أحدهما قوله : (قالَ النَّارُ
مَثْواكُمْ
خالِدِينَ
فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨)
فما هاهنا مصدرية وقتية ، وهو استثناء ما دل عليه الأول ، وهو كونها مثواهم بوصف
الخلود ، فلا بد أن يكون المستثنى مخرجا لما دخل فيه المستثنى منه وهو خلودهم
فيها. فلا بد أن يكون المستثنى مخالفا لذلك ، إذ يمتنع تماثلهما وتساويهما ، وغاية
ما يقال : إن المستثنى واقع على ما قبل الدخول لا على ما بعده ، وهو مدة لبثهم في
البرزخ وفي مواقف القيامة ، وهذا لا يتأتى هاهنا ، فإن هذا قد علم انتفاء الدخول
في وقته قطعا ، فليس في الإخبار به فائدة وهو بمنزلة أن يقال : أنتم خالدون فيها
أبدا إلا المدة التي كنتم فيها في الدنيا. وهذا ينزه عنه كلام الفصحاء البلغاء ؛
فضلا عن كلام رب العالمين. وهو بمنزلة أن يقال للميت : أنت مقيم في البرزخ إلا مدة
بقائك في الدنيا ، وليس هذا مثل قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) (الدخان : ٥٦) فإن
هذا استثناء منقطع قصد به تقرير المستثنى منه ، وأنه عام محفوظ لا تخصيص فيه ، إذ
من الممتنع أن يكون تخصيص باستثناء فيعدل عن ذكره إلى غير جنسه.
ونظيره قولهم : ما
زاد إلا نقصا فإنه يفيد القطع بعدم زيادته ، وإنه إن كان ثم تغير فبالنقصان ؛ وليس
هذا مخرج قوله : (خالِدِينَ فِيها
إِلَّا ما شاءَ اللهُ) ولو أريد هذا لقيل : لا يخرجوا منها أبدا إلا مدة مقامهم
في الدنيا فهذا يكون وزان قوله : (لا يَذُوقُونَ فِيهَا
الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) وكان يفيد ذلك تقرير عدم خروجهم منها. وأما إذا قيل خالدين
فيها إلا ما شاء الله لا يخلدون ، فأن ذلك يفيد أن لهم حالين : فإن قيل هذا ينتقض
عليكم بالاستثناء في أهل الجنة ، فإن هذا وارد فيهم بعينه. قيل قد اقترن
بالاستثناء في أهل الجنة ما ينافي ذلك وهو قوله : (عَطاءً غَيْرَ
مَجْذُوذٍ) ولهذا والله أعلم عقب الاستثناء بهذا رفعا لهذا التوهم
وعقب الاستثناء في أهل النار بالإخبار بأنه يفعل ما يريد ، ولا حجر عليه سبحانه
فيما يريد بهم من عذاب أو إخراج منه ، فإن الأمر راجع إلى مشيئته وإرادته التي لا
تخرج عن علمه وحكمته. كما عقب الاستثناء في سورة الأنعام بقوله : (إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) فدل ذلك على أنه أدخلهم النار بحكمته وعلمه بأنه لا يصلح
لهم سواها وله حكمة وعلم فيهم لا يبلغه العباد ، فإن اقتضت
حكمته وعلمه فيهم
غير ذلك لم تقصر عنه مشيئته النافذة وقدرته التامة.
ومما يوضح الأمر
في ذلك أنه في آية الأنعام خاطبهم بذلك ، إما في النار وإما في موقف القيامة ، ولم
يقيد مدة الخلود بدوام السماوات والأرض فقال (وَيَوْمَ
يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً : يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ
الْإِنْسِ ، وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا
بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا ، قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ
خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) (الأنعام : ١٢٨)
فأمكن أن يكون هذا الاستثناء هو مدة مقامهم في البرزخ وفي مدة القيامة. وأما أن
يقول لهم وهم في النار (النَّارُ مَثْواكُمْ
خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللهُ) وهو يريد مدة لبثهم في البرزخ وفي الموقف ؛ فهذا أمر قد
علموه وشاهدوه ، فأي فائدة حصلت في الإخبار به؟
الوجه
التاسع عشر : قوله : وإذ خلقني فلم كلفني السجود لآدم وقد علم أني أعصيه؟ فيقال له : كفى بك
جهلا ولؤما أن سميت أمره وطاعته التي هي قرة العيون وحياة النفوس تكليفا ؛
والتكليف إلزام الغير بما يشق عليه ويكرهه ولا يحبه ؛ كما يقول القائل : لا أفعل
هذا إلا تكلفا. ولا ريب أن هذا لما كان كامنا في قلبك ظهر أثره في امتناعك من
الطاعة ، ولو علمت أن أمره سبحانه هو غاية مصلحة العبد وسعادته ، وفلاحه وكماله لم
تقل إنه كلفك بالسجود ، ولعلمت أنه أراد به مصلحتك ورحمتك وسعادتك الأبدية ، وقد
سمى الله تعالى أوامره عهودا ووصايا. ورحمة وشفاء ونورا وهدى وحياة ، قال تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) (الأنفال : ٢٤)
فتأمل الفرق بين هذا الخطاب وبين قول القائل إنه دعاهم بأمره إلى تكليف ما لا
يطيقونه ولا يقدرون عليه لا لحكمة ولا لمصلحة ولا لصفة حسنة في الأمر تقتضى دعاءهم
إليه ، ولم يأمرك حاجة منه إليك ، ولا عبثا ولا سدى ؛ وكأنك لم تعرف أن أوامره
رحمة ونعمة ومصلحة ، ونواهيه حمية وصيانة وحفظا ، وهل وفق للصوب من أمره سيده بأمر
ينفذه فقال له : لم أمرتنى بذلك ، وهلا تركتني ولم تأمرني؟ فمن أضل من هذا العبد
سبيلا؟
الوجه
العشرون : إنه سبحانه لما
كان يعلم منك من الخبث والشر الكامن في
نفسك ما لا يعلمه
غيره. وكان ذلك موجبا لمقته لك ولم يكن يجرى عليك ما تستحقه بمجرد علمه السابق قبل
، من غير أن تظهر الملائكة ما يحمده به ويثنى عليه ويعذر به إذا طردك عن قربه ،
وأخرجك من جنته ، فأمرك بأمره ، فخرج منك الداء الدفين بمقابلته بالمعصية ومنازعته
سبحانه رداء الكبرياء ؛ فاستخرج أمره منك الكفر الخفي والداء الدوى ، وقام عذره في
نفوس أوليائه وملائكته بما أصابك من لعنته وجرى عليك من نكاله وعقوبته. وصرت في
ذلك إماما لمن كان حاله حالك ، فهذا من بعض حكمه في أمره لمن علم أنه لا يطيعه
فأنه لو عذبه وطرده بما يعلمه منه من غير أن يظهره غيره لوجد هو وغيره للقول سبيلا
؛ لو أمرتني لأطعتك ولكن عذبتني قبل أن تجربنى ولو جربتنى لوجدتنى سامعا مطيعا بل
من تمام حكمته ورحمته أنه لا يعذبه بمعصيته حتى يدعوه إلى الرجوع إليه مرة بعد مرة
، حتى إذا استحكم إباؤه ومعصيته ولم يبق للقول فيه مطمع ولا للموعظة فيه تأثير
وأيس من حق عليه القول وظهر عذر من عذبه للخليقة ، وحمده وكماله المقدس.
قال مختصره محمد
ابن الموصلى عفا الله عنه. وهذا الوجه أحسن من الوجه الأول وأصوب. والله تعالى
أعلم.
الوجه
الحادى والعشرون : قوله : وإذ أبيت السجود له فلم طردتنى وذنبى أني لم أر السجود لغيره ، فيقال
لعدو الله : هذا تلبيس إنما يروج على أشباه الأنعام من أتباعك حيث أوهمتهم أنك
تركت السجود لآدم تعظيما لله وتوحيدا له وصيانة لعزته أن تسجد لغيره ، فجازاك على
هذا الإجلال والتعظيم بغاية الإهانة والطرد ، وهذا أمر لم يخطر ببالك ولم تعتذر به
إلى ربك وإنما كان الحامل لك على ترك السجود الكبر والكفر والنخوة الإبليسية ، ولو
كان في نفسك التعظيم والإجلال لله وحفظ جانب التوحيد لحملك على المبادرة إلى
طاعته. وهل التعظيم والإجلال إلا في امتثال أمره؟ ولقد قام لك من إخوانك أصحاب
يحامون عنك ويخاصمون ربهم فيك ، وينحون عليك اعتذارا عنك وتظليما من ربك كما فعل
صاحب «تفليس إبليس» في كتابه فإنه يقول فيه ما ترعد منه قلوب أهل
الإيمان فرقا
وتعظيما لله من الاعتذار عنك ، وأن ما فعلته هو وجه الصواب ، إذ غرت على التوحيد
أن يحملك على السجود لغيره ، وإنك لم تزل رأس المحبين قائد المطيعين ولكن :
إذ كان المحب
قليل حظ
|
|
فما حسناته إلا
ذنوب
|
ويا لله لقد قال
هذا الخليفة منك والولى لك ما لم تستحسن أن تقوله لربك ولا تظنه فيه.
الوجه
الثاني والعشرون : قوله : وإذ قد أبعدني وطردني فلم سلطنى على آدم حتى دخلت إليه وأغويته فيها؟
فيقال له : هذا تلبيس منك على من لا علم له بكيفية قصتك خلق الله تعالى آدم وقد
علم سبحانه أنه خلقه ليجعله خليفة في الأرض ويستخلف أولاده إلى أن يرثها ومن عليها
، ولم يكن سبحانه لينزله إلى الأرض بغير سبب ، فإنه الحكيم في كل ما يأمر به
ويقدره ويقضيه. فأباح لآدم جميع ما في الجنة ، وحمى عنه شجرة واحدة. وقد وكل الله
تعالى بكل واحد من البشر قرينا من الشياطين لتمام حكمته التي لأجلها خلق الجن
والإنس وكنت أنت قرين الأب لتمام الابتلاء ، فاقتضت حكمته وحمده سبحانه أن يبتلى
بك الأبوين لسعادتهما وتمام شقوتك ، فخلى بينك وبين الوسوسة لهما لنفذ قضاءه وقدره
السابق فيك وفيهما وفي الذرية ، وإذا كان سبحانه قد أجرى ذريتك من ذريته مجرى الدم
امتحانا لهم ، فهكذا امتحن بك الأبوين مدة حياتهم فلم تكن لتفارقهما إلا بالموت
كحال ذريتك مع ذريتهما.
تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني
وأوله : فصل في كسر الطاغوت الثالث الذي وضعته الجهمية لتعطيل
حقائق الأسماء والصفات ، وهو طاغوت المجاز.
* * *
فهرس الجزء الأول من الصواعق
مقدمة الناشر................................................................. ٥
الإهداء...................................................................... ٧
مقدمة المحقق.................................................................. ٩
مقدمة الشيخ محمد ابن الموصلى مختصر
الكتاب.................................. ٢٥
مفتاح دعوة الرسل معرفة الله................................................... ٢٧
ذم الكلام وأهله ، وانظر (ص ١٥٣).......................................... ٣٣
كسر الطاغوت الأول وهو «التأويل»........................................... ٣٩
فصل : في بيان حقيقة التأويل................................................. ٣٩
معنى التأويل لغة............................................................. ٣٩
معنى التأويل في كلام الله ورسوله............................................... ٤٠
معنى التأويل اصطلاحا........................................................ ٤١
أنواع التأويل الباطل ـ وفيه عشرة
أنواع.......................................... ٤٣
فصل : عدم تنازع الصحابة في آيات
الصفات................................... ٤٩
فصل : في تعجيز المتأولين عن تحقيق
الفرق بين ما يسوغ تأويله من آيات الصفات وأحاديثها وما لا يسوغ ٥٠
فصل : في إلزامهم في المعنى الّذي
جعلوه تأويلا نظير ما فروا منه.................... ٥٥
فصل : هل لله يد واحدة أم أياد ، وعين
واحدة أم أعين ، وبيان ذلك من أحد عشر وجها ٥٦
فصل : في الوظائف الواجبة على المتأول........................................ ٧٢
أمثلة ما اختلفوا فيه في التأويل................................................. ٧٤
المثال الأول : الاستواء........................................................ ٧٤
تأويل الاستواء بالإقبال....................................................... ٧٤
تأويل الاستواء بالاستيلاء..................................................... ٧٤
فصل في بيان : أن التأويل شر من
التعطيل...................................... ٧٧
فصل : فى أن قصد المتكلم من المخاطب حمل
كلامه على خلاف ظاهر وحقيقته ينافى قصد البيان والإرشاد ٧٩
فصل في بيان : أنه مع كمال علم المتكلم
وفصاحته يمتنع عليه أن يريد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته ٨٢
لمحة عن مناظرة للمصنف لأهل الكتاب......................................... ٨٦
فصل في بيان : أن تيسير القرآن للذكر
ينافي حمله على التأويل المخالف لحقيقته وظاهره ٨٧
فصل : اشتمال الكتب الإلهية على
الأسماء والصفات أكثر من اشتمالها على ما عداه. ٩٠
تعريف الباطنية (هامش)...................................................... ٩١
فصل : إبليس أول من جاء بالتأويل
الفاسد..................................... ٩٣
فصل في بيان : ما يقبل التأويل من
الكلام وما لا يقبله........................... ٩٨
قاعدة فيما يجوز تأويله........................................................ ٩٩
فصل : في بيان أنه لا يأتى المعطل
للتوحيد العلمى الخبرى بتأويل إلا أمكن المشرك المعطل للتوحيد العلمى أن يأتى
بتأويل من جنسه......................................................................... ١٠٤
فصل : في انقسام الناس في نصوص الوحى
إلى : أصحاب تأويل ، وأصحاب تخييل ، وأصحاب تمثيل ، وأصحاب تجهيل ، وأصحاب سواء
السبيل...................................................... ١١٠
تعريف الصابئين (هامش)................................................... ١١٧
فصل : أسباب قبول التأويل بالباطل.......................................... ١١٨
تعريف الرافضة (هامش).................................................... ١٢٠
فصل في بيان : أن أهل التأويل لا
يمكنهم إقامة الدليل السمعى على مبطل أبدا ، وهذا من أعظم آفات التأويل ، وفي هذا
كسر الطاغوت الأول............................................................ ١٢٢
حجج القرآن ظاهرة واضحة على إثبات
التوحيد................................ ١٢٤
تعريف القدرية (هامش)..................................................... ١٣٧
تعريف معنى اسمه سبحانه «اللطيف» و «الخبير»
(هامش)....................... ١٣٧
موافقة صريح العقل لصحيح النقل ، وأيضا
(ص ١٦٥)......................... ١٤١
الرد على من قال : أن الأدلة اللفظية
لا تفيد اليقين............................ ١٤٤
تعريف جهم بن صفوان ، وابراهيم النظّام
(هامش).............................. ١٥٢
كلام الرازى فى علم الكلام (هامش)......................................... ١٥٣
فصل : كسر الطاغوت الثاني وهو قولهم :
إذا تعارض العقل والنقل وجب تقديم العقل وكسر هذا الطاغوت من اثنين وخمسين وجها......................................................................... ١٥٥
العلم النافع هو ما أخبرت به الرسل........................................... ١٧٠
التوسل المشروع والمخالف (هامش)........................................... ١٧٧
الكلام عن آية الكرسى (هامش)............................................. ١٧٨
الكلام عن سورة الإخلاص (هامش).......................................... ١٧٩
في معنى الإلحاد (هامش).................................................... ١٨٥
أنواع التوحيد والتحريف في معناه............................................. ١٩٠
في معنى قولهم : الأعراض ، والأغراض ،
والأبعاض.............................. ١٩٤
لفظ «الجسم» لم يأت به الوحى ولا أثبته
أهل السنة........................... ١٩٦
فصل فى : تحريف اسمه تعالى «العدل»........................................ ٢٠١
في معنى قوله سبحانه «الله الصمد».......................................... ٢٢٤
تأويل المثل الأعلى.......................................................... ٢٢٥
كيف كان الصحابة يعارضون النصوص....................................... ٢٣٠
الجهمية أول من عارض النصوص بآراء
الرجال................................. ٢٣٨
في شرح حديث «إن الله جميل يحب الجمال»
(هامش).......................... ٢٤٣
توحيد الملاحدة............................................................ ٢٥١
أقوى الطرق لإثبات الصانع سبحانه.......................................... ٢٦٣
منشأ الضلال الّذي قاد إلى التعطيل.......................................... ٢٦٦
فصل : اتفاق الفلاسفة والحكماء على علو
الله عزوجل.......................... ٢٧٢
فصل : الجهمية المعطلة معترفون بوصفه
تعالى بعلو القهر وعلو القدر.............. ٢٧٥
فصل : كل من أقر بوجود رب للعالم مدبر
له لزمه الإقرار بمباينته لخلقه............ ٢٧٨
نفى التشبيه والتمثيل لا يغنى عن إثبات
الصفات اللائقة بالله..................... ٢٨٣
فصل : في ذكر حجة الجهمى على أنه
سبحانه لا يرضى ولا يغضب ، ولا يحب ولا يسخط والجواب عنها ٢٧٨
شبهات إبليسية............................................................ ٢٨٩
النظر فى ملكوت السماوات والأرض يدل
على عظمة الصانع.................... ٢٩٨
تنزيه الله سبحانه عن الظلم فى قضاءه......................................... ٣٠٤
تعريف الجبرية (هامش)...................................................... ٣٠٨
فصل : احتجاج الجبرية بقوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ).................... ٣١١
فصل : قضاء الله كله عدل ، وشرح حديث «عدل
في قضاؤك»................. ٣١٢
فصل : ذوو الأرواح الذين يلحقهم اللذة
والآلام أربعة أصناف : الإنس ، والجن ، والبهائم ، والملائكة ٣١٨
قبول القلب للحق ، لا بد من تخليه
وفراغه من الباطل (هامش).................. ٣٢١
فصل : العقوبة على الأمور العدمية
واختلاف الناس فى ذلك..................... ٣٢٥
خفاء كثير من النعم على العباد وعدم
شكرها (هامش).......................... ٣٣٢
فصل : من أعظم حكمة الرب وكمال قدرته :
خلق الضدين..................... ٣٣٨
حكمة الابتلاء............................................................. ٣٣٩
فصل : كمال العبودية والمحبة يظهر عند
معارضة الشهوات....................... ٣٤٠
من دخل الجنة لا يخرج منها بعكس النار...................................... ٣٥١
فصل : من عدله سبحانه أنه لا يزيد أحدا
في العذاب........................... ٣٥٢
الكلام عن أبدية النار...................................................... ٣٦٦
* * *
فصل في كسر الطاغوت الثالث
الذي وضعته الجهمية لتعطيل حقائق الأسماء والصفات
وهو طاغوت المجاز
هذا الطاغوت لهج
به المتأخرون ، والتجأ إليه المعطلون ، وجعلوه جنة يترسون بها من سهام الراشقين
ويصدرون عن حقائق الوحى المبين فمنهم من يقول : الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما
وضع له أولا. ومنهم من يقول : الحقيقة هى المعنى الّذي وضع له اللفظ أولا والمجاز
استعمال اللفظ فيما وضع له ثانيا ، فها هنا ثلاثة أمور : لفظ ومعنى واستعمال.
فمنهم من جعل مورد التقسيم هو الأول ، ومنهم من جعله الثاني ، ومنهم من جعله
الثالث ، والقائلون حقيقة اللفظ كذا ومجازه كذا يجعلون الحقيقة والمجاز من عوارض
المعانى. فإنهم إذا قالوا مثلا : حقيقة الأسد هو الحيوان المفترس ومجازه الرجل
الشجاع ، جعلوا الحقيقة والمجاز للمعنى لا للألفاظ ، وإذا قالوا هذا الاستعمال
حقيقة وهذا الاستعمال مجاز جعلوا ذلك من توابع الاستعمال ، وإذا قالوا هذا اللفظ
حقيقة في كذا ، مجاز في كذا جعلوا ذلك من عوارض الألفاظ ، وكثير منهم في كلامه هذا
وهذا وهذا.
والمقصود أنهم
سواء قسموا اللفظ ومدلوله أو استعماله في مدلوله طولبوا بثلاثة أمور (أحدها) تعيين ورود التقسيم ، (الثاني) صحته بذكر ما تشترك فيه الأقسام وما ينفصل وما يتميز به فلا
بد من ذلك المشترك ؛ والمميز ضرورة صحة التقسيم (الثالث) التزام الطرد والعكس فإن التقسيم من جنس التحديد إذ هو
مشتمل على القدر المشترك والقدر المميز الفارق فإن لم يطرد التقسيم وينعكس كان
تقسيما فاسدا.
فنقول : تقسيمكم
الألفاظ ومعانيها واستعمالها فيها إلى حقيقة ومجاز ؛ إما أن يكون عقليا أو شرعيا ،
أو لغويا أو اصطلاحيا ، والأقسام الثلاثة الأول باطلة ، فإن العقل لا مدخل له في
دلالة اللفظ وتخصيصه بالمعنى المدلول عليه حقيقة كان أو مجاز فإن دلالة اللفظ على
معناه ـ وليست كدلالة الانكسار على الكسر والانفعال على الفعل ـ لو كانت عقلية لما
اختلفت باختلاف الأمم ولما جهل أحد معنى لفظ ، والشرع لم يرد بهذا التقسيم ولا دل
عليه ، ولا أشار إليه ؛ وأهل اللغة لم يصرح أحد منهم بأن العرب قسمت لغاتها إلى
حقيقة ومجاز ولا قال أحد من العرب قط : هذا اللفظ حقيقة وهذا مجاز ، ولا وجد في
كلام من نقل لغتهم عنهم مشافهة ولا بواسطة ذلك ، ولهذا لا يوجد في كلام الخليل
وسيبويه والفراء وأبى عمرو بن العلاء والأصمعى وأمثالهم ، كما لم يوجد ذلك في كلام
رجل واحد من الصحابة ولا من التابعين ولا تابع التابعين ، ولا في كلام أحد من
الأئمة الأربعة.
* * *
وهذا الشافعي
وكثرة مصنفاته ومباحثه مع محمد بن الحسن وغيره لا يوجد فيها ذكر المجاز البتة ؛
وهذه رسالته التي هي كأصول الفقه لم ينطق فيها بالمجاز في موضع واحد ، وكلام
الأئمة مدون بحروفه لم يحفظ عن أحد منهم تقسيم اللغة إلى حقيقة ومجاز ، بل أول من
عرف عنه في الإسلام أنه نطق بلفظ المجاز أبو عبيدة معمر بن المثنى فإنه صنف في
تفسير القرآن كتابا مختصرا سماه مجاز القرآن ، وليس مراده به تقسيم الحقيقة ، فإنه
تفسير لألفاظه بما هي موضوعة له ، وإنما عنى بالمجاز ما يعبر به من اللفظ ويفسر به
كما سمي غيره كتابه معانى القرآن ، أى ما يعنى بألفاظه ويراد بها ، كما يسمى ابن
جرير الطبري وغيره ذلك تأويلا ، وقد وقع في كلام أحمد شيء من ذلك ؛ فإنه قال في «الرد
على الجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن» : وأما قوله (إِنِّي مَعَكُمْ) [المائدة :
١٢] فهذا من مجاز
اللغة. يقول الرجل للرجل : سيجري عليك رزقك. أنا مشتغل بك. وفي نسخة ، وأما قوله :
(إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) [طه : ٤٦] فهو
جائز في اللغة. يقول الرجل للرجل : سأجري عليك رزقك وسأفعل بك خيرا.
قلت : مراد أحمد
أن هذا الاستعمال مما يجوز في اللغة ، أي هو في جائز اللغة لا من ممتنعاتها ، ولم
يرد بالمجاز أنه ليس بحقيقة وأنه يصح نفيه ، وهذا كما قال أبو عبيدة في «تفسيره»
إنه مجاز القرآن ، ومراد أحمد أنه يجوز في اللغة أن يقول الواحد المعظم نفسه : نحن
فعلنا كذا : فهو مما يجوز في اللغة ، ولم يرد أن في القرآن ألفاظا استعملت في غير
ما وضعت له ، وأنها يفهم منها خلاف حقائقها ، وقد تمسك بكلام أحمد هذا من ينسب إلى
مذهبه أن في القرآن مجازا كالقاضى أبي يعلى وابن عقيل وابن الخطاب وغيرهم ، ومنع
آخرون من أصحابه ذلك ، كأبي عبد الله بن حامد ، وأبي الحسن الجزرى وأبي الفصل
التميمي.
وكذلك أصحاب مالك
مختلفون ، فكثير من متأخريهم يثبت في القرآن مجازا وأما المتقدمون كابن وهب وأشهب
وابن القسم فلا يعرف عنهم ، في ذلك لفظة واحدة.
وقد صرح بنفي
المجاز في القرآن محمد بن خوازمنداد البصرى المالكي وغيره من المالكية وصرح بنفيه
داود بن على الأصبهاني وابنه أبو بكر ، ومنذر بن سعيد البلوطي ؛ وصنف في نفيه
مصنفا ، وبعض الناس يحكى في ذلك عن أحمد روايتين.
وقد أنكرت طائفة
أن يكون في اللغة مجاز بالكلية ، كأبي إسحاق الأسفرائيني وغيره ، وقوله له غور لم
يفهمه كثير من المتأخرين ؛ وظنوا أن النزاع لفظي ؛ وسنذكر أن مذهبه أسد وأصح عقلا
ولغة من مذهب أصحاب المجاز. وطائفة أخرى غلت في ذلك الجانب وادعت أن أكثر اللغة
مجاز ، بل كلها ، وهؤلاء أقبح قولا وأبعد عن الصواب من قوله من نفي المجاز بالكلية
؛ بل من نفاه أسعد بالصواب.
فصل
وإذا علم أن تقسيم
الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس تقسيما شرعيا ولا عقليا ولا لغويا فهو اصطلاح محض ؛
وهو اصطلاح حدث بعد القرون الثلاثة المفضلة بالنص ، وكان منشؤه من جهة المعتزلة والجهمية ومن سلك طريقهم من
المتكلمين وأشهر ضوابطهم قولهم : إن الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا.
والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا ، ثم زاد بعضهم : في العرف الذي
وقع به التخاطب لتدخل الحقائق الثلاث وهي : اللغوية ، والشرعية والعرفية.
والكلام على ذلك من وجوه (أحدها) : ما تعنون باللفظ سواء كانت اللغات توقيفية كما هو قول
جمهور الناس ، أو اصطلاحية كما هو قول أبى هاشم الجبائي ومن تبعه ، أتعنون به جعل
اللفظ دليلا على المعنى ، أم تعنون به غلبة استعمال اللفظ في المعنى حتى يصير فيه
أشهر من غيره ، أم تعنون به مطلق الاستعمال ولو مرة واحدة في صورة واحدة كما قلتم
من شرط المجاز الوضع ، فإن الوضع في كلامكم ما يدور علي هذه المعانى الثلاثة ،
وهذا كله إنما يصح إذا علم أن الألفاظ العربية وضعت أولا لمعان ثم استعملت فيها ثم
وضعت لمعان أخر بعد الوضع الأول والاستعمال بعده والوضع الثاني والاستعمال بعده ،
ولا تتم لكم دعوى المجاز إلا بهذه المقامات الأربع ، وليس معكم ولا مع غيركم سوى
استعمال اللفظ في المعنى ، وأما أنهم وضعوه لمعنى ثم استعملوه فيه ، ثم وضعوه بعد
ذلك لمعنى آخر غير معناه الأول ثم استعملوه فيه ، فدعوى ذلك قول بلا علم ، وهو
حرام في حق المخلوق. فكيف فى كلام الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم ، فمن يمكنه من بني آدم أن يثبت ذلك ، وهذا لو أمكن العلم
به لم يكن له طريق إلا الوحي وخبر الصادق المعلوم بالضرورة صدقه.
__________________
الوجه
الثاني : إن هذا إنما يمكن
دعواه إذا ثبت أن قوما من العقلاء اجتمعوا واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا
بكذا ، ثم استعملوا تلك الألفاظ في تلك المعاني ، ثم بعد ذلك اجتمعوا وتواطئوا على
أن يستعملوا تلك الألفاظ بعينها في معان أخر غير المعاني الأول ، لعلاقة بينها
وبينها ، وقالوا هذه الألفاظ حقيقة في تلك المعاني مجاز في هذه وهذه ، ولا نعرف
أحدا من العقلاء قاله قبل أبي هاشم الجبائي ، فإنه زعم أن اللغات اصطلاحية ، وأن
هل اللغة اصطلحوا على ذلك ، وهذا مجاهرة بالكذب ، وقول بلا علم ، والذي يعرفه
الناس استعمال هذه الألفاظ في معانيها المفهومة منها.
الوجه
الثالث : إن قولكم :
الحقيقة هي اللفظ المستعمل في موضوعه ، فلزم منه انتفاء كونه حقيقة قبل الاستعمال
وليس بمجاز ، فتكون الألفاظ قبل استعمالها لا حقيقة ولا مجاز ، هذا وإن استلزموه
فإنه يستلزم أصلا فاسدا ، ومستلزم لأمر فاسد ، أما الأصل الفاسد فهو أن هاهنا وضعا
سابقا على الاستعمال ثم طرد عليه الاستعمال فصار باعتباره حقيقة ومجازا ؛ وهذا مما
لا سبيل إلى العلم به كما تقدم ، ولا يعرف تجرد هذه الألفاظ عن الاستعمال بل
تجردها عن الاستعمال محال وهو كتجرد الحركة عن المتحرك. نعم إنما تتجرد في الذهن
وهي حينئذ ليست ألفاظا وإنما هي تقدر ألفاظا لا حكم لها ؛ وثبوتها في الرسم مسبوق
بالنطق بها ، فإن الخط يستلزم اللفظ من غير عكس.
وأما استلزامه
الأمر الفاسد فإنه إذا تجرد الوضع عن استعمال جاز أن يوضع للمعنى الثاني من غير أن
يستعمل في معناه الأول ، وحينئذ فيكون مجازا لا حقيقة له ، فإذا الحقيقة هي اللفظ
المستعمل في موضعه وقد نقل عنه إلى مجازه ، وهل هذا إلا نوع من الكهانة الباطلة ؛
اللهم إلا أن يأتي وحي بذلك فيجب المصير إليه.
الوجه
الرابع : إن هذا يستلزم
تعطيل الألفاظ عن دلالتها على المعاني وذلك ممتنع ؛ لأن الدليل يستلزم مدلوله من
غير عكس.
(فإن قيل) لا يلزم
من عدم الاستعمال عدم الدلالة فإنهما غير متلازمين
(قيل) بل يلزم
لزوما بينا ، فإن دلالته عليه إنما تتحقق باستعماله ، فإن الدلالة هي فهم المعنى
من اللفظ عند إطلاقه فلا تحقق لها بدون الاستعمال البتة والاستعمال إما أن يكون هو
معنى الحقيقة والمجاز وهذا إنما يقوله من يقول إن الحقيقة استعمال اللفظ في موضعه
، أو جزء مسمى الحقيقة ، كما يقول من يقول : إنها اللفظ المستعمل في موضعه ، وعلى
التقديرين فليزم تجرد اللفظ عن حقيقته ومجازه قبل الاستعمال مع وجود دلالته على
أحدهما. وهذا جمع بين النقيضين فتأمله.
الوجه
الخامس : إن القائلين
بالمجاز مختلفون ، هل يستلزم المجاز الحقيقة أم لا على قولين ، ولم يختلفوا أن
الحقيقة لا تستلزم المجاز ، فإنه لا يجب أن يكون لكل حقيقة مجاز ، والذين قالوا
باللزوم احتجوا بأنه لو لم يكن المجاز مستلزما للحقيقة لعرى وضع اللفظ للمعنى عن
الفائدة ، وكان وضعه عبثا ، والحقيقة عندهم إنما استعمال اللفظ وإما وضع اللفظ
المستعمل في موضوعه ؛ فلا يتصور عندهم مجاز حتى يسبقه استعمال في الحقيقة ، وهذا
السبق مما لا سبيل لهم العلم به بوجه من الوجوه ، فيستحيل على أصلهم التمييز بين
الحقيقة والمجاز.
فإن قالوا نحن
نختار القول الأول وأن المجاز لا يستلزم الحقيقة ، فإن العرب تقول : شابت لمة الليل.
وقامت الحرب على ساق ، وهذه مجازات لم يسبق لها استعمال في حقائقها ولم تستعمل في
غير مدلولاتها المجازية.
قيل لهم الجواب من
وجهين (أحدهما) أن المجاز وإن لم يستلزم استعمال اللفظ في حقيقته فلا بد أن يستلزم
وضع اللفظ لمعناه الحقيقى ، فلو لم يتقدم وضع هذه الألفاظ لحقائقها لكانت قد وضعت
هذه المعاني وضعا أوليا ، فتكون حقيقة لا مجازا ، فإذا لم يكن لهذه الألفاظ موضوع
سوى معناها لم تكن مجازا ، وإن كان لها موضوع سواه بطل الدليل.
(الثاني)
إنكم إنما تعنون
بقولكم : لو استلزم المجاز الحقيقة لكان كنحو قامت الحرب على ساق ، وشابت لمة
الليل ، حقيقة إنه لا بد لمفرداتها من حقيقة ، أو لا بد للتركيب من حقيقة ، فإن
أردتم الأول فمسلم ، وهذه المفردات
لها حقائق فبطل
الدليل ؛ وإن أردتم الثاني فهو بناء على أن دلالة المركب تنقسم إلى حقيقية
ومجازية. وهذا ينازع فيه جمهور القائلين بالمجاز ، ويقولون إن المجاز في المفردات
لا في التركيب ؛ إذ لا يعقل وقوعه في التركيب ، لأنه لا يتصور أن يكون للإسناد
جهتان : إحداهما جهة حقيقة ، والأخرى جهة مجاز ، بخلاف المفردات ، والفرق بينهما
أن الإسناد لم يوضع أولا لمعنى ثم نقل عنه إلى غيره ولا يتصور فيه ذلك وإن تصور في
المفرد.
الوجه
السادس : إن تقسيم الكلام
إلى حقيقة ومجاز لا يدل على وجود المجاز بل ولا على مكانه ، فإن التقسيم لا يدل
على ثبوت كل واحد من الأقسام في الخارج ، ولا على إمكانها ، فإن التقسيم يتضمن حصر
المقسوم في تلك الأقسام ، هي أعم من أن تكون موجودة أو معدومة ، ممكنة أو ممتنعة
فها هنا أمران (أحدهما) انحصار المقسوم في أقسامه ؛ وهذا يعرف بطرق : منها أن يكون
التقسيم دائرا بين النفي والإثبات. ومنها أن يجزم العقل بنفي قسم آخر وغيرها ومنها
أن يحصل الاستقراء التام المفيد للعلم ، أو الاستقراء المفيد للظن.
(والثانى) ثبوت
تلك الأقسام أو بعضها في الخارج ، وهذا لا يستفاد من التقسيم بل يحتاج إلى دليل
منفصل يدل عليه ، وكثير من أهل النظر يغلط في هذا الموضع ، ويستدل بصحة التقسيم
على الوجود الخارجية وإمكانه ، وهذا غلط محض ، كما يغلط كثير منهم في حصر ما ليس
بمحصور ، فإن الذهن يقسم المعلوم إلى موجود ومعدوم ، وما ليس بموجود ولا معدوم ،
والموجود إما قائم بنفسه وإما قائم بغيره ؛ وإما لا قائم بنفسه ولا قائم بغيره.
وإما قائم بنفسه وغيره. وإما داخل العالم أو خارجه ، أو داخله ، أو داخله وخارجه ،
أو لا داخله ولا خارجه وأمثال ذلك من التقسيمات الذهنية التى يستحيل ثبوت بعض
أقسامها في الخارج.
إذا عرف ذلك
فالذين قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز إن أرادوا بذلك التقسيم الذهنى لم يفدهم ذلك
شيئا ، وإن أرادوا التقسيم الخارجى لم يكن معهم دليل
يدل على وجود
الجميع في الخارج سوى مجرد التقسيم. وهو لا يفيد الثبوت الخارجى ، فحينئذ لا يتم
لهم مطلوبهم حتى يثبتوا أن هاهنا ألفاظا وضعت لمعان حتى تقلب عنها بوضع ثان على
معان أخر غيرها ، وهذا مما لا سبيل لأحد إلى العلم به.
الوجه
السابع : أن تقسيم الألفاظ
إلى ألفاظ مستعملة فيما وضعت له ، وألفاظ مستعملة في غير ما وضعت له تقسيم فاسد
يتضمن إثبات الشيء ونفيه ، فإن وضع اللفظ للمعنى هو تخصيصه به بحيث إذا استعمل فهم
منه ذلك المعنى ، ولا يعرف للوضع معنى غير ذلك ، ففهم المعني الذي سميتموه أو
سميتم اللفظ الدال عليه أو استعماله على حسب اصطلاحكم مجازا مع نفى الوضع جمع بين
النقيضين ، وهو يتضمن أن يكون اللفظ موضوعا غير موضوع.
فإن قلتم : لا
تناقض في ذلك فإنا نفينا الوضع الأول وأثبتنا الوضع الثاني.
قيل لكم : هذا دور
ممتنع ، فإن معرفة كونه مجازا متوقف علي معرفة الوضع الثاني ومستفاد منه ، فلو
استفيد معرفة الوضع من كونه مجازا لزم الدور الممتنع ، فمن أين علمتم أن هذا وضع
ثان للفظ ، وليس معكم إلا أن ادعيتم أنه مجاز ، ثم قلتم فيلزم أن يكون موضوعا وضعا
ثانيا ، فإنكم إنما استفدتم كونه مجازا من كونه مستعملا في غير موضوعه فكيف يستفاد
كونه مستعملا في غير موضوعه من كونه مجازا؟!.
يوضحه
الوجه الثامن : إنه ليس معكم إلا استعمال ؛ وقد استعمل في هذا وهذا ، فمن أين لكم أن وضعه
لأحدهما سابق على وضعه للآخر ، ولو ادعى آخر أن الأمر بالعكس كانت دعواه من جنس
دعواكم ، وسيأتي الكلام على الإطلاق والتقييد الذي هو حقيقة ما تعرفونه به ، وأنه
لا يفيدكم شيئا البتة.
الوجه
التاسع : إن هذا يتضمن
التفريق بين المتماثلين ، فإن اللفظ إذا أفهم هذا المعني تارة وهذا تارة فدعوى
المدعى أنه موضوع لأحدهما دون الآخر ، وأنه عند فهم أحدهما يكون مستعملا في غير ما
وضع له تحكم محض ، وتفريق بين المتماثلين.
الوجه
العاشر : إن هذا تقسيم فاسد
لا ينضبط بضابط صحيح ، ولهذا عامة ما يسميه بعضكم مجازا يسميه غيره حقيقة ، وهذا
يدعي أنه استعمل فيما لم يوضع له ؛ وذلك يدعى أن هذا موضوعه ، وذلك أنه ليس في نفس
الأمر فرق يتميز به أحد النوعين عن الآخر فإن الفرق إما في نفس اللفظ وإما في
المعنى وكلاهما منتف قطعا ، أما انتفاء الفرق في اللفظ فظاهر ، فإن اللفظ بما
سميتموه حقيقة وما سميتموه مجازا واحد ، وأما الفرق المعنوى فمنتف أيضا إذ ليس بين
المعنيين من الفرق ما يدل على أنه وضع لهذا ولم يوضع لهذا بوجه من وجوه الدلالة ،
ولهذا لما تفطن بعض الفضلاء لذلك قال : إنما يعرف الفرق بين الحقيقة والمجاز بنص
أهل اللغة على أن هذا حقيقة وهذا مجاز ، فإن أراد بأهل اللغة العرب العاربة الذين
نقلت عنهم الألفاظ ومعانيها ، فلم ينص أحد منهم البتة على ذلك ؛ وإن أراد من نقل
عنهم الألفاظ ومعانيها مشافهة من أئمة اللغة كالأصمعى والخليل والفراء وأمثالهم
فكذلك وإن أراد المتأخرين منهم الذين قسموا اللفظ إلى حقيقة ومجاز كابن جني
والزمخشري وأبي علي وأمثالهم فهذا اصطلاح منهم لا إخبار عن العرب ، ولا عن نقلة
اللغة أنهم نقلوه عن العرب ، وحينئذ فتعود المطالبة لهم بالفرق المطرد المنعكس بين
ما سموه حقيقة وما سموه مجازا ، وسنذكر إن شاء تعالى فرقهم ونبطلها. يوضحه :
الوجه
الحادي عشر : إن تمييز الألفاظ والتفريق بينها تابع لتمييز المعانى والتفريق بين بعضها وبعض
، فإذا لم يكن المعني الذي سموه حقيقيا منفصلا متميزا من المعنى الذي سموه مجازيا
بفصل يعلم به أن استعماله في هذا حقيقة ، واستعماله في الآخر مجاز ، لم يصح
التفريق في اللفظ ، وكان تسميته لبعض الدلالة حقيقة ولبعضها مجازا تحكما محضا.
الوجه
الثاني عشر : إنهم اختلفوا هل تفتقر صحة الاستعمال المجازي إلى النقل في كل صورة ؛ كما
تفتقر إلى ذلك الحقيقة أم لا ـ على قولين. والصحيح عندهم أنه لا يشترط. قالوا :
وليس مورد النزاع في الأشخاص كزيد وأسد وبحر وغيث ، إذ لا تتوقف صحة هذا الإطلاق
على كل شخص على النقل.
فنقول : لا يتحقق
ذلك في الأشخاص ولا في الأنواع ، أما الأشخاص فظاهر ، فإنه لا يشترط في استعمال
اللفظ في كل واحد منها النقل عن أهل اللغة إذا كانت العلاقة موجودة في الأفراد.
وأما الأنواع فلا يكفى في استعمال اللفظ في كل صورة ظهور نوع من العلاقة المعتبرة
، فأن من العلاقات عندهم علاقة اللزوم ، بحيث يتجوز عن الملزوم إلى لازمه وعكسه ،
وعلاقة التضاد بأن يتجوز من أحد الضدين إلى الآخر ، وعلاقة المشابهة ، وعلاقة
الجوار والقرب ، وعلاقة تقدم ثبوت الصفة للحمل ، وعلاقة كونه آئلا إليها ، فبعضهم
جعل أنواع العلاقات أربعة ، وبعضهم أوصلها إلى اثنى عشر علاقة ، وبعضهم أوصلها إلى
خمسة وعشرين ، ولو أوصلها آخر إلى خمسة وسبعين لقبلوا منه.
ومن المعلوم أنه
ما من شيئين إلا وبينهما علاقة من هذه العلاقات ، فإذا لم يشترط النقل في آحاد
الصور واكتفى بنوع العلاقة لزم من ذلك صحة التجوز بإطلاق كل لازم على لازمه ، وكل
لازم على ملزومه ، وكل ضد على ضده ، وكل مجاور على مجاوره وكل شيء كان على صفة ثم
فاقها على ما اتصف بها ، وكل مشبه على مشبهه ، وفي ذلك من الخبط وفساد اللغات
وبطلان التفاهم ووقوع اللبس والتلبيس ما يمنع منه العقل والنقل ومصالح الآدميين ،
فيجوز تسمية الليل نهارا والنهار ليلا ، والمؤمن كافرا والكافر مؤمنا ، والصادق
كاذبا والكاذب صادقا ، والمسك نتنا والنتن مسكا ، والبول طعاما والطعام بولا ،
وتسمية كل شيء باسم ضده ، ومجاوره ومشابهه ، ولازمه وملزومه. فهل يقول هذا أحد من
عقلاء بني آدم؟ وهل في العالم قول أفسد من قول هذا لازمه؟
ولما ورد عليهم
وعرفوا أنه وارد لا محالة قالوا المانع يمنع من ذلك ، ولو لا المانع لقلنا به.
فيقال : يا لله العجب ما أسهل الدعوى التي لا حقيقة لها عليكم. أليس من المعلوم أن
إضافة الحكم إلى المانع يستلزم أمرين. أحدهما قيام المقتضي والآخر إثبات المانع ،
فقد سلمتم حينئذ أن المقتضي للتجوز المذكور موجود ، وادعيتم على العرب وأهل اللغة
أن هذا العلاقات عندهم مقتضية لإطلاق اسم الضد على ضده ، واللازم على ملزومه
والمجاور على مجاوره ، ثم
ادعيتم أنهم
منعوكم من هذا التجوز فيما لا يحصيه إلا الله تعالى ، فمن أين لكم الشهادة عليهم
بهذا المقتضى وهذا المانع ، وأين قالوا لكم أبحنا لكم إطلاق هذه الأضداد الخاصة
على أضدادها ، وهذه اللوازم على ملزوماتها وحرمنا عليكم ما عداها وهل معكم غير
الاستعمال الثابت عنهم. وذلك الاستعمال لا يفيد أن ذلك بوضعهم وعرفهم من خطابهم
فما لم يستعملوه وما لم يتفاهموه من مخاطباتهم علمنا أنه ليس من لغتهم ، وما فهموه
واستعملوه هو من لغتهم ، وإذا دار الأمر بين إضافة الحكم إلى عدم مقتضيه وإضافته
إلى وجود مانعه تعينت حوالته على عدم مقتضيه تخلصا من دعوى التعارض والتناقض فإن
الصورة الممنوع منها إذا كانت مثل الصورة المستعملة كان التفريق بينهما تفريقا بين
المتماثلين ، والعقل يأباه ويمنع منه.
وهذه المحاولات
إنما لزمت من تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز ، وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم
يوضحه :
الوجه
الثالث عشر : إن الذين اشترطوا النقل قالوا : لو جاز الإطلاق من غير فعل لكان ذلك إما قياسا
إن كان مستندا إلى وصف ثبوتي مشترك بين صورة الاستعمال وصورة الإلحاق. وإما
اختراعا إن لم يستند إلى ذلك ، فأجابهم من لم يشترط النقل بأن قالوا : العلاقة
مصححة للتجوز ، كرفع الفاعل ونصب المفعول ، فإنا لما استقرأنا لغتهم وجدناهم
يرفعون ما نطقوا به من أسماء الفاعلين علمنا أن سبب الرفع هو الفاعلية وسبب النصب
هو المفعولية ، فهكذا استقراء علاقات المجاز ، وليس كذلك إطلاقهم كل ضد على ضده ،
وكل لازم على لازمه.
وهذا الجواب من
أفسد الأجوبة ، فإنا نعلم بالضرورة من لغتهم رفع كل فاعل ونصب كل مفعول ، وجر كل
مضاف ، ولا يختلف في ذلك صورة من الصور ، فإنا لم نجد ذلك بنقل تواتر ولا آحاد ولا
استقراء يفيد علما ولا ظنا ولا اطراد استعمال ، فقياس التجوز بكل ضد على ضده ،
وبكل ملزوم على ملزومه على رفع الفاعل ونصب المفعول من أفسد القياس.
الوجه
الرابع عشر : أنهم قالوا : يعرف المجاز بصحة نفيه ، أى إذا صح نفيه عما أطلق عليه كان مجازا
، كما يقال لمن قال : فلان بحر وأسد وشمس ، وحمار وكلب وميت ليس كذلك. وهذا بخلاف
الحقيقة ، فإنه لا يصح أن ينفى عما أطلق عليه لفظا ، فلا يقال للحمار والأسد
والبحر والشمس ليس كذلك ، فإنه يكون كذبا ، وقد اعترفوا هم ببطلانه فقالوا : هذا
فرق يلزم منه الدور ، وذلك أن صحة النفي وامتناعه يتوقف على معرفة الحقيقة والمجاز
، فلو عرفناهما بصحة النفي وامتناعه لزم الدور.
الوجه
الخامس عشر : إن كثيرا من الحقائق يصح إطلاق النفى عليها باعتبار عدم فائدتها ، وليست مجازا
كقوله صلىاللهعليهوسلم عن الكهان ليسوا بشيء ، ومن هذا سلب الحياة والسمع والبصر والعقل عن الكفار ومن
هذا سلب الإيمان عمن لا أمانة له وسلبه عن الزاني والسارق والشارب الخمر والمنتهب
وسلب الصلاة عن الفذ خلف الصف وسلب الصلاة عمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب ولم
يطمئن في صلاته عند كثير من هؤلاء فإن هذه الحقائق ثابتة عندهم وقد أطلق عليها
السلب ، وليس من هذا قوله صلىاللهعليهوسلم : «ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان» ، «ليس الشديد بالصرعة» ، ونحو ذلك فإن هذا لم ينف فيه صحة إطلاق الاسم ، وإنما
نفي اختصاص الاسم بهذا الرسم وحده ، وإن غيره أولى بهذا الاسم منه ، فتأمله فإن
بعض الناس نقض به عليهم قولهم : إن المجاز ما صح نفيه ، وهو نقض باطل. وأما النقض
الصحيح فما صح نفيه لنقضه وعدم حصول المطلوب منه مع إطلاق الاسم عليه حقيقة والله
تعالى أعلم.
__________________
الوجه
السادس عشر : أن يقال ما تعنون بصحة النفي ، نفي المسمى عند الإطلاق أم المسمى عند التقييد
أم القدر المشترك أم أمرا رابعا ، فإن أردتم الأول كان حاصله أن اللفظ له دلالتان
:
دلالة عند الإطلاق
ودلالة عند التقييد بل المقيد مستعمل في موضعه ، وكل منهما منفي عن الآخر ، وإن
أردتم الثاني لم يصح نفيه فإن المفهوم منه هو المعنى المقيد فكيف يصح نفيه؟ وإن
أردتم القدر المشترك بين ما سميتموه حقيقة ومجازا لم يصح نفيه أيضا ، وإن أردتم
أمرا رابعا فبينوه لنحكم عليه بصحة النفي أو عدمه ، وهذا ظاهر جدا لا جواب عنه كما
ترى.
الوجه
السابع عشر : إن هذا النفي الّذي جعلتم صحته عيارا على المجاز ، وفرقا بينه وبين الاصطلاح
الحقيقى ، هو الصحة عند أهل اللسان أو عند أهل الاصطلاح على التقسيم إلى الحقيقة
والمجاز أو عند أهل العرف ، فمن هم الذين يستدل بصحة نفيهم ، ويجعل عيارا على كلام
الله ورسوله ، بل كلام كل متكلم؟ فإن كان المعتبر نفي أهل اللسان ، طولبتم بصحة النقل
عنهم بأن هذا يصح نفيه وهذا لا يصح نفيه ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا ، وإن كان
المعتبر نفي أهل الاصطلاح لم يفد ذلك شيئا ، لأنهم اصطلحوا على أن هذا مجاز ، فيصح
لهم نفيه ، وهذا حقيقة فلا يصح لهم نفيه ، فكان ما ذا؟ وهل استفدنا بذلك شيئا وإن
كان الاعتبار بصحة نفي أهل العرف فنفيهم تابع لعرفهم وفهمهم ، فلا يكون عيارا على
أصل اللغة.
الوجه
الثامن عشر : إن صحة النفي مدلول عليه بالمجاز فلا يكون دليلا عليه إذ يلزم منه أن يكون
الشيء دليلا على نفسه ومدلولا لنفسه ، وهذا عين لزوم الدور.
الوجه
التاسع عشر : أنكم فرقتم أيضا بينهما أن المجاز ما يتبادر غيره إلى الذهن ، فالمدلول إن
تبادر إلى الذهن عند الإطلاق كان حقيقة ، وكان غير المتبادر مجازا فإن الأسد إذا
أطلق تبادر منه الحيوان المفترس دون الرجل الشجاع ، فهذا الفرق
مبنى على دعوى
باطلة وهو تجريد اللفظ عن القرائن بالكلية والنطق به وحده ، وحينئذ فيتبادر منه
الحقيقة عند التجرد ، وهذا الفرض هو الذي أوقعكم في الوهم ، فإن اللفظ بدون القيد
والتركيب بمنزلة الأصوات التى ينعق بها لا تفيد فائدة ، وإنما يفيد تركيبه مع غيره
تركيبا إسناديا يصح السكوت عليه ، وحينئذ فإنه يتبادر منه عند كل تركيب بحسب ما
قيد به ، فيتبادر منه في هذا التركيب ما لا يتبادر منه في هذا التركيب الأخير.
فإذا قلت هذا
الثوب خطته لك بيدى ، تبادر من هذا أن اليد آلة الخياطة لا غير ، وإذا قلت : لك
عندي يد الله يجزيك بها ، تبادر من هذا النعمة والإحسان ، ولما كان أصله الإعطاء
وهو باليد عبر عنه بها ، لأنها آلة وهى حقيقة في هذا التركيب ، وهذا التركيب ، فما
الّذي صيرها حقيقة في هذا ، مجازا في الآخر؟
فإن قلت : لأنا
إذا أطلقنا لفظة يد تبادر منها العضو المخصوص قيل لفظة يد بمنزلة صوت ينعق به لا
يفيد شيئا البتة حتى تقيده بما يدل على المراد منه ، ومع التقييد بما يدل على
المراد لا يتبادر سواه ، فتكون الحقيقة حيث استعملت في معنى يتبادر إلى الفهم ،
كذلك أسد لا تفيد شيئا ولا يعلم مراد المتكلم به حتى إذا قال زيد أسد أو رأيت أسدا
يصلى ، أو فلان افترسه الأسد فأكله أو الأسد ملك الوحوش ونحو ذلك ، علم المراد به
من كلام المتكلم ، وتبادر في كل موضع إلى ذهن السامع بحسب ذلك التقييد والتركيب ،
فلا يتبادر من قولك : رأيت أسدا يصلى ، إلا رجلا شجاعا ، فلزم أن يكون حقيقة.
فإن قلتم : نعم
ذلك هو المتبادر ، ولكن لا يتبادر إلا بقرينة ، بخلاف الحقيقة فإنها يتبادر معناها
بغير قرينة. بل لمجرد الإطلاق ، قيل لكم : عاد البحث جذعا ، وهو أن اللفظ بغير
قرينة ولا تركيب لا يفيد شيئا ولا يستعمل في كلامنا في الألفاظ المقيدة المستعملة
في التخاطب.
فإن قلتم : ومع
ذلك فإنها عند التركيب تحتمل معنيين أحدهما أسبق إلى
الذهن من الآخر ، وهذا
الذي نعنى بالحقيقة. مثاله أن القائل إذا قال رأيت اليوم أسدا ، تبادر إلى ذهن
السامع الحيوان المخصوص ، دون الرجل الشجاع هذا غاية ما تقدرون عليه من الفرق وهو
أقوى ما عندكم ، ونحن لا ننكره ولكن نقول اللفظ الواحد تختلف دلالته عند الإطلاق
والتقييد ، ويكون حقيقة في المطلق والمقيد. مثاله لفظ العمل ، إنه عند الإطلاق
إنما يفهم منه عمل الجوارح ، فإذا قيد بعمل القلب كانت دلالته عليه أيضا حقيقة.
اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد. ولم يخرج بذلك عن كونه حقيقة. وكذلك لفظ الإيمان
عند الإطلاق يدخل فيه الأعمال. كقوله صلىاللهعليهوسلم : «الإيمان
بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذي عن الطريق.
والحياء شعبة من الإيمان» فإذا قرن بالأعمال كانت دلالته على التصديق بالقلب. وكقوله : (آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (البقرة : ٨٢ ،
٢٧٧) فاختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد وهو حقيقة في الموضعين.
وكذلك لفظ الفقير
والمسكين يدخل فيه الآخر عند الإطلاق. فإذا جمع بينهما لم يدخل مسمى أحدهما في
مسمى الآخر ، وكذلك لفظ التقوى والقول السديد إذا أطلق لفظ التقوى تناول تقوى
القلب والجوارح واللسان فإذا جمع بينهما تقيدت دلالته كقوله تعالى : (اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً
سَدِيداً) (الأحزاب : ٧٠)
وكذلك لفظ التقوى عند الإطلاق يدخل فيه الصبر فإذا قرن بالصبر لم يدخل فيه كقوله
تعالى : (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا) (آل عمران : ١٢٥)
وقوله : (وَإِنْ تَصْبِرُوا
وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) (آل عمران : ١٨٦)
ونظائر ذلك أكثر من أن تذكر.
وأخص من هذا أن
يكون اللفظ لا يستعمل إلا مقيدا كالرأس والجوارح واليد وغير ذلك فإن العرب لم
تستعمل هذه الألفاظ مطلقة بل لا تنطق بها إلا مقيدة كرأس الإنسان ورأس الطائر ورأس
الدابة ورأس الماء ورأس الأمر ورأس المال ورأس القوم. فها هنا المضاف والمضاف إليه
جميعا حقيقة وهما موضوعان.
__________________
ومن توهم أن الأصل
في الرأس للإنسان وأنه نقل منه إلى هذه الأمور فقد غلط أقبح غلط وقال ما لا علم له
به بوجه من الوجوه. ولو عارضه آخر بضد ما قاله كان قوله من جنس قوله لا فرق
بينهما. فالمفيد موضع النزاع والمطلق غير مستعمل ولا يفيد فتأمله. وكذلك الجناح
لجناح الطائر حقيقة وجناح السفر حقيقة فيه وجناح الذل حقيقة فيه. فإن قيل ليس للذل
جناح. قلنا ليس له جناح ريش وله جناح معنوي يناسبه. كما أن الأمر والمال والماء
ليس له رأس الحيوان ولها رأس بحسبها. وهذا حكم عام في جميع الألفاظ المضافة كاليد
والعين وغيرهما ، فيد البعوضة حقيقة ويد الفيل حقيقة وليست مجازا في أحد الموضعين
حقيقة في الآخر ، وليست اليد مشتركة بينهما اشتراكا لفظيا وكذلك إرادة البعوض
وحياتها وقوتها حقيقة. وإرادة الملك وقوته وحياته حقيقة. ومعلوم أن القدر المشترك
بين الأسد والرجل الشجاع وبين البليد والحمار أعظم من القدر المشترك الذي بين
البعوضة والفيل وبين البعوضة والملك. وإذا جعلتم اللفظ حقيقة هناك باعتبار القدر
المشترك فهلا جعلتموه حقيقة باعتبار القدر المشترك فيما هو أظهر وأبين. وهذا يدل
على تناقضكم وتفريقكم بين المتماثلين وسلبكم الحقيقة عما هو أولى بها. يوضحه :
الوجه
العشرون : وهو أنكم فرقتم
بقولكم : إن المجاز يتوقف على القرينة والحقيقة لا تتوقف على القرينة. ومرادكم أن
إفادة الحقيقة لمعناها الإفرادى غير مشروط بالقرينة وإفادة المجاز لمعناه الإفرادى
مشروط بالقرينة فيقال لكم اللفظ ـ عند تجرده عن جميع القرائن التي تدل على مراد
المتكلم بمنزلة الأصوات التى ينعق بها. فقولك تراب ماء حجر رجل بمنزلة قولك : طق
غاق ونحوها من الأصوات فلا يفيد اللفظ ويصير كلاما إلا إذا اقترن به ما يبين
المراد. ولا فرق بين ما يسمى حقيقة في ذلك وما يسمى مجازا. وهذا لا نزاع فيه بين
منكرى المجاز ومثبتيه فإن أردتم بالمجاز احتياج اللفظ المفرد في إقامة المعنى إلى
قرينة لزم أن تكون اللغات كلها مجازا. وإن فرقتم بين بعض القرائن وبعض كان ذلك
تحكما محضا لا معنى له.
وإن قلتم القرائن
نوعان : لفظية وعقلية : فما توقف فهم المراد منه على القرائن العقلية فهو المجاز
وما توقف على اللفظية فهو الحقيقة.
قيل : هذا لا يصح
فإن العقل المجرد لا مدخل له في إفادة اللفظ لمعناه سواء كان حقيقة أو مجازا وإنما
يفهم معناه بالنقل والاستعمال. وحينئذ فيفهم العقل المراد بواسطة أمرين (أحدهما)
أن هذا اللفظ اطرد استعماله في عرف الخطاب في هذا المعنى ، (الثاني) علمه بأن المخاطب له أراد إفهامه ذلك المعنى. فإن تخلف واحد
من الأمرين لم يحصل الفهم لمراد المتكلم. وأما القرينة المجردة بدون اللفظ فإنها
لا تدل على حقيقة ولا مجاز. وإن دلت على مراد الحى فتلك دلالة عقلية بمنزلة
الإشارة والحركة والأمارات الظاهرة. وإن أردتم أن المعني الإفرادى تقيده الحقيقة
بمجرد لفظها ولا يقيده المجاز إلا بقرينة تقترن بلفظه ، قيل لكم : المعنى الإفرادى
نوعان مطلق ومقيد ، فالمطلق يفيده اللفظ المطلق ، والمقيد يفيده اللفظ المقيد ،
وكلاهما حقيقة فيما دل عليه فمعنى الأسد المطلق يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه
وهو المقيد يفيده اللفظ المقيد ، وكلاهما حقيقة فيما دل عليه. فمعنى الأسد المطلق
يفيده لفظه المطلق ، والأسد المشبه وهو المقيد يفيده لفظه المقيد ، وليس المراد
هنا بالمطلق الكلي الذهني ، بل المراد به المجرد عن القرينة وإن كان شخصا. وهذا
الأمر معقول مضبوط يطرد وينعكس.
فإن قيل : فلم
تشاححونا فإنا اصطلحنا على تسمية المطلق بالاعتبار الّذي ذكرتموه
حقيقة وعلى تسمية المقيد مجازا.
قيل : لم نشاححكم
في مجرد الاصطلاح والتعبير. بل بينا أن هذا الاصطلاح غير منضبط ولا مطرد ولا منعكس
، بل هو متضمن للتفريق بين المتماثلين من كل وجه ، فإنكم لا تقولون إن كل ما
اختلفت دلالته بالإطلاق والتقييد فهو مجاز ، إذ عامة الألفاظ كذلك. ولهذا لما تفطن
بعضكم
__________________
لذلك التزمه وقال
أكثر اللغة مجاز. وكذلك الذين صنفوا في مجاز القرآن هم بين خطتين إحداهما التناقض
البين. إذ يحكمون على اللفظ بأنه مجاز وعلى نظيره بأنه حقيقة أو يجعلون الجميع
مجازا ، فيكون القرآن كله إلا القليل منه مجازا حقيقة له وهذا من أبطل الباطل.
* * *
والمقصود أنه إن
كان كل ما دل بالقرينة دلالته غير دلالته عند التجرد منها مجازا لزم أن تكون اللغة
كلها مجازا فإن كل لفظ يدل عند الاقتران دلالة خاصة غير دلالته عند الإطلاق ، وإن
فرقتم بين (بعض) القرائن اللفظية وبعض لم يمكنكم أن تذكروا أنواعا منها إلا عرف به
بطلان قولكم ، إذ ليس في القرائن التي تعينوها ما يدل على أن هذا اللفظ مستعمل في
موضعه ولا فيها ما يدل على أنه غير مستعمل في غير موضوعه. وإن طردتم ذلك وقلتم
نقول إن الجميع مجاز كان هذا معلوم كذبه وبطلانه بالضرورة واتفاق العقلاء. إذ من
المعلوم بالاضطرار أن أكثر الألفاظ المستعملة فيما وضعت له لم تخرج عن أصل وضعها
وجمهور القائلين بالمجاز معترفون بأن كل مجاز لا بد له من حقيقة فالحقيقة عندهم
أسبق وأعم وأكثر استعمالا وقد اعترفوا بأنها الأصل والمجاز على خلاف الأصل ، فلا
يصار إليه إلا عند تعذر الحمل على الحقيقة. ولو كانت اللغة أو أكثرها مجازا كان
المجاز هو الأصل ، وكان الحمل عليه متعينا. ولا يحمل اللفظ على حقيقة ما وجد إلى
المجاز سبيلا ، وفي هذا من إفساد اللغات والتفاهم ما لا يخفى.
* * *
الوجه
الحادى والعشرون : إنكم فرقتم بين الحقيقة والمجاز بالاطراد وعدمه. فقلتم يعرف المجاز بعدم
اطراده دون العكس أي لا يكون الاطراد دليل الحقيقة. أو لا يلزم من وجود المجاز عدم
الاطراد. وعلى التقديرين فالعلامة يجب طردها ولا يجب عكسها وهذا الفرق غير مطرد
ولا منعكس ونطالبكم قبل البيان
بفساد الفرق بمعنى
الاطراد للحقيقة ، والمنفى عن المجاز ما تعنون به أولا؟ فالاطراد نوعان : اطراد
سماعى واطراد قياسي. فإن عنيتم الأول كان معناه ما اطرد السماع باستعماله في معناه
فهو حقيقة وما لم يطرد السماع باستعماله فهو مجاز ، وهذا لا يفيد فرقا البتة فإن
كل مسموع فهو مطرد في موارد استعماله وما لم يسمع فهو مطرد الترك فليس في السماع
مطرد الاستعمال وغير مطرده ، وإن عنيتم الاطراد القياسي فاللغات لا تثبت قياسا إذ
يكون ذلك إنشاء واختراعا ولو جاز المتكلم أن يقيس على المسموع ألفاظا يستعملها في
خطابه نظما ونثرا لم يجز له أن يحمل كلام الله ورسوله وكلام العرب على ما قاسه على
لغتهم. فإن هذا كذب ظاهر على المتكلم بتلك الألفاظ أولا. فإنه ينشئ من عنده قياسا
يضع به ألفاظا لمعان بينها وبين تلك المعانى وهذا كثيرا ما تجده في كلام من يدعي
التحقيق والنظر ، وهذا من أبطل الباطل القول به حرام. وهو قول على الله ورسوله بلا
علم.
وإن أردتم
بالاطراد وعدمه اطراد الاشتقاق فيصدق اللفظ حيث وجد المعنى المشتق منه. قيل لكم
الاشتقاق نوعان : وصفي لفظي. وحكمي معنوى ؛ (فالأول) كاشتقاق اسم الفاعل واسم
المفعول والصفة المشبهة. وأمثاله المبالغة من مصادرها ، (والثاني) كاشتقاق الخابية
من الخبء. والقارورة من الاستقرار والنكاح من الضم ، ونظائر ذلك ، فإن أردتم بالاطراد النوع
الأول فوجوده لا يدل على الحقيقة. وعدمه لا يدل على المجاز. أما الأول فلأنه يجرى
مجرى الألفاظ المجازية عندكم ، ولا سيما من قال : إن ضربت زيدا أو
__________________
رأيته وأكلت وشربت
مجاز ، فإنها مستعملة في غير ما وضعت له. فإنها وضعت للمصادر المطلقة العامة ،
فإذا استعملت في فرد من أفرادها فقد. استعملت في غير موضعها كما قال ابن جنى
وغيره. ومعلوم أن هذه الألفاظ مطردة في مجازي استقاماتها ، فقد أطرد المجاز فأين
عدم الاطراد الذي هو فرق بين الحقيقة والمجاز.
وكذلك حقائق كثيرة
من الأفعال لا تطرد ولا يشتق منها اسم فاعل ولا مفعول ولا تدل على مصدر ، كالأفعال
التى لا تتصرف ، مثل نعم وبئس ، وليس وحبذا وفعل التعجب.
وإذا أردتم
بالاطراد الاشتقاق الحكمي المعنوي ، فلا يدل عدم اطراده على المجاز إذا ملوم منه
أن تكون الألفاظ المستعملة في موضوعاتها الأول مجازا كالخابية والقارورة والبركة
والنجم والمعدن وغيرها ، فإنها لم يطرد استعمالها فيما شاركها في أصل معناها.
فإن قلتم : منع
المانع من الاطراد كما منع من اطراد الفاضل والسخي والعارف في حق الله تعالى. قيل
لكم هذا دور ممتنع لأن عدم الاطراد حينئذ إنما يكون علامة المجاز إذا علم أنه
لمانع.
ولا يعلم أنه
لمانع إلا بعد العلم بالمجاز. وتقرير الدور أن يقال عدم الطرد له موجب وليس موجبه
الشرع ولا اللغة. إذا التقدير بخلافه ، ولا العقل قطعا. فتعين أن يكون موجب عدم
الطرد كون اللفظ مجازا. فيلزم الدور ضرورة.
الوجه
الثاني والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بجمع مفرديهما. فإذا جمع الحقيقة على صفة ثم جمع
ذلك اللفظ على صفة أخرى كان مجازا. مثله لفظ الأمر فإنه يجمع إذا استعمل في القول
المخصوص على أوامره ويجمع إذا استعمل في الفعل على أمور وهذا التفريق من أفسد شيء
وأبطله ، فإن اللفظ يكون له عدة جموع باعتبارهم مفهوم واحد كشيخ مثلا ، فإنه يجمع
على عدة جموع أنشدناها شيخنا أبو عبد الله محمد بن أبي الفتح البعلى قال أنشدنا
شيخنا أبو عبد الله محمد بن مالك لنفسه :
شيخ شيوخ
ومشيوخاء مشيخة
|
|
شيخة شيخة شيخان
أشياخ
|
وكذلك «عبد» فإنه
يجمع على عبيد وعباد وعبدان ، وهذا أكثر من أن يذكر فإذا اختلفت صيغة الجمع
باعتبار المدلول الواحد لم يدل اختلافها على خروج الفرد عن حقيقته ، فكيف يدل
اختلافها مع تعدد المدلول على المجاز. وأيضا فإن المشترك قد يختلف جمعه باختلاف
مفهوماته ، ولا يدل ذلك على المجاز ، وأيضا فإنه ليس ادعاء كون أحدهما مجازا
لمخالفة جمعه الآخر أولى من العكس.
(فإن قلتم) بل إذا
علمنا أن أحدهما حقيقة علمنا أن الآخر الذي خالفة في صفة جمعه مجاز ، فحينئذ يكون
اعتبار مخالفة الجمع لا فائدة فيه ، فإنا متى علمنا كون أحدهما حقيقة ، وأنه ليس
مشتركا بينه وبين الآخر كان استعماله فيه مجازا ، فالحاصل أنه إن توقف ذلك على
اختلاف الجمع لم يكن معرفا ، وإن لم يتوقف عليه لم يكن معرفا ، فلا يحصل به
التفريق على التقديرين.
وأيضا فإن رأس
مالكم في هذا التعريف هو لفظ أوامر ، وأمور ، فادعيتم أن أوامر جمع أمر القول
وأمور جمع أمر الفعل وغركم في ذلك قول الجوهري في «الصحاح» تقول أمرته أمرا وجمعه
أوامر وهذا من إحدى غلطاته فإن هذا لا يعرف عند أهل العربية واللغة ، وفعل له جموع
عديدة ليس منها فواعل البتة.
وقد اختلف طرق
المتكلمين لتصحيح ذلك ، فقالت طائفة منهم جمعوا أمرا على أأمر كأفلس ، ثم جمعوا
هذا الجمع على أفاعل لا فواعل فكان أصلها أأمر فقلبوا الهمزة الثانية واوا كراهية
النطق بالهمزتين فصار في هذا أوامر وفي هذا من التكلف ودعوى التكلف ودعوى ما لم
تنطق به العرب عليهم ما فيه ، فإن العرب لم يسمع منهم أأمر على أفعل البتة ، ولا
أوامر أيضا فلم ينطقوا بهذا ولا هذا.
ولما علم هؤلاء أن
هذا لا يتم في النواهى تكلفوا لها تكلفا آخر ، فقالوا حملوها علي نقيضها ، كما
قالوا الغدايا والعشايا ، وقالوا قدم وحدث ، فضموا الدال من حدث حملا على قدم.
وقالت طائفة أخرى
: بل أوامر ونواه جمع آمر وناه ، فسمى القول آمرا وناهيا توسعا ثم جمعوا على
فواعل. كما قالوا فارس وفوارس وهالك وهوالك وهذا أيضا متكلف ، فإن فاعلا نوعان :
صفة واسم ، فإن كان صفة لا يجمع على فواعل فلا يقال : قائم وقوائم وآكل وأؤاكل
وضارب وضوارب وعابد وعوابد ، وإن كان اسما فإنه يجمع على فواعل نحو خاتم وخواتم
وقد شذ فارس وفوارس وهالك وهوالك فجمعا على فواعل مع كونهما صفتين ، أما فارس
فلعدم اللبس لأنه لا يتصف به المؤنث وأما هالك فقصدوا النفس وهى مؤنثة ، فهو في
الحقيقة جمع هالكة ، فإن فاعلة يجمع على فواعل بالأسماء والصفات كفاطمة وفواطم
وعابدة وعوابد ، فسمعت هذا طائفة أخرى قالت أوامر ونواه جمع آمرة وناهية. أي كلمة
أو وصية آمرة وناهية.
والتحقيق أن العرب
سكتت عن جمع الأمر والنهي فلم ينطقوا لهما بجمع لأنها في الأصل مصدر فالمصادر لا
حظ لها في التثنية والجمع (إلا إذا تعددت أنواعها) والأمر والنهى وإن تعددت
متعلقاتهما ومحالهما فحقيقتهما غير متعددة (فتعدد) المحال لا يوجب تعدد الصفة ،
وقد منع سيبويه جمع العلم ولم يعتبر تعدد المعلومات فتبين بطلان هذا الفرق الذي
اعتمدتم عليه من جميع الوجوه.
الوجه
الثالث والعشرون : تفريقكم بين الحقيقة والمجاز بالتزام التقييد في أحد اللفظين كجناح الذل ونار
الحرب ونحوهما فإن العرب لم تستعملهما إلا مقيدة. وهذا الفرق من أفسد الفروق فإن
كثيرا من الألفاظ التي لم تستعمل إلا في موضوعها قد التزموا تقييدها كالرأس
والجناح واليد والساق والقدم ؛ فإنهم لم يستعملوا هذه الألفاظ وأمثالها إلا مقيدة
بمحالها وما تضاف إليه كرأس الحيوان ورأس الماء ورأس المال ورأس الأمر. وكذلك
الجناح لم يستعملوه إلا مقيدا بما يضاف إليه كجناح الطائر وجناح الذل فإن أخذتم
الجناح مطلقا مجردا عن الإضافة لم يكن مفيدا لمعناه الإفرادى أصلا عن أن يكون
حقيقة أو مجازا ، وإن اعتبرتموه مضافا مقيدا فهو حقيقة فيما أضيف إليه فكيف يجعل
حقيقة في مضاف ،
مجازا في مضاف آخر
، ونسبته إلى هذا المضاف كنسبة الآخر إلى المضاف الآخر. فجناح الملك حقيقة فيه ،
قال الله تعالى : (جاعِلِ الْمَلائِكَةِ
رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ) (فاطر : ١٠) فمن
قال ليس للملك جناح حقيقة ، فهو كاذب مفتر ناف لما أثبته الله تعالى ؛ وإن قال :
ليس له جناح من ريش. قيل له. من جهلك اعتقادك أن الجناح الحقيقي هو ذو الريش وما
عداه مجاز ، لأنك لم تألف إلا الجناح الريش ، وطرد هذا الجهل العظيم أن يكون كل
لفظ أطلق على الملك وعلى البشر أن يكون مجازا في حق الملك كحياته وسمعه وبصره
وكلامه. فكيف بما أطلق على الرب سبحانه من الوجه واليدين والسمع والبصر والكلام
والغضب والرضى والإرادة ، فإنها لا تماثل المعهود في المخلوق ، ولهذا قالت الجهمية
المعطلة إنها مجازات في حق الرب لا حقائق لها وهذا هو الّذي حدانا على تحقيق القول
في المجاز ، فإن أربابه ليس لهم فيه ضابط مطرد ولا منعكس وهم متناقضون غاية
التناقض ، خارجون عن اللغة والشرع وحكم العقل ، إلى اصطلاح فاسد يفرقون به بين
المتماثلين ، ويجمعون بين المختلفين ، فهذه فروقهم قد رأيت حالها وتبينت محالها.
يوضحه :
الوجه
الرابع والعشرون : إن العرب لم تضع جناح الذل لمعنى ثم نقلته من موضعه إلى غيره. ومن زعم ذلك فهو
غالط ، فليس لجناح الذل مفهومان وهو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر كما يمكن ذلك
في لفظ أسد وبحر وشمس ونحوها ، وإنما ينشأ الغلط في ظن الظان إنهم وضعوا لفظ جناح
مطلقا هكذا غير مقيد ، ثم خصوه في أول وضعه بذوات الريش ثم نقلوه إلى الملك والذل
فهذه ثلاث مقدمات لا يمكن بشر على وجه الأرض إثباتها. ولا سبيل إلى العلم بها إلا
بوحي من الله تعالى.
الوجه
الخامس والعشرون : قولكم نفرق بين الحقيقة والمجاز يتوقف المجاز على المسمى الآخر بخلاف الحقيقة
؛ ومعنى ذلك أن اللفظ إذا كان إطلاقه على أحد مدلوليه متوقفا على استعماله في
المدلول الآخر كان بالنسبة إلى مدلوله الّذي يتوقف على المدلول الآخر مجازا. وهذا
مثل قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ)
(آل عمران : ٥٤)
فإن إطلاق المكر على المعنى المتصور من الرب سبحانه يتوقف على استعماله في المعنى
المتصور من الخلق. فهو حينئذ مجازيا بالنسبة إليه ، حقيقة بالنسبة إليهم ، وهذا
أيضا من النمط الأول في الفساد. أما (أولا) فإن دعواكم أن إطلاقه على أحد مدلوليه
متوقف على استعماله في الآخر دعوى باطلة مخالفة لصريح الاستعمال. ومنشأ الغلط فيها
أنكم نظرتم إلى قوله تعالى : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ
اللهُ) ، وقوله : (وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً) (النمل : ٥٠)
وذهلتم عن قوله تعالى : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩)
فأين المسمى الآخر. وكذلك قوله تعالى : (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) (الرعد : ١٣) فسر
بالكيد والمكر. وكذلك قوله : (سَنَسْتَدْرِجُهُمْ
مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ) (الأعراف : ١٨٢ ،
١٨٣).
(فإن قلتم) يتعين
تقدير المسمى الآخر ليكون إطلاق المكر عليه سبحانه من باب المقابلة ، كقوله تعالى
: (إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ
كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً) (الطارق : ١٥ ، ١٦)
، وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ
يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) (النساء : ١٤٢) ،
وقوله : (نَسُوا اللهَ
فَنَسِيَهُمْ) (التوبة : ٦٧)
فهذا كله إنما يحسن على وجه المقابلة ، ولا يحسن أن يضاف إلى الله تعالى ابتداء
فيقال إنه يمكر ويكيد. ويخادع وينسى ولو كان حقيقة لصلح إطلاقه مفردا عن مقابلة ،
كما يصح أن يقال : يسمع ويرى. ويعلم ويقدر.
(فالجواب) أن هذا
الّذي ذكرتموه مبني على أمرين : أحدهما معنوى والآخر لفظي. فأما المعنوى فهو أن
مسمى هذه الألفاظ ومعانيها مذمومة فلا يجوز اتصاف الرب تعالى بها. وأما اللفظي
فإنها لا تطلق عليه إلا على سبيل المقابلة فتكون مجازا ، ونحن نتكلم معكم في
الأمرين جميعا. فأما الأمر المعنوى فيقال لا ريب أن هذه المعانى يذم بها كثيرا ،
فيقال فلان صاحب مكر وخداع وكيد واستهزاء ، ولا تكاد تطلق علي سبيل المدح بخلاف
أضدادها ، وهذا هو الذي غر من جعلها مجازا في حق من يتعالى ويتقدس عن كل عيب وذم ،
والصواب
أن معانيها تنقسم
إلى محمود ومذموم ، فالمذموم منها يرجع إلى الظلم والكذب ، فما يذم منها إنما يذم
لكونه متضمنا للكذب أو الظلم أو لهما جميعا ، وهذا هو الذي ذمه الله تعالى لأهله
كما في قوله تعالى : (يُخادِعُونَ اللهَ
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) (البقرة : ٩) فإن
ذكر هذا عقيب قوله : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ
يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ) (البقرة : ٨) فكان
هذا القول منهم كذبا وظلما في حق التوحيد والإيمان بالرسول واتباعه ، وكذلك قوله :
(أَفَأَمِنَ الَّذِينَ
مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللهُ بِهِمُ الْأَرْضَ) (النمل : ٤٥)
الآية. وقوله : (وَلا يَحِيقُ
الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (فاطر : ٤٣) وقوله
: (وَمَكَرُوا مَكْراً
وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ
مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) (النمل : ٥٠ ، ٥١)
فلما كان غالب استعمال هذه الألفاظ في المعانى المذمومة ظن المعطلون أن ذلك هو
حقيقتها ، فإذا أطلقت لغير الذم كان مجازا ، والحق خلاف هذا الظن ، وأنها منقسمة
إلى محمود ومذموم ، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم ؛ وما كان منها
بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود ، فإن المخادع إذا خادع بباطل وظلم ،
حسن من المجازى له أن يخدعه بحق وعدل ، وذلك إذا مكر واستهزأ ظالما متعديا كان
المكر به والاستهزاء عدلا حسنا كما فعله الصحابة بكعب بن الأشرف وابن أبي الحقيق
وأبي رافع وغيرهم مما كان يعادى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فخادعوه حتى كفوا شره وأذاه بالقتل وكان هذا الخداع والمكر
نصرة لله ورسوله.
وكذلك ما خدع به
نعيم بن مسعود المشركين عام الخندق حتى انصرفوا ، وكذلك خداع الحجاج بن علاط لامرأته وأهل مكة حتى أخذ
ماله ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم «الحرب خدعه» وجزاء المسيء بمثل إساءته في جميع الملل ، مستحسن في جميع العقول.
__________________
في معنى قوله تعالى
(كَذلِكَ كِدْنا
لِيُوسُفَ)
ولهذا كاد سبحانه
ليوسف حين ظهر لإخوته ما أبطن خلافه ، جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه حيث أظهروا
له أمرا وأبطنوا خلافه ، فكان هذا من أعدل الكيد ، فإن إخوته فعلوا به ذلك حتى
فرقوا بينه وبين أبيه ، وادعوا أن الذئب أكله ، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه
سرق الصواع ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد ، حيث كان مقابلة ومجازاة ، ولم يكن أيضا
ظالما لأخيه الذي لم يكده بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن وإن كانت طريق
ذلك مستهجنة ، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به ، وكان ذلك سببا في
اتصاله بيوسف واختصاصه به ، لم يكن في ذلك ضرر عليه ، يبقى أن يقال : وقد تضمن هذا
الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق ، فأى مصلحة كانت ليعقوب في
ذلك؟
فيقال : هذا من
امتحان الله تعالى له ، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي ، والله تعالى لما أراد كرامته
كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب
الابتلاء ، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد
الفراق. وهذا من كمال إحسان الرب تعالى أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة الجبر
، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها. كما أنه سبحانه وتعالى لما أراد أن
يكمل لآدم نعيم الجنة أذاقه مرارة خروجه منها ، ومقاساة هذه الدار الممزوج رخاؤها
بشدتها ، فما كسر عبده المؤمن إلا ليجبره ولا منعه إلا ليعطيه ، ولا ابتلاه إلا
ليعافيه ولا أماته ألا ليحييه ، ولا نغص عليه الدنيا إلا ليرغبه في الآخرة ، ولا
ابتلاه بجفاء الناس إلا ليرده إليه.
فعلم أنه لا يجوز
ذم هذه الأفعال على الإطلاق ، كما لا تمدح على الإطلاق والمكر والكيد والخداع لا
يذم من جهة العلم ولا من جهة القدرة ، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال ، وإنما
يذم ذلك من جهة سوء القصد وفساد الإرادة وهو أن الماكر المخادع يجوز ويظلم بفعل ما
ليس له فعله أو ترك ما يجب عليه فعله.
إذ عرف ذلك فنقول
: إن الله تعالى لم يصف نفسه بالكيد والمكر والخداع والاستهزاء مطلقا ، ولا ذلك
داخل في أسمائه الحسنى ، ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من
أسمائه الماكر المخادع المستهزئ ، الكائد فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود ،
وتكاد الأسماع تصم عند سماعه ، وغرّ هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه
هذه الأفعال فاشتق له منها أسماء ، وأسماؤه كلها حسنى فأدخلها في الأسماء الحسنى ،
وأدخلها وقرنها بالرحيم الودود الحكيم الكريم. وهذا جهل عظيم فإن هذه الأفعال ليست
ممدوحة مطلقا ، بل تمدح في موضع وتذم في موضع ، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله
مطلقا ، فلا يقال أنه تعالى يمكر ويخادع ويستهزىء ويكيد ، فكذلك بطريق الأولى لا
يشتق له منها أسماء يسمى بها ، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد ولا
المتكلم ولا الفاعل ولا الصانع ، لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم ، وإنما
يوصف بالأنواع المحمودية منها ، كالحليم والحكيم ، والعزيز والفعال لما يريد ،
فكيف يكون منها الماكر المخادع المستهزئ. ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه
الحسنى الداعى والآتي ، والجائي والذاهب والقادم والرائد ، والناسي والقاسم ،
والساخط والغضبان واللاعن إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأسماء التي أطلق على نفسه
أفعالها في القرآن وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل ، والمقصود أن الله سبحانه لم يصف
نفسه بالكيد والمكر والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق ، وقد علم أن
المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق ، فكيف من الخالق سبحانه ، وهذا إذا نزلنا ذلك
على قاعدة التحسين والتقبيح العقليين ، وأنه سبحانه منزه عما يقدر عليه مما لا
يليق بكماله ، ولكنه لا يفعله لقبحه وغناه عنه ، وإن نزلنا ذلك على نفي التحسين
والتقبيح عقلا ، وأنه يجوز عليه كل ممكن ولا يكون قبيحا ، فلا يكون الاستهزاء
والمكر والخداع منه قبيحا البتة ، فلا يمتنع وصفه به ابتداء لا على سبيل المقابلة
على هذا التقرير ، وعلى التقديرين فإطلاق ذلك عليه سبحانه على حقيقته دون مجازه ،
إذ الموجب للمجاز منتف على التقديرين ، فتأمله فإنه قاطع ، فهذا ما يتعلق بالأمر
المعنوى.
أما الأمر اللفظي
فإطلاق هذه الألفاظ عليه سبحانه لا يتوقف على إطلاقها على المخلوق ليعلم أنها مجاز
لتوقفها على المسمى الآخر كما قدمنا من قوله (وَهُوَ شَدِيدُ
الْمِحالِ) (الرعد : ١٣)
وقوله (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ
اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (الأعراف : ٩٩)
فظهر أن هذا الفرق الّذي اعتبروه فاسد لفظا ومعنى. يوضحه :
* * *
الوجه
السادس والعشرون : إن هاهنا ألفاظا تطلق على الخالق والمخلوق أفعالها ومصادرها وأسماء الفاعلين
والصفات المشتقة منها ، فإن كانت حقائقها ما يفهم من صفات المخلوقين وخصائصهم ،
وذلك منتف في حق الله تعالى قطعا لزم أن تكون مجازا في حقه لا حقيقة ، فلا يوصف
بشيء من صفات الكمال حقيقة وتكون أسماؤه الحسنى كلها مجازات ، فتكون حقيقة للمخلوق
مجازا للخالق. وهذا من أبطل الأقوال وأعظمها تعطيلا. وقد التزمه معطلو الجهمية
وعمومهم ، فلا يكون رب العالمين موجودا حقيقة ، ولا حيا حقيقة ، ولا مريدا حقيقة ،
ولا قادرا حقيقة ، ولا ملكا حقيقة ، ولا ربا حقيقة ، وكفى أصحاب هذه المقالة بها
كفرا. فهذا القول لازم لكل من ادعى المجاز في شيء من أسماء الرب وأفعاله لزوما لا
محيص له عنه. فإنه إنما فر إلى المجاز لظنه أن حقائق ذلك مما يختص بالمخلوقين ولا
فرق بين صفة وصفة ، وفعل وفعل ، فإما أن يقول الجميع مجاز أو الجميع حقيقة.
وأما التفريق بين
البعض وجعله حقيقة وبين البعض وجعله مجازا فتحكم محض باطل ، فإن زعم هذا المتحكم
أن ما جعله مجازا ما يفهم من خصائص المخلوقين وما جعله حقيقة ليس مفهومه مما يختص
بالمخلوقين طولب بالتفريق بين النفي والإثبات وقيل له : بأي طريق اهتديت إلى هذا
التفريق؟ بالشرع أم العقل أم باللغة؟ فأى شرع أو عقل أو لغة أو فطرة على أن
الاستواء والوجه واليدين والفرح والضحك والغضب والنزول حقيقة فيما يفهم من خصائص
المخلوقين ، والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة حقيقة فيما لا يختص به
المخلوق.
فإن قال : أنا لا
أفهم من الوجه واليدين والقدم إلا خصائص المخلوق ، وأفهم من السمع والبصر والعلم
والقدرة ما لا يختص به المخلوق ، قيل له : فبم تنفصل عن شريكك في التعطيل إذا ادعى
في السمع والبصر والعلم مثل ما ادعيته أنت في الاستواء والوجه واليدين؟ ثم يقال لك
: هل تفهم مما جعلته حقيقة خصائص المخلوق تارة وخصائص الخالق تارة ، أو القدر
المشترك ، أو لا تفهم منها إلا خصائص الخالق ، فإن قال بالأول كان مكابرا جاهلا ،
وإن قال بالثاني قيل له فهلا جعلت الباب كله بابا واحدا وفهمت ما جعلته مجازا
خصائص المخلوق تارة والقدر المشترك تارة ، فظهر للعقل أنكم متناقضون. يوضحه :
* * *
الوجه
السابع والعشرون : إن هذه الألفاظ التي تستعمل في حق الخالق والمخلوق لها ثلاث اعتبارات : (أحدها) أن تكون مقيدة بالخالق كسمع الله وبصره ووجهه ويديه
واستوائه ، ونزوله وعلمه وقدرته وحياته ، (الثاني) : أن تكون مقيدة بالمخلوق كيد الإنسان ووجهه ويديه واستوائه
، (الثالث)
: إن تجرد عن كلا
الإضافتين وتوجد مطلقة ، فإثباتكم لها حقيقة ، إما أن يكون بالاعتبار الأول أو
الثاني أو الثالث ، إذ لا رابع هناك ، فإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالخالق
لزم أن تكون في المخلوق مجازا. وهذا مذهب قد صار إليه أبو العباس الناشي ووافقه
عليه جماعة ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة تقيدها بالمخلوق لزم أن تكون في الخالق
مجازا. وهذا مذهب قد صار إليه إمام المعطلة جهم بن صفوان ، ودرج أصحابه على أثره ، وإن جعلتم جهة كونها حقيقة القدر المشترك ، ولم تدخل
القدر المميز في موضوعها لزم أن تكون حقيقة في
__________________
الخالق والمخلوق.
وهذا قول عامة العقلاء ، وهو الصواب ، وإن فرقتم بين بعض الألفاظ وبعض ، وقعتم في
التناقض والتحكم المحض. يوضحه :
(خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن حقيقته)
الوجه
الثامن والعشرون : إن خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن حقيقته وتوجب جعله مجازا عند إضافته إلى
محل الحقيقة. وهذا من مثار أغلاط القوم. مثاله لفظ الرأس ، فإنه يستعمل مضافا إلى
الإنسان والطائر والسمك والماء والطريق والإسلام والمال وغير ذلك ، فإذا قيد بمضاف
إليه تعين ، ولم يتناول غيره الأمور المضاف إليها ، بل هذا القيد غير هذا القيد.
ومجموع اللفظ الدال في هذا التقييد غير مجموع اللفظ الدال في هذا التقييد الآخر ،
وإن اشتركا في جزء اللفظ كما اشتركت الأسماء المعرفة باللام فيها ، فلم تضع العرب
لفظ الرأس لرأس الإنسان مثلا وحده ، ثم إنهم وضعوه لرأس الطائر والماء وغيرها ،
فهذا لا يمكن أحدا أن يدعيه إلا أن يكون مباهتا. وكذلك لفظ البطن والظهر والخطم
والفم ، فإنه يقال : ظهر الإنسان وبطنه ، وظهر الأرض وبطنها وظهر الطريق وظهر
الجبل وخطم الجبل ، وفم الوادي وبطن الوادي. وذلك حقيقة في الكل فالظاهر لما ظهر
فتبين. والباطن لما بطن فخفي فالحسي للحسي والمعنوي ونسبة كل منهما إلى ما يضاف
إليه كنسبة الآخر إلى ما يضاف إليه والعرب لم تضع فم الوادى وخطم الجبل وظهر
الطريق لغير مفهومه ، حتى يكون استعماله في ذلك استعمالا له في غير موضوعه ولم
تتكلم بلفظ فم وظهر ورأس مفردا مجردا عن جميع الإضافات ، فتكون إضافته مجازا في
جميع موادها ، ولم تضعه لمضاف إليه معين يكون حقيقة فيه ثم وضعته لغيره وضعا ،
ثانيا ، فأين محل الحقيقة والمجاز من هذه الألفاظ المقيدة؟
الوجه
التاسع والعشرون : إن من الأسماء ما تكلمت به العرب مفردا مجردا عن الإضافة ، وتكلمت به مقيدا
بالإضافة كالإنسان مثلا والإبرة ، فإنهم يقولون إنسان العين وإبرة الذراع وقد ادعى
أرباب المجاز أن هذا مجاز ، وهنا لم
يستعمل اللفظ
المجرد في غير ما وضع له ، بل ركب مع لفظ آخر ، فهو وضع أولا بالإضافة ، ولو أنه
استعمل مضافا في معنى ثم استعمل بتلك الإضافة بعينها في موضع آخر أمكن أن يكون
مجازا ، بل إذا كان بعلبك وحضرموت ونحوهما من المركب تركيب مزج بعد أن كان أصله
الإفراد وعدم الإضافة لا يقال فيه أنه مجاز ، فما لم تنطق به إلا مضافا أولى أن لا
يكون مجازا فتأمله.
الوجه
الثلاثون : إن مثبت المجاز
والاستعارة ، قد ادعى أن المتكلم وضع هذه اللفظة في غير موضوعها ولا سيما
الاستعارة ، فإن المستعير هو آخذ ما ليس له في الحقيقة ، فإذا قال هذه اللفظة مجاز
أو استعارة فقد ادعى أنها وضعت في غير موضعها ، فيقال له : فهما أمران مستعار
ومستعار منه ، فلا تخلو الكلمة التي جعلت الأخرى مستعارة منها وهي أصلية غير
مستعارة أن تكون قد جعلت كذلك لخاصة فيها اقتضت أن تكون هي الأصل المستعار منه ،
أو تكون كذلك لأن لغة العرب جاءت بها وثبت استعمالهم لها.
فإن قلتم : إنما
كانت مستعارا منها وهي أصل لعلة أوجبت لها ذلك في نفس لفظها ، قيل لكم : ما هي تلك
العلة وما حقيقتها؟ ولن تجدوا إلى تصحيح ذلك سبيلا.
وإن قلتم إنما
كانت أصلا مستعارا منها لأن العرب تكلمت بها واستعملتها في خطابها ، قيل لكم فهذه
العلة بعينها موجودة في الكلمة التي ادعيتم أنها مستعارة وأنها مجاز ، والعرب
تكلمت بهذا وهذا ، فإما أن تكونا مستعارتين أو تكونا أصليتين ؛ وأما أن تجعل
إحداهما أصلا للأخرى ومعيرة لها الاستعمال ، فهذا تحكم بارد.
فإن قلتم : إنما
جعلنا هذه أصلا لكثرتها في كلامهم ، وهذه مستعارة لقلتها في كلامهم. قيل هذا باطل
من وجوه : (أحدها)
أن كثيرا من
الحقائق نادرة الاستعمال في كلامهم ، وهى الألفاظ الغريبة جدا التي لا يعرف معناها
إلا الأفراد من أهل اللغة مع كونها حقائق. (ثانيهما) : أن كثيرا من المجازات
عندكم قد غلب على
الحقيقة بحيث صارت مهجورة أو مغمورة ، ولم يدل على أن الغالب هو الحقيقة والمغلوب
هو المجاز ، (وثالثها) : أن هذا لا يمكن ضبطه ، فإن الكثرة والغلبة أمر نسبي يختلف
باختلاف الأزمنة والأمكنة والأشخاص ، ويكثر عند هؤلاء ما يقل بل يعدم عند غيرهم ،
فما الذي يضبط به الكثرة الدالة على الحقيقة والقلة الدالة على المجاز ؛ ولن تجدوا
لذلك ضابطا أصلا.
(جهالة التحكم في استعمال الألفاظ)
الوجه
الحادى والثلاثون : إن حكمكم على بعض الألفاظ أنه مستعمل في موضوعه ؛ وعلى بعضها أنه مستعمل في
غير موضوعه تحكم بارد ، فإنا إنما نعلم أن هذا المفهوم موضوع اللفظ فيه ؛ فإذا
رأيناهم في نظمهم ونثرهم وقديم كلامهم وحديثه قد استعملوا هذا اللفظ وفي هذا
المعنى كان دعوى أنه مستعمل في موضوعه في هذا دون الآخر دعوى باطلة متضمنة للتحكم
والخرص والكذب.
فإن قلتم : لما
رأيناه إذا أطلق فهم منه معنى ، وإذا قيد يفهم منه معنى آخر ؛ علمنا أن موضوعه هو
الذي يدل عليه إطلاقه.
قيل لكم : هذا خطأ
فإن اللفظ المفرد لا يفيد بإطلاقه وتجرده شيئا البتة ، فلا يكون كلاما ولا جزء
كلام ، فضلا عن أن يكون حقيقة أو مجازا ، ومعلوم أن تركيبه التركيب الإسنادي تقييد
له ، وإذا ركب فهم المراد منه بتركيبه ، فالذى يسمونه مجازا عند تركيبه لا يفهم
منه غير معناه ؛ وذلك موضوعه في لغتهم ؛ فدعوى انتقاله عن موضوعه إلى موضوع آخر
وهم إنما استعملوه هكذا ـ دعوى باطلة ، ولنذكر لك مثالا.
ففي «الصحيح» عن
أنس رضي الله عنه قال : كان فزع بالمدينة فاستعار النبي صلىاللهعليهوسلم فرسا لأبى طلحة يقال له مندوب ، فركبه فقال ما رأينا من
فزع وإن وجدناه
لبحرا . فادعى المدعى أن هذا مجاز ، وكان ظن أن العرب وضعت البحر
لهذا الماء المستبحر ثم نقلته إلي الفرس لسعة جريه فشبهته به فأعطته اسمه ، وهذا
إن كان محتملا فلا يتعين ولا يصار إلى القبول به لمجرد الاحتمال فإنه من الممكن أن
يكون البحر اسما لكل واسع ، فلما كان خطو الفرس واسعا سمى بحرا ، وقد تقيد الكلام
بما عين مراد قائله بحيث لا يحتمل غيره ، فهذا التركيب والتقييد معين لمقصوده ،
وأنه بحر في جريه لا أنه بحر ماء نقل إلى الفرس.
(يوضحه) إنهم
قصدوا تسمية الخيل بذلك فقالوا للفرس جواد وسابح وطرف ، ولو عرى الكلام من سياق
يوضح الحال لم يكن من كلامهم ؛ وكان فيه من الإلباس ما تأباه لغتهم ؛ ألا ترى أنك
لو قلت رأيت بحرا وأنت تريد الفرس ، أو رأيت أسدا وأنت تريد الرجل الشجاع لم يكن
ذلك جاريا على طريق البيان : فكان بالألغاز والتلبيس أشبه منه بالمائدة وهؤلاء
المتكلفون والمتكلمون بلا علم يقدرون كلاما يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون ذلك الحكم
إلى الكلام المستعمل ، وهذا غلط ؛ فإن الكلام المستعمل لا بد أن يقترن به من
البيان والسياق ما يدل على مراد المتكلم ، وذلك الكلام المقدر مجرد عن ذلك ؛ ولا
ريب أن الكلام يلزم في تجرده لوازم لا تكون له عند اقترانه وكذلك بالعكس ، ونظير
هذا الغلط أيضا أنهم يجردون اللفظ المفرد عن كل قيد ثم يحكمون عليه بحكم ثم ينقلون
ذلك الحكم إليه عند تركيبه مع غيره ؛ فيقولون الأسد من حيث يقطع النظر عن كل قرينه
هو الحيوان المخصوص ، والبحر بقطع النظر عن كل تركيب هو الماء الكثير وهذا غلط ؛
فإن الأسد والبحر وغيرهما بالاعتبار المذكور ليس بكلام ولا جزء كلام ولا يفيد
فائدة أصلا ؛ وهو صوت ينعق به ؛ يوضحه.
الوجه
الثاني والثلاثون : إنكم إما تعتبروا تحقيق الوضع الأول الذي يكون اللفظ بالخروج عنه مجازا أو
تعتبروا تقديره ، فإن اشترطتم تحقيقه بطل التقسيم
__________________
إلى الحقيقة
والمجاز ، لأن الحكم المشروط بشرط لا يتحقق إلا عند تحقق شرطه ؛ ولا سبيل لبشر إلى
العلم بتحقيق هذين الأمرين ؛ وهما الوضع الأول والنقل عنه ، وإن اعتبرتم تقديره
وإمكانه فهو ممتنع أيضا ؛ إذ مجرد التقدير والاحتمال لا يوجب تقسيم الكلام إلى
مستعمل في موضوعه الأول ومستعمل في موضوعه الثاني ؛ فهب أن هذا الحكم ممكن أفيجوز
هذا الحكم والتقسيم بمجرد الاحتمال والإمكان يوضحه.
الوجه
الثالث والثلاثون : إن هذا التقسيم إما أن تخصوه بلغة العرب خاصة أو تدعوا عمومه لجميع لغات بني
آدم ، فإن ادعيتم خصومه بلغة العرب كان ذلك تحكما فاسدا ، فإن التشبيه والمبالغة
والاستعارة التي هي جهات التجوز عندكم مستعملة في سائر اللغات ، وإن كانت لغة
العرب في ذلك أوسع وتصورهم المعاني أتم ، فإذا قلت زيد أسد أمكن التعبير عن هذا
المعنى بكل لغة. وإن ادعيتم عموم ذلك لجميع اللغات فقد حكمتم على لغات الأم ، على
أنها كلها أو أكثرها مجازات لا حقيقة لها ، وأنها قد نقلت عن موضوعاتها الأصلية
إلى موضوعات غيرها ، وهذا أمر ينكره أهل كل لغة ولا يعرفونه بل يجزمون بأن لغاتهم
باقية علي موضوعاتهما لم تخرج عنها ، وإنهم نقلوا لغتهم عمن قبلهم ، ومن قبلهم
كذلك على هذا الوضع ، لم ينقل إليهم أحد أن لغتهم كلها أو أكثرها خرجت عن
موضوعاتها إلى غيرها.
الوجه
الرابع والثلاثون : أنه قد علم بالاضطرار من دين الرسول صلىاللهعليهوسلم أن الله تعالى متكلم حقيقة ، وأنه تكلم بالكتب التي أنزلها
على رسله ؛ كالتوراة والإنجيل والقرآن وغيرها ؛ وكلامه لا ابتداء له ولا انتهاء ،
فهذه الألفاظ التي تكلم الله بها ؛ وفهم عباده مراده منها لم يضعها سبحانه لمعان
ثم نقلها عنها إلى غيرها ، ولا كان تكلمه سبحانه بتلك الألفاظ تابعا لأوضاع المخلوقين
، فكيف يتصور دعوى المجاز في كلامه سبحانه إلا على أصول الجهمية المعطلة ، الذين
يقولون كلامه مخلوق من جملة المخلوقات ولم يقم به سبحانه كلام؟ وهؤلاء اتفق السلف
والأئمة على تضليلهم وتكفيرهم.
وأما من أقر أن
الله تعالى تكلم بالقرآن والتوراة والإنجيل وغيرها حقيقة ، وأن موسى سمع كلامه منه
إليه بلا واسطة ، وأنه يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم ملائكته ، فإنه لا يتصور
على أصله دخول المجاز في كلامه ، ولو كان ثابتا ولا سيما على أصول من يجعل كلام
الله معنى واحدا لا تعدد فيه ، وهذه العبارات دالة على ذلك المعنى ؛ فليس بعضها
أسبق من بعض تلك المفهومات له بالوضع الأول وبعضها بالوضع الثاني ، وكذلك من يجعل
الألفاظ الدالة على المعاني قديمة لا يسبق بعضها بعضا ؛ فكيف يعقل عند هؤلاء وضع
أول يكون حقيقة ، ووضع ثان يكون مجازا؟ وسنذكر إن شاء الله تعالى فساد دعواهم في
الألفاظ والقرآن أنها مجاز لو كان مجاز حقا.
فإن قيل : الرب
سبحانه خاطبهم بما ألفوه من لغاتهم واعتادوا من التفاهم منها ، فلما كان من خطابهم
فيما بينهم الحقيقة والمجاز ، جاء الله لهم بذلك ليحصل لهم الفهم والبيان قيل :
خطاب الله تعالى سابق على مخاطبة بعضهم بعضا. فهل كان في كلامه سبحانه ألفاظ وضعت
لمعان ثم نقلها سبحانه عنها إلى معان آخر؟ فهل يتصور هذا القدر في كلامه ؛ وإن كان
ذلك في مخاطبة بعضهم بعضا؟ يوضحه :
الوجه
الخامس والثلاثون : وهو أن الله هو الذي علمهم البيان بألفاظهم عما في أنفسهم فعلمهم المعانى
وصورها في نفوسهم ، وعلمهم التعبير عنها بتلك الألفاظ كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ
الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) فهو سبحانه علم الإنسان أن يبين عما في نفسه وأقدره على
ذلك وجعل بيانه تابعا لتصوره واحتياجه إلى التعبير عما في نفسه ، وذلك من لوازم
نشأته وتمام مصلحته ، والمعانى التي يدعى أن اللفظ حقيقة فيها أو يكون معها ،
وحاجتهم إلى التعبير عن الجميع سواء فكيف يدعى أن اللفظ وضع لبعضها دون بعض مع شدة
الحاجة إلى التعبير عن الجميع؟ هذا مما يأباه العقل والعادة ، ولا سيما على
قول الغلاة الذين
يدعون أن أكثر اللغة مجاز ، وأن الأفعال كلها مجاز ، فهل كانت الطبيعة والاستعمال
والألسن معطلة عن استعمال تلك المجازات حتى أحدث لها وضع ثان ولا ريب أن الذين
قسموا الكلام إلى حقيقة ومجاز لم يتصوروا لوازم قولهم ، ولو تصوروه حق التصور لما
تكلموا به.
الوجه
السادس والثلاثون : مما يبين بطلان هذا التقسيم أن أصحابه متنازعون في أشهر الكلام وأظهر
استعمالاته نزاعا كثيرا لا يمكن له الحكم لطائفة على طائفة ، فلو كان الفرق الّذي
ادعيتموه ثابتا في نفس الأمر أمكن الحكم بينكم مثال ذلك أن العام المخصوص إما أن
يقال كله حقيقة ، وإما أن يقال كله مجاز وإما أن يقال بعضه حقيقة وبعضه مجاز ،
سواء قيل أن التخصيص المتصل حقيقة والمنفصل مجاز والباقي حقيقة ، أو قيل الاستثناء
وحده حقيقة دون سائر المنفصلات ، فأي قول من هذه الأقوال قبل على تقدير التقسيم
إلى الحقيقة والمجاز فهو باطل إلا قول من جعل الجميع حقيقة ، فيلزم بطلان التقسيم
على التقديرين.
بيان ذلك أن الذين
قالوا العام المخصوص كله حقيقة ، وهم أكثر العلماء من أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم
، بل أكثرهم أصحاب مالك والشافعي وأحمد ولم يذكروا في ذلك نزاعا واحتجوا بحجج
تستلزم نفي المجاز.
قال الشيخ أبو
إسحاق الأسفرائيني (مسألة) في العموم إذا خص هل يكون حقيقة في الباقي أو مجازا؟
فاختلف الناس في ذلك : فذهبت طائفة إلى أنه يكون حقيقة فيما بقى سواء خص بدليل
متصل كالاستثناء ، أو بدليل منفصل كدليل العقل والقياس وغير ذلك ، قال : وهذا مذهب
الشافعي وأصحابه ، وهو قول مالك وجماعة من أصحاب أبي حنيفة ؛ قال : وذهبت طائفة
إلى أنه يكون مجازا في الثاني ، وسواء خص بدليل متصل أو منفصل. وهذا مذهب المعتزلة
بأسرها وهو قول عيسى بن أبان وأكثر أصحاب أبي حنيفة. وحكى بعض الأشعرية أنه مذهب
الأشعري أيضا ؛ وذهبت طائفة إلى أنه إن خص بدليل متصل كان حقيقة في الباقي ؛ وإن
خص بدليل منفصل كان مجازا. ذهب إلى هذا الكرخي وبعض أصحاب أبي حنيفة.
قال : وفائدة
الخلاف في هذه المسألة أن من يقول إن ذلك حقيقة في الثاني يحتج بلفظ العموم فيما
يخص منه بمجرده من غير دليل يدل عليه ، ومن يقول إنه يكون مجازا لا يمكنه الاحتجاج
بالعموم المخصوص فيما بقى إلا بدليل يدل على أنه محمود على ذلك. قال وهذا الذي حكى
عن الأشعرى لا يجيء على قوله من وجهين (أحدهما) أن اللفظ المشترك عنده بين العموم
والخصوص ، إذا دل الدليل على العموم كان حقيقة فيه ، وإذا دل الدليل على الخصوص
وكان حقيقة فكيف يصح على قوله أن يقال إنه حقيقة فيما بقي بعد التخصيص (والثاني)
أنه يقول إن اللفظ المستعمل فيما بقى يحتج فيه بمجرده من غير دلالة ، وهذا معنى
قولنا إنه حقيقة في الثاني ، فإذا سلم هذا لم يكن تحت قولنا إنه مجاز فيما بقى
معنى فإن من قال ذلك يكون مجازا فيما بقى استدل بنكتة واحدة ، وهي أن لفظ العموم
موضوع للاستغراق بتجريده ، فإذا دل الدليل على تخصيصه فإنه يحمل على الخصوص ويعدل
بعده عن موضوعه بالقرينة التي دلت على خصوصية اللفظ ، وإذا عدل به عن موضوعه إلى
غيره كان استعماله فيه مجازا لا حقيقة ، ألا ترى أن اسم الأسد موضوع في الحقيقة
للبهيمة ، وإذا استعمل بقرينة في الرجل الشجاع كان مجازا. وكذلك الحمار اسم في الحقيقة
للبهيمة. وإذا استعمل بقرينة في الرجل البليد كان مجازا وكذلك لفظ العموم إذا
استعمل في الخصوص بقرينة كان مجازا ، قال : ودليلنا أن لفظ العموم إذا ورد مطلقا
فإنه يقتضي استغراق الجنس فإذا ورد دليل التخصيص فإن ذلك الدليل يبين ما ليس بمراد
باللفظ ويخرجه عنه ليكون هذا الدليل قد أثر فيما يخرجه عنه ويبين أنه ليس بمراد به
يؤثر فيما بقي ؛ بل يكون ما بقى الحكم ثابت فيه باللفظ حسب والذي يدل على هذا أن
دليل التخصيص مناف لحكم ما بقى من اللفظ مضاد له فلا يجوز أن يؤثر فيه ويثبت الحكم
مع مضادته له ومنافاته ، فإنما يؤثر في إسقاط الحكم عما أخرجه وخصه ؛ إذا كان كذلك
كان الحكم ثابتا فيما لم يدخله التخصيص بنفس اللفظ من غير قرينة ، وكان حقيقة فيه
لا مجازا فيصير لأهل الحرب عندنا اسمان كل واحد منهما حقيقة فيهم ، أحدهما حقيقة
فيهم بمجرده وهو قوله اقتلوا أهل الحرب ، والآخر حقيقة فيهم عند وجود قرينة ، وهو
أن
يقولوا اقتلوا
المشركين إلا أهل الذمة ، وليس يمتنع مثل هذا : ألا ترى أنه إذا قال اعطوا فلانا
ثوبا أصفر ، كان ذلك حقيقة في الثوب الأصفر بهذا اللفظ ، فإذا قال : اعطه ثوبا ولا
تعطه غير الأصفر ، كان ذلك حقيقة فيه عند وجود القرينة فكذلك هذا مثله ، ويخالف
هذا إذا استعمل اسم الحمار في الرجل البليد واسم الأسد في الرجل الشجاع ؛ لأن ذلك
اللفظ يحمل عليه بالقرينة الدالة عليه لا بمجرد اللفظ. فإن القرينة تدل على المراد
باللفظ وهي مماثلة له في الحكم فهى دالة على ما أريد به. فكان اللفظ مستعملا بالقرينة
فكان مجازا. وليس كذلك استعمال لفظ العموم في الخصوص فإن ما بينت المراد باللفظ ،
وإنما بينت ما ليس بمراد فكان استعمال اللفظ في المراد بنفسه لا بالقرينة ، فإنه
لا يجوز أن يكون مستعملا بالقرينة والقرينة مضادة له. فكان ذلك حقيقة فيما استعمل
فيه لا مجازا.
قال : ودلالة على
من ساوى بين القرينة المتصلة والمنفصلة ـ يعنى فجعل الجميع مجازا ـ وهو أنا نقول
لا فرق عند أهل اللغة بين قول القائل لفلان خمسة دراهم وبين قوله عشرة إلا خمسة.
في أن كل واحد من اللفظين يعبر به عن الخمسة ويدل عليها ، فلما كان لفظ الخمسة
فيها كذلك قالوا عشرة إلا خمسة يجب أن يكون حقيقة فيها. وهكذا يجب حكم كل دليل على
تخصيص اللفظ بما يتصل به فأما من فرق بين الدليل المتصل والمنفصل فإنه فصل بين
الموضوعين بأن قال الكلام إذا اتصل بعضه ببعض بني بعضه على بعض فكان ذلك حقيقة
فيما بقى. وإذا انفصل بعضه عن بعض لم يبين فكان مجازا فيه. قال : وهذا غلط لأنه
فرق بين القرينة المتصلة والمنفصلة في أن اللفظ مبنى عليها ودلالة على ما ليس
بمراد منه وما بقى يكون ثابتا فيها باللفظ لا بقرينة. فيجب أن لا يفترق حالهما
بوجه. وقد وافق أبا حامد على ذلك أئمة أصحاب الشافعي. كالقاضي أبي الطيب الطبري
وأبي اسحاق الشيرازي وأبي نصر بن الصباغ.
* * *
قال أبو الطيب :
وإذا خص من العموم
شيء لم تبطل دلالته في الثاني. وقال عيسى بن أبان يصير مجازا وتبطل دلالته. واحتج
من نصر قوله بأن اللفظ صار مستعملا في غير ما وضع له. فاحتاج إلى دليل يدل على المراد
به ، فإن لفظه لا يدل عليه. وصار بمنزلة المجمل الذي لا يدل على المراد بلفظه
ويحتاج إلى قرينة تفسره وتدل على المراد به. قال وهذا عندنا غير صحيح لأن فاطمة
احتجت بقوله تعالى : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي
أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (النساء : ١١) فلم
ينكر أحد احتجاجها بهذه الآية وإن كان قد خص منها الولد القائل والرقيق والكافر ،
وإنما خصوا ميراث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بسنة خاصة. فدل هذا على أن تخصيص العموم لا يمنع من
الاحتجاج به فيما لم يخص منه.
قال وأيضا : فإن
دلالة اللفظ سقطت فيما عارضه الخاص لأنه أقوى منه وفيما عداه باقية لأنه لا معارض
له فجاز الاحتجاج به فيما لم يخص منه.
فإن قال : هذا
منتقض على أصلك بالعلة إذا خصت فإنه لا يجوز الاحتجاج بها فيما لم يخص منها.
فالجواب : أن العلة إذا خصت كانت منتقضة فلم تكن علة لذلك الحكم وليس كذلك العموم
فإنه إذا خص منه شيئا كان دلالته باقية فيما لم يخص منه لأنه إنما كان دليلا في
جميع ما تناوله من الجنس لكونه قولا لصاحب الشريعة لا معارض له فيه وهذا المعنى
يوجد فيما لم يخص منه لأن التخصيص يحصل باقتراض الشرط أو الصفة أو الغاية ولا يمنع
الاحتجاج به ، فكذلك التخصيص باللفظ المنفصل.
قال وأما الجواب
عن قول المخالف أنه مستعمل في غير ما وضع له ، وأنه غير دال على المراد به ويحتاج
إلى قرينة ، فلا نسلم أنه غير مستعمل في غير ما وضع له ، لأن هذا اللفظ موضوع
للعموم بمجرده وللخصوص بقرينة وهذا غير ممتنع في اللغة لأنا أجمعنا على أنه موضوع
بمجرده للعموم والخصوص بقرينة متصلة به
مثل الاستثناء ،
فإن قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الكتاب ، ليس مجازا وهو مستعمل فيما وضع له
والقرينة المنفصلة في معنى القرينة المتصلة ، والخاص مع العام بمنزلة الاستثناء مع
المستثنى منه ، وكذلك قول القائل : خرج زيد ، يكون إخبارا عن خروجه ، وتضم إليه
لفظة ما ؛ فيكون إخبارا عن ضده ، وتضيف إليه الهمزة فيكون استفهاما ، وكل ذلك
حقيقة ؛ فكذلك في مسألتنا ، قال : هذا يؤدي إلى ألا يكون في اللغة مجاز ، إذ قولنا
«بحر» موضوع للماء الكثير بمجرده ، وللعالم أو الجواد بقرينة ، والأسد موضوع
للبهيمة بمجرده والرجل الشديد بقرينة ، والحمار للبهيمة وللرجل البليد بقرينة ،
وإذا كان كذلك بطل هذا الجواب.
قيل : لو لزمنى
هذا في التخصيص لزمه في الاستثناء فإن المخالف يقول في الاستثناء مثل ما نقول نحن
في التخصيص ولا فرق بينهما.
وجواب آخر : وهو
أن هذه المواضع إثباتها مجازا إما بالتوقف من جهة أهل اللغة وليس في تخصيص العموم
أنه مجاز توقيف فلم يجعله مجازا إلا ظاهر استعمال الحقيقة. وجواب آخر : وهو أن هذا
كلام في العبارة لا يجدى شيئا وإنما المقصود هل يبطل التخصيص دلالة اللفظ ويمنع
الاحتجاج به أم لا؟ وعند المخالف تبطل دلالة اللفظ ويمنع الاحتجاج به ، وهذا ظاهر
الفساد.
وقوله : إن اللفظ
لا ينبئ عن المراد وهو بمنزلة المجمل خطأ لأن المجمل غير دال بلفظه على شيء
والعموم دال على ما تناوله ، وإنما أخرج بعضه بدليل أقوى منه وبقى الباقي على موجب
اللفظ وبيانه.
* * *
فصل
وقال الشيخ أبو
إسحاق في «اللمع» :
وإذا خص من العموم
شيء لم يصر اللفظ مجازا فيما بقي ، وقالت المعتزلة يصير مجازا ، وكذلك الشيخ أبو
نصر بن الصباغ ، صرح بذلك في كتاب «العمدة» في أصول الفقه ، ولا نزاع بين
المتقدمين من أصحاب الشافعي وأحمد أن العام المخصوص حقيقة ، وكذلك أصحاب مالك ،
وإن كان بين المتأخرين منهم نزاع في ذلك ، كما لا نزاع بين الصحابة والتابعين
والأئمة الأربعة أنه حجة ، ومن نقل عن أحد منهم أنه لا يحتج بالعام المخصوص فهو
غلط أقبح غلط وأفحشه ، وإذا لم يحتج بالعام المخصوص ذهبت أكثر الشريعة وبطلت أعظم
أصول الفقه.
وهاهنا مسألتان (إحداهما) : أنه هل يصير مجازا بعد التخصيص أم هو حقيقة؟ (والثانية)
: هل يحتج به بعد التخصيص أم لا؟ وبعض المصنفين الغالطين يجعلها واحدة ويبني
إحداهما على الأخرى ، فنقول : إذا بقى مجازا صار مجملا فلا يحتج به ، وهذا غلط
يتركب منه أن العام المخصوص بالاستثناء والشرط والغاية والصفة وبدل البعض من الكل
لا يحتج به عند من يجعل ذلك مجازا ، ومن نسب إلى الأئمة هذا وهذا فقد كذب عليهم ،
ويلزم هؤلاء أن يكون أفضل الكلام وأعلاه الذي لا يدخل في الإسلام إلا به وهو كلمة
لا إله إلا الله مجازا وأن يكون : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) (آل عمران : ٩٧)
مجازا وأن يكون قوله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ
اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) (البقرة : ٢١)
مجازا ، وأن يكون قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا
إِلى ذِكْرِ اللهِ) (الجمعة : ٩)
مجازا ، وفساد هذا معلوم بالضرورة لغة وشرعا وعقلا ، قبح الله قولا ويتضمن أن يكون
لا إله إلا الله مجازا فلا كان المجاز ولا يكون ولا هو كائن.
وسيأتى بيان أن
أرباب المجاز يلزمهم أن يكون قولنا محمد رسول الله مجازا ، بل ذلك صريح قولهم
فإنهم صرحوا أن الإضافة تقييد وأصابوا في ذلك وصرحوا بأن اللفظ وضع مطلقا لا مقيدا
، فاستعماله في المقيد استعمال له في غير ما وضع له كاستعمال العام في الخاص ،
وذلك المجاز بعد التخصيص كهذا المجاز بعد التقييد ، فإن الإضافة تفيد المطلق كما
أن الاستثناء والشرط والغاية والبدل والصفة تخص العموم ، وقد صرح ابن جني أن أكثر
اللغة مجاز ، قال : وكذلك عامة الأفعال كقام وقعد وانطلق وجاء ، قال : لأن الفعل
يستفاد منه الجنس ، ومعلوم أن الفاعل لم يكن منه جميع القيام ، وسيأتي تمام كلامه
والبيان الواضح في فساده.
والمقصود أن على
هذا القول الفاسد يكون قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِ) (الفتح : ٢٨) ،
وقوله : (وَأَرْسَلْناكَ
لِلنَّاسِ رَسُولاً) (النساء : ٧٩) ،
وقوله (فَبَعَثَ اللهُ
النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) (البقرة : ٢١٣) كل
ذلك مجازا لا حقيقة له بل كل فعل أضافه الرب إلى نفسه وإلى خلقه مجاز لا حقيقة له
على قول هذا المبتدع الضال ، فإن الفعل جنس ، والجنس يطلق على جميع الماضى وجميع
الحاضر وجميع الأمور والكائنات وعن كل من وجد منه القيام ، ومعلوم أنه لا يجتمع
لإنسان واحد في وقت واحد ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم
، هذا محال ، وإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة.
فانظر كيف أقر
واستدل وقرر أأفعال الله كلها مجاز ، فخلق السماوات والأرض عنده مجاز ، وقد صرح
بأن المجاز يصح نفيه ، وأرسل رسوله بالهدى ودين الحق مجاز عنده ، فقبح الله هذا
القول ولا بارك الله في أصل يتضمن هذا الكفر والجنون وقد صرح مغل الجهمية بأن خلق
واستوى مجاز ، فلا خلق في الحقيقة ولا استوى على عرشه ، فإن الخلق فعل فلا يصح
قيامه به عندهم لأنه حادث ؛ فلم يقم به خلق البتة ، وإنما يقال خلق على سبيل
المجاز للتعلق العدمي بين المخلوق وبينه سبحانه.
وابن جني وذووه لو
اعترفوا بأن له سبحانه أفعالا حقيقة لكانت كلها مجازا عندهم لما قرره من دلالة
الفعل على جميع الأفراد والجنس ، وأما أن يستحيوا من العقلاء ويقولوا أن ذلك حقيقة
فيلزمهم التناقض وهو أيسر الإلزامين ، فالأفعال دالة على المصادر المطلقة لا
العامة ، فإذا التزم هؤلاء أنها مجازات لتقييدها بفاعليها كان ذلك كالتزام أولئك
أن الألفاظ العامة ، إذا خصت صارت مجازات ، فكما لزم أولئك أن تكون لا إله إلا
الله مجازا ، لزم هؤلاء أن يكون محمد رسول الله مجازا ، إذا تقييد هذا المطلق قد
أخرجه عندهم عن موضوعه ، كما أن تخصيص ذلك العام قد أخرجه عند أولئك عن موضوعه ،
والطائفتان مخطئتان أقبح خطأ : فاللفظ لم يخرج عن موضوعه بالتخصيص ولا التقييد
ويزيده إيضاحا :
الوجه
السابع والثلاثون : إن اللفظ لو كان يخرج بالتخصيص والتقييد عن موضوعه لكن عدة موضوعات بحسب تعدد
قيوده. فإما أن يدعى أنه مجاز في ذلك كله أو حقيقة في الجميع ، أو يفرق بين بعض
المحال وبعض فالأول والثالث باطلان فيتعين الثاني.
مثال ذلك في
الأفعال أنهم يقولون : قام ؛ فيفيد إثبات القيام ، ويقولون : ما قام ؛ فيفيد
انتفاء القيام ، ويقولون : أقام؟ فيفيد معنى آخر وهو الاستفهام عن وجود القيام ،
يقولون : متى قام؟ فيفيد السؤال عن زمن قيامه ، ويقولون : أين قام؟ فيفيد السؤال
عن مكانه قيامه. ويقولون : يقوم : فيفيد عن معنى قام ، ويقولون : قم ، فيفيد عن
المعنيين ، وقد اختلفت دلالة اللفظ باختلاف هذه القيود ، وهى حقيقة في الجميع
وكذلك إذا قلت : المسلمون كلهم في الجنة كان حقيقة ، وإذا قلت : الناس كلهم في
النار إلا المسلمين كان حقيقة ، وإذا قلت : أعتق رقبة كان حقيقة ، وإذا قلت : رقبة
مؤمنة ، كان حقيقة ، وكذلك إن زدت في تقييدها : بالغة عاقلة عربية ناطقة ونحو ذلك
نقضت دلالة اللفظ المطلق ولم يخرج عن حقيقته ، ومن زعم أنه قد خرج عن حقيقته
وموضوعه فقد أخطأ ؛ فهكذا إذا قلت : ركبنا البحر فهاج بنا ، كان حقيقة فإذا قلت :
أتينا البحر
فاقتبسنا منه علما
كان حقيقة ، وكذلك إذا قلت : خرجنا في السفر فعرض لنا الأسد فقطع علينا الطريق كان
كلاما بينا بنفسه في المراد منه ، فإذا قلت : نزلنا على الأسد فحمانا وأقرأنا كان
بينا بنفسه وكان حقيقة ، وهو موضوع لكلا المعنيين مستعمل في موضوعه كالمطلق
والمقيد سواء. فأي فرق بين ذلك حتى يدعى المجاز في بعض الاستعمالات والحقيقة في
بعضها.
ولهذا لما تفطن
لهذا من تفطن له من الأذكياء صاروا فريقين : فرقة أنكرت المجاز بالكلية ، وفرقة
ادعت أن اللغة كلها إلا النادر منها مجاز ، فإنهم رأوا فساد تلك الفروق وتناقضها
فلم يرضوا لأنفسهم بالتناقض والتحكم البارد.
يوضحه :
(اللغة على قولهم إما أن تكون كلها حقيقة أو كلها مجازا)
الوجه
الثامن والثلاثون : إنه إن كان في اللغة مجاز على الوجه الذي يذكرونه لزم أن يكون كلها مجازا ،
وإن كانت مشتملة على الحقيقة فكلها حقيقة.
بيان ذلك أن
المفردات ثلاثة أنواع : أسماء وأفعال وحروف ، وهي روابط بين الأسماء والأفعال ،
وهذه الروابط لها دلالتها على معناها الإفرادى مشروط بذكر متعلقاتها وهو القرينة
المبينة لمعناها ؛ فدلالتها الموقوفة على القرينة لا تدل بمطلقها ، وذلك أمارة
المجاز عندهم ، بل هذا أبلغ في ثبوت المجاز حيث كانت القرينة شرطا في إفادتها ،
فهم بين أمرين : إما أن يدعوا أن الحروف كلها مجاز فهذا غلط ، لو كان المجاز ثابتا
فإنها لم يسبق لها موضوع غير موضوعها الذي هى مستعملة فيه ، بل استعمالها في
موضوعاتها. وإما أن يقول إن توقف فهم معناها على القرينة لا يوجب لها أن تكون
مجازا فيقال لهم : هكذا الأسماء والأفعال التي لها دلالة عند الاقتران ودلالة عند
التجرد لا يؤدي توقف فهم معناها عند الاقتران على القرينة أن تكون مجازا. وهل
الفرق إلا تحكم محض؟
فإن قلتم :
الأسماء والأفعال لها دالتان : دلالة عند التجرد ودلالة عند
الاقتران ، فأمكن
أن يكون لها جهتان ، وأما الحروف فلا تدل الا مع الاقتران فليس لها جهة حقيقة
ومجاز ، قيل لكم دلالة الأسماء والأفعال عند التجرد عن كل قيد كدلالة الحروف سواء
لا فرق بينهما لغة ولا عقلا ، فإن قولك رجل وماء وتراب ، كقولك في وعلى وثم وقام
وقعد وضرب ، فالجميع أصوات ينعق بها لا تفيد شيئا وشرط إفادتها تركيبها ، فكما أن
شرط إفادة الحرف تركيبه مع غيره فشرط إفادة الاسم والفعل تركيبهما.
فإن قلت : أن أفهم
من رجل وماء وتراب مسمى هذه الألفاظ بمجرد ذكرها. قيل : فافهم من قولك في وعلى وثم
ومسمى تلك الحروف بمجرد ذكرها ، وهي الظرفية والاستعلاء والترتيب والتراخي.
فإن قلت : لا يعقل
معنى الظرفية الا بالمظروف والظرف ، ولا معنى الاستعلاء إلا بالمستعلى والمستعلى
عليه ، ولا معنى الترتيب إلا بالمرتب والمرتب عليه ، وهذه هى متعلقات الحروف. قيل
: لا فرق بينهما فإنه يفهم من (في) ظرفية مطلقة ومن (على) استعلاء مطلق ، ومن (ثم)
ترتيب مطلق ، كما يفهم من رجل وماء وتراب معان مطلقة ، وهي صور ذهنية مجردة لا
يقارنها علم بوجودها في الخارج ولا عدمها ولا وجود شيء لها ولا سلب شيء عنها ، بل
هي تخيلات ساذجة ، وفهم معانيها المخصوصة المفيدة متوقف على ترتيبها ، فإذا قلت
جاءني رجل فأكرمته ، كانت دلالته على المعنى المقيد ، كدلالة الحرف على معناه
المقيد عند تركيبه ، كقولك علمت على السطح وتقول (على) للاستعلاء (وفي) للوعاء
فتفيد الحكم على معناها المطلق ، كما تقول الذكر أشرف من الأنثى ، والرجل أنفع من
المرأة ، فيفيد الحكم على المعنى المطلق.
فههنا ثلاثة أمور
وهي معتبرة في الحروف وتسميتها ، فإنك تقول (على) مجردة وتقول على للاستعلاء.
وتقول زيد على السطح كما تقول رجل ، والرجل خير من المرأة ، فدعوى المجاز في بعض
ذلك دون بعض تحكم لا وجه له ، ودلالة الاسم والفعل على المعنى المطبق من غير تقييد
إن كانت هى حقيقة اللفظ كان
لكل مقيد مجازا ،
وإن كانت دلالتها عند التقييد لم توجب لهما مفارقة الحقيقة ، فكل مقيد حقيقة. ألا
ترى أنك تقول عندي رجل فيكون له دلالة ، فإذا قلت : الرجل عندي تغيرت دلالته
وانتقلت من التنكير إلى التعريف ، فإذا قلت عندي رجل عالم تقيد منع دلالته على
غيره ، فإذا قلت عندي رجلان كان له دلالة أخرى فإذا قلت رجال تغيرت الدلالة ولم
يخرج بذلك عن حقيقته وموضوعه ، بل اختلفت دلالته بحسب القرائن التي تكون في أوله
تارة وفي آخره تارة ، وهي متصلة به وتكون منفصلة عنه تارة ، إما لفظية وإما عرفية
وإما عقلية ، فهذا أمر معلوم عند الناس في مخاطبات بعضهم مع بعض ، وهو من ضرورة
الفهم والتفهيم لا يختص بلغة دون لغة.
فالفرق بين
المعاني المطلقة والمقيدة أمر ضروري ، والحاجة في التمييز بينهما في العبارة من
لوازم النطق ، فمن ادعى أن بعضها هو الأصل ، وأن اللفظ وضع له أولا ، ثم نقل عنه
بعد ذلك إلى المعاني الأخر فهو مكابر ، إذ تصور تلك المعانى والتعبير عنها أمر
لازم للناطق ونطقه ، بل نقول إن لزوم المقيد له وحاجته إلى التعبير عنه وإفهامه
فوق حاجته إلى المطلق ، فإن القصد من الخطاب قيام مصالح النوع الإنساني بالفهم
والتفهيم والمطلق صورة ذهنية لا وجود لها في الخارج ، وكذلك اللفظ المطلق المجرد
لا يفيد فائدة وإنما محل الإفادة والاستفادة هو طلب المعاني المقيدة والألفاظ
المقيدة ، فهي التي تشتد الحاجة إلى طلبها والخبر عنها ، فهؤلاء عكسوا الأمر
فجعلوا ما لا غنى للناطق عنه مجازا وما لا ، يحتاج إليه ، ولا تشتد حاجته إلى فهمه
وتفهيمه حقيقة.
(والمقصود) إنه إن
كان المجاز حقا ثابتا فاللغة كلها مجاز ، فإن الألفاظ لا تستعمل إلا مقيدة تخالف
دلالتها عند الإطلاق ، وإن كانت الحقيقة موجودة فإن اللغة كلها حقيقة ما دلت على
المراد بتركيبها. وهذا شأن جميع الألفاظ. يوضحه :
الوجه
التاسع والثلاثون : إن هؤلاء أوتوا من تقدير في الذهن لا حقيقة له ،
فإنهم أصابهم في
تجريد الألفاظ عن قيودها وتركيبها ، ثم الحكم عليها مجردة بحكم ، وعليها عند
تقييدها بحكم غيره ما أصاب المنطقيين ومن سلك سبيلهم من الملاحدة في تجريد المعانى
وأخذها مطلقة عن كل قيد ، ثم حكموا عليها في تلك الحال بأحكام ، ورأوا وجودها
الخارجى مع قيودها يستلزم ضد تلك الأحكام ، فبقوا حائرين بين إنكار الوجود الخارجى
وبين إبطال تلك الحقائق التي اعتبروها مجردة مطلقة ، فصاروا تارة يثبتون تلك المجردات
في الخارج مجردة مطلقة ويسمونها المثل ، أي المثالات التي تشبه الحقائق الخارجية ،
وتارة يثبتونها مقارنة للمشخصات لا تفارقها ، وتارة يجعلونها جزءا من المعينات ،
وتارة يرجعون إلى حكم العقل ويقولون إن وجودها ذهني لا وجود لها في الخارج ، ولا
يوجد في الخارج إلا مشخص معين مختص بأحكام ولوازم لا تكون المطلوب ، وهؤلاء الذين
جردوا الحقائق عن قيودها وأخذوها مطلقة أخرجوا عن مسمياتها وماهياتها جميع القيود
الخارجة فلم يجعلوها داخلة في حقيقتها ، فأثبتوا إنسانا لا طويلا ولا قصيرا ، ولا
أسود ولا أبيض ، ولا في زمان ولا في مكان ، ولا ساكنا ولا متحركا ، ولا هو في
العالم ولا خارجه ولا له لحم ولا عظم ، ولا عصب ولا ظفر ، ولا له شخص ولا ظل ولا
يوصف بصفة ولا يتقيد بقيد ، ثم رأوا الإنسان الخارجي بخلاف ذلك كله ، فقالوا هذه
عوارض خارجة عن حقيقته ، وجعلوا حقيقة تلك الصورة الخيالية التي جردوها ، فهى
المعنى والحقيقة عند هؤلاء الذين اعتبروها مجردة عن سائر القيود ، وجعلهم تلك
الأمور التي لا تكون إنسانا في الخارج لأنها خارجة عن حقيقته كجعل هؤلاء القيود
التي لا تكون اللفظ مفيدا إلا بها مقتضية لمجازه.
فتأمل هذا التشابه
والتناسب بين الفريقين ، هؤلاء في تجريد المعانى وهؤلاء في تجريد الألفاظ ، وتأمل
ما دخل على هؤلاء من الفساد في اللفظ والمعنى ، وبسبب هذا الغلط دخل من الفساد في
العلوم ما لا يعلمه إلا الله تعالى.
(أنواع القرائن)
الوجه
الأربعون : إن اللفظ لا بد أن
يقترن به ما يدل على المراد به.
والقرائن ضربان :
لفظية ومعنوية ، واللفظية نوعان : متصلة ومنفصلة ، والمتصلة ضربان : مستقلة وغير
مستقلة ، والمعنوية إما عقلية وإما عرفية ؛ والعرفية إما عامة وإما خاصة وتارة
يكون عرف المتكلم وعادته ، وتارة عرف المخاطب وعادته ، فما الّذي تعتبرون في
المجاز من تلك القرائن ، هل هو الجميع؟ فكل ما اقترن به شيء من ذلك كان مجازا ،
فجميع لغات بني آدم مجاز ، أو اللفظية دون المعنوية أو العكس ، أو بعض اللفظ دون
بعض ، فلا يذكرون نوعا من ذلك إلا طولبوا بالفرق بينه وبين بقية الأنواع لغة أو
عقلا أو شرعا ، وكانوا في ذلك متحكمين مفرقين بين ما لا يسوغ التفريق بينه.
الوجه
الحادى والأربعون : إن جمهور الأمة على أن العالم المخصوص حقيقة ، سواء خص بمتصل أو منفصل ، بعقلى
أو لفظي كما تقدم ، وأنه حجة بإجماع الصحابة والتابعين وتابعييهم ، وإنما حدث
الخلاف في ذلك بعد انقراض العصور المفضلة التي شهد لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأنها خير القرون ، وقالوا إنه يصير بعد التخصيص مجازا ،
وقال بعضهم يبقى مجملا لا يحتج به ، فقال لهم الجمهور : هو بعد التخصيص مستعمل
فيما وضع له ، قالوا فإنه موضوع للعموم بمجرده وللخصوص بقرينة متصلة به مثل
الاستثناء ، فإن قوله اقتلوا المشركين إلا أهل الكتاب ليس مجازا وهو مستعمل فيما
وضع له ، والقرينة المنفصلة في معنى القرينة المتصلة ، والخاص مع العام بمنزلة
المستثنى مع المستثنى منه ، ولذلك يقول القائل خرج زيد ، فيكون إخبارا عن خروجه ،
ويضم إليه «ما» فيكون إخبار عن ضده ، وتضيف إليه الهمزة فيكون استفهاما ، وكل ذلك
حقيقة. فكذلك مسئلتنا.
هذه ألفاظ القاضى
أبي الطيب. فتأمل كيف هى صريحة في نفي المجاز ، وأن اللفظ موضوع لمطلق المعنى
وبالقرينة لغيره ، وأن ذلك كله حقيقة ، وهذا هو التحقيق دون التحكم والتناقض ،
ولهذا لما فهم القائلون بأنه يصير مجازا بعد التحقيق عن ذلك ألزموا الجمهور بنفي
المجاز ، فقالوا هذا يؤدى إلي أن يكون في اللغة مجاز. قالوا لأن قولنا (بحر) موضوع
للماء الكثير بمجرده ، والعالم
والجواد بقرينة ،
والأسد موضوع للحيوان المفترس بمجرده ، وللرجل الشجاع بقرينة. وإذا كان كذلك ارتفع
المجاز في اللغة. وهذا سؤال صحيح ، ولهذا لم يجبهم عنه منازعون إلا بأنه مشترك
الإلزام ، فقالوا في جوابهم : إن هذا لزمنا في التخصيص لزمكم في الاستثناء ، فإنكم
تقولون في الاستثناء ما نقوله نحن في التخصيص.
هذا لفظ جوابهم ،
فقد اعترف الفريقان بأن القول بكون العام المخصوص حقيقة ينفي المجاز بالكلية ، ولم
يكن عند القائلين جواب سوى أن هذا يلزمنا ويلزمكم جميعا ، فثبت باعتراف الفريقين
لزوم نفي المجاز لكون العام المخصوص حقيقة ، وجمهور أهل الأرض على أنه حقيقة ، بل
لا يعرف في ذلك خلاف متقدم البتة. فإذا كان الحق أنه حقيقة ولزمه نفي المجاز ولازم
الحق حق ، فنفي المجاز هو الحق ، فهذا تقرير نفي المجاز من نفس قولهم تقريرا لا
حيلة لهم في دفعه.
الوجه
الثاني والأربعون : إن القائلين بالمجاز قالوا ـ واللفظ لأبي الحسين ـ يعرف المجاز بالاستدلال ،
وذلك بأن يسبق إلى أذهان أهل اللغة عند سماع اللفظ من غير قرينة معنى من المعانى
دون معنى آخر ، فعلموا بذلك أنه حقيقة فيما سبق إلى الفهم ، لأنه لو لا أنه قد
اضطر السامع من قصد الواضعين إلى أنهم وضعوا اللفظ ـ لذلك المعنى ما سبق إلى فهمه
ذلك المعنى دون غيره.
فهذا الكلام يتضمن
أمرين (أحدهما) أن يكون السابق يسبق إلى أفهام أهل اللغة دون غيرهم ، فمن لم يكن
من أهل اللغة العربية التي بها نزل القرآن ، لم يكن من أهل هذه اللغة كالنبط الذين أكثر عاداتهم استعمال كثير من الألفاظ في غير ما
كانت العرب تستعمله فيها ، وحينئذ فلا عبرة بالسبق إلى أفهام النبط الذين ليسوا من
هؤلاء العرب العرباء ، فأكثر القائلين بالمجاز أو كلهم ليسوا من
__________________
أولئك العرب ، بل
من النبط الذين لا يحتج بفهمهم باتفاق العقلاء وأما العرب الذين نزل القرآن
بلسانهم ففهمهم هو الحجة.
فقولكم أمارة
الحقيقة السبق إلى الفهم ، أفهم هؤلاء تريدون أم فهم النبط؟
وإذا كانت العبرة
بفهم العرب فالله يعلم وملائكته وكتبه ورسله والعقلاء أن أحدا منهم لم يقل قط إن
هذا اللفظ مستعمل فيما وضع له. وهذا غير مستعمل فيما وضع له. ولا قال عربى واحد
منهم إن هذا حقيقة وهذا مجاز ، ولا قال أحد منهم إن هذا المعنى هو السابق إلي
الفهم من هذا اللفظ دون هذا المعنى ، بل هم متفقون من أولهم إلى آخرهم على أن كل
لفظ معه قرينة يسبق إلي الفهم ما يدل عليه مع تلك القرينة ، وذلك بالاطراد لهم لم
يوقفهم عليه موقف ، بل هو معهم من أصل النشأة وهم أكمل عقولا وأصح أذهانا أن
يجردوا الألفاظ عن جميع القرائن وينعقوا بها كالأصوات الغفل التي لا تفيد شيئا.
الأمر الثاني :
قولكم أن يسبق إلى أفهام أهل اللغة عند سماع اللفظة من غير قرينة معنى ، فهذا نكرة
في سياق النفى يعم كل قرينة ، وليس شيء من الكلام المؤلف المقيد يفيد بغير قرينة ،
بل إما أن يكون مؤلفا من اسمين أو من اسم وفعل أو من اسم وحرف على رأى ، ولا بد أن
تعرف عادة المتكلم في خطابة ولا بد من سياق يدل على المراد ، ولا بد من قيد يعين
المراد ، فإن أردتم السبق إلى الفهم بدون كل قرينة ، فهذا غير موجود في الكلام
المؤلف المنظوم ، ويوضحه :
الوجه
الثالث والأربعين : إن القائلين بالمجاز قالوا : الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أولا ،
والمجاز اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أولا بقرينة ، ومنهم من قال القرينة
استعمال الحقيقة في موضعه ، والمجاز استعماله في غير موضعه ، على التقديرين
فالاستعمال عندكم داخل في حد الحقيقة ، والمجاز إما بالتضمن على الرأى الأول وإما
بالمطابقة على الرأى الثانى ، وإذا كان كذلك فاللفظ المجرد عن جميع القرائن لا
يستعمله العقلاء لا من العرب ولا من
غيرهم ، ولا
يستعمل إلا مقيدا ، (والاستعمال يقيده قطعا) ، ولا يجتمع قولكم إن الحقيقة اللفظ
المستعمل فيما وضع له ، وقولكم هى ما يسبق إلى الفهم من اللفظ عند تجرده عن كل
قرينة ، فتأمله ، يوضحه :
الوجه
الرابع والأربعون : وهو مما يرفع المجاز بالكلية أنهم قالوا إن من علامة الحقيقة السبق إلى الفهم
، وشرطوا في كونها حقيقة الاستعمال كما تقدم ، وعند الاستعمال لا يسبق إلى الفهم
غير المعنى الذي استعمل اللفظ فيه فيجب أن يكون حقيقة ، فلا يسبق إلى فهم أحد من
قول النبي صلىاللهعليهوسلم في الفرس الذي ركبه «إن وجدناه لبحرا» الماء الكثير المستبحر ، فإن في (وجدناه) ضميرا يعود على
الفرس يمنع أن يراد به الماء الكثير ، ولا يسبق إلى فهم أحد من قوله صلىاللهعليهوسلم «إن خالدا سيف سله
الله على المشركين» أن خالدا حديدة طويلة له شفرتان ، بل السابق إلى الأفهام من هذا التركيب نظير
السابق من قولهم : «يا
رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء» ونظير السابق إلى الفهم من قوله إنه قال لا إله إلا الله
بعد ما علوته بالسيف ، فكيف كان هذا حقيقة وذاك مجازا ، والسبق إلي الفهم في الموضعين
واحد؟
__________________
وكذلك قوله صلىاللهعليهوسلم في حمزة «أنه أسد الله وأسد رسوله» وقول أبي بكر رضى الله عنه في قتادة : «لا يعمد إلى أسد من
أسد الله يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه» لم يسبق فهمه أنه الحيوان الّذي يمشى
على أربع ، بل يسبق من قوله أن ثلاثة حفروا زبية أسد فوقعوا فيها فقتلهم الأسد ،
معناه ولا يفهم أحد من قوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (النحل : ١١٢) إن
الجوع والخوف طعام يؤكل بالفم ، بل هذا التركيب لهذا المفعول مع هذا الفعل حقيقة
في معناه كالتركيب في قوله : (أَطْعَمَهُمْ مِنْ
جُوعٍ) (قريش : ٤) ونسبة
هذا إلى معناه المراد به كنسبة الآخر إلى معناه ، وفهم أحد المعنيين من هذا العقد
والتركيب كفهم المعنى الآخر والسبق كالسبق ، والتجريد عن كل قرينة ممتنع وكذلك من
سمع قوله : «الحجر
الأسود يمين الله في الأرض ، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه» لم يسبق إلى فهمه من هذا اللفظ غير معناه الّذي سيق له
وقصد به ، وأن تقبيل الحجر الأسود ومصافحته منزل منزلة تقبيل يمين الله ومصافحته ،
فهذا حقيقة هذا اللفظ ، فإن المتبادر السابق إلى الفهم منه لا يفهم الناس منه غير
ذلك ، ولا يفهم أحد منه أن الحجر الأسود هو صفة الله القديمة القائمة به ، فهذا لا
يخطر ببال أحد عند سماع هذا اللفظ أصلا ، فدعوى أن هذا حقيقة وأنه خرج إلى مجازه
بهذا التركيب خطأ ، ونكتة هذا الوجه أن المجرد
__________________
لا يستعمل ولا
يكون حقيقة ولا مجازا والمستعمل معه من القرائن ما يدل على المراد منه ويكون هو
السابق إلى الفهم ، والمقدمتان لا ينكرهما المنازع ولا أحد من العقلاء. وذلك مما
يرفع المجاز بالكلية.
الوجه
الخامس والأربعون : إن القائلين بالمجاز قد أبطل بعضهم ضوابط بعض. قال أبو الحسين : وقد قيل إن
الشيء إذا سمى باسم ما هو جزاء عنه كان حقيقة كقوله تعالى : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (الشورى : ٤٠) أو
باسم ما يؤدى إليه كالنكاح أو باسم ما يشبهه كتسمية البليد حمارا كان مجازا. قال
أبو الحسين : ولقائل أن يقول لا يمتنع أن يستعمل في الشيء وفيما يشبهه وفيما هو
جزاء عنه وفيما يؤدى إليه في أصل الوضع.
قال شيخنا : قول
هؤلاء باطل بل هو بالضد أحق ، فإن الشيء يسمى باسم ما هو جزاء عنه فيكون حقيقة
كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ
إِلَّا الْإِحْسانُ) (الرحمن : ٦٠)
وقوله صلىاللهعليهوسلم «من نفّس عن مؤمن
كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ومن يسّر على معسر يسّر
الله عليه في الدنيا والآخرة ومن ستر مسلما ستره الله في الدنيا والآخرة» قال تعالى : (وَإِذا حُيِّيتُمْ
بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها) (النساء : ٨٦)
وقال تعالى : (فَمَا اسْتَقامُوا
لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة : ٧) وقال
تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا
اللهَ يَنْصُرْكُمْ) (محمد : ٧) (وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ) (الحج : ٤٠) وكذلك
سمى الشيء باسم ما يشبهه ويكون حقيقة بل عامة أسماء الحقائق وأسماء الأجناس معلقة
على الشيء وعلى ما يشبهه ، فكون الشيء يشبه المعنى يقتضي كون اللفظ حقيقة فيهما
متواطئا أو مشككا ، ولا يقتضي أن يكون مجازا في أحد المتشابهين كما سيأتي تقريره
إن شاء الله تعالى.
وكذلك لفظ النكاح
فلم يقع في القرآن إلا والمراد به العقد والوطء فيتناولها جميعا ، وأما اختصاصه
بالوطء وحده فليس في القرآن ولا في موضع واحد لكن
__________________
اللفظ العام
لشيئين في النهى يتناول النهى عن كل منهما بخلاف الأمر فإنه يتناولهما جميعا فلا
يكون ممتثلا للنهى حتى يتركهما جميعا ولا للأمر حتى يفعلهما جميعا فقوله تعالى : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ
مِنَ النِّساءِ) (النساء : ٢٢)
يقتضي المنع من نكاح من عقد عليها الآباء ولم يدخلوا نهى وتحريم من وطئهن الآباء
ولم يعقدوا عليهن ، وقوله : (فَانْكِحُوا ما طابَ
لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ـ وَأَنْكِحُوا
الْأَيامى مِنْكُمْ ـ فَانْكِحُوهُنَّ
بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ) (النساء : ٣ ،
النور : ٣٢ ، النساء : ٢٥) ليس المراد به عقدا مجردا عن وطء ولا وطئا مجردا عن عقد
بل هما جميعا ، وقد تقدم ذكر فروقهم وإبطالها ، وإنما أعدنا هذا الفرق لبيان أن
القائلين بالمجاز قد أبطلوه وأنه باقتضاء ضد قولهم أولى.
(معاني الكلام : إما خبر وإما طلب وإما استفهام)
الوجه
السادس والأربعون : إن معاني الكلام إما خبر وإما طلب وإما استفهام ، والطلب أمر ونهى وإنشاء ،
وهذه حقائق ثابتة في أنفسها معقولة متميزة يميز العقل بينها ويحكم بصحة أقسامها ،
وكذلك كان تقسيم الكلام إليها صحيحا ، لأنه لما صح تقسيم معناه صح تقسيم لفظه.
فإذا قيل الطلب
ينقسم إلى أمر ونهى كان كل من المنقسمين متميزا بحقيقته عن الآخر لفظا ومعنى ،
وهذا بخلاف تقسيم المعنى المدلول عليه إلى حقيقة ومجاز فإنه أمر لا يعقل ولا ينفصل
فيه أحد القسمين عن الآخر ، فإن المعانى المتصورة إما أن تكون مفردة كتصور
الماهيات تصورا ساذجا من غير أن يحكم عليها بنفي أو إثبات فهذه لا يتصور فيها
التقسيم إلى حقيقة ومجاز. فإنها مجرد صور ذهنية تنتقش في النفس الناطقة ، وإما أن
ينسب الذهن بعضها إلى بعض نسبة خبرية أو طلبية وهذه حقيقة الكلام المركب ، وهذه
النسبة إما من باب العلوم إن كانت خبرية وإما من باب الإرادات إن كانت طلبية ، والنسبة
الخبرية إما صادقة إن طابقت متعلقها وإما كاذبة إن لم تطابقه ، والنسبة الطلبية
إما أن يكون المطلوب بها معدوما ، فيطلب إيجاده وهو الأمر أو موجودا فيطلب إعدامه
، أو معدوما
فيطلب إبقاؤه على
العدم وكف النفس عنه وهو النهي ، وهذه المعانى لا يتصور انقسامها في أنفسها إلى
حقيقة ومجاز انقساما معقولا فلا يصح انقسام اللفظ الدال عليها. وهذا عكس انقسام
اللفظ إلى خبر وطلب والطلب إلى أمر ونهى وإنشاء. فإن صحة هذا التقسيم اللفظي تابع
لصحة انقسام المدلول المعنوى وحينئذ فنقول في :
الوجه
السابع والأربعون : أنه لو صح تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز لكان ذلك إما باعتبار لفظه فقط أو
باعتبار معناه فقط أو باعتبارهما معا ، فالتقسيم إما في الدليل وفي المدلول وإما
في الدلالة والكل باطل ، فالتقسيم باطل. أما بطلانه باعتبار لفظه فقط فظاهر فإنه
لم يقل عاقل إن اللفظ بقطع النظر عن معناه ومدلوله ينقسم إلى حقيقة ومجاز ، وأما
بطلانه باعتبار المعنى فقط فلما قررناه من المعانى لا يتصور فيها الحقيقة والمجاز
فإنها ثابتة وإما منتفية ، فإذا بطل التقسيم باعتبار كل من اللفظ والمعنى بطل
باعتبارهما معا.
فإن قيل بل
التقسيم صحيح باعتبار الدلالة فإنها إما حقيقة وإما مجازية.
قيل : هذا أيضا لا
يصح فإن الدلالة يراد بها أمران (أحدهما) فعل الدال وهو دلالته بلفظه يقال له
دلالة ، (والثانى) فهم السامع ذلك المعنى من اللفظ كما يقال حصلت له الدلالة ،
والأشهر أن الأول بكسر الدال والثانى بفتحها وعلى التقديرين فالمعنى المقصود من
اللفظ هو حقيقة وإن اختلفت وجوه دلالته بحسب غموض المعنى وخفائه واقتدار المتكلم
على البيان وعجزه ومعرفة السامع بلغته وعادة خطابه وتقصيره في ذلك.
فإذا فهم السامع
مقصود المتكلم فقد فهم حقيقة كلامه ، ولهذا يقال علمت حقيقة مقصودي وفهمت حقيقة
كلامي ، فإذا قال اقطع عنى لسان فلان الشاعر وإذا دخلت بلد كذا فإن فيه بحر فاقتبس
منه العلم ونحو ذلك ففعل ما أمر به صح أن يقال فيه فهمت حقيقة قولى ، فالدلالة هي
الفهم ، والإفهام ينقسم إليهما ، فتقسيم الدلالة إلى حقيقة ومجاز لا يعقل البتة.
الوجه
الثامن والأربعون : وهو أيضا يجتث المجاز من أصله ويبين أنه لا حقيقة
له وهو أن تقسيم
الكلام إلى حقيقة ومجاز فرع لثبوت الوضع المغاير للاستعمال ، فكأن أصحابه أوهموا
أن جماعة من العقلاء اجتمعوا ووضعوا ألفاظا لمعان ثم نقلوا هم أو غيرهم تلك
الألفاظ أو أكثرها عند من يقول أكثر اللغة مجاز أو بعضها إلى معان أخر فوضعها لتلك
المعاني أولا ، ولهذه المعانى ثانيا ، وهذا غير معلوم وجوده ، بل الإلهام كاف في
النطق باللغات من غير مواضعة متقدمة وإن سمى توقيعا ، فمن ادعى وضعا متقدما على
استعمال جميع الأجناس فقد قال ما لا علم له به ، وإنما المعلوم الاستعمال ، والقول
بالمجاز إنما يصح على القول من يجعل اللغات اصطلاحية ، وأن العقلاء أجمعوا
واصطلحوا على أن يسموا هذا بكذا وهذا بكذا ، وهذا مما لا يمكن بشرا على وجه الأرض
لو عمر عمر نوح أن يثبت أن جماعة من العرب اجتمعوا ووضعوا جميع هذه الأسماء
المستعملة في اللغة ثم استعملوها بعد الوضع ثم نقلوها بعد الاستعمال ، وإنما
المعروف المنقول بالتواتر استعمال هذه الألفاظ فيما عنوه بها من المعانى.
فإن قيل نحن نثبت
الوضع بالدليل العقلى ، فإن الاستعمال يستلزم سابقة الوضع ، ووجود الملزوم بدون
لازمه محال (قيل) الجواب من وجهين :
(أحدهما) أن دعوى
اللزوم دعوى لا دليل عليها ، ولا تكون مقبولة ، فمن أين لكم أن الاستعمال مستلزم
سابقة الوضع والاصطلاح : أبا لعقل علم هذا اللزوم أم بالشرع؟ وبالضرورة عرف أم
بالنظر؟
(الثاني) : إنا نعلم بالمشاهدة ما يدل على خلاف ذلك ، فإن الله
سبحانه يلهم الحيوانات والطير ما يعرف به بعضها مراد بعض ، والإنسان أشد قبولا
للإلهام من الحيوانان ، وقد سمى الله ذلك منطقا في قوله عن نبيه سليمان صلىاللهعليهوسلم (عُلِّمْنا مَنْطِقَ
الطَّيْرِ) (النمل : ١٦) وحكى
عن النملة قولها (يا أَيُّهَا
النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ
وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (النمل : ١٨)
وأوحى إلى الجبال والطير أن تسبح مع نبيه داود. وكذلك الآدمى فإن المولود إذا ظهر
منه التمييز سمع أبويه أو من يربيه ينطق باللفظ ويشير إلى المعنى فيفهم إن اللفظ
متى اطلق أريد به ذلك المعنى ، ثم لا يزال يسمع لفظا بعد لفظ ، ويعقل
معنى دون معنى على
التدريج حتى يعرف لغة القوم الذين نشأ بينهم من غير أن يكونوا قد اصطلحوا معه على
وضع متقدم ، ولا وقفوه على معانى الأسماء ، وإن كان احيانا قد يسأل عن مسمى بعض
الأسماء فيوقف عليها ، كما يترجم للرجل اللغة التي لا يعرفها فيوقف على معانيها لا
أنه يصطلح معه على وضع ألفاظها لمعانيها.
ولا ننكر أن يحدث
في كل زمان أوضاع لما يحدث من المعانى التي لم تكن قبل ولا سيما أرباب كل صناعة
فإنهم يضعون لآلات صناعتهم من الأسماء ما يحتاجون إليه في تفهيم بعضهم مراد بعض
عند التخاطب ، ولا تتم مصلحتهم إلا بذلك ، وهذا أمر عام لأهل كل صناعة مقترحة أو
غير مقترحة ، بل أهل كل علم من العلوم قد اصطلحوا على ألفاظ يستعملونها في علومهم
تدعو حاجتهم إليها للفهم والتفهيم ، فهذه الاصطلاحات الحادثة والتى يعرف فيها
الوضع السابق على الاستعمال ، وليس الكلام فيها والظاهر والله أعلم أن أرباب
المجاز قاسوا أصول اللغة عليها ، وظنوا أن التخاطب العام بأصل اللغة جاز هذا
المجرى ، وإدخال المجاز في كلام الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم وكلام العرب بهذا الطريق باطل قطعا.
وكأني ببعض أصحاب
القلوب الغلف يقول : وهل لأحد أن يحمل قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقطعوا
عنى لسانه» لمن امتدحه ، وقوله : «إن خالدا
__________________
سيف
من سيوف الله» وقوله في الفرس : «إن وجدناه لبحرا» وقوله عن حمزة «أنه أسد الله وأسد رسوله» وقوله عن الحجر الأسود «إنه يمين الله في الأرض» وقوله : «الآن حمى الوطيس» وقوله : «اللهم اغسلنى من خطاياى بالماء والثلج
والبرد» ونحو ذلك ، علي حقيقته.
فيقال له : وما
حقيقة ذلك عندك؟ فإنك أخطأت كل خطأ إذ ظننت أن حقيقته غير المعنى المراد به ،
والمفهوم منه هو إسكات المادح عنه بالعطاء فيقطع لسان مقاله ، وكون خالدا يقتل
المشركين كما يقتل السيف المسلول الّذي لا يحتاج إلى أن ينتضى ، بل هو مسلول مستعد
للقتل ، وكون حمزة مفترسا لأعداء الله إذا رأى المشرك لم يلبث أن يفترسه ، كما أن
الأسد إذا رأى الغير لم يدعه حتى يفترسه ، وكون مقبل الحجر الأسود بمنزلة مقبل
يمين الرحمن ، لا أنه نفس صفته القديمة وعين يده التي خلق بها آدم ويطوي بها
السماوات والأرض ، وكون الحرب منزلة التنور الذي يسجر قليلا قليلا حتى يشتد حموه
فيحرق ما يلقي فيه ، وكون الخطايا بمنزلة الوسخ والدرن يوسخ البدن ويوهنه يضعف
قواه ، والثلج والبرد والماء البارد يزيل درنه ويعيد قوته ويزيده صلابة وشدة ، فهل
لهذه الألفاظ حقيقة إلا ذلك وما استعملت إلا في حقائقها ، فهذا التقييد والتركيب
عين المراد منها بحيث لا تحتمل غيره ، كما أن التقييد والتركيب في قولك جاء الثلج
حتى عم الأرض وأصاب البرد الزرع ، والماء البادر يروى الظمآن ، والأسد ملك الوحوش
، والسيف ملك السلاح ، وفي قطع اللسان الدية ، وإذا حمى الوطيس فضع فيه العجين ،
يحتمل غير المراد منه في هذا التركيب ، فهذا مقيد وهذا مقيد ، وهذا
__________________
موضوع وهذا موضوع
، وهذا مستعمل وهذا مستعمل ، وهذا لا يحتمل غير معناه وهذا لا يحتمل غير معناه ؛
فأي كتاب أو سنة أو عقل أو نظر أو قياس صحيح أو مناسبة معتبرة أو قول من يحتج
بقوله جعل هذا حقيقة وهذا مجاز ، وهذا يتبين ويظهر جدا.
الوجه
التاسع والأربعون : وهو أن الخائضين في المجاز تارة يخوضون فيه إخبارا وحملا لكلام المتكلم عليه ،
وتارة يخوضون فيه استعمالا في الخطب والرسائل والنظم والنثر ، فينقلون ألفاظا لها
معان في اللغة إلى معان أخر تشابهها ، ويقولون استعرنا هذه الألفاظ لهذه المعانى ،
لا يخرج كلامهم في المجاز عن هذين الأصلين البتة ، فيجب التمييز بين الحمل
والاستعلام ، فإذا قالوا نحمل هذا اللفظ في كلام المتكلم على مجازه ، إما أن
يريدوا به الإخبار عنه بأنه صرفه عن معناه المفهوم منه في أصل التخاطب إلى غيره ؛
فهذا خبر ، وهو إما صدق إن طابق الواقع ، وإما كذب إن لم يطابق ، فمن أين لكم أنه
لم يرد به معناه المفهوم منه عند الخطاب.
وإن عنيتم بالحمل
إنا ننشئ له من عندنا وضعا لمعنى يصح أن يستعمل فيه ثم نعتقد أن المتكلم أراد ذلك
المعنى ، كان هذا خطأ من وجهين (أحدهما) إنشاء وضع جديد لذلك اللفظ (الثاني) اعتقاد إرادة المتكلم لذلك المعنى وتنزيل كلامه على ذلك
الوضع ، فإذا قال قائل : اليد مجاز في القدرة ، والاستواء مجاز في الاستيلاء ،
والرحمة مجاز في الإنعام ، والغضب مجاز في الانتقام ، والتكلم مجاز في الإنعام ،
والقرب مجاز في الإكرام (قيل) تعنون بكونها مجازا في ذلك أن لكم أن تستعملوها في
هذه المعانى وتعبرون عنها بهذه العبارات ، أم تعنون إنها إذا وردت في كلام الله
ورسوله كان المفهوم منها هذه المعانى وهي مجازات فيها ، فإن أردتم (الأول) فأنتم
وذاك فاستعملوها فيما أردتم ، وسموا ذلك الاستعمال ما شئتم ، وإن أردتم (الثانى)
كنتم مخطئين من وجهين : (أحدهما) حكمكم على الله ورسوله أنه أراد بهذه الالفاظ
خلاف معانيها المفهومة منها عند التخاطب ، فإذا هذا ضد البيان والتفهيم وهو
بالتلبيس
أشبه منه بالتبيين
، فتعالى عنه أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ، وقد صرح الناس قديما وحديثا بأن الله
لا يجوز أن يتكلم بشيء ويعنى به خلاف ظاهره.
* * *
قال الشافعي :
وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم على ظاهره ، وقال صاحب «المحصل» في الباب التاسع من أحكام
اللغات (المسألة الثانية) لا يجوز أن يعنى الله سبحانه بكلامه خلاف ظاهره ،
والخلاف فيه مع المرجئة. قال : لنا أن اللفظ بالنسبة إلى غير ظاهره مهمل والتكلم
به غير جائز علي الله تعالى ، ثم أجاب عن شبه المنازعين بأن قال : لو صح ما
ذكرتموه لم يبق لنا اعتماد علي شيء من أخبار الله تعالى ، لأنه ما من خبر إلا
ويحتمل أن يكون المراد به غير ظاهره. وذلك ينفي الوثوق. ا ه.
وعلى هذا فنقول :
إذا كان ظاهر كلام الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم والأصل فيه الحقيقة لم يجز أن يحمل على مجازه وخلاف ظاهره
البتة لما ذكره من الدليل فإن المجاز لو صح كان خلاف الأصل والظاهر ولا يجوز
الشهادة على الله سبحانه ولا علي رسوله صلىاللهعليهوسلم أنه أراد بكلامه خلاف ظاهره وحقيقته ، ولا في موضع واحد
البتة ، بل كل موضع ظهر فيه المراد بذلك التركيب والاقتران فهو ظاهره وحقيقته لا
ظاهر له غيره ، ولا حقيقة له سواه ، وقوله تعالى : (فَأَذاقَهَا اللهُ
لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ) (النحل : ١١٢)
حقيقته وظاهره إنه اجاعها بعد شبعها ، وأخافها بعد أمنها ، وألبس بواطنها ذل الجوع
وذل الخوف ، فصار ذلك لباسا لبواطنهم تذوقه وتباشره ، ولباس كل شيء بحسبه ، ولباس
الظاهر ظاهر ، ولباس الباطن باطن ، فذوق كل شيء بحسبه ، فذوق الطعام والشراب بالفم
، وذوق الجوع والخوف بالقلب ، وذوق الإيمان بالقلب أيضا ، كقوله صلىاللهعليهوسلم : «ذاق
طعم الإيمان من رضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا»
__________________
فهذا الذوق الباطن
بالحاسة الباطنة ، وذوق الظاهر بالحاسة الظاهرة ، وهذا حقيقة في مورده ، وهذا
حقيقة في مورده.
وكذلك الحلاوة
والطعم هى بحسب المضاف إليه ، فحلاوة الإيمان وطعمه معنويان ، وحلاوة العسل وطعمه
حسيان ، كل منهما حقيقة فيما أضيف إليه .
__________________
والمقصود بهذا
الوجه أنه إن ظهر مراد المتكلم لم يجز أن يحمل على خلاف ظاهره ويدعى أنه مجاز
بالنسبة إلى ذلك المحمل ؛ إذ حقيقته هو المفهوم منه ، فدعوى المجاز باطلة وإن ادعى
صرفه عن ظاهره إلى خلافه وإن ذلك مجاز فهو باطل أيضا ، فبطلت دعوى المجاز على
التقديرين ، فإن ظاهر اللفظ ومفهومه
__________________
وحقيقته لا يكون
مجازا البتة ؛ وهؤلاء تارة يجعلونه مجازا فيما لا ظاهر له غير معناه ، فيكون خطؤهم
في اللفظ والتسمية ، وتارة يجعلونه مجازا في خلاف ظاهره والمفهوم منه ويدعون أنه
المراد ، فيكونون مخطئين من وجهين ، من جهة اللفظ والمعنى.
(منهم من قال : إن أكثر ألفاظ القرآن واللغة مجازا)
الوجه
الخمسون : إن القائلين
بالمجاز ، منهم من أسرف فيه وغلا حتى ادعى أن أكثر ألفاظ القرآن بل أكثر اللغة
مجاز ، واختار هذا جماعة ممن ينتسب إلي التحقيق والتدقيق ، ولا تحقيق ولا تدقيق ،
وإنما هو خروج عن سواء الطريق ومفارقة للتوفيق ، وهؤلاء إذا ادعوا أن المجاز هو
الغالب صار هو الأصل ، ولا يصح قولهم أصل الحقيقة ، وإذا تعارض المجاز والحقيقة
تعينت الحقيقة ، إذ الإلحاق بالغالب الكثير أولى منه بالنادر الأقل.
فإن الأصل يطلق على معان أربعة : (أحدها)
ما منه الشيء ، وهذا أولى معانيه باللغة كالخشب أصل السرير ، والحديد أصل السيف ، (الثاني)
: دليل الشيء كأصول الفقه أى أدلته ، (الثالث) : الصور المقيس عليها ، والمقيسة هى
الفرع ، (الرابع) : الأكثر أصل الأقل ، والغالب أصل المغلوب ، ومنه أصل الحقيقة ،
فإذا كان المجاز هو الأكثر الغالب
بقي هو الأصل ، وحينئذ فطرد قول هؤلاء إنه إذا ورد اللفظ يحتمل الحقيقة والمجاز
يحمل على مجازه لأنه الأكثر والغالب ، وفي هذا من فساد العلوم والأديان وفساد
البيان الذي علمه الرحمن الإنسان ، وعده عليه من جملة الإحسان والامتنان ما لا
يخفى. وإذ قد انتهى الأمر إلى هذا فلا بد من ذكر قول هذا القائل وبيان فساده فنقول
في :
* * *
(فصل الرد على ابن جنى)
الوجه
الحادى والخمسون : قال ابن جنى إذا كثر (يعنى المجاز) ألحق بالحقيقة : اعلم أن أكثر اللغة
مع تأمله مجاز لا حقيقة ، وذلك عامة الأفعال ، نحو قام زيد ، وقعد عمر ، وانطلق
بشر ، وجاء الصيف ، وانهزم الشتاء ، ألا ترى أن الفعل يفاد منه معنى الجنسية ،
فقولك قام زيد ، أي هذا الجنس من الفعل ، ومعلوم أنه لم يكن منه جميع القيام ،
وكيف يكون ذلك وهو جنس ، والجنس يطبق جميع الماضي وجميع الحاضر وجميع الآتى
الكائنات من كل من جد منه القيام ، فمعلوم أنه لا يجتمع لإنسان واحد في وقت واحد
ولا في مائة ألف سنة مضاعفة القيام كله الداخل تحت الوهم. هذا محال عند كل ذي لب ،
فإذا كان كذلك علمت أن قام زيد مجاز لا حقيقة ، وإنما هو على وضع الكل موضع البعض
للاتباع والمبالغة ، ونسبة القليل بالكثير ، ويدل على انتظام ذلك بجميع جنسه أنك
تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل ، فتقول قومة قومتين وقياما حسنا وقياما قبيحا ،
فإعمالك إياه في جميع أجزائه يد على أنه موضوع عندهم على صلاحه لتناول جميعها ،
وإنما يعمل الفعل من المصادر فيما فيه عليه دليل ، ألا تراك لا تقول قمت جلوسا ولا
ذهبت مجيئا ، ولا يجوز ذلك لما لم يكن فيه دليل عليه ، ألا ترى إلى قوله : لعمري
لقد أحببتك الحب كله ، فانتظامه لجميعه يدل على وضعه على اعترافه واستيعابه. وكذلك
قول الآخر :
وقد يجمع الله
الشتيتين بعد ما
|
|
يظنان كل الظن
أن لا تلاقيا
|
فقوله كل الظن يدل
على صحة ما ذهبنا إليه ، قال أبو علي : قولنا قام زيد بمنزلة قولنا خرجت فإذا
الأسد ، (تعريفه هنا) تعريف الجنس ، كقولك :
__________________
الأسد أشد من
الذئب ، وأنت لا تريد خرجت وجميع الأسد التى يتناولها الوهم علي الباب ، هذا محال
واعتقاده اختلال ، وإنما أردت خرجت فإذا واحد من الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة
على الواحد مجازا لما فيه من الاتساع والتوكيد. أما الاتساع فبأن وضعت اللفظ
المعتاد للجماعة على الواحد ، وأما التوكيد فلأنك عظمت قدر ذلك الواحد بالجماعة
لأن كل واحد منها مثله في كونه أسدا ، وإذا كان كذلك فمثله قعد جعفر ، وانطلق محمد
، وجاء الليل ، وانصرم النهار.
وكذلك أفعال
القديم سبحانه نحو خلق السماوات والأرض وما كان مثله ألا ترى أنه عز اسمه لم يكن
بذلك خلق أفعالنا ولو كان خالقا حقيقة لا محالة لكان خالق الكفر والعدوان وغيرهما
من أفعالنا ، وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التى علم الله
عليها قيام زيد هي التي علم الله عليها قيام عمرو ، ولسنا نثبت له سبحانه علما
لأنه عالم لنفسه إلا أنا مع ذلك نعلم أنه ليس حال علمه بقعود زيد هي حال علمه
بجلوس عمرو ، ونحو ذلك.
وكذلك قولك ضربت
عمرا مجاز أيضا من غير جهة التجوز في الفعل وأنك إنما فعلت بعض الضرب لا جميعه ،
ولكن من جهة أخرى وهى أنك إنما فعلت بعضه لا جميعه ، ألا تراك تقول ضربت زيدا ،
ولعلك إنما ضربت يده أو إصبعه أو ناحية من نواحي جسده ، ولهذا إذا احتاط الإنسان
أو استظهر جاء ببدل البعض فقال ضربت زيدا رأسه أو وجهه ، نعم ثم أنه مع ذلك متجوز
ألا تراه يقول ضربت زيدا رأسه فيبدل للاحتياط ، وهو إنما ضرب ناحية من نواحي رأسه
لا رأسه كله ، ولهذا يحتاط بعضهم في نحو هذا فيقول ضربت زيدا جانب وجهه الأيمن أو
ضربه على رأسه.
وإذا عرفت التوكيد
ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكلهم وكليهما وما أشبه ذلك ، عرفت
منه حال سعة المجاز في هذا الكلام ، ألا تراك تقول قطع الأمير اللص ، ويكون القطع
بأمره لا بيده ، فإذا قلت قطع الأمير
نفسه لصا رفعت
المجاز من جهة الفعل وصرت إلى الحقيقة. لكن بقى عليك التجويز في مكان آخر وهو قطع
اللص ، وإنما فعله قطع يده أو رجله فإذا احتطت قلت قطع الأمير نفسه يد اللص أو
رجله.
«قلت» وبقي عليه
أن يقول وذلك مجاز أيضا من جهة أخرى وهو أن اليد اسم للعضو إلى المناكب وهو لم
يقطعها كلها إنما قطع بعضها ، فإذا احتاط ينبغى له أن يقول قطع الأمير نفسه من يد
اللص ما بين الكوع والأصابع ، وذلك مجاز أيضا من وجه آخر وهو أنه سماه لصا.
وذلك يقتضي أنه
وجد جميع أفراد اللصوصية كما قرره في أول كلامه ، وذلك محال فقد أوقع البعض موقع
الكل وذلك مجاز ، فإذا احتاط قال قطع الأمير نفسه من يد ومن وجد منه بعض اللصوصية
ما بين الكوع والأصابع ، ويبقى عليه مجاز آخر عنده من جهة أخرى وهو أن القطع عنده
دال على جميع أفراد الجنس ولم يوجد ذلك فأوقع القطع على فرد من أفراد القطع لمن
وجد منه بعض أفراد اللصوصية أوقعه في جزء من أجزاء يده.
فيا ضحكة العقلاء
ويا شماته الأعداء بهذه العقول السخيفة التى كادها عدوها ويأبى الله أن يوفق عقل
من أنكر علمه وقدرته ويكذب عليه حيث يزعم أن غالب كلامه مجاز لا حقيقة له لشهود
هذا الّذي هو باقبح الهذيان أشبه منه بالفصاحة والبيان.
قال : وكذلك قولك «جاء
الجيش أجمع» ، ولو لا أنه قد كان يمكن أن يكون إنما جاء بعضهم وإن أطلقت المجىء
على جميعهم لما كان لقولك أجمع معنى ، فوقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على
شياع المجاز فيها واشتماله عليها حتى إن أهل العربية أفردوا لذلك بابا لعنايتهم
به.
وكونه مما لا يضاع
ولا يهمل مثله ، كما أفردوا لكل معنى أهمهم بابا كالصفة والعطف والإضافة والنداء
والندبة والقسم وغير ذلك.
قال ابن جنى :
وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز لا حقيقة وقد كثر حتى إن في القرآن وهو أفصح الكلام
منه أكثر من مائة موضع بل ثلاثمائة موضع وفي
الشعر منه ما لا
أحصيه ؛ قال وهذا يدفع دفع أبي الحسن القياس عن حذف المضاف وإن لم يكن حقيقة ، أو
لا يعلم أبو الحسن كثرة المجاز عليه وسعة استعماله وانتشار مواقعه كقام أخوك وجاء
الجيش وضربت زيدا ونحو ذلك ، كل ذلك مجاز ، وهو على غاية الانقياد والاطراد فكذلك
حذف المضاف.
فإن قيل : يجيء من
هذا أن تقول ضربت زيدا وإنما ضربت غلاما وولده ، قيل هذا الذي شنعت به بعينه جائز
ألا تراك تقول إنما ضربت زيدا لضربك لغلامه ، وأهنته بإهانتك ولده ؛ وهذا باب
يصلحه ويفسده المعرفة به ، فإن فهم عنك في قولك ضربت زيدا أنك إنما أردت بذلك (ضربت)
غلامه أو أخاه أو نحو ذلك جاز ، وإن لم يفهم عنك لم يجز كما أنك إن فهم بقولك (أكلت)
الطعام أكلت بعضه لم يحتج إلى البدل.
وإن لم يفهم عنك وأوردت
إفهام المخاطب إياه لم تجد بدا من البيان وأن تقول بعضه أو نصفه أو نحو ذلك : ألا
ترى أن الشاعر لما فهم عنه ما أراد بقوله :
صبحن من كاظمة
الحصن الخرب
|
|
يحملن عباس بن
عبد المطلب
|
وإنما أراد عبد
الله بن عباس ، ولو لم يكن من الثقة يفهم ذلك لم يجد بدا من البيان ، وعلى ذلك قول
الآخر : عليم بما أعيا النطاسي حذيما.
وإنما أراد ابن
حذيم قال : ويدل على إلحاق المجاز بالحقيقة عندهم وسلوكه طريقتهم في نفوسهم أن
العرب قد وكدته كما وكدت الحقيقة ، وذلك قول الفرزدق :
عيشة سال
المربدان كلاهما
|
|
سحابة موت
بالسيوف الصوارم
|
وإنما هو مربد
واحد فثناه مجازا لما يتصل به من مجاوره ؛ ثم إنه رفع ذلك ووكده وإن كان مجازا ،
وقد يجوز أن يكون سمى كل واحد من جانبيه مربدا.
وقال الآخر :
إذا البيضة
الصماء عضت صفيحة
|
|
بحرباتها صاحت
صياحا وصلت
|
فأكد صاحت وهو
مجاز بقوله (صياحا) وأما قول الله عزوجل (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى
تَكْلِيماً) (النساء : ٦٤)
فليس هو من باب المجاز ، بل هو حقيقة قال أبو الحسن : خلق الله كلاما في الشجرة
فكلم به موسى ، وإذا أحدثه كان متكلما به ، وأما أن يحدثه في فم أو شجرة أو غيرهما
فهو شيء آخر ، لكن الكلام واقع ، ألا ترى أن المتكلم منا إنما يستحق هذه الصفة
لكونه متكلما لا غير ، لا لأنه أحدثه من آلة نطقه ، وإن كان لا يكون متكلما حتى
يحرك به آلة نطقه.
فإن قلت : أرأيت
لو أن أحدنا عمل له مصوتة وحركها واجتزأ بأصواتها عن أصوات الحروف المتقطعة
المسموعة في كلامنا ، أكنت تسمية متكلما وتسمى تلك الأصوات كلاما وذلك المصوت به
متكلما ، وذلك أنه ليس في قوة البشر أن يوردوا الكلام بالآلات التي يصنعوها على
سمت الحروب المنطوق بها وصورتها لعجزهم عن ذلك ، وإنما يأتون بأصوات فيها الشبه
اليسير من حروفها فلا يستحق لذلك أن تكون كلاما ، ولا يكون الناطق بها متكلما ،
كما أن الّذي يصور الحيوان تجسيما وتزويقا لا يقال خالقا للحيوان ، وإنما يقال
مصورا وحاك ومشبه ، وأما القديم سبحانه فإنه قادر على إحداث الكلام على صورته
الحقيقية وأصواته الحيوانية في الشجرة والهواء وما شاء. وهذا فرق.
فإن قلت : فقد
أحال سيبويه قولنا : اشرب ماء البحر ، وهذا منه حظر للمجاز الذي أنت مدع شياعه
وانتشاره.
قيل : إنما أحال
ذلك على أن المتكلم يريد به الحقيقة ، وهذا مستقيم ، إذ الإنسان الواحد لا يشرب
ماء البحر كله ، فأما إن أراد بعضه ثم أطلق اللفظ ولا يريد به جميعه فلا محالة في
جوازه ، ألا ترى إلى قوله :
نزلوا بالعرة
يسيل عليهم
|
|
ماء الفرات يجيء
في أطواد
|
إنه لم يرد جميعه
لأنه قد يمكن أن يكون بعض مائه مختلجا قبل وصوله إلى أرضه بشرب أو سقى زرع ونحوه ،
فسيبويه إنما وضع اللفظ في هذا الموضع على أصل وضعه في اللغة من العموم ، واجتنب
المستعمل فيه من الخصوص ، مثل توكيده المجاز فيما مضى ، قولنا قام زيد قياما وجلس
جلوسا ، فقد قدمنا
الدليل على أن قام
وقعد مجاز ، وهو مع ذلك يؤكد بالمصدر ، وكذلك يكون قوله : (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) من هذا الوجه مجازا على ما مضى.
ومن التوكيد في
المجاز قوله تعالى : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) ولم تؤت لحية رجل ولا ذكره. قال : ووجه هذا عندى أن يكون
مما حذفت صفته ، حتى كأنه قال : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) (النمل : ٢٣)
تؤتاه المرأة الملكة ، ألا ترى لو أوتيت لحية وذكرا لم تكن امرأة أصلا ، ولما قيل
فيها (وأوتيت) وقيل فيها (وأوتى) ومنه قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) وهو سبحانه شيء ، وهو ما يستثنيه العقل ببديهته ولا يحوج
إلى التشاغل باستثنائه ، فإنه الشيء كائنا ما كان لا يخلق نفسه.
فأما قوله تعالى :
(وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : ٧٦)
فحقيقة لا مجاز ، وذلك أنه سبحانه ليس عالما بعلم ، فهو إذا العليم الذي فوق ذوي
العلوم أجمعين ، ولذلك لم يقل وفوق كل عالم عليم ، لأنه سبحانه عالم ولا عالم
فوقه.
فإن قلت : ليس
قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ
كُلِّ شَيْءٍ) ، (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) اللفظ المعتاد للتوكيد (قيل) هو إن لم يأت نابعا على سمة
التوكيد فإنه بمعنى التوكيد. ألا ترى أنك إذا قلت عممت بالضرب جميع القوم ،
ففائدته فائدة قولك ضربت القوم كلهم ، فإذا كان المعنيان واحدا كان ما وراء ذلك
لغوا غير معتد به «هذا آخر كلامه».
الرد على ذلك :
والكلام عليه من وجوه (أحدها) أن تعلم أن هذا الرجل وشيخه أبا علي من كبار أهل البدع
والاعتزال المنكرين لكلام الله تعالى وتكليمه فلا يكلم أحدا البتة ، ولا يحاسب
عباده يوم القيامة بنفسه وكلامه ، وأن القرآن والكتب السماوية مخلوق من بعض
مخلوقاته ، وليس له صفة تقوم به ، فلا علم له عندهم ولا قدرة ولا حياة ولا إرادة
ولا سمع ولا بصر ، وإنه لا يقدر على خلق أفعال العباد ، وأنها واقعة منهم بغير
اختياره ومشيئته ، وأنه شاء منهم خلافها وشاءوا
هم خلاف ما شاء ،
فغلبت مشيئتهم ، وكان ما شاءوه هم دون ما شاء هو فيكون ما لا يشاء ويشاء ما لا
يكون ، (وهو خالق) عند هذا الضال المضل ، وعالم مجازا لا حقيقة ، والمجاز يصح نفيه
، فهو إذا عنده لا خالق ولا عالم (إلا) على وجه المجاز ، فمن هذا خطؤه وضلاله في
أصل دينه ومعتقده في ربه وإلهه ، فما الظن بخطئه وضلاله في ألفاظ القرآن ولغة
العرب ، فحقيق بمن هذا مبلغ علمه ونهاية فهمه أن يدعى أن أكثر اللغة مجاز ويأتى
بذلك الهذيان ولكن سنة الله جارية أن يفضح من استهزأ بحزبه وجنده ، وكان الرجل
وشيخه في زمن قوة شوكة المعتزلة ، وكانت الدولة دولة رفض واعتزال ، وكان السلطان
عضد الدولة ابن بويه وله صنف أبو علي «الإيضاح» وكان الوزير اسماعيل بن عباد
معتزليا وقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد معتزليا (وأول) من عرف منه تقسيم الكلام
إلى حقيقة ومجاز هم المعتزلة والجهمية. وهذا الوجه مقدمة بين يدى رد ما في كلامه
باطل ، فإنه يشتمل على حق وباطل.
الوجه
الثاني : إن ما ادعى فيه
إنه مجاز دل على المراد منه مطلقا من غير توقفه على قرينة ، وهذا حد الحقيقة عندهم
، فإن المعنى يسبق إلى الفهم من هذا اللفظ بمجره ولا يصح نفيه ولا يتوقف على قرينة
، فكيف يكون مجازا ، فإن قال بل تركيبه مع المسند إليه واتصاله بالمفعول والحال
والتمييز والتوابع والاستثناء ونحوها من القرائن التي تدل على المعنى ، قيل له :
فلا يخلوا كلام مفيد من هذا التركيب البتة ، أفنقول إن الجميع مجاز أو النصف مجاز
والنصف حقيقة فإن قلت في الجميع مجاز كنت مبطلا رافعا للحقيقة بالكلية ومدع على
خطاب الله ورسوله وخطاب الأمم أنه كله مجاز لا حقيقة ، ويكفيك هذا جهلا وكذبا.
وإن قلت : بل
البعض حقيقة والبعض مجاز قيل لك : فما ضابط ذلك ولا يمكنك أن تأتي بضابط أبدا ،
وقد أغلقت على نفسك باب الحقيقة بالكلية ، فإن كل لفظ تقر بأنه حقيقة يلزمك فيه
نظير ما ادعيت انه مجاز ، ولا شيء أبلغ من خلق الله تعالى وعلم الله ، والله خالق
كل شيء ، وقد ادعيت أنه مجاز لا حقيقة ولا شيء أظهر من طلوع الشمس على الخلائق
عيانا جهرة ، فإذا رآها
الناس وقالوا طلعت
الشمس ، كان هذا عندك مجازا على أن الشمس لم يحصل منها جميع أفراد طلوع الماضى
والحاضر والآتي في آن واحد ، وذلك عندك هو الحقيقة ، فإذا كان هذا كله مجازا عندك
فما الظن بغير ذلك من الألفاظ.
الوجه
الثالث : إن الفعل لا عموم
له ولا دلالة له علي وحدة ولا كثرة ولا عموم ولا خصوص ، بل هو دال على القدر
المشترك من ذلك كله وهو مطلق الحقيقة ، فإذا أرادوا تقييده بشيء ، من ذلك أتوا بما
يدل على مرادهم ، فيأتون في المرأة بتاء التأنيث نحو ضربت ، وفي المرأتين بلفظ
التثنية ، وفي الجمع بما يدل على ذلك ، والجمع حقيقة ، فدعواك إن ضربت موضوع لجميع
أفراد الضرب الموهومة التي لا تدخل تحت الحصر ، كذب على اللغة ، فإن العرب لم تضع
الفعل كذلك البتة ولا أفادته به ولا دلت عليه ، وإنما وضعت الفعل بالإخبار عن فعل
صدر عن الفاعل أو يصدر منه أو يطلبه ، يوضحه :
الوجه
الرابع : إن دلالة الماضى
والمضارع والأمر على المصدر واحدة ، فلو كان (ضربت) موضوعا لجميع أفراد الضرب كلها
من أولها إلى آخرها لكان الضرب كذلك فيكون موضوعة لفظة اضرب أوقع كل فرد من أفراد
الضرب كلها من أولها إلي آخرها الموهومة في جميع الماضى والحاضر والمستقبل إلى ما
لا نهاية له ، وأى فرية على اللغة وأوضاعها أعظم من ذلك؟ وهذا أمر يقطع العاقل بأن
هذا لم يخطر على بال المتكلم ولا السامع ، ولا قصده الواضع أصلا ، ومن نسب الأمر
به إلى ذلك فقد نسبه إلى أعظم الجهل وإلي العجز عن التكلم بالحقيقة ، فإنه لا سبيل
له عند هذا القائل إلى التخلص من المجاز المتكلم بالحقيقة البتة ، فإن غاية ما
يقدر أن يقال أوقع فردا من أفراد الضرب على جزء من المضروب ، ومع هذا فلم يخلص عنده
لأن أوقع فعل وهو دال عنده على جميع أنواع الإيقاع في الماضى والحاضر والأمر.
يوضحه :
الوجه
الخامس : إن هذا يستلزم
تعجيز الخالق عن التكلم بالحقيقة أمرا أو خبرا ، فإن أوامره سبحانه كلها بالأفعال
، وإخباره عن نفسه وخلقه عامة بالأفعال ، وقد صرح هذا بأنها مجاز ، فقد عجز الله
بأن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه
أو عن أحد من خلقه
بلفظ حقيقة ، فإن قوله : / أقيموا الصلاة / واتقوا الله / وآمنوا / واسمعوا /
وجاهدوا / واصبروا / واذكروا الله / وارهبون / واخشون / وادعونى / وأمثال ذلك
عندهم مجاز فلو أراد أن يأمر بلفظ الحقيقة أو يخبر عن نفسه أو عن فعله أو عن فعل
خلقه بها ، ما ذا يقول سبحانه حتى يكون متكلما بالحقيقة ، وكذلك قوله لرسوله صلىاللهعليهوسلم (قُلْ هُوَ اللهُ
أَحَدٌ) ، و (قُلْ يا أَيُّهَا
الْكافِرُونَ) ، و (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
الْفَلَقِ) وأضعاف ذلك كله مجاز ، كذلك في جانب الخبر نحو / وإذ قال
ربك للملائكة / وقالت الملائكة / وعلم آدم الأسماء كلها / وقوله : (إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ) وأكثر من مائة ألف فعل ومائة ألف خبر فإذا (كانت) هذه
مجازا عندك فكيف يصنع من (أراد أن) يتكلم بالحقيقة.
الوجه
السادس : قوله ويدل على
انتظامه لجميع جنس المصدر أنك تعلمه في جميع أجزاء ذلك الفعل نحو (قمت) قومة
وقومتين ومائة قومة ، وقياما حسنا وقبيحا.
وهذا من أعظم ما
يبطل قوله ، فإن العرب وضعته مطلقا غير عام بل صالحا للعمل في الواحد والاثنين ،
والكثير والقليل ، وهو في كل ذلك حقيقة لم يخرج عن موضوعه ويستعمل في غيره ،
والعجب إنك صرحت في آخر كلامك بأنه موضوع لصلاحيته لذلك كله ، فدل على أنه ليس
بموضوع للعموم فبطل قولك إنه موضوع لجميع الجنس بقولك إنه موضوع لأن يكون صالحا
للواحد والقليل والكثير ، وهذا هو الحق وهو ينفى المجاز ويبين إنه حقيقة في الجميع
، وهذا الذي يعقله بنو آدم.
وأما استدلالك على
ذلك بإعمال الفعل فيه فمن أعجب العجب فإنه يعمل في المرة الواحدة والمرتين والمرات
والمطلق والعام ، فإن كان أعماله في العام نحو يظنان كل الظن ، وبابه دليل على أنه
موضوع له ، فهل كان إعماله في الخاص دليلا على أنه موضوع له ، فما خرج عن موضوعه
حيث أعمل ، وهذا ظاهر بحمد الله.
الوجه
السابع : قول أبي علي إن
قام زيد بمنزلة خرجت فإذا الأسد ، تعريفه هنا تعريف جنس ، كقولك الأسد أشد من
الذئب ، وإنك لا تريد خرجت وجميع الأسد التى يتناولها الوهم على الباب وإنما فإذا
واحد من هذا الجنس بالباب ، فوضعت لفظ الجماعة على الواحد مجازا.
خطأ منه ووهم ظاهر
ينقض آخر كلامه فيه أوله ، فإنه صرح أولا بأن التعريف المذكور هنا تعريف الجنس
وهذا حق ، فإن التعريف ثلاثة أنواع : تعريف الشخص ، وتعريف الجنس وتعريف العموم ،
وليس المراد تعريف الشخص ولا تعريف العام قطعا ، وكل واحد من هذه الأنواع حقيقة
فيما استعمل فيه ، وليس لفظ الأسد في قولك خرجت فإذا الأسد لفظ جماعة وضع على
الواحد حتى يكون مجازا ، فإن اسم الجنس المعرف باللام لم يوضع للجماعة حتى يكون
استعماله في الواحد المطلق مجازا ، ولو كان استعماله في التعريف المطلق مجازا لكان
استعماله في التعريف الشخصي أولى بالمجاز لأنه أبعد عن العموم من تعريف الجنس ،
فيكون كل اسم معروف باللام التي للعهد وللجنس مجازا ، وهذا لا يقوله من يدري ما
يقول. يوضحه :
الوجه
الثامن : إن هذا قلب
للحقائق ، فإن الأصل في اللام أن تفيد تعريف الماهية فالعهد بها أولى من الجنس
لكمال التعريف به ، والجنس أولى بها من العموم لأنها تفيد الماهية الذهنية ، فهي
في الحقيقة للعهد الذهنى ، فإنه نوعان :
شخصي وجنسي ،
فالقائل اشتر اللحم واستق الماء يريد باللام تعريف الجنس المعهود بينه وبين المخاطب
؛ كما أن القائل إذا قال : قال الرجل : ودخلت البيت يريد تعريف الشخص المعهود بينه
وبين المخاطب ، فمن ادعى أنهم نقلوا هذا اللفظ من الجمع إلى الواحد فهو مخطئ يوضحه
:
الوجه
التاسع : وهو أن أكثر الناس
لا يرون المفرد المعرف باللام من ألفاظ العموم بحال ، وإنما يثبتون العموم للجمع
المعرف باللام سواء كان جمع قلة نحو المسلمين والمسلمات أو جمع كثرة نحو الرجال
والعباد ، فالأسد بمنزلة
الرجل وإذا كان
ليس من ألفاظ العموم فلم يوضع في غير موضعه ، ولا استعمل إلا في موضوعه ، ومن
يجعله للعموم من أهل الأصول والفقهاء يقولون إنما يكون للعموم حيث يصلح أن تخلف
اللام فيه كل نحو قوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ
لَفِي خُسْرٍ) (العصر : ٢) ،
ونحو قوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ
خُلِقَ هَلُوعاً) (المعارج : ١٩) ،
ولهذا صح الاستثناء منه ، وذلك حيث لا يكون عهد القرينة والسياق دالا على إرادة جميع
أفراد الجنس ، وهذا منتف في قوله : خرجت فإذا الأسد ، فهو إنما يدل على العموم
بقرينة ، كما يدل على العهد بقرينة ، فدعوى المجاز في بعض موارده دون بعض تحكم
بارد لا معنى له ، ودعوى المجاز في جميعها باطل ، فلم يبق إلا أنه حقيقة حيث
استعمل وهو الصواب.
الوجه
العاشر : قوله : (خرجت فإذا
الأسد) اتساع وتوكيد وتشبيه ، أما الاتساع فإنه وضع اللفظة المعتادة للجماعة على
الواحد ، وأما التوكيد فلأنه عظم قدر (ذلك) الواحد بأن جاء باللفظة على اللفظ
المعتاد للجماعة. وأما التشبيه فلأنه شبه الواحد بالجماعة.
ثم قال : وإذا كان
كذلك فمثله قعد جعفر وانطلق محمد ، وجاء الليل وانصرم النهار ـ خطأ من وجهين : (أحدهما)
أنه مبني على أن الأسد دل على الجمع ؛ وأنه تجوز فاستعمله في الواحد ، وقد عرفت ما
فيه ، (الثاني) إنه لو صح له ذلك لم يكن قعد جعفر ، وانطلق محمد ، وجاء
الليل مثله ، فإن هذه الأفعال لا تدل على قعود وانطلاق ومجيء عام لكل فرد البتة ؛
بحيث يكون استعمالها فيمن وجد منه بعض ذلك الجنس مجازا ، فليس ثم دلالتان عامة
وخاصة بخلاف الأسد ، فإنه يمكن تقدير دلالته عامة وخاصة له ، فإذا استعمل في
أحدهما يكون استعماله له في غير مدلوله الآخر ، فكيف يمكن مثل ذلك في الأفعال؟ فهل
يعقل ذو تحصيل لقام وقعد وانطلق دلالتين قط عامة وخاصة ، وليس العجب من تسويد
الورق بهذا الهذيان. وإنما العجب من أذهان تقبله وتستحسنه.
الوجه
الحادي عشر : قوله وكذلك أفعال القديم نحو : خلق الله السموات والأرض وما كان مثله.
(فيقال) الله أكبر
كبيرا. وسبحان الله عما يقوله الجاحدون لخلقه وربوبيته ، وتعالى علوا كبيرا ، وقبح
الله قولا يتضمن أن يكون خالقا مجازا لا حقيقة ، وأن يكون خلق الله السموات والأرض
مجازا لا حقيقة ، ومن هنا قال السلف الذين بلغتهم مقالة هؤلاء أنهم شر قولا من
اليهود والنصارى ، وقالوا إنا لنحكي كلام اليهود والنصارى ، ولا نستطيع أن نحكى
كلام هؤلاء. وقالوا إنهم مليشون معطلون نافون للمعبود عزوجل ، «مليشون» أى يصفونه بصفة لا شيء.
الوجه
الثاني عشر : إن المجاز لا بد أن يكون له استعمال في الحقيقة أو وضع سابق وإن لم يستعمل عند
القائلين به ، فيكون للفظ جهتان (جهة) حقيقة (وجهة) مجاز كالأسد والحمار ونحو ذلك
يتجوز به من حقيقته التي وضع لها أولا إلى مجازه الذي استعمل فيه ثانيا لعلاقة
بينهما. فأين سبق لقولنا خلق الله السموات والأرض ، وعلم الله ما تكسب كل نفس
استعماله في غير هذا المفهوم ليكون إطلاقه عليه بطريق المجاز ؛ فلم يستعمل خلق إلا
في موضوعه الأصلي ولا اسم الله إلا في موضوعه ، ولا السموات والأرض إلا في
موضوعاتهما ، فإما أن يكون هذا القائل يرى المجاز (في النسبة) كما يختاره جماعة من
الناس ، أو ليس ممن يرى المجاز في النسبة فإن لم ير في النسبة مجازا ، فالمفردات
مستعملة في موضوعاتها ولا مجاز في النسبة فكيف يكون خلق الله مجازا. أو إن كان ممن
يرى المجاز في النسبة ، كأنبت الماء البقل ، فأضاف الإنبات إلى الماء وليس له في
الحقيقة فهذه النسبة في قولنا خلق الله أصدق (النسب) الحقيقية التي إن كانت مجازا
لم يتصور أن يكون في الكلام نسبة حقيقة البتة. لا في القديم ولا في الحديث. وهذا
من أعظم الضلال.
الوجه
الثالث عشر : إنه ليس في المعلومات أظهر من كون الله خالقا ولهذا أقرت به جميع الأمم ،
مؤمنهم وكافرهم. ولظهور ذلك وكون العلم به بديهيا
فطريا احتج الله
به على من أشرك به في عبادته فقال : (وَلَئِنْ
سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) في غير موضع من كتابه فعلم أن كونه سبحانه خالقا من أظهر
شيء عند العقول فكيف يكون الخبر عنه بذلك مجازا وهو أصل كل حقيقة ؛ فجميع الحقائق
تنتهي إلى خلقه وإيجاده ، فهو الذي خلق وهو الذي علم كما قال تعالى : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي
خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ،
الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم : ١ ـ ٥)
فجميع الموجودات انتهت إلى خلقه وتعليمه. فكيف يكون كونه خالقا عالما مجازا؟ وإذا
كان كونه خالقا عالما مجازا لم يبق له فعل حقيقة ولا اسم حقيقة ، فصارت أفعاله
كلها مجازات ، وأسماؤه الحسنى كلها مجازات .
الوجه
الخامس عشر : قوله : ألا ترى أنه لم يكن منه بذلك خلق أفعالنا. لو كان خالقا حقيقة لا محالة
لكان خالقا للكفر والعدوان وغيرها من أفعالنا.
كلام باطل على أصل
أصحابه القدرية وعلى أصل أهل السنة ، بل على أصول جميع الطوائف فإن جميع أهل
الإسلام متفقون على أن الله خالق حقيقة لا مجازا بل وعباد الأصنام وجميع الملل.
وأما إخوانه القدرية فإنهم قالوا أنه غير خالق لأفعال الحيوان الاختيارية فإنه لا
يقول أحد منهم أنه خالق السموات والأرض وما بينهما مجازا لكونه غير خالق لأفعال
الحيوان فإنها لم تدخل تحت قوله : (خَلَقَ اللهُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (العنكبوت : ٤٤)
بل لم تدخل عندهم تحت قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) (الرعد : ١٦) وإن
دخلت تحت هذا اللفظ فهو عندهم عام مخصوص بالعقل نحو قوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (النمل : ٢٣) ، و (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) (الأحقاف : ٢٥)
فإن ادعوا المجاز فهم يدعونه في مثل هذا لكونه عاما مخصوصا وأما نحو قوله : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فلم يقل أحد قط أنه مجاز قبل ابن جنى بناء على ما أصله
__________________
من الأصل الفاسد :
أن الفعل موضوع لجميع أفراد المصدر ؛ فإذا استعمل في بعضها كان مجازا.
الوجه
السادس عشر : أنه أثبت المجاز بإنكار عموم قدرة الله تعالى ومشيئته للكائنات ، إثبات عدة
خالقين معه فكان دليلة أخبث من الحكم المستدل عليه ، وقد اتفقت الرسل صلوات الله
وسلامه عليهم أجمعين وجميع كتب الله المنزلة على إثبات القدر ، وأن الله تعالى على
كل شيء قدير وأنه خالق كل شيء ، وأنه بكل شيء عليم ، وأنه كتب في الذكر كل شيء ،
وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا يكون في ملكه ما لا يشاء ، وأنه لو
شاء لما عصاه حد ، ولو شاء لآمن من في الأرض كلهم ، وأنه أعان أهل طاعته بما لم
يعن به أهل معصيته ، ووفق أهل الإيمان لما لم يوفق له أهل الكفر ، وأنه هو الذي
جعل المسلم مسلما ، وأنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء.
وبالجملة فلا يخرج
حادث من الأعيان والأفعال عن قدرته وخلقه كما لا يخرج عن علمه ومشيئته. هذا دين
جميع المرسلين ، فاستدل هذا القائل على أن خلق الله السموات والأرض مجاز بإنكار
ذلك ودفعه وإخراج أشرف ما في ملكه عن قدرته وهو طاعات أنبيائه ورسله وأوليائه
وملائكته ، فلم يجعله قادرا عليها ولا خالقا لها ، وكان سلفه الأولون يقولون لا
يعلمها قبل كونها ، فانظر إلى إثبات المجاز ما ذا جنى على أهله ، وإلى أين ساقهم ،
وما ذا قدم من معاقل الإيمان ، وأعجب من هذا الحكم ودليله :
والوجه
السابع عشر : قوله : وكذلك علم الله قيام زيد مجاز أيضا لأنه ليست الحال التى علم الله
عليها قيام زيد هي الحالة التي علم عليها قعود عمر.
يريد أنه ليس لله
علم في الحقيقة كما صرح به بقوله : ولسنا نثبت لله سبحانه علما لأنه عالم بنفسه ،
وهذه مسألة إنكار صفات الرب سبحانه وأنه لا علم له ولا قدرة ولا سمع ولا بصر ولا
حياة ولا إرادة فلا يقولون عالم بعلم ولا قادر بقدرة ولا سميع بسمع ، ويقولون يعلم
ويسمع ويقدر بلا علم ولا قدرة ولا
سمع ، وإذا كان
كذلك فكان قولنا علم الله قيام زيد مجازا عندهم إذ لا علم له وعلمه فعل يدل على
المصدر والصفة وليس في نفس الأمر عندهم لله علم ولا قدرة فجاء المجاز وانتفت
الحقيقة.
فيقال لهم : قولكم
أن الحال التي علم الله عليها قيام زيد ليست هي الحال التي علم عليها قيام عمر ،
هذه الحال أمر وجودي أم عدمي ؛ فإن كانت عدمية فهي لا شيء كاسمها ، وإن كانت
وجودية فإما أن تقوم بالعالم أو المعلوم أو بنفسها ، وقيامها بنفسها محال لأنها
معنى ، وقيامها أيضا بالمعلوم محال لأنها لو قامت منه لكان هو العالم المدرك فتعين
قيامها بالعالم ، هذه هى صفة العلم التي أنكرتموها ، وهذا مما لا سبيل لكم إلى
دفعه ؛ ولهذا لما أقر به ابن سينا ألزمه ابن الخطيب بثبوت الصفات إلزاما لا محيد
له عنه ، فجاء ثور طوس وعلم أن ذلك يلزمه ففر إليه ما أضحك منه العقلاء وقال :
أقول إن العلم هو نفس المعلوم ، فأعجب من ضلال هؤلاء القوم وفساد عقولهم أيكون
الضارب هو نفس المضروب والشاتم نفس المشتوم ؛ والذابح هو نفس المذبوح ؛ والناكح هو
نفس المنكوح؟ هذا أشد مناقضة للعقول من قول من قال الخالق نفس المخلوق ، فهؤلاء
جعلوا الفعل هو عين المفعول ؛ ولم يثبتوا للفاعل فعلا يقوم به ؛ وهذا جعل العلم
نفس المعلوم ؛ لم يجعل للعالم علما يقوم به.
الوجه
الثامن عشر : قولك : وكذلك أيضا ضربت عمر مجاز من غير جهة التجوز في الفعل وإنك إنما فعلت
بعض الضرب لا جميعه ولكن من جهة أخرى وهى أنك إنما ضربت بعضه لا جميعه.
فيقال : الأمر ،
إن كان كذلك فإن العرب لم تضع لفظة ضربت زيدا لغير هذا المعنى ثم نقلته إلى غيره
حتى يكون مجازا فيه ؛ بل لم تضعه ولم تستعمله قط إلا فيما يفهم منه كل أحد ؛ فدعوى
أن ذلك مجاز كذب ظاهر على اللغة ، فلو أنهم وضعوا ضربت زيدا لوقوع الضرب على جميع
أجزائه الظاهرة والباطنة ثم نقلوه إلى استعماله في إيقاعه على جزء من أجزاء بدنه
أمكن أن يكون مجازا
فيه ؛ بل استعماله
في هذا المفهوم لا يختص باللغة العربية بل جميع الأمم على اختلاف لغاتها لا يريدون
غير هذا المفهوم فدعوى أن الحقيقة التي وضع لها اللفظ تخالف ذلك دعوى كاذبة ، بل
حقيقة هذا اللفظ التى وضع واستعمل في كل لسان هى إمساس بعض المضروب بآلة الضرب ؛
لا يعرف له حقيقة غير ذلك البتة.
(اختلاف الأفعال بحسب متعلقها)
الوجه
التاسع عشر : أن الأفعال تختلف محالها ومتعلقاتها فمنها ما يكون الفعل فيه شاملا لجميع
أجزاء المفعول ظاهره وباطنه كقولك خلق الله زيدا وأوجده وكونه وأحدثه ، ومنها ما
يقع الفعل فيه على ظاهر المحل دون باطنه كقولك اغتسل زيد ، ومنها : ما يقع باطنه
دون ظاهره نحو : فرح زيد ، ورضي ، وغضب ، وأحب ، وأبغض ، ومنها : ما يقع على بعض
جوارحه نحو : قام ، وتكلم ، وأحدث ، وأبصر ، وجامع ، وقبّل وخالط ، وكتب ، فينسب
الفعل في ذلك كله إلى جملته وهو حاصل ببعض أعضائه ، ومن قال أن كل ذلك مجاز جاهر
بالبهت والكذب ، فإن العرب لم تضع هذه الألفاظ قط لغير معانيها المفهومة منها ولم
تنقلها عن موضعها إلى غيره.
ونظير هذا أن
الصفات تجري على موصوفاتها حقيقة فمنها ما يكون لباطنه دون ظاهره كعالم وعاقل ومحب
ومبغض وحسود ونحو ذلك ، ومنها : ما يكون صفة للظاهر دون الباطن كأسود ، وأبيض ،
وأحمر ، وطويل ، وقصير ، ومنها ما يعم الظاهر كله لهذه الصفات ، ومنها : ما يخص
بعضه كأعرج ، وأحدب ، وأشهل ، وأقرع ، وأخرس ، وأعمى ، وأصم ، وكذلك أسماء
الفاعلين منها : ما يعم جميع الذات كالمسافر ومنتقل ، ومنها : ما يخص بعض الذات
ككاتب وصانع ، والفعل صادق في ذلك كله واسم الفعل حقيقة لا مجاز باتفاق العقلاء ،
ولم يشترط أحد في وجود النسبة حقيقة أن يصدر الفعل عن اليد والرجل وجميع الأجزاء
الظاهرة والباطنة وهذا كما أنه لا يشترط في الفاعل فلا
يشترط في المفعول
أن يعم الفعل أجزاءه جميعا ؛ بل من الأفعال ما يعم جميع المفعول نحو أكلت الرغيف ،
ومنها : ما يختصر بجزء من أجزائه نحو قطعت الخشب والعمامة إذا أوقعت القطع في
وسطها أو جزء منها ، ولو حاول إنسان في ذلك لكونه مجازا وقال ما قطع الخشبة ولا
العمامة لعد كاذبا ، ولما قال الله تعالى لموسى : (اضْرِبْ بِعَصاكَ
الْبَحْرَ) (الشعراء : ٦٣) لم
يفهم موسى أن حقيقة ذلك ضرب جميع أجزاء البحر بعصاه بل الذي امتثله هو حقيقة الضرب
المأمور به ، وعندهم أن هذا مجاز من جهة الضرب ومن جهة العصا ومن جهة المضروب ،
وطريق التخلص إلى الحقيقة عندهم في مثل هذا أن يأتي كلام في غاية الغي والاستكراه
تعالى الله عنه علوا كبيرا ؛ فيقول : أوقع فردا من أفراد الضرب بجزء من أجزاء (عصاك
على جزء من أجزاء) البحر ؛ فهذه السماجة والغثاثة عندهم هي الحقيقة ـ وتلك الفصاحة
والبلاغة عندهم هي المجاز.
وقد زعم بعض
المتحذلقين أن قولك : جاء زيد ، وكلمت زيدا ، ونحوه مجاز من وجه آخر وهو : أن زيدا
اسم لهذا الموجود وهو من وقت الولادة إلى الآن قد ذهبت أجزاؤه واستخلف غيرها فإنه
لا يزال في تحلل واستخلاف فليس زيد الآن هو الموجود وقت التسمية فقد أطلق الاسم
على غير ما وضع له اللفظ أولا ، وأثبت هذا المتحذلق المجاز في الإعلام بهذه
الطرائف ؛ وعلى هذا التقدير فيكون محمد رسول الله مجازا أيضا من هذا الوجه ، ويكون
كل اسم لمسمى من بنى آدم مجازا ولا يتصور أن يكون حقيقة البتة ؛ وكفى بهذا القول
سخفا وحمقا.
وتكايس بعضهم
وأجاب عنه بأن قال : زيد اسم للنفس الناطقة وهى لا تتحلل ولا تتغير بل هي ثابتة من
حين الولادة إلى حين الموت ، فلزمه ما هو أعظم من ذلك ، وهو أن يكون رأيت زيدا
وضربت زيدا أو مرض زيد وأكل وشرب وركب وقام وقعد كله مجاز فإن الرؤية إنما وقعت
على البدن لا على النفس وكذلك الضرب وبقية الأفعال.
والمقصود أن جعل
ذلك كله مجازا خبط محض فإنه لا حقيقة للفظ سوى ذلك ولا يعرف له حقيقة خرج عنها إلى
هذا الاستعمال حتى تصح دعوى
المجاز فيه ، بل
هكذا وضع ، وهكذا استعملته العرب ، وجميع الأمم على اختلاف لغاتها ، وليس لها
عندهم مفهوم حقيقي ومفهوم مجازي ، وأما كون أجزاء البدن في التحلل والاستخلاف فذاك
أمر طبيعى لا تعلق له بالحقيقة والمجاز ، وإنما فسدت (العلوم) لما دخل فيها مثل
هذه الهذيانات.
الوجه
العشرون : قوله : إذا عرفت
التوكيد ولم وقع في الكلام نحو نفسه وعينه وأجمع وكله وكليهما عرفت منه حال سعة
المجاز في الكلام.
فيقال له : ليس
ذلك من أجل المجاز ؛ كما أن التوليد الذي يلحق الكلام من أوله بأن وبالقسم بلام ،
والابتداء ـ ليس لرفع المجاز نحو : (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ
رَحِيمٌ) (البقرة : ١٧٣)
ولأنت تفري ما خلقت (تَاللهِ لَقَدْ
أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ) (النحل : ٦٣)
وإنما هو الاعتناء به وتقويته في قلب السامع وتثبيت مضمونه وكذلك ما يلحقه في آخره
من التأكيد بالنفس والعين وكل وأجمع ، كقوله تعالى : (فَسَجَدَ
الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) (الحجر : ٣٠) فإن
اللفظ بمجموعه دال على نسبة الفعل إلى كل فرد من أفراد الملائكة ، هذا حقيقته ،
وتكون دلالته على المجموع كدلالة المقيد ببعض على ما قيد به ، ونحو قوله : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً
نِصْفَهُ) (المزمل : ٢ ، ٣)
فهذا حقيقة في الجميع ؛ وهذا حقيقة في النصف ، فإن أطلق حمل على ما يدل عليه اللفظ
من عموم أو الإطلاق أو عهد (فالأول) كقوله : (يَوْمَ يَقُومُ
النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (المطففين : ٦) ،
وقوله : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ
النَّاسِ) (الناس : ١) ، (الثاني) كقوله : (الَّذِينَ قالَ
لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) (آل عمران : ١٧٣)
، وقوله : (تَنَزَّلُ
الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) (القدر : ٤) ،
وقوله : (يَوْمَ يَرَوْنَ
الْمَلائِكَةَ) (الفرقان : ٢٢) ، (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ
مَلَكٌ) ، (الثالث)
كقوله : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى
الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (الأنفال : ١٢)
فهؤلاء ملائكة معينون وهم الذين أنزلهم الله تعالى يوم بدر للقتال مع
المؤمنين ، واللفظ
حقيقة في كل موضع من هذه المواضع مؤكدها ومجردها ، وعلمها ومطلقها ، فيأتي المتكلم
باللفظ المطابق للمعنى الذي يريده ، ولو أتى بغيره لم يكن قاصدا لكمال البيان ،
فقد ظهر لك أن وقوع التوكيد في هذه اللغة أقوى دليل على الحقيقة وقصدها عند
الإتيان به وعند حذفه بحسب غرض المتكلم.
الوجه
الحادى والعشرون : قوله : (وكذلك أيضا حذف المضاف مجاز ، وقد كثر ، حتى إن في القرآن الذي هو
أفصح الكلام منه أكثر من ثلاثمائة موضع) جوابه من وجهين (أحدهما) أن أكثر المواضع التي ادعى فيها الحذف في القرآن لا يلزم
فيها الحذف ولا دليل على صحة دعواه كقوله : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ
أَهْلَكْناها) (الأعراف : ٤) ، (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ
أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨) ،
إلى أمثال ذلك ، فادعى أهل المجاز أن ذلك كله من مجاز الحذف ؛ وأن التقدير في ذلك
كله أهل القرية ؛ وهذا غير لازم ؛ فإن القرية اسم للقوم المجتمعين في مكان واحد ،
فإذا نسب إلى القرية فعل أو حكم عليها بحكم أو أخبر عنها بخبر كان في الكلام ما
يدل على إرادة المتكلم من نسبة ذلك إلى الساكن أو المسكن ، أو هو حقيقة في هذا
وهذا ، وليس ذلك من باب الاشتراك اللفظي ، بل القرية موضوعة للجماعة الساكنين
بمكان واحد ، فإذا أطلقت تناولت الساكن والمسكن ، وإذا قيدت بتركيب خاص واستعمال
خاص كانت فيما قيدت به ، فقوله تعالى : (ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً
قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً) (النحل : ١١٢)
حقيقة في الساكن.
وكذلك لفظة القرية
في عامة القرآن إنما يراد بها الساكن فتأمله ، وقد يراد بها المسكن خاصة ؛ فيكون
في السياق ما يعينه كقوله تعالى : (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ
عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها) (البقرة : ٢٥٩) أي
ساقطة على سقوفها ، وهذا التركيب يعطى المراد فدعوى أن هذا حقيقة القرية ، وأن
قوله : (وَكَأَيِّنْ
مِنْ
قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ) (الطلاق : ٨)
ونحوه مجاز تحكم بارد لا معنى له وهو بالضد أولى إذ قد اطرد استعمال القرية إلى
الساكن ، وحقيقة الأمر أن اللفظة موضوعة للساكن باعتبار المسكن ؛ ثم قد يقصد هذا
دون هذا ، وقد يرادان معا فلا مجاز هاهنا ولا حذف وتخلصت بهذا من ادعاء الحذف فيما
شاء الله من المواضع التي زعم أنها تزيد على ثلاثمائة.
الوجه
الثاني : إن هذا الحذف الذي
يزعمه هؤلاء ليس بحذف في الحقيقة فإن قوة الكلام تعطيه ولو صرح المتكلم بذكره كان
عيا وتطويلا مخلا بالفصاحة كقوله : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى
رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى) (الحشر : ٧) قالوا
هذا مجاز تقديره : ما أفاء الله من أموال القرى ، وهذا غلط وليس بمجاز ، ولا يحتاج
إلى هذا التقدير والمعنى مفهوم بدون هذا التقدير. فالقائل اتصل إلى من فلان ألف ،
يصح كلامه لفظا ومعنى بدون تقدير. فإن (من) للابتداء في الغاية ، فابتداء الحصول
من المجرور بمن ، وكذلك في الآية.
(يوضحه) أن
التقدير إنما يتعين حيث لا يصح الكلام بدونه ، فأما إذا استقام الكلام بدون
التقدير من غير استكراه ولا إخلال بالفصاحة كل التقدير غير مفيد ولا يحتاج إليه ،
وهو على خلاف الأصل فالحذف المتعين تقديره كقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ
اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ. وَأَنَّ اللهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ) (النور : ١٠) ،
وقوله : (وَلَوْ أَنَّ
قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ
بِهِ الْمَوْتى) (الرعد : ٣١) ونحو
ذلك.
وأما نحو قوله : (فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ
بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ) (الشعراء : ٦٣).
فليس هناك تقدير
أصلا إذ الكلام مستغن بنفسه غير محتاج إلى تقدير ؛ فإن الّذي يدعى تقدير قد دل
اللفظ عليه باللزوم ، فكأنه مذكور لأن اللفظ يدل بلازمه كما يدل بحروفه ، ولا يقال
لما دل عليه دلالة التزام أنه محذوف. فتأمله فإنه منشأ غلط هؤلاء في كثير مما يدعون
فيه الحذف.
نعم هاهنا قسم آخر
مما يدعى فيه حذف المضاف وتقديره كقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) أى أمره (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) (البقرة : ٢١٠) أي
أمره وقوله : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ) (النحل : ٢٦) أي
أمره ، وقوله صلىاللهعليهوسلم : «ينزل
ربنا كل ليلة» وأمثال ذلك. فهذا قد ادعى تقدير المضاف فيه ، ولكن دعوة
مجردة مستندة إلي قاعدة من قواعد التعطيل ، وهي إنكار أفعال الرب تعالى ، وأنه لا
يقوم به فعل البتة ، بل هو فاعل بلا فعل ، وأما من أثبت أن الرب فاعل حقيقة ، وأنه
يستحيل أن يكون فاعلا بلا فعل ، ويستحيل أن يكون الفعل عين المفعول ، بل هي حقائق
معتبرة فاعل وفعل ومفعول. هذا هو المفعول في فطر بنى آدم فإنه لا يحتاج إلى هذا
التقدير ولا يجوزه ، فإن حذفه يكون من باب التلبيس ويرفع الوثوق بكلام المتكلم ،
ويوقع التحريف ، فإنه لا يشاء أحد أن يقدر مضافا يخرج به الكلام عن مقتضاه إلا فعل
، وارتفع الوثوق والفهم والتفهيم فيقدر الملحد في قوله تعالى : (وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي
الْقُبُورِ) (الحج : ٧) مضافا
تقديره أرواح من في القبور ، وفي قوله تعالى (يُحْيِ الْمَوْتى) (الحج : ٦) ، أي
أرواح الموتى وقوله : (وَلِلَّهِ عَلَى
النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) (آل عمران : ٩٧)
وأمثال ذلك مما يقدر فيه مضاف يخرج الكلام عن ظاهره.
فهذا مما ينبغى
التنبه له ، وأنه ليس كل موضع يقبل تقدير المضاف ، ولا كل ما قبله جاز تقديره حتى
يكون في الكلام ما يدل على التقدير دلالة ظاهرة ، ولا توقع اللبس بحيث لا يجد
السامع بدا من التقدير كما يقول القائل : سافرنا في الثريا أي في نوئها ، وجلسنا
في الشمس ، أي في حرها ، وهذا مما يعلم بالسياق ، فكأنه مذكور لم يفت إلا التلفظ
به. ومثل هذا لا يقال أنه مجاز ، فإن اللفظ بمجموعه دال على المراد ، والمتكلم قد
يختصر ليحفظ كلامه ، وقد يبسط ويطيل ليزيد في الإيضاح والبيان ، والإيجاز
والاختصار ، والإسهاب
__________________
والإطناب طريقان
للمتكلم ، يسلك هذه مرة ، وهذه مرة ، وهذا في كل لغة ؛ فإذا اختصر ودل على المراد
لا يقال تكلم بالمجاز يوضحه :
الوجه
الثاني والعشرون : إن أكثر ما يدعى فيه الحذف لا يحتاج فيه إليه ولا على صحة دعواه دليل سوى
الدعوى المجردة ، فمن أشهر ما يدعى فيه الحذف التحريم والتحليل والمضاف إلى
الأعيان نحو (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) (المائدة : ٣) (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ) (النساء : ٢٣) ، (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) (المائدة : ١)
ونظائره قالوا لأن التحريم الإباحة والكراهة والإيجاب طلب لا يتصور تعلقه بالأعيان
لاستحالة إيجاد المكلف لهما ، وإنما (يتعلق) بالأفعال الواقعة فيها ، فهي التي
توصف بالحل والحرمة والكراهة.
وأما الأعيان فلا
توصف بذلك إلا مجازا ، فإذا قال حرمت الميتة كان التقدير أكلها كما صرح به النبي صلىاللهعليهوسلم «إنما حرم عليكم
من الميتة أكلها» وحرمت الخمر ، أي شربها ، والحرير أي لبسه ، وأمهاتكم أي
نكاحهن ، ولما كان في الكلام محذوف قالت طائفة لا يمكن إضمار كل فعل ، إذ العموم
من عوارض الألفاظ. ودلالة الحذف والإضمار لا عموم لها ، فيكون مجملا.
وقالت
طائفة : بل المقدر
كالملفوظ ، فتارة يكون عاما وتارة يكون خاصا ، وهذا بحسب الفعل المطلوب من تلك
العين. فتحريم ما يشرب تحريم شربه ، وما يؤكل تحريم أكله ، وما يلبس تحريم لبسه ،
وما يركب تحريم ركوبه من غير أن توصف الأعيان بالحل والحرمة.
وقالت
طائفة : هذا ثابت من جهة
اللزوم وإلا فالتحريم والإباحة واقع على نفس الأعيان ويصح وصف الأعيان بذلك حقيقة
باعتبار الألفاظ المطلوبة منها. قالوا : وهذا كما توصف بأنها محبوبة أو مكروهة في
نفسها ، وإنما الحب والكرهة والبغض متعلق بأفعالنا فيها.
__________________
قيل : هذا مكابرة
ظاهرة ، فإنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا محبة بعض الأعيان وبغض بعضها ، ويعلم كل
عاقل صحة قول القائل هذا الشيء محبوب وهذا مكروه ، وذلك حقيقة لا مجاز. فأي عقل
وشرع ولغة يمنع من اتصاف الأعيان أنفسها بكونها مباحة أو محرمة كما توصف بكونها
محبوبة أو مكروهة.
وقول القائل إن
الأعيان لا تدخل تحت الطلب يقال له : هذا من وهمك حيث ظننت أن تحريمها وتحليلها
طلب لإيجادها وعدمها فإن هذا لا يفهمه أحد ولا يخطر ببال السمع أصلا. وإنما يفهم
كونها حلالا أو حراما الإذن في تناوله والمنع منه هذا حقيقة اللفظ وموضوعه وعرف
استعماله والتركيب مرشد إلى فهم المعنى ، ولم يوضع لفظ التحريم والتحليل لإحداث الأعيان
ولا إعدامها ولا استعمل في ذلك ولا فهمه أحد أصلا وإنما حقيقته ما يفهم المخاطب
منه فله وضع. وفيه استعمل. ومنه فهم. فإذا سمع المخاطب : هذه المرأة حرام عليك. لم
يشك في المعنى ولم يتوقف فهمه له على تقدير محذوف وإضمار مضاف. ولم يخطر بباله أن
هذا الكلام مجاز لا حقيقة.
ولما سمع المؤمنون
قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) إلى آخرها لم يقع في قلوبهم أن هذا مجاز ولا خطر ببالهم
غير حقيقته ومفهومه. وهذا كله إنما نشأ من قبل المتولجين المتكلفين ، ألا ترى أن
الذين نزل القرآن بلغتهم لم يختلفوا في ذلك ولم يتكلفوا هذه التقادير. بل كانوا
أفقه من ذلك وأصح أفهاما وأعلى طلبا. وإنما لهج المتأخرون بذلك لما نزلت مرتبتهم
وتقاصرت أفهامهم وعلومهم من علوم أولئك.
وهل سمع عربي قط
ولو من أجلاف العرب قوله تعالى : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهاتُكُمْ) ـ (وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ
ما دُمْتُمْ حُرُماً) ـ (وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ) (النساء : ٢٣ ،
المائدة : ٩٦ ، النساء : ٢٤) ونظائره فأصابهم ما أصاب هؤلاء من البحث عن كون ذلك
حقيقة أو مجازا أو مجملا لا يدرى المراد منه وهل توقف في فهم المراد على إضمار
وحذف ثم فكر وقدر في تعيينه؟ لما قال سبحانه
(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ
الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ) فهم السامع المراد من غير أن يخطر بباله حذف ولا إضمار ،
وكذلك قوله تعالى : (فَإِنَّها
مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) (المائدة : ٢٦)
فإذا ظهر مراد المتكلم وفهم السامع فأي حاجة إلى دعوى محذوف يحكم على المتكلم أنه
أراده ، وأنه لا يصح الكلام بدونه ، يوضحه.
الوجه
الثالث والعشرون : إن الأعيان توصف بكونها طيبة وخبيثة ونافعة وضارة فكذلك توصف بكونها حلالا
وحراما ، إذ الحل والحرمة تبع طيبها وخبيثها وكونها ضارة ونافعة كما قال تعالى : (يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ
وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ) (الأعراف : ١٥٧) ،
ولا بد أن يكون الحلال طيبا في نفسه ، والحرام خبيثا في نفسه ، فوصفه بكونه حلالا
أو حراما جار مجرى وصفه بكونه طيبا أو خبيثا ، ودلالة تحريم العين وتحليلها على
الفعل المتعلق بها من باب دلالة الالتزام.
وقد علمت أن ما
يدل بالالتزام لا يقال فيه أنه محذوف مقدر فالقائل لغيره اصعد السطح قد دله
بالالتزام على الصعود في السلم ولا يقال أن في الكلام مضمرا محذوفا ، وهو بدون
ذكره مجازا ولو كان كذلك لكان كل كلام له لازم لم يذكر معه لازمة مجازا وهذا لا
يقوله من لا يدري ما يقول ، فإن الرجل إذا قال (تعالى) فله لازم وهو قطع المسافات
، وإذا قال (كل) فله لازم وهو تناول المأكول ، وكذلك كل خطاب في الدنيا له لازم
يدل عليه باللزوم ، فافتحوا باب الحذف والإضمار في ذلك كله وقولوا إن الكلام بدون
ذكره مجاز ، وإلا فما الفرق بين ما ادعيتم إضماره وبين ما ذكرناه. فأي فرق بين
اصعد السطح وبين اطبخ اللحم ، واخبز العجين ، وابن الحائط ، فهذا له لوازم وهذا له
لوازم ، والمتكلم لا يجب عليه ذكر اللزوم ، بل ذكرها عي وتطويل.
والوجه
الرابع والعشرون : قوله : وأما قول الله عزوجل (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) فليس هو من باب المجاز بل هو حقيقة.
فيقال له : ما
أسرع ما هدمت جميع ما بنيته ونقضت كل ما أصّلته ، فإنك قدمت في أول الباب أن الفعل
يقتضي جميع أفراد المصدر ، وهذا محال ، فالأفعال عامتها مجاز ، وقدمت أن خلق
السموات والأرض مجاز وعلم الله مجاز ، فما بال (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى) وحده حقيقة من بين سائر الأفعال ، ومن العجب أن يكون خلق
الله السموات والأرض وعلم الله عندك مجازا وهو أظهر للأمم من كل ظاهر (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤)
حقيقة وفيه من أظهر الخلاف والخفاء ما لا يخفى ونحن لا نشك أن الجميع حقيقة ومن
قال أن ذلك أو بعضه مجاز فهو ضال ، ولكن القائلون بأن كلم الله موسى مجاز ، يقولون
أن خلق الله وعلم الله حقيقة وهم الجهمية والكلابية ، وأما القائلون بخلق القرآن
فلهم قولان أكثرهم يقول أنه مجاز. وبعضهم يقول أنه حقيقة ؛ (وكلم الله ويكلم حقيقة
في خلق حروف وأصوات يكون متكلما مكلما ، والمتكلم عندهم حقيقة) من فعل الكلام
عندهم هي الحروف والأصوات ، وأصابوا في ذلك لكن أخطئوا في اعتقادهم أن المتكلم من
فعل الكلام (في غيره ولم يقم به) ، فالكلام عندهم مخلوق ، والرب لم يقم به عندهم
كلام ولا أمر ولا نهي ، وهؤلاء الذين اتفق السلف وأئمة الإسلام على تكفيرهم.
الوجه
الخامس والعشرون : أنهم إذا قالوا المتكلم من فعل الكلام في غيره فصار بذلك متكلما دون المحل
الذي قام به الكلام ، فقد قلبوا أوضاع اللغات ، وخرجوا عن المعقول وعن لغات الأمم
قاطبة ، فإن الله تعالى لو اتصف بما يحدثه في غيره من الأعراض والصفات لكان أسود
بالسواد الذي يخلقه في المحل ، وكذلك إذا خلق في محل بياضا أو حمرة أو طولا أو
قصرا أو حركة كان المحل الذي قامت به هذه الصفات والأعراض هو الموصوف بها حقيقة لا
الخالق لها ، فالصفة إذا قامت بمحل عاد حكمها إلى ذلك لا إلى غيره ، واشتق له منها
اسم لم يشتق لغيره ، وأخطأ القائلون بخلق القرآن في هذه المسائل الأربع وأخلوا
المحل عن حكم الصفة وأعادوه إلى غير من قامت به ، واشتقوا الاسم لمن لم تقم به دون
من قامت به فقلبوا الحقائق.
* * *
فصل
فهذا الكلام في
المجاز على وجه كلي ، ونحن نذكر ما ادعوا فيه المجاز من كلام الله وكلام رسول الله
صلىاللهعليهوسلم على وجه التفصيل. وذلك إنما يتبين بذكر أمثلة ادّعوا فيها
المجاز.
(١) المثال الأول في
: «المجيء»
(المثال الأول)
قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) [الفجر : ٢٢]
وقوله (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ) [الأنعام : ١٥٨].
ونظائره قيل هو من مجاز الحذف تقديره وجاء أمر ربك ، وهذا باطل من وجوه.
(أحدها) أنه إضمار ما لا يدل عليه بمطابقة ولا تضمن ولا لزوم ،
وادعاء حذف ما لا دليل عليه يرجع لوثوقه من الخطاب ، ويطرق كل مبطل على ادعا إضمار
ما يصح باطله.
(الثاني) إن صحة التركيب واستقامة اللفظ لا تتوقف على هذا المحذوف.
بل الكلام مستقيم
تام قائم المعنى بدون إضمار ، فإضماره مجرد خلاف الأصل فلا يجوز.
(الثالث) إنه إذا لم يكن في اللفظ دليل على تعيين المحذوف كان تعيينه
قولا على المتكلم بلا علم ، وإخبارا عنه بإرادة ما لم يقم به دليل على إرادته ،
وذلك كذب عليه.
(الرابع) إن في السياق ما يبطل هذا التقدير ، وهو قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) (الفجر : ٢٢) فعطف
مجيء الملك على مجيئه سبحانه يدل على تغاير المجيئين ، وإن مجيئه سبحانه حقيقة ،
كما أن مجيء الملك حقيقة ، بل مجيء الرب سبحانه أولى أن يكون حقيقة من مجيء الملك
، وكذلك قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨)
ففرق بين إتيان الملائكة الرب وإتيان بعض آيات ربك ، فقسم ونوع ، ومع هذا التقسيم
يمتنع أن يكون القسمان واحدا فتأمله.
ولهذا منع عقلاء
الفلاسفة حمل مثل هذا اللفظ على مجازه ، وقالوا هذا يأباه التقسيم والترديد
والاطراد.
(الخامس) إنه لو صرح بهذا المحذوف المقدر لم يحسن وكان كلاما ركيكا.
فادعاء صديق ما
يكون النطق به مشتركا باطل ، فإنه لو قال : هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو
يأتي ملك ربك أو يأتى أمر ربك أو يأتي بعض آيات ربك كان مستهجنا.
(السادس) إن اطراد نسبة المجيء والإتيان
إليه سبحانه دليل الحقيقة ، وقد صرحتم بأن من علامات الحقيقة الاطراد ، فكيف كان
هذا المطرد مجازا.
(السابع) إنه لو كان المجيء والإتيان مستحيلا عليه لكان كالأكل الشرب
والنوم والغفلة ، وهكذا هو عندكم سواء ، فمتى عهدتم إطلاق الأكل والشرب ، والنوم
والغفلة عليه ونسبتها إليه نسبة مجازية ، وهى متعلقة بغيره؟ وهل في ذلك شيء من
الكمال البتة؟ فإن قوله : (وَجاءَ رَبُّكَ) وأتى ويأتي عندكم في الاستحالة ، مثل نام وأكل وشرب ؛
والله سبحانه لا يطلق على نفسه هذه الأفعال ولا رسوله صلىاللهعليهوسلم لا بقرينة مطلقة فضلا عن تطرد نسبتها إليه ، وقد اطرد نسبة
المجيء والإتيان ، والنزول (والاستواء) إليه مطلقا من غير قرينة تدل علي أن الذي
نسب إليه ذلك غيره من مخلوقاته ، فكيف تسوغ دعوى المجاز فيه.
(الثامن) إن المجاز لو كان ثابتا فإنما يصار إليه عند تعذر الحمل على
الحقيقة إذ هي الأصل ؛ فما الذي أحال حمل ذلك علي حقيقته من عقل أو نقل أو اتفاق
من اتفاقهم حجة؟ فأما النقل والاتفاق فهو من جانب الحقيقة بلا ريب ، وأما العقل
فإنكم تزعمون أنكم أولى به منهم ، وهم قد بطلوا جميع عقلياتكم التي لأجلها ادعيتم
أن نسبة المجيء والإتيان والنزول والاستواء إلى الله مجاز من أكثر من ثلاثمائة وجه
، وقد ذكرناها فيما تقدم فسلم لهم النقل واتفاق السلف ، فكيف والعقل الصريح من
جانبهم كما تقدم تقريره ، فإن من لا يفعل شيئا ولا يتمكن من فعل يقوم به بمنزلة
الجماد.
(التاسع) إن هذا الذي ادعوا حذفه وإضماره يلزمهم فيه كما لزمهم فيما
أنكروه فإنهم إذا قدروا وجاء أمر ربك ويأتى أمره ويجيء أمره وينزل أمره ، فأمره هو
كلامه وهو حقيقة ، فكيف تجيء الصفة وتأتي وتنزل دون موصوفها ، وكيف (ينزل) الأمر
ممن ليس هو فوق سماواته على عرشه.
ولما تفطن بعضهم
لذلك قال : أمره بمعنى مأموره ، فالخلق والرزق بمعنى المرزوق فركب مجازا على مجاز
بزعمه ولم يصنع شيئا ، فإن مأموره هو الذي يكون ويخلق بأمره ، وليس له عندهم أمر
يقوم به ، فلا كلام يقوم به ، وإنما ذلك مجاز الكناية عن سرعة الانفعال بمشيئته
تشبيها بمن يقول : كن ، فيكون الشيء عقيب تكوينه ، فركبوا مجازا على مجاز ولم
يصنعوا شيئا ، فإن هذا المأمور الذي يأتي إن كان ملكا فهو داخل في قوله : (أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) وإن كان شيئا غير الملك فهو آية من آياته فيكون داخلا في
قوله : (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آياتِ رَبِّكَ).
(العاشر) إن ما ادعوه من الحذف والإضمار إما أن يكون في اللفظ وما
يقتضيه ويدل عليه أولا ، فإن كان الثاني لم يجر ادعاؤه ، وإن كان الأول كان
كالملفوظ به ، وعلي التقديرين فلا يكون مجازا ، فإن المدلول عليه يمتنع تقديره.
* * *
فصل
(٢) المثال الثاني في : صفة الرحمة
واسمه تعالى (الرحمن)
(المثال الثاني)
مما ادعوا أنه مجاز اسمه سبحانه (الرحمن) وقالوا وصفه بالرحمة مجاز ، قالوا : لأن
الرأفة والرحمة هي رقة تعتري القلب ، وهى من الكيفيات النفسية ، والله منزه عنها ،
وهذا باطل من وجوه.
(أحدها)
أنهم جحدوا حقيقة
الرحمة فقالوا : إن نسبتها إلى الله تعالى محال ، وأنه ليس برحيم بعباده على الحقيقة
، وقد سبقهم إلى هذا النفي مشركوا
العرب الذين قال
الله فيهم : (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ
اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ) (الفرقان : ٦٠)
فأنكروا حقيقة اسمه الرحمن أن يسمى بذلك ، ولم يكونوا ينكرون ذاته وربوبيته ، ولا
ما يجعله المعطلة معنى اسم الرحمن من الإحسان ، فإن أحدا لم ينكر إحسان الله إلى
خلقه.
فإن قيل : فلو كان
هذا كما ذكرتم لأنكروا اسم الرحيم لأن المعنى واحد.
قيل : إنما لم
ينكروا الرحيم لأن ورود الرحمن في أسمائه أكثر من ورود الرحيم .
ولهذا قال : (الرحمن
على العرش استوى / ثم استوى على العرش الرحمن / إني أخاف أن يمسك عذاب من الرحمن /
رب السموات والأرض وما بينهما الرحمن / الرحمن علم القرآن) (طه : ٥ ، الفرقان : ٥٩
، مريم : ٤٥ ،
__________________
النبأ : ٣٧ ،
الرحمن : ١ ، ٢) وإنما جاء الرحيم مقيدا ، كقوله : (وَكانَ
بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب : ٤٣)
وقوله : (إِنَّهُ بِهِمْ
رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (التوبة : ١١٧) ،
ومقرونا باسم الرحمن كما في «الفاتحة» أو باسم آخر نحو (الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) (السجدة : ٦ ،
الروم : ٥ ، يس : ٥ ، الدخان : ٤٢) وأيضا فالرحمن جاء على بناء فعلان الدال على
الصفة الثابتة اللازمة الكاملة كما يشعر به هذا البناء نحو غضبان وندمان وحيران ،
فالرحمن من صفته الرحمة ، والرحيم من يرحم بالفعل ، وأيضا فلا يخلو إنكارهم لهذا
الاسم إما أن تكون دلالته على حقيقة الرحمة أو لا ، فإن كان الأول فمن أنكر أن
يكون حقيقة فقد وافقهم ، وإن لم يكن كذلك فمن المعلوم أن موضوع الاسم وحقيقته صفة
الرحمة القائمة بموصوفها ، فلو كانت حقيقة الاسم منتفية في نفس الأمر لكان طعنهم
أقوى ، وكان ذلك بمنزلة وصفه بالأكل والشرب والنوم والجور ونحوها مما يليق به ـ
وبالجملة فالذي أنكر أن يكون الله رحمانا على الحقيقة هو (جهم بن صفوان) وشيعته.
قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ
الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي
أَسْمائِهِ) (الأعراف : ١٤٨).
ومن أعظم الإلحاد
في أسمائه إنكار حقائقها ومعانيها والتصريح بأنها مجازات وهو أنواع هذا أحدها
(الثاني) جحدها وإنكارها بالكلية (الثالث) تشبيهه فيها بصفات المخلوقين ومعاني أسمائه ، وإن الثابت له منها
مماثل للثابت بخلقه ، وهذا يذكره المتكلمون في كتبهم ويجعلونها مقالة لبعض الناس ،
وهذه كتب المقالات بين أظهرنا لا نعلم ذلك مقالة لطائفة من الطوائف البتة ، وإنما
المعطلة الجهمية يسمون كل من أثبت صفات الكمال لله تعالى مشبها وممثلا ، ويجعلون
التشبيه لازم قولهم ويجعلون لازم المذهب مذهبا ، ويسرعون في الرد عليهم وتكفيرهم.
والمقصود أن هؤلاء
المعطلة الملحدين في أسماء الرب تعالى هم المشبهون في الحقيقة ؛ لا من أثبت
ألفاظها وحقائقها من غير تمثيل ولا تشبيه ، ولهذا لا يأتي الرد في القرآن على هذه
الفرقة التي انتصب لها هؤلاء ، فإنها فرقة مقدرة في الأذهان ولا وجود لها في
الأعيان وإنما القرآن مملوء من الرد على من شبه
المخلوق بالخالق
في صفات الإلهية حتى عبده من دونه ، لأنه هو الواقع من بني آدم يشبهون أوثانهم
ومعبودهم بالخالق في الإلهية قال تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ
سَمِيًّا) (مريم : ٦٥) أي من
يساميه ويماثله ، وقال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ) وقال : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) (الشورى : ١١)
فنفى عن المخلوق مماثلته ومكافأته ومشابهته ومساماته الذي هو أصل شرك بني آدم فضرب
المتكلمون عن ذلك صفحا وأخذوا في المبالغة في الرد على من شبه الله بخلقه ، ولا
نعلم فرقة من فرق بني آدم استقلت بهذه النحلة وجعلتها مذهبا تذهب إليه حتى ولا
المجسمة المحضة الذين حكى أرباب المقالات مذاهبهم كالهاشمية والكرامية الذين قالوا
إن الله جسم لم يقولوا إنه مماثل للأجسام بل صرحوا بأن معنى كونه جسما أنه قائم
بنفسه موصوف بالصفات ، ومثبتوا الصفات لا ينازعونه ، في المعنى وإن نازعوهم في بعض
المواضع.
(أنواع الإلحاد في أسماءه سبحانه)
الوجه
الثاني : إن الإلحاد إما أن
يكون بإنكار لفظ الاسم أو بإنكار معناه فإن كان إنكار لفظه إلحاد فمن ادعى أن
الرحمن مجاز لا حقيقة فإنه يجوز إطلاق القول بنفيها فلا يستنكف أن يقول ليس
بالرحمن ولا الرحيم كما يصح أن يقال للرجل الشجاع ليس بأسد على الحقيقة ، وإن
قالوا نتأدب في إطلاق هذا النفي فالأدب لا يمنع صحة الإطلاق ، وإن كان الإلحاد هو
إنكار معاني اسمائه وحقائقها فقد أنكرتم معانيها التي تدل عليها بإطلاقها ، وما
صرفتموه إليه من المجاز فنقيض معناه أو لازم من لوازم معناها ، وليس هو الحقيقة ،
ولهذا يصرح غلاتهم بإنكار معانيها بالكلية ، ويقولون هي ألفاظ لا معاني لها.
الوجه
الثالث : إن هذا الحامل لكم
على دعوى المجاز في اسم (الرحمن) هو بعينه موجود في اسم العليم ، والقدير ،
والسميع ، والبصير ، وسائر الأسماء فإن المعقول من العلم صفة عرضية تقوم بالقلب
إما ضرورية وإما نظرية ، والمعقول من الإرادة حركة النفس الناطقة لجلب ما ينفعها
ودفع ما يضرها أو ينفع غيرها أو يضره ، والمعقول من القدرة القائمة بجسم تتأتى به
الأفعال الاختيارية
فهل تجعلون إطلاق
هذه الأسماء والصفات على الله حقيقة أم مجازا؟ فإن قلتم حقيقة تناقضتم أقبح
التناقض إذ عمدتم إلى صفاته سبحانه فجعلتم بعضها حقيقة وبعضها مجازا مع وجود
المحذور فيما جعلتموه حقيقة ، وإن قلتم لا يستلزم ذلك محذورا فمن أين استلزم اسم
الرحمن المحذور ، وإن قلتم الكل مجاز لم تتمكنوا بعد ذلك من إثبات حقيقة الله
البتة لا في أسمائه ولا في الأخبار عنه بأفعاله وصفاته ، وهذا انسلاخ من العقل
والإنسانية.
الوجه
الرابع : أن نفاة الصفات
يلزمهم نفي الأسماء من جهة أخرى ، فإن العليم والقدير والسميع والبصير ، أسماء
تتضمن ثبوت الصفات في اللغة فيمن وصف بها ، فاستعمالها لغير من وصف بها استعمال
للاسم في غير ما وضع له ، فكما انتفت عنه حقائقها فإنه تنتفي عنه أسماؤها ، فإن
الاسم المشتق تابع للمشتق منه في النفي والإثبات ، فإذا انتفت حقيقة الرحمة والعلم
والقدرة والسمع والبصر ، انتفت الأسماء المشتقة منها عقلا ولغة ، فيلزم من نفي
الحقيقة أن تنفي الصفات والاسم جميعا ، فالمعتزلة لا تقر بأن الأسماء الحقيقية
تستلزم الصفات ، ثم ينفون الصفات ويثبتون الأسماء بطريق الحقيقة كما قالوا في
المتكلم والمريد ، وبعض الجهمية يساعد على أن الاسم يستلزم الصفة ، ثم ينفي الصفة
وينفي حقيقة الاسم ويقول لهذا مجاز ، فهو شر من المعتزلة من هذا الوجه. وهم خير
منهم من وجه آخر ، وهو أنه يتناقض فيثبت بعض الصفات وحقائق الأسماء وينفي نظيرها
وما يدل عليها من حقيقة الاسم ، وأهل السنة يثبتون الصفات وحقائق الأسماء ،
فالأسماء عندهم حقائق وهي متضمنة للصفات.
الوجه
الخامس : إنه كيف يكون أظهر
الأسماء التي افتتح الله بها كتابه في أم القرآن وهي من أظهر شعار التوحيد ،
والكلمة الجارية على ألسنة أهل الإسلام وهى (بِسْمِ اللهِ
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) التي هي مفتاح الطهور والصلاة وجميع الأفعال ، كيف يكون
مجازا؟ هذا من أشنع الأقوال ، فهذان الاسمان اللذان افتتح الله بهما أم القرآن ،
وجعلهما عنوان ما أنزله من الهدى والبيان ، وضمنهما الكلمة التي لا يثبت لها شيطان
، وافتتح بها كتابه نبي الله سليمان ، وكان جبرائيل ينزل بها على النبي صلىاللهعليهوسلم عند افتتاح كل سورة من القرآن.
الوجه
السادس : قولهم : (الرحمة
رقة القلب) تريدون رحمة المخلوق أم رحمة الخالق أم كل ما سمي رحمة شاهدا أو غائبا
، فإن قلتم بالأول صدقتم ولم ينفعكم ذلك شيئا ، وإن قلتم بالثاني. والثالث كنتم
قائلين غير الحق ، فإن الرحمة صفة (الرحيم) وهي في كل موصوف بحسبه ، فإن كان
الموصوف حيوانا له قلب فرحمته من جنسه رقة قائمة بقلبه ، وإن كان ملكا فرحمته
تناسب ذاته ، فإذا اتصف أرحم الراحمين بالرحمة حقيقة ، لم يلزم أن تكون رحمته من
جنس المخلوق لمخلوق وهذا يطرد في سائر الصفات كالعلم والقدرة والسمع والبصر
والحياة والإرادة إلزاما وجوابا ، فكيف يكون رحمة أرحم الراحمين مجازا دون السميع
العليم؟
الوجه
السابع : إن اسم الرحمة
استعمل في صفة الخالق وصفة المخلوق ، فإما أن يكون حقيقة في الموصوفين ، أو حقيقة
في الخالق مجازا في المخلوق أو عكسه ، فإذا كانت حقيقة فيهما ، فإما حقيقة واحدة
وهو التواطؤ أو حقيقتان وهو الاشتراك ، ومحال أن تكون مشتركة لأن معناها يفهم عند
الإطلاق ويجمعهما معنى واحد ويصح تقسيمهما ، وخواص المشترك منفية عنها ، ولأنها لم
يشتق لها وضع في حق المخلوق ، ثم استعبرت من المخلوق للخالق ، تعالى الله عما يقول
أهل الزيغ والضلال فبقي قسمان : (أحدهما) أن تكون حقيقة في الخالق مجازا في
المخلوق (والثاني) أن تكون حقيقة متواطئة أو مشتركة ، وعلى التقديرين فبطل أن يكون
إطلاقها على الله سبحانه مجازا.
الوجه
الثامن : إنه من أعظم
المحال أن تكون رحمة أرحم الراحمين التي وسعت كل شيء مجازا ، ورحمة العبد الضعيفة
القاصرة المخلوقة المستعارة من ربه التي هي من آثار رحمته حقيقة ، وهل في قلب
الحقائق أكثر من هذا فالعباد إنما حصلت لهم هذه الصفات التي هي كمال في حقهم ، من
آثار صفات الرب تعالى. فكيف تكون لهم حقيقة ، وله مجاز ، يوضحه :
الوجه
التاسع : وهو ما رواه أهل «السنن»
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : يقول الله تعالى : «أنا الرحمن خلقت
الرحم وشققت لها اسما من اسمي ، فمن وصلها
وصلته
، ومن قطعها قطعته» فهذا صريح في أن اسم الرحمة مشتق من اسمه الرحمن تعالى ، فدل على أن رحمته
لما كانت هي الأصل في المعنى كانت هي الأصل في اللفظ ، ومثل هذا قول حسان رضي الله
عنه في النبي صلىاللهعليهوسلم.
فشق له من اسمه
ليجله
|
|
فذو العرش محمود
وهذا محمد
|
فإذا كانت أسماء
الخلق المحمودة مشتقة من أسماء الله الحسنى كانت أسماؤه يقينا سابقة ، فيجب أن
تكون حقيقة لأنها لو كانت مجازا لكانت الحقيقة سابقة لها. فإن المجاز هو اللفظ
المستعمل في غير ما وضع له ، فيكون اللفظ قد سمي به المخلوق ثم نقل إلى الخالق ،
فهذا باطل قطعا.
الوجه
العاشر : ما في «الصحيحين»
عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لما قضى الله الخلق كتب كتابا فهو موضوع
عنده فوق العرش : إن رحمتي سبقت غضبي» وفي لفظ (غلبت) وقال تعالى : (كَتَبَ رَبُّكُمْ
عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ) (الأنعام : ٥٤)
فوصف نفسه سبحانه بالرحمة وتسمى بالرحمن قبل أن يكون بنو أدم ، فادعاء المدعى أن
وصفه بالرحمن مجاز من أبطل الباطل.
الوجه
الحادي عشر : إن أسماء الرب قديمة لم يستحدثها من جهة خلقه ، بل لم يزل موصوفا بها مسمى بها
، والمجاز مسبوق بالحقيقة وضعا واستعمالا ومرتبة ، وذلك كله ممتنع بالنسبة إلى
أسماء الله تعالى.
فإن قيل بل بعضها
مستعار من بعض وفيها الحقيقة وفيها المجاز ، ومجازها مستعار من حقائقها ، كالرحمن
مستعار من اسم المحسن ، وذلك لا محذور فيه.
قيل : هذا لا يصح
لأن الحقيقة والمجاز من عوارض الوضع والاستعمال ، وهما معا وأيا ما كان لم تصح
دعوى المجاز فيه بوجه من الوجوه.
__________________
الوجه
الثاني عشر : إنه من المعلوم أن المعنى المستعار يكون في المستعار منه أكمل منه في المستعار
له ، وأن المعنى الذي دل عليه اللفظ بالحقيقة أكمل من المعنى الذي دل عليه بالمجاز
، وإنما يستعار لتكميل المعنى المجازي تشبيهه بالحقيقي كما يستعار الشمس والقمر
والبحر للرجل الشجاع والجميل والجواد ، فإذا جعل الرحمن والرحيم والودود وغيرهما
من أسمائه سبحانه حقيقة في العبد ، مجازا في الرب لزم أن تكون هذه الصفات في العبد
أكمل منها في الرب تعالى.
الوجه
الثالث عشر : إن وصفه تعالى بكونه رحمانا رحيما حقيقة أولى من وصفه بالإرادة ، وذلك أن من
أسمائه الحسنى الرحمن الرحيم ، وليس في أسمائه الحسنى المريد ، والمتكلمون يقولون
مريد لبيان إثبات الصفة ، وإلا فليس ذلك من أسمائه الحسنى ، لأن الإرادة تناول ما
يحسن إرادته وما لا يحسن ، فلم يوصف بالاسم المطلق منها ، كما ليس في أسمائه
الحسنى الفاعل ولا المتكلم ، وإن كان فعالا مريدا متكلما بالصدق والعدل ، فليس الوصف
بمطلق الكلام ومطلق الإرادة ، ومطلق الفعل يقتضي مدحا وحمدا حتى يكون ذلك متعلقا
بما يحسن تعلقه به ، بخلاف العليم القدير والعدل والمحسن والرحمن الرحيم ، فإن هذه
كمالات في أنفسها لا تكون نقصا ولا مستلزمة لنقص البتة ، فإذا قيل إنه مريد حقيقة
وله إرادة حقيقية ، وليس من أسمائه الحسنى المريد ، فلأن يكون رحمانا رحيما حقيقة
وهو موصوف بالرحمة حقيقة ، ومن أسمائه الرحمن الرحيم أولى وأحرى.
(الفرق بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق)
الوجه
الرابع عشر : إن الرحمة مقرونة في حق العبد بلوازم المخلوق من الحدوث والنقص والضعف وغيره ،
وهذه اللوازم ممتنعة على الله تعالى ، فإما أن تكون الرحمة اسما للقدر الممدوح فقط
، أو الممدوح وما يلزمه من النقص فإن كانت اسما للقدر الكامل الذي لا يستلزم نقصا
، وذلك ثابت للرب تعالى كانت حقيقة في حقه قطعا ، وإن كانت اسما للمجموع فالثابت
للرب تعالى هو
القدر الذي لا نقص
فيه ، وغاية ذلك أن يكون قد استعمل لفظها في بعض مدلوله كالعام إذا استعمل في
الخصوص ، والأمر إذا استعمل في الندب وذلك لا يخرج اللفظ عن حقيقته عند جمهور
الناس ، قيل هذا حقيقة عندهم ، فإن اللفظ يستعمل في المجموع عند إطلاقه ، وفي
البعض عند تقييده ، والمطلق موضوع والمقيد موضوع كما تقدم ، لا سيما أكثر الناس
يقولون إن بعض الشيء وصفته ليس غيرا له كما أجاب مثبتو الصفات لنفاتها وحينئذ فلا
يكون اللفظ مستعملا في غير موضوعه ، فلا يكون مجاز.
الوجه
الخامس عشر : إن هذا النقض اللازم (للصفة) ليس هو من موضوعها ولا مسمى لفظها ، وإنما هو من
خصوص الإضافة ، فالقدر الممدوح الذي هو موضوع الصفة والنقص اللازم غير داخل في
موضوعها ، وكذلك لا دلالة في لفظها على العدم ، والوجود غاية الكمال الذي لا كمال
فوقه ، وإنما ذلك من لوازم إضافتها ونسبتها إلى الرب سبحانه ، فإذا موضوع لفظها
مطلق المعنى الممدوح ، وخصوص الإضافة غير داخل في اللفظ المطلق. وعلى هذا فإذا
استعملت في حق الرب تعالى كانت حقيقة. وإذا استعملت للعبد كانت حقيقة.
فتدبر هذا فإنه
فصل الخطاب فيما يطلق على الرب والعبد ، واعتبر هذا فيما يطلق على المخلوق نفسه
فإنه حقيقة مع دلالته على غاية المدح في المحل ، وغاية الذم في محل آخر.
(مثاله) قولك :
هذا كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهديه وسمته ، وهذا كلام الصديق. وهذا كلام المفتري. فهذا
حقيقة وهذا حقيقة. وهما في غاية التضاد والاختلاف. وهذا التعريف بالإضافة نظير
التعريف باللام ينصرف إلى كل محل بحسبه (فَعَصى فِرْعَوْنُ
الرَّسُولَ) (المزمل : ١٦) هو
موسى. و (لا تَجْعَلُوا دُعاءَ
الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ) (النور : ٦٣) وهو
محمد صلىاللهعليهوسلم ، فرسول دال على القدر المشترك واللام تدل على تعريفه
وتعيينه. وكل من الموضوعين حقيقة. هذا مع أن اللفظ يستعمل مجردا عن التعريف كثيرا.
وأما لفظ الرحمة
والسمع والبصر واليد والوجه والكلام فلا تكاد تستعمل إلا
مضافة إلى محلها ،
فلزوم الإضافة فيها نحو لزومها في الأسماء والأعلام ، ولا سيما المضافة إلى الرب
كقوله : (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ
كُلَّ شَيْءٍ إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى
بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (الأعراف : ١٥٦ ،
الرحمن : ٢٧ ، الليل : ٢٠ ، المائدة : ٦٤) فهذه الإضافة تمنع أن يدخل في اسم الصفة
شيء من خصائص المخلوقين بوجه من الوجوه. فالمحذوف الذي أوجب له دعوى المجاز فيها
منتف بالإضافة قطعا فلا وجه لدعوى المجاز فيها البتة. وهذا ظاهر جدا فإنها
بإضافتها الخاصة دلت على ما لا تسعه العبارة من الكمال الذي لا نقص بوجه من
الوجوه.
الوجه
السادس عشر : أن يقال لمن أثبت شيئا من الصفات بالعقل فلا بد أن يأتي في الدلالة على ذلك
بقياس شمولي أو قياس تخييلي ، فتقول في الشمولي : كل فعل متقن محكم فإنه يدل على
علم فاعله وقدرته وإرادته. وهذه المخلوقات كذلك فهي دالة على علم الرب تعالى
وقدرته ومشيئته. وتقول في التمثيل : الفعل المحكم المتقن يدل على علم فاعله وقدرته
في الشاهد ، فكان دليلا في الغائب ، والدلالة (العقلية) لا تختلف شاهدا وغائبا ،
فلا يمكنك أن تثبت له سبحانه بالعقل صفة أو فعلا إلا بالقياس المتضمن قضية كلية ،
إما لفظا كما في قياس الشمول ، وإما معنى كما في قياس التمثيل.
فإذا كنت لا يمكنك
إثبات الصانع ولا صفاته إلا بالقياس الذي لا بد فيه من إثبات قدر مشترك بين المقيس
والمقيس عليه ، وبين أفراد القضية الكلية ولم يكن هذا عندك تشبيها ممتنعا ، فكيف
تنكر معانى ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلىاللهعليهوسلم وحقائقه بزعمك أنه يتضمن تشبيها ، وهذا من أنفع الأشياء
لمن له فهم ، فإن الله أخبر في كتابه بما هو عليه من أسمائه وصفاته ولا بد في
الأسماء المشتقة المتواطئة من معنى مشترك بين أفرادها ، فجحد المعطلة حقائقها لما
زعموا فيها من التشبيه ، وهم لا يمكنهم إثبات شيء يعتقدونه إلا بنوع من القياس
المتضمن التشبيه الذي فروا منه ، لا في جانب النفي ولا في جانب الإثبات ،
فهم منكرون ما
جاءت به الرسل بما هو من نوعه أو دونه ، وهذا غاية الضلال فليتأمل ذلك.
الوجه
السابع عشر : إن من ادعى أن رحمة الله مجاز أو اسمه الرحمن الرحيم ، إما أن يثبت لهذا اللفظ
معنى أو لا. والثاني يقر المنازع ببطلانه ، وإذا كان لا بد من إثبات معنى لهذا
اللفظ ، فإما أن يتضمن محذورا أو لا ، فإن تضمن محذورا لم يجز إثباته ، وإن لم
يتضمن محذورا لم يمكن إثباته وإخراج اللفظ عن حقيقته أولى من بقاء اللفظ على
حقيقته ، وإثبات معناه الأصلي ، إذ انتفاء المحذور عن حقيقة والمجاز واحد ، وتسلم
الحقيقة وهي الأصل ، فأما إخراج اللفظ عن حقيقته لأمر لا يتخلص به في المجاز ولا
محذور منه في الحقيقة ولا في المجاز فلا معنى له بل هو خطأ محض.
الوجه
الثامن عشر : إن الله سبحانه وتعالى فرق بين رحمته والرضوان وثوابه المنفصل فقال تعالى : (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ
مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) (التوبة : ٢١)
فالرحمة والرضوان صفته والجنة ثوابه ، وهذا يبطل قول من جعل الرحمة والرضوان ثوابا
منفصلا مخلوقا ، وقول من قال : هي إرادته الإحسان ، فإن إرادته الإحسان هي من
لوازم الرحمة ، فإنه يلزم من الرحمة أن يريد الإحسان إلى المرحوم ، فإذا انتفت
حقيقة الرحمة انتفى لازمها وهو إرادة الإحسان ، وكذلك لفظ اللعنة والغضب والمقت هي
أمور مستلزمة للعقوبة ، فإذا انتفت حقائق تلك الصفات انتفى لازمها ، فإن ثبوت
اللازم الحقيقة مع انتفائها ممتنع ، فالحقيقة لا توجد منفكة عن لوازمها.
الوجه
التاسع عشر : إن ظهور آثار هذه الصفة في الوجود كظهور أثر صفة الربوبية والملك والقدرة ،
فإن ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهد برحمة تامة وسعت كل شيء ، كما أن
الموجودات كلها شاهدة له بالربوبية التامة الكاملة. وما في العالم من آثار التدبير
والتصريف الإلهي شاهد بملكه سبحانه. فجعل صفة الرحمة واسم الرحمة مجازا كجعل صفة
الملك والربوبية مجازا ، ولا فرق بينهما في شرع ولا عقل ولا لغة.
وإذا أردت أن تعرف
بطلان هذا القول فانظر إلى ما في الوجود من آثار رحمته الخاصة والعامة ، فبرحمته
أرسل إلينا رسوله صلىاللهعليهوسلم وأنزل علينا كتابه وعصمنا من الجهالة وهدانا من الضلالة
وبصرنا من العمي وأرشدنا من الغي ، وبرحمته عرفنا من أسمائه وصفته وأفعاله ما عرفنا
به أنه ربنا ومولانا وبرحمته علمنا ما لم نكن نعلم وأرشدنا لمصالح ديننا ودنيانا ،
وبرحمته أطلع الشمس والقمر ، وجعل الليل والنهار ، وبسط الأرض وجعلها مهادا وفراشا
وقرارا وكفاتا للأحياء والأموات ، وبرحمته أنشأ السحاب وأمطر المطر ، اطلع الفواكه
والأقوات والمرعى ، ومن رحمته سخر لنا الخيل والإبل ، والأنعام وذللها منقادة
للركوب والحمل والأكل والدر وبرحمته وضع الرحمة بين عباده ليتراحموا بها ، وكذلك
بين سائر أنواع الحيوان.
فهذا التراحم الذي
بينهم بعض آثار الرحمة التي هي صفته ونعمته ، واشتق (لنفسه) منها اسم الرحمن
الرحيم. وأوصل إلى خلقه معاني خطابه برحمته ، وبصرهم ومكن لهم أسباب مصالحهم
برحمته ، وأوسع المخلوقات عرشه ، وأوسع الصفات رحمته ، فاستوى على عرشه الّذي وسع
المخلوقات بصفة رحمته التي وسعت كل شيء ، ولما استوى على عرشه بهذا الاسم الذي
اشتقه من صفته وتسمى به دون خلقه ، كتب بمقتضاه على نفسه يوم استوائه على عرشه حين
قضى الخلق كتابا ، فهو عنده وضعه على عرشه أن رحمته سبقت غضبه ، وكان هذا الكتاب
العظيم الشأن كالعهد منه سبحانه للخليقة كلها بالرحمة لهم والعفو عنهم ، والمغفرة
والتجاوز والستر والإمهال والحلم والأناة ، فكان قيام العالم العلوي والسفلي
بمضمون هذا الكتاب الذي لولاه لكان للخلق شأن آخر ، وكان عن صفة الرحمة الجنة
وسكانها وأعمالها ، فبرحمته ؛ خلقت ، وبرحمته عمرت بأهلها ، وبرحمته وصلوا إليه ،
وبرحمته طاب عيشهم فيها ، وبرحمته احتجت عن خلقه بالنور ولو كشف ذلك الحجاب لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه.
ومن رحمته إنه
يعيذ من سخطه برضاه ، ومن عقوبته بعفوه ، ومن نفسه
بنفسه ، ومن رحمته
أن خلق للذكر من الحيوان أنثى من جنسه ، وألقى بينهما المحبة والرحمة ليقع بينهما
التواصل الذي به داوم التناسل وانتفاع الزوجين ، ويمتع كل واحد منهما بصاحبه ، ومن
رحمته أحوج الخلق بعضهم إلى بعض لتتم مصالحهم ، ولو أغنى بعضهم عن بعض لتعطلت
مصالحهم وانحل نظامها ، وكان من تمام رحمته بهم أن جعل فيهم الغني والفقير ،
والعزيز والذليل ، والعاجز والقادر ، والراعي والمرعي ، ثم أفقر الجميع إليه ، ثم
عم الجميع برحمته.
ومن رحمته أن خلق
مائة رحمة كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض فأنزل منها إلى الأرض رحمة
واحدة نشرها بين الخليفة ليتراحموا بها ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والطير
والوحش والبهائم ، وبهذه الرحمة قوام العالم ونظامه.
وتأمل قوله تعالى
: (الرَّحْمنُ عَلَّمَ
الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسانَ عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (الرحمن : ١ ـ ٤)
كيف جعل الخلق والتعليم ناشئا عن صفة الرحمة متعلقا باسم الرحمن ، وجعل معاني
السورة مرتبطة بهذا الاسم وختمها بقوله : (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٧٨)
فالاسم الذي تبارك هو الاسم الذي افتتح به السورة ، إذ مجيء البركة كلها منه ، وبه
وضعت البركة في كل مبارك ، فكل ما ذكر عليه بورك فيه وكل ما أخلي منه نزعت منه
البركة ، فإن كان مذكى وخلى منه اسمه كان ميتة ، وإن كان طعاما شارك صاحبه فيه
الشيطان ، وإن كان مدخلا دخل معه فيه ، وإن كان حدثا لم يرفع عند كثير من العلماء
، وإن كان صلاة لم تصح عند كثير منهم.
ولما خلق سبحانه
الرحم واشتق لها اسما من اسمه ، فأراد إنزالها إلى الأرض تعلقت به سبحانه فقال :
مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال : ألا ترضين أن أقطع من قطعك
وأصل من وصلك؟ وهي متعلقة بالعرش لها حنحنة كحنحنة المغزل ، وكان تعلقها بالعرش
رحمة منه بها ، وإنزالها إلى الأرض رحمة منه بخلقه ، ولما علم سبحانه ما تلقاه من
نزولها إلى الأرض
ومفارقتها لما
اشتقت منه رحمها بتعلقها واتصالها بالعرش واتصالها به. وقوله : «ألا ترضين أن أصل من
وصلك وأقطع من قطعك» .
ولذلك كان من وصل
رحمه لقربه من الرحمن ورعاية حرمة الرحم قد عمر دنياه واتسعت له معيشته وبورك له
في عمره ونسيء له في أثره ، فإن وصل ما بينه وبين الرحمن جل جلاله مع ذلك وما بينه
وبين الخلق بالرحمة والإحسان تم له أمر دنياه وأخراه ، وإن قطع ما بينه وبين الرحم
وما بينه وبين الرحمن أفسد عليه أمر دنياه وآخرته ، ومحق بركة رحمته ورزقه وأثره ،
كما قال صلىاللهعليهوسلم : «ما
من ذنب أجدر أن يعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له من العقوبة يوم القيامة
من البغي وقطيعة الرحم» فالبغي معاملة الخلق بضد الرحمة ، وكذلك قطيعة الرحم ، وإن القوم ليتواصلون
وهم فجرة فتكثر أموالهم ويكثر عددهم. وإن القوم ليتقاطعون فتقل أموالهم ويقل عددهم
وذلك لكثرة نصيب هؤلاء من الرحمة وقلة نصيب هؤلاء منها ، وفي الحديث «إن صلة الرحم
تزيد في العمر» وإذا أراد الله بأهل الأرض خيرا نشر عليهم أثرا من آثار
اسمه الرحمن
__________________
__________________
فعمر به البلاد
وأحيا به العباد ، وإذا أراد بهم شرا أمسك عنهم ذلك الأثر فحل بهم من البلاء بحسب
ما أمسك عنهم من آثار اسمه الرحمن ، ولهذا إذا أراد الله سبحانه أن يخرب هذه الدار
ويقيم القيامة أمسك عن أهلها أثر هذا الاسم وقبضه شيئا فشيئا ، حتّى إذا جاء وعده
قبض الرحمة التي أنزلها إلى الأرض ، فتضع لذلك الحوامل في بطونها وتذهل المراضع عن
أولادها فيضيف سبحانه تلك الرحمة التي رفعها وقبضها من الأرض إلى ما عنده من
الرحمة فيكمل بها مائة رحمة فيرحم بها أهل طاعته وتوحيده وتصديق رسله وتابعيهم.
وأنت لو تأملت
العالم بعين البصيرة لرأيته ممتلئا بهذه الرحمة الواحدة كامتلاء البحر بمائه والجو
بهوائه ، وما في خلاله من ضد ذلك فهو مقتضى قوله «سبقت رحمتى غضبي» فالمسبوق لا بد
لاحق وإن أبطأ ، وفيه حكمة لا تناقضها الرحمة فهو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين ،
فسبحان من أعمى بصيرة من زعم أن رحمة الله مجاز.
الوجه
العشرون : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قد أقسم قسما صادقا بارا «إن الله أرحم بعباده من الوالدة
بولدها» وفي هذا إثبات كمال الرحمة ، وإنها حقيقة لا مجازية ومر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بامرأة أصيبت في السبي وكانت كلما مرت بطفل أرضعته فقال
النبي صلىاللهعليهوسلم «أترون هذه طارحة
ولدها في النار؟» قالوا لا يا رسول الله وهي قادرة على أن لا تطرحه فقال : «الله
أرحم بعباده من هذه بولدها» فإن كانت رحمة الوالدة حقيقة فرحمة الله أولى بأن تكون
حقيقة منها ، وإن كانت رحمة الله مجازا فرحمة الوالدة لا حقيقة لها .
__________________
__________________
(٣) المثال الثالث في
معنى : الاستواء
(المثال الثالث)
في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) في سبع
آيات من القرآن حقيقة عند جميع فرق الأمة إلا الجهمية ومن وافقهم ، فإنهم قالوا هو
مجاز ثم اختلفوا في مجازه ، والمشهور عنهم ما حكاه الأشعرى عنهم وبدعهم وضللهم فيه
بمعنى استولى أي ملك وقهر ، وقالت فرقة منهم بل معنى قصد وأقبل على خلق العرش ،
وقالت فرقة أخري بل هو مجمل في مجازاته يحتمل خمسة عشر وجها كلها لا يعلم أيها
المراد إلا أنا نعلم انتفاء الحقيقة عنه بالعقل ، هذا (الذي) قالوه باطل من اثنين
وأربعين وجها :
(أحدها)
إن لفظ الاستواء
في كلام العرب الذي خاطبنا الله تعالى بلغتهم وأنزل بها كلامه (نوعان) مطلق ومقيد.
فالمطلق ما لم يوصل معنا بحرف مثل قوله : (وَلَمَّا بَلَغَ
أَشُدَّهُ وَاسْتَوى) (القصص : ١٤) وهذا
معناه كمل وتم ، يقال استوى النبات واستوى الطعام ، وأما المقيد فثلاثة أضراب (أحدها) مقيد بإلى كقوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ) البقرة : ٢٩) واستوى فلان إلى السطح وإلى الغرفة ، وقد ذكر
سبحانه هذا المعدي بإلى في موضعين من كتابه في «سورة البقرة» في قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي
الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) (البقرة : ٢٩)
والثاني في سورة «فصلت» : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى
السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (فصلت : ١١) وهذا
بمعنى العلو والارتفاع بإجماع السلف كما سنذكره ونذكر ألفاظهم بعد إن شاء الله (والثاني)
مقيد بعلى كقوله : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣)
وقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ) (هود : ٤٤) وقوله
: (فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ) (الفتح : ٢٩) وهذا
أيضا معناه العلو والارتفاع والاعتدال بإجماع أهل اللغة (الثالث) المقرون بواو (مع) التي
تعدي الفعل إلى
المفعول معه نحو استوى الماء والخشبة بمعنى ساواها. وهذه معانى الاستواء المعقولة
في كلامهم ، وليس فيها معنى استولى البتة ، ولا نقله أحد من أئمة الذين يعتمد
قولهم ، وإنما قاله متأخروا النحاة ممن سلك طريق المعتزلة والجهمية. يوضحه :
الوجه
الثاني : إن الذين قالوا
ذلك لم يقولوه نقلا ، فإنه مجاهرة بالكذب وإنما قالوه استنباطا وحملا منهم للفظة
استوى على استولى ، واستدلوا بقول الشاعر :
قد استوى بشر
على العراق
|
|
من غير سيف أو
دم مهراق
|
وهذا البيت ليس من
شعر العرب كما سيأتي بيانه.
الوجه
الثالث : إن أهل اللغة لما
سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ، ولم يجعلوه من لغة العرب. قال ابن الأعرابي وقد
سئل : هل يصح أن يكون استوى بمعنى استولى؟ فقال : لا تعرف العرب ذلك ، وهذا هو من
أكابر أئمة اللغة.
الوجه
الرابع : ما قاله الخطابي
في كتابه «شعار الدين» قال : القول في أن الله مستو على عرشه ، ثم ذكر الأدلة في
القرآن ثم قال : فدل ما تلوته من هذه الآي أن الله تعالى في السماء مستو على العرش
، وقد جرت عادة المسلمين خاصهم وعامهم بأن يدعوا ربهم عند الابتهال والرغبة إليه
ويرفعوا أيديهم إلى السماء ، وذلكم لاستفاضة العلم عندهم بأن المدعو في السماء
سبحانه.
إلى أن قال : وزعم
بعضهم أن الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر
معروف يصح الاحتجاج بقوله ؛ ولو كان الاستواء هاهنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام
عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل قطر وبقعة من
السموات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تحصيصه العرش بالذكر ، ثم إن الاستيلاء
إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه ، فأي
منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده؟ هذا لفظه وهو من أئمة اللغة.
الوجه
الخامس : إن هذا تفسير
لكلام الله بالرأى المجرد الذي لم يذهب إليه صاحب ولا تابع ، ولا قاله إمام من
أئمة المسلمين ، ولا أحد من أهل التفسير الذين يحكون أقوال السلف ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» .
الوجه
السادس : إن إحداث القول في
تفسير كتاب الله الذي كان السلف والأئمة على خلافه يستلزم أحد أمرين : إما أن يكون
خطأ في نفسه أو تكون أقوال السلف المخالفة له خطأ ، ولا يشك عاقل أنه أولى بالغلط
والخطأ من قول السلف.
الوجه
السابع : إن هذا اللفظ قد
أطرد في القرآن والسنة حيث ورد بلفظ الاستواء دون الاستيلاء ، ولو كان معناه
استولى لكان استعماله في أكثر مورده كذلك ، فإذا جاء موضع أو موضعان بلفظ استوى
حمل على معنى استولى لأنه المألوف المعهود ، وأما أن يأتى إلى لفظ قد أطرد
استعماله في جميع موارده على معنى واحد فيدعى صرفه في الجميع إلي معنى لم يعهد
استعماله فيه ففي غاية الفساد ، ولم يقصده ويفعله من قصد البيان ، هذا لو لم يكن
في السياق ما يأبى حمله على غير معناه الذي أطرد استعماله فيه ، فكيف وفي السياق
ما يأبى ذلك.
الوجه
الثامن : إنه أتى بلفظة (ثم)
التي حقيقتها الترتيب والمهلة ، ولو كان معناه معنى القدرة على العرش والاستيلاء
عليه لم يتأخر ذلك إلى ما بعد خلق السموات والأرض ، فإن العرش كان موجودا قبل خلق
السموات والأرض بخمسين ألف عام ، كما ثبت في «الصحيحين» عنه صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «إن الله تعالى قدر مقادير الخلائق قبل
أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» . وقال تعالى : (وَهُوَ الَّذِي
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
__________________
سِتَّةِ
أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) (هود : ٧) فكيف
يجوز أن يكون غير قادر ولا مستول على العرش إلى أن خلق السموات والأرض.
فإن قيل : نحمل (ثم)
على معنى الواو ونجردها على معنى الترتيب (قيل) هذا خلاف الأصل والحقيقة ، فأخرجتم
(ثم) عن حقيقتها والاستواء عن حقيقته ولفظ الرحمن عن حقيقته. وركبتم مجازات بعضها
فوق بعض.
فإن قيل : فقد
يأتي (ثم) لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر ، فيجوز أن يكون ما بعدها سابقا على ما
قبلها في الوجود وإن تأخر عنه في الإخبار (قيل) هذا لا يثبت أولا ولا يصح به نقل ،
ولم يأت في كلام فصيح ، ولو قدر وروده فهو نادر لا يكون قياسا مطردا تترك الحقيقة
لأجله.
فإن قيل : فقد ورد
في القرآن وهو أفصح الكلام ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (الأعراف : ١١)
والأمر بالسجود لآدم كان قبل خلقنا ، وتصويرنا ، قال تعالى : (وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي
نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ شَهِيدٌ
عَلى ما يَفْعَلُونَ) (يونس : ٤٦)
وشهادته تعالي على أفعالهم سابقة على رجوعهم.
قيل : لا يدل ذلك
على ما تقدم ما بعد (ثم) على ما قبلها. أما قوله : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ) (الأعراف : ١١)
فهو خلق أصل البشر وأبيهم ، وجعله سبحانه خلقا لهم وتصويرا إذ هو أصلهم وهم فرعه ،
وبهذا فسرها السلف ، قالوا خلقنا أباكم وخلق أبي البشر خلق لهم.
وأما قوله : (فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللهُ
شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ) (يونس : ٤٦) فليس
ترتيبا لاطلاعه على أفعالهم ، وإنما هو ترتيب لمجازاتهم عليها. وذكر الشهادة التي
هي علمه ولاطلاعه ، تقريرا للجزاء على طريقة القرآن في وضع القدرة والعلم موضع
الجزاء لأنه يكون بهما كما قال تعالى : (إِلَيْنا
مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ
الصُّدُورِ) (لقمان : ٢٣)
وكقوله تعالى :
(أَوَلَمَّا
أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا. قُلْ
هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، وقوله : (فَإِذا جاءَ
أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً) (فاطر : ٤٥) وهو
كثير في القرآن. وهو كما يقول السيد لعبده : اعمل ما شئت فإني أعلم ما تفعله وأنا
قادر عليك. وهذا أبلغ من ذكر العقاب وأعم فائدة.
فإن قيل : كيف
تصنعون بقول الشاعر؟
قل لمن ساد ثم
ساد أبوه
|
|
ثم قد ساد قبل
ذلك جده
|
قلنا أي شاعر هذا
حتى يحتج بقوله ، وأين صحة الإسناد إليه لو كان ممن يحتج بشعره؟ وأنتم لا تقبلون
الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فكيف تقبلون شعرا لا تعلمون قائله ولا تسندون إليه البتة.
الوجه
التاسع : أن فاضلكم المتأخر
لما تفطن لهذا ادعى الإجماع أن العرش مخلوق بعد خلق السموات والأرض ، فيكون المعنى
أنه خلق السموات والأرض ثم استوى على العرش ، وهذا لم يقله أحد من أهل العلم أصلا
، وهو مناقض لم دل عليه القرآن والسنة وإجماع المسلمين أظهر مناقضة ، فإنه تعالى
أخبر أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وعرشه حينئذ على الماء ، وهذه واو الحال
أي خلقها في هذه الحال ، فدل على سبق العرش والماء للسماوات والأرض.
وفي «الصحيحين»
عنه صلىاللهعليهوسلم : «قدر
الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وعرشه على الماء» وأصح القولين أن العرش مخلوق قبل القلم لما في «السنن» من
حديث عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «أول
ما خلق الله القلم ؛ قال اكتب ، قال ما أكتب؟ قال
__________________
اكتب
القدر فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة» وقد أخبر أنه قدر المقادير وعرشه على الماء. وأخبر في هذا
الحديث أنه قدرها في أول أوقات خلق القلم ، فعلم أن العرش سابق علي القلم ، والقلم
سابق على خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة فادعى هذا الجهمى أن العرش مخلوق بعد
خلق السموات والأرض ، ولم يكفه هذا الكذب حتى ادعى الإجماع عليه ليتأتى له إخراج
الاستواء عن حقيقته.
الوجه
العاشر : إن الاستيلاء
والاستواء لفظان متغايران ، ومعنيان (مختلفان) فحمل أحدهما على الآخر إن ادعى أنه
بطريق الوضع فكذب ظاهر ، فإن العرب لم تضع لفظ الاستواء للاستيلاء البتة ، وإن كان
بطريق الاستعمال في لغتهم فكذب أيضا ، فهذا نظمهم ونثرهم شاهد بخلاف ما قالوه ،
فتتبع لفظ استوى ومواردها في القرآن والسنة وكلام العرب هل تجدها في موضع واحد
بمعنى الاستيلاء؟ اللهم إلا أن يكون ذلك البيت المصنوع المختلق ، وإن كان بطريق
المجاز القياسي فهو إنشاء من المتكلم بهذا الاستعمال فلا يجوز أن يحمل عليه كلام
غيره من الناس فضلا عن كلام الله وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم يوضحه :
الوجه
الحادى عشر : إن القائل بأن معنى استوى بمعنى استولى شاهد على الله أنه أراد بكلامه هذا
المعنى. وهذه شهادة لا علم لقائلها بمضمونها ، بل هي قول على الله بلا علم ، فلو
كان اللفظ محتملا لها في اللغة وهيهات ، لم يجز أن يشهد على الله أنه أراد هذا
المعني بخلاف من أخبر عن الله تعالى أنه أراد الحقيقة والظاهر ، فإنه شاهد بما
أجرى الله سبحانه عادته من خطاب خلقه بحقائق لغاتهم وظواهرها كما قال : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا
بِلِسانِ قَوْمِهِ) (إبراهيم : ٤)
فإذا كان الاستواء في لغة العرب معلوما كان هو المراد لكون الخطاب بلسانهم ، وهو
المقتضى لقيام الحجة عليهم ، فإذا خاطبهم بغير ما يعرفونه كان بمنزلة خطاب العربي
بالعجمية.
__________________
الوجه
الثاني عشر : إن الإجماع منعقد على أن الله سبحانه استوى علي عرشه حقيقة لا مجاز ، قال
الإمام أبو عمر الطلمنكي أحد أئمة المالكية ، وهو شيخ أبي عمر بن عبد البر في
كتابه الكبير الذي سماه «الوصول إلى معرفة الأصول» فذكر فيه من أقوال الصحابة
والتابعين وتابعيهم ، وأقوال مالك وأئمة أصحابه ما إذا وقف عليه الواقف ، علم
حقيقة مذهب السلف ، وقال في هذا الكتاب : أجمع أهل السنة على أن الله تعالى على
عرشه على الحقيقة لا على المجاز.
الوجه
الثالث عشر : قال الإمام أبو عمر بن عبد البر في كتاب «التمهيد» في شرح حديث النزول : وفيه
دليل على أن الله تعالى في السماء مستو على العرش من فوق سبع سماوات كما قالت
الجماعة ، وقرر ذلك إلى أن قال : وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة
في القرآن والسنة والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا
يكيفون شيئا من ذلك ولا يجدون فيه صفة مخصوصة وأما أهل البدع الجهمية والمعتزلة
والخوارج ، فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها علي الحقيقة ويزعمون أن من أقرّ بها
مشبه ، وهم عند من أقر بها نافون للمعبود.
قال أبو عبد الله
القرطبي في تفسيره المشهور في قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) هذه
المسألة للفقهاء فيها كلام ، ثم ذكر قول المتكلمين ثم قال : وقد كان السلف الأول
لا يقولون بنفي الجهة ولا ينطقون بذلك ، بل نطقوا هم والكافة بإثباتها لله تعالى
كما نطق في كتابه ، وأخبرت به رسله ، ولم ينكر أحد من السلف الصالح أنه استوى على
عرشه حقيقة ، وإنما جهلوا كيفية الاستواء كما قال مالك : الاستواء معلوم والكيف
مجهول.
الوجه
الرابع عشر : إن الجهمية لما قالوا إن الاستواء مجاز صرح أهل السنة بأنه مستو بذاته على
عرشه وأكثر من صرح بذلك أئمة المالكية ، فصرح به الإمام أبو محمد بن أبي زيد في
ثلاثة مواضع من كتبه أشهرها «الرسالة» ، وفي كتاب «جامع النوادر» ، وفي كتاب «الآداب»
فمن أراد الوقوف على ذلك فهذه كتبه.
وصرح بذلك القاضى
عبد الوهاب وقال إنه استوى بالذات على العرش ، وصرح به القاضى أبو بكر الباقلانى
وكان مالكيا حكاه عنه القاضى عبد الوهاب أيضا ، وصرح به عبد الله القرطبي في كتاب «شرح
أسماء الله الحسنى» فقال ذكر أبو بكر الحضرمي من قول الطبري يعني محمد بن جرير
وأبي محمد بن أبي زيد جماعة من شيوخ الفقه والحديث وهو ظاهر كتاب القاضى عبد
الوهاب عن القاضى أبي بكر وأبى الحسن الأشعرى ، وحكاه القاضى عبد الوهاب عن القاضى
أبي بكر نصا ، وهو أنه سبحانه مستو على عرشه بذاته ، وأطلقوا في بعض الأماكن فوق
خلقه ، قال : وهذا قول القاضى أبي بكر في «تمهيد الأوائل» له وهو قول أبي عمر بن
عبد البر والطلمنكي وغيرهما من الأندلسيين ، وقول الخطابي في «شعار الدين».
وقال أبو بكر محمد
بن موهب المالكي في «شرح رسالة ابن أبي زيد» قوله : إنه فوق عرشه المجيد بذاته ،
معنى فوق وعلى ، عند جميع العرب واحد ، وفي كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم تصديق ذلك ، ثم ذكر النصوص من الكتاب والسنة ، واحتج بحديث
الجارية وقول النبي صلىاللهعليهوسلم لها «أين الله؟» وقولها : في السماء ، وحكمه بإيمانها ، وذكر حديث الإسراء
ثم قال : وهذا قول مالك فيما فهمه عن جماعة ممن أدرك من التابعين فيما فهموا من
الصحابة فيما فهموا عن النبي صلىاللهعليهوسلم أن الله في السماء بمعنى فوقها وعليها ، قال الشيخ أبو
محمد إنه بذاته فوق عرشه المجيد.
فتبين أن علوه على
عرشه وفوقه إنما هو بذاته إلا أنه باين من جميع خلقه بلا كيف وهو في كل مكان من
الأمكنة المخلوقة بعلمه لا بذاته إذ لا تحويه الأماكن لأنه أعظم منها ـ إلي أن قال
ـ : قوله على العرش استوى إنما معناه عند أهل السنة على غير معنى الاستيلاء والقهر
والغلبة الملك ، الذي ظنت المعتزلة ومن قال
__________________
بقولهم إنه معنى
الاستواء ، وبعضهم يقول إنه على المجاز لا على الحقيقة قال : ويبين سوء تأويلهم في
استوائه على عرشه على غير ما تأولوه من الاستيلاء وغيره ما قد علمه أهل المعقول
إنه لم يزل مستوليا على جميع مخلوقاته بعد اختراعه لها وكان العرش وغيره في ذلك
سواء ، فلا معنى تأويلهم بإفراد العرش بالاستواء الذي هو في تأويلهم الفاسد
استيلاء ، وملك وقهر ، وغلبة ؛ قال : وذلك أيضا يبين إنه على الحقيقة بقوله : (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (النساء : ١٢٢)
فلما رأى المصنفون إفراد ذكره بالاستواء على العرش بعد خلق السموات وأرضه وتخصيصه
بصفة الاستواء علموا أن الاستواء غير الاستيلاء فأقروا بوصفه بالاستواء على عرشه
وإنه على الحقيقة لا على المجاز ، لأنه الصادق في قيله ووقفوا عن تكييف ذلك
وتمثيله إذ ليس كمثله شيء ـ هذا لفظه في شرحه.
(تفسير الأشعرى للاستواء)
الوجه
الخامس عشر : إن الاشعري حكى إجماع أهل السنة على بطلان تفسير الاستواء بالاستيلاء ، ونحن
نذكر لفظه بعينه الذي حكاه عنه أبو القاسم بن عساكر في كتاب «تبيين كذب المفتري»
وحكاه قبله أبو بكر بن فورك وهو موجود في كتبه. قال في كتاب «الإبانة» وهي آخر
كتبه قال :
باب «ذكر الاستواء»
: إن قال قائل ما تقولون في الاستواء؟ قيل نقول له إن الله تعالى مستو على عرشه
كما قال تعالى : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) وساق
الأدلة على ذلك ثم قال : وقال قائلون من المعتزلة والجهمية والحرورية إن معنى قوله
: (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) أنه استولى وملك وقهر وجحدوا أن يكون الله على عرشه كما
قال أهل الحق ، وذهبوا في الاستواء إلى القدرة ، ولو كان هذا كما قالوا لا فرق بين
العرش والأرض السابعة السفلى ، لأن الله تعالى قادر على كل شيء والأرض والسموات
وكل شيء في العالم ، فلو كان الله مستويا على العرش بمعنى الاستيلاء والقدرة لكان
مستويا على الأرض والحشوش والأنتان والأقذار لأنه قادر على الأشياء كلها ، ولم نجد
أحدا من المسلمين يقول إن الله مستو على الحشوش والأخلية فلا يجوز أن يكون
معنى الاستواء على
العرش على معنى هو عام في الأشياء كلها ، ووجب أن يكون معنى الاستواء يختص بالعرش
دون سائر الأشياء ، وهكذا قال في كتابه «الموجز» وغيره من كتبه.
الوجه
السادس عشر : إن هذا البيت محرف وإنما هو هكذا :
بشر قد استولى على
العراق
هكذا لو كان
معروفا من قائل معروف ، فكيف وهو غير معروف في شيء من دواوين العرب وأشعارهم التي
يرجع إليها.
الوجه
السابع عشر : أنه لو صح هذا البيت وصح أنه غير محرف لم يكن فيه حجة بل هو حجة عليهم ، وهو
على حقيقة الاستواء ، فإن بشرا هذا كان أخا عبد الملك بن مروان وكان أميرا على
العراق فاستوى على سريرها كما هي عادة الملوك ونوابها أن يجلسوا فوق سرير الملك
مستوين عليه ، وهذا هو المطابق لمعنى هذه اللفظة في اللغة كقوله تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣) ،
وقوله : (وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ) (هود : ٤٤) وقوله
: (فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ) (الفتح : ٢٩) وفي «الصحيح»
«أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ملبيا» .
وقال علي : أتي
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بدابة ليركبها فلما وضع رجله في الغرز قال «بسم الله» ،
فلما استوى علي ظهرها قال : «الحمد لله» فهل نجد في هذه المواضع موضعا واحدا أنه بمعنى الاستيلاء
والقهر.
الوجه
الثامن عشر : إن استواء الشيء على غيره يتضمن استقراره وثباته وتمكنه عليه كما قال تعالى في
السفينة (وَاسْتَوَتْ عَلَى
الْجُودِيِ) أي رست عليه واستقرت على ظهره ، قال تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) وقال في الزرع
__________________
(فَاسْتَوى عَلى
سُوقِهِ) فإنه قبل ذلك يكون فيه ميل واعوجاج لأجل ضعف سوقه ، وإذا
استغلظ الساق واشتدت السنبلة استقرت ومنه : قد استوى بشر على العراق.
فإنه يتضمن استقراره
وثباته عليها ودخوله دخول مستقر ثابت غير مزلزل ، وهذا يستلزم الاستيلاء أو يتضمنه
، فالاستيلاء لازم معنى الاستواء لا في كل موضع ، بل في الموضع الذي يقتضيه ، ولا
يصلح الاستيلاء في كل موضع يصلح فيه الاستواء ، بل هذا له موضع ، وهذا له موضع
ولهذا لا يصلح أن يقال استولت السنبلة على ساقها ، ولا استولت السفينة على الجبل ؛
ولا استولى الرجل على السطح إذا ارتفع فوقه.
الوجه
التاسع عشر : إنه لو كان المراد بالبيت استيلاء القهر والملك لكان المستوي على العراق عبد
الملك بن مروان لا أخوه بشر ، فإن بشرا لم يكن ينازع أخاه الملك ولم يكن ملكا مثله
، وإنما كان نائبا له عليها وواليا من جهته ، فالمستولي عليها هو عبد الملك لا بشر
، بخلاف الاستواء الحقيقي وهو الاستقرار فيها والجلوس على سريرها ؛ فإن نواب
الملوك تفعل هذا بإذن الملوك.
الوجه
العشرون : إنه لا يقال لمن
استولى على بلدة ولم يدخلها ولم يستقر فيها بل بينه وبينها بعد كثير : أنه قد
استوى عليها ، فلا يقال استوى أبو بكر على الشام ولا استوى عمر على مصر والعراق ،
ولا قال أحد قط استوى رسول الله صلىاللهعليهوسلم على اليمن مع أنه استولى هو وخلفاؤه على هذه البلاد ، ولم
يزال الشعراء يمدحون الملوك والخلفاء بالفتوحات ، ويتوسعون في نظمهم واستعارتهم ،
فلم يسمع عن قديم منهم ، جاهلي ولا إسلامي ولا محدث أنه مدح أحدا قط أنه استوى على
البلد الفلاني الذي فتحه واستولى عليه ، فهذه دواوينهم وأشعارهم موجودة.
الوجه
الحادي والعشرون : إنه إذا دار الأمر بين تحريف لغة العرب وحمل لفظها على معنى لم يعهد استعماله
فيه البتة ، وبين حمل المضاف المألوف حذفه كثيرا
إيجازا واختصارا ،
فالحمل على حذف المضاف أولى ، وهذا البيت كذلك ، فإنا إن حملنا لفظ استوى فيه على
استولى حملناه على معنى لم يعهد استعماله فيه البتة ، وإن حملناها على حذف المضاف
وتقديره قد استوى على سرير العراق حملناه على معهود مألوف ، فيقولون قعد فلان على
سرير الملك ، فيذكرون المضاف إيضاحا وبيانا ، ويحذفون تارة إيجازا واختصارا ، إذ
قد علم المخاطب أن القعود والاستواء والجلوس الذي يضاف ويقصد به الملك يستلزم سرير
الملك. فحذف المضاف أقرب إلى لغة القوم من تحريف كلامهم ، وحمل لفظ على معنى لفظ
آخر لم يعهد استعماله فيه.
الوجه
الثاني والعشرون : إنه كيف يجوز أن ينزل الله بآيات متعددات في كتابه الذي أنزله بلسان العرب ،
ويكون معنى ذلك الخطاب مشهورا على لغتهم معروفا في عادة نظامهم ، فلا يريد ذلك
المعنى ويأتي بلفظ يدل على خلافه ويطرد استعماله في موارده كلها بذلك اللفظ الذي
لم يرد معناه ، ولا يذكر في موضع واحد باللفظ الذي يريد معناه ، فمن تصور هذا جزم
ببطلانه وإحالة نسبته إلى من قصده البيان والهدى.
الوجه
الثالث والعشرون : إنه لو أريد ذلك المعنى المجازي لذكر في اللفظ قرينة تدل عليه فإن المجاز إن
لم يقترن به قرينة وإلا كانت دعواه باطلة لأنه خلاف الأصل ولا قرينة معه ، ومعلوم
أنه ليس في موارد الاستواء في القرآن والسنة موضع واحد قد اقترنت به قرينة تدل على
المجاز ، فكيف إذا كان السياق يقتضي بطلان ما ذكر من المجاز ، وأن المراد هو
الحقيقة.
الوجه
الرابع والعشرون : إن تجريد الاستواء من اللام واقترانه بحرف على وعطف فعله بثم على خلق السموات
والأرض ، وكونه بعد أيام التحليق وكونه سابقا في الخلق على السموات والأرض ، وذكر
تدبير أمر الخليقة معه الدال على كمال الملك ، فإن العرش سرير المملكة ، فأخبر أن
له سريرا كما قال أمية :
مجدوا الله فهو
للمجد أهل
|
|
ربنا في السماء
أمسى كبيرا
|
بالبنا الأعلى
الذي سبق الخل
|
|
ق وسوّى فوق
السماء سريرا
|
وصدقه رسول الله صلىاللهعليهوسلم واستنشده الأسود بن سريع ؛ فقد استوى على سرير ملكه يدبر
أمر الممالك. وهذا حقيقة الملك ، فمن أنكر عرشه وأنكر استواءه عليه ، أو أنكر
تدبيره ، فقد قدح في ملكه ، فهذه القرائن تفيد القطع بأن الاستواء على حقيقته كما
قال أئمة الهدى.
الوجه
الخامس والعشرون : إنه لو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لجاز أن يقال استوى على ابن آدم ،
وعلى الجبل ، وعلى الشمس ، وعلى القمر وعلى البحر والشجر والدواب ، وهذا لا يطلقه
مسلم.
فإن قيل : هذا
جائز وإنما خصص العرش بالذكر لأنه أجل المخلوقات وأرفعها وأوسعها ، فتخصيصه بالذكر
تنبيه على ما دونه (قيل) لو كان هذا صحيحا لم يكن ذكر الخاص منافيا لذكر العام ،
ألا ترى أن ربوبيته لما كانت عامة للأشياء لم يكن تخصيص العرش بذكره منها كقوله : (رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ) (التوبة : ١٢٩)
مانعا من تعميم إضافته كقوله : (رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ) (الأنعام : ١٦٤)
فلو كان الاستواء بمعنى الملك والقهر لكان لم يمنع إضافته إلى العرش إضافته إلى كل
ما سواه ، وهذا في غاية الظهور.
الوجه
السادس والعشرون : إنه إذا فسر الاستواء بالغلبة والقهر عاد معنى هذه الآيات كلها إلى أن الله
تعالى أعلم عباده بأنه خلق السموات والأرض ثم غلب العرش بعد ذلك وقهره وحكم عليه ،
أفلا يستحي من الله من في قلبه أدنى وقار لله بكلامه أن ينسب ذلك إليه ، وأنه
أراده بقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) أي
اعلموا يا عبادي أني بعد فراغي من خلق السموات والأرض غلبت عرشي وقهرته واستوليت
عليه.
الوجه
السابع والعشرون : إن أعلم الخلق به قد أطلق عليه أنه فوق عرشه كما في حديث ابن عباس والله فوق
العرش ، وفي حديث عبد الله بن رواحه الذي صححه ابن عبد البر وغيره.
وإن العرش فوق
الماء طاف
|
|
وفوق العرش رب
العالمين
|
وهذه الفوقية هو
تفسير الاستواء المذكور في القرآن والسنة ، والجهمية يجعلون كونه فوق العرش بمعنى
أنه خير من العرش أفضل منه كما يقال الأمير فوق الوزير والدينار فوق الدرهم ،
والمعنى عندهم أنه أعلم الأمة بأن الله خير وأفضل من العرش.
فيا للعقول ؛ أين
في لغة العرب حقيقة أو مجازا أو كناية واستعارة بعيدة أن يقال استوى على كذا إذا
كان أعظم منه قدرا وأفضل ، هذا من لغة الطماطم لا من لغة القوم الذين بعث فيهم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكتاب الله لا يحتمل هذا التأويل الباطل الذي تنفر عنه
العقول يوضحه :
الوجه
الثامن والعشرون : أن تفضيل الرب تعالى على شيء من خلقه لا يذكر في شيء من القرآن إلا ردا على من
اتخذ ذلك الشيء ندا لله تعالى فبين سبحانه أنه خير من ذلك الند كقوله تعالى (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى
عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى ، آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩).
وقوله تعالى حاكيا
عن السحرة (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى
ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا ، فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما
تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا ، إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا
خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٢ ، ٧٣)
وقوله تعالى : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ
كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (النمل : ١٧) فأما
أن يفضل نفسه على شيء معين من خلقه ابتداء فهذا لم يقع في كلام الله ولا هو مما
يقصد بالإخبار ، لأن قول القائل ابتداء : الله خير من ابن آدم وخير من السماء وخير
من العرش ، من جنس قول : السماء فوق الأرض والثلج بارد والنار حارة ، وليس في ذلك
تمجيد ولا تعظيم ولا مدح ، ولهذا لم يجيء هذا اللفظ في القرآن ، ولا في كلام
الرسول صلىاللهعليهوسلم ولا مما جرت عادة الناس بمدح الرب تعالي به مع تفنن مدحهم
ومحامدهم ، بل هو أرك كلام وأسمجه وأهجنه ، فكيف يليق بهذا الكلام الذي يأخذ
بمجامع القلوب عظمة وجلالة ، ومعانيه
أشرف المعاني
وأعظمها فائدة إن يكون معناه ان الله أفضل من العرش والسماء ، ومن المثل السائر
نظما :
ألم تر أن السيف
ينقص قدره
|
|
إذا قيل إن
السيف أمضى من العصا
|
وهذا بخلاف ما إذا
كان المقام يقتضي بذلك احتجاجا على مبطل وإبطالا لقول مشرك ، كما إذا رأيت رجلا
يعبد حجرا فقلت له : الله خير أم الحجر فيحسن هذا الكلام في هذا المقام ما لا يحسن
في قول الخطيب ابتداء : الحمد لله الذي هو خير من الحجارة ، ولهذا قال يوسف الصديق
عليهالسلام في احتجاجه على الكفار (يا صاحِبَيِ
السِّجْنِ ، أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ ، أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) وقال
تعالى : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩)
يوضحه :
الوجه
التاسع والعشرون : أن الرجل إذا تكلم بمثل هذا الكلام في حق المخلوق لكان مستهجنا جدا ، فلو قال
الشمس أضوأ من السراج ، والمساء أكبر من الرغيف وأعلى من سقف الدار ونحو ذلك ؛
لكان مستهجنا مستقبحا مع قرب النسبة بين المخلوق والمخلوق ، فكيف إذا قيل ذلك بين
الخالق تعالى والمخلوق ، مع تفاوت الذي بين الله وخلقه.
الوجه
الثلاثون : إن الاستيلاء الذي
فسروا به الاستواء ، إما أن يراد به الخلق أو القهر أو الغلبة أو الملك أو القدرة
عليه ، ولا يصح أن يكون شيء منها مرادا ، أما الخلق فلأنه يتضمن أن يكون خلقه بعد
خلق السموات والأرض ، وهذا بخلاف إجماع الأمة وخلاف ما دل عليه القرآن والسنة ،
وإن ادعى بعض الجهمية المتأخرين أنه خلق بعد خلق السموات والأرض وادعى الإجماع على
ذلك ، وليس العجب من جهله ، بل من إقدامه على حكاية الإجماع على ما لم يقله مسلم ،
ولا يصح أن يراد بقية المعاني للوجوه التي ذكرناها وغيرها ، فلا يجوز تفسير الآية
به ، ولهذا لم يقله عالم من علماء السلف بل صرحوا بخلافه كما قال أبو العالية علا
وارتفع وقال مجاهد : استقر. وقال مالك : الاستواء معلوم.
وقال يزيد بن
هارون : من زعم أن الرحمن فوق العرش استوى على خلاف ما يقر في قلوب العامة فهو
جهمي. وقد تقدم حكاية قول من قال : استوى بذاته واستوى بحقيقته ، فأوجدونا عمن
يقتدى بقوله في تفسير أو عن رجل واحد من الصحابة أو التابعين أو تابعيهم أو عن
إمام له في الأمة لسان صدق أنه فسر اللفظ باستولى ، ولن تجدوا إلى ذلك سبيلا.
الوجه
الحادي والثلاثون : إما أن يحيل العقل حمل الاستواء على حقيقته أو لا يحيله ، فإن أحاله العقل ولم
يتكلم أحد من الصحابة والتابعين وأئمة الإسلام في تفسيره بخلاف ما يحيله العقل ،
بل تفاسيرهم كلها مما يحيلها العقل لزم القدح في علم الأمة ونسبتها إلى أعظم الجهل
لسكوتهم عن بيان الحق وتكلمهم بالباطل وهذا شر من قول الرافضة ، وإن لم يحله العقل
وجب حمله على حقيقته لأنها الأصل والعقل لا يمنع منها.
الوجه
الثاني والثلاثون : أن أئمة السنة متفقون علي أن تفسير الاستواء بالاستيلاء إنما هو متلقى عن
الجهمية والمعتزلة والخوارج ، وممن حكى ذلك أبو الحسن الأشعري في كتبه ، وحكاه ابن
عبد البر والطلمنكي عنهم خاصة. وهؤلاء ليسوا ممن يحكى أقوالهم في التفسير ولا
يعتمد عليها. كما قال الأشعرى في تفسره الجبائي : كان القرآن قد نزل بلغة أهل
جبّاء ، وقد علم أن هؤلاء يحرفون الكلم ويفسرون القرآن بآرائهم ، فلا يجوز العدول
عن تفسير الصحابة والتابعين إلى تفسيرهم.
الوجه
الثالث والثلاثون : إن الاستيلاء يكون مع مزايلة المستولى للمستولى عليه ومفارقته كما يقال استولى
عثمان بن عفان على خرسان ، واستولى عبد الملك بن مروان على بلاد المغرب. واستولى
الجواد على الأمد ، قال الشاعر :
ألا لمثلك أو من
أنت سابقه
|
|
سبق الجواد إذا
استولى على الأمد
|
فجعله مستوليا
عليه بعد مفارقته له وقطع مسافته ، والاستواء لا يكون إلا مع مجاورة الشيء الذي
يستوى عليه كما استوت على الجودي (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) (الزخرف : ١٣) (فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ
مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ) وهكذا في جميع مورده في اللغة التي خوطبنا بها ، ولا يصح
أن يقال استوى على الدابة والسطح إذا نزل عنها وفارقها ، كما يقال استولى عليها ،
هذا عكس اللغة وقلب الحقائق ، وهذا قطعى بحمد الله.
الوجه
الرابع والثلاثون : إن نقل معنى الاستواء وحقيقته كنقل لفظه ، بل أبلغ ، فإن الأمة كلها تعلم
بالضرورة أن الرسول أخبر عن ربه بأنه استوى على عرشه ، من يحفظ القرآن منهم ومن لا
يحفظه ، وهذا المعنى عندهم كما قال مالك وأئمة السنة : الاستواء معلوم غير مجهول
كما أن معنى ـ السمع والبصر والقدرة والحياة والإرادة وسائر ما أخبر به عن نفسه
معلوم ، وإن كانت كيفيته غير معلومة للبشر ، فإنهم لم يخاطبوا بالكيفية ، ولم يرد
منهم العلم بها ، فإخراج الاستواء عن حقيقته المعلومة كإنكار ورود لفظه بل أبلغ ،
وهذا (مما) يعلم أنه مناقض لما أخبر الله به ورسوله يوضحه :
الوجه
الخامس والثلاثون : إن اللفظ إنما يراد لمعناه ومفهومه فهو المقصود بالذات ، واللفظ مقصود قصد
الوسائل ، والتعريف بالمراد ، فإذا انتفى المعنى وكانت إرادته محالا لم يبق في ذكر
اللفظ فائدة ، بل كان تركه أنفع من الإتيان به ، فإن الإتيان به إنما حصل منه
إيهام المحال والتشبيه ، وأوقع الأمة في اعتقاد الباطل ، ولا ريب أن هذا إذا نسب
إلى آحاد الناس كان ذمه أقرب من مدحه فكيف يليق نسبته إلى من كلامه هدى وشفاء
وبيان ورحمة ، هذا من أمحل المحال.
الوجه
السادس والثلاثون : إن ظاهر الاستواء وحقيقته هو العلو والارتفاع كما نص عليه جميع أهل اللغة وأهل
التفسير المقبول ، وقد صرح المنكرون للاستواء بأن الله لا يجوز أن يتكلم بشيء
ويعني به خلاف ظاهره كما قال صاحب «المحصول» وغيره ، وهذا لفظه : «لا يجوز أن
يتكلم الله بشيء ويعني
به خلاف ظاهره»
والخلاف مع المرجئة ، ثم احتج على ذلك بأنه عبث وهو على الله محال ، والذي احتج به
على المرجئة يحتج به عليه أهل السنة بعينه ، وهذا الذي قاله هو الحق وهو ما اتفق
عليه العقلاء ، فلا يجوز أن يتكلم الله بشيء ويريد به خلاف ظاهره إلا وفي السياق
ما يدل على ذلك بخلاف المجمل ، فإنه يجوز عندهم أن يتكلم به لأنه لم يرد به خلاف
ظاهره ، والفرق بينهما إيقاع الأول في اللبس واعتقاد الخطأ بخلاف المجمل ، فكيف
إذا كان مع ظاهره من القرآن ما ينفي إرادة غيره ، فدعوى إرادة غير الظاهر حينئذ
ممتنع من الوجهين.
الوجه
السابع والثلاثون : إن حقيقة هذا المجاز أنه ليس فوق السموات رب ، ولا على العرش إلا العدم المحض
، وليس هناك من ترفع إليه الأيدي ويصعد إليه الكلم الطيب ، وتعرج الملائكة والروح
إليه ، وينزل الوحى من عنده ويقف العباد بين يديه ، ولا عرج برسوله إليه حقيقة ،
ولا رفع المسيح إليه حقيقة ، ولا يجوز أن يشير إليه أحدنا بإصبعه إلى فوق كما فعل
النبي صلىاللهعليهوسلم ، ولا يجوز أن يقال أين هو كما قاله النبي صلىاللهعليهوسلم ولا يجوز أن يسمع من يقول أين ويقره عليه ؛ كما سمع رسول
الله صلىاللهعليهوسلم من السائل وأقره عليه ، ولا يراه المؤمنون بأبصارهم عيانا
فوقهم ، ولا له حجاب حقيقة يحتجب به عن خلقه ولا يقرب منه شيء ولا يبعد منه شيء ،
ونسبته من فوق السموات كلها إلي القرب منه كنسبه من في أسفل سافلين ، كلها في
القرب من ذاته سواء ، فهذا حقيقة هذا المجاز وحاصله ، ومعلوم أن هذا أشد (مناقضة)
لما جاءت به الرسل منه للمعقول الصريح ، فيكون من أبطل الباطل.
(أنواع تحريف الكلام)
الوجه
الثامن والثلاثون : إن الله سبحانه ذم المحرفين للكلم ؛ والتحريف نوعان : تحريف اللفظ وتحريف
المعنى ، فتحريف اللفظ العدول به عن جهته إلى غيرها ، أما بزيادة وإما بنقصان وإما
بتغيير حركة إعرابية ، وأما غير إعرابية ، فهذه أربعة أنواع ؛ وقد سلك فيها الجهمية
والرافضة ، فإنهم حرفوا نصوص الحديث
ولم يتمكنوا من
ذلك في ألفاظ القرآن ؛ وإن كان الرافضة حرفوا كثيرا من لفظه ، وادعوا أن أهل السنة
غيروه عن وجهه.
وأما تحريف المعنى
فهذا الذي جالوا فيه وصالوا وتوسعوا وسموه تأويلا ، وهو اصطلاح فاسد حادث لم يعهد
به استعمال في اللغة ، وهو العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته ، وإعطاء اللفظ معنى
لفظ آخر بقدر ما مشترك بينهما ، وأصحاب تحريف الألفاظ شر من هؤلاء من وجه وهؤلاء
شر من وجه ؛ فإن أولئك عدلوا باللفظ والمعنى جميعا عما هما عليه فأفسدوا اللفظ
والمعنى ؛ وهؤلاء أفسدوا المعنى وتركوا اللفظ على حاله ، فكانوا خيرا من أولئك من
هذا الوجه ، ولكن أولئك لما أرادوا المعنى الباطل حرفوا له لفظا يصلح له لئلا
يتنافر اللفظ والمعنى ، بحيث إذا أطلق ذلك اللفظ المحرف فهم منه المعنى المحرف ،
فإنهم رأوا أن العدول بالمعنى عن وجهه وحقيقته مع بقاء اللفظ على حاله مما لا سبيل
إليه ؛ فبدءوا بتحريف اللفظ ليستقيم لهم حكمهم علي المعنى الذي قصدوا.
الوجه
التاسع والثلاثون : إن استواء الرب المعدى بأداة (على) المعلق بعرشه المعرف باللام المعطوف بثم
على خلق السموات والأرض المطرد في موارده على أسلوب واحد ونمط واحد لا يحتمل إلا
معنى واحدا لا يحتمل معنيين البتة ؛ فضلا عن ثلاثة أو خمسة عشر كما قال صاحب (القواصم
والعواصم) إذا قال لك المجسم (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) فقل استوى على العرش يستعمل على خمسة عشر وجها فأيها تريد؟
فيقال له كلا
والذي استوى على العرش لا يحتمل هذا اللفظ معنيين البتة ، والمدعى الاحتمال عليه
بيان الدليل ، إذ الأصل عدم الاشتراك والمجاز ، ولم يذكر على دعواه دليلا ولا بين
الوجوه المحتملة حتى يصلح قوله : فأيها تريدون وأيها تعنون ، وكان ينبغى له أن
يبين كل احتمال ويذكر الدليل على ثبوته ، ثم يطالب حزب الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم بتعيين أحد الاحتمالات ، وإلا فهم يقولون لا نسلم احتماله
لغير معنى واحد ، فإن الأصل في الكلام الإفراد والحقيقة ، دون الاشتراك والمجاز
فهم في منعهم أولى بالصواب منك في تعدد الاحتمال ،
فدعواك أن هذا
اللفظ يحتمل خمسة عشر معنى ، دعوى مجردة ليست معلومة بضرورة ولا نص ولا إجماع ،
يوضحه :
الوجه
الأربعون : وهو أن يقال :
الاحتمالات التي ادعيتها تتطرق إلى لفظ الاستواء وحده المجرد عن اتصاله بأداة أم
إلى المقترن بواو المصاحبة أم إلى المقترن بإلى أم إلى المقترن بعلى ، أم إلى كل
واحد من ذلك وكذلك العرش الذي أدعيت أنه يحتمل عدة معان هو العرش المنكر غير
المعرف بأداة تعريف ولا إضافة أم المضاف إلى العبد كقول عمر كاد عرشي أن يعل ، أم
إلى عرش الدار وهو سقفها في قوله (خاوِيَةٌ عَلى
عُرُوشِها) (البقرة : ٢٥٩) أم
إلى عرش الرب تبارك وتعالى الذي هو فوق سماواته؟ أم إلى كل واحد من ذلك ، فأين
مواد الاحتمال حتى يعلم هى صحيحة أم باطلة ، فلا يمكنك أن تدعى ذلك في موضع معين
من هذه المواضع ، ودعواه بهت صريح وغاية ما تقدر عليه إنك تدعى مجموع الاحتمالات
في مجموع المواضع بحيث يكون كل موضع له معنى ، فأي شيء ينفعك هذا في الموضع المعين
، فسبحان الله أين هذا من القول السديد الذي أوصانا الله به في كتابه حيث يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (الأحزاب : ٧٠)
والسديد هو الذي يسد موضعه ويطابقه فلا يزيد عليه ولا ينقص منه ، وسداد السهم هو
مطابقته وإصابته الغرض من غير علو ولا انحطاط ولا تيامن ولا تياسر.
(والمقصود) إن
استواء الرب على عرشه المختص به الموصول بأداة (على) نص في معناه لا يحتمل سواه.
الوجه
الحادي والأربعون : أنا نمنع الاحتمال في نفس لفظ الاستواء مع قطع النظر عن صلاته المقرون بها
وأنه ليس له إلا معنى واحد وإن تنوع بتنوع صلاته كنظائره من الأفعال التي تنوع
معانيها بتنوع صلاتها كملت عنه وملت إليه ورغبت عنه ورغبت فيه ، وعدلت عنه وعدلت
إليه ، وفررت منه وفررت إليه ، فهذا لا يقال له مشترك ولا مجاز بل حقيقة واحدة
تنوعت دلالتها بتنوع صلاتها ، وهكذا لفظ الاستواء هو بمعنى الاعتدال حيث استعمل
مجردا أو مقرونا ، تقول سويته
فاستوى كما يقال
عدلته فاعتدل فهو مطاوع الفعل المتعدي ، وهذا المعنى عام في جميع موارد استعماله
في اللغة ، ومنه استوى إلى السطح ، أي ارتفع في اعتدال ، ومنه استوى على ظهر الدابة
، أي اعتدال عليها ، قال تعالى : (لِتَسْتَوُوا عَلى
ظُهُورِهِ) «وأهل رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما استوى على راحلته» فهو يتضمن اعتدالا واستقرارا عند
تجرده ويتضمن المقرون مع ذلك معنى العلو والارتفاع ، وهذا حقيقة واحدة تتنوع بتنوع
قيودها كما تتنوع دلالة الفعل بحسب مفعولاته وصلاته ، وما يصاحبه من أداة نفي أو
استفهام أو نهي أو إغراء فيكون له عند كل أمر من هذه الأمور دلالة خاصة والحقيقة
واحدة.
فهذا هو التحقيق
لا الترويج والتزويق ، وادعاء خمسة عشر معنى لما ليس له إلا معنى واحد ، وهذا شأن
جميع الألفاظ المطلقة إذا قيدت فإنها تتنوع دلالالتها بحسب قيودها ولا يخرجها ذلك
من حقائقها (فضرب) مع المثل له معنى وفي الأرض له معنى ، والبحر له معنى والدابة
له معنى إذ هو إمساس بإيلام ، فإن صاحبته أداة النفي صار له معنى آخر ، وإن كانت
أداة استفهام أو نهى أو تمن أو تخصيص اختلفت دلالته وحقيقته واحدة في كل وضع يقترن
به ما بين المراد.
فإذا قال قائل في
قوله تعالى : (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي
الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَ) (النساء : ٣٤) أن
الضرب له عدة معان فأيها المراد كان كالنظائر قول هذا القائل إن الرحمن على العرش
استوى له خمسة عشر وجها ، والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن في الوجه الأول
يتبين أن مجموع اللفظ وصلته يدلان علي غير ما دل عليه اللفظ مع الصلة الأخرى ، وفي
هذا الوجه يتبين أن مطلق اللفظ يدل علي المعنى المشترك وإن اختصاصه في محاله هو من
اقترانه بتلك الصلة ولا منافاة بينهما ، فالتركيب بحدث للمركب حالة أخرى سواء كان
المركب من المعانى أو من الألفاظ أو الأعيان أو الصفات مخلقوها ومصنوعها.
فعلى هذا إذا
اقترن استوى بحرف الاستعلاء دل على الاعتدال بلفظ الفعل
وعلى العلو بالحرف
الذي وصل به ، فإن اقتران بالواو دل على الاعتدال بنفسه وعلى معادلته بعد الواد
بواسطتها ، وإذا اقترن بحرف الغاية دل على الاعتدال بلفظه وعلى الارتفاع قاصدا لما
بعد حرف الغاية بواسطتها ، وزال بحمد الله الاشتراك والمجاز ووضح المعنى وأسفر
صبحه ، وليس الفاضل من يأتي إلى الواضح فيعقده ويعميه ، بل من يأتى إلي المشكل
فيوضحه ويبينه ، ومن الله سبحانه وتعالى البيان وعلى رسوله صلىاللهعليهوسلم البلاغ وعلينا التسليم.
ونحن نشهد أن الله
قد بين غاية البيان الذي لا بيان فوقه ، وبلغ رسوله صلىاللهعليهوسلم البلاغ المبين ، فبلغ المعانى كما بلغ الألفاظ ، والصحابة
بلغوا عنه الأمرين جميعا ، وكان تبليغه للمعانى أهم من تبليغه للألفاظ ، ولهذا
اشترك الصحابة في فهمها ، وأما حفظ القرآن فكان في بعضهم.
قال أبو عبد
الرحمن السلمي : حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن كعثمان وعبد الله بن مسعود
أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلىاللهعليهوسلم عشر آيات لم يجازوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل
جميعا.
وهذه الآثار
المحفوظة عن الصحابة والتابعين كلها متفقة على أن الله نفسه فوق عرشه ، وقال أئمة
السنة بذاته فوق عرشه وأن ذلك حقيقة لا مجاز وأكثر من صرح أئمة المالكية كما تقدم
حكاية ألفاظهم.
الوجه
الثاني والأربعون : إنا لو فرضنا احتمال اللفظ في اللغة لمعنى الاستيلاء والخمسة عشر معنى فالله
ورسوله صلىاللهعليهوسلم قد عين بكلامه منها معني واحدا ، ونوّع الدلالة عليه أعظم
تنويع حتى يقام بذلك ألف دليل ، فالصحابة كلهم متفقون لا يختلفون في ذلك المعنى
ولا التابعون وأئمة الإسلام ، ولم يقل أحد منهم أنه بمعنى استولى ، وإنه مجاز ،
فلا يضر الاحتمال بعد ذلك في اللغة لو كان حقا ، ولما سئل مالك وسفيان بن عيينة
وقبلهما ربيعة بن عبد الرحمن عن الاستواء فقالوا : الاستواء معلوم ، تلقى ذلك عنهم
جميع أئمة الإسلام ، ولم
يقل أحد منهم أنه
يحتاج إلى صرفه عن حقيقته إلى مجازه ، ولا إنه مجمل له مع العرش خمسة عشر معنى ،
وقد حرف بعضهم كلام هؤلاء الأئمة على عادته فقال معناه الاستواء معلوم لله ،
فنسبوا السائل إلى أنه كان يشك هل يعلم الله استواء نفسه أو لا يعلمه ولما رأى
بعضهم فساد هذا التأويل قال إنما أراد به أن ورد لفظه في القرآن معلوم ، فنسبوا
السائل والمجيب إلى اللغة فكأن السائل لم يكن يعلم أن هذا اللفظ في القرآن وقد قال
يا أبا عبد الله : الرحمن على العرش استوى كيف استوى؟ فلم يقل هل هذا اللفظ في
القرآن أو لا؟ ونسبوا المجيب إلى أنه أجابه بما يعلمه الصبيان في المكاتب ولا
يجهله أحد ، ولا هو مما يحتاج إلى السؤال عنه ولا استشكله السائل ، ولا خطر بقلب
المجيب إنه يسأل عنه ، والله تعالى أعلم.
* * *
(٤) المثال الرابع في
: اليدين
(المثال الرابع)
قوله تعالى : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) (بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤).
قالت الجهمية :
مجاز في النعمة أو القدرة ، وهذا باطل من وجوه :
أحدها
: أن الأصل الحقيقة
فدعوى المجاز مخالفة للأصل.
الثاني
: إن ذلك خلاف
الظاهر فقد اتفق الأصل والظاهر على بطلان هذه الدعوى.
الثالث
: إن مدعى المجاز
المعين يلزمه أمور (أحدها) إقامة الدليل الصارف عن الحقيقة إذ مدعيها معه الأصل
والظاهر ، ومخالفها مخالف لهما جميعا (ثانيهما) بيان احتمال اللفظ لما ذكره من
المجاز لغة وإلا كان منشئا من عنده وضعا جديدا (ثالثهما) احتمال ذلك المعنى في هذا
السياق المعين ، فليس كل ما احتمله اللفظ من حيث الجملة يحتمله هذا السياق الخاص ،
وهذا موضع غلط فيه من شاء الله ولم يبين أو يميز بين ما يحتمله اللفظ بأصل اللغة
وإن لم يحتمله في هذا التركيب الخاص وبين ما يحتمله فيه (رابعها) بيان القرائن
الدالة على المجاز الذي عينه بأنه المراد ، إذ يستحيل أن يكون هذا هو المراد من
غير قرينة في اللفظ تدل عليه البتة ، وإذا طولبوا بهذه الأمور الأربعة تبين عجزهم .
__________________
الوجه
الرابع : إن اطراد لفظها في
موارد الاستعمال وتنوع ذلك وتصريف استعماله يمنع المجاز ، ألا ترى إلي قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وقوله : (وَما قَدَرُوا اللهَ
حَقَّ قَدْرِهِ ، وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ،
وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ، سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر : ٦٧) فلو
كان مجازا في القدرة والنعمة لم يستعمل منه لفظ يمين ، وقوله في الحديث الصحيح «المقسطون عند الله
على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين» فلا يقال هذا يد النعمة والقدرة.
وقوله «يقبض الله سماواته
بيده والأرض باليد الأخرى ثم يهزمن ثم يقول أنا الملك» .
فهنا هز وقبض وذكر
يدين. ولما أخبرهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم جعل يقبض يديه ويبسطها تحقيقا للصفة لا تشبيها لها كما قرأ
(وَكانَ اللهُ
سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : ١٣٤)
ووضع يديه على عينيه وأذنيه تحقيقا لصفة السمع والبصر ، وأنهما حقيقة لا مجازا
وقوله : «ولما
خلق الله آدم قبض بيديه قبضتين وقال اختر ،
__________________
فقال : اخترت يمين
ربي وكلتا يديه يمين ، ففتحها فإذا فيها أهل اليمين من ذريته» .
وأضعاف أضعاف ذلك
من النصوص الصحيحة الصريحة في ثبوت هذه الصفة ، كقوله في الحديث «إن الله يبسط يده
بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من
مغربها» وقوله في الحديث المتفق على صحته «من تصدق بعدل تمرة من
كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، تقبلها بيمينه» وقوله : «ما السموات السبع في كف الرحمن ، إلا كخردلة في
كف أحدكم» وقوله في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في «مسنده» من حديث
أبي رزين «فيأخذ ربك غرفة من الماء فينضح بها قبلكم فلا يخطئ وجه أحدكم» يعنى في الموقف ، فهل يمكن أن يكون هذا من أوله إلى آخره
وأضعاف أضعافه مجازا لا حقيقة ، وليس معه قرينة واحدة تبطل الحقيقة وتبين المجاز.
الوجه
الخامس : إن اقتران لفظ
الطي والقبض والإمساك باليد يصير المجموع حقيقة ، هذا في الفعل ، وهذا في الصفة ،
بخلاف اليد المجازية فإنها إذا أريدت لم يقترن بها ما يدل على اليد حقيقة ، بل ما
يدل علي المجاز كقوله : له عندي يد ، وأنا قمت يدهم ونحو ذلك ، وأما إذا قيل : قبض
بيده ، وأمسك بيده ، أو قبض بإحدى يديه كذا وبالأخرى كذا ، وجلس عن يمينه ، أو كتب
كذا وعمله بيمينه أو بيديه ، فهذا فهذا لا يكون إلا حقيقة ، وإما أتى هؤلاء من
__________________
جهة أنهم رأوا
اليد تطلق على النعمة والقدرة في بعض المواضع ، فظنوا أن كل تركيب وسياق صالح لذلك
، فوهموا وأوهموا ، فهب أن هذا يصلح في قوله : لو لا يد لك لم أجزك بها ، أفيصلح
في قوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا
مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) (العنكبوت : ٤٨)
وفي قول عبد الله بن عمر : وإن الله لم يباشر بيده أو لم يخلق بيده إلا ثلاثا :
خلق آدم بيده ، وغرس جنة عدن بيده ، وكتب التوراة بيده ، أفيصح في عقل أو نقل أو فطرة أن يقال : لم يخلق بقدرته
أو بنعمته إلا ثلاثا.
الوجه
السادس : إن مثل هذا المجاز
لا يستعمل بلفظ التثنية ، ولا يستعمل إلا منفردا أو مجموعا كقولك : له عندي يد
يجزيه الله بها وله عندي أياد ، وأما إذا جاء بلفظ التثنية لم يعرف استعماله قط
إلا في اليد الحقيقية ، وهذه موارد الاستعمال أكبر شاهد فعليك بتتبعها.
الوجه
السابع : إنه ليس من
المعهود أن يطلق الله على نفسه معنى القدرة والنعمة بلفظ التثنية بل بلفظ الإفراد
الشامل لجميع الحقيقة ، كقوله : (أَنَّ الْقُوَّةَ
لِلَّهِ جَمِيعاً) (البقرة : ١٦٥)
وكقوله (وَإِنْ تَعُدُّوا
نِعْمَتَ اللهِ لا تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤)
وقد يجمع النعم كقوله (وَأَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً) (لقمان : ٢٠) وأما
أن يقول : خلقتك بقدرتين أو بنعمتين ، فهذا لم يقع في كلامه ولا كلام رسوله صلىاللهعليهوسلم.
الوجه
الثامن : إنه لو ثبت
استعمال ذلك بلفظ التثنية لم يجز أن يكون المراد به هاهنا القدرة ، فإنه يبطل
فائدة تخصيص آدم ، فإنه وجميع المخلوقات حتى
__________________
إبليس مخلوق
بقدرته سبحانه ، فأى مزية ولآدم على إبليس في قوله (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يوضحه :
(خلق آدم باليدين ينفي المجاز عنهما)
الوجه
التاسع : إن الله جعل ذلك
خاصة خص بها آدم دون غيره ، ولهذا قال له موسى وقت المحاجة : أنت الذي خلقك الله
بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء ؛ وكذلك يقول له أهل
الموقف إذا سألوه الشفاعة ، فهذه أربع خصائص له ؛ فلو كان المراد باليد القدرة
لكان بمنزلة أن يقال له : خلقك الله بقدرته فأي فائدة في ذلك ، يوضحه :
الوجه
العاشر : إنك لو وضعت
الحقيقة التي يدعي هؤلاء أن اليد مجاز فيها موضع اليد لم يكن في الكلام فائدة ، ولم
يصح وضعها هناك فإنه سبحانه لو قال : ما منعك أن تسجد لما خلقت بقدرتي ، وقال له
موسى : أنت أبو البشر الذي خلقك الله بقدرته ، وقال له أهل الموقف ذلك : لم يحسن
ذلك الكلام ولم يكن فيه من الفائدة شيء ، وتعالى الله أن ينسب إليه مثل ذلك فإن
مثل هذا التخصيص إنما خرج مخرج الفضل له على غيره وأن ذلك أمر اختص به لم يشاركه
فيه غيره ، فلا يجوز حمل الكلام على ما يبطل ذلك.
الوجه
الحادي عشر : إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يأبى حمل الكلام على القدرة لأنه نسب الخلق إلى نفسه
سبحانه ثم عدى الفعل إلى اليد ثم ثناها ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قوله :
كتبت بالقلم. ومثل هذا النص صريح لا يحتمل المجاز بوجه ، بخلاف ما لو قال : عملت
كما قال تعالى : (فَبِما كَسَبَتْ
أَيْدِيكُمْ) (الشورى : ٣٠) ـ (بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (الحج : ١٠) فإن
نسب الفعل إلى اليد ابتداء ، وخصها بالذكر لأنها آلة الفعل في الغالب ، ولهذا لما
لم يكن خلق الأنعام مساويا لخلق أبي الأنام قال تعالى : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) (يس : ٧١) فأضاف
الفعل إلى الأيدى وجمعها ولم يدخل عليها الباء فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد
الموضعين بالآخر ، ويتضمن التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام ، وهذا
من أبطل الباطل
وأعظم العقوق للأب ، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق باليدين.
الوجه
الثاني عشر : إن يد النعمة والقدرة لا يتجاوز بها لفظ اليد فلا يتصرف فيها بما يتصرف في
اليد الحقيقة ، فلا يقال كف لا للنعمة ولا للقدرة. ولا إصبع وإصبعان ولا يمين ولا
شمال ، وهذا كله ينفي أن يكون اليد نعمة أو يد قدرة ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم في الحديث الصحيح : «يد الله ملأى لا يغيضها نفقة» قال : «المقسطون
على منابر من نور عن يمين الرحمن» وفي حديث الشفاعة «فأقوم عن يمين الرحمن مقاما لا يقومه
غيري» وإذا ضممت قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً
قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ) (الزمر : ٦٧) إلى
قوله صلىاللهعليهوسلم «يأخذ الجبار سماواته
وأرضه بيده ثم يهزهن» وجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقبض يده ويبسطها .
وفي «صحيح مسلم»
يحكى عن ربه بهذا اللفظ وقال : «ما
من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن إن شاء يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه
أزاغه» ، ولفظة «بين» لا تقتضى المخالطة ولا المماسة والملاصقة
لغة ولا عقلا ولا عرفا ، قال تعالى : (وَالسَّحابِ
الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (البقرة : ١٦٤)
وهو لا يلاصق السماء ولا الأرض ، وقال في حديث الشفاعة ««وعدنى ربي أن يدخل
الجنة من أمتي أربعمائة ألف» فقال أبو بكر : زدنا يا رسول الله. قال : «وثلاث حثيات من حثيات
ربي ، فقال عمر ، حسبك يا أبا بكر ، فقال أبو بكر ، دعني يا عمر ، وما عليك أن
يدخلنا الجنة كلنا ، فقال عمر : إن شاء الله
__________________
أدخل
خلقه الجنة بكف واحدة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : صدق
عمر» . فصدقه في إثبات الكف لله وسعتها وعظمتها.
فهذا القبض والبسط
والطي باليمين والأخذ والوقوف عن يمين الرحمن والكف وتقليب القلوب بأصابعه ووضع
السموات على إصبع والجبال على إصبع ، فذكر إحدى اليدين. ثم قوله : «وبيده الأخرى»
ممتنع فيه اليد المجازية سواء كانت بمعنى القدرة أو بمعنى النعمة ، فإنها لا يتصرف
فيها هذا التصرف. هذه لغة العرب ، نظمهم ونثرهم ، هل تجدون فيها ذلك أصلا؟!.
الوجه
الثالث عشر : إن الله تعالى أنكر على اليهود نسبة يده إلى النقص والعيب ولم ينكر عليهم
إثبات اليد له تعالى فقال : (وَقالَتِ الْيَهُودُ
يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤)
فلعنهم على وصف يده بالعيب دون إثبات يده وقدر إثباتها به زيادة على ما قالوه
بأنهما يدان مبسوطتان وبهذا يعلم تلبيس الجهمية المعطلة على أشباه الأنعام حيث
قالوا إن الله لعن اليهود على إثبات اليد له سبحانه ، وأنهم مشبهة وهم أئمة
المشبهة. فتأمل هذا الكذب من هذا القائل والتلبيس ، وأن الآية صريحة بخلاف قوله.
الوجه
الرابع عشر : إن يد القدرة لا يعرف في الاستعمال أن يقال فيها يد فلان كذا هكذا ، فضلا أن
يقال فعل هذا بيمينه ، فضلا عن أن يقال فعله بيديه ، فضلا عن أن يقال فعله بيمينه
، وإنما المستعمل في يد القدرة والنعمة أن تكون مجردة عن الإضافة وعن التثنية وعن
نسبة الفعل إليها ، فيقال : لفلان عندي يد ، ولو لا يد له عندي ، ولا يكادون
يقولون يده أو يداه عندي ، وله عندي يده ويداه ، يوضحه :
الوجه
الخامس عشر : إن اليد حيث أريد بها النعمة أو القدرة فلا بد أن يقترن باللفظ ما يدل على ذلك
ليحصل المراد : فأما أن تطلق ويراد بها ذلك فهذا لا
__________________
يجوز ؛ كما إذا
أطلق البحر والأسد وادعى بذلك أنه أريد به الرجل الجواد والشجاع ، فهذا لا يجيزه
عاقل ، ولا يتكلم به إلا من قصده التلبيس والتعمية ، وحيث أراد تلك المعاني فإنه
يأتي من القرائن بما يدل على مراده ، فأين معكم في قوله (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) وقوله (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وقوله «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد الأخرى» : «فأقوم
عن يمين ربي» وقوله : «فيوقف بين يدي الرحمن» ما يدل على إرادة المجاز.
الوجه
السادس عشر : إن يد القدرة والنعمة لا يعرف استعمالها البتة إلا في حق من له يد حقيقة ؛
فهذه موارد استعمالها من أولها إلى آخرها مطردة في ذلك ، فلا يعرف العربي خلاف ذلك
، فاليد المضافة إلى الحي إما أن تكون يدا حقيقة أو مستلزمة للحقيقة ، وأما أن
تضاف إلى من ليس له يد حقيقة ، وهو حي متصف بصفات الأحياء فهذا لا يعرف البتة.
وسر هذا أن
الأعمال والأخذ والعطاء والتصرف لما كان باليد وهي التي تباشره عبروا بها عن
الغاية الحاصلة بها ، وهذا يستلزم ثبوت أصل اليد حتى يصح استعمالها في مجرد القوة
والنعمة الإعطاء ، فإذا انتفت حقيقة اليد امتنع استعمالها فيها فيما يكون باليد
فثبوت هذا الاستعمال المجازى من أدل الأشياء على ثبوت الحقيقة ، فقوله تعالى في حق
اليهود (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ) (التوبة : ٦٧) هو
دعاء عليهم بغل اليد المتضمن للجبن والبخل ، وذلك لا ينفي ثبوت أيديهم حقيقة ،
وكذلك قوله في المنافقين (وَيَقْبِضُونَ
أَيْدِيَهُمْ) كناية عن البخل ولا ينفي أن يكون لهم أيد حقيقة ، كذلك
قوله (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ) (الإسراء : ٢٩)
المراد به النهي عن البخل والتقتير والإسراف ، وذلك مستلزم لحقيقة اليد ، وكذلك
قوله تعالى : (أَوْ يَعْفُوَا
الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) (البقرة : ٢٣٧) أي
يتولى عقدها ، وهو إنما يعقدها بلسانه ولكن لا يقال ذلك إلا لمن له يد حقيقة ،
وكذلك قوله : (وَلَمَّا سُقِطَ فِي
أَيْدِيهِمْ) (الأعراف : ١٤٩)
هو كناية عن الندم وتيقن التفريط والإضاعة بمنزلة من سقط منه الشيء فحيل بينه
وبينه وأتى في هذا بلفظ (وفي) دون (من) لأن الندم سقط في أيديهم وثبت فيها واستقر
ولو قيل : سقط من أيديهم لم يدل على هذا المعنى. وعين لفظ اليد لهذا المعنى لوجهين
(أحدهما) أنه يقال لمن
حصل له شيء وإن لم
يقع في نفس يده حصل في يده كذا وكذا من الخير والشر ، كما يقال : كسبت يده وفعلت
يده ، وإن كان لغيرها من الجوارح.
الوجه
الثاني : إن الندم حدث
يحصل في القلب وأثره يظهر في اليد ، لأن النادم يعض يديه تارة ، ويضرب أحدهما
بالأخرى تارة ، قال تعالى : (فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ
كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها) (الكهف : ٤٢) وقال
تعالى : (وَيَوْمَ يَعَضُّ
الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ) (الفرقان : ٢٧)
فلما كان أكثر الندم يظهر على اليد أضيف سقوط الندم إليها ، لأن الذي يظهر للعيان
من فعل الندم هو تقليب الكف وعض الأنامل ، وأتى بهذا الفعل على بناء ما لم يسم
فاعله إيهاما لشأن الفعل كقولهم : دهى فلان وأصيب بأمر عظيم.
والمقصود أن مثل
ذلك لا يقال إلا لمن له يد حقيقة ؛ فإذا قيل سقط في يده عرف السائل أن هذا الكلام
مستلزم لحقيقة اليد ، ومن هذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم «أسرعكن لحوقا بي
أطولكن يدا» فكن يخرجن أيديهن ليعلمن أيهن أطول يدا ، فلما سبقتهن زينب
إلى اللحاق به ولم تك يدها الذاتية أطول من أيديهن علموا أنه أراد طولها بالصدقة ،
وكانت تسمى أم المساكين لكثرة صدقتها ، ومثل هذا اللفظ يحتمل المعنيين ولهذا فهم
نساؤه منه ؛ وهن أفصح نساء العرب اليد الحقيقية ، حتى تبين لهن أخيرا أنه طولها
بالصدقة ، وهذا من التعريض المباح بأن يذكر لفظا محتملا لمعنيين ، ومراده أحدهما
كقوله : «نحن
من ماء» وقوله : «ذاك الذي في عينيه بياض» وقوله : «الجنة لا يدخلها العجزة» وقول
__________________
الصديق هذا هاد
يهديني السبيل ، ولكن لا يستعمل طول اليد بالصدقة إلا في حق من له يد ذاتية ،
فسواء كان المراد بقوله أطولكن يد «اليد الذاتية» أو «اليد المعنوية» فهو مستلزم
لثبوت يد الذات ، وإن أطلق على ما تباشره يكون بها من الصدقة الإحسان ، فإن كان في
اللفظ ما يعين ذلك (فهو) حقيقة في المراد ، وإن لم يكن في اللفظ ما يعينه فهو
للكناية المستعملة في المصلحة ، فليس في ذلك ما ينفي حقيقة اليد لله بوجه من
الوجوه.
فإن قيل : كيف
تصنعون بيد الحائط في قول لبيد : إذا أصبحت بيد الشمال ذمامها.
وقول المتنبى :
وكم لظلام الليل
عندي من يد
|
|
تخبر أن
المانوية تكذب
|
وقد استعملت اليد
في ذلك كله في مواضع حقيقة.
قيل : لا يلزمنا
هذا السؤال لأنا قلنا متى أضيفت يد القدرة والنعمة إلى الحى استلزمت اليد الحقيقية
، وهذا استعمال مطرد غير متنقض وهذا يتعين :
__________________
الوجه
السابع عشر : وهو أن الإضافة في يد الشمال ويد الحائط ويد الليل بينت أن المضاف من جنس
المضاف إليه ، والإضافة في البعير والفرس وغيرهما من الحيوان كذلك ، والإضافة في
يد الملك والجن تبين أيضا أن يديهما من جنسيهما ، وكذلك الإضافة في يد الإنسان ،
وكل ذلك حقيقة ، كذلك إضافة اليدين إلى الرحمة في قوله (بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) (الفرقان : ٤٨)
وإلى النجوى في قوله (بَيْنَ يَدَيْ
نَجْواكُمْ صَدَقَةً) فإن بين يدي الشيء أمامه وقدامه ، وهذا مما يتنوع فيه
المضاف إليه ، وإن اختلفت ماهية الحقيقة وصفتها ، وتنوعت بتنوع المضاف إليه.
فإن قيل يد الله
ووجهه ، وسمعه وبصره ، وحياته وعلمه ، وقدرته ومشيئته وإتيانه واستواؤه ، كان ذلك
حقيقة ، والمضاف فيه بحسب المضاف إليه ، فإذا لم يكن المضاف إليه مماثلا لغيره ،
لزم أن يكون المضاف كذلك ضرورة ، فدعوى لزوم التشبيه والتمثيل في إثبات المضاف
حقيقة زعم كاذب ، فإن لزم من إثبات اليد حقيقة لله : التمثيل والتشبيه لزم ذلك في
إثبات سائر الصفات له حقيقة ، ويلزم ذلك في إثبات صفاته ، فإن الصفة القديمة متى
أشبهت صفات المخلوقين لزم وقوع التشبيه بين الذاتين.
الوجه
الثامن عشر : أن يقال ما الذي يضركم من إثبات اليد حقيقة ، وليس معكم ما ينفي ذلك من أنواع
الأدلة لا نقليها ، ولا عقليها ، ولا ضروريها ، ولا نظريها فإن فررتم من الحقيقة
خشية التشبيه ، والتمثيل ، ففروا من إثبات السمع ، والبصر والحياة ، والعلم ،
والإرادة ، والكلام خشية هذا المحذور.
ثم يقال لكم :
توهمكم لزوم التشبيه والتمثيل من إثبات هذه الصفة وغيرها وهم باطل وليس في
المخلوقات يد يمسك السموات والأرض وتطويها ، ويد تقبض الأرضين السبع ولا إصبع توضع
عليها الأرض ، وإصبع توضع عليها الجبال فلو كان في المخلوقات يد وإصبع يد هذا
شأنها لكان لكم عذر ما في توهم التشبيه والتمثيل من إثبات اليد الأصبع لله حقيقة ،
وإنما هذا تلبيس منكم علي ضعفاء العقول.
وإن فررتم خشية
التجسيم والتركيب ففروا من سائر الصفات من أولها إلى آخرها لأجل هذا المحذور ، فإن
ادعيتم أن التجسيم والتركيب يلزم مما فررتم منه دون ما لم تفروا منه ، ظهر بطلان
دعواكم للعقلاء قاطبة فإن الصفات أعراض لا تقوم بنفسها ، وقيامها بمحلها مستلزم
لما تدعون أنه تجسيم وتركيب.
ثم يقال لكم : ما
تريدون بالتجسيم والتركيب اللازم؟ أتريدون به ما تقوم به الصفات ، فكأنكم قلتم لا
تقوم به ، لأنها لو قامت به لزم قيامها به ، هذا حقيقة قولكم العقلاء فسويتم بين
اللازم والملزوم ونفيتم الشيء بنفسه ، أم تريدون به التركيب من الجواهر الفردة أو
من المادة والصورة ، فالملازمة ممنوعة ، وأكثر العقلاء على أن الأجسام المحدوثة
غير مركبة ، لا من هذا ولا من هذا ، فكيف يلزم من ثبوت الصفات للرب تعالى ، وإن
أردتم مماثلته لسائر الأجسام فهذا بناء منكم على أصلكم الفاسد عن كافة العقلاء أن
الأجسام متماثلة ، فادعيتم دعويين كاذبتين : لزوم التجسيم من إثبات صفاته ، ولزوم
تماثل الأجسام.
(والمقصود) أن ما
فررتم منه إن كان محذورا فهو غير لازم لإثبات الوجه واليد والسمع والبصر والعلو
وسائر الصفات ، وإن لم يكن محذورا فلا وجه للفرار ، بل هو لازم إثبات الصفات الذي
هو حق ، ولازم الحق حق ، فأنتم بين دعويين كاذبتين (إحداهما) دعوى ملازمة كاذبة أو
دعوى انتفاء لازم الحق في ثبوته ، فإما أن تحيطوا به في المقدمة اللزومية أو في
الاستثنائية أو فيهما ، وهذا مطرد في كل ما ادعيتم نفيه.
الوجه
التاسع عشر : إن هذه الألفاظ كلفظ اليدين والوجه إما إن يكون لها معنى أو تكون ألفاظا مهملة
لا معنى لها (والثاني) ظاهر الاستحالة ، وإذا لم يكن يد من إثبات معنى لها فلا ريب
أن ذلك المعنى قدر زائد على الذات وله مفهوم غير مفهوم الصفة الأخرى ، فأي محذور
لزم في إثبات حقيقة اليد لزم مثله في مجازها ، ولا خلاص لكم من ذلك إلا بإنكار أن
يكون لها معنى أصلا وتكون ألفاظا مجردة ، فإن المعنى المجازي إما القدرة وإما
الإحسان ، وهما صفتان قائمتان بالموصوف ، فإن كانتا حقيقتين غير مستلزمتين لمحذور
، فهلا حملتم اليد
على حقيقتها
وجعلتم الباب بابا واحدا ، وإن كانت مجازا وهو حقيقة قولكم فلا يد ولا قدرة ولا
إحسان في الحقيقة ، وإنما ذلك مجاز محض والفرق بين هذا الوجه والذي قبله أن ذلك
إلزام المجاز في الصفات التي وافقوا على أنها حقيقة ، وهذا إلزام نفي ما ادعوا أنه
مجاز اليد ، فيلزمهم نفي ذلك كله إن استلزم تشبيها أو تجسيما ، أو إثبات الجميع إن
لم يستلزم ذلك ، وأما كون بعض الصفات يستلزم التشبيه والتجسيم ، وبعضها لا يستلزمه
، فهذا غير معقول لا معلوم بصورة ولا نظر ، ولا نص ولا قياس.
الوجه
العشرون : إن إبطال حقيقة
اليد ونفيها وجعلها مجازا هو في الأصل قول الجهمية المعطلة ، وتبعهم عليه المعتزلة
وبعض المستأخرين ممن ينسب إلى الأشعري ، والأشعري وقدماء أصحابه يردون على هؤلاء
ويبدعونهم ويثبتون اليد حقيقة. قال عبد العزيز بن يحيى المالكي الكناني جليس
الشافعي والخصيص به ـ مات قبل الإمام أحمد ـ في كتابه «الرد على الجهمية والزنادقة»
قال :
يقال للجهمي : أتقول
إن لله وجها وله نفسا وله يدا؟ فيقول نعم لكن معنى وجه الله هو الله ، ومعنى نفسه
عينه ، ومعنى يده نعمته. قال : والجواب أن يقال له ـ فذكر كلاما يتعلق بالوجه
والنفس ـ ثم قال :
أما قوله في اليد
إنها يد نعمة ، كما تقول العرب : لك عندي يد ، فقد قال الله تعالى : (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) (آل عمران : ٢٦)
وقال : (فَسُبْحانَ الَّذِي
بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) (يس : ٨٣) وقال (تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك : ١) وقال
: (يَدُ اللهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ) (الفتح : ١٠) وقال
: (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) (المائدة : ٦٤)
قال : فزعم الجهمي أن يد الله نعمته ، فبدل قولا غير الذي قيل له ، فأراد الجهمى
أن يبدل كلام الله ، إذ أخبر أن له يدا بها ملكوت كل شيء ، فبدل مكان اليد نعمة.
وقال : العرب تسمي اليد نعمة ، قلنا له : العرب تسمي النعمة يدا ، وتسمى يد
الإنسان يدا ، فإذا أرادت يد الذات جعلت على قولها علما ودليلا يعقل به السامع
أنها أرادت الذات ، وإذا أرادت يد النعمة
جعلت على قولها
دليلا يعقل السامع كلامها أنها تريد باليد النعمة ، ولا تجعل كلامها مشتبها على
سامعه. ومن ذلك قول الشاعر :
ناولت زيدا بيدي
عطية
فدل بهذا القول
على يد الذات بالمناولة ، وبالياء حين قال : بيدي ، فجعل الياء استقصاء للعدد حين
لم يكن له غير يدين ، وقال الآخر حين أراد يد النعمة.
اشكر يدين لنا
عليك وأنعما
|
|
شكرا يكون
مكافئا للمنعم
|
فدل على يد النعمة
بقوله : (لنا عليك) ثم قال : (وأنعما) ثم قال : (يدين) فجعل النون مكان الياء ، لم
يستقص بهما العدد ، فهذا قول العرب ومذهبها في لغاتها. والله تعالى لم يسم في
كتابه يدا بنعمة ؛ ولم يسم نعمة يدا. سمى الله سبحانه اليد يدا والنعمة نعمة في
جميع القرآن.
فأما ما ذكره
سبحانه من يديه ويده فقد ذكرت ذلك في صدر هذا الكلام.
وأما النعمة التي
هي غير اليد فمن ذلك قوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ
اللهِ عَلَيْكُمْ) (البقرة : ٢٣١)
وقوله : (وَما بِكُمْ مِنْ
نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (النحل : ٥٣)
وقوله : (وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) (المائدة : ٣) وقوله
: (وَإِذْ تَقُولُ
لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) (الأحزاب : ٣٧)
فسمى الله تعالى النعم باسم النعمة ولم يسمها بغير أسمائها. ومثل هذا في القرآن
كثير ، وذكر تعالى أيدي المخلوقين فسماها بالأيدي ، فقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى
عُنُقِكَ) (الإسراء : ٢٩) ،
وقال تعالى : و (السَّارِقُ
وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (المائدة : ٣٨)
وقال : (وَالْمَلائِكَةُ
باسِطُوا أَيْدِيهِمْ) (الأنعام : ٩٣)
فهذه أيد لا نعمة ، وذكر نعمته على زيد ونعمة النبي صلىاللهعليهوسلم عليه فسماها نعمة لم يسمها يدا ، ثم أخبر سبحانه عن يديه
إنها يدان لا ثلاثة ، وجعل الياء استقصاء للعدد حين قال : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما
خَلَقْتُ بِيَدَيَ) (ص : ٧٥) فدل على
أنهما يدا الذات ، لا يتعارف العرب في لغاتها ولا أشعارها إلا أن هاتين اليدين يدا
الذات
لاستقصاء العدد
بالياء. وأما نعم الله فهي أكثر وأعظم من أن تحصر أو تعد ، قال الله تعالى : (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا
تُحْصُوها) (إبراهيم : ٣٤)
قال :
اعلم رحمك الله أن
قائل هذه المقالة جاهل بلغة القرآن وبلغة العرب ومعانيها وكلامها وذلك أن الله إذا
افتتح الخبر عن نفسه بلفظ الجمع ختم الكلام بلفظ الجمع ، وإذا افتتح الكلام بلفظ
الواحد ختم الكلام بلفظ الواحد ، وإنما يعني الخبر عن نفسه وإن كان اللفظ جمعا ،
فأما ما كان من لفظ الواحد فهو قوله تعالى : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (الإسراء : ٢٣)
فامتنح الخبر عن نفسه بلفظ الواحد ، ويمثله ختم الكلام فقال (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقال : (وَقُلْ رَبِّ
ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً) (الإسراء : ٢٤)
وقال : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ
بِكُمْ) (الإسراء : ٥٤)
أما ما افتتحه بلفظ الجمع فهو قوله : (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ) (الإسراء : ٤)
فافتتحه بلفظ الجمع ثم ختمه بمثل ما افتتحه به فقال : (فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا
عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا) (الإسراء : ٥)
وإنما عنى بذلك نفسه لأنها كلمة ملوكية تقولها العرب.
(وروي) أن ابن
عباس لقي أعرابيا ومعه ناقة فسأله لمن هذه؟ فقال الأعرابي : لنا ، فقال له ابن
عباس كم أنتم؟ فقال أنا واحد ، فقال ابن عباس هكذا قول الله تعالى نحن وخلقنا ،
وقضينا ، إنما يعني نفسه والمبهم يرد إلى المحكم ، فكل كلمة في القرآن من لفظ جمع
قبلها محكم من التوحيد ترد إليه ، فمن ذلك قوله : (وَقَضَيْنا إِلى
بَنِي إِسْرائِيلَ) يرد إلى قوله : (وَقَضى رَبُّكَ
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) وقوله : (وَخَلَقْناكُمْ
أَزْواجاً) يرد إلى قوله : (إِنَّما أَمْرُهُ) وقوله : (لَمَّا جاءَ أَمْرُ
رَبِّكَ) وكذلك قوله : (أَوَلَمْ يَرَوْا
أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً) يرد إلى قوله : (لِما خَلَقْتُ
بِيَدَيَ) فلما افتتح الكلام بلفظ الجمع فقال (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا
لَهُمْ) قال (أَيْدِينا) ولما افتتح بقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ
لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ختم الكلام على ما افتتحه به ، فهذا بيان لقوم يفقهون.
وقد كان أكثر قسم
النبي صلىاللهعليهوسلم إذا قسم أن يقول : لا والذي نفس محمد بيده ، وهذا لا يليق
بيد النعمة ، وهذا قول النبي صلىاللهعليهوسلم يصدق كتاب الله. انتهى كلامه.
(قول الأشعرى بإثبات اليد حقيقة لله)
ولو ذكرنا كلام
السلف في ذلك لطال جدا ، والأشعري في كتبه يصرح بإثبات الصفات الخبرية في كتبه
كلها ، ومعلوم أن أحدا لا ينكر لفظها ، وإنما أنكروا حقائقها ، ومعانيها الظاهرة ،
وكلام الأشعري موجود في «الإبانة» و «الموجز» و «المقالات» ، وموجود في تصانيف
أئمة أصحابه ، وأجلهم على الإطلاق القاضي أبو بكر بن أبي الطيب وقد ذكر ذلك في
كتاب «الإبانة» «والتمهيد» وغيرهما ، وذكره ابن فورك فيما جمعه من كلام ابن كلاب
وكلام الأشعري ، وذكره البيهقي في «الأسماء والصفات» و «الاعتقاد» ، وذكره القشيرى
في كتاب «الشكاية» له ، وذكره ابن عساكر في كتابه «تبيين كذب المفتري» حتى ابن
الخطيب والسيف الآمدي حكوا ذلك عن الأشعري وأنه أثبت اليدين صفة لله ، ولكن غلطوا
حيث ظنوا أن له قولين في ذلك ؛ وهذه كتبه كلها ليس فيها إلا الإثبات فهو الذي
يحكيه عن أهل السنة وينصره ، ويحكي خلافه عن الجهمية والمعتزلة.
نعم كان قبل ذلك
بقول بقول المعتزلة ثم رجع عنه وصرح بخلافهم واستمر على ذلك حتى مات.
قال الأشعري في
كتابه الذي ذكر ابن عساكر أنه آخر كتبه وعليه اعتمد في ذكر مناقبه واعتقاده قال :
فإن سألنا سائل فقال ما تقولون إن لله يدين؟ قيل نعم نقول ذلك لقوله تعالى (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ولقوله صلىاللهعليهوسلم : «خلق
الله آدم بيده وغرس جنة طوبى بيده» وقال تعالى : (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ) وفي الحديث «كلتا يديه يمين» وليس يجوز في لسان العرب ولا في عادة أهل الخطاب أن
__________________
يقولوا لقائل عملت
كذا وكذا بيدي : هو بمعنى النعمة إذا كان الله خاطب العرب بلغاتها وما تجده مفهوما
في كلامها ومعقولا في خطابها ، وإذ لا يجوز في خطابها أن يقول القائل فعلت بيدي
ويعني النعمة ، بطل أن يكون معنى بيدي النعمة ـ وساق الكلام في إنكار هذا التأويل
وأطاله جدا وقرر أن لفظ اليدين على حقيقته وظاهره ، وبين أن اللغة التي أنزل بها
القرآن لا تحتمل ما تأولت الجهمية.
وقال لسان أصحابه
وأجلهم ابن الطيب في كتاب «التمهيد» وهو أشهر كتبه : فإن قال القائل فما الحجة في
أن لله وجها ويدين (قيل له) قوله تعالى : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) وقوله : (ما مَنَعَكَ أَنْ
تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، فأثبت لنفسه وجها ويدين ، فإن قالوا : بم أنكرتم أن يكون
المعنى خلقت بيدي إنه خلقه بقدرته أو بنعمته ، لأن اليدين في اللغة تكون بمعنى
النعمة وبمعنى القدرة ، كما يقال لفلان عندى يد بيضاء ، وهذا شيء في يد فلان وتحت
يده ، ويقال رجل أيد إذا كان قادرا ، كما قال تعالى : (خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ
أَيْدِينا أَنْعاماً) يريد عملنا بقدرتنا وقال الشاعر :
إذا ما راية
رفعت لمجد
|
|
تلقاها عرابة
باليمين
|
وكذلك قوله : (خَلَقْتُ بِيَدَيَ) يعني بقدرته ونعمته ، قال : فيقال له هل هذا باطل إذ قوله (بيدي)
يقتضي إثبات يدين هما صفة له ، فلو كان المراد بهما القدرة لوجب أن يكون له قدرتان
، وأنتم تزعمون أن لله تعالى قدرة واحدة ، فكيف يجوز أن يجوز أن تثبتوا قدرتين ،
وقد أجمع المسلمون المثبتون للصفات والنافون لها على أنه لا يجوز أن يكون لله
تعالى قدرتان ، فبطل ما قلتم.
وكذلك لا يجوز أن
يكون خلق الله آدم بنعمتين ، لأن نعم الله تعالى على آدم وغيره لا تحصى ، لأن
القائل لا يجوز أن يقول رفعت الشيء أو وضعته بيدي أو توليته بيدي وهو يريد نعمته ،
وكذلك لا يجوز أن يقال لي عند فلان يدان يعني نعمتين ، وإنما يقال لي عنده يدان
بيضاوان ، ولأن فعلته بيدي لا يستعمل إلا في اليد التي هي صفة الذات.
ويدل على فساد
تأويلهم أيضا أنه لو كان الأمر على ما قالوه لم يغفل عن ذلك
إبليس وأن يقول
وأي فضل لآدم عليّ يقتضي له وأنا أيضا بيدك خلقتني ، وفي العلم بأن الله تعالى فضل
آدم عليه بخلقه بيديه دليل على فساد ما قالوه ، فإن قال القائل : فما أنكرتم أن
تكون يده ووجهه جارحة إذ كنتم لا تعقلون يدا ووجها هما صفة غير الجارحة ـ قلنا لا
يجب ذلك كما لا يجب إذا لم نعقل حيا عالما قادرا إلا جسما أن نقضي نحن وأنتم ذلك
على الله ، وكما لا يجب إذا كان قائما بذاته أن يكون جوهرا لأنا وإياكم لم نجد
قائما بنفسه في شاهدنا إلا كذلك (الجواب لهم) أن قالوا : فيجب أن يكون علمه وكلامه
وحياته وسائر صفات ذاته أعراضا وأجساما وأجناسا أو حوادث أو أغيارا له تعالى
ومحتاجة إلى قلب ، ولو تتبعنا التقول عن أهل السنة لزادت على المائتين.
* * *
خاتمة لهذا الفصل
(ذكر بعض الآيات والأحاديث التى وردت في لفظ اليد)
ورد لفظ اليد في
القرآن والسنة وكلام الصحابة والتابعين في أكثر من مائة موضع ورودا متنوعا متصرفا
فيه مقرونا بما يدل على أنها يد حقيقة من الإمساك والطى والقبض والبسط والمصافحة
والحثيات والنضج باليد ، والخلق باليدين والمباشرة بهما وكتب «التوراة» بيده وغرس
جنة عدن بيده ، وتخمير طينة آدم بيده ، ووقوف العبد بين يديه وكون المقسطين عن
يمينه وقيام رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم القيامة عن يمينه ، وتخيير آدم بين ما في يديه ، فقال
اخترت يمين ربي ، وأخذ الصدقة بيمينه يربيها لصاحبها ، وكتابه بيده على نفسه أن
رحمته تغلب غضبه ، وأنه مسح ظهر آدم بيده ثم قال له ويداه مفتوحتان : اختر فقال
اخترت يمين ربي وكلتا يديه يمين مباركة ، وأن يمينه ملآء لا يغيضها نفقة سحاء
الليل والنهار ، وبيده الأخرى القسط يرفع ويخفض ، وأنه خلق آدم من قبضة قبضها من
جميع الأرض ، وأنه يطوي السموات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يطوي الأرض
باليد الأخرى ، وأنه خط الألواح التي كتبها لموسى بيده.
وذكر عثمان بن
سعيد الدارمي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن الملائكة قالت : يا رب
قد أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويشربون
ويلبسون ، فاجعل
لنا الآخرة كما جعلت لهم الدنيا؟ فقال : لا أفعل ، فأعادوا ذلك. فقال لا أفعل
فأعادوا ذلك عليه فقال «وعزتي لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان»
ورواه عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» عن النبي صلىاللهعليهوسلم مرسلا .
وقوله : «الأيدي ثلاثة ، فيد
الله العليا ويد المعطي التي تليها ، ويد السائل السفلى» فهل يصح في عقل أو لغة أو عرف أن يقال : قدرة الله أو
نعمته العليا ويد المعطي التي تليها فهل يحتمل هذا التركيب غير يد الذات بوجه ما
وهل يصح أن يراد به غير ذلك وكذلك قوله : «اليد العليا خير من اليد السفلى ، واليد
العليا هي المنفقة» واليد السفلى هي السائلة فضم هذا إلى قوله : الأيدي ثلاثة ، فيد الله العليا
، ويد المعطى هي التي تليها ، وإلى قوله (بَلْ يَداهُ
مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ) (المائدة : ٦٤)
تقطع بالضرورة أن المراد يد الذات لا يد القدرة والنعمة ، فإن التركيب والقصد
والسياق لا يحتمله البتة.
وتأمل قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما
يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (الفتح : ٦٤) فلما
كانوا يبايعون رسول الله صلىاللهعليهوسلم بأيديهم ، ويضرب بيده على أيديهم ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو السفير بينه وبينهم ، كانت مبايعتهم له مبايعة لله
تعالى ، ولما كان سبحانه فوق سماواته على عرشه فوق الخلائق كلهم ، كانت يده فوق
أيديهم ، كما أنه سبحانه فوقهم ، فهل يصح هذا لمن ليس له يد حقيقية ، فكيف يستقيم
أن يكون المعنى قدرة الله ونعمته فوق قدرهم ونعمهم ، أم تقتضي المقابلة أن يكون
المعنى هو الذي يسبق إلى الأفهام من هذا الكلام.
__________________
وكذلك قوله «ما تصدق أحد صدقة من
طيب ـ ولا يقبل الله إلا الطيب ـ إلا أخذها الرحمن بيمينه ، وإن كانت تمرة ، فتربو
في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل» فهل يحتمل هذا الكلام غير الحقيقة.
وهب أن اليد
تستعمل في النعمة ، أفسمعتم أن اليمين والكف يستعملان في النعمة في غير الوضع
الجديد الذي اخترعتموه وحملتم عليه كلام الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
وكذلك «وبيده الأخرى القسط» هل يصح أن يكون المعنى وبقدرته الأخرى وهل يصح في قوله : «إن
المقسطين عن يمين الرحمن» إنه عن قدرته في لغة من اللغات وهل سمعتم باستعمال اليمين
في النعمة والكف في النعمة ، وكيف يحتمل قوله «إن الله أخذ ذرية آدم من ظهره ، ثم
أفاض بهم في كفه» كف النعمة والقدرة ، وهذا لم تعهدوا وأنتم ولا أسلافكم به
استعمالا البتة سوى الوضع الجديد الذي اخترعتموه.
وكذلك قوله : «خمر الله طينة آدم ثم
ضرب بيده فيها فخرج كل طيب بيمينه وكل خبيث بيده الأخرى ثم خلط بينهما» ، فهل يصح في هذا السياق غير الحقيقة؟ فضع لفظ النعمة
والقدرة هاهنا ، ثم انظر هل يستقيم ذلك ، وهل يصح في قوله : «والخير كله في يديك»
أن يكون في نعمتيك أو في قدرتيك.
وقال عبد الله بن
الحارث عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله خلق آدم بيده وكتب التوراة بيده وغرس جنة عدن بيده» أفيصح أن يخص
الثلاث بقدرته ، ولا سيما لفظ الحديث «إن الله لم يخلق بيده إلا ثلاثة أشياء» أفيصح أن توضع النعمة والقدرة موضع اليد هاهنا.
* * *
__________________
(٥) المثال الخامس في
: إثبات الوجه لله سبحانه
(المثال الخامس) :
وجه الرب جل جلاله حيث ورد في الكتاب والسنة فليس بمجاز بل على حقيقته ، واختلف
المعطلون في جهة التجوز في هذا ، فقالت طائفة : لفظ الوجه زائدا ، والتقدير :
ويبقى ربك ، إلا ابتغاء ربه الأعلى ، ويريدون ربهم.
وقالت فرقة أخرى
منهم : الوجه بمعنى الذات ، وهذا قول أولئك وإن اختلفوا في التعبير عنه. وقالت
فرقة : ثوابه وجزاؤه ، فجعله هؤلاء مخلوقا منفصلا ، قالوا لأن الذي يراد هو
الثواب. وهذه أقوال نعوذ بوجه الله العظيم من أن يجعلنا من أهلها. قال عثمان بن
سعيد الدارمي ، وقد حكى قول بشر المريسي أنه قال في قول النبي صلىاللهعليهوسلم «إذا قام العبد
يصلي أقبل الله عليه بوجهه» يحتمل أن يقبل الله عليه بنعمته وإحسانه وأفعاله وما أوجب
للمصلي من الثواب ، فقوله : و «ويبقي وجه ربك» أي ما توجه به إلى ربك من الأعمال
الصالحة. وقوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥) أي
قبلة الله.
قال الدارمي : لما
فرغ المريسي من إنكار اليدين ونفيهما عن الله أقبل على وجه الله ذي الجلال
والإكرام لينفيه عنه كما نفى عنه اليدين ، فلم يدع غاية في إنكار وجه الله ذي
الجلال والإكرام والجحود به حتى ادعى أن وجه الله ـ الذي
__________________
وصفه بأنه ذو
الجلال والإكرام ـ مخلوق ، لأنه ادعى أنه أعمال مخلوقة يتوجه بها إليه ، وثواب
وإنعام مخلوق يثبت به العامل ، وزعم أنه قبلة الله ، وقبلة الله لا شك مخلوقة.
ـ ثم ساق الكلام
في الرد عليه ـ والقول بأن لفظ الوجه مجاز باطل من وجوه :
أحدها
: إن المجاز لا
يمتنع نفيه ، فعلى هذا ألا يمتنع أن يقال ليس لله وجه ولا حقيقة لوجهه ، وهذا
تكذيب صريح لما أخبر به عن نفسه وأخبر به عنه رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
الثاني
: إنه خروج عن الأصل
(والظاهر) بلا موجب.
الثالث
: إن ذلك يستلزم كون
حياته وسمعه وبصره وقدرته وكلامه وإرادته وسائر صفاته مجاز لا حقيقة كما تقدم
تقريره.
الرابع
: إن دعوى المعطل أن
الوجه صلة كذب على الله وعلى رسوله وعلى اللغة فإن هذه الكلمة ليست مما عهد
زيادتها.
الخامس
: إنه لو ساغ ذلك
لساغ لمعطل آخر أن يدعي الزيادة في قوله : أعوذ بعزة الله وقدرته. ويكون التقدير
أعوذ بالله ، ويدعي معطل آخر الزيادة في سمعه وبصره وغير ذلك.
السادس
: إن هذا يتضمن
إلغاء وجهه لفظا ومعنى ، وإن لفظه زائد ومعناه منتف.
السابع
: ما ذكره الخطابي
والبيهقي وغيرهما ، قالوا لما أضاف الوجه إلى الذات وأضاف النعت إلى الوجه فقال : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧) دل
على أن ذكر الوجه ليس بصلة وأن قوله : (ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) صفة للوجه وأن الوجه صفة للذات.
قلت : فتأمل رفع
قوله (ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) عند ذكره الوجه وجره في قوله (تَبارَكَ اسْمُ
رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٧٨) فذو
الوجه
المضاف بالجلال
والإكرام لما كان القصد الإخبار عنه ، وذي المضاف إليه بالجلال والإكرام في آخر
السورة لما كان المقصود عين المسمي دون الاسم فتأمله.
الثامن
: إنه لا يعرف في
لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعني ذاته ونفسه ، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب
أن قال : وهو كقوله وجه الحائط ووجه الثوب ووجه النهار ووجه الأمر (فيقال) فهذا (المعطل)
المشبه : ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات بل هذا مبطل لقولك ، فإن وجه الحائط أحد
جانبيه فهو مقابل لدبره ، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها ، فهو وجه حقيقة ، ولكنه
بحسب المضاف إليه ، فلما كان المضاف إليه بناء كان وجهه من جنسه ، وكذلك وجه الثوب
أحد جانبيه وهو من جنسه ، وكذلك وجه النهار أوله ولا يقال لجميع النهار. وقال ابن
عباس وجه النهار أوله ، ومنه قولهم : صدر النهار. قال ابن الأعرابي : أتيته بوجه
نهار وصدر نهار وأنشد للربيع بن زياد :
من كان مسرورا
بمقتل مالك
|
|
فليأت نسوتنا
بوجه نهار
|
والوجه في اللغة
مستقبل كل شيء لأنه أول ما يواجه منه ، ووجه الرأى والأمر ما يظهر أنه صوابه ، وهو
في كل محل بحسب ما يضاف إليه ، فإن أضيف إلى زمن كان الوجه زمنا ، وإن أضيف إلى
الحيوان كان بحسبه ، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط كان بحسبه ، وإن أضيف إلى من (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) كان وجهه تعالي كذلك.
التاسع
: إن حمله على
الثواب من أبطل الباطل ، فإن اللغة لا تحتمل ذلك ولا يعرف أن الجزاء يسمى وجها
للمجازي.
العاشر
: إن الثواب مخلوق :
فقد صح عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه استعاذ بوجه الله فقال «أعوذ بوجهك الكريم أن تضلني ؛
لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون» رواه أبو داود وغيره .
__________________
ومن دعائه يوم
الطائف : «أعوذ
بوجهك الكريم الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة» ولا يظن برسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يستعيذ بمخلوق. وفي «صحيح البخاري» أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنزل عليه (قُلْ هُوَ الْقادِرُ
عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ) قال أعوذ بوجهك (أَوْ مِنْ تَحْتِ
أَرْجُلِكُمْ) .
وقال علي بن أبي
طالب رضي الله عنه. أمرني رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : إذا أخذت مضجعك فقل : «أعوذ بوجهك الكريم
وكلماتك التامات من شر ما أنت آخذ بناصيته ، اللهم أنت تكشف المأثم والمغرم ،
اللهم لا يهزم جندك ولا يخلف وعدك ولا ينفع ذا الجد منك الجد ، سبحانك وبحمدك» وإسناده كلهم ثقات.
وفي «الموطأ» أنه
لما كان ليلة الجن أقبل عفريت من الجن وفي يديه شعلة من نار فجعل النبي صلىاللهعليهوسلم يقرأ القرآن فلا يزداد إلا قربا ، فقال له جبريل عليهالسلام ألا أعلمك كلمات تقولهن ينكب منها لفيه وتطفأ شعلته ، قل :
«أعوذ
بوجه الله الكريم وكلمات الله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما ينزل
من السماء ، ومن شر ما يعرج فيها ، ومن شر ما ذرأ في الأرض وما يخرج منها ، ومن شر
فتن الليل والنهار ومن شر طوارق الليل ، ومن شر كل طارق (إلا طارقا)
__________________
يطرق بخير يا
رحمان» فقالها فانكب لفيه ، وطفئت شعلته ، أرسله مالك ووصله غيره .
الحادي
عشر : أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يدعو في دعائه «أسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى
لقائك» ولم يكن ليسأل لذة النظر إلى الثواب ، ولا يعرف تسمية ذلك
وجها لغة ولا شرعا ولا عرفا.
الثاني
عشر : أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «من
استعاذ بالله فأعيذوه ، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه» وفي «السنن» من حديث جابر عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لا
ينبغى لأحد أن يسأل بوجه الله إلا الجنة» .
فكان طاوس يكره أن
يسأل الإنسان بوجه الله ، وجاء رجل إلى عمر بن عبد العزيز فرفع إليه حاجته ثم قال
: أسألك بوجه الله ، فقال عمر : لقد سألت بوجه الله فلم يسأل شيئا إلا أعطاه إياه
، ثم قال عمر : ويحك ألا سألت بوجه الله الجنة. ولو كان المراد بوجهه مخلوقا من
مخلوقاته لما جاز أن يقسم عليه ويسأل به ولا كان ذلك أعظم من السؤال به سبحانه.
وهذه الآثار صريحة
في أن السؤال بوجهه أبلغ وأعظم من السؤال به ،
__________________
فقد قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم «لا يسأل بوجه
الله إلا الجنة» فدل على بطلان قول من قال هو ذاته.
الثالث
عشر : ما رواه مسلم في «صحيحه»
من حديث أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إن
الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل
عمل النهار ، وعمل النهار قبل الليل حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما
انتهى إليه بصره من خلقه» فإضافة السبحات التي هي الجلال والنور إلى الوجه وإضافة البصر إليه ، تبطل كل
مجاز وتبين أن المراد وجهه.
الرابع
عشر : ما قاله عبد الله
بن مسعود : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه فهل يصح أن يحمل الوجه في هذا على مخلوق أو يكون صلة لا
معنى له ، أو يكون بمعنى القبلة والجهة ، وهذا مطابق لقوله عليهالسلام : «وأعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، فأضاف النور إلى الوجه ، والوجه إلى الذات ، واستعاذ بنور
الوجه الكريم ، فعلم أن نوره صفة له ، كما أن الوجه صفة ذاتية ، والذي قاله ابن
مسعود هو تفسير قوله : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ
وَالْأَرْضِ) (النور : ٣٥) فلا
تشتغل بأقوال المتأخرين الذين غشيت بصائرهم عن معرفة ذلك ، فخذ العلم عن أهله ،
فهذا تفسير الصحابة رضي الله عنهم.
الخامس
عشر : إن من تدبر سياق
الآيات والأحاديث والآثار التي فيها ذكر
__________________
وجه الله الأعلى
ذي الجلال والإكرام قطع ببطلان قول من حملها على المجاز ، وأنه الثواب والجزاء ،
لو كان اللفظ صالحا في ذلك لغة ، فكيف واللفظ لا يصلح لذلك لغة ، فمنها قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ
وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧)
وقوله : (وَما لِأَحَدٍ
عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) (الليل : ١٩ ، ٢٠).
الوجه
السادس عشر : إن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وجميع أهل السنة والحديث والأئمة الأربعة
، وأهل الاستقامة من أتباعهم متفقون على أن المؤمنين يرون وجه ربهم في الجنة ، وهي
الزيادة التي فسر بها النبي صلىاللهعليهوسلم والصحابة (لِلَّذِينَ
أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ) (يونس : ٢٦) فروى
مسلم «صحيحه» بإسناده عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله «للذين أحسنوا الحسنى وزيادة» قال «النظر إلى وجه
الله تعالى» فمن أنكر حقيقة الوجه لم يكن للنظر عنده حقيقة ، ولا سيما
إذا أنكر الوجه والعلو ، فيعود النظر عنده إلى خيال مجرد ، وإن أحسن العبارة قال :
هو معنى ويقوم بالقلب نسبته إليه كنسبة النظر إلى العين ، وليس في الحقيقة عنده
نظر ولا وجه ولا لذة تحصل للناظر.
الوجه
السابع عشر : إن الوجه حيث ورد فإنما مضافا إلى الذات في جميع موارده. والمضاف إلى الرب
تعالى نوعان : أعيان قائمة بنفسها : كبيت الله ، وناقة الله ، وروح الله ، وعبد
الله ، ورسول الله ـ فهذا إضافة تشريف وتخصيص ، وهي إضافة مملوك إلى مالكه.
(الثاني) صفات لا تقوم بنفسها كعلم الله وحياته وقدرته وعزته وسمعه وبصره
ونوره وكلامه ، فهذه إذا وردت مضافة إليه فهي إضافة صفة إلى الموصوف بها.
إذا عرف ذلك بوجهه
الكريم وسمعه وبصره إذا أضيف إليه وجب أن تكون إضافته إضافة وصف لا إضافة خلق ،
وهذه الإضافة تنفي أن يكون الوجه مخلوقا ، وأن يكون حشوا في الكلام ، وفي «سنن أبي
داود» عنه صلىاللهعليهوسلم أنه كان
__________________
إذا دخل المسجد
قال : «أعوذ
بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم» فتأمل كيف قرن في الاستعاذة بين استعاذته بالذات وبين
استعاذته بالوجه الكريم ـ وهذا صريح في إبطال قول من قال أنه الذات نفسها وقول من
قال أنه مخلوق.
الوجه
الثامن عشر : إن تفسير وجه الله بقبلة الله وإن قاله بعض السلف كمجاهد وتبعه الشافعي ،
فإنما قالوه في موضع واحد لا غير وهو قوله تعالى : (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥)
فهب أن هذا كذلك في هذا الموضع ، فهل يصح أن يقال ذلك في غيره في المواضع التي ذكر
الله تعالى فيها الوجه ، فما يفيدكم هذا في قوله : (وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧)
وقوله : (إِلَّا ابْتِغاءَ
وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) وقوله (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
لِوَجْهِ اللهِ) (الإنسان : ١٠)
على أن الصحيح في قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) أنه كقوله في سائر الآيات التي ذكر فيها الوجه ، فإنه قد
اطرد مجيئه في القرآن والسنة مضافا إلى الرب تعالى على طريقة واحدة ومعنى واحد ،
فليس فيه معنيان مختلفان في جميع المواضع غير الموضع الذي ذكر في سورة البقرة وهو
قوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) وهذا لا يتعين حمله على القبلة والجهة ، ولا يمتنع أن يراد
به وجه الرب حقيقة ، فحمله على غير القبلة كنظائره كلها أولى ، يوضحه :
الوجه
التاسع عشر : أنه لا يعرف إطلاق وجه الله على القبلة لغة ولا شرعا ولا عرفا بل القبلة لها
اسم يخصها ، والوجه له اسم يخصه ، فلا يدخل أحدهما على الآخر ولا يستعار اسمه له.
نعم القبلة تسمى وجهة كما قال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا) (البقرة : ١٤٨)
وقد تسمى جهة وأصلها وجهة لكن أعلمت بحذف فائها كزنة وعدة وإنما سميت قبلة ووجهة
لأن الرجل يقابلها ويواجهها بوجهه وأما تسميتها وجها فلا عهد به ،
__________________
فكيف إذا أضيف إلى
الله تعالى مع أنه لا يعرف تسمية القبلة (وجهة الله) في شيء من الكلام مع أنها
تسمى وجهه ، فكيف تطلق عليها وجه الله ولا يعرف تسميتها وجها.
وأيضا فمن المعلوم
أن قبلة الله التي نصبها لعباده هي قبلة واحدة وهي القبلة التي أمر الله عباده أن
يتوجهوا إليها حيث كانوا لا كل جهة يولي الرجل وجهه إليها فأنه يولي وجهه إلى المشرق
والمغرب والشمال وما بين ذلك ، وليست تلك الجهات قبلة الله فكيف يقال أي وجهة
وجهتموها واستقبلتموها فهي قبلة الله.
(فإن قيل) هذا عند
اشتباه القبلة على المصلي وعند صلاته النافلة في السفر ، (قيل) اللفظ لا إشعار له
بذلك البتة بل هو عام مطلق في الحصر والسفر وحال العلم والاشتباه والقدرة والعجز
يوضحه :
أن إخراج
الاستقبال المفروض والاستقبال في الحضر وعند العلم والقدرة وهو اكثر أحوال
المستقبل ، وحمل الآية على استقبال المسافر في التنقل على الراحلة على حال الغيم
ونحوه بعيدا جدا عن ظاهر الآية وإطلاقها وعمومها وما قصد بها ، فإن «أين» من أدوات
العموم وقد أكد عمومها بما أراده لتحقيق العموم كقوله : (وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا
وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ) (البقرة : ١٤٤)
والآية صريحة في أنه أينما ولي العبد فثم وجه الله من حضر أو سفر في صلاة أو غير
صلاة ، وذلك أن الآية لا تعرض فيها للقبلة ولا لحكم الاستقبال بل سياقها لمعنى آخر
وهو بيان عظمة الرب تعالى وسعته ، وأنه أكبر من كل شيء ؛ وأعظم منه ، وأنه محيط
بالعالم العلوي والسفلي ، فذكر في أول الآية إحاطة ملكه في قوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) (البقرة : ١١٥)
فنبهنا بذلك على ملكه لما بينها ، ثم ذكر عظمته سبحانه وأنه أكبر وأعظم من كل شيء
فأين منا ولى العبد وجهه فثم وجه الله ، ثم ختم باسمين دالين على السعة والإحاطة
فقال (إِنَّ اللهَ واسِعٌ
عَلِيمٌ) (البقرة : ١١٥)
فذكر اسم الواسع عقيب قوله : (فَأَيْنَما تُوَلُّوا
فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) كالتفسير والبيان والتقرير له فتأمله فهذا السياق لم يقصد
به الاستقبال
في الصلاة بخصوصه
وإن دخل في عموم الخطاب حضرا أو سفرا بالنسبة إلى الفرض والنفل والقدرة والعجز.
وعلى هذا فالآية
باقية على عمومها وأحكامها ليست منسوخة ولا مخصوصة بل لا يصح دخول النسخ فيها ،
لأنها خير عن ملكه للمشرق والمغرب وأنه أين ما ولى الرجل وجهه فثم وجه الله وعن
سعته وعلمه ، فكيف يمكن دخول النسخ والتخصيص في ذلك.
وأيضا هذا الآية
ذكرت مع ما بعدها لبيان عظمة الرب الرد على من جعل لله عدلا من خلقه أشركه معه في
العبادة ، ولهذا ذكر بعدها الرد علي من جعل له ولدا فقال تعالى : (وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً
سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ) إلى قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) فهذا السياق لا تعرض فيه القبلة ، ولا سيق الكلام لأجلها ،
وإنما سيق لذكر عظمة الرب وبيان سعة علمه وملكه وحلمه ، والواسع من أسمائه ، فكيف
تجعلون له شريكا بسننه وتمنعون بيوته ومساجده أن يذكر فيها اسمه ، وتسعون في
خرابها ، فهذا للمشركين ، ثم ذكر ما نسبه إليه النصارى من اتخاذ الولد ، ووسط بين
كفر هؤلاء وقوله تعالى : (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) فالمقام مقام تقرير لأصول التوحيد والإيمان والرد على
المشركين ، لا بيان فرع معين جزئي.
يوضحه : أن الله
تعالى لما ذكر قبلته التي شرعها عينها دون سائر الجهات بأنها شطر المسجد الحرام ،
وأكد ذكرها مرة بعد مرة تعيينها لها دون غيرها من الجهات بأنها القبلة التي رضيها
، وشرعها وأحبها لعباده ، ولم يذكر أنها كل جهة ، بل أخبر أنها قبلة يرضاها رسوله صلىاللهعليهوسلم وجعل استقبالها من أعلام نبوة رسوله صلىاللهعليهوسلم فقال تعالى : (وَإِنَّ الَّذِينَ
أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) (البقرة : ١٤٤) أي
ذلك الاستقبال ، وأكد أمر هذه القبلة تأكيدا أزال به استقبال غيرها ، وأن تكون
قبلة شرعها.
الوجه
العشرون : إنه سبحانه أخبر
عن الجهات التي تستقبلها الأمم منكرة مطلقة
غير مضافة إليه ،
وأن المستقبل لها هو موليها وجهه ، لا أن الله شرعها له وأمره بها ، ثم أمر أهل
قبلته المبادرة والمسابقة إلى الخير الذي أدخره لهم وخصهم به ، ومن جملته هذه
القبلة التي خصهم دون سائر الأمم فقال تعالى : (وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ
هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ) إلى قوله : (قَدِيرٌ) (البقرة : ١٤٨).
فتأمل هذا السياق
في ذكر الوجهات المختلفة التي توليها الأمم وجوههم ، ونزل عليه قوله (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ) وإلى قوله : (واسِعٌ عَلِيمٌ) وانظر هل يلائم السياق السياق والمعنى المعنى ويطابقه ، أم
هما سياقان دل كل منهما على معنى الآخر ، فالألفاظ غير الألفاظ والمعنى غير
المعنى.
الوجه
الحادي والعشرون : إنه لو كان المراد بوجه الله قبلة الله لكان قد أضاف إلي نفسه القبل كلها ،
ومعلوم أن هذه إضافة تخصيص وتشريف إلى إلهيته ومحبته ، لا إضافة عامة إلى ربوبيته
ومشيئته ، وما هذا شأنها لا يكون المضاف اخلاص إلا كبيت الله وناقة الله روح الله
، فإن البيوت والنقوق والأرواح كلها لله ، ولكن المضاف إليه بعضها ، فقبلة الله
منها هي قبلة بيته لا كل قبلة ، كما أن بيته هو البيت المخصوص لا كل بيت.
الوجه
الثاني والعشرون : أن يقال حمل في الآية على الجهة والقبلة ، إما أن يكون هو ظاهر الآية أو يكون
خلاف ظاهرها ، ويكون المراد بالوجه وجها حقيقة ، لأن الوجه إنما يراد به الجهة
والقبلة إذا جاء مطلقا غير مضاف إلى الله تعالى كما في حديث الاستسقاء ، فلم يقدم
أحد من وجه من الوجوه إلا أخبر بالجود ، أم يكون ظاهر الآية الأمرين كليهما ولا
تنافي بينهما ، فأينما ولي العبد وجهه في صلاة تولية مأمور بها فهو قبلة الله ،
وثم وجه الله ، فهو مستقبل قبلته ووجهه أو تكون الآية مجملة محتملة للأمرين فإن
كان الأول هو ظاهرها لم يكن حملها عليه مجازا ، وكان ذلك حقيقتها ، ومن يقول هذا
يقول وجه الله في هذه الآية قبلته وجهته التي أمر باستقبالها بخلاف وجهه في قوله :
(وَيَبْقى وَجْهُ
رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ) (الرحمن : ٢٧)
وتلك النصوص التي ذكرناها وغاية ذلك أن يكون لفظا مشتركا قد استعمل في هذا تارة
وفي هذا تارة ، فمن
أين يلزم من ذلك
أن يكون وجه الرب ذو الجلال والإكرام مجازا ، وأن لا يكون له وجه حقيقة؟ لو لا
التلبيس والترويح بالباطل.
وإن كان الثاني
فالأمر ظاهر ، وإن كان الثالث فلا تنافي بين الأمرين ، فأينما ولي المصلى فهي قبلة
الله ، وهو مستقبل وجه ربه ، لأنه واسع ، والعبد إذا قام إلى الصلاة فإنه يستقبل
ربه تعالى ، والله مقبل على كل مصل إلى جهة من الجهات المأمور بها بوجهه ، كما
تواترت بذلك الأحاديث الصحيحة عن النبي صلىاللهعليهوسلم مثل قوله «إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل
وجهه ، فإن الله قبل وجهه» وفي لفظ «فإن ربه بينه وبين القبلة» .
وقد أخبر أنه
حيثما توجه العبد فإنه مستقبل وجه الله ، فإنه قد دل العقل والفطرة وجميع كتب الله
السماوية على أن الله تعالى عال على خلقه فوق جميع المخلوقات ، وهو مستو على عرشه
، وعرشه فوق السموات كلها ، فهو سبحانه محيط بالعالم كله ، فأينما ولي العبد فإن
الله مستقبله ، بل هذا شأن مخلوقه المحيط بما دونه ، فإن كل خط يخرج من المركز إلى
المحيط فإنه يستقبل وجه المحيط ويواجهه ، والمركز يستقبل وجه المحيط ، وإذا كان
عالى المخلوقات المحيط يستقبل سافلها المحاط به بوجهه من جميع الجهات والجوانب ،
فكيف بشأن من هو بشكل شيء محيط وهو محيط ولا يحاط به ، كيف يمتنع أن يستقبل العبد
وجهه تعالى حيث كان وأين كان.
وقوله : (فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) إشارة إلى مكان موجود والله تعالى فوق الأمكنة كلها ليس في
جوفها ، وإن كانت الآية مجملة محتملة لأمرين لم يصح دعوى المجاز فيها ولا في وجه
الله حيث ورد ، فبطلت دعواهم أن وجه الله على المجاز لا على الحقيقة. يوضحه :
الوجه
الثالث والعشرون : إنه لو أريد بالوجه في الآية الجهة والقبلة لكان وجه الكلام أن يقال (فأينما
تولوا فهو وجه الله) لأنه إذا كان المراد بالوجه الجهة فهي
__________________
التي تولي نفسها ،
وإنما يقال ثم كذا إذا كان هناك أمران ، كقوله تعالى : (وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ
نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً) (الإنسان : ٢٠)
فالنعيم والملك ثم لا أنه نفس الظرف لنفسه ، فإن الشيء لا يكون ظرفا لنفسه فتأمله.
ألا ترى إنك إذا
أشرت إلى جهة الشرق والغرب لا يصح أن تقول : ثم جهة الشرق وثم جهة الغرب ، بل تقول
: هذه جهة الشرق وهذه جهة الغرب ، ولو قلت : هناك جهة الشرق والغرب لكان ذكر اللفظ
لغوا ، وذلك لأن ثم إشارة إلى المكان البعيد فلا يشار بها إلى القريب ، والجهة
والوجهة مما يحاذيك إلى آخرها ، فجهة الشرق والغرب وجهة القبلة مما يتصل لك إلى
حيث ينتهي ، فكيف يقال فيها ثم إشارة إلى البعيد بخلاف الإشارة إلى وجه الرب تبارك
وتعالى ، فإنه يشار إلى حيث يشار ذاته ، لهذا قال غير واحد من السلف : فثم الله
تحقيقا ، لأن المراد وجهه الذي هو من صفات ذاته والإشارة إليه بأنه ثم كالإشارة
إليه بأنه فوق سماواته ، وعلى العرش وفوق العالم.
الوجه
الرابع والعشرون : إن تفسير القرآن بعضه ببعض أولى التفاسير ما وجد إليه السبيل ، ولهذا كان
يعتمده الصحابة والتابعون والأئمة بعدهم ، والله تعالى ذكر في القرآن القبلة باسم
القبلة والوجهة ، وذكر وجهه الكريم باسم الوجه المضاف إليه ، فتفسيره في هذه الآية
بنظائره هو المتعين.
الوجه
الخامس والعشرون : إن الآية لو احتملت كل واحد من الأمرين لكان الأولى بها إرادة وجهه الكريم ذي
الجلال والإكرام ، لأن المصلي مقصوده التوجه إلى ربه ، فكان من المناسب أن يذكر أنه
إلى أي الجهات صليت فأنت متوجه إلى ربك ، ليس في اختلاف الجهات ما يمنع التوجه إلى
ربك. فجاءت الآية وافية بالمقصود فقال (وَلِلَّهِ
الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) (البقرة : ١١٥)
فأخبر أن الجميع ملكه وقد خلقه ؛ وقد علم بالفطرة والشرع أن الله تعالى فوق العالم
محيط بالمخلوقات عال عليها بكل اعتبار ، فمن استقبل وجهة من الشرق إلى الغرب ، أو
الشمال أو الجنوب أو بين ذلك ، فإنه متوجه إلى ربه حقيقة ، والله تعالى قبل وجهه
إلى أي جهة صلى ، هو مع ذلك فوق سماواته عال على
عرشه ، ولا يتوهم
تنافي هذين الأمرين ، بل اجتماعهما هو الواقع ولهذا عامة أهل الإثبات جعل هذه
الآية من آيات الصفات وذكرها مع نصوص الوجه ، مع قولهم إن الله تعالى فوق سماواته
على عرشه.
الوجه
السادس والعشرون : إنك إذا تأملت الأحاديث الصحيحة وجدتها مفسرة للآية ، مشتقة منه كقوله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
قام أحدكم إلى الصلاة فإنما يستقبل ربه» وقوله «فالله
يقبل عليه بوجهه ما لم يصرف وجهه عنه» وقوله «إن
الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم قبل وجهه» وقوله : «إن الله يأمركم بالصلاة فإذا صليتم فلا
تلتفتوا ، فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت» رواه ابن حبان فى صحيحه والترمذي ، وقال : «إن العبد إذا توضأ
فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة أقبل الله عليه بوجهه فلا ينصرف عنه حتى ينصرف أو
يحدث حدث سوء» .
وقال جابر رضي
الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا
قام العبد يصلي أقبل الله عليه بوجهه فإذا التفت أعرض الله عنه وقال : يا ابن آدم
أنا خير ممن تلتفت إليه ، فإذا أقبل على صلاته أقبل الله عليه ، فإذا التفت أعرض
الله عنه» وقال ابن عمر عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إذا
صلى أحدكم فلا يتنخمن تجاه وجه الرحمن» وقال أبو
__________________
هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «إن
العبد إذا قام إلى الصلاة فإنه بين عيني الرحمن ، فإذا التفت قال له : ابن آدم إلى
من تلتفت؟ إلى خير لك مني تلتفت؟!» .
* * *
__________________
(٦) المثال السادس في
: اسمه تعالى «النور»
(المثال السادس) :
قوله تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (النور : ٣٥) ومن
أسمائه «النور» وقالت المعطلة ذلك مجاز ، معناه منور السموات والأرض بالنور
المخلوق ، قالوا ويتعين المجاز لأن كل عاقل يعلم بالضرورة أن الله تعالى ليس هو
هذا النور المنبسط على الجدران ، ولا هو النور الفائض من جرم الشمس والقمر والنار
، فإما أن يكون مجازه منور السموات ، أو هادي أهلها.
وبطلان هذا يتبين بوجوه :
الأول
: أن النور جاء في
أسمائه تعالى ، وهذا الاسم مما تلقته الأمة بالقبول وأثبتوه في أسمائه الحسنى ،
وهو في حديث أبي هريرة والذي رواه الوليد بن مسلم ، ومن طريقه رواه الترمذي
والنسائي ولم ينكره أحد من السلف ولا أحد من أئمة أهل السنة ، ومحال أن يسمي نفسه
نورا وليس له نور ولا صفة النور ثابتة له ، كما أن من المستحيل أن يكون عليما
قديرا سميعا بصيرا ، ولا علم له ولا قدرة ، بل صحة هذه الأسماء عليه مستلزمة لثبوت
معانيها له ، وانتفاء حقائقها عنه مستلزم لنفيها عنه ، والثاني باطل قطعا فتعين
الأول.
الوجه
الثاني : إن النبي صلىاللهعليهوسلم لما سأله أبو ذر هل رأيت ربك؟ قال : «نور أنى أراه» رواه
مسلم فى «صحيحه» وفي الحديث قولان (أحدهما) أن معناه ثم نور ، أي فهناك نور
منعني رؤيته ، ويدل على هذا المعنى شيئان (أحدهما) قوله في اللفظ الآخر في الحديث
: «رأيت نورا» فهذا النور الذي رآه هو الذي حال بينه وبين رؤية الذات ، (الثاني) قوله في حديث أبي موسى : «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ،
يخفض القسط ويرفعه يرفع إليه
__________________
عمل
الليل قبل عمل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت
سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» رواه مسلم في «صحيحه» .
وقال عثمان بن
سعيد الدارمي : حدثنا محمد بن كثير ، أخبرنا سفيان عن عبيد المكتب عن مجاهد عن ابن
عمر قال : «احتجب الله عن خلقه بأربع : بنار وظلمة ونور وظلمة» .
وقال : حدثنا موسى
بن اسماعيل عن حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني عن زرارة بن أوفى أن النبي صلىاللهعليهوسلم سأل جبريل : «هل رأيت ربك؟» فانتفض جبريل وقال : يا محمد
إن بيني وبينه سبعين حجابا من نور ، لو دنوت من أدناها لاحترقت» .
(المعنى الثاني)
في الحديث : أنه سبحانه نور فلا يمكن رؤيته ، لأن نوره الذي لو كشف الحجاب عنه
لاحترقت السموات والأرض وما بينهما مانع من رؤيته ، فإن كان المراد هو المعنى
الثاني. فظاهر ، وإن كان الأول فلا ريب أنه إذا كان نور الحجاب مانعا من رؤية ذاته
فنور ذاته سبحانه أعظم من نور الحجاب ، بل الحجاب إنما استنار بنوره ، فإن نور
السموات إذا كان من نور وجهه كما قال عبد الله بن مسعود ، فنور الحجاب الذي فوق
السموات أولى أن يكون من نوره ، وهل يعقل أن يكون النور حجاب من ليس له نور ، هذا
أبين المحال وعلى هذا فلا تناقض بين قوله صلىاللهعليهوسلم : «رأيت نورا» وبين قوله : «نور أنى أراه» فإن المنفى
مكافحة الرؤية للذات المقدسة ، والمثبت رؤية ما ظهر من نور الذات ، يوضحه :
الوجه
الثالث : وهو أن ابن عباس
جمع بين الأمرين فقال : رأى محمد ربه
__________________
عزوجل فقيل له : أليس الله تعالى يقول : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣)
فقال : ويحك ، ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، لم يقم له شيء ، فأخبر أن
الأبصار لا تدرك نفس ذاته إذا تجلى بنوره الّذي هو نوره فهذا موافق لقول النبي صلىاللهعليهوسلم «نور أنى أراه»
ولقوله : «رأيت نورا».
الوجه
الرابع : إن الرب سبحانه
أخبر أنه لما تجلى للجبل وظهر له أمر ما من نور ذاته المقدسة صار الجبل دكا. فروى
حميد عن ثابت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في قوله تعالى : (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) أشار أنس بطرف إصبعه على طرف خنصره ، وكذلك أشار ثابت ،
فقال له حميد الطويل : ما تريد يا أبا محمد؟ فرفع ثابت يده فضرب صدره ضربة شديدة
وقال : من أنت يا حميد ، يحدثني أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم وتقول أنت ما تريد بهذا ومعلوم أن الذي أصار الجبل إلى هذا
الحال ظهور هذا القدر من نور الذات له بلا واسطة ، بل تجلي ربه له سبحانه.
الوجه
الخامس : ما ثبت في «الصحيحين»
عن ابن عباس أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يقول إذا قام من الليل : «اللهم لك الحمد ، أنت
نور السموات والأرض» الحديث وهو يقتضي أن كونه نور السموات والأرض مغاير لكونه رب السموات والأرض.
ومعلوم أن إصلاحه السموات والأرض بالأنوار وهدايته لمن فيهما هي ربوبيته ، فدل على
أن معنى كونه نور السموات والأرض أمر وراء ربوبيته يوضحه :
الوجه
السادس : وهو أن الحديث
تضمن ثلاثة أمور شاملة عامة للسماوات والأرض أمر وراء ربوبيتها وقيوميتها ونورهما
، فكونه سبحانه ربا لهما وقيوما لهما ، ونورا لهما : أوصاف له ؛ فآثار ربوبيته
وقيوميته ونوره قائمة بهما ، وصفة الربوبية ومقتضاها هو المخلوق المنفصل ، وهذا
كما أن صفة الرحمة
__________________
والقدرة والإرادة
والرضى والغضب قائمة به سبحانه ، والرحمة الموجودة في العالم والإحسان والخير ،
والنعمة والعقوبة آثار تلك الصفات ، وهي منفصلة عنه ، وهكذا علمه القائم به هو
صفته. وأما علوم عباده فمن آثار علمه ، وقدرتهم من آثار قدرته ، فالتبس هذا الموضع
على منكري نوره سبحانه ، ولبسوا من جرم الشمس والقمر والنار ، فلا بد من حمل قوله
نور السموات والأرض على معنى أنه منور السموات والأرض ، وهاد لأهل السموات والأرض وحينئذ
فنقول في :
الوجه
السابع : أسأتم الظن بكلام
الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم حيث فهمتهم أن حقيقة مدلوله أن سبحانه هو هذا النور الواقع
على الحيطان والجدران ، وهذا الفهم الفاسد هو الذي أوجب لكم إنكار حقيقة نوره
وجحده ، وجمعتم بين الفهم الفاسد وإنكار المعنى الحق ، وليس ما ذكرتم من النور هو
نور الرب القائم به الّذي هو صفته ، وإنما هو مخلوق له منفصل عنه ، فإن هذه
الأنوار المخلوقة إنما تكون في محل دون محل ، فالنور الفائض عن النار أو الشمس أو
القمر إنما هو نور لبعض الأرض دون بعض ، فإنا نعلم أن نور الشمس الذي هو أعظم من
نور القمر والكواكب والنار ، ليس هو نور جميع السموات والأرض ومن فيهن ، فمن ادعى
أن ظاهر القرآن وكلام الرسول صلىاللهعليهوسلم أن نور الرب سبحانه هو هذا النور الفائض فقد كذب على الله
ورسوله فلو كان لفظ النص : الله هو النور الذي تعاينونه وترونه في السموات والأرض
لكان لفهم هؤلاء وتحريفهم مستندا ما ، أما ولفظ النص : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فمن أين يدل هذا بوجه ما أنه النور الفائض عن جرم الشمس
والقمر والنار ، فإخراج نور الرب تعالى عن حقيقته وحمل لفظه على مجازه إنما استند
إلى هذا الفهم الباطل الذي لم يدل عليه اللفظ بوجه.
الوجه
الثامن : إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فسر هذه الآية بقوله : «أنت نور السموات والأرض» ولم يفهم
منها أنه هو النور المنبسط على الحيطان والجدران ، ولا فهمه الصحابة عنه ، بل
علموا أن لنور الرب تعالى شأنا آخر هو أعظم من أن يكون
له مثال. قال عبد
الله بن مسعود : ليس عند ربكم ليل ولا نهار ، نور السموات والأرض من نور وجهه ، فهل أراد ابن مسعود أن هذا النور الذي على الحيطان ووجه
الأرض هو عين نور الوجه الكريم ، أو فهم هذا عنهم ذو فهم مستقيم ، فالقرآن والسنة
وأقوال الصحابة رضي الله عنهم متطابقة يوافق بعضها بعضا ، وتصرح بالفرق الذي بين
النور الذي هو صفته ، والنور الذي هو خلق من خلقه ، كما تفرق بين الرحمة التي هي
صفته ، والرحمة التي هي مخلوقة ، ولكن لما وجدت في رحمته سميت برحمته ، وكما أنه
لا يماثل في صفة من صفات خلقه ، فكذلك نوره سبحانه ، فأي نور من الأنوار المخلوقة
إذا ظهر للعالم وواجهه أحرقه؟ وأي نور إذا ظهر منه للجبال الشامخة قدرا ما جعلها
دكا ، وإذا كانت أنوار الحجب لو دنا جبرائيل من أدناها لاحترق ، فما الظن بنور
الذات.
الوجه
التاسع : أنه قال تعالى : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) (الزمر : ٦٩)
فأخبر أن الأرض يوم القيامة تشرق بنوره ، وهو نوره الذي هو نوره ، فإنه سبحانه
يأتي لفصل القضاء بين عباده وينصب كرسيه بالأرض ، فإذا جاء الله تعالى أشرقت الأرض
، وحق لها أن تشرق بنوره ، وعند المعطلة لا يأتي ولا يجيء ، ولا له نور تشرق به
الأرض.
الوجه
العاشر : ما رواه محمد بن
المنكدر عن جابر بن عبد الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «بينا
أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور ، فرفعوا رءوسهم فإذا الجبار جل جلاله وقد
أشرق عليهم من فوقهم وقال : يا أهل الجنة السلام عليكم» فذلك قوله تعالى : (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) قال ثم يتوارى عنهم وتبقى رحمته وبركته عليهم في ديارهم ،
رواه الحاكم في «صحيحه» وابن ماجه في «سننه» فهذا نور مشاهد قد سطع لهم حتى حركهم واستفزهم إلى رفع
رءوسهم إلى فوق.
__________________
الوجه
الحادي عشر : إن النص قد ورد بتسمية الرب نورا ، وبأن له نورا مضافا إليه وبأنه نور السموات
والأرض ، وبأن حجابه نور ، فهذه أربع أنواع (فالأول) يقال عليه سبحانه بالإطلاق ،
فإنه النور الهادي (والثاني) يضاف إليه كما يضاف إليه حياته وسمعه وبصره وعزته ،
وقدرته وعلمه ، وتارة يضاف إلى وجهه تارة ويضاف إلى ذاته (فالأول) إضافته كقوله : «أعوذ بنور وجهك» وقوله : «نور السموات والأرض من نور وجهه» (والثاني) إضافته إلي ذاته كقوله «وأشرقت الأرض بنور ربها»
وقول ابن عباس : «ذلك نوره الذي إذا تجلى به» وقوله صلىاللهعليهوسلم في حديث عبد الله بن عمرو : «إن الله خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم
من نوره» الحديث. (والثالث) وهو إضافة نوره إلى السموات والأرض ،
كقوله : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (والرابع) كقوله «حجابه
النور» فهذا النور المضاف إليه يجيء على أحد الوجوه الأربعة ، والنور الذي احتجب
به سمي نورا ونارا ، كما وقع التردد في لفظه في الحديث الصحيح ، حديث أبي موسى الأشعري
وهو قوله : «حجابه
النور أو النار» فإن هذه النار هي نور وهي التي كلم الله كليمه موسى فيها ، وهي نار صافية لها
إشراق بلا إحراق.
فالأقسام ثلاثة :
إشراق بلا إحراق ، كنور القمر ، وإحراق بلا إشراق ، وهي نار جهنم ، فإنها سوداء
محرقة لا تضيء ، وإشراق بإحراق ، وهي هذه النار المضيئة ، وكذلك نور الشمس له
الإشراق والإحراق ، فهذا في الأنوار
__________________
المشهودة المخلوقة
، وحجاب الرب تبارك وتعالى نور وهو نار ، وهذه الأنواع كلها حقيقة بحسب مراتبها ،
فنور وجهه حقيقة لا مجاز ، وإذا كان نور مخلوقاته كالشمس والقمر والنار حقيقة ،
فكيف يكون نوره الذي نسبة الأنوار المخلوقة إليه أقل من نسبة سراج ضعيف إلي قرص
الشمس ، فكيف لا يكون هذا النور حقيقة.
الوجه
الثاني عشر : إن إضافة النور إليه سبحانه لو كان إضافة ملك وخلق لكانت الأنوار كلها نوره
فكان نور الشمس والقمر والمصباح نوره ، فإن كانت حقيقة هذه الإضافة إضافة مخلوق
إلى خالقه كان نوره حقيقة ، فيا عجبا لكم : أنكرتم أن يكون الله سبحانه نور
السموات والأرض حقيقة ، وأن يكون لوجهه نور حقيقة ثم جعلتم نور الشمس والقمر
والمصابيح نوره حقيقة ، وقد علم الناس بالضرورة فساد هذا ، وأن نوره المضاف إليه
يختص به لا يقوم بغيره ، فإن نور المصباح قام بالفتيلة منبسطا على السقوف والجدران
، وليس ذلك هو نور الرب تعالى الذي هو نور ذاته ووجهه الأعلى ، بل ذلك هو المضاف
إليه حقيقة ، كما أن نور الشمس والقمر والمصابيح مضاف إليها حقيقة. قال تعالى : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً
وَالْقَمَرَ نُوراً) (يونس : ٥٠) وقال
تعالى : (وَجَعَلَ فِيها
سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً) (الفرقان : ٦١)
وقال تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (الأنعام : ١)
فهذا نور مخلوق قائم بجرم مخلوق لا يسمى به الرب تعالى ولا يوصف به ، ولا يضاف
إليه إلا على جهة أنه مخلوق له مجهول لا على أنه وصف له قائم به فالتسوية بين هذا
وبين نور وجهه الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة واستعاذ به
العائذون من أبطل الباطل.
الوجه
الثالث عشر : إن مثبتي الصفات كأبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي الحسن الأشعري وأئمة
أتباعهما لم يذكروا الخلاف في ذلك إلا عن المعتزلة فإنكار كونه نورا هو قول
المبتدعة قال ابن فورك في كتابه الذي سماه «مقالات
أبي محمد بن كلاب
، وأبي الحسن الأشعرى» وذكر اتفاقهما إلا فيما ندر من الأمور اللفظية إلى أن قال :
إن المشهور من
مذهبه بأن الله سبحانه نور لا كأنوار حقيقة لا بمعنى أنه هاد ، وعلى ذلك نص في
كتاب «التوحيد» في باب مفرد لذلك تكلم فيه على المعتزلة إذ تأولوا ذلك على معنى
أنه هاد ، فقال : إن سأل سائل عن الله عزوجل أنور هو؟ قيل له كلامك يحتمل وجهين : إن كنت تريد أنه نور
يتجزأ تجوز عليه الزيادة والنقصان فلا ، وهذه صفة النور المخلوق ، وإن كنت تريد
معنى ما قاله الله سبحانه (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فالله سبحانه نور السموات والأرض على ما قال.
فإن قال : فما
معنى قولك نور؟ قيل له : قد أخبرناك ما معنى النور المخلوق وما معنى النور الخالق
، وهو الله سبحانه الذي ليس كمثله شيء ، ومن تعدى أن يقول الله نور فقد تعدى إلى
غير سبيل المؤمنين لأن الله لم يكن يسمي نفسه لعباده بما ليس هو به ، فإن قال : لا
أعرف النور إلا هذا النور المضيء المتجزئ. قيل له : فإن كان لا يكون نور إلا كذلك
، فكذلك لا يكون شيئا إلا وحكمه حكم ذلك الشيء.
ثم قال ابن فورك :
فإذا قال الله عزوجل إني نور ، قلت أنا هو نور على ما قاله سبحانه وتعالى ،
وقلت أنت ليس هو نور ، فمن المثبت له على الحقيقة أنا أو أنت ، وكيف يتبين الحق
فيه إلا من جهة ما أخبر الله سبحانه والدافع لما قال الله كافر بالله وإن لزمنا أن
لا نقول إن الله نور لأن ذلك موجود في الخلق لزمنا أن لا نقول إن الله حي سميع
بصير موجود ، لأن ذلك موجود في الخلق ، ومعناها في هذا الباب خلاف معناكم ، لأن
معناكم في ذلك التعطيل ومعنانا في قولنا : الله نور ، نثبت الله تعالى على ما ورد
به في كتابه بما يسمى به عندنا فنحن متبعون ما أخبرنا به في كتابه ، فإن جاز لكم
أن تقولوا شيئا لا كالأشياء جاز لنا أن نقول نور لا كالأنوار ، وأنتم ظلمة فيما
سألتم ، جحدة لما أخبر به عن نفسه في كتابه ، ونحن وأنتم متفقون إن أقررتم بالكتاب
أن الله نور السموات
والأرض ، ومختلفون
في أن نقول نور فقلنا نحن نور ، وقلتم أنتم لا نقول نور فإن زعمتم أن معنى نور
معنى هاد قلنا لكم فيجوز أن يكون غير نور بمعنى أنه هاد ، فإن قلتم : لا كذبتم
القياس واللغة ، وإن قلتم نعم قلنا لكم سويتم بين النور والهادي الذي هو غير الله
وبينه إن كان هو النور الهادي ، ومعنى هذا نور ، معنى كون هذا فقد استويا في
معنيهما وأسمائهما فدخلتم فيما عبتم على مخالفيكم.
فإن قلتم : فالنور
لا يكون إلا جسدا مجسدا أو ضياء ساطعا ، قلنا ولا يكون عالم بصير إلا لحما ودما
متجزئا متبعضا ، فإن جاز قياسكم على مخالفيكم جاز قياسه عليكم ، فإن قلتم يجوز أن
يكون عالم لا لحم ولا دم قيل لكم كذلك يجوز أن يكون نور لا جسد ولا ضوء ساطع وليس
لكم إلا التعطيل والنفي لله سبحانه.
قال ابن فورك :
وإنما استوفيت هذا الفصل من كتابه رحمهالله بألفاظه لتحقيقه هذا الوصف لله تمسكا بحكم الكتاب ، وإنه
لا يرى أن يعدل عن الكتاب ما وجد السبيل إلى التمسك به لرأى وهوى لا يوجبه أصل
صحيح قال :
فقد كشفت عن ذلك
بغاية البيان ، وأزال اللبس فيه ، وأن السمع هو الحجة في تسمية الله سبحانه ؛ ولا
يجب أن يحمل على المجاز ، لأنه يوجب أن يحمل ما ورد به السمع من إيمائه تعالى على
المجاز.
وقال أبو بكر بن
العربي : قد اختلف الناس بعد معرفتهم بالنور على ستة أقوال الأول : معناه هاد ،
قاله ابن عباس ، والثاني : معناه منور قاله ابن مسعود ، وروي أن في مصحفه منور
السموات والأرض ، والثالث : مزين وهو يرجع إلى معنى منور ، قاله أبي بن كعب ،
الرابع : أنه ظاهر ، الخامس : ذو النور ، السادس : أنه نور لا كالأنوار قاله أبو
الحسن الأشعري.
قال : وقالت
المعتزلة : لا يقال له نور إلا بإضافة ، قال والصحيح عندنا إنه نور لا كالأنوار ،
لأنه حقيقة ، والعدول عن الحقيقة إلى أنه هاد ومنور ، وما أشبه ذلك هو مجاز من غير
دليل لا يصح.
(قلت) أما حكايته
عن ابن عباس أنه بمعنى هاد فعمدته على التفسير الذي رواه الناس عن عبد الله بن
صالح عن معاوية بن صالح عن علي بن أبي طلحة الوالبي عن ابن عباس وفي ثبوت ألفاظه
عن ابن عباس نظر ، لأن الوالبي لم يسمعها من ابن عباس فهو منقطع ، وأحسن أحواله أن
يكون منقولا عن ابن عباس بالمعنى ، ولو صح ذلك عن ابن عباس فليس مقصوده به نفي
حقيقة النور عن الله ، وأنه ليس بنور ، ولا نور له كيف وابن عباس هو الذي سمع من
النبي صلىاللهعليهوسلم قوله في صلاة الليل : «اللهم لك الحمد ، أنت نور السموات
والأرض ومن فيهن» وهو الذي قال لعكرمة لما سأله عن قوله : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) (الأنعام : ١٠٣)
قال ويحك ذاك نور ، إذا تجلى بنوره لم يدركه شيء ، كيف ولفظ الآية والحديث ينبو عن
تفسير النور بالهادي ، لأن الهداية تختص بالحيوان ، وأما الأرض نفسها والسماء فلا
توصف بهدى ، والقرآن والحديث وأقوال الصحابة صريح بأنه سبحانه وتعالى نور السموات
والأرض ، ولكن عادة السلف أن يذكر أحدهم في تفسير اللفظة بعض معانيها ولازما من
لوازمها أو الغاية المقصودة منها ، أو مثالا ينبه السامع على نظيره ، وهذا كثير في
كلامهم لمن تأمله ، فكونه سبحانه هاديا لا ينافي كونه نورا.
وأما ما ذكره عن
ابن مسعود أنه بمعنى منور ، وأنها في مصحفه كذلك ، فهذا لا ينافي كونه في نفسه
نورا ، وأن يكون النور من أسمائه وصفاته بل يؤكد ذلك ، فإن الموجودات النورانية
نوعان (منها) ما هو في نفسه مستنير ولا ينير غيره كالجمرة مثلا ، فهذا لا يقال له
نور ، ومنها ما هو مستنير في نفسه وهو منير لغيره كالشمس والقمر والنار ، وليس في
الموجودات ما هو منور لغيره ، وهو في نفسه ليس بنور ، بل إنارته لغيره فرع كونه
نورا في نفسه ، فقراءة ابن مسعود منور تحقيق لمعنى كونه نورا ، وهذا مثل كونه
متكلما معلما مرشدا : مقدرا لغيره ، فإن ذلك فرع كونه في نفسه متكلما عالما رشيدا
قادرا ، وقد صرح ابن مسعود بأن نور السموات والأرض من نور وجهه تبارك وتعالى.
__________________
وأما ما حكاه عن
أبي بن كعب أنه بمعنى مزين فلا أصل له عن أبي ، وهو بالكذب عليه أشبه ، فإن تفسير
أبي لهذه الآية معروف ، رواه عنه أهل الحديث من طريق الربيع بن أنس عن أبي العالية
عن أبي ، ذكره ابن جريح ومعمر ووكيع وهشيم وابن المبارك وعبد الرزاق والإمام أحمد
وإسحاق وخلائق غيرهم.
وذكر ابن جرير
وسعيد وعبد بن حميد وابن المنذر في تفاسيرهم من طريق عبد الله بن موسى عن أبي جعفر
الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب في قول الله تعالى : (اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) قال فبدأ بنور نفسه فذكره ، ثم ذكر نور المؤمن فقال (مثل
نوره) يقول مثل نور المؤمن ، قال : وكان أبي بن كعب يقرؤها كذلك (مثل نور المؤمن)
قال : فهو عبد جعل الإيمان والقرآن في صدره كالمشكاة ، قال : المشكاة صدره فيها
مصباح ، قال : المصباح القرآن والإيمان الذي جعل في صدره : (الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ) قال : الزجاجة قلبه (كَأَنَّها كَوْكَبٌ
دُرِّيٌ) قال : قلبه لما استنار فيه الإيمان والقرآن كأنه كوكب دري
، يقول مضي (يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ) قال : فالشجرة المباركة الإخلاص لله وحده لا شريك له : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) قال : فمثله كمثل شجرة التفت بها الشجرة ، فهي خضراء ناعمة
لا تصيبها الشمس على أي حال كانت ، لا إذا طلعت ولا إذا غربت. قال : فذلك هذا
المؤمن قد أجير من أن يضله شيء من الفتن وقد ابتلي بها فثبته الله ، فها هو بين
أربع خلال : إن أعطي شكر ، وإن ابتلي صبر ، وإن قال صدق ، وإن حكم عدل ؛ فهو في
الناس كرجل يمشي في قبور الأموات ، نور على نور ، فهو يتقلب في خمسة من النور ،
فكلامه نور ، وعلمه نور ، ومدخله نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى النور يوم القيامة
إلى الجنة.
قال ثم ضرب مثلا
آخر للكافر : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا
أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ) (النور : ٣٩)
الآية قال : فكذلك الكافر في يوم القيامة ، وهو يحسب أن له عند لله خيرا فلا يجده
فيدخله النار.
قال وضرب مثلا آخر
للكافر قال : (أَوْ كَظُلُماتٍ فِي
بَحْرٍ لُجِّيٍ) (النور : ٤٠)
الآية فهو يتقلب
في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة. ومدخله ظلمة. ومخرجه ظلمة. ومصيره إلى الظلمات
إلى النار.
فهذا التفسير
المعروف عن أبي لا ما ذكره.
وأما قوله يصح أن
يكون النور صفة فعل على معنى أنه ظاهر ، فما أبعده عن الصواب وكونه ظاهر ليس بصفة
فعل ، فإنه الأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وتلك صفات ذاته المقدسة لا أنها
أفعال.
قال الأشعري في «الإبانة»
، قال الله تعالى : (اللهُ نُورُ
السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ) (النور : ٣٥) فسمي
نفسه نورا ، والنور عند الأمة لا يخلو من أحد معنيين : إما أن يكون نورا يسمع أو
نورا يرى ، فمن زعم أن الله يسمع ولا يرى كان مخطئا في نفيه رؤية ربه وتكذيبه
بكتابه عزوجل وقول نبيه صلىاللهعليهوسلم هذا لفظه.
وقال القاضي أبو
يعلى : فأما قوله في حديث جابر : «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور من فوق
رءوسهم ، فإذا الرب قد أشرق عليهم من فوقهم قال السلام عليكم يا أهل الجنة. قال
فذلك قوله تعالى» (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ
رَبٍّ رَحِيمٍ) «قال : فينظر
إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه» ، قال : فلا يمتنع حمله على ظاهره وأنه نور ذاته ، لأنه
إذا جاز أن تظهر لهم ذاته فيرونها ، جاز أن يظهر لهم نورها فيرونه ، لأن النور من
صفات ذاته ، وهو قوله : (وَأَشْرَقَتِ
الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) وذكر في موضع آخر قولين في ذلك ، ورجح هذا القول ، قال :
وهو أشبه بكلام أحمد.
الوجه
الرابع عشر : إن النور صفة الكمال ، وضده صفة نقص ، ولهذا سمى الله نفسه نورا ، وسمى كتابه
نورا وجعل لأوليائه النور ، ولأعدائه الظلمة فقال : (اللهُ وَلِيُّ
الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ ، وَالَّذِينَ
كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى
الظُّلُماتِ) (البقرة : ٢٥٧)
ويجيء
__________________
الأنبياء يوم
القيامة وأممهم لكل نبي نوران ، ولكل واحد من أتباعهم نور ، وتجيء هذه الأمة لكل
منهم نوران ولنبيهم صلىاللهعليهوسلم في كل شعرة نور ، ولما كانت مادة الملائكة التي خلقوا منها
نورا كانوا بالمحل الذي أحلهم الله به ، وكانوا خيرا محضا ، وللنور ظاهر وباطن ،
فمتى حل ظاهره بجسم كساه من الجمال والجلال والمهابة والضياء ، والحسن والبهجة
والسناء بحسب ما كسى من النور وزالت عنه الوحشة والثقل ، وكان مفرحا لرائيه سارا
لناظريه ، وإذا حل باطنه بالباطن اكتسى من الخير والعلم ، والرحمة والهداية والعفو
والجود ، والصبر والحلم ، والتواضع والنصيحة بحسب ذلك النور ، فالنور في الحقيقة (هو)
كمال العبد في الظاهر والباطن.
ولما كان ليوسف
الصديق من هذا النور النصيب الوافر ظهر في جماله الظاهر والباطن فكان على الصفة
التي ذكرها الله في كتابه ، وكذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما كان نصيبه من هذا النور أكمل نصيب كان أجمل الخلق
ظاهرا وباطنا ، فكان وجهه يتلألأ تلألأ القمر ليلة البدر ، وكان كلامه كله نورا
ومدخله ومخرجه نورا ، فإذا تكلم رؤي النور يخرج من بين ثناياه فكان أكمل الخلق في
نور الظاهر والباطن ، وكان نوره من أكبر آيات نبوته.
وقال عبد الله بن
سلام : لما قدم رسول الله صلىاللهعليهوسلم المدينة انجفل الناس إليه فجئت حتى رأيته ، فلما وقع بصري
عليه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته يقول : «يا أيها الناس أفشوا
السلام ، وصلوا الأرحام واطعموا الطعام ، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة
بسلام» فاستدل على نبوته بنور وجهه ونور كلامه بنوره المرئي ونوره
المسموع ، كما قال حسان بن ثابت.
لو لم تكن فيه
آيات مبينة
|
|
كانت بداهته
تأتيك بالخبر
|
__________________
أي ما يبدهك من
وجهه ومنظره ونوره وبهائه ، وأخذه الصرصري فقال :
لو لم يقل إني
رسول أما
|
|
شاهده في وجهه
ينطق
|
فإذا كان هذا نور
عبده فكيف بنوره سبحانه ، والرب تعالى هو الخالق للنور والظلمة كما استفتح سبحانه
سورة الأنعام بقوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ، ثُمَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ) (الأنعام : ١)
فاستفتح السورة بإبطال قول أهل الشرك أجمعين ، من الثنوية المجوس القائلين بأن
للعالم نورين : نور وظلمة. فأخبر أنه وحده رب النور والظلمة ، وخالقهما كما أنه
وحده خالق السموات والأرض ، والله تعالى جعل الموجودات عاليا وسافلا ومتوسطا
بينهما ، وجعل لسافلها الظلمة وهي مسكن أهل الظلمات من خلقه ، وجعل لعاليها النور
، وهو مسكن أهل النور منهم ، وجعل هذه الأرض وما فوقها إلى العلو متوسطا بينهما ،
فكلما كان أقرب إلى العرش والكرسي كان أعظم نورا ، ولهذا كان فضل نور العرش
والكرسي على ما تحته كفضل نور الشمس والقمر على أخفى الكواكب ، وكلما كان أقرب إلى
إلى السفلي المطلق كان أشد ظلمة ، ولهذا لما كان محبس أهل الظلمات سجين كانت سوداء
مظلمة لا نور فيها بوجه ، فكلما كان أقرب إلى الرب تعالى كان أعظم نورا ظاهرا
وباطنا ، وكلما بعد عنه كان أشد ظلمة بحسب بعده عنه.
وذكر الإمام أحمد
في كتاب «الزهد» أن موسى أقام أياما لا يحدث بني إسرائيل إلا متبرقعا من النور
الذي غشي وجهه حين كلمه ربه ، فلم يكن أحد ينظر إليه. فنسبة الأنوار كلها إلى نور
الرب كنسبة العلوم إلى علمه ، والقوى إلى قوته ، والغنى إلى غناه ، والعزة إلى
عزته ، وكذلك باقي الصفات والعبد إذا سما بصره صعودا إلى نور الشمس غشى دون إدراكه
وتعذر عليه غاية التعذر ، وأي نسبة لنور الشمس إلى نور خالقها ومبدعها ، وإذا كان
نور البرق يكاد يلتمع البصر ويخطفه ولا يقدر العبد على إدراكه ، فكيف بنور الحجاب
فكيف بما فوقه ، والأمر أعظم من أن يصفه واصف أو يتصوره عاقل ، فتبارك الله رب
العالمين الذي
أشرقت الظلمات بنور وجهه ، وعجزت الأفكار عن إدراك كنهه ، ودلت الآيات وشهدت الفطر
باستحالة شبهه ، فلو لا وصف نفسه لعباده لما أقدموا على وصفه ، فهو كما وصف نفسه
وأثنى على نفسه وفوق ما يصفه الواصفون.
* * *
(٧) المثال السابع في
: الفوقية
(المثال السابع) :
مما ادعى المعطلة مجازه : (الفوقية) وقد ورد ربه القرآن مطلقا بدون حرف ومقترنا
بحرف.
(فالأول) كقوله تعالى : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) (الأنعام : ١٨ ،
٦١) في موضعين.
(والثاني) كقوله : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) وفي
حديث الأول لما ذكر السموات السبع وذكر البحر الذي فوقها والعرش فوق ذلك كله ،
والله فوق ذلك لا يخفى عليه أعمالكم وحقيقة الفوقية علو ذات الشيء على غيره ،
فادعى الجهمي أنها مجاز في فوقية الرتبة والقهر ، كما يقال الذهب فوق الفضة ،
والأمير فوق نائبه ، وهذا وإن كان ثابتا للرب تعالى ، لكن إنكار حقيقة فوقية
سبحانه وحملها على المجاز باطل من وجوه عديدة :
أحدها
: أن الأصل الحقيقة
والمجاز على خلاف الأصل.
الثاني
: أن الظاهر خلاف
ذلك.
الثالث
إن هذا الاستعمال
المجازي لا بد فيه من قرينة تخرجه عن حقيقته ، فأين القرينة في فوقية الرب تعالى.
الرابع
: إن القائل إذا قال
: الذهب فوق الفضة قد أحال المخاطب على ما يفهم من هذا السياق ، والمعتد بأمرين
عهد تساويهما في المكان وتفاوتها في المكانة فانصرف الخطاب إلى ما يعرفه السامع ،
ولا يلتبس عليه ، فهل لأحد من أهل الإسلام وغيرهم عهد بمثل ذلك في فوقية الرب
تعالى حتى ينصرف فهم السامع إليها.
الخامس
: إن العهد والفطر
والعقول والشرائع وجميع كتب الله المنزلة على خلاف ذلك وأنه سبحانه فوق العالم
بذاته فالخطاب بفوقيته ينصرف إلى ما استقر في الفطر والعقول والكتب السماوية.
السادس
: إن هذا المجاز لو
صرح به في حق الله كان قبيحا ، فإن ذلك إنما يقال في المتقاربين في المنزلة وأحدها
أفضل من الآخر ، وإما إذا لم يتقاربا بوجه فإنه لا يصح فيهما ذلك ، وإذا كان يقبح
كل القبح أن تقول الجوهر فوق قشر البصل ، وإذا قلت ذلك ضحكت منك العقلاء للتفاوت
العظيم الذي بينهما فالتفاوت الذي بين الخالق والمخلوق أعظم وأعظم ، وفي مثل هذا
قيل شعرا.
ألم تر أن السيف
ينقص قدره
|
|
إذا قيل إن
السيف أمضى من العصا
|
السابع
: إن الرب سبحانه لم
يمتدح في كتابه ولا على لسان رسوله بأنه أفضل من العرش وأن رتبته فوق رتبة العرش ،
وأنه خير من السموات والعرش والكرسى ، وحيث ورد ذلك في الكتاب ، فإنما هو في
السياق الرد على من عبد معه غيره ، وأشرك في إلهيته ، فبين سبحانه أنه خير من تلك
الآلهة كقوله : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا
يُشْرِكُونَ) (النمل : ٥٩)
وقوله : (أَأَرْبابٌ
مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (يوسف : ٣٩) وقول
السحرة : (وَما أَكْرَهْتَنا
عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقى) (طه : ٧٣) ولكن
أين في القرآن مدحه نفسه وثناؤه على نفسه بأنه أفضل من السموات والعرش والكرسي
ابتداء ، ولا يصح إلحاق هذا بذلك ، إذ يحسن في الاحتجاج على المنكر وإلزامه من
الخطاب الداحض لحجته ما لا يحسن في سياق غيره ، ولا ينكر هذا إلا غبي.
الثامن
: إن هذا المجاز وإن
احتمل في قوله : (وَإِنَّا فَوْقَهُمْ
قاهِرُونَ) (الأعراف : ١٢٧)
فذلك لأنه قد علم أنهم جميعا مستقرون على الأرض ، فهي فوقية قهر وغلبة ، لم يلزم
مثله في قوله : (وَهُوَ الْقاهِرُ
فَوْقَ عِبادِهِ) إذ قد علم بالضرورة أنه عباده ليسوا مستويين في مكان واحد
حتى تكون فوقية قهر وغلبة.
التاسع
: هب أن هذا يحتمل
في مثل قوله : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي
عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف : ٧٦)
لدلالة السياق والقرائن المقترنة باللفظ على فوقية الرتبة ، ولكن هذا إنما يأتي
مجردا عن (من) ولا يستعمل مقرونا بمن فلا يعرف اللغة البتة أن يقال : الذهب من فوق
الفضة ولا العالم من فوق الجاهل ، وقد جاءت فوقية الرب مقرونة بمن كقوله تعالى : (يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ) (النحل : ٥٠) فهذا
صريح في فوقية الذات ، ولا يصح حمله على فوقية الرتبة لعدم استعمال أهل اللغة ،
له.
العاشر
: إن لفظ الحديث
صريح في فوقية الذات ، وهذا لفظه.
قال العباس عم
رسول الله صلىاللهعليهوسلم : كنا بالبطحاء فمرت سحابة ؛ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «هل
تدرون بعد ما بين السماء والأرض؟ قالوا لا. قال : إما واحد وإما اثنتان أو ثلاث
وسبعون سنة ، ثم عد سبع سماوات ثم قال : وبين السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه
كما بين سماء إلى سماء ، ثم فوق ذلك ثمانية أو عال ما بين أظلافهم وركبهم كما بين
سماء إلى سماء على ظهورهم العرش ثم الله فوق ذلك ، وهو يعلم ما أنتم عليه» رواه أبو داود بإسناد جيد .
فتأمل الفوقية في
ألفاظ هذا الحديث هل أريد بها فوقية الرتبة في لفظ واحد من ألفاظها.
الحادي
عشر : إن النبي صلىاللهعليهوسلم لما أنشده عبد الله بن رواحة قوله :
شهدت بأن وعد
الله حق
|
|
وأن النار مثوى
الكافرينا
|
وأن العرش فوق
الماء طاف
|
|
وفوق العرش رب
العالمينا
|
وتحمله ملائكة
كرام
|
|
ملائكة الإله
مسومينا
|
__________________
لم ينكر عليه ذلك
، بل ضحك حتى بدت نواجذه ، ومعلوم قطعا أن ابن رواحة لم يرد بقوله «فوق العرش رب
العالمينا» إنه أفضل من العرش وخير منه ، وهو كان أعلم بالله وصفاته وكماله من أن
يقول ذلك ، إنما أراد فوقية الذات التي هي حقيقة اللفظ وليس فيه ما يعين المجاز
بوجه من الوجوه ، فكيف يجوز إطلاق الحقيقة الباطلة عند الجهمية ويقره الرسول عليها
، ولا ينكر ذلك عليه.
الثاني
عشر : ما رويناه
بالإسناد صحيح عن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت أن حسان بن ثابت أنشد النبي صلىاللهعليهوسلم :
شهدت بإذن الله
أن محمدا
|
|
رسول الذي فوق
السموات من عل
|
وأن أبا يحيى
ويحيى كلاهما
|
|
له عمل من ربه
متقبل
|
وأن أخا الأحقاف
إذ قام فيهم
|
|
يقوم بذات الله
فيهم ويعدل
|
فقال النبي صلىاللهعليهوسلم «وأنا أشهد» وقوله بإذن الله ، أي بأمره ومرضاته ، فهل شهد حسان وشهد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم على شهادته إلا على فوقية ذاته؟ وهل أراد أنه رسول الذي
خير من السموات وأفضل منها.
الثالث
عشر : ما في «الصحيحين»
من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «لما
قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتى سبقت غضبي» وفي لفظ : فهو عنده موضوع على العرش. فتأمل قوله فهو عنده
فوق العرش هل يصح حمل الفوقية على المجاز ، وفوقية الرتبة والفضلية بوجه من
الوجوه.
وفي «صحيح مسلم»
عن النبي صلىاللهعليهوسلم في تفسير قوله : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ) والظاهر والباطن بقوله «أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس
بعدك شيء. وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء»
__________________
فجعل كمال الظهور
موجبا لكمال الفوقية ، ولا ريب أنه ظاهر بذاته فوق كل شيء. والظهور هنا العلو ومنه
قوله : (فَمَا اسْطاعُوا أَنْ
يَظْهَرُوهُ) (الكهف : ٩٧) أي
يعلوه ، وقرر هذا المعنى بقوله «فليس فوقك شيء» أي أنت فوق الأشياء كلها ليس اللفظ
معنى غير ذلك ، ولا يصح أن يحمل الظهور على الغلبة لأنه قابله بقوله : وأنت
الباطن.
فهذه الأسماء الأربعة متقابلة : اسمان لأزل الرب تعالى وأبده ، واسمان لعلوه وقربه. وروى أبو
داود بإسناد حسن عنده عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال «أتى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعرابي فقال : يا رسول الله جهدت الأنفس وضاعت العيال
ونهكت الأموال وهلكت المواشي فاستسق لنا ربك فإنا نستشفع بالله عليك ، فما زال
يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه ، قال : «ويحك إنه لا يستشفع بالله على أحد من
خلقه شأن الله أعظم من ذلك ، ويحك أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه ، وعرشه فوق
سماواته وإنه ليئط به أطيط الرحل بالراكب» .
فتأمل هذا السياق
هل يحتمل غير الحقيقة بوجه من الوجوه ، وقول النبي صلىاللهعليهوسلم سعد بن معاذ رضى الله عنه «لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع
سماوات» وقول زينت رضى الله عنها زوج النبي صلىاللهعليهوسلم «زوجكن أهاليكن وزوجني
الله من فوق سبع سماوات» لا يصح فيه فوقية المجاز أصلا إذ يصير المعنى : زوجني الله حال كونه أفضل من
سبع سماوات.
وثبت عن عمر بن
الخطاب رضي الله عنه أنه مر بعجوز فاستوقفته فوقف
__________________
يحدثها فقال له
رجل : يا أمير المؤمنين حبست الناس على هذه العجوز ، فقال ويحك أتدري من هذه؟ هذه
امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة التى أنزل الله فيها (قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي
تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ) أخرجه الدارمي وغيره .
فسل المعطل هل يصح
أن يكون المعنى سمع الله قولها حال كونه خيرا وأفضل من سبع سماوات؟
وروى أبو القاسم
اللالكائى والبيهقي وغيرهما بالإسناد الصحيح عن عبد الله ابن مسعود قال : «ما بين
السماء القصوى والدنيا خمسمائة عام ، وبين الكرسي والماء كذلك ، والعرش فوق الماء
والله فوق العرش ، لا يخفي عليه شيء من أعمالكم» رواه الطبراني وابن المنذر ، وعبد الله بن أحمد وابن عبد
البر ، وأبو عمر الطلمنكي وأبو أحمد العسال ، وهذا تفسير قوله (وهو القاهر فوق
عباده) وروى أبو القاسم الطبراني عن ابن مسعود أيضا قال «إن العبد ليهم بالأمر من
التجارة والإمارة حتى إذا تيسر له نظر الله إليه من فوق سبع سماوات فيقول للملائكة
: اصرفوه عنه ، فإني إن يسرته له أدخلته النار» وإسناده صحيح.
ولم يزل السلف
الصالح يطلقون مثل هذه العبارة إطلاقا لا يحتمل غير الحقيقة ، فثبت عن مسروق أنه
كان إذا حدث عن عائشة رضي الله عنها يقول : حدثتني الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب
الله المبرأة من فوق سبع سماوات. وروى
__________________
يونس بن يزيد عن
الزهري عن سعيد بن المسيب عن كعب قال : قال الله تعالى في التوراة «أنا الله فوق
عبادي ، وعرشي فوق جميع خلقي ، وأنا على عرشي أدبر أمر عبادي ، ولا يخفى علي شيء
في السماء ولا في الأرض» ورواه ابن بطة وأبو الشيخ وغيرهما بإسناد صحيح .
وهب أن المعطل
يكذب كعبا ويرميه بالتجسيم ، فكيف حدث به عنه هؤلاء الأعلام مثبتين له غير منكرين؟
وذكر أبو نعيم
بإسناد صحيح عن مالك بن دينار أنه كان يقول خذوا ويقرأ ويقول : اسمعوا إلى قول
الصادق من فوق عرشه إيمانا بكلامه وعلوه على عرشه. وصح عن الضحاك بن مزاحم في قوله
تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية (المجادلة : ٧) ، قال هو فوق العرش وعلمه معهم أينما
كانوا ، صح عن جرير أنه لما قصد عبد الملك ليمدحه قال له : ما جاء بك يا جرير؟ قال
:
أتى بي لك الله
الذي فوق عرشه
|
|
ونور إسلام عليك
دليل
|
وفي كتاب «العرش»
لابن أبي شيبة أن داود عليهالسلام كان يقول في دعائه «اللهم أنت ربي تعاليت فوق عرشك ، وجعلت
خشيتك على من في السموات والأرض» وقال البيهقي أخبرنا أبو عبد الحافظ أخبرني محمد
بن علي الجوهري ، حدثنا إبراهيم بن الهيثم حدثنا محمد بن كثير المصيصي قال سمعت
الأوزاعي يقول «كنا والتابعون متوافرون نقول : إن الله فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت
به السنة من صفاته» ورواته كلهم أئمة ثقات .
وذكر البيهقي عن
مقاتل في قوله تعالى : (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ) هو الأول قبل كل شيء ، والظاهر فوق كل شيء ، والباطن أقرب
__________________
من كل شيء ، وإنما
يعني بالقرب بعلمه وقدرته وهو فوق عرشه (وهو بكل شيء عليم).
وصح عن عبد الله
بن المبارك أنه قيل له : بم نعرف ربنا؟ قال بأنه فوق سماواته على عرشه ، ولا نقول
كما قالت الجهمية إنا هاهنا ، يعني في الأرض .
وصح عن إمام
الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه قال : من لم يؤمن بأن الله فوق سماواته على عرشه بائن
من خلقه وجب أن يستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه وطرح على مزبلة» رواه الحاكم عنه في «علوم الحديث» و «التاريخ».
وقال الإمام محمد
بن يسار : بعث الله ملكا من الملائكة إلى نمرود فقال : «هل تعلم يا عدو الله كم
بين السماء والأرض؟ قال لا. قال إن بين السماء الدنيا مسيرة خمسمائة عام وغلظها
مثل ذلك إلى أن ذكر حملة العرش ، إلى أن قال وفوقهم يبدو العرش عليه ملك الملوك
تبارك وتعالى ، أي عدو الله فأنت
__________________
تطلع إلى ذلك ، ثم
بعث عليه البعوضة فقتلته». رواه أبو الشيخ في كتاب «العظمة».
وقصة أبي يوسف
مشهورة في استتابته لبشر المريسي لما أنكر أن يكون الله فوق العرش رواه عبد الرحمن
بن أبي حاتم وغيره ، وبشر لم ينكر أن الله أفضل من العرش وإنما أنكر ما أنكرته
المعطلة أن ذاته تعالى فوق العرش.
وروى الدارقطني في
«الصفات» وعبد الله بن أحمد في «السنة» بإسناد صحيح عن أبي الحسن ابن العطار قال
سمعت محمد بن مصعب العابد يقول : من زعم أنك لا تتكلم ولا ترى في الآخرة فهو كافر
بوجهك ، أشهد أنك فوق العرش فوق سبع سماوات ، ليس كما يقول أعداؤك الزنادقة .
وفي وصية الشافعي
: أنه أوصى أنه يشهد أن لا إله الا الله ، وحده لا شريك له ، فذكر الوصية إلى أن
قال فيها والقرآن كلام الله غير مخلوق وأنه يرى في الآخرة عيانا ، ينظر إليه
المؤمنون ويسمعون كلامه ، وأنه تعالى فوق عرشه ، ذكره الحاكم والبيهقي في «مناقب
الشافعي».
وقال الشافعي :
السنة التي أنا عليها ورأيت أهل الحديث عليها ، مثل سفيان ومالك وغيرهما ، الإقرار
بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلى أن قال : وإن الله فوق عرشه في
سمائه يقرب من خلقه كيف شاء ، وينزل على سماء الدنيا كيف شاء. ذكره الحافظ عبد
الغنى في كتاب «اعتقاد الشافعي» .
وقال حنبل : قلت
لأبي عبد الله : ما معنى قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ
__________________
ما
يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) قال : علمه محيط بالكل وربنا على العرش بلا حد ولا صفة ،
أراد أحمد بنفي الصفة نفي الكيفية والتشبيه ، وبنفي الحد نفي حد يدركه العباد
ويحدونه .
وقال أبو مطيع
الحكم بن عبد الله البلخي : سألت أبو حنيفة عمن يقول لا أعرف ربي في السماء أم في
الأرض ، قال قد كفر ، لأن الله تعالى يقول : (عَلَى الْعَرْشِ
اسْتَوى) ولكن لا يدري العرش في السماء أم في الأرض ،
__________________
فقال إذا أنكر أنه
في السماء فقد كفر ، وقال مالك : الله في السماء علمه في كل مكان ، ذكره
الطلمنكي وابن عبد البر وعبد الله بن أحمد وغيرهم.
__________________
الرابع
عشر : إن هذا اتفاق من
أهل الإسلام حكاه غير واحد ، منهم الإمام عثمان بن سعيد الدارمي في نقضه على
المريسي (قال في هذا الكتاب) قال أهل السنة : إن الله بكماله فوق عرشه ، يعلم
ويسمع من فوق العرش ، لا يخفى عليه خافية من خلقه .
وقال سعيد بن عامر
الضبعي إمام أهل البصرة على رأس المائتين وذكر عنده الجهمية فقال : هم شر قولا من
اليهود والنصارى ، قد اجتمع أهل الأديان من المسلمين وغيرهم على أن الله فوق
السموات على العرش ، وقالوا هم ليس على العرش شيء .
__________________
وقال الإمام
الحافظ الزاهد أبو عبد الله بن بطة في كتاب «الإبانة» له :
(باب الإيمان بأن الله على عرشه بائن من خلقه وعلمه محيط بخلقه)
أجمع المسلمون من
الصحابة والتابعين أن الله على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه.
وقال أبو نصر
السجزي الحافظ في كتاب «الإبانة» : وأئمتنا كالثوري مالك وابن عيينة وحماد بن سلمة
وحماد بن زيد وابن المبارك وفضيل بن عياض وأحمد وإسحاق متفقون على أن الله فوق
العرش بذاته وأن علمه بكل مكان .
وقال أبو نعيم
الحافظ صاحب «الحلية» في «الاعتقاد» الذي ذكر أنه اعتقاد السلف وإجماع الأمة ، قال
فيه : وإن الأحاديث التي ثبتت عن النبي صلىاللهعليهوسلم في العرش واستواء الله تعالى عليه يقولون بها ويثبتونها من
غير تكييف ولا تمثيل وأن الله بائن من خلقه ، وخلقه بائنون منه ، لا يحل فيهم ولا
يمتزج بهم ، وهو مستو على عرشه في سمائه من دون أرضه .
__________________
وقال الإمام أبو
بكر الآجري في كتاب «الشريعة» : الذي يذهب إليه أهل العلم أن الله عزوجل على عرشه فوق سماواته ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقد أحاط
بجميع ما خلق في السموات العلى ، وبجميع ما في سبع أرضين .
وكذلك أبو الحسن
الأشعري نقل الإجماع على أن الله استوى على عرشه.
الخامس
عشر : إنه سبحانه لو لم
يتصف بفوقية الذات مع إنه قائم بنفسه غير مخالط للعالم لكان متصفا بضدها ، لأن
القابل للشيء لا يخلو منه أو من ضده وضد الفوقية السفول ، وهو مذموم على الإطلاق ،
وهو إبليس وجنوده.
فإن قيل : لا نسلم
إنه قابل الفوقية حتى يلزم من نفيها ثبوت ضدها ، قيل لو لم يكن قابلا للفوقية
والعلو لم يكن له حقيقة قائمة بنفسها ، فمتى أقررتم بأنه ذات قائم بنفسه غير مخالط
للعالم ، وأنه موجود في الخارج ليس وجوده ذهنيا فقط ، بل وجوده خارج الأذهان ، فقد
علم العقلاء بالضرورة أن ما كان وجوده خارج الأذهان ، فهو إما في هذا العالم وإما
خارج عنه ، وإنكار ذلك إنكار لما هو من أجلى البديهات ، فلا يستدل على ذلك بدليل
إلا كان العلم بالمباينة أوضح منه ، وإذا كان العلو والفوقية صفة كمال لا نقص فيه
ولا يستلزم نقصا ولا يوجب
__________________
محذورا ، ولا
يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، فنفي حقيقتها عين الباطل ، فكيف إذا كان لا يمكن
الإقرار بوجود الصانع وتصديق رسله والإيمان بكتابه وبما جاء به رسوله صلىاللهعليهوسلم إلا بذلك ، فكيف إذا شهدت بذلك العقول السليمة والفطر
المستقيمة ، وحكمت به القضايا البديهيات والمقدمات اليقينيات ، فلو لم يقبل العلو
والفوقية لكان كل عال على غيره أكمل منه ، فإن ما يقبل العلو أكمل مما لا يقبله.
الوجه
السادس عشر : إنه لو كانت فوقيته سبحانه مجازا لا حقيقة لها لم يتصرف في أنواعها وأقسامها
ولوازمها ، ولم يتوسع فيها غاية التوسع ، فإن فوقية الرتبة والفضيلة لا يتصرف في
تنويعها إلا بما شاكل معناها ، نحو قولنا : هذا خير من هذا وأفضل وأجل وأعلى قيمة
ونحو ذلك. وأما فوقية الذات فإنها تتنوع بحسب معناها ، فيقال فيها استوى وعلا
وارتفع ، وصعد ويعرج إليه كذا ويصعد إليه وينزل من عنده ، وهو عال على كذا ورفيع
الدرجات ، وترفع إليه الأيدي ، ويجلس على كرسيه ، وإنه يطلع على عباده من فوق سبع
سماواته وأن عباده يخافونه من فوقهم ، وأنه ينزل إلى السماء الدنيا وأنه يبرم
القضاء من فوق عرشه ، وأنه دنا من رسوله وعبده لما عرج به إلى فوق السموات حتى صار
قاب قوسين أو أدنى ، وأن عباده المؤمنين إذا نظروا إليه في الجنة رفعوا رءوسهم. فهذه
لوازم الأنواع كلها ، وأنواع فوقية الذات ولوازمها ، لا أنواع فوقية الفضيلة
والمرتبة ، فتأمل هذا الوجه حق التأمل تعلم أن القوم أفسدوا اللغة والفطرة والعقل
والشرع.
الوجه
السابع عشر : إنه لو كانت فوقية الرب. تبارك وتعالى مجازا لا حقيقة لها لكان صدق نفيها أصح
من صدق إطلاقها ، ألا ترى أن صحة نفي اسم الأسد عن الرجل الشجاع واسم البحر عن
الجواد ، واسم الجبل عن الرجل الثابت ونحو ذلك ، أظهر وأصدق من إطلاق تلك الأسماء
، فلو كانت فوقيته واستواؤه وكلامه وسمعه وبصره ، ووجهه ومحبته ، ورضاه وغضبه
مجازا لكن إطلاق القول بأنه ليس فوق العرش ولا استوى عليه ، ولا هو العلي ولا
الرفيع ، ولا هو
في السماء ولا ينزل من عنده شيء ولا يصعد إليه شيء ، ولا تكلم ولا أمر ولا نهى ،
لا يسمع ولا يبصر ، ولا له وجه ولا رحمة ولا يرضى ولا يغضب أصح من إطلاق ذلك ،
وأدنى الأحوال أن يصح النفي كما يصح الإطلاق المجازي ومعلوم قطعا أن إطلاق هذا النفي
تكذيب صريح لله ولرسوله ، ولو كانت هذه الإطلاقات إنما هي على سبيل المجاز لم يكن
في نفيها محذور ، لا سيما ونفيها عن التنزيه والتعظيم ، وسوغ إطلاق المجاز للوهم
الباطل بل الكفر والتشبيه والتجسيم ، فهل في الظن السيئ بكتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم وكلام الصحابة
والأئمة فوق هذا.
فإن قيل : نحن لا
نطلق هذا أدبا مع الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم.
قيل : الأدب لا
يمنع صحة الإطلاق وإن ترك أدبا ، كما إذا قيل : إنا لا نطلق على هذا القاضي
المعروف إنه معزول أدبا معه ، ولا من السلطان إذا مرض أنه مريض أدبا معه ، ولا على
الأمير إنه قد عمي أدبا معه ، فهذا الأدب إنما هو عن إمساك التكلم بهذا اللفظ لا
عن صحة إطلاقه ، فنسألكم هل يصح إطلاق هذا النفي عندكم لغة أو عقلا أم لا ، فإن
قلتم إطلاقه يوهم نفي المعنى المجازي فيكون ممتنعا ، قيل فلا يمتنع حينئذ أن
تقولوا ليس بمستو على عرشه حقيقة ، ولا هو فوق العالم حقيقة ، ولا القرآن كلامه
حقيقة ، ولا هو آمر ولا ناه حقيقة ، ولا هو عالم حي حقيقة ، كما يصح أن يقال : ليس
هذا الرجل بأسد حقيقة ، ولا ريب أنكم لا تتحاشون من هذا النفي عن الله ، لكن
تمسكون عنه خوف الشناعة ، وهيهات الخلاص لكم منها ، وقد أنكرتم حقائق أسمائه
وصفاته.
* * *
(٨) المثال الثامن في
: النزول
(المثال الثامن) :
مما ادعي فيه إنه مجاز وهو حقيقة لفظ «النزول» ، والتنزيل والإنزال حقيقة مجيء
الشيء أو الإتيان به من علو إلى أسفل. هذا هو المفهوم منه لغة وشرعا.
كقوله : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
مُبارَكاً) (ق : ٩) وقوله : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ
فِيها) (القمر : ٤) وقوله
: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ
الْأَمِينُ) (الشعراء : ١٩٣)
وقد أخبر الله تعالى أن جبريل نزل بالقرآن من الله وأنه (تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢)
وتواترت الرواية عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بنزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا ،
فادعى المعطل أن كل ذلك مجاز ، وأن المراد بالتنزيل مجرد إيصال الكتاب. وبالنزول
الإحسان والرحمة ، وأسند دعواه بقوله تعالي : (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) (الحديد : ٢٥)
وبقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) (الزمر : ٦) قال
معلوم أن الحديد والأنعام لم تنزل من السماء إلى الأرض.
والجواب من وجوه :
أحدها
: أن ما ذكره من
مجاز النزول ، وإنه مطلق الوصول لا يعرف في كتاب ولا سنة ، ولا لغة ولا شرع ، ولا
عرف ولا استعمال ، فلا يقال لمن صعد إليك في سلم إنه نزل إليك ، ولا لمن جاءك من
مكان مستو نزول ، ولا يقال نزل الليل والنهار إذا جاء ، وذلك وضع جديد ولغة غير
معروفة.
الوجه
الثاني : إنه لو عرف
استعمال ذلك بقرينة لم يكن موجبا لإخراج اللفظ عن حقيقته حيث لا قرينة.
الثالث
: إن هذا يرفع
الأمان والثقة باللغات ، ويبطل فائدة التخاطب ، إذ لا يشاء السامع أن يخرج اللفظ
عن حقيقته إلا وجد إلى ذلك سبيلا.
الرابع
: إن قوله معلوم أن
الحديد لم ينزل جرمه من السماء إلى الأندلس ، وكذلك الأنعام. يقال له : هذا معلوم
لك بالضرورة أم بالاستدلال ، ولا ضرورة يعلم بها ذلك ، وأين الدليل.
الخامس
: أنه قد عهد نزول
أصل الإنسان وهو آدم من علو إلى أسفل ، كما قال تعالى : (قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً) (طه : ١٢٣) فما
المانع أن ينزل أصل الأنعام مع أصل الأنام ، وقد روي في نزول الكبش الذي فدى الله
به إسماعيل ما هو معروف ، وقد روي في نزول الحديد ما ذكره كثير من أرباب النقل ،
كنزول السندان والمطرقة ، ونحن وإن لم نجزم بذلك فالمدعي أن الحديد لم ينزل من
السماء ليس معه ما يبطل ذلك.
السادس
: إن الله سبحانه لم
يقل أنزلنا الحديد من السماء ، ولا قال وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج من
السماء ، فقوله معلوم أن الحديد والأنعام لم ينزل من السماء إلى الأرض لا يخرج
لفظة «النزول» عن حقيقتها ، إذ عدم النزول من مكان معين لا يستلزم عدمه مطلقا.
السابع
: إن الحديد إنما
يكون في المعادن التي في الجبال وهي عالية على الأرض ، وقد قيل إن كل ما كان معدنه
أعلى كان حديده أجود.
وأما قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) فإن الأنعام تخلق بالتوالد المستلزم إنزال الذكور الماء من
أصلابها إلى أرحام الإناث ، ولهذا يقال أنزل ، ولم ينزل ، ثم إن الأجنة تنزل من
بطون الأمهات إلى وجه الأرض ، ومن المعلوم أن الأنعام تعلو فحولها إناثها ، والوطي
وينزل ماء الفحل من علو إلى رحم الأنثى وتلقي ولدها عند الولادة من علو إلى أسفل ،
وعلى هذا فيحتمل قوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ
مِنَ الْأَنْعامِ) وجهين (أحدهما) أن يكون المراد الجنس كما هو الظاهر ،
ويكون كقوله : (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) فتكون (من) لبيان الجنس.
الثاني : أن يكون «من»
لابتداء الغاية كقوله : (وَخَلَقَ مِنْها
زَوْجَها) (النساء : ١)
فيكون قد ذكر المحل الذي أنزلت منه وهو أصلاب الفحول ، وهذان الوجهان يحتملان في قوله
: (جَعَلَ لَكُمْ مِنْ
أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ
الْأَنْعامِ
أَزْواجاً) (الشورى : ١١) هل
المراد جعل لكم من جنسكم أزواجا أو المراد جعل أزواجكم من أنفسكم وذواتكم ، كما
جعلت حواء من نفس آدم وكذلك تكون أزواج الأنعام مخلوقة من ذوات الذكور. والأول
أظهر لأنه لم يوجد الزوج من نفس الذكر إلا من آدم وحده ، وأما سائر النوع فالزوج
مأخوذ من الذكر والأنثى.
الوجه
الثامن : إن الله سبحانه
ذكر الإنزال على ثلاث درجات (أحدها)
إنزال مطلق كقوله
: (وَأَنْزَلْنَا
الْحَدِيدَ) فأطلق الإنزال ولم يذكر مبدأه ، كقوله : (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ
ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ).
(الثانية)
الإنزال من السماء
، كقوله : (وَأَنْزَلْنا مِنَ
السَّماءِ ماءً طَهُوراً) (الفرقان : ٤٨).
(الثالثة)
إنزال منه ، كقوله
(تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الزمر : ١) وقوله
: (تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢) وقوله
: (تَنْزِيلُ الْكِتابِ
مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) (الأحقاف : ٢)
وقوله : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ
الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (النحل : ١٠٢)
وقال : (وَالَّذِينَ
آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ) (الأنعام : ١١٤)
فأخبر أن القرآن منزل منه ، والمطر منزل من السماء ، والحديد والأنعام منزلان
نزولا مطلقا ، وبهذا يظهر تلبيس المعطلة والجهمية والمعتزلة حيث قالوا إن كون
القرآن منزلا لا يمنع أن يكون مخلوقا كالماء والحديد والأنعام ، حتى علا بعضهم
فاحتج على كونه مخلوقا بكونه منزلا. والإنزال بمعنى الخلق.
فالله سبحانه فرق
بين النزول منه ، والنزول من السماء ، فجعل القرآن منزلا منه والمطر منزلا من
السماء ، وحكم المجرور بمن في هذا الباب حكم المضاف ، والمضاف إليه سبحانه نوعان (أحدهما)
أعيان قائمة بنفسها ، كبيت الله وناقة الله وروح الله وعبده ، فهذا إضافة مخلوق
إلى خالقه ، وهي إضافة اختصاص وتشريف (الثاني) إضافة صفة إلى موصوفها كسمعه وبصره وعلمه وحياته وقدرته
وكلامه ووجهه ويديه ومشيئته ورضاه وغضبه فهذا يمتنع أن يكون المضاف
فيه مخلوقا منفصلا
، بل هو صفة قائمة به سبحانه.
إذا عرف هذا فهكذا
حكم المجرور بمن ، فقوله ، (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ) (الجاثية : ١٣) لا
يقتضي أن تكون أوصافا له قائمة به وقوله (وَلكِنْ حَقَّ
الْقَوْلُ مِنِّي) (السجدة : ١٣) وقوله
: (تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤٢) يقتضي
أن يكون وهو المتكلم به ، وأنه منه بدأ وإليه يعود ، وضلت المعتزلة ولم يهتدوا إلى
هذان الفرقان وجعلوا الجميع بابا واحدا ، وقابلهم طائفة الاتحادية ، وجعلوا الجميع
منه بعض التبعيض والجزئية ، ولم يهتد الطائفتان للفرق.
الوجه
التاسع : إن الله سبحانه
قال : (لَقَدْ أَرْسَلْنا
رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ
النَّاسُ بِالْقِسْطِ) (الحديد : ٢٥)
فالكتاب كلامه والميزان عدله أخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ثم قال : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ
شَدِيدٌ) (الحديد : ٢٥) ولم
يقل وأنزلنا معهم الحديد ، فلما ذكر كلامه وعدله أخبر أنه أنزلهما مع رسله ، ولما
ذكر مخلوقه الناصر لكتابه وعدله أطلق إنزاله ولم يقيده بما قيد به إنزال كلامه ،
فالمسوي بين الإنزالين مخطئ في اللفظ والمعنى.
الوجه
العاشر : إن نزول الرب
تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا قد تواترت الأخبار به عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم رواه عنه نحو ثمانية وعشرون نفسا من الصحابة ، وهذا يدل
على أنه كان يبلّغه في كل مواطن ومجمع ، فكيف تكون حقيقته محالا وباطلا وهو صلىاللهعليهوسلم يتكلم بها دائما ويعيدها ويبديها مرة بعد مرة ، ولا يقرن
باللفظ ما يدل على مجازه بوجه ما بل يأتى بما يدل على إرادة الحقيقة ، كقوله : «ينزل ربنا كل ليلة
إلى السماء الدنيا فيقول : وعزتي وجلالي لا أسأل عن عبادي غيري» وقوله : «من ذا الذي يسألني فأعطيه ، من ذا الذي
يستغفرني فأغفر له ، من ذا الذي يدعوني فأستجيب له» وقوله : «فيكون كذلك حتى يطلع الفجر ثم يعلو على
كرسيه» فهذا كله بيان الإرادة
__________________
على الحقيقة ومانع
من حمله على المجاز ، وقد صرح نعيم بن حماد وجماعة من أهل الحديث آخرهم أبو الفرج
ابن الجوزي أنه سبحانه ينزل إلى السماء الدنيا بذاته ، ونظم أبو الفرج ذلك في قوله
:
أدعوك للوصل
تأبى
|
|
أبعث رسولي في الطلب
|
أنزل إليك بنفسي
|
|
ألقاك في النوام
|
وقال الحافظ أبو
موسى المديني في «مناقب الإمام أبي القاسم إسماعيل بن محمد التيمي» الذي جعله الله
مجددا للدين في رأس المائة الخامسة قال :
وكان من اعتقاد
الإمام إسماعيل بن محمد أن نزول الله بالذات وهو مشهور في مذهبه وقد كتبه في فتاو
عديدة ، وأملى فيه إملاء إلا أنه كان يقول : إسناد حديث نعيم بن حماد إسناد مدخول
وفيه مقال. مراده بحديث نعيم بن حماد عن جرير بن عبد الحميد عن بشر عن أنس يرفعه
قال : «إذا أراد الله أن ينزل عن عرشه نزل بذاته».
قلت : وهذا اللفظ
لا يصح عن النبي صلىاللهعليهوسلم ولا يحتاج إثبات هذا المعنى إليه ، فالأحاديث الصحيحة
صريحة وإن لم يذكر فيها لفظ الذات.
الحادي
عشر : إن الخبر وقع عن
نفس ذات الله تعالى لا عن غيره فإنه قال : «أن الله ينزل إلى سماء الدنيا» فهذا
خبر عن معنى لا عن لفظ ؛ والمخبر عنه هو مسمى هذا الاسم العظيم فإن الخبر يكون عن
اللفظ تارة وهو قليل ، ويكون مسماه ومعناه هو الأكثر ، فإذا قلت زيد عندكم وعمرو
قائم ، فإنما أخبرت عن الذات لا عن الاسم فقوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ) (الرعد : ١٦) وهو
خبر عن ذات الرب تعالى فلا يحتاج المخبر أن يقول خالق كل شيء بذاته ، وقوله (اللهُ رَبُّكُمُ) (يونس : ٣٢) قد
علم أن الخبر عن نفس ذاته ، وقوله : (اللهُ أَعْلَمُ
حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (الأنعام : ١٢٤)
وكذلك جميع ما أخبر الله به عن نفسه إنما هو خبر عن ذاته لا يجوز أن يخص من ذلك
إخبار واحد البتة.
فالسامع قد أحاط
علما بأن الخبر إنما هو عن ذات المخبر عنه ، ويعلم المتكلم
بذلك ، لم يحتج أن
يقول إنه بذاته فعل وخلق استوى ، فإن الخبر عن مسمى اسمه وذاته ، هذا حقيقة الكلام
ولا ينصرف إلى غير ذلك إلا بقرينة ظاهرة تزيل اللبس وتعين المراد ، فلا حاجة بنا
أن نقول : استوى على عرشه بذاته ، وينزل إلى السماء بذاته ، كما لا يحتاج أن نقول
خلق بذاته ، وقدر بذاته ، وسمع وتكلم بذاته ، وإنما قال أئمة السنة ، ذلك إبطالا ،
لقول المعطلة.
الثاني
عشر : إن قوله «من
يسألنى فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» إذا ضممت هذا إلى قوله «ينزل ربنا إلى سماء
الدنيا» وإلى وقوله «فيقول» وإلى قوله : «لا أسأل عن عبادي غيرى» ، علمت أن هذا
مقتضى الحقيقة لا المجاز ، وأن هذا السياق نص في معناه لا يحتمل غيره بوجه ، خصوصا
إذا أضيف إلى قوله «ثم يعلو على كرسيه» وقوله في حديث المزيد في الجنة الذي قال
فيه : إن ربك اتخذ في الجنة واديا أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة نزل عن
كرسيه ، ثم ذكر الحديث وفي آخره ، ثم يرتفع ويرتفع معه النبيون والصديقون.
الوجه
الثالث عشر : إن أعلم الخلق بالله وأنصحهم للأمة وأقدرهم على العبارة التي لا توقع لبسا قد
صرح بالنزول مضافا إلى الرب في جميع الأحاديث ، ولم يذكر في موضع واحد ما ينفي
الحقيقة بل يؤكد فلو كانت إرادة الحقيقة باطلة ، وهي منفية لزم القدح في علمه أو
نصحه أو بيانه كما تقدم تقريره.
الرابع
عشر : أنه لم يقتصر على
لفظ النزول العاري عن قرينة المجاز المذكور معه ما يؤكد إرادة الحقيقة حتى نوع هذا
المعني ، وعبر عنه بعبارات متنوعة كالهبوط والدنو والمجيء والإتيان والطواف في
الأرض قبل يوم القيامة. قال تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢) وقال
: (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ
بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ) (الأنعام : ١٥٨)
ففرق بين إتيان أمره وبين إتيان نفسه.
وقال محمد بن جرير
الطبري في تفسير قوله (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) وقد ورد في هذا الحديث عن النبي صلىاللهعليهوسلم وهو
أحق ما اعتمد عليه
في ذلك ، ثم ساق الحديث ولفظه : «إذا كان يوم القيامة تقفون موقفا واحدا
مقدار سبعين عاما لا ينظر إليكم ولا يقضى بينكم ، فتبكون حتى تنقطع الدموع ، ثم
تدمعون ، دما وتعرقون حتى يبلغ منكم العرق الأذقان ويلجمكم ، فتضجون وتقولون : من
يشفع لنا عند ربنا فيقضي بيننا فتقولون من أحق بهذا من أبيكم آدم ، جبل الله تربته
وخلقه بيده ونفخ فيه من روحه وكلمه الله قبلا ، فيؤتى آدم فيطلب ذلك إليه فيأبى ،
ثم يستقرءون الأنبياء ، كلما جاءوا نبيا يأبى ، حتى يأتوني فيسألوني ، فآتى الفحص
قدام العرش فأخر ساجدا ، فلا أزال ساجدا حتى يبعث الله عزوجل إلي
ملكا فيأخذ بعضدي فيرفعني ، ثم يقول الله : محمد. فأقول نعم ، وهو أعلم فأقول ، يا
رب وعدتني الشفاعة فشفعني في خلقك فاقض بينهم ، فيقول قد شفعتك ، أنا آتيهم فأقضي
بينهم. قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم فانصرف فأقف مع الناس ، فبينما نحن وقوف
سمعنا حسا من السماء شديدا فهالنا ، فينزل أهل السماء الدنيا بمثل من في الأرض من
الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم فأخذوا مصافهم ، فقال أهل
الأرض : أفيكم ربنا؟ قالوا لا وهو آت ، ثم ينزل أهل السماء الثانية بمثل من نزل من
الملائكة مثل من في الأرض من الجن والإنس ، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت لنورهم
وأخذوا مصافهم ، قال الناس : أفيكم ربنا؟ قالوا لا هو آت ، ثم ينزل أهل السماء
الثالثة بمثل من نزل من الملائكة ومثلي من في الأرض من الجن والإنس ، ثم نزل أهل
السموات على قدر ذلك من التضعيف ، فيأمر الله بعرشه فيوضع حيث شاء ، ويحمل عرشه
يومئذ ثمانية. وهم اليوم أربعة أقدامهم على تخوم الأرض السفلى والسموات إلى حجزهم
والعرش على كواهلهم ، والملائكة حول العرش لهم زجل بالتسبيح ، ثم ينادي نداء يسمع
الخلائق ، فيقول : يا معشر الجن والإنس إني أنصت لكم منذ يوم خلقتكم فأنصتوا إلى
اليوم فإنما هي صحفكم وأعمالكم تقرأ عليكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد
غير ذلك فلا يلم إلا نفسه ،
فيقضي
الله بين خلقه من الجن والإنس والبهائم ، فإنه ليقيد يومئذ للجماء من ذات القرن ،
وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور» .
وقال رزين بن
معاوية صاحب «تجريد الصحاح» وهو من أعلم أهل زمانه بالسنن والآثار ، هو من
المالكية ، اختصر تفسير ابن جرير الطبري ، وعلى كتابه «التجريد» اعتمد صاحب كتاب «جامع
الأصول» وهذبه ، قال في قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا
أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) قال مجاهد (إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) عند الموت حين توفاهم (أَوْ يَأْتِيَ
رَبُّكَ) يوم القيامة لفصل القضاء (أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ
آياتِ رَبِّكَ) طلوع الشمس من مغربها أو ما شاء الله ، وعن قتادة مثله.
وقال محمد بن جرير
الطبري : حيث ذكر في القرآن إتيان الملائكة فهو محتمل لإتيانهم لقبض الأرواح ،
ويحتمل أن يكون نزولهم بعذاب الكفار وإهلاكهم.
وأما إتيان الرب عزوجل فهو يوم القيامة لفصل القضاء لقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ
يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) (البقرة : ٢١٠)
وقوله : (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ) (الفجر : ٢٢) قال
رزين : قال بعض المتبعين لأهوائهم المقدمين بين يدي كتاب الله لآرائهم من المعتزلة
والجهمية ومن نحا نحوهم من أشياعهم ، فيمتنعون من وصف الله تعالى بما وصف به نفسه
من قوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) وقوله : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ
فِي السَّماءِ) (الملك : ١٣)
وقوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) إلى أن
قال :
وأهل العلم بالكتاب
والآثار من السلف والخلف يثبتون جميع ذلك ويؤمنون به بلا كيف ولا توهم ، ويروون
الأحاديث الصحيحة كما جاءت عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم انتهى.
__________________
والإتيان والمجيء
من الله تعالى نوعان : مطلق ومقيد ، فإذا كان يجيء رحمته أو عذابه كان مقيدا كما
في الحديث ، حتى جاء الله بالرحمة والخير ، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ
فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ) (الأعراف : ٥٢)
وقوله : (بَلْ أَتَيْناهُمْ
بِذِكْرِهِمْ) (المؤمنون : ٧١)
وفي الأثر : لا يأتي بالحسنات إلا الله.
النوع الثاني :
المجيء والإتيان المطلق كقوله (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ) وقوله : (هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ) وهذا لا يكون إلا مجيئه سبحانه ، هذا إذا كان مطلقا ، فكيف
إذا قيد بما يجعله صريحا في مجيئه نفسه كقوله : (إِلَّا أَنْ
تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ
رَبِّكَ) فعطف مجيئه على مجيء الملائكة ، ثم عطف مجيء آياته على
مجيئه ومن المجيء المقيد قوله : (فَأَتَى اللهُ
بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ) (النحل : ٢٦) فلما
قيده بالمفعول وهو البنيان وبالمجرور وهو القواعد دل ذلك على مجيء ما بيّنه ، إذ
من المعلوم أن الله سبحانه إذا جاء بنفسه لا يجيء من أساس الحيطان وأسفلها ، وهذا
يشبه قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي
أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ
الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ
حُصُونُهُمْ مِنَ اللهِ فَأَتاهُمُ اللهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا) (الحشر : ٢) فهذا
مجيء مقيد لقوم مخصوصين قد أوقع بهم بأسه ، وعلم السامعون أن جنوده من الملائكة
والمسلمين أتوهم ، فكان في هذا السياق ما يدل على المراد على أنه لا يمتنع في
الآيتين أن يكون الإتيان على حقيقة ، ويكون ذلك دنوا ممن يزيد إهلاكهم بغضه
وانتقامه كما يدنو عشية عرفة من الحجاج برحمته ومغفرته ، ولا يلزم من هذا الدنو والإتيان
والملاصقة والمخالطة بل يأتي هؤلاء برحمته وفضله ، وهؤلاء بانتقامه وعقوبته ، وهو
فوق عرشه إذ لا يكون الرب إلا فوق كل شيء ، ففوقيته وعلوه من لوازم ذاته ، ولا
تناقض بين نزوله ودنوه ، وهبوطه ومجيئه ، وإتيانه وعلوه ، لإحاطته وسعته وعظمته
وأن السموات الأرض في قبضته ، وأنه مع كونه الظاهر الذي ليس فوقه شيء ، فهو الباطن
الذي ليس دونه شيء ، فظهوره بالمعنى الذي فسره به أعلم
الخلق لا يناقض
بطونه بالمعنى الذي فسره به أيضا ، فهو سبحانه يدنو ويقرب ممن يريد الدنو والقرب
منه مع كونه فوق عرشه ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «أقرب
ما يكون العبد من ربه وهو ساجد» فهذا قرب الساجد من ربه وهو فوق عرشه.
وكذلك قوله في
الحديث الصحيح «إن
الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته» فهذا قربه من داعيه ، والأول قربه من عابديه ، ولم يناقض
ذلك كونه فوق سماواته على عرشه.
وإن عسر على فهمك
اجتماع الأمرين فإنه يوضح ذلك معرفة إحاطة الرب وسعته ، وأنه أكبر من كل شيء ، وأن
السموات السبع والأرضين في يده كخردلة في كف العبد ، وأنه يقبض سماواته السبع بيده
والأرضين باليد الأخرى ثم يهزهن ، فمن هذا شأنه كيف يعسر عليه الدنو ممن يريد
الدنو منه وهو على عرشه ، وهو يوجب لك فهم اسمه الظاهر والباطن ، وتعلم أن التفسير
الذي فسر رسول الله صلىاللهعليهوسلم به هذين الاسمين هو تفسير الحق المطابق لكونه بكل شيء محيط
، وكونه فوق كل شيء.
ومما يوضح لك ذلك
أن النزول والمجيء والإتيان ، والاستواء ، والصعود والارتفاع كلها أنواع أفعال ،
وهو الفعال لما يريد ، وأفعاله كصفاته قائمة به ، ولو لا ذلك لم يكن فعالا ولا
موصوفا بصفات كماله ، فنزوله ومجيئه واستوائه وارتفاعه وصعوده ونحو ذلك ، كلها
أفعال من أفعاله ، التي إن كانت مجازا فأفعاله كلها مجاز ولا فعل له في الحقيقة ،
بل هو بمنزلة الجمادات وهذا حقيقة من عطل أفعاله ، وإن كان فاعلا حقيقة فأفعاله
نوعان : لازمة ومتعدية ، كما دلت النصوص التي هي أكثر من أن تحصر على النوعين.
وبإثبات أفعاله
وقيامها به تزول عنك جميع الإشكالات ، وتصدق النصوص بعضها بعضا وتعلم مطابقتها
للعقل الصريح ، وإن أنكرت حقيقة الأفعال وقيامها به سبحانه اضطرب عليك هذا الباب
أعظم اضطراب ، وبقيت حائرا في التوفيق
__________________
بين النصوص وبين
أصول النفاة ، وهيهات لك بالتوفيق بين النقيضين والجمع بين الضدين. يوضحه :
إن الأوهام
الباطلة والعقول الفاسدة لما فهمت من نزول الرب ومجيئه وإتيانه وهبوطه ودنوه ما
يفهم من مجيء المخلوق وإتيانه وهبوطه ودنوه وهو أن يفرغ مكانا ويشغل مكانا نفت
حقيقة ذلك فوقعت في محذورين : محذور التشبيه ومحذور التعطيل ، ولو علمت هذه العقول
الضعيفة أن نزوله سبحانه ومجيئه وإتيانه لا يشبه نزول المخلوق وإتيانه ومجيئه ،
كما أن سمعه وبصره وعلمه وحياته كذلك ، بل يده الكريمة ووجهه الكريم كذلك ، وإذا
كان نزولا ليس كمثله نزول ، فكيف تنفي حقيقته ، فإن لم تنف المعطلة حقيقة ذاته وصفاته
وأفعاله بالكلية وإلا تناقضوا ، فإنهم أي معنى أثبتوه لزمهم في نفيه ما ألزموا به
أهل السنة المثبتين لله ما أثبت لنفسه ، ولا يجدون إلى الفرق سبيلا.
فلو كان الرب
سبحانه مماثلا لخلقه لزم من نزوله خصائص نزولهم ضرورة ثبوت أحد المثلين للآخر ،
وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
كان يوم القيامة أذن مؤذن لتتبع كل أمة ما كانت تعبد ، فلا يبقى أحد كان يعبد غير
الله من الأنصاب والأصنام إلا تساقطوا في النار ، حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد
الله من بر وفاجر وأتاهم رب العالمين ، قال فما ذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت
تعبد ، قالوا يا ربنا فارقنا الناس في الدنيا أفقر ما كنا إليهم ، ولم نصاحبهم ،
وإنا سمعنا مناديا ينادي : ليلحق كل أمة بما كانوا يعبدون وإنما ننتظر ربنا ،
فيأتيهم الجبار في صورة غير صورته التي رأوه فيها أول مرة ، فيقول أنا ربكم ،
فيقولون نعوذ بالله منك ، هذا مكاننا حتى يأتينا ربنا ، فإذا جاء ربنا عرفناه ،
قال فيأتيهم في صورته التي رأوه فيها أول مرة ، فيقول أنه ربكم ، فيقولون أنت ربنا
وفي لفظ فيقول هل بينكم وبينه آية تعرفونه بها فيقولون الساق ، فيكشف عن ساقه
فيسجد له كل مؤمن ويبقى من كان يسجد رياء وسمعة ، ويذهب كما يسجد فيعود ظهره طبقا» .
__________________
(طرق أحاديث النزول)
وحديث النزول رواه
أبو بكر الصديق ، وعلي بن أبي طالب ، وأبو هريرة ، وجبير بن مطعم ، وجابر بن عبد
الله ، وعبد الله بن مسعود ، وأبو سعيد الخدري ، وعمرو بن عبسة ، ورفاعة بن عرابة
الجهنى ، وعثمان بن أبي العاص الثقفي ، وعبد الحميد بن سلمة ، عن أبيه عن جده ،
وأبو الدرداء ، ومعاذ بن جبل ، وأبو ثعلبة الخشني ، وعائشة أم المؤمنين ، وأبو
موسى الأشعري ، وأم سلمة ، وأنس بن مالك ، وحذيفة بن اليمان ، ولقيط بن عامر
العقيلي ، وعبد الله بن عباس ، وعبادة بن الصامت ، وأسماء بنت يزيد ، وأبو الخطاب
، وعوف ابن مالك ، وأبو أمامة الباهلي ، وثوبان ، وأبو حارثة ، وخولة بنت حكيم ،
رضي الله عنهم.
(فأما
حديث أبو بكر الصديق): فقال ابن وهب أخبرني عمرو بن الحارث ، أن عبد الملك بن عبد الملك حدثه عن مصعب
بن أبي ذؤيب ، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق ، عن أبي بكر الصديق رضى الله
عنه ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل
الله ليلة النصف من شعبان فيغفر لكل نفس إلا إنسانا في قلبه شحناء أو مشرك» رواه جماعة عن ابن وهب .
(وأما
حديث علي بن أبي طالب): فقال محمد بن إسحاق ، عن عمه موسى بن يسار ، عن عبيد الله بن أبي رافع ، عن
علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو
لا أن أشق على أمتي لأخرت العشاء الأخيرة إلى ثلث الليل ، فإنه إذا مضى ثلث الليل
هبط الله تعالى إلى سماء الدنيا فلم يزل بها حتى
__________________
يطلع
الفجر فيقول : ألا سائل يعطى ، ألا داع فيجاب ، ألا مذنب يستغفر له ، ألا سقيم
يستشفى» رواه الطبراني
في «السنة» .
(وأما
حديث أبي هريرة): في «الصحيحين» عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل
ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل فيقول : من يدعونى فأستجيب له ،
من يسألني فأعطيه ، من يستغفر له».
وعن أبي هريرة
وأبي سعيد رضى الله عنهما أنهما شهدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه قال «إن الله يمهل حتى إذا كان ثلث الليل هبط
إلى السماء الدنيا فنادى : هل من مذنب يتوب ، هل من مستغفر ، هل من سائل» .
وفي «مسند الإمام
أحمد» من حديث سهيل عن أبيه ، عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم «ينزل الله كل
ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول فيقول : أنا الملك من ذا الذي يستغفرني فأغفر له» .
فهذه خمسة ألفاظ
تنفي المجاز بنسبة النزول إليه ، وقوله : «أنا الملك» وقوله «يستغفرني» وقوله «فأغفر
له».
وفي رواية عن أبي
هريرة يرفعه : «إذا
مضى ثلث الليل هبط الله إلى السماء الدنيا» فذكره ، وهذه الألفاظ لا تعارض بينها بحمد الله ، فإنها
قد اتفقت على دوام النزول الإلهي إلى طلوع الفجر ، واتفقت على حصوله في الشطر
الثاني من الليل ، واختلفت في أوله على ثلاثة أوجه (أحدها) أنه أول الثلث الثاني
__________________
(والثاني) أنه أول
الشطر الثاني (والثالث) أنه أول الثلث الأخير ، وإذا تأملت هاتين الروايتين لم تجد
بينما تعارضا.
بقيت رواية : «إذا
مضى ثلث الليل الأول» وهي تحتمل ثلاثة أوجه (أحدها) أن لا تكون محفوظة وتكون من قبل حفظ الراوي ، فإن أكثر
الأحاديث على الثلث الأخير
(الثاني)
أن يكون الثلث
الأول والشطر والثلث الأخير على حسب اختلاف بلاد الإسلام في ذلك ، ويكون النزول في
وقت واحد ، وهو ثلث الليل الأخير عند قوم ووسطه عند الآخرين ، وثلثه الأول عند
غيرهم ، فيصح نسبته إلى الأوقات الثلاثة ، وهو حاصل في وقت واحد ، وعلى هذا
فالشبهة العقلية التي تعارض بها النفاة حديث النزول تكون هذه الألفاظ قد تضمنت
الجواب عنها ، فإن هذا النزول لا ينافي كونه في الثلث الأخير كونه في الثلث الأول
أو في الشطر الثاني بالنسبة إلى المطالع.
ولما كانت رقعة
الإسلام ما بين طرفي المشرق والمغرب من المعمور في الأرض كان التفاوت قريبا من هذا
القدر ، وسيأتي مزيد تقرير لهذا.
(الثالث)
إن للنزول الإلهي
شأنا عظيما ، ليس شأنه كشأن غيره ، فإنه قدوم ملك السموات والأرض إلى هذه السماء
التي تلينا. ولا ريب أن السموات وأملاكها عند هبوط الرب تعالى ونزوله إلى سماء
الدنيا شأنا وحالا.
وفي بعض الآثار : «إن
السموات تأخذها رجفة ويسجد أهلها جميعا».
قال أبو داود
حدثنا محمد بن يحيى بن فارس. حدثنا يعقوب بن إبراهيم حدثنا ابن أخي ابن شهاب عن
عمه ، أخبرنى عبيد بن السباق أنه بلغه أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل
ربنا من آخر الليل فينادي مناد في السماء العليا : ألا نزل الخالق العليم ، فيسجد
أهل السماء ، وينادي فيهم مناد ذلك ، فلا يمر بأهل السماء إلا وهم سجود» .
__________________
ومن عوائد الملوك
، ولله المثل الأعلى ، أنهم إذا أرادوا القدوم إلى بلد أو مكان غير مكانهم المعروف
بهم أن يقدموا بين يدي موافاتهم إليه ما ينبغي تقديمه ، وهذا من تمام مصالح ملكهم
، وهكذا شأن الرب تبارك وتعالى أن يقدم بين يدي ما يريد فعله من الأمور العظام
كتابة ذلك أو إعلام ملائكته أو إعلام رسله ، كما قال : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ
إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة : ٣٠)
وقوله لنوح : (وَلا تُخاطِبْنِي فِي
الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ) (هود : ٣٧) ،
المؤمنون : ٢٧) وقال لإبراهيم : (يا إِبْراهِيمُ
أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ
غَيْرُ مَرْدُودٍ) (هود : ٧٦).
وإذا كان الله
تعالى يتقدم إلى ملائكته ورسله بإعلامهم بما يريد فعله من الأمر العظام فلا ينكر
أن يتقدم إلى أهل سماواته بنزوله ويحدث للسماوات وللملائكة من عظمة ذلك الأمر قبل
وقوعه ما يناسب ذلك الأمر ، وهكذا يفعل سبحانه إذا جاء يوم القيامة ، فتتأثر
السموات والملائكة قبل النزول فسمى ذلك نزولا لأنه من مقدماته ومتصلا به ، كما
أطلق سبحانه على وقت الزلزلة والرجفة المتصلة بالساعة أنها يوم القيامة والساعة ،
وذلك موجود في القرآن ، فمقدمات الشيء ومباديه كثيرا ما يدخل في مسمى اسمه ، وهذا
الوجه أقوى الوجوه.
وذكر عبد الرزاق
عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن
الله ينزل إلى سماء الدنيا ، له في كل سماء كرسي ، فإذا نزل إلى السماء الدنيا جلس
على كرسيه ثم مد ساعديه فيقول : من ذا الذي يقرض غير عادم ولا ظلوم ، من ذا الذي
يستغفر فأغفر له ، من ذا الذي يتوب فأتوب عليه ، فإذا كان عند الصبح ارتفع فجلس
على كرسيه» رواه أبو عبد الله بن منده ، قال ابن منده : وله أصل مرسل.
__________________
(وأما
حديث جبير بن مطعم): فرواه أبو الوليد الطيالسي. حدثنا حماد عن عمرو بن دينار ، عن نافع بن جبير ،
عن أبيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ينزل
الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول جل جلاله ، هل من سائل فأعطيه ، هل من مستغفر
فأغفر له» هذا حديث صحيح ،
رواه النسائي عن خشيش بن أصرم عن يحيى ابن حسان عن حماد بن سلمة به .
(وأما
حديث جابر بن عبد الله): فرواه الدارقطني من رواية عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن جابر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن
الله ينزل كل ليلة إلي سماء الدنيا لثلث الليل فيقول : ألا عبد من عبيدي يدعوني
فأستجيب له ، أو ظالم لنفسه يدعوني فأغفر له ، ألا مقتر عليه رزقه ، ألا مظلوم
يستنصرني فأنصره ، ألا عان يدعوني فأفك عنه ، فيكون ذاك مكانه حتى يضيء الفجر ثم
يعلو ربنا عزوجل إلى السماء العليا على كرسيه» .
وروى ابن أبي حاتم
من حديث أبي الزبير عنه عن النبي صلىاللهعليهوسلم «إذا كان يوم عرفة
فإن الله ينزل إلي سماء الدنيا فيباهي بهم الملائكة فيقول : «انظروا إلى عبادي
أتونى شعثا غبرا ، أشهدكم أني قد غفرت لهم».
ورواه الخلال في «السنة»
من حديث أبي النضر عن أيوب عن أبي الزبير عنه يرفعه «أفضل أيام الدنيا أيام العشر» قالوا يا رسول الله : ولا مثلهن في سبيل
__________________
الله؟ قال : «إلا من عفر وجهه في
التراب ، إن عشية عرفة ينزل الله إلي سماء الدنيا فيقول للملائكة : انظروا إلى
عبادي هؤلاء ، شعثا غبرا ، جاءوا من كل فج عميق ضاحين يسألوني رحمتى ، فلا يرى يوم
أكثر عتيقا ولا عتيقة» .
(وأما
حديث عبد الله بن مسعود): ففي «المسند» من حديث يزيد بن هارون عن شريك عن أبي إسحاق الهجري ، عن أبي
الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إن
الله إذا كان ثلث الليل الآخر نزل إلى سماء الدنيا ثم بسط يده فقال : من يسألني
فأعطيه حتى يطلع الفجر» ، وهذا حديث حسن رجاله أئمة ، ورواه أبو معاوية عن زائدة عن إبراهيم به ،
وقال : «إن
الله يفتح أبواب السماء ثم يهبط إلى السماء الدنيا ثم يبسط يده فيقول ألا عبد
يسألنى فأعطيه ، حتى يطلع الفجر».
(وأما
حديث أبي سعيد الخدري): فقد تقدم اشتراكه مع أبي هريرة في الحديث ، وروى سليم بن أخضر عن التيمي عن
أبي نضرة عن أبي سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «ينادي
مناد بين يدي الصيحة : يا أيها الناس أتتكم الساعة ، ومد بها صوته ، فيسمعه
الأحياء والأموات ، ثم ينادي مناد : لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار» وسليم هذا صدوق خرج له مسلم.
(وأما
حديث عمرو بن عبسة): فروى أبو اليمان ، ويحيى بن أبي بكر ، وعبد الصمد بن النعمان ويزيد بن هارون ،
وهذا سياق حديثه : أخبرنا جرير بن عثمان حدثنا سليمان بن عامر عن عمرو بن عبسة قال
: أتيت النبي صلىاللهعليهوسلم فقلت يا رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، جعلني الله فداك ، شيء تعلمه وأجهله ، ينفعني ولا يضرك ،
ما ساعة أقرب من ساعة ، وما ساعة تبقى فيها ، يعني الصلاة فقال «يا عمرو
__________________
ابن عبسة ، لقد
سألت عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك ، إن الرب تعالى يتدلى من جوف الليل فيغفر ،
إلا ما كان من الشرك والبغي ، والصلاة مشهودة حتى تطلع الشمس ، فإنها تطلع على قرن
الشيطان ، وهي صلاة الكفار ، فأقصر عن الصلاة حتى ترتفع الشمس ، فإذا استعلت الشمس
فالصلاة مشهودة حتى يعتدل النهار فأخر الصلاة فإنها حينئذ تسجر جهنم ، فإذا فاء
الفيء فالصلاة مشهودة حتى تدلى للغروب ، فإنها تغيب بين قرني شيطان ، فاقصر عن
الصلاة حتى تجب الشمس» .
(وأما
حديث رفاعة بن عرابة الجهني): فرواه ابن المبارك ، فقال حدثنا هشام ، عن يحيي بن أبي كثير
، عن هلال بن أبي ميمونة ، عن عطاء بن يسار ، عن رفاعة الجهني قال : قال رسول الله
صلىاللهعليهوسلم : «إذا
مضى نصف الليل أو ثلث الليل نزل الله عزوجل إلى سماء الدنيا فقال : «لا أسأل عن
عبادي غيري من ذا الذي يستغفرني فأغفر له. من ذا الذي يدعوني فأستجيب له. من ذا
الذي يسألني فأعطيه. حتى ينفجر الفجر» هذا حديث صحيح رواه الإمام أحمد في «مسنده» ، وفيه رد على
من زعم أن الذي ينزل ملك من الملائكة ، فإن الملك لا يقول : لا أسأل عن عبادي
غيري. ولا يقول : من يسألني أعطه.
(وأما
حديث عثمان بن العاص الثقفي): فرواه حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن الحسن ، عن عثمان
بن أبي العاص ، عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «ينزل
الله إلى سماء الدنيا كل ليلة فيقول : هل من داع فأستجيب له. هل من سائل فأعطيه.
__________________
هل
من مستغفر فأغفر له» وأن داود خرج ذات ليلة فقال : «لا يسأل الله شيئا إلا أعطاه إياه ، إلا
أن يكون ساحرا أو عشارا» رواه الإمام أحمد بنحوه .
(وأما
حديث أبي الدرداء): فرواه الليث بن سعد ، حدثني محمد بن زيادة الأنصاري ، عن محمد بن كعب القرظي ،
عن فضالة بن عبيد ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ينزل
الله في آخر ثلاث ساعات بقين من الليل ينظر في الساعة الأولى منهن في الكتاب الذي
لا ينظر فيه غيره ، فيمحو ما يشاء ويثبت ، ثم ينظر في الساعة الثانية في جنة عدن
وهي مسكنه الذي يسكن ، لا يكون معه فيها إلا الأنبياء والشهداء والصديقون ، وفيها
ما لم ير أحد ولم يخطر على قلب بشر. ثم يهبط في آخر ساعة من الليل يقول : ألا
مستغفر فأغفر له ، ألا سائل فأعطيه ، ألا داع فأستجيب له» رواه عثمان بن سعيد الدارمي .
(وأما
حديث أنس بن مالك): فهو الحديث العظيم الشأن الذي هو قرة لعيون أهل الإيمان وشجى في حلوق أهل
التعطيل والبهتان. رواه الشافعي في «مسنده» مجملا به كتابه راجيا بروايته وتبليغه
عن الرسول من الله ثوابه ، ورواه أئمة السنة له مقرين ، وعلى من أنكره منكرين.
قال عثمان بن سعيد
: حدثنا هشام بن خالد الدمشقي ـ وكان ثقة ـ حدثنا محمد بن شعيب بن شابور ، أخبرنا
عمر بن عبد الله مولى عفرة قال : سمعت أنس بن مالك يقول : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «جاءني
جبرائيل وفي كفه مرآة فيها نكتة سوداء ، فقلت ما هذه يا جبرائيل؟ قال هذه الجمعة
أرسل بها إليك ربك فتكون هدى لك ولأمتك من بعدك فقلت وما لنا فيها؟ قال لكم فيها
خير كثير أنتم
__________________
الأولون
والآخرون السابقون يوم القيامة ، وفيها ساعة لا يوافقها عبد مؤمن يصلي يسأل الله
خيرا هو له قسم إلا آتاه إياه ، ولا خيرا له لم يقسم إلا ادخر له أفضل منه ، ولا
يستعيذ بالله من شر ما هو مكتوب عليه إلا رفع عنه أكبر منه. قلت ما هذه النكتة
السوداء؟ قال هذه الساعة يوم تقوم فيها القيامة وهو سيد الأيام ، ونحن نسميه عندنا
يوم المزيد. قلت : ولم تسمونه يوم المزيد يا جبرائيل؟ قال : إن ربك اتخذ في الجنة
واديا أفيح من مسك أبيض ، فإذا كان يوم الجمعة من أيام الآخرة هبط الجبار جل جلاله
عن عرشه إلى كرسيه إلى ذلك الوادي ، وقد حف الكرسي بمنابر من نور يجلس عليها
الصديقون والشهداء ؛ ثم يجيء أهل الغرف حتى يحفوا بالكثيب ، ثم يتبدى لهم ذو
الجلال والإكرام فيقول : أنا الذي صدقتكم وعدي وأتممت عليكم نعمتي ، وأحللتكم دار
كرامتى فسلوني. فيقولون بأجمعهم : نسألك الرضى عنا فيشهد لهم على الرضى ، ثم يقول
لهم سلونى. فيسألونه حتى تنتهي تهمة كل عبد منهم ، ثم يقول سلوني. فيقولون حسبنا
ربنا رضينا فيرجع الجبار تعالى إلى عرشه فيفتح لهم بعد انصرافهم من يوم الجمعة ما
لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، فيرجع أهل الغرف إلى غرفهم ، وهي
غرفة من لؤلؤ بيضاء وياقوتة حمراء وزمردة خضراء ليس فيها فصم ولا وصم. مطردة فيها
أنهارها متدلية فيها أثمارها ، فيها أزواجها وخدمها ومساكنها فليسوا إلى يوم أحوج
منه إلى يوم الجمعة ليزدادوا تفضلا من ربهم ورضوانا» .
ورواه عثمان بن
أبي شيبة ، حدثنا جرير ، عن ليث ، عن عثمان بن عمير ، عن أنس. ورواه ابن أبي حاتم
، حدثنا أبو زرعة حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير ، حدثنا أبو اليمان ، عن شريك ،
عن عثمان به.
ورواه مكي بن
إبراهيم ، عن موسى بن عبيدة ، عن أبي الأزهر ، عن عثمان فذكره.
__________________
ورواه أبو زرعة
شيبان بن فروج ، حدثنا الصعق بن حزن ، حدثنا علي بن الحكيم ، عن أنس.
ورواه الحكم بن
أسلم ، عن الصعق ، عن علي بن الحكم ، عن عبد الملك بن عمير.
ورواه الحسن بن
سفيان في «مسنده» : حدثنا شيبان بن أبي شيبة ، حدثنا الصعق بن حزن. حدثنا علي بن
الحكم.
ورواه أسعد بن
موسى ، حدثنا يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا صالح بن حيان ، عن عبد الله بن مريدة ، عن
أنس.
ورواه الشافعي في «مسنده»
عن إبراهيم بن محمد ، حدثنا موسى بن عبيدة. حدثني أبو الأزهر ، عن عبيد بن عمير
أنه سمع أنس بن مالك فذكر نحوه. وقال في أخرى : «وهو اليوم الذي استوى فيه ربكم على
العرش ، وفيه خلق آدم ، وفيه تقوم الساعة» وقد جمع أبي داود طرق هذا الحديث.
(وقد
روى من حديث حذيفة بن اليمان): قال ابن مندة : أخبرنا أبو عمر بن حكيم ، حدثنا يزيد بن
جهور ، حدثنا الحسن بن يحيى بن كثير ، حدثنا أبي ، عن القاسم بن مطيب ، عن الأعمش
، عن أبي وائل ، عن حذيفة عن النبي صلىاللهعليهوسلم الحديث بطوله.
ورواه أبو نعيم
وأبي النضر وجماعة قالوا : حدثنا المسعودي ، عن المنهال بن عمرو ، عن أبي عبيدة ،
عن عبد الله قال : سارعوا إلى الجمعة فإن الله ينزل لأهل الجنة في كل جمعة في كثيب
من كافور أبيض فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم إلى الجمعة.
(وأما
حديث لقيط بن عامر): فقال عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» : كتب إلي الإبراهيم بن حمزة بن مصعب
بن الزبير : كتبت إليه بهذا الحديث فحدث به عنى ، قال حدثني عبد الرحمن بن المغيرة
الحزمي ، عن عبد الرحمن بن عياش ، عن دلهم بن الأسود ، عن عبد الله بن حاطب بن
عاصم بن المنتفق ،
عن جده ، عن عمه
لقيط بن عامر العقيلي ـ ح ـ قال دلهم وحدثنيه أبي ، عن عاصم بن لقيط ، أن لقيطا
وفد إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ومعه صاحب له يقال له نهيك ابن عاصم بن مالك بن المنتفق ،
قال لقيط : فخرجت أنا وصاحبى حتى قدمنا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم حين انصرف من صلاة الغداة فقام في الناس خطيبا فقال : «أيها الناس ألا إني
قد خبوت لكم صوتي منذ أربعة أيام لأسمعكم ، ألا فهل من امرئ بعثه قومه فقالوا له :
اعلم لنا ما يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم؟ ألا
ثم لعله أن يلهيه حديث نفسه أو حديث صاحبه ، أو يلهيه الضلال ، ألا إن مسئول هل
بلغت ، ألا اسمعوا تعيشوا ، ألا اجلسوا ألا اجلسوا» قال : فجلس الناس ، وقمت أنا وصاحبي ، حتى إذا فرغ لنا
فؤاده وبصره ، قلنا يا رسول الله : ما عندك علم الغيب؟ فضحك لعمر الله وهز رأسه
وعلم إني أبتغى سقطة ، فقال : «ضن
ربك بمفاتيح خمس من الغيب لا يعلمها إلا الله تعالى ، وأشار بيده قلت : وما هن؟
قال : علم المنية ، قد علم متى منية أحدكم ولا تعلمونه ، وعلم ما في الغد ما أنت
طاعم غدا ولا تعلمه ، وعلم يوم الغيث يشرف عليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك ، قد علم
أن غوثكم إلى قريب ـ قال لقيط : لن نعدم من رب يضحك خيرا ـ وعلم يوم الساعة» قال قلت : يا رسول الله ، علمنا مما تعلم الناس ومما تعلم
؛ فإنا في قبيل لا يصدق تصديقنا أحد من مذحج التي تربو علينا وخثعم التي توالينا
وعشيرتنا التي نحن منها : قال «تلبثون
ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم صلىاللهعليهوسلم ثم
تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة ، لعمر إلهك ما تدع على ظهرها شيئا إلا مات ،
والملائكة الذين مع ربك عزوجل ، فأصبح ربك عزوجل يطوف في الأرض ، وخلت عليه البلاد
، فأرسل ربك السماء بهضب من عند العرش ، ولعمر إلهك لا تدع على ظهرها مصرع قتيل
ولا مدفن ميت إلا شقت القبر عنه حتى تخلفه من عند رأسه فيستوي جالسا ، فيقول ربك
مهيم لما كان فيه يقول يا رب أمس اليوم ولعهده بالحياة يحسبه حديثا بأهله» فقلت يا
رسول الله ، كيف يجمعنا بعد ما تمزقنا الرياح والبلى والسباع؟ قال أنبئك بمثل ذلك
في آلاء الأرض أشرقت عليها وهي
مدرة
بالية ، فقلت لا تحيا أبدا ، ثم أرسل ربك عليها السماء فلم تلبث عنك إلا أياما حتى
أشرفت عليها وهي مشربة واحدة ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يجمعكم من الماء على أن
يجمع نبات الأرض فتخرجون من الأصواء ومن مصارعكم فتنظرون إليه وينظر إليكم» قلت يا
رسول الله : ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد ينظر إلينا وننظر إليه؟ قال : أنبئك بمثل
ذلك في آلاء الله ، الشمس والقمر آية منه صغيرة ترونهما ويريانكم في ساعة واحدة لا
تضارون في رؤيتهما ، ولعمر إلهك لهو أقدر على أن يراكم وترونه منهما ، على أن
ترونهما ويريانكم لا تضارون في رؤيتهما ، قلت يا رسول الله فما يفعل بنا ربنا إذا
لقيناه؟ قال : تعرضون عليه بادية له صفحاتكم لا تخفى عليه منكم خافية ، فيأخذ
عزوجل بيده غرفة من الماء فينضح بها قبلكم ، فلعمر إلهك ما يخطئ وجه أحدكم منها
قطرة ، فأما المسلم فتدع وجهه مثل الريطة البيضاء ، وأما الكافر فتخطمه بمثل
الحميم الأسود ، ألا ثم ينصرف نبيكم صلىاللهعليهوسلم ويفرق
على أثره الصالحون فيسلكون جسرا من النار ، فيطأ أحدكم الجمر يقول حس ، فيقول الله عزوجل :
أو أنه ، فتطلعون على حوض الرسول صلىاللهعليهوسلم على
ظمأ والله ناهلة قط رأيتها ، ولعمر إلهك ما يبسط واحد منكم يده إلا وقع عليها قدح
يطهره من الطرف والبول الأذى ، وتحبس الشمس والقمر فلا ترون واحد منهما. قال قلت :
يا رسول الله فبم نبصر؟ قال بمثل بصرك ساعتك هذه ، وذلك مع طلوع الشمس في يوم
أشرقت الأرض ثم واجهته الجبال ، قال قلت يا رسول الله : فيم نجزى من سيئاتنا؟ قال
الحسنة بعشر أمثالها ، والسيئة بمثلها إلا أن يغفر ، قال قلت يا رسول الله : إما
الجنة وإما النار قال : لعمر إلهك وإن للنار سبعة أبواب ، ما منها بابان إلا يسير
الراكب بينهما مسيرة سبعين عاما. قلت يا رسول الله : فعلى ما نطلع في الجنة؟ قال :
على أنهار من عسل مصفى وأنهار من كأس ما بها من صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم
يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة كثيرة ، لعمر إلهك مما تعلمون وخير من مثله
معه وأزواج مطهرة ، قلت يا رسول الله ولنا فيها أزواج مصلحات؟ قال : الصالحات
للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد. قال لقيط : قلت
أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه ، قلت يا رسول الله على نبايعك؟ قال فبسط النبي
صلىاللهعليهوسلم يده
وقال : على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وزيال الشرك وأن لا تشرك بالله إله غيره :
قال قلت وإن لنا ما بين المشرق والمغرب ، فقبض النبي صلىاللهعليهوسلم يده
وبسط أصابعه وظن إني مشترط شيئا لا يعطينيه ، قال ، قلت : نحل منها حيث شئنا ولا
يجني على امرئ إلا نفسه؟ فبسط يده وقال : ذلك لك تحل حيث شئت ولا يجني عليك إلا
نفسك ، فانصرفنا وقال : ها إن ذين ها إن ذين ، لعمر إلهك إن حدثت ، ألا إنهم من
اتقى لله في الأولى والآخرة. فقال له كعب بن الحدادية أحد بني بكر ابن كلاب : من
هم يا رسول الله ، قال : بني المنتفق أهل ذلك ، قال فانصرفنا وأقبلت عليه فقلت :
يا رسول الله ، هل لأحد مما مضى من خير في جاهليتهم. قال فقال رجل من عرض قريش :
والله إن أباك المنتفق لفي النار ، فلكأنه وقع حر بين جلده ووجهه. مما قال لأبي
على رءوس الناس ، فهممت أن أقول : وأبوك يا رسول الله؟ فإذا الأخرى أجمل ، فقلت
وأهلك يا رسول الله؟ قال : وأهلي لعمر الله ما أتيت عليه من قبر عامري أو قرشي من
مشرك فقل أرسلني إليك محمد يبشرك بما يسوؤك تجر على وجهك وبطنك في النار ، قال قلت
يا رسول الله : ما فعل بهم ذلك وقد كانوا على عمل لا يحسنون إلا إياه ، وكانوا
يحسبونهم مصلحين ، قال ذلك بأن الله عزوجل بعث في آخر سبع أمم نبيا ، فمن عصى نبيه
كان من الطالحين. ومن أطاع نبيه كان من المهتدين» .
هذا حديث كبير
مشهور ، جلالة النبوة بادية على صفحاته تنادي عليه بالصدق ، صححه بعض الحفاظ ،
حكاه شيخ الإسلام الأنصاري ، ولا يعرف إلا من حديث أبي القاسم عبد الرحمن بن
المغيرة بن عبد الرحمن المدني ، ثم من رواية إبراهيم بن حمزة الزبيري المدني عنه ،
وهما من كبار علماء المدينة ، ثقتان محتج بهما في «الصحيح» احتج بهما البخاري في
مواضع من «صحيحه» وروى هذا الحديث أئمة الحديث في كتبهم ، منهم عبد الله بن الإمام
أحمد ، وأبو بكر بن عمرو بن أبي عاصم ، وأبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني
__________________
وأبو محمد عبد
الله بن أحمد بن جعفر أبو الشيخ الأصبهاني الحافظ ، وأبو عبد الله محمد بن إسحاق
بن منده ، وأبو بكر أحمد بن موسى بن مردويه ، وأبو نعيم أحمد بن عبد الله
الأصبهاني ، وخلق سواهم ، رووه في السنة وقابلوه بالقبول وتلقوه بالتصديق
والتسليم.
قال الحافظ أبو
عبد الله بن منده : روى هذا الحديث محمد بن إسحاق الصنعاني ، وعبد الله بن أحمد بن
حنبل وغيرهما ، وقرءوه بالعراق بجمع العلماء وأهل الدين ، ولم ينكره أحد منهم ،
ولم يتكلم في إسناده ، وكذلك رواه أبو زرعة وأبو حاتم على سبيل القبول.
وقال أبو الخير
عبد الرحيم محمد بن الحسن بن محمد بن حمدان بعد أن أخرجه في «فوائد» أبو الفرج
الثقفي : هذا حديث كبير ثابت حسن مشهور ، وقد روى منه الإمام أحمد في «مسنده» فصل «الضحك»
وروى منه فصل «الرؤية» وروى منه فصل «فأين من مضى من أهلك» وروى منه : «قلت يا
رسول الله كيف يحيى الموتى» لكن بغير هذا الإسناد ، وابنه ساقه بكماله في «مسند
أبيه» وفي «السنة».
(وأما
حديث ابن عمر): فرواه خلاد بن يحيى ، حدثنا عبد الوهاب ، عن مجاهد ، عن عمر قال : كنت جالسا
عند النبي صلىاللهعليهوسلم فجاء رجلان أحدهما أنصاري والآخر ثقفي ، فذكر الحديث وفيه «إن الله ينزل إلى
السماء الدنيا فيقول للملائكة هؤلاء عبادي جاءوني شعثا غبرا من كل فج عميق ،
اشهدوا إني قد غفرت لهم ذنوبهم» ورواه طلحة بن مصرف عن مجاهد به.
(وأما
حديث عبد الله بن عباس): فروى عبيد الله بن عمر عن زيد أبي أنيسة عن طارق عن سعيد بن جبير قال : سمعت
ابن عباس يقول : إن الله تعالى ينزل في شهر رمضان إذا ذهب الثلث الأول من الليل
هبط الى السماء الدنيا
__________________
ثم قال : هل من
سائل يعطى ، هل من مستغفر يغفر له ، هل من يتاب عليه. رواه علي ابن معبد ، عن عبيد
الله. وروى عبيد الله بن موسى.
قال ابن أبي ليلى
، عن المنهال ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا
بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (إبراهيم : ٢٧)
قال : ينزل الله إلى السماء الدنيا في شهر رمضان يدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء
غير الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة ؛ وإسناده حسن.
وقال أبو الزبير ،
عن طاوس : سئل ابن عباس عن ليلة الحصبة فقال : إن الله يهبط ليلة الحصبة على حراء
، وذكر عبيد الله بن موسى ، حدثنا إسرائيل السدي ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن
جبير ، عن ابن عباس قال : «كان النداء من السماء ؛ وكان الرب تعالى في السماء
الدنيا حين كلم موسى» ذكره الخلال في «السنة».
وفي كتاب «السنة»
للخلال : عن الوليد بن عبد الله بن أبي رباح ، عن زياد البهزي : بينما هو يحدث إن
الله ينزل ليلة النصف من شعبان فقال عطاء :
من هذا المحدث؟
قلت هو زياد البهزي ، قال سبحان الله ، فقد طول هذا على الناس ليلة واحدة في السنة
، أحسبه قال حدثنا ابن عباس قال : ينزل الله كل ليلة إلى سماء الدنيا ثلث الليل
الأوسط ، فيقول من يدعوني فأستجيب له ومن يسألني فأعطيه ، ويترك أهل الحقد لحقدهم.
(وأما
حديث عبادة بن الصامت): فرواه موسى بن عقبة ، عن اسحاق بن يحيي ، عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «ينزل الله كل ليلة
إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول : «ألا عبد يدعوني فأستجيب له ،
ألا ظالم لنفسه يدعوني فأقبله ، فيكون كذلك إلى مطلع الصبح ويعلو على كرسيه» وإسحاق هذا هو إسحاق بن يحيى بن الوليد بن عبادة .
__________________
(وأما
حديث أسماء بنت يزيد): فرواه أبو أحمد العسال في كتاب «السنة» من حديث أبان بن أبي عياش ، عن شهر بن
حوشب ، عنها قالت : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «يهبط الرب تعالى من السماء السابعة إلى المقام الذي
هو قائمه ، ثم يخرج عنق من النار ، فيظل الخلائق كلهم ، فيقول أمرت ، كل جبار عنيد
، ومن زعم أنه عزيز كريم ، ومن دعا مع الله إلها آخر .
(وأما
حديث أبي الخطاب): فقال محمد بن سعد في «الطبقات» : حدثنا أبو نعيم حدثنا إسرائيل حدثني ثوير قال
: سمعت رجلا من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم يقال له أبو الخطاب وسئل عن الوتر فقال : أحب الوتر نصف
الليل ، فإن الله يهبط من السماء السابعة إلى السماء الدنيا فيقول : هل من مذنب ،
هل من مستغفر ، هل من داع ، حتى إذا طلع الفجر ارتفع .
(وأما
حديث عمر بن عامر السلمي): فرواه محمد بن منده من حديث عثمان التيمي ، عن عبد الحميد
بن سلمة ، عن أبيه ، عن عمر بن عامر السلمي قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
ذهب ثلث الليل ، أو قال نصف الليل ، ينزل الله إلى سماء الدنيا فيقول : هل من عان
فأفكه هل من سائل فأعطيه ، هل من داع فاستجيب له ، هل من مستغفر فأغفر له ، حتى
يصلى الصبح» .
(وأما
حديث عوف بن مالك): فرواه حميد بن زنجويه من حديث عبادة بن نسي ، عن كثير بن مرة ، عن عوف بن مالك
، عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «إن
الله يطلع إلى خلقه ليلة النصف فيغفر للمؤمنين» الحديث ، وضمن يطلع معنى : يدنو ، وينزل ؛ فعداه بإلى.
__________________
(وأما
حديث أبي أمامة): جعفر بن الزبير عن القاسم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
كان ليلة النصف من شعبان هبط الله إلى سماء الدنيا فيغفر لأهل الأرض إلا لكافر
ومشاحن» ورواه محمد بن الفضل البخاري عن مكي بن ابراهيم عن جعفر.
وقال الفريابي حدثنا بن عمار حدثنا صدقة بن خالد ، حدثنا عثمان بن أبي عاتكة حدثنا
سليمان بن حبيب المجازي قال : دخلنا على أبي أمامة بحمص فقال : إن هذا المجلس من
بلاغ الله إياكم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قد بلغ ما أرسل به ، وأنتم فبلغوا عنا ، إياكم والظلم ،
فإن الله يجلس يوم القيامة على القنطرة الوسطى بين الجنة والنار ، ثم يعزل فيقول :
وعزتي وجلالي ، لا يجاورني اليوم ظلم ظالم.
(وأما
حديث ثوبان): فقال الطبراني في «معجمة» : حدثنا أحمد بن محمد ابن يحيى بن حمزة ، حدثنا
إسحاق بن إبراهيم أبو النصر ، حدثنا يزيد بن ربيعة ، حدثنا أبو الأشعث ، عن ثوبان
، عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «يقبل
الجبار تبارك وتعالى يوم القيامة فيثني رجله على الجسر فيقول : وعزتي وجلالى لا
يجاورني اليوم ظلم ظالم ، فينصف الخلق بعضهم من بعض ، حتى أنه لينصف الشاة الجماء
من القرناء تنطحها نطحة» وقد جاء المعنى تفسيرا لقوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) فروى البيهقي من حديث الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن عبد
الله بن مسعود (إِنَّ رَبَّكَ
لَبِالْمِرْصادِ) وقال : من وراء الصراط ثلاثة جسور : جسر عليه الأمانة ،
وجسر عليه الرحم ، وجسر عليه الرب تبارك وتعالى.
__________________
وذكر ابن جرير في «تفسيره»
عن جويبر ، عن الضحاك في هذه الآية ، قال : إذا كان يوم القيامة يأمر الله بكرسيه
فيوضع على النار فيستوي عليه ثم يقول : وعزتي لا يجاورني اليوم ذو مظلمة.
وذكر عمر بن قيس
قال : بلغني أن على جهنم ثلاث قناطر : قنطرة عليها الرحم إذا مروا بها تقول : يا
رب هذا واصل يا رب هذا قاطع. وقنطرة عليها الرب تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) وذكر عن سفيان في هذه الآية : على جهنم ثلاث قناطر : قنطرة
فيها الأمانة ، وقنطرة فيها الرب تعالى.
(وأما
حديث أبي موسى الأشعري): فرواه ابن لهيعة عن الزبير بن سليم ، عن الضحاك بن عبد الرحمن ـ يعني ابن عرزب
ـ عن أبيه قال : سمعت أبا موسى يقول : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا في النصف من شعبان
فيغفر لأهل الأرض إلا مشركا أو مشاحنا» .
* * *
فصل
وهذا النزول إلى
الأرض يوم القيامة قد تواترت به الأحاديث والآثار ودل عليه القرآن صريحا في قوله :
(هَلْ يَنْظُرُونَ
إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ) وقال عبد الله ابن المبارك : حدثنا حياة بن شريح ، حدثني
الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان المدني ، أن عقبة بن مسلم حدثه عن شفي بن مانع
الأصبحي قال : قدمت المدينة فدخلت المسجد فإذا الناس قد اجتمعوا على أبي هريرة
فلما تفرقوا دنوت فقلت : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «إذا
كان يوم القيامة نزل الله إلى العباد ليقضي بينهم وكل أمة جاثية ،
__________________
فأول
من يدعى رجل جمع القرآن» وذكر الحديث بطوله وأصله في «صحيح مسلم» . وفي «صحيح البخاري» من حديث أنس بن مالك ، وفيها «ثم دنا الجبار رب
العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى» وقد تقدم ذكر نزوله إلى الجنة يوم المزيد : ونزوله إلى
الأرض قبل يوم القيامة حين يخلو أهلها ، ونزوله يوم عرفة إلى سماء الدنيا.
وقال سعيد بن
منصور : حدثنا إبراهيم بن ميسرة ، عن ابن أبي سويد ، عن عمر بن عبد العزيز رحمهالله قال : زعمت المرأة الصالحة خولة بنت حكيم امرأة عثمان بن
مظعون أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج وهو محتضن أحد ابني بنته وهو يقول : «والله إنكم لتجبنون
وتجهلون وتبخلون وإنكم لمن رياحين الله وإن آخر وطأة وطئها رب العالمين بوج» .
وقال الإمام أحمد
: حدثنا سفيان عن عمرو بن دينار ، عن عمرو بن أوس قال : إن آخر وطأة الله لبوج ،
قال سفيان وكان سعد بن جبير يقول : قال أبو هريرة : تسألوني وفيكم عمرو بن أوس.
وفي الباب عن
الحسن بن علي ، عبد الله بن الزبير ، ويعلى بن مرة.
__________________
فهذه عشرة أنواع
من النزول والمجيء والإتيان ونظائرها ، تضمنها كلام أعلم الخلق بالله وأقدرهم على
اللفظ المطابق لما قصده من وصف الرب تعالى وأنصحهم للأمة ـ والمجاز وإن أمكن في
فرد من أفراد هذه الأنواع أو أكثر ـ فإنه من المحال عادة أن يطرد في جميعها اطرادا
واحدا بحيث يكون الجميع من أوله إلى آخره مجازا.
وقال أبو العباس
بن شريح : وقد صح عند جميع أهل الديانة والسنة إلى زماننا أن جميع الآثار والأخبار
الصادقة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الصفات يجب على المسلم الإيمان بها ، وأن السؤال عن
معانيها بدعة ، والجواب كفر وزندقة ، مثل قوله : (الرَّحْمنُ عَلَى
الْعَرْشِ اسْتَوى) (طه : ٥) ، وقوله
: (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) (الفجر : ٢٢)
ونظائرها مما نطق به القرآن كالفوقية والنفس واليدين ، والسمع والبصر ، وصعود
الكلام الطيب إليه ، والضحك والتعجب ، والنزول كل ليلة إلى السماء الدنيا.
إلى أن قال :
واعتقادنا في الآي المتشابهة في القرآن نقلها ولا نردها ، ولا نتأولها بتأويل
المخالفين ، ولا نحملها على تشبيه المشبهين ، ولا نترجم عن صفاته بلغة غير العربية
ونسلم الخبر لظاهر تنزيلها.
قال إمام عصره
محمد بن جرير في كتاب «التبيين في معالم الدين» : القول فيما أدرك علمه من الصفات
خبرا ، وذلك مثل إخباره سبحانه أنه سميع بصير ، وأن له يدين ، وأن له وجها وأن له
قدما ، وأنه يضحك ، وأنه يهبط إلى السماء الدنيا ، وذكر أولها.
وقال إسحاق بن
منصور : قلت لأحمد بن حنبل وإسحاق : ينزل ربنا كل ليلة الحديث أليس يقول لهذا
الحديث ، قال أحمد وإسحاق ، قال أحمد واسحاق : صحيح ، وزاد إسحاق : لا يدعه إلا
مبتدع. وقال الخلال : أخبرني أحمد بن الحسين بن حسان قال : قيل لأبي عبد الله : إن
الله ينزل إلى سماء الدنيا كل ليلة؟ قال نعم ، قيل له في شعبان كما جاء في الأثر؟
قال نعم.
وقال حنبل : قيل
لأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال نعم ، قلت : نزوله بعلمه أم بما
ذا؟ فقال اسكت عن هذا ، وغضب غضبا شديدا.
وقال ما لك :
ولهذا امض الحديث كما ورد بلا كيف ولا تحديد إلا بما جاءت به الآثار ، وبما جاء به
الكتاب ، قال الله تعالى : (فَلا تَضْرِبُوا
لِلَّهِ الْأَمْثالَ) (النحل : ٧٤) ينزل
كيف شاء بقدرته وعلمه وعظمته ، أحاط بكل شيء.
وقال بشر بن السري
لحماد بن زيد : ينزل ربنا إلى السماء الدنيا يتحول من مكان إلى مكان؟ فسكت حماد ثم
قال : هو مكانه يقرب من خلقه كيف شاء وقال أبو عمر بن عبد البر ـ أجمع العلماء من
الصحابة والتابعين الذين حمل عنهم التأويل ـ يعني تفسير القرآن ـ قالوا في تأويل
قوله تعالى : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ) (المجادلة : ٧) هو
على عرشه وعلمه بكل مكان ، وما خالفهم في ذلك من يحتج بقوله :
وقال : أهل السنة
مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها : وحملها
على الحقيقة لا على المجاز ، لأنهم لا يكيفون شيئا من ذلك.
وقال أبو عبد الله
الحاكم ، سمعت أبا زكريا العنبري يقول : سمعت إبراهيم ابن أبي طالب يقول ، سمعت
أحمد بن سعيد الرابطي يقول : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر ذات يوم وحضر
إسحاق ـ يعني ابن راهويه ـ فسئل عن حديث النزول أصحيح هو؟ قال : نعم فقال له بعض
قواد الأمير عبد الله : يا أبا يعقوب أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال نعم ، قال
كيف ينزل؟ قال له إسحاق : أثبته فوق حتى أصف لك النزول ، فقال له الرجل : أثبته
فوق؟ فقال له إسحاق : قال الله جل شأنه (وَجاءَ رَبُّكَ
وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فقال الأمير عبد الله بن طاهر : يا أبا يعقوب هذا يوم
القيامة ، قال إسحاق ـ أعز الله الأمير ـ ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟
وقال البخاري في
كتاب «خلق أفعال العباد» قال الفضيل بن عياض : إذا قال لك الجهمي : أنا أكفر برب
يزول عن مكانه ، فقل أنت : أؤمن برب يفعل ما يشاء وقد ذكر الأثرم هذه الحكاية أطول من هذا.
وقال الخلال :
أخبرني علي بن عيسى أن حنبلا حدثهم قال : سألت أبا عبد الله عن الأحاديث التي تروى
«أن الله عزوجل ينزل إلى سماء الدنيا ـ وأن الله يرى ـ وأن الله يضع قدمه»
وما أشبه ذلك ، فقال أبو عبد الله : نؤمن بها ونصدق بها ولا كيف ولا معنى ، ولا
نرد منها ، ونعلم أن جاء به الرسول حق إذا كانت بأسانيد صحاح ولا نرد على الله
قوله ، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية ، ليس كمثله شيء. وهذا
الكلام وكلام الشافعي من مشكاة واحد.
* * *
فصل
(أقوال العلماء في كيفية النزول)
واختلف أهل السنة
في نزول الرب تبارك وتعالى على ثلاثة أقوال. (أحدها) أنه ينزل بذاته ، وهو قول الإمام أبي القاسم التيمي وهو من
أجل الشافعية له التصانيف المشهورة «كالحجة في بيان المحجة» وكتاب «الترغيب
والترهيب» وغيرها ، وهو متفق على إمامته وجلالته وقال شيخنا : وهذا قول طوائف من
أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين. وروي في ذلك حديث مرفوع لا يثبت رفعه.
وقال أبو موسى
المديني : إسناده مدخول وفيه مقال ، وعلى بعضهم مطعن لا تقوم بمثله الحجة ، ولا
يجوز نسبة قوله إلى رسوله صلىاللهعليهوسلم وإن كنا نعتقد صحته إلا أن يرد بإسناد صحيح.
__________________
وقالت طائفة منهم
: لا ينزل بذاته. وقالت فرقة أخرى : نقول ينزل ولا نقول بذاته ولا بغير ذاته ، بل
نطلق اللفظ كما أطلقه رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونسكت عما سكت عنه.
واختلفوا أيضا هل
يخلو العرش منه؟ فقالت طائفة ينزل ويخلو منه العرش. وقالت طائفة لا يخلو من العرش
، قال القاضي أبو يعلى في كتاب «الوجهين والروايتين» : لا يختلف أصحابنا أن الله
ينزل إلى سماء الدنيا في كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر ، كما أخبر به نبيه صلىاللهعليهوسلم ، ثم ساق حديث أبي هريرة وابن مسعود وعبادة بن الصامت ثم
قال : واختلفوا في صفته ، فذهب شيخنا أبو عبد الله إلى أنه نزول انتقال. قال : لأن
هذا حقيقة النزول عند العرب. وهو نظير قوله في الاستواء بمعنى قعد : وهذا على ظاهر
حديث عبادة بن الصامت.
قلت : يريد قوله
ثم يعلو تبارك وتعالى على كرسيه ، قال : لأن أكثر ما في هذا أنه من صفات الحدث في
حقنا. وهذا لا يوجب كونه في حقه محدثا كالاستواء على العرش هو موصوف به مع
اختلافنا في صفته ، وإن كان هذا الاستواء لم يكن موصوفا به في القدم ، وكذلك نقول
تكلم بحرف وصوت وإن كان هذا يوجب الحدث في حقنا ولم يوجبه في حقه ، وكذلك النزول.
قال : وحكى شيخنا
عن طائفة من أصحابنا أنهم قالوا : ينزل ، معناه قدرته ولعل هذا القائل ذاهب إلي
ظاهر كلام أحمد في رواية حنبل أنه قال يوم احتجوا على : يومئذ تجيء البقرة يوم
القيامة ويجيء تبارك وتعالى. قلت لهم : هذا الثواب. قال الله تعالى : (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا
صَفًّا) (الفجر : ٢٢) إنما
يأتي قدرته ، وإنما القرآن أمثال ومواعظ وزجر.
وذكر أحمد أيضا
فيما خرجه في الحبس : كلام الله لا يجيء ولا يتغير من حال إلى حال ووجه هذا أن
النزول هو الزوال والانتقال : ولهذا قلنا في الاستواء إنه لا بمعنى المماسة
والمباينة لأن ذلك من صفات الحدث والانتقال وهذا من صفات الحدث.
قال : وحكى شيخنا
عن طائفة أخرى من أصحابنا أنهم قالوا نثبت نزولا ولا نعقل معناه : هل هو بزوال أو
بغير زوال كما جاء الخبر ، ومثل هذا ليس بممتنع في صفاته ، كما نثبت ذاتا لا تعقل
، قال وهذه الطريقة هي المذهب ، قد نص عليها أحمد في مواضع ، فقال حنبل : قلت لأبي
عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال نعم. قلت نزوله بعلمه أم ما ذا؟ فقال
لي اسكت عن هذا وغضب غضبا شديدا ، وقال امض الحديث على ما روي.
قلت : أما قول ابن
حامد إنه نزول انتقال فهو موافق لقول من يقول يخلو منه العرش ، والذي حمله على هذا
إثبات النزول حقيقة وأن حقيقته لا تثبت إلا بالانتقال ورأى أنه ليس في العقل ولا
في النقل ما يحيل الانتقال عليه ، فإنه كالمجيء والإتيان والذهاب والهبوط ، هذه
أنواع الفعل اللازم القائم به. كما أن الخلق والرزق والإماتة والإحياء والقبض
والبسط أنواع للفعل المتعدي ، وهو سبحانه موصوف بالنوعين وقد يجمعهما كقوله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي
سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) (الأعراف : ٥٤)
والانتقال جنس لأنواع المجيء والإتيان ، والنزول والهبوط ، الصعود والدنو والتدلي
ونحوها ، وإثبات النوع مع نفي جنسه جمع بين النقيضين.
قالوا : وليس في
القول بلازم النزول والمجيء والإتيان والاستواء والصعود محذور البتة ، ولا يستلزم
ذلك نقصا ولا سلب كمال ، بل هو الكمال نفسه ، وهذه الأفعال كمال ومدح ، فهي حق دل
عليه النقل ، ولازم الحق حق كما أن العقل والنقل قد اتفقا على أنه سبحانه حي متكلم
قدير عليم مريد ، وما لزم من ذلك تعين القول به ، فإنه لازم الحق ، وكذلك رؤيته
تعالى بالأبصار عيانا في الآخرة هو حق ، فلازمه حق كائنا ما كان. والعجب أن هؤلاء
يدعون أنهم أرباب المعقولات ، وهم يجمعون بين إثبات الشيء ونفي لازمه ، ويصرحون
بإثباته ، ويثبتون لوازمه باثباته ، ويصرحون بنفيه ، ولهذا عقلاؤهم لا يسمحون
بإثبات شيء من ذلك ، فلا يثبتون لله نزولا ولا مجيئا ، ولا إتيانا ولا دنوا ،
ولا استواء ولا
صعودا البتة ، وإثبات هذه الحقائق عندهم في الامتناع كإثبات الأكل والشرب والنوم
ونحوها ، والفرق بين هذا وهذا ثابت عقلا ونقلا وفطرة وقياسا واعتبار ، فالتسوية
بينهما في غاية البطلان.
قالوا وقولنا إنه
نزول لاعتبار لا محذور فيه ، فإنه ليس كانتقال الأجسام من مكان إلى مكان ، كما
قلتم إن سمعه وبصره وحياته وقدرته وإرادته ليست كصفات الأجسام ، فليس كمثله شيء في
ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
قالوا ونحن لم
نتقدم بين يدي الله ورسوله ، بل أثبتنا لله ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلىاللهعليهوسلم. فألزمتم أنتم من أثبت ذلك القول بالانتقال ، ومعلوم أن
هذا الإلزام إنما هو إلزام لله ورسوله ، فإنا لم نتعد ما وصف به نفسه ، فكأنكم
قلتم من أثبت له نزولا ومجيئا وإتيانا ودنوا لزمه وصفه بالانتقال ، والله ورسوله
وهو الذي أثبت ذلك لنفسه فهو حق بلا ريب ، فكان جوابنا إن الانتقال إن لزم من
إثبات ما أثبته الله تعالى ورسوله صلىاللهعليهوسلم وتصديقه في ذلك والإيمان به ، فلا بد من إثباته ضرورة ،
وإن لم يلزم ، بطل إلزامكم ونظير هذا مناظرة جرت بين جهمي وسني.
قال الجهمي : أنت
تزعم أن الله يرى في الآخرة عيانا بالأبصار؟ قال السني : نعم. فقال له الجهمي :
هذا يلزم منه إثبات الجهة والحد وكون المرئي مقابلا للرائي مواجها له ، وهذا تشبيه
وتجسيم. قال له السني : قد دل القرآن والسنة المتواترة واتفاق الصحابة وجميع أهل
السنة وأئمة الإسلام على أن الله يرى في الآخرة ، وقد شهد بذلك الرسول وبلغه الأمة
، وأعاده وأبداه ، فذلك حق لا ريب له ، فإذا لزم ما ذكرت فلازم الحق حق ، وإن لم
يلزم بطل سؤالك.
وقال بعض الجهمية
لبعض أصحابنا : أتقول إن الله ينزل إلي السماء الدنيا؟ فقال ومن أنا حتى أقول ذلك
، فقد قاله رسوله صلىاللهعليهوسلم وبلغه الأمة ، فقال له الجهمي : هذا يلزم منه الحركة
والانتقال ، فقال له السني : أنا لم أقل من عندي
شيئا ، وهذا
الإلزام لمن قال ذلك هو الرسول صلىاللهعليهوسلم وتصديقه واجب علينا ، فإن كان تصديقه على ذلك بطل الإلزام
به ، فبهت الجهمي.
قالوا وقد دل
العقل والشرع على أن الله سبحانه حي فعال ، ولا فرق بين الحي والميت إلا بالفعل ،
فالفعل الاختياري من لوازم الحياة فالإرادة والمشيئة من لوازم الفعل ، وللفعل
لوازم لا يجوز نفيها ، إذ نفيها يستلزم نفي الفعل الاختياري ، ولهذا لما نفاها
الدهرية والفلاسفة نفوا الفعل الاختياري من أصله.
قالوا : ومن لوازم
الفعل والترك الحب والبغض وانتقال الفاعل من شأن إلى شأن ، والرب تبارك وتعالى كل
يوم هو في شأن ، ومن كان على حال واحد قبل الفعل وحال الفعل وبعد الفعل لم يعقل
كونه فاعلا باختياره ، بل ولا فاعلا البتة ، فليس مع نفاة لوازم الأفعال إلا إثبات
ألفاظ لا حقائق لها.
والمقصود أن هؤلاء
قالوا : نحن لم نصرح بالانتقال من عند أنفسنا ، ولكن الله ورسوله قالاه.
* * *
فصل
أما الذين نفوا
الحركة والانتقال ، فإن نفوا ما هو من خصائص المخلوق فقد أصابوا ولكن أخطئوا في
ظنهم أن ذلك لازم ما أثبته لنفسه ، فأصابوا في نفى خصائص المخلوقين وأخطئوا في
ظنهم أنه لازم ما أثبته لنفسه وفي نفيهم للازم الذي يستحيل اتصاف المخلوق بنظيره ،
وقد بينا فيما تقدم أن الصفة يلزمها لوازم لنفسها وذاتها ، فلا يجوز نفي هذه
اللوازم عنها لا في حق الرب ولا في حق العبد ، ويلزمها لوازم من جهة اختصاصها
بالعبد ، فلا يجوز إثبات تلك اللوازم للرب ، ويلزمها لوازم من حيث اختصاصها بالرب
فلا يجوز سلبها عنه ولا إثباتها للعبد ، فعليك بمراعاة هذا الأصل والاعتصام به في
كل ما يطلق على الرب تعالي ، وعلى العبد.
وأما الذين أمسكوا
عن الأمرين وقالوا : لا نقول يتحرك وينتقل ، ولا ننفي
ذلك عنه ، فهم
أسعد بالصواب والاتباع ، فإنهم نطقوا بما نطق به النص ، وسكتوا عما سكت عنه ،
وتظهر صحة هذه الطريقة ظهورا تاما فيما إذا كانت الألفاظ التي سكت النص عنها مجملة
محتملة لمعنيين : صحيح وفاسد ، كلفظ الحركة والانتقال والجسم والحيز والجهة
والأعراض والحوادث والعلة والتغير والتركيب ، ونحو ذلك من الألفاظ التي تحتها حق
وباطل ، فهذه لا تقبل مطلقا ولا ترد مطلقا ، فإن الله سبحانه لم يثبت لنفسه هذه
المسميات ولم ينفها عنه ، فمن أثبتها مطلقا فقد أخطأ ، ومن نفاها مطلقا فقد أخطأ ،
فإن معانيها منقسمة إلى ما يمتنع إثباته لله ، وما يجب إثباته له ، فإن الانتقال
يراد به انتقال الجسم والعرض من مكان هو محتاج إليها إلى مكان آخر يحتاج إليه ،
وهو يمتنع إثباته للرب تعالى ، وكذلك الحركة إذا أريد بها هذا المعنى امتنع
إثباتها لله تعالى ، ويراد بالحركة والانتقال حركة الفاعل من كونه فاعلا ،
وانتقاله أيضا من كونه غير فاعل إلى كونه فاعلا.
فهذا المعنى حق في
نفسه لا يعقل كون الفاعل إلا به ، فنفيه عن الفاعل نفي لحقيقة الفاعل وتعطيل له ،
وقد يراد بالحركة والانتقال ما هو أعم من ذلك ، وهو فعل يقوم بذات الفاعل يتعلق
بالمكان الذي قصد له ، وأراد إيقاع الفعل بنفسه فيه ، وقد دل القرآن والسنة
والإجماع على أنه سبحانه يجيء يوم القيامة ، وينزل لفصل القضاء بين عباده ، ويأتي
في ظلل من الغمام والملائكة ، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا ، وينزل عشية عرفة ،
وينزل إلى الأرض قبل يوم القيامة ، وينزل إلى أهل الجنة ، وهذه أفعال يفعلها بنفسه
في هذه الأمكنة ، فلا يجوز نفيها عنه بنفي الحركة والنقلة المختصة بالمخلوقين ،
فإنها ليست من لوازم أفعاله المختصة به. فما كان من لوازم أفعاله لم يجز نفيه عنه
، وما كان من خصائص الخلق لم يجز إثباته له ، وحركة الحي من لوازم ذاته ولا فرق
بين الحي والميت إلا بالحركة والشعور ، فكل حي متحرك بالإرادة ، وله شعور ، فنفي
الحركة عنه كنفي الشعور ، وذلك يستلزم نفي الحياة.
ونظير ذلك قول
الجهمية : لو قامت به الصفات لقامت به الأعراض ، قيام الأعراض به يستلزم كونه جسما
، فقالت الصفاتية : قد دلل الدليل على قيام الصفات به ، فلا يجوز نفيها عنه
بتسميتها أعراضا ، فإن أردتم بالأعراض الصفات فإثبات الصفات حق ، وإن أردتم به ما
هو من خصائص المخلوق فلا يلزم ذلك من إثباتها للرب تعالى.
وكذلك قولهم : لو
كان فوق سماواته على عرشه يصعد إليه الكلم الطيب لكان جسما وجوابهم بأنه قد ثبت
بالعقل والنقل والفطرة أنه سبحانه فوق سماواته عال على خلقه ، فلا يجوز نفيه
بتسميته تجسميا ، فإن كان التجسيم اللازم من ذلك كونه فوق سماواته على عرشه بائنا
من خلقه ، فهذا اللازم حق فسموها ما شئتم ، وإن كان المدعى لزوم تركيبه من الجواهر
الفردة والمادة والصورة ، أو كونه مماثلا للأجسام المخلوقة فدعوى هذه الملازمة كذب
فلا يجوز أن ينفى عن الله ما دل عليه العقل والنقل والفطرة بألفاظ مجملة تنقسم
معانيها إلى حق وباطل.
وأما قول من قال
يأتي أمره وينزل رحمته ، فإن أراد أنه سبحانه إذا نزل وأتى حلت رحمته وأمره فهذا
حق ، وإن أراد أن النزول والمجيء والإتيان للرحمة والأمر ليس إلا ، فهو باطل من
وجوه عديدة قد تقدمت ؛ ونزيدها وجوها أخر ، منها أن يقال : أتريدون رحمته وأمره
صفته القائمة بذاته؟ أم مخلوقا منفصلا سميتموه رحمة وأمرا؟ فإن أردتم الأول فنزوله
يستلزم نزول الذات ومجيئها قطعا ، وإن أردتم الثاني كان الذي يأتي وينزل ويأتي
لفصل القضاء مخلوقا محدثا لا رب العالمين ، وهذا معلوم البطلان قطعا وهو تكذيب
صريح للخبر ، فإنه يصح معه أن يقال : لا ينزل إلى سماء الدنيا ، ولا يأتي لفصل
القضاء ، وإنما الذي ينزل ويأتي غيره.
ومنها : كيف يصح
أن يقول ذلك المخلوق : لا أسأل عن عبادي غيري ،
__________________
ويقول : من
يستغفرني فأغفر له؟ ونزول رحمته وأمره مستلزم لنزوله سبحانه ومجيئه ، وإثبات ذلك
للمخلوق مستلزم للباطل الذي لا يجوز نسبته إليه سبحانه مع رد خبره صريحا.
ومنها : أن نزول
رحمته وأمره لا يختص بالثلث الأخير ولا بوقت دون وقت ينزل أمره ورحمته فلا تنقطع
رحمته ولا أمره عن العالم العلوي والسفلي طرفة عين.
(ما نقل عن الإمام أحمد من تأويل النزول والجواب عنه)
وأما الرواية
المنقولة عن الإمام أحمد فاختلف فيها أصحابه على ثلاث طرق (أحدها) إنها غلط عليه. فإن حنبلا تفرد بها عنه ، وهو كثير المفاريد
المخالفة للمشهور من مذهبة وإذا تفرد بما خالف المشهور عنه : فالخلال وصاحبه عبد
العزيز لا يثبتون ذلك رواية ، وأبو عبد الله بن حامد وغيره يثبتون ذلك رواية ،
والتحقيق أنها رواية شاذة مخالفة لجادة مذهبه ، هذا إذا كان ذلك من مسائل الفروع
فكيف في هذه المسألة؟
وقالت طائفة أخرى
: بل ضبط حنبل ما نقل وحفظه ، ثم اختلفوا في تخريج هذا النص فقالت طائفة منهم :
إنما قاله أحمد على سبيل المعارضة لهم فإن القوم كانوا يتأولون في القرآن من
الإتيان والمجيء بمجيء أمره سبحانه ، ولم يكن في ذلك ما يدل على أن من نسب إليه
المجيء والإتيان مخلوق فكذلك وصف الله سبحانه كلامه بالإتيان والمجيء هو مثل وصفه
بذلك فلا يدل على أن كلامه مخلوق بحمل مجيء القرآن على مجيء ثوابه ، كما حملتم
مجيئه سبحانه وإتيانه على مجيء أمره وبأسه.
فأحمد ذكر على وجه
المعارضة والإلزام لخصومه بما يعتقدونه في نظير ما احتجوا به عليه لا أنه يعتقد
ذلك ، والمعارضة لا تستلزم اعتقاد المعارض صحة ما عارض به.
وقالت طائفة أخرى
: بل ثبت عن أحمد بمثل هذا رواية في تأويل المجيء
والإتيان ونظائر
ذلك من أنواع الحركة ، ثم اختلفوا في ذلك ، فمنهم من قصد التأويل على هذا النوع
خاصة ، وجعل فيه روايتين ، ومنهم من حكى روايتين في باب الصفات الخبرية بالنقل
والتخريج. والرواية المشهورة من مذهبه ترك التأويل في الجميع ، حتى أن حنبلا نفسه
ممن نقل عنه ترك التأويل صريحا فإنه لما سأله عن تفسير النزول هل هو أمره أم ما ذا؟
نهاه عنه.
وطريقة القاضي
وابن الزاغوني تخصيص الروايتين بتأويل النزول ونوعه وطريقة ابن عقيل تعميم
الروايتين لكل ما يمنع عندهم إرادة ظاهرة ، وطريقة الخلال وقدماء الأصحاب امتناع
التأويل في الكل ، وهذه رواية إما شاذة أو أنه رجع عنها ، كما هو صريح عنه في أكثر
الروايات ، وإما أنها إلزام منه ومعارضة لا مذهب ، وهذا الاختلاف وقع نظيره في
مذهب مالك ، فإن المشهور عنه وعن أئمة السلف إقرار نصوص الصفات والمنع من تأويلها
، وقد روى عنه أنه تأول قوله : «ينزل ربنا» بمعنى نزول أمره وهذه الرواية لها
إسنادان (أحدهما) من طريق حبيب كاتبه ، وحبيب هذا غير حبيب ، بل هو كذاب وضاع
باتفاق أهل الجرح والتعديل ، ولم يعتمد أحد من العلماء على نقله ، والإسناد (الثاني) فيه مجهول لا يعرف حاله ، فمن أصحابه من أثبت هذه الرواية ،
ومنهم من لم يثبتها ، لأن المشاهير من أصحابه لم ينقلوا عنه شيئا من ذلك.
* * *
فصل
وهاهنا قاعدة يجب
التنبيه عليها ، وهي أنه إذا ثبت عن مالك وأحمد وغيرهما تأويل شيء في موارد النزاع
لم يكن فيه أكثر من أنه وقع بينهم نزاع في معنى الآية أو الحديث ، وهو نظير
اختلافهم في تفسير آيات وأحاديث ، مثل تنازع ابن عباس وعائشة في قوله تعالى : (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (النجم : ١٣) فقال
ابن عباس رأى ربه ، قالت عائشة بل رأى جبرائيل ، وكتنازع ابن مسعود
وابن عباس في قوله
تعالى : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ
تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) (الدخان : ١٠)
فقال ابن مسعود : هو ما أصاب قريشا من الجوع حتى كان أحدهم يرى بينه وبين السماء
كهيئة الدخان ، وقال ابن عباس : هو دخان قبل يوم القيامة وهذا هو الصحيح ، ونظائر
ذلك ، فالحجة هي التي تفصل بين الناس.
* * *
(٩) المثال التاسع :
في المعية
(المثال التاسع) :
مما ادعي فيه قوله تعالى : (وَهُوَ مَعَكُمْ
أَيْنَ ما كُنْتُمْ) (الحديد : ٤) قوله
تعالي : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا) (النحل : ١٢٨)
وقوله تعالي : (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : ٤٦) وقوله :
(إِنَّا مَعَكُمْ
مُسْتَمِعُونَ) (الشعراء : ١٥)
وقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق : ١٦) ، وقوله (فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة : ١٦٨)
وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) (المجادلة : ٧)
الآية ونحو ذلك.
قالت المجازية :
هذا كله مجاز يمتنع حمله على الحقيقة ، إذ حقيقته المخالطة والمجاورة ، وهي منتفية
قطعا ، فإذا معناها معية العلم والقدرة والإحاطة ، ومعية النصر والتأييد والمعونة
، وكذلك القرب.
قال أصحاب الحقيقة
: والجواب عن ذلك من وجوه.
أحدها
: لا تخلو هذه
الألفاظ إما أن يكون ظاهرها أن ذاته تعالى في كل مكان ، أو لا يكون ذلك ظاهرها ،
فإن كان ذلك ظاهرها فهو قول طوائف من إخوان هؤلاء ، وهم الجهمية الأول ، الذين
كانوا يقولون : إن الله بذاته في كل مكان ، ويحتجون بهذه الآيات وما أشبهها.
وهؤلاء الجهمية
المستأخرون الذين يقولون : ليس فوق السموات رب ، ولا على العرش إله ، عاجزون عن
الرد على سلفهم الأول ، وسلفهم خير منهم فإنهم أثبتوا له وجودا بكل مكان وهؤلاء
نفوا أن يكون داخل العالم أو خارجه ، والرسل وأتباعهم أثبتوا أنه خارج العالم ،
فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه ، فنفاة النقيضين لا يمكنهم الرد على من أثبت
النقيضين ، فإنهم إن قالوا إثبات النقيضين محال ، قالوا لهم ونفيهما محال ، وإن
قالوا كونه داخل العالم ينافي كونه خارجا عنه ، قالوا لهم : وكونه غير داخل العالم
ينافي كونه غير خارج عنه ، فإن قالوا وصفه بدخوله في العالم وخروجه منه يستلزم
التجسيم.
قالوا : وصفه
بكونه ليس في العالم ولا خارجا عنه يستلزم التعطيل ، والحكم بعدمه والتجسيم خير من
التعطيل ، ونفي حقيقة الرب لو كان لازما ، كيف ولزومه من جانبكم أقوى ، فأنكم
تصفونه بالصفات التي هي أعراض لا تقوم إلا بالأجسام ، وقد ألزمكم النفاة التجسيم
بإثباتها فما كان جوابكم لهم فهو بعينه جوابنا لكم.
وإن قالوا إثبات
دخوله في العالم يقتضي مجاورته ومخالطته لما ينزه عنه ، قالوا لهم : ونفي دخوله في
العالم وخروجه عنه يقتضي امتناع وجوده وهو انقص من مجاورته للعالم ، فإن كان نقصا
فالحكم عليه بما يمنع وجوده أدخل في النقص ، وإن لم يكن ذلك النفي نقصا ولا
مستلزما للنفس لم يكن في الإثبات نقص.
فإن قلتم دخوله
وخروجه يقتضي انحصاره في الأمكنة ، قال سلفكم بل يقتضي عدم انحصاره ، فإنا لم نخصه
بمكان دون مكان ، ولو اقتضى حصره لكان ذلك أقرب إلى المعقول من الحكم عليه بما
يقتضي امتناع وجوده.
فظهر أنه لا يمكن
خلف الجهمية أن يرد على سلفهم البتة إلا أن يتركوا تعطيلهم ويتحيزوا إلى أهل
الإثبات ، فإذا قال هؤلاء : حقيقة هذه الألفاظ تقتضي المجاورة (والمخالطة) ونحن
نقول بذلك لم يمكنهم إبطال قولهم ، وأهل الإثبات براء من الفريقين. هذا إن كان
ظاهر القرآن يدل على المخالطة والمجاورة ، وإن لم يدل على ذلك ولم يكن حقيقة فيه
لم يكن خارجا عن حقيقته.
الوجه
الثاني : إن الله سبحانه قد
بين في القرآن غاية البيان أنه فوق سماواته وأنه مستو على عرشه ، وأنه بائن عن
خلقه ، وأن الملائكة تعرج إليه ، وتنزل من عنده ، وأنه رفع المسيح إليه ، وأنه
يصعد إليه الكلم الطيب ، إلى سائر ما دلت عليه النصوص من مباينته لخلقه وعلوه على
عرشه ، هذه نصوص محكمة فيجب رد المتشابه إليها ، فتمسكتم بالمتشابه ورد المحكم
متشابها وجعلتم الكل مجازا.
الوجه
الثالث : إن الله تعالى قد
بين في غير موضع أنه خلق السموات والأرض وما بينهما ، وأن له ملك السموات والأرض
وما بينهما ، وأن الأرض قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه ، وأن كرسيه وسع
السموات الأرض ، وأنه يمسك السموات والأرض ، وهذه نصوص صريحة في أن الرب تعالى ليس
هو
عين هذه المخلوقات
، ولا صفة ولا جزء منها ، فإن الخالق غير المخلوق ، وليس بداخل فيها محصور بل هي
صريحة في أنه مباين لها وأنه ليس حالا فيها ولا محلا لها ، فهي هادية للقلوب عاصمة
لها أن يفهم من قوله : (وَهُوَ مَعَكُمْ). أن الله سبحانه عين المخلوقات أو حال فيها أو محل لها.
الوجه
الرابع : إنه ليس ظاهر
اللفظ ولا حقيقته أنه سبحانه مختلط بالمخلوقات ممتزج بها ، ولا تدل لفظة «مع» على
هذا بوجه من الوجوه فضلا أن يكون هو حقيقة اللفظ وموضوعه ، فإن «مع» في كلامهم
لصحبته اللائقة وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها ، فكون نفس الإنسان معه لون
، وكون علمه وقدرته وقوته معه لون ، وكون زوجته معه لون ، وكون أميره ورئيسه معه
لون وكون ما له معه لون. فالمعية ثابتة في هذا كله مع تنوعها واختلافها ، فيصح أن
يقال : زوجته معه وبينهما شقة بعيدة ، وكذلك يقال مع فلان دار كذا وضيعته كذا ،
فتأمل نصوص المعية في القرآن كقوله تعالى : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ) (الفتح : ٢٩)
وقوله : (يُنادُونَهُمْ أَلَمْ
نَكُنْ مَعَكُمْ) (الحديد : ١٤)
وقوله : (لَنْ تَخْرُجُوا
مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا) (التوبة : ٨٣)
وقوله : (وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ
آمَنُوا مَعَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ
فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) (التوبة : ١١٩ ،
البقرة : ٤٣ ، البقرة : ٢٤٩ ، التحريم : ٨ ، آل عمران : ٥٣) (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ) (النساء : ١٠٢ ،
١٠٣ ، المائدة : ٨٤) ، وأضعاف ذلك ، هل يقتضي موضع واحد منها مخالطة في الذوات
التصاقا وامتزاجا ، فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب تعالى ذلك حتى يدعي أنها
مجاز لا حقيقة ، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالى فيهم ولا ملاصقة لهم ، ولا
مخالطة ولا مجاوزة بوجه من الوجوه ، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة
والمقارنة في أمر من الأمور. وذا الاقتران في كل موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب
متعلقة.
فإن قيل : الله مع
خلقه بطريق العموم ، كان من لوازم ذلك علمه بهم وتدبيره لهم وقدرته عليهم ، وإذا
كان ذلك خاصا كقوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ
الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (الحديد : ٤) كان
من لوازم ذلك معيته لهم بالنصرة
والتأييد والمعونة
، فمعية الله تعالى مع عبده نوعان : عامة وخاصة ، وقد اشتمل القرآن على النوعين ،
وليس ذلك بطريق الاشتراك اللفظي بل حقيقتها ما تقدم من الصحبة اللائقة ، وقد أخبر
الله تعالى أنه مع خلقه مع كونه مستويا على عرشه وقرن بين الأمرين كما قال تعالى :
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ،
يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ
السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللهُ بِما
تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) (البقرة : ١٥٣ ،
العنكبوت : ٦٩ ، النحل : ١٢٨ ، البقرة : ١٩٤ ، التوبة : ٤٠) فأخبر أنه خلق السموات
والأرض ، وأنه استوى على عرشه ، وأنه مع خلقه يبصر أعمالهم من فوق عرشه كما في
حديث الأوعال : «والله فوق عرشه يرى ما أنتم عليه» فعلوّه لا يناقض معيته ، ومعيته
لا تبطل علوه ، بل كلاهما حق ، فمن المعية الخاصة قوله : (إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ إِنَّ
اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ
هُمْ مُحْسِنُونَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ لا تَحْزَنْ إِنَّ
اللهَ مَعَنا) ومن العامة (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ
ما كُنْتُمْ) (الحديد : ٤)
وقوله : (ما يَكُونُ مِنْ
نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ) الآية (المجادلة : ٧).
فنبه سبحانه
بالثلاثة على العدد الذي يجمع الشفع والوتر ، ولا يمكن أهله أن ينقسموا في النجوى
قسمين ، ونبه بالخمسة على العدد الذي يجمعهما ، ويمكن أهله أن ينقسموا فيها قسمين
فيكون مع كل العددين ، فالمشتركون في النجوى إما شفع فقط أو وتر فقط ، أو كلا
القسمين ، وأقل أقسام الوتر المتناجين ثلاثة وأقل أنواع الشفع اثنان ، وأقل أقسام
النوعين إذا اجتمعا خمسة فذكر أدنى مراتب طائفة الوتر وأدنى مراتب النوعين إذا
اجتمعا ، ثم ذكر معيته العامة لما هو أدنى من ذلك أو أكثر.
وتأمل كيف جعل
نفسه رابع الثلاثة وسادس الخمسة ، إذ هو غيرهم سبحانه بالحقيقة لا يجتمعون معه في
جنس ولا فصل. وقال : (لَقَدْ كَفَرَ
الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) (المائدة : ٧٣)
فإنهم ساووا بينه وبين الاثنين في الإلهية ، والعرب تقول : رابع أربعة ، وخامس
خمسة وثالث ثلاثة ، لما يكون فيه المضاف إليه من جنس المضاف كما قال تعالى : (ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ) (التوبة : ٤٠)
رسول الله وصديقه ، فإن كان من غير جنس قالوا رابع ثلاثة
وخامس أربعة وسادس
خمسة ، وقال تعالى في المعية الخاصة لموسى وأخيه (إِنَّنِي مَعَكُما
أَسْمَعُ وَأَرى) (طه : ٤٦) وقال في
العامة (فَاذْهَبا بِآياتِنا
إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ) (الشعراء : ١٥)
فتأمل كيف أفرد ضمير نفسه حيث أفرد موسى وأخاه عن فرعون ، وكيف جمع الضمير لما
أدخل فرعون معهما في الذكر ، فجعل الخاص مع المعية الخاصة والعام مع المعية
العامة. وأما قوله تعالى : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ
مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) (ق : ١٦) فهذه
الآية لها شأن. وقد اختلف فيها السلف والخلف على قولين ، فقالت طائفة : نحن أقرب
إليه بالعلم والقدرة والإحاطة وعلى هذا فيكون المراد قربه سبحانه بنفسه ، وهو نفوذ
بنفسه ، وهو نفوذ قدرته ومسيئته فيه وإحاطة علمه به. والقول الثاني : أن المراد
قرب ملائكته منه ، وأضاف ذلك إلى نفسه بصيغة ضمير الجمع على عادة العظماء في إضافة
أفعال عبيدها إليها بأوامرهم ومراسيمهم ، فيقول الملك نحن قتلناهم وهزمناهم. قال
تعالى : (فَإِذا قَرَأْناهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) (القيامة : ١٨)
وجبرائيل هو الذي يقرأه على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقال : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ) (الأنفال : ١٧)
فأضاف قتل المشركين يوم بدر إليه ، وملائكته هم الذين باشروه ، إذ هو بأمره ، وهذا
القول أصح من الأول لوجوه (أحدها)
أنه سبحانه قيد
القرب في الآية بالظرف وهو قوله : (إِذْ يَتَلَقَّى
الْمُتَلَقِّيانِ) (ق : ١٧) كالعامل
في الظرف ما في قوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ) من معنى الفعل ، ولو كان المراد قربه سبحانه بنفسه لم
يتقيد ذلك بوقت تلقي الملكين ، ولا كان في ذكر التقييد به فائدة ، فإن علمه سبحانه
وقدرته ومشيئته عامة التعلق .
__________________
(الثاني)
أن الآية تكون قد
تضمنت علمه وكتابة ملائكته لعمل العبد ، وهذا نظير قوله : (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ
سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (الزخرف : ٨٠)
وقريب منه قوله تعالى في أول السورة : (قَدْ عَلِمْنا ما
تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) (ق : ٤) ونحو قوله
: (قالَ عِلْمُها عِنْدَ
رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى) (طه : ٥٢).
(الثالث)
إن قرب الرب تعالى
إنما ورد خاصا لا عاما ، وهو نوعان : قربه من داعيه بالإجابة ومن مطيعه بالإثابة
ولم يجيء القرب كما جاءت المعية خاصة وعامة ، فليس في القرآن ولا في السنة أن الله
قريب من كل أحد ، وأنه قريب من الكافر والفاجر ، وإنما جاء خاصا كقوله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي
فَإِنِّي قَرِيبٌ) (البقرة : ١٨٦)
فهذا قربه من داعيه وسائله به ، وقال تعالى : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ
قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (الأعراف : ٥٦)
ولم يقل قريبة ، وإنما كان الخبر عنها مذكورا. إما لأن فعيلا بينه وبين فعول
اشتراك من وجوه ، منها الوزن والعدد والزيادة والمبالغة ، وكون كل منهما يكون
معدولا عن فاعل استوى مذكره مؤنثه في عدم إلحاق التاء ، كامرأة نئوم وضحوك ،
فحملوا فعيلا عليه في بعض المواضع لعقد الإخوة التي بينهما ، وإما لأن قريبا معدول
عن مفعول في المعنى كأنها قربت منهم وأدنيت ، وهم يراعون اللفظ تارة والمعنى أخرى
، وإما ذهابهم بالرحمة إلى الإحسان واللطف والبر ، وهو كثير في لغتهم حتى يكثر
أنهم يستعملون ضد ذلك فيقولون جاءت فلانا كتابي ، تذهبون به إلى الصحيفة. وإما على
حذف مضاف يكون قريب خبرا عنه تقديره مكان رحمة الله أو تناولها ونحو ذلك قريب ،
وإما على تقدير موصوف محذوف يكون قريب صفة له تقديره أمر أو شيء قريب كقول الشاعر
:
قامت تبكيه على
قبره
|
|
من لي من بعدك
يا عامر
|
تركتني في الدار
ذا غربة
|
|
قد ذل من ليس له
ناصر
|
أي شخصا ذا غربة ،
وعلى هذا حمل سيبويه حائضا ، وطالقا وطامثا ونحوها ، وإما على اكتساب المضاف إليه
، نحو ذهبت بعض أصابعه ، وتواضعت
سور المدينة ،
وبابه إما من الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر ، والدلالة بالمذكور على المحذوف
، والأصل إن الله قريب من المحسنين ، ورحمته قريبة منهم ، فيكون قد أخبر عن قرب
ذاته وقرب ثوابه من المحسنين واكتفى بالخبر عن أحدهما عن الآخر وقريب منه (وَاللهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ
يُرْضُوهُ) ، (وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) (التوبة : ٣٤)
ومثله على أحد الوجوه (إِنْ نَشَأْ
نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً) الآية (الشعراء : ٤) ، أي فذلوا لها خاضعين (فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ) (الشعراء : ٤) لها
خاضعة ، وإما لأن القريب يراد به شيئان (أحدها) النسب والقربة فهذا يؤنث ، تقول : هذه قريبة لي وقرابة.
(والثاني) قرب
المكان والمنزلة ، وهذا يجرد عن التاء ، تقول جلست فلانة قريبا مني هذا في الظرف ،
ثم أجروا الصفة مجراه للأخوة التي بينهما ، حيث لم يرد بكل واحد منهما نسب ولا
قرابة ، وإنما أريد قرب المكانة والمنزلة ، وإما لأن تأنيث الرحمة لما كان غير
حقيقي ساغ حذف التاء من صفته وخبره كما ساغ حذفها من الفعل ، نحو طلع الشمس ، وإما
لأن قريبا مصدر لا وصف ، كالنقيض والعويل والوجيب ، مجرد عن التاء ، لأنك إذا
أخبرت عن المؤنث بالمصدر لم تلحقه التاء ، كما تقول امرأة عدل ، وصوم ، ونوم.
والذي عندي أن
الرحمة لما كانت من صفات الله تعالى ، وصفاته قائمة بذاته ، فإذا كانت قريبة من
المحسنين ، فهو قريب سبحانه منهم قطعا ، وقد بينا أنه سبحانه قريب من أهل الإحسان
، ومن أهل سؤاله بإجابته.
ويوضح ذلك أن
الإحسان يقتضي قرب العبد من ربه ، فيقرب ربه منه إليه بإحسانه تقرب تعالى إليه ،
فإنه من تقرب منه شبرا يتقرب منه ذراعا ، ومن تقرب منه ذراعا تقرب منه باعا ، فهو قريب من المحسنين بذاته ورحمته قربا
__________________
ليس له نظير ، وهو
مع ذلك فوق سماواته على عرشه ، كما أنه سبحانه يقرب من عباده في آخر الليل وهو فوق
عرشه ، فإن علوه سبحانه على سماواته من لوازم ذاته ، فلا يكون قط إلا عاليا ، ولا
يكون فوقه شيء البتة ، كما قال أعلم الخلق : «وأنت الظاهر فليس فوقك شيء» وهو
سبحانه قريب في علوه عال في قربه ، كما في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري قال
: كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في سفر فارتفعت أصواتنا بالتكبير فقال : «أيها الناس أربعوا
على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إن الذي تدعونه سميع قريب ، أقرب إلى
أحدكم من عنق راحلته» فأخبر صلىاللهعليهوسلم وهو أعلم الخلق به أنه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ،
وأخبر أنه فوق سماواته على عرشه مطلع على خلقه يرى أعمالهم ويعلم ما في بطونهم ،
وهذا حق لا يناقض أحدهما الآخر.
والذي يسهل عليك
فهم هذا : معرفة عظمة الرب وإحاطته بخلقه. وأن السموات السبع في يده كخردلة في يد
العبد. وأنه سبحانه يقبض السموات بيده والأرض بيده الأخرى ثم يهزهن. فكيف يستحيل
في حق من هذا بعض عظمته أن يكون فوق عرشه ويقرب من خلقه كيف شاء وهو على العرش.
وبهذا يزول
الإشكال عن الحديث الذي رواه الترمذي من حديث الحسن عن أبي هريرة قال : بينما نبي الله صلىاللهعليهوسلم جالس
في أصحابه إذ أتى عليهم سحاب. فقال نبي الله صلىاللهعليهوسلم هل
تدرون ما هذا؟ قالوا : الله ورسوله أعلم. قال هذا العنان. هذه روايا الأرض يسوقها
الله إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه» ثم قال : «هل تدرون ما فوقكم؟ قالوا : الله
ورسوله أعلم. قال : فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف» ثم قال : «هل تدرون كم
بينكم وبينها؟
__________________
قالوا
: الله ورسوله أعلم ، قال : بينكم وبينها خمسمائة سنة» ثم قال : «هل تدرون ما فوق
ذلك؟» قالوا : الله ورسوله أعلم قال : «فإن فوق ذلك سماءين ما بينهما مسيرة
خمسمائة سنة» حتى عد سبع سماوات ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض. ثم قال :
«هل تدرون ما فوق ذلك؟» قالوا الله ورسوله أعلم. قال : «فإن فوق ذلك العرش بينه
وبين السماء السابعة بعد ما بين السماءين» ثم قال : «هل تدرون ما الذي تحتكم؟
قالوا الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض ثم قال : «هل تدرون ما تحت ذلك؟ قالوا
الله ورسوله أعلم. قال فإنها الأرض الأخرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة» حتى عد سبع
أرضين. بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة. ثم قال : «والذي نفس محمد بيده لو أنكم
دليتم بحبل إلى الأرض السفلى لهبطتم على الله ثم قرأ (هُوَ الْأَوَّلُ
وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) قال
الترمذي : هذا حديث غريب من هذا الوجه .
ويروى عن أيوب
ويونس بن عبيد وعلي بن عبيد وعلى بن زيد قالوا : لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وفسر
بعض أهل العلم هذا الحديث وقالوا : إنما يهبط على علم الله قدرته وسلطانه ، وعلم
الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش كما وصف في كتابه هذا آخر كلامه.
وقد اختلف الناس
في هذا الحديث في سنده ومعناه ، فطائفة قبلته لأن إسناده ثابت إلى الحسن.
قال الترمذي :
حدثنا ابن حميد وغير واحد ، قالوا حدثنا يونس بن محمد حدثنا شيبان بن عبد الرحمن
عن قتادة حدثنا الحسن عن أبي هريرة ، فهؤلاء كلهم أئمة ، وقد صرح قتادة بتحديث
الحسن له ، وقد صح عن الحسن في غير هذا الحديث أنه قال : حدثنا أبو هريرة ، ولا
ريب أنه عاصره ، وقد قال مسلم ابن ابراهيم حدثنا ربيعة بن كلثوم قال سمعت الحسن
قال : سمعت أبا هريرة. وطائفة أخرى ردت الحديث وأعلته بأنه منقطع. قالوا والحسن لم
ير أبا هريرة
__________________
فضلا أن يسمع منه.
قال عثمان بن سعيد الدارمي : قلت ليحيى بن معين : الحسن لقى ابن عباس؟ قال : لا
ولم يلق أبا هريرة.
وقال ابن أبي حاتم
حدثنا صالح بن أحمد حدثنا علي بن المديني قال : سمعت سالم بن قتيبة قال حدثني شعبة
، قال قلت ليونس بن عبيد : الحسن سمع من أبي هريرة؟ قال : ما رآه قط. حدثنا صالح
بن أحمد قال ؛ قال أبي ، قال بعضهم عن الحسن حدثنا أبو هريرة ، قال ابن أبي حاتم
إنكارا عليه إنه لم يسمع من أبي هريرة.
حدثنا محمد بن
أحمد البر قال : قال علي : لم يسمع الحسن من أبي هريرة. ثم ذكره عن أيوب وعلى بن
زيد لم يسمع الحسن من أبي هريرة. وقال عبد الرحمن بن مهدي سمعت من ابن عمر ولم
يسمع من أبي هريرة ولم يره.
وقال ابن أبي حاتم
سمعت أبي يقول : لم يسمع من أبى هريرة ، وسمعت أبا زرعة يقول : لم يسمع الحسن من
أبي هريرة ولم يره. فقيل له فمن قال حدثنا أبو هريرة؟ قال يخطئ وسمعت أبي يقول ،
وذكر حدثنا أبو هريرة وأوصاني خليلي. قال : لم يعمل ربيعة بن كلثوم شيئا ، لم يسمع
الحسن من أبي هريرة شيئا. قلت لأبي إن سالما الخياط روى عن الحسن قال سمعت أبا
هريرة قال هذا مما يبين ضعف سالم.
وسمعت أبا الحجاج
المزي يقول : قوله حدثنا أبو هريرة ، أي حدث أهل بلدنا ، كما في حديث الدجال قول
الشاب الذي يقتله له : أنت الدجال الذي حدثنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم حديثه. قال أبو حاتم : والحسن لم يسمع من ابن عباس وقوله
خطبنا ابن عباس ، يعني خطب أهل البصرة. قالوا وللحديث علة أخرى وهي أن عبد الرزاق
في تفسيره رواه عن معمر عن قتادة عن النبي صلىاللهعليهوسلم مرسلا ، فاختلفوا هو وشيبان فيه ، هل حدث به عن الحسن.
والذين قبلوا
اختلفوا في معناه ، فحكى الترمذي عن بعض أهل العلم أن
المعنى يهبط على
علم الله وقدرته وسلطانه ، ومراده على معلوم الله ومقدوره وملكه ، أي انتهى علمه
وقدرته وسلطانه إلى ما تحت التحت ، فلا يعزب عنه شيء.
وقالت طائفة أخرى
: بل هذا معنى اسمه المحيط واسمه الباطن ، فإنه سبحانه محيط بالعالم كله ، وأن
العالم العلوي والسفلى في قبضته كما قال تعالى :
(وَاللهُ مِنْ
وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) (البروج : ٢٠)
فإذا كان محيطا بالعالم فهو فوقه بالذات عال عليه من كل وجه وبكل معنى ، فالإحاطة
تتضمن العلو والسعة والعظمة ، فإذا كانت السموات السبع والأرضون السبع في قبضته
فلو وقعت حصاة أو دلي بحبل لسقط في قبضته سبحانه. والحديث لم يقل فيه إنه يهبط على
جميع ذاته ، فهذا لا يقوله ولا يفهمه عاقل ، ولا هو مذهب أحد من أهل الأرض البتة.
لا الحلولية ولا الاتحادية ولا الفرعونية ولا القائلون بأنه في كل مكان بذاته ،
وطوائف بني آدم كلهم متفقون على أن الله تعالى ليس تحت العالم.
فقوله «لو دليتم
بحبل لهبط على الله» إذا هبط في قبضته المحيط بالعالم هبط عليه والعالم في قبضته
وهو فوق عرشه ، ولو أن أحدنا أمسك بيده أو برجله كرة قبضتها يده من جميع جوانبها
ثم وقعت حصاة من أعلى الكرة إلى أسفلها لوقعت في يده وهبطت عليه ، ولم يلزم أن
تكون الكرة والحصاة فوقه وهو تحتها ، ولله المثل الأعلى وإنما يؤتى الرجل من سوء
فهمه أو من سوء قصده من كليهما ، فإذا هما اجتمعا كمل نصيبه من الضلال.
وأما تأويل
الترمذي وغيره له بالعلم فقال شيخنا : هو ظاهر الفساد من جنس تأويلات الجهمية بل
بتقديره ثبوته ، فإنما يد على الإحاطة ، والإحاطة ثابتة عقلا ونقلا وفطرة كما
تقدم. وقد ثبت في «الصحيحين» من غير وجه أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا
قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبصقن قبل وجهه فإن الله قبل وجهه ، ولا عن يمينه ، فإن
عن يمينه ملكا ولكن ليبصق عن يساره أو تحت رجله» .
__________________
وفي حديث أبي رزين
المشهور الذي رواه عن النبي صلىاللهعليهوسلم في رؤية الرب تعالى ، فقال له أبو رزين كيف يسعنا وهو شخص
واحد ونحن جميع ، فقال : «سأنبئك
بمثل ذلك في آلاء الله : هذا القمر آية من آيات الله ، كلكم يراه مخليا به ، فالله
أكبر من ذلك» .
ومن المعلوم أن من
توجه إلى القمر وقدر مخاطبته له فإنه لا يتوجه إليه إلا بوجهه مع كونه فوقه ، ومن
الممتنع في الفطرة أن يستدبره ويخاطبه مع قصده له ، وكذلك إذا قام إلى الصلاة فإنه
يستقبل ربه هو فوقه فيدعوه من تلقائه لا عن يمينه ولا عن يساره ، ويدعوه من العلو
لا من السفل.
وقد ثبت في «الصحيحين»
عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى
السماء في الصلاة أو لا ترجع إليهم أبصارهم» واتفق العلماء على
أن رفع البصر إلى السماء للمصلي منهي عنه. روى أحمد عن محمد بن سيرين أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان يرفع بصره في الصلاة إلى السماء حتى أنزل الله (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ
هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (المؤمنون : ١ ، ٢)
فكان بصره لا يجاوز موضع سجوده.
فهذا مما جاءت له
الشريعة تكميلا للفطرة ، لأن الداعي السائل الّذي أمر بالخشوع وهو الذل والسكون لا
يناسب حاله أن ينظر إلى ناحية من يدعوه ويسأله ، بل يناسبه الإطراق وخفض بصره
أمامه ، فليس في هذا النهي ما ينفي كونه فوق سماواته على عرشه كما زعم بعض جهال
الجهمية ، فإنه لا فرق عندهم بين تحت التحت والعرش بالنسبة إليه ، ولو كان كذلك لم
ينه عن رفع بصره إلى جهة ، ويؤمر برده إلى غيرها ، لأن الجهتين عند الجهمية سواء
بالنسبة إليه.
وأيضا فلو كان
الأمر كذلك لكان النهي ثابتا في الصلاة وغيرها وقد قال تعالى : (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّماءِ) (البقرة : ١٤٤)
فليس العبد منهيا
__________________
عن رفع بصره إلى
السماء مطلقا وإنما نهي عنه في الوقت الذي أمر فيه بالخشوع ، لأن خفض البصر من تمام
الخشوع ، كما قال تعالى : (خُشَّعاً
أَبْصارُهُمْ) (القمر : ٧).
وأيضا فلو كان
النهي عن رفع البصر إلى السماء لكون الرب ليس في السماء لكان لا فرق بين رفعه إلى
السماء ورده إلى جميع الجهات ، ولو كان مقصوده أن ينهي الناس أن يعتقدوا أن الله
في السماء أن يقصدوا بقلوبهم التوجه إلى العلو ، لبين لهم ذلك بيانا شافيا ، ولم
يحملهم فيه على أدب من آداب المصلى ، وهو إطراقه بين يدي ربه وخشوعه ورمي بصره إلى
الأرض كما يفعل بين يدي الملوك ، فهذا إنما يدل على نقيض قولهم.
فقد ظهر أنه على
كل تقديره لا يجوز التوجه إلى الله تعالى إلا من جهة العلو ، وإن ذلك لا ينافي
إحاطته ، وكونه في قبضته ، وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء ، كما أنه الظاهر الذي
ليس فوقه شيء ، وأن أحد الأمرين لا ينفي الآخر ، وإن إحاطته بخلقه لا تنفي مباينته
لهم ولا علوه على مخلوقاته ، بل هو فوق خلقه محيط بهم مباين لهم.
وإنما تنشأ الشبهة
الفاسدة عن اعتقادين فاسدين (أحدها)
أن يظن أنه إذا
كان العرش كريا والله فوقه ، لزم أن يكون كريا (الاعتقاد الثاني) أنه إذا كان كريا
صح التوجه إليه من جميع الجهات. وهذان الاعتقادان خطأ وضلال ، فإن الله سبحانه مع
كونه فوق العرش ومع القول بأن العرش كري. لا يجوز أن يظن به أنه مشابه لها في
أقدارها ولا في صفاتها ، فقد تبين أنه أعظم وأكبر من كل شيء. وأن السموات والأرض
في يده كخردلة في كف أحدنا. وهذا يزيل كل إشكال. ويبطل كل خيال.
* * *
(١٠) المثال العاشر
في : النداء والصوت
(المثال العاشر) :
مما يظن أنه مجاز وليس بمجاز لفظ (النداء الإلهي) وقد تكرر في الكتاب والسنة
تكرارا مطردا في محاله ، متنوعا تنوعا يمنع حمله على المجاز. فأخبر تعالى أنه نادى
في الجنة. ونادى كليمه. وأنه ينادي عباده يوم القيامة.
وقد ذكر سبحانه
النداء في تسعة مواضع في القرآن أخبر فيها عن ندائه بنفسه ، ولا حاجة إلى أن يقيد
النداء بالصوت ؛ فإنه بمعناه وحقيقته باتفاق أهل اللغة ، فإذا انتفى الصوت انتفى
النداء قطعا ، ولهذا جاء إيضاحه في الحديث الصحيح الذي بلغناه الصحابة والتابعون
وتابعوهم ، وسائر الأمة تلقته بالقبول. وتقييده بالصوت إيضاحا وتأكيدا كما قيد
التكليم بالمصدر في قوله تعالى : (وَكَلَّمَ اللهُ
مُوسى تَكْلِيماً) (النساء : ١٦٤).
قال البخاري في «صحيحه»
: حدثنا عمر بن حفص بن غياث ، حدثنا أبي ، حدثنا الأعمش حدثنا أبو صالح ، عن أبي
سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقول
الله تعالى : يا آدم فيقول لبيك وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من
ذريتك بعثا إلى النار» .
وقال البخاري :
حدثنا الحميدي وعلي بن المديني قالا : حدثنا سفيان ، حدثنا عمرو بن دينار قال :
سمعت عكرمة يقول سمعت أبا هريرة يحدث أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا
قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على
صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا
__________________
الحق
وهو العلي الكبير» الحديث رواه النسائي في «التفسير» وابن ماجه وأبو داود والترمذي ، وقال حديث
حسن صحيح .
(الكلام على حديث : فيناديهم بصوت)
وروى أبو داود من
حديث علي بن الحسين بن إشكاب ، حدثنا أبو معاوية الضرير عن الأعمش ، عن مسلم بن
صبيح ، عن مسروق ، عن عبيد الله. قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
تكلم الله بالوحي سمع أهل السماء صلصلة كجر السلسلة على الصفا فيضعون ، ولا يزالون
كذلك حتى يأتيهم جبرائيل ، فإذا جاءهم جبرائيل فزّع عن قلوبهم فيقولون : يا
جبرائيل : ما ذا قال ربكم؟ قال الحق فينادون الحق الحق» وهذا الإسناد كلهم أئمة ثقات .
وقد فسر الصحابة
هذه الآية بما يوافق هذا الحديث الصحيح ، فقال أبو بكر ابن مردويه في «تفسيره» :
حدثنا أحمد بن كامل بن خلف ، حدثنا محمد بن كامل بن خلف ، حدثنا محمد بن سعد حدثنا
أبي ، حدثنا عمي ، حدثنا أبي عن أبيه ، عن ابن عباس في قوله تعالى : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ
قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) قال لما أوحى الجبار جل جلاله إلى محمد صلىاللهعليهوسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي فسمعت الملائكة صوت
الجبار يتكلم بالوحي ، فلما كشف عن قلوبهم فسألوه عما قال الله تعالى ، قالوا الحق
، علموا أن الله تعالى لا يقول إلا حقا ، وأنه منجز ما وعد. قال ابن عباس : وصوت
الوحي كصوت الحديد على الصفا ، فلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم قالوا ما
ذا قال ربكم ، قالوا الحق وهو العلي الكبير.
__________________
وهذا إسناد معروف
يروي به ابن جرير وابن أبي حاتم وعبد بن حميد وغيرهم التفسير وغيره عن ابن عباس ،
وهو إسناد متداول بين أهل العلم وهم ثقات.
وقال عبد الله بن
المبارك ، حدثنا بهز بن حكيم ، عن أبيه عن جده ، أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لما
نزل جبرائيل بالوحي على رسول الله صلىاللهعليهوسلم فزع
أهل السموات لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا
فكلما مروا بأهل سماء فزع عن قلوبهم فيقولون يا جبرائيل بم أمرت؟ فيقول كلام الله
بلسان عربي».
وقد روينا في «مسند»
أبي يعلى الموصلي ، حدثنا شيبان بن فروخ ، حدثنا همام حدثنا القاسم بن عبد الواحد
، قال حدثني عبد الله بن عقيل بن أبي طالب أن جابر بن عبد الله حدثه ، قال بلغني
حديث عن رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم لم أسمعه منه قال فابتعت بعيرا فشددت عليه رحلي فسرت إليه
شهرا حتى أتيت الشام ، فإذا هو عبد الله بن أنيس الأنصاري ، فأرسلت إليه أن جابر
على الباب ، قال فرجع إليّ الرسول ، فقال جابر بن عبد الله؟ فقلت نعم ، قال فرجع
الرسول فخرج إلي فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديثا بلغني أنك سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم في المظالم لم أسمعه ، فخشيت أن أموت أو تموت قبل أن
أسمعه. فقال : سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «يحشر
الله العباد أو قال يحشر الله الناس ـ قال وأومأ بيده إلى الشام ـ عراة غرلا بهما.
قلت ما بهما؟ قال ليس معهم شيء. قال فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب
أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغى لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل
النار يطلبه بمظلمة ، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل الجنة ، وأحد من أهل
الجنة يطلبه بمظلمة حتى اللطمة. قال : قلنا كيف هذا وإنما نأتي الله غر لا بهما؟
قال بالحسنات والسيئات» .
__________________
هذا حديث حسن جليل
، وعبد الله بن محمد بن عقيل صدوق حسن الحديث. وقد احتج به غير واحد من الأئمة ،
وتكلم فيه من قبل حفظه ، وهذا الضرب ينتفي من حديثهم ما خالفوا فيه الثقات ، ورووا
ما يخالف روايات
__________________
الحفاظ وشذوا
عنهم. وأما إذا روي أحدهم ما شواهده أكثر من أن تحصر مثل هذا الحديث ، فلا ريب في
قبول حديثه. أما القاسم بن عبد الواحد بن أيمن الملكي فحسن الحديث أيضا. وقد احتج
به النسائي مع تشدده في الرجال وأن له فيهم شرطا أشد من شرط مسلم ، وحسن الترمذي
حديثه وذكره ابن حبان في كتاب «الثقات».
وقد روى هذا
الحديث الإمام أحمد ، عن يزيد بن هارون ، عن همام بن يحيى بإسناده بطوله محتجا به
على من رده. وروى البخاري أوله في «الصحيح» مستشهدا به تعليقا. ورواه في كتاب «الأدب»
بطوله من حديث همام بن يحيى وقال في حديث واحد. ورواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن
عبد الواحد المقدسي في كتابه في «الأحاديث المختارة». وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية
قدس الله روحه يقول : هي أصح من «صحيح الحاكم». وقال الصريفيني : شرطه فيها خير من
شرط الحاكم ورواه عبد الله بن أحمد في «السنة» ، والطبراني في «المعجم» و «السنة»
، وأبو بكر بن أبي عاصم في «السنة» محتجين به. فمن الناس سوى هؤلاء الأعلام سادات
الإسلام ، ولا التفات إلى ما أعله به بعض الجهمية ظلما منه وهضما للحق ، حيث ذكر
كلام المضعفين لعبد الله بن عقيل والقاسم بن محمد دون من وثقهما وأثنى عليهما ،
فيوهم الغر أنهما مجمع على ضعفهما لا يحتج بحديثهما ، ثم علله بأن البخاري لم يجزم
به ، وإنما علقه تعليقا فقال : ويذكر عن جابر بن عبد الله ، وليس هذا تعليلا من
البخاري له فقد جزم به في أول الكتاب حيث قال : ورحل جابر بن عبد الله في طلب حديث
واحد شهرا ، ورواه كما ذكرنا في «الأدب» بإسناده ، وأعله بأن البخاري ومسلما
يحتجان بابن عقيل ، وهذه علة باردة باطلة ، كل أهل الحديث على بطلانها ، وأعله
باضطراب ألفاظه ، ففي بعضها يقول : فقدمت الشام ، وفي بعضها فينادي بكسر الدال ،
وفي بعضها فينادى بفتحها ، وفي بعضها حديث بلغني أنك سمعته من رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم أسمعه. وفي بعضها فما أحد يحفظه غيرك ، فأحببت أن
تذاكرنيه. قال : وهذا يشعر أنه سمعه أيضا وأحب
مذاكرة عبد الله
بن أنيس له به ، قال : وفي بعضها رجل من أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم وفي بعضها يسميه بعبد الله بن أنيس.
ومن تأمل هذه
العلل الباردة علم أنها من باب التعنت ، فهب أن هذا الحديث معلول أفيلزم من ذلك
بطلان سائر الآثار الموقوفة والأحاديث المرفوعة ، ونصوص القرآن وكلام أئمة الإسلام
كما ستراه إن شاء الله تعالى ، وقد رواه الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد
المقدسي من حديث محمد بن المنكدر عن جابر قال : بلغني عن النبي صلىاللهعليهوسلم حديث من القصاص فذكر القصة ـ إلى أن قال ـ سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول «إن
الله يبعثكم يوم القيامة من قبوركم حفاة عراة غرلا بهما ، ثم ينادي بصوت رفيع غير
فظيع يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فيقول : «أنا الديان لا تظالم اليوم ، أما
وعزتي لا يجاورني اليوم ظلم ظالم ، ولو لطمة كف بكف أو يد على يد ، ألا وإن أشد ما
اتخوف على أمتي من بعدي عمل قوم لوط ، فلترتقب أمتي العذاب إذا تكافى النساء
بالنساء والرجال بالرجال» ورواه تمام في «فوائده» .
ويكفي رواية
البخاري في «صحيحه» مستشهدا به ، واحتج به في «خلق أفعال العباد» ، ورواه أئمة
الإسلام في كتب «السنة» وما زال السلف يروونه ، ولم يسمع عن أحد من أئمة السنة أنه
أنكره حتى جاءت الجهمية فأنكروه ، ومضى على آثارهم من اتبعهم في ذلك.
وقال عبد الله بن
أحمد في كتاب «السنة» : قلت لأبي يا أبت إنهم يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ، فقال
بلى تكلم بصوت.
وقال البخاري في
كتاب «خلق أفعال العباد» : ويذكر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفيا من الصوت ، ويكره أن يكون
رفيع الصوت «وأن
__________________
الله ينادي بصوت
يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» . وليس هذا لغير الله عزوجل. قال : وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ،
لأن صوت الله يسمع من بعد كما يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته. ثم ساق
حديث جابر أنه سمع عبد الله بن أنيس يقول : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم : يقول «يحشر
العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما سمعه من قرب : أنا الملك أنا الديان» الحديث .
__________________
(كلام الله للناس يوم القيامة)
ثم احتج بحديث أبي
سعيد عن النبي صلىاللهعليهوسلم «يقول الله يوم
القيامة : يا آدم فيقول لبيك ربنا وسعديك ، فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج
من ذريتك بعثا إلى النار» الحديث .
ثم احتج بحديث عبد
الله بن مسعود : «إذا
قضى الله في السماء أمرا ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسة على صفوان» .
فهذان إماما أهل
السنة على الإطلاق : أحمد بن حنبل والبخاري ، وكل أهل السنة والحديث على قولهما ،
وقد صرح بذلك وحكاه إجماعا حرب بن إسماعيل صاحب أحمد وإسحاق ، وصرح به خشيش بن
أصرم النسائي ، ومحمد بن حاتم المصيصي ، وعبد الله بن الإمام أحمد وأبو داود
السجستاني وابنه أبو بكر.
وقد احتج الإمام
أحمد بحديث ابن مسعود وغيره ، وأخبر أن المنكرين لذلك هم الجهمية ، فقال عبد الله
بن أحمد : سألت أبي عن قوم يقولون «لما كلم الله موسى لم يتكلم بصوت» فقال أبي :
تكلم الله بصوت.
فروى إمام الأمة
محمد بن إسحاق بن خزيمة من حديث الشعبي قال : رواه عن جابر حديثا طويلا وفيه «فبينا هم على ذلك إذ
أتاهم نداء من قبل الرحمن عزوجل : عبادي
ما كنتم تعبدون في الدنيا؟ فيقول أنت أعلم إياك نعبد ، فيأتيهم صوت لم يسمع
الخلائق بمثله : عبادي صدقتم فقد رضيت عنكم ، فتقول الملائكة عند ذلك بالشفاعة ،
فيقول المشركون : ما لنا من شافعين».
وروى ابن خزيمة من
حديث محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «يقبض
الله تعالى الأرض يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه
__________________
ثم
يهتف بصوته : من كان لي شريكا فليأت ، لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه أحد. فيقول :
لله الواحد القهار ، ثم يزجر الخلائق زجرة أخرى فإذا هم بالساهرة» الحديث ، وهو قطعة من حديث الصور الطويل ، ولم يزل الأئمة
يروونه ويحتجون به حتى حدثت الجهمية.
وروى ابن خزيمة من
حديث نعيم بن حماد ، حدثنا الوليد بن مسلم عن عبد الرحمن بن زيد بن جابر عن أبي
زكريا عن رجاء بن حياة عن النواس بن سمعان قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «إذا
أراد الله أن يوحى بالأمر فتكلم بالوحي» الحديث. قال ابن خزيمة : ابن أبي زكريا هو عبد الله.
وقال الإمام أحمد
: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي عن الأعمش عن مسلم عن مسروق عن عبد الله قال
: إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجدا حتى إذا فزع عن قلوبهم ،
قال سكن عن قلوبهم ، نادى أهل السماء أهل السماء : ما ذا قال ربكم؟ قالوا الحق ،
قال كذا وكذا. رواه عبد الله بن أحمد في كتاب «السنة» عن أبيه .
وفي «تفسير» شيبان
عن قتادة في تفسير قوله (فَلَمَّا جاءَها
نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ) (النمل : ٨) قال
صوت رب العالمين. وذكره ابن خزيمة. وروى عبد الله بن أحمد ، عن نوف قال : نودي
موسى من شاطئ الوادي. قال من أنت الذي تناديني؟ قال أنا ربك الأعلى. وقال الإمام
أحمد : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه ، حدثنا عبد الصمد قال : سمعت
وهب بن منبه قال : لما رأى موسى النار انطلق يسير حتى وقف منها قريبا ، فذكر
الحديث إلى أن قال : فنودى من الشجرة ، فقيل له يا موسى فأجاب سريعا ولا يدري من دعاه
، وما كان سرعة جوابه إلا استئناسا بالإنس ، فقال لبيك مرارا ، إني أسمع
__________________
صوتك وأحس وجسك ،
ولا أرى مكانك ، فأين أنت؟ قال أنا فوقك ومعك وأمامك وأقرب إليك منك ، فلما سمع
موسى هذا علم أنه لا ينبغي ذلك إلا لربه تبارك وتعالى فأيقن به ، فقال كذلك أنت
إلهي أسمع أم بكلام رسولك؟ فقال :
بل أنا الذي أكلمك
فادن مني. الحديث قد رواه عبد الرحمن بن حميد في «تفسيره» ويعقوب بن سفيان الفسوي.
وفي «الصحيحين» عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا
أحب الله عبدا نادى جبرائيل إن الله قد أحب فلانا فأحبه» الحديث.
والذي تعقله الأمم
من النداء إنما هو الصوت المسموع كما قال الله تعالى : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ
مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) (ق : ٤١) وقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ
وَراءِ الْحُجُراتِ) (الحجرات : ٤)
وهذا النداء هو رفع أصواتهم الذي نهى الله عنه المؤمنين وأثنى عليهم بغضها بقوله :
(إِنَّ الَّذِينَ
يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) الآية (الحجرات : ٣).
وكل ما في القرآن
العظيم من ذكر كلامه وتكليمه وأمره ونهيه دال على أنه تكلم حقيقة لا مجازا ، وكذلك
نصوص الوحي الخاص كقوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ) (النساء : ١٦٣).
قال الجارودي :
سمعت الشافعي يقول : أنا مخالف ابن علية في كل شيء حتى في قول لا إله إلا الله.
أنا أقول لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء الحجاب ، وهو يقول لا إله إلا
الله الذي خلق كلاما أسمعه موسى.
وقد نوع الله
تعالى هذه الصفة في إطلاقها عليه تنويعا يستحيل معه نفي حقائقها ، بل ليس في
الصفات الإلهية أظهر من صفة الكلام والعلو والفعل والقدرة ، بل حقيقة الإرسال
تبليغ كلام الرب تبارك وتعالى ، وإذا انتفت عنه حقيقة الكلام انتفت حقيقة الرسالة
والنبوة ، والرب تبارك وتعالى يخلق بقوله وكلامه كما قال تعالى : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً
أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس : ٨٢) فإذا
__________________
انتفت حقيقة
الكلام عنه انتفى الخلق ، وقد عاب الله آلهة المشركين بأنها لا تتكلم ولا تكلم
عابديها ولا ترجع إليهم قولا ، والجهمية وصفوا الرب تبارك وتعالى بصفة هذه الآلهة.
وقد ضرب الله
تعالى لكلامه واستمراره ودوامه المثل بالبحر يمده من بعده سبعة أبحر ، وأشجار
الأرض كلها أقلام ، فيفنى المداد والأقلام ولا تنفد كلماته. أفهذا صفة من لا يتكلم
ولا يقوم به كلام؟ فإذا كان كلامه وتكليمه ، وخطابه ونداؤه ، وقوله وأمره ، ونهيه
ووصيته ، وعهده وإذنه ، وحكمه وإنباؤه ، وأخباره وشهادته. وكل ذلك مجاز لا حقيقة
له بطلت الحقائق كلها ، فإن الحقائق إنما حقت بكلمات تكوينه (وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ
وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (يونس : ٨٢) فما
حقت الحقائق إلا بقوله وفعله.
* * *
فصل
اختلاف الناس في : صفة الكلام
اختلف أهل الأرض
في كلام الله تعالى ، فذهب الاتحادية القائلون بوحدة الوجود أن كل كلام في الوجود
كلام لله ، نظمه ونثره ، وحقه وباطله ، سحره وكفره ، والسب والشتم ، والهجر والفحش
، وأضداده كله غير كلام الله تعالى القائم به كما قال عارفهم :
وكل كلام في
الوجود كلامه
|
|
سواء علينا نثره
ونظامه
|
وهذا المذهب مبني
على أصلهم الذي أصلوه ، وهو أن الله سبحانه هو عين هذا الوجود ، فصفاته هي صفات
الله ، وكلامه هو كلام الله ، وأصل هذا المذهب إنكار مسألة المباينة والعلو ،
فإنهم لما أصلوا أن الله تعالى غير مباين لهذا العالم المحسوس صاروا بين أمرين لا ثالث
لهما إلا المكابرة.
(أحدهما) إنه
معدوم ، لا وجود له ، إذ لو كان موجودا لكان إما داخل العالم وإما خارجا عنه ،
وهذا معلوم بالضرورة ، فإنه إذا كان قائما بنفسه ، فإما أن يكون مباينا للعالم أو
محايثا له ، إما داخلا فيه وإما خارجا عنه.
(الأمر الثاني) أن
يكون هو عين هذا العالم ، فإنه يصح أن يقال فيه حينئذ
أنه لا داخل
العالم ولا خارجه ، ولا مباينا له ولا حالا فيه ، إذ هو عينه ، والشيء لا ينافي
نفسه ولا يحايثها ، فرأوا أن هذا خير من إنكار وجوده وبالحكم عليه بأنه معدوم ،
ورأوا أن الفرار من هذا إلى إثبات موجود قائم بنفسه ، لا داخل العالم ولا خارجه
ولا متصلا به ولا منفصلا عنه ولا مباين له ولا محايث ، ولا فوقه ولا عن يمينه ،
ولا عن يساره ، ولا خلفه ولا أمامه ، فرارا إلى ما لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة
ولا تأتي به شريعة ، ولا يمكن أن يقر برب هذا شأنه إلا على أحد وجهين لا ثالث
لهما.
أحدهما : أن يكون
ساريا فيه حالا فيه ، فهو في كل مكان بذاته ، وهو قول جميع الجهمية الأقدمين.
الوجه الثاني : أن
يكون وجوده في الذهن لا في الخارج ، فيكون وجوده سبحانه وجودا عقليا ، إذ لو كان
موجودا في الأعيان لكان إما عين هذا العالم أو غيره ، ولو كان غيره لكان إما بائنا
عنه أو حالا فيه ، كلاهما باطل ، فثبت أنه عين هذا العالم ، فله حينئذ كل اسم حسن
قبيح ، وكل صفة كمال ونقص ، وكل كلام حق وباطل ، نعوذ بالله من ذلك.
* * *
(مذهب الفلاسفة في ذلك)
المذهب
الثاني : مذهب الفلاسفة
المتأخرين أتباع أرسطو ، وهم الذين يحكى ابن سينا والفارابي والطوسي قولهم : إن
كلام الله فيض فاض من العقل الفعال على النفوس الفاضلة الزكية بحسب استعدادها ،
فأوجب لها ذلك الفيض تصورات وتصديقات بحسب ما قبلته منه ، لهذه النفوس عندهم ثلاث
قوى : قوة التصور وقوة التخييل وقوة التعبير فتدرك بقوة تصورها من المعانى ما يعجز
عنه غيرها ، وتدرك بقوة تخيلها شكل المعقول في صورة المحسوس ، فتتصور المعقول صورا
نورانية تخاطبها وتكلمها بكلام تسمعه الآذان ، وهو عندهم كلام الله ولا حقيقة له
في الخارج ، وإنما ذلك كله من القوة الخيالية الوهمية ، قالوا وربما قويت هذه
القوة على إسماع ذلك الخطاب لغيرها ، وتشكيل تلك الصور
العقلية لعين
الرائي فيرى الملائكة ويسمع خطابهم ، وكل ذلك من الوهم والخيال لا في الخارج.
فهذا أصل هؤلاء في
إثبات كلام الرب وملائكته وأنبيائه ورسله ، والأصل الذي قادهم إلى هذا عدم الإقرار
بالرب الذي عرّفت به الرسل ودعت إليه ، وهو القائم بنفسه المباين العالي فوق
سماواته فوق عرشه الفعال لما يريد بقدرته ومشيئته ، العالم بجميع المعلومات ،
القادر على كل شيء ، فهم أنكروا ذلك كله.
* * *
المذهب
الثالث : مذهب الجهمية لصفات
الرب تعالى أن كلامه مخلوق ومن بعض مخلوقاته ، فلم يقم بذاته سبحانه ، فاتفقوا على
هذا الأصل واختلفوا في فروعه. قال الأشعري في كتاب «المقالات» : اختلفت المعتزلة
في كلام الله ، هل هو جسم أو ليس بجسم وفي خلقه على ستة أقاويل
(فالفرقة الأولى) منهم يزعمون أن كلام
الله جسم ، وأنه مخلوق ، وأنه لا شيء إلا جسم.
والفرقة الثانية : زعموا أن كلام الخلق عرض وهو حركة ، لأنه لا عرض عندهم إلا
الحركة وأن كلام الخالق جسم ، وأن ذلك الجسم صوت متقطع مؤلف مسموع ، وهو فعل الله
وخلقه وهذا قول أبي الهذيل وأصحابه ، وأحال النظام أن يكون كلام الله في أماكن كثيرة أو مكانين في وقت واحد ،
وزعم أنه في المكان الذي خلق فيه.
والفرقة الثالثة : من المعتزلة تزعم أن القرآن مخلوق لله ، وأنه عرض ، وأنه يوجد في أماكن
كثيرة في وقت واحد إذا تلاه قال فهو يوجد مع تلاوته ، وإذا كتبه وجد مع كتابته ،
وإذا حفظه وجد مع حفظه ، وهو يوجد في الأماكن بالتلاوة والحفظ والكتابة ولا يجوز
عليه الانتقال والزوال.
__________________
والفرقة الرابعة : يزعمون أن كلام الله عزوجل عرض ، وأنه مخلوق ، وأحالوا أن يوجد في مكانين في وقت واحد
، وزعموا أن المكان الذي خلقه الله تعالى فيه محال انتقاله ، وزاوله منه ووجوده في
غيره. وهذا قول جعفر بن حرب وأكثر البغداديين.
والفرقة الخامسة : أصحاب معمر يزعمون أن القرآن عرض ، والأعراض عندهم قسمان : قسم
منهما يفعله الأحياء وقسم منهما يفعله الأموات ، ومحال أن يكون ما يفعله الأموات
فعلا للأحياء. والقرآن مفعول وهو عرض ، ومحال أن يكون الله فعله في الحقيقة ،
لأنهم يحيلون أن تكون الأعراض فعلا لله. وزعموا أن القرآن فعل للمحل الذي يسمع منه
، إذ سمع من الشجرة فهو فعل لها حيث سمع ، فهو فعل المحل الذي حل فيه.
والفرقة السادسة : يزعمون أن كلام الله عرض مخلوق ، وأنه يوجد في أماكن كثيرة
في وقت واحد. وهذا قول الإسكافي.
واختلفت المعتزلة
في كلام الله هل يبقى؟ فقالت فرقة منهم يبقى بعد خلقه ، وقالت فرقة أخرى لا يبقى
وإنما يوجد في الوقت الذي خلقه ثم يعدم بعد ذلك ، وهذا المذهب هو من فروع الأصل
الباطل لجميع كتب الله ورسله ، ولصريح المعقول والفطر ، من جحد صفات الرب وتعطيل
حقائق أسمائه ونفي قيام الأفعال به ، فلما أصلوا أنه لا يقوم به وصف ولا فعل كان
من فروع هذا الأصل أنه لم يتكلم بالقرآن ولا بغيره ، وأن القرآن مخلوق ، وطرد ذلك
إنكار ربوبيته وإلهيته ، فإن ربوبيته سبحانه إنما تتحقق بكونه فعالا مدبرا متصرفا
في خلقه ، يعلم ويقدر ويريد ويسمع ويبصر ؛ فإذا انتفت أفعاله وصفاته انتفت ربوبيته
، وإذا انتفت عنه صفة الكلام انتفى الأمر والنهي ولوازمها ، وذلك ينفي حقيقة
الإلهية ، فطرد ما أصلوه أن الله سبحانه ليس برب العالم ولا إله ، فضلا عن أن يكون
لا رب غيره ولا إله وسواه.
المذهب
الرابع : مذهب الكلابية أتباع
عبد الله بن سعيد بن كلاب ، أن القرآن معنى قائم بالنفس لا يتعلق بالقدرة والمشيئة
، وأنه لازم لذات الرب كلزوم الحياة والعلم وأنه لا يسمع على الحقيقة ، والحروف
والأصوات حكاية له
دالة عليه وهى
مخلوقة ، وهو أربع معان في نفسه والأمر والنهي ، والخبر والاستفهام ، فهي أنواع
لذلك المعنى القديم الذي لا يسمع ، وذلك المعنى هو المتلو المقروء ، وهو غير مخلوق
: والأصوات والحروف هي تلاوة العباد ، وهى مخلوقة ، وهذا المذهب أول من يعرف أنه
قال به ابن كلاب ، وبناه على أن الكلام لا بد أن يقوم بالمتكلم ، والحروف والأصوات
حادثة فلا يمكن أن تقوم بذات الرب تعالى ، لأنه ليس محلا للحوادث ، فهي مخلوقة
منفصلة عن الرب ، والقرآن اسم ذلك المعنى وهو غير مخلوق.
المذهب
الخامس : مذهب الأشعري ومن
وافقه أنه معنى واحد قائم بذات الرب ، وهو صفة قديمة أزلية ليس بحرف ولا صوت ، ولا
ينقسم ولا له أبعاض ولا له أجزاء ولا عين الأمر وعين النهى وعين الخبر وعين
الاستخبار ، الكل من واحد وهو عين التوراة والإنجيل والقرآن والزبور ، وكونه أمرا
ونهيا ، وخبرا واستخبارا صفات لذلك المعنى الواحد ، وأنواع له ، فإنه لا ينقسم
بنوع ولا جزء ، وكونه قرآنا وتوراة وإنجيلا تقسيما للعبارات عنه لا لذاته ، بل إذا
عبر عن ذلك المعنى بالعربية كان قرآنا ، وإن عبر عنه بالعبرانية كان توراة ، وإن
عبر عنه بالسريانية كان اسمه إنجيلا ، والمعنى واحد ، وهذه الألفاظ عبارة عنه ولا
يسميها حكاية ، وهي خلق من المخلوقات ، وعنه لم يتكلم الله بهذا الكلام العربي ،
ولا سمع من الله وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ويشم ، ويذاق
ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود ، فكل وجود
يصح تعلق الإدراكات كلها به كما قرره في مسئلة رؤية من ليس في جهة من الرائي ،
وأنه يرى حقيقة وليس مقابلا للرائي.
هذا قولهم في
الرؤية وذلك قولهم في الكلام.
والبلية العظمى
نسبة ذلك إلى الرسول صلىاللهعليهوسلم وأنه جاء بهذا ودعا إليه الأمة. وأنهم أهل الحق ، ومن
عداهم أهل الباطل ، وجمهور العقلاء يقولون : إن تصور هذا المذهب كاف في الجزم في
بطلانه. وهو لا يتصور إلا كما تتصور المستحيلات الممتنعات. وهذا المذهب مبني على
مسئلة إنكار قيام الأفعال والأمور
الاختيارية بالرب
تعالى ، ويسمونها مسئلة حلول الحوادث ، وحقيقتها إنكار أفعاله وربوبيته وإرادته
ومشيئته.
المذهب
السادس : مذهب الكرامية
وهو أنه متعلق
بالمشيئة والقدرة قائم بذات الرب تعالى وهو حروف وأصوات مسموعة ، وهو حادث بعد إن
لم يكن ، فهو عندهم متكلم بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن متكلما ، كما يقوله سائر
فرق المتكلمين أنه فعل بقدرته ومشيئته بعد أن لم يكن فاعلا ، كما ألزموا به
الكرامية في مسئلة الكلام ، فهو لازم لهم في مسئلة الفعل ، والكرامية أقرب إلى
الصواب منهم ، فإنهم أثبتوا كلاما وفعلا حقيقة قائمين بذات المتكلم الفاعل وجعلوا
لهما أولا ، فرارا من القول بحوادث لا أول لها ، ومنازعوه أبطلوا حقيقة الكلام
والفعل ، وقالوا لم يقم به فعل ولا كلام البتة. وأما من أثبت منهم معنى قائما
بنفسه سبحانه ، فلو كان ما أثبته مفعولا لكان من جنس الإرادة لم يكن شيئا خارجا
عنهما ، فهم لم يثبتوا لله كلاما ولا فعلا ، وأما الكرامية فإنهم جعلوه متكلما بعد
أن لم يكن متكلما ، كما جعله خصومهم فاعلا بعد أن لم يكن فاعلا.
المذهب
السابع : مذهب السالمية
ومن وافقهم من أتباع الأئمة الأربعة وأهل الحديث أنه صفة قائمة بذات الرب تعالى لم
يزل ولا يزال ، لا يتعلق بقدرته ومشيئته ، ومع ذلك هو حروف وأصوات ، وسور وآيات ،
سمعه جبرائيل منه ، وسمعه موسى بلا واسطة ، ويسمعه سبحانه من يشاء ، وإسماعه نوعان
: بواسطة وبغير واسطة ومع ذلك فحروفه وكلماته لا يسبق بعضها بعضا. بل هي مقترنة
الباء مع السين مع الميم في آن واحد ، لم تكن معدومة في وقت من الأوقات ، ولا تعدم
بل لم تزل قائمة بذاته سبحانه قيام صفة الحياة والسمع والبصر وجمهور العقلاء قالوا
: تصور هذا المذهب كاف في الجزم ببطلانه.
__________________
والبراهين العقلية
والأدلة القطعية شاهدة ببطلان هذه المذاهب كلها ، وأنها مخالفة لصريح العقل والنقل
، والعجب أنها هي الدائرة بين فضلاء العالم لا يكادون يعرفون غيرها.
* * *
فصل
(مذهب أهل السنة في إثبات صفة الكلام)
قول أتباع الرسل
الذين تلقوا هذا الباب عنهم أثبتوا لله صفة الكلام كما أثبتوا له سائر الصفات
ومحال قيام هذه الصفة بنفسها كما يقوله بعض المكابرين أنه خلق الكلام لا في محل ،
ومحال قيامها بغير الموصوف بها كما يقوله المكابر الآخر أنه خلق في محل ، فكان هو
المتكلم به دون المحل. قالوا والكلام الحقيقي هو الذي يوجد بقدرة المتكلم وإرادته
قائما به ، لا يعقل غير هذا ، وأما ما كان موجودا بدون قدرته ومشيئته وإن سمع منه
فإنه ليس بكلام له ، وإنما هو مخلوق خلقه الله فيه ، فلو كان ما قام بالرب تعالى
من الكلام غير متعلق بمشيئته بل يتكلم بغير اختياره لم يكن هذا هو الكلام المعهود
، بل هذا شيء آخر غير ما يعرفه العقل ، ويشهد به الشرع. قالوا : ولو لم يكن هناك
ألفاظ مسموعة حقيقة السمع لم يكن ثم صفة كلام البتة ، ولو كان عاجزا عن كلام في
الأزل لم يصر قادرا عليه فيما لم يزل ، فإنه إذا كانت حاله قبل وبعد سواء وهو لم
يستفد صفة الكلام من غيره ، فمن المستحيل أن تجدد له هذه الصفة بعد أن كان فاقدا
لها بالكلية.
وكذلك إثبات قدم
عين كل فرد من أنواع الكلام وبقائه أزلا وأبدا واقتران حروفه بعضها ببعض بحيث لا
يسبق شيء منها لغيره ، لا يسيغه عقل ولا تقبله فطرة وقد دلت النصوص النبوية أنه
متكلم إذا شاء بما شاء ، وأن كلامه يسمع ، وأن القرآن العزيز الذي هو سور وآيات
وحروف وكلمات عين كلامه حقا ، لا تأليف ملك ولا بشر ، وأنه سبحانه الذي قاله بنفسه
: (المص ،) و (حم عسق) ، و (كهيعص) (أول الأعراف ،
وأول الشورى ، وأول مريم) وأن القرآن جميعه ،
حروفه ومعانيه نفس
كلامه الذي تكلم به ، وليس بمخلوق ولا بعضه قديما ، وهو المعنى وبعضه مخلوق ، وهو
الكلمات والحروف ، ولا بعضه كلامه وبعضه كلام غيره ، ولا ألفاظ القرآن وحروفه
ترجمة ترجم بها جبرائيل أو محمد عليهماالسلام عما قام بالرب من المعنى من غير أن يتكلم الله بها ، بل
القرآن جميعه كلام الله ، حروفه ومعانيه ، تكلم الله به حقيقة ، والقرآن اسم لهذا
النظم العربي الذي بلغه الرسول صلىاللهعليهوسلم عن جبرائيل عن رب العالمين.
فللرسولين منه
مجرد التبليغ والأداء ، لا الوضع والإنشاء ، كما يقول أهل الزيغ والاعتداء ، فكتاب
الله عندهم غير كلامه ، كتابه مخلوق وكلامه غير مخلوق. والقرآن إن أريد به الكتاب
كان مخلوقا ، وإن أريد به الكلام كان غير مخلوق. وعندهم أن الذي قال السلف هو غير
مخلوق هو عين القائم بالنفس وأما ما جاء به الرسول وتلاه على الأمة فمخلوق ، وهو
عبارة عن ذلك المعنى ، وعندهم أن الله تعالى لم يكلم موسى ، وإنما اضطره إلى معرفة
القائم بالنفس من غير أن يسمع منه كلمة واحدة ، وما يقرؤه القارءون ويتلوه التالون
فهو عبارة عن ذلك المعنى ، وفرعوا
على هذا الأصل فروعا :
(منها)
أن كلام الله لا يتكلم
به غيره ، فإنه عين القائم بنفسه ، ومحال قيامه بغيره فلم يتل أحد قط كلام الله
ولا قرأه.
(ومنها)
أن هذا الذي جاء
به رسول الله صلىاللهعليهوسلم ليس كلام الله إلا على سبيل المجاز.
(ومنها)
أنه لا يقال إن
الله تكلم ولا يتكلم ، ولا قال ولا يقول ، ولا خاطب ولا يخاطب ، فإن هذه كلها
أفعال إرادية تكون بالمشيئة ، وذلك المعنى صفة أزلية لا يتعلق بالمشيئة.
(ومنها)
أنهم قالوا لا
يجوز أن ينزل القرآن إلى الأرض ، فألفاظ النزول والتنزيل لا حقيقة لشيء منها
عندهم.
(ومنها)
أن القرآن القديم
لا نصف له ولا ربع ولا خمس ولا عشر ولا جزء له البتة.
(ومنها)
أن معني الأمر هو
معنى النهى ، ومعنى الخبر والاستخبار ، وكل ذلك معني واحد بالعين.
(ومنها)
أن نفس التوراة هي
نفس القرآن ونفس الإنجيل والزبور ، والاختلاف في التأويلات فقط.
(ومنها)
أن هذا القرآن
العربي تأليف جبرائيل أو محمد أو مخلوق خلقه الله تعالى في اللوح المحفوظ ، فنزل
به جبرائيل من اللوح لا من الله على الحقيقة كما هو معروف من أقوالهم.
(ومنها)
أن ذلك العين
القديم يجوز أن تتعلق به الإدراكات الخمس فيسمع ويرى ويشم ويذاق ويلمس إلى غير ذلك
من الفروع الباطلة سمعا وعقلا وفطرة.
وقد دل القرآن
وصريح السنة والمعقول وكلام السلف على أن الله سبحانه يتكلم بمشيئته ، كما دل على
أن كلامه صفة قائمة بذاته ، وهي صفة ذات وفعل قال الله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا
أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (النحل : ٤٠)
وقوله : (إِنَّما أَمْرُهُ
إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس : ٢٨).
(فإذا) تخلص الفعل
للاستقبال (وأن) كذلك (ونقول) فعل دال على الحال والاستقبال (وكن) حرفان يسبق
أحدهما الآخر ، فالذي اقتضيته هذه الآية هو الذي في صريح العقول والفطر.
وكذلك قوله : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً) الآية (الإسراء : ١٦) ، سواء كان الأمر هاهنا أمر تكوين أو
أمر تشريع فهو موجود بعد أن لم يكن. وكذلك قوله : (وَلَقَدْ
خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (الأعراف : ١)
وإنما قال لهم اسجدوا بعد خلق آدم وتصويره.
وكذلك قوله تعالى
: (وَلَمَّا جاءَ مُوسى
لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ : رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ
لَنْ تَرانِي) (الأعراف : ١٤٣)
الآيات كلها ، فكم من برهان يدل على أن التكلم هو الخطاب وقع في ذلك الوقت.
وكذلك قوله : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ
الْوادِ الْأَيْمَنِ) (القصص : ٣٠)
والذي ناداه هو
الذي قال له : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (طه : ١٤) وكذلك
قوله : (وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ
فَيَقُولُ) (القصص : ٦٢ ، ٦٥
، ٧٤) وقوله : (يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ
جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ) (سبأ : ٤٠) وقوله
: (يَوْمَ نَقُولُ
لِجَهَنَّمَ) (ق : ٣٠) الآية ،
ومحال أن يقول سبحانه لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد قبل خلقها ووجودها.
وتأمل نصوص القرآن
من أوله إلى آخره ونصوص السنة ، ولا سيما أحاديث الشفاعة وحديث المعراج وغيرها ،
كقوله أتدرون ما ذا قال ربكم الليلة وقوله : «إن الله يحدث من أمره ما يشاء ، وإن مما
أحدث ألا تكلموا في الصلاة» وقوله : «ما
منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ولا حاجب» .
وقد أخبر الصادق
المصدوق أنه يكلم ملائكته في الدنيا فيسألهم وهو أعلم بهم : كيف تركتم عبادي ،
ويكلمهم يوم القيامة ، ويكلم أنبياؤه ورسله وعباده المؤمنين يومئذ ويكلم أهل الجنة
في الجنة ويسلم عليهم في منازلهم ، وأنه كل ليلة يقول : من يسألني فأعطيه ، من يستغفرني
فأغفر له ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إنّ
الله أحيا أباك وكلمه كفاحا» ومعلوم أنه في ذلك الوقت كلمه وقال له : تمن علي.
إلى أضعاف أضعاف
ذلك من نصوص الكتاب والسنة التي إن دفعت دفعت
__________________
الرسالة بأجمعها ،
وإن كانت مجازا كان الوحي كله مجازا ، وإن كانت من المتشابه كان الوحي كله من
المتشابه ، وإن وجب أو ساغ تأويلها على خلاف ظاهرها ساغ تأويل جميع القرآن والسنة
على خلاف ظاهره فإن مجيء هذه النصوص في الكتاب وظهور معانيها وتعدد أنواعها
واختلاف مراتبها أظهر من كل ظاهر ، وأوضح من كل واضح ، فكم جهد ما يبلغ التأويل
والتحريف والحمل على المجاز.
هب أن ذلك يمكن في
موضع واثنين وثلاثة وعشرة ، أفيسوغ حمل أكثر من ثلاثة آلاف وأربعة آلاف موضع كلها
على المجاز وتأويل الجميع بما يخالف الظاهر؟ ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاث آلاف ،
فكل آية وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول ، وكل أثر
فيه ذلك ، إذا استقرئت زادت على هذا العدد ، ويكفي أحاديث الشفاعة وأحاديث الرؤية
وأحاديث الحساب ، وأحاديث تكليم الله لملائكته وأنبيائه ورسله وأهل الجنة ،
وأحاديث تكليم الله لموسى ، وأحاديث تكلمه عند النزول الإلهي ، وأحاديث تكلمه
بالوحى ، وأحاديث تكليمه للشهداء ، وأحاديث تكليم كافة عباده يوم القيامة بلا
ترجمان ولا واسطة ، وأحاديث تكليمه للشفعاء يوم القيامة حين يأذن لهم في الشفاعة ،
إلي غير ذلك ، إذ كل هذا وأمثاله وأضعافه مجاز لا حقيقة له. سبحانك هذا بهتان
عظيم. بل نشهدك ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أن هذا بهتان عظيم. بل نشهدك
ونشهد ملائكتك وحملة عرشك وجميع خلقك أنك أحق بهذه الصفة وأولى من كل أحد ، وأن
البحر لو أمده من بعده سبعة أبحر ، وكانت أشجار الأرض أقلاما يكتب بها ما تتكلم به
، لنفدت البحار والأقلام ولم تنفد كلماتك ، وأنك لك الخلق والأمر ، فأنت الخالق
حقيقة .
__________________
فصل
القرآن كلام الله غير مخلوق
وأما مسأله تكلم
العباد بالقرآن فقد اشتبهت على كثير من الناس ، فقالت طائفة : إن الله يخلق كلامه
عند تلاوة كل تال ، فيجري كلامه المخلوق على لسان التالي ، وفعل التالي هو حركة
اللسان فقط وهي القراءة : فالقراءة صنع العبد عندهم ، والمقروء صنع الله وخلقه ،
فالمسموع عندهم مخلوق بين صانعين : صنع الرب وصنع العبد ، وهذا قول أبي هذيل
والإسكافي وأصحابه.
وقالت فرقة أخرى :
إن العبد هو المحدث لأفعاله وتلاوته ، والله تعالى خلقه في مكان واحد لا ينتقل عنه
ولا يفارقه إلى غيره ، فهذا المسموع هو صنع التالي ، ألفاظه وتلاوته. وهذا قول
أكثر البغداديين من المعتزلة ، وقول جعفر بن حرب.
__________________
وقالت فرقة : إن
القرآن لم يخلقه الله تعالى في الحقيقة ولا هو فعله ، فإنه عرض وهم يحيلون أن تكون
الأعراض فعلا لله. قالوا فهو فعل المحل الذي قام به. وهذا قول معمر وأصحابه من
المعتزلة.
قالت فرقة : إن
الله سبحانه خلق كلامه في اللوح المحفوظ ثم مكن جبرائيل أن يأخذه منه نقلا ويعلمه
رسوله صلىاللهعليهوسلم ، فجبرائيل إذا نطق به كان نطقه بمنزلة من يقرأ كتاب غيره
، لكن الحروف والأصوات في الحقيقة لجبرائيل لم تقم بذات الرب حروف القرآن ولا
ألفاظه ، ولا سمعه جبرائيل من الله تعالى ، وإنما نزل من به المحل الذي خلق فيه.
وهذا قول كثير من الكلابية ، فعندهم أن المسموع قول الرسول الملكي حقيقة سمعه منه
الرسول البشري ، فأداه كما سمعه فالرسول الملكي ناقل لما في اللوح المحفوظ غير
سامع له من الله ، والرسول البشري ناقل له عن جبرائيل قوله وألفاظه.
ومن هؤلاء من يقول
: بل الله تعالى ألهم جبرائيل معانيه ، فعبر عنها جبرائيل بعبارته ، فهذه الألفاظ
كلام جبرائيل في الحقيقة لا كلام الله. ومنهم من يقول : جبرائيل علم رسول الله صلىاللهعليهوسلم معانيه وألقاها في روعه ، ومحمد رسول الله ، أنشأ ألفاظها
وعبر بها من عنده دلالة على ذلك المعنى الذي ألقاه إليه الملك ، فالقرآن العربي
على قولهم قول محمد صلىاللهعليهوسلم أو قول جبرائيل عليهالسلام ، وهذا قول من لا نسميهم لشهرتهم ، وإن حرفوا العبارة
وزينوا له الألفاظ ، فهو قولهم الذي يناظرون عليه ويكفرون من خالفهم فيه ، يقولون
فيه : قال أهل الحق كذا وقالت سائر فرق أهل الزيغ بخلافه.
وقالت فرق أخرى :
بل لسان التالي مظهر للكلام القديم ، فيسمع منه عند التلاوة كما سمع موسى كلام
الله من الشجرة ، فلسان التالي كالشجرة محل ومظهر للكلام ، فإذا قال التالي (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كان المسموع كله حروفه وأصواته غير كلام الله القائم به من
غير حلول في القارئ ولا اتحاد به ، كما أن الله سبحانه لم يحل في الشجرة ولا اتحد
بها ، وسمع موسى كلامه منها.
واختلفت هذه
الفرقة في الصوت الذي يسمع من القارئ على قولين (أحدهما) إنه عين صوت الله بالقرآن
ظهر عند تلاوة التالي ، فكانت التلاوة مظهرة له. وقالت فرقة أخرى منهم ؛ ما لا بد
منه من الصوت في الأداء ولا يتأدى الكلام بدونه ، فهو الصوت القديم ، وما زاد عليه
من قوة الاعتماد والرفع فمحدث.
قالوا : وقد اقترن
القديم بالمحدث على وجه معسر التمييز بينهما جدا ؛ فلما ورد عليهم أن الحس شاهد
بأن هذه الصوت موجودا بعد أن كان معدوما ، ومعدوما بعد وجوده وهذا مستحيل على
القديم أجابوا بأن الذي وجد بعد عدمه ثم عدم بعد وجوده هو ظهور الصوت القديم لا
نفسه ، فالحدوث وقع على الإدراك لا على المدرك ؛ كما إذا سمع كلامه سبحانه منه بعد
أن لم يسمع ؛ ثم عدم السمع فالحدوث واقع على السمع لا على المسموع ؛ وهذا قول
جماعة ممن ينسب إلى الإمام أحمد.
وأصحابه المتقدمون
بريئون من هذا المذهب المخالف والعقل والفطرة ، ونصوص أحمد إنما تدل على خلافه ،
فقد نص في رواية جماعة من أصحابه على أن الصوت صوت العبد ،
فقال في قول النبي
صلىاللهعليهوسلم «ليس منا من لم
يتغن بالقرآن» قال يجهر به ويحسنه بصوته ما استطاع ، وقد نص على ذلك
الأئمة كالبخاري وغيره.
قال البخاري في «صحيحه»
: باب قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «الماهر بالقرآن مع الكرام البررة» «زينوا القرآن
بأصواتكم» ثم احتجت بحديث أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم «ما أذن الله لشيء ما
أذن لنبي حسن الصوت بتغنى بالقرآن يجهر به» فأضاف الصوت إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، ثم ساق حديث البراء : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم
__________________
قرأ
في العشاء بالتين والزيتون ، فما سمعت صوتا أحسن منه» فأضاف الصوت إليه ، ثم ذكر حديث ابن عباس : «أن النبي صلىاللهعليهوسلم كان
متواريا بمكة وكان يرفع صوته بالقرآن ، وفإذا سمع المشركون سبوا القرآن ومن جاء به
، فأنزل الله تعالى : (وَلا تَجْهَرْ
بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) ، ثم قال :
باب قراءة الفاجر
والمنافق وأصواتهم وتلاوتهم لا تجاوز تراقيهم ، وذكر في الباب حديث أبي سعيد
الخدري : «يخرج أناس من قبل المشرق يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم» ، ومعلوم أن المراد التلاوة والأداء وما قام بهم من
الأصوات ، وأنها لم تجاوز حناجرهم ، وكان البخاري قد امتحن بهذه الفرقة ، فتجرد
للرد عليهم وبالغ في ذلك في كتاب «خلق أفعال العباد» فإنه بناه على ذلك وأن أصوات
العباد من أفعالهم أو متولدة عن أفعالهم فهي من أفعالهم ، فالصوت صوت العبد حقيقة
؛ والكلام كلام الله حقيقة ، أداه العبد بصوته كما يؤدى كلام الرسول وغيره بصوته ،
فالعبد مخلوق ، وصفاته مخلوقة وأفعاله مخلوقة ، وصوته وتلاوته مخلوقة ؛ والمتلو
المؤدى بالصوت غير مخلوق.
واحتج البخاري في «الصحيح»
وفي «خلق أفعال العباد» على ذلك بنصوص التبليغ ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧)
وقوله : (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا
الْبَلاغُ) (الشورى : ٤٨)
وقوله : (لَقَدْ
أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي) (الأعراف : ٧٩)
وهذا من رسوخه في العلم ، فإن ذلك يتضمن أصلين ضل فيهما أهل الزيغ (أحدهما) أن
الرسول ليس له من الكلام إلا مجرد تبليغه ، فلو كان هو قد أنشأ ألفاظه لم يكن
مبلغا بل منشئا مبتدئا ، ولا تعقل الأمم كلها من التبليغ سوى تأدية كلام الغير
بألفاظه ومعانيه ولهذا يضاف الكلام إلى المبلغ عنه لا إلى المبلغ.
__________________
وأيضا فالتبليغ
والبلاغ هو الإيصال ، وهو معدى من بلغ إذا وصل ، والإيصال حقيقة أن يورد إلى
الموصل إليه ما حمله إياه غيره ، فله مجرد إيصاله.
(الأصل الثاني) إن
التبليغ فعل المبلغ وهو مأمور به مقدور له. وتبليغه هو تلاوته بصوت نفسه ، فلو كان
الصوت والتلاوة وصوت المتكلم به أزلي وتلاوته لم يكن فعلا مأمورا به مضافا إلى
المأمور. وبالجملة فالتبليغ هو صوت المبلغ القائم به.
قال البخاري : باب
ما جاء في قوله تعالى : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) وقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «بلغوا
عني ولو آية ، وليبلغ الشاهد الغائب وأن الوحي قد انقطع» فتأمل مقصوده بقوله : وإن الوحي قد انقطع» فلو كانت
أصواتنا بالقرآن هي نفس الصوت القديم الذي تكلم الله تعالى به لم يكن الوحي قد
انقطع. بل هو متصل ما دامت أصوات العباد مسموعة بالتلاوة ، فالقائلون إن هذا الصوت
القديم ظهر عند تلاوة التالي ، وهو الصوت الذي أوحى الله به الوحي إلى رسوله ، وهو
غير منقطع لزمه لزوما بينا أن الوحي متصل غير منقطع.
قال البخاري : في
كتاب «خلق أفعال العباد» ويذكر عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه كان يحب أن يكون الرجل خفت الصوت ، ويكره أن يكون رفيع
الصوت ، وأن الله سبحانه ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب ، فليس هذا لغير الله تعالى.
قال أبو عبد الله
: وفي الدليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق ، لأن صوت الله يسمع من بعد كما
يسمع من قرب ، وأن الملائكة يصعقون من صوته ، فإذا نادى جبرائيل الملائكة لم
يصعقوا ، ثم ساق في الباب أحاديث تكلم الله الصوت محتجا بها.
__________________
قال البخاري : وقد
كتب النبي صلىاللهعليهوسلم كتابا فيه (بسم الله الرحمن الرحيم) فقرأه ترجمان قيصر على
قيصر وأصحابه ، ولا يشك في قراءة الكفار أهل الكتاب أنها أعمالهم ، وأما المقروء
فهو كلام العليم المنان ليس بخلق ، فمن حلف بأصوات قيصر أو بنداء المشركين الذين
يقرون بالله لم تكن عليه يمين دون الحلف بالله لقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا تحلفوا بغير الله» وليس للعبد أن يحلف بالخواتيم والدراهم البيض وألواح
الصبيان الذي يكتبونها ثم يمحونها المرة بعد المرة ، وإن حلف فلا يمين عليه لقول
تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا
لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).
قال البخاري :
وقال النبي صلىاللهعليهوسلم : «بينا
في الجنة سمعت صوت رجل بالقرآن» فبين أن الصوت غير القرآن (قلت) ونظيره إني لأعرف أصوات
رفقة الأشعريين بالقرآن. وقال أبو عبد الله : ويقال له صفة الله وكلامه ، وعلمه
وأسمائه وعزه وقدرته بائنة من الله أم لا وقولك وكلامك بائن من الله أم لا.
قال أبو عبد الله
: قال الله تعالى (وَأَنْ لَيْسَ
لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى) (النجم : ٣٩ ، ٤٠)
وقال تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا
نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ) (نوح : ١)
والإنذار من نوح وهو نذير مبين يأمرهم بطاعة الله. وأما الغفران فإنه من الله يقول
: (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ
ذُنُوبِكُمْ) (نوح : ٣) ثم قال
: (رَبِّ إِنِّي
دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً) (نوح : ٥) فذكر
الدعاء سرا وعلانية من نوح ، وقال ابن مسعود قال النبي صلىاللهعليهوسلم لقوم كانوا يقرءون القرآن فيجهرون به «خلطتم علي القرآن»
__________________
يقول علت أصواتكم
صوتي ، فنهى النبي صلىاللهعليهوسلم أن يرفع بعضهم على بعض صوته ، ولم ينه عن القرآن ولا عن
كلام الله.
قال البخاري :
واعتل بعضهم فقال حتى يسمع كلام الله (قيل له) إنما قال حتى يسمع كلام الله لا
كلامك ونغمتك وصوتك ، إن الله فضل موسى بكلامه ، ولو كان يسمع الخلق كلهم كلام
الله كما سمع موسى لم يكن لموسى عليه فضل ، ومعنى هذا أن هذا الصوت المسموع من
القارئ لو كان هو الصوت الذي سمعه موسى لكان كل من سمع القرآن بمنزلة موسى في ذلك.
* * *
فصل
وإذا قيل حروف
المعجم قديمة أو مخلوقة (فجوابه) أن الحرف حرفان : فالحرف الواقع في كلام
المخلوقين مخلوق ، وحروف القرآن غير مخلوقة.
(فإن قيل) كيف
الحرف الواحد مخلوق وغير مخلوق (قيل) ليس بواحد بالعين وإن كان واحدا بالنوع ، كما
أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق ، فهو واحد بالنوع لا بالعين.
وتحقيق ذلك أن
الشيء له أربع مراتب : مرتبة في الأعيان ، ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ،
ومرتبة في الخط. فالمرتبة الأولى وجوده العينى ، والثانية وجوده الذهني ، والثالثة
وجوده اللفظي ، والرابعة وجوده الرسمي ، وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان
القائمة بنفسها ، كالشمس مثلا ، وفي أكثر الأعراض أيضا كالألوان وغيرها ، ويعسر
تمييزه في بعضها كالعلم والكلام ، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في
الخارج ومرتبته في الذهن ، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني. وأما الكلام فإن
وجوده الخارجي ما قام باللسان ، ووجوده الذهني ما قام بالقلب ، ووجوده الرسمي ما
أظهر الرسم ، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية واللفظية. ومن
مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل له إنشاء الكلام مثل الصوت يحصل به أداؤه
وتبليغه ، وكذلك الحرف فصوت امرئ القيس وحروفه من
قوله : (قفا نبك
من ذكرى حبيب ومنزل) كصوت المنشد لذلك حكاية عنه وحرفه ، فإذا قال قائل : هذا
كلامك أو كلام امرئ القيس؟ كان السؤال مجملا تحتمل الإشارة فيه معنين (أحدهما) أن
يراد الإشارة إلي صوت المؤدي وحروفه (الثاني) أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدى بصوت هذا وحروفه ،
والغالب إرادته هو الثاني ، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم ، وإنما يحمد الثاني
أو يذم على كيفية الأداء وحسن الصوت وقبحه.
والكلام يضاف إلى
من قاله مبتديا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا ، فإذا قال الواحد منا : الأعمال
بالنيات ، مؤديا له عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يقل أحد إن هذا قولك وكلامك.
وإن قيل إنك حسن
الأداء له ، حسن التلفظ به ، وهذا الذي قام به وهو حسنه وفعله وعليه يقع اسم الخلق
: ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز.
ومن هنا غلطت
الطائفتان (إحداهما) جعلت الكل مخلوقا منفصلا (والثانية) جعلت الكل قديما ، وهو
عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا.
والحق ما عليه
أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري وأهل الحديث : أن الصوت صوت القارئ والكلام
كلام الباري.
وقد اختلف الناس
أهل التلاوة غير المتلو أم هي المتلو؟ على قولين ، والذين قالوا التلاوة هي المتلو
، فليست حركات الإنسان عندهم هي التلاوة ، وإنما أظهرت التلاوة وكانت سببا لظهورها
، وإلا فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات وهي قديمة.
والذين قالوا
التلاوة غير المتلو طائفتان (إحداهما) قالت التلاوة هي هذه الحروف والأصوات
المسموعة ، وهي مخلوقة ، والمتلو هي المعنى القائم بالنفس وهو قديم ، وهذا قول
الأشعري.
والطائفة (الثانية)
قالوا : التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن. والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع
بالآذان بالأداء من في رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهي (المص ، وكهيعص ، وحم ،
الم) حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه جبرائيل
كذلك وتلاه هو على
الأمة كما تلاه عليه جبرائيل ، وبلغه جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه ، وهذا قول
السلف وأئمة السنة والحديث ، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب ،
والقرآن عندهم جميعه كلام الله ، وحروفه ومعانيه ، وأصوات العباد وحركاتهم ،
وأداؤهم وتلفظهم ، كل ذلك مخلوق بائن عن الله.
فإن قيل : فإذا
كان الأمر كما قررتم فكيف أنكر الإمام أحمد على من قال لفظي بالقرآن مخلوق وبدعه
ونسبه إلى التجهم ، وهل كانت محنة أبي عبد الله البخاري إلا على ذلك حتى هجره أهل
الحديث ونسبوه إلى القول بخلق القرآن.
قيل : معاذ الله
أن يظن بأئمة الإسلام هذا الظن الفاسد ، فقد صرح البخاري في كتابه «خلق أفعال
العباد» وفي آخر «الجامع» بأن القرآن كلام الله غير مخلوق. وقال : حدثنا سفيان بن
عيينة قال : أدركت مشيختنا منذ سبعين سنة ، منهم عمرو بن دينار يقولون : القرآن
كلام الله غير مخلوق .
فصل : في ذكر ما وقع بين البخاري وأصحابه في هذه المسألة
قال البخاري :
وقال أحمد بن الحسين حدثنا أبو نعيم حدثنا سليم القاري قال سمعت سفيان الثوري يقول
: قال حماد بن أبي سليمان : أبلغ أبا فلان المشرك أني بريء من دينه ، وكان يقول :
القرآن مخلوق ، ثم ساق قصة خالد بن عبد الله القسري وأنه ضحى بالجعد بن درهم وقال
إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ولم يكلم موسى تكليما ثم نزل فذبحه .
هذا مذهب الإمام
البخاري ومذهب الإمام أحمد وأصحابهما من سائر أهل السنة ، فخفى تفريق البخاري
وتمييزه على جماعة من أهل السنة والحديث ؛ ولم يفهم بعضهم مراده وتعلقوا بالمنقول
عن أحمد نقلا مستفيضا أنه قال : من قال
__________________
لفظي بالقرآن
مخلوق فهو جهمي : ومن قال غير مخلوق ، فهو مبتدع ، وساعد ذلك نوع حسد باطن للبخاري
لما كان الله نشر له من الصيت والمحبة في قلوب الخلق واجتماع الناس عليه حيث حل. حتى
هضم كثير من رئاسة أهل العلم وامتعضوا لذلك ، فوافق الهوى الباطن الشبهة الناشئة
من القول المجمل ، وتمسكوا بإطلاق الإمام أحمد وإنكاره على من قال لفظي بالقرآن
مخلوق وأنه جهمي ، فتركب من مجموع هذه الأمور فتنة وقعت بين أهل الحديث.
قال الحاكم أبو
عبد الله : سمعت أبا القاسم طاهر بن أحمد الوراق يقول : سمعت محمد بن شاذان
الهاشمي يقول : لما وقع بين محمد بن يحيى ومحمد ابن إسماعيل دخلت على محمد بن
إسماعيل فقلت : يا أبا عبد الله إيش الحيلة لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى. كل
من يختلف إليك يطرد من منزله ، وليس لكم منزل. قال : محمد بن يحيى كمن يعتريه
الحسد في العلم ، والعلم رزق من الله تعالى يعطيه من يشاء ، فقلت يا أبا عبد الله
: هذه المسألة التي تحكى عندك ، فقال لي : هذه مسألة مشئومة رأيت أحمد بن حنبل وما
ناله من هذه المسألة جعلت على نفسي لا أتكلم فيها ، والمسألة التي كانت بينهما كان
محمد بن يحيى لا يجيب فيها إلا ما يحكيه عن أحمد بن حنبل ، فسئل محمد بن إسماعيل
فوقف عنها ، وهي أن اللفظ بالقرآن مخلوق ، فلما وقف عنها البخاري تكلم فيه محمد بن
يحيى وقال : قد أظهر هذا البخارى قول اللفظية ، واللفظية شر من الجهمية.
قال الحاكم : سمعت
أبا محمد عبد الله بن محمد العدل يقول : سمعت أبا حامد ابن الشرقي يقول : سمعت
محمد بن يحيى يقول : الإيمان قول وعمل يزيد وينقص ، وهو قول أئمتنا مالك بن أنس ،
وعبد الرحمن بن عمر ، والأوزاعي ، وسفيان بن عيينة ، وسفيان الثوري ، والكلام كلام
الله غير مخلوق من جميع جهاته ، وحيث تصرف ، فمن لزم ما قلنا استغنى عن اللفظ وعما
سواه من الكلام في القرآن ، من زعم أن القرآن مخلوق فقد كفر وخرج من الإيمان وبانت
منه امرأته ويستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه ، وجعل ماله فيئا
بين المسلمين ،
ولم يدفن في مقابر المسلمين ، ومن زعم أن لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يجالس
ولا يكلم ، ومن وقف وقال لا أقول مخلوق ولا غير مخلوق فقد ضاهى الكفر ، ومن ذهب
بعد مجلسنا هذا إلى مجلس محمد بن إسماعيل فاتهموه فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان
على مذهبه.
قال الحاكم :
وسمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه يقول : سمعت محمد بن نعيم يقول سألت محمد بن
إسماعيل البخاري لما وقع ما وقع من شأنه عن الإيمان فقال : الإيمان قول وعمل يزيد
وينقص ، والقرآن كلام غير مخلوق ، وأفضل أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، على هذا حييت
وعليه أموت وعليه أبعث إن شاء الله تعالى ، ثم قال أبو الوليد : أي عين أصابت محمد
بن إسماعيل بما نقم عليه محمد بن يحيى ، فقلت له إن محمد بن إسماعيل قد بوب في آخر
«الجامع الصحيح» بابا مترجما «ذكر قراءة الفاجر والمنافق وأن أصواتهم لا تجاوز
حناجرهم» نذكر فيه حديث قتادة عن أنس عن أبى موسى عن النبي صلىاللهعليهوسلم «مثل المؤمن الذي يقرأ
القرآن كالأترجة» الحديث. وحديث أبي زرعة عن أبي هريرة عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «كلمتان
خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان» الحديث. فقال لي كيف قلت؟ فأعدته عليه ، فأعجبه ذلك ، وقال
: ما بلغني هذا عنه.
ومراد أبي عبد
الله بهذا الاستدلال أن الثقل في الميزان والخفة على اللسان متعلق بفعل العبد
وكسبه ، وهو صوته وتلفظه لا يعود إلى ما قام بالرب تعالى من كلامه وصفاته ، وكذلك
قراءة البر والفاجر ، فإن قراءة الفاجر لا تجاوز حنجرته ، فلو كانت قراءته هي نفس
ما قام بالرب من الكلام وهي غير مخلوقه لم تكن كذلك ، فإنها متصلة بالرب حينئذ.
__________________
فالبخاري أعلم
بهذه المسألة وأولى بالصواب فيها من جميع من خالفه ، وكلامه أوضح وأمتن من كلام
أبي عبد الله ، فإنّ الإمام أحمد سد الذريعة حيث منع إطلاق لفظ المخلوق نفيا
وإثباتا على اللفظ. فقالت طائفة : أراد سد باب الكلام في ذلك ، وقالت طائفة منهم
ابن قتيبة : إنما كره أحمد ذلك ومنع ، لأن اللفظ في اللغة الرمي والإسقاط ، يقال
لفظ الطعام من فيه ولفظ الشيء من يده إذا رمى به. فكره أحمد إطلاق ذلك علي القرآن.
وقالت طائفة إنما مراد أحمد أن اللفظ غير الملفوظ فلذلك قال : إن من زعم أن لفظه
بالقرآن مخلوق فهو جهمي.
وأما منعه أن يقال
: لفظي بالقرآن غير مخلوق ، فإنما منع ذلك لأنه عدول عن نفس قول السلف ، فإنهم
قالوا القرآن غير مخلوق ، والقرآن اسم يتناول اللفظ والمعنى ، فإذا خص اللفظ بكونه
غير مخلوق كان ذلك زيادة في الكلام أو نقصا من المعنى ، فإن القرآن كله غير مخلوق
، فلا وجه لتخصيص ذلك بألفاظ خاصة ، وهذا كما قال قائل : السبع الطوال من القرآن
غير مخلوقة فإنه وإن كان صحيحا ، لكن هذا التخصيص ممنوع منه ، وكل هذا عدول عما
أراده الإمام أحمد.
وهذا المنع في
النفي والإثبات من كمال علمه باللغة والسنة وتحقيقه لهذا الباب فإنه امتحن به ما
لم. يمتحن به غيره ، وصار كلامه قدوة وإماما لحزب الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة ، والذي قصده أحمد أن اللفظ يراد به أمران
(أحدهما) الملفوظ نفسه وهو غير مقدور للعبد ولا فعل له (الثاني) التلفظ به والأداء له وفعل العبد ، فإطلاق الخلق على اللفظ
قد توهم المعنى الأول وهو خطأ ، وإطلاق نفي الخلق عليه قد يوهم المعنى الثاني وهو
خطأ ، فمنع الإطلاقين.
وأبو عبد الله
البخاري ميز وفصل وأشبع الكلام في ذلك وفرق بين ما قام بالرب وبين ما قام بالعبد ،
وأوقع المخلوق على تلفظ العباد وأصواتهم وحركاتهم وإكسابهم ، ونفي اسم الخلق عن
الملفوظ وهو القرآن الذي سمعه جبرائيل من
الله تعالى وسمعه
محمد من جبرائيل. وقد شفي في هذه المسألة في كتاب «خلق أفعال العباد» وأتى فيها من
الفرقان والبيان بما يزيل الشبهة ، ويوضح الحق ، ويبين محله من الإمامة والدين ،
ورد على الطائفتين أحس الرد.
وقال أبو عبد الله
البخاري : فأما ما احتج الفريقان لمذهب أحمد ويدعيه كل لنفسه فليس بثابت كثير من
أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه ، بل المعروف عن أحمد وأهل العلم أن كلام
الله تعالى غير مخلوق ، وما سواه فهو مخلوق وأنهم كرهوا البحث والتفتيش عن الأشياء
الغامضة وتجنب أهل الكلام والخوض والتنازع إلا فيما جاء به العلم وبينه النبي صلىاللهعليهوسلم.
والفريقان اللذان
عناهما البخاري وتصدى للرد عليهما وإبطال قولهما ، ثم أخبر البخاري أن كل واحدة من
الطائفتين الزائغتين تحتج بأحمد ، وتزعم أن قولها قوله ، وهو كما قال رحمهالله تعالى ، فإن أولئك اللفظية يزعمون أنه كان يقول لفظي بالقرآن
غير مخلوق ، وأنه على ذلك استقر أمره ، وهذا قول من يقول التلاوة هي المتلو
والقراءة هي المقروء والكتابة هي المكتوب.
والطائفة الثانية
الذين يقولون : التلاوة والقراءة مخلوقة ، ويقولون : ألفاظنا بالقرآن مخلوقة ،
ومرادهم بالتلاوة والقرآن نفس ألفاظ القرآن العربي الذي سمع من رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والمتلو المقروء عندهم هو المعنى القائم بالنفس وهو غير
مخلوق ، وهو اسم للقرآن ، فإذا قالوا القرآن غير مخلوق أرادوا به ذلك المعنى وهو
المتلو المقروء ، وأما المقروء المسموع المثبت في المصاحف فهو عبارة عنه وهو مخلوق
، وهؤلاء يقولون التلاوة غير المتلو ، والقراءة غير المقروء ، والكتابة غير
المكتوب وهي مخلوقة ، والمتلو المقروء غير مخلوق ، وهو غير مسموع ، فإنه ليس بحروف
ولا أصوات.
والفريقان مع كل
منهما حق وباطل ، فنقول وبالله التوفيق.
وأما الفريق الأول
فأصابوا في قولهم إن الله تعالى تكلم بهذا القرآن على الحقيقة حروفه ومعانيه تكلم
به بصوته وأسمعه من شاء من ملائكته ، وليس هذا
القرآن العربي
مخلوقا من جملة المخلوقات. وأخطئوا في قولهم : إن هذا الصوت المسموع من القارئ هو
الصوت القائم بذات الرب تعالى وأنه غير مخلوق ، وأن تلاوتهم وقراءتهم وألفاظهم
القائمة بهم غير مخلوقة ، فهذا غلو في الإثبات يجمع بين الحق والباطل.
وأما الفريق
الثاني فأصابوا في قولهم : إن أصوات العباد وتلاوتهم وقراءتهم وما قام بهم من
أفعالهم وتلفظهم بالقرآن وكتابتهم له مخلوق ، وأخطئوا في قولهم إن هذا القرآن
العربي الذي بلغه رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الله مخلوق ، ولم يكلم به الرب ولا سمع منه ، وأن كلام
الله هو المعنى القائم بنفسه ليس بحرف ولا سور ولا آيات ، ولا له بعض ولا كل وليس
بعربي ولا عبراني ، بل هذه عبارات مخلوقة تدل على ذلك المعنى.
والحرب واقع بين
هذين الفريقين من بعد موت الإمام أحمد إلى الآن ، فإنه لما مات الإمام أحمد قال
طائفة ممن ينسب إليه ، منهم محمد بن داود المصيصي وغيره : ألفاظنا بالقرآن غير
مخلوقة ، حكوا ذلك عن الإمام أحمد فأنكر عليهم صاحب الإمام أحمد وأخص الناس بهم
أبو بكر المروذي ذلك ، وصنف كتابا مشهورا ذكره الخلال في «السنة» ثم نصر هذا القول
أبو عبد الله بن حامد وأبو نصر السجزي وغيرهما ، ثم نصره بعدهم القاضي أبو يعلى
وغيره ثم ابن الزاغوني وهو خطأ على أحمد.
فقابل هؤلاء
الفريق الثاني وقالوا إن نفس هذه الألفاظ مخلوقة لم يتكلم الله بها ولم تسمع منه ،
وإنما كلامه هو المعنى القائم بنفسه ، وقالوا هذا قول أحمد.
والبخاري وأئمة
السنة برآء من هذين القولين ، والثابت المتواتر عن الإمام أحمد هو ما نقله عنه
خواص أصحابه وثقاتهم ، كما بينه صالح وعبد الله المروذي وغيرهم : الإنكار على
الطائفتين جميعا كما ذكره البخاري ، فأحمد والبخاري على خلاف قول الفريقين ، وكان
يقول : من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي ، ومن قال غير مخلوق فهو مبتدع ، وإن
القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله على الحقيقة ، وحيث تصرف كلام الله فهو
غير مخلوق ،
وكان يقول بخلق
أفعال العباد وأصواتهم ، وإن الصوت المسموع من القارئ هو صوته وهو مخلوق ، ويقول
في قول النبي صلىاللهعليهوسلم : «ليس
منا من لم يتغن بالقرآن» معناه يحسنه بصوته ، كما قال : «زينوا القرآن بأصواتكم».
ولما كان كل من
احتج بكلام أحمد على شيء فلا بد من أمرين (أحدهما) صحة النقل عن ذلك القائل (والثاني)
معرفة كلامه. قال البخاري : فما احتج به الفريقان من كلام أحمد ليس بثابت كثير من
أخبارهم ، وربما لم يفهموا دقة مذهبه فذكر أن من المنقول عنه ما ليس بثابت ،
والثابت عنه قد لا يفهمون مراده لدقته على أفهامهم.
وقال إبراهيم
الحربي : كنت جالسا عند أحمد بن حنبل إذ جاءه رجل فقال : يا أبا عبد الله إن عندنا
قوما يقولون إن ألفاظهم مخلوقة. قال أبو عبد الله : يتوجه العبد لله بالقرآن بخمسة
أوجه وهو فيها غير مخلوق : حفظ بقلب ، وتلاوة بلسان ، وسمع بأذن ، ونظرة ببصر ،
وخط بيد ، فالقلب مخلوق والمحفوظ غير مخلوق ، والتلاوة مخلوقة والمتلو غير مخلوق ،
والسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق ، والنظر مخلوق والمنظور إليه غير مخلوق ،
والكتابة مخلوقة والمكتوب غير مخلوق. قال إبراهيم : فمات أحمد فرأيته في النوم
وعليه ثياب خضر وبيض ، وعلى رأسه تاج من الذهب مكلل بالجواهر وفي رجليه نعلان من
ذهب. فقلت له : ما فعل الله بك؟ قال غفر لي وقربني وأدناني. فقال قد غفرت لك ،
فقلت له يا رب بما ذا؟ قال بقولك كلامي غير مخلوق.
ففرق أحمد بين فعل
العبد وكسبه وما قام به فهو مخلوق ، وبين ما تعلق به كسبه وهو غير ومن لم يفرق هذا
التفريق لم يستقر له قدم في الحق.
__________________
فإن قيل : كيف
يكون المسموع غير مخلوق ، وإنما هو صوت العبد ، وأما كلامه سبحانه القائم به فإنا
لا نسمعه ، وكيف يكون المنظور إليه غير مخلوق ، وإنما هو المداد والورق ، وكيف
يكون المحفوظ غير مخلوق وإنما هو الصدر وما حواه واشتمل عليه ، فهل انتقل القديم
وحل في المحدث أو اتحد به وظهر فيه فإن أزلتم هذه الشبهة انجلى الحق وظهر الثواب ،
إلا فالغبش موجود والظلمة منعقدة.
قيل : قد زال
الغبش بحمد الله وزالت الظلمة ببعض ما تقدم ، ولكن ما حيلة الكحال في العميان؟ فمن
يشك في القلب وصفاته ، واللسان وحركاته ، والحلق وأصواته والبصر ومرئياته ، والورق
ومداده ، والكاتب وآلاته.
قال الشعبي في بيع
المصاحف : لا يبيع كتاب الله وإنما يبيع عمل يده ، وقال زياد مولى سعيد : سألت ابن
عباس فقال : لا نرى أن تجعله متجرا ولكن ما عملت يداك فلا بأس. وقال سعيد بن جبير
عن عباس في بيع المصاحف : إنما هم مصورون يبيعون عملهم ، عمل أيديهم ، وذكر ذلك
البخاري قال ، ويذكر عن على قال : يأتي علي الناس زمان لا يبقى من الإسلام إلا
اسمه ، ولا من القرآن إلا رسمة.
قال البخاري : قال
الله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ
اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا
يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) قال ولكنه كلام الله تلفظ به العباد والملائكة ، قال : وقد
قال تعالى : (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) (القمر : ١٧) قال
وسمع عمر معاذا القارئ يرفع صوته بالقراءة وقال (إِنَّ أَنْكَرَ
الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (لقمان : ١٩) ثم
روى عن أبي عثمان النهدي قال : ما سمعت صنجا قط ولا بربطا ولا مزمارا أحسن من صوت
أبي موسى الأشعري إلا فلان إن كان ليصلى بنا فنودّ أنه قرأ البقرة لحسن صوته.
ثم قال البخاري :
فبيّن النبي صلىاللهعليهوسلم أن أصوات الخلق ودراستهم وقراءتهم وتعلمهم وألسنتهم مختلفة
بعضها أحسن من بعض ، وأتلى وأزين وأصوت وأرتل وألحن وأعلى وأخف وأغض وأخشع. قال
تعالى : (وَخَشَعَتِ
الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (طه : ١٠٨) وأجهر
وأخفى وأمد وأخفض وألين من بعض ، ثم ذكر حديث عائشة المتفق عليه : «الماهر بالقرآن
مع السفرة الكرام البررة ، والذي يشتد عليه له أجران» ومراده أن قراءته في الموضعين علمه وسعيه.
وذكر حديث قتادة :
سألت أنس بن مالك عن قراءة النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : «كان يمد مدا» وفي رواية «يمد صوته مدا» ثم ذكر
حديث قطبة بن مالك عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قرأ في الفجر : (وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ
لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) (ق : ١٠) يمد بها
صوته يعني فالمد والصوت له صلىاللهعليهوسلم.
قال أبو عبد الله
: فأما المتلو فقوله عزوجل الذي ليس كمثله شيء. قال تعالى : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ
بِالْحَقِ) (الجاثية : ٢٩)
وقال عبد الله بن عمر : يمثل القرآن يوم القيامة فيشفع لصاحبة قال أبو عبد الله :
وهو اكتسابه وفعله. قال تعالى : (فَمَنْ يَعْمَلْ
مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (الزلزلة : ٧ ، ٨).
ثم قال البخاري :
فالمقروء كلام رب العالمين الذي قال لموسى : (إِنَّنِي أَنَا اللهُ
لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي) (طه : ١٤) إلا
المعتزلة فإنهم ادعوا أن قول الله مخلوق ، وهذا خلاف ما عليه المسلمون ، ثم قال
البخاري : فالقراءة هي التلاوة ، والتلاوة غير المتلو. قال وقد بينه أبو هريرة عن
النبي صلىاللهعليهوسلم ثم ذكر حديث «قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين : يقول
العبد : الحمد لله رب العالمين يقول الله حمدني عبدي» الحديث ، فالعبد يقول : الحمد لله رب العالمين حقيقة تاليا
لما قاله الله عزوجل ، فهذا قول الله الذي قاله وتكلم به
__________________
مبتدئا تاليا
وقارئا ، كما هو قول الرسول مبلغا له ومؤديا ، كما قال تعالى : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فرسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ما أمر به أن يقول ، فكان قوله تبليغا محضا لما قاله ،
فمن زعم أن التالي والقاري لم يقل شيئا فهو مكابر جاحد للحس والضرورة ، ومن زعم أن
الله لم يقل هذا الكلام الذي نقرأ ونتلوه بأصواتنا فهو معطل جاحد جهمي زاعم أن
القرآن قول البشر.
قال البخاري :
وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «اقرءوا إن شئتم» فالقراءة لا تكون إلا من الناس ، وقد تكلم الله بالقرآن من
قبل خلقه ، فبين أن الله سبحانه هو المتكلم بالقرآن قبل أن يتكلم به العباد ،
بخلاف قول المعتزلة والجهمية الذين يقولون إن الله خلقه على لسان العبد ، فتكلم
العبد بما خلقه الله على لسانه من كلامه في ذلك الوقت ، ولم يتكلم به الله قبل
ذلك.
قال البخاري :
ويقال فلان حسن القراءة ورديء القراءة ، ولا يقال حسن القرآن وإنما ينسب إلى
العباد القراءة لأن القرآن كلام الرب ، والقراءة فعل العبد ، قال ولا تخفى معرفة
هذا القدر إلا على من أعمى الله قبله ولم يوفقه ولم يهده سبيل الرشاد.
* * *
فصل
من المعلوم
بالفطرة المستقرة عند العقلاء قاطبة أن الكلام يكتب في المحال من الرق والخشب
وغيرهما ، ويسمى محله كتابا ويسمى نفس المكتوب كتابا ، فمن
__________________
الأول قوله تعالى
: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٨) ،
ومن الثاني قوله : (لَوْ نَزَّلْنا
عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ) (الأنعام : ٧)
وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣)
، ولكن تسمية المحل مشروطة بوجود المكتوب فيه ، وهذا كما أن تسمية القصبة قلما
مشروطة بكونها مبروءة ، وتسمية الدار قرية مشروطة بكونها مأهولة بالساكن ، وتسمية
الإناء كأسا مشروطة بوضع الشراب فيه ، وتسمية السرير أريكة مشروطة بنصب الحجلة
عليه ، بل اشتراط وجود المكتوب في المحل يصحح هذه التسمية أظهر من ذلك كله.
والقول بأن الكلام
في الصحيفة من العلم العام الذي لم ينازع فيه أحد العقلاء إذا خلى مع الفطرة ،
وإنما وقعت فيه شبهتان فاسدتان من جهة النفي والإثبات أحالت أربابها عن فطرتهم ،
حتى قالوا ما هو معلوم الفساد بالفطرة والعقلاء كلهم يذكرون هذا مطلقا كقولهم
الكلام في الصحيفة واللوح ، ومقيدا كقوله كلام فلان في الصحيفة والكتاب واللوح.
وهذا القدر
المستقر في فطر الناس جاء في كلام الله وكلام رسوله صلىاللهعليهوسلم والصحابة والتابعين ، قال الله تعالى : (وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي
قِرْطاسٍ) (الأنعام : ٧) ،
وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ
مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (البروج : ٢١ ، ٢٢)
وقال تعالى شك (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٧ ـ
٧٨) ، وقال تعالى : (كَلَّا إِنَّها
تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) (عبس : ١٣ ـ ١٥)
وقال تعالى : (يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣)
، وقد أخبر الله سبحانه عن تعدد محله بالكتاب تارة وبالرق تارة وبصدور الحفاظ تارة
، كما قال تعالى : (بَلْ هُوَ آياتٌ
بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (العنكبوت : ٤٩).
والأحاديث والآثار
في ذلك أكثر من أن تذكر ، كقول ابن عمر : نهى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو .
__________________
ومن المعلوم
بالضرورة أنه لا محذور في السفر إلى أرض العدو بمداد وورق وكاغد ، وإن النهى إنما
وقع عن السفر بالكلام الذي تضمنه الورق والمداد ، فهو المقصود لذاته ، والورق
والمداد مقصود قصد الوسائل ، ولهذا يرغب الناس في الكتاب المشتمل على الكلام الذي
ينتفع به ويتنافسون فيه ويبذلون فيه أضعاف ثمن الكاغد . والمداد ، لعلمهم أن المقصود هو الكلام نفسه لا المداد
والورق.
وكل ذي فطرة سليمة
يعلم أن وجود الكلام في المصحف ليس بمنزلة وجود الحقائق الخارجية فيها ، ولا
بمنزلة وجودها في محالها وأماكنها وظروفها ، ويجد الفرق بين كون الكلام في الورقة
، وبين كون الماء في الظرف.
فههنا ثلاث معان
متميزة لا يشبه كل منها الآخر ، فإن الحقائق الموجودة لها وجود عين ، ثم تعلم بعد
ذلك ثم يعبر عن العلم بها ، ثم تكتب العبارة عنها فهذا العلم والعبارة والخط ليس
هو أعيان تلك الحقائق بل هو وجودها الذهني العلمي في محله ، وهو القلب والذهن ،
ووجودها اللفظي النطقي في محله وهو اللسان في الآدمي ، ووجودها الرسمي الخطي في
محله وهو الكتاب أو ما يقوم من حفر في حجر أو خشب ، وقد افتتح الله وحيه إلى رسوله
بإنزال : (اقْرَأْ بِاسْمِ
رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ، خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ ، اقْرَأْ وَرَبُّكَ
الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ، عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (القلم : ١ ـ ٥)
فأخبر سبحانه أنه خلق الحقائق الموجودة ، وعلم الحقائق العلمية ، وذكر تعليمه
بالقلم وهو الخط ، وهو مستلزم تعليم البيان النطقي وهو العبارة ، وتعليم العلم
بمدلولها وهو الصورة العلمية المطابقة للحقيقة. فأول المراتب الوجود الخارجي ،
وبينه وبين الكتابة مرتبتان ، وبينه وبين الوجود العلمي مرتبة اللفظ فقط وليس بينه
وبين اللفظ مرتبة أخرى.
إذا عرف هذا فكون
الرب تعالى وأسمائه وصفاته في الكتاب غير كون كلامه في الكتاب ، فهذا شيء وهذا شيء
، فكونه في الكتاب هو اسمه
__________________
وأسماء صفاته
والخبر عنه ، وهو نظير كون القيامة والجنة والنار والصراط والميزان في الكتاب ،
إنما ذلك أسماؤها والخبر عنها ، وأما كون كلامه في المصحف والصدور فهو نظير كون
كلام رسوله في الكتاب وفي الصدور ، فمن سوى بين المرتبتين ، فهو ملبس أو ملبوس
عليه.
يوضحه أنه سبحانه
أخبر أن القرآن في زبر الأولين ، وأخبر أنه في صحف مطهرة يتلوها رسله ، ومعلوم أن
كونه في زبر الأولين ليس مثل كونه في المصحف الذي عندنا ، وفي الصحف التي بأيدي
الملائكة ، فإن وجوده في زبر الأولين هو ذكره والخبر عنه كوجود رسوله فيها ، قال
تعالى : (الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً
عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) (الأعراف : ١٥٧)
فوجود الرسول في التوراة والإنجيل ، ووجود القرآن فيه واحد ، فمن جعل وجود كلام
الله في المصحف كذلك فهو أضل من حمار أهله.
وقد علم بذلك أن
لا يحتاج إلى حذلقة متحذلق يقول : إنه لا بد من حذف وإضمار وتقديره (عبارة كلام
الله في المصحف أو حكايته) فإنك إذا قلت في هذا الكتاب كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو كلام الشافعي وأحمد ، فإن كل أحد يفهم المراد بذلك ،
ولا يتوقف فهمه على حذف وإضمار كما لا يذهب وهمه إلى أن صفة المتكلم ، والقول
القائم به الصوت واللفظ المسموع منه فارق ذاته ، وانفصل من محله ، وانتقل إلى محل
آخر.
هذا كله أمر محسوس
مشهود لا ينازع فيه من فهمه إلا عنادا ، لكن قد لا يفهمه بعض الناس لفرط بلادة
وعمى قلب أو غلبة هوى.
ومما يوضح هذا أن
الله سبحانه كتب مقادير الخلائق عنده قبل أن يخلق السماوات والأرض كتابا مفصلا
محيطا بالكائنات ، وأخبرنا بذلك في كتابه ، فالخبر عنها مكتوب في المصاحف في قوله
: (وَكُلَّ شَيْءٍ
أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (يس : ١٢) والإمام
هو الكتاب ، ومعلوم قطعا أن كتابتها في الكتاب السابق ليس هو مثل كتابتها في
القرآن ، فإن ذلك كتابة مفصلة وهذا إخبار عنها ، فكتابة اسم القرآن في رق أو غيره
ليس هو مثل كتابة معانيه ، وإذا كتب كلام المتكلم في كتاب لم تكن الحروف المكتوبة
من جنس الحروف الملفوظة لا من
حيث المادة ولا من
حيث الصورة حتى يقال انتقلت تلك الحروف بمادتها وصورتها وحلت في الكتاب ، ولا
يتوهم هذا سليم العقل والحواس.
* * *
فصل
وكلام الرب تعالى
: بل كلام كل متكلم ، تدرك حروفه وكلماته بالسمع تارة وبالبصر تارة ، فالسمع نوعان
: مطلق ومقيد ، فالمطلق ما كان بغير واسطة كما سمع موسى بن عمران كلام الرب تعالى
من غير واسطة ، بل كلمه تكليما منه إليه ، وكما يسمع جبرائيل وغيره من الملائكة
كلامه وتكليمه سبحانه. وأما المقيد فالسمع بواسطة المبلغ ، كسماع الصحابة وسماعنا
لكلام الله حقيقة بواسطة المبلغ عنه كما يسمع كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم بل وكلام غيره كمالك والشافعي وسيبويه والخليل بواسطة
المبلغ ، فقوله تعالى (فَأَجِرْهُ حَتَّى
يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (التوبة : ٦) من
النوع الثاني ، وكذلك قوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما
أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) (المائدة : ٨٣)
وقوله في الحديث «كأن
الناس لم يسمعوا القرآن إذا سمعوه يوم القيامة من الرحمن» من النوع الأول ، ومنه قوله صلىاللهعليهوسلم : «ما
منكم من أحد ألا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان» .
وأما النظر فعلى
نوعين أيضا ، فإن المكتوب قد يكتبه غير من يتكلم به فيكون الناظر إليه ناظرا إلى
الحروف والملمات بواسطة ذلك الكاتب ، وقد يكون المتكلم نفسه كتب كلامه ، فينظر
الناظر إلى حروفه وكلماته التي كتبها بيده ، كما سمع منه كلماته التي تكلم بها ،
وهذا كما كتب لموسي التوراة بيده بغير واسطة كما في الحديث الصحيح في قصة احتجاج
آدم وموسى . وفي حديث الشفاعة وغير ذلك فجمع لموسي بين الأمرين :
أسمعه كلامه بغير واسطة وأراه إياه بكتابته.
* * *
__________________
فصل
قالت فرقة :
القرآن في المصحف بمنزلة وجود الأعيان في السموات والأرض والجنة والنار ، ووجود
اسم الرب في ورقة أو صحيفة ، وهذا جهل عظيم ، فإن الفرق بين كون وجود القرآن في
الصحف أظهر من أن يحتاج إلى بيان ، ويكفي المراتب الأربعة التي هم معترفون بصحتها
ومحتجون بها ، فالقرآن ككلام وجوده في المصحف من باب وجود الكلام في الصحف ،
ومعلوم أن وجود الكلام في المصحف هو وجود عيني ووجود ذهني ووجود لفظي ووجود رسمي ،
فإذا وجد الكلام في المصحف كان وجود المرتبة الثالثة في الرابعة ، لا بمعنى أن
اللفظ الذي هو حروف وأصوات انتقل بنفسه وصار أشكالا مدادية ، بل ذلك أمر معقول
مشهود بالحس يعرفه العقلاء قاطبة.
نعم : وجود القرآن
في زبر الأولين من باب وجود المرتبة الأولى في الرابعة فمن سوى بين وجوده ثمّ
ووجوده في المصحف فهو جاهل أو ملبس ، وليس القرآن بعينه موجودا في زبر الأولين ،
وإنما فيها خبره وذكره والشهادة له فيها مذكور مخبر عنه ، وهو في المصحف ذكر وخبر
وشاهد وقصص وأمر ونهي ، فأين أحدهما من الآخر؟ فقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) (الشعراء : ١٩٦)
وقوله : (إِنَّ هذا لَفِي
الصُّحُفِ الْأُولى) (الأعلى : ١٨) ليس
مثل قوله : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٧ ،
٧٨) وقوله : (يَتْلُوا صُحُفاً
مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) (البينة : ٢ ، ٣)
ومن سوى بينهما لومه أن يقول إن هذا القرآن العربي بعينه أنزل علي من قبلنا أو أن
يقول إن المصحف ليس فيه قرآن ، إنما فيه ذكره والخبر عنه كما هو في الصحف الأولى
وكلا الأمرين معلوم البطلان عقلا وشرعا.
وقد انفصلوا عن
هذا السؤال بأن قالوا المكتوب المحفوظ المتلو هو الحكاية أو العبارة المؤلفة
المنطوق بها التي خلقها الله في الهواء أو في اللوح المحفوظ ، وفي نفس الملك ،
فيقال : هذه عندكم ليس كلام الله إلا على المجاز وقد علم بالاضطرار أن هذا الكلام
العربي هو القرآن ، وهو كتاب الله وهو كلامه ،
قال تعالى : (وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ
الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) (الأحقاف : ٢٩)
آية. فأخبر أن الذي سمعوه هو نفس القرآن ، وهو الكتاب وقال تعالى : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا
لَهُ) (الأعراف : ٢٠٤)
فأخبر أنا الذي يسمع هو القرآن بنفسه ، وعندهم أن القرآن يستحيل أن يقرأ لأنه ليس
بحروف ولا أصوات ، وإنما هو واحد الذات ليس سورا ولا آيات. وقال تعالى : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ) (النحل : ٩٨) (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (المزمل : ٤) (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ
عَلَى النَّاسِ) (الإسراء : ١٠٦) (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ
اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (التوبة : ٦)
وعندهم أن الذي يسمع ليس كلام الله على الحقيقة وإنما هو مخلوق حكي به كلام الله (على
أحد قوليهم) وعبارة عبر بها عن كلامه (على القول الآخر) وهي مخلوقة على القولين ،
فالمقروء والمسموع والمكتوب والمحفوظ ليس هو كلام الله ، وإنما هو عبارة عبر بها
عنه كما يعبر عن الذي لا ينطق ولا يتكلم من أخرس أو عاجز ، بل هو عندهم دون ذلك ما
يعبر عن حال الشيء ، فيقال : قال كذا وكذا بلسان حاله لما لا يقبل النطق ، فإن
الأخرس والعاجز قابل النطق ، فهو أحسن حالا ممن لا يقبله.
فعندهم أن الملك
فهم عن الله تعالى معني مجردا قائما بنفسه ، ثم الملك عبر عن الله فهو الذي أحدث
نظم القرآن وألفه ، فيكون إيحاؤه سبحانه إلى الملك مثل الوحى الذي يوحيه إلى
الأنبياء ، إذ لا تكلم هناك ، ولا خطاب ، والملك لا يسمع من الله شيئا ولا النبي ،
وعلى هذا فيكون ما أوحاه إلى النبي بالإلهام أو منام أشرف من تنزيل القرآن على
الرسول علي هذا التقدير ، فإن ما أوحاه في الموضعين معنى مجردا ، لكن القرآن
بواسطة الملك وحى إلهام ، والإلهام بغير واسطة ، وما ارتفعت فيه الوسائط فهو أشرف.
ولما أصلت الجهمية
هذا الأصل وبنو عليه وجعلوا تكليم الرب تعالى للرسل والملائكة ، وهو مجرد إيحاء
المعاني صار خلق من متعبديهم ومتصوفيهم يدعون أنهم يخاطبون وأن الله يكلمهم كما
كلم موسى بن عمران ، ويزعمون أن التحديث الذي يكون للأولياء مثل تكليم الله لموسى
بن عمران ، إذ ليس هناك غير مجرد الإلهام ، وبعضهم يقول إن الله خاطبني من لسان
هذا الآدمي ،
وخاطب موسى من
الشجرة ، والآدمي أكمل من الشجرة ، وبعض متأخريهم صرح بأن الله خلق تلك المعاني في
قلب الرسول ، وخلق العبارة الدالة عليها في لسانه ، فعاد القرآن إلى عبارة مخلوقة
دالة على معنى مخلوق في قلب الرسول.
ويعجب هذا القائل
من نصب الخلاف بينهم وبين المعتزلة وقال : ما نثبته نحن من المعنى القائم بالنفس
فهو من جنس العلم والإرادة ، والمعتزلة لا تنازعنا في ذلك ، غاية ما في الباب إنا
نحن نسميه كلاما وهم يسمونه علما وإرادة. وأما هذا النظم العربي الذي هو حروف
وكلمات ، وسور وآيات ، فنحن وهم متفقون على أنه مخلوق ، لكن هم يسمونه قرآنا ،
ونحن نقول هو عبارة عن القرآن أو حكاية عنه.
فتأمل هذه الأخوة
التي بين هؤلاء وبين هؤلاء المعتزلة الذين اتفق السلف علي تكفيرهم ، وأنهم زادوا
على المعتزلة في التعطيل فالمعتزلة قالوا : هذا الكلام العربي وهو القرآن حقيقة لا
عبارة عنه ، وهو كلام الله ، وإنه غير مخلوق.
ومن هنا استخف
كثير من أتباعهم بالمصحف وجوزوا دوسه بالأرجل ، لأنه بزعمهم ليس فيه إلا الجلد
والورق والزاج والعفص ، والحرمة التي تثبت له دون الحرمة التي تثبت لديار ليلى وجدرانها
فإن تلك الديار حلت فيها ليلى ونزلت بها ، وهذا الحد والورق إنما حل فيه المداد
والأشكال المصورة الدالة علي عبارة كلام الله المخلوقة.
قال أبو الوفاء بن
عقيل في خطبة كتابه في القرآن : أما بعد ، فإن سبيل الحق قد عفت آثارها ، وقواعد
الدين قد انحط شعارها ، والبدعة قد تضرمت نارها وظهر في الآفاق شرارها ، وكتاب
الله عزوجل بين العوام غرض ينتضل ، وعلى ألسنة الطغام بعد الاحترام
يبتذل ، وتضرب آياته بآياته جدالا وخصاما ، تنتهك حرمته لغوا وأثاما ، قد هون في
نفوس الجهال بأنواع المحال ، حين قيل ليس في المصحف إلا الورق والخط المستحدث
المخلوق ، وإن سلطت عليه النار احترق ، وأشكال في قرطاس قد لفقت. إزراء بحرمته
ومهانة بقيمته ،
وتطفيفا في حقوقه
، وجحودا لفضيلته حتى لو كان القرآن حيا ناطقا لكان ذلك متظلما ، ومن هذه البدعة
متوجعا متألما. أترى ليس هذا الكتاب الذي قال الله فيه (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا
يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ
حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (فصلت : ٤١ ، ٤٢)
وقال (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ
كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ) (الواقعة : ٧٨ ،
٧٩) وقال : (وَالطُّورِ وَكِتابٍ
مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (الطور : ١ ـ ٣)
أو ليس الحبر والورق قبل ظهور الحروف المكتوبة لا يمنع من مسه المحدثون. وإذا ظهرت
الحروف المكتوبة صار (لا يمسه إلا المطهرون) أليس هذا الكتاب الذي قال فيه صاحب
الشريعة تنزيلا وتجليلا «لا تسافروا بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم»
أليس الله تعالى
يقول في كتابه (يا يَحْيى خُذِ
الْكِتابَ بِقُوَّةٍ) (مريم : ١٢) وقال
في حق موسى (وَكَتَبْنا لَهُ فِي
الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها
بِقُوَّةٍ) (الأعراف : ١٤٥) أفترى
من القوة تهوينها عند المكلفين ، والازدراء بها عند المتخلفين. يزخرفون للعوام
عبارة يتوقون بها إنكارهم ويدفنون فيها معنى لو فهمه الناس لعجلوا بوارهم ،
ويقولون تلاوة ومتلو وقراءة ومقروء ، وكتابة ومكتوب. هذه الكتابة معلومة فأين
المكتوب؟ وهذه التلاوة مسموعة فأين المتلو؟ يقولون القرآن عندنا قديم قائم بذاته
سبحانه ، وإنما هي زخارف لبسوا بها ضلالتهم ، وإلا فالقرآن مخلوق عندهم لا محالة ،
فقد انكشف للعلماء منهم هذه المقالة يقدمون رجلا نحو الاعتزال فلا يتجاسرون ،
ويؤخرون أخرى نحو أصحاب الحديث ليستتروا فلا يتظاهرون. إن قلنا لهم ما مذهبكم في
القرآن؟ قالوا قديم غير مخلوق ، وإن قلنا فم القرآن أليس هو السور المسورة والآيات
المسطرة في الصحف المطهرة ، أليس هو المحفوظ في صدور الحافظين ، أليس هو المسموع
من ألسنة التالين؟ قالوا إنما هو حكايته وما أشرتم إليه عبارته ، وأما القرآن فهو
قائم في نفس الحق غير ظاهر في إحساس الخلق فانظروا معاشر المسلمين إلى مقالة
المعتزلة كيف جاءوا بها في صورة أخرى.
__________________
ثم ساق الكلام في
بيان أن القرآن اسم لهذا الكتاب العربي الذي نزل به جبرائيل من رب العالمين على
قلب رسوله صلىاللهعليهوسلم وأجراه على لسانه. وأن الله تعالى تكلم به حقا فسمعه منه
جبرائيل. فأداه إلي رسوله فأداه الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى الأمة.
* * *
فصل : صفة الكلام بصوت
قال شيخ الإسلام :
أول ما ظهر إنكار أن الله سبحانه يتكلم بصوت في أثناء المائة الثالثة ، فإنه لما
ظهرت الجهمية المعطلة في إمارة أبي العباس المأمون وأدخلته في آرائها بعد أن كانوا
أذلاء مقموعين ، وهؤلاء كان عندهم أن الله لا يتكلم أصلا بحرف ولا صوت ولا معنى
ولا يرى ، ولا هو مستو على عرشه ، ولا علم ولا حياة ولا إرادة ولا حكمة تقوم به ،
فلما وقعت المحنة وثبت الله خلفاء الرسل وورثة الأنبياء علي ما ورثوه عن الأنبياء
والمرسلين ، وعلموا أن باطل أولئك هو نفاق مشتق من أقوال المشركين والصابئين الذين
هم أعداء الرسول ، وسوس الملك ، وظهر للأمة سوء مذاهب الجهمية وما فيها من التعطيل
ظهر حينئذ عبد الله بن سعيد بن كلاب البصرى ، وأثبت الصفات موافقة لأهل السنة ،
ونفى عنها الخلق ردا على الجهمية والمعتزلة. ولم يفهم لنفي الخلق عنها معني إلا
كونها قديمة قائمة بذاته سبحانه. فأثبت قدم العلم والسمع والبصر والكلام وغيرها ،
ورأى أن القديم لا يتصور أن يكون حروفا وأصواتا لما فيها من التعاقب وسبق بعضها
بعضا. فجعل كلام الله القديم الذي ليس بمخلوق هو مجرد معنى أو معان محصورة ، وسلك
طريقة خالف فيها المعتزلة ، ولم يوافق فيها أهل الحديث في كل ما هم عليه. فلزم من
ذلك أن يقول إن الله لم يتكلم بصوت وحرف وتبعه طائفة من الناس.
وأنكر ذلك الإمام
أحمد وأصحابه كلهم. والبخاري صاحب «الصحيح».
فقال عبد الله بن
أحمد في كتاب «السنة» قلت لأبي : يا أبت إن قوما يقولون إن الله لم يتكلم بصوت ،
فقال يا بني هؤلاء الجهمية إنما يدورون على التعطيل يريدون أن يلبسوا على الناس
بلى تكلم بصوت .
ثم قال حدثنا عبد
الرحمن بن محمد المحاربي حدثنا الأعمش حدثنا مسلم بن صبيح عن مسروق عن عبد الله
قال : إذا تكلم الله بالوحى سمع صوته أهل السماء كجر السلسلة علي الصف. وصرح
البخاري بأن الله يتكلم بحرف وصوت ، وذكر في كتابه «الصحيح» حديث جابر «يحشر الله
العباد فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب» فاحتج به في الباب وإن ذكره تعليقا ، وذكر عن مسروق عن ابن
مسعود : إذا تكلم الله بالوحي سمع أهل السموات شيئا فزع عن قلوبهم وسكن الصوت
عرفوا أنه الحق من ربهم ونادوا : ما ذا قال ربكم؟ قالوا الحق.
وكذلك ابن القاسم
صاحب مالك صرح في رسالته في «السنة» : إن الله يتكلم بصوت وهذا لفظه قال :
والإيمان بأن الله كلم موسى بن عمران بصوت سمعه موسى من الله تعالى لا من غيره ،
فمن قال غير هذا أو شك فقد كفر ، حكى ذلك ابن شكر في «الرد على الجهمية» عنه.
وكذلك أبو الحسن
بن سالم شيخ سهل بن عبد الله التستري صرح بذلك. وكان الحارث المحاسبي ينكر أولا أن
الله يتكلم بصوت ثم رجع عن ذلك ، وحكى عنه الكلاباذي في كتاب «التعرف لمذهب التصوف»
أنه كان يقول : إن الله يتكلم بصوت ، وهذا آخر قوله كما ذكره معمر بن زياد
الأصبهاني في أخبار الصوفية أن الحارث كان يقول : إن الله يتكلم بلا صوت ثم رجع عن
ذلك.
وكذلك قام إمام
الأئمة محمد بن خزيمة وأبو نصر السجزي وشيخ الإسلام
__________________
الأنصاري وأبو عمر
الطلمنكي ، كلهم يصرح أن الله تعالى يتكلم بصوت. والبخاري في كتاب «خلق الأفعال».
* * *
فصل
(هل كلام الرب بمشيئته أم بغير مشيئته)
منشأ النزاع بين
الطوائف أن الرب تعالى هل يتكلم بمشيئته أم كلامه بغير مشيئته على قولين. فقالت
طائفة : كلامه بغير مشيئته واختياره ، ثم انقسم هؤلاء أربع فرق. قالت فرقة : هو
فيض فاض منه بواسطة العقل الفعال على نفس شريفة فتكلمت به كما يقول ابن سينا
وأتباعه وينسبونه إلى ارسطو.
وفرقة قالت : بل هو
معنى قائم بذات الرب تعالى هو به متكلم ، وهو قول الكلابية ومن تبعهم وانقسم هؤلاء
فريقين. فرقة قالت. وهو معان متعددة في أنفسها أمر ونهى وخبر واستخبار ، ومعني
جامع لهذه الأربعة. وفرقة قالت : بل هو معنى واحد بالعين لا ينقسم ولا يتبعض.
وفرقة قالت :
كلامه هو هذه الحروف والأصوات ، خلقها خارجة عن ذاته ، فصار بها متكلما. وهذا قول
المعتزلة وهو في الأصل قول الجهمية تلقاه عنهم أهل الاعتزال فنسب إليهم.
وفرقة قالت :
يتكلم بقدرته ومشيئته كلاما قائما بذاته سبحانه كما يقوم به سائر أفعاله لكنه حادث
النوع. وعندهم أنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما كما قاله من لم يصفهم من
المتكلمين أنه صار فاعلا بعد أن لم يكن ، فقول هؤلاء في الفعل المتصل كقول أولئك
في الفعل المنفصل. وهذا قول الكرامية.
وفرقة قالت :
يتكلم بمشيئته ، وكلامه سبحانه هو الذي يتكلم به الناس كله حقه وباطله وصدقه وكذبه
، كما يقوله طوائف الاتحادية.
وقال أهل الحديث
والسنة : إنه لم يزل سبحانه متكلما إذا شاء ويتكلم بمشيئته ولم تتجدد له هذه الصفة
، بل كونه متكلما مشيئته هو من لوازم ذاته المقدسة ، وهو بائن عن خلقه بذاته
وصفاته وكلامه ، وليس متحدا بهم ولا حالا فيهم.
(فصل منه)
واختلفت الفرق هل
يسمع كلام الله على الحقيقة؟ فقالت فرقة : لا يسمع كلامه على الحقيقة إنما يسمع
حكايته والعبارة عنه ، وهذا قول الكلابية ومن تبعهم. وقالت بقية الطوائف بل يسمع
كلامه حقيقة ، ثم اختلفوا فقالت فرقة يسمعه كل أحد من الله ، وهذا قول الاتحادية.
وقالت فرقة : بل لا يسمع إلا من غيره ، وعندهم يسمع كلام الله منه ، فهذا قول
الجهمية والمعتزلة.
وقال أهل السنة
والحديث يسمع كلامه سبحانه منه تارة بلا واسطة كما سمعه موسى وجبرائيل وغيره ،
وكما يكلم عباده يوم القيامة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم أهل الجنة ، ويكلم الأنبياء
في الموقف ، ويسمع من المبلغ عنه كما سمع الأنبياء الوحي من جبرائيل تبليغا عنه ،
وكما سمع الصحابة القرآن من الرسول صلىاللهعليهوسلم عن الله ، فسمعوا كلام الله بواسطة المبلغ ، وكذلك نسمع
نحن بواسطة التالى.
فإذا قيل :
المسموع مخلوق أو غير مخلوق؟ قيل إن أردت المسموع عن الله فهو كلامه غير مخلوق ،
وإن أردت من المبلغ ففيه تفصيل ، فإن سألت عن الصوت الذي روى به كلام الله فهو
مخلوق ، وإن سألت عن الكلام المؤدي بالصوت فهو غير مخلوق ، والذين قالوا إن الله
يتكلم بصوت أربع فرق :
فرقة قالت : يتكلم
بصوت مخلوق منفصل عنه ، وهم المعتزلة.
وفرقة قالت :
يتكلم بصوت قديم لم يزل ولا يزال ، وهم السالمية والاقترانية.
وفرقة قالت :
يتكلم بصوت قديم حادث في ذاته بعد أن لم يكن ، وهم الكرامية.
وقال أهل السنة
والحديث : لم يزل الله متكلما بصوته إذا شاء.
والذين قالوا لا
يتكلم بصوت فرقتان : اصحاب الفيض ، والقائلون إن الكلام معني قائم بالنفس.
* * *
فصل
(هل الكلام لله على الحقيقة أم مجاز؟!)
واختلفت الطوائف
في مسمى الكلام ، فقالت هو حقيقة في المعنى ، مجاز في اللفظ ، وهذا قول الأشعري ،
وقالت طائفة هو حقيقة في الألفاظ ، مجاز في المعنى ، وهذا قول المعتزلة ، وقالت
طائفة : بل هو حقيقة في اللفظ والمعني ، فإطلاقه على اللفظ وحده حقيقة ، وعلى
المعني وحده حقيقة ، وهذا قول أبي المعالى الجويني وغيره.
وقالت طائفة : بل
الكلام حقيقة في الأمرين على سبيل الجمع ، فكل منهما جزء مسماه فدلالته عليهما
بطريق المطابقة ، ودلالته على كل واحد منها بمفرده بطريق التضمن ، وهذا قول أكثر
العقلاء ، فإنما استحق الاسم للفظه ومعناه ، كما أن الإنسان إنما استحق اسم
الإنسان لجسمه ونفسه ، فمجموعهما هو الإنسان.
وقالت طائفة : بل
هو حقيقة في النفس ، مجاز في البدن. وعكس ذلك طائفة. وقالت طائفة : يطلق علي كل
منهما إنه إنسان بطريق الاشتراك.
والتحقيق أنه اسم
لهذه الذات المركبة من النفس والبدن ، فهذا اختلافهم في الناطق ونطقه.
فصل
واتفقوا على أنه
يمكن أن يوجد صوت بلا حرف ، واختلفوا هل يمكن وجود حرف نطقي بلا صوت؟ على القولين؟
وهي مسألة فقهية أصولية يبني عليها أن كل موضع اعتبر فيه النطق هل يشترط أن يسمع
نفسه أو يكون بحيث لا يسمعها ، فشرط ذلك أصحاب الشافعي والمتأخرون من أصحاب أحمد ،
ولم يشترطه أصحاب أبي حنيفة ، وهذا أقوى ، فإن حركة اللسان تميز الحروف بعضها من
بعض وإن لم يكن هناك صوت ، وقد قال تعالي : (لا تُحَرِّكْ بِهِ
لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) (القيامة : ١٦)
فدل على أن تحريك اللسان بحروفه مقدور داخل تحت النهي.
* * *
فصل
كسر الطاغوت الرابع
(وهو : التعطيل)
في
الاحتجاج بالأحاديث النبوية على الصفات المقدسة العلية ، وكسر
طاغوت
أهل التعطيل الذين قالوا : لا يحتج بكلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم على
شيء
من صفات ذي الجلال والإكرام
قالوا : الأخبار
قسمان ، متواترة وآحاد ، فالمتواتر وإن كان قطعي السند لكنه غير قطعي الدلالة ،
فإن الدلالة اللفظية لا تفيد اليقين ، وبهذا قدحوا في دلالة القرآن على الصفات ،
والآحاد لا تفيد العلم. فسدّوا على القلوب معرفة الرب تعالى وأسمائه وصفاته
وأفعاله من جهة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأحالوا الناس على قضايا وهمية ومقدمات خيالية سموها
قواطع عقلية ، وبراهين نقلية ، وهي في التحقيق (كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ
يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ
اللهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ) (النور : ٣٩).
ومن العجب أنهم
قدموها علي نصوص الوحي وعزلوا لأجلها النصوص ، والكلام على ذلك في عشر مقامات.
(أحدها) في بيان إفادة النصوص الدلالة القاطعة على مراد المتكلم ، وقد
تقدم إشباع الكلام في ذلك.
(الثاني) أين هذه الأخبار التي زعموا أنها آحاد موافقة للقرآن مفسرة له
مفصلة لما أجمله وموافقة للمتواتر منها .
__________________
(الثالث) بيان وجوب تلقيها بالقبول.
(الرابع) أفادتها للعلم واليقين.
(الخامس) بيان أنها لو لم تفد اليقين ، فأقل درجاتها أن تفيد الظن
الراجح ، ولا يمتنع إثبات بعض الصفات والأفعال به.
(السادس) إن الظن الحاصل بها أقوى من الجزم المسند إلي تلك القضايا
الوهمية الخيالية.
(السابع) بيان أن كون الشيء قطعيا أو ظنيا أمر نسبي إضافي لا يجب
الاشتراك فيه ، فهذا الأخبار تفيد العلم عند من له عناية بمعرفة ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ومعرفة أحواله ودعوته على التفصيل دون غيرهم.
(الثامن) بيان الإجماع المعلوم على قبولها وإثبات الصفات بها.
(التاسع) بيان أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم ، قضية كاذبة باتفاق
العقلاء إن أخذت عامة كلية ، وإن أخذت خاصة جزئية لم تقدح في الاستدلال بجملة
أخبار الآحاد علي الصفات.
__________________
(العاشر) جواز الشهادة لله سبحانه بما دلت عليه هذه الأخبار ، والشهادة
على رسوله صلىاللهعليهوسلم أنه أخبر بها عن الله.
أما المقام الأول فقد تقدم تقريره.
وأما المقام الثاني : فنقول هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن
، ويدل على مثل ما دلت عليه ، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع
الحديث المتفقين ، وهما كما قال النجاشي في القرآن : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج
من مشكاة واحدة ، ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من
مطابقة التوراة للقرآن.
فلما كانت الشهادة
بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد الله على ذلك شهادة على
القطع والبت ، إذ شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل وما يضرها أن تخالف تلك
العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التى فطر عباده عليها والعقول
المؤيدة بنور الوحى وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى.
فإذا كان في
القرآن أن لله علما وقدرة ، فذكرنا قول النبي صلىاللهعليهوسلم «اللهم إني أستخيرك
بعلمك وأستقدرك بقدرتك» وكذلك قوله في الحديث الآخر «اللهم إني أسألك بعلمك الغيب وقدرتك على
الخلق» كان هذان الخبران مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية. وكذلك
قوله في الحديث لأهل الجنة «أحل
عليكم رضواني» وقوله في حديث الشفاعة «إن ربي غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله
مثله» وأحاديث : إن الله يحب كذا ويكره كذا ، وأحاديث إن الله
__________________
يعجب من كذا ،
وأحاديث ذكر المشيئة ، وأحاديث الكلام والتكليم ، وأحاديث الرؤية والتجلي وأحاديث
الوجه ، وأحاديث اليدين ، وأحاديث المجيء والنزول والإتيان ، وأحاديث علو الرب على
عرشه واستوائه عليه وفوقيته ، وحديث ندائه بالصوت وقربه من داعيه وعابديه ، وغير
ذلك من أحاديث الموافقة للقرآن كان قول المبطل : هذه الآحاد لا تفيد العلم ،
بمنزلة قول من قال في قصص القرآن إنها لا تفيد العلم.
وهكذا قال
المبطلون سواء وإن اختلفت جهة إبطال العلم عندهم من نصوص الوحي ، فنصوص القرآن
عندهم لا تفيد علما من جهة الدلالة ، وهذه لا تفيد علما من هذه الجهة ومن جهة
السند ، وهذا إبطال لدين الإسلام رأسا ، وبل ذكر هذه الأحاديث بمنزلة ذكر أخبار
المعاد والجنة والنار التي شهدت بما شهد به القرآن ، وبمنزلة الأخبار الواردة في
قصص الأولين وأخبار الأنبياء الموافقة لما في القرآن.
ومن هذا أخبار
الأحاديث الصحيحة المروية في أسباب نزول القرآن وبيان المراد منه ، فإنها تشهد
باتفاق القرآن والحديث ، فهذه الأحاديث تقرر نصوص القرآن وتكشف معانيها كشفا مفصلا
، وتقرب المراد وتدفع عنه الاحتمالات ، وتفسر المجمل منه وتبينه وتوضحه لتقوم حجة
الله به ، ويعلم أن الرسول بين ما أنزل إليه من ربه ، وأنه بلغ ألفاظه ومعانيه
بلاغا مبينا حصل به العلم اليقيني ، بلاغا أقام الحجة ، وقطع المعذرة وأوجب العلم
، وبينه أحسن البيان وأوضحه.
ولهذا كان أئمة
السلف وأتباعهم يذكرون الآيات في هذا الباب ، ثم يتبعونها بالأحاديث الموافقة لها
، كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده من المصنفين في السنة ، فإن الإمام أحمد
وإسحاق بن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تضمنته أحاديث النزول والرؤية والتكليم
والوجه واليدين والإتيان والمجيء بما في القرآن ، ويثبتون اتفاق دلالة القرآن
والسنة عليها ، وأنهما من مشكاة واحدة ولا ينكر ذلك من له أدنى معرفة وإيمان ،
وإنما يحسن الاستدلال على معاني القرآن بما
رواه الثقات عن
الرسول صلىاللهعليهوسلم ورثة الأنبياء ، ثم يتبعون ذلك بما قاله الصحابة والتابعون
أئمة الهدي.
وهل يخفي على ذي
عقل سليم أن تفسير القرآن بهذه الطريق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال وشيوخ
التجهم والاعتزال كالمريسي والجبائي والنظام والعلاف وأضرابهم من أهل التفرق
والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالات وبدعا ، وفرقوا دينهم وكانوا شيعا ،
وتقطعوا أمرهم بينهم كل حزب بما لديهم فرحون.
فإذا لم يجز تفسير
القرآن وإثبات ما دل عليه ، وحصول العلم واليقين بسنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصحيحة الثابتة ، وكلام الصحابة وتابعيهم ، أفيجوز أن
يرجع في معاني القرآن إلي تحريفات جهم وشيعته ، وتأويلات العلاف والنظام والجبائي
والمريسي وعبد الجبار وأتباعهم من كل أعمى أعجمي القلب واللسان ، بعيد عن السنة
والقرآن ، مغمور عند أهل العلم والإيمان؟
فإذا كانت أخبار
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تفيد علما فجميع ما يذكره هؤلاء من اللغة والشعر الذي
يحرفون به القرآن والسنن أولى وأحرى أن لا يفيد علما ولا ظنا.
فمن المعلوم
بالضرورة أن المجازات والاستعارات والتأويلات التي استفادوها من اللغة والشعر الذي
لم ينقله إلا الآحاد ، دون ما يستفاد من نقل أهل الحديث ، وعلمنا بمراد هذا الناظم
والناثر من كلامه ، دون علمنا بمراد الله ورسوله والصحابة من كلامهم بكثير ، فإذا
كان هذا دون كلام الله ورسوله في النقل والدلالة لم يكن حمل معاني القرآن عليه
بأولى من حملها على معنى الحديث والآثار ، وإذا لم يكن لنا طريق إلى العلم بمعناه
إلا من جهة نقل الشعر وغرائب اللغة ووحشيها ، وأفهام الجهمية والمعطلة ، لا من
طريق نقل الأحاديث والآثار تعطلت دلالة الكتاب والسنة ، وسقط الاستدلال بهما ،
وحصلت لنا الحوالة على أفراخ المجوس وورثة الصابئين وتلامذة الفلاسفة وأوقاح
المعتزلة.
ثم لو ثبت بنقل
العدل عن العدل أن الشاعر والناثر أرادا ذلك المعنى بهذا
اللفظ لم يكن
إثبات اللغة بمجرد هذا الاستعمال أولى من إثباتها بالاستعمال المنقول عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، ولا أولى من استعمال القرآن المطرد ذلك المعنى
في تلك النظائر وعموم المعنى لموارد استعمال ذلك اللفظ ، ولهذا تسمى تلك الألفاظ «النظائر»
وفيها صنفت كتب الوجوه والنظائر ، فالوجوه الألفاظ المشتركة والنظائر والألفاظ
المتواطئة (الأول) فيما اتفق لفظه واختلف معناه (والثاني) فيما اتفق لفظه ومعناه.
فحمل كلام الله
سبحانه على ما يؤخذ من النظائر في كلامه وكلام رسوله وكلام أصحابه الذين كانوا
يتخاطبون بلغته ، والتابعين الذين أخذوا عنهم أولى من حمل معانيه على ما يؤخذ من
كلام بعض الشعراء والأعراب ، فالاحتمال يتطرق إلى فهم كلام الله ورسوله والصحابة
كما يتطرق إلى فهم كلام أولئك في نظمهم ونثرهم ، فما يقدر من احتمال مجاز وإضمار
واشتراك وغيره ، فتطرقه إلى كلامهم أكثر ، وهذا كله على طريق النزول وإلا فالأمر
فوق ذلك ، وهذا يتبين بطريقين :
(أحدهما) بيان استقامة هذه الطريق.
(الثاني)
بيان أنه لا طريق
يقوم مقامها.
فأما المقام (الطريق)
الأول فبيانه من وجوه (أحدها)
أن النبي صلىاللهعليهوسلم بين لأصحابه القرآن لفظه ومعناه ، فبلغهم معانيه كما بلغهم
ألفاظه ، ولا يحصل البيان والبلاغ المقصود إلا بذلك قال تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) وقال
: (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ) (آل عمران : ١٣٨)
وقال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) (إبراهيم : ٤)
وقال تعالى : (فَإِنَّما
يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (الدخان : ٥٨)
وقال تعالى : (كِتابٌ فُصِّلَتْ
آياتُهُ) (فصلت : ٣) أي
بينت وأزيل عنها الإجمال ، فلو كانت آياته مجملة لم تكن قد فصلت. وقال تعالى : (وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ) (العنكبوت : ١٨)
وهذا يتضمن بلاغ المعنى وأنه في أعلى درجات البيان.
فمن قال إنه لم
يبلغ الأمة معاني كلامه وكلام ربه بلاغا مبينا ، بل بلغهم
ألفاظه ، وأحالهم
في فهم معانيه على ما يذكره هؤلاء ، لم يكن قد شهد له بالبلاغ ، وهذا هو حقيقة
قولهم حتى أن منهم من يصرح به ويقول : إن المصلحة كانت في كتمان معاني هذه الألفاظ
، وعدم تبليغها للأمة ، إما لمصلحة الجمهور ، ولكونهم لا يفهمون المعاني إلا في
قوالب الحسيات وضرب الأمثال ، وإما لينال الكادحون ثواب كدحهم في استنباط معانيها
واستخراج تأويلاتها من وحشي اللغات وغرائب الأشعار ، ويغوصون بأفكارهم الدقيقة على
صرفها عن حقائقها ما أمكنهم.
(المقام الثالث : بيان وجوب تلقيها بالقبول)
وأما أهل العلم
والإيمان فيشهدون له بما يشهد الله به وشهدت به ملائكته وخيار القرون أنه بلغ
البلاغ المبين القاطع للعذر المقيم للحجة ، الموجب للعلم واليقين لفظا ومعنى
والجزم بتبليغه معانى القرآن والسنة كالجزم بتبليغه الألفاظ ، بل أعظم من ذلك ،
لأن ألفاظ القرآن والسنة إنما يحفظها خواص أمته ، وأما المعاني التي بلغها فإنه
يشترك في العلم بها العامة والخاصة.
ولما كان بالمجمع
الأعظم الذي لم يجمع لأحد مثله قبله ولا بعده ، في اليوم الأعظم في المكان الأعظم
، قال لهم : أنتم مسئولون عني فما أنتم قائلون؟ قالوا نشهد أنك قد بلغت وأديت
ونصحت ، ورفع إصبعه إلى السماء رافعا لها من هو فوقها وفوق كل شيء قائلا «اللهم
اشهد» فكأنا شهدنا تلك الأصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله ذلك اللسان الكريم وهو
يقول «اللهم اشهد» ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين وأدى رسالة ربه كما أمر ، ونصح
أمته غاية النصيحة ، وكشف لهم طرائق الهدى : وأوضح لهم معالم الدين ، وتركهم على
المحجة
__________________
البيضاء ليلها
كنهارها ، فلا يحتاج مع كشفه وبيانه إلى تنطع المتنطعين فالحمد لله الذي أغنانا
بوحيه ورسوله عن تكلفات المتكلفين.
قال أبو عبد
الرحمن السلمي أحد أكابر التابعين الذين أخذوا القرآن ومعانيه عن مثل عبد الله بن
مسعود وعثمان بن عفان وتلك الطبقة ، حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن من أصحاب
النبي صلىاللهعليهوسلم عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا
تعلموا من النبي صلىاللهعليهوسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل
، فتعلمنا القرآن والعلم والعمل فالصحابة أخذوا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ألفاظ القرآن ومعانيه ، بل كانت عنايتهم بأخذ المعاني من
عنايتهم بالألفاظ ، يأخذون المعاني أولا ، ثم يأخذون الألفاظ ليضبطوا بها المعاني
حتى لا تشذ عنهم.
قال حبيب بن عبد
الله البجلي وعبد الله بن عمر : تعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانا.
فإذا كان الصحابة
تلقوا عن نبيهم معاني القرآن كما تلقوا عنه ألفاظه لم يحتاجوا بعد ذلك إلى لغة أحد
، فنقل معاني القرآن عنهم كنقل ألفاظه سواء ، ولا يقدح في ذلك تنازع بعضهم في بعض
معانيه كما وقع من تنازعهم في بعض حروفه وتنازعهم في بعض السنة لخفاء ذلك على
بعضهم ، فإنه ليس كل فرد منهم تلقى من نفس الرسول صلىاللهعليهوسلم بلا واسطة جميع القرآن والسنة ، بل كان بعضهم يأخذ عن بعض
ويشهد بعضهم في غيبة بعض ، وينسى هذا بعض ما حفظه صاحبه ، قال البراء بن عازب :
ليس كل ما نحدثكم سمعناه من رسول الله ، ولكن كان لا يكذب بعضنا بعضا.
الوجه
الثاني : أن الله سبحانه
أنزل على نبيه الحكمة كما أنزل عليه القرآن وامتن بذلك علي المؤمنين ، والحكمة هي
السنة كما قال غير واحد من السلف ، وهو كما قالوا فإن الله تعالى قال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ
مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) (الأحزاب : ٣٤)
فنوّع المتلو إلى نوعين آيات وهي القرآن ، وحكمة
وهي السنة ،
والمراد بالسنة ما أخذ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم سوى القرآن كما قال صلىاللهعليهوسلم : «ألا
إني أوتيت الكتاب ومثله معه ، ألا إنه مثل القرآن وأكثر» .
وقال الأوزاعي عن
حسان بن عطية كان جبرائيل ينزل بالقرآن والسنة ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن.
فهذه الأخبار التي زعم هؤلاء أنه لا يستفاد منها علم ، نزل بها جبرائيل من عند
الله عزوجل كما نزل بالقرآن «وقال إسماعيل بن عبد الله : ينبغي لها أن
تحفظ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإنها بمنزلة القرآن.
الوجه
الثالث : أن الرجل لو قرأ
بعض مصنفات في النحو والطب أو غيرهما أو قصيدة من الشعر ، كان من أحرص الناس على
فهم ذلك وكان من أثقل الأمور عليه قراءة كلام لا يفهمه ، فإذا كان السابقون يعلمون
أن هذا كتاب الله وكلامه الذي أنزله إليهم وهداهم به وأمرهم باتباعه ، فكيف لا
يكونون أحرص الناس على فهمه ومعرفة معناه من جهة العادة العامة والعادة الخاصة ،
ولم يكن للصحابة كتاب يدرسون وكلام محفوظ يتفقهون فيه إلا القرآن وما سمعوه من
نبيهم صلىاللهعليهوسلم ولم يكونوا إذا جلسوا يتذاكرون إلا في ذلك.
قال البخاري : كان
الصحابة إذا جلسوا يتذاكرون كتاب ربهم وسنة نبيهم ولم يكن بينهم رأي ولا قياس ،
ولم يكن الأمر بينهم كما هو في المتأخرين : قوم يقرءون القرآن ولا يفهمونه ،
وآخرون يتفقهون في كلام غيرهم ويدرسونه ، وآخرون يشتغلون في علوم أخر وصنعة
اصطلاحية ، بل كان القرآن عندهم هو العلم الذي يعتنون به حفظا وفهما وعملا وتفقها
، وكانوا أحرص الناس على ذلك ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهرهم ، وهو يعلم تأويله ويبلغهم إياه كما يبلغهم
لفظه.
فمن الممتنع أن
يكونوا يرجعون إلى غيره في ذلك ، ومن الممتنع أن لا يعلمهم إياه وهم أحرص الناس
على كل سبب ينال به العلم والهدى ، وهو أحرص
__________________
الناس على تعلمهم
وهدايتهم. بل كان أحرص الناس على هداية الكفار كما قال تعالى : (إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ
اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُ) (النحل : ٣٧) وكان
أعلم الناس بتفاصيل الأسماء والصفات وحقائقها ، وكان أفصح الناس في التعبير عنها
وإيضاحها وكشفها بكل طريق كما يفعله بإشارته وحاله كما في «الصحيح» عن عمر قال :
رأيت رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهو يقول : «يقبض الله سماواته بيده والأرض باليد
الأخرى» وجعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقبض يده ويبسطها يحكي ربه تبارك وتعالى ، تحقيقا لإثبات
اليد وصفة القبض والبسط ، لا تشبيها وتمثيلا.
وقال سعيد بن جبير
: سمعت أبا هريرة يقرأ هذه الآية : (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ
النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ
اللهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً) (النساء : ٥٨)
فوضع إبهامه على أذنه والتي تليها على عينه وقال هكذا سمعت رسول الله ، يقرؤها
ويضع إصبعه ، رواه أبو داود وغيره . وفي حديث ابن مسعود عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «آخر
من يدخل الجنة رجل» فذكر الحديث وفيه قالوا لم ضحكت يا رسول الله؟ قال «لضحك الرب منه حتى
قال أتهزأ بي وأنت رب العالمين» .
وفي حديث عبيد
الله بن مقسم أنه رأى ابن عمر حين حكى رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «يأخذ
الله سماواته وأرضه بيده فيقول أنا الله فيقبض أصابعه ويبسطها» وفي لفظ : فرفع رسول الله صلىاللهعليهوسلم يده يحكي ربه .
__________________
وفي حديث نافع عن
ابن عمر يرفعه «يأخذ
الله السموات والأرض فيدحوها بهذا كما يدحى بالكرة ما زال يقولها حتى رجف به
المنبر» .
وقال ابن وهب
حدثنا أسامة بن زيد عن أبي حازم عن ابن عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان على المنبر يخطب فقال : «يأخذ الله سماواته وأرضه فيجعلهما في
كفه ثم يقول بهما هكذا كما يقول الغلام بالكرة : أنا الله الواحد العزيز» .
وفي الباب حديث
أبي الضحى عن ابن عباس : مر يهودي فقال : يا أبا القاسم ، ما تقول إذا وضع الجبار
السماء على هذه ، والأرض على هذه. الحديث .
وفي حديث النبي صلىاللهعليهوسلم : «والذي
نفسي بيدي لقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء قال به هكذا» وأومأ بيده «وإذا شاء قال به هكذا» وأومأ بيده .
وفي حديث ثابت عن
أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم : (فَلَمَّا تَجَلَّى
رَبُّهُ لِلْجَبَلِ) وأشار أنس بطرف إصبعه على أول بنان من الخنصر ، وكذلك أشار
ثابت ، فقال له حميد ما تريد بهذا يا أبا محمد؟ فرفع ثابت يده فضرب بها صدره ضربة
شديدة وقال من أنت يا حميد؟ يحدثني أنس عن النبي صلىاللهعليهوسلم وتقول أنت ما تريد بهذا؟ ورواه عبد الله بن أحمد حدثني أبي
قال حدثنا معاذ فذكره ، قال أحمد : يعني إنما أخرج طرف الخنصر وأراناه معاذ .
__________________
وقال أبو هريرة :
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «سألت
ربي الشفاعة لأمتى فقال : لك سبعون ألفا بغير حساب. قلت رب زدني. قال فإن لك هكذا
وهكذا ، وحثى بين يديه وعن يمينه وعن شماله» .
وقال أبو سعيد
الخدري عن النبي صلىاللهعليهوسلم : «تكون
الأرض يوم القيامة خبزة واحدة يتكفؤها الجبار بيده كما يتكفأ أحدكم بيده خبزته في
السفر نزلا لأهل الجنة» ومن هذا الحديث الأطيط. وقوله : «إن كرسيه وسع السموات والأرض ، وإنه
ليقعد عليه فما يفضل منه قدر أربع أصابع ، وإن له أطيطا كأطيط الرحل إذا ركب من
ثقله» وقال عمر بن الخطاب : إذا جلس الرب عزوجل على الكرسي سمع له أطيط الرحل الجديد ، فاقشعر رجل عند
وكيع وهو يرويه فغضب وقال : أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا
ينكروها.
ومن ذلك قوله : «إنكم ترون ربكم عيانا
كما ترون القمر ليلة البدر صحوا ليس دونه سحاب» تحقيقا لثبوت الرؤية ونفيا لاحتمال ما يوهم خلافها ، فأتى
بغاية البيان والإيضاح ، وكذلك قوله صلىاللهعليهوسلم : «لله
أشد فرحا بتوبة عبده من أحدكم أضل راحلته بأرض دوية مهلكة عليها طعامه وشرابه
فطلبها حتى يئس منها ، فاضطجع في أصل شجرة فرأى راحلته عليها طعامه وشرابه ، فقام
فأخذها فجعل يقول من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأنا ربك ، أخطأ من شدة الفرح» .
__________________
هذه ألفاظ رسول
الله ثم قال : «كيف ترون فرح هذا براحلته؟» قالوا عظيما يا رسول الله ، قال : «فو
الله لله أشد فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته».
فهذا الكشف
والبيان والإيضاح لا مزيد عليه تقرير لثبوت هذه الصفة ، ونفي الإجمال والاحتمال
عنها.
وكذلك قوله في
حديث النداء : «فيناديهم
بصوت» فذكر الصوت تحقيقا لصفة النداء وتقريرا ، ولو لم يذكره لدل
عليه لفظ النداء ، كما لو قيل : يعلم بعلم ويقدر بقدرة ويبصر ببصر ، وهذا ونحوه
إنما يراد به تحقيق الصفة وإثباتها ، لا تشبيه الموصوف وتمثيله ، كما أن قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) إنما سبق لإثبات الصفات وعظمتها لا لنفيها كما قال عثمان
بن سعيد الدارمي في قوله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) قال معناه هو أحسن الأشياء وأجملها ، وقالت الجهمية :
معناه ليس هناك شيء.
ومن هذا حديث
الصورة وقوله : «خلق آدم على صورة الرحمن» لم يرد به تشبيه الرب وتمثيله بالمخلوق ، وإنما أراد به
تحقيق الوجه وإثبات السمع والبصر والكلام صفة ومحلا ، والله أعلم.
الوجه
الرابع : أنهم كانوا
يسألونه عما يشكل عليهم من الصفات فيجيبهم بتقريرها ، لا بالمجاز والتأويل الباطل
، كما سأله أبو رزين العقيلى عن صفة الضحك لما قال «ينظر إليكم أزلين مشفقين فيظل يضحك يعلم
أن فرجكم قريب». فتعجب أبو رزين من ضحك الرب تعالى وقال : يا رسول الله أو يضحك
الرب؟ فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم نعم.
فقال : لن نعدم من رب يضحك خيرا والجهمي لو سئل عن ذلك لقال : لا يجوز عليه الضحك كما لا
يجوز عليه الاستواء والنزول والإتيان والمجيء.
__________________
كذلك لما أخبرهم
رسول الله عن رؤية الرب تعالى فهموا منها رؤية العيان لا مزيد العلم ، كما استشكل
بعضهم ذلك وقال : يا رسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف يسع الخلائق وهو واحد ونحن كثير؟ وهذا السائل أبو رزين
أيضا ، فقرر رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهمه وقال : سأخبرك بمثل ذلك في آلاء الله ، أليس كلكم يرى
القمر مخليا به؟ قال بلى ، قال فالله أكبر ، وهذا يدل على أن القوم إنما أحيلوا في إثبات ذلك على ما
دل عليه اللفظ وعلى ما بينه لهم من أنزل عليه الوحي لا على رأي جهم وجعد ،
والنظّام والعلاف والمريسي وتلامذتهم ، ولا على غير ما يتبادر إلى أفهامهم من
لغاتهم وخطابهم ، كان يقرر لهم ذلك ويقربه من أفهامهم بالأمثال والمقاييس العقلية
تقريرا لحقيقة الصفة.
* * *
فصل
فهم الصحابة والتابعين وتفسيرهم مقدم على فهم غيرهم
الوجه
الخامس : أن الصحابة قد
سمعوا من النبي صلىاللهعليهوسلم من الأحاديث الكثيرة ، ورأوا منه من الأحوال المشاهدة ،
وعلموا بقلوبهم من مقاصده ودعوته ما يوجب فهم ما أراد بكلامه ما يتعذر على من
بعدهم مساواتهم فيه ، فليس من سمع وعلم ورأى حال المتكلم ، كمن كان غائبا لم ير
ولم يسمع ، أو سمع وعلم بواسطة أو وسائط كثيرة ، وإذا كان للصحابة من ذلك ما ليس
لمن بعدهم كان الرجوع إليهم في ذلك دون غيرهم متعينا قطعا.
ولهذا قال الإمام
أحمد : أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولهذا كان اعتقاد الفرقة الناجية هو ما كان عليه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، كما شهد لهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم بذلك في قوله : «من كان على مثل
__________________
ما
أنا عليه وأصحابي» فثبت بهذه الوجوه القاطعة عند أهل البصائر ، وإن كانت دون الظنية عند عمي
القلوب : أن الرجوع إليهم في تفسير القرآن الذي هو تأويله الصحيح المبين لمراد
الله هو الطريق المستقيم ، ولهذا نص الإمام أحمد على أنه يرجع إلى الواحد من
الصحابة في تفسير القرآن إذا لم يخالفه غيره منهم ، ثم من أصحابه من يقول هذا قول
واحد ، وإن كان في الرجوع في الفتيا والأحكام إليه روايتان ، ومنهم من يقول :
الخلاف في الموضعين واحد ، وطائفة من أهل الحديث يجعلون تفسيره في حكم الحديث
المرفوع.
قال أبو عبد الله
الحاكم في «مستدركه» : تفسير الصحابي عندنا في حكم المرفوع.
ثم من المعلوم أن
التابعين بإحسان أخذوا ذلك عن الصحابة وتلقوه منهم ولم يعدلوا عما بلغهم إياه
الصحابة ، فإذا كان ذلك يوجب الرجوع إلى الصحابة والتابعين ، فكيف بالأحاديث
الصحيحة الثابتة عن رسول الله.
وأما الطريق
الثاني فمن وجوه أحدها : أن من لم يرجع إلى الصحابة والتابعين في نقل معاني القرآن
كما يرجع إليهم في نقل حروفه ، وإلى لغتهم
__________________
وعادتهم في خطابهم
، فلا بد أن يرجع في ذلك إلى لغة مأخوذة من غيرهم ، لأن فهم الكلام موقوف على
معرفة اللغة ، وهاهنا خمس درجات.
(الدرجة الأولى) أن يباشر عربا غيرهم فيسمع لغتهم ويعرف مقاصدهم ويقيس معاني ألفاظ
القرآن على معاني تلك الألفاظ ، وهذا إنما يستقيم إذا سلم اللفظ في الموضعين من
احتمال المعاني المختلفة ، وأن يكون المراد من أحد المتكلمين به مثل المراد به من
المتكلم الآخر ، وغايته فيه القياس ، وهو موقوف على اتحاد المعنيين في الكلامين.
ومن المعلوم أن
جنس ما دل عليه القرآن ليس من جنس ما يتخاطب به الناس وإن كان بينهما قدر مشترك ،
فإن الرسول جاءهم بمعان غيبية لم يكونوا يعرفونها ، وأمرهم بأفعال لم يكونوا
يعرفونها ، فإذا عبر عنها بلغتهم كان بين معناه وبين معاني تلك الألفاظ قدر مشترك
، ولم تكن مساوية بها ، بل تلك الزيادة التي هي من خصائص النبوة لا تعرف إلا منه ،
ولهذا يسمي كثير من الناس هذه الألفاظ حقائق عقلية شرعية باعتبار تلك الخصائص
داخلة في مسماها ، وهي لا تعلم إلا بالشرع ، وبعضهم يجعلها مجازات لغوية لأجل تلك
العلاقة التي بين تلك الخصائص وبين المعاني اللغوية ، وبعضهم يجعلها متواطئة
باعتبار القدر المشرك بينهما ، وأن كان الشرع خصصها ببعض محالها ، كما يقع التخصيص
لغة وعرفا فالتخصيص يكون لغويا تارة وعرفيا تارة ، فهي لم تنقل عن معانيها اللغوية
بالكلية ، ولم تبق على ما هي عليه من أصل الوضع ، بل خصت تخصيصا شرعيا ببعض
مواردها ، كما خص بعض الألفاظ تخصيصا عرفيا ببعض موارده ، ولا يسمي مثل هذا نقلا
ولا اشتراكا ولا مجازا ، وإن سمي بذلك ، فليس الشأن في التسمية وبعود النزاع
لفظيا.
(الدرجة الثانية) أن يسمع اللغة ممن نقل الألفاظ عن العرب نظما ونثرا وكل ما يعتري
نقل الحديث من الآفات فهو هنا أكثر ، وهذا أمر معلوم لمن كان خبيرا بالواقع فيرد
على نقل اللغة ومعرفة مراد المتكلم من ألفاظها أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعرفة
مراد الرسول به ، لأن الهمم والدواعي توفرت على نقل كلام
الله سبحانه
ورسوله وفهم معانيه ما لم تتوفر على كلام غيره وفهم معانيه ، مع تكفل الله سبحانه
بحفظه وبيانه.
(الدرجة الثالثة) أن يسمع اللغة بمن سمع الألفاظ وذكر أنه فهم معناها من العرب
كالأصمعي وابن الأعرابي وأبي عمرو بن العلاء ونحوهم ممن سمع من الأعراب ، ومن هذا
الباب كتب اللغة التي يذكرون فيها معاني كلام العرب ، ومعلوم أن هذا يرد عليه أكثر
مما يرد على من سمع الكلام النبوي من صاحبه وقال إنه فهم معناه وبيّنه لنا
بعبارته.
(الدرجة الرابعة) أن ينقل إليه كلام هؤلاء الذين ذكروا أنهم سمعوا كلام العرب ، ومن
المعلوم أنه يرد على هذا من الأسئلة أكثر مما يرد على نقل الحديث ومعناه.
(الدرجة الخامسة) أن اللغة بقياس نحوي أو تصرفي قد يدخله تخصيص لمعارض راجح وقد يكون
فيه فرق لم يتفطن له واضع القياس القانوني ، ومعلوم أن الذي يرد على هذا أكثر من
الذي يرد على من ذكر قبله.
وإذا كان الأمر
كذلك : فمن لم يأخذ معاني الكتاب والسنة من الصحابة والتابعين ومن أخذ عنهم لم يكن
له طريق أصلا إلا ما ذكرناه من هذه الطرق التي يرد عليها أضعاف ما يرد على هذه
الطريق ، ولا يجوز ترجيح تلك الطرق عليها فيلزمه أحد الأمرين : إما أن يستبدل الذي
هو أدنى بالذي هو خير ، ويعدل عن الطريق التي فيها من العلوم اليقينية والأمور
الإيمانية ما لا يوجد في غيرها ، إلى ما هو دونها في ذلك كله ، بل يستبدل باليقين
شكا ، وبالظن الراجح وهما ، وبالإيمان كفرا ، وبالهدى ضلالا ، وبالعلم جهالة
وبالبيان عيا ، وبالعدل ظلما ، وبالصدق كذبا ، ويحمل كلام الله ورسوله على مجازه
تحريفا للكلم عن مواضعه ، ويسميه تأويلا لتقبله النفوس الجاهلة بحقائق الإيمان والقرآن
، وإما أن يعرض عن ذلك كله ، ولا يجعل القرآن مفهوما ، وقد أنزله تعالى بيانا وهدى
وشفاء لما في الصدور.
قال تعالى في
أصحاب الطريقين : (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ
يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ
يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (البقرة : ٧٥) ثم
قال في أهل الطريق الثاني : (وَمِنْهُمْ
أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا
يَظُنُّونَ) (البقرة : ٧٨) ثم
قال في المصنفين ما لا يعلم أن الرسول قاله وجاء به يعلم أن الرسول جاء بخلافه : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ
الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (البقرة : ٧٩)
الآية.
فهذه الطريق
المذمومة التي سلكها علماء اليهود ، وقد سلكها أشباههم من هذه الأمة تحقيقا لقول
الصادق المصدوق : «لتأخذن أمتي مأخذ الأمم قبلها شبرا بشبر وذراعا بذراع» وفي لفظ آخر : «لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة»
وكثير من هؤلاء الأشباه يحرفون كلام الله ويكتمونه ، لئلا يحتج به عليهم في
خلاف أهوائهم ، فتارة يغل كتب الآثار التي فيها كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكلام أصحابه والتابعين وأئمة السنة ويمنع من إظهارها ،
وربما أعدمها ، وربما عاقب من كتبها أو وجدها عنده كما شاهدناه منهم عيانا ، وكثير
من هؤلاء يمنع من تبليغ الأحاديث النبوية وتفسير القرآن بالآثار والأخبار ، وحتى
إذا جاءت تفاسير الجهمية والمعتزلة ونحوهم بالغ في مدحها وقال : إن التحقيق فيها ،
ما لم يمكنهم منعه من الكتاب والسنة وكتمانه سطوا عليه بالتحريف وتأولوه على غير
تأويله ، ثم يعتمدون على آثار موضوعة مكذوبة على رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه موافقة لأهوائهم وبدعهم ، فيقولون هذا من عند الله
، ويحتجون به ويضعون قواعد ابتدعوها وآراء اخترعوها ، ويسمونها أصل الدين وهي أضر
شيء على الدين.
__________________
فصل
(كلام الشافعي في الاحتجاج بالسنة)
قال البخاري :
سمعت الحميدي يقول : كنا عند الشافعي فأتاه رجل فسأله عن مسئلة فقال : قضى رسول الله
صلىاللهعليهوسلم كذا وكذا ، فقال الرجل للشافعي ما تقول أنت؟ فقال : سبحان
الله تراني في كنيسة ، تراني في بيعة ، ترى على وسطي زنارا ، أقول قضى رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا وكذا ، وأنت تقول لي ما تقول أنت؟
وقال المزني
وحرملة عن الشافعي : إذا وجدتم سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم فاتبعوها ولا تلتفتوا إلى أحد.
وقال الربيع عن
الشافعي : ليس لأحد قول مع سنة سنها رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال الربيع : وسمعته روى حديثا فقال له الرجل : أتأخذ بهذا
يا أبا عبد الله؟ فقال :
متى رويت عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم حديثا صحيحا فلم آخذ به فأشهدكم أن عقلي قد ذهب.
وتذاكر الشافعي
وإسحاق بمكة وأحمد بن حنبل حاضر ، فقال الشافعي : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «وهل ترك لنا عقيل من دار» فقال إسحاق حدثنا يزيد عن الحسن (ح) وأخبرنا أبو نعيم
وعبده عن سفيان عن منصور عن إبراهيم أنهما لم يكونا يريانه ـ يعني بيع رباع مكة ـ
فقال الشافعي لبعض من عرفه : من هذا؟ قال إسحاق ابراهيم الحنظلي ، فقال الشافعي :
أنت الذي يزعم أهل خراسان أنك فقيههم ، ما أحوجني أن يكون غيرك في موضعك ، فكنت
آمر بفردك أذنيه أقول قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتقول أنت : عطاء وطاوس ومنصور عن إبراهيم والحسن ، وهل
لأحد مع رسول الله قول.
وروينا عن الربيع
عن الشافعي قال : لم اسمع أحدا ينسبه عامة إلى علم أو
__________________
ينسب نفسه إلى علم
يخالف في أن الله سبحانه فرض اتباع أثر رسوله والتسليم لحكمه لأن الله لم يجعل
لأحد بعده إلا اتباعه ، وأنه لا يلزم قول بكل حال إلا بكتاب الله أو سنة رسوله صلىاللهعليهوسلم وأن ما سواهما تبع لهما ، وإنما فرض الله علينا وعلى من
قبلنا وبعدنا قبول الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا يختلف فيه أحد أنه فرض وواجب قبول الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وقد اتفق المسلمون على أن حب رسول الله صلىاللهعليهوسلم فرض بل لا يتم الإيمان والإسلام إلا بكونه أحب إلى العبد
من نفسه ، فضلا عن غيره ، واتفقوا أن حبه لا يتحقق إلا باتباع آثاره والتسليم لما
جاء به والعمل على سنته وترك ما خالف قوله لقوله ، وهاتان مقدمتان برهانيتان لا
يحتاجان إلى تقرير.
وقد قال بعض السلف
في قوله عزوجل (وَلا تَقُولُوا لِما
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى
اللهِ الْكَذِبَ) (النحل : ١١٦) قال
نزلت في علماء السوء الذين يفتون الناس بآرائهم ويكفي في هذا قوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى
يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً
مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥)
وفرض تحكيمه لم يسقط بموته بل ثابت بعد موته كما كان ثابتا في حياته وليس تحكيمه
مختصا بالعمليات دون العلميات كما يقوله أهل الزيغ والإلحاد.
وقد افتتح سبحانه
هذا الخبر بالقسم المؤكد بالنفي قبله وأقسم على انتفاء الإيمان منهم حتى يحكموا
رسوله صلىاللهعليهوسلم في جميع ما تنازعوا فيه من دقيق الدين وجليله وفروعه
وأصوله ثم لم يكتف منهم بهذا التحكيم حتى ينتفي الحرج ، وهو الضيق مما حكم به
فتنشرح صدورهم لقبول حكمه انشراحا لا يبقى معه حرج ثم يسلموا تسلميا أي ينقادوا
انقيادا لحكمه.
والله يشهد ورسوله
وملائكته والمؤمنون أن من قال أدلة القرآن والسنة لا تفيد اليقين وأن أحاديث
الأسماء والصفات أخبار آحاد لا تفيد العلم بمعزل عن هذا التحكيم ، وهو يشهد على
نفسه بذلك (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا
الرَّسُولَ
وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (النساء : ٥٨)
الآية وأجمع المسلمون أن الرد إليه هو الرجوع إليه في حياته والرجوع إلى سنته بعد
مماته ، واتفقوا أن فرض هذا الرد لم يسقط بموته فإن كان متواتر اخباره وآحادها لا
تفيد علما ولا يقينا لم يكن للرد إليه وجه.
ولما أصّل أهل
الزيغ والضلال هذا الأصل ردوا ما تنازع فيه الناس من هذا الباب إلى منطق اليونان ،
وخيالات الأذهان ، ووحي الشيطان ، ورأى فلان وفلان ، وهؤلاء يتناولهم قوله سبحانه
: (أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ
مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً) (النساء : ٦٠)
والطاغوت اسم لكل ما تعدى حده وتجاوز طوره ، ومعلوم أن هذا الذي يتحاكم إليه أهل
الزيغ حده أن يكون محكوما عليه لا حاكما.
ثم أخبر تعالى عن
حال هؤلاء المتحاكمين إلى غير ما جاء به رسوله صلىاللهعليهوسلم فقال : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ
تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ
يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً) (النساء : ٦١)
فجعل الإعراض عما جاء به الرسول والالتفات إلى غيره هو حقيقة النفاق كما أن حقيقة
الإيمان هو تحكيمه وارتفاع الحرج عن الصدود بحكمه والتسليم لما حكم به رضا
واختيارا محبة ، فهذا حقيقة الإيمان ، وذلك الإعراض حقيقة النفاق.
ثم أخبر سبحانه عن
عقوبة المعرضين عن التحاكم إليه الراضين بحكم الغير من خلقه في قوله : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ
بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا
إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً) (النساء : ٦٢)
فأخبر أن هذا الإعراض عن التحاكم إليه سبب لأن تصيبهم مصيبة بما قدمت أيهم كما قال
في الآية الأخرى (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور : ٦٣) وقال
في المتولين عن حكمه (فَإِنْ تَوَلَّوْا
فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ) (المائدة : ٤٩).
قال أبو داود
حدثنا حماد بن سلمة عن يعلى بن حكيم عن سعيد بن جبير أنه
حدث بحديث فقال له
رجل من أهل الكوفة إن الله تعالى يقول في كتابه كذا وكذا ، فغضب سعيد وقال لا أراك
تعرض في حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم أعلم بكتاب الله منك.
فإذا كان هذا
إنكارهم على من عارض سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقرآن فما ذا تراهم قائلين لمن عارضهم بآراء المتكلمين ،
ومنطق المتفلسفين وأقيسة المتكلمين ، وخيالات المتصوفين ، وسياسات المعتدين؟
ولله بلال بن سعد
حيث يقول : ثلاث لا يقبل معهن عمل : الشرك ، والكفر والرأي ، قلت : يا أبا عمر وما
الرأي؟ قال : يترك سنة الله ورسوله ويقول بالرأي.
وقال أبو العالية
في قوله عزوجل (إِنَّ الَّذِينَ
قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا) (فصلت : ٣٠ ،
الأحقاف : ١٣) قال أخلصوا لله الدين والعمل والدعوة أن جردوا الدعوة إليه وإلى
كتابه وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم فقط لا إلى رأي وقول فلان.
وقال سفيان في
قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ) (النور : ٦٣) قال
يطبع على قلوبهم. وقال الإمام أحمد إنما هي الكفر ، ولقي عبد الله بن عمر جابر بن
زيد في الطواف فقال له : يا أبا الشعثاء إنك من فقهاء البصرة فلا تفت إلا بقرآن
ناطق أو سنة ماضية ، فإنك إن فعلت غير ذلك هلكت وأهلكت.
وقال ابن خزيمة :
قلت لأحمد بن نصر وحدث بخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أما تأخذ به؟ فقال
: أترى على وسطي زنارا ، لا تقل لخبر النبي صلىاللهعليهوسلم أتأخذ به وقل أصحيح
هو ذا؟ فإذا صح الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قلت به شئت أم أبيت.
وقال أفلح مولى أم
سلمة : إنها كانت تحدث أنها سمعت رسول الله صلىاللهعليهوسلم على المنبر وهي تمتشط «أيها الناس» فقالت لماشطتها كفي
رأسي ، قالت فديتك إنما يقول أيها الناس ، فقالت ويحك أو لسنا من الناس؟ فكفت
رأسها وقامت في حجرتها فسمعته يقول : «يا أيها الناس أنا على حوضي إذ مر بكم زمرا
فتفرقت بكم الطرق
فناديتكم ألا هلم إلى الطريق فينادي مناد إنهم قد بدلوا بعدك فأقول ألا سحقا سحقا»
.
وهذه الطرق التي
تفرقت بهم هي الطرق والمذاهب التي ذهبوا إليها وأعرضوا عن طريقه ومذهبه صلىاللهعليهوسلم فلا يجوزون على الطريق التي هو عليها يوم القيامة كما لم
يسلكوا الطريق التي كان عليها هو وأصحابه ، وقال عكرمة عن ابن عباس :
إياكم والرأى فإن
الله رد على الملائكة الرأي وقال : (إِنِّي أَعْلَمُ ما
لا تَعْلَمُونَ) (البقرة : ٣٠)
وقال لنبيه صلىاللهعليهوسلم (إِنَّا أَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) (النساء : ١٠٥)
ولم يقل بما رأيت.
وقال بعض العلماء
: ما أخرج آدم من الجنة إلا بتقديم الرأي على النص ، وما لعن إبليس وغضب عليه إلا
بتقديم الرأي على النص ، ولا هلكت أمة من الأمم إلا بتقديم آرائها على الوحي ، ولا
تفرقت الأمة فرقا وكانوا شيعا إلا بتقديم آرائهم على النصوص ، وقد قال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه : يا أيها الناس اتهموا الرأي على الدين فلقد رأيتني أرد أمر
رسول الله صلىاللهعليهوسلم برأي اجتهادا والله ما آلوا عن الحق وذلك يوم أبي جندل ،
والكتاب بين يدي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين أهل مكة ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم اكتب : بسم الله الرحمن الرحيم ، فقال بل تكتب كما نكتب
باسمك اللهم ، فرضي رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأبيت عليه حتى قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم «تراني أرضى وتأبى»
وقال ابن عباس في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) (الحجرات : الأولى)
قال لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة.
* * *
__________________
فصل
وأما (المقام
الرابع) وهو إفادتها اليقين : فنقول وبالله التوفيق : الأخبار المقبولة في باب
الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام (أحدها) متواتر لفظا ومعنى (والثاني) أخبار متواترة معنى إن لم تتواتر
بلفظ واحد (الثالث) أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة
(الرابع)
أخبار آحاد مروية
بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فأما القسمان
الأولان فالأخبار الواردة في عذاب القبر والشفاعة والحوض ورؤية الرب تعالى وتكليمه
عباده يوم القيامة ، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه ، وأحاديث إثبات العرش ،
والأحاديث الواردة في إثبات المعاد والجنة والنار ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن
الرسول جاء بها كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه ،
وجاء بإثبات الصفات للرب تعالى ، فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه
المعنى المقصود عن النبي صلىاللهعليهوسلم تواترا معنويا لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة
يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمدا أو سهوا ، وإذا كانت العادة
العامة والخاصة المعهودة من حال سلف الأمة وخلفها تمنع التواطؤ على الاتفاق على
الكذب في هذه الأخبار ، ويمتنع في العادة وقوع الغلط فيها ، أفادت العلم واليقين.
ثم للناس في حصول
العلم بها طريقان : (أحدهما) أنه ضرووي ، (والثاني) أنه نظري ، فأصحاب الضرورة
يستدلون بحصول العلم لهم ضرورة على حصول التواتر الموجب له ، وأصحاب النظر يعكسون
الأمر ويقولون نحن نستدل بتواتر المخبرين على إفادة العلم.
والطريق الأول
أعلى التقديرين ، فكل عالم بهذه الأحاديث وطرقها ونقلها وتعددها يعلم علما يقينا
لا شك فيه بل يجد نفسه مضطرة إلى ثبوتها أولا وثبوت مخبرها ثانيا ، ولا يمكنه دفع
هذين العلمين عن نفسه (العلم الأول) ينشأ من جهة معرفته بطريق الأحاديث وتعددها
وتباين طرقها واختلاف مخارجها ، وامتناع التواطؤ زمانا ومكانا على وضعها ، (والعلم
الثاني) ينشأ من جهة إيمانه بالرسالة ، وأن الرسول صادق فيما يخبر به.
وهذا عند أهل
الحديث أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس فإنهما من أفاضل الأطباء ، وأعظم
من علم النحاة بوجود سيبويه والخليل والفراء وعلمهم بالعربية ، ولكن أهل الكلام
وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به ؛ وكثير منهم بل أفضلهم عند
أصحابه لا يعتقد أنه روى في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي صلىاللهعليهوسلم شيئا أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان كما يجده لأكابر
شيوخ المعتزلة كأبي الحسين البصري يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث
جرير ، ولم يعلم أن فيها ما يقارب بثلاثين حديثا ، وقد ذكرناها في كتاب صفة الجنة «حادي
الأرواح».
فإنكار هؤلاء لما
علمه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب
الأئمة عند أتباعهم وما يعلم أن كثيرا من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا
تفيده علما ، لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله ، فإذا اتفق له
إعراض عنها أو نفرة عن روايتها ، وإحسان ظن بمن قال بخلافها أو تعارض خيال شيطاني
يقوم بقلبه ، فهناك يكون الأمر كما قال تعالى : (قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ
آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ ، وَهُوَ
عَلَيْهِمْ عَمًى ، أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) (فصلت : ٤٤).
فلو كانت أضعاف
ذلك لم تحصل لهم إيمانهم ولا علما وحصول العلم في القلب بموجب التواتر مثل الشبع
والري ونحوهما ، وكل واحد من الأخبار يفيد قدرا من العلم ، فإذا تعددت الأخبار
وقويت أفادت العلم ، إما للكثرة وإما للقوة وإما لمجموعهما ، كما يحصل الشبع إما
بكثرة أو بقوة المأكول وإما لمجموعهما.
والعلم بمخبر
الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه بل بفهم معناه مع سماع لفظه ، فإذا اجتمع في قلب
المستمع لهذه الأخبار : العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناه ، حصل له
العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه ، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان
صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث ، شاهدين بها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم جازمين بأن من كذب بها أو أنكر
مضمونها فهو كافر
، مع علم من له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم من أعظم الناس صدقا وأمانة وديانة
وأوفرهم عقولا وأشدهم تحفظا وتحريا للصدق ومجانبة للكذب ، وأن أحدا منهم لا يحابي
في ذلك أباه ولا ابنه ، ولا شيخه ولا صديقه ، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم تحريرا لم يبلغه أحد سواهم ، لا من الناقلين عن الأنبياء
ولا من غير الأنبياء ، وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم ، وأولئك شاهدوا من
فوقهم كذلك وأبلغ ، حتى انتهى الأمر إلى من أثنى عليهم أحسن الثناء ، وأخبر برضاه
عنهم واختباره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة.
ومن تأمل ذلك
أفاده علما ضروريا بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم ينقله كل طائفة عن صاحبه ،
وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنكم جحده بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة
والحب والبغض ، حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه ويباهون من خالفهم عليه.
وقول هؤلاء القادحين
في أخباره وسنته يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين ، بمنزلة قول
أعدائه يجوز أن يكون الذي جاءه به شيطان كاذب.
وكل أحد يعلم أن
أهل الحديث أصدق الطوائف كما قال عبد الله بن المبارك وجدت الدين لأهل الحديث ،
والكلام للمعتزلة ، والكذب للرافضة ، والخيل لأهل الرأي ، وسوء الرأي التدبير لآل
أبي فلان.
وإذا كان أهل
الحديث عالمين بأن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال هذه الأخبار وحدث بها في الأماكن والأوقات المتعددة ،
وعلمهم بذلك ضروري ، لم يكن من لا عناية له بالسنة والحديث ، وأن هذه الأخبار آحاد
لا تفيد العلم ـ مقبولا عليهم ، فإنهم يدعون العلم الضروري. وخصومهم إما أن ينكروا
حصوله لأنفسهم أو لأهل الحديث ، فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله
لغيرهم ، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث كانوا مكابرين لهم على ما يعلمونه من
نفوسهم بمنزلة من يكابر غيره على ما يجده في نفسه من فرحه وألمه ، وخوفه
وحبه ، والمناظرة
إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق فيها فائدة ، وينبغي العدول إلى ما الله أمر الله
به رسوله من المباهلة ، قال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ
فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا
وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ
نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) (آل عمران : ٦١).
* * *
فصل : الحكم في خبر الآحاد
خبر الواحد بحسب
الدليل الدال عليه ، فتارة يجزم بكذبه لقيام دليل كذبه وتارة يظن كذبه إذا كان
دليل كذبه ظنيا. وتارة يتوقف فيه فلا يترجح صدقه ولا كذبه إذ لم يقم دليل أحدهما ،
وتارة يترجح صدقه ولا يجزم به ، وتارة يجزم بصدقه جزما لا يبقى معه شك ، فليس خبر
واحد يفيد العلم ولا الظن ، ولا يجوز أن ينفى عن خبر الواحد مطلقا أنه يحصل العلم
، فلا وجه لإقامة الدليل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم وإلا اجتمع النقيضان ، بل نقول خبر الواحد
يفيد العلم في مواضع :
(أحدها)
خبر من قام الدليل
القطعي على صدقه ، وهو خبر الواحد القهار جل وعلا وخبر رسوله صلىاللهعليهوسلم في كل ما يخبر به.
(الثاني)
خبر الواحد بحضرة
الرسول صلىاللهعليهوسلم وهو يصدقه كخبر الخبر الذي أخبر بحضرة رسول الله صلىاللهعليهوسلم «إن الله يضع السماوات
على إصبع والأرضين على إصبع والشجر على إصبع» فضحك رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتعجبا وتصديقا له ، وكخبر من أخبره أنه رأى السد مثل
البرد المحبر فقال : «قد رأيته» ومن هذا ترتيبه صلىاللهعليهوسلم على خبر المخبر له مقتضاه كغزو من أخبر بنقض قوم العهد
وخبر من أخبر عن رجل أنه شتمه ونال من عرضه فأمر بقتله.
__________________
فهذا تصديق للمخبر
بالفعل ، وقد كان صلىاللهعليهوسلم يقطع بصدق أصحابه كما قطع بصدق تميم الداري لما أخبره بقصة
الدجال. وروى ذلك عنه علي المنبر ، ولم يقل أخبرني جبرائيل عن الله ، بل قال : «حدثني
تميم الداري» ومن له أدنى معرفة بالسنة يرى هذا كثيرا فيما يجزم بصدق
أصحابه ، ويرتب على أخبارهم مقتضاها من المحاربة والمسالمة والقتل والقتال.
ونحن نشهد بالله
ولله شهادة على البت والقطع ، لا نمتري فيها ولا نشك على صدقهم ونجزم به جزما
ضروريا لا يمكننا دفعه عن نفوسنا ، ومن هذا أنه كان يجزم بصدقهم فيما يخبرونه به
من رؤيا المنام ، ويجزم لهم بتأويلها ويقول إنها رؤيا حق ، وأثنى الله تعالى عليه
بذلك في قوله (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ
يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ
يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) (التوبة : ٦١)
وأثنى عليه ومدحه بتصديقه لمن أخبره من المؤمنين.
ومن هذا إخبار
الصحابة بعضهم بعضا فإنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خبرك خبر واحد لا يفيد العلم حتى يتوافر ، وتوقف من توقف
منهم حتى عضده آخر منهم لا يدل على رد خبر الواحد عن كونه خبر واحد ، وإنما كان
يستثبت أحيانا نادرة إذا استخبر.
ولم يكن أحد من
الصحابة ولا أهل الإسلام بعدهم يشكون فيما يخبر به أبو بكر الصديق عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا عمر عثمان ولا علي ولا عبد الله بن مسعود وأبي كعب
وأبو ذر ومعاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وعبد الله بن عمر وأمثالهم من الصحابة ، بل
كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة مع تفرده بكثير من الحديث ، ولم يقل له أحد منهم
يوما واحدا من الدهر : خبرك خبر واحد لا يفيد العلم ، وكان حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم أجلّ في صدورهم من أن يقابل بذلك ، وكان المخبر لهم أجلّ
في أعينهم وأصدق عندهم من أن يقول له مثل ذلك.
__________________
وكان أحدهم إذا
روى لغيره حديثا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ن في الصفات تلقاه بالقبول واعتقد تلك الصفة به على القطع
واليقين كما اعتقد رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه
البعيد كما يسمعه القريب ، ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة ، وضحكه وفرحة وإمساك
سماواته على إصبع من أصابع يده وإثبات القدم له.
من سمع هذه
الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو عن صاحب اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل
الصادق ، ولم يترتب فيها حق حتى أنهم ربما تثبتوا في بعض أحاديث الأحكام حتى
يستظهروا بآخر كما استظهر عمر رضي الله عنه برواية أبي سعيد الخدرى على خبر أبي
موسى ، كما استظهر أبو بكر رضي الله عنه برواية محمد بن مسلمة على رواية المغيرة
بن شعبة في توريث الجدة ، ولم يطلب أحد منهم الاستظهار في رواية أحاديث الصفات
البتة بل كانوا أعظم مبادرة إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها ، وإثبات الصفات
بها من المخبر لهم بها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم. ومن له أدنى إلمام بالسنة والتفات إليها يعلم ذلك ولو لا
وضوح الأمر في ذلك لذكرنا أكثر من مائة موضع.
فهذا الذي اعتمده
نفاة العلم عن أخبار رسول الله خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة وإجماع
التابعين وإجماع أئمة الإسلام ، ووافقوا به المعتزلة والجهمية والرافضة والخوارج
الذين انتهكوا هذه الحرمة ، وتبعهم بعض الأصوليين والفقهاء ، وإلا فلا يعرف لهم
سلف من الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم.
فمن نص على أن خبر
الواحد يفيد العلم مالك والشافعي وأصحاب أبي حنيفة وداود بن علي وأصحابه ، كأبي
محمد بن حزم ونص عليه الحسين بن علي الكرابيسي والحارث بن أسد المحاسبي.
قال ابن خراز
منداد في كتاب «أصول الفقه» وقد ذكر خبر الواحد الذي لم يروه إلا الواحد والاثنان
، ويقع بهذا الضرب أيضا العلم الضروري نص على ذلك مالك. وقال أحمد في حديث الرؤية
: نعلم أنها حق ، ونقطع على العلم
بها ، وكذلك روى
المروذي قال : قلت لأبي عبد الله : هاهنا اثنان يقولان إن الخبر يوجب عملا ولا
يوجب علما فعابه ، وقال لا أدري ما هذا. وقال القاضي : وظاهر هذا إنه يسوي بين
العلم والعمل.
وقال القاضي في
أول المخبر : خبر الواحد يوجب العلم إذا صح سنده ولم تختلف الرواية فيه وتلقته
الأمة بالقبول ، وأصحابنا يطلقون القول فيه وأنه يوجب العلم وإن لم تتلقه بالقبول
قال : والمذهب على ما حكيت لا غير.
فقد صرح بأن هذا
هو المذهب ، ونص في رواية أحمد بن الحسين الترمذي أنه يحتم على الخبر عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ، وعنه رواية أخرى تدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم ،
فإنه قال في رواية المروذي : إذا جاء الحديث عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بإسناد صحيح فيه حكم أو فرض عملت به ودنت الله به ، ولا
أشهد أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال ذلك. وسيأتي الكلام على معنى هذه الرواية إن شاء الله
تعالى.
وقال ابن أبي يونس
في أول «الإرشاد» : وخبر الواحد يوجب العلم والعمل جميعا ، ونص القاضي أبو يعلى
على أن هذا القول في «الكفاية».
وقال الشيخ أبو
إسحاق الشيرازي في كتبه الأصول «كالتبصرة» و «شرح اللمع» وغيرهما وهذا لفظه في «الشرح»
: وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول يوجب العلم والعمل سواء عمل به الكل أو
البعض ، ولم يحك فيه نزاعا بين أصحاب الشافعي ، وحكى هذا القول القاضي عبد الوهاب
من المالكية عن جماعة من الفقهاء ، وصرحت الحنفية في كتبهم بأن الخبر المستفيض
يوجب العلم ، ومثلوه بقول النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا وصية لوارث» ، قالوا مع أنه إنما روي من طريق الآحاد (قالوا) ونحوه
حديث ابن مسعود في المتبايعين إذا اختلفا إن القول قول البائع أو يترادان (قالوا)
ونحوه حديث عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجزية من المجوس (قالوا) وكذلك حديث المغيرة
بن شعبة ومحمد بن
__________________
مسلمة في إعطاء
الجدة السدس ، وقد اتفق السلف والخلف على استعمال حكم هذه الأخبار حين سمعوها ،
فدل ذلك من أمرها على صحة مخرجها وسلامتها ، وإن قد خالف فيها قوم فإنها عندنا
شذوذ ولا يعتد بهم في الإجماع.
(قال) وإنما قلنا
ما كان هذا سبيله من الأخبار فإنه يوجب العلم بصحة مخبره من قبل إنا إذا وجدنا
السلف قد اتفقوا على قبول خبر هذا وصفه من غير تثبيت فيه ولا معارضة بالأصول أو
يخبر مثله مع علمنا بمذاهبهم في قبول الأخبار والنظر فيها وعرضها على الأصول ،
دلنا ذلك من أمورهم على أنهم لم يصيروا إلي حكمة إلا من حيث ثبت عندهم صحته
واستقامته ، فأوجب لنا العلم بصحته ، هذا لفظ أبي بكر الرازي في كتابه «أصول الفقه».
ومن المعلوم لكل
ذي حس سليم وعقل مستقيم استفاضة أحاديث الرؤية والنداء والنزول والتكليم وغيرها من
الصفات ، وتلقي الأمة لها بالقبول أعظم بكثير من استفاضة حديث اختلاف المتبايعين ،
وحديث لا وصية لوارث ، وحديث فرض الجدة ، بل لا نسبة بين استفاضة أحاديث الصفات
واستفاضة هذه الأحاديث فهل يسوغ لعاقل أن يقول إن هذه توجب العلم وتلك لا توجبه ،
إلا أن يكون مباهتا.
وقد صرح الشافعي
في كتبه بأن خبر الواحد يفيد العلم ، نص على ذلك صريحا في كتابه «اختلاف مالك» ،
ونصره في «الرسالة» المصرية على أنه لا يوجب العلم الذي يوجبه نص الكتاب والخبر
المتواتر ، ونحن نذكر لفظه في الكتابين.
قال في «الرسالة»
: فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي قد يختلف الخبر فيه فيكون الخبر محتملا
للتأويل ، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد ، فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين
حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول لا أن
ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولو شك في هذا شاك لم نقل له تب ، وقلنا ليس لك إن كنت
عالما أن تشك كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة العدول وإن أمكن
فيهم الغلط ، ولكن
تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم ، والله ولي ما غاب عنك من ذلك. ا ه.
فهذا نصه في خبر
يحتمل التأويل ليس معه غير كونه خبر واحد ، وهذا لا تنازع فيه فإنه يحتمل سندا
ومتنا ، وكلامنا في أخبار تلقيت بالقبول واشتهرت في الأمة وصرح بها الواحد بحضرة
الجمع ، ولم ينكره منهم منكر ، بل قبله السامع وأثبت به صفة الرب تعالى ، وأنكر
على من نفاها ، كما أنكر جميع أئمة الإسلام على من نفى صفات الرب الخبرية ونسبوه
إلى البدعة.
وأما ما ذكره في
كتابه الأخير فقال : فقلت له ـ يعني من يناظره ـ أرأيت إن قال لك قائل : اتهم جميع
ما رويت عمن رويته عنه ، فإني أخاف غلط كل محدث عنهم عمن حدث عنه إذا روى عن النبي
صلىاللهعليهوسلم خلافه ، فلا يجوز أن يتهم حديث أهل الثقة ، قلت فهل رواه
أحد منهم إلا واحد عن واحد؟ قال : لا ، قلت : وما رواه عن النبي صلىاللهعليهوسلم واحد عن واحد ، قال نعم ، قلت : فإنما علمنا أن النبي صلىاللهعليهوسلم قاله بصدق المحدث عندنا وعلمنا أن من سمينا قوله بحديث
واحد ، قال نعم ، قلت وعلمنا بأن النبي صلىاللهعليهوسلم قاله علمنا بأن من سميناه قاله ، قال نعم ، قلت فإذا استوى
العلمان من خبر الصادق فأولى بنا أن نصير إليه الخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن نأخذ به أو الخبر عمن دونه ، قال بل الخبر عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم إن ثبت. قلت ثبوتهما واحد ، قال فالخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أولى بنا أن نصير إليه ، وإن أدخلتم على المخبرين عنه إنه
يمكن فيهم الغلط دخل عليكم في كل حديث روى مخالف الحديث الذي جاء عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فإن قلت نثبت بخبر الصادقين ، فما ثبت عن النبي صلىاللهعليهوسلم أولى عندنا أن يؤخذ به.
فقد نص كما ترى
بأنه إذا رواه واحد عن واحد عن النبي صلىاللهعليهوسلم يعلم أن النبي صلىاللهعليهوسلم قاله يصدق الراوي عندنا ولا يناقض ، هذا نصه في «الرسالة»
، فإنه إنما نفى هناك أن يكون العلم المستفاد منه مساويا للعلم المستفاد من نص
الكتاب وخبر التواتر ، وهذا حق فإن العلم يتفاوت في القوة والضعف ، وقد قال القاضي
في رواية حنبل عن أحمد في أحاديث الرؤية : نؤمن بها ونعلم أنها حق ، قال فقطع
على العلم بها ،
وذهب إلى ظاهر هذا الكلام جماعة من أصحابنا ، وقالوا خبر الواحد إن كان شرعيا أوجب
العلم ، قال وهذا محمول عندي على وجه صحيح من كلام أحمد ، وأنه يوجب العلم من طريق
الاستدلال لا من جهة الضرورة.
والاستدلال يوجب
العلم من أربعة أوجه :
(أحدها) أن تتلقاه
الأمة بالقبول ، فيدل ذلك على أنه حق ، لأن الأمة لا تجتمع على خطأ ، وإن قبول
الأمة يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته ، لأن العادة أن خبر الواحد الذي لم
تقم به الحجة لا تجتمع الأمة على قبوله ، وإنما يقبله قوم ويرده قوم ، (والثاني)
خبر النبي صلىاللهعليهوسلم وهو واحد فيقطع بصدقه ، لأن الدليل قد دل على عصمته ، (الثالث)
أن يخبر الواحد ويدعي أنه سمعه من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلا ينكره ، ويدل على أنه حق أن النبي صلىاللهعليهوسلم لا يقر على الكذب ، (الرابع) أن يخبر الواحد ويدعي على عدد
كثير أنهم سمعوه منه ، فلا ينكره منهم أحد ، فيدل على أنه صدق ، لأنه لو كان كذبا
لم تتفق دواعيهم على السكوت عن تكذيبه ، والعلم الواقع عن ذلك كله مكتسب ، لأنه
واقع عن نظر واستدلال.
قال شيخ الإسلام
ابن تيمية : قلت حصره لأخبار الآحاد الموجبة للعلم ليس بجامع لأن مما يوجب العلم
ما تلقاه الرسول أيضا بالقبول ، كإخباره عن تميم الداري وبما أخبر به مصدقا له فيه
(ومنها) إخبار شخصين عن قصة يعلم أنهما لم يتواطآ عليها ويبعد في العادة الاتفاق
على الكذب فيها والخطأ وغير ذلك.
قلت : أخبار
الآحاد الموجبة للعلم لا تنحصر ، بل يجد المخبر علما لا يشك فيه بكثير منها ، كما
إذا أخبره من لم يجرب عليه كذبا قط أنه شاهده ، فإذا يجزم به جزما ضروريا أو يقارب
الضرورة ، وكما إذا أخبر عليه في الإخبار به ضرر ، فأخبر به تدينا وخشية لله تعالى
، كما إذا أتى بنفسه اختيارا وأخبر عن نفسه بحد ارتكبه يطلب تطهيره منه بالحد ، أو
أقر على نفسه بحق ادعى به عليه حيث لا بينة ولا يمين يطلب منه ، ولا مخافة تلحقه
في الإنكار ، أو أخبر المفتي بأمر فعله ليحصل له المخرج منه ، أو أخبر الطبيب بألم
يجده ، يطلب زواله إلى أضعاف
أضعاف ذلك من
الأخبار التي يقطع السامع بصدق المخبر بها ، فكيف ينشرح صدرا وينطلق لسانا بأن خبر
الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلى ابن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي
الله عنهم إذا قالوا سمعنا رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول كذا وكذا أنها لا تفيد علما البتة ، سبحانك هذا بهتان
عظيم.
ونحن نشهد بالله
أن هؤلاء كانوا إذا أخبروا عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بخبر جزم بصدقهم ونشهد بالله أنهم كانوا إذا أخبروا سواهم
من الصحابة والتابعين حزم بصدقهم ، بل نشهد بالله أن سالما ونافعا وسعيد بن المسيب
وأمثالهم بهذه المنزلة ، بل مالك والأوزاعي والليث ونحوهم كذلك ، فلا يقع عندنا
ولا عند من عرف القوم الاحتمال فيما يقول فيه مالك سمعت نافعا يقول سمعت ابن عمر
يقول : سمعت النبي صلىاللهعليهوسلم يقول : ونحن قاطعون بخطإ منازعينا في ذلك.
وقد ذهبت جماعة من
أهل الأصول على أن الإجماع إذا انعقد على العمل بخبر الواحد صار كالمتواتر ، حكى
ذلك ابن برهان واختار أنه لا يصير كالمتواتر ، وذهب جماعة أيضا إلى أن الواحد إذا
ادعى على جماعة بحضرتهم ، صدقه فسكتوا صار خبره كالمتواتر ، وقد ذهب جماعة من
أصحاب أحمد وغيرهم إلى تكفير من يجحد ما ثبت بخبر الواحد العدل ، والتكفير مذهب
إسحاق بن راهويه ، وإنما أتى منكر إفادة خبر الواحد للعلم من جهة القياس الفاسد ،
فإنه قاس المخبر عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشرع عام للأمة أو بصفة من صفات الرب تعالى على خبر الشاهد
على قضية معينة ، ويا بعد ما بينهما فإن المخبر عن رسول الله ، لو قدر أنه كذب
عمدا أو خطأ ولم يظهر ما يدل على كذبه لزم على ذلك إضلال الخلق ، إذ الكلام في
الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول وعملت بموجبه وأثبتت به صفات الرب وأفعاله ، فإن
ما يجب قبوله شرعا من الأخبار لا يكون باطلا في نفس الأمر ، ولا سيما إذا قبلته
الأمة كلهم ، وهكذا يجب أن يقال في كل دليل يجب اتباعه شرعا لا يكون إلا حقا ،
فيكون مدلوله ثابتا في نفس الأمر.
هذا فيما يخبر به
عن شرع الرب تعالى وأسمائه وصفاته بخلاف الشهادة المعينة على مشهود عليه معين فهذه
قد لا يكون مقتضاها ثابتا في نفس الأمر.
وحرف المسألة أنه
لا يجوز أن يكون الخبر الذي تعبد الله به الأمة وتعرف به إليهم على لسان رسوله صلىاللهعليهوسلم في إثبات أسمائه وصفاته كذبا وباطلا في نفس الأمر فإنه من
حجج الله على عبادة ، وحجج الله لا تكون كذبا وباطلا بل لا تكون إلا حقا في نفس
الأمر ، ولا يجوز أن تتكافأ أدلة الحق والباطل ، ولا يجوز أن يكون الكذب على الله
وشرعه ودينه مشتبها للوحي الذي أنزله على رسوله وتعبد به خلقه ، وبحيث لا يتميز
هذا من هذا فإن الفرق بين الحق والباطل ، والصدق والكذب ووحي الشيطان ووحي الملك
عن الله أظهر من أن يشتبه أحدهما الآخر ، ألا وقد جعل الله على الحق نورا كنور
الشمس يظهر للبصائر المستنيرة ، وألبس الباطل ظلمة الليل ، وليس بمستنكر أن يشتبه
الليل بالنهار على أعمى البصر ، كما يشتبه الحق والباطل على أعمى البصيرة.
قال معاذ بن جبل
في قضيته : تلق الحق ممن قاله ، فإن على الحق نورا ، ولكن لما أظلمت القلوب وعميت
البصائر بالإعراض عما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وازدادت الظلمة باكتفائها بآراء الرجال ، التبس عليها
الحق بالباطل ، فجوزت علي أحاديثه الصحيحة التي رواها أعدل الأمة وأصدقها أن تكون
كذبا ، وجوزت على الأحاديث الباطلة المكذوبة المختلقة التي توافق أهواءها أن تكون
صدقا فاحتجب بها.
وسر المسألة أن
خبر العدول الثقات الذي أوجب الله تعالى على المسلمين العمل به هل يجوز أن يكون في
نفس الأمر كذبا وخطأ ولا ينصب الله دليلا على ذلك ، فمن قال إنه يوجب العلم يقول
لا يجوز ذلك بل متى وجدت الشروط الموجبة للعمل به وجب ثبوت مخبره في نفس الأمر ،
وعلى هذا تنازعوا في كفر تاركه من الحجج العلمية كما تكلموا في كفر جاحد الإجماع
أن من رد الخبر الصحيح اعتقادا لغلط الناقل أو كذبه أو لاعتقاد الراد أن المعصوم
لا يقول هذا ، أو لاعتقاد نسخه ونحوه ، فرده اجتهادا وحرصا على نصر الحق ، فإنه لا
يكفر بذلك ولا يفسق فقد رد غير واحد من الصحابة بعض أخبار الآحاد الصحيحة ، كما رد
عمر حديث فاطمة
بنت قيس في إسقاط نفقة المطلقة ثلاثا ، وكما ردت عائشة رضي الله عنها حديث ابن عمر
في تعذيب الميت ببكاء أهله عليه وغير ذلك.
* * *
(فصل)
وأما رواية الأثرم
عن أحمد أنه لا يشهد على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالخبر ويعمل به ، فهذه رواية انفرد بها الأثرم ، وليست في
مسائله ، ولا في كتاب «السنة» ، وإنما حكاها القاضي أنه وجدها في كتاب معاني
الحديث ، والأثرم لم يذكر أنه سمع ذلك منه بل لعله بلغه عنه من واهم وهم عليه في
لفظه ، فلم يرو عنه أحد من أصحابه ذلك ، بل المروي الصحيح عنه أنه جزم على الشهادة
للعشرة بالجنة ، والخبر في ذلك خبر واحد ، ولعل توقفه عن الشهادة على سبيل الورع ،
فكان يجزم بتحريم أشياء ، ويتوقف عن إطلاق لفظ تحريم عليها ، ويجزم بتحريم أشياء
ويتوقف عن إطلاق لفظ الوجوب عليها تورعا ؛ بل يقول : أكره كذا واستحب كذا ، وهذا
كثير في أجوبته.
وقد قال في موضع :
ولا نشهد على أحد من هل القبلة أنه في النار لذنب عمله ولا لكبيرة أتاها إلا أن
يكون ذلك في حديث فنصدقه ونعلم أنه كما جاء ولا ننص الشهادة ولا نشهد على أحد أنه
في الجنة لصالح عمله ولخير أتاه ، إلا أن يكون في ذلك حديث فنقبله كما جاء على ما
روي ولا ننص. قال القاضي : ولا ننص الشهادة ، معناه عندي ولا نقطع على ذلك.
قال شيخ الإسلام :
لفظ ننص هو المشهود عليه معناه لا نشهد على المعين ، وإلا فقد قال نعلم إنه كما
جاء ، وهذا يقتضي أنه يفيد العلم.
وأيضا فإن من أصله
أنه يشهد للعشرة بالجنة للخبر الوارد ، وهو خبر واحد ، وقال أشهد وأعلم واحد ،
وهذا دليل على أنه يشهد بموجب خبر الواحد ، وقد خالفه ابن المديني وغيره.
قال الذين يقولون
: أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم تفيد العلم ، قال الله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ
إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) (النجم : ٣ ، ٤).
وقال تعالى آمرا
لنبيه صلىاللهعليهوسلم أن يقول (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (الأحقاف : ٩)
وقال تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (الحجر : ٩) وقال
تعالى (وَأَنْزَلْنا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) قالوا فعلم أن كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الدين كله وحي من عند الله ، وكل وحي من عند الله فهو
ذكر أنزله الله ، وقد قال تعالى : (وَأَنْزَلَ اللهُ
عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) (النساء : ١١٣)
فالكتاب القرآن ، والحكمة السنة ، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «إني أوتيت الكتاب ومثله معه» فأخبر أنه أوتي السنة كما أوتي الكتاب ، والله تعالى قد
ضمن حفظ ما أوحاه إليه وأنزل عليه ليقيم به حجته على العباد إلى آخر الدهر ،
وقالوا فلو جاز على هذه الأخبار أن تكون كذبا لم تكن من عند الله ولا كانت مما
أنزله الله على رسوله وآتاه إياه تفسيرا لكتابه وتبيينا له ، وكيف تقوم حجته على
خلقه بما يجوز أن يكون كذبا في نفس الأمر ، فإن السنة تجري مجرى تفسير الكتاب
وبيان المراد ، فهي التي تعرفنا مراد الله من كتابه ، فلو جاز أن تكون كذبا وغلطا
لبطلت حجة الله على العباد ، ولقال كل من احتج عليه بسنة تبين القرآن وتفسيره :
هذا في خبر واحد لا يفيد العلم فلا تقوم علي حجة بما لا يفيد العلم ، وهذا طرد هذا
المذهب الفاسد. وأطرد الناس له أبعدهم عن العلم والإيمان.
والذي جاء يقضي
منه العجب أنهم لا يرجعون إلى أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنها لا تفيد العلم ، ويرجعون إلى الخيالات الذهنية
والشبهات الباطلة التي تلقوها عن أهل الفلسفة والتجهم والاعتزال ، ويزعمون أنها
براهين عقلية. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ وقد قسم الأخبار إلى تواتر وآحاد فقال
بعد ذكر التواتر : ـ
وأما القسم الثاني
من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه ، ولم يتوافر لفظه ولا معناه ،
ولكن تلقته الأمة بالقبول عملا به أو تصديقا له كخبر عمر بن الخطاب «إنما الأعمال
بالنيات» وخبر ابن عمر «نهي عن بيع الولاء
__________________
وهبته» وخبر أنس «دخل مكة وعلى رأسه المغفر» وكخبر أبي هريرة «لا تنكح المرأة على عمتها ولا على
خالتها» وكقوله «يحرم
من الرضاع من يحرم «من النسب» وقوله : «إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد
وجب الغسل» وقوله في المطلقة ثلاثا «حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وقوله «لا
يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وقوله : «إنما الولاء لمن أعتق» وقوله يعني ابن عمر : «فرض رسول الله صلىاللهعليهوسلم صدقة
الفطر في رمضان على الصغير والكبير والذكر الأنثى» وأمثال ذلك ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد
صلىاللهعليهوسلم من الأولين والآخرين.
أما السلف فلم يكن
بينهم في ذلك نزاع ، وأما الخلف فهذا مذهب الفقهاء الكبار من أصحاب الأئمة الأربعة
، والمسألة منقولة في كتب الحنفية ، والمالكية ، والشافعية ، والحنبلية مثل
السرخسي ، وأبي بكر الرازي من الحنفية ، والشيخ أبي حامد ، وأبي الطيب ، والشيخ
أبي إسحاق من الشافعية ، وابن خوازمنداد وغيره من المالكية ، ومثل القاضي أبي يعلى
، وابن موسى ، وأبي الخطاب وغيرهم من الحنبلية ، مثل أبي إسحاق الأسفرائيني ، وابن
فورك ، وأبي اسحاق النظّام من المتكلمين.
__________________
وإنما نازع في ذلك
طائفة كابن الباقلاني ومن تبعه مثل أبي المعالي والغزالي وابن عقيل وقد ذكر أبو
عمرو بن الصلاح القول الأول وصححه واختاره ، ولكنه لم يعلم كثرة القائلين به
ليتقوى بهم ، وإنما قاله بموجب الحجة الصحيحة ، وظن من اعترض عليه من المشايخ
الذين لهم علم ودين وليس لهم بهذا الباب خبرة تامة أن هذا الذي قاله الشيخ أبو
عمرو انفرد به عن الجمهور ، وعذرهم أنهم يرجعون في هذه المسائل إلى ما يجدونه من
كلام ابن الحاجب ، وإن ارتفعوا درجة صعدوا إلى سيف الآمدي وإلى ابن الخطيب ، فإن
علا سندهم صعدوا إلى الغزالي والجويني والباقلاني.
قال : وجميع أهل
الحديث على ما ذكره الشيخ أبو عمرو ، والحجة على قول الجمهور ، أن تلقي الأمة
للخبر تصديقا وعملا إجماع منهم ، والأمة لا تجتمع على ضلالة كما لو اجتمعت على
موجب عموم أو مطلق أو اسم حقيقة أو على موجب قياس فإنها لا تجتمع على خطأ ، وإن
كان الواحد منهم لو جرد النظر إليه لم يؤمن من عليه الخطأ فإن العصمة تثبت بالنسبة
الإجماعية ، كما أن خبر التواتر بجوز الخطأ والكذب على واحد من المخبرين بمفرده ،
ولا يجوز على المجموع ، والأمة معصومة من الخطأ في روايتها ورأيها ورؤياها كما قال
النبي صلىاللهعليهوسلم «أرى رؤياكم قد تواطأت
علي أنها في العشر الأواخر ، فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر» فجعل تواطؤ الرؤيا دليلا على صحتها والآحاد في هذا الباب
قد تكون ظنونا بشروطها ، فإذا قويت صارت علوما ، وإذا ضعفت صارت أوهاما وخيالات
فاسدة.
قال أيضا : فلا
يجوز أن يكون في نفس الأمر كذبا على الله ورسوله وليس في الأمة من ينكره إذ هو
خلاف ما وصفهم الله تعالى به.
(فإن قيل) أما
الجزم بصدقه فلا يمكن منه ، وأما العمل به وهو الواجب عليه وإن لم يكن صحيحا في
الباطن ، وهذا سؤال ابن الباقلاني.
__________________
(قلنا) أما الجزم
بصدقه فإنه قد يحتف به من القرائن ما يوجب العلم ، إذ القرائن المجردة قد تفيد
العلم بمضمونها ، فكيف إذا احتفت بالمخبر ، والمنازع بنى على هذا أصله الواهي أن
العلم بمجرد الإخبار لا يحصل إلا من جهة العدد ، فلزمه أن يقول ما دون العدد لا
يفيد أصلا وهذا غلط خالفه فيه حذاق أتباعه ، وأما العمل به فلو جاز أن يكون في
الباطن كذبا وقد وجب علينا العمل به لا نعقد الإجماع على ما هو كذب وخطأ في نفس
الأمر ، وهذا باطل فإذا كان تلقي الأمة له يدل على صدقه لأنه إجماع منهم على أنه (صدق)
مقبول فإجماع السلف والصحابة أولى أن يدل على صدقه ، فإنه لا يمكن أحدا أن يدعي
إجماع الأمة إلا فيما أجمع عليه سلفها من الصحابة والتابعين ، وأما بعد ذلك فقد
انتشرت انتشارا لا تضبط أقوال جميعها.
قال : واعلم أن
جمهور أحاديث البخاري ومسلم من هذا الباب كما ذكره الشيخ أبو عمرو ومن قبله من
العلماء كالحافظ أبي طاهر السلفي وغيره ، فإن ما تلقاه أهل الحديث وعلماؤه بالقبول
والتصديق فهو محصل للعلم مفيد لليقين ، ولا عبرة بمن عداهم من المتكلمين
والأصوليين ، فإن الاعتبار في الإجماع على كل أمر من الأمور الدينية بأهل العلم به
دون غيرهم ، كما لم يعتبر في الإجماع على الأحكام الشرعية إلا العلماء بها دون
المتكلمين والنحاة والأطباء ، كذلك لا يتعبر في الإجماع على صدق الحديث وعدم صدقه
إلا أهل العلم بالحديث وطرقه وعلله ، وهم علماء أهل الحديث العالمون بأحوال نبيهم
، الضابطون لأقواله وأفعاله المعتنون بها أشد من عناية المقلدين بأقوال متبوعيهم.
فكما أن العلم
بالتواتر ينقسم إلى عام وخاص ، فيتواتر عند الخاصة ما لا يكون معلوما لغيرهم فضلا
أن يتواتر عندهم ، فأهل الحديث لشدة عنايتهم بسنة نبيهم وضبطهم لأقواله وأفعاله
وأحواله يعلمون من ذلك علما لا يشكون فيه مما لا شعور لغيرهم به البتة ، فخبر أبي
بكر وعمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وابن مسعود ونحوهم يفيد العلم الجازم الذي يلتحق
عندهم بقسم الضروريات ، وعند الجهمية والمعتزلة وغيرهم من أهل الكلام لا يفيد علما
وكذلك يعلمون بالضرورة
أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أخبر أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة ، وعند الجهمية
رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يقل ذلك ، ويعلمون بالضرورة أن نبيهم صلىاللهعليهوسلم أخبر عن خروج قوم من النار بالشفاعة ، وعند المعتزلة
والخوارج لم يقل ذلك ، وبالجملة فهم جازمون بأكثر الأحاديث الصحيحة قاطعون بصحتها
عنه ، وغيرهم لا علم عنده بذلك. والمقصود أن هذا القسم من الأخبار يوجب العلم عند
الجمهور العقلاء.
وأما خبر الواحد
الذي أوجبت الشريعة تصديق مثله والعمل به بأن يكون خبر عدل معروف بالصدق والضبط
والحفظ ، فهذا في إفادته للعلم قولان ، هما روايتان منصوصتان عن أحمد (أحدهما) إنه
يفيد العلم أيضا وهو أحد الروايتين عن مالك ، اختاره جماعة من أصحابه منهم محمد بن
خوازمنداد ، واختاره جماعة من أصحاب أحمد منهم ابن أبي موسى وغيره ، واختاره
الحارث المحاسبي وهو قول جمهور أهل الظاهر وجمهور أهل الحديث ، وعلى هذا فيحلف على
مضمونه ويشهد به.
(والقول الثاني)
إنه لا يوجب العلم وهو قول جمهور أهل الكلام وأكثر المتأخرين من الفقهاء وجماعة من
أهل الحديث ، وعلى هذا فلا يحلف على مضمونه ولا يشهد به ، وقد حلف الإمام على كثير
من مضمون كثير من الأخبار الآحاد حلف على البت ، وأهل الحديث لا يجعلون حصول العلم
بمخبر هذه الأخبار الثابتة من جهة العادة المطردة في حق سائر المخبرين ، بل يقولون
ذلك الأمر يرجع إلى المخبر وأمر يرجع إلى المخبر عنه وأمر يرجع إلى المخبر به ،
وأمر يرجع إلى المخبر المبلغ.
فأما ما يرجع إلى
المخبر فإن الصحابة الذين بلغوا الأمة سنة نبيهم كانوا أصدق الخلق لهجة ، وأعظمهم
أمانة وأحفظهم لما يسمعونه ، وخصهم الله تعالى من ذلك بما لم يخص به غيرهم ؛ فكانت
طبيعتهم قبل الإسلام الصدق والأمانة ؛ ثم ازدادوا بالإسلام قوة في الصدق والأمانة
؛ وكان صدقهم عند الأمة وعدالتهم وضبطهم وحفظهم عن نبيهم أمرا معلوما لهم
بالاضطرار ، كما يعلمون إسلامهم
وإيمانهم وجهادهم
مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وكل من له أدنى علم بحال القوم يعلم أن خبر الصديق
وأصحابه لا يقاس بخبر من عداهم وحصول الثقة بخبرهم فوق الثقة واليقين بخبر من سواهم
من سائر الخلق بعد الأنبياء.
فقياس خبر الصديق
على خبر آحاد المخبرين من أفسد قياس في العالم ، وكذلك الثقات العدول الذين رووا
عنهم هم أصدق الناس لهجة وأشدهم تحريا للصدق والضبط حتى تعرف في جميع طوائف بني
آدم أصدق لهجة ولا أعظم تحريا للصدق منهم ، وإنما المتكلمون أهل ظلم وجهل يقيسون
خبر الصديق والفاروق وأبي بن كعب بأخبار آحاد الناس ، مع ظهور الفرق المبين بين
المخبرين ، فمن أظلم ممن سوى بين خبر الواحد من الصحابة وخبر الواحد من أفراد
الناس في عدم إفادة العلم ، وهذا بمنزلة من سوى بينهم في العلم والدين والفضل.
وأما ما يرجع إلى
المخبر عنه فإنه الله سبحانه تكفل لرسوله صلىاللهعليهوسلم بأن يظهر دينه على الدين كله ، وأن يحفظه حتى يبلغه الأول
لمن بعده فلا بد أن يحفظ الله سبحانه حججه وبيناته على خلقه ، لئلا تبطل حججه
وبيناته ، ولهذا فضح الله من كذب على رسوله صلىاللهعليهوسلم في حياته وبعد مماته وبين حاله للناس. قال سفيان ابن عيينة
: ما ستر الله أحدا يكذب في الحديث. قال عبد الله بن المبارك لو هم رجل أن يكذب في
الحديث لأصبح والناس يقولون فلان كذاب.
وقد عاقب الله
الكاذبين عليه في حياته بما جعلهم به نكالا وعبرة حفظا لوحيه ودينه ، وقد روى أبو
القاسم البغوي حدثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني حدثنا علي بن مسهر عن صالح بن
حيان عن بريدة عن أبيه قال جاء رجل في جانب المدينة فقال إن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمرني أن أحكم فيكم برأيي في أموالكم وفي كذا وكذا ، وكان
خطب امرأة منهم في الجاهلية فأبوا أن يزوجوه ، ثم ذهب حتى نزل على المرأة فبعث
القوم إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقال كذب عدو الله ثم أرسل رجلا فقال إن وجدته حيا فاقتله
فإن أنت وجدته ميتا فأحرقه بالنار ، فانطلق
فوجده قد لدغ فمات
فحرقه بالنار ، فعند ذلك قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «من
كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار» .
وروى أبو بكر بن
مردويه من حديث الأوزاعي عن أبي سلمة عن أسامة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من
تقول عليّ ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار» وذلك أنه بعث رجلا فكذب عليه فوجد ميتا قد انشق بطنه ولم
تقبله الأرض.
فالله سبحانه لم
يقر من كذب عليه في حياته وفضحه ، وكشف ستره للناس بعد مماته.
وأما ما يرجع إلى
المخبر به فإنه الحق المحض وهو كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم الذي كلامه وحى فهو أصدق ، وأحق الحق بعد كلام الله ، فلا
يشتبه بالكذب والباطل على ذي عقل صحيح ، بل عليه من النور والجلالة والبرهان ما
يشهد بصدقه ، والحق عليه نور ساطع يبصره وذو البصيرة السليمة ، فبين الخبر الصادق
عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وبين الخبر الكاذب عنه من الفرق كما بين الليل والنهار
والضوء والظلام ، وكلام النبوة متميز بنفسه عن غيره من الكلام الصدق ، فكيف نسبته
بالكذب ، ولكن هذا إنما يعرفه من له عناية بحديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأخباره وسنته ، ومن سواهم في عمى عن ذلك ، فإذا قالوا
أخباره وأحاديثه الصحيحة لا تفيد العلم فهم مخبرون عن أنفسهم أنهم لم يستفيدوا منه
العلم ، فهم صادقون فيما يخبرون به عن أنفسهم ، كاذبون في إخبارهم أنها لا تفيد
العلم لأهل الحديث والسنة.
وأما ما يرجع إلى
المخبر نوعان : نوع له علم ومعرفة بأحوال الصحابة وعدالتهم وتحريهم للصدق والضبط ،
وكونهم أبعد خلق الله عن الكذب وعن الغلط والخطأ فيما نقلوا إلى الأمة وتلقاه
بعضهم عن بعض بالقبول ، وتلقته الأمة ، عنهم كذلك ، وقامت شواهد صدقهم فيه ، فهذا
المخبر يقطع بصدق
__________________
المخبر ويفيده
خبره العلم واليقين لمعرفته بحاله وسيرته ، ونوع لا علم لهم بذلك ، وليس عندهم من
المعرفة بحال المخبرين ما عند أولئك فهؤلاء قد لا يفيدهم خبرهم اليقين ، فإذا انضم
عمل المخبر وعلمه بحال المخبر وانضاف إلى ذلك معرفة المخبر عنه ونسبة ذلك الخبر
إليه ، أفاد ذلك علما ضروريا بصحة تلك النسبة ، وهذا في إفادة العلم أقوى من خبر
رجل مبرز في الصدق والتحفظ ، عن رجل معروف بغاية الإحسان والجود إنه سأله رجل معدم
فقير ما يغنيه فأعطاه ذلك ، وظهرت شواهد تلك العطية على الفقير ، فكيف إذا تعدد
المخبرون عنه وكثرت روايتهم وأحاديثهم بطرق مختلفة ، وعطايا متنوعة في أوقات متعددة.
* * *
قال أبو محمد بن
حزم : ومما يبين أن أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم تفيد العلم أن الله تعالى قال : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ
لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) فصحّ
أنه صلىاللهعليهوسلم مأمور ببيان القرآن للناس ، وفي القرآن مجمل كثير ،
كالصلاة والزكاة والحج وغير ذلك مما لا يعلم ما ألزمنا الله تعالى فيه بلفظه ، لكن
بتبيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم فإذا كان بيانه لذلك المجمل محفوظ ولا مضمون سلامته مما
ليس منه فقد بطل الانتفاع بنص القرآن ، وبطلت أكثر الشرائع المفترضة علينا فيه إذا
لم ندر صحيح مراد الله تعالى منها مما أخطأ فيه المخطئ أو تعمد فيه الكذب الكاذب ؛
ومعاذ الله من هذا.
قال : وأيضا فنقول
لمن قال : إن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى النبي صلىاللهعليهوسلم لا يوجب العلم ، وأن يجوز فيه تعمد الكذب والوهم ، وأنه
غير مضمون الحفظ : أخبرونا هل يمكن أن يكون عندكم شريعة فرض أو تحريم أتى بها رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ومات وهي باقية لازمة للمسلمين غير منسوخة ، فجهلت حتى لا
يعلمها علم اليقين أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا؟ وهل يمكن عندكم أن يكون حكم
موضوع بالكذب أو بخطإ بالوهم قد جاوز ومضى واختلط بأحكام الشريعة اختلاطا لا يجوز
أن يميزه أحد من أهل الإسلام في العالم أبدا. أم لا يمكن عندكم شيء من هذين
الوجهين؟ فإن قالوا لا يمكننا أبدا بل قد أمنا ذلك ،
صاروا إلى قولنا
وقطعوا أن كل خبر رواه الثقة عن الثقة مسندا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الديانة فإنه حق ، قد قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم كما هو ، وأنه يوجب العلم ويقطع بصحته ولا يجوز أن يختلط
به خبر موضوع أو موهوم فيه لم يقله قط رسول الله صلىاللهعليهوسلم اختلاطا لا يتميز الباطل فيه من الحق أبدا ، وإن قالوا بل
كل ذلك ممكن كانوا قد حكموا بأن دين الإسلام قد فسد وبطل أكثره واختلط ما أمر الله
تعالى به مع ما لم يأمر به اختلاطا لا يميزه أحدا أبدا ، وأنه لا يدرون أبدا ما
أمرهم الله به مما لم يأمرهم به ولا ما وضع الكاذبون والمستخفون بما جاء به رسول
الله صلىاللهعليهوسلم إلا بالظن الذي هو أكذب الحديث ، والذي لا يغني من الحق
شيئا ، وهذا انسلاخ من الإسلام وهدم للدين وتشكيك في الشرائع.
ثم نقول لهم :
أخبرونا إن كان ذلك كله ممكنا عندكم ، فهل أمركم الله بالعمل بما رواه الثقات
مسندا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو لم يأمركم بالعمل به؟ ولا بد من أحدهما ، فإن قالوا لم
يأمرنا الله تعالى بذلك لحقوا بالمعتزلة ، وسيأتي جوابهم عن هذا القول ؛ وإن قالوا
بل أمرنا الله تعالى بالعمل بذلك ، قلنا لهم : فقد قلتم إن الله تعالى أمركم
بالعمل في دينه بما لم يأمركم به مما وضعه الكاذبون وأخطأ فيه الواهمون وأمركم أن
تنسبوا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلىاللهعليهوسلم ما لم يأتكم به قط ، وما لم يقله الله ولا رسوله ، وهذا
قطع عليه بأنه عزوجل أمر بالكذب عليه ، وافترض العمل بالباطل وبما شرعه
الكاذبون مما لم يأذن به الله وبما ليس من الدين ، وهذا عظيم جدا لا يستجيز القول
به مسلم.
ثم نسألهم عما
قالوا إنه ممكن من سقوط بعض ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الحكم في الدين بإيجاب أو تحريم حتى لا يؤخذ عن أحد هل
بقي علينا العمل به أم سقط عنا؟ ولا بد من أحدهما ، فإن قالوا بل هو باق علينا ،
قلنا لهم كيف يلزمنا العمل بما لا ندري وبما لم يبلغنا أبدا ، وهذا من تحميل الإصر
والحرج والعسر الذي قد آمننا الله منه.
(وإن قالوا) بل قد
سقط عنا العمل به (قلنا لهم) فقد أجزتم نسخ شريعة من شرائع دين الإسلام ، مات رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وهي محكمة باقية لازمة ،
فأخبرونا من الذي
نسخها وأبطلها ، وقد مات رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهي لازمة لنا غير منسوخة ، وهذا خلاف الإسلام والخروج منه
جملة.
(فإن قالوا) لا
يجوز أن يسقط حكم شريعة مات النبي صلىاللهعليهوسلم وهو لازم لنا ولم ينسخ ، قلنا لهم فمن أين أجزتم هذا النوع
من الحفظ في الشريعة ، ولم تجيزوا تمام الحفظ للشريعة من أن لا تختلط بها باطل لم
يأمر الله به قط اختلاطا لا يتميز معه الحق الذي أمر الله به من الباطل الذي لم
يأمر به قط ، وهذا لا مخلص لهم منه ، ولا فرق بين من منع من سقوط شريعة حق أو أجاز
اختلاطها بالباطل ، وبين ومن منع من اختلاط الحق في شريعة بالباطل ، وأجاز سقوط
شريعة حق ، وكل هذا باطل لا يجوز البتة وممتنع ، قد أمنا كونه ولله الحمد.
وإذا صح هذا فقد
ثبت يقينا أن خبر الواحد العدل عن مثله مبلغا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حق مقطوع به موجب للعلم والعمل جميعا. قال : وأيضا فإن
الله تعالى قال : (لِتُبَيِّنَ
لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (النحل : ٤٤) وقال
تعالى : (يا أَيُّهَا
الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما
بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ) (المائدة : ٦٧)
فنسألهم هل بين رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما أنزل إليه من ربه أم لم يبين ، وهل بلغ ما أنزل إليه أم
لم يبلغ ، فلا بد من أحد أمرين : فمن قولهم إنه بلغ ما أنزل إليه وبينه للناس ،
وأقام الحجة على من بلغه ، فنسألهم عن ذلك التبليغ وذلك البيان ؛ أهما باقيان
عندنا وإلى يوم القيامة ، أم هما غير باقيين؟ فإن قالوا بل هما باقيان إلى يوم
القيامة ، رجعوا إلى قولنا وأقروا أن الحق من كل ما أنزل الله في الدين مبين مما
لم ينزله ، مبلغ إلينا وإلى يوم القيامة.
وهذا هو نص قولنا
في أن خبر الواحد العدل (عن) مثله مسندا إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم حق مقطوع بغيبه موجب للعلم والعمل ، وإن قالوا بل هما غير
باقيين ، دخلوا في عظيمة وقطعوا بأن كثيرا من الدين قد بطل ، وأن التبليغ قد سقط
في كثير من الشرائع ، وأن بيان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لكثير من الدين قد ذهب ذهابا لا
يوجد معه أبدا ،
وهذا قول الرافضة ، بل شر منه ، لأن الرافضة ادعت أن حقيقة الدين موجودة عند إنسان
مضمون كونه في العلم ، وهؤلاء أبطلوه من جميع العالم ، ونعوذ بالله من كلا
القولين.
وأيضا فإن الله
تعالى قد قال : (قُلْ إِنَّما حَرَّمَ
رَبِّيَ الْفَواحِشَ) إلى قوله : (ما لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف : ٣٢ ،
٣٣) وقال تعالى : (إِنْ يَتَّبِعُونَ
إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ
الْهُدى) (النجم : ٢٣) وقال
تعالى : (إِنَّ الظَّنَّ لا
يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً) (النجم : ٢٨) وقال
تعالى ذما لقوم في قولهم : (إِنْ نَظُنُّ إِلَّا
ظَنًّا) (الجاثية : ٣٢) (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) (الأنعام : ١٤٨)
وقد صح أن الله تعالى افترض علينا العمل بخبر الواحد الثقة عن مثله مبلغا إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، وأن نقول أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكذا ونهى عن كذا وفعل كذا والله تعالى حرم القول في دينه
بالظن وحرم علينا أن نقول عليه إلا بعلم ، فلو كان الخبر المذكور يجوز فيه الكذب
أو الوهم لكان قد أمرنا أن نقول عليه ما لا نعلم ، فلو كان لخبر المذكور يجوز فيه
الكذب أو الوهم لكان قد أمرنا أن نقول عليه ما لا نعلم ، ولكان قد أوجب علينا
الحكم في الدين بالظن الذي لا نتيقنه ، والذي هو الباطل الذي لا يغني عن الحق شيئا
، والذي هو غير الهدى الذي جاء من عند الله وهذا هو الإفك والكذب والباطل الذي لا
يحل القول به والذي حرم الله علينا أن نقول به.
فصح يقينا أن
الخبر المذكور حق مقطوع على غيبه يوجب العلم والعمل معا ، وبالله التوفيق. فصار كل
من يقول بإيجاب العمل بخبر واحد ، وأنه مع ذلك ظن لا يقطع بصحة غيبه ولا يوجب
العلم قائلا بأن الله تعبدنا بأن نقول عليه ما ليس لنا به علم ، وأن نحكم في ديننا
بالظن الذين قد حرم علينا أن نحكم به في الدين ، وهذا عظيم جدا. وأيضا فإن الله
تعالى يقول : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ
لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ
دِيناً) (المائدة : ٣)
وقال تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ
غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (آل عمران : ٨٥)
وقال تعالى : (إِنَّ الدِّينَ
عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) (آل عمران : ١٩)
فنقول لمن جوز
أن يكون ما أمر
الله به نبيه من بيان شرائع الإسلام غير محفوظ ، وأنه يجوز فيه التبديل ، وأن
يختلط بالكذب الموضوع اختلاطا لا يتميز أبدا ، أخبرونا عن إكمال الله تعالى لنا
ديننا ورضاه الإسلام لنا دينا ومنعه من قبول كل دين سوى الإسلام. أكلّ ذلك باق
علينا ولنا وإلى يوم القيامة ، أم إنما كان ذلك للصحابة رضى الله عنهم فقط ، أو لا
للصحابة ولا لنا؟ ولا بد من أحد هذه الوجوه.
فإن قالوا لا للصحابة
ولا لنا ، كان قائل هذا القول كافر لتكذيبه الله جهارا وهذا لا يقوله مسلم ، وإن
قالوا بل كل ذلك باق لنا وعلينا وإلى يوم القيامة ، وصاروا إلى قولنا ضرورة ، وصح
أن شرائع الإسلام كلها كاملة والنعمة بذلك علينا تامة ، وإن دين الإسلام الذي
ألزمنا الله تعالى اتباعه ، لأنه هو الدين عنده متميز من غيره ، قد هدانا بفضله له
، وإنا على يقين أنه الحق ، وما عداه هو الباطل ، وهذا برهان ضروري قاطع على أن كل
ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الدين وفي بيان ما يلزمنا محفوظ لا يختلط به ما ليس منه
أبدا.
وإن قالوا : بل
كان ذلك للصحابة فقط ، قالوا الباطل ، وخصصوا خطاب الله بدعوى كاذبة ، إذ خطابه
تعالى بالآيات التي ذكرها عموم لكل مسلم في الأبد ، ولزمهم مع هذه العظيمة أن دين
الإسلام غير كامل عندنا ، والله تعالى رضي لنا منه ما لم يحفظه علينا وألزمنا منه
ما لا ندري أين نجده ، وافترض علينا اتباع ما كذبه الزنادقة والمستحقون ووضعوه على
لسان رسوله أو وهم فيه الواهمون مما لم يقله نبيهم صلىاللهعليهوسلم وهذا بيقين ليس هو دين الإسلام بل هو إبطال لدين الإسلام
جهارا ، ولو كان هذا (ومعاذ الله أن يكون) لكان ديننا كدين اليهود والنصارى الذين
أخبر الله تعالى أنهم كتبوا الكتاب بأيديهم وقالوا هذا من عند الله ، وما هو من
عند الله ، ونحن قد وثقنا بأن الله تعالى هو الصادق في قوله : (فَهَدَى اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا
اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ) (البقرة : ٢١٣)
وأنه تعالى قد هدانا للحق فصح يقينا أن كل ما قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم فقد هدانا تعالى له وأنه حق مقطوع به.
قال ابن حزم :
وقال بعضهم لما انقطعت به الأسباب : خبر الواحد يوجب علما ظاهرا.
قال : وهذا كلام
لا يعقل ، وما علمنا علما ظاهرا غير باطن ولا علما باطنا غير ظاهر ، بل كل علم
يتيقن فهو ظاهر لمن علمه وباطن في قلبه ، وكل ظن لم يتيقن فليس علما أصلا لا ظاهرا
ولا باطنا ، بل هو ضلال وشك وظن محرم القول به في دين الله.
ونقول لهم إذا كان
عندكم يمكن أن يكون كثير من دين الإسلام قد اختلط بالباطل فما يؤمنكم إذ ليس
محفوظا أن يكون كثير من الشرائع قد بطلت لأنه لم ينقلها أحد أصلا فإذا منعوا من
ذلك لزمهم المنع من اختلاطها بما ليس منها ، لأن ضمان حفظ الله تعالى يقتضي الأمان
من كل ذلك.
وأيضا فإنه لا يشك
أحد من المسلمين أن كل ما علمه رسول الله صلىاللهعليهوسلم علمه أمته من شرائع الدين واجبها وحرامها وحلالها ، فإنه
سنة الله تعالى وقد قال تعالى : (فَلَنْ تَجِدَ
لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً) (فاطر : ٤٠٣) وقال
تعالى (لا مُبَدِّلَ
لِكَلِماتِ اللهِ) (الأنعام : ٣٤) (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) (الكهف : ٢٧) فلو
جاز أن يكون ما نقله الثقات الذين افترض الله علينا قبول نقلهم والعمل به والقول
بأنه سنة الله وبيان نبيه ويمكن في شيء منه التحويل أو التبديل لكان إخبار الله
تعالى بأنه لا يوجد لها تبديل ولا تحويل كذبا ، وهذا لا يجيزه مسلم أصلا ، فصح
يقينا لا شك فيه أن كل سنة سنها الله عزوجل لرسوله وسنها رسوله لأمته ، فإنه لا يمكن في شيء منها
تبديل ولا تحويل أبدا ، وهذا يوجب أن نقل الثقات في الدين يوجب العلم بأنه حق كما
هو من عند الله عزوجل.
وأيضا فإنهم
مجمعون معنا على أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم معصوم من الله في البلاغ في الشريعة وعلى تكفير من قال ليس
معصوما في تبليغه إلينا ونقول لهم : أخبرونا عن الفضيلة بالعصمة التي جعلها الله
لرسوله صلىاللهعليهوسلم في تبليغه الشريعة التي بعث بها أهي له في إخباره الصحابة
بذلك فقط أم هي باقية لما أتى به عليه
الصلاة والسلام في
بلوغه إلينا وإلى يوم القيامة؟ فإن قالوا بل هي له مع من شاهده خاصة لا في بلوغ
الدين من بعدهم ، قلنا لهم إذا قد جوزتم بطلان العصمة في تبليغ الدين بعد موته ،
وجوزتم وجود الداخلة والفساد والبطلان والزيادة والنقصان والتحريف في الدين ، فمن
أين وقع لكم الفرق بين ما جوزتم من ذلك بعده وبين ما منعتم من ذلك في حياته ، فإن
قالوا لأنه يكون غير مبلغ لما أمروا به ولا معصوم والله تعالى يقول : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ
رَبِّكَ) (المائدة : ٦٧) (قيل)
نعم وهذا التبليغ المفترض عليه الذي هو معصوم فيه ـ بإجماعكم معنا ـ من الكذب
والوهم هو إلينا كما هو إلى الصحابة ولا فوق ، والدين لازم لنا كما هو لازم لهم
سواء ، فالعصمة واجبة في تبليغ للديانة باقية مضمونة ولا بد إلى يوم القيامة ،
والحجة قائمة بالدين علينا وإلى يوم القيامة كما كانت قائمة على الصحابة سواء ،
ومن أنكر هذا فقد قطع بأن الحجة علينا في الدين غير قائمة ، والحجة لا تقوم بما لا
يدرى أحق هو أم أكذب.
ثم نقول وكذلك
قوله تعالى : (إِنَّا نَحْنُ
نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ
دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ) (الحجر : ٩ ،
المائدة : ٣ ، آل عمران : ٨٥ ، البقرة : ٢٥٦) وإن ادعوا إجماعا ، قيل من الكرامية
من يقول إنه صلىاللهعليهوسلم غير معصوم في تبليغ الرسالة ، فإن قالوا ليس هؤلاء ممن يعد
في الإجماع (قلنا لهم) صدقتم ولا يعد في الإجماع من قال إن الدين غير محفوظ ، وإن
كثيرا من الشرائع التي أنزل الله تعالى قد بطلت واختلطت بالباطل الموضوع والموهوم
فيه اختلاطا لا يتميز به الرشد من الغي ، ولا دين الله تعالى من دين إبليس.
(وإن قالوا) إن
الفضيلة بعصمة ما أتى به النبي صلىاللهعليهوسلم من الدين باقية إلى يوم القيامة ، صاروا إلى الحق الذي هو
قولنا ولله الحمد.
(فإن قيل) إن صفة
كل مخبر وطبيعته أن خبره يجوز فيه الصدق والكذب والخطأ ، وقولكم بأن خبر الواحد
العدل في الشريعة يوجب العلم إحالة الطبيعة وخرق العادة فيه.
(قلنا) لا ينكر من
الله تعالى إحالة ما شاء من الطبائع إذا صح البرهان به ،
فالعجب من إنكاركم
هذا مع قولكم به بعينه في إيجابكم عصمة النبي صلىاللهعليهوسلم من الكذب والوهم في تبليغه الشريعة ، وهذا هو الذي أنكرتم
بعينه ، بل لم تقنعوا بالتناقض إذا أصبتم في ذلك وأخطأتم في منعكم من ذلك في خبر
الواحد العدل حتى أتيتم بالباطل المحض ، إذ جوزتم على جميع الأمم موافقة الخطأ في
إجماعها في رأيها ، وذلك طبيعة في الكل وصفة لهم ، ومنعتم من جواز الخطأ والوهم
على ما ادعيتموه من إجماع الأمة من المسلمين خاصة في اجتهادها في القياس ، وحاش
لله أن تجتمع الأمة على الباطل والقياس عين الباطل. فخرقتم بذلك العادة وأحلتم
الطبائع بلا برهان ولا سيما إذا كان المخالف لنا من المرجئة القاطعين بأنه لا يمكن
أن يكون يهودي ولا نصراني يعرف بقلبه أن الله تعالى حق ، فإن هؤلاء أحالوا الطبائع
بلا برهان ومنعوا من إحالتها إذا قام البرهان بإحالتها.
فإن قالوا إنه
يلزمكم أن تقولوا إن نقلة الأخبار التي قالها رسول الله صلىاللهعليهوسلم معصومون في نقلها وإن كل واحد معصوم في نقله من تعمد الكذب
ووقوع الوهم منه.
(قلنا لهم) نعم
هكذا نقول وبه نقطع ، وكل عدل روى خبرا قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في الدين فذلك الراوي معصوم فيه من تعمد الكذب ، ومقطوع
بذلك عند الله ، ومن جواز الوهم فيه إلا ببيان وارد ولا بد من الله ببيان ما وهم
فيه كما فعل سبحانه بنبيه صلىاللهعليهوسلم إذ سلّم من ركعتين ومن ثلاث واهما لقيام البراهين التي
قدمنا من حفظ جميع الشريعة مما ليس منها (قلت) وهذا الذي قاله أبو محمد حق في
الخبر الذي تلقته الأمة بالقبول عملا واعتقادا دون الغريب الذي لم يعرف تلقي الأمة
له بالقبول.
(قال ابن حزم) فإن
قالوا قد تعبدنا الله سبحانه بحسن الظن به وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم إن الله تعالى يقول : «أنا عند ظن عبد بي فليظن بي خيرا» .
__________________
(قلنا) ليس هذا من
الحكم في الدين بالظن في شيء بل كله باب واحد لأنه تعالى حرم علينا أن نقول عليه
في الدين بالتحريم والإباحة والإيجاب ما لا نعلم ، وبين لنا كل ما لزمنا من ذلك ،
فوجب القطع بكل ذلك كما وجب القطع بتخليد الكفار في النار ، وتخليد المؤمنين في
الجنة ، ولا فرق ، ولم يجز القول بالظن في شيء من ذلك كله.
فإن قالوا أنتم
تقولون إن الله تعالى أمرنا بالحكم بم شهد به العدل مع يمين الطالب وبما شهد به
العدلان فصاعدا ، وبما حلف عليه المدعى عليه إذ لم يقم المدعى بينه في إباحة
الدماء والفروج والأبشار والأموال المحرمة ، وكل ذلك بإقرارهم ممكن أن يكون في
باطن الأمر بخلاف ما شهد به الشاهد وحلف عليه الحالف ، وهذا هو الحكم بالظن الذي
أنكرتم علينا قوله في خبر الواحد.
قلنا لهم وبالله
التوفيق : بين الأمرين فروق واضحة كالشمس (أحدها) أن الله تعالى قد تكفل بحفظ الدين وإكماله وتبيينه من الغي
ومما ليس منه ، ولم يتكفل تعالى بحفظ دمائنا ولا بحفظ فروجنا ولا بحفظ أبشارنا
وأموالنا في الدنيا ، بل قدر كثيرا من ذلك يؤخذ بغير حق في الدنيا ، وقد نص على
ذلك رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذ يقول : «إنكم تختصمون إلي وإنما أنا بشر ، ولعل
أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له بشيء من
حق أخيه فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار» ، وبقوله للمتلاعنين «إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما
تائب» .
(والفرق الثاني)
أن حكمنا بشهادة الشاهد ويمين الحالف ليس حكما بالظن كما زعموا بل نحن نقطع لهم
بأن الله تعالى افترض علينا الحكم بيمين الطالب مع الشهادة العدل وبيمين المدعى
عليه إذا لم تقم بينة وشهادة العدل والعدلين والعدول عندنا وإن كانوا في باطن
الأمر كاذبين أو واهمين ، فالحكم بكل ذلك حق عند الله تعالى وعندنا مقطوع على
غيبه.
__________________
برهان ذلك أن
حاكما لو تحاكم إليه اثنان ولا بينة للمدعي فلم يحكم للمدعى عليه باليمين ، أو شهد
عنده عدلان فلم يحكم بشهادتهما فإن ذلك الحاكم فاسق عاص لله تعالى ظالم ، سواء كان
المدعى عليه مبطلا في إنكاره أو محقا أو كان الشهود كذبة أو واهمين أو صادقين إذا
لم يعلم باطن أمرهم ، ونحن مأمورون يقينا بأمر الله تعالى لنا أن نقتل هذا البريء
المشهود عليه بالباطل ، وأن نبيح هذا الفرج الحرام المشهود فيه بالكذب ، وأن نبيح
هذه البشرة المحرمة وهذا المال الحرام المشهود فيه بالباطل ، وحرم على المبطل أن
يأخذ شيئا من ذلك ، وقضى تعالى بأننا إن لم نحكم بذلك فساق عصاة له ، ظلمة متوعدون
بالنار على ذلك ، وما أمرنا أن نحكم في الدين بخبر وضعفه فاسق أو وهم فيه واهم
فهذا فرق في غاية البيان.
(وفرق ثالث) وهو
أن الله تعالى فرض علينا أن نقول في جميع الشريعة قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا ، وأمرنا الله تعالى بكذا ، لأنه تعالى يقول : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (النساء : ٥٩ ،
الحشر : ٧) ففرض علينا أن نقول : نهانا الله ورسوله عن كذا وكذا ، وأمرنا بكذا ،
ولم يأمرنا قط أن نقول : شهد هذا الشاهد بحق ولا حلف هذا الحالف على حق ، ولا أن
هذا الذي قضينا به لهذا حق يقينا ، ولكن الله قال : احكموا بشهادة العدل ، ويمين
المدعى عليه إذا لم تقم عليه بينة ، وهذا فرق لا خفاء به ، فلم نحكم بالظن في شيء
من ذلك أصلا ولله الحمد بل بعلم قاطع فإذا قالوا إنما قال الله تعالى : (إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) (الحجرات : ١٢)
ولم يقل كل الظن إثم (قلنا) قد بين الله تعالى لنا الإثم من البر ، وبين أن القول
عليه بما لا يعلم حرام ، فهذا من الظن الذي هو إثم بلا شك.
قال ابن حزم : فلجأت
المعتزلة إلى الامتناع من الحكم بخبر الواحد للدلائل التي ذكرناها ، وظنوا أنهم
يتخلصوا بذلك ، ولم يتخلصوا ، بل كل ما لزم غيرهم مما ذكرنا فهو لازم لهم ، وذلك
إنا نقول : أخبرونا عن الأخبار التي رواها ، الآحاد ، أهي كلها حق إذا جاءت من
رواية الثقات خاصة أم كلها باطل. أم فيها حق وباطل؟ فإن قالوا فيها حق وباطل ،
وذلك قولهم.
قلنا لهم : فهل
يجوز أن تبطل شريعة أوحى الله تعالى فيها إلى نبيه حتى تختلط بكذب وضعه فاسق فنسبه
إلى رسول الله صلىاللهعليهوسلم أو وهم فيه واهم فيختلط الحق المأمور به مع الباطل المختلق
اختلاطا لا يتميز به الحق من الباطل أبدا لأحد من الناس وهل الشرائع الإسلامية
كلها محفوظة لازمه لنا ، أم هي غير محفوظة ولا كلها لازم لنا ، بل قد سقط منها بعد
رسول الله صلىاللهعليهوسلم كثير ، وهل قامت الحجة علينا لله تعالى فيما افترض علينا
من الشرائع بأنها بينة لنا متميزة مما لم يأمرنا به ، أم لم تقم لله تعالى علينا
حجة في الدين ، لأن كثيرا منه مختلط بالكذب غير متميز منه أبدا.
فإن أجازوا اختلاط
شرائع الدين التي أوحى الله تعالى بها إلى نبيه بما ليس من الدين وقالوا لم يقم
الله علينا حجة فيما أمرنا به ، دخل عليهم من القول بفساد الشريعة وذهاب الإسلام
وبطلان ضمان الله لحفظ الذكر ، كالذي دخل على غيرهم ولزمهم أنهم تركوا كثيرا من
الدين الصحيح كما لزم غيرهم أنهم يعملون بما ليس من الدين ، وأن النبي صلىاللهعليهوسلم قد بطل بيانه وأن حجة الله بذلك لم تقم علينا ، وإن لجئوا
إلى الاقتصار على خبر التواتر لم ينفكوا بذلك من أن كثيرا من الدين قد بطل
لاختلاطه بالكذب الموضوع وبالموهوم فيه ، ومن جواز أن يكون كثير من شرائع الإسلام
لم ينقل إلينا ، إذ قد بطل ضمان حفظ الله فيها.
وأيضا : فإنه لا
يعجز أحد أن يدعي في أي خبر شاء أنه منقول نقل التواتر بل أصحاب الإسناد أصح دعوى
في ذلك لشهادة كثرة الرواة وتغاير الأسانيد لهم بصحة قولهم في نقل التواتر ، فإن
لجأ لاجئ إلى أن يقول بأن كل خبر جاء من طريق الآحاد الثقات إنه كذب موضوع ليس منه
شيء قاله رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهذه مجاهرة ظاهرة ، ومدافعة لما يعلم بالضرورة خلافه ،
وتكذيب لجميع الصحابة ولجميع فضلاء التابعين ، ولكل إنسان من علماء المسلمين جيلا
بعد جيل لأن كل من ذكرنا رووا الأخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلا شك واحتج بها بعضهم على بعض ، وعملوا بها ، وأفتوا بها
في دين الله ، وهذا اطراح للإجماع المتيقن وباطل لا تختلف النفوس فيه ، لأن
بالضرورة يعلم أنه لا يمكن أن يكون كل من ذكرنا لم يصدق في كلمة بل كلهم كذبوا
ووضعوا كل ما رووا.
وأيضا ففيه إبطال
لأكثر الشرائع التي لا يشك مسلم ولا غير مسلم في أنها ليس في القرآن مبينة كالصلاة
والزكاة والحج وغير ذلك ، وأنا إنما تلقيناها من كلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
فهذه ثلاثة أقوال
كما ترى لا رابع لها إما أن يكون كل خبر نقله العدل عن العدل مبلغا به النبي صلىاللهعليهوسلم كذبا كلها أولها عن آخرها ، أو يكون فيها حق وباطل إلا أنه
لا سبيل لنا إلى تمييز الحق من الباطل أبدا ، وهذا تكذيب لله في إخباره بحفظ الذكر
المنزل بإكماله لنا الدين ، وبأنه لا يقبل منا إلا دين الإسلام لا شيء ولا سواه ،
وفيه أيضا إفساد الدين واختلاطه بما لم يأمر الله به ولا سبيل لأحد في العالم أن
يعرف ما أمر الله به في دينه مما لم يأمر به أبدا ، وأن حقيقة الإسلام قد بطلت
بيقين ، وهذا انسلاخ ، من الإسلام ، أو أنها كلها حق مقطوع على غيبها عند الله
تعالى موجبة كلها العلم بإخبار الله بأنه حافظ لما أنزل من الذكر ولتحريمه تعالى
الحكم في الدين بالظن والقول عليه بما لا علم لنا ، ولإخباره تعالى أنه قد تبين
الرشد من الغي ، وليس الرشد إلا ما أنزله الله تعالى على لسان نبيه صلىاللهعليهوسلم وفي فعله ، وليس الغي إلا ما لم ينزله الله تعالى عن لسان
نبيه. وهذا قولنا انتهى كلامه.
* * *
فصل
(الأدلة على أن خبر الواحد العدل يفيد العلم)
ومما يبين أن خبر الواحد
العدل يفيد العلم أدلة كثيرة :
(أحدها)
أن المسلمين لما
أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح أن القبلة قد حولت إلى الكعبة قبلوا خبره
وتركوا الحجة التي كانوا عليها واستداروا إلى القبلة ، ولم ينكر عليهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، بل شكروا على ذلك وكانوا على أمر مقطوع به من القبلة
الأولى ، فلو لا حصول العلم لهم بخبر الواحد لم يتركوا المقطوع به المعلوم لخبر لا
يفيد العلم ، وغاية ما يقال فيه أنه خبر اقترنته قرينة ،
وكثير منهم يقول :
لا يفيد العلم بقرينة ولا غيرها ، وهذا في غاية المكابرة ومعلوم أن قرينة تلقي
الأمة له بالقبول وروايته قرنا بعد قرن من غير نكير من أقوى القرائن وأظهرها فأي
قرينة فرضتها كانت تلك أقوى منها.
الدليل
الثاني : أن الله تعالى قال
: (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) (الحجرات : ٦) وفي
القراءة الأخرى (فتثبتوا) ، وهذا يدل على الجزم بقبول خبر الواحد أنه لا يحتاج إلى
التثبيت ، ولو كان خبره لا يفيد العلم لأمر بالتثبيت حتى يحصل العلم ومما يدل عليه
أيضا أن السلف الصالح وأئمة الإسلام لم يزالوا يقولون : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا وفعل كذا ، وأمر بكذا ونهى عن كذا ، وهذا معلوم في
كلامهم بالضرورة.
وفي «صحيح البخاري»
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم في عدة مواضع وكثير من أحاديث الصحابة يقول فيها أحدهم قال
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وإنما سمعه من صحابي غيره ، وهذه شهادة من القائل وجزم
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بما نسبه إليه من قول أو فعل ، فلو كان خبر الواحد لا يفيد
العلم لكان شاهدا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم بغير علم.
الدليل
الثالث : إن أهل العلم
بالحديث لم يزالوا يقولون صح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وذلك جزم منهم بأنه قاله ، ولم يكن مرادهم ما قاله بعض
المتأخرين إن المراد بالصحة صحة السند لا صحة المتن ، بل هذا مراد من زعم أن
أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تفيد العلم وإنما كان مرادهم صحة الإضافة إليه ، وأنه
قال كما كانوا يجزمون بقولهم قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأمر ونهى وفعل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وحيث كان يقع لهم الوهم في ذلك يقولون يذكر عن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم ويروى عنه ونحو ذلك ، ومن له خبرة بالحديث يفرق بين قول
أحدهم هذا الحديث الصحيح ، وبين قوله إسناده صحيح فالأول جزم بصحة نسبته إلى رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، والثاني شهادة بصحة سنده ، وقد يكون فيه علة أو شذوذ
فيكون سنده صحيحا ولا يحكمون أنه صحيح في نفسه.
الدليل
الرابع : قوله تعالى : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا
فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ
يَحْذَرُونَ) (التوبة : ١٢٢)
والطائفة تقع على الواحد فما فوقه ، فأخبر أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم
، والإنذار : الإعلام بما يفيد العلم ، وقوله (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) نظير قولهم في آياته المتلوة والمشهودة (لعلهم يتفكرون) (لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَعَلَّهُمْ
يَهْتَدُونَ) (الأعراف : ١٧٦ ،
يوسف : ٤٦ ، الأنبياء : ٣١) وهو سبحانه إنما يذكر ذلك فيما يحصل العلم لا فيما لا
يفيد العلم.
الدليل
الخامس : قوله : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء : ٣٦) أي
لا تتبعه ولا تعمل به ، ولم يزل المسلمون من عهد الصحابة يقفون أخبار الآحاد
ويعملون بها ويثبتون لله تعالى بها الصفات ، فلو كانت لا تفيد علما لكان الصحابة
والتابعون وتابعوهم وأئمة الإسلام كلهم قد قفوا ما ليس لهم به علم.
الدليل
السادس : قوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ
كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (النحل : ٤٣ ،
الأنبياء : ٧) فأمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر وهم أولو الكتاب والعلم ، ولو لا
أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من لا يفيد خبره علما ، وهو سبحانه لم يقل
سلوا عدد التواتر بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقا ، فلو كان واحد لكان سؤاله وجوابه
كافيا.
الدليل
السابع : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما
أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (المائدة : ٦٧)
وقال (ما عَلَى الرَّسُولِ
إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) (النور : ٥٤) وقال
النبي صلىاللهعليهوسلم : «بلغوا عني» وقال لأصحابه في الجمع الأعظم يوم عرفة «أنتم مسئولون عني فما
ذا أنتم قائلون؟ قالوا نشهد إنك بلغت وأديت ونصحت» ومعلوم أن البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ ويحصل
به العلم ، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة
الله على العبد ، فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم.
وقد كان رسول الله
صلىاللهعليهوسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه فتقوم الحجة على من بلغه ،
وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله وأفعاله
وسنته ، ولو لم
يفد العلم لم تقم علينا بذلك حجة ، ولا على من بلغه واحد أو اثنان أو ثلاثة أو
أربعة أو دون عدد التواتر ، وهذا من أبطل الباطل.
فيلزم من قال إن
أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تفيد العلم أحد أمرين : إما أن يقول إن الرسول لم يبلغ
غير القرآن وما رواه عنه عدد التواتر ، وما سوى ذلك لم تقم به حجة ولا تبليغ ،
وإما أن يقول إن الحجة والبلاغ حاصلان بما لا يوجب علما ولا يقتضي عملا ، وإذا بطل
هذان الأمران بطل القول بأن أخباره صلىاللهعليهوسلم التي رواها الثقات العدول الحفاظ وتلقتها الأمة بالقبول لا
تفيد علما ، وهذا ظاهر لا خفاء به.
الدليل
الثامن : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة : ١٤٣)
وقوله : (وَفِي هذا لِيَكُونَ
الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) (الحج : ٧٨) وجه
الاستدلال أنه تعالى أخبر أنه جعل هذه الأمة عدولا خيارا ليشهدوا على الناس بأن
رسلهم قد بلغوهم عن الله رسالته وأدوا عليهم ذلك ، وهذا يتناول شهادتهم على الأمم
الماضية وشهادتهم على أهل عصرهم ومن بعدهم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمرهم بكذا ونهاهم عن كذا ، فهم حجة الله على من خالف رسول
الله ، وزعم أنه لم يأتهم من الله ما تقوم به عليه الحجة ، وتشهد هذه الأمة الوسط
عليه بأن حجة الله بالرسل قامت عليه ، ويشهد كل واحد بانفراده بما وصل إليه من
العلم الذي كان به من أهل الشهادة ، فلو كانت أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تفيد العلم لم يشهد به الشاهد ولم تقم به الحجة على
المشهود عليه.
الدليل
التاسع : قوله تعالى : (وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ
دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (الزخرف : ٨٦)
وهذه الأخبار التي رواها الثقات الحفاظ عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إما أن تكون حقا أو باطلا أو مشكوكا فيها ، لا يدرى هل هي
حق أو باطل. فإن كانت باطلا أو مشكوكا فيها وجب
اطراحها وأن لا
يلتفت إليها ، وهذا انسلاخ من الإسلام بالكلية. وإن كانت حقا فيجب الشهادة بها على
البت أنها عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وكان الشاهد بذلك شاهد بالحق وهو يعلم صحة المشهود به.
الدليل
العاشر : قول النبي صلىاللهعليهوسلم على مثلها «فاشهدوا» أشار إلى الشمس ، ولم يزل الصحابة
والتابعون وأئمة الحديث يشهدون عليه صلىاللهعليهوسلم على القطع أنه قال كذا وأمر به ونهى عنه وفعله لما بلغهم
إياه الواحد والاثنان والثلاثة فيقولون : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم كذا ، وحرم كذا وأباح كذا ، وهذه شهادة جازمة يعلمون أن
المشهود به كالشمس في الوضوح ، ولا ريب أن كل من له التفات إلى سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم واعتناء بها يشهد شهادة جازمة أن المؤمنين يرون ربهم عيانا
يوم القيامة ، وأن قوما من أهل التوحيد يدخلون النار ثم يخرجون منها بالشفاعة ،
وأن الصراط حق ، وتكليم الله لعباده يوم القيامة كذلك ، وأن الولاء لمن أعتق ، إلى
أضعاف أضعاف ذلك ، بل يشهد بكل خير صحيح متلقى بالقبول لم ينكره أهل الحديث شهادة
لا يشك فيها.
الدليل
الحادي عشر : إن هؤلاء المنكرون لإفادة أخبار النبي صلىاللهعليهوسلم العلم يشهدون شهادة جازمة قاطعة على أئمتهم بمذاهبهم
وأقوالهم أنهم قالوا ، ولو قيل إنها لم تصح عنهم لأنكروا ذلك غاية الإنكار ،
وتعجبوا من جهل قائله ، ومعلوم أن تلك المذاهب لم يروها عنهم إلا الواحد والاثنان
والثلاثة ونحوهم ، لم يروها عنهم عدد التواتر ، وهذا معلوم يقينا.
فكيف يحصل لهم العلم
الضروري والمقارب للضروري بأن أئمتهم ومن قلدوهم دينهم أفتوا بكذا وذهبوا إلى كذا
، ولم يحصل لهم بما أخبر به أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسائر الصحابة عن رسول
الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا بما رواه عنهم التابعون وشاع في الأمة وذاع ، وتعددت
طرقه وتنوعت ، وكان حرصه عليه أعظم بكثير من حرص أولئك على أقوال متبوعيهم؟ إن هذا
لهو العجب العجاب.
وهذا وإن لم يكن
نفسه دليلا يلزمهم أحد أمرين : إما أن يقولوا أخبار رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وفتاواه وأقضيته تفيد العلم ، وإما أن يقولوا إنهم لا علم
لهم بصحة شيء مما نقل عن أئمتهم ، وأن النقول عنهم لا تفيد علما وأما أن يكون ذلك
مفيدا للعلم بحصته عن أئمتهم دون المنقول عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو من أبين الباطل.
الدليل
الثاني عشر : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما
يُحْيِيكُمْ) (الأنفال : ٢٤)
ووجه الاستدلال أن هذا أمر لكل مؤمن بلغته دعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة. ودعوته نوعان : مواجهة ونوع بواسطة
المبلغ وهو مأمور بإجابة الدعوتين في الحالتين ، وقد علم أن حياته في تلك الدعوة
والاستجابة لها ، ومن الممتنع أن يأمره الله تعالى بالإجابة لما لا يفيد علما ، أو
يحييه بما لا يفيد علما ، أو يتوعده على ترك الاستجابة لما لا يفيد علما بأنه إن
لم يفعل عاقبه ، وحال بينه وبين قلبه.
الدليل
الثالث عشر : قوله تعالى : (فَلْيَحْذَرِ
الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ
عَذابٌ أَلِيمٌ) (النور : ٦٣) وهذا
يعم كل مخالف بلغه أمره صلىاللهعليهوسلم إلى يوم القيامة ، ولو كان ما بلغه لم يفده علما لما كان
متعرضا بمخالفة أمره للفتنة والعذاب الأليم ، فإن هذا إنما يكون بعد قيام الحجة
القاطعة التي لا يبقى معها لمخالف أمره عذر.
الدليل
الرابع عشر : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) إلى قوله : (وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (النساء : ٥٩)
ووجه الاستدلال أنه أمر أن يرد ما تنازع فيه المسلمون إلى الله ورسوله ، والرد إلى
الله هو الرد إلى كتابه ، والرد إلى رسوله هو الرد إليه في حياته وإلى سنته بعد
وفاته. فلو لا أن المردود إليه يفيد العلم وفصل النزاع لم يكن في الرد إليه فائدة
، إذ كيف يرد حكم المتنازع فيه إلى ما لا يفيد علما البتة ولا يدرى حق هو أم باطل؟
وهذا برهان قاطع بحمد الله ، فلهذا قال من زعم أن أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا تفيد علما ؛ إنا نرد ما تنازعنا فيه إلى العقول والآراء
والأقيسة فإنها تفيد العلم.
الدليل
الخامس عشر : قوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ
بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ
أَهْواءَهُمْ
وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكَ) إلى قوله : (أَفَحُكْمَ
الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْماً لِقَوْمٍ
يُوقِنُونَ) (المائدة : ٤٩)
ووجه الاستدلال أن كل ما حكم به رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو ما أنزل الله ، وهو ذكر من الله أنزله على رسوله ، وقد
تكفل سبحانه بحفظه ، فلو جاز على حكمه الكذب والغلط والسهو من الرواة ولم يقم دليل
على غلطه وسهو ناقله لسقط حكم ضمان الله وكفالته لحفظه ، وهذا من أعظم الباطل ،
ونحن لا ندعي عصمة الرواة ، بل نقول : إن الراوي إذا كذب أو غلط أو سها فلا بد أن
يقوم دليل على ذلك ولا بد أن يكون في الأمة من يعرف كذبه وغلطه ليتم حفظه لحججه
وأدلته ، ولا تلتبس بما ليس منها ، فإنه من حكم الجاهلية ، بخلاف من زعم أنه يجوز
أن تكون كل هذه الأخبار والأحكام المنقولة إلينا آحادا كذبا على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وغايتها أن تكون كما قاله من لا علم عنده ، إن نظن إلا
ظنا ، وما نحن بمستيقنين.
الدليل
السادس عشر : ما احتج به الشافعي نفسه فقال : أخبرنا سفيان عن عبد الملك بن عمير عن أبيه عن
عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «نضر
الله ، عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها ، فرب حامل فقه إلى غير فقيه ، ورب
حامل فقه إلى من هو أفقه منه ، ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله
والنصيحة للمسلمين ، ولزوم جماعتهم ، فإن دعوتهم تحيط من ورائهم» .
قال الشافعي :
فلما ندب رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى استماع مقالته وحفظها وأدائها أمر أن يؤديها ولو واحد
، دل على أنه لا يأمر من يؤدي عنه إلا ما تقوم به الحجة على من أدى إليه ، لأنه
إنما يؤدي عنه حلال يؤتى ، وحرام يجتنب ، وحد يقام ، ومال يؤخذ ويعطى ، ونصيحة في
دين ودنيا ، ودل على أنه قد يحمل
__________________
الفقه غير الفقيه
يكون له حافظا ولا يكون فيه فقيها وأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بلزوم جماعة المسلمين مما يحتج به في إجماع المسلمين لازم.
انتهى.
والمقصود أن خبر
الواحد العدل لو لم يفد علما لأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن لا يقبل منه أدى إليه إلا من عدد التواتر الذي لا يحصل
العلم إلا بخبرهم ، ولم يدع للحامل المؤدي وإن كان واحدا ، لأن ما حمله لا يفيد
العلم ، فلم يفعل ما يستحق الدعاء وحده إلا بانضمامه إلى أهل التواتر ، وهذا خلاف
ما اقتضاه الحديث. ومعلوم أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم إنما ندب إلى ذلك وحث عليه وأمر به لتقوم الحجة على من أدى
إليه. فلو لم يفد العلم لم يكن فيه حجة.
الدليل
السابع عشر : حديث أبي رافع الصحيح عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «لا
ألفين أحدا منكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري يقول : لا ندري ما هذا ،
بيننا وبينكم القرآن ، ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه» ووجه الاستدلال أن هذا نهي عام لكل من بلغه حديث صحيح عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم أن يخالفه أو يقول لا أقبل إلا القرآن ، بل هو أمر لازم ،
وفرض حتم بقبول أخباره وسننه ، وإعلام منه صلىاللهعليهوسلم أنها من الله أوحاها إليه ، فلو لم تفد علما لقال : من
بلغته إنها أخبار آحاد لا تفيد علما فلا يلزمني قبول ما لا علم لي بصحته ، والله
تعالى لم يكلفني العلم بما لم أعلم صحته ولا اعتقاده ، بل هذا بعينه هو الذي حذر
منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمته ونهاها عنه ، ولما علم أن في الأمة من يقوله حذرهم
منه ، فإن القائل إن أخباره لا تفيد العلم هكذا يقول سواه لا ندري ما هذه الأحاديث
، وكان سلف هؤلاء يقولون بيننا وبينكم القرآن وخلفهم يقولون بيننا وبينكم أدلة
العقول وقد صرحوا بذلك وقالوا : نقدم العقول على هذه الأحاديث ، آحادها ومتواترها
، ونقدم الأقيسة عليها.
الدليل
الثامن عشر : ما رواه مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس بن مالك قال : كنت أسقي
أبا عبيدة بن الجراح وأبا طلحة الأنصاري وأبيّ
__________________
ابن كعب شرابا من
فضيخ ، فجاءهم آت فقال : إن الخمر قد حرمت ، فقال أبو طلحة : قم يا أنس إلى هذه
الجرار فاكسرها ، فقمت إلى مهراس لنا فضربتها بأسفلها حتى كسرتها ، ووجه الاستدلال أن أبا طلحة أقدم على قبول خبر التحريم
حيث ثبت به التحريم لما كان حلالا ، وهو يمكنه أن يسمع من رسول الله صلىاللهعليهوسلم شفاها ، وأكد ذلك القبول بإتلاف الإناء وما فيه ، وهو مال
، وما كان ليقدم على إتلاف المال بخبر من لا يفيده خبره العلم عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورسول الله صلىاللهعليهوسلم إلى جنبه ، فقام خبر ذلك الآتي عنده وعند من معه مقام
السماع من رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحيث لم يشكوا ولم يرتابوا في صدقه ، والمتكلفون يقولون إن
مثل ذلك الخبر لا يفيد العلم لا بقرينة ولا بغير قرينة.
الدليل
التاسع عشر : إن خبر الواحد لو لم يفد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل والتحريم والإباحة
والفروض ، ويجعل ذلك دينا يدان به في الأرض إلى آخر الدهر. فهذا الصديق رضي الله
عنه زاد في الفروض التي في القرآن فرض الجدة وجعله شريعة مستمرة إلى يوم القيامة
بخبر محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة فقط ، وجعل حكم ذلك الخبر في إثبات هذا الفرض
حكم نص القرآن في إثبات فرض الأم ، ثم اتفق الصحابة والمسلمون بعدهم على إثباته
بخبر الواحد. وأثبت عمر بن الخطاب بخبر حمل ابن مالك دية الجنين وجعلها فرضا لازما
للأمة ، وأثبت ميراث المرأة من دية زوجها بخبر الضحاك بن سفيان الكلابي وحده ،
وصار ذلك شرعا مستمرا إلى يوم القيامة. وأثبت شريعة عامة في حق المجوس بخبر عبد
الرحمن بن عوف وحده ، وأثبت عثمان بن عفان شريعة عامة في سكنى المتوفى عنها بخبر
فريعة بنت مالك وحدها ، وهذا أكثر من أن يذكر ، بل هو إجماع معلوم منهم ، ولا يقال
على هذا إنما يدل على العمل بخبر الواحد في الظنيات ونحن لا ننكر ذلك لأنا قد
قدمنا أنهم أجمعوا على قبوله والعلم
__________________
بموجبه ، ولو جاز
أن يكون كذبا أو غلطا في نفس الأمر لكانت الأمة مجمعة على قبول الخطأ والعمل به ،
وهذا قدح في الدين والأمة.
الدليل
العشرون : إن الرسل صلوات الله
وسلامه عليهم كانوا يقبلون خبر الواحد ويقطعون بمضمونه ، فقبله موسى من الذي جاء
من أقصى المدينة قائلا له إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك ، فجزم بخبره وخرج هاربا من
المدينة ، وقبل خبر بنت صاحب مدين لما قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا
وقبل خبر أبيها في قوله : هذه ابنتي وتزوجها بخبره.
وقبل يوسف الصديق
خبر الرسول الذي جاءه من عند الملك وقال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة.
وقبل النبي صلىاللهعليهوسلم خبر الآحاد الذين كانوا يخبرونه بنقض عهد المعاهدين له
وغزاهم بخبرهم واستباح دماءهم وأموالهم وسبى ذراريهم ، ورسل الله صلواته وسلامه
عليهم لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها ، وهم يجوزون أن تكون كذبا وغلطا ، وكذلك
الأمة لم تثبت الشرائع العامة الكلية بأخبار الآحاد ، وهم يجوزون أن يكون كذبا على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم في نفس الأمر ، ولم يخبروا عن الرب تبارك وتعالى في أسمائه
وصفاته وأفعاله بما لا علم لهم به ، بل يجوز أن يكون كذبا وخطا في نفس الأمر ، هذا
مما يقطع ببطلانه كل عالم مستبصر.
الدليل
الحادي والعشرون : إن خبر العدل الواحد المتلقى بالقبول لو لم يفد العلم لم تجز الشهادة على الله
ورسوله بمضمونه ، ومن المعلوم المتيقن أن الأمة من عهد الصحابة إلى الآن لم تزل
تشهد على الله وعلى رسوله بمضمون هذه الأخبار جازمين بالشهادة في تصانيفهم وخطابهم
، فيقولون شرع الله كذا وكذا على لسان رسول الله صلىاللهعليهوسلم فلو لم يكونوا عالمين بصدق تلك الأخبار جازمين بها لكانوا
قد شهدوا بغير علم وكانت شهادة الزور من سادات الأمة وعلمائها.
قال أبو عمرو بن
الصلاح : وقد ذكر الحديث الصحيح المتلقى بالقبول المتفق على صحته : وهذا القسم
جميعه مقطوع بصحته ، والعلم اليقيني النظري واقع به ، خلافا لقول من نفى ذلك محتجا
بأنه لا يفيد إلا الظن ، وإنما تلقته الأمة بالقبول لأنه يجب عليهم العمل بالظن ،
والظن قد يخطئ.
قال : وقد كنت
أميل إلى هذه وأحسبه قويا ثم بان لي أن المذهب الذي اخترناه هو الصحيح ، لأن الظن
من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ ، والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ ، ولهذا كان
الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعا بها ، وأكثر إجماعات العلماء كذلك وهذه
نكتة نفيسة نافعة.
* * *
فصل
وقال إمام عصره
المجمع على إمامته أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني في كتاب «الانتصار» له وهذا
لفظه :
ونشتغل الآن
بالجواب عن قولهم فيما سبق : أن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم وهذا رأي
سمعت به المبتدعة في رد الأخبار فنقول وبالله التوفيق :
إذا صح الخبر عن
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ورواه الثقات والأئمة وأسنده خلفهم عن سلفهم إلى النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتلقته الأمة بالقبول ، فإنه يوجب العلم فيما سبيله
العلم ، هذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة.
وأما هذا القول
الذي يذكر أن خبر الواحد لا يفيد العلم بحال فلا بد من نقله بطريق التواتر لوقوع
العلم به حتى أخبر عنه القدرية والمعتزلة ، وكان قصدهم منه رد الأخبار ، وتلقفه
منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت ، ولم ، يقفوا على مقصودهم
من هذا القول ، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم
، فإنك تراهم مع اختلافهم في طرائقهم وعقائدهم يستدل كل فريق منهم على صحة ما يذهب
إليه بالخبر الواحد : ترى أصحاب القدر يستدلون بقوله صلىاللهعليهوسلم «كل مولود يولد على
الفطرة» وبقوله «خلقت
عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم»
__________________
وترى أهل الإرجاء
يستدلون بقوله : «من
قال لا إله إلا الله دخل الجنة ـ قيل : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق» وترى الرافضة يحتجون بقوله صلىاللهعليهوسلم «يجاء بقوم من أصحابي
فيقال إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك إنهم لم يزالوا مرتدين على أعقابهم» وترى الخوارج يستدلون بقوله صلىاللهعليهوسلم : «سباب
المسلم فسوق وقتاله كفر» وبقوله : «لا
يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» .
إلى غير ذلك من
الأحاديث التي يستدل بها أهل الفرق ، ومشهور معلوم استدلال أهل السنة بالأحاديث
ورجوعهم إليها ، فهذا إجماع منهم على القول بأخبار الآحاد ، وكذلك أجمع أهل
الإسلام متقدموهم ومتأخروهم على رواية الأحاديث في صفات الله تعالى ، وفي مسائل
القدر والرؤية ، وأصول الإيمان ، والشفاعة ، والحوض ، وإخراج الموحدين من المذنبين
من النار ، وفي صفة الجنة والنار ، وفي الترغيب والترهيب ، والوعد والوعيد ، وفي
فضائل النبي صلىاللهعليهوسلم ، ومناقب أصحابه وأخبار الأنبياء المتقدمين ، وأخبار
الرقاق ، وغيرها ما يكثر ذكره.
وهذه الأشياء
علمية لا عملية ، وإنما تروى لوقوع العلم للسامع بها ، فإذا قلنا خبر الواحد لا
يجوز أن يوجب العلم ، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ وجعلناهم
لاغين هازلين مشتغلين بما لا يفيد أحدا شيئا ولا ينفعه ، ويصير كأنهم قد دونوا في
أمور الدين ما لا يجوز الرجوع إليه والاعتماد عليه.
قال : وربما يرتقي
هذا القول إلى أعظم من هذا ، فإن النبي صلىاللهعليهوسلم أدى هذا الدين إلى الواحد فالواحد من الصحابة ، وهذا
الواحد يؤديه إلى الأمة
__________________
وينقله عنه ، فإذا
لم يقبل قول الراوي لأنه واحد رجع هذا العيب إلى المؤدي نعوذ بالله من هذا القول
البشع والاعتقاد القبيح.
قال : ويدل عليه
أن النبي صلىاللهعليهوسلم بعث الرسل إلى الملوك : إلى كسرى ، وقيصر ، وملك
الاسكندرية ، وإلى أكيدر دومه ، وغيرهم من ملوك الأطراف ، وكتب إليهم كتبا على ما
عرف ونقل واشتهر ، وإنما بعث واحدا واحدا ودعاهم إلى الله تعالى والتصديق برسالته صلىاللهعليهوسلم لإلزام الحجة وقطع العذر لقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ
لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (النساء : ١٦٥)
وهذه المعاني لا تحصل إلا بعد وقوع العلم ممن أرسل إليه بالإرسال والمرسل ، وأن
الكتاب من قبله والدعوة منه ، وقد كان نبينا صلىاللهعليهوسلم بعث إلى الناس كافة كثيرا من الرسل إلى هؤلاء الملوك
والكتاب إليهم لبثّ الدعوة إليهم في جميع الممالك ، ودعا الناس إلى دينه على حسب
ما أمره الله تعالى بذلك ، فلو لم يقع العلم بخبر الواحد في أمور الدين لم يقتصر
على إرسال الواحد من الصحابة ، منها إنه بعث عليا لينادى في موسم الحج بمنى : «ألا لا يحجن بعد
العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» ومن كان بينه وبين النبي صلىاللهعليهوسلم
عهد فمدته إلى أربعة أشهر ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة» .
ولا بد في هذه
الأشياء من وقوع العلم للقوم الذين كان يناديهم حتى إن أقدموا على شيء من هذا بعد
سماع هذا القول كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم مبسوط للعذر في قتالهم وقتلهم.
وكذلك بعث معاذا
إلى اليمن ليدعوهم إلى الإسلام ويعلمهم إذا أجابوا شرائعه .
__________________
وبعث إلى أهل خيبر
في أمر القتيل واحدا يقول : إما أن تؤدوا أو تؤذنوا بحرب من الله ورسوله. وبعث إلى
قريظة أبا لبابة بن عبد المنذر يستنر لهم على حكمة. وجاء أهل قباء واحد وهم في
مسجدهم يصلون فأخبرهم بصرف القبلة إلى المسجد الحرام فانصرفوا إليه في صلاتهم ،
واكتفوا بقوله ، ولا بد في مثل هذا من وقوع العلم به.
وكان النبي صلىاللهعليهوسلم يرسل الطلائع والجواسيس في بلاد الكفر ويقتصر على الواحد
في ذلك ويقبل قوله إذا رجع. وربما أقدم عليهم بالقتل والنهب بقوله وحده ، ومن تدبر
قول النبي صلىاللهعليهوسلم وسيرته لم يخف عليه ما ذكرناه ، وما يرد هذا إلا مكابر
ومعاند.
ولو أنك وضعت في
قلبك أنك سمعت الصديق والفاروق رضي الله عنهما أو غيرهما من وجوه الصحابة يروي لك
حديثا عن النبي ، في أمر من الاعتقاد من جواز الرؤية على الله وإثبات القدر أو غير
ذلك لوجدت قلبك مطمئنا إلى قوله لا يداخلك شك في صدقه وثبوت قوله ، وفي زماننا ترى
الرجل يسمع من أستاذه الذي يختلف إليه ويعتقد فيه التقدمة والصدق أنه سمع أستاذه
يخبر عن شيء من عقيدته التي يريد أن يلقى الله بها ، فيحصل للسامع علم بمذهب من
نقل عنه أستاذه ذلك بحيث لا يختلجه شبهة ولا يعتريه شك ، وكذلك كثير من الأخبار
التي يقتضيها العلم توجد بين الناس فيحصل لهم العلم بذلك الخبر ومن رجع إلى نفسه
علم بذلك.
(قال) واعلم أن
الخبر وإن كان يحتمل الصدق والكذب والظن فللتجوز فيه مدخل ، ولكن هذا الذي قلناه
لا يناله أحد إلا بعد أن يكون معظم أوقاته وأيامه مشتغلا بالحديث والبحث عن سيرة
النقلة والرواة ، ليقف على رسوخهم في هذا العلم وكبير معرفتهم به وصدق ورعهم في
أقوالهم وأفعالهم ، وشدة حذرهم من الطغيان والزلل ، وما بذلوه من شدة العناية في
تمهيد هذا الأمر ، والبحث عن أحوال الرواة والوقوف على صحيح الأخبار وسقيمها ،
وكانوا بحيث لو
قتلوا لم يسامحوا
أحدا في كلمة يتقولها على رسول الله صلىاللهعليهوسلم ولا فعلوا هم بأنفسهم ذلك ، وقد نقلوا هذا الدين إلينا كما
نقل إليهم وأدوا كما أدى إليهم ، وكانوا في صدق العناية والاهتمام بهذا الشأن ما
يجل عن الوصف ويقصر دونه الذكر ، وإذا وقف المرء على هذا من شأنهم وعرف حالهم وخبر
صدقهم وورعهم وأمانتهم ، ظهر له العلم فيما نقلوه ورووه.
(قال) والذي يزيد
ما قلنا إيضاحا أن النبي صلىاللهعليهوسلم حين سئل عن الفرقة الناجية قال «ما أنا عليه وأصحابي» فلا بد من تعرّف ما كان عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه وليس طريق معرفته إلى النقل ، فيجب الرجوع إلى ذلك
، وقد قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «لا
تنازعوا الأمر أهله» فكما يرجع في مذاهب الفقهاء الذين صاروا قدوة في هذه الأمة إلى أهل الفقه ،
ويرجع في معرفة اللغة إلى أهل اللغة ، وفي النحو إلى أهل النحو ، وكذا يرجع في
معرفة ما كان عليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إلى أهل الرواية والنقل ، لأنهم عنوا بهذا الشأن
واشتغلوا بحفظه والفحص عنه ونقله ، ولولاهم لاندرس علم النبي صلىاللهعليهوسلم ولم يقف أحد على سنته وطريقته.
(ثم قال الإمام
أبو المظفر) : فإن قالوا فقد كثرت الآثار في أيدي الناس واختلطت عليهم (قلنا) ما
اختلطت إلا على الجاهلين بها ، فأما العلماء بها فإنهم ينتقدونها انتقاد الجهابذة
الدراهم والدنانير ، فيميزون زيوفها ويأخذون خيارها ، ولئن دخل في أغمار الرواة من
وسم بالغلط في الأحاديث فلا يروج ذلك على جهابذة أصحاب الحديث وورثة العلماء حتى
أنهم عدوا أغاليط من غلط في الإسناد والمتون ، بل تراهم يعدون على كل واحد منهم كم
في حديث غلط ، وفي كل حرف حرف ، وما ذا صحف ، فإذا لم ترج عليهم أغاليط الرواة في
الأسانيد والمتون والحروف فكيف يروج عليهم وضع الزنادقة وتوليدهم الأحاديث التي
يرويها الناس حتى خفيت على أهلها ، وهو قول بعض الملاحدة
__________________
وما يقول هذا إلا
جاهل ضال مبتدع كذاب يريد أن يهجن بهذه الدعوة الكاذبة صحاح أحاديث النبي صلىاللهعليهوسلم وآثاره الصادقة ، فيغالط جهال الناس بهذه الدعوى وما احتج
مبتدع في رد آثار رسول الله صلىاللهعليهوسلم بحجة أوهن ولا أشد استحالة من هذه الحجة ، فصاحب هذه
الدعوى يستحق أن يسف في فيه وينفى من بلد الإسلام.
فتدبر رحمك الله أيجعل
حكم من أفنى عمره في طلب آثار أنبي صلىاللهعليهوسلم شرقا وغربا ، برا وبحرا ، وارتحل في الحديث الواحد فراسخ ،
واتهم أباه وأدناه في خبر يرويه عن النبي صلىاللهعليهوسلم إذا كان موضع التهمة ، ولم يحابه في مقال ولا خطاب غضبا
لله وحمية لدينه ، ثم ألف الكتب في معرفة المحدثين وأسمائهم وأنسابهم وقدر أعمالهم
، وذكر أعصارهم وشمائلهم وأخبارهم ، وفصل بين الرديء والجيد ، والصحيح والسقيم ،
حبا لله ورسوله ، وغيرة على الإسلام والسنة ، ثم استعمل آثاره كلها حتى فيما عدا
العبادات من أكله وطعامه وشرابه ويقظته وقيامه وقعوده ودخوله وخروجه ، وجميع سننه
وسيرته حتى في خطراته ولحظاته ، ثم دعا الناس إلى ذلك وحثهم عليه وندبهم إلى
استعماله وحبب إليهم ذلك بكل ما يملكه حتى في بذل ماله ونفسه كمن أفنى عمره في
اتباع أهوائه وإرادته وخواطره وهواجسه ، ثم تراه ما هو أوضح من الصبح من سنة النبي
صلىاللهعليهوسلم وأشهر من الشمس برأي دخيل ، واستحسان ذميم ، وظن فاسد ،
ونظر مشوب بالهوى.
فانظر وفقك الله
للحق : أي الفريقين أحق أن ينسب إلى اتباع السنة واستعمال الأثر.
فإذا قضيت بين
هذين بوافر لبك وصحيح نظرك ، وثاقب فهمك فليكن شكرك لله تعالى على حسب ما أراك من
الحق ووفقك للصواب وألهمك من السداد.
(قلت) ومن المعلوم
أن من هذا عنايته بسنة رسول الله ، وسيرته وهديه فإنها تفيد عنده من العلم الضروري
والنظري ما لا تفيده عند المعرض عنها
المشتغل بغيرها ،
وهذا شأن من عني بسيرة رجل وهديه وكلامه وأحواله فإنه يعلم من ذلك بالضرورة ما هو
مجبول لغيره.
فصل
(تقسيم الدين إلى أصول وفروع تقسيم باطل)
المقام
الخامس : إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها
ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها ،
فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر ، وهذا
التفريق باطل بإجماع الأمة ، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات
العلميات كما يحتج بها في الطلبيات العمليات ، ولا سيما والأحكام العملية تتضمن
الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه ورضيه دينا ، بشرعه ودينه راجع إلى أسمائه
وصفاته ، ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه
الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام ، ولم ينقل عن أحد منهم البتة
أنه جوز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصفاته.
فأين السلف
المفرقين بين البابين ، نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما
جاء عن الله ورسوله وأصحابه ؛ بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب
والسنة وأقوال الصحابة ، ويحيلون عن آراء المتكلمين ، وقواعد المتكلفين ، فهم
الذين يعرف عنهم التفريق بين الأمرين ، فإنهم قسموا الدين إلى مسائل علمية وعملية
وسموها أصولا وفروعا وقالوا الحق في مسائل الأصول واحد ، ومن خالفه فهو كافر أو
فاسق ، وأما مسائل الفروع فليس لله تعالى فيها حكم معين ولا يتصور فيها الخطأ وكل
مجتهد لحكم الله تعالى الذي هو حكمه ، وهذا التقسيم لو رجع إلى مجرد الاصطلاح لا
يتميز به ما سموه أصولا مما سموه فروعا فكيف وقد وضعوا عليه أحكاما وضعوها بعقولهم
وآرائهم ، (منها)
التكفير بالخطإ فى
مسائل الأصول دون مسائل الفروع ، وهذا من أبطل الباطل كما سنذكره ، (ومنها): إثبات الفروع بأخبار الآحاد دون
الأصول وغير ذلك ،
وكل تقسيم لا يشهد له الكتاب والسنة وأصول الشرع بالاعتبار فهو تقسيم باطل يجب
إلغاؤه.
وهذا التقسيم أصل
من أصول ضلال القوم فإنهم فرقوا بين ما سموه أصولا وما سموه فروعا وسلبوا الفروع
حكم الله المعين فيها ، بل حكم الله فيها يختلف باختلاف آراء المجتهدين ، وجعلوا
ما سموه أصولا من أخطأ فيه عندهم فهو كافر أو فاسق ، وادعوا الإجماع على هذا
التفريق ، ولا يحفظ ما جعلوه إجماعا عن إمام من أئمة المسلمين ولا عن أحد من
الصحابة والتابعين. وهذا عادة أهل الكلام يحكمون الإجماع على ما لم يقله أحد من
أئمة المسلمين بل أئمة الإسلام على خلافه ، وقال الإمام أحمد : من ادعى الإجماع
فقد كذب ، أما هذه دعوى الأصم وابن علية وأمثالهما يريدون أن يبطلوا سنن رسول الله
صلىاللهعليهوسلم بما يدعونه من الإجماع.
ومن المعلوم قطعا
بالنصوص وإجماع الصحابة والتابعين وهو الذي ذكره الأئمة الأربعة نصا أن المجتهدين
المتنازعين في الأحكام الشرعية ليسوا كلهم سواء بل فيهم المصيب والمخطئ ، فالكلام
فيما سموه أصولا وفيما سموه فروعا ، ينقسم إلى مطابق للحق في نفس الأمر وغير مطابق
، فانقسام الاعتقاد في الحكم إلى المطابق وغير مطابق كانقسام الاعتقاد في باب
الخمر إلى مطابق وغير مطابق ، فالقائل في الشيء حلال والقائل حرام في إصابة أحدهما
وخطأ الآخر كالقائل إنه سبحانه يرى والقائل أنه لا يرى في إصابة أحدهما وخطأ الآخر
، والكذب على الله تعالى خطأ أو عمد في هذا كالكذب عليه عمدا أو خطأ في الآخر :
فإن المخبر يخبر عن الله أنه أمر بكذا وأباحه ، والآخر يخبر أنه نهى وحرمه ،
فأحدهما مخطئ قطعا.
فإن
قيل : الفرق بينهما أنه
يجوز أن يكون في نفس الأمر لا حلالا ولا حراما بل هو حلال في حق من اعتقد حله ،
حرام في حق من اعتقد تحريمه.
قيل هذا باطل من
وجوه عديدة ، وقد ذكرنا في كتاب «المفتاح» وغيره
__________________
منها إنه : خلاف نص القرآن السنة وخلاف إجماع الصحابة وأئمة
الإسلام ، منها
: أن يكون حكم الله
تعالى تابعا لآراء الرجال وظنونها ومنها : أن يكون الشيء الواحد حسنا قبيحا مرضيا لله مسخوطا محبوبا
له مبغوضا ، ومنها
: أنه ينفي حقيقة
حكم الله في نفس الأمر ، ومنها
: أن تكون الحقائق
تبعا للعقائد ، فمن اعتقد بطلان الحكم المعين كان باطلا ومن اعتقد صحته كان صحيحا
، ومن اعتقد حله كان حلالا ، ومن اعتقد تحريمه كان حراما ، وهذا القول كما قال فيه
بعض العلماء : أوله سفسطة وآخره زندقة ، فإنه يتضمن بطلان حكم الله تعالى قبل وجود
المجتهدين ، وإن الله لم يشرع لرسول الله صلىاللهعليهوسلم حكما أمره به ونهاه عنه ومنها : إن حكم الله يرجع إلى خبره وإرادته ، فإذا أراد إيجاب الشيء
وأخبر به صار واجبا ، وإذا أراد تحريمه وأمر بذلك صار حراما ، فإنكار أن يكون الله
حكما إنكار لخبره وإرادته وإلغاء لتعلقها بأفعال المكلفين.
ومنها
: أنه يرفع ثبوت
الأجرين للمصيب ، والأجر للمخطئ ، فإنه لا خطأ في نفس الأمر عندهم بل كل مجتهد
مصيب لحكم الله تعالى في نفس الأمر ، ومنها : أنه يبطل أن يوافق أحد حكم الله تعالى ، فليس لقول رسول
الله صلىاللهعليهوسلم «لقد حكمت فيهم بحكم
الله تعالى الملك» معنى ، ولا لقوله «إن
سألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تفعل فإنك لا تدري أتصيب حكم الله تعالى فيهم أم
لا» معنى ولا لقوله : «إن سليمان
سأل ربه حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه» ولا لقوله (فَفَهَّمْناها
سُلَيْمانَ) (الأنبياء : ٧٩)
معنى ، إذ كل منهما حكم بعين حكم الله تعالى عندهم ، ولا لقوله : «إذا اجتهد الحاكم
فأصاب فله أجران وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر» معنى.
__________________
وأيضا فهذا إجماع
من الصحابة ، قال الصديق في الكلالة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله وإن
كان خطأ فمني ومن الشيطان والله بريء منه ورسوله وقال عمر لكاتبه : اكتب هذا ما
رآه عمر فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمن عمر ، وقال في قضية قضاها : والله
ما يدري عمر أصاب الحق أم أخطأه ، ذكره أحمد.
وقال علي لعمر في
المرأة التي أرسل إليها فأجهضت ذا بطنها وقد استشار عثمان وعبد الرحمن فقالا ليس
عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي : إن كانا اجتهدا فقد أخطئا وإن لم يجتهدا فقد
غشاك : عليك الدية فرجع عمر إلى رأيه واعترف علي رضي الله عنه بخطئه في خبر صفين
وندم على ذلك وكان مجتهدا فيه.
وقال ابن مسعود في
قصة بروع : أقول فيها برأيي فإن يكن صوابا فمن الله وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان
والله بريء منه ورسوله ، وقال ابن عباس : ألا يتقي الله زيد يجعل ابن الابن ابنا
ولا يجعل أبا الأب أبا ، وقال : من شاء باهلته في العول ، وقالت عائشة لأم ولد زيد
بن أرقم أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا أن يتوب» ، وقال ابن عباس وقد ناظروه في مسألة متعة الحج واحتجوا
عليه بأبي بكر وعمر : أما تخشون أن تنزل عليكم حجارة من السماء ، أقول قال رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وتقولون قال أبو بكر وعمر ، وكان ابن عمر يأمر بالتمتع
فيقولون له إن أباك نهى عنه فقال : أيهما أولى أن يتبع كتاب الله أو كلام عمر.
وقال عمران بن
حصين : نزل بها القرآن وفعلناها مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال رجل برأيه ما شاء ، يعرض بعمر ، وقال ابن الزبير لابن
عباس في متعة النساء : لئن فعلتها لأرجمنك فجرّب إن شئت. وقال على لابن عباس منكرا
عليه إباحة الحمر الأهلية ومتعة النساء : إنك امرؤ تائه ، أي تهت عن القول الحق ،
وفسخ عمر بيع أمهات الأولاد وردهن حبالى من تستر ، وفسخ حكم الصديق في
__________________
استرقاق نساء أهل
الردة ، وكان يضرب عن الركعتين بعد العصر ، وكان أبو طلحة وأبو أيوب وعائشة
يصلونها ، فتركها أبو طلحة وأبو أيوب مدة حياة عمر خوفا منه ، فلما مات عاوداها.
وقال ابن مسعود
لما طلب منه موافقة أبي موسى في مسئلة بنت وبنت ابن وأخت فأعطى البنت النصف والأخت
النصف : لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ، فجعل القول الآخر الذي جعله المصوبة
صوابا عند الله ضلالا ، هذا أكثر من أن يحيط به إلا الله تعالى.
وأيضا فالأحاديث
والآيات الناهية عن الاختلاف في الدين المتضمنة لذمه كلها شهادة صريحة بأن الحق
عند الله واحد ، وما عداه فخطأ ، ولو كانت تلك الأقوال كلها صوابا لم ينه الله
ورسوله عن الصواب ولا ذمه.
وأيضا فقد أخبر
الله تعالى أن الاختلاف ليس من عنده وما لم يكن من عنده فليس بالصواب ، قال تعالى
: (وَلَوْ كانَ مِنْ
عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢) وهو
إن كان في اختلاف ألفاظه فهو يدل على أن ما يدل على أن ما اختلف معانيه ليس من عند
الله إذ المعنى هو المقصود.
وأيضا إذا اختلف
المجتهدان فرأى أحدهما إباحة دم إنسان ، والآخر تحريمه ورأى أحدهما تارك الصلاة
كافرا مخلدا في النار ، والآخر رآه مؤمنا من أهل الجنة ، فلا يخلو إما أن يكون
الكل حقا وصوابا عند الله تعالى في نفس الأمر ، أو الجميع خطأ عنده ، أو الصواب
والحق في واحد من القولين والآخر خطأ ، والأول والثاني ظاهر الإحالة وهما بالهوس
أشبه منهما بالصواب فكيف يكون إنسان واحد مؤمنا كافرا مخلدا في الجنة وفي النار ،
وكون المصيب واحدا هو الحق وهو منصوص الإمام أحمد ومالك والشافعي ، كما حكاه أبو
إسحاق في «شرح اللمع» له أن مذهب الشافعي أن المصيب واحد ، هذا قوله في القديم
والجديد.
قال القاضي أبو
الطيب : وليس عنده مسئلة تدل على أن كل مجتهد مصيب وأقوال الصحابة كلها صريحة أن
الحق عند الله في واحد من الأقوال المختلفة وهو دين الله في نفس الأمر الذي لا دين
له سواه.
وليس الغرض
استقصاء هذه المسألة بل المقصود أن الخطأ يقع فيما سموه فروعا كما يقع فيما جعلوه
أصولا فنطالبهم بفرق صحيح بين ما يجوز إثباته بخبر الواحد من الدين وما لا يجوز
ولا يجدون إلى الفرق سبيلا إلا بدعاو باطلة ثم نطالبهم بالفرق بين مسائل الأصول
والفروع وما ضابط ذلك ، ثم نطالبهم بالفرق بين ما يأثم جاحده أهو إثم كفر أو فسوق
وما لا يأثم جاحده ، ونطالبهم بالفرق بين ما المطلوب منه القطع اليقيني ، وما
يكتفي فيه الظن ولا سبيل لهم إلى تقرير شيء من ذلك البتة.
قال الجويني وقد
تكلموا في الفرق بين الأصول والفروع فقالوا : الأصل ما فيه دليل قطعي والفرع
بخلافه.
(قلت) وهذا يلزم
منه الدور فإنه إذا قيل لا تثبت الأصول إلا بالدليل القطعي ثم قيل والأصل ما عليه
دليل قطعي كان ذلك دورا ظاهرا.
وأيضا فإن كثير من
المسائل العملية بل أكثرها عليها أدلة قطعية كوجوب الطهارة والصلاة والصيام والحج
والزكاة ونقض الوضوء بالبول والغائط ووجوب الغسل بالاحتلام ، وهكذا أكثر الشريعة
أدلتها قطعية ، وكثير من المسائل التي هي عندهم أصول أدلتها ظنية.
وهكذا في أصول
الدين وأصول الفقه أكثر من أن يذكر ، كالقول بالمفهوم والقياس ، وتقدمهما علي
العموم والأمر بعد الخطر ومسئلة انقراض العصر ، وقول الصحابي ، والاحتجاج
بالمراسيل وشرع من قبلنا ، وأضعاف ذلك.
وكذلك أصول الدين
كمسألة الحال وبقاء الرب تعالى وقدمه هل هي بيضاء وقدم زائدين على الذات والوجود
الواجب ، هل هي من نفس الماهية أو زائدة
عليها ، وإثبات
المعنى القائم بالنفس وغير ذلك ، فعلى هذا الفرق تكون هذه المسائل ونحوها فرعية
وتلك المسائل العملية أصولية.
(قال) وقيل :
الأصل ما لا يجوز التعبد فيه إلا بأمر واحد معين والفرع بخلافه.
(قلت) وهذا الفرق
أفسد من الأول فإن أكثر الفروع لا يجوز التعبد فيها إلا بالمشروع على لسان كل نبي
، فلا يجوز التعبد بالسجود للأصنام وإباحة الفواحش وقتل النفوس والظلم في الأموال
، وانتهاك الأعراض وشهادات الزور ونحو ذلك ، وإن كان نفاة التحسين والتقبيح يجوزون
التعبد بذلك ، ويقولون يجوز أن تأتي الشرائع من عند الله تعالى بذلك ، فقولهم من
أبطل الباطل ، وقد ذكرنا فساده من أكثر من ستين وجها في غير هذا الكتاب ، وإنه مما
يعلم بطلانه بالضرورة.
* * *
فصل
قال : وقيل :
الأصل ما يجوز أن يعلم من غير تقديم ورود الشرع والفرع بخلافه ، وهذا الفرق أيضا
في غاية الفساد ، فإن أكثر المسائل التي يسمونها أصولا لم تعلم إلا بعد ورود الشرع
، كاقتضاء الأمر للوجوب والنهي للتحريم ، وكون القياس حجة وكون الإجماع حجة ، بل
أكثر مسائل أصول الدين لم تعلم إلا بالسمع ، فجواز رؤية الرب تبارك وتعالى يوم
القيامة واستواؤه على عرشه بخلاف مسألة علوه فوق المخلوقات بالذات فإنها فطرية ضرورية
، وأكثر مسائل المعاد وتفصيله لا يعلم قبل ورود الشرع ، ومسائل عذاب القبر ونعيمه
وسؤال الملكين وغير ذلك من مسائل الأصول التي لا تعلم قبل ورود الشرع.
وقال القاضي أبو
بكر ابن الباقلاني : كل مسألة يحرم الخلاف فيها مع استقرار الشرع ويكون معتقد
خلافها جاهلا ، فهي من الأصول ، عقلية كانت أو شرعية والفرع ما لا يحرم الخلاف فيه
أو ما لا يأثم المخطئ فيه ، وهذا وإن كان أقرب
مما قبله باطل
أيضا ، فإن كان كثيرا من مسائل الفروع قطعيا وإن كان فيها خلاف وإن كان لا يأثم
المخطئ فيها لخفاء الدليل عليه وإن كان قطعيا فلا يلزم الاشتراك في القطعيات ، وقد
سلم القاضي ذلك فيما إذا خفي عليه النص.
* * *
فصل
وقد ذكر بعضهم ،
فرقا آخر فقال : «الأصوليات» : هي المسائل العمليات ، «والفروعيات» هي المسائل
العلمية المطلوب منها أمران : العلم والعمل ، والمطلوب من «العمليات» العلم والعمل
أيضا ، وهو حب القلب وبغضه وحبه للحق الذي دلت عليه وتضمنته ، وبغضه الباطل الذي
يخالفها ، فليس العمل مقصورا على عمل الجوارح ، بل أعمال القلوب أصل لعمل الجوارح
، وأعمال الجوارح تبع فكل مسألة علمية فإنه يتبعها إيمان القلب وتصديقه وحبه وذلك
عمل بل هو أصل العمل ، وهذا مما غفل عنه كثير من المتكلمين في مسائل الإيمان ، حيث
ظنوا أنه مجرد التصديق دون الأعمال ، وهذا من أقبح الغلط وأعظمه ، فإن كثيرا من
الكفار كانوا جازمين بصدق النبي صلىاللهعليهوسلم غير شاكين فيه ، غير أنه لم يقترن بذلك التصديق عمل القلب
من حب ما جاء به والرضا به وإرادته والموالاة والمعاداة عليه.
فلا تهمل هذا
الموضوع فإنه مهم جدا ، به تعرف حقيقة الإيمان.
فالمسائل العلمية
عملية ، والمسائل العملية علمية فإن الشارع لم يكتف من المكلفين في العمليات بمجرد
العمل دون العلم ، ولا في العلميات بمجرد العلم دون العمل.
وفرّق آخرون بين
الأصول والفروع بأن مسائل الأصول هي التي يكفر جاحدها كالتوحيد والرسالة والمعاد
وإثبات الصفات ، ومسائل الفروع ما لا يكفر جاحدها ، كوجوب قراءة الفاتحة في الصلاة
واشتراط الطمأنينة ووجوب مسح الرأس كله في الوضوء ونحو ذلك ، وهذا الفرق غير مطرد
ولا منعكس ، فإن
كثيرا من مسائل
الفروع يكفر جاحدها ، وكثير من مسائل الأصول لا يكفر جاحدها كما تقدم بيانه.
وأيضا فالتكفير
حكم شرعي ، فالكافر من كفره الله ورسوله ، والكفر جحد ما علم أن الرسول جاء به ،
سواء كان من المسائل التي تسمونها عملية أو علمية ، فمن جحد ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم بعد معرفته بأنه جاء به فهو كافر في دق الدين وجله.
وفرق آخرون بين
الأصول والفروع بأن الأصول ما تتعلق بالخبر ، والفروع ما تتعلق بالطلب ، وهذا
الفرق غير خارج عن الفروق المتقدمة ، وهر فاسد أيضا ، فإن العبد مكلف بالتصديق
بهذا وهذا ، وعلما وإيمانا وحبا ورضا ، وموالاة عليه ومعاداة كما تقدم.
وفرق آخرون بينهما
بأن مسائل الأصول هي ما لا يسوغ التقليد فيها ، ومسائل الفروع يجوز التقليد فيها ،
وهذا مع أنه دور ممتنع فإنه يقال لهم : ما الذي يجوز فيه التقليد؟ فيقولون مسائل
الفروع ، والذي لا يجوز التقليد فيه مسائل الأصول ، وهو أيضا فاسد طردا وعكسا ،
فإن كثيرا من مسائل الفروع لا يجوز التقليد فيها كوجوب الطهارة والصلاة والزكاة
وتحريم الخمر والربا والفواحش والظلم ، فإن من لم يعلم أن الرسول صلىاللهعليهوسلم جاء بذلك وشك فيه لم يعرف أنه رسول ، كما أن من لم يعلم
أنه جاء بالتوحيد وتصديق المرسلين وإثبات معاد الأبدان وإثبات الصفات والعلو
والكلام ، لم يعرف كونه مرسلا فكثير من المسائل الخبرية الطلبية يجوز فيها التقليد
للعاجز عن الاستدلال ، كما أن كثيرا من المسائل العملية لا يجوز فيها التقليد.
فتقسيم الدين إلي
ما يثبت بخبر الواحد وما لا يثبت به تقسيم غير مطرد ، ولا منعكس ولا عليه دليل
صحيح.
وأيضا فالتقليد
قبول قول الغير بغير حجة ، ومن قبل قول غيره فيما يحكيه عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أنه جاء به خبرا أو طلبا ، فإنما قبل قوله لما أسنده إلى
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وهذه حجة لكن تقدير مقدماتها ودفع الشبه المعارضة لها قد
لا يقدر
عليه كل أحد ، فما
كل من عرف الشيء بدليله أمكنه تقريره بجميع مقدماته والتعبير عنه ولا دفع المعارض
له. فإن كان العجز عنه تقليدا كان جمهور الأمة مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة
والمعاد ، وإن يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في التوحيد وإثبات الرسالة
والمعاد ، وإن لم يكن العجز عنه تقليدا لم يكونوا مقلدين في أكثر الأحكام العملية
التي يحتاجون إليها ، وهذا هو الحق ، فإن جمهور الأمة مبني تعبداتها وتحريمها
وتحليلها على ما علمته من نبيها بالضرورة ، وأنه جاء به ، ولو سئلت عن تقريره لعجز
عنه أكثرهم كما يجزم بالتوحيد ، وأن الله فوق خلقه ، وأن القرآن كلامه ، وأنه يبعث
من في القبور ، ولو سئل عن ذلك لعجز عنه أكثرهم.
* * *
(فصل)
وأما
المقام السادس : وهو أن الظن
المستفاد من أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم على زعمهم أقوى من الجزم المستند إلى تلك القضايا الوهمية
، فهذا يعرفه من عرف هذا وهذا ، ومن لا خبرة له بالأمرين يسمعهم يقولون لقضاياهم
الباطلة : قواطع عقلية وبراهين يقينية ، ويقولون لنصوص القرآن والسنة : ظواهر
سمعية لا تفيد اليقين ، قد يقع له صحة قولهم تقليدا لهم وإحسانا للظن بهم ،
واستنادا إلى بعض الشبه التي يذكرونها وأما المستبصر فيما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم وفيما عند القوم فإنه يجزم بالضرورة أن الأمر بخلاف ذلك ،
وأن قضاياهم التي خالفوا فيها النصوص لا تفيد علما ولا ظنا البتة ، بل يقولون :
صريح العقول والفطر تشهد بكذبها وبطلانها ، وإن اتفق عليها طائفة كثيرة ، فأكثر
طوائف أهل الباطل جميعهم تجد كل طائفة منهم متفقين على ما هو معلوم الفساد بضرورة
العقل وفطرة الله التي فطر الناس عليها ، فالمتكلمون كل طائفة منهم تشهد على
مخالفيها بأنهم خالفوا صريح المعقول والفطرة ، وقد ذكرنا من ذلك طرفا فيما تقدم من
هذا الكتاب مما خالف المتكلمون والفلاسفة صريح المعقول فيه.
والعجب أنك ترى
كثيرا منهم يقطع بالقول ويكفر من خالفه ثم يقطع هو بخلافه أو يتوقف فيه ، وهذا
كثير فيهم جدا.
قال أبو المظفر
السمعاني : كل فريق من المبتدعة يعتقد أن ما يقوله هو الحق الذي كان عليه رسول
الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، لأن كلهم يدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر
شعارها يرون أن ما جاء به محمد هو الحق غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك ، وأحدثوا
في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله صلىاللهعليهوسلم فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام ، وأن الحق
الذي قام به رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو الذي يعتقده وينتحله.
غير أن الله تعالى
أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار لأنهم أخذوا دينهم
وعقائدهم خلفا عن سلف ، وقرنا عن قرن إلى أن انتهوا إلى التابعين وأخذه التابعون
عن أصحاب النبي صلىاللهعليهوسلم وأخذه الصحابة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله صلىاللهعليهوسلم الناس من الدين المستقيم والصراط القويم إلا هذا الطريق الذي
سلكه أصحاب الحديث.
وأما سائر الفرق
فطلبوا الدين بغير طريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم وخواطرهم وآرائهم ، فإذا سمعوا
شيئا من الكتاب والسنة عرضوه على معيار عقولهم ، فإن استقام لهم قبلوه ، وإن لم
يستقم في ميزان عقولهم ردوه ، فإن اضطروا إلى قبوله حرفوه بالتأويلات البعيدة
والمعاني المستكرهة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه ونبذوا الدين وراء ظهورهم ، وجعلوا
السنة تحت أقدامهم.
وأما أهل السنة
فجعلوا الكتاب والسنة أمامهم ، وطلبوا (الدين) من قبلها وما وقع لهم من معقولهم
وخواطرهم وآرائهم عرضوه على الكتاب والسنة ، فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه وشكروا
الله حيث أراهم ذلك ووفقهم له ، وإن وجدوا مخالفا لهما تركوا ما وقع لهم وأقبلوا
على الكتاب والسنة ، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم ، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا
إلى الحق ، ورأي الإنسان قد يكون حقا وقد يكون باطلا.
وهذا قول أبي
سليمان الدارني وهو أوحد أهل زمانه قال : ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت عليه
شاهدين من الكتاب والسنة ، فإن أتي بهما وألا رددته.
(قال) ومما يدل أن
أهل الحديث على الحق أنك لو اطلعت جميع كتبهم
المصنفة من أولها
إلى آخرها ، قديمها وحديثها ، وجدتها مع اختلاف بلدانهم وزمانهم وتباعد ما بينهم
في الديار ، وسكون كل واحد منهم قطرا من الأقطار في باب الاعتقاد علي وتيرة واحدة
، ونمط واحد ، يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها ولا يميلون عنها ، قلوبهم في
ذلك على قلب واحد ، ونقلهم لا ترى فيه اختلافا ولا تفرقا في شيء ما ، وإن قل ، بل
لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنه جاء عن قلب واحد وجرى
على لسان واحد ، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟ قال الله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ
وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (النساء : ٨٢)
وقال تعالى : (وَاعْتَصِمُوا
بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ
إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً) (آل عمران : ١٠٣).
وأما إذا نظرت إلى
أهل البدع رأيتهم متفرقين مختلفين شيعا وأحزابا ، ولا تكاد تجد اثنين منهم على
طريقة واحدة في الاعتقاد ، يبدع بعضهم بعضا ، بل يرتقون إلى التكفير ، يكفر الابن
أباه ، والأخ أخاه ، والجار جاره ، وتراهم أبدا في تنازع وتباغض واختلاف تنقضي
أعمارهم ولم تتفق كلماتهم (تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً
وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ) (الحشر : ١٤) أو
ما سمعت بأن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللون يكفر البغداديون منهم البصريين ،
والبصريون البغداديين ، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي وابنه أبا هاشم وأصحابه ،
وأصحاب أبي هاشم يكفرون أبا علي وأصحابه ، وكذلك سائر رءوسهم وأصحاب المقالات منهم
إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا ، وكذلك الخوارج والرافضة فيما
بينهم ، وسائر المبتدعة كذلك ، وهل على الباطل أظهر من هذا؟ قال الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا
شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ) (الأنعام : ١٥٩)
فبرأ الله رسوله من أهل هذا التفرق والاختلاف.
(قال) وكان السبب
في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة وطريق النقل ، فأورثهم
الاتفاق والائتلاف ، وأهل البدع أخذوا الدين
من عقولهم فأورثهم
التفرق والاختلاف ، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما تختلف ، وإن
اختلفت في لفظة أو كلمة فذلك الاختلاف لا يضر الدين ولا يقدح فيه. وأما المعقولات
والخواطر ، والآراء فقلما تتفق ، بل عقل كل واحد ورأية وخاطره يري صاحبه غير ما
يري الآخر.
قال وبهذا يظهر
مفارقة الاختلاف في مسائل الفروع اختلاف العقائد في الأصول ، فإنا وجدنا أصحاب
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورضي عنهم اختلفوا بعده في أحكام الدين ، فلم يتفرقوا ولم
يكونوا شيعا ، لأنهم لم يفارقوا الدين ، ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم
وآراؤهم في مسائل كثيرة كمسألة الجد والمشركة وذوي الأرحام وأمهات الأولاد وغير
ذلك ، فصاروا باختلاف في هذه الأشياء محمودين ، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة
لهذه الأمة حيث أيدهم بالتوفيق واليقين ، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا
حكمه ذي التنزيل والسنة ، وكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة ونصح ، وبقيت بينهم
إخوة الإسلام ، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة ، فلما حدثت هذه الأهواء المردية
الداعية أصحابها إلى النار وصاروا أحزابا انقطعت الأخوة في الدين وسقطت الألفة ،
وهذا يدل على أن التنائي والفرقة إنما حدث في المسائل المحدثة التي ابتدعها
الشيطان ألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا ويرمي بعضها بعضا بالكفر ، فكل مسألة
حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس واختلفوا ، ولم يورث هذا الاختلاف بينهم عداوة
ولا نقصا ولا تفرقا ، بل بقيت بينهم الألفة والنصيحة والمودة ، والرحمة والشفقة ،
علمنا أن ذلك من مسائل الإسلام يجوز النظر فيها ، والآخر يقول من تلك الأقوال ما
لا يوجب تبديعا ولا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع
بقاء الألفة والمودة ، وكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي
والإعراض والتدابر والتقاطع ، وربما ارتقى إلى التكفير ، علمت أن ذلك ليس من أمر
الدين في شيء ، بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها ويعرض عن الخوض فيها.
إن لله تعالى شرطا
في تمسكنا بالإسلام أن نصبح في ذلك إخوانا ، فقال
تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ
إِخْواناً) (آل عمران : ١٠٣).
قال (فإن قال قائل)
الخوض في مسائل القدر والصفات والإيمان يورث التقاطع والتدابر فيجب طرحها والإعراض
عنها على ما قررتم.
(فالجواب) إنما
قلنا هذا في المسائل المحدثة ، فأما هذه المسائل فلا بد من قبولها على ما ثبت به
النقل عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وأصحابه ، ولا يجوز لنا الإعراض عن نقلها وروايتها وبيانها
كما في أصل الإسلام والدعاء إلى التوحيد وإظهار الشهادتين ، وقد بينا أن الطريق
المستقيم مع أهل الحديث وأن الحق فيما رووه ونقلوه.
(فإن قال قائل)
أنتم سميتم أنفسكم أهل السنة وما نراكم في ذلك إلا مدعين لأنا وجدنا كل فرقة من
الفرق تنتحل اتباع السنة ، وتنسب من خالفها إلى البدعة وليس على أصحابكم منها سمة
وعلامة أنهم أهلها دون من خالفها من سائر الفرق ، وكلنا في انتحال هذا اللقب شركاء
متكافئون ، ولستم بأولى بهذا اللقب إلا أن تأتوا بدلالة ظاهرة من الكتاب والسنة أو
من إجماع المعقول.
(فالجواب) أن
الأمر على ما زعمتم أنه لا يصح لأحد دعوى إلا ببينة عادلة أو بدلالة ظاهرة من
الكتاب والسنة ، وهما لنا قائمتان بحمد لله ، ومنه قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما
نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر : ٧)
فأمرنا اتباعه وطاعته فيما سنه وأمر به وما نهى عنه وما حكم به ، قال صلىاللهعليهوسلم : «عليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي» وقال «ومن
رغب عن سنتي فليس مني ، ومن أحب سنتي فقد أحبني ومن أحبني كان معي في الجنة» فعرفنا سنته ووجدناها بهذه الآثار المشتهرة التي رويت
بالأسانيد الصحيحة المتصلة التي نقلها حفاظ العلماء وثقاتهم بعضهم عن بعض.
__________________
ثم نظرنا فرأينا
فرقة أصحاب الحديث لها أطلب وفيها أرغب ، ولها أجمع ، ولأصحابها أتبع ، فعلمنا
يقينا أنهم أهلها دون من عداهم من جميع الفرق ، فإن صاحب كل حرفة أو صناعة إن لم
يكن معه دلالة أو آلة من آلات تلك الصناعة والحرفة ثم ادعى تلك الصناعة كان في
دعواه مبطلا ، فإذا كانت معه آلات الصناعة والحرفة شهدت له تلك الآلات بضاعة ، بل
شهد له كل من غايته قبل الاختبار ، كما إذا رأيت رجلا قد فتح باب دكانه على بز
علمت أنه بزاز ، أو على تمر علمت أنه تمار ، أو على عطر علمت أنه عطار ، أو إذا
رأيت بين يديه الكير والسندان والمطرقة علمت أنه حداد ، وكل صاحب صنعة يستدل على
صناعته بآلته فحكم له بها بالمعاينة من غير اختيار ، فلو رأيت بين يدي إنسان قدوما
أو منشارا ومثقبا وهو مستعد للعمل بها ثم سميته خياطا جهلت ، ولو قال صاحب التمر
لصاحب العطر : أنا عطار وصاحب البناء للبزاز : أنا بزاز قال له كذبت وصدقه الناس
علي تكذيبه ، ثم كل صاحب صنعة وحرفة يفتخر بصناعته ويجالس أهلها ويألفهم ويستفيد
منهم ويحرص على بلوغ الغاية في صناعته ، وأن يكون فيها أستاذا ، ورأينا أصحاب
الحديث قديما وحديثا هم الذين رحلوا في هذه الآثار وطلبوا فأخذوها من معادنها
وحفظوها واغتبطوا بها ودعوا إلى اتباعها ، وعابوا من خالفهم وكثرت عندهم وفي
أيديهم ، حتى اشتهروا بها كما يشتهر أصحاب الحرف والصناعات بصناعتهم وحرفهم ، ثم
رأينا قوما انسلخوا من حفظها ومعرفتها وتنكبوا عن اتباع صحيحها وشهيرها ، وغنوا عن
صحبة أهلها ، وطعنوا فيها وفيهم ، وزهدوا الناس في حقها وضربوا لها ولأهلها أسوأ
الأمثال ، ولقبوهم أقبح الألقاب ، فسموهم نواصب ومشبهة وحشوية ومجسمة ، فعلمنا
بهذه الدلائل الظاهرة والشواهد القائمة أن أولئك أحق بها من سائر الفرق.
ومعلوم أن الاتباع
هو الأخذ بسنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم التي صحت عنه والخضوع لها والتسليم لأمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ووجدنا أهل الأهواء بمعزل عن ذلك ، فهذه علامة ظاهرة ودليل
واضح يشهد لأهل السنة باستحقاقها ، وعلى أهل البدع والأهواء بأنهم ليسوا من أهلها.
(قلت)
ولهم علامات أخر منها : أن أهل السنة
يتركون أقوال الناس لها ،
وأهل البدع
يتركونها لأقوال الناس ، ومنها
: أن أهل السنة
يعرضون أقوال الناس عليها فما وافقها قبلوه وما خالفها طرحوه ، وأهل البدع
يعرضونها على آراء الرجال ، فما وافق آراءهم منها قبلوه وما خالفها تركوه وتأولوه
، ومنها
: أن أهل السنة
يدعون عند التنازع إلى التحاكم إليها دون آراء الرجال وعقولها ، وأهل البدع يدعون
إلى التحاكم إلى آراء الرجال ومعقولاتها ، ومنها : أن أهل السنة إذا صحت لهم السنة عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يتوقفوا عن العمل بها واعتقاد موجبها على أن يوافقها
موافق ، بل يبادرون إلى العمل بها من غير نظر إلى من وافقها أو خالفها ، وقد نص
الشافعي على ذلك في كثير من كتبه ، وعاب على من يقول لا أعمل بالحديث حتى أعرف من
قال به ذهب إليه ، بل الواجب على من بلغته السنة الصحيحة أن يقبلها وأن يعاملها
بما كان يعاملها به الصحابة حين يسمعونها من رسول الله صلىاللهعليهوسلم فينزل نفسه منزلة من سمعها منه صلىاللهعليهوسلم.
قال الشافعي :
وأجمع الناس على أن من استبانت له سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد ، وهذا من أعظم علامات أهل
السنة أنهم لا يتركونها إذ ثبتت عندهم لقول أحد من الناس كائنا من كان.
ومنها
: أنهم لا ينتسبون
إلى مقالة معينة ولا إلى شخص معين غير الرسول فليس لهم لقب يعرفون به ولا نسبة
ينتسبون إليها ، إذا انتسب سواهم إلى المقالات المحدثة وأربابها كما قال بعض أئمة
أهل السنة وقد سئل عنها فقال : السنة ما لا اسم له سوى السنة وأهل البدع ينتسبون
إلى المقالة تارة كالقدرية والمرجئة ، وإلى القائل تارة كالهاشمية والنجارية
والضرارية ، وإلى الفعل تارة كالخوارج والروافض ، وأهل السنة بريئون من هذه النسب
كلها ، وإنما نسبتهم إلى الحديث والسنة ، ومنها : أن أهل السنة إنما ينصرون الحديث
الصحيح والآثار السلفية وأهل البدع ينصرون مقالاتهم ومذاهبهم ومنها : أن أهل السنة
إذا ذكروا السنة وجردوا الدعوة إليها نفرت من ذلك قلوبهم أهل البدع فلهم نصيب من قوله
تعالى : (وَإِذا ذَكَرْتَ
رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً) (الإسراء : ٤٦)
وأهل البدع إذا ذكرت لهم شيوخهم ومقالاتهم استبشروا بها فهم كما قال تعالي : (وَإِذا ذُكِرَ اللهُ وَحْدَهُ
اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ
وَإِذا
ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (الزمر : ٤٥).
ومنها
: أن أهل السنة
يعرفون الحق ويرحمون الخلق فلهم نصيب وافر من العلم والرحمة وربهم تعالى وسع كل
شيء رحمة وعلما ، وأهل البدع يكذبون بالحق ويكفرون الخلق ، فلا علم عندهم ولا رحمة
، وإذا قامت عليهم حجة أهل السنة عدلوا إلى حبسهم وعقولهم إذا أمكنهم ، ورثوا
فرعون فإنه لما قامت عليه حجة موسى ولم يمكنه عنها جواب قال لئن اتخذت إلها غيري
لأجعلنك من المسجونين ، ومنها
: أن أهل السنة إنما
يوالون ويعادون على سنة نبيهم صلىاللهعليهوسلم وأهل البدع يوالون ويعادون على أقوال ابتدعوها ، ومنها : أن أهل السنة لم يؤصلوا أصولا حكموها وحاكموا خصومهم إليها
وحكموا على من خالفها بالفسق والتكفير ، بل عندهم الأصول كتاب الله وسنة رسوله صلىاللهعليهوسلم وما كان عليه الصحابة.
ومنها
: أن أهل السنة إذا
قيل لهم قال الله قال رسوله صلىاللهعليهوسلم وقفت قلوبهم عند ذلك ولم تعده إلى أحد سواه ، ولم تلتفت
إلى ما ذا قال فلان وفلان ، وأهل البدع بخلاف ذلك.
ومنها
: أن أهل البدع
يأخذون من السنة ما وافق أهواءهم ، صحيحا كان أو ضعيفا ويتركون ما لم يوافق أهواءهم
من الأحاديث الصحيحة ، فإذا عجزوا عن رده نفوه عوجا بالتأويلات المستنكرة التي هي
تحريف له عن مواضعه ، وأهل السنة لهم هوى في غيرها.
* * *
فصل
(اختلاف درجة الدليل باختلاف فهم المستدل)
وأما
المقام السابع : وهو أن كون الدليل
من الأمور الظنية أو القطعية أمر نسبي يختلف باختلاف المدرك المستدل ، ليس هو صفة
للدليل في نفسه ، فهذا أمر لا ينازعه فيه عاقل ، فقد يكون قطعيا عند زيد ما هو ظني
عند عمرو ، فقولهم إن أخبار رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصحيحة المتلقاة بين الأمة بالقبول لا تفيد العلم ، بل هي
ظنية هو إخبار عما
عندهم ، إذا لم يحصل لهم من الطرق التي استفاد بها العلم أهل السنة ما حصل لهم ،
فقولهم لم نستفد بها العلم ، لم يلزم منها النفي العام على ذلك بمنزلة الاستدلال
على أن الواجد للشيء العالم به غير واجد له ولا عالم به ، فهو كمن يجد من نفسه
وجعا أو لذة أو حبا أو بغضا فينتصب له من يستدل على أنه غير وجع ولا متألم ولا محب
ولا مبغض ، ويكثر له من الشبه التي غايتها إني لم أجد ما وجدته ، ولو كان حقا
لاشتركت أنا وأنت فيه ، وهذا عين الباطل ، وما أحسن ما قيل :
أقول للائم
المهدي ملامته
|
|
ذق الهوى وإن
استطعت الملام لم
|
فيقال له اصرف
عنايتك إلى ما جاء به الرسول صلىاللهعليهوسلم والحرص عليه وتتبعه وجمعه ومعرفة أحوال نقلته وسيرتهم ،
وأعرض عما سواه واجعله غاية طلبك ونهاية قصدك بل احرص عليه حرص أتباع أرباب
المذاهب على معرفة مذاهب أئمتهم بحيث حصل لهم العلم الضروري بأنها مذاهبهم
وأقوالهم ، ولو أنكر ذلك عليهم منكر لسخروا منه ؛ وحينئذ تعلم هل تفيد أخبار رسول
الله صلىاللهعليهوسلم العلم أو لا تفيده فأما مع إعراضك عنها وعن طلبها فهي لا
تفيدك علما ، ولو قلت لا تفيدك أيضا ظنا لكنت مخبرا بحصتك ونصيبك منها.
* * *
فصل
(انعقاد الإجماع على قبول أحاديث الآحاد)
وأما
المقام الثامن : وهو انعقاد
الإجماع المعلوم المتيقن على قبول هذه الأحاديث وإثبات صفات الرب تعالى بها ، فهذا
لا يشك فيه من له أقل خبرة بالمنقول ، فإن الصحابة هم الذين رووا هذه الأحاديث
وتلقاها بعضه عن بعض بالقبول ولم ينكرها أحد منهم على من رواها ، ثم تلقاها عنه
جميع التابعين من أولهم إلي آخرهم ، ومن سمعها منهم تلقاها بالقبول والتصديق لهم ،
ومن لم يسمعها منهم تلقاها عن التابعين كذلك وكذلك تابع التابعين مع التابعين.
هذا أمر يعلمه
ضرورة أهل الحديث كما يعلمون عدالة الصحابة وصدقهم وأمانتهم ونقلهم ذلك عن نبيهم صلىاللهعليهوسلم كنقلهم الوضوء والغسل من الجنابة وأعداد
الصلوات وأوقاتها
، ونقل الأذان والتشهد والجمعة والعيدين ، فإن الذين نقلوا هذا هم الذين نقلوا
أحاديث الصفات ، فإن جاز عليهم الخطأ والكذب في نقلها جاز عليهم ذلك في نقل غيرها
مما ذكرنا ؛ وحينئذ فلا وثوق لنا بشيء نقل لنا عن نبينا صلىاللهعليهوسلم البتة ، وهذا انسلاخ من الدين والعلم والعقل ، على أن
كثيرا من القادحين في دين الإسلام قد طردوا وقالوا لا وثوق لنا بشيء من ذلك البتة.
قالوا : وأظهر شيء
الأذان والإقامة ، وقد اختلفوا عليه فيهما ، هل يرجع أم لا؟ ويثني الإقامة أو يفرد
، وهذا تشهد الصلاة قد اختلف فيه عنه صلىاللهعليهوسلم على وجوده ، وكذلك جهره بالبسملة وإخفاؤها ، وهو من أظهر
الأمور ، يفعل في اليوم والليلة خمس مرات بحضرة الجمع.
قالوا : وأظهروا
من ذلك حجة الوداع فإنها حجة واحدة ، وقد شاهده الجمع العظيم والجم الغفير ، فهذا
يقول أفرد ، وهذا يقول تمتع ، وهذا يقول قرن ، فكيف لنا بعد ذلك بالوثوق بشيء من
الأحاديث ، فلذلك أطرحناها رأسا ، فهؤلاء أعطوا الانسلاخ من السنة والدين حقه ،
وطرّدوا كفرهم وخلعوا ربقة الإسلام من أعناقهم ، وتقسمت الفرق قولهم هذا في رد
الأحاديث (فطائفة)
ردتها رأسا وجوزت
على رسول الله صلىاللهعليهوسلم الخطأ والغلط. وهؤلاء سلف الخوارج الذين قدح رئيسهم في
فعله صلىاللهعليهوسلم وقال له أعدل ، فإنك لم تعدل وقال له الآخر : إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله فقدح هذا في قصده وقدح الآخر في حكمه وعدله.
وطائفة أخرى قالوا : لا نقبل منها إلا ما وافق القرآن ، وما لا يشهد له
القرآن فإنا نرده ولا نقبله ، وهذه الطائفة هم الذين قال فيهم النبي صلىاللهعليهوسلم : «يوشك
الرجل أن يكون شبعان متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمرى فيقول : بيننا
__________________
وبينكم
القرآن ، فما وجدنا فيه من حلال حللناه ، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه : ألا وإن
ما حرم رسول الله صلىاللهعليهوسلم مثل
ما حرم الله» وفي «السنن» من
حديث المقدام بن معدي كرب قال : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «ألا
هل رجل يبلغه الحديث عني وهو متكئ على أريكته فيقول : بيننا وبينكم كتاب الله ،
فما وجدنا فيه حلالا استحللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ، وإن ما حرم رسول الله
، كما حرم الله» وممن أحسن الرد علي هذه الطائفة الشافعي رحمهالله في كتاب «جماع العلم» ، و «إبطال الاستحسان» وفي «الرسالة»
وغيرها.
وطائفة
ثالثة قالت : نقبل من
الأخبار عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم متواترها ونرد آحادها ، سواء كان مما يقتضي علما أو عملا ،
وقد ناظر الشافعي بعض أهل زمانه في ذلك ، فأبطل الشافعي قوله وأقام عليه الحجة ،
وعقد في «الرسالة» بابا أطال فيه الكلام في تثبيت خبر الواحد ولزوم الحجة به ،
وخروج من رده عن طاعة الله ورسوله ، ولم يفرق هو ولا أحد من أهل الحديث البتة بين
أحاديث الأحكام وأحاديث الصفات ، ولا يعرف هذا الفرق عن أحد من الصحابة ولا عن أحد
التابعين ، ولا من تابعهم ولا عن أحد من أئمة الإسلام ، وإنما يعرف عن رءوس أهل
البدع ومن تبعهم.
وطائفة
رابعة : ردت أخبار الصحابة
كلهم إلا ما كان من أخبار أهل البيت وشيعتهم خاصة ، وهذا مذهب الرافضة ، فلم يقبل
هؤلاء قول أبي بكر وعمر وعثمان.
وطائفة
خامسة : ردت أخبار
المقتتلين يوم الجمل وصفين ، وقبلت خبر غيرهم قالوا لأنه قد فسق إحدى الطائفتين
وهي غير معينة فلا يقبل خبرها ويقبل خبر غيرها.
وطائفة
سادسة : قبلت خبر الأربعة
بشرط تنائي بلدانهم ، وأن يكون كل واحد
__________________
منهم قبله عن غير
الذي قبله صاحبه ، ثم قبله عنه من أداه إلينا ممن لم يقبل عن صاحبه ، حكاه الشافعي
عمن ناظره عليه ورده إذا لم يكن على هذه الصفة.
قال الشافعي :
فقلت له : أرأيت لو لقيت رجلا من أهل بدر وهم المقدمون ممن أثنى الله عليهم في
كتابه ، فأخبرك عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم أكان يلزمك أن
تقول به؟ قال : لا يلزمنى ، لأنه قد يمكن في الواحد الغلط والنسيان ، ثم أخذ
الشافعي في إبطال هذا المذهب.
وطائفة
سابعة : قبلت خبر الواحد
إذا لم يكن بين الصحابة نزاع في مضمونه وردته إذا تنازعوا في حكمه ، حكاه الشافعي
أيضا ورده.
وطائفة
ثامنة : قبلت خبر الواحد
فيما لا يسقط بالشبهة ، وردته فيما يسقط بها كالحدود التي تدرأ بالشبهات ، وزعمت
أن احتمال الغلط والكذب عن الراوي شبهة في اسقاط الحد ، وهذا مذهب المعتزلة ،
وحكوه عن أبي عبد الله البصري.
وطائفة
تاسعة : ردت خبر الواحد
إذا لم يروه غيره ، وقبلته إذا رواه ثقة آخر فصاعدا حكاه عنهم أبو بكر الرازي من
الحنفية.
وطائفة
عاشرة : ردته فيما تعم به
البلوى وقبلته فيما عداه ، وحكوه عن أبي حنيفة ، وهو كذب عليه وعلي أبي يوسف ومحمد
، فلم يقل ذلك أحد منهم البتة ، وإنما هذا قول متأخريهم. وأقدم من قال به عيسى بن
أبان وتبعه أبو الحسن الكرخي وغيره.
وطائفة
حادية عشر : ردوه إذا كان
الراوي له من الصحابة غير فقيه بزعمهم وقبلوه إذا كان فقيها ، وبمثل ذلك ردوا
رواية أبي هريرة إذا خالفت آراءهم ، قالوا لم يكن فقيها ، وقد أفتى في زمن عمر بن
الخطاب وأقره علي الفتوى ، واستعمله نائبا علي البحرين وغيرهما ، ومن تلاميذه عبد
الله بن عباس وغيره من الصحابة ، وسعيد بن المسيب وغيره من التابعين.
قال البخاري : روي
العلم عنه ثمان مائة ما بين صاحب وتابع ، وكان من
أعلم الصحابة
بالحديث وأحفظهم له ، وكان قارئا للقرآن ، وكان عربيا ، والعربية طبعه ؛ وكان
الصحابة يرجعون إلى روايته ويعملون بها. نعم كان فقهه نوعا آخر غير الخواطر
والآراء.
قال الشافعي :
ناظرت محمدا في مسئلة المصراة فذكرت الحديث ، فقال هذا خبر رواه أبو هريرة ، وكان
الذي جاء به شرا مما فر منه أو كما قال.
وطائفة
ثانية عشر : ردوا الحديث إذا
خالف ظاهر القرآن بزعمهم ، وجعلوا هذا معيارا لكل حديث خالف آراءهم ، فأخذوا عموما
بعيدا من الحديث لم يقصد به فجعلوه مخالفا للحديث وردوه به ؛ فردوا حديث ابن عمر
في خيار المجلس بمخالفة قوله تعالى : (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ
اللهِ إِذا عاهَدْتُمْ) وردوا أحاديث القرعة لمخالفة ظاهر قوله تعالى : (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) وردوا حديث عمران بن الحصين فيمن أعتق ستة أعبد في مرض
موته لمخالفة ظاهر قوله : (أَوْفُوا
بِالْعُقُودِ) وردوا أحاديث فاطمة بنت قيس لمخالفة ظاهره قوله : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ
مِنْ وُجْدِكُمْ) وردوا أحاديث رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة لمخالفة ظاهر
قوله : (لا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ) وردوا أحاديث الشفاعة لمخالفة ظاهر قوله : (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ
فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) وردوا حديث العرايا والمصراة لمخالفة ظاهر الربا لهما ،
وردوا حديث «لعن الله المحلل والمحلل له» بظاهر قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) وردوا حديث «من وجد متاعه بعينه عند رجل قد أفلس فهو أحق
به» بظاهر قوله : (يا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وردوا حديث «النهي عن بيع الرطب بالتمر» بظاهر قوله : (وَأَحَلَّ اللهُ
الْبَيْعَ) وردوا حديث
__________________
«النهى عن بيع الحاضر
للبادي وعن تلقي الركبان» بهذا الظاهر ، وردوا حديث الحكم بالشاهد واليمين بظاهر قوله : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجالِكُمْ) (البقرة : ٢٨٢)
ورودا حديث «لا
يقتل مؤمن بكافر» بظاهر قوله : (النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ) (المائدة : ٤٥)
ورودا حديث : «لا
نكاح إلا بولي» بظاهر قوله : (حَتَّى تَنْكِحَ
زَوْجاً غَيْرَهُ) وردوا حديث إباحة لحوم الخيل بظاهر قوله (وَالْخَيْلَ
وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً) (النحل : ٨).
وردوا حديث : «ليس فيها دون خمسة
أوسق صدقة» بظاهر قوله : (أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ) (البقرة : ٢٦٧)
وظاهر قوله «فيما سقطت السماء العشر» وردوا «ذكاة
الجنين ذكاة أمه» بظاهر قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ
الْمَيْتَةُ) وردوا حديث تحريم تفضيل بعض الولد على بعض في العطية ،
وقوله : «إن
هذا لا يصلح» وتسميته إياه
جورا وامتناعه من الشهادة على الجور ، وقوله : «اشهدوا على هذا غيرى» تهديدا وإعلاما أن مسلما لا يشهد على مثل ذلك ، وقد امتنع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم من الشهادة عليه ، وردوا حديث «لا صلاة لمن لم يقرأ
فيها بفاتحة الكتاب» بقوله : (فَاقْرَؤُا
__________________
ما
تَيَسَّرَ مِنْهُ) (المزمل : ٢٠)
وردوا حديث «لا
يقبل الله صلاة من لا يقيم صلبه بين ركوعه وسجوده» بظاهر قوله : (وَاسْجُدِي وَارْكَعِي
مَعَ الرَّاكِعِينَ) (آل عمران : ٤٣)
وردوا الحديث لكونه يتضمن زيادة على القرآن فيكون نسخا له والقرآن لا ينسخ
بالحديث. وردوا بهذه القاعدة الفاسدة ما شاء من الأحاديث الصحيحة الصريحة. كأحاديث
فرض الطمأنينة ، وأحاديث فرض الفاتحة ، وحديث تغريب الزاني.
وقد أنكر الأئمة
على من رد أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بالقرآن ، وقالوا لا ترد السنة بالقرآن فكيف بمن ردها برأى
أو قياس أو قاعدة هو وضعها ، ولهذا الصواب مع من قبل حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصحيح الثابت عنه صلىاللهعليهوسلم من غير وجه «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه» دون من رده بظاهر القرآن (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ
وِزْرَ أُخْرى) (الأنعام : ١٦٤)
وأعجب من ذلك من رده بقوله : (وَأَنَّهُ هُوَ
أَضْحَكَ وَأَبْكى) (النجم : ٤٣) وكان
الصواب مع حديث فاطمة بنت قيس في إسقاط النفقة والسكنى للمبتوتة دون من رده بقوله تعالى : (أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ
حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ) (الطلاق : ٦) وكان
الصواب قبول حديث خطاب النبي صلىاللهعليهوسلم لقتلى بدر دون رده بقوله تعالى : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (النمل : ٨٠) وهذا
وإن وقع لبعض الصحابة فلم يتفقوا كلهم عن رد هذه الأحاديث بالقرآن ، بل كان الذين
قبلوه أضعاف أضاف الذين ردوه ، وقولهم وهو الراجح قطعا دون قول الآخرين فلا يرد
حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم بشيء أبدا إلا بحديث مثله ناسخ له يعلم مقاومته له
ومعارضته له وتأخره عنه ، ولا يجوز رده بغير ذلك البتة.
__________________
وطائفة أخرى ردت
الأحاديث بعدم معرفتها بمن ذهب إليها ، وسموا عدم علمهم إجماعا وردوا به كثيرا من
السنن ، وبالغ الشافعى وبعده الإمام أحمد في الإنكار على هؤلاء ووسع الشافعى الرد
عليهم في الرسالتين وكتاب «جماع العلم» وغيرها ، ولا يتصور أن تجتمع الأمة على
خلاف سنة رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، قط إلا أن يكون هناك سنة صحيحة ومعلومة ناسخة ، فتجمع
على القول بالسنة الناسخة ، وأما أن تتفق على العمل بترك حديث لا ناسخ له ، فهذا
لم يقع أبدا ، ولا يجوز نسبة الأمة إليه ، فإنه قدح فيها ونسبة لها إلى ترك الصواب
والأخذ بالخطإ.
(خطأ مقولة : أجمعوا على كذا)
قال الإمام أحمد
في رواية ابنه عبد الله : من ادعى الإجماع فقد كذب ، لعل الناس قد اختلفوا هذه
دعوى بشر المريسي والأصم ، ولكن يقول : لا أعلم الناس اختلفوا قال : في رواية
المروذي : كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم ، لو
قال إني لا أعلم لهم مخالفا جاز ، وقال في رواية أبي طالب : هذا كذب ما أعلمه أن
الناس مجمعون ، ولكن يقول : لا أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله إجماع الناس.
وقال في رواية ابن
الحارث : لا ينبغى لأحد أن يدعى الإجماع ، لعل الناس اختلفوا.
وليس مراده بهذا
استبعاد وجود الإجماع ، ولكن أحمد وأئمة الحديث بلوا بمن كان يرد عليهم السنة
الصحيحة بإجماع الناس على خلافهم ، فبين الشافعي وأحمد أن هذه الدعوى كذب ، وأنه
لا يجوز رد السنن بمثلها. قال الشافعي في رواية الربيع عنه ما لا يعلم. فيه نزاع
ليس إجماعا ، وقال أيضا : وقد أنكر على منازعة دعوى الإجماع وبيّن بطلانها.
قال فهل من إجماع؟
قلت نعم بحمد الله كثير في جهل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك هو الذي إذا قلت :
أجمع الناس لم تجد أحدا يعرف شيئا يقول لك ليس هذا بإجماع فيها وفي أشياء من أصول
العلم دون فروعه ودون الأصول غيرها.
ثم قال الشافعي :
فقال قد ادعى بعض أصحابك الإجماع بالمدينة ، فقلت له :
فما قلت وسمعت أهل
العلم غيرك في كل بلد يقولون فيما ادعى من ذلك؟ قال : ما سمعت منهم أحدا أذكر قوله
إلا عاتبا لذلك ، وأن ذلك عندى لمعيب. ثم قال بعد ذلك أو ما كفاك عيب الإجماع أن
لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم دعوى الإجماع إلا فيما لا يختلف فيه أحد إن كان أهل زمانك
هذا. قال فقد ادعاه بعضكم أفحمدت ما ادعاه منه؟ قال : لا. قلت : فكيف صرت إلى أن
تدخل فيما ذممت في أكثر ما عبت ، ألا يستدل من طريقك أن الإجماع هو ترك ادعاء
الإجماع ، وهذا كثير في كلامه رحمهالله.
والمقصود أن أئمة
الإسلام لم يزالوا ينكرون على من رد سنن رسول الله صلىاللهعليهوسلم بكونه لا يعلم بها قائلا ويزعم أن ذلك إجماع ، ولا يتوقف
العمل بالحديث على أن يعلم من عمل به من الأمة ، بل هو حجة بنفسه عمل به أو لم
يعمل ويمكن أن تجتمع الأمة على ترك العمل به البتة ، بل لا بد أن يكون في الأمة من
ذهب إليه وإن خفى عن كثير من أهل العلم قوله.
* * *
فصل
(ليس في السنة ما يخالف الإجماع)
ونحن نقول قولا
كليا نشهد الله تعالى عليه وملائكته أنه ليس في حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم ما يخالف القرآن ولا ما يخالف العقل الصريح ، بل كلامه
بيّن للقرآن ؛ وتفسير له ؛ وتفصيل لما أجمله ، وكل حديث من رد الحديث لزعمه أنه
يخالف القرآن فهو موافق للقرآن مطابق له ، وغايته أن يكون زائدا على ما في القرآن
، وهذا الذي أمر رسول الله صلىاللهعليهوسلم بقبوله ونهى عن رده بقوله : «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه
الأمر من أمري فيقول لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه» فهذا الذي وقع من وضع قاعدة باطلة له لرد الأحاديث بها
بقولهم في كل حديث زائد علي ما في القرآن : هذا زيادة على النص ، فيكون
__________________
نسخا ، والقرآن لا
ينسخ بالسنة ، فهذا بعينه هو الذي حذر منه رسول الله صلىاللهعليهوسلم أمته ونهاهم عنه ، وأخبرهم أن الله تعالى أوحى إليه الكتاب
ومثله معه ، فمن رد السنة الصحيحة بغير سنة تكون مقاومة لها متأخرة عنها ناسخة لها
، فقد رد علي رسول الله صلىاللهعليهوسلم ورد وحي الله.
قال الشافعي : إن
الله تعالى وضع نبيه صلىاللهعليهوسلم من كتابه ودينه بالموضع الذي أبان في كتابه : الفرض على
خلقه أن يكونوا عالمين بأنه لا يقول إلا بما أنزل إليه ، وأنه لا يخالف كتاب الله
، وأنه بين عن الله تعالى ما أراد الله. قال : وبيان ذلك في كتاب الله. قال الله
تعالى : (وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ
آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا) (يونس : ١٥) إلي
قوله : (إِنْ أَتَّبِعُ
إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) (الأنعام : ٥٠)
ومثل هذا في غير آية. أخبرنا الدراوردي عن عمرو عن المطلب بن حنطب أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال : «ما
تركت شيئا مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به ، ولا تركت شيئا مما نهاكم الله
عنه إلا وقد نهيتكم عنه» .
قال الشافعي : فرض
الله تعالى على نبيه صلىاللهعليهوسلم أن يتبع ما أوحى إليه وقال : لا يمكن الناس علي بشيء ،
فإني لا أحل لهم إلا ما أحل الله ، ولا أحرم عليهم إلا ما حرم الله ، وكذلك صنع
رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، وبذلك أمر أن يتبع ما أوحى اتباع سنته فيه ، فمن قبل منه
فإنما قبل بفرض الله ، قال الله تعالى : (وَما آتاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (الحشر : ٧) وقال
تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا
يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي
أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء : ٦٥).
وقال الإمام أحمد
: من رد حديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم فهو على شفي هلكة ، وقال تعالى : (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ
عَنْ أَمْرِهِ) (النور : ٦٣)
الآية ، وأي فتنة إنما هي الكفر.
__________________
وقال الشافعي :
قال الله تعالى : (أَيَحْسَبُ
الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) (القيامة : ٣٦)
فلم يختلف أهل العلم بالقرآن فيما علمت أن السدي هو الذي لا يؤمر ولا ينهي ومن
أفتى أو حكم بما لم يؤمر به فقد أجاز لنفسه أن يكون في معنى السدي.
قال : وقد جعل
الله الحق في كتابه ثم سنة نبيه صلىاللهعليهوسلم فليست تنزل بأحد نازلة إلا والكتاب يدل عليها نصا أو جملة
، ثم ذكر بعض ما حرم الله تفصيلا.
قال : والجملة ما
فرض الله من صلاة وزكاة وحج ، فدل رسول الله صلىاللهعليهوسلم كيف الصلاة وعددها ووقتها والعمل فيها ، وكيف الزكاة وفي
أي المال وفي أي وقت هي وكم قدرها وكيف الحج والعمل فيه وما يدخل به فيه ويخرج به
منه.
وقد صنف الإمام
أحمد كتابا سماه كتاب «طاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم» رد فيه على من احتج بظاهر القرآن وترك ما فسره رسول الله صلىاللهعليهوسلم ودل على معناه ، رواه عنه ابنه صالح ، قال في أوله :
إن الله جل ثناؤه
وتقدست أسماؤه بعث محمدا صلىاللهعليهوسلم بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ،
وأنزل عليه كتابا هاديا له ولمن تبعه ، وجعل رسوله صلىاللهعليهوسلم الدال على ما أراد من ظاهره وباطنه ، وخاصه وعامه وناسخه
ومنسوخه ، وما قصد به الكتاب ، وكان رسول الله صلىاللهعليهوسلم هو المعبر عن كتاب
الله الدال علي معانيه ، وشاهده في ذلك أصحابه ، ونقلوا ذلك عنه ، وكانوا هم
المعبرين عن ذلك بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم قال جابر بن عبد الله ورسول الله صلىاللهعليهوسلم بين أظهرنا ، عليه ينزل القرآن وهو يعرف تأويله ، وما عمل
به من شيء علمنا وقال قوم : بل نستعمل الظاهر : وتركوا الاستدلال برسول الله صلىاللهعليهوسلم لم يقبلوا أخبار أصحابه. وقال ابن عباس للخوارج : أتيتكم
من عند أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم المهاجرين والأنصار ومن عند ابن عم رسول الله صلىاللهعليهوسلم وصهره وعليهم نزل القرآن ، وهم أعلم بتأويله منكم ، وليس
فيكم منهم أحد ، ثم ساق النصوص الموجبة لمتابعة الرسول ، ثم ذكر الآيات التي فسرت
السنة مجملها.
المقصود أن أئمة
الإسلام جميعهم على هذه الطريقة ، الأخذ بحديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا صح ، ولم يأت بعده حديث آخر ينسخه ، سواء عرفوا من عمل
به
أم لا ، وسواء عمل
الناس بخلافه أو بوفاقه ، فلا يتركون الحديث لعمل أحد ، لا يتوقفون في قبوله على
عمل أحد ، ولا يعارضونه بالقرآن ولا بالإجماع ويعلمون أن هذه المعارضة من أبطل
الباطل.
فصل
وطائفة أخرى ردت
أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا كانت في باب الصفات ، وقبلتها إذا كانت في باب الأحكام
والزهد والرقائق ونحوها ، وهؤلاء طوائف من أهل الكلام المبتدع المذموم ، وجعلوا
قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ
شَيْءٌ) مستندا لهم في رد الأحاديث الصحيحة تلبيسا منهم وتدليسا
على من هو أعمى قلبا منهم وتحريفا لمعنى الآية عن موضعه ففهموا به من أخبار الصفات
ما لم يرده الله ولا رسوله ، ولا فهمه أحد من أهل الإسلام أنها تقتضى إثبات على
وجه التمثيل بما للمخلوقين.
فصل
وقد عرفت فيما
تقدم المقام التاسع والعاشر : وهو أن قولهم خبر الواحد لا يفيد العلم ، قضية كاذبة
باتفاق العقلاء إذا أخذت كلية عامة ، وقضية لا تفيد إن أخذت جزئية أو مهملة ، فإن
عاقلا لا يقول : كل خبر واحد لا يفيد العلم حتى تنتصبوا للرد عليه كأنكم في شيء ،
وكأنكم قد كسرتم عدو الإسلام ، فتسودتم الأوراق بغير فائدة حتى كذب بعض الأصوليين
كذبا صريحا لم يقله أحد قط.
فقال : مذهب أحمد
بن حنبل في إحدى الروايتين عنه أن خبر الواحد يفيد العلم من غير قرينة ، وهو مطرد
عنده في خبر كل واحد.
فيا لله العجب كيف
لا يستحي العاقل من المجاهرة بالكذب علي أئمة الإسلام ، لكن عذر هذا وأمثاله أنهم
يستجيزون نقل المذاهب عن الناس بلازم أقوالهم ، ويجعلون لازم المذهب في ظنهم مذهبا
، كما نقل بعض هؤلاء المباهتين أن مذهب أحمد بن حنبل وأصحابه أن الله لا يرى يوم
القيامة ، قال لأنه يقول أنه لا يري إلا الأجسام ، وقد قام الدليل على أنه سبحانه
وتعالى ليس بجسم ، فلا يكون مرئيا على قولهم ، ونقل هذا أيضا أن مذهبهم أن الله
تعالى
يجوز أن يتكلم
بشيء ولا يعنى به شيئا إلزاما لهم من قولهم إنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ،
بهذا القول الباطل الذي لم يقله أحد من أهل الأرض ، وكما نقل هذا أو غيره من أهل
البهتان أن مذهبهم أن الله جسم إلزاما لهم بقولهم إن الله مستو على عرشه فوق
سماواته بائن من خلقه موصوف بصفات الكمال.
وبالجملة فمن
يستجيز الكذب على الله ورسوله ، ويخبر عنه ما لم يخبر عن نفسه ، وينفي عنه ما
أثبته لنفسه ، يقول علي الله ما لا يعلم ، كيف لا يستجيز الكذب علي مخلوق مثله
قلبه ملآن من الهوى والغل عليه وعلي أشباهه وأتباعه فالله الموعد (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ
مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (الشعراء : ٢٢٧).
وأما الشهادة على
رسول الله صلىاللهعليهوسلم بمضمون هذه الأحاديث فمما لا يستريب فيه من له أدنى علم
بالسنن والآثار وقول الصحابة : قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم لما أخبرهم به المخبر عنه ، وقول التابعين كذلك ، وقول
تابعى التابعين ؛ وقول جميع أئمة الإسلام في كتبهم والشهادة لا يشترط فيها قول
أشهد.
قال ابن عباس :
شهد عندي رجال مرضيون ، وأرضاهم عندي عمر أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم نهى عن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس ، وبعد العصر حتى
تغرب الشمس ومعلوم أنهم لم يتلفظوا بلفظ أشهد ، وقال تعالى : (قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ
يَشْهَدُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ) (الأنعام : ١٥٠)
وشهادتهم إخبارهم أن الله تعالى حرمه. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على
محمد وآله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا من يومنا هذا إلى يوم الدين.
تم بحمد الله
تعالى وحسن توفيقه وإعانته وتسديده هذا المختصر المفيد المشتمل على تقرير طريقة
أهل السنة والجماعة والرد على مخالفيهم من أهل البدعة والشناعة ، فرحم الله مؤلفه
وجزاه عن أهل السنة خيرا.
وقال محققه : ورحم
الله مختصره بتقريبه عقيدة أهل الحق وتيسيره على المسلمين وشملنا معهم بعظيم لطفه
وعفوه آمين.
__________________
فهرس الصواعق
فصل فى كسر الطاغوت الثالث : وهو طاغوت
المجاز......................... ٣٨١
تقسيم الألفاظ إلى حقيقة ومجاز ليس
تقسيما شرعيا ولا عقليا................... ٣٨٤
فى معنى قوله تعالى (كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ)................................... ٤٠٦
خصائص الإضافات لا تخرج اللفظ عن
حقيقته................................ ٤١٠
جهالة التحكم فى استعمال الألفاظ........................................... ٤١٢
إذا خص من العموم شيء لم يصر اللفظ
مجازا فيما بقى / وكلام صاحب السمع. ٤٢١
اللغة على قولهم إما أن تكون كلها
حقيقة أو كلها مجازا......................... ٤٢٤
أنواع القرائن................................................................ ٤٢٧
معانى الكلام : إما خبر وإما طلب وإما
استفهام................................ ٤٣٤
منهم من قال : إن أكثر ألفاظ القرآن
واللغة مجازا.............................. ٤٤٣
فصل : فى الرد على ابن جنى................................................ ٤٤٤
اختلاف الأفعال بجسب متعلقها.............................................. ٤٥٩
أمثلة مما ادعوا فيه المجاز من كلام
الله ورسوله................................ ٤٦٩
المثال الأول فى «المجىء»................................................. ٤٦٩
المثال الثانى في اسمه تعالى «الرحمن»....................................... ٤٧١
أنواع الإلحاد فى أسماءه سبحانه.............................................. ٤٧٤
الفرق بين رحمة الخالق ورحمة المخلوق...................................... ٤٧٨
المثال الثالث فى معنى : الاستواء............................................ ٤٨٨
أنواع تحريف الكلام......................................................... ٥٠٥
المثال الرابع فى : اليدين.................................................... ٥١١
خلق آدم باليدين نيفى المجاز عنهما.......................................... ٥١٥
قول الأشعرى بإثبات اليد حقيقة لله........................................... ٥٢٦
خاتمة لهذا الفصل : ذكر بعض الآيات
والأحاديث التى وردت فى لفظ اليد...... ٥٢٨
المثال الخامس فى : إثبات الوجه لله
سبحانه.................................. ٥٣١
المثال السادس فى : اسمه تعالى «النور»..................................... ٥٤٦
المثال السابع فى «الفوقية»................................................. ٥٦١
المثال الثامن فى «النزول»................................................... ٥٧٧
طرق أحاديث النزول......................................................... ٥٨٨
تواترت الأحاديث والآثار وآيات القرآن
على النزول إلى الأرض يوم القيامة....... ٦٠٥
فصل : أقوال العلماء في كيفية النزول......................................... ٦٠٩
ما نقل عن الإمام أحمد من تأويل النزول
والجواب عنه......................... ٦١٦
المثال التاسع فى «المعية»................................................... ٦١٩
المثال العاشر فى «النداء والصوت».......................................... ٦٣٢
الكلام على حديث : «فينادبهم بصوت»..................................... ٦٣٣
كلام الله للناس يوم القيامة................................................... ٦٣٩
فصل : اختلاف الناس فى «صفة الكلام»..................................... ٦٤٢
مذهب الفلاسفة فى ذلك.................................................... ٦٤٣
مذهب أهل السنة فى إثبات صفة الكلام...................................... ٦٤٨
فصل : القرآن كلام الله غير مخلوق.......................................... ٦٥٣
فصل : فى ذكر ما وقع بين البخارى
وأصحابه فى هذه المسألة................. ٦٦١
فصل : صفة الكلام بصوت.................................................. ٦٧٩
فصل : هل كلام الرب بمشيئة أم بغير
مشيئة.................................. ٦٨١
فصل منه : هل يسمع كلام الله على
الحقيقة؟!................................ ٦٨٢
فصل : هل الكلام لله على الحقيقة أم
مجاز................................... ٦٨٣
فصل : كسر الطاغوت الرابع : وهو
التعطيل.................................. ٦٨٥
فصل : فهم الصحابة والتابعين وتفسيرهما
مقدم على فهم غيرهم................ ٦٩٨
فصل : كلام الشافعى فى الاحتجاج بالسنة.................................... ٧٠٣
فصل : الحكم فى خبر الآحاد............................................... ٧١١
فصل : الأدلة على أن خبر الواحد العدل
يفيد العلم........................... ٧٣٩
فصل : قول أبو المظفر منصور بن محمد
السمعاني فى خبر الآحاد............. ٧٤٩
فصل : تقسيم الدين إلى أصول وفروع
تقسيم باطل............................ ٧٥٥
فصل : اختلاف درجة الدليل باختلاف فهم
المستدل.......................... ٧٧١
فصل : انعقاد الإجماع على قبول أحاديث
الآحاد.............................. ٧٧٢
فصل : ليس فى السنة ما يخالف الإجماع..................................... ٧٨٠
* * *
|