المقدّمة

هذا الطريق لا يؤدي إلى الوحدة :

بنظرة إجمالية إلى وضع عالم اليوم نرى طوفاناً مرعباً يهب عليه ، أزاح الستار عن وجهه الحقيقي ، والذي سيطرت عليه الشعارات البرّاقة كإعلان حقوق الإنسان والديمقراطية ، والمنظمات الدولية المغلوبة على أمرها ، وأقوياء العالم أعدّوا مخططاتهم الخطيرة للسيطرة على دول العالم الأخرى ، وكشفوا عن نواياهم بكل وضوح.

والجميل أنّهم قالوا كل شيء ، وبحسب المثل القائل : «آب پاك بر دست همه خوش خوش باورها ريختند» (١).

وفي هذه المعمعة لم يبق بعد اللطف والعناية الإلهيّة ملاذ سوى إمكانية الشعب وقدرته!

فيجب على الشعب أن يكون قوياً في إرادتهِ في هذا النظام العالمي الضعيف والمسحوق!

فإذا اتّحد مسلمو العالم في هذه الظروف الصعبة واستفادوا من القدرة

__________________

(١). ومعناه : أنّ إفصاحهم عن مخططاتهم قد أتم الحجّة على الجميع (مثل فارسى).

العظيمة (الثقافية والمادية) التي يمتلكونها لأصبحوا في مأمن من شر أصحاب النفوذ.

مضت سنوات عديدة والحديث عن وحدة المسلمين يرتفع في كل مكان ، وتوالت الأخبار عن تشكيل أسبوع الوحدة ، وعقدت مؤتمرات وندوات حول الوحدة ، وشعارات ترفع هنا وهناك.

هذه الأمور وإن كان لها أثر إيجابي في المجالات السياسية والاجتماعية ، ولكن إلى الآن لم نستطع تحقيق الوحدة المطلوبة للوقوف بوجه الطوفان العظيم.

ويمكن تلخيص ذلك في الأمور التالية :

١. الأعمال التي أنجزت لم تكن أساسية ، وموضوع الوحدة لم يستطع النفوذ إلى أعماق المجتمعات الإسلاميّة ، ولا إلى داخل المنظومة الفكرية ، ولم يعبّأ مسلمو العالم في اتجاه واحد.

٢. عمل الأعداء بشكل واسع ومخطط على بث اليأس وسوء الظن والاختلاف والنفاق في المجتمعات الإسلاميّة ، كما يتجلّى ذلك ممّا ينقل من أخبار ، ورصدوا لها أموالاً طائلة لتحقيق ذلك ، وعبّئوا المتطرفين والمتعصبين من الطرفين لتنفيذ مخططاتهم المشئومة ، ومن جملتها :

أ) تنقل بعض الأخبار الموثّقة أخيراً عن قيام السلفيين المتعصبين في السعودية بطبع عشرة ملايين كتاب لنشر الفتنة والتفرقة وتوزيعها على الحجاج. والحج الذي يفترض أن يكون عامل وحدة بين المسلمين في العالم جعلوه عامل فرقة بينهم ، وهذا العمل يتكرر كل سنة وللأسف.

ب) يبذل الخطباء الوهابيون المتعصبون جهداً كبيراً في أيّام الحج والعمرة في بث جميع أشكال السموم لإيجاد حالة النفاق ، وعلى الرغم من التقارب السياسي بين إيران والسعودية ، إلّا أننا نرى حملاتهم ضد الشيعة أخذت في الاتساع والزيادة.

ج) لا يخفى على أحد عمليات جيش الصحابة المتكررة بين الحين والآخر والتي تستهدف قتل الأبرياء والمظلومين المستضعفين ، والأكثر يشاعة من ذلك هو الافتخار والابتهاج بعمليات القتل والاغتيال.

د) ومن الأعمال الخطيرة التي يقومون بها هو تحريك بعض العناصر المتشددة مثل : حركة طالبان من قبل الاستخبارات الأمريكية ـ طبقاً لبعض الوثائق الموجودة ـ لتشويه صورة الإسلام وإظهاره بصورة وحشيّة وخشنة لا رحمة فيه ، وبعيداً عن العلم والمعرفة من جهة ، ومن جهة أخرى لإيجاد الفرقة والفتنة بين صفوف المسلمين ، مع أنّ هؤلاء الذين ترعرعوا في أحضان الاستخبارات والسياسة الغربية بدءوا بالخروج عن سيطرتهم ، لتحل عليهم المصيبة واللعنة من الذين ربوهم وأمدوهم ليدفعوا ضريبة ما صنعوه.

٣. تقصير بعض الساسة الإسلاميين حيث قدموا مصالحهم الشخصية والمحدودة على المصالح العامة للعالم الإسلامي ، وهذا أحد العوامل التي حالت دون تحقيق الأهداف الأساسية للوحدة.

وعلى سبيل المثال : أقامت بعض الدول الإسلاميّة ـ المعروفة ـ علاقات تعاون حميمة مع الكيان الصهيوني في المجال السياسي والاقتصادي ؛ لتحقيق بعض المصالح المحدودة والصغيرة ، وهي مكشوفة للجميع ، بل

وصل الأمر إلى القيام بالمناورات العسكرية المشتركة!

وعلى كلّ حال فالمجال المتاح لعلماء الإسلام هو التذكير بالعواقب السيئة لهذه الاشتباهات ، وإنّ تلك السياسات المدمرة والعنيفة لن تدع أي دولة إسلاميّة أو أي فريق إسلامي في أمان وراحة ، وإنّ طرح هذه المسائل الطائفية بشكل واضح وشفاف قدر الإمكان سيفوت الفرصة على الأعداء في نشر سمومهم ، ويقف بوجه بث عدم الثقة وسوء الظن من قبل بعض المجموعات المتشددة والمتعصبة من كلا الطرفين.

ولأجل هذا تمّ وضع هذا الكتاب بين يدي القراء الأعزاء ، بأسلوب مبتكر وشيق وجذاب ؛ لأجل تقوية الروابط ، وبهذا الأسلوب ستتضح هذه المسألة بشكل كامل ، من أن جذور الموارد الخلافية المهمّة بين أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام وأهل السنّة موجودة في كتبهم المعروفة ، وإنّ ما تقوله الشيعة في هذا المجال أدلته موجودة في كتب أهل السنّة ، وكما يقول أحد علماء السنّة الأحرار : «يستطيع الشيعة أن يثبتوا جميع أصول وفروع مذهبهم من كتبهم وتصانيفهم»!

فإذا ثبت هذا المطلب وإن شاء الله يثبت في هذا الكتاب فلن يبقى مجال للقلق أو لنشر الشبهات بالنسبة لعقائد أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، وسيكون سبباً للتفاؤل ووحدة الصف ورفع سوء الظن عند أهل الإنصاف والمنطق ، وستبقى الجمهورية الإسلاميّة الإيرانية دولة قوية تدافع عن الإسلام ، وكذلك عن مذهب التشيّع في العالم الإسلامي.

والآن أنتم والأدلّة الموجودة بين أيديكم!

المواضيع العشرة

أهم الموضوعات التي تدور الحوار وناقش بيننا وبينهم عبارة عن عشر مواضيع :

١. عدم تحريف القرآن الكريم

٢. التقية في الكتاب والسنّة

٣. عدالة الصحابة

٤. احترام قبول العظماء

٥. الزواج المؤقت

٦. السجود على الأرض

٧. الجمع بين الصلاتين

٨. المسح على الأرجل في الوضوء

٩. جزئية البسملة في سورة الحمد

١٠. التوسل بأولياء الله

المبحث الأول

عدم تحريف القرآن

نحن نعتقد ـ بالرغم من كل الدعايات السيّئة للنّيل من الشيعة ـ بأنّ القرآن الكريم الموجود عندنا وعند جميع المسلمين اليوم هو عين القرآن الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من دون زيادة أو نقصان حتى في كلمة واحدة.

وقد بيّنا هذا الأمر بوضوح في كتب التفسير وأصول الفقه وغيرها من الكتب ، وأثبتنا ذلك بالأدلة العقلية والنقلية.

نحن نعتقد بأنّ المسلمين ـ أعم من الشيعة والسنّة ـ متفقون على أنّ القرآن الموجود بين الدفتين لم يضف إليه شيء ، وأمّا بالنسبة لجانب النقص فأكثر المحقّقين من الطرفين ـ بل كاد يكونُ إجماعاً ـ على عدم وجود النقص في القرآن الكريم.

هناك أشخاص معدودون من كلا الفريقين يعتقدون بوجود نقص في القرآن الكريم ، ولا يوجد من يؤيد كلامهم بين أهل التحقيق المعروفين من المسلمين.

كتابان من كلا الفريقين :

ومن جملة هؤلاء : «ابن الخطيب المصري» وهو من أهل السنّة ، فقد ألّف كتاباً بعنوان «الفرقان في تحريف القرآن» ونشر في سنة ١٩٤٨ م الموافق لعام ١٣٦٧ ه‍ ـ ق ، وعند ما علمت جامعة الأزهر بذلك قامت بسحب جميع النسخ وإتلافها ، إلّا أنّ هناك بعض النسخ وقعت في أيدي بعض الناس وبشكل غير قانوني.

وكذلك هناك كتاب تحت عنوان «فصل الخطاب في تحريف كتاب ربّ الأرباب» كتب بقلم أحد محدّثي الشيعة هو «الحاج نوري» وطبع في سنة ١٢٩١ ه‍ ـ ق ، وبمجرّد أن طبع استنكر كبار علماء حوزة النجف الأشرف هذا العمل وأمروا بجمع نسخ الكتاب ، وكتبوا كتباً متعددة في الردّ عليه ، ومن جملة العلماء الذين كتبوا في الردّ على كتاب «فصل الخطاب» :

١. الفقيه الكبير المرحوم الشيخ محمود بن أبي القاسم ، المعروف بمعرب الطهراني (توفي سنة ١٣١٣ ه‍ ـ) كتب كتاباً تحت عنوان «كشف الارتياب في عدم تحريف الكتاب».

٢. المرحوم العلّامة السيد محمّد حسين الشهرستاني (توفي سنة ١٣١٥ ه‍ ـ) كتب في الرد على كتاب فصل الخطاب كتاباً تحت عنوان «حفظ الكتاب الشريف عن شبهة القول بالتحريف».

٣. المرحوم العلّامة البلاغي (توفي سنة ١٣٥٢ ه‍ ـ) وهو أحد المحقّقين في حوزة النجف الأشرف خصص فصلاً في تفسيره المعروف «آلاء الرحمن» للردّ على كتاب «فصل الخطاب» (١).

__________________

(١). تفسير آلاء الرحمن ، ج ١ ، ص ٢٥.

٤. ونحن بدورنا بحثنا مسألة تحريف القرآن الكريم بحثاً موسّعاً في كتابنا «أنوار الأصول» وأجبنا بشكل قاطع عن كل الشبهات الموجودة في كتاب «فصل الخطاب».

إنّ المرحوم الحاج النوري مع كونه عالماً ، إلّا أنّه اعتمد على روايات ضعيفة كما قال العلّامة البلاغي وقد ندم بعد انتشار كتابه على ما خطته يداه. وعد كبار علماء حوزة النجف الأشرف عمله هذا من الأخطاء الواضحة (١).

والملفت للنظر أنّ الحاج النوري بعد انتشار كتابه اضطر إثر النقد الكبير الذي واجهه من قبل الطرفين أن يكتب رسالة يدافع بها عن نفسه ويوضّح أن مقصوده من ذلك عدم وقوع التحريف في كتاب الله ، وأنّ الناقدين أساءوا فهم عباراته.

يقول المرحوم العلّامة السيد هبة الدين الشهرستاني : «عند ما كنت في سامراء التي حوّلها المرحوم الميرزا الشيرازي الكبير إلى مركز علمي ، كانت هناك ضجة كبيرة ضد الحاج النوري وضد كتابه ، وأطلق بعضهم كلمات بذيئة ونابية تنال من شخصه». (٢)

ومع هذا كله ، هل يمكن القول بأنّ كلام الشيخ النوري يمثّل عقيدة الشيعة؟

ولكن هناك عدّة من الوهابيين المتعصبين ـ بحجّة وجود كتاب فصل الخطاب ـ مصرون على نسبة مسألة تحريف القرآن للشيعة. فإذا كان رأي كاتب ما دليلا على اعتقاد الشيعة بهذا الأمر ، فلا بد أن ننسب مسألة تحريف القرآن الكريم أيضاً إلى علماء السنّة ؛ لأن «ابن الخطيب» ذكر هذا الأمر

__________________

(١). تفسير آلاء الرحمن ، ج ٢ ، ص ٣١١.

(٢). «برهان روشن» باللغة الفارسية ، ص ١٤٣.

في كتابه «الفرقان في تحريف القرآن». فإذا كان انزعاج علماء الأزهر من هذا الكتاب دليلا على معارضتهم لمضمونه ، فكذلك الأمر بالنسبة لمعارضة علماء النجف الأشرف لكتاب «فصل الخطاب» يكون دليلا على نفي التحريف.

وقد نقل كلّ من تفسير «القرطبي» و «الدر المنثور» ـ وهما من التفاسير المعروفة عند أهل السنّة ـ عن عائشة (زوجة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله) قولها : «إنّها ـ أي سورة الأحزاب ـ كانت مائتي آية فلم يبق منها إلّا ثلاث وسبعون» (١). بل هناك في صحيح البخاري وصحيح مسلم روايات يشم منها رائحة التحريف (٢).

ولكننا لا نجيز لأنفسنا أن ننسب القول بالتحريف لإخواننا السنّة استناداً لرأي كاتب ، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم ، وفي المقابل ، عليهم أن لا ينسبوا ذلك للشيعة لمجرد وجود رأي كاتب ما ، أو وجود روايات ضعيفة في كتبهم لا يقبلها علماء الشيعة. ولو ألقينا نظرة على مجموع الروايات التي اعتمدها الشيخ النوري لوجدنا أنّها مروية عن ثلاثة رواة ، وهم ما بين فاسد المذهب أو كذّاب أو مجهول الحال وهم :

أحمد بن محمّد السياري : فاسد المذهب.

علي بن أحمد الكوفي : كذّاب.

أبو الجارود : مجهول الحال أو مردود (٣).

__________________

(١). تفسير القرطبي ، ج ١٢ ، ص ١١٣ ؛ وتفسير الدر المنثور ، ج ٥ ، ص ١٨٠.

(٢). صحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ٢٠٨ ـ ٢١١ ؛ وصحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٦٧ وج ٥ ، ص ١١٦.

(٣). لمعرفة المزيد عن أحوال هؤلاء يراجع كتاب رجال النجاشي وفهرست الشيخ الطوسي وكتب رجالية أخرى.

مخاطر هذه الاتهامات :

هناك أفراد يصرون على توجيه تهمة تحريف كتاب الله ، للشيعة ، وكأنّهم غير ملتفتين إلى أنّ توجيه التهمة لمجرّد الخصومة الطائفية يؤدّي إلى زعزعة أصل الإسلام ؛ وذلك لأنّ الأعداء يقولون : إنّ مسألة عدم تحريف القرآن غير مسلّمة عند المسلمين ، وهناك فرقة عظيمة تعتقد بتحريف القرآن ، ونحن ننصح هؤلاء الإخوة أن لا يجعلوا قلب الإسلام ، وهو القرآن الكريم ، هدفاً بسبب الخلافات والتعصبات المذهبية. ارحموا الإسلام والقرآن ، لكي لا يستغل الأعداء كثرة الحديث عن التحريف للنيل من الإسلام والقرآن الكريم.

لقد انتشرت هذه التهم والافتراءات إلى حدٍّ كبير وللأسف ، حتى أنني التقيت في إحدى سفراتي إلى بيت الله الحرام للعمرة ، وزير الشئون الدينية السعودي ، وقال : لقد سمعت أنّ لكم مصحفاً غير مصحفنا!!

فقلت له : إنّ اكتشاف هذا الأمر سهل جدّاً ، فما عليك إلّا أن تذهب بشخصك أو تبعث مندوباً عنك ـ على نفقتنا ـ إلى طهران ، وتبحث في جميع نسخ القرآن الموجودة في المساجد والبيوت ، وانتخب أي مسجد تشاء وأي منزل ترغب ، واطلب قرآناً من أي شخص ، فستجد أنّه لا يوجد أي اختلاف ولا في كلمة واحدة مع جميع نسخ القرآن الموجودة في العالم الإسلامي ، وعالم كبير مثلك يجب أن لا يقع تحت تأثير هذه الشائعات والأكاذيب.

وقرّاؤنا ولله الحمد شاركوا في الكثير من المسابقات الدولية لقراءة القرآن وحصلوا على المراكز الأولى ، وكان حفّاظنا وخصوصاً البراعم منهم مورد إعجاب وثناء الكثيرين من شخصيات دول العالم الإسلامي.

ويزداد عدد القرّاء وحفّاظ القرآن عندنا بالآلاف في كل عام ، ومدارس حفظ القرآن وتلاوته وتفسيره ، وكليات علوم القرآن منتشرة في جميع أنحاء بلادنا الواسعة ، ومن السهل إثبات ذلك للجميع من خلال مشاهدة تلك البرامج عن كثب.

ولا يوجد في جميع هذه الأماكن قرآن آخر غير هذا القرآن المعروف بين جميع المسلمين ، ولا يوجد أحد يعرف قرآناً غيره ، ولا حديث عندنا عن تحريف القرآن في أي مناسبة أو احتفال.

الأدلّة العقلية والنقلية على عدم التحريف :

نحن نعتقد بأنّ هناك أدلة كثيرة عقلية ونقلية تدل على عدم تحريف القرآن ، فقد قال الله تعالى في القرآن الكريم : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) (١) ، وفي آية أخرى قال تعالى : (وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ* لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (٢).

فإذا كان الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظ هذا الكتاب ، أفهل يمكن أن تطال يد التحريف هذا الكتاب؟

إضافة إلى أنّ القرآن الكريم لم يكن متروكاً أو منسيّاً حتى يأتي شخص ويضيف أو ينقص منه شيئاً. فكتّاب الوحي قد ازداد عددهم من أربعة عشر إلى أربعمائة شخص ، وكانوا يقومون بتدوين وضبط كلّ آية بمجرّد نزولها ، ووصل عدد حفّاظ القرآن الكريم في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى المئات ، حيث

__________________

(١). سورة الحجر ، الآية ٩.

(٢). سورة فصلت ، الآية ٤١ و ٤٢.

كانوا يحفظون كلّ آية حين نزولها.

وقد كانت تلاوة القرآن في ذلك الزمان من أفضل العبادات ، حيث كان يتلى ويقرأ ليلاً ونهاراً.

كما أنّ القرآن الكريم هو القانون الأساسي للإسلام والدستور العملي للمسلمين ، وحاضر في جميع جوانب حياتهم.

فالعقل يدرك أنّ مثل هذا الكتاب لا يمكن أن يقع فيه تحريف سواء من جهة الزيادة أو النقصان.

والروايات الإسلاميّة الواصلة إلينا من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام تؤكّد على تمامية القرآن الكريم وعدم وقوع التحريف فيه. فأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام يصرح في نهج البلاغة :

«وَأَنْزَلَ عَلَيْكُمُ (الْكِتابَ تِبْياناً) ، وَعَمَّرَ فِيكُمْ نَبِيَّهُ أَزْمَاناً ، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُ وَلَكُمْ فِيما أنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ دِينَهُ الَّذِي رَضِيَ لِنفْسِهِ» (١).

وفي مواضع كثيرة من نهج البلاغة عند ما يتعرض الأمير المؤمنين عليه‌السلام للقرآن الكريم لا نجد أي حديث عن تحريف القرآن ، بل يؤكّد على تمامية القرآن بشكل واضح وصريح.

وذكر الإمام التاسع محمّد بن علي الجواد عليه‌السلام في خطابه لأصحابه حول انحراف الناس عن جادة الحق قائلاً : «وكَان مِنْ نَبذِهم الكِتَاب أن أقامُوا حُرُوفَه وحرَّفوا حُدُودَه» (٢).

إنّ هذا الحديث وأمثاله يشير إلى أنّ ألفاظ القرآن الكريم ظلت محفوظة ،

__________________

(١). نهج البلاغة ، الخطبة ٨٥.

(٢). اصول الكافي ، ج ٨ ، ص ٥٣.

والتحريف وقع في المعاني ، بحيث قام البعض بتفسير أو توجيه بعض الآيات طبق ميوله النفسية ومنافعه الشخصية خلافاً للواقع.

ومن هنا تتضح مسألة مهمّة وهي : أنّ الروايات التي تتحدث عن التحريف إنّما تتحدث عن التحريف المعنوي والتفسير بالرأي ، وليس التحريف في العبارات والألفاظ.

ومن جهة أخرى نلاحظ أنّ هناك روايات عديدة ومعتبرة وصلتنا عن الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام تأمر بعرض الروايات على القرآن الكريم وخصوصاً عند تعارضها ؛ لأجل معرفة الروايات الصحيحة من غير الصحيحة ، فما وافق القرآن فهو صحيح ويجوز العمل به ، وما خالفه اتركوه : «اعرِضُوهُمَا عَلى كِتابِ اللهِ فَما وَافَق كِتَاب اللهِ فَخُذُوه ، ومَا خَالَف كِتاب اللهِ فَرُدُّوه» (١) ، فهذا دليل واضح على عدم وقوع التحريف في القرآن ؛ لأنّه في غير هذه الصورة لا يصبح معياراً لتشخيص الحق من الباطل.

وإضافة إلى كل هذا ، فقد ورد في حديث الثقلين المعروف والمنقول بكثرة في كتب أهل السنّة والشيعة أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول :

«إِنِّي تَاركٌ فيكم الثِّقْلَيْنِ كِتابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي مَا إنْ تَمَسَّكْتُم بِهِمَا لنْ تَضِلُّوا» (٢).

إنّ هذا الحديث العظيم يدلّ بوضوح على أنّ القرآن الكريم بجانب عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ملجأ آمن لهداية الناس إلى يوم القيامة.

فإذا كان القرآن محرّفاً فكيف يمكن أن يكون ملجأً آمناً ، وهادياً للناس من الضياع والضلال (٣).

__________________

(١). وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٨٠.

(٢). بحار الأنوار ، ج ٣٦ ، ص ٣٣١.

(٣). للمزيد من التوضيح يراجع كتابنا «أنوار الأصول» ، ج ٢ ، ص ٣٤٠ فصاعداً.

كلمة أخيرة :

الكلمة الأخيرة هي : أنّ أحد الذنوب الكبيرة عند الله سبحانه وتعالى هي اتهام الآخر بأمور لم يقلها ولم يفعلها.

ونحن قلنا مراراً وتكراراً وفي مناسبات عدّة : إنّه لا يوجد أحد من المحقّقين والعلماء الشيعة من يقول بتحريف القرآن ، وكتبهم تشهد بذلك ، ولكن هناك فرقة متعصبة ومعاندة ما زالت تكرر هذه التهمة ، ولا أعلم ما سيكون جوابهم يوم القيامة عن كل هذه التهم ، وعن الحطِّ من شأن القرآن الكريم واعتباره.

فإذا كانت ذريعتكم هو وجود بعض الروايات الضعيفة في بعض كتبنا ، فهي موجودة أيضاً في كتبكم ، وقد أشرنا إلى ذلك سابقاً.

ولا يوجد أي مذهب يبني أساسه على روايات ضعيفة ، ونحن لا يمكن أن نتهمكم بتحريف القرآن ؛ لأجل كتاب «الفرقان في تحريف القرآن» لابن الخطيب المصري والروايات الضعيفة التي لديكم حول تحريف القرآن ، ولن نضحّي بالقرآن لأجل العصبية المدمّرة.

لا تتكلّموا عن تحريف القرآن بهذه الطريقة ، ولا تسيئوا إلى الإسلام والمسلمين والقرآن ، لا تسقطوا اعتبار القرآن لأجل التعصب الطائفي فالقرآن الكريم رأس مال مسلمي العالم ، يجب أن لا تنطق ألسنتكم بكلمة التحريف ، ولا تعطوا الأعداء ذريعة ، فإذا أردتم الانتقام من الشيعة ومن أتباع أهل البيت عليهم‌السلام من خلال هذا الطريق ، فاعلموا أنكم ستضعّفون أساس الإسلام من حيث لا تشعرون ؛ لأنّ أعداء الإسلام سيقولون : إنّ فرقة عظيمة من المسلمين تقول بتحريف القرآن ، وهذا ظلم عظيم للقرآن الكريم.

في الختام نكرر القول : إنّه لا يوجد من يقول بتحريف القرآن بين المحقّقين شيعة وسنّة ، وإنّهم يقرّون بأنّ القرآن الذي نزل على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والقرآن الموجود حالياً بين المسلمين واحد ، ويعتقدون ـ كما صرح القرآن ـ بأنّ الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظ القرآن من كل تغيير أو تحريف أو زوال. ولكن للأسف هناك بعض المتعصبين من الطرفين نسبوا التحريف لبعضهم البعض من دون وعي وعلم.

نسأل الله لهم الهداية جميعاً.

المبحث الثاني

التقية في الكتاب والسنة

التقية : هي المسألة الثانية التي يأخذها هؤلاء المفتنون والمتعصبون على مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، فيقولون : لما ذا تستخدمون التقية؟ أليست التقية نوعاً من النفاق؟

وقد ضخّم هؤلاء هذه المسألة إلى حدٍّ وكأنّ التقية فعل محرم ، أو من الذنوب الكبيرة أو أعظم من ذلك ، وغفلوا عن أنّ القرآن قد أجاز التقية في آيات متعددة تحت ظروف خاصة ، والروايات الواردة في مصادرهم تؤكد هذا المعنى ، بل الأمر أكثر من هذا ، فالعقل يأمر بالتقية بشكل صريح إذا تحقّقت شروطها ، إضافة إلى أنّ الكثير من هؤلاء قد مارسوها في حياتهم الشخصية وعملوا بها.

ولتوضيح هذا الكلام لا بدّ من ملاحظة النقاط التالية :

١. ما هي التقية؟

هي أن يكتم الإنسان عقائده الدينية عند احتمال تعرضه للخطر أمام المخالفين والمتعصبين ، ومثالاً على ذلك : كما إذا وقع مسلم موحد في قبضة مجموعة من عبدة الأصنام والمعاندين ، فإذا أظهر عقيدته التوحيدية

سيتسبّب في إراقة دمه أو وقوع الأذى على نفسه أو ماله أو عرضه ، فعندها يكتم عقيدته عنهم ليبقى في أمان وبعيداً عن شرّهم.

أو عند ما يلتقي مسلم شيعي بأشخاص وهابيين متعصبين يبيحون إراقة دماء الشيعة ، فإنّه يكتم عقيدته عنهم حفاظاً على نفسه وماله وعرضه.

وكل عاقل يقرّ بأنّ هذا العمل منطقي ، والعقل هو الحاكم ؛ لأنّه لا يجب أن يضحي بنفسه لأجل إظهار عقيدته أمام المتعصبين.

٢. الفرق بين التقية والنفاق

النفاق ضد التقية ، فالمنافق هو الذي لا يعتقد بمبادئ الإسلام باطناً ، أو يكون متردداً ، ولكنّه يظهر إسلامه بين المسلمين. فالتقية التي نقول بها هي : الاعتقاد الصحيح في الباطن بالإسلام ، وهذا لا يتطابق مع نظر بعض الوهابيين المتشددين ، الذين يكفّرون جميع المسلمين ـ ويستثنون أنفسهم ـ ويعتبرونهم كفاراً ، ويواجهونهم ويهددونهم.

فحيثما كتم الإنسان المؤمن عقيدته عن هذه الفرقة المتعصبة حفاظاً على نفسه وماله وعرضه فهذا هو معنى التقية ويقابله النفاق.

٣. التقية من منظار العقل

التقية في الواقع وسيلة للدفاع عن النفس ، ولهذا ورد تعريفها في رواياتنا بعنوان «ترس المؤمن».

ولا يوجد عقل يجيز لإنسان إظهار عقيدته الحقيقية (الباطنية) أمام أفراد مخالفين لعقيدته ومعاندين وغير منطقيين بحيث يشكّلون ـ خطراً على

الإنسان ويعرّض نفسه للأذى ؛ لأن إهدار الطاقات والإمكانيات بدون فائدة ليس أمراً عقلائياً. التقية تشبه عملية التمويه التي يستخدمها الجنود في الحرب ؛ وذلك بانتخاب ألبسة تتناسب مع ألوان الشجر والأنفاق والسواتر للحفاظ على أنفسهم من الخطر.

إنّ كل العقلاء في العالم يستخدمون التقية أمام الأعداء الشرسين للحفاظ على أنفسهم ، ولا يمكن أن يلام شخص يستخدم هذه الوسيلة. ولا يمكن أن نجد شخصاً في الدنيا يرفض التقية إذا توفرت شروطها.

٤. التقية في كتاب الله

القرآن الكريم في آيات متعددة يجيز استخدام التقية في مقابل الكفّار والمخالفين ، ومن باب المثال :

أ) نقرأ قصة مؤمن آل فرعون : (وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ ...) (١) ، وتعقب الآية بعد ذلك : (وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ.)

وعلى هذا الأساس فمؤمن آل فرعون في الوقت الذي استخدم التقية قدم نصائحه لتلك الفرقة المتعصبة المعاندة التي كانت تريد سفك دم نبي الله موسى عليه‌السلام.

ب) وفي مورد قرآني آخر نقرأ أمراً صريحاً : (لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي

__________________

(١). سورة غافر ، الآية ٢٨.

شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١). فهذه الآية تمنع إقامة علاقة ودية مع أعداء الحق ، إلّا إذا كان عدم العلاقة معهم يسبب وقوع المشقّة والأذى على المسلمين ، فتكون العلاقة الودية معهم باستخدام التقية نوعاً من أنواع الدفاع عن النفس.

ج) ينقل جميع المفسرين في قصة عمّار بن ياسر وأمّه وأبيه أنّهم وقعوا ثلاثتهم في أيدي المشركين العرب ، وقاموا بتعذيبهم وأجبروهم على البراءة من نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فأمّا والد عمّار وأمّه فقد رفضوا الاستجابة لهم ، واستشهدوا على هذه الحالة ، وأمّا عمّار فقد نطق بما يريدون تقية ، وبعد ذلك ذهب إلى حضرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يبكي ، وفي الأثناء نزلت الآية الشريفة (مَنْ كَفَرَ بِاللهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٢). فعدّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والد عمّار وأمّه من الشهداء ، وقام بمسح دموع عمّار وقال له : لا إثم عليك ، فإن عادوا إلى إجبارك فكرر تلك الكلمات.

ويشير اتفاق آراء مفسّري الإسلام في شأن نزول الآية في عمّار ووالديه ، وحديث النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدها على قبولهم جميعاً مسألة التقية. والأمر المثير للاستغراب أنّه ومع كل هذه الأدلة القرآنيّة المحكمة وكلمات المفسرين من أهل السنّة يؤاخذون الشيعة على قبولهم لمسألة التقية. فعمّار لم يكن منافقاً ، ولا مؤمن آل فرعون ؛ وذلك لأنّهما استفادا من التقية وفق الأوامر الإلهيّة.

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

(٢). سورة النحل ، الآية ١٠٦.

٥. التقية في الروايات الإسلاميّة

وقد تناولت الروايات الإسلاميّة أيضاً التقية بشكل واسع ، وعلى سبيل المثال :

مسند أبي شيبة وهو من المسانيد المعروفة عند أهل السنّة ، ينقل قصّة «مسيلمة الكذاب» : حيث أقدم مسيلمة الكذاب على اعتقال اثنين من أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في المنطقة التي يسيطر عليها ، وسأل كلاً منهما : هل تشهدون بأنّي رسول الله؟

فشهد أحدهم بذلك ، ونجى بنفسه ، ولم يشهد الآخر فقطع رأسه ، وعند ما وصل هذا الخبر للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أمّا الذي قُتل فكان في سبيل الصدق والحق ، وأمّا الثاني فهو مأذون من الله ولا ذنب عليه» (١).

ونجد في أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ـ وخصوصاً الأئمّة الذين عاشوا في عصر تسلط بني أمية وبني العباس الذين كانوا يقتلون من يجدونه محبّاً لعلي بن أبي طالب عليه‌السلام ـ أوامر كثيرة باستخدام التقية ، وهم مأمورون بحفظ أنفسهم ؛ وذلك باستخدام التقية حفظاً لأنفسهم من هؤلاء المعتدين القتلة القساة.

٦. هل التقية جائزة في مقابل الكفّار فقط؟

إنّ بعض المخالفين عند ما يواجهون الروايات الصريحة المذكورة سابقاً لا يبقى مجال لهم إلّا القبول بمسألة مشروعية التقية ، ولكنّهم يخصّون ذلك في مقابل الكفّار فقط ، ولا يرون مشروعية التقية في مقابل المسلمين.

__________________

(١). مسند أبي شيبة ، ج ١٢ ، ص ٣٥٨.

وإضافة إلى وضوح عدم الفرق بينهما بناءً على الأدلة السابقة نقول :

١. إذا كان معنى التقية هو حفظ النفس والمال والعِرض في مقابل المتعصبين والأشخاص الأشرار ، فما الفرق بين بعض المسلمين الجهلة المتعصبين والكفّار؟ وإذا كان العقل هو الذي يحكم بحفظ هذه الأمور وعدم هدرها بدون مبرر ، فما هو الفرق بينهما؟

ونحن نعرف أنّ هناك أفراداً غير واعين وقعوا تحت تأثير الإعلام المسموم والدعايات السيئة ، هؤلاء يرون أن هدر الدم الشيعي يقربهم إلى الله ، فإذا تورط شيعي مخلص من أتباع الإمام علي عليه‌السلام وأهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مع هؤلاء وسألوه ما هو مذهبك؟ فهل يحكم العاقل والواعي بأن يجيب بصراحة بأنّه «شيعي» ليعرض نفسه للجناية وقطع رقبته؟!

وبعبارة أخرى ، فلو أصدرنا حكماً بحرمة التقية بناءً على كلامهم في مقابل الأعمال التي قام بها المشركون مع عمّار بن ياسر ، أو في مقابل مسيلمة الكذاب مع أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو في مقابل أعمال حكّام بني أمية وبني العبّاس ، وكذلك في مقابل أعمال بعض المسلمين غير الواعين اتجاه شيعة علي عليه‌السلام لكان هذا سبباً في هلاك مئات الآلاف المخلصين من أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، لأنّ هؤلاء الحكام الظلمة مسلمون في الظاهر!!!

فلو لم يؤكد أهل البيت عليهم‌السلام على مسألة التقية بكثرة حتى أنّهم قالوا : «تسعة أعشار الدين التقية» (١) لوصل عدد قتلى الشيعة في عصر بني أمية وبني العباس إلى مئات الآلاف ، أضعاف عدد الذين قتلوهم بوحشية وبلا رحمة.

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ١٩ ، ص ٢٥٤.

فهل مع هذه الظروف يمكن أن يكون هناك شك أو ترديد في مشروعية التقية؟!

ونحن لا ننسى تلك الدماء التي أريقت بين أهل السنّة لسنوات عدّة بسبب الاختلافات المذهبية ، ومن جملتها مسألة القرآن ، هل هو حادث أم قديم؟ ، هذا النزاع الذي يراه المحقّقون اليوم نزاعاً لا معنى له ولا فائدة.

فإذا وقعت فرقة تدعي أنّها على الحق في أيدي مخالفيها وتورطت معها ، فهل عليها أن تجيب على أسئلتهم الاعتقادية بصراحة ، بأنّ عقيدتنا هي كذا وكذا ... حتى وإن كان هذا التصريح سيؤدي إلى إراقة دمهم من دون أن يكون لهذه الدماء تأثير أو فائدة ترتجى؟

٢. يقول الفخر الرازي في تفسير الآية الشريفة (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) (١) : ظاهر الآية يدل على أنّ التقية إنّما تحلّ مع الكفّار الغالبين ، إلّا أنّ مذهب الشافعي (رضي الله عنه) إذا شاكلت الحالة بين المسلمين والمشركين حلّت التقية محاماة على النفس.

وبعدها استدل على ذلك بأنّ التقية جائزة لصون النفس ، وهل هي جائزة لصون المال يحتمل أن يحكم فيها بالجواز ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «حرمة مال المسلم كحرمة دمه» ، ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قتل دون ماله فهو شهيد» (٢).

ونقرأ أيضاً في تفسير النيسابوري حيث جاء في حاشية تفسير الطبري : قال الشافعي : «تجوز التقية بين المسلمين كما تجوز بين الكافرين محاماة

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ٢٨.

(٢). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٨ ، ص ١٤.

عن النفس» (١).

٣. والملفت للنظر أنّ جمعاً من محدّثي أهل السنّة وبسبب اعتقادهم بأنّ القرآن الكريم قديم استخدموا التقية عند ما وقعوا تحت ضغط حكم بني العباس ، واعترفوا بأنّه حادث ، للنجاة بأنفسهم.

وأشار ابن سعد المؤرخ المعروف في كتابه «الطبقات» ، والطبري المعروف أيضاً في كتابه المشهور تاريخ الطبري إلى رسالتين من المأمون أرسلتا إلى رئيس الشرطة في بغداد «إسحاق بن إبراهيم» حيث ذكر ابن سعد عن الرسالة الأولى : «كتب المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم في إشخاص سبعة نفر ، منهم محمّد بن سعد الواقدي وأبو مسلم يزيد بن هارون ، ويحيى بن معين ، وزهير بن حرب أبو خيثمة ، وإسماعيل بن داود ، وإسماعيل بن أبي مسعود ، وأحمد بن الدورقي ، فأشخصوا إليه فامتحنهم ، وسألهم عن خلق القرآن ، فأجابوا جميعاً إنّ القرآن مخلوق» (٢). (مع أنّ الرأي المشهور بين المحدّثين هو أنّ القرآن قديم ، وهذا ما كان يعتقد به هؤلاء السبعة).

نعم ، إنّ هؤلاء قد اتقوا من المأمون خوفاً من عقابه الشديد ، واعترفوا بأنّ القرآن مخلوقٌ ، فأخلى سبيلهم.

وتليها الرسالة الثانية ، حيث ينقل الطبري رسالة أخرى من المأمون والمخاطب فيها أيضاً رئيس شرطة بغداد حيث يقول : «عند ما وصل كتاب المأمون أحضر إسحاق بن إبراهيم لذلك جماعة من الفقهاء والمحدّثين يصل عددهم تقريباً إلى ٢٦ شخصاً ، وقرأ عليهم كتاب المأمون مرّتين حتى فهموه ،

__________________

(١). تفسير النيسابوري في حاشية تفسير الطبري ، ج ٣ ، ص ١١٨.

(٢). تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ١٩٧ ؛ وطبقات ابن سعد ، ج ٧ ، ص ١٦٧ ، طبعة بيروت.

ثمّ استدعى واحداً تلو الآخر ليظهروا عقيدتهم حول القرآن ، فاعترف جميعهم بأنّ القرآن مخلوق فأخلى سبيلهم ، باستثناء أربعة أشخاص هم : أحمد بن حنبل ، سجادة ، القواريري ومحمّد بن نوح ، فأمر رئيس الشرطة بتقييدهم بالسلاسل وزجهم بالسجن.

وفي اليوم التالي استدعاهم ، وأعاد عليهم الكلام حول القرآن ، فاعترف سجادة بأنّ القرآن مخلوق فأطلقه ، وأصر الباقون على المخالفة ، ثمّ أعادهم مرّة أخرى إلى السجن.

وفي اليوم الثالث استدعاهم وتراجع القواريري عن موقفه ، فأطلق سراحه ، ولكن أصرا كلاً من أحمد بن حنبل ومحمّد بن نوح على قولهما السابق ، فقام رئيس الشرطة بنفيهما إلى مدينة طرطوس (١)».

وعند ما اعترض بعضهم على المجموعة التي استخدمت التقية ، استدلوا لهم بموقف عمار بن ياسر في مقابل الكفار (٢).

إنّ كل هذا يدل وبوضوح على أنّه إذا انحصر طريق نجاة إنسان بالتقية عند ما يقع ضغط شديد عليه من قبل الظالمين يستطيع أن يختار التقية وسيلة لصيانة وحفظ نفسه من ظلم الكفّار أو المسلمين (تأمل).

٧. التقية الحرام

هناك بعض الموارد يحرم فيها التقية ، وهي عند ما يؤدي استخدام التقية في إخفاء شخص عقيدته أو مذهبه إلى تعريض أساس الإسلام للخطر أو

__________________

(١). مدينة في بلاد الشام على ساحل البحر الأبيض المتوسط.

(٢). تاريخ الطبري ، ج ٧ ، ص ١٩٧.

تعريض كيان المسلمين للضرر الشديد ، ففي هذه الموارد يجب أن يظهر عقيدته الواقعية حتى وإن أدى ذلك إلى وقوعه في الضرر.

وهؤلاء يتصورون أنّ التقية هي من قبيل «إلقاء النفس إلى التهلكة» لأنّ القرآن نهى عن ذلك بصراحة إذ قال : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) (١). وهو اشتباه عظيم ؛ لأنّ لازم هذا حرمة حضور ميدان الجهاد ، في الوقت الذي لا يتفوه بهذا الكلام أي عاقل ، ومن هنا يتبيّن بوضوح أنّ ثورة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ضد يزيد كانت قطعاً وظيفة دينية. والإمام لم يكن مستعداً أن يرضخ ليزيد واتباعه وبني أمية الغاصبين للخلافة الإسلاميّة ؛ لأنّه يعلم بوقوع ضرر كبير على كيان الإسلام ، وستكون ثورته وشهادته سبباً ليقظة المسلمين ونجاتهم من حثالة الجاهلية.

٨. التقية المداراتية

وهذا نوع آخر من التقية يلجأ إليه أصحاب مذهب ما ، من دون أن يسبب ذلك وقوع ضرر على أساس الدين أو على المذهب ، بالتعاون مع بقية فرق المسلمين للحفاظ على وحدتهم.

فمثلاً : يعتقد أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام بأنّه لا يجوز السجود على السجّاد ، ولا بد من السجود على الحجر أو أي شيء من أجزاء الأرض ، ودليلهم على ذلك الحديث المعروف عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهُوراً» (٢).

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ١٩٥.

(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٩١ ؛ وسنن البيهقي ، ج ٢ ، ص ٤٣٣ ؛ وهناك كتب أخرى كثيرة نقلت هذا الحديث أيضاً.

فإذا أرادوا حفظ الوحدة بين صفوف المسلمين فبإمكانهم الصلاة في مساجدهم أو في المسجد الحرام أو المسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله والسجود على نفس السجّاد مثل بقية المصلين.

فهذا العمل جائز وهذه الصلاة في عقيدتنا صحيحة ، وهذا يسمى تقية مداراة ؛ لأنّ مسألة الخوف على النفس والمال غير مطروحة ، بل المطروح هو المداراة مع بقية الفرق الإسلاميّة.

وننهي بحث التقية بحديث أحد العظماء :

فقد التقى أحد عظماء الشيعة مع أحد شيوخ الأزهر في مصر ، وأراد أن يهين هذا العالم الشيعي فقال له : سمعنا أنّكم تستخدمون التقية!!

فأجابه العالم الشيعي قائلاً : «لعن الله من حملنا على التقيّة».

المبحث الثالث

عدالة الصحابة

ممّا لا شك فيه أنّ أصحاب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لهم امتيازات خاصّة ، فهم يسمعون الآيات والوحي الإلهي من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويرون معجزاته ، ويتعلمون من درر كلامه ، ويجعلون منه القدوة العملية والأُسوة الحسنة.

وبرزت بناءً على هذا شخصيات مميزة يفتخر بها العالم الإسلامي ويتباهى ، ولكن المسألة المهمّة هنا ، هل أنّ جميع الصحابة بدون استثناء هم أشخاص مؤمنون ، صلحاء ، صادقون ، أمناء ، وعدول ، أم أنّ هناك أشخاصاً غير صالحين بينهم.

١. رأيان متضادان

هناك رأيان متضادان حول الصحابة :

الرأي الأول : إنّ الصحابة جميعهم وبدون استثناء لهم قداسة خاصّة ، فهم أشخاص صالحون وصادقون وأتقياء وعدول ، وعلى هذا الأساس فكل رواية ينقلونها عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هي رواية صحيحة ومقبولة ، ولا يمكن الاعتراض عليها البتة ، ولا بدّ من توجيه أي مخالفة تظهر منه ، وهذا هو رأي واعتقاد أكثر فرق أهل السنّة.

الرأي الثاني : وهو وإن كان هناك أشخاص طاهرون ومضحون وأتقياء بين الصحابة ، إلّا أنّ هناك أيضاً أشخاصاً منافقين وغير صالحين ، والقرآن الكريم ونبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أبرزا امتعاضهما من هؤلاء.

وبعبارة أخرى : إنّ المعايير التي نستخدمها لتشخيص الأفراد الصالحين من غيرهم ، هي نفسها يجب أن تكون ملاكاً لتحديد صلاحية هؤلاء ، وبما أنّهم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فالأصل فيهم الصلاح ، ولكن هناك حقائق لا يمكن تجاهلها ، ولا يمكن التغاضي عن الأعمال المنافية للعدالة والصدق والاستقامة الصادرة عنهم ؛ لأنّ هذه الأعمال تؤثر بشكل عميق على مصداقية الإسلام والمسلمين ، وتساعد على نفوذ المنافقين في الوسط الإسلامي.

ويرجّح الشيعة ومجموعة من مفكري أهل السنّة هذه العقيدة.

٢. تنزيه الإفراطيين

هناك مجموعة موالية لفكرة تنزيه الصحابة بالغت كثيراً في الدفاع عنهم ، فكل من تفوّه بنقدهم رموه بالفسق تارة ، وبالإلحاد والزندقة تارة أخرى أو أباحوا دمه.

ومن جملة ما نجده في كتاب «الإصابة» عن أبي زرعة قال : «إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فاعلم أنّه زنديق ؛ وذلك أنّ الرسول حق ، والقرآن حق ، وما جاءَ به حق ، وإنّما أدّى ذلك كلّه إلينا الصحابة ، وهؤلاء الزنادقة يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب

والسنّة فالجرحُ بهم أولى» (١).

ومنهم : عبد الله الموصلي في كتابه «حتى لا ننخدع» حيث يقول : «إنّهم [أي الصحابة] قوم اختارهم الله تعالى لصحبة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله وإقامة دينه وشرعه ، وجعلهم وزراء نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وورثتهِ من بعده ، وحبهم ديناً وإيماناً وبغضهم كفراً ونفاقاً ، وأوجب على الأمّة موالاتهم جميعاً وذكر محاسنهم وفضائلهم ، والسكوت عمّا شجر بينهم» (٢). في الوقت الذي نرى أنّ هذا الكلام مخالف للكتاب والسنّة.

٣. أسئلة بلا إجابة

وهنا لا يقبل أي عاقل منصف أن يغمض عينيه أمام كلام يفتقد الدليل ، ويطرح هذه الأسئلة على نفسه :

ويخبرنا الله سبحانه وتعالى في قرآنه المجيد حول نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (٣) :

فبأي معنى فسّرنا الصحابة ـ وهناك معان عديدة سنذكرها ـ لا شك في أنّ نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هنّ من أجلى مصاديقه ، ومع هذا فالقرآن يصرح بأنّه تعالى لن يتغاضى عن ذنوبهن ، بل سيضاعف لهنّ العذاب ضعفين أيضاً.

فهل نقبل بالآية أم نأخذ بكلام المنزّهين لهم بدون قيد وشرط؟

__________________

(١). الإصابة ، ج ١ ، ص ٢٢ ، ط ١ ، دار الكتب العلمية ، بيروت.

(٢). حتى لا ننخدع ، ص ٦ ، دار الإيمان.

(٣). سورة الأحزاب ، الآية ٣٠.

ويحدثنا القرآن الكريم أيضاً عن خطأ ابن نوح عليه‌السلام شيخ الأنبياء : (قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ ...) (١) وحذّر الله تعالى نوحاً من أن يشفع له.

فأيّهما أهم ، ابن النبي أم أصحاب النبي؟

ويخبرنا القرآن الكريم عن زوجتَي النبي نوح ولوط عليهما‌السلام : (فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ) (٢) ، فهاتان المرأتان خانتا زوجيهما (نوحاً ولوطاً) وتعاونتا مع الأعداء. ولم يستطع هذان النبيّان عليهما‌السلام أن يشفعا لهما.

ألم تصرح هذه الآية : بأن ملاك صلاح الأفراد وعدمه هو الإيمان والعمل ، وهذا الملاك سار في ابن النبي أو زوجته في حال فساد العمل.

فهل يصح في هذه الحالة أن نغض أبصارنا ونقول : «إنّ محبّته دين وإيمان ، ومخالفته كفر ونفاق ؛ لأنّه من الصحابة» ، حتى وإن التحق فيما بعد بصفوف المنافقين ، وآذى قلب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخان المسلمين؟

أفهل يقبل عاقل أو مفكر هذا الكلام؟

فإذا قال أحدهم : إنّ طلحة والزبير كانا في البداية صالحين ، ولكن عند ما جاءت حكومة تخالف هواهما ورافقا زوجة النبي (عائشة) وبعد أن بايعا الإمام علياً عليه‌السلام عند ما بايعه المسلمون قاطبة ، عندها سقطا فأشعلا نار حرب الجمل التي كانت ضحاياها سبعة عشر ألفاً من المسلمين ، لقد انحرفا عن الطريق المستقيم ، وكل هذه الدماء العظيمة التي أريقت سيتحملون وزرها

__________________

(١). سورة هود ، الآية ٤٦.

(٢). سورة التحريم ، الآية ١٠.

ويسألون عنها يوم القيامة.

أليس هذا الكلام بعيداً عن الصواب؟

أم هل قول شخص : إنّ معاوية إنسان ظالم بسبب تخلفه عن مبايعة الإمام عليه‌السلام وعدم اعترافه بالحق الذي أقرّه عامة المسلمين وخاصتهم ، وإشعاله نار الحرب في صفين التي راح ضحيتها أكثر من مائة ألف إنسان أريقت دماؤهم ، قول غير صائب.

فهل يمكن أن نغض البصر عن هذه الحقائق المرة في التاريخ ، ولا يوجد أي عاقل يقبل بتلك التوجيهات عند ما يمر بهذه الحوادث المؤسفة جدّاً؟

فهل حبّ هؤلاء الأشخاص ـ كما يقول عبد الله الموصلي ـ دين وإيمان وبغضهم كفر ونفاق؟

فهل وظيفتنا السكوت أمام هذه المخالفات والتي تسببت في قتل الآلاف من البشر؟ أي عقل يحكم بذلك؟ القرآن يتحدث عن وجود جماعة من المنافقين حول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فهل نغفل عن هذه الآيات؟

يقول : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ...) (١).

فهل نتوقع من عقلاء العالم أن يقبلوا هذا المنطق؟

٤. من هم الصحابة؟

الأمر المهم الآخر هنا هو معنى الصحابة.

من هم الصحابة الذين أحيطوا بهالة من القداسة؟

__________________

(١). سورة التوبة ، الآية ١٠١.

لعلماء السنّة تعابير وتعاريف مختلفة تماماً حول معنى الصحابة :

١. وسّع بعضهم معنى الصحابة إلى حدّ يشمل كل من رأى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد ذكر هذا المعنى «البخاري» حيث يقول : «من صحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو رآه من المسلمين فهو من أصحابه» (١).

ويرى أحمد بن حنبل ـ وهو من علماء السنّة المعروفين ـ معنى الصحابة واسعاً أيضاً فيقول : «أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كل من صحبه شهراً أو يوماً أو ساعةً أو رآه» (٢).

٢. وبعضهم اختار معنى أضيق من سابقه ، مثل : القاضي أبو بكر محمّد بن الطيّب حيث يقول : «مع أنّ المعنى اللغوي للصحابي عام ، إلّا أن عرف الأمّة بأنّ هذا المصطلح لا يطلق إلّا على من صاحب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فترة زمنية يعتدّ بها ، لا أن يكون قد خدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدّة ساعة ، أو رافقه لعدّة خطوات ، أو سمع عنه حديثاً».

٣. وبعضهم ذهب إلى دائرة أضيق من سابقه ، مثل : سعيد بن المسيب حيث قال : «صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هم فقط الأشخاص الذين رافقوه لمدّة لا تقل عن سنة أو سنتين ، وشارك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة أو غزوتين» (٣).

هذه التعاريف وتعاريف أخرى نتجنب ذكرها تحاشياً لإطالة الكلام في نقلها ـ لا تبيّن بشكل دقيق وواضح الأشخاص الذين تشملهم هذه القداسة ، ولكن أغلبهم اختار ذاك المعنى الواسع ، ولا يؤثر اختلاف المعنى هذا في

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ٤ ، ص ١٨٨ ، دار الفكر ـ بيروت.

(٢). أصول السنّة ، أحمد بن حنبل ، ج ١ ، ص ٤٠ ؛ أسد الغابة ، ج ١ ، ص ٧.

(٣). تفسير القرطبي ، ج ٨ ، ص ٢٣٧.

بحوثنا ، إضافة إلى وجود نقوض كثيرة سنأتي على ذكرها فيما بعد. وهم الذين رافقوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مدة طويلة.

٥. الدوافع الأساسية لعقيدة التنزيه

هناك شبه بين الاعتقاد بالقداسة المميزة للصحابة والعصمة التي لم ترد لا في كتاب الله سبحانه وتعالى ولا في سنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بل ما هو موجود في الكتاب والسنّة والتاريخ خلافه ، حتى أنّه قيل : إنّ هذا الاعتقاد لم يكن موجوداً في القرن الأول ، بل ظهر في القرون اللاحقة ، فلا بدّ من البحث عن سبب ذلك وما هو دليله.

هناك عدّة أدلة تبين سبب هذا الاعتقاد :

١. إنّ أفضل الأدلة على عقيدة تنزيه الصحابة ـ كما جاء في البحوث السابقة ـ هو توهّم بعضهم أنّه إذا فقد هؤلاء الصحابة كل قداستهم انقطعت العلاقة بينهم وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لأنّ كتاب الله وسنّة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصلتنا عن طريقهم.

ولكن الجواب عن هذا الكلام واضح ؛ لأنّه لا يوجد شخص يعتقد بأنّ جميع الصحابة ـ لا سمح الله ـ منحرفون وكذّابون ؛ لأنّه يوجد بين هؤلاء أفراد كثيرون مورد اعتماد وثقة ، ونفس هؤلاء يمكن أن يكونوا حلقة وصل مع النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما نقول ذلك فيما يتعلق بأصحاب أهل البيت عليهم‌السلام.

والملفت للنظر أنّه وبعد مضي عدّة قرون ظلت المشكلة كما هي ، إضافة إلى أننا اليوم نتصل بعصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريق عدّة وسائط ، ولكن لا يوجد أحد يقول : إنّ جميع هذه الوسائط ثقة وصادقة القول ، وأنّهم مقدسون ،

وإذا لم نقل هكذا فديننا يضمحل ، بل إنّ الجميع يقول : لا بدّ أن تؤخذ الروايات من الأشخاص العدول والثقات ، ولأجل هذا ألّفت كتب الرجال لمعرفة الثقات من غيرهم.

والآن ما هو المانع من إجراء هذه الضوابط مع الصحابة ، كما نجريها مع الآخرين؟

٢. يرى بعضهم أنّ «الجرح» ببعض الصحابة يضعف من مقام نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله الشامخ ، وعليه فلا يجوز التعرض إليهم.

ويجب أن نسأل من يتمسك بهذا الدليل : ألم ينتقد القرآن هؤلاء المنافقين المحيطين بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بشدّة ويفضحهم؟ فهل وجود المنافقين بجوار الصحابة المخلصين ، الصادقين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقلل من مقامه العظيم السامي؟!

والخلاصة : إنّ الصالح والفاسد موجود دائماً وعلى مرّ الزمان ، وحتى في عصر الأنبياء العظام عليهم‌السلام ، ومع ذلك فالفاسد لم يسيء إلى مقامهم السامي.

٣. إنّ التعرض للصحابة بالجرح والنقد لأعمالهم سيؤدي إلى الحط من مكانة الخلفاء الأوائل ، فلأجل حفظ مكانتهم لا بدّ من التأكيد على قداسة الصحابة وصونهم ، حتى لا يتمكن أحد من أن يضع الأفعال التي وقعت في بيت مال المسلمين وغيرها في زمن عثمان تحت طائلة الاستفسار ، وبالتالي يتعرض الخليفة للنقد والتساؤل على أفعاله. ومن خلال هذه الوسيلة يتمكنون حتى من توجيه جميع تصرفات معاوية ومخالفاته لزعيم المسلمين الإمام علي عليه‌السلام ، وإشعاله لنار الحروب الدامية ، وقتل المسلمين ، ليبقوه بعيداً عن دائرة نقد النقاد.

والواضح من هذا الكلام : أنّ السياسيين في القرون الأولى هم الذين جذّروا هذه القداسة ، كما حصل في تفسيرهم لآية (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (١) بالحكام في كل زمان ، لتشمل بالمفهوم الواسع للكلمة كل الحكّام الظلمة من بني أمية وبني العباس ، وكان هذا نتيجة للتخطيط السياسي لهؤلاء الحكّام. وأنا لا أتصور أنّ نتيجة هذا الكلام تتلاءم مع طبع المعتقدين بقداسة جميع الصحابة.

٤. البعض يعتقد بقداسة الصحابة بسبب ورود الأوامر في بعض الآيات القرآنيّة والأحاديث النبوية.

والظاهر أنّ هذا أفضل توجيه ، ولكن عند ما نناقش هذا الدليل يتضح أنّه لا وجود للإطلاق في تلك الآيات أو الروايات على ما يدّعونه ، وأهم آية يتمسكون بها هي : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

فبعض مفسّري أهل السنّة ذكروا في ذيل الآية رواية عن حميد بن زياد ، أنّه قال : «قلت يوماً لمحمد بن كعب القرظي ، ألا تخبرني عن أصحاب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله فيما كان بينهم ، وأردت الفتن ، فقال لي : إنّ الله تعالى قد غفر لجميعهم ، وأوجب لهم الجنّة في كتابه ، محسنهم ومسيئهم ، قلت له : وفي أي موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال : سبحان الله! ألا تقرأ قوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ)» (٣).

__________________

(١). سورة النساء ، الآية ٥٩.

(٢). سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

(٣). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٦ ، ص ١٧١.

والملفت للنظر ، أنّ الآية تقول : إنّ نجاة التابعين مشروطة باقتدائهم بالصحابة في الأعمال الحسنة لا السيئة ، ومفهومها أنّ الجنّة مضمونة للصحابة ، فهل يفهم من هذا الكلام أنّهم أحرار في ارتكابهم للمعصية؟

فهل يمكن للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي جاء لهداية الناس وإصلاحهم أن يستثني أصحابه فيما يرتكبون من معاص!! في الوقت الذي يخاطب فيه القرآن نساء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ اللاتي يعتبرن من أكثر الصحابة قرابة له : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) (١).

والأمر المهم في الموضوع : إنّ أي إبهام في هذه الآية ترفعه الآية : التاسعة والعشرون من سورة الفتح التي تتعرض لوصف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحقيقيين حيث تقول : (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ....)

فهل الأشخاص الذين أشعلوا نار الفتنة والحرب في صفين والجمل ضد الإمام الفعلي في ذلك الوقت ، وقتلهم لعشرات الآلاف من المسلمين مصداق للصفات السبع المذكورة في هذه الآية؟

وهل كانوا رحماء فيما بينهم؟ وهل كانت شدّتهم على الكفّار أم على المسلمين؟

وفي ذيل الآية يذكر الله سبحانه وتعالى بجملة المقصد والمقصود بشكل

__________________

(١). سورة الأحزاب ، الآية ٣٠.

واضح (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (١). فالوعد بالمغفرة والأجر العظيم لهؤلاء الذين يتصفون بالإيمان والعمل الصالح لا غيرهم.

فهل قتلة المسلمين في حرب الجمل والمشعلون غيرها ، والعابثون ببيت المال ، كما حدث في عهد عثمان هم من الصالحين؟!

والملفت للنظر أنّ الله سبحانه وتعالى قد عاتب بعض أنبيائه العظام عليهم‌السلام وآخذهم بسبب تركهم للأولى ، وقد أخرج النبي آدم عليه‌السلام من الجنّة بسبب تركه للأولى.

النبي يونس عليه‌السلام بقي مدّة في بطن الحوت بسبب تركه للأولى ، وسجن في ظلمات ثلاث.

النبي نوح عليه‌السلام عوتب بسبب شفاعته لابنه (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ) (٢) ، أفهل يعقل أن يكون أصحاب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله مستثنين من هذا القانون!!

٦. هل جميع الصحابة عدول بلا استثناء؟

كما ذكرنا أنّ غالبية أهل السنّة يقولون : إنّ جميع الصحابة الذين عاشوا في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الذين أدركوه وكانوا معه فترة من الزمن عدول بلا استثناء ، والقرآن يشهد على ذلك.

وللأسف تمسك هؤلاء الأخوة ببعض الآيات القرآنيّة التي تصبّ في مصلحتهم وتغافلوا عن بقية الآيات الأخرى ، الآيات التي تستثني هذا الأمر ،

__________________

(١). سورة الفتح ، الآية ٢٩.

(٢). سورة هود ، الآية ٤٦.

ونحن نعلم بأنّ جميع العمومات لها استثناءات عادة.

ونحن نقول : ما هي هذه العدالة التي يبيّن القرآن المجيد خلافها في عدّة مواضع!! ومن هذه المواضع ما جاء في سورة آل عمران : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) (١) ، حيث تشير إلى الأشخاص الذين فرّوا في معركة أحد وتركوا النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لوحده في مقابل الأعداء.

ونستفيد من خلال هذه الآية وبشكل واضح أنّه كانت هناك مجموعة قد فرّت ، وتذكر كتب التواريخ أنّ عددهم كان كبيراً ، وأنّ الشيطان قد أغواهم وغلبهم بسبب الذنوب التي ارتكبوها ، إذن الذنوب السابقة أدّت إلى الفرار من الزحف ، وهو من الذنوب الكبيرة ، مع أنّ ذيل الآية يقول : إنّ الله سبحانه وتعالى قد غفر لهم ، ولكن مغفرة الله لهم بسبب النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله لا يعني كونهم عدولاً ، وأنّهم لم يرتكبوا ذنباً ، بل القرآن يصرح بأنّهم ارتكبوا ذنوباً عدّة.

وما هي هذه العدالة التي يعرف الله سبحانه وتعالى بعضهم بعنوان «فاسق» حيث يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٢).

والمعروف بين المفسرين أنّ الآية تتعلق بالوليد بن عُقبة ، عند ما أرسله النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ومجموعة لقبيلة بني المصطلق ؛ لأخذ الزكاة ، فعاد وقال : إنّهم امتنعوا عن دفع الزكاة وارتدوا عن الإسلام ، قسم من المسلمين اقتنعوا

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ١٥٥.

(٢). سورة الحجرات ، الآية ٦.

بكلام الوليد ، وتهيئوا للهجوم عليهم وقطع رءوسهم ، ولكن نزلت الآية الشريفة لتحذّر المسلمين بوجوب التحقيق في الخبر الذي يأتي به الفاسق ، حتى لا تصيبوا قوماً بسوء وتندموا فيما بعد.

والنتيجة : أنّه وبعد التحقيق تبيّن أنّ قبيلة بني المصطلق ما زالت على إيمانها ، وأنّها كانت تستعد لاستقبال الوليد ، لا للهجوم على الوليد والارتداد عن الإسلام ، ولكن الوليد ـ وبسبب خصومته معهم ـ اتخذ هذا الأمر ذريعة للوشاية بهم عند رسول الله ونقل له خبراً غير صحيح.

فمع أنّ الوليد كان من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بمعنى أنّه من الأشخاص الذين أدركوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكانوا في خدمته ، إلّا أنّ القرآن وصفه بالفاسق ، فهل هذا يتفق مع عدالة جميع الصحابة؟

ما هي هذه العدالة عند ما يقوم بعضهم بالاعتراض على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حين أراد توزيع الزكاة؟ وقد نقل القرآن المجيد هذا الاعتراض في سورة التوبة : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ) (١).

ما هي هذه العدالة حيث يتحدث القرآن المجيد عن حرب الأحزاب في سورة الأحزاب (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (٢) فبعضهم كان يتصور أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سيهزم في هذه المعركة ، وأنّهم سيقتلون ، وسيقضى على الإسلام ، أو تلك الرواية التي ينقلها الشيعة والسنّة في القصّة المعروفة حين كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١). سورة التوبة ، الآية ٥٨.

(٢). سورة الأحزاب ، الآية ١٢.

يحفر الخندق فوجد صخرة وقام بتحطيمها ، عندها وعدهم بفتح الشام وإيران واليمن فقابلوا هذا الخبر بالاستهزاء.

ألم يكن هؤلاء من الصحابة؟!

والأعجب من ذلك ما جاء في الآية التالية حيث تقول : (وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ...) أي : يطالبون أهل المدينة بالرجوع وعدم القتال مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ما قام به بعضهم من طلب الاستئذان من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للهروب من ميدان المعركة : (... (وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) (١). فكيف لنا أن نغض النظر عن كل هذه الأعمال ولا نقبل بانتقادهم.

والأسوأ من هذا كله قيام بعض الصحابة باتهام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخيانة ، فهذا هو القرآن الكريم يحدثنا في سورة آل عمران عن ذلك : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (٢) ، حيث ذكروا لشأن نزول الآية سببين :

الأول : بعضهم قال : إنّها إشارة إلى أصحاب «عبد الله بن جبير» الذين كانوا متمركزين في جبل «العينين» في معركة أحد ، فحين أوشك المسلمون على الانتصار على الأعداء ترك الرماة مع عبد الله مواقعهم لجمع الغنائم ، مع أنّ الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرهم بعدم ترك مواقعهم مهما كان ، والأسوأ من هذا العمل هو ما قالوه من أنّهم يخافون أن لا يراعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حالهم في تقسيمه للغنائم ، وهناك عبارات ذكروها يخجل القلم من ذكرها.

__________________

(١). سورة الأحزاب ، الآية ١٣.

(٢). سورة آل عمران ، الآية ١٦١.

والثاني : ذكره «ابن كثير» و «الطبري» في ذيل تفسيرهما للآية : إنّه كانت هناك قطيفة (١) حمراء ثمينة قد فقدت في غزوة بدر ، فقام بعض الجهّال باتهام النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بالخيانة ، ولم تمض فترة حتى عثر عليها ، وتبيّن أنّ أحد أفراد الجيش قد أخذها.

فهل نسبة هذه الأمور جميعها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تتوافق مع العدالة؟

فإذا جعلنا وجداننا قاضياً فهل يقبل أن يكون هؤلاء الأشخاص عدولاً وطاهرين ، بحيث لا يحق لأحد أن ينتقد أعمالهم؟

ونحن لا ننكر أنّ أكثر أصحاب وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا أحراراً وطاهرين ، ولكن أن نعطي حكماً كلياً بأنّ جميعهم قد طهّروا بماء التقوى والعدالة ، وأنّه ليس لأحد الحق في التعرض لأعمالهم بأي نقد ، فهذا في الحقيقة مدعاة للحيرة بشكل فاضح.

ما هي هذه العدالة؟ التي تجيز لبعض الأفراد الذين يعدونه من صحابة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الظاهر كمعاوية بأنّه يجيز لنفسه سبّ ولعن الصحابة العظام كعلي عليه‌السلام ، ويأمر جميع الناس بالقيام بهذا العمل في البلدان وبلا استثناء؟ ولا بدّ من الانتباه لهذين الحديثين :

١. نقرأ في صحيح مسلم وهو من أكثر الكتب اعتباراً عند أهل السنّة : «عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب؟ فقال : أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبّه ، لئن تكون لي واحدة منهن أحب

__________________

(١). قطيفة : قطعة قماش.

إلي من حمر النعم» (١).

٢. ونقرأ في كتاب «العقد الفريد» الذي كتبه أحد علماء السنّة (ابن عبد ربّه الأندلسي) : «ولمّا مات الحسن بن علي (عليهما‌السلام) حج معاوية فدخل المدينة وأراد أن يلعن علي بن أبي طالب عليه‌السلام على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فقيل له : إنّ هاهنا سعد بن أبي وقاص ولا نراه يرضى بهذا فابعث إليه وخذ رأيه. فأرسل إليه [معاوية] وذكر له ذلك فقال : إن فعلت لأخرجن من المسجد ثمّ لا أعود إليه! فأمسك معاوية عن ذلك حتى مات سعد فلما مات سعد لعنه على المنبر وكتب إلى عماله أن يلعنوه على المنابر ففعلوا ، فكتبت أم سلمة زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى معاوية : «إنّكم تلعنون الله ورسوله على منابركم ؛ وذلك أنّكم تلعنون علي بن أبي طالب ومن أحبّه ، وأنا أشهد أنّ الله أحبّه ورسوله» فلم يلتفت [معاوية] إلى كلامها» (٢).

فهل هذه الأعمال القبيحة تتلاءم مع العدالة؟ هل يجيز أي إنسان عاقل أو عادل لنفسه أن يقوم بسبّ أو لعن ـ وخصوصاً بتلك الصورة البشعة والواسعة ـ هذه الشخصية العظيمة ، حيث يقول الشاعر العربي :

أعلى المنابر تعلنون بسبّه

وبسيفه نصبت لكم أعوادها

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ١٤ ، ص ١٨٧١ ، كتاب فضائل الصحابة. وكذلك كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ج ٧ ، ص ٦٠. والفضائل الثلاثة التي ذكرت للإمام علي عليه‌السلام في الحديث هي : عبارة عن حديث المنزلة ، وحديث (لأعطين الراية غداً ...) ، وآية المباهلة.

(٢). العقد الفريد ، ج ٥ ، ص ١١٤ و ١١٥ دار الكتب العلمية. وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي بن أبي طالب ، ج ٢ ، ص ٢٢٨. تأليف محمّد بن أحمد الدمشقي الشافعي ، (توفي في القرن التاسع الهجري).

٧. أصناف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

يمكن تصنيف أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بشهادة آيات القرآن الكريم إلى خمسة أصناف رئيسية :

١. الطاهرون والصالحون : هؤلاء مجموعة مؤمنة ومخلصة ، دخل الإيمان إلى أعماق قلوبهم ، لم يتوانوا لحظة في التضحية والإيثار في طريق الله وإعلاء كلمته ، كما أشارت إليهم الآية القرآنيّة في سورة التوبة : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (١).

٢. المذنبون من المؤمنين : وهؤلاء على الرغم من أنّهم يتصفون بالإيمان والعمل الصالح إلّا أنّهم تزل أقدامهم ويخلطون العمل الصالح بالسيّئ ، ويعترفون بذنوبهم ، ويرجون أن يشملهم العفو والمغفرة ، وقد أشارت الآية الثانية بعد المائة من سورة التوبة إلى ذلك تباعاً بعد أن ذكرت المجموعة الأُولى : (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ ...) (٢).

٣. العصاة : وقد عبّر القرآن عن هؤلاء بالفسّاق ، وقد أشار لذلك في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (٣) وقد ذكرت التفاسير الشيعية والسنية مصاديق لها.

__________________

(١). سورة التوبة ، الآية ١٠٠.

(٢). سورة الحجرات ، الآية ٦.

(٣). سورة الحجرات ، الآية ١٤.

٤. المتظاهرون بالإسلام : هؤلاء كانوا يدّعون الإسلام ولكن لم يدخل الإيمان في قلوبهم وقد أشار القرآن لذلك في قوله تعالى : (قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ.)

٥. المنافقون : وهم أشخاص عاشوا بين المسلمين بروح النفاق ، فبعضهم كان معروفاً وبعضهم غير معروف ، ولم يكن لهم دور في مواجهة الإسلام وتقدم المسلمين ، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى : (وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ ...) (١).

ولا شك في أن هؤلاء جميعهم قد رأوا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وصاحبوه وعاشروه ، وكثير منهم قد شارك في الغزوات ، وأي تعريف للصحابة فهو منطبق على جميع هذه المجموعات الخمسة ، فهل يمكن أن يكون جميع هؤلاء طاهرين ومن أهل الجنّة؟

أليس من المناسب هنا ومع هذا التصريح في الآيات القرآنيّة أن نختار خط الاعتدال ، ونقسّم الصحابة إلى مجموعات خمس طبق التقسيم القرآني ، فنقدم كامل الاحترام للطاهرين وأصحاب الأعمال الحسنة ، ونضع كل مجموعة في مكانها اللائق ، ونحترز من الغلو والتعصب والإفراط؟ وأن نكون منصفين في قضائنا؟

٨. شهادة التاريخ

يواجه المعتقدون وأنصار فكرة قداسة جميع الصحابة مشاكل كثيرة بسبب هذا الاعتقاد ، ومن جملتها المشاكل التاريخية العظيمة ، لأننا لا

__________________

(١). سورة التوبة ، الآية ١٠١.

نستطيع أن نعتبر جميع الصحابة الذين حدثت بينهم معارك شديدة ـ كما نراه في الكتب التاريخية المعروفة والمعتمدة عندهم وحتى أحاديث كتب الصحاح ـ عدولاً وصالحين ومقدّسين ؛ لأنّه يكون من قبيل الجمع بين الأضداد ، واستحالته من البديهيات العقلية.

وإذا تجاوزنا حربي «الجمل» و «صفين» الذين خطط لهما كل من طلحة والزبير ومعاوية في مقابل إمام المسلمين علي عليه‌السلام ، ولم نغض النظر عن الحقائق التي لا محيص من الاعتراف بخطإ وجناية مشعلي هذه الحروب ، فهناك شواهد كثيرة لدينا في التاريخ نقتصر على ذكر ثلاثة منها :

١. يذكر البخاري المحدث المعروف في صحيحه في كتاب التفسير : «قام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من يومه فاستعذر من عبد الله بن أبي وهو على المنبر فقال : يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل [يقصد عبد الله بن سلّول أحد قادة المنافقين] قد بلغني عنه أذاه في أهلي والله ما علمت عن أهلي إلّا خيراً ... فقام سعد بن معاذ [صحابي معروف] أخو بني عبد الأشهل فقال : أنا يا رسول الله أعذرك ، فإن كان من الأوس ضربت عنقه وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ... سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج ، قالت : [أي عائشة] وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد فقال لسعد بن عبادة : كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنّك منافق تجادل عن المنافقين ، قالت : فثار الحيان الأوس والخزرج حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائم على المنبر ، قالت : فلم يزل رسول الله صلى الله

عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا» (١) ، فهل كان كل هؤلاء الصحابة صالحين؟

٢. يقول العالم المعروف البلاذري في «الأنساب» : «قام عثمان بعزل سعد بن أبي وقاص والي الكوفة ونصب مكانه الوليد بن عقبة ، وطلب الوليد من عبد الله بن مسعود مفاتيح بيت المال ، فألقى ابن مسعود المفاتيح إليه وقال له : من غيّرَ غيّرَ الله ما به ، ومَن بدّلَ أسخط الله عليه ، وما أرى صاحبكم إلّا وقد غيّر وبدّل ، أيُعزَلُ مثل سعد بن أبي وقاص ويولى الوليد ، .. فكتب الوليد إلى عثمان بذلك وقال : إنّه يعيبك ويطعن عليك ، فكتب إليه عثمان يأمره بإشخاصه ... وقدِم ابن مسعود المدينة وعثمان يخطب على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلمّا رآه قال : ألّا أنّه قَدِمت عليكم دُوَيْبة سوء ، من تمشِ على طعامه يقي ويسْلَحْ ، فقال ابن مسعود : لستُ كذلك ، ولكني صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يوم بدر ويوم بيعة الرضوان ، ونادت عائشة : أي عثمان أتقول هذا لصاحب رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ ، ثمّ أمر عثمان به فأخرج من المسجد إخراجاً عنيفاً ... ويقال : احتمله يحموم غلام عثمان ورجلاه تختلفان على عنقه حتى ضرب به الأرض فدُقَّ ضلعه» (٢).

٣. ينقل البلاذري في نفس كتاب «أنساب الأشراف» : «كان في بيت المال بالمدينة سَفَط فيه حلي وجوهر فأخذ منه عثمان ما حلّى به بعض أهله ، فأظهر الناس الطعن عليه في ذلك ، وكلَّموه فيه بكلام شديد حتى أغضبوه ، فخطب فقال : لنأخذنّ حاجتنا من هذا الفيء ، وإن رَغِمَت انوف أقوام.

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ٥ ، ص ٥٧ و ٥٨.

(٢). انظر أنساب الأشراف ، ج ٦ ، ص ١٤٧ ؛ وتاريخ ابن كثير ، ج ٧ ، ص ١٣٦ و ١٨٣ ، حوادث سنة ٣٢ ، (مع اختصار).

فقال له علي عليه‌السلام : إذاً تُمنع من ذلك ويحال بينك وبينه.

وقال عمّار بن ياسر : اشهد الله أنّ أنفي أول راغم من ذلك.

فقال عثمان : أعليّ يا ابن المتكإ تجترئ؟ خُذوه! فأُخذ ودخل عثمان فدعا به فضربه حتى غشي عليه ، ثمّ اخرج فحُمل حتى اتي به منزل أم سَلَمة زوج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلم يصلّ الظهر والعصر والمغرب ، فلما أفاق توضأ وصلّى وقال : الحمد لله ليس هذا أول يوم أوذينا فيه في الله» (١) ، يشير بذلك إلى ما تعرض له من المشركين في بداية الدعوة.

ونحن لا نرغب بنقل مثل هذه الحوادث المؤلمة في التاريخ الإسلامي ، ويمكن أن يكون ذكر هذا القدر من الأحداث ليس مناسباً لو لا إصرار الأخوة على تقديس جميع الصحابة وجميع أعمالهم.

والآن هل يمكن توجيه تلك الشتائم والأذى والألم الجسدي الذي تعرض له ثلاثة أشخاص من خيرة الصحابة وأطهرهم وهم : (سعد بن معاذ وعبد الله بن مسعود وعمّار بن ياسر)؟ حيث ضُرب أحدهم حتى تهشّمت أضلاعه ، وضُرب الآخر حتى غاب عنه الوعي وفاتتهُ صلاته.

أفهل هذه الشواهد التاريخية ـ وهي ليست قليلة ـ تسمح لنا أن نغلق أعيننا أمام هذه الحقائق؟ ونقول : إنّ جميع الصحابة صالحون وأعمالهم كلها صحيحة ، ونؤسس جيشاً باسم «جيش الصحابة» وندافع عن جميع أعمالهم بدون قيد أو شرط؟

أفهل هناك عاقل يقبل بهذه الأفكار؟

__________________

(١). أنساب الأشراف ، ج ٦ ، ص ١٦١ و ١٦٢.

وهنا نكرر هذا القول لمرات عديدة وهو : إنّ هناك شخصيات عديدة بين صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله تتصف بالإيمان والصلاح والزهد ، ولكن هناك أيضاً شخصيات لا بدّ أن تخضع أعمالهم للنقد والتحقيق ، وتقوّم بميزان العقل ، ويكون الحكم على ضوء ذلك.

٩. إقامة الحدّ على بعض الصحابة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده!!

نلاحظ في كتب الصحاح وكتب أخرى معروفة عند إخواننا أهل السنّة موارد ارتكب فيها بعض الصحابة في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ذنوباً تستوجب الحد ، وقد أُقيم الحدّ عليهم.

أفهل يقولون مع هذا كلّه إنّ جميع هؤلاء عدول؟! ولا يصدر منهم أي خطأ. ما هي هذه العدالة التي تبقى على حالها ثابتة في حق من يرتكب الذنوب الكبيرة ويقام عليه الحدّ؟

وسنشير لبعض الموارد على سبيل المثال :

أ) عن عقبة بن الحرث قال : «جيء بالنعيمان أو بابن النعيمان شارباً فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من كان بالبيت أن يضربوه. قال : فضربوه فكنت أنا فيمن ضربه بالنعال» (١).

ب) عن جابر أنّ رجلاً من أسلم جاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاعترف بالزنا ، فأعرض عنه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى شهد على نفسه أربع مرات ، فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «أبك جنون؟ قال : لا ، قال : أحصنت؟ قال : نعم ، فأمر به فرجم بالمسجد» (٢).

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ٨ ، ص ١٣ ، ح ٦٧٧٥ كتاب الحدّ.

(٢). نفس المصدر ، ص ٢٢ ، ح ٦٨٢٠.

ج) أمر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في قصّة الإفك بإجراء حدّ القذف في عدّة أشخاص (١).

د) وبعد عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقدم «عبد الرحمن بن عمر» و «عقبة بن حارث البدري» على شرب الخمر ، فأقام عمر بن العاص والي مصر الحدّ الشرعي عليهما ، بعدها أحضر ابنه وأقام عليه الحدّ مرة أخرى (٢).

ه ـ) قصة الوليد بن عقبة المعروفة «الذي صلّى صلاة الصبح وهو سكران أربع ركعات ، حيث تم إحضاره إلى المدينة وأقيم عليه حدّ شارب الخمر» (٣).

وهناك موارد أخرى تجنبنا ذكرها مراعاة للمصلحة ، فهل مع وجود هذه الموارد الواقعية نغلق أسماعنا وأعيننا ونقول : إنّ جميعهم عدول؟

١٠. توجيهات غير وجيهة

١. اضطر المؤيدون لنظرية التنزيه والتقديس المطلق أمام هذا التضارب الكبير بإقناع أنفسهم بأنّ جميع الصحابة مجتهدون ، وكل واحد منهم عمل وفق اجتهاده.

وهذا نوع من أنواع التحايل على الوجدان يقيناً ، وقد توسل به هؤلاء الإخوة للخروج من هذا التضارب الفاضح.

فهل يعد ضرب صحابي مؤمن لانتقاده الرقيق ، أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لقضية بسيطة حول العبث ببيت مال المسلمين إلى الحد الذي يفقد فيه وعيه وصلاته ، اجتهاداً؟

__________________

(١). انظر المعجم الكبير ، ج ٢٣ ، ص ١٢٨ ، وكتب أخرى.

(٢). انظر السنن الكبرى ، ج ٨ ، ص ٣١٢. كتب أخرى كثيرة.

(٣). انظر صحيح مسلم ، ج ٥ ، ص ١٢٦ ، ح ١٧٠٧.

وهل تهشيم أضلاع صحابي آخر معروف ؛ لاعتراضه على تعيين «الوليد» شارب الخمر والياً على الكوفة ، يعدّ نوعاً من الاجتهاد؟

والأهم من ذلك هل يعتبر إشعال نار الحروب وقتل عشرات الألوف من المسلمين ؛ لأجل الجاه والسيطرة على الحكومة الإسلاميّة ، والوقوف في وجه إمام المسلمين المنتخب من قبل الناس جميعاً إضافة إلى مقاماته الإلهية ، اجتهاداً؟

فإذا كانت هذه الأمور وغيرها تعدّ من قبيل الاجتهاد وشعبه ، فجميع الجرائم التي حدثت في التاريخ يمكن توجيهها بذلك.

إضافة إلى ذلك ، هل الاجتهاد منحصر بهؤلاء الصحابة أم أنّ هناك عدّة مجتهدين في الأمّة الإسلاميّة؟ واليوم وباعتراف مجموعة من المفكرين السنة وكل علماء الشيعة أنّ باب الاجتهاد ما زال مفتوحاً أمام جميع العلماء الواعين.

فإذا ارتكب شخص مثل هذه الأعمال فهل أنتم على استعداد لتوجيهها؟ يقيناً ، كلا.

٢. وتارة يقولون إنّ وظيفتنا هي السكوت عن الصحابة وعن أفعالهم : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.) (١)

نعم هذا الأمر جيد ، إن لم يكن لهم تأثير على مصيرنا ، ولكننا نريد أن نجعلهم قدوة لنا ، ونأخذ روايات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن طريقهم ، ألا يجب أن نعرف الثقة من غير الثقة والعادل من الفاسق حتى نعمل بمضمون الآية الشريفة :

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ١٣٤.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) (١).

١١. مظلومية الإمام علي عليه‌السلام

كل شخص يقرأ التاريخ الإسلامي يجد أثراً لهذه المسألة ، ويرى كيف تعرض الإمام علي عليه‌السلام ـ رمز العلم والتقوى ، وأقرب الناس إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وأكبر مدافع عن الإسلام ـ مع كامل الأسف ـ إلى أمور غير لائقة من سبّ وشتم وإهانة ، إضافة إلى تعرض أصحابه وأتباعه للتهديد والأذى والعذاب الذي لا مثيل له في التاريخ ، مِن الذين يسمّون أنفسهم صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومن الأمثلة على ذلك :

أ) شاهدوا يوماً علي بن الجهم الخراساني يلعن أباه ، فقالوا له لما ذا؟ فقال : لأنّه سماني «علياً» (٢).

ب) «كتب معاوية نسخة واحدة إلى عمّاله بعد عام الجماعة أن برئت الذمّة ممن روى شيئاً من فضل أبي تراب عليه‌السلام وأهل بيته عليهم‌السلام فقامت الخطباء في كل كورة وعلى كل منبر يلعنون علياً ويبرءون منه ويقعون فيه وفي أهل بيته» (٣).

ج) «كان بنو أمية إذا سمعوا بمولود اسمه علي قتلوه ، هذا الكلام نقله سلمة بن شبيب عن أبي عبد الرحمن المقرئ» (٤).

__________________

(١). سورة الحجرات ، الآية ٦.

(٢). لسان الميزان ، ج ٤ ، ص ٢١٠.

(٣). النصائح الكافية ، ص ٧٢.

(٤). تهذيب الكمال ، ج ٢٠ ، ص ٤٢٩ ؛ وسير النبلاء ، ج ٥ ، ص ١٠٢.

د) نقل الزمخشري والسيوطي : «أنه في أيّام بني أمية كان الإمام علي عليه‌السلام يسبّ على أكثر من سبعين ألف منبر ، ومعاوية هو الذي سنّ هذه السنّة» (١).

ه) لما جاء الخليفة عمر بن عبد العزيز وترك اللعن ، وأمر بتركه صاح الناس متعجبين في المسجد فقالوا : «تركت السنّة» (٢).

وفي الوقت الذي نجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ مع هذا كله ـ وطبق الروايات الصحيحة الموجودة في كتبهم المعتبرة يقول : «من سبّ علياً فقد سبني ومن سبّني فقد سبّ الله» (٣).

١٢. قصّة تستحق السرد

لا بأس ومن باب حسن الختام أن أذكر للقرّاء الأعزاء هذه القصّة التي حدثت معي شخصياً في المسجد الحرام وأنهي البحث :

التقيت في إحدى سفراتي للعمرة بمجموعة من علماء الحجاز في المسجد الحرام بين صلاتي المغرب والعشاء ، وكانت هناك فرصة للبحث حول تقديس جميع الصحابة ، ووفقاً لاعتقادهم ـ كما هي العادة ـ فإنّه يجب ألّا ينالهم أي نقد.

وقلت لأحدهم : افرض أنّ معركة صفين قد بدأت الآن ، فإلى أي جبهة ستنضم ، إلى جبهة علي عليه‌السلام ، أم إلى جبهة معاوية؟

أجاب : إلى جبهة علي عليه‌السلام حتماً.

__________________

(١). ربيع الأبرار ، ج ٢ ، ص ١٨٦. والنصائح الكافية ، ص ٧٩ ، عن السيوطي.

(٢). النصائح الكافية ، ص ١١٦ ؛ تهنئة الصديق المحبوب ، ص ٥٩ ، لحسن السقاف.

(٣). أخرجه الحاكم وصحّحه وأقرّه الذهبي (مستدرك الصحيحين ، ج ٣ ، ص ١٢١).

قلت : ما ذا تفعل لو أمرك الإمام علي عليه‌السلام بأخذ السيف وقتل معاوية؟

تأمّل لحظات وقال : أقتل معاوية ، ولكن لا أتعرض له بأي انتقاد.

نعم ، هذه هي نتيجة التعصب غير المنطقي للمعتقدات ، والدفاع عنها بالتالي سيكون غير منطقي أيضاً ، والإنسان يبتلى بهؤلاء المتحجرين.

والحق هو أن نقول : إنّ الصحابة وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ينقسمون ، من جهة إلى عدّة أصناف ، وذلك بشهادة القرآن الكريم والتاريخ الإسلامي ، فهناك مجموعة من الصحابة وأتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا منذ البداية طاهرين وصادقين وصالحين وبقوا على ذلك إلى النهاية «عاشوا سعداء وماتوا سعداء».

ومن جهة أخرى هناك مجموعة أخرى كانوا في صفوف الصالحين والطاهرين في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّهم بعد ذلك غيّروا مسيرتهم طلباً للجاه وحبّ الدنيا ، ولم تكن عاقبتهم إلى خير.

وهناك مجموعة ثالثة كانوا منذ البداية في صف المنافقين وعبدة الدنيا ، ولأجل أهداف خاصة التحقوا بالمسلمين ، مثل أبي سفيان.

وهنا نشير للمجموعة الأولى ونقول : (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) (١).

__________________

(١). سورة الحشر ، الآية ١٠.

المبحث الرابع

احترام قبور العظماء

حول البحث :

حديثنا هنا مع الوهابيين المتشددين فقط ، علماً أنّ جميع الفرق الإسلاميّة تجيز زيارة قبور العظماء باستثناء هذه الفرقة ، وعلى كل حال يطرح الوهابيون علينا سؤالاً وهو : لما ذا تذهبون لزيارة الزعماء الدينيين؟ ويسموننا بالقبوريين.

في الوقت الذي نرى اهتمام الشعوب في جميع أنحاء العالم بمراقد أسلافهم فيقصدونها للزيارة وأخذ العبر.

والمسلمون في العالم يولون أهميّة وقيمة خاصّة لقبور عظمائهم دائماً وما زالوا ، ويذهبون لزيارتها ، ولم يخالف في ذلك إلّا الفرقة الوهابية الصغيرة التي تدعي تمثيل جميع المسلمين في العالم.

نعم هناك بعض العلماء المعروفين من الوهابية صرّحوا باستحباب زيارة قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن بشرط أن لا تكون بنيّة «شدّ الرحال» ، بمعنى : أن يأتوا لزيارة مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والعبادة فيه ، أو أداء العمرة وزيارة المدينة ، وفي الضمن يزورون قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ولكن لا بقصد شدّ الرحال.

يقول «بن باز» الفقيه الوهابي المعروف في حديثه لجريدة الجزيرة : «يستحب الصلاة ركعتين في روضة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لمن يزور مسجده الشريف ، ثمّ يسلّم على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويستحب أيضاً زيارة مقبرة البقيع ويسلّم على الشهداء المدفونين هناك» (١).

ووفقاً لنقل كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» يرى الفقهاء الأربعة لأهل السنّة استحباب زيارة قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بدون قيد أو شرط. حيث نقرأ في هذا الكتاب : «لا ريب في أنّ زيارة قبر المصطفى عليه الصلاة والسلام من أعظم القُرب وأجلها شأناً» (٢). وقد وردت أحاديث كثيرة بهذا المضمون.

هذه الفرقة الوهابية تختلف بشكل عام مع بقية مسلمي العالم في ثلاث نقاط هي :

١. بناء القبور.

٢. شدّ الرحال لزيارة القبور.

٣. زيارة النساء للقبور.

وقد تمسك هؤلاء ببعض الروايات على المطالب الثلاثة ، وهي مردودة ، إمّا لضعف سندها أو لعدم دلالتها ، وسنأتي على شرحها قريباً إن شاء الله.

ويظهر أنّ لديهم دوافع أخرى لهذه الحركة ، فهم مبتلون بالوسواس في موضوع التوحيد والشرك ، ولعلهم ظنُّوا بأنّ زيارة القبور هي عبادة لهم ، وبالتالي يكون جميع المسلمين مشركين وملحدين باستثنائهم!!!

__________________

(١). جريدة الجزيرة ، العدد ٦٨٦٢ بتاريخ ٢٢ / ١١ / ١٤١١ ه‍ ـ. ق.

(٢). الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ٣٦٥ ، دار الكتب العلمية بيروت ، ط ٢ ، ١٤٢٤ ه‍ ـ. ق.

النماذج التاريخية :

احترام قبور السابقين وبالخصوص العظماء ممن له تاريخ طويل قبل آلاف السنين ، فكان المجتمع البشري يكرم أمواته ، ويحترم قبورهم وبالخصوص العظماء منهم ؛ لأنّ فلسفة هذا العمل له آثار إيجابية كثيرة ، منها :

أولا : إنّ الفائدة من تكريم السابقين هو حفظ حرمة هؤلاء الأعزاء وتقديرهم ؛ لأنّهم عنوان للعزة والشرف الإنساني ، وسبب لترغيب الشبّان في سلوك نهجهم.

ثانياً : أخذ الدروس والعبر من تلك القبور الصامتة ، أما نداؤها فهو جلاء لصدأ الغفلة عن قلب الإنسان ، وإيقاظه من غفلة الدنيا وتخديرها. والتقليل من سيطرة الهوى والهوس ، وبتعبير أمير المؤمنين عليه‌السلام : «فكفى واعظاً بموتى عاينتموهم» (١).

ثالثاً : تسلية أهالي المتوفى ، لأنّ الناس شعرون براحة أكثر وهم بجوار قبور أعزّائهم وكأنّهم يعيشون بينهم ، وهذه الزيارة تقلل من شدّة آلامهم ، وبهذا الدليل نجدهم يقومون بإنشاء قبر رمزي للفقيد ، ويجلسون بجواره تخليداً لذكراه.

رابعاً : يعدّ تكريم قبور العظماء الماضين طريقاً لحفظ التراث الثقافي لكل قوم وأمّة ، والشعوب اليوم هي حيّة بثقافاتها القديمة ، ومسلمو العالم يملكون ثقافة غنية وتراثاً عظيماً ، ومن أهمها قبور ومراقد الشهداء والعلماء العظام وطلائع العلم والثقافة ، وبالخصوص المراقد المشرفة لأئمّة الدين العظام.

__________________

(١). نهج البلاغة ، خطبة ١٨٨.

فكان حفظ آثارهم وإحياء ذكراهم سبباً لحفظ الإسلام وسنّة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، على الرغم ممّا فعله عديمو الذوق من إزالة الآثار العظيمة لزعماء الإسلام في مكة والمدينة وبعض المناطق الأخرى ، حيث أصيب المجتمع الإسلامي بخسارة عظيمة ، وقد أنزل السلفيون الجهلة المتخلفون ـ وللأسف الشديد ـ خسائر فادحة لا يمكن تعويضها بالتراث الثقافي للإسلام بذرائع واهية.

أفهل هذا التراث التاريخي العظيم يختص بهذه المجموعة المحدودة حتى يدمر بهذا الشكل الفظيع؟ ألا يجب أن يوكل أمر حفظ هذه الآثار إلى مجموعة من العلماء الواعين من جميع البلدان؟

خامساً : إنّ لزيارة قبور أئمّة الدين العظام وطلب الشفاعة منهم عند الله المرافق للتوبة والإنابة إلى ساحة العبودية أثراً في تربية النفوس وتنمية الأخلاق والإيمان ، وقد تاب الكثير من المذنبين والعصاة بجوار تلك المراقد الملكوتية لهؤلاء ، وما زالوا ، ليصبحوا صلحاء دائماً ، ويرتقون إلى مراتب أعلى من الصلاح.

توهم الشرك في زيارة القبور :

يقوم بعض الجهّال باتهام زوار قبور أئمّة الدين ، بالشرك ، ويقيناً أنّهم لو علموا بمضمون هذه الزيارات ومحتواها لخجلوا من هذا الكلام.

لا يوجد أي شخص عاقل يعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو الأئمّة عليهم‌السلام ، بل لا تخطر بذهن أحد هذه الفكرة إطلاقاً ، وجميع المؤمنين الواعين يذهبون لزيارتهم احتراماً وطلباً للشفاعة.

وأغلب الزوار يذكرون «الله أكبر» مائة مرّة قبل البدء بقراءة متن الزيارة ، فهم على هذا يؤكدون مبدأ التوحيد مائة مرّة لإبعاد أي شائبة للشرك من نفوسهم.

نقول في الزيارة المعروفة زيارة «أمين الله» وأمام قبور الأئمة : «أشْهدُ أنكَ جاهدتَ في الله حَقَّ جِهاده ، وَعمِلتَ بِكتَابِه ، واتبعتَ سُنَنَ نَبِيِّه حتَّى دَعاكَ الله إلى جِوَارِه» (١) ، أفهل هناك توحيد أكثر من هذا؟

ونقول في خطابنا لهؤلاء العظماء في الزيارة الجامعة المعروفة : «إلى الله تَدعُونَ وَعَليهِ تَدُلُّونَ وَبِه تُؤْمِنُونَ وَلَهُ تُسَلِّمونَ وَبِأمرِهِ تَعمَلُونَ وَإلى سَبِيلِه تُرْشِدُونَ» (٢) ، وجميع الضمائر في الجمل الست المذكورة تعود إلى الخالق سبحانه وتعالى.

فالدعوة إلى الله والتوحيد موجودة في كل موضع من هذه الزيارات ، أفهل هذا شرك أم إيمان؟

ونقول في موضع آخر من الزيارة : «مُسْتَشْفِعٌ إلى الله عَزَّ وَجَلَّ بِكُمْ» ، فإذا كان في مضمون بعض العبارات إبهام ، فهذه المحكمات ترفع هذا الإبهام.

هل طلب الشفاعة يتفق مع مباني التوحيد؟

الاشتباه الآخر المهم لدى الوهابية في هذا الموضوع هو مقايسة طلب الشفاعة من الأولياء في حضرة الله سبحانه وتعالى مع طلب الشفاعة من الأصنام ـ تلك الأحجار الجامدة التي لا روح فيها ولا عقل ولا شعور ـ

__________________

(١). بحار الأنوار ، ج ٩٩ ، ص ١٢٩ و ١٣٠.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٣١.

في الوقت الذي نرى القرآن المجيد قد أشار في مواضع عديدة إلى استشفاع الأنبياء الربانيين عليهم‌السلام للمذنبين عند الله ، فنذكر على سبيل المثال :

١. بعد أن عرف إخوة يوسف عليه‌السلام عظمة أخيهم والتفتوا إلى خطأهم ذهبوا إلى أبيهم طلباً للشفاعة ، وقد لبى الأب طلبهم : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ* قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (١). فهل كان النبي يعقوب عليه‌السلام مشركاً؟

٢. القرآن الكريم يرغب ويشجع المذنبين لطلب التوبة والشفاعة من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث يقول : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (٢) ، فهل هذا الترغيب والتشجيع شرك؟

٣. يقول القرآن في ذمه للمنافقين : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) (٣) ، فهل يدعو القرآن الكريم الكفار والمنافقين للشرك؟

٤. نحن نعلم بأنّ قوم لوط كانوا من أسوأ الأقوام ، وقد طلب شيخ الأنبياء إبراهيم عليه‌السلام الشفاعة لهم ، حيث طلب من الله إمهالهم مدّة أكثر لعلهم يتوبون ، ولكن بما أنّهم تجاوزوا حدّاً من الوقاحة أفقدهم قابلية الشفاعة لهم جاء الخطاب للنبي إبراهيم عليه‌السلام بالإعراض عن طلب الشفاعة لهم : (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ* إِنَّ إِبْراهِيمَ

__________________

(١). سورة يوسف ، الآية ٩٧ و ٩٨.

(٢). سورة النساء ، الآية ٦٤.

(٣). سورة المنافقون ، الآية ٥.

لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ* يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ) (١).

الجدير بالذكر أنّ الله تعالى في مقابل طلب الشفاعة هذه قد أثنى على النبي إبراهيم عليه‌السلام بشكل مميز حيث قال : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) ولكن وجّه له الخطاب بأنّه قد فات الأوان ولم يبق مجال للشفاعة.

لا تختص شفاعة الأولياء بفترة حياتهم!!

لجأ المفتشون عن مخرج عند ما رأوا صراحة الآيات السابقة التي تشير إلى مشروعية شفاعة الأنبياء عليه‌السلام وأنّه لا محيص من قبولها ، إلى ذريعة أخرى ، حيث قالوا : إنّ هذه الآيات تتحدث عن الشفاعة في حال حياة الشفعاء ، ولا دليل لدينا على شمولها لما بعد وفاتهم. وبهذا قد تخلوا عن ذريعة الشرك وتمسكوا بذريعة أخرى.

ولكن يطرح هنا سؤال ، هل أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتبدل إلى تراب بعد وفاته وينعدم بشكل تام ـ كما أقرّ أمامنا بعض علماء الوهابية بذلك ـ أو أنّ هناك حياة برزخية؟

فعلى القول إنّهُ لم تكن هناك حياة للنبي ـ وهو باطل ـ ترد بعض الأمور :

أولاً : هل مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل مرتبة من مقام الشهداء الذين قال فيهم الله سبحانه وتعالى : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (٢).

ثانياً : هل السلام الذي نذكره على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في التشهد ويذكره جميع

__________________

(١). سورة هود ، الآية ٧٤ ـ ٧٦.

(٢). سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

المسلمين بلا خلاف «السلام عليك أيّها النبي ...» نذكره على شخصية خيالية لا وجود لها؟

ثالثاً : ألا تعتقدون بأنه يجب عليكم إذا كنتم في المسجد النبوي التحدث بهدوء عند ما تكونون بجوار قبره الشريف؟ ؛ لأنّ القرآن الكريم يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ...) (١) ، وقد كتبت هذه الآية على لوحة وعلقت فوق قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

فكيف تقبلون بهذا الكلام المتناقض؟

رابعاً : إنّ الموت لا يمثل نهاية الحياة فقط ، بل هو ولادة ثانية وحياة جديدة : «النَّاسُ نِيَام فإذا مَاتُوا انْتَبَهُوا» (٢).

خامساً : نقرأ في الحديث المعروف الذي جاء في مصدر معتبر لدى أهل السنّة أن عبد الله بن عمر نقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «مَنْ زَارَ قَبْري وَجَبَتْ لَهُ شَفَاعَتي» (٣). وجاء في حديث آخر نقله نفس الراوي عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله «مَنْ زَارَني بَعْدَ مَوْتِي فَكَأنَّما زَارَني في حَياتي» (٤). وعليه فهذه الفرضية من التفريق بين زمن الحياة والموت ليس إلّا تصور واه.

ومن خلال الإطلاق الموجود في هذه الأحاديث المذكورة يمكن أن نؤكد مشروعية شدّ الرحال بقصد زيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

__________________

(١). سورة الحجرات ، الآية ٢.

(٢). عوالي اللئالي ، ج ٢ ، ص ٧٣.

(٣). السنن للدارقطني ، ج ٢ ، ص ٢٧٨. وقد ذكر العلّامة الأميني ٤١ مصدراً لهذا الحديث من الكتب المعروفة لدى أهل السنّة ؛ الغدير ، ج ٥ ، ص ٩٣.

(٤). الغدير ، ج ٥ ، ص ١٠١.

النساء وزيارة القبور :

تحتاج النساء وبسبب كونهن أكثر عاطفة ورقة إلى زيارة قبور أعزّائهن تسلية للخاطر ، كما أن التجربة أثبتت أن لديهن علاقة أكبر من الرجال بالنسبة لزيارة قبور أولياء الله.

ولكن هناك مجموعة من الوهابيين المتشددين وللأسف وبسبب وجود حديث مشكوك يردعون النساء عن زيارة القبور بشكل متعسف ، حتى أنّه اشتهر على لسان عوامهم في جنوب إيران بأنّ المرأة التي تقف على قبر يراها صاحب القبر عارية.

يقول أحد العلماء : قلتُ لهم : إنّ قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخليفة الأول والثاني موجود في منزل «عائشة» حيث كانت تعيش فيه أو تتردد عليه ... فإذا قلنا إنّه لا إشكال في وقوفها على قبر النبي في صورة ـ كما تزعمون ـ فكيف بوقوفها على هذه الهيئة على قبر الخليفة الاول والثاني؟ فهذا يحتاج إلى نظر وتأمل.

على كل حال فهم يستدلون على ذلك بحديث معروف ينسبونه للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لَعَنَ الله زَائِراتِ القُبُور» ، وجاء في بعض الكتب بدل «زائرات» «زوّارات القبور» بصيغة المبالغة.

يقول بعض علماء أهل السنّة ومنهم الترمذي (١) : «إنّ هذا الحديث مرتبط فزمان نهى فيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن زيارة القبور ، ولكن هذا الحكم نسخ فيما بعد».

ويقول آخرون من علمائهم : إنّه مختص بالنساء اللاتي يصرفن وقتاً كثيراً

__________________

(١). سنن الترمذي ، ج ٣ ، ص ٣٧١. باب ما جاء من الرخصة في زيارة القبور.

في زيارة القبور ، ممّا يؤدي إلى تضييع حقوق أزواجهن ، ودليلهم على ذلك صيغة المبالغة «زوّارات» التي جاءت في بعض النسخ.

هؤلاء الإخوة مهما أنكروا ، لا يستطيعون إنكار فعل عائشة من إبقاء قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر الخليفة الأول والثاني في بيتها.

شدّ الرحال لا يكون إلّا للمساجد الثلاثة :

يذكر التاريخ الإسلامي أنّ المسلمين لقرون عدّة كانوا يشدّون الرحال لزيارة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يكن لدى أحد مشكلة.

حتى جاء دور (ابن تيمية) في القرن السابع فقام بمنع أتباعه من هذا العمل وقال : إنّ شدّ الرحال لا يكون إلّا إلى مساجد ثلاثة ، ويمنع في غيرها ، واستدل هذه المرّة بحديث عن «أبي هريرة».

يقول أبو هريرة : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لا تُشَدّ الرحال إلّا إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ ، مَسْجِدي هَذا والمَسْجِد الحَرَام والمَسْجِد الأقصى» (١).

والحال أولاً : إنّ موضوع الحديث متعلق بالمساجد لا بزيارة أي مكان آخر ، وعلى هذا يكون مفهوم الحديث أنّه لا تشدّ الرحال لأي مسجد إلّا إلى هذه المساجد الثلاثة.

ثانياً : نقل هذا الحديث بصيغة أخرى حيث لا توجد فيه أي دلالة على مقصودهم وهو : «تُشَدُّ الرِّحال إلى ثلاثة مَسَاجِدَ» (٢).

وفي الحقيقة هو نوع من الترغيب لهذا العمل ، من دون أن ينفي بقية

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٠٢.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٢٦.

الموارد ، وفي الاصطلاح «إنّ إثبات الشيء لا ينفي ما عداه».

فإذا لم يعلم النص الأصلي للحديث بأنّه على الصياغة الأولى أم الصياغة الثانية ، يكون الحديث مجملاً ، وغير قابل للاستدلال به.

وقد يقال إنّه جاء نص آخر في نفس الكتاب وهو : «إنّما يسافر إلى ثلاثة مساجد ...» (١).

وعلى هذا يكون شدّ الرحال جائز للمساجد الثلاثة فقط!

والجواب على هذا النقد واضح :

أولاً : هناك إجماع من الأمّة على جواز السفر لمقاصد عدّة سواء كان دينياً أو غير ديني. والسفر لا ينحصر بالسفر إلى المساجد الثلاثة ، وبالنتيجة يكون هذا الحصر بحسب الاصطلاح «حصراً إضافياً» وهو يعني أنّ شدّ الرحال يكون للمساجد الثلاثة من بين بقية المساجد.

ثانياً : إنّ نص الحديث مختلف فلا يعلم ما هو الواقع ، فهل هو الأول أم الثاني أم الثالث؟ ويستبعد أنّ يعبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن هذا الأمر بعبارات ثلاث ، والظاهر أنّ رواة الأخبار نقلوا الحديث بالمعنى ، وعليه يكون هذا الحديث محفوفاً بالإبهام ، ومع إبهام الحديث يسقط الاستدلال به عن الاعتبار.

هل بناء القبور ممنوع؟

مضت قرون عديدة على قيام المسلمين ببناء أبنية تاريخية وعادية كثيرة على قبور عظماء الإسلام ، وكانوا يأتون لزيارة القبور ويتبركون بها ، ولم يعترض عليهم أي شخص ، وفي الواقع كان هناك إجماع وسيرة عملية

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٢٦.

على هذا العمل ، ولم تشاهد مخالفة.

ذكر المؤرخون كالمسعودي في «مروج الذهب» الذي عاش في القرن الرابع الهجري ، والرحالة مثل : ابن جبير وابن بطوطة اللذين عاشا في القرن السابع والثامن ذكروا مشاهداتهم لتلك الأبنية المميزة والعظيمة.

حتى ظهر ابن تيمية في القرن السابع وتلميذه محمّد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر ، فزعما أنّ بناء القبور بدعة وحرام وشرك.

والوهابيون مبتلون بوسواس عجيب ، خصوصاً في مسألة التوحيد والشرك ؛ وذلك بسبب ضحالة مستواهم العلمي في تحليل المسائل. ويلجئون للمخالفة عند اضطرابهم أمام أي موضوع ، من قبيل موضوع الزيارة والشفاعة وبناء القبور وغيرها ، فكل هذه المسائل مخالفة للشرع في نظرهم ، ويلحقونها بمسألة «الشرك» و «البدعة» ويخالفونها. وأهم هذه المسائل ، البناء على قبور زعماء الدين ، وفي الوقت الراهن نرى أبنية عظيمة على قبور الأنبياء السابقين وزعماء الإسلام في مختلف دول العالم الإسلامي باستثناء السعودية ، حيث نجد احترام تلك الشعوب من مصر إلى الهند ومن الجزائر إلى أندونيسيا للآثار الإسلاميّة المتبقية في دولهم ، ويولون قبور زعماء الدين أهميّة خاصّة.

ولكن لا نجد في السعودية أي اهتمام لهذه الآثار ، والدليل على ذلك هو عدم وجود التحليل السليم للمفاهيم الإسلاميّة.

الوهابية تدمر التراث الثقافي :

وقع في القرن الماضي حدث مؤلم في بلاد الوحي ، أدى إلى حرمان

المسلمين من الآثار التاريخية للإسلام بشكل دائم ، وحصول هذه الحادثة بسبب سيطرة الوهابية على تلك البلاد.

فقبل ثمانين سنة في عام (١٣٤٤) عند ما سيطرت الوهابية على الحجاز ، قامت بحركة منسقة وغير واعية لتدمير جميع الآثار التاريخية للإسلام تحت ذريعة الشرك والبدعة ، وتسويتها بالأرض.

ولكن لم تكن لديهم الجرأة الكافية للاعتداء على القبر الطاهر للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تفادياً من قيام عامّة المسلمين ضدهم ، وبحسب الاصطلاح استفاد «مخالفو التقية» من التقية في مقابل المسلمين.

وقد طرحتُ سؤالاً على أحد كبارهم في إحدى سنوات الحج لبيت الله الحرام أثناء حديث ودّي ، عن السبب في الإبقاء على القبر الطاهر لنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن دمرت جميع القبور هناك ؛ فلم يملك أي جواب على ذلك.

وعلى كل حال فحياة الأمم ترتبط بأمور عديدة ، ومن هذه الأمور حفظ الآثار الثقافية والتراث العلمي والديني ، ولكن وللأسف الشديد وقعت أرض الوحي وبالخصوص مكة والمدينة ـ بسبب سوء تدبير المسلمين ـ في أيدي مجموعة متخلفة وشاذة ومتعصبة فقامت بمحو جميع الآثار القيمة للثقافة الإسلاميّة بذرائع خاوية وواهية ، تلك الآثار التي يحكي كل واحد منها موقفاً من المواقف التاريخية والمهمّة والمشرفة للإسلام.

ومن القبور التي دمرت قبور أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في البقيع ، والظاهر أنّ هؤلاء القوم يقومون بإزالة كل أثر قيم في التاريخ الإسلامي ، وبواسطة هذا الطريق يوقعون خسائر غير قابلة للتعويض بالمسلمين.

هذه الآثار تأخذ الإنسان إلى أعماق التاريخ بسبب جاذبيتها وتأثيرها العجيب عليه. فمقبرة البقيع التي كانت مشهداً رائعاً ، تحكي كل زاوية منها حدثاً تاريخياً مهمّاً ، تحولت اليوم إلى صحراء قاحلة وموحشة المنظر ، وسط الفنادق الجميلة والبنايات الفخمة ، حيث تفتح أبوابها الحديدية غير المنظمة ـ بدون أقفال ـ أمام الزوار الرجال فقط لمدّة ساعة أو ساعتين في اليوم.

الذرائع التي يقدمها الوهابيون :

الذريعة الأولى : يجب ألّا تتخذ القبور مساجد :

تارة يقولون : إنّ البناء على القبور يؤدّي بالنتيجة إلى عبادتها والحديث النبوي شاهد على عدم جواز ذلك : «لَعنَ اللهُ اليَهودَ اتّخَذُوا قُبورَ أنْبِيَائِهِمْ مَساجِدِ» (١) ، ولكن هذا الأمر واضح لجميع المسلمين ، فلا يوجد أحد يقوم بعبادة قبور أولياء الله. وهناك فرق بيِّن وواضح بين «الزيارة» و «العبادة» ، فكما نذهب لزيارة الأحياء ونقدم الاحترام للكبار ونطلب منهم الدعاء ، نذهب لزيارة الأموات احتراماً لزعماء الدين وشهداء الإسلام ، ونطلب منهم الدعاء.

فهل هناك عاقل يقول : إنّ زيارة العظماء في حياتهم بالصورة التي ذكرت تكون عبادة ، وشركاً وكفراً؟ وزيارتهم بعد وفاتهم كذلك أيضاً؟

فنبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يذهب لزيارة قبور البقيع ، وهناك روايات كثيرة موجودة في مصادر أهل السنّة تشير إلى ذلك.

__________________

(١). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ١١٠. وجاء في صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ٦٧. أيضاً بإضافة «النصارى».

لعن الله اليهود بسبب اتخاذهم قبور الأنبياء مساجد ، لكن لا يوجد أي مسلم قد اتخذ أي قبر مسجداً.

والملفت للنظر أنّ قبة مرقد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تشق عنان السماء بجانب المسجد النبوي ، وجميع الشعوب المسلمة وحتى الوهابيون يصلّون الفرائض الواجبة في خمسة أوقات في الروضة المقدّسة التي تقع بجوار المسجد النبوي والمتصلة به ، ويصلُّون الصلوات المستحبة في أوقات أخرى.

فهل يعد هذا عبادة للقبور وحراماً؟ أو أنّ القبر الطاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مستثنى من ذلك ، فهل أدلة الشرك وحرمة عبادة غير الله قابلة للاستثناء؟!

فزيارة القبور لا علاقة لها بالعبادة يقيناً ، ولا يوجد أي إشكال في الصلاة بجوار قبر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبور سائر الأولياء ، والحديث المذكور ناظر إلى هؤلاء الذين يعبدون القبور واقعاً.

فالذين يعرفون زيارة الشيعة في العالم لقبور أئمتهم عليهم‌السلام يعلمون أنّهم يتوجهون للقبلة عند ما يرتفع صوت المؤذن لإقامة الصلوات الواجبة جماعة ، ويبدءون بالتكبير عند ما يريدون الزيارة وبعد الانتهاء يصلّون ركعتين استحباباً باتجاه القبلة ، حتى يتضح أن العبادة هي لله خاصة ابتداءً وانتهاءً.

ولكن للأسف ولأجل دوافع خاصة أصبح باب التهمة والكذب والافتراء مفتوحاً ، حيث قامت الأقلية الوهابية باتهام جميع مخالفيها بأنواع التهم المختلفة.

وأفضل محمل على الصحة هو أن نقول : إنّهم غير قادرين على تحليل

المسائل بشكل صحيح ؛ بسبب ضحالة مستواهم العلمي ، ولم يتمكنوا من إدراك حقيقة الشرك والتوحيد ، ولا يعرفون الفرق بين الزيارة والعبادة بشكل دقيق.

الذريعة الثانية :

نقلوا حديثاً عن صحيح مسلم : أنّ أبا الهيّاج روى عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله هذه الرواية : «قال لي علي بن أبي طالب : ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ، ألّا تدع تمثالاً إلّا طمسْته ولا قبراً مشرفاً إلّا سوّيته» (١).

وبسبب الفهم الخاطئ لبعضهم للحديث رفعوا معاولهم ودمّروا جميع قبور عظماء الإسلام باستثناء القبر الطاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر الخليفة الأول والثاني الموجودين بجوار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث تركوها على حالها ، ولا يوجد أي دليل على هذا الاستثناء.

ولكن يرد على هذا الحديث أمور : أولاً : إنّ في سند هذا الحديث أشخاصاً غير موثقين من قبل رجال أهل السنّة ، وبعضهم كان من أهل التدليس وبالخصوص «سفيان الثوري» و «ابن أبي ثابت».

ثانياً : وعلى فرض كون الحديث صحيحاً ، فإنّ معناه أن يكون القبر مسطحاً (على شكل ظهر السمكة كما كان الكفّار يعملون ذلك) ، وهناك الكثير من فقهاء أهل السنّة أفتوا بوجوب كون القبر مسطحاً ، ولا علاقة لهذا الأمر بما نحن فيه.

ثالثاً : على فرض كون معنى الحديث أنّه يجب أن يكون القبر على

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٣ ، ص ٦١. ونقل في مصادر أخرى لأهل السنّة. منها : مسند أبي يعلى ، ج ١ ، ص ٤٥٥ ، دار المأمون للتراث.

مستوى سطح الأرض لا بروز فيه. وهذا الموضوع لا علاقة له بالبناء على القبور ، لنفرض أنّ هناك حجراً على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يوازي سطح الأرض ، وفي الوقت نفسه توجد قبة فوق ضريحه ـ كما نراها اليوم ـ فلا منافاة مع الحكم المذكور.

كما أننا نقرأ في القرآن المجيد أيضاً عند ما انكشف سر الكهف ، فقال الناس لنبني على قبورهم ، وبعدها قالوا : (قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً) (١).

فالقرآن المجيد ذكر القصّة ولم يعترض عليهم ، وهذا يعني أنّه لا مانع من بناء المسجد بجوار قبور العظماء.

الآثار الإيجابية لزيارة قبور العظماء :

إذا استطعنا أن نرشد الناس بشكل مناسب ليتجنبوا أي إفراط أو تفريط ، وأن يذكروا الله سبحانه وتعالى بجوار هذه القبور الطاهرة ، ويتوبوا إلى الله ، وأن يستلهموا الدروس والأفكار من أولياء الله ، فيقيناً ستكون هذه المراقد المطهرة الموجودة مركزاً للتربية والتعليم والتوبة والإنابة إلى الله وتهذيب النفوس.

ولقد علمتنا التجارب أنّ الملايين من الأشخاص الذين يأتون لزيارة القبور الطاهرة لأئمّة الدين أو لقبور شهداء طريق الحق يرجعون إلى ديارهم بروحية عالية ، وبنفوس أكثر صفاءً ونورانيةً ، وبقلوب أكثر طهارةً ، وهذه الآثار تبقى فيهم لمدّة طويلة.

__________________

(١). سورة الكهف ، الآية ٢١.

وفي الوقت الذي يطلب فيه هؤلاء الشفاعة منهم عند الحضرة الإلهيّة لغفران الذنوب وحلّ مشاكلهم الدينية والدنيوية ، لا بدّ أن يقيموا علاقة معنوية مع أولياء الله ، حتى يبتعدوا عن المعاصي قدر الإمكان ، والتوجه لفعل الخير.

إضافة إلى أنّ توجههم لأولياء الله والتوسل بهم وطلب الشفاعة منهم عند الله يرفع من معنوياتهم وقدرتهم على مواجهة المشاكل التي يتعرضون لها ، ويمنع حصول حالات اليأس والقنوط ، ويقلل من آلامهم الروحية والجسدية ، وهناك آثار وبركات أخرى كثيرة.

فلما ذا نحرم هؤلاء الناس من كل هذه البركات المعنوية والروحية والجسدية بسبب الفهم الخاطئ لمسألة الزيارة والشفاعة والتوسل؟

أي عقل يجيز هذا الأمر؟

إنّ التصدي لهذه المائدة المعنوية يؤدّي إلى خسارة عظيمة ، إضافة إلى أنّ الوسواس غير الطبيعي في مسألة التوحيد والشرك يؤدّي إلى حرمان مجموعة كبيرة من هذه البركات.

الذريعة الثالثة : التبرك :

الذريعة الأخرى هي أنّ الذين يذهبون لزيارة قبور العظماء يذهبون طلباً للتبرك وتقبيل الأضرحة ، وهذا العمل فيه شائبة الشرك ، ولهذا يرى زوار بيت الله الحرام جنوداً غلاظاً وأشداء يقفون حول القبر الطاهر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يمنعون الناس من الاقتراب منه ، والبعض ينسب هذا الأمر إلى «ابن تيمية» و «محمّد بن عبد الوهاب».

ويقيناً إنّ هذين الشخصين المؤسسين للمذهب الوهابي لو كانا في عصر

نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأيا بعيونهما حوادث صلح الحديبية أو فتح مكة عند ما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتوضأ فينطلق أصحابه وأتباعه يتسابقون للفوز بقطرات من ماء وضوئه حتى لا تسقط أي قطرة على الأرض (١) ، لقالا في سرهما إنّ هذا لا يتناسب مع شأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وإن فيه شائبة الشرك ، إن لم يتمكنا من التصريح بذلك.

وكذلك لو كانا في المدينة بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ورأيا بعيونهما كيف وضع أبو أيوب الأنصاري المضيّف الأول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وجهه على قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله طلباً للتبرك (٢).

أو ما فعله بلال مؤذّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حيث جلس بجوار قبره صلى‌الله‌عليه‌وآله يرفع صوته بالبكاء ويعفر وجهه بترابه (٣) ، لقاما بأخذ بلال وأبي أيوب من تلابيبهما وقذفاً بهما جانباً ؛ لأنّ هذا العمل شرك عندهما ، كما يفعل أتباع هذا المذهب اليوم مع زوّار قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

في الوقت الذي لا يوجد أقل علاقة بين طلب التبرك والعبادة ، بل التبرك هو نوع من الاحترام مع أدب ، على أمل أن ينزل الله سبحانه وتعالى على زوّار رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله بركاته لأجل هذا الاحترام.

الوظيفة الخطيرة لعلماء الإسلام :

يجب على جميع العلماء الأعلام ومفكري الإسلام التصدي للأعمال

__________________

(١). وهذا الأمر وقع وتكرر عدّة مرات طوال حياة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، راجع صحيح مسلم ، ج ٤ ، ح ١٩٤٣ ؛ وكنز العمال ، ج ١٦ ، ص ٢٤٩.

(٢). مستدرك الصحيحين ، ج ٤ ، ص ٥٦٠.

(٣). تاريخ ابن عساكر ، ج ٧ ، ص ١٣٧.

التي تصدر من بعض العوام غير المناسبة بجوار قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو أئمّة البقيع وسائر الأئمّة المعصومين وقبور الشهداء وعظماء الإسلام ، وتعليمهم المفهوم الواقعي للزيارة والتوسل والتبرك وطلب الشفاعة ، حتى لا يتخذها المخالفون ذريعة.

قولوا للناس : إنّ كل الأمور هي بيد الله سبحانه ، وهو مسبب الأسباب وقاضي الحاجات وكاشف الكربات وكافي المهمات ، وإذا توسلتم بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة عليهم‌السلام فيستجيب الله تعالى بهم ويشفعون عنده ؛ لأجل مكانتهم المقدّسة وذواتهم الطاهرة وتُقضى حاجاتكم لكرامتهم عنده تعالى.

إنّ سجود بعض العوام أمام القبور المقدسة ، وإطلاق بعض العبارات التي بها شائبة التألية لهم ، وربط العقد على أضرحتهم وأمثالها أعمال غير صحيحة ، وتخلق المشاكل ، وتشوه تلك الصورة الجميلة والبنّاءة للزيارة ، لتصبح ذريعة لهذا وذاك لحرمان النّاس من بركات الزيارة.

المبحث الخامس

الزواج المؤقت

جميع علماء الإسلام يعتقدون بأنّ الزواج المؤقت كان موجوداً في عصر نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله لمدّة من الزمن. وبعضهم يقول : إنّ التحريم وقع في عصر الخليفة الثاني بأمر من الخليفة نفسه ، ويقول بعضهم : إنّ التحريم وقع في عصر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ونحن أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام نعتقد بأنّه لم يحرم مطلقاً ، وهو باق على حاله (طبقاً للشروط).

وهناك مجموعة قليلة من أهل السنّة توافقنا على هذا الاعتقاد ، والأغلبية تخالفنا الرأي ، وكانوا دائماً يشكلون علينا ، وهو ليس محلاً للنقد ، بل هو نقطة قوّة لحل الكثير من المشاكل الاجتماعية.

وستقرءون شرح هذه المطالب في المباحث الآتية :

الضرورات والاحتياجات :

إنّ الكثير من الناس وخصوصاً الشبّان لا يتمكنون من الزواج الدائم ، إضافة إلى أنّ الزواج الدائم يحتاج إلى مقدمات وإمكانيات وتحمل مسئوليات مختلفة ، وهي غير متوفرة لدى البعض ، وعلى سبيل المثال :

أ) إنّ الكثير من الشبّان لا يستطيعون الزواج في فترة الدراسة ـ وخصوصاً في زماننا ، حيث تستمر الدراسة لفترة طويلة ـ لعدم وجود العمل والمسكن المناسب ولا الإمكانيات الأخرى ، حتى ولو حاول الاقتصار على ما هو ضروري في حفلة الزواج (زواج بسيط) مع ذلك لا بدّ من بعض الإمكانيات كحد أدنى وهي غير متوفرة.

ب) هناك أشخاص متزوجون يتعرضون لضغوط جنسية في سفرهم للخارج ، وخصوصاً عند ما يطول بهم السفر ، وهم لا يستطيعون اصطحاب أزواجهم معهم ، وليس لهم القدرة على الزواج الدائم مرّة أخرى في تلك الديار.

ج) هناك أشخاص تعاني أزواجهم من أمراض مختلفة ومشاكل أخرى ، وليس لديهن القدرة على رفع حاجات أزواجهن الجنسية.

د) هناك جنود يذهبون في مهمّات طويلة الأمد لحفظ الحدود وغيرها ، فقد يتعرضون إلى ضغوط جنسية بسبب بعدهم عن نسائهم. كما سنرى وقوع ذلك في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث حصلت نفس هذه المشكلة لكثير من جنود الإسلام ممّا أدى إلى تشريع الزواج المؤقت.

ه) قد يتعرض بعض الرجال ـ وخصوصاً الشبّان ـ إلى مشاكل نفسية بسبب عدم اقترابهم من أزواجهم طيلة فترة الحمل ؛ للظروف الخاصّة التي تصاحبها عادة.

إنّ هذه الضرورات والمشاكل الاجتماعية كانت موجودة دائماً ، وستستمر ، وهي لا تختص بعصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله فقط ، بل قد تكون في عصرنا أشد ؛ وذلك بسبب تعدد العوامل المهيجة التي تحيط بالمجتمع الحالي.

فالأشخاص في هذه الحالات يقفون على مفترق طريقين : إمّا التورط بالفحشاء (والعياذ بالله) ، أو الاستفادة من الزواج المؤقت البسيط الذي لا يترتب عليه ما يترتب على الزواج الدائم من تكاليف ماديّة ، ويلبي الحاجات الجنسية للشخص.

واقتراح الزهد وغض النظر عن كليهما اقتراح جيد ، ولكنّه خارج عن قدرة الكثيرين ، وعلى الأقل هؤلاء الذين يرونه أمراً خيالياً.

زواج المسيار :

الملفت للنظر أنّ أكثر المنكرين للزواج المؤقت من أهل السنّة ، اضطرّوا تدريجياً وبسبب وقوع بعض الضغوطات على الشبّان وغيرهم من الأشخاص المحرومين ، إلى القبول بنوع يشبه الزواج المؤقت يسمى «زواج المسيار» ومع أنّهم لم يطلقوا عليه الزواج المؤقت ، إلّا أنّه لا يوجد أي اختلاف معه ، وبالتالي فهو يجيز للشخص المضطر ، الزواج من امرأة بشكل دائم حتى وإن نوى الطلاق بعد فترة قصيرة ، واشترط سقوط النفقة وحق المبيت والإرث ، وهو في الواقع يشبه الزواج المؤقت بشكل كبير ، باستثناء الانفصال ، فإنّه هنا يتحقق بالطلاق ، وفي الزواج المؤقت يتحقق إمّا بهبة المدّة المتبقية أو انتهاء المدّة المقررة ، ولكلا النوعين من الزواج زمان محدد قد أخذ بعين الاعتبار منذ البداية.

والجميل في الأمر أنّ بعض الشبّان من أهل السنّة قاموا أخيراً وبسبب المشاكل والضغوط التي تواجههم في طريق الزواج الدائم بالاتصال بنا من خلال الشبكة العنكبوتية (الانترنيت) ووجهوا لنا هذا السؤال : هل هناك مانع

في مسألة الزواج المؤقت من الأخذ بفتوى الشيعة؟

وقلنا : إنّه لا مانع أبداً.

فهؤلاء الذين ينكرون الزواج المؤقت ، يقبلون بزواج المسيار ، فهم وإن لم يقبلوا بعنوانه ، ولكنهم في الواقع قد قبلوا به.

نعم الضرورات التي تواجه الإنسان قد تجبره على قبول الأمور الواقعية ، حتى وإن اختلفت العناوين.

وبناءً على هذه النتيجة ومع إصرارهم ومخالفتهم للزواج المؤقت فهم يقومون ـ من حيث يعلمون أو لا يعلمون ـ بتمهيد الطريق للفحشاء ، إلا إذا اقترحوا نوعاً آخر مشابهاً كما هو الحال في زواج المسيار ، ولأجل هذا جاءت روايات أهل البيت عليهم‌السلام «لو لا مخالفتهم للزواج المؤقت الإسلامي لما ابتليَ أحد بالزنا» (١).

ومع هذا قاموا بتشويه موضوع الزواج المؤقت الذي شرّع للضرورات وتلبية حاجة المحرومين ، وأظهروه بصورة قبيحة ، وبهذا مهدوا لانتشار الفساد بالزنا في المجتمع الإسلامي ، فهم في الواقع شركاء المذنبين في ارتكاب المعصية ؛ لأنّهم منعوا الناس من الاستفادة الصحيحة من الزواج المؤقت.

وعلى كل حال فالإسلام وضع قانوناً يتطابق مع فطرة البشر ، ليلبّي جميع الحاجات الواقعية له ، ولا يمكن أن لا تدرج مسألة الزواج المؤقت في

__________________

(١). يقول الإمام الصادق عليه‌السلام : «لو لا ما نهى عنه عمر ما زنى إلّا شقي» ، وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ٤٤٠ ، ح ٢٤. وجاء هذا الحديث كثيراً في كتب أهل السنّة وهو قال الإمام علي عليه‌السلام : «لو لا أنّ عمر نهى عن المتعة ما زنى إلّا شقي» ، تفسير الطبرى ، ج ٥ ، ص ١١٩ ؛ وتفسير الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ١٤٠ ؛ وتفسير القرطبي ، ج ٥ ، ص ١٣٠.

أحكامه ، وسيتضح فيما بعد أنّ الزواج المؤقت جاء في القرآن الكريم والأخبار النبوية ، وعمل به مجموعة من الأصحاب ، إلّا أنّ مجموعة أخرى تدّعي أنّ هذا الحكم الإسلامي قد نسخ ، وسنرى أنّهم لا يملكون أي دليل مقنع على هذا النسخ.

ما هو الزواج المؤقت؟

قام بعضهم وبدون علم ، بتعريف الزواج المؤقت تعريفاً غير مناسب ، وما زالوا ، حيث جعلوه مرادفاً «للاعتراف الرسمي بالفحشاء والإباحية والحرية الجنسية»!!

ولو كان هؤلاء من العوام لكان الأمر سهلاً ، ولكن للأسف هناك بعض علماء الدين من أهل السنّة من يؤيّد هذه التهمة الخطيرة. وأنا على يقين من أنّهم لم يكلفوا أنفسهم بقراءة كتب الموافقين للزواج المؤقت ، ولعلهم لم يقرءوا حتى سطراً واحداً ، وهذا ممّا يؤسف له كثيراً.

ونحن مضطرون في هذا المختصر لبيان شروط الزواج المؤقت ، وبيان الفرق بينه وبين الزواج الدائم بشكل واضح ، حتى تتم الحجة الإلهيّة على الجميع :

إنّ أغلب الشروط والأحكام الموجودة في الزواج المؤقت هي نفسها موجودة في الزواج الدائم :

١. يجب حصول الرضا من قبل الرجل والمرأة بالزواج مع كامل الحرية ، وبدون إجبار أحد الطرفين للآخر.

٢. يجب أن تكون الصيغة في العقد بلفظ" أنكحت" أو" زوجت" أو بلفظ

«متعت» ولا يصح بألفاظ أخرى.

٣. يشترط إذن الولي إذا كانت الزوجة باكراً ، ولا يشترط ذلك إذا لم تكن باكراً ، أي ثيباً.

٤. لا بدّ من تعيين المدّة والمهر بشكل دقيق ، وإذا لم تذكر المدّة لنسيان سيتحول العقد إلى عقد دائم ، بناءً على فتوى الكثير من الفقهاء ، وهذا دليل على أنّ ماهية كلا النوعين من النكاح واحدة باستثناء الفرق الوحيد ، وهو ذكر المدة أو عدم ذكرها. فتأمّلوا.

٥. انتهاء المدّة بمنزلة الطلاق ، ويجب على المرأة أن تعتد بعدها مباشرة ، هذا إذا دخل بها.

٦. عدّة العقد الدائم ثلاثة قروء ، وبرؤية القرء الثالث تكتمل العدّة ، ولكن عدة العقد المؤقت قرءان لا أكثر.

٧. الأولاد المولودون من العقد المؤقت هم أولاد شرعيون ، ولهم جميع أحكام الأولاد المولودين من العقد الدائم ـ بلا استثناء ـ ويرثون من الأب والأم والأخوة وجميع الأقرباء ، ولا يوجد أي فرق بين أولاد هذين النوعين من ناحية الحقوق.

٨. أولاد العقد المؤقت يجب أن يكونوا تحت كفالة الأب والأم ، ويجب دفع النفقة وجميع مصاريفهم ـ كما هي الحال مع أولاد العقد الدائم ـ.

***

ولعلّ بعضهم عند ما يسمع هذا الكلام يستغرب كثيراً ، إنّهم على حق ؛ لأنّ أذهانهم غير سليمة وعامية فيما يتعلق بالعقد المؤقت ، ولعلهم يعتقدون بأنّه زواج غير رسمي وغير كامل ، وهو خارج عن حدود القوانين.

وبعبارة أخرى : هو شبيه بالزنا ، وفي الواقع هو ليس كذلك مطلقاً.

نعم هناك فوارق بين هذين العقدين من جهة الزوج والزوجة ، فالواجبات على كل واحد منهما تجاه الأخر في العقد المؤقت تكون أقل كثيراً منها في العقد الدائم ؛ لأنّ الهدف من الزواج المؤقت التسهيل وعدم التقييد ، ومن هذه الفوارق :

١. إنّ المرأة في الزواج المؤقت ليس لها نفقة ولا إرث. هذا إذا لم تشترط ذلك ، كما ذكره مجموعة من الفقهاء ، فإذا اشترطت ذلك ، فيجب حينه العمل على طبقه.

٢. المرأة في العقد المؤقت حرّة في انتخاب العمل خارج المنزل ، ولا يشترط إذن الزوج إذا لا يعارض حقّه ، ولكن في الزواج الدائم لا يجوز ذلك إلّا بالموافقة.

٣. لا يجب على الرجل في الزواج المؤقت المبيت عند زوجته.

***

وستتضح ـ بالتأمل في الأحكام التي ذكرناها ـ الأجوبة على الكثير من التساؤلات والأحكام المتعجرفة والشبهات والافتراءات ، وستزول الذهنيات الكاذبة والسقيمة عن هذا الحكم الإسلامي المقدس والحكيم ، وفي الحقيقة أنّه لا يوجد أي تشابه بين الزواج المؤقت وبين الزنا والأعمال المنافية للعفة. ويقيناً أنّ هؤلاء الأشخاص الذين قاسوا بين هذين النوعين من الزواج مغفلون وليس لديهم أي معرفة بحقيقة النكاح المؤقت وشرائطه.

***

الاستغلال السلبي :

الاستغلال السلبي للأمور الحقّة يمنح الفرصة لأصحاب الألسن البذيئة ويقدم الذرائع والحجج لمن يبحث عنها ، ويستند إليها في الطعن بتلك الأمور الحقّة والشرعية.

***

والزواج المؤقت هو من المصاديق الواضحة لمثل هذا البحث.

ولكن للأسف الشديد قام بعض المغرضين وأتباع الهوى بتشويه هذا الزواج وتحريفه ـ والذي شرع في الأصل ليكون حلاً لبعض المعضلات الاجتماعية المهمّة والضرورات ـ ليعطوا المخالفين الذرائع لنقد هذا التشريع الحكيم.

ولكن السؤال هنا هو : أي حكم لم تنله يد الاستغلال إلى يومنا هذا ، وأي مبدأ قيّم لم تستغله جماعات غير مؤهلة؟

فإذا وضعت المصاحف يوماً على رءوس الرماح كذباً وخداعاً لتوجيه حكم الظالمين والمتعصبين ، فهل معناه أن يوضع القرآن جانباً؟

وإذا قامت مجموعة من المنافقين ببناء مسجد ضرار ، وأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بتدميره أو إحراقه ، فهل هذا يعني أنّ تترك المساجد بشكل كلي؟

وعلى كل حال ، نحن نعترف أنّ بعضهم استغل هذا الحكم الإسلامي المهم ، ولكننا لا يمكن أن نغلق أبواب المسجد لأجل مجموعة تاركة للصلاة ، أو نشعل الحريق لأجل منديل قيصري.

فيجب أن نغلق الباب أمام أتباع الهوى والاستغلاليين ، وأن نضع ضوابط صحيحة للزواج المؤقت ، وخصوصاً في عصرنا الحاضر ، حيث لا يمكن

تطبيق هذه القضية من دون تخطيط دقيق وصحيح. فلا بدّ من قيام مجموعة من المختصين وأهل الخبرة بكتابة وتدوين قانون لتنظيمه وتطبيقه ، لقطع الأيادي الشيطانيّة عنه ، والحفاظ على الجانب المشرق لهذا التشريع الحكيم ، وسد المنافذ على كلا المجموعتين : أي : أتباع الهوى ، والمنتقدين الحاقدين.

الزواج المؤقت في الكتاب والسنّة وإجماع الأمة :

جاء الزواج المؤقت في كتاب الله العزيز بلفظ «المتعة» حيث يقول : (فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً) (١).

والنقطة المهمّة هنا أن هناك روايات كثيرة تنقل عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جاء فيها لفظ المتعة بمعنى الزواج المؤقت ، وسنعرض على القارئ المحترم هذه الروايات في الأبحاث الآتية. إضافة إلى أنّه جاء في كتب فقهاء الإسلام ـ أعم من الشيعة والسنّة ـ التعبير عن الزواج المؤقت بالمتعة. وإنكار هذا الموضوع من قبيل إنكار المسلّمات وسنعرض لكم مجموعة من كلمات الفقهاء في البحوث التالية أيضاً.

ومع هذا يصرّ بعضهم على تفسير «الاستمتاع» في الآية بالتلذذ ، وقالوا : إنّ معنى الآية هو إعطاء المهر للمرأة التي يراد الاستمتاع بها جنسياً.

وهنا نذكر ردّان على هذا القول :

أولاً : إنّ وجوب دفع المهر هو مقتضى العقد ، بمعنى : أنه بمجرد تحقق

__________________

(١). سورة النساء ، الآية ٢٤.

العقد يمكن للمرأة المطالبة بالمهر كاملاً ، حتى وإن لم يتحقق الدخول ، أو قبل حصول أي ملاعبة. نعم لو وقع الطلاق قبل الدخول ، يصبح المهر نصفاً بعد الطلاق. فتأمل.

ثانياً : إن مصطلح «المتعة» كما ذكرنا في العرف الشرعي وكلمات الفقهاء من الشيعة والسنّة وما جاء في الروايات هو بمعنى العقد المؤقت ، وسنرى كثرة الأدلة المؤيدة لذلك.

فهذا المرحوم الشيخ الطبرسي المفسّر المعروف صاحب تفسير «مجمع البيان» في تفسيره لهذه الآية يصرح بأنّ هناك نظريتين في تفسير هذه الآية :

أ) نظرية من فسر الاستمتاع هنا بمعنى التلذذ ، وذكر مجموعة من الصحابة والتابعين وغيرهم.

ب) نظرية من فسّر الاستمتاع بعقد المتعة والزواج المؤقت ، وهذا رأي ابن عباس والسدي وابن مسعود وجماعة من التابعين.

ويستمر الشيخ في حديثه ويقول : والنظرية الثانية واضحة ؛ لأنّ لفظ المتعة والاستمتاع في العرف الشرعي يعني الزواج المؤقت ، إضافة إلى أنّ وجوب المهر للمرأة غير مشروط بالتلذذ (١).

وهذا القرطبي في تفسيره قال : المقصود من الآية في نظر الجمهور هو النكاح المؤقت الذي كان موجوداً في صدر الإسلام (٢).

وأشار كل من السيوطي في الدر المنثور وأبي حيان وابن كثير والثعالبي في تفاسيرهم إلى هذا المعنى.

__________________

(١). أنظر مجمع البيان ، ج ٣ ، ص ٦٠.

(٢). أنظر تفسير القرطبى ، ج ٥ ، ص ١٢٠ ؛ وفتح الغدير ، ج ١ ، ص ٤٤٩.

إنّ مسألة وجود الزواج المؤقت في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلّم به بين جميع علماء الإسلام ، سواء كانوا شيعة أم سنّة ، ولكن هناك مجموعة من فقهاء أهل السنّة يعتقدون بأن هذا الحكم قد نسخ فيما بعد ، وهناك اختلاف شديد فيما بينهم في تحديد زمان نسخه ، ومنها :

ما قاله العالم المعروف «النووي» في شرحه لصحيح مسلم :

١. البعض يقول : إنها كانت حلالاً في غزوة خيبر الأولى ، وحرّمت فيما بعد.

٢. كانت حلالاً في عمرة القضاء فقط.

٣. كانت حلالاً في اليوم الأول لفتح مكة ، وحرّمت فيما بعد.

٤. حرّمت في غزوة تبوك من السنة الثامنة للهجرة.

٥. كانت مباحةً في معركة أوطاس من السنة الثامنة للهجرة فقط.

٦. كانت حلالاً في حجة الوداع من السنة العاشرة للهجرة (١).

والملفت للنظر أنّه نقل في هذا الموضوع روايات متناقضة ومتعارضة ، وخصوصاً روايات التحريم في خيبر ، وروايات التحريم في حجة الوداع المعروفة ، حيث بذل مجموعة من فقهاء أهل السنّة جهداً في الجمع بين هذه الروايات ، ولكن لم يقدموا حلاً مناسباً (٢).

والأجمل من هذا ما نقل من كلام عن الشافعي ، حيث يقول : «لا أعلم شيئاً أحلّه اللهُ ثمّ حرّمه ثمّ أحلّه ثمّ حرّمه إلّا المتعة» (٣).

__________________

(١). أنظر شرح صحيح مسلم ، ج ٩ ، ص ١٩١.

(٢). أنظر نفس المصدر.

(٣). المغني لابن قدامة ، ج ٧ ، ص ٥٧٢.

ونقل في نفس الوقت ابن حجر عن السهيلي : إنّه لم ينقل أحد من أرباب التاريخ ورواة الأخبار أنّ تحريم المتعة وقع في يوم خيبر (١).

٧. وهناك قول آخر يقول : إنّ المتعة كانت حلالاً في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعد ذلك نهى عمر عنها ، كما نقرأ ذلك في صحيح مسلم الذي يعد من أكثر الكتب اعتباراً عند أهل السنّة : عن عن «أبي نضرة» قال : «كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : إنّ ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما» (٢).

فهل يمكن القول مرة أخرى مع هذا النص الصريح والموجود في صحيح مسلم إنّ المتعة قد حرمت في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

من الذي حرم المتعة؟

يشير الكلام المذكور الذي نقلناه عن جابر بن عبد الله الأنصاري إلى الحديث المعروف الذي ينقله جمع كثير من المحدثين والمفسرين والفقهاء من أهل السنّة في كتبهم عن الخليفة الثاني ، ونص الحديث هو : «متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهما ، متعة الحج ومتعة النساء». وجاء في بعض الأحاديث «وأعاقب عليهما».

والمقصود من متعة الحج : هي العمرة الأولى التي يأتي بها الحاج للخروج من إحرامه ، وبعد فترة طويلة أو قصيرة يجدد إحرامه استعداداً للحج.

__________________

(١). فتح الباري ، ج ٩ ، ص ١٣٨.

(٢). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ٥٩ ، ح ٣٣٠٧ دار الفكر بيروت.

هذا الحديث من الأحاديث المشهورة التي نقلت عن عمر مع اختلاف يسير ، حيث قام ببيانه في حضور الناس وهو على المنبر ، وسنشير إلى سبعة من المصادر الحديثية والفقهية والتفسيرية التي ذكرت هذا الحديث :

١. مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ٣٢٥.

٢. سنن البيهقي ، ج ٧ ، ص ٢٠٦.

٣. المبسوط للسرخسي ، ج ٤ ، ص ٢٧.

٤. المغني لابن قدامة ، ج ٧ ، ص ٥٧١.

٥. المحلى لابن حزم ، ج ٧ ، ص ١٠٧.

٦. كنز العمّال ، ج ١٦ ، ص ٥٢١.

٧. التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ٥٢.

وهذا الحديث يكشف الغطاء عن مسائل متعددة ، منها :

أ) حلية المتعة في مرحلة الخليفة الأوّل

إنّ المتعة أو الزواج المؤقت كانت مباحة طوال فترة حياة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وحتى في فترة الخليفة الأول ، وقام الخليفة الثاني بالنهي عنها.

ب) الاجتهاد في مقابل النص

لقد أجاز الخليفة الثاني لنفسه أن يضع قانوناً في مقابل النص الصريح للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوقت الذي يقول تعالى في القرآن : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (١).

__________________

(١). سورة الحشر ، الآية ٧.

فهل هناك شخص له الحق في التصرف في الأحكام الإلهيّة غير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ فهل يمكن لشخص أن يقول : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل كذا ، وأنا أفعل كذا؟

فهل يجوز الاجتهاد مقابل النص الصريح للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي هو في الواقع كلام الله؟

وفي الحقيقة إنّه لأمر محير جدّاً أن يُترك قانون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جانباً مع هذا التصريح والوضوح!!!

إضافة إلى أن باب الاجتهاد إذا فتح في مقابل النص فبأي دليل لا يحق للآخرين فعل ذلك؟

فهل الاجتهاد مختص بشخص واحد ، والآخرون ليسوا مجتهدين؟ وهذه من المسائل المهمة ؛ لأنه مع فتح باب الاجتهاد في مقابل النص فلا تبقى للأحكام الإلهيّة أي حصانة ، وستعُمّ الفوضى في أحكام الإسلام الخالدة ، وستتعرض الأحكام الإلهيّة للخطر.

ج) لما ذا انبرى عمر لمخالفة هذين الحكمين؟

لقد كان تصوره في حج التمتع هو أنّه يجب على المسلم عند ما يأتي إلى الحج أن يتمّ حجّه وعمرته ليحلّ من إحرامه ويقارب زوجته ، أمّا أنّه يأتي بعمرة التمتع ، ويحلّ بعد أيّام من إحرامه ويصبح حرّ التصرف بعده. فهذا عمل غير صحيح ولا يتناسب مع روح الحج.

والواقع إنّ هذا الرأي غير صحيح ؛ لأنّ أعمال الحج منفصلة عن أعمال العمرة ، فمن الممكن أن يؤدي الإنسان العمرة قبل شهر من أعمال الحج ،

فالمسلمون في شهر شوال أو ذي القعدة يتشرفون بزيارة مكة ويؤدون أعمال العمرة ، وهم في حِلِّ إلى اليوم الثامن من ذي الحجّة ، وبعدها يُحرِمون لأعمال الحج ويذهبون إلى عرفات ، فأين المشكلة في هذا الأمر التي أثارت حفيظته.

وأمّا موضوع المتعة والزواج المؤقت فقد احتمل بعضهم أنّه إذا كان العقد المؤقت جائزاً فيصعب التفريق بين النكاح والزنا ، لأنّ أي رجل بإمكانه أن يدعي عند ما يضبط (١) مع امرأة أنّه متزوج منها زواجاً موقتاً ، وهذا يؤدّي إلى انتشار الزنا.

وهذا التصور أكثر ضعفاً من الأول ، لأنّه على العكس تماماً ، لأنّ منع عقد المتعة هو الذي يساعد على انتشار الزنا وعدم العفاف ؛ وذلك كما أشرنا إليه سابقاً ، فالكثير من الشبّان لا يملكون القدرة على الزواج الدائم ، أو أنّ أزواجهم بعيدات عنهم ، فهم على مفترق طريقين ، إمّا الزواج المؤقت أو الزنا ، فصدهم عن الزواج المؤقت ـ المنظم والمخطط له بشكل صحيح ـ سيؤدّي إلى سقوطهم في دائرة المعصية والانغماس في الزنا وعدم العفاف.

ولأجل هذا نقل عن الإمام علي عليه‌السلام الحديث المعروف : «لو لا أنّ عمر نهى الناس عن المتعة ما زنى إلّا شقي» (٢).

د) الاختلاف الكبير في زمن التحريم

لقد روى مجموعة كبيرة من محدّثي ومفسّري وفقهاء أهل السنّة

__________________

(١). يمسك متلبساً بالفعل.

(٢). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ٥٠.

الحديث المذكور ، ويمكن أن نستفيد منه وبشكل واضح أنّ تحريم المتعة كان في عهد عمر ، وليس في عصر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد نقلت روايات أخرى متعددة في نفس المصادر مؤيدة لذلك ، ونذكر منها على سبيل المثال :

١. ينقل الترمذي المحدّث المعروف : «إنّ رجلاً من أهل الشام سأل عبد الله بن عمر عن متعة النساء ، فقال : حلال ، فقال السائل : إنّ أباك عمر قد نهى عنها ، فقال عبد الله : أرأيت إن كان أبي قد نهى عنها وقد سنّها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنترك السنّة ونتبع قول أبي»؟! (١)

٢. ونقرأ في حديث آخر عن جابر بن عبد الله يقول : كنّا نستمتع بالقبضة من التمر والدقيق لأيّام على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر حتى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث (٢).

٣. وفي حديث آخر من نفس الكتاب جاء : كنت عند جابر بن عبد الله فأتاه آت فقال : ابن عباس وابن الزبير اختلفا في المتعتين. فقال جابر : فعلناهما مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما (٣).

٤. كان ابن عباس وهو «حبر هذه الأمّة» ومن المنكرين لنسخ حكم المتعة في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشاهداً على المشاجرة التي دارت بينه وبين

__________________

(١). هذا الحديث ليس موجوداً في صحيح الترمذي المتوفر بين أيدينا اليوم ، فقد جاء بدلاً من لفظ متعة النساء متعة الحج ، ولكن ذكر كل من زين العابدين المعروف بالشهيد الثاني من علماء القرن العاشر في كتاب اللمعة الدمشقية ، والسيد ابن طاوس من علماء القرن السابع الهجري في كتاب الطرائف هذا الحديث في مورد متعة النساء ، ويظهر أنّ الحديث في النسخ القديمة لكتاب صحيح الترمذي كان بهذه الصورة ، ولكن النسخ التي جاءت فيما بعد ولأسباب معلومة قد تغيرت وكم له من نظير.

(٢). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣١.

(٣). نفس المصدر ، ص ١٣١.

عبد الله بن الزبير ، حيث جاء في صحيح مسلم : «إنّ عبد الله بن الزبير قام بمكة فقال : إنّ ناساً أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة ، يعرض برجل [مقصوده ابن عباس] فناداه فقال إنّك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين (يريد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) فقال له ابن الزبير : فجرب بنفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك (١). وهذا منطق الظلم والتهديد.

ويحتمل أن يكون هذا الحوار قد حصل أيّام سيطرة عبد الله بن الزبير على السلطة في مكة ، ولهذا تجرأ وتجاسر وتطاول على العالم الجليل ابن عباس ، وهو في سن أبيه ، ومن جهة العلم فغير قابل للمقايسة ، وعلى فرض أنّه على مستوى من العلم ، فلا يحق له أن يتحدث معه بهذه الصورة ، لأنّه إذا أقدم شخص على هذا العمل وفقاً لفتواه ، فأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه اشتبه ، فيكون وطؤه «وطء شبهة» ، ووطء الشبهة لا حدّ له ، فتهديده بالرجم لا معنى له ، وكلام جهّال.

وطبعاً لا يستبعد صدور هذا الموقف القبيح من شاب جاهل وسيئ الخلق مثل عبد الله بن الزبير.

والملفت للنظر أنّ الراغب الاصفهاني في كتابه (المحاضرات) نقل هذه الحادثة : عيّر عبد الله بن الزبير عبد الله بن عباس بتحليله المتعة ، فقال له (ابن عباس) : سل أمّك كيف سطعت المجامر بينها وبين أبيك؟! فسألها ، فقالت : «ما ولدتك إلّا في المتعة». وقال ابن عباس : أول مجمر سطع في المتعة مجمر آل الزبير (٢).

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٣٣.

(٢). المحاضرات ، ج ٢ ، ص ٢١٤. انظر شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ، ج ٢٠ ، ص ١٣٠.

٥. نقرأ في مسند أحمد : إنّ «ابن الحصين» يقول : «نزلت آية المتعة في كتاب الله وعملنا بها ، ولم تنزل أية آية ناسخة لها حتى أغمض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عينيه عن الدنيا» (١).

هذه نماذج من الروايات التي تنفي بشكل صريح عدم نسخ حكم المتعة.

***

وفي مقابل هذه الروايات نقلوا روايات أخرى تشير إلى أنّ حكم المتعة نسخ في عصر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكن ليست على وتيرة واحدة وليست متّفقة ، ومع الأسف أنّها تختلف مع بعضها من ناحية الزمان :

١. جاء في بعض الروايات أنّ حكم تحريم المتعة صدر في معركة خيبر من السنة السابعة للهجرة (٢).

٢. وهناك روايات أخرى ذكرت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أجاز المتعة في عام الفتح من السنة الثامنة للهجرة في مكة ، ونهى عنها بعد فترة وجيزة من نفس العام (٣).

٣. وجاء في روايات أخرى أيضاً : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أجازها لمدّة ثلاثة أيّام في غزوة أوطاس التي حدثت بعد فتح مكة في منطقة هوازن التي تقع بالقرب من مكة ، ونهى عنها بعد ذلك.

ولو كان لدينا سعة صدر لمناقشة الأقوال المختلفة في هذا البحث ، لكانت المسألة أوسع من ذلك ؛ لأنّ الفقيه المعروف من أهل السنّة «النووي»

__________________

(١). مسند أحمد ، ج ٤ ، ص ٤٣٦.

(٢). تفسير الدر المنثور ، ج ٢ ، ص ٤٨٦.

(٣). صحيح مسلم ، ج ٤ ، ص ١٣٣.

في شرح صحيح البخاري نقل ستة أقوال في هذه المسألة ، وذكر لكل رأي روايات تناسبه ، والأقوال هي :

١. حللت المتعة في معركة خيبر وحرّمت بعد أيّام.

٢. أجيزت في عمرة القضاء وبعد ذلك حرّمت.

٣. أجيزت في يوم فتح مكة وحرّمت فيما بعد.

٤. حرّمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غزوة تبوك.

٥. أجيزت في معركة أوطاس في أرض هوازن.

٦. كانت حلالاً في حجّة الوداع ، في السنة الأخيرة من عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (١).

والأكثر حيرة من ذلك كلام الشافعي حيث يقول : «لا أعلم شيئاً أحلّه اللهُ ثمّ حرّمه ثمّ أحلّه ثمّ حرّمه إلّا المتعة» (٢).

وكل محقّق حينما يرى هذا التناقض والتضاد في الروايات يتأكد أنّ هذه الروايات وضعت لتحقيق أغراض سياسية.

الطريق الأمثل للحل :

إنّ هذه الأقوال المختلفة والمتعارضة تجبر الإنسان على المطالعة الجدية ، وإلّا فما هو الداعي لهذا القدر من التناقض في الروايات ، ولما ذا ينتخب كل محدّث أو فقيه رأياً خاصاً به؟

وكيف يمكن الجمع بين هذه الروايات المتعارضة؟

ألا يكون هذا الكم من الاختلاف دليلا على أنّ هذه المسألة المطروحة

__________________

(١). شرح صحيح مسلم للنووي ، ج ٩ ، ص ١٩١.

(٢). المغني لابن قدامة ، ج ٧ ، ص ٥٧٢.

حساسة سياسياً ، ممّا أدى إلى تحريك بعض واضعي الحديث لوضع بعض الأحاديث ، باستغلال بعض أسماء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأتباعه ، ونسبتها لهم ، وهم بالتالي ينقلون عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال كذا وكذا.

إنّ المسألة السياسية ليست إلّا ما قاله الخليفة الثاني «متعتان كانتا مشروعتين في عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أنهى عنهما ، متعة الحج ومتعة النساء».

وهذا الحديث له نتائج سلبية عجيبة ، فإذا استطاع آحاد الأمّة أو الخلفاء أن يغيروا الأحكام الإسلاميّة بشكل صريح ، ـ ولا يوجد دليل على اختصاص هذا الأمر بالخليفة الثاني ـ فالآخرون أيضاً من حقّهم أن يجتهدوا في مقابل نص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وسيؤدّي هذا إلى حصول الفوضى والاختلاف العجيب في الأحكام الإسلاميّة ، فهناك واجبات ومحرمات ، ولكن مع مرور الزمان لا يبقى من الإسلام شيء.

واضطروا لتفادي الآثار السلبية لهذا الأمر أن يوظفوا مجموعة لتقول : إنّ تحريم المتعتين كان في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ووضعوا أحاديث ونسبوها إلى صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبسبب عدم واقعيتها وقع بينها التناقض والتضاد وانكشف الأمر.

وإلّا كيف يمكن أن يفسّر كل هذا التناقض والتضاد في الروايات ، حتى إنّ بعض الفقهاء ولأجل الجمع بينها قال : «كانت المتعة مباحة لفترة ، وبعد ذلك حرّمت ، ثمّ أبيحت ، ثمّ حرّمت»!!

فهل أصبحت الأحكام الإلهيّة لعباً ولهواً؟!

وإذا تجاوزنا كل هذا ، نقول : إنّ إباحة المتعة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانت للضرورة حتماً ، وهذه الضرورة قد تحصل في العصور اللاحقة أيضاً ،

وخصوصاً في عصرنا الحاضر إن لم تكن أشدّ ، فلما ذا تصبح حراماً؟ وهذه الضرورة تشمل بعض الشبّان أو المسافرين إلى بلاد بعيدة وبخاصة بلاد الغرب سفراً طويلاً.

ولم يكن الوضع في العالم الإسلامي في ذلك الزمان بهذه الصورة المهيجة ، فلم توجد النساء السافرات وغير المحجبات والأفلام السيئة في التلفاز والإنترنت والصحون اللاقطة للمحطات الفضائية والمجالس المفسدة والإعلام المضلل الذي يؤثر على الكثير من الشبّان مورداً للابتلاء.

فهل يمكن القبول بهذا الكلام : بأنّ المتعة كانت مباحة في ذلك العصر لضرورة ثمّ تحرم تحريماً أبدياً؟

وإذا تجاوزنا هذا أيضاً ، ولنفرض أنّ هناك مجموعة كثيرة من فقهاء الإسلام ترى حرمة الزواج المؤقت ، وهناك مجموعة أخرى أيضاً ترى حلّيته ، وإنّ المسألة خلافية ، فإذاً ليس من اللائق أن يتهم من يقول بالحلّية مخالفيه بأنّهم غير ملتزمين بالأحكام الدينية ، وكذلك أن يتهم المحرّمون من أباحها بإشاعة الزنا ـ والعياذ بالله ـ. بما ذا سيجيبون الله يوم القيامة؟

وأقصى ما يمكن قوله في هذا الموضوع : إنّه اختلاف في الاجتهاد.

قال الفخر الرازي في تفسيره وبعصبية خاصة في هذا النوع من المسائل : «ذهب السواد الأعظم من الأمّة إلى أنّها صارت منسوخة ، وقال السواد منهم أنّها بقيت كما كانت» (١) ، وبعبارة أخرى : إنّ المسألة خلافية.

وهنا نختم بحث الزواج المؤقت ، ونأمل من الجميع أن لا يحكموا قبل البحث ، ولا ينسبوا الأقوال بشكل غير صحيح ، فلا بدّ من إعادة البحث

__________________

(١). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١٠ ، ص ٤٩.

والتدقيق ثمّ الحكم ، وسيطمئنوا بأنّ المتعة ما زالت حكماً إلهيّاً ، ومع مراعاة الشروط ستحلّ الكثير من المشاكل يقيناً.

المبحث السادس

السجود على الأرض

١. أهمية السجود من بين العبادات

يعتبر السجود لله أهم العبادات في نظر الإسلام ، أو من أهم العبادات ، وكما جاء في الروايات : إنّ أقرب ما يكون الإنسان من ربّه وهو ساجد. وكان لقادتنا العظماء سجدات طويلة ، وخاصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل بيته عليهم‌السلام.

إنّ السجود الطويل لله تعالى يربي الروح الإنسانيّة ، وهو من أجلى مصاديق العبودية والخضوع للذات الإلهية ، ولهذا السبب جاءت الشريعة بالسجدتين في كل ركعة من الصلاة ، ومن أبرز مصاديق السجود : سجدة الشكر ، إضافة إلى سجدات تلاوة القرآن الواجبة والمستحبة.

الإنسان في حال السجود ينسى كل شيء ما عدا الله سبحانه ، ويرى نفسه قريباً جدّاً منه ، وقد أخذ مكانه على بساط القرب.

وأساتذة السير والسلوك والعرفان ، ومعلمو الأخلاق يؤكدون كثيراً على مسألة السجود.

إنّ مجموع ما ذكرناه دليل واضح على الحديث المشهور : إنّه لا يوجد عمل يزعج الشيطان أكثر من سجود الإنسان لربّه. ونقرأ في حديث آخر أنّ

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال لأحد أصحابه : «وإذا أردتَ أن يَحْشُرَكَ اللهُ مَعِي يَوْمَ القيَامة فَأطِلِ السُّجُودَ بَيْنَ يَدَي اللهِ الوَاحِد القَهَّار» (١).

٢. لا يجوز السجود لغير الله

نحن نعتقد أنّه لا يجوز السجود لغير الذات المقدّسة لله الواحد الأحد الفرد الصمد ؛ لأنّ السجود نهاية الخضوع ، والمصداق البارز للعبادة ، فالعبودية مختصة بالله سبحانه وتعالى.

والتعبير بقوله تعالى : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢). ومع الالتفات إلى تقديم كلمة (لِلَّهِ) في بداية الجملة المذكورة يستفاد منه الحصر. وهذا يعني أن جميع من في السماء والأرض لا يسجدون إلّا لله تعالى.

وكذلك جملة (لَهُ يَسْجُدُونَ) (٣) إشارة أخرى إلى انحصار السجود لله تعالى.

وفي الواقع يمثل السجود أقصى درجة من الخضوع ، وهو مختص بالله سبحانه وتعالى ، وإذا سجدنا لشخص أو لشيء آخر ، فهذا يعني : أن نجعله كفواً لله ، وهو عمل غير صحيح.

ونحن نعلم أنّ أحد معاني التوحيد «التوحيد في العبادة» يعني : أن تكون العبادة خالصة لله ، وبدونه لا يكتمل التوحيد. وبعبارة أخرى : إنّ عبادة غير الله شعبة من شعب الشرك ، والسجود نوع من أنواع العبادة ، أمّا سجود

__________________

(١). سفينة البحار ، مادة (سجود).

(٢). سورة الرعد ، الآية ٥.

(٣). سورة الأعراف ، الآية ٢٠٦.

الملائكة لآدم الذي جاء في بعض الآيات ، فهو كما قال بعض المفسرين : إنّه بمعنى التعظيم والاحترام والتكريم لآدم ، وليس بمعنى العبادة.

أو يكون السجود بمعنى العبودية لله ؛ لأنّهم أطاعوا الله ونفذوا ما يؤمرون ، أو يكون السجود شكراً لله.

وسجود يعقوب عليه‌السلام وزوجته وأولاده ليوسف عليه‌السلام كما جاء في القرآن (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً) (١) إمّا أن يكون سجود شكر لله تعالى ، أو هو نوع من الاحترام والتعظيم.

والجدير بالذكر : أنّه ورد في كتاب «وسائل الشيعة» ـ وهو من المصادر المعروفة عندنا ـ تحت عنوان «عدم جواز السجود لغير الله» من باب السجود في الصلاة ، سبعة أحاديث عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة المعصومين عليهم‌السلام مفادها عدم جواز السجود لغير الله (٢) ، وأوردنا هذا الكلام هنا للاستفادة منه في الأبحاث التالية.

٣. على أي شيء يجب السجود؟

اتفق أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على عدم جواز السجود على غير الأرض ، ويعتقدون أيضاً بجواز السجود على ما تنبته الأرض ، بشرط أن لا يكون من المأكول والملبوس ، مثل : أوراق وأغصان الأشجار والحصير والقصب وأمثالها.

في الوقت الذي يعتقد فيه عموم فقهاء السنّة بجواز السجود على كل

__________________

(١). سورة يوسف ، الآية ١٠٠.

(٢). وسائل الشيعة ، ج ٤ ، ص ٩٨٤.

شيء ، نعم هناك مجموعة استثنت من ذلك العموم تقول : لا يجوز السجود على كم الثياب وأطراف العمامة وأمثالها.

ويصر أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على هذا الاعتقاد ، استناداً إلى الروايات المنقولة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام ، ولذا يرجحون عدم السجود على السجاد الموجود في المسجد الحرام ومسجد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا بدّ من السجود على الحجر أو على الحصير الذي يجلبونه معهم عادة.

إنّ جميع المساجد الموجودة في إيران والعراق والبلاد الشيعية الأخرى مفروشة بالسجاد ، لذلك قاموا بإعداد قرص من التراب يطلق عليه (التربة) ووضعها فوق السجاد في حالة الصلاة ليسجدوا عليها ، ولتلامس الجبهة ـ وهي من أشرف أعضاء الإنسان ـ التراب في حضرة الله تعالى ، ليظهر تمام الخضوع والتذلل له تعالى ، وتنتخب هذه التربة عادة من تراب الشهداء ، ليستحضر تضحيات هؤلاء في سبيل الله ليكون دافعاً لحضور القلب في الصلاة ، ويرجحون تربة شهداء كربلاء على غيرها ، وهم غير مقيدين دائماً بهذه التربة ، أو هذا التراب ، كما ذكرنا سابقاً بجواز السجود على الأحجار التي تغطي أرض المسجد كما هو الحال في المسجد الحرام والمسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وعلى كل حال فأتباع أهل البيت عليهم‌السلام لديهم أدلة كثيرة لإثبات وجوب السجود على الأرض ، ومن جملتها أحاديث مروية عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرة الصحابة التي سنذكرها في الأبحاث التالية ، والروايات المروية عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام والتي سنأتي على ذكرها عاجلاً.

والعجيب في الأمر هنا هو لما ذا اتخذ بعض أهل السنّة ردة فعل سلبية اتجاه هذه الفتوى ، حيث اعتبروها بدعة تارة وكفراً وعبادة للأصنام تارة أخرى.

فإذا أثبتنا من خلال الكتب التي هي مورد قبول هؤلاء الإخوة بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأصحابه قد سجدوا على الأرض ، فهل يكون هذا بدعة أيضاً؟!

وإذا أثبتنا أنّ بعض أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كجابر بن عبد الله الأنصاري ، إنّه كان يأخذ قبضة من الحصى في يده ويضعها في يده الأخرى لتبرد ـ وذلك لشدّة الحرارة وسخونة الحصى والرمل ـ ليتمكن من وضع جبهته عليها حين الصلاة ، فهل يعتبرون جابر بن عبد الله عابداً للأصنام أو سانّاً لبدعة؟!

فهل من يسجد على الحصير أو يرجح السجود على الأحجار التي تغطي أرضية المسجد الحرام أو المسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يصبح عابداً للحصير ، أو لتلك الأحجار؟!

أفلا يجب على هؤلاء الإخوة قراءة كتبنا الفقهية العديدة ، ـ باب ما يمكن السجود عليه ـ ، ليروا أنّ ما ينسب إلينا عار عن الحق والصحة.

فهل يعفو الله سبحانه وتعالى يوم القيامة عن الذين يتهمون الآخرين بالبدعة والكفر وعبادة الأصنام بسهولة؟

وبعد الالتفات إلى هذا الحديث المروي عن الإمام الصادق عليه‌السلام يتضح لما ذا يسجد الشيعة على الأرض؟

وهو : عن هشام بن الحكم ـ وهو من الحكماء وأتباع الإمام عليه‌السلام ـ قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام أخبرني عمّا يجوز السجود عليه وعمّا لا يجوز؟ قال : «السّجودُ لا يَجُوزُ إِلّا على الأَرْضِ أوْ مَا أنْبَتَتِ الأرضُ إلّا مَا اكِلَ أوْ لُبِسَ» ،

فقلت له : جعلت فداك ، ما العلة في ذلك؟ قال : «لأَنّ السّجُودَ هُوَ الخُضُوعُ لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلَا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ عَلَى مَا يُؤْكَلُ وَيُلْبَسُ ؛ لأنَّ أَبْنَاءَ الدُّنْيَا عَبِيدُ مَا يَأكُلُونَ وَيَلْبَسُونَ ، وَالسَّاجِدُ فِي سُجُودِهِ فِي عِبَادَةِ اللهِ تَعَالى فَلَا يَنْبَغِي أنْ يَضَعَ جَبْهَتَهُ فِي سُجُودِهِ عَلَى مَعْبُودِ أبْنَاءِ الدُّنيَا الَّذِينَ اغْتَرُّوا بِغُرُورِهَا ، والسُّجُودُ عَلَى الأَرْضِ أفْضَلُ ؛ لأَنهُ أبْلَغُ في التَّواضُعِ وَالخُضُوعِ لِلّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (١).

٤. أدلة المسألة

والآن نأتي على ذكر الأدلة ، ونبدأ أولاً بكلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

أ) الحديث النبوي المعروف المرتبط بالسجود على الأرض

هذا الحديث نقله الشيعة والسنّة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «جُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وَطَهُورَاً» (٢).

وظنّ بعضهم أنّ معنى الحديث هو أنّ الأرض وما عليها مكان لعبادة الله والتعبد ، ولا يوجد مكان خاص ومعين للعبادة ، كما يقول به اليهود والنصارى : من أنّ العبادة لا بدّ أن تكون في الكنيسة أو المعابد الخاصّة. ولكن مع أدنى تأمل يتضح أنّ هذا التفسير لا ينسجم مع المعنى الواقعي للحديث ؛ لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» ونعلم أنّ ما هو طهور يمكن التيمم منه ، كالتراب والحصى من الأرض ، وعلى هذا لا بدّ أن يكون مكان السجود من نفس التراب والحصى.

__________________

(١). علل الشرائع للصدوق ، ج ٢ ، ص ٣٤١.

(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ٩١ ؛ وسنن البيهقي ، ج ٢ ، ص ٤٣٣ ، وهناك كتب أخرى كثيرة نقلت هذا الحديث.

ولو كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يريد بيان المعنى الذي استفاده بعض فقهاء أهل السنّة من الحديث لقال : «جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً» ولكنه لم يقل ذلك.

والنتيجة : أنّه لا يوجد شك أنّ معنى (مسجد) هنا هو بمعنى مكان السجود ، ومكان السجود لا بدّ أن يكون من نفس الشيء الذي يجوز منه التيمم.

فعمل الشيعة ليس خطأ إذا تقيَّدوا بالسجود على الأرض ولم يجيزوا السجود على السجاد وغيرها ؛ لأنّهم يعملون بأوامر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ب) سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله

كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يسجد على الأرض أيضاً ، وليس على السجاد أو اللباس وغيرهما ؛ وذلك بالاستفادة من مجموع الروايات المتعددة :

حيث نقرأ الحديث الذي ينقله أبو هريرة يقول : «سجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في يوم مطير حتّى أنّي لأنظر إلى أثر ذلك في جبهته وأرنبته» (١).

فإذا كان السجود على السِّجاد والثياب جائزاً ، فلا ضرورة أن يسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على الأرض في يوم ممطر.

تقول عائشة أيضاً : «مَا رَأيتُ رَسُولَ اللهِ مُتَّقِياً وَجْهَهُ بِشَيء» (٢) أي وقت السجود.

يقول ابن حجر في شرحه للحديث : «هذا الحديث يشير بأنّ الأصل في

__________________

(١). المعجم الأوسط للطبراني ، ج ١ ، ص ٣٦ ؛ ومجمع الزوائد ، ج ٢ ، ص ١٢٦.

(٢). مصنف ابن أبي شيبة ، ج ١ ، ص ٣٩٧.

السجود هو ملامسة الجبهة للأرض ، ولكن مع عدم التمكن لا يجب تحقيق ذلك» (١).

وجاء في رواية أخرى عن ميمونة (إحدى زوجات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله) : «ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يصلي على الخُمرة فيسجد» (٢) أي قطعة من الحصير.

والواضح من معنى الحديث أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قد سجد على الحصير.

وجاءت روايات كثيرة ومتعددة في المصادر المعروفة لدى أهل السنّة أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يصلي على الحصير.

والعجيب في الأمر أنّه إذا قام الشيعة بوضع الحصير للصلاة ، كما فعل النبي يتهمون بالبدعة من قبل مجموعة من المتعصبين ، وينظرون إليهم نظرة غضب ، في الوقت الذي تذكر هذه الأحاديث أنّ النبي هو الذي سنّ هذا العمل. وكم هو مؤلم أن تعتبر هذه السنن بدعة!!!

ولا أنسى ذلك الموقف الذي حدث في إحدى زياراتي لبيت الله الحرام ، عند ما كنت في مسجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأردت الصلاة على قطعة حصير ، أقبل حينها أحد الأشخاص المتعصبين من علماء الوهابية وأخذ الحصير ـ ووجهه مكفهر ـ وألقاه جانباً ، والظاهر أنّه كان يعتبر هذه السنّة بدعةً.

ج) سيرة الصحابة والتابعين

من الموضوعات الملفتة للنظر في هذا البحث هو التدقيق في حالات الصحابة والمجموعة التي جاءت بعدها والمعروفة باسم (التابعين) تشير إلى

__________________

(١). فتح الباري ، ج ١ ، ص ٤٠٤.

(٢). مسند أحمد ، ج ٦ ، ص ٣٣١.

أنّهم كانوا يسجدون على الأرض ، ونذكر على سبيل المثال :

١. يقول جابر بن عبد الله الأنصاري : «كُنْتُ أصَلِّي مَعَ النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الظّهْرَ فَآخَذَ قَبْضَةً مِنَ الحَصَى فَأجْعَلها فِي كَفِّي ثُمَّ أحَوِّلُهَا إلى الكَفِّ الأُخْرَى حَتَّى تَبْرُدَ ثُمَّ أضَعُهَا لِجَبِينِي حَتَّى أسْجُدَ عَلَيْها مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ» (١).

هذا الحديث يشير بشكل واضح إلى أنّ صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كانوا متقيدين بالسجود على الأرض ، حتى المواضع شديدة الحرارة ، فإذا لم يكن السجود على الأرض لازماً فلا داعي لتحمل كل هذه المشقّة.

٢. يقول أنس بن مالك : «كُنّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى‌الله‌عليه‌وآله فِي شِدّةِ الحَرِّ فَيَأخُذُ أحَدُنَا الحَصْبَاءَ فِي يَدِهِ فإذَا بَردَ وَضَعَهُ وَسَجَدَ عَلَيْهِ» (٢).

هذا التعبير يشير أيضاً بأنّ هذا العمل كان رائجاً بين الصحابة.

٣. ينقل أبو عبيدة : «أنّ ابنَ مَسْعُود لا يَسْجُدَ ـ أو قال : لا يصلي ـ إلّا عَلَى الأرْضِ» (٣).

فإذا كان المقصود من الأرض السجاد فلا حاجة لهذا البيان ، وعليه فالمقصود من الأرض هو التراب والحصى والرمل وما شابهها.

٤. جاء في ذكر حالات مسروق بن جدعان من أتباع ابن مسعود أنّه : «كان لا يرخّص في السجود على غير الأرض حتى في السفينة ، وكان يحمل في السفينة شيئاً يسجد عليه» (٤).

__________________

(١). مسند أحمد ، ج ٣ ، ص ٣٢٧ ؛ سنن الكبرى للبيهقي ، ج ١ ، ص ٤٣٩.

(٢). السنن الكبرى للبيهقي ، ج ٢ ، ص ١٠٦.

(٣). مصنف ابن أبي شيبة ، ج ١ ، ص ٣٩٧.

(٤). الطبقات الكبرى لابن سعد ، ج ٦ ، ص ٥٣.

٥. كتب علي بن عبد الله بن عباس إلى «رزين» : «ابعث إليّ بلوح من أحجار المروة عليه أسجد» (١).

٦. وجاء في كتاب فتح الباري في شرح صحيح البخاري : «كان عمر بن عبد العزيز لا يكتفي بالخمرة بل يضع عليها التراب ويسجد عليه» (٢).

فما ذا نفهم من مجموع هذه الأخبار؟ لا نفهم إلّا أنّ سيرة الصحابة وما بعد الصحابة كانت قائمة على السجود على الأرض أي على التراب والحصى والرمل في القرون الأولى.

فإذا أراد شخص من المسلمين في عصرنا أن يحيي هذه السنّة ، فهل يجب أن نعتبرها بدعة؟!

ألا يجب على فقهاء أهل السنّة أن يتقدموا لإحياء هذه السنّة النبوية ، هذا العمل الذي يحكي عن كمال الخضوع في حضرة الله ، ويتناسب مع حقيقة السجود. نأمل أن يأتي ذلك اليوم.

__________________

(١). أخبار مكة للأزرقي ، ج ٢ ، ص ١٥١.

(٢). فتح الباري ، ج ١ ، ص ٤١٠.

المبحث السابع

الجمع بين الصلاتين

طرح البحث :

الصلاة أهم صلة عبادية بين الخلق والخالق ، وأفضل الوسائل التربوية ، وهي وسيلة لتهذيب النفوس وتزكيتها ، فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ومعراج إلى الله ، والصلاة جماعة تعطي القوّة والقدرة للمسلمين ، وتوحّد صفوفهم ، وترفع من شأن المجتمع الإسلامي.

وتؤدّى الصلاة خمس مرّات في اليوم والليلة ، لكي يطهر قلب الإنسان وروحه باستمرار من هذا النبع الصافي للفيض الإلهي ، حيث يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : «قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ» (١) ، و «الصَّلاةُ مِعْرَاجُ المُؤْمِن» (٢). و «الصّلاة قُرْبانُ كُلُّ تَقِيّ» (٣).

والكلام في المقام هو : هل الفصل بين الصلوات الخمس في الأوقات الخمسة حكم إلزامي ، وبدونه تكون الصلاة باطلة؟ كما هو الحال في الصلاة قبل الوقت ، أو أنّه يمكن أن يأتي بالصلاة في ثلاثة أوقات بأن تؤدى صلاة

__________________

(١). مكارم الأخلاق ، ص ٤٦١.

(٢). مع أنّه لا يوجد في الجوامع الحديثية هذه الجملة ، ولكن العلّامة المجلسي يستشهد بها في طيات كلامه. بحار الأنوار ، ج ٧٩ ، ص ٢٤٩ و ٣٠٣.

(٣). أصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٢٦٥ ، ح ٢٦.

الظهر مع العصر وكذلك صلاة المغرب مع العشاء أيضاً.

اتفق علماء الشيعة أتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام على جواز أداء الصلاة في ثلاثة أوقات ، مع أفضلية إتيانها في أوقاتها الخمسة.

ولكن فقهاء أهل السنّة أوجبوا إتيان الصلاة في أوقاتها الخمسة غالباً إلّا عدّة قليلة ، وأجازوا الجمع بين صلاة الظهر والعصر في يوم عرفة ، والجمع بين المغرب والعشاء ليلة عيد الأضحى في المشعر الحرام فقط ، وكثير منهم أيضاً أجاز الجمع في السفر أو في الأيّام الممطرة التي يصعب فيها التردد على المسجد لأداء الصلاة جماعة ، أمّا من وجهة نظر فقهاء الشيعة فكما قلنا : إنّهم في الوقت الذي يؤكدون فيه على أفضلية أداء الصلوات في الأوقات الخمسة ، إلّا أنّهم أجازوا ورخصوا في أدائها في ثلاثة أوقات ، وهي تعتبر عطية إلهيّة لتسهيل أمر الصلاة والتوسعة على الناس ، ويرون أنّها تنسجم مع روح الإسلام ، فالشريعة سمحة سهلة.

والتجربة تثبت بأنّ التأكيد على أداء الصلوات في أوقاتها الخمسة قد يؤدّي إلى نسيان أصل الصلاة ، وترك الصلاة من قبل بعض الناس.

آثار الإصرار على الأوقات الخمسة في المجتمعات الإسلاميّة :

لما ذا أجاز الإسلام الجمع بين صلاة الظهر والعصر في يوم عرفة ، وصلاة المغرب والعشاء ليلة عيد الأضحى؟

لما ذا يرون الجمع جائزاً بين الصلاتين في السفر ، أو في اليوم الممطر بناءً على الروايات النبوية؟ لا شك في أنّه للتسهيل على الأمّة.

هذا التسهيل يوجب جواز الجمع بين الصلاتين عند الاضطرار أيضاً

سواء كان في الماضي أو في الحال الحاضر.

لقد تغيرت حياة الناس في هذا العصر ، والوضع الفعلي لا يساعد على أداء الصلوات في الأوقات الخمسة لوجود الكثير من العمال في المصانع والموظفين في الدوائر والطلاب والجامعيين في الصفوف ؛ لأنّ العمل صعب ومعقد كثيراً.

إنّ العمل على وفق الروايات ـ المنقولة عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وتأكيد أئمّة الشيعة عليهم‌السلام على ذلك ـ التي تجيز للناس الجمع بين الصلاتين سيؤدّي إلى التوسعة عليهم في أداء الصلاة ، مما يزيد في عدد المصلين وإقبالهم على أدائها وإلّا سيؤدي ذلك إلى ترك الصلاة بشكل أكثر ، وسيرتفع عدد تاركي الصلاة ، ولعل هذا ما يفسّر ترك الكثير من شباب أهل السنّة الصلاة كما يقولون ، بخلاف ما عليه الحال في صفوف شباب الشيعة فالنسبة فيهم أقلّ.

والحق : إنّ مقتضى «وبُعِثْتُ بالشَّرِيعَةِ السّمْحَةِ السَّهلَةِ» ومقتضى الروايات المتعددة التي نقلت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أنّه في الوقت الذي يؤكد فيه على فضيلة الصلاة في الأوقات الخمسة ، بل وفضلها جماعة ، أجاز للناس أن يؤدوا صلاتهم في الأوقات الثلاثة ، حتى وإن كانت على شكل فرادى ، لتحول دون ترك الناس للصلاة بسبب مشاكل الحياة.

والآن نعود للقرآن المجيد ولروايات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والمعصومين عليهم‌السلام لتحقيق المسألة بدون تطرف ، ومبتعدين عن التعصب.

روايات الجمع بين الصلاتين :

ذكرت المصادر المعروفة مثل صحيح مسلم ، صحيح البخاري ، سنن

الترمذي ، موطأ مالك ، مسند أحمد ، سنن النسائي ، مصنف عبد الرزاق ، ومصادر أخرى وكلها من المصادر المشهورة والمعروفة لدى أهل السنّة ذكرت ثلاثين رواية تقريباً حول الجمع بين صلاتي الظهر والعصر أو المغرب والعشاء بدون عذر كالسفر أو المطر أو خوف الضرر. وتعود هذه الروايات في الأصل إلى خمسة رواة وهم :

١. ابن عباس.

٢. جابر بن عبد الله الأنصاري.

٣. أبو أيوب الأنصاري.

٤. عبد الله بن عمر.

٥. أبو هريرة.

وسنعرض للقارئ المحترم مجموعة من تلك الروايات فيما يلي :

١. حدثنا أبو الزبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر والعصر جميعاً بالمدينة في غير خوف ولا سفر ، قال أبو الزبير : فسألت سعيداً : لم فعل ذلك؟ فقال : سألت ابن عباس كما سألتني فقال : أراد ان لا يحرج أحداً من أمّته» (١) أي : لا يريد أن يشقّ على أمّته.

٢. نقرأ في حديث آخر عن ابن عباس : «جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة في غير خوف ولا مطر».

وجاء في ذيل الرواية : وسئل ابن عباس : ما مقصود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من هذا العمل؟ فأجاب : «أراد أن لا يحرج» (٢) أي : لا يشقّ على أمّته.

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٥١.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٥٢.

٣. يقول عبد الله بن شقيق : «خطبنا ابن عباس يوماً بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون الصلاة الصلاة!»

قال : فجاءه رجل من بنى تميم لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة ، فقال ابن عباس : أتعلمني بالسنّة ، لا أمّ لك ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، قال عبد الله بن شقيق : فحاك في صدري من ذلك شيء ، فأتيت أبا هريرة فسألته : فصدّق مقالته» (١).

٤. حدثنا جابر بن زيد عن ابن عباس قال : «صلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعاً جميعاً وثمانياً جميعاً» (٢) ، إشارة إلى الجمع بين صلاة المغرب والعشاء وصلاة الظهر والعصر.

٥. حدثنا سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : «جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الظهر والعصر وبين المغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر ، قال : فقيل لابن عباس : ما أراد بذلك؟ قال : أراد أن لا يحرج أمّته» (٣).

٦. نقل أحمد بن حنبل قريباً منه في مسنده (٤).

٧. نقل مالك ، الإمام المعروف لدى أهل السنّة في كتابه «الموطأ» حديثاً عن ابن عباس أنّه : «صلّى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الظهر والعصر جميعاً والمغرب والعشاء جميعاً في غير خوف ولا سفر» (٥).

٨. جاء في كتاب «مصنف عبد الرزاق» عن عمر بن شعيب قال ، قال

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٥١.

(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ١٤٠ ، باب وقت المغرب.

(٣). سنن الترمذي ، ج ١ ، ص ١٢١ ، ح ١٨٧.

(٤). مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٢٢٣.

(٥). موطأ مالك ، ج ١ ، ص ١٤٤.

عبد الله : «جمع لنا رسول الله ، مقيماً غير مسافرين بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، فقال رجل لابن عمر : لم تر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فعل ذلك؟ قال : لأنّ لا يحرج أمّته إن جمع رجل» (١).

٩. حدثنا جابر بن عبد الله قال : «جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في المدينة للرخص من غير خوف ولا علة» (٢).

١٠. يقول أبو هريرة أيضاً : «جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الصلاتين في المدينة من غير خوف» (٣).

١١. ينقل عبد الله بن مسعود أيضاً : «جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين الأولى والعصر ، وبين المغرب والعشاء ، فقيل له ، فقال : صنعته لئلا تكون أمتي في حرج» (٤). وأحاديث أخرى.

وهنا يطرح سؤالان :

١. خلاصة الروايات السابقة

تؤكد جميع الأحاديث التي ذكرناها وهي من المصادر المعروفة ومن كتب الدرجة الأولى لدى أهل السنّة ، وأسانيدها تنتهي إلى مجموعة من كبار الصحابة ، على نقطتين :

النقطة الأولى : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جمع بين الصلاتين من دون أن يكون هناك أي وضع خاص ، مثل السفر ، أو الخوف ، أو وجود عدو.

__________________

(١). مصنف عبد الرزاق ، ج ١ ، ص ٥٥٦.

(٢). معانى الآثار ، ج ١ ، ص ١٦١.

(٣). مسند البزاز ، ج ١ ، ص ٢٨٣.

(٤). المعجم الكبير للطبراني ، ج ١٠ ، ص ٢١٩ ، ح ١٠٥٢٥.

النقطة الثانية : إنّ الهدف كان هو التوسعة على الأمّة ورفع الحرج والعسر.

فهل هذا يتناسب مع الإشكالات الواهية ، والقول إنّ هذا الجمع خاص بالحالات الاضطرارية؟ فلما ذا تغلقون أعينكم أمام هذه الحقائق ، وتقدّمون آراءكم غير المحقّقة على كلام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الصريح؟

الله سبحانه وتعالى ورسوله قد عفوا وأصفحا ، ولكن هناك مجموعة متعصبة من الأمة لا تعفو ولا تصفح ، لما ذا؟

لما ذا لا نفسح المجال للشاب المسلم أن يؤدي أهمّ وظيفة إسلاميّة وهي الصلاة اليوميّة ، مهما كانت حالته ، وفي أي مكان كان ، سواء في البلاد الإسلاميّة أم في خارجها ، في الجامعة كان أم في الدوائر أم في المصانع؟

نحن نعتقد بأنّ الإسلام صالح للتطبيق في جميع الأزمنة ، وفي جميع الأماكن حتى نهاية العالم.

ومن المتيقن أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد لاحظ بنظره الثاقب أوضاع جميع المسلمين في العالم على مرّ العصور ، فلو أراد أن يقيد الجميع بأداء الصلاة في الأوقات الخمسة ، لأصبحت هناك مجموعة من تاركي الصلاة ، وهذا ما نراه اليوم ، ولأجل هذا منّ على أمّته ووسّع عليها ، حتى تستطيع أن تؤدي الصلوات اليومية دائماً ، وبشكل مريح في كل زمان ومكان.

يقول القرآن الكريم : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (١).

٢. القرآن وأوقات الصلاة الثلاثة

ومن الأمور المحيرة في هذه المسألة هي : أن القرآن المجيد عند الحديث

__________________

(١). سورة الحج ، الآية ٧٨.

عن أوقات الصلاة ذكر ثلاثة أوقات فقط للصلوات اليوميّة ، والعجيب في الأمر لما ذا تصر مجموعة من هؤلاء الإخوة على وجوب الأوقات الخمسة؟ نحن لا ننكر فضيلة الأوقات الخمسة ، فنحن نراعي الأوقات الخمسة إذا حالفنا التوفيق ، ولكن المشكلة في وجوبها!!

وإليك الآيات التي تتحدث عن أوقات الصلاة :

الآية الأولى : في سورة هود : (وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) (١) ، يشير التعبير (طَرَفَيِ النَّهارِ) إلى صلاة الصبح التي تقام في أول النهار ، وإلى صلاة الظهر والعصر والتي يمتد وقتها إلى الغروب. وبعبارة أخرى : أنّه يستفاد من الآية بوضوح أنّ وقت صلاة الظهر والعصر يمتد إلى غروب الشمس.

أمّا عبارة (زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ) فمع الالتفات إلى ما قاله الراغب في كتابه «المفردات» و «مختار الصحاح» فإنّ كلمة «زلف» جمع «زلفة» وهي تعني القسم الأول من الليل ، إشارة إلى وقت المغرب والعشاء.

فإذا كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤدي الصلاة عادة في الأوقات الخمسة فلمراعاة وقت الفضيلة ، وهذا ما نعتقد به جميعاً ، فلما ذا نلجأ إلى التأويلات ولا نلاحظ ظاهر الآية؟!

الآية الثانية : في سورة الإسراء : (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً) (٢).

«الدلوك» يعني الميل ، وهنا يشير إلى ميلان الشمس عن خط نصف

__________________

(١). سورة هود ، الآية ١١٤.

(٢). سورة الإسراء ، الآية ٧٨.

النهار ، أي زوال الظهر.

(غَسَقِ اللَّيْلِ) يعني ظلام الليل ، وبعضهم فسّره بأوائل الليل ، وبعضهم فسّره بنصف الليل ، لأنّ ما قاله الراغب في «المفردات» يعني شدّة الظلام وهو نفسه نصف الليل.

فالنتيجة : إنّ «دلوك الشمس» إشارة إلى بداية وقت صلاة الظهر ، و «غسق الليل» إشارة إلى نهاية وقت صلاة المغرب والعشاء ، و «(قُرْآنَ الْفَجْرِ») إشارة إلى صلاة الصبح.

وعلى كل حال فالآية الشريفة بيّنت ثلاثة أوقات للصلاة اليوميّة وليس خمسة أوقات ، وهذا دليل على جواز الأوقات الثلاثة.

لدى الفخر الرازي بيان جميل عند تفسيره للآية حيث يقول : «إن فسّرنا الغسق بظهور أول الظلمة ـ وحكاه عن ابن عباس وعطاء والنضر بن شميل ـ كان الغسق عبارة عن أول المغرب ، وعلى هذا التقدير يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقات ، وقت الزوال ووقت أول المغرب ووقت الفجر ، وهذا يقتضي أن يكون الزوال وقتاً للظهر والعصر ، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين الصلاتين ، وأن يكون أول المغرب وقتاً للمغرب والعشاء ، فيكون هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين ، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء مطلقاً» (١).

ونلاحظ أنّ الفخر الرازي قد طوى البحث إلى هنا بشكل جيد ، وفهم معنى الآية بشكل صحيح وبينه بصورة واضحة ، ولكنه بعد ذلك يقول : «وبما أنّ لدينا دليلا على عدم جواز الجمع بين الصلاتين إلّا في عذر أو سفر» (٢).

__________________

(١). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ٢١ ، ص ٢٧.

(٢). نفس المصدر.

ويجب أن نذكر أنّه ليس فقط لا يوجد لدينا دليل على الاختصاص بحال العذر ، بل لدينا روايات متعددة ـ وقد أشرنا سابقاً إليها ـ تفيد أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان في بعض الأوقات يجمع بين صلاتي الظهر والعصر ، وصلاتي المغرب والعشاء ، بدون عذر وبدون سفر ، حتى يوسع على أمّته ، وتستفيد الأمّة من هذه الرخصة ، إضافة إلى أنّه كيف يتم تحديد إطلاق الآية بمصاديق محدودة جدّاً ، مع أن تخصيص الأكثر قبيح في علم الأصول.

وعلى كل حال فلا يمكن رفع اليد عن المعنى الواضح للآية في بيان الأوقات الثلاثة.

ونستنتج من المقالة التي ذكرناها ما يلي :

١. إنّ القرآن أجاز وببيان واضح أداء الصلوات الخمس في الأوقات الثلاثة.

٢. أشارت الروايات الإسلاميّة من كتب الفريقين إلى أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد جمع بين الصلاتين عدّة مرّات ، من دون أن يكون في سفر أو أي عذر آخر ، وهذا يعتبر رخصة للمسلمين حتى لا يقعوا في الحرج.

٣. مع أنّ الصلاة في الأوقات الخمسة تعد فضيلة ، ولكن الإصرار على الفضيلة في مقابل الرخصة ، سيؤدي بالكثير من الناس ـ وخصوصاً جيل الشباب ـ إلى إهمال الصلاة ، ويتحمل هذه المسئولية أولئك المخالفون للرخصة. لا أقل على علماء أهل السنّة أن يدعوا شبابهم تلاحظ صياغة الجملة يعملون على وفق فتوانا نحن أتباع أهل البيت عليهم‌السلام ، كما أجاز العالم الكبير شيخ الأزهر «الشيخ محمود شلتوت» العمل بفتوى المذهب الجعفري.

نؤكد مجدداً على أنّه لا بدّ من القبول بأنه من الصعب جدّاً في عصرنا الحاضر أداء الصلوات في الأوقات الخمسة بالنسبة للكثير من العمّال والموظفين والطلاب والجامعيين والفئات الأخرى ، ألا يجب أن نستفيد من رخصة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله التي اقترحها لهذه الأيّام ، حتى لا يشجع الشبّان والفئات الأخرى على ترك الصلاة؟

فهل يصح الإصرار على السنّة في مقابل ترك الفريضة؟

المبحث الثامن

المسح على الأرجل في الوضوء

القرآن والمسح على الأرجل :

المسح على الأرجل أحد الإشكالات التي يوردها بعض علماء أهل السنّة على الشيعة وأتباع مذهب أهل البيت عليهم‌السلام ، حيث يرى أغلبهم وجوب غسل الأرجل ، وعدم كفاية المسح على الأرجل.

في الوقت الذي أمر فيه القرآن المجيد بوضوح بالمسح على الأرجل ، وعمل أتباع أهل البيت عليهم‌السلام موافق للقرآن وللكثير من أحاديث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله التي تجاوزت ثلاثين حديثاً.

وكان المسح عمل الكثير من الصحابة والتابعين وليس الغسل.

ولكن للأسف أغمض بعض المخالفين أعينهم أمام هذه الأدلة ، ولم يكلفوا أنفسهم بالتدقيق بشكل كاف ، وشنوا هجومهم على أتباع هذا المذهب بالنقد والتجريح بألفاظ قاسية ، وغير لائقة ، وبعيدة عن الحق والاعتدال.

يقول ابن كثير وهو من العلماء المعروفين لدى أهل السنّة في كتابه «تفسير القرآن العظيم» : «قد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند ، بل بجهل وضلال ... وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما

ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في الواقع ونفس الأمر» (١).

وتبعه على ذلك جمع آخر بعيون عمياء وآذان صمّاء بدون أن يحققوا في المسألة ، ولفقوا على الشيعة التهم كما يحلو لهم.

وتصوروا أن جميع مخاطبيهم من العوام ، ولم يفكروا أنّه سيقوم المحققون والعلماء يوماً بنقد كلامهم ، وسيندمون على ذلك أمام التاريخ الإسلامي.

والآن وقبل كل شيء نتجه للقرآن المجيد ، فالقرآن يحدثنا في سورة المائدة ـ آخر سورة نزلت على نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ حيث يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) (٢).

ومن الواضح أنّ كلمة (أَرْجُلَكُمْ) معطوفة على (بِرُؤُسِكُمْ) فيكون المسح على كليهما لازماً سواء قرأنا (أَرْجُلَكُمْ) بالنصب أم بالجر. تأملوا (٣).

__________________

(١). أنظر تفسير ابن كثير ، ج ٢ ، ص ٥١٨.

(٢). سورة المائدة ، الآية ٦.

(٣). وللتوضيح هناك قراءتان معروفتان لكلمة (أَرْجُلَكُمْ) ، قراءة بالجر (كسر حرف اللام) برواية جمع من القراء المشهورين ، مثل حمزة وأبي عمر وابن كثير ، وحتى عاصم (موافق لرواية أبي بكر) ، وجمع آخر من المشهورين أيضاً قرءوها بالنصب ، وجميع المصاحف الحالية مكتوبة على وفقها.

ولكن لا يوجد أي فرق في المعنى بين هاتين القراءتين.

لأنّا إذا قرأناها بالكسر فواضح أنّها معطوفة على (بِرُؤُسِكُمْ) ومعناها أن تمسح القدمين في الوضوء ، (كما تمسح الرأس).

فهل يعاب على الشيعة العمل على وفق هذه القراءة التي يذهب إليها الكثيرون؟

وإذا تجاوزنا هذا وقرأناها بالفتح فهي معطوفة أيضاً ولكن على محل (بِرُؤُسِكُمْ) ، ومحلها

ومهما يكن ، فالقرآن المجيد يأمر بالمسح على القدمين.

توجيهات عجيبة :

ولكن هناك مجموعة عند ما رأت أن الأحكام المسبقة التي تبنوها لا تنسجم مع المنطق القرآني لجأت إلى تقديم توجيهات تجعل الإنسان في حيرة ، ومن جملتها :

١. إنّ هذه الآية قد نسخت من خلال سنة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأحاديث التي نقلت عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يقول «ابن حزم» في كتابه «الإحكام في أصول الأحكام» : «بما أنّ الغسل جاء في السنّة ، فلا بدّ من قبول أنّ المسح قد نسخ».

ويرد عليه :

أولاً : إنّ جميع المفسرين قالوا إنّ سورة المائدة هي آخر ما نزل على

__________________

النصب كما تعلمون ، لأنّه مفعول ل ـ (وَامْسَحُوا) فعليه يكون المعنى على كلا القراءتين المسح على القدمين.

ولكن توهّم بعضهم بأنّ قراءة (أَرْجُلَكُمْ) بالفتح تكون معطوفة على (وُجُوهَكُمْ) فيصبح المعنى اغسلوا وجوهكم وأيديكم وكذلك أرجلكم!

في الوقت الذي تكون هذه القراءة خلاف القواعد العربية ، ولا تتفق مع فصاحة القرآن.

فأمّا مخالفتها للقواعد العربية ، فهو أن لا يفصل بين المعطوف والمعطوف عليه بفاصل أجنبي ، وكما يقول العالم السني المعروف : إنّه يستحيل عطف (أَرْجُلَكُمْ) على (وُجُوهَكُمْ) لأنّه لم يسمع في الكلام العربي الفصيح أحد يقول «ضربت زيداً ومررت ببكر وخالداً» أي يكون «خالد» معطوف على «زيد» (شرح منية المصلي ، ص ١٦).

وحتى الأشخاص العاديين لا يتفوهون بهذا الكلام ، فكيف بالقرآن الكريم ، وهو مثال الفصاحة والكمال.

فعليه ، وكما قال بعض محققي أهل السنّة ، إنّه لا شك في أنّ كلمة (أَرْجُلَكُمْ) بناءً على النصب تكون معطوفة على محل (بِرُؤُسِكُمْ) ، وعلى كلا الوجهين يكون معنى الآية واحداً ، وهو المسح على الرأس والقدمين في الوضوء.

النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يوجد أي نسخ لآياتها.

ثانياً : وكما سيأتي ـ فيما بعد ـ بأنّه في مقابل الروايات الدالة على أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غسل قدميه عند ما توضأ ، هناك روايات أخرى متعددة لدينا تقول أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مسح على قدميه عند ما توضأ.

فكيف يمكن أن ينسخ هذا الأصل القرآني بروايات موضوعة هذا حالها؟

ولو تجاوزنا هذا ، فإنه قد ذكر في باب تعارض الروايات ، بأنّه إذا تعارضت الروايات يجب عرضها على القرآن ، فما وافق القرآن يؤخذ به ، وما خالفه فهو مردود.

٢. هناك البعض مثل : «الجصاص» في كتابه «أحكام القرآن» يقول : إنّ آية الوضوء مجملة ، ولا بدّ من العمل بالاحتياط ، فنغسل القدمين ، فيتحقق الغسل والمسح (١).

ونحن نعلم جميعاً أنّ هناك تبايناً بين مفهوم «الغسل» و «المسح» والغسل لا يشمل المسح بتاتاً.

ولكن ما العمل!! فالأحكام المسبقة التي تطلق قبل التحقيق لا تجيز لنا العمل بظاهر القرآن.

٣. يقول الفخر الرازي : حتى لو قرأنا «أرجلكم» بالجر ، معطوفاً على «رءوسكم» والتي تدلّ بوضوح على المسح ، إلّا أنّ المقصود ليس المسح على القدمين ، بل إنّ المقصود من المسح على القدمين عدم إراقة الماء الكثير عند غسل القدمين (٢).

__________________

(١). أحكام القرآن ، ج ٢ ، ص ٤٣٤.

(٢). تفسير الكشّاف ، ج ١ ، ص ٦١٠.

فإذا قبلنا بهذا النوع من الاجتهاد والتفسير بالرأي للآيات القرآنيّة ، فلن يبقى شيء من ظواهر القرآن نعمل به ، فإذا قلنا : إنّ المسح يعني عدم الإسراف في الغسل مجازاً ، لأمكننا تفسير جميع ظواهر الآيات بشكل آخر.

الاجتهاد والتفسير بالرأي مقابل النص :

هناك قرائن كثيرة تشير إلى قبح هذا النوع من الاجتهاد وعدم قبوله مقابل النص الرائج في عصرنا الحاضر. وهذا لم يكن موجوداً في العهد الأول للإسلام.

وبعبارة أخرى : إنّ هذا التعبد والتسليم المطلق الموجود عندنا اليوم لآيات القرآن المجيد وكلام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن بهذه القوّة والشدّة في تلك العصور.

فمثلاً : عند ما تحدث عمر عن رأيه المعروف : «متعتان كانتا محللتان في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أحرمهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج» (١) ، لم نسمع أحداً من الصحابة انتقده أو وجّه الملامة له ، قائلاً إنّ هذا اجتهاد في مقابل النص.

وأمّا لو قال أحد العلماء الكبار من فقهاء الإسلام في زماننا : «إنّ العمل الفلاني كان حلالاً في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنا أحرمه» ، لتصدى له الجميع استغراباً من موقفه ، وأظهروا رفضهم ، وقالوا إنّه لا قيمة لهذا الرأي ، ولا يحق لأحد أن يحرم حلال الله ، ولا يحلل حرامه ؛ لأنّه لا معنى لأن يجتهد أحد أمام النص ، ولا أن ينسخ الأحكام.

__________________

(١). مصادر هذا الحديث مرت في بحث الزواج المؤقت.

ولكن العهد الأول لم يكن كذلك ، وبهذا الدليل نرى بعض الفقهاء قد أجاز لنفسه مخالفة الأحكام الإلهية ، وقد يكون إنكار المسح على القدمين وإبداله بالغسل ، من هذا القبيل.

ولعلّ بعضهم تصوّر أنّ من الأفضل غسل القدمين ؛ لأنّها معرضة للتلوث دائماً ، فما الفائدة من المسح؟ وخصوصاً أنّ بعض المسلمين كانوا حفاة في تلك الأعصار ، ولأجل هذا كان إحضار الماء لغسل أرجلهم من الآداب المتعارفة في وقتها عند استقبال الضيوف!.

والشاهد على هذا الكلام ما قاله صاحب كتاب «تفسير المنار» في ذيل آية الوضوء من توجيه لكلمات القائلين بالغسل حيث يقول : «إن مسح اليدين على القدمين الملوثة بالغبار أو المتسخة غالباً ، ليس فقط لا فائدة فيه ، بل قد يلوثها أكثر ممّا هي عليه ، وسينتقل التلوث إلى اليد أيضاً».

وينقل ابن قدامة الفقيه المعروف لدى أهل السنّة (المتوفى ٦٢٠ قمري) عن بعضهم قوله : «إنّ القدمين في معرض التلوث بخلاف الرأس ، فمن المناسب أن تغسل القدمين ويمسح على الرأس» (١). فنجد كيف رجّح هذا الاجتهاد والاستحسان في مقابل ظاهر الآية القرآنيّة ، وترك المسح ووجّه الآية توجيهاً غير سليم.

والظاهر أنّ هذه المجموعة قد نسيت أنّ الوضوء مركب من النظافة والعبادة ، فمسح الرأس لا علاقة له بنظافته ، وخصوصاً على بعض الفتاوى بكفاية المسح بالإصبع ، وكذلك مسح القدمين.

__________________

(١). المغني لابن قدامة ، ج ١ ، ص ١١٧.

وفي الواقع أنّ المسح على الرأس والقدمين إشارة إلى تسليم وطاعة الإنسان المتوضئ الأوامر الإلهيّة من الرأس إلى أخمص القدمين ، وإلّا فلا المسح على الرأس يحقق النظافة ولا المسح على القدمين.

وعلى كل حال ، فنحن تابعون للأحكام الإلهيّة ولا يحق لنا مع قصور عقولنا تغيير الأوامر الإلهيّة ، فعند ما نزلت آخر سورة من القرآن الكريم على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمرت بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس والقدمين فيجب أن لا نخالفها ، ونلجأ إلى توجيه تلك المخالفات بتفسير كلام الله سبحانه وتعالى بأسلوب غير وجيه مع قصور العقل الإنساني.

نعم ، إنّ التفسير بالرأي والاجتهاد مقابل النص بلاء عظيم ، أضر ـ وللأسف ـ بأصالة الفقه الإسلامي في بعض الموارد.

المسح على الأحذية :

ومن عجائب الدهر التي تحير كل محقق منصف أنّه في الوقت الذي يصرون فيه على عدم جواز المسح على القدمين في الوضوء ولزوم غسل القدمين ، يصرح أغلبهم بجواز المسح على الحذاء بدل غسل القدمين ، من دون أن يكون هناك اضطرار أو سفر ، بل في حال الاختيار والحضر وعلى كل حال.

وفي الحقيقة إنّ هذه الأحكام ـ إما غسل الأرجل أو المسح على الحذاء ـ تثير التعجب والدهشة.

طبعاً هناك مجموعة تعتبر قلة في نظر فقه أهل السنّة ، كعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وابن عباس ومالك ـ أحد أئمّة أهل السنّة ـ في إحدى فتاواه ، لا

يجيزون المسح على الحذاء.

والملفت للنظر أنّ عائشة ـ التي يولي الإخوة أهل السنّة أهمية كبيرة لفتاواها ورواياتها ـ تقول في الحديث المعروف : «لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين» (١). وقد كانت تعيش مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليل نهار وترى وضوءه.

وعلى كل حال ، لو اتّبع هؤلاء الإخوة أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام والتي تتطابق مع ظواهر القرآن لما قبلوا إلّا بالمسح على القدمين.

يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في الحديث الصحيح : «إنِّي تَارِكٌ فيكم ما إن تمَسَّكْتمْ بِهما لَنْ تَضِلّوا كتَاب اللهِ وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيتِي ، وإنَّهما لَنْ يَفْتَرِقَا حتّى يَرِدَا عَلَيَّ الحَوْض» (٢).

يقول الإمام الباقر عليه‌السلام في رواية معتبرة : «ثَلاثَةٌ لا أتَّقِي فِيهِنَّ أحَداً : شُرْبُ المُسْكِرِ ، وَمَسْحُ الخُفَّينِ ، وَمُتْعَةُ الحَجِّ» (٣).

الروايات الاسلامية والمسح على القدمين :

اتّفق فقهاء الإماميّة على عدم القبول بغير المسح على القدمين في الوضوء ، والروايات الواردة من طرق أهل البيت عليهم‌السلام صريحة في هذا المعنى ، وقد لاحظتم ذلك في حديث الإمام الباقر عليه‌السلام المذكور سابقاً ، وهناك أحاديث كثيرة في هذا المجال.

__________________

(١). المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٩٨.

(٢). كمال الدين وتمام النعمة ، ص ٢٣٧.

(٣). اصول الكافي ، ج ٣ ، ص ٣٢.

ولكن الأحاديث التي جاءت في مصادر أهل السنّة مختلفة تماماً ، فهناك عشرات الأحاديث أشارت إلى مسألة المسح على القدمين ، أو تقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد أن مسح على رأسه مسح على قدميه ، وهناك أحاديث أخرى نسبوها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول بالغسل وبعضها بالمسح على الخفين.

فالطائفة من الأحاديث التي ذكرت المسح فقط مذكورة في الكتب المعروفة مثل :

١. صحيح البخاري.

٢. مسند أحمد.

٣. سنن ابن ماجة.

٤. مستدرك الحاكم.

٥. تفسير الطبري.

٦. الدر المنثور.

٧. كنز العمال ، وغيرها من الكتب المسلّم باعتبارها عند أهل السنّة.

ورواة هذه الأحاديث أشخاص مثل :

أ) أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

ب) ابن عباس.

ج) أنس بن مالك (الخادم الخاص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله).

د) عثمان بن عفان.

ه ـ) بسر بن سعيد.

و) رفاعة.

وسنكتفي هنا بذكر خمس روايات ، وأعجب ما قيل من كلام ، ما قاله

بعضهم مثل الآلوسي المفسر المعروف : «لا يوجد أكثر من رواية واحدة لدى الشيعة دليلاً على ذلك» (١) :

والروايات هي :

١. عن علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : «كُنْتُ أرى بَاطِنَ القَدَمَيْنِ أَحَقُّ بالمَسْحِ مِنْ ظَاهِرِهِما حَتَّى رَأيْتُ رَسُولَ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يَمْسَحُ ظَاهِرَهُما» (٢).

هذا الحديث ذكر وبشكل صريح أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مسح على القدمين ، وبواسطة شخص مثل الإمام علي عليه‌السلام.

٢. عن أبي مطر قال : «بينما نحن جلوس مع علي عليه‌السلام في المسجد إذ جاء رجل إلى علي عليه‌السلام وقال : أرني وضوء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله. فدعا قنبراً فقال : آتيني بكوز من ماء ، فغسل يده ووجهه ثلاثاً ، فأدخل بعض أصابعه في فيه واستنشق ثلاثاً ، وغسل ذراعيه ثلاثاً ، ومسح رأسه واحدة ... ورجليه إلى الكعبين» (٣).

٣. عن بسر بن سعيد قال : «أتى عثمان المقاعد فدعا بوضوء فتمضمض ، واستنشق ثمّ غسل وجهه ثلاثاً ، ويديه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ مسح برأسه ورجليه ثلاثاً ثلاثاً ، ثمّ قال : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هكذا توضأ ، يا هؤلاء أكذلك؟ قالوا : نعم ، لنفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عنده» (٤).

يشير هذا الحديث بوضوح إلى أنّ طريقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله في الوضوء هي المسح ، وهذه الشهادة لا تنحصر بقول عثمان فقط ، بل جمع من الصحابة

__________________

(١). تفسير روح المعاني ، ج ٦ ، ص ٨٧.

(٢). مسند أحمد ، ج ١ ، ص ١٢٤.

(٣). كنز العمّال ، ج ٩ ، ص ٤٤٨.

(٤). مسند أحمد ، ج ١ ، ص ٦٧.

أيضاً يشهدون على ذلك ، وإن كانت قد ذكرت المسح على الرأس والقدمين ثلاثاً ، إلّا أنّه يمكن حمله على الاستحباب ، أو خطأ الراوي.

٤. عن رفاعة بن رافع أنّه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «إنّه لا تتم صلاة لأحد حتّى يسبغ الوضوء ، كما أمر الله عزوجل ، يغسل وجهه ويديه إلى المرفقين ويمسح برأسه ورجليه إلى الكعبين» (١).

٥. عن أبي مالك الأشعري أنّه قال لقومه : «اجتمعوا أصلي بكم صلاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلما اجتمعوا ، قال : هل فيكم أحد من غيركم؟ قالوا : لا ، إلّا ابن أخت لنا ، قال : ابن أخت القوم منهم ، فدعا بجفنة فيها ماء ، فتوضأ ومضمض واستنشق وغسل وجهه ثلاثاً ، وذراعيه ثلاثاً ثلاثاً ، ومسح برأسه وظهر قدميه ثمّ صلّى بهم» (٢).

وما ذكرناه يمثل قسماً بسيطاً من الروايات الموجودة في كتب أهل السنّة المعروفة ، والتي نقلها رواة معروفون.

فأمّا الأشخاص والأفراد الذين ذكروا : أنّه لا يوجد أي حديث يدلّ على المسح على الرجلين ، أو لا يوجد أكثر من حديث واحد على ذلك ، فهم أناس غير واعين ومتعصبون ، حيث تصورا أنّ بإغماض العين وإنكار الواقعيات سيتم إلغاء الواقعيات.

فهم كمن أراد أن ينكر وجوب المسح المستفاد من دلالة الآية في سورة المائدة ، حتى وصل بهم الأمر إلى أن قالوا إنّ الآية صريحة في الغسل ، كما بيّناه سابقاً.

__________________

(١). سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ١٥٦.

(٢). مسند أحمد ، ج ٥ ، ص ٣٤٢.

روايات المخالفين :

لا ننكر وجود مجموعتين من الروايات المتعارضة مع الروايات التي ذكرناها سابقاً في مصادر أهل السنّة المعروفة.

مجموعة من الروايات ، تقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يغسل رجليه عند الوضوء ، وروايات أخرى ، تقول : لا تغسل الأرجل ولا تمسح ، بل يمسح على الخفين!!

ولكن يجب أن لا ننسى القاعدة الأصولية المسلّمة التي تقول : إذا تعارضت مجموعتان من الروايات حول مسألة واحدة ، يجب أولاً معالجتها بالجمع الدلالي لحلّ التعارض طبقاً لموازين الفهم العرفي.

وإذا لم نتمكن من ذلك ، فيجب عرضها على كتاب الله ، لنرى أيّهما مطابق للقرآن فنأخذ بها ، وما خالفه نتركها ، وهذه الطريقة ثابتة بأدلة معتبرة.

فإذاً يمكن الجمع بين روايات المسح والغسل ، بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أدى وظيفة المسح في الوضوء ، وبعد ذلك قام بتنظيف الرجلين بغسلهما ، من دون أن يكون الغسل جزءاً من الوضوء ، وقد تخيل بعض من رأى هذا المشهد أن غسل الرجلين جزءٌ من أفعال الوضوء.

وهذه الطريقة تستخدم كثيراً بين الشيعة ، فبعد أن يؤدوا وظيفتهم بمسح الرجلين للوضوء ، يقومون بغسل الأرجل كاملاً للتنظيف.

هذا العمل وبسبب حرارة الهواء في تلك البيئة يكون ضرورياً عند استخدامهم النعال المكشوفة وليس الأحذية ، لأنّ النعال لا تقي من التلوث بشكل كامل.

وعلى كلّ حال ، فالمسح على الرجلين هو الوظيفة الواجبة المتعينة ، وهو

أمر منفصل عن الغسل المتعارف للرجلين.

واحتمال اجتهاد بعض الفقهاء مقابل النص وارد ، وذلك بالإفتاء بلزوم غسل الرجلين ؛ لأنّهم يعتقدون بأنّ إزالة تلوث الرجلين لا يحصل إلّا بالغسل ، ويتنصلون من وجوب المسح المستفاد من ظاهر الآية الموجودة في سورة المائدة ، كما جاء ذلك في كلمات بعض علماء أهل السنّة في البحوث السابقة ، حيث قالوا : إنّه من الأفضل غسل الرجلين بسبب التلوث ، والمسح لا يفي بالغرض.

الشريعة سهلة سمحاء :

نحن نعتقد بأنّ الإسلام دين عالمي ، لجميع بقاع العالم على مر العصور والقرون ، وهو في الوقت نفسه شريعة سمحاء سهلة تماماً ، فكّروا بأنّ الالتزام بوجوب غسل الرجلين في الوضوء خمس مرات يومياً يخلق بعض المشاكل المهمّة في العالم ، ممّا يؤدّي الى نفور البعض من الدين وترك الوضوء والصلاة بسبب الحرج وهو خلاف مبدأ الشريعة السهلة السمحاء.

وهذه هي نتيجة الاجتهاد مقابل النص وترك روايات المسح.

وإنّ احتمال وضع بعض روايات الغسل ـ وليست كلها ـ في عصر بني أمية غير مستبعد ؛ وذلك لأنّ وضع الأحاديث في ذلك الزمان كان له رواج واسع بسبب المبالغ الضخمة التي كانت تقدم لواضعي الحديث من قبل معاوية ؛ لأنّ الجميع يعلم أنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان من المؤيدين لمسح الرجلين ، ومعاوية كان يصر على مخالفة الإمام في كل عمل.

ونرجو التدقيق في هذين الحديثين :

١. جاء في صحيح مسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال : ما منعك أن تسب أبا تراب ، فقال : «أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فلن أسبه ، لأن تكون لي واحدة منهن أحبّ إلي من حمر النعم» ، وبعد ذلك ذكر قصّة غزوة تبوك ، وجملة : «أمّا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» وبين كذلك قصّة غزوة خيبر ، والجملة المهمّة التي قالها النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في حق علي عليه‌السلام وذكر قصّة المباهلة أيضاً» (١).

هذا الحديث يبيّن بوضوح مدى إصرار معاوية على مخالفة الإمام علي عليه‌السلام وإلى أي حد.

٢. نستفيد من خلال الروايات الكثيرة أنّ هناك مجموعتين أقدموا على وضع الأحاديث في القرن الأول من تاريخ الإسلام :

المجموعة الأولى : هم مجموعة من الأشخاص ظاهرهم الصلاح والزهد ، ولكنهم بسطاء وساذجون ، فقاموا بوضع الأحاديث بنية القربة ، ومن جملتهم مجموعة متدينة في الظاهر قاموا بوضع أحاديث عجيبة وغريبة في فضائل السور لترغيب الناس على تلاوة القرآن ، ونسبوها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وللأسف لم يكونوا قليلي العدد.

يقول القرطبي العالم المعروف عند أهل السنّة في كتابه التذكار : «لا اعتبار للروايات التي وضعها الوضّاعون كذباً في فضيلة سور القرآن ، ارتكب هذا العمل جماعة كثيرة في فضائل السور القرآنيّة ، بل في فضائل بعض الأعمال ، فوضعوا الأحاديث بنية قصد القربة لترغيب الناس

__________________

(١). صحيح مسلم ، ج ٧ ، ص ١٢٠.

وتشجيعهم على الأعمال الفاضلة ، ويرى أنّه لا يوجد أي منافاة بين الكذب ـ وهو أقبح الذنوب ـ والزهد والفقاهة» (١).

ذكر العالم (القرطبي) نفسه في الصفحة التالية لنفس الكتاب نقلاً عن «الحاكم» وبعض الشيوخ المحدثين : «أنّ أحد الزهاد قام بوضع بعض الأحاديث بقصد القربة في فضيلة القرآن وسوره ، وعند ما سألوه : لما ذا قمت بهذا العمل؟

قال : رأيت قلة اهتمام الناس بالقرآن ، فأحببت أن أشجع الناس أكثر على القرآن.

وعند ما قالوا له : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِداً فَلْيَتَبَوأ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّار» (٢). فأجاب : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ ...» وأنا لم أكذب ضد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بل كذبي كان لمصلحة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ولم يقتصر الأمر على ما نقله القرطبي ، بل نقل هذه الأحاديث مجموعة أخرى من علماء أهل السنّة أيضاً ، ولأجل التوسع في البحث يراجع كتاب (الغدير) القيم ، الجزء الخامس ، باب الكذّابين والوضّاعين.

المجموعة الثانية : هم الأشخاص الذين يأخذون مبالغ طائلة مقابل وضع الأحاديث لصالح معاوية وبني أمية ، وذم أمير المؤمنين علي عليه‌السلام.

ومن جملتهم : سمرة بن جندب الذي أخذ مبلغاً قدره أربعمائة ألف درهم من معاوية لوضع حديث في ذم الإمام علي عليه‌السلام ومدح قاتله ، وقال إنّ الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ ...) (٣) نزلت في عبد

__________________

(١). التذكار للقرطبي ، ص ١٥٥.

(٢). وسائل الشيعة ، ج ١٢ ، ص ٢٤٩ ، ح ٥.

(٣). سورة البقرة ، الآية ٢٠٧.

الرحمن بن ملجم قاتل الإمام علي عليه‌السلام ، وأنّ الآية : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ...) (١). نزلت في الإمام علي عليه‌السلام (٢) ، نعوذ بالله من هذه الأكاذيب.

وعلى هذا فليس بعيداً أن توضع روايات غسل الأرجل في الوضوء لمخالفة الإمام علي عليه‌السلام.

المسح على الأحذية في نظر العقل والشرع!!

كما أشرنا سابقاً إلى إصرار هؤلاء على عدم جواز المسح على الرجلين في الوضوء ، ووجوب الغَسل ، في الوقت الذي يجيزون المسح على الحذاء في الوضوء اعتماداً على بعض الأحاديث المنقولة عن نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله.

مع أنّ أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام تخالف ذلك عموماً ، وكذلك هناك روايات معتبرة من طرق أهل السنّة صريحة في مخالفة ذلك.

وتوضيح ذلك : أجمع فقهاء الإمامية تبعاً لروايات أهل البيت عليهم‌السلام على عدم جواز المسح على الحذاء مطلقاً ، ولكن أغلب فقهاء أهل السنّة يجيزون ذلك مطلقاً في الحضر والسفر ، إلّا أنّ بعضهم يقيد ذلك بموارد الضرورة.

وهنا تطرح مجموعة ، من أسئلة ، منها :

١. كيف يكون المسح على الأرجل غير جائز؟ بينما يجوز المسح على الحذاء ، مع أنّهم عند ما ذكروا غسل الأرجل ، قالوا إنّ الغَسل لأجل التلوث أفضل من المسح.

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ٢٠٤.

(٢). ابن أبي الحديد المعتزلي ، نقلا عن منتهى المقال ، في شرح حال «سمرة».

فهل المسح على الحذاء المتلوث يمكن أن يحل محل الغسل؟

وهناك الكثير ممن قال بالتخيير بين غسل الأرجل والمسح على الحذاء.

٢. لما ذا تركتم التمسك بظاهر القرآن المجيد الذي يقول بمسح الرأس والرجلين ، وذهبتم إلى المسح على الحذاء؟

٣. لما ذا لا تأخذون بروايات أهل البيت عليهم‌السلام التي اتفقت على عدم جواز المسح على الحذاء ، الذين اعتبرهم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيلة للنجاة بجوار كتاب الله؟

٤. صحيح أنّ هناك روايات وردت عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تقول : إنّه مسح على الحذاء ، ولكن بالمقابل لدينا روايات معتبرة أيضاً تقول : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قال بالمسح على الرجلين ، فلما ذا لا نلجأ إلى الآية القرآنيّة عند تعارض الروايات ، ونجعلها حاكمة ومرجعاً في هذه الروايات المختلفة؟

وكلما تعمقنا أكثر في هذه المسألة تزداد حيرتنا :

حيث نقرأ في كتاب الفقه على المذاهب الأربعة : «إنّ المسح على الخفين واجب في حالات الضرورة والاضطرار ، وأمّا بدون الضرورة فهو جائز ، والغَسل أفضل من المسح».

وبعدها نقل عن الحنابلة قولهم : إنّ المسح على الخف أفضل من نزعه وغسل الرجلين ؛ لأنّ الله تعالى يحب للناس أن يأخذوا برخصه كي يشعروا بنعمته عليهم ، فيشكروه عليها ، وقد وافق بعض الحنفية على هذا» (١).

بعدها ادعى أنّه قد ثبت المسح على الخفين بأحاديث كثيرة صحيحة تقرب من حد التواتر (٢).

__________________

(١). انظر الفقه على المذاهب الأربعة ، ج ١ ، ص ١٣٥.

(٢). نفس المصدر ، ص ١٣٦.

والملفت للنظر أكثر أنّه تعرض بشكل مفصّل إلى شروط هذا النوع من الخفين ، ومقدار المسح ومدته ، (والمدّة المعتبرة في جواز ذلك) ومستحباته ومكروهاته ، ومبطلات المسح على الخفين وأحكام الخفين ، وما يلبس فوق الخفين ، ونوعهما ، وأنّه هل يجب أن يكونا مصنوعين من الجلد ، أو يكفي غير الجلد أيضاً ، وحكم الخفين المفتوحين وغير المفتوحين و... الذي يأخذ حيزاً كبيراً من هذا الكتاب (١).

٥. لما ذا لا نحمل روايات المسح على الحذاء على موارد الضرورة أو السفر أو الحرب ، أو في الموارد التي لا يمكن نزع الحذاء فيها ، أو استلزام ذلك الحرج الشديد؟

وهذه الأسئلة لا جواب لها إلّا الأحكام المسبقة ، وغير المدروسة المسببة للفوضى في مسألة بسيطة.

كنت ذات يوم في مطار جدة وشاهدت أحد هؤلاء الإخوة عند ما أقبل للوضوء ، فقام بغسل رجليه بشكل جيد بدل المسح ، وجاء آخر وغسل وجهه ويديه ، ثمّ مسح بيده على حذائه ، وذهب للصلاة. فأثار ذلك استغرابي وحيرتي ، وقلت : هل يمكن لشخص حكيم مثل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يعطي مثل هذه الأوامر التي لا يمكن توجيهها؟

وبعد هذه الأسئلة من اللازم أن نأتي على ذكر الأدلة الرئيسية ، ومن خلال استعراض هذه الأدلة نستكشف المنشأ الأساسي لهذه الفتوى ، وكذلك الطريق العقلائي للحل.

__________________

(١). الفقه على المذاهب الأربعة ، ص ١٣٥ ـ ١٤٧.

والأدلة هي مجموعة من الروايات : يمكن تقسيمها إلى عدّة طوائف :

أ) الروايات التي نقلت من مصادر أهل البيت عليهم‌السلام والتي تنفي بشكل عام المسح على الحذاء ، وعلى سبيل المثال :

١. ينقل الشيخ الطوسي عن أبي الورد قال : «قلت لأبي جعفر عليه‌السلام إنّ أبا ظبيان حدثني أنّه رأى علياً عليه‌السلام أراق الماء ثمّ مسح على الخفين ، فقال : كذب أبو ظبيان : أمَا بَلَغَكُم قَوْلُ عَلِيّ عليه‌السلام فِيكُمْ : سَبَقَ الْكِتَابُ الخُفَّيْنِ؟

فقلتُ : هَلْ فِيهِمَا رُخْصَةٌ؟

فَقَالَ : لَا ، إلّا مِنْ عَدُوّ تَتَّقِيهِ أو ثَلْج تُخَافُ عَلَى رِجْلَيْكَ» (١).

ونستفيد من هذا الحديث عدّة نقاط :

أولاً : أنّ المشهور في روايات أهل السنّة أنّ الإمام علياً عليه‌السلام لا يجيز المسح على الخفين ، ومع هذا كيف يجيز أبو ظبيان وأمثاله لأنفسهم أن يكذبوا على الإمام عليه‌السلام ، فهل كانت هناك مؤامرة؟

سيتضح الجواب عن هذا السؤال فيما بعد.

ثانياً : الإمام علي عليه‌السلام يشير إلى الطريق ويقول : القرآن المجيد مقدم على كل شيء ، ولا يقدم على القرآن شيء ، فإذا رأينا رواية تخالف القرآن يجب تأويلها ، هذا مع أنّ آية الوضوء في سورة المائدة من الآيات التي لم تنسخ قطعاً.

ثالثاً : الإمام الباقر عليه‌السلام يشير إلى أنّ الروايات التي جاءت بالمسح على الخفين محمولة على الضرورة أيضاً ، مثل : البرد الشديد الذي فيه خوف على الأرجل.

__________________

(١). التهذيب ، ج ١ ، ص ٣٤٧ ، ح ١٠٩٢.

٢. ينقل المرحوم الصدوق في كتابه (من لا يحضره الفقيه) حديثاً عن أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : «إنَّا أَهْلُ بَيْت ... لا نَمْسَحُ عَلَى الخُفَّيْنِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْ شِيعَتِنَا فَلْيَقْتَدِ بِنَا وَلْيَسْتَنَّ بِسُنَّتِنَا» (١).

٣. نقل في حديث آخر عبارة عجيبة عن الإمام الصادق عليه‌السلام يقول : «مَنْ مَسَحَ عَلَى الخُفَّينِ فَقَدْ خَالَفَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَكِتَابَهُ ، ووضُوؤُهُ ، لَمْ يَتُمَّ ، وَصَلاتُهُ غَيْرَ مُجْزِيَة» (٢).

في حين الالتفات إلى الروايات الواردة عن الإمام علي عليه‌السلام فيما يتعلق بعدم جواز المسح على الخُفين ، يذكرني بكلام للفخر الرازي تعليقاً على مسألة الجهر والاخفات في البسملة ، ـ فهناك مجموعة تقول بلزوم قراءتها إخفاتاً ، والإمام علي عليه‌السلام يرى لزوم الجهر بقراءتها ـ يقول فيه : «من اتخذ علياً إماماً لدينه (فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى) في دينه ونفسه» (٣).

ومع هذا الوضع نأتي إلى ذكر الروايات الأُخرى.

ب) الروايات التي تجيز المسح على الخُفين تنقسم إلى فئتين :

الفئة الأولى : الروايات المطلقة ، مثل : مرفوعة سعد بن أبي وقاص عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حول المسح على الخُفين قال : «إنَّه لَا بَأسَ بِالوُضُوءِ عَلَى الخُفَّينِ» (٤).

وفي حديث آخر نقله البيهقي عن أبي حذيفة قال : «مشى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى سباطة قوم فبال قائماً ثمّ دعا بماء ، فجئته بماء فتوضأ ومسح على خفّيه»

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ، ج ٤ ، ص ٤١٥.

(٢). وسائل الشيعة ، ج ١ ، ص ٢٧٩.

(٣). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١ ، ص ٢٠٧.

(٤). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٦٩.

وذكر البيهقي بأنّ هذا الحديث رواه البخاري في الصحيح عن آدم بن أبي الياسى ، ورواه مسلم من وجه آخر عن الأعمش (١).

نحن واثقون من أنّ هذا الحديث موضوع من قبل بعض المنافقين الذين يريدون النيل من قداسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وبسبب سذاجة الكتّاب وبساطتهم دوِّن هذا الحديث في عدّة كتب معتبرة عند أهل السنّة مثل صحيح البخاري وصحيح مسلم.

فهل يمكن لشخصية محترمة أن تقدم على هذا النوع من العمل بلوازمه غير المناسبة ، والتي يخجل القلم من شرحها ، وما يبعث على الأسف وجود مثل هذه الروايات في كتب الصحاح ، والتي ما زال الاستدلال بها قائماً.

وعلى كل حال فهذه الروايات وأمثالها لا تقيد ولا تشترط في المسح على الخفين أي قيد أو شرط خاصين.

الفئة الثانية : هذه الروايات تحصر المسح على الخفين ـ بناء على الجواز ـ في موارد الضرورة فقط ، مثل :

نقل مقدام بن شريح رواية عن عائشة يقول : سألتها عن المسح على الخفين ، فقالت : اذهب إلى علي عليه‌السلام لأنّه رافق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في سفره ، فذهبت إلى علي عليه‌السلام وطرحت عليه السؤال ، فقال : «كنّا إذا سافرنا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يأمرنا بالمسح على خفافنا» (٢).

يشير هذا التعبير بشكل واضح إلى أنّ المسح على الخفين كان متعلقاً بموارد الضرورة ؛ لأنّه يقول : إذا سافرنا كان يأمرنا بذلك.

__________________

(١). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٧٠.

(٢). نفس المصدر ، ص ٢٧٢.

وهناك روايات أخرى من هذا القبيل.

ويتضح من خلال التدقيق في مجموع الروايات الموجودة في المصادر المعروفة لأهل السنّة ، وقبل إعطاء الأحكام المسبقة ما يلي :

أولاً : طبقاً للقاعدة المعروفة في علم الأصول (قاعدة الجمع بين المطلق والمقيد ، وذلك بتقييد المطلقات) يجب حمل إطلاق الروايات التي تجيز المسح على الخفين على موارد الضرورة ، مثل السفر أو في ميدان المعركة ، أو موارد أخرى مشابهة لها ، والملفت للنظر أنّ البيهقي في سننه قد خصص باباً مفصلاً حول الفترة الزمنية المجازة للمسح على الخفين ، وبيّن من خلال بعض الروايات أنّها محدّدة بثلاثة أيّام في السفر ، ويوم واحد في الحضر (١).

أليست جميع هذه الروايات دليلا واضحاً على هذه الحقيقة؟ وهي أنّ جميع الروايات التي ذكرت المسح على الخفين مختصة بحالات الضرورة ، وأمّا في الحالات العادية فلا معنى لعدم خلع الخفين وعدم مسح الرجلين.

وأمّا ما يقوله البعض : إنّ ذلك لأجل رفع العسر والحرج عن الأمّة ، فكلام غير مقبول ؛ لأنّ نزع الخفين العاديين لا يحتاج إلى جهد.

ثانياً : في حالة الانتياه للروايات المتعددة المنقولة في المصادر المعروفة لأهل البيت عليهم‌السلام وأهل السنّة ، يقول الإمام علي عليه‌السلام : بأنّ هذا المسح كان قبل نزول الآية السادسة من سورة المائدة المتعلقة بالوضوء ، فإذا كان جائزاً ، فالجواز حاصل قبل نزول آية الوضوء ، وأمّا بعد نزولها فلم يكن المسح على الخفين جائزاً أيضاً ، حتى في الحروب والأسفار ؛ لأنّه في حالة تعسر نزع الخفين يكون البديل هو التيمم ، لأنّ الأمر بالتيمم جاء في ذيل الآية بشكل عام.

__________________

(١). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٧٥ و ٢٧٦.

ثالثاً : إذا رأى بعض الحضر أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قد مسح على الخفين ، فيمكن أن يكون حذاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ذا فتحات وشقوق تتيح له المسح عليه.

يقول المرحوم الشيخ الصدوق ـ وهو من المحدثين المعروفين لدى الإماميّة ـ في كتابه المعروف من لا يحضره الفقيه : «إنّ النجاشي أهدى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله خفاً ، وكان موضع ظهر القدم مفتوحاً ، فمسح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على رجليه وعليه خفّاه ، فقال الناس : إنّه مسح على خفّيه» (١).

خصص البيهقي المحدّث المعروف في كتابه «السنن الكبرى» باباً تحت عنوان باب الخف الذي مسح عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله «ويستفاد من بعض أحاديث هذا الباب» «وكانت كذلك خفاف المهاجرين والأنصار مخرّقة مشقّقة» (٢).

ويحتمل بناءً على ما تقدم أنّ هؤلاء كانوا يمسحون على أقدامهم أيضاً.

والغريب في هذا البحث أنّ رواة أحاديث المسح على الخفين كانوا من الذين وفقوا لشرف خدمة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولكنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله دائماً ، ولم يقبل أبداً بالكلام المطابق للأحاديث المعروفة عند أهل السنّة.

والأغرب من هذا ما نقلته عائشة التي كانت بجوار النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله غالباً وقالت : «لئن تقطع قدماي أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين» (٣).

__________________

(١). من لا يحضره الفقيه ، ج ١ ، ص ٤٨.

(٢). السنن الكبرى ، ج ١ ، ص ٢٨٣.

(٣). المبسوط للسرخسي ، ج ١ ، ص ٩٨.

النتائج النهائية للبحث :

١. اتضح أنّ القرآن الكريم يعتبر المسح على الرجلين هو الوظيفة الأساسية للوضوء ، وكذلك آية الوضوء في سورة المائدة وجميع روايات أهل البيت عليهم‌السلام وفتاوى الفقهاء التابعين لهم متفقة على ذلك.

٢. يرى أغلب فقهاء أهل السنّة أنّ الوظيفة الأساسية هي غسل الأرجل ، ولكن يرى أكثرهم جواز المسح على الخفّين في حال الاختيار ، وبعضهم يحصر ذلك بموارد الضرورة.

٣. إنّ التناقض والتضاد الموجود في الروايات الواردة في مصادر أهل السنّة حول المسح على الخفّين توجب الشك لدى أي محقق. فبعضها تجيز المسح على الخفين مطلقاً ، وبعضها لا تجيزه مطلقاً ، وبعضها تقيد ذلك بحالات الضرورة ، وذلك بتحديد مقدار معين ، ففي السفر بثلاثة أيّام ، وفي الحضر بيوم واحد.

٤. إنّ الطريق الأفضل للجمع بين الروايات هو أنّ المحور الأصلي للوضوء هو المسح على الأرجل وبحسب اعتقادهم غسل الأرجل ، ومع وجود الضرورة مثل : الحرب ، والسفر الشاق ، أو صعوبة نزع الخفين يصار إلى المسح على الخفين ، كما هو الحال في وضوء الجبيرة.

المبحث التاسع

جزئية البسملة في سورة الحمد

ملاحظة محيرة جداً :

عند ما يتشرف أتباع أهل البيت عليهم‌السلام بحج بيت الله ، ولأجل الحفاظ على الوحدة عملاً بتوجيهات أهل البيت عليهم‌السلام يقومون بمشاركة أهل السنّة في صلاة الجماعة ، للحصول على فضيلة الصلاة في المسجد الحرام والمسجد النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله. وأول شيء يثير انتباههم عدم قراءة أئمّة الجماعة المحترمين (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في بداية سورة الحمد ، أو يقرءونها اخفاتاً حتى في الصلوات الجهرية مثل صلاة الصبح والمغرب والعشاء.

في الوقت الذي يشاهدون أن سورة الحمد تتكون من سبع آيات في جميع المصاحف الموجودة في مكة والتي تطبع غالباً هناك ، والبسملة جزءٌ منها ، وهذا ما أثار استغرابهم ، لما ذا يصل وضع أهم آية في القرآن وهي البسملة إلى هذا المصير.

ويزداد استغرابهم عند ما ننقل لهم قصّة اختلاف الروايات لدى أهل السنّة حول البسملة ، ولا بدّ أولاً من مراجعة الفتاوى في هذه المسألة ، وبعدها ننتقل إلى الروايات الواردة في البحث.

انقسم فقهاء أهل السنّة بشكل عام إلى ثلاث فرق :

الأولى : تقول بوجوب قراءة البسملة في بداية سورة الحمد ، فيجهر بها في الصلوات الجهرية ، وتقرأ إخفاتاً في الصلوات الإخفاتية. وذهب إلى هذا القول الإمام الشافعي وأتباعه.

الثانية : تقول بوجوب قراءتها إخفاتاً مطلقاً ، وذهب إليه الحنابلة (أتباع أحمد بن حنبل).

الثالثة : تقول بعدم قراءتها مطلقاً ، وذهب إليه أتباع الإمام مالك ، وقريب منه ما ذهب إليه أتباع أبي حنيفة أيضاً.

وعبارة ابن قدامة الفقيه المشهور لدى أهل السنّة في كتابه «المغني» هي : «أنّ قراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مشروعة في أوّل الفاتحة ، وأوّل كل سورة في قول أكثر أهل العلم ، وقال مالك والأوزاعي : لا يقرؤها في أوّل الفاتحة ... ولا تختلف الرواية عن أحمد أنّ الجهر بها غير مسنون .....

ويروى عن عطاء وطاووس ومجاهد وسعيد بن جبير ، الجهر بها وهو مذهب الشافعي» (١). حيث نقل في هذه العبارة الأقوال الثلاثة.

وجاء في تفسير المنار عن وهبة الزحيلي :

«قال المالكية والحنفية ليست البسملة بآية من الفاتحة ولا غيرها إلّا من سورة النمل ....

إلّا أنّ الحنفية قالوا يقرأ المنفرد (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) مع الفاتحة في كل ركعة سراً ....

__________________

(١). المغني لابن قدامة ، ج ١ ، ص ٥٢١.

وقال الشافعية والحنابلة : البسملة آية من الفاتحة يجب قراءتها في الصلوات ، إلّا أنّ الحنابلة قالوا كالحنفية يقرأ بها سرّاً ولا يجهر بها ، وقال الشافعية : يسرّ بها في الصلاة الإخفاتية ، ويجهر بها في الصلاة الجهرية» (١).

فبناءً على ما تقدم يكون قول الشافعية أقرب إلى قول فقهاء الشيعة من بقية الأقوال ، إلّا أنّ أصحابنا يرون استحباب الجهر بالبسملة في جميع الصلوات ، ومتفقون على وجوب قراءتها في سورة الحمد ، وعلى أنّها جزء من كل السور المشهورة والمعروفة.

وفي الحقيقة يصاب الباحث بالحيرة عند ما يرى أنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الذي عاش بين ظهرانيهم لمدّة ثلاث وعشرين سنة ، كان يصلي جماعة في أكثر صلواته بحضورهم ، ويسمعون ما يقوله في صلواته ، وبعد فترة قصيرة يختلفون في كيفية صلاته بشكل فظيع ، فبعضهم لا يجيز من قراءة البسملة ، وبعضهم يوجب ذلك ، وبعضهم يوجب قراءتها إخفاتاً ، وبعضهم يوجب قراءتها جهراً في الصلوات الجهرية!!

ألا يشير هذا الاختلاف العجيب ، وغير المتوقع إلى أنّ هذه المسألة لم تكن عادية ، وأنّ هناك فريقاً سياسياً يعمل بخفاء لوضع أحاديث متناقضة ومتضادة وينسبونها إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله وسنأتي على شرحها فيما بعد.

يروي البخاري في صحيحه حديثاً يمكن من خلاله كشف القناع عن تلك المؤامرات التي تحاك ، فيقول : «ينقل مُطَرِّف عن عمران بن الحصين قوله : عند ما كان علي عليه‌السلام يصلي في البصرة ، قلت : ذكَّرنا هذا الرجل صلاةً كنّا نصلِّيها مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله» (٢).

__________________

(١). تفسير المنار ، ج ١ ، ص ٤٦.

(٢). صحيح البخاري ، ج ١ ، ص ١٩٠.

نعم ، لقد اتضح أنّهم قاموا بتغيير كل شيء حتى الصلاة.

ينقل الشافعي في الكتاب المعروف «الأم» عن وهب بن كيسان : «كلُّ سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد غُيِّرت حتى الصلاة» (١).

الجهر بالبسملة في الأحاديث النبوية :

هناك طائفتان من الروايات في كتب أهل السنة المعروفة حول هذه المسألة ، وهي مختلفة تماماً ، وهذا ما أدى إلى اختلاف فتاواهم ، والعجيب في الأمر أنّ راوياً معيناً ينقل عدّة روايات متناقضة ومتضادة ، وسنلاحظها في الأحاديث القادمة.

الطائفة الأولى :

الروايات التي تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد ، بل ترى استحباب قراءتها جهراً أو وجوب قراءتها.

في هذه الطائفة نكتفي بذكر خمس روايات عن خمسة رواة معروفين :

١. ينقل الدارقطني في كتابه «السنن» حديثاً عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام صاحب المقام الشامخ المعلوم للجميع الذي رافق النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في السفر والحضر وفي الخلوة والجلوة ، فيقول : «كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يجهر ببِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في السورتين جميعاً» (٢).

٢. ينقل الحاكم في المستدرك عن أنس بن مالك الخادم الخاص للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله منذ أيّام شبابه يقول : «صلّيت خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وخلف أبي بكر ،

__________________

(١). الأم ، ج ١ ، ص ٢٦٩.

(٢). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٢. ونفس الحديث نقله السيوطي في تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢٢.

وخلف عمر ، وخلف عثمان ، وخلف علي كلهم كانوا يجهرون بقراءة (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).

٣. ينقل الدارقطني عن عائشة التي كانت ملازمة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليلاً ونهاراً بشكل طبيعي تقول : «إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٢).

٤. تنقل كتب الصحاح عن أبي هريرة الراوي المعروف لإخواننا أهل السنّة ـ حيث تنقل كتب الصحاح وغيرها الكثير من رواياته ـ يقول : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في الصلاة».

وقد ورد هذا الحديث في ثلاثة كتب معروفة : ١ ـ السنن الكبرى (٣) ؛ ومستدرك الحاكم (٤) ؛ ٣ ـ سنن الدار قطني (٥).

٥. وفي حديث آخر : إنّ جبرائيل أيضاً عند ما أراد تعليم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الصلاة قرأ البسملة بصوت مرتفع ، حيث ينقل الدار قطني عن نعمان بن بشير قوله : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «أمّنِي جبرائيل عند الكعبة فجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٦). وروايات أخرى كثيرة.

والملفت للنظر أنّ بعض العلماء المعروفين الذين أتوا على ذكر أحاديث الجهر بالبسملة صرحوا في ذيل بعض الروايات أنّ رواة الحديث عموماً من

__________________

(١). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٣٢.

(٢). تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢٣.

(٣). السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ٤٧.

(٤). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٠٨.

(٥). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٦). سنن الدار قطني ، ج ١ ، ص ٣٠٩.

الثقات ، مثل : الحاكم في المستدرك.

وهنا يجب أن نضيف : أنّ البسملة في المصادر الفقهية والحديثية لأهل البيت عليهم‌السلام ذكرت بعنوانها جزءاً من سورة الحمد ، ورواياتها متواترة تقريباً ، وروايات أخرى صرّحت بالجهر بالبسملة.

ولأجل المزيد من الاطلاع على هذه الروايات يراجع كتاب وسائل الشيعة (١). ونقلت في هذا المجال عشرات الروايات عن أهل البيت عليهم‌السلام في الكتب مثل : الكافي ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، ومستدرك الوسائل (٢).

ألا يجب الانتباه لحديث الثقلين ـ الذي نقله الفريقان عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله والذي يصرّح : بالتمسك بالقرآن وأهل البيت حتى لا يضل الناس بعده ـ أن نلجأ إلى أهل البيت عليهم‌السلام عند ما تواجهنا مثل هذه المسائل الخلافية لاتباعهم؟!

الطائفة الثانية :

الروايات التي لا تعتبر البسملة جزءاً من سورة الحمد ، ويمنعون الجهر بها ، ومن جملتها :

١. نقرأ في صحيح مسلم حديثاً نقله عن قتادة أنّ أنساً ، قال : «صليت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم يقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (٣). ولاحظوا أنّ هذا الحديث لم يأت على ذكر قراءة علي عليه‌السلام!

__________________

(١). وسائل الشيعة ، أبواب القراءة في الصلاة ، باب ١١ ، ١٢ ، ٢١ ، ٢٢.

(٢). مستدرك الوسائل ، الأبواب المتعلقة بقراءة القرآن في الصلاة.

(٣). صحيح مسلم ، ج ٢ ، ص ١٢ ، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.

فعلاً إنّه لأمر مريب أن يذكر شخص معين ـ مثل : أنس ـ بصراحة : أنّه صلّى خلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء الثلاثة الأوائل وعلي عليه‌السلام ـ وأنّهم قرءوا البسملة بصوت مرتفع ، وفي مكان آخر يقول : أنّه صلى خلف الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله والخلفاء الثلاثة الأوائل ، ولم يقرأ أي واحد منهم البسملة ، فما بالك بالجهر بها بصوت مرتفع.

ألا يستنتج المفكر هنا أنّ أيدي الوضّاعين قامت بوضع الحديث الثاني لإبطال الحديث الأول ـ وسيتضح دليله قريباً ـ ونسبوا ذلك إلى أنس ، ولم يذكروا اسم علي عليه‌السلام حتى لا تنكشف المؤامرة ؛ لأنّ الجميع يعرف أنّ الإمام علياً عليه‌السلام وأتباعه يجهرون بالبسملة.

٢. ينقل البيهقي في سننه عن عبد الله بن مغفل ، قال : «سمعني أبي وأنا أقرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فقال : أي بني محدث؟ صليت خلف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحداً منهم جهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١). ونلاحظ هنا عدم ذكر اسم الإمام علي عليه‌السلام أيضاً.

٣. نقرأ في المعجم الوسيط للطبراني عن ابن عباس قال : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا قرأ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) هزء منه المشركون ، وقالوا محمّد يذكر إله اليمامة ـ وكان مسيلمة يسمى «الرحمن» فلما نزلت هذه الآية أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أن لا يجهر بها»؟!

وآثار الوضع فيها واضحة ؛ وذلك :

أولاً : إنّ كلمة الرحمن لم يقتصر ذكرها في القرآن في البسملة ، بل ذكرت ستاً وخمسين مرّة في موارد مختلفة ، وفي سورة مريم كررت في ست عشرة

__________________

(١). السنن الكبرى ، ج ٢ ، ص ٥٢.

آية ، فبناءً على ذلك يجب عدم قراءة سور القرآن الأخرى ، لأجل أنّ لا نكون مورداً لسخرية المشركين.

ثانياً : المشركون يستهزءون بجميع الآيات القرآنيّة ، لهذا نقرأ في آيات متعددة في القرآن الكريم ، ومن جملتها قوله تعالى : (... إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ...) (١) ونقرأ : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً ...) (٢) ، فهل أمر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بترك الأذان أو بقراءته بصوت خافت ، حتى لا نكون مورداً لاستهزاء المشركين؟

وفي الأصل كان المشركون يستهزءون بشخص الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : (وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ...) (٣) ، فإذن بناءً على ذلك يجب على النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله أن يختفي عن الأنظار.

وبغض النظر عن هذا كله ، يقول الله سبحانه وتعالى لنبيه الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بشكل صريح : (إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ) (٤).

ثالثاً : إنّ مسيلمة لم يكن شخصية يحسب لها هذا الحساب ، وأصغر من أن يقوم النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بإخفاء الآيات القرآنيّة بسبب أن اسمه «رحمان» ، أو يقرأها بإخفات ، وخصوصاً أن ادعاءات مسيلمة هذه كانت قد انتشرت في القرن العاشر الهجري ، حيث كان الإسلام في ذروة قوته وقدرته.

هذه الحقائق تشير بوضوح إلى أنّ واضعي هذا الحديث كانوا مبتدئين إلى حدّ كبير في عملهم ، وغير واعين.

__________________

(١). سورة النساء ، الآية ١٤٠.

(٢). سورة المائدة ، الآية ٥٨.

(٣). سورة الأنبياء ، الآية ٣٦.

(٤). سورة الحجر ، الآية ٩٥.

٤. نقرأ في الحديث الذي ذكره ابن أبي شيبة في مصنفه عن ابن عباس ، يقول : «الجهر ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) قراءة الأعراب» (١).

وفي الوقت نفسه لدينا حديث آخر عن علي بن زيد بن جدعان يقول : «إنّ العبادلة (عبد الله بن عباس ، عبد الله بن عمر ، عبد الله بن الزبير) كانوا يستفتحون القراءة ب (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) يجهرون بها» (٢).

والأكثر من هذا ، كانت سيرة الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام الجهر بالبسملة ، وهذا مشهور في جميع الكتب الشيعية وكتب أهل السنّة ، فهل كان الإمام علي عليه‌السلام من الأعراب؟ ألا تكون هذه الأحاديث المتناقضة والمتضادة دليلاً على أنّ المسألة كانت ذا بعد سياسي؟

نعم ، الحقيقة هي أنّ الإمام علياً عليه‌السلام كان يجهر بالبسملة ، وكان معاوية يصرّ ـ بعد شهادة الإمام علي عليه‌السلام وخلال خلافة الإمام الحسن عليه‌السلام وبعد استلامه للسلطة ـ على محو كل الآثار والمظاهر العلوية في العالم الإسلامي ، إضافة إلى اعتقاده بأنّ التأثير الفكري والمعنوي للإمام علي عليه‌السلام على أفكار عامة المسلمين ، سيشكل تهديداً لسلطته.

والشاهد على هذا الكلام نقرأه في الحديث الذي ذكره الحاكم في المستدرك ـ والذي صرّح بأنّه معتبر ـ عن أنس بن مالك (الخادم الخاص للنبي) : «جاء معاوية إلى المدينة وشارك في إحدى الصلوات الجهرية [المغرب أو العشاء] فقرأ البسملة في سورة الحمد ولم يقرأها مع السورة الثانية ، وعند ما سلّم في صلاته ، ارتفع صوت مجموعة من المهاجرين

__________________

(١). مصنف ابن أبي شيبة ، ج ٢ ، ص ٨٩.

(٢). تفسير الدر المنثور ، ج ١ ، ص ٢١.

والأنصار [ولعل مشاركتهم في الصلاة كانت حفظاً لأرواحهم] من جميع الأطراف : «أسرقت الصلاة أم نسيت؟!».

فقام معاوية في الصلاة التالية بقراءة البسملة في بداية سورة الحمد ، وفي بداية السورة كذلك (١).

ولعل معاوية أراد بهذا العمل معرفة مدى حساسية المهاجرين والأنصار تجاه الجهر بالبسملة ، ولكنه استمر في عمله هذا في بقية المناطق كالشام وغيرها.

القرآن ما بين الدفتين؟

إنّ الموجود بين الدفتين هو القرآن يقيناً ، والبسملة جزء من القرآن ، وما يقوله بعضهم : إنّ البسملة ليست جزءاً من القرآن ، بل هي للتفريق بين السور فقط ، فيرد عليه :

أولاً : إنّ هذا الكلام لا يشمل سورة الحمد. لأنّ البسملة جزء من سورة الحمد ومعدودة من آياتها السبع ، كما هو الحال في جميع النسخ القرآنيّة.

ثانياً : لما ذا هذا التفريق لم يتحقق في سورة براءة؟ فإذا قيل : إنّ سياق الآيات في آخر سورة الأنفال لا يرتبط بسياق الآيات في بداية سورة براءة : فنقول إنّ هناك سوراً كثيرة في القرآن لا ترتبط نهايتها ببداية السورة التالية ، ومع ذلك جاءت البسملة للتفريق بينهما.

فالحق : إنّ البسملة هي جزء من كل سورة ، كما هو الحال في ظاهر القرآن ، وأمّا عدم ذكر البسملة في بداية سورة براءة ؛ فلأنّ سورة براءة تبدأ

__________________

(١). مستدرك الصحيحين ، ج ١ ، ص ٢٣٣.

بإعلان الحرب على الذين نقضوا العهود ، وهذا لا يتناسب مع ذكر الرحمن والرحيم ؛ لأنّهما مظهر للرحمة العامة والخاصة.

خلاصة البحث :

بحث جزئية البسملة في سورة الحمد يتلخص بما يلي :

أولا : إنّ النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قرأ البسملة في بداية سورة الحمد ، وفي بداية السور الأخرى ؛ وذلك وفقاً للروايات الكثيرة التي نقلت عن أكثر الناس قرباً من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وجهر بالبسملة ، طبقاً للعديد من الروايات.

ثانياً : إنّ الروايات المخالفة للروايات المذكورة آنفاً والتي تصرّح : إنّ البسملة ليست جزءاً من السورة أصلاً ، أو أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يقرأها بصوت خافت ، فهي مشكوكة ، بل هي موضوعة ؛ وذلك بحسب القرائن الموجودة في نفس الروايات ، وبنو أمية هم وراء هذا الموضوع لتحقيق بعض الأغراض السياسية ، لأنّ جهر الإمام علي عليه‌السلام بالبسملة أصبح مشهوراً ومعروفاً ، وسياسة بني أمية كانت تقتضي مخالفة كل ما يرتبط بالإمام علي عليه‌السلام ، حتى وإن كان موافقاً لسيرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وقد اعترض الصحابة بشدّة على معاوية في هذا الموضوع ، والشواهد والقرائن التي ذكرناها سابقاً تؤكد ذلك.

١. كان أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام يجهرون بالبسملة اتباعاً لأمير المؤمنين علي عليه‌السلام الذي نهل من علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لسنوات عديدة ، فهم متفقون على هذا الرأي حتى أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «اجْتَمَعَ آلُ مُحَمَّد صلى‌الله‌عليه‌وآله عَلَى الجَهْرِ

بِ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)» (١).

وإذا كان المفترض ـ على الأقل في هذه المسائل ـ أن يعملوا برواية الثقلين والأخذ بروايات أهل البيت عليهم‌السلام فيجب على جميع فقهاء أهل السنّة كالشافعي أن يجهروا بالبسملة ، أو يعتبروها واجباً في الصلوات الجهرية كحد أدنى.

٢. ننهي بحثنا ـ من باب حسن الختام ـ بنقل عبارتين للفخر الرازي من كتابه التفسير الكبير :

أ) يقول : «إنّ عَلياً كان يبالغ في الجهر بالتسمية ، فلمّا وصلت الدولة إلى بني أمية بالغوا في المنع من الجهر سعياً في إبطال آثار علي عليه‌السلام» (٢).

إنّ شهادة هذا العالم الكبير من أهل السنّة توضح بما لا شك فيه أنّ الحكم بإخفاء البسملة أو حذفها كان وسيلة لتحقيق أهداف سياسية.

ب) يضيف في موضع آخر من الكتاب بعد أن استعرض نقل البيهقي : أنّ عمر بن الخطاب ، وابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير جميعاً كانوا يجهرون بالتسمية : أمّا أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام كان يجهر بالتسمية فقد ثبت بالتواتر ، ومن اقتدى في دينه بعلي بن أبي طالب عليه‌السلام فقد اهتدى ، والدليل عليه قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «اللهم أدر الحق مع علي حيث دار» (٣).

__________________

(١). مستدرك الوسائل ، ج ٤ ، ص ١٨٩.

(٢). التفسير الكبير للفخر الرازي ، ج ١ ، ص ٢٠٦.

(٣). نفس المصدر ، ص ٢٠٤ ـ ٢٠٥.

المبحث العاشر

التوسل بأولياء الله

التوسل على ضوء الآيات القرآنيّة والدليل العقلي :

إنّ التوسل بأولياء الله لأجل حل المشاكل المادية والمعنوية من أهم المباحث وأكثرها نقاشاً بين الوهابيين وسائر المسلمين في العالم.

يصرح الوهابيون بأنّ التوسل إلى الله سبحانه وتعالى بالأعمال الصالحة لا إشكال فيه ، ولكن لا يجوز التوسل بأولياء الله ، ويعتبرونه نوعاً من الشرك ، في الوقت الذي يرى سائر مسلمي العالم جواز التوسل بأولياء الله ، بناء على ما سنذكره من توضيح لمعناه.

تصور الوهابيون أنّ بعض الآيات القرآنيّة تمنع من التوسل ، وتعتبره شركاً ، ومن جملتها هذه الآية حيث قوله سبحانه : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) التي تحكي لسان حال مشركي الجاهلية حول ما يعبدون ، مثل الملائكة وغيرها ، والقرآن يعتبر هذا الكلام شركاً ، وفي آية أخرى يقول عزوجل : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (٢).

ويقول سبحانه في آية أخرى : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا

__________________

(١). سورة الزمر ، الآية ٣.

(٢). سورة الجن ، الآية ١٨.

يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) (١).

توهم الوهابيون وتصوروا أنّ هذه الآيات تنفي التوسل بأولياء الله ، وإضافة إلى هذا لديهم بحث آخر ، وهو أنه على فرض أنّ التوسل بالرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله حال حياته جائز ؛ وفقاً لبعض الروايات ، لكن لا دليل لدينا على جوازه بعد مماته. هذا خلاصة ما يدّعونه.

ولكن للأسف وبسبب هذا الكلام الفاقد للدليل ، قام الوهابيون باتهام الكثير من المسلمين بالشرك والكفر ، وأباحوا دماءهم وأموالهم ، فبهذه الذريعة قاموا بسفك دماء كثيرة ونهبوا الكثير من الأموال.

والآن وبعد أن عرفنا اعتقادهم بشكل جيد نعود إلى أصل البحث ، ونعالج موضوع التوسل من جذوره.

في البداية نستعرض مفهوم «التوسل» في اللغة والآيات القرآنيّة والروايات.

التوسل لغة : «التوسل» في اللغة هو بمعنى اختيار الوسيلة ، والوسيلة : تعني ما يتقرب به إلى الغير.

يقول ابن منظور في كتابه المعروف «لسان العرب» : «وَسَلَ فلانٌ إلى الله وسيلةً إذا عَمِل عملاً تقرّب به إليه ... والوسيلة ، ما يتقرّب به إلى الغير» (٢).

وجاء في «مصباح اللغة» أيضاً : «الوسيلة : ما يتقرب به إلى الشيء والجمع الوسائل».

ونقرأ في «مقاييس اللغة» : «الوسيلة : الرغبة والطلب».

__________________

(١). سورة الرعد ، الآية ١٤.

(٢). لسان العرب ، ج ١١ ، ص ٧٢٤.

وعلى هذا فالوسيلة هي بمعنى التقرب وما يتقرب به إلى الغير أيضاً ، فالوسيلة لها مفهوم واسع جدّاً.

وأمّا بالنسبة للقرآن فقد استعمل مصطلح الوسيلة في آيتين :

الأولى : في قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (١) ، فهذه الآية تخاطب جميع المؤمنين ، وفيها ثلاثة أوامر :

الأوّل : الأمر بالتقوى.

الثاني : الأمر باختيار الوسيلة ، التي تقربنا إلى الله سبحانه.

الثالث : الأمر بالجهاد في سبيل الله.

ونتيجة اجتماع هذه الصفات الثلاثة (التقوى ، التوسل ، الجهاد) يتحقق ما ذكر في ذيل الآية : (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.)

الثانية : في الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء ، ولفهم هذه الآية نستعرض الآية التي سبقتها وهي : (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً) (٢) وبالالتفات إلى جملة (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ) يتضح أنّ المقصود في الآية ليست هي الأصنام وغيرها ـ لأنّ (الذين) هم أصحاب العقول ـ بل إنّ المقصود بها هم الملائكة التي كانت تُعبد من دون الله ، أو النبي عيسى عليه‌السلام الذي كان يُعبد من قبل بعض المجموعات من دون الله ، فالآية تصرّح بأنّ ما تدعون من الملائكة أو المسيح لا يستطيعون دفع الضرّ عنكم ولا يحلّون مشاكلكم.

__________________

(١). سورة المائدة ، الآية ٣٥.

(٢). سورة الإسراء ، الآية ٥٦.

والآية التي تليها وهي المقصودة بالبحث قوله تعالى : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً) (١) ، الاشتباه الكبير الذي وقع فيه الوهابيون هو تصورهم أنّ مفهوم التوسل بأولياء الله هو أنهم يكشفون الضر ويحلّون المشاكل ، وتصوروا أنّ قضاءهم للحاجات ودفعهم للكربات يتحقق منهم على نحو الاستقلال ، مع أنّ ما نقصده من التوسل ليس هذا معناه.

التوسل في الآيات الكريمة :

وأمّا الآيات التي تمسك بها الوهابيون فهي مرتبطة بالعبادة ، ولا يوجد أحد يقوم بعبادة أولياء الله.

فهل توسلنا بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله تعني عبادته؟ وهل نعتقد بأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يؤثر ويكشف الكرب على نحو الاستقلال؟

فالتوسل الذي يدعو إليه القرآن الكريم هو التوسل بالوسيلة التي تقربنا إلى الله ، بمعنى أنّ هؤلاء يقومون بالشفاعة عند الله ، كما ذكرنا ذلك في بحث الشفاعة.

وفي الواقع أنّ حقيقة التوسل والشفاعة واحدة ، فهناك آيات كثيرة تدلّ على الشفاعة ، وآيتان تدلّان على التوسل ، والملفت للنظر أنّ الآية السابعة والخمسين من سورة الإسراء تقول : (أَيُّهُمْ أَقْرَبُ) حيث تخيرهم لاختيار الوسيلة الأقرب من بين الملائكة والمسيح ، وضمير «هم» لجمع العاقل ، يعني أنّهم يتوسلون بالصالحين وبأولياء الله.

__________________

(١). سورة الإسراء ، الآية ٥٧.

وعلى كل حال يجب في البداية أن نوضح أنّه ما معنى التوسل بأولياء الله؟ فهل هو عبادتهم أو العبودية لهم؟

ليس كذلك قطعاً!

فهل يرون أنّ لهم استقلالاً في التأثير؟ كلّا!

أم هل لهم قضاء الحاجات وكشف الكربات؟ كلّا.

إنّهم يشفعون عند الله لمن توسل بهم ، كما إذا أردنا الذهاب إلى منزل شخصية مرموقة لا نعرفها ، فنلجأ إلى شخص تربطه بهذه الشخصية علاقة حميمة ، فنتوسل إليه للذهاب معنا إلى تلك الشخصية ، ليعرفنا عليها ويشفع لنا عندها.

فهذا العمل ليس عبودية ، وليس استقلالاً في التأثير؟

ومن المناسب هنا أن نقرأ الكلام الجميل «لابن علوي» في كتابه المعروف «مفاهيم يجب أن تصحح» حيث يقول : لقد التبس على كثير من الناس فهم حقيقة التوسل ، ولأجل هذا سنبين المفهوم الصحيح للتوسل حسب وجهة نظرنا ، وقبل ذلك لا بدّ من بيان بعض النقاط للتذكير :

١. التوسل نوع من الدعاء ، وفي الواقع باب من أبواب التوجه لله سبحانه وتعالى ، فإذاً المقصد والمقصود الأصلي والحقيقي هو الله سبحانه وتعالى ، والشخص الذي يتوسل به واسطة ووسيلة للتقرب إلى الله ، ومن يعتقد غير هذا فهو مشرك.

٢. من يتوسل إلى الله سبحانه وتعالى بشخص فلأجل كون هذا الشخص محبوباً لديه ويعتقد به ، ويعتقد بأنّ الله سبحانه وتعالى يحبّه ، فلو فرضنا أنّه ظهر خلاف ذلك ، فسيبتعد عنه كلياً وسيخالفه ؛ لأنّ المعيار محبة الله له.

٣. إذا توسل شخص واعتقد بأن المتوسل به يؤثر في المسائل على نحو الاستقلال وبنفسه ، كما هي الحال بالنسبة لله سبحانه وتعالى ، فهو شخص مشرك.

٤. التوسل ليس أمراً واجباً وضرورياً ، ولا تنحصر استجابة الدعاء بالتوسل ، فالمهم هو الدعاء واللجوء إلى الله سبحانه وتعالى ، بأي شكل كان ، كما يقول الله تعالى : (وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) (١).

واستعرض ابن علوي المالكي بعد ذكر هذه المقدمة آراء العلماء والفقهاء والمتكلمين من أهل السنة ، فقال : لا يوجد خلاف بين المسلمين في مشروعية التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة ، مثلاً : أن يصوم شخص أو يصلي أو يقرأ القرآن ، أو يتصدّق في سبيل الله ، ويتوسل بهذه الأعمال إلى الله سبحانه وتعالى ويتقرب بها ، فهذا الأمر من المسلّمات ولا بحث فيه.

وهذا النوع من التوسل مقبول حتى من قبل السلفيين ، ومن جملتهم ابن تيمية ، كما هو مذكور في مجموعة من كتبه المختلفة وبالخصوص في رسالته : «القاعدة الجليلة في التوسل والوسيلة».

ابن تيمية صرح بجواز هذا النوع من التوسل ، يعني التوسل بالأعمال الصالحة ، فإذاً أين هو محل الاختلاف؟

محل الاختلاف هو في التوسل بغير الأعمال الصالحة ، مثل التوسل بذوات أولياء الله ، كأن يقول أحد : «اللهم إنّي أتوسل إليك بنبيّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله» وبعدها يضيف قائلاً : والاختلاف في هذا المعنى وإنكار الوهابيين للتوسل بأولياء الله ، هو في الواقع نوع من الاختلاف الشكلي واللفظي ، وليس خلافاً

__________________

(١). سورة البقرة ، الآية ١٨٦.

جوهرياً ، وبتعبير آخر : هو نزاع لفظي ؛ لأن التوسل بأولياء الله يرجع في الواقع إلى توسل الإنسان بأعمال هؤلاء ، وهو مشروع ، فلو لاحظ المخالفون بعين الإنصاف والبصيرة لاتضح لهم الأمر بشكل واضح وجلي ، والإشكال حينها سينحل ، وستنطفىء نار الفتنة ، ولن تصل النوبة لاتهام المسلمين بالشرك والضلال.

ويضيف بعد ذلك لتوضيح هذا الكلام : إذا توسل شخص بواحد من أولياء الله فإنّ ذلك لأجل كونه محبوباً عنده.

ولكن لما ذا يكون محبوباً عنده؟

لأجل كونه رجلاً صالحاً ، أو أنّه محب لله سبحانه وتعالى ، أو أنّ الله سبحانه وتعالى يحبه ، أو الإنسان يحب هذه الوسيلة ، وعند ما نتعمق في كل هذه الأمور نجد أنّها ناشئة من العمل.

يعني في الواقع أنّ التوسل حاصل بالأعمال الصالحة عند الله سبحانه وتعالى ، وهذا هو المعنى المتفق عليه عند جميع المسلمين (١).

طبعاً نحن سنشير فيما بعد إلى أنّ التوسل بالأفراد مع جلالة شأنهم ليس لأجل أعمالهم ، بعنوان كونهم وجهاء وعزيزين وعظماء عند الله ، أو بأي دليل كان ، بل لكونهم غير مستقلين بالتأثير ، بل لأنّهم شفعاء عند الحضرة الإلهيّة ، وهذا التوسل ليس كفراً ولا ممنوعاً.

ولقد أشارت الآيات القرآنيّة عدّة مرّات إلى هذا النوع من التوسل.

فالشرك هو أن نعتقد بأنّ هناك شيئاً له تأثير مستقل في مقابل الله ، واشتباه الوهابيين هو أنّهم خلطوا بين «العبادة» و «الشفاعة» الموجودة في آية : (ما

__________________

(١). أنظر مفاهيم يجب أن تصحّح ، ص ١١٦ و ١١٧.

نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١) وتصوّروا أنّ الشفاعة شرك أيضاً ، بينما عبادة الوسائط شرك ، وليس طلب الشفاعة منهم أو التوسل بهم كذلك. (تأملوا).

التوسل في الروايات الإسلاميّة :

إضافة إلى إطلاق آيات التوسل ، فأي توسل لا يخالف العقائد الإسلاميّة الصحيحة يكون جائزاً ، بل يعتبر مطلوباً.

وعندنا روايات كثيرة حول التوسل تصل إلى حدّ التواتر أو قريب منه.

والكثير من هذه الروايات يرتبط بالتوسل بشخص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فبعضها قبل ولادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وبعضها بعد ولادته وبعضها في حياته وبعضها بعد مماته.

وهناك أيضاً قسم آخر يرتبط بالتوسل بغير النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من علماء الدين.

ونضيف : إنّ بعضها جاء بلسان الرجاء والدعاء ، وبعضها بلسان طلب الشفاعة من الله ، وبعضها يبين الله سبحانه وتعالى فيها مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

والخلاصة : إننا نلاحظ جميع أقسام التوسل موجودة في هذه الروايات بشكل يسد الباب أمام جميع الذرائع التي يتمسك بها الوهابيون.

والآن نستعرض بعض الأمثلة من هذه الروايات :

١. توسل آدم بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله قبل ولاته ، فقد نقل الحاكم في المستدرك وجماعة آخرون من المحدثين هذا الحديث عن النبي

__________________

(١). سورة الزمر ، الآية ٣.

الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : «لمَّا اقترف آدم الخطيئة قال : يَا رَبِّ اسْألُكَ بِحَقِّ مُحَمَّد لَمَا غَفَرْتَ لِي.

فقال الله : يا آدم كيف عرفت محمّداً ولم أخلقه ، قال : يا ربّ لأنّك لمّا خلقتني بيدك ونفخت في من روحك ، رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً : لا إله إلّا الله محمّد رسول الله ، فعلمت أنّك لم تضف إلى اسمك إلّا أحبّ الخلق إليك ، فقال الله : صدقت يا آدم ، إنّه لأحبّ الخلق إليَّ ، ادعني بحقّه فقد غفرت لك ، ولو لا محمّد ما خلقتك» (١).

٢. الحديث الآخر مرتبط بتوسل أبي طالب بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله عند ما كان طفلاً ، وخلاصة الحديث كما نقله ابن حجر في كتابه «فتح الباري» : عند ما نزل القحط في مكة ذهبت قريش إلى أبي طالب وقالت له : أقحط الوادي وأجدب العيال ، فهلم فاستسق لنا ، فخرج أبو طالب ومعه غلام كأنّه شمس دجنة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ به ، أي : توسل بهذا الطفل ، ولا توجد في السماء قطعة من سحاب ، فأقبل السحاب من هنا ومن هاهنا واغدودق وانفجر له الوادي من شدة المطر وأخصب النادي والبادي. وقال أبو طالب حينها شعراً في مدح النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله من أكثر من ثمانين بيتاً منها هذا البيت :

وأبيض يستسقي الغمام بوجهه

ثمال اليتامى عصمة للأرامل (٢)

__________________

(١). الحاكم في المستدرك ، ج ٢ ، ص ٦١٥. ونقله الحافظ السيوطي في الخصائص النبوية واعتبره صحيحاً ، ونقله البيهقي في دلائل النبوة وهو لا يروي ضعاف الأحاديث. ونقله القسطلاني والزرقاني في المواهب اللدنية واعتبره صحيحاً ، وجماعة آخرون أيضاً ، ولمزيد من التوضيح يراجع كتاب : مفاهيم يجب أن تصحح ، ص ١٢١.

(٢). فتح الباري ، ج ٢ ، ص ٤٩٤ ؛ وكذلك السيرة الحلبية ، ج ١ ، ص ١١٦.

٣. توسل الرجل الضرير بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : ذهب رجل ضرير إلى النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمن حياته ، متوسلاً به فشافاه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأعاد البصر إليه (١).

وخلاصة الحديث : أنّ رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فقال : ادع الله أن يعافيني ، قال : إن شئت دعوت ، وإن شئت صبرت فهو خير لك ، قال فادعه ، قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ، ويدعو بهذا الدعاء : «اللهم إنّي أسألك وأتوجه إليك بنبيّك محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله نبي الرحمة ، يا محمّد إنّي أتوجه بك إلى ربّي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم شفِّعه في» فقام الرجل وفعل ما قاله الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله.

يقول عثمان بن عمير راوي هذا الحديث : كنّا جالسين في نفس المجلس نتحدث وبعد مضي فترة إذ قدم الرجل الضرير إلى المجلس ، وكان يبصر كحالته السابقة بحيث لا يوجد أي أثر للعمى.

والملفت للنظر أن الكثير من كبار أهل السنّة قد صرّح بأنّ هذا الحديث صحيح ، فالترمذي يصحح الحديث ، وابن ماجة قال : إنّه صحيح (٢) ، والرفاعي قال : إنّه لا شك في أنّ هذا الحديث صحيح ومشهور (٣).

٤. التوسل بالنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد مماته ، «الدارمي» هو أحد علماء أهل السنّة المعروفين يقول في كتابه المعروف «سنن الدارمي» تحت عنوان باب

__________________

(١). صحيح الترمذى ، ص ١١٩ ، ح ٣٥٧٨ ؛ وفي سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٤٤١ ، ح ١٣٨٥ ؛ ومسند أحمد ، ج ٤ ، ص ١٣٨.

(٢). سنن ابن ماجة ، ج ١ ، ص ٤٤١.

(٣). ولأجل زيادة التوضيح يمكنكم مراجعة كتاب الرسائل والمسائل ، ج ١٨ ، ص ١ ، طبعة بيروت ، حيث يقول : إنّ عين عبارة ابن تيمية هى : «أنّ النسائي والترمذي رويا حديثاً صحيحاً أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله علّم رجلا أن يدعو فيسأل الله ثمّ يخاطب النبي فيتوسل به ، ثمّ يسأل الله قبول شفاعته».

«ما أكرم الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته» وهذا الباب معقود لبيان الكرامات التي أعطاها الله سبحانه وتعالى للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد موته : «قَحُطَ أهل المدينة قحطاً شديداً ، فشكوا إلى عائشة ، فقالت : انظروا قبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فاجعلوا منه كوي إلى السماء حتى لا يكون بينه وبين السماء سقف ، قال : ففعلوا فمطرنا مطراً حتى نبت العشب ، وسمنت الإبل حتى تفتقت من الشحم ، فسمي عام الفتق» (١).

٥. التوسل بالعباس عم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ينقل البخاري في صحيحه : أنّ عمر بن الخطاب إذا قحط استسقى بالعباس بن عبد المطلب ، وكان يدعو بهذا الدعاء : «اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله فتسقينا ، وإنّا نتوسل إليك بعم نبيِّنا فاسقنا» قال الراوي : «فيسقون مطراً كثيراً» (٢).

٦. ينقل ابن حجر المكي في الصواعق عن الإمام الشافعي من علماء أهل السنّة المعروفين : أنّه كان يتوسل بأهل بيت النبي عليهم‌السلام وينقل عنه الشعر المعروف :

آل النبي ذريعتي

وهم إليه وسيلتي

أرجو بهم أعطى غداً

بيدي اليمين صحيفتي

أورد هذا الحديث الرفاعي في كتابه «التوصل إلى حقيقة التوسل» (٣).

ملاحظات مهمّة للتذكير :

لقد تذرع الوهابيون المتعصبون لإثبات مقاصدهم وأهدافهم بأمور كثيرة في تكفير المسلمين وتفسيقهم ؛ وذلك لتوسلهم بالصالحين ، مقابل الآيات

__________________

(١). سنن الدارمي ، ج ١ ، ص ٤٣.

(٢). صحيح البخاري ، ج ٢ ، ص ١٦.

(٣). التوصل إلى حقيقة التوسل ، ص ٣٢٩.

والروايات المذكورة سابقاً التي تثبت جواز التوسل بأشكاله المختلفة ، هذه الذرائع التي تشبه ذرائع الأطفال عند اختلافهم!

فتارة يقولون : إنّ الممنوع هو التوسل بذوات العظماء والصالحين ، وأمّا التوسل بمعنى الدعاء وشفاعة هؤلاء فهو جائز.

وتارة يقولون : إنّ التوسل الجائز هو الذي يتحقق في حياتهم ، وأمّا بعد وفاتهم فغير جائز ؛ لأنّ العلاقة بهم تنقطع بمجرّد انتقالهم من الدنيا ، لأنّ القرآن المجيد يقول : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (١) ، ولكن هذه الإشكالات المتقطعة تبعث على الخجل في الواقع ، وذلك :

أولاً : إنّ الآيات القرآنيّة المرتبطة بجميع أنواع التوسل عامة ، وبحكم العموم أو الإطلاق فيها فالتوسل جائز ، ولا يوجد أي تعارض مع «التوحيد في العبادة» و «التوحيد الأفعالي» ، فالقرآن المجيد يقول : (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) (٢) ، وقلنا : إنّ الوسيلة هي ما يتقرب به إلى الله ، نعم أي أمر يمكن أن يقربكم إلى الله مثل : دعاء النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، شخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ وذلك بسبب طاعته وعبوديته وعبادته لله سبحانه وتعالى ، وصفاته المقربة لله سبحانه وتعالى. فيطلب التقرب إلى الله بهذه الأمور ، ولا يوجد دليل على حصر الوسيلة بعمل الإنسان الصالح فقط ، كما هو الحال في كلمات الوهابيين.

وما ذكرناه لا يتعارض مع التوحيد في العبادة ؛ لأنّ المعبود هو الله سبحانه وتعالى وليس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا يتعارض مع التوحيد الأفعالي ؛ لأنّ

__________________

(١). سورة النمل ، الآية ٨٠.

(٢). سورة المائدة ، الآية ٣٥.

منشأ الخير والشر لا يمكن أن يكون إلّا من الله ، وكل ما يملكه الإنسان فهو من الله ومن خلاله سبحانه وتعالى.

فما ذا ننتظر بعد هذا العموم الموجود في الآيات؟ وإلّا سيكون حالنا حال من يبحث عن ذريعة عند ما يقول القرآن المجيد : (فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) (١) ، فنقول : هل تجوز قراءة القرآن وقوفاً أم لا؟ اضطجاعاً أم لا؟

فعموم الآية يقول : إنّ جميع أنواع التلاوة جائزة ، في الحضر والسفر ، مع الوضوء أو بدونه ، إلّا إذا قام دليل آخر على خلاف ذلك.

إنّ العمومات والإطلاقات الموجودة في القرآن فعلية ما لم تُعارض ، وآيات التوسل عامة أيضاً ، وعموم الآيات القرآنيّة فعلية ، فإذا لم نجد معارضاً لها ، يمكن العمل على وفقها ، وليس صحيحاً أن نبحث عن الذرائع للجدال.

ثانياً : الروايات الواردة في بحث التوسل ـ والتي ذكرنا قسماً منها سابقاً ـ متنوعة ، وكل هذه الأنواع جائزة وهي :

ـ التوسل بشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، مثل ما جاء في قصة الرجل الضرير.

ـ التوسل بقبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كما جاء في بعض الروايات.

ـ التوسل بدعاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ـ التوسل بشفاعة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وغيرها مما جاء في روايات أخرى ، ومع هذا التنوع في الروايات والأشكال المختلفة للتوسل لا يبقى مجال للمجادلين وأصحاب الذرائع.

ثالثاً : ما ذا يعني التوسل بشخص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله؟ لما ذا يصبح النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١). سورة المزمل ، الآية ٢٠.

محترماً عندنا؟ ولما ذا نجعله شفيعاً لنا عند الله؟ لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يتميز بالطاعة والعبودية العميقة والخالصة.

إذن توسلنا بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله توسل بطاعاته وعباداته وأفعاله.

وهذا هو نفس التوسل الذي يجيزه الوهابيون المتعصبون وهو التوسل بالطاعات ، فالنزاع إذن لفظي.

والعجيب أنّ بعضهم ينكر الحياة البرزخية للنبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ويعتقدون أنّ وفاته هي في حدّ موت الكفّار ، مع أنّ القرآن ذكر أنّ للشهداء حياة خالدة : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) (١) ، فهل مقام نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله أقل من مقام الشهداء؟ مع كل هذا السلام الذي نرسله له في الصلاة ، فإذا لم ندرك أنّ التوسل بعد وفاته هو توسل بالخالدين فكل هذا السلام لا معنى له والملتجى إلى الله من هذا التعصب الأعمى والأصم الذي يؤدي بالإنسان إلى المجهول. ومن حسن الحظ أنّ بعضهم يعتقد بوجود حياة برزخية ، وعليه فلا بدّ من سحب إشكالاتهم.

١. المغالون والمفرطون

المجموعة الاولى : التفريطيون : وهم منكرو التوسل بأولياء الله ونحن نقف بين مجموعتين من الإفراط والتفريط ، من قصّر في فهم مسألة التوسل ونفى التوسل من أساسه ، والتوسل الذي أجازته الآيات القرآنيّة والروايات اعتبروه غير جائز ، وتصوروا أنّه يؤدي بهم إلى نفي كمال التوحيد ، فهم واقعون في الخطأ والاشتباه ، فالتوسل بأولياء الله لأجل طاعتهم وعبادتهم

__________________

(١). سورة آل عمران ، الآية ١٦٩.

وأعمالهم وقربهم من الله سبحانه وتعالى ، هو تأكيد لمسألة التوحيد ، حيث يطلبون جميع ما يريدون من الله العلي القدير.

المجموعة الثانية : الإفراطيون : وهم الذين يتخذون من التوسل وسيلة للغلو ، وخطر هؤلاء ليس أقل من خطر المجموعة الأولى ، وعباراتهم لا تتوافق مع التوحيد الأفعالي ، أو لديهم عبارات لا تتناسب مع التوحيد في العبادة ، في الوقت الذي «لا مؤثر في الوجود إلّا الله» ، وبناءً على هذا فكما كنا نواجه منكري التوسل الصحيح ونقوم بإرشادهم وكشف خطئهم ، فلا بدّ من إرشاد الغلاة أصحاب الاتجاه الإفراطي ، وإعادتهم إلى الطريق الصحيح.

وفي الواقع يمكن القول إنّ أحد عوامل وجود المنكرين للتوسل هو إفراط وغلو بعض المؤيدين للتوسل ، فعند ما يطرح هؤلاء الصورة الإفراطية فمن الطبيعي أن تظهر في مقابلهم مجموعات التفريط ، وهذه قاعدة سارية في جميع المسائل الاعتقادية والاجتماعية والسياسية ، فهذه المجموعات المنحرفة يوجد بينها تلازم (لازم وملزوم) دائماً ، وكلا الفريقين مشتركان في الخطأ.

٢. التوسل لوحده لا يكفي

يجب أن نعلم الناس بأنّ لا يكتفوا بالتوسل بأولياء الله والصالحين ، لأنّ التوسل في الأصل هو درس لنا ، لما ذا نتوسل بهؤلاء؟ لأنّ أعمالهم صالحة ، إذن يجب علينا أن نقوم بالأعمال الصالحة ، فالتوسل يعطينا درساً بأنّ التقرب إلى الله يكون عن طريق الأعمال الصالحة ، والتوسل بأولياء الله لأجل أعمالهم الصالحة ، فهم مقربون من الله ، ونحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا

عند الله ، إذن يجب علينا أن نسلك نفس الطريق الذي سلكوه ، فلا بدّ أن نحول التوسل إلى مدرسة لتربية الإنسان وتطويره ، وأن لا نتوقف عند التوسل وننسى الأهداف الراقية للتوسل. وهذا أمر مهم يجب أن نتوجه إليه.

٣. التوسل في الأمور التكوينية

الملاحظة الأخرى هي : أنّ التوسل بعالم الأسباب حاصل في الأمور التشريعية ، كما هو حاصل في الأمور التكوينية أيضاً ، وكلاهما لا يتنافى مع التوحيد ، فنحن عند ما نريد أن نحصل على نتائج ايجابية في حياتنا الطبيعية ، نلجأ إلى الأسباب ، فنحرث الأرض ، وننثر البذر ، ونسقي الزرع ، ونحارب الآفات ، ونحصد المحصول في آوانه ، لنستفيد منه في حياتنا.

فهل التوسل بهذه الأسباب يؤدي بنا إلى الغفلة عن الله؟ وهل الاعتقاد بأنّ الأرض تغذي بذور الأعشاب ، أو أنّ نور الشمس وقطرات المطر التي تبعث على الحياة هي التي تنمي البذور والأزهار والثمار؟ وبصورة عامة هل الاعتقاد بعالم الأسباب منافياً للتوحيد الأفعالي؟

ويقيناً أنّه ليس منافياً ، لأننا نلجأ إلى عالم الأسباب ، ومسبب الأسباب هو الله سبحانه وتعالى ، وكما في المثل «يختص كل هذا الثناء بالملك العظيم» (١) إذاً فكما أنّ التوسل بالأسباب الطبيعية لا يتنافى مع أصل التوحيد في الأفعال ، فكذلك الأمر في عالم التشريع ، لأنّ التوسل بالأنبياء والأولياء والمعصومين وطلب الشفاعة منهم عند الله سبحانه وتعالى لا يتنافى مع أصل التوحيد أبداً.

__________________

(١). مثل فارسي.

طبعاً ظهرت هنا مجموعة تفريطية تنكر عالم الأسباب أيضاً ، لأنّهم تصوروا أنّ الاعتقاد بعالم الأسباب يتنافى مع التوحيد في الأفعال ، فيقولون : إنّ النّار لا تحرق ، فالله هو الذي يحرق ذلك الشيء عند ما نقرب النار إليه ، الماء لا يُطفئ النّار ، الله هو الذي يُطفئها عند ما نصب الماء على النّار ، وهكذا فهم ينكرون جميع الروابط بين العلة والمعلول ، وهي من الروابط البديهية في عالم الخلقة.

في الوقت الذي يقر فيه القرآن المجيد عالم الأسباب ويعترف به بشكل واضح وصريح حيث يقول : (وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها) (١) ، فكلمة (فَيُحْيِي بِهِ) يعني بقطرات المطر تُحيى الأرض. وهذه الآية لها دلالة واضحة وصريحة على الإقرار والاعتراف بعالم الأسباب. ولكن هذه الأسباب ليس لها تأثير مستقل ، فكل ما لديها هو من الله.

فهذه الآثار الظاهرة هي من الله ، فكما أنّ منكري الأسباب الطبيعية مخطئون وغافلون ، فكذلك منكرو الأسباب في عالم التشريع.

نأمل منهم أن يتوجهوا إلى ما ذكر ، وأن يبتعدوا عن التعصب ، ويعودوا إلى الصواب ، وينهوا مسيرة التكفير والتفسيق ، ويأتلفوا مع مسلمي العالم ، ويقفوا في وجه الأعداء الذين جعلوا الله والقرآن والإسلام هدفاً لهجماتهم ، وأن يبيِّنوا التعاليم الإسلاميّة للمجتمع العالمي خالية من الشرك والغلو والنقصان.

شعبان المعظّم ١٤٢٦

ناصر مكارم الشيرازي

__________________

(١). سورة الروم ، الآية ٢٤.

المصادر

١. القرآن الكريم.

٢. نهج البلاغة.

٣. آلاء الرّحمن ، محمّد جواد البلاغي.

٤. أحكام القرآن ، أحمد بن على الرازي الجصّاص.

٥. أخبار مكّة ، الازرقي.

٦. الأحكام ، على بن حزم الأندلسي.

٧. الاصابة في تمييز الصحابة ، ابن حجر العسقلاني.

٨. التوصّل إلى حقيقة التوسّل ، محمّد نسيب الرقاعي.

٩. الخصائص النبويّة ، الحافظ السيوطي.

١٠. السنن الكبرى ، احمد بن حسين البيهقي.

١١. العقد الفريد ، أحمد بن محمّد بن عبد ربّه الأندلسي.

١٢. الغدير ، العلّامة الأميني.

١٣. الفقه على المذاهب الأربعة ، عبد الرحمن الجزيري.

١٤. المبسوط ، شمس الدين أبو بكر السرخسي.

١٥. المعجم الكبير ، سليمان بن أحمد الطبراني.

١٦. النصائح الكافية.

١٧. أنساب الأشراف ، أحمد بن يحيى البلاذري.

١٨. بحار الأنوار ، العلّامة المجلسي.

١٩. تاريخ ابن عساكر ، ابن عساكر.

٢٠. تاريخ ابن كثير ، اسماعيل بن كثير القرشي.

٢١. تاريخ الطبري ، محمّد بن جرير الطبري.

٢٢. تفسير الدرّ المنثور ، جلال الدين السيوطي.

٢٣. تفسير القرآن العظيم ، ابن كثير

الدمشقي.

٢٤. تفسير المنار ، محمّد رشيد رضا.

٢٥. التفسير المنير ، وهبة الزحيلي.

٢٦. تفسير القرطبي ، أبو عبد الله محمّد بن أحمد القرطبي.

٢٧. التفسير الكبير ، الإمام الفخر الرازي.

٢٨. تفسير الكشّاف ، جار الله الزمخشري.

٢٩. تهنئة الصديق المحبوب ، السقاف.

٣٠. جريدة الجزيرة ، العدد ٦٨٢٦.

٣١. جواهر المطالب في مناقب الإمام على بن أبي طالب ، محمّد بن أحمد الدمشقي الشافعي.

٣٢. حتى لا ننخدع ، عبد الله الموصلي.

٣٣. دلائل النبوّة ، أحمد بن حسين البيهقي.

٣٤. رجال النجاشي ، أحمد بن علي النجاشي.

٣٥. روح المعاني ، محمود الآلوسي.

٣٦. سفينة البحار ، الشيخ عباس القمي.

٣٧. سنن الترمذي ، محمّد بن عيسى الترمذي.

٣٨. سنن الدارمى ، عبد الله بن بهرام الدارمي.

٣٩. شرح منية المصلي ، إبراهيم بن محمّد الحلبي.

٤٠. صحيح البخاري ، محمّد بن إسماعيل البخاري.

٤١. صحيح مسلم ، مسلم بن حجّاج النيسابوري.

٤٢. الطبقات الكبرى ، ابن سعد.

٤٣. علل الشرائع ، الشيخ الصدوق.

٤٤. عوالى اللئالي ، ابن أبي جمهور الاحسائي.

٤٥. فتح الباري في شرح صحيح البخاري ، ابن حجر العسقلاني.

٤٦. فضائل الصحابة ، أحمد بن حنبل.

٤٧. فهرست ، الشيخ الطوسي.

٤٨. الكافي ، محمّد بن يعقوب الكليني.

٤٩. كنز العمّال ، علي المتّقي الهندي.

٥٠. مجمع الزوائد ، علي بن أبي بكر الهيثمي.

٥١. مجموعة الرسائل والمسائل ، ابن تيمية.

٥٢. مستدرك الصحيحين ، الحاكم النيسابوري.

٥٣. مسند البزّاز ، أبي بكر أحمد بن عمرو

بن عبد الخالق العتكي البزاز.

٥٤. مسند أبي شيبة ، عبد الله بن محمّد بن أبي شيبة.

٥٥. مصنف عبد الرزّاق ، عبد الرزاق بن همام الصنعاني.

٥٦. معجم البلدان ، ياقوت بن عبد الله الحموي.

٥٧. المغنى ، ابن قدامة.

٥٨. مفاتيح الغيب ، الإمام الفخر الرازي.

٥٩. مفاهيم يجب أن تصحح ، يوسف بن علوي المالكي.

٦٠. من لا يحضره الفقيه ، الشيخ الصدوق.

٦١. المواهب اللدنيّة ، أحمد بن محمّد القسطلاني ـ محمّد بن عبد الباقي الزرقاني.

٦٢. وسائل الشيعة ، الشيخ الحرّ العاملي.

الفهرس

المقدّمة.......................................................................... ٥

هذا الطريق لا يؤدي إلى الوحدة.................................................... ٥

المواضيع العشرة.................................................................. ٩

المبحث الأول : عدم تحريف القرآن / ١١

كتابان من كلا الفريقين......................................................... ١٤

مخاطر هذه الاتهامات........................................................... ١٧

الأدلّة العقلية والنقلية على عدم التحريف.......................................... ١٨

كلمة أخيرة.................................................................... ٢١

المبحث الثاني : التقية في الكتاب والسنة / ٢٣

١. ما هي التقية؟.............................................................. ٢٥

٢. الفرق بين التقية والنفاق...................................................... ٢٦

٣. التقية من منظار العقل....................................................... ٢٦

٤. التقية في كتاب الله.......................................................... ٢٧

٥. التقية في الروايات الإسلاميّة.................................................. ٢٩

٦. هل التقية جائزة في مقابل الكفّار فقط؟........................................ ٢٩

٧. التقية الحرام................................................................. ٣٣

٨. التقية المداراتية.............................................................. ٣٤

المبحث الثالث : عدالة الصحابة / ٣٧

١. رأيان متضادان.............................................................. ٣٩

٢. تنزيه الإفراطيين............................................................. ٤٠

٣. أسئلة بلا إجابة............................................................. ٤١

٤. من هم الصحابة؟........................................................... ٤٣

٥. الدوافع الأساسية لعقيدة التنزيه................................................ ٤٥

٦. هل جميع الصحابة عدول بلا استثناء؟......................................... ٤٩

٧. أصناف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله................................................. ٥٥

٨. شهادة التاريخ.............................................................. ٥٦

٩. إقامة الحدّ على بعض الصحابة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده!!.................... ٦٠

١٠. توجيهات غير وجيهة....................................................... ٦١

١١. مظلومية الإمام علي عليه‌السلام.................................................. ٦٣

١٢. قصّة تستحق السرد........................................................ ٦٤

المبحث الرابع : احترام قبور العظماء / ٦٧

حول البحث................................................................... ٦٩

النماذج التاريخية................................................................ ٧١

توهم الشرك في زيارة القبور....................................................... ٧٢

هل طلب الشفاعة يتفق مع مباني التوحيد؟........................................ ٧٣

لا تختص شفاعة الأولياء بفترة حياتهم!!........................................... ٧٥

النساء وزيارة القبور.............................................................. ٧٧

شدّ الرحال لا يكون إلّا للمساجد الثلاثة.......................................... ٧٨

هل بناء القبور ممنوع؟........................................................... ٧٩

الوهابية تدمر التراث الثقافي...................................................... ٨٠

الذرائع التي يقدمها الوهابيون..................................................... ٨٢

الآثار الإيجابية لزيارة قبور العظماء................................................. ٨٥

الوظيفة الخطيرة لعلماء الإسلام................................................... ٨٧

المبحث الخامس : الزواج المؤقت / ٨٩

الضرورات والاحتياجات......................................................... ٩١

زواج المسيار.................................................................... ٩٣

ما هو الزواج المؤقت؟........................................................... ٩٥

الاستغلال السلبي............................................................... ٩٨

الزواج المؤقت في الكتاب والسنّة وإجماع الأمة....................................... ٩٩

من الذي حرم المتعة؟.......................................................... ١٠٢

الطريق الأمثل للحل........................................................... ١٠٩

المبحث السادس : السجود على الأرض / ١١٣

١. أهمية السجود من بين العبادات............................................. ١١٥

٢. لا يجوز السجود لغير الله................................................... ١١٦

٣. على أي شيء يجب السجود؟.............................................. ١١٧

٤. أدلة المسألة............................................................... ١٢٠

أ) الحديث النبوي المعروف المرتبط بالسجود على الأرض........................... ١٢٠

ب) سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.................................................... ١٢١

ج) سيرة الصحابة والتابعين.................................................... ١٢٢

المبحث السابع : الجمع بين الصلاتين / ١٢٥

طرح البحث................................................................. ١٢٧

آثار الإصرار على الأوقات الخمسة في المجتمعات الإسلاميّة......................... ١٢٨

روايات الجمع بين الصلاتين.................................................... ١٢٩

١. خلاصة الروايات السابقة................................................... ١٣٢

٢. القرآن وأوقات الصلاة الثلاثة............................................... ١٣٣

المبحث الثامن : ؤالمسح على الأرجل في الوضوء / ١٣٩

القرآن والمسح على الأرجل..................................................... ١٤١

توجيهات عجيبة.............................................................. ١٤٣

الاجتهاد والتفسير بالرأي مقابل النص........................................... ١٤٥

المسح على الأحذية........................................................... ١٤٧

الروايات الاسلامية والمسح على القدمين......................................... ١٤٨

روايات المخالفين.............................................................. ١٥٢

الشريعة سهلة سمحاء.......................................................... ١٥٣

المسح على الأحذية في نظر العقل والشرع!!...................................... ١٥٦

النتائج النهائية للبحث......................................................... ١٦٤

المبحث التاسع : جزئية البسملة في سورة الحمد / ١٦٥

ملاحظة محيرة جداً............................................................ ١٦٧

الجهر بالبسملة في الأحاديث النبوية............................................. ١٧٠

القرآن ما بين الدفتين؟......................................................... ١٧٦

خلاصة البحث............................................................... ١٧٧

المبحث العاشر : التوسل بأولياء الله / ١٧٩

التوسل على ضوء الآيات القرآنيّة والدليل العقلي.................................. ١٨١

التوسل في الآيات الكريمة...................................................... ١٨٤

التوسل في الروايات الإسلاميّة.................................................. ١٨٨

ملاحظات مهمّة للتذكير....................................................... ١٩١

١. المغالون والمفرطون.......................................................... ١٩٤

٢. التوسل لوحده لا يكفي.................................................... ١٩٥

٣. التوسل في الأمور التكوينية.................................................. ١٩٦

المصادر...................................................................... ١٩٩

الفهرس...................................................................... ٢٠٣

الشيعة شبهات وردود

المؤلف: آية الله مكارم الشيرازي
الصفحات: 207
ISBN: 964-6632-028-9
  • المقدّمة 5
  • هذا الطريق لا يؤدي إلى الوحدة 5
  • المواضيع العشرة 9
  • المبحث الأول : عدم تحريف القرآن / 11
  • كتابان من كلا الفريقين 14
  • مخاطر هذه الاتهامات 17
  • الأدلّة العقلية والنقلية على عدم التحريف 18
  • كلمة أخيرة 21
  • المبحث الثاني : التقية في الكتاب والسنة / 23
  • 1. ما هي التقية؟ 25
  • 2. الفرق بين التقية والنفاق 26
  • 3. التقية من منظار العقل 26
  • 4. التقية في كتاب الله 27
  • 5. التقية في الروايات الإسلاميّة 29
  • 6. هل التقية جائزة في مقابل الكفّار فقط؟ 29
  • 7. التقية الحرام 33
  • 8. التقية المداراتية 34
  • المبحث الثالث : عدالة الصحابة / 37
  • 1. رأيان متضادان 39
  • 2. تنزيه الإفراطيين 40
  • 3. أسئلة بلا إجابة 41
  • 4. من هم الصحابة؟ 43
  • 5. الدوافع الأساسية لعقيدة التنزيه 45
  • 6. هل جميع الصحابة عدول بلا استثناء؟ 49
  • 7. أصناف أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله 55
  • 8. شهادة التاريخ 56
  • 9. إقامة الحدّ على بعض الصحابة في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أو بعده!! 60
  • 10. توجيهات غير وجيهة 61
  • 11. مظلومية الإمام علي عليه‌السلام 63
  • 12. قصّة تستحق السرد 64
  • المبحث الرابع : احترام قبور العظماء / 67
  • حول البحث 69
  • النماذج التاريخية 71
  • توهم الشرك في زيارة القبور 72
  • هل طلب الشفاعة يتفق مع مباني التوحيد؟ 73
  • لا تختص شفاعة الأولياء بفترة حياتهم!! 75
  • النساء وزيارة القبور 77
  • شدّ الرحال لا يكون إلّا للمساجد الثلاثة 78
  • هل بناء القبور ممنوع؟ 79
  • الوهابية تدمر التراث الثقافي 80
  • الذرائع التي يقدمها الوهابيون 82
  • الآثار الإيجابية لزيارة قبور العظماء 85
  • الوظيفة الخطيرة لعلماء الإسلام 87
  • المبحث الخامس : الزواج المؤقت / 89
  • الضرورات والاحتياجات 91
  • زواج المسيار 93
  • ما هو الزواج المؤقت؟ 95
  • الاستغلال السلبي 98
  • الزواج المؤقت في الكتاب والسنّة وإجماع الأمة 99
  • من الذي حرم المتعة؟ 102
  • الطريق الأمثل للحل 109
  • المبحث السادس : السجود على الأرض / 113
  • 1. أهمية السجود من بين العبادات 115
  • 2. لا يجوز السجود لغير الله 116
  • 3. على أي شيء يجب السجود؟ 117
  • 4. أدلة المسألة 120
  • أ) الحديث النبوي المعروف المرتبط بالسجود على الأرض 120
  • ب) سيرة النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله 121
  • ج) سيرة الصحابة والتابعين 122
  • المبحث السابع : الجمع بين الصلاتين / 125
  • طرح البحث 127
  • آثار الإصرار على الأوقات الخمسة في المجتمعات الإسلاميّة 128
  • روايات الجمع بين الصلاتين 129
  • 1. خلاصة الروايات السابقة 132
  • 2. القرآن وأوقات الصلاة الثلاثة 133
  • المبحث الثامن : ؤالمسح على الأرجل في الوضوء / 139
  • القرآن والمسح على الأرجل 141
  • توجيهات عجيبة 143
  • الاجتهاد والتفسير بالرأي مقابل النص 145
  • المسح على الأحذية 147
  • الروايات الاسلامية والمسح على القدمين 148
  • روايات المخالفين 152
  • الشريعة سهلة سمحاء 153
  • المسح على الأحذية في نظر العقل والشرع!! 156
  • النتائج النهائية للبحث 164
  • المبحث التاسع : جزئية البسملة في سورة الحمد / 165
  • ملاحظة محيرة جداً 167
  • الجهر بالبسملة في الأحاديث النبوية 170
  • القرآن ما بين الدفتين؟ 176
  • خلاصة البحث 177
  • المبحث العاشر : التوسل بأولياء الله / 179
  • التوسل على ضوء الآيات القرآنيّة والدليل العقلي 181
  • التوسل في الآيات الكريمة 184
  • التوسل في الروايات الإسلاميّة 188
  • ملاحظات مهمّة للتذكير 191
  • 1. المغالون والمفرطون 194
  • 2. التوسل لوحده لا يكفي 195
  • 3. التوسل في الأمور التكوينية 196
  • المصادر 199
  • الفهرس 203