مديح القرآن الکبیر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي منّ علينا بوحي كتابه وتنزيله ، وبما ولي تبارك وتعالى من أحكامه وتفصيله ، بالإعراب والتبيين ، وبما جعل فيه من دلائل الي قين ، على وحدانيته ودينه ، وبما نوّر في ذلك من تبيينه ، وقوّم سبحانه من صراطه وسبيله ، بما شرع فيه من تحريمه وتحليله ، وأقام به على كل صالحة مرشدة من دليله ، وفصّل سبحانه من كلامه فيه وقيله ، ومن أصدق من الله قيلا ، وأحكم لكلّ شيء تفصيلا ، فنزله بنور هداه تنزيلا ، فلم يغب في ذلك كله عنه من الهدى غائب ، ولم (١) يخب من طلاب الهدى (٢) به ولا فيه قط خائب ، فيعدم من الهدى مراد مطلوب ، ولا يحتجب عن الطالب له من هداه محجوب ، أنزله الله بتفصيله إنزالا ، فقال تبارك وتعالى ، فيما نزّل منه (٣) لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً) [الأنعام : ١١٤]. فجعله منه بفضله ورحمته وحيا منزلا ، وقال سبحانه فيه : (وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥٢) [الأعراف : ٥٢]. وقال سبحانه في تنزيله ، وما منّ به فيه (٤) من تفصيله : (حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤)) [فصلت : ١ ـ ٤]. فجعله سبحانه لعباده بشيرا ونذيرا ، ووضعه للمؤمنين برحمته سراجا منيرا.

__________________

(١) في (ب) : ولا.

(٢) في (أ) و (ب) : الهداية ولا.

(٣) في (أ) و (د) : ولا يحتجب عن الطلب له في هداه فيه محجوب. و (ب) : ولا يحتجب عن هداه فيه محجوب.

(٤) سقط من (ج) و (د) و (ه) : فيه.

[أهل الذكر]

فمن أراد سرّ الأسرار ، وعلانية مكتوم الأخبار ، التي أظهرها الله لصفوته من الأبرار،(١) وخصّ بعلمها من انتجبه لها (٢) من الأخيار ، فحباهم بفهمها واستخراجها ، ودلّ منهم بها من استدلّ على منهاجها ، فكشف لهم منها (٣) عن أنوار النور ، وبيّن لهم منها ما التبس على غيرهم من الأمور ، فظهر لمن هداه الله بهم منها (٤) مكتومها ، وأسفر بعون الله لمن طلب علمها معلومها ، فسكنت إليها الأنفس ، ونطق بها البكم الخرس ، فقالوا : بها ناطقين ، ونطقوا بها (٥) صادقين ، وحيوا بروحها بمنّ الله من كل هلكة وموت ، وتحركوا بحياتها من بعد خمود وخفوت ، ومشوا بنورها مبصرين في الناس ، وخرجوا بضيائها من الظلمات والالتباس ، كما قال سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) [الأنعام : ١٢٢]. وفيما بيّن الله سبحانه من آياته ، لمن آمن به (٦) ، ما يقول تبارك وتعالى : (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران : ١١٨].

وفي أن وحي الله حياة من أمر الله وروح ، ونور وهدى ورشد ساطع يلوح ، ما يقول سبحانه في وحيه ، وفيما نزّل (٧) منه على نبيه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣)

__________________

(١) في (ج) : الأنوار.

(٢) في (ب) : لنا.

(٣) في (ب) و (د) : بها.

(٤) سقط من (ب) : منها.

(٥) في (ج) : عنها.

(٦) سقط من (أ) و (ب) و (د) : لمن آمن به.

(٧) في (ب) : ينزل.

[الشورى : ٥٢ ـ ٥٣]. فجعله روحا محييا لمن قبله ، ونورا مضيئا لمن تأمله ، فنحمد الله على ما جعل فيه لأهله (١) من الحياة ، ووهب لهم به من الفوز والنجاة.

وقد ظن من ليس ببرّ ولا تقيّ ، من كلّ ضلّيل تائه (٢) شقي ، بجهله وضلاله واحتياره ، وقلّة علمه بكتاب (٣) الله وأسراره ، وعند ما اقتصر عليه من نظره ، ونقص فكره وتحيّره ، ولتركه (٤) علم ما خفي عليه من آياته ، عند من جعله الله معدنا لعلم خفياته ، ممن انتجب واصطفى ، وجعل له المنزلة ـ عنده (٥) ـ الزلفى ، أن في كتاب الله تناقضا واختلافا ، وأنه إنما اعتسف القول فيه اعتسافا ، فقاده جهله بالكتاب ، إلى جهل رب الأرباب ، لأن من جهل صنع الله للكتاب في آية واحدة من آياته ، كمن (٦) جهل صنع الله في أرضه وسماواته ، لا فرق بين ذلك في حكمة ولا حكم ، وواحد (٧) ذلك كله في الخطيئة والجرم ، فمن جهل أن كل ما (٨) سمع من آية الكتاب فوحي الله وتنزيله ، وأن كل آية منه فلا (٩) يحتملها ولا يحكمها إلا حكمة الله (١٠) وتفصيله ، فهو بكتاب الله من الجاهلين ، وعن حكمة الله(١١) فيه من الضالين ، بل هو بالله في جهله ذلك إن جهله من الكافرين ، ولأكثر (١٢) نعم الله عليه فمن غير الشاكرين ، والحمد لله فيه لا شريك له رب العالمين ، ونعوذ بالله في كتابه من عماية العمين ، ونسأله أن يجعلنا لهداه فيه من

__________________

(١) سقط من (ج) : لأهله.

(٢) سقط من (ج) : تائه :

(٣) في (د) : لكتاب.

(٤) سقط من (ب) : ولتركه.

(٥) في (ب) : عند الله.

(٦) في (أ) : فقد جهل.

(٧) في (ب) : واحد.

(٨) في (ج) : أن ما كل سمع في آية من آيات الكتاب وحي.

(٩) في (أ) : ولا يحتملها فلا يحكمها. وفي (ب) : ولا يحتملها ولا يحكمها.

(١٠) سقط من (ب) : الله.

(١١) في (ب) : حكمه فيه. وفي (أ) و (ه) : وعن حكم الله فيه.

(١٢) في (ج) : ولأكبر.

المتبعين ، وبما نزل فيه من حكمته ورحمته من المنتفعين.

وفيما أمر به من اتباعه ، في الإنصات له واستماعه (١) ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ) (١٠٦) [الأنعام : ١٠٦].

وفي ذلك أيضا ما يقول لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) (١٨) [الجاثية : ١٨].

وفي الإنصات والاستماع ما يقول سبحانه : (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٢٠٤) [الأعراف : ٢٠٤].

[القرآن عظة ونور]

وفيما في تنزيل الله من الموعظة والنور ، وما جعله عليه من الشفاء لما في الصدور ، ما يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ) (٥٧) [يونس : ٥٧] ، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم إلى ما فيه من الهدى والنور من المهتدين.

وفي تبيين ما نزّل الله في كتابه من الآيات ، وجعل فيه من المواعظ الشافيات ، لمن قبله وفهمه عن الله جل جلاله ، من عباده البررة المتقين الأتقين (٢) ما يقول سبحانه : (وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤) * اللهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) و (د) : واستماعه.

(٢) سقط من (أ) : الأتقين.

عَلِيمٌ) (٣٥) [النور : ٣٤ ـ ٣٥]. فمثّل سبحانه ما في كتابه من نوره وهداه ، وما وهب ـ من تبيينه فيه برحمته ـ أولياءه ، بمشكاة (١) قد ملئت نورا بمصباح في زجاجة نقية ككوكب (٢) دريّ ، ومثّل كتابه بما فيه من هداه بنور مصباح زاهر مضيّ ، قد نقيا من كل ظلمة وغلس ، (٣) وصفيا من كل كدر ونجس ، فأعلمنا سبحانه بأنه هو نور السماوات والأرض ومن فيهما ، إذ هو الهادي لكلّ من اهتدى من أهليهما.

وقد قيل في التفسير : إن المشكاة هي الكوة ، التي يجمع (٤) ما فيها كما يجمع ما فيه السقا والشكوة ، (٥) فنور هدى كتاب الله محفوظ (٦) بالله مجتمع ، وكل من وفقه الله لرشده فهو لأمر الله كله فيه متبع ، لا (٧) يسوغ لأحد عند الله من خلافه سائغ ، ولا يزيغ عن (٨) حكم من أحكام الله فيه (٩) إلا زائغ ، يزيغ الله قلبه بزيغه عنه ، ويفارق من الهدى بقدر ما فارق منه ، كما قال علام الغيوب : وخلّاق ما ضل (١٠) واهتدى من القلوب : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) [الصف : ٥].

[القرآن الحكم الفصل]

وفيما جعل الله في كتابه من الحكم والفرقان والفصل ، ما يقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) (١٤) [الطارق : ١٣ ـ ١٤]. والفصل فهو الحكم

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (د) و (ه) : مشكاة.

(٢) في (ج) : كوكب.

(٣) في (ب) وغيس. والغلس : ظلمة آخر الليل.

(٤) في (أ) و (د) : تجمع.

(٥) الشكوة : هي وعاء من جلد كالقربة يبرد فيه الماء.

(٦) في (ج) : تحتفظ.

(٧) سقط من (أ) و (د) : فيه. وفي (ب) : متبع ، ولا.

(٨) سقط من (ب) : عن.

(٩) سقط من (ج) : فيه.

(١٠) في (ب) و (د) : ما أضل ..

الجد الرشيد ، والهزل فهو اللعب والكذب والتفنيد ، وفي ذلك ومثله ، وما نزل الله فيه من فصله ، ما يقول سبحانه : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) (١) [الفرقان : ١].

والفرقان فهو : التفصيل من الله فيه لرشده. فمن لم يرشد بكتاب الله فلا رشد ، ومن ابتعد عن كتاب الله فبعد ، كما بعدت عاد وثمود ، ومن لم يهتد في أمره (١) بكتاب الله وتنزيله ، لم يهتد بغيره (٢) للحق أبدا ولا لسبيله ، (٣) بل لن يبصر ولن يرى ، للحق عينا (٤) ولا أثرا ، ولا يزال ـ ما لم يراجعه ـ متحيرا ضالا ، ومعتقدا ـ ما بقي كذلك ـ حيرة وضلالا ، يعد نفعا له ما يضره ، وثقة عنده أبدا من يغرّه ، مرحا لهلكته فرحا ، يرى غشه له برا ونصحا ، يخبط بنفسه كل ظلمة وعشواء ، (٥) متبعا في دينه وأمره كله لما يهوى ، إن قال مبتديا عسّف ، أو حكى عن غيره حرّف ، افتراء وبهتانا ، وقسوة ونسيانا ، أثرة منه للباطل على الحق ، ونقضا لما عقد عليه من العهد والموثق ، كما قال الله سبحانه : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٣) [المائدة : ١٣].

فالويل كل الويل لمن لم يكتف في أموره وأمور غيره بتنزيل (٦) رب العالمين ، كيف عظم ضلاله وغيه؟! وضلت أعماله وسعيه ، فيحسبه محسنا وهو مسيء ، ورشيدا في أمره وهو غوي ، كما قال سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (١٠٣) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ

__________________

(١) في (أ) و (د) : أمر.

(٢) في (أ) و (د) : بغير الحق.

(٣) في (أ) : ولا سبيله.

(٤) في (أ) و (د) : غيبا ولا يرا (وهو تصحيف).

(٥) سقط من (ب) : وعشواء.

(٦) في (ب) : بتنزيل الله رب.

يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (١٠٤) [الكهف : ١٠٣ ـ ١٠٤] ، أفليس هذا هو الذي ظن والله المستعان ضرّه له نفعا؟! وحسب ضلالته هدى ، وهدايته إلى الجنة ردى ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (٣٦) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣٧) [الزخرف : ٣٦ ـ ٣٧].

وفي القرآن وأمره ، وما عظّم الله من قدره ، ما يقول سبحانه : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) (٢١) [الحشر : ٢١].

وفيه وفي خلاله ، وما منّ الله (١) به من إنزاله ، ما يقول تباركت أسماؤه لمن نزله عليهم (٢) كلهم جميعا معا : (وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً) [الرعد : ٣١].

أو لم يسمع من آمن (٣) بالله سبحانه في آيات نزلها (٤) من الكتاب : (هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٥٢) [إبراهيم : ٥٢] ، وفي مثل ذلك بعينه ، وفيما (٥) أنزل من تبيينه ، ما يقول سبحانه : (هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (١٣٨) [آل عمران : ١٣٨]. ويقول سبحانه : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩]. فجعله سبحانه تبيانا وحجة على من فسق وكفر ، وهدى ورحمة وموعظة لمن اتقى وشكر.

__________________

(١) في (ب) : وفي جلاله وما منّ الله. وفي (ج) : حلاله. وسقط من (ج) و (د) و (ه) : الله.

(٢) في جميع المخطوطات : عليه. ولعلها كما أثبت.

(٣) في (أ) : من قول الله. وفي (ب) : أو لم تسمع من أمر الله قول.

(٤) سقط من (ب) و (د) : نزلها.

(٥) في (ج) : وما أنزل الله من تبيينه. وفي (أ) و (د) : وفيما أنزل الله.

[القرآن رحمة وشفاء]

وفيه وفي رحمة الله به وشفائه ، وما جعل (١) فيه لكل ذي حكم من أكفائه ، ما يقول سبحانه : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٥١) [العنكبوت : ٥١]. فمن لم يكتف بضيائه فلا كفي ، ومن لم يشتف بشفائه فلا شفي ، ففيه شفاء كل داء ، وبيان كل قصد واعتداء ، فلا يعرض عنه أبدا مهتد ، ولا يصد عنه إلّا كل معتد ، هالك مهلك ، يأفك ويؤفك ، يفتري على الله الإفك والزور ، (٢) ويؤثر على اليقين بالله الغرور ، فهو أبدا التائه المغرور ، وقلبه فهو الخراب البور ، (٣) الذي لم يعمر بهدى الله منه معمور ، ولم يسكنه من أنوار حكمة الله نور.

أو ما سمع ـ ويله ـ قول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً) [المائدة : ٤٨] ، فكفى بهذا على من أعرض عن كتاب الله بيانا وبرهانا واحتجاجا.

وأين بمن عرف الله وحكمته؟ وإحسانه بتنزيل (٤) الكتاب ونعمته ، عن كتاب الله وتنزيله ، وما فيه من فرقان الله وتفصيله ، وهل يذهب عنه إلا عميّ (٥) القلب مقفله؟! لا يتدبر حكم الله ولا يعقله ، كما قال سبحانه : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٢٤) [محمد : ٢٤] ، فلا يسقط أبدا المعرفة بما جعل الله في كتابه من النور عن القلوب إلا انقفالها ، ولا ينقفل قلب عما فيه من الهدى إلا بضلال ، ولا يترك ما ذكر الله من تدبيره إلا من كان من الضّلال ، فأما من نوّر الله قلبه ، ورضي عقله ولبّه ،

__________________

(١) في (أ) ، و (د) : وأشفائه وما جعل. وفي (أ) و (د) : وما جعله.

(٢) في (ب) و (ج) : والوزر (مصفحة).

(٣) البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه.

(٤) في جميع المخطوطات تنزيل الكتاب. ولم يتبين معناه ، وما أثبته اجتهاد مني ، فلعله الصواب ، والله أعلم.

(٥) في (ب) و (ج) : أعمى.

فلا يعدل بتذكر ما أنزل من الكتاب ، كما قال الله سبحانه : (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [البقرة : ٢٦٩] ، وقال سبحانه في كتابه ، وما ذكر الله من نعمه وتذكيره به : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (٣٧) [ق : ٣٧].

وما ذا يا سبحان الله يريد؟! من خلق الله كلّهم مريد رشيد؟ بعد قوله تبارك وتعالى لقوم يسمعون : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣) [آل عمران : ٨٣]. فأخبر (١) سبحانه عن استسلام من في سماواته وأرضه ، لحكمه فيهم وفي غيرهم وفرضه ، وأخبرهم عن مرجعهم جميعا إليه ، ليحفظ كل امرئ ما حكم به له وعليه ، تعليما من الله لهم لا كتعليم ، وهداية (٢) من الله لهم إلى صراط مستقيم.

فكتاب الله أعانكم الله ما حييتم (٣) فاحفظوا ، وبه هداكم الله ما بقيتم فاتعظوا ، فإنه أوعظ ما اتعظ به متعظ ، وخير ما احتفظ به منكم محتفظ ، لما جعل فيه لحافظه من النجاة ، ووهب لمواعظه لمن اتعظ بها من الحياة ، فعليه (٤) فاحيوا ما حييتم ، وبه فتمسكوا ما بقيتم ، وفيه ما يقول لمن كان قبلكم رب العالمين : (وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ) (١٧٠) [الأعراف : ١٧٠]. فالتمسك به أحسن الإحسان ، وحقيقة الإصلاح والإيمان.

[حفظ الكتاب من الضياع]

وهو فكتاب الله المحفوظ الذي لم يضع منه بمنّ الله (٥) قطّ آية ، فيضيع (١) بضياعها

__________________

(١) في (ج) و (د) : وأخبر.

(٢) في (د) : وهدى.

(٣) في (أ) و (د) : له فاحفظوا.

(٤) سقط من (ب) و (د) و (ه) : فعليه.

(٥) في جميع المخطوطات : بمن بكتاب. ولعلها مصحفة. وفي (د) : بمن الله أية قط آية (زيادة).

من الله نور وبيان وهداية ، وكيف يذهب منه شيء أو يضيع؟! أو يتوهم أن الله سبحانه له مضيع؟! بعد قوله تبارك وتعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (١١٥) [التوبة : ١١٥]. وبعد قوله : (يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ) (١٣٠) [الأنعام : ١٣٠]. وبعد قوله سبحانه : (وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (١٢٦) [الأنعام : ١٢٦]. فكيف يصح أن يذهب منه شيء وهو صراط الله المستقيم؟! وتبيانه لكل شيء ففيه لعباده هدى وتقويم!

وفيه ما يقول سبحانه : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) [الإسراء : ٩] ، فهل بقي (٢) لأحد من بعده عذر أو متلوّم؟! وكيف يصدّق مفتر على الله في ضياعه؟!! وقد أمر تبارك وتعالى عباده باتباعه ، فقال فيه : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (١٥٢) [الأنعام : ١٥٢]. وقال تبارك وتعالى فيه : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) (٣) [الأعراف : ٣].

وقال سبحانه : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (١٥٥) [الأنعام : ١٥٥]. وقد قال قوم مبطلون ، عماة لا يعقلون : أن قد ذهب منه (٣) بعضه فافتروا الكذب فيه وهم لا يشعرون!! وقالوا من الافتراء على الله في ذلك بما لا يدرون.

فيا سبحان الله!! أما يسمعوا (٤) لقول الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩]. وقوله سبحانه : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ

__________________

(١) في (د) : فيضع.

(٢) في (د) : أبقا.

(٣) سقط من (ب) و (ج) : منه.

(٤) في (ب) و (ج) و (د) : ما يسمعوا.

مَحْفُوظٍ) (٢٢) [البروج : ٢١ ـ ٢٢].

وكتاب الله فهو الذكر الحكيم ، والقرآن المكرم العظيم ، فمن أين يدخل عليه (١) مع حفظ الله له ضياع؟ أو يصح في ذلك لمن رواه عن أحد من الصالحين سماع ، مع ما كان لرسول الله صلى الله عليه وعلى آله من الأصحاب ، وكان عليه أكثرهم من المعرفة بالخط (٢) والكتاب ، إن هذا من الافتراء لعجب عجيب ، لا يقبله مهتد من الخلق ولا مصيب. فنعوذ بالله من الجهل والعمى ، ونسأله أن يهب لنا بكتابه علما ، ويجعله لنا في كل ظلمة مظلمة سراجا مضيا ، ومن كل غلّة (٣) معطشة شفاء وريّا ، فقد جعله ريا من الظمأ لمن كان ظمئا ، وضياء من العمى لمن كان جاهلا عميّا ، فهو البصر المضيء الذي لا يعمى ، والرّيّ الرّوي الذي لا يظمأ ، فمن روي به (٤) من الصدى بإذن الله ارتوى ، ومن أبصر ما فيه من الهدى سلم أن يضل أو يغوى ، بل (٥) هو سراج السّرج ، وحججه فأبلغ الحجج ، كما قال الله ذو الحجج البوالغ ، والحق المبين الغالب الدامغ : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) (١٤٩) [الأنعام : ١٤٩]. وقال سبحانه : (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (١٨) [الأنبياء : ١٨]. فمن عمي عن حججه فلن يبصر ، ومن حاجّ بغيره فلن يظفر (٦) ، ومن ضل عنه عظم ضلاله ، ومن قال بخلافه كذب مقاله ، ضياء سراجه ووحيه ساطع لائح ، وعزم أمره ونهيه رحمة من الله ونصائح.

فيه قصص الأمم والقرون ، وتفصيل الحكم كله والشئون ، يخبر عن السماء والأرض وابتدائهما ، وعن الجنة والنار وأنبائهما ، وعما فطر من الجن والإنس ، وخلق من كل بدن ونفس ، بأخبار ظاهرة جلية ، وأخر باطنة خفية ، إلّا عمّن خصّه الله

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : عليه.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : بالحفظ. (تصحيف).

(٣) الغلة : العطش.

(٤) سقط من (أ) : به.

(٥) في (أ) : يظهر.

(٦) سقط من (ب) و (ج) : بل.

بمستورها ، وأطلعه بمنّه على خفيّ أمورها ، فعنده منها ، ومن الخبر عنها ، عجائب كثيرة لا تحصى ، وعلوم جمّة لا تستقصى ، فهو ينظر إليها ويراها ، بغير قلب منه يرعاها ، فلا يخفى عنه ممّا أظهر الله به منها خافية ، وموهبة الله له في نفسه بعلمها من كل علم فكافية ، فإن شاء أن ينطق فيها نطق ، فأحقّ في خبره عنها فصدق ، وكان بها وفيها أصدق قائل ، وإن سكت عنها سكت غير جاهل ، فهو لعلومها قرين ، وعلى مكنونها أمين ، إن ذكّر منها بآية رعاها ، أو سمعها عن الله وعاها ، لا تصمّ (١) عنها له أذن ولا يقين ، ولا تعمى عنها منه فكرة ولا عين ، فهو ينظر إلى ما أرته بيقين قلبه عيانا ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً) (٧٣) [الفرقان : ٧٣].

ليس بمنّ الله عليه ، ولا مع إحسان الله إليه ، بمستكبر عليها ، ولا بمصرّ فيها ، فيكون كمن ذكره الله فيها بإصراره ، وإعراضه عنها واستكباره ، فقال سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (٧) يَسْمَعُ آياتِ اللهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٨) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (٩) [الجاثية : ٧ ـ ٩]. ولا كمن ذكّر بآيات الله فأعرض عنها وظلم ، ولم يعلم عن الله منها ما علم ، كما قال تبارك وتعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) [الكهف : ٥٧] ، بل وهبه برحمته ومنّه وفضله قبول ما جاءت به آيات الله من النور والهدى ، فسمعها عن الله بأذن منه واعية ، وعلمها من الله بنفس في علمها ساعية ، ثم لم يمنعها من أهلها فيأثم ، ولم يضعها في غير موضعها فيظلم ، كما قال الله لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٤) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) (٥٥) [الأنعام : ٥٤ ـ ٥٥] ، ففصل تبارك

__________________

(١) في (ب) و (ج) : لا تصمم له عنها.

وتعالى آياته وبيّنها لمن يستحق تفصيلها وبيانها من المؤمنين.

[المعرضون عن الذكر]

وقال (١) تبارك وتعالى فيمن أعرض عن ذكره بعد قيام حجته وطغى وتعدى : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠].

وكما قال عيسى بن مريم ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ، ولا تبذلوها لمن لا يستأهلها فتظلموها ، ولا تطرحوا كرائم الدّر بين الخنازير فيقذروها) (٢).

وكما قيل للمتكلم (٣) بالحكمة عند من (٤) لا يعقلها ، ويؤثرها فيقبلها ، كالمغني عند رءوس الموتى ، (٥) وكذلك من أمات الله قلبه عن (٦) آياته ، فلم يقبلها هلكة وموتا.

وكما ذكر عن يحيى بن زكريا صلى الله عليه : أنه سارت (٧) طائفة من الزنادقة وأبنائها إليه ، يريدون تطهرته ومسألته تعنتا (٨) وتمردا ، فقال لهم إذ علم أنهم لا يريدون بمسألته الرشد والهدى ، عند ما طلبوا من ذلك إليه : يا أبناء الأفاعي ، ائتوا بثمرة (٩) تصلح

__________________

(١) في (أ) : فقال له تبارك وتعالى. وفي (د) و (ه) : وقال له تبارك وتعالى.

(٢) نص الإنجيل هكذا : (لا تعطوا النفوس للكلاب ، ولا تطرحكم دركم قدام الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم). إنجيل متى الإصحاح السابع / ٧٦.

(٣) في الأصل و (د) : قيل المتكلم.

(٤) في جميع المخطوطات : عمن ، ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٥) هذا مثل معروف يقال للذي يتكلم عند من لا يفهم.

(٦) في (أ) و (د) : من :

(٧) في جميع المخطوطات : صارت. ولعل ما أثبت هو الصواب. والله أعلم.

(٨) في (أ) و (د) : تعبثا.

(٩) في (أ) و (ب) و (ج) و (ه) : بتمرة.

للتّطهر والتّزكّي (١) ، وأبى صلى الله عليه أن يطهرهم ، إذ عرف كفرهم (٢) وأمرهم ، فكتاب الله أولى ما أعز وأكرم ، (٣) إلا عمّن آمن بالله واستسلم ، فأما من أعرض عنه وتمرد عليه ، (٤) فحقيق بأن لا يعلم بسر من أسرار حكمة الله فيه.

ومن قبل مصير كتب الله إلينا ، (٥) ومنّ الله بتنزيله علينا ، ما صار من الله إلى السماوات ودار بين أكنافها ، وشهد بترتيله من ملائكة الله (٦) جميع أصنافها. ومن (٧) قبل منّه علينا به منّ على الملائكة بعلمه ، وما وهبهم من سماع حكمه ، وفي ذلك من شهادتها (٨) وبيانه ، وما نزل الله منه في فرقانه ، (٩) ما يقول سبحانه : (لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) (١٦٦) [النساء : ١٦٦] ، فكفى بهذا الحكم لكتاب الله والحمد لله تبيينا وتوكيدا ، وفيه حجة وبيانا ، وعليه دلالة وبرهانا ، فأين يتاه بمن غفل عنه؟!! وهل يجد واجد أبدا خلفا منه؟!.

كلا لن يجده ، ولو جهده جهده! نزل به من الله سبحانه روح القدس ، شفاء من المؤمنين لكل نفس ، فزادهم به إلى إيمانهم إيمانا ، ووهبهم به بصيرة وإيقانا ، وجعله الله (١٠) عمى ورجسا ، لمن كان عميا نجسا ، كما قال سبحانه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ

__________________

(١) في (ب) و (ج) و (ه) : للتطهرة. ونص الرواية عن يحيى بن زكريا عليه‌السلام : وكان يقول لجموع الذين خرجوا يعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. إنجيل لوقا الإصحاح الثالث ٧ ـ ٨.

(٢) سقط من (ب) و (ج) و (د) و (ه) : أمرهم.

(٣) في (ب) و (ج) و (ه) : وكرم.

(٤) سقط من (ب) و (ج) و (ه) : عليه.

(٥) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : إلينا.

(٦) سقط من (ب) و (ج) : الله.

(٧) سقط من (أ) و (د) : من.

(٨) في (أ) و (د) : شهادته. والضمير في شهادتها عائد على الملائكة.

(٩) في (ب) و (ج) : منه وفرقانه. مصحفة.

(١٠) سقط من (أ) : الله. وفي (د) : الله منه عمى.

إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥]. فجعله الله لأعدائه ولمن لم يقبله وعمي عنه رجسا وتبارا ، كما قال سبحانه : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٨٢) [الإسراء : ٨٢].

(لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) [فصلت : ٤١ ـ ٤٢]. فكتاب الله إمام لكل مهتد من خلق الله رشيد ، أعزّه الله (١) عن الوهن والتداحض فلا يتصلان به أبدا ، ومنعه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه إذ حفّه بالنور والهدى ، فنوره وهداه مقيمان أبدا معه ، مضيئان مشرقان لمن قبله عن الله وسمعه ، ساطع فيه نور شمسهما ، (٢) بيّن هداه ونوره لملتمسهما ، لا يميلان بمتبع لهما عن قصده ، ولا يمنعان من طلب رشدهما عن رشده ، بل يدلانه على المراشد المرشدة ، ويقصدان به الأمور المعدة ، (٣) التي لا يشقى أبدا معها ، ولا يضل أبدا من اتبعها ، فرحم الله امرأ نظر فيه فرأى سعادته ورشده وهداه ، فجانب شقوته وغيّه ورداه ، قبل أن يقول في يوم القيامة مع القائلين : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ) (١٠٦) [المؤمنون : ١٠٦]. فضلال من ترك كتاب الله لا يغبى ، (٤) إلا على من لم يهبه الله عقلا ولبّا ، كتاب نزله (٥) الله الرحيم الأعلى ، برحمته من فوق السماوات العلى ، فأقر في أرضه قراره ، وبثّ في عباده أنواره ، فنوره ظاهر لا يخفى ، وضياءه زاهر لا يطفأ ، مشرق (٦) نوره بالهدى يتلألأ ، كما قال سبحانه تبارك وتعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) [التوبة : ٣٢]. فأبى الله سبحانه إلا تمامه فتم ، وخاصم (٧)

__________________

(١) سقط من (ب) و (ج) : الله. وفي (أ) و (د) : الله من.

(٢) في (ب) و (ج) و (ه) : شمسها (مصفحة).

(٣) في (ب) و (ج) : المستعدة (مصفحة).

(٤) لا يغبى : لا يخفى.

(٥) سقط من (ج) : كتاب. وفي (ج) : أنزله.

(٦) في (ب) و (ج) و (ه) : نوره مشرق (زيادة).

(٧) في (ب) و (ج) : إلا إتمامه. وفي (ب) : من خاصم (مصفحة).

به من هدي لرشده من خلقه فخصم ، برهانه منير مضيء ، وتبيانه مسفر جلي ، فهو من إسفاره وتبيانه ، وهداه ونوره وبرهانه ، كما قال الله سبحانه : (يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (١٧٥)) [النساء : ١٧٤ ـ ١٧٥].

فمن اعتصم بنور كتاب الله وبرهانه ، واتبع ما فيه من أموره وتبيانه ، أدخله الله كما قال سبحانه مدخلا كريما ، وهداه به كما وعد صراطا مستقيما ، ومن أبصر به واهتدى ، لم يعم بعده أبدا ، ومن عمي عنه فلم (١) ير هداه ، وتورط من غيّه ورداه ، في بحور ذات لجّ من الجهالات ، وتخبط في غور لجج من الضلالات ، لا يخرج من تورط فيها من ضيق غورها ، ولا ينجو غريق بحورها ، من نار (٢) تبوبها ، وحيرات سهوبها (٣) ، فلا صريخ له (٤) فيها ينقذه من تبّ ، ولا هاد (٥) يهديه منها في سهب ، فهو في (٦) لج بحورها في تبوب ، ومن ضلالات غورها في سهوب ، متحيّر بين هلكة وثبور ، وضلال حيرة في ظلمة (٧) وبحور ، موصول ضلاله وعماه ، بما هو فيه من عاجلته ودنياه ، بعمى من الآخرة لا يبيد ، (٨) بل له فيها البقاء أبدا والتخليد ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)) [الإسراء : ٧٢] ، فمن لم يستدل على أمر دنياه وآخرته بكتاب الله فلن (٩) يصيب عليه أبدا دليلا ، ومن لم

__________________

(١) في (ج) : فلن.

(٢) في (أ) : من ثارات تبوبها (مصفحة) والتّبوب : المهلكة. وفي (ج) : من نارات ، وحيران. وفي (د) : ثارات تنوبهما وحيران.

(٣) السهوب : الفلوات.

(٤) سقط من (ج) : له. والصريح : المنقذ.

(٥) في (ج) : تبب. وفي (أ) و (د) : ولا هادي له.

(٦) سقط من (ج) و (د) : في.

(٧) سقط من (أ) : ظلمة و.

(٨) في (ب) : لا تبديل (مصفحة).

(٩) في (أ) : فلم.

ينج به من خبوت (١) الحيرة والجهالة ، ويحيى بروحه من موت العمى والضلالة ، لم يزل لسبيل الجهل سالكا ، وبموت العمى والضلال (٢) هالكا ؛ لأن الله جعله روحا من موت الضلالة محييا ، وضياء من ظلم الجهالة منيرا مصحيا ، (٣) فمن أحياه الله بروحه فهو الحيّ الرضي ، وما كان فيه من حق فهو المصحي المضيء ، لا تلتبس به الأغاليظ ، ولا تشوبه الأخاليط ، فهو النقي المحض ، والجديد أبدا الغضّ ، لا يخلق جدّته تكرار ، ولا يدخل محضه الأكدار ، بل نقي من (٤) ذلك كله فصفى ، فأغنى بمنّ الله وكفى ، فليس معه إلى غيره حاجة ولا فاقة ، ولا يغلب حجته من ملحد فيه لدد (٥) ولا مشاقّة.

بل حججه الحجج الغوالب ، وشهب نوره فالشهب الثواقب ، التي لا يخبو أبدا ضوء (٦) نورها ، ولا يخرب أبدا عمارة معمورها ، فيخبو بخبوّها ، نور ضوّها ، ويخرب لو خربت لخرابها ، (٧) نعمة الله وهّابها ، (٨) ، فيكون خرابها تغييرا (٩) لها ولنعمة الله فيها ، ولما جعله من (١٠) هداه مضموما إليها.

ولن يغير الله نعمة كما قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١] ، ولن يلتبس شيء من هدى الله عليهم أبدا إلا بتلبيسهم ، كما قال سبحانه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٥٣) [الأنفال : ٥٣].

__________________

(١) في (أ) و (د) : خبوب الحيرة. وفي (ج) : حياة الحيرة. وفي (ب) : حيرة ، والخبوت : ما اتسع من بطون الأرض.

(٢) في (ب) : والضلالة.

(٣) في (ب) و (د) : مضحيا.

(٤) في (ج) و (د) و (ب) : الإكثار (مصفحة). وسقط من (أ) و (د) : من ذلك. ومن (ب) : من.

(٥) اللدد : الخصومة.

(٦) سقط من (ج) : ضوء.

(٧) في (د) : بخرابها.

(٨) في (أ) : وبرهانها. وفي (ج) : جعائها.

(٩) في (ج) : خربها تعديد الهاء (مصفحة).

(١٠) في (ب) و (ه) : في.

وفي التلبيس عليهم بتلبيسهم ، وما وكلهم الله إليه في ذلك من أنفسهم ، ما يقول الرحمن الرحيم : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٨ ـ ٩].

وفي كتاب الله وترافده ، وتشابهه (١) في البيان وتشاهده ، ما يقول سبحانه فيه ، وفيما جعله من ذلك عليه : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣].

فهل بعد هذه الآية وبيانها لملحد ـ أنصف نفسه ـ في كتاب الله من حيرة في شك أو إلحاد؟! لو لم يسمع فيه غيرها ، إذا (٢) هو فهم تفسيرها ، فكيف بما ثنّى (٣) الله في الحجة لذلك من المثاني ، وكرّر على ذلك من شواهد البرهان ، التي فيها من الحجة والتبيين والإتقان ، (٤) ما هو أحق من كل رؤية وعيان ، فليسمع سامع لتقرير الله سبحانه لعباده ، على الشهادة له (٥) بتنزيله لكتابه ، إذ يقول سبحانه فيهم لمن أنكر أنه تنزيل من رب العالمين: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٣) [هود : ١٣]. فأمرهم (٦) تبارك وتعالى في ذلك بالحشد لأوليائهم ، ولكل من قدروا عليه في ذلك من أعدائهم ، ممن أنكر من القرآن ما أنكروا ، وكفر بالله كما كفروا ، فلم (٧) يستجب له في ذلك مجيب ، أحمق

__________________

(١) في (د) : تشاهده ، تشابهه في البينات.

(٢) في (ج) : إذ.

(٣) في (ب) و (ه) : نبأ.

(٤) في (د) : والإيقان.

(٥) سقط من (ب) و (ه) : له.

(٦) في (ب) : فأمرهم في ذلك. زيادة.

(٧) في (ب) و (ج) و (د) : فلم يستجب في ذلك له مجيب.

منهم ولا لبيب ، وانحسروا (١) عن الجواب له قاصرين ، وغلبوا بمنّ الله صاغرين ، ولو وجدوا على ذلك قوة ، (٢) لأجابوا فيه ـ مسرعين ـ الدعوة ، ولو كان (٣) ما جاء به بشريا ، لكان بعضهم عليه قويا ، لتشابه البشر ، في القول والنظر ، (٤) والهيئات والصور.

ولعلم (٥) الله بعجزهم عن أن يأتوا بسورة واحدة من سوره ، أو بشيء مما جعله فيه من هداه ونوره ، ما يقول أرحم الراحمين ، لرسوله وللمؤمنين : (فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٤) [هود : ١٤] ، فهل بعد هذا من تقرير أو برهان أو تبصير لقوم يعقلون؟!

ومن ذلك ومثله ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٨٨) [الإسراء : ٨٧] (٦) ، فكفى بهذا ومثله وبأقل أضعاف منه والحمد لله تعريفا وتقريرا (٧).

وفيما برّأ الله كتابه من الاختلاف والتناقض ، وما خصّه به (٨) من الحكمة والبعد من التداحض ، (٩) ما يقول سبحانه : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) (٨٢) [النساء : ٨٢] ، فهو الذي برّأه الله من كل تناقض واختلاف وطهره تطهيرا ، فلم ينظر بعين قلب مبصرة ، ولا تمييز نفس زكية (١٠) مطهرة ، من خفي عنه أن تنزيل الكتاب ، لا يمكن أن يكون من غير رب الأرباب ، لعجز كل من سوى

__________________

(١) الانحسار : الانكشاف. والمراد هنا : العجز.

(٢) في (أ) و (د) : حجة.

(٣) في (ب) و (ه) ، ولكان ما جاء به بشريا (مصحفة). وفي (ج) : لو كان من جاء به بشرا.

(٤) في (ج) : والبطر.

(٥) في (ب) و (ه) : لعلم.

(٦) في (ب) و (ه) : وكفى.

(٧) في (ب) و (ه) : لله تقريرا وتعريفا.

(٨) في (ج) : الله.

(٩) التداحض : البطلان.

(١٠) سقط من (ج) : زكية.

الله عن أن يأتي من آياته بأية ، ولو عني بذلك وفيه (١) بكل جهد وعناية ، لامتناع ذلك وعوزه (٢) وارتفاعه عن ذلك وعزه ، (٣) عن أن ينال نائل (٤) ذلك أبدا منه ، وأن يصاب أبدا إلا بالله وعنه.

فو الله ما ينال ذلك في ظاهره وعليّه ، وبيّنه الذي لا يخفى وجليّه ، فكيف بما فيه من الأسرار والخفايا؟! وما خبّئ فيه لأولياء (٥) الله من الخبايا؟!

كيف بما في حواميمه؟! من غرائب حكمه ، وما في طواسينه ، من عجائب مكنونه ، وما في (ق) ، و (طه) ، و (يس) ، من علم جمّ للمتعلمين ، (٦) وفي كهيعص وألم والذاريات ، (٧) من أسرار العلوم الخفيات ، وما في المرسلات والنازعات ، من جزم (٨) أنباء جامعات ، لا يحيط بعلمها المكنون ، إلا كل مخصوص به مأمون ، فسر ما نزل الله سبحانه من الكتاب ، فخفيّ على كل مستهزئ لعّاب.

وأسراره برحمة الله لأوليائه فعلانية ، وأموره لهم فظاهرة بادية ، فهو الظاهر الجلي المجهور ، والباطن الخفي المستور ، وهو (٩) بمنّ الله المصون المبذول ، والجزم (١٠) الذي لا يدخل شيئا (١١) منه هذر ولا فضول ، بل قرنت (١٢) فيه لأهله مجامع كلمه ، وسهّلت به لهم مسامع حكمه ، فقرعت من قلوبهم مقارع ، ووقعت من أسماعهم مواقع ، لا يقعها

__________________

(١) سقط من (ب) : بذلك و. وفي (ج) : ولو عني بذلك بكل وجهة وعناية.

(٢) في (د) : بامتناع. وفي (ب) : وغوره. وفي (ه) : وغيورة (كلاهما مصحفة).

(٣) في جميع المخطوطات : عن ذلك وارتفاعه ، وما أثبت فهو اجتهاد. والله أعلم. وفي (د) و (ه) : وعسره.

(٤) في (ب) و (ه) : قائل (مصفحة).

(٥) في (أ) : لأوليائه الله. وفي (د) : وما خبىء فيه لأولياء الله الخبايا.

(٦) في (أ) و (د) : للعالمين.

(٧) في (ج) و (د) : والرايات. وفي (ب) : والربات. مصحفة.

(٨) في (ب) و (ه) : حزم.

(٩) في (أ) : فهو.

(١٠) في (ب) والحرم.

(١١) في (أ) و (د) : شيء.

(١٢) في (د) : قربت.

من غيرها عندهم واقع ، ولا يسمع بمثل تفسيرها أبدا منهم (١) سامع ، فمن أبى ذلك ، وأنكره أن يكون كذلك ، فليأت بمثل سورة كبيرة ، من سوره (٢) أو صغيرة ، فلن يفعل ولو أجلب بالخلق كلهم أبدا ، ولن يزداد بذلك لو كان كذلك من أن يأتي بمثلها إلا بعدا ، كما قال الله سبحانه : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (٢٤) [البقرة : ٢٣ ـ ٢٤].

وفي الكتاب والقرآن ، وما جعل الله فيه من البيان ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ) (١٩) [القيامة : ١٦ ـ ١٩]. فما على الله تبارك وتعالى بيانه ، فلن تضل عنه أبدا حجته ولا برهانه.

وفي تعجب مستمعة الجن به ، (٣) وما سمعوا عند استماعهم (٤) له من عجبه ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً) (١) [الجن : ١] ، فجعله تبارك وتعالى لهم عجبا معجبا(٥).

وأيّ عجب أعظم ، أو حكمة أحكم ، أو كتاب أعلى وأعزّ ، وأحفظ من كل ضلال وأحرز ، لمن (٦) كان من أهله ، أو منّ عليه (٧) بتقبله ، عند من يفهم أو يعقل ، أو يفرق بين الأمور فيفصل ، من حكمة الله في تنزيله ووحيه ، وما جعل فيه من ضلال عدوه وهدى وليّه ، وهو أمر من أمور الله واحد ، يضل به الضال ويرشد عنه الراشد ، فهو ضلال لمن ضل عنه ، وهدى ورشد لن قبل منه ، ونجاة لمن اتقى ورحمة وبركة ،

__________________

(١) في (ب) : مثل. وفي (أ) و (ب) و (ج) و (ه) : تفسيرها منهم أبدا سامع.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) و (ه) : من سوره كلها أو صغيره.

(٣) في (ج) : وفي عجب مستمعة. وفي (ب) تعجب سمعة. وسقط من (د) : به.

(٤) في (ج) : استماعه لهم.

(٥) سقط من (أ) و (د) : معجبا.

(٦) في (ب) و (ه) : ولمن.

(٧) سقط من (ج) : عليه.

وخزي على (١) من تعدى ونقمة وهلكة ، كما قال سبحانه : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٣) [البقرة : ١ ـ ٣].

وفي بركة (٢) كتاب الله وما أمر به (٣) من تدبره ، وما وهب لأولي الألباب من الذكر به ، (٤) ما يقول سبحانه : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢٩) [ص : ٢٩].

فنحمد الله رب الأرباب ، على ما وهب من الهدى بما نزّل من الكتاب ، ونسأله أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هداها ، (٥) وأن يمتعنا فيه بما وهب لنا (٦) من هداها ، وأن يجعلنا له إذا قرئ من المستمعين بالإنصات ، وأن ينفعنا بما نزل فيه من الآيات ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم.

تم المديح الكبير ، بمنّ الله العالم القدير.

وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي وعلى آله الطيبين ، وسلم تسليما كثيرا.

* * *

__________________

(١) سقط من (ج) : على.

(٢) في (د) : وفي تركه. وفي (ه) : وفي بركه (كلاهما مصحفة).

(٣) سقط من (ج) : به.

(٤) في (ج) : من التذكر به.

(٥) في (ب) و (د) و (ه) : هدانا.

(٦) في (ب) و (ج) و (د) : يمتعها. وفي (ه) : يمنعنا. وفي (أ) و (ج) : لها.

مديح القرآن الصغير

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي جعل الهدى فيما نزل من كتابه مكمّلا ، ونزل برحمته للعباد منه بيانا كريما مفصّلا ، فيه لمن استغنى به أغنى الغنى ، ولمن اجتنى ثمرات هداه أكرم مجتنى ، لا يجتوي عن (١) جناه أبدا مجتو ، ولا يدوى (٢) مع شفائه أبدا مدو ، نور أعين القلوب المبصرة ، وحياة ألباب النفوس المطهرة ، إلف فكر (٣) كل حكيم ، وسكن نفس (٤) كل كريم ، وقصص الأنباء (٥) الصادقة ، ونبأ الأمثال المتحققة ، ويقين (٦) شكوك حيرة أولي الألباب ، وخير (٧) ما صحب من الأصحاب ، سر أسرار (٨) الحكمة ، ومفتاح كل نجاة ورحمة ، قول أرحم الراحمين ، وتنزيل (٩) رب العالمين ، نزل به الروح الأمين ، فأي منزّل سبحانه ونازل وتنزيل ، لقد جل سبحانه وتنزيله عن كل تمثيل ، وطهر وتقدس ـ إذ وليه بنفسه ، ونزل به روح قدسه ـ عن قذف الشياطين وأكاذيبها ، وافتراء مردة الآدميين وألاعيبها ، فأحكم عن خطل (١٠) الوهن والتداحض ، وأكرم عن زلل الاختلاف والتناقض ، فجعل بآياته مترافدا ، وبضياء بيناته (١١) متشاهدا ، غير متكاذب الأخبار ، ولا متضايق الأنوار ، بل ضحيان النور،

__________________

(١) في (أ) : لا يجتوي عن جفاه أبد مجتوي. و (ج) : لا يحتوي على جنابه أبدا محتو. و (ب) لا يحتوي عن حياته أبدا محتو. و (ه) : لا يحوي عن جنائه أبدا محتو.

لا يجتوي : أي لا يكرهه ولا يعافه أو لا يصيبه داء ، يقال رجل جوي الجوف ، أي : دوي الجوف. وجوي الطعام كرهه ، ولم يوافقه. لسان العرب ، مادة (جوا).

(٢) ولا يدوي أي : لا يمرض ، ولا يصيبه داء ، يقال رجل دوى ودو أي : مريض ، راجع لسان العرب مادة (دوا).

(٣) (أ) و (د) : فكرة.

(٤) (ب) : سكن من كل (مصحفة).

(٥) (ب) و (ه) : الأنبياء.

(٦) في (ب) و (ج) و (ه) : ونفي شكوك حيرة الارتياب.

(٧) في (ج) : وخبرة.

(٨) في (ب) و (ه) : سرائر.

(٩) في (ب) و (ه) : وتنزيل من رب (زيادة).

(١٠) الخطل : الاضطراب ، والكلام الفاسد الكثير.

(١١) في (ب) و (ه) : مترادفا. (مصحفة). وفي (أ) : وبضياء تبيانه.

فيحان الأمور ، سيحان (١) الأنهار بالحياة المنجية ، واسع الأعطان (٢) والأفنية ، ساطع النور(٣) والبرهان ، جامع الفصل (٤) والبيان ، فأنواره بضيائه زاهرة ، وأسراره لأوليائه ظاهرة ، فما إن يواري (٥) عن أهله الذين استودعوا علمه من سرائر سريرة ، (٦) ولا يدع ما وضح من توره في قلوبهم من مشكلة (٧) حيرة ، بعزائم حكماته (٨) المنزلة ، ودلائل آياته المفصّلة (٩).

فسبحان من جاد به طولا ، وجعل سببه به موصولا. لقد أجلّ سبحانه به (١٠) المنة على العباد ، ودلهم به (١١) تبارك وتعالى على كل رشاد ، فجاد لهم سبحانه بما لا تجود به نفس وإن عظم جودها ، وكبر (١٢) في الجود بالعطايا (١٣) المحمودة محمودها ، لقد (١٤). جاد لهم منه بكنوز لا تبلى ، وأعطاهم به عطيّة لا يجد لها واجد وإن جهد (١٥) ، فبذل لهم به منه كنز الكنوز ، ودلهم به على كل نجاة وفوز ،

__________________

(١) في (ج) : صخيان. وفي (أ) و (ب) و (ج) : صحيان. (وكلاها مصفحة) ، وقد تكون من الصحو الذي هو ذهاب الغيم. وضحيان من الضحو أي مضيء. وفي (ج) : تنحان. (مصحفة) : ومعنى فيحان من الفيح : الواسع المنتشر. وسيحان : جاري.

(٢) (ج) : الأعطاف ، وفي (ه) : الأعطفان (مصحفة).

والأعطان : جمع عطن ، وهي مبارك الإبل ، وهو تعبير عن علومه الواسعة ، والأفنية : جميع فناء ، وهو ما اتسع من أمام الدار.

(٣) في (ب) : الأنوار.

(٤) في (أ) و (د) : الفضل. (مصحفة).

(٥) (أ) : تواري. وفي (ه) : توالي. (مصفحة).

(٦) سقط من (ب) و (ج) : سريرة. وفي (ه) : سرائر سره.

(٧) في (أ) : لمشكلة ، وسقط من (ب) : من.

(٨) في (د) : حكمات.

(٩) في (ج) : المتصلة.

(١٠) سقط من (ب) و (ه) : به.

(١١) في (ب) و (ه) : عباده. وسقط من (ب) و (ج) و (ه) : به.

(١٢) في (أ) : وكثر.

(١٣) في (د) : بالعضايا الموجودة المحمودة.

(١٤) في (ج) : فقد.

(١٥) في (أ) و (د) : جهل (مصفحة).

فتح لهم أبواب الجنان ، وهداهم به (١) سبيل الرضوان ، ونبأهم فيه عن نبأ السماوات العلى ، وما مهد تحتهن من الأرضين السفلى ، وما فتق من (٢) الأجواء ، بين الأرض والسماء ، وعن خلق الملائكة والجن والإنس فقد نبأهم ، وعن كل علم كريم مكنون فقد به أتاهم ، قصّ (٣) به عليهم أخبار القرون الماضية ، وأخبرهم (٤) فيه بمن أهلك بذنبه من الأمم العاتية ، فكل عجيب من الأشياء ، أو قصة كريمة من قصص الأنبياء ، فقد أوصل فيه علمها إليكم ، وأورد عجيب نبأها به (٥) عليكم.

[وصية الإمام بالقرآن]

فعلى كتاب ربكم هداكم الله فاقتصروا ، وبه (٦) فهو ذو العبرة فاعتبروا ، ففيه نوافع العلم ، وجوامع الكلم ، التي (٧) يستدل بقليلها على كثير من ملتبس قال وقيل ، ويستشفى من علمها بتفسير أدنى ما فيها من (٨) دليل.

فسبيل قصده فاسلكوا ، وبه ما بقيتم فتمسكوا ، فهو ذروة الذرى ، وبصر من لا يرى ، وعروة الله الوثقى ، وروح من أرواح الهدى ، سماويّ أحله الله برحمته أرضه ، وأحكم به في العباد فرضه ، فلا يوصل إلى الخيرات أبدا (٩) إلا به ، ولا تكشف الظلمات إلا بثواقب شهبه ، من صحبه صحب سماويا لا يجهل ، وهاديا إلى كل خير لا يضل ، ومؤنسا لقرنائه(١٠) لا يملّ ، وسليما (١١) لمن صحبه لا يغلّ ،

__________________

(١) سقط من (ب) : به.

(٢) في (ب) : في.

(٣) في (أ) : قد به أنبائهم. وفي (ب) و (ه) : وقص.

(٤) في (ب) و (ج) و (ه) : وخبرهم.

(٥) في (ب) و (د) : بيانها به ، وفي (ب) : نبائها عليكم.

(٦) في (ب) : واقصروا به.

(٧) في (أ) ، (ب) ، (د) ، (ه) : الذي.

(٨) سقط من (ب) : من.

(٩) سقط من (ب) : أبدا.

(١٠) (أ) و (ج) : لقربائه.

(١١) (ج) و (د) : وسلما.

ونصيحا لمن ناصحه لا يغشّ ، وأنيسا لمن آنسه (١) لا يوحش ، وحبيبا لمن حابّه لا يبغض ، ومقبلا على من أقبل عليه لا يعرض ، يأمر بالبر والتقوى ، وينهى عن المنكر والأسواء ، لا يكذب أبدا حديثا ، ولا يخذل من أوليائه مستغيثا ، إن وعد وعدا أنجزه ، أو تعزّز به أحد أعزه ، (٢) لا تهن لأوليائه معه حجة ، ولا تبلى له ما بقي أبدا بهجه ، ولا يخلقه كرّ ولا ترداد ، ولا يلمّ به وهن ولا فساد ، ولا يعي به وإن لكن (٣) لسان ، ولا يشبه فرقانه فرقان ، ومن قبل ما صحب (٤) الروح الأمين ، والملائكة المقربين ، فكان لهم هاديا ومبينا ، وازدادوا به من الله يقينا.

فاتخذوه هاديا ودليلا ، واجعلوا سبيله لكم إلى الله سبيلا ، حافظوا (٥) عليه ولا ترفضوه ، واتخذوه حبيبا ولا تبغضوه ، فإنه لا يحب (٦) أبدا له مبغضا ، ولا يقبل على من كان عنه معرضا ، ولا يهدى إليه من عاداه ، ومن تعامى عنه أعماه ، ولا (٧) يبصر ضياءه إلا من تأمّله ، ولا يعطي هداه إلا أهله ، من ضل عنه أضله ، يقلّد (٨) جهله من جهله ، إن أدبر عنه أدبر ، أو أقبل عليه بصّر.

جعله الله يتلوّن في ذلك بألوان ، ويتفنن فيه على أفنان ، فهو الهادي المضل ، وهو (٩) المدبر المقبل ، وهو المسمع المصم ، وهو المهين (١٠) المكرم ، وهو المعطي المانع ، وهو القريب الشاسع ، (١١) وهو السر المكتوم ، وهو العلانية المعلوم ، فمرّة يهدي إليه (١٢) من اصطفاه ، ومرّة يضل من أبى قبول هداه ، ومرّة يقبل على من أقبل إليه ، ومرة يدبر عن من التوى في الهدى عليه ، ومرّة يسمع من استمع منه ،

__________________

(١) (ب) و (ج) و (ه) : وآنسه.

(٢) (ج) : عزه.

(٣) لكن : لا يقيم العربية لعجمة في لسانه.

(٤) ما صحب : أي صحب ، وما : مؤكدة أو محسنة ، كثيرا ما ترد في كلام الإمام.

(٥) في (ب) و (ه) : وحافظوا.

(٦) في (ج) : فإنه لا يحب إقباله مبغضا (مصحفة).

(٧) سقط من (أ) و (ج). و (د) : الواو.

(٨) في (ج) : يقدر (مصحفة).

(٩) في (ب) و (ه) : المفصل (مصفحة). وسقط من (ب) و (ه) : وهو.

(١٠) في (ب) و (ه) : والمهين المكرم.

(١١) الشاسع : البعيد.

(١٢) سقط من (ج) : إليه.

ومرّة يصم (١) من أعرض عنه ، ومرّة يهين الأعداء ، ومرّة يكرم الأولياء ، يعطي من قبل عطاه ، ويمنع من أبى قبول هداه ، يقرب لمن ارتضاه ، ويشسع عمن سخط قضاه ، يعلن لأوليائه ويظهر ، ويكتتم (٢) عن أعدائه ويستر ، (٣) نور هدى على نور ، وفرقان بين البرّ والفجور ، أرشد زاجر وآمر ، وأعدل مقسط ومعذّر ، (٤) يوقظ بزجره النّوماء ، ويعظ بأمره الحكماء ، ويحيي بروحه الموتى ، ولا يزيد من مات عنه إلا موتا ، يعدل أبدا ولا يجور ، وكل أمره فقدر مقدور ، ظاهره ضياء وبهجة ، وباطنه غور ولجّة ، لا (٥) يملك حسن أنواره ، ولا يدرك باطن (٦) أغواره ، فمن ظهر لظاهر مناظره ، رأى أعاجيبه في موارده ومصادره ، ومن(٧) بطن لمستبطنه ، رأى مكنون محاسنه ، من غرائب علمه ، وأطائب حكمه ، لباب كل لباب، وفصل كل خطاب ، وحكمه (٨) من حكم رب الأرباب ، اكتفى به منه في هداه لأوليائه ، واصطفى به من خصّه الله سبحانه باصطفائه ، فمصابيح الهدى (٩) به ، تزهر واهجة ، وسبل (١٠) التقوى به إلى الله تلوح ناهجة ، (١١) يحتاج إليه ولا يحتاج ، سراجه أبدا بنوره وهّاج ، يعلّم ولا يعلّم ، ويقوّم ولا يقوّم ، فهو المهيمن الأمين ، والفاصل المبين ، والكتاب الكريم ، والذكر الحكيم ، والرضى المقنع ، والمنادي المسمع ، والضياء الأضوى ، والحبل الأقوى ، والطود (١٢) الأعلى ، الذي يعلو فلا (١٣) يعلى ، ولا يؤتى لسورة من سوره ...

__________________

(١) في (ب) : يصم عن من.

(٢) في (ب) : ويكتم.

(٣) في (أ) و (ج) : ويستتر.

(٤) في (أ) و (ج) و (د) : ومقدر.

(٥) في (أ) و (د) : لا تملك.

(٦) في (ب) : من بطن.

(٧) في (ب) : من بطن.

(٨) في (د) : وحكمة.

(٩) في (ب) : الهداية (مصحفة).

(١٠) في (ب) : وسبيل.

(١١) في (ب) : باهجة. وفي (ج) : ماهجة. (كلاهما مصحفة). وناهجة : واضحة بينة.

(١٢) الطود : الجبل.

(١٣) في (ج) : ولا.

(١) أبدا بمثل ولا نظير ، ولا يوجد فيه اختلاف في خبر ولا حكم ولا تقدير ، فصل كل خطاب ، وأصل كل صواب.

فجعلنا الله وإياكم من أهله ، وعصمنا وإياكم بحبله ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وأهله وسلم تسليما.

وبعد : فإنا لمّا رأينا ـ فيه من جوامع الهدى واليقين ، وكان الهدى واليقين به مقدّمة معتصم (٢) كل دين ـ علمنا متيقنين ، وأيقنّا مستيقنين ، أن لن نصيب رشدا ، ولن ننال (٣) مطلوب هدى ، إلا به وعن تفسيره ، وبما نوّر الله (٤) القلوب به من تنويره ، فنظرنا عند ذلك (٥) فيه ، واستعنا بالله عليه ، فوجدناه بمنّ الله لكل علم من الهدى ينبوعا ، ورأينا به كل خير في الهدى مجموعا ، فلا خير في الحياة الدنيا كخيره ، ولا يهتدى لأحكام (٦) الله بغيره ، من طلب الهدى في غيره لم يجده أبدا ، ومن طلبه به وجد فيه أفضل الهدى ، فقصدنا قصده ، والتمسنا رشده ، فأيّ رشد فيه وجدنا؟! وإلى أيّ قصد منه (٧) قصدنا؟! تالله (٨) ما غابت عنه من الهدى غائبة ، ولا خابت لطالب فيه خائبة ، لقد كشف ستور الأغطية ، وأظهر مكنون سرّ الأخفية ، فأوجد مطلوب ملتمسها ، وأبان ملتبس مقتبسها.

__________________

(١) في (أ) : لسورة منه أبدا ، وفي (ج) : من سوره بمثل.

(٢) سقط من (ج) : به. وفي (ج) معظم (مصحفة).

(٣) في (ب) و (ه) : أن لا. وفي جميع المخطوطات : يصيب (مصحفة) والصواب ما أثبته. وفي (ج) : ولا ننال. وفي (ب) و (د) : ولن ينال.

(٤) في (أ) و (ج) و (د) : وبما نور الله به القلوب من تنويره.

(٥) في (أ) و (ج) و (د) : تلك.

(٦) في (أ) و (ج) : ولا تهتدي لأحكام الله بغيره ، وفي (ب) و (ه) : ولا يهتدي الأحكام بغيره.

(٧) في (ج) : فيه.

(٨) في (أ) و (ج) و (د) و (ه) : بالله (مهملة) ، إلا أن الكمبيوتر لا يثبت المهملة. وفي (ب) : بالله. ، ولعل الصواب ما أثبت.

[السياسة المنحرفة تحرّف القرآن]

على ما بلي (١) به قديما من تلبيس ملوك الجبابرة ، وأتباعها من علماء العوّام المتحيّرة،(٢) في توجيهها له على أهوائها وتصريفه ، (٣) وتأويلها له بخطئها على (٤) تحريفه ، حتى عطّل فيهم قضاؤه ، وبدّلت لديهم أسماؤه ، فسمّيت الإساءة فيه إحسانا ، والكفر بالله إيمانا ، والهدى فيه عندهم ضلالا ، وعلماء أهله به (٥) جهالا ، ونور حكمه ظلما ، وبصر ضيائه عمى ، بل حتى كادت أن تجعل فاؤه ألفا ، وألفه للجهل بالله فاءا ، تلبيسا على الطالب المرتاد ، (٦) وضلالة من العامة عن (٧) الرشاد ، فنعوذ بالله من عماية العمين ، والحمد لله رب العالمين.

فلو لا ما أبدى الله سبحانه من كتابه وحججه ، وأذكى سبحانه من تنوير (٨) سرجه ، لأباد حججه ـ بتظاهرهم ـ المبطلون ، ولأطفأ سرجه الظلمة الذين لا يعقلون ، ولكن الله سبحانه أبى له أن يطفى ، وجعله سراجا لأوليائه أبدا (٩) لا يخفى ، ولذلك ما يقول سبحانه : (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) (٣٢) [التوبة : ٣٢].

ولعلنا ولا قوة إلا بالله العلي الكبير ، وبالله (١٠) نستعين على ما هممنا به لكتابه من التفسير (١١) ، أن نضع مما علّمنا الله فيه طرفا ، وأن نصف فيه من وصف الحق وصفا ،

__________________

(١) في (ب) : ما تلي ، وفي (ج) : ما ما تلي (كلاهما مصحفة).

(٢) في (د) و (ه) : والمتجبرة.

(٣) ـ في (ب) و (ه) : وتصريفها. وفي (ج) : وصرفها (مصحفة).

(٤) في (ب) : عن.

(٥) سقط من (أ) : و (د) : به.

(٦) المرتاد : الطالب مأخوذ من الرّود : الطلب.

(٧) في (أ) : على ، وفي (ب) : العامة والرشاد.

(٨) في (د) : وإذ كان (مصحفة). والإذكاء : الإشعال. وفي (ب) : منور.

(٩) سقط من (ب) : أبدا.

(١٠) في (أ) : العلي العظيم الكبير ، وفي (ب) و (د) و (ه) : العلي العظيم. وفي (ج) : وبه.

(١١) يا ليته أتم ذلك التفسير الذي همّ به إذا لأغنى المكتبة القرآنية ولكنه رحمه‌الله ورضي عنه أخذ في تفسير القرآن من السور القصار فما بلغ إلا سورة الضحى. وإن كان يوجد من تفسيره لآيات متفرقة ـ

نبين عنه بما (١) يحضرنا فيه الله من التبيين ، ونعتمد فيه على ما نزّله (٢) الله به من هذا اللسان العربي (٣) المبين ، فإن الله جعله مفتاح علمه ، ودليل من التمسه على حكمه ، فلا يفتح أبدا إلا بمفاتيحه ، ولا تكشف (٤) ظلمه إن عرضت في فهمه إلا بمصابيحه ، فعنه فاستمعوا ، وبه وفيه فانتفعوا ، واعلموا أنّا لن نضع من ذلك إلا قليلا وإن أكثرنا ، وأنّا وإن بلغنا من (٥) تفسيره كل مبلغ فلن نمسك عنه (٦) إلا وقد قصّرنا ، وإن لكل تفسير منه تفسيرا ، وإن قلّ تفسيره (٧) كثيرا ، ولكل باب منه أبواب ، وكل سبب فقد تصله الأسباب ، إلا أنا سنقول في ذلك بما يحضرنا الله فهمه ، وما نسأل الله أن يهبنا في كتابه علمه.

ونبدأ من تفسير كتاب الله بما نرجو أن يكون الله به بدأ ، من تفسير السورة التي أمر نبيّه أن يسأله فيها الهدى ، وسماها عوام هذه الأمة فاتحة الكتاب والفرقان ، وقال بعضهم : اسمها أمّ (٨) القرآن ، وذلك مما (٩) يدل من يستدل ، على أنها أول ما نزل ، لا كما يقول بعض جهلة العوامّ بغير ما دليل ولا برهان ، أن (١٠) أول ما نزل من القرآن : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢) [العلق : ١ ـ ٢].

__________________

ـ شيء كثير.

(١) في (أ) : نبين عنه بما يحضرنا الله من التبيين ، وفي (ج) : نبين عنه بما يخطرنا فيه من التبيين ، وفي (ب) و (ه) : نتبين عنه ما يحضرنا فيه الله.

(٢) في (ب) و (ج) : ما نزل.

(٣) في (أ) و (د) : العربي العزيز المبين.

(٤) في (د) : ولا يكشف ظلمة.

(٥) في (أ) : أبلغنا سقط من (أ) : من.

(٦) في (ب) : منه.

(٧) سقط من (ب) : وإن قل تفسيره. وفي (ج) : وإن أقل تفسيره كثير. وفي (ه) : وإن أقل تفسيره كثيرا.

(٨) في (ب) : أول.

(٩) في (ب) و (ه) : ما.

(١٠) في (ب) و (ه) : بأن.

ألا ترى كيف يقول : اقرأ ما يقريك ، باسم (١) ربك الذي نزل عليك ، فأخبر جلّ ثناؤه أن قد نزّل عليه قبلها ، الاسم الذي أمره (٢) أن يقرأ به فيها ولها ، وأن يقدمه في القراءة عليها ، ثم يصير بعد القراءة به (٣) إليها.

ألا ترى أنه لو كان ما قد قرأ ، هو ما أمر عليه‌السلام أن يقرأ ، لكان إنما أمر بفعل تامّ مفعول ، وقول (٤) قد تقدم مقول. وإنما اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به بسم الله الرحمن الرحيم، الذي قدّم به (٥) في صدر كل سورة عند أول كل تعليم.

والحمد لله وحده ، وصلواته على سيدنا محمد النبي وعلى آله ، تم المديح الصغير ، بمنّ الله اللطيف الخبير.

* * *

__________________

(١) سقط من (أ) و (د) : ما يقريك. وفي (د) : اسم.

(٢) في (ب) : أمر.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) في (ب) : قول.

(٥) في (أ) : به صدر. وفي (ب) : له في كل صدر. وفي (ج) و (ه) : له في صدر.

الناسخ والمنسوخ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أحسن الكلم كلامه ، وأعدل الحكم في الأمور كلها أحكامه ، فحكمه أفضل الفضول ، وقوله فأنور القول ، وعلى قدر بعده من الخلق في التعالي والجلال ، بعد منهم فيما حكم به وقاله من المقال ، فكان قوله نورا وهدى وروحا ، وحكمه كله مصلحا مشروحا ، فلن يدخل قوله عوج ولا أود ، ولن يلم به جور ولا ظلم مفند ، كله رشد ونور وحياة ، وهدى وبر ومصلحة ونجاة ، فمن حيي بروحه في الدنيا لم يمت فيها بضلاله أبدا ، ومن قارنه في دنياه قارنه في آخرته فوزا مخلدا.

نزل الله لرحمته به كتابا وفرقانا ، وبيّن تنزيله كل شيء تبيانا ، كما قال سبحانه لرسوله، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل : ٨٩] ، فليس بعد قوله : (تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى) فاقة ولا حاجة في شيء منهن للمؤمنين. وكل ما نزل الله سبحانه من ذلك في القرآن ، وفصّل به وفيه من التبيان ، فقول منه ـ لا إله إلا هو ـ لا كالأقوال ، ذو بهجة ونور وحياة وبهاء وجلال ، وكلام بان عنه سبحانه بصوت لا كالأصوات ، صوت كريم لا يحله مصنوع اللهوات ، ولم يقطعه عواجز الأفواه ، ولم يخرج من بين جوانح وشفاه ، ولو أنه من تلك كان ، وعنها من الله بان ، لكان لما كان من مثل ذلك مثلا وكفيا ، ولما كان كما جعله الله نورا وحيا ، (١) حتى يهدى بنوره من ظلم الضلالة ، ويحيى بروحه من مات من أهل الجهالة ، حتى يرى بعد موته ـ لإحيائه له ـ حيا ، وحتى يمشي به من هداه مبصرا بعد أن كان عميا ، قال الله سبحانه : (أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٢٢) [الأنعام : ١٢٢] ، وقال سبحانه : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي

__________________

(١) في (أ) و (ب) : وروحا. ولعل ما أثبت هو الصواب.

السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) (٥٣) [الشورى : ٥٢ ـ ٥٣]. فنور كتاب الله زاهر مضيء يتلألأ ، وما جعل الله به من الحياة فحياة لا تبيد أبدا ولا تبلى.

فتبارك الله الذي نزل الكتاب ولم يجعل له عوجا قيما ، بل جعله كما قال سبحانه كتابا مضيا مفصلا مكتملا : (لَكِتابٌ عَزِيزٌ (٤١) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٤٢) [فصلت : ٤١ ـ ٤٢] ، فكان في إحكامه لآياته وتكريمه له وإجادته فوق كل محكم ومجيد ، كما قال سبحانه : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) [البروج : ٢١ ـ ٢٢] ، فهو خير ما وعظ به واعظ واتعظ به موعوظ.

والحفظ في هذه الآية واللوح ، فهو الأمر المثبت اليقين المشروح ، والمجيد فقد يكون المتقن المحكم ، ويكون العزيز العظيم المكرم ، كما (١) قال الله سبحانه لرسوله،صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) [الحجر : ٨٧] ، فهو كما قال الله جل ثناؤه العظيم.

وفي تكريم الله له ما يقول تبارك وتعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) (٧٧) [الواقعة : ٧٧] ، وفي حكمة كتاب الله ما يقول سبحانه : (الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ) (١) [يونس : ١] ، وفيه ما يقول جل جلاله : (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (٦) [النمل : ٦].

فكتاب الله بمنّ الله بيّن يلوح ، مبين باهر مشروح ، عند من وهبه الله علمه ، وفهّمه آياته وحكمه ، لما وصل به من نوره ، وفصّل فيه من أموره ، مقدّما ومؤخّرا ، وأمرا ومزدجرا ، وناسخا ومنسوخا مبدلا ، نعمة ورحمة وفضلا ، تصريفا فيه كما قال سبحانه للآيات والأمثال ، وزيادة به في المن والنعمة والإفضال : (وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً) (٥٤) [الكهف : ٥٤] ، وقال سبحانه ضاربا ومصرفا وممثلا : (وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٧) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ

__________________

(١) في (ب) : وكما قال سبحانه.

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٢٨) [الزمر : ٢٧ ـ ٢٨]. وقال سبحانه : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٠٦) [البقرة : ١٠٦] ، فتبديل الآيات ونسخها وإنشاؤها فهو تفهيم من الله للسامعين وتذكير ، (١) عن غير نقض ولا تبديل ، سخط بحكم من أحكامه في التنزيل ، لأنه لا معقب ـ كما قال ـ لحكمه وفصله ، (٢) ولا مبدل لشيء من كلماته وقوله.

وفي ذلك ما يقول جل جلاله ، عن أن يتناقض في شيء من حكمه [وقوله] ، (وَاللهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ) [الرعد : ٣٥] ، ويقول تبارك وتعالى في أهل الكتاب : (وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (١١٥) [الأنعام : ١١٤ ـ ١١٥]. وبما بدل من الآيات في القول لا في المغنى ولا في حكم الله المحكم [الحكيم] ، وفيما نسخ بالقول المبدل ، في كتاب الله المنزل ، تثبيتا من الله له وتصريفا ، ورحمة منه وتعريفا ، ما هلك عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، (٣) إذ لم يبن له ما قلنا به من ذلك ولم يصح ، أيام (١) كان يكتب

__________________

(١) في (أ) : وتذكر.

(٢) في (أ) و (ب) : وفضله. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٣) كان قد أسلم فدعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات يوم يكتب له شيئا ، فلما نزلت الآية التي في المؤمنين (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ .....). أملاها عليه فلما انتهى إلى قوله تعالى : (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ ...). عجب عبد الله في تفصيل خلق الانسان فقال : تبارك الله أحسن الخالقين. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هكذا أنزلت علي. فشك عبد الله حينئذ! وقال : لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إلي كما أوحي إليه ، ولئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. وارتد عن الاسلام. فنزل فيه قول الله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) [الأنعام / ٩٣]. أي : نزل فيه (وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللهُ) عند ما قال : لقد قلت كما قال.

وقيل : كان إذا أملى عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (سَمِيعاً عَلِيماً) كتب (عَلِيماً حَكِيماً) ، أو (عَزِيزٌ حَكِيمٌ) كتب (غَفُورٌ رَحِيمٌ). وأنا استبعد هذه الرواية الأخيرة ، إن لم أقطع بكذبها لأنها تشكك في القرآن الكريم.

ولحق بمكة فأهدر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دمه يوم فتح مكة ، وكان أخا لعثمان من ـ

الوحي لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاختلف عنده بعضه في القول والمعنى فيما اختلف منه واحد لا يختلف ، وإن كان القول به قد يتسع وينصرف ، فلما عسف فيه النظر ، ارتد عن الاسلام وكفر.

فعلم الناسخ والمنسوخ والمبدل ، عصمة لأهله فيه من الهلكة والجهل ، ونسخ الآية ـ هداكم الله ـ وتبديلها ، فقد يكون تصريفها بالإيضاح والتبيين وتنقيلها ، لتبين في عينها ، بإيضاحها وتبيينها ، لا نسخ بقصر ولا وهم ولا اختلاف ، ولا تبديل بدا ولا تعقب ولا اعتساف ، وكيف والله يقول سبحانه : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) [الأنعام : ٣٤ ، ١١٥ ، الكهف : ٢٧] (٢). ويقول تبارك وتعالى : (لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ) [الرعد / ٤١]. ويقول : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، فكفى بهذا فيما قلنا به هداية ودلالة وتعريفا والحمد لله وتبصيرا.

ولو كان التبديل للآية والنسخ لها هو غيرها ، لكانت إذا الآيات منسوخة مبدلة كلها ، فالنسخ للآية والابدال ، ليس هو الافناء للآية (٣) والابطال ، لأن الآية لو أفنيت وأبطلت ، إذا نسخت وبدّلت ، لما قيل : بدلت ونسخت ، ولقيل أبطلت الآية وأفنيت ، وأبدلت آية أخرى غيرها وأنشئت!! ألا ترى أن الآية لا تكون مبدلة ولا منسوخة ، إلا وعينها قائمة بعد موجودة ، لم تفن وإن بدلت ولم تبطل ، وإن بطل وفني بعض صفات المبدل ، أولا ترى أنك لو نسخت شيا ، لم يكن نسخك له مفنيا ، ولم تكن له ناسخا أبدا ، إلا بأن ترده بعينه ردا ، فإن جئت بضده وغيره ، لم تكن ناسخا له بعينه ، فالآيات كلها أمثال وأخبار ، وأمر من الله جل ثناؤه وازدجار ، وذلك كله من الله في أنه حق

__________________

ـ الرضاعة ، ففر إلى عثمان فجاء به عثمان إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يزل به حتى أمّنه.

القصة في الدر المنثور ٣ / ٣١٧ ، وأسباب النزول / ١٥٦ ، والمصابيح للشرفي ٤ / ٧٠ ، والكشاف ٢ / ٣٥ ، والمعارف لابن قتيبة / ٣٠٠ في ترجمة عبد الله.

(١) في (ب) : أيام ما كان.

(٢) في (أ) و (ب) : «لا مبدل لقوله». ولا توجد في القرآن بهذه الصيغة ، وإنما الموجود : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ). الأنعام / ٣٤ ، ١١٥ ، والكهف / ٢٧.

(٣) سقط من (ب) : للآية.

وصدق واحد غير مختلف ، ولا متفاوت وإن نسخ وبدّل وصرّف ، بالنسخ له ، والتبديل ونقل كله ، أمر من الله ونهي ، وتنزيل من الله ووحي.

وقد ينسخ الله إلقاء الشيطان ، فيما ينزله الله من وحي وقرآن ، بذكره له عنه ، وتبيين ما كان فيه منه ، فإذا ذكر الله ذلك كله ، وعرّفه جل ثناؤه من جهله ، نفاه من وحيه فأبطله ، فنقي (١) تنزيل الله من ذلك بإحكام الله له وتبرّا ، من كل وهن وتناقض عند من يبصر بعين فكره ويرى ، كقوله سبحانه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) [الحج : ٥٢]. وتأويل ألقى في أمنيته : إنما هو إلقاء في قراءته وتلاوته ، وليس ذلك كما يقول من جهله من العامة إنه يلقيه ـ على اللسان ، فينطق به من رسول أو نبي ـ شيطان ، ولم يجعل الله سبحانه على رسول ولا نبي للشيطان ، مثل ذلك التمكن والقدرة والسلطان ، كيف والله تبارك وتعالى يقول : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٩٨) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٩٩) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ) (١٠٠) [النحل : ٩٨ ـ ١٠٠]. وفي مثل ما قلنا ما يقول رب العالمين : (إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ) (٤٢) [الحجر : ٤٢].

[خرافة الغرانيق]

وجهلة العامة يزعمون أن الشيطان ألقى على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يتمنى ويقرأ : أذكر آلهة قريش من اللات والعزى ، فقرأ في ذكرها : (وإن تلك لهي الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها (٢) عند الله لترتجى) (٣) ، هذا لا يجوز على رسول الله صلى

__________________

(١) في المخطوطتين : فبقا. مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) الغرنيق : الشاب الأبيض الناعم. وطائر أبيض. وفي (أ) : العليا. وفي (ب) : شفاعتهم.

(٣) رواه في مجمع الزوائد ٧ / ١١٥. ـ

__________________

وأخرجه عبد بن حميد ، من طريق السدي ، عن أبي صالح.

وأخرجه البزار ، والطبراني ، وابن مردويه ، والضياء في المختارة ، بسند رجاله ثقات من طريق سعيد بن جبير ، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، بسند صحيح ، عن سعيد بن جبير.

وأخرجه ابن جرير ، وابن مردويه ، من طريق العوفي ، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن مردويه ، من طريق الكلبي ، عن أبي صالح. ومن طريق أبي بكر الهذلي ، وأيوب ، عن عكرمة. ومن طريق سليمان التيمي ، عمن حدثه ، كلهم عن ابن عباس.

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن جرير ، من طريق يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث : أن رسول الله إلخ ... مرسل صحيح الإسناد.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، من طريق موسى بن عقبة ، عن ابن شهاب.

وأخرجه البيهقي في الدلائل ، عن موسى بن عقبة ، ولم يذكر ابن شهاب.

وأخرجه الطبراني ، عن عروة مثله.

وأخرجه سعيد بن منصور ، وابن جرير ، عن محمد بن كعب القرظي ، ومحمد بن قيس.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم بسند صحيح ، عن أبي العالية.

وأخرجه ابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، عن أبي العالية ، بتفاوت يسير مع الذي قبله.

وأخرجه ابن أبي حاتم ، عن قتادة ، وعن السدي.

وأخرجه عبد بن حميد ، عن مجاهد ، وعكرمة.

كانت تلك هي أسانيد هذا الحديث جمعها السيوطي في تفسيره وخلاصته : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما قرأ : (أفرأيتم اللات والعزى ، ومناة الثالثة الأخرى) ألقى الشيطان على لسانه ، وفي بعضها فألقى في أمنيته (تلك الغرانيق العلى ، منها الشفاعة ترتجى) ، فقال المشركون : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم ، فسجد ، وسجدوا ، ثم جاءه جبرائيل بعد ذلك فقال : اعرض علي ما جئتك به ، فلما بلغ : تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن ترتجى. قال جبرئيل : لم آتك بهذا ، هذا من الشيطان ، فأنزل الله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ، إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ ، وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحج / ٥٢]. وزيد في بعضها ما خلاصته : قال المشركون يذكر آلهتنا بالشتم والشر ، وإن ذكرها بالخير نذكر إلهه بالخير ، وأقررناه وأصحابه ، فتكلم الرسول بها ، فانتشر قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (تلك الغرانيق ..) ، وقالوا : إن محمدا قد رجع إلى دينه الأول ودين قومه. الدر المنثور ٦ / ٦٥ ٦٩.

وهذه خرافة لا أصل لها ، وسخف من القول وزور ، كيف وقد أقسم الله أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله لو كذب عليه باختلاق كلام ، لقطع عنقه (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ، ثُمَّ ـ

الله عليه وآله وسلم ظنة ولا توهمة ، فضلا أن يثبت عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله أو ظنه ، وهذا ومثله ، وما كان نظيرا له ، فإذا ألقي في تنزيل الله ووحيه ، أو أمر الله ونهيه ، نسخه الله فنفاه ، وأبطله ونحّاه ، والله سبحانه لا يبطل ولا ينفي وحيه بنسخه وتبديله ، وإن صرفه فزاد أو نقض من الفرض في تنزيله ، كقوله سبحانه : (وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ) (١٠٢) [النحل : ١٠١ ـ ١٠٢]. فكل أمر الله ونهيه هدى ورحمة ، ومنّ من الله على خلقه ونعمة ، فكذلك أمر النسخ والتبديل ، وما ذكر منهما جميعا في التنزيل.

[أقسام النسخ]

ومن الناسخ والمنسوخ فاعلموه ما كان يزاد (١) به في الفرض تكليفا ، أو ينقص به منه رحمة من الله فيه وتخفيفا ، وفي ذلك كله ، بمنّ الله وفضله ، من البركة والرفق ، ومن الرحمة بحسن السياسة والتدبير للخلق ، ما لا يستتر ولا يخفى ، إلا على من جهل وجفا ، كالوصية التي أمر بها من ترك خيرا عند الموت للوالدين والأقربين بالمعروف ، (٢) ثم زيد

__________________

ـ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ ، فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة / ٤٤ ٤٧]. بيد أن كتب التاريخ والتفسير التي تركت للوراقين والزنادقة يشحنونها بالمفتريات ، اتسعت صفحاتها لذكر هذا اللغو القبيح ، ومع أن زيفه وفساده لم يخفيا على عالم ، إلا أنه ما كان يجوز أن يدون مثله. وقد شكك المستشرقون وأعداء الاسلام في القرآن الكريم بهذه الخرافة وأمثالها ، وفق ما تمليه عليهم نفوسهم المريضة ، وقلوبهم الحاقدة.

ولو جاز ذلك على الأنبياء عليهم‌السلام ، لما وثقنا في شيء مما جاءوا به ولا أمنّا وقوعه في كل الشرائع.

(١) في (ب) : يراد به. وفي (أ) : يزا به. مصحفتان. والصواب ما أثبت.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ) [البقرة / ١٨٠].

فيما أمر به من ذلك ما هو أكثر التوارث بحد مسمى موصوف ، من سدس وثلث وربع ، في مفترق من المواريث ومجتمع ، كرجل ترك ابنه وأبويه ، فلكل واحد من الأبوين السدس لا يزاد عليه ، فإن تركهما وزوجة ، كان لها الربع فريضة ، وللأم ثلث ما يبقى وهو الربع من جميع المال ، وكذلك ما سمى من مواريث الأقربين في مختلفات الأحوال.

وكما أمر به من صلاة ركعتين في الحضر والسفر ، ثم زيد في فرضها فجعلت أربعا في الحضر ، وكقوله في التخفيف ، والوضع لرحمته من التكليف : (الْآنَ خَفَّفَ اللهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً) [الأنفال : ٦٦]. فنقص ووضع من ذلك عنهم فرضا كان موظّفا ، وأشياء كثيرة لما تسمع وترى ، في أمور جمة لا يحصيها كتابنا أخرى.

فهذه وجوه من الزيادة والتخفيف في الفرض ، لا يشك من يعقل في أن بعضها من بعض ، ليس في شيء منها اختلاف ولا تناقض ولا بداء ، كما زعم (١) من كان في كتاب الله وأحكامه ملحدا ، بل كلها بمنّ الله مؤتلف متقن ، وجميعها فمصدّق بعضه لبعض محقّق (٢) ، ليس فيها ـ والحمد لله ـ لأحد مقال ، يلحد به فيه إلا مفتر بطّال.

ومن ذلك ما يذكر عن الإنجيل وفيه ، من قول عيس صلى الله عليه : (إني لم آتكم بخلع التوراة ولا بخلافها ، ولم أبعث إليكم لنقض شيء مما جاءت به الرسل من وظائفها ، ولكني جئت لذلك كله مثبتا ، ولما أماته ذلك كله مميتا ، وبحق أقول لكم : إنه لن يبيد الله وصيته حتى تبيد وتنتقض ، السماوات والأرض ، وقد قيل لكم في التوراة : لا تقتلوا النفس المحرمة ، ومن قتلها فإن الله يدخله جهنم المحرقة ، وأنا أقول لكم : إن من قال لأخيه شتما يا أرغل ـ والأرغل (٣) هو الذي لم يختتن ـ فإن له في الآخرة بشتم أخيه نار جهنم) (٤) وهذا فمن زيادة الفرض وتوكيده ، ومن رحمة الله للعباد في حكمه

__________________

(١) فى المخطوطتين : كمن من كان .... ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) لعلها : متحقق. والله أعلم.

(٣) في المخطوطتين : الأرغرل. والصواب ما أثبت ، سيما وقد ذكر ذلك الإمام بنفسه في الرد على النصارى.

(٤) نص الإنجيل هكذا : (لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء ، ما جئت لأنقض بل لأكمل ، فإني ـ

وتسديده ، وكل ذلك فهدى من الله للعباد ورشد ، وكل ذلك فقد يجب به لله على عباده الشكر والحمد.

ومن ذلك قول عيسى صلى الله عليه في التنزيل ، لمن بعثه الله إليه من بني إسرائيل : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران : ٤٦]. وقول الله سبحانه لأهل الكتاب : (النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) [الأعراف : ١٥٧].

ومن ذلك وبيانه ، قوله سبحانه : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [النساء : ١٥٥] ، فجعل تحريمه عليهم بعض ما حرم بعد الإحلال ، من العقاب لهم بظلمهم وعداوتهم والنكال ، فهذا ومثله ، وما كان مشبها له ، فمن زيادة فرضه تأكيدا وتثقيلا ، وعقابا به لمن ظلم من عباده وتنكيلا ، وليس في شيء من هذا كله ، ولا من تخفيف الفرض فيه ولا من تثقيله ، تناقض بحمد الله ، في حكم من أحكام الله ، ولا بداء ولا تعقيب ولا اختلاف ، عند من له بحكمه وفضله اعتراف.

ومن لم يكن بالحكمة مقرا معترفا ، لم يكن إلا عميا معتسفا ، ومن كان معتسفا عميا ، لم يكن في حقائق الأمور مهتديا ، ومن عمى وفارق الهدى ، كان للبهائم (١) مثلا وندا ، كما قال الله سبحانه : (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (٤٤))

__________________

ـ الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض ، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل ، فمن نقض إحدى هذه الوصايا الصغرى وعلم الناس هكذا يدعا أصغر في ملكوت السماوات ، وأما من عمل وعلم فهذا يدعا عظيما في ملكوت السماوات.

فإني أقول لكم إنكم إن لم يزد بركم على الكتبة والفريسيين لن تدخلوا ملكوت السماوات ، قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تقتل ، ومن قتل يكون مستوجب الحكم ، وأما أنا فأقول لكم إن كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم ، ومن قال لأخيه رقا يكون مستوجب المجمع ، ومن قال يا أحمق يكون مستوجب نار جهنم). إنجيل متى الإصحاح الثامن ١٣١٢. لوقا ١٣ / ٣٠٢٧.

(١) في (أ) : للباهيم.

[الفرقان : ٤٤] ، وصدق الله لا شريك له فيما قال به فيهم تشبيها وتمثيلا ، لهم من البهائم ضلالا ، وأقل في الهدى دركا ومثالا ، لأن الأنعام وإن ضلت عن الهدى في الدين ، ولم تدرك شيئا إلا بحاسة من عين أو غير عين ، فهي مدركة لما ينفعها وما يضرها من المرعى ، وليس كذلك الضالّون من أهل العمى ، لأن من عمي في الدين كان أخذه لما يضره فيه أكثر من أخذه لما ينفعه ، وكان ما رآه منه وسمعه كما لم يره ولم يسمعه ، كما قال الله سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨] ، فكفى بهذا فيهم دليلا على ما مثّلهم به سبحانه لقوم يفقهون.

ألا ترون أن البهيمة تجانب ضرها في معاشها وتأخذ نفعها ، وتحسن لصالح مرتعها من المراتع الصالحة تتبعها ، فمن ضل في الدين فهو أعظم ضلالا منها ، وهو فمقصر صاغر في العلم عنها ، فكتاب الله بريء كله من الوهن والتداحض ، نقي في الألباب من كل اختلاف وتناقض ، واضح عند أهله مضيء الايضاح ، بأضوإ في أنفسهم من وضح الايضاح.

ونسخ ما نسخ منه وإبداله ، (١) فمن آيات الله فيه جل جلاله ، لا يأبى ذلك فيه ولا يدفعه ، إلا من لا يفهم الكتاب ولا يسمعه ، إلا بإذنه لا بنفسه ، فأما من سمعه بيقين قلبه ولبه ، فهو مؤمن بأنه من آيات ربه ، لما بيّنا من ذلك وذكرنا ، وأوضحنا فيه ونوّرنا ، والحمد لله على ما فصّل من الآيات ، وبين برحمته من الرشد والهدايات.

فمن عرف بآي وصل الكتاب من فصله ، ومنشأه ومقرّه من منسوخه ومبدله ، سلم بإذن الله من الهلكات ، (٢) واعتصم بمعرفته من الشبه والمضلات ، ومن عمي وتحيّر عن ذلك ، وقع في بحور المهالك ، لا ينجيه من أمواج لجج غورها ، إلا من وهبه الله فهم آياته ونورها ، وعرف بإذن الله المتصل من المنفصل ، والمقرّ المنشأ من المنسوخ والمبدل ، وعلم أن المنسوخ المبدل فيه من الله رحمة لخلقه ، وحكمة منه سبحانه زاد بها في مبين حقه ، إذ صرّف بالتبديل فيه لهم الأقوال ، وضرب به لهم في التفصيل الأمثال ، فقال

__________________

(١) سقط من (ب) : وإبداله.

(٢) في المخطوطتين : الهلكة. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

سبحانه : (وَيَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [إبراهيم : ٢٥]. وقال سبحانه : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الرعد / ٣ ، الروم / ٢١ ، الزمر / ٤٢، الجاثية / ١٣]. فمن لم يكن له نظر ولا فكرة ، لم تنفعه آية ولا تذكرة ، وطبع على قلبه ، ورين عليه بكسبه ، كما قال الله سبحانه : (وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ) [التوبة: ٨٧]. و (بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) [المطففين : ٧]. وما ذكر من الران والطبع ، فهو بما كان لهم من الخطيئة في الصنع ، فليس بحمد الله علينا لمبطل ـ في المنسوخ من كتاب الله والمبدل ، عليه ـ من توهين ، ولا لبسة في دين.

[المكرر في القرآن]

ومن علل الملحدين وأهل الأضاليل ، وما يعارضون به في الكتاب والتنزيل ، بما فيه من ترديد للكلام في تبيينه ، وما ذكر الله من التبيان فيه رحمة منه لأهل دينه ، وفي ذلك بمن الله وإحسانه من الرحمة والنعمة ، ومن البيان المكرم عما جعل بذلك وفيه من العلم والحكمة ، وما لم يزل يعرف أهل النهى والعلم أنه من أرحم الرحمة ، وأحكم ما يعقلون من مفهوم أهل الحكمة ، لم يزل (١) عليه بعض حكماء الأولين ، وقدماء من يعرف بالحكمة من الخالين ، وهو يردد الكلام ويكرره ، ليفهم خليله عنه : أكثر عليك من التكرير في قولي ، يا من هو صفوتي وخليلي ، (٢) لما في الترديد والتكرير للكلام ، من العون والقوة على الإفهام.

وفي ذلك ما يقول آخر من الحكماء ، وفي أوائل ما خلا من القدماء ، ربما (٣) احتيج إلى القول الكثير الطويل ، في الإبانة عن المعنى اليسير. مع من لا نحصيه منهم في عدده ،

__________________

(١) في المخطوطتين : من مفهوم لم يزل أهل الحكمة والرحمة عليه بعض. ولعله تقديم وتأخير في الكلام من النساخ. وما أثبت اجتهاد ، والله أعلم بالصواب.

(٢) في المخطوطتين ليفهم خليل له عنه أكثر عليك من التكرير في قلبي بأسون صفوتي وخليلي. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٣) في (أ) : رما.

ممن كان يعرف فضل تكرير القول وتردده ، في ملتمس الحكمة ، ومبتغى الرحمة.

ونحن بعد فنقول : مما لا تنكره العقول : إنه إذا كان القليل من البيان بيانا وإحسانا في غيره ، فالإكثار منه والتكرير أوضح في إحسان المحسن وتثنيته ، (١) لا يأبى ذلك ولا ينكره، من صح فيه فكره ونظره.

وفي تبيينه البيان ، وتكريره في القرآن ، وما هو في ذلك من المن والاحسان ، والحجة لله والبرهان ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) [الحجر : ٨٧]. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللهِ ذلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ) (٢٣) [الزمر : ٢٣] فكفى بما ذكرنا في هذا كله على ما في التكرير والتثنية والترديد من الهدى والرشاد. فبالله نستعين على شكره ، في ترديده وتثنيته (٢) لبيانه ، وما منّ به علينا في ذلك من إحسانه ، فلو لا رحمته لخلقه ، وحكمته في تبيين حقه ، لما ذكر فيه ولا ردد ، ولا وكد في تبيينه بما وكد ، ولاكتفى فيه بقليل القول من كثيره ، وبجملة التنزيل من تنويره ، ولكنه أبى سبحانه لرحمته ، ولما أراد من آياته وحكمته ، إلا ترديده وتكريره ، وإبانته بذلك وتنويره ، فنوّر منه برحمته أنور النور ، وأوضح أمره فيه بأوضح الأمور.

فتعلموه ـ يا بني ـ وعلّموه ، وفقكم الله لرشد ما وهبكم الله ومنّ به عليكم من أهل أو ولد ومن رأيتموه ، وإن كان في النسب قاصيا بعيدا ، (٣) ولله مريدا ، فإن في تعليمه وعلمه ، ودرك فهمه وحكمه ، النجاة المنجية والفوز ، وهو فكنز الله المكنوز ، الذي كنزه وأخفاه ، لمن رضيه واصطفاه ، وطواه فواراه ، عمن هجره وجفاه ، فلن يفهمه عن الله إلا مجد في علمه مجتهد ، ولن يصيب علمه (٤) إلا طالب له مسترشد.

__________________

(١) في (أ) : وتبيينه.

(٢) في (ب) : وتبينه.

(٣) في المخطوطتين : النسب بعيدا قاصيا ولله مريدا. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) في (أ) : علمه أهله. وفي (ب) : علم أهله. ولعلها زيادة أو أن تكون هكذا ولن يصيب علمه من أهله ...

[التدبر في القرآن]

واعلموا يا بني علّمكم الله الكتاب والحكمة ، ونفى عنكم ـ بما يعلمكم منها ـ العمى والظلمة ، أن أول علم الكتاب وتعليمه ، العلم بقدره عند الله وعظمه (١) وإن كان من لم يعلم قدره وغرضه ، أعرض عنه وهجره ورفضه ، فقلّ به هداه واتباعه ، ولم ينفعه مع الجهل استماعه ، بل خسر به ورجس ، كما قال من جل وتقدس : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) (٨٢) [الإسراء : ٨٢]. فجعله كما تسمعون للمؤمنين شفاء ورحمة ، وللظالمين عمى وخسارا ونقمة ، كما قال تعالى : (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى) [فصلت : ٤٤].

وفيما زيدوا به من الرجس ، مع ما فيه من الحكمة والقدس ، ما يقول الله سبحانه : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً ...) [التوبة : ١٢٤]. قال الله سبحانه : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥].

ففرض كتاب الله يا بني وقصده ، فهو هداية الله به ورشده ، والرشد من الله والهدى ، فهو الفوز بالخير والنجاة من الردى ، ومن ظفر برشده وهداه ، فقد أصلح الله دينه ودنياه.

وليس يا بني بعد فوت الدين والدنيا ، حياة لأحد من الخلق ولا بقيا ، فليكن أول ما تخطرون في الكتاب ببالكم ، وترمون إليه فيه ـ إن شاء الله ـ بأوهامكم ، ما ذكرت من غرضه ووصفت ، ووقّفت عليه من قصده وعرّفت ، فمن لم يعرف غرض ما يريد وقصده ، لم يبذل في الطلب له جهده ، ولم يعلم منه أبدا ، (٢) هداية ولا رشدا ، فخرج من علمه كله صفرا ، (٣) ولم يصب بشيء منه ظفرا ، وكان كمن سلك طريقا لا يعرف

__________________

(١) في المخطوطتين : وعظمته. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في (أ) : آية. مصحفة.

(٣) صفرا : خاليا. يقال : رجع فلان صفر اليدين. أي : خالي اليدين.

وجهته ولا قصده ، فتبع فيه ضلالته وخسرته وتلدده ، (١) فلم يزدد من الهدى ، إلا نقصا وبعدا ، فهلك وأهلك فضل وأضل عن سواء السبيل ، وخيّم وأقام هالكا متحيرا بين هلكات الأضاليل ، لا يبصر رشده فيه ولا هداه ، مهلكا لمن أطاعه مطيعا لمن أراده ، لا يرى فيه للهدى علما ، ولا يطأ به من رسومه رسما.

فاعرفوا يا بني هديتم لرشدكم ، ما قد حددته لكم ، في كتاب الله من القصد والغرض ، فإن بعض ذلك يدعو إلى بعض ، فمتى تعرفوا يا بني غرض كتاب الله وقصده ، يبذل كل امرئ منكم في طلبه جهده ، ويفز منه بالحظ الأوفر ، متى يظفر منه بالفوز الأكبر ، فيستأنس به من الوحشات ، ويكتفي بعلمه من القماشات ، (٢) التي قمشها في الدين ، فضلّ بها عن اليقين.

من رغب عنه إلى غيره ، ولم يستنر منه بمنيره ، فعمه في ضلالات المضلين غرقا متسكعا ، (٣) إذا لم يكن بكتاب الله مكتفيا ولا عنه مستمعا ، يستفيد الباطل من المبطلين ويفيده ، (٤) معرضا عن حق المحقين لا يطلبه ولا يريده ، راضيا لنفسه بالهلكة من النجاة ، وبالموت الموصول بنكال الآخرة من الحياة ، يعدّ غيّه وعماه بعد رشدا ، وضلالته عن الرشد هدى ، قد زاد غيّه وعماه ، ما أسعده من دنياه ، لما أسلمه الله لجريه (٥) إليه ، بما أمده من ماله وبنيه ، فاستدرجه به من الملأ ، بالعافية من نوازل البلاء ، كما قال تبارك وتعالى فيهم : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ) (٥٦) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٥٦] (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) [آل عمران : ١٧٨]. فغرض كتاب الله المبين ، فإنما هو البيان واليقين.

__________________

(١) التلدد : التحير. والتلفت يمينا وشمالا.

(٢) القمش : الرديء من كل شيء. والقمش : جمع الشيء من هاهنا وهاهنا.

(٣) الغرق : الرسنوب في الماء ويشبه الذي ركبه الدّين وغمرته البلايا. وسكع وتسكع : مشى متعسفا.

وتسكع في أمره : لم يهتد لوجهته.

(٤) في (أ) : ويقتده. مصحفة.

(٥) في (أ) : لخريه.

وقد تعلمون أن كل ذي صناعة ، أو تجارة مما كانت أو بياعة ، قد علم قبل ملابسته لها ودخوله فيها ، ما قصدها وغرضها وما دعا أهلها إليها ، كما قد رأيتم وأيقنتم من حال البنّاء ، الذي قد علم قبل دخوله فيما يريد أن غرض البناء ، رفع السقوف والحيطان ، وعقد العقود والطيقان (١).

وكذلك النجار فيما يريد بعمله من النجارة فقد علم قبل دخوله فيها أن غرضها عمل الكراسي والأبواب وكذلك مثلهما ، في علم غرض (٢) ما يريد غيرهما ، من التجارة والبياع ، فهم في علم غرض التجارة والبيع وما يريدون فيه كالصّنّاع ، قد علم كل تاجر ، من بر أو فاجر ، ما غرض بيعه وتجارته ، علم الصانع بصناعته (٣) ، وعلى قدر علم كل صانع ، وتاجر منهم أو بائع ، يجدّ ويجتهد ، ويسعى ويحتفد ، (٤) فيقل فتوره ، ويجل (٥) سروره.

فلا يكونن أحد منهم فيما يزول عنه ويفنى ، أجد منكم فيما يدوم أبدا ويبقى ، ولا يدخله خسارة ولا نقصان ، ولا وضيعة (٦) ولا خيبة أبدا ولا حرمان ، فإن تقصّروا في ذلك تكونوا أخسر فيما تعدونه من التجارة والصناعة خسرانا منهم ، بعد ما فرق الله في ذلك بينكم وبينهم ، فأعوذ بالله لي ولكم من الخسران المبين ، فإنه عند الله هو الخسران في الدين ، وذلك فهو الخسران والضلال البعيد ، الذي لا يخسره ـ بمنّ الله وإحسانه ـ رشيد.

فمنه يا بني أرشدكم الله فتحرزوا ، وعنه بالله ما بقيتم فتعززوا ، فإنه هو العز الأعز ، والحرز (٧) الحصين الأحرز ، الذي لا يكون معه أبدا ضياع ، ولا يخسر فيه تاجر

__________________

(١) الطيقان : جمع طاق وهو ما عطف من الأبنية فارسي معرب. والطاق أيضا : عقد البناء حيث كان.

(٢) في (ب) : عرض.

(٣) في المخطوطتين : علم الصناع بصناعتهم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) حفد واحتفد : خف في العمل وأسرع.

(٥) في (أ) : ويحل.

(٦) في المخطوطتين : ولا صنيعة. ولعلها تصحفت. والصواب ما أثبت لأن الوضيعة الخسارة.

(٧) في (ب) : هو العزيز. وفي (ب) : والحصن الحصين.

ولا صنّاع.

وفي ذلك ، ولأولئك ، ما يقول الله سبحانه : (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) (١) يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر : ٢٩] ، فافهموا هداكم الله عن الله هذا البيان والنور. واعرفوا قوله ، جل جلاله : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ) [النور : ٣٦ ـ ٣٧]. واعلموا أن التجارة مشغلة وملهاة ، لكل من آثر على دينه دنياه ، وبخل عن الله من الدنيا بما أعطاه ، واقتصر لنفسه مما ينجيها ، على رجاء المغفرة وتمنّيها ، مقيما على المعاصي لا يزول عنها ولا يبرح ، ظالما لنفسه لا يشفق عليها ولا ينصح ، ولا يقبل من رشده وهداه ، إلا ما وافق محبته وهواه ، عدوّا لمن نصحه في الله ، معرضا عمن دعاه إلى الله ، لم ينصفه مفتر عليه فيه بهّات ، (٢) له جلبة بجهله وأصوات ، يقول الباطل ، ويتبع الجاهل ، ليس له في نصح الناصحين حظ ولا نصيب ، ولا له مع جهله من الصالحين ولي ولا حبيب ، فهو كما قال صالح نبي الله ورسوله ، صلوات الله عليه ورضوانه ، إذ تولى عن قومه ، عند نزول عذاب الله بهم ونقمه ، (٣) (فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)) [الأعراف : ٧٩]. وقوله : (فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) (١٥٢) [الشعراء : ١٥٠ ـ ١٥٢]. فأسرف الاسراف وأفسد الفساد ، كل ما صد بأهله عن الهدى والرشاد.

وأرشد الرشاد والهدى ، وأقصده إلى كل خير قصدا ، تنزيل الله ووحيه ، وأمره فيه ونهيه ، وهو يا بني : الذكر الحكيم ، وفيه ما يقول الخبير العليم : (ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ

__________________

(١) في المخطوطتين : أثبت أول الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً ...) الآية وتكملتها (فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة / ٢٧٤]. ولعل ذلك سهو من الناسخ.

(٢) كثير البهتان.

(٣) في المخطوطتين : ونقمته. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم.

مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (٥٨) [آل عمران : ٥٨].

[ذكر الله]

وفيما خص الله به ذكره من الكرامة والتعظيم ، ما يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢] ، فكفى بهذا لذكر الله سبحانه تعظيما وتجليلا ، مع ما يكثر من هذا ومثله ، في كتاب الله وتنزيله ، قال الله سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) (٣٦) [النور : ٣٦] ، والتسبيح وإن كان من ذكر الله والاجلال ، فأكثر الذكر وأجمله ، وأكرم القول وأفضله ، ذكر الله تعالى بما نزل من الكتاب ، فبه (١) يا بني فاذكروا رب الأرباب ، فإن ذلك هو الذكر المقدم عند ذوي الألباب ، ذكرني الله وإياكم منه بخير ، ونفعكم بكتابه المنير ، فإنه أفضل المنافع ، وخيرها سلكا في المسامع ، لما فيه من ذكر الله وعلمه ، وما دلّ عليه من أمره وحكمه.

فمن أعظم الذكر الله والتذكير به ، ذكره بما ذكر به نفسه من آياته وكتبه ، فبتلاوة الكتاب فاذكروه ، تجلّوا الكتاب وتوقروه ، ولا تكتفوا بتلاوة الكتاب من تدبّره ، ولا ترضوا من قراءته بهذّه ونثره ، فإنه ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لا تنثروا القرآن نثر الدقل) ، (٢) فاقرءوه يا بني إذا قرأتموه بالتنزيل والترتيل وتفهموا بالإطالة له والترتل والترسل ، وعند ما ذكره الله سبحانه من ناشئة الليل ، ففي ذلك ما

__________________

(١) في المخطوطتين : فهي. ولعلها مصحفة. والصواب ما أثبت.

(٢) أخرج الآجري في حملة القرآن عن ابن مسعود : لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة. الإتقان / ١٠٨.

وعن ابن مسعود قال : إن قوما يقرءونه ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم. أخرجه الترمذي برقم ٥٤٧ ، وأحمد برقم ٣٨ ، ٥٦ ، ٣٧٧١ ، ٣٧٦٢.

وعنه أيضا وقد قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال : أهذّا كهذّ الشعر ، ونثرا كنثر الدقل. أخرجه أبو داود ١١٨٨ ، والنسائي ٩٩٥ ، والبخاري ٧٣٣ ، ٤٦٥٥ ، بلفظ أهذّا كهذ الشعر فقط. والدقل : التمر الرديء اليابس.

يقول تعالى لرسوله ، (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً) (٧) [المزمل: ٤ ـ ٧] ، يقول سبحانه : إن لك في النهار مهلا وتمهيلا ، فكفى بما وصفت لكم بهذا بيانا ودليلا ، فالحمد لله وليّ المن به وبغيره من الاحسان ، ونسأل الله العون على ما نزل في وحي كتابه من البيان.

واعلموا يا بني : أن في كتاب الله جل جلاله ، حرام الله كله وحلاله ، فليس لأحد تحليل ولا تحريم إلا به ، فمن أبى ذلك فهو من الجاهلين بربه ، لقول الله تبارك وتعالى فيه : (وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ) [الأنعام : ١١٩] ، ولقوله سبحانه في تنزيله ، بعد ما ذكر فيه من تحريمه وتحليله : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) [المائدة : ٣] ، وكفى بهذا على ما قلنا به فيه علما وتبيينا.

[المحكم والمتشابه]

وفيما نزل الله يا بني : من وحيه ، بعد الذي بيّن فيه من أمره ونهيه ، متشابه باطن خفي ، لا يتبين منه أبدا شيء ، جعله الله متشابها كذلك ، ليس يعلمه أحد غير الله لذلك ، وكيف وإن اجتهد أبدا ، وأهدى ما في ذلك من الهدى ، فهو العلم ، بأنه لا يعلم ، وهو للقول فيه ، عند النظر إليه ، ما ذكر الله سبحانه أنه قال : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ١] ، فليس يعلم منه متشابه الآيات ، إلا من علمه إياه رب السماوات ، ومن كتاب ، رب الأرباب ، ما يظن ويتوهم ، متشابها وهو محكم ، إلا أنه قد دخل فيه بعض الوهم ، على بعض من سمعه من أهل العلم ، فإذا ثبت فيه ، ودل عليه ، أسفر له وأنار ، ووضح له وبان.

__________________

(١) سقط من (ب) : من قوله : لرسوله ... إلى قوله : قولا ثقيلا.

ومن ذلك ما ذكر أبو صالح عن الكلبي (١) عن عمر بن الخطاب ، أنه قال لابن عباس يوما من الأيام : (يا أبا العباس ضربتني البارحة أمواج القرآن في آيتين قرأتهما ، لم أعرف ما تأويلهما؟

فقال ابن عباس : ما هما يا أمير المؤمنين؟

قال : قوله (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٢]. فقلت : سبحان الله أيظن نبي من أنبياء الله أن الله (٢) لا يقدر عليه ، أو أنه يفوته إن أراده ، ما ظن هذا مؤمن؟!

وقوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا) [يوسف : ١٠٤]. فقلت : سبحان الله كيف هذا أيس الرسل من نصر الله ، أو تظن أن قد كذب وعد الله؟!! إن لهاتين الآيتين خبرا من التأويل ما فهمته؟!!

فقال ابن عباس : أما ظن يونس فإنه ظن لن تبلغ به خطيئته أن يقدّر الله بها عليه العذاب ، ولم (٣) يشك أن الله إن أراده قدر عليه ، فهذا قوله : (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). وأما قوله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ). فهو استيئاسهم من إيمان قومهم ، وظنهم : فهو ظنهم لمن أعطاهم الرضى في العلانية ، أنه قد كذّبهم في السر ، وذلك لطول البلاء عليهم ، ولم تستيئس من نصر الله ، ولم يظنوا أن الله قد أخلفهم ما وعدهم.

فقال عمر فرجت عني فرّج الله عنك (٤).

__________________

(١) الكلبي هو : الراوي عن أبي صالح.

(٢) سقط من (أ) : أن الله.

(٣) في (ب) : ولن.

(٤) أخرج الزبير بن بكار في الموفقيات من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهم ، أن معاوية قال له يوما : إني قد ضربتني أمواج القرآن البارحة في آيتين لم أعرف تأويلهما ففزعت إليك.

قال : وما هما؟

قال : قول الله : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ). وأنه يفوته إن أراده ، وقول الله : (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا). كيف هذا يظنون أنه قد كذبهم ما وعدهم؟

فقال ابن عباس : أما يونس ، فظن أن لن تبلع خطيئته أن يقدر الله عليه فيها العقاب ، ولم يشك أن الله ـ

قال ابن عباس : فإن رجلا لقيني آنفا فقرأ علي قول الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢]. هو يقول حتى يطهرن بالماء ، (فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) ، قبلا ودبرا ، فقلت : كفى من ذهب إلى هذا التأويل كفرا!! إنما عنى الله تبارك وتعالى حتى يطهرن من الدم ، فإذا تطهّرن منه بالماء (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) يعني طاهرات غير حيّض. فقال عمر : إن قريشا لتغبط بك يا بن عباس ، بل جميع العرب ، بل جميع أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقال خريم بن فاتك الأسدي (١) :

ما كان يعلم هذا العلم من أحد

بعد النبي سوى الحبر ابن عباس

من ذا يفرج عنكم كل معظلة

إن صار رسما مقيما بين أرماس

مستنبط العلم غضا من معادنه

هذا اليقين وما بالحق من بأس

وصدق لعمري عمر بن الخطاب إن الأمة لتغبط بأن يكون فيها ومنها ، من يجادل أهل الإلحاد في تنزيل الله والكفر بآيات الله سبحانه عنها.

ولفي مجادلة من ألحد وأبطل ، أو جهل بيان الكتاب فعطّل ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ

__________________

ـ إن أراده قدر عليه.

وأما الآية الأخرى ، فإن الرسل استيأسوا من إيمان قومهم ، وظنوا أن من عصاهم لرضى في العلانية قد كذبهم في السر ، وذلك لطول البلاء عليهم ، ولم تستيئس الرسل من نصر الله ، ولم يظنوا أنهم ـ لعلها أنه ـ ما وعدهم.

فقال معاوية : فرجت عني يا ابن عباس فرج الله عنك. الدر المنثور ٥ / ٦٦٦ ٦٦٧.

وأنا استبعد أن يكون السائل هنا معاوية ، وإنما أراد أشياعه أن يصوروه بأنه باحث متدبر في كتاب الله. ويشبعوه بما لم يأكل. وحري أن يكون السائل عمر بن الخطاب الذي كان يجالسه ابن عباس كثيرا فيسأله ويستفتيه.

(١) في المخطوطتين : خزيم بن قائد. مصحفة. وخريم هذا يقال : له صحبة ، ويقال أنه أدرك بدرا.

الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (١٢٥) [النحل : ١٢٥]. وفي مثل ذلك ما يقول رب العالمين ، بعد رسوله عليه‌السلام للمؤمنين : (وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) [العنكبوت : ٤٦] ، ذلك (١) لما جعل الله في المجادلة لمن ظلم بالحجة من الدفاع عنهم.

ولفي ذلك والحمد لله قديما ، وإذا كانت الحجة في الله صراطا مستقيما ، ما يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) ـ ف ـ (قالَ) ـ الملك ـ (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. يريد الملك بقوله : أميت وأحيي ، أني أقتل من أردت وأحيي (٢) وأخلي ، فلما ـ حاج إبراهيم الملك بحجته في ربه ، ودعاه بدليل الحياة والموت إلا ما دعاه الله إليه من المعرفة به ، فلم يقر الملك بما عرف ، وأنكر وكابر وعسف ـ احتج إبراهيم صلى الله عليه ، من الحجة بما لا دعوى له فيه ، من إتيان الله بالشمس من مشرقها ، فقطعه إبراهيم بحجة الله ووحيها (٣) ، ثم زاد الحجة عليه تأكيدا ، وقول إبراهيم بحجة الله تثبيتا وتسديدا ، قوله : (فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ). فلما حاجه من الحجة بما يغلب كل مغالب ، كما قال سبحانه : (فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ). وقطعت عليه بحجة الله حجته فيما أنكر ، ولم يجد عندها مقالا ، وكذلك يفعل الله بمن كان عن الهدى ضالا ، كما قال في أمثاله رب العالمين : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٢٥٨) [البقرة : ٢٥٨]. ولقد كان في قول إبراهيم ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ). وتيقن الملك أنه سيموت ـ ما أغنى كثيرا وكفى ، لو كان الملك بما يعرف مقرا معترفا ، لأن الحياة والموت فعلان موجودان ، وصنعان لا شك في أنهما من الصانع معدودان ، لا ينكر ما قلنا به فيهما من ذلك سامع ، ولا يدعي صنعهما ـ إلا بمكابرة من مدعيهما ـ صانع ، وإذا صحّا وثبتا صنعا وفعلا ، وكان الملك وغيره

__________________

(١) سقط من (ب) : ذلك.

(٢) في (أ) : وأحسن.

(٣) في (أ) : الله وحيها.

عليهما مجبورا محتبلا ، (١) ليس لأحد فيهما صنع ، ولا يمتنع منهما ممتنع ، فلا بد باضطرار من صانعهما وفاعلهما ، ومتولي صنعهما واحتبالهما ، إذا ثبتا صنعا وفعلا ، وكان كل واحد مهما بدعا محتبلا (٢). ولكفى بحجة ـ إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالموت ، إذ لا يقدر أحد منه على فوت ـ حجة وبرهانا ودليلا ، وللمعرفة بالله منهجا وسبيلا ، فكيف بما مع ذلك من دلائل الله وشواهده؟! وبرهان معرفة الله الذي لا يقدر أحد على معدوده؟!!

وفي محاجة إبراهيم عليه‌السلام لقومه ، ما سمعتموه في كتاب الله عزوجل من قوله ، عند ما رآه من ملكوت السموات والأرض ، وما دلّه الله (٣) به من بعض ذلك على بعض ، إذ يقول سبحانه : (وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي) [الأنعام : ٧٥ ـ ٧٦]. فقال مقيما لقومه وموقفا ، ومحتجا عليهم من الله ومعرّفا ، لا معتقدا لآلهتهم ولا ممتريا ، ولا شاكا فيها ولا عميّا ، قال الله تبارك وتعالى : (فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) (٧٦) [الأنعام / ٧٦]. وكذلك قوله عليه‌السلام : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ) (٧٧) [الأنعام : ٧٧]. يقول صلى الله عليه لهم : لئن لم يهدني ربي ويرفعني عنكم ، لأكونن ضالا مثلكم ومنكم ، فلما وقّفهم على الحجة مفاوهة (٤) ، وأثبتها لهم فوقّفهم مواجهة : (قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (٧٨) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٧٩) [الأنعام: ٧٨ ـ ٧٩].

وفيه وفيهم ما يقول الله سبحانه : (وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللهِ وَقَدْ هَدانِ) [الأنعام : ٨٠]. يقول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : وقد أراني من آياته ، ودلائل

__________________

(١) المحتبل : الذي نصبت له الحبالة. أي : المصيدة فوقع فيها.

(٢) في (أ) : مجتبلا.

(٣) في (ب) : دله ربه به.

(٤) رجل مفوّه : قادر على المنطق والكلام. والمعنى هنا حاججهم مشافهة ومواجهة.

معرفته ، ما أراني من أرضه وسمائه (١) ، وفطرته لهما وإنشائه ، فنجاني من هلكتكم بجهله (٢) والاشراك به ، وخصّني مع النجاة من هداه لي [باليقين] ، ولو لا هداه لي لعبدتّ كما عبدتم الآفلين ، وكيف يكون [إلها] من أفل ، وزال عن معهود حاله وتبدل (٣)؟!! وفي تبدل الذات والصفات والأحوال ، ما لا يدفع عن المتبدل من الافناء والابطال ، وما بطل وفني ، فخلاف ما دام وبقي ، وما اختلف وتفاوت من الأشياء ، فليس يحكم له ـ إلا من ظلم ـ بالاستواء! فكيف سويتم في معنى ، بين ما يدوم وبين ما يفنى؟! إلا أن تساووا في مقال واحد بين كاذب وصادق ، وكما سويتم فيما تحبون من العبادة وغيرها بين مخلوق وخالق.

وفي ذلك من جور الحكم في العقل والمقال ، ما لا يجهل جوره أجهل الجهال ، بل فيه عن الله أحوال المحال ، وما لا يمكن اجتماعه في حال ، فلما قطعهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحجته في مقالته ، خسئوا صاغرين عن منازعته ومجادلته ، فلما صموا عن إجابته بعد الهدى ، هاجر إلى الله سبحانه عنهم مجاهدا ، وقال : (إِنِّي ذاهِبٌ) (٤) إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩) [الصافات : ٩٩]. يريد : سيهدين يزيدني بمهاجرتي إليه من هداه فيقويني ، فهداه في هجرته سبيله ، وجعله بهداه له خليله ، فلم يزل صلى‌الله‌عليه‌وسلم مهتديا ، حتى قبضه الله على هداه ورشده رضيا ، فأجزل له في الهدى والهجرة الثواب والرحمة ، وجعل في ذريته من بعده النبوة والبيان والحكمة ، وأعطاه برحمته وفضله الله رب العالمين ، ما سأله أن يجعله له من لسان صدق في الآخرين ، فبقي في الغابرين بالصالحات ذكره ، وآتاه بذلك في الدنيا أجره ، كما قال أرحم الراحمين : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) [العنكبوت : ٢٧]. فنسأل الله الذي

__________________

(١) في (ب) : وسماواته.

(٢) أي : بجهلكم لله.

(٣) في المخطوطتين : وكيف يكون من أفل وزال وتبدل ، عن معهود حاله ولم يتبدل؟ ولعلها مصحفة ، فاجتهدت في إصلاح النص ، والله أعلم بالصواب.

(٤) في المخطوطتين (مُهاجِرٌ) وهي من آية أخرى (مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [العنكبوت / ٢٦].

أجزل له في الدنيا والآخرة من الخير أن يجعلنا ، له برحمته من صالح الأبناء ، وأن يهبنا بطاعته له وعبادته ، شكر ما أنعم به علينا من ولادته.

تم الكتاب بحمد الله العزيز الوهاب فله الحمد كثيرا ، وله الشكر بكرة وأصيلا ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

* * *

تفسير القرآن

تفسير سورة الحمد

قال الإمام القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام :

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ) ، تأويل : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فهو الشكر لله (على نعمه وإحسانه ، والتحميد لله والثناء عليه) (١) ، ومن الحمد قيل : محمود وحميد (٢) ، كما يقال من الجود : جواد ومجيد.

والله لا شريك له ، فهو الذي تأله إليه القلوب ، ويستغيث به في كل كرباته المكروب ، وإليه يجأر الخلق كلهم جميعا ويألهون ، وإياه سبحانه يعبد البررة الأزكياء ويتألهون ، دون كل إله ورب ومعبود ، وإياه يحمدون في كل نعمة قبل كل محمود.

وتأويل : (رَبِّ الْعالَمِينَ) (٢) فهو : السيد المليك ، الذي ليس معه فيما ملك مالك ولا شريك.

وتأويل قوله سبحانه : (الْعالَمِينَ) فيراد به (٣) الخلق أجمعون ، الباقون منهم والفانون ، والأولون منهم والآخرون.

وتأويل : (الرَّحْمنِ) ، فهو : ذو الغفران والمن والإحسان.

وتأويل : (الرَّحِيمِ) (٣) ، فهو : العفوّ عن الذنب العظيم ، والناهي عن الظلم والفساد ، لما في ذلك من رحمته للعباد ، ضعيفهم وقويهم ، وفاجرهم وبرّهم.

وتأويل (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) (٤) فهو : مالك أمر يوم الدين ، الذي لا ينفذ أمر في ذلك اليوم غير أمره ، ولا يمضي فيه حكم غير حكمه ، والملك (٤) : من الملك ، والمالك: من الملك ، وهما يقرءان جميعا ، وكلاهما معا (فلله ، فهو يوم الجزاء والثواب

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : محمود وموجود ، كما يقال من الجود : جواد جيد.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) في (أ) : فالملك.

والعقاب ، وإنما سمي الدين لما يدان أي يجازى) (١) قال : معنى يوم الدين فهو يوم يدان العاملون أعمالهم ، ويجزون يومئذ (٢) بهداهم وضلالهم.

(إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فهو : نوحد ونفرد.

(وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) (٥) نسأل العون على أمرنا ، وتوفيقنا لما يرضيك عنا.

(اهْدِنَا) وفقنا وأرشدنا.

(الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) والصراط : هو السبيل ، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل ، قال جرير :

أمير المؤمنين على صراط

إذا اعوج الموارد مستقيم

و (الْمُسْتَقِيمَ) فهو الطريق الواضح الذي افترضه الله إلى الطاعة ، المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل ، فهو لا يجور بأهله عن قصده ، ومنه قوله تعالى : (وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ) [الأعراف : ٨٢].

(صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) يقول : طريق الذين أنعمت عليهم من عبادك الصالحين ، الذين وفقتهم وهديتهم لرشدهم.

(غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) تأويل ذلك غير المغضوب عليهم منك.

(وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) يقول : ولا صراط الضالين بالهوى والعمى عنك ، لأنه قد ينعم جل ثناؤه في هذه الدنيا على من يضل عنه ومن لا يقبل ما جاء من الهدى والأمر والنهي ، ولمن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين ، يقول : اهدنا صراطا غير صراط الذين غضبت عليهم ، والمغضوب عليهم في هذا الموضع : فهم اليهود (وَلَا الضَّالِّينَ) يقول : ولا صراط الضالين ، والضالون : فهم في هذا الموضع النصارى (٣).

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) سقط من (أ) : يومئذ.

(٣) في (أ) : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) فهو : نوحد ونفرد ، (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) تأويل ذلك : المغضوب عليهم ولا الضالين بالهوى والعمى عنك ، لأنه قد ينعم جل ثناؤه على من يضل عنه ، ومن لا يقبل ما جاءه من الهدى في الأمر والنهي ، ـ

تفسير سورة الناس

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله عزوجل : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ) (١) (هذا أمر من الله لنبيه أن يتعوذ ، وأن يقول هذا القول ، ومعناه : أستجير وألوذ برب الناس) (١) ، فالرب : هو السيد المليك (مالكهم وفاطرهم ، والقادر عليهم والرازق لهم) (٢).

(مَلِكِ النَّاسِ) (٢) والملك : فهو الذي ليس له في ملكه شريك (٣) معارض.

(إِلهِ النَّاسِ) (٣) والإله : فهو الذي تأله إليه ضمائر القلوب ، وهو الرب الذي ليس بصنع ولا مربوب.

وتأويل (مِنْ شَرِّ) ، فهو : من كل مفسد مضر. وتأويل (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٥) فهو : ما وسوس في الصدور (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) ، والموسوس فقد يوسوس ، بحضوره في الصدور ويخنس ، وقد تكون الوسوسة من الموسوس في الصدر (٤) ، ما يكون فيه من الذكر والخطر. وخنوس الوسواس مفارقته وغيبته عن الصدور ، ووسوسته فما ذكرنا من الخطر والحضور ، وما ذكر الله عزوجل في ذلك من الوسواس ، فقد يكون كما قال الله سبحانه : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦) ، والناس (فهم الآدميون فأمر الله نبيه أن يتعوذ من شر شياطين الجن والأنس ، وشر شياطين الجن والإنس فهم المغوون المردة الملاعين من جني أو إنسي.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى

__________________

ـ ممن يغضب جل ثناؤه عليه من الكافرين ، ما قالوا غير المغضوب عليهم. والصراط : هو السبيل ، الذي ليس فيه زيغ ولا ميل. والمستقيم : فهو المعتدل الذي ليس فيه عوج ولا ميل ، فهو لا يجور بأهله عن قصد سبيله.

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) سقط من (ب) : له. وسقط من (أ) : شريك.

(٤) في المخطوطتين : الصدور. ولعل الصواب ما أثبت.

بَعْضٍ) [الأنعام : ١١٢] ، وشياطين الإنس أقوى على الإنسان وأشد عليه من شياطين الجن.

وتأويل (الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ) فهو : الشيطان الخانس ، فهو يخنس عن أعين الناس فلا يرونه ، ومعنى يخنس : فهو يغبى فلا يرى ، فهو الشيطان ـ عليه لعنة الله ـ يوسوس بحضوره في الصدور من الذكر والخطرة ، بالوسوسة والإغواء والفسق والردى ، حتى يدخل بحب (١) المعاصي في الصدور) (٢) ، وقد تكون الوسوسة من الفريقين بالمشاهدة والمحاضرة ، وقد تكون منهما الوسوسة بالذكر والخطرات الخاطرة ، وأي ذلك كان في الصدور بخاطرة تخطر ، أو حضور ـ فهي وسوسة (٣) ، من شيطان أو إنسان ، بما يجول منهما في الصدور والجنان (٤).

تفسير سورة الفلق

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١)؟

تأويل (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) (١) (٥) أعوذ : هو أستجير ، وتأويل الرب : فهو

__________________

(١) أي : بسبب حب المعاصي يدخل الشيطان في الصدور بالتزيين ونحوه.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (ب) : وسوسة كما قال سبحانه من ....

(٤) في (ب) : قال الشاعر :

وكم أخطر في بال

ولا أخطر في بالى

قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : ما من مولود إلا وعلى قلبه الوسواس الخناس ، فإذا عقل فذكر الله تعالى خرج ذلك من قلبه. تفسير الغريب / ٤١٥.

(٥) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) معناه رب الصبح ، ويقال : الفلق وادي جهنم ، والفلق : الطريق بين الضدين ، ويقال : الفلق الخلق ، فأمر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتعوذ من شر ذلك.

وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ) فالغاسق الليل ، وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي ـ

السيد المليك الكبير ، وتأويل الفلق : فهو الفجر إذا انفلق ، وكذلك يقول الناس : انفلق الفجر وبدا ، إذا تبين وظهر وأضاء ، وفي ذلك وبيانه أشعار كثيرة لا تحصى ، لشعراء الجاهلية الأولى.

(مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (٢) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (٣) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (٤) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) (٥) ، فأمر الله رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستعيذ به من شر خلقه في النهار كله ، وأن يستعيذ به من شر جميع خلقه في ليله ، ولا يكون شر إلا في ليل أو نهار ، وإلا بعد غسق أو انفجار.

والفلق : فأول الفجر وفلوقه ، قال لبيد :

الفارج الهم مسودا عساكره

كما يفرج جنح الظلمة الفلق(١)

والغسق : فأول الليل. وغسوقه : ظلمته ، كما قال ابن عباس : غسق الليل أول الليل

__________________

ـ الْعُقَدِ) معناه السواحر ينفثن في الظلم ، وقوله تعالى : (وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ) معناه من نفس الحاسد وعينه. تفسير الغريب / ٤١٥.

عن أبي حاتم عن زيد بن علي عن آبائه قال : الفلق جب في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح منه جهنم من شدة حر ما يخرج منه) الدر المنثور ٦ / ٤١٨.

روى أبو عبد الله العلوي مؤلف الجامع الكافي رحمه‌الله في كتابه أسماء الرواة التابعين عن الإمام زيد بن عليعليهما‌السلام فقال : حدثنا محمد بن الحسين بن غزال الحارثي الخزاز ، قال : حدثنا محمد بن أحمد بن عمرو الجهني قال : حدثنا محمد بن منصور المقري ، قال : حدثنا أحمد بن الحسن بن مروان ، قال : حدثنا الحسن بن فرقد ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير عن السدي عن أمير المؤمنين أبي الحسين زيد بن علي عليهما‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين الوصي علي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في قوله تبارك اسمه : (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ) قال عليه‌السلام : الفلق : جب في قعر جهنم عليه غطاء إذا كشف ذلك الغطاء خرجت منه نار تصيح جهنم من شدة حر ما يخرج منه).

أخبرنا أبو جعفر بن محمد الجعفري قراءة ، قال : حدثنا أحمد بن محمد بن سعيد بن عقدة ، قال : حدثنا الحسن بن العباس بن أبي مهران الرازي ، قال : حدثنا سهل بن عثمان الرازي ، قال : حدثنا الحكم بن ظهير ، عن السدي عن الإمام الأعظم أبي الحسين زيد بن علي عليهما‌السلام ، عن آبائه عليهم‌السلام ، أنهم قالوا : الفلق : جب في قعر جهنم عليه غطاء فإذا كشف عنه خرجت منه نار تصيح جهنم من شدة حر ما يخرج منه). (مخطوط).

(١) سقط البيت من (أ). ولم أقف عليه.

وظهوره وظلمته ، فقد أتى على ذلك كله استجارة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستعاذته ، وغسق الليل ووقوبه : فهو وجوبه.

وأمر الله سبحانه رسوله (١) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع استعاذته به من شر الليل والنهار ، أن يستعيذ به ـ لا شريك له ـ من شر السواحر والسحار ، والسواحر : هن النفاثات في العقد (وأمره أن يستعيذ به من شر الحاسد عن الحسد إذا حسد) (٢) ، والنفث : فهو التفل على العقدة إذا عقدت ، والعقد : فهي عقد (٣) يعقدها السواحر في خيط أو سير ، وسواء كان العقد كبيرا أو غير كبير ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاستعاذة من شر الحاسد عند حسده ، من مباينته بجسده (٤).

تأويل (إِذا) ـ هاهنا ـ عند ، وسواء قيل : عند ، أو إذا ، معنى هذا هو معناه ، (وشر الحاسد ما يكون من ضره ومكره وعداوته وكيده وغير ذلك) (٥) ، وليعلم ـ إن شاء الله ـ من قرأ تفسير هذه السور الثلاث وما بعدها من التفسير ، أن كل ما فسرنا من ذلك كله فقليل من كثير ، وأن كل سبب من كلمات الله فيه فموصول بأسباب ، عند من خصه الله بعلمها من أولي النهى والألباب ، لا ينتهى فيه إلى استقصائه ، ولا يوقف منه على إحصائه ، كما قال سبحانه : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (٤٩) [الكهف : ١٠٩] ، فكلام الله جل ثناؤه في الحكمة والتبيين والهدى ، فما لا يدرك له أحد غير الله منتهى ولا مدى ، وكلام غير الله في الحكمة وإن كثر وطال ، وتكلم منه (٦) قائله بما شاء من الحكمة فأقصر أو أطال ، فقد يدرك غيره من الخلق غايته ومنتهاه ، وكل وجه من وجوه كلامه فلا يفتح وجها سواه ؛ لأن علمه ينفد ، وكله فيحصى

__________________

(١) في (أ) : رسول الله.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (ب) : فهي جمع عقدة.

(٤) سقط من (ب) : مباينته بجسده.

(٥) سقط من (ب) : ما بين القوسين.

(٦) في (ب) : فيه.

يعد ، وكلمات الله سبحانه كما قال لا تنفد بإحصاء ، ولا يؤتى على ما فيها من خفايا العلم باستقصاء ، وقليل علمها فكاف ـ بمنّ الله ـ كثير ، وكلها فضياء ونور وهدى وتبصير (وبعد : فإنا بالله نستعين نعلم بأن غيرنا ممن لعله سيقرأ كتابنا هذا وتفسيرنا ، أن لو لا ما رأينا في الناس ، من الغفلة والحيرة والالتباس ، في معرفة ما جعل الله عزوجل لكتابه من سعة من المخارج ، وأبان به وفيه من جوادّ المناهج ، التي قرب لرحمته سبلها ، وخص بعلم قصدها أهلها ، لما تكلفنا إن شاء الله من ذلك ما تكلفنا ، ولا عنينا فيه بوصف ما وصفنا ، لما ينبغي أن يكون عليه اليوم من اهتدى ، فوهبه الله عصمة ورشدا ، من الشغل بخاصة نفسه ، والوحشة من ثقته وأنسه ، ولكنا أحببنا أن يعلم من جهل ما قلنا من سعة فنون الكتاب المكنون ، لما جعل فيه من العلم لأولي الألباب ، سيوقن أن للكتاب ظهورا وبطونا ، وأن فيه بإذن الله لأولي الألباب علما مكنونا ، لا يظفر أبدا به ، إلا من كان مريدا فيه لربه ، والحمد لله رب العالمين لا شريك له) (١).

تفسير سورة الإخلاص

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت أبي رحمه‌الله عن قول الله سبحانه : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (١)؟

فقال : الأحد : هو الواحد.

وعن قوله سبحانه : (الصَّمَدُ) (٢)؟

فقال : الصمد : هو النهاية والمعتمد ، الذي ليس وراءه مصمود ، ولا سواه إله معبود، (لَمْ يَلِدْ) تبارك وتعالى ولدا ؛ فيكون لولده أصلا ومحتدا ، (وَلَمْ يُولَدْ) (٣) فيكون حدثا مولودا ، ويكون والده قبله شيئا موجودا ، (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) ، والكفؤ : فهو المثل والنظير ، والأحد : فهو ما قد تقدم فيه (٢) منّا

__________________

(١) سقط من (ب) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : به.

البيان والتفسير ، فهو الله الأحد الواحد الذي ليس كالآحاد ؛ فيكون له ند في وحدانيته من الأنداد ، وأنه هو الأحد الصمد ، والنهاية في الخيرات والمعتمد ، الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] (١).

تفسير سورة المسد

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن قوله : (تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَ) (١)؟

__________________

(١) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) معناه : واحد. (اللهُ الصَّمَدُ) فالصمد ، هو : السيد الذي ليس فوقه أحد ، ولا يدانيه أحد ، المرغوب إليه عند الرغائب ، المفزوع إليه في النوائب. والصمد : الباقي الدائم ، ويقال : هو الله أحد ليس معه شريك. الصمد : يقال : هو المصمود إليه بالحوائج. تفسير الغريب / ٤٢٣.

وقال زيد بن علي : الصمد الذي إذا أراد شيئا أن يقول له : كن فيكون ، والصمد : الذي أبدع الأشياء فخلقها أضدادا وأصنافا وأشكالا وأزواجا ، وتفرد بالوحدة بلا ضد ولا شكل ولا مثل ولا ند). مجمع البيان للطبرسي ١٠ / ٥٦٦.

وقال أيضا (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) معناه ليس بوالد ولا مولود (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) معناه : شبه ، ويقال : لم يلد ولم يتولد منه شيء ، ولم يتولد هو من شيء (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) ليس له شبه ولا نظير ، وليس كمثله شيء. تفسير الغريب / ٤٢٣.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام : الله : معناه المعبود الذي يأله فيه الخلق ، ويؤله إليه ، الله المستور عن إدراك الأبصار ، المحجوب عن الأوهام والخطرات ، ومثله عن الباقر أيضا : الأحد : الفرد المتفرد ، والأحد : الواحد بمعنى واحد ، وهو المتفرد الذي لا نظير له ، وفيه أيضا عن الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام أنه قال : الصمد : الذي قد انتهى لسؤدده. والصمد : الدائم الذي لم يزل ولا يزال ، والصمد : الذي لا جوف له ، والصمد : الذي لا يأكل ولا يشرب ، والصمد : الذي لا ينام. وفيه عن الباقر عليه‌السلام : والصمد : السيد المطاع الذي ليس فوقه آمر ولا ناه. وعن محمد بن الحنفية : الصمد : القائم بنفسه ، الغني عن غيره. وعن زين العابدين عليه‌السلام : الصمد: الذي لا شريك له ، ولا يؤده حفظ شيء ، ولا يعزب عنه شيء. وفيه عن عبد خير قال : سأل رجل علياعليه‌السلام عن تفسير هذه السورة؟ فقال : قل هو الله أحد بلا تأويل عدد ، الصمد بلا تبعيض بدد ، لم يلد فيكون موروثا هالكا ، ولم يولد فيكون إلها مشاركا ، ولم يكن له من خلقه كفؤا أحد. مجمع البيان ٦ / ٢٨٠.

فقال : أبو لهب : هو عبد العزى بن عبد المطلب ، وتأويل (تَبَّتْ) فهو : خابت وخسرت ، فيما رجت وقدّرت. واليدان : فهما اليدان المعروفتان ، وهما مثل قد كان يضرب به لمن خاب وخسر فيما يطلب ، (وَتَبَ) يعني : أبا لهب كله ، فيما عليه من أمره وماله.

(ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ) (٢) تأويله : ما أجزأ عنه ماله وكسبه إذ هلك عند الله سبحانه وعطب بضلاله ، وسيئ أعماله.

(سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ) (٣) وذات اللهب من النيران : فهي ذات التوقد الشديد والاستعار ، (وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (٤) ، تأويله : فقد تبت امرأته معه تبابه في الهلكة والعطب ، وتأويل (حَمَّالَةَ الْحَطَبِ) (١) ، فقد يكون : حملها للنائم والكذب ، الذي كانت تكذبه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتأتي به زوجها وتنقله إليه ، وتنقله إلى غيره ممن كان من الكفر في مثل ما هي وما هو فيه ، لتفسد بكذبها وتغري ، وتكثر نمائمها وتسري ، على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، كما يكثر ويسري الكذوب النمام (فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) (٥) وجيدها : فهو عنقها ، والجيداء من النساء : فهي التي قد تم في طول العنق خلقها.

وتأويل (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) ، فهو : الحبل الوثيق المحصد ، وقد يكون حبل من قدّ ، والقدّ : فقد يكون من جلود الإبل ، وهو أوثق ما يكون من الأحبال ، وهو مثل يضرب لمن يحمل كذبا أو زورا ، ليلقي به بين] الناس عداوة وشرورا.

وقد قال بعض من فسر فيما ذكرنا من امرأة أبي لهب وأمرها : إن تفسير حملها للحطب إنما كانت تحمل الشوك فتطرحه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ممره ومسلكه ، وقالوا : إن (حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ) هو حبل من ليف.

__________________

(١) في (أ) : حملها الحطب.

تفسير سورة النصر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته أيضا رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) (٢)؟

فقال : تأويل جاء : هو (١) أتى ، وتأويل النصر : هو ما يفعل من الظهور والقهر ، والفتح من الله فهو : حكم الله بالإمضاء ، فيما حكم به وأوجبه من الجزاء ، لمن أحسن بإحسانه ، ومن عصى بعصيانه ، وهو الذي طلب شعيب عليه‌السلام ومن آمن معه من الله فقالوا : (رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) [الأعراف : ٨٩] ، يريدون احكم بيننا وبينهم بالحق يا خير الحاكمين ، فاجزهم جزاءهم ، وعجل إخزاءهم.

وتأويل (وَرَأَيْتَ النَّاسَ) فهو : رؤيتهم يدخلون ، فيما جئت به من الملة والدين. والأفواج من الناس : فهو ما يرى من الجماعات ، التي تأتي من القبائل والنواحي المختلفات ، شبيه بما كان يفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وفود القبائل والبلدان ، من عقيل وتميم وأهل البحرين وعمان ، ومن كل الأمم فقد كان وفد على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقدم ، فآمن بالله جل ثناؤه وبرسوله وأسلم.

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) ، تأويل فسبح : فاخشع واشكر لله حامدا له فيما يرى بعينه ، من إظهار الله له ولدينه ، وصدق وعده في إظهاره على من ناواه ، وما أراه من ذلك بنصره له بكل (٢) من والاه ، في أيام حياته ، وقبل حمام وفاته.

وتأويل (وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣) فأمره بالاستغفار ، إذ تم ما وعده الله من الإظهار ، وتأويل التواب : فهو العوّاد بالرحمة ، وبالنعمة منه بعد النعمة ، وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أنزلت (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ

__________________

(١) في (أ) : هي.

(٢) في (أ) : كل.

وَالْفَتْحُ) إليه وأمر فيها بالاستغفار ، ورأى ما رأى من الإظهار ، قال عليه‌السلام : (نعيت إليّ نفسي وأخبرت (١) بعلامات موتي) (٢) ، فصدق في ذلك كله نصر الله من الله الخبر ، حين أتاه من الله الفتح والنصر ، فتوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظاهرا منصورا ، وقبضه إليه بعد أن جعل ذنبه كله له عنده مغفورا ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه فيه ، صلوات الله عليه : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٣) [الفتح : ١ ـ ٣] ، فنحمد الله على ما خصه في ذلك من نعمائه ، ونسأل الله أن يزيده في الدنيا والآخرة من كراماته (٣).

تفسير سورة الكافرون

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته أيضا رحمة الله عليه عن تفسير : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)؟

فقال : أمر من الله جلّ ثناؤه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول لمن كفر بربه (٤) ، ولم يوقن بما أيقن من توحيد الله به : لست أيها الكافرون بعابد ما تعبدون مع

__________________

(١) في (أ) : وأخبرني.

(٢) أخرجه البخاري ٤ / ١٩٠١ (٤٦٨٥) ، والدارمي ١ / ٥١ (٧٩) ، وأحمد ١ / ٣٤٤ (٣٢٠١) ، وابن حبان ١٤ / ٣٢٤ (٦٤١٢) ، وابن خزيمة ٢ / ٣٠ (٨٤٧) ، والنسائي في الكبرى ٦ / ٥٢٥ (١١٧١٢) ، والبيهقي ٥ / ١٥٢ (٩٤٦٤) ، والطبراني في الأوسط ١ / ٤٨٦ (٨٨٧) ، والكبير ١١ / ٣٢٨ (١١٩٠٣) ، وقال السيوطي في الدر المنثور ٨ / ٦٦٠ ، أخرج أحمد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن مردويه ، عن ابن عباس قال : لما نزلت : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (نعيت إلي نفسي إني مقبوض في تلك السنة).

(٣) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام : قوله تعالى : (وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) يعني جماعات في تفرقة. تفسير الغريب / ٤١١.

(٤) في (أ) : به.

الله ، ولستم عابدين من التوحيد بما أنا به عابد الله ، وما أنا على حال بعابد لما تعبدون من الأصنام ، ولا أنتم بعابدين لله بالتوحيد والإسلام ، وكذلك من الله ، الأمر فيمن أشرك بالله ، ما كانت الدنيا والى يوم التناد ، فليس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعابد لغير الله ، ولا هم بالتوحيد لله بعابدين ، والصدق بحمد الله ذي المن والطول ، في ما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقول به من القول ، لا مرية في ذلك ولا شبهة ، ولا يختلف فيه بمنّ الله وجهة ، ولذلك وكّد فيه من القول ما أكد ، وردد فيه من التنزيل ما ردد (١).

تفسير سورة الكوثر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن تأويل : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) (١)؟

فقال : تأويله : آتيناك ، وآتيناك : هي وهبناك الكوثر ، والكوثر : فهو العطاء الأكبر ، وإنما قيل : كوثر من الكثرة ، كما يقال : غفران من المغفرة ، فعرّف الله رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره من عباده ، بما منّ الله عليه من نعمته ومنّه وإرشاده ، التي أقلّها برحمة

__________________

(١) قال الإمام زيد بن علي عليه‌السلام قوله تعالى (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) من أصنامكم (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) معناه : إلى دين الإسلام ، وقوله تعالى : (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : وذلك أن قريشا قالت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن سرك أن نتبعك فارجع إلى ديننا عاما ، ونرجع إلى دينك عاما ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. غريب القرآن / ٤١١.

وفي تفسير فرات الكوفي بسنده إلى جعفر بن محمد عليهما‌السلام قال : لما نزلت على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً ، إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ) [الإسراء : ٧٤] قال : تفسيرها قال قومه : تعالى حتى نعبد إلهك سنة ، وتعبد إلهنا سنة ، قال : فأنزل الله عليه (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ ...) إلى آخر السورة.

وفي المسائل المفردة (مخطوط) للإمام الهادي عليه‌السلام قوله عزوجل (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) نزلت في الأسود بن المطلب ، والوليد بن المغيرة ، وأمية بن خلف ، وابن العاص عرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يعبدوا ما يعبد ، ويعبد ما يعبدون.

الله كثير ، وأصغرها بمنّ الله فكبير ، لا يظفر به إلا بمنّ الله ، ولا يصاب أبدا إلا بالله.

وتأويل (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣) : فأمر منه سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأن يصلي صلاته كلها لربه ، وربه : فهو الله تبارك وتعالى الذي أنعم عليه من النعم والكرامة بما أنعم به ؛ لأنه قد يصلي كثير من المصلين لغير الله مما يعبدون ، ويصلي أيضا بعض أهل الملة بالرياء وإن كانوا يقرون ويوحدون.

وأمره سبحانه إذا نحر شيئا من النحائر قربانا لربّه ، ألا ينحره عند نحره له إلا لله وحده ربه ؛ لأنه قد كان ينحر أهل الجاهلية للأصنام والأوثان ، ويشركون في نحائرهم بينها وبين الرحمن ، ويذكرون أسماء آلهتهم عند نحرها ، ويذكرون الله جلّ ثناؤه عند ذكرها ، وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ) [الأنعام : ١٢١] ، يعني اسمه خالصا ، وما لم يكن له جلّ ثناؤه من النحائر والذبائح خالصا.

وأخبر سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن من شنأه فأبغضه من البشر ، فهو مخذول ذليل أبتر ، ليس له عزّ مع بغضه له وشنأته ولا منتصر ، إكراما من الله جل ثناؤه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله ، وإخزاء لمن شنئه وأبغضه ، ولم يؤد إلى الله في محبته فرضه ، فنحمد الله على ما خص به رسوله من كراماته ، وأوجب على العباد من محبته وولايته ، وقد قيل : إن الكوثر نهر في الجنة خص الله رسوله به ، وجعله جلّ ثناؤه في الجنة له ، وقالوا : إن شانئه الأبتر المذكور في هذه الآية قصده هو عمرو بن العاص السهمي خاصة ، وتأويل ذلك إن شاء الله وتفسيره ، هو كل من شنئه عمرو كان أو غيره (١).

__________________

(١) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) هو نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء ، والكوثر : الخير الكثير.

وقوله تعالى (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) معناه : صل بجمع ، وانحر بمنى ، ويقال : وانحر معناه استقبل القبلة ، وقوله تعالى : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) معناه مبغضك ، وعدوك الذي لا عقب له ، وذلك العاص بن وائل السهمي ، ويقال : كعب الأشرف اليهودي. تفسير الغريب / ٤١٠. ـ

تفسير سورة الماعون

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تأويل : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) (٧)؟

فقال : تأويل (أَرَأَيْتَ) هو تعريف ، وتبيين من الله وتوقيف ، لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولمن آمن بما أنزل من الوحي والكتاب إليه ، لا رؤية مشاهدة وعيان ، ولكن رؤية علم وإيقان ، كما يقول القائل لمن يريد أن يعرفه شيئا إذا لم يكن ذلك الشيء له ظاهرا جليا : أرأيت كذا وكذا يعلم علمه ، يريد بأرأيت توقيفه على أن يعرفه ويعلمه ، على حدود ما فهمه منه وأعلمه ، فأعلم الله سبحانه رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن نزل عليه معه وبعده هذا البيان ، أن الذي يكذب بيوم الدين من الناس أجمعين ، ويوم الدين : فهو يوم يجزي الله جلّ ثناؤه العاملين ، بما كان من أعمالهم ، في هداهم وضلالهم ، وهو يوم البعث حين يدان كل امرئ بدينه (١) ، ويرى المحسن والمسيء جزاء العامل منهما يومئذ بعينه (٢) ، وتكذيب المكذب بيوم الدين ، فهو : ارتيابه وإنكاره فيه لليقين ، وذلك ، ومن كان كذلك ، فهو الذي يدع اليتيم ولا يحض على طعام المسكين ، ولارتيابه فيه وتكذيبه ، ولقلة يقينه به ، دعّ اليتيم ودعّه له : هو دفعه ، عن حقه ومنعه ، وتكذيب المكذب بالدين ، لم يحض غيره على إطعام المسكين ، وفيه وفي

__________________

ـ وأخرج الزبير بن بكار ، وابن عساكر عن جعفر بن محمد ، عن أبيه ، قال : توفي القاسم بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمكة ، فمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو آت من جنازته ، على العاص بن وائل وابنه عمرو فقال حين رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني لأشنؤه. فقال العاص بن وائل : لا جرم لقد أصبح أبتر ، فأنزل الله (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ). الدر المنثور ٨ / ٦٥٣.

وأخرج ابن سعد ، وابن عساكر أنها نزلت في العاص بن وائل السهمي. الدر المنثور ٨ / ٦٥٢.

(١) في (أ) : بذنبه.

(٢) في (أ) : بعمله.

أمثاله ما يقول الرحمن الرحيم : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) ، يعني : من غير أبرار المتقين ، وهم الفجرة الظلمة المنافقون ، (الَّذِينَ هُمْ) كما قال الله سبحانه : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) ، والساهون : فهم الذين هم (١) عن صلاتهم ووقتها لاهون ، ليس لهم عليها إقبال ، ولا لهم بحدود تأديتها اشتغال ، فنفوسهم عن ذكر الله بها ساهية ، وقلوبهم بغير ذكر الله فيها لاهية، (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) وهم : المراءون الذي ترى منهم عيانا الصلاة ، وقلوبهم بالسهو والغفلة عن ذكر الله مملاة.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) هو ما جعل الله فيه العون من المرافق كلها ، التي يجب العون فيها لأهلها ، من غير مفروض واجب الزكوات ، وما ليس فيه كثير مئونة من المعونات ، مثل نار تقتبس ، أو رحى أو دلو يلتمس ، وليس في بذله ، إضرار بأهله ، وكل ذلك وما أشبهه ، فماعون يتعاون به ، ويتباذله بينهم المؤمنون ، ومانعوه بمنعه له من طالبه فمانعون ، وهم كلهم بمنعه لغيرهم فذامون.

وما ذكر الله سبحانه من قوله : (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) فقول لمن كان قبله ، من ذكره بمنع الماعون ، موصول في الذم والتقبيح ، وما يعرف في التقبيح فصغيره صغيره ، وكبيره كبيره ، وكله عند الله فمسخوط غير رضي ، وخلق دني من أهله غير زكي (٢) ، تجب مباينته ، ولا تحل مقارنته ، إلا لعذر فيه بيّن ، وأمر فيه نيّر ، والحمد لله مقبح القبائح ، والمنان على جميع خلقه بالنصائح ، الذي أمر بالبيان (٣) والإحسان ، ونهى عن التظالم والعدوان (٤).

__________________

(١) سقط من (ب) : هم.

(٢) في (أ) : علي.

(٣) في (أ) : بالثبات.

(٤) قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : قوله تعالى : (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) معناه : يدفعه. ويقال : يتركه ، ويقال : يقهره ويظلمه ، وقوله تعالى : (عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) معناه : عن مواقيتها ، وقوله تعالى : (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) معناه : الزكاة المفروضة ، ويقال : وهو ما يتعاوره الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو ، وما أشبه ذلك ، والماعون : الطاعة ، والماعون : العطية والمنفعة ، والماعون : بلسان قريش : المال ، ويقال : الماعون المهنة. تفسير الغريب / ٤٠٩.

وعن علي عليه‌السلام ، وابن عباس (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) يريد المنافقين الذين لا يرجون ـ

تفسير سورة قريش

بسم الله الرحمن الرحيم

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢)) المعنى : هو إلفهم وإيلافهم فقريش من أنفسهم وحليفهم ، ومن جاورهم في الحرم ولفيفهم ، فكل من كان يسكن في الحرم في مسكنهم ، ويأمن بمكانه معهم في الحرم بأمنهم ، ويرحل معهم إذا أراد أمنا الرحلتين ، وينتقل معهم الطعام والإدام في السنة نقلتين ، لا يعرض لهم أحد من العرب بقطع في الطريق ، وليسوا في شيء مما فيه غيرهم من الخوف والضيق ، والعرب كلهم خائفون جياع ، وهم كلهم آمنون شباع ، لحرمة البيت عند العرب وتعظيمه وإجلاله ، ولإكبارهم القطع على سكان الحرم ونزّاله ، فذكّرهم في ذلك تبارك وتعالى بنعمته ، وبما منّ به تعالى من بركة الحرم وحرمته.

وفي ذلك وذكره ، وما ذكرنا من أمره ، ما يقول الله سبحانه : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧)) [القصص : ٥٧] ، وفيه ما يقول الله سبحانه : (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧)) [العنكبوت : ٦٧].

وتأويل (فَلْيَعْبُدُوا) ، هو : فليوحدوا ، ومعنى ليوحدوا : فهو ليخلصوا ، ومعنى ليخلصوا : فهو ليفردوا بعبادتهم ، وليخصوا (رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)) الذي بمكانهم منه ، وبما كان من مجاورتهم له ،

__________________

ـ لها ثوابا إن صلوا ، ولا يخافون عليها عقابا إن تركوا ، فهم عنها غافلون حتى يذهب وقتها ، فإذا كانوا مع المؤمنين صلوها رياء ، وإذا لم يكونوا معهم لم يصلوا ، وهو قوله : (الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ).

وأيضا عن جعفر الصادق عليه‌السلام سأله يونس بن عمار عن قوله : (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أهي وسوسة الشيطان؟ فقال : لا كل أحد يصيبه هذا ، ولكن أن يغفلها ، ويدع أن يصلي في أول وقتها ، وعنه أيضا : هو الترك لها والتواني عنها.

وعن أمير المؤمنين عليه‌السلام (وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) قال : هي الزكاة ، وعن الإمام الصادق : هو القرض تقرضه ، والمعروف تصنعه ، ومتاع البيت تعيره ، ومنه الزكاة. مجمع البيان ٦ / ٢٤٨ ـ ٢٤٩.

أطعموا من جوع ، وأومنوا من خوف ، فلم يجوعوا جوع الجائعين ، ولم يخافوا خوف الخائفين، فكلهم يعلم ويقول : إن البيت بيت الله ذي الجلال والإكرام ، لا بيت ما عبدوا دونه من الملائكة والأصنام ، وأن الله سبحانه هو (١) الذي حرّم الحرم ، وجعل له تبارك وتعالى الجلالة والكرم ، لا الملائكة المقربون ، ولا الأصنام التي يعبدون ، فأمرهم جلّ ثناؤه أن يعبدوه وحده ، وأن يوجبوا شكره وحمده ، على ما صنع لهم وأولاهم ، ووهب لهم بحرمة بيته وأعطاهم (٢).

تفسير سورة الفيل

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣)).

معنى (تَرَ) في مخرج التأويل : ليس هو برؤية العين ، ولكنه علم اليقين ؛ لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ير ذلك بعينه ، ولكنه رآه بعلمه ويقينه ، وبما ذكر الله جلّ ثناؤه عنه ، وبما وصفه الله به منه ، وسواء قيل : ألم تر ، أو قيل : ألم تعلم ، معناهما واحد في اليقين والعلم.

وتأويل (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ) هو كيف صنع ، وأصحاب الفيل : فهم من جاء معه ، أو بعث به وإن تخلف عنه ، فكل من كان للفيل صاحبا ، من بعث وإن لم يصحبه ومن كان له مصاحبا.

__________________

(١) سقط من (أ) : هو.

(٢) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (لِإِيلافِ قُرَيْشٍ) معناه : نعمتي على قريش ، وقوله تعالى : (رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ) كانت لقريش رحلتان رحلة الشتاء إلى الحبشة ، ورحلة الصيف إلى الشام للتجارة ، وقوله تعالى: (وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي من الجذام ، ويقال : من أن يعيروا في حرمهم. غريب القرآن / ٤٠٨.

وقال الطبرسي في مجمع البيان ١٠ / ٥٤٥ : رحلة الشتاء إلى اليمن ، ورحلة الصيف إلى الشام ، وقال الفراء في معاني القرآن ٣ / ٢٩٤ : رحلة الشتاء إلى الشام ، ورحلة الصيف إلى اليمن.

وتأويل (كَيْدَهُمْ) ، فهو إرادة مريدهم ، والإكادة : فهي الإرادة ، كما قال الشاعر:

كادت وكدت وتلك خير إرادة

لو لا الوشاة بأن نكون جميعا

وذلك أن أصحاب الفيل كادوا ، ومعنى ذلك : هو أرادوا ، أن يخربوا الكعبة ، ويجعلوها متهدمة خربة ، لأن العرب خربت كنيسة كانت يومئذ للحبشة ، وكان يومئذ فيهم وملك عليهم رجل من العرب من أهل اليمن يقال له : أبرهة بن الصباح ، وكان يدين دينهم ، فهو الذي بعثهم ، فأرسل الله سبحانه على أصحاب الفيل كما قال تبارك وتعالى : (طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥)) ، لا يصيب حجر منهم أحدا إلا قتله وأهلكه (١) ، ولم يكن له بقاء معه ولا بعده ، والطير الأبابيل فهي الطير الكبير الأراعيل (٢) ، التي تأتي من كل جهة ، ولا تأتي من ناحية واحدة ، والسجيل : فهو فيما يقال : الطين ، المستحجر الصلب الذي ليس فيه لين ، فهو لا يقع على شيء إلا حطمه ، وفتّه وهشمه ، وجعله كما قال الله سبحانه كالعصف المأكول ، والعصف : فهو عاصفة قصب الزرع البالي المدخول (٣) ، الذي قد دخل وأكل ، وتناثر وتهلهل ، والمأكول منه فهو الذي لا جوف له ، والذي قد أنهت جوفه كله (٤).

__________________

(١) في (ب) : قتلته وأهلكته.

(٢) الرعيل : هو اسم كل قطعة متقدمة من خيل وجراد ورجال وطير وإبل وغير ذلك ، والجمع أرعال ، وأراعيل ، فإما أن يكون أراعيل جمع الجمع ، وإما أن يكون جمع رعيل كقطيع وأقاطيع. انظر لسان العرب ١١ / ٢٨٧ ط دار صادر.

(٣) في المعجم الوسيط : دخل دخلا ، ودخلا : فسد داخله وأصابه فساد أو عيب (دخل) مثل دخل ، والحب : سوس ، والدّخل : الفساد والعيب ، والداء ، والريبة.

(٤) قال الإمام زيد عليه‌السلام : قوله تعالى : (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) والطير جماعة ، وأبابيل جماعات ، قال الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام : لها خراطيم مثل خراطيم الطير وأكف مثل أكف الكلاب.

وقوله تعالى : (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) معناه من حجر وطين ، ويقال : السجيل : الشديد وكانت تحمل الحجارة في أظافيرها ومناقيرها ، أكبرها مثل الحمّصة ، وأصغرها مثل العدسة ، فترسل ذلك ـ

تفسير سورة الهمزة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))؟

فتأويل ما ذكر الله من الويل : ما يعرف من الحرقة والعويل ، والخزي الكبير العظيم الجليل ، والهمزة من الناس : فهو من يغتاب صاحبه ويغمزه ، والهمزة واللّمزة : فهو الذي يعيب حقا أو محقا ويهمزه ، والهمزة : فهو الباخس المغتاب ، واللمزة : هو الهامز العياب. وجمعه للمال : فهو اكتنازه له واجتهاده ، وتعديده له : فهو إرصاده له وإعداده ، بما في يده من ماله ، لما يخشى من نوائب حاله.

وتأويل (يَحْسَبُ) هو أيحسب استفهاما وتوقيفا ، وتبيانا له وتعريفا ، على أن ما جمع وأعد من مال ، لنوائب مكروهه بحال ، لن يخلده فينقذه ، ولن يدفع عنه ، ويقيه (١) ما يخشى ويتقي من مكروه النوائب ، كيف وهو لا يدفع عنه من الموت أكبر المصائب؟! لا ينتفع عند الموت به ، ولا بكده فيه وكسبه ، وكذلك كلما أراده الله به من ضر سوى الموت ، فليس يقدر له بجمع ماله وإعداده على خلاص ولا فوت ، في عاجل دنياه ، وكذلك هو في مثواه ، يوم القيامة ، إذا نبذ في الحطمة ، ونبذه فيها ، إلقاؤه إليها ، والحطمة : فهي الأكول لأهلها باستعارها وحرها ، وهي النار التي جعل الله وقودها كما قال سبحانه بما جعل من حجارتها وأهلها في قرارها ، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى للمنذرين : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤)) [البقرة : ٢٤] ، فنار الآخرة جعلت نارا ، فطرها الله يومئذ افتطارا ، من

__________________

ـ عليهم فتصير أجوافهم كالعصف المأكول ، وهو ورق الزرع الذي يسقط عليه الدود فتأكله ، ويقال : دقاق التبن ، ويقال : ورق كل نابت. غريب القرآن / ٤٠٧.

(١) سقط من (أ) : ويقيه.

غير حديد ولا حجر ولا شجر ، ولا أصل لها قبلها مفتطر ، كما نراه من هذه النار ، التي جعل أصلها من الحجر والأشجار ، كما قال سبحانه : (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (٧١) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (٧٢)) [الواقعة : ٧١ ـ ٧٢].

ولو كانت نار الآخرة كهذه النار ، لكان وقودها بما توقد هذه النار من أشجار ، ولكن الله عزوجل جعل أصلها ، حجارتها التي فيها وأهلها ، فتوقدت واستعرت لذلك بهم ، كما يوقد أهل هذه النار نارهم بحطبهم ، فأهلها حطبها ، كما هم حصبها ، كما قال الله سبحانه : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (٩٨)) [الأنبياء : ٩٨] ، فأهل جهنم بخلودها ، ودوام وقودها ، فيها خالدون ، لا يفنون أبدا ولا يبيدون ، كما يعود الحطب رمادا خامدا ، ورفاتا جامدا ، كذلك تعود جلود أهل النار ـ نار الآخرة ـ رفاتا ، وشيئا هامدا باليا مائتا ، فيجدد الله ذلك بعد بلائه وتهافته تجديدا ؛ ليخلد الله بالتجديد له أهل النار فيها تخليدا ، كما قال سبحانه : (كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (٥٦)) [النساء : ٥٢] ، فنار الآخرة أبدا بحجارتها وأهلها موقدة ، وحجارتها وجلود أهلها كلما بليت فمعادة ، تقدير من عزيز حكيم ، لبقاء عذاب الجحيم.

وتأويل قوله : (تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) ، فهو : ما يصل إلى قلوب أهلها من الكرب والشدة ، وتأويل (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) ، فهو : مطبقة مغلقة ، وإغلاق جهنم فهو ما ذكر الله عزوجل من أبوابها ، والإيصاد للأبواب الذي هو التغليق عليهم فهو من شدة عذابها ، وما ذكر الله من الإطباق والغلق : فهو أكبر الغمّ والألم والحرق ، كما قال سبحانه : (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (٢٠)) [السجدة : ٢٠].

وتأويل (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) ، بعد ذكره تبارك وتعالى المؤصدة ، فهو : ما يغلق به أبواب جهنم المؤصدة المطبقة ، في عمد معروضة على أبوابها ممددة ، كالمهاج والأوصاد التي تجعل على الأبواب المغلقة ، ونحو ذلك من الأغلاق ، والغلق : فأوثق ما يغلق به كل مغلق أراد إغلاق الباب ، وذلك أنه يأخذ ما في طرفي المغلق كله ، وليس يأخذ ذلك من الإغلاق كلها غلق ، وإنما يغلق كل غلق من الأبواب ما يغلق ، إن كان قفلا ، فإنما يغلق

واسطة الأبواب ، وإن كان غير ذلك فإنما يغلق جانبه من كل باب ، فأما المهج والرصد فيغلق الباب كله ، ويستقصى في الغلق آخره وأوله ، ولا سيما إذا كان ممتدا ثابتا ، مهجا كان أو رصدا ، فأبواب جهنم وأغلاقها كلها ، كالمقامع التي ذكر الله من الحديد لا تبيد ، كما مقامع أهلها فيها إذا أرادوا أن يخرجوا منها حديد ، كما قال سبحانه : (وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١)) [الحج : ٢١] (١) ، ألا فسبحان من جمع في جهنم ما جمع من أنواع الخزي والضيق للظلمة الملحدين!! فقيل في يوم البعث لهم جميعا : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ) [غافر : ٧٦].

تفسير سورة العصر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢))؟

فالعصر : قد يكون من آخر النهار ، ويكون الدهر ، فأشبه ذلك ـ والله أعلم بالتأويل ، وما يصح فيه من الأقاويل ـ أن يكون العصر الذي بعد الظهر ، لا العصر الذي من الدهر ، وإن كان كل ذلك وقتا ، وكان ذلك لكلا الوقتين نعتا ، كان أفضل الأوقات ، ما كان لصلاة من الصلوات ، وكان تأويل القسم به أشبه ، وأفضل وأوجه (٢) ، والله أعلم وأحكم.

وكان تأويل أنه قسم كما أقسم بالفجر ، والليالي العشر ، لفضلهما وقدرهما ، وما ذكر الله من أمرهما.

والعصر والأعصار من النهار ، فهو بعد الظهر والإظهار ، وإذا كان الدهر وقتا

__________________

(١) وقال الإمام زيد عليه‌السلام قوله تعالى : (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) الويل واد في جهنم ، والهمزة : الطعان ، واللمزة: الذي يأكل لحوم الناس ، وقوله تعالى : (كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) معناه : ليرمين به في نار الله الموقدة ، وقوله تعالى : (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) معناه مطبقة ، وقوله تعالى : (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) وهو جمع عماد ، يقال: قيود طويلة. غريب القرآن / ٤٠٧.

(٢) في (أ) : أشبه والقدوة وفضله واحد والله أعلم وأحكم.

كله ، كان ما كان منه للصلوات هو أفضله ، والأفضل هو الأولى بالتقدم ، في القسم وغير القسم.

وأما تأويل الخسر ، فهو النقص في الخير والبر ، ولم يكن من الناس في خير ولا بر ، فهو كما قال الله عزوجل : (لَفِي خُسْرٍ) ، وكل الناس فغير مفلح ولا رابح ، إلا من عمل لله بعمل صالح ، كما قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)).

وتأويل الإيمان ، فترك كبائر العصيان.

وتأويل : (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) فهو : عملهم لله صالحات ، وهي أولى الأعمال بهم ، لما فيها من رضى ربهم ، وصلاحهم وصلاح غيرهم.

وتواصيهم بالحق : فهو تآمرهم بطاعة الحق. وتواصيهم بما ذكر من الصبر : هو تآمرهم بالمقام على البر ، وعلى ما يعارضهم في المقام عليه من اليسر والعسر ، وما يقاسون فيه من منابذة المبطلين ، ومن ليس بمراقب ولا متق لرب العالمين ، من الفجرة المستهزئين ، والجورة المتغلبين المتمردين.

تفسير سورة التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قوله سبحانه : (أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢))؟

ف [قال :] تأويل (أَلْهاكُمُ) : هو أغفلكم عما عليكم في المعاد ، ولكم بما أنتم فيه من تكاثركم بالولد والمال والعشائر ، وتفاخركم بما في ذلك عندكم من الخيلاء والمفاخر ، ولذلك وبه شغلوا ، وألهوا فغفلوا ، بكدهم فيه ، وكدحهم وتكالبهم عليه ، وشحهم عن رشادهم ، وتيقن معادهم ، ولما في التكاثر بالأموال ، وما في التشاغل بالتكاثر من الاشتغال، طهر الله منه خيرته من الرسل والأبرار ، فلم يكونوا بأهل مكاثرة ولا بتجّار.

وتأويل (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) هو مصيرهم إليها ، واتصالهم بالآخرة وإشرافهم عليها.

وتأويل (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥)) ، هو تكرير من الله تبارك وتعالى في ذلك كله عليهم للتعريف والتبيين ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧)) ، يقول جل ثناؤه : لترون ما وعدتم منها رأي العين عين يقين.

وتأويل (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)) هو : لتوقفن حينئذ على ما كنتم فيه قبل متوفاكم ، وفي حياتكم ودنياكم ، من النعيم ، والمن العظيم ، الذي كانوا يتنعمون به في الحياة الدنيا وبقائها ، وقبل ما صاروا إليه من الآخرة وشقائها. وليس مما نزل الله عزوجل من آياته في هذه السورة ، ولا غيرها طويلة ولا قصيرة ، إلا وفيها بمن الله دلالات خفية باطنة وظاهرة منيرة ، ففي أقل ظاهرها ما كفى وأغنى ، وفي خفيّها من الحكمة والبركة ما لا يفنى.

تفسير القارعة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته عن قول الله سبحانه : (الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣))؟

فالقارعة : ما هال من الأمور وقرع ، وهجم على أهله بغتة بأهواله فأفزع.

وأما تأويل ما أدراه ، فهو : تعظيم منها لمرآه ، وما سيعاينه فيها ويراه ، من الأهوال والأمور الفادحة ، وجزاء الأعمال الصالحة والطالحة ، حين تقوم القيامة ، وتدوم الحسرة والندامة ، على كل خائب وخاسر ، وظالم معتد فاجر ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه عند بعثه فيها لخلقه المبعوث : (يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤)) ، وتأويل (يَكُونُ) فهو يصير ، والفراش فطير صغير خفيف عند من يراه حقير ، من همج الأرض والطير ، تمثّل به العرب في الكثير ، لأنه كثير ضعيف ، وطير محتقر خفيف ، فتقول إذا استكثرت شيئا أو استضعفته ، واستقلت وزنه فاستخفته : ما هذا إلا

كالفراش في الخفة والقلة ، وللقوم إذا استكثروهم كالفراش في الكثرة والجمّة.

وانبثاثه : فهو انبعاثه متحيرا وطائرا في كل وجهة من الجهات ، يموج ويصدم بعضه بعضا في تلك الوجوه المختلفات ، فمثّل الله سبحانه الناس في يوم البعث ، بما وصفنا من الفراش المنبث ، الذي يموج بعضه في بعض ، ويسقط تهافتا على الأرض ، لما ذكرنا من كثرته ، وموجه وحيرته ، واختلاف جهاته ، ويومئذ يدعوهم من تلك النواحي المختلفات الداع (١) ، فيستجيبون لدعوته كلهم جميعا باستماع ، كما قال سبحانه : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ) [طه : ١٠٨] ، تأويلها : لا اختلاف لهم بعد معه ، كما كانوا يختلفون في المذاهب قبل دعائه ، وما سمعوا وهم في حيرتهم من ندائه ، كما قال سبحانه : (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١)) [ق : ٤١] ، وهو يوم الإصاخة بالأسماع ، لتسمع صوت المنادي الداعي ، وفي ما ذكرنا من هذه الإصاخة ، ما قيل في يوم الصاخة : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)) [عبس : ٣٣ ـ ٣٧].

وتأويل : (وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥)) فالعهن : هو الصوف الناعم اللين الذي ليس يقرد ، وذلك من الصوف فما يلين للنفش في اليد ، وينتفش ويتجافى ، ويعود خفيفا أجوفا ، وقد تفرقت أجزاؤه ، وبان جفاؤه ، فعاد قليله كثيرا ، وصغيره كبيرا ، لتحلله وتمزقه ، وتزايله وتفرقه ، كذلك تبلى الجبال إذا بليت ، وتفنى يوم القيامة إذا فنيت ، فتكون كالسراب الرقراق ، في الفناء والتهيؤ والامتحاق ، وفي جزاء الأعمال ، بعد تلك الأهوال ، يقول الله سبحانه : (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦)) ، تأويلها : من ثقل في الوزن بره وإحسانه ، فسعد بثقله ، وثقل بعمله.

وتأويل (فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧)) ، فهو في عيشة مرضية زاكية ، وإنما يعرف أمر الخفة يومئذ واليوم والثقل ، بما يعرف منها اليوم في الحال والقدر والعمل ، وليس نعلم الخفة والثقل يومئذ في المقادير والأوزان ، بمثاقيل يوزن بها من خف وثقل وجرمان (٢)

__________________

(١) في المخطوطتين (أ) و (ب) : الداعي. ولعل ما أثبت أوفق لسجع الإمام.

(٢) في (أ) : وجريان. (مصحفة). وفي (ب) : جرمان : بمعنى الجرم بكسر الجيم. الحجم والجسم.

ولكنه يعرف ـ والله محمود ـ بما ذكرنا من العبرة والبيان ، وما تعرفه العرب العاربة في اللغة واللسان.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨)) ، فتأويله : من خف به فسقه وعدوانه (١). (فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩)) ، تأويل أمه : فهو من مصيره ومهواه (٢) ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١)) ، فكانت النار الحامية التي صار إليها ، أمه التي نسبه الله إليها ؛ إذ كانت له مقرا ومأوى ، وقرّ به فيها المصير والمثوى ، والنار الحامية : فهي التي لا يطفيها مطفيه ، ما كانت باقية أبدا ، والتي من دخلها كان فيها مخلدا.

تفسير سورة العاديات

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي رحمة الله عليه عن قول الله سبحانه : (وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣)) فالعاديات : من كل ذات ظلف ، أو حافر صلب أو خف : من كل بهيمة جنّية ، وحشية أو إنسية.

وتأويل قوله : (صُبْحاً) ، فهو : عدوا ومرحا ، و (فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) فهو : ما يورين ويقدحن ، إذا عدون وضبحن ، بصلابة الأظلاف ، والحوافر والأخفاف ، من نار الحجارة والحصى ، والأرض الصلبة الخشنى ، فيورين النار من ذلك كله بإيقاد ، كما تورى وتقدح النار بالزناد.

و (فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) فيما أرى ـ والله أعلم ـ خاصة الخيل ، بينهن وبين غيرهن من ذوات الحافر في العدو والقدر واليمن من الفرق النّيّر الجليل ، ولخاص ما فيهن من النعمة والبركة والخير ، قدّمن ـ إن شاء الله ـ في الذكر على البغال والحمير ، فقال الله سبحانه : (وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا

__________________

(١) في المخطوطتين : وعداوته. ولعل الأوفق لكلام الإمام ما أثبت.

(٢) في المخطوطتين : ومهواه وما أمه ألا ... لعلها زيادة.

تَعْلَمُونَ (٨)) [النحل : ٨].

وتأويل (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤)) والنقع : هو الغبار المثار (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥)) هو : توسطهن بغبارهن للجمع الذي عليه كان المغار.

وتأويل (إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦)) ، هو الكافر لنعم الله بكبائر عصيانه الفاجر العنود.

وتأويل : (وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧)) : من حاله وعدوانه ، (لَشَهِيدٌ) لربه بنعمته وإحسانه ، ما يرى عليه من النعمة والإحسان ، وما بيّن فيه من حسن الصنع والإتقان ، وتأويل (وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨)) ، فهو : أنه لمحب للخير مريد ، لا يضعف فيه ضعفه في غيره ، من طاعة الله ودينه وأمره (١) ، وكفى بذلك فيه شرا ، ومنه لربه فيه كفرا ، (أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩)) من عظام الموتى ، (وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠)) مما يبطن اليوم من غير الله ويخفى ، وما سيظهر حين يحاسب كل امرئ ويجزى ، (إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١)) يومئذ يوم البعثرة والتحصيل (لَخَبِيرٌ) ، لا يخفى عليه منهم يومئذ خيّر ولا شرّير ، وكما لا يخفى عليه اليوم من أعمالهم صغير ولا كبير.

تفسير سورة الزلزلة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي صلوات الله عليه عن قول الله سبحانه : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥)) : فهو ما ينزل بها وبأهلها ، من أمر الساعة وأهوالها ، وفي ذلك ما قلنا به من بيانه ، ما يقول الله سبحانه ، في يوم الساعة وأهواله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١))

__________________

(١) في المخطوطتين : طاعة الله وأمره ودينه. ولعل ما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

[الحج : ١] ، ومن بيان ما قلنا به في الزلزلة من القول ، وإنه من الشدائد والهول ، قول رب العالمين ، عند نزول الشدة والهول في يوم الأحزاب بالمؤمنين : (إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١)) [الأحزاب : ١٠ ـ ١١].

تأويل إخراج الأرض لأثقالها ، فهو طرحها لما كان عليها من أحمالها ، والأثقال ، هي : الأحمال ، وأحمال الأرض : فما جعل الله عليها ، وكان من الثقل الذي هو الإنس ساكنا فيها ، من ميت وحي ، وفاجر وتقي ، وكيف لا تكون مخرجة لهم منها؟! وكلهم فمنتقل إلى دار القرار عنها ، وأرض الحياة الدنيا فأرض بائدة فانية ، وأرض دار القرار خالدة باقية ، ومن أثقال الأرض من في قبورها ، ومن كان من الموتى على ظهورها ، فمن كل ذلك طائعة تتخلى ، من قبل أن تبيد وتبلى.

وفي تخليها من ذلك كله ، وإخراجها عنها له ، ما يقول الله جلّ جلاله ، من أن يحويه قول أو يناله : (وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤)) [الانشقاق : ٣ ـ ٤] ، تأويل ذلك : أوحشت الأرض من أهلها وأخلت ، فنشر موتاها نشرا ، وحشر الموتى إلى الموقف حشرا ، وعند ذلك من حالها ، وما يخرج من أثقالها ، يقول الإنسان والإنسان : فهو الناس كلهم عند ما يرون من زلزالها ، وإخراجها لما كان فيها من أثقالها : ما للأرض وما شأنها؟! فتحدث الأرض حينئذ بخبرها أعيانها ، بأن الله سبحانه قد أوحى لها ، فقطع مدتها وأجلها ، فحان فناؤها ، وانقطع بقاؤها ، ف (يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) ، كما قال الله سبحانه : (أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) (٦) وتأويل أشتاتا ، هو يصدرون عن موردهم في حشرهم صدرا أشتاتا متفاوتا ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، خالدا كل فريق منهم فيما صار إليه من مصير ، فيرى كل من عمل مثقال ذرة من خير وشر ، ما قدم لنفسه من عمل في فجور أوبر ، كما قال سبحانه : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨)) فتأويل يراه : فهو يجزاه.

تفسير سورة البينة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن قول الله سبحانه : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ)؟

فأ (أَهْلِ الْكِتابِ) : هم أهل التوراة ، والتوراة : فهي الكتاب الذي نزل على موسى عليه‌السلام ، وأهله وحملته اليهود والنصارى ، وهم أهل ملل كثيرة شتى ، فاليهود منهم فرق كثيرة مختلفة ، والنصارى أيضا فأصناف كثيرة متصنفة.

فمن اليهود : اليهودية ، ومنهم فرقة يقال لها : السامرية ، ومنهم فرق أخرى ، تعرف وتسمى.

ومن النصارى : الملكية ، ومنهم : اليعقوبية ، ومنهم : النسطورية ، في فرق أخرى ، تعرف أيضا وتسمى ، ولسنا نحتاج في هذا التفسير إلى ذكرها ، ولا تفصيل ما هي عليه من أمرها ، غير أنهم كلهم وإن افترقوا في مذاهبهم أهل الكتاب ، والمشركون فهم أهل الإثبات مع الله للآلهة والأرباب ، وهم مشركوا العرب ، ومن كان يقرّ برب ، ومن الناس من ينكر ويجحد ، أن يكون للأشياء رب يعبد ، ويزعم أن الأشياء لم تزل كما ترى ، ولا يثبت في الأشياء تدبيرا ولا أثرا ، فيكابر في ذلك عماية وجهلا ، ما يدركه بعينه عيانا وقبلا ، من الصنع النير والتأثير ، والبدع المتقن ومحكم التدبير ، الذي لا يخفى على عمي ولا بصير ، وإن لم يقر بمعاد ولا مصير.

وليس أولئك ، ولا من هو كذلك ، من أهل التوراة ، ولا من أهل الكتاب ولا ممن يقر بإله ، ولا برب كالعرب ، ومن كان مشبها للعرب ، ممن يقر بالله ، وإن أشرك مع الله ، فإنما أولئك عند من يعقل كالبهائم السائمة ، وإن لزمتهم الحجة بما جعل الله لهم من الجوارح السالمة ، التي قطع الله بها عذرهم ، وألزمهم بها كفرهم ، وأولئك فليسوا ممن ذكر في سورة لم يكن ، وإنما ذكر فيها من يقر برب وإن لم يؤمن ، من كفرة أهل الكتاب والمشركين ، فقال سبحانه : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) ، والانفكاك والفك ، هو المجانبة لما هم عليه والترك ، وتركهم فهو لإشراكهم ، وانفكاكهم من عقد شركهم ، وفريتهم فيه على الله وإفكهم.

وتأويل (كَفَرُوا) ، فهو لم يشكروا ؛ لأن من لم يشكر الله تبارك اسمه بترك عصيانه ، فكافر وإن كان مقرا ومعتقدا لمعرفة الله وإيقانه ، كإبليس الذي ذكر الله سبحانه معرفته به ، وذكر كفره لما ارتكب من الكبائر بربه ، وكذلك كل من ارتكب كبائر تسخط من أحسن إليه فقد كفره ، ومن أتى ما يرضاه وتولى أولياءه وعادى أعداءه فقد شكره ، ولما جمع أهل الكتاب والمشركين من كبائر عصيان رب العالمين دعوا جميعا كفرة ، وإن كانت قلوبهم كلهم وألسنتهم بالله مقرة ، فقال : (لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ) ، تأويل ذلك : أنهم لم يكونوا مقصرين ، ولا تاركين لما هم عليه ، وعاصين لله فيه ، (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١)) المنيرة الظاهرة ، فقال : (رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢)) ، ويتلو : يقرأ ويتبع بعد القراءة ما اقترأ ، والصحف : ما صحف ليقرأ ، والمطهرة : ما جعل منها بركة وتطهرة ، وبينات منيرة مسفرة ، وكل مطهر فمبارك وكل مبارك فمطهر له ، وفيه بالله البركة والتطهرة ، وكذلك يقال في الرسول عليه‌السلام إذا ذكر بما جعل الله من البركة فيه : رسول الله الطيب الطاهر ، وهو قول الكثير عند ذكره الطاهر ، عند ما يذكره بذلكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الصادقين كل ذاكر ، وإنما يراد بذلك المبارك المزكّى ، وليس يراد بذلك طهارته بالماء إذا توضأ.

وكذلك يقال في ابنته فاطمة صلوات الله عليها إذا قيل : الطاهرة إنما يراد بذلك ما جعل من البركة فيها ، ومن ذلك ما وهب لها وجعل لبركتها من بقية رسول الله ونسله ، صلوات الله عليه وعلى آله.

فهذا ـ والله محمود ـ من تأويل الطهارة ومطهرة ، ومن وجوهه المعروفة غير المستنكرة ، لا يجهل ذلك ـ إن شاء الله ـ ولا ينكره ، من يعرف لسان العرب ويبصره.

وتأويل (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)) ، هو كتب منيرة بينة محكمة ، لها نور وبرهان واحتجاج ، ليس فيها اختلاف ولا اعوجاج ، ثم ذكر الله (١) سبحانه ما ذكرنا من

__________________

(١) سقط من (أ) : الله.

افتراق أهل الكتاب واختلافهم ، وما هم عليه اليوم وقبل اليوم بتشتيت أصنافهم ، فقال تبارك وتعالى : (وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)) ، والبينة : فهي الرسل والأمور التي جاءتهم النيرة المبينة ، وهي التي ليس فيها دلسة ، ولا عماية جليلة ولا لبسة ، ولكنها بينة نيّرة مضيّة ، ظاهرة لمن يعقلها جلية ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) ، فأمروا ليعبدوه جل ثناؤه وحده ، فعبدت النصارى معه المسيح رسوله وعبده ، وأمروا ليخلصوا له الدين ولا يجعلوا له ولدا ، فجعلوا له ولدا وجعلوه كلهم ثالث ثلاثة عددا ، وفيهم ما يقول سبحانه : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ) [المائدة : ٧٣] ، فهو الله الأحد الصمد الذي ليس له ولد ولا والد.

وقالت اليهود كما قال الله جلّ جلاله ، عن أن يساويه شيء أو يماثله : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٢٧] ، فلحقوا بالنصارى في الكفر بالله ، وشبهوا الله ببعض حالات خلقه في الهيئة والقوى ، وزعموا أنه جالس على عرش هو سرير وأنه لا يتوهم له قرار في جو ولا هواء ، وأن له مقعدا من العرش والكرسي ومستوى ، وتأوّل من شبّهه من هذه الأمة في ذلك ما يقول الله سبحانه : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (٥)) [طه : ٥] ، وأمروا أن يكونوا حنفاء ، فكانوا جورة حيفا.

والحنيف : هو الطائع ، المستقيم الخاشع ، وأمروا أن يصلوا له ، فصلوا لغيره معه ، فمنهم من صلى لأثرة صنم ، ومنهم من صلى لعيسى بن مريم ، صلى الله عليه [وسلم] ، ومنهم من صلى لمن شبهه بآدم ، صلى الله عليه في الصورة واللحم والدم ، ومنهم من صلى لمن هو عنده نور من الأنوار ، وجسم مسدس المقدار ، له ـ زعم ـ جهات ست ، خلف وأمام ويمين ويسار وفوق وتحت ، فتعالى الله عما قالوا كلهم علوا كبيرا ، وجل وتقدس عن أن يكون لنفسه من خلقه مثلا ونظيرا ، وكيف يكون عابد ذليل كعزيز معبود؟! ومن لم يزل دائما مشبها لما كان طوال (١) الدهر غير موجود.

__________________

(١) في (ب) : طول.

ثم قال سبحانه في دينه وصفته : (وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥)) ، تأويل ذلك : أن كل ما أمر به فمن الأمور المرشدة الهادية المستقيمة.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦)) ، فالذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين بالله ، مع إقرار الفريقين بالربوبية لله ، فهم كما قال الله : (شَرُّ الْبَرِيَّةِ) ، بما كان منهم على الله من الدعوى المبطلة المفترية ، والبرية : فما ذرأ الله وبرأ ، مما يرى من الخلق كله أو لا يرى. ونار جهنم : فهي النار التي لا يعرف في النيران مثلها ، ولا يعلم منها كلها مشبها لها ، فيما عظم الله من نارها ، وحر استعارها.

وتأويل (خالِدِينَ) ، فهو : غير فانين ولا بائدين ، كما قال سبحانه : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (٣٦)) [فاطر : ٣٦] ، فنار جهنم : هي النار المستعرة التي ليس لاستعارها أبدا من انكسار ولا فتور ، ولو فترت من استعارها والتهابها ، لكان في ذلك تخفيف عن أهلها من عذابها.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)) فمن آمن : فهم المؤمنون من كبائر العصيان ، والذين لا يخافون على ارتكاب زور ولا بهتان ، ما ثبت لهم أبدا اسم الإيمان ، وحكم أهل الهدى والبر والإحسان.

والصالحات من الأعمال ، فهي كل صالح عند الله من قول أو أفعال ، وجزاؤهم ، هو ثوابهم من الله وعطاؤهم.

وتأويل (جَنَّاتُ عَدْنٍ) ، هو : جنات مستقر وأمن ، وتأويل (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ) ، هو : رضى الله سبحانه لهم ، (وَرَضُوا عَنْهُ) فتأويل رضاهم ، فهو بما أعطاهم وجزاهم ، بأنهم لم يزالوا راضين عنه ـ جلّ ثناؤه ـ في دنياهم ، قبل مصيرهم إلى ما صاروا.

ثم أخبر سبحانه لمن جعل جزاه ، فقال : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) يعني : لمن

خافه واتقاه ، فأخبر جلّ جلاله أنه جعل لأهل التقوى الكرامة والرضى ، والارتضاء في المعاد والمثوى.

وتأويل (خالِدِينَ فِيها) ، فهو : بقاؤهم أبدا بعد المصير إليها (١).

تفسير سورة القدر

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن قوله سبحانه : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ)؟

فقد يكون أنزلنا : جعلنا ، كما قال سبحانه : (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) [الحديد : ٢٥] ، (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) [الزمر : ٦].

وتأويل أنزل ، في ذلك جعل ، فيمكن أن يكون جعل القرآن كله ، وأحدثه وأتمه وأكمله ، فيما ذكر تبارك وتعالى من ليلة القدر المذكور ، والقدر : فهو وقت وقّته (٢) الله جلّ ثناؤه من أوقات الدهور ، وقد يكون القدر ، هو الجلالة والكبر ، كما يقال : إن لفلان أو لكذا وكذا قدرا ، يراد بذلك أن له لجلالة وكبرا ، فإن كان (٣) وقتا فهو وقت ذكره الله وكرّمه ، بما قدّر فيه من أموره المحكمة ، ومن الأدلة على أن الله جعل القرآن

__________________

(١) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (مُنْفَكِّينَ) معناه : زائلون عما هم عليه منتهون عنه.

وقوله تعالى : (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) معناه : دلالة ، وقوله تعالى : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) معناه : مسلمون ، ويقال : متبعون ، ويقال : حجاج.

وقوله تعالى : (أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) معناه الخلق الذين برأهم الله تعالى ، معناه : خلقهم ، وقوله تعالى : (ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) معناه : خاف ربه. تفسير الغريب / ٣٩٩.

(٢) في (ب) : فهو وقت قدّره الله.

(٣) في (ب) : يكون.

في ليلة القدر كله ، وأحدثه فيها فأتمه وأكمله ، وأنه لم يرد بتنزيله ووحيه ، إنزاله له جملة على رسوله ونبيه ، أن الله سبحانه إنما أنزله على رسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوحى تبارك وتعالى به إليه مفرقا لا جملة واحدة ، وعلمه إياه جبريل صلى الله عليهما سورة سورة وآيات آيات معدودة، ليقرأه كما قال سبحانه على مكث وترتيل ، ولترتيله وصفه تبارك وتعالى في الوحي له بالتنزيل ؛ لأن المفرق المنزل ، هو المرتل المفصل ، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى فيه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦)) [الإسراء : ١٠٦] ، ويقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قراءته : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤)) [المزمل : ٤] ، والتفصيل : هو التقطيع والتنزيل.

وفي إجماله ، وجمع إنزاله ، ما يقول المشركون لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى أهله : (لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً) [الفرقان : ٣٢] ، فقال الله سبحانه : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (٣٢)) [الفرقان : ٣٢] ، يقول سبحانه : نزلناه عليك قليلا قليلا ، ثم قال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (٣٣)) [الفرقان : ٣٣] ، فنحمد الله على ما نوّر بذلك من حجته بمنه ورحمته تنويرا.

ثم أخبر سبحانه أن قد أنزله ، وتأويل ذلك : أن قد جعله الله كله ، في ليلة واحدة ، فقال تبارك وتعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١)) و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] ، فأبطل بذلك كل حجة لمن كفر مظلمة مهلكة ، فكان ذلك من قدرته ، ما لا ينكره من أهل الجاهلية من أقر بمعرفته.

وقد يمكن أن يكون تأويل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) هو : تنزيله سبحانه من السماء السابعة العليا ، إلى من كان من الملائكة في السماء الدنيا ، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي صلوات الله عليه أن ذلك هو تأويل (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) وبيانه ، فأي التأويلين جميعا تؤوّل فيه ، وقع بإنزاله كله عليه.

ولو كان إنما أراد (١) بذلك إنزاله على محمد صلّى الله عليه وعلى أهل بيته وسلم لكان إنما نزل إليه مفرقا ومقطعا ، غير مجمل من الله ، وإنما قال الله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ) فأوقع التنزيل على كله لا على بعضه ، وقال لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) [القصص : ٨٥] ، فأخبر سبحانه بفرضه ، والفرض : هو التقطيع والتفصيل كما يقول القائل للشيء إذا أمر بقطعه ، افرضه وفصّله ليقطعه.

وتأويل (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) ، هو أن (٢) الذي قطّع تفريقا ما نزل من القرآن إليك ، وذلك فهو الله الرحمن الرحيم ، وما فرض : فهو كتابه المنزل الحكيم ، وأي القولين اللذين ذكرنا ، وبينا في ذلك وفسرنا ، قيل به فتأويل ، وأمر كبير جليل ، كريم ذكره ، واجب شكره.

وليلة القدر التي نزل فيها القرآن : فليلة من الليالي مباركة ، تتنزل الملائكة فيها كما قال الله تبارك وتعالى الروح والملائكة ؛ لبركتها وقدرها ، وما عظم الله من أمرها ، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) من أمور الله بنازلة ، وبركة لأهل الأرض كلهم شاملة ، فليلة ذلك الوقت والخير والقدر ، خير كما قال : (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، لما جعل الله جلّ ثناؤه فيها من اليمن والبركات ، وما يمسك الله فيها عمن أجرم من النقم والهلكات ، ولما نسب الله إليها ، من الخير تنزلت الملائكة والروح فيها ، من أعلى العلى ، إلى الأرض السفلى.

يقول الله سبحانه : (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) ، تأويل ذلك بإذن الله فيها لهم ، وقد قال غيرنا في تأويل (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) : إنه من كل وجهة ، وما قلنا به ـ والله أعلم ـ في نزولهم من أمر الله ورحمته بكل نازلة أشبه وأوجه ، فهم ينزلون فيها من أمر الله وتقديره ، وما جعل الله فيها من بركاته وخيره ، إحدانا وزمرا وإرسالا ، ببركتها وإعظاما لها وإجلالا ، وإذ جعلها الله سبحانه لتنزيله ووحيه وقتا ومقدارا ، وذكرها بما ذكرها به من القدر تشريفا لها وإكبارا ، وليلة القدر ليلة جعلها الله من ليالي رمضان ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ

__________________

(١) في (أ) : أريد إنزاله.

(٢) سقط من (أ) : أن.

هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) [البقرة : ١٨٥] ، ويقول سبحانه بعد ذكره لشهرها ، وما جعل الله فيها من بركتها ويمنها ، (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (٣) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (٤) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٥) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦)) [الدخان : ٣ ـ ٦] ، فهي ليلة بركة ورحمة ، وسلامة وعصمة ، وفيها ما يقول أرحم الراحمين ، ورب السماوات والأرضين : (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)) ، وتأويل (سَلامٌ) ، فهي : سلامة هي حتى طلوع الفجر ، فليلة القدر ليلة سالمة مسلمة ، ليس فيها عذاب من الله تبارك وتعالى ولا نقمة ، جعلها الله بفضله (١) بركة وسلامة ، ورحمة للعباد إلى الفجر دائمة ، ولحقّ الليلة نزّل الله فيها وحيه وقرآنه ، وفرّق برحمته فيها فضله وفرقانه ، بالبركة والتفضيل ، والإعظام والتجليل.

وتأويل (وَما أَدْراكَ) ، فهو : ما يدريك ، لو لا ما نزلنا من البيان فيها عليك ، (ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢)) في القدر والكبر ، وما يضاعف فيها لعامله من البر والأجر ، فهي ليلة (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، جعلت لبركتها ويمنها ، في التضعيف لها ، والأضعاف كعشرة آلاف ليلة ، وعشرة آلاف ليلة ، وعشرة آلاف ليلة ، فذلك ثلاثون ألف ليلة ، ونحوها تامة ، جعلت مقدارا مضاعفا لليلة القدر تشريفا لها وكرامة ، وهي ليلة مقدسة يضاعف فيها كل بر وعمل صالح لمن عمل به فيها من أهلها ، فيزاد على تضعيفه من قبل ثلاثين ألف ضعف لقدرها وفضلها ، ونحمد الله في ذلك وغيره رب العالمين ، على ما أنعم به من ذلك الله خير المنعمين (٢).

__________________

(١) في (أ) : لفضلها.

(٢) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) معناه : في ليلة الحكم ، وقوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها) معناه : جبريل عليه‌السلام ، وقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلامٌ) معناه : يسلم من كل أمر ، معناه : من كل ملك. تفسير الغريب / ٣٩٨.

تفسير سورة العلق

بسم الله الرحمن الرحيم

سألت أبي رحمة الله عليه عن تفسير : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢))؟

ف [قال :] تأويل (اقْرَأْ) ، فهو أن يقرأ ، وتأويل اسم ربه الذي أمر أن يقرأ به فهو بسم الله الرحمن الرحيم ، الذي قدم له في تعليمه كل سورة عند الإقراء له والتعليم. وربه: فهو الله الذي خلق خلقه ، فخلق الإنسان من علق إذا ما خلقه. والعلق : فهو الدم الأحمر المؤتلق ، الذي يتلألأ لشدة حمرته ويبرق ، فيما ذكره الله سبحانه من علق الدم ، وخلق الناس كلهم غير آدم وحواء فإن حواء خلقت من آدم ، وخلق آدم من تراب ، فلم يخرج آدم وحواء من بين ترائب وأصلاب ، كما خرج من بين الصلب والترائب غيرهما ، ولكنه كان من الله سبحانه ابتداؤهما وتدبيرهما ، من غير أصل مقدم ، من أب ولا أم ، وكان ما بين ذلك من التباين والفرق ، في الصنع والفطرة والخلق ؛ إذ خلق آدم من تراب ، وخلق نسله من علق من أعجب العجاب (١) ، وأدل الدلائل على قدرة الخالق ، على ما خلق مما يشاء أن يخلقه جلّ ثناؤه من الخلائق ، وعلى أن قدرته سبحانه فيما يخلق من خليقته ، واحدة غير ولا متشتتة متفرقة (٢) ، على أقدار ما يرى من افتراق البدائع ، والخلق المفطورة والصنائع ، كما قال سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٠)) [النحل : ٤٠] ، فأخبر سبحانه أنه لا يختلف عليه في قدرته البدائع والكون ، وأن قدرته في ذلك كله لا تتفاوت ، وإن تفاوت الخلق المبتدع المتفاوت.

ثم أمر تبارك وتعالى رسوله بالقراءة باسمه أمرا مثنى ، وكل ذلك فواحد في الإرادة والمعنى ، إلا أن التكرير غير التفريد ، في زيادة الأمر والتوكيد ، والتكثير فأكثر في الرحمة ، وفي زيادة المن والنعمة ، بالعلم والتعليم ، والأمر والتفهيم ، وفي كل كلمة من كلمات

__________________

(١) في المخطوطتين : العجائب. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوطتين : غير متشتتة ولا متفرقة. ولعل الصواب ما أثبت.

الله تقل أو تكثر ، بصائر جمة ـ بمن الله ـ لمن يعقل ويبصر ، فليس في شيء من كلام الله جلّ ثناؤه نقص ولا فضول ، ولا يشبه قول الله في الحكمة والبيان من أقوال القائلين قول ، فقال سبحانه : (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥)) ، من كل ما علمه ببصر أو سمع أو فؤاد ، وما كان مرضيا أو مسخطا لله من غي أو رشاد ، كما قال سبحانه : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٨)) [النحل : ٧٨] ، فبما جعل الله لهم من الأفئدة يعقلون ويتفكرون ، وبما سلم من السمع والبصر يسمعون ويبصرون ، فتبارك الله أحسن الخالقين خلقا ، وأوسع الرازقين في العلم وغيره رزقا.

فهو المعلم سبحانه بالقلم ، وبغيره من وجوه العلم ، التي ليست بخط ولا كتاب ، من كل ما يعلمه أولو الألباب ، ما يعلمه أيضا سواهم ، ممن لم يبلغ في العلم مداهم ، وإن لم يكتب ، وكان جاهلا بالكتب ، مما يعلمه من صناعة ، أو بحرف أو بياعة ، فالله معلمه ومفهمه ، من ذلك أو يعلمه ، فلو لا قول الله سبحانه لم يظفر أبدا من علمه بما علم ، ولم يفهم منه وفيه من يعلم ما فهم ، وكذلك كل ملهم من طفل صغير ، وكلما سوى ذلك من البهائم والطير ، من ألهم علما في تغذّي ، أو محاذرة لضر أو توقّي ، فالله عزوجل ملهمه معرفته ، وتوقيه ومحاذرته.

وتأويل قوله سبحانه : (رَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ، فهو : ما بان به الله من الجود والكرم ، فيما وصل به إليه من النعم ، من مواهبه في العلم وغير العلم ، وقد علّم الله رسوله عليه‌السلام من شرائعه ودينه ، وإن لم يكتب بقلم أو بخط كتابا بيمينه ، ما جعله الله به ـ فله الحمد ـ إماما لكل إمام ، كان معه في حياته وبعد وفاته من الكتبة والعلام ، فكان بمن الله لكلهم إماما ومعلما ، وعلى جميعهم في العلم والحكمة مقدما ، وفي ذلك وبيانه ، ما يقول الله سبحانه في فرقانه (١) : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨)) [العنكبوت : ٤٨] ، فكفى بهذا والحمد لله بيانا وبرهانا لقوم يعقلون.

__________________

(١) في (أ) : قرآنه.

وتأويل : (كَلَّا) ، فهو (١) : نعم وبلى ، (إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) فتأويل يطغى ، فهو العتا والطغاء ، وتأويل (أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧)) ، فهو تكثّره بالجدة والغنى ، في كل ما رآه فيه من علم ومال ، وما يراه مستغنيا به أو مستطيلا به من كل حال.

وتأويل (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨)) ، فهو : إلى الله المعاد في قيامة الموتى ، ثم قال سبحانه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢)) ، تثبيتا له عليه‌السلام وتعريفا ، وتبيينا أيضا لمن كفر به وتوقيفا ، على ما يعرفون ولا ينكرون ، وما هم به جميعا كلهم مقرّون ، من أنه ليس لأحد أن ينهى عبدا من عباد الله عن الصلاة ، والأمر بالتقوى لله.

فتأويل (أَرَأَيْتَ) فهو : أرأيت أنت ومن معك ممن يرى كما ترون وكلهم جميعا يرى ، أن كل من صلى من خلق الله وأمر بما يحب الله ويرضى ، مبتغيا بذلك رضوان الله ، وطالبا بذلك لما عند الله ، مصيبا لذلك في رشده وهداه ، قد أصاب بذلك من الله طاعته ورضاه ، أليس من نهاه عندهم عن ذلك وآذاه ، فقد استوجب لعنة الله وإخزاءه؟ وكذلك كل عبد الله أمر بالتقوى والإجلال لله ، كما كان يصلي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله لله ولمرضاته ، ويأمر باتقاء الله جلّ ثناؤه ومخافته ، وكل ما كان فيه من ذلك كله عندهم فحميد ، ومن يعمل لله بذلك فيهم فرشيد.

ثم قال سبحانه لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله : (أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)) ، تأويل ما يقرأ من ذلك ويتلى. أفرأيت من كذب به بعد إقراره بما يصف ، وتولى في ذلك عما يعرف ، من أنه ليس له أن ينهى عبدا عن أن يصلي لله ، ولكن أن يأمر بما هو الهدى عنده من تقوى الله.

(أَلَمْ يَعْلَمْ) ، من فعل ذلك (بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤)) ، فيخاف أن يؤاخذه الله بفعله ويجزى.

__________________

(١) في (أ) : فهي.

وتأويل رؤية الله فهو علم الله بنهي من ينهى ، عبدا إذا صلى ، فما بالهم ينهون محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأصحابه عن الصلاة ، وعما لم يزل يأمر به من التقوى ، أهل البر والرشد من الهدى ، مع علم من ينهى عن ذلك ويقينه ، بأن الله علم بنهيه عن ذلك وغيره ، فلما أصر الناهي عن ذلك على ظلمه فيه وكفره ، مع ما أيقن به من علم الله بأمره ، فيه كله وأقر (١) ، قال سبحانه : (كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عما هو فيه ، وعما أصر من ظلمه عليه ، (لَنَسْفَعاً) وتأويل (لَنَسْفَعاً) فهو : لنأخذن (بِالنَّاصِيَةِ (١٥)) ، والناصية : فهي مقدم الرأس العالية.

ثم قال سبحانه : (ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦)) ، إذ كانت عما لا يجوز النهي عنه عندها من الصلاة والتقوى لله ناهية ، فكذبت قولها في ذلك بفعلها ، وأخطأت بنهيها عنه فيه بجهلها ، فهي كما قال الله سبحانه : (كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) وهي لله مخالفة في ذلك عاصية ، يقول الله سبحانه فإذا أخذنا منه بالناصية ، (فَلْيَدْعُ) ، إن استجيب له حينئذ (نادِيَهُ) (١٧) ، وناديه فهم (٢) عشيرته وأولياؤه ، وأنصاره وجلساؤه ، الذين كانوا يجلسون في مقامه وإليه ، ويجتمعون لمجالسته ونصرته لديه ، (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨)) ، والزبانية فهم الملائكة المطهرة الزاكية ، التي يأمرها الله سبحانه بأمره فتنفذ ما أمرها الله به مطيعة لله غير عاصية ، وآخذة لما أمرها الله سبحانه بأخذه غير وانية ، تأخذ بالغلظة والشدة ، كل نفس عاتية متمردة ، كما قال سبحانه : (عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (٦)) [التحريم : ٦].

ثم قال سبحانه لرسوله : (كَلَّا لا تُطِعْهُ) ، يقول سبحانه لرسوله، صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا تطع من نهى عن الصلاة والهدى ، وعن الأمر لله بالتقوى ، وكذب فعمل بالكذب ، ولكن اسجد واقترب ، بكل عمل صالح مقرّب ، من صلاة أو هدى ، أو بر وتقوى ، فكلهم يقر بأن الهدى والصلاة لله ، والأمر باتقاء الله مقرّب لمن فعله إلى الله ، فليس لهم أن ينهوا عن شيء من ذلك ، إذا كان عندهم كذلك ، ومن يفعل ذلك أو عمل به فقد كذب فيه قوله بفعله ، وصار إلى ما لا مرية فيه عنده من جهله ، وتولى

__________________

(١) لعل في هذه الفقرة سقطا.

(٢) في (ب) : فهو.

عما كان من الإقرار لله عليه ، بتركه لما كان مقرا لله بالحق فيه ، فتشهد عليه نفسه (١) لله بكفره ، وتثبت عليه فيه الحجة باعترافه وإقراره ، فبان منه الكفر ، وانقطع عنه العذر ، فلا عذر له عند نفسه ولا اعتذار ، ولا خفاء لكفره ولا استتار.

وكذلك كل من أسلمه الله إلى الباطل وحيرته ولبسه ، وحجة الله قائمة عليه في الحق بنفسه ، وفي إقراره من ذلك بما (٢) يقر ، حجة لله عليه فيما ينكر ، وسواء قيل : اقترب أو تقرّب ، معناهما واحد في التقرب. والسجود فهو السجود الذي يكون بعد الركوع ، وليس سجود التذلل والخضوع ، وكلا الوجهين فقد يدعا سجودا ، وبرا إذا كان ممن هو فيه بيّنا موجودا.

وتأويل (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (٩١) : فمن السجود والصلاة ، وتأويل (وَاقْتَرِبْ) فمن التقرب مما تقرّب به (٣) من الحسنات ، وسواء قيل : اقترب أو تقرب ، معناهما جميعا اقتراب (٤) ، واحد ذلك كله فيما يقال به فيه فصواب.

تفسير سورة التين

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣)) فالتين : فهو هذا التين المأكول ، والزيتون : فهو هذا الزيتون المعلوم ، وقد ذكر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : أن التين والزيتون هو التين الشامي خاصة وزيتونه ، وذلك لما جعل الله للشام من التقديس والبركة ، وفي الشام ما يقول موسى عليه‌السلام لبني إسرائيل : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ) [المائدة : ٢١] ، وما ذكر الله من طور سينين ، فهو الجبل الذي كلم

__________________

(١) في (أ) : فشهد على نفسه لله.

(٢) في المخطوطتين : ما. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) في المخطوطتين : اقترب. ولعل الصواب ما أثبت.

موسى منه رب العالمين.

و (الْبَلَدِ الْأَمِينِ) فهو : الحرم الذي على كل حد من حدوده رضم من الحجارة ، وعلم فصل به بين غيره وبينه ، لتعرف بذلك ما هو منه.

وإنما أقسم الله سبحانه من الأشياء بما أقسم من القسم ؛ لما جعل فيها من الآيات والبركات والكرم ، وإنما يقسم أبدا المقسم ، بما يجل من الأشياء ويكرم ، وكرم ما ذكر الله من هذه الأشياء ، فما ليس به عند من يعقل من خفاء ، فمن كرم التين والزيتون ، ما جعل الله فيهما من المنافع والطعوم ، وكرم طور سينين وبركته ، ما كان من مناجاة الله تبارك وتعالى لموسى عليه‌السلام في بقعته ، وفي ذلك ما يقول سبحانه : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) [القصص : ٣٠] ، فذكرها سبحانه بما جعل فيها من التقديس والبركة ، وفي ذلك ما يقول تبارك وتعالى : (وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ) [مريم : ٥٢] ، والطور ، فهو طور سينين المذكور.

ومن كرم الحرم وفضله ، فما جعل الله فيه من الأمن لأهله ، وما فرض من حج بيته ، وألزم الناس في ذلك من فريضته.

وتأويل (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)) ، فهو : خلقه للإنسان في أحسن تعديل ، من كل توصيل فيه وتفصيل ، أصّل به أو فصّل ، أو هيّئ بهيئته فعدّل ، من هيئة أو صورة مصوّرة مقدرة ، أو فؤاد أو سمع أو عين مبصرة ، وكل ذلك كان مفصلا أو موصلا ، فقد جعله سبحانه مستويا معتدلا ، كما قال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨)) [الانفطار : ٦ ـ ٨].

وتأويل (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥)) ، فهو رده إن بقي وعمّر إلى آخر أعمار الآدميين ، التي إن صار إليها ، وبقي حيا فيها ، تغيرت حاله وعقله ، وبان نكسه وسفاله ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (٦٨)) [يس : ٦٨] ، وتأويل (نُنَكِّسْهُ) فهو : نرده في الهرم والذهاب ، بعد القوة والجدة والشباب ، أو يموت قبل ذلك على كفر وإنكار ، فينكس بعد الكرامة في الهوان وعذاب

النار ، ومن الذي هو أسفل درجة من كفره إن لم يهرم ؛ إن (١) هو نكّس وردّ في الآخرة إلى نار جهنم ، فنعوذ بالله من السفال ، بعد التّمة والكمال ، وكل إنسان فرذل ، ليس له كمال ولا فضل ، كما قال سبحانه : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)).

فكلما لم يدخله من العطايا والجود ، وذلك فما لا يوجد أبدا إلا في عطايا الله الجواد الكريم ، وكل عطاء أعطاه معط سوى الله من حميد أو ذميم ، فليس يخلو من أن تدخله منّة وامتنان ، وإن لم ينطق بالمنة فيه لسان ، لأن من وهبه وأعطاه ، لم يعطه إلا بعد أن تكلّفه وعاناه ، والله جلّ جلاله يعطي من أعطى ما يعطيه (٢) ، بغير معاناة من الله ولا تكلف فيه ، وكل معط سوى الله ، فإنما يعطي ما أعطى من رزق الله ، وإنما يعطي مما قد جعله الله له ، ومما هو لله تبارك وتعالى فنحمد الله الذي لا شريك له ، الذي يعطي فلا يعطى ، والذي لا يعطي معط سواه إلا ما أعطى (٣).

تفسير سورة الانشراح

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات عليه عن تفسير : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)).

__________________

(١) في (ب) : إذ.

(٢) في (أ) : الله يعطي من يعطيه.

(٣) وعن أبي خالد عن الإمام زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ) فالتين : الذي يؤكل ، والزيتون : الذي يعصر ، ويقال : التين والزيتون جبلان ، والطور : جبل ، وسيناء الحسن بالحبشة ، والبلد الأمين : يعني مكة.

وقوله تعالى : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) معناه : في أحسن صورة ، وقوله تعالى : (ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) معناه إلى أرذل العمر إلى أن يبدل حالا بعد حال ، وقوله تعالى : (فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) معناه : غير مقطوع ، ويقال : غير محسوب. تفسير الغريب / ٣٩٦.

فقال : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) فشرحه هو توسيعه لصدره ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفسحه لما كان يضيق عنه كثير من الصدور ، فيما حمل من التبليغ والأمور ، ومن شرح الله أيضا لصدره ، تيسيره في الدين لأمره ، وما أعطاه فيه من معونته ونصره.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) فوزره ، هو ثقله ووقره ، والوقر من كل شيء فهو الحمل ، والحمل من كل شيء فهو الثقل. وإذا قيل لشيء : أوزره وزره ، فإنما يراد بذلك حمّله وقره ، وما حمل من الأثقال كلها والأمور ، فإنما يحمل منه الحاملون على الظهور ، وكلما يعمله المرء من خيره وشره ، فإنما يحمله على ظهره ، كما قال سبحانه : (قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١)) [الأنعام : ٣١] ، وقال سبحانه : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) [العنكبوت : ١٣] ، يريد سبحانه : «ما حملوه من كفرهم وفجورهم». وليس يريد (١) بذلك حمل أحمال ، ولا ما يحمل على الظهور من الأثقال ، وإنما هو مثل يضرب ، من الأمثال مما كانت تضربه وتمثله العرب ، وكذلك ما ذكره (٢) الله من الشرح لصدر نبيه ، وما نزل في ذلك (٣) من وحيه ، فذكره سبحانه لما ذكر من إنقاض الوزر لظهره ، وما وضع سبحانه لما ذكر من وزره ، فإنما هو تمثيل ، وبيان ودليل ، فليس يريد بشرح الصدر ، ولا ما ذكر من الحمل على الظهر ، شرح شيء يقطعه ، ولا حمل ثقيل يضعه ، وما حمل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من وزر على ظهره ، وذلك فلا يكون إلا من زلل وخطيئة (٤) في أمره ، ووضع الله لذلك عنه ، فهو حطه لما أثقله منه ، وحط الذنب فعفوه ومغفرته ، وقد غفر الله لرسوله ذنبه كله وخطيئته ، كما قال سبحانه له ، صلوات الله عليه [وآله] : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً

__________________

(١) في (أ) : يراد.

(٢) في (أ) : ما ذكر.

(٣) سقط من (ب) : في ذلك.

(٤) في (أ) : أو خطيئة.

مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)) [الفتح : ١ ـ ٣].

وتأويل (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) ، فهو رفعه لذكره ، بما أبقى في الغابرين إلى فناء الدنيا من أمره وقدره ، ومن ذلك النداء في كل صلاة باسمه ، وما جعل (من الشرف به لقومه ، فضلا عما منّ به على ذريته وولده ، ومن يشركه في الأقرب) (١) من نسبه ومحتده ، فنحمد الله الذي رفع ذكره ، وشرّف أمره.

ثم أخبر سبحانه في السورة نفسها من أخبار غيوبه خبرا مكررا ، فقال تبارك وتعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦)) ، فبشره بأن له مع عسره يسرا في دنياه ، وأن له مع ذلك يسرا لا يفنى في أخراه (٢).

ثم أمره سبحانه إذا هو فرغ من أشغاله ، ومما يقاسي في هذه الدنيا من عسر أحواله ، فقال عزوجل : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)) والنّصب : فهو الاجتهاد ، والجد والاحتفاد ، كما يقال : اللهم لك نصلي ونسجد ، وإليك نسعى ونحفد. فذكر أنه لما أنزل على رسوله ما أنزل في هذه السورة من آياته ، فعبد رسول الله (٣) حتى عاد كالشن البالي في عبادته ، شكرا لله وحمدا ، وتذللا وتعبدا (٤).

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين سهوا.

(٢) في المخطوطتين : آخرته. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٣) في (أ) : رسوله.

(٤) عن أبي خالد عن زيد بن علي عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ) معناه : إثمك ، وقوله تعالى: (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) قال : إذا ذكرت ذكرت معي فيقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله.

وقوله تعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) معناه يكون الرجاء أعظم من الخوف ، وقوله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ) من أمر دنياك (فَانْصَبْ) معناه : فصل واجعل وثبتك إلى الله عزوجل.

وفي مجمع البيان ٦ / ١٧٦ عن الباقر والصادق : (فَانْصَبْ) إلى ربك بالدعاء ، وارغب إليه في المسألة يعطك ، وفيه عن الصادق : الدعاء دبر كل صلاة.

تفسير سورة الضحى

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت أبي صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢)) [الضحى : ١ ـ ٢]؟

فقال : والضحى إضحاء النهار وشدة ضوئه وظهوره ، وسجوّ الليل : فتراكب ظلمته وتكوّره ، كما قال سبحانه : (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) [الزمر : ٥].

وتأويل : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥)) [الضحى : ٣ ـ ٥] ، فخبر من الله لرسوله ، صلّى الله عليه وعلى آله ، عن أنه وإن لم يعطه ما يعطيه ويكثره أهل الدنيا في دنياه ، فما تركه فمن حسن النظر في ذلك له لا لبغضه وقلاه (١). والقالي : فهو الشاني ، والشانئ : فهو المبغض ، وكل ذلك فهو بغض ، ولكنه آثره بكرامته له في آخرته على أولاه.

وأخبره سبحانه أن سوف يعطيه ، من عطايا الآخرة ما يسره ويرضيه ، ثم ذكّره سبحانه بفضله ونعمته ، وبما منّ به عليه من رحمته ، فقال تبارك وتعالى : (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠)) [الضحى : ٦ ـ ١٠] ، وقد علم الناس أنه قليل من الأيتام من يؤوى ، (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) فأغناه ، بما لم يستغن به غيره في دنياه ، (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) ، فهداه بما منّ به عليه من الهدى.

ثم نهاه تعالى عن اليتيم أن يقهره ، وعن السائل أن ينهره ، وأمره من الحديث بنعمة ربه بما به أمره ، أن ذكّره من اليتم والفاقة بما ذكّره ، وقرر بمعرفة ذلك بما قرره ، فقال تبارك وتعالى : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)) [الضحى : ١١] ، تأويل (فَحَدِّثْ) فهو فخبّر ، وانشر ذلك واذكره وكثّر ، فكان بمن الله لما ذكّر به ذاكرا ، ولنعم الله فيها

__________________

(١) في المخطوطتين : فقلاه. ولعل الصواب ما أثبت.

كلها شاكرا (١).

تفسير سورة الليل

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته رحمة الله عليه عن تفسير : (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣))؟

فقال : (وَاللَّيْلِ) وغشيانه ، فهو ظهوره وإتيانه. وتجلي النهار فهو ظهور شمسه ، على وحشه وإنسه ، وبظهوره وتجليه ، يعيش أهل الأرض فيه ، ويتحركون وينتشرون ، ويقبلون ويدبرون ، كما قال الله سبحانه : (وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (٤٧)) [الفرقان : ٤٧] ، فجعله برحمته لخلقه ضياء ونورا ، ليبتغوا فيه كما قال سبحانه : من فضله ، ولمنته (٢) على أهله : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)) [القصص : ٧٣] ، فكفى بما في الليل والنهار من الدلالة على الله دليلا (٣) لقوم يتفكرون.

وتأويل (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) ، فهو وما خلق به كل ذكر وأنثى من

__________________

(١) عن أبي خالد ، عن الإمام زيد بن علي ، عليهما‌السلام في قوله تعالى : (وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) معناه : مكن ، ويقال : استوى ، ويقال : إذا أقبل فغطى كل شيء.

وقوله تعالى : (ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ) أي : ما تركك (وَما قَلى) معناه : ما أبغض.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) معناه : كنت من قوم ضلال.

وقوله تعالى : (وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) معناه : فقير فأغنى ، وقوله تعالى : (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) معناه لا تحقر (وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) معناه : لا تزجر ، ولكن رده برحمة (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) معناه : إخوانك حدثهم بالقرآن ، ويقال : إخوانك إخوان ثقتك فهذا تأديب لأمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على لسان نبيه عليه‌السلام. تفسير الغريب / ٣٩٤.

وعن الإمام الصادق عليه‌السلام : (فَحَدِّثْ) معناه : فحدث بما أعطاك الله وفضلك ورزقك وأحسن إليك وهداك. مجمع البيان ٦ / ٦٧٠.

(٢) في (أ) : وبمنته.

(٣) سقط من (ب) : دليلا.

الأزواج المختلفة الشّتى ، أزواج الإنس والبهائم والأشجار ، وكلما خلقه زوجا من الأصول والثمار ، فأقسم بما خلق به جميع خليقته ، من قدرته وحكمته ومنّه ورحمته.

وقد قال غيرنا : إن تأويل (وَما خَلَقَ) ، هو ومن خلق (١) ، يريدون أن القسم كان بالله ، جلّ ثناء الله ، وليس ـ والله أعلم ـ ذلك ، في القسم كذلك ؛ لأن الله تبارك وتعالى أقسم بالليل والنهار فقدمهما في قسمه ، ولو كان تأويل ما خلق : هو ومن خلق لبدأ ، الله في القسم باسمه لجلاله وذكره ، وعظم اسمه وكبره ، ولكنه إن شاء الله كما قلنا.

ثم قال سبحانه : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) ، فجعل عملهم متفرقا متشتتا ، لأن عمل المتفرقين ، من المبطلين والمحقين ، بر وفجور ، وصدق وزور ، فهو كله شتى متفرق ، هذا باطل في نفسه وهذا حق ، أما تسمع كيف يقول الله سبحانه في تشتته ، وتباينه في الدنيا والآخرة وتفاوته : (فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧)) ، فإعطاؤه هو لما يجب من الحقوق عليه ، واتقاؤه فهو فيما أمر بالتقوى لله [فيه] ، (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) ، فهو : تصديقه بأن سيجزى.

وتأويل (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، فهو : سنصيره من الكرامة والثواب إلى ما سيراه عند موته وفي حشره ، وما سيعاينه في الموت والحشر من أمره.

وتأويل (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) ، بما يراه عند نفسه غنى (٢) من ماله وكسبه ، وبخل منه به عن ربه ، (وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) فتكذيبه بالحسنى ، هو تكذيبه بما وعد الله أهل التقوى.

وتأويل (فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) ، هو : سنصيره من الإهانة والعقاب إلى ما سوف يرى

وتأويل (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ) ، فهو وما ينفعه في الغناء ماله ، (إِذا

__________________

(١) روي ذلك عن الحسن البصري والكلبي. انظر مجمع البيان للطبرسي ٦ / ١٥٨ ، ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم عن الحسن. انظر الدر المنثور ٨ / ٥٣٤.

(٢) في (أ) : غنما.

تَرَدَّى (١١)) تأويله (١) : إذا هلك وردي ، بعد أن كان قد أرشد وهدي ، وما أغناه من دنياه ، و [ما] ملّكه الله إياه ، فجعله الله له ، فهو لله قبله ، ألا تسمع كيف يقول في ذلك تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤)) ، وما كان من النيران يتلظى ، فهو أشدها لهبا وسعيرا ، وأنكرها في الحرّ والتحريق مصيرا.

ثم أخبر تبارك وتعالى من يصلاها ، والإصلاء : فهو التحريق فيها ، فقال : (لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)) ، كذب بالجزاء والمثوى ، وتولى عن البر والتقوى ، ثم أخبر سبحانه أن سيجنب هذه النار المتلظية من اتقى فقال جلّ ثناؤه : (وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ) ، يؤتي : يعطي ماله (يَتَزَكَّى (١٨)) ، تأويلها : ليطيب بها عند الله ويزكّى ، (وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩)) ، تأويله يريد : يكأفأ ، (وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)) ، بما يعطى ويجزى ، إذ (٢) أعطى ما أعطى لابتغاء وجه ربه ، وما أراد من رضاءه به (٣).

تفسير سورة الشمس

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألته صلوات الله عليه عن تفسير : (وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢))؟

__________________

(١) في (ب) : تأويلها.

(٢) في (ب) : إذا.

(٣) عن أبي خالد عن الإمام زيد عليه‌السلام في قوله تعالى : (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) معناه : إن عالمكم لمختلف ، وقوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) معناه : بخل بما لا يبقى واستغنى بغير غنى.

وقوله تعالى : (وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) معناه بالجنة ، ويقال : بلا إله إلا الله ، وبالخلق.

وقوله تعالى : (وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) معناه : إذا هلك ومات ، ويقال : إذا تردى في جهنم.

تفسير الغريب / ٣٩٣.

والشمس : هي الشمس في عينها ونفسها واستدارتها ، وضحاها : فهو ما يرى من علوها في السماء وظهورها واستنارتها.

وتأويل (وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢)) ، فهو اتصاله بها ، وجيئته وراءها متصلا نوره بنورها ، وظهوره في الضوء بظهورها ، وما أبين ذلك وأنوره ، وأعرف ذلك وأظهره ، في الليالي الغر ، من ليالي كل شهر ، فنوره حينئذ بنورها متصل ، ليس بين نورهما فرقة ولا فصل ، وهي ليال (١) بيض مسفرة ، مضيئة ساعاتها منيرة ، عظمت في النعمة والقدر ، فقيل عن النبي صلّى الله عليه وعلى آله : (إن صيامها كصيام الدهر) (٢) ، وهي ليلة ثلاث عشرة ، وأربع عشرة ، وخمس عشرة ، وهي ليال جعلها الله كلها مضيئة مقمرة ، وصل الله ضوء نهارها بضوء ليلها ، فكان ذلك من عظيم النعمة فيها وجليلها ، فسبحان من وصل وفصل بين الأمور ، فوصل منها بين نور عظيم ونور.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها (٣)) ، فهو إذا أظهرها النهار وأضحاها ؛ لأنها لا تضحى أبدا بإظهار ، إلا فيما جعلها الله تضحي (٣) فيه من النهار ، وكذلك سبحانه دبّرها في مقدارها ، وبذلك قدرها في مسيرها ومدارها ، وفيها ما يقول سبحانه : (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠)) [يس : ٤٠] ، فكلهم جميعا في فلك وهو المدار يطلعون ويغربون ، فليل الشمس والقمر عند كل أحد فغير نهارهما ، وأنهما يدوران جميعا بالليل والنهار في مدارهما ، والليل كما قال سبحانه فلا يمكن أن يسبق النهار ، وإن كان الفلك في ذلك كله هو المسلك والمدار ، لأن الليل لو سبق نهاره ، لسبقت الظّلم أنواره ، فبطل العدد والزمان وتقديرهما ، وفسد البشر والحيوان وتدبيرهما ، ولكان في ذلك أيضا فساد الأشجار والثمار ؛ لأن قوام ذلك كله ونشأته بما فصل بين الليل والنهار.

__________________

(١) في (أ) : ليالي.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٢٥٧ (٣٢٣٧) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ٢٢١ (٢٤٢٠) ، وأحمد ٢ / ٢٠٥ (٦٩١٤) ، ٢ / ٢٦٣ (٧٥٦٧) ، وابن حبان ٨ / ٤٠٠ (٣٦٣٨) ، وبان خزيمة ٣ / ٣٠١ (٢١٢٦) ، والنسائي في الكبرى ٢ / ١٣٦ (٢٧٢٨) ، وأبو يعلى ١٣ / ٤٩٢ (٧٥٠٤) ، وغيرهم.

(٣) في (ب) : تضيء.

فسبحان مفصل الأمور والأشياء ؛ لبقاء ما أراد بقاءه من النبات والأحياء. وليعلم العالمون عدد السنين والحساب ، الذي عنه وبه يكون كل جيئة وذهاب ، أو بقاء لشيء من الأشياء جعله يبقى ، أو يفنى مما فطره سبحانه خلقا ، كما قال جلّ ثناؤه ، وتقدست بكل بركة أسماؤه : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)) [الإسراء : ١٢].

وتأويل (وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) ، فهو : والنهار إذا أضحاها ، فبانت وظهرت وتجلّت بتجلّيه ، وبما يظهر من الضوء والنور فيه.

وتأويل (وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤)) ، فهو إذا غشي الليل الشمس وأتاها ، فوارى بظلمته نورها ، وأخفى بظهوره ظهورها ، ولم تر الشمس ، ولم تنتشر الأنفس (١) ، ويسكن في الليل الإنس والوحش وكل طير ، فهدأ من ذلك كله فيه كل صغير أو كبير ، رحمة من الله به لذلك كله ، ومنّة من الله منّ بها عليهم بفضله ، كما قال سبحانه : (وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)) [القصص : ٧٣].

وتأويل (وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥)) ، فالسماء : هي السماء التي نراها ، (وَما بَناها) فهو : وما هيأها ، من حكمة الله وتدبيره ، ورحمة الله وتقديره.

وتأويل (وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦)) ، فهو : والأرض وما دحاها ، ودحو الشيء: هو بسطه وتمهيده ، ونشره وتوسيعه وتمديده ، كما قال سبحانه : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) [الحجر : ١٩ ، ق : ٧] ، وتأويله : بسطناها ومهدناها) (٢) ، كما قال الله سبحانه : (أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (٦) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (٧)) [النبأ : ٦ ـ ٧] ، والممدود إذا أريد مده وامتهاده ، ضرب فيه (٣) وفي نواحيه لتمتد أوتاده.

__________________

(١) في (أ) : الأنس.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) في (أ) : إذا ضربت فيه. لعلها مصحفة.

وتأويل (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧)) فهو (١) : الأنفس ، التي قد علمناها لكل ذي نفس من البهائم والإنس ، وهي التي إذا فارقت وزالت ، ماتت أجسادها وخفت ، فعادت أجسادها أمواتا هلاكا ، ولم ير لها أحد بعد ذهاب أنفسها منها حراكا ، (وَما سَوَّاها) فهو وما هيأها فجعلها حية كما جعلها ، وعدّلها سوية كما عدّلها ، من قدرة الله وإحكامه ، ومنته عليها وإنعامه.

وتأويل (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨)) ، هو فعرّفها تدبير الله لها وإحكامه هيئتها واجتراها ، فجعلها تبارك وتعالى عارفة ، بكل ما كانت عليه مجترئة أوله خائفة.

ثم أخبر سبحانه أن نفس الإنسان ، من بين ما ذكرنا من الحيوان ، نفس بين الزكاء والفلاح ، والفجور والتدسية والصلاح ، فإن تزكّت بالتقوى أفلحت وزكت ، وإن تدسّت بالفجور عند الله طلحت وهلكت ، فقال سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠)) وتأويل تزكيتها : هو تطهرتها ، وتأويل تدسيتها : فهو (٢) تطغيتها.

ثم ذكر تبارك وتعالى من دساها ، من سالف الأمم في الفجور فأطغاها ، فقال سبحانه : (كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١)) ، تأويله : بعتاها وغواها ، (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢)) ، وتأويله : إذ قام أخزاها ، لشقوته وشؤمه ، وبرضاء عشيرته وقومه (٣) ، والأشقى فقد يكون إنسانا واحدا ، أو يكون جماعة عدة وأي ذلك قيل به كانت المقالة في الصدق والمعنى واحدا ، كما يقال : أشقى هذه قبيلة فلان وأشقى هذه قبيلة بني فلان ، فيكون ذلك كله واحدا في الدلالة والبيان.

ويدل على أن أشقاهم ، ليس بواحد منهم ، قوله سبحانه : (فَقالَ لَهُمْ) ، فلو كان واحدا منهم ، لقال : فقال له. وقوله : (فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) ، فلو كان الأشقى واحدا منهم ، لقال : فدمدم عليه ربه ، ولقال أيضا : بذنبه ، ولم يقل :

__________________

(١) في (أ) : فهي.

(٢) في المخطوطتين : من تطغيتها. ولعل (من) زائدة.

(٣) في المخطوطتين : قومه وعشيرته. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(بِذَنْبِهِمْ) ، إذ (١) هو واحد منهم ، ولقال أيضا : عقرها ، ولم يقل : (فَعَقَرُوها) إذا لم يكن إلا من واحد عقرها.

وقد قال غيرنا : إن عاقر الناقة ، كان إنسانا واحدا ليس بجماعة ، وذكروا فيما في أيديهم من الأخبار ، أن عاقرها يسمى ب (قدار) (٢).

وتكذيب ثمود فإنما كان بما وعدها صالح صلى الله عليه إن عقرت الناقة من عذاب قريب أليم ، لا تكذيبها بما لم تزل به مكذبة قديما قبل عقر الناقة من عذاب الجحيم ، إذ يزجرها صالح صلى الله عليه وينهاها ، عما أتت في عقر (٣) الناقة بطغواها ، إذ يقول لهم : (فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)) ، فتأويل ما ذكر الله من السقيا ، هو ما أعطى الله من لبن الناقة وسقى.

ومما يدل على ذلك قول الله سبحانه في الأنعام ، وهي الآبال : (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٢١)) [المؤمنون: ٢١]. وقوله سبحانه : (وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)) [يس : ٧٣] والمشارب والسقيا ، هي الموارد والسقايا ، والدمدمة : هي التسوية ، والهلكة لجمعهم المفنية.

وتأويل قوله تبارك وتعالى : (فَسَوَّاها) ، إنما يراد به أدنى ثمود كلها وأعلاها ، ومن أضعف ثمود كلها وأقواها.

وتأويل : (وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)) ، فقد يمكن أن وجهها ومعناها ، هو فلا يخاف أحدا ـ على الضمير (٤) ـ أن يراها بعد تدمير الله لها ، وما أنزل من الهلكة بها ،

__________________

(١) في (أ) : وإنما هو.

(٢) انظر تفسير الطبري ٢٧ / ١٠٢ ، ٣٠ / ٢١٤ ، وابن كثير ٢ / ٢٢٩ ، والقرطبي ٧ / ٢٤١ ، والبيضاوي ٥ / ٤٩٧ ، والسيوطي في الاتقان ٢ / ٢٦٨ ، والدر المنثور ٦ / ٣١٦ ، والثعالبي ٢ / ٣٣ ، ٣ / ١٦٣ ، وأبي السعود ٤ / ٢٤٢ ، وغيرهم.

(٣) في (أ) : أمر.

(٤) يعني على إضمار محذوف تقديره (أحدا).

لا تعقب عقبا (١) ، ولا تنسل عقبا ، من ولد ولا ذرية ، ولا يرجع بعاقبة مؤدية (٢). وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.

تفسير سورة عبس

قال أبو عبد الله [محمد بن القاسم] : سألت أبي القاسم بن إبراهيم عليهما‌السلام ، عن معنى قوله تعالى : (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢))؟

هذا تأديب من الله تبارك وتعالى لرسوله أن لا يعبس في وجه الأعمى ، الذي يأتيه يطلب منه الاسترشاد والهدى ، والأعمى هاهنا : أعمى القلب ، وقيل في ذلك : إن الأعمى أعمى البصر ، قالوا : هو ابن أم مكتوم ، أتى النبي يطلب منه الهدى فأعرض عنه(٣) وليس ذلك كذلك.

ومعنى (عَبَسَ وَتَوَلَّى (١)) هو : عبس وتولى بكليته ، (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢)) في معنى حين ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣)) هو : تعريف من الله أنه يعلم الغيب ، وأن الرسول لا يعلمه ، ومعنى (يَزَّكَّى) هو : يتزكى.

(أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤)) ، معنى (أَوْ يَذَّكَّرُ) : يعرف فتنفعه المعرفة.

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦)) هذا تأديب للنبي صلى الله

__________________

(١) في (أ) : بها يعقب تعقبا.

(٢) عن أبي خالد عن الإمام زيد عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) معناه : بسطها وكذلك دحاها.

وقوله تعالى : (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) معناه : بيّن لها.

وقوله تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) معناه : من أصلحها (وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) معناه : أغواها ، وقوله تعالى (وَلا يَخافُ عُقْباها) معناه : لا يخاف تبعة من أحد. غريب القرآن / ٣٩٢.

وعن الباقر والصادق عليهما‌السلام في قوله (فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) بين لها ما تأتي وما تترك (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي من أصلح ، و (مَنْ دَسَّاها) أي من عصى. مجمع البيان للطبرسي ٦ / ١٥٣.

(٣) أخرجه الترمذي ، وابن المنذر ، وابن حبان ، والحاكم ، وابن مردويه ، عن عائشة. الدر المنثور ٨ / ٤١٦.

عليه وآله وسلم أن لا يجلّ من سمع بغناه ولو كان كافرا ، ولا يستحقر من سمع بفقره إن (١) كان مهتديا.

وقد يكون هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نظرا لصلاح الأمة في الإقبال إلى من كان معه غنى ، ثقة بديانة الفقير ، واتكالا على صحته في الدين.

ومعنى (تَصَدَّى) : تقبل عليه.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (٧)) من جهة النظر ، وهذا ـ والله أعلم ـ ليس للرسول ولكنه مثل للتعريف والتأديب.

ومعنى (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨)) يبادر (وَهُوَ يَخْشى (٩)) يتخشع (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (١٠)) تتشاغل.

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١)) معناه : نعم إنها تذكرة ، وكلا هاهنا بمعنى نعم ، وليست بمعنى (لا) (٢) كغيرها ، (فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢)) معناه : فمن شاء تعرّفه تفقه في معرفته على الاستطاعة التي ركبت ، وقد خص في ذلك خواص ، وشرح فيه شرح كثير يستغنى عنه.

(فِي صُحُفٍ) في كتب مبيّنة (٣) ، (مُكَرَّمَةٍ (١٣)) معظمة ، (مَرْفُوعَةٍ) مصونة (مُطَهَّرَةٍ (١٤)) منقّاة من الدنس الذميم ، ومخصوصة بكل فضل كريم ، (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)) الملائكة عليهم‌السلام ، (كِرامٍ) مكرمين (بَرَرَةٍ (١٦)) صادقة القول ، (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧)) معناه : لعن الإنسان ما أشرّه! والإنسان معناه : الناس ، يخص بذلك كل كافر كما قال : (يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)) [الانفطار: ٦]. (مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨)) معناه : على تقليل النطفة ، في معنى أنها لا شيء فصار منها شيء.

وقوله : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ) تذكرة له ، وتوقيفا فيما منّ به من الحياة عليه ،

__________________

(١) في المخطوط : وإن. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : (وليست بمعنى نعم لا كغيرها) ، والمعنى غير واضح على هذا اللفظ ، فحذفنا نعم.

(٣) في المخطوط : مبين.

(فَقَدَّرَهُ (١٩)) معناه : فسوّاه وعدله ، (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠)) معناه : الطريق الواضح سيّره وعرّفه ، (ثُمَّ أَماتَهُ) حكم عليه بالموت غصبا ، (فَأَقْبَرَهُ (٢١)) دل على قبر أنه في التراب ، (ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢)) معناه : حتى إذا شاء بعثه ليوم نشوره ، (كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)) كلا في موضع نعم ، حتى يقضي ما أمره ، أراد يحاسب على ما أمر به من الطاعة فيحاسب على ما فرط فيه ، ويجازى بالحسنة فيه على ما فعله ، وقد يخرج ذلك على معنى : لا ما قضى. معناه : ما فعل ما أمره ولكن قصّر فيه ، وهل يكون أحد إلا وهو مقصر.

رجع إلى التعريف والتذكرة (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤)) إلى مأكله ، (أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦)) معناه : أنزل الماء من السحاب ، وشق الأرض به ، وبالاغتصاص بشربه (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧)) حبا من الحبوب ، (وَعِنَباً) من ألوان صنوف العنوب ، (وَقَضْباً (٢٨)) من القضوب ، (وَزَيْتُوناً) خاص بزيتون الشام ؛ لما فيه من البركة يروى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، (وَنَخْلاً (٢٩)) المثمر للتمر وهو هذا النخل ، (وَحَدائِقَ) حوائط من كل الفواكه ، (غُلْباً (٣٠)) معناه : قوية تخرج من التراب على ثقله وتضعف نباته ، حتى تصير قوية ، (وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١)) الأب : الشجر هذا الثمام ، الذي ينبت في الأسناد والآكام (١) ، ألا ترى أنه يقول : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)) الفاكهة لكم ، والمتاع والأب لكم لأنعامكم.

قوله تعالى : (فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣)) المسمعة المصخة للأنفس من هولها ، وما يرى فيها من عظمها فتصيخ لها النفوس ، (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ) هو الإنسان (مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَ) من (أُمِّهِ) معناه : والدته ، (وَأَبِيهِ (٣٥)) الذي أولده ، (وَصاحِبَتِهِ) زوجته ، (وَبَنِيهِ (٣٦)) أولاده ، (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧)) يعني : لكل على قدر ما قدم وأسلف فيما غبر من الدهر ، ألا ترى ما فسره حين قال : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) معناه : وجوه ذلك اليوم وهو يوم القيامة ، (مُسْفِرَةٌ (٣٨)) معناه : ناضرة مشرقة حسنة ، وهي وجوه المؤمنين ، (ضاحِكَةٌ

__________________

(١) قال في الصحاح : الأكمة معروفة ، والجمع أكمات وأكم ، وجمع الأكم آكام ، مثل عنق وأعناق.

مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩)) يبين لك في وجه المسفر الضحك (١) ولعله لا يضحك ، ويبين لك في وجه الكافر البكاء ولعله لا يبكي ، وبلى كم من باك ندامة! وكم من ضاحك استبشارا بما بشر به من نعم الله التامة! ومعنى (مُسْتَبْشِرَةٌ) : متباشرة بما قد رأت من علامات الخير.

(وَوُجُوهٌ) معناه : وجوه الكفرة ، (يَوْمَئِذٍ) تقدم تفسيره ، (عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠)) يعني : القتام ، يلحق وجوه الكفرة والإظلام ، (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١)) تلحقها وتعلوها قترة ، والقترة فهي : الغبرة المقترة المهلكة الكريهة ، وهذا جرم ما يكون من الكسوف على الوجوه من الظلمة (٢).

ثم بيّن فقال : (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢)) الكفرة : فهم الكافرون لأنعم الله ، والجاحدون لربوبيته أيضا ؛ لأن الكفر كفران ، كفر نعمة وكفر جحدان ، وكل أولئك صائر إلى سخط في عذاب أليم ، (الْفَجَرَةُ) معناه : الفجرة في الدين ، وأهل الإطراح لحقوق رب العالمين ، والافتتان فيما لا يحل لهم [من] محارم خالق الخلق أجمعين ، وقد يكون الفجور ، الارتكاب لأكبر الشرور ، من الفسق وأخبث الأخباث ، من الإتيان للذكران والإناث ، مما لم يأمر الله به ، ولم يسوغه في قرآنه ولم يثبته.

[تفسير سورة النازعات]

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥)).

النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ : فهن السحائب المنتزعات لماء الأمطار من البحار والأنهار ، ومما في الأرض من الندوة والبخار ، وكذلك صح في الروايات

__________________

(١) في المخطوط : كالضحك. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : الوجوه والظلمة. وما أثبت اجتهاد.

والأخبار.

معنى (غَرْقاً) مغرقات لما أمطرن ، وكذلك المغرق من كل شيء أيضا : الناهي (١) فيه ، تقول : أغرق في النزع ، وهن (وَالنَّاشِطاتِ) في نزعهن (نَشْطاً) ، والنشط والإغراق : هو القوة في النزع والصب ، ومما ينتزع من المنتزع صكا.

ومعنى تنشط الماء : فهو تحيده وتطلعه ، ونشطا : مصدر كمصادر الكلام ، (وَالسَّابِحاتِ) هن : السحائب يسبحن في الهواء سبحا ، كما يسبح في الماء من كان سابحا يمينا ويسارا ، وإقبالا وإدبارا ، كما أراد الله عزوجل وشاء.

(سَبْحاً) مصدر أيضا ، وهن أيضا (فَالسَّابِقاتِ) بالمطر والغيث برحمة الله وفضله ، غير مسبوقات بإمساك الله للمطر لو أمسكه عن الأرض وأهلها بعدله ، وقد يكون السابقات هو : البرق ؛ لأن البرق أسرع شيء خفقا ، وأحثه اختطافا وسبقا ، والسحائب أيضا فهي (فَالْمُدَبِّراتِ) ، بما جعل الله من الغيث فيهن للشجر والثمار والنبات ، وفيما ذكرنا من هذا أعجب عجيب ، لكل ذي حكمة ونظر مصيب.

قيل : والمعنى فيه : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) الملائكة.

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧)) الراجفة : القيامة ، سميت راجفة لهولها ، يقال : نزل ببني فلان رجفة ، والرادفة : مردفة بهول يتبع هؤلاء.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ) ذلك اليوم ، (واجِفَةٌ (٨)) أراد مضطربة ، (أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩)) منكسة ، (يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠)) أولئك الذين كانوا يقولون ، أراد يكذبون بالرد لهم في الحافرة ، هم الذين تخشع أبصارهم وتذل ، والحافرة : التي تحفر على السرائر وتظهرها ، (إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (١١)) تعجب منهم أنهم لا يرجعون إذا صاروا عظاما نخرة ، والنخرة : البالية الدامرة.

ثم قالوا : (تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢)) أرادوا : نطفة (٢) خاسرة ، رد الله تكذيب قولهم بقوله عزوجل : (فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣)) تحقيقا أنها كانت

__________________

(١) كذا في المخطوط ، ولم يتبين المراد بها.

(٢) كذا في المخطوط ، لعلها (مصحفة).

مثل للزجرة ، الزجرة ـ والله أعلم ـ مثل مضروب للحياة بعد الموت ، كما يفزع النائم بالزجرة من الصوت.

(فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (١٤)) المتعبة لمن هو فيها ، تقول : فلان ألحق بالساهرة ، أي لم يخبر به.

قوله عزل وجل : (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠)).

قال : (هَلْ) خبر من الله عزوجل ، ولفظه لفظ الاستفهام ، ومعناه التوقيف على الخبر والإفهام ، كأنه قال : قد أتاك خبر موسى.

ومعنى (إِذْ ناداهُ رَبُّهُ) فكذلك يقول الله ناداه ، وأنه أوجد كلاما به خاطبه وناجاه.

والواد المقدس : هو المكرم المنزه المعظم ، وهو طوى.

ثم قال : (اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) أي : جاوز قدره وعلا وطمى ، وخرج إلى الظلم والجهل والعمى ، فقال : (هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) هل لك هو : ترغيب في الخير والهدى.

ومعنى قوله : (إِلى أَنْ تَزَكَّى) هو : الترغيب في التزكي والطهارة من قذر الدنيا ، وقبائح ما كان عليه من الكفر والردى.

ومعنى قوله : (وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ) أي : أدلك إلى ربك ، فيدخل في قلبك الخوف لسيدك.

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) أي : الدلالة العظمى ، ومعنى قوله : (فَحَشَرَ فَنادى (٢٣)) أي : جمع أصحابه ثم نادى ، (فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤)) والفاء بمنزلة ثم ، لأنهما من حروف النسق والعطف.

ومعنى قول فرعون اللعين : (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) يريد : أنا سيدكم الشريف المرتفع في القدر والعلى ، والرب عند العرب : السيد ، قال الشاعر :

أم غاب ربك فاعترتك خصاصة

فلعل ربك أن يئوب مؤيدا

ومعنى قوله : (فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥)) فالأخذ هو العذاب من اللهعزوجل ، عذب عدوه عذاب الآخرة والدنيا.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (٢٦)) هي : الموعظة والتذكرة ، قال الشاعر :

في آل برمك عبرة وعجائب

ومواعظ للعاقل المتزهد

ومعنى قوله عزوجل : (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨)) أي : رفع محلها وموضعها ، والسمك : هو المحل المرتفع العالي ، قال الشاعر :

إن الذي سمك السماء بنى لنا

بيتا دعائمه أعز وأطول

معنى سمك السماء : أي رفعها ، وقال آخر :

وما إن بيتهم إن عد بيت

وطال السمك وارتفع البناء

ومعنى (فَسَوَّاها) ، أي : عدل صورتها وهيأها.

ومعنى (وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩)) فالإغطاش : هو الظلام.

ومعنى قوله : (وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)) هو أسكنها وأثبتها وأهدأها ، قال الشاعر :

ألقى مراسيه بتهلكة

ثبتت رواسيها فما تجري

وفي هذا الكلام تقديم وتأخير ، والتنزيل قول الله عزوجل : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ) فعل تمتيعا لكم ، والتأويل والمعنى : هو أخرج منها ماءها ومرعاها ، متاعا لكم والجبال أرساها ، ولكن لا يجوز أن يقرأ كتاب الله إلا على ما أنزل الله سبحانه ، وعز عن كل شأن شأنه ، لأنه لم يفعل ذلك إلا لأسباب من الصواب ، ولو لا ذلك لبين جميع الكتاب.

ومعنى قوله عزوجل : (فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤)) يعني القيامة ، وإنما سميت طامة لعلوها ورفعتها ، وهولها عند وقعها ووثوبها بغتة وسرعتها ، وأصل الطم في الارتفاع في الهواء سريعا معا ، قال الشاعر :

أتاكم طم فوق كل طم

إذا العكاظي كثافي اليم

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥)) ، يريد : أنه يتذكر ما عمل في الدنيا ، وأصل السعي هو الجد والاجتهاد ، والإقبال والإدبار والتحدر والإصعاد ، قال سيد العابدين علي بن الحسين صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين :

فإن امرأ يسعى لدنياه جاهدا

ويذهل عن أخراه لا شك خاسر

ومعنى (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦)) هو : أخرجت وأظهرت ، ومعنى (لِمَنْ يَرى) هو : لمن يرى عزوجل ويعلم أنه يستحق العذاب.

ومعنى قوله : (فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧)) هو جاوز الحد في ظلم نفسه بكفر أو فسق ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨)) قدمها على الآخرة ، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩)) أي : المنزل والمحل والمثوى.

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) أي : موقفه الذي يقوم فيه العباد للحساب.

(وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (٤١)) أي : نهى نفسه عن إتباع الهوى ، فأما الهوى في نفسه فلا يقدر أحد على تركه ؛ لأن الهوى في ذاته إنما هو الشهوة ، والشهوة لا يقدر أحد على تركها ، وإنما يقدر على خلافها ، ويمكنه الامتناع من طاعتها ، وهذا من الاختصار ، وهو كثير موجود في القرآن ، وهو عند أهله بيّن غاية البيان ، فالحمد لله على ما علمنا من الفرقان ، ونسأله أن يزيدنا برحمته من البرهان.

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢)) أي : متى حلولها ، وهجومها على البرية ونزولها؟ وأيان في اللغة بمنزلة متى؟ قال الشاعر :

أيان تدفع بالرماح عليهم

يا مال قبل منيتي وذهابي

ومعنى قوله : (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣)) ، يريد بذلك : التوقيف للناس على خوف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما هو فيه من الفزع والحزن عند ذكره لها ، وعند ما يخطر على باله من هولها.

ومعنى (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤)) ، أي : عند ربك نهايتها ووقت هجومها ،

وغاية ما يكون في آخر تلك الساعة ، ومصير الأبرار إلى سعادتها ، ومصير الفجار إلى إشقائها ونكدها ، والساعة في تلك الواقعة التي يحكم الله فيها بين العباد ، ويصير كل إلى داره التي يستحق بعمله من الضلال والرشاد.

ومعنى قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (٤٦)) يريد : كأنهم في ذلك اليوم لم يقيموا في الدنيا إلا عشية من عشاياها ، أو ضحوة من ضحاها ، لقصر ما فات من الدنيا ، وكذلك الإنسان عند الموت والفناء ، كأنه لم يعمر ولم يخلق ، إلا في تلك الساعة التي يقبض فيها ويوثق ، ولكن هذه البرية أبت إلا العمى ، والتقصير عما أراد الله بها من اتباع الحكماء ، ومالوا إلى اللعب والجهل والردى ، وزهدوا في الحق والدين والهدى ، فزادهم الله تبابا وبعدا ، ولا وفقوا للخير أبدا.

إلى هنا انتهى تفسير شيخ آل الرسول القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام ، وعاقه عن التمام ، شواغل منعته إلى أن نزل به الحمام ، رحمة الله عليه.

وكل ما تقدم من رواية ابنه محمد بن القاسم عليهما‌السلام.

* * *

تثبيت الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

[مبدأ التفصيل]

الحمد لله فاطر السموات والأرض ، مفضل بعض مفطور خلقه على بعض ، بلوى منه تعالى للمفضّلين بشكره ، واختبارا للمفضولين بما أراد في ذلك من أمره ، ليزيد الشاكرين في الآخرة بشكرهم من تفضيله ، وليذيق المفضولين لسخط إن كان منهم في ذلك من تنكيله ، ابتداء في ذلك للفاضلين بفضله ، وفعلا فعله بالمفضولين عن عدله ، يقول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (٢٣)) [الأنبياء : ٢٣]. وقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨)) [القصص : ٦٨]. ويقول تعالى : (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٥)) [الأنعام : ١٦٥]. ويقول تبارك وتعالى : (انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)) [الإسراء : ٢١]. ويقول سبحانه : (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٣٢)) [الزخرف: ٣٢]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)) [الإسراء : ٧٠]. وقال تبارك وتعالى : (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٣)) [الجاثية : ١٣]. ويقول سبحانه : (وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)) [النحل : ١٢]. والحمد لله رب العالمين ، الذي جعلنا من أبناء المرسلين ، الذين اختصهم بصفوة تفضيل المفضلين ، ونستعين مبتدئ الخيرات ، وولي كل حسنة من الحسنات ، على واجب شكره ، وكريم أثره ، فيما ابتدأ به من فضله ، وخص به من ولادة رسله ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم.

[وجوب الإمامة ودليلها]

سألت يرحمك الله عن الإمامة ووجوبها ، وما الدليل إن كانت واجبة على ملتمس مطلوبها ، فأما وجوب الإمامة ودليله ، فوحي كتاب الله عزوجل وتنزيله ، فاسمع لسنته في الذين خلوا من قبلك تفهم ، وتفهّم متقدّم أوليها عن الله (١) تعلم ، فإنه يقول عزوجل ، ونحمده فيما نزل ، من محكم كتابه : (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٦٢)) [الأحزاب : ٦٢]. ويقول تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣)) [البقرة : ١٨٣]. وهذا (٢) يرحمك الله لكي تعتبر بمنزل بيانه ، في أشباه حكمه في الأمم واستنانه.

ثم أخبر تعالى عما جعل من الإمامة في بني إسرائيل ، قبل أن ينقل ما نقل منها إلى ولد إسماعيل ، فقال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (٢٤)) [السجدة : ٢٣ ـ ٢٤]. وقال سبحانه ـ ما أنور بيانه! ـ فيما نزل من قصص خليله إبراهيم ، وما خصه الله به في الإمامة من التقديم ، وما كان من دعاء إبراهيم وطلبته ؛ لإبقائها من بعده في ذريته : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (١٢٤)) [البقرة : ١٢٤] ، خبرا منه سبحانه أن عهده فيها إنما هو منهم للمتقين ، فلم يزل ذلك مصرفا بينهم ، لم يخرجه الله تعالى منهم ، بعد وضعه له فيهم ، وإنعامه به عليهم ، حتى كان آخر مصيره في الرسالة ما صار إلى إمام الهدى محمد صلوات الله عليه ، فكان خاتم النبيين ، ومفتاح الأئمة المهتدين.

ثم قال تعالى بعد هذا كله ، دلالة على أن محمدا وارث خليله : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ

__________________

(١) سقط من (أ) : عن الله.

(٢) سقط من (أ) و (ج) و (د) : و :

(٦٨)) [آل عمران : ٦٨]. فكان محمد الوارث من إبراهيم وإسماعيل عليهما‌السلام للنبوة ، وإليهعليه‌السلام صار ما كان من إبراهيم وإسماعيل من الدعوة ، إذ يقولان صلوات الله عليهما : (رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٢٩)) [البقرة : ١٢٩].

وأبين دليل ، وأنور تنزيل ، في وجوب الإمامة ، وما يجب منها على الأمة ، قول الله تبارك وتعالى : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٥٩)) [النساء : ٥٩]. فأمر تبارك وتعالى بطاعة أولي الأمر مع ما أمر به من طاعته وطاعة الرسول ، ولا يأمر تبارك وتعالى إلا بمعلوم غير مجهول ، مع ما لا أعلم فيه بين الرواة فرقة ، وما لا أحسب إلا قد رأيتها عليه متفقه ، من حديث الرسول عليه‌السلام في أن (من مات لا إمام له مات ميتة جاهلية) ، (١) فكل هذا دليل على وجوب الإمامة وعقدها ، وما في ذلك للأمة بعد رسولها صلوات الله عليه من رشدها ، مع ما يجمع عليه جميع الأمم على اختلاف مللها وعقولها ، وما هي عليه من الفرقة البعيدة في

__________________

(١) رواه الإمام الهادي في الأحكام ٢ / ٤٦٦ ، والعلوي في الجامع الكافي بسنده إلى علي عليه‌السلام ، ورواه الإمام أحمد بن سليمان في حقائق المعرفة / ٢٣٧. بلفظ : (من مات لا يعرف إمام عصره ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه ابن حبان ١٠ / ٤٣٤ برقم (٤٥٧٣) بلفظ : (من مات وليس له إمام ، مات ميتة جاهلية). والحاكم في المستدرك ١ / ١٥٠ (٢٥٩) ، بلفظ : (ومن مات وليس عليه إمام جماعة ، فإن موتته موتة جاهلية). وأبو يعلى ١٣ / ٣٦٦ (٧٣٧٥) ، بلفظ : (من مات وليس عليه إمام ، مات ميتة جاهلية). والطبراني في الأوسط ١ / ١٧٥ (٢٢٧). بلفظ : (من مات ولا بيعة عليه ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه مسلم في صحيحه برقم (٣٤٤١) ، والطبراني في الكبير ١٩ / ٣٣٤. (٧٦٩). وأحمد برقم (٥١٣٠) بلفظ : (من مات وليس في عنقه بيعة ، مات ميتة جاهلية). والطبراني أيضا ١٩ / ٣٨٨ (٩١٠). وأبو داود الطيالسي ٢٥٩ (١٩١٣). بلفظ : (من مات بغير إمام ، مات ميتة جاهلية). وفي مسند ابن الجعد ٣٣٠ (٢٢٦٦). بلفظ : (من مات وليس عليه طاعة ، مات ميتة جاهلية). وأخرجه أحمد بلفظ : (من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية). برقم (١٦٢٧١). وهو في نهج البلاغة ، الخطبة / ١٥٢. وهو في شرح نهج البلاغة ٩ / ١٥٥ ، ١٣ / ٢٤٢. وهو في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً).

أجناسها وأصولها ، من تقديمها لمن يؤمها منها ، ويذب مخوف ذمار (١) الأعداء عنها ، ويحوط حرمها عليها ، وينفذ حكم المصلحة فيها ، ويكف سرف قويها عن ضعيفها ، ويجري حكم قسط التدبير فيها في وضيعها وشريفها (٢) ، استصلاحا منها بذلك للدنيا ، والتماسا به لما (٣) فيه لها من البقيا.

فكيف يرحمك الله بطلاب ، رضى رب الأرباب؟! وحلول دار الخلد من الجنة ، وملتمس حكم الكتاب والسنة ، أيصلح أولئك أن يكونوا فوضى (٤) بغير إمام؟! هيهات أبى الله ذلك لمنزل الأحكام!

[ضرورة الإمامة]

فمن ـ إن كانوا فوضى ـ للحدود؟! وما عهد الله إلى الأئمة فيها من العهود ، من لحدّ الفاسق والفاسقة؟ ولحكم الله في السارق والسارقة؟ من لقاذف (٥) المحصنات؟ ومنع إبراز المؤمنات؟ من لحكم التفصيل؟ وإصابة خفي التأويل؟ من يهدي أهل الجهل والضلال؟ والاحتجاج بحجج الله على أهل الابطال؟ أما سمعت قول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه : (سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)) [النور: ١ ـ ٣]. مع جميع

__________________

(١) الذّمار : ما يلزمك حفظه وحياطته.

(٢) في جميع المخطوطات : في شريفها ووضيعها. وما أثبت اجتهاد.

(٣) سقط من (ب) : به لما.

(٤) في (ب) : أفواضا.

(٥) في (ب) : لقذف. وفي (ج) : لقذاف.

حكم الله فيها وفي غيرها ، وما أمر به في (١) أحكامه من تنفيذها ، فهذا في وجوب الإمامة هكذا ، وكفى من أنصف ولم يحف بهذا ، مع حجج كثيرة تركت تكلفها ، وألقيت إليك منها جملها ، كراهية للاكثار (٢) ، واكتفاء بالاقتصار (٣) ، مع أخر لا بدّ (٤) من ذكر معترض عروضها ، وتكلف تبيين ما استتر من خفي غموضها ، فافهم نشر (٥) مذكورها ، واسمع لذكر منشورها ، بإذن واعية من واع ، وارعها رعاية انتفاع.

اعلم أن هذا العالم وما فيه معا ، لا يخلو من (٦) أن يكون محدثا مبتدعا ، من أحكم الحاكمين ، وأن يكون لواحد لا لاثنين ، فإذا ثبت أن ما وجد من العالم وتدبيره ، وما بني عليه من حكم تهييئه (٧) وتقديره ، لواحد حي ، حكيم عليّ ، ليس له ضد يناويه ، ولا ند يماثله فيكافيه ، ولا به آفة تضره ، ولا ضرورة تضطره ، إلى ما أحدث وصنع من بدائعه ، (وابتدع في الأشياء من صنائعه ، فكان كل ما أحدث من بديعه) (٨) ، واصطنع جل ثناؤه من صنيعه ، عن أمرين ، ولشيئين :

أحدهما : الاختيار فيما ابتدأ ، وحكمة (٩) ماضي إرادته فيما أنشأ.

والأمر الثاني : فإحكام تدبير (١٠) منشأه ، وتبليغه غاية مداه ، بإحداث ما لا يكون بلوغ المدى إلا به ، وما يريد الحكيم من إبقاء المنشأ بأسبابه ، من مواد الأغذية ، وحوط المنشأ من كل مفنية ، ثم يكون ذلك في لطف مدخله ، وحوط فرعه من الفساد وأصله ، على قدر حكمة تدبير المدبّر ، واقتدار قدرة العليم المقدّر ، فلا يمكن في حكمة التدبير ،

__________________

(١) في (ب) : من.

(٢) في (ب) : كراهية الإكثار. وفي (د) : كراهة للاكثار.

(٣) في (ب) : بالإقصار.

(٤) في (أ) : إلا بعد. مصحفة. وفي (ب) : مع أخرا لا بد. مصحفة.

(٥) في (د) : تسير. مصحفة.

(٦) في (أ) و (ج) : لا يخلو إما أن.

(٧) في (ب) : تهيئيه. وفي (د) : تهيئته.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٩) في (ب) و (د) : وحكمة في ماضي.

(١٠) في (ب) : تدبيره.

ولا تدبير ذي العلم القدير ، أن يريد كون بقائه ، إلا مع خلقه لمقيم إبقائه ، من مادة الغذاء ، وتركيب آلة الاغتذاء ، من الأفواه والأوعية ، وبسط الأيدي المغتذية ، لاستحالة بقاء المبقى ، مع عدم ما به يبقى ، واستنكار دوام دائم ، أو توهم قوام قائم ، جعلهما الله لا يدومان إلا بمديمهما ، ولا يقومان طرفة عين إلا بمقيمهما ، ثم يقطع المديم المقيم لهما عنهما ، وهو مريد مع قطعه لدوامهما ؛ لما في ذلك من الجهل الذي تعالى الله عنه ، وخطأ التدبير الذي بعد سبحانه منه.

[تدبير الخلق]

كنحو ما خلق من حيوان الأشياء ، الذي خلقه لا يبقى إلا بمادة الغذاء ، وجعل غذاءه لا يكون إلا ببرد الأرض (١) والماء ، وبما فطر سبحانه من حرارة النار والهواء ، وبما جعل من فصول السنة الأربعة ، وجعل السنة لا تكون إلا بشهورها المجتمعة ، وجعل الشهور لا تتم إلا بأيامها ولياليها ، وما قدرها الله عليه من تواليها ، وجعل الأيام لا تتم إلا بساعات أزمانها ، والأزمان لا تتم إلا بحركة الأفلاك ودورانها ، ثم فصل تعالى الليل من النهار ، وفرق برحمته بين الظّلم والأنوار ، لتمام ما أراد من إبقاء المدبّر ، ولينتشر في النهار كل منتشر ، في ابتغاء حاجاته ، وليسكن في الليل من فتراته ، ولم يجعل الليل والنهار سرمدا ، ولم يعرّ منهما من خلقه إلا مخلدا ، فقال سبحانه : (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢)) [القصص : ٧١ ـ ٧٢]. فجعل الليل والنهار رحمة منه ، ثم قسم تبارك وتعالى السّنة ، فجعلها أربعة أزمانا ، وفنّنها للبقاء أفنانا ، من شتاء وصيف ، وربيع وخريف ، ثم قدّر في كل فن ، ومع كل زمن ، من الأغذية ضربا ، يابسا فيه ورطبا ، لا يصلح في غيره ، ولا يتم إلا بتدبيره ، وجعل هذه الأزمنة عمودا لتناسل الحيوان ، وعلة لبقائهم إلى ما قدر

__________________

(١) في (ب) و (د) : إلا بالأرض.

لهم من الأزمان.

[أصناف الخلق]

ثم جعل الحيوان (١) ضروبا ، وجعل أغذيته شعوبا ، فمنهم الناس المغتذون بطيب الأغذية ، ومنهم الطير والدواب وفنون الأشياء الحية ، المكتفية بأثفال (٢) الغذاء ، وتيسير مئونة الاغتذاء ، فبنى الناس على خلاف بنية المسخّر لهم من الحيوان ، وبانوا منهم بفضيلة الفكر ونطق البيان ، فدبروا أغذية معايشهم بالفضيلة ، واستعانوا في ذلك بتصرف الحيلة ، وكفي ذلك غيرهم من الحيوان ، ولو لا ذلك لما (٣) بقوا ساعة من زمان.

فكل مذكور من أجناس البهائم ، المسخرة لمنافع بني آدم ، فمبني على النقص مما (٤) ذكرنا من فضيلتهم ، عاجز عما جعل الله لهم من متصرف حيلتهم.

وكذلك كان بنوا آدم في بديّ مولدهم (٥) ، في عجزهم عن نيل منافع غذائهم ورشدهم ، وجهلهم لمصلحهم (٦) في الأمور من مفسدهم ، فلو كان الناس ـ إذ (٧) ابتدءوا ، عند ما فطروا وأنشئوا ، لم يجعل لهم ولا فيهم ، من يغذوهم ويقوم عليهم ـ لهلكوا ولم يبقوا وقت يوم واحد ، لما يحتاجون إليه في النفاس وعند المولد ، من تلفيف الولدان بخرقها ، وتسوية أعضاء خلقها ، ولكن الله تبارك وتعالى جعل لهم في الابتداء ، آباء قاموا بكفاية المصلحة والغذاء ، حدّهم في العلم بمصلحتهم غير حدّهم ، فغذّوهم برأفة الأبوّة وبصر التربية في مولدهم ، إلى بلوغ قوة الرجال ، والاستغناء بنهاية الكمال.

__________________

(١) سقط من (ب) : ثم جعل الحيوان.

(٢) الثفل : ما رسب خثارته من الأشياء كلها وعلا صفوه. والثافل : الرجيع.

(٣) في (ب) : ما.

(٤) في (ب) و (د) : عما.

(٥) في (أ) : كانوا بني آدم في بدء مولدهم. وفي (ب) و (د) : كان بنو آدم في بدي موالدتهم. إلا أنه سقط من (ب) : كان.

(٦) في (أ) و (ب) و (ج) : لمصلحتهم.

(٧) في (ب) : إذا.

ولا بد لهذه الآباء ، التي قامت على الأبناء ، من أن تكون في المبتدأ ، وعند أول المنشأ ، من الجهالة في مثل حال أبنائها ، محتاجة إلى تربية آبائها ، ولا بد كيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى من أبناء يقوم عليها آباؤها ، وآباء كانوا كذلك في الأصل إذ ابتدئ إنشاؤها ، في مثل (١) حد أبنائها ، من جهلها وقلة اكتفائها ، حتى يعود ذلك إلى أب واحد ، منه كان (٢) ابتداء النسل والتوالد ، ولا بد للأب الأول من أن يكون أدبه وتعليمه ، على خلاف أدب من يكون بعده ، إذ لا أب له ولا يكون أدبه وتعليمه إلا من الله ، أو من بعض من يؤدبه ويعلمه من خلق الله ، فإن كان من مخلوق (٣) أخذ أدبه ، فلا يخلو ذلك من أن يكون الله أو غيره أدّبه ، وكيف ما ارتفع الكلام في هذا المعنى ، فلا بد من (٤) أن يعود إلى أن (٥) خلق ابتداء أدبه من قبل الله الأول البديّ ، ولا بد للأب الأول ، الذي هو أصل التناسل ، من أن يكون مؤدّبا معلّما للجوامع ، (٦) من معرفة جهات المضارّ والمنافع ، مخلوقا على الفهم ، وقبول أدب المعلم ، ليتم بذلك من فهمه ، نفع تعليم معلمه ، فيقوم به على نفسه ، وعلى من معه من ولده ، من الأخذ لهم بأدبه ، وعقاب مذنبهم بذنبه ، وثواب محسنهم بإحسانه ، وتوقيف كلّ على ضره ونفعه ، كي يتم بذلك ما أريد لهم من البقاء ، وعنهم من تأخير مدة الفناء.

[طبقات حياة الخلق]

وكذلك (٧) هم في الخلق ، مجرون في طبق بعد طبق ، مصرفون (٨) مدة بقائهم ، بين

__________________

(١) سقط من (ب) : مثل.

(٢) سقط من (أ) : كان.

(٣) في (ب) و (د) : المخلوق.

(٤) سقط من (ب) : من.

(٥) العبارة مستغلقة ويبدو أن هنا سقطا في الكلام.

(٦) في (أ) : الجوامع.

(٧) في (ب) و (د) : كذلك.

(٨) في (أ) : مصرفون في مدة. وفي (ج) : مصروفون من مدة. وفي (د) : مصرفون من مدة.

طبقات ثلاث إلى حين فنائهم ، لا يخلون منها ، ولا منصرف لهم عنها.

أما الأولى منها : فطبقة التربية.

وأما (١) الثانية : فطبقة اعتمال الأغذية.

والثالثة : فاكتساب الحسنة والسيئة.

فهم في أولى طبقاتهم مكتفون بالآباء ، وفي الثانية مستغنون عنهم بالاكتفاء ، مؤدبون على (٢) المعرفة بحد الأغذية والبذور ، والفرق بين الضارّ والنافع فيها من الأمور. والثالثة فمحتاجون ما كانوا فيها ، وعند أول مصيرهم إليها ، إلى مرشد ودليل ، ذي عقاب وتنكيل ؛ ليكون (٣) ما أريد بهم من البقاء ، وخلقوا له من عمارة الدنيا ، وذلك عند بلوغ قوة الاحتلام ، وحركة شهوة ملامسة الإلمام ، لما بني عليه الناس من شهوة النساء ، لما في ذلك من زيادة النسل والنماء.

وكل ذلك من اعتمال الأغذية ، وما خصّ به الإنسان من الشهوة في البنية ، فلا بد فيه ، وفي الدلالة عليه ، من مرشد معرّف ، ومحدّد موقّف ؛ لأنه لو ترك الناس في الغذاء ، وما ركّبوا عليه من شهوة النساء ، بغير حد معروف ، ولا فرض عزم موصوف ، لم يكن أحد بمعتمله ، وما ملّكه الله من أهله ، أولى عند المكابرة من أحد ، إذا ولما فرّق بين سيّد وعبد ، ولو كان ذلك كذلك ، لصير به إلى الفناء والمهالك ، ولما أنسل ولا اغتذى ضعيف مع قوي ، ولا سلم رشيد من الخلق مع غوي ، ولبطلت الأشياء ، وفسدت الدنيا ، ولكنه جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، جعل للناس في البديّ والدا ، وحد لهم به في الأشياء حدا ، أدّبهم جميعا عليه ، ونهاهم عن المخالفة له فيه.

__________________

(١) سقط من (ب) : أما.

(٢) في (أ) و (ج) : بالأكفياء. ويبدو أنها مصحفة. وفي (ب) : في المعرفة.

(٣) في (ب) و (د) : لكون.

[حكمة التشريع]

ثم جعل للمتأدبين فيه بأدبه ثوابا ، وعلى المخالفين إلى ما نهاهم (١) عنه عقابا ، فكان كل إنسان أولى بمعتمله (٢) ، وأحق بما ملكه الله من أهله ، ولو تركوا فيه بغير إبانة دليل ، أو كانوا (٣) خلّوا في خلاف له من التنكيل ، لوثب بعضهم فيه على بعض ، ولفني أكثر من في الأرض ، لما يقع في ذلك من الحروب ، واغتصاب النساء والنهوب ، ولكان في ذلك لو كان من الفساد ، في معرفة الرحم والأولاد ، ما يقطع تعاطف الرحمة ، وما جعله الله سببا للنسل والتربية ، إذ لا يعرف والد ولدا ، ولكنه وضع للنكاح في ذلك حدا ، بيّن كنهه ومداه ، ونهى كل امرؤ أن يتعداه ؛ ليعرف كل إنسان ولده فيغذوه ، وتعطفه رأفة الأبوة عليه فلا يجفوه ولا يعدوه ، وكذلك ليتم ما أريد بالناس من التناسل والبقاء ، إلى غاية ما قدر لهم ودبّر (٤) من الانتهاء.

وإذا كان ـ الناس على ما ذكرنا مأمورين في الغذاء ، ومحدودة (٥) لهم وعليهم الحدود في مناكحة النساء ـ لم يكن لهم أن يتناولوا (٦) من ذلك شيا ، رفيعا كان منه أو دنيّا ، إلا على ما جعل الله لهم ، وقدّر بحكمه (٧) بينهم. وإذا كان ذلك كذلك ، وحكم الله فيه بما حكم به من ذلك ، لم ينل طالب منهم مطلوبه ، ولم يدرك محب فيه محبوبه ، إلا بشديد معاناة ، وعسير مقاساة ، من العلاج (٨) والاعتمال ، وحركة كسب الأموال ، التي بها يوصل إلى مطلوب الغذاء ، ويوجد السبيل إلى محبوب مناكحة النساء. ثم ليس

__________________

(١) في (ب) : إلى ما نهاهم. مصحفة. وفي (د) : إلى ما نهى عنه.

(٢) في (ب) و (د) : بمتعلمه. مصحفة.

(٣) في (أ) : وكانوا.

(٤) سقط من (ب) : ودبّر.

(٥) في (ب) : محدوده.

(٦) في (ب) : ينالوا.

(٧) في (أ) و (ج) و (د) : حكمه.

(٨) العلاج : المحاولة.

لهم تناول معتمل ، ولا حركة في عمل ، حرم تناوله عليهم ، أو حكم بخلافه فيهم.

ثم إذا صاروا إلى النكاح على ما أمروا به إلى الحد ، لم يلبثوا أن يصيروا إلى عيال وولد ، يحتاجون لهم إلى أقوات (١) التغذية ، وأنواع ضروب متاع التربية ، مع حاجتهم للأولاد والأنفس ، إلى ما يحصنهم من الحر والبرد من الملبس ، وما يستر عورات الرجال والنسوان (٢) ، وما يظلهم من سواتر الأكنان ، وما يحتاجون إليه من اتخاذ الأبنية ، وما لا بدّ لهم منه (٣) من أمتعة الأفنية ، وكل ذلك من حوائج الإنس ، يدخل فيه منهم (٤) أشد التنافس ، لما يعم جميعهم من الحاجة إليه ، ولظاهر ما لهم من المنافع فيه ، فلا بد في كله ، وجميع ضروب معتمله ، من أن يقاموا فيه على حد معلوم ، وأن يلزمهم فيه فرض حكم معزوم ، وإلا اقتتلوا عليه وتواثبوا ، وتناهبوا فيه واغتصبوا ، وفنوا (٥) فلم يبقوا ، وصاروا إلى خلاف ما له خلقوا.

ولمّا كانوا إلى ما ذكرنا مضطرين ، وفي أصل الفطرة عليه مفطورين ، تفرقوا في أنواع الصناعات ، واحتالوا للمكسب (٦) بضروب البياعات ، فلم يكن لهم عند ذلك بد في البديّ الأول من معلّم يقوم عليهم ، ويبين لهم أقدار مواقع مصالح ذلك فيهم ؛ ليتعاملوا بها وعليها ، ويصيروا إلى مصالحهم فيها ، وإلا فسدوا وفنوا (٧) ، وهلكوا ولم يبقوا.

[صفات المرشد ووجوب الثواب والعقاب]

ثم لا بدّ لمعلمهم ، ولولي (٨) أدب تعليمهم ، من أن يكون عالما بجهات منافع الأشياء،

__________________

(١) في (ب) : قوت.

(٢) في جميع المخطوطات : عورات النساء والرجال. وما أثبت اجتهاد لأنه أوفق لكلام الإمام.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : منه.

(٤) في جميع المخطوطات : حوائج الإنسان. وما أثبت اجتهاد. وسقط من (ب) : منهم.

(٥) في (أ) : أو فنوا. وفي (ج) : أو فنيوا.

(٦) في (ب) و (د) : للمكتسب.

(٧) في (أ) و (ج) : وفنيوا.

(٨) في (ب) و (د) : وولي.

مأمونا عليهم في الدين والدنيا ، لأنه إذا (١) كان على غير ذلك كان مثلهم ، يسيء ويجهل في الأمور جهلهم ، ثم لا يكون مع هذا يجب عليهم اتباعه ، وقبول ما تقدم من أمره واستماعه ، مع ما يدعوهم إليه من الكف عن كثير مما يحبون ، ويأمرهم به من الدخول في كثير مما يكرهون ، إلا بأن يكون لهم في خلافه مخوفا بعقاب ، وفي الانتهاء إلى معهود أمره موجبا لثواب.

وذلك أنه لا يكون أن ينقادوا له ، حتى يؤدبهم ويقبلوا قوله ، إلا بافتراق درجة المطيع والعاصي ، وتباين مكان المحسن عنده والمسيء ، وذلك فما لا يدخله (٢) تفرّق ، ولا يفرق بينه مفرّق ، إلا من حيث قلنا ، وعلى ما مثلنا.

[معجزات الأنبياء]

ولا يكون مخوفا للعاصي بعقابه ، ولا داعيا للمطيعين إلى ثوابه ، إلا بدلائل أعلام بينة ، تفرّق بين المدعي منزلته وبينه ، ولا يجوز أن تكون أعلامه (٣) مما يقدر على مثلها ، فلا يؤمن على فعلها وممكن نيلها ، مدّعي منزلته ظلما وعدوانا ، وفسقا وطغيانا. ولا تكون الدلالة عليها ، وشاهد علم الإبانة فيها ، إلا من الله لا يحدث غير الله خلقها ، ولا يحسن سوى من هي عليه دلالة تخلّقها (٤) ، وكانت من الله كغيرها ، من دلائله في ضوء منيرها ، وإسفار نور مبينها ، وإبانتها من الأئمة بعينها ، وانقطاع عذر المعتلّين على الله في رفضها ، بعقد لو كان منهم لما نصب من علم دلائل فرضها.

وكذلك فعل الله بالرسل صلوات الله عليها وأوصيائها ، وإبانتهم (٥) من غيرهم بنور دلائله وضيائها.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : إن.

(٢) في (ب) : مدخل له بفرق.

(٣) في (أ) : علامه. وفي (ج) : علامة.

(٤) في (ب) : بخلقها. وفي (أ) و (ج) : يخلقها.

(٥) في (ب) : وأبانهم بغيرهم.

ثم فرق جل ثناؤه بين الرسل والأوصياء ، ومن يحدث بعدهم من خلفاء الأنبياء ، في علم الدلائل والحجج ، بقدر ما لهم عند الله من الدرج ، فجعل دلائل المرسلين ، وشاهد أعلام النبيين ، أكبر (١) بيانا ، وأقوى سلطانا ، وأفلج في الحجة للمستكبرين ، وأقطع لأعاليل عذر المعتذرين.

فكان من ذلك عجائب موسى صلى الله عليه ، في فلق الله له ولمن كان معه (٢) البحر وممرهم فيه ، إلى ما كان من (٣) قبل ذلك من عجيب آياته ، وما أرى المصريين (٤) من فعلاته ، في الضفادع والقمل والدم ، وما يعظم قذر مبلغه على كل معظّم.

وعجائب عيسى عليه‌السلام (٥) ، التي كانت تضل في أصغرها الأحلام (٦) ، من إحيائه الموتى ، وإبرائه للكمه (٧) والبرصى ، وإنبائه لهم بما يأكلون وما يدخرون ، وإخباره لهم عن كثير مما يضمرون.

ثم آيات محمد صلى الله عليه ، وما نزّل من حكمة وحيه إليه ، التي لم يقو لمكافاته فيها من أضداده ضد ، ولم يكن لحكيم منصف عند سماعها من قبولها بد ، مع عجيب آياته ، في الشجر (٨) وإجابته ، (٩) وما كان من شأن الشاة المسمومة ، (١) وإنبائه بسرائر

__________________

(١) في (ب) : أكثر.

(٢) في (ب) : معه من البحر.

(٣) سقط من (ب) : من.

(٤) في (أ) و (ج) : المصرين.

(٥) في جميع المخطوطات : صلى الله عليه. وما أثبت اجتهاد.

(٦) الأحلام : العقول.

(٧) الكمه : جمع أكمه. وهو الذي يولد أعمى.

(٨) في (ب) : السحر. مصحفة.

(٩) عن ابن عمر قال كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم في سفر فأقبل أعرابيّ فلمّا دنا منه قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم أين تريد قال إلى أهلي قال هل لك في خير قال وما هو قال تشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأنّ محمّدا عبده ورسوله قال ومن يشهد على ما تقول قال هذه السّلمة فدعاها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم وهي بشاطئ الوادي فأقبلت تخدّ الأرض خدّا حتّى قامت بين يديه فاستشهدها ثلاثا فشهدت ثلاثا أنّه كما قال ثمّ رجعت إلى منبتها ـ

نجوى الغيوب المكتومة ، (٢) وإطعامه من قبضة كف ، لأكثر من ألف وألف (٣).

__________________

ـ ورجع الأعرابيّ إلى قومه وقال إن اتّبعوني أتيتك بهم وإلّا رجعت فكنت معك. أخرجه الدارمي برقم (١٦). وأخرج أيضا برقم (٢٤) عن ابن عبّاس قال أتى رجل من بني عامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال رسول الله صلّى اللهم عليه وسلّم ألا أريك آية قال بلى قال فاذهب فادع تلك النّخلة فدعاها فجاءت تنقز بين يديه قال قل لها ترجع قال لها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارجعي فرجعت حتّى عادت إلى مكانها فقال يا بني عامر ما رأيت رجلا كاليوم أسحر منه.

(١) في ما كان من خبر خيبر ومصالحته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لليهود ، فلما اطمأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أهدت له زينب بنت الحارث ، امرأة سلام بن مشكم ، شاة مصلية ـ مشوية ـ وقد سألت أي عضو من الشاة أحب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقيل لها : الذراع ؛ فأكثرت فيها من السم ، ثم سمت سائر الشاة ، ثم جاءت بها ، فلما وضعتها بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تناول الذراع فلاك منها مضغة ، فلم يسغها ، ومعه بشر بن البراء بن معرور ، قد أخذ منها كما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ فأما بشر فأساغها ، وأما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفظها ، ثم قال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم ، ثم دعا بها ، فاعترفت ، فقال : ما حملك على ذلك؟ قالت : بلغت من قومي ما لم يخف عليك ، فقلت : إن كان ملكا استرحت منه ، وإن كان نبيا فسيخبر. قال : فتجاوز عنها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومات بشر من أكلته التي أكل. أخرجه الدارمي في السنن ١ / ٣٣.

(٢) مثل إخبار أمير المؤمنين أنه سيقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين.

(٣) عن جابر قال عملنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخندق وكانت عندي شويهة سمينة فقلنا والله لو صنعناها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمرت امرأتي فطحنت شيئا من شغير ، وصنعت لنا منه خبزا ، وذبحت تلك الشاة فشويناها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما أمسينا وأراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الانصراف عن الخندق ، وكنا نعمل فيه نهارا فإذا أمسينا رجعنا ، قال فقلت : يا رسول الله إني قد صنعت لك شويهة كانت عندنا ، وصنعنا شيئا من هذا الشعير خبزا ، فأحب أن تنصرف معي إلى منزلي وإنما أريد أن ينصرف معي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده ، فلما قلت له ذلك قال : نعم. ثم أمر صارخا فصرخ أن ينصرفوا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إلى بيت جابر ، قال : فقلت : إنا لله وإنا إليه راجعون ، فأقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقبل الناس معه فجلس وأخرجناه إليه. قال : فبرّك وسمى وأكل ، وتواردها الناس كلما فرغ قوم قاموا ، وجاء ناس حتى صدر أهل الخندق عنها وهم ثلاثة آلاف. أخرجه أبو طالب في الأمالي / ٢٠.

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال لمّا حفر الخندق رأيت بالنّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم ـ

فبانت الرسل صلوات الله عليهم (١) ، من الأوصياء بما جعل الله من هذه الدلائل لهم وفيهم ، وبانت الأوصياء من الأئمة ، بما خصها (٢) الله به من التسمية ، وبما كان يعرف لها عند رسلها من المنزلة ، وما كانت الرسل تنبئها به من أقوال التفضيلية ، كنحو ما جاء في علي عليه‌السلام عن الرسول صلى الله عليه (٣) ، وما كان في أقواله المشهورة

__________________

ـ خمصا شديدا فانكفأت إلى امرأتي فقلت هل عندك شيء فإنّي رأيت برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم خمصا شديدا فأخرجت إليّ جرابا فيه صاع من شعير ولنا بهيمة داجن فذبحتها وطحنت الشّعير ففرغت إلى فراغي وقطّعتها في برمتها ثمّ ولّيت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم فقالت لا تفضحني برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم وبمن معه فجئته فساررته فقلت يا رسول الله ذبحنا بهيمة لنا وطحنّا صاعا من شعير كان عندنا فتعال أنت ونفر معك فصاح النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال يا أهل الخندق إنّ جابرا قد صنع سورا فحيّ هلا بهلّكم فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنزلنّ برمتكم ولا تخبزن عجينكم حتّى أجيء فجئت وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلّم يقدم النّاس حتّى جئت امرأتي فقالت بك وبك فقلت قد فعلت الّذي قلت فأخرجت له عجينا فبصق فيه وبارك ثمّ عمد إلى برمتنا فبصق وبارك ثمّ قال ادع خابزة فلتخبز معي واقدحي من برمتكم ولا تنزلوها وهم ألف فأقسم بالله لقد أكلوا حتّى تركوه وانحرفوا وإن برمتنا لتغطّ كما هي وإنّ عجيننا ليخبز كما هو. أخرجه البخاري برقم (٣٧٩٣) ، ومسلم في باب الأشربة برقم (٣٨٠٠).

(١) في (ب) و (د) : عليها.

(٢) في (ب) : جعل.

(٣) عن محمد بن موسى الطوسي قال : سمعت أحمد بن حنبل يقول : ما جاء لأحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الفضائل ما جاء لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام. أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٠٧. وقال في الاستيعاب ٢ / ٤٦٦ : وقال أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق القاضي : لم يرو في فضائل أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما روي في فضائل علي بن أبي طالب عليه‌السلام. وذكر ذلك ابن حجر في صواعقه / ٧٢ ، والعسقلاني أيضا في فتح الباري ٨ / ٧١ ، والشبلنجي في نور الأبصار ٧٣ ، وزادا على المذكورين ـ أي على أحمد بن حنبل وإسماعيل بن إسحاق ، والنسائي ـ أبا علي النيسابوري. وقال في الإمامة والسياسة / ٩٣ : وذكروا أن رجلا من همدان يقال له برد قدم على معاوية فسمع عمرا يقع في علي عليه‌السلام ، فقال له : يا عمرو إن أشياخنا سمعوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من كنت مولاه فعلي مولاه ، فحق ذلك أم باطل؟ فقال عمرو حق ، وأنا أزيدك أنه ليس أحد من صحابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له مناقب مثل ـ

المعلومة (١) فيه ، كقوله : (من كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه) (٢).

__________________

ـ مناقب علي ففزع الفتى.

(١) في (أ) : المعلومة المشهورة.

(٢) هذا الحديث يعرف بحديث الغدير ، وهو من أكثر الأحاديث شهرة ، فقد رواه مئات من المحدثين عن جمع من الصحابة منهم :

الإمام علي عليه‌السلام ، أخرجه عنه : الإمام أبو طالب في الأمالي ٣٣ ، والنسائي في الخصائص ١٥٦ ، وأحمد في المسند ١ / ١٥٢ ، وأبو يعلى ١ / ٤٢٨ (٥٦٧) ، والطبراني في الصغير ١ / ١١٩ ، والطيالسي ٢٣ (١٥٤) ، والطبري في ذخائر العقبى ٦٨ ، والرياض النضرة ٢ / ١٦١.

وعن ابن عباس ، أخرجه عنه : الحاكم ٣ / ١٣٢ ، وأحمد ١ / ٣٣ ، والنسائي في الخصائص ٤٥ رقم (٨١ و ٨٢) ، والخطيب البغدادي ١٢ / ٣٤٤ ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.

وعن زيد بن أرقم ، أخرجه عنه : أحمد ٤ / ٣٦٨ و ٣٧٠ ، ومسلم ٢ / ٣١٧ ، والحاكم ٢ / ١٠٩ ، والنسائي في الكبرى ٥ / ٤٥ (٨١٤٨) ، والطبراني في الأوسط ٢ / ٥٧٦ (١٩٨٧) ، والطبري في ذخائر العقبى / ١٥٥.

وعن البراء بن عازب ، أخرجه عنه : الحافظ محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ٢ / ٣٦٨ (٨٤٤) ، وابن ماجة ١ / ٤٣ برقم (١١٦) ، والنسائي في الخصائص ١٦٢ ، والخطيب البغدادي ١٤ / ٢٣٦ ، والطبري في الذخائر ٦٧ ، وأحمد في المسند ٤ / ٢٨١.

وعن أبي الطفيل عامر بن واثلة ، أخرجه عنه : أحمد ١ / ١١٨ ، والنسائي في الخصائص ١٥٠ ، وابن حبان ١٥ / ٣٧٥ (٦٩٣١) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٠٩ و ١١٠ و ٥٣٣ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٩٢٥ و ٥ / ٢١٧ ، والهيثمي في المجمع ٩ / ٤٢.

وعن سعد بن أبي وقاص ، أخرجه عنه : ابن ماجة ١ / ٤٢ برقم (١١٥) وص ٤٥ برقم (١٢١) ، والنسائي في الخصائص ١٧٦ برقم (٩٤ و ٩٥) وص ١٧٧ برقم (٩٦) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١١٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٠٧.

وعن جرير بن عبد الله ، أخرجه عنه : الطبراني في الكبير ٢ / ٣٥٧ (٢٥٠٥).

وعن حبشي بن جنادة ، أخرجه عنه : الطبراني في الكبير ٤ / ١٦ (٣٥١٤).

وللحديث طرق كثيرة يطول الكلام عليها ، وفيما يلي سنذكر شيئا مما قيل عن الحديث :

قال ابن المغازلي الشافعي في (المناقب / ٢٧) : قال أبو القاسم الفضل بن محمد : هذا حديث صحيح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد روي عن نحو من مائة نفس منهم العشرة ، وهو حديث ثابت لا أعرف له علة.

__________________

قال الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة في (الشافعي ١ / ١١٧) : لا يوجد قط نقل بطرق بقدر هذه الطرق ، فيجب أن يكون أصلا متبعا وطريقا مهيعا.

قال الإمام الحسن بن بدر الدين في (أنوار اليقين / مخطوط) : أما خبر الغدير فقد روي بطرق مختلفة وأسانيد كثيرة وألفاظ مختلفة مترادفة على معنى واحد ، وأجمع عليه أهل النقل ، وبلغ حد التواتر لا إشكال في تواتره.

وقال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري ٧ / ٦١) : وأما حديث : (من كنت مولاه فعلي مولاه).

أخرجه الترمذي والنسائي ، هو كثير الطرق جدا وقد استوعبها ابن عقدة في كتاب مفرد وكثير من أسانيدها صحاح وحسان.

وقال الذهبي في (تذكرة الحفاظ ٢ / ٧١٣) : رأيت مجلدا من طرق الحديث لابن جرير فاندهشت له ولكثرة تلك الطرق.

وقال أيضا في (تذكرة الحفاظ ٣ / ٢٣١) : وأما حديث من كنت مولاه فعلي مولاه فله طرق جيدة وقد أفردت ذلك أيضا ـ يعني في كتاب.

وقال الحافظ : محمد بن إبراهيم الوزير : إن حديث الغدير يروى بمائة طريق وثلاث وخمسين طريقا.

وقال السيد الهادي بن إبراهيم الوزير في (نهاية التنويه / مخطوط) : من أنكر خبر الغدير فقد أنكر ما علم من الدين ضرورة ، لأن العلم به كالعلم بمكة وشبهها ، فالمنكر سوفسطائي.

وقال ابن الجزري في (أسنى المطالب / ٤٣) : هو حديث متواتر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رواه الجم الغفير عن الجم الغفير ولا عبرة بمن حاول تضعيفه ممن لا اطلاع له في هذا العلم.

وقال المقبلي في (الأبحاث المسددة / ٢٤٤) : فإن كان مثل هذا ـ يعني حديث الغدير ـ معلوما وإلا فما في الدنيا معلوم.

وقال ابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة / ٤٢) : حديث صحيح لا مرية فيه ، وقد أخرجه جماعة كالترمذي والنسائي وأحمد ، وطرقه كثيرة من أسانيدها صحاح وحسان ، ولا التفات إلى من قدح في صحته.

وقال علي القاري في (المرقاة شرح المشكاة ٥ / ٥٦٨) : هذا الحديث صحيح لا مرية فيه ، بل بعض الحفاظ عده متواترا.

وقال ابن الأمير الصنعاني في (الروضة الندية / ٦٧) : حديث الغدير تواتر عند أكثر أئمة الحديث.

وأورده السيوطي في (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة / ١) : عن ثمانية عشر صحابيا.

وأورده الكتاني في (نظم المتناثر في الحديث المتواتر).

وذكره الحناوي في كتاب (الصفوة) وصرح بتواتره.

وذكره الزبيدي في (لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة / ٢٠٥) من اثنتين وعشرين طريقا. ـ

وكقوله : (أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي) (١). و (أنت قاضي ديني ومنجز وعدي) (٢).

مع ما يكون عند الأوصياء ، من علم حوادث الأشياء ، وما يلقون بعد الأنبياء ، من شدائد كل كيد ، ودول كل جبار عنيد ، خبرا خاصا من الأنبياء ، لمن يخلفهم بعدهم من الأوصياء ، كنحو ما ألقى الله تعالى إلى الرسول من شأن علي وإخباره ، وتناول المرادي (٣) له بما تناوله به من

__________________

وأورده الأميني في كتاب (الغدير ١ / ١٤ ـ ١٥١) عن مائة وعشرة من الصحابة. وأفرد قسما لطبقات رواته الذين بلغ عددهم عنده ثلاث مائة وستين عالما. من تخريج الأستاذ محمد عزان.

(١) أخرجه الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) في المجموع ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، والإمام الهادي (ع) في الأحكام ١ / ٣٨ ، والإمام أبو طالب في أماليه ٣٢ ، ٣٥ ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (٤١٩) ، والمؤيد بالله في الأمالي الصغرى ١٠٤ (٢٠) ، والبخاري ٥ / ٩٩ و ٦ / ١٨ ، ومسلم ٤ / ١٨٧٠ (٢٤٠٤) ، والترمذي ٥ رقم (٣٧٣١) ، وابن ماجة ١ / ٤٢ رقم (١٧٥) و ١ / ٤٥ رقم (١٢١) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٠٩ ، والبزار ٣ / ٢٧٦ رقم (١٠٦٥) ، والحميدي في مسنده ١ / ٣٨ رقم (٧١) ، وأحمد بن حنبل ١ / ١٧٧ و ١ / ١٧٩ ، وأبو يعلى في مسنده ٢ / ٨٦ رقم (٧٣٩) ، و ٦٦ رقم (٧٠٩) و (٦٩٨) ، أبو نعيم في حلية الأولياء ٧ / ١٩٦ ، والخطيب البغدادي ١ / ٣٢٥ ، والطبراني في الكبير ١ / ١٤٨ رقم (٣٣٧) ، وفي الصغير ٢ / ٢٢ ، وابن الأثير ٤ / ٢٦ ٢٧ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ١ / ٢١٦ رقم (٣٤٩) (ترجمة الإمام علي عليه‌السلام) ، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه الإمام المرشد بالله في الخميسية ١ / ١٣٤ ، والطبراني ٢ / ٢٤٧ (٢٠٣٥) عن جابر بن عبد الله.

وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة عن عشرين من الصحابة ، وتتبع ابن عساكر طرقه فبلغ عدد الصحابة نيفا وعشرين ، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في نحو عشرين ورقة ، وأورده في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ٣١. من تخريج الأستاذ محمد عزان. والطبري في ذخائر العقبى / ٦٣ ، وفي صفة الصفوة ١ / ١٢٠ ، وفي الإصابة ٢ / ٣١٥ ، وابن عدي ٦ / ٦٠٨٨ ، و ٢٢٢٢.

(٢) أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ٢ / ٤٣٢ رقم (٣٣٦) ، ٢ / ٣٨٢ رقم (٣٠٠) ، ٢ / ٣٨٤ رقم (٣٠١) ، ٢ / ٣٩٧ رقم (٣٢١).

وأخرجه أحمد في مسنده ١ / ١١١ ، والطبري في الرياض النضرة ٢ / ١٦٨ ، وأبو نعيم في الحلية ١٠ / ٢١١ ، وابن سعد في الطبقات ٢ / ٨٩. ورواه في كنز العمال ٦ / ٤٠٣ ، والهيثمي في المجمع ٩ / ١١٣ ، ٩ / ١٢١ ، ٩ / ١٣٨ ، وأخرجه النسائي في الخصائص / ٤ والمناوي في كنوز الحقائق / ٩٢. وقال أخرجه الديلمي.

(٣) في (ب) : وتنال. وعبد الرحمن بن ملجم المرادي الحميري من أشداء الفرسان أدرك الجاهلية ، وهاجر في خلافة عمر وكان من شيعة علي عليه‌السلام ، وشهد معه صفين ، ثم خرج عليه ، غدر بالإمام عليه‌السلام وضربه بالسيف قبل صلاة الفجر ليلة التاسع عشر من رمضان سنة (٤٠ ه‍) وتوفي ـ

ختله (١) واغتراره ، (٢).

__________________

ـ الإمام عليه‌السلام إثر الضربة في اليوم الحادي والعشرين من رمضان ، فقتل المرادي آخر ذلك اليوم وعجل بروحه إلى النار ، لعنة الله عليه.

(١) سقط من (أ) : به. والختل : الغدر.

(٢) وعن حبان الأسدي سمعت عليا عليه‌السلام يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الأمة ستعذر بك بعدي وأنت تعيش على ملتي وتقتل على سنتي من أحبك أحبني ، ومن أبغضك أبغضني ، وإن هذه ستخضب من ستخضب من هذا يعني لحيته من رأسه قال الحاكم : صحيح. المستدرك ٣ / ١٤٢.

وعن ابن أبي فضالة قال خرجت مع أبي إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام بينبع عائدا له وكان مريضا ثقيلا يخاف فقال له أبي : ما يقيمك بهذا المنزل لو هلكت؟ لم يلك إلا أعراب جهينة فاحتمل إلى المدينة فإن أصابك أجلك وليك أصحابك وصلوا عليك ، وكان أبو فضالة ممن شهد بدرا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال له علي عليه‌السلام : لست ميتا من وجعي هذا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد إلي أن لا أموت حتى أؤمر ثم تخضب هذه من هذه يعني لحيته من هامته. الاستيعاب ٢ / ٦٨١.

وعن زبيد بن وهب قال : جاء رأس من الخوارج إلى علي عليه‌السلام فقال : اتق الله فإنك ميت فقال : لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ، ولكني مقتول من ضربة من هذه تخضب هذه وأشار بيده إلى لحيته ، عهد معهود وقضاء مقضي وقد خاب من افترى. الطيالسي ١ / ٢٣.

وعن سكين ابن عبد العزيز العبدي أنه سمع أباه يقول : جاء عبد الرحمن بن ملجم يستحمل عليا عليه‌السلام فحمله ثم قال :

أريد حياته ويريد قتلي

عذيري من خليلي من مرادي

أما إن هذا قاتلي ، قيل : فما يمنعك منه؟ قال : أنه لم يقتلني. رواه ابن عبد البر في استيعابه ٢ / ٤٧٠ ، وذكره المحب الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٤٥ ، وزاد في آخره : وقيل له : إن ابن ملجم يسم سيفه وقال : إنه سيقتلك به قتلة يتحدث بها العرب ، فبعث إليه وقال لم تسم سيفك؟ قال : لعدوي وعدوك. فخلى عنه ، وقال : ما قتلني بعد ، قال : أخرجه أبو عمرو.

قال : فلما كانت الليلة التي قتل في صبيحتها أكثر الخروج يعني عليا عليه‌السلام والنظر إلى السماء وجعل يقول : والله ما كذبت ولا كذبت وأنها الليلة التي وعدت فلما خرج وقت السحر ، ضربه ابن ملجم الضربة الموعود بها ... الصواعق المحرقة / ٨٠.

وفي آخر حديث له قال فيه : ... ثم قال : ألا أحدثكما بأشقى الناس رجلين؟ قلنا : بلى يا رسول الله قال : أحيمر ثمود الذي عقر الناقة والذي يضربك على هذه ووضع يده على قرنه حتى يبل منها هذه ـ

وخبره له عن طلحة (١) والزبير وعائشة ومعاوية (٢) ،

__________________

ـ وأخذ بلحيته. خصائص النسائي / ٣٩ ، ورواه أحمد بن حنبل ٤ / ٢٦٢ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٠ ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ٣٥١ ، وابن جرير الطبري في تاريخه ٢ / ١٢٣ بطريقين ، والمتقي في كنز العمال ٦ / ٣٩٩ ، وقال : أخرجه البغوي والطبراني وابن مردويه وأبو نعيم وابن عساكر وابن النجار.

وعن سعيد بن المسيب قال : رأيت عليا عليه‌السلام على المنبر وهو يقول : لتخضبن هذه من هذه وأشار بيده إلى لحيته وجبينه فما حبس أشقاها؟ فقلت : لقد ادعى علي عليه‌السلام علم الغيب ، فلما قتل علمت أنه قد كان عهد إليه. كنز العمال ٦ / ٤١٢ ، قال : أخرجه ابن عساكر.

(١) يراجع فضائل الخمسة ٢ / ٣.

(٢) عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام : تقاتل الناكثين والقاسطين بالطرقات والنهروانات وبالسعفات. قال أبو أيوب : قلت : يا رسول الله مع من نقاتل هؤلاء الأقوام؟ قال : مع علي بن أبي طالب. المستدرك ٣ / ١٣٩.

وعن علقمة والأسود قالا : أتينا أبا أيوب الأنصاري عند منصرفه من صفين فقلنا له : يا أبا أيوب إن الله أكرمك بنزول محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبمجيء ناقته تفضلا من الله وإكراما لك حتى أناخت ببابك دون الناس ، ثم جئت بسيفك على عاتقك تضرب به أهل لا إله إلا الله ، فقال : يا هذا إن الرائد لا يكذب أهله ، وإن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرنا بقتال ثلاثة مع علي عليه‌السلام بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، فأما الناكثون فقد قاتلناهم أهل الجمل طلحة والزبير ، وأما القاسطون فهذا منصرفنا من عندهم ـ يعني معاوية وعمرا ـ وأما المارقون فهم أهل الطرقات وأهل السعيفات وأهل النخيلات وأهل النهروانات ، والله ما أدري أين هم ولكن لا بد من قتالهم إن شاء الله. قال : وسمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول لعمار : تقتلك الفئة الباغية وأنت إذ ذاك مع الحق والحق معك ، يا عمار بن ياسر إن رأيت عليا قد سلك واديا وسلك الناس واديا غيره فاسلك مع علي ، فإنه لن يدليك في ردى ولن يخرجك من هدى ، يا عمار من تقلد سيفا أعان به عليا على عدوه قلده الله يوم القيامة وشاحين من در ، ومن تقلد سيفا أعان به عدو عليّ عليه قلده الله يوم القيامة وشاحين من نار ، قلنا : يا هذا حسبك رحمك الله حسبك رحمك الله. تاريخ بغداد ١٣ / ١٨٦ ، وذكره المتقي في كنز العمال / ١٥٥ ، وقال فيه : لن يدلك على ردى ولن يخرجك من الهدى ، (قال) : أخرجه الديلمي عن عمار بن ياسر وعن أبي أيوب.

وعن علي بن ربيعة قال : سمعت عليا عليه‌السلام على منبركم هذا يقول : عهد إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين. أسد الغابة ٤ / ٣٣.

وعن ابن مسعود قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة فجاء علي عليه‌السلام فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا أم سلمة هذا والله قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي ، قال : أخرجه الحاكم في الأربعين وابن عساكر. كنز العمال ٦ / ٣١٩ ، وذكره المحب ـ

وما كان علي (١) ينادي به في خطبه من دولة بني أمية ، (٢) وما كان يخبر به من عجيب

__________________

ـ الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٤٠ وقال : أخرجه الحاكم.

وعن أم سلمة قالت : ذكر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خروج بعض أمهات المؤمنين فضحكت عائشة ، فقال : انظري يا حميراء أن لا تكوني أنت ... الحديث. المستدرك ٣ / ١١٩.

وعن قيس بن أبي حازم ، قال : لما بلغت عائشة بعض ديار بني عامر نبحت عليها الكلاب فقالت : أي ماء هذا؟ قالوا : الحوأب ، قالت : ما أظني إلا راجعة ، فقال الزبير : لا بعد ، تقدمي ويراك الناس ويصلح الله ذات بينهم ، قالت : ما أظني إلا راجعة ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب. أخرجه ابن حبان ١٥ / ١٢٦ (٦٧٣٢) ، وإسحاق بن راهويه في المسند ٣ / ٨٩١ (١٥٦٩) ، وأحمد ٦ / ٥٢ (٢٤٢٩٩) ، ٦ / ٩٧ (٤٤٦٩٨) ، وابن عدي في الكامل ٤ / ٣٢٠ (١١٥٢) ، وأبو يعلى ٨ / ٢٨٢ (٤٨٦٨) ، وابن حجر في الإصابة ٧ / ٧٠٨ (١١٣١٩). قال العسقلاني في فتح الباري ١٣ / ٥٧ (٦٦٣١) ، أخرج هذا أحمد وأبو يعلى والبزار وصححه ابن حبان والحاكم وسنده على شرط الصحيح. المستدرك ٣ / ١٢٠.

وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيتكن صاحبة الجمل الأدبب يقتل حولها قتلى كثير ، وتنجو بعد ما كادت؟ قال ابن عبد البر : وهذا الحديث من أعلام نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. الاستيعاب لابن عبد البر ٢ / ٧٤٥٠.

(١) سقط من (أ) و (ج) : علي.

(٢) قال الإمام علي عليه‌السلام (ألا وإن أخوف الفتن عندي عليكم فتنة بني أمية ، فإنها فتنة عمياء مظلمة ، عمت خطتها ، وخصت بليتها ، وأصاب البلاء من أبصر فيها ، وأخطأ البلاء من عمي عنها. وأيم الله لتجدن بني أمية لكم أرباب سوء بعدي ، كالناب الضروس ، تعذم بفيها ، وتخبط بيدها ، وتزبن برجلها ، وتمنع درها ، لا يزالون بكم حتى لا يتركوا منكم إلا نافعا لهم ، وغير ضائر بهم ، ولا يزال بلاؤهم عنكم حتى لا يكون انتصار أحدكم منهم إلا كانتصار العبد من ربه ، والصاحب من مستصحبه ، ترد عليكم فتنتهم شوهاء مخشية ، وقطعا جاهلية ، ليس فيها منار هدى ، ولا علم يرى) نهج البلاغة خطبة رقم (٩٣).

قال الإمام علي عليه‌السلام (والله لا يزالون حتى لا يدعوا لله محرما إلا استحلوه ، ولا عقدا إلا حلوه ، وحتى لا يبقى بيت مدر ولا وبر إلا دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم ، وحتى يقوم الباكيان يبكيان : باك يبكي لدينه ، وباك يبكي لدنياه ، وحتى تكون نصرة أحدكم من أحدهم كنصرة العبد من سيده ، إذا شهد أطاعه ، وإذا غاب اغتابه ، وحتى يكون أعظمكم فيها عناء ، أحسنكم بالله ظنا) نهج البلاغة خطبة رقم (٩٨).

قال الإمام علي عليه‌السلام (راية ضلال قد قامت على قطبها ، وتفرقت بشعبها ، تكيلكم بصاعها ، ـ

الأنباء ، ويقص على الناس من قصص الأنبياء ، (١) وما كان به باينا ، ولغيره فيه مباينا ، من بأس الإقدام في القتال ، ومنازلة مساعير (٢) الابطال ، التي كان يقل عليها إقدام المقدمين ، ويهاب اصطلاء نارها كثير من خيار المسلمين ، (٣) مع تأول أوليائه فيه لكثير من آي القرآن ، (٤) مع التي لا يشك من (٥) سبقه إلى الله فيها بالإيمان ، (٦) والله يقول جل

__________________

ـ وتخبطكم بباعها ، قائدها خارج من الملة ، قائم على الضلة ، فلا يبقى يومئذ منكم إلا ثفالة كثفالة القدر ، أو نفاضة كنفاضة العكم ، تعرككم عرك الأديم ، وتدوسكم دوس الحصيد ، وتستخلص المؤمن من بينكم استخلاص الطير الحبة البطينة من بين هزيل الحب) نهج البلاغة خطبة رقم (١٠٨).

(١) يرجع في هذا إلى نهج البلاغة.

(٢) المساعير : جمع مسعر. أي موقد الحرب.

(٣) ينظر في أخبار وأحداث بدر وأحد والأحزاب وخيبر وحنين وغيرها.

(٤) ما نزل في علي من القرآن :

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه ٦ / ٢٢١ ، عن ابن عباس ، قال : نزلت في علي عليه‌السلام ثلاثمائة آية. وروى أيضا ابن حجر في الصواعق المحرقة / ١٢٧ ، والشبلنجي في نور الأبصار عن ابن عباس وقالا : أخرجه ابن عساكر. وقال ابن حجر أيضا / ١٢٧ : وأخرج الطبراني وابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ما أنزل الله : يا أيها الذين آمنوا ، إلا وعلي أميرها وشريفها.

وقال ابن حجر أيضا / ١٢٧ : وأخرج ابن عساكر عن ابن عباس قال : ما نزل في أحد من كتاب الله تعالى ما نزل في علي.

وراجع إن شئت المزيد شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني ، وتفسير الحبري ، وتفسير فرات الكوفي ، ومناقب الكوفي ، ومناقب ابن المغازلي الشافعي ، وكفاية الطالب للكنجي ، والغدير للأميني وغيرها كثير كثير.

(٥) في (ب) : مع.

(٦) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قال : أولكم ورودا علي الحوض ، أولكم إسلاما علي بن أبي طالب.

أخرجه الحاكم ٣ / ١٣٦ ، والخطيب في تاريخه ٢ / ٨١. وابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٤٥٧.

عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنه قال لفاطمة عليها‌السلام : ما ترضين أني زوجتك أول المسلمين إسلاما ، وأعلمهم علما. وهو في كنز العمال ٦ / ١٣.

وفي مسند أحمد ٥ / ٢٦ ، والاستيعاب ٣ / ٣٦ ، والرياض النضرة ٢ / ١٤٩ ، مجمع الزوائد ٩ / ١٠١ ، وكنز العمال ٦ / ١٥٣ ، وقال أخرجه أحمد ، والطبراني ، والسيرة الحلبية ٢ / ١٩٤ ، وسيرة دحلان ١ /

ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) [الواقعة : ١٠ ـ ١١] (١). وكفى بهذه الآية لو لم يكن معها غيرها ، وبما بيّن عنه من وحي كتاب الله تنزيلها ، على الوصي دليلا ، وفي الدلالة عليه تنزيلا!! فكيف بكثير الدلائل عليه؟! ودواعي شواهد الوصية إليه ، من قوله جل ثناؤه : (لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنى وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٠) [الحديد : ١٠]. مع كثير آيات القرآن ، ودلائل وحي الفرقان ، من تفضيله له بمنازلة الأقران ، وسبقه إلى الله بكرامة الإيمان ، مع التي كان بها نسيج (٢) وحده ، وفيها (٣) مبائنا لجميع من كان في حده ، من جمة (٤) أغوار العلم ، (٥) ومعرفة أديان الأمم ، وفصل بيان اللسان ، ومعرفة

__________________

ـ ١٨٨ ، باختلاف يسير ، وأسد الغابة ٥ / ٥٢٠. وهو في تاريخ الطبري ٢ / ٧٥ ، وسنن البيهقي ٦ / ٢٠٦ وخصائص النسائي / ٣ ، والرياض النضرة ٢ / ١٥٧ ، والإصابة ١ / ١٦٧ ، وفيض القدير ٤ / ٣٥٨ ، وكنز العمال ٦ / ٣٩٣ ، بلفظ مختلف ومعنى واحد.

وانظر ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر.

(١) عن ابن عباس في قول الله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ). قال : سبق يوشع بن نون إلى موسى ، وسبق صاحب يس إلى عيسى ، وسبق علي إلى محمد.

أخرجه ابن المغازلي في المناقب / ٣٢٠ ، وابن كثير في البداية والنهاية ١ / ٢٣١. وفي تفسيره عند تفسير الآية. والذهبي في الميزان ١ / ٥٣٦ ، والخطيب الخوارزمي في المناقب / ٣٢. والبيهقي والهيتمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٠٢ ، وقال رواه الطبراني ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ٢١٩ ، وابن حجر في تهذيب التهذيب ٢ / ٣٣٧ ، في ترجمة الحسين الأشقر.

(٢) في (ب) و (د) : يسبح. مصحفة.

(٣) في (أ) : فيها. وفي (ب) : وبها.

(٤) في (أ) و (ج) : جده. والجم : الكثير من كل شيء.

(٥) حديث : (أنا مدينة العلم وعلي بابها). أخرجه الحاكم ٣ / ١٣٧ (٤٦٣٧) و (٤٦٣٨) ، ٣ / ١٣٨ (٤٦٣٩) ، والطبراني في الكبير ١١ / ٥٦ (١١٠٦١) ، والخطيب البغدادي ٤ / ٣٤٨ ، ورواه ابن الأثير في أسد الغابة ٤ / ٢٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦ / ١٥٢ ، والمناوي فيض القدير ٣ / ٤٦ ، وقالا : أخرجه العقيلي وابن عدي والطبراني والحاكم عن ابن عباس ، وابن عدي والحاكم عن جابر ، وزاد المناوي في الشرح فقال : وكذا أبو الشيخ في السنة. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١١٤ ، وابن حجر في التهذيب ٦ / ٣٢٠ ، ٧ / ٤٢٧ ، والطبري في الرياض النضرة ٢ / ١٩٣ ، والمناوي في كنوز ـ

أسرار القرآن ، وهذه خاصة من حالاته ، أحد أعلام الإمام (١) بعده ودلالته ، التي لا توجد وإن جهد ملتمسها ، ولا يقتبس إلا من إمام مقتبسها ، فجعل الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، ما قدمنا ذكره ، وأثبتنا في الحجة أمره ، من خاص دلائل الأوصياء ، كرامة خصهم بها بعد الأنبياء ، وأبانهم بها من الأئمة ، واحتج بها لهم على الأمة.

[دليل الإمامة]

ثم أبان الأئمة من بعدهم ، ودل الأمة فيهم على رشدهم ، بدليلين مبينين ، وعلمين مضيئين ، لا يحتملان لبس تغليط ، ولا زيغ شبهة تخليط ، لا يطيق خلقهما متقن ، ولا يحسن تخلفهما محسن ، ولي ذلك منهما وفيهما ، ومظهر دلالة صنعه عليهما ، الله رب العالمين ، وخالق جميع المحدثين ، وهما ما (٢) لا يدفعه عن الله دافع ، ولا ينتحل صنعه مع الله صانع ، من القرابة بالرسول صلى الله عليه ، وما جعل من احتمال كمال الحكمة فيمن الإمامة فيه ، وحد الحكمة وحقيقة تأويلها ، درك حقائق الأحكام كلها ، فاسمع لقول الله جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه ، فيما ذكرنا من مكان قرابة المرسلين ، وما جعل من (٣) وراثة النبوة في أبناء النبيين ، قال الله تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً

__________________

ـ الحقائق / ٤٣ ، وقال : أخرجه الديلمي. ورواه ابن حجر في الصواعق / ٧٣ ، وقال : أخرجه البزار والطبراني في الأوسط عن جابر ، والحاكم وابن عدي عن ابن عمر ، والترمذي والحاكم عن علي.

وأخرجه الترمذي ٢ / ٢٩٩ بلفظ : أنا دار الحكمة ، وأبو نعيم ١ / ٦٤ ، والبغدادي في تاريخه ١١ / ٢٠٤ ، والهندي في الكنز ٦ / ٤٠١.

ورواه الكنجي الشافعي في كفاية الطالب ٢٢١ / ٥٨ ، وابن حجر في اللسان ٢ / ١٢٣ ، والذهبي في الميزان ١ / ٤١٥ (١٥٢٥) ، والسيوطي في الجامع الصغير ١ / ٣٧٤ ، والقندوزي في ينابيع المودة / ٧٣ ، وللعلامة المحدث الغماري الحضرمي كتاب بعنوان (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي) ، وللعلامة الأميني موسوعة الغدير ذكر للحديث أكثر من مائة مصدر.

(١) في (د) : إحدى. وفي (أ) : الإمامة.

(٢) سقط من (ب) : ما.

(٣) سقط من (ب) : من.

وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦) [الحديد : ٢٦].

وقال تعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤) [آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤].

وقال سبحانه (وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (١٦) [الجاثية : ١٦].

وقال : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ) (٣٢) [الدخان : ٣٢].

وقال موسى صلوات الله عليه لبني إسرائيل : (اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) (٢٠) [المائدة : ٢٠].

وقال لإبراهيم (١) صلوات الله عليه : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ) (٧٣) [هود : ٧٣].

وقال الله تعالى في نوح صلى الله عليه : (وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ) (٧٧) [الصافات : ٧٥ ـ ٧٧].

وقال نوح صلوات الله عليه (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً) (٢٨) [نوح : ٢٨]. فقدم في الدعوة الأبوين ، ثم ثنى بعدهما بالأهلين ، ثم دعا بعدهم للمؤمنين ، تفريقا منه صلى الله عليه للمفروق ، وتنزيلا لهم في التقديم والتأخير على أقدار الحقوق.

وقال سبحانه : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٢٣) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) [السجدة : ٢٣ ـ ٢٤]. ثم قال تعالى لأبينا

__________________

(١) في (ب) و (د) : إبراهيم.

إبراهيم خاصة من دون المؤمنين : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٧٨) [الحج : ٧٨]. وذلك كقوله وقول إسماعيل صلوات الله عليهما ، عند رفعهما قواعد البيت فيما ذكر بأيديهما : (رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٨]. وقال صلى الله عليه : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧) [إبراهيم : ٣٧].

وقال تعالى : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) [طه : ١٣٢]. وقال تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣]. وقال تعالى لنوح : (احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ) (٤٠) [هود : ٤٠].

وقال تعالى : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) (١٣٥) [الصافات : ١٣٣ ـ ١٣٥]. وقال تعالى : (إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (٣٤) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ) (٣٥) [القمر : ٣٤ ـ ٣٥].

وقال في أيوب صلى الله عليه : (وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٤٣) [ص : ٤٣].

وقال يعقوب ليوسف صلى الله عليهما : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٦) [يوسف : ٦].

وقال موسى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هارُونَ

أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً) (٣٥) [طه : ٢٩ ـ ٣٥].

وقال زكريا صلى الله عليه : (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (٥) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٦) [مريم : ٥ ـ ٦]. وقال تبارك وتعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ) (٨٦) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٦].

ثم قال تعالى : (وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٧) [الأنعام : ٨٧].

وقال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (٢٧) [العنكبوت : ٢٧]. وقال تعالى : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٢٦) [الحديد : ٢٦].

وقال سبحانه : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) (٥٤) [النساء : ٥٤].

فأيّ ضياء أضوى ، أو حجة لمحتج أقوى؟ في (١) إثبات الصفوة والفضل ، لأبناء المنتجبين من الرسل ، مما تلونا تنزيلا مبانا ، أنزله الله في منزل وحيه قرآنا ، لا تعارضه شبهة لبس ، ولا يلتبس على ذي ارتياده (٢) ملبس ، ولكن اقتطع الناس دونه ، وحال بين العامة وبينه ، جور أكابرهم في الحكم ، واعتساف جبابرتهم فيه بالظلم ، فأعين العامة في

__________________

(١) في (أ) و (ج) : من.

(٢) في (ب) : ارتياد.

غطاء عن مذكوره ، وقلوبهم (١) ذات عمى عن نوره ، فمعروفه لديهم مجهول ، وداعيه فيهم مرذول ، إن لم يقتل عليه ، عظم تعنيفه فيه ، ولم يعدوا (٢) ـ من جهلهم بفرضه ، وما هم عليه (٣) من رفضه ـ سبيل ما هم عليه ، وما أمسوا وأصبحوا فيه ، من جهل غيره من الحقوق وتعطيلها ، ومحو أعلام الدين وتبديلها.

فالله المستعان في ذلك وغيره ، وإياه نسأل تبديل ذلك وتغييره ، والحمد لله الذي جعلنا لخاتم المرسلين ، وبقية من مضى من رسله الأولين ، عترة وبقية ، وآلا وذرية ، ابتداء لنا في ذلك بعظيم فضله ، ومنّا علينا فيه بولادة خاتم رسله ، من (٤) غير قوة منا ولا حول ، ولا صالح من عمل ولا قول ، فجعلنا راجين رجاء أبناء المرسلين بآبائهم ، وما كان من حفظ الله للنبيين في أبنائهم. فكفى بهذا في دلالة القرآن دليلا على الإمام ، وما ولي الله لرسله في ذلك وبه من الإكرام ، منظرا لمنصف معتبر ، ومعتبرا به لحكيم مفكر.

[صفات الإمام]

فاسمع لقول الله سبحانه في تفصيل الحكمة ، وما خص به من جعلها فيه من التقدمة، إذ يقول في داود صلى الله عليه : (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ) (٢٠) [ص : ٢٠]. وقال فيه ، صلى الله عليه : (وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) [البقرة : ٢٥١]. فمتى ما وجد الملتمسون ، وأصاب عند الطلب الطالبون ـ من هاتان الخلتان فيه كاملتان ، وهذان الدليلان عليه مبنيان ـ حقت إمامته وصحت ، وبانت الحجة لأوليائه فيه ووضحت ، ولم يكن لطالب إمامة تعدّيه ، ولم توجد الكفاية أبدا إلا فيه ، والعلة التي (٥) بها ولها ،

__________________

(١) في (ب) : وعيونهم.

(٢) في (أ) و (ج) : يفروا. مصحفة. وفي (ب) : يغدوا. مصحفة.

(٣) في (ج) : عليه فيه من.

(٤) في (ب) : لا عن قوة. وفي (د) : عن غير قوة.

(٥) في (ب) : التي كانت بها.

ومن أجلها ، كانت القرابة والحكمة على الإمام دليلا ، وإلى وجوده عند الحاجة والطلب سبيلا.

إن مطلبه في القرابة أسهل على الطالبين ، وأيسر في تكليف فرضه على المكلفين ، وأقطع لعذر المعتلين ، وأبلغ في الحجة على المتجاهلين ، وأقرب إلى (١) متناول البغية ، إذ لا يمكن تقريبها بالتسمية ، والدولة دولة الجبارين (٢) ، مخوف فيها قتل الأبرّين.

[طريق الإمامة]

ولو كان ـ الأمر في الإمامة كما قال المبطلون فيها ، وعلى ما زعموا من أنهم الحاكمون بآرائهم واختيارهم عليها ، وأن الخيرة فيها ما اختاروا ، والرأي منها وبها ما رأوا ـ لكان في ذلك من طول مدة الالتماس ، وما قد أعطبوا بقبحه وفساده من إهمال الناس ، ما لا يخفى على نظرة عين ، ولا تسلم معه عصمة دين ، ولصاروا إلى ما كرهوا من فساد الاهمال ، (٣) ولتعطل في مدة الطلب أكثر الأحكام ، من الجمع والأعياد ، والدفع والجهاد ، وقذف المحصنات ، ومكابرة المؤمنات ، ولسقط حد الزاني والزانية ، وكل حكم خصه الله بالتسمية.

ثم لما كان لما هم فيه من الطلب غاية تعرف ، ولا للغرض فيه نهاية ينتهي إليها المكلف ، ومن شأن الله تيسير كلفه ، وتقريب تعريف معرّفه ، كنحو من تكليفه ، وما كان من تعريفه ، جل ثناؤه لنفسه ، بما بين السماء والأرض من خلقه ، وما عرف من رسله ، بتواتر أعلام دلائله ، وكقوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٨]. وكقوله : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ

__________________

(١) في (ب) : في تناول.

(٢) في (ب) و (د) : جبارين.

(٣) في هاتين السجعتين اختلاف. ولربما أن هنا خطأ ما.

الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ) [البقرة : ١٨٥]. فقالوا : نختار لإمامتنا وديننا ، أوثقنا لذلك في أنفسنا. فقلنا : لستم تختارون ذلك لأنفسكم، دون اختياركم فيه على ربكم ، فلله الخيرة لا لكم. يقول الله جل ثناؤه (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) [القصص : ٦٠]. وقال تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) (٣٦) [الأحزاب : ٣٦]. يقول جل ثناؤه : إن يختاروا هم فتكون الخيرة لهم ، والله ما جعل إليهم (١) الخيرة فيما خوّلهم ، ولا فيما جعل من أموالهم لهم ، فكيف تكون إليهم الخيرة (٢) في أعظم الدين عظما ، وأكبره (٣) عند علماء المؤمنين حكما.

ثم قلنا لهم : من المختارون منكم للإمام؟ الخواص منكم أم (٤) العوام؟

فإن قالوا لخواصنا.

قلنا : من خواصكم؟

وإن قالوا : لعوامنا.

قلنا : ومن (٥) عوامكم؟ أخواصّكم إنسان أم إنسانان؟ أم بلد خاص من البلدان؟

وعوامكم أكلّكم؟ أم الأكثر منكم؟!

فإن قلتم : ذلك إلى كلنا وكلنا يختار ، فذلك ما لا يمكن (٦) لما فرقت منكم الأقطار ، مثل الصين وفرغانة ، ومن (٧) بالأندلس وغانة ، ومن يحدث فيكم ، وينقص كل يوم منكم ، فالإمامة لا يمكن عقدها ، ولا يصاب بالعقل رشدها ، إذا كانت إنما تكون ،

__________________

(١) في (ب) : جعل الخيرة إليهم.

(٢) في (أ) : لهم. وسقط من (ب) و (د) : الخيرة.

(٣) في (أ) و (ج) : وأكثره.

(٤) في (ب) : أو.

(٥) في (أ) و (ج) : قلنا من.

(٦) في (ب) : ما يمكن.

(٧) في (أ) : من. بغير واو.

ويتم لها بزعمكم الكون ، باختيار جميعكم ، وإجماع كلكم ، وذلك غير ممكن أصلا ، فالإمامة غير ممكنة اضطرارا.

وقد زعمتم أن الله كلفها خلقه ، وأوجب على الناس فيها حقه ، فقد كلف الله الخلق عندكم غير ممكن ، ومكلّف ما لا يمكن جاهل غير محسن ، ومن الله سبحانه كل حسنى! وله المثل الأجلّ (١) الأعلى! سبحانه أن يكلف أحدا من خلقه غير ممكن ، وتبارك أن يكون في صغير من الأمور أو كبير (٢) غير محسن!!!

وإن قلتم : اختيار الإمام ، للخاصة منا دون العوام (٣).

قلنا : ومن تلك (٤) الخاصة منكم؟ وما الذي يبينها (٥) للاختيار دونكم؟!

فإن قالوا : علمها وفضلها.

قلنا : ومن الذي يعرف ذلك لها؟! وما حد ذلك فيها؟ وما شاهد دليله عليها؟!

فإن قالوا : يعرف ذلك منها عوامها.

قيل : ولم لا تعرف العوام من يؤمها؟ وفضله أكثر من فضل فضلائها ، وعلمه فوق علم علمائها ، وإذا عرفت العوام من ذلك الأقل فهي بمعرفة الأكثر أولى ، وإذا بان لها فضل العلماء وعلمها فبيان فضل الإمام وعلمه أبين وأعلى!!

وإن قالوا : تعرف ذلك العلماء لأنفسها.

قيل : وكيف يصح ذلك (٦) عند غيرها بصحته لها؟! أو يتبين عندهم تبيانه عندها؟ وإذا كانوا هم الحجة على الأمة ، فيما يجب عليها من طاعة الأئمة ، فهل يجوز أن تكون بهم الأمة جاهلة؟! إلا كانت وهي عن هدى ما كلفته ضآلة.

__________________

(١) سقط من (ب) : الأجل.

(٢) سقط من (ب) : أو كبير.

(٣) في (أ) و (ج) : العامة.

(٤) سقط من (أ) : تلك.

(٥) في (ب) : يثبتها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : ذلك.

فإن زعموا أن الأمة عارفة بهم.

سئلوا : ما (١) معرفة الأمة لهم؟

فإن قالوا : علمهم وفضلهم. فقد فرغنا من هذا فيما قدمناه لهم ، وإن قالوا ذلك بمعرفة أعيانهم ، فأي عجب في ذلك أعجب من شأنهم ، إن زعموا أن من (٢) دون الإمام من رعيته ، مدلول عليه في حكم الدين بتسميته ، وأن الإمام غير معروف بتسمية عين ، ولا محكوم على أحد بمعرفته في دين!!

ويقال لهم : من المحكوم بمعرفة اسمه؟ وتنفيذ ما حكم به من حكمه؟ الأئمة أم العلماء؟

فإن قالوا : العلماء ، فكلهم عندهم بالإمامة أولى ، إذ كان مقامهم في الفضيلة أعلى.

وإن قالوا : الأئمة ، أولى بالمعرفة.

قيل لهم : فما بالكم لم تكتفوا بتلك منهم؟ وتسألوا دلائل الله عليهم عنهم؟!

فإن هم ردوا علينا المسألة. قلنا : قولوا ما شئتم أن تقولوا ، واسألوا فيمن الإمامة (٣) ومن تجب له عما أردتم أن تسألوا ، تجابوا ـ والحول والقوة لله معا ـ جوابا فيما تسألون عنه قصدا مجتمعا.

فإن قالوا : من أين زعمتم أن الإمامة واجبة العقد؟ ولم يبيّن الله في كتاب ولا سنة فيها ما أبان في غيرها من عهد؟! ولو كان ذلك عند الله كما قلتم ، وكان وجوبه في دين الله بحيث أنزلتم ، لكان فرضه مبانا! ولنزّل به (٤) قرآنا! كما نزل بالصلاة (٥) ، وفرض مؤكّد الزكاة؟!

__________________

(١) في (ب) : عن معرفة.

(٢) في (أ) : ما دون.

(٣) في (ب) و (د) : فيما قلنا من الإمامة.

(٤) في (أ) : فيه.

(٥) في (أ) : في الصلاة.

قلنا : فمنهما بعينهما ، ومن بيان فرض الله فيهما ، صح فرض الإمامة ، وأنها هي أولى منهما بالتقدمة ، فأقبلوا قبل الاستماع ، وتفهموا فإن الفهم سبب الانتفاع ، قال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) [الجمعة : ٩]. وإنما تكون الجمع جمعا ، إذا كانت هي والإمام معا ، بل ربما تقدمها فكان أمامها ، كتقدم الرسول عليه‌السلام لفرضها ولحكمها ، (١) ومن كانت تعقد له فمتقدّم (٢) قبل تقدمها ، مع أنه إذا صح أنها إنما تكون بالأئمة ، لهم عليها معقول التقدمة ، فهذا دليل فرض الإمامة من الصلاة.

فأما دليل فرضها من الزكاة ، فمن قول الله جل ثناؤه : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣) [التوبة : ١٠٣]. والأئمة مكان الرسول عليه‌السلام في أخذها ، ووضعها بعد الأخذ في مواضعها ، وإذا قيل : خذ فالأخذ غير شك ولا امتراء ، قبل ما يكون من إعطاء أو إيتاء (٣).

فهذا دليل على فرض الإمامة من الزكاة ، إلى ما قدمنا بيانه من فرضها بالصلاة.

وفي القرآن على من أبى الإمامة وإثباتها ، حجة من الله في فرضه لها أثبتها ، من ذلك قوله جل ثناؤه في بني إسرائيل : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) [السجدة : ٢٤]. وقوله سبحانه في إبراهيم صلى الله عليه : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) [البقرة : ١٢٤]. وما سأل إبراهيم منها لولده ، وما رغب إليه (٤) سبحانه فيها من إبقائها فيهم من بعده ، إذ يقول صلى الله عليه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤) [البقرة : ١٢٤]. فأبى (٥) سبحانه أن يجعلها من ولده إلا للمتقين ، فهذه خاصة الله لرسله في أبنائهم ، وعطية الله لأبناء

__________________

(١) في (ب) : وبحكمها.

(٢) في (أ) و (ج) : فمقدم.

(٣) في (ب) و (د) : إبآء.

(٤) في (ب) و (د) : إلى الله.

(٥) في (ب) : فأبى الله سبحانه.

الرسل بآبائهم ، وإذا لزم تنفيذ الأقسام والأحكام ، وكان ذلك لا يكون ولا يقوم إلا بالإمام ، لزم جميع الأمة ، اتخاذ الأئمة ، لزوما ليس منه بد ، ولا عنه لأحد مصدّ ، بحجج قوية مؤكدة لا تندفع ، ولا يمتنع منها من المهتدين ممتنع ، ولا يأبى قبولها إلا ضال ، ولا يجهل فيها حجة الله إلا الجهال ، والحمد لله ذي الحجج البوالغ ، والنعم الكثيرة السوابغ.

وصلى الله وسلم على سيدنا محمد النبي وآله الطيبين الطاهرين.

* * *

الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

وسألت : من الإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فالإمام المفترض الطاعة بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي ابن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه ، وقد ألفنا في ذلك كلاما من كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، به يعمل وبالحجة فيه يهتدى.

وهو : بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما ، والحمد لله الذي أكمل لنبيه عليه‌السلام الدين ، الذي افترضه على عباده وبينه له ، وافترض عليه إبلاغه ، فكان مما افترض على العباد طاعة الله ، وطاعة رسوله ، وطاعة أولي الأمر ، الذي يستحق مقام رسوله والإبلاغ عنه ، وليس من الفرائض فريضة أكبر قدرا ، ولا أعظم خطرا ، من الإمام الذي يقوم مقام نبيه عليه وآله السلام ، وقد بين ذلك في محكم كتابه وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجعل الله تبارك وتعالى الإمامة في بيت الصفوة والطهارة والهدى والتقوى ، من ذرية إبراهيم ولا يصلح في غيرهم ، لقول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣٤) [آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤]. ثم قال لإبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) (١٢٤) [البقرة : ١٢٤]. فأخبر أن الإمامة عهده الذي لا ينال ظالما ، على معنى لا من أشرك بالله طرفة عين ، ولا من أقام على ظلم ، لأن الله لم يجعل لظالم عهدا.

ثم أخبر بمن يستحق الإمامة من ذرية إبراهيم فقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ) (٧٣) [الأنبياء : ٧٣] ، وقال : (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ) (٢٤) [السجدة : ٢٤] ، ثم أخبر بذرية إبراهيم فقال : (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا

إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١٢٧) ..) إلى قوله : (التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١٢٨) [البقرة : ١٢٧ ـ ١٢٨]. (١) ثم أخبر أن الأمة المسلمة التي استجاب الله فيها دعوة إبراهيم صلى الله عليه ، وجعلهم شهداء على الناس ، والشهداء على الناس الأنبياء ومن يخلف الأنبياء من الذرية التي جنبها الله عبادة الأصنام ، وافترض مودتها. فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (CS) (٧٧) ... إلى قوله: (شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [الحج : ٧٧ ـ ٧٨] (٢). ثم ذكر الله تبارك وتعالى الذرية المصطفاة الطاهرة من ذرية إبراهيم ، التي استجاب فيها دعوته ، فقال : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً ...) إلى قوله : (لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ) (٣٧) [إبراهيم : ٣٥ ـ ٣٧]. (٣) فاستجاب الله تبارك وتعالى دعوة إبراهيم على لسان محمد صلّى الله عليهما أجمعين (٤) فقال : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ) (٢٣) [الشورى : ٢٣] ، (٥) وقال لإبراهيم صلى

__________________

(١) بقية الآية : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

(٢) بقية الآية : (وَجاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ).

(٣) بقية الآيات : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ ، رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ.) إبراهيم / ٣٥ ٣٧.

(٤) عليهما أجمعين. كذا في المخطوط.

(٥) نزلت في أهل البيت. أخرجه ابن جرير في تفسره ٢٥ / ١٦ عن سعيد بن جبير ، وعن عمرو بن شعيب أيضا ٢٥ / ١٧.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية عن جابر ٣ / ٢٠١.

وأخرجه عبد بن حميد ، وابن المنذر عن مجاهد ، وابن مردويه ، عن ابن عباس ، وأبو نعيم ، والديلمي عن مجاهد عن ابن عباس ، وسعيد بن منصور ، عن سعيد بن جبير. وابن جرير ، عن علي بن الحسين زين العابدين. الدر المنثور ٧ / ٣٤٧ ـ ٣٤٨.

عليه : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ ...) [هود : ٧٣] الآية ، وقال لمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ [أَهْلَ الْبَيْتِ] ...) [الأحزاب : ٣١] الآية ، (١) فلا تصلح الإمامة لمن عبد صنما ، لدعوة إبراهيم صلى الله عليه

__________________

وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٢ ، والقندوزي في ينابيع المودة (الباب ٥٨ / ٣٢٣ ٣٢٤) وقال: أخرجه الطبراني في الكبير ، والأوسط ، وأخرجه البزار.

وأخرجه الطبراني في الكبير ١ / ١٢٦ ، ٣ / ١٥٥ ١٥٦ ، ورواه الكنجي في كفاية الطالب عنه ، الباب (١١ / ٩١).

وأخرجه ابن المغازلي الشافعي في المناقب / ٣٠٧ ـ ٣٥٢.

والطبري في ذخائر العقبى / ٢٥ ، ١٣٨ ، وقال : أخرجه الدولابي.

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٤٦ عن أبي الطفيل. وقال أخرجه الطبراني ، وأبو يعلى ، والبزار ، وأحمد.

ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة / ١٠١ ، وقال أخرجه البزار والطبراني.

وأخرجه السيد أبو طالب في الأمالي / ١٢٠ ، والمرشد بالله في الأمالي ١ / ١٤٨.

ورواه في أسد الغابة ٥ / ٣٦٧ ، والزمخشري في الكشاف عند تفسير الآية.

والشبلنجي في نور الأبصار / ١٠١ ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ١٣٠ ١٤٦ برقم (٨٢٢ ٨٤٤) ، وأخرجه ابن عساكر ترجمة الإمام علي ٣ / ٤٣ (١٨١).

ورواه الطبرسي في مجمع البيان ٩ / ٢٩ ، ورواه في تاريخ اصبهان ٢ / ١٦٥ ، ورواه الطوسي في أماليه رقم (٤٠) من المجلس (١٠) ، ورواه البلاذري في أنساب الأشراف ٢ / ٧٥٤.

(١) نزلت الآية في أهل البيت محمد ـ وعلي ـ وفاطمة ـ والحسن ـ والحسين عليهم‌السلام. وقد رواه أغلب المحدثين فممن رواه :

مسلم في صحيحه ، في كتاب فضائل الصحابة في باب فضل أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، رقم (٤٤٥٠) بسنده عن صفية بنت شيبة ، قالت : قالت عائشة : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غداة وعليه مرط مرحل من شعر أسود ، فجاء الحسن بن علي فأدخله ، ثم جاء الحسين فدخل معه ، ثم جاءت فاطمة فأدخلها ، ثم جاء علي فأدخله ، ثم قال : (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٧ ، والبيهقي في السنن ٢ / ١٤٩ ، وابن جرير في تفسيره ٢٢ / ٥ عن عائشة. وذكره السيوطي في الدر المنثور عند تفسير الآية. وقال أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد ، وابن أبي حاتم ، وذكره الزمخشري في الكشاف في تفسير آية المباهلة ، وكذلك الفخر الرازي ، وقال : واعلم أن هذه الرواية كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث.

وأخرجه الترمذي في السنن ٢ / ٢٠٩ ، بسنده عن عمر بن أبي سلمة ، والطحاوي في مشكل الآثار ١ / ـ

__________________

ـ ٣٣٥ ، وابن الأثير الجزري في أسد الغابة ٢ / ١٢. وابن جرير في تفسيره ٢٢ / ٣١٩ عن أم سلمة.

وأخرجه أحمد في المسند ١ / ٣٠٦. وذكره ابن حجر في تهذيب التهذيب ٢ / ٢٩٧ ، والمحب الطبري في الذخائر / ٢١.

والترمذي ٢ / ٢٠٩ بسنده عن أنس. والطبري في تفسيره ٢٢ / ٥ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٥٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٢٥٢ ، والجزري في أسد الغابة ٥ / ٥٢١ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٧ / ١٠٣ ، نقلا عن ابن أبي شيبة ، وذكره السيوطي في الدر المنثور وقال : أخرجه ابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه. وابن جرير ٢٥ / ٧ بسنده عن حكيم بن سعد.

والحاكم في المستدرك ٢ / ٤١٦ ، عن أم سلمة ، وأيضا في ٣ / ١٤٧ ، والبيهقي في السنن ٢ / ١٥٠ ، والطحاوي في المشكل ١ / ٣٣٤ ، ٣٤ ، والخطيب في تاريخه ٩ / ١٢٦ ، وابن جرير ٢٢ / ٧.

وأخرجه الحاكم في المستدرك بسنده عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

ورواه السيوطي أيضا في الدر المنثور ٥ / ١٩٨ ، ١٩٩ ، قال وأخرج ابن مردويه عن أم سلمة قالت ...... الحديث.

ورد بألفاظ مختلفة ، ومقامات متعددة ، والمعنى واحد. فيها أن رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صلى تسعة أشهر ، وفي رواية ثمانية أشهر ، وفي رواية ستة أشهر ، يأتي كل يوم وقت صلاة الغداة ، وفي رواية وقت كل صلاة بيت علي وفاطمة ، فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، أهل البيت (إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا).

وأخرجه أيضا أحمد في المسند ١ / ٣٣٠ عن عمرو بن ميمون. و ٤ / ١٠٧ ، عن شداد بن أبي عمار. و ٦ / ٢٩٢ عن أم سلمة. و ٦ / ٢٩٢ ، عن شهر بن حوشب.

والنسائي في الخصائص / ٤. والبغدادي في تاريخه ١٠ / ٢٧٨ عن أبي سعيد.

والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٨٨. وابن عبد البر في الاستيعاب ٢ / ٥٩٨ عن أبي الحمراء.

وأبو داود الطيالسي في مسنده ٨ / ٢٧٤ ، وهو في كنز العمال ٧ / ٩٢.

وفي مشكل الآثار ١ / ٣٣٢ ، ٣٣٦ ، ٣٣٨.

وفي مجمع الزوائد ٦ / ١٦٩ ، ١٢١ ، ٢٠٦ ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ١٨. رقم (٦٣٧ ـ ٧٧٤).

ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٣٢ (٧٣) ، ١ / ١٤٨ (٨٣) ، ١ / ١٥٧ (٩٢) ، ١ / ٤٠٦ (٣٢٤) ، ٢ / ١٩ (٥٠٨) ، ٢ / ١٢٤ (٦١٠) ، ٢ / ١٣٨ (٦٢١) ، ٢ / ١٧٤ (٦٥٢).

والحبري في تفسيره / ٢٩٧ (٥٠) عن أم سلمة ، / ٢٩٩ (٥١) عن شهر بن حوشب ، / ٣٠٠ (٥٢) عن أم سلمة ، / ٣٠٢ (٥٣) عن أم سلمة ، / ٣٠٤ (٥٤) عن أم سلمة ، / ٣٠٦ (٥٥) عن أبي سعيد الخدري ، / ٣٠٧ (٥٦) عن ابن عباس / ٣٠٩ (٥٧) عن أبي الحمراء ، / ٣١٠ (٥٨) عن أنس بن مالك ، / ٣١١ (٥٩) ـ

لبنيه الطاهرين المصطفين ، فليس أحد من أهل بيت الطهارة والصفوة يشهد له رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه خرج من لدن آدم عليه‌السلام من ظهر إلا وهو لنسبه الطاهر ، حتى انتهت الطهارة في المولد إلى عبد الله وأبي طالب ، لأن أمهما كانت واحدة ، ثم شهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي بالطهارة ، والحسن والحسين وفاطمة ، حيث أردف عليهم الكساء. ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (٣٣) [الأحزاب : ٣٣] ، ثم أنزل الله على نبيه : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) [الشعراء : ٢١٤] ، فجمع بني عبد المطلب في الحديث المشهور وهم يومئذ أربعون رجلا. فقال : يا بني عبد المطلب كونوا في الإسلام رؤساء ، ولا تكونوا أذنابا ، فبدأهم بالنذارة قبل الناس كلهم ، فقال : أيكم يجيبني إلى ما دعوته إليه إلى الإسلام ، يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ، على أن يكون أخي ووزيري ووارثي ووصيي وخليفتي في أهل بيتي ، يقضي ديني وينجز موعودي؟ فأجابه علي من بينهم وكان أصغرهم سنا ، فضمه إليه ودعا له ، فتفل في فيه ، فقال أبو لهب : لبئس ما حبوت به ابن عمك حيث أجابك إلى ما دعوته ، فملأت فمه بزاقا ، فقال: بل ملأته فهما وعلما (١).

__________________

ـ عن أبي الحمراء.

وأخرجه فرات الكوفي في تفسيره ١ / ٣٣٢ (٤٥١) عن شهر بن حوشب ، (٤٥٢) عن أم سلمة ، ١ / ٣٣٣ (٤٥٣) عن أم سلمة ، ١ / ٣٣٤ (٤٥٤) عن أم سلمة ، ١ / ٣٣٤ (٤٥٥) عن أبي عبد الله الجولي ، ١ / ٣٣٥ (٤٥٦) عن شهر بن حوشب ، ١ / ٣٣٦ (٤٥٧) عن أم سلمة ، ١ / ٣٣٦ (٤٥٨) عن عمرة الهمدانية ، ١ / ٣٣٧ (٤٥٩) عن أم سلمة ، ١ / ٣٣٧ (٤٦٠) عن أبي جعفر الباقر ، ١ / ٣٣٨ (٤٦١) عن أبي سعيد الخدري ، ١ / ٣٣٩ (٤٦٢) عن أبي الحمراء ، ١ / ٣٣٩ (٤٦٣) عن جعفر الصادق ، ١ / ٣٤٠ (٤٦٥) عن ابن عباس ، ١ / ٣٤٠ (٤٦٦) عن عمرو بن ميمون.

وفي تفسير ابن كثير ٣ / ٤٨٤ ٤٨٦ عند تفسير الآية أورد تسع روايات ، عن أنس ، وأبي الحمراء ، وواثلة بن الأسقع ، وأم سلمة بثمان طرق ، وعائشة بطريقين ، وأبي سعيد الخدري ، وسعد ، وزيد بن أرقم.

وقد تركت ذكر الكثير ممن رواه خشية التطويل.

(١) أخرج القصة محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ٣٧٠ (٢٩٤) ، تاريخ الطبري ٢ / ٢١٦ ، ٢١٧.

والقصة موجودة في سيرة ابن هشام ، وتاريخ ابن كثير ، إلا أنهما حذفا قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في علي عليه‌السلام. ـ

ثم أورث الله تبارك وتعالى الكتاب أهل بيت الصفوة والطهارة ، فقال : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ ...) إلى قوله : (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها) [فاطر : ٣٢ ـ ٣٣] ، (١) ...

__________________

ـ وأخرجه الطبراني في الكبير كما قال ابن حجر في المجمع ٦ / ٢٢١ ، ورواه سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٤٣ نقلا عن كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل ، والطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٣٤. وفي رواية أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لابنته فاطمة : (أما علمت أن الله عزوجل اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيا ، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصيا). مجمع الزوائد ٨ / ٢٥٣ ، ٩ / ١٦٥ ، وكنز العمال ١٢ / ٢٠٤ (١١٦٣) ، ومنتخبه بهامش مسند أحمد ٥ / ٣١ ، وموسوعة أطراف الحديث من المعجم الكبير للطبراني ٤ / ٢٠٥ ، وجمع الجوامع للسيوطي رقم الحديث (٤٢٦).

وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (إن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عداتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب) كنز العمال ٢ / ٢٠٩ (١١٩٢). والطبراني ٦ / ٢٧١.

وعن أنس أن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قال له : أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين. حلية الأولياء ١ / ٦٣ ، تاريخ ابن عساكر ٢ / ٤٨٦ ، شرح نهج البلاغة ١ / ٤٥٠ ، موسوعة أطراف الحديث عن إتحاف السادة المتقين للزبيدي ٧ / ٤٦١.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : (لكل نبي وصيّ ووارث ، وإن عليا وصيي ووارثي) تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي ٣ / ٥ ، الرياض النضرة ٢ / ٢٣٤.

وفي رواية موجزها : أن جبريل جاء بهدية من الله ليهديها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى ابن عمه ووصيه علي بن أبي طالب ... الحديث. المحاسن والمساوئ للبيهقي / ٦٤ ، ٦٥.

(١) الآية (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ ، وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللهِ ، ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ، جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها ...) [فاطر / ٣٢ ـ ٣٣].

نزلت هذه الآية في أهل البيت عليهم‌السلام.

عن أبي حمزة الثمالي ، عن علي بن الحسين ، قال : إني لجالس عنده إذ جاءه رجلان من أهل العراق ، فقالا : يا ابن رسول الله جئناك كي تخبرنا عن آيات من القرآن. فقال : وما هي؟ قالا : قول الله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا). فقال : يا أهل العراق وأيش يقولون؟ قالا : يقولون : إنها نزلت في أمة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال علي بن الحسين : أمة محمد كلهم إذا في الجنة. قال : فقلت من بين القوم : يا ابن رسول الله فيمن نزلت؟ فقال : نزلت والله فينا أهل البيت ـ ثلاث مرات ـ قلت : أخبرنا من ـ

فلم (١) يفرق الله بين الكتاب والحكم والنبوة فيما قص من خبر بني إسرائيل ، فقال لمحمد عليه‌السلام : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النساء : ٥٤] ، (٢) فكان علي عليه‌السلام أول من سبق إلى الإسلام من أهل بيت الطهارة والصفوة ، لا ينازعه في ذلك أحد من بني عبد المطلب ، ولا يستحقه دونه أحد ، ثم دعا رسول الله عليه‌السلام عند حضور وفاته ـ وبنو عبد المطلب والمهاجرون والأنصار يومئذ عنده ـ فدعا بسيفه ودرعه وسلاحه ودابته وجميع ما كان له ، حتى تفقد عصابة كان يعصب بها على بيضة الدرع ، ثم دفع ذلك إليه صلوات الله عليهما ، وبنو عبد المطلب شهود والمهاجرون والأنصار. ثم استخلفه بمكة حيث عزمت قريش على أن تبيّت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليقتلوه أو يخرجوه ، فاضطجع على فراشه (٣) فوقاه بادرة الحتوف

__________________

ـ فيكم الظالم لنفسه؟ قال : الذي استوت حسناته وسيئاته وهو في الجنة.

فقلت : والمقتصد؟ قال : العابد لله في بيته حتى يأتيه اليقين. فقلت : السابق بالخيرات؟ قال : من شهر سيفه ، ودعا إلى سبيل ربه. الحسكاني في شواهد التنزيل ٢ / ١٠٤ (٧٨٢).

وروى عن زيد بن علي قال : (الظالم لنفسه) المختلط منا بالناس ، (والمقتصد) : العابد ، (والسابق): الشاهر سيفه يدعو إلى سبيل ربه. الحسكاني ٢ / ١٠٤ (٧٨٣).

وعن علي عليه‌السلام قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن تفسير هذه الآية؟ فقال : هم ذريتك وولدك. الحسكاني ٢ / ١٠٤ (٧٨٣).

ورواه فرات الكوفي في تفسيره ٢ / ٣٤٧ (٤٧٣) عن زيد بن علي ، وعن محمد بن علي الباقر ٢ / ٣٤٨ (٤٧٤).

وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ٢ / ١٦٤ (٦٤٣) عن زيد بن علي عليهما‌السلام.

(١) في المخطوط : فلن. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) روى الحسكاني عن جعفر بن محمد : نحن المحسودون. شواهد التنزيل ١ / ١٤٣ (١٩٥). وعن ابن عباس برقم (١٩٦) ، وعن جعفر بن محمد أيضا برقم (١٩٧).

ورواه الحبري في تفسيره ٥ / ٢٥٥ (١٩).

ورواه فرات الكوفي في تفسيره عن جعفر بن محمد ، وعن محمد بن علي الباقر ١ / ١٠٦ (٩٩) و (١٠٠) ، ١١٠٧ (١٠).

(٣) عن أبي سعيد الخدري قال : لما أسري بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد الغار ، بات علي بن أبي طالب على فراش رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأوحى الله إلى جبرئيل وميكائيل : إني قد آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر ، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فكلاهما اختاراها وأحبا الحياة ، ـ

بنفسه ، وكان يأتيه بالطعام ليلا ، (١) وأمره [أن] يؤدي الأمانات (٢) التي كانت على يده ، وأن يخرج إليه أهله ، فنفد أمره ومشى مع أهله ، حتى تفطرت قدماه دما (٣). وخرج إلى

__________________

ـ فأوحى الله إليهما : أفلا كنتما مثل علي بن أبي طالب ، آخيت بينه وبين نبيي محمد فبات على فراشه يقيه بنفسه ، اهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه. فكان جبرئيل عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب؟! الله عزوجل يباهي بك الملائكة ، فأنزل الله تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ). الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٩٦ (١٣٣) ، وأسد الغابة ٤ / ٢٠ ، وتاريخ اليعقوبي ٢٣٩ ، وتاريخ الخميس ١ / ٣٢٥ ٣٢٦ ، وتاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام علي ١ / ١٥٣ (١٨٧) و (١٨٨) و (١٨٩) ، وتاريخ بغداد ١٣ / ١٩١ (٧١٦٨).

وكل من فسر آية (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ ...) يذكر قصة الهجرة ومبيت عليعليه‌السلام في فراش النبي ، وجميع المؤرخين وكتّاب السير مجمعون على مبيت علي عليه‌السلام في فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليقيه بنفسه.

(١) قال مغلطاي : (ولم يعلم بخروجه عليه الصلاة والسلام إلا علي وأبو بكر ، فدخلا غارا بثور ....) سيرة مغلطاي / ٣٢. وأعلام الورى / ١٩١ للطبرسي.

(٢) قال ابن هشام : أما علي ، فإن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم ـ فيما بلغني ـ أخبره بخروجه ، وأمره أن يتخلف بعده بمكة ، حتى يؤدي عن رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم الودائع ، التي كانت عنده للناس ، وكان رسول الله صلى الله عليه [وآله] ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا وضعه عنده ، لما يعلم من صدقه وأمانته صلى الله عليه [وآله] وسلم. سيرة ابن هشام ٢ / ١٢٩.

(٣) عن أبي رافع : أن عليا كان يجهز النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين كان بالغار ، ويأتيه بالطعام ، واستأجر له ثلاث رواحل ، للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأبي بكر ، ودليلهم ابن أريقط ، وخلفه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيخرج إليه أهله فأخرجهم ، وأمره أن يؤدي عنه أمانته ووصايا من كان يوصي إليه ، وما كان يؤتمن عليه من مال ، فأدى علي أمانته كلها ، وأمره أن يضطجع على فراشه ليلة خرج ، وقال : إن قريشا لن يفقدوني ما رأوك. فاضطجع علي على فراشه ، وكانت قريش تنظر إلى فراش النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيرون عليه رجلا يظنونه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حتى إذا أصبحوا رأوا عليه عليا ، فقالوا : لو خرج محمد لخرج بعلي معه. فحبسهم الله عزوجل بذلك عن طلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رأوا عليا ، ولم يفقدوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا أن يلحقه بالمدينة ، فخرج علي في طلبه بعد ما خرج إليه فكان يمشي من الليل ، ويكمن بالنهار ، حتى قدم المدينة ، فلما بلغ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قدومه ، قال : ادعوا لي عليا. فقالوا : إنه لا يقدر أن يمشي ، فأتاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلما رآه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اعتنقه وبكى رحمة له مما رأى بقدميه من الورم ، وكانتا تقطران دما ، فتفل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في يديه ثم مسح بهما رجليه ، ودعا له ـ

تبوك واستخلفه وأعلمه أنه لا يصلح لخلافته إلا هو ، وقال له : (يا على أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي). (١) (وبعث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا بكر بعشر آيات من براءة إلى مكة فنزل عليه جبريل عليه‌السلام فقال : إنه لا يصلح أن يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك) (٢). ثم لم يزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوليه ولا

__________________

ـ بالعافية ، فلم يشتكهما علي حتى استشهد. أخرجه ابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ١ / ١٥٤ ١٥٥ ، وأبو نعيم في معرفة الصحابة ١ / ٢١ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٤ / ١٩ ، وأخرج نحوه ابن سعد في الطبقات ٣ / ٢٢ ، وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي عن أبي رافع ١ / ٣٦٤ (٢٩٢) ، وأخرجه الطوسي في أماليه ١ / ٤٧٦ عن أبي رافع أيضا.

(١) أخرجه الإمام الأعظم زيد بن علي (ع) في المجموع ٤٠٧ ـ ٤٠٨ ، والإمام الهادي (ع) في الأحكام ١ / ٣٨ ، والإمام أبو طالب في أماليه ٣٢ ، ٣٥ ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب رقم (٤١٩) ، والمؤيد بالله في الأمالي الصغرى ١٠٤ (٢٠) ، والبخاري ٥ / ٩٩ و ٦ / ١٨ ، ومسلم ٤ / ١٨٧٠ (٢٤٠٤) ، والترمذي ٥ رقم (٣٧٣١) ، وابن ماجة ١ / ٤٢ رقم (١٧٥) و ١ / ٤٥ رقم (١٢١) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٠٩ ، والبزار ٣ / ٢٧٦ رقم (١٠٦٥) ، والحميدي في مسنده ١ / ٣٨ رقم (٧١) ، وأحمد بن حنبل ١ / ١٧٧ و ١ / ١٧٩ ، وأبو يعلى في مسنده ٢ / ٨٦ رقم (٧٣٩) ، و ٦٦ رقم (٧٠٩) و (٦٩٨) ، أبو نعيم في حلية الأولياء ٧ / ١٩٦ ، والخطيب البغدادي ١ / ٣٢٥ ، والطبراني في الكبير ١ / ١٤٨ رقم (٣٣٧) ، وفي الصغير ٢ / ٢٢ ، وابن الأثير ٤ / ٢٦ ٢٧ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ١ / ٢١٦ رقم (٣٤٩) (ترجمة الإمام علي عليه‌السلام) ، عن سعد بن أبي وقاص. وأخرجه الإمام المرشد بالله في الخميسية ١ / ١٣٤ ، والطبراني ٢ / ٢٤٧ (٢٠٣٥) عن جابر بن عبد الله.

وأورده السيوطي في الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة عن عشرين من الصحابة ، وتتبع ابن عساكر طرقه فبلغ عدد الصحابة نيفا وعشرين ، وقد استوعب طرقه ابن عساكر في نحو عشرين ورقة ، وأورده في لقط اللآلئ المتناثرة في الأحاديث المتواترة ٣١ ، والطبري في ذخائر العقبى / ٦٣ ، وفي صفة الصفوة ١ / ١٢٠ ، وفي الإصابة ٢ / ٣١٥ ، وابن عدي ٦ / ٦٠٨٨ ، و ٢٢٢٢.

(٢) أخرجه الترمذي ٢ / ١٨٣ ، والنسائي في الخصائص / ١٤٤ ، (٧٥) ، ١٤٦ (٧٦) ، ١٤٧ (٧٧) ، ١٤٨ (٧٨) ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ١٦١ ، وأحمد ١ / ٣ ، ١٥١ ، ٣٣٠ ، والحاكم ٣ / ٥١ (٢٤٦) ، وابن جرير الطبري في تفسيره ١٠ / ٤٦ ، ٤٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١ / ٢٤٦ ، وقال : أخرجه ابن خزيمة ، وأبو عوانة ، والدار قطني في الأفراد. والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٢٣٢ ، وابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ٢ / ٣٧٦ (٨٧٨) ، بطرق عدة وروايات مختلفة إلى رقم (٨٩٣) ، والمحب الطبري في الرياض النضرة ٢ / ٢٩٣ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١١٩ ، وقال : أخرجه ـ

يولّي عليه ، ولم تجر سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في علي أنه جعله تبعا لأحد من الناس.

ثم وجه إلى اليمن خالد بن الوليد على الجيش ، فقال : (إن اجتمع الجيشان فعلي أمير الجيش) (١). ثم دعا له حين وجهه إلى اليمن (أن يهدي الله قلبه ويثبت لسانه) (٢).

ثم قال لهم : (إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله ، فقال له أبو بكر : أنا يا رسول الله؟ قال : لا. قال له عمر : أنا يا رسول الله؟ قال : لا. ولكنه خاصف النعل) ، (٣) فأخبر علي بذلك ، فكأنه شيء قد سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل

__________________

ـ الطبراني في الكبير والأوسط باختصار ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ١٢٢ ، وقال : أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، ..... والبلاذري في أنساب الأشراف ٢٠ / ١٥٥ ، وابن المغازلي في مناقبه / ٢٢٧ (٢٧٣) ، وغيرهم كثير.

(١) أخرج الحديث محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ٤٢٤ (٣٣١) ، ٢ / ٣٨٨ (٨٦٣) ، وابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ١ / ٤٠٠ (٤٦٦) و (٤٦٧) ، ١ / ٤٠٠ (٤٦٨) و (٤٦٩) ، والنسائي في الخصائص / ١٦٧ (٩٠) ، وأحمد ٥ / ٣٥٦ ، وبرقم (٢٨٤) و (٣٠٢ ٣٠٣) من باب فضائل علي ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢١٨ ، وقال : رواه أحمد ، والبزار ، ورواه ابن أبي شيبة في المصنف ٦ / ١٥٩ ، وابن المغازلي في المناقب / ٢٢٥ (٢٧١) ، والذهبي في تاريخ الإسلام ٢ / ١٩٥.

(٢) أخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ٢ / ١٢ (٥٠١) ، ٢ / ١٣ (٥٠٢) ، وابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ٢ / ٤٩٠ (١٠٢٠ ١٠٢٧) ، والبلاذري في أنساب الأشراف ١ / ٣١٥ (٣١) و (٣٢) ، وابن سعد في الطبقات ٢ / ٣٣٧ ، والنسائي في الخصائص / ٩١ ، وأحمد في المسند ١ / ٨٣ ، ٨٨ ، ١١١ ، ١٥٠ ، وابن وكيع في أخبار القضاة ١ / ٨٤ ٨٥ ، والبيهقي في السنن الكبرة ١٠ / ٨٦ ، وأبو نعيم في الحلية ٤ / ٣٨١ ، والجويني في فرائد السمطين في الباب (٣٥) برقم (١٣٠) ، والطيالسي في المسند ١ / ١٦ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٥ / ١٠٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥ / ٩٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٦ / ١٥٣ ، وعبد بن حميد في المسند / ١٥ ، والبزار في مسنده / ٨٠ ، وابن ماجة / ١٦٨ باب ذكر القضاء ، والحاكم ٣ / ١٣٥ ، ٤ / ٨٨ ، والخطيب في تاريخه ١٢ / ٤٤٣ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٤ / ٢٢ ، والبيهقي في شعب الإيمان / ٣٩٢ ، والطبرسي في الرياض ٢ / ١٩٨ ، والسيوطي في ذيل تفسير قوله تعالى (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ).

(٣) أخرجه ابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ٣ / ١٦٣ (١١٧٨) ، ١٦٤ (١١٧٩) ، ١٦٤ (١١٨٠) ، ١٦٦ (١١٨١) ، ١٦٧ (١١٨٢) ، ١٦٨ (١١٨٣) و (١١٨٤) إلى رقم (١١٩١).

وابن المغازلي في المناقب / ٢٩٨ (٣٤١) ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٥ / ١٨٦ ، وابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٢ / ٢٧٧ ، والنسائي في الخصائص / ١٣١ (١٥٠) ، والهندي في كنز العمال ٦ / ١٥٥ ، وأبو ـ

ذلك. ثم أمره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. (١) وروي عن أبي أيوب ، وعن ابن مسعود ، وعن غير واحد من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه ، يقول أبو أيوب : قال لنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقاتلون الناكثين والقاسطين والمارقين ، قلنا : مع من يا رسول الله؟ قال : مع علي (٢).

قال ابن مسعود : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. (٣)

وروي عن النبي عليه وآله السلام في الخبر المشهور أنه قال : (يأتي قوم بعدي يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية). (٤) فإنما

__________________

ـ نعيم في حلية الأولياء ١ / ٦٧. والهندي في الكنز ١ / ٩٤ ، وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ، وأحمد في مسنده ، وأبو يعلى في مسنده ، وابن حبان في صحيحه ، والحاكم في مستدركه ، وأبو نعيم في حليته ، وسعيد بن منصور في سننه. ورواه الطبري في الرياض النضرة ٢ / ١١٩ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ٢٨٢ ، وابن حجر في الإصابة ٢ / ٣٩٢ ، والخوارزمي في المناقب / ٥٢ الفصل (٧) ، ومحمد بن سليمان الكوفي في المناقب ٢ / ١٠ (٥٠٠) ، / ٥٥٣ (١٠٦٤) ، ٥٥٤ (١٠٦٥).

(١) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٣٩ عن أبي أيوب قال : أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علي بن أبي طالب بقتال الناكثين والقاسطين ، والمارقين. وأخرج الخطيب عن علي عليه‌السلام : أمرني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين ... تاريخ بغداد ٨ / ٣٤٠ ، وكنز العمال ٦ / ٣٩٢ ، وقال : أخرجه ابن عساكر ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٢٣٨ ، وقال : رواه الطبراني.

(٢) أخرجه الحاكم ٣ / ١٣٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦ / ٨٨.

(٣) رواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ٢٣٥ ، وقال : رواه الطبراني ، ورواه الهيثمي أيضا في المجمع ٧ / ١٣٨ ، وقال : رواه الطبراني في الأوسط. وأخرجه السيد أبو طالب في أماليه / ٥٢ عن ابن مسعود أيضا.

(٤) عن أبي سعيد الخدري يقول بعث علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من اليمن بذهيبة في أديم مقروظ لم تحصّل من ترابها ، قال : فقسمها بين أربعة نفر ، بين عيينة بن بدر ، وأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة ، وإما عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال : فبلغ ذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال : ألا تأمنونني وأنا أمين من في السماء ، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. قال : فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناشز الجبهة ، كثّ اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ، فقال : يا رسول الله اتق الله. قال : ويلك ، أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله! قال : ثم ولى الرجل ، قال خالد بن الوليد : يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ قال : لا لعله أن يكون يصلي. فقال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني لم أومر أن أنقب قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم. قال: ثم نظر إليه وهو ـ

مرقوا على علي بالإسلام ومن كان مع علي. ثم أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه ، (١) فكان من أكبر الإبلاغ عن الله الإمام الذي يستحق مقامه ، ويؤدي عنه الدين الذي أكمله الله ، فأخذ بيد علي في يوم غدير خم في حجة الوداع في آخر عمره فقال : (يا أيها الناس ألست أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهم وال من والاه ، وعاد من عاداه) ، فجعله علما لأولياء الله ولأعدائه ، فمن تولى عليا كان له وليا ، ومن عاداه كان له عدوا.

وافترض الله سبحانه تبارك وتعالى في محكم الكتاب الطاعة له وطاعة رسوله وطاعة أولى الأمر ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، (٢) ثم قال سبحانه : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣] ، فأعلمهم أن ولي الأمر من يعلم ما يجهلون ، وقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ) [المائدة : ٥٥] ، (٣) والخبر

__________________

ـ مقف ، فقال : إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، وأظنه قال : لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود.

أخرجه البخاري ٤ / ١٥٨١ (٤٠٩٤) ، ومسلم ٢ / ٧٤١ (١٠٦٤) ، والنسائي في المجتبى ٥ / ٨٧ (٢٥٧٨) ، وأحمد ٣ / ٤ (١١٠٢١) ، وابن حبان ١ / ٢٠٥ (٢٥) ، وابن خزيمة ٤ / ٧١ (٢٣٧٣) ، والنسائي في الكبرى ٢ / ٤٦ (٢٣٥٩) ، والبيهقي ٧ / ١٨ (١٢٩٦٢) ، والطيالسي / ٢٩٦ (٢٢٣٤) ، وأبو داود ٤ / ٢٤٣ (٤٧٦٤) ، وأبو يعلى ٢ / ٣٩٠ (١١٦٣) ، وغيرهم.

(١) إشارة إلى الآية : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ).

(٢) روى أن أولي الأمر هم أهل البيت ، الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ١٨٩ ، ٢٠٢ ، وفرات الكوفي في تفسيره ١ / ١٠٨ (١٠٤ ـ ١١٢) ، والمفيد في أماليه / ٣٤٩ ، والطوسي في أماليه : ١٢٢ ، ١٨٨ ، والكليني في الكافي ١ / ٢٨٦.

(٣) الآية : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ).

روى نزول الآية في علي عليه‌السلام جمع كثير من الصحابة والتابعين منهم :

ـ علي بن أبي طالب عليه‌السلام. في البداية والنهاية لابن كثير (٧ / ٣٥٧) ، ومناقب الخوارزمي / ١٨٧ ، وفي معرفة علوم الحديث للحاكم / ١٠٢ ، ومناقب ابن المغازلي (/ ٣١٢ رقم ٣٥٥) ، والعمدة لابن البطريق / ٦٠ ، والمرشد بالله في الأمالي ١ / ١٣٧ ، ١٣٨ ، وفرات الكوفي في تفسيره / ٣٩ ، ٤٠ ، ـ

__________________

ـ والسيوطي في الدر المنثور ٢ / ٢٩٣ عن أبي الشيخ وابن مردويه ، والمتقي الهندي في الكنز ٦ / ٤٠٥.

ـ الحسن السبط. ابن الجوزي في تذكرة الخواص / ٢٠٧ ٢٠٨.

ـ أنس بن مالك. الكنجي في كفاية الطالب / ٢٢٨ ٢٢٩ ، ونحوه في شواهد التنزيل رقم (٢٢٢) و (٢٢٣) ، ونقله في الغدير (٢ / ١٥٩) عن فضائل الصحابة لأبي سعد السمعاني الشافعي.

ـ أبو ذر الغفاري. الثعلبي في تفسيره ، وعنه في مجمع البيان للطبرسي ٢ / ٢١٠ ، والحسكاني في الشواهد رقم (٢٣٥) ، وعنه الغدير ٢ / ٥٢ ، والعمدة (الفصل ١٥ / ٥٩).

ـ أبو رافع. المرشد بالله في أماليه ١ / ١٣٨ ، والطوسي في أماليه ١ / ٥٨ ، والطبراني ، وابن مردويه ، وأبو نعيم كما في الدر المنثور ٢ / ٢٩٤ ، والهندي في الكنز ٧ / ٣٠٥.

ـ جابر بن عبد الله. الحسكاني في الشواهد رقم (٢٣٢) ، والأميني في الغدير (٣ / ١٥٩) عن الإبانة لأبي الفتح النطنزي.

ـ عبد الله بن عباس. المرشد بالله في أماليه ١ / ١٣٨ ، والكوفي في المناقب ١ / ١٥٠ (٥٨) ، ١ / ١٦٩ (١٠٠) ، والبلاذري في أنساب الأشراف ٢ / ١٥٠ ، وابن المغازلي في المناقب / ٣١٣ رقم (٣٥٧) ، والطبري في الذخائر / ٨٨ ، والواحدي في أسباب النزول / ١٤٨ ١٤٩ ، والخوارزمي في المناقب / ١٨٦ ، والحسكاني في الشواهد برقم (٢٣٦ ٢٣٧) ، والطبرسي في مجمع البيان ٢ / ٢١٠ ٢١١ ، والكنجي في الكفاية / ٢٤٩ ٢٥٠ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ٧١ ، والخطيب ، وعبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، كما في الدر المنثور ٢ / ٢٩٣ ، وفتح القدير ٢ / ٥٠ ، والطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٧ عن الطبراني.

ـ عبد الله بن سلام. الطبري في الذخائر / ١٠٢ عن الواقدي وابن الجوزي ، وفي الرياض ٢ / ٣٠٢ عن الفضائلي. وهو في الجمع بين الصحيحين للعبدري نقلا عن صحيح النسائي ذكر ذلك في جامع الأصول لابن الأثير ٩ / ٤٧٨. والرازي في مفاتيح الغيب ٣ / ٦١٨ ، والنيسابوري في تفسيره ٦ / ١٦٧ ، والطبرسي في المجمع ٢ / ٢١٠.

ـ عمار بن ياسر. الطبراني ، وابن مردويه ، كما في الدر المنثور ٣ / ١٠٥. والحسكاني في الشواهد برقم (٣٣١) ، وابن كثير في التفسير ٢ / ٧١ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٧ عن الطبراني في الأوسط.

ـ المقداد بن الأسود الكندي. الحسكاني في الشواهد رقم (٢٣٤).

ـ محمد بن علي الباقر. ابن المغازلي في المناقب / ٣١٣ ، وفرات في تفسيره / ٣٦ ٣٧ ، وأبو نعيم في الحلية ، كما في الدر المنثور ٣ / ١٠٦ ، والكوفي في المناقب ٢ / ٤١٤ (٨٩٦).

ـ محمد بن الحنفية. الكوفي في المناقب ١ / ١٨٩ (١١٠) ، والحسكاني في الشواهد برقم (٢٢٤) و (٢٢٥) ، وفرات الكوفي في تفسيره / ٢٧ ، ٣٩ ، ٤١.

ـ مجاهد بن جبر. الطبري في تفسيره كما في الدر المنثور ٣ / ١٠٥ ، وابن كثير في تفسيره ٢ / ٧١. ـ

المشهور الذي لا يختلف فيه : أن عليا هو الذي آتى الزكاة وهو راكع. ثم أخبر تبارك وتعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن أولى الناس برسوله والمؤمنين أول من اتبعه ، فقال : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ...) [آل عمران : ٦٨] الآية ، (١) فكان إسماعيل أول من اتبع إبراهيم صلّى الله عليهما ، وكان علي رحمة الله عليه أول من اتبع محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبيّن الله تبارك وتعالى أن عليا أولى الناس برسول الله صلّى الله وآله ، لأن لا يشك فيه أحد ، فقال : (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦]. (٢) فليس يعلم أحد ممن قد أومئ إليه الناس أنه يستحق مقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجتمع فيه هذه الثلاث الخصال إلا علي رحمة الله عليه ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جمع له السبق إلى الإيمان والرحم والهجرة ، وهو أولى الناس برسول الله

__________________

ـ السدي. الطبري في تفسيره كما في الدر المنثور ٣ / ١٠٥.

ـ زيد بن علي. المرشد بالله في أماليه ١ / ١٣٧.

ـ عبد الملك بن جريح. الحسكاني في الشواهد برقم (٢٢٧).

ـ عتبة بن أبي حكيم. الطبري في تفسيره ٦ / ١٨٦.

ـ عطاء بن السائب. الحسكاني في الشواهد برقم (٢٢٦).

ـ سلمة بن كهيل. ابن كثير في البداية والنهاية ٧ / ٣٥٧ ، والتفسير ٢ / ٧١ ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، وابن عساكر ، كما في الدر المنثور ٣ / ١٠٥.

وهو في تفسير الزمخشري الكشاف ، وتفسير أبي البركات ١ / ٤٩٦ ، وتفسير النيسابوري ٣ / ٤٦١ ، والفصول المهمة لابن الصباغ المالكي / ١٢٣ ، ومطالب السئول لابن طلحة الشافعي / ٣١ ، وتذكرة الخواص لابن الجوزي / ٩ ، وفرائد السمطين للجويني في الباب الرابع عشر ، والمواقف للقاضي عضد الدين الإيجي ٣ / ٢٧٦ ، ونور الأبصار للشبلنجي / ٧٧ ، وروح المعاني للآلوسي ٢ / ٣٢٩ ، وغيرهم كثير كثير.

(١) الآية : (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

(٢) عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال : أما أرحامه فنحن هم. تفسير فرات الكوفي ١ / ٣٣١ (٤٥٠). وروى فرات الكوفي أيضا عن زيد بن علي عليهما‌السلام في الآية قال : أرحام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أولى بالملك والإمرة. تفسير فرات ١ / ١٥٥ (١٩٤).

عليه وآله السلام ، وأولى الناس بمقامه من الكتاب والسنة. وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال على المنبر : (والله لقد قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولأنا أولى الناس به مني بقميصي هذا) ، (١) وروي في الحديث المشهور : أن بريدة وقع في علي عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فتغير لون النبي وأظهر الغضب ، وقال يا بريدة أكفرت بعدي بالإيمان؟! قال أعوذ بالله من غضب رسول الله قال : (فإن عليا مني وأنا منه ، وهو وليكم بعدي) (٢). وقال علي أيضا وهو على المنبر : (عهد النبي الأمي إلي أن الأمة ستغدر بي من بعده) (٣) ثم سماه الله من نفس رسوله ، فقال في كتابه : (فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١)) [آل عمران : ٦١] ، فكان (٤) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خير الصادقين ، وأمر الله العباد أن يكونوا مع الصادقين ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ

__________________

(١) لم أقف على هذا الأثر عن علي عليه‌السلام.

(٢) أخرجه النسائي في الخصائص / ٦٨ ، وابن المغازلي في المناقب / ٢٢٥ (٢٧١) ، وأحمد ٥ / ٣٥٦ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٢٨ ، وقال : رواه أحمد ، والبزار ، والطبراني في الأوسط. ورواه الذهبي في تاريخ الإسلام ٢ / ١٩٥ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ١٢٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥ / ١١٨ (٣٣٩) ، وقال : رواه أبو نعيم ، وابن جرير.

والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٣٤٢ ، وأبو نعيم في حلية الأولياء ٤ / ٢٣ ، وابن عساكر في تاريخه ١ / ٣٣٩ (٤٦٥) ، (٤٦٦) ، (٤٦٧) ، (٤٦٨) ، (٤٦٩) ، (٤٧٠) ، (٤٧١) ، (٤٧٢) ، (٤٧٣) ، (٤٧٤) ، (٤٧٥) ، (٤٧٦) ، (٤٧٧) ، (٤٧٨) ، (٤٧٩) ، (٤٨٠) ، (٤٨١) ، (٤٨٢) ترجمة الإمام علي.

وأخرجه الكوفي في المناقب ١ / ٤٢٤ (٣٣١) ، ١ / ٤٤٩ (٣٤٨) ، والترمذي في السنن ٥ / ٢٩٦ (٣٧٩).

(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٠ ، ١٤٢ ، والخطيب في تاريخه ١١ / ٢١٦ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٦ / ٧٣ ، وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ، والحارث ، والبزار ، والحاكم ، والعقيلي ، والبيهقي في الدلائل. وفي الكنز أيضا ٦ / ٩٧٥ ، وقال : أخرجه الدارقطني في الأفراد ، والحاكم ، والخطيب. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٣٧ ، وقال : رواه البزار. والمناوي في كنوز الحقائق / ١٨٨ ، قال : أخرجه أبو يعلى. وأبو نعيم في الحلية ١ / ٦٦ نحوه. وكذلك ابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ٢ / ٢٣٩ (٧٤٢) ، وكذلك في مناقب محمد بن سليمان الكوفي ١ / ٤١٠ (٣٢٦).

(٤) في المخطوط : فكان خبر رسول الله صلّى الله عليه خير ... لعلها زيادة سهو من النساخ.

وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (١١٩)) [التوبة : ١١٩] ، (١) وفرض الله اتباع العلماء فقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٤٣)) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧] ، (٢) وسمى الله رسوله ذكرا فقال : (فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) أخرج فرات الكوفي في تفسيره ١٥ / ١٧٣ (٢٢٠) عن أبي جعفر الباقر في الآية قال : مع علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وكذلك برقم (٢٢١) ، كذلك برقم (٢٢٢) عن ابن عباس وكذلك عن ابن عباس برقم (٢٢٣) ، وعن مقاتل مثله برقم (٢٢٤).

وأخرجه ابن عساكر في تاريخه ترجمة الإمام علي ٢ / ٤٢١ (٩٣٠) عن أبي جعفر ، والكنجي في كفاية الطالب / ٢٣٦ الباب (٦٢) ، والحموئي في فرائد السمطين في الباب (٦٢) الحديث (٢٩٩).

وأخرجه الحاكم في شواهد التنزيل ١ / ٢٥٩ (٣٥٠) عن جعفر بن محمد ، وعن ابن عباس برقم (٣٥١٠) ، وعن ابن عباس أيضا برقم (٣٥٢) و (٣٥٤) ، وعن أبي جعفر برقم (٣٥٣) و (٣٥٥) ، وعن عبد الله بن عمر برقم (٣٥٧) بلفظ : يعني محمدا وأهل بيته. ورواه الحبري في تفسيره / ٢٦٥ (٣٥).

وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس ، وابن عساكر عن أبي جعفر الباقر ، روى ذلك عنهما السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣١٦. ورواه الشوكاني في فتح القدير ٢ / ٣٩٥. والخوارزمي في المناقب / ٥٣ ، والقندوزي في ينابيع المودة / ١٤٠ الباب (٣٩).

وأخرج أيضا عن أبي سعيد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه حين نزلت الآية قال : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية؟ قالوا : لا والله ، يا رسول الله ما ندري ، فقال أبو دجانة : يا رسول الله كلنا من الصادقين ، قد آمنا بك وصدقناك ، قال : لا يا أبا دجانة هذه نزلت في ابن عمي علي بن أبي طالب خاصة دون الناس ، وهو من الصادقين. تفسير فرات ١ / ١٧٤ (٢٢٥).

(٢) أخرج فرات الكوفي في تفسيره ١ / ٢٣٥ (٣١٥) عن أبي جعفر قال : نحن أهل الذكر ، وعنه أيضا برقم (٣١٦) : هم آل محمد.

وعن زيد بن علي عليهما‌السلام عن قول الله (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) قال : إن الله سما رسوله في كتابه ذكرا فقال : (أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً) [الطلاق / ١٠] ، وقال : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) تفسير فرات ١ / ٢٣٥ (٣١٧).

وأخرج ابن جرير الطبري في تفسيره ١٤ / ١٠٨ عن علي عليه‌السلام قال : نحن أهل الذكر.

وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٣٠ (٧١) عن أبي جعفر.

وأخرجه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٣٤ (٤٥٩) عن علي عليه‌السلام ، وبرقم (٤٦٠ ٤٦٦) عن أبي جعفر.

إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً) [الطلاق : ١٠ ـ ١١] ، فأهل بيته المصطفون الطاهرون العلماء هم الذين أوجب الله سبحانه أن يسألوا ، وأن يكونوا متبوعين غير تابعين ، لأن الله يقول في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) [الحجرات : ١] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)) [الحجرات : ٢]. وقال تبارك وتعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ) [النساء : ٦٥] (١) وقال : (اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) [الأعراف : ٣] ، وقال : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٧)) [الحشر : ٧]. وقال رسول الله صلّى الله عليه : (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ألا إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، ألا وإنهما الخليفتان من بعدي) (٢).

__________________

(١) الآية : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً).

(٢) هذا الحديث ورد بألفاظ متفاوتة فممن أخرجه وفيه لفظ (وعترتي) الإمام زيد بن علي في المسند / ١٠٤ ، والإمام الرضى في الصحيفة / ٤٦٤ ، والحافظ محمد بن سليمان الكوفي في مناقبه المطبوعة / ١٦٧ رقم (٦٤٦) ، والإمام أبو طالب في الأمالي ١٧٩ ، والمرشد بالله في الأمالي / ١٥٢ ، والدولابي في الذرية الطاهرة / ١٦٦ رقم (٢٢٨) والبزار ٣ / ٨٩ رقم (٨٦٤) عن علي.

وأخرجه مسلم ١٥ / (بشرح النووي) ١٩٩ ، والترمذي ٥ / ٦٢٢ رقم (٣٧٨٨) ، وابن خزيمة ٤ / ٦٢ رقم (٢٣٥٧) ، والطحاوي في مشكل الآثار ٤ / ٣٦٨ ـ ٣٦٩ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ٤١٨ ، وابن عساكر في تاريخ دمشق ٥ / ٣٦٩ (تهذيبه) ، والطبري في ذخائر العقبى ١٦ ، البيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٣٠ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ رقم (٤١٦٩) ، والنسائي في الخصائص ١٥٠ رقم (٢٧٦) ، والدارمي ٢ / ٤٣١ ، وابن المغازلي في المناقب ٢٣٤ ، ٢٣٦ ، وأحمد في المسند ٤ / ٣٦٧ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٢ / ١٢ ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٨ ، وصححه وأقره الذهبي عن زيد بن أرقم. وأخرجه عبد بن حميد ١٠٧ ـ ١٠٨ (المنتخب) ، وأحمد ٥ / ١٨٢ و ١٨٩ ، والطبراني في الكبير ٥ / ١٦٦ ، وأورده السيوطي في الجامع الصغير ١٥٧ رقم (٢٦٣١) ، ورمز له بالتحسين ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٦ رقم (٩٤٥) ، وعزاه إلى ابن حميد وابن الأنباري عن زيد بن ثابت وأخرجه أبو يعلى في المسند ٢ / ١٩٧ و ٣٧٦ ، وابن أبي شيبة في المصنف ٧ / ١٧٧ ، والطبراني في الصغير ١ / ١٣١ و ١٣٥ ـ

ثم دل على الحسن والحسين صلوات الله عليهما وعلى أبيهما وأمهما ، فقال : ([الحسن والحسين] سيدا شباب أهل الجنة ، وأبوهما خير منهما) ، (١) وقال : (اللهم حب

__________________

ـ و ٢٢٦ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٧ ، ٦ / ٢٦ ، وهو في كنز العمال ١ / ١٨٥ رقم (٩٤٣) ، وعزاه إلى البارودي ورقم (٩٤٤) ، وعزاه إلى ابنه أبي شيبة ، وابن سعد ، وأبي يعلى. عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه ٨ / ٤٤٢ ، وهو في الكنز ١ / ١٦٨ ، وعزاه إلى الطبراني في الكبير عن حذيفة بن أسيد.

وأخرجه الترمذي في السنن ٥ / ٦٢١ رقم (٣٧٨٦) ، وذكره في كنز العمال ١ / ١١٧ ، رقم (٩٥١) ، وعزاه إلى ابنه أبي شيبة ، والخطيب في المتفق والمفترق عن جابر بن عبد الله. والكنجي في كفاية الطالب ١١ ، وابن سعد في الطبقات ٤ / ٨ ، ورواه في العقد الفريد ٢ / ٩٥٨ ، و ٣٤٦. وفي تذكرة الخواص / ٣٣٢ ن ورواه نور الدين الحلبي في إنسان العيون ٣ / ٣٠٨ ، والعزيزي في السراج المنير شرح الجامع الصغير ١ / ٣٢١ ، وابن الصباغ في الفصول المهمة / ٢٤ ن وشهاب الدين الخفاجي في نسيج الرياض ٣ / ٤١٠ ، والثعلبي في الكشف والبيان عن تفسير آية الاعتصام ، وآية (أيها الثقلان). والرازي في تفسير آية الاعتصام ٣ / ١٨ وهو في تفسير النظام النيسابوري ١ / ٢٥٧ ، ٤ / ٩٤ ، وفي تفسير ابن كثير الدمشقي ٣ / ٤٨٥ ، و ٤ / ١١٣ ، ورواه في البداية والنهاية في ضمن حديث الغدير وابن الأثير في النهاية الجزء الأول ، والسيوطي في الدر المنثور / ١٥٥ ، وذكره في لسان العرب في مادة عترة ومادة ثقل وحبل ، والشيرازي في القاموس في مادة ثقل ، والزبيدي في تاج العروس في مادة ثقل أيضا. وشرح نهج البلاغة ٦ / ١٣٠ في معنى العترة ، ومدارج النبوة لعبد الحق الدهلوي / ٢٥٠ ، والمناقب المرتضوية لمحمد صالح الترمذي الكشفي / ٩٦ ، ٩٧ ، ١٠٠ ، ٤٧٢ ، ومفتاح كنوز السنة ٢ / ٤٤٨ ، ومصابيح السنة للبغوي ٢ / ٢٠٥ ، ٢٠٦. والصواعق المحرقة / ٧٥ ، ٨٧ ، ٩٠ ، ٩٦ ، ١٣٦ ، وإسعاف الراغبين في هامش نور الأبصار / ١١٠. وينابيع المودة / ١٨ ، ٢٥.

(١) أخرجه الترمذي ٢ / ٣٠٦ عن أبي سعيد الخدري ، وأخرجه أحمد (٣ / ٣ ، ٦٢ ، ٨٢) ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٧١ ، والبغدادي في تاريخه (٩ / ٢٣١ ، ٢٣٢) وفي ١٠ / ٩٠ ، وابن حجر في تهذيب التهذيب ٣ / ٣٠٢ في ترجمة زياد بن جبير ، وسويد بن سعيد ٤ / ٢٣٩ ، والنسائي في الخصائص / ٢٥٥ (١٤٠) و (١٤١).

وأخرجه الترمذي ٢ / ٣٠٧ أيضا عن حذيفة ، وأحمد بن حنبل ٥ / ٣٩١ ، وأبو نعيم في الحلية ٤ / ١٩٠ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٥ / ٥٧٤ ، والمتقي في كنز العمال ٦ / ٢١٧ ، وقال : أخرجه الروياني ، وابن حبان في صحيحه عن حذيفة ، وفي ٦ / ١١٨ وقال : أخرجه ابن عساكر عن حذيفة ، وفي ٧ / ١٠٢ وقال : أخرجه ابن جرير عن حذيفة. وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ٣٨١ ، وأخرجه عن حذيفة أيضا الخطيب في تاريخه ٦ / ٣٧٢١٠ / ٢٣٠ ، والمتقي في كنز العمال ٧ / ١٠٨ وقال : أخرجه الطبراني ـ

__________________

وابن عساكر.

وأخرجه ابن ماجة عن ابن عمر ١ / ٤٤ (١١٨) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٦٧.

وأخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٦٧ عن عبد الله بن مسعود ، وأبو نعيم في الحلية ٥ / ٥٨.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية ٤ / ١٣٩ عن إبراهيم بن يزيد التميمي عن أبيه في حديث طويل ، وفي ٤ / ١٤٠.

والخطيب البغدادي في تاريخه ١ / ١٤٠ عن علي عليه‌السلام ، وفي ٢ / ١٨٥ ، وفي ١٢ / ٤.

ورواه ابن حجر في الإصابة ١ / ٢٦٦ عن جهم ، والمتقي الهندي في الكنز ٧ / ١٠٨ ، وقال : أخرجه ابن مندة ، وأبو نعيم ، وابن عساكر.

وأخرجه ابن حجر في الإصابة ٦ / ١٨٦ في ترجمة مالك بن الحويرث الليثي ، ورواه المتقي في الكنز ٦ / ٢٢٠ ، وقال : أخرجه الطبراني عن قرة ، وعن مالك بن الحويرث.

ورواه في الكنز ٦ / ٢٢٠ ، وقال : أخرجه الطبراني عن عمر ، وعن علي عليه‌السلام ، وعن جابر ، وعن أبي هرير ، قال : وأخرجه الطبراني في الأوسط عن أسامة بن زيد ، وعن البراء بن عازب ، وابن عدي ، عن ابن مسعود.

وقال في صفحة / ٢٢٠ أيضا ما هذا لفظه : من سره أن ينظر إلى سيد شباب أهل الجنة ، فلينظر إلى الحسن بن علي ، قال : أخرجه أبو يعلى عن جابر.

ورواه في الكنز ٦ / ٢٢١ ، وقال : أخرجه الطبراني ، وابن النجار ، عن أبي هريرة.

ورواه في الكنز ٦ / ٢٢١ أيضا ، وقال : أخرجه ابن عساكر عن ابن عباس.

وفي الكنز ٦ / ٢٢١ ، وقال : أخرجه الطبراني عن أسامة بن زيد.

وفي الكنز ٦ / ٢٢١ ، وقال : أخرجه ابن عساكر عن أبي رمثة.

وفي الكنز ٧ / ١٠٧ عن أنس ، وقال : أخرجه أبو نعيم.

وفي الكنز ٧ / ١١١ عن علي عليه‌السلام : وقال : أخرجه البزار.

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٨٢ عن عمر بن الخطاب ، وقال : رواه الطبراني.

وفي المجمع ٩ / ١٨٣ أيضا عن قرة بن أياس ، وقال : رواه الطبراني.

وفيه أيضا ٩ / ١٨٤ عن الحسين بن علي عليهما‌السلام ، وقال : رواه الطبراني.

والطبري في ذخائر العقبى / ١٢٩ عن أبي بكر ، وقال : أخرجه ابن السمان في الموافقة.

وفيها أيضا / ١٣٠ عن جابر ، وفيها أيضا / ١٢٩ ، وقال : أخرجه أبو حاتم.

ورواه أيضا الهيثمي في المجمع ٩ / ١٨٧ ، وقال : رواه أبو يعلى.

والطبري في الذخائر / ١٣٥ عن علي بن الهلالي عن أبيه.

وهو في كنوز الحقائق للمناوي / ٨١.

من أحبهما) ، (١) وقال : (تعلموا منهما ولا تعلموهما فهما أعلم منكم) (٢). وقال لهما ولأبيهما : (أنا حرب لمن حاربهم وسلم لمن سالمهم) ، (٣) وقال : (النجوم أمان لأهل السماء وأهل بيتي أمان لأمتي) (٤) ، وسماهما الله ابنيه في كتابه ، (١) وفرض مودتهما ، ولهما

__________________

(١) أخرجه الترمذي ٢ / ٢٤٠.

ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ٦ / ٢٢٠ ، وقال : أخرجه ابن حبان عن أسامة بن زيد.

والمتقي الهندي في الكنز ٦ / ٢٢١ ، وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ، والطبراني عن أبي هريرة.

ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٨٠ ، وقال : رواه البزار.

ورواه المتقي في الكنز ٧ / ١٠٨ ، وقال : أخرجه الطبراني عن أبي هريرة.

(٢) أخرج المرشد بالله في أماليه ١ / ١٥٦ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تعلموا أهل بيتي فهم أعلم منكم ، ولا تشتموهم فتضلوا.

وروي عن علي عليه‌السلام أنه قال في خطبة له : ولا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. نهج السعاد ٣ / ٢٠ للمحمودي مستدرك نهج البلاغة.

(٣) أخرجه الترمذي ٢ / ٣١٩ عن زيد بن أرقم ، وابن ماجة ١ / ٥٢ (١٤٥) ، والحاكم ٣ / ١٤٩ ، وابن الأثير في أسد الغابة ٥ / ٥٢٣ ، ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ٦ / ٢١٦ ، نقلا عن ابن حبان في صحيحه ، وفيه أيضا ٧ / ١٠٢ ، وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ، والترمذي ، وابن ماجة ، وابن حبان ، والطبراني ، والحاكم ، والضياء المقدسي. ورواه الطبري في ذخائر العقبى / ٢٥ ، وقال : أخرجه أبو حاتم.

وأخرجه أحمد ٢ / ٤٤٢ عن أبي هريرة ، والحاكم في المستدرك ٣ / ٦١ (٤٧١٤) ، والبغدادي في تاريخه ٧ / ١٣٦ ، والمتقي في الكنز ٦ / ٢١٦ ، وقال : رواه الطبراني. والسيد أبو طالب في الأمالي / ٨٥.

وأخرج ابن الأثير في أسد الغابة ٣ / ١١ عن صبيح مولى أم سلمة ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٦٩ ، وقال : رواه الطبراني.

وأخرجه الطبري في الرياض النضرة ٢ / ١٩٩ عن أبي بكر.

وأخرجه الطبري أيضا في الرياض النضرة عن أم سلمة ، وقال : أخرجه القباني في معجمه.

وأخرجه ابن مردويه عن أبي سعيد ، رواه عنه السيوطي في الدر المنثور في تفسير آية التطهير في سورة الأحزاب.

(٤) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣ / ١٤٩ ، عن ابن عباس ، ورواه ابن حجر في الصواعق المحرقة / ١٤٠ ، وأخرجه الحاكم أيضا ٣ / ٤٥٨ عن محمد بن المنكدر ، عن أبيه.

ورواه في كنز العمال ٦ / ١١٦ ، وابن حجر في الصواعق المحرقة / ١١١ ، وقالا : أخرجه أبو يعلى عن سلمة بن الأكوع ، ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٩ / ١٧٤ ، وقال : أخرجه الطبراني.

ورواه المناوي في فيض القدير ٦ / ٢٩٧ في المتن ، وقال في الشرح : ورواه عنه أيضا سلمة بن الأكوع ، ـ

__________________

والطبراني ، ومسدد ، وابن أبي شيبة. وأخرجه السيد المرشد بالله في أماليه ١ / ١٥٥ عن سلمة أيضا.

ورواه المتقي الهندي في كنز العمال ٧ / ٢١٧ ، وقال : أخرجه ابن أبي شيبة ، ومسدد ، والحكيم ، وأبو يعلى ، والطبراني ، وابن عساكر عن سلمة بن الأكوع.

ورواه الطبري في ذخائر العقبى / ١٧ عن أياس بن سلمة عن أبيه ، وقال : أخرجه أبو عمرو الغفاري.

ورواه الطبري أيضا في الذخائر / ١٧ عن علي عليه‌السلام ، وقال : أخرجه أحمد في المناقب.

(١) قال تعالى : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) [آل عمران / ٦١] عن عمرو بن سعيد بن معاذ ، قال : قدم وفد نجران العاقب والسيد ، فقالا : يا محمد إنك تذكر صاحبنا؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو عبد الله ونبيه ورسوله. قالا : فأرنا فيمن خلق الله مثله ، وفيما رأيت وسمعت. فأعرض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنهما يومئذ ، ونزل عليه جبريل بقوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) [آل عمران / ٥٩] فعادا وقالا : يا محمد هل سمعت بمثل صاحبنا قط؟! قال : نعم. قالا : من هو؟ قال : آدم ، ثم قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ...) الآية. قالا : فإنه ليس كما تقول. فقال لهم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ ...) الآية. فأخذ رسول الله بيد علي ومعه فاطمة وحسن وحسين ، وقال : هؤلاء أبناؤنا وأنفسنا ونساؤنا. فهمّا أن يفعلا ، ثم إن السيد قال للعاقب : ما تصنع بملاعنته؟! لئن كان كاذبا ما تصنع بملاعنته ، ولئن كان صادقا لنهلكن!! فصالحوه على الجزية ، فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ : والذي نفسي بيده لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحد.

روى نزول الآية في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام جمع كبير من المحدثين والمفسرين عن كثير من الصحابة والتابعين ، ومنهم :

ـ جابر بن عبد الله ، ابن كثير في تفسيره ١ / ٣٧١ نقلا عن المستدرك للحاكم وحكم بصحته ، وفي دلائل النبوة لأبي نعيم / ١٢٤ ، وأسباب النزول للواحدي / ٧٥ ، ومناقب ابن المغازلي / ٢٦٣ (٣١٠) ، والحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ١٢٠ (١٦٨) عن عمرو بن سعيد بن معاذ ، والدر المنثور ٢ / ٣٨ ٣٩ ، وفتح القدير ١ / ٣١٦.

ـ أبي رافع ، تفسير فرات الكوفي ١ / ٨٦ (٦٣).

ـ أبي رياح مولى أم سلمة ، ينابيع المودة للقندوزي / ٢١٩ الباب (٥٦).

ـ أبي البختري ، شواهد التنزيل ١ / ١٢٨ (١٧٦).

ـ أبي هارون ، تفسيرات فرات الكوفي ١ / ٨٩ (٦٨).

ـ أبي سعيد الخدري ، تفسير الحبري / ٢٤٨ (١٣).

ـ حذيفة بن اليمان ، شواهد التنزيل ١ / ١٢٦ (١٧٤).

__________________

ـ الحسن البصري ، أسباب النزول للواحدي / ٧٤ ٧٥.

ـ زيد بن علي ، تفسير الطبري ٣ / ٢١٢.

ـ السدي ، تفسير الطبري ٣ / ٢١٢.

ـ سعد بن ابي وقاص ، مسلم في صحيحه ٧ / ١٢٠ ١٢١ ، وعنه في الصواعق المحرقة / ٧٢ ، وكفاية الطالب / ١٤٢ الباب (٣٢) ، والعمدة لابن البطريق / ٩٥ ٩٦ الباب (٢٢) ، وجامع الأصول ٩ / ٤٦٩.

وأحمد بن حنبل في المسند ١ / ١٨٥. والترمذي في سننه ٤ / ٢٩٣ ٢٩٤ ، وقال : هذا حديث حسن غريب صحيح. ورواه أيضا ٥ / ٣٠١ ٣٠٢ ، وعنه في جامع الأصول ٩ / ٤٦٩ ، ١٠ / ١٠٠ ، وعنه في المناقب للخوارزمي / ٥٩ ٦٠.

ـ محمد بن إسحاق ، شواهد التنزيل ١ / ١٢٤ (١٧٢) ، وأمالي الطوسي ١ / ٣١٣.

ـ موسى بن هارون ، مستدرك الحاكم ٣ / ١٥٠ وصححه ووافقه الذهبي.

ـ محمد بن عباد ، عن حاتم بن إسماعيل ، صحيح مسلم ٧ / ١٢٠ ١٢١. وفي الدر المنثور ٢ / ٣٩ قال السيوطي : وأخرج مسلم ، والترمذي ، وابن المنذر ، والبيهقي في سننه عن سعد ، وفي مصابيح السنة للبغوي ٢ / ٢٧٧ عن الصحاح ، وأورده في تيسير الوصول ٣ / ٢٧٢ عن مسلم ، والترمذي. وفي الإصابة ٢ / ٥١٩ عن سعد ، وفي ذخائر العقبى / ٢٥ عن مسلم ، والترمذي وفيه (عن أبي سعيد) وهو خطأ ، ومثله في الرياض النضرة / ٢٤٨.

ـ عامر الشعبي ، رواه عنه أبو داود الطيالسي ، نقله ابن كثير في تفسيره ١٥ / ٣٧١ ، عن مستدرك الحاكم ، وقال ابن كثير بعد نقل الرواية عن الشعبي : وهذا أصح.

ـ ابن حميد ، تفسير الطبري ٣ / ٢١١ ، ومنتخب كنز العمال ١ / ٤٢٩ ، عن عبد بن حميد ، وابن جرير ، وتفسير فرات ١ / ٨٦ (٦٤) و (٦٥).

ـ شهر بن حوشب ، تفسير فرات الكوفي ١ / ٨٨ (٦٧).

ـ سلمة بن يشوع ، عن أبيه ، عن جده ، البداية والنهاية ٥ / ٥٣ ٥٤ ، والدر المنثور ٢ / ٢٢٩ (١٧١) عن البيهقي في الدلائل.

ـ ابن عباس ، تفسير الحبري / ٢٤٩ (١٤) ، وتفسير فرات الكوفي ١ / ٨٩ (٦٩) ، وشواهد التنزيل ١ / ١٢٧ (١٧٥) ، ١ / ٢٢ (١٦٩).

ـ محمد بن مروان ، دلائل النبوة / ١٢٤ ١٢٥.

ـ محمد بن علي الباقر ، فرات الكوفي ١ / ٨٦ (٦١) و (٦٢).

ـ علباء بن أحمر اليشكري ، تفسير الطبري ٣ / ٢١٣. وانظر تفسير الزمخشري ، والفخر الرازي وغيرهما.

آية الخمس ، (١) ولهما الفيء ، (٢) ولهما آية التطهير ، قال الله : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى

__________________

(١) أخرج الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٢١٨ (٢٩٢) عن علي عليه‌السلام في قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) [الأنفال / ٤١] ، قال: لنا خاصة ، وأخرجه أحمد ١ / ٨٤ (٦٤٦) ، والحاكم في المستدرك ٢ / ١٢٨ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٦ / ٣٤٤.

وأخرج الحاكم أيضا في الشواهد ١ / ٢١٩ (٢٩٣) عن فاطمة عليها‌السلام حديثا مفاده أن رسول الله أعطى الخمس لعلي. ونحوه أيضا في الشواهد ١ / ٢١٩ (٢٩٣) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى .... والكوفي في المناقب ١ / ٤٤٦ (٣٤٦).

وأخرج عن مجاهد في الشواهد ١ / ٢٢٠ (٢٩٥) في قوله تعالى (وَلِذِي الْقُرْبى) قال : هم أقارب النبي ، الذين لم يحل لهم الصدقة ، ونحوه أيضا عن مجاهد ١ / ٢٢١ (٢٩٦) ، وأخرج نحوه أيضا عن قتادة ١ / ٢٢١ (٢٩٧).

وأخرج نحوه أيضا عن ابن عباس ١ / ٢٢١ (٢٩٨).

وأخرج ابن جرير في تفسيره ١٠ / ٨ عن المنهال بن عمرو قال : سألت عبد الله بن محمد بن علي ، وعلي بن الحسين عن الخمس؟ فقالا : هو لنا؟ فقلت : لعلي إن الله يقول (وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) قال : يتامانا ومساكيننا. ورواه الثعلبي عن المنهال رواه عنه الطبرسي في مجمع البيان ٣ / ١٥٠

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (وَما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ...) [الحشر / ٦ ـ ٧]. وقوله تعالى : (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الإسراء / ٢٦] ، وقوله تعالى : (فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) [الروم / ٣٨].

أخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة سلام الله عليها فأعطاها فدكا ، قال : وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة سلام الله عليها فدكا. الدر المنثور ٥ / ٢٧٣ ، ٢٧٤. ورواه الهيثمي عن أبي سعيد. مجمع الزوائد ٧ / ٤٩. وقال رواه الطبراني. وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٢٢٨ وصححه. والمتقي الهندي في كنز العمال ٢ / ١٥٨ وقال : أخرجه الحاكم في تاريخه ، وابن النجار.

وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٥٩ (٩٥). ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٤١. ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٤٢. وأخرجه أبو يعلى ٢ / ٣٣٤ ـ

حَقَّهُ) [الروم : ٣٣] ، فدل عليهما بأعيانهما وأنساهما وأفعالها ، الا أن الحسن يتقدم الحسين بالسن ، وهما جميعا في وقتهما (إمامان قاما أو قعدا) (١).

ثم دل على أولادهما فقال : (إن تمسكتم بالكتاب وبهم لن تضلوا أبدا).

ودل على المهدي باسمه ونسبه وفعله (٢).

ودل على أبرار العترة الأتقياء المصطفين المطهرين بالنسب المصطفى الطاهر ، والأعمال الطاهرة الزكية التي توافق الكتاب والسنة. فأكثرهم بالكتاب تمسكا أوجبهم على المسلمين حقا ، والشريطة التي توجب لهم أن يستحقوا مقام الرسول ، وأن يكونوا متبوعين غير تابعين ، العلم ، والجهاد ، وأداء الأمانات إلى أهلها ، فمن كان فيه هذه

__________________

ـ (١٠٧٥).

وقصة مطالبة الزهراء أبا بكر في فدك ومجيء الزهراء بعلي وأم أيمن شاهدين لها. رواها البلاذري في فتوح البلدان / ٣٤ ٣٥.

(١) الحديث متلقى بالقبول عندنا.

(٢) أخرج الترمذي ٢ / ٣٦ عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتى يواطئ اسمه اسمي.

وأخرجه أبو نعيم في الحلية ٥ / ٧٥ ، وأحمد ١ / ٣٧٦ ، والبغدادي في تاريخه ٤ / ٣٨٨ ، وفي كنز العمال ٧ / ١٨٨ ، وقال : أخرجه الطبراني عن ابن مسعود ، وفي ذخائر العقبى / ١٣٦ عن حذيفة.

وأما فعله :

فقد أخرج أحمد في مسنده ٣ / ١٧ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا تقوم الساعة حتى يملك رجل من أهل بيتي أجلى أقنى ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت قبله ظلما ، يكون سبع سنين.

وروى الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ٣١٥ عن أبي هريرة قال : حدثني خليلي أبو القاسم قال : لا تقوم الساعة حتى يخرج إليهم رجل من أهل بيتي فيضربهم حتى يرجعوا إلى الحق ... قال : رواه أبو يعلى. وروى أيضا في مجمع الزوائد ٧ / ٣١٧ عن أبي سعيد الخدري ، قال : سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ، ينزل الله عزوجل له القطر من السماء ، وينبت الله له الأرض من بركتها ، تملأ الأرض منه قسطا وعدلا ، كما ملئت جورا وظلما ... قال : رواه الترمذي ، وابن ماجة باختصار.

الخصال الأربع (١) وجب على أهل بيته وعلى المسلمين اتباعه ، ومعاونته على البر والتقوى. قال الله في كتابه : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٢) [المائدة : ٢]. فمتى كان منهم العلم ، والزهد ، والتقوى ، كان(٣) على الناس أن يقتبسوا من عامه ، وأن يهتدوا بهداه ، (٤) فأفعالهم الصالحة ، ونسبهم الطاهر الدال عليهم. وحسبنا الله ونعم الوكيل.

* * *

__________________

(١) التي هي : الانتساب إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والعلم ، والجهاد ، وأداء الأمانات إلى أهلها.

(٢) في المخطوط : وكان. الواو زيادة سهو. لأن الجملة جواب الشرط.

(٣) في المخطوط : بهدايه. ولعل الصواب ما أثبت.

الإمامة

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الإمام القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه :

يسأل الذين قدموا أبا بكر. فيقال لهم : خبرونا عن جميع ما جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله من الله ، وأمرنا به من طاعة الله ، ما هو وهل يخلو من ثلاثة أوجه؟!

إما فريضة أوجبها عليهم من الله.

وإما سنّة سنها لهم.

وإما تطوع أمرهم به على الترغيب فيه ، إن شاءوا فعلوه ، وإن شاءوا تركوه.

فمن قولهم : لا يخلو من أحد هذه الثلاثة الوجوه ، ولا سبيل لهم إلى أكثر من ذلك ؛ لأن ما أمرهم به رسول الله صلى الله عليه أحد هذه الثلاث الخصال.

يقال لهم : فأخبرونا عن هذه الفرائض التي أمرهم النبي بها عليه‌السلام ، عن الله ، معروفة معلومة ، أو مجهولة غير معروفة؟

فمن قولهم : لا. بل معروفة غير مجهولة.

فيقال لهم : فمثل أيّ شيء؟

فمن قولهم : مثل صلاة الظهر أربع ركعات ، وصلاة المغرب ثلاث ركعات ، والصبح ركعتان ، ومثل الزكاة من مأتي درهم خمسة دراهم ، ومن أربعين دينارا دينار ، ومثل فرائض المواريث للبنت النصف ، وللذكر مثل حظ الأنثيين.

فيقال لهم : هل يجوز لأحد أن يحوّل هذه الفرائض فيجعلها على خلاف ما فرض الله؟

فإن قالوا : نعم. أبطلوا جميع الفرائض. وإن قالوا : ما تعنون بقولكم يحوّلها؟

قيل لهم مثل المغرب يجعلها ركعتين ، ومثل الصبح يجعلها ثلاثا ، ومثل أن يفرض للبنت الواحدة الثلث ، ويعطي الذكر مثل حظ الأنثى ، وفي ست من الإبل شاة ، وفي مأتي درهم ثلاثة دراهم ، وفي ثلاثين من الغنم شاة ، وفي عشرين من البقر بقرة.

فمن قولهم : هذا لا يجوز.

قيل لهم : لم لا يجوز؟

فإن قالوا : لأن هذه الفرائض جاء بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معروفة معلومة محدودة ، فإن زادوا فيها أو نقصوا خالفوا الله ورسوله فيما أمرهم به ، وفرضه عليهم ، وفي خلاف هذا هدم الدين.

قيل لهم : فجميع الفرائض على هذه الحال؟

فإن قالوا : لا. تركوا قولهم إنه لا يجوز أن يتركوا ما أمرهم الله به. فيكون في قولهم إنه يجوز في بعض ولا يجوز في بعض.

وإن قالوا : لا يجوز النقصان ولا الزيادة في جميع الفرائض.

قيل لهم : هذه الفرائض قد أجمعتم عليها أنه لا يجوز فيها زيادة ولا نقصان. فأخبرونا من السنن ما هي عندكم؟ فمن قولهم مثل مواقيت الصلاة ، الظهر إذا زالت الشمس ، والمغرب إذا غربت ، والصبح إذا طلع الفجر ، ومثل زكاة الفطر ، ومثل صلاة الوتر بالليل ثلاث ، وركعتان قبل الصبح ، ومثل هذا من المناسك والسنن.

قيل لهم : ما تقولون : هل يجوز لأحد أن يحوّل هذه السنن عن جهاتها ، فيجعل الوتر بالنهار ، ووقت الظهر لوقت العصر ، وصلاة النهار بالليل ، وزكاة الفطر في الأضحى ، وركعتي الفجر قبل الصبح ، وكل شيء من السنن يحوّلها على هذا النحو؟!

فمن قولهم وقولنا : لا يجوز تحويل هذه الأشياء على خلاف ما سنها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قيل لهم : وكذلك جميع السنن!

فإن قالوا : نعم. قادوا قولهم إنه لا يجوز تغيير شيء من سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما لا يجوز تغيير شيء من الفرائض التي ذكرنا.

قيل لهم : فما تقولون في التطوع؟

فإن قالوا : الناس كلهم في التطوع بالخيار ، إن شاءوا فعلوه وإن شاءوا تركوه ، وكذلك قول الله تعالى : (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) [البقرة : ١٨٤].

يقال لهم عند ذلك : ما تقولون في الإمامة هي من دين الله أم من غير دين الله؟

فإن قالوا : ليست من دين الله ، لزمهم في إجماع من أجمع على إمامة أبي بكر أنهم لم يكونوا على دين الله.

وإن قالوا : الإمامة من دين الله.

قيل لهم : من أي دين الله؟! من الفرائض ، أم من السنن ، أم من التطوع؟! فقد زعمتم أن الدين لا يخلو من أحد هذه الثلاثة الوجوه.

فإن قالوا من الفرائض.

قيل لهم : كيف فرض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الإمامة لأبي بكر ، سماه لكم رسول الله صلى الله عليه باسمه وعيّنه ، أو دلّ عليه بصفته ، أو تركها شورى ، أو سكت فلم يقل من ذلك شيئا؟! ولا بد من إحدى هذه الخصال ولا خامسة معهنّ.

فإن قالوا : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نص لنا أبا بكر بعينه واسمه ونسبه.

قيل لهم : فما بالهم وقفوا عنه ثلاثة أيام يشاورون فيه ، وقد سماه رسول الله باسمه ونصبه بعينه ، وما بال أبي بكر ، قال لهم : أنا أرضى لكم أحد هذين الرجلين ، فبايعوا أحدهما أبا عبيدة بن الجراح ، أو عمر بن الخطاب؟ فقال أبو عبيدة وعمر لسنا نفعل ولا نبايع أحدا إلا أنت ، ابسط يدك حتى نبايعك. فبسط يده فبايعاه (١). فسماه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسمه ونصبه بعينه؟! وهو يقول : بايعوا أبا عبيدة أو عمر! هذا خلاف ما فرض الله عليهم ، أن يكون رسول الله سماه وهم يتشاورون فيه! وهو أيضا يسمي لهم وينص على من لم يسمّه رسول الله ولم يرضه لهم!! ولا يجوز في فريضة الله خلاف ما فرض. مع أنهم إن كانوا تركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لشك منهم في قوله كفروا ، وإن كان لخلاف منهم فقد عاندوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومن عاند رسول الله فقد كفر.

وإن قالوا : لم يكن وقوفهم تلك الثلاثة الأيام لشك منهم في قول رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم! ولكنهم وقفوا ليجتمع الناس من غاب وحضر.

__________________

(١) انظر القصة ، وهذا النص بعينه في تاريخ الخلفاء أو الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ٩ وفي كتب التاريخ عامة التي أرّخت لتلك الفترة الزمنية.

قيل لهم : أو كذلك فرض الإمامة الوقوف والتشاور بعد الاسم والنص؟!

فإن قالوا نعم.

قيل لهم : فهل يجوز لهم أن يحولوا هذه الفريضة عن جهتها؟

فإن قالوا : لا يجوز لهم.

فهل أدّى أبو بكر هذه الفريضة كما أمر الله؟!

فإن قالوا : نعم. وسمى لنا عمر ونصبه بعينه ، كما فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قيل لهم : فما بالكم لم تشاوروا في عمر كما تشاورتم في أبي بكر بعد النبي عليه‌السلام؟!

فإن قالوا : لأن ذلك جائز لنا.

قيل لهم : فقد نقضتم قولكم لا تغيّر الفريضة (١). وهذا نقض الفريضة التي فرض الله ورسوله لكم في أبي بكر ، إذ لم تشاوروا في عمر كما تشاورتم في أبي بكر. ولم تشاوروا في قول أبي بكر ، كما تشاورتم في قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإن قالوا : لأن المشورة إليهم.

قيل لهم : فأيهما أوثق في قوله ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أم أبو بكر؟!

فإن قالوا : أبو بكر كفروا! وإن قالوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أوثق.

قيل لهم : ما أبين نفاقكم ، إنكم تقولون النبي أوثق وأنتم تشاورون بعده. وأبو بكر عندكم ليس بأوثق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنتم لا تحتاجون بعد قوله إلى المشورة. فقد لزمكم أن أبا بكر عندكم أوثق من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأن أوثق الأوثاق الذي لا تشاور في قوله. وهذا التناقض من الكلام غير معقول ، ممن قاله ولا مقبول.

ويسألون أيضا : هل كان لله على عمر أن يؤدي فريضة الإمامة ، كما أدى رسول الله

__________________

(١) في (ب) : فريضة

صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبي بكر ، وكما أدى أبو بكر في عمر؟!

فإن قالوا : لا. صيّروا لعمر دينا على حدة. وإن قالوا : لله على عمر أن يؤدي فريضة الإمامة على مثل ما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل لهم : فلم جعلها عمر شورى بين ستة؟! وإنما كان فعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أبي بكر ، كما زعمتم أنه سماه باسمه ونصبه بعينه! وكذلك فعل أبي بكر في عمر ، كما زعمتم.

فإن قالوا : لأن الخلاف في هذه الفريضة جائز.

قيل لهم : فقد نقضتم قولكم ، حيث زعمتم أن فرائض الله لا يجوز تحويلها عن جهاتها.

ونحن نراكم تقولون في أوكد الفرائض إنه يجوز أن يخالف فيها الله ورسوله!!

ويسألون ما تقولون ، هل جعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإمامة شورى بين ستة؟

فإن قالوا : نعم. كذّبتهم الأمة! وإن قالوا : لم يجعل فيها شورى.

قيل لهم : فهل جعلها عمر شورى بين ستة؟

فإن قالوا : لا.

قيل لهم : فقد خالف عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأن النبي جعلها شورى ، (١) ولم يجعلها عمر شورى. وتكذبهم الأمة أيضا أن عمر لم يجعلها شورى ، وكفى بتكذيب الأمة حجة عليهم.

وإن قالوا : نعم قد جعلها عمر شورى بين ستة.

قيل لهم : فمن كان أوثق في فعله (٢) النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أم عمر؟!

فإن قالوا : النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أوثق في فعله.

قيل لهم : فلم خالف عمر الفرض في الإمامة أن يتبعوا فعل النبي صلى الله عليه

__________________

(١) على زعمهم الأول أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جعلها شورى.

(٢) على القول الثاني أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يجعلها شورى.

وآله وسلم ؛ لأن الله تبارك وتعالى قال : (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر : ٧]؟! فإن قالوا : كل صواب وتوفيق. شبّهوا فعل عمر بفعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأعطوه من التوفيق مثل ما أعطوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لأنه خالف رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فريضة الإمامة ، وكان خلافه فيما أمر الله به صوابا وتوفيقا.

ويقال لهم : أخبرونا لو أنّ عمر عمد إلى صلاة الظهر فجعلها خمسا كان ذلك جائزا؟!

فإن قالوا : لا.

قيل لهم : ولم؟!

فإن قالوا : لأن الفرائض لا تغيّر ، ولا يجوز أن يصيّر ما جعل الله أربعا خمسا.

قيل لهم : كيف جاز لعمر في فريضة الإمامة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ أبا بكر ، وأن أبا بكر نص عمر ، وأن خالفهما جميعا فجعلها شورى بين ستة ، فهذا خلاف فريضة الله ورسوله. وعمل بخلاف ما فعلاه.

وإن قالوا : إن ذلك جائز في الإمامة ولا يجوز في غيرها. نقضوا قولهم في أول المسألة إنه لا تغيّر فرائض الله. وصاروا إلى أن فرائض الله يجوز تغييرها. ويلزمهم في ذلك إن جاز في بعضها ، جاز في كلها ، حتى لا يبقى دين إلا غيّر!! وهذا فاسد منكسر على من قال بهذه المقالة في فرض الإمامة أنه نص أبا بكر!!

ويسأل الذين قالوا : فرض الإمامة شورى بين المسلمين ، ما تقولون : كيف فرض الإمامة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله؟

فإن قالوا : جعلها شورى بين المسلمين.

قيل لهم : وما الدليل على ذلك؟

فإن قالوا : قول الله تبارك وتعالى : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) [الشورى : ٣٨]. فلذلك فعلوا في أبي بكر ما فعلوا ، حيث أقاموا ثلاثة أيام يتشاورون فيه حتى أقاموا أفضلهم ، يقال لهم : فهل يجوز لأحد أن يحوّل هذه الفرضة فيجعلها على خلاف ما فرضها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فإن قالوا : نعم. نقضوا قولهم ، وفارقوا الإجماع في أنه لا تحوّل فرائض الله. ولو جاز ذلك لجاز (١) أن يجعل الظهر خمسا والعصر ستا ، والمغرب ركعتين ، وكذلك الفرائض. وهذا نقض لدين محمد عليه‌السلام.

وإن قالوا : لا يجوز في الإمامة تغيير ، ولا خلاف لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قيل لهم : فما بال أبي بكر لم يجعلها شورى بين المسلمين كما جعلها النبي عليه‌السلام؟!

فإن قالوا : لأن خلاف أبي بكر صواب.

قيل لهم : وكذلك خلاف عمر صواب ، وكل من يأتي بعدهما إلى يوم القيامة ، يخالفون رسول الله وأبا بكر وعمر ، وجميع الأئمة.

فإن قالوا : ذلك جائز.

قيل لهم : وكذلك جميع الفرائض!

فإن قالوا : لا.

قيل لهم : لم لا يجوز وقد جوزتم في بعض؟! ولا حجة لهم!

وإن قالوا : يجوز. لزمهم نقض الدين كله. فإذا اضطروا أنه لا يجوز إلا الشورى ، كما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في قوله (٢) لزم أبا بكر أنه خالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، حيث استخلف عمر ونصبه بعينه ، ولم يجلها شورى بين المسلمين كما جعلها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

[وخالف عمر رسول الله وأبا بكر] (٣) حيث جعلها شورى بين ستة ، فلا هو

__________________

(١) سقط من (ب) : لجاز.

(٢) أي : قول المجيز.

(٣) بيّض هنا في (أ) و (ب) ، وقال في (أ) : لعل هنا ساقطا. وما أثبتّ بين المعكوفين اجتهاد ليستقيم المعنى. وكانت هكذا في (أ) : عليه وآله وسلم في ...... أبي بكر. وفي (ب) : عليه ...... في أبي بكر.

اقتدى برسول الله صلى الله عليه وجعلها شورى بين المسلمين ، ولا هو اقتدى بأبي بكر فنص بعده رجلا كما نصه أبو بكر بعينه واسمه. وهذه فريضة متناقضة. لأنا وجدنا أبا بكر لم يتبع فعل النبي عليه‌السلام في فريضة الإمامة ، إذا زعمتم أنه جعلها شورى بين المسلمين ، وكذلك عمر جعلها شورى بين ستة. فكل واحد منهما قد خالف صاحبه ، وخلافهما جميعا خلاف لفعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كان صوابا ما خالفا به رسول الله في الدين قاسوا أبا بكر وعمر برسول الله عليه‌السلام ، وزعموا أنه يجوز لكل واحد منهما خلاف صاحبه ، وأنه يجوز لهما أيضا خلاف رسول الله ، فإن قالوا : ذلك لا يجوز لهما. فقد ابتدعا في الاسلام ما لم يكن لهما.

ويسألون عن فعل أبي بكر وعمر في الإمامة ، كان أصوب أم فعل النبي؟!

فإن قالوا : فعلهما. كفروا!!

وإن قالوا : فعل النبي عليه‌السلام أصوب.

قيل لهم : فأيهما كان أولى بأبي بكر وعمر يقتديان بالنبي أم لا يقتديان به؟

فإن قالوا : يقتديان بالنبي خير لهما.

قيل لهم (١) : فحيث خالفا النبي عليه‌السلام في الإمامة اقتديا به أم لم يقتديا به؟!

فإن قالوا : لا. بل اقتديا. خالفوا أن تكون الشورى بين المسلمين مثل الشورى بين ستة ، وأن تسمية أبي بكر لعمر وحده هي شورى بين المسلمين. وهذا المحال من الكلام.

وإن قالوا : لم يقتديا بالنبي ولو اقتديا به كان خيرا لهما.

قيل لهم : أفيجوز لهما ما فعلا أم لا يجوز؟

فإن قالوا : نعم. هذا جائز لهما.

قيل لهم : أفصواب ذلك أم خطأ؟!

__________________

(١) سقط من (ب) : قيل لهم.

فإن قالوا : بل خطأ. لزمهم أنه يجوز أن يخالف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وإن زعموا أنه صواب فقد زعموا أن خلاف النبي عليه‌السلام صواب. وهذا ما لا يقول به أحد من المصلين. وزعموا أن أبا بكر وعمر جائز لهما أن لا يقتديا برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. وهذا شر ما أضيف إليهما ترك الاقتداء بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقال بعضهم : إذا كانت الشورى بين المسلمين فليس بمتناقض إنما هو ما رأى المسلمون ، إذا أجمعوا على أن يصيّروا رجلا بعينه ، وأن يجعلوه بين ستة فهو ما فعلوا ، فلهم ذلك ، وليس في هذه الفريضة تناقض ، إنما كان الأمر شورى.

فيقال لهم الشورى من الجميع أم (١) من بعض؟!

فإن قالوا : من الجميع. قيل لهم : فكيف جعل أبو بكر عمر بغير شورى بين المسلمين؟! وقد وجدناهم يقولون ننشدك الله أن تستعمل علينا عمر فإنه فظ غليظ. فقال : أتخوفونني بالله ، أقيموني فلما أقاموه ، قال اللهم إني إذا لقيتك قلت استعملت عليهم خير خلقك (٢). والدليل على أنها لم تكن شورى أنه ساعة مات أبو بكر كان الخليفة من بعده عمر. وقد أجمع الناس على هذا. وقد أقاموا بعد رسول الله ثلاثة أيام يشاورون في أبي بكر. إلا أن يكون عمر بان من الفضل بما لم يكن بان به أبو بكر عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!! فإذا انكسر هذا لم يكن يجوز لأبي بكر أن يقدم عمر إلا بشورى ، ولا يجوز له ذلك دون المسلمين جميعا.

وكذلك أيضا يلزمهم في ستة دون المسلمين. فيلزمهم إن كانت إصابة الإمامة لا تكون إلا بالشورى من الجميع ، أن الذي فعل أبو بكر خطأ ، وأن الذي فعل عمر خطأ ، وإن كانت الشورى بين ستة كما فعل عمر فقد أخطأ أبو بكر ، وإن كانت كما فعل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقد أخطأ! جميعا!

ويسأل الذين زعموا أن فريضة الإمامة من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأبي بكر بالصفة والدلالة ، وأنهم إنما أقاموا أبا بكر بتلك الدلالة ، مثل قول النبي صلى الله

__________________

(١) في (أ) : أو.

(٢) انظر القصة في الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٩

عليه : (صل بالناس (١)) ...

__________________

(١) أخرجه البخاري : برقم (٦٢٤). ومسلم برقم (٦٢٩). والترمذي برقم (٣٦٠٥). وابن ماجة برقم (١٢٢٢) وأحمد برقم (٤٨٩٤). ومالك برقم (٣٧٤). والدارمي برقم (١٢٢٩).

[وقفة تأمل]

روي أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرض فاشتد مرضه فقال : مروا أبا بكر فليصل بالناس قالت عائشة : إنه رجل رقيق إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس ، فأمر ثانية فعادت ، فأمر ثالثة فصلى بالناس في حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أخرجه البخاري فتح الباري ٢ / ١٣٠ ، ومسلم بشرح النووي ٤ / ١٤٠ ، وقالت عائشة : لقد راجعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك ، وما حملني على كثرة مراجعته إلا أنه لم يقع في قلبي أن يحب الناس بعده رجلا قام مقامه أبدا!!

أقول وهو يمكن أن تكره عائشة هذا الخير لأبي بكر؟!! ثم هل تجوز لها هذه المراجعة التي أغضبت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : إنكن لصواحب يوسف. وما يقصد بصواحب يوسف؟! مع العلم أن صواحب يوسف هن اللائي راودنه بالفحشاء عن نفسه. ثم كيف تجوز المراجعة بذلك الشكل مع قول الله تعالى : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ). وأيضا قالت مما حملها على المراجعة : كنت أرى أنه لن يقوم مقامه أحد إلا تشاءم الناس به فأردت أن يعدل ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أبي بكر. أقول : وهذه العلة تنقض العلة الأولى ، فهنالك كراهة محبة الناس له ، وهنا خوف تشاءم الناس به!! فأيهما أصح؟!!

وفي رواية أخرى أخرجها البخاري الفتح ٢ / ١٣٠ ، ومسلم بشرح النووي ٤ / ١٤١ ، أن عائشة قالت : إن أبا بكر رجل أسيف وإنه متى يقم مقامك لا يسمع الناس ، فلو أمرت عمر!! وطلبت من حفصة أن تقول له ذلك. فغضب صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت حفصة لعائشة : ما كنت لأصيب منك خيرا. هذا عند البخاري ، وعند مسلم ، قالت : فلما دخل في الصلاة وجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من نفسه خفة فقام يهادى بين رجلين ورجلاه تخطان في الأرض ، قالت : فلما دخل المسجد سمع أبو بكر حسه ذهب يتأخر ، فأومأ إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قم مكانك فجاء رسول الله حتى جلس عن يسار أبي بكر ، قالت : فكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصلي بالناس جالسا وأبو بكر قائما ، يقتدي أبو بكر بصلاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويقتدي الناس بصلاة أبي بكر. وهو عند البخاري ٢ / ١٣٢.

أقول : لقد تغيرت العلة التي حملت عائشة على المراجعة في هذه الرواية ، وهذا اضطراب واضح يضعف الرواية.

وفي رواية أخرجها البخاري الفتح ٢ / ١٣٧ ، ومسلم ٤ / ١٣٥. عن عائشة قالت : ثقل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أصلى الناس؟ قلنا : لا ، هم ينتظرونك. قال : ضعوا لي ماء في ـ

ومثل : يوم بدر أقعده معه في العريش (١) ، وكان مجلسه عن يمين رسول الله عليه‌السلام. قالوا بهذه الصفات اختاروا أبا بكر.

قيل لهم : فما بال أبي بكر لم يدل على عمر بالصفة حيث سماه لهم باسمه ونصبه بعينه ، وأقامه بعده ، كما دلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أبي بكر؟! ولا يجدون إلى دفع ذلك سبيلا. وهذا خلاف لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يفرض فريضة بالدلالة ، ويجعلها أبو بكر بالنص وكذلك عمر أيضا جعلها شورى. وهذا ما لا يجوز ، أن يحوّل فريضة من فرائض الله عن جهتها ، وإن جاز أن يخالف رسول الله

__________________

ـ المخضب. قالت : ففعلنا فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه ، ثم أفاق حتى أغمي عليه ثلاث مرات وهو يسأل أصلي الناس؟ ثم أرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أبي بكر ليصلي بالناس. فطلب أبو بكر من عمر أن يصلي بالناس فامتنع عمر. فصلى أبو بكر تلك الأيام ، ثم خرج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلي وأبو بكر يصلي بالناس فتأخر أبو بكر فأومأ إليهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا يتأخر ، وجلس جنب أبي بكر وصلى به وأبو بكر يصلي بالناس.

وفي رواية للبخاري ٢ / ١٣٠ ، ومسلم ٤ / ١٤٢ ، أن أبا بكر كان يصلي بالناس في وجع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى إذا كان يوم الاثنين وهم صفوف في الصلاة كشف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ستر الحجرة فنظر إليهم ، ونكص أبو بكر على عقبه فأشار إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتموا الصلاة وأرخى الستر وتوفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يومه.

وفي رواية للبخاري ٢ / ١٣١ ، ومسلم ٤ / ١٤٣. أنها أقيمت الصلاة فذهب أبو بكر ليتقدم فقال نبي الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجاب فرفعه فأومأ بيده إلى أبي بكر أن يتقدم وأرخى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجاب فلم نقدر عليه حتى مات.

أقول : ما هذا الاضطراب؟

في الرواية الأولى يكشف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحجاب وهم يصلون فيتأخر أبو بكر فيومئ لهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتموا؟؟ وهنا يكشف الحجاب وأبو بكر يذهب ليتقدم ثم يتراجع فيومئ له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتقدم.

أقول هذا من جهة المتن ، وأما من جهة السند فارجع إلى فتح الباري تجد الشارح يحاول جاهدا التوفيق والتلفيق ، فبعض الروايات مرسلة والأخرى موصولة ، وهناك أكثر من خلل. والمقام لا يتسع وإنما أردنا الإشارة وإلا فالموضوع بحاجة إلى دراسة وافية ، أرجو أن يتيسر لي ذلك لاحقا إن شاء الله تعالى.

(١) الكامل لابن الأثير ٢ / ٨٧.

صلى‌الله‌عليه‌وآله في فريضة واحدة ، جاز أن يخالف في سائر الفرائض ، حتى تعطل جميع فرائض الله ، وتحدث فرائض أخرى.

وإن قالوا : لا يجوز هذا إلا في فريضة الإمامة. سئلوا الدليل على ذلك؟

وكذلك أيضا إن قالوا : الإمامة سنة على مثل قياس الفريضة ، فإن جوزوا تبديل سنن الله وسنن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مثل صلاة الوتر بالنهار ، وزكاة الفطر في الأضحى ، وصلاة العصر في وقت المغرب ، وصلاة الصبح في وقت العتمة ، حتى تبطل جميع سنن الله.

فإن قالوا : لا يجوز تحويل السنة إلا في الإمامة. سئلوا الدليل على ذلك؟ ولا يجدون إلى ذلك سبيلا. ويلزمهم من ذلك مثل ما لزمت الحجة في مسألة الفريضة.

وإن قالوا : إن الإمامة تطوع. لزمهم أن سنن الله وفرائضه لا تقوم إلا بالتطوع. وهذا ما لا نحب (١) لأحد أن يقوله.

ويسأل الذين يزعمون أن الإمامة لا تكون إلا بالشورى من جميع المسلمين ، يقال لهم: أخبرونا عن الشورى ، في الأمة جميعا أم في كل جنس ، أم في الفاضل أم لا تكون إلا في جنس واحد؟

فإن قالوا : لا تكون إلا في جنس واحد. نقضوا قولهم إن الشورى لا تكون إلا بالمسلمين جميعا.

وإن قالوا : لا تكون إلا من الأجناس جميعا.

قيل لهم : فما بال أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدخلوا معهم في الشورى غيرهم؟ وما بال عمر لم يجعلها في الأجناس جميعا؟ وما باله لم يجعلها شورى بين المسلمين كلهم؟ وهذا متناقض لا يستقيم. فأي ذلك قال انكسر عليه حتى يرجع إلى أهل الحق!

واعلم أن أفرض الفرائض وآكدها فرض الإمامة ؛ لأن جميع الفرائض لا تقوم إلا بها.

__________________

(١) في (ب) : يحب. وفي (أ) : بغير نقط. وما أثبته اجتهاد. لأنه لا ينبغي أن تحمل على أنها (ما لا يجب) لأن لغة الإمام القاسم أعلى من ذلك. ولكان قال مثلا (ما لا يجوز).

ولا يجوز تبديل فريضة الإمامة بوجه من الوجوه ، لأن فيها من الإفساد ما ليس في غيرها.

وإن سألوا فقالوا : ما تقولون في الإمامة فريضة هي ، أم سنة ، أم تطوع؟

قيل لهم : بل أفرض الفرائض ، وآكده في الفرض.

فإن قالوا : هل يجوز أن يخالف في هذه الفريضة (بوجه من الوجوه؟

قيل له : لا. لأنه لو جاز أن يخالف فريضة لجاز أن يخالف الفرائض) (١) كلها؟

فإن قالوا : فما وجه الإمامة عندكم؟

قيل : وجه الإمامة موضع الاختيار من الله معدن الرسالة ليكون الموضع معروفا. والدليل على ذلك أن الإمامة موضع حاجة الخلق ، فلا يجوز أن تكون في موضع غير معروف ، إذا بطلت الحاجة وضاع المحتاجون ، وإذا كان ذلك كذلك فسد التبيين ، ودخل الوهن في الدين ؛ لأن الله تبارك وتعالى ، وضع الأشياء موضع الحاجة ، ووضع للمحتاجين ما فيه صلاحهم. ولو لا ذلك لفسد التدبير ، وهلك الخلق.

والدليل على ذلك أن الله بعث الرسل لحاجة الخلق ، ليبين لهم ما فيه صلاحهم ، وإذا لم يبين لهم ما فيه صلاحهم هلكوا. فلذلك قلنا : لا يجوز أن تكون الإمامة بعد النبوة إلا في موضع معروف لحاجة الخلق إليها ، وإلا فسد التدبير وضاع الخلق.

ومما يصدق قولنا أن الإمامة موضع حاجة الخلق ، وأنه لا غناء بالناس عنه ، قول الله تبارك وتعالى في كتابه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩]. وقوله : (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [النساء : ٨٣]. فأمر بطاعة معلوم غير مجهول ، وأوجب على الخلق ثلاث طاعات ترجع إلى طاعة واحدة ، وهي طاعة الله عزوجل. وأنه لا غناء بالناس بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من الإمام ، وإلا سفكوا الدماء وانتهكوا المحارم ، وغلب القويّ الضعيف ، وبطلت الأحكام والحدود ، وحقوق اليتامى والمساكين ، ورجع الدّين جاهلية. فلذلك قلنا إن الإمامة لا تكون إلا في موضع معروف ، حتى متى قصدوا إلى ذلك الموضع وجدوا حاجتهم ، وإلا اختلفوا وهلكوا.

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

فإن قالوا : بينوا لنا وجه الفريضة؟

قيل لهم : الوجه على مثال قياس الفرائض كلها ، يأتي الخبر من الله فيأمر نبيه عليه‌السلام أن ينص رجلا بعينه من موضع معروف ، ولا يكون ذلك الموضع إلا وهم به عارفون في النسب والتقى ، ليكون موضع القنوع حتى لا يقول أحد أنا أولى. كما لم يجز لأحد أن يدعي أنا أولى بالرسالة من الموضع الذي بعث الله منه نبيه. وكذلك الإمامة في أرفع المواضع ، وهو معدن الرسالة لقطع الحجة.

والدليل على ما قلنا أن الإمامة إذا خرجت من أرفع المواضع وأقربها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، ادعت كل فرقة من الأمة الإمامة ، ووقع الاختلاف ، وفي الاختلاف إبطال الدين.

فإن قالوا : إنك ادعيت أن الإمامة بخبر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن ينص رجلا بعينه ، فإذا قبض النبي انقطع الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقد تغيرت الفريضة عن جهتها؟!

قيل لهم : من (١) هاهنا غلطتم. إن الفرائض كلها على مثل ما أخبرناكم ، تنزل الآية في الشيء بعينه حتى تؤدّى تلك الفريضة (في كل زمان على مثل الخبر الذي أنزل الله في الشيء بعينه ، حتى تؤدى تلك الفريضة) (٢) على تلك الجهة وإنما عبنا على من قال بخلافنا أنهم غيروا الفريضة عن جهتها ، فجعلوها مرة نصا في رجل بعينه ، ومرة شورى ، ومرة بين ستة. وإنا قلنا نحن : لا تكون إلا على هيئة واحدة. ألا ترى أن صلاة الظهر نزلت في يوم من الأيام جمعة أو سبتا أو أحدا أو غير ذلك من الأيام مسمى باسم ، ثم هي في الأيام كلها على هيئة واحدة لا تغيّر.

وكذلك قلنا في رجل بعينه في ذلك الزمان ثم في كل زمان في رجل واحد ، ولو كانت الأسماء مختلفة والقرابة والتقى والفضل واحد ، فهذا قياس ما قلنا ، فافهموا مغاليط أهل الخلاف. وكذلك على الناس أن يؤدوا جميع الفرائض على مثل هذا القياس. وكذلك الإمامة في أبرّ الخلق وأتقاهم ، وأن يؤدوا هذه الفريضة حيث أمرهم

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فإن قالوا : فقد زعمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصه بعينه ، كذلك قلنا : نحن بأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بيّن لنا صفته. فوجدنا أبا بكر في تلك الصفة ، فلم عبتم علينا؟!

قلنا لهم : لأنا ادعينا أن الله تبارك وتعالى أنزل الآية والموصوف موجود. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بإقامته للناس باسمه وصفته. وقولنا : أولى من قولكم إن الناس كانوا أولى بأن يخرجوا الموصوف. وأنتم إن أبطلتم بألفاظكم هذا ، فقد يدل فعالكم عليه ، حيث زعمتم أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يسمه باسمه ، ولم ينصبه لهم ، إنهم حيث سموه وأقاموه بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن هذا توفيق من الله بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ما لم يبيّن لهم في حياته. ونحن قلنا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أولى بأن يبين الاسم والصفة ؛ لأن البيان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس كالبيان من غيره. فمن هاهنا قلنا إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نصبه باسمه ونسبه.

فإن قالوا : إنا قد نراكم رجعتم إلى قولنا في الصفة والاسم بعد الأول أيضا بالصفة ، فما الفرق بيننا وبينكم؟

قيل لهم : إن اسم رجل بعينه لا يكون للناس كلهم ، ولكن يكون النسب والفضل واحد. وأنتم زعمتم أن الاسم والنسب مخالف. فهذا الفرق بيننا وبينكم في الدعوى.

فإن قالوا من أين ادعيتم أنه معدن واحد دون المعادن كلها؟

قيل لهم : لأنه لو كانت معادن مختلفة لم يجز أن يكون الأمر إلا بالشورى. ولا تجوز الشورى إلا في القبائل التي تجوز لهم الإمامة. فإذا ذهبوا إلى أن يجمعوا أهل الشورى من كل قبيلة ، لم يجز إلا أن يختاروا من أهل الاسلام جميعا ، وإذا كان ذلك لم يجز إلا جمعهم من الآفاق كلها جميعا ، مع أنه لا يكون ذلك إلا برضاهم جميعا ، ولو جاز اجتماعهم اختلفت هممهم أن يكون الأمر فيهم. وفي اختلاف هممهم ومشاورتهم منازعة ، لأن كل قوم يقولون : لهم فضل الإمامة ؛ لأن البنية على هذا. فإذا وقعت المنازعة وقعت الفتنة ، وإذا وقعت الفتنة وقع الحرب ، وإذا كان ذلك تفانوا. فإذا ما وقعوا فيه من الشر والفساد أعظم مما طلبوا من الصلاح في طلب الإمامة ، ولم يكن الله تبارك وتعالى يفرض عليهم فريضة يريد بها صلاح عباده ، فتكون تلك الفريضة عليهم

وبالا وهلاكا وفسادا. مع ما يدخل من النقص في التوحيد والرسالة ، فمن قبل ذلك قلنا : لا يجوز إلا أن تكون في مكان معروف.

فإن قال قائل : إنما جعل الله الإمامة في قريش وهي معروفة ، فما دليلكم في الموضع الذي تدّعون؟

قيل لهم : لأنكم إذا ادعيتم أنها في قريش دون غيرها كانت الحجة لنا عليكم ، ولقرابة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا غيرها. فإن كان ما قلتم حقا فنحن أولى بما ادعينا من القرابة ؛ لأنهم أقرب برسول الله من موضعكم الذي ادعيتم وأبين (١) فضلا.

واعلم أنه لا يجوز أن يقوم مقام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله من إذا قضى بقضية أو أحدث حدثا مما لم يأت عن الله ولم يحكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وراجعه فيه من هو أعلم منه بالله رجع عن حكمه واعتذر ، وكان قوله : (عليّ شيطان يعتريني ، فإذا رأيتم مني ذلك فاجتنبوني لا أبدر في أشعاركم وأبشاركم) (٢) فهذا لا يصلح للإمامة ، ولا يجلس في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولا من كان إذا حكم بحكم فقيل له أصبت يا أمير المؤمنين يعلوه بالدرة ، ويقول : (لا تزكونا في وجوهنا فو الله ما أدري أصبت أم أخطأت ، وما هو إلا رأي رأيته من نفسي)(٣). فيخبرهم أنه لا يدري أصاب أم أخطأ ، (٤) وهم يشهدون له أن (السكينة تنطق على لسانه) (٥). يخبرون عنه بخلاف ما يخبر عن نفسه ، ويجعلون له من التوفيق ما يجعلون

__________________

(١) في (ب) : وأقرب.

(٢) هذا كلام أبي بكر من خطبة له بعد البيعة قال فيها : اعلموا أيها الناس أني لم أجعل لهذا المكان أن أكون خيركم ، ولوددت أن بعضكم كفانيه ، ولئن أخذتموني بما كان الله يقيم به رسوله من الوحي ما كان عندي ذلك ، وما أنا إلا كأحدكم ، فإذا رأيتموني قد استقمت فاتبعوني ، وإن زغت فقوموني ، واعلموا أن لي شيطانا يعتريني أحيانا ، فإذا رأيتموني غضبت فاجتنبوني لا أوثر في أشعاركم وأبشاركم. الإمامة والسياسة لابن قتيبة ١ / ١٦.

(٣) هذا قول عمر بن الخطاب.

(٤) أخرج عبد الرزاق عن عمر أنه قال : إن عمر لا يعلم أنه أصاب الحق لكنه لا يألو جهدا. المصنف رقم (١٩٠٤٥) ، ونحوه أيضا.

(٥) روى ابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة قال : وأخرج ابن منيع في مسنده عن علي قال : كنا ـ

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وإنما يصلح للإمامة ويخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في أمته ، من كان إذا صعد المنبر يقول : (سلوني قبل أن تفقدوني ، فعندي علم المنايا والقضايا ، والحكمة والوصايا ، وفصل الخطاب ، والله لأنا أعلم بطرق السماء من العالم منكم بطرق الأرض ، وما من آية نزلت في ليل ولا نهار ، ولا سهل ولا جبل إلا وأنا أعلم فيمن نزلت وفيما أنزلت ، ولقد أسرّ إليّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مكنون علمه ألف باب يفتح لي كل باب منها ألف باب ، نحن النجباء ، وأبناء النجباء ، وأنا وصي الأوصياء ، وأنا من حزب الله وحزب رسوله ، والفئة الباغية من حزب الشيطان والشيطان منهم ، وأفراطنا أفراط الأنبياء ولا يقوم أحد يسأل عن شيء إلا أخبرته به غير متريّث) (١) والله تعالى يقول : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ

__________________

ـ أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر. الصواعق المحرقة / ٩٧. وهو في الرياض النضرة ١ / ٢٩٩. وقال أخرجه ابن السمان في الموافقة والحافظ أبو الفرج في محبة الصحابة.

(١) هذا كلام أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : عن أبي الطفيل قال شهدت عليا يخطب يقول : سلوني فو الله لا سألتم عن شيء إلا أخبرتكم ، وسلوني عن كتاب الله ، فو الله ما من آية إلا وأنا أعلم أبليل نزلت أم بنهار ، أم في سهل ، أم في جبل. المستدرك ٢ / ٣٨٣ (٣٣٤٢) ، طبقات ابن سعد ٢ / ١٠١ ، الكامل لابن عدي ٢ / ٤٣٦ (٥٤٨) ، تهذيب التهذيب ٧ / ٢٩٤ (٥٦٦) ، والمزي في تهذيب الكمال ٢٠ / ٤٧٢ (٤٠٨٩) ، كنز العمال ١ / ٢٢٨ ، حلية الأولياء ١ / ٦٧ عن علي عليه‌السلام.

وأخرجه أبو عمر في جامع بيان العلم ١ / ١١٤ ، والمحب الطبري في الرياض ٢ / ١٩٨ ، وهو في تاريخ الخلفاء للسيوطي ١٢٤ ، والإتقان ٢ / ٣١٩ ، وفتح الباري ٨ / ٤٨٥ ، وعمدة القاري ٩ / ١٦٧. باختلاف يسير.

وهو في نهج البلاغة بلفظ : أيها الناس سلوني قبل أن تفقدوني ، فلأنا بطرق السماء أعلم مني بطرق الأرض. الخطبة / ١٨٩.

وبلفظ : فاسألوني قبل أن تفقدوني ، فو الذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيء فيما بينكم وبين الساعة ، ولا عن فئة تهدي فئة وتضل فئة ، إلا أنبأتكم بناعقها ، وقائدها ، وسائقها ، ومناخ ركابها ، ومحط رحالها ، ومن يقتل من أهلها قتلا ، ومن يموت منهم موتا ، ولو قد فقدتموني ونزلت بكم كرائه الأمور ، وحوازب الخطوب ، لأطرق كثير من السائلين ، وفشل كثير من المسئولين. الخطبة / ٩٣.

وعن الأصبغ بن نباتة ، عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام ، قال : سمعته يقول : إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علمني ألف باب من الحلال والحرام مما كان ومما هو كائن ، إلى يوم القيامة كل باب منها يفتح ألف باب ، فذلك ألف ألف باب حتى علمت المنايا والبلايا ، وفصل الخطاب. الاختصاص للشيخ المفيد / ٢٨٣. بحار الأنوار للمجلسي ٧ / ٢٨١.

يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) [يونس : ٣٥]. والإمامة لا تكون إلا في موضع الطهر ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، وجوهر النبوة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وأمر بمودتهم بعد نهيه عن مودة من حاده ، وليس يخالف الحق إلا أهل العناد لله ولرسوله ، والبغي والحسد والجهالة ، ممن لا رويّة له من المرجئة ، والقدرية ، والنواصب ، وجميع الخوارج ، ممن خالفنا أو حاد عن الحق ، وقال برأيه ، وقد فسرنا في كتابنا هذا ما يدخل على من خالفنا ما يستدل بدونه من نصح لنفسه ، وترك المحاباة على ما سبق إلى قلبه ، فمن فهم بعض ما وصفنا ، دلّه على كثير مما يريد وبالله نستعين ، وعليه نتوكل وإليه نفوض أمورنا مستسلمين له ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد النبي وأهله وسلم.

[الوصية]

وسألت : عن الوصية؟

فاعلم أن الله تبارك وتعالى أوصى العباد بوصايا ، وأرسل الرسل بوصايا ، وأوصى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى آله بوصايا ، منها ظاهرة ثبتت بها الحجج على من سمعها وعقلها ، ومنها وصايا خاصة لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى آله ، وليست للناس إلا أن يشاء علي أن يعلمها ، فضيلة من الله لعلي.

من ذلك قول الله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ...) [النساء : ١] الآية ، والثانية (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ) [البقرة : ٢١] ، و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٣٥] ، وقوله : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) [الإسراء : ١٨] ، وقوله : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ ...) [النساء : ١٧٦] الآية. وقوله : (يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) [النساء : ١١] ، وقوله (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ) (١) [الحج : ١] ، وقوله : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) [البقرة : ١٨٠] ، يعني خيرا : مالا. ثم نسخ ما (١) جعل الله للوالدين من الوصية بالميراث ، وجعل ما بقي للأقربين ممن لا

__________________

(١) في المخطوط : بما. ولعل الصواب ما أثبت.

يرث ، وقال : (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً) [العنكبوت : ٨] ، وقال : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ...) إلى قوله : (الْمُفْلِحُونَ) (١٠٤) [آل عمران : ١٠٤] ، (١) ثم خبرهم فقال : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ...) [آل عمران : ١١٠] الآية. وقال : (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ ...) [الحج : ٤١] الآية.

ومن ذلك وصايا الأنبياء صلوات الله عليهم جميعا ، قوله : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً ...) إلى قوله : (تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ) [الشورى : ١٣] ، (٢) وقول الله تبارك وتعالى : (وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ ...) [البقرة : ١٣٢] الآية (٣). وقال رسول الله صلى الله عليه : (المهدي ـ في بديّ دولتهم وسماه باسمه واسم أبيه ـ اسمه باسمي ، واسم أبيه باسم أبي ، (٤) سخي على المال ، شديد على العمال ، رحيم بالمساكين) (٥).

__________________

(١) الآية (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

(٢) الآية (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ ...).

(٣) الآية (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ).

(٤) عن عبد الله عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم ، حتى يبعث فيه رجلا مني أو من أهل بيتي يواطئ اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ، زاد في حديث فطر يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا.

أخرجه أبو دواد ٤ / ١٠٦ (٤٢٨٢) ، والطبراني في الأوسط ٢ / ١٣٥ (١٢٥٥) ، والكبير ١٠ / ١٣٥ (١٠٢٢٢) ، وفي بغية الباحث عن زوائد الحارث ٢ / ٧٨٣ (٧٨٨) ، وابن حبان ١٥ / ٢٣٦ (٦٨٢٤).

(٥) أخرج الحاكم في مستدركه ٤ / ٥٥٨ ، وابن ماجة في أبواب الفتن في باب خروج المهدي من سننه عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : يكون في أمتي المهدي إن قصر سبع ، وإلا فتسع ، فتنعم فيه أمتي نعمة لم ينعموا مثلها قط ، تؤتي الأرض أكلها ولا تدخر منهم شيئا ، والمال يومئذ كدوس ، فيقوم الرجل فيقول : يا مهدي أعطني. فيقول : خذ.

وأخرج أحمد في المسند ٣ / ٣٧ عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشركم بالمهدي يبعث في أمتي على اختلاف من الناس وزلازل ، فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا ـ

والشريطة فيمن لم يشبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باسمه في غير وقت دولتهم ، من كان من العترة ، فيه العلم ، والجهاد ، والعدل ، وأداء الأمانات ، فإذا كملت هذه الشريطة في رجل من أهل بيت النبي صلى الله عليه ، وهي أكمل الدرجات في كتاب الله ، في رجل من أهل بيت الطهارة والصفوة ، وجب على أهل بيته وعلى أهل الإسلام اتباعه وتقدمته ، ومعاونته على البر والتقوى.

فإن زعم زاعم أنه لا يصلح أن يكون الإمام إلا واحد ، فإن النبوة أعظم قدرا عند الله من الإمام ، قال الله تعالى : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ) [يس : ١٤] ، وقال لموسى وهارون : (اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ) [طه : ٤٣] ، وكان إبراهيم وإسماعيل ولوط في زمن واحد يدعون إلى الله ، فإذا استقام أن يكون الداعي إلى الله من الرسل في زمن واحد اثنين (١) وثلاثة ، فذلك فيما دون النبوة أجوز.

تم ذلك والحمد لله وحده ، وصلى الله على سيدنا محمد المختار ، وآله الأطهار ، المنتجبين الأبرار ، المصطفين الأخيار ، الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

* * *

__________________

ـ وظلما ، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض ، يقسم المال صحاحا ، فقال له رجل : ما صحاحا؟ قال : بالسوية بين الناس ، قال : ويملأ الله قلوب أمة محمد غنى ويسعهم عدله ، حتى يأمر مناديا فينادي فيقول : من له في مال حاجة؟ فما يقوم من الناس إلا رجل فيقول : ائت السدان ـ يعني الخازن ـ فيقول : إن المهدي يأمرك أن تعطيني مالا ، فيقول : أحث ......

(١) في المخطوط : اثنان.

إمامة

علي بن أبي طالب

بسم الله الرحمن الرحيم

سئل القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه عن إثبات الإمامة والخلافة لعلي بن أبي طالب صلوات الله عليه؟

فقال : إنما وجب على الناس طاعة علي وتقديمه ، لفضل علي في دين الله ، وسوابقه في جهاد أعداء الله ، التي لم يبلغ مثلها ـ ممن كان مع النبي صلى الله عليه جميعا ـ بالغ ، ولم يكن يلحق به (١) من جميع أصحابه لاحق ، مع قرابته القريبة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وفضله في العلم والفقه عن الله ، فإذا كانت فضائله في الجهاد مما لا ينكرها منكر ، وكان فضل علمه على ما لا يدفعه دافع ، عالم ولا جاهل إلا أحمق مكابر ، وكان له من القرابة الخاصة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما ليس لغيره ، مع ما جاء من تتابع الخبر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتواتره في إجلاله لعلي وإشارته إليه ، وما قال من الأقاويل فيه ، ومن الدلالة على فضله ما لم يقل مثله في غيره.

وجب على الناس تقديم علي بالإمامة وتفضيله ، وكان من قدّم غيره عليه فقد قدم المفضول على الفاضل ، وخالف في ذلك الصواب الذي دل الله (٢) عليه ، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وأهله وسلم ، (٣) وبلّغ من فهم ما لله من الحكم الرشيد العادل ، بتقديم المقدّم وتأخير المؤخّر ، مع خلاف أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الدلالة على علي وفضله ، ووضع الأمر في غير معدنه وأهله ، تم والحمد لله كثيرا بكرة وأصيلا.

قال الإمام الهادي في الأحكام : حدثني أبي ، عن أبيه ، أنه سئل عن إمامة علي بن أبي طالب رحمة الله عليه أفرض هي من الله؟

__________________

(١) في (ب) و (ج) : يلحق به ولم يكن من.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : الله.

(٣) سقط من (أ) : وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وأهله وسلم.

فقال : كذلك نقول وكذلك يقول العلماء من آل الرسول عليه وعلى آله السلام ، قولا واحدا لا يختلفون فيه. لسبقه إلى الإيمان بالله ، ولما كان عليه من العلم بأحكام الله ، وأعلم العباد بالله أخشاهم لله. كما قال الله سبحانه : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) (٢٨) [فاطر : ٢٨] ، فأخشاهم أهداهم ، وأهداهم أتقاهم ، وقد قال الله سبحانه : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) [يونس : ٣٥] ، وقال تبارك وتعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (١١) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ) (١٢) [الواقعة : ١٠ ـ ١٢]. فأسبق المؤمنين إلى ربه ، أولاهم جميعا به ، وأدناهم إليه ، وأكرمهم عليه. وأكرم العباد على الله ، أولاهم بالإمامة في دين الله ، وهذا بيّن والحمد لله لكل مرتاد طالب ، في علي بن أبي طالب ، رحمة الله عليه ، لا يجهله إلا متجاهل جائر ، ولا ينكر الحق فيه إلا ألدّ مكابر.

حدثني أبي ، عن أبيه ، أنه سئل عن من حارب أمير المؤمنين؟ وعمن تخلف عنه في حربه فلم يكن معه ولا عليه؟

فقال : من حاربه فهو حرب لله ولرسوله ، ومن قعد عنه بغير إذنه ، فضال هالك في دينه.

وحدثني أبي ، عن أبيه ، أنه سئل عمن يشتم أمير المؤمنين ، أو قذفه استخفافا بالفضل وأهله ، وجهلا بما جعل الله لأمير المؤمنين عليه‌السلام من فضله؟

فقال : يحكم عليه الإمام بما يرى ويكون بشتمه إياه فاسقا كافرا ، فإذا فهم ولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام واعتقدها ، وقال في كل الأمور سرا وعلانية بها ، وجب عليه التفضيل والاعتقاد ، والقول بإمامة الحسن والحسين الإمامين الطاهرين ، سبطي الرسول المفضلين ، اللذين أشار إليهما الرسول ، ودل عليهما ، وافترض الله سبحانه حبهما ، وحب من كان مثلهما في فعلهما من ذريتهما ، حين يقول لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، ويقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (١١٩)

[التوبة : ١١٩] ، ويقول في جدهما وأبيهما وأمهما وفيهما : (إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) ...) إلى قوله : (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) (٢٩) [الإنسان : ٥ ـ ٢٩] ، وفيهما ما يقول الرسول عليه‌السلام : (كل بني أنثى ينتمون إلى أبيهم إلا ابني فاطمة فأنا أبوهما وعصبتهما) (١) ، فهما ابناه وولداه بفرض الله وحكمه ، وفي ذلك ما يقول الله تبارك وتعالى في إبراهيم صلى الله عليه : (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٨٥) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥] ، فذكر أن عيسى من ذرية إبراهيم ، كما موسى وهارون من ذريته ، وإنما جعله الله ولده وذريته بولادة مريم ، وكان سواء عنده سبحانه في معنى الولادة ، والقرابة ولادة الابن وولادة البنت ، إذ قد أجرى موسى وعيسى مجرى واحدا من إبراهيم صلى الله عليه ، ويقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا من بعدي أبدا ، كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض) (٢) ، ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح من ركبها نجا ، ومن تخلف عنها غرق وهوى) (٣) ، ويقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (ما أحبنا أهل البيت أحد فزلت به قدم إلا ثبتته قدم حتى ينجيه الله يوم القيامة) (٤) ،

__________________

(١) أخرجه أحمد في فضائل الصحابة ٢ / ٢٦ (١٠٧٠) ، ورواه ابن حجر في تلخيص الحبير ٣ / ١٤٣ (١٤٧٦) ، وأبو يعلى ١٢ / ١٠٩ (٧٦٤١) ، والحاكم في المستدرك ٣ / ١٧٩ (٤٧٧٠) ، والطبراني في الكبير ٣ / ٤٤ (٢٦٣١) ، (٢٦٣٢) ، ٢٢ / ٤٢٣ (١٠٤٢) ، والقندوزي نحوه في ينابيع المودة ٢ / ٩٢ ، والكراجكيّ في كنز الفوائد ١ / ٣٣ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٢٣ / ١٠٤ نقلا عن البشارة المصطفى ، والعمدة لابن البطريق.

(٢) سبق تخريجه.

(٣) سبق تخريجه.

(٤) أخرجه الصدوق في أماليه / ٥٨٣ (٨٥) ، والطوسي في أماليه / ١٣٢ (٥) ، وابن شهراشوب في المناقب ٣ ـ

وفيهم يقول : (النجوم أمان لأهل السماء ، فإذا ذهبت النجوم من السماء ، أتى أهل السماء ما يوعدون ، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض ، فإذا ذهب أهل بيتي من الأرض ، أتى أهل الأرض ما يوعدون (١)) (٢).

* * *

__________________

ـ / ١٩٨ ، والإربلي في كشف الغمة ١ / ٣٨٨ ، والمجلسي في بحار الأنوار ٨ / ٦٩ ، وهو في بشارة المصطفى / ٧١ ، ١٢٥ بنحوه.

(١) سبق تخريجه.

(٢) الأحكام للإمام الهادي ١ / ٣٨ ـ ٤١.

القتل والقتال

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد خاتم النبيين ، (١) وعلى أهل بيته الطيبين وسلم.

سئل القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه ، عما يجب به القتل والقتال ، ويحل به عند الله السباء والأموال؟.

فقال : يحل الدم والمال والسباء ، ويوجب البراءة والعداوة والبغضاء ، ويحرم أكل الذبائح ، وعقد التناكح ، الكفر الذي جعله اسما واقعا على كل (٢) مشاقة (٣) أو كبير عصيان ، ومخرجا لأهله مما حكم الله به للمؤمنين من اسم الايمان ، بخلال كثيرة متفقة في الحكم ، متفرقة (٤) بما فرق الله به بينها في مخرج الاسم ، لها جامع وتفسير ، فتفسيرها كثير ، وجماعها كلها ، وتفسير جميع (٥) جملها ، فتشبيه الله عزوجل بشيء من صنعه كله ، أو تجويره لا شريك له في شيء من قوله أو فعله.

وتفسير هذا الجامع أن يجعل مع الله سبحانه إلها أو آلهة ، أو والدا أو ولدا أو صاحبة ، أو ينسب إليه جورا بعينه أو مظلمة ، أو يزيل عنه من الحكم كلها حكمة ، أو يضيف إليه في شيء من الأشياء كلها جهالة ، أو يكذب له صراحا في وعد أو وعيد قالة ، أو يضيف إليه سنة أو نوما ، أو وصفا ما كان من أوصاف العجز مذموما ، أو ينكره سبحانه وبحمده أو ينكر ، شيئا مما وصفناه به من توحيده منكر ، (٦) أو يرتاب فيه تبارك وتعالى أو يتحيّر ، في شيء مما وصفناه به مرتاب أو متحيّر (٧) ، أو يذم له فعلا أو قيلا ، أو يكذب له تنزيلا ، أو يجحد له نبيا مرسلا ، أو ينسب إلى غيره من أفعاله فعلا ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : على محمد النبي وآله وسلم.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : كل.

(٣) في جميع المخطوطات : مشاقه. ويبدو أنها مصحفة.

(٤) في (ب) و (د) : مفرقة.

(٥) سقط من (ب) و (د) : جميع.

(٦) في (أ) و (ج) : منكرا. مصحفة.

(٧) في (أ) و (ج) : مرتابا أو متحيرا. مصحفة.

كنحو ما ينسب (١) ـ من فعله في الآيات ، وما جعل مع الرسل من الأدلة والبينات ـ إلى السحر والكهانة ، والكذب والبطالة ، فأي (٢) هذه الخلال المفسرة المعدودة ، والأمور التي ذكرنا المبينة المحدودة ، صار إليه بالكفر صائر ، ثم أقام على كفره فيه كافر ، وجب قتله وقتاله ، وحل سباؤه وماله ، ولم تحل مناكحته ، ولم تؤكل ذبيحته ، وحرمت ولايته على المؤمنين ، وكان حكمه حكم المشركين ، لأنه (٣) معتقد بتشبيهه من الشرك بالله لما اعتقدوا ، ومعتمد بتمثيله إياه عزوجل بغيره في أي الأقوال التي (٤) حددنا لما اعتمدوا ، لأن الشرك نفسه إنما هو تثبيت إلهين أو أكثر ، والقول بأن مع الله إلها آخر.

وأي الأقوال التي وصفنا قاله قائل ، أو جهله وإن لم يقل به جاهل ، فهو فيه مثبت مع الله لغيره ، قال بإنكاره فيه أو تجويره ، ألا ترى أنه إن أنكره فقد مثّله بمنكر الأمور ، أو جوّره فقد أشرك بينه وبين أهل الجور ، أو جهله عزوجل فقد مثّله بمجهول ، أو تحيّر فيه فقد شبّهه بمتحيّر فيه غير معقول ، أو زعم أن له صاحبة أو ولدا ، فقد أثبت بالاضطرار أنه لم يكن واحدا ولا فردا ، وإذا لم يثبت له وحدانية الأولية ، (٥) فقد ثبت معه اضطرارا غيره في الأزلية ، وذلك فهو معنى الشرك غير شك ، ولذلك سمى الله هذه الفرق كلها باسم الشرك ، وحكم عليها بحكمه ليعلم أولو الألباب والنّهى ، أن باشتباههم كان حكم الله فيهم مشتبها.

فاسمع لما قال فيما أوجب من قتلهم وقتالهم ، وحكم به سبحانه من سبائهم وتغنّم أموالهم ، وأوجب على المؤمنين فيهم من البراءة ، ونهاهم عنه لهم من الموالاة ، وحرّم عليهم من مناكحهم ، ونهاهم عنه من أكل (٦) ذبائحهم ، فإني سأجمع ذلك لك إن شاء

__________________

(١) في (أ) : كنحو من نسب. وفي (ج) : كنحو مما ينسب.

(٢) في (ب) و (د) : فأي شيء هذه.

(٣) في (أ) و (ج) : لا معتقد. مصحفة.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : التي.

(٥) في (ب) و (د) : أولية.

(٦) سقط من (ب) : من. وفي (أ) و (ب) و (ج) : مناكحتهم. وسقط من (ب) : أكل.

الله كله ، وأبيّن لكم ما ذكر الله في ذلك أجمع وأفصّله ، بآيات مسمعات ، (١) وأحكام متتابعات ، (٢) كراهية للتكثير عليك في القول ، واكتفاء لك بتفصيلهن من الإكثار في كل علم مجهول.

قال الله عزوجل : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (٢) وَأَذانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤) فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) [التوبة : ١ ـ ٥].

وقال سبحانه : (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (٣٦) [التوبة : ٣٦]. يريد بقوله تبارك وتعالى : (كَافَّةً) عامة كما يقاتلونكم عامة ، لا يختصون (٣) منكم خاصة.

وقال سبحانه : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) [محمد : ٤].

وقال سبحانه بعد الدماء ، فيما أحل من الغنيمة والسباء : (ما أَفاءَ اللهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ

__________________

(١) في (ب) و (د) : مستمعات.

(٢) في (ب) : متبعات.

(٣) في (ب) : ولا يختصوا. وفي (د) : ولا يختصون.

وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) (٧) [الحشر : ٧]. ولا يكون فيئا ، إلا ما كان غنيمة أو سباء ، لقول الله عزوجل : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) [الأحزاب : ٥٠]. فجعل ما أفاء الله عليه منهن ملك يمينه ، وأحلّهن الله له بالسباء في حكم دينه.

وقال سبحانه : (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٤١) [الأنفال : ٤١].

وقال فيما أوجب من البراءة على المؤمنين فيهم ، ونهاهم عنه من تولّيهم : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) [آل عمران : ٢٨]. فنهاهم عزوجل عن ولايتهم سرا وعلانية ، وحرّم عليهم ولايتهم لهم خفية كانت أو بادية ، بقوله في هذه الآية الثانية : (إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢٩) [آل عمران : ٢٩].

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة : ٥١]. فجعلهم بموالاتهم لهم منهم ، وأزال اسم الايمان بموالاتهم لهم عنهم.

ثم أخبر سبحانه بحال من سارع فيهم ، ودل بما في قلوبهم من المرض عليهم ، فقال : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي

أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢) [المائدة : ٥٢]. فأبان سبحانه أن ولايتهم كانت لهم ليست إلا لخوف الدوائر ، (١) وأن ذلك لم يكن منهم لهم إلا لما في نفوسهم من مرض الضمائر. فمتى ما وجد لهم أحد ممن يدعي الاسلام متوليا ، لم يكن في الدين أبدا كما قال الله إلا مريضا قلبه دويّا ، ومتى ما كان قلب من يدعي الاسلام مريضا مدخولا ، كان لما قطع الله من ولايتهم وصولا ، وفي كون كل واحد منهما كون صاحبه ، وكل سبب من الأمرين فموصول بأسبابه ، فلا يوالي من أشرك بالله أبدا إلا من مرض في الدنيا قلبه بالشك ، ولا يمرض قلب امرئ أبدا في دينه ويقينه إلا لم يبال من والى من أهل الكفر بالله والشرك.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢].

وقال تبارك وتعالى فيما حرم من مناكحتهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) [الممتحنة : ١٠].

وقال سبحانه : (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) (٢٢١) [البقرة : ٢٢١].

__________________

(١) في (ب) : الدائرة.

فهذا في بيان ما حرم الله تبارك وتعالى من (١) مناكحتهم.

وقال سبحانه فيما حرّم من أكل ذبائحهم : (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (١٢١) [الأنعام : ١٢١].

وقال سبحانه : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) [المائدة : ٣] ، والإهلال به لغير الله ، ذكره وتسميته وانتحاره وذبحه لسوى الله.

وقال سبحانه : (وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) [المائدة : ٣]. وما ذبح عليها ، فتأويله ما ذبح لها ، والنّصب فحجارة كانوا ينصبونها ويتخذونها مذابح ومناحر يذبحون عندها ولها ما يذبحون ، وينحرون (٢) عندها من نحائرهم ما ينحرون ، فحرّم الله ما ذبح من الذبائح عندها ، ونحر من النحائر لها.

قال : ويحل الدم بعد ذلك دون السباء ، ولا يحرم مناكحة النساء ، لخلال أخر من الكفر والعدوان ، يعرفها كل من وهبه الله يسيرا من الفهم فيما نزل من القرآن :

منها : ظلم الظالمين ، وما بيّن سبحانه من عدوان المعتدين ، فقال سبحانه : (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) (٣٩) [الحج : ٣٩]. فأذن سبحانه للمظلومين بقتال الظالمين لظلمهم إياهم ، وأذن للمظلومين ـ بظلم الظالمين ـ لا بغيره في أن يسفكوا دماءهم.

وقال سبحانه : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) (٤١) [الشورى : ٤١] ، ثم أخبر سبحانه على من جعل السبيل بالقتل والتقتيل ، فقال سبحانه : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٣٢) [الشورى : ٣٢]. وقال سبحانه : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً

__________________

(١) في (أ) و (ج) : في.

(٢) في (أ) و (ج) : وينتحرون.

(٦١) سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) (٦٢) [الأحزاب : ٦٠ ـ ٦٢].

فصنّف سبحانه من أحلّ قتله وتقتيله أصنافا ثلاثة مختلفة ، لا يشتبه اختلافهم على من وهبه الله أدنى معرفة.

والمنافقون منهم الذين يقولون من التقوى ما لا يفعلون ، والذين بسوء فعلهم يكذّبون ما يقولون ، ويعدون الله فيما يعدونه ، ثم يخلفون ما وعدوه ويكذبونه ، كما قال سبحانه : (وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٧٥) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٧٦) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (٧٧) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (٧٨) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٩) [التوبة : ٧٥ ـ ٧٩]. وكما قال عزوجل : (الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لَاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (١٦٨) [آل عمران : ١٦٧ ـ ١٦٨]. وكما قال سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٤) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٥) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٦) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٧) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٨) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ) (١٩) [المجادلة : ١٤ ـ ١٩].

وما دل سبحانه من هذه الصفات كلها وغيرها على المنافقين ، فموجود اليوم كثير

في من يتسمى كذبا وظلما بأسماء المتقين ، وهذا فهو معنى النفاق المعروف في لسان العرب وكلامها ، وما يدور من معلوم اللسان فيه بين خواصها وعوامها ، لا يجهله منها صغير طفل ، ولا كبير كهل ، ولو كان النفاق ليس إلا ما زعم بعض الناس من إسرار الشرك (١) وإعلان التوحيد والإقرار ، لما جاز أن يقال : (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ) [آل عمران: ١٦٧] ، وكيف يقول هم أقرب إليه؟ وهم فيه وعليه! هذا ما لا يصلح توهّمه في الكتاب لتناقضه واختلافه! وميله عن الحكمة وانصرافه! وكيف يصح أن لا (٢) يكون النفاق إلا إسرار الشرك بالله؟! والله يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩]. فكيف يأمره بجهادهم على ما طووه من شركهم سرا؟! وهو لا يحيط صلى الله عليه بكثير من علانيتهم خبرا. فكيف يأمره بجهادهم على سر القلوب؟! الذي لا يعلمه إلا علام الغيوب!! وكل من قال بأن النفاق إسرار الشرك بالله، غير موجب على نفسه لجهاد (٣) المسرّين لشركهم بالله ، دون أن يعلنوا من الشرك ما أسروا ، ثم أن يمتنعوا من شركهم ويتبرّوا ، وفي هذا عليهم حجة لعدوهم في الجهل بالنفاق (٤) قاطعة ، بينة مضيئة فيما قلنا به من أن النفاق فعل علانية لهم مما قالوا إن أنصفوا مانعة.

والصنف الثاني منهم : الذين في قلوبهم مرض وهو شكوك الارتياب ، فهم الذين كانوا يتولون كفرة أهل الكتاب ، كما قال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢) [المائدة : ٥١

__________________

(١) في (ج) : الشك. مصحفة.

(٢) في (ب) : يصح أن يكون. وفي (د) : وكيف أن يكون.

(٣) في (ب) : بجهاد. وفي (د) : بجهاده.

(٤) في (ب) و (د) : حجة لعذرهم. وفي (ب) : بالجهل في النفاق.

ـ ٥٢]. فجعلهم تبارك وتعالى بتولّيهم (١) لهم منهم ، (٢) وأخبر ـ بالعلة التي بها من مرض قلوبهم تولوهم ـ عنهم ، ولو كان معها غيرها لذكره ، ولأبانه منهم علانية وشهره ، وإذا كانوا عند الله منهم ، لزمهم عنده تبارك وتعالى ما لزمهم ، وكان حكم المؤمنين ومن تولاهم حكمهم عليهم ، وسيرتهم في الجهاد سيرتهم فيهم.

والصنف الثالث منهم : أهل (٣) إرجاف وعبث ، وأذى للمؤمنين والمؤمنات ورفث ، كانت ترجف بمكذوب الأحاديث وترهج ، (٤) ليس لها دين ولا ورع ولا تحرج ، ألا ولمّا كان لها في الإرجاف من الشغل به عنها ، ويعنيها (٥) به لما أسخط الله منها ، كانت تكثر فيه ، وتجتمع عليه.

وهذه الفرقة فبقيتها بعد بالمدينة (٦) كثيرة معروفة ، وبكل ما وصفها الله به من الإرجاف والعبث والرفث فموصوفة ، تشاهد به مشاهدها ، (٧) وتعمر به مساجدها ، والله المستعان.

وكل هذه الفرق الثلاث جميعا ، فقد أمر الله نبيه عليه‌السلام بقتلهم إن لم ينتهوا معا.

وقال الله سبحانه فيما أمر به المؤمنين من قتال من قاتلهم وقتلهم لهم بحيث ثقفوهم ، وإخراجهم إياهم من حيث أخرجوهم ، (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (١٩٠) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بتوليتهم.

(٢) سقط من (د) : منهم.

(٣) في (ب) : هو أهل. وفي (د) : هم أهل.

(٤) ترهّج : تشغّب.

(٥) في (أ) و (ج) : وبعينها.

(٦) في (ب) و (د) : بعد المدينة.

(٧) في جميع المخطوطات : نشاهد به مساجدها ، ويعمر به مشاهدها. والتقديم والتأخير اجتهاد مني.

كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (١٩١) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٩٢) [البقرة : ١٩٠ ـ ١٩٢]. فأوجب عليهم قتالهم وقتلهم ، (١) بما كان من قتال الظالمين لهم. ألا ترى كيف يقول سبحانه : (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) [البقرة : ١٩١]. فجعل قتالهم وإن كانوا على شركهم عند المسجد الحرام محرّما ، ثم أحله لهم إن قاتلوهم عنده وحكم عليهم بقتالهم حكما حتما.

وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين باعتدائهم ، وبسط أيدي المؤمنين للعدوان من سفك دمائهم ، (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (١٩٥) [البقرة : ١٩٤ ـ ١٩٥]. فأمرهم سبحانه للعدوان لا لغيره بقتالهم ، ونهاهم عن أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باستسلامهم لهم ، وأمرهم بالإنفاق في جهادهم ، سبحانه والإحسان ، وأخبرهم أنهم إن لم يفعلوا فقد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة لأهل العدوان. وصدق الله العزيز الحكيم الأعلى ، الذي لا يرضى لأوليائه أن يكونوا أذلاء ، والذي لم يزل سبحانه يحوط العز لهم حوط العليم الخبير ، وينصرهم عند القيام بأمره نصر العزيز القدير ، وأي تهلكة أهلك لهم؟! من استسلامهم لمن يريد قتلهم!!

وفي ذلك أيضا ما أمر الله ، به سبحانه (٢) من قتال البغاة ، مجتمع عليه ، غير مختلف فيه ، في كل قراءة مدنية أو عراقية ، وغربية كانت القراءة أو شرقية ، إذ يقول سبحانه : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٩) [الحجرات : ٩].

ثم قال سبحانه مدحا للمنتصرين من الباغين ، وترغيبا في الانتصار في البغي للمؤمنين ، (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) (٣٩) [الشورى : ٣٩]. فمن

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : فأوجب عليهم قتالهم وقتلهم.

(٢) في (أ) و (ب) و (د) : من أمر الله سبحانه.

أظلم وأبغى ، ممن تجبر وطغى ، فخص المؤمنين بغيه وطغاه ، وعمّت الأرض فتنته وبلاه؟! لا من إن عقل من يسمع نداء كتاب الله بتعريفه!! (١) وقام لله بما له عليه في ذلك من تكليفه.

وفي ذلك أيضا ما حكم الله سبحانه به في القتل على الفتنة وكبائر المظلمة ، (٢) وما أذن به تبارك وتعالى من محاربة أكلة الربا من هذه الأمة ، فقال في الفتنة : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤٠) [الأنفال : ٣٩ ـ ٤٠]. والفتنة: فهي تعذيب أولياء الله بالضرب وغيره من أنواع العذاب والبلاء ، وما كانت قريش تعذب به في جاهليتها من كان فيها من البررة والأتقياء.

وقال سبحانه فيما آذن به ، أكلة الربا من حربه (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: ٢٧٨ ـ ٢٧٩]. عزما منه سبحانه على حربهم بأثبت الثبوت ، وحكما لازما فيهم لكل مؤمن حتى يتوفاه الموت ، لا عذر لأحد من الخلق في تبديله ، ولا اختلاف في الحكم بين تنزيله وتأويله.

وقال سبحانه فيما أذن به من قتل المعتدين من عباده ، والساعين بالفساد في أرضه وبلاده ، والمحاربين له تبارك وتعالى ولرسوله من خلقه ، ولا محاربة له سبحانه ولا لرسوله ولا فساد أعظم من تعطيل حقه ، والإعراض عن نهيه (٣) وأمره ، وإقامة المتجبر على تجبّره (٤) : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣٣)

__________________

(١) في (أ) و (ج) : وتعريفه.

(٢) في (ب) و (د) : الظلمة.

(٣) في جميع المخطوطات : عن أمره ونهيه. وما أثبته اجتهاد مني.

(٤) في (أ) و (ج) : المتحير على تحيره.

[المائدة : ٣٣].

وقال سبحانه : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢]. فأحل سبحانه من قتل الأنفس بفسادها واعتدائها ، مثل الذي أحل من القتل بالقصاص بينها في دمائها.

وقال أيضا سبحانه وتعالى ، فيما جعل من القصاص بين القتلى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى ...) [البقرة : ١٧٨] الآية

فهذه وجوه ما أحل الله به الدماء ، وأوجب به على فعله البراءة والبغضاء ، وكل وجه ـ والحمد لله ـ من هذه الوجوه فغير صاحبه ، لا ينكر وجها منها مرتاب وإن عظمت بليته في ارتيابه.

وقد قال غيرنا من مرتابي هذه العوام الغوية ، وأعوان المعتدين من ظلمة بني أمية : لا يحل قتل من قال لا إله إلا الله ، وكابر ما بيّنا كله من ما حكم به الله.

واليهود تقول : لا إله إلا الله ، وتؤمن ببعض كتاب الله ، كما قال سبحانه : (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) (٨٥) [البقرة : ٨٥]. فخزي الدنيا أن يقوّي مسكنتهم وذلهم ، (١) وقتالهم إن امتنعوا من الذل وقتلهم ، فحكم الله سبحانه بقتلهم ، ودمّرهم بفسادهم وكفرهم ، والإعراض عن بعض حقه ، وتكبرهم على (٢) المرسلين من خلقه ، فقال سبحانه : (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى

__________________

(١) أي : يزيد في مسكنتهم وذلهم.

(٢) في (ب) : عن.

يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ) (٢٩) [التوبة : ٢٩]. ولقتلهم الآمرين بالقسط من الناس أوجب لهم تبارك وتعالى في أن من صد عن سبيل الله ، وأفسد على أولياء الله دعوتهم إلى الله فهو من أعدى الأعداء لله ، وأعظمهم عند الله عذابا وتنكيلا ، وأوجبهم في دين الله قتلا وتقتيلا.

قال الله سبحانه : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ) (٨٨) [النحل : ٨٨]. فما ذكر سبحانه من صدوا فهو ..... (لم يكن عليه‌السلام أتم الكتاب ، وهذا حده الذي بلغ فيه إليه ، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما كثيرا).

* * *

الهجرة للظالمين

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

الحمد لله ، ولا قوة إلا بالله ، الذي جل عن كل ذكر ذكره ، وعز في كل أمر أمره ، فلم يدل له سبحانه أمر بتناقض ولا اختلاف ، ولم يصغر له ذكر عن جليل ولا كبير (٢) من كرائم الأوصاف ، بل كلّ عنه جل ثناؤه كريم الصفات ، وأمور من خالفه فلم يحكم بحكمه فهن المختلفات ، اللاتي لا يعدل بهن حيف عن ميل ، ولا يهتدى منهن (٣) إلى حق بدليل ، بل الهدى منهن ممنوع ، وكل ضلال فهو فيهن مجموع ، لا يأوي إليهن هدى ، ولا يقين(٤) من ردى ، بل كلهن (٥) ظلمة ، وصمم وعمى وبكمة ، كما قال سبحانه في أهلهنّ ، ومن كان مؤثرا من العماة لهن ، (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : ١٨].

فسبحان من خذل أعداءه فأصمهم وأعماهم ، ونصر وتولى (٦) أولياءه فأعزهم وهداهم ، فلم يذل له وليا ، ولم يجعله عميا ، ولم يره في عاجل ولا آجل من ذلّ سوءا ، ولم يوال له قطّ عدوا ، بل حكم ـ جل ثناؤه ، وعزّت (٧) بعزته أولياؤه ـ لأوليائه بالمحبة والموالاة والمقاربة والإدناء ، وخصهم في كل حكمة لهم في هذه العاجلة بكل حسنى ، من البر والصلة والمجاورة والرضى ، وكّد (٨) بذلك كله لهم على عباده فرضا ، لا يسع محجوجا منهم إضاعته ، ولا يتم منهم (٩) لله إلا بأدائه طاعته.

__________________

(١) في (ب) و (د) : زيادة (الحمد لله وبه نستعين) بعد البسملة.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : عن. وفي (أ) و (ج) : ولا كثير.

(٣) سقط من (ب) و (د) : منهن.

(٤) في (أ) و (ج) : ولا ينتفين.

(٥) في (ب) و (د) : كلهن في عمى وظلمة ، وصمم وبكمة.

(٦) سقط من (د) و (ج) : وتولى.

(٧) في (ب) : تعزة. وسقط من (أ) و (ج) : وعزت.

(٨) في (أ) و (ج) : وكد بذلك كله على عباده لهم فرضا.

(٩) في (ب) و (د) : منه.

[صفات أولياء الله]

فسبب أولياء الله من الله بكل كرامة موصول ، وعملهم بولايتهم لله في كل خير عند الله مقبول ، لا يحبط مع زكي عملهم لهم برّ ولا عمل ، ولا يلم بهم بعد ولاية الله لهم صغر ولا ذل ، بل لهم مع ما (١) حكم الله به لهم على العباد من البر والمحبة ، ما ذكر الله سبحانه من (٢) الفلاح والفوز والنصر والغلبة ، فاسمعوا هديتهم لذكر الله في ذلك ، وخبره فيهم عن أنه كذلك ، إذ يقول سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (٣) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (٤) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (٥) إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (٦) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (٧) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (٨) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (٩) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (١٠) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) [المؤمنون : ١ ـ ١١]. ويقول سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) (٥٢) [النور : ٥٢] ، ويقول جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (٦٢) [يونس : ٦٢]. ويقول سبحانه في إعزازه في الدنيا لأوليائه ، وما منّ به عليهم فيه من نصره وإعلانه : (إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (١٧٢) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١٧٣) [الصافات : ١٧٢ ـ ١٧٣]. وفي ذلك ما يقول الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (٨) [المنافقون : ٨]. وقال فيما وصفهم به من الإخاء والولاء : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠] ، فثبتت بينهم (٣) بتثبيت الله في الله ولله الموالاة والأخوة ، فهم الإخوة المتبارّون ، والأولياء المتناصرون ، والمؤمّنون بمنّ الله عليهم من كبائر العصيان ، (وبإيمانهم (٤) استحقوا عند الله اسم

__________________

(١) سقط من (ب) : ما.

(٢) سقط من (ب) : من.

(٣) في (أ) و (ج) : لهم.

(٤) في (ب) : وايمانهم من الكبائر. وفي (د) : وبإيمانهم من الكبائر استحقوا.

الإيمان ، فسماهم به ودعاهم) (١) ، وبإيمانهم من كبائر عصيانه أعطوا هداهم ، كما قال الله الذي (٢) لا إله إلا هو : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٧] ، وبتقوى الله التي هي خشية الله وإكباره ، وإجلال الله عن العصيان وإعظامه ، تمت من الله عليهم النعم ، وثبت عند الله لهم الكرم ، فقال سبحانه : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٢] ، فاتقوا الله فقد علّمكم وهداكم ، واطلبوا النجاة والكرم بتقواه ، فبها كرم عنده (٣) ونجا من آتاه هداه ، فلن يوجد البر والتقوى أبدا إلا في كريم ، ولا الفجور والعصيان (٤) ما بقيت الدنيا إلا في لئيم.

وفي الفريقين ما يقول الله تعالى في كتابه الحكيم : (إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ) (١٤) [الانفطار : ١٣ ـ ١٤] ، وفي المؤمنين الأتقياء الأبرار ، بعد الذي وصفهم الله به من التّحابّ والتّبار ، ما يقول الله : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١] ، فجعل دار المؤمنين والأبرار ، خير محلّ ومنزل ودار ، جعلها سبحانه دار أمن وإيمان ، ظاهر (٥) فيها كل برّ وإحسان ، يؤمر فيها بما يرضي الله سبحانه من التقوى والبر والمعروف ، بغير ما تقيّة فيها للظالمين ولا رهبة ولا مراقبة ولا خوف ، وينهى فيها عما يسخط الله من المنكر والطغيان (٦) ، وما لا يحبه الله من الفسوق والعدوان.

__________________

(١) سقط من (ج) : ما بيت القوسين.

(٢) سقط من (ب) و (د) : الذي.

(٣) في (أ) : فيها كرم عند الله. وفي (ب) و (د) : فيها كرم الله عنده.

(٤) في (أ) : ولا الفجور والعصيان أبدا.

(٥) في (أ) و (ج) و (د) : ظاهرا.

(٦) سقط من (ب) : الله. وفي (أ) و (ج) : المنكر والعصيان.

[وجوب الإنكار أو الهجرة]

فما بال من أبرّ وأطاع فلم يعص ، وحلول دار كل ظالم متعدّ لص ، لا يؤمن ليله ولا نهاره ، ولا تسترّ عمّن حالّه أسراره ، في عصيان الله (١) ومشاقته ، ولا يخفى عنه ولا يتوارى ، مجاورا لمن (٢) أسخط الله فيها لما يراه (٣) قاهرا ظاهرا ، لا ينكره منه بلسان ولا يد ، ولا يقوم لله فيه بدفاع ولا ردّ ، ذليلا بين أظهرهم وفي جورهم ، محكّما لهم على نفسه في فجورهم ، (٤) إن كذّبهم في افترائهم على الله كذّب ، وإن باينهم بمخالفة (٥) في الله صلب أو عذّب ، غير ممتنع منهم بغلب ولا معازّة ، ولا مهاجر (٦) عنهم إلى دار عزّ أو مفازة ، من فلاة ولا جبل وعر ، أو بعد أو مهرب أو مستتر ، (٧) يستره عنهم ومنهم ، ويفرق ما بينه وبينهم ، مع ما وسّع الله لمن صدقت إرادته لله من المهارب ، وما جعل الله في أرضه لمن هاجر في سبيله من المذاهب ، التي فيها لمن (٨) ظلم وتعدى مساءة وإرغام ، ولمن أسلم نفسه إلى الله هدى وإسلام ، كما قال الله سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠) [النساء : ١٠٠].

[التمييز بين أولياء الله وأعداءه]

فكل ما ذكرنا من الجوار والمقاربة ، والإكرام والتواد والمحابّة ، والنصر والولاء ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الله. فيها (زيادة).

(٢) في (ب) و (د) : من سخط.

(٣) في (أ) و (ج) : يرى.

(٤) في (ب) : جورهم (مصحفة).

(٥) في (أ) : لمخالفتهم لله.

(٦) المعازّة : المغالبة. وفي (أ) و (ج) : ولا مهاجرا (وهو خطأ).

(٧) في (ج) : أو مستر.

(٨) سقط من (ب) : لمن.

والبر والإخاء ، فحكم الله جل ثناؤه في أوليائه ، ثم حكم الله سبحانه (١) بعد في أعدائه ، بخلاف ما حكم به للأولياء ، (٢) تفريقا بين مفترق الأشياء ، كما قال جل جلاله فيما نزل من الفرقان : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) [ص : ٢٨] ، وقال سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) [القلم : ٣٥ ـ ٣٦] ، وقال تبارك وتعالى : (أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ) (١٨) [السجدة : ١٨] ، فلم يسو بينهم عند ذي علم ، في اسم منه لهم (٣) ولا حكم ، وكان حكمه تبارك وتعالى على أعدائه ما (٤) لا يجهله ذو علم ، من لعنته وإخزائه ، ومقته لهم وإقصائه (٥) ، وما حكم به من هجرتهم على أوليائه ، وما وكّد على العباد من فرضه ، في مجانبه كل مجرم وبغضه ، وما أوجب الله على الأبرار ، من الهجرة للظالمين في المحل والدّار ، وما ألزم الظالمين من الصّغار والذل ، وما حكم به على بعضهم في ظلمه من القتل ، وعلى بعضهم من القطع والصلب ، وعلى بعضهم من السجن وألوان النكال والضّرب ، وما أوجب الله على الظالمين من الخزي في الظلم ، وما حكم به عليهم في ذلك من الحكم ، فما لا يعمى عنه من نوّر الله قلبه في معرفة الحق بضياء ، ولا يخفى على محجوج من الخلق (٦) فيما يخفى عليه من الأشياء ، ولا يحق لمن جهله حقيقة الإيمان ، ولا يتم لمن عطّله مثوبة الإحسان ، بل يحيط الله عمله ، بما جهل منه وعطّله.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : حكم الله سبحانه.

(٢) في جميع المخطوطات : لأوليائه. لكنه ظنن في (د) : ب (للأولياء) ، ولعله الصواب.

(٣) سقط من (ب) و (د) : لهم.

(٤) سقط من (ب) : ما.

(٥) في (ب) : وقضائه (تصحيف).

(٦) سقط من (أ) و (ج) : من الخلق.

[التحذير من موالاة أعداء الله]

ومن صار لعدوّ من أعداء الله ، إلى محبّة أو موالاة ، أو مسالمة أو مراضاة ، أو مؤانسة أو موادّة أو مداناة ، أو مقاعدة أو مجاورة أو اقتراب ، فضلا عن توادّ أو تحابّ ، فقد باء صاغرا راغما من الله جل ثناؤه بسخطه ، وهلك في ذلك بهلكة عدوّ الله وتورط من الهلكة في متورّطه ، وكان في الإساءة والجرم مثله ، وأحله الله في العداوة له محلّه ، وجعله الله لموالاته لمن عاداه ، ولم يصر إلى ما أمره الله به من تقواه (١) ، ونسبه لموالاته لهم إليهم ، وحكم عليه بما حكم به من السخط واللعنة عليهم ، فرحم الله امرأ ، أحسن (٢) لنفسه نظرا ، فسمع في ذلك عن الله وقيله (٣) ، واتبع ما نزله الله في ذلك من تنزيله ، فإنه يقول سبحانه: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلاً) (١٢٢) [النساء : ١٢٢] ، ويقول أيضا في الكتاب : (وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، وقد قال سبحانه في فريضته هذه بعينها ، وما نزل به سبحانه (٤) كتابة من تبيينها : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (٥١) [المائدة : ٥١] ، فأخبر سبحانه أنه من والى من الفريقين من عادى ، فليسوا ممن (٥) وهبه الله ولا أعطاه الهدى ، لجهلهم بحكم الله في ذلك عليهم ، وجعلهم بموالاتهم (٦) لهم منهم ونسبهم إليهم ، ودعاهم بموالاتهم (٧) لهم كما دعاهم ظالمين ، فتبارك الله أحكم الحاكمين ، الذي لا يعتريه وهم ولا جور في حكمه ، ولا يحاط إلا بما شاء من علمه، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ

__________________

(١) في المخطوطات : تقواه منهم. ولعل (منهم) زيادة ، والله أعلم.

(٢) في (أ) و (ج) : نظر.

(٣) في (ج) : وقبله (مصحفة).

(٤) سقط من (أ) : سبحانه.

(٥) في (ب) : بمن.

(٦) في (ب) و (د) : لموالاتهم.

(٧) في (ب) و (د) : لموالاتهم.

الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (٨٥) [القصص : ٨٥] ، ولا يحكم (١) سبحانه في صغير من الأمور ولا كبير كما يحكم الذين لا يعلمون ، ولكنه يقضي الحقّ وهو خير الفاصلين ، ولا يغفل في الأشياء كغفلة الغافلين ، فيتناقض حكمه وأمره ، ويسوء بتناقض أو خلاف ذكره.

[مرض القلوب]

ثم دل سبحانه على خفي مرض قلوب الموالين ، لمن أمر بمعاداته وهجرته من الظالمين ، فقال سبحانه : (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) (٥٢) [المائدة : ٥٢] ، فنبأ سبحانه بما كانوا يقولون ، وبإحباطه ما (٢) كانوا يعملون ، وأنهم بموالاتهم لعدوّ المؤمنين ليسوا منهم ، وبيّن الله للمؤمنين ما كانوا يسترون من ذلك عنهم ، فأما ما ذكر الله من مسارعتهم فيهم ، فهو [ما] كان بيّنا غير مستور يرونه (٣) بمعاملتهم لهم ومصيرهم إليهم ، مقبلين في كل وقت ومدبرين عليهم ، ألا تسمعون (٤) لقول الله سبحانه (فَتَرَى) ، ولا يرى صلى الله عليه إلا ما كان له معاينا مبصرا ، فأما مرض قلوبهم ، وما (٥) كانوا يخفون من عيوبهم ، في الشك والارتياب والحيرة ، وما كانوا عليه للدنيا (٦) من الحب والأثرة الكبيرة ، فإنما يتبين عند ما يأتي به الله المؤمنين من النصر والفتح ، فعند ذلك بالحسرة والندامة يفتضح من المرتابين كل مفتضح : ف (يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ

__________________

(١) في (أ) : لا يحكم.

(٢) في (ب) و (د) : لما.

(٣) في (أ) و (ج) : ويرونه.

(٤) في (ب) : ألا يسمعوا.

(٥) في (ب) : وكانوا.

(٦) في (ب) : من الدنيا.

(٥٣)) [المائدة : ٥٣] ، فخسّرهم الله أعمالهم ، وصيّرهم بموالاتهم لهم مثلهم (١) كافرين ، وقال سبحانه بعد هذا من أمره كله للمؤمنين ، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٥٤) [المائدة : ٥٤] ، فأخبرنا سبحانه أنه لن يحبه ولن يحب ، ولن (٢) يزكو عنده ولم يطب ، من لم يذل لأوليائه ، ويعز على أعدائه.

[مجالسة الظالمين مهلكة]

فلعمر أبي من جاور عدو الله من الظالمين ، ما عز عليهم ولكنه كان لهم من الأذلين ، ولعددهم في محلهم من المكثرين ، ولدار ظلمهم بحلولها (٣) من العامرين ، فنعوذ بالله من الشقوة في الدين ، والمكابرة لما جاء فيه عن الله من اليقين.

فحذّر ـ سبحانه من والاهم ، بمودة أو مجاورة فداناهم ـ الارتداد ـ بذلك من موالاتهم عن دينه ، ومن قبل ذلك ما أخبر بمرض قلبه في يقينه ، وكيف لا يكون من والاهم مرتدا إليهم ، وقد حكم الله عليه بحكمه عليهم ، (٤) فكفره بموالاته لهم ككفرهم ، وأمره في الكفر لنعم الله أمرهم ، وكيف لا يكون في الكفر كهم ، وقد جعله تبارك وتعالى مثلهم ، فقال سبحانه : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] ، فجعلهم الله سبحانه في موالاتهم لهم من المنافقين والكفار ، وأحلّهم جميعا كلهم محل أهل النار. وما ذكر الله عنهم ، ولا سخط سبحانه منهم ،

__________________

(١) سقط من (ب) : مثلهم.

(٢) سقط من (ب) : ولن.

(٣) في (ب) : يحلوها (مصحفة).

(٤) سقط من (ب) : وقد حكم الله عليه بحكمه عليهم.

عند ذكره في الولاية لهم ، سوى ما ذكر من الموالاة ، بالمقاعدة والمداناة ، فكيف من رمى إليهم بإخائه ووده؟! وكثّر عددهم بشخصه وعدده؟ وعمر ديارهم وأسواقهم ومحافلهم بمحله وابتنائه ، فلعله بذلك أنفع لهم ممن خصهم بودّه وإخائه ، فهو عامر لهم ومكثّر ، وولي لهم من حيث لا يشعر ، فهم خيرته وأولياؤه ، وفيهم مسكنة وثواؤه (١).

وقد قال الله للمؤمنين جل ثناؤه : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغالِبُونَ) (٥٦) [المائدة : ٥٥ ـ ٥٦] ، فبرّأهم الله (٢) عزوجل من ولايته وحزبه ، وولى كل امرئ (٣) منهم ما هو أولى به ، كما قال سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (١١٥) [النساء : ١١٥].

ثم قال سبحانه بعقب ما قدّم في الولاية من الآيات ، وأوضح فيما أمر به فيها من البينات ، تكريرا لنهيه عن موالاة الظالمين وترديدا ، وتوكيدا لحكمه في مجانبة دار المعتدين وتشديدا : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (٥٧) [المائدة : ٥٧].

فما ارتكب الظالمون من قتل الأبرار وصلبهم ، أكبر عند الله أضعافا مضاعفة من الاستهزاء بهم ، والتلعب بالأنبياء ، كالتلعب والاستهزاء بما جاءوا به من الأشياء ، وكذلك التلعب بأولياء الله ، كالاستهزاء بالدين عند الله ، ولذلك (٤) أخبر الله سبحانه أنهم إن لم يكونوا لمن عاداه من المعادين ، فليسوا لما ينتحلونه من الايمان (٥) بمستحقين ، ولا في دعواهم له وتسميتهم به من المصدّقين ، ولا فيما أوجبه عليهم من هجرة من

__________________

(١) ثواؤه : مقامه.

(٢) سقط من (ب) : الله.

(٣) سقط من (ب) : إمرئ.

(٤) في (ب) و (د) : وكذلك.

(٥) في (ب) : ينتحلونه من المستحقين.

ظلم وتعدى من المتقين ، بل حالهم في ترك ما حكم عليهم من ذلك حال من جهل واستهزأ ، وأعرض عما أمر به من تقوى الله فيه طغى وتعززا ، كما قال الله سبحانه فيما هو أقل من هذا قلة ، وأصغر عنده قدرا ومنزلة ، من الظلم والاعتداء ، فيما طلّق من النساء : (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٢٣١) [البقرة : ٢٣١].

وقال سبحانه فيمن تعزز واعتدى ، وأبى ما دعي إليه من التقوى والهدى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (٢٠٤) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (٢٠٥) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ) (٢٠٦) [البقرة : ٢٠٤ ـ ٢٠٦] ، فيكون ـ عند من يعقل مستهزئا ، وظالما في الدين متعديا ـ من أمسك وهو يعول ويمون زوجته وهي [ا] مرأته (١) ضرارا ، ومن قيل له اتق الله فتعزز على قائلها وأدبر نفارا ، أو لا يكون من ترك حكم الله فيما تلونا من الآيات ، من المستهزئين (٢) المتعززين المعرضين العتاة؟! كلا لن يكون أبدا ذلك ، إلا عند كل (٣) عميّ كذلك.

ألا تسمعون لقول الله سبحانه ، فما أوضح حجته وبيانه (٤) : (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً) (١٤٠) [النساء : ١٤٠] ، فجعلهم كهم ومثلهم ، ولم يعملوا

__________________

(١) في (أ) : مرته. وفي (ب) و (ج) و (د) : مرأته.

(٢) في (أ) : المستهزءين.

(٣) في (ب) و (د) : عند من.

(٤) في (ب) : حججه وبرهانه. وفي (د) : حججه وبيانه.

في كل أمر عملهم ، فكيف يكونون مستهزئين كافرين؟! إن لم يكونوا كهم كفرة مستهزئين ، هذا ما لا يجهل ـ والحمد لله (١) ـ بيانه ، من أوضح الله عنده للحق برهانه.

ومن أين يقوم من لم يؤدّ فريضة الله في هجرة دار الظلم ، بما حكم الله به على الظالمين من الحكم ، في القتل والقتال ، وما يجب عليهم من الانكار في معصية ذي الجلال ، لذلك أعزّ عليه عزة ، ولهو فيه أكثر معجزة ، (٢) والله المستعان فيما يكون وما كان ، ونسأل الله العفو والغفران ، لما مضى من صحبتنا للظلم والطغيان ، بحلول دور أهل الفجور والعدوان.

فمن رأيتم ـ وفقتم وهديتم ـ صحب ما يكره من الأمور ويشنأ ، (٣) أو جاور منكم أو من غيركم ما لا يرضى ، وهو يجد منه بدا أو عنه مندوحة ، وله إلى هرب منه سبيلا أو طريقا مفتوحة ، أو تخشون ألا يكون من جاور ورضي بالمقام ، سخط ما يسخط الله جل ثناؤه من الظلم والآثام ، بل (٤) يخافون ألا يكون من فعل ذلك وجد مسّ عدم الاسلام (٥) ، فهو سليم لتلك ولجهله بها مما مسّ أهله (٦) لعدمه من الآلام.

فنعوذ بالله من الرضى بسخطه ، ومن كل موالاة لمسخطه ، (٧) فإنه لا نجاة لأحد مع موالاتهم ، التي منها ما ذكرنا من جوارهم ومداناتهم.

ولما (٨) أراد الله برحمته من نجاة أوليائه ، نهاهم وأكد وردد نهيهم عن موالاة أعدائه ،

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : والحمد لله.

(٢) أي : عجزا.

(٣) ينشأ من الشنآن هو : البغض والقلى.

(٤) في (ب) : بل لا يخافون (زيادة).

(٥) في (أ) و (ج) : حس. والمعنى على هذا غير واضح. ولعل كلمة (عدم) زائدة. ويكون المعنى على هذا : أنه لم يجبر طعم الإسلام.

(٦) في (ب) فما. وأهله أي : أهل الإسلام.

(٧) في (ب) و (د) : موالاة لأهل عداوته وسخطه.

(٨) في (أ) : وبما.

فلم يسهل سبحانه فيها ، ولا فيما نهى عنه منها ، لمؤمن في أبيه ولا أخيه ، ولا في أحد من أقربيه (١) ، وأزال ـ عمن والى منهم أحدا ، أو منحه في جدّ أو هزل ودّا ـ الإيمان بالله واليوم الآخر ، وجعله بهما وفيهما كالكافر ، فقال سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٢٢) [المجادلة : ٢٢] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٢٣) [التوبة : ٢٣] ، فأنزل سبحانه بتظليمه لهم في ولايتهم إياهم وحيا ، ثم قال تبارك وتعالى بعد للمؤمنين تقدما ونهيا : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) (٢٨) [آل عمران : ٢٨]. فأخبر سبحانه كل برّ تقي ، أن من والى من كفر أو ظلم فليس منه في شيء ، لا في ولاية من الله ولا ارتضى ، ولا في برّ عند الله ولا تقى.

ثم قال في آخر نهيه للمؤمنين ، عما نهاهم عنه من موالاة الكافرين : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) (٣٠) [آل عمران : ٣٠] فدل سبحانه بقوله : (رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ، على أن موالاة أهل الكفر والفساد ، من مساخطه العظام الشداد ، إذ كان الرءوف الرحيم ، لا يسخطه إلا الذنب العظيم.

وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً) (١٤٤) [النساء : ١٤٤]. فأخبر سبحانه أن ذلك منهم إن لم يفعلوه (٢) تقاة نفاق ، وأنه منهم ظلم وكفر وشقاق ، وأنهم كهم كفار ، وأن مصيرهم جميعا إلى النار ، لكفرانهم وفسقهم ، وعصيانهم

__________________

(١) في (ب) : أقرابيه. وفي (أ) : أقاربيه.

(٢) في (أ) و (ج) : إن فعلوه.

ونفاقهم.

ولو كان المنافقون الذين ذكر الله غيرهم ، لما صيّرهم من الدرك الأسفل (١) مصيرهم ، ولما كان في قوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ) [النساء : ١٤٥] ، لهم من موعظة ولا معتبر ولا تحذير ولا ازدجار ، ولكان القول في ذلك ، لو كان القول كذلك ، كالقول في (٢) فرعون وهامان وقارون ، هم فجرة ظلمة كافرون ، فما كان يكون في هذا لو كان من نذير ، أو تعبير أو موعظة لأحد أو تذكير.

وكيف ينكر من آمن بالله أن يكونوا كافرين لنعم الله؟! ومنافقين في دين الله ، أو يزال النفاق والكفر عنهم ، وقد جعلهم الله بولايتهم لهم منهم ، ونسبهم في منزل كتابه إليهم ، فاسم النفاق والكفر واقع عليهم ؛ لأن من كان من قوم أو دين أو حكم ، لزمه ما يلزمهم من حكم (٣) واسم.

فأما قوله جل ثناؤه في الآيتين (٤) : (مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤٤] ، فإن من تأويل من دونهم عندي ووجوه فهمه والله أعلم فيهم ، تعريجهم ونزولهم من دون المؤمنين عليهم ، وحلولهم بالمجاورة لهم بين أظهرهم ، واختلاطهم في المعاملة بهم ، لما في المعاملة ، من لين التراجع والمقاولة ، وما يكون في ذلك ، إذا كانوا كذلك ، من زوال الغلظة ، والاشتغال عن العظة ، وقد أمر الله تعالى جده (٥) ، ووجب في كل حكم حمده ، بالعظة لهم ، والغلظة عليهم ، كما أمر بقتالهم ، والمجانبة لأعمالهم ، فقال سبحانه لرسوله ، (٦) صلى الله عليه وعلى آله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (٧٣) [التوبة : ٧٣ ، التحريم : ٩].

__________________

(١) في (د) : الأسفل من النار (زيادة).

(٢) في (أ) : كالقول أن فرعون.

(٣) في (أ) : من دين واسم.

(٤) يريد الإمام : الآية السابقة ، وهذه الآية : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (١٣٩) [النساء : ١٣٩]

(٥) في (ب) : حده (مصحفة).

(٦) سقط من (أ) و (ج) : لرسوله صلى الله عليه وعلى آله.

[مجاورة الظالمين شقاء وفتنة]

وقال سبحانه فيمن تعدى أمره وحكمه : (فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللهِ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (٦٢) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً) (٦٣) [النساء : ٦٢ ـ ٦٣]. ومن الإعراض ما ذكرنا من الهجرة والمصارمة (١) ، ومنها أيضا فرفض للمخاطبة والمكالمة ، والغلظة فمنها العظة وهي من يسيرها وقليلها ، لا من كثيرها وجليلها ، فكيف يكون مغالظا؟! من لم يكن لمن ظلم واعظا! وكيف يكون مهاجرا لمن ظلم مجاهدا؟! من كان مؤاكلا له أو معاملا أو مقاعدا! لا كيف وإن عارض فيه (٢) معارض بتحيير أو تشبيه ، أو شبّه فيه على جائر بضروب من الحيرة والأماويه ، (٣) أما يسمعون لقول الله جل ثناؤه: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) (١٢٣) [التوبة : ١٢٣]. فأمرهم سبحانه بالغلظة في القتال والمقال على الكافرين.

وكيف يعقد لهم سبحانه حرمة الجوار؟! وقد أوجب ما أوجب من حقوق الجار! وأمر بالإحسان إليه ، والإفضال عليه ، فقال : (وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ) [النساء : ٣٦] ، فلو كان الأمر في هذا (٤) كما ظن من يجهل لكان هذا تناقضا في أحكام الرب ، ولكنه سبحانه أوجب عليهم حقوق الجوار ، بعد أن أمرهم (٥) بمهاجرة الكفار.

__________________

(١) المصارمة : المقاطعة.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : فيه.

(٣) في (ب) و (د) : والإبادية (مصحفة).

الأماويه : التلبيسات والمخادعات.

(٤) سقط من (ب) : هذا.

(٥) سقط من (ب) : أن.

وكيف (١) يؤكّد لمن كفر حق الجوار على المؤمنين وحرمه (٢)؟! وقد أمر أن يقاتلوا من كفر ويسفكوا دمه ، إن في هذا من الاختلاف والبعد ، لما (٣) لا يخفى على من وهبه الله أقل الرشد ، فنعوذ بالله من الحيرة في دينه ، ومن الضلالة بعد هداه وتبيينه ، عمي من (٤) خالف حكم الله في هجرة دار الظالمين بهواه ، فأسلمه الله إذ (٥) اتبع الهوى إلى عماه.

أو ليس بمعلوم فيما فطر الله من العقول ، وفي أقل ما يوجد بها من فهم كل معقول ، أن من جاور لأحد عدوا فحالّه ، فضلا أن يقاعده ويعامله ، فقد أغضبه وأساءه ، (٦) وكثّر بشخصه أعداءه ، كذلك من جاور أعداء (٧) الله ، فهو من المغضبين لله ، بغير ما شك في حجة (٨) الألباب ، وقبل ما نزّل الله في ذلك من الكتاب.

فكيف بمن اغتر وخدم؟! وجالس وحدّث وكلّم ، وجاء وذهب ، وأجلب وركب ، وتفقد المجالس والخلوات ، وألمّ بحواضر الحفوات (٩) ، فراح وبكّر واغتدى ، وظل وبات ساهرا كمدا ، مراقبا في مجالسهم ومقاعدهم للقوت ، قد أغفلته مراقبة ذلك (١٠) عن كل سقم أو موت ، فكأنه لا يخطر بباله للدنيا زوال ولا فناء ، ولا يتوهم أنه يكون له إلا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فكيف.

(٢) في (ب) : وجرمه (مصحفة).

(٣) في (ب) و (د) : ما لا يخفى.

(٤) في (ب) و (ج) : عمّن (مصحفة).

(٥) في (ب) : إن (مصحفة).

(٦) في (ب) و (د) : وأسأه.

(٧) في (ب) عدوا.

(٨) في (أ) : في فطرة.

(٩) في (ج) : بحواطر. والحواضر ربما تكون جمع حضرة ؛ لأني لم أقف عليها في المراجع اللغوية الموجودة. والحضيرة جماعة القوم ، أفاده في اللسان وقد تكون من الحضور أي الشهود. وفي (أ) و (ب) و (ج) : الجفوات ، ويبدو لي أنها مصحفة ، والحفوات : جمع حفاوة ، المبالغة في الإكرام والكلام واللقاء الحسن. أفاده في اللسان.

(١٠) سقط من (ب) : ذلك.

من الظالمين سعة وغناء ، فهو متدلّه (١) إليهم حرّان ، متأوه عليهم لهفان ، قد شغله ما هو فيه من الحسرة ، عما هو سائر إليه (٢) من دار الآخرة ، يروح دائبا ويبكر ، ويقبل أبدا ويدبر، في مواكب الظلم والظلمة ، لا يتكلم في إنكار ظلمهم بكلمة ، يضحك معهم إن ضحكوا ، ويتباكى لهم إن بكوا ، غرق (٣) في الغفلة غرقهم ، يرى في كل حين فسقهم.

أفيعدّ هذا لله وليا؟! أو من الظلم لنفسه بريا ، ما يبريه (٤) من ذلك ، أو يعده كذلك ، إلا من جهل أمر ربه ، وضلّل الله صميم قلبه ، فما جهل بعد توحيد الله أعظم ، ولا جرم في دين الله أجرم ، من جهل من جهل ما حكم به من هجرة الظالمين ، ونهى عنه جل ثناؤه من مجاورة المعتدين ، لما وكد الله من ذلك في وحي الكتاب ، وما أقام به وفيه وعليه من حجة الألباب ، وما هاجر قوما من حالّهم في بلدهم ، وكان مكثّرا بشخصه فيها لعددهم ، فيأوي منها وفيها مأواهم ، ويروح ويغتدي مقبلا ومدبرا مغدّاهم ، فكلهم في بلد العدوان معه ، قد جمعهم من مأوى الطغيان ما جمعه ، يجمعه من أكثر (٥) الأمور فيها ما جمعهم ، (٦) منتفع بحلول دار الظالمين بما نفعهم ، عامر لها من الحلول فيها بما عمروا ، ومكثر لعدد أهلها بما فيها كما (٧) كثروا ، وبحلول من حلّها وأوى إليها ، كثرت معاصي الله سبحانه فيها ، فبلد أهل الطغيان لكلهم بلد ، وجميعهم في حلولها وتبوئها (٨) فواحد ، وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (من كثر

__________________

(١) في (أ) و (ج) : متدالة. والتدلّه : ذهاب الفؤاد من همّ أو نحوه ، وحران : محترق القلب. وفي (ب) و (د) : حزان (مصفحة).

(٢) سقط من (ب) : إليه.

(٣) في (ب) و (د) : غرقا.

(٤) في (ب) ما يبره (مصفحة).

(٥) في (ب) : بأكثر.

(٦) في (أ) و (ج) : ما يجمعهم.

(٧) في (ب) : لما (مصحفة).

(٨) في (ب) : وثبوتها (مصحفة).

سواد قوم فهو منهم) (١). ومن ذلك حكم الله على المؤمنين بالهجرة للكافرين والزوال عنهم.

فاسمعوا هديتم لما وكد الله من المهاجرة ، التي من قبلها ترك المجاورة ، فقد سمعتم نهيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، عن مقاعدة من خاض في آياته ، مع ما ذكرنا من نهيه للمؤمنين عن مقاعدة من كفر به ، وما أمر الله به رسوله من الاعراض عمن تولى عن ذكر ربه ، والاعراض أوكد وأقل من المقاعدة والمجالسة (٢) ، لأن من أعرضتم عنه فقد هجرتموه وقطعتم بينكم وبينه كل (٣) مؤانسة.

فكيف تسع أحدا المجاورة لهم والمحالّة ، هذا ما لا يصح به في المعقول مقالة ، يقول الله لا شريك له ، لرسوله صلى الله عليه وعلى آله : (وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٦٨) [الأنعام : ٦٨] ، ويقول سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا (٢٩) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى) (٣٠) [النجم : ٢٩ ـ ٣٠]. فكيف يكون معرضا عنهم؟! وهو مجاور لهم والجوار حرمة بينه وبينهم.

__________________

(١) ذكره السخاوي في المقاصد الحسنة ١ / ١١٧٠ بلفظ : من كثر سواد قوم فهو منهم. والزرقاني في مختصر المقاصد ١ / ١٠٧٠ ، والسيوطي في ذيل اللآلئ ٤ / ٥٣٦٧ بلفظ : من سود اسمه مع إمام جائز كان قرينه في النار. وأخرجه الخطيب في تاريخه ١٠ / ٤٠ (٥١٦٧) بلفظ : من سود مع قوم فهو منهم ومن روع مسلما لرضا سلطان جيء به يوم القيامة معه. ورواه السيوطي في الجامع الصغير ٦ / حرف الميم برقم (٨٧٦٢) وقال : أخرجه الخطيب.

(٢) في (ب) : المحاسة (مصحفة).

(٣) في (ب) : وكل (مصحفة).

[طرد النبي للمتشبهين بالنساء]

فلم يكن صلى الله عليه يساكن ، ولا يجاور ولا يقارن (١) ، إلا من آمن بالله ، وكان وليا لله ، ولقد نفى صلى الله عليه غير واحد من أهل ملته ، ممن جاوره بفسوق في محل هجرته ، فمن ذلك مخنّث (٢) كان في المدينة كان فيه لين وتكسير ، فنفاه من المدينة إلى جبل من جبالها يقال له عير ، (٣) فابتنى في ذروة الجبل كنّا ، وكان الجبل وعرا خشنا ، فلم يزل ذلك الكنّ له مسكنا حتى مات رحمه‌الله (٤). وتوفي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلما حضر موته ، وقد كانت حسنت توبته ، حتى دعي في أيام عثمان ، ولا أحسبه إلا وقد دعي قبل ذلك فيما كان لأبي بكر وعمر من الأيام ، إلى المدينة والتحول إليها وترك

__________________

(١) في (أ) : ولا يقارب (تصحيف).

(٢) في (ب) : في من (مصحفة). والمخنث : ـ بكسر النون وبفتحها ـ من يشبه النساء في حركاته وكلامه. والمشار إليه : اسمه هيت وكان من سبب نفيه ما روي أنه كان يدخل على نساء النبي (ص) فدخل يوما دار أم سلمة ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عندها ، فأقبل على أخي أم سلمة عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ، وقال : إن فتح الله عليك بالطائف غدا فعليك ببادية بنت غيلان بن معتب فإنها مبتلة هيفاء ، شموع نجلاء ، إن قامت تثنت ، وإن قعدت تبنت ، وإن تكلمت تغنت ، تقبل بأربع وتدبر بثمان ، مع ثغر كالأقحوان ، وثدي كالرمان ، أعلاها قضيب ، وأسفلها كثيب ، وبين رجليها كالقعب المكبوب ، فهي كما قال قيس ابن الحطيم :

تغترق الطرف وهي لاهية

كأنما شف وجهها نزف

بين شكول النساء خلقتها

قصد فلا جبلة ولا قضف

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حين سمع كلامه : لقد غلغلت النظر ، ما كنت أحسبك إلا من غير أولي الإربة ، وكان رسول الله (ص) يضحك من كلامه ويظن ذلك نقصا من عقله ، فلما سمع منه ما سمع ، قال لنسائه : لا يدخل هيت عليكن. وأمر أن يسير إلى خارج. فبقي هنالك حتى قبض رسول الله (ص) ، فلما ولي أبو بكر كلم فيه فأبى أن يرده ، فلما ولي عمر كلم فيه فأبى أن يرده ، فقيل له : إنه قد كبر وضعف واحتاج ، فأذن أن يدخل كل جمعة. قيل : ويرجع إلى مكانه.

أخرجه البخاري فتح الباري ٩ / ٢٧٤ ، وأبو داود ٢ / ٧٠٠ رقم (٤٩٤٩).

(٣) في (أ) : ثبير. وعير وثبير وجبلان ، عير بالمدينة وثبير بمكة.

(٤) في (ب) حتى توفي رحمة الله عليه ، فلما. وفي (ج) و (د) : حتى مات وتوفى رحمة الله عليه.

المقام ، (١) فكان يقول لكل من قال له (٢) ذلك كلا والله ، لا أزول عن موضع صيرني إليه رسول الله ، حتى تنقضي فيه حياتي ، وتحضرني به وفاتي ، فقال له عند الموت بعض الصالحين : يا فلان أتحب أن نحدرك من هذا الجبل الوعر فندفنك مع المسلمين ، فقال : لا تدفنوني والله إلا بحيث صيرني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فقبره ومسكنه الذي كان يسكنه معروفان اليوم بظهر الجبل.

مع ما حكم به صلوات الله عليه من نفي الزاني البكر سنة ، مع ما حكم الله به على المحاربين بالنفي ففي ذلك كله عبرة لمن يعقل بيّنة ، وقد قال الله سبحانه ، لرسوله صلوات الله عليه ورضوانه : (لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) (٧٥) [الإسراء : ٧٤ ـ ٧٥] ، وقال : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ) (١١٣) [هود : ١١٣].

والركون ، فقد يكون السكون ، فأي ركون أركن ، أو سكون أسكن ، بعد الإخاء والمحابّة ، من الجوار والمساكنة ، فمن جاور وساكن ، فقد ساكن وراكن ، عند من يعرف لسان العرب ، فضلا عما في ذلك من بيان الرب ، جل ذكره ، وعز أمره.

هذا حكمه جل ثناؤه على رسوله فيمن كفره ، وتعدى أمره ، فلو (٣) سهّل الله سبحانه لأحد في هذا أو مثله ، لسهّل لرسوله صلى الله عليه وعلى آله ، (٤) ولكان رسول الله صلى الله عليه أولى بالتخفيف فيه والتسهيل ، فاسمعوا ـ هديتم ـ لما حكم به من الهجرة في الوحي والتنزيل ، على الرسول صلى الله عليه (٥) وعلى المؤمنين ، وما

__________________

(١) في المخطوطات : وترك المقام فيها. زيادة (فيها) وهي زيادة مغيرة للمعنى. لأنه دعي لترك الجبل والتحول إلى المدينة والمقام فيها ، لا ترك المقام فيها. إضافة إلى السجعة قبلها (الأيام) فهي تؤكد أن آخر العبارة (المقام).

(٢) في (أ) : من قال ذلك له.

(٣) في (ب) : لو.

(٤) في (أ) و (د) : وعلى أهله.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : صلى الله عليه.

أمره به وإياهم من مهاجرة الظالمين ، قال الله لا شريك له ، وهو يأمر رسوله صلى الله عليه وعلى أهله ، (١) بالصبر على ما حمّله ، وعلى ما يقول أهل الكفر له : (وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً) (١٠) [المزمل : ١٠] ، فأنزل الله (٢) عليه بمهاجرته لهم أمره تنزيلا.

ومن الهجر (٣) لهم الجميل ، ما أمر الله به في الوحي والتنزيل ، من النقلة عنهم ، والبعد والانتياء (٤) منهم ، وهو صلى عليه كان فيه أولهم ، وأسبقهم في الهجرة لهم ؛ لأنهعليه‌السلام هاجر قبلهم ، والبلد يومئذ بلده ، وبها أهله ومولده ، مؤثرا في ذلك كله لله بهجرته ، وصائرا إلى أمر الله له بذلك وخيرته ، وما ذكرنا من أمر الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله ، بالهجرة للظالمين ، فما لا يجهله والحمد لله علماء المؤمنين ، ولا يحتاج في ذكره إلى تكثير ، لما فيه من الغناء عن كل تفسير ؛ لأنه تنزيل من الله غير تأويل ، فبيانه عند من وفقه الله بيان (٥) التنزيل.

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : صلى الله عليه وعلى آله.

(٢) سقط من (ب) و (ج) و (د) : الله.

(٣) في (ب) و (ج) : الهجرة.

(٤) الانتياء : البعد. من النأي.

(٥) في (ب) و (د) : لبيان التأويل (مصحفة).

[الهجرة واجبة في كل الديانات]

ومن تشديد الله لفريضته في المهاجرة (١) للظالمين وتأكيدها ، أن الله سبحانه لم يجعل للمؤمنين ولاية لمن (٢) لم يقم بها ويؤدّها ، فقال سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) [الأنفال : ٧٢] ، فمنع سبحانه المؤمنين من ولايتهم وإن آمنوا ، إذا أقاموا في دار عدوّه فلم ينتقلوا ولم يظعنوا ، وأبى تبارك وتعالى لأوليائه ، أن يوالوا ـ وإن آمن ـ من لم يهاجر دار أعدائه ، نظرا منه سبحانه للأولياء ، وتطهيرا لهم (٣) عن مجاورة الأعداء.

وهل رأيتم من يجاور عدوه وهو يجد من جواره بدّا؟! إلا أن يكون ممن لم يهبه الله توفيقا ولا رشدا ، وهل رأيتم لبيبا مجاورا للسباع؟! وهو يقدر منها على الامتناع ، أو مقاربا للأفاعي وأولادها ، وله سبيل ومنتدح (٤) إلى إبعادها ، فبكم ترون من ظلم وتعدى ، أضر وأخبث وأردى ، مقاربة ـ والله المستعان ـ ومجاورة ، وأكثر لمن جاوره نكاية ومضرة ، وإن من ظلم وكفر وفجر ليضرك وإن نحا ، فكيف يحالّ فيما كان له منزلا وبلدا وملجا ، إن هذا لضلال ـ والحمد لله ـ ما يخفى ، وجفاء في دين الله لا يأتيه إلا من جفا.

ولقد قرأنا مع ما علّمنا الله في التنزيل ، ما في أيدي هذه النصارى من الإنجيل.

فإذا فيه : أن طائفة من الأشرار ، أبناء الظلمة والفجار ، جاءوا يطلبون التوبة للرياء (٥) إلى يحيى بن زكريا ، صلى الله عليه ، فقالوا له : طهرنا فقد تبنا إلى رب السماء ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : الهجرة.

(٢) سقط من (ب) : لمن.

(٣) سقط من (ب) : لهم.

(٤) منتدح : سعة.

(٥) سقط من (ب) : للرياء.

بما تطهر به التائبين من الماء ، وكان يحيى صلى الله عليه ، إذا صار إليه ، أحد مطيعا لله ومجيبا ، أو تائبا إلى (١) الله منيبا ، أمره بالاغتسال من نهر الأردن ، وكانت تلك سيرته صلى الله عليه فيمن آمن. فقال للذين أتوه كاذبين ، إذ (٢) لم يكونوا بالحقيقة تائبين : يا أولاد الأفاعي ائتوا بثمرة ، تصلح للتوبة والتطهرة ، (٣) فطردهم ولم يرهم أهلا للتطهرة ، فهذا أيضا والحمد لله من دلائل الهجرة.

أو ما سمعتم نهي رب العالمين ، عما ذكرنا من جوار الظالمين ، إذ يقول سبحانه لعباده المؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (١١٨) [آل عمران : ١١٨]. وتأويل (مِنْ دُونِكُمْ) ، هو من غيركم ، يقول سبحانه : (لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً) من غير أهل دينكم ، والبطانة في المقارنة (٤) هم القرناء ، كما البطانة في المخادنة (٥) هم الخدناء ، فمن قارن أحدا في المحل فهو له بالمجاورة بطانة وقرين ، كما أن من خادن أحدا بمحل هو له بالمخادنة بطانة وخدين ، وإنما قيل للبطانة بطانة ؛ لأنها مخاصة (٦) ومقارنة ، فنهى الله سبحانه المؤمنين ، أن يتخذوا الظالمين ، أخلاء أو خدناء ، أو جيرة أو قرناء ؛ لأن من لا يدين دينهم لا يألونهم خبالا ، وإن لم يظهروا لهم حربا ولا قتالا (٧) ؛ لأنهم يرجعون أبدا بهم وفيهم ، عيونا ذاكية (٨) لعدو الله عليهم ، يجادلونهم بالباطل

__________________

(١) في (ب) : تائبا لله.

(٢) في (ب) : وإذا. وفي (د) : وإذا (مصحفة).

(٣) نص الرواية عن يحيى بن زكريا عليه‌السلام (وكان يقول للجموع الذين خرجوا يعتمدوا منه يا أولاد الأفاعي من أراكم أن تهربوا من الغضب الآتي ، فاصنعوا أثمارا تليق بالتوبة. إنجيل لوقا الإصحاح الثالث.

(٤) في (أ) و (ج) : المقاربة هم القربا (تصحيف).

(٥) المخادنة : المصاحبة.

(٦) في (ب) : خاصة (مصحفة).

(٧) في (أ) و (ج) : أو قتالا.

(٨) يعني : جواسيس للأعداء.

ليدحضوا به حقهم ودينهم ، ويعارضونهم فيه بزخرف القول ليوهنوا به علمهم ويقينهم ، فبعلم من عليم ، وتقدير من حكيم ، ما نهاهم (١) الله عن موالاتهم ومخالّتهم ، ومنعهم من مجاورتهم ومحالّتهم.

وفي ترك مقاربتهم (٢) وإيجاب مجانبتهم ، وما أمر الله به الرسول صلى الله عليه والمؤمنين من مهاجرتهم ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ) [الأنعام : ٧٠] ، يقول سبحانه بمهاجرتك لهم ، ففيها تذكير لمن يعقل منهم ، إن أبصر هداه ورشده ، أو كان شيء من الخير عنده ، ولا تجلس معهم ، ولا يجمعك من المقاعدة ما يجمعهم ، إذ كانت مقاعدهم مقاعد لهو ولعب واستهزاء ، فإن ذلك إذا كان كذلك يمنعهم من الذكر لما تذكّرهم به من الأشياء ، وفي تركك لهم وإعراضك عنهم ، ما فيه تذكير لمن عقل منهم ، ولم يذر الظالمين من جاورهم ، وحلّ وسكن دارهم.

وفي جدالهم ، وزخرف أقوالهم ، ما يقول سبحانه : (وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦) [الكهف : ٥٦].

وفي من ذكّر بآيات الله فلم يذكر ، وبصّر نورها فلم يبصر ، ما يقول الله لا شريك له: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً) (٥٧) [الكهف : ٥٧].

[وعيد الله للمعرضين]

ثم أخبر سبحانه عن اغتماده واغتفاره (٣) الذي هو احتماله ، وعفوه وتغمده ورأفته

__________________

(١) في (ما) زائدة لتحسين الكلام.

(٢) في (أ) : مقارنتهم.

(٣) في (ب) و (د) : اعتماده (تصحيف). وسقط من (أ) و (ب) و (د) : واغتفاره.

ورحمته وإفضاله ، في ترك المعاجلة بعذابه ونقماته ، لمن أعرض عما ذكّر به من آياته ، فقال سبحانه : (لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً) (٥٨) [الكهف : ٥٨] ، فمن أشد إعراضا عن آياته؟! وما أوضح بها وفيها من بيناته ، ممن جهل فرض الله عليه فيها ، أو ليس هذا هو الذي لم يلتفت قط إليها؟! بلى(١) إنه لهو ذلك ، وإن لم يكن عند من لا يعقل كذلك.

وقد جهل قوم ما قلنا به في الموالاة ، وما زعمنا أنه منها من القرب والمداناة ، بالجوار والمحالّة ، والخلطة والمعاملة ، وقد يقال للقوم إذا تتابعوا جميعا في مجيء ، أو قالوا كلهم قولا واحدا في شيء : إنهم جميعا لمتوالون فيه ، وفي المجيء إلى البلد : إنهم لمتوالون عليه. وإذا جاءوا متتابعين ، قيل : جاءوا متوالين ، وكذلك يقال للقوم إذا دخلوا أرضا ، وكان بعضهم مجاورا فيها بعضا ، إنهم بالجوار لمتوالون فيها ، كما يقال : إذا ساروا إلى الأرض إنهم لمتوالون إليها. وكما يقال للمتاصفين : إنهم أصفياء المودة والصفاء ، كذلك يقال للمتوالين : أولياء في المقاربة والولاء ، وقد قال الله تبارك وتعالى في أهل الكتاب من اليهود ، إنهم أولياء لأهل الكفر والشرك والجحود.

فاسمعوا لقول الله سبحانه لرسوله في بني إسرائيل ، وما وقّفه عليه من ذلك في التنزيل: (تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ) (٨١) [المائدة : ٨٠ ـ ٨١] ، يقول سبحانه لو كانوا يؤمنون بالنبي الذي كان فيهم ، وبمن صار من أنبياء الله ورسله صلى الله عليهم إليهم ، لما والوا عدوا مشاقا ، ولا أدخلوا (٢) عليهم إذ كانوا أعداء للرب مرفقا ، بمخالطة منهم لهم ولا معاملة ، ولا بمجاورة لأحد منهم ولا محالّة ، وقد تعلمون أن من ذكره الله سبحانه في هذه الآية بالتولي للكفار من اليهود ، وإن كانوا قد نقضوا في أكثر الأمور ما بينهم وبين الله من

__________________

(١) في (أ) و (ج) : بل.

(٢) يحتمل أن تكون الكلمة (ولا دخلوا) والمرفق بمعنى المكان أو الموضع. وعلى ما هي عليه (ولا أدخلوا) والمرفق بمعنى النفع.

العهود ، فلم ينقضوا أنهم غير متولين للكفار في أديانهم ، ولا راضين بعبادة ما كان الكافرون يعبدون من أوثانهم ، ولا ما كانوا يشرعون في دينهم من الشرائع ، ويفترون على الله فيه من الشنائع ، في أكل الميتة والدم ، وما كانوا يحلون من كل محرّم ، بل كانوا لهم في ذلك مخالفين ، ولعملهم فيه من القالين ، ولكنهم كانوا لهم موالين ، وإن لم يكونوا لدينهم قائلين ، وكانوا لهم على دينهم من العائبين ، ولهم في أنفسهم من المعادين ، ولكنهم كانوا أولياء لهم بالنصرة والموادّة ، وبما ذكرنا من الجوار والمعاملة والمقاعدة.

أفلا (١) ترون كيف جعلهم رب العالمين ، بموالاتهم لمن ظلم من الظالمين؟! فأثبت سبحانه عليهم في الحكم ، أنهم عنده كهم في الظلم ، وأنهم منهم بموالاتهم لهم ، وإن كانوا برءاء منهم في شرائع دينهم ، وجاهلين بأكثر أقاويلهم ، لا يعملون منها حرفا ، ولا من أوصافهم فيها وصفا ، فلذلك (٢) كان من الموالاة ، ما ذكرنا من القرب والمداناة ، التي منها المجاورة والمحالّة ، كما منها الإخاء والمخالّة.

ومن قارب شيئا ودنا إليه ، فهو غير شك يليه ، وكذلك في المحبة من والاكم ، فقد وادّكم وآخاكم. ومن ذلك حرم الله سبحانه المجاورة والمداناة ، إذا كانت بين (٣) أهلها مقارنة وموالاة ، ففرض الله على نبيه صلى الله عليه وعلى المؤمنين الهجرة لدار من كفر به ، ولم يصر إلى القبول عنه لما جاء به من (٤) ربه ، ولمن هاجر ـ يومئذ من المؤمنين عن الدار ، وما أمر الله بهجرته من الكفار ، وقبلهم وفيهم ، وعندهم ولديهم ـ الأموال والديار العامرة ، والأبناء والأهلون والقرابة الناصرة ، فألزمهم (٥) الله لذلك كله الهجرة ، وأوجب عليهم لدينه ولأنفسهم النصرة ، وأبقى الهجرة بعدهم ، لمن سلك قصدهم ، شريعة ثابتة قائمة ، وفريضة للمؤمنين لازمة دائمة.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ألا.

(٢) في (ب) و (د) : ولذلك.

(٣) في (ب) و (د) : من.

(٤) في (ب) و (د) : عن.

(٥) في (ب) : وألزمهم.

[الهجرة شرط الإيمان]

ولم يجعل سبحانه للمؤمنين حقا ، وحقيقة في الاسم وصدقا ، ولم يوجب مغفرة ورزقا كريما ، ولم (١) يجعل برحمته فوزا عظيما ، إلا لمن هاجر لله وفيه ، وخرج من بيته مهاجرا إليه.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه (٢) في تنزيله ، وما بيّن به (٣) في الهجرة من تفصيله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٧٤) [الأنفال : ٧٤] ، ويقول سبحانه : (وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) (١٠٠) [النساء : ١٠٠]. فما استحقوا على الله سبحانه جزاه ، وإن آمنوا وجاهدوا حتى هاجروا في الله من عاداه ، وزالوا من دار أهل مشاقّته وعصيانه ، وخرج كل مهاجر (٤) منهم عنهم هاربا إلى الله من أوطانه.

فكيف يرجو النجاة عند الله ، والفوز برضوان الله؟! من لم يهاجر إلى الله كما هاجروا ، أو يؤو وينصر كما آووا ونصروا ، لا كيف إن (٥) فهم عن الله أو عقل!! أو علم ما أوحى (٦) الله في ذلك ونزّل!!

أما سمع (٧) قول رب العالمين ، إذ يقول سبحانه للمؤمنين : (فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللهُ

__________________

(١) سقط من (ب) و (د) : لم.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : سبحانه.

(٣) في (أ) : بين به من الهجرة في تفصيله. وفي (ب) و (د) : في ن في الهجرة من تفصيله. وفي (ج) : بين به من الهجرة في تفضيله. ولفقت النص من الجميع.

(٤) في (أ) : كل من هاجر.

(٥) سقط من (ب) : إن.

(٦) في (أ) : ما أوصى.

(٧) في (ب) و (د) : سمعتم.

وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (٨٨) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (٨٩) [النساء : ٨٨ ـ ٨٩] ، ومن المنافقين ، يومئذ لبعض (١) المؤمنين ، أب وقريب ، وجار وحبيب ، وعون وظهير ، وولي ونصير ، يوالي بعض المؤمنين في حربه ويناصره ، ويعاونه على عدوه ويظاهره.

فلما نزلت على المؤمنين يومئذ البراءة منهم ، ونهوا عن المقاعدة لهم ، وقطع الله الولاية بينهم وبينهم ، وأمروا (٢) بالاعراض عنهم ، افترقوا بالرأي فيما حكم به عليهم في المنافقين فرقتين ، وصاروا كما قال الله تبارك وتعالى فيهم طائفتين ، فطائفة تأسى على ما فاتها من نصرهم ، وما كان يدخل عليها من المرافق (٣) بهم ، في المداينة والاسلاف ، والمجاورة والائتلاف. وطائفة عريّة (٤) عنهم ، قد قطعت الآمال منهم ، والتي أسيت من المؤمنين عليهم تمنى لهم الهدى ، والطائفة الأخرى فإنما تراهم حربا وأعدا ، وكل المؤمنين وإن اختلفوا فيهم ، فقد قاموا (٥) بحكم الله في العداوة لهم عليهم ، لا يعدلون بأمر الله لهم فيهم أمرا ، ولا يتخذون منهم ـ كما قال الله عزوجل ـ وليا ولا نصيرا ، فنهاهم الله سبحانه عنهم ، وجعل من تولاهم منهم ، ومنافقا مثلهم ، بولايته لهم ، ثم أمر سبحانه بقتل الفريقين ، إذ كانا جميعا منافقين ، ومنع سبحانه من آمن به وبكتابه ، وكان قابلا لحكمه وآدابه ، أن (٦) لا يتخذوا من الفريقين وليا ولا نصيرا ، أو يستظهروا منهم عونا أو ظهيرا ، تعزيزا منه سبحانه للمؤمنين بأمره ، واكتفاء لهم من غيره بنصره.

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى أهله ، (٧) (يا أَيُّهَا

__________________

(١) في (ب) و (د) : يومئذ للمؤمنين.

(٢) في (أ) و (ج) : وأمر.

(٣) المرافق : المنافع.

(٤) في (ب) : عدية (مصحفة).

(٥) سقط من (ب) : قاموا.

(٦) سقط من (ب) : أن.

(٧) في (ب) و (د) : وعلى آله الطاهرين.

النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٤) [الأنفال : ٦٤] ، فجعل له (١) سبحانه فيمن اتبعه ، وكان في طاعته معه ، كفاية وعزا ، ومنعة وحرزا ، والحمد لله الذي لا يذل أولياءه ، ولا يعزّ أبدا أعداءه.

وفي الهجرة وذكرها (٢) ، وما عظّم الله من قدرها ، ما يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٢١٨) [البقرة : ٢١٨] ، فكأنه لا يرجو رحمة الله ، إلا من هاجر لله وفي الله.

ومن الهجرة وفيها ، ومن الدلائل (٣) عليها ، قول الله سبحانه : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ) [الأحزاب : ٦]. فلم يوجب بينهم بالأرحام ولاء وإن كانوا إخوة وقرباء ، بل وإن كانوا أمهات وآباء ، إلا أن يهاجروا دار من كان لله عدوا ، ولا يتبوءوا معه في محل متبوّأ.

ومن ذلك وفيه ، ومن الدلائل عليه ، قول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله (٤) : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) [الأحزاب : ٥٠] ، فلم يحل له من بنات عمه وعماته ، وبنات خاله (٥) وخالاته ، إلا من هاجر معه ما (٦) هاجر ، وزال عن دار من كفر.

مع التي ليس فيها إحالة ، (٧) ولا بعدها لمؤمن ضلالة ، من العلم بهلكة من لم يهاجر دار من أمره الله بمهاجرته ، وأقام مجاورا لمن منعه الله من مجاورته ، ممن اعتذر عند

__________________

(١) في (ب) و (د) : فجعل الله سبحانه فيمن.

(٢) في (أ) و (ج) : وذكر ما عظم (تصحيف).

(٣) في (أ) و (ج) : الدليل.

(٤) في (أ) و (ج) : وعلى أهله.

(٥) في (ب) و (د) : خاله وبنات خالاته.

(٦) في (أ) : معه من هجر. وفي (ج) : معه ما هجر.

(٧) إحالة : أمر محال.

حضور وفاته (١) إلى الملائكة ، بالضعف في الأرض التي كانوا فيها وما خشوا من أهلها على أنفسهم من الهلكة ، ففي ذلك أكفى الكفاية ، لمن له في نفسه أدنى عناية ، قال الله سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) (٩٧) [النساء : ٩٧] ، فاعتذروا في الجوار لمن ظلم عند (٢) مساءلة الملائكة لهم عن أمرهم ، بما لم يقبله الله جل ثناؤه ولا الملائكة صلوات (٣) الله عليهم من عذرهم ، وردت عليهم الملائكة في ذلك ردا محكما فصلا ، جعله الله لرضاه (٤) به وحيا منزلا ، فقالت الملائكة عليهم (٥) السلام : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النساء : ٩٧] ، وقال الله لا شريك له لهم : (فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً) [النساء : ٩٧] ، فلم يجعل الله سبحانه لهم في جوار أعدائه عذرا ولا تعذيرا ، وجعل جهنم لهم مصيرا ودارا ، ولم يزدهم عذرهم عنده إلا تبارا ، فأي كفاية أو شفاية أشفى ، لمن أراد شفاء (٦) من هذا لمن يسمع ويبصر ويرى (٧) ، فنحمد الله على ما بيّن في الهجرة من الحق والهدى ، فأمر به وفرضه من مهاجرة من ظلم وتعدّى.

مع ما في سورة الامتحان ، في الهجرة من التأكيد والبيان ، فقال الله لا شريك له : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ) [الممتحنة : ١] ، فإنما كان إلقاء بغير التقاء ولا مقاعدة ، بكتاب كتبه ، فيما قالوا : حاطب ابن أبي بلتعة ، فقال عمر : اتركني يا رسول الله أقتله فقد كفر بمكاتبته ،

__________________

(١) في (أ) و (د) : وفاته له.

(٢) في (أ) : عن.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : صلوات الله عليهم.

(٤) في (ب) : و (د) : لرضائه وحيا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : عليهم‌السلام.

(٦) في (ب) اشتفاء واكتفاء من. وفي (د) : شفاء واكتفاء.

(٧) في (أ) و (ج) و (د) : أو يرى.

فمنع رسول الله عمر مما أراد بحاطب من القتل لرجعته وتوبته (١) ، وكان رسول الله صلى الله عليه في ذلك (٢) بحكم الكتاب ، أعلم من عمر بن الخطاب.

ثم أكّد في السورة على المؤمنين أشد تأكيد ، (٣) وردد نهيه عن موالاة من كفر ترديدا بعد ترديد ، وأخبرهم أن الأرحام وإن كانت بينهم ، فإنها غير نافعة في يوم القيامة لهم ، وكل(٤) محل ودار ، كان أهلها كفارا أو غير كفار ، إذا (٥) كانوا أعداء لله وكان الحكم في الدار حكمهم ، وكانت دارا ظاهرا فيها ظلمهم ، فهجرتها مفترضة واجبة ، وحلولها هلكة معطبة ، وبذلك (٦) وله ، ولما ذكرنا منه ، هلكت القرون والأمم ،

__________________

(١) أخرج القصة البخاري ، ومسلم ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وأحمد ، وأبو عوانة ، وابن حبان ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، والبيهقي ، وأبو نعيم. عن علي عليه‌السلام.

قال بعثني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنا والزبير والمقداد ، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ ، فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها ، فائتوني به ، فخرجنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، فقلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب ، فأخرجته من عقاصها ، فأتينا به النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : ما هذا يا حاطب؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله ، إني كنت امرأ ملصقا من قريش ، ولم أكن من أنفسها ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن اصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني. فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله : صدق. فقال عمر : دعني يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال : إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. ونزلت فيه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). الدر المنثور ٨ / ١٢٥. وفي آخر الحديث ما فيه فما أهل بدر وغيرهم في العدل الإلهي إلا سواء ، والعبرة بخاتمة الأعمال وليست بدر حصانة يعمل معها صاحبها ما شاء ، وهي لا شك عمل عظيم يوجب الجنة ، كما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لكن لمن حافظ عليها ولم يحبطها.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : في ذلك.

(٣) في (ب) و (د) : تأكيدا (مصحفة).

(٤) في (ب) و (د) : فكل.

(٥) في (ب) و (د) : إذ كانوا.

(٦) في (أ) و (ج) : مهلكة. وفي (أ) و (ج) : ولذلك وما ذكرنا منه.

ودمرت القرى والمدن ، إذ لم يكن فيها إلا ظالم معتد ، (١) ومجاور لمن ظلم غير مهتد ، فلم يستحق الهلكة والتدمير من الفريقين إلا مذنب مجرم ، يستوجب أن ينزل به من الله جل ثناؤه التدمير والنقم.

[هلاك جبابرة الأمم]

فاسمعوا لخبر الله عمن دمر بالظلم من القرون والقرى. فإن به عبرة وموعظة شافية لمن يبصر ويسمع ويرى ، قال الله سبحانه : (وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧) [الإسراء : ١٦ ـ ١٧] ، فخص الله مترفيها بالذكر في الفسق ، وإن كان كل أهلها فساقا في حكم الحق ؛ لأن (٢) أهلها إنما هم مترف أو جبار ، أو مساكن لهم وجار ، فكلهم فاسق عن أمر ربه ، وكل فإنما أخذ بذنبه.

وفي تذكير الله بإهلاكه للقرى (٣) ، ما يقول الله سبحانه مذكرا : (وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) (١٦٥) [الأعراف : ١٦٣ ـ ١٦٥] (٤) ، فكان أهل القرية ثلاث فرق ، نسبها الله إلى العتا والفسق ، وفرقة من الفرق الثلاث معذرة

__________________

(١) في (ب) و (د) : متعدّ.

(٢) في (ب) و (د) : ولأن.

(٣) في (ب) الفري.

(٤) سقطت الآية الثانية من قوله : وإذ قالت من (أ) و (ج).

مقصرة ، وفرقة منهن واعظة ناهية مذكرة ، (١) تنهى من عتا ، عن الفسق والعتا ، وتذكر بما يجب لله (٢) من الطاعة والرضى ، فلم يذكر الله تبارك (٣) وتعالى في خبره عنهم ، أنه جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله ، إنجاء منهم ، إلا من أمر ونهى ، وكان واعظا منبها ، وداعيا لهم إلى الله مسمعا ، ومقبّحا لعتاهم مشنّعا ، لم يذكر سبحانه عمن خلّصه وأنجاه ، أنه أقام مع من وعظه ونهاه ، في محل الفسق والعتا ، ولا أسبت (٤) معهم في قريتهم سبتا (٥) ، ولا استحل فيها لهم جوارا ، ولا قر (٦) معهم فيها بعد العتا قرارا.

وكيف يقيمون معهم في القرية ، مع ما أظهروا لله فيها من المعصية ، يرونها فيها عيانا ، ويوقنون بها إيقانا ، لله كان أجل في صدورهم جلالا ، وأكبر في نفوسهم أمرا وشأنا ، من أن يجاوروا مشاقّيه ومعاصيه ، أو يقيموا جيرانا لمن يشاقّه ويعصيه ، وهم لو ـ جاورهم (٧) جار في أنفسهم بما يسخطون ، أو بكثير من الأذى والمكروه هم له ساخطون ، لا يقدرون له على دفاع ، ولا منه إلى امتناع (٨) ـ لما أقاموا ساعة واحدة معه ، ولا سيما إذا كان لا يقدر أحد منهم على أن يدفعه ، فكيف بمساخط الله التي هي في صدورهم (٩) أعظم ، ولقلوبهم أحرق وآلم ، ما يحل توهم ذلك عليهم ، ولا نسبة (١٠) شيء منها إليهم ، والحمد لله رب العالمين ، ونعوذ بالله من مجاورة الظالمين.

وفيما ذكرنا من هلكة القرى ، ما يقول (١١) الله تبارك وتعالى : (فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

__________________

(١) سقط من (ب) : مذكرة.

(٢) سقط من (ب) لله.

(٣) في (أ) و (ج) : سبحانه في.

(٤) في (أ) : ولا سبت. وسقط سهو من (ج) : من ولا أسبت إلى .. قرارا.

(٥) السبت : الراحة والقطع ، والمسبت : الذي لا يتحرك.

(٦) سقط من (ب) و (د) : قرّ.

(٧) في (ب) و (د) : ويعاصيه. وفي (ب) : جاورهم بما رأوا (مصحفة).

(٨) في (ب) و (د) : على.

(٩) في (أ) : صدرهم.

(١٠) في (ب) : شبه (مصحفة).

(١١) سقط من (أ) و (ج) : الله.

أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) (٤٥) [الحج : ٤٥] ، فذكر سبحانه إهلاكه لكل من كان في القرية من ضعيف أو شديد ، إذ لم يكن في القرية إلا جبار أو جار ، وكل فقد حقت عليه من الله الهلكة والدمار ؛ لأنهم كلهم لله عصاة ، وعن أمره جل ثناؤه عتاة ، جبارها بتجبّره واستكباره ، وجارها بمحالّته للظالمين وجواره ، فكل أهلكه الله بكسبه ، وأخذه الله بجرمه وذنبه ، كما قال سبحانه : (فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٠) [العنكبوت : ٤٠] ، وقال سبحانه : (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (٩٩) [الأعراف : ٩٦ ـ ٩٩].

فينبغي لمن كان في قرية من القرى ، غير معمول فيها بما يحبّ الله ويرضى ، الغالب على أهلها فيها الظلم والعتا ، أن لا يأمن مكر الله وأخذه لأهلها ضحى أو بياتا ، ولا يغفل عما يتوقع من أمر الله فيها ، من حلول نقمه بها وعليها ، وإن أمليت فأطيل لها الإملاء ، فإن بالغفلة يهلك (١) فيها الغفلاء.

وربما أملى الله لقرية (٢) فأطال ، وهو يرى فيها الظلم والضلال ، كما قال سبحانه : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ) (٤٨) [الحج : ٤٨]. ففي هذا وأقل منه موعظة لمن يعقل ويبصر ، (وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ (٢٠) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) (٢١) [فاطر : ١٩ ـ ٢١] ، كما قال العزيز الغفور ، ولعل من عمي قلبه ، وضل فلم يرشد لبّه ، كما قال الله سبحانه : (فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ

__________________

(١) في (ب) و (د) : هلك.

(٢) في (أ) و (ج) : للقرية.

(٤٦)) [الحج : ٤٦] ، أن لا يبصر ما فصّل الله في هذا الباب من الأمور.

فنقول : إنما نزلت نقم الله وعذابه ، وحل تدميره وعقابه ، على من أشرك به ، ولم يقرّ بربه ، فأما نحن فمقرون ، وأولئك كانوا يكفرون ، ففي قول من قال ذلك لمن يعقل عجب العجب ، لما فيه على الله من الافتراء والكذب ، أو لا يرى (١) من زعم ذلك وقاله ، وزيّن له فيه مقاله ، أن الله سبحانه عذّب قرية أهل الاعتداء في سبتهم ، على ما ركبوا فيه وما مسخهم الله به (٢) من معصيتهم ، التي لم يخلطها منهم لله ولا لشيء من دينهم إنكار ، ولم يأت لشركهم (٣) في مسخ الله لهم بمعصيتهم من الله ذكر ولا إخبار ، بل إنما عظّم الله سبحانه (٤) عصيانهم ، وذكر في سبتهم عدوانهم ، لإقرارهم فيه على أنفسهم بالتحريم ، ولما كانوا عليه للسبت من التعظيم ، وبتعظيم الله له وتعظيم رسله عندهم في دينهم عظّموه ، وبما حرّمت عليهم رسل الله حرّموه.

ولو كان لا يهلك ، إلا منكر أو مشرك ، (٥) كان ما ذكر الله من إهلاكه للقرى بالعدى والظلم ، (٦) تلبيسا شديدا وحيرة (٧) في الفهم والعلم ، لا يخاف الهلكة معه ظالم ولا مفسد ، ولا طاغ مقر ولا متمرد ، بل كان كل من فسق وظلم ، وطغى وتعدى وغشم ، آمنا للغير والنقم ، في كل فسق وجرم.

وإنما الشرك ضرب من ضروب الفسق والظلم ، خصه الله بخاصة من الكبر والعظم ، كما قال لقمان عليه‌السلام : (يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [لقمان : ١٣] ، فخصه لقمان بما خصه الله (٨) به من التعظيم ، وكل كبيرة

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ألا يرى.

(٢) سقط من (أ) : به.

(٣) في (ب) و (ج) : بشركهم.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : سبحانه.

(٥) في (ب) و (د) : إلا مشرك أو منكر (مقلوب).

(٦) في (ب) بالعد. وفي (د) : بالظلم والعداوة.

(٧) في (أ) و (ج) : أو حيرة.

(٨) سقط من (ب) : الله. وسقط من (أ) و (ج) : به.

سوى الشرك من المعاصي فقد خص الله أهلها فيها بالتظليم ، والكبائر وإن اختلفت بأهلها(١) فيها الشئون ، فبالظلم وإن اختلفت (٢) هلكت القرى والقرون ، ولذلك وبه ، وما (٣) ذكرنا من قدره ، ما يقول الله سبحانه : (وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩) [الكهف : ٥٩].

وإن ـ فيما ذكر الله لا شريك له في سورة الطلاق ، وما عظّم فيها من خلاف أمره حتى في الفراق ، والاشهاد عليه إذ كان بشاهدي عدل ، وما حكم به على المؤمنين في السورة كلها من حكمه (٤) الفصل ، وما خوّفهم فيها به (٥) من ترك أمره وعهده ونهاهم فيها عنه من التقصير ، وذكّرهم به في عتوّ القرى عن أمره من التذكير ـ لدليلا مبينا ، وعلما يقينا ، بأنه يهلك القرى ، إذا أراد وشاء ، بالعتوّ والفسوق والعدوان ، وبكبائر (٦) الظلم والعصيان ، إلّا أن يدفع (٧) ذلك عنهم في الدنيا برحمته ، ويؤخرهم بالعقاب فيه إلى يوم حشره وبعثته(٨).

فاسمعوا لقول رب العالمين ، في ذلك للمؤمنين ، بعد الذي أمرهم به ، في السورة من أمره : (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (٨) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (١٠) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقاً

__________________

(١) في (ب) : أهلها.

(٢) في (أ) : و (ج) : وإن اختلف.

(٣) في (ب) و (ج) : ولما.

(٤) في (أ) : و (ج) : من حكم الفصل.

(٥) سقط من (أ) : به.

(٦) في (أ) و (د) : وتكاثر.

(٧) في (أ) : أن يرفع ذلك عنهم في الدنيا برحمته.

(٨) في (أ) و (ج) : وبعثه (تصحيف).

(١١)) [الطلاق : ٨ ـ ١١] ، فلما كان جميع من في القرية ، لا يخلو من عامة أو خاصة متعدية ، وكان أمر الله وأمر رسوله للعامة ، في الخاصة المتعدية الظالمة ، أن (١) يجاهدوهم إن قووا وانتصفوا ، ويهاجروهم وينتقلوا عنهم إن ضعفوا ، فلم يفعلوا ما أمروا بفعله ، كانت القرية كلها عاتية عن أمر الله وأمر رسله ، فحل عذاب الله بذلك فيهم ، ونزلت نقمات الله فيهم وعليهم ، وكان كلهم ظالما عاتيا فاستحقوا جميعا الهلاك (٢) بظلمهم وعتائهم ، وعصيانهم واعتدائهم ، ولو كان الأمر في ذلك كما قال من لم يهد فيه لرشده ، ولم يسدّد في القول للهدى وقصده ، لكان في ذلك من التجربة ، لكل نفس متعدية ، ما تقل معه لله منهم الطاعة ، ويعظم فيه عليهم الفساد والإضاعة ، ولكن لم يأمر الله سبحانه في السورة كلها وينه ، ولم يكن بما (٣) فيها من التذكير والتحذير واعظا منبها ، إلا لمن آمن من المؤمنين به ، ولم يجحد بشيء من رسله ولا كتبه.

فافهموا هديتم قوله سبحانه : (آياتِ اللهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) ، فإنكم إن تفهموا ذلك يبن (٤) لكم إن شاء الله ما التبس عليكم في كل ما ذكرنا من الأمور ، وخرجتم ببيان الله فيه من ظلمات الهوى ، إلى نور الحق والبر والتقوى.

وفي قرى الفسق والعتا والظلم ، وما أحل الله بها من الحطم القصم ، ما يقول سبحانه: (وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (١٢) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) (١٣) [الأنبياء : ١١ ـ ١٣] ، فمن تأويل (لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ) ، لعلكم (٥) تعرفون ، وتقرّون أيها المترفون ،

__________________

(١) في (ب) : إذا (مصحفة).

(٢) في (أ) و (ج) : المثلات بظلمهم وعتائهم. وفي (ب) و (د) : جميعا الهلاك بظلمهم في عتائهم.

(٣) سقط من (ب) : بما.

(٤) في (ب) و (د) : يتبين.

(٥) في (أ) : أي لعلكم.

المساكنون بما كنتم في مساكنكم من الظلم تعملون ، فلما عرف كبراء (١) القرية وضعفاؤها بظلمهم فيها أجمعين ، قالوا : عند الاعتراف والاقرار آسفين متحسرين : (يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ) (١٤) [الأنبياء : ١٤] ، قال الله لا شريك له : (فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ) (١٥) [الأنبياء : ١٥].

فكم وكم من نقمة ، وقرية منقصمة ، الظلم من أهلها والعدوان قصمها ، والفسق من ساكنها (٢) والعصيان حطمها ، قد نبأكم الرحمن نبأها ، وخبّركم في كتابه مهواها ، وما به كانت هلكتها من الظلم ورداها ، لتهاجروا (٣) فساقها وفسقها ، ولتجانبوا (٤) أخلاقها وطرقها ، ولتحذروا (٥) مثل الذي وقع بساكنيها ومجاوريها ، إذ لم ينكروا الظلم من مترفيها وجباريها (٦) ، فأصبحت الجبابرة مقصومة ، ومدائنها بالهلكة محطومة ، وجيرتها معها مدمرة ، إذ لم تكن لظلمهم مباينة منكرة ، وفي مثل (٧) ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) (٥٨) [القصص : ٥٨].

[هجرة الأنبياء والرسل]

ومن ذلك ، ولذلك ، ما يقول الله سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (٩٣) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٩٤) [المؤمنون : ٩٣ ـ ٩٤]. لأن من كان مقيما فيهم ، وصل إليه ما وصل إليهم ؛ لأنه لا يجاور

__________________

(١) في (أ) و (ج) : كبراء أهل القرية.

(٢) في (أ) و (ج) : سكانها.

(٣) في (ب) و (د) : ليهاجروا.

(٤) في (ب) و (د) : وليجانبوا.

(٥) في (ب) : وليحذروا.

(٦) في (أ) و (ج) : وجبابرتها (مصحفة).

(٧) سقط من (ب) : مثل.

أهل الظلم ويقيم فيهم إلا الظالمون الفاجرون ، ولذلك يقول سبحانه : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) (٣٣) [الأنفال : ٣٣] ، يقول سبحانه : يعذبهم وهم يتوبون ويتورعون (١) ؛ لأن الاستغفار ، هو التوبة من أهل الكفر والإقصار ، فلم يقم أحد من المرسلين ، بدار من دور الظالمين ، إلا مباينا داعيا ، ومنتظرا فيها (٢) لأمر الله مراعيا.

ومن قبل ما حكم الله به من الهجرة على رسوله وعلى المؤمنين ، فقد حكم به على من مضى قبلهم من المرسلين ، ومن تبعهم فكان (٣) معهم من عباده الصالحين ، فقال في نوح صلى الله عليه ، وما صيّره سبحانه من الهجرة إليه : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (٣٧) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ) (٣٨) [هود : ٣٧ ـ ٣٨] ، ثم أمره (٤) سبحانه أن يحمده على إنجائه له (٥) منهم ، وما حكم به عليه من البعد عنهم ، وكانت هجرته لهم قبل غرقهم على ظهر الماء ، وفي الفلك بين الأرض والسماء ، وقال صلى الله عليه : (قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (١١٧) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (١١٨) [الشعراء : ١١٧ ـ ١١٨] ، فقال سبحانه : (فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١١٩) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ) (١٢٠) [الشعراء: ١١٩ ـ ١٢٠] ، فأنجاه تبارك وتعالى منهم ، وغرّقهم (٦) بعد هجرته عليه‌السلام عنهم ، فهاجر صلى الله عليه أهل الكفر والفسق ، قبل ما أحلّه الله بهم من الهلكة والغرق ، تأدية لفرض الله عليه في الهجرة لهم ، وقد كان قادرا على أن ينجيه وإن أقام معهم ، ويغرقهم بجرمهم ، وبما ركبوا من

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويترعون.

(٢) في (أ) و (ج) : فيه.

(٣) في (أ) و (ج) : وكان.

(٤) في (ب) : أمر.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : له.

(٦) في (ب) و (د) : فأغرقهم.

كفرهم وظلمهم.

وقال إبراهيم صلى الله عليه : (إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٩٩) [الصافات : ٩٩] ، وقال عليه‌السلام لأبيه ، إذ أجمع من الهجرة على ما أجمع عليه ، عند الرحيل والزوال ، وعند ما جاءه (١) له من السلام : (قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (٤٧) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا) (٤٨) [مريم : ٤٧ ـ ٤٨] ، فلما اعتزلهم وما يعبدون صلى الله عليه وأصنامهم ، وفارق (٢) مهاجرا إلى الله دارهم ومقامهم ، وهبه الله من إسحاق ويعقوب ما وهب ، وهداه الله في مذهبه (٣) إذ ذهب ، وقال سبحانه : (فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا (٤٩) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا) (٥٠) [مريم : ٤٩ ـ ٥٠] ، فهاجر إبراهيم عليه‌السلام لله قومه وبلده ، وفارق في (٤) الله وطنه ومولده ، وهجر صلى الله عليه أباه فيمن هجر ، وهو صلى الله عليه كان أبرّ من برّ ، فهجر أباه في الله (٥) طاعة لله ، وتبرأ منه إلى الله ، إذ تبيّن له أنه عدو لله ، فقال سبحانه فيه ، صلى الله عليه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٤] ، والأواه فهو الرحيم : والحليم فهو : الحكيم.

وهاجر لوط صلى الله عليه إذ هاجر معه ، ولم يسعه من الهجرة إلا ما وسعه ، كما قال لا شريك له : (فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (٢٦) [العنكبوت : ٢٦] ، وهاجر (٦) لوط صلى الله عليه بأهله ثانية ، إذ (١) كانت

__________________

(١) في (ب) و (د) : جاءوا.

(٢) في (أ) : وهاجروا مهاجرا (مصحفة).

(٣) في (ب) : و (د) : مذاهبه.

(٤) في (أ) و (ج) : وفارق لله.

(٥) في (أ) : أباه لله طاعة ، لله. وفي (ب) و (ج) و (د) : في اللغة طاعة في الله ، وما أثبت تلفيق من الجميع.

(٦) في (أ) : فهاجر.

القرية التي كان فيها قرية طاغية ، إذ جاءته ملائكة الله ، فقالوا له عن أمر الله : (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ) (٦٥) [الحجر : ٦٥]. تأويل لا يلتفت منكم أحد : لا يعرج أحد منكم تلبيثا ، وسيروا كلكم جميعا سيرا حثيثا ، وليس تأويل لا يلتفت ، ما يظن العمي (٢) الميّت ، من الالتفات في النظر ، إلى ما (٣) وراء الظهر أو إلى (٤) ما عن الميامن والمياسر ، ولكنه استحثاث واستعجال ، كما يقول المستحث المعجال ، إذا أنذر أحدا أو أرسله ، فاستحثه واستعجله : لا تلتفت إلى شيء ولا تعرج له.

ثم قال ـ من بعد قصة إبراهيم وأبيه ـ ربّ العالمين ، لرسوله ومن معه من المؤمنين : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣]. فبيّن سبحانه أن من والى من عاداه ، فقد ضل عن حقه وهداه ، فمن جاور من ظلم وتعدّى ، وهو يجد من جواره بدا ، فقد قاربه بالمجاورة وداناه ، ومن دانى أحدا كما قلنا فقد وليه وتولّاه ، والمقاربة كما قلنا فهي ولاية وإن لم تكن مؤاخاة ، ولذلك ما (٥) طهر الله أولياءه من أن يجاوروا في دار ومحل أعداه ، فأمر تبارك وتعالى لوطا ، إذ كان (٦) من هاجر عنه ظالما مفرطا ، بالخروج عنهم والهجرة لهم ، كما هاجر عن من كان قبلهم.

وقال رب العالمين ، لمن بعد إبراهيم من الرسل والمؤمنين : (قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً

__________________

(١) في (ب) : إن (مصحفة).

(٢) في (ب) العم.

(٣) سقط من (أ) : ما.

(٤) في (أ) : وإلى.

(٥) ما : زائدة. وكثير ما يستخدمها الإمام في كتبه.

(٦) في (ب) : كان مهاجرا (مصحفة).

حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة : ٤] ، وما آمن بالله ولا راقب وعيده ولا وعده ، من والى أعداءه ، وكان متبوّؤهم متبوأه ، ولا أناب إلى الله ولا أسلم له ، ولا قبل أمره وقوله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (٥٥) [الزمر : ٥٤ ـ ٥٥] ، إذ من الاسلام والإنابة إليه ، المهاجرة لعدوه فيه ، كما لا يكون من (١) أتاكم ولا ورد عليكم ، من مشى بعض الطريق إليكم ، فكذلك لا يكون عند الله منيبا مسلما ، من لم يكن للإنابة والاسلام مكملا مستتمّا (٢).

ألا تسمعون لقول إبراهيم صلى الله عليه والذين آمنوا معه ، وكل من آمن به من المؤمنين واتبعه (٣) : (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ) ، فقدموا ذكر التبرّي منهم ، وذكر انقطاع (٤) الولاية والمجاورة بينهم ، قبل ذكرهم لأوثانهم ومعبودهم ، وما كفروا لله به فيها من شركهم وجحودهم ، فكما يجب الاعتزال للضّلال ، فكذلك (٥) يجب الاعتزال للضّلال ، وكما تجب الهجرة للكفرة والفجار ، فكذلك (٦) تحب الهجرة للفجور والكفار ، فرحم الله عبدا اعتزل الضّالين وضلالهم ، وهجر لله وفي الله الظالمين وأعمالهم ، فإنه أمر سبحانه (٧) باعتزالهم ، كما أمر باعتزال أفعالهم ، ولم يعتزلهم مهاجرا ولا مجانبا ، من كان لهم في دار ظلمهم قرينا أو مصاحبا.

فليحذر امرؤ ـ جاور من ظلم وحالّه ، وإن لم يفعل في الظلم أفعاله ـ أخذ الله له وعقابه ، وليذكر حكم الله عليه وكتابه ، فقد سمع ما أنزل الله من ذلك وفيه ، وما حكم

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) في (ب) : مشتملا (مصحفة).

(٣) في (ب) : وتبعه.

(٤) سقط من (ب) : وذكر انقطاع. وفي (ب) : أيضا الولاية.

(٥) سقط من (أ) : فكذلك يحب الاعتزال للضّلال.

(٦) سقط من (ب) : فكذلك.

(٧) في (أ) : فإنه أمر باعتزالهم.

به من هجرة الظالمين عليه ، ففي أقل من (١) ذلك كفاية وغنى ، ونور لمن هداه الله وضياء ، فقد جاءت من الله في ذلك كله البينة المضية ، ووصلت إليه فيه سنن رسله وأوليائه المقبولة عند الله المرضية ، التي جعلها الله سبحانه (٢) من بعدهم صلى الله عليهم تذكرة كافية ، وحجة على كل من آمن بالله وموعظة بليغة شافية.

[هجرة المؤمنين السابقين]

وليسمع قول أصحاب الكهف إذ يقولون وهم هاربون ، من قومهم في الله فارّون : (وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً) (١٦) [الكهف : ١٦] ، فذكر اعتزالهم لأشخاصهم وأبدانهم ، قبل ذكرهم لاعتزال أصنامهم وأوثانهم ، وكانوا معتزلين لهم هاربين منهم إلى كهف (٣) الجبل ، مفارقين لله وفي الله الآباء والأهل ، مهاجرين بذلك في الله ، من كان عدوا لله.

وأمر (٤) الله سبحانه لبني إسرائيل بالخروج من قرى فرعون ، ففيه بينه ظاهرة جلية في الهجرة لقوم يعقلون ، قال الله لا شريك له لموسى وهارون صلوات الله عليهما ورضوانه : (فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ) (١٧) [الشعراء : ١٦ ـ ١٧] ، وقال سبحانه : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) (٥٢) [الشعراء : ٥٢] ، فأمرهم سبحانه بهجرة عدوّه وأخبرهم بأنهم (٥) سيتبعون ، لتشتد عليهم فيما أمرهم به من ذلك المحنة ، ولتعظم لهم ومنهم به في طاعتهم لله(٦) الحسنة ، فلم يمنعهم خوفهم لفرعون وجنوده ، من المضي لما عهد الله إليهم

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) سقط من (ب) : من.

(٣) في (أ) : إلى الكهف في جبل.

(٤) في (ب) و (د) : فأمر.

(٥) في (ب) و (د) : أنهم.

(٦) في (أ) و (ج) : في طاعة الله.

في الهجرة من عهوده ، مع ما دخل من الخوف في اتّباعه عليهم ، وقال سبحانه بعد فيهم ؛ إذ هاجروا ـ مع هائل الخوف في الله ـ من كان لله عدوا : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً) [يونس : ٩٠].

وقال سبحانه : (فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) (٦١) [الشعراء : ٦١] ، يعني سبحانه : جماعة بني إسرائيل وجماعة القوم الظالمين ، فلم يمنعهم هول الرؤية والمعاينة ، وما طلبوا عند ذلك (١) من الهلكة والمنازلة ، عن النفاذ على ما أمروا به من المهاجرة ، منطلقين بكليتهم ، ونسائهم وصبيتهم ، (٢) لا يلتفتون إلى شيء قد خرجوا ليلا سارين (٣) ، لظفر فرعون وجنوده خائفين محاذرين. فهذه (٤) ـ هديتم ـ عزائم الموقنين ، بالمرجع إلى رب العالمين ، فأما (٥) من ضجّعه تربّصه وارتقابه ، وصرعه شكه وارتيابه ، فما أبعده في الهجرة عن (٦) عزمهم!! وما صاروا به إليها من علمهم (٧).

وقال موسى صلى الله عليه ، إذ عصته بنوا إسرائيل فيما عهد الله إليهم وإليه ، من دخول الأرض المقدسة ، وما اعتلّوا به عليه من خوفهم لمن فيها من الجبابرة المتفرعنة : (رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) (٢٥) [المائدة : ٢٥] ، سأل الله صلى الله عليه أن يفرق بينه وبينهم ، إذ أجمعوا جميعا كلهم على ما يسخط الله منهم ، إكبارا منه صلى الله عليه للمقام مع معصية الله فيهم ، فكيف (٨) يجاور العاصون في أكثر الأحوال أو يصار إليهم؟!

وفي ذلك ومثله ، و [ما] رضي الله به من أهله ، ما يقول الله (٩) سبحانه : (وَما

__________________

(١) في (أ) : طلبوا بذلك من. وفي (د) : طلبوا عند تلك من.

(٢) في (ب) : وصبيانهم.

(٣) في (أ) : سائرين.

(٤) في (ب) و (د) : هذه.

(٥) في (ب) : وما.

(٦) في (ب) : من.

(٧) في (ب) و (د) : عملهم.

(٨) في (أ) : وكيف.

(٩) سقط من (أ) : الله.

لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً) (٧٥) [النساء : ٧٥] ، فكفى بهذا كله وما تلونا منه في وجوب الهجرة بيانا وتنويرا.

وما كان من موسى صلى الله عليه ، عند رجعته إلى قومه (١) في أخيه ، إذ أقام مع العاصين في مكانهم ، وهم مصرون لله على عصيانهم ، ففيه عبرة لمعتبر ، وبيان وموعظة لمدّكر ، قال الله سبحانه ، لا شريك له : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) [الأعراف : ١٥٠] ، فأخذ صلى الله عليه برأس أخيه يجره إليه غضبا وأسفا ، وتغيظا وتلهفا ، وإعظاما وإكبارا ، وتقبيحا وإنكارا ، لمقامه معهم وبين أظهرهم ، مع ما صاروا إليه من معصية الله في أمرهم ، وهارون صلى الله عليه مباين لهم فيما هم فيه من عصيانهم وضلالهم ، وما ارتكبوا فيما بينهم وبين الله من سيئ أفعالهم ، يأمرهم دائما بالهدى ، وينهاهم عما هم عليه من الضلالة والردى ، يناديهم في إنكاره ، وتقبيحه وإكباره ، بصوت منه صيّت رفيع ، يسمعه منهم كل سميع.

فتمسك ـ صلى الله عليه في نفسه ، ومن أطاعه من آله وغيرهم من قومه ـ بعصم الحق والرشد والهدى ، بريء مما هم فيه من الضلالة والردى ، يقول صلى الله عليه (٢) : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (٩٠) [طه : ٩٠] ، فما منعه ذلك كله من سخط موسى عليه ، ولا من وثوبه صلى الله عليه إليه ، (٣) يجره بلحيته ورأسه ، وهارون في كرب أنفاسه ، يعتذر في غمة كربه ،

__________________

(١) في (أ) : رجعته إلى أخيه.

(٢) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

(٣) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

وفيما نزل منه به ، لما يراه هارون صلى الله عليه له (١) عذرا ، وعدوه من عصاة بني إسرائيل يرى من فعل موسى به ما يرى ، وهارون يعتذر إليه ، صلى الله عليه (٢) ، فما قبل موسى ذلك منه ، ولكنه نبهه لما (٣) غفل عنه ، فقال صلى الله عليهما : (يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (٩٢) [طه : ٩٢] ، قوله (٤) : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣] ، يدل على أن قد كان أمره ، أن لا يقيم صلى الله عليهما مع من شاقّ الله وكفره ، وقوله : ما منعك ألا تتبعني إذ عصوا ما منعك أن لا تتركهم وتلحقني ، (قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (٩٤) [طه: ٩٤].

فهل رأيتم هديتم من قول أشبه بأن يكون عذرا من قول هارون واعتذاره ، مع ما كان من أمره (٥) ونهيه وإنكاره ، فلما علم موسى صلى الله عليه ذلك كله ، وأن (٦) هارون صلى الله عليهما أتاه وفعله ، وأن جميع ما فعل من ذلك وإن كان إحسانا ، وكان الله تبارك وتعالى رضوانا ، غير مقبول عند الله منه ، وإن مقامه مع الظالمين ذنب يحتاج إلى الله في العفو عنه ، قال موسى بعد اعتذار هارون صلى الله عليهما إليه ، واستعطافه بذكر أمه له عليه ، إذ يقول : (ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (١٥٠) [الأعراف : ١٥٠] (٧) ، فلم يستغفر موسى لهارون ذنبه ، ولم يسأل العفو عنه ربّه ، حتى علم (٨) هارون أنه قد كان أخطأ في مقامه مع الظالمين ، يرى ويعاين عصيانهم لرب

__________________

(١) سقط من (أ) : له.

(٢) في (أ) : عليهما.

(٣) في (أ) : بما عقل (مصحفة).

(٤) سقط من (أ) : قوله أفعصيت أمري.

(٥) في (أ) : من نهيه وأمره وإنكاره.

(٦) في (أ) : وأنه صلى الله.

(٧) لم يذكر في (أ) : الآية كاملة.

(٨) في (أ) : حتى علم أن هارون قد أخطأ. وفي (ب) حتى هارون أن قد أخطأ.

العالمين ، فعند ما اعترف هارون بزلته (١) في مقامه معهم ، وتركه لاتباع موسى عند ما رأى منهم ، قال موسى صلى الله عليه : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) (١٥١) [الأعراف : ١٥١] ، وقول (٢) موسى لهارون صلى الله عليهما : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) [طه : ٩٣] ، بيّن أن قد كان أمره وقال له إن رأيت من القوم عمى ، أو ضلالا أو ظلما ، فلم يقبلوا قولك فيه ، وأقاموا مصرين عليه ، فالحقني ، وآتني (٣) واتبعني ، فهذا وجه قوله (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي) ، يقول فأقمت مع من كفر وظلم ، وجاورت مقيما مع من أجرم.

وفي موسى نفسه صلى الله عليه ومن كان معه وتبعه لميقات الله له (٤) من خيار بني إسرائيل ، ما يقول الله تبارك وتعالى فيما نزل على محمد صلى الله عليه وعلى آله من كتابه الحكيم : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ) (١٥٥) [الأعراف : ١٥٥] ، فأخذتهم الرجفة ، وحلت بهم من (٥) المعصية المخافة ، وهم هم ، ومع سخطهم لهم ، فوصلت معرّة العاصين منهم ، إلى من قد (٦) زال عنهم ، فلما أصابتهم الرجفة ، ظنوا أنها الهلكة المتلفة ، ولم تكن تلك الرجفة من الله لهم هلكة مدمرة ، ولكنها كانت من الله لهم ولغيرهم من الأمم موعظة وتذكرة ، نفعهم الله بها وأولياءه ، وذعر بها من الأمم أعصياه ، رحمة من الله للمطيعين والعاصين ، وموعظة للفريقين من رب العالمين ، فتبارك الله فيها أحكم الحاكمين ، والحمد لله بها وفيما كان منها لأرحم الراحمين.

__________________

(١) في (ب) : بنه لله (مصحفة).

(٢) في (أ) : وقال.

(٣) في (أ) : فالحقني واتبعني. وآتني.

(٤) سقط من (ب) : له.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : فن.

(٦) سقط من (ب) قد.

ومن ذلك وفيه ، فخبر الله جل ثناؤه عن عيسى صلى الله عليه ، بعد الذي كان من إخباره عن موسى صلى الله (١) عليه ، بما قد سمعته عن الله آذانكم ، وأحاط به يقينا إيقانكم ، من مهاجرته صلى الله عليه ، وسياحته مهاجرا على قدميه ، هاربا لسخطه في (٢) الله من بني إسرائيل ، إذ لم يعملوا بما في أيديهم من التوراة ولم يقبلوا ما جاء به (٣) من الإنجيل ، وأبوا إلا الكفر لنعمة الله ، والمشاقّة بعصيانهم على الله ، فلما أحس عيسى صلى الله عليه كفرهم ، (٤) وتوجس في إصرارهم على الكفر أمرهم ، كما قال الله سبحانه : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) [آل عمران : ٤٦] ، يريد : من المهاجر معي إلى (٥) الله ، والتابعون لي سياحة في سبيل الله ، ولسياحته في الله ، ونصيحته بها لله ، سماه الله مسيحا ، وكان لله فيها نصيحا.

ولقد (٦) قرأنا مما في أيدي النصارى لعنة الله عليها ، في كل ما عندها من أناجيلها : (أن عيسى ابن مريم ، لما وجّه في المدائن والأمم ، للدعاء إلى الله حوارييه ، قال لا تزودوا معكم زادا ، ولا تحملوا معكم فضة ولا ذهبا ، وأي (٧) مدينة حللتموها ، أو أمة دخلتموها ، فلم تقبل منكم ، ولم يسمع الحق عنكم ، فأقلّوا بها وفي أهلها مقامكم ، وانفضوا من غبارها إذا خرجتم عنها أقدامكم ، لكيما تكون شهادة لله عليهم ، (٨) وحجة باقية من بعدكم فيهم ، فخرجوا فكانوا يطوفون في المدائن والقرى ، وينشرون أمر الله فيهم نشرا) (٩).

__________________

(١) سقط من (أ) : صلى الله عليه.

(٢) في (ب) و (د) : وهاربا. وفي (ج) : من الله.

(٣) في (ب) : ما حكم.

(٤) في (ب) : بكفرهم.

(٥) في (ب) و (د) : في.

(٦) في (أ) : فلقد.

(٧) في (أ) : فأي مدينة.

(٨) في (ب) : عليكم.

(٩) نص الإنجيل : ثم استدعى الاثني عشر تلميذا ، وأخذ يرسلهم اثنين اثنين ، وقد أعطاهم سلطة على الأرواح النجسة ، وأوصاهم أن لا يحملوا للطريق شيئا إلا عصا ، لا خبزا ولا زادا ، ولا مالا ضمن ـ

ومن مثل ذلك وفيه ، ما كان يقول صاحب إنجيلهم صلى الله عليه (١) : (للسباع مغار ، وللطير أوكار ، وليس لي مأوى آوي إليه ، ولا بيت أستكن فيه) (٢) فأين هذا ومثله؟! وما كانت عليه أنبياء الله منه ورسله ، من جوار من ظلم وفجر ، وساكن وكثّر وعمر ، لا أين والحمد لله!! والحجة البالغة فلله ، ونستعين فيما وجب علينا في ذلك بالله.

فالهجرة أمرها عظيم كبير ، وفرضها في كتاب الله مكرر (٣) كثير ، لا يجهله إلا جهول ، ولا ينكره إلا مخذول ، إلا أنه قد قطع ذكرها ، وصغّر قدرها ، وأمحى (٤) عهودها ، وحل عقودها ، تحكّم الناس على الله فيها ، وتظاهرهم بالمخالفة لله عليها.

والمقام مع الظالمين في دارهم محرم ، حكم من الله كما ترون أول مقدم ، قد جرت به سنة الله قبلكم في الماضين ، وسار به من قد (٥) مضى قبل رسولكم من المرسلين ، صلى الله عليه وعليهم ، في الأمم الذين كانوا فيهم.

فكفى بهذا في وجوب الهجرة ، وما حرم الله من جوار الظالمين والفجرة ، نورا وبرهانا ، وحجة وبيانا ، لمن آثر الله على ما يهوى ، ولم يمل مع هواه على التقوى.

فأما من لا يصبر عما يجمع ديار (٦) الظالمين من الشهوة والفكاهات ، وما يأوي

__________________

ـ أحزمتهم ، بل ينتعلوا حذاء ، ويلبسوا رداء واحدا ، وقال لهم : أينما دخلتم بيتا ، فأقيموا فيه إلى أن ترحلوا من هناك. وإن كان أحد لا يقبلكم ولا يسمع لكم في مكان ما فاخرجوا من هناك ، وانفضوا التراب عن أقدامكم شهادة عليهم ، فانطلقوا يبشرون داعين إلى التوبة ، وطردوا شياطين كثيرة ، ودهنوا كثيرين من المرضى بزيت ، وشفوهم. إنجيل مرقس الإصحاح السادس فصل ٧ ـ ١٣.

(١) سقط من (ب) : صلى الله عليه.

(٢) نص الإنجيل : للثعالب أو جار ، ولطيور السماء أو كار ، أما ابن الإنسان فليس له مكان يسند إليه رأسه.

إنجيل متّى ٢٢٨.

(٣) سقط من (أ) : مكرر.

(٤) في (أ) : أمرها. وفي جميع المخطوطات وأمح ، وما أثبته من مخطوطة من شرح الأساس للشرفي في باب الهجرة مما نقله من كلام الإمام من كتاب الهجرة للظالمين.

(٥) سقط من (أ) : قد.

(٦) في (أ) : دار.

إليها ويجتمع فيها من المجالس الملهيات ، فما (١) أبعده وأصدّه ، وأدفعه (٢) وأردّه ، للبيان فيما عطّل من هذه الفريضة وبدّل ، وافترى في خلافها ومضادّتها على الله وتقوّل ، فإلى الله المشتكى من (٣) ذلك وهو المستعان ، فما بعد بيان الله في ذلك بيان ، فيه شفاء لمشتف (٤) ، ولا اكتفاء من مكتف ، وما بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ، (كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣٣) [يونس : ٣٣].

فاتقوا الله في الهجرة أيها الناس ، فلا يقطعكم عنها الإلف والإناس ، والمعارف والأحباب ، والمجالس والأصحاب ، والفكاهات والألعاب ، والشك فيها والارتياب ، فإن الله وملائكته أنس لمن هاجر إليه ، وقام لله من الهجرة بما يحب عليه ، من كل إلف وأنيس ، وصاحب وجليس ، ورضى الله أرضى من كل رضى ، وفرض الهجرة أوكد الفروض فرضا ، فلا تثقل عليكم الهجرة فإن من أيقن بالمرجع إلى الله والمعاد ، خف عليه ثقل كل رشد ورشاد ، ومن أيقن بقصر مدته وبقائه ، فكان (٥) مراقبا لأجله وانقضائه ، لم يغترر بدنياه ، ولم يلهه شيء عما أنجاه ، وكان (٦) أبغض الناس إليه ، من شغله عما ينجيه ، (٧) أبا كان شاغله عن ذلك أو أخا ، ولم يعد شيئا من دنياه سرورا ولا رخاء ، ولم يرغب فيما هو فيه من الحياة ، إلا لما يطلب من النجاة ، وكانت الدنيا ونعيمها عنده بلاء ، وما يستحقه الجاهلون منها ثقلا ، وغرورا كلها وكذبا ، ولهوا في نفسه ولعبا ، كما قال الله سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) (٦٤) [العنكبوت : ٦٤] ، فحياة الدنيا عند من يعقل موت ، ودركها وإن أدرك فوت ، وهي كما قال رسول الله

__________________

(١) في (ب) : هما (مصحفة).

(٢) في (أ) : وأبعده (مصحفة).

(٣) في (ب) و (د) : في.

(٤) في (ب) و (د) : للمشتف.

(٥) في (ب) : وكان.

(٦) في (ب) و (د) : فكان.

(٧) سقط من (ب) : عما.

صلى الله عليه وعلى آله : (الدنيا سجن المؤمن وبلاؤه ، وجنة الكافر ورخاؤه) (١) ليست بدار سرور لمن يعقل ولا أمن ، ولكنها دار الفناء ودار الأذى ودار البلايا ودار الحزن ، لا يغتر بها إلا مغرور ، ولا يأمنها إلا مثبور ، (٢) ظالم لنفسه جهول.

تم كتاب الهجرة والحمد لله (٣) كما هو أهله ومستحقه.

وصلّى الله على رسوله الأمين ، وأهل بيته الأكرمين ، وسلم عليه وعليهم أجمعين.

* * *

__________________

(١) الحديث : (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر). أخرجه مسلم في باب الزهد ١ / ٥٠ ، والترمذي في باب الزهد ١٦ ، وابن ماجة في باب الزهد ٣ وأحمد ٣ ، ١٩٧ و ٢٢٢. والإمام صاغ الحديث بلغته الشاعرية.

(٢) هالك خاسر.

(٣) في (أ) : أولا وآخرا ، وباطنا وظاهرا ، وصلى الله على رسوله الأمين ، سيدنا محمد النبي وأهله الأئمة الأكرمين ، وسلم عليه وعليهم أجمعين ، وحسبي الله وحده وكفى ونعم الوكيل.

المكنون

بسم الله الرحمن الرحيم

[دعاء]

أستعصم الله بعصمته التي لا تهتك ، وأسترشده إلى السبيل (١) التي ينجو بها من الردى من هلك ، وأستوهبه التوفيق لهدايته ، والحظ الوافر من طاعته ، وأرغب إليه في إلهام حكمته ، واجتناب معصيته.

[توحيد الله]

إن الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لا كفؤ له موجود ، ولا والد ولا مولود ، تعالى من أن يتخوّنه (٢) أبد ، أو يقع عليه عدد ، فطر الأرض والسماء ، وابتدع الأشياء ، وأنشأ المخلوقين إنشاء ، بلا معين يشاركه في التدبير ، ولا ظهير يؤازره على ما أبرم من الأمور ، ولم يمسسه في ذلك كلال ، ولم يتخرمه (٣) نصب ولا زوال ، ولم تتوهّقه (٤) عن محكم الصنعة العوائق ، ولم يشتبه عليه ما أتقنه علمه السابق ، بل نفذ بمشيئته ما أبرم ، ومضى في خليقته ما علم ، بلا اختلاج (٥) اشتبهت عليه فيه الآراء ، ولا توهّم تفاوتت عليه فيه الأشياء ، فتعالى عما يقول فيه (٦) الظالمون ، وعز وتقدس مما (٧) يتفوّه به العادلون ، جعل الأنام شعوبا وقبائل متعارفين ، وفيما تنازعهم إليه الأنفس غير مؤتلفين ، مختلفة هممهم ، لا يشتبه تصرفهم ، وكل يعمل على شاكلته ، ويسلك سبيل طبقته (٨).

__________________

(١) في (ب) و (د) : الذي ينجو به.

(٢) في (ه) : عن أن. يتخونه ، أي : يغيّره.

(٣) الكلال : الإعياء. يتخرمه : يقطعه ويستأصله.

(٤) تتوهقه : تعوقه وتمنعه.

(٥) الاختلاج : الشك والريب.

(٦) سقط من (ب) و (ج) و (د) : فيه.

(٧) في (ب) : أشار ب (عن) في نسخة.

(٨) الشاكلة : الطريقة. والطبق : الجماعة ، والقرن من الزمان.

والعقول حظوظ متقسمة ، والأخلاق غرائز (١) مستحكمة ، فالحازم مغتبط بما ألهم ، جذل (٢) بما قسم ، والمفرّط متأسّ (٣) على ما حرم ، يقرع سنّه من الندم ، فإن قهر نفسه على تعوّض (٤) ما فرط ، أورده صغر الهمم في أعظم الورط ، وإن تمادى في التقصير ، دحض (٥) دحضة الحسير.

وإني لما زايلت (٦) قلة الآثام ، وخضت في أفانين الكلام ، وناسمت (٧) كثيرا من علماء الأنام ، أطللت (٨) على مكنون (٩) من العلم جسيم ، واستدللت على نبأ من ضمائر القلوب عظيم ، لأن صحيح الجهر ، يدل على كثير من مكنون السر.

[صفات العالم الرباني]

واطلعت على ذلك بخصال أوتيتها ، وأخر تجنبتها ، فأما اللواتي أوتيت فذكاة (١٠) الفطنة ، وقلة المشاحة (١١) في المحنة ، والإصغاء لأهل الافتنان ، (١٢) والقبول من ذوي الأسنان ، (١٣) وكثرة الاقتباس من أولي (١٤) الحكم والأذهان ، والزهادة في الزائل الفان ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : منقسمة. والغرائز : الطبائع.

(٢) جذل : فرح مسرور.

(٣) من الأسى.

(٤) في (ب) : تعويض.

(٥) دحض : زلق.

(٦) زايلت : فارقت.

(٧) ناسمت : تلطفت في التماس العلم منهم شيئا فشيئا.

(٨) أطللت : أشرفت.

(٩) سمي الكتاب بالمكنون أخذا من هذا.

(١٠) ذكاة الفطنة : سرعة الفهم.

(١١) المشاحة : الجدال والنزاع.

(١٢) أهل فنون العلم.

(١٣) الذين مرت عليهم السنون الكثيرة ، يعني : أصحاب التجارب.

(١٤) في (ب) و (ب) : ذوي.

وصحة الناحية ، (٢) وتكافئ السريرة والعلانية ، وسلامة القلب ، وحضور اللب ، فافهموا يا بني.

وأما اللواتي اجتنبتها (٣) ، فمهازلة الحمقاء ، ومشاحنة الأدباء ، وترك ما تشره (٤) إليه النفس من عرض الدنيا ، والمكاثرة والحقد ، والظغن والحسد ، والاسترزاء للحرّ والعبد ، والمماكسة (٥) فيما يكسب الحمد.

يا بني فبعض هذه الخصال طبعت عليه بالتركيب ، وبعضها استعنت عليه بقبول تأديب الأديب ، والتمثل (٦) بالأريب اللبيب ، مع رغبة حداني عليها طلب الازدياد ، مما أرجو به النجاة في المعاد ، والزلفة يوم التّناد (٧).

[فضائل الأعمال]

فلم أر مما أتاه الله العبد شيئا أفضل من التقوى ، ولا أنجع (٨) في العقبى من السّلوّ عن الدنيا ، وبيع ما يزول بما يبقى ، ورأيت خير ما ينشأ مع المرء العقل المولود ، (٩) والمذهب المحمود ، والفهم العتيد ، وكمح (١٠) النفس عن الشهوات ، وقصرها عما تدعو إليه من

__________________

(٢) الناحية : العلم. قال الشاعر :

أيكني إليها وخير الرسول

أعلمهم بنواحي الخبر

قال في اللسان : إنما يعني علمهم بنواحي الكلام.

(٣) في (ب) و (د) : تجنبتها.

(٤) تشره : تطمح وتحرص.

(٥) المماكسة : هنا بمعنى الحرص.

(٦) التمثل : الاقتداء.

(٧) يوم التناد أي : يوم المناداة. وهو يوم القيامة.

(٨) أنجع : أفلح.

(٩) يريد العقل المكتسب بالتجارب.

(١٠) العتيد : الحاضر السريع. والكمح : المنع والصد.

المهلكات.

يا بني فمن ظفر بهذه الخصال ثم عرف فضلها ، وسلك بنفسه سبيلها ، فاز بالظفر ، وأمن من (١) الغير ، ولم يكثر على الفائت تأسّفه ، وقلّ عند النوازل (٢) تأفّفه ، وأبصر ما بين يديه ، ولم تنكصه الشبهات على عقبيه ، ومن (٣) لم يقده الفهم إلى العقل ، زلّ في شبهات الجهل ، ومن لم يلطف النظر في غوامض الأفطان ، (٤) كاد أن يدهمه الجديدان ، (٥) ومن كثرت حيرته ، ملكته شهوته ، وأردته غرته ، ونظره عدوه بعين الاستقلال ، واستزراه في جميع الأحوال.

[صفات الحكيم]

يا بني : ولخير خصال المرء أن يكون على خلاله مستشرفا ولأوده مثقّفا ، (٦) بما يكون له من غيره متعرّفا ، من جميل يومئ به إليه ، أو مذموم خليقة يطعن من أجلها عليه.

يا بني : فكل من لم يفصل بالتمييز ما يعنيه من زمنه ، ويحذر مضلات فتنه ، ويدخر لنفسه من جدته ، ما يحمد غبّه (٧) في عاقبته ، ويختر الزيادة على النقصان ، والربح على الخسران ، فهو كالماص لثدي أمه ، المخدج (٨) قبل تمّه.

يا بني : الزمان أنصح المستنصحين ، وأرشد المسترشدين ، وبحسب من صحبه ، أن يعرف تغلّبه ، ويقفو آثاره ، ويتصفح أخباره ، ويسير لكل حقبة بسيرتها ، ويلبس لها

__________________

(١) سقط من (ب) : من.

(٢) في (ب) : النوائب.

(٣) سقط من (ب) : من.

(٤) الأفطان : الأمور الغامضة التي تحتاج إلى فطنة.

(٥) الجديدان : الليل والنهار.

(٦) مستشرفا : مطلعا. ولعوجه مثقفا. والتثقيف التقويم ويسمى الرمح مثقفا لتعديل اعوجاجه ومنه سمي المثقف مثقفا بلغة العصر.

(٧) جدته : حالة غناه. والغب : العاقبة.

(٨) الخداج : النقصان.

أخصف (١) لبستها ، حتى تستوري (٢) نار زنده ، وتستحكم قوى معتقده ، وتتحصحص (٣) له طبقات دهره ، ما مدّ له المهل في عمره ، ثم لا يغتر بساعات الليل والنهار ، ولا يسهو سهو من صحب الدهر بغير الاختبار ، ولا يلهو عن مصلحته كأهل الاغترار ، فإذا داوم على ذلك فقد كملت خصاله ، وأحاطت بالجميل أفعاله.

يا بني : ولو أن العاقل ساير الأيام طول حياته بغير الاستحكام ، والنقض والإبرام ، لم يكن إلا كالصبي في مهده ، المدخول في خلده (٤) ، لأن العاقل الذاهل (٥) هو الخائض في بحار الظّلم ، والمرتطم في الخزاية مع المرتطم ، والمعرفة أسطع نورا من المقباس (٦) ، وأجلى للقلوب من الهندوان (٧) للنحاس.

[صفات الغافل]

يا بني : ومن أعجب العجائب ، ذو شيبة (٨) مرتد بالنوائب ، متسربل بالمصائب ، يستنكر ريب التصاريف (٩) ، ويفجر أمامه بالتسويف (١٠) ، وذلك لضعف نحيزته (١١) ، ونسيانه لما يتصرف من أزمنته ، وكثرة سهوه وغفلته ، عما قد أفهمته خبرته ، وانتظمته

__________________

(١) الأخصف : الثوب الغليظ جدا.

(٢) تستوري : تتّقد. والزند : العود الذي تقدح به النار.

(٣) تتحصحص : تظهر وتتضح.

(٤) الخلد : القلب والمراد الغر الذي لا معرفة له بالأمور.

(٥) الذاهل : الغافل الناسي.

(٦) المقباس : الشعلة.

(٧) الهندوان : الحديد المطبوع في الهند ، يقال : سيف مهند وهندواني نسبة إلى الهند.

(٨) في (ب) : شبهة.

(٩) التصاريف : التخاليف أي التقلبات.

(١٠) يركب الفجور في أيامه المستقبلة اعتمادا منه على التوبة المسوّفة.

(١١) النحيزة : الطبيعة.

تجربته. ولو ـ غيّب عن (١) العاقل اللبيب ، كل أمر عجيب ، مما فطر عليه المفطورون (٢) ، وقصر عن الإحاطة بخبره العالمون ـ لكان فيما طبع عليه في ذات نفسه ، وما يمر به في يومه وأمسه ، من الفقر والغناء ، والسراء والضرّاء ، والشدة والرخاء (٣) ، والأخذ والإعطاء ، والبذل والإكداء (٤) وكثرة السكوت ، وطول الصموت ، والاكثار في المنطق ، والهدوء (٥) وسرعة القلق ، والجد والهزل ، وغلبة الجهل على العقل ـ له أشغل (٦) شاغل عن الفكرة في خلائق الانسان ، وتضاد ما يختلف فيه من الجهل والعرفان ، فالموموق (٧) منها معروف ، والمقلي منها مشفوف (٨). فمن جنح إلى الأقل ، كبح (٩) واستوحل ، وذم غبّ المصدر (١٠) ، وكان من أمره على خطر ، وأندمته آخريته ، لما قد دلته (١١) على علمه أوّليّته ، وليس بحكيم ، من مال إلى الأمر المذموم ، والخيلاء بالفضل ، مجانب لسبيل العقل. ومن جعل غيره لعينه نصبا ، وأظهر على من سواه في شيء من أفعاله عتبا ، وكان الذي فيه لطالب عثرته أعيب ، كان الواجب عليه أن يكون على نفسه أعتب ، لأن من استنكر أمرا من غيره ، يرضى في نفسه بمثله ، فقد دل على جهله ، ومن سها عما يعنيه ، كان ما لا يعنيه أجدر أن لا يؤاتيه (١٢).

__________________

(١) في (ب) : على.

(٢) في (ب) : المفطرون.

(٣) سقط من (ب) و (ج) و (د) : والشدة والرخاء.

(٤) الإكداء : البخل.

(٥) في (ب) : والهزو.

(٦) اسم كان المتقدم في أول الكلام.

(٧) الموموق : المحبوب.

(٨) المشفوف : المنظور إليه.

(٩) كبح : ارتطم في الوحل وهو مستنقع الماء والطين.

(١٠) المصدر : المنصرف.

(١١) في (ب) و (ج) : دله.

(١٢) لا يؤاتيه : لا يطاوعه ولا يستجيب له.

فافهموا يا بني : ما عبرته (١) لكم ، وأوضحته من شأن زمانكم.

[صفات الأحمق]

وإن من المنكرات ، فيمن يسم (٢) نفسه بميسم الخيرات ، أن يضرب بطرفه صاعدا ، ويكون (٣) على غيره واجدا (٤) ، ولزناده زاندا ، كأنه قد تهذب من الأدناس ، وأمن من (٥) معيبة الناس ، واستقام على سوق الزيادة للمستزيد ، أو ما عرف المعدوم من الموجود ، والحاضر من المفقود ، والخير من الشر ، والنفع من الضر ، والحرّ من القر (٦) ، حيث سلك في أحشائه ، واتصل بحواسه وأجزائه ، ثم أدّبه (٧) الأركان إلى الأركان ، والروح إلى الجثمان ، ثم صرفته تلك العوارض الخاطرة ، والنوازل السائرة ، فاستفزته (٨) إلى السخط مرة ، وإلى الرضى أخرى ، فأسرف في الخلتين (٩) ، ومال عن النجدين ، فأين مستقر القديم منه ، لم يدرأ به عنه ، النوازل الممضّة (١٠) ، والآفات العارضة ، ويستدع

__________________

(١) في (ب) و (د) : ما عبرت.

(٢) يسم : يصف.

(٣) صاعدا : عاليا ، تعبير عن التكبر. وفي (د) : أو يكون.

(٤) واجدا : غاضبا.

(٥) سقط من (ب) و (ج) : من.

(٦) القر : البرد.

(٧) في (ب) و (ج) و (د) : أدته. وهو تصحيف.

أدبه : ملأه. قال كثير عزة :

بلوه فاعطوه المقادة بعد ما

أدبّ البلاد سهلها وجبالها

لسان العرب مادة دب.

(٨) استفزته : أخرجته.

(٩) الأولى وصف نفسه بالخير ، والثانية أن يكون واجدا على غيره.

(١٠) في (ب) : المضة. والممضة : الموجعة.

لنفسه بدرئه لذلك عاجل (١) السلوة ، وينف عنها بوادر الشقوة ، ويعاود ما يديم له السرور، ويدفع عنه المحذور ، ولو ألهم نفسه أحسن ما يلهم ، لزاح عنه خواطر الهمم ، ولم يعدم محمود العاقبة وعلو الذّكر في الفئام (٢) ، والصوت الرفيع في محافل الأقوام ، ولأقصر عن شقشقته (٣) ، وشهد بالفضل لمزايل (٤) طريقته ، ولكنه لم يحم أنفه ، وقل عن مزايلة ما تهواه نفسه أنفه ، فامتشجت (٥) الأدواء في آرابه ، واستلبته رصين (٦) آدابه ، فابتغى السلامة من غير جهتها ، والراحة بعد فوتها.

كلا لن يكون فرع من غير أصل ، ولا جود إلا ببذل ، ولا زكاء مخلوق إلا بفضل ، يجشّم (٧) فيه نفسه المجهود ، ويستدعى به لها الثناء المحمود ، ويجنبها الموبقات ، والشهوات المرديات ، وليس من نفس إلا وهي تراود صاحبها على الهوى ، وتدعوه إلى موارد الردى ، فمن (٨) أعطاها زمامه ، أركبته ردعه ، ومن منعها ما تهوى ، فاز بالرغبى. ففي هذا لكم يا بني : بيان ومعتبر ، ومن لم يستظهر (٩) ، بالحزم على مذاق (١٠) الأخلاق ودناءتها ، ويزجر النفس عن شهواتها ، قصر دون رميته ، ولم يدرك الثناء الذي سما إليه بأمنيته.

__________________

(١) في (ب) : يدرك.

(٢) الفئام : جماعة الناس.

(٣) الشقشقة : التفيهق في الكلام والسرد بلا مبالاة ، شبّهه بالبعير الهائج.

(٤) المزايل : المفارق.

(٥) أنفه : كبره. وامتشجت : اختلطت.

(٦) الرصيك : الثابت والمحكم.

(٧) يجشم : يكلف.

(٨) في (ب) : من.

(٩) ركب ردعه إذا سقط على وجهه. اللسان. وفي (ب) : ردغه. تصحيف. وسقط من (ب) و (د) : من. ويستظهر : يستعين.

(١٠) مذاق الأخلاق : سيئها.

[مؤهلات القيادة]

ومن أحب أن تخضع له غلب (١) الرقاب ، ويقل في طاعته الارتياب ، وينتهى (٢) عند أمره ونهيه ، ويقتدى برأيه ، فليأصر (٣) نفسه من ذلك على ما يريده من غيره ، فإن انقادت لأمره ، وازدجرت عند زجره ، فليضمم كفه من غيره ، على إنفاذ أمره. (٤) لأن تهذيب المرء بطريقته ، يدعو إلى طاعته ، والمقصر عن طلب منفعته تزل موعظته من القلوب ، زلول القطر من الصفوان الصليب ، (٥) فأوقعوا يا بني الموعظة بقلوبكم.

فيا أيها المبتغي الدرك في العاجل ، والفوز في الآجل ، اجعل لك من نفسك موعدا ، تحظ به اليوم وتفز به غدا ، بصدق لا يشاب بالتفنيد ، (٦) ورجاء الموعود وخوف الوعيد ، واسم إلى ما (٧) أحببت من ذلك بالعقل العتيد ، (٨) والرأي السديد ، وأنا سفيرك (٩) فيه بالدرك لما تريد. وإنما أعجز الطلاب ما إليه يسمون ، تعسفهم السبيل التي فيها عن القصد يجورون ، فلم يدركوا ما طلبوا ، ولم ينالوا ما أحبوا ، فعن مواردهم يا بني فازدجروا ، وآثار آبائكم فاتبعوا.

إياك أن تستشهد على نفسك غير معرفتك بها ، ولا تقبل من غيرك تزكيتها ، بما يكذبه فعلك ، ويحيط بضد تزكية المزكي علمك. فإذا توسطت علانيتك ، وصحت سريرتك ، فتيقن بصدق من أطراك بما (١٠) فيك ، ولا يبهجنك (١١) الثناء من المضطر إليك ،

__________________

(١) غلب : أقوى وأشد ، أي : كثيرة الغلبة.

(٢) في (ب) و (د) : وينتهي له عند.

(٣) يأصر : يحبس.

(٤) أي لا يكلف غيره بتنفيذ أمره.

(٥) الصفوان : الحجر الصلب. والصليب : الصلب.

(٦) التفنيد : الخطأ في الرأي والقول.

(٧) في (ب) و (د) : لما.

(٨) العتيد : الحاضر السريع الفهم.

(٩) السفير : الساعي أو الضامن.

(١٠) أطراك : مدحك. وفي (ب) و (د) : أطراك بما هو فيك.

(١١) يبهجنك : يسرك.

ولا يسفه (١) بحلمك مملق مذق ، ولا من يستبيه (٢) معروفك بالتّملّق.

[مراقبة النفس]

يا بني : فإن أقل الناس عقلا ، وأبينهم جهلا ، من صدّق من سواه ، بما تكذبه عيناه ، والعقل آمن أمين ، وأفضل قرين ، فاستأمنه على أحوالك ، وجميع خلالك ، واعرف ما عرّفك. وإذا حمدت (٣) من أحد مذهبا ، فكن لمثله متسببا ، ولكل ما تستنكره من غيرك مجتنبا ، (٤) ولتكثر من مستتر عيوبك وحشتك ، وليقلّ بخفياتها أنسك ، فإن اكتتامها كالمحرض (٥) على أمثالها ، وإذا امتلأ الإناء انكفأ ، وإذا تنوسخ (٦) السّر فشا.

فكن يا بني : لجميع خلالك (٧) متفقدا وداوم على جميل ما به تعرف (٨) ، ولا ترض من نفسك بما تستقبح من غيرك إذا انكشف ، وأردف جميل غدك ، بجميل يومك ، ولا تغتر بستر الله عليك ، فتتعرض لما يندمك عجبا بما يومى به إليك ، وتظن أن سالف الحسنات ، يمحو مؤتنف (٩) السيئات.

ومن استصغر سيئته ، فيوشك أن تحبط حسنته ، ولكل نعمة حاسد يدير بها

__________________

(١) لا يسفه : لا يستخف بعقلك.

(٢) المذق : الذي لم يخلص ودّه. ويستبيه : يأسره.

(٣) في (ب) و (د) : أحمدت. يعني : رأيته حميدا.

(٤) في (ب) و (د) : تجنبا.

(٥) في (ب) : بالحرص مصفحة.

(٦) تنوسخ : انتقل.

(٧) في (ب) : لجميع حالاتك. وفي (ب) : في جميع حالاتك.

(٨) في (ب) و (د) : تعرف غدا. ويبدو أن كلمة (غدا) زائدة. إلا إذا جعلناها بعد قوله : متفقدا. لكن سيبقى قوله : انكشف. بلا سجعة.

(٩) المؤتنف : المستأنف الحديث.

الدوائر ، وبحسبك أن يبصرك (١) بالجميل أهل البصائر ، فيشغب (٢) حاسدك ، فيما يرجو أن يهدم به ركنك ، ويمعن في الطعن عليك في كل ندي (٣) مشهود ، ليقبض (٤) المتفوّه فيك بكل أمر محمود ، فينقبض انقباض المحسور ، ولا يجد السبيل إلى التغيير.

وأحذرك يا بني : البغي ، والتهمة والظن ، فإنهما ملصقان ، بكل إنسان ، فلا تجعل لمتهمك إلى تهمتك سبيلا ، ولا تكن في غيرك بما تكره أن يقال فيك قئولا ، وانظر ما كنت به مما يوجد به السبيل إلى الطعن عليك فعولا ، فكن له قاليا وعنه حئولا ، (٥) مع نظرك ، لنفسك. وإن أردت أن تظفر من الدنيا بزينتها وزخرفها ، وعزها وشرفها ، وبالبهاء الذي يستنار به في كل مكان ، والثناء الذي تسير به الركبان إلى جميع البلدان ، فعليك يا بني : بالطاعة التي لا تدفع بالعصيان ، والمحبة المنتشرة بكل لسان ، فاجعل المروءة لك شعارا ، والصيانة لنفسك دثارا ، (٦) فإن من صابرهما ، وألزم نفسه الصبر عليهما ، تغرنق (٧) في الغرانيق العلى ، وتمكّن في قلل الشرف القصا ، (٨) وإن لم يكن ذا غرض من الدنيا.

يا بني : والمروءة غير مبيعة بثمن ربيز ، (٩) ولا حرز حريز ولا مطلب عزيز ، ولو لم يدركها الرائمون ، (١٠) إلا بجزيل ما يطلبها به الطالبون ، لكان ما تعيد وما تبدي ، أجزل منه وأوفر في العواقب والبدي ، (١١) ولو كانت لا توجد إلا في أبعد الأمصار ، أو

__________________

(١) في (د) : ينصرك.

(٢) يشغب : يهيج.

(٣) في (ب) و (د) : كل نادى ندي. والندي : المجلس.

(٤) في (ب) و (د) : لينقبض.

(٥) في (ب) و (د) : رحولا.

(٦) الشعار ما يلي البدن من الثياب ، والدثار ما علا منها.

(٧) تغرنق أي : سما وارتفع إلى مقام رفيع حسن. والغرنوق : طائر أبيض سمّي به لبياضه.

(٨) القلل : القمم. والقصا : جمع قصوى.

(٩) في (ب) : ربين. وفي (د) : رئيز وكلاهما مصحفة. والربيز : أي : الضخم الكثير.

(١٠) الرائمون : الطالبون.

(١١) البدي هنا : بداية الأمر.

في لجج البحار ، بالقناطير المقنطرة (١) من الأمور الكبار ، لكان الواجب على ذوي العلم بخطرها ، (٢) والمعرفة بقدرها ، التعلق بأغصانها ، والبذل للنفيس من أثمانها. لكنما اشتملت عليها داياتك ، وحبيت عليها مستكنّاتك (٣) حتى تبثها عنك إذاعتها ، وتشيع لك فضيلتها ، بأن تمسك عن الأمر المردي ، وتعرض عن القبيح الذي لا يغني ، (٤) وتملك نفسك فيما ملكت ، من كبار الأمور وصغارها. تم ربع كتاب المكنون بمنّ الله وعونه ، وحسن توفيقه.

[المروءة]

يا بني : ولا تجر عن قصد السداد ، فيما أنت فاعله وتاركه إلى يوم التناد ، وكل ما أوجبته عليك الحقوق ، تأدّيت منه إلى كل عدو وصديق ، فافهم (٥) ، يا بني : ما أصّلت لك من فروع الأدب والحكمة.

ومن زعم أن المروءة لا تصلح إلا بالمال ، فقد أضلّ في المقال ، لأن المروءة قد تنقاد لذوي الإقلال ، وتصاعب على ذوي الأموال.

وللمال موقع من بعض القلوب ، يكاد أن يخرج صاحبه إلى الأمر المعيب ، حتى تذهب مروءته ، وتغلب عليه حلاوته ، فتنهدّ ذروته ، وينطمس كرمه وحريته.

وللمروءة في المال أنصباء ، تتشعب فيه شعبا ، وليست المروءة بمعدومة في أحد إذا جد في طلبها ، وأتاها من بابها ، وليست لها أثمان تباع بها ، إنما هو جميل تقوله ، أو خير تفعله ، أو معروف تبذله ، أو إقصار عن الاكثار إذا لم يكن للكلام موقع ، فهذه خلال

__________________

(١) القناطير : جمع قنطار والقنطار مائة مثقال. والمقنطرة : المتممة.

(٢) خطرها : شرفها.

(٣) داياتك : جمع دأي وهي غراضيف الصدر. في (ب) و (د) : حنيت. وفي (أ) و (ج) : جنيت. وكلاهما مصحفة. والصحيح : حبيت. لأن معاجم اللغة لم تذكر في جنيت أو حبيت معنى يؤدي ما عناه الإمام هنا ، بخلاف حبيت. ومعناه : اتصلت. والسّكنة بكسر الكاف مقدم الرأس من العنق.

(٤) في (أ) : يعني.

(٥) في (ب) و (د) : فافهموا ...... لكم.

يكون لك بها في (١) المروءة قدر وموضع ، تستوجبه (٢) بها ، إذا لم يمكنك الاستكثار من غيرها ، وكلما ازددت ، أدركت ما طلبت ، وقد أوضحت لك ما تطلب به المروءة بأحسن الإيضاح ، وكنت لك أنصح النّصاح ، فإن أخذتها باللّين ـ يا بني ـ سلس لك (٣) مقودها ، وإن غلّظت شسع عنك عتيدها (٤) ، وصار نحسا عليك سعودها ، فأسعد الأدب يا بني بالحكمة.

[الحسد]

وإياك والحسد فإن للحسد نفرة على صاحبه مضرة ، فأبرده عند اضطرام تسعّره ، بكثرة التبكيت ، وتعريفه صغر صاحبه الممقوت.

يا بني فإن الحاسد لا يدرك في حسده نقيرا ، ولو أزيح عن المحسود ما حسده عليه لم يظفر منه قطميرا ، (٥) وليس من أحد من المخلوقين إلا وعليه من الله نعمة ظاهرة أو مكتتمة ، أصناف مقتسمة ، صغير ما يولي الله العبد منها ويبليه ، ويهب له ويعطيه ، من (٦) صحته ، وطول عافيته ، وما يصرف عنه (٧) من البلوى ، خير له من ما بين الأرض والسماء. يا بني: وكم من ذي نعمة متجددة ، يحسده من دونه على نعمة منتكّدة ، ولو أشعر نفسه ما يجب عليه من شكر المنعم ، كان ذلك أزيد للنعم وأصرف للملمّ (٨).

وفي الحسد ست خصال :

* طول الاغتمام بما لا يجدي.

__________________

(١) سقط من (أ) : بها. وسقط من (ب) : في.

(٢) في (ب) و (د) : تستوجب.

(٣) سقط من (ب) : لك.

(٤) شسع : بعد. والعتيد : المعد الحاضر.

(٥) النقير : النكتة في ظهر النواة ، والقطمير : القشرة التي على النواة.

(٦) في (ب) و (د) : في.

(٧) في (ب) : وما يصرف به من البلوى. وفي (ج) : به عنه البلوى.

(٨) الملمم : ما يلمّ بالإنسان.

* وكثرة الاهتمام بما لا يغني.

* وتكدير المعاش.

* والخساسة عند الأخيار والأوباش.

* وحرقة القلب.

* ومضادة الرب.

واعلم يا بني : أن البغي داء لا دواء له ، فمن كثر في المحظوظة (١) تشكّكه ، طال في البغي محكّه ، والبغي فرع الحسد الأعظم ، وبه تحل النقم ، وتزلزل القدم ، والباغي مخذول ، مفلول ، (٢) والمبغي عليه بالخبر (٣) عن الله مؤيد بتعجيل النصرة ، في الدنيا والآخرة ، (٤) فإياك والبغي أن تلهج به فتكون صريعه الذي لا ينتشع ، (٥) وقتيله الذي لا يمتنع.

[مفردات أخلاقية]

وأحذرك يا بني : العجلة وإياك أن تكون عجولا ، فيما تجد إلى التثبت فيه سبيلا ، وتبيّن في صدور أمورك من (٦) قبل أن تبدو لك عواقبها ، وتنكشف لك (٧) معايبها.

__________________

(١) المحظوظة : إذا كانت من الحظ ، فمعناه ذات الحظ من الرزق ، وكأن مراد الإمام أنه من كثر ريبه وشكه ، وتردده في الموسع عليهم في الرزق فهذا يعني حسدا ، وعدم انقياد وتسليم بالحكمة الإلهية في ذلك ، فمن كان كذلك فقد طال في البغي تماديه ، ولجوجه.

والمحك : التمادي في اللجاجة ، والمشارة والمنازعة في الكلام. وقد استفرغت وسعي في الكشف والبيان ، فلم أجد إلا هذا. والله أعلم.

(٢) مفلول : مهزوم.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) : بالخير ، وهو تصحيف.

(٤) إشارة إلى قوله سبحانه : (ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ) [الحج / ٦٠].

(٥) في جميع المخطوطات : لا ينتعش. وما أثبت اجتهاد ، لتوافق الفواصل المعهود في كلام الإمام ، ومعناهما متقاربان. فمعنى نعش : ارتفع. ونشع : كرب من الموت ثم نجا.

(٦) سقط من (ب) و (د) : من.

(٧) في (ب) و (د) : عنك معايبها.

واعلم ـ يا بني ـ أنك المشار إليه عند عجلتك ، بما تسمعه أذنك ، فيمن قلّ تثبّته ، وذمّ على ما تكسبه عجلته! فأكثر من العجلة التقيّة ، وعلى نفسك من قبح القالة البقيّة ، وإياك أن يوردك الغضب موارد العطب ، ويشعلك إشعال النار للحطب ، فادفعه بالاحتمال قبل أن يضطرم ، فيهريق الدم ويصم العظم ويسلّ (١) اللحم ، فأخمده قبل أن يتلظى ، فإنه إن استعر بهظك (٢) بهظا ، ثم دفن ما كنت تذكر به من المحاسن ، وأعلن ما كنت تكتمه من المقارن (٣).

واعلم يا بني : أن آفة السلطان ، الجور والتجبر على الانسان ، إياك إن كنت سلطانا أن تستظهر ذنوب (٤) المذنبين ، أو تعاقبهم عقوبة المغضبين ، وإن كنت سوقة فما ذا يضرك (٥) مما يلمزك به الناس من المنطق فيما ترجو به الرفعة ، والعلو بعد الضعة ، وإياك أن تغضب على من دونك ، أو تستصغر من فوقك ، وجد بالفضل على من ناواك ، وبالصفح عمن(٦) عاداك.

واعلم أنه لا بد للمكارم أن تعلو ، وللمحاسن أن تفشو ، من ناشر لها يلبسك هيبتها وجلالها ، ونبلها وجمالها ، حتى ينسم عليك روحها ، (٧) ويشيع لك حمدها ، ويتجلى بها عنك الغماليل ، ويرد بها من (٨) قلبك الغليل.

يا بني : عليك بالحلم فإنه ليس يسمى الرجل حليما حتى يملك نفسه عند الغضب ،

__________________

(١) يصم العظم يقطعه. وفي (أ) و (ج) : ويشل. وهي صحيحة أيضا ، فيسل ويشل هاهنا بمعنى واحد.

السليل هو : الذي تخدّد لحمه وقل.

(٢) بهظك : أثقلك.

(٣) كأنها الخصال السيئة ولم أجدها في معاجم اللغة إلا أن الزمخشري قال في أساس البلاغة :

يقال للرجل عند الغضب : قد استقرنت وأردت ان تتفقأ عليّ. من أقرن الدمل.

(٤) أي : لا تفتش عنها وتبحث حتى تظهر لك. وفي (ب) : بذنوب.

(٥) السوقة : الرعية. وفي (أ) : فما يضروك.

(٦) في (ب) : على من.

(٧) ينسم : يهب. والروح : برد نسيم الريح.

(٨) الغماليل : السواتر المغطية. وفي (أ) و (ج) : عن قلبك.

ولا جوادا حتى يفيد إذا ازلأمّ الأزب. (١) وإنما يوصف بالنجدة ، من باشر أهل البأس والشدة. وللمحاسن والمحامد بوآد معتمدة ، تطلّع (٢) إليها الأفئدة ، ثم يبذل فيها الغالي من الأثمان ، وتنضا بها العيس إلى (٣) جميع البلدان ، فمن سرّه أن يشهر بالجميل والاحسان ، فليشهد التي منها يتناقلان ، ثم ليظهر منهما ما يسير به في الآفاق خبره ، ويعظم به في الناس خطره ، ثم ليقوّم من نفسه بحسن التعاهد أودها ، (٤) وليأخذ منها لها ما يزين به غدها ، فإن الأخلاق إذا سمحت ، (٥) والعلانية والسريرة إذا صحّت ، كانت غنائم يرتحل إليها المرتحلون ، وأحاديث حسنة ينقلها الناقلون ، وتبجيلا لصاحبها في العالمين ، وغبطة يغتبط بها يوم الدين.

[الخلق والمال]

والواجب في الأخلاق أكثر من الواجب في الأموال ، وأفضل في جميع الأحوال ، وإنما يعظّم ذو المال ما كان موئلا ، فإذا تخرّم ماله عاد دحيرا قليلا!! والأخلاق لا يبلى جديدها ، ولا يطيش سديدها ، وفضل صاحبها باق في حياته ، وبعد وفاته ، والمال ثوب تخلق جدته ، وتسمل سداه ولحمته (٦).

وأحق الأشياء بالصون العرض الصحيح ، والحسب الصريح ، ومن آتاه الله قلبا ذكيا ، وزنادا (٧) وريّا ، وخلقا مرضيا ، وسخاء مذكورا وعقلا زكيا ، وفهما مرضيا ، وعلما بتقلب الأحوال ، وتصرف الأيام والليال ، ولسانا يؤدي إليه معرفة خلف (٨)

__________________

(١) ازلأمّ : انتصب. والأزب : الشدة والقحط. والمعنى : لا يسمى جوادا حتى يعطي عند الشدة.

(٢) أي : تتطلع. وحذفت التاء الأولى للتخفيف.

(٣) تنضا : تسبق وتقطع. والعيس : الإبل. وفي (ب) : في جميع.

(٤) الأود : العوج.

(٥) سمحت : كرمت.

(٦) تخلق : تبلى. والجدة : مصدر الجديد. وتسمل : تخلق وتبلى. والسدى أعلى الثوب ، واللحمة : أسفله.

(٧) الزناد الوري : الذي خرجت ناره ، وكأنه تعبير عن سرعة الفهم.

(٨) الخلف : كل من يجيء بعد من مضى.

الأزمان ، ويمتهنه فيما يعود عليه نفعه كل الامتهان ، ثم زمّ نفسه عن الكبرة ، (١) واعتاض من التجبر حسن العشرة ، وقلّ افتخاره عند مناظرته ، ولم يستدع نظيره إلى مباحثته ، ولم يجار (٢) المجاري له من طبقاته ، في طريق مساواته. ولم يخرج من القول إلى ما لا يعلم ، ولا من الفعل إلى ما يستعظم ، فقد شرى لنفسه محمدة الحاضر والباد ، واجتهد في مصلحته أشد الاجتهاد ، واستحق التعظيم من جميع من ضمته أقطار البلاد ، واجتمعت له الطرائق (٣) السمحة ، وزاحت عنه المذاهب المستقبحة ، وجرى عليه اسم الخيرة ، ونظرته بالنواظر المبجّلة كل عين مبصرة ، وجاز حد الأكفاء ، واعترف له بالفضل النظراء.

ولا بد أن في كل منفوس ، (٤) آلة تطلع إليها النفوس ، ويفتقر إليها حاجة المفتقرون ، ويتشوف إليها المشوفون. فمن قصّر (٥) عن علمها ، عظم في نفسه صاحبها ، وجل في عينه بحسب ما يدلّه ، عليه عقله ، وحاول أن يكون له على أمره ظهيرا ، وارتفعت عنده درجته من أن يكون له نظيرا ، ومن اتسع بدده ، (٦) لضده ونده ، كان على قدر ذلك عظم شأنه ، وارتفاع مكانه.

وكم من جامع لمال! يجود به لينال هذا المنال ، ويستدعي من الجميع محبتهم ، وينفي به حسايفهم ، (٧) فلا يدرك من ذلك ما يريد ، ولا يؤديه إلى ما يؤمل من العوام ماله الممدود.

__________________

(١) الكبرة : تأنيث الكبر على المبالغة. اللسان.

(٢) لم يجار : يجري معه.

(٣) الطرائق : جميع طريقة. وهي السنة والحال والمذهب.

(٤) منفوس أي : مرغوب. من النفاسة.

(٥) في (ب) و (د) : قصد.

(٦) البدد جمع بدّة : وهي القطعة من المال. والمعنى : من وسع الناس بماله ... إلخ.

(٧) الحسايف جمع حسيفة : وهي النقيصة.

[العلم والمال]

وذو المال ـ يا بني ـ مذموم ومحمود ، وذو العلم موموق (١) مودود ، وفي العظماء معدود ، وعند التباس الخطوب معمود (٢) مشهود ، وبعد الوفاة مفقود ، ومن أتي إليه ما يستنكر (٣) في الملأ ، فتغمد ذلك بصبر وعزاء ، فقد نال من الشرف منالا ، محمودا في الآخرة والأولى.

[الصفح الجميل]

ومن اعتذر إليه ، من أساء في (٤) المقال والفعال عليه ، فأسرع في القبول ، والعطف عليه بالجميل ، فقد أبدى جهل متناوله (٥) بصفحه ، وخسرانه (٦) بزيادته ، وركاكته بركانته ، وطيشه (٧) بحلمه ، وسخافته (٨) بتكرّمه ، وجوره بعدله ، واستطارته (٩) بعقله ، وعجلته ، بمهلته ، وباء المعتذر إليه ، بسوء الصنيع لديه ، وأفاده خير الفوائد ، وألبسه عند من كان به جاهلا ثوب المحامد ، وأعلن (١٠) من نبله ما كان مستترا عن الغائب والشاهد ، وأظهر إعزازه وتطوّله ، بما كان من تذلّله له ، وجثوّه بين يديه ، متنصلا إليه ، ملحا في مسألته ، كالعبد المعترف بزلته ، يبذل له من نفسه الصبر ، ويعطيه التوبة إلى

__________________

(١) الموموق : المحبوب.

(٢) المعمود : المقصود.

(٣) في (ب) و (د) : ما يستنكره من.

(٤) سقط من : (ب) : في.

(٥) في (أ) : مناويه.

(٦) في (ب) : خرابه. وهو تصحيف.

(٧) بركانته : رزانته ووقاره. والطيش : خفة العقل.

(٨) السخافة : رقة عقله وضعفه.

(٩) استطارته : خفته وحمقه.

(١٠) في (أ) و (ب) : وأعلى.

آخر الدهر.

فيا ويح معتذر أسلكته في مضايق الذل عجلته!! وألبسته ثوب الخضوع والاستكانة هفوته ، وأعلنت لصاحبه عليه يدا ، أكسبته حمدا ما كان الأبد أبدا ، ولربّ مغتبط بمنال شريف الثناء ، لو لا ما لا يأمنه (١) من قلة الاغتفار للأذى ، لرغب إلى الله فيه في كل صباح ومساء ، لتعظم باحتماله عند الناس حظوته ، (٢) وتكبر عندهم منزلته ، ومن نزغت به (٣) النزغات فيما بينه ، وبين صنو له ، كان بمودته ضنينا ، (٤) وله على ملمات دهره معينا ، فعزم على مقاطعته ، وباينه مباينة أهل عداوته ، وحاول به الغدر والمكر ليقطع من أسبابه (٥) أسبابه ، وفجع به أحبابه ، ثم لم يدفع غضبه بالرضى ، وصدوده بالوفاء ، ونزغة الشيطان بالحياء ، ويرجع إلى ما هو به أولى ، من محض (٦) الصفاء ، وخالص الإخاء ، ويميز ما مني به من الأمور المؤلمات ، وما كان قد أضحك (٧) به سنه وأطال به سروره في الليالي الخاليات ، فإذا أوضح له التمييز تطاول الحسنات على السيئات ، فأداسها بقدمه ، ولم يصفح عن صنوه وعن جرمه ، فليس من أهل الحكم ، ولا السامين إلى (٨) مراتب الهمم ، وعما قليل سيئول إلى الندم ، إذا تحاماه الإخوان ، وطرقه الزمان ، بما ليس له عليه أعوان.

وإن سلّ من قلبه السخائم ، (٩) وجرى في ميدان المكارم ، ولم يأت أمرا يكره أن

__________________

(١) في (ب) : لو لا ما يأمنه.

(٢) حظوته : مكانته.

(٣) في (ب) : فيه.

(٤) ضنينا : نجيلا. والمعنى أنه كان حريصا كل الحرص على مودته وصداقته.

(٥) السبب الحبل والمراد قطع علاقته به.

(٦) المحض : الخالص.

(٧) الضاحك : كل سن يظهر عند التبسم. والمعنى هنا إدخال السرور عليه حتى بدت ضواحكه من الفرح.

(٨) في (ب) و (د) : في.

(٩) السخائم : الأحقاد.

يؤتى إليه مثله ، سكن غليله ، (١) وصفت له عيشته ، وطالت سلوته ، وكثرت راحته ، ورسخت في القلوب محبته ، ونقيت من صدره ضغينته ، وأشرقت بالفضل صفحته ، وعادت له من صنوه مودته ، وتأكدت في رقبته منته. ولعله إن طال تمعزه ، (٢) أن يكثر عما يروم به عجزه ، فيريه (٣) الغيظ والحرد ، ويغلغله (٤) الحزن والكمد.

تم نصف كتاب المكنون والحمد لله رب العالمين.

ألا وإن أحمد الناس مذاهب ، وأكملهم ضرائب ، (٥) وأحسنهم فعلا ، وأرسخهم في اللب أصلا ، من تجافى عن هفوات إخوانه ، ووادع (٦) أيام زمانه ، وصاحب بالمسالمة خدينه ، (٧) وبالمناصفة قرينه ، ورضي من دهره بالموجود في غيره ، وساير الناس كلا على ما طبع عليه في عصره ، فإن أعظم النوائب ، وأقبح النواكب ، أن يسكن قلبك البغضة لمن كنت له وامقا ، (٨) وتقل ثقتك بمن كنت به واثقا ، وتستوحش ممن كان لك نصيحا ، وكنت إليه حين تحزبك (٩) الأمور مستريحا.

واعلم يا بني : أن الحقد والحسد والغضب إذا اعتلجت في قلب أوقدته ، وأعمدته(١٠) وأقلقته ، فربما تهيّج من ذلك الداء المستكن (١١) فاستوحش له البدن ، وأظهر من غوامض الأوجاع ما بطن ، فتغيرت لذلك الطبيعة ، واستدعيت القطيعة.

__________________

(١) في (ب) : عليه. وهو تصحيف. والغليل الحقد.

(٢) تمعزه : بخله.

(٣) في (ب) و (د) : فيريه به. ولعلها فيبريه الغيظ والحرد ، يعني يسقمه وينحله حتى يكون كالسهم المبري.

(٤) الحرد : الغيظ والغضب. ويغلغله : يدخل فيه أو يدخله في.

(٥) الضرائب : جمع ضريبة وهي : الخليقة والطبيعة.

(٦) وادع : هادن وصالح.

(٧) الخدين : الصديق.

(٨) الوامق : المحب.

(٩) حزبه الأمر : نزل به.

(١٠) أعمدته : أحزنته.

(١١) المستكن : الكامن الساكن.

فالواجب على الأريب (١) العاقل ، أن يسلو فيما نزل به سلوّ الذاهل ، (٢) وأن (٣) يتسبب لدفع ما ألظّ به من (٤) محاورة الأوداد ، بالملاينة وترك البعاد ، وإخماد ما يتشبب (٥) بالأحقاد ، ويتطلف للمسالمة والراحة ، وما فيه عائدة المصلحة ، حتى يعود إلى ما تعوّد من السرور في قديم العهد ، ويبعد عنه خواطر البال أشد البعد ، ويدفع عنه طول (٦) الحمية ، وبعد أهل الجاهلية ، فإن الضمائر المذمومة أشر (٧) ذخيرة ، ادّخرها أهل المكرمة والبصيرة ، وليس تنجع (٨) المواعظ إلا في ذوي العقول ، وأهل الرأي الأصيل (٩).

يا بني : فأما ذوو الأذهان المستلبة ، الممنوعون حسن النظر في العاقبة ، فغير سادّين (١٠) ببصيرة ولا فكرة ، في أمر (١١) دنيا ولا آخرة.

فصاحب الناس بحسن المعاشرة ، وألبس كلّا بالمساترة ، ولا تثقنّ بكل أحد فتعجز ، وكن هينا لينا كثير التحرز.

[واجبات الأخوّة]

وآخ من آخيت بالستر لعورته ، والإقالة لعثرته ، ولا تطل معاتبته إذا هفا ، ولا

__________________

(١) في (ب) و (د) : الأديب.

(٢) ...

(٣) في (أ) و (ج) : الذاهن ، تصحيف. وسقط من (ب) و (د) : أن.

(٤) ألظ : لزم. وسقط من (ب) : من.

(٥) يتشبب : يتوقد.

(٦) في (أ) و (ج) : ويرفع. والطّول : المن والعلو. والحمية : الأنفة والغيظ والغضب والغيرة.

(٧) في (ب) و (د) : أشد.

(٨) تنجع : تؤثر.

(٩) الأصيل : الثابت العاقل.

(١٠) في (ب) و (د) : للعاقبة. وسادين : مصيبين.

(١١) في (أ) : أمور.

جفوته إذا جفا ، ولا تأخذه بالغاية القصوى ، فإن زل فأقل ، وإن قصّر فاحتمل ، وإن كملت عندك بصدق المعرفة خلالك ، وتيقنت أنك لا تجد كفؤا لك في مثل أخلاقك ، فلا تمحض مودتك لمن يكون بمعزل ، عما لست عنه فيه بذاهل ، واطّرح عنك ثقل مئونته ، وأدرج (١) له في مثل مودته ، فإن للناس مذاهب مختلفة ، وأخلاقا غير مؤتلفة.

يا بني : فإن الكامل (٢) في جميع الحالات ، المعدود في أهل المروءات ، لا يكلف الأخلاء ما يعدم في الطبع الذي ركّبت عليه الأجسام ، ولا يحمّلهم ما تقصر عن بلوغه الأفهام ، فلا تراود أحدا على ما لا يوجد في خليقته ، فتكون قد ظلمته بمراودتك له على معنى لا تناله مقدرته.

يا بني : وخالق الناس بالبشر والبشاشة ، واللين والطلاقة ، وسلامة الضمائر ، واستدعاء ما إليه يشخصون في الظاهر.

يا بني : وكن سهل الجناب (٣) تحمد ، وأكثر التّبذّل (٤) ترشد وتسعد ، ومن عاشرته من الناس يا بني فعاشره على قدر عقله ، ثم سائره على حسب ساعات نهاره وليله ، واجر مع كل يوم كما يجري ، فإن الأيام تقلّب المرء أطوارا وإن كان لا يدري ، فلا يذهب بك القياس ، إلى ما كان عليه في أمسك الذاهب الناس ، فإن لكل يوم وليلة ممرا ، (٥) يحول فيه عن سالف خلائقه المرء ، فإن من (٦) سعى مع يومه بغير ما يوافقه ، وخالقه بغير خلقه ، طالت (٧) معتبته على الصديق ، وكان كالسائر في غير الطريق ، فلا تذهب نفسك بالحسرات ، في طلب الوفاء ممن ليس لك بالموات ، (٨) ولا تشغل قلبك

__________________

(١) الإدراج : النزع قليلا قليلا.

(٢) في (ب) : الكل. تصحيف.

(٣) الجناب : القياد.

(٤) التبذل : ترك التصاون. والمعنى مخالطة الناس بلا كلفة.

(٥) في (أ) : ضمرا (تصحيف).

(٦) سقط من (ب) : من.

(٧) في (ب) : طلب. تصحيف.

(٨) الموات : الموافق.

بالتفكر فيمن يخيس (١) بعهدك ، فإنك إن عثرت لك قدم ، أو نزل بك ملمّ ، (٢) صرف وجهك عما كنت تشخص إليه منه باليأس ، وأخلفك حسن الظن فيه كما أخلف من كان قبلك من الناس ، فاقطع عنك هذا الطمع الكاذب ، ولا تسلك بين جوانحك الرجاء الخائب ، واقبل ما به حبيت ، (٣) وإليه دعيت ، بالرأي الجازم ، والعزم اللازم ، فإنك خليق عند القبول ، والعمل بما أقول ، أن لا تنقطع مروءتك (٤) حين يصد عنك الخليل إذا أسلمك عند النازل بك ، وأفردك بما يسكن جوى (٥) الأحزان في قلبك.

فتأدب يا بني : بأدب آبائك ، واطرح عنك صفحا من يمزج لك من لسانه العسل ، ليوهمك بغروره (٦) أنك تحل منه في أرفع المحل (٧).

يا بني : إياك والطمأنينة إلى من قد حبيت (٨) على النكث جوانحه ، (٩) وركّبت على الغدر جوارحه ، فكن لأوليائك متهما ، ومنهم متسلما ، وباليأس من (١٠) من وفائهم عالما ، فإذا صار ذلك في صدرك مستحكما ، فانظر ما كنت تطمع به منهم ، فكن أنت على مثله لغيرهم ، تضرب إلى بابك القلائص ، وتشخص (١١) إليك عند النوائب العيون الشواخص ، وتصير كهفا للاجئين ، ومعتمدا للقاصين ، وزينا للأقربين.

إياك يا بني : أن تستن بسنن أهل الاختيال ، أو تعمل بعمل يستقبح من الأعمال ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : يختر. وكلاهما بمعنى يغدر.

(٢) في (ب) و (د) : مهم.

(٣) حبيت : خصصت.

(٤) في (أ) و (ب) : مودتك.

(٥) الجوى : الحرقة وشدة الحزن.

(٦) سقط من (ب) : بغروره.

(٧) في جميع المخطوطات : ليوهمك بغروره أنه يحل منك في أرفع المحل. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٨) حبيت : اتصلت.

(٩) الجوانح : الضلوع.

(١٠) في (أ) : وتأس مصحفة.

(١١) القلائص : جمع قلوص وهي : الناقة. وتشخص : ترتفع.

وإن كان ذلك في الناس كثيرا ، وفي غيرك مشهورا ، فإنما يستحق اسم السؤدد ، (١) عند كل أحد ، من قلّ اختياله ، واستحسنت أعماله ، وجاد بالمعروف ، وعطف بالفضل على الضعيف ، وطبع (٢) نفسه بطابع المروءة ، وصانها عن الأخلاق المذمومة ، ومن صح عنده كرمه ، وظهرت على غيره نعمه ، وزال (٣) لمزايلة ما تهواه نفسه ذمّه ، برّز في السبق ، وصار محمودا عند الخلق ، وبان عن سواه ، وتكاملت (٤) أسبابه ، وليس كل عاقل مفضل بعقله ، (٥) حتى يحتمل من عاذله كثرة عذله ، فلا تؤدب العاقل بما يستثقل ، (٦) ولا تحمّله ما لا يحتمل ، فإن مداوي الجرحى ، قد يحميهم ما لا يحمي منه الأصحاء. وليس بطبيب ولا برفيق ، من أمر (٧) من الدواء بما ليس له المأمور بالمطيق. ومن ادعى المعرفة بالتفرّس قبل الامتحان ، فقد سبح في الغمر (٨) الذي ليس له به يدان (٩).

[أصناف الناس]

يا بني : الناس رجلان ، فرجل ذو عين باكية ، على ممر أيامه الخالية ، متأسّن على أخدان له سلفوا ، وآلاف (١٠) له انقرضوا ، يشرق (١١) بغصته ، ويأخذه الشجا (١٢) في

__________________

(١) السؤدد : الشرف.

(٢) في (ب) : ويطبع نفسه بطابع.

(٣) في جميع المخطوطات : وطال لمزايلة ، ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) في (ب) : ما تكاملت : تصحيف. ولعل في العبارة سقطا.

(٥) في (ب) : بفعله.

(٦) في (ب) : يستقبل. تصحيف.

(٧) في (ب) : أمر من بالدواء.

(٨) الغمر : الكثير.

(٩) يدان : قوة.

(١٠) آلاف : جمع إلف ، من الألفة.

(١١) يشرق : يغص.

(١٢) الشجا : ما اعترض في الحلق من عظم وغيره.

حنجرته ، فلا يتهنأ بطعم ، ولا يتلذذ بنوم ، فقدا لسالف معاشريه ، وتوجعا على ما فاته من قديم عهده بمؤالفيه ، حتى (١) كأن لم يفارق مصافيا ، ولم يعدم مؤاخيا ، إلا في ذلك الحين الذي هو به ، (٢) فحرقته لا تنجلي عن قلبه ، فذلك المواسي عند حلول النوازل ، الجواد بمهجته في الخطوب الجلائل ، الذي لا يلهيه عن الاحتيال فيما يحل بأخدانه ، من (٣) نوائب أزمانه ، حتى تنجلي بهمتها ، (٤) وتنكشف كربتها ، فذلك الرقيق قلبه ، المداوم على الحفيظة إربه ، (٥) فاشدد به يدك ، (٦) تقرّ عينك ، من غير أن تترك الاحتراس ، لتقلّب الأيام بالكثير من الناس.

وآخر ساه عن ذكر من تولى ، كثير السلو عند نزول القضاء ، طويل الغفلة عما يلظّ(٧) بالأخلاء والأقرباء ، دائم الجفوة والقسوة ، إذا انقضت ساعته ، انجلت غمته ، وبردت حرقته ، فذلك الذي لا يرنق (٨) صفوه كدر ، ولا يثق بوفائه بشر.

يا بني : ومن أحب أن يصلح خلقه ، وتسدد إلى الخيرات طرقه ، فليصحب الكرام ، وليقلّ ـ فيما يعود وبالا عليه ـ الكلام ، وليصن لسانه عن مفاكهة اللئام ، ونفسه عن مخالطة الكهام. (٩) وليس من مخلوق إلا وله دليل يستدل به عليه ، وسائس يشرع (١٠) بالأبصار إليه ، فصن نفسك يا بني عن موضع الرّيب ، ومهازلة الحمقاء.

واعلم يا بني : أن مخالة الرعاع والأوباش والأوغاد ، (١١) ربما آل بالطبع الحسن إلى

__________________

(١) في (ب) : الذي كان. تصحيف.

(٢) في (ب) و (د) : فيه.

(٣) سقط من (ب) و (د) : من.

(٤) البهمة : الظلمة والسواد.

(٥) إربه : عقله.

(٦) في (أ) في (د) : يديك.

(٧) يلظ : يلم وينزل.

(٨) لا يرنق : لا يكدر. أي لا يهتم بما نزل بأصحابه فيتكدر صفوه.

(٩) الكهام : البطيئون عن النصرة.

(١٠) يشرع : يفضي ويقبل.

(١١) المخالة : المصادقة. والرعاع : الأحداث الطغام ، ومن لا عقل له. والأوباش : الأخلاط. والوغد : ـ

الفساد ، غير أن المغرس إذا كان كريما ، والفرع محضا صميما ، (١) أيقظ المرء عن سنته ، ورده إلى أوليته ، ومحّض من العلل درن غريزته ، ومن ريض (٢) ولا غريزة له بأدب سلس ثم رجع إلى الحران (٣) ودحض به عن الاستقامة القدمان ، وقلّما انفردت غريزة من (٤) عقل ولا عقل من غريزة ، فمن طبع على واحد منهما كان الآخر له لاحقا ، ومن خلا من واحد منهما كان الآخر له مفارقا ، ومن ألان جناحه للمخاشن ، (٥) وجعل وجهه بسطا (٦) للملائن ، وألقى مقوده إلى المحاسن ، فقد ارتقى في ذروة المكارم ، واستعين به على العظائم ، واقترف الحمد من المباعد والملائم (٧).

[مكارم الأخلاق]

يا بني : فتعوّد القول الجميل ، وأصبر على ذلك نفسك صبر الحازم البهلول ، (٨) وآس (٩) من رآك لحاجته أهلا بالكثير والقليل ، ولا تشخص بطرفك ، إلى مكافأة الممتاح(١٠) لعرفك ، فيذهب (١١) صنيعك ضياعا ، وتكون بمنزلة من أعطى صاعا ليأخذ

__________________

ـ الأحمق الدنيء الضعيف العقل.

(١) الصميم : الخالص.

(٢) الدرن : الوسخ والقذر. والغريزة : الطبيعة. وريض : من الرياضة.

(٣) الحران : الوقوف. يقال : فرس حرون لا ينقاد ، إذا اشتد به الجري وقف.

(٤) في (ب) : عن.

(٥) المخاشن : الصعب الغليظ ، الذي لا يطاق.

(٦) بسطا : متهللا.

(٧) الملائم : الموافق.

(٨) البهلول : العزيز الجامع لكل خير.

(٩) من المؤاساة.

(١٠) الممتاح : القاطع. يقال : متح الشيء إذا قطعه من أصله.

(١١) في (ب) و (د) : فتذهب صنيعك.

صاعا ، وإياك ومذاقة الأخلاء ، (١) والاستطالة بالغناء ، والاستقصاء في شيء من الأشياء.

وألزم نفسك يا بني (٢) : الكرم والتذمم ، (٣) وقلة التعظم ، وأعظم شأنك بالتصمامم(٤) عن اللغو المنكر ، وبالتغافل عن الأمر المصغر.

يا بني وكن للراغب إليك وصولا ، وللضعيف الطارئ عليك منيلا ، (٥) بذات يدك إن أمكنك ، أو بجاهك (٦) إن أعجزك ما أمّل منك ، ولا تتبع عورات الجيران والجارات ، ولا تبحث عما استتر عنك من العثرات ، وتغطّ بستر الله عليك قبل أن يهتك بحثك عن أستارك ، فينكشف ما استتر من عوارك (٧).

[الكذب]

وتهذّب من الكذب ، فإنه مسخطة للرب ، مفسدة للقلب ، ضعة للنبيل ، (٨) نقص لذوي العقول ، وهو ضرب من الفحشاء ، وشيمة من شيم الحمقاء ، ورأس مال أصحاب المنى ، وربما استحلت به الدماء ، وركب به الدهماء ، (٩) واستبيحت به القرى ، وعظمت به البلوى.

فكن يا بني لعرضك منه (١٠) صئونا فإنه إذا تضمنته الأحشاء ، جاشت ..

__________________

(١) في (ب) و (د) : ومداقة الأخلاق. ومذاقة الأخلاء : الذين لم يخلص ودهم.

(٢) في (ب) و (د) : يا بني ألزم نفسك.

(٣) التذمم : الترفع عما يوجب اللوم. والذمام أيضا : الحق.

(٤) التصامم : مصدر تصامّ. أي أرى غيره الصمم وليس به ، والمعنى الإعراض عن اللغو.

(٥) من الإنالة : الاعطاء.

(٦) في (ب) : بجاهل. تصحيف.

(٧) عوارك : عيبك.

(٨) النبيل : الذكي النجيب الفاضل.

(٩) الدهماء : الداهية.

(١٠) في (ب) و (د) : عنه.

(١) به إلى الصدور الحوباء ، ثم تلقلق (٢) به اللسان ، وفشى منه الكتمان ، وفارت به الشفتان ، فوران المرجل بوقود (٣) النيران.

يا بني : وإذا تمكن من قلب خرب ، وغلب عليه كل الغلب ، وكاد لا يفارقه آخر الحقب. وكم من صاحب له يريد انتزاحه (٤) منه فلا ينتزح ، وإصلاح لسانه منه فلا يصلح ، لكثر غلبته ، وشدة ضراوته ، (٥) والكذب مجانب للحق ، مكذّب من عرف به في الصدق.

[قواعد أخلاقية]

فتأدب يا بني : بأحسن أدب المتأدبين ، واقتد بهدى الصالحين ، واستغش (٦) بثوب السلامة ، ولا تدرّع سرابيل الملامة ، وتودد للخاصة والعامة ، وأجمل البشر (٧) في اللقاء ، للعدو ولذي الصفاء ، وابذل له الانصاف في كثرة الاصغاء (٨) لكلامه ، والاستماع لحديثه ، ولطف الاجابة له على مقالته ، والمكافأة بما ترضيه في عشرته ، واستبرز (٩) في حديثه ، ولا تستطل ريثه ، (١٠) فإن لكل واحد في نفسه قدرا ، كبيرا كان أو صغيرا ، وأكثر تبسطه (١١) إليك ، وقاربه ليألف ما لديك ، واستعمل عقلك في كل زمان بما

__________________

(١) جاشت : غلت وفاضت.

(٢) الحوباء : النفس ، وروع القلب أيضا. وتلقلق : تحرك.

(٣) المرجل : القدر. وفي (ب) : بوقد.

(٤) انتزاحه : إبعاده.

(٥) ضراوته : عادته.

(٦) التغش : تغط.

(٧) البشر : الطلاقة.

(٨) في (ب) : الاستماع.

(٩) استظهره. أي : اطلب ظهوره ووضوحه.

(١٠) ريثه : إبطاءه.

(١١) نقيض القبض.

يصلح له من الأدب ، واسع مع أهله في كل عدو وخبب ، يفر (١) لك عرضك ، وتستوطئ (٢) بك أرضك ، ويستحكم لذلك إبرامك ونقضك ، ويستتر عنك مدّعي بغضك.

ولا تحمل الحقد على أترابك ، ولا تحملنك المماحكة (٣) في الأحكام ، على ملادّة (٤) ذوي الأحلام ، فربما أورث المحك الشحنا ، وأبان لك من خليلك ما كان عنك مستكنا(٥).

تم الجزء الثالث من المكنون والحمد لله رب العالمين.

واقبل نصيحة من حباك بنصيحته ، واتعظ لموعظته ، لا تجانب السداد ، واحتمل قوارع (٦) الفؤاد ، واسل عما كنت له آلفا ، حتى تظفر بما صرت (٧) له مستأنفا ، وتصرّف (٨) لك نفسك تصرف الذلول في زمامك ، (٩) وتكون عيوبك أمامك ، ترمقها بعين العيافة،(١٠) حتى تعود إلى ما به أمرت من المؤالفة ، وإياك أن تكون على ما لا تمقه (١١) من غيرك مقيما ، فتكون عند الناس مذموما ، ولا تدع إصلاح ما يذمه منك غيرك ، باجتنابك له ما مدّ لك عمرك.

يا بني : فإن عجزت عن استئصاله ، فحل به بالتحلق عن محالّه (١٢).

__________________

(١) الخبب : المشي السريع. ويفر : يبقى كثيرا لا ينقص. والمعنى لا يشتم.

(٢) تستسهل وتستلين.

(٣) في (أ) و (ج) : تحملك. والمماحكة : اللجاجة.

(٤) خصام وجدل.

(٥) مختفيا.

(٦) النوازل الشديدة.

(٧) في (أ) و (ج) : كنت.

(٨) أي تتصرف. حذفت التاء تخفيفا. كقوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا).

(٩) في (ب) و (د) : زمانك. تصحيف.

(١٠) ترمقها : تنظرها شزرا. والعيافة : الكراهة.

(١١) تحبه. من المقة.

(١٢) استئصاله : قلعه من أصله. وحل به : أزله واذهب به. وفي (ب) و (ج) : بالتخلق. والتحلق : الترفع. ـ

[الكبر]

يا بني : واجتنب الكبر فإنه رداء الجبار ، والمعطل للديار ، والمحل لصاحبه دار البوار ، والمغير للانعام ، والمعجل للانتقام ، وعليك بتحصيل الأشياء وفحصها ، وقرع أبواب زيادتها ونقصها ، وتصريفها على جهتها ، وقلة العجلة في التبصر بها ، حتى تتضح لك آثارها ، وتسفر لك أوجهها ، ثم استقبلها في أوان العنفوان ، (١) ولا تنقد بالهوى إلى الوخم (٢) من الأعطان ، فتجرحك الأوهام ، ويصرعك (٣) ما ليس لك عليه قوام ، فقد عاينت جرحى الأيام ، وقلة رأفتها بالكرام ، وكثرة رجوع صرعاها على أنفسهم بالملام.

[شهادة الليل والنهار]

واعلم يا بني : أن الليل والنهار ينقرضان ثم لا يعودان ، وبالحسن والقبيح يمران ، وعلى كل صغير وكبير أفعاله يثبتان.

يا بني فإن قدرت أن تدفع (٤) في كل ساعة تمر بك موبق (٥) السيئات ، بصالح الحسنات ، وتبني مكرمة تحظى (٦) بها يوم القيامة ، وتنجو بها من الندامة ، ويثلج بها في الدنيا صدرك. ويفسح لك بها قبرك ، فافعل وعجّل ثم عجّل ، وأنت في حين (٧) المهل ، ولا تكثر التسويف فيطول عتبك ، وينقضي بخطل (٨) يومك ، فإن في ساعات الليل

__________________

ـ يقال حلق النجم إذا ارتفع. ومحالّه جمع محلّ. أي : مكانه.

(١) عنفوان كل شيء : أوله.

(٢) الوخم : الرديء. والأعطان : جمع عطن وهي مبارك الإبل ومواضعها.

(٣) في (ب) : وتصرعك بما.

(٤) في (ب) : ترفع.

(٥) في (ب) : موثق.

(٦) تخطى : تنال المنزلة والمكانة.

(٧) في (أ) و (ج) : فأنت. وسقط من (ب) : حين.

(٨) في (ب) و (ج) و (د) : وينقضي بحظك. والخطل : المنطق الفاسد المضطرب.

والنهار سجلات مطوية ، تؤدي ما استودعت بصدق الرّويّة ، (١) فضمّنها الجميل تؤدّ عنك باقيا ، كنت أو فانيا ، كحسب ما أدت من الودائع ، في الليالي الخوالع ، (٢) من مكارم الكرام ، ومثالب اللئام ، ثم لم ينطمس ذلك مع الرسوم (٣) الطوامس باقيا ما بقيت الدهارير ، (٤) حتى تحيط بالعالمين ملمات المقادير.

وكل من لم يسمك (٥) على ما بنت له الجدود ، بناء يعلو له فيه التشييد ، فالمحامد منه بعيد ، وركن الشرف الذي اعتمد عليه مهدود ، لأن الساكن في غير ما يحوي فهو (٦) منه خارج ، يا بني : ومن لم يشرّفه فعاله فليس في شرف سلفه بوالج ، (٧) إذا لم يزيّن الشرف التليد ، (٨) بالفعال الحميد!! لأن السلف الماضين ، إنما شرفوا في الخلف الباقين ، بالمكارم المعدودة ، والخلائق المحمودة.

[رقابة الناس]

يا بني ومن أسّس له أوّلوه أركانا ، ثم لم يعل عليها بنيانا ، فهو بمعزل مما أسسوا ، خلو عن رباب (٩) ما اغترسوا!! ومن أحيا بعز أيامه أيام الآباء والأجداد ، فاش ذكره كما فاش(١٠) ذكرهم في العباد والبلاد ، فلا تكذب نفسك الخبر ، فإنه سيمحض منك

__________________

(١) الروية : التفكر في الأمر.

(٢) الخوالع : الذاهبة المنقضية. وفي (ب) : الجوامع.

(٣) الرسوم : الآثار.

(٤) الدهارير : تصاريف الدهر أو نوائبه. مشتق من لفظ الدهر ليس له واحد من لفظه.

(٥) يسم : يرفع.

(٦) سقط من (ب) و (د) : هو.

(٧) بوالج : بداخل.

(٨) التليد : المال القديم الأصلي. والمراد هنا الشرف القديم المكتسب من الأجداد.

(٩) الخلو : الفارغ. وفي (ب) : عن أرباب ما أسسوا. والرّباب : دبس كل ثمرة ، أي عصارتها ، بعد الاعتصار أو الطبخ.

(١٠) فاش : انتشر.

المختبر ، (١) عيون جساسون ، عيّانون بحاثون ، ولخطئك (٢) محصون ، ولما يكون منك حافظون ، فجنب قدمك مواضع الدّحضات ، (٣) ولا تسع بها في مهايع (٤) المنكرات ، فإن الناس ، حفظة على الناس ، ما يأتون وما يذرون ، فربما ذكّروا (٥) المرء في الأحيان ، بسالف ما ذهل عنه بالنسيان ، (٦) وأتاه عنهم ما قد غيب عن فكر (٧) الأذهان ، فليطل منهم حذرك ، وليكثر لهم قهرك ، بتنزيه نفسك عما يتطلعون (٨) إليه من سقطتك ، ويبتغون هدّه من ذروتك ، وليكن التّرقّي (٩) في ذرى الشرف من همتك. ولا تشب الشك باليقين ، ولا المعرفة بسوء الظنون ، فينتقض ما أبرمت ، ويتغير ما عليه عزمت ، ويلحقك الضعف ، فتقف عن العمل وقوف المغلول من (١٠) الكف.

[القناعة]

يا بني : وإياك وكثرة الحرص ، فإن التخلق به يرجع بك إلى النقص ، ويذهب عن صاحبه الهيبة ، وتكثر له من (١١) الناس الغيبة.

__________________

(١) المختبر : المخبر ، وهو خلاف المظهر ، والمعنى سيطلع الناس ويكتشفون خباياك ، وما أنت عليه من الأمور الباطنة.

(٢) في (ج) : ولخطاياك. وفي (أ) : ولخطيأتك.

(٣) الدحضات : المنزلقات.

(٤) مهايع : طرق.

(٥) في (ب) و (د) : ذكر.

(٦) في (ب) : النسيان.

(٧) في (ب) و (د) : فكره.

(٨) في (ب) : يطلعون.

(٩) ذروة كل شيء : أعلاه. وفي (ب) و (د) : الرّقّي.

(١٠) في (أ) و (ج) : عن.

(١١) في (ب) و (د) : وتكثر من الناس له.

يا بني : ألزم نفسك التجمل بترك السؤال ، ما وجدت البلغة (١) بما قل من المال ، فإن رزقك في كل يوم ، يمر بك مقسوم ، والالحاف (٢) في السؤال أمر مذموم ، وبهجة (٣) البهاء معه لا تستقيم ، ولا مروءة لمن لم يكن الصبر له غالبا ، والاحتساب (٤) له صاحبا ، فادخر لنفسك القنوع بما يبلغك المحل وإن قل ، فإن ذلك من شمائل أهل الفضل ، حتى تنغلق عنك أبواب العسرة ، وتنفتح لك بما تحب أبواب الميسرة ، فإن ذا القناعة قد يمنح من الله النصرة ، في الدنيا والآخرة. وأخلق (٥) بذي التأني أن يظفر بحاجته ، وأن يعطيه الله أفضل أمنيته ، مع ما يتطول به عليه (٦) من عونه وكفايته!! ولربّ ملهوف عجّل له غواثه ، (٧) وقل عليه ارتياثه (٨). ولربما أدّب الله عبده بالفقر وابتلاه بالعسر اختبارا ، ليجعل له في عاقبة ذلك خيارا ، يعلي له به ذكرا في الحظ من لدنه ، وهو في ذلك راض عنه! فلا تقطف ثمرة لم يبد لك صلاحها ، ولا تطلب حاجة لم يأن لك نجاحها ، فإنك تذوق معسول الثمرة في إبانها (٩) ، وتظفر بحاجتك عند بلوغ أوانها ، والمنفرد لخليقته (١٠) بالتدبير ، أعلم بالمدة التي يصلح فيه التقدير ، (١١) فاستخر اللطيف الخبير ، يخر لك في جميع الأمور.

يا بني ولا تجعل الدهر يوما واحدا ، فإن مع اليوم غدا ، واطلب حوائجك بددا ، (١٢)

__________________

(١) البلعة : الكفاية.

(٢) في (ب) و (د) : الإلحاح.

(٣) البهجة : الحسن. والبهاء : المنظر الحسن الرائع المالئ للعين.

(٤) الاحتساب : طلب الأجر بالصبر على المصيبة.

(٥) سقط من (ب) و (د) : في الدنيا والآخرة. وأخلق : أي : هو جدير قمين :

(٦) في (ب) و (د) : عليه به.

(٧) غواثه : ما يغاث به.

(٨) ارتياثه : إبطاؤه.

(٩) إبانها : وقتها وحينها.

(١٠) في (ب) و (د) : بخليقته.

(١١) في (أ) : يصلح فيها التقدير.

(١٢) بداد : متفرقة على الأيام.

ولا تطلب جميع حوائج عمرك في يومك ، فيكثر قنطك ويتغلغل (١) صدرك.

يا بني : خاش الجديدين ، (٢) في كلتا الحالتين ، تظفر بإحدى الحسنيين ، اصحبهما بأجمل ما به يصحبان ، وامرر معهما كما يمران ، ولا تصاعبهما فيصاعباك ، ولا تكاشفهما (٣) فيكاشفاك ، بمكروههما ، (٤) وأقلل من معاتبتهما ، وأكثر موادعتهما ، وأطل بالرضى مسالمتهما ، يثلج (٥) من الهموم صدرك ، ويصف لك بلذيذ العيش عصرك ، واحذر عسفهما فإنهما إن عسفاك عجزت ولم تنتصر ، ولم يدافعهما عنك أحد من البشر.

يا بني : ومن كثرت مراقبته ، طالت نعمته ، والنعم أسرع شيء زوالا عن البطر ، (٦) وليس لها عنده مستقر ، وليس يدركها ذو الفظاظة والغلظة إلا بالمحتوم من المقادير.

يا بني : وربما حبي (٧) القاسي الذي ليست من شكله منها بالسرور ، وقد يكون استدراجا للنحرير ، (٨) وسببا للحسرة والوبال ، على المهذب (٩) من الرجال ، فاحجب بينك وبين المحبوب بستر لا تنهتك أطنابه ، (١٠) ولا تنبتك (١١) أسبابه ، وعليك بالصبر عند نفاره ، لكيلا تفجعك فرقته عند إدباره ، لحادث يصرفه عنك ، ويستنزعه (١٢) منك ، فإنّ

__________________

(١) قنطك : يأسك. ويتغلغل : يدخله الغلّ.

(٢) خاش : احذر. الجديدين : الليل والنهار.

(٣) المكاشفة : إظهار العيب المكتوم ، والفضيحة أيضا.

(٤) في (ب) : بمكرهما.

(٥) يثلج : يطمئن.

(٦) البطر : الطاغي في النعمة.

(٧) في (أ) و (ب) : حيّ. تصحيف.

(٨) النحرير : الحاذق الماهر العاقل المجرب.

(٩) المهذب : المخلص ، النقي من العيوب.

(١٠) الهتك : أن تجذب سترا فتقطعه من موضعه ، أو تشق منه طائفة. والأطناب : ما يشد به البيت من الحبال.

(١١) تنبتك : تنقطع. والأسباب : الحبال.

(١٢) من الانتزاع. وضّحت هذا لأن الكمبيوتر ينقط النون والزاي إذا اجتمعا بنقطتين ملتصقتين حتى ـ

من لم تحسن ـ بديهته عند نائبته ، (١) ويغلب جميل عزائه (٢) جليل مصيبته ، قبل أن تدور الدوائر بفجيعته ـ عيل (٣) صبره ، وامتلأ بالرزايا (٤) صدره ، إذا هجم عليه غائبها ، وبرك بكلاكله (٥) على كاهله نائبها.

يا بني : ربّ النعم بالشكر فإن النعم أقسام ، تقسمها الأيام ، ثم تضرب لها أجلا ، وتجعلها بين الخلائق دولا ، تمتّع بها قوما وتعدمها (٦) آخرين ، ثم تسلبها بالكلية من الناس أجمعين ، وليس عليها شرائط للمستفيدين ، يستوجبونها دون الآخرين ، (٧) ما كانوا في الأحياء المرزوقين ، ويستحيل أن يكون ذلك في أمل الآملين ، وإنما هي بلاغ وعارية إلى حين.

[المبادرة إلى الخير]

يا بني : وما كان لأوله ابتداء ، فلآخره انقضاء ، ولا بد أن يجري عليه عند نهايته الفناء ، وإذا أوجبت العطية فأسرع بها البدار ، (٨) وأنجز موعدك لأهل الاضطرار ، قبل أن يذهب نشاطك ، وينقبض انبساطك ، وعجّل بالمعروف ، كي يتجدد لك شكر الملهوف ، وإذا أردت إنعاما وإتحافا فلا ترد بذلك مطلا ، وكن عند نفسك لما دعتك إليه من ذلك أهلا ، ولا تكدّره بالتأخير ، ولا تستدع الذم فيه بضرب المعاذير ، فإن ذلك منقصة لك عند الصغير والكبير.

يا بني : ارع سالف الحرمة وأدّ حقها ، وسدد طرقها ، ولا تنس ذمتها ، ولا تملّ

__________________

ـ يظن أنهما تاء وراء.

(١) نائبته : مصيبته وما ينزل به من حادث.

(٢) في (ب) و (د) : ويغلب عزاؤه جميل. والعزاء : الصبر.

(٣) الدوائر : جمع دائرة وهي : الهزيمة ، والسوء والداهية. عيل : غلب.

(٤) الرزايا : جمع رزية. المصيبة.

(٥) الكلكل : الصدر.

(٦) في (ب) و (د) : ويعدمها آخرون.

(٧) سقط من (ب) و (د) : دون الآخرين.

(٨) البدار : العجلة والاسراع.

طول صحبتها ، فيعود ذو الثقة بك (١) من وفائك يائسا ، ويظهر لك بعد الاسفار (٢) وجها عابسا ، وأرفد (٣) من أتاك مسترفدا ، وكن له بما يمكنك مستعدا ، (٤) فإن عجزت عن رفده ، فاردد عليه ماء وجهه بما يحسن من ردّه ، مع بشر تبسطه ، وتحلّ من ورطه ، فإن ضربت له عذرا عذر ، (٥) وإن أوليته وأنلته معروفا شكر ، وعد القليل مع الانبساط كثيرا ، والكثير مع الجبروت (٦) حقيرا.

[نصائح سياسية]

يا بني : وإذا وجدت للرخاء موضعا منفسحا ، لم تكثر به إلى الطماح مرحا ، (٧) وإن كنت ممن يصحب الملوك ، فاصحبهم بالجلال والتعظيم يكرموك ، ولا يحملك كثرة الأنس بهم ، على الحرص فيما ينقصك من مودتهم ، وأكثر الهيبة لهم ، فإنهم إنما أطالوا الحجاب ، وصفدوا (٨) دون العوام الأبواب ، لتملأ القلوب هيبتهم ، وترعد الفرائص سلطنتهم ، (٩) فعلى حسب هذا فاصحبهم ، (١٠) وإلا فأقصر عن الاتصال بهم.

يا بني : ولا يكثر من دهرك يأسك ، ولا عند تثبطه بأملك إبلاسك ، (١١) فإن جميع من يحسد على ما أفضى (١٢) إليه ، لم يدركه إلا بعد تأبّيه وتعذّره عليه.

__________________

(١) سقط من (ب) : بك.

(٢) الاسفار : الإشراق والإضاءة.

(٣) أرفد : أعط وأعن.

(٤) مستعدا : معينا.

(٥) سقط من (ب) : عذر.

(٦) الجبروت : العتو والقهر.

(٧) الطماح : الكبر والفخر. والمرح : التبختر والاختيال.

(٨) في (ب) : وصدوا. وصفدوا أي : أغلقوا.

(٩) الفرائص : جمع فريصة : اللحم الذي بين الصدر والكتف يرتعدان عند الفزع. والسلطنة : قدرة الملك.

(١٠) سقط من (ب) : فعلى حسب هذا فاصحبهم.

(١١) التثبيط : التأخر والتعويق. والابلاس : الحيرة والدهشة والقنوط.

(١٢) أفضى : وصل.

[التأمل]

يا بني : وأكثر التأمل فيما يشخص إليه طرفك ، وتمنّاه (١) نفسك ، مما أوتيه من هو أجلّ منك قدرا ، وأكثر منك يسرا ، إلى ما تؤول إليه العواقب ، وما ذا تديره عليه النوائب ، فربما كان ذو الاقلال ، أنعم بالا وأحسن حالا من صاحب الأموال ، ومن سقته الدنيا من صفو لذاتها (٢) كأسا ملأ ، جرّعته من كريه مرارتها ما يعود عليه وبالا ، لأن صفوها ممزوج بالكدر ، وأملها متنكد بالغير ، وعلى كل رائق (٣) منها للناظرين ، رقباء غير غافلين ، يستلبون المهج ، ويدرسون بهجة المنهج ، (٤) مع كثرة الإعراض ، وسرعة الإنعاض ، وتضييق الغلاصم ، (٥) بخفي العظائم ، والحفظ بعيد عمن غلظ طبعه ، وضاق خلقه.

واعلم يا بني : أن العاقبة ، نعمة كاملة ، وإن أعطي الانسان (٦) من دهره المنى ، وأتحف منه بالرضى. ومن كثرت دعته ، (٧) وحسن خلقه ومروءته ، فقد استكمل الفضل ، وحاز بفوزه الخصل (٨).

يا بني : ولو شري الخلق الحسن بجميع الدنيا لكان رخيصا ، وكان شاريه وإن بقي فقيرا بالظفر مخصوصا.

[حوادث الأيام]

واعلم يا بني : أن الأيام نبل مسمومة ، والخلق أهداف مرمية ، والزمان لهم مرشق يرميهم في كل يوم بنافرة ، وتدور على الكواهل بأدمع دائرة ، حتى يدع اللحم عريضنا ،

__________________

(١) أي : تتمناه. حذفت التاء تخفيفا.

(٢) في (ب) و (د) : لذاتها. واللذة واللذاذة بمعنى واحد. أي : الأكل والشرب بنعمة وكفاية.

(٣) الرائق : الجميل.

(٤) المهج : دم القلب ، والروح ، وخالص كل شيء. ويدرسون : يطمسون. والمنهج : الطريق والسبيل.

(٥) الإنعاض : الحركة والاضطراب. والغلاصم : جمع غلصمة ، وهي : رأس الحلقوم.

(٦) سقط من (ب) و (د) : الانسان.

(٧) دعته : وقاره وسكونه.

(٨) في (أ) و (ج) : بفوره. والخصل : الغلب ، والسبق.

والعظم مهيضا ، (١) ويستغرق كل يوم من أجزاء الانسان جزوا ، يصيّره به نضوا ، (٢) فما ذا يبقي من الأجسام ممر الليالي والأيام ، وكم ذا يكون صبرها على نوافر (٣) السهام ، فيا أيها ذا الذي دلاه (٤) الغرور بالغرور ، وزيّن له ما يستقبح في عواقب الأمور ، لو هتكت لك مسدلات الأستار ، عما يخترم (٥) منك الليل والنهار ، وما يكرّ به لينجز (٦) ما بقي منك العشيّ والإبكار ، لأمضّك (٧) الجزع وقل منك الاصطبار ، ولأوحشك من الساعات التكرار ، ولكن تدبير من بيده الأقدار ، يعزب عن أن يعلم كنهه بالاعتبار (٨).

يا بني : فاسل بكثير غوائل (٩) الدنيا عنها ، وخذ ما صفي منها ، فإن ضجيعها مغبون ، والراكن إليها مفتون ، والوافر الحظ منها فيها (١٠) محزون ، وهي أقل من كل قليل سماه المسمّون ، وقد عجز عن وصف عيوبها الواصفون ، وقصر عن علم عجائبها العالمون.

تم كتاب المكنون بحمد الله ومنّه وتوفيقه ، وحسن إعانته.

والحمد لله كثيرا بكرة وأصيلا.

* * *

__________________

(١) اللحم العريض : المصاب بمرض. يقال : ناقة عارضة أي : مريضة. ومهيضا : كسيرا.

(٢) نضوا : مشويا.

(٣) النوافر : المفرقة أو المفترقة.

(٤) في (ب) و (د) : أيها ذا. ودلاه : أطمعه.

(٥) المسدل : المرسل المرخيّ. ويخترم : يقطع وينقص. وفي (ب) و (د) : يخرم.

(٦) يكر : يرجع ويعود. ولينجز : ليفني.

(٧) أمضك : آلمك وأحرقك.

(٨) يعزب : يبعد. والاعتبار : الاستدلال بالشيء على الشيء.

(٩) الغوائل : الدواهي.

(١٠) سقط من (ب) : فيها.

[سياسة النفس]

بسم الله الرحمن الرحيم

حدثنا أبو محمد ، عبد الله بن أحمد ، قال : أخبرني أبي رحمه‌الله أحمد ، (١) بن محمد ، بن الحسين ، بن سلام قال : أنفذ إلينا أبو محمد ، القاسم بن إبراهيم ، بن إسماعيل ، بن إبراهيم ، بن الحسن ، بن الحسن ، بن علي أمير المؤمنين صلوات الله عليه وعلى أهله الأئمة الأكرمين ، أول ما أنفذ إلينا من كتبه ، كتابا يقال له : (سياسة النفس).

قال أبي رحمه‌الله : فلما قرأنا الكتاب وكنا لا نرحل إليه ، ونرحل إلى غيره من أهل البيت عليهم‌السلام ، فأسفنا على ما فاتنا منه ، وقلنا : ليس من حق علوي يحسن أن يقول مثل هذا ، إلا أن نكون جواب كتابه. فرحلنا إليه ، فأقمنا عنده في أول رحلتنا إليه سنة ، ثم بعد ذلك كنا نرحل إليه في الأوقات ، ثم سمعنا منه هذا الكتاب ، وأوله :

بسم الله الرحمن الرحيم. بالله أستعين

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم تسليما. ونسأل الله ولي نعمة الابتداء ، ومسهّل سبيل قصد الاهتداء ، أن يمنّ علينا وعليكم بشكر نعمه في ابتدائه ، ويحسن إلينا وإليكم بعونه على سلوك سبيل أوليائه ، التي أرجو أن تكون أنفسكم (٢) ـ لها وفيها ، ولما أنتم عليه لله من التمسك بها والقصد إليها ـ من الأنفس التي أذن الله بعمارتها ، ورمى (٣) إليها بأسباب حياتها ، فقد عقد الله لكم لذلك (٤) لدينا عقد الخلة والاخاء ، ووكّد بذلك لكم علينا أخوّة الخاصّة والأولياء ، فأيقنوا أنه لم يوصل سبب من الأسباب بين المتواصلين ، ولم تعقد خلّة من الخلل بين المتخالّين ، من

__________________

(١) أحمد بن محمد ، أحد أعيان الناصر ، ثم الداعي ، وكان عالما ديّنا ورعا ، توفي بعد العشر والثلاث مائة. وأحمد بن محمد بن سلّام الكوفي من ثقاة محدثي الشيعة ، وممن صحب الإمام القاسم وروى عنه ، وعن ابن عيينة ، ومحمد بن راشد ، وعباد بن يعقوب ، والحسن بن عبد الواحد القزويني ، وغيرهم. وروى عنه ابنه عبد الله ، ومحمد بن منصور ، وعلي بن أبي سليمان ، ومحمد بن بلال.

(٢) في (أ) و (ج) : تكون سلوك أنفسكم.

(٣) في (ب) : وما (مصحفة).

(٤) في (ب) و (د) : بذلك.

الأولين من خلق الله لا (١) ولا من الآخرين ، بغير ما يرضي الله سبحانه من التقوى ، ويستحقه جل ثناؤه من الطاعة له والرضى ، إلا كانت وصلة حسرة وانقطاع ، وندم غدا واسترجاع ، يدعو أهلها فيها بالويل والعويل ، ويصيرون بها في الآخرة إلى خزي طويل ، ذلك قوله جل ثناؤه : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) (٦٧) [الزخرف : ٦٧]. وقوله تعالى عن القائل غدا : (يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (٢٨) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً) (٢٩) [الفرقان : ٢٨ ـ ٢٩].

ونحن نرجو وليكم (٢) الله أن يكون وصلة ما بيننا ، وما عقد الله ـ فله الحمد ـ عليه خلّتنا ، سببا عقده الله بالإيمان ، وأسّسه منه على رضوان ، فمن أحق بالتعظيم منا لما كانت الأبرار تعظمه ، ومن خير ما قدمناه فيه ما كانت الأتقياء تقدمه ، من كل ما كان لهم على بغيتهم من النجاة دليلا ، وإلى ما يلتمسون من فوز حياة الخلد عند الله سبيلا ، من التذكير من بقاء (٣) الآخرة وفناء الدنيا بما ذكر ، والأمر في عاجل هذه الدنيا من التقوى له بما به أمر.

فافهموا ذلك فهّمنا الله وإياكم سبيل الخير ، ونفعنا ونفعكم فيها بمنافع التذكير ، فإنه يقول سبحانه : (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) (٥٥) [الذاريات : ٥٥]. والدنيا وإن كان أمرها قصيرا ، وبقاء أهلها فيها قليلا يسيرا ، فاعلموا رحمكم الله أنها وإن كانت كذلك في البلوى ، فإنها متجر لأرباح فوائد التقوى ، ومكسب غنم لمن كسبها فيها ، ومحل مخصب لمن تزود إليها منها ، ومعبر لمن تبلّغ بها عند ظفره بكسبها ، إلى دار مقام ، ومحل دوام ، ليس عنها لمن نزلها انتقال ، ولا منها بعد طولها زوال (٤) ، والدنيا فإنما خلقها الله سبحانه لعبادته ، وأمر خلقه فيها بطاعته ، ونعاها إليهم

__________________

(١) سقط من (ب) : لا.

(٢) في (أ) و (ج) : نرجو إليكم.

(٣) في (ج) : لقاء.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : زوال.

قبل فنائها ، وأخبرهم جل ثناؤه بقصر مدتها وبقائها ، فقلّل (١) بأحق الحقائق في أعينهم ما يستكثرونه من كثيرها ، وقصّر في كتابه الناطق عندهم ما يستطيلونه من تعميرها ، فقال : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٧٨) [النساء : ٧٧ ـ ٧٨]. وقال سبحانه : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦) [النازعات : ٤٥ ـ ٤٦]. وقال تبارك وتعالى : (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ) (٤٥) [يونس : ٤٥]. وقال سبحانه لرسوله صلى الله عليه : (فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) (٣٥) [الأحقاف : ٣٥].

[الدنيا الغرور]

فالدنيا أحق منزل بأن لا تملّ مكاسب غنمه ، ولا يغفل في حث ولا جدّ ولا اجتهاد عن تغنّمه ، (٢) ولا يذم سعي من عمل له ، واغتنم فيه مدته وأجله ، بل المستحق للذم فيها من أوطنها ، على يقين العلم بالنقلة منها ، (٣) وسعى للنيل فيها ، مع يقينه

__________________

(١) في (ب) و (د) : قتال (مصفحة).

(٢) في (ب) و (د) : في بغيته. وفي (ج) : تغبيه. وكلاهما مصحفتان.

(٣) في (ب) و (د) : منها عنها. (زيادة).

بفنائها ، فأصبح مشغولا بالفراغ مما شغله ، فارغا من الشغل الذي فرّغ له ، مصيخا (١) إلى الغرّة ، موطنا لدار النقلة ، لا جاهلا فيعذر ، ولا ناسيا فيذكّر ، فكأنّ الموصوف المفتون بما يسمع ويرى ، ليس بموقن بزوال الدنيا ، بل كأنه لم يوقن بمواعيد ربه غدا إذ تأخر (٢) ذلك عنه ، ولم يصدق بما حذر (٣) إذ قصر به دنوّه منه ، بل كأنه نسي أن الدنيا جعلت دار بلوى ، ولم تجعل لأحد من ساكنيها دار مثوى ، وجعلت إلى غيرها معبرا ، ولم تجعل لساكنيها مستقرا ، وأنها لأهلها ممر سبيل ، ومنزل نقلة وترحيل ، وأن كل من فيها إلى دار قراره غير لبيث ، (٤) ومن الآخرة في السير حثيث ، فلو كان يصير من فيها بعد موته إلى غير معاد ولا مصير ، لما وسعه إن نظر أو عقل ففكر أن يركن إلى ما يزول ، وينصب لما يفنى فلا يدوم ، (٥) وكيف وهو مبعوث ومحاسب ، وموقوف غدا للحساب فمعاتب ، فيما أفنى من عمره ، بل في كل أمره ، من صغير (٦) محصوله ، وجميع فعله وقوله ، يحضر له كله يوم البعث في الحساب ، ويجد ما كان فيه من خطأ أو صواب.

فيا ويله أما سمع قول الله تبارك وتعالى فيه ، وما حكم الله به (٧) من عدل حكمه عليه ، إذ يقول سبحانه : (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩) [الكهف : ٤٩].

فبادروا رحمكم الله لعظيم المغنم ، وأجدوا في الهرب من أسف الندم ، واتقوا صفقة الخسار ، فإنها بين الجنة والنار ، ولا تبغوا من الراحة ما يفضي بأهله إلى النصب الدائم ، ولا من النيل إلى ما يؤدي إلى حرمان الغنائم ، وأكثروا ذكر السقم والوفاة ، وما رأيتم

__________________

(١) في (أ) و (ج) : مصبحا. والمصيخ : المستمع المصغي.

(٢) في (ب) و (د) : إذ أتى خبر.

(٣) في (أ) : عذر إذا قصر به دنوه منه. وفي (ب) و (د) : حذر إذ قصر به دنوه. وفي (ج) : يحذر إذا قصر به دنوه ، وقد لفقت النص من الجميع.

(٤) في (ب) و (د) : قرار. ولبيث : مقيم.

(٥) في (ج) : لمن يفنى. ولعل هنا سقطا ، وذلك فيما قبل من الجمل.

(٦) في (ب) : ضمير (مصفحة).

(٧) سقط من (ب) : به.

فيهما وبهما من البغتات والفجآت ، فكم قد رأيتم بهما من مبتغت وصريع ، وكم سمعتم عنهما من خبر هائل فضيع ، ولا تؤثروا ما لم تخلقوا له على ماله خلقتم ، ولا تكثروا تشاغلكم بطلب الرزق فقد رزقتم ، قديما في ظلم الأرحام ، وبعد (١) إلى حين أوان الفطام ، ثم مذ كنتم في الناس شيئا مذكورا ، فكفى بذلكم على كفاية الله دليلا ونورا.

فاعرفوا كفايته لكم بما عرّفتم ، وقوموا من ذلك كله بما كلّفتم ، واضربوا عن طلب الدنيا عنكم بفادح الأثقال ، وتكلف ما أنتم فيه لطلبها من الأشغال.

أفلستم بموقنين ، ببتّ يقين ، لستم بمرتابين ، أن الحظ من الدنيا إلى نفاد ، وأنكم من الموت على ميعاد ، فما بالكم لا تنظرون في عاقبة الدنيا ، ولا تتأهبون إن كنتم موقنين (٢) لدار المثوى ، أترون ذلك زلفا (٣) عند ربكم ، وليست لكم أم بوسيلة وليست معكم ، (٤) أم بحسن عمل ولم تقدموه ، أم بعظيم الرجاء ولم تحققوه.

فيا أيها الراكن إلى الدنيا وزخرفها ، والآمن (٥) لنوائب تصرفها ، والمغتر في معاشها ومكالبتها في طلبها ، والمؤثر لها على ربها ، والمشغول بما كفى منها ، والجاهل بخبر الله عنها ، هبك لم توقن بما دعا الله إليه من ثوابه! ولم تخف سطواته فيما حذرك من عقابه! ألم تك ذا عقل فتفهم عن الدنيا خبرها؟! وتسمع منها موعظتها؟! فلعمرها ما قصّرت في موعظة ، ولا تركت لذي عقل فيها من علة ، لقد أخبرتك عن القرون ، بما أحلت به من المنون ، فخربت الديار ، وعفّت الآثار ، هبك أصم في هذا كله عن سماع موعظتها ، وما كشفت لك بذلك عنه من سوآتها ، ألم ترك (٦) عيانا فيمن معك من نوازل مناياها؟! وما أوصلت إليك في فقد الأحبة من رزاياها؟! أو لم تكن في طول ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : ثم بعد إلى حين الفطام.

(٢) في (ب) و (د) : صادقين.

(٣) في (ب) و (د) : بزلفى. وفي (أ) : ترلعى.

(٤) في (ب) : لكم بوسيلة وليست لكم.

(٥) في (أ) و (ج) : الآ من.

(٦) ترك : فعل مضارع مجزوم.

جربت من أسقامها؟ وما حل بك خاصة في نفسك من آلامها؟ وما علمت من استدعاء القليل من موجودها ، للكثير الجم من مفقودها ، حتى في كل أمرها ، بل في خطرات ذكرها ، فهي فقر لا غناء معه ، وشره (١) لا قناعة له ، وحرص لا توكّل فيه ، وطلب لا انقضاء للميعاد منه ، وغدر وختر (٢) وكذب وخيانة ، ليس فيها صدق ولا وفاء ولا أمانة.

أفما كان في ذلك ما يدعوك إلى الزهد فيها ، والتنزه بعده من الميل إليها ، وإدخال الراحة على نفسك من الشغل بها ، وما حملك الشّره من أحمال ثقلها؟! فكيف وأنت زعمت أنك موقن بمواعيد ربك ، وذلك فما لا يتم ـ إلا به ـ إيمانك ، (٣) فكيف وقد فهمت من الدنيا خبرها ، وعلمت يقينا موعظتها ، وأيقنت أنه لا يدوم لك فيها خلود محبة ، ولا يتم لك فيها سرور بمعجبة ، ولا يتبعك منها (٤) تراث تركته ، والموت فسبيل كأن قد سلكته ، فكل هذا منها فأنت منها (٥) في منهج وسبيل ، مع أن الذي هو فيها وأدل عليها من كل دليل ، خبر الله سبحانه عنها ، وما وصفه من صدق الخبر منها.

فاسمعوا لذلك من الله فيها ، وتفهموا عن الله دلالته سبحانه عليها ، بفهم من قلوبكم مضي (٦) ، وعقل من ألبابكم حيي ، فإنه يقول سبحانه : (وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) [الأنعام : ٣٢]. ويقول سبحانه: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) (٥) [فاطر : ٥].

ثم قال سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا

__________________

(١) الشّره : غلبة الحرص.

(٢) في (ب) و (د) : للميعاد : معه. والختر : الغدر.

(٣) في المخطوطات : إيمانك إلا به. ولعل الأوفق لأسلوب الإمام ما أثبت.

(٤) في (ب) : ولا يشغلك (مصفحة). وفي (ب) و (د) : فيها.

(٥) في (ج) و (د) : منه. وسقط من (أ) : منها.

(٦) مضي : نافذ.

النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١٦) [هود : ١٥ ـ ١٦].

ثم قال سبحانه : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١٩) [الإسراء : ١٨ ـ ١٩].

وقال سبحانه : (أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (١٩) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (٢٠) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (٢١) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (٢٢) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (٢٣) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (٢٤) وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٢٥) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتاعٌ) (٢٦) [الرعد : ١٩ ـ ٢٦]. فحياة الدنيا وعمرانها عند من يعقل عن الله خراب وبور ، وكل ما في الدنيا من غير طاعة الله فلا يغتر به إلا هالك مغرور.

وفي فروع هذا كله وأصوله ، وما نزل الله فيه من بيانه وقوله ، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عيانا ، وسمعتم نداه إعلانا ، وكلا (١) لو رأيتم لعمركم إذا لأبصرتم ، ولو أبصرتم إذا لاغتنمتم ، ولكنكم نظرتم بأعين عميّة ، وسمعتم القول فيه بآذان دوية (٢) ، ودبرتم الأمر فيه بقلوب سقيمة ، غير بريّة من أدواء الأهواء ولا سليمة ، فآثرتم ذميم ما

__________________

(١) سقط من (أ) : وما نزل الله فيه من بيانه وقوله ، فقد رأيتم ما قال الله سبحانه عيانا ، وسمعتم نداه إعلانا ، وكلا.

(٢) دوية : دوي من باب صدئ ، أي : مرض.

حضركم ، على كريم ما غاب عنكم ، وما عجل إليكم ولكم ، على ما قصر علمه دونكم ، كما قال الله تبارك وتعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٧) [الروم : ٧]. وكذلك فلم يزل العتاة (١) الجاهلون ، أما لو نظرتم إليه بأعيان جليّة ، وسمعتم القول فيه بآذان سويّة ، ودبرتم الأمر فيه بقلوب حييّة ، لعلمتم أنكم من الدنيا في إدبار حثيث ، ومن الآخرة في إقبال غير مكيث ، (٢) فكأن ليلكم ونهاركم في مرورهما بكم ، وكرورهما عليكم ، قد وقفا بكم على آجالكم ، وأفرادكم عن غرور آمالكم ، وكشفا عنكم أغطية أبصاركم ، فحسر (٣) رأيكم إن لم يرحمكم ربكم.

[الانسان المغرور]

فيا ويل المغرور من نفسه ، المخطئ لسبيل حظه ، من أي يوميه يشغل؟! بل من أي حاليه يغفل؟! أيوم رجوعه إن عمّر إلى أرذل عمره؟! وحاله حين يصير عيال عياله وأسير منزله وداره ، أم عن يوم وروده دارا لم يتخذ بها منزلا؟! ولم يقدّم إليها من صالح عملا ، أم لأي يوميه يفرغ أليوم حبرة ، (٤) يتبعها عبرة؟! وفرحة ، يعقبها ترحة ، (٥) وزخرف يعود حطاما ، وفخر يحول (٦) بوارا ، أم ليوم شغل لما فرغ منه؟! وتفرغ لما أمر بالاعراض عنه ، واحتقار لما نعي إليه فراقه ، وحرص على لزوم ما هو مفارقه ، كأنه لا يستحيي من حمده لمذموم ، وركونه (٧) من الدنيا إلى ما لا يدوم ، واستبطائه لغير دار خلوده ، وتكذيبه بفعله لما يزعم من محموده.

__________________

(١) في (ب) و (د) : الغماة. ويبدو أنها مصحفة.

(٢) مكيث : مأخوذ من المكث. أي غير متأخر.

(٣) حسر : عيي ، وانقطع.

(٤) الحبرة : المسرّة.

(٥) الترح : الحزن.

(٦) في (ب) و (د) : يعود ويحول. بمعنى يعود ويرجع.

(٧) في (ب) : وركنه.

فيا عجبا كل العجب كيف ركن إلى ما ذمّ (١) مختبره؟! وكيف استفرغه الفرح بجمع ما هو شاخص عنه؟! وكيف تعقبه الأسف على فوات ما لا يدوم له؟! وكيف يثق بما ينفد على ما يبقى؟! وكيف يغفل ـ بما هو فيه من النصب لمؤاتاة (٢) دنياه ـ ما يلقى؟! مع علمه ويقينه بأنه لا يبلغ منها غاية إلا دعته إلى غايات ، فمتى إن لم يرفض (٣) الدنيا يستريح من حاجة فيها تدعو إلى حاجات؟! ومتى يقضي شغلا إذا هو فرغ منه فقضاه؟! عرض له أكبر منه فطلبه وابتغاه.

ففكروا رحمكم الله وانظروا ، تعلموا إن شاء الله وتبصروا ، أنه ليس لكم من سراء دنياكم ، وإن طالت صحبتها إياكم ، (٤) إلا كطرف العيون ، فهي للجاهل المغبون ، من ذي دناءة أو لوم ، أو فاجر عميّ ملعون ، قد صارت الدنيا كلها له ، فليس يأخذ أحد منها إلا فضله ، فقدرته ـ وإن لؤم (٥) ودنا ، وكان فاجرا معلنا ، على كثير من كرائم النساء ، ونفيس المراكب والكساء ـ قدرة الأبرار ، وأبناء الأحرار.

والدنيا أعانكم الله فيما خلا ، وإذ (٦) كانت تضرب لفساد أهلها مثلا ، وإنما كان يمسخ أهلها وأنسها ، فمسخت الدنيا اليوم نفسها ، فلم نترك ـ والله المستعان ـ من ذكرنا لها زينة ولا بهجة ، وعادت الدنيا كلها غرقا ولجة ، فأمورها اليوم كلها عجائب ، وكل أهلها في مكالبتها فمغتر دائب.

وقد بلغني أن عيسى بن مريم صلى الله عليه ، كان يقول لمن يحضره ولحوارييه : (بحق أقول لكم أنه لا يصلح حبّ ربّين ، وما جعل الله لرجل في جوفه من قلبين ، لا

__________________

(١) في (ب) : ما دام (مصحفة).

(٢) في (ب) : تمؤيات. وفي (د) : مؤمات. مهملات بلا نقط إلا أن الكمبيوتر لا يستطيع كتابة المهمل.

والمواتاة : المطاوعة.

(٣) في (ب) : كم من فض (مصفحة).

(٤) في (ب) : إناكم. مصحفة.

(٥) في (أ) : لأم.

(٦) في (ب) و (د) : وإذا كانت تضرب فساد.

يصلح حب الله وحب الدنيا في قلب ، كما لا تصلح العبادة إلا لرب) ، (١) وكان يقول صلى الله عليه (بحق أقول لكم : إن حب الدنيا رأس كل خطيئة ، وكذلك فحب الله ـ ولا قوة إلا بالله ـ فعاصم لأهله من كل سيئة) (٢).

أفيرجو من آثر الدنيا؟! على الله أن يكون مع ذلك لله وليا ، هيهات هيهات أطال من آثر الدنيا ، عنان عمله الغي والهوى ، فجمحت به نوازغ الغي المردي ، وعتت به مطايا الهوى المضل المغوي ، حتى أحلته دار الندامة ولات حين مندم ، ثم أسلمته من الحيرة إلى شر مسلم ، فما ينكشف عنه قناع غرة ، ولا يتيقظ من نوم سكرة ، رانت على قلبه بوادر أعمال السيئة ، وفتن دهره المضلة المعمية ، فقاده أهل الدنيا ، وأعنق (٣) به قائد الهوى ، ومنّته نفسه بالاغترار طول البقاء ، وأسرعت الغفلة في أيامه بالفناء ، وكذبته نفسه في أي (٤). حين وأوان ، وفي أي حال ـ رحمكم الله ـ ومكان ، حين لا رجعة ينالها ، ولا إقالة يقالها ، وعند معاينته الأهوال ، وما لم يخطر له ببال ، من هتك ستور السوءات ، وهو في حال أحوج الحاجات ، إلى ما كان تركه فقرا وبلاء ، وغيره هو الخفض والغناء : (يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (١٨) [غافر: ١٨]. (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) (٢٥) [النور : ٢٤ ـ ٢٥]. يوم خافته رجال فمدحهم الله وزكّاهم ، وأحسن على مخافتهم له ثوابهم وجزاهم ، فقال سبحانه فيهم ، وفي حسن ثنائه ـ بمخافتهم له ـ عليهم : (رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ

__________________

(١) نص الإنجيل هكذا : (لا يقدر أحد أن يخدم سيدين ، لأنه إما أن يبغض الواحد ويحب الآخر ، أو يلازم الواحد ويحتقر الآخر ، لا تقدرون أن تخدموا الله والمال). إنجيل متى الإصحاح السادس / ٢٤ ـ ٢٥.

(٢) نص الإنجيل هكذا : (وأما الذين يريدون أن يكونوا أغنياء فيسقطون في تجربة وفخ وشهوات كثيرة غبية ومضرة ، تفرق الناس في العطب والهلاك ، لأن محبة المال أصل لكل الشرور ، الذي إذا ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة). رسالة بولس الأولى إلى شيموثاوس / ٩ ١٠.

(٣) أعنقه : أخذه بعنقه ، والمعنقة : قلادة توضع في عنق الكلب.

(٤) سقط من (أ) : أي.

وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ) (٣٨) [النور : ٣٧ ـ ٣٨]. ويقول سبحانه : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ) (١٥٨) [الأنعام : ١٥٨]. ويقول سبحانه : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (٨٨) إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (٨٩) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (٩٠) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ) (٩١) [الشعراء : ٨٨ ـ ٩١]. (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطففين : ٦]. (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) (١٠٦) [الأنبياء : ١٠٦].

فرحم الله امرأ ، أحسن لنفسه نظرا ، فرفع عن الوناء (١) ذيله ، واغتنم من الله سبحانه تمهيله ، فحسر (٢) عن ذراع ، وشمر بإجماع (٣) ، وانتبه عن وسن غفلة الغافلين وإن لم يشعروا ، وتيقظ من نوم جهل الجاهلين وإن لم (٤) يسهروا ، فعلم أن من رحمة الله بنا ، وحسن معونته لنا على أنفسنا ، أن جعلنا نسقم ونتغير ونبتلى ، بمثل ما يرى من تغيّر أحوال الدنيا ، في فناء ليلها ونهارها ، وما يغتذى به في برها وبحارها ، من كل مأكول ، أو لباس نسج معمول ، أو غير ذلك من ألوان فتونها ، وما سخر الله من ضروب ماء عيونها ، فنبهنا بذلك كله ، وبما أرانا من تغيره وتبدّله ، من قصر مدة آجالنا ، وعلى أنه لا بقاء ولا دوام لنا ، ولو جعلنا ندوم أبدا أو نبقى ، لما جعل بين الدنيا والآخرة فرقا ، ولكان من عتا الخليق (٥) ببقائه بادعاء أخبث الدعوى ، ولما امتنع من العاتين ممتنع من سهو ولا هوى.

__________________

(١) الوناء : الفتور.

(٢) في (أ) و (ب) و (ج) : فحشر. والحسر : التشمير.

(٣) بإجماع : بعزم.

(٤) سقط من (ب) : لم.

(٥) في (ب) و (د) : لخليق. من اسم كان ، والخليق خبره.

[النفس]

ولكنه سبحانه عرّفنا أنفسنا وفناها ، وألهم كل نفس منها فجورها وتقواها ، فجعل فجورها غيا وتقواها هدى ، وجعلنا تبارك وتعالى نموت ونفنى ، لنستدل بالموت وتصاريف طبائع الخلق ، على حكمة تدبيره لنا في الفطرة والصنع ، وليدعونا خوف الفناء ، إلى طلب حياة البقاء ، وجعلنا (١) تبارك وتعالى من جزءين اثنين نفس وجسد ثم ألف بينهما بلطيف تدبيره ، وأحكم تركيبهما بأحسن تصويره ، فجعلهما بعد تباينهما شخصا واحدا مكملا ، وجعل لبقائه وأيام حياته مدة وأجلا ، ثم أمره بعد كموله فيه ، برشده وحضّه عليه.

فإن نفسه سمعت له وأطاعت ، وأجابت إلى ما دعا إليه فسارعت ، رشد عند الله واهتدى ، وفاز من الله بثوابه غدا ، وإن نفسه عصته والتوت عليه وأبت ، ما دعي إليه من الرشد فغوت ، ولم تعتصم بالله ، ولم تذكر (٢) رحمة من الله ، ضل عند الله فعطب ، (٣) وهلك في القيامة وعذّب ، فنفس المرء إذا لم ترشد (٤) له فشر صاحب ، ودعاة إلى كل هلكة ومعايب ، لأنها لو لا عصمة الله لها في خطاياها أبدا كرارة ، ولصاحبها إلى ما حرم الله أمّارة ، كما قال يوسف صلى الله عليه : (وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥٣) [يوسف : ٥٣]. وكما قال شعيب صلى الله عليه في توفيق الله ومعونته له على عبادته ، وحسن نظره وعصمته ، ولما كان عليه من رعاية حق الله وأمره من إرادته (٥) : (إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (٨٨) [هود : ٨٨].

فمن خالف نفسه في خطاياها ، ومال مع الحق عليها ، لم يضرره لها هوى ولا أمر ،

__________________

(١) في (ب) و (د) : وخلقنا.

(٢) في (ب) و (ج) : يعتصم. وفي (ب) و (ج) و (د) : تذكرة.

(٣) العطب : الهلاك.

(٤) في (أ) و (ج) : يرشد. وسقط من (أ) : له.

(٥) سقط من (أ) : ولما كان عليه من دعائه حق الله وأمره من إرادته.

ولم (١) يدخل عليه منها خطأ ولا ضرر ، ومن قبل عن نفسه ما تأمره به من سوء ، كانت نفسه له أعدى من كل عدوّ.

وقد بلغني أن بعض الصالحين كان يقول : محاربة المرء لنفسه بمخالفته ، (٢) يثبت فيها طلب ثواب الله وطاعته.

[الصبر]

واعلم أنه ليس يسلك سبيل مرضات الله إلا من أيده الله بروح الهدى ، وأن ليس يوصل إلى سبيل مرضاته جل ثناؤه بالمنى ، دون أن يحمل النفس عليها ، ويصبر لأمر الله وحكمه فيها ، كما قال الله سبحانه : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣]. وقال سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ) (٢١٤) [البقرة : ٢١٤]. ويقول سبحانه : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ) (١٤٢) [آل عمران : ١٤٢]. وفي مثل ذلك من ابتلاء القائلين ، ما يقول رب العالمين : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) [العنكبوت : ١ ـ ٣].

[التقوى]

فتأهبوا رحمكم للبلوى ، وانتهوا إلى ما أمرتم به من التقوى ، ونقّوا قلوبكم من دنس الدنيا وإيثارها على الله كيما تنقى ، وطيبوها بالبر والتقوى وكونوا مع من برّ

__________________

(١) في (ب) و (د) : ولا يضرها هوى ولا أمر ، ولا ...

(٢) في (ب) و (د) : لمخالفتها ينبت. وفي (ج) : بمخالفة.

واتقى ، فمتى ما تكونوا مع أولئك ، تنجوا بإذن الله من المهالك ، ويكن (١) الله جل ثناؤه معكم كما قال لقوم يسمعون : (إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) (١٢٨) [النحل : ١٢٨].

[التفكير]

واعلموا وليكم الله أن من أبواب التقوى ومفاتحها ، وأقوى ما تقوّى به من رشد بإذن الله على قبول نصائحها ، حسن الفكر في الدنيا وفنائها ، وتقلّب سرّائها وضرائها ، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة ، ومن دونهم من الخلق جميعا عامة ، فإنكم رحمكم الله إن تفكرتم ـ فتروا ، بعين الفكر وتبصروا ـ تعلموا أنهم جميعا منها وإن اختلفت أحوالهم في السراء والضراء ، في مضامير بأقدار أحوالهم فيها من السعادة والشقاء.

وقد ينبغي لمن سلك سبيل مرضات الله وآثرها ، وعظّمها بما عظمها الله به من رضوانه فوقّرها ، أن يتحفظ من نفسه فيها ، ويجمع كل أشغاله ولا قوة إلا بالله إليها ، فإنه لو تفرغ لخدمة بعض ملوك الدنيا ، لحقّ عليه الاجتهاد في بلوغ الغاية القصوى ، فكيف بمالك الملوك إذا برز لعبادته ، ونابذ في الله عدوه من الجن والإنس بمحاربته ، فليتحرّز ـ من سلك سبيل ولاية الله ومرضاته ، ومن يريد القيام بما أوجب الله عليه من فرض حقه وطاعته ـ من السقط والخلل ، وليستيقظ من الغفلة والزلل ، وليتيقظ وليعرف قدر ما يعرض لأهل ذلك من البلوى والفتنة ، وما ينصب له (٢) وفيه من المباينة ، وعلم بلواها وفتنها فيجوز (٣) في مواطن العزم والشدة ، ولا يصبر عند نزول البلوى المؤكدة ، فإن ذلك ، إذا كان منه كذلك ، فليس له به حول ، ولا لمن صار إليه إلى الله به وصول ، وإنما وصفت لكم هذا فيها ، (٤) لكيلا يقدم مقدم عليها ، إلا بعد

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويكون.

(٢) في المخطوطات : من الفتن والبلوى. وما أثبت اجتهاد. وفي (ب) : له به فيه.

(٣) ولعلها : يخور. والله أعلم.

(٤) في (ب) و (د) : منها.

علمه بهذا منها ، وفهمه لهذا (١) من الخبر عنها ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تم نصف الكتاب

واعلموا أن القلوب كالآنية المصدوعة ، فيما (٢) تنازع إليه من غرائزها المطبوعة ، فإن لم يرهم (٣) مصدوعها ، لم يصح مطبوعها ، على بنية اعتداله ، فيما فطرها الله عليه من كماله ، فزمّوها (٤) بالعلم بكتاب الله وتنزيله ، والوقوف على محكم تأويله ، ففي ذلك لها تقويم وتعديل ، وهداية ونور ودليل ، على منهاج خالص الطريق المساير (٥) لها في حب الله وطاعته ، وما أوجب الله على العباد من أثرته وعبادته ، وبكتاب الله يتجلى عن القلوب ظلم الحيرة ، وبلطيف النظر فيه يدرك حقائق العلم أهل البصيرة ، وبسبل (٦) الله فيه المطرقة ، تكون هدايات المتقين في الثقة ، من نيل (٧) الغايات القصوى ، وبلوغ الدرجات (٨) العلى.

وقد زعم بعض أهل الحيرة والنقص ، ومن لا يعرف عين النجاة والتخلص ، أن الإلطاف في النظر ، يدعو صاحبه إلى الخيلاء والبطر ، وإنما يكون ذلك كذلك عند من يريده للترؤس ، لا لما فيه وما جعله الله عليه من حياة الأنفس ، فانفوا مثل هذا عن ضمائركم ، وسدوا ثلمة عيبه في (٩) سرائركم.

واعلموا أن البحر لا يجاز يقينا بتّا إلا بمعبر ، وأنه يحتاج الشجاع المحارب السلاح

__________________

(١) في (د) : بهذا.

(٢) في (أ) و (ج) : لما.

(٣) في (ب) و (ج) و (د) : ترهم صدوعها.

(٤) في (ب) و (د) : كمالها. وزموها : شدوها.

(٥) في (ب) و (د) : المستأثر.

(٦) في (ب) و (د) : العلم والبصير. وفي (أ) : وسبيل.

(٧) في (أ) و (ج) : هدايات اليقين في الثقة. وفي (ب) و (د) : هدايات اليقين والثقة. وما أثبت فهو مما نقله الشهيد حميد. من كتاب سياسية النفس في ترجمة الإمام القاسم في الحدائق الوردية ١ / ١٢. وفي (ب) و (د) : في حمل الغايات (مصحفة).

(٨) في (ب) و (د) : درجات.

(٩) في (أ) و (ج) : من.

في الحرب فكيف بالعيّ المغتر ، فلا يتعاط أحد سبيل التقوى ، وما قرن الله بها من التمحيص والبلوى ، إلا وقد تحصّن بالعلم والبصر والنظر ، (١) الذي ميز الله به بين أهل الخير والشر ، فلا تدعوا ـ رحمكم الله ـ حسن النظر في الأمور ، والاستضاءة في ظلمها بما جعل الله في العلم من النور.

واعلموا أن من أبواب ذلك ومفاتيحه ، وأضوأ ضياء نوره ومصابيحه ، إخلاص العمل لله ، وصدق التوكل على الله ، وسبب الطريق إليها ، وعون من أراد مما (٢) فيها ، (حسن الفكر في الدنيا وفنائها ، وتقلب سرّائها وضرائها ، وفي حال جميع من فيها من ملوك الأمم خاصة ، ومن دونهم من الخلق جميعا عامة ، فإنكم إن تفكرتم فتروا ، بعين الفكر وتبصروا ، أنهم جميعا منها وإن اختلفت حالهم [في السراء والضراء ، في مضامير بأقدار أحوالهم] فيها من السعادة والشقاء) ، (٣) فقد غشيهم من همومها كأمثال الجبال ، ورمت بهم (٤) من غمومها في مثل لجج البحار ، فالملك في شغل من ملكه ، والمملوك في سطوة مالكه ، والمكثر من إكثاره ، والمقلّ من إقلاله.

[أحوال الخلق في الدنيا]

ولن يحاط بوصف أحزانها ، وأوجاع غموم سكانها ، ويحق (٥) بذلك منزل سريع زواله ، قليل ما تمتع بالراحة فيه نزّاله ، بأساؤه أبدا فيه متداركة ، ونجاة أهله فيه مهلكة ، وغمومهم فيه متراكبة ، وهمومهم به مكتسبة ، فلا الغني يخلو من غم الجمع

__________________

(١) في (أ) : والبصر. وفي (ب) و (د) : والنضر. والوجه ما أثبته.

(٢) في (ب) و (د) : أرادها.

(٣) هذه الفقرة قد سبقت بعد قوله : واعلموا وليكم الله أن من أبواب التقوى. ولعلها مكررة. وهنا في جميع المخطوطات : سقط ما بين المركنين سهوا من الخطاط ، فأثبته اجتهادا مني ، ويدل على سقوطه وجوده في الفقرة السابقة.

(٤) في (أ) : ورمتهم.

(٥) في (ب) و (د) : يحق (مصحفة).

وكدّه ، ولا الفقير ينجو من الكد فيه بجهده ، يسعى الغني فيه خوفا من العدم ، ويكد الفقير طلبا للمغنم ، فجدة الغني فيه فقر ، ومغنم الفقير منه خسر ، يخاطرون لذلك في أهوال البحور ، ويركبون لطلبه كل باب من أبواب الفجور ، فأقرب ما يكونون (١) من السرور به ، أقرب ما يكونون (٢) من الغم بسلبه.

فكم في الدنيا من غريق في لجج البحار؟! وكم فيها ولها من مبتلى بقتل أو أسار؟! وكم لطالبها ، وإفراطه في حبها ، من ميت غريب ناء عن الولد والأوطان ، بين غتم (٣) لا يعرفونه ، وطماطم (٤) من السودان ينكرونه ، لم يبكه هنالك ولده ولا قرباه ، ولم تأسف عليه كما أسف عليها دنياه ، بل تخلّوا جميعا منه ، وأعرضوا سريعا عنه ، فورثوه غير حامدين له فيما جمع ، وأسلموه إذ مات لما عمل وصنع ، ولعل قائلا منهم أن يقول : ما كان أفحش حرصه وإيعاثه ، (٥) أو قائلا منهم يقول : ما أقل أو ما أكثر تراثه ، تلعبا بذكره ، وتفكها في أمره.

فأعرضوا هذا ـ رحمكم الله ـ على قلوبكم لأن ينجلي لكم إن شاء الله ما فيها عن الدنيا من العمى ، وانظروا إلى من زالت عنه القدرة من أبناء الملوك والعظماء ، كيف صاروا إلى الضعة بعد الرفعة ، والضيق بعد مضطربهم من السعة ، بل انظروا بعد هذا كله ، إلى من كان هذا أكثر شغله ، ألم تروا غلطهم في مسالكهم ، ومرتطمهم في مهالكهم ، فاعتبروا بهم قبل أن تغرقوا في بحرهم ، وتقعوا في مهالك أمرهم ، وآثروا سبيل أحباء الله على كل سبيل ، واستدلوا بما كان لهم على سبيلهم من دليل ، فإن سبيلهم فيه ، وعونهم كان عليه ، ما خالط فكرهم ، وأحيوا به في الفكر ذكرهم ، من نعيم الآخرة الدائم المقيم ، وما أعد الله لمن حادّه من العذاب الأليم.

ففكروا ـ رحمكم الله ـ كما فكروا ، تبصروا إن شاء الله من فضل سبيلهم ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : ما يكون. وسقط من (ب) : من.

(٢) في (ب) و (د) : ما يكون.

(٣) الأغتم : من لا يفصح شيئا ، جمعه : غتم.

(٤) الطماطم : جمع طمطم. وهو الذي في لسانه عجمة.

(٥) إيعاثه : إفساده.

أبصروا ، وفوّضوا أموركم في ذلك كلها إلى الله ، واعتصموا في ذلك كله بالله ، فلا تدعوا فيه يقظة الجدّ والاجتهاد ، بعد التوكل على الله ربكم فيه والاعتماد ، وابذلوا لله فيه كل جهد ، وأخلصوا له منكم في كل قصد ، فإنكم إن تفعلوا ـ ذلك له ، (١) وتقصدوا فيه ما يجب فعله ـ تولاكم الله فيه فعصمكم ، وكفاكم به مهمكم ، ولا تحدثوا أنفسكم بعد أن يمن الله عليكم بهذه النعمة ، وبعد الدخول منكم في هذه السبيل المكرمة ، بالخروج ما بقيتم منها ، ولا بالإعراض أبدا ما حييتم عنها ، ولكن وطّنوا نفوسكم على احتمال صعاب الأمور فيها ، ولا تخافوا ـ ولا قوة إلا بالله ـ تخويف من خوّفكم عليها.

واعلموا أنه لن يكون أحد في فعله خلصانيا (٢) ، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله وليا ، إلا بعزمه على طاعة الله وإقدامه ، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه ، فاعزموا على التقوى عزم من يوقن بفضلها ، تكونوا بإذن الله من أوليائها وأهلها ، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله ، تكونوا من السابقين بالتقوى إلى الله ، فقد نبهكم الله لها وأيقظكم ، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم.

[الموت]

والموت رحمكم الله فقد أبان النداء ، وداعيه فغير مفتر في الدعاء ، يختطف ـ ملحّا دائبا ـ النفوس ، ويميت الكبير والصغير المنفوس ، لا يغفل غافلا وإن غفل ، ولا يؤخر مؤملا لما أمّل ، بل يكذب الآمال ، ويقطع الآجال ، ويفرق بين الأجساد والأرواح ، وفي (٣) أي مساء يأتي أو صباح ، بل في كل حالة وساعة ، فكم من بلية أو منيّة فجّاعة ، تمنع من روح الأنفاس ، وتقطع إلف الإناس ، (٤) قد رأيناها عيانا ، وعلمناها إيقانا.

__________________

(١) في (ب) و (د) : ذلك كله له.

(٢) الخلصاني : خالص المودة. أنظر لسان العرب.

(٣) في (ب) و (ج) : ففي.

(٤) من الأنس. ولعلها الإيناس.

وإذا وطّنتم أنفسكم إن شاء الله على سلوك هذه السبيل ، وهداكم الله إليها بما جعل الله في فضلها لأهلها من الدليل ، فارضوا بالله فيها بدلا من الدنيا ، واقصدوا قصد وجوه البر والتقوى ، واعملوا عمل من يوقن بحصاد مزدرعه وزكائه ، (١) وثقوا من الله فيما عملتم من ذلك بحسن جزائه ، إذ تحملتم له ولأمره طلب الرضى ، وفارقتم لوجهه أهل الدنيا ، وحرّمتم على أنفسكم عارض شهواتها عند اشتهائه ، وآثرتم ما أعد الله من الخيرات الباقيات لأوليائه.

واعلموا أنكم إذا أمتّم عارض شهواتكم لله ، فقد طبتم وزكيتم وأشبهتم المصطفين من عباد الله ، وفي غد ما يقول لكم ملائكة رب العالمين : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٧٣) [الزمر : ٧٣].

واعلموا أنكم إذا رفضتم غرور زينة الدنيا ، فكأنكم بقلوبكم في السماوات العلى ، فاجعلوا القيامة لكم (٢) غرضا ترمونه بصالح الأعمال ، ولا تقتدوا (٣) في ذلك بمنتهى سبيل الأخيار فتكونوا بعرض ملال ، يحط من كبار (٤) الأعمال إلى صغارها ، ومن تفضيلها إلى احتقارها ، ولكن تناولوا طرفا من الصيام ، وطرفا في (٥) الليل من القيام ، وتفهّموا ما تتلون فيه من أجزاء القرآن ، وسبحوا لله واذكروه في آناء الليل وأطراف النهار ، فإنه يقول سبحانه: (اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢]. ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ١ ـ ٤]. ويقول سبحانه: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء: ٧٩].

__________________

(١) زكائه : نموّه.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : لكم.

(٣) في (ب) و (د) : ولا سدلوا بذلك (مصحفة). ومعنى العبارة : الحض على التوغل في العبادة برفق فلا يأخذ المرء نفسه بمثل عمل الأخيار خشية الملل.

(٤) في (ب) و (د) : هلاك (مصحفة). وفي (ب) و (د) : كبائر.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : من.

[جوهر الدين]

واعلموا أن شهوة الشراب والطعام ، (١) والنوم عن التهجد والقيام ، أوقع سرورا (٢) للنفس ، وادعى لما في طبائع الأنفس ، من الظمأ والصيام ، ومن التهجد والقيام ، ولن يملك امرؤ ضبط نفسه وفكرته ، ويقوى على ما يفوز به في آخرته ، حتى يقوى على ترك شهوته ، ويؤثر محبة الله على محبته ، وكما لا يضبط صعاب الخيل إلا بثقيل اللّجم ، فكذلك لا يقوى على النفس إلا بمنعها من كثير من شهواتها في المشرب والمطعم.

وإذا صمتم فليكن مع صيامكم من المطعم والمشرب ، صيام عن التكبر والعجب ، فإنهما ينتجان الفتنة ويوقدان نار الغضب ، واجعلوا أفكاركم ، وصفاء أذهانكم ، في الله ومحل أوليائه ، وفي التماس (٣) منازل أحبائه ، ولا ينال (٤) ذلك إلا بكلفة متكلفة ، يتقدمها متقدّم معرفة.

واعلموا أنه لن يعرفها أحد حق معرفتها ، إلا خف عليه ما يستثقله الجاهلون من كلفتها ، فلا تطلبوا التقوى طلب الجاهل بطلبته ، المغترّ بسوء التقدير عن نيل بغيبته ، جهلا بما بينه وبينها ، وما جعل له من العلاج دونها ، فيقل صبركم ، ويعسر عليكم فيها أمركم. ولكن اعرفوا منها ما قصدتم له ، وسلكتم إلى الله عزوجل فيها سبيله ، فإن غلبت عليكم الغفلة فيها ، أو فترتم بخطيئة عن النهوض إليها ، فهيجوا قلوبكم عليها ، وادعوا أنفسكم إليها ، بأصوات الأحزان ، والبكاء إما بأنفسكم وإما بغيركم من القرآن ، فإن القرآن نور وعبرة لمن اعتبر ، والبكاء والأحزان تذكرة لمن تذكّر.

فإن تعسر عليكم في مطالبكم من التقوى مطلب ، أو ضاق عليكم من مذاهبكم مذهب ، فخذوا في غيره مما يقربكم ، ويتسع لكم به من مذهبكم ، ولا تطلبوا الله في كثرة الركوع والسجود ، دون تحقيق الإخلاص لله من قلوبكم باعتماد (٥) قصد من

__________________

(١) في جميع المخطوطات شهوة الطعام والشراب ، ولعلها مقلوبة.

(٢) في (ب) و (د) : بشرور النفس (مصحفة).

(٣) في (أ) و (ج) : وفي اليأس من منازل. مصحفة.

(٤) في (ب) و (ج) : ولن.

(٥) في (أ) و (ج) : باعتماد وقصد.

ضمائرها معمود ، فإنما يراد بذلك كله وفيه ، الوصول بتعظيم الله إليه (١).

وألطفوا نفي الهمّ عنكم ، وقطع أسباب الغم دونكم ، فإنهما يفسدان الأعمال ، ويورثان الملال ، ويفلان (٢) عزائم الجد ، ويشغلان عن سلوك القصد ، وإن عرض في نفوسكم ، أو خطر بقلوبكم ، بعض خواطر النفس (٣) الدواعي إلى غير البر والتقوى فاحذروا أن يغلب عليكم فيه ، ما يوعّر عليكم سبيل ما قصدتم إليه ، وانفوا ما عرض لكم من ذلك كله من أمر الله بما ينفيه ، ففي ذلك ولا قوة إلا بالله ما تقوون عليه ، وانفوا الهمّ عنكم فيه برجاء الفرج وتأميله ، وبما رأيتم من تغيير أمر الدنيا وتبديله.

واعلموا أن الفرج والسهل بعد الهم والوعر ، والراحة واليسر بعد النصب والعسر ، كما قال الله تبارك وتعالى : (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح : ٥ ـ ٦]. وقال الرسول عليه‌السلام ، فيما قد نقلته العوام : (اشتدي أزمة تنفرجي) (٤). واستعدوا الصمت عمّا لا يعنيكم ، فإن ذلك إذا غلب عليكم ، جلا عنكم بإذن الله ما في قلوبكم من العمى ، وإن عين القلب لا تبصر إلا في الضياء وبعد الجلى ، وجلاء القلب صمته عما لا يعنيه ، ونظره فيما له من الله وعليه ، والمرآة ذات الصدى ، لا تري إلا بعد أن تجلى ، وكذلك فلن يصل أحد إلى أن يخلص حبا لله (٥) وارتضائه ، والسرور بما أعد في دار البقاء لأوليائه ، والعجب بما أراه الله من عظمته ، إلا بعد الجلاء للقلب من درن (٦) خطيئته ، ولا يقتصر أحد في سلوك هذه السبيل على ترك الطعام ، وإدمان قراءة القرآن ، دون أن يخلط ذلك بالنظر إلى ما عند (٧) الله بقلبه ، ويتفهم في ما

__________________

(١) في (ب) و (د) : الله بأسبابه (مصحفة).

(٢) في جميع المخطوطات : ويقلان. ولعل الصواب ما أثبت. لأن العزائم تفل ولا تقل.

(٣) في (ب) و (د) : الفتن.

(٤) رواه الإمام الهادي في الأحكام ٢ / ٣٦. والسيوطي في الجامع الصغير برقم (١٠٤٧) وقال رواه الديلمي في الفردوس. والسيوطي أيضا في الدرر المنتثرة في حرف الهمزة.

(٥) في (ب) و (ج) و (د) : حب الله.

(٦) في جميع المخطوطات : دون ، وهي مصحفة عن درن ، والله أعلم.

(٧) في (ب) : ما أعد.

يقرأ كل (١) ما أمر الله به ، فإنه لا غنم لمن جعل ما هو فيه من صيامه ، ليس إلا تركه لما ترك من طعامه ، ولا من جعل قراءته بالتلاوة شغلا ، ومن فهمه لما فيه عن الله بدلا.

وصحبوا الراسخين في العلم ، فإن فيهم عصمة لمعتصم ، واقتفوا وفقكم الله صلاح آثارهم ، وانفوا الوحشة عنكم (٢) بصحبتهم واختيارهم.

ومن سلك هذه السبيل المكرمة الخالصة ، فعارضه فيها من الوساوس المغوية ، ما يوعر عليه سبيلا ، أو يدخل قلبه من فترة دخيلا ، فليذكر أنه في مسلك سبيل أولياء الله الذين اصطفى ، (٣) وأنهم باحتمال ما هم فيه من المئونة استحقوا عند الله المنزلة والزلفى ، وبها وصلوا إلى ثواب الله الأكرم ، ومحل أوليائه الأعظم.

[مثل طالب الدنيا وطالب الآخرة]

ثم ليقس نفسه فيه ، وفيما يرجو من جزاء الله عليه ، بمن يغوص في لجّ البحر ، لابتغاء الدر ، وهو يوغل في حفر (٤) المعادن لابتغاء الذهب ، ويسير له في آفاق الأرض بجهد الطلب ، وينصب نفسه لمقاساة الملك الزائل ، ويقاتل عليه وفيه كل بطل منازل. ومن يطلب ما لا يفنى ويزول ، ولا يغيّره مغيّر من البلاء فيحول ، من الملك الباقي السرمدي ، والنيل الدائم الأبدي ، أيهما أولى بالصبر على التعب ، والاجتهاد بصدق الطلب ، فقد يعلم أنه لا أحد أخسر في صفقته ، ولا أفحش في الحمق من حمقته ، (٥) ممن اعتاض زائلا بمقيم ، وبؤسا ـ إن كان عاجلا ـ بنعيم ، فأشعروا انفسكم هذا وذكره ، يسهل عليكم ما وعّرت الوساوس أمره.

وإن عرض لكم سوء تفكير ، وشنع عليكم حالا من حال الخير ، يشغل بوسواسه

__________________

(١) في (ب) و (د) : ويتفهم في كل ما يقرؤه.

(٢) سقط من (ب) و (د) : عنكم.

(٣) في (ب) و (د) : اصطفاهم.

(٤) في (ب) و (د) : خفي.

(٥) سقط من (ب) سهوا : ولا أفحش في الحمق من حمقته.

ضمائر قلوبكم ، فميزوا بين ذلك وبين ما عرض بصحيح عقولكم ، ولا ترضوا من أنفسكم فيه بغير صحيح أموركم ، فإن أخون الناس لنفسه ، وأجهلهم بيومه وأمسه ، من رضي بتشبيه العلانية ، وأنكر صدق السريرة الباطنة.

واعلموا أنكم إن رضيتم ، أو خضعتم في ذلك وأغضيتم ، فتنكم فيه عدوكم ، وسبى بغروره فيه عقولكم ، فاعتصموا بالله عن سبياته ، واستدفعوه لا شريك له لبلياته ، فإنه عزوجل غاية الاعتصام ، واقصدوا قصد ما برزتم له بالتمام ، فإن كل من نكل (١) عن بغيته ، بعد أن أنصب نفسه في طلبته ، أسوأ في ذلك حالا ، ممن لم ينصب فيها اشتغالا.

واذكروا ما وعدتم من النعيم الدائم المقيم ، وما أوجب الله لمن لم يجب دعاءه من العذاب الهائل الأليم ، ثم (٢) اسألوا الله فيما اعتصمتم به بنفي غمكم ، واكتفوا بمعونة الله فيه يقلّ همكم.

[التوبة]

ومن عثر في هذه السبيل بعد سلوكه لها فلا يقطع من الله رجاه ، ولا ييأس مما أعد الله لكل من أخطأ خطاه ، من رحمته التي وهب منها أفضل الموهبة ، وجعلها للخاطئين عند الخطيئة في قبول التوبة ، فإن الله تبارك وتعالى لم يقم للتائبين منهاجا ، ولم يجعل لكل نفس تائبة إليه من العقوبة إخراجا ، إلا لما أحب من بسط (٣) العفو والمغفرة ، وتعريف مكان حلمه بالعفو بعد المقدرة ، فإن أنتم زللتم عن طاعته ، فلا تزولوا (٤) عن طلب عفوه ومغفرته ، فإنه يبلغكم بسعيكم في طلب عفوه ، منازل (٥) الساعين في طلب ثوابه ، وكما أن الله تفضّل من ثوابه بأكثر من عمل العاملين ، فكذلك تفضل بالعفو

__________________

(١) أي : رجع.

(٢) في (ب) و (ج) و (د) : واسألوا.

(٣) في (ب) و (د) : لمن. وفي (ب) : يسقط (مصحفة).

(٤) في (ب) : ترون (مصحفة).

(٥) في (أ) و (ج) : منال : (ولعلها مصفحة).

على من أناب إليه من الخاطئين ، وكما أن طالب الضالة محبّ لوجودها وأدائها ، والطبيب محب لإبراء المرضى إذا عالجها من أدوائها ، فكذلك الله تبارك وتعالى يحب توبة من دعاه إلى الإنابة من المذنبين ، ولذلك مدح سبحانه إنابة من أناب إليه من المنيبين (١).

[حذر النفس والهوى]

واعلموا أن من سقط في البحر ، وألقى بيده في لجج الغمر ، (٢) ، ولم يتحرك في طلب الحياة ، لم يطمع له يقينا بتّا بنجاة. ومن وطّن نفسه على الهلكة ، يئس من أن يدركه الله بنجاته المدركة ، ومن يئس من الأسباب المنجية ، لم يتب من قبيح سيئة ، ومن يحسن ظنه بربه ، (٣) لا يعدم حسن الجزاء في ظنه به ، (٤) ومن يسوء ظنه بالله وفيه ، فلا يعرف إحسانه إليه ، ولا يستوجب منه ثوابا ، ولا يأمن له ـ إن عقل ـ عقابا ، وثواب الله على حسن ظنّ من عبده به ، عوض من جزائه له على حسن عمله.

فالحذر الحذر فإن المنفعة في الحذر عظيمة ، والاستعانة بمعرفتها حصن وغنيمة ، فاستعينوا بالحذر والتيقّظ عن الغفلة ، وما ليس بمأمون أن يعارضكم من الملالة.

واعلموا أن الأنفس تؤثر حب الخفض (٥) والراحات ، وكل ما كان لها فيه (٦) من عاجل سرور وفرحات ، بغلبة غالبة لها عليها ، وصغوّ مصغ شديد إليها ، فإن أهملتم أنفسكم أغارت غارة السبع في شهواتها ، وملكتها الغفلة فخالفتكم في أكثر حالاتها ، وإن انتبهتم وحذرتم ، قويتم على بلوغ ما طلبتم ، وإن ونيتم وقصرتم ، وعميتم عما بصّرتم ، غلبت عليكم غوالب الحيرة والهوى ، وأسلمكم الله إلى ما آثرتم عليه من غير

__________________

(١) في (ب) و (د) : المتقين.

(٢) الغمر : الماء الكثير.

(٣) في جميع المخطوطات : (بالله). وما أثبت اجتهاد مني. لأنه أوفق لسجع الإمام وأسلوبه. والله أعلم.

(٤) سقط من (ب) و (د) : به.

(٥) الخفض : الدّعة.

(٦) سقط من (ب) و (د) : فيه.

التقوى ، ألم تسمعوا لقول الله تعالى ، فيمن غلب عليه العمى ، وجانب سبيل الهدى : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) (٢٣) [الجاثية : ٢٣]. فلما اتبعوا أهواءهم أعماهم ، ولما آثروا تقواهم هداهم ، ألم يسمعوا قول الله تبارك وتعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (١٦) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٦ ـ ١٧].

فليكن حذر الهوى من شأنكم الأكبر ، والهرب بالجد من حظكم الأوفر.

فإنه بلغني أن بعض الصالحين كان يقول : النار تلحق ذا الخطو البطيء ، وحديقة العاجز لا تعرى (١) عن الشوك والحلافي ، (٢) فكذلك قلوب أهل التقوى إن غلب عليها الوناء والعجز والغفلة ، غلب عليها الخطأ والفساد وهي عنه ذاهلة.

فلا تتكلوا على ما سلف من أعمالكم ، فتضيعوا فيما تستأنفون من بقية آجالكم ، واجعلوا على فكركم من عقولكم رقيبا ، كيلا تجول (٣) بكم فيما جعله الله ذنبا ، وكذلك فاجعلوا على ألسنتكم (٤) لكيلا تنطق بما يسخطه ، وعلى أسماعكم وأبصاركم لكي تفرغ لما يحبه ، وزنوا ـ فيما بينكم وبين الله ـ جميع أموركم ، وارفضوا الفضول فيها من فعلكم وقولكم ، واقتصروا على بغيتكم تستريحوا ، وتفرّغوا لها تنجوا به وتفلحوا.

[الاخلاص]

واعلموا أن الزّراع الحكيم لا يثق في نفسه بسلامة ما بذر من زرعه فيه ، حتى يستودعه الخزائن فتؤويه ، فلا تثقوا بعملكم قبل الورود عليه.

واعلموا أن ما يعرض من الآفات ، ويدخل على أهله من الغفلات ، في طلب

__________________

(١) في (ب) و (د) : لا تعدا عن.

(٢) الحلافي : نبت أطرافه محددة. كأنها : أطراف سعف النخل والخوص.

(٣) في (ب) : يجول بينكم. مصحفة.

(٤) أي : اجعلوا رقيبا.

الآخرة أكثر منها في طلب الدنيا ، وذلك لفتن الشيطان بحب المدح والرياء ، واستشعار الكبر والخيلاء ، وغير ذلك من معاريض مكره وكيده ، وما يقاسى فيه من الاخلاص وشدائده ، فإن لم تحترسوا منها ، وتحتجبوا بالله عنها ، عارضتكم فيها الهلكة والتلف ، ثم لم يكن في أيديكم إلا الحسرة والأسف.

فعليكم بقراءة الكتب الدّالة على حكم الله وعجائب قدرته ، ولا تقرءوا ما قرأتموه منها للتزين في أعين الناس بقراءته ، وانفوا عنكم تثاقل التلهية ، بذكاء الفكر والنية ، وإذا أعطيتم فاشكروا ، وإن فرحتم فاذكروا ، وإن ابتليتم فاصبروا.

واعلموا أن الصلوات ، ليست بطرب الأصوات ، ولكنها بالباطن الظاهر ، والفكر المنير الزاهر ، والنية الصادقة ، والضمائر المحققة ، فاستعملوا ضمائركم بصحيح الاستعمال ، ولا تميلوا إلى ظاهر المراءاة باللسان ، تكن أعمالكم مطيبة زاكية ، وضمائركم لله خالصة نقية ، (١) ولن يكون الانسان في فعله خلصانيا ، ولا فيما تتوق إليه نفسه من ولاية الله وليا ، إلا بإخلاصه لصلاته وصيامه ، ومحافظته على ما حكم الله به عليه من أحكامه ، فأطيعوا الله (٢) ما استطعتم ، وأخلصوا له الطاعة إذا أطعتم ، واصرفوا قلوبكم إلى تقوى الله ، تكونوا من السابقين دون غيركم إلى تعظيم الله ، فقد نبهكم (٣) الله لها فأيقظكم ، وأمركم بما تعملون منها فوعظكم. فالعجل العجل والحذر الحذر! والنجا النجا! والوحاء الوحاء! فقد حدانا (٤) الرسول على رفض الدنيا وأجهر (٥) ، وحرّك إلى قبول أمر الله فيها فاستنفر ، (٦) كل نفس سوية مفكرة ، ذات عين صحيحة جلية مبصرة ، فما لأحد من عذر ولا علة ، في وناء ولا تقصير ولا غفلة.

فهل من مستجيب لله في ذلك مدّكر؟! وهل من رائح إلى الله أو مبتكر؟! منيب

__________________

(١) في (ب) و (د) : نقية صادقة. زيادة.

(٢) سقط من (ب) : الله.

(٣) في (ب) و (د) : وقد.

(٤) الوحاء : العجلة والسرعة. والحدو : سوق الإبل والغناء لها. والمراد هنا الحض والحث.

(٥) في (ب) و (د) : وأجهد (مصحفة).

(٦) في (ب) و (د) : فاستفزّوا لكل.

إلى الله مستسلم ، ومتعلق بحبل الله معتصم ، فقد أرانا الله من معايب الدنيا ومساويها ما أراه ، ففاز من بادر إلى الله في الإجابة برفضها إذ دعاه ، فوجل من الله وأشفق ، وسارع إلى الله فسبق ، ولم يأخذ منها إلا ما طاب لله وزكا ، ولم يختر على ما جعل الله من الحياة فيها سخطا من الله وهلكا ، ولم يغترر بما (١) أمده الله به من ماله وبنيه ، وبما ظاهره الله من آلائه ونعمه إليه ، فإنه يقول سبحانه : (أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (٥٥) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (٥٦) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (٥٨) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (٥٩) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (٦٠) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (٦١) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٦٢) [المؤمنون : ٥٥ ـ ٦٢]. ويقول سبحانه : (وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٣) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ) (٧٤) [المؤمنون : ٧٣ ـ ٧٤]. ويقول سبحانه : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (٥٤) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٥٥) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ) (٥٩) [الزمر : ٥٤ ـ ٥٩]. ويقول سبحانه : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) (٤٧) [الشورى : ٤٧] ، فكفى بتذكير الله عزوجل وأمره فيما ذكرنا به وأمرنا من كل أمر وتذكير ، فأسعدكم الله بقبول تذكيره ، وأيدكم في ذلك بتوفيقه وتبصيره ،

__________________

(١) في (ب) : تعتدوا (مصحفة).

وبلّغكم الله برحمته صالح أعمالكم ، ونستودع الله لنا ولكم ، ولجميع أحوالكم (١).

تم كتاب سياسة النفس والحمد لله كثيرا.

وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم تسليما ، وحسبنا الله ونعم الوكيل ، ونعم المولى ونعم النصير.

* * *

__________________

(١) في (ب) و (ج) : إخوانكم.

العالم والوافد

بسم الله الرحمن الرحيم

[امتحان قبول]

روي بالإسناد الصحيح أن وافدا وفد على عالم من علماء آل (١) رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) ، فلما نظر الوافد إليه رأى (٣) رجلا جسمه لا يشبه اسمه : فسلم عليه ، فرد السلام ، فأطال الوافد الوقوف ، وأطال العالم السكوت.

فقال الوافد : إن لكل طالب حاجة.

فقال العالم : ولكل حديث (٤) جواب.

فقال الوافد : صدقت ، لأن الله تعالى يقول : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) (٤٣) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧]. فعلم العالم أن الوافد يريد منه علما.

فقال : إن العلم بحر عميق.

فقال : ولكل بحر سفينة ينجو بها راكبها.

قال العالم : وما سفينة بحر العلوم؟

فقال الوافد : المعرفة.

فقال العالم : المعرفة اسم أم رسوم (٥)؟

فقال الوافد : اسم ورسوم.

[النفس]

فقال العالم : كم رسوم المعرفة؟

__________________

(١) في (ج) : أمة. مصحفة.

(٢) العالم (الإمام القاسم) والوافد ولده (محمد بن القاسم)

(٣) في (أ) و (ب) : نظر.

(٤) في (أ) و (ب) : كلام.

(٥) في (أ) و (ب) : أو رسم.

قال الوافد : تعرف نفسك ، وتعرف ربك ، وتعرف دينك ، وتعرف دنياك ، وتعرف آخرتك ، فإذا عرفت ذلك فلا حاجة لك إلى غيرك.

قال العالم : كيف تعرف نفسك؟

فقال الوافد : أعرف حدثها ، وأعرف ضعفها ، وأعرف فاقتها ، وأعرف عجزها ، فأجهدها في طاعة ربها ، وأحملها على الخوف لخالقها ، كي أرى خوفها ، واحتمال الأذى (١) ، وأروضها وأحثها على الطلب لما فيه نجاتها ، وأصرفها من الكذب إلى الصدق ، ومن الطمع إلى الورع ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الشرك إلى الإخلاص ، وأخرجها من محبوبها في الدنيا ، وأريضها في السفر (٢) حتى تنال كرامة الله تعالى في الآخرة.

[معرفة الله]

قال العالم : وكيف (٣) تعرف ربك؟

قال الوافد : أعرفه بما عرّف به نفسه من الوحدانية ، ولا أشبهه (٤) بشيء من البرية ، لا يحد بالحدود ، ولا يوصف بالصفات ، إذ هو سبحانه وتعالى خالق كل صفة وموصوف.

[الدين]

قال العالم : وكيف (٥) تعرف دينك؟

قال : الوافد أعرفه بالشريعة التي سنها الرسول (٦) صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) في (ج) : واحتمالها للأذى.

(٢) في (ج) : وأربطها في الفقر. ولعلها مصحفة.

(٣) في (ج) : فكيف.

(٤) في (أ) : ولا يشبهه شيء.

(٥) في (ج) : فكيف.

(٦) في (ج) : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبالمحكم من التنزيل وشهاد علانية العقول ، وهي على ـ

وصدّقها المحكم من التنزيل ، وشهدت لها قرائن العقول. وهي على ثلاثة وجوه : قول وعمل واعتقاد ، وسبيلها واضح ، وطالبها رابح ، قد بهر (١) دليلها ، وشهد لها بالصدق من ذوي العلم عقولها ، فقد كفونا مئونة الطلب بهذا الاحتجاج ، وقطعوا عنا علائق الاعوجاج ، حتى ما بقي في ذلك شك ولا اختلاج. فقصدت (٢) عند ذلك بينة صحيحة حتى عرفت (٣) الأصل والفرع ، وبحثت بغائص عقلي (٤) ، فوجدت ذلك واضحا مبيّنا ، وفي كتبهم مشروحا معيّنا ، كلاما مبرهنا ، قد حملوا صلوات الله عليهم عبء ذلك وثقله ، وأوضحوا فرع ذلك وأصله ، حافظين فيه الأمانة ، مجتنبين الغش والخيانة ، قد شيدوا بنيانه ، وعظموا سلطانه ، وأثبتوا في العقول برهانه ، فليس لأحد من بعدهم مطلب ، ولا لمسترشد من دونهم مذهب ، ولا عاقل في غير مذهبهم يرغب.

[الدنيا]

قال العالم : فكيف عرفت (٥) دنياك؟

قال الوافد : عرفت (٦) فناها وتقلّبها ، وغدرها وخدائعها فحذرتها (٧) ، ونظرت وميزت ، فإذا الدنيا تغر طالبها ، وتقتل صاحبها ، تفرق ما جمع ، وتغير ما صنع ، فعرفت أنها تفعل بي مثل ما فعلت بالأولين.

__________________

ـ ثلاثة وجوه واعتقادها وسبيلها.

(١) في (ج) : تميز.

(٢) في (ج) : ميل ولا. وفي (أ) و (ب) : فقصدت رغبة بذلك بنية. تصحيف.

(٣) في (ج) : عرف.

(٤) في (أ) : وتجلت بغائص. وفي (ب) : وبحثت بغامض. وسقطت الجملة من (ج) : وما أثبت تلفيق من (أ) و (ب).

(٥) في (أ) و (ج) : تعرف.

(٦) في (ج) : أعرف.

(٧) في (ج) : في غرورها وخدعها وخزيتها. مصحفة.

[الآخرة]

قال [العالم] : فكيف عرفت آخرتك (١)؟

قال الوافد : عرفت أنها (٢) دار باقية فيها الحساب والعقاب ، والمجازاة والثواب ، يبلغ أمدها ، ويطول أبدها ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فمن كان في أصحاب الجنة فشاب لا يكبر ، وغني لا يفتقر ، وقادر لا يعجز ، وعزيز لا يذل ، وحي لا يموت ، في دار قرار (٣) ونعيم مقيم ، وسرور وقصور ، وأبكار (٤) راضية ، وقطوف دانية ، وأنهار جارية ، وملك لا تحد سعته (٥) ، ونعيم لا تحصى صفته. ومن كان من أهل النار فحمل ثقيل ، ومقام طويل ، وبكاء وعويل ، وخشوع ضفيف ، وقلب حفيف (٦) ، في دار جهد وبلية ، وغم (٧) ورزية ، وضيق لا يتسع ، وعذاب لا ينقطع ، حيث السلاسل والأغلال ، والقيود والأكبال ، والضرب والنكال ، والصياح والأعوال ، وأكل الزقوم ، وشراب الحميم ، ولفحات السموم ، وظهور المكتوم ، ولباس القطران ، وزفرات النيران ، والخزي والهوان ، داخلها محسور ، وواردها مضرور ، وساكنها مدحور ، وصاحبها مقهور ، واللابث فيها مهجور.

[الجنة والنار]

قال العالم : كيف يصنع من وعد بهذين الدارين؟

__________________

(١) في (أ) و (ج) : الآخرة.

(٢) في (أ) : منتقلة. وفي (ب) : منقلبة. تصحيف.

(٣) في (ج) : القرار في نعيم وسرور.

(٤) في (ج) : وحور.

(٥) في (ج) : وملك لا يزول.

(٦) في (أ) و (ب) : وخشع ضفيف. وفي (أ) و (ب) : وخشع ضعيف وقلب خفيف. ولعلها مصحفة. وفي (ج) : وخشوع ضعيف وقلب خفيف. وما أثبت اجتهاد ولعله الصواب ، والضفف والحفف : الضيق والشدة. وقد تكون خشوع ضعيف وقلب خفيف ، من الضعف والخفة.

(٧) في (ج) : وهم وغم.

قال الوافد : ينبغي لمن وعد بهذين الدارين أن ينظر إليهما ، ويتصور ما وعد الله فيهما لأهلهما ، ثم ينظر إلى الجنة وقصورها ، وما وصف الله فيها من النعيم المقيم ، والفواكه والأزواج من الحور الحسان ، والأكاليل والتيجان ، والأنهار الجارية ، والأثمار الدانية ، والسرر المصفوفة ، والزرابي المبثوثة ، وأسبابها ولباسها ، وفراشها وحجراتها ، وطعامها وشرابها ، ونعيمها ودوام ذلك فيها ، فيخاف أن لا يكون من أهلها ، فهنالك تتتابع زفراته ، وتكثر حسراته ، وتفيض عبراته ، ويطيع ربه ويعصي هواه ، ويترك دنياه ، ويطلب آخرته ، ويعلم يقينا أن إلى الله مصيره (١).

[معارف الحكماء]

قال : فلما انتهى الكلام منهما إلى هذا الحد ، وعلم العالم أنه ذو فطنة ونباهة ونبالة ، ونظر وتمييز ، ورغبة (٢) في طلب العلم (٣) سأله لينظر معرفته.

قال العالم : من أين؟

قال الوافد : من فوق الأرض ومن تحت السماء.

قال العالم : كم لك؟

قال : كذا وكذا سنة.

قال له العالم : ما ترى؟

قال : أرى أرضا وسماء ، وما بينهما.

قال : فما ترى في السماء؟

قال : أرى شمسا تحرق ، وقمرا يشرق ، ونجوما تزهر ، وماء يمطر (٤) ، ورياحا تذري ،

__________________

(١) في (ج) : المصير.

(٢) سقط من (أ) و (ب) : ورغبة. وفي (ج) : ورغب. ولعلها مصحفة ، وما أثبت اجتهاد.

(٣) في (ج) : طلب مسألته.

(٤) في (ج) : ونجوما تظهر ، وماء يهبط.

وسحابا يجري ، وطيرا يهوي ، وليلا ونهارا ، وأياما مختلفة (١).

قال العالم : فما ترى في الأرض؟

قال الوافد : أرى برا وبحارا (٢) ، وسهولا وأوعارا (٣) ، وترابا وأحجارا ، وأثمارا وأشجارا(٤) ، وأنهارا وقرارا (٥).

قال العالم : فكم الدنيا؟

قال الوافد : ليل ونهار.

قال العالم : فكم الخلق؟

قال : ذكر وأنثى.

قال العالم : فكم الناس؟

قال الوافد : الناس أربعة : واحد فيه خير وشر ، والثاني شر بلا خير ، والثالث خير بلا شر ، والرابع لا خير فيه ولا شر.

قال العالم : فكم الناس وما هم بعد ذلك؟

قال الوافد : نبل وسفل ، فلا النبل لهم قدر عند السفل ، ولا السفل لهم قدر عند النبل.

قال العالم : فكم الكلام؟

قال الوافد : أربعة : خطاب ، وجواب ، وخطأ ، وصواب.

قال العالم : ففيم (٦) العجب؟

قال الوافد : في سبعة.

__________________

(١) في (ج) : ونهارا وآيات البريات.

(٢) في (ب) : وبحرا. وفي (ج) : وأبحارا.

(٣) سقط من (ب) : وأوعارا. وفي (أ) : وسهولا وجبالا.

(٤) سقط من (ج) : وأشجارا.

(٥) سقط من (أ) و (ب) : وقرارا.

(٦) في (ج) : فيمن.

قال العالم : من هم؟

قال الوافد : عبد عرف الله وعصاه ، وعرف (١) الشيطان وأطاعه ، وعرف الدنيا فجمع لها ، وذكر الموت فطابت نفسه ، وعرف الآخرة فبغضها ، وعرف الجنة فلم يرغب إليها ، وعرف النار فلم يرهبها.

[الإيمان]

قال العالم : فما خير الأشياء؟

قال الوافد : خير الأشياء الإيمان بالله ، والملائكة ، والكتاب ، والنبيين.

قال العالم : كم شهود الإيمان؟

قال الوافد : أربعة شهود : محكم الكتاب ، ومحكم السنة ، وحجة العقول ، وإجماع الأمة.

قال العالم : وما هو؟

قال الوافد : عمل ، وقول ، واعتقاد.

قال العالم : وكيف (٢) ذلك؟

فقال الوافد : قول باللسان ، واعتقاد بالجنان ، وعمل بالأركان.

قال العالم : فما ضد الصدق؟

قال : ضده (٣) الكذب.

قال : فما ضد العمل؟

قال : ضده النفاق.

__________________

(١) في (ج) : ومن عرف. وبقية الجمل مصدرة بمن.

(٢) في (ج) : فكيف.

(٣) في (أ) و (ب) : لم يذكر (ضده) في الجمل الثلاث.

قال : فما ضد الاعتقاد؟

قال : ضده التشبيه.

قال العالم : فما أعظم الأشياء؟

قال : معرفة الله على الحقيقة (١) ، وهي : التوحيد والتعديل ، والتصديق ، وذكر الله على كل حال ، في الليل والنهار.

قال العالم : فما أفضل الأشياء؟

قال الوافد : أفضل الأشياء : طلب العلم من العلماء ، حتى يعرف الطالب الحق فيعمل به ، فمن زهر (٢) مصباح الهدى في قلبه أخلص العمل والنية الصادقة لربه ، وأنطقه الله بالحكمة.

قال العالم : فما أخبث الأشياء؟

قال الوافد : الجهل. لأن بالجهل (٣) الهلاك والعطب ، وأن الجاهل إذا أراد أن يصلح شيئا أفسده بجهله وقلة علمه ، وهو يجلب جميع الآفات ، ويتولد منه الكبر والطمع والحسد ، والحرص والشهوة والبخل والسخرية (٤).

قال العالم : فما أقبح الأشياء؟

قال الوافد : اللهو ، والغيبة ، والنميمة ، والخيانة ، والكذب ، والزنا ، والرياء ، وحب المدح ، وحب الفاسق ، وصحبة المنافق ، والتهمة وسوء الظن (٥).

قال العالم : فما أدنس الأشياء؟

قال الوافد : السؤال للناس ، ومقاربة الأنجاس ، والثقة بكل الناس ، ومفارقة الأكياس.

__________________

(١) في (ج) : حقيقته.

(٢) في (ب) : فمتى. وفي (ج) : فمن أظهر.

(٣) في (ج) : في الجهل.

(٤) في (أ) و (ب) : والسخريا.

(٥) في (ج) : الخلق.

قال العالم : فما أنفع الأشياء؟

قال الوافد : حسنة تكون بعشر (١) أمثالها.

قال العالم : وما هي (٢) هذه الحسنة؟

قال الوافد : تطعم أخاك المؤمن من جوع ، أو تكسوه من عري ، أو تقضي عنه دينا ، أو تفرج عنه غما ، أو تكشف عنه هما ، فمن فعل هذا لأخيه المؤمن جاء يوم القيامة ولوجهه نور يضيء كنور القمر ، وتتلقاه الملائكة بالبشارة (٣) ، وتدخله الجنة آمنا ، وأعطاه الله من الثواب ما لا يصفه واصف ، ولا يحيط بمعرفته عارف.

قال العالم : فما أضرّ الأشياء؟

قال الوافد : سيئة تتبعها سيئة ، ولا يكون عليها ندامة ، ولا يرجع صاحبها إلى توبة.

قال العالم : فما أطيب الأشياء؟

قال الوافد : العافية مع المعرفة ، ووضع الأشياء في مواضعها ، وفي مجالسة العلماء ، ومدارسة الحكماء ، وحضور مجالس الذكر ، والتفكر في الصنع ، والمبادرة في أعمال البر ، وإصلاح ذات البين ، والتجهيز للرحلة ، والاستعداد للموت.

قال العالم : فما أهول الأشياء وأعظمها فزعا؟

قال الوافد : إذا نفخ في الصور ، وبعثر ما في القبور ، واجتمعت الخلائق إلى الموقف (٤) المتضايق ، فهنالك الفزع العظيم ، والخطب الجسيم ، كل إنسان يقول : نفسي نفسي ، لا يسأل ذلك اليوم والد عن ولده ، ولا أخ عن أخيه ، كل نفس بما كسبت رهينة.

__________________

(١) في (أ) : تكون بها عشرة. وفي (ج) : يكون بها عشر.

(٢) سقط من (ج) : هي.

(٣) في (ج) : بالمسرة.

(٤) في (ج) : للموقف.

[نجاح الوافد في الامتحان]

قال : فلما انتهى الكلام بالعالم والوافد إلى هذا الحد (١) عرف العالم أن الوافد حسن المعرفة ، جيّد الفطنة ، رصين الدين ، صحيح اليقين ، متين الورع ، كثير الفزع ، أقبل عليه العالم بوجهه وقال : أيها الوافد الصالح ، والتاجر الرابح ، والخليل الصالح الناصح : اسأل عما بدا لك يرحمك الله.

[سؤال وجواب]

فقال الوافد : أيها العالم الحكيم الناطق ، والبر الشفيق الصادق ، انشر علي من مكنون حكمتك علما ، وزدني من نوادر معرفتك ما أزداد به فهما ، فلعل الرّين الذي على قلبي أن يخلص ببركتك ، وينجلي عني بجود صحبتك (٢).

قال العالم : جرّ (٣) لك الصلاح ، ووفّق لك الفلاح ، ويسّر (٤) لك النجاح ، وعليك بستة (٥) أشياء فالزمها واعمل بها ، واحرص فيها وحافظ عليها.

[معرفة الله]

قال الوافد : وما هي بيّنها لي يرحمك الله؟

قال العالم : أولها المعرفة بالمعروف فهو الله عزوجل ، والإيمان به ، والإسلام ، والطاعة ، والعلم ، والعمل. ثم تعرف المعرفة ما هي إذا صرت عارفا ، رددت (٦) المعرفة

__________________

(١) في (ج) : الكلام فيهما إلى هاهنا عرف.

(٢) في (أ) و (ب) : صحبتك علما. لعلها زيادة سهو.

(٣) في (ج) : أخر.

(٤) في (أ) : وتيسر.

(٥) في جميع المخطوطات : بسبعة. ولعل الصواب ستة. تأمل.

(٦) في (ج) : وزدت.

إلى المعرفة فلحقت من المعرفة ما قدرت عليه. ثم تعرف الإيمان ما هو وكيف هو؟ حتى إذا صرت مؤمنا أسلمت للذي آمنت به ، حتى إذا صرت مسلما احتجت أن تطيع للذي أسلمت له (١) ، حتى إذا صرت مطيعا احتجت إلى علم تطيع به ، وتعرف العلم ما هو وكيف هو ، حتى إذا صرت عالما احتجت أن تعمل بما علمت ، ثم تعرف العمل ما هو وكيف هو وما ثمرته ، وإلى ما يوصلك وما عائدة نفعه.

قال الوافد : أيها العالم بيّن لي المعرفة ما هي وكيف هي؟

قال العالم : أما ما هي فإصابة الأشياء بأعيانها ، ووضعها في مواضعها ، ومعرفتها على حقائقها ، وأما كيف هي فإصابة المعاني ، فما من شيء إلا له معنى يرجع إليه ، فإصابة الأشياء بالنظر والتفكر والتمييز والسمع والبصر ، وإصابة المعاني بالتفكر والاعتبار والعقل (٢).

قال الوافد : فما معرفة الله تعالى؟

قال العالم : هو أن تعلم أن الله سبحانه وتعالى واحد أحد فرد صمد ، لا تدركه الأبصار ولا يحويه مكان ، ولا يحيط به علم ، ولا يتوهمه جنان ، ولا يحويه الفوق ولا التحت ، ولا الخلف ولا الأمام ، ولا اليمين ولا الشمال (٣) ، فتعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، لا يعلم كيف هو إلا هو. فتعرفه بهذه المعرفة ، فما توهمه قلبك فربك بخلافه عزوجل ، وذلك قوله في محكم كتابه العزيز لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ (١) اللهُ الصَّمَدُ (٢) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (٣) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) (٤) [الإخلاص : ١ ـ ٤]. فتقول كما أمرت ، وتعمل كما قلت ، وتشهد بما علمت ، وتعمل كما شهدت ، أن الله الواحد القهار الملك الجبار المحيي المميت الحي الذي لا يموت ، خالق كل شيء (ومالك كل شيء ، الكائن قبل كل شيء ، الباقي بعد فناء كل

__________________

(١) في (ج) : إليه.

(٢) ذكر هنا الحواس التي تدرك الأشياء الحسية ، وذكر ما يدرك به المعاني ، فلعل ذكر النظر والتفكر والتمييز فيما يدرك به الأشياء الحسية زيادة من الناسخ. والله أعلم

(٣) في (أ) و (ب) : اليسار.

شيء ، (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] (١)). وهو على كل شيء قدير ، فهذه معرفة الله تعالى بالذكر (٢).

وأما المعرفة بالتفكر والنظر بالقلوب ، والتمييز بالألباب ، فهي في عظيم قدرة الله تعالى وارتفاعه ، وعلوه وبقائه ، ونفاذ أمره ، وبيان حكمته ، وإحاطة علمه ، وكثرة خلقه ، وسعة رزقه ، وقرب رحمته ، وجود كرمه ، وكريم تطوله ، وبيان حكمه ، وحسن رأفته ، وجميل ستره ، وطيب عافيته ، فلله الحمد على ذلك كثيرا.

[الإيمان]

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الإيمان بالله والإقرار به ، وبما جاءت به الرسل من عند الله تعالى ، وتؤمن(٣) جوارحك حتى لا تستعملها في شيء مما يكرهه منك خالقها ، فتكون قد أمنتها من عذاب النار. ومن الإيمان أن يأمن الناس من يدك ولسانك وظنون قلبك ، فإذا فعلت ذلك فأنت مؤمن. ومن الإيمان الرضى بالقضاء ، والشكر على العطاء ، والصبر على البلاء. ومن الإيمان المحافظة على الفرائض والسنن ، والقيام (٤) بالنوافل والفضائل.

ومن الإيمان تعلم أن الله حق ، وقوله حق ، والجنة حق ، والنار حق ، والبعث حق ، والثواب حق ، والحشر حق ، والقيامة حق ، والعرض حق ، والحساب حق ، وأن الله على كل شيء قدير ، وأنك منتقل من هذه الدار الفانية إلى الآخرة الباقية. مسئول عن أعمالك ، موقوف على فعالك وأقوالك ، وإقلالك وإكثارك (٥) ، وإعلانك وإسرارك ،

__________________

(١) سقط ما بين القوسين من (أ). ومن (ج) : سقطت الآية فقط.

(٢) في (أ) و (ب) : فهذه معرفته بالتفكر.

(٣) في (ج) : واتق في جوارحك.

(٤) في (ج) : والمبادرة.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : وإقلالك وإكثارك.

فتجد ما فعلت قد أحضر إليك. وأنت اليوم في دار المهلة ، ومكان الفسحة ، فلا تذهب أيامك سدى ، واعمل فيها بطاعة ربك (١) ، وعلق قلبك في ملكوت إلهك ، واجعل دليلك القرآن ، وقرينك الأحزان ، وفعلك الإحسان ، وطعامك الفكر ، وحديثك الذكر ، وحليتك الصبر ، وقرينك الفكر (٢) ، وهمك الحساب ، وسعيك الثواب ، وجليسك الكتاب ، وأملك الرجاء ، وسريرتك الوفاء ، وسيرتك الحياء ، وفاقتك الرحمة ، وعملك الطاعة ، وطلبك النجاة ، وسؤالك المغفرة ، وسبيلك الرضى ، وخوفك العقاب ، ورغبتك الثواب ، وخلقك العفاف ، وعزيمتك الكفاف ، فمن سلك هذه الطريق سبق ، ومن تكلم بمثل هذه صدق ، وهي عروة فمن تعلق بها استوثق ، والحمد لله رب العالمين.

[الإسلام]

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الإسلام ، وهو أن تسلم للذي آمنت به. ومن الإسلام أن تسلم كليتك(٣) إلى أعمال الطاعات ، فإذا بلغت ذلك سلمت من العقاب (٤) ، وسلم الخلق منك ، ويكون إسلامك بالظاهر والباطن ، حتى لا يخالف قولك فعلك ولا فعلك يخالف قولك ، فيكون ظاهرك باطنك ، وباطنك ظاهرك ، وتكون موقنا بالوحدانية ، مقرا بالربوبية ، معترفا بالعبودية ، مجللا بالعظمة ، هائبا للجلالة ، فرحا بالمكروه (٥) ، محبا

__________________

(١) في (أ) و (ب) : الله.

(٢) في (أ) : إلهك ، وطعامك الذكر ، وخليلك الصبر ، وقرينك الذكر ، وهمك الحساب. وفي (ج) : إلهك ، واجعل دليلك الإيمان ، وقرينك التفكر ، وهمك الحساب.

(٣) سقط من (ج) : كليتك إلى.

(٤) في (ج) : النار.

(٥) في (أ) و (ب) : بالملكة. وفي (ج) : بالسكون. ولعلها مصحفة. وما اثبت أشار إليه في (ب) : بنسخة. ولعله الصواب.

للطاعة ، طالبا للرضى (١) ، خائفا للبعث ، راغبا في الجزاء (٢) ...

راهبا للعذاب ، مؤديا للشكر ، مداوما على الذكر ، معتصما بالصبر ، عاملا بالفكر، فهذا عمل الباطن.

وأما عمل (٣) الظاهر : فالاجتهاد في أداء الفرائض والسنن والفضائل (٤) والنوافل ، منها الصلاة ، والزكاة ، والصيام ، والحج ، والجهاد ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقراءة القرآن.

ومن السنن الختان ، وصلاة العيدين ، وحلق العانة ، وتقليم الأظفار ، ونتف الإبطين، وقص الشارب ، والسواك.

ومن الفضائل صيام رجب ، وشعبان ، والأيام البيض ، ويوم عاشوراء ، ويوم عرفة (٥) والاثنين والخميس.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : وراء ذلك المواصلة والمعاونة والمؤاساة والمؤاخاة في الله ، والمحبة (٦) لأولياء الله تعالى ، والبغضة (٧) لأعداء الله ، وصلة الرحم ، وبر الوالدين ، ورحمة اليتيم ، ومعاونة الضعيف ، وتعليم الأولاد وتأديبهم ، وإنصاف الزوجة فيما تسألك عنه وهي ناظرة إليك ، والعناية في تعليمها ، والأمر لها فيما لا بد لها منه ، والنهي لها عما لا حاجة لها إليه (٨) ، ولزومها لمنزلها ، وطول الحجاب ، وتصفيد (٩) الأبواب ، وتعليم الحكمة

__________________

(١) في (أ) و (ب) : للجزاء.

(٢) في (أ) و (ب) : للجزاء.

(٣) سقط من (أ) : عمل.

(٤) سقط من (أ) : الفضائل.

(٥) سقط من (أ) و (ب) : ويوم عاشوراء ، ويوم عرفة.

(٦) في (أ) و (ب) : والحب.

(٧) في (أ) و (ب) : والبغض.

(٨) في (ج) : فيما لا حاجة لها فيه.

(٩) في (أ) : وتصفية الأبواب. وفي (ب) : وتصفية الأثواب. وفي (ج) : وتفصيل الأبواب. ولعلها مصحفة ـ

والصواب ، مع لزوم العفاف ، والرضى بالكفاف ، والصيانة لها عن التبرج في الفرج (١) والأبواب ، والتشرف إلى أهل الفحش والارتياب ، ومنع الداخلات إلى دار المسلمات ، ممن لا يشاركهن في الدين والأحساب ، فأولئك هاتكات الستور ، ومبيحات كل محظور ، والناقلات الكلام الزور ، الجالبات للفحشاء والفجور ، والمبغضات للنعمة ، والمدخلات على المسلمات التهمة ، والمفرقات للألفة ، والداعيات للكشفة.

ولقد روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : أحب إلي أن أجد في منزلي مائة لص يسرقونه أهون علي من أن أجد فيه عجوزا لا أعرفها. (٢) ومن ذلك إنصاف الخادم (٣) فيما لا يقدر عليه ، والنهي له عن ما لا حاجة له فيه ، والرفق به فيما لا يقدر عليه به ، والنظر له فيما لا يدري ، (وصيانة الدابة فيما تحتاج إليه ، والرفق بها فيما لا تقدر عليه) (٤) ، فهذا الأمر بالمعروف.

وأما النهي عن المنكر : فمن المنكر القول السيئ ، والقول بالفواحش ، والكذب (٥).

ومن الفعل : القتل ، والربا ، والزنا.

ومن النية : الرياء ، والكبر ، والحسد ، والبغضاء ، والشحناء ، والفحشاء.

ومن الفعل : أخذ أموال الناس سرا وجهرا ، ومن القول الغيبة ، والنميمة ، وشهادة الزور. فهذا من النهي عن المنكر.

__________________

ـ كلها. وأشار في هامش (ب) : إلى ما أثبت ، ولعله الصواب. والتصفيد هو : الغلق.

(١) في (أ) و (ب) : اللهوج. وفي (ج) : العوج. ولعلها مصحفة كلها. ولعل الصواب ما أثبت ، مع العلم أن اللهوج في لهجة بعض أهل اليمن تعني النوافذ ، إلا أني لم أقف عليها في معاجم اللغة بهذا المعنى.

(٢) لم أقف على هذه الرواية.

(٣) في (أ) : الخادم المملوك.

(٤) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ب).

(٥) في (أ) و (ب) : فعل الشرور ، والقول السيئ. وفي (ج) : الفعل السيئ ، وقول الفواحش. ولفقت النص من الجميع. وسقط من (أ) و (ب) : الكذب. وزاد : الغدر والتيه.

[مراتب العرفان]

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : تطيع الله الذي أسلمت له.

قال الوافد : وما هي الطاعة بيّنها لي ـ يرحمك الله تعالى ـ حتى أعرفها وأعمل بها؟

قال العالم : الطاعة اتباعك لما أمرك الله به ، واجتنابك لما نهاك الله عنه ، وذلك على وجهين : شيء قد علمته ، وشيء لم تعلمه.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : اجتناب ما نهاك الله عنه ، وهو على وجهين : شيء قد عرفته ، وشيء لم تعرفه ، فتعرف ما لك وما عليك ، فيما نهاك الله عنه ، فعليك بما قد علمت به ، التوبة (١) والرجوع والإنابة والتضرع ، ولك في ذلك المغفرة. (٢) فإنك إذا خفت ربك تبت إليه ، وتعرف الخوف ما هو وكيف هو.

قال الوافد : ما هو يرحمك الله؟

قال العالم : أما ما هو فمعرفة الذنب ، وشهادة الرب. وأما كيف هو : فوجل القلب ، ودمع (٣) العين. فإن لم تكن كذلك فلست بخائف فيما قد علمت. وأما الذي لم تعلمه فعليك منه الرهبة والتقوى ، فإذا اتقيت الله لم يجدك حيث نهاك ، وإذا خفته لم يفقدك حيث أمرك ، فإن الله يراك ، ويعلم سرك ونجواك ، ويسمع كلامك ، فهنالك ترهبه وتخافه حتى كأنك تراه.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : وراء ذلك التقوى.

__________________

(١) في (ب) : علمت بالتوبة. وفي (ج) : علمت التوبة.

(٢) في (أ) و (ج) : المعرفة. مصحفة.

(٣) في (ب) : ودموع.

قال الوافد : وما التقوى؟

قال العالم : تحفظ (١) لسانك وعينك ويدك ورجلك وفرجك (٢) وظنون قلبك ، فلا تنظر بعينك (٣) إلى ما لا يحل لك ، فإن النظرة الواحدة تزرع في القلب الشهوة ، وهي سهم من سهام (٤) إبليس ، وتحفظ لسانك عن الكلام فيما لا يعنيك ، فإن اللسان سبع إذا أطلقته أكلك ، وهلاكك في طرف لسانك ، فلا تقل ما لا يحل لك ، ولا تمدد يدك إلى ما لا يحل لك ، فإن لم تفعل فما اتقيت الله تعالى ، وإن فعلت فقد اتقيت (٥) ، ولك في ذلك المغفرة والرحمة وذلك قوله سبحانه : (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى) (٨٢) [طه : ٨٢].

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : القيام بما أمرك الله به ، حتى تعرف عملك ، وتضع كل شيء منه (٦) في موضعه ، وتعرف خطأه وصوابه ، ويكون ذلك العمل تابعا للعلم مطابقا له ، ويكون فيه الرغبة واليقين والإخلاص والمحبة والحياء والاستقامة ، وتعرف الرجاء ما هو ، وكيف هو ، ومن ترجو.

قال الوافد : بيّن لي ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : هو أن يكون رجاؤك الله في كل أمورك ، لدنياك وآخرتك ، ولا يكون رجاؤك للخلق (٧) أكثر من رجائك للخالق (٨) ، فتحبط عملك ، ويبطل أجرك ، فإن الله

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) : تحفظ.

(٢) سقط من (ب) و (ج) : ورجلك. وسقط من (أ) : وفرجك.

(٣) سقط من (أ) : بعينك.

(٤) في (ب) و (ج) : أسهم.

(٥) سقط من (أ) و (ب) و (ج) : وإن فعلت فقد اتقيت. إلا أنه أشار إليه في (ب) : بنسخة. ولعله الصواب.

(٦) سقط من (أ) : منه. وفي (ج) : منك.

(٧) في (ج) : للناس.

(٨) في (أ) : الله. وفي (ج) : لله.

تعالى يقول وقوله الحق : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١١٠) [الكهف : ١١٠]. فتقوم بما (١) أمرك الله به ظاهرا وباطنا ، فيصح ظاهرك وباطنك ، فإن الظاهر الجلي ، يدل على الباطن الخفي. ويكون قلبك متعلقا بذكر من ناصيتك بيده ، ورزقك عليه ، ورجاؤك له (٢) وشدتك وعافيتك وبلواك ومحياك ومماتك ودنياك وآخرتك ، وترجوه للشدة كما ترجوه للرخاء ، وترجوه للآخرة كما ترجوه للدنيا ، وتخافه كما تخاف الفقر (٣).

قال الوافد : فما وراء لك يرحمك الله؟

قال العالم : الرغبة ، تعرفها (٤) ما هي وكيف هي؟

قال الوافد : بيّنها لي يرحمك الله تعالى؟

قال العالم : إن الرغبة في التطوع بعد الوفاء بما أمرك الله به ، فإنك إذا رغبت ازددت إلى الخير خيرا ، وإن لم ترغب لم تزدد وأنت متطوع ولست براغب. وأما كيف هي : فالتضرع عند الدعاء ، فإنك إذا رغبت تضرعت ، وإذا لم ترغب كان دعاؤك بلا رغبة ، وذلك قوله عزوجل : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٥٥) [الأعراف : ٥٥]. فمن خاف تضرع ، ورحمه‌الله وأجابه (٥).

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : وراء ذلك اليقين.

قال الوافد : وما هو اليقين؟

قال العالم : صاحب اليقين ذنبه لا يكتب ، وتوبته لا تحجب.

قال الوافد : بيّن لي ذلك؟

__________________

(١) في (ب) : فتعمل بما. وفي (ج) : فتقوم كما.

(٢) سقط من (ج) : له. وفي (أ) : عنده.

(٣) في (ج) : وتخاف ربك كما تخاف من الموت والفقر.

(٤) في (ج) : تعرف.

(٥) سقط من (أ) : وأجابه.

قال العالم : صاحب اليقين يعلم أن العلم متصل بالنية ، فكلما خطر (١) خاطر في قلبه ، علم أن الله قد علمه فيلحقه الخوف ، ويبادر (٢) بالتوبة قبل أن يعمل الذنب ، فتوبته مقبولة ، وذنبه غير مكتوب ، وإنما يكتب ذنبه لو أصر عليه ولم يتب منه.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الإخلاص في الدين ، وهو في القول والعمل والاعتقاد ، قول خير ، وعمل خير ، واعتقاد خير ، أما سمعت ما قال الله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) [الزمر : ٣].

قال الوافد : بيّن لي ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : هو أن يعلم العبد أنه بين يدي الله (٣) عزوجل ، يراه ويسمع كلامه ، ويعلم ما في نفسه ، فيجعله (٤) أمله ، وتكون الطاعة عمله ، ولا يغيب عن مشاهدته ، ولا يزول إلى معاندته ، زالت (٥) الدنيا من عينه ، وتعلقت الآخرة في قلبه ، فقيامه طاعة ، وقوله نفاعة ، وكلامه ذكر (٦) ، وسكوته فكر ، قد قطع قوله بعمله ، وقطع أمله بأجله ، وخرج من الشك إلى اليقين ، فقلبه (٧) وجل ، ودمعه عجل ، وصوته ضعيف ، وكلامه لطيف ، وثقله خفيف ، وحركته إحسان ، وتقلبه إيمان ، وسكوته أمان.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : حب الحق ، وبغض الباطل ، وحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيدا ،

__________________

(١) في (ب) : يخطر.

(٢) في (أ) و (ج) : ويسارع.

(٣) في (ب) : يدى سيده.

(٤) في (أ) و (ج) : ويجعله.

(٥) في (ب) : قلّت.

(٦) في (ج) : نفقه. وسقط من (أ) و (ج) : وكلامه ذكر.

(٧) في (ب) : فقلبه متعلق بحب الآخرة ، وجسده مسجون في الدنيا ، أحب الأشياء إليه الخروج من الدنيا إلى الآخرة. فقلبه وجل.

وبغض من عصى الله قريبا كان أو بعيدا (١) ، فإن حب الباطل يدخل النار ، وحب من أحب الله قريبا كان أو بعيدا يدخل الجنة.

قال الوافد : كيف أحب من أطاع الله قريبا كان أو بعيدا؟

قال العالم : يسوؤك ما يسوؤه ، ويضرك ما يضره (٢) ، ويسرك ما يسره ، وتدخل السرور عليه ، فإن كان أعلم منك تعلمت منه ، وإن كنت أعلم منه فعلّمه ، وحفظته في محضره ومغيبه ، وواسيته وأعنته ، ورعيت صحبته ، وجعلت ذلك لله وفي الله ، ولا يكون في ذلك منّ ولا أذى.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الحياء من الله.

قال الوافد : بيّنه لي؟

قال العالم : ذلك على ثلاثة وجوه :

أولهن : أن يعلم العبد أن طاعة الله عليه واجبة ، وأن رزقه على الله ، أفلا يستحيي العبد من الله أن يراه حريصا على رزقه ، كسلانا عن طاعة ربه ، يمن على قوم أجسادهم (٣) معافاة ، وعقولهم ثابتة ، وقلوبهم آمنة ، ونفوسهم طيبة ، قد أحسن الله إليهم (٤) ، فلا ينظرون إلى شيء من قدرة الله ، ولا إلى نعمه عليهم فيشكرون ، ولا إلى من كان من قبلهم فيعتبرون ، ولا إلى ذنوبهم فيستغفرون ، ولا إلى ما وعدهم الله في الآخرة فيحذرون ، أفلا يستحيي من آمن بالله أن يراه الله مع أولئك مقيما ، لا بثا ساكنا ومؤانسا ، حاضرا مجالسا.

وأما الثاني (٥) : فإن الله أعطى وقضى يعطي وهو راض ، أفلا يستحيي العبد أن

__________________

(١) وفي (أ) : مثله. غير أنه قال : ومن أحب من أحب الله قريبا كان أو بعيدا.

(٢) سقط من (أ) و (ب) : ويضرك ما يضره.

(٣) في (أ) و (ج) : أجسامهم.

(٤) في (ج) : بهم.

(٥) في (أ) و (ب) : الثانية.

يرضى يرضى ربه عند عطاه ، ولا يرضى برضاه عند القضاء ، كما يرضى برضاه عند العطاء.

وأما الثالث (١) : فإن الله يرضى لعبده الجنة ، ويأمره بالعمل الصالح لما يصلح له من الخير ، فيعمل العبد ما لا يرضى الله له ، ويكره ما يرضى الله له من الخير ، ولا يترك (٢) المعاصي والشرور ولا يرضى برضى (٣) الله له ، ويكون له ولد يحبه ويريد (٤) له الدنيا ، وربما قبضه الله إليه وهو له ولي ، أفلا يرضى العبد برضى الله كما رضي أولا بعطائه ، وهو يعلم أن موت ولي الله خير له من حياته في هذه الدنيا الفانية ، المحشوة هموما وغموما ونغصا وغصصا وآفاتا وشرورا.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : وراء ذلك الاستقامة. أما سمعت قول الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١٣) [الأحقاف : ١٣] (٥).

قال الوافد : بيّن لي ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الاستقامة هي : أن ترى الدنيا قيامة ، فلا تلتفت فيها (٦) إلى كرامة ، ولا تبالي فيها بالملامة ، والاستقامة تؤدي صاحبها إلى السلامة ، والمستقيم صادق ، وبالحق ناطق ، عمله (٧) في خضوع ، وقلبه في خشوع ، وروحه في رجوع ، وسروره في نزوع (٨) ،

__________________

(١) في (أ) و (ب) : الثالثة.

(٢) في (أ) و (ب) : ولا يرتكب.

(٣) في (أ) : ولا يرضى ما رضي الله له. وفي (ج) : ويرضى ما لا يرضى له.

(٤) في (ب) : ويريده للدنيا.

(٥) في (ب) : أكمل الآية بقوله تعالى : (تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ ...) [الآية من سورة فصلت / ٣٠].

(٦) سقط من (أ) و (ب) : فيها.

(٧) في (أ) و (ج) : وبالإخلاص ناطق. وفي (أ) و (ج) : وعمله.

(٨) في (ب) : وسره يردع. وأشار إلى نسخة ب (بدوع).

وجسمه سقيم ، وقلبه سليم ، مقيم بلا التفات ، مداوم على المراقبات ، ملازم (١) للأمر ، مدمن على الزجر ، طالب للأجر ، تارك للهوى ، مقيم على الوفاء ، حريص على التقى ، مجتهد في (٢) الصفاء ، ليله قائم ، ونهاره صائم ، إلف مؤالف ، صابر عاكف ، تام الصحبة ، دائم المحبة ، مجيب ، غير مريب ، مفوض ، غير متعرض (٣) ، مطيع ، غير مريع (٤) ، طالب راهب ، مسلم مستسلم ، مقر لا منكر ، محتقر لا محتقر ، متواضع غير مستكبر ، مقبل غير مدبر.

وعلامة (٥) المستقيم أن يستقيم به كل معوج ، ويسلك به خير منهج ، ويكون عالما(٦) يهتدى به ، ودليلا يقتدى به ، ولا يكون (٧) م (مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ) (١١) [الحج : ١١].

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : أما علمت أن الدنيا شدة ورخاء.

قال : بلى.

قال : فليكن حالك في الشدة كحالك في الرخاء.

قال : بيّن لي ذلك يرحمك الله؟

قال : أليس في الرخاء حساب ، والشدة ثواب؟

قال : بلى.

__________________

(١) في (ج) بدوام على. وفي (أ) و (ج) : ملازم على الأمر.

(٢) في (ج) : على.

(٣) في (ب) : معرض غير متعرض. وفي (ج) : معوض غير متعوض. ولعلهما مصحفتان. لأن المعنى أنه مفوض أمره إلى ربه غير متعرض لجدل ومسألة.

(٤) في (أ) : بديع. وفي (ج) : مذيع. والمريع : المتوقف اللابث. والمعنى أنه ممتثل غير ممتنع.

(٥) في (أ) و (ب) : علامة.

(٦) في (أ) : عليما.

(٧) في (أ) : ولا يكن.

قال : أيهما أحب (١) إليك الثواب أم الحساب؟

قال : بل الثواب.

قال : أما علمت أنك في وقت الشدة ترجو الرخاء ، وفي وقت الرخاء تخاف الشدة ، وذلك قوله عزوجل : (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) (٦) [الشرح : ٦]. فتعرّف حد الشدة فتكون راجيا ، وتعرّف حد الرخاء فتكون خائفا (٢) ، لأن الرخاء والشدة يعتقبان ، فاستعد للحالين (٣) جميعا. ولست أعني لك شدة الدنيا ولا رخاءها ، إنما عنيت بذلك الآخرة ، لأن (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر) (٤).

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الرضى بالقضاء ، والصبر على البلاء ، والشكر على العطاء.

[دلائل الحكمة والرحمة]

قال الوافد : وكيف يكون (٥) الشكر؟

قال العالم : الشكر على سبعة أشياء.

قال : وما هي؟

قال : الخلق ، والملك (٦) ، والرزق ، والعافية ، والعلم ، والقدم (١) ، والقدرة. فتنظر إلى

__________________

(١) في (أ) : أحسن. مصحفة.

(٢) في (ب) : راجيا للرخاء ، وتعرف حد الرخاء فتكون خائفا للشدة. وفي (ج) : مثلها. إلا قوله : خائفا عن الشدة. ويبدو أنها زيادة.

(٣) في (ج) : فالشدة والرخاء يعتقبان. وفي (أ) : فاعتد للحالين. وفي (ج) : فاعتد إلى الحالين.

(٤) في (ج) : الدنيا سجن المؤمنين وجنة الكافرين. والحديث : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر. أخرجه مسلم في باب الزهد رقم (٥٢٥٦). والترمذي برقم (٢٢٤٦). وابن ماجة برقم (٤١٠٣). وأحمد برقم (٩٨٩٨). وغيرهم.

(٥) في (ج) : وما الشكر؟

(٦) في (أ) و (ب) : والملكة.

ثبات عقلك ، وتمام خلقك (٢) ، فتحمد الله العظيم على ذلك كثيرا.

ثم تنظر إلى الملك كم من ذي روح (٣) غيره له مالك ، والله مالك كل شيء ، وأنت لا مالك لك ، فتحمد الله على ذلك كثيرا. ثم تنظر إلى مالك وولدك وطعامك وشرابك ، ولباسك ونومك وإيقاظك ، وتنظر (٤) إلى اختلاف الليل والنهار ، كيف يقربان البعيد ، ويبليان الجديد. ثم تنظر (٥) إلى العافية ، وإلى كل شيء تخافه على نفسك في ليلك ونهارك ، مما تراه ومما لا تراه! فتعلم أنه لا يدفع ذلك ولا يصرفه ، ولا يكفيك ما ترى وما لا ترى ، (٦) إلا الله سبحانه وتعالى ، فتحمد الله على ذلك كثيرا.

ثم تنظر إلى المصائب التي تصيب الناس في أبدانهم المركبة عليهم ، فتعلم أن في تركيبك مثل ما في تركيبهم ، فتحمد الله الذي ستر عليك ما (٧) ظهر على غيرك من العلل والآفات.

ثم تنظر إلى من كان من (٨) قبلك وإلى من هو كائن من بعدك في دنياك وآخرتك.

ثم تنظر إلى القدم فتعلم أن الله قديم لم يزل ولا يزول.

ثم تنظر (٩) إلى القادر فتعلم أن الله قادر لا بقدرة غيره ، سبحانه وتعالى عما يقولون(١٠) علوا كبيرا.

__________________

(١) سقط من (أ) : القدم.

(٢) في (أ) : عقلك. تصحيف.

(٣) في (ب) : الملكة فكم. وفي (أ) و (ج) : من زوج. مصحفة.

(٤) في (ب) : وانظر.

(٥) في (ب) : ويخلقان الجديد. وفي (أ) : ثم انظر.

(٦) في (ج) : تراه. في الموضعين.

(٧) في (أ) : مثل تركيبهم. وفي (ب) : مثل في تركيبهم. تصحيف. وفي (أ) : فنحمد الله على ذلك الذي.

يبدو أنها زيادة. وفي جميع المخطوطات : مما. ولعلها : كما أثبت.

(٨) سقط من (أ) : من.

(٩) في (أ) : انظر.

(١٠) سقط من (أ) : عما يقولون.

ثم تنظر إلى العلم فتعلم أن الله قد علم ما هو كائن قبل أن يكون.

ثم تنظر إلى ما سخر لك الله من جميع الخلق (١) ، وذرأ وبرأ من السماء التي زينها بالكواكب والشمس والقمر ، وأجرى ذلك لمنافع الخلق. وما جعل من (٢) الرياح والسحاب ، وما جعل (٣) في الأرض من الحيوان المسخر المجبور المقهور المنقاد إلى المنافع ، فتحمد الله على ذلك كثيرا.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الصبر على قضاء الله سبحانه ، فما جاء من عند الله حمدت الله عليه ، ولم تسخط ذلك وسلمت الأمر (٤) لله ، ورضيت بقضاء الله وحمدت الله على ذلك كثيرا.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : تنظر بعد ذلك إلى نفسك ، وتعلم أن الله خلق الإنسان من نطفة تقع في رحم مظلم ، فتقيم (٥) في الرحم (سبعة أيام ، ثم ترجع دما فيكون ذلك الدم علقة) (٦) أربعين يوما ، ثم يجعلها الله مضغة ذكرا أو أنثى ، فيكون فيه الروح لسبعة وسبعين يوما ، ثم يخلق الله له (٧) العروق والعظام والعصب ، ثم يصيره الله تعالى بعد ذلك لتمام مائتين وسبعين يوما ، وذلك ستة آلاف وأربع مائة وثمانون ساعة (٨) ، فجميع حمل الولد لتمام

__________________

(١) في (أ) : جميع خلق الله.

(٢) في (ب) : لمنافعك. وفي (أ) و (ج) : جعل في.

(٣) في (أ) و (ج) : جعل من ذلك في الأرض.

(٤) في (أ) : لأمر الله. وفي (ب) : لأمر ربك.

(٥) في (أ) و (ب) : تقيم.

(٦) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٧) سقط من (ب) و (ج) : له.

(٨) في (أ) : أربعة آلاف ومائة وثلاثين وخمسين. وفي (ب) و (ج) : أربعة آلاف ومائة واثنين وخمسين. ولعله سهو من النساخ ، والصواب ما اثبت لأن (٢٧٠ يوما* ٢٤ ساعة ٦٤٨٠). وقد بيّن ذلك الإمام بعد.

حمل أمه كاملة (١) أشهره وأيامه وساعاته (٢).

فأشهره تسعة أشهر ، كل شهر ثلاثون يوما ، وأيامه مائتان وسبعون يوما ، وساعاته ستة آلاف وأربع مائة وثمانون ساعة ، فهذه أيام الولد كاملة ، أشهره وأيامه وساعاته.

وفي تركيبه الحرارة والبرودة ، واليبوسة واللين. فالدم حار ليّن ، والمرّة الصفراء حارة يابسة ، والمرّة السوداء باردة يابسة ، والبلغم بارد رطب.

وتركيب الإنسان اثنا عشر وصلة (٣) ، وله مائتان وثمانية وسبعون عظما (٤) ، وله ثلاث مائة وستون عرقا ، فالعروق تسقي الجسد ، والعظام تمسكها ، والعصب واللحم (٥) يشدها.

__________________

(١) في (ب) : فجميع ذلك حمل الولد لتمام حمل أمه كاملة. وفي (ج) : فجميع حمل الولد التمام حمل أمه كاملة.

(٢) لأن العملية الحسابية تنتج هذا :

٩* ٣٠ ٢٧٠* ٢٤ ٦٤٨٠.

(٣) في (أ) : وصلا. وفي (ب) : فصلا.

(٤) في جميع المخطوطات : مائتان وثمانية وأربعون عظما. وهو تصحيف والصحيح ما أثبت بعملية حسابية :

(٥) سقط من (ج) : واللحم.

ولكل يد أحد وأربعون عظما ، فللكف (١) من ذلك خمسة وثلاثون عظما ، وللساعد عظمان ، وللعضد عظم ، وللتراقي ثلاثة أعظم ، وكذلك اليد الأخرى (٢) ، وللرّجل ثلاثة وأربعون عظما ، للقدم من ذلك خمسة وثلاثون عظما ، وللساق عظمان ، وللركبة ثلاثة أعظم (٣) ، وللورك عظمان ، وكذلك الرّجل الأخرى.

وللصلب ثمانية عشر فقارا ، (٤) ولكل جنب تسعة أضلع ، وللرقبة ثمانية أعظم ، وللرأس ستة وثلاثون عظما ، وللأسنان من ذلك اثنان وثلاثون عظما. وطول الأمعاء سبعة أذرع.

فسبحان خالق الإنسان (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) [الزمر : ٦]!!!!

حتى إذا حان (٥) أوان خروجه من بطن أمه إلى الأرض (٦) ، لم يقدر أحد على إخراجه أبدا ، ولو اجتمعت الإنس والجن ما أحسنوا ذلك ، فسبحان من (٧) أخرجه سويا لا يعرف أحدا ، ولا يسأل رزقا قد أوجد الله له (٨) رزقه في صدر أمه لبنا يغذوه به لضعفه وقلة بطشه.

حتى إذا جلّ عظمه ، وكثر (٩) لحمه ، وقطع سنه ، وطحن ضرسه ، وبطشت يده ، ومشى على قدميه ، وعرف (١٠) أن الله خالقه ، وأنه الذي أفضل عليه (١١) رزقه في بطن

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فالكف. وفي (ب) : الكف. وما أثبت اجتهاد.

(٢) سقط من (ج) : وكذلك اليد الأخرى.

(٣) في (ج) : عظام.

(٤) في (ب) : فقارة.

(٥) في (ج) : جاء.

(٦) سقط من (ب) : إلى الأرض.

(٧) في (أ) : ما أحسنوا في ذلك. في (ج) : فسبحان الذي.

(٨) في (ج) : وجعل الله رزقه.

(٩) في (ج) : وكبر.

(١٠) في (ج) : وعلم.

(١١) في (ج) : وأنه أوصل إليه.

أمه ، وبعد خروجه في (١) مهده ، نسي ذلك كله وجحده ، وجعل (٢) يطلب رزقه من مخلوق مثله ،!!! (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) [عبس : ١٧]. أما (٣) علم أن الذي رزقه في ضعفه هو الذي (٤) يرزقه في وقت قوته؟! أما سمع ما قال الله تعالى في كتابه لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) [طه : ١٣٢]. أما سمعت قول الله تعالى حيث أقسم في كتابه فقال عز من قائل : (وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) [الذاريات : ٢٢ ـ ٢٣].

أما سمع قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث قال (لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها) (٥) ، وقال : (لو أن أحدكم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)(٦). وقيل لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام يا أمير المؤمنين : (من أين يأتي الرزق إلى الإنسان؟ قال : من حيث يأتيه الموت) (٧).

قال الوافد : أيها العالم الحكيم أخبرني ما أفضل ما أعطي العبد؟

__________________

(١) في (ج) : من.

(٢) في (أ) و (ب) : ورجع.

(٣) في (ج) : وما.

(٤) في (ب) : هو رزقه. وفي (ج) : هو يرزقه.

(٥) أخرجه الإمام أبو طالب في أماليه / ٢٩٢. ورواه السيوطي في الجامع الصغير برقم (٢٢٧٣). وقال أخرجه أبو نعيم. وأخرجه ابن ماجة بلفظ (أيها الناس اتقوا الله وأجملوا في الطلب فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطل ، خذوا ما حل ودعوا ما حرم). ابن ماجة ٢ / ٧٢٥ (٢١٤٤) ، وابن حبان ٨ / ٣٢ (٣٢٣٩) ، و ٨ / ٣٣ (٣٢٤١) ، والحاكم ٢ / ٤ (٢١٣٤) ، و ٢ / ٥ (٢١٣٥) ، و ٤ / ٣٦١ (٧٩٢٤) ، والبيهقي ٥ / ٢٦٤ (١٠١٨٤) ، و ٥ / ٢٦٥ (١٠١٨٥) ، والمنتقى من السنن المسندة ١٤٤ / ٥٥٦ ، وأبو يعلى ١١ / ٤٦١ (٦٥٨٣) ، والطبراني في الكبير ٨ / ١١٦ (٧٦٩٤) بلفظ : إن نفسا لن تخرج من الدنيا حتى تستكمل أجلها وتستوعب رزقها ....

(٦) رواه السيوطي في الجامع الصغير برقم (٤٧٠١). وقال : أخرجه أبو نعيم.

(٧) ورد بلفظ : قيل له عليه‌السلام : لو سد على رجل باب بيته وترك فيه من أين كان يأتيه رزقه؟ فقال عليه‌السلام : من حيث يأتيه أجله. نهج البلاغة ٤ / ٨٣ المختارات من كلماته.

قال : العقل الذي يعرف (١) به نعمة الله ويعينه على شكرها ، وقام بخلاف الهوى ، حتى عرف الحق من الباطل ، والضر من النفع ، والحسن من القبيح.

قال الوافد : فما وراء ذلك يرحمك الله؟

قال العالم : الإيمان ، وحقيقة (٢) الإيمان : الإخلاص وصدق النية ، حتى إذا عملت عملا صالحا لم تحب أن تذكره ، وتعظّم من أجل عملك ، ولا تطلب ثواب عملك إلا من الله ، فهذا هو إخلاص عملك ، فإن عملت عملا وأحببت أن تذكر وتعظّم من أجله (٣) ، فقد تعجلت ثوابه من غير الله ، ولم يبق لآخرتك منه شيء.

[المناجاة]

قال الوافد : فما تقول في المناجاة؟

قال العالم : لا تكون المناجاة ، إلا على (٤) الرجاء والمصافاة ، بقلب سليم من الآفات ، والظنون والغيبات ، ثم تقول : إلهي إن لم أكن لحقك راعيا ، لم أكن لغيرك داعيا ، وإن لم أكن في طاعتك مسابقا ، لم أكن لأعدائك مطابقا ، وإن لم أكن لك عابدا ، لم أكن لآياتك معاندا ، وإن لم أكن لحبك واجدا ، لم أكن لغيرك ساجدا ، وإن لم أكن إلى الخيرات مسارعا ، لم أكن لباب الخطيئات (٥) قارعا ، وإن لم أكن لحدودك (٦) حافظا ، لم أكن بكلام السوء لافظا (٧) ، وإن لم أكن في الصلاة خاشعا ، لم أكن لأعدائك خاضعا ، وإن لم أكن في سبيلك مجاهدا ، لم أكن لدليلك جاحدا.

__________________

(١) في (ب) : عرفك نعمة الله وأعانك.

(٢) سقط من (أ) : الإيمان وحقيقة.

(٣) في (ب) : أجل ذلك.

(٤) في (ج) : مع.

(٥) في (ج) : الخطايا.

(٦) في (أ) : للحدود.

(٧) في (ج) : ناطقا.

إلهي كيف يصافيك من لا يأتيك؟! وكيف يرجوك من لا يتقرب إليك؟! أنا المتخلف عن أقراني ، أنا الضعيف في أركاني ، أنا الفريد بحفرتي (١) عن إخواني ، أنا الذي لم أحقق إيماني ، سيدي قد أتيتك بفاقتي ، وجئت إليك لما عدمت طاقتي ، أنت العالم بجرمي ، المطلع على ظلمي ، المحصي لخطيئتي ، الشاهد على طويتي ، الناظر لي (٢) في خلوتي.

إلهي كسدت بضاعتي ، وخسرت تجارتي ، ولم اتزود من حياتي ، وقد أتيتك وقد قربت(٣) وفاتي.

إلهي إن لم تقبلني فأين الملجأ ، وإن رددتني (٤) فأين المنجى ، وإن لم تغفر لي فأين الملتجا؟!!! من (٥) للعبد إلا مولاه؟! ذهبت أيامي ، وبقيت آثامي ، فلا تذل مقامي ، ولا تحجب عني أمامي ، يا من ابتدأني بفضله (٦) ، وأكرمني بتطوله.

ما الحيلة أعضائي ذليلة ، ما الحيلة أحزاني طويلة ، ما الحيلة حسناتي قليلة ، ما الحيلة وليس لي وسيلة.

لا حيلة لي (٧) غير الرجوع ، والتضرع والخضوع ، والإقبال والإياب ، وتعفير الوجه في التراب ، والتذلل عند الباب ، وقراءة آيات الكتاب ، والسجود لرب الأرباب ، وترك الاشتغال بالأشغال ، والإقبال على مقدّر الأرزاق والآجال ، وترك المعارضة ، ورفض المناقضة ، وحنين وحرقات ، وأنين وزفرات ، وسهر دائم ، وليل قائم ، ونهار صائم ، وقلب هائم ، ووعظ لائم ، فرار ، بلا قرار (٨) ، فراق كل محبوب ، والبين عن كل

__________________

(١) في (أ) : بحرقتي. وفي (ب) : بحرفتي.

(٢) في (ج) : على كربتي. وفي (ج) : الناظر إلي.

(٣) في (أ) : قاربت.

(٤) في (أ) و (ج) : تردني.

(٥) سقط من (أ) و (ب) : وإن لم تغفر لي فأين المتلجا. وفي (أ) و (ج) : أما.

(٦) في (ج) : بتفضيله.

(٧) سقط من (ج) : لي.

(٨) في (أ) : قرار بلا قرار. وفي (ب) : ودار بلا قرار. ويبدو أن هاهنا جملة ساقطة.

منسوب (١).

الحيلة ترك الاستراحة ، في طلب الراحة ، ودوام النياحة ، مع القيام على السياحة ، وترك الخطايا ، واستعداد المطايا.

الحيلة أن تخضع حتى تسمع ، ويخاف القلب ويخشع ، وتعبر العين وتدمع ، اقرع الباب ، يأتيك (٢) الجواب.

قال الوافد : قد (٣) سمعت لذيذ المناجاة ، كيف أصنع في داء (٤) قد تمكن في قلبي حتى أقلعه وأحسمه؟

قال العالم : من أوجعته علته ، أظهر عند الطبيب زلته ، وأبدى إليه شكيته ، من عدم مراده ، قلق فؤاده ، ومن قلق فؤاده ، بان منه رقاده ، (٥) ارفع خواطر القلب إلى الرب ، فهو يجلي الكرب ، ويغفر الذنب ، ارفع حوائجك إلى ربك ، كما ترجوه لغفران ذنبك ، اكتب قصة الاعتذار ، بقلم الافتقار ، امش إلى باب الجبار ، بقدم الاضطرار ، في وقت الأسحار ، وارفع يديك بالاستغفار.

[البكاء]

قال الوافد : فما تقول في البكاء؟

قال العالم : لأن تبكي وأنت سليم ، خير من أنت تبكي وأنت سقيم ، وفي النار مقيم بين أطباق الجحيم ، والشيطان لك قرين خصيم (٦).

__________________

(١) في (أ) و (ج) : مسلوب.

(٢) في (ب) : تسمع.

(٣) في (ج) : لقد.

(٤) في (أ) : كيف في داء قد تمكن في قلبي حتى أقلعه واحشمه. وفي (ج) : كيف يصنع ذلك وقد. وفي (ب) : حتى أقطعه وأحسمه. ولعل في ذلك تصحيفا.

(٥) في (ب) : بان رقاده. وفي (ج) : بان من رقاده.

(٦) في (ج) : وخصيم.

واعلم أنك دخلت الدنيا عند خروجك من بطن أمك باكيا عابسا ، فاجهد (١) أن تخرج منها ضاحكا مستأنسا ، لأن تبكي وأنت في الطريق ، خير من أن تبكي وأنت في وسط الحريق ، البكاء مع السلامة ، خير من البكاء مع الملامة ، اليوم ينفعك (٢) البكاء لو بكيت ندما ، وغدا لا ينفعك (٣) البكاء لو بكيت دما ، البكاء قبل المعاينة ، خير من البكاء يوم المباينة (٤) ، ابك لضعف فاقتك ، ابك لقلة طاقتك ، ابك لكثرة معاصيك ، ابك لعظم مساويك ، ابك لإفلاسك ، ابك لعدم إيناسك ، ابك لقلة عملك (٥) ، ابك لقلة حيلتك ، ابك لعدم (٦) وسيلتك ، ابك لكثرة وزرك ، ابك لثقل ظهرك ، ابك لفساد أمرك ، ابك لظلام قبرك ، ابك لقسوة قلبك ، ابك لخبث سرك ، ابك لمضي دهرك ، ابك لكشف سترك ، ابك لساعة موتك ، ابك لانقطاع حياتك ، ابك لغربتك في لحدك ، ابك لتوديع دارك ، ابك لتوقع قرارك ، ابك اليوم بوارك (٧) ، ابك لاستقبال أهوالك.

قال الوافد : كيف أصنع إذا لم أستطع البكاء ولم تدمع العين؟!

قال العالم : ما جمدت (٨) العيون إلا بقساوة القلوب (٩) ، وما قست القلوب إلا من كثرة الذنوب ، وما كثرة الذنوب إلا برضى للعيوب ، وما وقع الرضى بالعيوب إلا بعد

__________________

(١) في (ب) و (ج) : فاجتهد.

(٢) في (ج) : لا ينفع.

(٣) في (ج) : لا ينفع.

(٤) في (ج) : المعاينة. وفي (ب) : قبل المعاتبة ، خير من البكاء عند المعاتبة.

(٥) في (أ) و (ج) : عمرك.

(٦) في (أ) و (ج) : لعظم. مصحفة.

(٧) سقط من (ج) : ابك ليوم بوارك.

(٨) في (أ) : ما جمدت العين إلا من قساوة القلب ، ما قسى القلب إلا من كثيرة الذنب ، وما كثر الذنب إلا بالرضاء وبالعيوب. وفي (ج) : ما جمد العين إلا بقساوة القلب ، وما قساوة القلب إلا بكثرة الذنوب ، وما كثرة الذنوب إلا برضاء العيوب ، وما رضاء العيوب إلا بكثرة الذنوب. وفي (ب) : وما كثرة الذنوب إلا بالإصغاء إلى العيوب. ولفقت النص من الجميع.

(٩) في (ب) : العيون إلا من قساوة القلوب.

الاجتراء على علام الغيوب ، جمود العين ، من وجود الرين. وقال في ذلك (١) :

تزوّد من حياتك للممات

ولا تغترّ في طول الحياة

أترقد والمنايا طارقات

كأنك قد أمنت من البيات

أتضحك أيها العاصي وتلهو

ونار الله تسعر (٢) للعصات

أتضحك يا سفيه ولست تدري

بأي بشارة يأتيك آت

فيا قلبي فلم تزدد رجوعا

وتعرض عن عظات ذوي العظات (٣)

ثم قال : أتبغي (٤) صفاء الفؤاد ، مع بقاء المراد ، تضيع الأصول ، وترتكب الفضول ، ثم تطمع بالوصول (٥) ، وأنت لا تتبع ما جاء به الرسول ، أتطلب الزاد ، (٦) مع كثرة الرقاد ، وقلة الاجتهاد ، أتطلب (٧) المساعدة مع قلة المجاهدة ، إن (٨) هذا من علامات المباعدة!!! لن تنال الأماني إلا بترك الفاني ، لا بالكسل والتواني ، أسهر (٩) العيون ، تصبح غير مغبون ، لن تنال الجنان ، (١٠) إلا بصفاء الجنان ، وخالص الإيمان ، وقراءة القرآن ، وتوحيد الرحمن ، وإطعام الطعام ، ورحمة الأيتام ، وكثرة الصيام (١١) ، وطول القيام ، من

__________________

(١) في (أ) : وجود الدين. وفي (ج) : قلة الدين. وفي (ب) : وقال في ذلك شعرا. وفي (ج) : وقال في ذلك يقول بعد الصلاة على الرسول.

(٢) في (ج) : تضرم.

(٣) في (أ) : وأعرض عن عضات ذوي العضات. وفي (ب) : وتعرض عن نكير ذوي العضات. وفي (ج) : وأعرض عن عصاة ذوي العصات.

(٤) في (ج) : تبتغي.

(٥) في (ب) : في الوصول.

(٦) في (أ) و (ج) : تطلب. وفي (ب) : المراد.

(٧) في (ج) : تطلب.

(٨) سقط من (ب) : إن.

(٩) في (ب) : تسهر.

(١٠) في (ب) : غرف الجنان. وفي (أ) : ريح.

(١١) في (أ) و (ج) : وكثرة القيام ، وطول الصيام.

طالت مناجاته ارتفعت درجاته ، وقلّت في القيامة (١) فزعاته.

[عناصر الإيمان]

قال الوافد : بما ينال العبد جنة الخلود؟

قال العالم : بحفظ الحدود ، وبذل المجهود ، وطاعة المعبود ، والوفاء بالعهود ، وكثرة الركوع والسجود. من أراد الأمان ، فليخلص الإيمان ، ويفعل الإحسان ، ويقرأ القرآن. لن ينال جنة النعيم ، إلا من جاء بقلب (٢) سليم ، لن تنال من الله المزيد ، إلا بصدق (٣) التوحيد ، وكثرة التمجيد (٤) للواحد الحميد ، من أراد البر ، لم (٥) يكتسب الوزر ، من أراد العطاء ، صبر على الأذى (٦) والبلاء.

لن تنال شهوات الآخرة إلا بترك شهوات الدنيا ، (لن (٧) تنال النعيم ، إلا بترك النعيم ، لن (٨) تنال معانقة الحور ، إلا بصلاح الأمور) (٩) ، ومجانبة الشرور ، ورفض المحذور ، لن (١٠) ينال الشفاعة ، إلا من قام لأخيه المؤمن بالنفاعة ، وحافظ على صلاة الجماعة ، وأطعم الأيتام في المجاعة ، من أحب الشرب من حوض الرسول ، فليترك كلام الفضول ، وتثبّت فيما يقول ، فإنه لا بد مسئول.

__________________

(١) سقط من (ب) : في القيامة.

(٢) في (ج) : من أتى الله بقلب.

(٣) في (ج) : ينال من الله المزيد إلا من يصدق بالتوحيد.

(٤) في (ب) : التحميد.

(٥) في (ج) : فلا.

(٦) سقط من (ب) : الأذى.

(٧) في (ب) : لا تنال.

(٨) في (ب) : لا تنال.

(٩) سقط ما بين القوسين من (أ).

(١٠) في (ب) : لا ينال.

قال الوافد : صف لي الحياء؟

قال العالم : من عمل بالرياء فقد (١) منه الحياء ، وحجب منه الضياء ، وتكدرت (٢) عليه الدنيا ، وعاش في الناس (٣) يهوديا ، وحشر يوم القيامة مجوسيا.

قال الوافد : كيف أنال حلاوة الطاعة؟

قال العالم : لا تدرك الحلاوة ، إلا بإدمان الفكر في التلاوة ، ولا تنال حقائق المعاني إلا بترك الأماني ، ولا يتمكن في قلبك الخوف والوجل ، إلا برفض الدنيا وقصر الأمل ، وإخلاص العمل ، وهجران (٤) الكسل.

[الورع]

قال الوافد : صف لي محض الورع؟

قال العالم : لن (٥) تنال الورع ، إلا بكثرة الخوف والفزع ، واختيار الجوع على الشبع ، وترك الشهوات والطمع ، [فإن فعلت زكى لبك] (٦) ، وصفا عند ذلك قلبك ، ونلت لذيذ (٧) السهر والقيام ، وقربت من ذي الجلال والإكرام ، وملكت نفسك ، ووافقت أنسك، ورضي عنك الرب ، وغفر لك الذنب.

واعلم أنك لا تنال من الله البرّ والسلامة ، إلا بالصبر والاستقامة ، ولا تنال حقائق الرجاء ، إلا بالانقطاع إلى الله والالتجاء ، ولا تنال الكرم والتّفضّل ، إلا بالندم

__________________

(١) في (ج) : برياء. وفي (ب) : بعد.

(٢) في (ج) : وتنكرت.

(٣) في (ج) : الدنيا.

(٤) في (أ) و (ج) : وترك.

(٥) في (ب) : لا.

(٦) الجملة زيادة مني لاستقامة المعنى ، وصحة العطف ، واتساق أسلوب الإمام.

(٧) في (ب) : لذة.

والتذلل (١) ، ولا تنال الراحة ، إلا بترك الراحة وكثرة البكاء والنياحة (٢) ، ولا تنال الولاية ، إلا بالحراسة والعناية (٣) ، ولا تنال مجاورة الأبرار في دار القرار ، إلا بترك الأوزار ، ولا يخشع القلب ويلين ، إلا بتفكر وتبيين ، ولا تنال الخوف ، (٤) إلا بترك عسى وسوف ، ولا تنال الاتصال ، إلا بإهمال الاشتغال (٥) ، ولا ينقى القلب ، مع بقاء شيء من الذنب ، ولا تدرك صفاء الفهم ، وفي قلبك من الدنيا همّ (٦) ، ولا يزول عنك الهم ، ما دام (٧) لك في الدنيا خصم ، من أنفق مما يحب ، فهو حقا المحب ، من ترك ما كان يألف (٨) ، دخل الجنة وثوابه مضاعف ، من عمل بما أقول ، شفع له الرسول ، من عمل بغير ما أقول ، لم يكن عمله مقبول (٩) ، من لم يندم على معصيته ، أخذته زبانية النار بناصيته (١٠) ، من قصر في الطاعات ، حرم الصالحات ، من نافس في الخيرات ، ارتقى في أعلا الدرجات (١١) ، من اغتر بالليل فجع بالنهار ، ومن سها بالنهار فجع بالليل ، من ركب الظن ، غبن أيّ غبن ، من ركب فرس الأماني ، عثر في ميدان التواني ، التاجر برأس (١٢) مال غيره مفلس.

__________________

(١) في (ب) : والتبذل.

(٢) في (ب) : ولا تنال الراحة إلا بكثرة البكاء والنياحة. وفي (ج) : ولا تنال الراحة في الآخرة إلا بترك الراحة في الدنيا وكثرة ....

(٣) في (ب) : ولا تنال الولاية إلا بالمحافظة والرعاية. وفي (ج) : ولا تنال الرئاسة إلا بالحراسة والعناية.

ولعل فيها تصحيفا.

(٤) في (ج) : بالتفكر والتبيين. وفي (أ) و (ج) : ولا تأمن الخوف.

(٥) في (أ) و (ج) : الفضل إلا بإهمال الشغل.

(٦) في (أ) و (ج) : ولا يدرك صفاء الفهم من في قلبه من الدنيا هم. وفي (ب) : غم. بدل هم.

(٧) في (ب) : ما كان.

(٨) في (ج) : ما كان مالكا. مصحفة.

(٩) في (ب) : من عمل بخلاف ما يقول ، لم يكن عمله مقبولا. وفي (أ) و (ج) : لم يكن عمله مقبول. وهو مقتضى قاعدة الإمام في السجع. بيد أنه لا وجه له في العربية اللهم إلا إن قلنا : مقبول. على إرادة الوقف.

(١٠) في (أ) : المعصية ، أخذته زبانية النار بناصية. وفي (ب) : معصية ، أخذته الزبانية بناصيته.

(١١) في (ب) : ارتقى في الدرجات. وفي (ج) : ارتقى الدرجات.

(١٢) سقط من (ج) : برأس.

[جهاد النفس]

قال الوافد : كيف المجاهدة؟

قال العالم : المجاهدة في المباعدة والوحدة ، والصبر على المحنة والشدة ، من لا عبادة له لا زاد له ، ومن لا زاد له لا عقبى له ، اقرع الباب ، يأتيك الجواب ، من أمّل العظيم ، وهب له الجسيم ، من أراد الجود ، أدام (١) السجود ، من لا سجود له لا جود له ، من لا ندامة له لا كرامة له ، من لا خير فيه ، لا خير عنده ، خير البضاعة الطاعة ، من عمل (٢) بالطاعة ، نجا من فزعات الساعة ، لا بد من سهر الأسحار ، وقيام الليل وصيام النهار ، إذا أردت الجنة فاسجد وتضرع ، واظمأ وتجوّع ، واسهر وتطوع (٣) ، وتذلل وتخشع ، وتفرد وتوحد واخضع وتجرد ، تنل (٤) فضل الواحد الأحد ، اترك الآثام تأمن الصّولة ، واعمل صالحا تكن لك (٥) الدولة ، واهجر الجرائم ، تصل وأنت سالم. من أكثر النحيب ، لم يكن عليه رقيب ، وما دعا إلا أجيب ، وكان له من كل (٦) خير نصيب ، من رغب إلى الله أعطاه ، ومن اكتفى به كفاه ، ومن استغنى به أغناه ، ومن لجأ إليه آواه.

قال الوافد : كيف أكون ذاكرا وأنا لا أسلم من الغفلة؟

قال العالم : لا تقع العلة ، إلا فيمن أكثر الغفلة ، من غفل ، وقع في الزلل ، إذا أردت السعادة ، فودع الوسادة ، وجالس أهل الزهادة ، وأكثر العبادة.

عجبا ممن (٧) يستريح وقد تاب (٨) ، ويلهو وقد شاب ، ما (٩) كان في الله تلفه ، كان

__________________

(١) في (أ) : دوام على السجود. وفي (ب) : طلبه في السجود.

(٢) في (ب) : اختار.

(٣) في (أ) و (ب) : وتفزع.

(٤) في (ج) : إذا أردت أن تنال فضل ....

(٥) في (ج) : تكن صاحب.

(٦) سقط من (أ) و (ب) : كل.

(٧) في (أ) : لمن.

(٨) في (ج) : وقد بان وباله.

(٩) في (أ) : من كان. وفي (ج) : وجميع ما كان.

على الله خلفه (١) ، اجتهد تجد ، وأخلص تخلص ، اتبع الرسول ، وأبشر بالوصول ، من اتصل ، وصل ، ومن ترك الجدال ، نال خير (٢) منال ، وكفي الشدة والأهوال ، من خالف هواه ، كانت الجنة مأواه (٣) ، ومن ندم ، أكرم.

قال الوافد : فما (٤) حيلة من دنا من الباب ، فمنعه الحجّاب ، فلم يصل إلى (٥) الأحباب؟

قال العالم : حيلته ملازمة القلق والاكتئاب ، والحزن والانتحاب ، والفرق والانتداب ، حتى (٦) يأذن له الاحباب ، ويفتح (٧) له الباب ، إذا أردت في الجنة الوقوف ، فأكثر (٨) في المساجد العكوف ، فإنك تأمن من كل مخوف. كم من متردد لا يؤذن له؟! وطارق لا يفتح له (٩) ، (وكم من مصروف مطرود ، مهان مردود) (١٠) ، وكم من مظهر انتحابه ، وهو لا يفتح له بابه ، وكم من طامع في ثوابه ، هو من أهل عذابه (١١).

قال الوافد : فكيف (١٢) الوصول؟

قال العالم : تصل الليل بالنهار ، وتتضرع (١٣) في غسق الأسحار ، وتسبح بالعشي والإبكار ، وتتعود الندم والاستغفار ، لعل الله يخفف عنك ثقل الأوزار ، ويحرّم

__________________

(١) في (ب) : خلفه ، لا يضيع طالبه ولا يخيب آمله. يبدو أنها زيادة.

(٢) في (ب) : كل.

(٣) في (أ) و (ب) : الهوى ، دخل جنة المأوى.

(٤) في (أ) و (ب) : ما.

(٥) سقط من (أ) : إلى.

(٦) في (ب) : إلى أن.

(٧) في (ج) : ويفتحوا.

(٨) في (أ) : أكثرت. وفي (ب) : أكثر.

(٩) في (ج) : بابه.

(١٠) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(١١) في (أ) : وهو آمن. وفي (ج) : هو من.

(١٢) في (أ) و (ب) : كيف.

(١٣) في (أ) و (ب) : وتضرع.

بدنك (١) على النار.

[عظة بالغة]

قال الوافد : كنا صبيانا فلعبنا ، فصرنا شبابا فسكرنا ، فصرنا كهولا فكسلنا ، فصرنا شيوخا فعجزنا وضعفنا ، فمتى نعبد الله ربنا ، عطلنا الشباب بالجهالة ، وأذهبنا العمر في البطالة ، فأين (٢) الحجة والدلالة؟

قال العالم : من غفل في وقت شبابه ، ندم في وقت خضابه ، الشباب (٣) لا يصبر على الصواب ، ويندم عند الخضاب ، ما أحسن الشاب في المحراب! إلى متى العصيان؟ إلى متى متابعة الشيطان؟ إلى متى الجرأة (٤) على الرحمن؟ ألا (٥) تحذر لباس القطران ، وتهدد مالك الغضبان ، وضرب الزبانية والأعوان ، ألا تفرّ من اليوم الفاني ، إلى اليوم الباقي ، ألا تتزود من هذا اليوم لذلك اليوم ، وتتخلص من الهوان واللوم.

أيها المغرور بشبابه ، والمسرور بأصحابه ، والمختال في أثوابه ، أما تحذر أليم (٦) عذابه ، وتخاف شديد عقابه ، كم من وجه صبيح ، وخد مليح ، وبدن صحيح ، ولسان فصيح ، أصبح في العذاب يصيح ، بين أطباق النار لا يستريح.

__________________

(١) في (ب) : تحرم بذلك.

(٢) في (أ) : وأين.

(٣) في (أ) : الشاب.

(٤) في (ج) : التجري.

(٥) في (أ) : ألا تحذر لباس القطران وتهدد مالك الغضبان ، وضرب الزبانية والأعوان ألا تزود من اليوم الباقي ، وتتخلص من الهوان واللوم. وفي (ب) : ألنا صبر على مقطعات النيران ، ومجاورة الحنشان ، ولباس القطران ، وتهدد مالك الغضبان ، وضرب الزبانية والأعوان ، إلا بالتزود لذلك اليوم من هذا اليوم ، ونتخلص من الهوان واللوم. وفي (ج) : إلى محصر لباس القطران ، وتهدد مالك الغضبان ، وضرب الزبانية والأعوان ، ألا تفر من يوم الفاني ، إلى يوم الباقي ، وتتخلص من الهوان واللوم. وقد لفقت النص من الجميع. والله أعلم بالصواب.

(٦) في (ج) : بأثوابه. وفي (ج) : تحذر يوم.

كم من شاب ينتظر المشيب ، عاجله الموت وأحل (١) به النحيب ، كم من مسرور بشبابه ، عاجله الموت من بين أحبابه ، إلى قبره وترابه.

أيها الشاب الجهول ، إنك في التراب منقول ، وعلى النعش محمول ، وعن أعمالك مسئول. ما لك لا ترجع؟! ما لك لا تفزع؟! ما لك لا تخضع؟! ما لك لا تخشع؟! (٢) آه من يوم يقول فيه المولى : عبدي شبابك فيم أبليته؟! وعمرك فيما أفنيته؟! فلا تنظر إلى الشباب وطراوته ، ولا تغتر بحسنه وملاحته ، ولكن انظر إلى صرعته وندامته.

ما أحسن الإياب بالشاب! (٣) وما أقبح الخضاب لمن (٤) قد شاب وما تاب! ما بقاء الشيخ في الدهر ، إلا كبقاء الشمس على القصر ، في وقت العصر. الشيب داعي الموت ، وناعي الفوت ، الشيب يؤذن بالفراق ، ويخبر بالتلاق ، الشيب ظاهره وقار ، وباطنه ازدجار ، الشيب يكدر المنى ، ويكثر العناء ، الشيب كسل في كسل ، وعلل في علل ، وملل في ملل ، وخلل في خلل ، وآخره كلل ، (٥) وتقريب الأجل ، وقطع الأمل (٦).

فلما بلغ كلام العالم والوافد إلى هذا الحد (٧) قال له العالم : ما أسوأ عبد يقرب (٨) منه الأجل ، وهو يسيء العمل! ما أسوأ عبد ظهر فيه الخلل ، وهو يكثر الزلل! (٩) من شابت ذوائبه ، جفته (١٠) حبائبه ، أين الاستعداد؟ أين تحصيل الزاد؟ وأنت للذنوب تعتاد ،

__________________

(١) في (أ) و (ج) : شباب. وفي (ج) : ينظر الحبيب. وفي (ب) : وحل به.

(٢) سقط من (ج) : ما لك لا تخشع.

(٣) في (أ) : الإنابة. وفي (ج) : الشباب.

(٤) في (ج) : بمن.

(٥) سقط من (ج) : كلل. وفي (أ) : حكل. وفي (ب) : مكل. والحكل : العجم من الطيور والبهائم.

والحكل في الفرس : امّساح نساه ورخاوة كعبه.

والمكل : اجتماع الماء في البئر. ولعل الكلمة مصحفة. وما أثبت اجتهاد ، والله أعلم بالصواب.

(٦) في (ب) : للأجل وقطع للأمل.

(٧) سقط من (ج) : العالم و. وفي (ب) : فلما انتهى الوافد إلى هذا الحد قال العالم.

(٨) في (أ) : قرب. وفي (ج) : أقرب.

(٩) في (أ) و (ج) : الخجل. وفي (ب) : من الزلل.

(١٠) في (ب) : جفا. وفي (ج) : خفت. مصحفة.

وقد ناداك المناد ، أين الراجع إلى الله؟ أين المشتري نفسه من الله؟ [أين الخائف من] ربه؟ (١) أين النادم من ذنبه؟ أين الباكي على أمسه؟ أين المستعد لرمسه؟ أين الطالب للثواب؟ أين الخائف للعذاب؟

ألا ترجعون إلى الهدى! (٢) ألا تقبلون إلى الله! ألا تخافون من عذاب (٣) الله! ألا تطمعون في ثواب الله! ألا تقتدون بأولياء الله! ألا تتوبون من الذنوب! ألا ترجعون عن(٤) العيوب! ألا تندمون على ما أسلفتم! ألا تعترفون بما اقترفتم! ألا تستغفرون لما أجرمتم!!

أما آن للقلوب أن تخضع؟! أما آن للعيون أن تدمع؟! أما آن للصدور أن تجزع؟!أما آن للعاصي أن يفزع (٥) من الذنوب؟! أما آن (٦) للخاطئ أن يرجع عن العيوب؟! أما تعلم أيها العاصي أنه لا تخفى خافية على علام الغيوب؟! أما تعلم أنك مأخوذ مطلوب؟! ومتعتع في النار مسحوب؟! أما تعلم أنك مفارق لكل صديق ودمعك على خديك (٧) مسكوب؟! أما تخاف أن تصبح (٨) وأنت عن رحمة الله محجوب؟! وعلى حرّ وجهك في النار مكبوب؟! (٩) فيا له من جسد متعوب!! ودمع مسكوب!! وقلب مكروب!! وعقل مرعوب!!!

قال الوافد : كيف أحتال (١٠) في الخلاص؟

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ربه. وما بين المركنين زيادة لإصلاح الكلام.

(٢) سقط من (ب) : ألا ترجعون إلى الهدى.

(٣) في (أ) : عقاب.

(٤) في (أ) و (ب) : من.

(٥) في (ب) : يتزعزع من العيوب.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : آن. في جميع المواضع.

(٧) في (ب) و (ج) : خدك.

(٨) سقط من (ج) : أن تصبح.

(٩) في (ب) : مسحوب.

(١٠) في (ج) : الاحتيال.

قال العالم : أما تعتبر؟! (١) أما تزدجر؟! أما تستغفر؟! أما لك فيمن مضى عبرة؟! أما لك فيمن مثلك فكرة؟! (٢) إلى متى هذه الجفوة والفترة؟! إني أخاف عليك الشقوة (٣) والحسرة؟! فكم (٤) هذه الغفلة الغامرة؟! والقسوة الحاضرة ، أما تغتنم (٥) أيامك؟! أما تمحو آثامك؟! أما تكفّر أجرامك؟! أما تحذر ما قدامك؟! (٦) أنسيت ما أمامك؟! أما تنتبه من رقادك؟! أما تتأهب لمعادك؟! أنسيت اللحد وضيقه؟! أنسيت القبر وظلمته؟! (٧) أغفلت عن البعث والنشور؟! يوم يظهر كل مستور ، ويحصّل ما في الصدور (٨).

إلى متى تعلّل بالأماني الكاذبة؟! وتضيّع الحقوق الواجبة؟! دفنت الأحباء (٩) فلم تعتبر ، وغيبتهم في الثرى (١٠) فلم تزدجر ، ما للناس لا يرجعون؟! يوعظون فلا يتعظون ، ينهون (١١) فلا ينتهون ، ينادون فلا يسمعون (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللهِ) [المجادلة : ١٩]. (وغشي على قلوبهم الران فالقلوب مسودة متباعدة ، والأجسام منافقة متوادة) (١٢). يقولون ما لا يفعلون ، يأملون ما لا يبلغون ، (وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ) (٤٨) [المرسلات : ٤٨]. وإذا (١٣) أمروا بالطاعة

__________________

(١) في (ب) : تعتذر. مصحفة.

(٢) في (ب) : في العواقب فكرة. وفي (ج) : أما في أحد مثلك.

(٣) في (أ) و (ج) : القسوة.

(٤) في (ب) : فكم هذه الغفلة ، وكم هذه الغرة إلى متى هذه الغفلة. وكأنها زيادة.

(٥) في (أ) : تغنم.

(٦) في (ب) : أما تحذر باريك.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : أنسيت القبر وظلمته.

(٨) سقط من (ب) : ويحصل ما في الصدور.

(٩) في (أ) : فنيت الأحياء. وفي (ج) : أفنسيت الأحباء.

(١٠) في (أ) و (ج) : وغيبتهم المقابر.

(١١) في (ج) : يعقلون. وسقط من (ب) : ينهون.

(١٢) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين ، وأكمل الآية فيهما.

(١٣) في (أ) : إن.

لا يطيعون ، ويجمعون ما لا يأكلون ولا (١) يلبسون ، بل هم (٢) يكذبون ويسرقون ، وينافقون ويحلفون ، ويعدون ويخلفون ، ويراءون ويبخلون ، (٣) فبأي حديث بعد القرآن يؤمنون؟! ويجمعون ما لا يأكلون ، (٤) ويمنعون ما لا ينفقون ، ويبنون ما لا يسكنون ، ويقطعون ولا يصلون ، (٥) ينافقون ولا يخلصون ، لا من الله (٦) يخافون ، ولا منه (٧) عند المعاصي يستحيون ، ينامون نوم البهائم ، ثم نسوا (٨) يوما يؤخذ فيه بالجرائم ، لا الله يخافون ، ولا عقابه يحذرون ، يصبحون ، (٩) على خلاف ما يمسون ، هممهم دنية ، وأعمالهم ردية ، وأحوالهم غير مرضية.

[المؤمن بين الغافلين]

قال الوافد : كيف يصنع من أصبح مع هؤلاء؟

قال العالم : يرضى بالله (١٠) صاحبا ، ويعتزل عنهم (١١) جانبا ، ويل لمن له ذنب مستور (١٢) وثناء مشهور ، وهو عند الله مثبور ، ظاهره بالخير معروف ، وباطنه بحب

__________________

(١) في (أ) : وما.

(٢) في (ب) : أمروا بالطاعة فقالوا ما يأكلون وما يلبسون ، يكذبون.

(٣) في (أ) : يتحيلون.

(٤) في (ب) : مالا يفرقون.

(٥) في (ب) : ويقطعون ما لا يلبسون. مصحفة.

(٦) في (أ) : لا لله. وفي (ب) : لا الله.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : منه.

(٨) في (أ) : نسيوا. وفي (ب) : ينسون.

(٩) سقط من (أ) و (ج) : لا الله يخافون ، ولا عقابه يحذرون.

(١٠) سقط من (أ) و (ج) : بالله.

(١١) في (أ) و (ب) : منهم.

(١٢) سقط من (ج) : مستور.

الدنيا مشغوف ، وهو عن آيات (١) الله مصروف ، وثيابه أبيض من الحليب ، وقلبه مثل قلب الذيب ، باطنه من التقوى خراب ، وهو يطمع في الثواب ، وهو في الدنيا سكران من غير شراب ، ظاهره فيه سيماء العابدين ، (٢) وباطنه فيه سيماء الجاحدين ، مقالتهم مقال (٣) الأبدال ، وفعلهم فعال (٤) الجهال ، (سيرته سيرة المغترين ، وأمله أمل المفتونين ، فهذا) (٥) من المطرودين ، عن باب رب العالمين.

(ما لي أرى الناس يركبون الشرور؟! ويدخلون في المحذور؟! ويضيعون الأيام والشهور؟! إلى متى) (٦) يسوفون التوبة ويلبسون ثياب الزاهدين؟! (٧) ويضمرون أسرار الظالمين؟!

ألا وإن (٨) أبعد الناس من الله عبد (٩) نظر إلى عيب أخيه المسلم ، (١٠) ولم ينظر إلى عيب نفسه ، إن رأى لأخيه (١١) المسلم حسنة سترها ، وإن رأى سيئة نشرها ، فذلك جزاؤه جهنم وبئس المصير. من لم يميز بين الحلال والحرام ، أسرعت إليه أسهم (١٢) الانتقام ، من أسف (١٣) على شيء من الدنيا يفوته ، كثر نزاعه (١٤) عند موته.

__________________

(١) في (ب) و (ج) : باب.

(٢) في (ج) : الصالحين.

(٣) في (ب) : مقالته مقالة.

(٤) في (ب) : وفعله فعل. وفي (ج) : وأفعالهم فعال.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٦) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج) ، وظنن عليه في (ب).

(٧) في (ب) : المهتدين.

(٨) سقط من (ب) : ألا و.

(٩) في (ب) : الله بعدا عبد. وفي (ج) : الله من.

(١٠) سقط من (أ) : المسلم.

(١١) في (ب) : ومن رأى من أخيه المسلم حسنة وسترها ، ورأى سيئة ونشرها ، كبه الله في النار على وجهه ، ولم يخفف عنه من عذابها شيئا. وفي (أ) : من أخيه.

(١٢) في (أ) و (ب) : سهام.

(١٣) في (ج) : تأسف.

(١٤) في (ج) : الدنيا لم تفته كثرة نزعته عند موته.

[الهالك]

قال الوافد : صف لي الهالك المتأسف (١)؟

قال العالم : هو الذي يتأسف على رزق لم يأته ، وينتظر مالا وربما لم يستوفه ، يخاف(٢) شره ، ولا يرجى خيره ، يظهر حزنه ، ويكتم شره ، (٣) فهو مرتبط بالنفاق ، معاند بالشقاق ، سيئ الأخلاق ، قرين المحال ، قريب الخجال ، قليل النوال ، (٤) قد رضي بالقيل والقال ، ولا يسلك سبيل (٥) النجاة ، ولا يخاف المفاجاة ، ظاهره مع أهل الدين ، وباطنه مع المنافقين ، قد باين الفرقان ، وأغضب الرحمن ، فقلبه لا يخشع ، وعينه لا تدمع ، ونفسه لا تشبع ، قد آثر العمى على الهدى ، وبدّل الدين بالدنيا ، وفي ذلك أقول ، بعد الصلاة على الرسول : (٦)

مضى عمري وقد حصلت ذنوب

وعزّ عليّ أني لا أتوب

نطهر للجمال لنا ثيابا (٧)

وقد صدئت لقسوتها القلوب

وأعربنا الكلام فما لحنا

ونلحن في الفعال فلا نصيب

قال الوافد : أسأل الله تعالى سلوك طريق الأخيار ، ومجانبة طريق (٨) الفجار.

قال العالم : إن الله سبحانه وتعالى قد بيّن لعباده طريق الهدى ، وحذرهم المخاوف

__________________

(١) في (ب) : المفتتن. وفي (ج) : المشق.

(٢) في (أ) و (ج) : لا يستوفيه. وفي (ب) : ويخاف.

(٣) في (ج) : خيره ويظهر. وفي (ج) : يظهر خيره ويكتم شره. وربما تكون يظهر شره ، ويكتم خيره. أو يظهر حزنه ، ويكتم فرحه. أو نحوها.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : قريب الخجال. وإذا صحت العبارة فالخجال مأخوذ من الخجل ، والخجل له في اللغة معاني غير المعنى المعروف ، فمن معانيه : البطر. والبرم. والفساد.

(٥) في (ج) : طريق.

(٦) في (أ) : وفي ذلك أقول. وفي (ب) : وقد قيل في ذلك شعرا.

(٧) في (ج) : يطهر للجمال لنا ثياب.

(٨) في (أ) و (ب) : طريقة. وفي (ب) و (ج) : طريقة.

والردى ، بعث إليهم رسولا ، وجعل القرآن لهم دليلا ، وركّب فيهم عقولا ، وأمرهم ونهاهم ، وخيّرهم ومكنهم ، وأعد (١) ثوابا ، وعقابا ، فمن أطاع وفّاه (٢) ثوابه ، ومن عصاه ضمّنه عقابه ، فإياك (٣) والظلم والعدوان ، والإقدام على الزور والبهتان ، وعليك بالعدل والإنصاف ، والبذل والإلطاف ، ولا تظلم أحدا فإن الظالم نادم ، والظلم (٤) يخرب الدار ، ويفرد الجار ، (ويثير الغبار ، ويسخط الملك الجبار) ، (٥) ومن أكبر المصائب والحسرات ، المأخوذ يوم القيامة بالتبعات ، (٦) يوم لا شفيع يشفع ، ولا دعاء يرفع ، ولا عمل ينفع ، يوم لا (٧) ينفع الظالم ندمه ، وقد زلت (٨) به قدمه ، وقد شهدت عليه جوارحه ، فيا حسرة الظالم ويا ويحه!!

[الاعتبار]

قال الوافد : كيف يكون الاعتبار؟

قال العالم : انظر إلى الذين جمعوا (٩) كثيرا ، وبنوا كثيرا ، وأملوا طويلا ، وعاشوا قليلا ، هل تسمع لهم حسا؟! أو ترى لهم (١٠) في القبور أنسا ، سكنوا في التراب ، واغتربوا عن الأصحاب ، (١١) ولم يسلموا من العقاب ، حملوا ثقيلا ، وعاينوا وبيلا ،

__________________

(١) في (ج) : وأعد لهم.

(٢) في (ج) : أوفاه.

(٣) في (أ) و (ج) : فله عقابه. وفي (أ) و (ج) : وإياك.

(٤) في (ج) : الظالم.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٦) في (أ) : يوم القيامة. وفي (ب) : وإن من أعظم المصائب وأكثر الحسرات في تلك الوقفات المأخوذ بالتبعات.

(٧) في (ب) : فكيف ينفع الظالم.

(٨) في (ج) : زل.

(٩) في (ب) : الذين يجمعون جمعوا.

(١٠) سقط من (أ) : لهم.

(١١) في (ج) : وتغايبوا عن الأحباب.

وصارت النار لهم منزلا ومقيلا ، وعرضت (١) عليهم جهنم بكرة وأصيلا ، لا يطيقون قبيلا ، ولا يسمعون جميلا ، ولا يرجون تحويلا ، ولا يملّون عويلا.

أين الذين شيدوا العمران؟! وشرفوا البنيان؟! وعانقوا النسوان؟! وفرحوا بالولدان؟! وجمعوا الديوان؟! وتملكوا البلدان؟! (٢) وغلقوا الأبواب؟! وأقاموا الحجاب؟!

أما رأيت كيف دارت عليهم الدوائر؟! وخلت منهم المكاثر؟! (٣) وتعطلت منهم المنابر؟! وضمتهم المقابر؟! وغيبتهم الحفائر؟! (٤) وتمزقت جلودهم؟! وتفرقت جنودهم؟! ورجعت قصورهم خرابا؟! ودورهم يبابا؟! وأجسادهم ترابا؟! (٥) أين ملوكهم؟! أين ديارهم؟! أين أحبارهم ، (٦) أين مواكبهم؟! أين مراكبهم ، أين خيلهم ، أين مواليهم ، (٧) أين أنصارهم ، أين عددهم ، أين وزراؤهم ، أين ندماؤهم ، أين أمراؤهم ، (٨) أصبح غنيهم فقيرا ، وأميرهم حقيرا!!!

هل بقي الذكر إلا لمن أطاع مولاه ، ورفض في رضاء (٩) الله دنياه ، وخالف من (١٠)

__________________

(١) في (ج) : ومضت. مصحفة.

(٢) الديوان : فارسي معرب ، وهو مجتمع الصحف ، والدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء.

وفي (ج) : البلاد.

(٣) في (ب) : المآثر. وفي (ج) : المكاسر.

(٤) في (ب) : المحافر.

(٥) في (أ) : جلودهم ورجفت صدورهم خرابا. وفي (ج) : ورجفت قلوبهم ، صدورهم خراب ، وأجسادهم تراب.

(٦) الدير : موضع عبادة النصارى. والحبر : عالم اليهود.

(٧) في (أ) : أين أديارهم ، أين مراكبهم ، أين أنصارهم. وفي (ب) : أين ملوكهم ، أين أحبارهم ، أين مواكبهم ، أين مراكبهم ، أين أنصارهم. وفي (ج) : أين ملوكهم ، أين خيلهم ، أين مواليهم ، أين أنصارهم. وقد لفقت النص من الجميع. والله أعلم بالصواب.

(٨) في (ب) : أين من آواهم. مصفحة.

(٩) في (ب) : أطاع الله. وفي (ب) : ونبذ في رضاء ربه.

(١٠) في (أ) : في.

خوف الله هواه؟ وقدم الخير لعقباه ، فدخل (١) دار السرور ، وكفاه الله (٢) كل محذور ، دار فيها الأمان ، والحور الحسان ، والأكاليل والتيجان ، والوصائف والغلمان ، والأنهار الجارية ، والأشجار الدانية ، والنعمة الوافية ، والسرر المصفوفة ، والموائد المعروفة ، والفرش المرفوعة ، (٣) والأكواب الموضوعة ، والخيام المضروبة ، والقصور المنصوبة ، تلك (٤) دار اليقين ، ومحل الصالحين ، ومأوى المؤمنين.

قال في ذلك شعرا : (٥)

تنام ولم تنم عنك المنايا

تنبه للمنية يا ظلوم

وحق الله إن الظلم شؤم

وما زال المسيء هو الملوم (٦)

إلى الديان يوم الدين نمضي

وعند الله تجتمع الخصوم

سل الأيام عن أمم تفانت

فتخبرك المنازل والرسوم

تروم الخلد في دار المنايا

وكم قد رام مثلك (٧) ما تروم

وقال في ذلك أيضا :

أعارك ما له لتقوم فيه

بطاعته وتعرف فضل حقه

فلم تشكر لنعمته ولكن

قويت على معاصيه برزقه

تبارزه بها يوما وليلا

وتستحيي بها من شر خلقه

__________________

(١) في (أ) : ودخل في.

(٢) في (ج) : وك كل.

(٣) في (ج) : المفروشة. مصحفة.

(٤) في (أ) : ذلك. وفي (ب) : هذه.

(٥) في (أ) : وقال في ذلك. وفي (ج) : وذلك شعر يقول.

(٦) في (أ) و (ب) : الظلوم.

(٧) في (أ) و (ج) : قبلك.

ثم قال : ما أسوأ حال من يصلي ويصوم! ويسهر ويقوم! ثم يحفر بئرا لأخيه! (١) لا يدري أنه يقع فيه.

قال الشاعر :

اغتنم ركعتين زلفى إلى الله

إذا كنت فارغا مستريحا

وإذا هممت بالزور والبا

طل فاجعل مكانه تسبيحا

[وقال :]

اغتنم ركعتين عند فراغ

فعسى أن يكون موتك بغتة

كم صحيح رأيت غير سقيم

ذهبت نفسه الصحيحة فلتة

[التواضع]

قال الوافد : كيف التواضع؟

قال العالم : يا عجبا ممن خلقه الله من نطفة!! ورزقه من غير كلفة!! كيف لا يلزم التواضع والعفة؟! وعجبا ممن خلق من ماء مهين! كيف يغتر بمال وبنين؟! وعجبا ممن أصله من التراب والطين! كيف لا يتواضع للفقراء والمساكين؟! كيف يضحك ويعجب؟! ويلهو ويطرب؟! ويفتخر ويلعب؟! والقبر منزله ، والتراب وساده ، (٢) لا يعتبر ، ولا يستغفر ، أليس (٣) بعد الغنى الفقر؟! وبعد العمارة القبر؟! كيف يتكبر (٤) من أوله من تراب؟ ووسطه (٥) ريح في جراب؟! وآخره ميتة في خراب؟! كيف يفرح

__________________

(١) في (أ) : لأخيه المسلم ، لا يدري. وفي (ب) : ثم يحفر لأخيه المسلم بئرا ، ولا يدري.

(٢) في (أ) و (ج) : وسادته.

(٣) سقط من (أ) : أليس.

(٤) في (أ) و (ج) : الخراب. وسقط من (ج) : يتكبر.

(٥) في (ج) : وأوسطه.

بالمنى؟! من هو عرض للفناء؟! كيف يطمئن بالسرور؟! من تعجله (١) المنية للقبور؟! وكيف يفرح بمضاجعة النواهد؟! من يضاجع الدود غدا في الملاحد.

أيها المعجب بالدنيا وشبابه ، (٢) المختال في مراكبه وثيابه ، المفتخر بأهله وأصحابه ، انظر إلى المنقول من أترابه ، إلى ظلمة اللحد (٣) وترابه ، أيها المفتخر برجاله وأمواله ، المعجب بأحواله وأشغاله ، انظر المقبور وتفكر في حاله ، أيها المتطاول بعشائره وأحبابه ، المسرور بعلومه (٤) وآدابه ، انظر إلى المغافص (٥) في شبابه ، المختطف من بين أحبابه ، هل منع عنه حجابه ، أو تبعه (٦) أصحابه.

أيها الجامع أنواع العلوم ، هل تعلم ما سبق لك في (٧) المعلوم؟! أتدري أمقبول أنت أم محروم؟! أمحمود عند ربك أم مذموم؟!

يا صاحب العلم والإفادة ، أمعك خبر من الشقاوة والسعادة ، أيها الناظر في الدقائق ، ألك أمان من البوائق؟! هل علمت بالحقائق؟! حتى رضي عنك الخالق ، ما حيلتك إن هتك سترك غدا في مشهد الخلائق؟!

__________________

(١) في (أ) و (ج) : تعجلته.

(٢) في (أ) و (ج) : وأسبابه.

(٣) في (ب) : القبر.

(٤) في (ج) : بعلمه.

(٥) في (ب) : إلى من قصر. وفي (ج) : المنغص. مصحفتان. والمغافص : المأخوذ على غرة.

(٦) في (ب) : أو نفعه.

(٧) في (ب) : من.

[المكين]

قال الوافد : أخبرني من (١) المكين في ذلك اليوم؟

قال العالم : المكين في ذلك اليوم ، من أخذ من هذا اليوم لذلك اليوم العظيم ، المكين من أتى الله بقلب سليم ، المكين ، من عرف الحق المبين ، القوي الشجاع ، (٢) من عرف الملك المطاع.

[الحقير]

قال الوافد : فمن الحقير في ذلك اليوم؟

قال العالم : الحقير من هو من رحمة الله فقير ، (٣) الحقير من هو للذنوب أسير ، الخاسر البائس ، من هو من رحمة الله آيس ، السقيم ، من هو في النار مقيم ، الحزين ، من كان له في النار من الشياطين (٤) قرين ، الهالك ، من يسلّم إلى مالك.

يا صاحب الحسن والجمال ، والفخر والأموال ، (٥) عند انقطاع الآجال ، يبطل الحسن والجمال والأموال. (٦)

يا كثير الاشتغال ، كأني بك (٧) يقلبك الغسال ، كم ذا العجز والإذلال؟! (٨) كيف تطيق السلاسل والأغلال؟! ما أسوأ حالك! إذا (٩) لم تقدم مالك! لا تفقر نفسك وتغني عيالك.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : عن.

(٢) في (ب) : من عبد السيد المطاع.

(٣) في (أ) و (ج) : من كان من رحمة الله فقير. وفي (ب) : من هو في. ولفقت النص من الجميع.

(٤) في (أ) و (ج) : من كان له الشيطان قرين.

(٥) في (ج) : والذخائر. وسقط من (ب) : والأموال.

(٦) في (ب) : تبطل الجمال.

(٧) سقط من (ب) : بك.

(٨) في (ب) : ما ذا العجز. وفي (ج) : كم هذا العجز والضلال.

(٩) في (ب) : إن.

يا ذا (١) الأموال الكثيرة ، غدا نفسك إليها فقيرة ، يا ذا العز والمملكة ، (٢) كيف بك في دار الهلكة؟! يا ذا العساكر والجنود ، كيف تصنع (٣) بنار الوقود.

[الملك]

قال الوافد : من الملك (٤) في ذلك اليوم الهويل؟

قال العالم : (الملك ، من رضي عنه الملك ، النبيل ، من استقام على السبيل ، الخليل) ، (٥) من رضي عنه الجليل ، الشريف ، من هو عن الحرام عفيف ، (٦) العاقل ، من لم يكن عن الله غافل. (٧)

يستقبح من المؤمن كبره ، ومن الشيخ كفره ، (٨) ويستحسن من المؤمن فقره ، (٩) حقيق بالتواضع من يموت ، وبالبذل من يفوت ، المؤمن دنياه فوت ، (١٠) ومعاشه قوت.

وقال في ذلك :

صنيع مليكنا حسن جميل

فما أرزاقنا عنا تفوت

فيا هذا سترحل عن قريب (١١)

إلى قوم كلامهم السكوت

__________________

(١) في (ج) : يا صاحب.

(٢) في (أ) : الكثيرة ، نفسك إليها. وفي (ج) : كأني بك قد صرت فقيرا. وفي (ب) : والملكة.

(٣) في (ب) : كيف عيشك في نار الوقود.

(٤) في (ج) : المالك.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٦) في (أ) : الصريف من هو من الحرام خفيف. وفي (ب) : الشريف من هو من الأوزار خفيف. وفي (ج) : الطريف من هو من الحرام عفيف. ولفقت النص من الجميع. والله أعلم بالصواب.

(٧) له وجه في اللغة. وهو إرادة الوقف. وقد سبق له مثل ذلك.

(٨) في (أ) و (ج) : ومن الغني فقره.

(٩) سقط من (أ) : ويستحسن من المؤمن فقره. وهي في (ب) : ومن المغني فقره. مصحفة.

(١٠) في (ب) : ما لا يفوت. وفي (ج) : ما يفوت. وفي (ج) : والمؤمن من دنياه تفوت. مصحفة.

(١١) في (أ) و (ب) : قليل.

وقال غيره :

أيها الشامخ الذي لا يرام

نحن من طينة عليك السلام

إنما هذه الحياة متاع

ومع الموت تستوي الأقدام (١)

قال الوافد : كيف يهنأنا العيش (٢) في هذه الدنيا ، وهذه أفعالها في أهلها؟

قال العالم : بناؤنا للخراب ، وأعمارنا (٣) للذهاب ، ودهرنا إلى انقلاب ، والموت يبدد الأحباب ، ويفرق الأصحاب ، الموت ينزل الملوك من القصور والقباب ، إلى القبور والتراب ، كل ما عملنا معدود ، وعليه (٤) حفظة شهود ، أعمالنا محفوظة ، وأنفسنا مقبوضة ، وسيئاتنا علينا (٥) معروضة ، لنا من كأس الموت شراب ، ولنا من بعده سوء الحساب.

طوبى لمن له في الطاعة اكتساب ، حتى ينال في الآخرة الثواب ، والويل (٦) لمن له العقاب والحساب والعذاب ، والموت يدخل (٧) كل باب ، من أخرجه الموت من دار ، لم يكن له إليه (٨) إياب.

آه غفلنا (٩) من اكتساب الخيرات ، ولم نستعد للممات ، لا بد لنا من الحساب،(١٠)

__________________

(١) سقط من (ج) : البيتان.

(٢) في (ج) : هنأنا بالعيش.

(٣) في (ب) : إن بناءنا للخراب ، وإن أعمارنا إلى ذهاب.

(٤) في (ب) : وعلينا ، حفظة وشهود. وفي (ج) : عليه.

(٥) في (أ) و (ج) : على عقولنا معروضة.

(٦) في (ب) : الويل.

(٧) في (ج) : من كل.

(٨) في (ب) : منه داره. وفي (ج) : الموت فردا إذ لم. وسقط من (ب) و (ج) : إليه.

(٩) في (ج) : وا غفلتاه.

(١٠) في (ب) : ولا بد. وفي (أ) و (ج) : لا بد لنا من العقاب. ويبدو أنها زيادة. إذ كيف يقطع بالعقاب.

لا بد لنا من العرض على الملك الوهاب (١).

(ما أغفلنا عن الآخرة!! ما أغفلنا عن الورود في الساهرة!!) (٢) غفلنا عن الانتخاب ، غفلنا عن الاكتئاب ، غفلنا عن الآزفة ، غفلنا عن الواقعة ، غفلنا عن القارعة ، لم نكثر (٣) الندامة ، لم نذكر القيامة ، لم نخف الطامة.

(يا من بارز الله في السر والحجاب ، وغلق عليه الأبواب ، أتظن أن ذلك يخفى على الملك الوهاب ، إنك في دينك مصاب ، إن العاصي يسقى في النار من الحميم المذاب ، هل معك لمالك خازن النار جواب؟ أم لك عنده خطاب؟ أترجو من غير الطاعة الثواب؟ ما أسوأ حالك عند البعث والحساب! ما أغفلنا عن الرحلة) ، (٤) ما أغفلنا عن الزلزلة ، ما أغفلنا عن الصيحة ، (٥) ما أجرأنا على الخالق! ما أكفرنا بالرازق! يا ويل كل منافق! إنا راجعون ، (٦) إنا مسئولون ، إنا موقوفون ، إنا مهانون ، إنا على سفر ، بين أيدينا خطر ، ما لنا لا نحذر؟! هل لنا من مفر؟! لا ملجأ من الله ولا وزر ، إلى الله المستقر ، العاقل من ترك ما يهوى ، لما يخشى (٧). وفي ذلك يقول ، بعد الصلاة على الرسول :

سبحان ذي الملكوت أتت ليلة

محضت بوجه صباح يوم الموقف

لو أن عينا أوهمتها نفسها

أن المعاد (٨) مصور لم تطرف

حتم الفناء على البرية كلهم

والناس بين مقدم ومخلف

__________________

(١) في (ج) : الجبار.

(٢) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٣) في (أ) و (ج) : نذكر. مصحفة.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٥) سقط من (ج) : ما أغفلنا عن الصيحة. وهي في (أ) : ما أغفلنا عن الراحة. ولعله قد سقط هنا جملة.

(٦) في (ب) : راحلون.

(٧) في (أ) : مسئولون موقوفون ، فهل لنا من مقر ، فهل لنا من مستقر ، لا ملجأ لنا من الله ، لا مهرب لنا من الله ، العاقل يترك ما يهوى لما يخشى. وفي (ج) : كذلك. إلا أنه قال : العاقل يترك الهوى.

(٨) في (ب) : العذاب. وأشار في (ب) : إلى نسخة : ما في المعاد.

[الراغب]

قال الوافد : صف لي الراغب؟

قال العالم : قلّ الراغب ، وترك الواجب ، ما لله طالب ، ولا لعذابه راهب ، ولا في ثوابه راغب ، ولا عن الذنوب تائب ، (١) ولا فتى نفسه لله واهب ، بل مدعي كاذب ، تارك للحق مجانب ، مهمل للسنة والواجب ، معانق للخلاف (٢) مواظب ، مشغوف بالدنيا طالب ، (٣) إن البكاء على أمثالنا واجب ، قبل الوقوع في العذاب الواصب ، بين الحيات والعقارب ، نفس من (٤) الباب طريد ، وقلب من النشاط شديد ، وعمل من المريد بعيد ، كأن الفؤاد ، صخر (٥) أو حديد.

أيها القلب الشديد ، (٦) أما يكفيك الزجر والتهديد؟! أما سمعت الوعد والوعيد؟! ليلك عطالة ، ونهارك غفلة ، (٧) ودهرك مهلة. أليس لك من الجهل نقلة؟ (أيّ عذر لك غدا أو أي علة؟! إلى متى العمل والزلة؟! والمودة في غير الله والخلة؟!) ، (٨) أما تخاف موقف الذلة ، إذا عرفت عملك كله ، وعرضت على عالم التفصيل والجملة ، (٩) أي ليلة لك وأي يوم؟! وأي صلاة لك وأي صوم؟! إلى كم الغفلة والنوم؟ إلى كم تتبع عادات القوم؟! إلى كم تحوم في المعاصي حوم (١٠)؟! كأني بك وقد وقفت في موقف

__________________

(١) في (ب) : ولا إلى الله آئب.

(٢) في (ب) : للخلائق. وفي (ج) : الخلائق.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : مشغوف بالدنيا طالب.

(٤) في (ج) : عن.

(٥) في (ب) : حجر.

(٦) في (ج) : الشريد.

(٧) في (ب) : نهارك عطلة. وليلك غبطة.

(٨) سقط ما بين القوسين من : (أ) و (ج).

(٩) في (أ) : عرفت فعلك كله ، أي ليل لك أو أي يوم ، أي صلاة لك أو صوم. وفي (ج) : أما عرفت فعلك كله ، أي ليلة لك ، أي يوم لك ، أي صلاة لك ، أي صوم لك.

(١٠) مفعول مطلق ولكن على لغة الوقف.

اللوم؟! على أي عهد لله أوفيت ، (١) على أي وعد لله (٢) قمت؟! على أي توبة نمت ، أي صلاح إليه (٣) رمت؟! هل صليت لله (٤) مخلصا أو صمت ، هل قعدت في رضى الله أو قمت.

كأني بك وقد ندمت على إضاعتك ، (أيّ معصية لله تركت ، أيّ طاعة لله سلكت ، أيّ هوى لنفسك لله خالفت ، أيّ ليلة سهرت لربك ، أيّ يوم صمت منه خوف ذنبك ، هل أعملت في جوف الليل فكرك ، قد أذنبت فهل اعتذرت ، قد أجرمت فهل ندمت ، (٥) وقد أضعت فهل أطعت ، قد هربت فهل طلبت؟ تقوّلت وتخرّفت ، (٦) وتوانيت وسوّفت ، وبارزت وخالفت ، وعصيت وجاهرت) ، (٧) وتأسفت على ترك طاعتك ، وبكيت عند هجوم ساعتك ، وخسرت في تجارتك وبضاعتك ، ولم تنتفع بفصاحتك وبراعتك ، وذهب ما كان من (٨) قوتك وشجاعتك.

[الرحمة]

قال الوافد : قد (٩) وعدنا الله بالرحمة في كتابه؟

قال العالم : (إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ) (٥٦) [الأعراف : ٥٦]. إذا عملت بالرضى ، عفى عنك ما مضى ، وحرم لحمك على لظى ، (وإن لم تعمل

__________________

(١) في (ج) : الله. وفي (أ) : وفيت.

(٢) سقط من (أ) و (ب) : لله.

(٣) في (أ) و (ج) : على أي توبة وصلاح لله رميت.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : لله.

(٥) في المخطوط : جديت. لعلها مصحفة ، ولعل الصواب ما أثبت.

(٦) من الخرافة : الحديث المستملح من الكذب.

(٧) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٨) في (ج) : وذهبت منك.

(٩) سقط من (ب) و (ج) : قد.

بالرضى ، أخذك بما بقي وما مضى ، وأحرقك بنار لظى) ، إذا نظر ستر ، (١) وإذا رحم غفر ، عظيم فضله ، صادق قوله ، عليم ، رحيم ، بالكرم موصوف ، وبالرحمة معروف ، العبد ينشره ، والرب يستره ، يكافئ ، (٢) ويعافي ، ويشفي عبده ، ويوفي وعده ، كم قبيح فعلناه ستره ، وكم رزق لنا يسّره ، اقرع بابه ، تجد (٣) جوابه ، اقرأ كتابه ، يبن لك عتابه ، ارجع إليه يمن (٤) بالقبول ، واقرب إليه يحسن بالوصول ، (٥) ما ضاع من قصده ، وما جاع من عبده ، ولا خاب من أمّله ، ولا خسر من عمل له ، بابه لا يغلق ، وحكمه لا يسبق ، وجاره لا يفرق ، (٦) القلوب من خوفه تفرق ، (٧) والصدور من هيبته تفلق ، (٨) والرجاء بعفوه يعلق.

من ناجاه أنجاه ، ومن اتقاه وقاه ، (ومن أوفاه وفّاه ، ومن أطاعه أعطاه) ، (٩) من التجأ إليه نصره ، ومن استغنى به ستره ، ومن قصده قبله ، ومن وحّده أجلّه ، (١٠) ومن عبده فضّله ، من تاجره أربحه ، (١١) ومن أمّله فرّحه ، من سأله منحه ، ومن شكره [شكره ، ومن ذكره] ذكره ، من استهداه وفّقه ، ومن توكل عليه رزقه ، ومن أمّله صدقه ، (١٢) ومن تعزز به أعزه ، من استغنى به أغناه ، (١٣) ومن سأله أعطاه ، ومن تولاه

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وفي (ب) : وإذا عدل قبل. يبدو أنها زيادة.

(٢) في (أ) و (ج) : ويستر والعبد ينشره. وفي (ج) : يستر والعبد ينشر. وفي (أ) و (ب) : يكفي.

(٣) في (ج) : أفرغ تحت جوابه. مصحفة.

(٤) في (ج) : يبين لك جوابه. وسقط من : (ج). وفي (ب) : يمن عليك.

(٥) في (أ) : الوصول.

(٦) في (ب) و (ج) : يغرق. مصحفة.

(٧) في (ب) و (ج) : تبرق. مصحفة.

(٨) في (ج) : تقلق.

(٩) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وفي (ب) : ومن أطاعه أطاعه. وما أثبت هو الصواب. ولعل ذلك سهو من النساخ.

(١٠) في (ج) : ومن طلبه وجده.

(١١) في (أ) : رابحه. وفي (ب) : ربحه.

(١٢) سقط من (أ) و (ج) : ومن أمله صدقه.

(١٣) سقط من (أ) و (ج) : من استغنى به أغناه.

والاه ، ومن استأنس بذكره لم (١) يخب ، ومن تخلا (٢) لطاعته نال ما يحب ، إليه المفر ، وعنده المستقر ، من للفقير إلا الغني ، من للضعيف إلا القوي ، من للذليل إلا العزيز العلي ، من للعبد إلا سيده ، وأين يوجد إلا عنده.

قال الوافد : كأني بالقيامة وقد قامت!

قال العالم : كأني (٣) بالشاب المليح ، وهو في النار طريح ، ثاوي يصيح ، (٤) بمقامعها جريح ، (يطلب الراحة لا يستريح ، بين أطباق العذاب يصيح) ، كم من (٥) شيخ كبير ، في العذاب المستطير ، لم ترحم شيبته ، ولم تكشف كربته ، ولم تقبل معذرته ، قد أطعم الضريع ، وسقي الحميم ، وعري وجرّد ، وقرّب للعذاب ومدّد ، وضرب بالمقامع وتهدّد ، وغلّل بالسلاسل وقيّد ، (٦) ونزل في إدراك النار وأفرد ، وطرد من الرحمة وأبعد ، وبسط له في (٧) النار ومهّد ، وغلظ عليه العذاب وجدد ، (٨) (ومزق جلده بالسياط وبدد ، وصب عليه العذاب وخدد) (٩).

فالويل له من توابيت النيران ، وغضب مالك الغضبان ، يقول له : (١٠) هذا جزاء ما أذنبت وعصيت ، وأخطأت وتعديت ، وسوفت وتوانيت ، لم تنته من العيب ، ولم تتعظ بالشيب ، (بالمعاصي جاهرت ، وبنفسك خاطرت ، والصلاح أظهرت ، والفساد والنفاق أسررت) ، (١١) هذا جزاء من أظهر الصلاح وأضمر الفساد ، هذا (جزاء من أساء وظلم

__________________

(١) في (ب) : لم يخف ولم يخب.

(٢) في (أ) : خلا بطاعته.

(٣) في (ج) : نعم كأني.

(٤) سقط من (أ) : ثاوي. وفي (ج) : ثاوي ، وجريح.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وسقط من (أ) و (ج) : من.

(٦) في (أ) و (ج) : وجلد.

(٧) في (ب) : من.

(٨) في (أ) و (ب) : وقيد.

(٩) سقط ما بين القوسين من (ج).

(١٠) سقط من (أ) و (ج) : يقول له.

(١١) سقط من (ج) : ما بين القوسين.

العباد) ، هذا جزاء من ترك (١) صلاته وأطال الرقاد ، هذا جزاء من كان للمسلمين كثير العناد ، (٢) (هذا جزاء من نافق وقسي منه الفؤاد) ، (٣) هذا جزاء من أضاع الصلاة ولم يهتم (٤) بها في الأوقات ، هذا جزاء من تركها (٥) واتبع الشهوات ، هذا جزاء من عصى الله (٦) في الخلوات.

قال الوافد : كيف يستريح في (٧) الدنيا من وعد بهذه المصائب؟

قال العالم : من ارتكب المحارم ، واكتسب المآثم ، دخل هذه الدار ، وخلد في عذاب النار.

يا من عصى الملك العلام ، وخلا (٨) بالمعاصي في الظلام ، يا من ذنوبه لا تحصى ، وعيوبه لا تنسى ، وذنبه لا يعفى ، وقد برح الخفاء وكثر الجفاء (٩) ؛ إخسأ فيها يا مطلوب يا مكروب ، يا كثير الذنوب ، أفسدت في الدنيا دينك ، وضيعت فيها حظك ، يا كثير القبائح ، يا عظيم الفضائح ، (١٠) يا كثير الرياء ، يا قليل الحياء ، (يا مغرور ، يا من عطل الأيام والشهور ، يا من ركب الشرور ، يا من جعل ليله لكسب الذنوب والأوزار ، يا من عصى الملك الجبار ، يا من بارز الخالق في وقت الأسحار ، يا من يصبح عاصيا ، ويمسي ناسيا ، ويصلي لاهيا ، أصبحت من رحمة الله قاصيا) ، (١١) يا مغبون يا

__________________

(١) سقط ما بين القوسين من (أ). وفي (أ) و (ب) : قلّت صلاته.

(٢) في (ب) : الفساد.

(٣) سقط ما بين القوسين من : (ب).

(٤) في (ب) : يقم.

(٥) في (أ) و (ب) : من لها. مصحفة.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : الله.

(٧) في (ب) و (ج) : بالدنيا.

(٨) في (ج) : واختلا.

(٩) سقط من (أ) و (ج) : وقد برح الخفاء وكثر الجفاء.

(١٠) سقط من (ج) : يا عظيم الفضائح.

(١١) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

مثبور ، يا من اطمأن بدار (١) الغرور ، يا من قدم غير معذور ، ما حجتك (٢) في يوم النشور؟ ما أتركك لصلاحك! (٣) ما أغفلك عن أخذ زادك! مهلا عن التفريط ، مهلا عن التخليط ، مهلا قبل البين والفراق ، يوم تلتف الساق بالساق ، قبل مجيء (٤) ما لا يطاق.

قال الوافد : يا عجبا من هذه الدنيا ما أمكرها! ما أخدعها ، ما أخورها ، (٥) ما أدبرها! ما أقل نفعها! ما أكثر ضرها! (تحلو وتمر ، ما للدنيا بقاء ، ما للدنيا وفاء ، الدنيا بلاء ، لا يجمعها ذو تقى ، ما أكثر تخليطي ، ما أكثر تفريطي) ، (٦) ما أغفلني عن أعمالي ، ما أقبح أفعالي ، إلى كم أغتر بآمالي ، كم أخوّف ولا أخاف ، كم أعرّف ولا أعرف ، كم أصر على الذنوب ولا أنصرف؟! كم يمهلني ربي ولا أعترف؟! إلى متى أقول : عسى وسوف؟! وأدخل الحرام الجوف ، أدخلت في قلبي الظلمة ، (٧) غفلت عن الطاعة ، (٨) وكفرت بالنعمة ، نسيت الجريمة ، واستعملت النميمة.

قال العالم : اعترف بذنبك ، وارجع إلى ربك ، واندم على (٩) فعلك ، ولا تستقل القليل ، ولا تنم الليل الطويل ، فإن أظلم الناس من ظلم نفسه ، وأضيع الناس من ضيع يومه وأمسه ، وأسرق الناس من سرق من صلاته ، وأبخل الناس من امتن بزكاته ، أذل (١٠) الناس من أساء عمله في خلواته ، أجلد الناس من غلب شهواته ، (١١) أغفل الناس من

__________________

(١) في (أ) و (ب) : إلى دار.

(٢) في (ب) : ما حيلتك يوم.

(٣) في (ب) : لصلاتك.

(٤) في (ب) : قبل التقاء الساق بالساق. وفي (ب) : محن. وفي (ج) : حمل.

(٥) في (ب) : وأخدعها. وفي (ج) : ما أجورها.

(٦) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٧) في (أ) و (ج) : إلى متى توبتي أسوّف.

(٨) لعله سقطت هنا جملة.

(٩) في (أ) : من.

(١٠) في (ب) : أنذل.

(١١) في (أ) و (ج) : شهوته.

ضيع حياته ، أندم الناس من عطّل (١) ساعاته ، أقوى الناس من مات على التوبة ، رأس مالك في الدنيا الطاعة ، التقى أفضل بضاعة ، من أمّل الله أعطاه ، من سأل الله بلّغه سؤله ومناه ، أسلم الناس من خمل (٢) ذكره ، وكثر شكره ، من رضي بالقضاء ، سلا (٣) عما مضى ، كيف لا يهتم ولا يغتم؟! من لا يدري العمل (٤) بما يختم ، كيف يهنأه رقاده؟! كيف يتوسد وساده؟! كيف يسكن نفسه وفؤاده؟! وهو لا يدري أمن أهل الشقاوة أم من أهل السعادة؟! (كيف يسكن إلى الدار والجار؟! ويقر به القرار؟! ويأكل في الليل والنهار؟ من هو موعود بعذاب النار ، وغضب الجبار) (٥).

[قال الوافد : ما أعمل كي أنجو من النار]؟

قال العالم : لا تقصر في عمل الأخيار ، ولا تسلك سبيل الفجار ، ولا تكسب الأوزار ، وأطع ربك في الليل والنهار ، (ولا تأمن فتغتبن ، ولا تجمع فتفتتن) ، تجوّع (٦) ولا تشبع ، وتورّع ولا تطمع ، وخف واحزن ، فمنزلك القبر وثوبك الكفن ، كيف يلهو بالملاهي؟! من بين يديه الدواهي ، كيف يكتسب (٧) الآثام؟! من وكّل به الملائكة الكرام ، وكيف يضحك ويفرح؟! من عليه غدا يصرخ؟! (٨) وللدود والهوام يطرح ، كيف يفرح ويستر؟! من يموت ويقبر.

__________________

(١) في (ج) : ضيع.

(٢) في (ب) : من أمل الله أعطاه الله مأموله ، من سأل الله بلغه مسئوله. وفي (ج) : أحب الناس. وفي (ج): من حمد.

(٣) في (ج) : من قنع بالعطاء ، تسلا.

(٤) في (ب) : أي عمل.

(٥) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٦) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج). وفي (أ) و (ج) : ولا تجوع.

(٧) في (ب) و (ج) : يكسب.

(٨) من الصراخ ويحتمل أن تكون من له غدا يفرح ، وهو أنسب لما بعده.

[محاسبة النفس]

قال الوافد : ما لي لا أخفف حملي؟! (١) ما لي لا أخفف شغلي؟! (٢) ما لي لا أترك جهلي؟ ما لي لا أتبع عقلي؟! ما لي لا أجتهد؟! ما لي لا أجد؟! (٣) ما لي لا أخدم؟! (٤) ما لي لا أحزم؟! إلى متى الرقاد؟! إلى متى السهاد؟! (إلى متى أخالف ما أعلم؟ أما أعلم أني إلى الله أقدم؟! أين الحزم ، أين العزم؟ أين الجهد؟ أين القصد؟ ما هكذا يكون العبد) ، إلى متى أنقض (٥) العهد؟! (إلى متى أخلف (٦) الوعد)؟! إلى متى أقول غدا أو بعد غد؟! أما أعلم أن مسكني اللحد؟! ما أقسى فؤادي! أنسيت (٧) معادي؟! ما أقل زادي! قرب سفري! ركبت خطري.

الآن تخلق الجدّة ، الآن تنتهي المدة ، (٨) الآن ينزل الموت ، الآن يقع الفوت ، الآن يسمع (٩) الصوت ، الآن يغلق الباب ، الآن أفارق الأحباب ، الآن أنقل إلى التراب ، الآن أحضر إلى الحساب ، الآن أعاين البلاء ، ما لي لا أنتهي (١٠) عن الهوى؟! ما لي لا أتبع الهدى؟! لا بد من سفر ، لا بد من خطر ، (١١) لا بد من موت ، لا بد من فوت ، لا بد من العرض على (١٢) الملك الفرد ، لا بد من ...

__________________

(١) سقط من (أ) و (ب) : ما لي لا أخفف حملي.

(٢) في (ب) : لا أحقق شغلي. وفي (ج) : لا أخفف اشتغالي.

(٣) سقط من (أ) و (ب) : ما لي لا أجد.

(٤) سقط من (ج) : ما لي لا أخدم.

(٥) سقط ما بين القوسين من : (أ) و (ج). وفي (أ) و (ج) : نقض.

(٦) في (أ) : أخالف.

(٧) في (ب) و (ج) : نسيت.

(٨) سقط من (أ) و (ج) : الآن تخلق الجدة ، الآن تنتهي المدة. وهي في (ب) : تخلو الحدة. ولعلها مصحفة والصواب ما أثبت. وتخلق معناها : تبلى. والجدّة : نقيض البلى.

(٩) في (ج) : أسمع.

(١٠) في (أ) : لا أتخلى.

(١١) في (ب) : حضر.

(١٢) في (ج) : من عرض الملك.

القبر (١) لا بد من الحشر ، لا بد من النشر ، لا بد من حسرة ، لا بد من عبرة ، (٢) لا بد من زوال ، لا بد من ارتحال ، لا بد من الجزاء على الأفعال (٣).

خنت بالعينين ، أصغيت بالأذنين ، أخذت الحرام باليدين ، مشيت (٤) إلى المعاصي بالرجلين ، حركت بالكذب الشفتين ، قطعت الرحم وعققت الوالدين ، أعرضت عن مولاي وتبعت (٥) هواي ، نسيت ما بين يدي ، (٦) غفلت عما أساق إليه ، لم أذكر من (٧) أعرض عليه ، (كأني وقد عدمت نظر العينين ، وسمع الأذنين ، وبطش اليدين ، ومشي الرجلين) ، (٨) كأني وقد منعت الخطاب بلساني ، وسلبت القوى من أركاني ، ونزع (٩) روحي وأدرجت في أكفاني ، فويلي (١٠) من ملائكة يشهدون عليّ بما صنعت ، ويحفظون ما ضيعت ، فيا كربتاه ، وا غمتاه ، ويا حزناه ، ويا غصتاه ، ويا شجناه ، ويا غبناه ، ويا سوء حالتاه. (١١)

وأنشد يقول : (١٢)

وصحيح (١٣) أضحى يعود سقيما (١٤)

وهو أدنى للموت ممن يعود (١٥)

__________________

(١) لعلها : اللحد.

(٢) في (ب) : عثرة.

(٣) في (ب) : الفعال.

(٤) في (ب) : سعيت.

(٥) في (ج) : واتبعت.

(٦) لعلها : يداي.

(٧) في (ب) : ما أعرض.

(٨) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٩) في (ب) : ونزعت.

(١٠) في (ج) : فويل لي.

(١١) في (أ) و (ج) : بما ضيعت ، ويحفظون ما صنعت. وفي (ب) : ويا غماه. وسقط من (أ) و (ج) : ويا شجناه ، ويا غبناه. وفي (ب) : ويا غصصاه .... ويا سوء حالاه. وفي (ج) : وا غصتاه وآ سوء حالتاه.

(١٢) في (أ) و (ب) : ثم قال.

(١٣) في (ج) : والصحيح.

(١٤) في (ب) : مريضا.

(١٥) في (ج) : من الأمور البعيد. مصحفة. وفي (أ) و (ب) : أدنى إلى الموت. وفيه انزخاف. وما أثبت ـ

وصبي من بعدهم لحقوهم

ضل عنهم نزولهم والصعود (١)

أين أهل الديار من قوم نوح

ثم عاد من بعدهم وثمود

بين ما هم على النمارق والديباج

أفضت إلى التراب الخدود

ثم لم ينقض الحديث ولكن

بعد ذاك (٢) الوعد ثم الوعيد

فأجابه العالم وهو يقول : (٣)

أفنيت عمرك إدبارا وإقبالا

تبغي البنين (٤) وتبغي الأهل والمالا

فالموت هول فكن ما عشت ملتمسا

من هوله حيلة إن كنت محتالا

فلست ترتاح من موت ومن نصب

حتى تعاين بعد الموت أهوالا (٥)

أملت بالجهل عمرا لست (٦) تدركه

والعمر لا بد أن يفنى وإن (٧) طالا

كم من ملوك مضى ريب الزمان بهم

قد أصبحوا (٨) عبرا فينا وأمثالا

__________________

ـ لإصلاح الوزن.

(١) سقط من (ب) : نزولهم والصعود. وفي (أ) :

واطبا بعدهم لحقوا هم

ضل عنهم سعودهم والبرود

ولم اهتد فيهما إلى معنى صحيح.

(٢) في (أ) : ذلك. وفي (ب) : هذا.

(٣) في (ب) : العالم يقول.

(٤) في (ج) : لا تتقي النفس تبغي .....

(٥) سقط البيت من (ج).

(٧) في (ج) : ولو.

(٨) في (ج) : فأصبحوا.

(٦) في (ج) : ليس.

[الصلاة معراج المؤمن]

قال الوافد : حد لي (١) الصلاة يرحمك الله؟

قال العالم : الصلاة صلة بين العبد والرب ، وستر للعيب وكفارة للذنب ، الصلاة صلة بلا مسافة ، وطهارة كل خطيئة وآفة ، (٢) الصلاة مواصلة ومصافاة ، ومداناة ومناجاة ، المصلي يقرع باب الله ويطمع في ثوابه ، وهو على بساط الله عزوجل.

إذا كبر العبد تكبيرة الإحرام ، تساقط عنه الأوزار والآثام ، (٣) وإذا توجه العبد إلى القبلة ، فقد أبدى (٤) من نفسه الخضوع والذلة ، واتبع الشرع والملة ، إذا أخلص العبد في الصلاة بنيته ، كفر الله عنه ذنبه (٥) وخطيئته ، وأجزل له عطيته ، (٦) وإذا أخلص العبد القراءة والتلاوة ، سطع في (٧) قلبه النور والحلاوة ، وإذا قرأ الفاتحة ، أدرك الصفقة الرابحة ، وإذا (٨) أتبعها بالسورة ، كثر في الآخرة سروره ، وكفاه الله محذوره ، وإذا انحنى للركوع ، فقد أظهر لله الخضوع ، وإذا قام للاعتدال ، فقد نفى عنه الاشتغال ، وإذا هوى للسجود ، فقد خرج من الجحود ، واستحق من الله الجود ، وإذا تشهّد (٩) على التمام ، سلّمت عليه الملائكة الكرام ، وبشروه بدار السلام.

الصلاة شرح الصدور ، وفرج من جميع الأمور ، الصلاة نور في الفؤاد ، وسرور يوم المعاد ، الصلاة للقلوب منهاج ، وللأرواح معراج ، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،

__________________

(١) في (ج) : جد في. مصحفة.

(٢) سقط من (أ) و (ج) : وآفة.

(٣) في (ج) : تساقطت. وسقط من (ج) : الآثام.

(٤) في (أ) و (ج) : بدا من.

(٥) سقط من (أ) : ذنبه.

(٦) في (ج) : وإذا فرغ العبد من الصلاة كفر الله عنه سيئآته وخطيئته وأجزل عطيته.

(٧) في (أ) : من.

(٨) في (أ) : إذا.

(٩) في (أ) و (ج) : استشهد.

وتؤمن (١) صاحبها من نكير ومنكر ، الصلاة تغني من (٢) الإفلاس ، وتلبس العبد الإيناس ، الصلاة (٣) قرة العين ، وجلاء الرّين ، المصلي على بساط المولى ، يناجي الملك الأعلى.

الصلاة ضياء في الصدور ، وفسحة في القبور ، وبهاء (٤) في الحشر والنشور ، الصلاة تجوّز (٥) على الصراط ، وتورث في قلب صاحبها النشاط ، الصلاة تنزع قساوة القلوب ، وتكفر (٦) الذنوب ، الصلاة تسهل العسير ، وتمحو الذنب الكبير ، الصلاة توسع الأرزاق ، وتطيب الأخلاق ، الصلاة تقرب العبد إلى المولى ، وتؤمنه (٧) من البلوى. من لزم المحراب قرع الباب ، ومن قرع الباب أتاه (٨) الجواب ، صحة الإرادة ، لزوم المساجد للعبادة.

الصلاة تخفف الأوزار ، وتؤمن (٩) من النار ، أقرب ما يكون (١٠) إلى ربه من سجد وقام ، (١١) وزكى وصام ، لو علم المصلي من (١٢) يناجي لما التفت في صلاته ، من سها في صلاته فقد ضيع أشرف أوقاته.

اخضع لربك في الصلاة ذليلا

واذكر وقوفك في الحساب طويلا

__________________

(١) في (أ) و (ج) : ويؤمن.

(٢) سقط من (ج) : من. وهو في (ب) : بعد.

(٣) في (ب) : في الصلاة.

(٤) في (ب) : ضياء في القبور وبهاء يوم الحشر ... وفي (ج) : ورفيقه في الحشر .....

(٥) في (ب) : يجوز صاحبها.

(٦) في (ج) : فساد. وفي (ب) : كبائر الذنوب.

(٧) في (ب) : ربه المولى. وفي (ب) و (ج) : ويؤمن.

(٨) في (ب) : جاءه.

(٩) في (ب) : الأوزار وتقرب المزار. وفي (ج) : وتوقي صاحبها من النار.

(١٠) في (ب) : أقرب ما يكون العباد إلى ربه إذا سجد.

(١١) إشارة إلى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا في الدعاء). أخرجه مسلم (٧٤٤) ، والنسائي (١١٢٥) ، وأبو داود (٧٤١) ، وأحمد (٩٠٨٣).

(١٢) في (ج) : لمن.

لو علمت بين يدي من تقوم ، كنت تلازم بابه (١) وتدوم.

عجبا لمن يناجي القاهر! كيف يخطر في قلبه الخواطر ، ليس للمؤمن (٢) من صلاته إلا ما عقل ، ولا ترفع صلاته إذا غفل ، (٣) عفّر وجهك بالتراب ، فلعله يفتح لك الباب ، أحضر في الصلاة باطنك ، كما أحضرت (٤) ظاهرك ، طهّر قلبك ، كما تطهر ثيابك.

عجبا ممن (٥) يسأل الخلق! وباب مولاه مفتوح لكل سائل! عجبا ممن يتذلل للعبيد! وله عند سيده ما يريد ، من أطال لله القيام ، أزال عنه الأوزار والآثام ، من أخّر الصلاة عن الأوقات ، من غير علة من العلات ، حرم الخيرات والصالحات ، من ترك الصلاة إلى الليل ، جلّ به الذل والويل ، من حافظ على الصلوات ، تتابعت عليه (٦) الخيرات ، ورفعت له الدرجات ، وصرفت عنه النقمات.

من لم تكن الصلاة من باله وعزمه ، لم يبارك له (٧) في رزقه وتركه الله بهمّه ، من ضيّع صلاته لم تقبل حسناته ، وكثرت عند الموت سكراته ، من غفل عن الصلاة والذكر ، ضيق عليه في القبر ، الصلاة عمود الدين ، وتمامها صحة اليقين.

[قيام الليل]

قال الوافد : ما للذي يقوم الليل؟ صف لي ثوابه؟

قال العالم : من قام الليل وسهر ، نجاه الله من الأمر العسر ، من خاف البيات ، (٨) لم

__________________

(١) في (ج) : على بابه.

(٢) في (ب) : للمرء.

(٣) في (ج) : وترد إذا غفل.

(٤) في (ج) : تحضر.

(٥) في (أ) : لمن.

(٦) في (ج) : إليه.

(٧) في (أ) : يبارك الله.

(٨) في (ج) : البليات.

تغلبه السيئات ، من حذر الحمام ، شرد عنه المنام ، من اغتنم الليالي والأيام ، لم يقطعها بالبطالة والمنام ، (من أطال الرقاد ، فقد طمس النور من الفؤاد ، من دام رقاده ، عدم مراده) ، (١) من ألف الوطاء والمهاد ، خرج إلى الآخرة بغير زاد ، من تعوّد الوسادة ، لم يؤد حق العبادة ، من خاف اللحد ، لم ينم على الخد ، من عصى مولاه ، كانت الجحيم مأواه ، من فزع من يوم القصاص ، تضرع إلى ربه بالإخلاص ، من تحقق أن الرب مطلع في المعصية عليه ، (٢) أسبل الدموع على خديه ، من علم أن إلى ربه مرجعه ، هجر في الليل نومه ومضجعه ، من تحقق أن إلى ربه الرجوع ، أكثر من السجود والركوع ، (٣) (من تفكر في قبيح الرجوع ، شرد عن عينيه الهجوع ، وأسبل من مقلتيه الدموع) ، (٤) من علم أنه مأخوذ مطلوب ، كان له في الليل تهجد وهبوب ، (من عرف عصيانه ، داوم أحزانه ، من داوم أحزانه ، لم تنطبق بالليل أجفانه) ، (٥) من غلب على قلبه الحزن ، منع من عينيه (٦) الوسن ، من تحقق الإفلاس ، شرد عنه النعاس ، من علم (٧) أن الله يدعوه ، لم يزل يخافه ويرجوه ، فإن الله تعالى (٨) يقول : (هل من داع فأجيب؟ هل من مطيع فأثيب؟ هل من متقرب فإني (٩) منه قريب؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من سائل فأفضل عليه ، (١٠) هل من متوكل فأسوق الرزق (١١) إليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل

__________________

(١) في (أ) : سهاده. وسقط من (ج) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : مطلع عليه في المعصية.

(٣) في (أ) : أكثر في الليل السجود والركوع.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٥) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٦) في (أ) : عينه.

(٧) في (أ) : من يقل. مصحفة.

(٨) سقط من (أ) : تعالى. وفي (ب) : عز من قائل.

(٩) في (ب) : فإن.

(١٠) سقط من (أ) و (ج) : هل من سائل فأفضل عليه.

(١١) في (ب) : عطاي.

من مستعين فأعينه؟ هل من مستجير فأجيره) (١).

يا أهل الليل أبشروا بالسرور والجمال ، يا أهل الليل كفيتم جميع الأهوال ، (يا أهل الليل أمنتم الأفزاع والأشغال) ، (٢) يا أهل الليل تقر أعينكم عند انقضاء الآجال ، يا أهل الليل أكثروا التضرع والابتهال ، فقد اطلع عليكم الكبير المتعال ، يا أهل القرآن تهجدوا بالقرآن ، يا أهل القرآن معكم الدليل والبيان ، من سهر الليل (٣) وقام ، وتجوّع بالنهار وصام ، كان مقامه في الآخرة (٤) خير مقام.

يا أهل الليل قد أغلقت الملوك أبوابها ، وطاف (٥) عليها حجابها ، وطلبت كل صحبة أصحابها ، وأرخى أهل المعاصي أستارها ، وأنا الملك الجبار ، (العزيز الغفار الستار ، أعطي عبادي ، وأزيد أهل ودادي ، ومن يختار على مراده مرادي) (٦) ، أقول : يا عبادي ، يا أهل ودادي ، أبشروا بودادي ، والثواب في معادي.

قال الوافد : ما أجرأ العباد على المعاصي! فلم (٧) يخافوا الأخذ بالنواصي. كم تغفل وتنام ، وتظلم الأيتام ، كأني بك وقد عافصك (٨) الحمام ، وأنت غافل في ألذ منام ، (٩) يا

__________________

(١) إشارة إلى حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي قال في آخره : (ويبعث الله مناد ينادي من غروب الشمس إلى طلوع الفجر كل ليلة إلى سماء الدنيا ، يا باغي الخير هلم ، يا باغي الشر أقصر ، هل من داع يستجاب له؟ هل من سائل يعط سؤله؟ هل من مستغفر يغفر له؟ هل من تائب فيتاب عليه). أخرجه الإمام أبو طالب في أماليه / ٢٠٤. والبيهقي كما في الدر المنثور ١ / ٤٤٦. وأخرج نحوه أحمد برقم (١٦٥٨٨). والبخاري برقم (١٠٧٧) ، والترمذي (٤٠٨) ، وأبو داود (١١٢٠) ، وابن ماجة (١٣٥٦) ، ومالك (٤٤٧) ، والدارمي (١٤٤٣).

(٢) سقط ما بين القوسين من (أ) و (ج).

(٣) في (أ) : انقطاع الآجال. وفي (ب) : عليكم بالتضرع. وفي (ب) : تهجدوا بذكر الرحمن. وفي (ب) :

معكم النذير. وفي (ج) : التنزيل. وفي (أ) : بالليل. وفي (ج) : في.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : بالنهار. وفي (أ) : وجاع. وفي (ج) : بالقيامة.

(٥) في (أ) : غلقت. وفي (ب) : قد غلقت الملوك عليها. وفي (ب) : وقامت عليها.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٧) في (أ) و (ب) : لم.

(٨) في (ج) : عاجلك.

(٩) في (ج) : المنام.

من هو مقيم على القبائح والآثام ، أما تخاف انقطاع الأيام ، وحلول الحمام ، وشهادة الملائكة الكرام (١)؟!

قال العالم : في الليل يقرع باب الوهاب ، في الليل خلوة الأحباب ، (٢) في الليل تقبل توبة من تاب ، في الليل يستغفر من بهت واغتاب ، في الليل يعمر القلب الخراب ، في الليل يأتي (٣) الجواب ، الليل لأهل الصلاة والمحراب.

يا أهل الأسحار لكم الأنوار ، (يا أهل الليل خففت عنكم الأوزار ، يا أهل الليل أبشروا برضى الجبار ، ومرافقة الأبرار ، يا أهل الأسحار) ، أقبلوا (٤) على الاستغفار ، في صلاة الليل ، النجاة من الويل ، في المناجاة نجاة ، في الصلاة صلاة ، (٥) هلموا فهو ذو الإجابة ، أقبلوا فهو ذو الإنابة ، اعملوا بالصواب ، يفتح (٦) لكم الأبواب ، (أطيعوا فهو يضاعف لكم الثواب) (٧).

سلوا (٨) الأمان ، يا أهل الإيمان ، تضرعوا إلى الحبيب ، فهو من (٩) المتضرعين قريب ، ارجعوا إليه يكن لكم من كل خير نصيب ، السهر السهر ، يا من هو على سفر ، الإدلاج ، يا طالب (١٠) المنهاج ، البكور البكور ، يا من يريد السرور ، الأسحار الأسحار ، يا من أكثر (١١) الأوزار ، (الضراعة الضراعة ، يا من كثر منه الإضاعة) (١٢).

__________________

(١) في (ب) : الكرام عليهم‌السلام.

(٢) في (أ) : الأحباب بالأحباب. وفي (ج) : الأبواب. مصحفة.

(٣) في (ب) : يجيء.

(٤) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين. وفي (أ) و (ج) : فأقبلوا.

(٥) في (ب) : في الصلوات صلات. وسقط من (ج).

(٦) في (أ) : فهو يفتح لكم الأبواب. وفي (ب) و (ج) : يفتح لكم الباب.

(٧) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٨) في (ج) : اسألوا.

(٩) في (أ) و (ب) : إلى.

(١٠) في (أ) و (ج) : عليكم بالسهر ، فإنكم على سفر. وفي (أ) : يا طلاب. وفي (ج) : يا صاحب.

(١١) في (ب) : يا من كثرت منه.

(١٢) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

[نصائح طبية]

قال الوافد : صف لي فضل الصيام ، والإقلال (١) من الطعام؟!

قال العالم : أكثر الصيام ، تسلم من الآثام ، أقل من الطعام تسبق (٢) إلى القيام ، من شبع من الطعام ، غلبه (٣) المنام ، ومن غلبه المنام ، قعد عن القيام ، الشبع يظلم الروح ، ويترك القلب مقروح (٤) ، الجائع عفيف خفيف ، والشابع (٥) عاكف على الكنيف ، من كان شابعا ، كان للشيطان متابعا ، الشبع يكسب الوجع ، (٦) ويذهب الورع ، ويكثر الطمع.

ألا إن (٧) الصوم جنّة من النار ، ورضى للجبار ، من أطاع ضرسه ، أضاع نفسه ، التّجوّع في الفؤاد نور ، وفي المعاد سرور ، من استعمل القصد ، استغنى عن الفصد ، (٨) من قنع شبع ، ومن شبع طمع ، من أشفق على نفسه ، لم يتبع شهوة ضرسه ، من أطاع أسنانه ، هدم أركانه ، كم من طاعة ، نبعت من مجاعة ، وكم من قناعة ، أتت بخير بضاعة ، لا مجاعة مع القناعة.

[مراقبة الله]

قال الوافد : صف لي المراقبة؟

قال العالم : من راقب الله في الخلوات ، أجاب له الدعوات ، المراقبة ، تورث

__________________

(١) في (ج) : والقل.

(٢) في (ب) : أكثر من الصيام. وفي (ج) : من أكثر الصيام ، تقل عنه الآثام. وفي (ب) : قل من الطعام.

وفي (ج) : قل الطعام. وفي (أ) : تشتاق القيام. ولعلها تشتق.

(٣) في (ج) : غلب عليه المنام ومن غلب عليه ...

(٤) مقروح : مفعول ثان ليترك ، لكن له وجه في اللغة كما سبق ، على إرادة الوقوف.

(٥) في (ب) و (ج) : والشبعان.

(٦) في (ب) : من لم يزل شابعا ، لم يزل الشيطان له متابعا. وفي (ب) : يكسب الجزع.

(٧) سقط من (ب) : ألا إن.

(٨) الفصد : الحجامة.

المحاسبة ، (١) راقب مولاك في الليل إذا دجاك ، وفي النهار إذا أضاك ، يعصمك من هواك ، اذكر نظر الله إليك ، ولا تنس اطلاعه عليك ، أما تعلم أن الرب إليك ناظر؟! وعليك في كل الأحوال قادر؟! أما (٢) تعلم أن مولاك يراك؟! ويسمع سرك (٣) ونجواك؟ ويعلم منقلبك (٤) ومثواك؟ أرخيت عليك الأستار ، وأخفيت ذنوبك عن الجار ، وبارزت الجبار(٥) بالمعاصي الكبار ، وجمعت الذنوب والأوزار ، وشهد عليك الليل والنهار ، والملائكة الحضّار.

أما تخاف عقوبة الجبار؟! (٦) والخلود في النار؟ إلى كم تستتر عن أعين الناظرين؟ وقد شاهدك أقدر القادرين؟ كم تخاف من المخلوق وتستخفي؟ (٧) ولا تخاف الخالق ولا تستحيي ، كم تنقض العهود؟ وتستخف بالشهود ، (٨) كم تجترئ على المعبود؟ ويعود عليك ولا تعود؟ (٩) كم رآك على المعاصي وستر ، واطلع منك على القبائح وما نشر ، وغطى عليك وما شهر ، أما تذكر قبائح أمرك؟ أنسيت فضائح سرك؟ (١٠) أما تخاف من ذنوبك؟ أما تزدجر عن (١١) عيوبك؟ أغفلت عن الداهية؟ ولم تخف الهاوية. أأمنت (١٢) من لا تخفى عليه خافية؟! وقد اطلع عليك مرارا ، وأسبل عليك أستارا ،

__________________

(١) في (ج) : بالمراقبة تؤثر.

(٢) في (أ) : عن. وفي (ج) : أكثر. مصحفة. وفي (ب) : طاعته. وفي (ج) : الطاعة. وفي (ج) : كل الأمور.

وفي (أ) : ألم.

(٣) في (ج) : نداك.

(٤) في (ب) : متقلبك.

(٥) في (أ) و (ج) : ذنوبك عن الجبار وبارزته بالمعاصي. مصحفة.

(٦) سقط من (أ) و (ج) : عقوبة الجبار.

(٧) في (أ) : ولا تستخفي. مصحفة.

(٨) في (أ) و (ج) : بالسجود.

(٩) سقط من (أ) و (ج) : ويعود عليك ولا تعود.

(١٠) في (ب) : قبائحك ، أنسيت فضائحك.

(١١) في (أ) و (ب) : من.

(١٢) في (ب) : ألم تخف. وفي (ب) : أنسيت من ...

(وبارزته غير مرة فستر وعفى ، ونقضت ما عاهدته عليه ووفى) (١).

ولو شاء لأمطر عليك الحجارة من الهواء ، وسلب منك العطاء ، وكشف عنك الغطاء وشهرك (٢) لعباده ، وضيق عليك بلاده ، وبدل اسمك ، وغير جسمك ، هب أنه (٣) ستر عليك في الدنيا ، ما ذا تعتذر إليه في العقبى؟ (٤) هب أنه تجاوز وعفا ، وقد نقضت ما عاهدك عليه ووفى ، ألم (٥) تستح من خالق الأرض والسماء؟ ألم تستح من الحفظة الكرام؟! ألم تخف من لا ينام ولا يضام؟! يا حياه (٦) من قلة الحياء!!

وقال في ذلك :

يا من شكا حافظاه خلوته

حين خلا والعباد ما فطنوا

لم يهتك الستر إذ خلوت به

بر لطيف كفّا له المنن

[الانفاق والبخل]

قال الوافد : صف لي فضل الإنفاق وقبح البخل؟

قال العالم : ما لك (٧) من مالك إلا ما لبست فأبليت ، أو أكلت فأفنيت ، أو تصدقت فأبقيت ، وسوى ذلك وبال (٨) عليك ، من صان فلسه ، أهان نفسه ، من حبس

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : ما بين القوسين.

(٢) في (ب) : وأطلع عليك عباده.

(٣) في (ج) : لكنه ستر.

(٤) في (ب) : فما ذا. وفي (ج) : الآخرة.

(٥) في (ب) : أليس قد حيرت ووفى. مصحفة. وفي (ب) : ووفى أما.

(٦) في (ب) : من لا يضام ولا يرام. وفي (ب) : فيا حياك.

(٧) في (ب) : ليس لك من.

(٨) في (ب) : وما سوى ذلك فوبل.

درهمه ، جمع في القلب (١) همه ، البخل أدوأ الداء ، والكرم أنفع الدواء ، (٢) ما ثقل في الميزان ، مثل الإحسان إلى الإخوان ، والنجاة في قراءة القرآن ، (٣) ما أحبط العمل ، بمثل التغافل والنسيان (٤) والكسل ، من لزم السماحة ، لم يعدم الراحة ، البخيل في الدنيا مذموم ، وفي الآخرة من الخير محروم ، تملك البلاد بالفرسان ، وقلوب العباد (٥) بالإحسان ، من بذل ماله ، نال آماله ، (٦) من جاد بكسرته ، فقد بالغ (٧) في مروءته ، من أخرج فضل (٨) الأموال ، نجا في الآخرة من الأهوال.

[جهاد النفس]

قال الوافد : كيف أصنع بالنفس حتى ترجع عن شر عادتها؟

قال العالم : لا ترجع النفس عن عادتها أبدا ، وليس منها إقلاع ولا رجوع ، إلا بالقهر والغلبة والجهد والخوف ، وبالعلم والمعرفة والزهد تحبس النفس عن شر عادتها (٩) ، ولا يدرك ذلك منها إلا بصدق الإرادة ، والصبر والمعالجة ، وكثرة الخوف والعمل بالصواب ، فإذا ظفرت بها حتى تردها إلى طاعة الله ورضاه ، (١٠) ووفّقت لذلك فاشكر الله ، واعترف له بالطاعة إذ جعل ذلك بتوفيقه لك.

__________________

(١) في (ب) : وجمع على نفسه.

(٢) في (ب) : والجود أنفع دواء.

(٣) في (ب) : الإحسان في الله فليكثر الإخوان النجاة في القرآن.

(٤) في (ب) : بمثل التعاجل والنسيان. من. مصحفة.

(٥) في (أ) و (ج) : وتملك القلوب.

(٦) في (ب) : من بذل أمواله ، نال في الآخرة ما له.

(٧) في (ج) : بلغ.

(٨) في (ب) : فضلة.

(٩) في (ب) : حتى ترجع عن شهواتها.

(١٠) في (أ) و (ج) : ورضائه.

فينبغي لك من بعد ذلك أن تقلع عن الهوى ، (١) وتصم أذنه ، وتخرج التخاليط والآفات من أماكن مزرعها ، (٢) وتغلب هواك وتحذر النسيان والغفلة ، ووسوسة الشيطان ، وسرعة العجلة وتأخير الخير ، وتحذر التواني والعجز (٣).

واعلم يقينا أنك لا تظفر بذلك من نفسك إلا بالقهر ، وتمنعها من الرغبة والحرص والكبر ، والرياء والحسد ، والرئاسة والبخل ، وطول الأمل ، والتقلب في طلب الشهوات ، ومحبة الدنيا ، والتصنع للناس والمحمدة منهم ، وترك الغش والخيانة ، وخوف الفقر ، والطلب لما في أيدي الناس ، ولا تنس الموت ، واترك الغفلة (٤) والشح والسفالة والسفاهة.

فإذا نصرت (٥) على ذلك وأنفيته عن نفسك ، فاشكر الله كثيرا فقد شكر سعيك ، فعند ذلك تصح أعمالك ، (٦) غير أن النفس لا تصلح حتى تكدها ، وتقهرها وتجهدها ، لأنها أمّارة بالسوء والفحشاء ، (٧) وبالشر والفتنة والآفات مولعة ، (٨) وهي خزانة إبليس ، منها خرج وإليها يعود ، وهي تزين لصاحبها تسعة وتسعين بابا من أبواب الطاعات والخير ، لتظفر به في كمال المائة ، فكيف يسد السبيل العريض من لا يعرف مجراه؟! وكيف يعرف ذلك من لا يعرف عدوه ودنياه؟ وكيف يعرف عدوه ودنياه من لا يختلف إلى العلماء؟ ولا يخالط الحكماء ، ولا يجالس الصالحين.

فإذا أردت النجاة فتعلم العلم من العلماء ، وخذ الحكمة من الحكماء ، ولا تشد

__________________

(١) في (ب) : أن تقطع عين الهوى.

(٢) في (أ) : أمكنة هذا رعيها. وفي (ج) : أمكنه أهد لها عنه. مصحفة.

(٣) سقط من (أ) و (ج) : وسرعة العجلة وتأخير الخير. وفي (ب) : التواني والفخر.

(٤) في (ب) : والسعي للطلب مما في أيد المخلوقين ، ونسيان الموت والغفلة عنه.

(٥) في (ج) : ظفرت.

(٦) في (ب) : فإذا نصرت على نفي ذلك ونفيت القلب عن آفات ما ذكرت لك شكر الله سعيك على ذلك غير.

(٧) سقط من (أ) و (ب) : أمارة بالسوء والفحشاء.

(٨) في (أ) : متولعة.

على نفسك مرة وترخي أخرى ، (١) ولكن أقبل إليها بعزم صحيح ، وورع شحيح ، وصبر ثخين ، وأمر (٢) متين ، حتى تمنعها عن شهواتها ، وترجعها عن شر عاداتها (٣).

ثم اجمع أطرافك إلى وسطك ـ أعني إلى قلبك ـ وهو أن تحكم القلب على الجوارح ، (٤) ولا تحكّم الجوارح على القلب ، ولا يتم لك عمل ولا يخلص لك إلا بهذه الصفة.

فالعين تغمضها عن الحرام ، فإنها جاسوس القلب ، ثم الأذنان تمنعهما أن يوعيا (٥) الشر والخنا والنمائم والكذب ، ثم اللسان خاصة ، نزهه (٦) عن الكذب والغيبة والمجادلة والفضول والمقاولة والشبهات ، فإنه معدن قرارة النفس ، وهو ترجمان القلب. ثم البطن فاحفظه لا يدخله الحرام (٧) والسحت والشبهة والشهوات ، فإن نور (٨) القلب وصفاه من طيب طعمة البدن وخبثها. (٩) وأما الفرج فما دمت حابسا لبطنك من الامتلاء والشبع ، فأنت قادر على حفظه.

__________________

(١) في (ب) : وترضى مرة.

(٢) في (أ) و (ج) : وأثر.

(٣) في (ب) : متى تمنعها عادة شهواتها.

(٤) في (أ) و (ج) : يعني القلب. وفي (أ) و (ج) : فإن القلب يحكم على الجوارح.

(٥) في (ب) : فتغمض عينيك عن الحرام والشهوات ، فإن العين جاسوس القلب ، ثم الأذنان فلا تقرع فيهما الشر.

(٦) في (ب) : يجب أن تنزهه. وفي (ج) : تنزهه.

(٧) في (ب) و (ج) : فإنها. وفي (ب) : فمهما لم ترد الترجمة عن القلب يموت بمادة البدن. لعلها زيادة.

وفي (ب) : عن الحرام. وفي (ج) : فأحفظها أن يدخلها.

(٨) في (ب) : مورد. لعلها مصحفة.

(٩) في (أ) و (ج) : طيب ذلك.

[المريد]

قال الوافد : كيف يكون المريد للعبادة؟

قال : يكون قلبه (١) يجول في الملكوت الأعلى ، ثم يمنع نفسه من الرجوع إلى شر عادتها وشهوتها ، فإن لم يكن كذلك فإنه (٢) مغرور فيما هو فيه ، وغير مستحق لما يدعي ، ومحال أن يطير الطائر في الهوى ، وهو مربوط بحجر ثقيل ، كذلك القلب محال أن يصعد في الملكوت الأعلى وهو مربوط بالآفات ، محفوف بالرغبة في الدنيا ، مشغول بالتزين والتنقل في الشهوات ، والغفلة عن الطاعات ، وقلة الخوف لما هو آت (٣).

[مقام الأولياء]

واعلم أن مقام أولياء الله ، (٤) لا يقوم به إلا من عمل عمل (٥) الصالحين ، وهو الاجتهاد في الطاعات ، والانتهاء عن الشبهات ، وترك (٦) الشهوات ، والتوكل والتفويض ، والزهد والتسليم ، والاعتبار والتفكر ، والورع والذكر ، والخوف والخلوة ، والقرب (٧) والمعرفة ، والحب والإخلاص واليقين ، والصدق والخشية والرجاء ، وجميع ذلك لا يكون إلا من القلب الطيب الصافي الرقيق ، التارك لحطام الدنيا وعنائها ، فإن الله يقبل على عبده بالجود والعطاء ، ما دام العبد مقبلا على صفاء عمله ، لا يولي إلى غيره.

__________________

(١) سقط من (أ) و (ج) : قلبه.

(٢) في (أ) و (ب) : فهو.

(٣) في (ب) : في حجر. وفي (أ) : القلب لن. وسقط من (ج) : محال. وفي (أ) و (ج) : مشغول بحبها وقلة.

وإلى هنا انتهت نسخة (ج) المطبوعة.

(٤) في (ب) : مقام الأولياء.

(٥) في (ب) : أعمال الصادقين وهي.

(٦) في (ب) : والترك للشهوات.

(٧) في (أ) : والهرب.

فإذا خيّلت لك نفسك أنك من الصالحين ، فحقق ذلك بخمسة أشياء ، واختبر بها نفسك ، وهي :

ـ الأخذ والعطاء.

ـ والفقر والغناء.

ـ والعز والذل.

ـ والمدح والذم.

ـ والموت والحياة.

فإذا وجدت قلبك يميل إلى واحدة منهن دون الأخرى ، فاعلم أن الذي أنت تزعم باطل ، وهذا من تخيل النفس ، وأنت مغتر فيما تدعي ، لم تنل شيئا مما ناله البررة الصادقون.

واعلم أن لكل شيء حقيقة ، ولكل صدق علامة ، فحقيقة (١) المعرفة معرفة النفس ، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه ، وحقيقة الصدق (٢) الانقطاع إلى الله ورفض الدنيا ، فمن عرف ربه عبده ، ومن عرف الدنيا زهد (٣) فيها ، فمن عرف الله أحبه ، (٤) ومن أحبه لم يعصه ، وعمل بما يرضيه ، وإن نعيم المحب العارف ساعة واحدة أكبر وأجلى وأطيب وأعلا من نعيم أهل الدنيا بنعيمهم ، من يوم خلقهم الله إلى (٥) أن يفنيهم ، وإن الله (٦) رفيع الدرجات ذو العرش له الدنيا والآخرة ، حبيبهم به يستأنسون ، وعلى بساط قربه يتقلبون ، وفي جزيل كرمه يتنعمون ، وبذكره يتلذذون ، وبالوصول إليه يفتخرون ، قد وعدهم من جزيل عطائه ، وسعة رحمته ، ومكنون فضله ، ما يعجز عنه الواصف ،

__________________

(١) في (أ) : وعلامة.

(٢) في (أ) : ومن عرف ربه عمل بحقيقة التصديق والانقطاع إلى الله وعرف.

(٣) سقط من (أ) : ربه عبده ومن عرف. وفي (أ) : الدنيا فيزهد.

(٤) سقط من (أ) : فمن عرف الله أحبه.

(٥) في (أ) : وإن من نعيم. وسقط من (ب) : العارف. وفي (ب) : أكثر. وفي (أ) : مهملة. فلعل الصواب أكبر. وسقط من (أ) : وأطيب. وفي (أ) : نعيم الدنيا وأهلها. وفي (ب) : إلى آخر ما.

(٦) سقط من (ب) : الله.

ورضي عنهم وأرضاهم ، (١) أولئك الذين لا يشقى جليسهم ، ولا ترد دعوتهم ، يدورون مع الحق حيثما (٢) دار ، والأرض بهم رحيمة ، والجبار عنهم (٣) راض ، جعلهم الله بركة أرضه ، ورحمة على عباده ، فطوبى لهم وحسن مآب.

[الصادق المجتهد]

قال الوافد : صف لي الصادق المجتهد؟

قال العالم : هو الذي لا يعجز عن الاجتهاد فيما يقربه إلى الله ، في تحريكه وسكونه ، وكلامه وقعوده وقيامه ، ثم يجعل اجتهاده من جميع جوارحه ، (٤) ثم يجعل تحريك لسانه ، واستماع أذنه ، وبطش يده ، ومشي رجله ، وأخذه وعطاه ، ونومه ويقظته ، وجميع ما يكون منه في ليله ونهاره ، يصدق بعضه بعضا ، (ثم يجعل طعامه وشرابه ، ولباسه ، وجوعه وعطشه ، وقيامه وقعوده ، وشبعه وريّه ، يوافق بعضه بعضا) (٥) ويجعل جميع ذلك صدقا منه ، وقصدا إلى ما يوافق إرادته ، وليكن ذلك من خالص قلبه ، فإن فعل ذلك كان صادقا في إرادته وعبادته ، فإن (٦) الصادق المحب المستمر في الطاعات ، (٧) ينبذ الدنيا وراء ظهره ، فيظمأ (٨) نهاره ، ويسهر ليله ، ويترك شهوته ، (٩) ويخالف هواه ، ويقصر أمله ، ويقرب أجله ، ويخلص عمله من الآفات والتخاليط ، ويرتعد بدنه من خوف الله ، وقد ترك (١٠) الدنيا عنه ، لما عرف مكرها وخاف مضرتها ،

__________________

(١) في (ب) : وأرضاهم واصطفاهم.

(٢) في (أ) : أينما.

(٣) في (ب) : عليهم.

(٤) في (ب) : الجوارح وصدق تكلفه.

(٥) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٦) في (ب) : من عبادته. وفي (أ) : وإن.

(٧) في (ب) : الطاعة.

(٨) في (ب) : ويظمأ.

(٩) في (ب) : شهواته.

(١٠) في (ب) : عزف. وأشار إلى نسخة أخرى (رفض).

لم ينظر إليها بقلبه ، ولم (١) يمش إليها بقدمه ، ولم يبطش فيها بيده ، حذرا من شرها وفتنتها ، (٢) فهو هارب بنفسه حذرا من أهلها ، فقلبه غير غافل عن الله ، ومداوم على ذكره ، (٣) وقد عزل عن نفسه كل شغل يشغله (٤) عن الله ، وأقبل على قلبه ، فعمره بذكر ربه ، وجعل ذلك صافيا خالصا لله ، فهو خائف وجل مرعوب (٥) من عذابه ، هارب من الدنيا وأهلها ، محافظ على عمله ، قائم على نيته ، (٦) فبذلك يهتدي الضالّ ، ويسلك الطريق ، ويستجيب الله دعاءه ، ويملكه الله من قصور الجنة ، ويزوجه من حور العين ، ويخدمه الولدان ، فطوبى له (٧) وحسن مآب.

[الاخلاص]

قال الوافد : صف لي الإخلاص؟

قال العالم : إن (٨) مثل نور الإخلاص مثل نور الشمس ، لو غطى نور (٩) الشمس أدنى الغيم والغبار ، (١٠) تكدر من ضوئها على مقدار ذلك الغبار ، وإن كانت عين الشمس في ذاتها صحيحة ، ذلك (١١) مثل الصفا والإخلاص. وكذلك كل عمل يكون

__________________

(١) في (أ) : ولا.

(٢) في (أ) : شر قذرها وفتنتها.

(٣) في (ب) : الذكر.

(٤) في (أ) : فقد عزل نفسه عن كل شغله عن الله.

(٥) سقط من (أ) : مرعوب.

(٦) في (أ) : بنية.

(٧) في (ب) : لهم.

(٨) سقط من (أ) : إن.

(٩) في (ب) : عين.

(١٠) سقط من (ب) : الغبار.

(١١) في (أ) : كذلك.

أصله لله خاصة فهو له خالص ، ثم ربما شابه شيء من الدنس والكدر ، (١) فأحبط عليه عمله.

فالآفات التي تحبط العمل سبع :

أولهن : الكبر.

والثاني : الحسد.

والثالث : الحرص.

والرابع : الرياء.

والخامس : العجب.

والسادس : الشهوة.

والسابع : البخل.

فما دخل على المؤمن من هؤلاء فقد نقص عمله وإيمانه. ومثل ذلك مثل (٢) الثوب الجديد الأبيض ، يصيبه شيء من الدنس والغبار ، فيذهب من نوره وصفائه وبهائه بقدر ذلك الغبار والدنس ، وإن كان الثوب في الأصل جديدا لا عيب فيه. كذلك مثل الإنسان في صلاته يكون في طهارته (٣) محكما ، (وفي ركوعه وسجوده محكما ، فظاهره طاهر ، وباطنه محشو من الآفات والتخاليط ، فمن خلط فقد اغتر واستعبده الهوى ، وزين له شيطانه ، وخيلت إليه نفسه الكذب صدقا ، والباطل حقا) ، (٤) ولم يستحق اسم الإخلاص ، ولو أن مؤمنا (٥) بلغ من كرامته عند الله أن يطير في الهوى ، لم يزده (٦) ذلك إلا شدة وخوفا واجتهادا ، وما ازداد إلا خشية ، ولا ازداد إلا عبادة وهيبة ، وما

__________________

(١) في (ب) : الدنس فهو الكدر ، وأحبط.

(٢) سقط من (ب) : عمله. وفي (أ) : كمثل.

(٣) في (أ) : إن كان في الطهارة.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٥) في (ب) : رجلا بلغ من كراماته.

(٦) في (أ) : يزدد.

جعل الله للخالص (١) إلى الرخصة سبيلا ، فمن كان لله أعرف ، فهو له (٢) أخوف ، فينبغي لمن أراد الإخلاص في عمله ، ألا تسكن روعته ، ويكون خائفا وجلا حزينا ، وهذا (٣) إذا كان الخوف والحزن وافقهما القبول من الله عزوجل (٤). لأن الخوف والحزن ينوران الإخلاص ويزينانه ، (٥) وكل عمل لم يكن يوجل عليه القلب فقد حفت (٦) به الآفات من حيث لا يشعر ، لأن لأعمال الطاعات ، آفات مختلفات ، ليس يعرفها كل (٧) مطيع ، وذلك أن المطيع ربما هاج منه (٨) العجب والرياء والفخر والأمان ، من غير أن يعلم بها ، فلا يغفل المخلص عن ذلك ، في ليله ونهاره ، وحركته وسكونه ، وذلك مما يدخل عليه من تمويه (٩) النفس وتلبيس الهوى.

قال الوافد : صف لي صحيح (١٠) الإرادة؟

قال العالم : إذا علم الله من قلبك صحة الإرادة ، وإخلاص العمل ، أوصلك إلى الخير ، (١١) وهدى قلبك ، ويسر أمرك ، وجمع شملك ، (١٢) وهوّن عليك الصعوبة ، وقمع عنك الشهوات ، وبغّض إليك الدنيا ، وبصّرك عيوبها وأدواءها (١٣) حتى تعافها ، وإذا عرف الله منك الصدق والاجتهاد ، وعلم أنك لا تختار عليه غيره ، قبل الله سعيك ،

__________________

(١) في (ب) : واجتهادا في العبادة ، وما ازداد عند الله خشية إلا ازداد عند الله عبادة وهيبة. وأشار في (ب) بنسخة أخرى : للمخلص.

(٢) في (ب) : لله.

(٣) سقط من (ب) : هذا.

(٤) في (أ) : عن الله عزوجل قبول.

(٥) في (ب) : لأن الخوف والحزن معدنان للصفاء ومخ الإخلاص.

(٦) سقط من (أ) : حفت.

(٧) في (ب) : إلا كل. ولعل (إلا). زيادة.

(٨) في (ب) : أن الطاعة ربما هاج من صاحبها.

(٩) في (ب) : أهوية.

(١٠) سقط من (أ) : صحيح.

(١١) في (ب) : الخيرات.

(١٢) سقط من (أ) : جمع شملك.

(١٣) سقط من (أ) : وأدواءها.

وشكر عملك ، وصار اجتهادك تلذذا وحلاوة ، فإذا رآك الله تعمل على الحلاوة ولا تتوانى ، ولا تختار عليه الدنيا ، ولا تتبع هواك ، ولا تطلب شهوتك ، قبل الله منك عملك ، ونثر عليك من صفاء بره ، ونشر عليك من محزون رحمته ، وكثّر عليك من عطائه ، ومنحك من خزائن جوده ، وجزيل مواهبه ومعونته ، ما تقر به عينك ، وما إذا رأيته زادك اجتهادا وخوفا وعزما ، ونضّر أثر ذلك عليك ، وأورث قلبك النور والتقى والهدى ، والشبع من الدنيا ، وأغناك عمن دونه ، وأعطاك من عطائه ، ما لم يحسن أن تتمنى قبل ذلك ، والله كريم يقبل اليسير ، ويعطي عليه الثواب الكثير (١).

قال الوافد : كيف أخلص العمل؟

قال العالم : إنك لا تدرك إخلاص العلم إلا بالعزم ، ومن كمال العزم (٢) قلة التسويف ، ولزوم الصدق ، وتمام النية ، ومن تمام النية إخلاص العمل ، ومن إخلاص العمل الصدق ، ومن الصدق نقاوة القلب ، ومن تمام نقاوة القلب ستة عشر خصلة بعضها على أثر بعض ، وهي درجات الصالحين :

أولها : الإنابة إلى الله سبحانه.

ـ وترك التزين من نفسك ، وترك التصنع للناس ، وترك الحسد.

ـ ورفض (٣) الشهوات.

ـ والزهد في الحطام.

ـ والتجافي عن دار الغرور.

ـ والاستعداد للموت.

__________________

(١) في (أ) : فتعرف زوالها وانتقالها ، فتحرص في التزود منها للآخرة ، فعند ذلك يشكر الله سعيك ، وتجد لإخلاصك واجتهادك حلاوة ، فإذا رآك الله تعمل ولا توانى ولا تختار على طاعته الدنيا ، قبل الله منك عملك ، ونشر خزائن جوده وجزيل مواهبه ما تقر به عينك ، والله كريم يقبل اليسير ويعطي ويجازي بالجزيل.

(٢) سقط من (ب) : ومن كمال العزم.

(٣) في (أ) : وترك.

ـ والانقطاع عن الناس.

ـ والإقبال إلى الله تعالى.

ـ والاتصال بالذكر.

ـ وحسن الخلق.

ـ والرأفة بالمسلمين.

ـ والإنس بالله في الخلوات.

ـ والتشوق (١) إلى الله.

ـ والمحبة لأولياء الله والمحبة له.

ـ والرضاء بالمقادير التي من عند الله.

ـ ثم اليقين فإن الله يعطي العبد على قدر يقينه.

[الحياة الطيبة]

قال الوافد : صف لي الحياة الطيبة؟

قال العالم : اعلم أن الحياة الطيبة لا تدركها إلا بخمسة أشياء :

ـ أولها : العقل.

ـ ثم المعرفة.

ـ ثم اليقين.

ـ ثم العلم.

ـ ثم (٢) الغنى بما عند الله.

__________________

(١) في (ب) : والشوق إليه.

(٢) في (أ) : الواو في جميعها بدل ثم.

فهذه الحياة الطيبة. فإذا أردتها (١) فعليك بهذه الخصال ، فلك في ذلك كفاية. وإذا أردت أن تكون من أهل الصدق في الحياة الطيبة ، فابدأ بنفي العادة الخبيثة ، وألبس (٢) نفسك الصبر والخلق الحسن ، (وأزل عن قلبك الذكر الرديء ، ولا تشغل قلبك بغير ذكر الله وطاعته ، وأمت حرارة الشهوة من نفسك ، وليكن الموت عندك أحب إليك من الحياة ، فإن الصالحين من قبلك تعاهدوا (٣) قلوبهم بالحزن الطويل ، والجهد الثقيل ، يريدون بذلك رضى ربهم ، والتقرب إليه ، فإن أحببت أن تسلك طريقهم ، وتقفو آثارهم ، فحول) (٤) نفسك عن الدنيا وزهرتها ، وأدّب نفسك بالجوع ، وأذلها بالفقر ، وأنّبها (٥) بقرب الأجل ، وأبصر بعينيك إلى عرصة القيامة ، حتى كأنك تحاسب فيها ، فحاسب نفسك قبل ورودك إليها ، واقطع نيتك عن كل شغل يشغلك عن الله ، وتأدب بآداب الصالحين (٦) من قبلك ، رموا بقلوبهم نحو خالقهم (وكلما تحولت قلوبهم إلى غيره ، حملوا عليها بالزجر ، ورجعوا إلى مقامهم ، وقصدوا بأبدانهم نحو قلوبهم ، جهدا منهم ، وأيأسوا أنفسهم عن الدنيا وراحتها) ، (٧) وعوّدوا قلوبهم الجهد وكدّوها في طاعة خالقهم ، (٨) حتى عرف الله منهم الصدق فآتاهم الفرج واليسر (٩) من عنده ، وصرف عنهم العادة الردية الخبيثة (١٠).

(فإذا أردت أن تكون مثلهم فغمض عينيك عن الدنيا ، وأختم أذنيك عن أقاويل

__________________

(١) في (ب) : أردت أن تنالها فعليك بمنازعة النفس ومعاداتها ، ومخالفة الهوى فإن في ذلك كفاية.

(٢) في (ب) : فإذا أردت. وفي (أ) : في طلب الحياة. وفي (ب) : فإنك تنفي العادة. وفي (ب) : ولبّس.

(٣) في (ب) : تناسوا. لعلها مصحفة. وما أثبت اجتهاد ، والله أعلم بالصواب.

(٤) سقط ما بين القوسين من (أ). وبدلا منه هذه الفقرة : واترك الذكر الرديء ، ولا تشغل نفسك بغير طاعة وحول.

(٥) في (أ) : وأدبها بالفقر. وفي (ب) : وموتها بقرب.

(٦) في (أ) : وحاسب نفسك قبل ورودك الحساب ، في الموقف العظيم ، فذلك أدب الصالحين.

(٧) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٨) في (أ) : الله.

(٩) في (ب) : فعند ما عرف الله منهم الصدق والثبات أثابهم بالفرح والسرور.

(١٠) سقط من (ب) : الخبيثة.

أهلها ، واصرف قلبك عن زهرات بهجتها) ، (١) فانقطع إلى ربك ، وأعمر قلبك بذكره ، واستعمل لسانك في شكره ، واجعل قلبك مملوءا من محبته ، وتلذذ بطاعته ، (٢) فإنه يغنيك عن الخلق ، ويهون عليك الصعوبة ، ويخفف عنك (٣) المئونة ، وتصير حرا عن عبودية الدنيا إذا أوصلت حبلك بحبل الله (٤) عزوجل ، (وتسلم من الأشغال ، وتصبح منير القلب ، كثير الذكر ، لذيذ المناجاة ، حريصا على الطاعات ، قليل الزلل والخطأ ، قليل الغفلة ، حسن الفعال ، صافي الذكر ، قليل الكلام والفضول ، واسع الصدر ، خلوتك مع الله لا تزول ، وأنسك بالله ، لا تستوحش إن كنت في القفرة ، ويكثر يقينك في قلبك ، فبدنك مطيع ، ولسانك ذاكر ، وكلامك حق ، وعملك زين ، وسعيك مشكور ، وكل شيء منك نور ، وكل حركة وسكون منك محمود ، قد أعد الله لك النعيم ، في جنة النعيم.

[المتقي العارف]

قال الوافد : صف لي المتقي العارف؟

قال العالم : إن من صفات المتقي العارف ، أن يكون غذاؤه ذكر الله ، ورأس ماله اليقين بالله ، ومطيته الهيبة من الله ، ولباسه التقوى ، وتحريكه التفويض لأمر الله ، وعزمه التسليم إلى الله ، وخوفه التعظيم لله ، وهو محبوس في سجن الرهبة ، مقيد بالحياء ، متنعم بالمناجاة ، قد أمرضه الشوق ، وأشغفه الحب ، فهو مستأنس بطبيبه ، ممكّن (٥) بحبيبه ، وله) (٦) ورع ، لا يشوبه طمع ، ويقين لا يشوبه طلب ، وانتباه لا تشوبه غفلة ، وذكر لا يشوبه نسيان ، وعزم لا يشوبه تواني ، وتعب لا يشوبه عجز ، وعلم لا يشوبه جهل ،

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) سقط من (أ) : وتلذذ بطاعته.

(٣) في (ب) : عليك.

(٤) في (ب) : خالقك.

(٥) هكذا رسم الكلمة ولم يتضح لي معناها.

(٦) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

ورجاء لا يشوبه غرّة ، ودعاء لا يشوبه فترة ، وتفكر لا يشوبه توهّم ، وتوحيد لا يشوبه تشبيه ، وتصديق لا يشوبه تكذيب ، وتعديل لا يشوبه تجوير. فهذه صفة المتقي (١) العارف.

فعليك بهذه الطريقة فالزمها ، وأقبل عليها بقولك (٢) وفعلك ، (وحركتك وسكونك ، وبصرك وظاهرك وباطنك ، ونظرك وتمييزك ، فإن الخير والبركة بحذاريفها لمن سلك هذه الطريقة.

واعلم أنك إذا صدقت عليها نيتك ، وعلم الله منك المجهود في ذلك ، نصرك عليها وظفّرك بها) ، (٣) فمن صبر على هذه الصفة أربعين يوما لا يشوب عمله بالكدرة والتخاليط والآفات ، (٤) اتقد في قلبه مصباح النور ، وانفتح له عينا قلبه ، (٥) فيبصر بهما إلى جميع الدنيا والآخرة ، فيعرف (٦) (عند ذلك مصائب الدنيا ، ومصائب الآخرة ، فيصبر على مصائب الدنيا ، ويخاف من مصائب الآخرة ، لأن مصائب الدنيا نعم ، ومصائب الآخرة نقم ، فإذا ميز بينهما واعتبر ، أقبل على خيرهما عاقبة ، وعمل لآخرته بطيبة من نفسه ، وانتبه واطمأن ، وعرف أن الآخرة خير من الدنيا ، وتحصّن بذكر الله في دنياه ، وعمل لعقباه) (٧) ، فطوبى له وحسن مآب.

قال الوافد : فما يجب عليه بعد ذلك؟

قال العالم : يجب عليه أن يدعو عباد الله إلى الله ، ويعرّفهم أنهم من ربهم ، فيرغبهم

__________________

(١) في (أ) : المؤمن.

(٢) في (أ) : واعمل بها.

(٣) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٤) في (أ) : فمن داوم عليها أربعين يوما.

(٥) هذا معنى حديث ، أخرجه الإمام علي بن موسى الرضا في صحيفته / ٣٨٤ ، والقضاعي في مسند الشهاب ١ / ٢٨٥ (٤٦٦) ، والسيوطي في الدرر المنتثرة ١ / ٣٧٣ ، بلفظ : من أخلص لله أربعين يوما تفجرت الحكمة من قلبه على لسانه. وقد أورده كثير من المحدثين في كتب الموضوعات من الحديث.

(٦) في (ب) : فيبصر بنورهما. وفي (أ) : فيعرف (مصائبهما ويميز بينهما ، فإذا عرف أن الآخرة خير من الدنيا ، عمل للآخرة وترك الدنيا).

(٧) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وفي (أ) : فطوبى لهم. مصحفة.

ويردهم إلى مولاهم من بعد هربهم منه ، (١) ويحبب إليهم خالقهم ، ويعلمهم شرائع دينه ، ويعرفهم آلاء الله ومنّه ونعمه ، ويلقنهم الشكر ، ويرغبهم بالذكر في طاعته ، ويحذرهم معصيته ، (٢) ويريهم تقصيرهم ، ويخوفهم هجوم الموت عليهم ، ويعلمهم التوبة ، ويدلهم على الله ، (٣) ويعلمهم التوحيد حتى يوحدوا الله ويصدقوه ويعدلوه ، وينشر العلم فنشره غنيمة ، وذلك فعل الأنبياء والصالحين ، ولو سكت العالم هلك العالم والمتعلم جميعا.

ومثل العالم والمتعلم مثل نور الشمس ونور العينين.

افهم لو أن رجلا بصير العينين بقي في بيت مظلم قد سدّ (٤) عليه بابه ، وهو لا يهتدي إلى شيء فيه مخرجه ، أليس يكون متحيرا لا ينتفع ببصر عينيه (٥) ما دام البيت مظلما ، حتى إذا فتح عليه الباب ، وخرج ورأى ضوء الشمس ، انتفع ببصر عينيه عند ضوء الشمس. كذلك المتعلم يكون في بيت الجهل موثقا عليه بابه ، لا يهتدي إلى الخروج حتى يفتح عليه العالم العارف ، (٦) لأن المتعلم يستضيء بنور العالم ، ويهتدي إلى منار طرقه ، (٧) ويخرج من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، فعند ذلك يكون علمه (٨) خالصا من الآفات ، وإنما الجاهل (٩) مثل المكفوف البصر لا ينتفع أبدا بضوء النهار ، والليل والنهار في الظلمة (١٠) عليه سواء. كذلك الجاهل لا يعرف ما هو فيه من ظلمة الجهل

__________________

(١) في (أ) : ويعرفهم ويرغبهم إلى مولاهم ، ويحبب.

(٢) في (أ) : شرائع دينهم ، ويحذرهم معصية ربهم ، ويريهم.

(٣) سقط من (أ) : ويدلهم على الله.

(٤) في (ب) : فسد.

(٥) في (ب) : فيه محتارا. وفي (أ) : ببصره.

(٦) في (أ) : بابه حتى يفتح باب العلم فيتعلم ، لأن.

(٧) في (أ) : المتعلم يهتدي بنور العالم ويخرج.

(٨) في (أ) : عملا.

(٩) في (ب) : فإنما مثل الجاهل مثل.

(١٠) سقط من (ب) : في الظلمة.

وعمى القلب ، فلا (١) يميز بين الحق والباطل ، والجهل داء وشين ، لا يداويه غير العلم.

والعلم شفاء وزين ، لا يدخل معه داء ولا شين ، وليس العلم علم اللسان ، المعلق على ظاهر الإنسان ، الخالي عن القلب ، وإنما (٢) مثله كمثل شبكة الصياد التي ينثر عليها الحب للطير ، وليس يريد بذلك منفعة (٣) الطير ، ولكنه يريد أن يصطادها بذلك الحب المنثور على الشبكة.

كذلك عالم (٤) السوء لا يريد بعلمه رضى الله ، ولكن (٥) يريد رضى نفسه ومنفعتها ، وقد جعل هذا علمه شبكة ، (٦) ليصطاد حطام الدنيا ، وإنما العلم المنجي علم القلوب المنيرة الصافية الخائفة القانعة باليسير ، السليمة من الآفات والتخاليط ، (٧) (وليس العالم من قد أسكره حب الدنيا ، وإنما العالم الذي يعمل للآخرة الباقية ، فهو منتظر للنزول والانتقال ، مشغول يخاف أن يفاجئه الموت بحال من الأحوال ، فقلبه محزون ، وشره مأمون ، يجول بقلبه في الجنة أحيانا ، وفي النار أحيانا ، يخاف أن يكون من أصحاب النار ، ولا يكون من أصحاب الجنة ، فليس له همة غير تفتيش الآفات ، وكثرة الذكر في كل حركة وسكون) ، (٨) وكثرة الذكر لله في الحركة والسكون.

[الغافل المتواني]

قال الوافد : صف لي عمل الغافل المتواني؟

__________________

(١) في (ب) : ولا.

(٢) في (ب) : إنما هذا مثله.

(٣) في (ب) : مرافقة الطير ولا منفعتها.

(٤) في (ب) : العالم.

(٥) في (ب) : ولكنه.

(٦) في (أ) : نفسه ونفاعتها ليصطاد.

(٧) في (ب) : السالمة من. وسقط من (أ) : والتخاليط.

(٨) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

قال العالم : مثل (١) عمله كمثل الصوف المندوف ، تراه عظيما (٢) كثيرا ، فإذا وزنته وجدته قليلا ، (٣) كذلك الغافل الجاهل المتواني ، (٤) يسر بكثرة عدد أعماله ، وليس يعرف إخلاصها ، وهو يصلي ويصوم ويزكي ويحج ، ويذكر (٥) ويعبد ولا نور لعلمه ولا تزكية ، (٦) ولا إخلاص في قلبه ، وكيف ينال البركة والنور وهو غافل ساه؟! إن قام في الصلاة قام فيها بجسده ، وغفل عنها بقلبه ، (٧) وإن صام تكلم بالرفث والغيبة والكذب ، وإن زكى ماله كانت زكاته كأنها مغرم يخرجها لا تطيب بها نفسه ، (٨) وهو مع ذلك رافع رأسه ، شامخ بأنفه ، (٩) متطاول على الناس ، يتمنى على ربه الدرجات العلى ، وليس معه من الدين قطمير ، (١٠) ولا معه سكينة تمنعه من كثير ما يهوى ، ولا له قوة يكظم بها (١١) غيظه ، ولا حلم يحجزه ، ولا ورع يكفه (ويرده ، ولا له إصابة في كثير مما يدخل عليه من الشبهات) ، (١٢) ثم إذا حركته وجدته قليل العقل ، أعمى القلب ، متزينا في نفسه ، متصنعا للناس ، (١٣) يرائي بأعماله وهو لا يعلم ، (وهو متكبر في عبادته ، ويعلو على الناس وهو) (١٤) يزعم أنه مخلص ، ويزعم أنه متواضع ، ثم تراه

__________________

(١) في (ب) : مثل عمل الغافل المتواني مثل.

(٢) سقط من (أ) : عظيما.

(٣) في (ب) : وزنته لا يقوم في الوزن.

(٤) في (ب) : كذلك الجاهل الغافل يسر.

(٥) سقط من (أ) : ويزكي. وسقط من (أ) : ويذكر.

(٦) سقط من (أ) : ولا نور لعلمه ولا تزكية.

(٧) في (أ) : في قلبه بل هو ساه في صلاته ، يقوم فيها بجسده ويغفل عنها بقلبه.

(٨) في (ب) : لا تطيب نفسه بإخراجها.

(٩) سقط من (أ) : شامخ بأنفه.

(١٠) في (ب) : فإذا حركته لم تر معه من العبادة الخالصة قدر قطمير.

(١١) سقط من (أ) : بها.

(١٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(١٣) في (أ) : متصنعا يرائي الناس بأعماله. وفي (ب) مرآئي. بدل يرائي. ولفقت النص من الجميع.

(١٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

حريصا راغبا ، (١) مكبا على الدنيا ، وهو يزعم أنه مأجور على ذلك ، قد (٢) ارتفع بعمله فوق الخلائق من عجبه به ، (٣) وربما تراه يتكلم بكلام الخائفين ، حتى إذا جربته وحدثته (٤) وجدته جاهلا غافلا ، فلا يرضى من الخوف بأن يذم نفسه ، وربما يعتبر ويتفكر ولا ينفعه ذلك ، لأن ذلك لا ينفعه مع غفلته ، ولعله يظن أنه من التوابين منذ دهر طويل ، ولعل عنده من الروايات والأخبار ما ليس عند أحد من الناس ، ثم ليس هو يعرف من عمله إلا الشبهة والكدرة ، والزيادة والنقصان ، (٥) ولا يميز بين شيء من ذلك ، فإنه لو جمع فهمه ونظر إلى نفسه ، لعرف خطاياه ، ثم لو نظر في مطعمه وملبسه وكسبه وحرصه على دنياه لعرف سوء حاله ، ولو حفظ على نفسه سعي بدنه وجوارحه ، وكثرة ما يخرج من لسانه ، لتبيّن له ما يرد عليه في يوم واحد ، ولعلم جراحة دينه ، ثم لو كان صادقا في توكله وانقطاعه إلى ربه ، لترك دنياه وعمل لآخرته ، ولكان حريصا على طلب الخير ، والحذر على نفسه من سوء الحساب وكثرة الأهوال (٦).

[المتوكل]

قال الوافد : صف لي المتوكل الواثق بربه؟

قال العالم : عجبا لمن يثق بالمخلوق ولا يثق بالخالق ، ومن (٧) يهتم بالرزق وقد

__________________

(١) في (ب) : متواضع للناس. وفي (أ) : وأنت تراه حريصا مكبا.

(٢) في (ب) : وقد.

(٣) سقط من (ب) : به.

(٤) سقط من (أ) : وحدثته.

(٥) في (ب) : والنقصان ، ولا المضرة ولا المنفعة. لعلها زائدة.

(٦) في (أ) : حتى إذا جربته وجدته لا يعتبر ولا يفكر ولا يخاف ولا يحذر ، يدخل في عمله الشبهة والكذب والزيادة والنقصان ، ولا يميز بين ذلك ، ولا يعرف خطاياه ، ولو عرف غفلته وزلله في دنياه ، لكان حريصا على طلب الخير والنجاة ، ويحذر على نفسه سوء الحساب وكثرة الأهوال ، ولو كان صادقا في توكله وانقطاعه إلى ربه لعمل للآخرة وترك الدنيا.

(٧) في (أ) : وهو.

ضمن به الرازق ، (١) ثق بكفاية الله واعتمد عليه ، ورد أمورك وأحوالك كلها إليه ، (٢) من لم يثق بضمان مولاه ، وكله إلى خدمة دنياه ، (٣) إن الله تعالى يقول : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها) [هود : ٦]. ما أعجب أمرك! تأمن ما دهيت ، وتحزن على ما (٤) كفيت ، ولا تشكر على ما أعطيت.

إلى كم تأسى على المفقود؟! وقد ضمن الرزق الملك المعبود ، إلى كم الحزن على القوت؟! وقد ضمن القوت الحي الذي لا يموت ، الرزق مقسوم ، وطالبه مغموم ، والحريص فيه مهموم ، (٥) ومن جعل بطاعة الله اشتغاله ، كفاه الله (٦) في الدارين أشغاله ، من وكل أموره إلى (٧) مولاه ، لم يكله إلى أحد سواه ، وأغناه وكفاه ، وأعطاه وآواه ، ومن اعتصم بالله وقاه ، ومن استعاذ به أنجاه ، (٨) ومن أمّل إفضاله ، لم يحرمه نواله ، ومن توكل على الوهاب ، لم يخضع لأبناء التراب ، من عرف الله بالصدق ، ساق إليه الرزق (٩) من أيقن أن الله هو المتفضل ، (١٠) لم يكن إلى غيره متوسل ، (١١) من علم أن الله هو الجواد ، سخا بما في يده وجاد ، من عرف أن الله هو المعطي ، لم يعصه أبدا ولا يخطي (من عرف أن الله هو الجواد ، لم يطلب من غيره المراد ، من تيقن أن الله خالق العباد

__________________

(١) في (ب) : له الرزق.

(٢) في (أ) : أمرك إليه ، وأحوالك كلها لديه.

(٣) في (أ) : بضمان الله وكله الله إلى خدمة الدنيا.

(٤) في (أ) : ما أعجل أمرك. وفي (ب) : أمورك. وفي (ب) : تأمن ما رهبت. وفي (ب) : لما كفيت.

(٥) في (ب) : مغموم ، والحريص فيه مهموم.

(٦) في (ب) : جهل بالمولى اشتغاله ، كفاه الموفى .....

(٧) في (ب) : على.

(٨) في (أ) : اعتصم به. وسقط من (ب) : ومن استعاذ به أنجاه.

(٩) في (ب) : عرف أن الله متكفل بالرزق ، ساق إليه أسباب الرزق.

(١٠) في (ب) : من أقر أن الله متفضل.

(١١) في (ب) : على غيره متوكل. ومتوسل خبر كان منصوب على لغة ربيعة.

ومالك البلاد ، لم يعلق بغيره الفؤاد) (١).

أتظن أن من غذاك في الصغر؟ ينساك في الكبر! الذي رفع عنك المئونة وأنت طفل، يأتيك برزقك وأنت كهل ، الذي رزقك وأنت مغيّب جنين ، كيف لا يرزقك وأنت تضرع وتستكين؟! هو سبحانه يرزق من جحده ، فكيف يضيع من وحّده؟! يرزق (٢) الدودة في الصخرة الصماء والطير في الأوكار ، والحيتان في البحار ، والوحوش في القفار ، فكيف يضيع من يذكره (٣) في الليل والنهار ، ويسبحه بالعشي والإبكار ، ويرزق (٤) الجنة والناس ، إلى انقطاع الأنفاس ، عجبا لمن يرفع حوائجه إلى المخلوقين!!

ولا يطلبها من (٥) عند رب العالمين ، عجبا ممن يسأل (٦) حوائجه من ضعيف لا يسجد له أحد!! ولا يسألها ممن يسجد له كل أحد!! (عجبا ممن يتذلل لمحتاج فقير!! ولا يتذلل للغني الكبير!!) ، (٧) عجبا لمن يخضع ويتضعضع للعبد الفقير المحتاج الضرير!! ولا يخضع ويتضعضع للملك القدير!! (٨) الذي يعطي الكثير ، ويكشف العسير ، ويغني الفقير ، (٩) وهو على كل شيء قدير.

من اتقى الله جعل له من أمره مخرجا ، ومن دعاه بيّن له منهجا وفرجا ، أجملوا في الطلب ، (١٠) فما من حكمه مهرب ، من أجمل في الطلب ، أتاه الرزق بلا تعب ، إذا

__________________

(١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٢) في (أ) : فكيف من يدعوه ويوحده. وفي (أ) : وهو سبحانه يرزق.

(٣) في (ب) : يضيعك مع الذكر في .....

(٤) في (أ) : هو سبحانه يرزق.

(٥) في (أ) : سقط : من.

(٦) في (أ) : يطلب.

(٧) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٨) في (أ) : لعبد حقير ولا. وفي (أ) : للعلي الكبير وهو.

(٩) سقط من (أ) : ويغني الفقير.

(١٠) إشارة الحديث. أخرجه ابن ماجة ٢ / ٧٢٥ (٢١٤٤) ، ومالك ٢ / ٩٠١ (١٦٠١) ، وابن حبان ٨ / ٣٢ (٣٢٣٩) ، والحاكم ٢ / ٤ (٢١٣٤) ، والبيهقي ٥ / ٢٦٤ (١٠١٨٣) ، وأبو يعلى (١١ / ٤٦١ (٦٥٨٣) ، والطبراني في الكبير ٨ / ١٦٦ (٧٦٩٤) ، وابن الجارود في المنتقى / ١٤٤ (٥٥٦) ، والقضاعي في مسند ـ

أحرزت رزق غد ، فمن يضمن لك بالحياة (١) إلى غد.

لما رأيت الناس يسألون كل معجب ، نزهت نفسي عنهم وجعلت حوائجي إلى الرب(٢).

قال الشاعر :

فلا تجزع إذا (٣) أعسرت يوما

فقد أيسرت في الدهر الطويل

ولا تيأس فإن اليأس كفر

لعل الله يغني عن قليل

ولا تظن بربك ظن سوء

فإن الله أولى بالجميل

وقال غيره :

لقد علمت وما الإشفاق (٦) من خلقي

أن الذي هو رزقي سوف يأتيني

أسعى إليه (٧) فيعنيني تطلبه

ولو كففت (٤) أتاني لا يعنّيني

لا خير في طمع يدني إلى طبع

ورغفة (٥) من قليل العيش تكفيني

[التائب والتوبة]

قال الوافد : ما شرائط التائب وأوصافه؟

قال العالم : شرائطه (٨) : المحبة والطاعة ، والإقبال ...

__________________

الشهاب ١ / ٤١٦ (٧١٦).

(١) في (ب) : فمن يأتيك بالحياة.

(٢) في (ب) : وجعل. وفي (أ) : عنكم وجعلت أحواجي إلى الله.

(٣) في (أ) : وإن.

(٤) في (ب) : جلست.

(٥) في (ب) : وعفة.

(٦) في (ب) : الإسراف.

(٧) في (ب) : له.

(٨) في (ب) : شروط. وفي (أ) : في أوصافه. وفي (ب) : شروطه.

والضراعة (١) من أراد الحبيب؟ جاء بقلب منيب ، من اعترف؟ أقر بما اقترف ، واعتذر وأنصف ، وبادر وعطف ، وتاب وأكثر الانتحاب ، وعمل بالصواب ، وتبع (٢) آيات الكتاب.

أين التوبة؟ يا صاحب الحوبة ، أين الاستغفار؟ يا أهل الإصرار ، أين الوجل؟ يا أهل الزلل ، أين الضراعة؟ يا أهل الطاعة ، (٣) توبوا وأنيبوا ، ولا تسوّفوا فتخيبوا (٤) واعتذروا واستغفروا وازدجروا ، وتذللوا واعترفوا (٥) واعتبروا ، واخضعوا وانكسروا ، (٦) واصبروا على الطاعة ، تدركوا الفوز والنفاعة ، ارغبوا وتقربوا ، واندموا (٧) على المعاصي ولا تصروا ، (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٣١) [النور : ٣١].

أين المؤمنون؟ (٨) أين الموحدون؟ أين (الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) [التوبة : ١١٢] (٩). كيف ينامون ولا يشتاقون؟! (جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [آل عمران : ١٣٣] (١٠). قصورها من الذهب والجوهر ، والياقوت الأخضر ، فيها الحور الحسان ، والأكاليل والتيجان ، تجري من تحتها الأنهار ، لباس أهلها الحرير والسندس والعبقري ، (أين الراغبون؟ أين المجتهدون؟ هذه دار لا تخرب ولا يفنى شبابها ، ولا تبلى ثيابها) ، (١١) هذه دار

__________________

(١) في (أ) : والتضرع.

(٢) في (ب) : واتبع المحكم من آيات.

(٣) في (ب) : الإضاعة.

(٤) في (ب) : ولا تسرفوا. وفي (أ) : لا تسوفوا واعتذروا.

(٥) سقط من (أ) : واعترفوا.

(٦) سقط من (أ) : واخضعوا وانكسروا.

(٧) في (أ) : اندموا.

(٨) سقط من (ب) : أين المؤمنون.

(٩) في (ب) : أين الحامدون؟ أين العارفون؟ أين المقتصدون؟ أين الطالبون؟ أين المشتاقون؟

(١٠) في (أ) : (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ...) الآية.

(١١) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

المجتهدين (١) ما هم عنها بمخرجين ، دار أهلها لا يشقون ، ولا يفتقرون ولا يحزنون ، ولا يمرضون (٢) ولا يموتون ، ولا يهرمون ولا يحتاجون.

أيها الخاطئون العاصون ، أيها المفسدون ، (٣) أيها المذنبون ، مالكم لا تتوبون؟! مالكم لا ترجعون؟! (مالكم لا تخافون؟ أمعكم صبر على النار؟ ألكم في ذلك اعتذار) ، ألا (٤) تخافون نار الجحيم؟! وشراب الحميم؟! وطعام الزقوم؟! ولباس القطران؟! ألا إن جهنم حرها لا يبرد ، وعذابها لا ينفذ ، ولهبها (٥) لا يخمد ، إلى كم هذه الغفلة؟! (كم تنقضون العهود؟ كم تعدّون الحدود؟) (٦) كم تعصون المعبود ، ارجعوا إلى الله في وقت المهل ، قبل أن (٧) ينقطع الأجل ويرفع العمل ، فإن الله يقبل التوبة ، ويمحو (٨) الحوبة. التوبة تمحو عظائم الذنوب ، وتقرب العبد إلى علام الغيوب ، توبوا إلى الله قبل أن يغلق الباب ، ويحصل الحساب ، ويقع العذاب ، احذروا الله ، خافوا الله ، (٩) راقبوا الله ، بادروا بالتوبة قبل الندم ، قبل زلة القدم ، قبل الأخذ بالكظم (١٠).

تب أيها العاصي ، قبل أن تصبح من رحمة الله قاصي ، قبل الأخذ بالنواصي ، ارجعوا إلى الله بالقلوب ، من (١١) قبل أن يكون الباب محجوب ، (١٢) أي أهل التوحيد ،

__________________

(١) سقط من (ب) : هذه دار المجتهدين.

(٢) سقط من (ب) : ولا يحزنون ولا يمرضون.

(٣) سقط من (ب) : أيها العاصون أيها المفسدون.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وفي (ب) : أما تخافون.

(٥) في (ب) : وجمرها.

(٦) سقط من (ب) : ما بين القوسين.

(٧) سقط من (أ) : أن.

(٨) في (ب) : ويكفر.

(٩) في (ب) : ويحضر الحساب. وفي (ب) : العقاب. وسقط من (أ) : خافوا الله.

(١٠) سقط من (أ) : قبل الأخذ بالكظم. والكظم : مخرج النّفس.

(١١) سقط من (ب) : من.

(١٢) قاصي ومحجوب خير لتصبح وليكون على لغة ربيعة. (كذا في المخطوطة) وقد سبق له مثال ووجه في اللغة. وفي (ب) : أين أهل. مصحفة.

تقربوا إلى الملك الحميد ، (١) تنجوا من العذاب الشديد ، يا أهل القرآن تقربوا بالقرآن ، إلى الملك الديان ، تنجوا به من عذاب النيران ، هو الشفيع فيكم ، هو الرفيق لكم ، هو الشاهد عليكم ، هو الدليل ، هو السبيل ، هو الحجة ، هو المحجة ، اعرضوا أعمالكم عليه ، وردّوا (٢) أقوالكم إليه ، أكثروا قراءته بالليل والنهار ، وفي وقت الأسحار ، فإن الملائكة معكم (٣) عند قراءته قعود ، وعلى ما تنطقون به (٤) شهود.

لا تخسروا الميزان ، لا تحلفوا الأيمان ، لا تذكروا البهتان ، لا تبخسوا المكيال ، لا تشيبوا (٥) الأعمال ، لا تصحبوا الأنذال ، لا تضيعوا الصلاة ، لا تغلّوا الزكاة ، لا تحلوا المحرمات ، لا تؤذوا الجيران ، لا تطيعوا الشيطان.

أيها المضيعون للصلوات ، توبوا إلى المطلع على أعمالكم (٦) في الخلوات ، أيها الخائن بالعين والفؤاد ، تب إلى الملك الجواد ، قبل أن يسلط عليك ملائكة غلاظ شداد.

أيها المؤذي للجيران ، تب إلى الملك الديان ، قبل سرابيل القطران (٧).

أيها المانعون للزكوات ، توبوا إلى الله (قبل نزول النقمات والسطوات. أيها المتبعون للشهوات ، توبوا إلى الله) من اكتساب السيئات ، وتضرعوا إليه بالدعوات.

يا صاحب الكذب والزور ، تب إلى الله قبل الويل والثبور. أيها الباهت المغتاب ، تب إلى الملك الوهاب ، قبل أن تذوق (٨) أليم العقاب. أيها الحالف بالأيمان ، تب إلى الله

__________________

(١) في (ب) : تقربوا بالتوحيد إلى الملك المجيد.

(٢) في (أ) : ردوا.

(٣) سقط من (ب) : معكم.

(٤) سقط من (أ) : به.

(٥) في (ب) : لا تسيئوا.

(٦) في (ب) : عليكم.

(٧) في (ب) : إلى الله قبل أن تلبس سرابيل.

(٨) سقط من (ب) : ما بين القوسين سهوا. وفي (أ) : اكتساب الشبهات. وفي (ب) : وتضرعوا إلى الله.

وفي (ب) : إلى الله الواحد الوهاب. وفي (ب) : تذوقوا.

قبل نزول (١) النيران.

وقال في ذلك :

اسلفت من عمرك ما قد مضى

منهمكا (٢) في غمرات الخطر

حتى إذا القوة زالت وقد

أقعدك العجز وحل الفشل (٣)

نبت إلينا في صدار (٤) الحيا

مستعجما فيك فنون ٥ الخجل

فأنت (٥) عندي بمحل الرضى

وقد غفرنا لك كل الزلل

وقال آخر :

إذا لم تصن عرضا ولم تخش خالقا

ولم ترض مخلوقا فما شئت فاصنع

وقال غيره :

إذا أمسى وسادي من تراب

وبت مجاور الرب الرحيم

فهنأني أصحابي وقالوا

لك البشرى قدمت عني

[صفات التائب]

قال الوافد : صف لي هيئة التائب؟

قال العالم : هيئة التائب ، العزم على أن لا يعود ، إلى عصيان المعبود ، ويأسف (٦)

__________________

(١) في (ب) : قبل أن تزور.

(٢) في (ب) : عمرك أيام كأنك في.

(٣) في (ب) : الكسل.

(٤) في (ب) : صدور.

(٥) في (أ) : أنت.

(٦) في (ب) : ويأسف.

على ما اقترف ، ويندم على ما أسلف ، ويرجع مما عرف ، يندم بالقلب ، على ما قدم من الذنب ، يرجع إلى اليقين ، ويبكي ويستكين ، يكثر الصوم ، ويقل النوم. فهو مشفق من عصيانه ، مطرق بين إخوانه ، ظاهر خشوعه ، متبادر دموعه ، منقطع كلامه ، قليل منامه، دائم كرمه ، مستهام قلبه ، يسير أكله ، كثير شغله ، صحيح قوله ، لا ينقض عهده ، ولا يخلف وعده ، ولا يمنع رفده ، يطلب خلاصه ، ويعرف انتقاصه ، (١) إن طلبته وجدته في فكرته ، وإن سألته خاطبك بعبرته ، لا تسكن حرقته ، ولا تزول رقته ، ولا تكف دمعته. من رآه انتبه من غفلته ، ومن جالسه تاب من زلته ، فهو حقير في نفسه ، غريب في أهل جنسه ، كريم على ربه ، نادم على ذنبه ، ملتمس لما به ، طامع في ثوابه ، رافض لأسبابه ، باكي على شبابه ، كثير الوجع ، عظيم الفزع ، متين الورع ، ظاهر خشوعه ، غزير دموعه ، صادق رجوعه ، معتبر متفكر ، شاكر ذاكر ، خجل ، وجل ، واجد ، ساجد ، (٢) تضيق به البلاد ، ويسأم من صحبته العباد ، ينتظر المعاد ، (٣) ويطلب تحقيق الوداد ، جهده شديد، وعمله كل يوم يزيد ، وحزنه في كل نفس جديد ، يتجرع الغصص ، ولا يطلب الرخص ، دائم الطلب ، ملازم الكرب ، مواظب على التعب ، رافض للطلب ، ظاهر الحزن والنّصب ، ضيق الأوقات ، مغتنم (٤) الساعات ، قليل الالتفات ، حذر من كل الجهات ، ماله هدوء ولا سكون ، (٥) خائف غير أمون ، وجل محزون ، كأنه مقيد مسجون ، لونه أصفر من هيبة الرحمن ، ونفسه ذائبة من (٦) خوف الهجران ، نحيف البدن ، خفيف المؤن ، سقيم الأركان ، سليم الجنان ، مستقيم اللسان ، حريص على طلب الجنان ، لا تصده العوائق ، ولا يبالي بالخلائق ، (٧) منقطع من العلائق ، متمسك بالحقائق ، فهو في الطلب ، إلى أن يصير إلى الطرب ، وينجو من

__________________

(١) سقط من (أ) : ويعرف انتقاصه.

(٢) سقط من (أ) : واجد ساجد.

(٣) في (ب) : الميعاد.

(٤) في (ب) : يغتنم.

(٥) في (أ) : سكان. مصحفة.

(٦) في (ب) : خدمة الرحمن. وسقط من (ب) : من.

(٧) في (أ) : الخلائق.

التعب.

قال الوافد : بئس العبد عبد (١) سها ولها ، (بئس العبد عبد طغى وبغى ، بئس العبد [عبد] جاوز الحد وتعدى) ، (٢) بئس العبد عبد ظلم واعتدى.

أيها العالم الحكيم ، والسيد الحليم ، قد وصفت أهل النجاة ، فأبلغت في (٣) الصفات، وحذرت مما هو آت ، فجزاك الله عني خيرا ، وبوأك سرورا.

[صفات المحب لله]

صف لي المحب لربه؟ النادم على ذنبه؟

قال العالم : أوصاف المحبين : يحبهم الله (كرما ، ويحبونه ألما ، يحبهم إرادة ، ويحبونه عبادة ، يحبهم رحمة ، ويحبونه خدمة ، يحبهم تفضلا ، ويحبونه تذللا) ، (٤) إذا أحبك سترك ، وإذا أحببته قربك وشرفك ، (٥) إذا أحبك أغناك ، وسترك وآواك ، المحب عينه لا تنام ، (٦) همته الصلاة والصيام ، أهل المحبة إذا جنّهم الليل أرقوا ، وإذا أضاءهم الصبح (٧) فرقوا ، وإذا قرئ القرآن صاحوا ، وإذا ذكروا ذنوبهم ناحوا ، (من كان بالله أعرف ، كان من الله أخوف ، (٨) من رجا طلب ، ومن أحب تقرب ، ومن خاف هرب ، ينام الناس ولا ينام ، ويضحك الناس ولا يضحك ، المصاب الذي يدعو ولا يجاب ، الأحزان تهد الأركان ، وتشيد الإيمان) ، (٩) إن الله يحب كل قلب حزين ، الحزن عمارة القلب

__________________

(١) سقط من (ب) : عبد.

(٢) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٣) سقط من (أ) : في.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٥) في (أ) : وشوقك.

(٦) سقط من (أ) : إذا أحبك أغناك ، وسترك وآواك. وسقط من (أ) : لا تنام.

(٧) في (أ) : أضاء الصباح.

(٨) في (أ) : أعرفهم بالله ، أخوفهم من الله.

(٩) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

الخراب ، (١) المحزون يفتح له الباب ، كلام المحزون في خلوته يقول : كأني بك وقد تجرعت مرارة المذاق ، وقيل : إلى (٢) ربك المساق ، كأني بالغطاء وقد كشف ، وبالعطاء وقد صرف ، كأني بالوعد وقد اقترب ، وبالوعيد وقد وجب ، كأني بك في اللحود ، مضاجع للدود ، كأني بالمظلوم ، وقد تعلق بالظالم ، كأني بهذا الضياء وقد أظلم ، وبهذا العمر وقد انصرم ، كأني بالمنادي وقد نادى ، وبالليل والنهار وقد بادا ، (كأني بهذا الجسد وقد ذهب عنه النشاط ، وطوي من تحته البساط) (٣).

قال الوافد : صف لي التجربة؟

قال العالم : تصحب (٤) أهل المعرفة ، وتحفظ التجارب حتى تكون معلم (٥) التجربة ، واطلب مرادك بالصدق ، لأن ذلك للصادقين المريدين لله.

قلت : فبأي شيء أجد الإرادة؟

قال : (٦) بالصدق واستماع الحكمة.

قلت : أي حكمة (٧)؟

قال : حكمة الذين يدعونك إلى رب العالمين.

[مدارج الأولياء]

قلت : فإذا وجدت الإرادة أي شيء أفعل؟

قال : (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً) (٤) [المزمل : ٢ ـ ٤]

__________________

(١) سقط من (أ) : الخراب.

(٢) في (ب) : عرغرت قرارة الفراق. لعلها مصحفة. وفي (ب) : وقيل لك إلى.

(٣) في (أ) و (ب) : بهذا الجلد. لعلها مصحفة. وسقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٤) في (أ) : أصحب.

(٥) في (ب) : تعلم.

(٦) في (أ) : بأي شيء يأخذوا. وسقط من (ب) : قال.

(٧) في (ب) : الحكمة.

قلت : بأي شيء أفعل ذلك؟

قال : بقلة الطعام ، وقلة الكلام.

قلت : كيف أصبر على الحق؟

قال : بذكر المقام.

قلت : وما المقام؟

قال : مقامك بين يدي الله سبحانه يوم القيامة.

قلت : وكيف أصبر عن الكلام؟

قال : أكثر ذكر الله حتى تجد حلاوته (١) تلهيك عن كلام الفضول.

قلت : ومن يقدر على ذلك.

قال : الذي يريد أن يصل إلى ربه.

قلت : أو جد (٢) لي ما أيسر علي من ذلك؟

قال : عليك بكثرة الدعاء والتضرع ، حتى تأتيك المعونة من الله سبحانه.

قلت : كيف يصل العبد إلى ربه؟

قال : إذا صبر على ذكره ، وأدمن على شكره ، (وصل إليه بقلبه.

قلت : بأي شيء) يصل إلى ربه؟

قال (٣) : بالجهد الدائم ، والدعاء والتضرع ، ثم عرف وعلم وأيقن أنه لا يصل إلى ربه إلا به.

قلت : بأي شيء ينجو العبد من عذاب ربه؟

قال : بترك الذنوب.

__________________

(١) في (أ) : حلاوة الذكر.

(٢) في (ب) : أدخر.

(٣) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وسقط من (ب) إلى ربه. وسقط من (أ) : قال.

قلت : أرأيت العبد إذا وصل إلى ربه أيسكن عنه الخوف والوجل أم لا؟

قال : لا.

قال : لم وهو على يقين من ذلك؟

قال : نعم. (١) من اليقين أن يكون خوفه ووجله.

قلت : أو يكون (٢) طالبا لرزقه.

قال : نعم يكون شديد الطلب لرزق الآخرة.

قلت : أعني رزق الدنيا.

قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ) (٢٠) [الشورى : ٢٠].

قلت : كيف يكون واثقا برزقه موقنا؟

قال : كما يكون موقنا بالموت واثقا مصدقا أنه لا بد أن (٣) ينزل به.

قلت : ما علامة المحب؟

قال : يقرأ القرآن ويكون قرة عينه ولا يشبع من قراءته.

قلت : كيف يخافه ويحبه من قلب واحد؟

قال : لأنه محب لواحد ، فالخوف (٤) منه في حبه له ، والحب له في خوفه منه ، مثل النار والنور ، (٥) فالخوف نار ، والحب نور ، فلا يكون أبدا نور بلا نار.

ألا ترى إذا علت النار بنور يقع عليه اسم النور ، كالسراج في البيت ، فيقال في البيت نور ، ولا يقال فيه نار ، فالنور (٦) نار السراج إذا غلب الخوف على العبد يقال له

__________________

(١) سقط من (ب) : نعم.

(٢) في (أ) : أيكون.

(٣) سقط من (أ) : أن.

(٤) في (ب) : يجب الواحد. وفي (ب) : والخوف.

(٥) سقط من (ب) : النور.

(٦) في (ب) : والنور.

خائف ، والمحبة معه ، وإذا غلبت المحبة على العبد سمي (١) محبا والخوف معه ، فإذا كمل الخائف على ما وصفت لك (٢) غلب بنوره ناره ، فوقدت منه المصابيح ، فنور البيوتات كلها والظلمات كذلك ، فكذلك (٣) المحب إذا كمل في الخوف كما وصفت لك (٤) ونجا من نجاسة نفسه فهو كالمصابيح ، كلامه نور وصمته نور ، وعمله نور (٥) ومدخله نور ، فهو نور من رأسه إلى قدمه (٦) كالمصابيح ، فكل تحركه (أبدا نور ، متصل بنور الملكوت الأعلى ، قلبه مع الله بحلاوة حبه ، وأحواله (٧) نور إلى الله في ذكره ، فطوبى له وحسن مآب) ، (٨) وطوبى لمن رزقه الله ذلك.

(قال الوافد : صف لي المتقلب في جوعه؟) (٩).

قال : العالم : مثل (١٠) المتقلب في جوعه كالمتشحط في دمه (١١) في سبيل الله ، وثوابه الجنة.

قلت : ما علامة العارف؟

قال : أن لا يفتر من ذكر ربه ، (١٢) ولا يستأنس بغيره.

__________________

(١) سقط من (أ) : له. وفي (أ) : إذا غلبت. وفي (أ) : يقال محبا.

(٢) سقط من (أ) : لك.

(٣) في (أ) : والظلمات كذلك المحب. وفي (ب) : والظلمات فكذلك المحب. ولعل ما أثبت هو الصواب.

وإنما ظنه النساخ تكريرا فحذفوه.

(٤) سقط من (أ) : لك.

(٥) في (ب) : وعلمه.

(٦) سقط من (أ) : نور من رأسه إلى قدمه.

(٧) هذه الجملة قلقلة وغير مستقيمة. ولعل هنا سقطا.

(٨) سقط من (أ) : ما بين القوسين.

(٩) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وقد ظنن الناسخ على السؤال ، وكأنه إنما استوحاه من الجواب.

(١٠) سقط من (ب) : مثل.

(١١) سقط من (ب) : في دمه.

(١٢) سقط من (أ) : أن. وفي (أ) : الله.

قلت : ما أنفع الخوف لي (١)؟

قال : ما لم يجرّيك على المعصية وأطال منك الحزن على ما فاتك ، وألزمك التفكر فيما تصير إليه في الآخرة.

قلت : ما أنفع الصدق لي؟

قال : أن تقر لله بعيوب نفسك ، ومساوئ عملك ، وتتقي الكذب في مواطن الصدق.

قلت : فما أنفع الإخلاص لي (٢)؟

قال : ما نفى عنك الرياء والتزين في الجماعات.

قلت : فما أنفع الحياء لي (٣)؟

قال : أن تستحيي من الله أن تسأله ما تحب وأنت تأتي ما يكره.

قلت : فما أنفع الأعمال لي؟

قال : ما سلمت من آفاتها وكانت مقبولة.

قلت : فما أنفع العلم لي (٤)؟

قال : ما نفى عنك الجهل ، وازددت به ورعا وكنت به عاملا.

قلت : ما أنفع التواضع لي؟

قال : ما نفى عنك الكبر ، وأمات منك (٥) الطمع والغضب.

قلت : فأي الجهاد أفضل؟

قال : جهاد النفس الأمارة بالسوء حتى تردها إلى قبول الحق.

__________________

(١) سقط من (أ) : لي.

(٢) في (ب) : وتنفي. وفي (أ) : من. وسقط من (أ) : لي.

(٣) سقط من (أ) : لي.

(٤) في (ب) : ما أنفع. وسقط من (أ) : لي.

(٥) في (ب) : عنك.

قلت : فأي المعاصي أضر علي (١)؟

قال : عملك الطاعات بالجهل.

قلت : فهو أضر علي من أعمال المعاصي بالجهل؟

قال : نعم.

قلت : وكيف يكون (٢) ذلك؟

قال : ألست تعلم أن أعمالك بالمعاصي لا ترجو بها من الله (٣) ثوابا ، وتخاف عليها من الله عقابا؟

قلت : بلى.

(قال : أليس تعلم أن أعمالك بالجهل فاسدة ، وأنت تلتمس بها من الله ثوابا ، وقد استوجبت عليها من الله عقابا؟

قلت : بلى).

قال : فكم (٤) بين ذنب تخاف فيه العقوبة ـ والخوف طاعة ـ وبين ذنب تأمن (٥) فيه العقوبة ـ والأمن معصية.

قلت : فما ترى في الاستئناس بالناس؟

قال : إذا وجدت عاقلا مؤمنا (٦) قد زهد في الدنيا ورفضها ، فاستأنس به ، واهرب من سائرهم كهربك من السباع.

قلت : فأي المواضع أخفى لشخصي؟

__________________

(١) سقط من (أ) : علي.

(٢) سقط من (أ) : يكون.

(٣) في (أ) : لها. وسقط من (ب) : من الله.

(٤) سقط من (أ) : ما بين القوسين. وفي (أ) : فكيف. مصحفة.

(٥) في (ب) : فيه عقوبة. وفي (ب) : تخاف.

(٦) سقط من (ب) : مؤمنا.

قال : صومعتك وداخل بيتك ، وكل موضع لا يلحقك (١) فيه شهرة ، ولا تحيط بك فيه فتنة.

قلت : دلني على عمل أسلم به (٢) من شر الخلق ويسلمون من شري؟

قال : إذا لم يكن في قلبك غل لأحد ، وأحببت لهم ما تحب لنفسك ، وكرهت لهم ما تكره لها ، سلموا شرك ، (٣) ولحق بهم خيرك.

قلت : ما علامة مؤثر الدنيا على الآخرة؟

قال : هو (٤) الذي لا يبالي ما ذهب من دينه إذا سلمت له دنياه.

قلت : ما علامة الكذب في العبد؟

قال : كثرة (٥) كلامه فيما لا يعنيه.

قلت : فما علامة قلة الكذب.

قال : كراهته لكثرة الحديث (٦).

قلت : أخبرني ما حياة العبد؟

قال : الإيمان واليقين حياته ، والخوف والتوكل نجاته ، وإذا ثبت الإيمان في قلبه ، فمنه يهيج (٧) ما سألت عنه من الصدق والخوف والتوكل وحسن الظن ، وهي أعمال سرائر (٨) القلوب. فإذا صح ذلك في القلب ظهر على اللسان والجوارح ، وبان منه (٩) الصلاح.

__________________

(١) في (ب) : لا يجيك.

(٢) في (أ) : فيه.

(٣) في (ب) : من شرك.

(٤) سقط من (ب) : هو.

(٥) في (ب) : إذا كثر.

(٦) في (أ) : كراهيته. وفي (ب) : لكثرة الكلام.

(٧) في (ب) : فإذا ثبت. وفي (ب) : باطن قلبه. وفي (أ) : ما يهيج.

(٨) في (ب) : سائر.

(٩) في (ب) : عليه.

قلت : فما الذي ترجو به (١) صلاح قلبي إذا أنا عملت به؟

قال : التيقظ وخوف انقطاع العمر ، (٢) ومراقبة الموت ، والتفكر فيما تصير إليه من بعد الموت ، واحذروا (٣) الغفلة وطول الأمل ، ونسيان المعاد.

قلت : ما علامة الإخلاص؟

قال : الندم والاستقامة على طاعة الله.

قلت : فما (٤) علامة الورع؟

قال : ترك الشهوات ، ورفض الشبهات (٥).

قلت : ما علامة أهل (٦) التقوى؟

قال : ترك ما فيه بأس ظاهر أو باطن ، وسوء (٧) الظن بنفسك أنه ليس مأخوذ غيرك.

قلت : من أي شيء أكثر ذكره؟

قال : قراءة القرآن ، فهو حصن المؤمن (٨) وترسه.

قلت : صف لي مخ الزهد؟

قال : قطع الطمع عن القلب ، وامتناع السؤال للخلق ، (٩) وترك مخالطة أبناء الدنيا ، والفرار منهم ، وصدق الإرادة ، وحسن النية ، وصحة العزيمة.

__________________

(١) في (ب) : فما أرجو ...

(٢) في (ب) : الانقطاع للعمر.

(٣) سقط من (ب) : من. وسقط من (ب) : واحذروا. ولعلها : واحذر.

(٤) في (ب) : ما.

(٥) في (ب) : ترك الشبهات ورفض الشهوات.

(٦) في (أ) : أصل.

(٧) في (ب) : ظاهرا أو باطنا وتسيء.

(٨) في (ب) : الموت.

(٩) سقط من (أ) : السؤال.

قلت : متى أعلم أني مطيع لربي حق الطاعة (١)؟

قال : إذا لم يجدك حيث نهاك ، ولم يفقدك حيث (٢) أمرك ، أطاعك لما سألته ، لأنه مطيع من أطاعه (٣).

قلت : فما طاعته لي؟

قال : يجيب دعوتك (٤) ولا يمل من برك.

قلت : كيف أجاهد نفسي؟

قال : تجوعها عن طعام الدنيا وتقمعها (٥) بالصوم ، وتلزمها قيام الليل ، وتحرسها عن الرياء والعجب ، وتستقل عملها بعد ذلك.

قلت : أي شيء أقرب إلى الله من أفعال (٦) القلوب؟

قال : اليقين وبعده العلم ، وبعده الشكر لله (٧).

قلت : ما عمارة القلب؟

قال : الخوف.

قلت : ما طهارته؟

قال : الحزن.

قلت : ما حياته؟

قال : الذكر والتفكر.

__________________

(١) في (ب) : طاعته.

(٢) في (أ) : ولا. وفي (أ) : من حيث.

(٣) في (أ) : أعطاك ما سألته لأنه قريب ممن أطاعه.

(٤) في (ب) : يجب دعاك.

(٥) في (ب) : وتقطعها.

(٦) في (ب) : عمل.

(٧) في (ب) : اليقين هو أقرب إلى الله تعالى ، وبعده العلم بالله والشكر له.

قلت : فما فساده (١)؟

قال : الغفلة وطلب الدنيا.

قلت : فما موته؟

قال : حب الشهوات ، وأكل الشبهات.

قلت : (٢) ما دواؤه؟

قال : الجوع سرا عن الناس ، وقراءة القرآن مع التفكر في الخلوة ، والتضرع إلى الله في أوقات الغفلة ، والرغبة في مجالس الذكر ، (٣) والتجرد عن أشغال الدنيا ، (٤) والحزن الدائم في القلب مع طول الصمت ، وذكر الموت في كل ساعة ، وكثرة ذكر الله ، والتواضع لله ، والنظر في الأموات والاعتبار بهم.

قلت : كيف تكون مراتب التوبة؟

قال : رجل تاب من الذنوب ولزم الطاعات ، ورجل تاب من الذنوب وترك الدنيا وأقبل على الآخرة ، ورجل تاب من الذنوب واختار الله سبحانه على الدنيا والآخرة ، وعلى جميع الخلق ، (٥) فالأول تائب ورع ، والثاني تائب زاهد ، والثالث تائب صدّيق عارف متقرب (٦).

قلت : أخبرني عن شر الأشياء؟

قال : الكفر بالله.

__________________

(١) في (أ) : الذكر لله و. وفي (ب) : ما قساوته.

(٢) في (ب) : طلب الدنيا وأكل الشبهة. وفي (أ) : قال.

(٣) في (أ) : الذاكرين.

(٤) في (أ) : والهجرة عن الأشغال. ولعل الهجرة. مصحفة عن التجرد ، فهما متشابهان في الرسم.

(٥) في (أ) : ورجل تاب واختار الله على جميع الخلق. ويبدو أنها زيادة ، لأن الإمام لم يعد بعد إلا ثلاثة رجال. والله أعلم.

(٦) في (أ) : مقرب.

قلت : أله زوجة (١)؟

قال : نعم. البخل.

قلت : ما بعده أشر منه؟

قال : النفاق (٢).

قلت : أخبرني ما أفضل ما أعطي العبد؟

قال : العقل.

قلت : فما أنفع العقل؟

قال : ما عرّفك نعمة الله ، وأعانك على شكرها ، وقام بخلاف الهوى.

قلت : فما علامة العقل في العبد؟

قال : أن يعرف الحق من الباطل ، والضارّ من النافع ، والحسن من القبيح.

قلت : فما أنفع النعم معرفة بعد نعمة العقل؟

قال : الإيمان بالله.

قلت : فما حقيقة ذلك؟

قال : أداء ما افترض الله عليك. ثم سكت العالم بعد ذلك وافترقا رحمة الله عليهما.

* * *

__________________

(١) في (أ) : أهل ضد.

(٢) انتهت نسخة (أ) هنا وفيها : النفاق النفاق النفاق. ثم سكت العالم بعد ذلك وافترقا ، رحمة الله عليهما.

عظات بالغة

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله وبه أستعين

أما بعد : فإن الدنيا دار غرور ، لا يدوم فيها سرور ، ولا يؤمن فيها محذور ، جديدها يبلى ، وخيرها يفنى ، من وثق بها خدعته ، ومن اطمأن إليها صرعته ، ومن أكرمها أهانته ، أفراحها تعقب أحزانا ، ولذاتها تورث أشجانا.

أما بعد : فإن أعمار الدنيا قصيرة ، ورحاها مديرة ، وسهامها قاصدة ، وحتوفها راصدة ، والمغرور من اغتر بها ، والمخدوع من ركن إليها ، من زهد فيها كفيها ، ومن رغب عنها وطيها ، قد غرت القرون الماضية ، وهي على الباقين آتية ، فيا بؤسا للباقين ، لا يعتبرون بالماضين ، يجمعون للوارثين ، ويقيمون في محلة المتجبرين.

أما بعد : فاقنع باليسير ، وبادر بالتشمير ، وإياك والتغرير ، وانظر إلى ما تصير ، فليس الأمر بصغير ، وهيئ زادك للمسير ، فقد أتاك النذير.

أما بعد : فقد وضح لك الطريق ، فلا تحيدن عن إطاره إلى المضيق ، فقد مضت الأيام ، وذهبت الأعوام ، وفنيت الأعمار ، وأحصيت الآثار ، وعن قليل تدعى فتجيب ، وتصعق فتغيب ، فعجبا (١) لقلبك كيف لا يتصدع؟! وعجبا لركنك كيف لا يتضعضع؟! وعجبا لجسمك كيف لا يتزعزع؟!

أما بعد : فإنه ليس لحي في الدنيا من مقام ، وعما قليل يأتيك الحمام ، وكل خلق تفنيه الأيام ، فلا تكن كالغافل النوام ، فإنما الدنيا إلى انصرام ، ولن يرى فيها دوام.

أما بعد : فاتقوا الله ، عباد الله ، فيما تقدّم إليكم ، واحتج به عليكم ، من قبل اللهف والندم ، ومن قبل الأخذ بالكظم (٢) ، وانقطاع المدة ، واستكمال العدة ، ومن قبل التلاقي واللزام ، والأخذ بالنواصي والأقدام ، فكأن قد نزلت بكم نازلة الفناء ، وأخرجتكم إلى دار البقاء ، وكشف عنكم الغطاء ، وتجرعتم سكرات الموت ، وخضتم غمرات

__________________

(١) في (أ) و (ج) : فعجب. وكذلك ما بعدها.

(٢) الكظم : مخرج النّفس من الحلق.

الآخرة (١) ، وأتاكم ما كنتم توعدون ، وعاينتم ما كنتم تحذرون.

أما بعد : فإنه لا عذر لمن هلك بعد المعرفة والبيان ، ولا حجة لمن ركن إلى دار الفناء والحدثان ، ولا ندم يغني عند وقوع العيان ، ولا حيلة تنفع عند فوت الزمان ، وعند السياق وكلول اللسان ، لا ولد ينفع ، ولا أهل يمنع ، في مصرع هائل ، وشغل شاغل ، يدعا فلا يسمع ، وينادى فلا يجيب ، في غصص الموت وسكراته ، وتجرّع زفراته ، وغمومه وحسراته ، قد علاك الأنين ، وأتاك الأمر اليقين ، فلا عذر فتعتذر ، ولا ردة فتزدجر ، قد عاينت نفسك حقائق الأمور ، وحللت (٢) في مساكن أهل القبور في لحد محدور (٣) ، قد افترشت اللّبن بعد لين الوطاء ، وسكنت بين الموتى ، بعد مساكنة الأحياء ، فالنجاء النجاء ، قبل حضور الفناء.

أما بعد : فإن الدنيا أيام قلائل ، وكل ما فيها ذاهب زائل ، فتعز بالصبر عن الشهوات ، وتناء (٤) بالحذر عن اللذات ، وفكر فيما اقترفت على نفسك من الذنوب ، وفيما قد ستر الله عليك من العيوب ، أما علمت حين عصيته لم يكن بينك وبينه ، ستر يواريك منه.

أما استحييت من مولاك؟! وقد علمت (٥) أنه يراك ، أما خفت العقوبة حين آثرت على تقواه هواك؟!

أما بعد : فيا بؤسا لك من مخالف خاسر ، وخائن غادر!! أما إنك عن قليل ، تهجم على البلاء الطويل ، فتدارك نفسك إذ عرّضتها للمهالك ، واسلك بها طريق الواضح من المسالك ، ولا تطمعها في راحتها ، أيام حياتها ، واستطرف لها النّصب (٦) ، واحملها على التعب ، لما ترجو أن تصير إليه من الراحة غدا ، فكأنك قد دعيت فأجبت ، فاعمل

__________________

(١) في جميع المخطوطات : الآخرة. ولعلها هكذا (غمرات الموت أو الفوت). والله أعلم.

(٢) في (أ) : وحلّت.

(٣) الحدور : الهبوط. وسقط من (ب) و (د) : في لحد محدور.

(٤) في (ب) : وتبأ. مصحفة.

(٥) في (أ) و (ج) : تعلم.

(٦) استطرف : استفد. وفي (ب) و (د) : النصف. مصحفة.

لنفسك ما دمت في مهلة ، وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى (١).

أما بعد : فاحذر على نفسك ختر الدنيا ومكرها ، وخدعها وغدرها ، فإنها متبرجة لطلابها ، فاحذرها ولا تكن لها قتيلا ، والتمس لنفسك للنجاة (٢) منها سبيلا ، فانظر لنفسك أيام مكثك فيها ، واعلم أنها مرحّلة سكانها ، وأن متاعها قليل ، وخطبها جليل ، ونعيمها زائل ، وخيرها مائل.

أما بعد : فكن في سفرك مرتادا ، وهيّئ عدة وزادا ، قد خرجت من روح الدنيا ، إلى ضيق اللحد وخشونة المتكأ (٣) ، فتيقظ من نومة الغافلين ، وانتبه من وسنة (٤) الجاهلين ، وانظر بعينك إلى مصارع المغترين ، ومضاجع المستكبرين ، أليس ديارهم خالية (وأجسادهم بالية ، ومساكنهم مقفرة ، وعظامهم نخرة ، وعروقهم بالية) (٥) وأيامهم فانية؟!

أما بعد : فإنك لو رأيت يسير ما بقي من عمرك وأجلك ، لزهدت في طول ما ترجو من أملك ، ورغبت في الزيادة من عملك ، فإنك إنما تلقى غدا في حفرتك ، وتخلى في وهدتك (٦) ، ويتبرأ منك القريب ، ويتسلى منك الحبيب ، فلا أنت إلى أهلك راجع ، ولا في عملك زائد شارع ، فاعمل ليوم القيامة ، قبل الحسرة والندامة.

أما بعد : فلا يمل بك الأمل الكاذب ، ولا تكن كالشاهد الغائب ، فإنك والقوم على بساط واحد ، والموت يأتي على كل صادر ووارد ، فلا يذهبن قولي عنك صفحا ، فإني لم آلك حظا ونصحا ، فإن تقبل نصيحتي فأنت بذلك أسعد ، وبها أعلى غنيى (٧) وأرشد ، وعن قليل يأتيك الخبر ، فالحذر الحذر ، فإنه يأتي أسرع من لمح البصر.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : يحبه ويرضاه.

(٢) في (ب) و (د) : النجاة.

(٣) في (ب) و (د) : متكأه.

(٤) في (ب) و (د) : سنة.

(٥) سقط ما بين القوسين من (ب) و (د).

(٦) الوهدة : الهوّة تكون في الأرض.

(٧) في (ب) : عينا. وفي (أ) و (ج) : عيبا. مصحفة.

أما بعد : فإن الدنيا بحر عميق ، ولنيرانها لهب وحريق ، ولطرقها مفاوز (١) ومضيق ، فالحذر إذا لبعد مفاوزها ومضيقها ، فأعدّ عدة سير تزحزح به عن لهبها وحريقها ، واتخذ سفينة تنجو بها من عميقها ، وقرّب عليك الأجل لا تخدعنك بآمالها ومكرها ، وقد عرّفتك نفسها ، وأوضحت لك لبسها (٢) ، فلا تعم وأنت بصير ، ولا تأمن وأنت بتحذير ، فإن الذي بقي من عمرك قليل ، فإما الثواب الجزيل وإما البلاء الطويل ، فكن بعملك منتفعا ، وللموت متوقعا ، فإنك لا تدري على أي حال يأتيك ، وفي أي وقت يفاجيك ، فعجبا لك يا مكنون (٣) الأجل ، كيف تغتر بطول الأمل ، فابك على نفسك إن كنت باكيا ، وتيقظ من غفلتك إن كنت لاهيا.

أما بعد : فكأنك قد أخرجت من روح الدنيا ومساكنها ، وأبدت أهلك لغيرك سكنها ومحاسنها (٤) ، ونسيت ما كان لها من كدك ، وتغيّرت ـ عما كانت لك عليه من بعدك (٥) ، فتنعموا بمالك ، ولم يعبئوا بحالك ـ لمن لا يرثى لك غدا من بعد صرعتك ، ولا يؤنسك (٦) في وحشتك ، فلا تبع يا مسكين بدنياك آخرتك ، ولا تجزع لها فتركبك رقبتك ، عليك بنفسك أكرم الأنفس عليك ، وأحب الأنفس إليك ، واعلم أنك مسئول ، ومحاسب ومعاقب ، فارغب في الثواب ، واهرب من العقاب.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على محمد وآله وسلم.

__________________

(١) في (أ) و (ج) : مغاور.

(٢) في (ب) و (د) : بنفسها. وفي (ب) و (د) : لك عن لبسها.

(٣) في (أ) و (ج) : فعجب. والمكنون : الخفي.

(٤) في (أ) و (ج) : وأبدت لأهلك غيرك سكنها ومحاسنها. وفي (د) : وأبدت أهلك لغير سكنها محاسنها.

(٥) في (أ) و (ج) : بعد.

(٦) في (أ) و (ج) : لا يرى لك. مصحفة. وسقط من (أ) و (ج) و (د) : بعد. وفي (أ) و (ج) : ولا يؤنسك غدا في :

[موعظة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ، وعلى محمد وعلى أهله أفضل الصلاة والتسليم.

وبعد : يا أخيّ فأعاذني الله وإياك من مهلك غفلة الغافلين ، وسلمني [وإياك] بمنّه ورحمته من مضل جهالة الجاهلين ، الذي حسبوا وظنوا ـ إذ تاهوا وتمنوا ـ قصير آجالهم طويلا ، فأفنوا أيام حياتهم بالغفلى منى وتأميلا ، حتى عاينوا نازل الموت ، بكل حسرة وفوت ، فأيقنوا عند نزوله بباطل المنى ، إذا ذاقوا الموت والفناء ، وعلموا أن قد كان قصيرا ما استطالوا من حالهم ، وغرورا وخداعة ما كانوا فيه من مناهم وآمالهم.

يا أخيّ : واعلم أن الأجل حثيث الفناء ، ليس لأحد معه ـ والله المستعان ـ من بقاء ، لا يقف والحمد لله من أهله على من استوقفه ، ولا يغفل لمحاذرة سرعة انقطاعه من عرفه ، وكيف يغفله عارف به ، أو موقن بمعاده إلى ربه؟! مع ما يرى من مرّه وحثه ، وقلة تعريجه ولبثه ، فهو دائب الحث ، غير ذي إبطاء ولا لبث ، يقطع منه ساعاته الليالي والأيام ، ويقطع أيامه ولياليه منه الشهور التّوام ، وكذلك جعل الله شهوره ، تقطع بمرها سنيه ودهوره ، فدهره قصير ، وعمره يسير ، لا يطرف أحد من أهله طرفا ، إلا اقترب من فناء مدته زلفا ، فأنفاسه ولحظاته تطويه ، وساعاته وأوقاته تفنيه ، يقظان كان أو نائما ، ومقيما كان أو ظاعنا ، تحثه جدا ، وتدعوه بنداء ، ساعات نهاره وليله ، بل أنفاس عمره وتأجيله ، فهو ظاعن سائر ، وإن كان به غير شاعر ، (١) وكأن قد أفضت أسفاره ، فيما يسير به ليله ونهاره ، فورد محلة مثواه ومقامه ، وفنيت مدة أجله وأيامه ، فأقام فيه مخلدا ، وبقي بعد سرمدا ، في حبرة ونعيم ، أو عذاب أليم ، وقد قر في أيهما صار إليه قراره ، وانقطعت فيه عنه ظنونه واغتراره ، لا يزداد من أعماله في حسنة زكية ، ولا يستعتب في حسنة ولا خطية ، قد لزمته سعادته وشقاؤه ، ودام في أيهما كان خلده وبقاؤه.

فوا عجبا لمن كان بهذا موقنا!! بل لمن ظنه وإن لم يوقن به ظنا!! كيف لعب

__________________

(١) في المخطوطة : به لا يشعر. وما أثبت اجتهاد.

ولها؟! وغفل فيها ، ولقد اكتفى الله سبحانه ـ في ذلك لمن لم يوقن بنفسه ، ولم يدن لله فيه بحقيقة دينه ـ بالظن ، فقال سبحانه : (أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٦) [المطففين : ٤ ـ ٦]. اكتفاء لهم بالظن لو ظنوا من حقائق اليقين ، وتذكيرا فيه لهم بما يمكن كونه يوم الدين.

وفيما كان به المؤمنون في دنياهم يوقنون ، من لقاء ربهم ويظنون ، ما يقول سبحانه : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ) (٤٦) [البقرة : ٤٦]. فذكر الله سبحانه ظنهم بلقائه ، ومرجعهم إليه وإلى جزائه ، فكان عملهم واجتهادهم في دينهم ، على قدر حقيقة ظنونهم ، فكيف يكون مثلهم؟ + من يدعي يقينهم وفضلهم ، وهو غافل لاعب ، وقائل كاذب ، يقول ما لا يفعل ، ويقر بما لا يعمل.

وفي مقت الله سبحانه ، لمن آمن ففكر فذكر الله إيمانه ، وعلمه بالإيمان لله وبالله وإيقانه ، ما يقول تبارك وتعالى اسمه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) [الصف : ٢ ـ ٣]. ويقول سبحانه لمن ادعا الصدق والوفاء ، وإتيان ما يحب الله ويرضى : (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١٠٥) [التوبة : ١٠٥].

يا أخيّ فلا تغفل عن الموت والبعث غفلة من يرى من أشباه الحمير ، فإن بغفلتهم عن الموت والبعث بعدوا كما رأيت من النجاة والفوز والحبور ، فعموا عما كان ممكنا في حياتهم من الهدى والرشاد ، وشقوا بعمايتهم في المرجع إلى الله والمعاد ، فدام شقاؤهم وتبارهم ، وأقام ندمهم وخسارهم ، ثم بكوا فلم يرحموا بالبكاء ، ودعوا فلم يجابوا في الدعاء ، (وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ) ـ و ـ (قالَ) ـ مالك : (إِنَّكُمْ ماكِثُونَ) (٧٧) [الزخرف : ٧٧].

وفي ذلك ما يقول الله سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ) (١٢) [السجدة : ١٢]. وعند تلك وفيها ، وعند ما صاروا إليها ، قالوا : (رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (١٠٦) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ) (١٠٧) [المؤمنون : ١٠٦ ـ ١٠٧] ، فما كان جوابهم عند قولهم وطلبهم ،

وعند ما أحل من سخط الله المخلد بهم ، إلا أن قال : (اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ) (١٠٨) [المؤمنون : ١٠٨].

يا أخيّ فاسمع ما تسمع سماع متبع ، ولا تسمعه سماع مستمع ، فرب مستمع غير سميع ، وسامع مطيع ، كما قال الله سبحانه : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا) ـ تأويل ذلك : لم يطيعوا ولم يعوا ـ (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨]. وتأويل ذلك : لا يبصرون من الهدى ما تبصرون. وفيمن سمع بالسمع ، ولم يسمع ولم يطع ، ما يقول الله تبارك وتعالى في التنزيل ، للعصاة من بني إسرائيل: (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا) [البقرة : ٩٣]. فنسأل الله أن يمن بالسماع النافع عليك وعلينا ، فإنا من الصمم والحيرة والظلم في البحر الزاخر ، واللج الغامر ، فلا ينجو من غمره إلا من نجاه الله ، ولا يلجأ من غرقه إلا من أنجاه ، والله المستعان ، وعليه التكلان.

بسم الله الرحمن الرحيم

وبعد : فاعلم يا أخيّ ، أنا وإياك في بحر من بحور العمى عميق ، لا يصل معه أحد إلى هدى إلا أن يرشده الله ويهديه إلى ملجأ وثيق ، فكر أهله سقيمة مدخولة ، وعبر من فيه فعظيمة مجهولة ، لا يعتبر بها منهم معتبر ، ولا يفكر فيها منهم مفكر ، فقلوب من يسمعها منهم ويراها ، مقفلة والله المستعان على هداها ، فهدانا الله يا أخيّ وهداك ، بما أرانا الله منها وأراك ، ونفعنا ونفعك ، بما أسمعنا وأسمعك ، فكم رأينا وسمعنا من عبر لا نحصيها ولو جهدنا كل جهد ، وفي الاعتبار بأقلها أهدى الهدى وأرشد الرشد ، (١) فمنهم ما نرى بالعيان ، ونسمعه في كل حين بالآذان ، من موت وفناء ، يذهب دائبا بالأحياء ، تراه عيانا كل عين ، وتسمع به في كل حين ، وكم رأينا عيانا من جار ومعارف ، وقرين محالّ مؤالف ، قد دهاه من حمام الموت وفاته ما دهاه ، واغتره ما كان فيه من حياة دنياه ، ولحق بدار الموت والبلاء ، وصار إلى محلة الموت والفناء ، فمات

__________________

(١) في المخطوطة : الرشاد. وما أثبت اجتهاد.

بموته أمره وشأنه ، ونسيه إذ مات أوداده وأخدانه ، ولها عنه أهله ، وهجر بعده محله ، فلم ير منهم واقف عليه ، ولم يلتفت منهم ملتفت إليه ، وكم عاينت من أولئك؟! ورأيت من ذلك!!

بل كيف رأيت يا أخيّ رحمك الله من مختطف ، بسقم ممضّ (١) أو موت متلف ، قطع به دون مناه وآماله ، وما أنعم الله عليه من نظرته وإمهاله ، فتلهف على ما فاته من طاعة ربه حين لا ينفع التلهف ، وتأسف عند ما لا يغني عنه ولو كثر التأسف ، على ما فرط فيها من إمكان نجاته ، وما خسره من أيام حياته ، فذهب بندمه وحسرته ، وآل بهما إلى معاده وآخرته ، فبقي في الحسرة مخلدا ، وفي الندامة مقيما أبدا ، وكان عند تلك وفيها ومعها من مقاله ، نحو ما ذكر الله عند مجيء الساعة من مقال أمثاله ، إذ يقول سبحانه : (حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (٣١) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ) (٣٢) [الأنعام : ٣١ ـ ٣٢]. وقال تعالى ذكره : (حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (٩٩) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٠٠) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (١٠١) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٢) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (١٠٣) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (١٠٤) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) (١٠٥) [المؤمنون : ٩٩ ـ ١٠٥] (٢). فأنكص النكوص عن الآيات ، ترك ما أمر الله به من الحسنات ، وارتكاب ما نهى الله عنه من السيئات.

يا أخيّ فحتى متى وإلى متى؟! دوام الغفلة والحيرة والعمى! ألسنا بربنا

__________________

(١) في المخطوطة : مض. وما أثبت اجتهاد.

(٢) أكمل الإمام الآية بكمال آية أخرى من نفس السورة آية (٦٦) في (آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ). وهو سهو. فمطلع الآية (قَدْ كانَتْ آياتِي ......) وما أثبت هو الصواب. ويؤكد سهوه قوله بعدها : فأنكص النكوص عن الآيات.

مؤمنين؟! وبيوم البعث موقنين؟! فما لنا يا سبحان الله من أمر الله معرضين؟! ولانتقام الله بالخلاف عليه في أمره متعرضين؟ من بعد الإيمان واليقين ، والعلم بشرائع الدين.

فرحم الله من عباده عبدا ، أيقن أن له إلى الله معادا ، فجد وشمر في طلب نجاته ، قبل نزول الموت ومفاجأته ، فكم رأينا من مفاجأ مبغوت ، بما لم يتوقعه من وفاة وموت ، أخذ في غمرته ، وعلى حين غرته ، فتبرأ منه قبيله وأحباؤه ، وأسلمه للموت أهله وأقرباؤه ، فلم ينصره أهل ولا عشير ، ولم يكن له منهم نصير ، بكاه من بكاه منهم قليلا ، ثم هجره وجفاه طويلا ، فكأنّ ـ لم يره قط ـ حيا ، ولم يكن له في حياته صفيا!

فأبصر يا أخيّ وبادر ، واعتبر بما ترى وحاذر ، فرب مبصر لا يبصر ، ومعتبر بما ترى لا يعتبر ، يستر بالأشجان والأحزان ، ويغر بالرجاء والأماني ، وهو دائب في قطع عمره وأجله ، مغتر بمناه ورجاه وأمله ، لا يتنفس نفسا ، ولا يطرف طرفا ، إلا قطع به من أجله ناحية وطرفا ، لا يغفل عنه وإن غفل ، ولا يؤخر لما رجاء وأمّل ، قد جد به المسير ، واختدعه الأمل والتسويف والتأخير ، فأمله خدعة وغرور ، وأجله متعة وبور.

يا أخيّ فالعجل العجل ، فقد ترى المسير إلى الموت والترحل ، لا يقلع زاحله وسائره ، ولا يريع (١) على أوائله أواخره ، يلحق المتأخر بالسائر الأول ، والمقيم من أهله بالظاعن الراحل ، لا يخلّف من العباد جميعا متخلفا ، بل يختطف نفوسهم خطفا ، يأخذ الصغير أخذه للكبير ، ويلحق بعضهم بعضا في الموت والمصير. فنسأل الله أن يبارك لنا في حلوله وموافاته ، وأن يجعلنا ممن أسعده في يوم مماته ، ونستغفر الله خير الغافرين ، ونضرع إليه في عصمتنا من هلكات الجائرين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم تسليما.

[موعظة]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا دائما مقيما ، وصلى الله على محمد وأهله وسلم تسليما ، نستهدي

__________________

(١) يريع : يعود ويرجع.

الله للهدى ، ونعوذ به من الضلالة والردى ، فكم من ضال مغتر؟! ورد (١) مدمر ، قد غر حياته بالأمل والمنى ، وهو يرى في كل حين الموت والفناء ، يتمنى من بقائه كثيرا ، وقد رأى من أخذ غريرا ، مما لا يحصيه بعدّ ، ولو جهد كل جهد ، فكم رأى في غرته من مأخوذ! وميت بالعراء منبوذ!! يتخالس الطير لحمه تخالسا ، وتتناهشه سباع الوحش تناهشا ، وكم سمع به من ملقى في بحر من البحور للموت؟ يأكل لحمه من ملقى من البحر ما قاربه من حوت ، وكم رأى في الثراء من ملحود؟ متناثرة أوصاله وعظامه بالدود ، وقد نسيه بعد الذكر أهلوه!! وقطعه بعد مودته مواصلوه ، فأغفلوا ذكره فلا يذكرونه إلا قليلا ، وكلهم فقد كان له أهلا وخليلا ، فكأن لم يروه قط حيا في الأحياء معهم!! ولم ينالوا منه ومن كدّه عليهم ما نفعهم!!

فيا ويل من سقط هذا عن ضمير قلبه! وأصر مقيما على الخطيئة بعد علمه به! كيف خسر دينه ودنياه؟! وآثر ضلالته في الحياة على هداه؟! فهلك هلاك الأبد وقد رأى في حياته منجاه ، ودل فيها على نجاته ورداه.

فنعوذ بالله لنا ولك من العماية عن الهدى ، ونعتصم بالله لنا ولك من الهلكة والردى ، فما يردى بعد هداية الله ويهلك بما حذّره الله من المهالك ، إلا كل شقي من الخلق هالك!! فنستجير بالله من الهلكة والشقاء ، بعد منّ الله علينا بالهداية والتقى!

فكم من مهدي لقصده ورشده؟! قد ضل بعد هدايته عن قصده!

وكم من مستمع ومبصر لا يسمع ولا يرى؟! كما قال الله تبارك وتعالى : (وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١٩٨) [الأعراف : ١٩٨]. وقال سبحانه : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨) [البقرة : ١٨].

يا أخيّ فانظر فيما ذكرت واستمع ، تسعد وتنج بإذن الله وتنتفع ، ولا تك كالذين هلكوا وهم يرون ، أولئك فهم المعترفون بالله المقرّون ، الذين رضوا من حياتهم ، بالتمني في المعاد لنجاتهم ، بما تمنوا غرورا مهلكا ، فقالوا إذ اقترفوا كذبا وإفكا ، وإن كانوا قد

__________________

(١) اسم فاعل من : ردى.

أقروا ، لا كما فعل من نحن وأنت فيه من العذاب (١) من كبائر العصيان ، ثم ادّعوا النجاة بعد الإقرار بالعذاب دعوى بغير ما حجة ولا برهان.

ولفي ذلك ، وأولئك ، وهم بنوا إسرائيل عليه‌السلام ، وذرية إبراهيم خليل الرحمن ، ما يقول سبحانه : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) [آل عمران : ٢٣ ـ ٢٥]. وقال سبحانه : لهذه (٢) الأمة ، فيما نزل من آياته المحكمة : (لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً) (١٢٣) [النساء : ١٢٣] ، فكفى يا أخيّ بما يسمع السامعون من هذا ومثله بيانا وتبصيرا! نفعنا الله ونفعك بتبصيره ، وما منّ به علينا وعليك من تذكيره.

[رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها]

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم.

متّعك الله من نعمه وحوطها ، ومنعك من مذموم الأمور ومسخوطها ، بما أمتع به أهل رحمته ونعمته ، ومنع به من المكاره أهل توفيقه وعصمته ، ومنّ عليك من تقوى الله وإيثارها ، ورفض الدنيا واحتقارها ، بما منّ به على من آثره ، وأجلّ أمره فوقّره ، فإن ما أمر الله به من رفض الدنيا واستقصارها ، دليل ممن فعله على إيثار الآخرة وإكبارها ، وإنّ رفض الدنيا والإعراض عنها ، دليل ممن فعله على الإقبال على الآخرة والاستكثار

__________________

(١) لعل هنا سقطا ، فالكلام غير واضح.

(٢) في المخطوطة : ولهذه. ولعل الواو واو عطف ، هكذا : سبحانه وتعالى. ثم سقط تعالى. والله أعلم.

منها.

وكذلك التمسك ببعض الدنيا ومقتها ، دليل ممن فعله على إكرام الآخرة ومحبتها ، وعلى قدر يقين أولياء الله بما عظّم من أمر الآخرة وأمورها ، زهدوا في الدنيا فاستقلوا ـ جهدهم ـ من متاع غرورها ، فتبلغوا إلى الله بالعلق (١) ، واكتفوا من نعيمها باللعق (٢) ، إكبارا لما وجدوه فيها إجلالا لله من السخط ، ولما عليه العباد فيها من الإعراض عن أمر الله والفرط ، ولما (٣) رأوا الباطل يسمو علوّا ، وحق الله فيها معطلا مجفوا ، صحبوا أيام حياتهم بالحرق (٤) والزفرات ، وهجروا ما أحل الله لهم فيها من الطيبات ، وأعرضوا من الدنيا عما أعطاهم ، ولم يعطه من أهل الدنيا بتحليله له سواهم ، ولم يجعله حلالا (٥) فيها إلا لمن اهتدى إلى الله فيه هداهم ، وأيقن فيها بالله يقينهم ، ودانه في إيثار الحق دينهم ، فحقيق بذلك منهم لسخطهم فيها على من أسخط ذا الجلال والإكرام ، أولا تعلم ـ أغناك الله ـ أن من أسخط لنفسه (٦) الآدميين ليشتغل عن كثير من المطعم والمشرب والكلام ، لما هو فيه من الشغل بحرقه وأسفه وسخطه ، حتى ربما ذهب سخط بعضهم في ذلك بعقله لفرطه ، فكيف بمن سخط وغضب لرب الأرباب ومغاضبه؟ أليس ذلك أولى بالقليل في تنعمه ومطاعمه ومشاربه؟ بلى إنه لأولى بذلك ، وأحق ممن كان كذلك ، ولذلك أزكى عند الله وأرضى ، وأوجب في الفرض لو كان من الله فرضا ، ولكنه سبحانه لرحمته بالمؤمنين وإحسانه إليهم ، ورأفته بهم وتحننه (٧) عليهم ، جعل ذلك لهم سبحانه تطوعا ونافلة ، وفيما بينهم وبينه فضائل لهم كاملة ، فقال جل ثناؤه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا

__________________

(١) العلق : جمع علقة. وهي : ما فيه بلغة من الطعام إلى وقت الغذاء. وقال اللحياني : ما يأكل فلان إلا علقة. أي : ما يمسك نفسه من الطعام.

(٢) اللّعق : جمع لعقة. وهي : الشيء القليل من الطعام.

(٣) في (د) : فلما.

(٤) الحرق : جمع حرقة. وهي : ما يجده الإنسان من لذعة حب ، أو حزن ، أو طعم شيء فيه حرارة.

(٥) من هذا أخذت المطرفية أن ما أخذه العصاة من الرزق لا يسمى رزقا.

(٦) في (د) : لنفسه من الآدميين.

(٧) في (ب) : ومحبته.

تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) [المائدة : ٨٧]. وقال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢]. فجعلها لهم في الدنيا وأخلصها لهم في الآخرة ، ولم يجعل معهم فيها حظا للكفرة ولا للفجرة.

وقال سبحانه : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (٩٣) [المائدة : ٩٣]. فلم يجعلها الله سبحانه إلا لمن اتقى ، وحرّمها على من فجر وتعدّى ، ولم يكن من أهل الإيمان بالله والهدى ، فاستقل أولياء الله منها ، وأعرضوا لسخطهم لله عنها ، كما جاء في أثر عن عثمان بن مظعون ، فيما كان حرّم على نفسه من الأطعمة واللحوم ، (١) جعلنا الله وإياك من أوليائه ، وأسعدنا وأسعدك بطاعته في يوم لقائه.

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، عليه توكلنا وهو رب العرش الكريم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الأكرمين.

* * *

__________________

(١) أخرجه مسلم ٢ / ٨١٢ (١١٥٩) ، وأحمد ٥ / ٤٠٩ (٢٣٥٢١) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ٢١١ (٢٣٩٢) ، والطبراني ٨ / ١٧٠ (٧٧١٥) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٧ / ٧٧ (٣٢٢٧) ، وابن حبان ١ / ١٨٥ (٩) ، وعبد بن حميد في المنتخب ٣٩٢ / ١٣١٨.

مفاهيم إسلامية

بسم الله الرحمن الرحيم

[العلم]

العبادة بالعلم ، أفضل منها بالعمل ، وفي العلم من الهدى والضلال ، مثل الذي منهما في الأعمال ، فلما كان العلم بأحكام الله ، مما يكون هدى عند الله ، والجهل بأحكام الله مما يكون ضلالا عند الله ، ترك المكلفون من العباد ، بعد أن نزل عليهم من الله ما نزل في ذلك من الرشاد ، ليهتدوا فيها ويجهلوا ، كما تركوا في الأعمال ليعملوا أولا يعملوا ، لكي يهتدوا فيها أو يضلوا ، فأهدى الهدى فيها العلم ، وأضلّ الضلال الجهل ، وهو لكل واحد منهما فيها كسب ، وعمل يثاب على أيهما اكتسب أو يعاقب ، ثوابه أو عقابه على غيره من أعماله ، ويجزى فيه على ما صار فيما بينه وبين الله من هداه أو ضلاله.

والعلم منهما ففرض قدّمه الله قبل فرض الأعمال ، وبه وبما فرض الله منه ما أبان الله به عند المؤمنين فرق بين الحرام والحلال.

[الإسلام والمسلمون]

ما أعز الإسلام ولا أكرمه ، ولا وقّره فيما وقّره الله به ولا عظمه ، من توهم أهل هذا الدهر من أهله ؛ لأن الإسلام هو دين ملائكة الله ورسله ، فمن زعم أن أهل هذا الدهر ممن يستحق اسمه ، فقد أوجب لهم إخاءه وولاءه وحكمه.

فزعم أنهم مع ما هم من حالهم ، وما عليه من سوء أفعالهم ، إخوة الملائكة المقربين ، وأولياء الأنبياء المرسلين ، والله سبحانه يقول : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) [الحجرات : ١٠].

فآخى منهم بين من في السماء والأرض وقال : (الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١]. فوصف المؤمنين بصفة ، فيها لمن أراد معرفتهم أعرف المعرفة.

فكيف يأمر بالمعروف من يميل عليه ، وينهى عن المنكر من يدعو إليه ، ومن هو مقيم ليله ونهاره فيه؟!

وكيف يقيم الصلاة بحدودها؟ في قيامها وركوعها وسجودها؟ من شغله بأصغر دنياه أشغل له منها! ومن هو بأقل هواه معرض به عنها!

وكيف يؤتي الزكاة ـ من (١) جعلها الله له ـ من (٢) يغتصب كل مسكين نفسه وماله.

وكيف يطيع من هو مخالف ، إلا في أقل القليل لله لا كيف ، إلا عند (٣) عميّ جاهل ، لا يفرق بين حق وباطل. والحمد لله رب العالمين ، وصلواته على سيدنا محمد وعترته الطاهرين وسلامه.

[واجب المؤمن مدة الجبارين]

بسم الله الرحمن الرحيم

وإنه ليجب على المؤمن في مدة الجبارين ، أن يكون حجة لله قوية ، وساحته من معاونتهم على ظلمهم برية ، وأن يكون الرزق أقرب متقربه ، وأسرعه إلى الفراغ به ، ليقبل قبل شغله ، وما وكله الله به من عدله ، ولكن لن يفلح أيام دنياه ، ويبلغ المفروض عليه من تقواه ، إلا من اتخذ الجوع أنسا ، واستشعر العري لباسا ، ووضع الصبر على البلوى أساسا ، فأما من شأنه النّقلة (٤) والرحيل ، والطلب في كل مسلك وسبيل ، ومن شغله اجتلاب أنواع الطّرف ، ومقامه مقام الجبار المترف ، فهيهات ، هيهات من النجاة ، غرق الشقي في بحر شقائه ، فهو مضطرب بين أكناف أرجائه ، فإقباله إلى الخير إدبار ، ومقاربته عن الحق نفار.

* * *

__________________

(١) من : مفعول به.

(٢) من : فاعل.

(٣) في (أ) : عبد.

(٤) في (أ) و (ج) : التفكه. مصحفة.

الطهارة

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحجة ما كفى فكيف قلتم في طهارة هذه الأشياء ، بخلاف ما قلتم به في طهارة الأعضاء ، وأمر الله في الأعضاء وتطهيرها ، أوكد من أمره في تطهير غيرها. هذا والله المستعان مما يناقض عليكم به أصولكم ، وتأباه عليكم ـ إن أنصفتم أقل النصف ـ عقولكم.

[الوضوء]

فعلى المتوضي إذا ابتدأ في الوضوء ، وأخذ في غسل ما أمره الله به من كل عضو ، أن يصب ـ إن شاء الله ـ على يده اليمنى من الماء ، قبل أن يدخل يده فيما يريد أن يتوضأ منه من الإناء ، فيغسلها بالماء حتى تنقى ، من كل ما كان فيها من نجس أو أذى ، ثم يغرف بها ويفرغها على يده اليسرى ، فيغسل بها كل ما يحتاج إلى غسل ، من كل ما أمر بغسله من دبر أو قبل ، حتى يطهر ذلك كله وينقيه ، من كل نجس أو أذى كان فيه ، ثم يغسل فرجه الأعلى ، غسلا نظيفا طيبا ، ثم انحدر فغسل فرجه الأسفل حتى يميط ما عليه من الأدران والأذى ، ثم يتمضمض ـ إن شاء الله ـ ثم يستنثر بغرفة من الماء ـ يفرغها بيمنى يديه ـ واحدة ، ولا يفرد ـ إن شاء ـ بغرفة الماء استنثارا ولا مضمضة على حدة ، ثم يغسل بعد وجهه كله ، اعلاه وجوانبه وأسفله ، يبدأ في غسله لوجهه من أعلى جبهته ، وأطراف ما طلع عليها من شعر رأسه وصدغيه إلى ما ظهر من لحيته ، كلها على ذقنه وأطراف لحيته ، ويجمع لحيته عند ذلك في بطون كفيه ، فإذا أتى على ذلك كله بما حددنا من غسله غسل ما أمر بغسله من يديه ، إلى آخر مناهي ما حدد له من مرفقيه ، ثم يمسح برأسه وأذنيه ، مقبلا في ذلك ومدبرا ببطون يديه ، حتى ينقى الرأس والأذنان ، مما عليهما من الأدران ، فإذا فرغ من مسح الرأس والأذنين ، غسل ما أمر الله سبحانه بغسله من الرجلين ، فأفرغ عليهما بيديه أو بإنائه أو غيره إفراغا ، وغسلهما بيسرى يديه غسلا منقيا سابغا ، يأتي به على حدود مناهي الكعبين ، ومسح باطن الرجلين ، وظاهرهما بيسرى يديه ، وخلل بالماء في إفراغه له ما بين أصابع رجليه ، فإنهما أولى أعضائه كلها بالغسل والوضوء والتطهير ، لمباشرته بهما الأماكن الدنس والأقاذير ، يبدأ في غسله لرجليه بيمناهما ، قبل غسله ليسراهما ، فإذا فعل ذلك

كله ، فقد أتم بإذن الله طهوره وأكمله. ومن لم يغسل من ذلك كله ، ما أمر الله بغسله ، فهو عندنا في ذلك كمن لم يتوضأ ، ولم ينتفع مع تركه لذلك بما أدى ، ولزمه ـ بتقصيره ـ إعادة ما صلى. ووجب عليه الوضوء لما ترك منه مستقبلا.

وتأويل الوضوء في اللسان فإنما هو الإنقاء ، كما قلنا لكل ما وضي أو توضأ.

باب القول في المشرك

وكذلك إن أصاب شيئا من جسده ، مشرك بثوبه أو يده ، فهو في النجاسة كغيره ، ولن يطهر أبدا إلا بتطهيره ، فإن سقط مكان ما أصاب المشرك بجسده أو ثوبه عنه ، ولم يثبت ذلك المكان بعينة ولم يوقنه ، كان عليه غسل جسده كله ، ولم يطهر أبدا إلا بغسله.

وكذلك كلما أصاب ناحية من جسده من ميتة الأنعام ، أو ذبيحة أهلّ بها لغير الله في حل أو حرام ، والحكم عليه في غسله وتطهيره ، كالحكم عليه فيما ذكرنا من غيره ، يغسله من مكانه إن علمه بعينه ، وإلا غسل له جميع بدنه.

ومن أوكد ما على من لمس كل مشرك أو ثوبه ، أو مجلسه أو مركبه ، وكل من يشاق الله سبحانه بكبائر العصيان أو يعصيه ، فلا يجوز أن يتخذه مؤمن قبلة أو سترة ، لأنه ليس بطاهر وليس ممن له طهارة ، ولو طهر بالماء وتطهر فأكثر ـ ما عتا في أمر الله واستكبر ـ لأن الطهارة عند الله سبحانه طهران ، أحدهما طهر النفس والآخر طهر الأبدان.

فطهر الأنفس قبل أبدانها ، هو براتها من كبائر عصيانها.

وطهر الأبدان هو ما حددنا من الوضوء ، فيما أمر الله سبحانه بغسله من كل عضو ، فمن لم يطهرهما جميعا لم يكن طاهرا ولا مطهرا ، ولم يجز لمؤمن أن يتخذه قبلة ولا سترا ، وكذلك هو أبدا حتى يتوب إلى الله سبحانه ويرجع ، ويقصر عن مشاقته لله سبحانه وينزع.

فهذا ما لله على المصلي إذا صلى ، فرضا كانت صلاته أو تنفلا ، في الطهارة من

لدن بطن قدميه إلى حاق ذوائب رأسه ، ثم لله عليه بعد هذا كله إذا صلى في لباسه ، ألا يصلي فرضا ولا تنفلا في شيء منه ، حتى تزول عنه كلما ذكرنا من النجاسة كلها عنه ، وأن يكون اللباس مع زوال نجاسته ، غير فاحش المنظر في وسخه ولا دناسته ، فإذا أنقى اللباس كله من كل نجس ، وبري من كل ما ذكرنا من فاحش الوسخ والدنس ، وطهّر ما يتوضأ به من الماء ، وكلما يتطهر فيه من إناء.

[طهارة الماء والمكان]

وطهارة الماء أن لا يتغير ريح ولا لون ولا طعم ، وطهارة الإناء ألا تكون فيه نجاسة تعلم ، (١) فإذا أتم المتوضّئ وضوءه هذا كله ، وقام بما لله عليه فيه فأكمله ، فهو حينئذ الطاهر غير شك ولا مرية ، ثم لله عليه بعد أن لا يصلي من بقاع الأرض إلا في بقعة نقية ، ولا يستتر بسترة من حجر أو مدر ، إلا أن يكون طاهرا من كل نجس أو قذر. فإذا أتم هذا كله من أمره ، فقد أتم ما أمره الله سبحانه به من وضوءه وطهره ، فغسل دبره وقبله ، وأنقى ذلك منه كله ، وطهر منه ما أمره الله سبحانه بتطهيره ، وقدم ما أمره الله بالتقديم له في الطهارة على غيره ، وكان تقديم ما قدم منه على غيره في التطهير ، دليلا على حكمة من حكم بتقديمه في التدبير ، وشاهدا على أن من حكمه متعالي من غفلة المغاليط ، وعالما بفرقة بين المحابّ في الأشياء والمساخيط.

ولتقديمه على غيره ، ما أمر الله به من وضوءه وتطهيره ، ما يقول الله سبحانه ، ما أوضح أمره وبيانه : (أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) [النساء : ٤٣ ، المائدة : ٦].

فأوجب سبحانه على كل متغوط من الوضوء إذا وجد الماء ، ما أوجب من الغسل إذا اوجد (٢) في ملامسة النساء ، وقد يعلم أن المجيء للغائط قد يكون للخلاء والأبوال ،

__________________

(١) في المخطوط : (تعلم ولا ترى). ولعلها زائدة.

(٢) هكذا في المخطوط.

كما قد يعلم أن الملامسة قد تكون للنساء من الرجال.

وكيف لا يرون من لم يغسله عنه من مجرده (١) وهو هنالك نجس (٢) غير متطهر ، وهم يزعمون ألا طهارة لمن كان في جسده أو ثوبه منه أصغر أثر ، أفيتنجس عندهم منه بالقليل الأصغر ، ويطهر في حكمهم منه مع الكثير أكثر ، فأي منكر أنكر؟ عند من يعقل أو يفكر؟! مما قالوا أو ذكروا ، وقبلوا فلم ينكروا!! فلقد كان أهل الجاهلية الأولى ، ومن كان لأكل الميتة مستحلا ، وإنه ليغسل عنه في جاهليته أثر البول والعذرة ، وكيف لا يغسله وهو يغسل تنظفا غيره من الأشياء القذرة ، وهما أقذر الأقاذير قذرا ، وأنتنه ريحا وأقبحه منظرا. وإن كانوا (٣) أهل الجاهلية إذا طافوا ببيت ربهم ، ليلقون ما عليهم من ثيابهم ، تطهرا لله بطرحها في طوافهم ، فأين هذا مما في أيدي الجاهلية من اختلافهم؟ وما يقولون به في البول والقذرة على من مضى من أسلافهم ، ويضللون من أتى وخلف بعد من أخلافهم؟! فنعوذ بالله من الجهالة في دينه والعمى ، ومن العبث بما قالوا لمن كان مسلما ، فلو ما قيل به من ذلك في السلف ، قيل به في مشرك كان مشهورا بأكل الجيف ، لعده عيبا فاحشا كبيرا ، ولو أن ما يأكل معه من الجيف صغيرا! فكيف يقال به أو بمثله في مسلم أو إسلام؟! أو يتوهم حكما أو جائزا عند ذي الجلال والإكرام؟! وهو يحكم لا شريك له ، على كل مسلم في الدم بأن يغسله ، والدم أطيب ريحا وأنقى منظرا ، وأقل ـ عند من يعقل أو لا يعقل ـ نتنا وقذرا.

وكذلك الخمر وما يلزم غسله من الأنجاس كلها ، فليس منه شيء كالعذرة في نتنها وقذرها ، ولربما ظننت أنه ما وضع هذا القول ولا أصّله ، إلا من كان يستحله الإسلام وأهله ، ممن وتره المسلمون والإسلام ، وكانت عبادته في جاهليته الأصنام ، وما أحسبه قيل قط إلا عنهم ، ولا أخذته هذه العامة المتحيرة إلا منهم ، اسعافا لهم وطمعا في الدنيا ، وإيثارا منهم على البصيرة العمياء.

__________________

(١) هكذا في المخطوط.

(٢) في المخطوط : أكثر. ولعلها مصحفة.

(٣) كذا في المخطوط.

[الاغتسال من الجنابة أو النفاس]

وعلى من تطهر مما أمره الله بالتطهرة منه من الملامسة والاجتناب ، أن يغسل جسده كله جميعا ولا يلتفت فيتخفف إلا فيما تجوز الصلاة فيه من الثياب ، مع ما أوجب الله سبحانه عليه من اغتساله ، بما كان أوجبه الله عليه قبل من الوضوء على حاله ، لأن الله سبحانه قد فرض الوضوء أولا وحكمه ، كما فرض من الغسل في ملامسة النساء عليه فلزمه ، فجعل الله الوضوء عليه للصلاة واجبا ، كما أوجب عليه الغسل من الجنابة إذا كان جنبا. وعليه أن يقدم من الوضوء عند اغتساله وتطهره ، ما قدمه الله عليه وبيّنه له فيه من أمره ، فإن انتقص شيئا مما عددنا من هذا كله ، في طهارة لباسه أو في شيء مما حددناه من وضوءه وغسله ، كان منتقصا لما أمر به ، وعاصيا ـ فيما انتقص ـ الله ربه ، وكان عليه في ذلك كله الإعادة لما ترك ، وإلا كان هالكا عند الله سبحانه بتركه له فيمن هلك ، ومنتقصا بما ترك منه لأمر الله وعهده ، ومتعديا لما حدد الله في الطهارة من حده.

فإن لم يجد المتوضّئ المغتسل ، أو المتوضّئ الذي لا يغتسل ، ماء طهورا يتطهران لصلاتهما به ، تيمما صعيدا طيبا لا يشكان في طهارته وطيبه ، فمسحا إذا لم يشكا في طهارته منه بوجوههما وأيديهما ، فإذا فعلا ذلك فقد أديا فرض الله في الطهارة عليهما ، ولا يطهرهما في التيمم ويجزيهما مسح وجوههما وأيديهما ، حتى يعلق التراب بهما وعليهما ما يبين به أثر التراب فيهما. ومكان ما للوجه من الحد في مسحه من الصعيد ، مكان ماله من الوضوء سواء وفقا من التحديد ، وحد مسح متيمم الصعيد إذا مسح بيديه ، أن يمسح باطنهما وظاهرهما إلى مرفقيه ، ولا يطهر أبدا إلا من أتم طهارته بيقين لا شك فيه ، ولا ينقض وضوءه ولا طهارته بعد يقينه بها إلا يقين بنقضها ثابت ويصير إليه ، وإلا فطهارته أبدا ووضوؤه (١) وتطهيره ، لا يزيل يقينه بها شك منه ولا حيرة ، ولا ينقض ماله بها من حكم التطهر ، إلا ما خرج من قبل أو دبر ، أو حدث من دم سائل يقطر ، أو يسفح من أي جسده خرج فينحدر ، فأما ما خرج منه من البدن

__________________

(١) في المخطوط : ووصوباته. ولعل الصواب ما أثبت.

يعلق ولا يدفع ، أو يسبح من متعلقه في البدن فينقطع ، فليس مما يحتسب به ولا يعد ، ولا مما ينقض الطهارة ولا يفسد. وكل ما يجب على الرجل في التطهرة والوضوء ، فواجب مثله سواء ، على كل مرة حرة كانت أو أمة ، لأنهم كلهم ملة وأمة.

ونفاس المرأة وحيضها فما كان بعد من دمها ، فهو فيما ينقض عليها من طهارتها كالدماء وحكمها ، فإذا انتهى حيضها ووقف ، ونقيت منه حتى تنظف ، فعليها الغسل من ذلك كله ، لا تطهر أبدا إلا بغسله.

فإن خرج بها وقت طمثها أو نفاسها عما تعرف فعليها الغسل من ذلك من عدة أيامه ، خرجت من حكم الطمث والنفاس وكان كغيره من الدم وأحكامه ، يغسل منه غسلا واحدا ، ثم يتوضأ بعد كل صلاة وضوءا فردا ، فإذا عاد وقت طمثها إليها ، عدّت ما كانت تعرف من وقت قرء واحد من أقرائها ، ثم اغتسلت عنده ، ثم عادت للوضوء بعده.

الاعتقاد

وعلى من قام من الرجال أو النساء لصلاة واحدة أو أكثر منها أن يتوضأ لها كلما قام إليها أبدا ، وهي وإن اجتمعت فإنما فرض الله فيها وعند القيام لها وإليها على من يريد أن يصليها وضوءا واحدا ، فإن هو فرق بين قيامه لصلاته بإقبال أو إدبار في شيء من حاجاته ، انتقض عليه بذلك عقد وضوءه لصلاته وطهارته ، ولزمه الوضوء كلما قام إلى شيء مفروق أو مجموع من صلواته ، وإن ثبت بعد الوضوء في مسجد من مساجد الله أو بيت من بيوت ذكره ، فهو ـ ما ثبت فيه وأقام أبدا ـ ثابت على وضوءه وطهره ، لأنه إذا كان كذلك فهو قائم إليها ، منتظر لها بعد ومقبل عليها.

ألا ترى كيف يقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٩) [الجمعة : ٩] ، فما أمر الله به من السعي إلى ذكره والجمع فهو قبلها.

ومن القيام إلى الصلاة قعود من قعد لها منتظرا أو عليها مقبلا ، ولم يكن بغيرها من أمور الدنيا عنها مشتغلا ، فهو قائم في ذلك ـ وإن طال ـ إليها ، وكأنه بذكره

لله في ذلك قد دخل فيها ، فوضوؤه أبدا ما كان كذلك وعلى ذلك غير منتقض ، وهو في ذلك مؤدي لما عليه من الطهارة لها من الفرض ، فهذا فيما به قلنا ، وما به في قولنا استدللنا.

[لباس المصلي]

وأوجبنا اللباس في الصلاة على كل مصلي ، وحرمنا على كل من صلى من المؤمنين كل تعري ، بدت منه عورة مستورة ، أو ظهرت معه فيه منه عورة ، لقول الله سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) (٢٦) [الأعراف : ٢٦]. واللباس ما وارى العورات وغطّاها ، والرياش فزيادة اللباس على ما سترها وواراها ، ومما أوجبنا له ذلك أيضا ، ما أوجبه الله تبارك وتعالى منه على بني آدم ففرضه عليهم فرضا ، فقال سبحانه : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (٣١) [الأعراف : ٣١].

فأمر تبارك وتعالى جميع الناس ، بالأخذ عند كل مسجد لزينة اللباس ، وفيما قلنا به من هذا من منزل القرآن ، ما كفى وأغنى كل ذي رشد وإيمان.

ولا يجوز لأحد أن يصلي شيئا من صلاته بشيء سرقه من ماء ولا لباس ، لأن الله سبحانه قد حرم الصلاة عليه به كما حرمها عليه بغيرها من الأنجاس.

[الاحتلام]

ومن اجتنب في منامه ، حتى يمني مما رأى في احتلامه ، وجب عليه من ذلك الغسل في أمنائه ، ما يجب على اليقظان في إنزاله لمائه. ومن كان نائما فلم ينزل ولم يمن ، أجزأه في ذلك كله من الوضوء ما يجزي كل متوضئ ، فإن غشي أهله فأكسل ولم يمن ، لزمه الغسل في ذلك كما يلزمه في الإمناء سواء ، لقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إذا

التقى الختانان وجب الغسل) ، (١) وفي ذلك ما يقول الله سبحانه (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣] ، والجنب فإنما هو الممني ، المعرض لإمنائه عن أهله المنتحي ، ألا تسمع كيف يقول الله سبحانه : (وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ) [النساء: ٣٦] ، والجار الجنب ، فهو القاصي المنتحي بغير ما مرية ولا كذب ، لا يمتّه بقربى وهي في الرحم ماسة ، والإجناب فهو ما ذكره الله سبحانه من الملامسة ، لأن الله سبحانه يقول تبارك وتعالى في هذه الآية ، ما يدل على أنها الإجناب بغير شك ولا مرية : (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٦) [المائدة : ٦]. ولو لم يكن الإجناب هو ملامسة النساء ، لما احتيج في هذه الآية إلى ذكر وجود الماء ، فقال سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة : ٦] ، وطيب الصعيد لا يكون قذرا ولا قشبا(٢).

وسواء احتلم فأمنى في احتلامه. أو لامس النساء فأمنى في غير منامه ، ومن اغتسل في اكساله ، لم يكن مذموما على اغتساله.

باب القول في السرقة

وأوجبنا على من سرق سرقة ألا يتوضأ بها ولا يصلي فيها ، لأنه عندنا في حكم الله ملعون عند الله بها وعليها ، ومنهي منها أشد النهي من الله عن حبسها عن أهلها

__________________

(١) أخرجه أبو داود ١ / ٥٦ (٢١٦) ، والترمذي ١ / ١٨٠ (١٠٨) ، وابن ماجة ١ / ١٩٩ (٦٠٨) ، ومالك ١ / ٤٦ (١٠٣) ، وأحمد ٢ / ١٧٨ (٦٦٧٠) ، وابن حبان ٣ / ٤٥٢ (١١٧٦) ، والنسائي في الكبرى ١ / ١٠٨ (١٩٦) ، والشافعي في المسند / ١٥٩.

(٢) القشب : اليابس الصلب.

طرفة عين ، ومحكوم عليه فيها بالقطع فيما شرعه الله من أحكام الدين ، وكيف يجوز أن يصلي على سرقة؟! أو في سرقة من سرقاته ، أو يتوضأ بما قد سرقه ، فيكون بما كان من وضوءه من ذلك ، عند الله في أهلك المهالك ، قد أحبط الله به عمله وأجره ، وأبطل بما ركب من ذلك طهره ، فلا وضوء ولا طهارة له ، وكيف يكون طاهرا أو متطهرا وقد أبطل عمله ، بما فارق فيه من التقوى ، وركب فيه بما (١) ركب من كبائر الأسواء ، ولا يقبل الله إلا من المتقين ، ولا يصلح الله عمل المفسدين ، فعمله غواء فاسد ، وهو عن التقوى عاند.

وكيف يصلح الله وضوءه وطهره ، وقد أحبطه الله ودمّره؟! وكيف يطيب ذلك أو يطهر به ، وقد أبطل الله سعيه وعمله ، فلم يتقبله جل ثناؤه عنه ، ولم يصلح له ما عمل منه.

وكذلك ، ومن ذلك ، كل أرض مسجد أو مكان ما كان أخذ من أهله غصبا ، أو مسجد بني بمال سرق أو غلب عليه أهله من المؤمنين أو الذميين غلبا ، فلا يحل لأحد أن يأتيه ، ولا يسع مؤمنا أن يصلي فيه ، لأنه اتّخذ بكفر في دين الله ومعصية ، وأسس بأسباب لله سبحانه غير مرضية.

ألا تسمع لقول الله سبحانه ، ما أنور بيانه : (الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٠٧) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) (١٠٨) [التوبة : ١٠٧ ـ ١٠٨]. فنهاه صلى الله عليه إذ بني لمعصية وبمعصية عن أن يقوم فيه أبدا ، وجعل تركه للقيام فيه وإن كان مسجدا من المساجد طاعة وهدى ، وكيف تجوز فيه صلاة ، أو يكون له طهر أو زكاة؟! ولم يأذن الله سبحانه في بنائه لمن بناه قط ، بل بناؤه له معصية لله كبيرة وسخط ، ودخوله على من بناه محرّم لا يحل ، فكيف تحل فيه صلاة أو تقبل.

__________________

(١) هكذا في المخطوط. ولعلها : ما.

ألا تسمع لقول الله جل ثناؤه ، فيما رفع من البيوت بإذنه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (٣٧) [النور : ٣٦ ـ ٣٧]. فدل سبحانه عليها وعلى زكاتها ، بما ذكر من أذنه في رفعها وبنائها ، فلو كان ما أذن الله في رفعها منها كما لم يأذن فيه ، لكان ذكر الأذن منها فضلا (١) لا يحتاج إليه ، وكان سواء فيها أذن أو لم يأذن ، وكان ما بيّن من ذلك كما لم يبيّن ، فلما لم يأذن سبحانه لأحد في رفع المسجد الحرام ، كان محرما فيها ـ فضلا عن الصلاة ـ كل دخول أو قيام.

ومن ذلك ما نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن أن يقوم في مسجد الضرار إذ بني مخالفة لله سبحانه وعصيانا. (٢) ولقد كان ما ذكرنا من هذا الباب ، قبل ما نزل من وحي الكتاب ، وأن في الجاهلية منه لرسما ، أصابوه فكرة أو تعلما ، فقالوا (٣) قريش عند ما أرادوا من بناء الكعبة : لا تخرجوا فيما أردتم (٤) من بناء بيت ربكم ، إلا نفقة طيبة ، فاجمعوا فيما تريدون من بنائه من كل مال زكيّ ، ونقّوه من كل ظلم ومن أجر كل بغيّ.

الكلام في الدم

وأوجبنا في الدم إذا سال أو قطر ، أن يتوضأ منه من أصابه ذلك ويتطهر ، لمشابهته في تحريمه وخروجه من الأبدان المتطهرة ، لما يجب به الوضوء إذا خرج من مخرج البول والعذرة ، وكذلك كل ما حرم من هذه الأشياء كلها على كل آكل أو شارب شربه أو أكله ، وجب على كل متطهر لله في صلاة أو موقف طهارته وغسله.

فإن قال قائل : فما بالكم لم توجبوا الوضوء في قليله ، كما أوجبتموه في قليل

__________________

(١) في المخطوط : فضل.

(٢) في المخطوط : وعصيان. ولعل هنا عبارة ساقطة.

(٣) كذا في المخطوط ، فإذا كانت كذلك فلها وجه في العربية.

(٤) في المخطوط : أرادوا. وما أثبت اجتهاد.

البول وكثيره؟ قلنا : للتبيين بحمد الله المنير ، ولأوضح بيان قيل : بمثله في تفسير ، لأن الله سبحانه حرم قليل البول وكثيره ، فألزمنا كل من توضأ غسله وتطهيره ، وأنه لم يحرم من الدم إلا ما كان مسفوحا ، فكفى في هذا فيما فرقنا بينه وضوحا. والمسفوح من الدماء ، من كل ما سال أو قطر ، أو جرى فتحدر ، فلولا أن المحرم من الدماء هو المسفوح بعينه ، وأن الله سبحانه بيّن ذلك وشرحه بحكمته وتبيينه ، لما جد الرسول عليه‌السلام ولا غيره ممن أكل لحما ، أن يكون في أكله له معه دما ، لأنه ليس من لحم قليل ولا كثير ، لا من الأنعام ولا من الطير ، إلا وبين أضعافه لا محالة دم ، فسبحان من حكم فيه حكم من يعلم.

فلم يحرمه تبارك وتعالى منها تحريما مبهما ، فيكون بذلك لما أحل من بهيمة الأنعام محرما ، فيتناقض أمره فيه وحكمه ، ولا يفهم عنه محلّله أو محرّمه ، ولكنه فرق بينه سبحانه ففصله ، ونزل كل حرام منه وحلال منزله ، وليس في شيء منه تقصير ولا فرط ، ولا يعرض لأحد مع حسن نظر فيه حيرة ولا غلط. فقال سبحانه : (إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً) [الأنعام : ١٤٥] ، فبين تحريمه فيه بيانا مشروحا ، فهذا ما به فرقنا بين قليل العذرة والبول ، وله ومن أجله صرنا فيه إلى ما صرنا إليه من القول ، وكل شيء من الدماء كلها وإن قل كان في عضو من أعضاء الوضوء ، غسل ذلك كله أو مسح حتى ينقى منه جميع ذلك العضو ، فلا يرى منه فيه أثر ، ولا يبقى فيه منه دنس ولا قذر ، لأن الله سبحانه أمر بغسله ، فأوجب الغسل الذي هو الانقاء على كله.

القول في النفاس

وأوجبنا الغسل في النفاس كما أوجبنا في الحيض سوءا ، لأن النفاس محيض وإن اختلف به وفيه الأسماء.

وقد ذكر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في المحيض واختلاف أسمائه ، أنه قال لمرة كانت معه من نسائه ، فطمثت ، فوثبت فقال لها صلى الله عليه : (مالك أنفست) (١)

__________________

(١) أخرجه البخاري ١ / ١١٥ (٢٩٤) ، ومسلم ١ / ٢٤٣ (٢٩٦) ، والنسائي في المجتبى ١ / ١٤٩ (٢٨٣) ، ـ

وفصحاء العرب والناس ، يدعون المحيض باسم النفاس ، والنفاس وإن دعي محيضا ، فقد يدعا طمثا أيضا. وقد فسر الله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]. فأوجب من ذلك كله التطهر ، (١) وأمر فيه كله من الغسل بما أمر ، فأوجبنا اتباعا فيه لأمر الله وتنزيله ، واستدلالا بما دل الله به عليه من دليله.

فإن سأل سائل عن الكدرة والصفرة ، وما يعرص من ذلك في بعض الأحوال للمرة؟

قيل : أما ما كان من ذلك بين فترات دفق الدم ، وكان وقت محيضها فيه لم تقطع بعد عنها ولم تنصرم ، فهو من المحيض ودمه ، والحكم فيه عليها كحكمه ، فإذا انقطع عنها المحيض وهو خالص الدم ومحضه ، وجب عليها عند انقطاعه عنها الغسل ولزمها فرضه ، لأن المحيض والدم إنما هو ما كان خالصا محضا ، كما أن المحيض منه ما كان مشوبا بغيره متمحضا ، (٢) من دلائل ذلك أيضا ، قول بعض العرب إنا لنشرب اللبن محيضا ومحضا ، يريد بالمحض الخالص منه المحض؟ ، والمحيض فما قد خلط بالماء ومحض.

القول في الحبلى

ومن سأل عما ترى من ذلك الحبلى ، فقال : أمحيض هو عندكم أم لا؟

قيل : لا ليس بمحيض منها ولا طمث ، والحكم عليها فيه كالحكم عليها في كل حدث حدث ، عليها أن تتوضأ من ذلك إذا رأته وضوءا ، أو تغسل أعضاء الوضوء له عضوا عضوا ، وإنما دعانا إلى تصحيح اسم المحيض ، (٣) وما بيّنا به منه بذكر المحض

__________________

ـ وابن ماجة ١ / ٢٠٩ (٦٣٧) ، ومالك ١ / ٥٨ (١٢٥) ، والدارمي ١ / ٢٦٠ (١٠٤٥) ، وأحمد ٦ / ١٨٤ (٢٥٥٥٤) ، وغيرهم.

(١) في المخطوط : التطهير. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : مشوب بغيره متمحضا بغيره. وهي زيادة.

(٣) كذا في المخطوط ، ولعلها : الحيض.

والمحيض ، ما أردنا من تصحيح ما حكم الله سبحانه به منه للمرة وفيها ، لكي لا يزول ما أثبته الله سبحانه إذا انقطع المحيض من فرض الصلاة عليها ، فلو لم يبن ذلك بما قلنا ـ وأبنّا ، ولم يقبله من وصل إليه عنا ـ لكان الاحتياط للمرة فيه ، وإن التبست معانيه ، أولى لمن التبس عليه ما قلنا به فيها وأرضى ، وأجدر لأن لا يبطل لله عليها فرضا.

القول في الحجامة والرعاف

إن سأل سائل فقال : هل يجب عندكم الوضوء من الحجامة والرعاف؟

قيل : نعم ، أوليس قد فرغنا من هذا فيما قدمناه لك (١) من الذكر والأوصاف.

فإن قال : ما تقولون فيمن قاء دما أو قلسه (٢)؟

قيل : هذا أيضا قد بيناه نفسه ، فيه وفي الرعاف والحجامة ، (٣) ما أوجبنا في الدم المسفوح من الطهارة الواجبة اللازمة ، لأن هذا كله مسفوح متحدر ، جميعه يقطر.

فإن قال : فما تقولون فيمن بصق بصاقا مختلطا بدم فهنا لا يسفح (٤) ولا يقطر؟

قيل : ليس عليه في هذا وما أشبهه من الدم وضوء ولا تطهّر ، وليس الوضوء والتطهر ، من الدم إلا فيما ينحدر ، فأما ما ثبت من الدم في مكانه فلم يزل فليس ينقض عندنا وضوءا ولا طهرا ، لأنا لم نسمع لذلك في كتاب الله سبحانه ذكرا ، ولكنا نرى له أن يمضمض منه فاه ، ففي ذلك إذا فعله به ما كفاه ، كما لو أصاب عضوا من أعضائه ، أمرناه بتنظيف العضو وحده منه وإنقائه.

فإن قال : فما تقولون فيمن كان على شيء من بدنه دم فمسحه بخرقة حتى ينقيه ، هل يجزيه ذلك من غسله ويكفيه؟

__________________

(١) في المخطوط : لله. لعلها تصحفت.

(٢) من القلس.

(٣) في المخطوط : وفي الحجامة والرعاف. وما أثبت اجتهاد.

(٤) في المخطوط : لا يسبح. مصحفة.

قيل : نعم إذا مسحه حتى ينقا منه أثره ، فقد أجزأه ذلك فيه وطهّره ، وكذلك دم لو خرج من أنفه ، فأخذه بإصبعه أو إصبعين من كفه ، ثم عركه حتى يذهب ريحه وأثره ، كان في ذلك أيضا ما أجزأه وطهره.

وكذلك ما أصاب الثوب من غير مسفوح الدماء ، اكتفى فيه بالعرك والإنقاء ، وإذا ذهب بالعرك أثره ، فهو نقاه (١) وطهره.

فإن قال قائل : فلم لو توجبوا في قليل المني من طهّره بالعرك ما أوجبتم في قليل الدم(٢)؟

قيل : لأن الله سبحانه لم يفرق بين قليل المني وكثيره فيما أوجب من نجاسته في الحكم ، وقد فرق بين قليل الدم وكثيره في حكمه ، بما خص به مسفوح الدم من تحريمه ، فلذلك فرقنا فيه بين الكثير القليل ، (٣) وقلنا فيه بما دلنا الله سبحانه عليه من التنزيل.

ومن سأل عن دماء الخنافس وما يشبهها من الجعلان ، وعن دم الثعابين (٤) والجراد والذبان؟

قيل : هذا كله قل أو كثر ، ليس مما يسفح ولا يسيل وإن هو عصر ، ولا ينجس من كل دم كما قلنا إلا ما سال أو قطر ، ويستحب منه كله ما يستحب من قليل الدم أن يغسل ويطهر ، ولا نوجب منه إن لم يغسل إعادة لوضوء ولا صلاة ، كما نوجب ذلك على من تركه من الأنجاس المسماة ، لأن الله سبحانه لم يسمه كما سماها نجسا ، وإنما استحببنا غسله لأنا نراه وسخا ودرنا ودنسا ، وهذا كله أجمع فلا ذكاة عليه ، وذلك مما يدل على حقيقة قولنا فيه ، لأنه إذا كانت ميتته للطهارة مستحقّة ، كانت أخلاطه كلها كذلك وإن كانت متفرقة ، وكذلك ما قل من الدم حتى يكون في القلة

__________________

(١) عادة الإمام تسهيل الهمزة وهي لغة الحجازيين. فقوله : نقاه ، أصلها : نقاؤه. وكذلك قوله فيما سبق :

لمرة ، أصلها : لمرأة.

(٢) في المخطوط : الدماء. وما أثبت اجتهاد لتوافق السجعة التي تليها.

(٣) في المخطوط : بين القليل والكثير. ولعله سهو من النساخ وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٤) في المخطوط : البعاسير ، ولعلها مصحفة. وما أثبت اجتهاد.

والصغر ، شبيها بالخردلة أو بما زاد قليلا عليها من القذر ، (١) ولا تجب على من صلى به إعادة ـ إذ لا يسفح ـ لصلاته ، ولا ينتقض عليه وإن لم يغسله [شيء] من طهارته ، وما كان من الدم لا يسفح من خروجه ، ولا يقطر عن رأسه ، فلا إعادة فيه ، فإن كان في بدن المصلي أو ثوبه دم يكثر ، حتى لا يشك في أنه مما كان يسيل أو يقطر ، فنسيه حتى صلى ، (٢) عاد لصلاته فصلى ، لأن نسيانه لما يجب عليه منه ، لا يزيل فريضة الله في الصلاة عنه ، ولم نوجب إلا ما أوجبه غيرنا.

القول في التيمم

وإن سأل سائل عن من لم يجد ماء وكان في مكان لا يقدر فيه أن يجد طيب الصعدان كيف يصنع في صلاته ، وما الذي يجب عليه من طهارته؟

قيل : يصلي ولا يتيمم بشيء وإن حضره وكثر عنده فلم يعدمه ، إلا أن يجد الصعيد الطيب الذي أمره الله سبحانه أن يتيممه فليتيممه ، فإن لم يجده لم يمسح يديه ولا وجهه بغيره ، وكان قد زال عنه فرض ما أمره الله فيه بتطهيره ، لأن الله سبحانه لم يذكر أن طهرا يكون إلا به أو بالماء ، وقد علم الله جل ثناؤه مكان غيرهما من الأشياء ، فلم يأمر المؤمنين به ولم يذكر لهم سبحانه فيما ذكر من تطهير الصعيد لهم ، وغناه في الطهارة عنهم ، (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [المائدة : ٦].

وقد قال غيرنا : إن من وجد برذعة حمار ، أو كان في بيت مبلط بزجاج أو رخام ، تيمم أيّ ذلك وجده فمسح بوجهه ويديه ، وكان ذلك مؤديا عنه لفرض الله في الطهارة عليه ، وهذا خلاف لما أمر الله به من تيمم الصعيد لا يخفى ، وقول لا يقول به إلا من جهل وجفا ، ولو جاز أن يتيمم بما هو غير الصعيد لا يشك فيه من هذه

__________________

(١) في المخطوط : من القذر من الدم. وهي زيادة من سهو النساخ.

(٢) في المخطوط : حتى صلى ثم عاد. فحذفت (ثم) لأنها زايدة لأن جملة (عاد لصلاته فصلى) جواب الشرط ، وما بعدها تعليل.

الأشياء ، لجازت الطهارة بخلاف ما أمر الله به من الوضوء بالماء ، لأن خلاف ما بين الماء ، وغيره من الأشياء ، ليس بأكبر (١) في المخالفة من خلاف الصعيد ، للرخام والحديد ، فإن جاز أن يتيمم بخلاف الصعيد جاز أن يتوضأ بما هو مخالف للماء من كل ما كان له مخالفا من لبن أو غيره ، ثم يكون بذلك مؤديا لما عليه من كل عضو وضّاه به من تطهيره.

القول في الماء القليل

ومن سأل عمن كان معه ماء قليل لا يكفيه ، ما الذي يجب لله في ذلك من الطهارة عليه؟

قيل : يجب عليه فيما وجد من الماء ، أن يتوضأ به ما كانت له فيه كفاية من الأعضاء ، يبدأ في ذلك بما قلنا من يمنى كفيه ، ثم بالأول فالأول مما يجب في الطهارة عليه ، فإذا أكمل غسل وجهه ويديه وأتمه ، فليس له أن يتمسح من صعيد ولا أن يتيممه ، وإنما له أن يتيمم الصعيد ما لم يكن الماء عنده ، فإذا حضره الماء ووجده ، فإنه يلزمه بوجوده للماء فرض الطهارة به والوضوء ، (٢) لأن الله سبحانه فرض الطهارة بالماء إذا وجد على كل عضو ، فما وجد لعضو منها كلها ماء ، لم تكن له بغيره طهارة ولا اكتفاء.

ألا ترى أن الماء في الطهارة أنقى وأرضى ، وأوجب وإن وجدا جميعا فرضا ، لقول الله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) [المائدة : ٦] ، فلما وجد الماء لبعضها كان الوضوء به عليه فيه واجبا. ألا ترى أنه لو لم يجد إلى ما فرض الله عليه من الصلاة كلها سبيلا ، لما كان ذلك لما يطيق أن يصليها عنه واضعا ولا مزيلا.

ومن سأل عمن معه بلغة من المسافرين والمرضى ، وهو لا يأمن إن تطهر بها أن يهلك إن هو فعل تلفا وعطبا؟

__________________

(١) في المخطوط : الكلمة مهملة تحتمل بأكثر وأكبر.

(٢) أصلها : الوضوء. لكن الإمام القاسم حجازي اللغة يسهّل الهمزة ليوافق أيضا السجعة التي بعدها.

قيل له : لا يحل له أن يتوضأ به إذا كان أمره فيه كذلك ، لأن الله سبحانه حرم عليه أن يوصل إلى نفسه هلكة متلفة ما كانت من المهالك ، ووعد عليه النار إن هو فعله عدوانا وظلما ، فحكم به عليه لنفسه حكما حتما ، فقال سبحانه : (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) [النساء : ٢٩ ـ ٣٠]. وعليه أن يتيمم كما قال الله سبحانه : (صَعِيداً طَيِّباً) فيمسح منه بوجهه ويديه ، وكذلك من خاف على نفسه دون الماء سلطانا أو لصوصا أو سبعا أو كرارا كان التيمم واجبا عليه ، وكان حراما في ذلك كله من ابتلي به أن يعرّض نفسه في شيء منها تلفا ، أو يجشمها في تعريضه والطلب له هلكة أو حتفا.

ومن وجد مع غيره. شيئا من الماء فطلب شراه فلم يعطه إلا بغلاء وهو لثمنه واجد كان عليه أن يشتريه ، لأنه واجد له بما وجد من الثمن واجبة فريضة الله عليه فيه ، كقول الله سبحانه : (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً) ومن حضرته الأشياء فوجد لها وإن غلت ما يشتريها به من الأثمان ، فهو لها واجد غير شك فيما يعرف من معلوم اللسان ، إلا أن يكون ذلك يحل بماله اجحافا ، أوله في بدي (١) ما معه من طعام أو مثله (٢) إتلافا ، فلا يكون له الاتلاف والاجحاف بنفسه في ذلك ، لأنه يعود في تلك لو فعلها بنفسه إلى ما نهي لها عنه من القتل والمهالك ، وإلى ما لم يرده الله تبارك وتعالى له من الحرج والعسر ، وإلى خلاف ما أراد الله سبحانه بعباده من التخفيف واليسر ، قال الله سبحانه : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة : ١٨٥] ، وقال في آية الوضوء نفسها : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) [المائدة : ٦].

وقال سبحانه فيما فرض على الأموال من النفقات ، وما حدد من ذلك تحديدا من أحكامه المفصلات : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ) [البقرة : ٢١٩]. والعفو من الأموال كلها ، فهو ما لم يكن فيه الإجحاف بها ، وليس قول من قال : لا يشتريه إذا غلا ، قولا يجد له من أنصف أصلا. ألا ترى أنه

__________________

(١) كذا في المخطوط.

(٢) كذا في المخطوط.

إن زال عنه شراه (١) لغلائه ، لم يكن يجب عليه وإن حضر شيء من شرائه ، وهم يوجبون عليه إذا رخص شراه ويرونه بذلك واجدا للماء ، وهذا فهو الأصل فيما أوجبنا عليه من شرائه في الغلاء ، ولما حددنا من قولنا في الطهارة فروع كثيرة متفرعة ، وهي كلها وإن كثرت ـ والله محمود ـ فيما بيّنا من أصولها مجتمعة.

ومن ذلك إن سأل سائل عن عدد الوضوء فيما يجب عليه ، من غسل كل عضو وبيّنا فيه ، وليس لشيء من ذلك عدد يحصى ، بأكثر من أن يغسل ويوضأ فينقى ، وتحديد ذلك جهالة وعمى ، إذ كان باسم الغسل مسمى ، لأن (٢) الله سبحانه قال : (فَاغْسِلُوا) ، فقد غسلوا أكثروا بعد الغسل أو أقلوا.

فإن سأل سائل عما يجب من الوضوء على كل من كان نائما؟

قيل : قد فرغ من هذا فيما أوجبنا من الوضوء عند كل صلاة على كل مستيقظ قاعدا كان أو قائما.

فإن قال : فإن نام في الصلاة نفسها ساجدا ، أو نام فيها قائما أو قاعدا؟

قيل : وهذا أيضا قد أجبنا عنه وسواء ذلك كله كيف ما كان إذا حق فيه النوم وسمي باسمه ، فهو كله نوم والحكم فيه كحكمه.

ومن سأل عن مسح الرأس يبل من الماء ، على بعض ما قد وضّي من الأعضاء ، هل يجزيه ذلك فيه أم لا؟

قيل : لا يجزيه إذا كان بللا.

ألا ترى أن متوضئا لو وضأ بماء عضوا من أعضائه ، لم يجز له أن يوضي غيره بماء وضاه به من مائه ، وماؤه أكثر وأنقى وأشبه بالكفاية والرضا ، من بلل يكون على عضو من الأعضاء ، فلا يجزيه إلا مسح رأسه بماء جديد ، وأن يأتي في مسحه على القريب منه والبعيد ، مما قبل منه أو دبر ، وكل ما أنبت منه الشعر ، لأن الله سبحانه أمره بمسحه ، كما أمره بغسل يديه ووجهه ، فعليه مسحه كله جميعا ، كما عليه غسل

__________________

(١) أصلها : شراؤه.

(٢) في المخطوط : إن ولعلها كما أثبت.

وجهه ويديه معا.

ولو سأل سائل عمن أمطرت على رأسه السماء ، أو صب على رأسه ماء وهو يتوضأ ، هل في ذلك ما يجزيه من واجب مسح رأسه بيديه أو إحداهما؟

وكذلك أذناه فمعناهما معنى الرأس في مسحه ، وقد فرغنا ـ والله محمود ـ من الجواب في هذا كله ، وفصلناه فيما بيّنا من أصله.

[الاشتغال بغير الصلاة يبطل الوضوء]

وإن سأل سائل عمن مسح رأسه ثم أخذ (١) بعد المسح شعره ، أو غسل يديه ثم قصر بعد غسلهما ظفره ، هل في ذلك لطهارتهما نقض ، أو في تجديد من ذلك عليه فرض؟

قيل : على من قام لصلاته بعد أخذ شعره وظفره ، أن يعود لجميع وضوءه وطهره ، لأن الله سبحانه يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا) [المائدة : ٦] ، فأوجب عليهم الغسل كلما قاموا إلى الصلاة ليصلوا ، إلا أن يكونوا كما قلنا في مسجد من مساجد الله منتظرين فيه لصلاتهم ، أو مشتغلين فيه بذكر الله فيكونون على وضوءهم وطهارتهم ، ما كانوا فيه لصلاة منتظرين ، أو لله سبحانه فيه ذاكرين ، فإن لم يذكروا فيه وينتظروا ، وخاضوا فيه بباطل فأطالوا فيه أو أقصروا ، كان واجبا عليهم فيها ، الغسل كلما قاموا أبدا إليها.

فإن سأل سائل عن جنب اغتمس اغتماسة في ماء يغمره ، هل في ذلك ما يجزيه ويطهره؟

قيل : نعم ، قد طهر واكتفى ، واغتسل كما أمر وتوضأ ، إلا أن لا يكون أنقى ما أمر بإنقائه ، من دبره وقبله وجميع أعضائه ، فإن ذلك ربما لم ينق ، وإن هو اغتسل وتوضأ ، وقد حددنا ذلك كله وبيّنّاه ، فمن أدى ما عليه فيه فقد طهّره وأجزأه ، ومن لم

__________________

(١) يعني : حلقه أو قص منه.

يؤده كما أمر أن يؤديه ويكمله فلم يؤد إلى الله فيه فرضه ، وكيف يؤديه وقد انتقص بعضه؟

[القيح والصديد والدود]

ومن سأل عما يجب في القيح والصديد ، وما يخرج من الدبر من الدود؟

قيل : أما القيح والصديد فأقل ما فيهما ما في الدم ، وعليهما ما عليه في الحكم ، يغسلان كغسله ، وسبيلهما في النجاسة كسبيله ، لنتنهما وريحهما ، وقذرهما ومنظرهما.

وقد قال الله سبحانه : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) [البقرة : ٢٢٢]. ويقول سبحانه : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦]. فمن ترك القيح والأذى له في بدن أو ثوب فقد تقذّر ، ومن لم ينق منها فلم يتطهر ، وقد أمر الله بالتطهر جميع المؤمنين ، وأخبرهم سبحانه أنه يحب التوابين ويحب المتطهرين ، فأوجبنا التطهر منهما وفيهما ، بما ذكرنا من هذين الوجهين جميعا عليهما.

وأوجبنا الطهارة من الدود فيما أوجبنا من التطهر ، لأنه فيما أوجبنا فيه الطهارة مما يخرج من قبل أو دبر ، من رطوبة أو بلل أو دابة من دود أو غير دود ، أو صفاة (١) أو كسرة صغيرة أو لطيفة كالقذاة من العود ، لأنه لا يخرج من ذلك خارج وإن صغر ويبس ، إلا وقد خرج معه عليه نتن وإن لم ير ويحس ، وفي كل ما خرج من القبل والدبر ، ما قد أوجبناه في الوضوء والتطهر ، (٢) ولذلك ما أوجبنا في الريح وهي ألطف خارج ، يخرج من تلك الموالج ما أوجبنا من الوضوء والتطهرة ، وأوجبنا ذلك فيها لأنها من الأشياء القذرة ، وهي في النتن أشبه شيء بالعذرة فلهذا كله لزمها ما لزمها ، وكان الحكم في هذه الأشياء كلها حكمها ، (٣) وعن الكتاب ما قلنا به فيها ، وبحكم الله في الكتاب حكمنا في ذلك كله عليها.

__________________

(١) في المخطوط : سفاه. ولعلها مصحفة ويحتمل أنها : صفاة.

(٢) في المخطوط : والطهارة. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) في المخطوط : حكما. ولعلها مصحفة.

فإن سأل سائل عما لا ينقطع من بول أو بواسير ، أو عن غير ذلك مما يجب فيه الوضوء والتطهير من جميع الأقاذير؟

قلنا : أي عضو من المؤمن لزمه ، شيء من ذلك فلم ينقطع عنه وداومه ، تركه ـ لما غلب عليه منه ـ على حاله ، ولم يلزمه تطهيره في وضوءه ولا اغتساله ، ونظر إلى كل عضو سواه ، فغسله منه ووضّاه ، لأن الله سبحانه أمره بغسلها كلها ، فلا يزيل عنه مفروض غسلها ، الذي فرضه الله عليه في كلها ، امتناع ذلك عليه في الواحد منها ، ولا يزيل ما زال من ذلك عنها ، وإن كانت العلة من ذلك بدبره أو بإحليله ، كان بذلك واحدا في حكمه وسبيله ، فترك تطهيره ، وطهّر غيره ، مما أمره الله سبحانه بالتطهير له ، وحكم عليه أن يطهره ويغسله ، فترك غسل ذلك وحده إذا لم يمكنه ، ولم تزل العلة عنه. (١) وإنما قلنا بترك غسله إذا غلب أمره ، لأنه لا ينقيه الغسل ولا يطهره ، وإنما أمرنا بالغسل للتطهر ، فربما كان غسله أكثر من الأذى والتقذر ، وادعى إليه وإن كان حرجا لما نهاه الله سبحانه من الإضرار بنفسه ، مع أنه غير مطهّر بذلك للعضو من نجسه. فكل هذا يؤكد فيه ما قلنا ، ويوجب فيه قبول ما قلنا.

[النوم أو السكر يبطل الوضوء]

ومن سأل عمن نام أو هذى أو سكر؟

قيل : عليه أن يتوضأ وأن يتطهر ، لقول الله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣]. فلو صلى صلاة وهو سكران لا يعقل ما يقول فيها ، لكان عليه أن يعود ويصليها ، وكذلك يعود لوضوئه وطهره ، لأنه لا يعلم أثابت أم قد نقضه في سكره ، وكذلك من نام أو هذى ، فإن الفرض عليه هكذا ، لأنه لا يعقل صلاة ولا طهرا ، كما لا يعقل من شرب مسكرا ، فحالهما في ذلك حال السكران ، لما غلب عليهما من النوم والهذيان.

__________________

(١) في المخطوط : فيه. ولعل الصواب ما أثبت.

فإن سأل عمن قدم في الوضوء ، عضوا من الأعضاء كلها قبل عضو؟

قيل : قد فرعنا من هذا كله عليه أن يعود للوضوء ويقدم غسل ما أخر من عضوه ، ولا يؤخر من ذلك عضوا أمر الله سبحانه بتقديمه على غيره من وضوّه ، وإن فعل وصلى كان عليه إعادة صلاته ، لأنه لم يأت بما حدد الله فيها من طهارته.

ألا ترى أنه لو سجد في صلاته كلها قبل أن يركع ، لعاد لصلاته وكان محرّما عليه من ذلك ما صنع ومبتدعا فيه لأخبث البدع ، لأنه عمل منه وفيه ، بخلاف ما حكم الله سبحانه به عليه ، فقدم منه ما أخّره الله فلم يقدمه ، وأخّر منه ما أمره الله بالتقديم له ، فهذا دليل بيّن لما قلنا به فيه ، وشاهد منير فيما استدللنا به عليه ، لا يأبى قبوله منصف ، ولا يخالف فيما قلنا إلا حائر متعسف.

وإن سأل سائل عن ميت وقع في بركة أو بئر ، أو حوض من ماء غير كثير ، هل فيه ما أفسد طهارة الماء؟

قيل : لا ، قد فرغنا من هذا وما كان له مشبها من جميع الأشياء ، فيما حددنا من طهارة الماء ، قل أو كثر ، (١) مما يثبت للماء لونه أو طعمه وريحه فلم يغلب حتى يتغير.

وإن سأل سائل عن بول البعير وغيره من أبوال الحمير الوحشية؟

قيل : كل شيء لم يحرم الله سبحانه من الدواب أكله ، فليس ينجس شيئا أصابه بوله ولا زبله ، وليس شيء مما يحرم من البهائم ينجسه ، إلا ما كان محرما في نفسه ، مثل الخنزير وغيره من المحرمات لحومها (٢).

كمل كتاب الطهارة والحمد لله كثيرا طيبا.

* * *

__________________

(١) في المخطوط : أكثر. ولعلها مصحفة.

(٢) كذا في المخطوط.

صلاة اليوم والليلة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي خلق فسوى ، وسدد (١) لأمره كله فقوّى ، ولم يكلف من فرائض أمره أحدا من خلقه عسيرا ، ونوّر ما فرض من ذلك كله على عباده تنويرا ، ولم يلبس من ذلك كله عليهم شيئا فيخفى ، رأفة منه تبارك وتعالى ولطفا ، وتسهيلا لسبل طرقه ، وتخفيفا منه على خلقه.

[أول الواجبات العقلية]

وكان أول ما كلفهم به من فرائضه توحيده بالربوبية ، وإخلاصه تبارك وتعالى بالوحدانية ، فأبان لهم ما فرض من إخلاصه بالوحدانية عليهم ، وما حكم به من توحيده بالربوبية فيهم ، بدلائل جمة لا تحصى ، وشواهد كثيرة لا تستقصى ، من سمائه وأرضه وما بينهما ، ومن أنفسهم التي هي أقرب إليهم منهما ، تحقيقا في ذلك لتكليفه ، وتقريبا فيه لسبيل تعريفه ، فقال رحمة منه للعالمين ، (وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٢١) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (٢٢) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ) (٢٣) [الذاريات : ٢٠ ـ ٢٣] ، وقال سبحانه : (إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ) (٦) [يونس : ٦] ، والآيات فهن الشواهد والدلالات ، ثم لم يتركهم مع ذلك كله من إرساله رسله فيهم بالرسالات ، رأفة منه بهم ورحمة ، وإحسانا منه إليهم ونعمة ، بعد أن أخبرهم سبحانه أن بيان ما كلفهم في ذلك من حقه ، مثل بيان ما بيّن لأحدهم (٢) إذا نطق من نطقه ، كل ذلك إعذارا منه بالبيان المنير إليهم ، واحتجاجا منه لخلقه بالبرهان المبين عليهم ، (لِيَهْلِكَ) ـ كما قال سبحانه ـ (مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٤٢) [الأنفال : ٤٢]. فتبارك رب العالمين.

__________________

(١) في (ب) : وشدد.

(٢) في (ب) : لهم.

[الواجبات الشرعية]

ثم فرض سبحانه عليهم بعد توحيده وما فهم (١) من فرائض حقه ، الصلاة سياسة بما فرض منها بحقه ، وإحياء بها لذكره وتعظيمه ، ولما فيها من خشوع كل مؤمن وتقويمه ، لطاعة الله وأمره وإجلاله ، عند ما يخطر فيها من ذكر الله بباله ، ولما له ما كان فيها وبها من العصمة والبركة ، والنجاة عند قيامه إليها وفيها من كل معصية مهلكة ، من كل فحشاء أو منكر ، أو استكبار متكبر ، ولها وفيها ، ولدعائه إليها ، ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى وآله : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت : ٤٥]. وأنهى لمن كان لأمر الله منتهيا عن كل فحشاء أو منكر ، ومستكبر من معصية الله أو مستصغر. فصدق الله لا شريك له في خلق ولا أمر ، ولا حكم لخاطرة ذكر أكبر ، وأنهى (٢) لمن آمن به عن كل معصية وجرم ، أزجر (٣) من كل كبير من الأمور أو ناهية ، وأجل وأعلى من كل جليل وعالية ، ازدجر بها مزدجر فانتهى ، ووفّق لها موفّق فاهتدى.

ولما جعل الله له من الصلاة من ذكره ، فيها للرسل ما تقدم من أمره ، فلم تحل رسل الله من أمر الله به فيها ، ولم تزل رسل الله صلوات الله عليها ، تدعو الأمم في سالف الدهور إليها ، فقال تبارك وتعالى في إسماعيل رسوله ، صلى الله عليه وعلى جميع رسله : (وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا) (٥٥) [مريم : ٥٥].

وقال عيسى صلى الله عليه : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا) (٣١) [مريم : ٣١].

__________________

(١) في (ب) و (ج) : فيهم. مصحفة.

(٢) في (أ) : وأنها. مصحفة. إلا إذا كتبت الألف المنقلبة عن الياء كالألف المنقلبة عن الواو. فلا تصحيف ، بل هي هي.

(٣) أي : هي أزجر.

وقال تبارك وتعالى لموسى فيها قبل وصيته لعيسى صلوات الله عليهما ، والحمد لله على ما جعل من الرسالة فيهما : فأخبر سبحانه بما جعل من ذكره بها وفيها ، وإنما الذكر يقول من أجل ما فيها ، من إجلال أمري وما يكون من القيام لها وإليها ، من خواطر ذكري وإجلالي فيها ، كما يقال فعلت ذلك لذلك ، كذلك (١) فرضت الصلاة لما قلنا من هذا ، وكان ما قلنا من علل ما جعلت له الصلاة فرضا ، (٢) ما يقول سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى) (١٣٢) [طه : ١٣٢]. فكفى بهذا في تعظيم الصلاة تبيانا ونورا من كل ظلمة وعشوى ، وكانت عند الله قربة من مصلّيها وطاعة ورضى.

وفي الصلاة وأمره بها ما يقول مرارا كثيرة رب العالمين ، لمن استجاب له بالايمان من المؤمنين : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (٥٦) [النور : ٥٦]. وفيها وفي فرضها وتكريمها ، وما ذكر من أمرها وتعظيمها ، ما يقول سبحانه : (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) (١١) [التوبة : ١١]. فلم يعقد سبحانه الإخاء والولاء ، إلا بين من زكى وصلى.

ومما يدل من فهم عن الله تبارك وتعالى على تعظيم ، قدر الصلاة ما قال العليم الحكيم : (فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٥) [التوبة : ٥]. فلم يزل ـ سبحانه وتعالى حكمه بتقتيلهم ، (٣) ولم يأمر تبارك وتعالى بتخلية سبيلهم ، وإن تابوا ولم يشركوا ـ حتى يصلوا ويزكوا.

وفيما أمر الله به المؤمنين من الصلاة ، وبعد الذي جعل بينهم بها من الإخاء

__________________

(١) سقط من (أ) : كذلك.

(٢) لعل هنا سقطا فالعبارة غير واضحة المعنى.

(٣) سقط من (أ) : حكمه.

والموالاة ، ما يقول سبحانه : (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ) ـ وهو أمنتم وأقمتم ـ (فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً) (١٠٣) [النساء : ١٠٣]. والموقوت فهو المؤقت بالمواقيت والحدود ، وبما لا يجهله المؤمنون من عددها المعدود ، وما فيها من القيام والقعود ، والسجود والركوع ، (١) والقراءة والتسبيح والخشوع. فمن دلائل من أراد علم معدودها ، وما قلنا به من قيامها وقعودها ، وركوعها وسجودها ، فقول الله تعالى : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨) [البقرة : ٢٣٨]. فحكم عليهم سبحانه فيها بالقيام إذا كانوا آمنين ، فإن خافوا صلوها رجالا وركبانا ، وبيّن ذلك كله لهم تبيانا ، والرجال الذين ذكروا في هذه الآية ، فهم الرجالة ، والركبان : فركب (٢) الإبل والخيالة ، فإن أمكنهم القيام في الخوف للصلاة قاموا ، وإن لم يمكنهم إلا الإيماء برءوسهم أوموا.

ودل على أن مفروض الصلاة خمس ، ليس فيها زيادة ولا نقص ، بقول سبحانه : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى). فكان (٣) أول ما يقع عليه اسم صلوات ثلاث وقفا ، وكانت الوسطى التي أمرهم الله بالمحافظة عليها مع ما (٤) أمر سبحانه من المحافظة على الصلوات رابعة سواها ، فلما كملت الصلاة أربع طلبنا إذ علمنا أنها أربع وسطاها ، فلم نجد لأربع صلوات وسطى ، فطلبنا أقل ما نجد بعد أربعا (٥) متوسطا ، فلم نجده ـ والحمد لله ـ إلا خمسا ، فكان (٦) ذلك لعلم عدد الصلوات بيانا وتبيانا ، فعلمنا أن الصلوات التي أمروا بالمحافظة عليها أربع عددا ، وأن الوسطى التي

__________________

(١) في المخطوط : والركوع والسجود. وما أثبت اجتهاد.

(٢) في جميع المخطوطات : فهم الرجال. وما أثبت اجتهاد وهو الصواب ، لأن الإمام لا يمكن أن يفسر الرجال بالرجال. وأيضا توافقها مع الخيالة شاهد جلي. والرّكب : ركاب الإبل. كما قال تعالى (وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ).

(٣) في (ب) : وكان.

(٤) سقط من (أ) : ما.

(٥) في جميع المخطوطات : أربع.

(٦) في (ب) : وكان.

أمروا بالمحافظة عليها معها (١) خامسة فردا ، لأن الخامسة لا تكون وسطى لثلاث أبدا ، وإنما هي واسطة لأربع ، فدل على عدد الصلوات أجمع ، وكانت فيما بان من هذا حجة على البدعية (٢) ، وغيرها من الرافضة وغوالي (٣) الجهلة والحشوية ، لأن البدعية قالت إنما يجب في اليوم والليلة صلاتان على المصلين ، وقالت الرافضة فيها بواحدة وخمسين ، (٤) وقال من فيها جهل وغلا ، يجزي كل مصل ما صلى.

ثم جعل الله تبارك وتعالى لما فرض من هذه الصلوات ، ما جعل من الطهور والمقادير والأوقات ، فتنوزع أيضا واختلف فيه ، وكان ما قلنا به من ذلك وذهبنا إليه ، ما أخذنا وقلنا فيه عن قبول (٥) الكتاب ، وما لا يأبى ـ إن شاء الله ـ علينا قبوله أولو الألباب.

فقلنا وبالله نستعين على الهدى ، ونعوذ به من الضلالة والردى : وقت كل صلاة قبلها ، وكذلك ما فرض الله من الطهور لها ، وكل وقت كان للفريضة اللازمة ، فهو وقت للنافلة المتطوعة. وكل وقت لا يصلى فيه الفرائض ، فلا يصلح أن يصلى فيه النوافل ، وخير المقادير والأوقات ، ما جعل وقتا للصلوات ، كما خير الشهور والأزمان ، ما دلنا الله عليه من شهر رمضان ، وخير ليالي الشهر ، ما ذكره الله من ليلة القدر ، وخير الأيام السبعة ، ما دلنا عليه من يوم الجمعة.

وبلغنا كثيرا لا نحصيه أن عليا ، رأى رجلا يصلي ضحى أو ضحيا ، فقال له : نحر الصلاة نحره الله (٦).

__________________

(١) سقط من (أ) : معها.

(٢) البدعية : نسبة إلى البدعة. وقد عدها كتّاب الملل والنمل في عداد الفرق غير المشهورة ، منهم الإمام المرتضى في المنية والأمل / ٢٨.

(٣) غوالي : جمع غالية.

(٤) المقصود بالرافضة هنا : الإسماعيلية ، لأنهم هم الذين يقولون بفرضية صلاة الخمسين. كما أخبرنا عن المعاصرين منهم.

(٥) في (ب) : متول.

(٦) ذكر الإمام الهادي عليه‌السلام أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه نظر إلى رجل يصلي ـ

وبلغنا أن أبا جعفر بن علي بن الحسين كان يقول (والله ما صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مسجده الضحى قط) (١).

وبلغنا أن عليا صلى عليه ، (٢) كان يقول كثيرا لبنيه ، (يا بنيّ لا أنهاكم عن الصلاة لما فيها من ذكر الله ، ولكني أسخط لكم خلاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣).

[أوقات الصلوات]

وقال الله لا شريك له ، في الوقت وما حد للصلوات منه ، فيما نزل من الكتاب لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٧٨) [الإسراء : ٧٨]. فجعل الله هذا وقتا للصلوات من الفرائض والنوافل محدودا. وقال له ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء : ٧٩]. وما أمره الله سبحانه ـ في صدر نهاره ، ولا في شيء مما وصل إلينا عن الرسول من أخباره ـ بنافلة من النوافل ، وما كان بفضيلة من الفضائل بجاهل ، فأمره بالصلاة من دلوك الشمس وهو الميل والزوال ، وغسق الليل فهو السواد والاظلام ، وهو الطرف الآخر ، والطرف الأول فهو الفجر. وفي هذين الوقتين ، وما فرض فيهما من الصلاتين ، ما يقول سبحانه : (أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) [هود : ١١٤]. فجعل سبحانه طرف النهار الأول كله وقتا للفجر ، وجعل الطرف الآخر كله وقتا للظهر والعصر ، وجعل زلف الليل كله

__________________

ـ الضحى فقال : ما له ينحر الصلاة نحره الله. المنتخب / ٦٣. ولم أقف على الرواية عن علي عليه‌السلام.

(١) ستأتي الرواية وتخريجها.

(٢) في المخطوطات : عليه‌السلام. وما أثبت أوفق لأسلوب الإمام.

(٣) عن علي عليه‌السلام قال : يا بني إني لا أنهاكم عن الصلاة ، إن لا يعذب على الحسن ، ولكن يعذب على السيئ. أخرجه في أمالي أحمد بن عيسى ، رأب الصدع ١ / ٤٨٦ (٧٧٨).

جميعا ، وقتا للمغرب والعشاء معا ، فبيّن أوقات الصلوات لمن فرضت عليه ، بيانا لا شبهة ولا لبسة فيه.

فوقت الظهر والعصر جميعا ، لمن أراد أن يفردهما أو يجمعهما معا ، من دلوك الشمس إلى غروبها ، إلى أن يظلم أفق السماء ويظهر أحد نجومها ، لذهاب ضوء الشمس وشعاعها ، لا يعتد في ذلك كله بظهور الكواكب الدرية ولا اطلاعها ، فإنه ربما طلع أحدها والشمس ظاهرة لم تغب ، فلا يعمل من تلك الكواكب كلها على ظهور كوكب.

[و] وقت المغرب والعشاء الليل كله ، وزلف الليل فأول الليل وآخره ، كل ذلك وقت لهما جميعا ، من شاء أفردهما ومن شاء جمعهما معا.

ووقت الفجر أجمع ، حتى يظهر قرن الشمس ويطلع ، فهذه أوقات الصلوات ، وما بيّن لها من الأوقات ، لا ما قال به فيها ـ من لم ينصف ، ضعفة الرجال والنساء من كل مكلف ، ـ [و] لها (١) من عسير المقاييس ، وما في ذلك على ضعفة الرجال والنساء من عسير المشقة والتلابيس ، التي لو كلفوا عملها دون الصلاة لفرحوا ، أو مى بهم إليها وفيها لتاهوا وتطرحوا ، منها في عسر عسير ، وحيرة وضيق وحرج كبير ، فقال سبحانه رحمة منه بالمؤمنين : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ) [الحج : ٧٣]. والحرج في كل أمر من الأمور فهو الضيق ، والعسر في الأمور فهو التلبيس والأعاويق.

وزوال الشمس فهو ميلها ، إذا ما استوى ظلها ، فزالت وأنت مستقبل القبلة عن وسط السماء ، فزاد ظلها شرقا قليلا أو كثيرا على مقدار الاستواء. وغسق الليل فهو ما لا يخفى ، على مكفوف بصره أعمى ، وهو سواد الليل وظلمته ، أوّليته في ذلك سواء وآخريّته ، والفجر أوله وآخره فقد يعاين [ويرى] ، فهو بيّن لا يشك فيه ولا يمترى ، وهو ما بين إدبار النجوم ، إلى طلوع الشمس المعلوم ، وكل وقت بين هذه الأوقات ،

__________________

(١) الواو زيادة مني ، ويكون ذلك عطفا على قوله : فيها. والله أعلم بالصواب.

فأبين ما بيّن من البينات ، لا يحتاج فيه إلى مقياس ، (١) ضعيف ولا قوي من الناس ، والحمد لله في ذلك وغيره ، على تخفيفه فيه وتيسيره.

ولكل صلاة من صلاة النهار والليل وقت ، (٢) والصبح فلها الفجر كله ، قلنا وقت موقوت ، وآخر كل وقت كأوله ، وبعضه في أنه وقت ككله ، (٣) لا تفاوت بينه في رضى الله وطاعته ، ولا في ضعف أحد واستطاعته ، وكذلك بلغنا أن بعض آل محمد كان يقول : ما آخر الوقت عندي إلا كأوله. وما القول في الأوقات ـ والله أعلم ـ عندي في الأداء في الفريضة إلا مثل قوله. فأما ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله إن كان صدق عليه فيه (إن أول الوقت رضوان الله ، وآخره عفو الله) ، (٤) فليس على ما يتوهمه من جهل ، أنه عفو عن ذنب عمل ، فكيف وكلهم يزعم أن جبريل ومحمدا صلوات الله عليهما صليا فيه ، وصارا منه ومن فعله إلى ما صارا إليه ، مع أنه لو كان ذنبا لمن فعله ، لمنع المؤمن (٥) منه أهله ، وإنما تأويل العفو منه فيما أمر الله من الوقت تخفيف الله ورحمته ، وذلك فهو أيضا رضى الله ومحبته ، وكل والحمد لله إذ فعله جبريل ورسول الله صلى الله عليهما فرشد ، لا يلام عليه ولا يذم فيه ممن فعله أحد. وهذه الأوقات فإنما هي لمن صلى وحده ، أو كانت عليه أو شغلته من الأمور والأمراض مشغله ، وأما أوقات المساجد لعمارتها ، واجتماع أهلها فيها فآخره ، فما ذكر للظهر من أن يكون ظل كل شيء مثله وما ذكر للعصر من أن يكون الظل مثليه ، وما قبلنا به من هذا فأمر الله محمود بيّن فيه ، (٦) وعلى قدر اختلاف الوقتين والفعلين ، لأن أحدهما عمارة للمساجد ، وذلك فليس كصلاة الواحد ، والفرق في ذلك فبيّن عند من أنصف ولم يحف ، ولم يعتسف ولم ينحرف.

__________________

(١) في المخطوطة : مقاييس. ولعلها تصحفت. وما أثبت اجتهاد.

(٢) لعل هنا سقطا.

(٣) في المخطوطات : كله. وما أثبت اجتهاد.

(٤) أخرجه الترمذي برقم (١٥٧). وانفرد به.

(٥) في المخطوطات : المؤمنين. ولعل الصواب ما أثبت.

(٦) لعل هنا سقطا. فالعبارة غير واضحة المعنى.

وفي عمارة المساجد ما يقول الله سبحانه : (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) [التوبة : ١٨]. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) [الجمعة : ٩]. وغيرنا ـ والله المستعان ـ فقد يقول في الأوقات بغير ما قلنا ، ولا يقبل في ذلك وبيانه عن كتاب الله وتبيانه ما قلنا ، (١) غير أنهم جميعا ، كلهم معا ، إلا من جهل ففحش جهله ، وقلّ عند علمائهم علمه ، يزعمون أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (جمع في الحضر وهو مقيم من غير سفر ، ولغير علة من مرض أو خوف أو مطر ، بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء) ، (٢) فكفى بهذا في الأوقات من نور وضياء.

وقالوا : إنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) قال : (من أدرك ركعة من العصر قبل غروب الشمس فقد أدرك العصر ، ومن أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر) ، (٤) مع إجماعهم على : (الجمع بين الظهر والعصر عند زوال الشمس بعرفة) ، (٥) وإجماعهم على الجمع بين المغرب والعشاء متى شاءوا بالمزدلفة ، (٦) مع أن قول أكثرهم أن من طهر من النساء من طمث أو نفاس قبل غروب الشمس بقدر

__________________

(١) في المخطوطات : ما قلنا. والصواب ما أثبت. أولا لأن الإمام لا يكرر اللفظ الواحد في السجعة ، ثانيا أن سياق كلامه هنا عن القبول.

(٢) عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر والعصر جميعا والمغرب والعشاء جميعا بالمدينة في غير خوف ولا سفر. قال أبو الزبير فسألت سعيدا لم فعل ذلك؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني؟ فقال اراد أن لا يحرج أحدا من أمته. أخرجه مسلم برقم (١١٤٧) ، والترمذي (١٧٢) ، والنسائي (٥٩٧) ، وأبو داود (١٠٢٤) ، وأحمد (١٨٥٢) ، ومالك (٣٠٠).

وأخرج البخاري برقم (٥١٠) و (٥٢٩) و (١١٣) ، عن ابن عباس : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صلى بالمدينة سبعا وثمانيا الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وأخرجه النسائي برقم (٥٨٥).

(٣) سقط من (أ) : وسلم.

(٤) أخرجه البخاري برقم (٥٤٥) ، ومسلم (٩٥٨) ، والترمذي (١٧١) ن والنسائي (٥١١) ، وأبو داود (٣٤٩) ، وابن ماجة (٦٩١) ، وأحمد (٧٢٢٤) ، ومالك (٤) ، والدارمي (١١٩٤).

(٥) أنظر كتاب الإجماع لأبي بكر محمد بن إبراهيم المنذر النيسابوري / ٣٨ ، ٦٤.

(٦) المصدر السابق / ٣٨ ، ٦٥.

صلاة خمس ركعات ، صلت الظهر والعصر فلم أمروها بذلك إن لم يكن ذلك وقتا من الأوقات ، إلا أن يلزموها لو طهرت بعد سنة ما فاتها من الصلوات ، وكذلك يقولون فيما يلزمونها إن طهرت قبل الفجر ، من صلاة المغرب والعشاء ما ألزموها من صلاة الظهر والعصر ، مع ما ذكر عن ابن عباس ، وغيره من علماء الناس ، من أنهم كانوا يقولون : النهار كله وقت لصلاة النهار والليل كله وقت لصلاة الليل ، وفي هذا على بيان ما قلنا ما لا يجهل من عقل من البرهان والدليل ، مع ما ذكروا أيضا عن الرسول صلى الله عليه ، فيما قلنا به من الأوقات وذهبنا إليه ، من أنه : (أخر عليه‌السلام ليلة من الليالي العتمة حتى ذهب من الليل نصفه أو أكثر ، ثم خرج وقد ذهب أكثر الليل وأدبر ، فقال ما أحد ينتظر هذه الصلاة في هذا الوقت غيركم ، فصلاها في تلك الساعة بهم) (١). (وأن الشمس غربت وهو بسرف من طريق مكة فأخر صلاة المغرب والعتمة حتى صلاها ببطن الأبطح) (٢). وبين سرف وبين الأبطح أميال عشرة. فكفى بهذا وغيره ، وما ذكر بعض أصحاب أبي جعفر محمد بن علي أنه كان عنده يوما فزالت الشمس فقام من ساعته فصلى الظهر والعصر ، ثم رآه في يوم من الأيام آخر ، أخرها حتى قيل قد غابت الشمس عن سافل أحد (٣) وهو جبل مطل على المدينة ، إذا غابت الشمس عن أعلاه غابت منها عن كل ناحية عالية أو باطنة ، مع أن (٤) هذا ومثله فما لا نحصيه ، ولا نأتي ـ وإن جهدنا بإحصاء ـ عليه ، فنحمد الله كثيرا على ما منّ به من هذا ، لمن قبل الهدى عنه وآتاه ، ونستغفره لذنوبنا ، ونستتره لعيوبنا ، ونعوذ به من شرور أنفسنا وغيرنا ، ونسأله لهداه حسن تيسيرنا ، وحسبنا الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.

__________________

(١) أخرج الحديث أحمد برقم (١٤٢١٦).

(٢) قال في جامع الأحكام للقرطبي عند تفسير قوله تعالى : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ...). من سورة الإسراء : أخرج الإمام الحافظ أبو محمد عبد الغني بن سعيد من حديث الأجلح بن عبد الله الكندي عن أبي الزبير عن جابر قال : خرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من مكة قريبا من غروب الشمس فلم يصل المغرب حتى أتى رف ، وذلك تسعة أميال.

(٣) لم أقف على هذه الرواية فيما لدي من مصادر الحديث. والفقه.

(٤) في المخطوطات : مع من هذا. ولعلها مصحفة والصواب ما أثبت.

ومن دلائل ما قلنا به في وقت صلاة الليل ، ما دلنا الله سبحانه في سورة المزمل على ذلك من الدليل ، قال تبارك وتعالى لرسوله ، صلى الله عليه و [على] أهله : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) (٨) [المزمل : ١ ـ ٨].

فدل (١) سبحانه فيما نزل من هذه الآيات ، على ما قلنا به من الأوقات ، فيما فرض في الليل من الصلوات.

ودل على ما يجب في الصلاة ، من الذكر والتسبيح والقراءة ، فلا يكون أبدا المزمل إلا مضطجعا أو نائما ، ولا يصلح أن يكون أبدا قاعدا ولا قائما.

والتزمل هو الاستغشاء والتدثر ، (٢) والاضطجاع والنوم ، وقد يكون في أحدهما المتدثر الذي يتزمل ويتدثر ، ولا يكون أبدا إلا أول الليل وآخره ، فجعل ذلك سبحانه كله وقتا لقيامه ولتأخره ، فيه بصلاته واستيفائه إلا الأقل (٣) وهو ما اشتبه منه ، فلم يتبينه من يريد أن يتبينه ، فندري أفي الفجر هو أو في الليل ، فليس لأحد أن يؤخر صلاة ليله إلى مثل ذلك الوقت من التأخير ، لأنه ليس له أن يصلي إلا في وقت بيقين ، وهو ما وضع الله في الوقت من التبيين ، وليس يوجد أبدا وإن جهد وقت صلاة الليل ويبين ، حتى يدركه العلم البتّ واليقين ، إلا سواد الليل وظلمته ، ولذلك ما جعله الله وقتا لهما برحمته. وقال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، : قمه كله ، إلا أقله. فنهاه عن القيام في قليله ، وهو ما قلنا فيه بتفصيله ، عندنا مما الله به أعلم ، وما فهمنا فيه (٤) الفهم ،

__________________

(١) في (ب) : مذكر. مصحفة.

(٢) في (ب) : الذي هو. مصحفة. وفي (ب) : والتدثرة.

(٣) في (أ) واستيفائه الأقل. وفي (ب) : إلا أقل. ولعل الصواب ما لفقت من النسختين. والسياق يدل عليه لأن الله أمره باستيفاء الليل كله إلا الأقل منه. وكلام الإمام بعده يؤكد هذا.

(٤) في المخطوطات : عندنا ما الله أعلم. ولعل ما أثبت هو الصواب والله أعلم. وفي (ب) : فهمنا علمه الفهم.

لا يفهم فيه غيره ، ولا نجد تفسيرا إلا تفسيره.

ثم فصّل ذلك سبحانه بأمره ، فيما قلنا به من مفسّره ، بقوله : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً) (٣). يريد سبحانه قبله ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). يريد سبحانه بعده ، فبيّن سبحانه بقوله : (اللَّيْلَ) ما بين نصفه إلى أوله.

وبقوله : (نِصْفَهُ) (١) بعده ما بين نصفه إلى أقله ، وتأويل : (قُمِ اللَّيْلَ) إنما هو : في أي الليل شيت ، فإنك لم تنه عن الصلاة إلا في أقله كما نهيت ، (٢) كما يقول القائل : قم ظهرا ، وإنما يريد عند الظهر ، وقم لحاجتنا فجرا ، وإنما يريد عند الفجر ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). يقول سبحانه: نصفه أو انقص منه ، وهو ما قبل النصف ، (أَوْ زِدْ عَلَيْهِ). وهو ما بعد النصف ، فبيّن هذا الأوقات كلها ، وكذلك قال في تبيينها ، لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) [المزمل : ٢٠]. وإنما أدنى من ثلثي الليل عند نصفه (٣) وعند ثلثه. كما [لو] قال قائل ـ سوى الله لا شريك له ـ لمن يريد أن يأمره ويستعمله : قم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه. كان إنما يريد قم عند ما أمرتك بالقيام عنده في وقته ، ولا يريد أن يقوم ثلثه قائما على رجليه. وكما [لو] يقول قائل العامل من العمال ، أو أمره في نهاره بعمل من الأعمال : اعمل كذا وكذا نهارا. فعمل ذلك في أي وقت شاء من نهاره ، لكان قد أدى إلى من أمره ما يجب عليه من ائتماره ، غير مقصر فيما [أمر] به من العمل ولا مفرط ، ولا مستوجب في تقديم ولا تأخير فيما أمر به لسخط ، بل هو مؤتمر بما أمر وألزم ، محافظ فيما أمر به على ما قيل وأعلم. فهذا عندنا وجه التأويل ، وفيما فهّمنا عن الكتاب في التنزيل ، لا ما يقول به ـ والحمد لله ـ من لم يفهم فيه ما فهمنا عن الله ، من الاختلاف الكثيرة فأنتبه القليلة ، (٤) والله المستعان بنوره وتبيينه ، من

__________________

(١) في المخطوطات : وبقوله بعده ... وظنن في (أ) ب (نصفه) ، ولعله الصواب.

(٢) سقط من (أ) : كما نهيت.

(٣) في المخطوطات : وعند نصفه ، والصواب حذف الواو. لأن عند نصفه خبر المبتدأ ، لا معطوف عليه.

(٤) العبارة غير واضحة المعنى. ولسوء الحظ أن كلمة فانتبه مهملة في النسخة (أ). والكمبيوتر لا يكتب ـ

أن رب العالمين ، فرض مثل الصلاة الخمس على المؤمنين ، أن يصلوا الليل كله ، إلا ـ زعموا ـ أقله. فمنهم من زعم : أنه إنما فرض عليهم ثلثه ، ومنهم من قال : نصفه ، ومنهم من قال : ثلثيه ، جهلا بحق الله ومخالفة للعلم وادعاء عليه.

و (ناشِئَةَ اللَّيْلِ). فهي : الليل كله ، وهي آخر الليل وأوله ، فكان هذا على ما قلنا أيضا دليلا ، لقول الله سبحانه : (إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً) (٦).

ودل أن صلاة الليل قراءة مجهور بها ، يقول : (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً). والترتيل ، فهو : الجهر والتنفيل ، فأما هذّ القرآن فيها ونثره ، فإنا لا نأمر به ولا نستحسنه ، لما ذكرنا من قول الله سبحانه. وقول رسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (لا تنثروا القراءة نثر الدقل). (١) فنحن لا نأمره بذلك في فريضة ولا تنفل.

والدليل على ما أمر به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أن هذه الصلوات في الليل فرض لا نافلة ، وأنها فريضة من الله واجبة لازمة ، قوله سبحانه : (وَاللهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) [المزمل : ٢٠]. فدل قوله سبحانه أقيموا الصلاة ، وتوكيده فيها ـ جل ثناؤه ـ القراة ، على أن ذلك فرض لا نافلة ، وأن ما أمر الله فيها فريضة لازمة ، إذ لم يذكرها عن رسوله تنفلا ، ولا منه صلوات الله عليه تطوعا ، ولا زيادة على ما يجب

__________________

ـ الكلمة مهملة بغير نقط. ومن سوء الحظ أيضا أنها مقطوعة هي وكلمة (القليلة) من نسخة (ب). ولعلها (من الاختلاف في كثيره وقليله وتعيينه). والله أعلم بالصواب.

(١) أخرجه الآجري في حملة القرآن عن ابن مسعود : لا تنثروه نثر الدقل ، ولا تهذوه هذ الشعر ، قفوا عند عجائبه ، وحركوا به القلوب ، ولا يكون هم أحدكم آخر السورة. الإتقان / ١٠٨.

وعن ابن مسعود قال : إن قوما يقرءونه ينثرونه نثر الدقل لا يجاوز تراقيهم. أخرجه الترمذي برقم ٥٤٧ ، وأحمد برقم ٣٨ ، ٥٦ ، ٣٧٧١ ، ٣٧٦٢.

وعنه أيضا وقد قال له رجل : إني أقرأ المفصل في ركعة. فقال : أهذّا كهذ الشعر ، ونثرا كنثر الدقل.

أخرجه أبو داود ١١٨٨ ، والنسائي ٩٩٥ ، والبخاري ٧٣٣ ، ٤٦٥٥ ، بلفظ أهذّا كهذ الشعر فقط.

والدقل : التمر الرديء اليابس.

ويحق فرضا من الصلاة عليه ، كما ذكر النافلة وما جعل له بها وفيها من القربة إليه ، فقال سبحانه : (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (٧٩) [الإسراء : ٧٩]. فجعل تبارك وتعالى بين أمره بالفريضة والنافلة والإباحة فصولا بينة وحدودا.

فإن قال قائل فأين الأمر بالإباحة ، التي قلتم والفصل بين الأمور الثلاثة؟

قيل له : قول الله تبارك وتعالى : (وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا) [المائدة : ٢]. فهذا هو الإباحة والتوسعة ، لا من الفرائض والنوافل المتطوعة.

[الطهارات]

وبعد الذي قلنا به من الأوقات ، القول ـ ولا قوة إلا بالله ـ في الطهارات ، فبيان ذلك والحمد لله عن كتاب الله بيان ليس فيه التباس ولا أفانين كما فننوها كثيرة ، (١) لا يعرض فيها ـ لمن أنصف من نفسه ـ غلط ، ولا تجور بقسط ما حكم الله منها فرط ، بل قصدها قريب منير ، وأمرها كلها خفيف يسير ، لا يعسر شيء منها على مكلف ، ولا يدخلها شيء من التقصير ولا السرف.

فهي خمس طهارات : أصول النفاس والطمث والاجتناب ، فواحدة وهي الغسل بالماء أو التيمم بطيب التراب ، فأي ذلك الماء اغتسل به المغتسل كله ، فقد طهّره ـ من نفاس كان أو طمث أو اجتناب ـ غسله.

[حد الماء المطهّر]

كثر ما تطهّر به من الماء أو قل ، إن (٢) وقع عليه اسم تطهّر أو اغتسل ، فلا نجد في

__________________

(١) لعل هنا سقطا

(٢) في (ب) : إذا.

ذلك من الماء حدا محدودا ، ولا نوجب عليه عددا معدودا ، لأن الله جل ثناؤه لم يحد في ذلك حدا فنحده ، ولم يوجب عليه من العدد عددا معلوما فنعده ، ولم (١) يجعل لمن اغتسل أنه يقصر عنه ، وأن ينقص في طهارته شيئا منه ، وإنما جعلناه كذلك لأن الله سبحانه قال : (وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء : ٤٣]. وقال : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) [المائدة : ٦] ، ولم يقل قولا وأكثروا ، فاقتصرنا من ذلك على ما اقتصر ، وقلنا لمن وجب عليه الغسل اغتسل وتطهّر ، وكذلك قلنا لمن طمث من النساء ، وقلنا من بعدهن للنفساء. لأن أقل حكمها ، فيما تريق من دمها ، أن الحيض منها والطمث ، لا يقول بخلاف ذلك إلا جاهل عبث ، لأن الله سبحانه قال فيهن ، وفيما حكم من الغسل عليهن : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) (٢٢٢) [البقرة : ٢٢٢].

والاجتناب فهو ما لا يجهل ـ والحمد لله ـ من الانزال والامناء ، فمتى صار إلى ذلك صائر فهو جنب باحتلام كان ذلك أو بمداناة النساء.

وعلى كل مغتسل من هؤلاء يغتسل ، من الوضوء معه مثل الذي كان قبل الاغتسال يفعل ، لا يزيل عنه فرض الوضوء كما فرض الغسل ، فهما (٢) واجبان على كل من اغتسل.

[التيمم]

فمن لم يجد ممن سمينا ماء يطهره ، تيمم صعيدا طيبا لا يستقذره ، فيمسح بوجهه ، ويديه منه ، وكان مجزيا من ذلك أن يضرب بباطن يديه على الصعيد حتى يلصقا بترابه لصقا ، ثم ينفضهما مصفوفتين نفضا رقيقا ، ثم يمسح بهما وجهه ولحيته وعنفقته وشاربه معا ، ويتبع بالمسح من وجهه أماكن الوضوء أولا ، ثم يضرب بيديه على الصعيد ضربة أخرى ، ثم يعمل في بعضهما مثل ما كان عمل بهما ، ثم يمسح بيسرى يديه على يمناهما ،

__________________

(١) في (ب) : ولا.

(٢) في (أ) و (ج) : فيهما. مصحفة.

ويمسح بيمنى يديه على يسراهما ، ويمسح كل واحدة من يديه إلى المرافق ، فهو أحب إليّ لقول الله في غسلهما : (إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، وإنما جعل التراب لهما ، بدلا من غسلهما ، فيستحب أن ينتهي إلى منتهى الماء منهما ، ولا يقصر بالتراب كما لا يقصر بالماء (١) عنهما ، وإن اقتصر مقتصر على المسح على اليدين إلى الرسغين ، أجزأه إن شاء الله لأن الله جل ثناؤه لم يحدد التيمم للذراعين ، كما حدد ـ تنزيلا ـ الغسل إلى المرفقين ، إلا أن مسحهما كما قلنا عندنا أحوط ، وأبعد أن يكون فيه لمحتفظ متنعم (٢) أو مسخط.

وأما الوضوء وما قيل به من تحديده ، فلست أقول به ولا بشيء من تعديده ، لأن الله تبارك وتعالى لم يحد منه عند أمره ما حدوا ، (٣) ولم يجعل له في منزل كتابه من العدد ما عدوا ، بل قرّب فيه سبحانه السبيل البيّن اللائح ، وأقام به لمن كلفه إياه الدليل المنير الواضح ، فلم يلبسه بضروب التفنين ، بل أناره سبحانه بمعلوم من التبيين ، فقال سبحانه : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦]. فقال سبحانه اغسلوا ، ولم يقل أكثروا وأقلوا ، وكان فيما قال من ذلك أكفى الكفاية لنا ، ولأولئك ولمن مضى قبلنا ، الغسل مرة أو مرتين ، (٤) اكتفاء منه سبحانه لنا ولهم بالتبيين ، فمتى ما اغتسلنا ، أكثرنا أو أقللنا ، فقد ـ بمنّ الله ـ ورحمته أدينا ، ما أوجب من الغسل علينا.

[مسح الرأس]

ومتى ما مسحنا كل رءوسنا ، فقد أدينا مسحها بيقين من نفوسنا ، ولا يعارضنا

__________________

(١) في (أ) و (ب) : منهم. وأشار في (أ) : إلى نسخة أخرى ب (منهما). وفي (أ) : ولا يقتصر. في الموضعين. وفي (أ) : بالتراب. وهو خطأ واضح.

(٢) هكذا في (أ) و (ب). وقد شكل على الكلمتين في (أ). ولم يتبين لي المراد منهما.

(٣) في (أ) و (ب) : ما حد. والزيادة مني اجتهاد.

(٤) في المخطوط : مرة ولا مرتين. وما أثبت اجتهاد.

فيه شك ولا مرية ، ولا تدخل علينا فيه شبهة معشية ، ومن مسح مقدم رأسه واحدة ، فقد ثبت بأيقن اليقين عنده ، أنه إنما مسح من رأسه بعضه ، فهو لا يأمن أن يكون لم يؤد لله فيه فرضه ، لأن بعض الرأس ليس بالرأس ، كما بعض الناس ليس بالناس ، وكذلك بعضك ليس بكلك ، وكذلك ليس [كلك] ببعضك ، وإنما قال الله لا شريك له : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) ، كما قال : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، وإن جاز مسح بعض الرأس ، جاز غسل بعض الوجه للناس ، وكان من غسل بعض وجهه فقد غسل وجهه ، كما كان من مسح بعض رأسه فقد مسحه ، وهذا من القول فقد يستبين فحشه وقبحه من وهبه الله رشده ، وعرف حكمه فعمده.

[حوار مع القائلين بمسح القدمين]

فأما ما قيل به في مسح القدمين ، فردّ لما في كتاب الله المبين ، وكيف نغسل ، عند من يعقل ، الوجه والذراعين للتطهير ، ونترك الرجلين وهما أقرب إلى الوسخ والأقاذير؟! إن في هذا من الضعف والاختلاف ، لأضعف الضعف وأسرف الاسراف!! وما يجهل هذا والحمد لله ، إلا من خزي وبعد من الله.

وقلنا لمن قال من الرافضة بمسح القدمين : من أين قلتم في هذا بخلاف جماعة ولد الحسن والحسين ، صلوات الله عليهما؟

فإن (١) قالوا : لأنه قالت به الأئمة منهم ، وهم الذين يلزم القبول عنهم.

قلنا فأعطتكم الأئمة من ذلك ما لم تعط أبناءها ، وحملتكم من هدى الله فيه ما لم تحمّله أقرباؤها؟ فوصلت بذلك منكم البعيد الغريب ، وقطعت من أرحامها القريب الحبيب ، وقد قال الله لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) (٢١٤) [الشعراء : ٢١٤] ، فخصهم بإنذاره منهم دون المؤمنين ، وسماهم جل ثناؤه دونهم الأقربين ، وكان لهم بعد من النذارة ما لغيرهم ، فاشتركوا هم وهم في رسولهم ونذيرهم ،

__________________

(١) سقط من (ب) : فإن.

ولرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ما يقول : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها) [طه : ١٢٦]. والصلاة فإنما هي صلاة بما جعل الله من الطهور ، وأنتم فإنما قلتم بالمسح وقلتم منه بما قلتم ، سماعا من أئمتكم زعمتم ، فبالسماع علمتم منه ما علمتم ، وما في أيدينا من السماع ، أكثر من أهل الفرقة والاجتماع ، من أسود وأحمر ، ومتطهر وغير متطهر ، عن الرسول صلى الله عليه ، (١) خلاف ما أنتم من المسح فيه ، وأئمتكم فمختلف فيها ، وغير مجتمع آل محمد صلى الله عليه وعليهم (٢) أحد منها ، وممن قبل عنها ، ما يقروا ويبدوا (٣) إن كانوا صادقين فيه ، وبترك (٤) ما اجتمع فيه المختلفون جميعا كلهم عن رسول الله صلى الله عليه ، إنهم إذا أولى بالرسالة منه ، لمن قبل عنهم ولم يقبل عنه (٥).

فإن قالوا أخذنا عن الله وكتابه ، لأنه قال : (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) [المائدة : ٦]. فألحق الأرجل بالرءوس في المسح لحقا ، وجعلهما لها (٦) في المسح نسقا.

قلنا فبيننا وبينكم ما تلوتم من الآية ، ففيها لنا ولكم من التبيان أكفى الكفاية ، أليس إنما ذكر الله الرءوس بالباء ، فقال : (بِرُؤُسِكُمْ) ، وذكر الأرجل بالواو بالغسل في النسق ، فأنسقوا الأرجل بالوجوه والأيدي في اللحوق ، والأرجل بالوجوه والأيدي في الواو أحق نسوقا ، فيهما وأولى في النسق بهما لحوقا ، ولو كان النسق للأرجل بالرءوس لكان (وَأَرْجُلَكُمْ) كما قيل (بِرُؤُسِكُمْ) (٧).

وكفى بهذا بيانا ـ إن أنصفتم ـ لكم ، ودفعا ـ والحمد لله ـ لقولكم ، وألحقوا

__________________

(١) في (أ) : عليه وآله. وفي (ج) : عليه وسلم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) سقط من (ب) : وعليهم.

(٣) في (ج) : ونبدوا. لعلها مصحفة.

(٤) هي مهملة في جميع المخطوطات.

(٥) في هذه العبارات خلل وسقط ، لم يتضح منها المقصود للإمام.

(٦) في المخطوطات : لهما. والصواب ما أثبت. لأن الضمير عائد على الرءوس. والنسق : العطف.

(٧) يعني : بإعادة الخافض وهو الباء.

ذوات الواو بذوات الواو وأقروا ذات الباء إذا كانت واحدة فردا ، فكفى بهذا لما قلتم ردا إن قبلتم فيه رشدا أو هدى ، وقد وضعنا كتابا كبيرا في الطهارة (١) كلها واستقصينا فيه ، بما يكفيه ، كفانا الله وإياكم بالحق كافية ، وألبسنا وإياكم لباس عافية (٢).

[باب الوضوء]

فإذا زالت الشمس ومالت ، فضربت الظلال شرقا وطالت ، (٣) فقل الحمد لله الذي أزال الشمس بعد استواء واعتدال ، وجعل لها وفيها ما جعل (٤) من مختلف الظلال. ثم توضأ بعد الزوال متى شيت ، وفي أي وقت الصلاة هويت ، ولا تتوضأ أبدا قبلها ، ولكن إذا أردت أن تقوم لها ، فعند ذلك فتوضأ ، وإنما تأويل الوضوء أن يتنقى ، إلا أن يكون متوجها لها وإليها ، ويريد القعود انتظارا أو محافظة (٥) عليها ، أو يريد صلاة نافلة قبلها ، فيجوز الوضوء لديها وبالانتظار لها ، فأما إن تشاغلت بعد الوضوء عنها بشغل من الأشغال ، أو بعمل ما كان ليس لها من الأعمال ، فلسنا نحب ذلك لك ، ولا أن تخلط الشغل بما يشغلك.

وتبدأ ـ إن شاء الله ـ وضوءك بالماء ، بالإفراغ على يدك اليمنى من الإناء ، فإذا غسلت اليمنى ، فأفرغ بها على اليسرى ، فأنق بها ما أقبل وأدبر من دنس ، ثم أنق من كل دنس أو درن يسراك ، واغسل وجهك كله بها مع يمناك ، واغسل بهما لحيتك وعنفقتك وشاربك ، وأبدأ بالمضمضة والاستنشاق ، ولا تلتفت إلى ما في أيديهم فيهما

__________________

(١) حسرة على هذا الكتاب وأمثاله من كتب الإمام المفقودة. فإنا لم نقف من كتابه المذكور إلا على وريقات سبقت ، ولعل الله أن يمن به وبأمثاله. راجين ممن لديه شيء من ذلك أن يوافينا به أو لديه علم بموضعهما ، والله أسأل أن يكتب ثوابه.

(٢) في المخطوط : عافيته. وما أثبت اجتهاد.

(٣) في (ب) و (ج) : فضرب. وفي (ب) و (ج) : أو طالت.

(٤) سقط من (ب) : لها وبها ما جعل.

(٥) في (ب) : ومحافظه.

من الأخبار ، (١) فإنه زور ، وباطل وغرور ، لأن في ذلك من الأنف والفم والمنخرين ، وغيرهما من اللحية والعنفقة والشاربين ، من الوجه وأقسامه ، فحكمهن كلهن في الغسل كأحكامه ، يلزمهن كلهن من الغسل ما لزمه ، إذ جعلهن الله كلهن منه ، فمن ترك منهن كلهن شيا ، لم يكن وضوءه له في صلاة مجزيا ، وكان عليه الإعادة لكل صلاة صلاها ، كما عليه الإعادة لو ترك ناحية من ذراعه فتعداها.

فإذا فرغت من وجهك كله ، وغسل ما أمرك الله به من غسله ، فاغسل يمنى يديك إلى المرفق بيسراهما ، ثم يسرى يديك بيمناهما ، فإذا فرغت من غسل يديك فامسح بيمنى [ويسرى يديك] ، رأسك كله وأذنيك ، ما أقبل منهما وما أدبر ، كما يحلق في الحج ما عليهما من الشعر ، ولأنهما من الرأس حلق ما عليهما من شعرهما ، وكذلك هما فيما هما عليه من المسح كأحكامه ، يلزمهما من المسح ما لزمه ، ولذلك جعلنا أحكامهما حكمه.

وبعد فإذا فرغت من مسح الرأس والأذنين ، فاغسل بعد ذلك القدمين ، تبدأ بيمناهما قبل يسراهما ، غسلا سابغا يستقصى به انقاؤهما ، فإن الله أمر بذلك فيهما ، وحكم بالغسل عليهما ، لقوله سبحانه : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) [المائدة : ٦] ، فاغسلوها ، (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [المائدة : ٦] فاغسلوها ، فألحقهما بالوجه واليدين في النسق ، وتابع بينهن كلهن جميعا في نسقهن باللّحاق ، ليس بين ذلك كله فرق في فهم ولا تفسير ، إلا ما في اللسان العربي من التقديم والتأخير. فتأويل : (إِلَى الْمَرافِقِ) ، و (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، فيما جعل الله في اللسان العربي من التبيين ، كقول القائل : وحتى الكعبين ، كما يقول القائل خرجت إلى الكوفة يريد دخلتها ، وصرت إلى مكة ، يعني دخلتها ، فهذه حدود الوضوء ، لكل طرف وعضو ، ليس لأحد من الخلق كلهم أن ينتقصها ، بعد الذي بيّنها الله به من أمرها وخصها ، ومن انتقص من حدودها شيئا ، لم يكن شيئا من وضوءه له في صلاته مجزيا ، ومن قدم منها مؤخرا ، أو أخّر من حدودها مقدما ، لم تجزه طهارته ، ولزمه إذا لم يضع كل شيء منها موضعه إعادته.

__________________

(١) يعني : من أن المضمضة والاستنشاق ليسا بواجبين في الوضوء.

[أذكار وأدعية الوضوء والصلاة]

وسنقول إن شاء الله بعد الذي حددنا في الوضوء والصلاة ، ما يستحب أن يقال به من الذكر والتسبيح والأبواب المسماة.

يستحب أن يقال إذا أخذ في الوضوء وابتدائه ، وقبل أن يدخل في شيء من قسمه وأجزائه : باسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله ، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فإذا فرغت من الوضوء كله ، ومن غسل ما أمر الله بغسله ، فقل : الله أكبر كبيرا ، اللهم لك الحمد فيما هديت من هذا إليه ، وفيما قويتنا من هذا برحمتك عليه ، اللهم اجعلني من التوابين المتطهرين إنك رءوف رحيم.

فإذا قمت إن شاء الله للصلاة ، قلت في الافتتاح لها قبل التكبير والقراءة : الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل. فإذا فرغت إن شاء الله من هذا الافتتاح ، لكل صلاة تصليها من صلوات النهار والليل والاصباح ، كبّرت ساعة ابتدأت في مكانك ، وقرأت حينئذ ما تيسر من قرآنك ، غير محدود لك في شيء من القرآن بحد ، ولا مقصود بك عن سورة كلها إلى قصد ، لقول الله جل ثناؤه [في البيان ، (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) [المزمل : ٢٠] (١).

وما قلنا به منه ، فإنما أخذناه من الكتاب وقلنا عنه ، لقول الله جل ثناؤه فيه ، عند دلالته برحمته وفضله عليه ، عند ذكره تبارك وتعالى وما أمر به فيها ، من الافتتاح والتكبير قبل القراءة التي أمر الانسان بها : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً) (١١١) [الإسراء : ١١٠ ـ ١١١]. فأمره سبحانه كما ترى ، إذا قام للصلاة وانتصب قبل أن يقرأ ، أن يقول بافتتاحه لصلاته ، وما استدللنا عليه بتبيينه ودلالته ، ثم أمره بالتكبير ودلالاته. فإذا فرغ من قول ما ذكرنا في الافتتاح ، وكان [في] ذلك ـ إن شاء الله ـ لمن تفهمه أوضح

__________________

(١) ما بين المركنين اجتهاد مني ولعله الصواب ، وإنما سقط سهوا من النساخ.

الايضاح ، لأن الله سبحانه قال لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله. قل ثم كبّر ، (١) فالأمر بالقول قبل أن يكبر ، فإذا كبّر فحينئذ دخل في الصلاة ، وفيما أمر من القراءة ، والافتتاح كما ترى قبل التكبير ، ثم القراءة بعد بما تيسر من التنزيل ، فإذا قرأ من القرآن في صلاته بقليل أو كثير ، بعد الافتتاح وما بعده من التكبير ، فقد أدى ما أمر به من القراءة ، قل أو كثر في الصلاة.

ومن لم يفتتح ويكبر ، ويقرأ ما تيسر من القرآن فقد قصر فيما أمر ، وعليه أن يعود حتى يأتمر لله في ذلك كله بأمره ، ويصير فيه أجمع إلى ما أمر الله به ، والحمد لله الذي به هدى من اهتدى ، ونسأل الله أن يوفقنا وإياك لما اختلف فيه من الهدى ، وحسبنا الله وبدلائله من كل دليل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

[السكون والخشوع في الصلاة]

وعلى من ائتمر في الصلاة لله بأمر [ه] ، تسكين أطرافه وخفض بصره ، وترك الالتفات فيها والتلعب ، (٢) والخشوع فيما هو فيه بها من القيام والتّنصّب ، (٣) فإنه منتصب فيها بين يدي الله فعليه فيها الخشوع والتذلل والترتيل فيها جهده بالقراءة ، فإنه بلغني أن الله سبحانه قال لموسى في التوراة : (يا موسى قم بين يدي مقام العبد الذليل ، يا موسى إذا قرأت التوراة فاقرأها بصوت حزين). (٤) جعلنا الله وإياك من المطيعين ، وفيما أمرنا وإياك به من الصلاة له من الخاشعين ، فإنه يقول سبحانه : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) (٤٣) [البقرة : ٤٣]. ويقول سبحانه : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ) (٤٥) [البقرة : ٤٥].

__________________

(١) في المخطوطات : ثم كبّره. ولعل الصواب حذف الضمير.

(٢) في المخطوطتين : والتلفت. وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المحطوطتين : والمنتصب. وما أثبت اجتهاد.

(٤) لم أقف على هذه الرواية في التوراة.

[شروط الإمام]

وعلى كل مؤمن صلى ، أن لا يصلي مع من لا يتولى ، ولا يتخذه في صلاته له سترا ، لأن الله لم يجعل له زكاة ولا طهرا ، (١) وليس لأحد أن يستتر بغير طاهر ، من كل ما يستتر به ساتر ، وإذا فسد أن يصلي للدنس والنجس إلى قبلة أو حجر ، فكيف يجوز أن يصلي خلف ظالم أو فاجر؟! وهو أدنس من القبلة والحجر دنسا! وأنجس مما نجس نجسا ، وكيف يؤتم ويقدم ، من يتعدى ويفجر ويظلم؟ وهو عند الله مهان ملعون ، ولله بتعدّيه وظلمه عدو مبين ، والتقدمة والإمامة ، تشريف وكرامة ، وصلاته ووضوءه وطهارته غير مقبولة ، والمغفرة من الله بجرمه ما أقام عليه غير مأمولة ، لأنه يقول سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) [المائدة : ٢٧] ، وإذا لم يتقبل منه وضوءه فليس من المتطهرين.

وإذا لم يكن متطهرا ولا زكيا نقيا ، فليس لأحد أن يصلي معه ولا يكون [به] في صلاته مقتديا ، وقد وضعنا لهذا في كتاب الطهارة ، حججا فيها منه بيان وإثارة ، وفيه إن شاء الله ما شفى وكفى ، لمن كان للحق من نفسه منصفا (٢).

وفي القيام في الأمر المفروض الصلوات ، لا فيما يتقرب به إلى الله من النوافل المتطوعات ، ما يقول جل ثناؤه ، وتباركت بقدسه أسماؤه : (فَإِذا أَمِنْتُمْ) [البقرة : ٢٣٩]. (٣) يعني : سبحانه : من الخوف فكنتم آمنين : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) (٢٣٨) [البقرة : ٢٣٨]. وفي الافتتاح للصلاة والتكبير ، وفي التخفيت من المخافتة بالصلاة والتجهير ، بعد افتتاحها وتكبيرتها الأولى ، ما يقول فيها سبحانه لمن صلى : (وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً) (١١٠) [الإسراء : ١١٠]. يقول سبحانه اطلب من القول بين الإخفات والجهر قبيلا ، فأمر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه في الصلاة ، بالواسط بين الجهر والاخفات من القراءة ،

__________________

(١) في المخطوطتين : ولا طهارة. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) قد سبق للإمام أيضا أن ذكر كتاب الطهارة وعسى الله أن يمن به كاملا.

(٣) الآية المشار إليها قوله سبحانه بعد قوله (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ) ـ ... إلخ ـ (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ).

اختيارا منه سبحانه في الأشياء للأوساط ، على التقصير فيها والإفراط ، لأن الاخفات فيها شبيه بالسر والضمير المكتوم ، والاجهار الفاحش من الأصوات شبيه بالتنكير المذموم.

ألا تسمع لما ذكر الله سبحانه من قصص حكمة لقمان ، وما نزل الله لرضاه بها منها في منزل القرآن ، إذ يقول لابنه ، فيما يأمره به : (وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ) (١٢) [لقمان : ١٢]. فلما كان رفع الصوت في غير الصلاة من التنكير ، كان في الصلاة أفحش وأنكر ، وفيما أمر الله به منها أكبر.

وفي ركوع الصلاة وسجودها ، بعد الذي قدمناه من حدودها ، ما يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (٧٧) [الحج : ٧٧].

وفيما قلنا من تسكين الأطراف فيها ، وما أمر الله به من الخشوع والإقبال عليها ، ما يقول سبحانه : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ) (٢) [المؤمنون : ١ ـ ٢]. ومن يشك في أن من الخشوع في الصلاة تسكين العيون وغضها؟ وكذلك تسكين الأيدي وحفظها ، فذلك من الخشوع فيها ، ومن الإقبال عليها ، وما قلنا في ذلك ومن دلائله ، ما ذكر عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله ، من أنه قال : (ما بال رجال يرفعون أيديهم إلى السماء في الصلاة كأنها أذناب خيل شمس ، لئن لم ينتهوا ليفعلن الله بهم وليفعلن) ، (١) لا يجهل ذلك من رواتهم إلا متجاهل. فأمر الصلاة كلها والحمد لله ، سكون وخشوع لله.

ثم قال تبارك وتعالى في تسبيح ركوعها ، بعد الذي بيّنه وفصّله من أمر خشوعها ، أمرا منه بيّنا ، وحكما متقنا ، (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٧٤) [الواقعة : ٧٤ ، ٩٦ ، الحاقة : ٥٢]. فوقّفنا سبحانه من التسبيح على صراط مستقيم. ثم قال سبحانه في تسبيح السجود ، بقول ظاهر بيّن محدود : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (١) [الأعلى : ١] ، دلالة

__________________

(١) رواه الإمام الهادي في الأحكام ١ / ٩٢. وأخرجه المؤيد بالله في شرح التجريد (مخطوط) ، ومسلم (٦٥١) ، وأبو داود (١٤٨) ، والنسائي (٣٢٧) و (٩٩٨) ، وأحمد (٢٠١١٩).

منه لكل من صلى ، على ما يقول عند الركوع والسجود في صلاته ، رحمة منه وتخييرا وتوفيقا لهم بدلالته ، فيسبح للركوع سبحان الله العظيم ، القليل من التسبيح بذلك في الأداء كالكثير ، فمن زاد واستكثر فقد استكثر من الخير ، وله في الاكثار منه بإكثاره الثواب الكثير ، ومن اقتصر وأقل ، كان مؤديا لما حمّل ، من التسبيح لله في صلاته ، ومستدلا عن الله فيه بدلالاته. وتسبيح السجود بعد الركوع : فسبحان الله الأعلى ، فمن سبح بذلك في سجوده أجزأه مكثرا أو مقلا.

فإن قال قائل : قال الله : (سَبِّحِ) ولم يقل في صلاتك ، وهذا غير ما استدللت به من دلالاتك؟!

قيل : فلا يخلو هذا من أن يكون أمر به في الفريضة أو النافلة ، لما فيه من ذكر الله بهذه المقالة ، لما فيها لقائلها من الفضل المبين ، ففي ذلك ما قلنا أدل الدلائل باليقين ، إن كان في النافلة يقال ما تدرك به وتنال؟ ولما فيه من ذكر الله ذي الجلال ، وكان تسبيحه بذلك للنافلة من الاكبار له والاعظام ، فالفريضة الواجبة أولى ، إذا كان ذكر الله بها أفضل فضلا ، وكانت الصلاة إنما فرضت لذكره ، ولما فيها من إجلال أمره ، وقد قال الله في الصلوات نفسها ، وما جعله الله من ذكره بها : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ) [النساء : ١٠٣]. فأمر سبحانه بذكره بعدها ، كما أمر بذكره فيها ومعها. وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢] ، فكفى بهذا وبغيره من أمثاله في كتاب الله على ما قلنا دليلا ، والحمد لله كثيرا ، على ما نوّر من أموره تنويرا.

فأما ما يذكر عن عمر من أنه كان يقول : سبحان ربي العظيم الأعلى ، فلست أرى ـ والله أسأل التوفيق ـ أن يسبّح به (١) من صلى ، لأنه قد يقول مثل هذا ويفعله ، من يجحد الاسلام ويعطله ، ممن يثبت مع الله إلها آخر ، وإلهين وأكثر ، ثم يزعم أن الله لا شريك له أعظم وأكبر من الخلق من الشركاء ، فيقول : ربي الأعظم الأعلى ، هو الذي

__________________

(١) في المخطوطتين : بربه. ولعله تصحيف وما أثبت أولى.

خلق الأرض والسماء ، وهو إلهنا الأكبر الذي لا يرى ، ولنا آلهة سواه أخرى ، لا تخلق شيئا ولا تنسى ، كما يخلق ربنا الأعلى ، وإنما نعبدهم معه ، لنتقرب بعبادتهم عنده ، وليكونوا شفعاء ، في حياتنا هذه الدنيا ، ولا يوقنون ببعث ولا حساب ، ولا بمرجع إلى عقاب ولا ثواب ، كما قال جل ثناؤه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) [لقمان : ٢٥ ، الزمر : ٣٨]. وقال سبحانه لرسوله : (قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ) (٣٨) [الزمر : ٣٨]. وقال : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [الزمر : ٣].

وأما التكبير في كل ركوع وسجود ، قبل ما سنذكره إن شاء الله من التشهد ، (١) فتقول كلما ركعت ، أو خفضت أو رفعت : الله أكبر ، فإذا أنت كبّرت وقلّلت بعد أو كثّرت ، فقد أديت في التكبير ما [به] أمرت ، وذلك فهو ـ إن شاء الله ـ من الخشوع ، إلا في رفعك لرأسك ـ ولا قوة إلا بالله ـ من الركوع ، فإنك تقول : سمع الله لمن حمده ، وتأويلها : قبل الله ممن شكره فعبده.

وأما ما جاء في التشهد والذكر والدعاء ، من القعود في كل ركعتين من الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وما يلزم كل مصل في صلاته من القعود ، بعد الفراغ من كل ما فيها من السجود ، فمن دلائل ذلك وعلمه ، وما دل الله به عليه من حكمه ، قوله سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيمن كذب بها وتولى : (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى) (١٠) [العلق : ٩ ـ ١٠]. ثم قص ـ سبحانه ـ من ذكره ، وما وعد من النكال في خلافه لأمره ، فيما نزل في هذه السورة من وحيه ، وما ذكر سبحانه عن الصلاة من نهيه ، ثم قال سبحانه لرسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله : (كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) (CS () ٩١ (] العلق : ١٩]. وقال تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨) [الشرح : ٧ ـ ٨]. فمن الاقتراب ، والرغبة والانتصاب ، القعود بعد الفراغ في كل صلاة ، للطلب إلى الله والرغب والمناجاة ، ومن ذلك ما جاء

__________________

(١) لعل هنا سقطا.

من التشهد ، وهي الشهادة لله بالتوحيد من كل موحّد ، والشهادة للرسول صلى الله عليه ، بما جعل الله من الرسالة فيه ، والذكر بعد لله بما حضر ، والدعاء لله بما تهيأ وتيسر ، فأي ذلك مما قال به قائل ، أو سأل الله به في صلاته سائل ، أدى ما يلزمه ويجب ، ونقول ـ إن شاء الله ـ في ذلك بما يستحب ، مما ذكر عمن مضى ، وكل ذلك وإن اختلف فيه فهو لله رضى.

فمن ذلك ما جاء (١) عن زيد بن علي صلوات الله عليه ، وأيضا ما ذكره عن علي ابن أبي طالب صلوات الله عليه ، بسم الله وبالله ، والحمد لله ، والأسماء الحسنى كلها لله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، (٢) ثم الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله ، بما يمكن ، ويحضر مما يستحسن ، من قول كريم ، أو ثناء أو تعظيم.

والتشهد والذكر في كل ركعتين من كل صلاة ، كالتشهد والذكر عند الفراغ من جميع حدودها المسماة ، من القيام والافتتاح والتكبير والاقتراء (٣) والركوع ، والتسبيح وذكر الله والخشوع ، وإذا أمر الله بالذكر والدعاء في غير الصلاة ووكّده ، فأمره سبحانه بذلك في الصلاة أقرب إليه وأوكد عنده (٤).

وفي الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ما يقول تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (٤٢) [الأحزاب : ٤١ ـ ٤٢]. ويقول سبحانه : (قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها) [الإسراء : ١١٠]. ويقول سبحانه لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله :.

وفيما يقول تبارك وتعالى في الجلوس والمقعد ، بعد الصلاة للذكر والتشهد : (فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللهَ قِياماً وَقُعُوداً) [النساء : ١٠٣] ، فأمرهم بذكره

__________________

(١) في المخطوطتين : ما جاء به. لعلها زيادة.

(٢) تشهد الإمام زيد في مجموعه / ١٠٧ ، وفي آمالي أحمد بن عيسى رأب الصدع ١ / ٣١١ (٤٦٧).

(٣) يعني : القراءة.

(٤) في المخطوطتين : وأوكد عنده ، في الذكر والدعاء ، ويبدو أنها زيادة سهو من النساخ.

في القعود كما أمرهم إذا كانوا ركعا وسجودا ، وفرض الصلاة الأول فإنما كان ركعتين بما كان فيهما من القيام والركوع والسجود ، فأقر فرضهما كله على ما كان عليه من الركوع والسجود والقعود ، وزيد فيها ، ومنها وعليها ، في كل أربع ركعتين آخرتين ، ولذلك لزم القعود في كل ركعتين. وسنذكر ـ إن شاء الله ـ التشهد للآخرتين ، فيما جاء عن النبي صلى الله عليه ، من القول عنده وبه وفيه.

باب التقصير

وقلنا : تقصر الصلاة للمسافر ، من كل بر وفاجر ، لأن فرضهما المقدم كان في السفر والحضر على ركعتين ، وقبلنا ذلك وأخذنا به لما فهمناه منه عن كتاب الله المبين ، ولم نأخذ ذلك عن روايتهم ، وإن كانوا قد رووه ، ولم نقبله عنهم ـ والحمد لله ـ وإن رأوه ، قال الله لا شريك له فيما قلنا فيه من ذلك بعينه ، وفيما فهمنا عن الله بالكتاب من تبيينه ، فيه نفسه لرسوله ، صلى الله عليه وأهله : (وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ) ـ والضرب هو : المسافرة إليها ـ (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً) (١٠١) [النساء : ١٠١] ، فأبان في هذه الآية نفسها قصرها في السفر تبيينا ، ودل على أن فرضها فيه ركعتان ، وأنهما عليهم كلما ضربوا في الأرض ثابتتان ، قصرها في هذه الآية إنما هو تنصيفها إذا كانوا في حرب مع الإمام ، أو مجمّعين جميعا منه في مقام ، ألا تسمع كيف يقول تبارك وتعالى لرسوله ، صلى الله عليه وعلى آله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا ...) [النساء : ١٠٢]. يقول سبحانه : فإذا أتموا ركعة وسجدوها ، فلتأت الطائفة الأخرى التي لم تصل فلتصل معك الركعة الثانية بعدها ، وكل طائفة من الطائفتين فقد قصرت صلاتها عن أن تتمها ، إذ (١) لم تصل مع الرسول صلى الله عليه إلا بعضها ، فهذا هو التقصير

__________________

(١) في المخطوطتين : إذا. وما أثبت اجتهاد.

لما (١) لم يكونوا يقصرون ، فإذا أمنوا أتموا مع الإمام ركعتين ركعتين كما كانوا يتمون. وفي ذلك ما يقول سبحانه : (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) (٢٣٩) [البقرة : ٢٣٩]. يقول سبحانه أتموا مع رسولكم إذا أمنتم ولا تقصروا ، فالاتمام بالإمام هو ما به أمروا ، فكانت صلاتهم الظهر والعصر ركعتين كما ترى في السفر ، وكان الأمر على ما قلنا في الإمامة من القصر ، وأقرت الصلاة على ركعتين في السفر ، وزيد عليها فأتمت أربعا (٢) في الحضر ، فليس لفاجر ولا بر ، سافر في خير أو شر ، (٣) أن يزيد على صلاته في سفره ، ولا ينقص منها في حضره ، ومن زاد على [ما] فرض عليه من الصلاة في السفر فعليه أن يعود لصلاته ، كما لو زاد على صلاة الحضر لفسدت عليه الصلاة فأعادها لزيادته.

فالتقصير إنما هو كما قلنا مع الإمام ، ركعتان في السفر فهما أتم التمام ، وكذلك كان فرضهما في كل سفر وحضر ، ثم لم يكن التقصير فيها إلا بما قلنا من القصر ، وليس يجوز أن يقال : قصرت الصلاة إلا على ما قلنا ، ولا وجه للتقصير فيها إلا من طريق ما تأولنا ، وإنما يقال في الصلاة زيد عليها ، ولا يقال بشيء من التقصير فيها ، لأنه إذا قيل فيها قصرت الصلاة إلا بما ذكرنا ، كان كأنه خلاف لما في كتابه مما أمرنا ، من الركعتين اللتين كانتا في الحضر والسفر ، صليتا لله فرضا فزيد في صلاة الحضر وأقرّت صلاة السفر ، (٤) وكان ذلك كله لله رضى فيما نقص من ذلك كله أو زاد ، لزم فيه كله أن يعاد.

والقنوت فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله أنه قال : القنوت ثلاث

__________________

(١) في المخطوط : ما لم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوطتين : أربع.

(٣) في المخطوطتين : وشر. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) عن عائشة قالت : إن الصلاة أول ما فرضت ركعتين فأقرت في السفر وأتمت في الحضر. أخرجه البخاري برقم (٣٣٧) ، ومسلم (١١٠٥) ، والنسائي (٤٤٩) ، وأبو داود (١٠١٣) ، وأحمد (٢٤٧٧٦) ، ومالك (٣٠٤) ، والدارمي (١٤٧٠).

كثلاث المغرب ، (١) ولسنا نضيق على المصلي بما قرأ فيهن ، وقد ذكر عن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أنه : (قرأ في الركعة الأولة الحمد ، وسبح اسم ربك الأعلى. وفي الثانية الحمد لله ، وقل يا أيها الكافرون. وفي الثالثة الحمد وقل هو الله أحد) (٢). وروي عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه : (كان يقنت بتسع (٣) سور بعد الركوع) ، (٤) ويستحب له أن لا يدعو في القنوت إلا بآية من كتاب الله ، وكذلك أيضا في قنوت الصبح مثل قول الله سبحانه : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ...) [البقرة : ٢٨٦]. إلى آخر السورة ، ومثل قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ) (٢٠١) [البقرة : ٢٠١]. ثم كبر وخر ساجدا وسجد سجدتين ، وتشهد ثم سلم تسليمتين ، عن يمينه وعن يساره.

تم الكتاب وربنا المحمود وله الكبرياء والجود ، وصلى الله على رسوله سيدنا محمد وأهله وسلم تسليما ..

* * *

__________________

(١) في المخطوط : كثلاث العشاء. ولعله سهو من النساخ. بدليل ما أخرج الدارقطني عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب.

(٢) رواه الإمام الهادي عن علي عليه‌السلام الأحكام ١ / ١٠٢. وأخرجه عن علي المؤيد بالله في شرح التجريد. (مخطوط)

(٣) في المخطوطة : بسبع. ولعلها تصحفت. والرواية المخرجة تؤكد التصحيف.

(٤) عن علي قال : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل ، يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن قل هو الله أحد. أخرجه الترمذي برقم (٤٢٢) ، وأحمد (٦٤٠).

مسائل القاسم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد النبي الأمي وآله وسلم

قال محمد بن القاسم رحمة الله عليه :

١ ـ سألت : أبي القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام عن من نام ساجدا في صلاة نافلة قائما أو راكعا أو ساجدا أو قاعدا في نافلة أو فريضة؟

فقال : من نام في صلاته نوما كثيرا أو قليلا ، أو خفيفا أو ثقيلا ، يلتبس بعقله ويوقن به ، عاد لوضوئه وصلاته.

٢ ـ وسألته : عمن صلى أمام القبلة بصلاة الإمام؟

فقال : من فعل ذلك فليس في شيء من صلاة الإمام ، إنما يكون إماما لمن يؤمه بالاستقدام ، وأن يكون إن كان واحدا قائما على اليمين لا على اليسار ، وذكر أن الوليد بن يزيد (١) قدم المدينة وهو ولي العهد بعد هشام ، فصلى في داره وصلى أهل المدينة في المسجد بصلاته ، فأنكر الناس ذلك من فعله ، وكان الوليد يجعل على دار مروان خصيا يكبر بتكبيره الناس. وذكر أن عبد العزيز بن مروان (٢) كان يصلي بأهل الإسكندرية على ظهر المسجد ، ويصلي الناس أسفل في المسجد بصلاته ، فأنكر ذلك عليه بعض العلماء ، وقرأ : (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ) [آل عمران : ١٣٧] ، يريد أن ذلك خلاف السنة الماضية.

وسمعته رحمة الله عليه يقول : لا بأس أن يتيمم الذي لا يجد الماء ثم يأخذ المصحف ، أو يقرأ حزبه من القرآن ، لأن الله جعل التيمم لمن لم يجد الماء طهورا في

__________________

(١) الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان أبو العباس ، ولد سنة (٨٨ ه‍) ، ولي الخلافة سنة (١٢٥ ه‍) بعد وفاة عمه هشام بن عبد الملك ، كان مشهورا بالإلحاد ، متظاهرا بالعناد ، فبويع ليزيد بن الوليد بن عبد الملك ، فنادى بخلع الوليد ، ثم قتله جماعة من أصحاب يزيد بن الوليد ونصب رأسه في الجامع الأموي بدمشق سنة (١٢٦ ه‍).

(٢) عبد العزيز بن مروان بن الحكم ، أمير مصر ، ولد بالمدينة وولي مصر لأبيه سنة (٦٥ ه‍) ، وتوفي سنة (٨٥ ه‍) وهو والد الخليفة عمر بن عبد العزيز العادل الزاهد.

الصلاة وهن من الفرائض الواجبات.

٣ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ) (٢٣) [المعارج : ٢٣]؟

فقال : دائمون هو : متعاهدون مدايمون ، لا يصلون بعضا ويتركون بعضا ، وقد قدم الله ذلك فرضا ، وجعل الصلاة كتابا موقوتا ، عددا وسجودا وقياما وقعودا ، فمن لم يداوم على ذلك كله ، ويضع كل شيء من ذلك موضعه ، فليس على صلاته بدائم ، ولا

بفرض فيها بقائم.

٤ ـ وسألته : هل يتوضئ للصلاة في شيء من المساجد؟

فقال : لا يتوضئ في شيء منها في تور ولا طست (١) ولا غيرهما ، ولقد بلغني أن القاسم بن محمد بن أبي بكر (٢) رأى رجلا يتمضمض ثم مج في المسجد فنهاه عن ذلك ، فقال : إنه يفعل فيه ما هو أشد من هذا ، النخامة وغيرها. فقال القاسم : هذا ما لا يجوز.

وبلغني أن هشام بن عبد الملك بن مروان (٣) دخل مسجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليصلي فيه ، فذكر أنه على غير وضوء ، فأتي بتور فيه ماء وطست فتوضأ في المسجد ، فأنكر الناس ذلك يومئذ وعظّموه.

٥ ـ وسألته : عمن يترك الأعمال يوم الجمعة وفيها ، من الرجال والنساء تعظيما لها؟

فقال : لقد بلغني أن بعض الصحابة كان يكره ذلك ، لما فيه من التشبه باليهود في ترك الأعمال يوم السبت.

__________________

(١) التور والطست : إناءان من الآنية.

(٢) القاسم بن محمد بن أبي بكر أحد فقهاء المدينة الكبار ، ولد فيها سنة (٣٧ ه‍) ، وتوفي بقديد (بين مكة والمدينة) سنة (١٠٧ ه‍) ، روى عن عمته عائشة أم المؤمنين.

(٣) هشام بن عبد الملك بن مروان ولد في دمشق سنة (٧١ ه‍) ، وبويع فيها بعد وفاة أخيه يزيد سنة (١٠٥ ه‍) ، كان طاغية جبارا وهو الذي خرج عليه الإمام الأعظم زيد بن علي عليهما‌السلام سنة (١٢٢ ه‍) واستشهد الإمام زيد في (٢٥) من شهر محرم من تلك السنة ، وتوفي هشام سنة (١٢٥ ه‍).

ولقد بلغني أن عمر بن الخطاب عاتب رجلا من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا عن التعجيل للجمعة ، فقال : أهذه الساعة؟ فقال الرجل : كنت في السوق. وهذا خلاف ترك الأعمال فيها تعظيما لها.

٦ ـ وسألته : رحمة الله عليه هل تصلى نافلة أربعا معا لا يسلم في الثانيتين منها؟

فقال : صلاة الليل والنهار مثنى مثنى إلا الوتر ، وتأخير الوتر لمن نوى القيام إلى آخر الليل أفضل من تعجيله ، ومن لم ينو القيام عجله وكان ذلك خيرا له.

٧ ـ وسألته : رحمة الله عليه عن الرجل يكون في العمل فيستمر فيه ثم يصلي كذلك؟

فقال : لا بأس بذلك إن شاء الله. وسمعته رضي الله عنه يقول : لا بأس بالدعاء في السجود.

٨ ـ وسألته : رضي الله عنه عن العبد والخصي يؤمان الناس في الصلاة؟

فقال : لا بأس بذلك ، إذا ثبت لهما اسم الإيمان وحكمه.

وسمعته رحمة الله عليه يقول : كان الميسر فيما بلغني وفيما يذكر في الجاهلية أربعة أشياء : فاثنان منها على وجه التّألّه والعبادة وهما الأنصاب والأزلام ، واثنان من الباطل وهما الخمر والقمار ، فالخمر والميسر اليوم في الإسلام أكثر من أن يحصى ، منه اللعب بالحمام ، وكذلك كل ما ماثله في المقامرة من الأمثال.

وقد بلغني أن أهل الجاهلية يتراهنون ليلة البدر أيهما يسبق الشمس أو القمر ، قال : وكانوا يتبايعون الجزور بالمائة درهم ثم يجزرونها أجزاء ويتساهمون على تلك الأجزاء ، فأيهم ما خرج سهمه أوّلا ، أخذ أفضل الأجزاء فضلا ، ثم الذي يليه كذلك ، وأخذ آخرهم شر تلك الأجزاء والقسوم ، وكان عليه ثمن تلك الجزور.

قال : والأزلام ثلاثة قداح أحدهما : أن افعل ، وفي الآخر : لا تفعل. والمغفل : القدح الثالث ليس فيه شيء ، فإن خرج الذي فيه : أن افعل فعل ، وإن خرج : ألا تفعل لم يفعل ، وإن خرج : الغفل أعاد فضرب.

٩ ـ وسألته : عمن يصلي وحده بين الصفوف؟

فقال : بئس ما صنع وصله الصفوف أفضل ، وليس يجب عليه إعادة صلاته وإن فعل.

وقال رحمة الله عليه : ومن خرج مسافرا من أهله حتى تستتر عنه بيوت قريته ، ثم أقام لانتظار أصحابه وبعض حاجته ، إنه يقصر صلاته في مقامه قصر المسافر في سفره.

١٠ ـ وسألته : عن السجود على كور العمامة؟

فقال : لا بأس به إذا سجد على بعض جبهته.

١١ ـ وسألته : هل يجوز للرجل يصلي ومعه جلد فارة مسك؟

فقال : لا ، إلا أن تكون ذكية غير ميتة ، لأنها دابة تحيى وتموت ، وهي شبيهة بالثعلب ، وقد كانت منها دابة لمحمد بن القاسم وقعت عندنا وصارت إلينا ، ثم ماتت بعد مقام طويل ، وأخذ منها مسك كثير غير قليل.

١٢ ـ وسألته : عن ثوب يصيب ناحية منه بول أيغسل الثوب كله ، أم تغسل الناحية التي أصابها البول منه؟

فقال : إن علمت الناحية وعرفت ، غسلت وحدها واكتفي بذلك ، وإن لم تعرف الناحية غسل الثوب كله بالماء.

١٣ ـ وسألته : هل ينقش في الخواتيم شيء من القرآن؟

فقال : القرآن خير ما ينقش فيها وفي غيرها ، ولا بأس بنقش القرآن فيها ، وقد كان نقش خاتم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : محمد رسول الله. وهذا من القرآن.

وقال في مسح الأذنين يمسح ظاهرهما وباطنهما.

١٤ ـ وسألته : عن تخليل اللحية بالماء؟

فقال : تخلل اللحية وتغسل مع الوجه غسلا ، ويفرع عليها الماء كما يفرع عليه إفراغا.

١٥ ـ وسألته : هل على النساء تكبير أيام التشريق بعد الصلاة؟

فقال : عليهن التكبير كما على الرجال.

١٦ ـ وسألته : عمن قرأ سجدة من القرآن فسجد ، هل يكبر حين يسجد وحين يرفع؟

فقال : يفعل وذلك أفضل لما فيه من ذكر الله ، وما يفعل من غيره في الصلاة كلها لله.

١٧ ـ وسألته : عن الصلاة في السراويل والرداء؟

فقال : لا بأس إن شاء الله.

وسمعته رضي الله عنه يقول : لا بأس بالصلاة في الإزار والعمامة.

١٨ ـ وسألته : عن الرجل يكتب العلم وفيه ذكر الله ، والرسالة هل يكتب في ذلك بسم الله الرحمن الرحيم وهو جنب؟

فقال : لا يكتب شيئا من القرآن. وبسم الله الرحمن الرحيم لا شك من القرآن في ذلك.

١٩ ـ وسألته : عن الصلاة تحت السقايف في المسجد الحرام؟

فقال : التقدم إلى البيت والدنو منه أفضل ، إلا أن يخشى من الشمس ـ إن ظهر لها عينا أو لها (١) ـ ضررا.

٢٠ ـ وسألته : عن من صلى والناس يطوفون حول البيت فيمرون عليه بين يديه؟

فقال : لا بأس عليه في ذلك.

٢١ ـ وسألته : عن غسل الجمعة أواجب هو؟

فقال : غسل الجمعة من السنة ومن الأمر بالمعروف ، وليس وجوبه وجوب الفرائض.

٢٢ ـ وسألته : عن من نسي التشهد مع إمام يؤمه؟

فقال : يتشهد إذا سلم الإمام ، ويسجد سجدتي السهو بعد التسليم.

٢٣ ـ وسألته : عن مسافر شغل في جهازه لسفره حتى خرج ـ وقد صليت

__________________

(١) كذا في المخطوط ، ولعل : أولها ، زائدة.

العصر ـ من قريته ، وتوارت عنه بيوت أهله وقريته؟

فقال : يصلي العصر ركعتين.

٢٤ ـ وسألته : عن من يحول خاتمه في أصابعه ليحصي (١) به صلاته وطوافه بالبيت؟

فقال : لا بأس بذلك ، وهو من المحافظة عليهما وحسن العناية بهما إن شاء الله.

٢٥ ـ وسألته : عن من ألصق قرطاسا بدواء على صدغيه لصداع يجده ، أينزعه عند الوضوء؟

فقال : إن كان يخاف أن يضره فليمر عليه الماء ، وإن كان شيئا لا يخاف ضره فلينزعه ، وكذلك الجراح والكسر.

٢٦ ـ وسألته : عن الرجل يصلي بعد الوتر؟

فقال : لا بأس بذلك إن بدا له.

٢٧ ـ وسألته : عن التكبير أيام التشريق في المجالس؟

فقال : التكبير وذكر الله حسن في كل مكان وعلى كل حال ، والتكبير لازم في أيام التشريق خلف الطواف.

٢٨ ـ وسألته : رحمة الله عليه عن من كان في طريق فيه اللصوص والخوف ، هل يجوز أن يخفف صلاته؟

فقال : ربّ تخفيف لا ينقص الصلاة فذلك جائز له ، وربّ تخفيف ينقصها ، فما كان من ذلك فلا يجوز له أن يفعله.

٢٩ ـ وسألته : عن من تمضمض فأدخل إصبعه في فمه يدلك بها أسنانه ، أيعيد إصبعه تلك في ما يتوضئ من الماء؟

فقال : لا بأس بذلك.

٣٠ ـ وسألته : رحمة الله عليه عن القراءة بالألحان للقرآن؟

__________________

(١) في المخطوط : ليحص.

فقال : أما لحن طرب أو عبث فلا يقرأ به ، ولكن يقرأ بالحنين والأحزان ، وقد ذكر أن الله أوحى إلى موسى بن عمران صلى الله عليه : يا موسى إذا قمت بين يدي فقم مقام العبد الذليل ، وإذا قرأت التوراة فاقرأها بصوت حزين (١).

٣١ ـ وسألته : عن أجرة المعلمين للغلمان ، على ما يتعلمون منهم من القرآن؟

فقال : كل من أدركنا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن فقهاء المدينة ، فكلهم لا يرى به بأسا.

٣٢ ـ وسألته : رحمة الله عليه هل تجهر النساء بالتكبير في أيام التشريق؟

فقال : لا يجهرن ولا يرفعن أصواتهن ، ويكون تكبيرهن قدر ما يسمعن أنفسهن.

٣٣ ـ وسألته : عن المرأة يطول بها الدم كم تترك الصلاة؟

فقال : قدر أيام أقراءها التي عرفتها ، ثم تغتسل وتوضئ لكل صلاة ـ إن شاء الله ـ تصليها.

٣٤ ـ وسألته : هل يستنجي أحد وفي شماله خاتم فيه ذكر الله؟

فقال : ترك ذلك أفضل ، وأحب إلي ألا يفعل.

قلت فيحرك المتوضّئ خاتمه عند الوضوء ليصل الماء إلى ما تحته.

فقال : يحركه أبلغ في طهارته.

٣٥ ـ وسألت : أبي رحمة الله عليه عن من يحك جسده ، ويدخل يده نحو صدره وهو في الصلاة؟

فقال : يسكن الأطراف كلها أمثل ، وإن حكه شيء أو آذاه نحّاه.

٣٦ ـ وسألته : عن علي بن أبي طالب رحمة الله عليه هل زوج ابنته عمر بن الخطاب(٢)؟

__________________

(١) لم أقف على هذه الرواية في التوراة.

(٢) زواج عمر بأم كلثوم بنت الإمام علي عليه‌السلام ذكره المؤرخون ذكر المسلمات من السنة والشيعة ، قال السيد العلام مجد الدين المؤيدي في ترجمة أم كلثوم بنت علي : تزوجها عمر ، وفي قصة العقد ـ

فقال : خبر من الأخبار قد ذكر ، ولا يدرى ما حقيقته.

٣٧ ـ وسألته : عن ولاية علي بن أبي طالب صلوات الله عليه فريضة من الله كالفرائض؟

فقال : موالاة علي بن أبي طالب أكبر الفرائض ، واجبة من الله ورسوله على كل مسلم.

٣٨ ـ وسألته : عن قول الله : (كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً) [البقرة : ٢١٣]؟

فقال : لا تكون أمة واحدة وفيهم نبي أو وصي.

٣٩ ـ وسألته : عن العقل في الإنسان أطبع هو أم مستفاد؟

فقال : هو الحفظ والفكر ، وأصل العقل فطرة وخلقة.

٤٠ ـ وسألته : عن من كان أول الناس إسلاما مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : علي بن أبي طالب ، (١) وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أدبه ، وكان في حجره وهو السابق إلى الله والمقرب (٢).

٤١ ـ وسألته : عن وصي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من كان ، وعن تراثه؟

__________________

ـ أخبار متضاربة ، أما التزويج فقد وقع بلا ريب ، وقد كان اعتذر أمير المؤمنين عليه‌السلام بصغرها وكبره ، ثم رضي بعد ذلك قطعا ، وإن لقول بعدم رضاه فيه من الفضاضة وانتهاك الحرمة ، ونقص الدين والمروءة أعظم وأطم من عدم الكفاءة المدعاة. لوامع الأنوار ٣ / ٢٢٠.

(١) أقول : كون الإمام علي عليه‌السلام أول الناس إسلاما من أشهر الأحداث الكبرى في الإسلام بإجماع المحدثين والمفسرين والمؤرخين الإسلاميين على مختلف مذاهبهم ومشاربهم ، غاية ما يعتذر به أهل السنة ممن قدم أبا بكر على الإمام علي في الإسلام أنه يقول : صحيح أن عليا أسلم قبل أبي بكر ، ولكن علي من الصبيان ، وأبو بكر من الرجال ، ولا يعتد بإسلام الصبيان. ولدينا جواب شافي على هذه الشبهة ، وليس هذا موطن ذكرها. ارجع إن شئت إلى المناظرة الشهيرة بين المأمون العباس وأحد القائلين بتلك الشبهة. مفاد حجة المأمون أن الله لا يمكن أن يدعو من لا يعقل ويخاطب من لا يفهم لقبح ذلك. وارجع إن شئت المزيد إلى ترجمة الإمام علي من تاريخ ابن عساكر / الجزء الأول.

(٢) إشارة إلى قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

فقال : كان علي بن أبي طالب وصيه في مهماته وعهوده (١) ، وأما الميراث فإن

__________________

(١) روى الطبراني عن سلمان ، قال : قلت : يا رسول الله ، إن لكل نبي وصيا فمن وصيك؟ فسكت عني ، فلما كان بعد رآني فقال : يا سلمان. فأسرعت إليه ، قلت : لبيك. قال : تعلم من وصي موسى؟ قال : نعم يوشع بن نون. قال : لم؟ قلت : لأنه كان أعلمهم يومئذ. قال : فإن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب. رواه الهيثمي عن الطبراني في المعجم الكبير ٦ / ٢٢١ ، ومجمع الزوائد ٩ / ١١٣ ، ورواه سبط ابن الجوزي في كتاب تذكرة خواص الأمة باب حديث النجوى عن كتاب الفضائل لأحمد بن حنبل وهذا لفظه : قال أنس : قلنا لسلمان : سل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من وصيك؟ فسأل سلمان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : من كان وصي موسى بن عمران؟ فقال : يوشع بن نون. قال : إن وصيي ووارثي ومنجز وعدي علي بن أبي طالب. راجع الرياض النضرة للمحب الطبري ٢ / ١٧٨.

وعن أبي أيوب أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لابنته فاطمة : أما علمت أن الله عزوجل اطلع على أهل الأرض فاختار منهم أباك فبعثه نبيا ، ثم اطلع الثانية فاختار بعلك فأوحى إلي فأنكحته واتخذته وصيا. أخرجه الهيتمي في مجمع الزوائد ٨ / ٢٥٣ ، وفي ٩ / ١٦٥ ، منه عن علي بن علي الهلالي : ووصيي خير الأوصياء وأحبهم إلى الله وهو بعلك ـ الحديث. ومنتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد ٥ / ٣١. وكنز العمال ، كتاب الفضائل ، الفصل الثاني ، فضائل علي بن أبي طالب ٣ / ١١٦ ، ١٢ / ٢٠٢.

وفي موسوعة أطراف الحديث عن المعجم الكبير للطبراني ٢ / ٢٠٥ ، وجمع الجوامع للسيوطي رقم الحديث (٢٢٦١).

وأبو أيوب الأنصاري : اسمه خالد بن زيد الخزرجي. شهد بيعة العقبة وجميع مشاهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشهد مع الإمام علي الجمل وصفين ونهروان. وتوفي عند مدينة القسطنطينية سنة (٥٠) أو (٥١). أسد الغابة ٥ / ١٢٣.

وعن أبي سعيد أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إن وصيي وموضع سري وخير من أترك بعدي وينجز عدتي ويقضي ديني علي بن أبي طالب. أخرج الحديث في كنز العمال ، كتاب الفضائل ، الفصل الثاني ، فضائل علي بن أبي طالب / ١١٩٢ ، الثاني ١٢ / ٢٠٩.

وفي أطراف الحديث عن كنز العمال ، الحديث ٣٢٩٥٢ ، والطبراني ٦ / ٢٧١ ، وأبو سعيد الخدري : سعد بن مالك الخزرجي ، كان من الحفاظ لحديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، توفي سنة (٥٢ ه‍). أسد الغابة ٥ / ٢١١.

وعن أنس بن مالك أن الرسول توضأ وصلى ركعتين وقال له : أول من يدخل عليك من هذا الباب إمام المتقين ، وسيد المسلمين ، ويعسوب الدين ، وخاتم الوصيين ... فجاء علي عليه‌السلام فقال صلى ـ

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم توفي وكل ما يملك من الدنيا فقد فرقه على أمته ، وذكر أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة صلوات الله عليها فدكا (١) ، ولم يترك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه إلا سلاحه فأخذه علي بن أبي طالب.

٤٢ ـ وسألته : عن الحديث الذي روي : (أن من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية) (٢) وكيف يعرف؟

فقال : بنعوته وصفاته.

٤٣ ـ وسألته : عن الإيمان؟

فقال : الإيمان من الأمان ، والإيمان فهو السلامة من كبائر العصيان ، التي أوجب الله عليها لأهلها النار ، فمن استكمل ذلك فقد استكمل الإيمان.

__________________

ـ الله عليه وآله وسلم : من جاء يا أنس؟ فقلت : علي. فقام إليه مستبشرا فاعتنقه ـ الحديث. أخرج الحديث في حلية الأولياء ١ / ٦٣. وتاريخ ابن عساكر ٢ / ٢٨٦ ، وشرح نهج البلاغة ١ / ٢٥٠ ، وفي موسوعة أطراف الحديث عن اتحاف السادة المتقين للزبيدي ٧ / ٢٦١.

وأنس بن مالك : أبو ثمامة الخزرجي ، روى عنه البخاري ومسلم (٢٢٨٦) حديثا. اختلف في سنة وفاته من ٩٠ ٩٣ ه‍. الاستيعاب ، وأسد الغابة ، والإصابة.

وعن الصحابي بريدة قال : قال النبي : لكل نبي وصي ووارث ، وإن عليا وصيي ووارثي. أخرجه ابن عساكر في تاريخ دمشق ٣ / ٥ ، والرياض النضرة ٢ / ١٧٨ عن بريدة وهو : أبو عبد الله بن بريدة بن الحصيب بن عبد الله الأسلمي ، قدم المدينة بعد أحد فشهد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مشاهده وتحول بعده إلى البصرة وابتنى بها دارا ، ثم خرج غازيا إلى خراسان فأقام بمرو وتوفي بها. أسد الغابة ١ / ١٧٥.

وفي المحاسن والمساوئ للبيهقي ، ما موجزه : إن جبرائيل جاء بهدية من الله ليهديها الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ابن عمه ووصيه علي بن أبي طالب ـ الحديث. أخرجه البيهقي في المحاسن والمساوئ ١ / ٦٢ ٦٥. (كان حيا قبل ٣٢٠ ه‍) تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، ط القاهر سنة ١٣٨٠ ه

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

٤٤ ـ وسألته : عن الإسلام؟

فقال : هو الاستسلام لما (١) أمر الله به من الإسلام.

٤٥ ـ وسألته : عن القدر؟

فقال : الخير والإحسان من الله لا يستنكر ، وما كان من خلاف ما أمر الله به فهو من أهله والله بريء منه ، وما كان من حسن مأمور به فهو من الله ، وما كان من معصية أو شتم لله فالله بريء منه ، لأنه يذمه ويعيبه ، ولا يصلح أن يكون من الله مذموما عنده.

فهذا إن شاء الله يكفي ولا يستنكر ذلك ولا يجحده أحد أنصف ، أو تكلم بما يعرف ، وأما سوى ذلك فلا يراد الخوض فيه ولا الشغل به.

٤٦ ـ وسألته : عن الاستطاعة؟

فقال : أي ذلك قال به قائل إذا أثبت أن الله لم يكلف العباد إلا ما يستطيعون فهو مقبول ، وقوله صحيح معقول.

٤٧ ـ وسألته : عن إمامة أمير المؤمنين أكان من الرسول إليه وصية ، أم قال : أنت الإمام بعدي ، أم كيف؟

فقال : دلالة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإشارة عليه كانت منه إليه كافية مغنية.

٤٨ ـ وسألته : عن الاختلاف الذي بين أهل البيت؟

فقال : يؤخذ من ذلك بما أجمعوا عليه ولم يختلفوا فيه ، وأما ما اختلفوا فيه فما وافق الكتاب والسنة المعروفة فقول من قال به فهو المقبول المعقول.

٤٩ ـ وسألته : عن إطلاق الرأي عند الضرورة؟

فقال : ليس لأحد أن يقول برأيه إلا ما أشبه الكتاب والسنة المعروفة ، وإلا أمسك فلم يقل.

__________________

(١) في المخطوط : بما. ولعل الصواب ما أثبت.

٥٠ ـ وسألته : عن من قعد عن علي رضوان الله عليه في حربه؟

فقال : من قعد عن علي في حربه فهو ضال.

٥١ ـ وسألته : عن انفاق المزيّن والمكحّل؟

فقال : التحرز من ذلك والتورع أفضل ، وإن أجازه الناس بينهم.

٥٢ ـ وسألته : عن جمع صلاتين في السفر والحضر؟

فقال : لا بأس به.

٥٣ ـ وسألته : عن المرأة تموت من أحق بميراثها؟

فقال : قرابتها وذوو محرمها أولى الناس بها.

٥٤ ـ وسألته : عن الاستثناء في الطلاق وما أشبه ذلك؟

فقال : الاستثناء جائز في كل يمين.

٥٥ ـ وسألته : عن من أصبح جنبا في شهر رمضان وهو يمكنه الغسل قبل طلوع الفجر هل عليه شيء؟

فقال : لا بأس به ، وأحب إلينا أن يغتسل.

٥٦ ـ وسألته : عن من حلف بالمشي إلى بيت الله وليس عنده ما يبلغه ولا يحمله؟

فقال : لا شيء عليه لا يكلف الله أحدا إلا ما أطاق.

٥٧ ـ وسألته : عن رجل محتاج يتكفكف باليسير ويرد ما يتفضل به الناس عليه ، الأخذ منهم أفضل أم الرد؟

فقال : إن رد فلا بأس وإن أخذ فلا بأس إذا احتاج.

٥٨ ـ وسألته : عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به كتاب الله وعترتي أهل بيتي) (١) من العترة؟

__________________

(١) سبق تخريجه.

فقال : العترة هم الولد.

٥٩ ـ وسألته : عن مرأة هلكت وتركت عبدا مدبرا ما ترى فيه ، وتركت أمتين أعتقت من ذلك ثلثهما؟

فقال : إن كان ثلثهما يحتمل عتق المدبر أعتق ، وإن لم يكن يحتمل فلا يعتق ، وقال في المعتق من الأمتين أيضا : إذا احتمل ثلثها ما أعتقت منهما عتق ما أعتقت ونفذ كلما له أوصت ، من بعد أن يخرج الدين الذي عليها إن كانت عليها ديون ، فإن الدين يخرج من قبل الثلث ومن قبل كل وصية.

٦٠ ـ وسألته : عن قول الله : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٧]؟

فقال : خبر من الله من القدرة والاقتدار على كل شيء ، وليس هو خبر أن الله مخرج من النار بعد دخولها أحدا ، ولو خرج منها خارج بعد دخولها لم يكن فيها مخلدا ، وقد قال الله في غير مكان (خالِدِينَ فِيها) (١) (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) (٤٨) [الحجر : ٤٨].

٦١ ـ وسألته : عن قول الله تعالى : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٨) [الشمس : ٧ ـ ٨]؟

فقال : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) يقول سبحانه وما قدرها ، وما هاهنا من تسوية التقدير ، وحكمة التدبير ، الذي لا يكون إلا بالله ، ولا يوجد إلا من الله ، وقد قال بعض المفسرين (وَما سَوَّاها) هو ومن سواها ، (٢) (فَأَلْهَمَها) هو عرّفها تعريفا بيّنا ليس

__________________

(١) ذكرت في القرآن اثني عشرة مرة بهذا اللفظ.

(٢) قال الزمخشري عند تفسير الآية : ولا وجه أن تكون موصولة ، وإنما أوثرت على من لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل : والسماء والقادر العظيم الذي بناها ، ونفس والحكيم الباهر الحكمة الذي سوّاها. الكشاف ٤ / ٢٥٨.

وقال الطبرسي : وقيل : إن ما في هذه المواضع بمعنى (من) ، أي : والذي بناها ، ويحكى عن أهل الحجاز أنهم يقولون إذا سمعوا صوت الرعد : سبحان ما سبحت له. أي : سبحان الذي سبحت له ، ومن سبحت له. مجمع البيان ٦ / ١٥١.

مما يلتبس بكفره منعمه ، ولا يعايا (١) بشيء من المعرفة بين فجورها وتقواها ، إذا عرّفها هيبتها واجتراها ، لأن الهيبة اتقاء ، والفجور اجتراء.

فهي تعرف من الأشياء كلها ما تجتري عليه من الفجور ، وما تهاب وتخشى من جميع الأمور ، فهي على ما لا تهاب مجترئة ، ولما هابت متقية ، فهي ملهمة لتقواها وفجورها ، لمعرفة ما تهابه وتجتري عليه من أمورها.

٦٢ ـ وسألته : أيضا عن قول الله سبحانه : (وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر : ٦٧]؟

إنما يريد سبحانه قدرته عليهن ، ونفاذ أمره وقضائه وحكمه جل ثناؤه فيهن ، لأن كل ما كان من الأشياء مطويات في يمينك ، فأنت عليه أقدر منك على غيره من جميع شأنك ، ومن كان في يديه شيء مطوي كان على حفظه كله قويا ، ولا يتوهم أنهن مطويات في يمينه كطي الثياب ، إلا عمي جهول لعّاب ، وما في ذلك ، لو كان كذلك ، من الإكبار؟! ومن القوة والاقتدار؟!

وأما قبضته وإحاطته وقدرته ، فذلك أنه يقال لمن كان محيطا بشيء وقادرا عليه ، إذا سئل عنه من يعرفه ، هل له قدرة فيه؟ قال : نعم والله ما هو إلا قبضته وفي يده. وليس يريد بذلك إذا قاله قبضة الكف ، والله لا شريك له متعالي عن أن يوصف من أوصاف الإنسان بوصف.

٦٣ ـ وسألته : عن قول الله : (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ) [الزمر : ٤٨]؟

فالإنابة إليه ، هي : الرجوع بطاعته عليه ، وإسلامهم له ، هو : سلوكهم سبيله ، فلم ينب إليه سبحانه من تولى عنه ، ولم يسلم له جل ثناؤه من تبرأ منه ، فالإنابة إليه هي : الاعتصام ، والإسلام له هو : الاستسلام ، ولم يعتصم به قط من آثر غيره ، ولم يسلم له من خالف أمره.

٦٤ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ) (١٧) [عبس : ١٧]؟

__________________

(١) ولا يعايا ، المعاياة : أن تأتي بشيء لا يهتدى له.

فهو : لعن الإنسان ما أقل شكره ، وكذلك كل من كفر بآيات الله ، ولم يصر فيما أمر به إلى مرضات الله ، فمن كان كذلك ، أو عمل بذلك ، فهو الكافر غير الشاكر لما أولي ووهب له من النعم ، فأعطي في مبتدأ خلقه حين أنشي من نطفة من ماء مهين فحفظ في الرحم ، في مستقره فأتم تقديره ، وحسن تصويره ، ثم يسّر للسبيل الذي هو مخرجه من بطن أمه ، بعد كماله في لحمه وعظمه.

٦٥ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [النساء : ١١٦ ، ٤٨]؟

فتأويل ذلك : أن الله قادر على ما شاء ، من مغفرة أو تعذيب لمن خلق وإنشاء ، وليس ذلك خبرا من الأخبار ، أنه غير معذب لمن وعده بالنار ، لأنه جل ثناؤه لو لم يعذب من وعده بالعذاب ، من أهل الكبائر لكان في ذلك خلف وإكذاب ، لما وعد به في ذلك من الميعاد ، وفيما ذكر سبحانه من وفاء ميعاده ووعده في ذلك ، ما يقول سبحانه في كتابه : (وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ) (٣١) [الرعد : ٣١] ليس بين قوله سبحانه : (لا يَغْفِرُ) وبين : (يُعَذِّبُ) فرق ، لأن من لا يغفر له فقد عذبه ، ومن عذبه فلم يغفر له.

٦٦ ـ وسألته : عن : (مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [الزمر : ٦٣ ، الشورى : ١٢]؟

فالمقاليد هي : المفاتيح ، ومفاتيح الغيب فهي المقاليد.

٦٧ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) [الحديد : ٢٢]؟

فالمصيبة في الأرض فهو : ما يكون في الأرض عامة ، والمصيبة في الأنفس فهو : ما يكون في الأنفس خاصة ، والكتاب فهو علم الله بذلك كله ، وما أحاط بالأرض والأرض يقينا من علمه ، فكل ذلك كما قال الله لا شريك له لا يؤده منه علم ما علم ، وقوله : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) ، فهو : من قبل أن يخلق الأنفس وإنشائها.

٦٨ ـ وسألته : [عن] (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣]؟

وطائره فهو : ما يلحقه وما يلزمه من خيره وشره ، فكله مكتوب محفوظ عليه ، إذا

لقي الله وصار إليه ، كما قال الله سبحانه : (نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً) (١٤) [الإسراء : ١٣ ـ ١٤].

٦٩ ـ وسألته : عن قوله : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) [الإسراء : ٧١]؟

فإمامهم هو : ما كتب عليهم ولهم ، من سالف أعمالهم ، فمن أوتي كتابه بيمينه فهو عن يمينه ، وتأويل : (مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً) (٧٢) [الإسراء : ٧٢] فهو : أن من كان في الدنيا ضالا ، فهو في الآخرة أضل ضلالا ، إنه ليس بعد البعث ضلال ولا هدى ، فمن ضل في الدنيا (١) أو اهتدى ، فهو مهتدي أو ضال أبدا.

٧٠ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا) [الحجرات : ١٤]؟

فالاسلام هو : الاستسلام والذلة والإذعان ، يعني الإجابة والطاعة والإيمان ، فهو سر أو إعلان ، فسره في القلوب الباطنة ، وعلانيته في الأعمال الظاهرة ، ألا تسمع كيف يقول سبحانه : (وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ) [الحجرات : ١٤].

٧١ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران : ١٤٠]؟

والأيام أيام الدول فهي بين الناس كما قال الله عقب (٢) ، وما فيها من إحسان أو إساءة (٣) فأعمال ، لمن عملها من العمال ، يثاب المحسن منها على حسنته ، ويعاقب المسيء فيها بسيئته.

٧٢ ـ وسألته : عن قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) (٦٧) [الفرقان : ٦٧]؟

فالقوام من النفقة بين السرف والإقتار ، وهو السيرة التي رضيها الله في النفقة

__________________

(١) في المخطوط : الآخرة. ولعل الصواب ما أثبت ، والله أعلم.

(٢) كذا في المخطوط ، ولعلها : عقبا.

(٣) في المخطوط : إسارة. مصحفة.

للأبرار.

٧٣ ـ وسألته : عن حديث الثقلين؟

وهو حديث صحيح مذكور ، كثير في أيدي الرواة مشهور (١) ، ومن تمسك كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهما فلن يضل أبدا ، لما جعل الله فيهما ومعهما من النور والهدى ، وكتاب الله تبارك وتعالى كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو أحدهما وفيه الشفاء والبرهان والنور ، وأهل بيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم مجمعون فمنهم عدل أبدا بمنّ الله لا يجور ، فمن تمسك بالمتقين منهم لم يضل ، ولم يجز عن الحق ولم يمل ، وكيف يضل متبع من يعدل في اتباعه على عدله ، وهو فيه كمثله. وحديث سفينة نوح (٢) من ذلك ، وهي النجاة بها كذلك ، ومثل أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلهم ، وفيما ذكر من التمسك بهم ، كمثلها في نجاة من نجا ، وفيما ذكر من الضلالة والهدى.

٧٤ ـ وسئل : عن المسح على الخفين والقدمين؟

فقال : وأما المسح على الخفين فإن أهل البيت مجمعون أنه فاسد لا يجوز ، وأما المسح على القدمين فليس فيه إلا ما يقول أصحاب الإمامية عن من يقولون به عنه ، ولم ندرك أحدا من آل الرسول إلا وهو يفعل بخلاف ما قالوا به ، فيغسل ولا يمسح.

٧٥ ـ وسألته : عن السماوات والأرض ، كيف الأرض والسماء بعضها فوق بعض؟

وكذلك ما سألت عنه من الأرض فأعلى السماوات آخرها وأول السماوات أولها ، وكذلك أول الأرض أعلاها وآخرها أسفلها.

٧٦ ـ وسألت : أبي رضوان الله عليه ، عن قول الله عزوجل ثناؤه : (وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) [الإسراء : ٩٧]؟

فقال : تأويل ذلك إن شاء الله : أنهم يبعثون يوم القيامة حين يجمعون ويحشرون

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) سبق تخريجه.

على صورهم التي فارقوا الدنيا عليها وهيآتهم ، فعلى ما فارقوا الحياة عليه من ضلالهم وعماهم ، فمن فارق دنياه وهو أعمى في بصره ، بعث كذلك عند حشره ، وكذلك يبعث الأبكم وهو الأخرس اللسان ، وكذلك الأصم من صمم الآذان (١) ، فكل يبعث ويحشر على ما كان عليه في دنياه من الأحوال ، وكذلك يبعثون على ما كانوا عليه في الدنيا من الهدى والضلال ، وليس تأويل : (عَلى وُجُوهِهِمْ) ـ إن شاء الله ـ ما يذهب إليه أهل الجهالات ، من تبديل الله في يوم القيامة للخلق والهيئات ، التي كانوا عليها في الدنيا بديا ، وكيف يتوهمون صما وبكما وعميا!؟ والله يقول سبحانه في ذلك اليوم : (وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (١٠) يُبَصَّرُونَهُمْ) [المعارج : ١٠ ـ ١١] ، هو : يرونهم ، وكيف يتوهمون صما بكما خرسا!؟ وهم يقولون : (يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً) [الكهف : ٤٩] ، وكيف يتوهمون ذلك وهم يقولون في يوم الحساب : (رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً) [السجدة : ١٢]؟! فكفى بما بيّن الله من هذا ومثله بيانا لقوم يعقلون. على أن الأمر في ذلك ليس كما يتوهم الجهلة ولا كما يظنون.

٧٧ ـ [وسئل : عن قوله سبحانه : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) [الإسراء : ١٠٦]؟

فقال :] (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ) تأويله : فرقناه قطعا ، وفرقنا [ه] وجعلنا [ه] مفرقا (لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ) [الإسراء : ١٠٦] وهو على مهل وبمكث ، وتأويل (نَزَّلْناهُ) [الإسراء : ١٠٦] فهو قليلا قليلا ، كذلك يذكر ـ والله أعلم ـ أن جبريل صلى الله عليه كان يعلّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما علمه من القرآن خمس آيات ، خمس آيات (٢) ، لما أراد الله إن شاء الله بذلك لفؤاده من الثبات ، كما قال الله سبحانه : (كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) (٣٢) [الفرقان : ٣٢] تأويله : ونزلناه تنزيلا ، والتنزيل ، هو الإبانة والتفصيل.

__________________

(١) في المخطوط : الأذن. ولعل الصواب ما أثبت لتوافق ما قبلها من السجعة.

(٢) أخرجه الحاكم ٢ / ٦٦٧ (٤٢١٦) ، والنسائي في الكبرى ٥ / ٧ (٧٩٩١) ، والطبراني في الكبير ١٢ / ٣٢ (١٢٣٨١) ، والبيهقي في شعب الإيمان عن عمر ، وابن عساكر من طريق أبي نضرة. أفاده في الدر المنثور ٥ / ٣٤٦.

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ) [الدخان : ١] فقال : يقول اختبرنا وعذبنا ، لأن الفتنة اختبار ومحنة ، وتعذيب وعقوبة.

وقوله سبحانه : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح: ١٨] فقال : خبر عن رضى الله عمن بايع تحت الشجرة إنما هو لقد رضي الله عمن آمن بالله ، ألا ترى كيف يقول رب العالمين : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) فذكر أن رضاه تبارك اسمه إنما هو عمن آمن ممن بايعه ، وشايعه في البيعة وطاوعه.

وقوله : (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ) [الحج : ٢٩] فقال : التفث لهو الشعث ، وشعثه: امتناعه (١) مما يمنع منه المحرم من الطيب وغيره ، وما يلزمه ما كان محرما في إحرامه ، حتى يطوف بالبيت العتيق كما أمره الله بالطواف.

[وقال] القاسم بن إبراهيم عليه‌السلام : أحسن الله رشدك وتوفيقك ، وقوّم لقصد الحق طريقك ، وبلغك صالح الأمل برحمته ، وأتم عليك وفيك ما وهب من نعمته ، قد فهمت ـ استمتع (٢) الله بك ـ ما وصفت ، وتعرفت من مذاهبك بما تعرفت ، فقرّب الله قربك ، ووصل ـ بحقه ـ سببك ، فبمثلك ـ بمنّ الله ـ يتوصل إلينا ، فكيف تطلب لنفسك الأذن علينا.

٧٨ ـ وسألت : سددنا الله وإياك للرشد والاهتداء ، عن المخادعة من الله والمكر والاستهزاء؟

فأما المخادعة وفقك الله ، فليس يجوز القول بها على الله ، ولا ينسب شيء منها كلها إلى الله ، ولا تحتملها في الله الألباب ، ولم ينزل بها من كتب الله كتاب ، لأن المخادعة إنما هي حيل من المحتال ، فيما يخادع به من كذب في فعل أو مقال ، ولعجز المخادع عن كثير مما يريد ، كاد فيه بالمخادعة من يكيد ، والله جل ثناؤه متعال ، عن كل مخادعة واحتيال ، لا يجوز شيء من ذلك عليه ، ولا يصح القول بشيء منه فيه ،

__________________

(١) في المخطوط : لعو. لعلها مصحفة. وفي المخطوط : وشعثه وامتناعه. ولعل الوائد زائد ، لأنه فسر الشعث بالامتناع.

(٢) استمتع الله بك : يعني أسأله أن يمتعني ببقائك وقربك ، ولعلّ السائل ولده محمد.

وأما الخدع من الله لمن خادع الله والاختداع ، فليس في القول به على الله جل جلاله عيب ولا شناع ، وفيه ما يقول الله سبحانه : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ) [النساء : ١٤٢] ولم يقل جل ثناؤه وهو مخادعهم.

وأما مكر الله واستهزاؤه ، فهو : استدراج الله وإملاؤه. ومكر من كفر بالله ربه ، فإنما هو احتياله على الذين يكذبونه في وحيه ، واستهزاء من كفر بالحق والمحقين ، فيشبّهه كذبا في القول والفعل بالمتقين.

فمتى قيل أبدا للمبطلين : خادعوا ومكروا ، فإنما يراد به فيهم كذبوا وكفروا ، وأظهروا خلاف ما أبطنوا وأسروا.

ومتى قيل لهم استهزءوا وسخروا ، فإنما يراد به فيهم تلعبوا وبطروا ، [و] في ذلك ما يقول الله سبحانه لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٦٣) [الأنفال : ٦١ ـ ٦٣].

يقول سبحانه : وإن يريدوا أن يخدعوك ، فيمكروا بالكذب فيما أعطوك ، فيعطوك المسالمة كذبا ، ويكذبوك بالمخادعة تلعبا ، فحسبك في ذلك بتأييد الله ونصره ، وبما ألّف من قلوب المؤمنين على دينه وأمره ، وإذا كان استهزاؤهم ومكرهم إنما هو إخفاؤهم ما يخفون ، وسترهم من أمرهم لما يسترون ، وأمور الله أستر وأبطن ، وأخفى عنهم وأكنّ ، وذلك فقد يكون مكرا من الله بهم واستهزاء ، واختداعا من الله لهم صاغرين وإخزاء ، وبذلك كان الله خادعا لمن خادعه لا مخادعا ولا مخدوعا ، وكان قلب من خادعه سبحانه من العلم بمكر الله به مقفلا مطبوعا ، ليس فيه لله حذار ، ولا عن منكره ازدجار ، حتى يدهاه من أخذ الله دواهيه ، ولا يوقن أن شيئا منها يأتيه ، كما قال سبحانه : (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٥٤) [آل عمران : ٥٤] وقال جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) (٥١) [النمل : ٥٠ ـ ٥١].

٧٩ ـ وسألت : يرحمك الله عن : (يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ) [البقرة : ١٠٢] وعن السحر؟

والسحر أمر لا يكون ولا يؤاتي أهله ، إلا بعظيم من الكفر والأئمة فيه والمعلمون له ، فهم الشياطين ، الكفرة الظالمون ، ولذلك يقول منهم من علّمه ، من (١) يريد أن يتعلمه ، لا تكفر ليكفر (٢) إذا كفر بإقدام وتصميم بعد النهي بالتوقيف ، والإبانة للكفر والسحر والتعريف ، فكفر أهله بعد المعرفة بالتصميم ككفر إبليس فيما صمم من الكفر بالسحر.

وقوله : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) [البقرة : ١٠٢] فقد يكون نفيا (٣) لا أن يكون السحر أنزل عليهما ، وإكذابا لمن نسب السحر من اليهود إليهما ، (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ) فقد يكون في النفي للسحر عنهما في النفيان ، كقوله سبحانه في النفي : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ) [البقرة : ١٠٢] ، و (هارُوتَ وَمارُوتَ) [البقرة : ١٠٢] فقد يقال اسمان نبيطان ، معروف ذلك فيما يستنبط من اللسان ، لأن ماروت القرية : في لسان النبط ، هو القرية وواليها ، وهاروت (٤) القرية فيما نرى هو : مستخرجها(٥) وجانبها ، ولو كان من يعلم السحر (٦) لكان من الملائكة إذا من قد كفر ، ولما صح قوله سبحانه فيهم : (بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (٢٦) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (٢٧) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) (٢٨) [الأنبياء : ٢٦ ـ ٢٨] ، وقوله سبحانه : (لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ) [النساء : ١٧٢] ،

__________________

(١) من الأولى : فاعل. ومن الثانية : مفعول به.

(٢) في المخطوط : ليفكر. لعلها مصحفة ، والصحيح ما أثبت.

(٣) يعني أن (ما) نافية لا موصولة. ويشهد لهذا ما أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، عن ابن عباس ، في قوله تعالى (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ) قال : لم ينزل الله السحر. الدر المنثور ١ / ٢٣٦.

(٤) قال في لسان العرب وهاروت : اسم ملك أو ملك.

(٥) الكلمة في المخطوط : مهملة ، ولم أهتد لها إلى معنى.

(٦) يعني لو كان ماروت ملكا أنزل عليه السحر ....

وقربتهم هي : منزلتهم عند الله في الزلفى والمكان ، وبراءتهم كلهم عند الله من العصيان ، ولو كان منهم صلى الله عليهم من عصى بكفر أو غيره ، لذكره الله بعصيانه كما ذكر إبليس في تنزيله ، أما تراه كيف نحّاه لمعصيته عنهم ، ولم يجعله ـ إذ عصى ـ منهم ، فقال فيهم : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي) [الكهف : ٥٠] (١) ، وذريته فإنما هم أمثاله وقبيله ، وفي إبليس وقبيله ، ما يقول الله سبحانه في تنزيله : (إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) [الأعراف : ٢٧].

٨٠ ـ وسألت : عمن يسكن في الهواء بين الملائكة والإنس؟

والجن والإنس فهما كما قال الله الثقلان ، فالملائكة صلوات الله عليهم سماويون ، والإنس كلهم جميعا أرضيون ، والجن بين السماء والأرض هوائيون.

٨١ ـ وسألت : عن آية القصاص هل يقتل فيها الحر بالعبد ، وهل تجب الدية في شيء من العبد؟

وقد فصل الله فيما سألت عنه في ذلك من أمره ، بقوله وعند ذكره : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى) [البقرة : ١٧٨] ، فجعلهم في القصاص أصنافا مختلفة شتى ، وعلى ما ذكر الله من اختلافهم وشتاتهم ، اختلفوا باجتماع في دياتهم ، فدية العبد على قدر قيمته ، والمرأة مخالفة للرجل في ديته ، وهذا كله مجتمع عليه ، لا أعلم أحدا يقول بخلاف فيه.

واختلافهم ـ رحمك الله ـ في الديات ، دليل على اختلافهم في القود (٢) والجراحات ، وما اختلف من ذلك فيه فليس بواحد ، والخلاف فبيّن بين الحر والعبد ، ولا يحكم في المختلف بالاستواء ، [إلا] من لا علم له بالحكم في الأشياء ، ولا قود ولا قصاص بين حر وعبد ، وليس أمرهما في كثير من الدين بواحد ، حد العبد في الزنا

__________________

(١) كانت الآية في المخطوط هكذا (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ....) وليست الآية كذلك. بل هما آيتان مختلفتان.

(٢) القود : القصاص.

وغيره ليس بحده ، والسيد في كثير أموره فليس كعبده ، وكذلك المرأة في كثير أمورها فليست كالرجل ، ولو كانت كهو لما كان له عليها من الفضل ، ما ذكر الله سبحانه في قوله : (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة : ٢٢٨] ، وكفى بهذا في اختلافهما بيانا وحجة.

فإن قتل القاتل عبدا أو امرأة عمدا ، وكان بقتله إياهما (١) في أرض الله مفسدا ، قتل إذا صح فساده عند الإمام صاغرا ، ولم يحرز قاتله من القتل أن يكون حرا (٢) ، لقول الله سبحانه : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] ، وفي الناس الحر والعبد جميعا معا ، فأحل الله من قتل الأنفس بالفساد في أرضه ، ما أحل من قتلها بترك التوحيد ورفضه.

فأما من قتل عبدا أو امرأة ، مغاضبا أو فلتة أو حصره (٣) ، فليس كمن قتلهما مفسدا ، وكان بفساده في أرض الله متمردا.

وأما ما سألت عنه من قول الله سبحانه : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ١٧٨] ، فهو العفو من الطالب عن الدم إلى الدية ، إذا كانت نفس الطالب والمطلوب بذلك راضية ، وهذا إذا تراضيا (٤) به ، فما لا يقول أبو حنيفة وأصحابه بغيره (٥) ، فجعل الله لرأفته ورحمته بخلقه العفو عفوين عن الدية والدم جميعا ، وعفوا عن الدم إلى الدية رأفة منه وتوسيعا ، وأمر الله

__________________

(١) في المخطوط : إياهما قتل في أرض الله ....

(٢) يعني أن الحر يقتل بالعبد والمرأة ، إذا كان ظالما مفسدا ، ولا يمنع من القصاص كونه حرا.

(٣) هكذا في المخطوط ، ولعل في العبارة سقطا أو تصحيفا.

(٤) في المخطوط : تراضى. ولعلها مصحفة.

(٥) ذكر الإمام رأي الإمام أبي حنيفة ، لأن في المسألة خلافا بين العلماء ، فمنهم من قال : إن وليّ الدم بالخيار إن شاء القصاص وإن شاء الدية ابتداء ، وهذا قول طائفة منهم القاسمية وأحمد والشافعي ، كما أفاد ذلك في البحر وهو خلاف ما هنا ، فكلام الإمام القاسم صريح هنا في اشتراط التراضي ، وطائفة قالت : بأنه لا اختيار وإنما مع التراضي وهو قول أبي حنيفة ، انظر البدائع للكاساني ١٠ / ٤٦٣٣. وأصحابه وزيد بن علي ومالك وغيرهم ، أفاد ذلك في البحر الزخار للإمام المهدي.

تبارك وتعالى الطالب بحسن الطلب فيها والمتابعة ، وأمر المطلوب بحسن الأداء لها زيادة من الله في الرحمة وتوسعة.

٨٢ ـ وسألت : عن قوله : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً) [البقرة : ١٨٥]؟

فهو : من حضر الشهر فلم يغب عنه ، فليصم في حضوره له ما ألزمه الله فيه منه ، والمشاهدة له فهو أن يحضره كله ، ومن شهد بعضه فلم يحضر كله ، والشهر كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (ثلاثون ، وتسعة وعشرون) (١) ، وليس الهلال والرؤية بشهر تام ، ولو لزم من حضر الرؤية الصيام ، لكان ذلك لأهله إضرارا ، وعاد تيسير الله فيه إعسارا.

وقد سافر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بدر وغير بدر ، فصام في سفره وأفطر ، ولو لزم من رآه وأهلّه (٢) في أهله المقام لما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (عمرة كحجة ، العمرة في رمضان) (٣) ، ولما جاز لأحد من الناس فيه اعتمار (٤).

٨٣ ـ وسألت : يرحمك الله عن : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ) [البقرة : ٢٢٢]؟

فهو المحيض الخالص من دم الحيض ، فليس لأحد أن يصيب منه وفيه ، ما ينجسه ويؤذيه ، فأما دم الاستحاضة ، فدم ليس بمحيض كدم الحيضة ، فدم المحيض دم خالص

__________________

(١) أخرجه البخاري ٢ / ٦٧٥ (١٨١٤) ، ومسلم ٢ / ٧٦١ (١٠٨٠) ، وأبو داود ٢ / ٢٩٦ (٢٣١٩) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ١٣٨ (٢١٣٥) ، وابن ماجة ١ / ٥٣٠ (١٦٥٦) ، وأحمد ١ / ١٨٤ (١٥٩٤) وغيرهم.

(٢) يعني : نظره. قال في اللسان : وأهلّ الرجل : نظر إلى الهلال ، وأهللنا هلال شهر كذا واستهللناه : رأيناه.

(٣) أخرجه أبو داود ٢ / ٢٠٤ (١٩٨٩) ، والبيهقي في الكبرى ٦ / ٢٧٤ (١٢٣٨٣) ، والطبراني في الكبير ٢٥ / ١٥٣ (٣٦٦) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ٦ / ٤٧ (٣٢٤٥).

(٤) ومعنى كلام الإمام أنه لو كان معنى من شهد الشهر أي : رآه ويلزمه المقام في أهله ولا يحل له السفر ، لما قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (عمرة كحجة ، العمرة في رمضان) ، وهذا إيذان بجواز السفر في رمضان.

ليس فيه كدرة ، ودم المستحاضة دم فيه كدرة وصفرة ، وبينهما عند من تقعدهما (١) من النساء فرق ، لا يجهله منهن إلا الحمق ، فإذا طهرت المرأة من الحيض وهو ما قلنا به من الحيض لزمها وحل منها ، ما يلزم ويحل من المرأة النقية المتطهرة من حيضها (٢).

٨٤ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) [البقرة : ٢٢٩]؟

فإن سرح فهو للثلاث التطليقات تمام ، وإن أمسك فالثالثة الباقية من الطلاق كان الإمساك والمقام.

٨٥ ـ وسألت : هل يلزم الطلاق لغير سنة ، أو على خلاف ما أمر به في الطلاق من العدة؟

يلزمه منه ما ألزم نفسه ، وإن هو عصى فيه ربه ، ولو كان لا يلزم في ذلك شيء ، كان الأمر فيه سواء والنهي ، ولم يجر فيه ولا تجدوه (٣) ، إذا لم يكن فيه طلاق ولا مضرة.

٨٦ ـ وسألت : عن القرو (٤) ما هو؟

فهو الحيض فليس بأطهار ، وإنما القرو الجمع للحيض من التدفق والانتشار ، مما يجمعه به النساء من الخرق ، يتنطقن به لذلك من التنطق (٥) ، وكذلك تقول العرب في الأقراء ، إذا أرادت أن تأمر أحدا بجمع ما في إناء أو سقاء : أقر لنا من الماء ، في الحوض أو في الإناء ، وبات فلان يقري من مائه ، في حوضه وسقائه.

٨٧ ـ وسألت : عن : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) [البقرة : ٢٣٣]؟

__________________

(١) الكلمة في المخطوط مهملة ، وشكل الحرفين الثاني والثالث غير واضحين. وما أثبت اجتهاد.

(٢) في المخطوط : النقية من حيضها المتطهرة. وما أثبت اجتهاد.

(٣) هذه العبارة غير واضحة المعنى ولعل هنا سقطا أو تصحيفا.

(٤) يعني : القرء. وإنما كتبه بالواو لأن لغته حجازية ، وهم يسهلون الهمزة.

(٥) النطاق : شقة أو ثوب من ملابس النساء. والمنطقة : الحزام.

وقد قال بعض الناس في ذلك وعلى الوارث في ذلك ألا يضار ، وليس قول من قال بذلك حجة فيما قال ببينة ولا إسفار (١). وقال واصل بن عطاء (٢) ، وعمرو بن عبيد (٣) ، وغيرهما على وارث اليتيم إذا لم يكن له مال الاسترضاع له والكسوة والإنفاق ، والوارث الذي أمر بالنفقة ، فهو من يرث اليتيم إن مات بالقرابة ، وليس هو بالزوج ولا الزوجة.

٨٨ ـ وسألت : عن تمتيع المطلقات هل وجوبه كوجوب الفرائض الواجبات؟

فذلك واجب على من لم يسم مهرا ، موسرا كان أو معسرا ، وفي ذلك ما يقول سبحانه : (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ) [البقرة : ٢٣٦] ، والموسع فهو الموسر ، والمقتر فهو المقتر. فكل يعطي على قدره ، في يسره للمتمتعة وعسره ، وليس في ذلك عدد معدود ، ولا حد في الأشياء محدود ، هذا فرض واجب ، وحد في المتعة لازم ، كما قال الله سبحانه : (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (٢٤٢) [البقرة : ٢٤١ ـ ٢٤٢] ، ومن سمى من الأزواج لامرأة مهرا ، فلها مهرها موسرا كان الزوج أو معسرا.

٨٩ ـ وسألت : عن قوله : (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) [آل عمران : ٧]؟

فالمحكمات كما قال الله : (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ، والمحكم منه فما صحت حجته في

__________________

(١) في المخطوط : ببينه ولا أسعار. مهملتان.

(٢) واصل بن عطاء العزال أبو حذيفة ، رأس المعتزلة ، ولد سنة (٨٠ ه‍) ، كان من العلماء المتكلمين الكبار ، بايع لمحمد بن عبد الله النفس الزكية. التقى بالإمام زيد بن علي عليهما‌السلام في العراق وتذاكرا له مصنفات منها : أصناف المرجئة ، والمنزلة بين المنزلتين ، ومعاني القرآن ، وغيرها توفي سنة (١٣١ ه‍).

(٣) عمرو بن عبيد بن باب التميمي أبو عثمان البصري ، شيخ المعتزلة في عصره ، وأحد الزهاد المشهورين ، ولد سنة (٨٠ ه‍) ، قال فيه المنصور العباسي :

كلكم طالب صيد

غير عمرو بن عبيد

له مصنفات منها : التفسير ، والرد على القدرية ، توفي سنة (٤٤٤ ه‍) بمران (قرب مكة).

الألباب ، والأم من علم كل شيء ، فهو البيّن من علمه غير الخفي ، وأم أمهات العلوم كلها ، فأنور ما يكون من العلم عند أهلها ، وكذلك الكتاب فمحكماته ، من غير شك أمهاته ، التي لا يشتبه على عالمهن منهن علم ، ولا يدخله في الإحاطة بهن شك ولا وهم ، ولا يحتاج في البيان عنهن إلى إكثار ولا تطويل ، بل تنزيل الله فيهن كافي من التأويل ، كقوله سبحانه : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١١) [الشورى : ١١] ، (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (١٠٣) [الأنعام : ١٠٣] ، وقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [الزمر : ٩] ، وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٤٤) [يونس : ٤٤].

فهذا وأشباهه من كتاب الله فهو المحكم ، الذي ليس فيه ـ بمنّ الله ـ شبهة ولا وهم. وأما متشابه الآيات من الكتاب ، فلا يكون أبدا إلا متشابها كما جعله رب الأرباب ، فليس يحيط غيره بعلمه ولم يكلف أحدا العلم به ، وإنما كلف العلم بأنه من عند ربه ، كما قال سبحانه : (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٧) [آل عمران : ٧] ، فجعل الإيمان به والعلم بأنه من عنده فريضة عليهم في متشابه الكتاب ، ولو كان عند غيره بالاستخراج معلوما ، لما كان متشابها في نفسه ولا مكتوما ، وأزال عنه اسم الإخفاء والتشابه ، كما يوجد له من المخارج في العلم والتوجه ، ولما قال الله : (مُتَشابِهاً) [الزمر : ٢٣] ، جملة وإرسالا ، حتى يقال متشابها عند من كان به جاهلا ، وفي تشابه كتاب الله وإخفائه ، وما أراد بذلك سبحانه من امتحان كل محجوج وابتلائه ، أعلم العلم وأحكم الحكم عند أهل العلم والحكمة ، وأدل الدلائل على الله في الأشياء كلها من القدرة والعظمة.

٩٠ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) [آل عمران : ١٠٦] ، وقلت هل هنالك إلا مسود الوجه أو مبيضه؟

وهم ـ رحمك الله ـ وإن كانوا كذلك ، وعلى ما ذكر الله سبحانه من ذلك ، فهم فرق أصناف ، بينهم في أحوالهم اختلاف فمنهم مؤمن وفاسق ومشرك ومنافق ، وقاتل وقاذف وسارق ، وتنزيل الآية فيما سألت خاص غير عام ، لأنه ليس كل من يسود وجهه يقال له : كفرت بعد الإيمان ، لأن في النار من فرق الكفار من لم يكن

مؤمنا قط في دنياه ، ولم يزل على كفره فيها وعماه ، فكيف يقول لأولئك : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) [آل عمران : ١٠٦]؟! أليس هذا عندك من أزور الزور وأبهت البهتان؟! وابيضاض الوجوه هنالك فإنما هو سرورها وبهجتها ، واسوداد الوجوه إنما هو حزنها وحسرتها. والقول في هذا يومئذ من القائلين ، فإنما هو لمن كفر بعد إيمانه برب العالمين.

٩١ ـ وسألت : عن قوله : (لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) [آل عمران : ١٥٤]؟

والكتاب ـ رحمك الله ـ فقد يكون من الله ، علم ويكون إيجابا من الله ، فكتب في هذه الآية عليهم ، إنما هو علم منهم وفيهم ، وليس معنى كتب يكون معنى فرض ووجد فيما ذكر من هذه الآية ومثلها ، ولكنه خبر عن إحاطة علمه بالأشياء كلها ، وقد قال غيرنا من إخوانك (١) ، بغير ما قلنا به في الآية من جوابك ، فأما [ما] يقول به من ليس يعلم ، فليس يسع مؤمنا به جواب ولا تكلّم.

٩٢ ـ وسألت : عمن (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥] وما المس؟ فالمس هو اللمم ، واللمم فهو الجنون (٢).

وأما ما سألت عنه من التخبط ، فما يعرف من خبط المتخبط ، وهو الغشيان من خارج لا من داخل ، وكما نعلم من مقاتلة المقابل (٣) ، وإنما مثّل الله أكلة الربا إذ (٤) مثّلوا رباهم ، وما حرم الله عليهم من الربا ونهاهم ، بالبيع الذي فيه إرباء ، وإنما هو أخذ بالتراضي وإعطاء ، فقالوا : (إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا) [البقرة : ٢٧٥] ، شبهوا ما لم يجعل الله متشابها ، فشبهوا الحرام بالحلال ، والهدى فيه بالضلال ، فمثّلهم الله في ذلك لما هم عليه من الجهل ، بمن يعرفون أنه عندهم أنقص أهل النقص من أهل الجنون والخبل.

__________________

(١) الكلمة غير واضحة في المخطوط ، ولعلها كما أثبت أو أنها : أحزابك. ولعل السائل من المخالفين للإمام في المذهب.

(٢) في المخطوط : الجبر. ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت. كما تفيده معاجم اللغة.

(٣) في المخطوط : الكلمتان مهملتان ، ولعلهما كما أثبت ، أو أنهما كمقاتلة المقاتل.

(٤) في المخطوط : إذا. ولعلها كما أثبت والله أعلم.

٩٣ ـ وسألت : عن قوله : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ) [البقرة: ٢٨٢] ، هل ذلك فرض عليهم لا يسعهم أن يتركوه؟

فنعم هو فرض عليهم فيمن لم يأمنوا ، وليس بفرض عليهم فيمن أمنوا ، فاجرا كان المؤتمن أو برا ، أو موسرا كان الغريم أو معسرا.

٩٤ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) (١٧٨) [آل عمران : ١٧٨]؟

وقد نهاهم جل جلاله عنه ، فالإملاء منه الإبقاء منه ، وتأخير العذاب والنقم ، فيما ارتكبوا من الجرم ، .... (١) كله وعنه وبما تولى الله منه (٢) ، أتوا من الإثم والإساءة ما أتوا ، وعصوا الله بما عصوا ، فاعلم أن الإملاء نعمة من الله وإحسان ، وازدياد الإثم منهم فإساءة وعصيان ، فمن الله سبحانه الإملاء ، ومنهم الاعتداء ، وتأخيره سبحانه لإنزال العذاب بهم ، إنما هو ليزدادوا إثما بكسبهم ، ليس لما يحبون من سرورهم ، ولا لما يريدون من أمورهم ، ولكن ليزدادوا بالبقاء والإملاء إثما ، ولأنفسهم بما تركوا من البر ظلما ، وإن كان ما تركوا من الهدى ـ وإن لم يفعلوه ـ ممكنا ، كان ما تركوا من الهدى في نفسه حسنا ، ولهم لو صاروا إليه ـ ولن يصيروا ـ منجيا ، وكان كلهم لو أتاه بإتيانه له مهتديا ، فالإملاء والإبقاء هو من فعل الله بهم ، وازدياد الإثم فهو من كسبهم هم وفعلهم ، وما يمكن من الإملاء من الأمور ، فسواء في المكنة من البر والفجور ، فلما آثروا هواهم ، على ما يمكنهم من هداهم ، جاز أن يقال : أملوا ليزدادوا برا وهدى.

ومثل : (لِيَزْدادُوا إِثْماً) [آل عمران : ١٧٨] ، هو قول الله تبارك وتعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٥٦) [الذاريات : ٥٦] ، وهم وإن خلقهم الله ليعبدوه ، فيحملون (٣) لغير العبادة إن أرادوه ، والعبادة لله وخلافها إنما هو فعل منهم ،

__________________

(١) بياض في المخطوط.

(٢) في المخطوط : عنه. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) كذا في المخطوط.

إذا فعلوه [نسب] (١) إليهم ولم يزل عنهم ، وكل ذلك ففعل لهم وصنع ، والله هو الصانع لهم المبتدع ، ففعل الله بريء من فعلهم ، فيما كان من الإملاء لهم ، فعل الله تأخير وإملاء ، وفعلهم ازدياد واعتداء ، وبين ذلك فرق ، لا يجهله إلا أحمق.

٩٥ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً) (٥) [النساء : ٥]؟

فمعنى تؤتوا : هو أن تعطوا السفهاء ، وإن كانوا لكم أبناء وآباء ، يجب عليكم رزقهم وكسوتهم فيها (٢) ، وأمرهم أن ينفقوا عليهم ويكسوهم منها ، ويقولوا لهم من القول معروفه وحسنه ، وهو السهل من القول وليّنه ، ونهاهم أن يعطوا سفهاءهم أموالهم ، التي جعلها الله قياما لهم (٣) ، والقيم هو المعاش واللباس ، الذي به يبقى ويقوم الناس ، فتهبوها لهم أو تأمنوهم فيها ، وتجعلوا لهم سبيلا إليها ، فيفسدوا معاشهم منها عليهم ، إن أعطوهم إياها وسلموها إليهم ، وأمرهم ألا يؤتوا أموالهم التي جعلها الله لهم إلا أن يأنسوا [منهم رشدا] ، ومعنى يأنسوا (٤) : فهو أن يروا منهم رشدا ، فيدفعوها (٥) إليهم ، ويشهدوا بدفعها عليهم ، فكيف يجوز أن يؤتي أحد ماله أحدا ، إذا كان في أرض الله أو لنفسه مفسدا ، وقد نهى الله عن ذلك نظرا من الله للعباد ، وحياطة منه برحمته لأرضه وخلقه من الفساد.

٩٦ ـ وسألت : عن : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء : ٦]؟

فهو : ومن كان لليتيم وليا فليستعفف ، معناها : فليعف عن أن يأكل من مال اليتيم شيا ، ومن كان فقيرا يعني معسرا فليأكل من مال اليتيم بالمعروف ، يقول بأمر مقدر

__________________

(١) في المخطوط بياض ، ولعل السقط ما أثبت [نسب].

(٢) في المخطوط : فيهم. ولعلها مصحفة ، وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المخطوط : جعلها الله لهم قياما. ولعل الترتيب الذي فعلت أليق بأسلوب الإمام.

(٤) في المخطوط : يؤنسوا. وما أثبت اجتهاد.

(٥) في المخطوط : فيدفعوه. وما أثبت اجتهاد.

موظوف (١) ، ليس منه فيه إسراف ، ولا بمال يتيمه إجحاف.

٩٧ ـ وسألت عن : (لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً) [النساء : ١٩]؟

ووراثتهم كرها ، هو : أن يمسكهن الأزواج رغبة في الميراث وشرها ، لا رغبة فيهن ، ولا محافظة عليهن ، وجعل الله ذلك عليهن اعتداء ، وبهن إضرارا. وقد قال الله تبارك وتعالى: (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) [البقرة : ٢٣١].

٩٨ ـ وسألته : عن : (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً) [النساء : ٩٢]؟

يقول سبحانه : أن يقتله إلا زلة وغلطا ، فإما وهو يثبته مؤمنا ، ويعرفه بالله موقنا ، فليس له أن يقتله وإن قتله أيضا مخطيا ، وكان في إيمانه بالله ممتريا ، إذ كان من قوم عدو للمؤمنين ، ولم يكن عند من قتله من المعاهدين ، كان عليه فيه تحرير رقبة مؤمنة ، ولم يكن عليه ما كان عليه في الأول من الدية ، وإن كان من قوم بينهم وبين المؤمنين ميثاق والميثاق هو الذمة والموادعة (٢) والهدنة ، كان على قاتله فيه تحرير رقبة مؤمنة ، وإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ، فأي ذلك فعل فهو من الله عليه توبة ، ومعنى توبة الله عليه من الله عائدة ورحمة ، ولا يقتل ـ رحمك الله ـ ملّي ، بمعاهد ولا ذمي ، وإن كان الملي قتله عمدا ، إلا أن يكون بقتله في أرضه مفسدا (٣) ، فيقتل إن رأى ذلك الإمام بفساده ، وتمرده في أرض الله وعناده ، لقول الله سبحانه : (مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ) [المائدة : ٣٢] ، فأحل الله سبحانه من قتل الأنفس بالفساد، ما أحل من قتلها بالقصاص بين العباد.

__________________

(١) قال في مختار الصحاح : الوظيفة : ما يقدر للإنسان في كل يوم من طعام أو رزق.

(٢) في المخطوط : الذمة والهدنة والموادعة. ولعل ما أثبت أوفق لأسلوب الإمام لموافقة الهدنة ل (مؤمنة) في السجع ، والله أعلم.

(٣) أخرجه النسائي في المجتبى ٨ / ٢٠ (٤٧٣٥) بلفظ : (لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده). وأحمد ١ / ١٢٢ (٩٩١) ، والنسائي في الكبرى ٤ / ٢١٨ (٦٩٣٧) ، وأبو يعلى ١ / ٤٢٤ (٥٦٢) ، والطبراني في الكبير ٢٠ / ٢٠٦ (٤٧١).

٩٩ ـ وسألته : عن المحاربة لله ولرسوله والسعي بالفساد في الأرض؟

ومعنى ما ذكر الله في الآية (١) من المحاربة والفساد ، وما أمر به فيه من التقتيل والصلب والقطع أو النفي من البلاد ، فهو الإجلاب والجيئة (٢) والذهاب ، والاستدعاء على الحق والمحقين ، والمخالفة على الارباب (٣) المتقين ، والتحيل والحشد (٤) للمبطلين إليهم ، والقول بالزور والبهتان عليهم ، في سفك دمائهم ، والتماس ضرائهم ، ومجاهدة أولياء الله فيهم بالمحاربة ، وإجماعهم عليهم بالأذى والمناصبة ، فمن بلغ هذا من المبطلين وصار إليه ، كان حكم الله جل ثناؤه عليه ، وجزاؤه على ما هو من ذلك فيه ، أن يقتل أو يصلب أو يقطع أو ينفى من الأرض والبلاد ، التي سعى فيها على الله ورسوله والمحقين بما ذكره الله من الفساد.

وليس ما في أيدي هذه العامة من تفسير هذه الآية المحكمة عن ابن شهاب الزهري(٥) وأضرابه ، ولا من كان من لفيفه وأصحابه ، الذين كانوا لا يعدلون بطاعة بني أمية ، وما أشركوهم فيه من دنياهم الدنية ، فلم ينالوا مع ما سلم لهم منها ، ما حاطوا به ودفعوا به عنها ، من تلبيس لتنزيل ، أو تحريف لتأويل ، وابن شهاب لما كان كثرة وفادته إليهم معروف (٦) ، وبما كان له من كثرة الضياع وكثرة الغلة بهم

__________________

(١) الآية التي أشار إليها الإمام هي قوله تعالى (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) [المائدة / ٣٣].

(٢) في المخطوط : والجثة. مصحفة ، والصواب ما أثبت.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) في المخطوط : الكلمتان التنحيل والحشد مهملتان ، ولعلهما كما أثبت ، والله أعلم.

(٥) محمد بن مسلم بن عبد الله بن شهاب الزهري ، ولد سنة (٨٥ ه‍) نزل الشام واستقر بها ، كان من خدم وشرطة الدولة الأموية رغم علمه ومعرفته ، وكان من النواصب نصر الأمويين بالأحاديث الموضوعة ضد علي عليه‌السلام وأهل بيته ، للسيد العلامة بدر الدين الحوثي كتاب (اتهام الزهري) جمع فيه الروايات المتهم فيها الزهري ضد آل أبي طالب ، أعمل في تحقيقه. توفي سنة (١٢٤ ه‍).

(٦) خبر المبتدأ (وابن شهاب) لا خبر كان ، وكذلك (موصوف) بعدها.

موصوف (١).

وقلت : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) [المائدة : ٤٤] ما تأويلها؟

وتأويلها ـ استمتع الله بك وبنعمته عندك ـ هو تنزيلها (٢) ، وذلك أن من حكم بأحكام التنزيل بخلاف حكمه ، فهو غير شك من الكافرين به ، لأن من أحل ما حرم الله أو حرم ما أحل الله بعد الإحاطة بعلمه ، فهو من الكافرين بالله في حكمه ، لأنه منكر من حكم الله فيه لما أنكر ، ومن أنكر من أحكام الله [و] تنزيله حكما فقد كفر ، ولله أحكام هي ليس في تنزيل ، في تحريم من الله وتحليل ، ولكنها من أحكام التأويل ، حكم بتنفيذها والحكم بها ، فمن لم ينفذها ويقم إذا أمكنه تنفيذها ، فهو من الظالمين ، وفي تعطيلها من الفاسقين.

١٠٠ ـ وسألته عن : (وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ) [الأنعام : ٨]؟

وكانوا يقولون لو لا أنزل عليه فيكون معه (٣) فيشهد له من رسالته بما ينكرون ، فقال الله سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ) ـ فيهم بأخذهم ـ (ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ) (٨) (٤) [الأنعام : ٨] ، يقول تبارك وتعالى : ثم لا يتركون ساعة ولا يؤخرون ، فما ينفعهم إذا أخذوا إيمانهم ، بعد رؤيتهم للعذاب وعيانهم.

ثم قال سبحانه : (وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً) ما أيقنوه ، إلا أن يروه رؤية ويعاينوه ، وما كانوا ليروه عيانا ، إلا أن يجعله الله مثلهم إنسانا ، في الصورة والحلية ، وما للرجال

__________________

(١) لعل الزهري فسر الآية بالخارجين على سلاطين الجور من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وليس هذا ببعيد فقد كان الزهري كما ذكر التاريخ من شرطة بني أمية الذين يحرسون الإمام زيد بن علي وهو مصلوب لئلا تدفنه الزيدية. ووجدت رواية عن الزهري في تفسير (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) ، قال : نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه ، كلما سمع به في أرض طلب. الدر المنثور ٣ / ٦٩. عند تفسير الآية ، ولمزيد من التوسع ارجع إلى اتهام الزهري للعلامة بدر الدين الحوثي بتحقيقنا.

(٢) يعني معناها واضح على ظاهرها.

(٣) في المخطوط : معه مشهد فيشهد. ولعلها زيادة.

(٤) في المخطوط : لا ينظرهم.

من الهيئة ، لا في جميع حدود البشرية ، ولكنه في المنظر والرؤية (١) ، فقال سبحانه : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ) (٩) [الأنعام : ٩] ، يقول سبحانه ولو فعلنا ذلك به فجعلناه رجلا كما يعرفون ، لزادهم ذلك لبسا إلى لبسهم ، ولما أيقنوا أنه ملك في أنفسهم ، ولو نزلنا عليه الملك على حاله ملكا ، لما كان أحد منهم معاينا له ولا مدركا ، إلا أن يأتيهم من الصورة وهيئتها في مثل لباسهم منها ، فيرونه ويدركونه بمثل دركهم [و] رؤيتهم لها (٢) ، وإلا لم يروه ولم يعاينوه أبدا ، وكيف يرون من كان من الملائكة ولم يروا قط من الجن أحدا ، والجن في احتجابها عنهم أقرب إليهم قربا ، والملائكة أبعد عنهم مكانا ومحتجبا.

وليس يعاين أبدا من الملائكة الحضرة ، إلا عند الموت الذي ليس بعده تأخير ولا نظرة ، حين يكشف عن المحظور الغطاء ، ويزول عنه الأخذ والإعطاء ، فيرى من الحضرة ما لم ير ، ويحدث الله له عند المعاينة لهم بصرا ، فيعاينهم عند الموت وفي غمراته ، وعند ما وقع فيه من غصصه وسكراته ، كما قال الله سبحانه : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (١٩) [ق : ١٩] ، وقد قال في الموت وما بعده من البعث : (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (٢٢) [ق : ٢٢] ، وكما قال سبحانه : (وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ) [الأنعام : ٩٣] ، فالملائكة هم الذين يبسطون أيديهم ويقولون : (أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ) (٩٣) [الأنعام : ٩٣].

وقلت : أرأيت لو جعل الله الملك رجلا ، ومن كانت الرسل تراه من الملائكة قبلا ، أهم في تلك الحال والهيئة والصورة ملائكة أم رجال؟ بل هم في تلك ملائكة وإن انصرفت بهم الهيئة والأحوال ، ألا ترى أن الذهب والنحاس ، وإن لم يكونا هم الناس

__________________

(١) في المخطوط : في الرؤية والمنظر. ولعل الترتيب الذي فعلت أوفق لأسلوب الإمام.

(٢) في المخطوط : بها. ولعل الصواب ما أثبت.

(١) ، فقد يصنع منهما صور وهيئات ، ويحدث فيها تماثيل مختلفات ، والذهب وإن اختلفت هيئاته ذهب على حاله ، وكذلك النحاس وإن كثرت فيه الصور فهو نحاس على حاله ، لم ينقل واحد منهما عن خليقته وذاته ، ما نقل عنه من متقدم صورته وهيئاته ، وإنما تبدو الملائكة إذا بدت بأمر الله وإرادته إلى البشر ، بما جعل الله لها وأحدث فيها من الهيئات والصور ، لا البشر بما لا يدركون ولا يرون ، من الصور والهيئات إلا ما يبصرون ، فجعل الله من الملائكة رسلا ، وجعل من شاء منهم كما شاء إن شاء رجلا.

وقال في ذلك [تبارك] وتعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) [فاطر : ١] ، فالتبديل للخلق والزيادة ، ليست إبادة ، وكذلك من مسخه الله تبارك وتعالى قردا أو خنزيرا ، فإنما أحدث له عن هيئته وصورته تبديلا وتغييرا ، فبدّل هيئته وصورته ، وأقر نفسه وذاته ، ولو كان المسخ للممسوخ إبادة وافناء ، لكان ذلك فطرة وإنشاء وابتداء ، ولم يقل تغيير ولا مسخ ولا تبديل ، ولم يصح بذلك ـ إذا لم تكن الذات موجودة ـ خبر ولا قيل.

١٠١ ـ وسألته [عن] : (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١١٠) [الأنعام : ١١٠]؟

فتقليب (٢) أفئدتهم وأبصارهم تضليله إياهم فيما يعملون ، وتركه تبارك وتعالى فيما هم فيه من ضلالهم يعمهون ، والتضليل من الله لهم ، فإنما هو بعملهم ، وسواء في المعنى أضلهم وضللهم ، كما سواء أكفرهم وكفّرهم ، ألا ترى أن من أضللت فقد ضللته ، ومن أكفرت فقد كفرته.

١٠٢ ـ وسألته عن معنى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) [الأنعام : ١٢١]؟

__________________

(١) هكذا في المخطوط ، ولم يتضح لي معنى العبارة.

(٢) في المخطوط : وتقلب. ولعل الصواب ما أثبت.

ومعنى إيحاء الشياطين ، هو إلقاء الشياطين للمجادلة للمؤمنين ، (١) والشياطين كما قال الله سبحانه فقد تكون (٢) من الجن والإنس ، وما يلقون إلى أوليائهم من المجادلة من زخرف القول واللبس ، كما قال الله سبحانه : (شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١١٢) [الأنعام : ١١٢] ، يريد سبحانه بقوله : (فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) [الأنعام : ١١٢] من الخزي (٣) بزخرف القول وغروره وما يقولون ، فسيعلمون من بعد ما هم فيه من دنياهم إلى أي منقلب ينقلبون.

١٠٣ ـ وسألته : عن تأويل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ) [الأنعام : ١٢٥]؟

فتأويلها رحمك الله من يرد الله أن يرشده فيزيده هدى على هدى ، لأنه لا يعطي الهداية إلا من اهتدى ، كما قال تبارك وتعالى في زيادته لهم هدى إلى هداهم : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ) (١٧) [محمد : ١٧] ، والتقوى فمن الهدى ، وآتا ، فمعناها : وأعطا ، فهو آتاهم التقوى بتبصرته وتقويته لهم على ما عملوا منها ، وبمنعه لهم تبارك وتعالى من الضلالة ونهيه لهم عنها ، وليس بين الضلال والهدى منزلة ، هادية لأهلها ولا مضلة ، فمن يرد الله أن يهديه بعد الهدى ، يشرح يريد : يفتح صدره للتقوى ، ومن يرد أن يضله الضلالة والعمى ، يجعل صدره بما اتبع من الضلالة والهوى ، ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء ، كذلك يفعل الله بأهل الضلالة والاعتداء.

١٠٤ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ) [الأعراف : ١٥٥] ما هذه الفتنة؟

وهي الابتلاء من الله والاختبار والمحنة ، وإضلاله وهداه بها ، فهو عنها وبسببها ، و (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) [النحل : ٩٣ ، فاطر : ٨] ، هو إضلاله إن ضل

__________________

(١) في المخطوط : للمؤمنين عليهم. لعلها زيادة.

(٢) في المخطوط : يكون.

(٣) كذا في المخطوط. كلمة مهملة ولم أهتد فيها إلى معنى.

وهدايته لمن اهتدى ، ومن ضلّ ضلّله ، ومن اهتدى كان مهتديا عنده ، وزاده تبارك وتعالى في هداه ، وآتاه كما قال سبحانه تقواه.

١٠٥ ـ وسألت : عن قول نوح صلى الله عليه : (وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ) [هود : ٣٤]؟

فإنما أخبر صلى الله عليه عن نفاذ قدرة الله فيهم ولم يخبر أنه يريد ، ولا أنه لإغوائهم مريد ، وإنما قال : إن كان ، ولم يقل : أن قد كان ، فقد أوضح وأبان ، لكل من يعقل اللسان ، أنه إنما أراد بقوله صلى الله عليه الخبر عما لله من الاقتدار ، لا ما يذهب إليه من لم يهتد للرشد من أهل الإجبار ، فأخبر أنه غير نافع لهم نصحه وإن أراد نصيحتهم ، إن كان الله يريد هلكتهم ، فصدق صلى الله عليه لأنه إن أراد شيئا وأراد (١) الله أن يفعل سواه ، ليكونن ما أراد الله صنعا وخلقا وشاه ، ولا يكون من ذلك وفيه ، ما أراد نوح صلى الله عليه ، وكيف يريد الله إضلالهم وإغواءهم؟! وهو يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاما إلى هداهم ، ما يزعم هذا أو يقول به ، إلا من جهل أمر ربه ، في الرأفة والرحمة ، والعلم والحكمة ، وكيف تدعو رسله العباد ، إلى خلاف ما شاء وأراد ، الله أحكم أمرا وأجلّ قدرا ، من أن يكون في ذلك كما قال من خاب وافترى.

وكذلك ما قال شعيب صلوات الله عليه : (وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [الأعراف : ٨٩] ، فقال إلا أن يشاء ، ولم يقل أن قد شاء ، بل وكّد بقوله فيه ومعناه ، أن لن يريده الله أبدا ولن يشاء ، ولكنه أخبر عن قدرته ، على كل ما شاء في بريته.

ومثل هذا من التنزيل سوى قوله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ١١٦ ، ٤٨] ، ولن يشاء أن يغفر لمن وعده من أهل الكبائر بالنار ، لما (٢) فيه من إخلاف الوعد وإكذاب الأخبار ، التي منها (وَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ وَعْدَهُ) [الحج : ٤٧] ، و (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) (٢٠) [ق : ٢٠] ، ومنها قوله : (ما

__________________

(١) في المخطوط : وإن أراد. ولعلها زيادة سهو.

(٢) في المخطوط : ولما. والصواب حذف الواو ، لأن لما تعليل لما قبله.

يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٢٩) [ق : ٢٩] ، وقوله جل ثناؤه لرسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في منزل الكتاب : (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) (١٧) [غافر : ١٧].

ومثل ذلك قول عيسى صلوات الله عليه : (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١١٨) [المائدة : ١١٨].

وقول إبراهيم صلى الله عليه : (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣٦) [إبراهيم : ٣٦] ، وكل ذلك منهم فإنما هو خبر عما لله من القدرة ، على ما يشاء من العذاب والمغفرة.

١٠٦ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما) [الأعراف : ١٩٠]؟

فهو ما وهب لهما من ولدهما وأعطاهما ، جعلا [له] فيما أحسب بين الله وبينهما ، يعبد (١) الله ويحرث الحرث ، وقد يذكر في التوراة أنهما سمياه عبد الحارث ، وقالوا إن الحارث هو إبليس ، فيما أحسب وهم وهمته اليهود في التفسير فقالت فيه بالتلبيس ، وأدخلوا مكان ما جعلاه له من الحرث عبد الحارث ، فجعلوه عبدا لما جعلاه ولم يفرقوا فيه بين الحرث والحارث ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً) [الأعراف : ١٩٠] يعني : ولدا ذكرا (جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ) [الأعراف : ١٩٠] منه فيما آتاهما ، يريد تبارك وتعالى : نصيبا فيما أعطاهما ، من صالح الولد ، فجعلاه بينهما وبين التعبد ، ألا ترى لقوله سبحانه فيه ، إذا يسلماه كله إليه : (فَتَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) (١٩٠) [الأعراف : ١٩٠] ، يقول فتعالى الله أن يكون (٢) هو وهم في شيء من الأشياء مشتركون ، كما قال في أهل الجاهلية : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَٰذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَٰذَا لِشُرَكَائِنَا ۖ فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَىٰ

__________________

(١) في المخطوط : فعبد الله. ولعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت والله أعلم.

(٢) يكون هذه هي التامة وإلا لقال في خبرها (مشتركين).

شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١٣٦) [الأنعام : ١٣٦]. وكذلك قال الله تبارك وتعالى: (وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً) ـ يعني شريكا ـ (مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ) (٥٦) [النحل : ٥٦]. وليس يتوهم الشرك عليهما بالله ، إلا من لا علم له فيهما بأمر الله.

١٠٧ ـ وسألته عن : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) [الأعراف : ١٧٢]؟

وذكرت ما قالت به العامة في ذلك من قولهم ، وليس ما قالوا به فيه ، بشيء مما يلفت إليه ، لأنهم قالوا أخذ من ظهر آدم (١) ، وقالوا [أخذ] (٢) من بني آدم (٣) ، وآدم غير

__________________

(١) عن هشام بن حكيم أن رجلا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله أتبدأ الأعمال أم قد قضي القضاء؟ قال : فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ، ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه ، ثم قال : هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار.

أخرجه الطبراني في الكبير ٢٢ / ١٦٩ (٤٣٥) ، وفي مسند الشاميين ٣ / ٩١ (١٨٥٤) ، والبزار ٣ / ٢٠ (٢١٤٠) كشف الأستار ، وابن جرير الطبري في جامع البيان (١٥٣٧٩).

وأخرجه الطبراني في الكبير ٢٢ / ١٦٨ (٤٣٤) ، وفي مسند الشاميين ٣ / ٩١ (١٨٥٥) ، وابن جرير في جامع البيان (١٥٣٨٠) ، والآجري في الشريعة (١٧٢) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٣٢٦).

من طريق راشد بن سعد ، عن عبد الرحمن بن قتادة عن هشام ، به. وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد ٧ / ١٨٦ ، وقال : رواه البزار والطبراني ، وعزاه إليه ابن كثير في تفسيره ٢ / ٢٧٤.

(٢) في المخطوط : بياض مكان الكلمة التي أثبت.

(٣) قال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عنها فقال : إن الله خلق آدم عليه‌السلام ثم مسح ظهره بيمينه فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون. فقال رجل : يا رسول الله ففيم العمل؟ قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخل به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخل به النار.

أخرجه أحمد ١ / ٤٤ (٤٥) ، وأبو داود (٤٧٠٣) ، والنسائي في التفسير (٢١٠) ، والترمذي ٥ / ٢٢٦ (٣٠٧٥) ، وقال : هذا حديث حسن ، وابن أبي حاتم كما في الدر المنثور ٣ / ١٤٢ ، وابن جرير ـ

بنيه وظهره غير ظهورهم ، وذريته غير ذراريهم ، والذراري تكون صغارا وكبارا ، وأطفالا ورجالا ، وكل أهل الجاهلية من رجال العرب الذين كانوا يشركون ، قد أخذوا ومعنى أخذوا : أخرجوا ذرية من ظهور آبائهم من بني آدم لا يشكون ، وكلهم كان شهد وأقر (١) بأن الله ربه ، وأن ما يرى من السماوات والأرض خلقه ، فاستشهدهم الله على ربو بيته بما يشهدون ، وبما كانوا يقرون به كلهم فلا ينكرون ، وفي ذلك يقول سبحانه : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ) (٦١) [العنكبوت : ٦١] ، ولم يقل سبحانه إنه استشهد على ربوبيته أحدا من الأطفال ، ولا يكون الاستشهاد والشهادة إلا للرجال.

والله أعلم ما يكون وغيره وما كان ، ونسأل الله أن يفهّمنا ويفهّمك عنه البيان.

١٠٨ ـ وسألته عن : (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) [الأنفال : ٤٤]؟

فتأويل (لِيَقْضِيَ) ليتم أمره فيكم وفيهم (٢) ، ونصره لكم عليهم. والتقليل من الله في أعينهم للمؤمنين ، فإنه تبيينه من الله للمستبينين ، والتقليل فقد يكون أنواعا ، إن كان لأنواعه كله جماعا ، ليس ينكرها ممن أنكر منكر ، لأن الله على كلها ـ لا شريك له ـ مقتدر.

١٠٩ ـ وسألته : عن : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا

__________________

ـ (١٥٣٥٧) ، وابن حبار في الموارد (١٨٠٤).

وأخرجه مالك ٢ / ٨٩٨ (٨٩٩) ، والآجري في الشريعة (١٧٠) ، واللالكائي (٩٩٠) ، والبغوي في شرح السنة (٧٧) ، وابن منده في الرد على الجهمية ٢ / ٢٨ (٥٦) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (٣٢٥) ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٣٢٤ ٣٢٥ ، ٥٤٤ ، وابن أبي عاصم في السنة (١٩٦ ، ٢٠١) ، والبخاري في تاريخه ٤ / ٢ / ٩٦ ٩٧ ، من طرق عن زيد بن أبي أنيسة عن عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي عن مسلم بن يسار الجهني به.

(١) في المخطوط : وكلهم كانوا شهد ويقر. ولعل العبارة تصحفت.

(٢) في المخطوط : فيهم وفيكم. وما أثبت اجتهاد لتوافق السجعة التي تليها.

يَعْقِلُونَ) (٢٢) [الأنفال : ٢٢]؟

فهم رحمك الله أهل الكفر بالله الذين لا يؤمنون ، والذين علم الله لو أسمعهم بزيادة في التبيين لما كانوا يسمعون ، يريد تبارك وتعالى لما كانوا يطيعون ، وفيهم ما يقول الله سبحانه : (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٥٥) [الأنفال : ٥٥]. وفي أن السمع هو الطاعة ، ما يقول سبحانه : (وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) (٤٦) [النساء : ٤٦].

١١٠ ـ وسألته : عن قول اليهود : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) [التوبة : ٣٠]؟

فقد يمكن أن يكون عنى بذلك ماضيهم ، وأن يكون أيضا اليوم من يقول من باقيهم ، وليس كلهم لقيت ، وإنما لقيت منهم من شاهدت ورأيت.

١١١ ـ وسألته عن : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ) [التوبة : ١١٤] فيما ذكر عنه رب العالمين ، (وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ) (٨٦) [الشعراء : ٨٦]؟

فلما تبين له أنه من أصحاب النار بالإصرار ، تبرأ منه وما كان عليه من الاستغفار.

١١٢ ـ وسألته عن : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ) [التوبة : ١١٥]؟

يقول سبحانه [ما كان] ليتركهم ضلالا بعد تبيينه لهم لما بيّن حتى يبيّن لهم كل ما يحذرون.

١١٣ ـ وسألته : عن قوله : (وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها) [السجدة : ١٣]؟

فقد يكون أن يكشف عنها عماها ، ويريها من آياته ودلائله عيانا ، ما يحدث لها معرفة وإيقانا ، لا يكون معه لها أجر ، ولا يجب به لها ذخر ، ويكون منها درك اضطرار ، لا درك نظر ولا فكرة ولا اعتبار ، وفي ذلك وبه الجزاء والثواب ، وعلى ترك ذلك وفي إغفاله ما (١) يجب العقاب ، وهو وإن كان كذلك ، فعلى ما وصفنا من ذلك ، فهدى

__________________

(١) في (ما) زائدة لتحسين الكلام وكثيرا ما ترد في كلام الإمام.

وبصيرة وغير حيرة ولا ضلال ، وفيه إذا كان ما أخرج أهله من الجهل بالهدى ومن الضلال.

وهذا رحمك الله فوجه من الهدى ، لا ينكره ولا يجهله من أبصر واهتدى ، وما كان لهذه الآية مشابها ونظيرا ، فكفى بهذا الجواب فيه حجة وبرهانا منيرا.

١١٤ ـ وسألته : عن يونس صلى الله عليه ، وقول الله سبحانه فيه : (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) [الأنبياء : ٨٧]؟

اعلم رحمك الله أن قوله : (فَظَنَ) أنه ، ليس يخبر عن يونس بظن ظنّه ، لأنه لو كان كذلك منه ، لزال اسم الإيمان عنه ، ولا يزول اسم الإيمان في حال ، عن من خصه الله بالإرسال ، وفي ذلك لو كان تجهيل للمرسل ، فيمن يصطفي ويختص من الرسل ، ولكن (فَظَنَ) قول (١) من الله في يونس قاله ، يبين للسامعين زلة يونس وإغفاله ، يقول سبحانه فظن يونس أن لن نقدر عليه ، في إباقته من الفلك إلى من أبق إليه ، فهو ليس يظن ، ولكنه مقر موقن ، بقدرتنا عليه ، ونفاذ أمرنا فيه ، فما (٢) أبق إلى الفلك فارا هاربا ، وذهب مع يقينه بقدرتنا عليه مغاضبا ، إلا لإغفاله وزلته ، التي نجاه الله منها بتوبته ، فهذا وجه (فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ) ، الذي لا يجوز غيره من الوجوه ، وهو كلام صحيح لا تنكره فيه العقول.

١١٥ ـ وسألته : عن : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى) (٦٧) [طه : ٦٧]؟

فلم يوجس صلى الله عليه أن يغلب أو يقهر ، ولكنه أوجس ألا يبصر ـ من حضره من السحرة ومن الناس ـ حقيقة الحق كما (٣) أبصر ، فيظنون أن ما جاء به من الحق كسحر السحرة ، وأن موسى صلى الله عليه من الكفرة ، وقد كان خاف قولا منهم واعتسافا (٤) فقالوا : (إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ

__________________

(١) في المخطوط : قولا. ولعلها سهو من النساخ.

(٢) في المخطوط : فلم. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) في المخطوط : من حضره والسحرة من الناس حقيقة الحق ما أبصر. ولعل ما أثبت هو الصواب ، والله أعلم.

(٤) لعل هنا سقطا.

بِسِحْرِهِما) [طه : ٦٣] ، وقالوا فيه : (فَما ذا تَأْمُرُونَ) (١١٠) [الأعراف : ١١٠، الشعراء : ٣٥] ، وقال موسى صلى الله عليه فيما قالوا به من ذلك : (أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ) (٧٧) [يونس : ٧٧].

١١٦ ـ وسألته : عن قوله : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللهُ آياتِهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (٥٢) [الحج : ٥٢]؟

فتأويل تمنى : هو قرأ ، وألقى الشيطان في أمنيته ، تأويله : ألقى الشيطان في قراءته ، وقراءته عليه‌السلام فهو ما ألقى من القرآن إلى أمته ، وألقى الشيطان فيما كانوا يقرءون من القرآن وآياته ، هو إلقاء من الشيطان في أمنيته وقراءته ، والإلقاء في القراءة من الشيطان ، ليس إلقاء في قلب الرسول ولا فيما جعل الله له من اللسان ، ولكنه إلقاء من الشيطان في القراءة بزيادة منه في القراءة أو نقصان ، وقد رأينا في دهرنا هذا بين من يقرأ آيات القرآن ، اختلافا كثيرا في الزيادة والنقصان ، فما كان من ذلك صدقا وحقا فمن القرآن ، وما كان منه كذبا وباطلا فهو من الشيطان ، في أيدي الروافض من ذلك والغلاة ، ما قد سمعت وسمعنا والله المستعان من القراة (١).

فأما (تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتها ترتجى) (٢) ، فقد فهمنا منه ما ذكرت ، وسمعنا منه بعض ما سمعت ، وهو كلام مغور فاسد لا يتكلم بمثله حكيم ، ولا ماجد كريم ، لا يشتبه بفساده في تأليفه ، وقبحه في نفسه وضعفه ، أن يكون من بليغ من بلغاء العرب ، فكيف من الرسول أو الرب ، الذي لا تدركه بتحديد العقول ، ولا يشبه قوله في الحكمة قول.

١١٧ ـ وسألته : عن قول إبراهيم صلى الله عليه : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) (٧٧) [الصافات : ٧٧]؟

__________________

(١) إشارة إلى قول طائفة من الروافض الغلاة القائلين بتحريف القرآن.

(٢) أخرج القصة الحاكم ٢ / ٦٨٠ (٤٢٤٦) ، والبيهقي في الكبرى ٢ / ٣٦١ (٣٧٣٦) ، والطبراني في الكبير ١ / ٩٠ (١٤٣) ، وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني ١ / ١٢٣ (١٢٣).

فالله خلقكم وحجارة الأصنام التي كانوا يعبدون ، وكما قال صلى الله عليه : (قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) (٩٥) [الصافات : ٩٥] ، وسواء قوله : (ما تَنْحِتُونَ) وقوله : (وَما تَعْمَلُونَ).

١١٨ ـ وسألته عن : (فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ) [إبراهيم : ٩]؟

فهو عضهم على الأيدي بأسنانهم ، وهو شيء يفعله المغتاظ ، إذا غضب أو اغتاظ ، ويفعله أيضا المتحير المتفكر ، إذا التبس عليه ما يفكر فيه وينظر.

١١٩ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢) [الفرقان : ٧٢]؟

فالشهادة هي الحضور ، والزور من الأشياء فهو البور (١) ، وهو الباطل والكذب ، واللغو فهو الغفلة واللغب ، فذلك كله وما كان منه فلا يشهدونه ، وإذا مروا به أعرضوا عنه(٢).

١٢٠ ـ وسألته : عن قول الله : (وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) [هود : ١١٨ ـ ١١٩]؟

فذلك فلن يزالوا كما قال الله سبحانه مختلفين ، لأن الاختلاف لا يزال أبدا بين المحقين والمبطلين ، وهو خبر من الله عما يكون ، وأنهم لن يزالوا مختلفين فيما يستأنفون ، فالاختلاف منهم وفيهم ، ولذلك نسبه الله إليهم ، وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ) يريد من المؤمنين ، فإنهم في دينهم متآلفون غير مختلفين. وقوله تبارك وتعالى : (وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ) [هود : ١١٩] يقول سبحانه للمكنة ، مما يجب به الثواب والعقاب من السيئة والحسنة ، ولو لا خلقه لهم كذلك ، وعلى ما فطرهم عليه من ذلك ، لما اختلفوا في شيء ، ولما نزل عليهم أمر ولا نهي ، ولا كان فيهم مسيء ولا محسن ، ولا منهم كافر ولا مؤمن ، ولكانوا كالموات الذي لا يحسن ولا يسيء ، ولا يفجر عند الله ولا يتقي.

١٢١ ـ وسألته عن : (وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي) [النحل : ٦٨]؟

__________________

(١) البور : الرجل الفاسد الهالك الذي لا خير فيه. مختار الصحاح.

(٢) في المخطوط : أعرضوا. وما زدته ضرورة لاتساق الكلام.

فقد يكون الإيحاء إلهاما ، ويكون الإيحاء من الوحي كلاما ، ويكون الإلهام تعريفا وفطرة ، ويكون الكلام تعليما وتذكرة ، وأي ذلك كان ، فعلم وبيان ، لا ينكره ولا يدفعه بالله مقر ، ولا يأباه إلا ملحد في الله متكبر ، لا ينكر صاغرا وإن كابر بالانكار في أن للنحل وأشباهه احتيالا ، وأن لها صنعا محكما وأعمالا ، فيما يرى من شهدها ، وعجيب ما فيه من عقدها.

١٢٢ ـ وسألته : عن قوله : (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ) [النساء : ١٠٢]؟

فتأويلها (وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ) يريد : في سفر وخوف معهم ، فأقمت الصلاة لهم ، (فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ) ، يقول سبحانه من جميعهم معك ، وليأخذوا أسلحتهم كلهم ، من قام معك في الصلاة ومن لم يقم معك منهم ، (فَإِذا سَجَدُوا) [النساء : ١٠٢] يعني الذين معه في صلاتهم آخر سجدة منها فأتموا ، وفرغوا من صلاتهم كلها وسلموا ، (وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ) [النساء : ١٠٢] كلهم ، من صلى معك ومن لم يصل منهم ، ولا يقال للطائفة الآخرة لم يصلوا ، إلا والطائفة الأولى قد صلوا.

ولا تصلى صلاة الخوف إلا في سفر ، ولا يصلى شيء منها في حضر ، لأن أهل الحضر في بيوتهم وحصونهم مستترون ، وأهل السفر لعدوهم بارزون مصحرون (١). وصلاة الخوف أن يصلي الإمام بإحدى الطائفتين ركعة واحدة ثم يقومون ، فيتمون الركعة الثانية ثم يسلمون ، والطائفة الأخرى الواقفة للعدو في سلاحهم مستلمون ، وليس لهم شغل من صلاة ولا غيرها سوى المواقفة ، والحراسة لأنفسهم وإخوانهم من عدوهم بالمصافة ، فإذا رجعوا إليهم من صلاتهم ، وقعدوا للعدو موقفهم ، ولم يزايلوا أبدا مواضعهم ، حتى يتم إخوانهم من آخر الصلاة ما أتموا ، ويسلموا من صلاتهم كما سلموا ، فتكون كل واحدة من الطائفتين قد حرست كما حرست ، وأخذت منهما من الحراسة ما أخذت ، وأعطت من الحراسة ما أعطت ، وصلى بها من الصلاة مع الإمام ما

__________________

(١) مصحرون : مقيمون في الصحراء.

صلت ، فهذا عندنا أحسن ما سقط إلينا في صلاة الخوف.

وكذلك صلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما بلغنا صلاة الخوف في غزوة له (١) غزاها يقال لها : ذات الرقاع (٢).

وفقنا الله وإياك للتقوى ، في كل محنة نزلت بنا أو بلوى ، وصلى الله على محمد وآله الأبرار ، الطيبين الأخيار.

١٢٣ ـ وسألت : وفقنا الله وإياك لمرضاته ، ولعلم ما أوجب الله علينا وعليك علمه من آياته ، عن قول الله جل جلاله ، عن أن يحويه قول أو يناله : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (٧٢) [الأحزاب : ٧٢] ما وجه ما أراد الله بذلك من المقال ، ومن أين جاز أن يقال : أبين وأشفقن وجه ما أراد الله تبارك وتعالى بذلك وتنزيله ، ما أبانه الله من تظليم الإنسان بما بناه (٣) الله عليه من تبيينه للخيانة في الأمانات ، والتأدية (٤) ما صغر حليته في الخلقة والتركيب ، من قدر ما ذكر الله من الخلق العجيب ، وأنت رحمك الله فقد تعلم أنك لو عرضت بفكرك ، وفي تقديرك ونظرك ، فضلا عما قد تعلمه يقينا بقلبك ، على ما قد تعرفه من السماوات ، أمانة من الأمانات ، لما حملتها ، ولا شيئا منها ، إذ كن عندك في علمك غير ناطقات ، وهن فإذا كن كذلك فهن لحمل الأمانات غير مطيقات ، فإذا كن من ذلك لنفس خلقهن وما بنين عليه من ضعفهن ممتنعات ، أفضل مما يقول به منها قائل ، أو يتحير من علمائها عالم (٥).

وقد يحتمل أيضا أن يكون إنما أريد السماوات والأرض والجبال : أهلهن ، ومن

__________________

(١) في المخطوط : لها. ولعلها سهو من النساخ.

(٢) أخرجه البخاري ٤ / ١٥١٢ (٣٨٩٨) ، ومسلم ١ / ٥٧٤ (٨٤٠) ، وأبو داود ٢ / ١٧ (١٢٤٨) ، والنسائي في المجتبى ٣ / ١٧١ (١٥٣٩) ، وأحمد ٦ / ٢٧٥ (٢٦٣٩٧) وغيرهم.

(٣) كذا في المخطوط.

(٤) يبدو أن في هذه الجملة سقطا أو تصحيفا. والمعنى غير واضح.

(٥) وفي هذه العبارات خلل ، لعل بها سقطا أو تصحيفا. والله أعلم.

جعل ساكنا لهن ، مما ينطق (١) ، ويأبى ويشفق ، كما قال إخوة يوسف واسأل العير وليسوا يريدون إبلها ، فهذا وجه من الوجوه ، ليس بسيئ ولا مكروه ، مفهوم معقول ، يجوز بمثله في العرب القول.

١٢٤ ـ وسألت عن : (الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [الحشر : ٢٣]؟

فالله هو المؤمن لأوليائه من سخطه ، والمهيمن : الشهيد ، والله هو الشهيد على أعدائه بمعصيته.

١٢٥ ـ [وسألت : عن الحمّى أهي من الضربة أم من الطبيعة]؟

وأما الحمّى عن الضربة الموجعة ، فإن الله جعلها تكون من الطبيعة ، فالضربة من الضارب ، والحمى فمن الطبائع (٢) ، ألا ترى أن الحمى لو كانت من الضارب لزمه فيها القصاص والقود ، وهذا مما ليس يدرك حقيقته أحد ، وقد قال الله سبحانه :

(وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ) [المائدة : ٤٥] والجروح من الجارح ، وليس الحمى بعمل شيء (٣) من الجوارح ، فهو علم الله المعلوم (٤).

١٢٦ ـ وسألت عن : (زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) (٢) [التكاثر : ٢]؟

فهو دخلتم المقابر.

١٢٧ ـ وسألت : عن زرع الأرض المغتصبة؟

فلا يجوز الزرع فيها لغاصبها ولا غير غاصبها ، إلا أن يزرع بإذن صاحبها.

١٢٨ ـ وسألت : عن شراء اللحم من اليهود والنصارى؟

فإنا لا نرى أن يباع منهم ولا يشترى ، فإنهم ليسوا ممن يؤمن عليه ، أن يخلطوا ما لا يحل فيه.

__________________

(١) في المخطوط : يطيق. والصواب ما أثبت.

(٢) يبدو أن المطرفية أخذت القول بالطبع للأجسام للإمام القاسم من هنا. تأمل.

(٣) في المخطوط : شيا. ولعلها مصحفة.

(٤) لعل قبل هذه الجملة جملة ساقطة.

[مسائل متفرقة في الصلاة والحج]

١٢٩ ـ [وسألت : عن القصر من غير خوف]؟

وأما القصر من غير خوف فيقصر كل من سافر آمن أو خائف ، أو كان فاجرا أو برا(١).

١٣٠ ـ [وسألت : عن التشهد]؟

وأما التشهد فما قيل الذي يذكر عن ابن عباس ، وما يذكر من ذلك عن ابن مسعود ، وأحسن ما سمعنا به في ذلك عن علي وزيد بن علي ، بسم الله وبالله والحمد لله والأسماء الحسنى كلها الله ، أشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٣١ ـ [وسألت : عن آمين]؟

وقد سمعنا في آمين ما سمعت ، ولم أسمع أحدا من العرب يتكلم [بها] في كلامه ، ولا أحسبها إلا من اللسان العبراني ، وإنا لنمسك عنها ، وعن القول بها (٢).

__________________

(١) لعل في هذه الجملة سقطا أو تصحيفا.

(٢) آمين عبرية كما قال الإمام عليه‌السلام لأدلة الشواهد : منها :

قال في لسان العرب : وآمين وأمين : كلمة تقال في إثر الدعاء ، قال الفارسي : هي جملة مركبة من فعل واسم ، معناه : اللهم استجب لي ، قال : ودليل ذلك أن موسى عليه‌السلام ، لما دعا على فرعون وأتباعه فقال : ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم ، قال هارون عليه‌السلام : آمين ، فطبق الجملة بالجملة. وقيل معنى آمين : كذلك يكون. لسان العرب مادة أمن.

وأخرج أبو الشيخ عن أبي هريرة قال : كان موسى عليه‌السلام إذا دعا أمّن هارون على دعائه يقول : آمين. وكذلك روى عن ابن عباس.

وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة قال : كان موسى عليه‌السلام يدعو ويؤمن هارونعليه‌السلام.

وأخرج أيضا ابن جرير عن محمد بن كعب القرضي ، وأبي صالح ، وأبي العالية ، والربيع ، وابن زيد مثله. روى جميع ذلك السيوطي في الدر المنثور ٤ / ٣٨٥. وأنا أشهد لله أني سألت مراسل إذاعة لندن الذي أجرى معي لقاء في الإذاعة ، سألته عن ديانته فقال إنه يهودي ، ثم سألته عن آمين هل هي ـ

١٣٢ ـ [وسألت : عن الدعاء في الصلاة]؟

وأما الدعاء في المكتوبة في أمر الدنيا والآخرة فجائز حسن ، وهو في : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) (٦) [الفاتحة] ، فهذا كله دعاء.

١٣٣ ـ [وسألت : عن سجود السهو في الصلاة]؟

والسجود في السهو للصلاة في الزيادة والنقصان فهو بعد التسليم ، وما كان قبل التسليم من زيادة في ركوع أو سجود فهو زيادة يحتاج فيها ولها ، إلى ما ذكر الله من السجود في مثلها (١).

١٣٤ ـ [وسألت : عن الجمع بين الصلوات]؟

ولا بأس بالجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء ، ودخول وقت العصر في آخر وقت الظهر لمن جمع ، ووقت المغرب والعشاء لمن جمع فقبل غروب الشفق ، إن أراد ذلك مريده.

١٣٥ ـ [وسألت : عن النافلة بعد صلاة الفجر]؟

ومن صلى الصبح سبح بعد صلاته ، ولم يصل بينه وبين طلوع الشمس.

١٣٦ ـ [وسألت : عن التسليم ورفع اليدين في الصلاة]؟

والتسليم من الصلاة عن اليمين والشمال ، ورفع اليدين فقد اختلفت فيه الأقاويل ،

__________________

ـ عبرية؟ فقال : نعم. فقلت ما معناها عندكم؟ قال : اجعلني كذلك. وهذا المعنى نفسه هو الذي أورده صاحب اللسان عند ما قال : معنى آمين : كذلك يكون. ثم سألني عن سبب السؤال فأخبرته عن كلام الإمام القاسم عن آمين ، وأنها عبرية فألح إلحاحا شديدا على تسحيل هذا الكلام في الإذاعة فرفضت. خشية الوقيعة بين المسلمين ، واستغلال اليهود لمثل هذه الخلافات لإشعال الفتن بين المسلمين. عام ١٩٩٨ م ، وأشهد لله أيضا أني سمعت بأذني الرئيس الإسرائيلي إسحاق رابين وهو في البيت الأبيض بأمريكا يوقع اتفاق سلام مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات ، سمعته بعد التوقيع يقول : آمين آمين آمين ، ثلاث مرات. عبر التلفزيون.

(١) لعل الإمام قصد هنا أنه يجب على من فعل شيئا من ذلك أن يسجد سجدتي السهو.

وإن أحب ذلك إلينا أن يسكنا تسكين غيرهما ، لأن تسكينهما هو خشوعهما ، وكذلك تسكين العين فهو لها خشوع.

١٣٧ ـ [وسألت : عن الوضوء والقراءة في صلاة الجنازة]؟

ويجزي في الوضوء مرة مرة ، ويقرأ في الصلاة على الجنائز في التكبيرة (١) الأولى ، وما بعد ذلك فيدعا.

١٣٨ ـ [وسألت : عن الحجامة هل يجب منها الغسل ، وعن غسل السنة]؟

وليس يجب الغسل من الحجامة ، ولكن من احتجم توضأ. ويغتسل للجمعة ، والرواح إلى عرفة ، والعيدين ، وكل ذلك من السنة.

١٣٩ ـ [وسألت : عن الوضوء لكل فريضة]؟

ومن صلى صلاة فثبت في مقعده ، ولم يخرج من مسجده ، صلى ما بعدها من صلاته بوضوئه. وإن أكثر الاشتغال ، والإدبار والإقبال ، كان أحب إلينا له [أن] يجدد وضوءه ، وكذلك بلغنا أن عليا صلوات الله عليه ورضوانه كان يفعل ، يجدد وضوءه لكل صلاة من الفريضة.

١٤٠ ـ [وسألت : عن أفضل الحج]؟

والإقران أفضل من الإفراد والتمتع بالعمرة إلى الحج ، ولا يقرن بين العمرة والحج إلا من ساق هديا ، ومن قرن طاف طوافين ، وسعى سعيين ، ولم يحل عن عمرته ، حتى يحل من حجته ، والإفراد للحج أفضل ـ والله أعلم ـ من التمتع بالعمرة إلى الحج ، لأن. حجة عراقية أو مدنية ، أفضل من حجة مكية ، والإهلال إذا طال ، أفضل منه إذا قصر لطول الإحرام.

١٤١ ـ [وسألت : عن التلبية والهدي]؟

وتقطع التلبية في الحج إذا رميت جمرة العقبة ، وأفضل الهدي ما وقف بعرفة ، وإن قلت حتى أشتري من منى أجزأ المتمتع.

__________________

(١) في المخطوط : الركعة. وظنن فوقها بما أثبت وهو الصواب.

١٤٢ ـ [وسألت : عن الضحية ، وصيام عرفة والدعاء]؟

والضحية واجبة على كل ذي يسار وجده ممن حج أو لم يحج ، وصيام يوم عرفة أفضل من إفطاره ، والدعاء في الصيام أقرب إلى الإجابة من الإفطار.

١٤٣ ـ [وسألت : عن ما يبطل الوضوء]؟

وكل ما سال أو قطر من الدم ففيه الوضوء ، وليس في مس الإبط ، وقص الشارب ، وتقليم الأظفار ، والقيء والقلس ، وضوء ، وما جاء من الوضوء من ما مسته النار فليس للنار ، وإنما أحسبه ـ والله أعلم ـ للأكل والاشتغال ، ولا نحب للجنب أن يتعوذ بشيء من القرآن ، لما في ذلك لتنزيل الله من الإجلال.

١٤٤ ـ [وسألت : عن قوله : (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ) [فصلت : ٦ ـ ٧]؟

فهي البر والأمور المرتضاة ، ومنها زكاة الأموال ، وصالح عمل العمال ، الذين يعملون لله ، ويسعون في مرضات الله.

١٤٥ ـ [وسألت عن : (الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ) [النور : ٣]؟

وأما قوله : (وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (٣) [النور : ٣] ، النكاح هاهنا قد يكون المسيس والمجامعة ، ويكون العقد والملك والتزويج الذي جعله الله طاعة.

وأما قوله : (لا يَنْكِحُها) هو لا يأتيها ، ولا يرتكب سخط الله فيها ، إلا مشرك من المشركين بالله ، أو زان مثلها عند الله ، وهذا كله كما قال الله سبحانه.

١٤٦ ـ [وسألت : عن قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) [البقرة : ٢٢٣]؟

وأما قوله : (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) الحرث هو : المزدرع الذي جعله الله في النساء والنماء ، (أَنَّى شِئْتُمْ) هو متى أردتم ، لأن العرب كانت تزعم أن إتيان النساء وهن حوامل أو مرضعات حرام ، خوفا للفساد.

١٤٧ ـ وسألت عن قوله : (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً

وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ) (٢) [الأنعام : ٢]؟

خلقه سبحانه لهم من طين ، فهو خلقه لأبيهم آدم صلى الله عليه ، لأن ما كان نسلا منه فمخلوق مما خلق منه ، (ثُمَّ قَضى أَجَلاً) [الأنعام : ٢] الأجل المقضي هو الموت والوفاة ، والأجل المسمى عنده هو أجل يوم الحساب والمجازاة.

١٤٨ ـ وسألت : عن الأرواح بعد مفارقتها الأبدان أحية أم ميتة؟

أرواح المؤمنين إذا فارقت أبدانها في نعيم وكرامة ، وأرواح الظالمين إذا فارقت أبدانها في خزي وندامة ، حتى ترد الأرواح إلى أبدانها في يوم البعث والقيامة.

فإذا جاء ذلك فهو التخليد والدوام الذي ليس له فناء ولا زوال ، ولا له عن أهله براح ولا انتقال.

١٤٩ ـ وسألت عن قوله : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ) [الإسراء : ٥٦ ـ ٥٧]؟

الذين كانت العرب تدعوهم ملائكة الله ، وكانت العرب تزعم أن الملائكة بنات الله ، كما قال الله سبحانه : (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ) (٥٧) [النحل : ٥٧]. والملائكة هم الذين كانت العرب تدعو ، والملائكة الذين كانوا يدعون فهم الذين يبتغون الوسيلة إلى الله ، ويرجون من الله الرضوان والرحمة.

١٥٠ ـ وسألت عن قوله : (ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً) (١٢) [الكهف : ١٢]؟

يقول سبحانه بعثنا أهل الكهف بعد طول نومهم في كهفهم لنعلم أي الحزبين ، أحصى لما لبثوا في كهفهم مقيمين ، أهم أم من علم لبثهم من الملائكة هم الحزبان ، (١) وهم في العلم والمكث مختلفان.

١٥١ ـ وسألت عن : (وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) [الطور : ١ ـ ٦]؟

__________________

(١) في المخطوط : لبثهم من الملائكة لبثهم في كهفهم. ولعلها زيادة سهو من النساخ.

الطور هو : طور سيناء ، وقد ذكره الله في غير مكان ، والبلد الأمين ، فأقسم بهما ، لما هو أعلم به سبحانه من أمرهما.

(وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) (٣) هو : ما نزله الله من كتبه ، وكتب في رق وغيره.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) (٤) [الطور : ٤] هو : بيت الله الذي يعمر أبدا بذكر الله ، وبالوافدين في كل حين إلى الله ، كما قال سبحانه لإبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما ، (طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) (١٢٥) [البقرة : ١٢٥].

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) (٥) [الطور : ٥] هو : السماء.

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) (٦) [الطور : ٦] هو : البحر الأعظم. المسجور : فهو المحبوس على حدوده ومنتهاه ، فليس يجوز حدا من حدوده ولا يتعداه.

١٥٢ ـ وسألت : عن قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٤]؟

فإن الأواه المتأوه هو الرحيم ، والحليم هو اللبيب الحكيم.

١٥٣ ـ وسألت : عن قوله سبحانه : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ ...) (٢٢) [محمد : ٢٢] الآية؟

فتأويل (فَهَلْ عَسَيْتُمْ) ، هو لعلكم أنتم أيها المدعون من كنتم ، وتأويل (تَوَلَّيْتُمْ) هو أدبرتم عن الإجابة ، والقبول والإنابة ، (أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ) ، بقتل بعضكم لبعض ، فتقطعوا الأرحام ، إذا لم تجيبوا الإسلام ، لأن من لم يجبه أفسد في أرض الله إذ لم يتبع حكمه ، ففجر في دين الله وقطع رحمه ، ومن أجابه أصلح ووصل ، إذا سمع عن الله وقبل ، ولم يتول ولم يدبر ، فلم يفسد ولم يفجر.

١٥٤ ـ وسألت عن تأويل : (قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا) [آل عمران : ١٦٧] ، أو قلت : ما معنى (أَوِ ادْفَعُوا)؟

فتأويل (قاتِلُوا) يعني : كونوا بقتالكم لله مطيعين ، أو ادفعوا فكونوا بقتالكم عن أنفسكم وحرمكم مدافعين ، إن لم تكونوا لله مجيبين ، وفي ثوابه على القتال لعدوه راغبين.

١٥٥ ـ وسألت عن قوله : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا ...) [المائدة : ٩٣] الآية؟

يقول الله سبحانه ليس على من اتقى وآمن جناح ، يعني : إثما فيما أكل وطعم من طيبات الأطعمة ، التي ليست عند الله بمحرمة ، لأن من المؤمنين من كان يترك أكل بعض الطيبات زهادة في الدنيا ، والتماسا في ذلك لما يحب الله ويرضى ، وممن ذكر بذلك عثمان بن مظعون (١) ، كان فيما بلغنا قد حرم على نفسه أكل اللحوم ، فنهاه الله وغيره من المؤمنين عن تحريم ما لم يحرم من المطاعم الطيبة ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (٨٧) [المائدة : ٨٧] ، فأخبرهم سبحانه وغيرهم من الأتقياء البررة ، أنها لمن آمن به في الدنيا خالصة في الآخرة ، فقال سبحانه : (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ) [الأعراف : ٣٢].

١٥٦ ـ وسألت عن قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة : ١٠٥]؟

إنما قال سبحانه للذين قالوا : (حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا) [المائدة : ١٠٤] من دينهم ، وأكثروا الاتباع لدين غيرهم ، عليكم بأنفسكم خاصة ، فليس يضركم إذا اهتديتم ضلال من اعتقد ضلالة ، كان أبا أو غيره لأن كل امرئ إنما يحاسب بما عمله وماله ، فإن اهتدى نجا سالما ، وإن ضل هلك ظالما ، لأنه (أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى) (٣٩) [النجم : ٣٨ ـ ٣٩].

١٥٧ ـ وسألت : [عن] (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٤ ـ ١٩٥]؟

(إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) فهو من دونه سبحانه كذبا وافتعالا ، وقد

__________________

(١) سبق تخريج القصة.

يكون تأويل «من دونه» : أنهم دونه كبرياء وجلالا.

والذين كانوا يعبدون فهم من عبدوا من الملائكة المقربين ، ومن كانوا يعبدون من دونه من الآدميين ، ومن عبد من الناس أحدا من الشياطين ، هؤلاء كلهم فهم عباد أمثالهم ، وقد عبدوا من عبدوا من العباد ، ما كانوا يعبدون من الأصنام ، والتماثيل والأوثان (١) ، التي ليس لها أرجل ولا أيدي ولا أعين ولا أسماع ، ولا عندها لأحد عبدها أو لم يعبدها ضر ولا انتفاع ، وفي الأصنام ما يقول الرحمن ، له الكبرياء والجلال : (أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها) [الأعراف : ١٩٥] ، وما ذكر من غير ذلك عند ذكرها ، وليس شيء من ذلك كله لها ، فكيف يعبدونها مع زوال ذلك كله عنها ، وهو أفضل في ذلك كله منها ، إلا لفعلهم الفاسد المدخول ، بالمكابرة لحجة العقول.

١٥٨ ـ وسألت عن قوله : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا) [المائدة : ١٠٩]؟

ومسألة الرسل من الله عن ما أجيبوا في يوم البعث ، فمسألة عن الله ذات حقيقة وحكمة ورحمة بريّة من كل جهل وعبث ، وإنما هي تقرير لهم ولأممهم وتعريف وتوقيف ، وإبانة أنه لا يأخذ أممهم إلا بجرمهم لأنه هو الله الرحيم الرءوف ، وأنه علام ما خفي عن الرسل من غيرهم ، فيما كان من الجواب لهم في حسناتهم وذنوبهم.

١٥٩ ـ وسألت : عن قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ) [يونس : ٩٤]؟

ليس قوله سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍ) أنه فيه ، ولا أنه يشك في شيء مما نزله الله إليه ، ولكنه تنزيه له من ذلك كله ، وتثبيت ليقينه ولتفضله فيه على غيره ، ألا ترى أنه يقال لمن كان موقنا يقينا صادقا ، وكان فيما اعتقده منه كله معتقدا عقدا محقا ، إن كنت يا هذا في شك من (٢) أمرك ، فتثبّت فيه بغيرك ، فيغضب على من قال له ذلك

__________________

(١) لعل في هذه الجمل سقطا أو تصحيفا.

(٢) في المخطوط : مما. ولعل الصواب ما أثبت.

ليقينه ، كان موقنا بذلك في دنياه أو دينه ، وقد يكون من أسباب اليقين لغيره برسالته ، وما نزله الله عليه من حكمه وآياته ، ما في أيدي أهل كتب الله من ذكره ، وهدايته في دينه وأمره ، فقال سبحانه : (فَإِنْ كُنْتَ) ولم يقل إن كان غيرك ممن آمن أو لم يؤمن في شك أو ارتياب ، فاسأل عن أمرك أهل الكتاب.

١٦٠ ـ وسألت عن قوله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ...) [المائدة : ١٠٦] الآية (١)؟

(شَهادَةُ بَيْنِكُمْ) هو الشهادة بينكم في قضاياهم وموارثيهم عند نزول الموت وحضوره ، عند ما يكون في ذلك للميت من أموره ، أن يستشهدوا عند الموت شهيدين من أنفسهم ، أو آخرين من غيرهم ، إن لم يحضر مسلمان عند الموت من غيرهم ، لأنه ربما حضر الموت الرجل المسلم ، في السفر أو غيره وليس عنده إلا كافر أو مجرم ، فيضطر إلى شهادتهما ، وإن هو لم يرض بهما ، فإذا كانا معروفين في دينهما بالتحرج من الزور والظلم ، استشهدا على الوصية وغيرها (٢) إذا لم يظفر بمسلم ، (فَإِنْ عُثِرَ) [المائدة : ١٠٧] وهو : ظهر على أنهما آثمان ، وأنهما ليسا بصادقين فيما عليه يشهدان ، حبسا بعد صلاة من الصلوات ، وحبسهما وقفهما فأقسما في وقت مما ذكر الله من الأوقات ، و (إِنِ ارْتَبْتُمْ) [المائدة : ١٠٦] هو : ظننتم أنهما كذبا ، فزادا أو نقصا ، فليحلفان بالله لا نشتري بشهادتنا وقولنا ثمنا ، ولا نشهد بغير الحق لأحد ولو كان ذا قربى ، ولئن فعلنا فكتمنا شهادتنا (إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ) (١٠٦) [المائدة : ١٠٦] ، يريد : إنا إذا لمن الظالمين ، وفيما في الشهادة من الظلم ، بالإخفاء لها (٣) في الكتم ، ما يقول الله سبحانه : (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) [البقرة : ٢٨٣] ، فإن استحق أنهما

__________________

(١) تكملة الآية (إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ ، فَإِنْ عُثِرَ ...) [المائدة / ١٠٦ ١٠٧].

(٢) في المخطوط : وغيرهما. ولعلها كما أثبت.

(٣) في المخطوط : لهم. لعلها مصحفة ، والصواب ما أثبت.

كاذبان ، حلف من المظلومين آخران.

١٦١ ـ وسألت يرحمك الله عن قول الله سبحانه : (فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ) (٨٥) [طه : ٨٥]؟

فقال : فتنهم في بلوى الله لهم من بعد موسى ، بما كان من العمل فيهم ، وإضلال السامري لهم ، فهو بدعائه إياهم إلى ما قالوا به من العجل ، أن يقولوا (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى) [طه : ٨٨] ، وبما ألقى من القبضة التي أخذها من أثر الرسول ، فنبذها في جوف العجل فخار ، فكان لهم في ذلك من الفتنة ما كان ، وكان قولهم في ذلك ، ولما رأوا منه في العجل بما (١) قالوا ، فلما سمعوا صوت خواره ضلوا به ، كما ضلوا إذ (٢) قالوا فيه بما قالوا.

١٦٢ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ ...) إلى قوله : (وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ١٠٢]؟

فقال : الأذن من الله في هذا الموضع هو التخلية ، والاستطاعة التي جعلها الله في السامري والتقوية ، وليس بإذن من الله ولا رضى.

١٦٣ ـ وسألت عن قوله : (أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ) [البقرة : ٦ ـ ٧]؟

فقال : الختم من الله على قلوبهم وعلى سمعهم وما جعل على أبصارهم من الغشاوة كالران الذي قال الله : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١٤) [المطففين : ١٤] ، والختم فهو الإقفال وهو الطبع ، فمعنى هذه كله واحد فيهم ، وهو بما وجب من لعنة الله عليهم.

١٦٤ ـ وسألت عن قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً) [الأنعام : ٢٥]؟

فقال : والأكنة هي الحجب ، وهي مثل الطبع والختم.

__________________

(١) في المخطوط : إنما. ولعلها مصحفة.

(٢) في المخطوط : إن. ولعلها مصحفة ، وفي فقرات الجواب خلل من سقط أو تصحيف.

١٦٥ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (١٦٢) إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ) (١٦٣) [الصافات : ١٦٢ ـ ١٦٣]؟

فقال : تقول الملائكة ما أنتم عليه بغالبين ، ولا إليه بجارّين ، (١) إلا من هو صال الجحيم ، يقول لا يحببكم إليه ، ولا يرضى قولكم فيه ، إلا من هو أهل النار والعذاب الأليم.

١٦٦ ـ وسألت عن قوله : (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) [المائدة : ٤١]؟

فقال : ومن يرد الله فتنته من بريته ابتلاه أو إضلاله أو إخزاءه ، ممن (٢) شاقه وعصاه ، فلن تملك له من الله في ذلك شيئا ، والملك في ذلك والقدرة لله وحده.

(لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) يريد سبحانه : أنه لم يرد تزكية قلوبهم ولا تطييبها بما هم عليه من معصيته ، لأنه إنما يطيّب ويزكي قلوب أهل طاعته ، فأما من لم يرد توبته ولا أمره ، (٣) فليس يزكي قلبه ولا يطهره.

١٦٧ ـ وسألت : عن قول الله تعالى : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) [التكوير : ٢٦ ـ ٢٩]؟

فقال : ولذلك ما يشاء الاستقامة ، إلا وقد شاءها الله قبله ، ورضيها فيما نزل تبارك وتعالى وقواه عليها ، ودله جل جلاله إليها.

١٦٨ ـ وسألت : هل يصح الحديث الذي جاء أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (الأئمة من قريش) (٤)؟

__________________

(١) في المخطوط : بمجبورين. ولعل الصواب ما أثبت.

(٢) في المخطوط : فيمن. ولعلها مصحفة. وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المخطوط : يرد أمره ولا توبته. ولعلها مقلوبة ، وما أثبت اجتهاد.

(٤) رواه في الجامع الكافي في باب الإمامة ، وهو في مسند الإمام زيد بن علي عليه‌السلام بلفظ : وسألت زيد بن علي عليه‌السلام عن الإمامة؟ فقال : هي في جميع قريش .... الروض النضير ٥ / ١٨ ، وأخرجه ـ

فقال : الأئمة كذلك كما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإسلام منهم ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولده وذريته فمن قريش لا من غيرهم.

١٦٩ ـ وسألت : عن قوله سبحانه : (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦] من هؤلاء؟

فقال : هم هوازن ، وهم أشد الناس بأسا ، وقد قالوا : فارس والروم ، وقالوا : بنوا حنيفة (١).

١٧٠ ـ وسألت : ما تفسير الحديث الذي روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صنفان من أمتي ليس لهما في الإسلام نصيب المرجئة والقدرية) (٢)؟

فقال : المرجئة الذين يقولون : الإيمان قول بلا عمل ، وغير ذلك من الأقاويل المختلفة لهم ما قد عرفت ، القدرية فهم المجبرة.

١٧١ ـ وسألت : عن قوله سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩]؟

فقال : أولو الأمر أمراء السرايا ، وعلماء القبائل ، وحلماء العشائر ، والحكماء الذين يأمرون بالمعروف والهدى ، وينهون عن الردى ، لما أمروا بما أمر به رب العالمين. وأبرار آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلماؤهم ، وهم فولاة الأمر منهم ، لما فضلهم الله به على غيرهم ، من قرابة رسول الله ، ومشاركتهم لأهل البر فيه ، فلهم من القرابة

__________________

ـ الحاكم ٤ / ٨٥ (٦٩٦٢) ، وأحمد ٤ / ٤٢١ (١٩٧٩٢) ، والبيهقي في الكبرى ٣ / ١٢١ (٥٠٨١) ، وأبو يعلى ٦ / ٣٢١ (٣٦٤٤) ، والطبراني في الكبير ١ / ٢٦٠ (٤٢٥) ، والطيالسي / ١٢٥ (٩٢٦).

(١) أخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن المنذر ، والبيهقي عن عكرمة ، وسعيد بن جبير في قوله تعالى (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) قال : هوازن يوم حنين.

وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية السابقة قال : فارس والروم. وأخرج الفريابي ، وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية قال : هوازن وبني حنيفة. روى كل ذلك السيوطي في الدر المنثور ٧ / ٥٢٠.

(٢) سبق تخريجه.

ما ليس لغيرهم ، وهم شركاء الأبرار في برهم (١).

١٧٢ ـ وسألت : هل ذهب من القرآن شيء وما يروى في المعوذتين (٢)؟

فقال : المعوذتان من القرآن ، وقال وكيف يذهب من القرآن شيء وقد قال الله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (٩) [الحجر : ٩] ، وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢٢) [البروج : ٢١ ـ ٢٢].

١٧٣ ـ وسألت : عن أي سورة نزلت أوّل ما نزل من القرآن ، وما نزل بمكة ، وما نزل بالمدينة ، وما آخر ما نزل من القرآن؟

فقال : يقولون : أول ما نزل (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) [العلق : ١] ، وآخر ما نزل : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) [النصر : ١] ، وقد قيل : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [البقرة : ٢٨١] آخر آية (٣).

١٧٤ ـ وسألت : عن معنى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلي : (أنت منى بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)؟ (٤)

فقال : يقول أنت تكفيني ما كان كفى موسى في قومه عند مخرجه عنه ، وكذلك أنت فيما خلفتك عليه بعد مخرجي من أمتي ، ودار هجرتي ، وإنما قال هذا في مخرجه إلى تبوك.

١٧٥ ـ وسألت : عن قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (من كنت مولاه

__________________

(١) روى أن أولي الأمر هم أهل البيت الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ١٨٩ ، ٢٠٢ ، وفرات الكوفي في تفسيره ١ / ١٠٨ (١٠٤ ، ١١٢) ، والمفيد في أماليه / ٣٤٩ ، والطوسي في أماليه / ١٢٢ ، ١٨٨ ، والكليني في الكافي ١ / ٢٨٦.

(٢) أخرج أحمد والبزار والطبراني وابن مردويه عن ابن عباس وابن مسعود أنه كان يحك المعوذتين من المصحف ويقول : لا تخلطوا القرآن بما ليس منه ، إنهما ليستا من كتاب الله ، إنما أمر النبي أن يتعوذ بهما ، وكان ابن مسعود لا يقرأ بهما. قال البزار : لم يتابع ابن مسعود أحد من الصحابة ، وقد صحح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه قرأ بهما في الصلاة ، وأثبتتا في المصحف. الدر المنثور ٨ / ٦٨٣.

(٣) وللإمام رأي آخر في أول ما نزل أنه الفاتحة. انظر مديح القرآن.

(٤) سبق تخريجه.

فعلي مولاه ومن كنت وليه فعلي وليه)؟ (١).

فقال : تأويله من كنت ناصره فعلي ناصره ، وذلك أن المولى في لسان العرب هو النصير.

١٧٦ ـ وسألت : عن قول الله عزوجل : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) [الفتح : ١٨]؟

فقال : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) فكل مؤمن زكي ، بايعه مصطفى عند الله رضي ، بايعه تحت الشجرة ، فقد رضي الله عنه كما قال لا شريك له.

١٧٧ ـ وسألت : عن قوله سبحانه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) [المائدة : ٣]؟

فقال : إكمال الله لدينهم : فإسلامهم ، ما فصل الله لهم في كتابه من حلالهم وحرامهم ، وذلك بعد إكمال الله لا شريك (٢) له في تحريمه وتحليله ، وقد قيل : إن هذه الآية نزلت في حجة الوداع ، والحج آخر ما نزلت فريضته.

١٧٨ ـ وسألت : ما الذي ادعت فاطمة رضي الله عنها في فدك ، أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهبه لها في حياته ، وشهد لها علي وأم أيمن وما ادعا أبو بكر (٣)؟

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) في المخطوط : لا يشرك. ولعلها مصحفة.

(٣) أخرج البزار ، وأبو يعلى ، وابن أبي حاتم ، وابن مردويه ، عن أبي سعيد الخدري قال : لما نزلت هذه الآية (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) دعا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة سلام الله عليها فأعطاها فدكا ، قال : وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : لما نزلت (وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) أقطع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاطمة سلام الله عليها فدكا. الدر المنثور ٥ / ٢٧٣ ، ٢٧٤.

ورواه الهيثمي عن أبي سعيد. مجمع الزوائد ٧ / ٤٩. وقال رواه الطبراني.

وذكره الذهبي في ميزان الاعتدال ٢ / ٢٢٨ وصححه. والمتقي الهندي في كنز العمال ٢ / ١٥٨ وقال : أخرجه الحاكم في تاريخه ، وابن النجار.

وأخرجه محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٥٩ (٩٥). ورواه الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل ١ / ٣٤١. ورواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ٤ / ٨٤٢. وأخرجه أبو يعلى ٢ / ٣٣٤ (١٠٧٥).

وقصة مطالبة الزهراء أبا بكر في فدك ومجيء الزهراء بعلي وأم أيمن شاهدين لها. رواها البلاذري في ـ

فقال : ادعت فاطمة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهب فدكا لها في حياته ، وشهد لها به مؤمنان علي وأم أيمن.

١٧٩ ـ وسألته : عن معنى خصومة علي والعباس إلى أبي بكر ثم إلى عمر فيما قد روي عنهما (١)؟

فقال : ليس هذا بشيء ولا يصح ولا يلتفت إليه ، قد كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفع إلى علي بغلته وفرسه ورمحه ودرعه وعمامته.

١٨٠ ـ وسألته : هل كان أبو بكر وعمر في بعث أسامة بن زيد وكيف هذا (٢)؟

فقال : قد كانا جميعا في جيشه وبعثه.

١٨١ ـ وسألته : كيف كان يأتي الوحي إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقال : كان إذا نظر إلى جبريل في أول نظرة يصيبه ما يصيبه ، فأما الوحي من القرآن فإنما يقرأه (٣) عليه ، فيأخذه من فيه لأن الله يقول : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (٦) [الأعلى: ٦] ، وقال : (يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) (١) ، أي : كريما شريفا.

١٨٢ ـ وسألته : ما ترى في شهادة أهل الخلاف وذبائحهم من المرجئة والمشبهة ، والفساق وشربة الخمور ، وفي أسواق العامة؟

فقال : أما ذبائح أهل الملة كلهم فتؤكل ، إلا من كان لا ينفي عن الله التشبيه ، فإني لا أحب أن تؤكل ذبيحته ، وشهاداتهم إذا كانوا أهل ورع وأمانة ، وإن كانوا أهل الخلاف فيجوز ، إلا أنه قد ذكر أن الخطابية هم صنف من الروافض يتقارضون الشهادة فيما بينهم (٤) ، فإن كانوا كما يذكر عنهم ، فلا تجوز شهادتهم ولا نعمة عين.

__________________

ـ فتوح البلدان / ٣٤ ٣٥.

(١) أخرج القصة المزعومة ، البخاري ٦ / ٢٤٧٤ (٦٣٤٧) ، وأحمد ١ / ٦٠ (٤٢٥).

(٢) أجمع أهل السير والأخبار على أن أبا بكر وعمر كانا في جيش أسامة. راجع طبقات ابن سعد ، تاريخي الطبري ، وابن الأثير ، وسيرة دحلان ، والحلبية عند ذكر سرية أسامة.

(٣) في المخطوط : يقرأوه. ولعلها مصحفة.

(٤) الخطابية : جماعة تنسب إلى أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع الأسدي ، وكان يدعي أن جعفر ـ

١٨٣ ـ وسألته : أين موضع الجنة والنار يوم القيامة؟

فقال : خلقت الجنة والنار ، وهما في غير سماء ولا أرض ، ولو لم يخلقا لم يكن يقال : آخرة أنها قد خلت مع الدنيا (١).

١٨٤ ـ وسألته : هل يصح ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (في ثقيف كذاب وميتم)(٢) ، وهل يصح ما قيل في المختار إنه تنبأ؟

وقال : ليس يصح في المختار ما يقولون ، وقد كانت له أفعال وأيادي محمودة ، وقد دعا له جميع آل محمد الرجال والنساء ، حين بعث إليهم برأس عبيد الله بن زياد لعنة الله عليه.

١٨٥ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) [النحل : ٤٣ ، الأنبياء : ٧] ومن هم؟

فقال : أهل العلم والفقه ، وقال وأهل الذكر : من نزّل عليه كتبه من بني إسرائيل(٣).

١٨٦ ـ وسألته : ما معنى ما قالوا في اللوح والقلم؟

فقال : واللوح المحفوظ فهو علم الله الذي قد أحاط بجميع ما كان وما يكون ، ليس هنالك لوح ولا قلم.

__________________

ـ الصادق جعله قيّمه ووصيه من بعده ، وعلمه اسم الله الأعظم ، ثم ادعا النبوة ثم الرسالة ثم أنه من الملائكة.

والخطابية اتباعه يعتقدون نبوته وأحلوا المحارم وتركوا الفرائض ، وقالوا من سأله أخوه ليشهد له على مخالفيه فليصدقه ويشهد له فإن ذلك فرض عليه واجب ، وهذا معنى قول الإمام يتقارضون الشهادة.

فرق الشيعة / ٤٢ للنوبختي.

(١) العبارة غير واضحة المعنى. إلا إذا كانت كلمة (خلت) تصحفت من خلقت.

(٢) الحديث أخرجه الترمذي ٤ / ٤٩٩ (٢٢٢٠) ، وأحمد ٢ / ٢٦ (٤٧٩٠) ، وأبو يعلى ١٠ / ١٢٥ (٥٧٥٣) ، والطبراني في الكبير ٢٤ / ١٠١ (٢٧٣) ، والطيالسي / ٢٢٨ (١٦٤١) ، جميعهم بلفظ : إن في ثقيف كذابا ومبيرا.

(٣) وسبق له أن أهل الذكر هم أهل البيت.

١٨٧ ـ وسألته : هل يخرج من دخل النار بعد مدخله فيها؟

فقال : لا يخرج منها من دخلها ، ولا يدخلها من المؤمنين الأبرار أحد ، والله محمود، لأن الله ذكر أن من دخلها خالد (١) فيها ، ولم يذكر خروج أحد.

١٨٨ ـ وسألته : هل أوصى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أمير المؤمنين في الخلافة ، وهل أكرهه القوم على بيعتهم؟

فقال : قد أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما يكون في أمته من بعده في كتاب الجفر ، من الملوك إلى نزول عيسى بن مريم صلى الله عليه (٢) ، وبما يكون في أمته من الاختلاف ، ووصف كتاب الجفر ، وذكر أنه تقطّع وذهب وقد كان صار إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنيفة (٣) ، ونسخته عند آل محمد يتوارثونه ، وأما أمر القوم فقد عرفته ، وما كان من تخليطهم والله المستعان.

١٨٩ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) [الرعد: ٤]؟

فقال : قطعة مالحة وقطعة لينة ، وقطعة أعدى (٤) ، وقطعة تسقى ، وقطعة جمال ، وقطعة عمران ، وقطعة خراب ، بعضها إلى جنب بعض متجاورات ، ثم وصف فوضع كفه في الأرض ، ثم رفعها ووضع أيضا إلى جنب الموضع الذي كان وضعه أولا (٥).

١٩٠ ـ وسألته : عن عيسى عليه‌السلام؟

وقد تعلم أرشدك الله أنه قد مات من قبل عيسى كثير ممن كذبه ، ومات بعده

__________________

(١) في المخطوط : خالدا. مصحفة ، لأنها خبر أن.

(٢) أخرجه أبو داود ٤ / ١١٧ (٤٣٢٤) ، وأحمد ٢ / ٤٠٦ (٩٢٥٩) ، وابن حبان ١٥ / ٢٣٣ (٦٨٢١) ، والطيالسي / ٣٣٥ (٢٥٧٥) ، وإسحاق بن راهويه في المسند ١ / ١٢٤ (٤٣).

(٣) عبد الله بن محمد (ابن الحنيفة) بن علي بن أبي طالب ، أبو هاشم ، أحد زعماء العلويين في العصر المرواني ، كان يبث الدعاة سرا في الناس ينفرهم عن بني أمية ويدعوهم إلى بني هاشم ، فعلم سليمان بن عبد الملك بخبره فدس له من سقاه السم في الشام.

(٤) لم يتبين لي معنى هذه الكلمة.

(٥) يعني : أنه يشير بيده إلى قطع الأرض المتجاورات.

كثير فكيف يؤمن به ، ولم يحضر رجعته صلى الله عليه ، ومن لم يدرك دهره. وحديث رجعته فما قد جاءت به الأخبار من أنه صلى الله عليه يرجع إلى الدنيا ، نازلا من السماء ، فيحتج الله سبحانه على خلقه بما أبلغهم أولا ، ولرسوله محمد من الحق ، ويحتج لمحمد صلى الله عليه بما أبلغ قومه فيه من الإيمان بما جاء به محمد صلى الله عليه ، من آيات الله وكتابه ، ويأمرهم باتباع محمد صلى الله عليه ويبين لهم ما حرفوا من كتب الله في محمد صلى الله عليه ، والسلطان سلطان آل محمد (١) صلى الله عليه وعليهم وسلم.

وقالت المعتزلة : إنه لا يرجع إلى الدنيا وإنه توفاه الله ، وتأولوا فيه قول الله لا شريك له : (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ) [المائدة : ١١٧] ، وقوله : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥].

وقال : من خالفهم تأويل : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) تسليمه له غير مجروح ، ولا مكلوم ولا مصلوب ، كما قال الذين لا يؤمنون إنه صلب وقتل ، كذبهم الله تبارك وتعالى فقال : (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [النساء : ١٥٧] ، وأي القولين قيل ، واحتج به محتج ، فليس فيه بحمد الله ريعان (٢) ولا حرج ، ولا تستكثر من الله تبارك وتعالى أي ذلك ما كان ، لأن الله تبارك وتعالى ذو الحكمة والبيان.

١٩١ ـ وسألته : عن قول الله لا شريك له : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٥) [طه : ٥]؟

فقال : هو ملك وعلا ، وكذلك تقول العرب فيمن ملك بلدا ، وغلب ملكه فيه : إنه قد استوى عليه ، إذ ملك وغلب فيه ، وليس يتوهم ما ذكر الله من ذلك استواء مقعد ، ولا مشابهة في القعود بين الله وبين أحد ، وكذلك : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) [فصلت : ١١] ، فهو علوّه عليها ، ونفاذ أمره وخلقه وصنعه فيها.

١٩٢ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) [هود : ٧]،

__________________

(١) يعني : سلطان المهدي عليه‌السلام.

(٢) الريعان : الاضطراب.

(وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) [البقرة : ٢٥٥]؟

فقال : العرش ـ رحمك الله ـ والكرسي فإنهما ملك الله وسلطانه ، كما العرش والكرسي مقعد كل ملك ومكانه ، وليس يتوهم من آمن بالله أن ما ذكر الله سبحانه من كرسيه وعرشه ككراسي خلقه وعروشهم ، التي كانت تكون مقاعد لهم في ملكهم ، (وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ) وكان ملك الله على الماء ، إذ ليس إلا الماء ، كما ملكه اليوم على الأرض والسماء ، وعلى جميع ما فيهما من الأشياء.

وتأويل : (كُرْسِيُّهُ) إنما هو : وسع ملكه السماوات والأرض ، ووسعه لهما ، إحاطته بهما ، وقدرته عليهما ، وعلى كل ما فيهما.

١٩٣ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى : ٥١]؟

فقال : ليس يتوهم عاقل أن احتجاب الله بإرخاء ستر ولا بإغلاق ، ولكنه كما قال سبحانه لعجز الأبصار عن دركه بالرؤية والعيان ، إذ يقول سبحانه : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) [الأنعام : ١٠٣] ، وهذا فهو أحجب الحجب ، وما لا يكون إلا الله تبارك وتعالى.

١٩٤ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) [الأنبياء : ٦٩] هل كان ذلك من الله للنار كلاما؟

فقال : هو مثل قول الله سبحانه : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٤٠) [النحل : ٤٠] ، يخبر سبحانه أنه لا يمتنع عليه إذا أمر أمر ولا كون(١). وكذلك قوله : (يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ) (٦٩) ، إنما هو ما صيّره الله فيها من النجاة والتسليم ، كما قال سبحانه : (فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللهُ مِنَ النَّارِ) [العنكبوت : ٢٤].

١٩٥ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ

__________________

(١) في المخطوط : عليه إذا أمرا أو لا كونا. وما أثبت اجتهاد.

عَلِيمٌ) (٢٢٧) [البقرة : ٢٢٦ ـ ٢٢٧]؟

فقال : المولي الحالف بالله أو ببعض الأيمان ألا يقرب أهله ، فأنظره الله أربعة أشهر وأجّله ، فإن فاء والفيء أن يرجع إلى مداناة أهله ، كان ذلك له ، وكان الله غفورا رحيما فيما أخطأ به على نفسه من اليمين ، وإن مضى لحاجته ، لم يكن له إضرار بزوجته ، فإن عزم على فراقها ، فإن الله سبحانه كما قال : (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، ولم يذكر الله في الإيلاء كفارة ، ولكنه قال : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

١٩٦ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه ، وجل عن كل شأن شأنه : (وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً) (١٠٨) [طه : ١٠٨]؟

فقال : خشوعها سكونها ، وأما الهمس فهو حس الأقدام ، الذي ليس معه صوت ولا كلام ، لما يدخل قلوبهم من الرعب والخوف والفزع ، ولما عاينوا عند ظهور آيات الله في القيامة من الأمر الهائل المستفظع.

١٩٧ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) (٦٢) [الرحمن : ٦٢]؟ هاتان أخراوان بعد الجنتين المذكورتين ، وهذه الجنان كلها فهي في الجنة ، غير أنها مواضع تنعيم مرتبة ، والجنة تجمع هذه الجنان كلها.

١٩٨ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ) [النور : ٤]؟

فقال : يرمون يقذفون المحصنات بأن ينسبوا إليهن ، الفاحشة التي لا تكون منهن ، فأخبر الله سبحانه أن من قال فيهن ، رميا لهن وكذبا عليهن ، ثم لم يأت بشهود أربعة ، وجب عليه الحد ثمانين جلدة ، وسقطت منه العدالة ، ولم تجز له شهادة ، إلا أن يحدث له توبة.

١٩٩ ـ وسألته : عن قول الله لا شريك له : (وَأَحْسَنُ نَدِيًّا) (٧٣) [مريم : ٧٣]؟

فقال : الندي : المجلس ، وكذلك الندي والنادي ، ولذلك قال الله في لوط صلى الله عليه حين قال لقومه : (وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) [العنكبوت : ٢٩] ، يعني بالنادي: المجلس.

٢٠٠ ـ وسألته : [عن] (أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً) (٩٨) [مريم : ٩٨]؟

فقال : الركز هو : الحس.

٢٠١ ـ وسألته : عن قول الله : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ) (٣٥) [الأنبياء : ٣٥]؟

فقال : في هذا ونحوه الاختبار ، بالخير (١) والشر ، والخير ما يكون من الله ليس من أفعال العباد ، الخير من ذلك : الخصب ، وكثرة الأمطار ، وصحة الزمان ، ورخص الأسعار ، وقلة الأمراض ، وطول الأعمار ، وكثرة الأولاد ، وسعة الرزق ، وزيادة الثمار. والشر أفعال أخر : كالخوف والجوع ، ونقص من الأموال والأنفس والثمرات ، فطوبى للصابرين كما قال الله سبحانه : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (١٥٥) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (١٥٦) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (١٥٧) [البقرة : ١٥٥ ـ ١٥٧].

٢٠٢ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣)) [الأحزاب : ٣٣]؟

فقال : الرجس الفعل الردي النجس من المعاصي والأدناس ، والأسفاه (٢) التي تكون في بعض الناس ، فأمر الله سبحانه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأمر أهل بيته بتقواه وطاعته ، وترك الرجس من جميع معصيته ، بما أذهب عنهم من كل رجس أو دنس ، وبعّدهم به من كل معصية ونجس ، وطهرهم كما قال الله سبحانه : (تَطْهِيراً) ، وجعل لهم بما نزل فيهم من هذه الآية ذكرا عليا وشرفا كبيرا (٣).

٢٠٣ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) [البقرة : ٢٢٨]؟

فهو ما جعل الله في الأرحام من طمثهن وحملهن ، لأن ينقطع به ما بين الأزواج وبينهن إذا كان من أزواجهن ، فينقطع بينهم الميراث والرجعة ، وربما كرهت المرأة من

__________________

(١) في المخطوط : والخير. ولعل ما أثبت هو الصواب.

(٢) الأسفاه : جمع سفه.

(٣) سبق تخريج الآية.

زوجها المراجعة ، التي للزوج عليها ملك ما لم تستكمل العدة ويكون رأي زوجها لو علم له منها بحمل أن يرتجعها ، ويكون ذلك له عليها ما لم تضع حملها ، فتكتم لكراهتها لزوجها ، ما خلق الله من الولد في رحمها ، حتى تضع وتلد ، فلا يكون له عليها ملك ولا رد ، فتكون بذلك لزوجها مضارة وبه مضرة ، وبأمر الله فيما أمرها به من ذلك غير مؤتمرة ، وكذلك إن كتمت ما خلق الله في رحمها من طمثها وحيضها ، الذي (١) تنقضي به عدتها ، وتزول نفقتها وموارثتها ، كانت في ذلك كله لله عاصية ، وعن أمره ونهيه عاتية.

٢٠٤ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) [النساء: ٤]؟

فقال : صدقاتهن مهورهن ، ومهورهن فأجورهن ، ونحلة : فإنما هي هبة مسلمة لهن ، فأمرهم الله أن يؤدوا ذلك إليهن ، وجعله حقا عليهم لهن ، لا يسعهم حبس شيء منه عنهن ، إلا بطيب نفس منهن ، أو هبة يهبنها للأزواج عن طيب من أنفسهن ، فقال سبحانه : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (٤)) [النساء : ٤].

٢٠٥ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ) [النساء : ٣٣]؟

فقال : إن الموالي هم الولاة والقرابة المتوارثون ، ولأنه قد يرث غير القريب ، وإنما أراد الله بالموالي في هذه الآية كل نسب ، ألا ترون أن الزوج والزوجة قد يرثان وإن لم يكن بينهما نسب ، لأن لكل من كان [كذلك] حقا وحرمة ونسبا.

٢٠٦ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ) [الأنعام : ١٤٥]؟

فإنما هو خلاف على اليهود فيما كانوا يحرمون ما لم يحرم الله من أشياء كانوا يحرمونها ، وخلاف على أهل الجاهلية أيضا في تحريم أشياء كانوا يفترون على الله فيها الكذب فلا يستحلونها ، وهي أشياء تكثر عن أن تعد فيما كتبنا لكم من هذا الكتاب ،

__________________

(١) في المخطوط : الذي به تنقضي به. ولعلها زيادة.

وليس مما يحتاج إليه فيما سألتم عنه من الجواب ، وليس يحرم في مأكل ولا مطعم ، إلا ما حرم الله في كتابه المحكم ، ومن ذلك ما ذكر في هذه الآية وغيرها ، من أشياء كثيرة لا يحتاج في جوابكم هذا إلى تفسيرها.

منها : أكل أموال اليتامى ظلما.

ومنها : أكل ما جعله الله من الربا محرما.

ومنها : أكل أموال الناس بالباطل ، كثيرا مما نهى الله عن أكله لكل آكل ، فقال سبحانه : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (١٨٨) [البقرة : ١٨٨] ، وقال سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١٣٠) [آل عمران : ١٣٠] ، وقال سبحانه : (لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٢٩) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣٠) [النساء : ٢٩ ـ ٣٠] ، فحرم الله هذا كله إذا كان لمسلم ملكا ومالا ، مواتا كان أو حيوانا ، ولم يحرم سبحانه على طاعم أن يطعمه من حيوان الأنعام ، إلا ما ذكر الله في الآية مما خصه بالذكر من الحرام ، فأحل سبحانه ذلك كله مستحلا ، ولم يحرم شيئا منه تحريما ، فأحل ما حرم منه وفيه ، لمن اضطر من المؤمنين إليه ، وفي إجلاله لذلك وإفضاله ، وما منّ به فيه من جلاله ، ما يقول سبحانه: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٧٣) [البقرة : ١٧٣] ، وليست المغفرة هاهنا من ذنب ، ولا عن حرام مرتكب ، ولكنها مغفرة تخفيف ، ورحمة فيما وضع من التكليف.

٢٠٧ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [هود : ١٠٨ ، ١٠٧]؟

فهي سماوات الآخرة وأرضها الباقية ، وليست سماوات هذه الدنيا ولا أرضها التي هي زائلة فانية. وأما (إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ) [هود : ١٠٨ ، ١٠٧] ، فإنما هو [إخبار] عن قدرة الله على إفنائها إن شاء ، وذلك فهو كذلك إذ كان هو الذي خلق وأنشأ ، لأنه لا يقدر

أحد أبدا على أن يبقي شيئا تخليده وإبقاءه ، إلا من يقدر أن يفنيه فلم يشاء سبحانه إفناءه، ولكنه شاء تخليده وإبقاءه ، وأخبر بقدرته إن شاء على الإفناء ، كما قدر على الإبقاء ، وأن أهل الجنة فيها بإبقائه لهم باقون ، فإنهم خالدون فيها أبدا لا يفنون ، وكما لا تفنى أرضهم فيها ولا سماؤهم ، فلذلك لا يفنى (١) ـ ما بقيت الجنة ـ بقاؤهم ، والحمد لله الذي لا يخلف وعده ، ولا يخلد من الأشياء إلا ما خلّده.

٢٠٨ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ) (١٢) [يس : ١٢]؟

فقال : فإنه يقول سبحانه في علم عليم ، ولا يتوهم أن ذلك إمام من الكتب ، وأن اللوح لوح من خشب ، فإنما يراد بها ومثلها ، إحاطة الله بعلمها كلها (٢) ، لأن أحفظ ما يحفظ الآدميون ، ما يوقعون في الكتب ويكتبون ، فمثّل الله ذلك لهم من علمه وحفظه بما يعرفون ، وأخبرهم أن الذي عنده سبحانه من ذلك وفيه كله على خلاف ما يصفون ، لفرق ما بينه وبين خلقه في كل صفة ، وليعرفوه في ذلك كله من الفرق بما يجب من المعرفة.

٢٠٩ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) [الأنعام / ٥٤ ، الأعراف / ٤٦ ، الرعد / ٢٤ ، النحل / ٣٢ ، القصص / ٥٥ ، الزمر / ٧٣]؟

فليست عليهم بتحية ولا تسليم ، ولكنها جهرة لهم وقطعة (٣) بينه وبينهم وتكليم.

٢١٠ ـ [وسألت : عن (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦)] [الرحمن : ٦]؟

وأما ما سألت عنه من (وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ) (٦) ، فتأويله يخضعان لله ويذلان ، بكل ما فيهما من أصل وفرع ، أو مفترق من أفنانهما أو مجتمع (٤).

__________________

(١) في المخطوط : فذلك لا تفنى. ولعلها تصحفت.

(٢) في المخطوط : بعلمه كله. ولعل الصواب ما أثبت.

(٣) لم يتضح معنى العبارة. ولعلها مصحفة.

(٤) أفنان : جمع فنن ، وهو الغصن. لأن النجم من الشجر ما ليس له ساق ، والشجر ما له ساق. وأشار في الأصل إلى بياض هنا.

٢١١ ـ وسألت في إثبات الإمامة عن الإمام (١) هل تجوز الصلاة خلفه إذا كان موافقا في غيرها من أمر الدين؟

فقال : إن الولاية واجبة من الله عزوجل بتنزيله في كتابه لكل فاضل على كل مفضول ، ولكل عالم من الخلق على كل مجهول ، وأولى الناس بها أقربهم إلى الله قربة ، وأرفعهم عند الله منزلة ودرجة ، وأولئك هم السابقون كما قال الله سبحانه : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (١٠) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ) (١١) [الواقعة : ١٠ ـ ١١] ، فأولاهم بها أقربهم إلى ربهم ، وإمامهم فهو أعلمهم ، وأعلمهم فهو أسبقهم إلى الإيمان والإحسان ، وأعرفهم وأحكمهم بما نزل الله في الفرقان.

وفي ذلك وكذلك ما يقول الله سبحانه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) [يوسف : ٧٦] ، ويقول سبحانه : (أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٥) [يونس : ٣٥] ، في كل هذا يخبر أن الولاة والأئمة في كل قرن وزمان هم الذين يعلمون ، وفي كل هذا وما لم يذكر من أمثاله مما نزل في الكتاب ، دلالة بينة ظاهرة نيّره لأولي الألباب.

وأما الصلاة فلا يجوز فيها أن يؤتم إلا بكل زكي ، برّ بريء من الملاعب كلها والملاهي. ومن لم يعرض عن اللغو ، وهو كل لعب ولهو ، فليس من عباد الله ، وعباد الله الذين ذكرهم بالإعراض عن اللغو فهم العباد لله ، كما قال سبحانه : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (٦٣) ...) إلى قوله : (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢) [الفرقان : ـ ٦٣ ـ ٧٢] ، وقوله سبحانه : (وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) [القصص : ٥٥].

ومن الزور ، ولهو الأمور ، الغناء والدف ، واللعب والعزف ، وما يعرض عن ذلك من سمعه وحضره ، ولا من لم ينكر منكره. وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقول : (صوتان ملعونان فاجران في الدنيا والآخرة ، صوت عند نعمة ،

__________________

(١) في المخطوط : عن إمام سألت في إثبات الإمامة. ولعل ما أثبت هو الصواب. والله أعلم.

لعب ولهو ومزامير شيطان ، وصوت عند مصيبة ، خمش وجه وشق جيب ورنة شيطان) (١).

فمن اشتبه عليه مدّكر (٢) الإمامة ، وما حكم الله به من ذلك على الأمة ، ولم يدر أفرض الله ذلك عليه أو لم يفرضه ، ولم يعلم من ذلك ما يلزمه ، فهو ضال غير مهتدي ، وأمره في ذلك مسخوط عند الله غير مرضي ، لأن الله كلفه العلم كما كلفه لعمل ، فجهل من ذلك ما علم فعليه أن يتعلم ما جهل ، فإن لم يفعل كان مقصرا ، ولم يكن مهتديا ولا برا.

٢١٢ ـ [وسألته : عن لمس] ثوب كافر أو جسد كافر وهو مبتلّ؟

فقال : (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) ـ كما قال الله سبحانه ـ (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) [التوبة : ٢٨] ، وهو في النجاسة كالدم المسفوح الكثير ، وكالميتة ولحم الخنزير ، وإن أصاب شيء من ذلك كله من المشرك أو غيره جسد مسلم أو ثوبه ، أو مصلى مسلم أو مسجده ، فبان في شيء من ذلك قذر أو نتن ، ظاهر مبيّن ، غسل ذلك وطهّر [ه] ، كما يغسل البول والعذرة ، وإن لم يبن من ذلك أثر ، ولم يظهر به قذر ، ولا نتن ، كان كما لم يكن ، وكما يبقى من ماء الغدران ، وما يكون في الأودية من ماء الأمطار ، الذي يكون فيه الدم المسفوح الكثير ، والميتة والجيف ولحم الخنزير ، فلا يتبين في الماء أثر ، ولا يظهر فيه نتن ولا قذر ، فلا بأس بشربه ، ولا في الوضوء به ، لأن اسم الماء لازم له ، وقد قال الله سبحانه : (ماءً طَهُوراً) (٤٨) [الفرقان : ٤٨] ، وما لزم الماء اسمه ، كانت له طهارته وحكمه ، وقد ذكر أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كان يتوضئ من بئر بالمدينة يقال لها بضاعة ، وكان يلقى فيها الميتة والجيف وخرق

__________________

(١) أخرجه ابن عدي في الكامل ٦ / ١٢٩ (١٦٣٢) بلفظه ، والترمذي ٣ / ٣٢٨ (١٠٠٥) ، والحاكم ٤ / ٤٣ (١٨٢٥) ، والبيهقي ٤ / ٦٩ (٦٩٤٣) ، والطيالسي / ٢٣٥ (١٦٨٣) ، وعبد بن حميد في مسنده / ٣٠٩ (١٠٠٦) ، والطحاوي في شرح معاني الآثار ٤ / ٢٩٣ جميعهم بلفظ : نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين ... إلخ.

(٢) في المخطوط : فدكر. مهملة. ولعل الصواب ما أثبت. ومعنى مدكر : ذكر.

الحيضة) (١) ، لأنه لا يبين في البير ، شيء من النتن والأقاذير ، وكذلك ما مس المشرك أو لباسه ، من ماء مسلم أو ثيابه ، فليس على المسلم غسله ولا تطهيره ، إلا أن يبين نتنه وقذره ويغيره ، ولا ينبغي لمسلم أن يمس المشرك جسدا أو لباسا ، لأن الله جعل المشركين أنجاسا ، وليس ينبغي أن يمس المسلم ولا يلمسه ، وقد ذكر عن بعض السلف الماضين منهم الحسن بن أبي الحسن البصري ، أنه كان يتوضأ من مصافحة اليهود والمجوس والنصارى ، ولسنا نحن نوجب ما أوجب الحسن.

٢١٣ ـ وسألته : عن رجل كان في حداثته وغرته ، لا يتأهب لوضوء ولا يتنزه من بوله والخمر والمسكر ، أيجب عليه أن يعيد ما صلى في تلك الحال؟

قال : من كان كما قلت ـ رحمك الله ـ تاب إلى الله من ماضي إساءته وتقصيره ، وحافظ فيما يستقبل على ما أمره الله بالمحافظة عليه من أمر الصلاة وغيره ، وكان بذلك إن شاء الله مجتزيا ، وفيما بينه وبين الله في التوبة مكتفيا.

٢١٤ ـ وسألته : عن رجل ترك الصلاة في حداثته عشر سنين ، وكان شارب مسكر ثم تاب ، أيعيد الصلاة أم كيف يصنع؟

فأجاب فقال : من ترك صلاته عشر سنين مقلّا كان في الترك أم مكثرا ، تاب إلى الله فيما يستقبل من ترك صلاته ، كما يتوب إلى الله من غير ذلك من سيئاته ، وإن كانت توبته إلى الله من ذلك في نهار ، صلى مثل ما ترك من صلاة النهار كله ، وإن كانت توبته إلى الله من ذلك ليلا صلى مثل ما ترك من صلاة ليله (٢) ، وليس عليه ما مضى من السنين ، إذا تاب إلى الله رب العالمين ، ولو لزمه قضاء الصلوات (٣) ، لزمه قضاء غير ذلك من الفرائض الواجبات.

٢١٥ ـ وسألته : عن رجل له أبوان وأولاد فساق ، فماتوا أو مات منهم ميت

__________________

(١) أخرجه أبو داود ١ / ١٧ (٦٦) ، والترمذي ١ / ٩٧ (٦٧) ، والنسائي في المجتبى ١ / ١٧٤ (٣٢٧) ، وابن ماجة ١ / ١٧٢ (٥١٧) ، وأحمد ٣ / ١٥ (١١١٣٤) ، وابن حبان ٤ / ٥٧ (١٢٤٩) وغيرهم.

(٢) يعني : أنه يقضي في النهار فريضة الفجر والظهر والعصر ، وفي الليل يقضي المغرب والعشاء ليومه أو ليلته لا غير.

(٣) في المخطوط : الصلاة. ولعلها تصحفت.

أيستغفر لهم؟

قال : من كان والده أو ولده فسقة أو فجرة ، لم يحل له أن يستغفر لهم ، لأن الاستغفار طلب وشفاعة ، وقد قال الله سبحانه في الملائكة الذين اصطفاهم : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) [الأنبياء : ٢٨] ، وقال سبحانه في إبراهيم صلوات الله عليه : (وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (١١٤) [التوبة : ١١٤].

وقال سبحانه : (ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) (١١٣) [التوبة : ١١٣] ، فكذلك الاستغفار لا يحل لمن وعده الله بالعذاب الأليم ، لأن في ذلك طلبا لإخلاف الوعد والوعيد ، ولا يجوز طلب ذلك من الله الولي الحميد المجيد ، الذي لا يخلف وعده ، ولا يظلم أبدا عبده ، ولا تستوي منزلة الأبرار والفجار عنده ، كما قال سبحانه : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ) (٢٨) [ص : ٢٨] ، وقال سبحانه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (٣٥) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣٦) [القلم : ٣٥ ـ ٣٦] ، يريد سبحانه : ما لكم لا تفقهون ولا تعلمون.

٢١٦ ـ وسألته : عن رجل مات وعليه صلوات كثيرة فاتته ، أيقضيها عنه ولده من بعده؟

قال : الصلاة ـ يرحمك الله ـ لا يقضيها ولد عن والد ، ولا أحد من الناس كلهم عن أحد ، لأن الصلاة لا تكون أبدا إلا من مصليها ، ومن قصد إلى الله بها وخشع فيها ، وليست كالحج لأن الحج له بلغة ومعونة ، وفي الحج نفقة للحاج وكلفة ومئونة.

٢١٧ ـ وسألته : عن رجل له قرابات فسقة لا يصلون ولا يصلحون ، أيقطعهم أم يصلهم ، فإن قطعهم أيكون قاطعا لرحمه أم لا؟

قال : ليس لأحد من المؤمنين أن يواد أحدا من الفاسقين ، كان أبا أو ابنا أو أخا أو قرابة ، لقول الله سبحانه : (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ

عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [المجادلة : ٢٢] ، ولقوله سبحانه : (فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا) (٢٩) [النجم : ٢٩] ، والإعراض : فهو الهجرة والمجابنة ، وسواء في ذلك القرابة وغير القرابة.

٢١٨ ـ وسألته : عن الأعجمي الذي لا يقيم القراءة ، وعن المرأة التي لا تحسن القرآن ، أتجزي عنهم صلاة؟

قال : على الأعجمي ـ رحمك الله ـ وعلى النساء الأعجميات أن يقرءوا في صلاتهم ما تيسر من القرآن بالعربية ، لأن الله سبحانه يقول : قال تعالى : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ) [المزمل : ٢٠].

٢١٩ ـ وسألته : عن رجل له جيران فساق يعلنون الشرب ، ويأتون المنكر ، فإن أنكر عليهم ساءوه وآذوه ، أيجوز له الكف عنهم؟

قال : ينكر المنكر على من أتاه ، وإن ذلك خالفه وأسخطه وساه (١) ، إلا أن يتقي منه تقية ، أو يخشى منه مضرة أو بلية ، لقول الله سبحانه : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) [آل عمران : ٢٨].

٢٢٠ ـ وسألته : عن رجل صلى خلف إمام مخالف ، أيقتدي بصلاته أم كيف يصنع؟

قال : من صلى مع إمام لا يقتدى به لم يصل بصلاته ، وصلى صلاته لنفسه ، وكذلك كان يفعل الصالحون من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن المصلي إنما يصلي صلاته على عقدة ونية وعلى مهله ، فإن صلى الصلاة بغير ذلك لم يكن له صلاة ، قال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا يؤمن فاجر برا ، ولا أعرابي مهاجرا) (٢) ،

__________________

(١) ساه : أصلها ساءه.

(٢) أخرجه ابن ماجة ١ / ٤٤٣ (١٠٨١) ، والبيهقي ٣ / ١٧١ (٥٣٥٩) ، وأبو يعلى ٣ / ٣٨١ (١٨٥٦) ، وعبد بن حميد في مسنده / ٣٤٤ (١١٣٦) ، ة الطبراني في الأحاديث الطوال / ٢٧٧ (٢١).

وقال صلى الله عليه : (إن سركم أن تزكو صلاتكم فقدموا خياركم) (١) ، وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلاتكم صلاة إمامكم ، إن صلى قاعدا فصلوا قعودا ، وإن صلى قائما فصلوا قياما) (٢) ، وإذا لم يقبل صلاة الإمام لم يقبل صلاة من خلفه ، وإنما يقبل صلاة من اتقاه وخافه ، والتقوى هي الإيمان ، والبر والإحسان ، ولا يثبت الإيمان بحكمه ولا باسمه ، إلا لمن عرف به ، والمعرفة بذلك فلا تكون إلا بأحد الوجوه الثلاثة ، إما بعيان لذلك ومشاهدة ، وإما بأخبار متواترة مترافدة (٣) ، وإما بخبر من ذي ديانة ، وثقة وطهارة وأمانة ، فمن لم يكن معرفة إيمانه بأحد هذه الوجوه الثلاثة الموصوفة ، لم يكن حقيقة إيمانه أبدا عند أحد بمعلومة ولا معروفة (٤).

٢٢١ ـ سئل : لأي معنى كره حف الشوارب؟

فقال : لما جاء في ذلك عندنا من الأثر ، ولما فيه من تسوية البشر ، ولكن يؤخذ أخذا وسطا ، لا مقصرا ولا مفرطا ، ففيه إن شاء الله ما كفى وأغنى (٥).

٢٢٢ ـ وسألته : عن معنى : لا حول ولا قوة إلا بالله؟

فقال : لا حول : لا زوال (٦) ولا انتقال ، ولا قوة يريد لا احتيال إلا بالله وبقوته ، لمن قوي أو حال في كل شيء من علمه ، فكل ما كان فيه من قوة لذلك أو غلبة ، فبالله سبحانه كانت.

__________________

(١) أخرجه الحاكم ٣ / ٢٤٦ (٤٩٨١) ، والبيهقي في السنن الكبرى ٣ / ٩٠ (٤٩١٢) ، والطبراني في الكبير ٢٠ / ٣٢٨ (٧٧٧) ، والدار قطني في السنن ١ / ٣٤٦ (١١) ، ٢ / ٨٧ (١٠) ، وابن الجارود في الآحاد والمثاني ١ / ٢٤٤ (٣١٧) ، وابن عدي في الكامل ٣ / ٤١ (٦٠٠) ، وأخرج نحوه السيد أبو طالب في أماليه / ١٦٩.

(٢) أخرجه البخاري ١ / ٢٤٤ (٦٥٧) ، ومسلم ١ / ٣٠٨ (٤١١) ، وأبو داود ١ / ١٦٤ (٦٠١) ، والنسائي في المجتبى ٢ / ٨٣ (٧٩٤) ، وابن ماجة ١ / ٣٩٢ (١٢٣٨) ، ومالك ١ / ١٣٥ (٣٠٤) ، والدارمي ١ / ٣١٩ (١٢٥٦) ، وأحمد ٣ / ١١٠ (١٢٠٩٥) ، وغيرهم.

(٣) في المخطوط : مترادفة. ولعل الصواب ما أثبت ، لتوافق السجعتين.

(٤) هذا الجواب قد تكرر بدون السؤال ، إلا أنه ورد بزيادة الحديث (إن سركم ....) إلخ.

(٥) روى الناصر عليه‌السلام أن الإمام القاسم بن إبراهيم : أنه لم يكن يحلق شاربه. الإفادة / ١٢٠.

(٦) في المخطوط : ولا. الواو زائد ، لأن لا زوال تفسير ل (لا حول).

٢٢٣ ـ [وسئل : عن التلبية؟

فقال :] ويقول في التلبية إن الحمد والنّعمة لك. يعني بالكسر.

٢٢٤ ـ وسألته : هل على النساء الجهر في القراءة في الصلاة التي يجهر فيها؟

فقال : لا يجهرن النساء من القراءة فيما يجهر فيه ، إلا بقدر ما يسمعن أنفسهن ولا يسمعه غيرهن ، لأن خفضهن لأصواتهن من سرهن.

٢٢٥ ـ وسألته : كيف يكره الصلاة على اللبود والمسوح (١) والسجود عليها ، ولا يكره لباسها؟!

فقال : يكره ذلك لأن من التذلل لله وضع الوجه والجبين على الأرض وقرارها وترابها ، لأن السجود إنما هو تذلل لله سبحانه ، وخشوع من العبد فيما بينه وبين الله عزوجل ، وإن صلى على شيء مما ذكرت ، فلا نزعم أن صلاته فاسدة ، ولا أن عليه الإعادة.

٢٢٦ ـ [وسئل : عن فرش القبر للميت]؟

فقال (٢) : لا يدخل الميت لحده إلا في أكفانه ، وقد سمعنا ما سمعت ، يعني : حديث (القطيفة التي بسطت في لحد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) (٣) ، وليس كل ما يروى يصح ، وقد يكون أن يوضع فيه القطيفة وغيرها ، ثم ترفع عنه.

٢٢٧ ـ وسألته : هل تحتجب المرأة الشابة عن من ليس لها بمحرم؟

فقال : تفعل المرأة من ذلك إن شاء الله ، ما أجاز الله لها في كتابه.

٢٢٨ ـ [وسئل : عن ولاية عقود النساء] من العربيات؟

قال : الأمر في ذلك إلى الأولياء ، وإليهن في ذلك السخط والرضى.

__________________

(١) المسوح : ثوب من الشعر غليظ. واللبود : بسط من الشعر أو الصوف.

(٢) في المخطوط : وقال.

(٣) أخرجه مسلم ٢ / ٦٦٥ (٩٦٧) ، والترمذي ٣ / ٣٦٣ (١٠٤٧) ، والنسائي في المجتبى ٤ / ٨١ (٢٠١٢) ، وأحمد ١ / ٢٢٨ (٢٠٢١) ، وابن حبان ١٤ / ٥٩٩ (٦٦٣١) ، والنسائي في الكبرى ١ / ٦٤٩ (٢١٣٩) ، وغيرهم.

٢٢٩ ـ [وسئل : عن المصاحف هل فيها اختلاف؟]

فقال (١) رضي الله عنه : رأيت المصحف بخط علي بن أبي طالب صلوات الله عليه ، وفيه أيضا خط سلمان والمقداد ، وهو كما أنزل ، وهو عند بعض ولد الحسن ، وإن ظهر الإمام فستقرءونه ، وليس بين ذلك وبين الذي في أيدينا زيادة ولا نقصان ، إلا مثل : قاتلوا اقتلوا وأشباهه ، لا في تقديم السور وتأخيرها (٢).

٢٣٠ ـ وسألته : عن الماء على الطرقات فيشرب منه المؤمن والفاسق أيؤجر على ذلك؟

فقال : يؤجر إن شاء الله ، وقد ذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (في كل ذي كبد حرى أجر) (٣) ، وقد سقى الله الناس من قبل الإسلام.

٢٣١ ـ وسألته : عن مرارة الذئب ، والسباع ، وكل ذي مخلب من الطير؟

فقال : لا بأس إذا تعولج بها وتداوى (٤) ، وكان فيها شفاء ، وأما الحدأ والخنزير فلا

__________________

(١) في المخطوط : وقال.

(٢) ونص رواية الإمام الهادي عن جده عليهما‌السلام هكذا : (حدثني أبي عن أبيه عن جده ، أنه قال : قرأت مصحف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، عند عجوز مسنة ، من ولد الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، فوجدته مكتوبا أجزاء ، بخطوط مختلفة ، من أسفل جزء فيها مكتوب : وكتب علي بن أبي طالب ، وفي أسفل آخر : وكتب عمار بن ياسر ، وفي أسفل آخر : وكتب المقداد ، وفي آخر : وكتب سلمان الفارسي ، وفي آخر : وكتب أبو ذر الغفاري ، كأنهم تعاونوا على كتابته. قال جدي القاسم بن إبراهيم صلوات الله عليه : فقرأته فإذا هو هذا القرآن الذي في أيدي الناس حرفا حرفا ، لا يزيد حرفا ولا ينقص حرفا ، غير أن مكان : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ). اقتلوا الذين يلونكم من الكفار ، وقرأت فيه المعوذتين). المجموعة الفاخرة / ٥٤٩.

أقول : لعل هذه الشريفة هي نفيسة بنت الحسن المذكور ، وهي مشهورة بالفضل والعبادة والزهد والكرامات المشهورة ، ومشهدها بمصر مشهور مزور. ولدت سنة / ١٤٥ ه‍ ، وتوفيت سنة / ٢٠٨ ه‍. أو لعلها عمتها نفيسة بنت زيد بن الحسن. وكانت بمصر وتوفيت قبل وفاة السيدة نفيسة.

(٣) أخرجه الترمذي ٢ / ١٢١٥ (٣٦٨٦) ، وأحمد ٤ / ١٧٥ (١٧٦٢٤) ، والبيهقي في الكبير ٤ / ١٨٦ (٧٥٩٦) ، والطبراني في الكبير ٧ / ١٢٨ (٦٥٨٧) ، والقضاعي في مسند الشهاب ١ / ٩٩ (١١٣).

(٤) كذا في المخطوط ، ولعلها : وتدووي.

ينتفع بهما ، فذاتهما محرمان.

٢٣٢ ـ وسألته : عن الثياب التي تشترى من الأسواق ، من قوم ليست لهم معرفة ، أيغسل ذلك أم لا؟

قال : إذا كانت نقية ليس فيها دنس ، اكتفي بنقائها.

٢٣٣ ـ وسألته : عن الكفار وأهل الكتاب حرام علينا طعامهم وشرابهم ونكاحهم؟

فقال : لا يأثم أحد في قوته وقوامه ، إذا أخذه من حلاله ، وإنما الإثم في الإفساد والإفراط.

وأما النكاح فلم يحله الله إلا بالإسلام والملة.

٢٣٤ ـ وسألته : عن الأخفاف التي تشترى من الأسواق والصلاة فيها ، لا يدرى ذكية أم غير ذكية ، وكذلك اشتراء السمن والزيت في زقاق أو ديابي (١) ، لا يدرى كيف كان أصل التذكية ، هل يجوز أكل هذه الأشياء والاصطباغ (٢) بها؟

فقال : أما الأخفاف فإذا خاف ألا تكون ذكية ، كان الذي هو أفضل عندنا وعند آل رسول الله كلهم جميعا ، ألا يصلى فيها ولا يتوجه ولا يشترى ، وما كان من السمن والعسل والزيت وغيرها من إدام أو طعام ، فلا بأس أن يشترى إلا أن يتغير أو يتبين فيه أثر أو قذر.

٢٣٥ ـ وسألته : عن رجل له ولد يخالفونه في الرأي والدين ، هل يجوز له أن يحرمهم ميراثه ويزويه عنهم؟

فقال : إذا خالفوه في التوحيد ، وشبهوا خالقهم بشيء من خلقه ، فنعم إن قدر أن يحرمهم ويزويه عنهم ، وإن كان عند الله سبحانه أعدل وأولى.

٢٣٦ ـ وسئل : عن الخمس في أموال الناس ، من هذه الفتوح التي كانت ولا تزال في أيدي المسلمين ، لم يخرجوا منها الخمس من سهم آل رسول الله صلى الله عليه

__________________

(١) الديابي : أوعية من الجلد.

(٢) الاصطباغ : ما يصبغ به من الإدام.

وآله وسلم ولم يعطوا؟

فقال : ليس على أحد في ماله من عين أو أرض أو عقار ، إلا ما فرض الله عليه من الزكاة من الفرض ، ولا يعمل حتى يقوم إمام عدل فيدفعها إليه ، أو يتحرى صاحبها أهلها فيدفع إليهم الزكاة ، وأما الأخماس فهي لآل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٢٣٧ ـ وسألته : عن آدم صلى الله عليه حيث أسكنه الله الجنة ، ما كانت الجنة مخلوقة أم لا؟

فقال : الجنة مخلوقة في غير سماء ولا أرض ، وقد أسكن الله آدم وزوجته الجنة ، وأخرجهما منها بعصيانهما وأكلهما الشجرة.

٢٣٨ ـ وسألته : عن الذبيح أهو إسماعيل أو إسحاق؟

فقال : قد صح أنه إسماعيل ، على ما في كتاب الله من التنزيل ، لأن الذبح والقربان بمنى ، وفي ذلك دليل على أنه إسماعيل ، لأنه كان بمنى وإسحاق يومئذ بالشام ، إلا أن اليهود تأبى وتزعم أن الذبيح إسحاق ، وليس قولهم في ذلك محمودا.

٢٣٩ ـ وسألته : عن بلد فتح بالسلطان الجائر ، ولا يدرى كيف فتح عنوة أو صلحا ، إلا أنا وجدنا أرضها ودورها في أيدي آبائنا ، وورثناها عن الآباء واشتريناها ، والسلطان قد وضع عليها خراجا معلوما يأخذه منها في كل سنة ، فهل يجوز ما يأخذ السلطان منه أن يحتسبه من العشر ، فإنه إذا أعطى السلطان العشر ، لم يبق ما يكفيه لعياله وهو ذو عيال؟

فقال : أما ما ورث من الآباء وراثة ، ولم يكن الأمور في فساده بيّنة ، فملكه لأهله ولمن ورثه ، وأما العشر فما أخرجت الأرض على من ملك من مسلم فلازم ، وترك ذلك والتقصير فيه على صاحبه محرّم ، وما أخذ من ذلك من لا يستأهل الأخذ فهو واجب العشر على صاحبه فيما بقي في يديه ، ولا يزكى ما أخذ السلطان ، وقد قال بعض القائلين: عليه العشر ، في الجميع ، وكيف يجب العشر في ما لم يملكه وما قد غصب عليه ، وأخذ من يديه ، وإنما جعل الله العشر في ما يملكون.

٢٤٠ ـ وسألته : عن الإسلام؟

فقال : هو الاستسلام لله ، والاعتصام بالله ، قال الله لا شريك له ، في إبراهيم صلى

الله عليه : (أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٣١) [البقرة : ١٣١].

٢٤١ ـ سؤل أبي رحمة الله عليه ورضوانه ذات يوم : ما الإيمان؟

فقال : الإيمان معناه معنى الأمان من كبار العصيان ، التي من أتاها وعده الله عليها النار ، وسماه بفجوره من الفجار.

والإيمان كما قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رحمة الله عليه ورضوانه وصلواته : (قول مقول ، وعمل معمول ، وعرفان بالعقول) (١).

٢٤٢ ـ وسألته : عن الإيمان؟

فقال : هو الأمان من كبائر العصيان ، من الشرك وغيره ، من كل ما وعد الله عليه ـ من ركبه وسمى به من أتاه من الفجار ـ النار.

٢٤٣ ـ وسألته : عن الضحية للمفرد؟

فقال : أحبّ إلي أن يضحي إلا إن يكون معسرا ، وليس بلازم له.

٢٤٤ ـ [وسئل : عن التوجه إلى بيت المقدس؟

فقال :] إنها كانت صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بيت المقدس بضع عشر شهرا إلا إنها كانت قبلة بني إسرائيل ، ثم نقل الله القبلة إلى بيته الحرام ، وهي قبلة الإسلام ما بقي الإسلام؟

٢٤٥ ـ [وسئل : عن الإمام]؟

فقال : (٢) ليس لإمام أن يقول : إني إمام ، لأن هذا إنما يكون للرسول عليه‌السلام ، ولذلك لم يقل علي صلوات الله عليه : إني إمام ، لإشارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكثرة دلائله عليه ، ولما بان به وسبق إليه ، وكذلك الإمام بعده له آية تدل عليه ، وهي

__________________

(١) رواه أحمد بن موسى الطبري من أصحاب الإمام الهادي ، في كتابه الأنوار / ٧٣ (مخطوط) ، عن عليعليه‌السلام.

وأخرجه الطوسي في أماليه / ٣٦ ، والمفيد في أماليه / ٢٧٥ عن علي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ورواه عنهما المجلسي في بحار الأنوار ١٦ / ٦٧.

(٢) في المخطوط : وقال.

العلم والبيان ، والسبق إلى الخيرات ، والدعاء إلى الله والقيام بأمره.

٢٤٦ ـ [وسئل : عن صفة صلاة علي عليه‌السلام؟

فقال :] حدثني (١) محمد بن حاتم قال : قال أبو محمد (٢) قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه لعبد الله بن جعفر (٣) : إذا قمت إلى الصلاة فارفع بصرك موضع سجودك ، ثم تستفتح بالقراءة ، فتجعل لسانك ترجمانا لقلبك ، ولا يغب قلبك عما يقول لسانك ، لا تعنى بشيء من شأنك ، إلا بما أنت فيه من صلاتك ، ولا تذكر في تلاوتك غير ما تتلوه ، ويكون همك الآية التي تتلوها ، فإذا فرغت من القراءة وصرت إلى الركوع ، لم تذكر إلا التكبير وحسن الخضوع ، وكذلك إذا اعتدلت في القيام لم تذكر إلا الركوع ، وكان ذكرك السجود ، فإذا فرغت من ركعة حفظتها ، ثم ابتدأت الأخرى تصنع فيها كما صنعت في الأولى ، لا تذكر غير قراءتك وغير حفظك ، لأن الصلاة لا بد لها أن تحصى لا يزاد فيها ولا ينقص منها ، حتى تؤدي إلى الله عزوجل فرضك ، كما أمرك بعونه وتوفيقه (٤).

٢٤٧ ـ وسألته : عن من وجب عليه حد من حدود الله ، وليس به إمام يحده (٥) كيف يصنع؟

قال : يتوب إلى الله فيما بينه وبينه ، ومن تاب إلى الله من ذلك كان مجزيا له إن شاء الله ، لأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذكر عنه أنه قال : (من أتى شيئا من

__________________

(١) في المخطوط : وحدثني.

(٢) يعني : الإمام القاسم بن إبراهيم.

(٣) عبد الله بن جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي ، صحابي ولد بأرض الحبشة لما هاجر أبواه إليها السنة الأولى للهجرة. وهو أول من ولد بها من المسلمين ، وكان كريما يسمى بحر الجود ، وللشعراء فيه مدائح ، وكان من خاصة أمير المؤمنين علي عليه‌السلام زوجه ابنته زينب ، وكان أحد الأمراء في جيش علي يوم صفين ، مات بالمدينة سنة (٨٠ ه‍).

(٤) لم أقف على هذه الرواية.

(٥) يعني : ليس في عصره إمام.

هذه القاذورة فيستتر بستر الله ، وليتب منها إلى الله) (١).

٢٤٨ ـ وسألته : عن أموال الجند وأعوان الظلمة وأنفسهم (٢)؟

فقال : أما ما كان من أموالهم التي كانت لهم وراثة قد أحرزوها في بيوتهم ، فلا (٣) يحل أخذها إلا أن يكون مال من أموال الله قد عرف أنه لله ، فيحكم فيه الإمام بحكم الله ، وسنة أمير المؤمنين صلوات الله عليه جارية من يوم الجمل.

٢٤٩ ـ وسألته : عن نحل لرجل (٤) ثارت فذهبت ، فأخذها رجل فجمعها ، فجاء صاحبها الأول يطلبها؟

فقال : النحل ذباب ليس كسائر ما ملّك الله العباد من أموالهم ، وأرجو ألا يكون على من أخذها بأس ، وإن نوزع رجل فردها على صاحبها فهو أفضل إن شاء الله.

٢٥٠ ـ وسألته : عن أكل الحوت الذي يسمى الطير ، وما أشبهها من الحيتان؟

فقال : هو حلال طيب لا بأس به ، وهو من صيد البحر الذي أحله [الله] للعباد.

٢٥١ ـ وسألته : عن من هدم مدينة من مدائن المسلمين بأمر كافر ، وفيها ركز بيوت شرائهم (٥) أو عمل في هدمها؟

فقال : إذا اتقى وخاف ولم يكن إلا المحضر ولم يهدم ولم يفسد ، لم يكن عليه في ذلك شيء ، فإن هدم وأفسد شيئا لأحد يعرفه فيستحله منه أو يصالحه ، وإن لم يعرفه ولم يدر لمن هو تاب إلى الله في ما بينه وبينه ، وسلم إن شاء الله من الإثم بتوبته.

٢٥٢ ـ وسألته : عن رجل فاتته صلاة حتى دخل وقت غيرها بأيهما يبدأ؟

فقال : يبدأ إن شاء الله بالتي دخل فيها ، ثم يصلي مثل الصلاة التي قبلها.

__________________

(١) أخرجه الحاكم ٤ / ٢٧٢ (٧٦١٥) ، والبيهقي في الكبرى ٨ / ٣٣٠ (١٧٣٧٩).

(٢) يعني : الظلمة أنفسهم.

(٣) في المخطوط : ولا يحل. ولعل الصواب ما أثبت.

(٤) في المخطوط : الرجل. ولعل الصواب ما أثبت.

(٥) في المخطوط : الكلمة مهملة.

٢٥٣ ـ وسألته : عن الرجل يكون عنده الوديعة فيقلبها (١) ويضمنها ويربح فيها ، لمن يكون ربحها؟

فقال : أحب شيء إلي إن فعله ، ألا يكون شيء من الربح له ، لأن الوديعة ليست له بمال ، وكذلك ما نال بها فليس له بمال ، وليس لصاحب الوديعة أن يقلبها إلا برضى صاحبها وإذنه ، لأن تقليبه لها مخاطرة وظلم واعتداء ، ويدفع الربح إلى الإمام فيفعل الإمام فيه ما يرى.

٢٥٤ ـ وسألته : [عن قريش وفارس؟

فقال :] إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (لله خيرتان من علمه من الناس ، فخيرته من العرب قريش ، وخيرته من العجم فارس) (٢).

قال : وذكر أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (والذي نفسي بيده لو كان الدين منوطا بالثريا لنالته رجال من فارس ، وأسعدهم به فارس) (٣).

٢٥٥ ـ وسألته : [عن نكاح نساء العجم؟

فقال :] ذكر (٤) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لبني هاشم : (اطلبوا الولد في نساء العجم فإن في أرحامهن بركة) (٥).

٢٥٦ ـ وسألته : عن من حج وهو فاسق في دين الله؟

فقال : حجته غير مجزية له ، ولا يقبلها عنه ، لقول الله سبحانه : (إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (٢٧) [المائدة : ٢٧] ، وليس بمتقي من كان الفاسقين.

__________________

(١) يعني : يتجر فيها.

(٢) رواه الزمخشري في ربيع الأبرار ، نقله عنه المجلسي في بحار الأنوار ٤٦ / ٤ ، وابن شهراشوب في المناقب ٤ / ١٦٧ ، والكليني في الكافي ١ / ٤٦٦.

(٣) أخرجه الترمذي ٥ / ٣٨٤ (٣٢٦١) ، وابن حبان ١٦ / ٦٢ (٧١٢٣) ، وأخرجه عبد الرزاق ، وعبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن أبي حاتم ، والطبراني في الأوسط ، والبيهقي في الدلائل ، وابن مردويه. الدر المنثور ٨ / ٥٠٦. ورواه الحميري في قرب الإسناد ١ / ٣.

(٤) في المخطوط : وذكر.

(٥) لم أقف عليه.

٢٥٧ ـ وسألته : عن البيعة؟

فقال : لا تجوز البيعة إلا لإمام قد بان بعلمه وفضله وثباته ، وقال لا يجوز الغزو مع من ظلم وتعدى ، لأن الغازي معه عون من أعوانه ، على ما هو عليه من إفساده وعمايته.

٢٥٨ ـ وسألته : هل يجوز أن يختلف إمامان في عصر واحد؟

فقال : لا يكون هذا أبدا.

وهل يجوز أن يتساويا في عصر في حكم واحد في كل الخصال ، لا يفضل أحدهما صاحبه ، فيستوجبان الإمامة؟

فقال : هذا لا يكون أبدا ، وفي بطلان هذا ما قال الله لا شريك له : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) [يوسف : ٧٦].

٢٥٩ ـ وسألته : متى يلزمني فرضه؟

فقال : إذا عرفته فقد لزمك فرضه.

فقلت : الإمام يعرّف الناس بنفسه؟

قال : يعرّف الناس بنفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والواجب على الناس أن يطلبوه في معدنه.

قلت : فأين معدنه؟

قال : آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يكون أزهدهم وأعلمهم وأورعهم ، ويبين نفسه بالدعوة إلى الحق.

٢٦٠ ـ وسألته : عن الأرض هل تخلو من قائم لله بحجة؟

فقال : لا تخلو من قائم لله بحجة ، وذلك بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ (١) كانت النبوة ختمت به.

وقال أبو عبد الله محمد بن القاسم : كان أبي رضي الله عنه يقول في هذه المسألة :

__________________

(١) في المخطوط : إذا.

إن الأرض لا تخلو من حجة لله ، والحجة عنده كتب الله وحقائق برهانه ، وهذه حجة الله على جميع خلقه ، وإنه لا بد أيضا في كل قرن من أن يكون فيهم عالم هو أفضلهم وأعلمهم، وإن لم يبلغ علم من مضى قبله ، فهو في أيامه ودهره في فهمه وعلمه ، وإن قصر [عن] مبلغ أفاضل العلماء من آل النبي الذين مضوا ، في ما تقدم في أول الإسلام وخلا ، لأنه لا يقول أحد يعقل وينصف : أن كان بعد علي عليه‌السلام من علماء آل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، [من] كان من العلم والفقه على مثل ما كان عليّ صلى الله عليه قد أحاط به وآتاه ، كما لم يكن علي عليه‌السلام في فضل علمه ، يبلغ ما آتى الله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من فضائل الحكمة والعلم والفضل في جميع أحواله.

وأما ما كان يروى : (أن من مات لا إمام له مات ميتة جاهلية) (١) ، فتفسيره واضح مشروح ، أن الله قد فرض على خلقه في كل حين ، إقامة أحكامه وشرائعه التي نزل في كتابه وسنن نبيه ، ولا يقيم ما فرض الله من الأحكام إلا أن يحكم بها الإمام ، فإن لم يكن إمام يقيمها ويحكم بها ، كان على الناس طلبه حتى يقيموه للأحكام وينفذها ، فإذا كانت دار الإسلام قد علت عليها أئمة الجور ، لزم أهل الإسلام مجاهدتهم وإزالتهم حتى يقيموا إماما عدلا ، يؤمهم ويقيم أحكامهم عليهم ، وينفذ مقاسم الفيء التي أمر الله بقسمها فيهم ، فإن كان الغالب عليهم الجورة من الأئمة الظلمة ، كان الفرض من الله فيهم المحاربة والمجاهدة ، فإنما الناس أبدا بين أمرين ، إما إن يكون مع إمام حق يقوم بأحكام الله في الدين ، فيكونوا مؤتمين بإمام حق ورشد في الدين ، وإن كانوا في دولة الظالمين العاصين ، فيلزمهم أن يكونوا لهم مجاهدين محاربين ، فهم أيضا في هذه الحال مأمومين ، والناس في كل حين بين فريضتين من الله لازمتين ، فيما حكم الله به من أحكام الدين ، فرض طاعة إمام حق إن كان ظاهرا قائما ، أو فرض مجاهدة إمام جور إذا كان عاليا ظالما.

٢٦١ ـ وسألته : من أين جاء فساد إمامين في عصر واحد؟

__________________

(١) سبق تخريجه.

فقال : أما الإمامان فلا يخلوان من أن يكون أحدهما أفضل من الآخر ، فيكون المفضول بفضل الآخر عليه قد زالت إمامته ، ويلزمه تقديم الفاضل في الدين والعلم وطاعته ، وذلك أن الله يقول في كتابه : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (٧٦) [يوسف : ٧٦] ، وفي هذه المسألة جواب يكتفي به من كان ذا لب شافي ، لأنه واضح مبين مفهوم كافي (١).

عن أبي إدريس (٢) ، عن أبي الجحاف (٣) قال : قال علي رضي الله عنه : (من مات ليس له إمام مات ميتة جاهلية إذا كان حرا تقيا) (٤).

عن أبي جعفر أنه كان يقول : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين رجع من غزوة حنين وأنزلت عليه : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) (٣) [النصر : ١ ـ ٣] (يا علي ويا فاطمة قد جاء نصر والله والفتح ، ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا ، فسبحان ربي وبحمده إنه كان توابا ، وإني لم أؤمر أن أسبح ربي وأستغفره إلا لما حضرني من لقاء ربي) (٥).

ثم أنزلت على إثرها : (الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ) (٣) [العنكبوت : ١ ـ ٣] ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) أشار في المخطوط إلى بياض هنا.

(٢) أبو إدريس الهمداني المرهبي الكوفي اسمه سوار ، وقيل : ساور ، روى عنه مسلم بن صفوان ، والمسيب بن نجبة ، وعنه سلمة بن كهيل ، وكثير النواء ، وحكيم بن جبير وغيرهم ، وهو من ثقاة محدثي الشيعة.

(٣) أبو الجحاف هو : داود بن أبي عوف سويد التميمي البرجمي مولاهم أبو الجحاف الكوفي ، روى عبد الرحمن بن صبيح مولى أم سلمة ، وجميع بن عمير ، وأبي خازم وغيرهم ، وعن السفيانان وشريك وأبو إدريس وغيرهم ، من ثقاة محدثي الشيعة.

(٤) أشار في المخطوط إلى بياض هنا. وأخرج الحديث بلفظه الإمام زيد بن علي في المسند عن علي عليه‌السلام / ٣٦١ ، وأبو عبد الله العلوي في الجامع الكافي ٦ / ٤٧ (مخطوط).

(٥) أخرج صدره محمد بن سليمان الكوفي في المناقب ١ / ١٥٤ (٨٨). وفي المخطوط بعد قوله : لقاء ربي. رضي الله عنه. زيادة.

وسلم : يا علي ويا فاطمة إن الله قد فصل الفتنة على الذين يقولون : إنا لنعلم الذين صدقوا في قولهم ، ونعلم الكاذبين في إيمانهم ، فهذا وعد واقع واجب.

ثم أنزلت : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (٤) [العنكبوت : ٤] ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي ويا فاطمة قد علم الرب أن أقواما من بعدي عند الفتنة سيعلمون السيئات ويحسبون أنهم سابقون.

فقال علي رحمة الله عليه : فكيف يحسبون أنهم يسبقون يا رسول الله ومن ورائهم الموت؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي إنهم لم يسبقوا قضاء الله الذي قضى فيهم الموت.

ثم أنزل : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (٥) [العنكبوت : ٥] ، بحق (١) أن من رجا لقاء الله أن يستعد لأجل الله ، وأن يكون تائبا تابعا لطاعته ، مجتنبا لخلاف الله ومعصيته ، وأن يعلم أن الله يعلم ما يعمل ، ويسمع ما يقول ، ولذلك قال الله سبحانه : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

ثم أنزل الله : (وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٦) [العنكبوت : ٦] ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد قضى الله على المؤمنين عند الفتنة بعدي الجهاد. فقال علي : يا رسول الله على ما يجاهد الذين يقولون آمنا؟! فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تجاهدونهم (٢) على الإحداث في الدين. فقال علي : يا رسول الله إنك تقول تجاهدونهم كأني سأبقى بعدك إلى مجيء الفتنة ، فأعوذ بالله والرسول أن أؤخر بعدك ، فادع إلى ربك أن يتوفاني قبل ذلك. فقال رسول الله صلى الله عليه : ما كنت حقيقا أن تأمرني أن أدعو (٣) الله لك أن يقدم أجلك قبل ما أجّل الله وقضى! والله يقول سبحانه : (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) [آل عمران : ١٤٥].

__________________

(١) هنا كلمة مهملة (بحقين) وما أثبت اجتهاد.

(٢) في المخطوط : يجاهدون. ولعل ما أثبت هو الصواب وما بعده من سؤال الإمام يشهد بذلك.

(٣) في المخطوط : أدع. والصواب ما أثبت.

فقال علي رضي الله عنه : يا رسول الله فما هذه الأحداث التي نجاهدهم عليها؟ قال : ما خالف القرآن وخالف سنتي ، إذا عملوا في الدين بغير الدين ، وإنما الدين أمر الرب ونهيه.

قال علي : يا رسول الله فإنك قلت يوم أحد إذ استشهد من المؤمنين من استشهد فأخّرت عني الشهادة فرأيت وجدي وأسفي : إن الشهادة من ورائك. فقال رسول الله صلى الله عليه : فإن ذلك إن شاء الله كذلك. وكيف ترى صبرك إذا خضبت هذه من هذا وأهوى بيده إلى لحيته ورأسه؟!

فقال علي رضي الله عنه : ليس ذلك يا رسول الله حينئذ من مواطن الصبر ، ولكنه من مواطن البشرى والشكر.

فقال رسول الله صلى الله عليه : فأعدد قبل خصومتك فإنك مخاصم. فقال عليعليه‌السلام: يا رسول الله أرشدني إلى الفلج عند الخصومة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه: آثر الهدى ، واعطفه على الهوى من بعدي ، إذا عطف قومك الهوى على الهدى وآثروه ، واعطف القرآن على الرأي ، إذا عطف قومك الرأي على القرآن ، وحرفوا الكلم عن مواضعه بالأهواء العارضة ، والآمال الطامحة ، والأفئدة الناكثة ، والغش المطوي ، والإفك المؤذي ، والغفلة عن ذكر الموت والمعاد ، فلا يكونن خصومك أولى بالقرآن منك ، فإن من الفلج في الدنيا أن يخالف خصمك سنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأن يخالف القرآن بعمله ، يقول الحق ويعمل بالباطل ، وعند ذلك يملأ لهم ليزدادوا إثما ، ويضلوا ضلالا كبيرا ، وعند ذلك لا يدين الناس بالمعروف والنهي عن المنكر ، ولا يكون فيهم شهداء لله بالحق ، وعند ذلك يتفاخرون بأموالهم وأنسابهم ، ويزكون أنفسهم ، ويتمنون رحمة ربهم ، ويستحلون الحرام والمعاصي بالشبهات والأسماء الكاذبة ، ويستحلون الربا بالبيع ، والخمر بالنبيذ ، والنجس بالزكاة ، والسحت بالهدية ، ويظهرون الباطل ، ويتعاونون على أمرهم ، ويزينون الجهلاء ، ويفتنون العلماء من أولي الألباب ، ويتخذونهم سخريا.

فقال علي : يا رسول الله بمنزلة ردة هم إذا فعلوا ذلك ، أبمنزلة فتنة؟ فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : بل بمنزلة فتنة ، لو كانوا بمنزلة ردة أتاهم رسول من بعدي يدعوهم إلى الرجعة من بعد الردة ، ولكنها فتنة يستنقذهم الله منها إذا تأخرت آجال

السعداء ، بأولياء من أولياء الله فيهديهم بهم ، ويهتدى بهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

فقال علي عليه‌السلام : من آل محمد الهداة أو من غيرهم؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : بل بنا يختم الله كما فتح بنا ، وبنا ينقذون من الفتنة ، كما بنا أنقذوا من الشرك ، بعد عداوة الشرك فصاروا إخوانا في دينهم.

٢٦٢ ـ [وسئل :] عن من وطي امرأته في شهر رمضان ما عليه؟

فقال : قد قيل نصف قوته سنة ، إلا أنه يلزمه حق الله في غلته.

٢٦٣ ـ [وسئل :] أيحل له أخذ الزكاة والعشر ، إذا كان فيها دخل عليه من غلة أرضه ، أو يجب عليه بيع أرضه من الأصل كلها ، حتى لا يبقى له قليل ولا كثير؟

فقال : يحل له أخذ العشر والزكاة إذا احتاج إليها ، وإن كان له مال ، أو لم يكن له مال ، وليس له أن يبيع جميع ماله ، ويهلك نفسه.

٢٦٤ ـ وسئل : هل في الحيوان مثل البغال والحمير وغيرها من جميع الدواب شفعة؟

قال : نعم ، في كل ذلك شفعة ، لأن الشريك أحق بذلك إذا أراد من غيره ، لما له فيها من الشركة ، فالواجب على من باع أن يعرض على شريكه إذا عزم يبيعها.

٢٦٥ ـ وسئل : هل يجب للمرأة شرب الدواء لأن لا تلد ، ويسقي الرجل أمته لئلا تلد ، ويشرب الرجل ليقطع شهوته؟

فقال : لا يجوز لهم ذلك.

٢٦٦ ـ وسئل : عن من يقول بالتوحيد والعدل وامرأته لا تقول به؟

فقال : ينبغي له أن يدعو امرأته جاهدا إلى التوحيد لله والإقرار بعدله ، وليست المعاندة في ذلك كالجاهلة ، لأن المعاندة ، إباء وإلواء (١) ، والجاهلة غلط وخطأ ، وقد يتوب المخطئ من خطئه ، ويقبل من المهتدين من الهدى ما هو عليه من رأيه ، والمعاند

__________________

(١) إلواء : مصدر ألوى ، بمعنى مال وأعرض.

الذي لا يقبل ما يلقى إليه من الحق في توحيد الله ، ليس كالجاهل الذي يتوب من جهله ، وينيب إلى الحق بعد ضلاله.

٢٦٧ ـ وسئل : عن رجل تزوج بامرأة وهما على غير ما ينبغي من الاستقامة ، من الجهل بمعرفة الله ، وغير ذلك مما لا يرضي الله ، ثم تابا ورجعا أيجب عليهما تجديد النكاح أم لا؟

قال : هما على نكاحهما الأول ثابتان ، لأن النكاح إنما يثبت بالأولياء ويصح ، والدليل على ذلك الواضح : أن رسول الله صلى الله عليه أقر جميع من أسلم من أصحابه ، وكل من دخل من العرب وغيرهم في دينه ، على نكاحهم الأول ، ولم يأمر بأن يغير ولا يحدث ولا يبدل ، وفي هذا ما كفى ، في ما سألت عنه وشفا.

٢٦٨ ـ وسئل : عن من ركب كبائر العصيان أيزول عنه اسم الايمان؟

فقال : من ركب كبائر العصيان ، زال عنه اسم الايمان.

٢٦٩ ـ وسئل : عن رجل أوصى إليه رجل أن يحج عنه من مال الموصي ، فلم يفعل الرجل حتى جاء السلطان الجائر فأخذ المال منه؟

فقال : قد أثم هذا الرجل ، وظلم نفسه في ترك إنفاذ وصية الموصي ، حتى أخذها واغتصبها الظالم العاصي ، فأسلم له فيما بينه وبين ربه أن يبدلها من ماله ، إذا كان أبطلها بتوانيه وتغافله.

٢٧٠ ـ وسئل : عن التهلكة؟

فقال : إن ذلك هو الاستسلام للعدو الظالم ، الذي لا يخاف الله في ارتكاب المظالم.

٢٧١ ـ وسئل : عن رجل سعى برجل إلى سلطان جائر : أن لفلان عليه كذا وكذا درهما ، حتى أخذه السلطان ثأرا (١) لما قال عليه الساعي ، وكانت سعايته بزور وكذب ، وأخذه لما قال عليه السعاة ظلما وعدوانا ، فغصبه ماله؟

__________________

(١) في المخطوط : ثأر. ولعل الصواب ما أثبت.

فقال : السلطان الجائر هالك بمثل هذا الظلم للمسلمين ، وقبوله لقول شهود الزور ، وتلزم السعاة العقوبة الشديدة ، وأن لا يقبل لهم شهادة إلا أن يتوبوا ، وليس عليهم غير هذا.

٢٧٢ ـ وسئل : عن رجل حج حجة الإسلام ، وهو بمعرفة الله وتوحيده جاهل ، إلا أنه اعتقد أن يحج (١) عن نفسه ، ما أوجب الله من فرضه؟

فقال : هذا هو مجزي عنه إن شاء الله ، وإن جددها بأخرى بعد المعرفة فهو أحوط له.

٢٧٣ ـ وسئل : عن امرأة مؤمنة خطبها رجل مؤمن وليس لها ولي؟

فقال : يزوجها أقرب من يليها من عشيرتها ، وإن لم يكن لها قرابة فيتولى عقد نكاحها رجل من المؤمنين ، ويحضر الشهود لا بد في النكاح والطلاق من الشهود ، لخوف المظلمة والجحود.

٢٧٤ ـ وسئل : عن الشيخ الكبير يطلب رجلا يحج عنه ، إذا كان لا يستطيع السبيل إلى الركوب لضعفه؟

فقال : لا بأس بذلك ، أن يطلب رجلا يحج عنه ، إذا كان لا يستطيع السبيل لضعفه عن السفر.

٢٧٥ ـ وسئل : عن امرأة أسلمت مالها إلى بعض ولدها على أن يرزقها أيام حياتها ، ثم إنها هلكت في السنة الأخرى أو الثانية؟

فقال : المال لورثتها جميعا ، مع الابن الذي أفضت إليه.

٢٧٦ ـ وسئل : عن رجلين خرجا في طلب سلب الناس ، فسلب أحدهما رجلا فأعطى الشريك من السلب؟

فقال : الذي سلب ضامن غارم ، وهو الدافع إلى صاحبه السلب ، ولا يحل للمدفوع إليه أكل شيء مما أخذ ولا ينتفع به ، وإن كان الشريكان تعاونا على

__________________

(١) كذا في المخطوط.

الظلامة ، لزمهما جميعا الغرامة.

٢٧٧ ـ وسئل : عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (لا تحل الصدقة لغني ولا قوي ولا لذي مرّة سوي) (١)؟

فقال : اعلم أن قوله ذي مرة سوي ، والمرة هاهنا القوة ، والسوي هو الصحيح الذي ليس به مرض ولا علة ، فتمنعه من اكتساب المعيشة والبلغة.

٢٧٨ ـ وسئل : عن رجل قتل ابنه؟

فقال : لا يقتل والد بولده ، ولا سيد بعبده ، إلا أن يكون قتله ظلما ، وفسادا في الأرض واعتداء ، فيفعل في ذلك إمام المسلمين ما يرى ، وأى ابن قتل أباه ، فعلى الإمام في ذلك النظر بما يراه.

٢٧٩ ـ وسئل : هل للأب أخذ مال ابنه وهو غني عنه لا يحتاج إليه؟

فقال : الأمر فيه ما جاء عن النبي صلى الله عليه من قوله : (أنت ومالك لأبيك)(٢) ، وإنما الولد رحمك الله هو هبة وهبها الله للأب ، قال الله سبحانه : (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) (٤٩) [الشورى : ٤٩] ، وقال سبحانه في آدم صلى الله عليه: (فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (١٨٩) [الأعراف : ١٨٩] ، فتفسير (آتَيْتَنا صالِحاً) يعنيان : لئن وهبت لنا وأعطيتنا صالحا ، (لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، فدعواه كما ترى عطية وموهبة لهما من رب العالمين ، وكذلك قالت امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي) [آل عمران : ٣٥] ، ولا محررا إلا ما هو لها موهبة وعطية من الله وما له كما قال رسول الله

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٢ / ١١٨ (١٦٣٤) ، والترمذي ٣ / ٤٢ (٦٥٢) ، والنسائي في المجتبى ٥ / ٩٩ (٢٥٩٨) ، وابن ماجة ١ / ٥٨٩ (١٨٣٩) ، والدارمي ١ / ٤٧٢ (١٦٣٩) ، وأحمد ٤ / ٢٢٤ (١٨٠٠١) ، وابن حبان ٨ / ٨٤ (٣٢٩٠) ، وغيرهم.

(٢) أخرجه أبو داود ٣ / ٢٨٨ (٣٥٢٨) ، والترمذي ٣ / ٦٣٩ (١٣٥٨) ، والنسائي في المجتبى ٧ / ٢٤٠ (٤٤٤٩) ، وابن ماجة ٢ / ٧٢٣ (٢١٣٧) ، وأحمد ٢ / ٢٠٤ (٦٩٠٢).

صلى الله عليه : لأبيه (١) إلا أن يخرجه الأب بتزويج أو غيره من يده ، فيقع المواريث والحقوق ، فيأتي أمر مفروق.

٢٨٠ ـ وسئل : عن امرأة أرضعت جارية هل يجوز لولد زوجها من غيرها أن يتزوجها؟

فقال : إن كانت المرضعة أرضعت الجارية بلبنها من زوجها ، فلا يجوز لولد زوجها من غيرها أن يتزوجها ، لأن الجارية أخت الغلام من جهة لبن أبيه ، وهو لبن الفحل المنهي عنه(٢).

٢٨١ ـ وسئل : عن المولى هل يجوز نكاحه للعربية؟

فقال : لا يعلم بين علماء آل الرسول في ذلك اختلاف ، إذا رضي الأولياء وكانوا أهل عدل وعفاف.

٢٨٢ ـ وسئل : عن القيام مع من ليس بإمام؟

فقال : لا يجوز شيء من ذلك إلا بإمام أو بولاية من إمام ، لما يكون في ذلك من الجمع والأحكام.

٢٨٣ ـ وسئل : عن أفضل الحج؟

فقال : ذلك ما فضله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو القدوة ، وقد جاء عن علي رحمة الله عليه أنه قال : من تمام حجك وعمرتك أن تحرم من دويرة أهلك ، ولا يقرن الحج والعمرة إلا من ساق بدنة (٣).

٢٨٤ ـ وسئل : متى يقطع التلبية في الحج والعمرة؟

__________________

(١) في المخطوط : موهبة وعطية من الله لها من طيبة الولد وماله كما قال رسول الله صلى الله عليه لأبيه إلا الولد وماله كما قال رسول الله صلى الله عليه لأبيه إلا أن يخرجه ... وما حذفت زيادة سهو من النساخ. والله أعلم.

(٢) أخرجه البخاري ٢ / ٢٧٢ (١٩٥٦) ، ومسلم ٢ / ١٠٢٩ (١٤٤٥) ، وأبو داود ٢ / ٢٢٢ (٢٠٥٧) ، والترمذي ٢ / ٤١٧ (٥٣٧) وغيرهم.

(٣) أخرجه الإمام زيد في المسند ، وابن حزم في المحلي ٧ / ٧٥ ، والبيهقي ٥ / ٣٠ ، ٤ / ٣٤١ وغيرهم.

فقال : إذا رميت جمرة العقبة ، لأن الذي لبى به من حجه حين أحرم وهو بعد فيه ، لم يحل له من الصيد والطيب ما حرم ، فإذا رمى جمرة العقبة حل له ما حرم الله عليه إلا النساء ، حتى يطوف بالبيت لإفاضته ، فإذا أفاض وطاف حل له ما كان حراما عليه من النساء قبل إطافته به.

والعمرة فيقطع التلبية فيها إذا عاين البيت المعتمر أو رآه ، لأنه حينئذ قد بلغ غايته ومنتهاه ، وإذا لم ير البيت فهو بعد في أمره ، وأول ما هو فيه من التلبية كآخره.

٢٨٥ ـ [وسئل : عن تأجير من يحج عن الميت؟ (١)]

فقال : لا بأس به وأقل ما في ذلك فالأجر للميت على تزود الحاج عنه وبلغته ، وإعانته له على سفره ومئونته ونفقته.

٢٨٦ ـ [وسئل : عن] النوافل وأفضل ما في ذلك ، أدلّ دليل من قبل الله سبحانه مثل (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ) (٢٦١) [البقرة : ٢٦١]؟

فقال : أما (٢) أفضل النوافل من الصلاة فصلاة التسبيح ، وهي صلاة جعفر بن أبي طالب ، التي علمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذ صار إليه بحنين ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا أهب لك ، ألا أعطيك ، ألا أنحلك؟ قال : حتى ظننت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سيعطيني ما لم يعطه أحدا قبلي ، فعلمني صلاة التسبيح وهي فمعروفة عند أهل العلم ، فمن أراد تعملها (٣).

٢٨٧ ـ وسئل : عن أشياء تحرم بها الزوجة على زوجها من غير تكلم بطلاق؟

فقال : من ذلك أن يزني هو ، أو تزني ، أو تختلع منه ، أو تفتدي ، أو ترتد إلى الشرك

__________________

(١) أشار إلى بياض في المخطوط.

(٢) في المخطوط : ما أفضل.

(٣) أخرجه أبو داود ٢ / ٢٩ (١٢٩٧) ، وابن ماجة ١ / ٤٤٣ (١٣٨٧) ، وابن خزيمة ٢ / ٢٢٣ (١٢١٦) ، والحاكم ١ / ٤٦٣ (١١٩٢) ، والبيهقي في الكبرى ٣ / ٥١ (٤٦٩٥) ، والطبراني في الكبير ١١ / ٢٤٣ (١١٦٢٢).

بعد الإسلام ، وفيما ذكرنا في ذلك من البيان ، ما يقول سبحانه : (الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ ...) [النور : ٣] الآية ، وإذا كان ذلك فاسدا منفسخا محرما ، كان عقده منفسخا محرما ، وقد ذكر أن عليا صلوات الله عليه حد رجلا زنا من أهل القبلة ، وفرّق (١) ـ لما حدّ ـ بينه وبين زوجة له مؤمنة ، وفرّق رسول الله صلى الله عليه وعلى آله بين المتلاعنين ، ولم يصح زنا الزوجة ببينة ولا يقين ، وجرى ذلك في اللعان سنة ، فكيف إذا كانت زوجية أحدهما منتفية.

٢٨٨ ـ وسئل : عن رجل أوصى بوصية موقوفة على مسكنة أهل بيته ، ثم إن الله تبارك وتعالى أفاء عليهم واستغنوا؟

فقال : إذا استغنوا ردت في سبيل الخير ، مثل مواساة أولي الحاجة ، وذوي القربى ، إن احتاج منهم أحد بعد ذلك ، وبني السبيل من أهل الديانة.

٢٨٩ ـ وسئل : عن أكل ما لم يجر تحريمه في تنزيل من كتاب الله عزوجل من الطير والسباع؟

فقال : لا يؤكل من ذلك إلا ما أحلّه عزوجل ، وبيّنه في تنزيله في بهيمة الأنعام ، والأغنام وغير الأغنام ، وصيد البر والبحر ، وما خصه الله من ذلك ومثّله بالذكر.

٢٩٠ ـ وسألته : عن أكل الثمار إذا مرّ بها من غير أن يحمل؟

فقال : لا بأس إذا كان محتاجا إليه ، وليس له أن يفسد ولا يتلف فيه تلفا.

٢٩١ ـ [قال محمد بن القاسم] سألت أبي رحمة الله عليه ورضوانه ، عن قول الله سبحانه : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (١) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (٢) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) (٣) [الصافات: ١ ـ ٣]؟

فقال : الصافات صفا ـ فيما أرى والله أعلم ـ أنها الملائكة التي وصف الله بذكره وهي واقفة وقفا. (فَالزَّاجِراتِ) هن الذاكرات التي يعلنّ بالذكر ، ويزجرن فيه بالزجر ، والزجر : فهو الرفع للصوت والإعلان فيه بالرجات ، لأن الصوت الشديد ربما

__________________

(١) في المخطوط : وقذف. ولعل الصواب ما أثبت ، لأنه في سياق الحديث عن ما يوجب التفريق بين الزوجين من غير طلاق. وما بعده من تفريق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشهد لذلك.

صدع من صخر الجبال ما صلب ، واسمع لذلك وفيه ، ومن الدلالة عليه ، ما يقول الله سبحانه في تسبيح الملائكة : (تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) [الشورى : ٥] خبرا عن رفعهم للأصوات وتسبيحهم ، ويتفطرن فهو : يتصدعن ، وفوقهن فهو : ظهورهن وذراهن ، وهو ما يلي الملائكة صلوات الله عليهم من أعلاهن ، يدل على أن الملائكة عليهم‌السلام الصافات صفا ، وأنهم هم الموصوفون بما ذكر من هذه الصفة وصفا ، بقولهم صلوات الله عليهم : (وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (١٦٥) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ) (١٦٦) [الصافات : ١٦٥ ـ ١٦٦].

٢٩٢ ـ وسألته : عن قول الله سبحانه : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) [النازعات : ١ ـ ٥]؟

فقال : النازعات فيما أرى ـ والله أعلم ـ هي السحائب المنتزعات بالأمطار من البحار والأنهار ، وبما في الأرض من الندوة والبخار (١).

(وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) هو : الماتحات متحا ، وهي الناشطات الماتحات في نزعهن واطلاعهن ، والنشط هو : الإغراق وهو القوة القوية في جبذهن ، واطلاعهن لما يطلعن

__________________

(١) لقد سبق الإمام عليه‌السلام نظرية تكوّن الماء من البحار بعملية التبخر التي اكتشفت في القرن العشرين ، سبقها بأكثر من ألف سنة ، فالجديد جدا في القرن العشرين ، قديم جدا عند مفكري وفلاسفة الزيدية.

ولقد تحدث أيضا الإمام المهدي أحمد بن يحيى المرتضى في كتابه البحر الزخار عن كروية الأرض ونظريات أخرى في غاية الأهمية.

قال الإمام المهدي عليه‌السلام : مسئلة : والأرض كروية. البحر الزخار ١ / ١٠٣.

وتحدث عن توسع الكون وتوالد النجوم والكواكب ، تلك النظرية التي لم تكشف إلا في أواخر القرن العشرين ، بعد بحوث فضائية مرهقة. فقال : وتقبل الكواكب النماء عندنا. البحر الزخار ١ / ١٠٤.

وتحدث عن نظرية أخرى من أعمق النظريات ، وهي : نظرية حركة أجزاء الذرّة ، النواة والإلكترون والبروتون ، فقال : وإذا تحرك جسم ففي كل جوهر منه حركة. البحر الزخار ١ / ١٠٤.

وعن حركة الكواكب المتعددة في وقت واحد ، كما أثبتها علم الفلك الحديث ، قال : مسئلة : ولا يصح على الكواكب حركتان مختلفتان في وقت واحد ، بل تتحرك نحو المشرق حركة بطيئة ، ويتحرك الفلك إلى المغرب حركة سريعة فيغلبها ، فهي كنملة على شفير رحى دائرة. المصدر السابق ١ / ١٠٤.

في الهواء ، بما يترعن من الماء ، وهن السابحات في الهواء سبحا ، كما يسبح في الماء من كان سابحا ، يمينا ويسارا ، وإقبالا وإدبارا ، وهن أيضا السابقات برحمة الله وفضله ، من المطر والغيث غير المسبوقات بإمساك الله للمطر لو أمسكه عن الأرض وأهلها بعدله ، وقد تكون السابقات سبقا ، هي البروق لأن البرق أسرع شيء خفقا ، وأحثه اختطافا وسبقا.

والسحائب أيضا فهن المدبرات بما جعل الله من الغيث فيهن والأعاجيب ، لكل ذي حكمة أو نظر مصيب ، وغيرها إلى يوم يحشرون ، وكذلك البرزخ الذي جعله بين البحرين شارعا ، فهو المحبس الذي جعله الله حاجزا بينهما مانعا ، لكي لا يختلط البحر العذب السائغ للشاربين ، بالبحر المالح الأجاج الذي لا يطيق شربه أحد من الناس أجمعين ، رحمة منه جل ثناؤه للإنسان ، وغيره من بهائم الحيوان ، كما قال سبحانه : (وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً) (٤٩) [الفرقان : ٤٩] ، رأفة ورحمة في ذلك للإنسان وغيره ، وقدرة على إحكام أمره فيهما وتقديره.

٢٩٣ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) (٥) [الفجر : ١ ـ ٥]؟

والفجر : هو انفجار الليل عن صبحه ، وانفتاقه عن ضوء الصبح ووضوحه ، والليالي العشر وما ذكر الله من الليالي العشر ، هي ليالي ذي الحجة إلى آخرها يوم النحر ، والشفع والوتر من العدد ، فهو كل زوج أو فرد ، وفي ذلك لكل ذي حكمة أو لب ، أعجب ما يتعجب له من العجب ، والليل إذا يسري فهو الليل ، ويسري فهو السير ، والليل فهو يسري ويمضي ، حتى يطلع الفجر ويضيء ، والقسم فهو الحلف والإيلاء ، وذو الحجر فهو من جعل الله له عقلا ، والحجر فهو العقل والنّهى ، واللب والحجا.

٢٩٤ ـ وسألت : عن قول الله تبارك وتعالى : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ) [الحجرات : ١١]؟

فقال : الألقاب الأنباز التي يلقب بها بعضهم بعضا ، التي هي خلاف الأسماء التي سمت بها الآباء ، فحرم الله عليهم أن يسمي بعضهم بعضا بالألقاب ، وجعل ذلك حكما مفروضا في الكتاب.

٢٩٥ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ) [آل عمران : ١١ ، الأنفال : ٥٤ ، ٥٢]؟

فقال : كمثل آل فرعون كحالهم.

٢٩٦ ـ وسألت : عن قول الله عزوجل : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ) (١٩) [البقرة : ١٩]؟

فقال : الصيب المطر الذي فيه الظلمات والرعد والبرق ، والذين يجعلون أصابعهم منه في آذانهم خوفا من الهلكة على أنفسهم.

٢٩٧ ـ وسئل : عن قول الله سبحانه فيما يحكى عن يعقوب صلى الله عليه ، لجماعة بنيه ، (يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ) [يوسف : ٦٧]؟ هذا من يعقوب صلى الله عليه حين خرجوا عنه مسافرين ، فخاف عليهم من النفس وعيون الناظرين ، فأمرهم عند دخول القرية ، بأن لا يدخلوا جملة واحدة ، لما كانوا عليه من كمالهم ، وكثرتهم وجمالهم ، وكانوا أحد عشر رجلا ، لم ير مثلهم جمالا ولا كمالا ، فخاف عليهم وأشفق صلى الله عليه من أن يراهم أهل تلك البلدة ، مجتمعين جماعة واحدة ، على ما هم عليه من كمالهم ، وحسنهم وجمالهم ، فأمرهم أن يتفرقوا وأن يدخلوا من أبواب متفرقة ، شفقة عليهم من العين والنفس ، قال الله سبحانه : (وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ) [يوسف : ٦٨] يخبر سبحانه أن الحذر للنفس والعيون لا ينفع إلا بدفاع الله وتوفيقه ، ولطفه وحفظه.

٢٩٨ ـ وسألت : عن قول الله سبحانه : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها) [البقرة : ٢٦]؟

فقال : الاستحياء من الله عزوجل ، ليس على طريق الخجل ، وإنما المعنى ـ والله أعلم ـ في قوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي) ، إن الله تبارك وتعالى لا يرى ، أن في التمثيل للحق والصدق بما هو صحيح صادق من الأمثال عيبا ولا خطأ ، ولا مقالا بتخطئة لشيء من قول الله سبحانه لأحد من أهل الصلاة.

٢٩٩ ـ وسئل عن قول الله سبحانه : (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١) [الضحى: ١١]؟

فقال : هذا أمر من الله لنبيه ، صلى الله عليه وعلى آله بنشر نعمته عليه ، وذكر إحسانه إليه ، لأن الله تبارك وتعالى شاكر يحب الشاكرين ، ويرضى الشكر والثناء عليه بنعمه من المؤمنين ، ويريد أن يحدّث المؤمنون بعضهم بعضا بنعمه عليهم ، وإحسانه إليهم ، ليكونوا بذلك ذاكرين.

٣٠٠ ـ وسئل : عن قول الله سبحانه : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ) [النجم : ٣٢]؟

فقال : هذا نهي من الله سبحانه لعباده عن تزكية أنفسهم ، لأنه لا شريك له أعلم بسرهم وعلانيتهم ، والله تبارك وتعالى لا يخطئ علمه فيهم ولا يغلط ، ولا يسخط إلا في موضع السخط ، وقد يغلطون في أفعالهم ويخطئون فيظنون أنهم في بعض ما يعملون لله مرضون (١) ، وهم عنده في ذلك مسخطون ، ويقولون القول الذي يتوهمونه لله رضا ، وهو عند الله سخط ، ألا ترى كيف يقول سبحانه : (هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ) [النجم : ٣٢] ، وكذلك الله سبحانه هو أعلم بهم من أنفسهم ، والمحيط بعلانيتهم وسرهم.

٣٠١ ـ وسئل : عن قوله سبحانه : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة: ٢٦٤]؟

فقال : هذا نهي من الله سبحانه للمؤمنين ، بأن يكونوا بالمن والأذى لمن تصدقوا عليه صدقاتهم مبطلين ، [بأذى] منهم لمن أحسنوا إليه ، وكثرة الامتنان بذلك الإحسان إليه.

٣٠٢ ـ وسألت : عن الإيمان؟

ونحن نقول : قول وعمل بمنزلة الروح من البدن ، العقد بالقلب ، والإقرار باللسان ، والعمل بالجوارح ، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية ، قال الله تبارك وتعالى في صفة الإيمان : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (١٢٤) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ) (١٢٥) [التوبة : ١٢٤ ـ ١٢٥] ، وقال تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ

__________________

(١) في المخطوط : مرضين.

يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) [البقرة : ١ ـ ٥] ، وقال : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٧١) [التوبة : ٧١] ، وقال : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) (٤) [الأنفال : ٢ ـ ٤] ، وقال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) (١٥) [الحجرات : ١٥] ، وقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ) (٣) [الصف:٢ ـ ٣].

ولم يرض تبارك وتعالى بالقول دون الفعل ، بل ذكر أنه مقت من فعل المؤمنين القول بلا فعل ، وأن الإيمان بالله هو الطاعة. فأكمل الناس في طاعة الله أحبهم إلى الله ، وأشد الناس حبا أكثرهم إيمانا بالله.

وقال فيما شهد به للمؤمنين : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (٥) [البقرة : ٣ ـ ٥] ، وقال : (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (١) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (٢) ...) إلى قوله : (يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ) (١١) [المؤمنون : ١ ـ ١١] ، وهذا وصف الله تبارك وتعالى للمؤمنين وما شهد لهم به من وراثة الجنة والفردوس ، شهد الله للمؤمنين الموصوفين بهذه الصفات بالفلاح ، وشهد على من خالف هذه الصفات أنهم عادون ، وسلخهم من اسم الإيمان ، وقال : (الْمُنافِقُونَ

وَالْمُنافِقاتُ ...) إلى قوله : (فَنَسِيَهُمْ) [التوبة : ٦٧] (١) ، بقولهم : نسوا الله أن يطيعوه وأن يذكروه كما أمرهم فنسيهم من ثوابه ، والنسيان هاهنا : الترك. نسأل الله أن يجعلنا من المتقين المطيعين لله ولرسوله برحمته.

٣٠٣ ـ وسألت : عمن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، وعمن يقول : أنا مؤمن لا أشك في إيماني والصواب في ذلك؟

فالمؤمن : هو الذي لا يشك في إيمانه ، والمؤمن حقا الذي لا يفعل شيئا من معاصي الله. وإذا سئل الإنسان عن (٢) نفسه أهو مؤمن؟ فإن قال : مؤمن حقا زكّى نفسه ، وإن قال : أنا مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبجميع ما افترض الله على عباده. فقد صدق على نفسه ، إلا أن الإيمان قول وعمل ، فإذا وافق القول العمل بالطاعة لله فهو مؤمن حقا.

والإيمان على ثلاثة وجوه :

إيمان يلزم إذا قال العبد لا إله إلا الله محمد رسول الله فيلزم اسم الإيمان.

وإيمان بالله.

وإيمان عند الله.

فأما الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبجميع ما افترض على عباده ، فلا يجوز ذلك بالشك.

والإيمان عند الله أن يقول العبد : أنا مؤمن عند الله حقا ، لأن الله يقول : (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى) (٣٢) [النجم : ٣٢].

٣٠٤ ـ وسألت : متى يكون العبد مؤمنا مستوجبا للجنة؟

فذلك إذا أدى ما افترض الله عليه ، واجتنب ما نهى الله عنه ، فلا يقول : إني مستوجب الجنة جزما ، لأنه لا يدري بأي شيء يختم عمله ، ولكن يقول : إن مت على

__________________

(١) الآية (الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ).

(٢) في المخطوط : من. ولعل الصواب ما أثبت.

ذلك فأنا مؤمن مستحق للجنة.

قال القاسم عليه‌السلام : حدثنا محمد بن منصور ، قال : حدثنا إسماعيل بن صهران ، عن سليمان بن جعفر ، عن القاسم بن فضيل ، عن أبيه ، عن جعفر ، قال : (خرج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في بعض غزواته فبينما هو يسير إذ استقبله قوم فقال : من القوم؟ فقالوا : مؤمنون(١) يا رسول الله. قال : وما حقيقة إيمانكم؟ قالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : حلماء علماء كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ، إن كنتم صادقين فلا تبنوا ما لا تسكنون ولا تجمعوا ما لا تأكلون ، واتقوا الله الذي إليه ترجعون) (٢).

وأما من قال : أنا مؤمن حقا فشرطها شديد. روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه : (لقي رجلا فقال : كيف أصبحت يا حار؟ فقال : أصبحت مؤمنا حقا يا رسول الله. فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن لكل إيمان حقيقة ، فما حقيقة إيمانك؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأظمأت نهاري ، وأسهرت ليلي ، وكأني بعرش ربي بارزا ، وكأني بأهل الجنة في الجنة يتزاورون ، وكأنني بأهل النار في النار يعذبون ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : عرفت يا حار فالزم) (٣).

٣٠٥ ـ وسألت : عن الإسلام؟

والإسلام : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والإقرار بما جاء من عند الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم شهر رمضان ، وحج البيت من استطاع إليه سبيلا ، وولاية علي بن أبي طالب صلى الله عليه ، والبراءة من عدوه ، والعمل بما دل القرآن على حلاله وحرامه كما الإسلام والإيمان ، ومن لم يعتقد بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إمامة علي بن أبي طالب لم يقبل الله له صلاة ولا زكاة ولا حجا ولا صوما ولا شيئا من أعمال البر ، ثم من بعده الحسن والحسين ، ومن لم

__________________

(١) في المخطوط : مؤمنين.

(٢) أخرجه الإمام أبو طالب في الأمالي / ١٢٩.

(٣) أخرجه الطبراني في الكبير ٣ / ٢٦٦ (٣٣٦٧) ، والقضاعي في مسند الشهاب ٢ / ١٢٧ (١٠٢٨) ، وعبد بن حميد في المسند / ١٦٥ (٤٤٥) ، بلفظ : يا حارث ... النار يتضاغون فيها.

يؤمن بأن الإمام كان (١) بعد النبي عليّ ، كأن يؤمن بالنبي ، والقرآن ، والصلاة ، والصيام ، والزكاة ، والحج ، لم ينفعه شيء من عمله إلا عجمي ، أو صبي ، أو امرأة ، أو جاهل لم يقرأ القرآن ، ولم يعلم العلم ، فإن جملة الإسلام تكفيهم.

٣٠٦ ـ وسئل : عن قول الله تبارك وتعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (٥٦) [الأحزاب : ٥٦]؟

ف [قال] صلاة الله لا شريك له هي : البركة والثناء ، وكذلك صلاة الملائكة والمؤمنين فهي أيضا : البركة والثناء ، والدعاء من الثناء ، ومثل ذلك قول الله لا شريك له : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١٠٣) [التوبة : ١٠٣] ، وصلاته عليهم صلى الله عليه : هي (٢) دعاؤه لهم وثناؤه عليهم.

٣٠٧ ـ وسألته : عن قول الله : (أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً) (١٢) [الطلاق : ١٢] قال ما الاحاطة؟

فقال : الاحاطة بالشيء : العلم به على حقيقة العلم وصدقه. ومن ذلك قول الله سبحانه : (بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) (٥٤) [فصلت : ٥٤] ، يريد سبحانه : علما وقدرة وملكا (٣). ومثل ذلك في العلم قوله سبحانه : (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) [البقرة : ٢٥٥].

٣٠٨ ـ وسئل : عن تفسير لا حول ولا قوة إلا بالله؟

فقال : هذا لا حول من مكان إلى مكان ولا حيلة في شيء من الاحتيال ، إلا بتقوية الله عن الزوال والانتقال. قوة إلا بالله : يقول بما جعل الله ، للأقوياء المطيقين ، والعقلاء المحتالين.

٣٠٩ ـ وسئل : عن تأويل سبحان الله ، وتعالى الله؟

__________________

(١) كان هذه هي التامة ، وإلا لقال في خبرها : عليا.

(٢) في المخطوط : هو. وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المخطوط : ومالكا. وما أثبت اجتهاد.

وتعاليه : هو ارتفاعه وكبره. وسبحان الله معناها في اللغة : أن يريد تبارك وتعالى أنه بعيد مما قال فيه ، من جهل جلاله وافترى عليه.

٣١٠ ـ وسئل : عن تأويل : سمع الله لمن حمده؟

قال : هو قبل الله ممن شكره له ، ومن شكر الله ما أمر الله به من الصلوات ، وغير ذلك من وجوه الخيرات.

٣١١ ـ وسئل : عن تأويل السلام عليكم؟ (١)

٣١٢ ـ وسئل عن قول الله سبحانه : (كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) (١٢) [الانفطار : ١١ ـ ١٢]؟

فقال : ليس من الآدميين أحد إلا ومعه حافظان من الملائكة يحفظان عليه الصالح والطالح من قوله وأعماله ، أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله ، كما قال الله عزوجل : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (١٨) [ق : ١٧ ـ ١٨].

٣١٣ ـ وسئل : عن الرقيب؟

فقال : هو الحفيظ. والعتيد فهو : المتهيّئ.

والرصيد : هو الذي يرصد الشيء.

٣١٤ ـ [وسئل : عن الدنيا؟

فقال :] قال رسول الله صلى الله وعلى آله : (تعس عبد الدنيا ، تعس عبد الدينار والدرهم ، تعس عبد الحلة والخميصة ، تعس ثم انتكس [وإذا شيك] فلا انتقش) (٢).

ثم قال عيسى بن مريم صلوات الله عليه : بحق أقول لكم إن حب الدنيا رأس كل

__________________

(١) سقط الجواب من المخطوط.

(٢) أخرجه البخاري ٣ / ١٠٥٧ (٢٧٣٠) ، بغير كلمة (الحلة). وابن ماجة ٢ / ١٣٨٥ (٤١٣٥) ، وابن حبان ٨ / ١٢ (٣٢١٨) ، والبيهقي في الكبرى ٩ / ١٥٩ (١٨٢٧٩).

خطيئة (١).

٣١٥ ـ وسئل عن قول الله : (يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ) [البقرة : ٢٧٥]؟

قال التخبط إنما يكون من خارج ليس من داخل ، وإنما هذا مثل مثّله الله لمن يعقل ، ومن يعقل يفهمه ، عن الله ـ إن شاء الله ـ ويعلمه ، قال عيسى بن مريم صلى الله عليه في الإنجيل : لا تطرحوا اللؤلؤ المنير ، بين غابات الخنازير (٢). قال : والغابات الجماعات (٣) ، والغابة الجماعة.

٣١٦ ـ وسئل : عن قول الله سبحانه : (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها ... وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ ...) [النور : ٣١] إلى آخر الآية؟

فقال : زينتهن فمحاسنهن مما يواري الثياب من صدورهن وسوقهن وأرجلهن ، وكل ما يستحسنه المستحسن منهن ، وما ظهر منهن من الوجه والكف ، فلا بأس أن يبدين ذلك (٤).

٣١٧ ـ وسئل : ما الصراط الذي يذكر أنه يوضع يوم القيامة فيحول الناس عليه؟

فقال : أما الصراط : فالطريق والسبيل ، الظاهر الذي ليس فيه ميل.

٣١٨ ـ وسئل : عن قول الله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي) [الإسراء : ٨٥]؟

فقال : الروح من أمر ربه كما قال لا يجاب فيه بغير ما قال الله في ذلك ، لأن الله سبحانه قد أبان ما هو وأي شيء هو.

__________________

(١) سبق تخريجه.

(٢) نص الإنجيل هكذا : لا تعطوا القدس للكلاب ، ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير ، لئلا تدوسها بأرجلها وتلتفت فتمزقكم. إنجيل متى الإصحاح السابع الفصل السادس. والإمام صاغ كلام عيسى بلغته ، وأدرجه ضمن حديثه.

(٣) في المخطوط : الماعات. ولعلها تصحيف. قال في لسان العرب : الغابة الجمع من الناس. وقول الإمام : والغابة الجماعة ، تؤكد ما ذهبنا إليه.

(٤) تغطية الوجه ليس بواجب عند الإمام.

٣١٩ ـ وسئل : عن الروح الذي يكون في الناس والحيوان؟

فقال : الروح هو : الروح المتحرك الذي به يحيى الحيوان ، ويذهب ويقبل ويدبر ، ويعرف وينكر ، وهو شيء لا يدرك بالعين ، وإنما يعرف بالدلائل واليقين.

٣٢٠ ـ وسئل : كيف يسلّم إذا مر رجل بمقابر العامة وكيف يدعو لهم؟

فقال : يسلّم ـ إن شاء الله ـ على المؤمنين والمؤمنات ، والصالحين من عباد الله والصالحات ، ففي سلامه لذلك عليهم ، ما كفى إن شاء الله فيهم.

٣٢١ ـ وسئل : كيف الصدقة على سؤّال العامة وأهل الخلاف منهم من يعرف ومن لا يعرف؟

فقال : لا بأس بالصدقة على كل سائل ـ إن شاء الله ـ من كان ، ولا أحسبك إلا قد سمعت أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : (اعطوا السائل ولو جاء على فرس) (١).

٣٢٢ ـ وسئل : عن صلاة الضحى؟

فقال : يصلي في ذلك من أراد ما أراد ، وقد ذكر كما سمعت أن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (صلى الضحى يوم فتح مكة) (٢) ، وجاء مع ذلك عن أبي جعفر محمد بن علي أنه كان يقول : (والله ما صلى رسول الله الضحى قط) (٣).

__________________

(١) أخرجه أبو داود ٢ / ١٢٦ (١٦٦٥) ، وأحمد ١ / ٢٠١ (١٧٣٠) ، وابن خزيمة ٤ / ١٠٩ (٢٤٦٨) ، ومالك في الموطأ ٢ / ٩٩٦ (١٨٠٨) ، وأبو يعلى ١٢ / ١٥٤ (٦٧٨٤) ، والطبراني في الكبير ٣ / ١٣٠ (٢٨٩٣) ، ٢٢ / ٢٠٣ (٥٣٥) ، وابن أبي الدنيا في مكارم الأخلاق / ١١٩ (٣٩١) ، والقضاعي في مسند الشهاب ١ / ١٩١ (٢٨٥) كلهم بلفظ : للسائل حق وإن جاء على فرس.

(٢) أخرجه زيد بن علي في المسند / ١٣٢ عن علي عليه‌السلام. وأخرجه البخاري ١ / ٣٧٢ (١٠٥٢) ، ومسلم ١ / ٤٩٨ (٣٣٦) ، والطبراني في الكبير ٢٤ / ٤١٧ (١٠١٦) ، وأبو داود ٢ / ٢٨ (١٢٩٠) ، والترمذي ٢ / ٣٣٨ (٤٧٤) ، وغيرهم.

(٣) أخرج محمد في الأمالي عن أبي الجارود قال : سألت أبا جعفر عن صلاة الضحى؟ فقال : إنما كان بدؤها أن النبي عليه الصلاة والسلام ، لما قدم المدينة ، قال : صلاة في مسجدي هذا أحب إلي من ألف صلاة فيما سواه إلا الكعبة. قال : فكانت الأنصار إذا رأت النبي عليه الصلاة والسلام ، أو جاء الرجل ـ

وجاء عن علي بن أبي طالب صلوات الله ورحمته عليه أنه كان يقول : (يا بني أني لا أنهاكم عن الصلاة لله ولكني أكره لكم خلاف رسول الله) (١).

٣٢٣ ـ وسئل : القاسم رحمة الله عليه ورضوانه عن من أتى امرأته في دبرها هل يحرم ذلك عليه ما حل منها؟

فقال : لا يكون ذلك وإن كان آثما ، ولا يحرمه عليه (٢) وإن فعله محرما ، ولا يكفّر عنه إثمه وخطيئته إلا بالتوبة والاستغفار ، وتحريمه في ذلك ما حرم الله من إتيان النساء في الأدبار ، وكذلك إتيان النساء في المحيض فحرام ، وخطيئة عند الله وجرم وآثام ، وفي ما ذكرنا من ذلك كله ، ما يقول سبحانه في تنزيله : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) [البقرة : ٢٢٢] ، تأويل ذلك : ايتوهن من حيث أمركم الله في القبل لا في الدبر لأن الدبر ليس بمكان محترث ، ولا يصلح فيه شيء من (٣) الحرث ، وفي ما ذكرنا من القبل ، مبتغى الولد والنسل ، وفي ذلك من نعم الله وإحسانه ، وموهبة الله للولد وإنشائه ، ما يقول سبحانه لمن صام في ليالي الصوم ، وما حرم الله في ذلك عليهم في نهار كل يوم : (فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ) [البقرة : ١٨٧] ، والابتغاء : فإنما هو في القبل لا في الدبر ، وتأويل : (ما كَتَبَ اللهُ لَكُمْ) ، هو ما علم الله أنه سيكون من نسلكم.

وأما المص وأشباهها ، والمرسلات والنازعات وأمثالها ، فإن فيها من العلوم ، والسر

__________________

ـ منهم من ضيعته إلى المدينة صلى فيه ، فأبصر الناس الأنصار يصلونها فصلوها ، فأما رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يصلها إلا يوم افتتح مكة فإنه صلاها يومئذ ركعتين ..... رأب الصدع ١ / ٤٨٥ (٧٧٦).

(١) أخرجه محمد بن منصور في الأمالي بلفظ : عن الصلاة إن الله لا يعذب على الحسن ولكن يعذب على السيئ. رأب الصدع ١ / ٤٨٦ (٧٧٨).

(٢) في المخطوط : آثما ، وما لا خبر أنه علبة وإن ... مصحفة ، وما أثبت اجتهاد.

(٣) في المخطوط : في. وما أثبت اجتهاد.

للوحي المكتوم ، ما لا يعلمه إلا من وهبه الله إياه ، وألهمه فيه وفي العلم به هداه.

وأما العشار فهي : الإبل الحوامل إذا حملت أولادها.

وأما عطلت : فإذا تركت عند مجيء القيامة ، وما ذكر الله من مجيء الطامة.

وأما اللوح المحفوظ : فهو علم الله المعلوم.

وأما النفاثات في العقد فهن : السواحر. والنفث فهو : الرقا والتفل بالريق. والعقد : فهو عقد السواحر لعقد كنّ يعقدنها في السير والخيط.

وأما أصحاب الأعراف. فإنهم : أصحاب ما علا من منازل الجنة وأشرف وأناف ، من الغرف العالية ، والمنازل المشرفة المنيعة ، التي يرون منها لشرفها وعلوها النار ، وبعض من يعذب فيها ممن كانوا يعرفون ، في الدنيا بالختر (١) والإسراف والتكبر ، فيعرفونهم في النار بسيماهم ، التي هي هيآتهم وحلاهم ، لا يعرفونهم بغير ذلك منهم ، لما غيرت النار بأكلها من ألوانهم ، فيقولون عند معرفتهم إياهم ، ما قصه الله في كتابه من قولهم.

وأما (يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ) [السجدة : ٥] ، فأنبأ الله لا شريك له ، أنه يكون في يوم واحد من أمره ، في ما ينزل من سمائه إلى أرضه من تقديره ، ما مقداره عند غيره لو دبره من المقدرين من الآدميين ألف سنة في التدبير ، وأخبر في ذلك عن قدرته التي ليست لقدير.

وأما (خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ) (٤) [المعارج : ٤] ، فإنما هو أيضا : خبر عمّا له من القدرة في تعجيل القضاء والحكم إذا فصله ، ولا يفعله غيره (٢) في خمسين ألف سنة من ذلك لو فعله ، وهو يقدر ـ ولا شريك له ـ (٣) على أن يفعله في يوم واحد.

وأما (وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها) [يوسف / ٢٦] ، فإنه كان رجل ، من قرابتها له حكم وفضل ، شهد لمّا اختلفوا في أمر يوسف ـ صلى الله عليه ـ وأمرها في ما ظنوا به

__________________

(١) في المخطوط : يعرفونني. ولعلها تصحفت. وفي المخطوط : بالخير ، ولعلها تصحفت ، وأما أثبت اجتهاد ، لأنه في سياق الحديث عن أهل النار فلا يمكن أن يصفه بالخيرية ، والله أعلم بالصواب.

(٢) في المخطوط : ولا يفعله في غيره. فلعل كلمة (في) زائدة. والله أعلم.

(٣) في المخطوط : فعله ، هذا بقدره ولا شريك. وما أثبت اجتهاد.

وبها ، في ما قالت إنها لم تطلبه وإنه طلبها ، فقال : إن كان قميصه قدّ من قبل فهو الذي أرادها ولم ترده ، وإن كان قميصه قدّ من دبر فهي التي طلبته فهرب عنها.

وأما (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى) [النساء : ٤٣] ، فهو سكر الشراب وغيره من كل ما أسكر من بنج أو نوم أو حريق (١) ، وكل ما التبس به العقل من خمر أو غيره ..

* * *

تم بحمد الله

__________________

(١) لعله يريد بالحريق : الدخان إذا عظم فملأ الآناف.

فهرسة

الجزء الثاني

الفهرس

* مديح القرآن الكبير............................................................. ٥

[أهل الذكر].................................................................. ٨

[القرآن عظة ونور]........................................................... ١٠

[القرآن الحكم الفصل]....................................................... ١١

[القرآن رحمة وشفاء]......................................................... ١٤

[حفظ الكتاب من الضياع]................................................... ١٥

[المعرضون عن الذكر]........................................................ ١٩

* مديح القرآن الصغير.......................................................... ٢٩

[وصية الإمام بالقرآن]........................................................ ٣٣

[السياسة المنحرفة تحرّف القرآن]............................................... ٣٧

* الناسخ والمنسوخ.............................................................. ٤١

[خرافة الغرانيق]............................................................. ٤٧

[أقسام النسخ].............................................................. ٤٩

[المكرر في القرآن]........................................................... ٥٣

[التدبر في القرآن]........................................................... ٥٥

[ذكر الله].................................................................. ٥٩

[المحكم والمتشابه]............................................................ ٦٠

* تفسير القرآن................................................................. ٦٧

تفسير سورة الحمد........................................................... ٦٩

تفسير سورة الناس............................................................ ٧١

تفسير سورة الفلق............................................................ ٧٢

تفسير سورة الإخلاص........................................................ ٧٥

تفسير سورة المسد............................................................ ٧٦

تفسير سورة النصر........................................................... ٧٨

تفسير سورة الكافرون......................................................... ٧٩

تفسير سورة الكوثر........................................................... ٨٠

تفسير سورة الماعون.......................................................... ٨٢

تفسير سورة قريش............................................................ ٨٤

تفسير سورة الفيل............................................................ ٨٥

تفسير سورة الهمزة............................................................ ٨٧

تفسير سورة العص........................................................... ٨٩

تفسير سورة التكاثر.......................................................... ٩٠

تفسير القارعة............................................................... ٩١

تفسير سورة العاديات......................................................... ٩٣

تفسير سورة الزلزلة........................................................... ٩٤

تفسير سورة البينة............................................................ ٩٦

تفسير سورة القدر.......................................................... ١٠٠

تفسير سورة العلق.......................................................... ١٠٤

تفسير سورة التين........................................................... ١٠٨

تفسير سورة الانشراح....................................................... ١١٠

تفسير سورة الضحى........................................................ ١١٣

تفسير سورة الليل........................................................... ١١٤

تفسير سورة الشمس........................................................ ١١٦

[تفسير سورة النازعات]..................................................... ١٢٤

* تثبيت الإمامة.............................................................. ١٣١

[مبدأ التفصيل]............................................................ ١٣٣

[وجوب الإمامة ودليلها].................................................... ١٣٤

[ضرورة الإمامة]............................................................ ١٣٦

[تدبير الخلق].............................................................. ١٣٨

[أصناف الخلق]............................................................ ١٣٩

[طبقات حياة الخلق]....................................................... ١٤٠

[حكمة التشريع]........................................................... ١٤٢

[صفات المرشد ووجوب الثواب والعقاب]...................................... ١٤٣

[معجزات الأنبياء]......................................................... ١٤٤

[دليل الإمامة]............................................................. ١٥٦

[صفات الإمام]............................................................ ١٦٠

[طريق الإمامة]............................................................ ١٦١

* الإمامة.................................................................... ١٦٧

* الإمامة.................................................................... ١٩٥

[الوصية].................................................................. ٢١٤

* إمامة علي بن أبي طالب..................................................... ٢١٧

* القتل والقتال............................................................... ٢٢٣

* الهجرة للظالمين.............................................................. ٢٣٩

[صفات أولياء الله]......................................................... ٢٤٢

[وجوب الإنكار أو الهجرة].................................................. ٢٤٤

[التمييز بين أولياء الله وأعداءه].............................................. ٢٤٤

[التحذير من موالاة أعداء الله]............................................... ٢٤٦

[مرض القلوب]............................................................ ٢٤٧

[مجالسة الظالمين مهلكة].................................................... ٢٤٨

[مجاورة الظالمين شقاء وفتنة]................................................. ٢٥٤

[طرد النبي للمتشبهين بالنساء]............................................... ٢٥٨

[الهجرة واجبة في كل الديانات].............................................. ٢٦١

[وعيد الله للمعرضين]....................................................... ٢٦٣

[الهجرة شرط الإيمان]....................................................... ٢٦٦

[هلاك جبابرة الأمم]....................................................... ٢٧١

[هجرة الأنبياء والرسل]..................................................... ٢٧٧

[هجرة المؤمنين السابقين]................................................... ٢٨٢

* المكنون.................................................................... ٢٩١

[دعاء]................................................................... ٢٩٣

[توحيد الله]............................................................... ٢٩٣

[صفات العالم الرباني]...................................................... ٢٩٤

[فضائل الأعمال].......................................................... ٢٩٥

[صفات الحكيم]........................................................... ٢٩٦

[صفات الغافل]........................................................... ٢٩٧

[صفات الأحمق]........................................................... ٢٩٩

[مؤهلات القيادة].......................................................... ٣٠١

[مراقبة النفس]............................................................. ٣٠٢

[المروءة]................................................................... ٣٠٤

[الحسد].................................................................. ٣٠٥

[مفردات أخلاقية]......................................................... ٣٠٦

[الخلق والمال].............................................................. ٣٠٨

[العلم والمال].............................................................. ٣١٠

[الصفح الجميل]........................................................... ٣١٠

[واجبات الأخوّة].......................................................... ٣١٣

[أصناف الناس]........................................................... ٣١٦

[مكارم الأخلاق].......................................................... ٣١٨

[الكذب]................................................................. ٣١٩

[قواعد أخلاقية]........................................................... ٣٢٠

[الكبر]................................................................... ٣٢٢

[شهادة الليل والنهار]....................................................... ٣٢٢

[رقابة الناس].............................................................. ٣٢٣

[القناعة].................................................................. ٣٢٤

[المبادرة إلى الخير].......................................................... ٣٢٧

[نصائح سياسية].......................................................... ٣٢٨

[التأمل].................................................................. ٣٢٩

[حوادث الأيام]............................................................ ٣٢٩

* سياسة النفس.............................................................. ٣٣١

[الدنيا الغرور]............................................................. ٣٣٥

[الانسان المغرور]........................................................... ٣٤٠

[النفس].................................................................. ٣٤٤

[الصبر].................................................................. ٣٤٥

[التقوى].................................................................. ٣٤٥

[التفكير]................................................................. ٣٤٦

[أحوال الخلق في الدنيا]..................................................... ٣٤٨

[الموت]................................................................... ٣٥٠

[جوهر الدين]............................................................. ٣٥٢

[مثل طالب الدنيا وطالب الآخرة]........................................... ٣٥٤

[التوبة]................................................................... ٣٥٥

[حذر النفس والهوى]....................................................... ٣٥٦

[الاخلاص]............................................................... ٣٥٧

* العالم والوافد............................................................... ٣٦١

[امتحان قبول]............................................................ ٣٦٣

[النفس].................................................................. ٣٦٣

[معرفة الله]................................................................ ٣٦٤

[الدين]................................................................... ٣٦٤

[الدنيا]................................................................... ٣٦٥

[الآخرة].................................................................. ٣٦٦

[الجنة والنار].............................................................. ٣٦٦

[معارف الحكماء].......................................................... ٣٦٧

[الإيمان].................................................................. ٣٦٩

[نجاح الوافد في الامتحان]................................................... ٣٧٢

[سؤال وجواب]............................................................ ٣٧٢

[معرفة الله]................................................................ ٣٧٢

[الإيمان].................................................................. ٣٧٤

[الإسلام]................................................................. ٣٧٥

[مراتب العرفان]........................................................... ٣٧٨

[دلائل الحكمة والرحمة]..................................................... ٣٨٥

[المناجاة].................................................................. ٣٩١

[البكاء].................................................................. ٣٩٣

[عناصر الإيمان]........................................................... ٣٩٦

[الورع]................................................................... ٣٩٧

[جهاد النفس]............................................................. ٣٩٩

[عظة بالغة]............................................................... ٤٠١

[المؤمن بين الغافلين]........................................................ ٤٠٥

[الهالك].................................................................. ٤٠٧

[الاعتبار]................................................................. ٤٠٨

[التواضع]................................................................. ٤١١

[المكين].................................................................. ٤١٢

[الحقير]................................................................... ٤١٣

[الملك]................................................................... ٤١٤

[الراغب]................................................................. ٤١٧

[الرحمة]................................................................... ٤١٨

[محاسبة النفس]............................................................ ٤٢٤

[الصلاة معراج المؤمن]...................................................... ٤٢٧

[قيام الليل]............................................................... ٤٢٩

[نصائح طبية]............................................................. ٤٣٣

[مراقبة الله]................................................................ ٤٣٣

[الانفاق والبخل].......................................................... ٤٣٥

[جهاد النفس]............................................................. ٤٣٦

[المريد]................................................................... ٤٣٩

[مقام الأولياء]............................................................. ٤٣٩

[الصادق المجتهد].......................................................... ٤٤١

[الاخلاص]............................................................... ٤٤٢

[الحياة الطيبة]............................................................. ٤٤٦

[المتقي العارف]............................................................ ٤٤٨

[الغافل المتواني]............................................................ ٤٥١

[المتوكل].................................................................. ٤٥٣

[التائب والتوبة]............................................................ ٤٥٦

[صفات التائب]........................................................... ٤٦٠

[صفات المحب لله]......................................................... ٤٦٢

[مدارج الأولياء]........................................................... ٤٦٣

* عظات بالغة............................................................... ٤٧٥

[موعظة].................................................................. ٤٨١

[موعظة].................................................................. ٤٨٥

[رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها]............................... ٤٨٧

* مفاهيم إسلامية............................................................ ٤٩١

[العلم]................................................................... ٤٩٣

[الإسلام والمسلمون]....................................................... ٤٩٣

[واجب المؤمن مدة الجبارين]................................................. ٤٩٤

* الطهارة.................................................................... ٤٩٥

[الوضوء]................................................................. ٤٩٧

باب القول في المشرك....................................................... ٤٩٨

[طهارة الماء والمكان]........................................................ ٤٩٩

[الاغتسال من الجنابة أو النفاس]............................................. ٥٠١

الاعتقاد.................................................................. ٥٠٢

[لباس المصلي]............................................................. ٥٠٣

[الاحتلام]................................................................ ٥٠٣

باب القول في السرقة....................................................... ٥٠٤

الكلام في الدم............................................................. ٥٠٦

القول في النفاس............................................................ ٥٠٧

القول في الحبلى............................................................ ٥٠٨

القول في الحجامة والرعاف................................................... ٥٠٩

القول في التيمم............................................................ ٥١١

القول في الماء القليل........................................................ ٥١٢

[الاشتغال بغير الصلاة يبطل الوضوء]......................................... ٥١٥

[القيح والصديد والدود].................................................... ٥١٦

[النوم أو السكر يبطل الوضوء].............................................. ٥١٧

* صلاة اليوم والليلة........................................................... ٥١٩

[أول الواجبات العقلية]..................................................... ٥٢١

[الواجبات الشرعية]........................................................ ٥٢٢

[أوقات الصلوات]......................................................... ٥٢٦

[الطهارات]............................................................... ٥٣٤

[حد الماء المطهّر]........................................................... ٥٣٤

[التيمم].................................................................. ٥٣٥

[مسح الرأس]............................................................. ٥٣٦

[حوار مع القائلين بمسح القدمين]............................................ ٥٣٧

[باب الوضوء]............................................................. ٥٣٩

[أذكار وأدعية الوضوء والصلاة]............................................. ٥٤١

[السكون والخشوع في الصلاة]............................................... ٥٤٢

[شروط الإمام]............................................................ ٥٤٣

باب التقصير.............................................................. ٥٤٨

* مسائل القاسم.............................................................. ٥٥١

[مسائل متفرقة في الصلاة والحج]............................................. ٦٠٠

* فهرسة الجزء الثاني........................................................... ٦٦٥

مجموع كتب ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم الرسي ( 169 ـ 246 هـ ) - ٢

المؤلف: القاسم بن ابراهيم بن اسماعيل بن ابراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام
الصفحات: 675
  • * مديح القرآن الكبير 5
  • [أهل الذكر] 8
  • [القرآن عظة ونور] 10
  • [القرآن الحكم الفصل] 11
  • [القرآن رحمة وشفاء] 14
  • [حفظ الكتاب من الضياع] 15
  • [المعرضون عن الذكر] 19
  • * مديح القرآن الصغير 29
  • [وصية الإمام بالقرآن] 33
  • [السياسة المنحرفة تحرّف القرآن] 37
  • * الناسخ والمنسوخ 41
  • [خرافة الغرانيق] 47
  • [أقسام النسخ] 49
  • [المكرر في القرآن] 53
  • [التدبر في القرآن] 55
  • [ذكر الله] 59
  • [المحكم والمتشابه] 60
  • * تفسير القرآن 67
  • تفسير سورة الحمد 69
  • تفسير سورة الناس 71
  • تفسير سورة الفلق 72
  • تفسير سورة الإخلاص 75
  • تفسير سورة المسد 76
  • تفسير سورة النصر 78
  • تفسير سورة الكافرون 79
  • تفسير سورة الكوثر 80
  • تفسير سورة الماعون 82
  • تفسير سورة قريش 84
  • تفسير سورة الفيل 85
  • تفسير سورة الهمزة 87
  • تفسير سورة العص 89
  • تفسير سورة التكاثر 90
  • تفسير القارعة 91
  • تفسير سورة العاديات 93
  • تفسير سورة الزلزلة 94
  • تفسير سورة البينة 96
  • تفسير سورة القدر 100
  • تفسير سورة العلق 104
  • تفسير سورة التين 108
  • تفسير سورة الانشراح 110
  • تفسير سورة الضحى 113
  • تفسير سورة الليل 114
  • تفسير سورة الشمس 116
  • [تفسير سورة النازعات] 124
  • * تثبيت الإمامة 131
  • [مبدأ التفصيل] 133
  • [وجوب الإمامة ودليلها] 134
  • [ضرورة الإمامة] 136
  • [تدبير الخلق] 138
  • [أصناف الخلق] 139
  • [طبقات حياة الخلق] 140
  • [حكمة التشريع] 142
  • [صفات المرشد ووجوب الثواب والعقاب] 143
  • [معجزات الأنبياء] 144
  • [دليل الإمامة] 156
  • [صفات الإمام] 160
  • [طريق الإمامة] 161
  • * الإمامة 167
  • * الإمامة 195
  • [الوصية] 214
  • * إمامة علي بن أبي طالب 217
  • * القتل والقتال 223
  • * الهجرة للظالمين 239
  • [صفات أولياء الله] 242
  • [وجوب الإنكار أو الهجرة] 244
  • [التمييز بين أولياء الله وأعداءه] 244
  • [التحذير من موالاة أعداء الله] 246
  • [مرض القلوب] 247
  • [مجالسة الظالمين مهلكة] 248
  • [مجاورة الظالمين شقاء وفتنة] 254
  • [طرد النبي للمتشبهين بالنساء] 258
  • [الهجرة واجبة في كل الديانات] 261
  • [وعيد الله للمعرضين] 263
  • [الهجرة شرط الإيمان] 266
  • [هلاك جبابرة الأمم] 271
  • [هجرة الأنبياء والرسل] 277
  • [هجرة المؤمنين السابقين] 282
  • * المكنون 291
  • [دعاء] 293
  • [توحيد الله] 293
  • [صفات العالم الرباني] 294
  • [فضائل الأعمال] 295
  • [صفات الحكيم] 296
  • [صفات الغافل] 297
  • [صفات الأحمق] 299
  • [مؤهلات القيادة] 301
  • [مراقبة النفس] 302
  • [المروءة] 304
  • [الحسد] 305
  • [مفردات أخلاقية] 306
  • [الخلق والمال] 308
  • [العلم والمال] 310
  • [الصفح الجميل] 310
  • [واجبات الأخوّة] 313
  • [أصناف الناس] 316
  • [مكارم الأخلاق] 318
  • [الكذب] 319
  • [قواعد أخلاقية] 320
  • [الكبر] 322
  • [شهادة الليل والنهار] 322
  • [رقابة الناس] 323
  • [القناعة] 324
  • [المبادرة إلى الخير] 327
  • [نصائح سياسية] 328
  • [التأمل] 329
  • [حوادث الأيام] 329
  • * سياسة النفس 331
  • [الدنيا الغرور] 335
  • [الانسان المغرور] 340
  • [النفس] 344
  • [الصبر] 345
  • [التقوى] 345
  • [التفكير] 346
  • [أحوال الخلق في الدنيا] 348
  • [الموت] 350
  • [جوهر الدين] 352
  • [مثل طالب الدنيا وطالب الآخرة] 354
  • [التوبة] 355
  • [حذر النفس والهوى] 356
  • [الاخلاص] 357
  • * العالم والوافد 361
  • [امتحان قبول] 363
  • [النفس] 363
  • [معرفة الله] 364
  • [الدين] 364
  • [الدنيا] 365
  • [الآخرة] 366
  • [الجنة والنار] 366
  • [معارف الحكماء] 367
  • [الإيمان] 369
  • [نجاح الوافد في الامتحان] 372
  • [سؤال وجواب] 372
  • [معرفة الله] 372
  • [الإيمان] 374
  • [الإسلام] 375
  • [مراتب العرفان] 378
  • [دلائل الحكمة والرحمة] 385
  • [المناجاة] 391
  • [البكاء] 393
  • [عناصر الإيمان] 396
  • [الورع] 397
  • [جهاد النفس] 399
  • [عظة بالغة] 401
  • [المؤمن بين الغافلين] 405
  • [الهالك] 407
  • [الاعتبار] 408
  • [التواضع] 411
  • [المكين] 412
  • [الحقير] 413
  • [الملك] 414
  • [الراغب] 417
  • [الرحمة] 418
  • [محاسبة النفس] 424
  • [الصلاة معراج المؤمن] 427
  • [قيام الليل] 429
  • [نصائح طبية] 433
  • [مراقبة الله] 433
  • [الانفاق والبخل] 435
  • [جهاد النفس] 436
  • [المريد] 439
  • [مقام الأولياء] 439
  • [الصادق المجتهد] 441
  • [الاخلاص] 442
  • [الحياة الطيبة] 446
  • [المتقي العارف] 448
  • [الغافل المتواني] 451
  • [المتوكل] 453
  • [التائب والتوبة] 456
  • [صفات التائب] 460
  • [صفات المحب لله] 462
  • [مدارج الأولياء] 463
  • * عظات بالغة 475
  • [موعظة] 481
  • [موعظة] 485
  • [رسالة إلى بعض بني عمه عن الدنيا والزهد فيها] 487
  • * مفاهيم إسلامية 491
  • [العلم] 493
  • [الإسلام والمسلمون] 493
  • [واجب المؤمن مدة الجبارين] 494
  • * الطهارة 495
  • [الوضوء] 497
  • باب القول في المشرك 498
  • [طهارة الماء والمكان] 499
  • [الاغتسال من الجنابة أو النفاس] 501
  • الاعتقاد 502
  • [لباس المصلي] 503
  • [الاحتلام] 503
  • باب القول في السرقة 504
  • الكلام في الدم 506
  • القول في النفاس 507
  • القول في الحبلى 508
  • القول في الحجامة والرعاف 509
  • القول في التيمم 511
  • القول في الماء القليل 512
  • [الاشتغال بغير الصلاة يبطل الوضوء] 515
  • [القيح والصديد والدود] 516
  • [النوم أو السكر يبطل الوضوء] 517
  • * صلاة اليوم والليلة 519
  • [أول الواجبات العقلية] 521
  • [الواجبات الشرعية] 522
  • [أوقات الصلوات] 526
  • [الطهارات] 534
  • [حد الماء المطهّر] 534
  • [التيمم] 535
  • [مسح الرأس] 536
  • [حوار مع القائلين بمسح القدمين] 537
  • [باب الوضوء] 539
  • [أذكار وأدعية الوضوء والصلاة] 541
  • [السكون والخشوع في الصلاة] 542
  • [شروط الإمام] 543
  • باب التقصير 548
  • * مسائل القاسم 551
  • [مسائل متفرقة في الصلاة والحج] 600
  • * فهرسة الجزء الثاني 665